حكم قراءة يس عند المحتضر والميت
السؤال
ما حكم قراءة سورة يس عند احتضار الميت، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالحديث في هذا حسن، وجاء في ذلك أنها تُسهل خروج الروح، ولا بأس بذلك ولا حرج، وقد استحب غير واحد من الأئمة رحمهم الله حين يكون الإنسان محتضراً أن تقرأ عنده؛ لثبوت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قراءتها بعد الدفن هو الذي لا أصل له، وهو من البدع المحدثة، والله تعالى أعلم.(371/11)
جانب من منهجية طلب العلم الصحيحة
السؤال
في الإجازات تكثر الدروس، ويضغط بعض طلاب العلم أنفسهم إلى درجة الارتباط بأربعة أو خمسة دروس في اليوم الواحد، وكل درس منها يحتاج إلى جهد كبير حتى يضبطه طالب العلم، والبعض منهمك في جميع هذه الدروس، الأمر الذي أضعف لديه الضبط، حتى أصبحت كثرة الدروس سبباً في الترف في الطلب، فهل ارتباط طلبة العلم على هذا الوجه أصح وأصوب، أم ماذا؟ نرجو الجواب في هذه المسألة المهمة، أثابكم الله؟
الجواب
التركيز في طلب العلم مهم جداً، وطالب العلم الذي يحدد العلم الذي يتعلمه، ويحجم قدره مع طول الزمان وقوة الضبط، لا شك أنه أعظم بركة وخيراً، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العلم والعمل)، فكانوا يكرسون جهودهم في العشر الآيات حفظاً وفهماً وعملاً، وهم من أقوى الناس حفظاً، وأصفاهم ذهناً، وأعرفهم بمواطن التنزيل ودلالة النصوص، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، ومع ذلك كانوا يحفظون عشر آيات فقط.
فانظر رحمك الله كيف بورك لهم في علمهم، وكيف بورك لهم في ضبطهم، فالعلم المركز المؤصل هو الذي يقرؤه طالب العلم ويردده، ويحاول ألا يجعل للسآمة إلى قلبه سبيلاً، فلو عندك درس في الأسبوع، فتقرأ منه مثلاً سطرين، ولكن لا تتعجل وتقول: متى أنتهي من الكتاب، فهذا ليس إليك، ولا تسأل متى تنتهي، المهم أن يبارك الله لك، انظر إلى طالب علم يقرأ السطر والسطرين فلا يفتأ عن قراءتها قبل الدرس المرات والكرات، ثم إذا جاء الدرس جاء على أجمل ما يكون عليه طالب العلم، جاء وهو يُري الله عز وجل أنه أمين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يجلس في مجلس علم قد حضّره وضبطه، لا أن يكون عهده بالدرس حينما يفتح كتابه، بعضهم يجلس ليبحث أين انتهينا في المجلس الماضي، وهو لا عهد له بالكتاب إلا حين يفتحه، هذا ليس بطلب علم، طالب العلم لا يمكن أن يفارق كتابه، فتجده يراجع المرة والمرتين والثلاث والأربع قبل أن يجلس في مجلس العلم، ويبحث عن الكلمات وضبطها، وهل هذا فاعل أو مفعول إلى أن يرتب الجمل والعبارات، ثم يحاول أن يجد فهماً بسيطاً أو سهلاً يُسهل له مجلس العلم وضبط المسائل التي تقال فيه، حتى إذا جلس في مجلس العلم بهذا القليل؛ وعاه وفهمه، ثم رجع إلى بيته فقرأه وضبطه، وإذا أمكن أن يستمع للشريط المرة والمرتين والثلاث حتى يكاد يحفظ.
نعم، لو أن كل طالب علم استشعر، كما كان بعض مشايخنا يوصينا، وهذه من أعظم نعم الله عز وجل، أنه ذات يوم قال لي شيخ من الأزهر -أسأل الله أن يتغمده برحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وجميع علماء المسلمين وأئمتهم، والمسلمين جميعاً- هذا العالم كان من البقية الباقية، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله عز وجل، وكنت في الثانية من المتوسط، وشاء الله أنني جئت وسألته عن مسألة، وهو لا يدرسنا؛ لأنه كان يدرس في الكلية، ولما سألته قال لي: يا بني! أين تدرس؟ فذكرت له لأنه لا يعرفني، وهو يعرف الوالد حيث كان صديقاً له رحمه الله، فقال: يا بني! سأوصيك بوصية في هذا العلم تستفيد منها: لا تقرأ مسألة في العلم إلا وقد حصل عندك شعور في نفسك أنك ستسأل عنها يوماً من الأيام، أي مسألة، حتى ولو لغوية نحوية أو أياً كانت، قال لي: إن الله سيسألك عما تعلمت: لك وللناس، لك: هل عملت به، وللناس: هل علَّمته، فما من مسألة تعلمتها وسمعتها، إلا وقد أُلقيت على كتفك أمانة، فالعالم قد أعذر إلى الله، فكل مسألة تقرأها عن شيخك؛ فاعلم أنك قد حملتها عنه شئت أم أبيت، فلو أن كل طالب علم يهيئ نفسه لكل مسألة درسها أنه سيسأل عنها لضبط العلم.
الأمر الذي يستدعي قلة القراءة مع قوة الضبط.
واكتب قليلاً إن أردت تحفظ.
الحروف إن أردت تلفظ فطالب العلم الذي يكتب القليل ويدمن قراءته وضبطه، هو الذي يخرج للناس غداً عالماً بإذن الله عز وجل، نحن لا نريد كمَّاً هائلاً، تجد الطالب يأتي ويقول: والله هذه المسألة بحثناها، والله هذه المسألة قرأناها، والله عندنا دورة في العقيدة، ودورة في الحديث، ودورة في الفقه، ودورة في النحو، ودورة في كذا، فما يستطيع بهذا الشتات أن يضبط.
والسائل معه الحق، وهذا فيه نصيحة لنا، نحن لا نمنع أن يكون هناك أكثر من درس لطلاب العلم؛ للتنوع، لكن إن يضغط طالب العلم على نفسه بهذه الدروس كلها، قالوا: لأن العلماء ما لهم إلا درس في الأسبوع، خاصة إذا كان درساً في الزاد، والدرس هذا لا يزيد على سطر أو سطرين، قالوا: نحن نريد كل يوم درساً، وارتقى بعضهم إلى درجات الكمالات فقال: نريد في كل يوم أربعة دروس أو خمسة دروس، فلذلك هذا الكم مثل ما ذكر السائل يكون ترفاً علمياً، اجلس في هذه الدروس الأربعة، وفي نهاية العطلة أو في نهاية الإجازة انظر ماذا حصلت، واجلس في درس واحد وأعطه حقه من الضبط والإتقان، وانظر ماذا وجدت، وستجد الفرق.
هؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وكل واحد منهم قد طلب العلم، وأخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجد أئمة التابعين ما من واحد إلا وقد لزم شيخاً منهم، فـ ابن عباس له طلابه الذين نبغوا وضبطوا علمه، وزيد بن ثابت له طلابه، وأبو هريرة له طلابه الذين أخذوا عنه، وعبد الله بن عمر له طلابه، أسانيدهم وطرقهم معروفة محفوظة.
فكثرة الشتات والتنوع متعب جداً وعواقبه وخيمة على طالب العلم، فالذي أوصي به تحجيم الدروس، والاكتفاء بالدرس الذي تضبطه وتجد أنك تعطيه حقه، وهو بإذن الله عز وجل قليل مبارك، وفيه خير كثير لا تطيقه، هذا الذي أوصي به، أما أن يكون لطالب العلم أربعة أو خمسة دروس في الأسبوع الواحد، فلا أدري كيف يضبطها، ولكن اضبط علماً وأعطه وأعطيه حقه، ثم بعد ذلك انتقل إلى غيره، وسيبارك الله عز وجل لك فيه، هذا فيما أراه، وهو الذي أدركت عليه أهل العلم رحمهم الله، والذي يريد أن يجرب التنوع فليفعل ذلك، فقد تكون عنده ملكة وقوة على ذلك، والله تعالى أعلم.(371/12)
حكم من قتل حمامة في مكة خطأ وهو غير محرم
السؤال
ما الحكم على من قتل حمامة في مكة بسيارته وهو غير محرم، أثابكم الله؟
الجواب
الحمامة فيها شاة، قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة؛ لأنها تعب الماء، وقتل الصيد في الحرم موجب للضمان، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، فمن قتل حمامةً -ولو كان حلالاً- فإن عليه أن يذبح شاة بمكة، على الصفة المعتبرة، وهي: الثني من المعز، أو الجذع من الضأن، وأن تكون سالمة من العيوب، وتذبح وتكون صدقة للفقراء في الحرم، أو يكون عدلها طعام مساكين، والله تعالى أعلم.(371/13)
حكم وضوء من لمس الكلب
السؤال
هل لمس الكلب ينقض الوضوء، أثابكم الله؟
الجواب
لمس الكلب لا ينقض الوضوء، ولكن إذا لمسه ففيه تفصيل: إن كان هو الطري أو الكلب؛ فقد انتقلت النجاسة، أما إذا كان لمسه وكل منهما جامد أو جاف؛ فإنه لا شيء فيه، والله تعالى أعلم.(371/14)
حكم الدم الخارج من الحامل قبل الولادة بأيام
السؤال
امرأة قبل ولادتها بخمسة أيام رأت بعض السوائل تخرج منها، وذهبت إلى المستشفى وبعد خمسة أيام ولدت، فتركت الصلاة في الخمسة الأيام التي قبل الولادة، فهل تقضي الصلاة الفائتة، أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يرى أن سبق الدم للولادة متصل بالولادة في حدود الثلاثة الأيام نفاس، قالوا: لأنه يسبق، وهذا القول قوي، وأما إذا كانت خمسة أيام فلا، المحفوظ أن الخلاف في ثلاثة أيام، أما إذا كانت خمسة أيام فعليها أن تقضي هذه الأيام، والله تعالى أعلم.(371/15)
حكم إزالة البنت النجاسة عن عورة أبيها العاجز
السؤال
سائلة تقول: لي والد عاجز لا يستطيع أن يقوم على شأنه من جهة إزالة الحدث، ورفضت أمي القيام على شأن والدي، وكذا إخوتي، فهل يجوز لي أن أقوم بتطهيره، وقد يؤدي ذلك إلى الكشف عن عورته والنظر إليه، أثابكم الله؟
الجواب
أولاً: لا ينبغي للأم أن تمتنع؛ لأنه لا أحد أقدر على النظر إلى عورة الرجل من زوجته، والله إنه لأمر يُقرح القلوب أن يكون العشير مع عشيره، حتى إذا ضعف بدنه وخارت قواه وشاب رأسه ورق عظمه، نسي العهود التي بينه وبينه.
فعلى هذه الأم أن تتقي الله عز وجل، وعلى هذه البنت أن تذكرها الله، وأن تذكرها حق الزوج، إذا كان عندها القدرة على القيام بحقه، فأوصيها بتقوى الله عز وجل، وأن تحسن إلى بعلها، وأنه جنتها ونارها.
ثانياً: إذا عجزت الزوجة، فيجب على الذكر من الأبناء أن يتولى تنظيف والده؛ لأنه لا يجوز للأنثى أن تُغسل الرجل ما لم تكن زوجة، وهذا أصل، ولذلك الميت إذا مات ولو كان عنده أخواته ولم يشهد موته إلا النسوة ييمم، تعظيماً لأمر العورة.
فكون البنت تلمس عورة أبيها لا يجوز، وإنما الذكر يغسل الذكر، والأنثى تغسل الأنثى، وهذا هو الأصل المقرر عند أئمة الإسلام، وعليه العمل والفتوى، فأوصي هؤلاء الإخوان أن يتقوا الله عز وجل، وأن يتذكروا حق والدهم وأن يرحموا ضعفه وحاجته، وأن يتذكروا حينما كانوا صغاراً كيف كان يحملهم بيديه ويحسن إليهم ويتولاهم، ويقوم برعايتهم، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
وعليهم أن يتقوا الله عز وجل حتى ولو بالتناوب، فينوب بعضهم بعضاً، وكل شخص يكون له يوم يرعى فيه والده، وأي شيء أعظم من بر الوالدين، من الناس من بر والديه فتمنى أن يقضي حاجة والده بيده حتى ينال شرف الذلة للوالد {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، وفي ذلك قصص يعرفها الناس، وسارت بها الركبان، تبتهج بها النفوس، وتنشرح بها الصدور؛ من كمال بر الأولاد لوالديهم، فعلى الأبناء الذكور أن يتقوا الله عز وجل، وأن يقوموا برعاية هذا الوالد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(371/16)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الحدود [1]
الحدود: هي زواجر وجوابر، فهي زاجرة عن الوقوع في المعصية، وهي جابرة ومكفرة لمن وقع فيها وأقيم عليه الحد المقدر شرعاً.
وقد اهتم الشارع الحكيم ببيان هذه الحدود، لما فيها من حفظ الحقوق العباد من أن تهدر أو يتساهل بها.(372/1)
الحدود الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الحدود].
تقدم معنا معنى الكتاب، وأنه يطلق في لسان العرب على مادة: الجمع والضم، وأطلقه العلماء رحمهم الله على كتب العلم؛ لأنها تضم المسائل والأحكام بعضها إلى بعض، فإذا ضم بعضها إلى بعض؛ اجتمعت النظائر تحت مسمىً واحد أو أصل جامع، ولا يعبرون بهذا التعبير إلا إذا كانت المادة كبيرة، وبينا منهج العلماء رحمهم الله في ذلك، فكأن المصنف رحمه الله انتهى من شيء ودخل في شيء آخر، وقد كنا في كتاب القصاص والديات وما يتبع ذلك من أبواب، واليوم إن شاء الله نستفتح -بالاستعانة بالله عز وجل، والبراءة من الحول والقوة- بالحدود.(372/2)
تعريف الحدود لغة واصطلاحاً
الحدود في لسان العرب: جمع حد، وأصل الحد كما ذكر الإمام ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: الفاصل بين الشيئين، والحائل بين دخول بعضهما على بعض، فإذا فصل الشيء بين اثنين فهو حدّ، ويقال: الحد انتهاء القدر، فإذا كانت نهاية لا يمكن أن يتجاوزها الإنسان فهو حد.
ومن هنا اختلف العلماء، فقالوا: سمي الباب حداداً، وسمي السجّان حداداً؛ لأنه يمنع الإنسان من الخروج، والباب أيضاً يمنع الخارج عن الداخل، فالمقصود: أن مادة الحد في الأصل: المنع.
والحدود فيها وجهان: الوجه الأول: قال بعض العلماء: إن الحدود مقدّرة من الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أن الله عز جل قد حدّها، ووضع لها قدراً معيناً، لا يمكن لنا أن نزيد على ذلك القدر ولا أن ننتقص منه، فصارت حدوداً من هذا الوجه، فالله سبحانه وتعالى أمرنا بجلد الزاني والزانية مائة جلدة، ولا يمكننا بحال أن نزيد على المائة ولا أن ننتقص منها، وأمرنا أن نجلد من قذف المحصنة المؤمنة أو قذف المحصن المؤمن ثمانين جلدة، وهي حد القذف، ولا يمكن لنا أن نزيد على هذا الحد ولا أن ننقص منه، قالوا: فلما حدّ الله عز وجل هذه الحدود بمقادير لا يمكن للمكلفين أن يزيدوا عليها ولا أن ينتقصوا منها سميت حدوداً من هذا الوجه، وبناء على هذا القول -وهو اختيار ابن قتيبة من أئمة اللغة وغيره رحمة الله عليهم- تكون الحدود راجعة إلى التقدير؛ لأنها مقدرات شرعاً، فهي عقوبات محددة من الله سبحانه وتعالى بنص الكتاب وسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
الوجه الثاني: قالوا: إن الحدود مأخوذة من الحد، وهو: المانع الفاصل بين الشيئين، قالوا: إن هذه الحدود تمنع الشخصين المجرم الفاعل للمعصية ومن لم يفعلها، فالحدود تمنع الفاعل للجريمة إذا أقيم عليه الحد أن يعود أو يفكر مرة ثانية في العودة إلى تلك الجريمة، فمثلاً: لو أن السارق قطعت يده، فإنه غالباً -إذا كان عنده عقل يزجره ويمنعه- لن يعاود الكرة مرة ثانية؛ لأنه كلما أراد أن يعود إلى جريمته؛ نظر إلى يده، فتذكر تلك العقوبة وآلامها، فكفته وزجرته بإذن الله عز وجل ومنعته، فهي مانعة للشخص نفسه، وهي مانعة أيضاً للغير أن يفعل فعله، ومن هنا قال سبحانه وتعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
وعلى هذا فالحدود زواجر وموانع، زواجر؛ لأنها تزجر الإنسان أن يعود مرة ثانية إلى فعل المعصية، وتزجر غيره وتمنعه من العود والتكرار للفعل، قال تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17]، فالخطأ يحرص الشرع على عدم تكراره، والزلة يحرص الشرع أيما حرص على عدم تكرارها من الإنسان، وفي ذلك صلاح لمن فعل المعصية، وصلاح لمن عافاه الله عز وجل من تلك المعصية.
فالحدود هي: عقوبات مقدرة شرعاً للمنع من الوقوع في المعصية، وهذا التعريف تضمن المعنيين: كون الحدود مقدرة شرعاً من الله عز وجل، وكونها تمنع الغير من الوقوع فيها، فتتضمن معنيي الحد الذين أشرنا إليهما.(372/3)
أنواع الحدود الشرعية
قال المصنف رحمه الله: (كتاب الحدود)، ولم يقل: كتاب الحد، فجمعها رحمه الله لاختلاف أنواعها وتعددها، فهناك حد الزنا، وحد القذف، وحد المسكر، وحد السرقة، وحد الحرابة وقطع الطريق، وحد البغاة، وحد الردة، فهذه سبعة حدود جعل الله عز وجل لها عقوباتٍ محددة مقدرة شرعاً، وألحق العلماء رحمهم الله بهذه الحدود باب التعزير، وهو الذي لا تقدير فيه، ويرجع فيه إلى اجتهاد القاضي وولي الأمر في تحديد عقوبة لمن ارتكب ما لا يصل إلى الحدود، بما يزجره ويتناسب مع فعله، وكذلك يمنع ويزجر غيره من أن يفعل كفعله.
وهذه الأبواب الثمانية هي التي سيتكلم المصنف رحمه الله عنها في كتاب الحدود، وهذه الجرائم هي: جريمة الزنا، وهي أعظم الفواحش، وجريمة القذف، وهو فاحشة اللسان، وجريمة السكر، وهو من الجرائم المتعلقة بالشرب، وجريمة السرقة، وهي: الاعتداء على أموال الناس، والجرائم الأولى التي هي: الزنا والقذف؛ اعتداء على أعراض المسلمين، وجريمة السكر اعتداء على العقل، وجريمة السرقة اعتداء على أموال الناس، وجريمة الحرابة تشمل في بعض الأحيان الاعتداء على الأعراض، وتارة الاعتداء على الأموال، وتارة الاعتداء على الأنفس، وتجمع أنواعاً مختلفة من الجرائم، ولذلك جعل الله عقوبتها أنواعاً، وجريمة البغاة هي: الخروج عن جماعة المسلمين، ومحاربتهم، والعصيان والتمرد والشذوذ عن الجماعة، وهي تتضمن الاعتداء على جماعة المسلمين، وجريمة الردة هي: جريمة في أصل الدين الذي هو العقيدة، وأما التعزيرات فهي في جرائم مختلفة، تكون تارة بالاعتداء على العرض بما لا يصل إلى الحد، وتارة بالاعتداء على الأموال بما لا يصل إلى الحد، وتكون أيضاً اعتداء بالجنايات المختلفة التي لا تقدير فيها من المشرع سبحانه وتعالى.
هذه الحدود على اختلافها جمعها المصنف رحمه الله في هذا الكتاب بقوله: (كتاب الحدود).
وهنا
السؤال
هل نبدأ بالأعلى والأشد ثم نتدرج على حسب الجرائم أم نبدأ بنوع خاص من هذه الجرائم؟ منهج المصنف رحمه الله أنه ابتدأ بحد الزنا، ثم أتبعه بحد القذف، ثم أتبعه ببقية الحدود، وغيره من العلماء لم يذكروا كتاب الحدود بعد الديات والقصاص، وإنما ابتدءوا بباب البغاة، ثم ذكروا باب الردة، ثم بعد ذلك باب الحدود، وقبل أن ندخل في تفاصيل أبواب العلم نذكر أنه من الأهمية بمكان معرفة المناسبات؛ لأنها تمهد لطالب العلم فهم الأبواب، وتربط المسائل الموجودة في الأبواب، وتبين علاقة بعض هذه الأبواب ببعض.
أما العلماء الذين ذكروا حد البغاة؛ وحد قطع الطريق، وحد الردة عقب القصاص والديات؛ فذلك لأنها في الغالب تشتمل على القتل، فرءوا أنها أنسب بباب القتل، فجعلوها قبل الحدود، وفصلوها عن باب الحدود لمكان المجانسة في قضية القتل، لكونه قد ينتهي إلى القتل.
وهذا منهج درج عليه بعض الأئمة مثل الإمام النووي رحمه الله، وغيره من الأئمة كـ البغوي، فهؤلاء رءوا قوة العقوبة، وأنها وصلت إلى حد القتل، ففي القصاص إزهاق الأنفس والأطراف، والبغي وقطع الطريق قد يوجب القتل.
والذين بدءوا بحد الزنا -كما درج عليه المصنف- تدرجوا في الحدود، ولهم ما يبرر هذا المنهج، فهم يرون أن أشد الحدود التي نص عليها الكتاب والسنة هو حد الزنا، وسنذكر لماذا أن حد الزنا هو أشد هذه الحدود حينما نبين أن الجلد في الزنا أقوى من الجلد في غيره، ويظهر هذا جلياً في العقوبات المقدرة، قالوا: وكون حد البغاة وقطع الطريق يوجب القتل ليس على كل حال، فقد لا يوجب قتلاً، ومن هنا لا يتأصل في إزهاق النفس فلا يلحق بباب الديات والقصاص، فرءوا أن المفترض أن يبدءوا بحد الزنا، والدليل على قوة هذا الحد: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى شدد في عقوبة الزنا، ومن هنا نحتاج أول شيء أن ننظر لماذا قدم باب الزنا على باب القذف ثم على باب الخمر وبقية الجرائم؟ أما تقديمه على باب القذف وباب الخمر فلا يشك أحد أن حد الزنا شدد الشرع فيه أكثر من هذه الحدود المتبقية، فالجلد في الزنا مائة جلدة، وفي القذف ثمانون جلدة، ومن هنا نعلم أن عقوبة الزنا أشد من عقوبة القذف.
ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى غلظ هذه العقوبة حتى قال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فشدد في إقامة حد الزنا أكثر من غيره، فلم يذكر ذلك لا في حد السكر ولا في حد القذف.
ثالثاً: أن الزنا اتفقت الشرائع السماوية على تحريمه، أما الخمر فكان مباحاً في الشرائع التي قبلنا، وفي شريعتنا حرمه الله عز وجل، وجعل في تحريمه الخير والرحمة لهذه الأمة، فهديت هذه الأمة للفطرة، والخمر غواية وشر وبلاء.
بالنسبة للقذف الأمر واضح، فإن القذف تبعٌ للزنا، وليس أصلاً للزنا؛ لأنه اعتداء على العرض بالمعنى، لكنه ليس اعتداءً على العرض بالحس، واعتداء المعاني دون اعتداء الحس.
ومن هنا ابتدأ المصنف رحمه الله بحد الزنا، وفي هذا الباب الأول سيذكر المصنف رحمه الله أموراً تتعلق بإقامة الحد بخصوص حد الزنا، ولا يذكر أصولاً عامة للحدود، فالعلماء الذين قدموا حد الزنا -كالمصنف رحمه الله- يرون أن حد الزنا أصل وغيره ينبني عليه، ولذلك فإن عقوبة الجلد تفرعت على ما نص الله عليه في كتابه ووردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة حد الجلد للزاني والزانية، ومن هنا قالوا: إن حد الزنا أصل انبنى عليه غيره خاصة في مسائل الجلد، وسيذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب الأول جملة من المسائل والأحكام المتعلق بحد الزنا.(372/4)
الأدلة على مشروعية الحدود
الأصل في شرعية الحدود: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر الحدود في كتابه، فنص على حد الزنا، فقال سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ونص على حد القذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، ونص على حد السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]، ونص على حد الحرابة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33].
كذلك أيضاً في السنة جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جريمة الزنا: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وصح عنه عليه الصلاة والسلام كما في حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه في قصة ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه أنه لما اعترف بالزنا أقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد فأمر برجمه، قال بريدة رضي الله عنه: فأمر به فرجم، وفي قصة العسيف -كما في الصحيح- والعسيف هو الأجير، فقد جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أناشدك الله أن تقضي بيني وبين هذا الرجل بكتاب الله، فقال الآخر: وأنا أناشدك أن تقضي بيني وبينه بكتاب الله، إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رجم المرأتين اللتين اعترفتا بالزنا وأقام عليهما الحد، وهذه كلها سنن صحيحة في حد الزنا.
وأما حد السرقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد المخزومية كما في الصحيح، وهي التي كانت تستعير المتاع وتجحده، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها)، وهذا نص في إثبات حد السرقة، وكذلك أمر عليه الصلاة والسلام بقطع يد سارق رداء صفوان، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن أناساً من عكل أو عرينة اجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسملوا عينيه -كما في بعض الروايات- واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثرهم، فأخذوا، فأمر بهم عليه الصلاة والسلام فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمرت أعينهم، وفي لفظ: وسملت أعينهم، ثم تركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون)، وفي الصحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلد شارب الخمر، فكان من الصحابة الضارب بثوبه، والضارب بنعله، وهذا كله يدل على إثبات الحدود ومشروعيتها.(372/5)
الحكمة من مشروعية الحدود
للعلماء رحمهم الله في حكمة الحدود أوجه، فمنهم من يقول: الحدود زواجر، قصد الله عز وجل من شرعها لعباده أن يجعلها زاجرة لهم ومانعة لهم من الوقوع في هذه المحرمات العظيمة، والكبائر الموبقة والمهلكة، قالوا: إن أصل الشرع المراد به صيانة الناس عما فيه فساد دينهم ودنياهم وآخرتهم، والموجب لهذه العقوبات مفسد، ومن هنا هي زواجر تمنع الناس من الوقوع والتلبس بهذه الجرائم، قالوا: والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر أن تقام علانية ولا تقام خفية، وأمر أن يشهد هذه العقوبات طائفة من المؤمنين اتعاظاً واعتباراً، فهذا يدل على أنها زواجر، وإذا أقيمت هذه الحدود أحيت قلوب الناس وانزجروا، فقل أن يرفع شخص يده راجماً لمحصن أن يقع فيما وقع فيه، وإذا رأت عيناه تألم الزاني الذي يقام عليه حد الجلد؛ فإنه يتألم لذلك، وينكف وينزجر، فهي زواجر وروادع تمنع وتزجر.
ومن العلماء من قال: إن الحدود جوابر، أي: أن الله سبحانه وتعالى شرع الحد كفارة للذنب، واستدلوا بأدلة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في خطبته أن من أقيم عليه الحد فهو كفارة له، ومن لم يقم عليه الحد -أي مات ولم يتب من ذنبه- فهو إلى مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، إن عذبه فبعدله، وإن غفر له فبفضله، وهذا إن لم يتب، فإن تاب قبل موته تاب الله عز وجل عليه، وهذا بإجماع العلماء، والنصوص في الكتاب والسنة في هذا واضحة جلية.
قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الحد كفارة، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما أقام الحد على ماعز بن مالك الأسلمي الذي اعترف بالزنا، اختلف الصحابة: هل هو في الجنة أم في النار؟ فقال قوم: إنه فعل كبيرة فهو معذب، وقال قوم: إنه قد تاب، والله يتوب على من تاب، فلما خرج عليه الصلاة والسلام وسمعهم يختلفون قال عليه الصلاة والسلام: (إنه الآن ينغمس في أنهار الجنة)، فهذا يدل على أن الحد يكفر الذنب، وكذلك لما زنت المرأة واختلفوا: هل هي معذبة أم مرحومة؟ خرج عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم)، وقال: (وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟)، لكن هذا جاء ما ينسخه، مما يدل على أن الأفضل والأكمل الأخذ بالرخصة؛ لأن ماعز بن مالك خير بين أن يتوب فيتوب الله عليه، وبين أن يقام عليه الحد، فاختار أن يقام عليه الحد، فمن أهل العلم من قال: كيف يختار إقامة الحد الشديد مع أن التوبة أخف وأرحم؟ وأجيب عن هذا بأن ماعزاً شك في قبول توبته، ورضي لنفسه ما هو عزيمة بينة، ولكن السنة دلت دلالة واضحة على أن الأفضل والأكمل أن يستتر، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما اعترف ماعز، واعترفت المرأتان بالزنا، وأقيم عليهم الحد؛ خطب عليه الصلاة والسلام الناس، وقال: (أيها الناس! من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله)، فهذا نص واضح صريح، وهو متأخر.
وبعض الذين يتلبسون بالجرائم في زماننا يشدد بعضهم على نفسه إذا تاب أو زجر بالزواجر، فلا يرضى إلا أن يعترف أمام القاضي ويطلب أن يقام عليه الحد، فمثل هؤلاء ينبغي على طلاب العلم وعلى الأئمة والخطباء أن ينصحوهم بالسنة، وأن يبينوا لهم أن النصوص واضحة جلية في أن الأفضل والأكمل لأحدهم أن يستتر بستر الله عز وجل، وهذا هو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتشديد على الناس في هذا الأمر ليس من السنة، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إن كثرة إيراد العذاب بالنار، والتخويف بعذاب القبر، وقرع الناس دائماً بهذا الشيء، دون ذكر الجنة وسعة رحمة الله عز وجل يفضي ببعض الناس إلى الغلو في التوبة، والغلو في الرجوع إلى الله في العبادات، والغلو في الطاعة، ومن هنا كره بعض العلماء أن يتقدم القصاص والوعاظ في الخطب والمواعظ؛ لأنهم لا يفهمون أصول الشريعة في الجمع بين الرجاء والخوف؛ لأن الواقع في الذنب يحتاج إلى نوع من الحكمة والتلطف، فالمستخف لحدود الله المنتهك لمحارم الله عز وجل يزجر بما يناسبه، ومن جاء متفطر القلب، منيباً إلى الرب، تائباً من قرارة قلبه، أو يعلم منه التوبة من دلائل حاله، لا يزاد على ما هو عليه؛ لأنه إذا زيد على حاله ذلك؛ أوجب له القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه).
والذي يظهر أن الحدود زواجر وجوابر، فيها معنى الزجر وفيها معنى الجبر، فهي جابرة للكسر بإذن الله عز وجل، وأيضاً زاجرة عن حدود الله وعن محارم الله.(372/6)
شروط من يقام عليه الحد
قال رحمه الله تعالى: [لا يجب الحد إلا على بالغ].
قوله: (لا يجب الحد) أي: حد الزنا، (إلا على بالغ)، ومثله بقية الحدود، والبلوغ هو: طور ينتقل فيه الإنسان من الصبا إلى الحلم، وهو العقل، وقد تقدم معنا في مسائل متعددة من العبادات والمعاملات مثل مسائل الحجر العلامات المعتبرة للبلوغ.
قال: (لا يجب الحد إلا على بالغ) ومفهوم هذا أنه إذا كان صبياً لا يجب عليه الحد، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم)، فدل على أن الصبي مرفوع عنه القلم، فلو وقع صبي في فاحشة الزنا مثلاً؛ فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه لم يثبت شرط إقامة حد الزنا وهو البلوغ، فيشترط في ثبوت حد الزنا على الزاني أن يكون بالغاً.
قال المصنف رحمه الله: [عاقل].
العقل شرط تكليف، فمن كان غير عاقل -بأن كان مجنوناً- لا يقام عليه الحد، وهذان الشرطان: (البلوغ والعقل) محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، فكلهم مجمعون ومتفقون على أن الصبي لا يقام عليه الحد، والمجنون لا يقام عليه الحد، بشرط أن يكون الزنا أو الفاحشة أو الجريمة وقعت أثناء الصبا، أي: قبل البلوغ، وأثناء الجنون، فإذا كان مجنوناً فإنه غير مكلف، والأصل في ذلك الحديث المتقدم وفيه: (وعن المجنون حتى يفيق)، فإن كان يفيق تارة ويجن تارة نظرنا: فإن وقع زناه أثناء الإفاقة؛ أخذ بجريمته كما يؤاخذ المفيق والعاقل، وذلك لأنه لا موجب لإسقاط التكليف عنه، فهو مؤاخذ بفعله.
ويضاف إلى البلوغ والعقل: الاختيار، وبناء على ذلك فإنه لا يقام الحد على مكره، فلو أكره على فعله ولم يكن بيده ذلك؛ فإنه لا يقام عليه؛ لأن الله تعالى أسقط بالإكراه الردة، وهي أعظم الذنوب وأشدها، وهذا خلافاً لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله، فالمكره يسقط عنه التكليف، وقد بينا شروط الإكراه، وبينا الأدلة على أن الإكراه مؤثر.
إذاً: يشترط: البلوغ والعقل والاختيار، فلا يقام الحد على مكره.
قال المصنف رحمه الله: [ملتزم].
الالتزام بأحكام الشريعة معتبر، وهذه المسألة تقدمت معنا، ولكن قد يأتي لها شيء من البيان أكثر إن شاء الله في حد الزنا، وهي مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ فإذا كان الذي زنى ملتزماً بأحكام الشريعة؛ فإننا نقيم عليه الحد، لكن لو كان غير ملتزم كالحربي والمستأمن، أو كان من أهل الذمة، فهل الذميون مؤاخذون بحيث لو أن اثنين من أهل الكتاب زنيا ورفعا إلى قاض مسلم يقيم عليهما الحد أم لا؟ الصحيح أنه يحكم بينهما بشرع الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49]، فأمر الله عز وجل بالرجوع إلى شرعه ودينه، والتخيير في الحكم بينهم في قوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] منسوخ، أو له وجه آخر ذكرناه، وهو في بعض الأحوال التي لا تكون فيها العزيمة، وسيأتي هذا بتفصيل أكثر في كتاب القضاء.
إذا ثبت هذا، فإن الملتزم تقام عليه الحدود؛ لأنه قد التزمها بإسلامه، وكذلك أهل الكتاب إذا ترافعوا إلينا فإنهم ملزمون بشريعتنا، وقد أكدت السنة ذلك كما في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقام الحد على اليهوديين الذين زنيا، فأمر بهما فرجما، وفي هذا الحديث تفصيل سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى في موضعه.
قال المصنف رحمه الله: [عالم بالتحريم].
وهو أن يكون عالماً بحرمة الجريمة التي فعلها، فإذا كان لم يعلم ولم تقم عليه الحجة؛ فإنه يسقط عنه الحد للشبهة، وذكروا من أمثلة ذلك: حديث العهد بالإسلام، فإن الوثنيين والإباحيين واللادينيين عندهم استخفاف بالمحارم، خاصة الإباحيين، فلو أن أحداً منهم أسلم، ولم يعرف شرائع الإسلام، فوقعت منه جريمة الزنا قبل أن يعلم الحكم، فحينئذٍ لم تقم عليه الحجة، وهذه مسألة من المسائل التي يعذر فيها بالجهل، ولها أصل من قضاء الصحابة والسلف رضوان الله عليهم، فإذا كان غير عالم؛ فإنه لا يقام عليه الحد حتى تقام عليه الحجة لمكان الشبهة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدرء الحدود بالشبهات.(372/7)
القائمون على تنفيذ الحدود الشرعية
قال المصنف رحمه الله: [فيقيمه الإمام أو نائبه].
أي: يقيم الحد الإمام أو نائبه، والأصل أن الأئمة والحكام مطالبون شرعاً بالحكم بما أنزل الله عز وجل، ومطالبون شرعاً بالقيام بالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، والأصل في تنصيب الوالي في ولايته أن يطلب المصالح للمسلمين، ويدرء المفاسد عنهم، وقد أجمع العلماء والأئمة رحمهم الله على أن المعني بتنفيذ هذه الأحكام والحدود هم الحكام، وأنه ليس كل إنسان ينفذ الحد بمجرد أن يرى رجلاً يفعل جريمة فيقيم عليه الحد، بل الأصل أنهم هم المخاطبون، أو من يقيمونه مقامهم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تولى الأمر بإقامة الحدود، وتولى من بعده الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون رضي الله عنهم أجمعين.
ثم إنهم قد أنابوا غيرهم في إقامة الحدود، ففي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب أن ماعزاً لما أقر، قال صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمراً؟) يعني: هل أنت سكران؟ فقام رجل فاستنكهه، أي: شم رائحة فمه، فلم يجد خمراً، ثم قال: (أبه جنون؟) حتى يتأكد من شروط الإقرار، هل هو مؤاخذ بإقراره أم لا؟ فأخبر أنه غير مجنون، قال بريدة رضي الله عنه: (فأمر به فرجم)، وهذا يدل على أن الأصل أن الوالي هو الذي يأمر بإقامة الحد، فأمر به فرجم، كذلك أيضاً أناب غيره عليه الصلاة والسلام في حديث العسيف، فقال عليه الصلاة والسلام: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا -لأنها لم تكن بالمدينة- فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، وهذا يدل على مشروعية الإنابة، فالإمام ومن يقيمه مقامه يعتد بهم، وهذا مهم جداً حتى نحكم بتمام الحد واعتباره، ولو أن شخصاً غيوراً وجد زانيين فجلدهما مائة جلدة، فهذا من حيث الأصل ليس حداً، لابد وأن يكون أول شيء عن طريق الحاكم، ويثبت عند الحاكم هذا الحد، ثم بعد ذلك يقضي به وبتنفيذه، فلا بد من وجود هذه الأشياء، وإقراره في غير مجلس القضاء والحكم ليس كإقراره فيهما، ولو أنه أقر بالجريمة وعلم به الناس، ولكنه لم يرفع إلى القاضي، فلا يأخذ حكم الإقرار الشرعي، فهناك أمور لا بد من مراعاتها في هذه الجرائم والحدود، وهذا كله يدل على عظمة هذه الشريعة، ولو أن الناس قرءوا ما ذكره أئمة أهل الإسلام في كتبهم من هذه التراتيب القضائية الإدارية لتعجبوا من حسنها ودقتها، فوالله ثم والله! ما عرف العالم كيف ينظم أمره إلا عن طريق المسلمين، ولقد مرت على أوروبا قرون مظلمة، لا تعرف كيف تدبر أمورها، حتى تعلموا ذلك في مدارس المسلمين في الأندلس، وأخذوا منهم هذه التراتيب الإدارية، والشرائع الإلهية التي جاءت مقننة محددة مرتبة من الله سبحانه وتعالى، وقد فهم المسلمون كيف يسيروا أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم، وهذا من فضل الله عليهم، فجاء هؤلاء فنظروا إلى نعمة الله على المسلمين فاقتبسوا كثيراً من الأمور التي يصدرونها اليوم إلى المسلمين الذين ما عرفوها، فلو نظرت إلى كتب المسلمين التي ترجمت، وإلى كتبهم التي قرئت؛ لعلمت أنهم ما تعلموا هذا الانضباط، ورتبوا أمورهم الدنيوية؛ إلا عن طريق المسلمين، ولقد عاشوا حياة مظلمة لا يعلم جحيم ما كانوا فيه إلا الله وحده، ولكن كل ذلك بفضل الله ثم بفضل هذه الشريعة، والناس اليوم تنخدع بأمور الدنيا ولا تفقه، وكثير من المسلمين -إلا من رحم الله- جاهل بهذه الثروات الهائلة من الدقة والتنظيم في العبادات والمعاملات، والانضباط التام في ترتيب الأمور، وحينما كان الإسلام من مشرق الأرض إلى مغربها، وقل أن تغيب عن دولته شمس، رتبت أمور المسلمين حتى في الجرائم، وقل أن تجد أمراً صغيراً أو كبيراً إلا ووضعوا له ما يضبطه، وما يردع الناس عنه إن كان خطأ، وما يحببهم فيه إن كان صواباً، ولكن، يا ليت قومي يعلمون! ولذلك شباب المسلمين يحتاجون أن يُبَصَّروا بهذه الحقائق، فبهذا الترتيب والتنظيم لم تكن مجتمعات المسلمين فوضى، بحيث إذا وقعت الأخطاء كل يتحمس ويقيم الحد، وتجد اليوم كل يحس أنه هو وحده الذي يدافع عن الإسلام، فتجد الأمور سائرة هملاً، لكن حينما كانت الأمة الإسلامية قائمة بهذا الانضباط وهذا التأقيت الذي ذكره العلماء والأئمة في أبواب العبادات والمعاملات؛ يجد المتأمل فيها عظيم نعمة الله على هذه الأمة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
فبين المصنف رحمه الله أن إقامة الحد للإمام أو نائبه، أي: من ينوب عن الإمام، ويحضر الإمام إقامة الحد أو يحضر نائبه؛ لأن هذا مهم جداً، فعلى سبيل المثال في حد الزنا لو أن الزاني اعترف فمن حقه أن يرجع عن اعترافه ولو أثناء تنفيذ الحد، فلو اعترف أنه زنى ثم أقيم عليه الحد، فأحس بحرارة الحد، فأراد أن يرجع عن إقراره؛ فله ذلك، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بـ ماعز أن يرجم فرجم، جاء في الحديث: (فلما أذلقته الحجارة، ووجد حرها؛ فر إلى الحرة؛ حتى لقيه رجل فضربه بلحي جمل فقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه يتوب؛ فيتوب الله عليه)، وهذا يدل على سماحة هذا الدين ويسره، ومن هنا إذا كان الإمام أو نائبه موجوداً؛ فإنه يستطيع أن يأمر بإيقاف الحد وبإيقاف التنفيذ، ويستطيع أن يتدارك ما يمكن تداركه من هذه الأمور، ولا يشكل على هذا ما وقع لـ ماعز؛ لأن الصحابة ما كانوا يعلمون الحكم، وكانوا يظنون أنها عزيمة ليس فيها رجعة.(372/8)
حكم إقامة الحدود في المساجد
قال رحمه الله: [في غير مسجد].
تقام الحدود في غير مسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع الرجل وهو ينشد ضالته قال: (لا ردها الله عليه، فإن المساجد لم تبن لهذا)، والله عز وجل يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، والحدود ليست مجانسة لهذا.
وقد يشكل على هذا أن القضاء يكون في المسجد، والقضاء تكون فيه المخاصمة والمشاجرة حتى تثبت الحدود، وقد استحب بعض العلماء أن يكون مجلس القاضي في المسجد، وفي القديم كان هذا متيسراً، ومن هنا قال الناظم: وحيث لاق للقضاء يقعد وفي البلاد يستحب المسجد فيستحب أن يكون القضاء في المسجد تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، لكن إقامة الحد شيء آخر غير القضاء، فيقام الحد في غير المسجد، وفي حديث السنن -وفيه ضعف- النهي عن إقامة الحدود في المساجد.(372/9)
كيفية الجلد في الحد(372/10)
كيفية جلد الرجل
قال المصنف رحمه الله: [ويضرب الرجل في الحد قائماً بسوط لا جديد ولا خلق].
شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة الجلد، والجلد يكون في حد الزنا للبكر، والثيب أيضاً على الصحيح على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى، ويكون أيضاً في حد القذف وحد المسكر، وهذه الثلاثة الحدود شرع فيها الجلد، وجاء في السنة بعض الضوابط لهذه العقوبة، منها أن يكون الجلد بالسوط، ويكون السوط متوسطاً غير جديد ولا قديم، ويعبر عن ذلك أئمة السلف بقولهم: سوط بين سوطين، ومعنى قوله: (لا جديد ولا خلق): الخلق هو: القديم والبالي؛ لأنه يتكسر ويتهشم ولا يؤلم، والجديد أكثر إيلاماً وتمزيقاً للجسد.
ويضرب الرجل قائماً في الحد، وهذا شامل لحد الزنا وحد القذف وحد المسكر، والمرأة لها أحكام ستأتي إن شاء الله تعالى، فإذا كان الرجل زانياً أو شارباً للخمر أو قاذفاً؛ فإنه يضرب قائماً، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء رحمهم الله: بعض العلماء يقول: يضرب الرجل قاعداً، وقال بعضهم: يضرب قائماً، الأول للمالكية، والثاني للجمهور، والصحيح أنه يضرب قائماً؛ لأنه يمكن الجالد من الجلد، ومن تفريق الجلد على أعضاء الجسم على القول بأنها تفرق على أعضاء الجسم؛ لأنه إذا كان قاعداً لا يفرق على كل الأعضاء بالوجه المعتبر حتى يصيب كل عضو حقه.
وأما إذا قلنا بعدم التفريق، وهو أقوى؛ لأن الضرب يكون في الظهر، إما أن نقول: إن الضرب يشمل جميع البدن ما عدا الوجه والمقاتل، وسنبينها إن شاء الله تعالى، وإما أن نقول: إن الجلد يختص بالظهر، وأقوى الأقوال أن الجلد يختص بالظهر، ودليلنا على اختصاصه بالظهر حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح أن هلال بن أمية رضي الله عنه قذف امرأته بـ شريك بن سحماء، فلما قذفها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، فدل على أن موضع الضرب إنما هو الظهر، وإذا قلنا: إنه يضرب في ظهره؛ فإن الجلد من قيام يكون أمكن للضرب المتوسط؛ لأنه إذا كان قاعداً والضارب قائماً زاد في الإيلام غالباً، ولكنه إذا كان قائماً والجالد قائماً؛ تمكن الجالد من الضرب بين الضربتين، وتمكن من إيلامه على الوجه المعتبر شرعاً ولم يقصر.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يمد ولا يربط].
أي: ولا يمد أثناء الضرب ولا يربط، فلا يبطح على وجهه ويضرب، ولا تشد يده؛ لأنه في حال المد يكون الضرب أشد إيلاماً وأشد وقعاً، سواءً إذا كان منبطحاً أو كان قائماً فمد كالمعلق؛ فإن هذا يؤلمه أكثر، ومن هنا كره أئمة السلف ذلك كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه -واختلفت الألفاظ عنه- قال: (ليس في ملتنا مد ولا تجريد)، يعني: أن العقوبة لا يعاقب فيها مرتكب الحد بمده ولا بتجريده من ثيابه، واختار الأئمة هذا خاصة على القول بأن قول الصحابي حجة، والمد زيادة في الإيلام، فلابد من دليل على المد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حد في ظهرك)، وهذا يتحقق بالضرب الذي ذكرناه.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يجرد، بل يكون عليه قميص أو قميصان].
مسألة: هل نجرده من ثيابه فيضرب على جلده مباشرة أم أننا نعطيه الخيار أن يلبس ما شاء؟ وهل له أن يلبس ثياباً ثخينة فيخف معها الجلد أم يلبس ما لا يقي الضرب قميصاً أو قميصين ثم يضرب؟ قال بعض العلماء: يجرد صيفاً وشتاءً ويضرب وهو مجرد، وذكرنا أن ابن مسعود وهو من فقهاء الصحابة لم يقل بالتجريد، وعلى هذا يترك عليه ثوبه المعتاد ويضرب، وهذا هو الصحيح، أنه لا يجرد، ولا يمكن أيضاً من لبس الثياب الثخينة التي تمنع وصول الضرب، وتمنع ألم الضرب، بل يكون عليه قميص أو قميصان على حسب نظر الإمام أو نائبه في ذلك بحسب الحاجة، ثم يأمر بضربه بما لا يمنع وصول ألم الضرب للجسد.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد].
المقصود من هذا الضرب إيلام الجسد على وجه يرتدع من الرجوع إلى هذه المعصية، فلا يضرب ضرباً يشق الجلد وهو ضرب المثلة الذي بعد انتهائه تبقى آثاره واضحة بينة في البدن، فهذا ليس من مقصود الشرع، مقصود الشرع إيلامه على وجه ينكف وينزجر به، وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتعزيز رجل في أمر يوجب التعزير، فقال له: والله! لأحيلنك إلى رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، فأحاله إلى بعض التابعين رحمه الله، وكان شديداً في الحق فضربه، فشاء الله أن يأتي عمر رضي الله عنه بعد مضي ثلثا العقوبة، فوجده قد ضربه بسوط ضرباً شديداً، فبقي من العقوبة قدر العشرين سوطاً، فأسقطها عمر رضي الله عنه، وقال: إن هذا مقتص له بما كان من شدة الإيلام، ويقال: إنها في جريمة الخمر؛ لأن عمر كان يرى فيها ثمانين جلدة، وأنه ضربه حتى بلغ الستين، فجعل شدة الضرب في الستين جلدة مسقطة للعشرين الباقية، وهو خليفة راشد، وهذا يدل على أنهم كانوا لا يرون الضرب المؤلم الذي يؤثر في الجلد، وهو ما يسمونه بضرب الانتقام والتشفي، فليس هذا مقصوداً، إنما المقصود ضرب التأديب، وضرب التأديب شيء، وضرب الانتقام شيء آخر.
وقال بعض العلماء: يشدد في الضرب في حد الزنا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، وقد بينا في التفسير وجه رد هذا القول، وأن هذه الآية لا تستلزم الضرب المبرح؛ لأن المقصود منها تنفيذ الحد، وأننا لا تأخذنا الرأفة أثناء تنفيذ الحد بأن نشفق عليهم، أو نخفف مقدار العقوبة، فهذا ليس له علاقة بطريقة الضرب نفسها.
قال المصنف رحمه الله: [ويفرق الضرب على بدنه].
اختلف العلماء، فبعض العلماء يقول: يضرب ظهره؛ أعلاه ووسطه وآخره، وتضرب عجيزته، ويضرب الفخذين، وتضرب العضلة في الساقين، ويضرب الرأس على القول بأنه يكون محلاً للضرب إلا الوجه، وله أن يضربه على مقدم صدره من جهة الأضلاع مما لا ينكي، ولا يضربه في المقاتل، مثل الخصيتين، لأنها مقتلة غالباً، فإذا ضربة فيها ربما يموت، ومن المقاتل الرأس من جهة الصدر، فقالوا: يتقي المقاتل، ومنهم من يرى أن الضرب يختص بالظهر، ودليلهم السنة، وهذا القول أميل إليه، وهو أشبه وأولى بالصواب إن شاء الله، وقد جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ما يفهم منه جواز الضرب في غير الظهر، وأن عمر في قصة المرأة حينما أمر بجلدها رضي الله عنه وأرضاه أشار إلى ضربها في رجلها، ويضرب الإنسان على الرجلين، ويضرب على القدمين نفسهما، والأشبه ما ذكرنا أن الضرب يكون على الظهر، وضرب القدمين قد يمنع من المشي، ويضره ويعطل مصالحه، أما ضرب الرأس فقد أثر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه أمر بضرب الرأس في قصة الرجل الذي جاء وانتفى من أبيه، وقال: إنه ليس ولد فلان، ورفعت قضيته إلى أبي بكر رضي الله عنه فأمر بتعزيره بأن يضرب ويجلد، فلما أمر بتعزيره قال: اضرب الرأس؛ فإن فيه شيطاناً.
وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعلو بالدرة ويضرب بها، ولكن الأشبه ما ذكرنا، وهو -ظاهر السنة- أن الضرب يكون على الظهر.
قال المصنف رحمه الله: [ويتقي الرأس والوجه] ويتقي الرأس لما ذكرناه، ولكن جمهور أصحاب الشافعي والقاضي أبو يوسف من أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليهم يقولون: يجوز ضرب الرأس؛ للأثر الذي ذكرناه عن أبي بكر رضي الله عنه، لكن ظاهر السنة أقوى، والآثار عن الصحابة ما وجدت من جزم بصحتها وثبوتها عنهم.
أما الوجه فليس فيه إشكال، فكلهم متفقون على أن الوجه لا يجوز ضربه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في صحيح البخاري أنه نهى عن ضرب الوجه في الحدود وفي غيرها، وكذلك في الحديث الآخر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لطم الصور)، فالوجه يتقى ولا يضرب، وإنما يكون الضرب على الأعضاء، والخلاف فيما ذكرناه.
قال المصنف رحمه الله: [والفرج والمقاتل].
ولا يضرب الفرج؛ لأن ضرب الفرج خاصة في الخصيتين يؤدي إلى القتل، ولذلك يقول العلماء: إن الضرب في هذه المواضع ضرب في المقاتل، وذكرنا من صور قتل العمد وشبه العمد الضرب في المقاتل، ولو كان بشيء خفيف، فالمقاتل تتقى.(372/11)
كيفية جلد المرأة
قال المصنف رحمه الله: [والمرأة كالرجل فيه إلا أنها تضرب جالسة].
والمرأة كالرجل في الضرب يفرق الضرب على بدنها، ويتقى مقاتلها على القول بأنه يفرق على البدن، وتخالف الرجل أنها تجرد اتفاقاً؛ لأن الرجل اختلف فيه: هل يجرد أم لا؟ أما المرأة فاتفقوا على أنها لا تجرد، وفي مسألة تجريد الرجل ثلاثة أقوال: منهم من يقول: يجرد، وهو قول المالكية رحمهم الله، ومنهم من لا يرى التجريد وهو مذهب الجمهور، ومنهم من يقول: الأمر راجع إلى الإمام إذا رأى المصلحة أن يجرده جرده، وإذا رأى المصلحة ألا يجرده لم يجرده، وهو قول الأوزاعي فقيه الشام رحمة الله على الجميع، والصحيح ما ذكرناه.
وهل تضرب المرأة قائمة أو قاعدة؟ تضرب قاعدة، لأنه أمكن للستر، وهذا قول طائفة من أئمة السلف رحمهم الله.
قال المصنف رحمه الله: [وتشد عليها ثيابها].
هذا أثر عن علي رضي الله عنه، وله أصل في السنة في قصة المرأة التي اعترفت بالزنا، فأمر بها فشدت عليها ثيابها، وفي بعض الألفاظ: أمر بها فشكت عليها ثيابها؛ لأن الشوك مثل الرابط الذي يمنع من انكشاف عورتها أثناء الحركة، فإذا ضممت طرفي الرداء ووضعت الشوكة بينهما؛ انحبس الرداء وامتنع من الانكشاف، فلفظ: فشكت عليها ثيابها يعني: أنه جعل فيها الشوك بمثابة الرابط لطرفي الثوب الذي عليها ليمنعها من التكشف، وهذا واضح الدلالة على أنه يطلب سترها أثناء إقامة الحد عليها؛ لأنها تضطر إلى الحركة فتنكشف عورتها، فيؤخذ بالأسباب المانعة من انكشاف عورتها.
قال المصنف رحمه الله: [وتمسك يداها لئلا تنكشف].
لأنها إذا ضربت وتحركت فإنه قد يحصل منها انكشاف، فقوله: وتمسك يداها، من درء المفاسد، فالمرأة عورة، وانكشافها مفض للوقوع في الفتنة، فيخرج الناس من الاعتبار بالنظر إلى الفتنة، وهذا خلاف مقصود الشرع، وهو أن يكون النظر موجباً للاتعاض والاعتبار.(372/12)
الأسئلة(372/13)
وجه فصل كتاب الجنايات عن كتاب الحدود
السؤال
هل تعريف الحدود شرعاً يشمل القتل، وإذا كان ذلك كذلك؛ فلماذا فصلهما المصنف عن بعض؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقوله: (عقوبة) عام؛ لأن العقوبة تكون بالقتل وغير القتل، وهذا الصحيح؛ لأن الحدود فيها قتل، فحد الحرابة يكون فيه القتل، والمرتد حده أن يضرب عنقه إذا استتيب فلم يتب، فهذا التعريف: أن العقوبة مقدرة شرعاً؛ تعريف صحيح، ودخول القتل لا يمنع صحة التعريف؛ لأن من الحدود حد القتل، وعلى هذا لا يكون تعريف المصنف فيه إشكال، ولا يمنع من وجود القتل في الحدود، وانفصالها عن باب القتل؛ لأن القتل متقدم لحقوق العباد، والقتل الذي نعنيه هنا إنما هو في الغالب في حق الله عز وجل كما في حد الردة ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.(372/14)
حكم الجلد في الحد بغير السوط
السؤال
هل الضرب بالسوط بالحد متعين أم يضرب بغير السوط؟
الجواب
الأشبه الضرب بالسوط، وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم في حد الخمر فقط أن منهم الضارب بثوبه، ومنهم الضارب بنعله، ومن هنا اختلف في حد الخمر هل هو حد أو تعزير؟ وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على هذه المسألة، وعلى كل حال الأصل الضرب بالسوط، والله تعالى أعلم.(372/15)
حكم إجزاء ركعة الوتر عن تحية المسجد
السؤال
إذا دخلت المسجد قبل الفجر بدقائق ولم أوتر، هل تغني ركعة الوتر عن تحية المسجد؟
الجواب
لا تغني ركعة الوتر عن تحية المسجد؛ لأن الأقل لا يجزئ عن الأكثر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، والوتر ركعة واحدة، ولذلك يجب عليك أن تقوم فتأتي بتحية المسجد تامة كاملة، ولا يحصل الاندراج في هذه المسألة؛ لأنه لا يندرج الأكبر تحت الأصغر، والركعة الواحدة لا تجزئ عن الركعتين كما هو معلوم، وجلوسك في الوتر له أصل، وهو مستثنىً كجلوس الخطيب بعد تسليمه يوم الجمعة قبل أن يصلي صلاة الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مباشرة ويسلم ويجلس، وعلى هذا فليس فيه إشكال؛ لأنه مبني على أصل شرعي؛ لأنك جلست للعبادة، وجلوس العبادة لا يؤثر، لكن إذا انتهى الوتر فيجب عليك القيام مباشرة، والإتيان بركعتي التحية، ومن هنا لا يرخص لك بالقعود بعد سلامك من الوتر، والله تعالى أعلم.(372/16)
حكم المرأة التي تمنع نفسها من زوجها
السؤال
زوجتي إذا منعتها من فعل شيء، أو من الذهاب إلى مكان أو من البقاء في مكان ولي الحق في ذلك المنع؛ تمنعني من نفسها، فما التوجيه أثابكم الله؟
الجواب
أولاً: أوصي هذه المرأة، أن تتقي الله عز وجل في هذه الحقوق التي فرضها الله عليها لزوجها، فلا يجوز للمرأة إذا أمرها زوجها أو نهاها عن أمر وله الحق في ذلك -بمعنى أنه مصيب في أمره ونهيه- أن تمنعه من حقه، فإذا فعلت ذلك انطبق عليها الوعيد، فلو أنها منعته من الفراش باتت تلعنها الملائكة حتى تصبح والعياذ بالله! فإذا كانت لا تبالي بذلك فلتفعل، فعلى كل امرأة مؤمنة أن تتقي الله عز وجل في حقوق زوجها، وأن تؤدي هذه الحقوق كاملة، ومنها السمع والطاعة للزوج، خاصة إذا أمر بطاعة الله عز وجل، ونهى عن معصية الله.
ثانياً: على المرأة أن تحمد الله وتشكره أن رزقها زوجاً يذكرها بالله إذا غفلت، ويعينها على طاعة الله عز وجل إذا ذكرت، ولم يبتلها بزوج متهتك فاجر، عاص لله سبحانه وتعالى، يجر عليها المصائب والويلات، فكم من امرأة أقض مضجعها مهرب للمخدرات، ومدمن للمسكرات، وكم آلمها، وضيع حقوقها، ولم يبال بها من لا يرعى حدود الله عز وجل ومحارمه.
فلتحمد الله المرأة المؤمنة، ولتشعر أن زوجها إذا أمرها بطاعة الله ونهاها عن معصية الله أنه يريد لها الخير، وأنه آخذ بحجزها عن نار الله، قائم بحق الله الذي فرضه عليه؛ لأن الله فرض عليه ذلك وجعله راعياً مسئولاً عن رعيته، وما يحدثه أعداء الإسلام في نساء المؤمنين من التمرد، وإشعار المرأة أن على الزوج ألا يتدخل في شئونها، وأن هذا غمط لمكانتها، وانتقاص لقدرها، فأف لهم ولما يدعون، فما هم إلا ظالمون مفترون، فإن الزوج له حق القوامة شاءت المرأة أم أبت، وهذا أمر سارت عليه هذه الأمة سلفاً وخلفاً من السلف الصالحات من الصحابيات رضي الله عنهن والتابعيات وأتباع التابعين من النساء الصالحات.
وعلى المرأة أن تسمو بنفسها عن مثل هذه الدعوات التي تريد منها أن تتمرد على بعلها، وألا يتدخل في شيء من أمرها، وهذا كله خلاف الفطرة، ولا يمكن أن تستقيم بيوت المسلمين إلا بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، فعلينا أن نرجع إلى حكم الله عز وجل، وأن نرضى بما كتب الله عز وجل لنا، وليس في هذا غضاضة أبداً، وتفضيل الرجل على المرأة لا ينقص من قدر المرأة، فإن العالم أفضل من الجاهل، لكن ليس معنى ذلك أن الجاهل قد هلك، وأنه ليس له حظ من الخير أبداً، فهذا تفضيل من الله سبحانه وتعالى، والعلماء أنفسهم بعضهم أفضل من بعض، والرسل والأنبياء بعضهم أفضل من بعض، فهذا تفضيل من الله سبحانه وتعالى، وإذا فضل ربك من يشاء؛ فلا يستطيع أحد أن يعترض، ولا أن يختلق من تصرفاته ما يشعر بالاعتراض، فبعض النساء عندهن هذا الشعور، فالمرأة التي تتمرد على زوجها لعدم استشعار قوامة الزوج عليها تكون مضادة لشرع الله عز وجل، وللسنة الثابتة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل مسئول عن امرأته وأهل بيته، وأنه والٍ عليهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (الرجل راع ومسئول عن رعيته)، فعلى هذه المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأذية الزوج خاصة في الفراش لا خير فيها، والمرأة التي تفعل ذلك ستجني العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، ولو لم يكن من ذلك إلا تخويف النبي صلى الله عليه وسلم وزجره، حتى إنه صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح)، والملائكة هم الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا لعنوا -والعياذ بالله- فلعنتهم مصيبة، فعليها أن تتقي الله عز وجل، وأن تعلم أن الأمر جد خطير.
ثالثاً: هذا الأمر يفسد الحياة الزوجية، ويشعر الزوج بأن الزوجة لا تريده ولا ترغبه، وهناك خطوط حمراء - إن صح التعبير- بين الزوج والزوجة؛ وأخطر ما تكون إذا وصلت إلى المحبة، وأفسدت صدق المشاعر بين الزوجين، فإذا فعلت المرأة فعلاً تنبئ الزوج أنها لا تبالي بهذا الأمر الذي بينهما؛ فإن هذا يدمر حياتهما، ويعود بالعواقب الوخيمة على الزوجين، فلتتقي الله المرأة المؤمنة.
وقد ذكرنا أهل المعاصي وما تعانيه زوجاتهم من الويلات والآهات، حتى تعرف المرأة المؤمنة نعمة ربها عليها، فلتحمد الله سبحانه وتعالى أن الله رزقها زوجاً غيوراً، وعلى كل امرأة أن تفهم أن غيرة زوجها من المحبة لها، ومن كمال الرجولة والفحولة فيه، وهي الفطرة التي فطر الله عز وجل عليها أتقياءه الصلحاء ومن كان على نهجهم، أما من يكون ميت القلب -والعياذ بالله- ديوثاً يصاب بلعنة الله؛ فلا خير فيه.
رابعاً: نوصي الرجل ألا يستغل حق القوامة على المرأة، ويتخذ من هذا الحق ما يشعر بأنه مستبد ظالم، يريد أن يفرض آراءه وأقواله فقط، بغض النظر عن كونه مصيباً أو مخطئاً، فهنا تكون المشاكل؛ لأن الإنسان إذا كان تقياً نقياً سوياً سائراً على صراط الله عز وجل.
بارك الله في قوله، ونصحه وتوجيهه، ورزقه القبول بين أقرب الناس منه فضلاً عن أبعد الناس عنه، ومن هنا على الزوج أن يتقي الله عز وجل، وأن يكون حكيماً في أمر الزوجة ونهيها، فهناك أمور قد تكون دنيوية، وليس فيها ضرر في الدين، وقد تضر منك بعض الشيء في المادة، كأن تطلب المرأة مالاً تتوسع فيه، وهذا الأمر فيه ضرر محدود، لكن قد يكون طلبها مرة أو مرتين في السنة، أو ثلاث مرات، وعندك القدرة، فإنك في هذه الحالة تستطيع أن تتنازل بحيث لا يفلت الزمام، وتكون التوسعة على الأهل، مع أنك ترى أن الأصلح والأفضل شيء آخر، لكنك تكسب من وراء هذا شيئاً كثيراً، والحكماء والعقلاء يراعون هذا خاصة في هذه الأزمنة، فالمرأة بعض الأحيان تريد أن تخرج مع أولادها خارج المدينة في نزهة أو نحو ذلك، فتطلب ذلك من زوجها، وكان المنبغي على الزوج الكريم الصالح التقي أن يبدأ الزوجة بذلك، ولا ينتظر أن تقول له المرأة: أريد أن أخرج، وهذا إذا مضت فترة طويلة، وأذكر أن الوالد رحمة الله عليه كان دقيقاً في معاملته لأهله وأولاده، ومع ذلك في بعض الأحيان كانت إذا مضت فترة -وقد كانت عنده مزرعة- يقول لي: قل لأمك تخرج معك، خذها واخرج بها؛ ويقول لي: هذه امرأة ضعيفة، محبوسة بين هذه الجدران، وأنت نفسك لو حبست في هذا الموضع لشعرت بالملل والسآمة في يوم واحد، فكان يحس ويقول: الحمد لله أننا نجد مثل هؤلاء النساء، فعلينا أن نوسع عليهن حتى يوسع الله علينا.
فالإنسان لابد أن يشعر بمشاعر المرأة، المرأة ضعيفة، خاصة إذا كانت في مكان تؤذى من نظيراتها، من أخواتها، من قريباتها، من جاراتها، وقد تأتي المرأة إلى المرأة فتذكر حسنة زوجها عليها، والله يشهد أنها لا تريد أن تذكر الحسنة، وإنما تريد أن تفسدها على زوجها، ولذلك ينبغي الحذر من هذا كله، وعلى الصالح الدين أن يحس أن المرأة الصالحة محتاجة -خاصة في هذا الزمان- إلى شيء يثبت قدمها على طاعة الله، ويكف عنها الألسنة الظالمة الجائرة التي لا تتقي الله في بيوت المسلمين ونساء المسلمين، فعليه أن يوسع على أهله، ولكن بقدر، ويوسع بنية إحسان العشرة، هناك توسيع بنية الدنيا، وهناك توسيع يراد به وجه الله عز وجل، فإذا قصد به وجه الله رحمه الله، وإذا قصد به الخير آجره الله سبحانه وتعالى.
فنوصي الزوج والزوجة بتقوى الله عز وجل، وجماع الخير كله في التقوى، فمن اتقى الله؛ جعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.
وأوصي الأزواج في حالة اختلاف الرأي في المسائل المباحة أن يكون هناك شيء من المرونة، الحزم مطلوب ولكن بقدر، قال الشاعر: قسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم ولكنها قسوة بقدر مبنية على شوب من الحذر، ومرضاة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن.
نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد.(372/17)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الحدود [2]
حد الزنا من أعظم وأشد الحدود الشرعية عقوبة من الله تبارك وتعالى، ويليه بعد ذلك حد القذف ثم حد السكر ثم التعزير، وقد ثبت تحريم الزنا في الكتاب والسنة، وأجمعت الشرائع كلها على ذلك؛ لما فيه من هتك للأعراض، وإفساد للذرية، وتخليط للأنساب، وقد فرق الشرع الحكيم في العقوبة بين الزاني المحصن وغيره المحصن، فأغلظ الحد في المحصن بالجلد والرجم، وجعل للمحصن شروطاً لابد من توافرها من أجل إقامة الحد عليه.(373/1)
بيان أشد الحدود
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأشد الجلد جلد الزنا].
تقدم معنا أن الجلد عقوبة من عقوبات الحدود، ولما ذكر المصنف رحمه الله بعض الأحكام المتعلقة بالجلد شرع في بيان مسألة مهمة: وهي أن الجلد يقع في عقوبة الزنا، وعقوبة القذف، وعقوبة السكر، وفي التعزير أيضاً، فهل يكون الجلد كله واحداً في هذه الحدود بحيث لا يكون أشد في حدٍ دون آخر أم لا؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: فذهب طائفة من أهل العلم: إلى أن أشد الجلد يكون في حد الزنا، ثم يليه حد القذف، ثم يليه حد السكر، ثم يليه التعزير، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله.
وذهب بعض العلماء رحمهم الله: إلى أن الضرب في الحدود كلها على حد سواء، وهذا قول الإمام مالك والشافعي رحمة الله على الجميع، قالوا: لأنه لم يرد في النصوص تفضيل حدٍ على آخر، أو بيان أن الجلد في حدٍ يكون أقوى من الحد الآخر.
وذهب الإمام أبو حنيفة النعمان -عليه من الله شآبيب الرحمات والرضوان- إلى القول بأن أشد الضرب يكون في التعزير، ثم بعد ذلك الزنا، ثم بعد ذلك السكر.
والذي يظهر أن ما اختاره المصنف هو الصحيح، وذلك لعدة أدلة: أولاً: أن الله تعالى حد الزنا بجلد مائة جلدة، ولم يسو بين الزنا والقذف، فالقذف أقلّ من الزنا عدداً، والسكر أقل من الزنا عدداً، فدل على أن عقوبة الزنا أقوى من عقوبة القذف والسكر، والتعزير أصلاً لا يصل الضرب فيه إلى الحدود، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وصوله إلى ذلك الحد، فدل على أن: القذف والسكر والتعزير كلها دون الزنا بنص الشرع؛ لأن الشرع جعل العقوبة في الزنا أقوى.
ثانياً: أن الله تعالى قال في الزنا: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، وقال في القذف: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، فذكر في حد الزنا الجلد مقروناً بقوله: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، ولم يذكر هذا الوصف في غيره، فدل على أن ضرب الزنا أقوى من ضرب غيره، ثم يلي الزنا القذف كما ذكر المصنف رحمه الله.
وأما الذين قالوا: إن التعزير أشد -وهم الحنفية- فاحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ضرب رجلاً في التعزير ضرباً شديداً، حتى أثر في ضربه، وهو صبيغ بن عسل، وكان رجلاً مفتوناً -والعياذ بالله- من أهل الكوفة، وكان يأخذ آيات القرآن ويضرب بعضها ببعض، وذلك من انطماس بصيرته في أول أمره -والعياذ بالله- فأزله الشيطان بالشبه، فصار يأتي بالآيات المتعارضة، فكتب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر بخبره، فكتب له عمر: إذا أتاك كتابي فلا تبرح حتى تبعث به إلي، فمضى صبيغ إلى عمر بالمدينة، فأتاه فوقف عليه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا صبيغ بن عسل، قال: أأنت الذي أخبرني عنه أبو موسى؟ قال: نعم، فقام إليه بالدرة، وضربه ضرباً شديداً، ثم قال له: هل تجد شيئاً مما تحسه؟ قال: لا، فعلم عمر أن الشيطان كان قد تلبس به -والعياذ بالله- فأدبه رضي الله عنه، وضربه ضرباً شديداً، فمن هنا قالوا: إن التعزير يقدم، والذي يظهر -والله أعلم- أن وصف ضرب عمر بالشدة لا يستلزم أنه أشد من الزنا؛ لأن الوصف المطلق لا يقتضي الحكم على المقيد من كل وجه، وإنما وصف هذا الضرب بكونه شديداً بالنسبة لغيره.
ثم عندنا نص القرآن، وهو واضح الدلالة على أن حد الزنا أشد من غيره، فما اختاره المصنف رحمه الله من أن أشد الجلد يكون في الزنا هو الصحيح لأدلة القرآن.
قال رحمه الله: [ثم القذف].
القذف هو: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات بالزنا، ويكون للمسلم والمسلمة، كأن يقول للمسلم: يا زان! أو يقول لامرأة: يا زانية! أو فلانة زانية، أو فلان زان، فالاعتداء على أعراض المسلمين جريمة، وانظر إلى حكمة الشرع حيث عاقبه الله في بدنه، وعاقبه في لسانه، ولما ينتظره من عقوبة الله في الآخرة أشد وأبقى؛ إذا لم يتب إلى الله عز وجل، ولذلك قال سبحانه: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، فحكم بجلدهم ثم قطع لسانهم بعدم قبول شهادتهم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما كانت هذه الألسنة لا تتقي الله في أعراض المسلمين؛ قطعها الشرع، وسنبين إن شاء الله هذا الحد.
فذكر رحمه الله أن حد القذف بعد حد الزنا، وهذا صحيح؛ لأن القذف مركب على التهمة بالزنا، وكلاهما اعتداء على الأعراض، لكن الاعتداء بالزنا أشد؛ لأنه بالفعل نفسه، وأما القذف فهو التهمة بالفعل، ومن هنا ألحقت العقوبة بالأصل، لأن الباب واحد وهو الاعتداء على العرض، والله جعل حد الفرية -وهي القذف- ثمانين جلدة، ففضلت حد الخمر الذي هو أربعون جلدة، وكان أقوى من حد السكر، خلافاً لمن قال من العلماء: إن حد السكر يلي حد الزنا، وهو مذهب من يقول بالتفضيل وفاقاً للمصنف، وطائفة وهم الحنفية يرون التعزير ثم السكر ثم الزنا.
قال المصنف رحمه الله: [ثم الشرب].
وهو حد المسكر، وسيأتينا إن شاء الله، فالضرب فيه دون حد القذف، ولذلك الصحابة رضوان الله عليهم لما أرادوا أن يقدروا حد الخمر؛ أوصلوه إلى حد القذف، فدل على أن حد المسكر بعد القذف، وليس مساوياً للقذف، ولا أقوى من القذف.
قال المصنف رحمه الله: [ثم التعزير].
التعزير يكون في الجرائم التي ليس لها حدود مقدرة من الشرع، من الأفعال التي لا تصل إلى الحدود، كشخص مثلاً هجم على بيتٍ، يريد أن يسرق، فافتضح أمره قبل السرقة، أو كان يريد الزنا ولكن لم يفعل ذلك، أو خلا بامرأة لفعل الزنا ولكن لم يفعل، أو تجردا ولم يقع منهما الزنا، ونحو ذلك من الجرائم القاصرة والناقصة، فعقوبة التعزير لا تصل إلى الحد، فقول الحنفية أن الضرب في التعزير أشد من الضرب في الحدود ضعيف؛ لأن أصل التعزير فيما دون الحد، ولا يمكن أن يكون ما دون الحد أقوى عقوبة من الحد نفسه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل الضرب في التعزير إلى الحد، فمذهب المصنف رحمه الله الذي اختاره هو الصحيح إن شاء الله والأقرب إلى النص.(373/2)
حكم من مات في حد الجلد
قال المصنف رحمه الله: [ومن مات في حدٍ فالحق قتله].
لو أن شخصاً أقيم عليه الجلد في حد الزنا، وأثناء الجلد سقط ميتاً فالحق قتله، لا نقول: إن على الضارب الدية لأنه تسبب في قتله؛ لأن هذا الضرب مبنيٌ على أمر شرعي، والذي أمر به هو الشرع، فجميع ما ترتب على هذا الضرب إنما هو من الشرع، وليس منا، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ويروى أن رجلاً مات لما جلد الحد فقال علي رضي الله عنه: الحد قتله، أي: لسنا الذين قتلناه، وإنما قتله حد الله الذي أقيم عليه، فنحن مأمورون بإقامته، وما ترتب عليه فلسنا متحملين المسئولية.
لكن إذا زاد الضارب في العقوبة، وتجاوز الحد الشرعي فإنه يضمن، فلو أنه ضربه في مقتل -وقد قلنا: لا يضرب في المقاتل- فسقط ميتاً، فقد تعدى الضارب، فيتحمل المسئولية، وفي هذا تفصيل عند العلماء، ففي بعض الصور يكون من باب الخطأ، وهل يضمن بيت مال المسلمين أم يضمن الجلاد أم يضمن القاضي الذي حكم بتنفيذ الحد عليه أم تكون مسئولية مشتركة وتكون من بيت مال المسلمين؟ ثم إذا قلنا: بتضمين الجلاد، فهل الدية على عاقلته أو عليه؟ في ذلك كلام للعلماء رحمهم الله.(373/3)
حكم الحفر لمن يرجم في الزنا
قال المصنف رحمه الله: [ولا يحفر للمرجوم في الزنا].
الرجم عقوبة من الله عز وجل للزاني المحصن من الرجال والنساء، فإذا زنى المحصن؛ فإنه يرجم، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم).
والرجم يكون بالحجارة وما في حكمها، ولذلك رجم الصحابة رضوان الله عليهم حتى بالعظام الكبيرة، وقُتِل ماعز عندما رجم بعظم بعير، ضربه به رجلٌ فقتله، وكان قد رجم بالفخار وبجلاميد الصخر رضي الله عنه وأرضاه، فالرجم عقوبة، وهذه العقوبة اختلف العلماء رحمهم الله فيها: هل يحفر للشخص الذي يراد رجمه أو لا يحفر؟ قال بعض العلماء: لا يحفر له، واحتجوا بما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه في قصة ماعز رضي الله عنه قال: (فوالله! ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكن قام لنا حتى إذا استحر من الرجم ... ) الحديث، فقال: (ما أوثقناه) يعني: ما ربطناه، (ولا حفرنا له)، وهذا يدل على أن الحفر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بـ ماعز، واستدلوا أيضاً بقصة الرجل والمرأة اليهوديين الذين زنيا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالحفر لهما كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين قال: (أمر بهما فرجما -يعني الرجل والمرأة- فرأيت الرجل يجني على المرأة)، أي يعطف عليها ويميل إليها حتى لا تأتيها الحجارة، ولو حفر لهما لما وقع هذا، فالحفر لا يشرع للرجل عند جماهير العلماء، واختلفوا في المرأة: فبعض العلماء يرى أن المرأة يحفر لها، واستدلوا بقصة ماعز في رواية بريدة، ففيها أنه حفر لها، فبعض العلماء يقول: المثبت مقدم على النافي، وبريدة أثبت أنه حفر له كما في إحدى روايات أحمد ومسلم، ولذا قالوا: يحفر للمرجوم، وجُمِع بين الروايتين بأن المثبت للحفر يعني بذلك حفرة ليست بتلك التي تمنع، ومن نفى الحفر قصد الحفرة التي تمنع، ولكن عدم الحفر أقوى من ناحية الرواية، خاصة وأن رواية خالد بن اللجلاج -وهي صحيحة- نص فيها على عدم الحفر، فتقوى رواية النفي، وقالوا: لو حفر لـ ماعز لما فر عنهم، فكيف فر عنهم وهو محفور له؟ وكيف خرج من الحفرة؟ قالوا: الأقوى عدم الحفر، خاصة أن الروايتين لما تعارضتا جاء ما يرجح إحداهما على الأخرى، وبقي الخلاف في النساء، والخلاف فيهن أقوى من الخلاف في الرجال؛ لأن الحاجة إلى الحفر للنساء أشد، وفزعهن أعظم، ومن هنا اختلف في المرأتين اللتين زنتا، لكن حديث اليهودية مع اليهودي ليس فيه حفر، والرواية واحدة والسند فيها من السلسلة الذهبية: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فهي من أصح الروايات، فلا إشكال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لها.
ولذا اختار المصنف رحمه الله عدم الحفر، وهناك قول لبعض العلماء -وهو قولٌ جميل وفيه جمع بين النصوص- وهو: أنه يرجع إلى نظر الإمام واجتهاده، فإن رأى الحفر في بعض الأحوال أمر بالحفر، وإن لم ير الحفر لم يأمر به، فالأمر إليه، ويجمع بهذا القول، وهو أشبه إن شاء الله تعالى.(373/4)
الأسئلة(373/5)
حكم جمع الجلد والرجم على الزاني المحصن
السؤال
هل كان في أول الأمر إذا زنا المحصن يجلد ثم يرجم؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: اختلف العلماء في المحصن هل يرجم فقط أو يرجم ويجلد؟ والذي تدل عليه الأدلة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها غير واحد من أصحابه، وهو قول إسحاق بن راهويه والثوري، وطائفة من أئمة السلف: أنه يجمع بين الجلد والرجم، وهذا هو الصحيح؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم- أنه عليه الصلاة والسلام قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم)، فقرن بين الجلد والرجم، وطبق هذه العقوبة علي رضي الله عنه في شراحة حينما جلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أهل العلم رحمهم الله من فرق بين الإقرار وغيره، فمن أقر بالزنا وهو محصن، يرجم ولا يجلد، ومن قامت عليه البينة، يجلد ويرجم، وهذا القول قوي جداً، خاصة وأن النصوص التي ورد فيها الاعتراف ليس فيها إلا الرجم، كحديث (واغدُ -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، فاعترفت فرجمها، (فأمر به فرجم)، (فأمر بها، فشكت عليها ثيابها، ثم رجمت)، وكل هذا في الاعترافات، وحديث: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم) لا مانع أن يخصص بمن لم يعترف؛ لأن الذي اعترف تحمل وتجشم وصدق في التوبة إلى الله عز وجل، فلا مانع أن تخفف عنه العقوبة، وهذا القول يجمع به بين الأدلة، وهو من القوة بمكان، فيفرق على حسب حال البينة، والله تعالى أعلم.
أما أول الأمر فكانت العقوبة الحبس في البيوت، كما أخبر تعالى في آية النساء: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]، فكانت العقوبة إذا عثر على الزاني والزانية أن يقفل عليهما في بيتهما، ويمنعان من الخروج، ثم جاء الحديث بالعقوبة: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً)، وهو الحكم المحكم في آخر الأمرين، والله تعالى أعلم.(373/6)
حكم من أراد المعصية في مكة
السؤال
ما الدليل على أن من نوى المعصية في مكة يأثم وإن لم يصنعها؟ وهل السيئة في مكة بعشر أمثالها مع أن الله تعالى يقول: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160]؟
الجواب
أما القول بأن السيئة في مكة بعشرة أمثالها فهذا قولٌ باطل، ولم يقل به أحد من أهل العلم رحمهم الله؛ لأن النصوص واضحة في الكتاب والسنة أن من فعل السيئة فلا يجزى إلا مثلها، كما قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160]، وفي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (من جاء بالحسنة؛ فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة؛ فلا أجزيه إلا مثلها أو أعفو)، فالله سبحانه وتعالى لا يجزي بالسيئة إلا سيئة أو يعفو سبحانه.
لكن هناك مسألة مهمة، وهي دقيقة وترفع الإشكال في هذا الأمر، يقول بعض العلماء: يتضاعف الذنب في مكة لعظم المكان، وهذه مسألة ثانية، متعلقة بحرمة المكان وحرمة الزمان، والأصل ألا يتضاعف الذنب نفسه، وإنما يكون أصل العقوبة من الشرع، وأصل الاسم المقدر لهذه الجريمة وهذا الذنب عظيمٌ بالنسبة لغيره، فمثلاً لو كانت السيئة بالسب خارج مكة فيها ألف سيئة، ففي مكة فيها عشرة آلاف سيئة، وليست مضاعفة للسيئة نفسها ولكن الشرع جعلها عشرة آلاف لحرمة هذا المكان، وحينئذٍ لا تكون مضاعفة إنما يكون لأصل الوضع في الحكم، وأصل الوضع لا يقتضي التضعيف، وحينئذٍ لا تتعارض النصوص، أما ما ورد من النصوص أن السيئات يجزى صاحبها بمثلها، فإن السيئة بمكة ليست كالسيئة في خارج مكة، فللسيئة بمكة مثليٌ يناسبها، وللسيئة خارج مكة مثليٌ يناسبها، فإن وقع سبٌ خارج مكة وكان بألف سيئة، فإنه داخل مكة يكون بعشرة آلاف سيئة، وكثير من النصوص يظن فيها التعارض، ولكن يفرق بينها بأصل الوضع، ومن هنا يخرج طالب العلم من الإشكالات، وقد اختلف في سبب خروج ابن عباس رضي الله عنهما إلى الطائف، والصحيح ما وقع بينه وبين ابن الزبير من فتنة، ودخول الحساد بينهما، فاضطر ابن عباس رضي الله عنهما للخروج.
وهناك قول ثانٍ لسبب خروجه، وهو أنه لما خرج قال: لم تبق لي إلا حسنات أخشى أن تذهبها حرمة هذه البنية، يعني الكعبة، وهذا يدل على عظم تعظيم السلف رحمهم الله لأمر مكة، فعلى كل حال لا تضاعف السيئة بمجردها.
بقيت مسألة نية الذنب، والنية تختلف، وما يقع في القلب يختلف، فأول شيء يقع في القلب يسمى الهاجس، ثم بعد ذلك الخاطر، ثم بعد ذلك حديث النفس، ثم بعد ذلك الهم، ثم بعد ذلك العزم، فهذه خمس مراتب: أولها الهاجس: وهو العارض على النفس، بعض العلماء يقول: ما يلقى في النفس، فبمجرد ما يلقى الشيء بالنفس يقال له: هاجس، فإن مر في داخل النفس يعني عقله القلب وفهمه وألم به ما يلقى، وجرى في النفس ودخل إلى النفس فخاطر.
وإن بدأ يتحدث: هل يقبله أو لا يقبله؟ يرده؟ يقدم عليه؟ يدبر عنه؟ فحديث نفس.
فإن أخذ هذا الحديث يستحكم بين أن يقدم أو يحجم؟ يقبل أو يدبر؟ يفعل أو لا يفعل؟ وتوجهت النفس لترجيح الفعل أو عدم الفعل؛ فقد اهتم به فيسمى الهم.
فإذا اهتم به واعتنى به وأراد أن ينفذه فيسمى العزم.
فهذه خمس مراتب، وبالنسبة للخاطر والهاجس والهم وحديث النفس فكلها معفو عنها، والنص صحيح صريح في أنه لا يؤاخذ العبد عليها، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، فجعل حديث النفس لا تأثير له، ولو أن رجلاً حدث نفسه بمعصية فلا نحكم بمؤاخذته به؛ لأنه معفوٌ عن حديث النفس، فإن عزم وتوجه للشيء فهذا فيه إشكال عند العلماء رحمهم الله؛ لأنه إذا عزم وتوجه إليه واهتم به وعزم عليه؛ فهذا عملٌ قلبي، ولذلك قد تتوجه الإرادة إلى الشيء، وتعزم عليه وتقصده لكن لا يستطيع أن يفعله؛ لأن الظروف لم تيسر له فعله، فالعزم والتوجه الصادق فيه كلام للمحققين، فبعض العلماء يقول: حديث النفس الذي استحكم في النفس، وتوجه إليه القلب وأراده، واعتبره والتزمه يؤاخذ به، ولا يكون عازماً إلا إذا اعتنقه وعزم عليه، ما يقال: عزم على الشيء؛ إلا إذا كان قد استقر في مكنون قلبه على وجهٍ لا تردد فيه، فإن عزم عليه وتوجهت إرادته إلى الشيء قصداً، فيؤاخذ به وذكر هذا الإمام القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم وقال: إن المحققين من أهل العلم على هذا، واحتجوا بأدلة منها: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19] فهم يحبون أن تشيع الفاحشة لكن ما فعلوها.
وقال تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، فخطرت الظنون وهجست وتحدثت فيها النفوس لما توجه إلى سوء الظن بأخيه المسلم، وجزم بهذا التوجه: أن أخاه كذاب أو غشاش أو منافق، فلما توجه قلبه إلى هذا الظن وأراده ورضيه؛ قال تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، والظن محله القلب، فهو لم يتحدث به ولم يتكلم به، ومن هنا عُلم وجه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها)، فالحديث ليس فيه الشيء الذي تحدث به النفس.
ومع قولهم أن هناك نصوصاً أخرى تدل على أن أعمال القلوب المتوجهة معتبرة، ويؤاخذ بها العبد، إلا أن هناك مسائل دلت النصوص على أنه لا بد فيها من الظاهر، فلا يكفي مجرد التوجه ولو حصلت العزيمة، يقول تعالى عن الحرم: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] أي: بالإرادة، وصدق التوجه، كأن يريد الزنا، أو شرب الخمر، أو فعل المحرمات، أو أذية الجار، ويتوجه إلى ذلك؛ لأنه لا يكون مريداً له إلا إذا عزم عليه، وصدق في توجهه إليه، ومن هنا وقع في الذي يعتبر من أعمال القلوب المؤاخذ عليها.
لكن هناك فرق -وهي نقطة دقيقة جداً- بين أن نقول: إنه مؤاخذ عليه بعملٍ قلبي، وبين أن نقول: إنه مؤاخذ على العمل بذاته، فمثلاً من حدثته نفسه أن يزني، وتوجه إلى الزنا وعزم عليه، أو حدثته نفسه بجرمٍ في مكة، وتوجه في نفسه إليه؛ فهذا خطأ قلبي، ويصبح مسيئاً بقلبه، وتلتصق به الجناية بعمل القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان)، والأصل أن الجريمة ما وقعت لكنه أسند الرضا بالجريمة وفعل وعمل شيئاً مسنداً إلى العين، مثلما أن العين إذا نظرت صارت زانية، كذلك القلب إذا حدث ورضي هذا الفعل كما قال: (والقلب يهوى ويتمنى) فشركه في الحكم، فإذا حصل هذا من القلب، فهو عملٌ قلبي، والعقوبة نسبية لهذا العمل القلبي، وحينئذٍ تكون المؤاخذة على الظاهر ليست كالمؤاخذة على الباطن، والإثم على الظاهر ليس كالإثم على الباطن، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: من جامع زوجته وهو يتخيل أجنبية أثم، ومن شرب عصيراً مباحاً حلالاً وهو يتخيل كأنه يشرب الخمر أثم، أي: أثم بالعمل القلبي؛ لأنه يريد هذا ويحبه كما قال صلى الله عليه وسلم: (والآخر يقول: لو أن عندي مثل مال فلان؛ لعملت مثل عمله) فجعل التمني كالفعل، فهذا كله يدل على أن التوجه للمعاصي وصدق العزيمة إليها؛ عملٌ قلبي يؤاخذ به العبد، لكنها مؤاخذة نسبية، وحينئذٍ لا تعارض بين النصوص ولا تعارض بين مسألة العمل القلبي والظاهر.
ومما أنصح به طالب العلم المتمكن أن يرجع إلى الموافقات للإمام الشاطبي في مبحثه النفيس في المقاصد، وذلك أنه قسم فاعل الفعل وتاركه إلى قسمين: إما أن يكون موافقاً أو مخالفاً، فإن كان موافقاً أو مخالفاً فإما أن يوافق ظاهراً وباطناً، أو يخالف ظاهراً وباطناً، وإما أن يوافق ظاهراً ويخالف باطناً، وإما أن يخالف ظاهراً ويوافق باطناً، وهذا كله فيه تفصيل، وكلام كثير للعلماء رحمهم الله، فمسألتنا هذا من حصول المخالفة الباطنية دون وقوع المخالفة الظاهرية، وعلى كل حال فالأصل يقتضي أننا لا نؤاخذه المؤاخذة التامة الكاملة إلا باجتماع الظاهر والباطن فيما اشترط الشرع فيه الظاهر والباطن، وقولك: إن النية في مكة مؤثرة ليس على إطلاقه، والله تعالى أعلم.(373/7)
كلمة توجيهية لزائري مكة للعمرة والتعبد في مسجدها
السؤال
في أيام الإجازة يكثر الزائرون والمعتمرون، فهل من كلمة توجيهية تذكر بفضل مكة وفضل العبادة بها؟
الجواب
هناك بيتان لطيفان جمعا المراتب الخمس المذكورة، يقول الناظم: خواطر القلب خمسٌ هاجسٌ ذكروا فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا يليه هم فعزمٌ كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أذن المؤذن تولى الشيطان وله ضراط)، أثناء الإجابة كنت أحاول أن أتذكر البيتين فما تذكرتهما إلا أثناء الأذان، وهذا من عجائب السنة.
هذان البيتان يقول فيهما الناظم: (خواطر القلب خمسٌ هاجسٌ ذكروا) يعني: أولها الهاجس، (فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا) ثلاثة: الهاجس، الخاطر، حديث النفس، (يليه هم فعزم كلها رفعت) يعني: ما فيها مؤاخذة لا بإثم ولا بعقوبة، (سوى الأخير) الذي هو العزم، (ففيه الأخذ قد وقعا).
وهذا على اختيار المحققين، قال بعض مشايخنا رحمه الله: وما عليه عزم الثواب فيه وكذا العقاب ما ذكرت -أخي السائل- أمرٌ عظيم، هنيئاً ثم هنيئاً لمن وطئ بلد الله الحرام، واستشعر حرمته، وعلم علم اليقين أن الله فضله وشرفه وكرمه، هنيئاً لمن وطئ هذه الرحاب الفاضلات الطيبات المباركات، فخشع لله قلبه، وذرفت من خشية الله عيناه.
مكة وما أدراك ما مكة! البلد الأمين، الذي أقسم به رب العالمين من فوق سبع سماوات؛ تعظيماً له في الحرمات، وتذكيراً لعباده وإمائه من المؤمنين والمؤمنات، هذا البلد الأمين -الذي شرفه الله وفضله- أحب البقاع إلى الله، وجعل له الحرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس)، حرمها من فوق سبع سماوات.
في هذه الرحاب الطاهرات المباركات؛ خشعت قلوب المؤمنين والمؤمنات، ولا يستشعر عبدٌ فضلها، ولا عظيم شأنها، إلا أصابه الخير وكان من أسعد الناس.
هذا البلد الأمين شعت منه أنوار الرسالة، فأضاءت بها مشارق الأرض ومغاربها، من هنا ناجى ربك عبده وخليله وحبيبه صلوات ربي وسلامه عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1 - 5].
من هنا أعلنت مبادئ الإسلام، من هنا كانت مآثره الجليلة العظام.
مكة وما أدراك ما مكة! هي مكة وبكة، بكت أعناق الجبابرة، وقصمت ظهور الأكاسرة، فكم قصدها من جبار فقصمه الله في جبروته؟ قال عبد المطلب لـ أبرهة: أما البيت فله رب يحميه، فكل من أتى هذه الرحاب، وحل بهذا النادي المبارك، واستشعر أنه في أحب البقاع إلى الله عز وجل فراعى الحرم والحرمة، وتذكر كيف أن الله سبحانه وتعالى جعله بساطاً للأمان، حتى الشجر يأمن، كما في الحديث: (لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها)، والطير في الهواء له أمان، فما بالك بالمؤمن؟ قال صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم مكة: (أيها الناس! إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس، وإنها لم تحل لأحدٍ قبلي، ولن تحل لأحدٍ بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ورجعت حرمتها اليوم كما كانت حرمتها بالأمس، لا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشد)، من يستشعر هذه الأمور العظيمة التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ من يدخل هذا البلد الأمين معتمراً أو زائراً أو مجاوراً ويستشعر أن الله سبحانه وتعالى اختاره من هذه الملايين المسلمة لكي يكون ضيفاً عليه في بيته؟ لو أن الإنسان وهو قادمٌ في عمرته يحس أنه ضيفٌ على الله، والضيف يكرم ولا يهان، ويعطى ولا يمنع.
في هذه الرحاب الطاهرات الطيبات المباركات كم من ذنوبٍ غفرت، وكم من دعوات استجيبت، وكم من هموم فرجت، وكم من كربات نفست، وكم من درجات رفعت؟ هنا بكى المؤمنون والمؤمنات، وهنا خشع المؤمنون والمؤمنات، وهنا أناب المنيبون، وتاب التائبون، واعترف المذنبون، واستغفر المستغفرون، واسترحم المسترحمون.
من هنا صدر أناسٌ جاءوا بهمومهم، فرجعوا كيوم ولدتهم أمهاتهم، بلا همٍ ولا غم ولا ذنب، منازل شرفها الله، وكرمها، وفضلها، حتى إن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ذكَّر المؤمنين بفضلها، وعظيم قدرها، فدخل يوم فتح مكة في يومٍ أعز الله فيه جنده، ونصر عبده، وصدق وعده، دخل عليه الصلاة والسلام وقد طأطأ رأسه حتى أن لحيته تمس قربوس سرجه صلوات الله وسلامه عليه تواضعاً لله، وإعظاماً لهذه الحرمة التي حرمها الله.
هنيئاًَ لمن يدخل مكة يوم يدخلها وهو يستشعر أنه في مكانٍ عظيم اختاره ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض.
قف أمام بيت الله عز وجل، وانظر كيف اختاره الله لأعز الأشياء وأشرفها، وقت مناجات العبد لربه في الصلاة، يتوجه إلى هذا البيت إيماناً وتسليماً موحداً لله مخلصاً، أي شرف أعظم من هذا الشرف! فيتوجه إلى هذا البيت موحداً لله، معظماً لله، سائلاً الله من فضله.
يقول بعض العلماء: عجبت من قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، وفعلاً المال تقوم به حياة الإنسان، وهذه سنة كونية جعلها الله سبحانه مؤثرة بتأثير الله عز وجل، وقال في بيته: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97]، ففي هذه الكلمة (قياماً للناس) من المآثر الدينية والدنيوية والأخروية ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
يأتي العبد محملاً بالذنوب والخطايا، تائباً إلى الله، صادقاً مع الله عز وجل في توبته، فيأتي إلى الله معتمراً، فلا يبرح أن يطوف شوطه الأول فينفض من معاصيه كيوم ولدته أمه، ويأتي العبد مهموماً مغموماً مكروباً، قد أحاطت به الهموم في أهله وولده وماله، فيأتي إلى ربه منيباً إلى الله ضيفاً على الله، يشتكي إلى ربه، قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فلم يجد له أحداً يغيثه ولا أحداً يعينه، وقد يئس من كل أحد، لكنه لم ييأس من ملك الملوك، ومن جبار السماوات والأرض، إله الأولين والآخرين، فيأتي إلى هذا البلد الأمين مؤمناً بالله، متوكلاً على الله، واثقاً بالله، والهموم تهزه، وتضيقه، وتضعف قوته، وتذهب حوله، حتى إذا وقف أمام البيت، وطاف بالبيت، وسبح الله وكبره وهلله وعظمه، وسأل الله صادقاً من قلبه؛ فكأن لم يكن به شيء من ذلك، وإذا بتلك الهموم والغموم تحل مكانها السكينة والأمن والأمان، وإذا بالضعف قوة، وإذا بالذلة عزة، وإذا بالمهانة كرامة، وإذا بالفقر غنىً بالله سبحانه وتعالى.
وكم وكم! حتى أن المرأة المكروبة أم إسماعيل ضاقت عليها الأرض بما رحبت، وهي مع طفلها وفلذة كبدها ليس لها منجٍ إلا الله وحده لا شريك له، وترقى الصفا، وتسعى بين الصفا والمروة، تسعى وتخب لنجاة ولدها، ونجاة نفسها بإذن ربها، ويجعل الله تفريج كربها في هذه البقاع الطاهرات، وفي هذه المنازل الطيبات المباركات.
هنيئاً ثم هنيئاً لمن دخل البيت الحرام مؤمناً بالله كامل الإيمان، هنيئاً لمن يأتي في الحج والعمرة وهو يستشعر في كل لحظة، وكل ثانية؛ أنه ضيف على الله، يرجو رحمة الله، ويتذكر كم من أكف رفعت؟ وكم من عطايا منحت؟ وكم من دعوات استجيبت؟ وكم وكم؟ فلم تزد الله إلا كرماً وجوداً سبحانه وتعالى.
فإذا استشعر الإنسان هذا الفضل الذي جعله الله لبيته ولحرمه، فعندها تطيب نفسه بالله، ويقنع بما عند الله سبحانه وتعالى، ويرجو كرم الله وفضله، وكم من قصص للسلف الصالح الأولين والآخرين! آه ثم آه لو أذن لهذه البقاع أن تتحدث، فكم من دعوات استجيبت فيها! كم من صيحات وآهات وأنات فرجها الله عن المؤمنين والمؤمنات! آه كيف لو أذن لهذه البقاع أن تتحدث بعظمته وجبروته، وعزه وملكوته، واستجابته ورحمته سبحانه وتعالى! آه لو قدر الناس قدر ربهم سبحانه، وأنى يستطيع الإنسان أن يقدر الله حق قدره! ولكننا في غفلة، طغت علينا الدنيا، فيدخل الإنسان مكة، ويخرج منها، ولا يستشعر هذه المعاني!! ولا يحس بهذه الأحاسيس!! فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى الله المشتكى من هذه الغفلة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحم ضعفنا فيها، وأن يرزقنا إياها بالتفكر والاتعاظ.
إلى كل مؤمن ومؤمنة نزل بهذا الحرم أن يتقي الله في نفسه، وأن يتقي الله في بلد الله الحرام، وإذا جاء بأسرته وأولاده وعائلته فعليه التذكر أن الله سائله عنهم، وأنه جاء للحسنات، والباقيات الصالحات، وأنه جاء يرجو رحمة الله، فيحكم زمام أولاده وأسرته، ويجعلهم مستقيمين على طاعة الله وذكره وشكره، ويذكرهم في كل لحظة، ويقرع مسامعهم بحرمة البيت، وحرمة المكان، عل الله عز وجل أن يعينهم فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته.
كل من جاء ضيفاً إلى هذا المكان، عليه أن يتفقد أولاده وزوجه وإخوانه وأخواته، وهذا أمر مهم جداً.
وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس بهذه الحرمة لا سيما في هذه الإجازات، وأن يرحبوا بمن جاء ضيفاً إلى هذا البلد، وأن يهنئوه بفضل الله عز وجل عليه، ويذكروه بالحرم والحرمة، ويذكروه بفضل هذا المكان الطيب المبارك فلا يدنسه بمعاصيه، ولا يفلت عليه أبناؤه وبناته فيرتعوا في حدود الله، فتأتيهم نكبة من الله عاجلة أو آجلة، فلا يأمن أن يرجع بهم إلى بيته وداره من عاجل نقمة ربه به وبولده.
فعلى الإنسان أن يخاف من الله عز وجل، وأن يفزع من الله إلى الله عز وجل، وهناك حوادث تشيب من هولها الرءوس، أناسٌ مكروا وفجروا واستهانوا بحرمة البيت -خاصة ممن أتى من خارج مكة- فما تركهم الله، ولم يمهلهم الله عز وجل، ويحكى أن بعضهم خرج من حدود الحرم فلما نزل بعرنة وهي في آخر حد الحرم؛ حشره البول -أكرمكم الله- فنزل عن بعيره ليقضي حاجته، فجاءته حية فلسعته في ظهره، فقصم الله ظهره بما كان من فجوره، وما أمهله الله حتى يرجع إلى داره، فخر ميتاً في مكانه.
هذا بلد عظيم، وحرمته عظيمة، ومن أعظم ما يكون من العقوبة لمن فجر فيه أن يحرم الإنسان العودة إلى مكة، وهناك لله سنن، وهذه أشياء قد تعرف بالحوادث؛ لأن الله عز وجل يقول: {(373/8)
حكم رفع اليدين بين الأذان والإقامة للدعاء
السؤال
ما حكم رفع اليدين بين الأذان والإقامة للدعاء؟
الجواب
رفع اليدين من مضان الإجابة، وفيه خمسون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين صحيح وحسن وضعيف قابل للانجبار، وفي الصحيحين أحاديث واضحة ما فيها إشكال تدل على مشروعية رفع اليدين في الدعاء، ولكن يتوقف في العبادات التوقيفية على الوارد.
أما إنسان أصابه كرب فرفع كفه إلى الله، واستغاث بالله، ونادى ربه مستغيثاً مسترحماً سائلاً له من فضله؛ فإنه لا ينكر عليه، والسنة دالة على هذا، بل نص الأئمة على أن من أسباب إجابة الدعاء رفع اليدين، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب!) يقول الحافظ ابن حجر: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسباب؛ لأنه يريد أن يبين أن المطعم الحرام يرد الدعوة، فجاء بأبلغ أحوال العبد الداعي، حتى يبين أن الله قد لا يستجيب الدعاء مع هذا الاسترحام، ومع هذه الوقفة العظيمة التي قل أن يخيب الله فيها عبده، وهذه الأسباب هي: السبب الأول: أشعث أغبر، بمعنى: رثاثة الحال، أي: أنه ليس من أهل البذخ، ولذلك قال في الحديث الصحيح الآخر: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوعٍ على الأبواب لو أقسم على الله لأبره) ورثاثة الحال ليس المراد بها أن الإنسان ما يلبس الطيب، ولا يعتني بمنظره، لكن الإنسان قد لا يكون عنده مال، فتأتيه الرثاثة دون تكلف، ودون تنطع، ودون مبالغة في التزهد، تأتيه طبيعة وسجية، أو يكون عنده مال ولكن يلبس الحال الذي يليق به في أوساط الناس دون مبالغة.
السبب الثاني: إطالة السفر، قالوا: وكلما بعد السفر كان رجاء الإجابة للدعاء أقرب، والمسافر مستجاب الدعوة حتى يعود إلى أهله، رحمة من الله؛ لأن السفر قطعة من العذاب، فالمسافر مستجاب الدعاء، فإذا طال سفره كان أرجى لإجابة دعوته.
السبب الثالث لإجابة الدعاء: قوله عليه الصلاة والسلام: (يمد يديه إلى السماء) فهذا يدل على مشروعية رفع اليدين في الدعاء.
وفي الصحيح في قصة عبيد بن مالك الأشعري رضي الله عنه لما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية، ورمي بسهم فقبل أن يموت قال لـ أبي موسى الأشعري: (أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له: يدعو لي، قال أبو موسى رضي الله عنه: فلما أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم خبره، قام فاستقبل القبلة، ورفع كفيه إلى السماء وقال: اللهم! اغفر لعبيدك أبي عامر، واجعله فوق كثير من خلقك يوم القيامة)، فرفع عليه الصلاة والسلام يديه.
والأحاديث في رفع اليدين كثيرة، وكما ذكرنا أنها قرابة خمسين حديثاً ما بين صحيح وحسن وضعيف ينجبر، فالسنة رفع اليدين، فإذا رفعها بين الأذان والإقامة فلا حرج، ولا بأس، ومن تحرى السنة في هذا لا ينكر عليه.
لكن هل الأفضل أن يكون دعاؤه داخل صلاة النافلة والراتبة أو يكون بعد الصلاة؟ الجواب: إذا كان الإنسان يصلي الراتبة فليدعو فيها، ثم إذا خاف إقامة الصلاة فسلم، وبقي وقت، وأراد أن يدعو ورفع كفيه؛ فإنه لا بأس بذلك.
ونسأل الله بعزته وجلاله ونحن في هذا الوقت المبارك بين الأذان والإقامة أن يرحم ضعفنا، وأن يجبر كسرنا، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين! اللهم! إنا نسألك بعظمتك ورحمتك ولطفك بخلقك، وقد عظمت الفتن والمحن، وأنت أعلم بما ظهر منها وما بطن.
يا حي يا قيوم! نسألك بعزتك وجلالك أن ترحم غربتنا، اللهم! ارحم غربتنا في هذا الزمان، والطف بنا يا رحيم يا رحمان، اللهم! ثبتنا على الدين الذي يرضيك عنا، واختم لنا بخير.
اللهم! فرج عن إخواننا المسلمين المضطهدين في كل زمان ومكان، اللهم! فرج عن إخواننا في فلسطين، اللهم! اجعل لهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! سدد سهامهم، اللهم! صوب آراءهم.
اللهم! عليك بأعداء الدين حيثما كانوا، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! صدع بنيانهم، يا حي يا قيوم! خذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، اللهم! اسلبهم عافيتك، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل عليهم بأسك ولعنتك، إله الحق، يا حي يا قيوم! إنهم طغوا وبغوا، اللهم! فعليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم! من لليتامى والأرامل والضعفاء المضطهدين المشردين في مشارق الأرض ومغاربها من عبادك المسلمين.
اللهم أغثنا وأغثهم يا حي يا قيوم! وأغث كل مسلم ومسلمة يا حي يا قيوم! يا أرحم الرحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(373/9)
شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [1]
الزنا حرمه الله في جميع الشرائع لعظم فحشه وكثرة أضراره، فهو يفسد الفرد، ويدمر المجتمعات، ومن رحمة الله بعباده أنه حرمه عليهم، وزجرهم عنه بالحدود الشديدة التي تختلف باختلاف حال الزاني، ولابد من توافر شروط حتى تقام هذه الحدود.(374/1)
تعريف الزنا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد الزنا] معنى الزنا في اللغة لا يختلف عن معناه في الشرع، وقال الشارح رحمه الله: الفاحشة في قبلٍ أو دبر، وعرفه بعض العلماء فقال: هو الوطء في الفرج في غير نكاحٍ ولا شبهة، وبعضهم يضيف: (الفرج المعتبر) خروجاً من وطء البهيمة، ومن وطء المرأة الميتة؛ على القول بأنه لو وطئ امرأة ميتة أجنبية فليس بزنا، فيقول: الوطء في الفرج المعتبر في غير نكاح: فخرج وطء النكاح.
وبعضهم يقول: الوطء في قبل في غير نكاح ولا شبهة، فأخرج اللواط، فإن الوطء في الدبر ليس بزنا من حيث الأصل، ولا يوصف شرعاً بأنه زنا، وإن كان يأخذ حكمه على الصحيح كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى.
وقوله: (ولا شبهة)، وذلك لو أن شخصاً حديث عهد بإسلام، وكان الزنا في بلده مباحاً، أو كان بين الكفار ويظن أن الزنا مباح، فلما أسلم زنى، وظن أنه مباح؛ فهذا عنده شبهة، وهي الجهل بالحكم، وقد تكون الشبهة في المكان والمحل في الموطوءة، أو في الواطئ، فلو أن رجلاً جاء إلى موضع نوم زوجته، وفيه امرأة أجنبية نائمة؛ فظنها زوجته فوطئها، فلا يقام عليه الحد؛ لأن عنده شبهة، والعكس أيضاً لو أن امرأة وطئها رجلٌ، وكانت تظنه زوجاً لها، وتبين أنه ليس بزوجها، فهذه شبهة أيضاً، وكذلك شبهة الإكراه، وهي: شبهة التكليف، على القول بأن المكره ليس مكلفاً، فلو أنها أكرهت على الزنا أو أكره الرجل على الزنا؛ فلا يقام الحد على تفصيل عند العلماء في المكره على الزنا.(374/2)
أدلة تحريم الزنا
حرم الله الزنا في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، وعند العلماء أن النهي عن القربان من صيغ التحريم، كقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، فالنهي عن القربان من صيغ التحريم، بل هو من أبلغ الصيغ في التحريم؛ لأن الله لم يقل: ولا تزنوا، وإنما قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، فنهانا عن القرب من الزنا فضلاً عن فعل الزنا، قال العلماء: وهذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، ومن القرب من الزنا: مجالسة النساء الأجانب، ومضاحكتهن، ومغازلتهن، ولمس الأجنبية، وإغراؤها بالفاحشة، فهذا كله من قربان الزنا، وهو يوصل إلى الزنا، وأشار إلى هذا المعنى ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها المشي، والعين تزني وزناها النظر، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذه كلها وسائل للزنا، ومن هنا جعل العلماء في الزنا مقصداً وغاية، ووسيلة إلى المقصد والغاية، فالزنا هو المقصد المحرم، وهو وطء المرأة الأجنبية، والوسيلة إلى الزنا مثل أن يحادثها وهي أجنبية عنه، أو يغازلها، أو يلمسها، أو ينظر إليها وإلى مفاتنها، أو تبرز مفاتنها، وكل هذا إغراء بالفاحشة ووسيلة للحرام، وقالوا: الوسائل إلى الحرام تأخذ حكم الحرام، والوسائل إلى الكبائر كالكبائر نفسها، فالوسائل تتفاضل بتفاضل مقاصدها، فوسيلة الشرك أعظم الوسائل قبحاً وجرماً عند الله عز وجل، وما دونه من وسائل الذنوب آخذة حكمه على حسب درجات ذلك الذنب.
ومن أدلة تحريم الزنا في القرآن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) [الفرقان:68]، فبين سبحانه وتعالى أن من صفات أهل الجنة أنهم لا يزنون، وهذا يدل على حرمة الزنا؛ ولذلك قرنه الله بالشرك وقتل النفس.
ومن أدلة التحريم أن الله عز وجل رتب العقوبة عليه، فقال سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، فرتب العقوبة على فعله، وعند العلماء قاعدة وهي: ترتيب العقوبة على الفعل أو الترك دالٌ على حرمة ذلك الفعل أو الترك، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله، فلا تترتب العقوبة إلا على ترك واجبٍ أو فعل محرم.
ومن أدلة التحريم قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، قيل في قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ} [النور:3]: إن الضمير عائد على فعل الزنا، ولكن النفس تميل إلى أن الضمير عائد على نكاح الزانية؛ لأن سبب النزول يقوي هذا كما في حديث مرثد بن أبي مرثد الغنوي حينما أراد أن ينكح عناقاً، وكانت امرأة بغياً بمكة، وكان فقيراً، فأراد أن ينكحها، ليصيب من مالها، فحرم الله ذلك وأنزل الآية، وقد تقدم معنا أن الزنا من موانع النكاح، وهذا مذهب الإمام أحمد، ونظراً لترجيحنا لهذا التفسير؛ لم نذكر هذه الآية الكريمة في بداية استشهادنا بآيات القرآن على تحريم الزنا.(374/3)
الحكمة من تحريم الزنا
الزنا حرمه الله عز وجل لعظيم ما فيه من المفاسد والشرور، فهو اعتداء على أعراض المسلمين، حيث أنه يفسد نساء المسلمين ورجالاتهم، فهو من أعظم الذنوب التي تفسد المجتمعات، وتدمر الأخلاق، وتدمر القيم، وما فشا في أمة إلا ذهب حياؤها، وسقطت مروءتها، وأصبحت كالبهائم -والعياذ بالله- لا ترعى حرمة، ولا تحفظ ذمة.
والزنا يؤدي إلى اختلاط الأنساب -والعياذ بالله-، فالمرأة تدخل على الرجل من ليس من ولده، والرجل يدخل على الرجل من ليس من ولده، والأمة المسبية أحل الله لسيدها وطأها، ولكن لا يطؤها حتى يستبرئها ويتأكد أنها لم تحمل من زوجها الأول الكافر، وفي سبي أوطاس أراد رجل أن يهم بأمة أحبها وتعلق بها وهي حامل، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أيريد أن يلم بها! - يعني وهي حامل- لقد هممت أن ألعنة لعنة تدخل معه في قبره)، هذا والمرأة حامل وانعقد الجنين في بطنها، فكيف -والعياذ بالله- بامرأة خانت زوجها أو رجل خان أخاه المسلم في إسلامه وأخوة الإسلام، فاعتدى على عرضه، فأفسده عليه! قال العلماء: الزنا مراتب بعضها أشد جرماً وأعظم ذنباً من بعض، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فالزنا بذات المحرم -والعياذ بالله- أعظم، وذلك كأن يزني بأخته مثلاً، ومذهب بعض السلف أنه يقتل مطلقاً، وأثر ذلك عن بعض الصحابة أنه قتل من فعل ذلك، وفيه حديث مرفوع، وقيل: إنه قُتِل تعزيراً.
والزنا بامرأة الجار أعظم من الزنا بغيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك -وليس هناك أعظم من الشرك- قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك)، فالجار له حق على جاره، فإذا زنى بحليلته، وأفسد عليه زوجته أو بناته أو أخواته؛ فقد ظلمه، ووقع منه الاعتداء في حق جاره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) والغالب أن الجار يأمن جاره، ويطمئن إليه، ويرضى بقيامه على عرضه، خاصة إذا فوض إليه أن يقوم ببعض مصالحه.
والزنا يتفاوت في العقوبة، ويتفاوت السخط والغضب من الله عز وجل على فاعله، وفيه عقوبات شديدة؛ لأن الاعتداء به متعدد؛ لأن المرأة ستحمل وتنجب، ويدخل هذا الولد الأجنبي على فراش الرجل، فيأكل من ماله، ويستبيح النظر إلى عرضه، ثم بعد ذلك يرث من ماله، ثم يأتي هذا الولد بالذرية تلو الذرية، وهذا من أعظم الجرائم، وأشدها بلاءً، وأعظمها فساداً على الناس، ومن هنا اتفقت الشرائع السماوية كلها على تحريم الزنا، وليس هناك شريعة تبيح الزنا، وهذا من مرجحات أن حد الزنا أقوى من حد المسكر؛ لأن الزنا لم تبحه الشريعة قط، وكان السكر حلالاً، وأبيح لأهل الكتاب، وهذا يدل على عظم الزنا، وتتعاظم العقوبة بعظم الذنب، ولخطورة الزنا وعظيم ضرره؛ جعلت الشريعة للزنا عقوبات دنيوية، وعقوبات أخروية، فإذا لم يتب الزاني إلى الله عز وجل، ويبرأ إلى الله من فعله؛ عاجله الله بعقوبته في الدنيا والآخرة، وقد فتح الله أبواب التوبة، ورغب عباده فيها، ويسر لهم ذلك، وبين لهم سبحانه وتعالى أنه يقبل توبة من تاب ويمحو إساءة من أساء إذا تاب صادقاً من قلبه.
قال رحمه الله: [باب حد الزنا] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحد الزنا، وقدمه المصنف مثل غيره من أهل العلم لأنهم يرون أن تذكر أحكام الزنا قبل القذف والسكر والتعزير.(374/4)
رجم الزاني المحصن
قال رحمه الله تعالى: [إذا زنى المحصن رجم حتى يموت] أي: إذا فعل الزنا في حالة كونه محصناً، وتوافرت فيه شروط الإحصان؛ فإنه يرجم حتى يموت، وهذه العقوبة نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في صحيح مسلم أنه قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).
ونص عليه الصلاة والسلام على الرجم بالفعل؛ فإن ماعزاً لما اعترف عنده قال بريدة رضي الله عنه: فأمر به فرجم، كما في صحيح مسلم، ورجم المرأتين اللتين اعترفتا بالزنا، ورجم اليهودي واليهودية، فهذا كله يدل على مشروعية الرجم، وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن تطاول الزمان بالناس ليقولن أحدهم: إن الرجم ليس في كتاب الله، كما يقول ذلك الآن من يسمون أنفسهم بالقرآنيين، يقولون: ما نعمل إلا بالقرآن، ولا يعملون بالسنة! ألا ساء ما يقولون، وساء ما يزرون، فرد السنة كرد القرآن -والعياذ بالله-، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم شبعان ريان متكئاً على أريكته) -وقد وقع هذا من بعض العظماء المتأخرين من أهل الجاه، فصدقت معجزته عليه الصلاة والسلام- قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته شبعان ريان يبلغه الحديث مما قلته أو أمرت به فيقول: ما نجد هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه)، وأنكر عمر في خطبته على من ينكر الرجم لكونه غير موجود في القرآن، حيث أن الله يقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] وما ذكر الرجم، فقال عمر رضي الله عنه في خطبته: إنها كانت في كتاب الله ثم نسخت، قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان نص الآية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة؛ نكالاً من الله، والله عزيزٌ حكيم) والحديث فيها صحيح، ثم نسخت، وهذا مما نسخ تلاوة وبقي حكماً، وقد بينا أن المنسوخ أقسام: منسوخ التلاوة والحكم، ومنسوخ الحكم دون التلاوة، ومنسوخ التلاوة دون الحكم، وهذا من أمثلته، ومن أمثلته كذلك ما تقدم في الرضاعة: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر رضعات يحرمن ثم نسخن بخمس رضعات معلومات).
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الرجم عقوبة شرعية، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، ورجم الأئمة في القرون المفضلة، وكلهم على اعتبار هذه العقوبة، وأنها شرعية، وشرطها الإحصان.(374/5)
حقيقة الإحصان
قال المصنف رحمه الله: [والمحصن من وطِئ امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح صحيح] في الزنا عقوبتان: العقوبة الأولى: للبكر، والعقوبة الثانية: للثيب، والعقوبة للبكر أخف، وهو غير المحصن، وسنبينه إن شاء الله، والعقوبة للمحصن -وهو الثيب- أشد؛ لأنه كما يقول العلماء: كفر نعمة الله عليه، فإن الله حصن فرجه بالزوجة، وحصن فرجه بالحلال، فأبى إلا أن يعتدي حدود الله عز وجل، فابتدأ المصنف رحمه الله في عقوبة الزنا بالأشد، وهي عقوبة المحصن، وبعض العلماء يبدأ بعقوبة البكر من باب التدرج بالأدنى إلى الأعلى، لكن لما كان الباب باب حدود وعقوبات؛ فالبداءة بالحد الأعظم أنسب، وفي بعض الأحيان يراعي المصنف البداءة بالأدنى تدرجاً إلى الأعلى، ولكلٍ له وجهه.
قوله: (من وطئ) يعني: من جامع امرأته المسلمة، والإحصان في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بمعنى النكاح، والعفة، والحرية، والإسلام، فهذه كلها من معاني الإحصان، وأصل مادة (حصن) في لغة العرب: منع، فالإنسان الذي تتوافر فيه شروط الإحصان؛ الغالب أنها تمنعه من الوقوع في الحرام، قال: من وطئ زوجته المسلمة، ولا بد من الوطء وهو: إيلاج الحشفة، بأن يجامع زوجته، فلو عقد على امرأة ثم زنى قبل أن يدخل بها فليس بمحصن؛ لذا قال: من وطئ زوجته، فلو أن رجلاً بكراً عقد على امرأة ثم -والعياذ بالله- زنى قبل أن يدخل بها، فلا نقول: إنه محصن؛ لأنه لم يتحقق شرط الدخول والوطء، فلا بد أن يكون هناك وطء، وأن يكون الوطء لزوجته، فخرج وطء الأمة، الذي هو التسري، فلو أنه وطئ أمته ومملوكته فليس بمحصن، ثم قال: (المسلمة)، فلو تزوج من أهل الكتاب يهودية أو نصرانية فهل يحصن؟ وجهان للعلماء رحمهم الله، وظاهر حديث كعب بن مالك عند الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد كعب أن يتزوج اليهودية؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحصنك)، فأخذ منه أن من تزوج كتابية فلا يتحقق الإحصان بها، فلا بد وأن تكون زوجته مسلمة، لكن في الحديث كلام.
واختار المصنف رحمه الله أن الذمية يتحقق بها الإحصان، ومن العلماء من قال: إن الوطء للكافرة سواءً كانت يهودية أو نصرانية لا يتحقق به الإحصان، واحتجوا بحديث الدارقطني في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد كعب أن يتزوج اليهودية قال له: (إنها لا تحصنك)، واحتج الحنابلة ومن وافقهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب بالثيب)، ووطء الذمية كوطء المسلمة من حيث الأصل؛ لأنه عف بوطءٍ شرعيٍ معتبر.
وحديث الدارقطني فيه ابن أبي مريم، وقد ضعفه غير واحد من العلماء، ومنهم الإمام أحمد وابن معين وغيرهما، فعلى القول بضعفه يترجح المذهب الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أن الذمية يتحقق بها الإحصان كالمسلمة؛ لإذن الشرع بنكاح أهل الكتاب، وعلى القول بأن الحديث حسن، فهو نص في موضع النزاع، حيث نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الذمية لا تحصن الناكح، والأشبه أنها تحصنه، لعموم حديث: (الثيب بالثيب).
وقول المصنف رحمه الله: (في نكاح صحيح)، خرج النكاح الفاسد، فلو أنه نكح بنكاح شغار، أو نكح بنكاح متعة، وكان يظن أن هذا جائزاً، لبس عليه شخص وقال له: نكاح المتعة جائز، فجاء وعقد عقد متعة، ثم لما علم أن عقد المتعة حرام؛ ترك زوجته التي استمتع بها، ثم زنى، فهل عقد المتعة الذي وقع منه يحصل به إحصانه؟
الجواب
لا؛ لأنه لا بد أن يكون الوطء في نكاح صحيح معتبر، فيخرج من هذا المختلف فيه، فلو أن حنفياً تزوج بدون ولي على مذهب الحنفية أن الولي لا يشترط، وعند الحنابلة والشافعية لا يصح النكاح بدون ولي، ولكن نحكم بصحته؛ لأنه يعتقد صحة هذا النكاح، فخرج المختلف فيه في الفروع، فالمراد: أن يكون فاسداً بحكم الشرع، فإذا كان فاسداً بحكم الشرع؛ فإن وجود هذا النكاح وعدمه على حد سواء، ونقول: ليس بمحصن فلا يرجم، وإنما يجلد.(374/6)
شروط إقامة الحد على المحصن
قال المصنف رحمه الله: [وهما بالغان عاقلان].
أي: لا نحكم بكونه محصناً إلا إذا تزوج بالغة، فلو أن رجلاً تزوج امرأة عمرها أربع عشرة سنة ولم تحض، فوطئها ثم زنى، فالعقد موجود، ووطء المرأة موجود، ولكنها غير بالغة؛ فإذا لم تكن بالغة فإنها لا تحصنه، وهذا مذهب جماهير العلماء رحمهم الله، وخالف بعض الشافعية رحمهم الله، لكن يقول البعض: قبل خلافه لم يكن يوجد من يخالف في هذه المسألة، فلا بد من البلوغ ولا بد من العقل؛ لأن هذا محل التكليف، قالوا: ومن الأدلة عليه أنه لو أن صبياً وصبية زنيا لم يقم عليهما الحد، فكيف نحكم بثبوت الإحصان الذي هو موجب الحد؟!! قالوا: فلا بد وأن يكون بالغاً، وأن تكون زوجته بالغة، حتى يثبت إحصانه، وإذا ثبت إحصانه يرجم، أما إذا تزوج صغيرة أو مجنونة، مثلاً كانت قريبته مبتلاة بمس من الجن فقال: أريد أن أتزوجها وأسترها، أو رجل فقير ليس عنده مال، ولم يجد إلا امرأة مجنونة، فعقد عليها وأراد أن يسترها، أو رجل أراد أن يحتسب في امرأة مسلمة مجنونة فتزوجها، فلما تزوجها زنى بعد نكاحها، فإننا لا نحكم بإحصانه، لا بد من وجود الكمال في الاثنين، في الرجل والمرأة، فيكون بالغاً وتكون بالغة، ويكون عاقلاً وتكون عاقلة، وعلى هذا؛ لا إحصان إذا كان أحدهما مجنوناً أو كانا مجنونين، فلو أن مجنوناً زوِّج أثناء جنونه، ثم أفاق من جنونه فزنى، فإننا لا نحكم بإحصانه حينما كان في حال جنونه ناقص الأهلية، ولو أن ولداً صغيراً زوجه أبوه قبل البلوغ، ثم بمجرد بلوغه وقع في الزنا، فإنه غير محصن.
إذاً: يشترط أن يكون الاثنان بالغين عاقلين حتى يثبت الإحصان، فالإحصان يشترط فيه: البلوغ والعقل في الزوج والزوجة.
ويقول بعض العلماء: يشترط ذلك في أحدهما، بحيث لو كان الثاني مجنوناً ثبت الإحصان لغير المجنون، ولو كان أحدهما صبياً ثبت الإحصان للبالغ، فلو أن رجلاً بالغاً تزوج صبية، ثم وطئها، ثم زنى، حكمنا بإحصانه، ولكن هذا قول ضعيف، وهو القول الذي ذكرناه عن بعض أصحاب الشافعي رحمه الله، وقد وافقهم بعض أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع.
قال المصنف رحمه الله: [حرّان].
لأن الله تعالى يقول: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، فبين سبحانه وتعالى أن الأمة عليها نصف ما على المحصنة، فجعل الإحصان قيداً في الحرية، وهذا شبه إجماع من العلماء رحمهم الله، وهناك من يحكي قولاً شاذاً، لكن المعروف عند أهل العلم أن الرجم لا يكون للعبد ولا للأمة.
قال المصنف رحمه الله: [فإن اختل شرطٌ منها في أحدهما؛ فلا إحصان لواحدٍ منهما].
إن اختل الشرط في الاثنين فلا إشكال قولاً واحداً، وإن اختل في أحدهما فالجماهير على أنه كاختلاله فيهما، وقد بينا هذا.(374/7)
شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [2]
الزنا من أعظم المحرمات، وقد شرع الله الحد فيه ليزجر العباد عن الوقوع في هذه الفاحشة، ويختلف الحد بحسب اختلاف حال الزاني: فإن كان محصناً فعقوبته الجلد ثم الرجم، وإن كان غير محصن فعقوبته الجلد ثم التغريب عاماً.
واللواط من أعظم الفواحش، وقد اختلف العلماء في عقوبة من فعل ذلك.(375/1)
حد الزاني غير المحصن
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا زنى الحر غير المحصن، جلد مائة جلدة، وغرب عاماً] شرع المصنف رحمه الله في بيان عقوبة الزاني غير المحصن، وهو الذي وصف في السنة بالبكر، فبعد أن بيّن أعلى الحدين في الزنا -وهو حد الرجم- شرع في بيان عقوبة الزاني البكر، وهي عقوبتان دل عليهما الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فأما العقوبة الأولى فهي الجلد، وأما العقوبة الثانية فهي التغريب.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الزاني غير المحصن يجلد مائة جلدة، واختلفوا في تغريبه، وسنبين إن شاء الله تعالى أقوال العلماء وأدلتهم والراجح منها.(375/2)
عقوبة الجلد
أما بالنسبة لعقوبة الجلد فقد نص الله عز وجل عليها في كتابه، ونص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من سنته، وأجمع عليها العلماء رحمهم الله سلفاً وخلفاً.
فأما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل يقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، وهذه الآية الكريمة -كما يقول علماء الأصول- نص في وجوب الجلد على الزاني، وإذا قيل: إن الآية نص أو الحديث نص؛ فهذا أقوى أنواع الدلالة؛ لأن الدلالة على مراتب أعلاها وأقواها -كما بيّنا غير مرة- هو النص، والنص هو: الذي لا يحتمل معنى غيره، مثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ما فيها احتمال، ولا تتردد بين معنيين فأكثر، فالآية المذكورة نص في ثبوت حد الجلد مائة جلدة على من زنى، والقاعدة عند علماء الأصول: أن الحكم إذا جاء مرتباً على وصف مشتق دلّ على أن ما اشتق منه ذلك الاسم أو الوصف هو علة الحكم، فالله عز وجل يقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، جاء الحكم في قوله: (فاجلدوا) مرتباً على اسم مشتق وهو اسم الفاعل: (الزانية والزاني) فدل على أن ما اشتق منه ذلك الاسم وهو الزنا علة الحكم، فكأن الله يقول: أمرتكم بجلدهما من أجل الزنا، وعلى هذا فإن الآية الكريمة نص على ثبوت هذا الحد.
أيضاً الآية نص من وجه آخر وهو: أن الله جعل الحد مائة جلدة، والإجماع على أنه لا يزاد عليها ولا ينقص منها؛ لأن الله يقول: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وعند العلماء لفظة (المائة) لا تحتمل معنى آخر، فالحكم نص، والعقوبة التي تضمنها ذلك الحكم نص أيضاً.
وفي الصحيحين في قصة العسيف -وهو الأجير- الذي زنى بامرأة صاحب الغنم، فلما ترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما- قال صلى الله عليه وسلم: (إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام -الذي هو البكر-، وعلى امرأة هذا الرجم، واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، فهذا يدل على أن الجلد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث عبادة في الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام).
فثبت نص الكتاب والسنة على عقوبة الجلد، وأجمع العلماء سلفاً وخلفاً على أن الزاني غير المحصن الحر يجلد مائة جلدة، هذه هي العقوبة الأولى.(375/3)
عقوبة التغريب
والعقوبة الثانية في حده: التغريب، والتغريب في لغة العرب: مأخوذ من (غرب الشيء): إذا توارى وغاب عن الأنظار، ولذلك يقولون: غربت الشمس، إذا توارت عن الأنظار، وهذه المادة تطلق على الشيء البعيد، ومنه سمي الغريب غريباً؛ لأنه بعيد عن أهله، وقد غاب عن وطنه وبلده ومسكنه، فالتغريب: عقوبة شرعية تقع في الحدود وفي التعزيرات، فأما في حدود الله عز وجل فيقع في حد الزنا وحد الحرابة، ونص الله عز وجل عليه في حد الحرابة {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] بلفظ: النفي، والنفي هو: التغريب، ونصت السنة عليه في حد الزنا في قوله عليه الصلاة والسلام: (وتغريب عام) في حديث العسيف، وفي حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم.
فثبت بهذا أن عقوبة التغريب تقع في الحدود الشرعية، في حد الزنا وفي حد الحرابة، لكنها قد تقع في غير الحدود على سبيل التعزير، كما أثر عن عمر في نفي شارب الخمر، وهذه العقوبة قد يستخدمها الإمام إذا رأى المصلحة في نفي رجل فاسد، وعليه حمل ما رواه البخاري عنه عليه الصلاة والسلام أنه نفى المخنثين، فهذا يدل على مشروعية هذه العقوبة في التعزير للإمام، فإذا رأى المصلحة في إبعاد شخص أو أشخاص عن مكان ما أو موضع ما؛ فإنه لا بأس بذلك ولا حرج، وقد يستخدمه المفتي في فتاويه تنبيهاً على استصلاح الأنفس كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في قصة الرجل الذي قتل مائة نفس، فاستفتى أعلم أهل زمانه -وهو آخر الرجلين قولاً في المسألة- فدُل على هذا العالم، فقال: إني قتلت مائة نفس، آخرها نفس عابد، فهل لي من توبة؟ قال: وما يمنعك من التوبة؟ ثم قال له: إن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون، فارتحل إليها، فهذا يستخدمه أهل العلم في الفتوى، ويستخدمه الإمام، ويستخدمه القاضي للمصلحة، وهذا التغريب يسمى (التعزير)، وبابه باب التعزير.
فالزاني المحصن -رجلاً كان أو امرأة- يغرب سنة كاملة إلى مسافة القصر فأكثر، وما كان دون مسافة القصر -وهو مسافة السفر- فليس بتغريب، وهذا التغريب ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديثين الصحيحين السابقين، وثبت عن أبي بكر وعمر كما في رواية نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما جلدا وغربا، وأثر عن علي رضي الله عنه أنه غرب إلى البصرة، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن غرب إلى خيبر، وإلى البصرة، وكل ذلك مسافة قصر فأكثر.
مسألة: هل يشرع التغريب في عقوبة الزنا؟ وهل هو واجب لازم من تمام العقوبة والحد؟ قولان للعلماء رحمهم الله: القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمة الله على الجميع أنه يجب تغريب الزاني الحر غير المحصن سنة كاملة، وهذا من حيث الجملة، وعندهم خلاف في مسألة: هل يشمل التغريب الرجال والنساء؟ فالجمهور متفقون على أن التغريب عقوبة في الزنا من حيث الجملة، وإذا قلنا: من حيث الجملة فمعنى هذا أن الجمهور عندهم خلاف عند التفصيل، من الذي يغرب؟ ومن الذي لا يغرب؟ دائماً إذا قلنا: في الجملة؛ فمعناه أن التفصيل فيه خلاف، وقد تكون هناك شروط عند بعضهم، لا يعتبرها آخرون.
القول الثاني: لا يجب التغريب، وهو إلى الإمام إن رأى المصلحة أن يغرب غرب، لكنه ليس من الحد، وليس بلازم ولا واجب، وهذا مذهب الحنفية.
أما الذين قالوا بوجوب التغريب في حد الزنا فقد استدلوا بصحيح السنة في حديثي عبادة بن الصامت وأبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عن الجميع، ووجه الدلالة منهما أن في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد قال صلى الله عليه وسلم: (وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام)، وفي لفظ: (جلد مائة، ونفي سنة)، وقال في حديث عبادة: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام)، قال الجمهور: نص هذان الحديثان على ثبوت هذه العقوبة، والإلزام بها، فدل هذا على وجوبه، وأنه من تمام الحد، وأن حد الزاني البكر غير المحصن أن يجلد، ويغرب سنة كاملة.
واستدلوا أيضاً بقضاء الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعلي، وحكي عن عثمان أيضاً رضي الله عن الجميع، فإنهم غربوا في حد الزنا، قالوا: فهذا كله يدل على أن التغريب سنة كاملة من الحد والعقوبة.
أصحاب القول الثاني قالوا: لا يجب التغريب، وللإمام التغريب إن رأى المصلحة، لكن من حيث الأصل ليس بواجب، وليس من تمام الحد، واستدلوا بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، قالوا: إن الله عز وجل أمر بجلد الزاني والزانية مائة جلدة ولم يأمر بشيء زائد عن ذلك، وعند الحنفية قاعدة وهي: الزيادة على النص نسخ، فإن قيل لهم: إذا كانت الزيادة على النص نسخ فهذه زيادة ثابتة وصحيحة عن النبي صلى الله وعليه وسلم، قالوا: هي جاءت في خبر الآحاد، والقرآن قطعي، ولا يجوز نسخ القطعي بالظني، فعندهم أصلان: الأول: أن الزيادة على النص نسخ، والثاني: أنه لا يجوز نسخ القطعي بالظني، قالوا: إن الظني -وهو خبر الآحاد- يمكن أن يخطئ فيه الراوي، وتدخل عليه الاحتمالات، والخبر القطعي لا مجال فيه لذلك، فلا يمكننا أن نترك اليقين بالشك، هذا وجه قولهم من ناحية نظرية، والمسألة مبسوطة في الأصول.
وقالوا أيضاً: التغريب فيه عقوبة من لم يذنب.
واستدلوا أيضاً بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نفى شارب الخمر إلى خيبر، فلحق بـ هرقل فتنصر، فقال عمر: لا أغرب أحداً بعد اليوم، هذا حاصل ما استدلوا به.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بوجوب التغريب في الحد؛ لما يلي: أولاً: لثبوت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وبهذا قال الجمهور، وهو مذهب صحيح وثابت، ولا إشكال فيه من حيث الدليل.
ثانياً: استدلالهم بالآية الكريمة لا يصح، ونقول: إن الزيادة على النص ليست بنسخ، ولا نسلم لهم أنها نسخ؛ لأن النسخ فيه رفع، والزيادة على النسخ ليس فيها رفع، بل فيها إثبات، وقد تكلم الجمهور على هذه المسألة، وبينوا أن الزيادة على النص ليست نسخاً.
ولو سلمنا جدلاً أنها نسخ، فما المانع أن تنسخ السنة القرآن إذا ثبتت بنص صحيح، ولقد صلى الصحابة رضوان الله عليهم بقباء، فأتاهم رجل فقال: أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر وقد وجه إلى الكعبة، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، وكان عندهم نص قطعي أن يستقبلوا بيت المقدس، وقد رءوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عندهم فيه شك، ثم جاءهم النسخ بخبر الآحاد، وخرجوا عن قطعي ما شاهدوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو أبلغ من الدلالات المحتملة- ورجعوا إلى خبر الآحاد، والقول بأنه لا ينسخ خبر الآحاد النصوص القطعية قول مردود، فالصحابة ما قالوا: كيف نترك اليقين بهذا الخبر؟ هناك يقين، وهناك شك، وهناك درجة بين اليقين والشك ملحقة باليقين، وهي غالب الظن، فإذا جاءنا الخبر من رجل معروف بالصدق ثقة عدل؛ فإنه يغلب على ظننا أنه صادق، ولذلك أباحت الشريعة دماء الناس وأعراضهم، وأوجبت الحدود بشهادة العدلين، فالقصاص يثبت بغلبة الظن بشهادة العدلين، فالشريعة نزلت الظن الغالب منزلة اليقين، وبهذا يبطل ما استدل به الأحناف.(375/4)
حكم تغريب المرأة الزانية
إذا ثبت أن التغريب عقوبة شرعية ف
السؤال
هل تغرب المرأة مع الرجل أم أن التغريب يختص بالزاني دون الزانية؟ وجهان عند الجمهور الذين قالوا بثبوت التغريب: فجمهور الجمهور -وهم: الشافعية والحنابلة والظاهرية- يرون أن التغريب يشمل الرجال والنساء، وخالف المالكية رحمهم الله فقالوا: يغرب الرجل، ولا تغرب المرأة.
استدل الجمهور بعموم قوله عليه الصلاة والسلام (البكر بالبكر: جلد مائة، وتغريب عام)، وهذا شامل للذكر والأنثى.
واستدل المالكية بقوله عليه الصلاة والسلام -كما في حديث ابن عمر في الصحيحين-: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم)، قالوا: أنتم تقولون: إن التغريب إلى مسافة القصر، ومعنى ذلك أن المرأة إن غربناها ستسافر بدون محرم، وهذا خلاف النص، وإن غربناها مع المحرم فسنظلم المحرم الذي لا ذنب له، هذا وجه استدلالهم بالحديث.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بثبوت التغريب للرجال والنساء على حد سواء لما يلي: أولاً: لصحة دلالة السنة على ذلك حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البكر بالبكر: جلد مائة، وتغريب عام)، ولم يفرق بين الرجل والمرأة.
ثانياً: أن ما ذكروه من الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة)، جوابه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم أننا ظلمنا المحرم، وهذا من أقوى الأجوبة، قال بعض العلماء: لأنه لا تزني المرأة إلا بتقصير من أهلها ومحارمها، وإذا علم المحرم أن زناها ووقوعها في الحرام سيجره إلى العقوبة معها، وسيتحمل شيئاً من العقوبة؛ حفظ الناس أعراضهم، فمن هنا نقول: ما ظلمنا المحرم؛ لأنه لا يقع زنا المرأة إلا بنوع من تفريط أهلها، وهذا أبلغ في تعظيم حدود الله، وزجر الناس عن التساهل فيها، وحينئذ لا يمتنع أن الشريعة تشرك المحرم في عقوبة التغريب.
الوجه الثاني: نقول: لا مانع أنه يذهب بها، ثم يقفل راجعاً؛ لأن الأصل أن الإمام إذا غرب الزانية أن يضعها في مكان يؤمن فيه الفساد، كما لو سافرت لحاجتها في بلد، فتركها المحرم في البلد عند قرابتها أو نحوهم ممن يصونها، ففي حال السفر يشترط المحرم، أما إذا بقيت واستقرت في موضعها بدون محرم فرخص فيه غير واحد من العلماء، وبهذا يبطل ما ذكروه، وناظر الإمام الشافعي رحمه الله في هذه المسألة مناظرة طويلة نفيسة، مليئة بالعلم، وقوية في الحجة في كتابه النفيس (الأم)، وبين أن نصوص الشرع على هذا، وأنها دالة على ثبوت التغريب واعتباره.
إذا ثبت هذا، فيغرب سنة كاملة، وهذا -كما ذكر العلماء- فيه حكم عظيمة، قالوا: إن الزاني لا يخلو من حالين: الحالة الأولى: أن يكون فاسداً في نفسه.
والحالة الثانية: أن يكون الفساد من غيره.
فإن كان فساده من نفسه فالمائة جلدة على ظهره أبلغ في زجره ومنعه من الزنا مرة أخرى، وإن كان زناه بسبب قرناء سوء أو نحو ذلك، قطع عنهم سنة كاملة، ويهيئ له ما يعينه على الصلاح بعد العقوبة، فتغريبه عن موضعه الذي هو فيه أبلغ في حصول التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.(375/5)
حكم حبس الزاني عند تغريبه
مسأله: إذا غرب سنة كاملة، ينقل من بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى أخرى، ولا يبقى في المدينة التي فعل فيها الزنا، وإذا كانت المدينة التي فعل فيها الزنا هي مدينته التي هو فيها، فلا إشكال أنه يغرب عنها إلى أي موضع على مسافة القصر، وإذا غرب هل يحبس أو يترك؟ وجهان للعلماء: جمهور العلماء رحمهم الله أنه يغرب إلى غير مدينته ولا يحبس، بل يترك يقضي مصالحه، ويفعل مصالحه، ويراقب فلا يرجع إلى بلده التي غرب منها، وهذا مذهب الجمهور الذين قالوا بالتغريب.
ومن أهل العلم من قال: إذا غرب فإنه يسجن في مكان تغريبه سنة فيمنع من الناس، خشية أن يفر أو يرجع إلى البلد الذي زنى فيه، والأول أقوى وأظهر.
وقول المصنف رحمه الله: (الحر) أخرج العبد والرقيق، والجمهور على أن الرقيق لا يغرب، وبعض العلماء يقول بالتشطير في الجلد وفي التغريب لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، وستأتي هذه المسألة.
قال المصنف رحمه الله: [ولو امرأة].
سبق أن قلنا: إن المصنف إذا جاء بلفظ (لو) فإنه يشير إلى خلاف مذهبي، وذكرنا أن من العلماء من يقول: إن المرأة لا تغرب، وعلى هذا فإن قوله: ولو، يشير به إلى أن في المسألة خلاف، والذي اختاره جماعة الأصحاب عن الإمام أحمد رحمه الله أن التغريب يشمل الرجال والنساء على حد سواء، لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.(375/6)
حكم الرقيق الزاني
قال المصنف رحمه الله: [والرقيق خمسين جلدة ولا يغرب] هذا القول الذي أشرنا إليه؛ لأن الرقيق مرتبط بخدمة سيده، فالقول بأنه لا يغرب هو الأقوى، وقال بعضهم: بالتغريب، وبعض المتأخرين يقول: بالتشطير، والذي عليه الأكثرون أنه لا يغرب الرقيق سواء كان ذكراً أو أنثى، والدليل على أنه لا يغرب: ما ثبت في الصحيح عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكم؛ فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت في الثانية؛ فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة؛ فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الرابعة؛ فليجلدها الحد وليبعها ولو بظفير)، ولم يذكر التغريب، وهذا يدل على أن عقوبة التغريب ساقطة، فأصح القولين سقوطه خلافاً لمن قال: إنه يغرب، وأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه غرب أمة من إمائه.(375/7)
حد اللوطي
قال المصنف رحمه الله: [وحد لوطي كزانٍ] اللواط من الفواحش العظيمة، وهي من كبائر الذنوب -أعاذنا الله وإياكم منها- وهي: إتيان الرجل الرجل، وقد عاقب الله عز وجل من فعلها -وهم قوم لوط- فرفعهم إلى السماء ثم جعل عالي القرية سافلها، ثم أتبعهم بحجارة من سجيل، وهذا أبلغ ما يكون من العقوبة، وذكر بعض أئمة التفسير أنه رفعت القرية حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونهيق الدواب، وهذا من أبلغ وأشد ما يكون عقوبة نسأل الله السلامة والعافية! ولذلك شنع الله عز وجل هذه الفاحشة، ووصفها بالخبث، ووصفها بالفسق وبالسوء قال: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء:74]، فوصفهم بهذه الأوصاف، ووصفهم بالجهل، ووصفهم بالاعتداء {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]، فهذا كله يدل على حرمة هذا الذنب.
وأجمع العلماء على التحريم، وأنه من كبائر الذنوب، لكن اختلفوا في عقوبة من فعل هذه الجريمة، والذي عليه الحنابلة والشافعية وبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وبعض أصحاب الإمام مالك أن حد اللواط كحد الزنا، سواء بسواء، يجلد ويغرب إن كان غير محصن، ويرجم إن كان محصناً.
ومذهب الحنفية أن يحبس حتى يتوب أو يموت.
وقال بعضهم: يقتل، وهو اختيار بعض أصحاب الإمام مالك رحمهم الله، واختلفوا في قتله، فقال بعضهم: ينظر إلى أعلى دار فيرمى منها منكساً، كما أثر ذلك عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم، واستدلوا بأن الله عز وجل عاقب قوم لوط بهذه العقوبة، ولكن هذا ضعيف، ووجه ضعفه أننا لو قلنا بأنه يرمى من أعلى دار أو يحرق بالنار كما أثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم؛ للزم من هذا أن التاجر إذا طفف الكيل أخذ بعقوبة قوم شعيب المذكورة في القرآن، والذي يظهر أن قوم لوط كان عندهم جريمة أشد من اللواط وهي كفرهم بالأنبياء، فكفروا بنبي الله لوط عليه الصلاة والسلام، واجترءوا على حرمته، وعقوبتهم كانت جماعية، وجاءت بسبب ذنوب الجماعة، وليست كعقوبة الفرد، فالاستدلال بمثل هذا يحتاج إلى نظر؛ لأنه لو درج على هذا لانتقضت كثير من الأحكام، وما أثر عن بعض الصحابة فلا يمنع أن يكون ذلك منهم على سبيل التعزير والزجر؛ لأنه إذا وقع الشيء كأول حدث فإن الفاعل قد يعاقب بأشد العقوبة حتى لا يتتابع الناس عليه، فيكون فيه معنى زائد عن الجرائم المعتادة المألوفة.
والذي يظهر -والله أعلم- أن إلحاق النظير بنظيره أقوى من إلحاقه بعقوبة الله عز وجل لقوم لوط؛ لأن قوم لوط كفروا بنبي الله عز وجل، وكذبوه، وردوا ما جاء به، ولم يقبلوا أمره لهم بالطهارة، ولم يقبلوا أمره لهم بالعفة، فهذا يضعف جعل هذه العقوبة أصلاً، وأما ما ورد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أصل، فيلتحق اللوطي بالزاني، ويأخذ حكمه محصناً كان أو غير محصن، هذا هو الأشبه والأقعد والأقرب والأقوى دليلاً إن شاء الله تعالى.
وقد بين المصنف رحمه الله تعالى أن حده كالزاني، وقد تقدم حد الزاني سواء كان رجلاً أو امرأة، فإن كان اللوطي محصناً جلد ثم رجم، وإن كان غير محصن فإنه يجلد ويغرب سنة.
مسألة: السحاق هو: استمتاع المرأة بالمرأة، وهو محرم بإجماع العلماء رحمهم الله، وهل يأخذ حكم الزنا أو لا يأخذه؟ الصحيح: أنه لا يأخذ حكم الزنا؛ لأنه لم يحصل فيه الإيلاج الذي يترتب عليه الحكم، كما سيأتينا في حد الزنا، ومن هنا تكون عقوبة السحاق قاصرة، والأشبه أنه يرجع فيها إلى نظر الإمام، فيعزر بما يراه زاجراً ومانعاً عن السحاق.
لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللواط شيء، فيه أحاديث فيها الأمر بالقتل لكن في سندها ضعف، والأشبه ما ذكره أهل العلم.
وهنا مسألة نحب أن ننبه عليها: المبالغة في فهم بعض النصوص أمر صعب جداً على طالب العلم وعلى من يريد أن يؤصّل تأصيلاً شرعياً صحيحاً، فبعض العلماء يقول: إن من فعل جريمة اللواط لا تقبل له توبة ولا يختم له بخير، ولا يدخل الجنة!! وقد وردت كثير من الأسئلة فيها استشكال هذا، سبحان الله العظيم!! من هذا الذي يستطيع أن يقول: إن اللواط فاق الشرك، وأصبح أعظم من الشرك والكفر بالله عز وجل!! نعم هو جريمة ممقوتة، وملعون من فعلها، لكن لا نقول: إن الله لا يقبل توبته، وإنه لو تاب لا تحسن خاتمته، وإنه لا يمكن أن يدخل الجنة، من هذا الذي يستطيع أن يذكر هذه الأمور ويقطع بها على الله عز وجل، والنصوص جاءت بخلافها!! والله تعالى يقول في محكم كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقد مر بنا في بعض الأسئلة أن رجلاً وقع في هذا البلاء، فقال: إنه لا يريد أن يسلم، ولا يريد أن يطيع الله عز وجل بعد سماعه هذا الكلام، يأس من رحمة الله عز وجل نهائياً، حتى فُهِّم وبُيّن له بالدليل الشرعي: أن هذه المعصية من تاب منها توبة نصوحاً تاب الله عز وجل عليه، وليس هناك ذنب أعظم من الشرك بالله عز وجل، وقد تاب الله عز وجل على المشرك إذا تاب وصدق في الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
فننبه على هذا، خاصة وأن بعض الوعّاظ ينقل من بعض هذه الكتب، وهذا الشخص الذي يأس -والعياذ بالله- من رحمة الله، وكاد أن يهلك، قال: سمعت خطيباً قالها في خطبته، وبعضهم يقولها في المحاضرات المسجلة على الأشرطة، وهذا من ضعف الفقه في وعظ الناس، ليس كل وعظ يقال ينقل للناس، بل ينبغي أن يضبط بالضوابط الشرعية.
وننبه أيضاً على الأصل العام، وهو أن الوعظ فيه دخن، وينبغي الحذر منه، وكتب العلماء التي في الوعظ والرقائق وذكر العبّاد والصالحين وما كانوا عليه من الصلاح؛ قد يدخل فيها أمور تخالف النصوص الواضحة من الكتاب والسنة، والعلماء لم ينبهوا عليها؛ لأن هذه الكتب أصلاً كانت تنسخ باليد، وما كانت تقع إلا في يد عالم، وليس كزماننا الآن الكتاب يقع في يد كل شخص، كان في القديم الكتاب عزيز، ولا تجد منه في العالم كله إلا نسخة أو نسختين، فما كان يقع إلا لعالم يأتي ويقول: أريد هذا الكتاب تنسخه لي، ويجلس الناسخ سنة كاملة أو سنتين وهو ينسخ الكتاب، هذا كله لعزة الكتب، فكانت هذه الكتب لا يقرؤها إلا العلماء، وهم يعرفون غثها من سمينها، وصحيحها من سقيمها، ومن هنا يعرف الجواب على من يستشكل أن هذه الكتب كانت منشورة وتنسب لأهل العلم، فنقول: إنها كانت منشورة بين أهل العلم الذين يعرفون صحيحها من ضعيفها، وهذا الذي جعل بعض الغيورين ينبهون على بعض ما فيها من الأخطاء، مثل قولهم عن الإمام فلان: كان يصلي ثلاثة آلاف ركعة، وآخر كان يسبح ثلاثين ألف تسبيحة في اليوم، كيف ثلاثين ألف تسبيحة؟!! كيف يكون هذا؟!! في الثانية كم سيسبح؟!! هذا من المبالغات، إلا إذا كان كما يقول بعضهم: من وصل إلى مقام رفيع فإنه إذا جر سبحة فيها ألف حبه تحسب له ألف تسبيحة، سبحان الله!! قول على الله بدون علم، وجرأة، انظروا كيف الشيطان يستزل الإنسان؟ إذا يئس منه بالمعصية جاءه من باب الطاعة، فليحذر من مثل هذه الأمور، والتحذير منها مهم جداً، ومثل ذلك أيضاً ما قيل عن الإمام أبي حنيفة أنه مكث أربعين سنة يصلي الفجر بوضوء العشاء، أستغفر الله! كيف وزوجته عنده؟ لا تستطيع أن تقطع أنه صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، من هذا الذي جلس مع الإمام أبي حنيفة رحمه الله يراقبه أربعين سنة أو عشرين سنة كما يذكر بعضهم؟ هذه أشياء العاقل المنضبط الذي يعرف أصول الشرع لا يمكن أن تنطلي عليه.
قال بعض العلماء: يعرف ضعف الرواية والخبر بضعف متنها، وهذا من ضعف المتن، فوجود الغرائب في المواعظ، وفي أخبار العلماء أو في الأحكام الشرعية يدل على ضعفها، فينبغي للخطيب وللواعظ وللمحاضر وللمعلم أن يحذر من نقلها، ويحذر منها نصيحة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرة على هذا الدين، وبعداً عن أن يكون الإنسان حاطب ليل، ينقل ما صفا وما كدر، وعلى طلاب العلم واجب كبير في هذا الأمر.
انظروا كيف الوعظ بمثل هذه الأمور أوصل الشخص إلى درجة اليأس من رحمة الله! حتى كاد -والعياذ بالله- أن يبقى على البعد عن الله عز وجل إلى أن يموت! ما فكر أن يرجع إلى الله لأنه سمع من قال له: إنه لا توبة لك، وإن تبت فإنه لا تحسن خاتمتك، وإذا تبت وندمت لا تدخل الجنة! فهذا من أبلغ ما يكون من القول على الله بدون علم.
وعلى طالب العلم أن يحذر، وأن ينتبه من مثل هذه الأشياء، وأن يحذر منها، وأن يبقي الأمر على السنن الوارد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم عامتها وخاصتها.(375/8)
الأسئلة(375/9)
حكم جمع المرأة والرجل إذا زنيا أثناء الرجم أو الجلد
السؤال
رجم النبي صلى الله عليه وسلم الرجل والمرأة اليهوديين اللذين زنيا، فهل يفهم منه أنه ينبغي أن يقام الرجم عليهما مجتمعين وكذا الجلد أم لا حرج أن يكونا منفردين؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيشرع أن يرجما معاً، ويشرع أن يرجم كلاً على حده، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجم الزاني منفرداً، ورجم الزاني والزانية جميعاً، ولا يجب الجمع بينهما في العقوبة؛ لأنه قد تختلف الجناية منهما كبكر مع ثيب، وثيبة مع بكر، فالجمع بينهما ليس بواجب، وليس بصفة معتبرة في الحد، ويرجع الأمر إلى القاضي، وإلى الوالي، فإذا نظر أن المصلحة أن يفرق بينهما فرق، وإذا رأى أن المصلحة أن يجمع بينهما جمع، لما فيه من زجر للناس، وما يكون أبلغ في تحقيق المقصود الشرعي، والله تعالى أعلم.(375/10)
حكم المبعض إذا زنا
السؤال
إذا زنى المبعض فهل يقام عليه حد الرجم؟
الجواب
المبعض فيه شبهة، وهي شبهة الرق، ولا يقام عليه حد الرجم سواء كانت الحرية أكثر أو كان الرق أكثر؛ لأنه فيه شبهة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، وأما قدر العقوبة فينظر إلى قسط الحرية وقسط الرق، ثم يشطر الحد بحسبهما، والله تعالى أعلم.(375/11)
حكم سفر المرأة من غير محرم
السؤال
إذا كان هناك بعض الأقوال على منع تغريب المرأة واختصاصه بالرجال، فما توجيهكم حفظكم الله لبعض النساء اللاتي يسافرن بالطائرات في الإجازات أو مع السائقين للعمل لمسافات أكثر من مسافة القصر؟
الجواب
هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، وإذا كان أحد من أهل العلم أفتى هؤلاء النسوة بأن يسافرن بلا محرم فهو الذي يتحمل مسئوليتهن، وهن إذا كن -فيما بينهن وبين الله عز وجل- يعتقدن علم هذا العالم، وأنه حجة لهن بين يدي الله، وعملن بقوله؛ فلا ينكر عليهن، وهذا قول طائفة من السلف رحمهم الله، إذا كانت الرفقة مأمونة، وفيها حديث عدي بن حاتم المشهور في الصحيح، ولا إنكار في المختلف فيه، هذا إذا كن يتأولن هذا القول، وأما القول الصحيح في هذه المسألة أنه لا يجوز خروج المرأة مسافة القصر بدون محرم، وفي هذا نص واضح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم)، فوجب البقاء على هذا النص، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام (أنه جاءه رجل، وقال: يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال صلى الله عليه وسلم: انطلق فحج مع امرأتك)، وما قال له: هل الرفقة مأمونة أو غير مأمونة؟ وكانت في رفقة حج، وهم صحابة رضوان الله عنهم وأرضاهم، ومع ذلك يقول: (انطلق فحج مع امرأتك) والقاعدة الأصولية أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
قال بعض العلماء: في قوله: اكتتبت، مسألة فقهية؛ لأنه حينما اكتتب في الغزوة، تعين عليه الغزو والجهاد، ومع ذلك أسقط عنه الواجب والفرض؛ لأنه إذا اكتتب الشخص وعينه الإمام، أو جاء متطوعاً وقبله الإمام؛ فقد تعين عليه الخروج، وهذا حدده الإمام، قال: إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انطلق فحج مع امرأتك) فلا يسقط هذا الواجب إلا بواجب أعظم منه؛ لأنه من باب تقديم الفرض على الفرض، فدل على أن أمره هذا فيه صيانة للعرض، وهو أعظم، وهو نوع جهاد، فإن سفر الرجل مع زوجته ليحافظ عليها، وسفر الأخ مع أخته كذلك؛ نوع جهاد.
ولكن هنا ننبه على مسألة وهي: أن على كل واحد منا أن يتقي الله في قرابته ونسائه وعرضه، وألا يقصر في مساعدتهن، فإذا احتاجت أن تخرج وقالت له: أريدك أن تكون معي، أن تسافر معي، وبإمكانه ذلك؛ فليحتسب عند الله عز وجل ذلك، وهذا من صلة الرحم، ما دام أنها في غير معصية، وأنها في غير غضب الله عز وجل، وأنها لا تفعل الحرام، تكون خارجة لأمر مباح، أو مصلحة من مصالحها الدنيوية أو الأخروية، المصالح الدنيوية مثل: التجارة والعمل، والمصالح الدينية مثل: الحج والعمرة وبرها بوالديها، مثل أن تسافر بوالديها، فعلى الرجال أن يضحوا، أما أن يقول لها: ما يجوز لك أن تخرجي، ثم هو لا يوصلها، ويجلس المحرم يقول لها: ما يجوز لكي أن تفعلي هذا، ثم لا يفعل شيئاً، ولا يقدم شيئاً، فهذا من الصعوبة بمكان، ولذلك من يريد السنة أن تقبل، والحق أن يقبل، والخير أن ينتشر؛ فليضحِ وليقدم الثمن، ومن أبلغ ما يكون من مرضات الله عز وجل بر الوالدين وصلة الرحم، فهذان الأمران خيرهما عاجل وآجل، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (من أحب منكم أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره -أي: يزاد له في عمره- فليصل رحمه)، وأقرب الناس منك رحماً أختك وأخوك، فالأخت والأخ هم أحق القرابة -بعد الوالدين والولد- بالصلة والبر والإحسان.
فعلينا أن نتقي الله عز وجل، وأن ننظر للأمر بهذه النظرة، وأن يحرص الإنسان على القيام على عرضه وأهله، بعض الأخيار تحتاج أخته أن تذهب لشراء بعض الأمور التي تحتاجها أو يحتاجها أولادها، فتقول له: أريدك أن تذهب معي إلى السوق، فيقول: لا، ما تذهبي إلى السوق، وما تذهبي إلى السوق إلا مرة واحدة، جزاك الله خيراً على الغيرة، ولكن حينما تكون حكيماً لبيباً محافظاً على حدود الله محسناً إلى خلق الله؛ فهذا أكمل وأفضل، قل لها: اختاري وقتاً مناسباً أبعد عن الفتنة، فيذهب بها مثلاً في الصباح الباكر، ويقضي لها حوائجها، وينتظرها حتى تشتري ما تريد، فيكون أمر ونهي؛ وهي تحس أنه يريد الخير لها، لكن يأتي ويقفل أمامها الباب، لا تخرج ولا تدخل، ولا يقضي لها حوائجها، وإن قضى لها حوائجها جاءها بكل هم وغم، وتكلم عليها، وأساء إليها، ويحاسبها، وهذا أمر ينبغي لكل إنسان منصف أن ينظر إليه في نفسه.
والله! إننا لنعيب من غيرنا ما لو عبناه على أنفسنا لأهلكنا أنفسنا بأنفسنا، يشهد الإنسان على نفسه من حيث لا يشعر، فالواحد منا إذا قال له أخوه: أريد أن أذهب إلى السوق، يقول له: ماذا تفعل؟ وماذا تشتري؟ وكم تشتري؟ ما هذا التدقيق الذي يدققه مع أخيه؟ ولو نظر إلى نفسه لوجد أنه يذهب إلى السوق عشرات المرات، وأن الذي اشتراه أخوه مرة؛ يشتريه هو مئات المرات، هناك أمور ندقق فيها، وكأن الشيطان يتسلط علينا، ولذلك من سنن الله عز وجل أنه يجازي المخلوق بما يعامل إخوانه، ومن شدد على الناس؛ شدد الله عليه، ومن يسر على الناس؛ يسر الله عليه، وأولى الناس بتيسيرك أقرب الناس منك، جرب وانظر، فما من زوج ولا أخ يحسن إلى أهله وولده ورحمه وقرابته، ويلاطفهم، ويدخل السرور عليهم؛ إلا كانوا أسمع ما يكون له إذا أمر أو نهى، وهذا هو الذي تؤخذ به الحجز عن النار، فلا بد للإنسان أن ينظر للأمر نظرة عامة كاملة شاملة، وألا يحرجهم لهذا الأمر، وإذا جاء في مسألة فيها شبهة، سأل بالأفضل والأكمل، وجاء به على أحسن الأوجه وأتمها.
كان بعض العلماء والفضلاء إذا احتاج أهله إلى لباس، نظر إلى أهله قبل أن يسألوه، وجاءهم بما يحتاجون إليه، ما يأتيهم بالشيء الواحد، يأتي بأربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أصناف، من أجود وأحسن ما يكون، ويضعها بين يدي زوجته، ويقول: اختاري ما شئت، فإذا بها تحار! لو نزلت هي إلى السوق لا تجد مثل هذا، فمن يريد أن يحفظ أهله؛ فليضح.
عليك أن تنظر إلى حاله عليه الصلاة والسلام مع أمهات المؤمنين ومع ولده، وإذا أردت أن تكون مثل ما كان عليه، وتأمرهم، وتنهاهم، وتلزمهم بالسنة؛ فانظر إلى حاله عليه الصلاة والسلام في إحسانه وبره لهم، تنظر إليه زوجاً يقف لزوجته من أجل أن تنظر، وتنفس عن نفسها، وتنظر إليه عليه الصلاة والسلام أباً يدخل السرور على بنته زينب رضوان الله عنها بحمل ابنتها أمامة في الصلاة التي جعلت قرة عينه، المسألة كلها مشاعر، فقد ملك عليه الصلاة والسلام القلوب ببره وإحسانه، وكان عليه الصلاة والسلام يفتح القلوب قبل أن يفتح الأسماع، فمن ينظر إلى سيرته وهديه عليه الصلاة والسلام عندما يريد أن يقيم بيتاً قائماً على السنة فينبغي أن يتفقد مداخل الشيطان على أهله وولده.
بعضهم إذا أرادت زوجته أن تذهب أو تسافر يقفل أمامها الباب: لا تذهبي، ولماذا تذهبين؟ وكم تذهبين؟! جزاك الله خيراً على الغيرة، ولكن عليك أن تفكر في الأصلح والأكمل، حتى لا تجعل للشيطان عليها سبيلاً، إذا فعلت ذلك؛ اتقيت الله، وكنت أحسن ما يكون حالاً، وأمنت من الفتنة، فقل أن يجد الشيطان سبيلاً على أمثال هذه النفوس الكريمة الأبية السوية الرضية الهنية التي تبحث عن سعادة أهلها وأولادها.
والعكس بالعكس، فإذا شدد الإنسان شدد الله عليه، وهكذا تجد من يكون عنيفاً في أسلوبه، ونعرف هذا من خلال فتاوى الناس وأسئلتهم، فبعضهم يأتي بمسائل معقدة تماماً حتى تتعارض عنده نصوص الشرع؛ لأنه أوصل نفسه إلى حرج وضيق بطريقته التي يسير عليها، فلما تسأل عن أمور ترتبت عليها هذه المسائل؛ تجد أنه لا يتتبع السنة، ولا يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مراعاة الأكمل والأفضل.
فهذه وصية عامة: أن يحرص الإنسان كل الحرص على أن يحفظ عرضه، ولكن يقفل الوسائل أو الطرق التي تفضي إلى وقوعهن في الفتنة، وعماد الخير في تقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل عسر يسراً، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا من المتقين، وأن يحفظ أعراضنا وأعراض المؤمنين، إنه ولي ذلك، وهو أرحم الراحمين.(375/12)
أفضلية الستر والتوبة على الاعتراف بالذنب
السؤال
عدة أسئلة فيها: رجل فعل فعلاً يوجب الحد وقد تاب، ولا زالت نفسه تؤنبه، فهل له أن يذهب إلى شخص من أصدقائه ليقيم عليه الحد وترتاح نفسه؟ ويقول سائل آخر: كلما قرأت قصة ماعز رضي الله عنه أصبح عندي شعور أنه لا يطهرني إلا الحد، ويقول آخر: إن كان الزاني يستغفر ويتوب فعلى من يطبق حد الزنا؟ نرجو من فضيلتكم التوجيه.
الجواب
هذه الأسئلة فيها جانبان: الجانب الأول: جانب الاعتراف بالذنب، والإجماع منعقد على أن الأفضل والأكمل أن يستر نفسه، ويحسن الظن بربه عز وجل (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني؛ لغفرتها لك ولا أبالي) يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء -يعني: ما من ذنب إلا وفعله- ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي، (يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، من عظم ذنبه وعظم رجاؤه في الله؛ كان أكمل توحيداً لله عز وجل؛ لأن الذي يتوب مع عظم الذنب ما يتوب إلا عن عقيدة، فهو يعلم أن الله غفور رحيم، ولا يتوب إلا عن إيمان بأن الله لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).
الله سبحانه وتعالى فتح أبواب التوبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى، فمن هذا الذي يقفل رحمة الله عز وجل عليه؟! الإجماع منعقد أنه يستتر، قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله)، وهذا أمر من رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فالشيطان يأتي إلى أمثال هؤلاء ويقول لهم: إن الله لا يقبل منكم التوبة، وييأسه من رحمة الله، ويشككه في توبته إلى الله، والله عز وجل قال قولاً -وهو أصدق القائلين، ووعد وعداً ولن يخلف وعده، وهو رب العالمين- فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً أذنب بذنب فقال: رب اغفرلي، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب، قد غفرت لعبدي)، فالشاهد من هذا كله؛ أن الأصل يقتضي أن على الإنسان أن يستر نفسه، وأما اعترافه عند القاضي فهذا خلاف الأولى، وخلاف الأفضل والأكمل، وبقاؤه في الدنيا مطيعاً لله؛ أعظم لأجره، وأثقل في ميزانه، وأرضى لربه، وفي الحديث أن رجلاً توفي بعد أخيه بأربعين يوماً، وكانا صحابيين، فتوفي أحدهما، وبقي الآخر بعده أربعين يوماً، وهو أقل منه صلاحاً وإحساناً، فلما توفي الثاني اختصم الصحابة: أيهما أفضل؟ فخرج صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (وما يدريكم ما الذي تبلغه صلاة أربعين يوماً)، فطول العمر في طاعة الله عز وجل غنيمة للعبد، وكم من ذنب أصلح الله به حال العبد! كم من أناس لم يتلبسوا بالذنوب فاغتروا بصلاحهم فزلت أقدامهم! وكم من أناس عرفوا السيئات فهجروها! فكلما جاءتهم لذة السيئات؛ كرهوها ومقتوها، فرفع الله درجاتهم بهذا البلاء إلى ما لم يخطر لهم على بال! حتى أن بعض العلماء يقول: من ابتلي بالذنب فتاب؛ أعظم مقاماً من الذي لم يبتلَ به؛ لأن الذي ابتلي بالمعصية وذاق لذة الشهوة وحلاوتها ثم أعرض عنها فهذا لا يكون إلا بقوة إيمان، وقوة وازع من الله عز وجل، ومع هذا كله فإن الأصول كلها دالة على هذا الأصل ولزومه.
الجانب الثاني: مسألة من يقول: أذهب إلى زميلي ليقيم علي الحد، هذا لا يغنيه شيئاً؛ لأن الحدود لا تقام إلا بوالي، ويقيمها السلطان على الوجه المعتبر بعد ثبوتها شرعاً، حتى لو أقر في غير مجلس القضاء لم يؤاخذ بإقراره؛ لأن الحد لا يثبت حتى يقر به في مجلس القضاء، وهذا له أصول شرعية، فلو ذهب إلى شخص وقال له: اجلدني مائة جلدة، ما ينفعه ذلك، ولو أحضر جميع الناس لينظروا إليه، إذا لم يكن على وجهه الشرعي بقضاء شرعي، فلابد أن يكون هناك قاضٍ يستمد قضاءه من ولاية شرعية، فإذا فعل الحد غير القاضي؛ فإن هذا لا يسقط الحد، ولو قال له: ارجمني، فرجمه، فإنه لا يعتبر حداً شرعياً من حيث الأصل.
القضية الأخيرة: وهي قول البعض: إذا كان من يتوب يستتر فمن الذي يقام عليه الحد؟ نقول: من الذي قال لك: لا بد أن تقام الحدود؟ ومن قال: إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يقام فيها حد إلا إذا تابوا وأنابوا إلى ربهم؟ يقام الحد إذا ثبت، لكن لا نقول للناس: لا بد كل شهر يطلع لنا واحد يعترف بذنب من أجل أن نقيم عليه الحد! رحمة الله واسعة فلا نضيقها، لو أن الأمة عاشت الدهر كله والقرون كلها وما ثبت فيها حد زنا واحد؛ فالحمد لله، ستر من الله ستر به عباده، هل تريد أن تهتك ستر الله على عباده؟ ما تستطيع؛ لأن هذه رحمة من الله عز وجل، ولا عجب أن تكون هذه الرحمة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
كم من أناس زنوا ثم صلحت أمورهم واستقاموا إلى ربهم! ومنهم عباد صالحون من أئمة السلف، لهم قدم راسخة في العلم والعمل والصلاح وهداية الناس، تابوا وتاب الله عليهم، وهل هناك ذنب أعظم من الشرك بالله عز وجل؟ وهل رأيت مثل عمر يحمل السيف يريد أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يجعله الله إماماً من أئمة المسلمين؟ من أنت حتى تدخل بين العبد وربه؟ لا يستطيع أحد أن يدخل بين الله وبين عباده، هو ربهم، وهذا حكمه، وهذا شرعه، قال لنا: نستتر، فنستتر، لو قال لنا: نكشف أنفسنا، كشفنا أنفسنا، ونعمت أعيننا بحكم ربنا، والله! لا نقدم ولا نؤخر، رضيت أنفسنا بذلك، فهذا حكم الله، وهو يحكم ولا معقب لحكمه، ولذلك قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (أنا رحمة مهداة)، فهذه من سمات الرحمة في الشريعة.
الشريعة وضعت الحد لمن فعل الجريمة أمام الناس، وشهد عليه الشهود، وهتك ستر نفسه، وفعل الزنا أمام أربعة شهود وشهدوا عليه؛ فهذا يقام عليه الحد حتى ولو قال: تبت، حتى ولو كان من أصلح الصالحين، وبهذا أقفلت الشريعة على الناس أبواب الفساد، لكن من وقع في الفاحشة في ستر، أو شرب الخمر في ستر، فالأفضل أن تستره.
أذكر بعض الأخيار أنه جلس معنا مجلساً ذات يوم فذكرنا مسألة الستر، فقال: أعرف رجلاً كان مسرفاً في الخمر، وكان شريراً كثير الفساد، فشاء الله أن أراه يوماً سكران، قال: وبإمكاني أن أفضحه، فأخذته إلى بيتي حتى أفاق ثم كشفت له الأمر، وقلت له: والله! إني كنت قادراً على أن أوصلك للقضاء، ولكن صن نفسك، واتق الله في نفسك، وذكره بالله عز وجل، فانصرف ثم رجع له بعد نصف شهر وقد تغير حاله، وتلألأ وجهه، وقد كان من أشر عباد الله وأفسقهم فقال له: سترتني، أسأل الله أن يسترك في الدنيا والآخرة، واعلم أنني في تلك الساعة -التي كلمتني فيها بأنك كنت قادراً على فضيحتي ولم تفضحني- تفطر قلبي وتألم، حتى كرهت هذه المعصية تماماً، وتاب وصلح حاله، ثم حفظ القرآن وأصبح من خيار الدعاة إلى الخير.
فنسأل الله بعزته وجلاله أن يتولانا برحمته، وأن يعفو عنا وعن المسلمين، إنه ولي ذلك، وهو أرحم الراحمين.(375/13)
شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [3]
الشريعة الإسلامية كاملة، وقد جعلت لكل حكم شرعي قدراً، ومن الأحكام التي قيدت فيها الشريعة تقييداً شديداً إثبات الزنا، إذ لابد لإثباته من توافر عدد من الشروط، حتى لا تكون أ‘راض المسلمين غرضاً لأصحاب الأغراض والنوايا السيئة.(376/1)
شروط وجوب حد الزنا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجب الحد إلا بثلاثة شروط].
بين المصنف رحمه الله حكم الشريعة في حد الزنا، والحدود التي فصلها دليل الكتاب والسنة بالتفريق بين البكر والثيب، ثم ذكر رحمه الله صفة الجلد وصفة الرجم اللذين ثبت بهما الدليل في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد هذا شرع في بيان الشروط التي ينبغي توافرها حتى يحكم بوجوب الحد.
قوله: (ولا يجب) أي: ولا يثبت، والواجب في لغة العرب يطلق بمعنى: اللازم، ويطلق بمعنى: الثابت، وهنا يصح أن تقول: (ولا يجب) يعني: لا يلزم الحد إلا بثلاثة شروط، فحينئذٍ يكون الواجب بمعنى اللازم المحتم؛ لأنه لا يجوز تأخير الحدود، وإذا ثبتت الحدود على الصفة الشرعية؛ فيجب أن تنفذ ولا تعطل، وإما أن تقول: (ولا يجب) يعني: لا يثبت، وكلاهما صحيح، يقال: وجب، إذا ثبت، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، وكذلك أيضاً يقال: وجب، بمعنى لزم، كما تقول: هذا واجبٌ عليك، ومنه الواجبات الشرعية.
وقوله: (إلا بثلاثة شروط) أي: لا بد من تحقق هذه الثلاثة الشروط حتى نحكم بوجوب الجلد مع التغريب أو الجلد مع الرجم على التفصيل الذي بيناه.(376/2)
الشرط الأول: تغييب الحشفة
قال المصنف رحمه الله: [أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها].
لا يحكم بثبوت الزنا إلا إذا غيّب رأس الذكر، وعبّر عنه المصنف رحمه الله بالحشفة، وهي: رأس الذكر، وقد فصل العلماء رحمهم الله وبينوا هذه الأمور؛ لأنه ينبغي للقاضي وللعالم وللمفتي ألا يحكم بالزنا، ولا يصف الشخص بأنه قد زنى فعلاً إلا بعد أن تتوافر هذه الشروط، ويكون هذا الأمر على وضوح لا لبس فيه، فلا بد أولاً من وجود فعل الجريمة، وتنتفي الشبهة، ثم بعد ذلك يثبت على المجرم فعله، فإذا حصل فعل الجريمة، وانتفت الشبهة، وقام الدليل على وقوعها؛ فحينئذٍ يجب تنفيذ حكم الله عز وجل، هذا من حيث الأصل.
يبقى
السؤال
متى يحكم على نفسه بأنه قد زنى فعلاً؟ ومتى يحكم القاضي بأنه زان؟ كل ذلك يحتاج إلى وجود الفعل، فبيّن رحمه الله أن تغييب الحشفة -وهي رأس الذكر- يثبت به الزنا، ويترتب ما يقرب من ثمانين حكم شرعي على تغييب هذا القدر.
قال رحمه الله: (تغييب حشفته الأصلية)، فإذا كان رأس الذكر مقطوعاً، فالعلماء رحمهم الله ذكروا أن العبرة بقدرها، فإذا غيّب قدرها فقد ثبت الزنا، وأما لو لم يحصل التغييب للحشفة بأن استمتع بالمرأة دون تغييب حشفته في فرجها، ولم يحصل الإيلاج؛ فإنه لا يحكم بزناه، فلا بد من وجود هذا الشرط حتى يحكم بفعل الجريمة على الوجه المعتبر.
وقوله: (تغييب حشفته) أي: في الفرج المعتبر شرعاً.
قال المصنف رحمه الله: [في قبل أو دبر أصليين].
قوله: (في قُبل) إذا كان زنا، وقوله: (أو دبر) إذا كان لواطاً -والعياذ بالله-.
وقوله: (أصليين) أخرج مثلاً الدمى واللعب الموجودة الآن في زماننا، فإنه لو حصل تغييب لفرجه فيها -والعياذ بالله-؛ فإن هذا ليس بفرج أصلي، ولا يحكم بكونه زانياً، وهكذا لو وضعها في قماش أو قطن أو وسادة أو غير ذلك وغيّب هذا القدر؛ فلا يحكم بكونه زانياً، بل لا بد أن يغيب رأس الذكر، وأن يكون ذلك في فرج أصلي، فخرج غير الأصلي.
قال المصنف رحمه الله: [حراماً محضاً].
قوله: (حراماً) أي: هذا الفرج حراماً، فخرج الفرج المباح، فلو أنه غيب حشفته في قبل امرأته؛ فإنها ليست بحرام، وقوله: (محضاً): أي: لا شبهة فيه، وفي بعض النسخ: محصناً، وهذا تصحيف، والصواب: محضاً، أي: أن هذا الفعل وقع في موضع حرمته لا شبهة فيها، فخرج الموضع الذي فيه شبهة، كأن يطأ امرأة يظنها زوجته، وسيأتي تفصيل هذا في الشرط الثاني.
والمباح هو في زوجته وفي أمته، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج:29 - 30]، فجعل الاعتداء وحصول الجريمة فيما خرج عن الحلال، وذلك في قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7]، إذاً لا بد لثبوت الزنا أن يغيب حشفته في فرج غير معتبر شرعاً، وهو الحرام المحض الخالص الذي لا شبهة فيه، والسبب في هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات كما سيأتي.(376/3)
الشرط الثاني: انتفاء الشبهة
قال المصنف رحمه الله: [الثاني: انتفاء الشبهة].
أي: أن يكون وطؤه لهذا الفرج لا شبهة له فيه، ولا تأويل له فيه، فإن كانت عنده شبهة؛ فإن هذا يدرأ عنه الحد، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى بعباده، ومن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فإن الإنسان الذي التبست عليه الأمور، واختلطت عليه، أو ظن الحرام حلالاً، ووقع فيه وهو يظن أنه مباحٌ له شرعاً؛ ليس كالذي يفعل ذلك عن قصد وطلب ومحبة وعلم بحرمته.
وقوله: (انتفاء الشبهة) أي: ألا توجد الشبهة بالنسبة للفاعل أو المفعول أو هما، فإذا وجدت الشبهة في أحدهما انتفى الحد عنه، وأما الآخر فإنه يبقى عليه الحد على الأصل الشرعي، وأصل المشتبه: يقال: شابه كذا، إذا كان قريباً منه في الصفات بحيث إذا نظرت إليه ظننته الآخر، ولذلك سميت الأشياء الملتبسة والمختلطة بالشبهات؛ لأن الإنسان الذي عنده شبهة يظنها حلالاً؛ لأن فيها شبه من الحلال، فمن وطئ امرأة يظنها زوجته، وتبين أنها غير زوجته؛ فإنه لا يثبت عليه الزنا، مثلاً: وجدها نائمة على فراش زوجته، فهذا يشبه الزوجة، ويجعله ظاناً حل المكان، وهذا ما يسمى بشبهة المحل، فالشاهد من هذا أن الشبهة تكون في الشيء المختلط والملتبس الذي تتقارب صفاته ونعوته بحيث يصعب على الإنسان أن يميزه عن غيره أو عن ضده.
إذاً: قوله رحمه الله: (انتفاء الشبهة) يعني: ألا يكون عند الفاعل أو المفعول شبهة في فعله.
قال المصنف رحمه الله: [فلا يحد بوطء أمةٍ له فيها شرك].
لو أن رجلين اشتركا في شراء جارية، فدفع كل واحد منهما نصف القيمة، فلما ملكا الجارية ظنّ أحدهما أن ملكه للنصف يحل له وطأها؛ فوطأها على أنها مملوكة ليمينه، ولم يكن يعلم أن الجارية إذا كانت في شرك بين اثنين فأكثر؛ فلا يحل لأحد هؤلاء المشتركين وطؤها، فوطئها وهو يظن -بناءً على ملك اليمين- أنها تحل له، فلا يحد لوجود الشبهة، وهذا ما يسمى بشبهة الملك؛ لأن عنده شبهة في ملكية الجارية، وظن -بناءً على وجود هذه الشبهة- أن الله أحل له وطأها، والله عز وجل لم يحل له وطأها.
قال المصنف رحمه الله: [أو لولده].
لو وطئ الجارية التي فيها شركٌ لولده أو ملك لولده، وظن ذلك حلالاً له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عند ابن ماجة وغيره: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعل كسب الولد ككسب أبيه، وجعله تابعاً لأبيه، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني)، فجعل الولد بضعة وقطعة من والده كالشيء الواحد، وقال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك)؛ فإذا اشتبه عليه الأمر بهذا فلا يحد، قالوا: إذا ملك الولد جارية؛ فللوالد شبهة في وطئها؛ لأن ملك الولد يشبه ملكه هو، فلو ظن أن ملك ولده للجارية يحل له وطأها، أو كان لولده شرك فيها، وليست ملكاً محضاً لولده وإنما فيها شرك، يشترك ولده مع شخص آخر فيها؛ فوطئها؛ فحينئذٍ يندرئ عنه الحد، ولو وطئ جارية يملكها ولده فلا إشكال؛ لأن الشبهة فيها قوية، وحينما يكون هو أو ولده مشاركاً للغير؛ فإن الشبهة أيضاً مؤثرة، فمن باب أولى إذا كان هو الذي يملك أو كان الشرك له هو.
قال المصنف رحمه الله: [أو وطئ امرأة ظنها زوجته].
هذا يسمى بشبهة المحل، مثلاً: رأى امرأة على صفات امرأته، وظنها زوجته؛ فوطئها، أو نامت امرأة أجنبية مكان امرأته ولم يتيسر إعلامه، نحو ما يحصل للرفقة أثناء سفرهم وارتحالهم إذا نزلوا في الأماكن؛ فربما نزل بعضهم في مكان بعض، ولربما نامت المرأة في مكان أختها، فجاء إلى فراشه ووطئ امرأةً يظنها زوجةً له، أو كانت المرأة تشبه زوجته، فظنها زوجة له فوطئها، ثم تبين أنها ليست بزوجة له، فهذا كله شبهة، والشبهة يدرأ بها الحد، ويقولون: إن الجريمة يكون فيها قصد الإجرام بالظاهر والباطن، فالشخص الذي يزني عالماً بحرمته عليه ويفعل ما حرم الله؛ فقد اجتمع فيه الأمران: الظاهر، وهو: فعل الزنا، والباطن، وهو: قصده وإرادته وطلبه ومحبته والتشوق له، وقصد فعل المعصية موجود فيه، والقصد الباطن هو النية، فعنده النية لفعل الحرام، والظاهر هو فعل الزنا.
ولكن المشتبه وإن وقع في الزنا ظاهراً، فإنه في الباطن يظنه حلالاً له، فلم يجتمع فيه الأمران، وليس فيه معنى انتهاك الحرمة الذي يستحق به العقوبة، وهذا كما أشار إليه الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام في مسألة اجتماع الظاهر والباطن في فعل المحرمات.
قال المصنف رحمه الله: [أو سريته].
ظنها سرية من سراريه فوطئها، فإذا وطئ من يظنها زوجة له أو أمة له، فالحكم واحد، المهم أن يكون هناك اشتباه في المحل، فصورة المسألة: أن يكون المحل في الأصل حلالاً له، زوجته أو سريته، ثم يحصل اشتباه في هذا المحل فيظن أن ذلك المحل حلالاً، فيطأ امرأة يظنها زوجته أو يطأ امرأة يظنها سريته أو أمته.
قال المصنف رحمه الله: [أو في نكاح باطل اعتقد صحته].
هذا يسمى بشبهة العقد، وتقدم معنا شبهة المحل، وشبهة الملك، وهي أقسام الشبهات، فهنا لو وطئ في عقد يظن صحته، كشخص لبس عليه في نكاح المتعة، وقيل له: إن نكاح المتعة جائز، والصواب أنه محرم، وفي أول الإسلام أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم عندما اشتكوا إليه الضرر، وهم مسافرون في الغزو، فقد كانوا يحتاجون إلى من يغسل لهم، ومن يقوم على شئونهم، فأذن لهم بالمتعة، والعرب كان من عادتهم الخوف من صحبة النساء في الغزو؛ لأنهم إذا غُلبوا أُخذت النساء سبايا، فيخافون على أعراضهم، ولذلك كانوا يحرصون -في الغالب- على عدم مرافقة النساء في مثل هذه الأسفار، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صعوبة رفقة أزواجهم لهم، وحاجتهم للنساء، فأذن لهم بالمتعة، ثم نسخ هذا الإذن، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم نكاح المتعة -كما في الحديث الصحيح- في خيبر، وحرمها في أوطاس، وحرمها عليه الصلاة والسلام في الفتح، وفي خطبة حجة الوداع، فهي حرامٌ إلى يوم القيامة، فلو أن شخصاً لبس عليه أحد من أهل البدع وخدعه حتى ظن أن هذا حلال، وعقد عقد متعة وهو يظن أنه عقد شرعي مباح له، ثم وطئ المرأة في هذا العقد المحرم، فقيل له: أصلحك الله! هذا عقدٌ باطل، والوطء فيه وطء زنا -والعقود الباطلة من اعتقد بطلانها ووطئ بها فكأنه زنى- فقال: ما علمت هذا! وكنت أظن أن هذا حلال، فهذا شبهة في العقد.
كذلك إذا كان يقول بجواز عقد النكاح بدون شهود أو بدون ولي؛ فهذا ما يقام عليه الحد ولا يحكم عليه بالزنا؛ لأنه لا إنكار في المختلف فيه.
فلو أن شخصاً عقد على امرأة بدون ولي، سافر إلى بلاد لا يشترط فيها الولي على مذهب الحنفية رحمهم الله وهو قول عن الإمام مالك -كما تقدم معنا في النكاح- فجاء وتزوج المرأة وتولت هي العقد، فهذا العقد لا يصح عند الشافعية والحنابلة، وإذا كان العقد غير صحيح فقد وطئ في عقدٍ غير صحيح، وهذه المرأة لا تحل له على القول الراجح؛ لأنه لا بد من وجود الولي لظاهر الكتاب والسنة، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل)، فلما عقد بهذا العقد الباطل رفع إلى قاض يرى بطلان هذا العقد، وأن هذا الوطء غير شرعي، لكن لا يجوز للقاضي أن يقول: هما زانيان؛ لأن هذا عنده تأويل، وعنده شبهة، ولذلك يقول العلماء: لا إنكار في المختلف فيه، أي: أن المسائل الخلافية بين أئمة السلف التي تقرر فيها الخلاف وانتقل إلى الخلف، أو وقع الخلاف فيها بين الخلف ولم تكن موجودة في عصر السلف، وعمل إنسان بأحد القولين معتبراً لفتوى من يجيز أو من يحرم؛ فلا إنكار عليه؛ لأنه كما يحتمل أنه مخطئ في قوله، كذلك أنت يحتمل أن قولك خطأ، وهذا في المسائل المحتملة، والأدلة المحتملة قد أذن الله بالخلاف فيها، كما قال سفيان رحمه الله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]؛ لأن دلالتها ليست على وجه واحد، بمعنى أنها ليست نصوصاً قطعية لا تحتمل، بل جاءت محتملة توسعةً من الله على عباده.
على كل حال، إذا رأى أحد العلماء أو الأئمة أو القضاة بطلان هذا النكاح المختلف فيه ورأى غيره صحته، ثم عمل أحد الناس بالقول الذي يقول بالصحة ورفع إلى القاضي الذي يرى البطلان؛ لم يحكم بأنهما زانيان، ولا يجري عليهما أحكام الزنا، ولكن له أن يبين لهما أن هذا القول مرجوح، ويبين لهما أن الصحيح خلافه، فإذا اقتنع بقوله فذاك، وإذا بقي على القول الذي بخلافه؛ فلهما العمل بذلك القول، ما دام أن له دليله من الكتاب والسنة، وهذا هو الذي استقر عليه العمل عند العلماء والأئمة رحمة الله عليهم أجمعين، هذا بالنسبة للعقود المختلف فيها.
أمثلة أخرى للعقود المختلف فيها: هل ينعقد النكاح بشهادة الفاسقين؟ -إذا قلنا: إن الشهادة شرط لصحة عقد النكاح- فهل يشترط في الشهود أن يكونوا عدولاً؟ قال طائفة من العلماء: يصح، وقال بعض العلماء: لا بد أن يكون الشهود عدولاً.
وهل ينعقد النكاح بولاية الولي الفاسق إذا كان الأب فاسقاً وتولى نكاح ابنته؟ وهل تشترط العدالة في الولي؟ وإذا قلنا: الولاية شرط، ثم عقد لها فاسق فهل يصح عقدها أو لا؟ كل هذه المسائل لها وجهٌ من الصحة، فيبقى العقد على ظاهره، ولكن إذا كان القول بالجواز قولاً شاذاً لا يعتد به، وتبعه أحد من باب الشذوذ دون تأويل، فهذا حكمه حكم الزاني بلا إشكال، مثلاً: شخص يفعل المتعة ويقول: والله! المتعة جائزة، وقد استبانت له النصوص والأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا متلاعب ومتهتك يريد انتهاك حرمات الله؛ فلا ينفعه هذا التأويل، لكن من يلبس عليه أو يخدع أو يغتر بمن يقول ذلك من أهل البدع، وظن أن عنده علماً فأفتاه بذلك فعمل به؛ فحينئذ تأويله سائغ، قال بعض مشايخنا رحمه الله: مسائل الشبهات لا يفتي ولا يقضي فيها إلا خواص المفتين والقضاة؛ لأنها تحتاج إلى نظر في الشخص(376/4)
الشرط الثالث: ثبوت الزنا
قال المصنف رحمه الله: [الثالث: ثبوت الزنا].
هذا الشرط يرجع إلى القضاء من حيث الأصل؛ لأن الحدود تستقر وتثبت عند القاضي، وقد بينا أن إقامة الحدود للسلطان، ومن يقيم مقامه من القضاة والمعنيين بتنفيذ أحكامهم، فلا بد من ثبوت الزنا وثبوت جريمته، وذلك يفتقر إلى أحد دليلين يثبت بهما الزنا ثم يحكم بوجوب تنفيذ حده.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يثبت إلا بأحد أمرين].
ولا يثبت حد الزنا إلا بأحد أمرين، وهذا إجمال قبل البيان والتفصيل.
قال المصنف رحمه الله: [أحدهما: أن يقر به أربع مرات].
أحد الأمرين اللذين يثبت بهما حد الزنا: أن يقر بالزنا أربع مرات، والإقرار هو أقوى الحجج القضائية، وأقوى الأدلة الشرعية في وسائل الإثبات في القضاء، والإقرار هو: الاعتراف، وليس هناك أصدق من شهادة الإنسان على نفسه بالضرر؛ فليس أحدٌ عاقل يشهد على نفسه بالضرر كذباً وزوراً، ولذلك سيخبر عن نفسه بالحقيقة، ولهذا قالوا: إنه سيد الأدلة، وأعلى الحجج وأقواها، وبدأ به المصنف رحمه الله مراعاة لهذا الأصل، ولكن هذا الإقرار له ضوابط شرعية، وسيأتي -إن شاء الله- في باب القضاء الكلام على وسائل الإثبات، ومنها حجة الإقرار، وقد اعتبرت الشريعة هذا الدليل في جريمة الزنا، واعتبره النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم به، ونفذ به الجلد والرجم صلوات الله وسلامه عليه.
بدأ المصنف رحمه الله بالإقرار مراعاةً للترتيب في قوة الحجج، وقوله: (أن يقر)، أي: يقر الزاني، لكن ما هي شروط من يقر؟ أولاً: أن يكون بالغاً، فلو أن صبياً أقر بالزنا لم يعتد بإقراره؛ لأن الصبي مرفوع عنه القلم ولا يؤاخذ، وإقراره ساقط؛ لأنه دون التكليف.
ثانياً: أن يكون عاقلاً، فلو أن مجنوناً أقر، لم يعتبر إقراره، ولذلك حينما اعترف ماعز بن مالك بالزنا وقال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، قال عليه الصلاة والسلام: أبك جنون؟)، وفي لفظ مسلم: (أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون)، فقوله: (أبك جنون)، (أبه جنون)، بحث عن هذا الشرط، وهو: شرط العقل؛ لأن الإقرار إذا كان من المجنون لا يقبل، والمجنون لا يوثق بقوله، وإنما الإقرار بمن يوثق بقوله، ومن لا يوثق بقوله من الصبيان والمجانين لا يعتد به.
إذاً: يشترط أن يكون المقر بالغاً عاقلاً.
وأيضاً أن يكون مختاراً، فلا يكون مكرهاً على الإقرار، فلو أن شخصاً هدده وقال له: إذا لم تقر أقتلك، أو أقتل أحد أولادك، فهدده على وجهٍ فيه ضرر على الصفة المعتبرة في الإكراه، وحمله على أن يقر، وأقر؛ فهذا إقرار ساقط، وكل إقرار بإكراه ساقط؛ لأن الإكراه -كما ذكرنا- يسقط الأحكام.
واشتراط العقل يخرج أيضاً السكران، فلو أن سكران أقر بالزنا أثناء سكره وقال: إنه زنى، فلما أفاق، قيل له: إن هناك شهوداً شهدوا عليك أنك أقررت بالزنا، وارتفع الأمر إلى القاضي، فسأل الشهود فقالوا: أقر أثناء سكره، نقول: إن السكر يسقط الإكراه، ويعتبر شبهة تسقط الإقرار، والدليل على ذلك ما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقر ماعز عنده أربع مرات، قال عليه الصلاة والسلام: (أبك جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، ثم قال: أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه، يعني: شم رائحة فمه، فأخبر أنه صاح)، فهذا يدل على أن إقرار السكران بالزنا لا يعتد به، سواءً كان سكره بمباح أو بمحرم، بمحرم كشخص شرب الخمر أو تعاطى المخدرات ثم أقر بحضور الشهود، أو بحلال مثلما يقع في العمليات الجراحية، يخدر المريض، وأثناء تخديره أو عند إفاقته يتكلم، فإذا أقر حينذاك بالزنا، أو سأله شخص عن جريمته فأقر بالزنا، فهذا كله لا يعتد الإقرار به، فيشترط في المقر أن يكون على الصفة المعتبرة شرعاً لصحة إقراره، والسكران لا يعتبر إقراره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الإكراه حال السكر.
يشترط أيضاً أن يكرر الإقرار أربع مرات بأنه زنى، والأصل أنه إذا جاء إلى القاضي ليعترف بالزنا، فالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده، ويذكره بأن الستر أولى له، وأن الشريعة ندبت أن يستر نفسه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رغّب ماعزاً أن يستر نفسه، ففي الصحيح أن ماعزاً قال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم ناداه وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم قال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فرده وقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، ثلاث مرات وهو يقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، ولذلك نص العلماء والأئمة على أن القاضي لا يقبل الإقرار من أول مرة، بل يذكر المقر بستر الله عز وجل عليه، ويحثه على ألا يقر، أما إذا أقر على الصفة المعتبرة -على مذهب من لا يرى تكرار الإقرار- فيؤاخذ به، لكن إذا نادى القاضي على وجه لم يبين فيه الجريمة، أو قال مثلاً: إني زنيت، ولم يستفصل منه القاضي؛ لأن قوله: زنيت، فيه نوع من الإجمال، (العين تزني، والرجل تزني)، ولربما ظن أن ما ليس بزنا زنا، ففي هذه الحالة قبل أن يطبق عليه شروط الإقرار يرده القاضي.
انظروا إلى سماحة الشريعة! هنا حقوق الإنسان، وهنا الرحمة الحقيقية، وهنا المرونة الشرعية، وهذه المرونة جاءت في محلها، ولمن يستحقها، فإذا جاء من يريد أن يقر فمعنى ذلك أن عنده من الإيمان والخوف من الله عز وجل والصدق في التوبة ما ليس عند غيره، ولذلك لا يظن أحد أن هذا يشجع الناس على الجرائم، فالشريعة لا تترك الأمور هملاً، ولذلك يقول العلماء: إذا بلغت الحدود السلطان؛ فلعنة الله على الشافع والمشفع، وهذا يدل على أن الشريعة تحزم، ولكن هذه الجرائم تنهزم فيها النفوس، ويحصل فيها الضرر على الزاني وعلى قرابته وأهله وولده، وأسرته وجماعته، وهذا كله راعته الشريعة؛ لأنها تنزيل من حكيم حميد، ومن هنا فتح الله عز وجل أبواب التوبة، وضيق في مسائل الإقرار.
اختار المصنف أنه يكرر الإقرار أربع مرات، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله، وهو الصحيح، وعند الشافعي وغيره لا يشترط تكرار الإقرار، ولو أقر مرة واحدة أخذ بإقراره.
استدل العلماء الذين يقولون: إنه يشترط في الإقرار بالزنا أن يكرره أربع مرات بأن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ ماعزاً أربع مرات، وكل مرة يقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، ولم يعتبر منه المرة الأولى مع أنه قال: (إني أصبت حداً فطهرني)، واستدلوا بالقياس، فقالوا: إن جريمة الزنا تثبت بأربعة شهود، وكل إقرار قائم مقام الشاهد، وحينئذٍ لا بد من تكرار هذا الإقرار أربع مرات، وقالوا أيضاً: الأصل في هذه الجريمة إثباتاً ونفياً التكرار، ولذلك في شهادات اللعان يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، أي: أن زوجته زنت -والعياذ بالله- وأن الولد ليس بولده، فنزل الله عز وجل كل شهادة يمين في اللعان منزلة الشاهد، وجعلت هذه الوسيلة من وسائل الإثبات مبنية على البينة الأصلية في جريمة الزنا؛ لأن جريمة الزنا لا تثبت إلا بأربعة، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، وهذا يدل على أنه لا بد من وجود أربعة شهداء، وهذا إجماع بين العلماء رحمهم الله، وإذا كانت البينة في جريمة الزنا لا بد فيها في الأصل من أربعة شهود؛ فالإقرار على الزنا كذلك، فنزلوا الإقرار منزلة الشهادة، وقاسوه على الشهادة وقالوا: يشترط التكرار أربع مرات بالإقرار كما يشترط في الشهود أن يكونوا أربعة، بجامع كون كل منهما بينة تثبت الحد.
أما الذين قالوا: لا يشترط التكرار، فقد استدلوا بحديث الصحيحين في قصة العسيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)، فاعترفت فرجمها، فقال له: (إن اعترفت فارجمها)، وما قال له: إن اعترفت أربع مرات، وناقشوا ما استدل به الأولون وقالوا: إن الأصل في الإقرار ليس قول ماعز: إني أصبت حداً فطهرني، إنما جاء الإقرار بعد ذلك حينما صرح بالزنا، وصرح بأنه جامع المرأة، وعند ذلك لم يكرر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا قالوا: لا يشترط التكرار.
وعند النظر في أصل باب الإقرار، فالأصل أنه لا يشترط التكرار؛ ولذلك لو أن شخصاً ادعى على شخص مائة ريال، وقال له القاضي: هل له عليك مائة ريال؟ قال: نعم، فيكفي بالإجماع إقراره مرة واحدة، مع أن الشهادة في الأموال لا تكفي إلا بشاهدين أو شاهد مع اليمين، أو شاهد وامرأتين، أو أربع نسوة على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله.
إذا ثبت هذا، فالإقرار في الأصل لا يكرر، ولكن من باب مراعاة مقصود الشرع قلنا: إن القول بالتكرار هنا أقوى وأولى بالصواب، ولكن من حيث النظر في الأدلة، كصنعة أصولية فالقول بعدم التكرار له قوة؛ لأن الإقرار من ماعز وقع في الجملة اللاحقة لا في الجملة السابقة، وهذا يقوي أن التكرار ليس بشرط، وأن الإقرار يكفي مرة واحدة.
قال المصنف رحمه الله: [في مجلس أو مجالس].
بعض العلماء يشترط أن يكون الإقرار في مجلس واحد، واعلم أن الإقرار لا يكون حجة إلا إذا كان في مجلس القضاء، وإذا شهد الشهود أن فلاناً جلس في مجلس واعترف على نفسه بالزنا، وشهدوا عليه بذلك؛ فهذا لا إشكال فيه، لكن نحن نتكلم عن الإقرار في مجلس القضاء، هل يشترط أن يكون في مجالس أو مجلس؟ في مجلس واحد يعتبر إقراره، ولكن لو فرق الإقرار في مجالس، فما الحكم؟ بعض العلماء يقول: إن ماعزاً قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فاستغفر الله، فذهب ثم(376/5)
الأسئلة(376/6)
الفرق بين الإكراه في القتل والإكراه في الزنا
السؤال
لقد أشكل عليّ كيف أن المرأة المكرهة على الزنا لا يقام عليها حد الزنا بينما يقام الحد على من قتل وهو مكره؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: لا إشكال في هذا إن شاء الله تعالى، وتوضيح ذلك: أن الإكراه شرطه أن يكون ما طلب من الشخص أقل مما يهدد به، فلو هددت المرأة أن تقتل أو تزني؛ فاختارت التوسع وزنت، فإن زناها أقل من القتل، ولو أن بعض الناس يستحب القتل على الزنا، لكن من حيث الأصل؛ جعل الله عز وجل جريمة القتل أعظم من الزنا، لكن حينما يهدد أحد ويقال له: اقتل فلاناً وإلا قتلناك، استوى الأمران؛ لأنه في هذه الحالة لو قتل فلاناً فقد قتله من أجل أن يعيش، فيكون استبقى نفسه بنفس أخيه، والنفس مع النفس حرمتهما واحدة، لكن الزنا مع القتل حرمتهما ليست بواحدة، ومرتبة الاثنان مختلفة، و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، ولذلك تسقط المؤاخذة بالزنا عند الإكراه، ولا تسقط في القتل، والله تعالى أعلم.(376/7)
من هو العسيف؟
السؤال
قول الصحابي رضي الله عنه: (إن ابني كان عسيفاً) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (على البكر جلد مائة، وتغريب عام)، فهل يقوي هذا قول من قال بتغريب الرقيق؟
الجواب
العسيف ليس له علاقة بالرقيق، من قال لك: إن العسيف هو الرقيق! العسيف هو: الأجير، فهذا حر، كان عسيفاً أي: أجيراً، وليس المراد أنه مملوك، فطالب العلم لا يفسر العبارات من عنده ثم يركب الإشكالات!(376/8)
حكم المطلق إذا زنى
السؤال
هل الرجل المطلق يعتبر محصناً يقام عليه حد الزنا بالرجم أم يعتبر بكراً ويجلد، وكذلك المرأة المطلقة؟
الجواب
كل من تزوج امرأة ووطئها ولو مرة واحدة، على الصفة المعتبرة في الوطء؛ فهو محصن إلى يوم القيامة، فإذا زنى بعد ذلك يطبق عليه حد المحصن.
إذاً: لا يشترط أن تبقى عنده المرأة، ولا يشترط في المرأة أن يكون زوجها معها أثناء الزنا، فمن يثبت إحصانه بالوطء في نكاحٍ صحيح على الشروط التي ذكرناها في الإحصان؛ فلا يشترط بقاء زوجته عنده، ولا أيضاً أن تكون الزوجة معها زوجها، والله تعالى أعلم.(376/9)
حكم رجم الزاني بحجارة البيت الذي زنى بأهله
السؤال
ما قولكم فيمن قال: إن حكم الله بالرجم للزاني يرجع إلى أن هذا الزاني هدم بيتاً، ولذلك يرجم بحجارة هذا البيت؟
الجواب
نقول: إنه قال على الله بدون علم، هذه والله الجرأة، هل نهدم بيوت الناس من أجل أن نرجم الزناة؟ من قال: إن من زنت أو زنى نهدم بيت من زنى بها، ونأخذ حجارة البيوت للرجم؟ من قال بهذا الكلام؟ هذا قول على الله بدون علم، قوله: إنه هدم بيتاً فيرجم بحجارة البيت الذي هدمه، ما هذا؟ هل هذا علم؟ علينا أن نحذر من بعض الوعّاظ والقصاص الذين ينمقون ويرقعون، ويحاولون أن يتفيهقوا، وليس عندهم علم ولا فقه، تجد الواحد منهم يتحذلق، ويأتي بالكلمات العجيبة، وسنبين هذا في الجزئية الثانية، والجزئية الأولى أن هذا كذب، وليس له علاقة، وليس بأمر صحيح؛ لأن رجم الزاني يكون بحجارة من الأرض وليس من حجارة البيت.
ورجم الزاني عقوبة من الله سبحانه وتعالى، أمر بها من فوق سبع سماوات، وهي: تعبدية، جعل الله عز وجل عقوبة من زنى وهو محصن قد استوفى الشروط المعتبرة للإحصان؛ أن يرجم حتى يموت، ألا يقتصر هذا الحد في ردع الناس من فعله؟ بلى، بل يردع الأمة التي فعل فيها أو الجماعة أو القبيلة، فهي عبرة من أشد العبر، حتى إن الشخص لو حمل حجراً يريد أن يرجم زانياً فلا يرجمه إلا وقد أخذ من العبر والعظات ما الله به عليم، يهتز قلبه، ويرجف فؤاده، ويعرف عندها ما هي جريمة الزنا، وكيف يكون عقاب من دمّر بيوت المسلمين؛ لأنه أحصن وزوج ثم بعد ذلك لم يرض بحلال الله، بل ذهب يسعى إلى نساء المسلمين ليفسد أعراضهم ويهتكها عليهم؛ فهذه عقوبته من الله عز وجل، وتكون بالرجم ولا تكون بالسيف، بل تكون بما أمر الله عز وجل به، وليس لنا إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.
الجزئية الثانية: الشخص قد يأتي لحد من حدود الله عز وجل يريد أن يبين لماذا كان هذا؟ فيقول: من أجل كذا، بلا علم، فهذا من أخطر الأشياء، لا يجوز لأحد أن يقول: إن الحكم الشرعي لعلة كذا، أو لسبب كذا، إلا بطرق معروفة عند علماء الشريعة، تعرف بطرق التعليل، ومسالك التعليل، وهي طرق شابت فيها رءوس العلماء، وحارت فيها ألباب الحكماء، ألف فيها بعض العلماء خمسمائة صفحة في منزع العلة، وبيان ما هو علة، وما هو شبه علة؛ وما هو تخييل، ككتاب: شفاء الغليل وبيان مسالك التعليل، وبيان أوجه الشبه والتعليل.
هذه أمور ليست فالتة لكل أحد، وليست نهباً لكل متحذلق يأتي ويتكلم، المصيبة الآن كثرة المتعالمين، الذين يحاولون أحياناً أن يتكلموا عن محاسن الشريعة فيخوضون في شيء لم يعلموه ولم يعوه، ولا يجوز لإنسان أن يصدقهم في هذا، وإذا كان الزاني المحصن هدم البيت ليرجم الزاني المحصن بحجارته، فلو أن بكراً زنى بامرأة متزوجة وهدم البيت، لكنه ما يرجم، انظر كيف التعارض؟ هذه ما انطبقت علته، هو يقول: من هدم البيوت يرجم، هذا خطأ، لو كان عنده علم ما قال هذا؛ لأنه لو كان الأمر كما ذكر لرجم البكر؛ لأنه لو جاء إلى امرأة وأغراها وزنى بها وهي متزوجة فقد هدم بيتها، ولولا أنه زنى ما انهدم البيت، فتعبيره خاطئ، ومثل هذا لا يصدق، ولا يكشف عوارهم إلا العلماء، وينبغي على الإنسان ألا يأخذ علم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا ممن يوثق بعلمه، والحذر من القصاص والوعّاظ الذين يحاولون أن يحسنوا وهم مسيئون، زين لهم سوء عملهم، تجد الشخص منهم عجب الناس من بلاغته وفصاحته وتأثيره، فخاض في علم التعليلات، وليس عنده مسلك للعلم، وليس عنده ورع يمنعه عن القول على الله بدون علم، فالحذر من أمثال هؤلاء، والحذر من الخوض في التعليلات، علينا دائماً أن نراعي جانباً يقال له: جانب التسليم، وهذا هو أساس الإيمان والعقيدة، ما سمي الإسلام إسلاماً إلا من الاستسلام، التعليلات إذا لم تأت عن طريق عالم متمكن بصير لا تقبل.
العلة تعرف بطريقين: الطريق الأول: يسمى الطريق النقلي، والطريق الثاني: الطريق العقلي.
أما الطريق النقلي فهي: العلة المستنبطة بنص الكتاب أو السنة، وهو أن ينص الكتاب أو السنة على العلة، وهذه العلة المنصوصة مجمع عليها، والإجماع له مستند، وأما العلة المستنبطة بالعقل فهذه فيها كلام للعلماء رحمهم الله، ولها ضوابط وقيود.
وعلى كل حال؛ أعود إلى أساس الأمر، وهو الرضا والتسليم، وعلينا دائماً أن ننتبه لمن يحاول تعليل الأحكام بلا علم، وأن نكون في الأصل مسلّمين قبل أن نكون معلمين، علينا أن نكون مسلمين مستسلمين قبل أن نكون من أهل الرأي والعقلانيين الذين يقول أحدهم متبجحاً: إذا لم أعرف شيئاً أو لم أعقل شيئاً في دين الله فلا أقبله! يعني لو جاءه نص من أصح النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء لم يبلغه عقله؛ يقول لك: لا، أنا ما أقبله! نسأل الله السلامة، ونعوذ بالله من انطماس البصائر، ونسأل الله بعزته وجلاله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا! وعلى المسلم أن يحذر وأن يحذر غيره من هذا، والخطباء والوعاظ عليهم أن يتقوا الله عز وجل، وألا يقولوا على الله بدون علم، وأن يحذروا مسائل التعليل، ويحذروا الكتب التي فيها وعظ وترقيق، وبيان لمحاسن الشريعة التي كتبها أناس لم يضبطوا الفقه وأصوله، وهذا أمر نعرفه عنهم بالخبرة، فهم يقعون في أخطاء شنيعة، لو أن هذه العلل أخذت على ظاهرها، لكانت هدماً لأمور من الشريعة مستقرة، فالحذر من مثل هذه الأمور، الحذر منها ما أمكن.
وعلى كل حال؛ جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، ومن تقوى الله ألا يقبل العلم إلا من أهله، ومن أخذ العلم عن أهله؛ استنارت بصيرته، وحفظه الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، من كان علمه على أيدي العلماء من السلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، يأخذ علمه وفهمه للنصوص عن سلف وأثارة وطريق بينٍ واضح؛ فقد هُدي إلى صراط مستقيم، ومن كان علمه تتبع العبارات، وتنميق الكلمات، وتحسينها خداعاً للمؤمنين والمؤمنات؛ فليبك على نفسه، فإنه قد قال على الله بدون علم، وليقفن بين يدي الله ويسأل عما قال، فعلينا أن نحذر من ذلك، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا من الزلل، والله تعالى أعلم.(376/10)
زكاة الرطب
السؤال
هل في الرطب زكاة أم أن الزكاة خاصة بالتمر؟
الجواب
الرطب فيه زكاة، ولكن لا تخرج الزكاة رطباً، وإنما تخرج تمراً بعد الحصاد والجذاذ، بعد أن ييبس يقدر ما في البستان وما في النخل بالخرص عند بدو الصلاح كما تقدم معنا في كتاب الزكاة، فيأتي الخارص وينظر في النخل عند بدو صلاحه، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص النخل عند بدو الصلاح قبل أن يصير رطباً، وقبل أن يصير تمراً، ثم يطرح منه الربع؛ لأن هناك ما تسقطه الرياح، وهناك ما يأكله سابلة الطريق، وهناك المنيحة ونحوها، فهذا يسقط، ثم ينظر لو كانت مثلاً أربعة آلاف صاع، يسقط ألف صاعٍ، ويقول: هناك ثلاثة آلاف صاع، هذه هي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أنه (وصى الخارص أن يسقط الثلث أو الربع) مراعاةً لذلك، وإذا كنا مثلاً خرصنا أربعة آلاف صاع، وأسقطنا الثلث وحددنا القدر الواجب العُشر أو نصف العشر -على حسب السقي-؛ فإن الواجب أن نخرجه تمراً، فلو أنه أخرج الثلاثمائة صاع الواجبة عليه رطباً؛ لم يجزه، لا بد أن يخرجها تمراً، والله تعالى أعلم.(376/11)
حكم بيع المعيب
السؤال
اشتريت سيارة فوجدتها معيبة، فهل يجوز لي بيعها بهذا العيب أم ماذا أفعل؟
الجواب
العيوب تنقسم إلى قسمين: عيوب مؤثرة، وعيوب غير مؤثرة؛ إن كانت عيوباً مؤثرة، وهي عيوب الزكاة المؤثرة، وضابطها: ما يوجب نقصان المالية نقصاناً مؤثراً، مثلاً: السيارة فيها عيب يؤثر في مشيها ويضر، وقد يقلب صاحبها أو يحدث له ضرراً، فهذا العيب مؤثر، أول شيء يشترط في العيب أن يكون مؤثراً.
ثانياً: أن يكون موجوداً في السلعة أثناء العقد، أو قبل العقد، فلو طرأ في السلعة بعد العقد؛ فإنه طرأ على ملكي، ولا يجوز لي أن أرد في هذه الحالة، أي: في حالة إذا كان العيب مؤثراً وطرأ أثناء العقد أو بعده.
والشرط الثالث: أن يكون المشتري لا علم له بهذا العيب، البائع لم يبين له العيب، أما لو قال له: في سيارتي عيب كذا وكذا وأعلمه به؛ فقد سقط حق المشتري، هذه الشروط لا بد من وجودها للرد بالعيب: أن يكون العيب مؤثراً، وأن يكون موجوداً في السلعة أثناء العقد أو قبل العقد؛ وإذا قلنا: أثناء العقد فمن باب أولى قبل العقد، وأن يكون المشتري لا علم له بذلك العيب، إذا ثبتت هذه الشروط؛ فمن حقك الرد، والأصل في هذا حديث أبي هريرة في الصحيح عنه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصروا الإبل ولا الغنم، فمن ابتاعها)، وفي اللفظ الآخر (فمن اشترى شاة مصراة ثم حلبها؛ فهو بخير النظرين: إن رضي أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، فالشاهد قوله: (إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها)، والصاع من التمر عوضاً عن الحليب الذي حلبه، وهنا السيارة إذا وجدت فيها عيباً، نقول لك: أنت بالخيار، إن شئت تبقي السيارة في ملكك، وإن شئت تردها على البائع، ولا يجوز أن تغش بها المسلمين، فإذا أردت أن تبيعها على غيرك، فإنك تقول له: فيها عيب كذا وكذا، نصيحةً وبراءةً من العيب، وإلا كان بيع غشٍ، وأنت المسئول عن ذلك العيب، والله تعالى أعلم.(376/12)
وصايا لطلاب العلم
السؤال
أنا فتاة منّ الله علي بالاستقامة ولله الحمد والمنة، ولي أكثر من ثلاث سنوات وأنا أحضر هذا الدرس المبارك دون انقطاع، والحمد لله، والمشكلة أني حتى الآن لا أجد نفسي طالبة للعلم كما ينبغي! وسؤالي: كيف أكون طالبة علم مستفيدة؟
الجواب
في هذا السؤال جانبان: الجانب الأول: أوصيك أختي في الله، وأوصي كل طالب علم، وكل من حضر أي مجلس فيه ذكر الله عز وجل على الوجه الذي يرضي الله؛ أن يلهج لسانه بالثناء على الله، وأن يحمد الله على نعمته، فلا يدري كم حاز من الأجر والثواب والدرجات العلى في جنة الله بما تعلمه! لأن الله يرفع الذين أوتوا العلم درجات، وليس درجة، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، قال بعض العلماء: من جلس مجلساً فتعلم علماً لوجه الله، وضبطه وأتقنه؛ رفع الله درجته، قال الله: (دَرَجَاتٍ)، وما قال: درجة واحدة، وقرن الله العلم بأعز الأشياء وأحبها إليه على الإطلاق وهو: الإيمان والتوحيد، فانظر إلى أي شرف وإلى أي مكان بلغ العلم وبلغ أهله! ثانياً: أن تعلمي أن العلم نعمة من الله سبحانه وتعالى يؤتيها من يشاء، وعلى الإنسان أن يدرك أنه متى جلس في مجالس العلماء وهو يريد أن يتعلم، ويريد أن يضبط العلم؛ فأجره على الله سبحانه وتعالى، قد يقوم من ذلك المجلس وقد بدلت سيئاته حسنات، وهذا من أعلى الدرجات، وقد يقوم من ذلك المجلس كيوم ولدته أمه، وقد يقوم من ذلك المجلس برحمة من الله عز وجل لا يعذب بعدها أبداً، عطايا وهبات، يقال لهم: قوموا قد بدلت سيئاتكم حسنات، وقد يقوم من ذلك المجلس بشيء نذر المسلمون والصالحون والأخيار والأبرار وصفوة الله عز وجل أرواحهم في سبيل الله من أجل أن يفوزوا به ألا وهو محبة الله، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ)، فالذين جلسوا في ذكر الله لله وفي الله، فقد وجبت وثبتت لهم محبة الله عز وجل، فأي شيء ثلاث سنوات! كان الصحابي يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً واحداً يبارك له فيه، ليس من شرط النفحات والخيرات والبركات التي تكون في مجالس العلم أن الإنسان يصير عالماً، قد يُحفظ الإنسان في دينه فلا تضره فتنة، قد يحب العلماء ويحرص على مجالسهم فيعصمه الله عز وجل من البلايا في نفسه وفي عقله، يحفظ له عقله ونور قلبه، وقد يحفظه الله عز وجل في ولده، وقد يحفظه الله عز وجل في قرابته وأسرته، وقد يحفظ الله عليه ماله؛ لأن الله عز وجل لا أوفى منه لعباده، ما أحد يحب العلماء إلا نال خيراً، ولا غشي مجالسهم إلا عن محبة، ولا استمع إليهم إلا عن محبة، ولا جاء زحفاً على الركب إلا عن محبة، يترك مصالحه ويترك دنياه وراء ظهره، ويترك اللهو واللعب وهو في عز شبابه، وقد يكون عنده المال والتجارة ويترك ذلك كله من أجل أن يسمع كلمة تذكره بالله عز وجل، أو يجلس مجلساً تتنزل عليه السكينة وتغشى فيه الرحمة، ثلاث سنوات وأنت تطلبين العلم! فالهجي بحمد الله والثناء عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعلها في هذه المجالس المباركة، وفي هذا الذكر، وفي هذا الخير، وفي هذه البركة، واحمدي الله سبحانه وتعالى على منه وكرمه، بل إني حينما أسمع ذلك والله! إن القلب يتفطر ألماً وأقول: سبحان ربي! الذي سخر لي أن أجلس للناس سنة وليس سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو عشراً، والله! إن الإنسان لو جلس محاضرة واحدة حفظه الله عز وجل بها، يمشي مسافة الكيلو والكيلوين والعشرة والمائة حتى يصل إلى المكان الذي يلقى فيه كلامٌ يرضي الله ورسوله، فحريٌ به أن يبكي فرحاً بنعمة الله عز وجل عليه، وحريٌ بنا ذلك ونحن في نعم قليل من يتذكرها، كم من دروس مرت علينا إلى الآن ونحن في عافية؟ قد لا يشعر إلا القليل منا كيف أن الله فرغه؟ والله قادر قبل الدرس بدقائق أو أثناء الدرس أن يسلط عليه صداعاً لا يستطيع أن يفهم معه شيئاً، والله قادر أن يسلط عليه حصى في بوله، أو يسلط عليه شغلاً في أهله وماله وولده، من الذي فرغك؟ ومن الذي أمدك بالحول والقوة ويسر لك ذلك؟ ثم لما جلس، من الذي فرغ لك هذا، وصفى لك هذه الحواس؟ ومن الذي أعطاك السمع والبصر لعلك أن تعقل ولعلك أن تشكر الله عز وجل؟ {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9]، قليلاً ما تشكرون إي وربي! فالإنسان يوصى أول شيء بهذا، ولقد كنا أيام طلب العلم نزدري أنفسنا ونقول: ما استفدنا شيئاً، ومن يقول: جلسنا ثلاث سنوات وما شعرنا أنا طلاب علم؟ لا، بل أنتِ طالبة علم، وأنت طالب علم، إذا ما غدوت إلى مجلس علم وأنت تريد وجه الله لا رياءً ولا سمعة؛ فأنت طالب علم على قدر ما حصلت، هذا الجانب الأول.
الجانب الثاني في السؤال: كيف تصير طالب علم؟ أولاً: الإخلاص لله عز وجل.
ثانياً: ليس العيب في الدرس وفي العلم، العيب فينا، وليس العيب في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم -وحاشا- بل العيب فينا، كل الأمور مسهلة ميسرة، طالب العلم قبل أن يأتي إلى الدرس المفروض أن يقرأ الدرس المرة والمرتين والثلاث والأربع، فمن منا يقرأ الدرس؟ من منا يراجع قبل جلوسه في مجالس العلماء؟ ومن منا إذا راجع حرص أن تكون مراجعته في أعلى الدرجات حتى إنه ليحفظ الكلمات كما هي؟ قليل من يراجع! ثالثاً: إذا جلست في مجلس العلم، وطن نفسك على الإخلاص، واحرص كل الحرص على أن تكون كأحسن ما يكون عليه طالب العلم، وكأفضل ما يكون عليه طالب العلم من الإنصات والوعي عن الله ورسوله، ولا يمكن لأحد أن يكون بالمرتبة الطيبة في الوعي عن الله ورسوله إلا إذا قدر الوحي عن الله ورسوله حق قدره، والآية الواحدة من كتاب الله إذا فسرت له أو ذكر له الحكم الشرعي من كتاب الله عز وجل؛ طار بها فرحاً، كان الصحابي يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع حديثاً واحداً يضع الله له به البركة فيبلغ الآفاق، وتسير به الركبان، ويبلغ به من النفع ما الله به عليم، بورك لهم في علمهم، فلما تأتي إلى مجالس العلم عليك أن تحس أن كل كلمة لها قيمة، وكل كلمة لها معنى، وكل كلمة لها أثر؛ فيبارك الله لك في علمك.
إذاً: الإخلاص ثم قراءة الدرس قبل الجلوس، ثم الانتباه أثناء الشرح والضبط لما يقال، وأي إشكال يسجله ويكتبه.
رابعاً: إذا انتهى مجلس العلم يحرص ألا يشغل نفسه بعد مجلس العلم بشيء عن ذكر الله عز وجل وحمده، أي مجلس تجلسه بمجرد ما تقوم تحمد الله أولاً: {أَنِ اشْكُرْ لِي} [لقمان:14]، أمر الله بشكره، {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، فأي نعمة لا تشكر فإن الله ينزع منها البركة، وقرن الله العبادة بالشكر، فمن شكر زاده الله عز وجل، فأوصيك بالشكر، ولا تستطيع أن تشكر شكراً على أحسن ما يكون عليه طالب العلم في الشكر إلا إذا عرفت فضل الله عز وجل عليك أولاً، ثم فضل هذه الصفوة من علماء السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فترحمت على علماء المسلمين، وقلت: جزاهم الله عنا خير الجزاء، هذا كتاب الإمام العالم الحجاوي رحمه الله وأصله للإمام ابن قدامة، من منا لما قام قال: رحمة الله عليه، اللهم اجزه عن الإسلام خير الجزاء؟ من منا إذا جاء وجلس مجلس العلم وتعلم من هذا العالم الذي يقرأ كتابه ورأى فضله عليه ترحم عليه؟ ينبغي أن يكون الناس أوفياء لعلمائهم ولسلفهم وأن يتربوا على حب العلماء، فلما نسينا الدعاء لعلمائنا، والترحم على أمواتهم، وحفظ جميل أحيائهم؛ نزع الله شيئاً يقال له: البركة، وإذا نزعت البركة -أجارنا الله وإياكم- من الشيء فكلا شيء، والله! لو أن الشخص ملئ علماً من أخمص قدمه إلى شعر رأسه ولم يضع الله البركة في علمه؛ فكأنه لم يعلم شيئاً! البركة في العلم تكون بالشكر، ومعرفة فضل من له فضل، ولا يبارك للإنسان إلا بهذا، وجرب ذلك، كن وفياً لعلماء السلف والخلف والتابعين لهم بإحسان، وترحم على أمواتهم، واعتقد حبهم وفضلهم، وانظر كيف يبارك لك في علمك، وكيف تجلس المجلس في الأسبوع -ليس الشهر وليس السنة- وترى بركة العلم؟ قد نجلس في مجالس العلماء ولا نعرف قدر ذلك العلم الذي نتعلمه! ونقوم من تلك المجالس وقلّ أن يشعر الإنسان بنعمة الله عز وجل عليه! ثم تترك هذه النصوص دون مراجعة! فكيف نضبط العلم وكيف نراجع العلم؟! والوصية الأخيرة: إذا قرأ طالب العلم وضبط الدرس قبل مجلس العلم ثم راجع بعد مجلس العلم؛ أعد نفسه للسؤال، وهذه الوصية الأخيرة التي أختم بها، أن تهيئ نفسك أنك ستسأل عن هذا العلم، وكان من وصايا بعض مشايخنا -نسأل الله بعزته وجلاله أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات وأن يجزيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء- أنه كان يقول: يا بني! احرص على أي شيء تتعلمه أن تضع في نفسك أنك ستسأل عنه.
كانت بعض الفوائد بسيطة نادرة ما كنت أظن أن أحداً يسأل عنها، والله سئلنا عنها على رءوس الأشهاد، فمن وضع نفسه أنه سيسأل عن هذا، وأنه سيبتلى بقضاء أو فتوى أو بتعليم أو تدريس؛ فتح الله عليه، وبارك في علمه، وحفظ هذا العلم وحافظ عليه، وحينما يقوم طالب العلم من مجالس العلم أو يتعلم العلم ولا يستشعر أنه سيسأل عن ذلك؛ فإنه لا يغبط بذلك ولا يبارك له، فإذا كان الإنسان لا يحس أنه مسئول في الدنيا، أو نظر إلى الناس وقد زهدوا في العلم والعلماء وغفلوا عن مكانة الحكمة والحكماء، وقال: من يأتي يسأل عن هذه الأنوار الربانية، والحكم الإلهية، وهذه النصوص التي شرفني الله عز وجل بالعلم بها؟ إذا ظن ذلك الظن؛ فعليه أن يتذكر أنه سيسأل بين يدي الله عن هذا العلم، إذا لم يسأله الخلق فسيسأله الخالق، فاضبط هذا العلم وراجعه وأتقنه لوجه الله، فإن الله يبلغك أجر من علم الناس، وحفظ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم دينها وشرعها.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما تعلمناه وعلمناه، اللهم! اجعله خالصاً لوجهك الكريم، ونسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، يا ذ(376/13)
شرح زاد المستقنع - باب حد الزنا [4]
جريمة الزنا لا تثبت إلا ببينة شرعية، كشهادة الشهود، ولابد فيهم من صفات يجب توافرها حتى تصح شهادتهم، وقد بينها العلماء رحمهم الله بأدلتها، وفصلوا الأحكام الشرعية التي تتعلق بالشهادة، وإذا لم تصح شهادة الشهود فيجب أن يقام عليهم حد القذف، وللقذف أحكام بينها العلماء رحمهم الله.(377/1)
إثبات حد الزنا بشهادة الشهود
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه لله تعالى: [الثاني: أن يشهد عليه].
تقدم معنا أن جريمة الزنا لا تثبت إلا بأدلة شرعية معينة، منها الإقرار، وهو سيد الأدلة كما يقول العلماء رحمهم الله، وهو أقوى الحجج؛ لأنه ليس هناك أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، وليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر، ثم بعد ذلك شهادة الشهود، وهو أن يشهد الشهود المعتبرون في حد الزنا على هذه الجريمة بالصفة المعتبرة شرعاً.
فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله النوع الأول من الأدلة ووسائل الإثبات وهو الإقرار، شرع في الشهادة، وهذا من باب التدرج من الأقوى إلى ما هو دونه، فالإقرار أقوى ثم يليه بينة الشهادة، وقد نص الله عز وجل على هذه البينة كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فنص سبحانه وتعالى على اعتبار هذا النوع من وسائل الإثبات وهو الشهادة، وقال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15]، فنص أيضاً في هذا الموضع على اعتبار هذه البينة، وهي شهادة الشهود، وبيّن تعالى أن هؤلاء الشهود لا بد أن تتوافر فيهم صفات من جهة العدد، والمصنف رحمه الله في هذا الموضع سيذكر جانبين: الجانب الأول: يتعلق بصفات الشهود.
والجانب الثاني: يتعلق بمضمون الشهادة.
وهذان الجانبان -عند العلماء- مهمان جداً في البينات، جانب صفة البينة التي ينبغي أن تكون عليها سواءً كانت شهادة أو إقراراً أو كتابة أو غيرها من الحجج في عموم الأشياء والإثباتات، خاصة في قضايا غير الحدود والقصاص، ثم بعد ذلك جانب مضمون البينة.
وينبغي التنبيه على أمر مهم جداً، وهو أن مسألة الشهود والشهادة الأصل فيها أن تذكر في باب القضاء، وشروط الشاهد التي ينبغي توافرها فيه للحكم بشهادته في الحقوق سواءً كانت لله عز وجل أو كانت لعباده؛ محله باب الدعاوى والبينات، وأفرده العلماء رحمهم الله بالكلام والتفصيل في ذلك الموضع، لكن من عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم يقدمون الشهادات الخاصة التي تتميز ببعض الصفات أو ببعض الشروط الخاصة، لقوتها وأهميتها ثم ينبهون على جملة من مسائلها في مواضعها، فالأصل أننا نؤخر الكلام على هذه البينة إلى باب البينات والدعاوى، ولكن هنا الشهود لابد أن تتوافر فيهم صفات معتبرة.
وقبل ذكر صفات الشهود، اعلم أن الله تعالى رضي بالمسلمين بعضهم شهوداً على بعض، فدين الإسلام ووشيجة الإسلام التي بين المسلم وأخيه المسلم تفرض عليه أن يتقي الله في أخيه المسلم، وأن يقول فيه الحق، ولا يقول فيه الكذب، ولا يزور في قوله، ولا يغير ولا يبدل في شهادته، ولا يبني على التهم ولا على الظنون ولا على الأراجيف، وإنما يبني قوله على علم، وأشار الله إلى هذه الأسس في قوله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81]، فبين أن الشهادة الحقة المبنية على العدل والإنصاف لا تكون إلا بعلم، ونهى عن الزور ظلماً فقال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152]، وهذا يقتضي أن المسلم ينصف أخاه المسلم، ويعدل ولا يظلم، فرضي الله بالمسلم أن يكون حكماً على أخيه المسلم في الشهادة عليه كما قال صلى الله عليه وسلم مؤكداً لما دل عليه الكتاب: (أنتم شهداء الله في الأرض)، فمن كانت شهادته قائمة على العدل والإنصاف الذي قامت عليه السماوات والأرض؛ فهو مؤمن مسلم حقاً، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا توافرت فيه الشروط المعتبرة.(377/2)
الشروط المنبغي توافرها في الشهود
الشرط الأول: الإسلام؛ لأن الإسلام سلامة واستقامة على دين الله ومنهج الله، (فالمسلم -كما قال صلى الله عليه وسلم- من سلم المسلمون من يده ولسانه)، بمعنى أنه لا يظلم، فالإسلام شرط معتبر لقبول شهادة الشاهد على المسلم، فلا يشهد على مسلم إلا مسلم، فلا تقبل شهادة الكافر، سواءً كان ذمياً، أو كان وثنياً، أو كان مشركاً، أو كان ملحداً لا دينياً، أو كان مرتداً، فهؤلاء لا تقبل شهادتهم؛ لأن الكافر عدو للمسلم، والعدو تحمله العداوة على الأذية والكذب والضرر، وبعض الناس يرضى ديانة أن يؤذي من عاداه في الدين، ولذلك قالوا: عداوة الدين أعظم ضرراً من عداوة الدنيا؛ لأن عداوة الدين تأتي عن عقيدة، فقد يشهد اليهودي والنصراني والملحد والشيوعي والوثني على المسلم زوراً؛ لأنه يحب له الضرر، بل ربما يدعي أنه يتقرب إلى الله بأذيته.
إذاً: لابد من الإسلام، ولا تقبل شهادة الكافر على المسلم؛ لأن هذا علو على المسلم، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، ولو قبلنا شهادة الكافر بالزنا على المسلم؛ فقد جعلنا للكافر على المسلم سبيلاً، والآية خبر بمعنى الإنشاء، وقد بين تعالى عداوتهم بقوله: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101]، فهذه الآيات كلها تدل -بشهادة الله عز وجل- أن الكافر لا تقبل شهادته، إلا ما استثناه الله عز وجل في مسألة واحدة تقبل فيها شهادة الكافر على المسلم، وهي: الشهادة على وصية المسافر المسلم إذا لم يجد أحداً من المسلمين يشهد على وصيته، وبشروط معينة: أن يكونوا من أهل الكتاب، وأن يشهدوا شهادة الحق على الصفة التي بينتها آية المائدة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيانها.
إذا ثبت هذا، فالأصل أنه لابد أن يكون الشاهد مسلماً، لكن تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض، وهذا في مسألة أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا، وقد وقع هذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما زنى اليهوديان ورفعت القضية إلى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فدعا ابن صوريا وسأله فقال: نجد في التوراة أنه إذا شهد أربعة أنهم رءوه.
الحديث، (فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهود فشهدوا)، فهذا يدل على أنه تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض، وهل هذا يختص باتحاد الملة أم نقبل شهادة الكفار إذا اختلفت مللهم؟ هذا فيه تفصيل سيأتي إن شاء الله في باب الشهادات.
الشرط الثاني: العقل، فلا تقبل شهادة المجنون بالزنا؛ لأن المجنون مرفوع عنه القلم كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: المجنون حتى يفيق)، ولأن المجنون لا يوثق بقوله، ولا يوثق بخبره، فسقط اعتبار شهادته؛ ولأن المجنون لا يتكلم عن علم، والأصل في الشهادة أن تكون عن علم.
الشرط الثالث: أن يكون بالغاً، فلا تقبل شهادة الصبي، فلو شهد الصبي -مميزاً كان أو غير مميز- لا تقبل شهادته؛ لأنه في حكم المجنون، وليس عنده عقل يردعه ويمنعه؛ ولأنه مرفوع القلم ولا يؤاخذ، فيمكن منه الكذب لذلك.
الشرط الرابع: أن يكون عدلاً، فلا تقبل شهادة الفاسق، ولذلك قال الله تعالى فيمن فسق بالقول: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، فالفاسق ساقط القول، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، ونبأ نكرة، أي نبأ وأي خبر {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، فلو كان الفاسق مقبول القول والشهادة لما توقفنا في قبول خبره، فأمرنا الله أن ننتظر حتى نعلم صدقه من كذبه، فدل على أن قوله المجرد ليس بحجة، وأن شهادته ليست موجبة للحكم، والفاسق لا يوصف بالفسق إلا إذا أخل بما يجب، فإذا عُلم منه الإخلال في حق الله وحق عباده؛ لم يؤمن منه أن يخل في شهادته، ومن هو العدل؟ العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فلا تقبل شهادة الفساق سواءً كان فسقهم من جهة الاعتقاد أو من جهة الجوارح أو من جهة الأقوال.
الشرط الخامس: أن يكون معروفاً بالضبط وعدم الغفلة، فالمغفل قد يظن شيئاً ويتوهم شيئاً ويشهد به، وخفيف الضبط قد ينسى أشياء تضر بشهادته مع الغير؛ لأن الشهود على الزنا قد يُسألون عن أشياء مهمة، فمن حق القاضي إذا شهدوا عنده أن يسألهم عن أشياء يعرف بها صدقهم من كذبهم، فمثلاً لو قال: في أي ثوب رأيته يزني؟ فلربما قال الثلاثة الشهود، مثلاً: كان ثوبه أبيض أو رأيناه بقميص، فإذا كانت عنده غفلة حرف شهادته وغير في الشهادة ووهم، فيضر بنفسه ويضر بغيره، وخفيف الضبط ليس عنده علم يوثق به، والله تعالى يقول في الشاهد المقبول الشهادة: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81]، فهي شهادة عن علم، وخفيف الضبط لا يعلم علماً تاماً؛ لأنه لا يضبط ضبطاً تاماً.
الشرط السادس: ألا يكون عدواً للمشهود عليه، فإذا ثبت أن أحد الشهود الذين شهدوا على المتهم بالزنا بينه وبين المتهم خصومة، أو عداوة قديمة، أو بينه وبينه ثارات، أو بين بيته وبيته ثارات، أو بين أسرته وأسرته ثارات، ويغلب على الظن أنها تحمل على الضرر والأذية؛ فإنها لا تقبل الشهادة في هذه الحالة، قال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث الحاكم وصححه غير واحد-: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين)، الخصم معروف من الخصومة، والضنين هو المتهم كما قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] أي: بمتهم، فالضنين هو المتهم على أحد الأقوال في تفسير الآية، فالشاهد أن الحديث أسقط شهادة الخصوم بعضهم على بعض؛ لأن العداوة تحمل على الحقد والأذية والضرر، ولذلك لا تقبل شهادة الأعداء، فإذا ثبت أن أحد الشهود أو كل الشهود بينهم وبين المتهم عداوة؛ فإنها لا تقبل شهادتهم عليه.
قد نتعرض -إن شاء الله في باب الشهادات- لشهادة الديانة، وذلك إذا اختلفت الطوائف وكانت هناك عداوة بينها؛ فهل تقبل شهادة بعضهم على بعض؟ هذا فيه تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله.(377/3)
حكم الشهادة في غير مجلس القضاء والحكم
قال المصنف رحمه الله: [في مجلس واحد] هو مجلس الحكم والقضاء، فلابد في الشهادة أن تكون في مجلس القضاء، فلا يحكم بشهادة في غير مجلس القضاء، وعلى هذا؛ إذا شهد الشهود الأربعة فإنهم يأتون القاضي في مجلسه ويشهدون هذه الشهادة، وإن شهد اثنان؟ وبقي اثنان، قال بعض العلماء: إذا قال المدعون: أمهلنا يوماً حتى نأتي بالشهود الباقين، يعطون المهلة التي يتمكنون في مثلها من إحضار الشهود دفعاً للضرر عنهم؛ لأنهم ربما كانوا صادقين، فيمكنون ويمهلون، وهذه من مسائل القضاء التي تحصل فيها النظرة والإمهال، ويمكن فيها القاضي المدعي والشاهد وصاحب القضية من استيفاء أدلته وجمع أدلته، بشرط ألا يكون هناك تلاعب أو ضرر.
وقوله: (في مجلس واحد) قالوا: لأن الأصل أن يكون في مجلس واحد، فلو شهد ثلاثة في مجلس، أو جاء أربعة فشهد ثلاثة منهم، وامتنع الرابع؛ فحينئذٍ يقام عليهم حد القذف، وتسقط شهادتهم؛ لأنها لم تستتم العدد المعتبر، لابد أن يكونوا أربعة، ولا نفتح الباب ونقول: ننتظر يمكن يأتي رابع بدون طلب، وبدون أن يكون هناك ما يدل عليه، فهذا لا تقبل شهادته، لكن لو قالوا: عندنا من تقبل شهادته وهو فلان وسنحضره فلا بأس، لكن لو قالوا: هذا شهد وردت شهادته، فنحن يمكن أن نجد رابعاً، فحينئذٍ يقام عليهم الحد، ولا نظرة؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتلاعب من يشهدون بالزنا ويقولون: والله! يمكن أن يأتي رابع يشهد معنا، فالأصل أن تكون الشهادة في مجلس واحد؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة يهود في مجلس واحد، وكذلك عمر رضي الله عنه في قصة المغيرة المشهورة حينما جاء الشهود وشهدوا في مجلس واحد.(377/4)
مضمون الشهادة
قال المصنف رحمه الله: [بزناً واحد] دخل المصنف رحمه الله في مسألة مضمون الشهادة، فلابد أن يشهدوا بفعل زناً واحد لا متعدد، فلو قال اثنان: رأيناه يزني العصر بالأمس، وقال اثنان: رأيناه يزني الصبح، فحينئذٍ شهادة الصبح غير شهادة العصر، فإما أن تكمل بينة أحد الموضعين وإلا جلد الجميع؛ لأن الشهادة ليست بزناً واحد، قد يقول قائل: هذا زان لأنه لو جئنا بالشهادتين ولفقناهما فمعناه أنه زانٍ، نقول: هذا غير صحيح؛ لأن الله أمر أن يشهد أربعة بأنهم رءوه يزني بفعل واحد، وليس بفعل للزنا متعدد، فإذا شهدوا بفعل متعدد فلا تلفق الشهادة، وهذا يسميه العلماء: اتفاق مضمون الشهادة، وهي: أن يتفق مضمون الشهادة زماناً ومكاناً وصفة، والصفة تكون بأمور قد يضطر القاضي إلى الاستبيان منها.
لكن هنا مسألة وهي أن الأصل أن الشاهد لا يعنت، ولا يبالغ القاضي في التضييق عليه: كيف رأيته؟ وكيف كذا؟ ويدخل على الشاهد الأسئلة المحرجة؛ لأنه ربما التبس عليه الأمر، وأدخل عليه الغلط، وهذا معنى قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282]، وهذه المسألة فيها إشكال في بعض الجوانب عند الأئمة، وهي متى يحق للقاضي أن يتدخل في مضمون شهادة الشاهد فيسأله عن أمور، ويستوضح ويستبين، إبراءً للذمة وإحقاقاً للحق وصيانة للقضاء عن شهادة الزور والكذب؟ بعض العلماء يقول: من حقه أن يتدخل، وأعطوه صلاحية أكثر من غيرهم، ويقولون: نحن عندنا متهم، وعندنا مظلوم، حتى يثبت أنه ظالم وأنه مسيء، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بالتحري والضبط، فلابد أن نراعي جانب المشهود عليه، وبعضهم قال: إن الله تعالى نهانا عن أذية الشهود، وقال: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282] فلا ينبغي للقاضي أن يتدخل إلا في أحوال مخصوصة.
من حيث الأصل العام نفرق بين قضيتين، فنقول: الأصل أننا نطالب الشهود أن يبينوا شهادتهم على وجه تتفق به الحادثة، هذا شيء، ومن حق القاضي أن يعرف، هل شهدوا بحادثة واحدة أو متعددة؟ وأن يسأل عن بعض الأمور المهمة لإثبات الشهادة وإثبات الجريمة، يبقى الجانب الثاني الذي شدد فيه أصحاب القول الأول وقالوا: من حقه أن يشدد على الشهود حتى يثبت ويعلم على وجه يصون به القضاء عن شهادة الزور والكذب والخطأ، وبعض المحققين من العلماء يقول: من حقه أن يفعله عند الشك والريبة، فإذا شك وارتاب؛ فإن من حقه أن يتدخل وأن يراعي حال المشهود عليه، وهل يقدم حال المشهود عليه أو الشاهد؟ المنبغي العدل، وأن تكون الأمور على السنن، وإن كان عمر رضي الله عنه أُثر عنه أنه قدم حق المشهود عليه، ولكن هذا قد يكون خاصاً في قضية المغيرة بن شعبة، حينما شهد عليه أبو بكرة وشبل وزياد ومعبد بأنه زنى، فأُحظر الشهود، وشهد أبو بكرة وشبل وزياد ومعبد، ولما أتي بـ زياد قال له عمر رضي الله عنه -كما في الرواية-: ما وراءك يا أبا عفان؟! إني لأرجو ألا يُفضح صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد شهد أبو بكرة أولاً، فقال: ذهب ربعك يا مغيرة! ثم شهد الشاهد الثاني فقال: ذهب نصفك يا مغيرة! ثم شهد الشاهد الثالث فقال: ذهب ثلاثة أرباعك يا مغيرة! ثم رجا الله عز وجل ألا تتم الشهادة؛ لأن مغيرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت فراسته، فلم يأت الشاهد الرابع -وهو زياد - بمضمون الشهادة على السنن، ووصف وصفاً لم يثبت فيه الإيلاج، وقال: إنه رآه على صفة -سنذكر القصة إن شاء الله- ولم ير الإيلاج، فكبر عمر رضي الله عنه وحمد الله، قال بعض العلماء: إن عمر نبه الشاهد الرابع أن يرجع عن شهادته، تعظيماً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، واستشكله بعض العلماء وقالوا: كيف هذا فإنه في هذه الحالة سيجلد الثلاثة ويحكم بفسقهم؟ وأجيب بأن هذا أهون من قتله، فإنه إذا شُهد عليه وهو محصن؛ فسيقتل، قال بعض العلماء: إن عمر ورّى ولم يقل له: ارجع عن شهادتك، لكن جعل له الخيار أن يشهد أو يمتنع، والأصل يقتضي أنه يجب عليه أن يشهد، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: القضية على ما جرت عليه، وعمر رضي الله عنه لم يقصد التورية ولا التنبيه له، وإنما رجا الله عز وجل، وحقق الله رجاءه، وكان رضي الله عنه محدثاً ملهماً، فما يقول لشيء أُراه وأظنه إلا وافق الحق.
فالشاهد من هذا: أنه بالإمكان أن يدقق القاضي في الشهادة عند الشك والريبة، فإذا شك وارتاب؛ ففي هذه الحالة من حقه أن يدقق حتى ننصف المشهود عليه، خاصة إذا كان محصناً والأمر سيفضي إلى قتله ورجمه.
قال المصنف رحمه الله: [يصفه أربعة ممن تقبل شهادتهم فيه] يصف الزنا أربعة وصفاً خالياً من الاحتمال، خالياً من اللبس، والشريعة تراعي الأدب والكمالات والمروءة، ومن ذلك ألا يُتحدث صراحة بالأمور المستبشعة مما يحدث بين الرجل وامرأته، ومما يوصف به الفرج، ونحو ذلك، والله عز وجل يقول في كتابه: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]، {طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله يُكني، وهذا من أدب القرآن، حيث أن الله علم عباده الأدب، ولكن انظر إلى كمال هذه الشريعة ودقتها، فإذا جاءت الأحكام الشرعية والمسائل الشرعية، واحتاج العالم أو الفقيه أو القاضي أو المفتي أو المعلم أن يصرح بهذه الأشياء؛ فيأتي بها صريحة ولا يأتي بها محتملة؛ لأنه إذا جاء بها محتملة ربما ضاعت حقوق الناس، ولذلك لابد أن يسأله عن الجماع وعن الزنا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أدخل ذلك منك في ذلك منها؟)، (أنكتها؟) لا يكني صلوات الله وسلامه عليه، كل هذا حتى لا تذهب حقوق الناس، ولو كانت على الكنايات والاحتمالات لربما شهد الشاهد كناية حتى يخدع القاضي، ولذلك في هذا الموضع لابد من التصريح، وأن يقول: إنه رأى ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة وكالرِّشاء في البئر، ولا يشترط أن يقول: كالمرود في المكحلة وكالرشاء في البئر، فإذا قال: رأيت ذكره في فرجها والجاً أو داخلاً، فهذا يكفي، لكن بالنسبة للأصل كما جاء في قصة اليهوديين، أنه صلى الله عليه وسلم سأل ابن صوريا (ما الذي يجدونه في التوراة؟) فذكر أن فيها أن يشهد منا أربعة أنهم رءوا فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، وهذا يدل على حصول الدخول والإيلاج، وأنه لا يكفي أن يرى امرأة تضاجع رجلاً، أو يرى امرأة مع رجل متجردين، فهذا لا يكفي؛ لأنه ربما حصل التجرد ولا يحصل الإيلاج، ولربما كان بصفة دون الوطء، فإذاً لابد أن يصفوا الزنا.
ومن هنا قيل في قصة المغيرة رضي الله عنه أنه هو الذي أفحم الشاهد، وهذا قول من يقول: إن عمر لم يكنّ، وذلك أنه لما شهد الثلاثة وجاء الرابع، وأراد أن يصف قال له: يا أمير المؤمنين! سله أرآني مقبلاً أو مدبراً؟ يعني: رآني من جهة الأقدام أو من جهة الوجه، فقال: رأيته مدبراً، وهذا قيل في قضية شبل فقال: يا أمير المؤمنين! هي امرأتي وكنت أجامعها، فهذا من الأشياء التي يحصل بها التأكد من الزنا؛ لأنه ربما وطئ زوجته، وربما كان مجامعاً لأهله، وعلى هذا فإنه لا يستقيم أن تقبل الشهادة هكذا، يقول: فلان رأيناه يزني، بل لابد أن يصرح بالزنا، ويصفه وصفاً خالياً من الاحتمالات.
قال المصنف رحمه الله: [سواءً أتوا الحاكم جملة أو متفرقين] عندنا مسألتان: المسألة الأولى: إتيان الشهود، والمسألة الثانية: مجلس الحكم، فالقاضي إذا جلس في الصباح مجلساً واحداً وأتاه الأول: الساعة الثامنة، والثاني: الثامنة والنصف، والثالث: جاءه التاسعة، والرابع: جاءه العاشرة، فهذه شهادة واحدة في مجلس واحد، لكنهم أتوا متفرقين، فالتفرق مع اتحاد المجلس لا يضر؛ لأن هذا لا يشكل مع ما تقدم؛ لأن الشرط اتحاد المجلس، واتحاد المجلس تكون معه شهادة المتفرقين والمجتمعين، قالوا: الشهادة المتفرقة كقضية المغيرة، وشهادة المجتمعين هي الأصل، والله عز وجل لم يفرق بين الشهود متفرقين أو مجتمعين.
ولكن إذا جاءوا مجتمعين فإن أسئلة القاضي تنكشف أكثر مما لو فرقهم، فإذا جاءوا مجتمعين فللقاضي أن يفرقهم ويسأل كل واحد منهم على حدة، ويقول للأول مثلاً: متى وقع الزنا؟ قال: رأيته يزني في الصباح، فيقول: داخل المدينة أو خارج المدينة؟ قال: داخل المدينة، يقول: هل كانا متجردين أو على بعضهما بعض الثياب؟ صف ذلك، ويكون هذا الكلام بغيبة البقية، ثم يأذن للثاني ويسأله، ثم يأذن للثالث ويسأله، والرابع ويسأله، حتى يستبين من الشهادة؛ لأنه لو سألهم أمام بعضهم البعض لاتفقت كلمتهم، ولقن بعضهم بعضاً الجواب، فله إذا جاءوا مجتمعين أن يفرقهم للاستبيان والتأكد.(377/5)
حكم من حملت ولا زوج لها ولا سيد
قال المصنف رحمه الله: [وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بمجرد ذلك] الأصل الشرعي أن المرأة إذا كانت منكوحة وذات زوج فإن الولد للفراش، ولا يجوز اتهامها بأن هذا الولد ليس بولدها، وإن كان المتهم زوجها فيلاعن أو يقام عليه الحد، وإن كان غيره فيثبت ذلك أو يقام عليه الحد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش)، فأثبت أن المرأة إذا كانت فراشاً لرجل أنه يلحق الولد به، وهكذا إذا كانت أمة؛ لأن أصل الحديث في قصة عبد بن زمعة، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما في يوم الفتح، والشاهد من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش)، فجعل الأمة التي كانت لـ زمعة تابعة للفراش، ولذلك قالوا: إذا كانت أمة يطؤها سيدها؛ فالولد لذلك السيد، وكذلك إذا كانت زوجة، فالولد لذلك الزوج، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش).
لكن لو حملت وهي بكر، أو طلقت وبانت من زوجها ومضت مدة أكثر الحمل، يعني بعد أربع سنوات من الطلاق؛ لأنه تقدم معنا في الطلاق ومسائل الإلحاق أنها تمضي إلى أكثر مدة الحمل، فمضت إلى أكثر مدة الحمل، ثم فوجئ بها وهي حامل، فهل مجرد حمل المرأة دليل على زناها إذا لم تكن ذات زوج وثيب؟ للعلماء والأئمة رحمهم الله في ذلك قولان: القول الأول: إن الحمل ليس دليلاً على الزنا، ولا تحد المرأة بمجرد الحمل، وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث، وهو مروي عن عمر بن الخطاب في إحدى الروايتين عنه رضي الله عنه وأرضاه.
القول الثاني: إن حمل المرأة غير ذات الزوج والثيب دليل على زناها، فيقام عليها الحد، فترجم إن كانت محصنة بأن طلقت ثم حملت على هذا الوجه، وتجلد وتغرب إن كانت بكراً، وهذا مذهب المالكية وطائفة من السلف رحمة الله على الجميع، وهو رواية أخرى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
روي عن عمر القولان: القول الأول: في خطبته عندما ذكر حد المرأة إذا زنت وقرأ آية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكم) وقال: إذا كانت البينة أو الحبل، فجعل الحمل دليلاً من أدلة الإثبات في المرأة إذا لم يكن لها زوج ولا سيد.
القول الثاني: في قضية امرأة كانت بمكة، وكان عمر في الموسم أو في عمرة من عمره رضي الله عنه وأرضاه، فأُتي بامرأة كانت بكراً وهي حامل، والناس يريدون جلدها، فسأل عن حالها، فأخبر أنها من بيت صالح، وأنها امرأة صالحة مستقيمة، فدعا بها وسألها وقال: ما بكِ؟ قالت: إنني كنت أصلي من الليل ما شاء الله، ثم غلبتني عيناي فلم أشعر إلا وقد اعتلاني رجل وقذف فيّ كالكوكب أو كالشهاب، فعلم عمر رضي الله عنها غفلتها مع أنها معروفة ببيت صالح وبيئة صالحة، فأسقط عنها الحد، ولم يقم عليها الحد، وكتب إلى الآفاق ألا يقتل بمجرد الحمل حتى يكتب إليه.
ولكن هل هذا رجوع من عمر عن قوله الأول، أو تخصيص من عموم الأصل؟ للمسألة وجهان: إن قلنا: إن عمر رضي الله عنه ذكر البينة والحمل كدليل ما لم توجد شبهة تدرأ الحد، فحينئذٍ يبقى الحمل من أصله دليلاً وحجة، لكن إذا وجدت قرائن تدل على إسقاط الحد، مثل أن تدعي المرأة أنها غلبت أو أكرهت أو سُقيت منوماً أو نحو ذلك؛ قُبل قولها وسقط الحد عنها؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور:13]، فجعل الأصل قائماً على البينة، وهي الشهادة، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة لرجمت هذه) فجعل البينة في الأصل الشهود، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف خلافاً لبعض العلماء الذين يرون عمومها، ولكن الأصل في البينة هذا، قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما حينما قذف هلال بن أمية امرأته بـ شريك بن سحماء -: (البينة أو حد في ظهرك) وقد أجمع العلماء أنه لا بينة في الزنا إلا الشهود، وهذا يدل على أن الشريعة تطلق البينة عموماً وتريد الخصوص وهو شهادة الشهود.
وعلى كل حال الأشبه أنه لا يقام الحد إلا بالبينة على ظاهر النص، ويقال: إذا وجدت الشبهة اندرأ الحد، وعلى هذا فقول الجمهور الذين يقولون بالبقاء على الأصل أولى وأحرى؛ لأنه لم يرد نص في الكتاب والسنة باعتبار الحمل دليلاً على ثبوت الزنا.(377/6)
الأسئلة(377/7)
الشهادة على الزنا بآلات التصوير
السؤال
هل تقوم آلات التصوير الحديث مقام الشهود في إثبات الزنا، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه وسيلة ناقصة، ولا تعتبر موجبة لثبوت الحد، فهذه الأشرطة وهذه الصور لا يُعمل بها ولا يعول عليها، ولا تعتبر دليلاً يثبت الجريمة، التشابه موجود، وربما يكون فعل هذه الفعلة من زمان قديم ثم تاب بعدها وأصلح، وكذلك الآلة ليس فيها تكليف يمكن أن يبنى عليه الحكم الشرعي، ومن أقوى الأدلة على رد مثل هذه القرائن ما ثبت في الصحيح في قصة المرأة في اللعان التي تلكأت، شهدت المرأة وشهد الرجل ثم قال عليه الصلاة والسلام: (الله أعلم أن أحدكما كاذب، حسابكما على الله) ثم قال: (انظروا إليه -يعني: الولد الذي ستأتي به- فإن جاءت به خدلج الساقين وكذا وكذا) وذكر صفة، فهو للرجل الذي اُتهمت به، وهي كاذبة، وزوجها صادق، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو لزوجها، وهو كاذب، فجاءت به على صفة الزاني فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة -يعني: من غير الشهود- لرجمتها) فقطع كل الأدلة، هذا دليل واضح ما فيه إشكال؛ لأنه حتى القافة يستطيعون أن يقولوا: هذا ولد هذا، وينسبوه لأبيه، لكن الشريعة جعلت الأمر تعبدياً، وجعلته للشهود، وجعله للشهود فيه حكم عظيمة، وحتى الشاهد نفسه يندب له الستر وألا يفضح، فهناك أمور تعبدية وأحكام شرعية مُنبنية على وجود الشهادة، فهذا الحكم هو الأصل الشرعي.
ممكن شخص يأتي ويرفع السلاح ويقول له: ازن بالمرأة، ولما يزني يصوره معها، ليس قضية وجود الجريمة وحدها كافياً، ممكن أن يهدد الرجل ويهدد المرأة، وممكن أن يأتي بامرأة على صفة المرأة، ويأتي برجل على صفة الرجل، ما يمتنع هذا، هذا سهل، الوسائل هذه ليست كالشهود الذين يدخلون على الرجل في حالة لا إكراه له فيها، ولا شبهة له تمنع من إقامة الحد عليه، وإذا امتنع من الاعتراف يشهدون عليه، فهذا كله على وجه واضح بين، وفيه أمر التعبد كما ذكرنا، والله تعالى أعلم.(377/8)
الفرق بين شهادة الشهود والإقرار بالزنا في اعتبار المجلس الواحد
السؤال
أشكل عليَّ لماذا اشترط المصنف رحمه الله في شهادة الشهود بالزنا أن تكون في مجلس واحد، ولم يشترط ذلك في الإقرار بالزنا، مع أن كلا الأمرين يثبت بهما الزنا، أثابكم الله؟
الجواب
لأنه إذا أقر على نفسه في مجلس أو مجالس متعددة، فهو قد أثبت أنه زنى، وبعبارة واضحة الشهادة كبينة تتجزأ، لكن الإقرار من الشخص نفسه ما يتجزأ، توضيح ذلك: إذا شهد شاهدان أنه زنى بعد العصر أمس، وشهد شاهدان أنه زنى الصبح أول أمس، فالزنا الأول غير الزنا الثاني، لابد أن تكتمل بينة الأول، وتكتمل بينة الثاني.
إذاً: إذا أقر في مجلس واحد أو أقر في مجالس متعددة فقد شهد على نفسه بالزنا؛ لأن المرة الواحدة منه في الزنا كافية بإقراره، وهو يقصد تلك المرة، وأما إذا تعددت المجالس وفتح باب التعدد؛ لما استطعنا أن نقيم الحد على شهود نقصت شهادتهم أو ردت؛ لأنهم يقولون: سيأتي واحد، أو سنبحث عن من يعضد شهادتنا؛ لأن المجالس متعددة، ولذلك لا يعطون مهلة إلا لمجلس واحد، فإذا تيسر ذلك أو أُقيم عليهم الحد فلا إشكال.
وعلى هذا نقول: إن المجلس الواحد في الشهادة غير المجلس الواحد في الإقرار؛ لأنه إذا أقر على نفسه بالزنا ولو تكرر منه الزنا مائة مرة فإقراره بالمرة الواحدة صادق على أي زنية، ولكن إذا تعدد المجلس في الشهادة فإنه يكون لأكثر من زنية ولأحوال متعددة، ولذلك لا يثبت به الحد كثبوته في الإقرار، والله تعالى أعلم.(377/9)
حكم إعطاء الأم من الزكاة
السؤال
أريد إخراج الزكاة، فهل يجوز أن أعطيها لأمي وهي في أمس الحاجة إلى المال، أثابكم الله؟
الجواب
الأم لا تعطى الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الولد مع والديه كالشيء الواحد، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني) فجعل فاطمة بضعة منه عليه الصلاة والسلام؛ أي: أن الولد قطعة من الوالد، فإذا أعطيت الزكاة لأمك؛ فكأنك أعطيتها لنفسك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ولذلك لا تعطى الزكاة لا للوالدين ولا للأولاد.
ولكن -أخي في الله- عليك أن تتقي الله في أمك، وأن تحسن إلى والدتك، وأن تحاول أن تتفقد مواطن النقص فيها فتكملها، وأن تجبر كسرها، وأن تكون معها كما أمرك الله {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] كيف تكون ابناً باراً بها وعندك المال الذي تزكيه ووالدتك في أمس الحاجة إلى مالٍ قليل لا يساوي إلا اثنين ونصف من مائة من مالك؟ اتق الله في نفسك، واتق الله في والدتك، وعلى هذا لا تعطها الزكاة، ولكن أنفق عليها بالمعروف حتى تغنيها، عل الله أن يرد عليك بأضعاف، ويجزل لك الخير في مالك، والله تعالى أعلم.(377/10)
توجيهات تتعلق بدروس الشيخ في شرحه لعمدة الأحكام بجدة والمدينة
السؤال
هل تنصحنا أن نأخذ مذكرات عمدة الأحكام القديمة التي في جدة، أو مذكرات عمدة الأحكام التي -حفظكم الله- تشرحونها في المدينة، أثابكم الله؟
الجواب
عمدة الأحكام التي في جدة تكمل التي في المدينة، والتي في المدينة تكمل التي في جدة، عمدة الأحكام شرح الحديث، لكن عمدة الفقه فهو في الفقه، ودرس عمدة الفقه القديم الذي في المدينة لم أسمح للتسجيلات أن تبيعه، وأحب من طلاب العلم أن ينبهوها على ذلك، ومن باع تلك الأشرطة فقد آلمني بذلك؛ لأنها قديمة، وهناك مسائل رجعت عنها، والحرم يغني عنها، فأحب أن تنبهوا التسجيلات على هذا، درس المدينة القديم هذا لم أسمح به، ونبهت أكثر من مرة على أنه لا ينشر؛ لأن هناك شرحاً ثانٍ أوسع وأكثر توضيحاً للمسائل التي رجعنا عنها، ووجه الرجوع، فينبه على ذلك، ويستغنى بدرس عمدة الفقه الموجود في الحرم، نسأل الله أن يجعله خالصاً لوجه، وأن يعين على إتمامه.
أما عمدة الأحكام في المدينة وفي جدة، فأنا عندي منهج أسأل الله أن يعينني عليه، وهو أنني لا أحب تكرار المسائل أو المنهج في كتاب واحد أشرحه مرتين أو أكثر، ولا أريد طالب العلم أن يقتصر بكتاب على آخر، وأرجو من الله أن يفتح عليَّ في جدة، ويفتح عليَّ في المدينة، فالذي يريد أن يستغني بدرس المدينة أظن أنه لا يستغني عن درس جدة، في درس جدة فوائد كثيرة، وأيضاً الذي يصبح جداوي: سيفوته خير كثير من الشرح المدني، وعلى كل حال: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وهما عينان في الرأس، لكن أظن اليمنى الذي في المدينة، وإن شاء الله يكون في كلا الشرحين خير، في درس جدة بعض المسائل توسعت فيها وأسهبت، وفيه بعض الجوانب التربوية، ودرس المدينة أيضاً فيه جوانب طيبة، وعلى كل حال: المعول كله على القبول من الله عز وجل، والمعول كله على ما خلص وأُريد به ما عند الله، نسأل الله أن يوفقنا لذلك، والله تعالى أعلم.(377/11)
تحية المسجد لا تنقض الوتر
السؤال
هل تحية المسجد تنقض الوتر، أثابكم الله؟
الجواب
لا تنقض تحية المسجد الوتر، ولا تنقضه ركعتا الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر ثم صلى ركعتين بعد الوتر، والسنة أن تجعل الوتر آخر صلاتك بالليل، ولكن إذا دخلت المسجد بعد وترك فصلِ ركعتين، أو توضأت فصلِ ركعتين، وهذا لا ينقض الوتر، والله تعالى أعلم.(377/12)
حكم الاستفتاح في صلاة الجنازة
السؤال
هل أستفتح في صلاة الجنازة؟
الجواب
السنة عدم الاستفتاح في صلاة الجنازة؛ لأنه ورد في حديث علي وابن عباس رضي الله عنهما أنه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح فيها، وأنه اقتصر على الفاتحة، ولم يذكر دعاء الاستفتاح، وبعض العلماء قال بدعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة ولكنه قول ضعيف، واستدل بالعموم، (كان إذا استفتح الصلاة) ولكن الأقوى والأشبه أن المبين مقدم على المجمل، والمفصل مقدم على المجمل، فنأخذ بحديث ابن عباس وعلي رضي الله عنه لما اختلفت صورة الصلاتين، وهنا لا يعترض المعترض بالنافلة والفريضة بأننا دائماً نأخذ عمومات النافلة ونجعلها أصلاً للفريضة؛ لأن صورة صلاة الجنائز مختلفة عن صورة الصلاة الأصلية، ومن هنا قوي أن تخص بأحكامها، وألا يعمل بالعموم على هذا الوجه في هذه المسألة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(377/13)
شرح زاد المستقنع-باب حد القذف [1]
من أعظم الفتن النازلة في زماننا، التكلم في أعراض العلماء والدعاة بلا علم باسم الدين، وهذه محنة عظيمة، عواقبها وخيمة، وشرورها كثيرة، وقد حرم الله ورسوله أن تنتهك الأعراض، وأعراض العلماء والدعاة والصالحين أشد حرمة، فوجب الحذر والتحذير من هتك أعراضهم.(378/1)
معنى القذف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد القذف] القذف في لغة العرب: الرمي، يقال: قذف بالشيء إذا رماه، والمراد به في الشريعة المعنى الخاص وهو الرمي بالفاحشة، وقولنا: بالفاحشة، المراد بها الزنا أو اللواط، وعلى هذا إذا اتهم شخصٌ شخصاً وقذفه بالفاحشة زناً أو لواطاً؛ فإنه قاذف، والعرب تجعل هذا المعنى الخاص من معاني الرمي، ويقال: رماه، إذا اتهمه، فالرمي هو التهمة: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني والقذف باب عظيم، وهو حد من حدود الله عز وجل، اجتمع فيه دليل الكتاب والسنة، تعظيماً لشأنه، وتحذيراً للعباد منه، ومن أعظم الورطات التي تهلك الإنسان في دينه، ودنياه، وآخرته؛ أن يكون طليق اللسان في اتهام عباد الله عز وجل، وإذا أرادت عيناك أن ترى رجلاً يتقحم نار الله على بصيرة؛ فانظر إلى ذلك الذي لا يتورع عن اتهام الناس، والوقوع في أعراضهم، ويسهل عليه القبائح والأمور التي لا تليق بالمؤمنين والمؤمنات، فإذا وجدته كذلك، وسهل عليه أن يلفق التهم في الدين والعرض؛ فاعلم أنه من أعداء الله ورسوله، ولو تقمص في ذلك ثوب النصيحة وثوب الإحسان، فإن الله لا يطاع من حيث يُعصى، وما من مؤمن يقرأ نصوص الكتاب والسنة متجرداً إلا أورثه ذلك الخوف من الخوض في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وعلم أن اللسان يقوده إلى النار شاء أو أبى إذا لم يردعه بالخوف من الله سبحانه وتعالى.
ولذلك حذر الله عباده وإماءه من الخوض في أعراض المؤمنين، وجعل المسلم الحق على لسان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم من عرف كيف يزم لسانه، فسلم المسلمون من ذلك اللسان، فلا يتهم مؤمناً أو مؤمنة بالزور والباطل، وكان السلف الصالح رحمهم الله يشددون في هذا الأمر أيما تشديد، فإذا أرادت عيناك أن ترى إنساناً مؤتسياً بالسلف؛ فانظر إلى ذلك الورع الذي يخاف الله في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وإذا أرادت عيناك أن ترى عالماً بحق يلتزم منهج السلف في الخوف من الله ومن أعراض المؤمنين والمؤمنات؛ فانظر إلى ذلك العفيف اللسان، الذي يربي طلابه وأتباعه على ذلك.(378/2)
أنواع القذف
القذف قذفان: قذف في الأعراض، اعتنى القرآن ببيانه؛ لأنه يقع بين العوام كثيراً، وهناك قذف أعظم منه وأشد منه، وهو حديثنا في هذه اللحظات، ونمهد به لهذا الباب العظيم، ألا وهو قذف العلماء، خاصة سلف هذه الأمة، وقذف الصلحاء، وقذف الدعاة إلى الله عز وجل، وأهل الخير وأهل الاستقامة، والتهكم والسخرية بهم، والحط من أقدارهم وحرماتهم، وانتقاصهم، وسهولة ذلك على اللسان، حتى يصبح الإنسان صفيق الوجه -والعياذ بالله- لا يرعوي، ويأتي أمام الناس يشهر بهم، فلا عقل يردعه، ولا دين يمنعه، وعندها فليقل عن نفسه ما شاء، وليأخذ بمفاتيح الجنة مزكياً ومثنياً على نفسه، وليجعل نفسه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم كأنه حفيظ عليها ومسيطر عليها، يبدع من شاء، ويفسق من شاء، ويضلل من شاء، ما كنا نعرف هذا بين أهل العلم رحمهم الله، ووالله! لقد رأينا علماء أجلاء، تحمر وجوههم وتصفر ألوانهم؛ إذا ذكر عوام المسلمين فضلاً عن صالحيهم، فضلاً عن علمائهم، فضلاً عن خيارهم، فضلاً عن سلفهم الصالح الذين زكتهم الأمة، علماء أجلاء أطبقت الأمة على جلالة قدرهم، وحفظ مكانتهم كالإمام أبي حنيفة رحمه الله برحمته الواسعة، تجد من لا علم عنده، ولا فضل لديه، يتطاول على أمثال هؤلاء العلماء، وكأنهم سوق للألسنة!! نقول هذا؛ لأننا نعلم أن الله سيسألنا ويحاسبنا عن عدم التنبيه على ذلك، وسنلقيها من على ظهورنا أمانة لكم ولغيركم أن تحذروا أمثال هؤلاء، من يوم مشهود ولقاء موعود تُرْهَن فيه الألسنة بما قالت، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
كان السلف الصالح رحمهم الله يجرحون، لكن متى؟ إذا بلغت الحلقوم، وما كانوا يرون التجريح إلا عند الحاجة الماسة، وكان الرجل منهم يرعد قلبه من الخوف من الله عز وجل، جلس أحد أئمة الحديث فتكلم في الرجال، فمر عليه أحد العلماء الصالحين -والقصة مشهورة- وقال له: لعلك تجرح في أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة منذ سبعين عاماً، فخر مغشياً عليه، ما قال: هذا عدو للسنة، هذا عدو للحديث، أبداً؛ لأنهم كانوا يتهمون أنفسهم بالخطأ، وكان الرجل إذا تكلم في أحد بما يجرحه؛ يتكلم بعبارات شديدة ولكن عند الحاجة الماسة، ولا يتكلم إلا في حدود ضيقة، وبأساليب محدودة محسوبة؛ لأنه يعلم أنه سيسأل بين يدي الله عز وجل عن قوله.
إن أعراض المسلمين ليست رخيصة، وما كانت أفكارهم ولا عقائدهم مكشوفة أمام الناس حتى أن الشخص يشق عن قلب الرجل، انظر في السنة تجد فيها أدب في كف الألسنة عن الأعراض، تجد فيها وعيد شديد عن الدخول في قلوب الناس واتهام عقائدهم، قال: (يا رسول الله! ما قالها إلا فرقاً من السيف)، هذا حديث واضح، ما قال: (لا إله إلا الله) إلا لما علاه الصحابي رضي الله عنه بالسيف، وما قالها قبل ذلك، التهمة واضحة، وبساط المجلس دال على أنه قالها فرقاً من السيف، فقتله، فقال له رسول الهدى صلى الله عليه وسلم -مع هذه الدلائل كلها-: (أشققت عن قلبه؟) وهو رجل كافر أسلم، فيقول له: (أشققت عن قلبه؟) فما زال يرددها عليه، قتله ثم قال: إنه قالها فرقاً من السيف، وهكذا كل من قال هذه الكلمة في حق إنسان دون أن يستبين أو يخبره عن مكنون قلبه؛ فنقول له: أشققت عن قلبه؟ ولذلك قل أن تجد إنساناً يتهم الناس إلا ويقول لك: هو يقصد كذا، وهو يعني كذا، وإذا أراد الإنسان أن يعلم حقيقة الإسلام والالتزام فليتدبر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه).(378/3)
التحذير من الخوض في أعراض العلماء والدعاة
إن استطعت ألا تغيب عليك شمس يوم وأنت مرهون أمام الله بعرض مؤمن أو مؤمنة، إن استطعت ألا تغيب عليك شمس يوم وأنت مرهون بعالم من علماء المسلمين أو إمام من أئمة الدين؛ فافعل ذلك، ما لم تكن محتاجاً للجرح، لكن من الذي يحتاج؟ هل هم البسطاء وطويلبي العلم أم الأئمة والعلماء الذين يكشفون ويبينون؟ ثم إذا كشف العلماء، فكم من أخطاء كشفت وما قامت الدنيا ولا قعدت؟ فالجرح لا يلقن لعوام المسلمين الذين يحتاجون بدهيات المسائل لسلوكهم وأخلاقهم ودينهم وعقيدتهم، فقد تجد الواحد منهم لا يحسن أحكام صلاته، ولا مسائل السهو في عبادته، ولا حجه ولا عمرته؛ ومع ذلك يلوك لسانه في أعراض المسلمين: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، منهم من ظل يلفق الأخطأ بالدعاوي العريضة والتضخيم دون أن تجد عنده ورعاً، أئمة الجرح والتعديل عرفوا بالورع، قال الإمام النووي رحمه الله وغيره من الأئمة: إن من يتكلم في الجرح والتعديل ينبغي عليه أن يصون نفسه صيانة عظيمة خوفاً من أن يسترسل فينتقل من الجرح لله والتعديل لله إلى الجرح لهوى النفس؛ لأن النفس ضعيفة، والله يقول: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28].
نقول هذا؛ لأنه من أعظم الفتن، والله عز وجل يحذر عباده من العرض، وما من أحد يرمي مسلماً أو مسلمة فيقذف المحصنات المؤمنات الغافلات إلا لعنه الله في الدنيا والآخرة، فإذا رمى مؤمنة أو مؤمناً لعنه الله في الدنيا والآخرة، وأعد له عذاباً عظيماً، وفضحه على رءوس الأشهاد، ثم يفضحه بأن يتكلم لسانه بأنه كذاب، وتتكلم عليه جوارحه، حتى رجله ويده تنطق بأنه من أهل الزور لا من أهل الصدق، ومن أهل الخيانة لا من أهل الأمانة، ولذلك ينبغي للمسلم أن يجعل هذا النص أمام عينيه، وهو هذه الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]، وهذا عظيم والله! ما هو بالسهل، والله إذا وعد لا يخلف الميعاد، والله يعفو عن حقه لكن لا يعفو عن حقوق عباده، عجبت من رسول الهدى يمر على مقبورين يشتعل عليهما القبر ناراً وعذاباً، وهو رسول الهدى يشفع فيشفع، فقال: (أما هذا فقد كان يمشي بالنميمة!) وأُذن له أن يضع الجريد حتى ييبس فقط، ولا يمكن أن يرفع العذاب عنه؛ لأنه وقع في إخوانه المؤمنين وأفسد ما بين المؤمنين.
وهنا تجد من ينقل الأحاديث للجرح والتعديل، في العلماء، وفي الصلحاء، وفي الأتقياء، هل نسكت ولا ننبه على هؤلاء؟ وإذا جاء من ينبه قال: والله! هذا عدو للكتاب والسنة، حشفاً وسوء كيلة؛ لأن اللسان إذا زل زلت توابعه، فتجده لا يرعوي، وتحذره ولا يحذر، ثم بعد ذلك يتهم من يحذره ومن ينبهه، والله الموعد، فإذا قُلِب الإنسان إلى قبره ووضع في لحده قال الله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، في تلك الساعة تنجلي الغشاوة، وينجلي الكذب، وتنجلي التزكية للنفس، ويجازى على التهكم في حدود الله عز وجل ومحارمه.
على الإنسان أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأن الله يتولى عباده المؤمنين، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196]، تصور يوماً من الأيام، جاءك شخص وقال لك: والله! سمعنا في المجلس من يقول عنك: إنك تستعجل، تقوم الدنيا عليك ولا تقعد، وتذهب إلى فراشك لكي تنام، فتجد أن مضجعك قد تغير عليك، وأن الليل القصير صار ليلاً طويلاً بكلمة: إنك عجول، فكيف إذا قيل: والله سمعت أن الداعية فلاناً يقولون عنه كذا، والداعية الفلاني يقولون عنه كذا؟ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، إذا كان منامك لم يطب لك عندما يقال لك: عجول، ويقال لك: مستعجل في الأمور، فكيف يطيب لأولياء الله وقد اُتهموا في عقائدهم، وقد اُتهموا فيما بينهم وبين ربهم؟ إلى أي حد بلغت الغفلة بالإنسان أن يصل إلى درجة -والعياذ بالله- لا يعرف قيمة الكلام في عقيدة الناس؟ إلى متى يبقى الإنسان غافلاً عن أعظم الأشياء للناس فيما بينهم وبين ربهم؟ والله يقول عن النبي عليه الصلاة والسلام: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:107]، وهذا يقيم نفسه وكيلاً على من؟ إذا كان رسول الهدى على كفار يخاطبه الله بذلك! فكيف بمن أقام نفسه على أولياء الله وعباد الله؟ ويل لمن جرح عالماً صلى الفجر في جماعة فكان في ذمة الله، فطلبه الله بذمته، فعندها: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
وقل أن تجد قلباً خاشعاً، أو لساناً ذاكراً موفقاً مسدداً وهو جريء على أعراض المسلمين، ومن هذا المجلس اعرف ما الذي لك وما الذي عليك، واعرف من هم علماء الأمة وسلف الأمة، واعتقد فضلهم، واعتقد مكانتهم، علماء أجلاء سقطوا من أعين الناس، وعلماء عظم بلاؤهم، وقادوا هذه الأمة سنيناً وقروناً، ومع ذلك ذهبوا أدراج الرياح عند الذين انطمست بصائرهم -والعياذ بالله- وزلت أقدامهم.
شيخ الإسلام له كتاب: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكلمة الأعلام من شيخ الإسلام ليست سهلة، وهو إمام من أئمة الجرح والتعديل، فيذكر أولهم الإمام أبا حنيفة رحمه الله برحمته الواسعة، ثم ذكر الإمام مالكاً والشافعي وأحمد، ما عاش علماء الأمة إلا على المحبة، ما عاشوا إلا على التقدير، ما عاشوا إلا على معرفة منازل أهل الفضل، وهل يعرف الفضل إلا أهله؟ وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كامل الإمام أبو حنيفة رحمه الله في جلالة قدره وعلو شأنه إمام عظيم، نسأل الله بعزته وجلاله أن ينور قبره، وأن يقدس روحه، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ولنقولنّها وسنقولها إلى أن نلقى الله، بأننا وجدنا له القبول الذي وضعه الله له بين المسلمين، وإن كانت عنده مسائل اجتهد فيها وأخطأ رحمه الله، فغيره اجتهد كما اجتهد والله الموعد، سيجزي الذي أصاب بالأجرين، ويجزي الذي أخطأ أجراً واحداً، ولن نستطيع أن نقفل باب رحمة فتحه الله، ومن هذا الذي ليس عنده عقل ولا تمييز ينظر إلى هذا الإمام الذي وضع له القبول بعين الازدراء! وأئمة السلف كلهم على جلالة قدره ومعرفة فضله، لا يجوز أن تؤخذ الكلمة والكلمتان الطائرة من هذا وذاك؛ فيجرح بها، فهذا الإمام مالك يقول في ابن إسحاق: دجال من الدجاجلة! وما قُبلت كلمة مالك فيه، وقال ابن أبي ذئب في مالك في مسألة الخيار: يُستتاب مالك وإلا قتل! هذه كلمات قد يقولها بعض العلماء ولا يلتفت إليها، ولا ندري حقيقتها، ولا يستدل بها.
والعجيب من هؤلاء أن يستدلوا بهذه الكلمة ونحوها، فإذا ذكرت لهم حجة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في مسائل وتقول لهم: قال الإمام كذا، يقول لك: هم رجال، ونحن رجال، تقولون: قال أبو بكر، وقال عمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! ما شاء الله، متى؟ إذا خالفهم، ثم يأخذون أقوال الرجال في القرن الثالث والرابع ويحتجون بها، في ماذا؟ في نقصان أهل الفضل، وتتبع عورات أهل الكمال والإحسان.
ينبغي للمؤمن أن يربي نفسه على احترام العلماء والأئمة والفضلاء، عكرمة صاحب ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه حمل علم ابن عباس رضي الله عنه؛ لكن تجد الجاهل من هؤلاء المتأخرين لا يرعوي ويتكلم فيه، ويحاول أن ينقص قدره، ويتهمه بالإرجاء والبدعة، ما هذا؟! أهذه هي سوق العلم؟! وهل هذا هو سبيل المؤمنين والمحسنين؟! اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت إليك المشتكى، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يقوم للحق نصابه، وأن يقطع دابر أهل الفساد، فيهدي من كان راضياً هدايته، ويأخذ من كان منهم على ضلاله، وأن يريح العباد والبلاد من شرهم وكيدهم.
سبحان الله! ينبغي أن نجرد أنفسنا لتربية أبناء الأمة على الكتاب والسنة، من هذا الذي يقول: إنه على الكتاب والسنة، وهو من أجهل الناس بأحكام القرآن والسنة؟ ومن هذا الذي يريد أن يربي الناس على الحقد على الأخيار والصالحين ثم يدعي أن ذلك هو منهج الكتاب والسنة؟ لا والله يأبى الله ويأبى رسوله صلى الله عليه وسلم ويأبى الصالحون، وما قلناه سنلقى الله به، ولكن هذا الذي نعلمه من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أدركنا عليه العلماء والصلحاء والأتقياء أنهم يحببون الناس في سلف هذه الأمة علماء وصالحين، ويعتقدون فضلهم، حتى أن بعض علماء العقيدة ذكر من عقيدة أهل السنة الترضي على علماء الأمة من السلف الصالح من الصحابة والتابعين، يقول الإمام الطحاوي: أهل الخير والأثر، والفقه والنظر، هؤلاء كلهم فقهاء الأمة وعلماؤها، لهم جلالة قدرهم، ومكانتهم تحفظ ولا تُضيع، يكرمون ولا يهانون، ويذكرون بالجميل -كذا قال رحمه الله:- ومن ذكرهم بغير ذلك فهو على غير السبيل؛ لأنه شاق الله ورسوله، فالسبيل الأقوم أن تحفظ فضل أهل الفضل.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وقد يل(378/4)
شرح زاد المستقنع - باب حد القذف [2]
القذف من أكبر الكبائر، وهو من الموبقات، وقد شرع الله عقوبات لهذه الجريمة، وحد القذف لا يثبت إلا بشروط يجب توافرها في القاذف والمقذوف، والقذف قد يكون بلفظ صريح وقد يكون بلفظ غير صريح، ولكلٍ حكمه.(379/1)
عظم ذنب قذف المسلمين في أعراضهم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب حد القذف].
تقدم معنا في المجلس الماضي بيان بعض المقدمات المتعلقة بهذه الترجمة، وذكر المصنف رحمه الله: (حد القذف)، وقد بينا أن بعض الأئمة رحمهم الله يرون أن أشد العقوبات بعد الزنا هو حد القذف، وهذا واضح من جهة وجود الرمي بالفاحشة -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- واختلف العلماء رحمهم الله -بعد اتفاقهم على أن القذف من كبائر الذنوب- هل هو من أكبر الكبائر أو هو من الكبائر فقط؟ فذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله: إلى أن القذف يعتبر من أكبر الكبائر، واحتجوا على ذلك بأدلة: منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت)، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر من أكبر الكبائر شهادة الزور، قالوا: والقذف شهادة بالزور، وهو قول زور، بل هو من أشد الزور في حقوق عباد الله؛ لأن صاحبه قد ازورّ عن الحق، أي: مال عنه، فقال قولاً خاطئاً في أعراض المسلمين.
وأكدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا أكثر من ستين باباً، وأهونها مثل أن يأتي الرجل أمه)، والعياذ بالله! وجاء في اللفظ الآخر: (وإن أربى الربا أن يستطيل العبد في حق أخيه المسلم)، فجعل هذا من أعظم الأمور وأشدها، وهذا يؤكده قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:23]، فجمع الله لهم بين لعنة الدنيا ولعنة الآخرة، ثم إن الله قطع ألسنتهم وشهادتهم فقال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، وحكم بعد ذلك بفسقهم، قالوا: فهذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تشدد في أمر القذف، وتبين عظم ما فيه من العقوبة الحسية والعقوبة المعنوية في الدنيا والآخرة، ويقول صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) -قيل: إنها توبق صاحبها، بمعنى: أنها تهلكه- والعياذ بالله (قلنا: ما هي يا رسول الله؟! فذكر منها: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، وهذا كله يؤكد أن القذف ليس بكبيرة فقط، بل هو من أكبر الكبائر وأشدها وأعظمها جرماً والعياذ بالله! بل وأعظمها بلاءً على العبد في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قلّ أن يَسْلَم دين لصاحب لسان يستطيل في أعراض المسلمين بقذفهم والطعن فيهم، وتشويه سمعتهم، وإشاعة السوء بين المؤمنين والمؤمنات، ولمزهم وهمزهم والحط من أقدارهم، ولذلك تجده منطمس البصيرة، قليل التوفيق للحق، قاسي القلب، صفيق اللسان، جريئاً على عباد الله عز وجل، يبدأ بقذف الواحد، ثم يسترسل إلى الثاني وإلى الثالث، يبدأ بالقذف بتهمة وشبهة حتى ينتهي به الأمر -والعياذ بالله- إلى القذف بدون شبهة وبدون تهمة، فبأقل عداوة يقذف ويستطيل، وهذا هو شأن أهل النفاق كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم إذا خاصموا فجروا، فهذا اللسان إذا لم يحكم بتقوى الله عز وجل؛ فإنه مهلكة لصاحبه كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟).
ولذلك نؤكد ما سبق بيانه أنه ينبغي على كل من يريد أن يستقيم على طاعة الله أن يعلم أن الاستقامة استقامة قلب وقالب، والله لو زكّى نفسه وزكّاه من في الأرض جميعاً وهو لا يتقي الله في لسانه؛ فإنه سيورد نفسه الموارد، ولن يغنيه عند الله شيئاً ثناء الناس عليه إذا أظلم قلبه وأصبح لسانه سليطاً، فإذا كان بهذه المثابة؛ فليعلم أن العواقب وخيمة، وأن النهاية أليمة، والله الموعد.
وعلى كل حال: فهذا الباب ذكره الأئمة والعلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله برحمته الواسعة؛ لأنه تضمن جملة من الأحكام والمسائل لخطر عرض المسلم الذي قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بدمه لما خطب خطبة حجة الوداع موصياً للأمة مبيناً لها أمورها المهمة، فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام).
فنظراً لاشتمال هذه الجريمة على الكلام في أعراض المؤمنين والمؤمنات بالزور والباطل، ونظراً لاشتمالها على جملةٍ من الأحكام والمسائل ناسب أن يذكرها المصنف رحمه الله، وهذه الجريمة لها عقوبة ولها حد ولذلك ذكرت في باب الحدود.
يقول رحمه الله: (باب حد القذف) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من المسائل والأحكام التي تتعلق بالقذف.(379/2)
ما يشترط في القاذف
قال رحمه الله: [إذا قذف المكلف محصناً].
هذه الجملة صدر بها رحمه الله مسائل القذف، وهي حكم الله عز وجل على من قذف المحصن -بدون بينة ولا دليل- أنه يجلد حد القذف.
وقوله رحمه الله: (إذا قذف المكلف) والمكلف: تقدم معنا أنه البالغ العاقل المختار، فلا بد أن يكون بالغاً، فلو أن صبياً قال لرجل: يا زانٍ، أنت زانٍ، فرماه بالزنا، أو رمى امرأة بالزنا، فقال لها: يا زانية، نظرنا؛ فمن حيث الأصل الصبي لا يقام عليه الحد؛ لأن الله عز وجل أسقط عنه المؤاخذة، فلا يؤاخذ بقوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم)، ولكن إذا كان هذا الصبي مميزاً، وقد بينا ضوابط التمييز من حيث السن ومن حيث المعرفة، فبعض العلماء يقول: المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب، لو قلت له: ماذا فعلت؟ أين أبوك؟ ماذا فعل فلان؟ كيف فلان؟ يفهم الخطاب الذي يوجه إليه، ويحسن الجواب، فهذا مميز بأقواله، فجعلوا التمييز ضابطه بالقول، ومن أهل العلم رحمهم الله من جعل التمييز من سبع سنوات، والحقيقة أن هذا يختلف من شخصٍ إلى آخر، فإذا كان الصبي مميزاً يعلم أن هذا الكلام لا يقال، وأن هذا الكلام اتهام بالجريمة، وأن هذا الكلام سوء وشر، بل بعض الصبيان يعلم أن القاذف تقام عليه العقوبة، وقد يحذره والداه من هذا، ويعلم عواقب هذا من حيث الأصل، فإذا تجرأ على هذا الكلام وكان مميزاً؛ فإنه يعزر ويؤدب، ولا يترك هملاً بل يعزر بما يناسب سنه، وهذا له أصل في السنة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فعزر في حق الله عز وجل، ولذلك يعزر الصبي ولا يقام عليه الحد، فنظراً لكونه غير مكلف؛ أسقط عنه الحد، ولكن لا تسقط عنه العقوبة لنوع التمييز الموجود فيه؛ لأنه لو لم يردع بها لاعتاد ذلك، واستشرى وقوي على الفساد، وكما يقوى على ترك حق الله عز وجل؛ يقوى على ترك حق المخلوق، وذلك بالتكرار، فينشأ على ذلك والعياذ بالله! فالأصل أنه ينبغي أن يكون بالغاً.
كذلك أن يكون عاقلاً، فلو أن مجنوناً سب رجلاً فقذفه، أو سب امرأة فقذفها؛ لم نقم عليه الحد؛ لأن المجنون لا يؤاخذ بقوله، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: المجنون حتى يفيق)؛ لأن المجنون لا يملك لسانه فلا وجه لمؤاخذته، فإنه لا يستطيع أن يتحكم في لسانه، ولا يستطيع أن يتحكم في قوله، ومن هنا لا يؤاخذ بما يقول، ولا يقام عليه حد القذف، ويختلف عن الصبي بالتفصيل الموجود في الصبي.
وأما بالنسبة للاختيار، وهو: ألا يكون مكرهاً، فلو أن شخصاً هدد شخصاً وقال له: إن لم تقذف فلاناً، أو إن لم تقذف فلانة وتتهمها بالزنا؛ سأقتلك، وتحققت فيه شروط الإكراه التي تقدمت معنا في طلاق المكره، وبينا الأمور المعتبرة لكي يحكم على الشخص بكونه مكرهاً، فأكره على أن يقذف غيره فقذفه، فإذا تبين إكراهه سقط عنه الحد، ولا يؤاخذ بقوله؛ لأن الله أسقط بالإكراه قول من تلفظ بالكفر، كما في قصة عمار بن ياسر رضي الله عنهما حينما تلفظ بالكفر وقلبه مطمئنٌ بالإيمان مكرهاً، فأنزل الله سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، قالوا: فإذا قذف مكرهاً وقلبه مطمئن لا يريد قوله، ولا يقصد قوله؛ لا يقام عليه الحد، ويعتبر الإكراه موجباً لاندراء الحد عنه، ومسقطاً للعقوبة.
وقوله: (إذا قذف المكلف محصناً)، المحصن هو: الحر المسلم العفيف العاقل الملتزم، وسنبين إن شاء الله ضوابط الإحصان، وهذه اللفظة تطلق في الشريعة على معان عديدة منها: الإسلام والزواج والنكاح والعفة والحرية، فتطلق على هذه الأمور كما سيأتي.(379/3)
حكم من قذف جماعة
والأصل أنه إذا قذف محصناً واحداً يقام عليه الحد ثمانون جلدة، وهذا لا إشكال فيه، إذا كان حراً وانطبقت الشروط المعتبرة للحد، فالمصنف رحمه الله بين الحكم إذا كان القذف لمحصن سواء كان ذكراً أو كان أنثى، حتى ولو قذف خنثى مشكلاً فإنه يقام عليه الحد، فالمحصن يشمل هؤلاء كلهم.
ولكن لو أنه خاطب اثنين، فقال: أنتما زانيان، أو فلان زنى بفلانة، أو فلان وفلانة زانيان، أو فلان وفلان وفلان زناة، فهل لكل واحد من هؤلاء حد، وله الحق أن يطالب بحده أم أنه إذا طالب به أحدهم أو طالبوا به جميعاً أقيم عليه حد واحد؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وأصح القولين -والعلم عند الله-: أن كل واحد منهم له حق، وأن مطالبة الواحد لا تسقط حق الثاني؛ لأنه خاطب الجميع واتهم الجميع بالزنا، وعلى هذا؛ فإنه إذا قذف ثلاثة، فطالب أحدهم بحقه اليوم أقمنا عليه حده، ولو طالبوا الثلاثة مع بعض أقيم لكل واحد منهم حده، هذا هو الأصل؛ لأنه وجه التهمة لكل واحدٍ منهم، ومما يقوي هذا القول: أنه لو كان في الثلاثة من لا يقام عليه الحد لم يسقط الحد عن الجميع، فلو أنه خاطب جماعة وقال: يا زناة، وفيهم واحد زانٍ فعلاً، ثبتت عليه تهمة الزنا، واتهمهم وفيهم هذا الزاني، فلو قلنا: إنه قذف واحد يأخذ حكم الواحد؛ لأسقط وجود الخلل في أحدهم حق الباقين، لكننا نقول: إنه قد خاطب الجميع، وكل واحد منهم له حق، فإذا امتنع البعض عن المطالبة بحقه، فمن حق الآخر أن يطالب بحقه، وإذا طالب أحدهم لم يسقط حق الباقين؛ لأنهم متهمون جميعاً، وكما أقيم لهذا حقه يقام للآخر حقه.
وعلى هذا فإنه يتعدد الحد ويتكرر على أصح قولي العلماء رحمهم الله؛ والنظر يقوي هذا، فإنه إذا قذف ثلاثة، يكون كما لو قذف كل واحد منهم قذفاً مستقلاً، فلو أنه قال لمحمد وعلي وعبد الله: أنتم زناة، فحكمه كما لو انفرد بمحمد فقال له: أنت زانٍ، وحكمه كما لو قال لعلي مباشرة: أنت زانٍ، وكما لو قال لعبد الله: أنت زانٍ، فكما أنه لو قذف كل واحد منهم مستقلاً لا تجمع الحدود في حد واحد؛ كذلك لو قذفهم جميعاً مباشرة؛ لأن الكل وقع عليه اعتداء في عرضه سواءً كان مجتمعاً مع غيره أو منفرداً، وعلى هذا -تعظيماً لحدود الله وحرماته- فإنه يقام عليه الحد لكل واحد منهم يريد أن يطالب بحقه، فيعاقب بالحد، ويكرر عليه، على ظاهر النص أن المقذوف له حق المطالبة بإقامة الحد على من قذفه.(379/4)
عقوبات القاذف
قال المصنف رحمه الله: [جلد ثمانين جلدة إن كان حراً].
أي: جلد هذا المكلف ثمانين جلدة بشرط أن يكون حراً، وبإجماع العلماء رحمهم الله أن حد القذف ثمانون جلدة، فهم متفقون على ذلك لنص القرآن: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، وقد جعل الله في القذف ثلاث عقوبات: العقوبة الأولى: أنه يجلد ثمانين جلدة.
العقوبة الثانية: أنه تسقط شهادته، فلو أن هذا القاذف الذي ثبت أنه قذف وأقيم عليه الحد، شهد في اليوم الثاني بأن فلاناً له عند فلان ألف ريال، أو أن فلاناً قتل فلاناً -أي شهادة كانت- ردت شهادته، لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، إلا إذا تاب، وتوبته بأن يأتي إلى القاضي ويقول: كذبت في تهمتي لفلان وهو ليس بزانٍ، فتوبته بأن يكذب نفسه.
العقوبة الثالثة: أنه فاسق، ونص الله عز وجل على هذه الأحكام الثلاثة: الحكم الأول: الجلد، وقد ذكر المصنف رحمه الله -وتقدم معنا- أحكام الجلد، وصفة الجلد، وما يجلد به، وأن جلد القذف بعد جلد الزنا في القوة والشدة.
الحكم الثاني: أنه لا تقبل له شهادة، ولا يشترط أن يشهد في القضاء، بل حتى لو جاءك وقال: أشهد أن فلاناً كاذب، أو يفعل كذا؛ قل له: أنت البعيد مقطوع اللسان، مردود الشهادة، ما لم تكذب نفسك، وانظر إلى تعظيم الله لحرمة المؤمن! ويدل عليه الحديث القدسي: (ما ترددت في شيءٍ أنا فاعله ترددي في قبض روح المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)، فالله عز وجل يؤدب عباده بهذا الحد، ولذلك قطع هذا اللسان الظالم الآثم الذي يرتع في أعراض المسلمين فلا تقبل له شهادة، ثم انظر إلى نص القرآن: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، واختلف العلماء في هذه الآية على قولين: بعض العلماء يقول: حتى ولو تاب لا تقبل شهادته؛ لأن الله يقول: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله وطائفة، والجمهور على أنه لو كذب نفسه فجاء عند القاضي وقال: إنه كاذب، قبلت شهادته، وهذا البعيد لا يكفي أن يقام عليه الحد، بل لا بد أن يأتي عند القاضي ويقول: قد كذبت في تهمتي لفلان، وهذا يرد للناس حقوقهم؛ لأنه إذا أقيم عليه الحد يبقى الناس في شكوك هل هو صادق أو كاذب؟ ولكن حينما يأتي إلى مجلس القضاء ويقول: إنه كذب في شهادته على فلان، وكذب في قذفه لفلان، وإن فلاناً بريء أو إن فلانة بريئة؛ فحينئذ تقبل شهادته؛ لأن الله يقول: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5]، فنص الله عز وجل على استثنائهم بالتوبة، ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الاستثناء يشمل العقوبات السابقة، ومما يؤكد هذا أن أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، كان يقول لـ أبي بكرة: تب أقبل شهادتك، أي: إن تبت قبلت شهادتك، وهذا يدل على أنه لو تاب في الدنيا قبلت شهادته، وأنه لا يبقى على الأصل مردود الشهادة ما دام أنه قد تاب.
الحكم الثالث: أنه يفسق، والفاسق ساقط الخبر، لا يقبل خبره مباشرةً، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، والمراد: تثبتوا، وهذا يدل على أنه لا يقبل خبره مباشرة.
ذكر المصنف رحمه الله عقوبة من قذف أنه يجلد ثمانين جلدة، وبينا أحكام الجلد، وهذا القدر في حد القذف مجمع عليه بنص الله عز وجل في كتابه، وصفة الجلد تقدم أنها دون حد الزنا، فأشد الجلد جلد الزنا، ثم بعده جلد القذف، وهذا لوجود المجانسة بالفحش في الجريمتين.(379/5)
الفرق بين الحر والعبد في الجلد للقذف
قال المصنف رحمه الله: [وإن كان عبداً أربعين].
مذهب جماهير السلف والخلف -ومنهم الأئمة الأربعة- على أن العبد إذا قذف غيره يقام عليه الحد أربعين جلدة، واستدلوا -أولاً- بقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، حيث شطر الله حد الزنا الذي هو الأصل، فمن باب أولى تشطير حد القذف، وهذا من باب التنبيه بالأعلى على ما هو دونه.
واستدلوا -ثانياً- بأن الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم أجمعين كانوا يجلدون الرقيق في القذف أربعين جلدة، قال أبو بكر بن حزم: أدركت أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً والأئمة يجلدون العبد أو المولى إذا قذف أربعين جلدة، وهذا يدل على أنه سنة ثابتة، وعليها إجماع الصحابة حيث لم ينكر أحد من الصحابة تشطير عقوبة القذف على الرقيق، وعليه فإنه يجلد أربعين جلدة.
قال المصنف رحمه الله: [والمعتق بعضه بحسابه].
للعلماء وجهان في المعتق والمبعض: فبعض العلماء يقول: إذا كان نصفه حراً ونصفه رقيقاً فإنه يجلد بحسابه، وعلى هذا تكون ستين جلدة، الأربعون: تشطير أصل الحرية، مراعاة للحرية، والعشرون: تشطير الرق، فإذا كان مبعضاً فإنه بحسابه على القول الذي اختاره المصنف.
والقول الثاني: إذا كان مبعضاً فإنه على النصف دائماً، وهم متفقون أنه لو كان نصفه حراً ونصفه رقيقاً فإنه يجلد على النصف، ولكن إذا كان ثلثاه أو كان ثلثهُ رقيقاً والآخر حراً فعلى القول الأول: يتشطر بحسابه، وعلى القول الثاني: يتشطر على النصف، سواءً كانت الحرية أكثر أو كان الرق أكثر؛ لأن الحكم واحد عند الذين لا يفصلون، وهو اختيار أصحاب الشافعي وطائفة من العلماء رحمهم الله.(379/6)
حكم قذف غير المحصن
قال المصنف رحمه الله: [وقذف غير المحصن يوجب التعزير].
مثلاً: لو قذف صغيراً، في هذه الحالة الصغير لا يتأتى منه الزنا ولا يتضرر بقذفه، لكن يجب أن يعزر، فلو اشتكى هذا الصبي أو بعد بلوغه اشتكى -وكان القذف حال صغره- فإنه يقام عليه التعزير.
والتعزير: عقوبة لا حد لها، وهي تكون -في الأصل- في غير المقدرات شرعاً، والتعزير ستأتينا إن شاء الله ضوابطه: أنه يتبع حالة المجني عليه والجاني والبيئة التي فيها الاثنان، فمثلاً: يختلف التعزير لو كان الصبي يستلزم الرعاية أكثر، فقذف الصغير من القرابة ليس كقذف الصغير الغريب، وقذف الصغير من أبناء أو بنات الصالحين ليس كقذف عامة الناس؛ لأن الله جعل لكل شيء قدراً، فالناس لهم حقوق، ولهم منازل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم)، فإذا كان القذف متعلقاً بمن لا يقام الحد بقذفه؛ فإنه لا بد من عقوبة للقاذف، وتكون العقوبة تعزيرية، ينظر القاضي فيها إلى حال المقذوف وحال القاذف، فيعزر كل قاذف بما يناسبه، وهذا أصل في التعزير.(379/7)
الحد حق للمقذوف
قال المصنف رحمه الله: [وهو حق للمقذوف].
قوله: (وهو) الضمير عائد إلى حد القذف (الجلد ثمانين جلدة) حقٌ للمقذوف، وهذا قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله أنه حق للمقذوف، وإذا قلنا: إنه حق للمقذوف؛ فلا يقام إلا بطلب المقذوف، ويبقى على هذا الطلب إلى إقامة الحد.
إذاً: لا بد أول شيء أن يطلب المقذوف من القاضي حقه، فيقول: فلان قذفني، فيؤتى بفلان فيقر أو يأتي بالشهود ويثبتون أنه قذفه، فإذا أقر أو قامت عليه بينة بأنه قذف، وثبت عند القاضي أنه قذف، يقول له القاضي: أنت قذفت أخاك في الإسلام، فإما أن تحضر البينة أو أقيم عليك حد القذف، فإن قال: ليس عندي بينة، يأمر القاضي حينئذ بجلده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، فإذا قال: لا بينة لي، أقيم عليه الحد، فإذا استمر المقذوف بالمطالبة مضى الحكم، ولو عفا عنه بعد الحكم وقبل التنفيذ، لا يقام عليه حد القذف، فلو أن القاضي حكم عليه بأنه قاذف، ثم أردنا تنفيذ الحد، فقال صاحب الحق: عفوت -ومن حقه أن يعفو- ففي هذه الحالة يسقط عنه الحد، ولا تجب العقوبة.(379/8)
ما يشترط في المقذوف
قال المصنف رحمه الله: [والمحصن هنا: الحر].
أي: في باب القذف، فلا بد أن يكون المقذوف حراً كاملاً، فإذا كان رقيقاً فإن نقص الرق يؤثر، وجماهير السلف والخلف أن قذف العبيد فيه التعزير، وليس فيه الحد، ولهذا أصل؛ لأن أصل الرق الكفر، ومن هنا لم يسوِ الشرع بين المسلم والكافر، وإن كان الرقيق قد يسلم، لكن هذا في الأصل ناقص.
ومن هنا اطردت أحكام الشريعة في التفريق بين المسلم والكافر، فإذا قذف عبداً فإنه لا يقام عليه الحد كاملاً، خلافاً لمن شذ، وقول جماهير السلف والخلف رحمهم الله أن فيه التعزير، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4]، والإحصان: يطلق بمعنى الحرية، وهذا تقييد للحكم بالعقوبة، ومن هنا فهم جماهير السلف والخلف من الآية أن الإحصان يشمل الحرية، وأنه لا إحصان بدون حرية.
قال المصنف رحمه الله: [المسلم العاقل].
(المسلم) فلو قذف الكافر فإنه يعزر، (العاقل) فلو قذف المجنون فإنه يعزر؛ لأن المجنون -أولاً- لا يستطيع أن يطالب بحقه، وثانياً: لوجود النقص فيه، وظن السلامة في الاعتداء على عرضه ليس كالعاقل؛ لأن المجنون قد يتأتى منه هذا ولا يضمن نفسه ولا يملك نفسه، ومن هنا نقص عن العاقل الذي يلتزم بشريعة الإسلام وهو على دينه واستقامته، فالمجنون لا يؤمن أن يقع منه الزنا وهو لا يدري، ولا يستطيع أن ينفي عن نفسه ذلك؛ لأنه مجنون ليس عنده عقل، ولذلك يعزر قاذفه، ولا يحكم بجلده الحد.
قال المصنف رحمه الله: [العفيف].
فلو قذف زانياً وقال له: يا زان، فقد أصاب قوله الواقع؛ لأنه قد زنى، وحينئذ ليس بقاذف، وبعض العلماء يرى التفريق في هذا بين من أقيم عليه الحد وتاب، وبين من لم يقم عليه، ولكن حتى لو أقيم عليه الحد وتاب، وقيل له: لم قلت له: زان؟ قال: قصدت ما كان منه في السابق، فهذا يعتبر وصفاً وليس بتهمة بالزنا، ومن هنا فرق بين من يصفه بالزنا وكان قد وقع منه زنا وبين الذي هو عفيف لم يقع منه فحش.
قال المصنف رحمه الله: [الملتزم].
الملتزم بشرائع الإسلام، ومن هنا يخرج الحربي فإنه لا حرمة له، واختلف في الذمي، وإن كان شرط الإسلام في الأول قد تضمن مفهومه إخراج الذمي وإخراج الكافر عموماً، وعلى هذا لو قال لحربي: يا زانٍ، أو قذف حربيةً أو قال عن أهل الحرب: إنهم زناة، أو نحو ذلك من عبارات القذف، فإنه لا يقام عليه الحد، ولكن في الذمي خلاف: فبعض أهل العلم يرى أن الذمي له حرمة المسلم، فقد حرم ماله وعرضه فلا يجوز أن يعتدى عليه؛ لأن له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وبعض العلماء يرى أنه لا يأخذ حكم المسلم، وقاذفه يعزر ويؤدب.
القول الأول: أسقط الحد لوجود الشبهة، وهو مذهب قوي، والقول الثاني: راعى الأصل في حرمة الذمي، ولكن هل هي مساوية للمسلمين من كل وجه؟ قال المصنف رحمه الله: [الذي يجامع مثله].
أي: الذي يتأتى منه الجماع، والسبب في هذا أن القذف تهمة، فإذا قال لصبي لا يتأتى منه الجماع: يا زانٍ، علم الناس كذبه، وحينئذ لا يحصل ضرر على الصبي كضرره عليه إذا كان بالغاً، قالوا: إذا قذف من لا يتأتى منه الجماع؛ سقط الحد عنه، وهذا لا ينفي أنه يعزر، بل إنه يعزر، ولكن القضية هل يقام عليه الحد أو لا يقام عليه الحد؟ وهذا إذا كان لا يتأتى من مثله الجماع، أو لا يجامع مثله، كما لو كان صغيراً لا يتأتى منه الجماع.
ومن كان مجبوب الذكر هل يكون قذفه قذفاً؟ على وجهين عند العلماء رحمهم الله: فمن أهل العلم من قال: قاذف المجبوب يقام عليه الحد، واحتجوا بعموم الآية الكريمة، ولكن في الحقيقة إذا سقط القول، وظهر الدليل على كذب القاذف، ووجدت الشبهة؛ قوي القول الذي يقول: بإسقاط الحد عن القاذف، وهذا ما كان يرجحه بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، وهو أنه إذا وجد ما يدل على كذب القاذف، وظهرت الدلالة على كذبه، كما لو قذف صغيراً لا يتأتى منه الجماع، أو المجبوب الذي عرف جبه؛ فإنه توجد شبهة تسقط عنه الحد، وكان بعض العلماء يقول: إن قاذف المجبوب يقام عليه الحد لاحتمال أن يقصد أنه زنى قبل جب ذكره، وقبل قطع عضوه، وهذا لا شك أنه يقوي مذهب من يقول بوقوع الحد، ولكن الشبهة لا تزال قائمة، إلا إذا فصل في تهمته له بالزنا على وجه تندرئ به الشبهة فيجب عليه الحد.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يشترط بلوغه].
فالصبي قد يجامع قبل البلوغ، فإذا تأتى منه أن يجامع؛ تأتى وصفه بالزنا لاحتمال أن يقع منه الزنا، فلا يشترط أن يكون بالغاً.(379/9)
صريح القذف
قال المصنف رحمه الله: [وصريح القذف يا زاني، يا لوطي، ونحوه].
بعد أن بين رحمه الله أحكام اللفظ، وما يترتب عليه من عقوبة، ومن الذي يُعَاقبْ، ومن الذي له حق المطالبة بالقذف ممن يعتبر قذفه قذفاً مؤثراً موجباً للحد؛ شرع رحمه الله في بيان أحكام اللفظ، وهذا الركن الثالث من أركان القذف؛ لأن القذف يقوم على: قاذف، ومقذوف، ولفظ يقع ويحصل به القذف.
واللفظ الذي يحصل به القذف إما أن يكون صريحاً وإما أن يكون غير صريح، وقد تقدم معنا تعريف الصريح والكناية في الطلاق، واللفظ الصريح في القذف هو: الذي لا يحتمل معنى آخر، فإذا تلفظ بهذا اللفظ الصريح الذي لا يحتمل معنى آخر؛ فإنه حينئذ يعتبر قاذفاً، وإذا ثبت عند القاضي أنه قال هذا القول، إما باعترافه أو بشهادة الشهود بأنه قال هذا اللفظ الصريح؛ فإنه لا يسأل عن نيته، وإنما يعتبره قاذفاً مباشرة -كما تقدم معنا في الطلاق- فلا يسأل عن النية في الصريح.
وأما إذا كان اللفظ لفظ كناية، وهو: اللفظ المحتمل الذي يتردد بين معنيين فأكثر، فحينئذ يحتمل أن يكون مقصوده ما يدل على القذف فهو قاذف، ويحتمل أن يكون مقصوده شيئاً آخر فليس بقاذف، فلما تردد اللفظ بين الاحتمالين رجعنا إليه لكي يفسر لنا؛ لأن المبهم يفسر، والمجمل يبين، ما كان مبهماً يطلب تفسيره، وما كان مجملاً يطلب بيانه، فحينما يأتي بلفظ مشترك أو متردد بين معنيين: يحتمل أنه أراد القذف ويحتمل أنه لم يرده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، فحينئذ عندنا لفظ يحتمل أنه يوجب الحد ويحتمل أنه لا يوجب الحد، فعندنا أمر مشتبه نحتاج أن نعرف هل هو قصد هذا أو لم يقصد؟ فإن قصده أقمنا عليه الحد وارتفعت الكناية؛ كأن يقول له: يا خبيث، فقلنا له: ماذا قصدت بقولك: يا خبيث؟ قال: يا زان، نقول حينئذ: ارتفع الإبهام، وزال الإجمال، وأصبح كما لو قال له مباشرة: يا زان.
إذاً: عندنا ألفاظ صريحة، وعندنا ألفاظ كناية، وهذا من دقة أحكام الشريعة الإسلامية، ولن تجد على وجه الأرض أتم ولا أكمل ولا أوسع من هذه الشريعة التي فصلت في كل شيء، حتى أنها قضت بين الناس في ألفاظهم وعباراتهم، وبينت الألفاظ التي هي جناية يعاقب صاحبها، وبينت الألفاظ التي هي مثوبة يجازى صاحبها ويحسن إليه، وكل هذا من كمال شريعتنا، والعلماء والأئمة رحمهم الله فصلوا في هذا، ومن هنا يجب عند بيان أحكام القذف أن نفصل في هذا الركن الذي هو ركن اللفظ؛ لأنه ينبني عليه المؤاخذة والعقوبة.
قال رحمه الله: (وصريح القذف: يا زان) بدأ بالصريح، قلنا: عندنا صريح وعندنا كناية، فهل نبدأ في كتب الفقه ببيان الصريح أو ببيان الكناية؟ قالوا: نبدأ بالصريح؛ لأن الأصل في القذف أنه لا يثبت إلا بالصريح، ومن عادة العلماء في الصريح والكناية أن يبدءوا بالصريح أولاً، فإذا قال لرجل: يا زانٍ، أو لامرأة: يا زانية، فإنه قد قذف، وهذا اللفظ صريح في الدلالة على الزنا والقذف، لكن يشترط أن يكون مطلقاً عارياً عن القيد، فلو أنه قيده، فقال له: يا زاني البصر، أو يا زاني العين، أو يا زاني الرجل، أو يا زاني اليد، فهذا ليس كقوله: يا زانٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الزنا في هذه الأحوال كلها، فقال: (العينان تزنيان وزناهما النظر، واليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها الخطى والمشي، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العين تزني، فلو قال له: يا زاني العين؛ فهذا ليس كقوله: يا زانٍ، بلا قيد، ومن هنا لا بد أن يفرق بين المطلق والمقيد.
لكن لو أنه قال له: يا زاني الفرج، أو قال لها: يا زانية الفرج -والعياذ بالله-، أو يا زاني الذكر، فإنه في هذه الحالة يعتبر من الصريح الواضح الذي لا احتمال فيه، فيستثنى المقيد بالفرج، كما أشار إليه بعض الأئمة ومنهم الإمام النووي رحمه الله وغيره، فلو صرح بالإضافة للفرج، فإنه في هذه الحالة يكون في حكم الصريح.
وهكذا إذا قال: يا لوطي، فهو صريح، ومن حيث الأصل فالقذف هو: التهمة بالفاحشة إما بالزنا أو باللواط، وقد تقدم معنا حكم كلٍ منهما، وإذا قال: يا زانٍ، فهو صريح بلا إشكال عند العلماء رحمهم الله، لكن إذا قال له: يا لوطي، احتمل، فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: إذا قال لشخص: يا لوطي، فإنه يعتبر قاذفاً قذفاً صريحاً، قالوا: لأن هذا اللفظ لا يعبر به إلا عن فاحشة اللواط، والمراد به جريمة قوم لوط، فإذا قال هذا فإننا نعتبره قد صرح بالقذف، هذا القول الأول، واختاره المصنف رحمه الله وطائفة كبيرة من أهل العلم رحمهم الله.
ومن أهل العلم من قال: إن كلمة: (يا لوطي) محتملة أن تكون تهمةً بالفاحشة أو تهمةً بعمل قوم لوط دون الفحش، وهو ما كان منهم من عمل السوء من تتبع المردان، والغمز، وفعل الخنا في المجالس، فلو أنه دخل على رجل في مجلسه وهو يتعاطى أمور الرذيلة التي لا يتعاطاها إلا أهل الفحش مع المردان ونحوهم، فقال له: يا لوطي، قالوا: إن هذا ليس بقذف بالفاحشة، فلو سُئل عن هذا وقال: أردت أنه يعمل العمل الفلاني من الغمز بعينه أو الدس بيده ونحو ذلك، أو أن مجلسه مجلس الفساد، فقلت له هذه الكلمة وأقصد بها أنه يعمل عمل قوم لوط في مجالسهم، قالوا: فهذه شبهة تسقط عنه حد القذف.
وفي الحقيقة التفصيل قد يراعيه القاضي في بعض المسائل، لكن من حيث الأصل أنه لو قال له: يا لوطي، فإن هذا اللفظ في الغالب لا ينصرف إلا إلى عمل قوم لوط، واختار المصنف أنه قذف صريح، وهو مذهب الجمهور.
قال رحمه الله: [ونحوه]، أي: ونحو ذلك، مثل أن يقول: يا ابن الزانية -والعياذ بالله- أو قال له: يا ابن الزاني، فهذا أيضاً قذف، ونحو ذلك مما يجري مجراه في الدلالة على التهمة بالفاحشة، ومن ذلك أن يعبر بكلمة الجماع في الرجل والمرأة التي هي غير مزوجة، كأن ينسبها إلى الجماع بلفظ الجماع في كل بيئة بحسبها، فذكر العلماء رحمهم الله أن ألفاظ الجماع وما يدل عليها في كل عرف من القذف الصريح، وهذه الألفاظ تختلف من بيئة إلى بيئة ومن مجتمع إلى مجتمع، فإذا عبر بالجماع وما يدل على الجماع وفعل الجماع سواءً لرجل أو امرأة؛ فإنه من صريح القذف.(379/10)
كنايات القذف
قال المصنف رحمه الله: [وكنايته: يا قحبة].
وكناية قذف، أي: اللفظ المحتمل الذي نسأل من قاله عن نيته، فإذا قصد به ما يدل على الفاحشة، كأن يقول: أردت أنه زنى؛ فهو قاذف، وإذا قال: لم أرد الزنا، فهو ليس بقاذف، فإذا قال لها: يا قحبة، أو قال لرجل: يا ابن القحبة، والعياذ بالله! فإن هذا لفظٌ محتمل، فإنه يحتمل أنها زانية، ويحتمل أنها تتعاطى الأمور الرذيلة التي يتعاطاها أهل الفحش، وليس مراده أنها فعلت الفحش، وفي هذه الحالة يسأل عن قصده، ويحلف بالله إنه ما أراد الزنا، هذا إذا قلنا: إنه كناية، فالكناية ينوّى ليبين، ينوى: يعني نسأله عن نيته، فإذا لم يوافق خصمه وقال: لا، ما أراد هذا، ولم يصدقه؛ نقول له: احلف بالله إنك لم ترد الزنا.
إذاً: هناك أمران: الأمر الأول: أن يصرف اللفظ عن معناه الدال على الزنا وفعل الفاحشة.
الأمر الثاني: إذا لم يصدقه خصمه، نقول له: احلف بالله عز وجل إنك لم ترد هذا المعنى الموجب للحد.
قال المصنف رحمه الله: [يا فاجرة].
وهكذا إذا قال للمرأة: يا فاجرة، أو قال للرجل: يا فاجر، أو يا ابن الفاجرة، أو يا ابن الفاجر، كل هذا -والعياذ بالله- من الألفاظ المستقبحة، ولكن يُسأل عن نيته: هل قصد بالفجور فعل الزنا؟ فإذا قال: قصدت أنه زانٍ، فهذا قذف، وإذا قال: ما قصدت الزنا، وصدّقه خصمه فلا إشكال، فلو قال: ما قصدت فعل الزنا، ولكن قصدت أنه يفعل أفعال أهل الفجور من التساهل أو نحو ذلك، فحينئذٍ يحلف إذا كذّبه خصمه، وفي حكم ذلك أن يقول له: يا ديوث، كما ذكر ذلك العلماء والأئمة، أو إذا قال للمرأة: يا قوادة، أو للرجل: يا قواد، ونحو ذلك من الألفاظ التي بسطها أهل العلم، وفي الحقيقة هذه الألفاظ تخضع للمجتمع، فقد تكون هناك ألفاظ قذف عند العامة وليس لها معنى في اللغة، وذكر العلماء رحمهم الله -ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني- نحو ذلك من الألفاظ التي ليس لها أصل في اللغة، وقال أئمة اللغة: لا نعرف لها أصلاً، لكن جرت العادة بين العامة باستخدام هذا اللفظ ومن هنا يرجع القاضي إلى من عنده معرفة، فإذا وقع هذا الكلام في بيئة، فيسأل أهل تلك البيئة: ماذا يراد بهذه الكلمة؟ وماذا تقصدون من هذه الكلمة؟ فإن كانت في العرف صريحة الدلالة على التهمة بالزنا فلا إشكال، وإن كانت في العرف محتملة تطلق على معنى الزنا وعلى معنىً آخر، فحكمها حكم الكنايات كما تقدم.
قال المصنف رحمه الله: [يا خبيثة].
وهكذا الوصف بالخبث، والخبث يحتمل فعل الفاحشة -والعياذ بالله- كما قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء:74]، ويحتمل خبث اللسان، ويحتمل خبث النية، ويحتمل خبث العمل، أي: أنه غشاش، لا يحسن معاملة الناس، ونحو ذلك.
إذا قال: فلان خبيث، أو فلان من أهل الخبث، أو هذه خبيثة، أو فلانة خبيثة، فإنها إذا اشتكته إلى القاضي ورفعت أمره إلى القاضي، سأله القاضي: ماذا تريد بهذه الكلمة؟ فقال: أردت بها أنها زانية أو أنه زانٍ -والعياذ بالله- أقيم عليه الحد، فببيانه يرتفع الإجمال، وبتفسيره يزول الإبهام، وأما إذا قال: لم أرد هذا، إنما أردت بالخبث خبث اللسان، أي: أنها تسب الناس أو أنه يسب الناس، أو أردت خبث العمل أي: أنه ليس أميناً في معاملته أو أنه يضرب الناس، أو أردت خبث النية، أي: أنني أرى فيه الحسد، وأرى فيه احتقار الناس، وأرى فيه العصبية، وأرى فيه الغمط للناس وعدم احترامهم، فإذا فسره بغير الزنا ورضي خصمه فلا إشكال، وإلا حلف له.
قال المصنف رحمه الله: [فضحت زوجك].
وهكذا إذا قال: فضحتِ زوجك، الفضيحة تحتمل فضيحة العار والزنا، وتحتمل الفضيحة التي هي دون ذلك، فيسأل عن قصده كما تقدم.
قال المصنف رحمه الله: [أو نكست رأسه].
الرجل إذا ابتلي بالبلية في أهله أو في عرضه وجلس في مجلس أذلته، ومن هنا ينكس رأسه، وتنكيس الرأس في المجالس غالباً يكون لسبب، وقد يكون محمدة، وقد يكون مذمة؛ فيكون محمدة إذا كان على سبيل الخشية لله عز وجل والخوف منه، والبعد عن التشبه بأهل الكبر والغرور، ولذلك تجد العلماء والصلحاء إذا جلسوا في المجالس العامة أو جلسوا بين الناس، وأرادت الناس أن تفخر بهم؛ طأطئوا رءوسهم ذلةً لله، والدليل على مدح ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما دخل مكة في يوم الفتح طأطأ رأسه حتى كادت طرف لحيته تمس قربوس سرجه تواضعاً لله عز وجل)، فتنكيس الرأس قد يكون عزةً وكرامة، فهي ذلة في موضع عزة، ومهانة في مقام كرامة، وذلك إذا كان لله وتواضعاً له، إذا كان بين من يمدحه ويثني عليه وخشي على نفسه الفتنة ممن ينظر إليه أو من يهابه، فيطأطئ رأسه ذلة لله عز وجل، واعترافاً بفضله، واعترافاً بإحسانه سبحانه، والله هو المطلع على القلوب والضمائر، فهذا فخر للإنسان وشرف وعزة، خلاف أهل الكبر الذين إذا مدحوا شمخوا بأنوفهم، ورفعوا رءوسهم، وتعالوا وانتفخوا، فهذا من نفخ الشيطان فيهم والعياذ بالله! فطأطأة الرأس وتنكيس الرأس يكنى بها على أن الرجل أصيب بمصيبة، وأعظم المصيبة بعد الدين أن يصاب في عرضه، ولذلك يطأطئ رأسه، فيقال لها: نكست رأس زوجكِ، نكست رأس أهلكِ، فهذا يكنى به على أنها فعلت الفاحشة، حتى إن قريبها لا يستطيع أن يرفع رأسه في القوم، وهذه العبارات كانت موجودة، لكن قد تستبدل الناس عنها عبارات أخرى، والجنون فنون، وسب الناس -والعياذ بالله- من الجنون، والتهور فيه لا يفعله إلا إنسان انعدم عقله الذي يعقله عن سفاسف الأمور، وعن التسلط على الناس، ولذلك إذا قال لها: نكست رأس زوجكِ، وقال: قصدت أنها امرأة لم تعتني بإكرام زوجها، وقصدت أنها امرأة لم تحافظ على زوجها كما ينبغي، ولم تحافظ على وقته بحيث يتفرغ لأموره وشئونه، حتى إنه انشغل بأشياء ما كان ينبغي أن ينشغل بها، ولو كانت زوجته كاملة لحافظت عليه حتى يرتفع رأسه، وما قصدت الزنا؛ فيكون هذا موجباً لاندراء الحد عنه، أما لو قال: قصدت الزنا، فإنه يقام عليه الحد، وهو قاذف.
قال المصنف رحمه الله: [أو جعلتِ له قروناً]، ونحوه جعلت له قروناً أو حتى شياطين! لا نتوقف عند لفظ معين، المتون الفقهية فيها كلمات غريبة، قد يكون هذا اللفظ (جعلت له قروناً) قذفاً في القديم، ففي كل زمان نسأل أهل الخبرة، وقد تحاشيت ذكر ألفاظ يجوز أن أذكرها في مجالس العلم، ولكن الإنسان يجل مجالس العلم من ذكرها، ذكر العلماء رحمهم الله ما يقارب خمسين لفظاً، ألفاظ بشعة جداً، تنزعج منها الآذان، وتقلق منها القلوب، ويجوز لنا أن نذكرها لأجل العلم، لكن الحمد لله ما دام أن الكتب موجودة، فمن يريد أن يتوسع في ضبطها وفهمها، فليرجع إليها، لكن الذي يهمنا هنا القاعدة والضابط، فلما كانت هذه الألفاظ التي ذكرها العلماء رحمهم الله لا يستعملها الناس كلها، وما ندري ما يستعملون الآن منها، والألفاظ القديمة المعروف منها أعداد معينة، ونحن والله! ما عندنا خبرة بهذه الألفاظ، فكثير منها نجهلها ولله الحمد، ونسأل الله أن يزيدنا بها جهلاً لا يضر بعلمنا.
فهذا أمر ذكره العلماء رحمهم الله، وتتعجب منهم وهم أئمة فحول كيف أخذوها؟ أخذوها بالتلقي، إذاً: نقول لكل قاضٍ وكل مفتي وكل شيخ يريد معرفة هذه المسائل والأحكام: ارجع إلى الضابط والأساس، فالعبرة بقول أهل الخبرة، فإذا قالوا: إن هذا عندنا لا يستعمل إلا في الدلالة على الزنا، فإنه قذف، وإذا قالوا: يستعمل في معنيين فأكثر، سئل القاذف عن نيته، لماذا نرجع إلى أهل الخبرة؟ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو إمام وخليفة راشد وكان يقول: لست بخبٍ ولا الخب يخدعني، وكان يعرف أحوال الناس، مع هذا إذا جاء اللفظ المحتمل سأل عنه، ولما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر رضي الله عنه وأرضاه بقوله: واقعد فأنت الطاعم الكاسي، فجاء الصحابي يشتكي إلى عمر رضي الله عنه من الحطيئة وعمر يفطن ويعرف، ولكن من باب درء الشبهة، قال: ما أرى بهذا بأساً، واستدعى حسان رضي الله عنه لأنه من أهل الشعر، وما رجع إلى غيره، بل رجع إلى أهل المعرفة والخبرة، فقال له: أترى -يا حسان - في هذا هجاءً؟ قال: ما هجاه، بل سلح عليه، يعني: ألعن من الهجاء فإنه قال: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فأنت الطاعم الكاسي كان الرجل فيه بخل، فلما جاءه الحطيئة ولم يكرمه، قام وقال فيه هذه المقالة، فسأل عمر رضي الله عنه حسان فقال له حسان: ما هجاه، بل سلح عليه -أكرمكم الله- يعني: قضى حاجته عليه، وهذا أشد من الهجاء، وعمر رضي الله عنه يقول: ما أرى بهذا بأساً، يعني: ما ظهر له فيه بأس، لكن لما رجع إلى أهل الخبرة؛ قالوا له: ليس هذا بهجاء، بل ألعن وأسوأ وأشد من الهجاء، إذاً: لا بد لطالب العلم ولأهل العلم أن يرجعوا إلى أهل الخبرة والمعرفة.
قوله: (ونحوه) يعني مثله.
قال المصنف رحمه الله: [وإن فسره بغير القذف قُبل].
وإن فسر هذه الكناية بغير القذف قبل، أي: قبله القاضي، فصرف عنه الحد، ودرأه عنه للشبهة.
قال المصنف رحمه الله: [وإن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور منهم الزنا عادةً عزر].
إذا قذف الجماعة على هذا الوجه الذي ذكره المصنف؛ دل الظاهر على كذبه، وذكرنا أن من الأصول التي يندرأ بها الحد أن تقوم الدلالة على كذب القاذف، كما لو قذف من لا يتأتى منه الجماع، ولا يتأتى منه الزنا، وهذا في حكمه.(379/11)
سقوط حد القذف بالعفو
قال المصنف رحمه الله: [ويسقط حد القذف بالعفو].
أي: عفو من جُنِيَ عليه، وهذه من الأحكام المترتبة، فبعد أن بين رحمه الله ما يثبت به الحد، شرع في بيان من يسقط الحد، وهذا من ترتيب الأفكار.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يُستوفى بدون الطلب].
أي: لا يقام الحد بعد ثبوته، ولا يستوفى إلا إذا طلب ذلك الخصم، وقال للقاضي: أطالبه بحقي، أو أقم عليه حد الله عز وجل، أو أريد أن يقام عليه حد الله، فإذا طلب ذلك فإنه يقام عليه الحد، أما إذا لم يطلب فإنه لا يقام عليه الحد.
مسألة: هل يورث الحد؟ وجهان للعلماء: قال بعض العلماء: حد القذف يورث، فلو قذف أمه الميتة أو أباه الميت، فمن حقه أن يطالب بإقامة الحد، أو قذف أباه فمات أبوه، وتقدم الورثة بطلبه فإنه يورث، وهذا يختاره جمع من الأئمة رحمهم الله.(379/12)
الأسئلة(379/13)
حكم أخذ تعويض مالي بدلاً من إقامة حد القذف
السؤال
إذا طلب المقذوف تعويضاً مالياً بدلاً عن الجلد، فهل يعطى المقذوف التعويض؟ أثابكم الله.
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأحكام الله لا تغير ولا تبدل، والعقوبات الشرعية توقيفية لا يزاد عليها ولا ينقص منها، فنقول له: حقك عند القاذف الجلد، وأما هذه الأحكام الجاهلية من وضع الغرامات المالية في القذف وتشويه السمعة ونحو ذلك، فهذا لا أصل له في الشرع، لكن بعض المسائل قد يقضى فيه بهذا، الذي نتكلم عنه كحكم وقضاء، لكن لو أن أهل القاذف وأهل المقذوف اتفقوا على الصلح بينهم، وجاء أهل القاذف بشيء يرضون به من صالحوه أو كافئوه على تنازله عن الحق، فهذا غير هذا، وباب الصلح ليس له علاقة بمسألة الحد، الحد الذي يحكم به القاضي حد الله عز وجل، لا يحكم بشيء آخر من العقوبات، فلا يعاقبون بالتعويضات المالية في مسائل القذف، الذي يحكم به القاضي هو شرع الله عز وجل، فإذا ثبت القذف وطالب المقذوف بالحد فإنه يقيم عليه حد الله ثمانين جلدة، لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه، لكن لو أن أهل المقذوف وأهل القاذف اصطلحوا فيما بينهم قبل أن يأتوا إلى القاضي، أو صدر الحكم من القاضي واتفقوا فيما بينهم على أنه يعفو ويعطى شيئاً، فهذا جائز من باب الصلح وتقدم معنا ذلك في مسائل الحقوق العينية، والحقوق الشخصية، والحقوق المالية، والله تعالى أعلم.(379/14)
العلة في عدم إقامة حد القذف على عبد الله بن أبي
السؤال
لماذا لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم الحد على عبد الله بن أبي وقد نص القرآن بذلك ودل عليه؟ أثابكم الله.
الجواب
هذا ذكره بعض العلماء رحمهم الله في مسألة ثبوت الجناية والجريمة، أما الثلاثة الذين هم مسطح وحسان وحمنة حصل منهم القذف، وعرفوا بين المسلمين بالكلام والخوض في هذا الأمر، والذي حركهم لذلك خفية هو عبد الله بن أبي وتولى كبر القذف، فاختار الله عز وجل له ألا يظهر منه ما يوجب ثبوت الحد عليه بالكلام في الفحش، فأرجئت عقوبته إلى الله عز وجل في الآخرة، وهي أشد وأعظم من عقوبة القذف في الدنيا وهي الجلد، ولذلك أقيم الحد على الثلاثة لأنهم كانوا من أهل الإسلام، أما هذا فإنه منافق كافر بالله عز وجل، لا يشتغل بحد القذف فيه وهو كافر بالله عز وجل، ولذلك أطلع الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام على الجناية من هؤلاء الثلاثة، وأمر بعقوبتهم، ولكن عبد الله بن أبي وهو الذي تولى كبره أرجأ الله عقوبته، وتولى الله عز وجل عقوبته في الدنيا والآخرة؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، والخبيث كان يثير هذه الأشياء ويحسن التخلص منها، كان يحسن ألا يكون في الصورة، وألا يكون أمام الناس، ومن هنا قالوا: من ناحية شرعية الله عز وجل على علم بأنه من أهل الكفر والنفاق، وما هو معقول أن يجلد حد القذف وهو على ما هو أخبث منه! فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه قبل منه الظاهر، وأجرى النبي صلى الله عليه وسلم عليه حكم الظاهر، مع أنه معلوم النفاق، ومن أهل النفاق الذين لا يألون -والعياذ بالله- جهداً في أذية الإسلام والمسلمين، وبقي امتحاناً من الله لنبيه، وسنة لعباده وأوليائه في كل زمان ومكان، فإذا كان نبي الأمة يبتلى بهذا الرأس من رءوس النفاق حتى يتكلم في عرض النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلكل عالم ولكل داعية رأس من رءوس النفاق؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، ولكل مصلح رأس من رءوس النفاق، ولذلك تجد كل عالم من علماء السنة في كل زمان له -والعياذ بالله- من يترصد به، ويؤذيه، ويتظاهر بأنه على الحق والخير، إنها سنة ماضية، ولذلك تعزى المسلمون، وتعزى الأخيار والصالحون بمثل هذا، لو أقيم عليه الحد كان أمره ليس كما لو لم يقم عليه الحد، وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا، وفضوح الآخرة أعظم من فضوح الدنيا، والله سبحانه وتعالى بالمرصاد: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، ومن كانت عقوبته إلى الآخرة فأمره إلى وبال وخسارة؛ لأن الأمور بالعواقب، ولذلك من أقيم عليه الحد طهر، حتى قال بعض العلماء رحمهم الله -وكان بعض مشايخنا يختاره في التفسير-: إن العقوبة للتطهير، ومثل هذا المنافق لا يطهر، قلبه فيه البلاء، في قلبه وليس في جسده: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]، فهذا من أشد البيان على أنهم بلغوا -والعياذ بالله- الغاية في التمرد على الله عز وجل، ومشاقة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم.(379/15)
حكم لعن وقذف المغنيات اللاتي يظهرن في التلفاز
السؤال
رجلٌ كلما رأى المذيعات والمغنيات في التلفاز يلعنهن، ويتهمهن بالفجور والفسق، فهل يجوز هذا؟ أثابكم الله.
الجواب
الذي أراه أن الإنسان يمسك لسانه، ويحذر من الوقيعة في الناس، إن رأى ضالاً دعا له بالهداية والصلاح، وإن كان عنده أخطاء ويريد أن يبين أخطاءه، فليبين أخطاءه، ولا مانع من ذلك، أما أن يتهمهم بالعهر والفجور فهذا لا يجوز، إلا إذا كان الغناء فيه فجور، وفيه عهر، وفيه دعوة للفساد؛ حكم عليهم بقولهم، ولكن أن يتخذ ذلك سنة، كلما خرج إنسان أياً كان سواءً مغنياً أو غيره؛ يحكم عليه بذلك، ويتجرأ على عباد الله عز وجل، وقد نبهنا على أنه ينبغي للمسلم أن يحفظ لسانه ما أمكن.
إذا حرص كل من فيه خير على هداية الناس ودلالة الناس على الخير، وإذا رأى عاصياً لم ييأس من نصحه وتوجيهه؛ وفقه الله عز وجل، وعظم خيره، وكثرت بركته على الناس، انظر إلى رجلين، رجل يمر على الفاسق فيسبه ويلعنه ويشتمه، ولربما ينتقل من الغيرة على الحق ومن حدود النصح، إلى نوع من العداوة الدنيوية التي خرجت من الدينية إلى الدنيوية، والرجل الآخر لا نقول: إنه يمدح، ولكن يقول له: يا أخي! اتقِ الله عز وجل، وخفِ الله سبحانه وتعالى فيما تفعله، الله عز وجل يقول لأوليائه وأهل طاعته والملتزمين بكتابه وسنة النبي عليه الصلاة والسلام: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، فهل السب والشتم قول بليغ؟ هل السب والشتم يقود إلى الخير؟ (قولاً بليغاً): موعظة حسنة تهز القلوب، حينما تنظر إلى العاصي الذي تسلط عليه عدوك وعدوه وهو الشيطان، وتريد أن تكثر به سواد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتريد أن تهديه إلى الخير؛ فتح الله عليك، فتقول كلمات مؤثرة وقد يكون ذلك في موقف بسيط جداً، وتلهم فيه الكلمة المؤثرة ما دامت نيتك وطريقتك أنك تحرص على هداية الناس، وأهم شيء النية، انظر إلى أي شخص صالح نيته هداية الناس لا ييأس، ولو يقف أمام أفجر خلق الله يتمنى أن يهديه الله عز وجل؛ تجد أنه يوفق في كلام قد لا يوفق إليه غيره ممن يحضر الكلمات والخطب لحسن نيته ولصلاح طويته، وتجد الشخص ربما يتجرأ على الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الرجل يقول: هلك الناس فهو (أهلَكُهُمْ) وفي لفظ: (أهلَكَهُمْ)) فهو أهلكُهُم لأنه آيسهم من رحمة الله فهو أهلكُهُم؛ لأنهم وإن كانوا هالكين فقد قطع على الله عز وجل بأنهم هالكون، مع أن الأمور بالخواتم، وقيل: فهو أهلكَهُم، أي: أهلكهم ولكن الله لم يهلكهم؛ لأنهم ربما تابوا، وهذا رسول الأمة أصلح خلق الله عز وجل، وأهداهم سبيلاً، وأقواهم طريقاً، يقول الله له حينما لعن عصية التي عصت الله ورسوله ورعل وذكوان، وقنت عليهم شهراً يدعو عليهم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وجاء في بعض ألفاظ السير: (يا محمد! إنا لم نبعثك صخاباً ولا لعاناً، وإنما بعثناك رحمة للعالمين).
تصور أن شخصاً كان في جاهليته ومعصيته وقف عليه شخص وسبه سباً إلى أن استطال فيه، ثم اهتدى بعد ذلك، كيف يكون وجه هذا من ذاك؟ كيف يلتقيان؟ كيف يكون الأمر؟ لكن لو أنه مر عليه وقال له: اتق الله، لعل الله أن يهديك، أسأل الله أن يهديك، أسأل الله أن يتوب عليك، أسأل الله أن يأخذ بيدك إلى ما فيه الخير، لا شك أنه سيؤثر فيه، في بعض الأحيان تأخذك حمية الدين وتقول قولاً قوياً، لا نلومك، الولاء والبراء مطلوب، لكن بشرط أن يكون دافعك الخوف والخشية من الله عز وجل، رأيت المنكر فارتعدت فرائصك، لو رأيته من أقرب الناس منك كما لو رأيته من أبعد الناس منك؛ لأنها حمية لله، وليست حمية نفس، ولا عصبية، فالولاء والبراء الصادق النابع من نفس مؤمنة استنفدت كل الأسباب لهداية الناس ودلالتهم على الخير؛ خيرٌ وبركة، ولا بد للإسلام من عزة وكرامة، لا نرى فاسقاً فنمسح على رأسه ونقول: الله يهديك، ونذل له! لا يصلح هذا، هكذا سيتجرأ أهل الفساد على فسادهم، ولذلك إذا رأيتم فاسقاً فمر عليه الأول ونصحه، والثاني ونصحه، والثالث ونصحه، ثم مريت عليه، وقلت له: اتق الله،* لا تأمن أن يأخذك الله بأخذه، لا تأمن أن يسلبك عافيته، وأخذته بالقول الرادع فهذا قول بليغ؛ لأنه وقع في موقعه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة! أميطي عنا قرامك هذا)، وكانت فيه التصاوير، فنسيت عائشة رضي الله عنها، فجاء من صلاته عليه الصلاة والسلام فوقف متغير الوجه وامتنع من الدخول، فقالت: يا رسول الله! أغضب الله من أغضبك، ما تدري رضي الله عنها لما رأت من شدته في الحق.
فإذاً: كل شيء له مقامه وله مقاله، ولكن أن يأتي الشخص أمام المغنية أو المطرب ويقول: الله يفعل به كذا والملعونة والكذا، هل هي تسمع كلامه فتتأثر وتتوب؟ إذاً: هذا نوع من إضاعة الوقت، لكن شخص حمية لدينه لم يتمالك نفسه، فقال قولاً شديداً غليظاً عنيفاً في موقعه غيرة على الحق، لا يلام، لكن بشرط ألا يتعدى حدوده، وألا ينسى حق الإسلام إذا كان العاصي مسلماً، لا ينسى حق الإسلام، ولا ينزله منزلة الكافرين، شخص ارتكب ذنباً لا يوصله إلى الكفر لا ينزل منزلة الكافرين، وكأنه خرج من ربقة الإسلام من السب واللعن والشتم، وكأنه يئس من رحمة الله، لا، هذا هو الغلو، وهذا هو التنطع، ينبغي علينا أن نضبط الأمور بضوابط الشرع، وأن يتقي الإنسان ربه، وأن يعلم أن الهدف هداية الناس إلى الخير ودلالتهم على الخير.
بعض الأحيان قد تعبر تعبيرات تؤثر على العاصي، ذات مرة رأيت شاباً قارب البلوغ، وقد لبس القصير إلى أنصاف فخذه، فركب معي، فقلت له: أخي! أسألك سؤالاً: هل ثوبي هذا فيه عيب؟ قال لي: ما فيه عيب، قلت: يا أخي! ما أدري أنا كأني أرى فيه عيباً، فقال: والله! ما فيه عيب يا شيخ! قلت: يا أخي! ما فهمت ما أقول، رأيتك لابساً هذا اللباس فظننت أن اللباس الذي علي لا يليق، فطأطأ رأسه من الخجل وتأثر، لو أني قلت له: فيك كذا، وأنت مثل الكفار، وأنت كذا، فعلاً هذا لباس الكفار، فهم الذين يتعرون ويتبجحون بذلك، ولا نعرف هذا من عاداتنا وأخلاقنا وشمائلنا، لكن لما قلت له ذلك طأطأ رأسه خجلاً، ودمعت عينه وقلت له: والله! -يا أخي- إنك بثوبك عندي أعز منه في هذا اللباس، أين أنت يا أخي؟ أي نقص فيك لتتبع غيرك؟ وأي مهانة فيك حتى تظن الكرامة في غيرك؟ ولباس التقوى والستر خير لك، قال: أعاهد الله ثم أعاهدك ألا ألبس هذا بعد اليوم، فلو أنني قلت له مباشرة: أنت لبست لباس الكفار، أنت كذا، لكان ربما يقول لي: أتقول: إني كافر؟! مع أنه لبس لباساً ليس من لباس المسلمين ولا من عادتهم أنهم يأتون في مجامعهم بهذا العري وهذا التفسخ.
إذاً: القول البليغ أن تنصح الناس، وتوجه الناس وتأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله عز وجل.
النقطة الأخيرة: ألا تيأس، فمن خبث الشيطان أنه إذا جاء الشخص أمام أي إنسان مخطئ أول عقبة يضعها أمامه، أن يقطع رجاءه من الخير، كأن المخطئ الذي أمامه ليس براجع عن خطئه، وكأن المخطئ الذي أمامه سيموت على هذا الخطأ، ولكن الله عز وجل أحيا الأمل في النفوس وقال عن المنافقين: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، فإذاً: لا بد أن يحيا هذا الأمل في النفوس، وهي هداية الخلق إلى الله، ودلالتهم على الحق، لعل الله أن يأخذ بالقلوب إلى الخير.
نسأل الله العظيم أن يتوب علينا في التائبين، وأن يشملنا بعفوه ورحمته، وهو أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.(379/16)
حكم الخضاب بالسواد
السؤال
ما حكم الخضاب بالسواد لمن شاب وهو صغير؟ وهل النهي عنه معلل أم لا؟ أثابكم الله.
الجواب
السنة تغيير الشيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غيروا هذا الشيب)، وسواءً كان في كبير أو صغير، فإذا ابيضت لحيته وهو في شبابه؛ فإنه يغير هذا الشيب بالحناء أو الكتم، كما ورد في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتجنب السواد، هذه هي السنة، ومن قال من السلف -كما هو مذهب الحسن وطائفة من الصحابة-: إنه خاص لمن يريد الزواج أو يريد أن يغش النساء، فهذا قول مرجوح، والظاهر عموم النص، وأن المنع عام، والله تعالى أعلم.(379/17)
مسألة: ضع وتعجل
السؤال
اشتريت محلاً، وكان الاتفاق على أن أدفع نصف ثمنه نقداً، والنصف الآخر على أقساط شهرية، كل شهر خمسة عشر ألفاًً، وبعد أن دفعت عدداً من الأقساط وبقي عليّ مائة وخمسون ألفاً؛ اتفقت أنا والبائع على أن أدفع له باقي المبلغ نقداً، بشرط: أن يجري لي خصماً قدره عشرون ألفاً، أي: أدفع مائة وثلاثين ألفاً فقط، هل هذا جائز أم لا؟ وهل يعتبر بيع دين بحاضر؟ أثابكم الله.
الجواب
هذه المسألة فيها شبهة كبيرة، وهي من مسائل ضع وتعجل، ولها صور بعضها جائز، كما في قضية بني النضير حينما أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة، (وقالوا: يا محمد! أموالنا عند أصحابك، فقال: ضعوا وتعجلوا)، وهذه الصورة المذكورة في السؤال فيها شبهة قوية، ولذلك الأشبه منعها والتورع والابتعاد عنها أي: إذا قال له: بالشرط، يعني: أنا أسددك العشرة الأقساط الباقية نقداً، وتحسب الفائدة المركبة على التأخير وتسقطها وأعطيك نقداً، هذا شبهة الربا فيه قوية، وهو الذي أمنع منه، وأرى عدم جوازه.
وأما إذا كان الإسقاط في أصل المبلغ، مثلاً: شخص استدان منك عشرة آلاف ريال على أساس أن يسددها في محرم، فجاءك ظرف قبل شهر محرم وقلت له: يا فلان! أنا أعطيتك عشرة آلاف ريال وظروفي ميسرة، والآن ضاقت بي الأمور، إن أعطيتني ثمانية آلاف منها؛ سامحتك في الألفين، فهذا جائز وهو إسقاط في أصل المبلغ.
فرق بين مسألتنا إسقاط زيادة مركبة على الأجل وبين الإسقاط بأصل المبلغ الذي هو محض الفضل، ومن حقك أن تتنازل عن المبلغ كاملاً، ومما يفرق بين ما كان الإسقاط فيه متمحضاً لقاء الأجل بالشرط أن يقول مثلاً: والله! لا أسددك إلا لما تسقط عني، أو نفس الشركة تقول: إذا سددت الآن نسقط عنك، هذا كله فيه الشبهة التي ذكرنا، وأما إذا كان إسقاطاً في أصل المبلغ فلا بأس، وأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس واختاره الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره، فمذهب طائفة من السلف والأئمة رحمهم الله أن الإسقاط في أصل المبلغ لا بأس به، وعليه يحمل حديث: (ضعوا وتعجلوا)، والله تعالى أعلم.(379/18)
حكم من رأى بولاً في ثوبه بعد الصلاة
السؤال
وجدت قطرات من البول في الثوب عندما صليت صلاة الصبح، هل أعيد الصلاة أم لا؟ أثابكم الله.
الجواب
هذا فيه ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا كان وجدانك لهذه القطرات فيه أمارة ودلالة تدل على أنها بعد الصلاة، فصلاتك صحيحة ولا تعيد، مثلاً: تجدها طرية، وبينك وبين الصلاة نصف ساعة، فإن طراوتها خلال نصف ساعة يدل على أنها بعد الصلاة، فلو أنها كانت قبل الصلاة لنشفت، لكن كونها طرية في هذه الحالة فالأغلب أنها بعد الصلاة، فهذه دلالة ظاهرة.
الحالة الثانية: أن يكون هناك دلالة عكس تدل على أنها قبل الصلاة، مثل أن تسلم من الصلاة وتقوم فتجد القطرات يابسة ناشفة، والثوب جديد لبسته بعد وضوئك، فحينئذٍ تعلم أنها أثناء صلاتك أو قبل الصلاة مباشرة بعد الطهارة، فحينئذٍ تعيد.
الحالة الثالثة: إذا لم تجد أي دلالة، ما تدري: هل هي قبل أم بعد؟ فإذا صليت ووجدت أثر البول بعد الصلاة على وجهٍ لا يدل على السبق أو اللحوق، فالقاعدة: أنه ينسب لأقرب حادث، وقولهم: ينسب لأقرب حادث، أي: هناك حادثان: حادث قبل أو أثناء الصلاة يوجب الإعادة وبطلان الصلاة، وحادث بعد الصلاة لا يوجب الإعادة بل يوجب براءة الذمة وصحة الصلاة، فينسب لأقرب حادث، فإذا كان ما بعد الصلاة فصلاتك صحيحة، ولا يحكم ببطلان الصلاة، والله تعالى أعلم.(379/19)
علاج الطبع الحاد
السؤال
أنا شاب مستقيم وطالب علم فيما أحسب، إلا أنني أعاني من مشكلة تؤلمني كثيراً وهي: الطبع الحاد، والشدة في التعامل مع الناس؛ مما يسبب لي كثيراً من المشاكل والتصرفات التي سرعان ما أندم عليها، أرجو من فضيلتكم التوجيه والنصح، أثابكم الله؟
الجواب
لا يهذب أخلاق المؤمن شيء مثل كثرة الدعاء؛ لأن الأخلاق منحة من الله عز وجل، ولذلك قال: (يا رسول الله! أهو فيَّ أم شيء جبلني الله عليه؟ فقال: بل شيء جبلك الله عليه، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله).
الأخلاق بالدعاء، ونعمة عظيمة أن يلهم الإنسان كثرة الدعاء، دائماً تقول في مظان الإجابة: اللهم! اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال، وتسأل الله أن يهديك حسن الخلق، الدعاء أمر مهم جداً.
الأمر الثاني من الأمور التي تهذب أخلاق الإنسان وتقومه: كثرة تلاوة القرآن؛ لأن القرآن مع التأثر والاتعاظ يحكم القلب، وسلطانه على القلب قوي جداً، فالقلب إذا ارتدع بالقرآن خاف، وإذا خاف راقب الأعضاء والجوارح فزمها بزمام التقوى، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، فهذا القرآن الذي أقام الناس على مشاهد الآخرة ومشاهد الحساب ومشاهد المسؤولية، فيصبح طبعك مع الناس بدل الشدة اللين، وبدل العنف الشفقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيصبح عندك تروي في الأمور بفضل الله ثم بفضل القرآن، وقلّ أن تجد رجلاً من أهل القرآن إلا وجدته معصوماً بعصمة الله عز وجل في لسانه.
الأمر الثالث مما يعين على سلامة القول وسلامة الخلق وذهاب حدة الطبع: قيام الليل، فالمحافظة على قيام الليل من أعظم الأمور التي تهذب أخلاق العبد، ولذلك قال الله لنبيه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، فغالباً ما تجد قائم الليل زكي الأخلاق زكي النفس، اجعل لك حظاً من كتاب الله في جوف الليل الأظلم، خاصة في الثلث الأخير من الليل، وجرب بكاء الأسحار وتلاوة القرآن في الأسحار، فإن لها أثراً بليغاً في تهذيب الأخلاق وتقويمها ودلالتها على التي هي أقوم، وهذا شيء معروف يعرفه من يعرفه، فالأخلاق تهذب بقيام الليل، فتنشرح الصدور وتطمئن، فيذهب القلق، وتذهب الحدة، ويذهب الانزعاج.
الأمر الرابع: التسليم لله عز وجل، إذا كان هذا الأمر طبع فيك وما تستطيع أن تخرجه من نفسك، فهذا شيء لا تملكه، ولذلك موسى عليه السلام من أنبياء الله عز وجل لما أخذ برأس أخيه هارون وبلحيته، وألقى الألواح التي فيها كلام الله عز وجل، فإن هذا من شدة الغيرة على دين الله عز وجل، والشدة في طاعة الله عز وجل ومرضاته، ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} [الأعراف:150]، بين له عذره، فاستغفر له ولنفسه {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} [الأعراف:151]، فهذا طبع في الإنسان، أبو بكر رضي الله عنه كان محرماً مع النبي صلى الله عليه وسلم ويمسك خادمه ويضربه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا ماذا يصنع المحرم!)، وهو صديق الأمة وخير الأمة بعد نبيها صلوات الله وسلامه عليه.
يوجد أشياء لا تملكها، فإذا كان الخلق الحسن لا تملكه فأوصيك -وهذا الأمر الخامس- أول شيء بالرجوع إلى الحق، بمجرد ما تنتهي من أذية أحد ترجع إليه وتقول له: يا أخي! أنا أخطأت في حقك، والاعتذار يؤثر في نفسك، ويحرجك أن تعود المرة الثانية، فاعتذر مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً حتى تخجل من نفسك، وأقل ما فيها -وليس بالقليل- أنك تحملت الظلم، فإذا أخطأت فعود نفسك أنك تعتذر مباشرة.
الأمر السادس: أن تبتعد عن الأمور التي تستفزك! وصية أخيرة: الحدة غالباً ما تأتي أمام الضعفاء، فدائماً إذا ابتليت بضعيف في حق من حقوقك أو في أي شيء فتصور كأنك أمام إنسان عظيم، وهذا مما يعين على الأخلاق الكريمة، خاصة لو أردت أن تعرف حقيقة الرجل فانظر إليه مع الضعفاء، وكان أئمة السلف يضربون في ذلك المثل العظيم، يقول القائل: ما كان أعز الفقراء في مجلس سفيان الثوري رحمه الله، فكان يعز الفقراء والضعفاء، فالحدة ما تشتد أكثر إلا على الضعفاء، لكن أمام الأقوياء تنزل السكينة، وينزل الهدوء، وينزل التعقل، ابتلاء من الله عز وجل.
فالناس بسبب ضعف الإيمان إذا وقفوا أمام الأقوياء استضعفوا، وإذا كانوا أمام الضعفاء استقووا، فإذا وقفت أمام ضعيف تصور أنه قوي، تصور أنه من أقوى الناس، وإذا تصورت ذلك التصور فاعلم أن قوته -إذا كان مظلوماً وتريد أن تحتد عليه- من الله وليست من الناس، فهذا أقوى الأقوياء وهو الضعيف الذي تراه أمامك، من يكون مظلوماً فالله جعل له سلطاناً ونصيراً، فلا تستضعف الناس، ولا تظن أن الناس ضعفاء، فإنهم بربهم أقوياء خاصة أهل الإيمان يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] (إن) للتحقيق، وقال: (يدافع) وما قال: يدفع، وزيادة المبنى يدل على زيادة المعنى، أي: دفاعاً عظيماً، ثم كلمة دفع في لغة العرب لها قوة ولها معنى، أي: أن كل الظلم الذي سيأتيهم والأذية سيدفعها الله عز وجل، ثم قال: (عن الذين آمنوا)، عن فقرائهم وأغنيائهم، عن ضعفائهم وأقويائهم، عن كل شخص يذل أو يهان ما دام أنه من أهل الإيمان، فقد تولى الله أمره والدفاع عنه، وإذا تولى الله الدفاع عنه ما يستطيع أحد أن يقف في وجهه، فالله سبحانه وتعالى غالبٌ على أمره، فعلى كل إنسان أن يحاول قدر المستطاع أن يأخذ بهذه الأسس التي تعينه على سلامة قلبه والتحكم فيه.
ونسأل الله بعزته وجلاله أن يهدينا إلى أحسن الأخلاق والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا شرها وسيئها، لا يصرف عنا شرها وسيئها إلا هو، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.(379/20)
شرح زاد المستقنع - باب حد المسكر [1]
لقد دل دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على تحريم الخمر، حفاظاً على الدين والعقل والبدن والمال والعرض، فالخمر أم الكبائر، ومفتاح الرذائل، وباب كل شر، تنفر عنها العقول السليمة، وتستقبحها الطباع المستقيمة والفطر الكريمة.(380/1)
ضابط المسكر وتعريفه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب حد المسكر]، تقدم معنا تعريف الحدود، وبينا أنها العقوبات المقدرة شرعاً، وعلى هذا فإن حد المسكر هي: العقوبة التي نص عليها الشرع، إما مقدرة محددة كما اختاره جمهور العلماء رحمهم الله، وإما أن تترك لنظر الإمام فيما هو أولى في ردع الناس وزجرهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى توضيحه وبيانه.
أما من حيث الأصل فالجماهير على أن للسكر والخمر حداً في شريعة الله عز وجل، وعقوبة شرعية.
وقوله [المسكر] يقال: أسكر الشيء يسكر فهو مسكر، اسم فاعل، والمراد به ما خامر العقل وغطاه، سواء كان ذلك بالشراب أو بغيره، وسواء كان قليلاً أو كثيراً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع هذا الضابط فيما صح عنه من الأحاديث، فقال عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، هذا عام وشامل للقليل والكثير؛ ولذلك قال: (ما أسكر كثيره فملء الكف منه حرام)، وفي لفظ: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وكل هذا يدل على أن العبرة بوجود الإسكار، وأنه لا فرق في هذا الذي يتعاطاه الناس بين أن يكون قليلاً أو كثيراً ما دام أنه يخامر العقل.
وفرّق بعض العلماء رحمهم الله بين السكر والجنون: فجعلوا الجنون ما يذهب العقل، وجعلوا السكر ما يغطي العقل، فهم يرون أن هناك فرقاً بين السكر والجنون من هذا الوجه؛ ولذلك وصف المسكر بكونه خمراً لأنه يخامر يعني: يغطي، وعلى هذا فالعقل في الأصل يكون موجوداً، وتجد السكران تارة يفهم الأشياء وتارة لا يفهمها.
واختلفت ضوابط العلماء رحمهم الله في السكر، ومن هو السكران: فقال بعض العلماء رحمهم الله: هو الذي لا يفهم الخطاب، ولا يحسن الجواب، لا يفهم ما تخاطبه به، ولا يحسن أن يجيبك، ويختلّ ذلك الكلام المعهود منه، ولذلك لما أرادوا أن يختبروا بعض العلماء -وهو علي بن داود - عندما تصدر للفتوى والعلم، سألوه: متى يكون الإنسان سكراناً؟ فقال رحمه الله: إذا اختلّ كلامه المنظوم، وأباح بسره المكتوم.
فهذه من دلائل السكر أن يختل نظام كلامه، فربما تكلم بأشياء لا تفهم، وربما تكلم بأشياء تفهم، ولكنه يقدم أو يؤخر أو يدخل فيها غير المفهوم.
ومن هنا قال: إذا اختلّ كلامه المنظوم، وأيضاً أباح بسره المكتوم، وهذا من عظيم رحمة الله عز وجل بالعبد أنه رزقه العقل، وما سمي العقل عقلاً إلا لأنه يعقل، فهو يحمل الإنسان على الحياء والخجل، ويحمل الإنسان على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ويجعله ينتقي أفاضل الكلام كما ينتقى أفاضل الطعام، كل هذا بفضل الله ثم بالعقل، فإذا ذهبت هذه النعمة أو غطيت أو سترت أو حُجِّمت أو أصابها الضرر اختلت كلها، فأباح بسره المكتوم؛ لأن العقل يمنعه أن يبيح بسره، فليس هناك إنسان عاقل يبيح بأسراره أو يكشف ستر الله عز وجل عليه، أو على خلقه، أو على من يحب وعلى من يود؛ ولكن السكران ليس له عقل، ولذلك يبيح بأسراره، ويتكلم ويهذي بما يعرف وما ينكر.
وقوله رحمه الله: [باب حد المسكر] أي: بيان العقوبة الشرعية لمن شرب الخمر، أو تعاطى ما يسكر العقل سواء كان بالخمر أو كان بالمخدر الموجود في زماننا.
وذكر المصنف رحمه الله باب حد المسكر بعد باب القذف، وقد بيّنا أن العلماء رحمهم الله لهم نظرة في العقوبات، فقدّموا حد الزنا لقوة عقوبته، ولأنه أشد جلداً، ثم يليه حد القذف؛ لأنه من جنسه؛ فالأول اعتداء على العرض بالفعل، والثاني اعتداء على العرض بالقول، وعقوبته أخف؛ فكان بعده مباشرة، ثم بعده الخمر، والمناسبة واضحة في العقوبة؛ فإن عقوبة الثلاث كلها بالجلد، فاتفق العلماء رحمهم الله على أن عقوبة الزنا الجلد بإضافة التغريب والرجم على التفصيل إذا كان محصناً كما تقدم معنا، لكن في الأصل عقوبته الجلد، ولذلك قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2]، ومن هنا قال بعض العلماء: يجلد الزاني سواء كان محصناً أو ثيباً، حيث يجمع للثيب بين الجلد والرجم -كما تقدم معنا- على ظاهر حديث عبادة.
إذاً: الجلد في الزنا وفي القذف، ثم اتفق حد الخمر مع هاتين العقوبتين -أعني الزنا والقذف- في كونه يحد السكران بالجلد، ولذلك ناسب أن يذكره بعد هذين النوعين، بعد حد الزنا وحد القذف.
يقول رحمه الله: [باب حد المسكر] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقوبة شارب الخمر، أو من تعاطى المخدرات، وما في حكمها، سنبينه من كلامه رحمه الله.
بعض العلماء يقول: (باب حد المسكر) وبعضهم يقول: (باب حد الشراب) وبعضهم يقول: (باب حد الخمر)، وكلها متقاربة، وبعضهم يقول: (كتاب الأشربة) كما فعل الخرقي رحمه الله، فإنه قال: كتاب الأشربة، فيتكلم عن الخمر ثم تكلم عن أحكام الأشربة، وعادة العلماء أنهم يذكرون الأحكام في مظانها؛ فمظان أحكام الأشربة أن تذكر في باب الخمر، ولذلك يذكرون الخمر وتحريمها، ثم يفرعون على ذلك شرب السموم أو شرب الأمور المحرمة، وهذا كله من بيان الأشياء في مظانها.
قال رحمه الله تعالى: [كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام] وهذا أصل مستنبط من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة انبنت عليها فروع، وأصل انبنى عليه غيره، ومنتزع من قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، و (كل) من ألفاظ العموم والشمول عند العلماء رحمهم الله؛ ولذلك عندما تقول: (كل) حكم على المجموع، وليس حكماً على فرد، ولا أفراد معينين: الكل حكمنا على المجموع ككل ذاك ليس ذا وقوع فإذا قيل: (كل)، فهذا من ألفاظ العموم كما نص على ذلك أئمة الأصول رحمهم الله، فهنا نص المصنف رحمه الله على هذا فقال: (كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام).
قوله: (كل شراب) سواء كان من التمر، أو كان من الرطب، أو كان من البسر وهو البلح، أو كان من الزبيب، أو كان من العنب، أو كان من العسل، أو كان من التين، أو كان من الحنطة، أو كان من الشعير، أو كان من الذرة، فهذا عموم، وكانت الخمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما تتخذ من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير، كما ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها كانت من خمس: فذكر هذه الخمس رضي الله عنه في خطبته المشهورة.
والذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم هو العموم والشمول، فكانوا في ذلك الزمان يتخذون الخمر من هذه الأشياء، فيأخذون التمر؛ فينقع وينتبذ في الماء حتى يشتد ويقذف بالزبد، ثم بعد ذلك إذا شرب أثر في العقل، وخامر العقل والإدراك.
وكذلك أيضاً بقيت الأشياء التي ذكرت، ثم توسع الناس في هذا، وما زالت الأشربة تختلف، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عنه: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا)، والنبيذ: من النبذ، وأصل النبذ في لغة العرب الطرح، وسمي هذا الشراب نبيذاً لأنهم كانوا يطرحون التمر والبسر -البلح- والرطب والتين والعسل حتى يشتدّ ويقذف بالزبد، فقال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام)، فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا حرج في هذا الانتباذ إلا أن يكون مسكراً.
قال رحمه الله: (كل شراب أسكر) العلة هي الإسكار، فإذا أثر في العقل فغطى العقل والإدراك فإنه محرم أياً كان هذه الأنواع.
وقال: (كل شراب) لأن الأصل في الخمر أنها شراب، وهذا الذي كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والنص جاء في الشراب؛ لأنه كان هو الموجود، لكن النص نبه على العلة، وبيّن السبب الذي من أجله حرم هذا الشراب؛ لأن الله لا يحرم على عباده إلا لسبب ولأمر، فلما بين عليه الصلاة والسلام أن العلة هي الإسكار: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ، فانتبذوا، وكل مسكر حرام)، وقال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، دل على أن العلة هي مخامرة العقل وإزالة الشعور، فأي شراب أذهب الشعور أو أزال الإدراك فإنه يدخل تحت هذا التحريم؛ لأن العبرة بالمعنى، وليست العبرة أن نجمد عند الألفاظ، إنما العبرة أن ننظر إلى العلة التي من أجلها حرم الله ورسوله هذا الشراب، فتتطور الأمر حتى وجدت أشياء ليست بشراب، وتؤثر في العقل، فتارة تكون من المأكولات، وتارة تكون من المشمومات كالسموم الطيارة التي تشم فتذهب الشعور، وتارة يتعاطاها الإنسان عن طريق الحقن والعياذ بالله! يحقنها في دمه حتى تؤثر على عقله وإدراكه.(380/2)
أدلة الكتاب على تحريم الخمر
إذاً: نحن ننظر إلى العلة، فقال المصنف رحمه الله: (كل شراب أسكر)، وهذا نص منه رحمه الله على تحريم الخمر، وأنها في الأصل كانت من الشراب، وهذا التحريم له دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأيضاً دليل العقل: أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى حرم الخمر في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90 - 91]، وهذه الآية الكريمة لما نزلت صاح عمر رضي الله عنه -كما في الصحيح-: (انتهينا! انتهينا! انتهينا!).(380/3)
دلالة آية المائدة على تحريم الخمر من عدة وجوه
وهذه الآية دلالتها على تحريم الخمر من وجوه، فليست دالة على تحريم الخمر من وجه واحد، ولا من وجهين؛ بل من وجوه عديدة، وهذا من أجمل وأبدع ما يكون من الأساليب، وكل أساليب القرآن جميلة بديعة؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، قال الله: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]، وهذه الوجوه هي: أولا: أن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة:90]، فجمع الله عز وجل بين الخمر وبين الشرك؛ وذلك في قوله: (وَالأَنصَابُ) وهي جمع نصب، قيل: هي الأوثان القائمة الشاخصة وقيل: التي كانت تذبح عليها القرابين، فتنصب لذبح القرابين.
فلما قرن الله الخمر بالشرك دل على عظم أمرها؛ وهذا أبلغ في التنفير أن يذكر أعظم الحدود، وأعظم الذنوب الذي لا يغفره الله لصاحبه ويقرن به شرب الخمر، فهذا يدل على عظم تحريم الخمر.
ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى وصفها بكونها رجساً: ((إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)) [المائدة:90]، والرجس: النجس الخبيث.
ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله أن في الخمر وصف النجاسة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة، ولم يذكر القول المخالف -الذي هو قول ربيعة وداود الظاهري ومن وافقهما- تعظيماً لأمر حرمة الخمر ونجاستها وخبثها، فقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90]، هي رجس، والله يقول: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30]، وهذا الوصف المستبشع -وهو الرجس- تنفر منه النفوس السليمة، فضلاً عن النفوس المؤمنة المستقيمة على طاعة الله عز وجل، وهذا يقتضي التنفير من الخمر.
ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى جعلها من عمل الشيطان الذي لا يأتي المسلم بالخير، ولا يأتي الإنسان بخير: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53]، فجعلها من عمل الشيطان، وهذا من أبلغ ما يكون من التنفير؛ لأن المؤمن لا يرتاح لشيء يكون من الشيطان، ولا يحب شيئاً من الشيطان، ومن أساليب القرآن للتنفير من المعاصي أن تصفها بأنها من عمل الشيطان: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]، وهذا من أساليب الكتاب والسنة في التنفير من المعاصي.
رابعاً: أن الله عز وجل أمر باجتناب الخمر في الآية الكريمة فقال سبحانه: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90]، فيه أمران: الأول: كونه جاء بصيغة (افْعَلْ)، وهذا يدل على الوجوب، فإن صيغة (افْعَلْ) تدل على وجوب فعل المأمور به، فالأصل عند العلماء أن صيغة (افْعَلْ) تقتضي الوجوب حتى يدل الدليل على الندب.
الثاني: أن الله عبر بالاجتناب، والاجتناب من صيغ التحريم، (اجتنب)، و (دع)، و (اترك)، و (ذر)، هذه كلها من صيغ التحريم عند علماء الأصول، ويرونها من الصيغ القوية التي تدل على الحرمة، قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30].
خامساً: أن الله سبحانه وتعالى بين أن الخمر طريق للعداوة والبغضاء، والوسائل تأخذ حكم مقاصدها، وما كان طريقاً إلى حرام أو سبيلاً إلى حرام فهو حرام، ثم ما كان سبيلاً إلى حرام عظيم فهو سبيل أعظم حرمة؛ ولذلك قالوا: وسائل الشرك أعظم من وسائل الذنوب الأخرى، ووسائل الكبائر ليست كوسائل الصغائر، فتفاضلت الوسائل بحسب ما تنتهي إليه، وانظر! كون القرآن يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة:90] فبدأ بها، وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ} [المائدة:91] فبدأ بها؛ لأنها أساس الشر وأساس كل خبث؛ ولذلك توصف بكونها أم الخبائث كما ورد مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تجر إلى كل شر، وإلى كل بلاء، قال الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة:91]، هذا الوجه الخامس.
الوجه السادس: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المائدة:91]، وجمع الله في التنفير بين الأمرين العام والخاص، فقال: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة:91]، فجمع بين كونها صادة عن ذكر الله عز وجل عموما، ً فشارب الخمر لا يذكر ربه، فهو غافل عن الله سبحانه وتعالى، وكذلك أيضاً تكون الخمر طريقاً إلى ترك الصلاة.
كان تحريمها تدريجياً، فنفر الله منها في قوله:: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، فانتهى قوم من الصحابة عند هذا الحد، ثم حرمها عند قربان وقت الصلاة، فكان الناس لا يشربونها من بعد صلاة الظهر، وبعضهم ينتهي منها من بعد الفجر؛ لأنه يذهب إلى معاشه إلى أن يصلي العشاء، فيأتي منهكاً متعباً فلا يستطيع أن يشربها، وهذا من التدريج في التحريم كما سنبينه، فعندما حرمها الله سبحانه وتعالى عند قرب وقت الصلاة؛ فمن يشربها ستضيع عليه الصلاة، لأنه منهي عن شربها عند قرب وقت الصلاة فعبر بالصلاة والمراد وقت الصلاة.
الوجه السابع في الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91]، قال بعض العلماء: إن ختم الآية الكريمة بهذه الأسلوب البلاغي الجميل البديع أبلغ في زجر النفوس من قوله: (فانتهوا)، فإنه لما قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] فيه ما يدل على الحث والحض على الانتهاء والابتعاد؛ لأنه سبق أمرهم بالاجتناب، فلم يكرر سبحانه ذلك، وإنما جاء بهذا الأسلوب الذي هو أبلغ في تنفير النفوس من شرب هذا الأمر المحرم.
هذا هو دليل الكتاب؛ وهذه الآية الكريمة من سورة المائدة تعتبر أصلاً عند العلماء رحمهم الله في تحريم الخمر.
وفي هذا التحريم الوارد في هذه الآية وقفة يحتاج كل مسلم أن يقف عندها سواء كان من طلاب العلم أو من العلماء أو من العامة؛ وذلك أن الله يقول: (فَاجْتَنِبُوهُ)، والأمر بالاجتناب أمر بالابتعاد، ما قال: فلا تشربوا الخمر ولا تفعلوا الأنصاب والأزلام، ولكن قال: (فَاجْتَنِبُوهُ)، فلما قال: (فَاجْتَنِبُوهُ) دل على أنه لا يجوز لمسلم ولا لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشرب الخمر، ولا أن يحملها، ولا أن يبيعها، ولا أن يشتريها، ولا أن يعتصرها، ولا يطلب عصيرها فتعصر له، ولا أن يعصرها، ولا أن يتطيب بها في ثيابه.
وللأسف! بعض الجهلة يظن أن التحريم للشرب فقط، ثم يأتي بعض طلبة العلم ويقول: الخمر طاهرة في أصح قولي العلماء، وهذا قول لبعض العلماء، ولكنه قولاً مرجوحاً، وجماهير السلف والخلف على أنها نجسة، لظاهر الآية الكريمة، ولحديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين.
لكن الإشكال أنه يقول: هي طاهرة لا تؤثر في الصلاة، فيتطيب بما فيه كحول، وبما فيه مادة (اسبيرتو) التي فيها كحول، ثم يقول: هي طاهرة! فينظر إلى قضية كونها طاهرة أو نجسة، ولا ينظر إلى أن الله أمره باجتنابها؛ فالله أمر باجتناب القليل والكثير، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم شرب القليل منها والكثير، فنقول: حرم الله وأمر باجتنابها قليلة كانت أو كثيرة، ولو كانت نسبة (2%) ما دام أنها موجودة في هذا الطيب أو في هذا العطر، ولذلك أنت مأمور شرعاً باجتنابها، وهذا أمر يخلط فيه بعض طلبة العلم، ولذلك ينبغي على كل مسلم أن يضع هذه الآية الكريمة في دلالتها وبيانها نصب عينيه، فالأمر بالاجتناب عام شامل للشرب وشامل للتطيب، وهي ليست طيباً بل تضر ولا تنفع.(380/4)
الأدلة من السنة على تحريم الخمر
ودل دليل السنة على تحريم الخمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) فهذا نص في تحريم الخمر، فكلمة (حرام) تدل على عدم جواز شرب الخمر، وعدم جواز تعاطيها.
كذلك أيضاً صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لعن في الخمر عاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها، ومستقيها، وهذا من أبلغ ما يدل على تحريم الخمر؛ حتى قال بعض العلماء: ليست العبرة بقوله: (حاملها والمحمولة إليه، وشاربها وساقيها ومستقيها، وبائعها وآكل ثمنها، وعاصرها ومعتصرها)؛ إنما العبرة بكل من ساعد على الخمر، والأمر لا يتوقف عند هذه الأوصاف التي كانت موجودة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من أعان على الخمر فهو ملعون، ومن هنا قالوا: من قال كلاماً يزينها أو يدعو إليها أو مجَّدها أو دفع أبناء المسلمين وشبابهم وأهل الفطرة من صغار السن والأحداث إليها؛ فإنه ملعون؛ لأن فعله هذا قد يكون أبلغ من فعل الذي يحمل أو يبيع أو يشتري.
فهذا كله تعظيم لحرمة الخمر؛ لأنها أم الخبائث، فقفلت السنة جميع الأبواب المفضية إليها تعظيماً لأمرها.
ولو ورد اللعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر جعلها العلماء من كبائر الذنوب، بل قال بعض العلماء: إنها من أكبر الكبائر، ولما روجع في هذا وقيل له: لماذا جعلتها من أكبر الكبائر؟ قال: لأنه إذا شرب الخمر لم يتورع عن أمر ولو كان من أعظم الأمور، وقد اتفق لبعضهم أنه ترك الصلاة، فدخلت عليه أمه ذات يوم وهو شارب للخمر والعياذ بالله! فأمرته بالصلاة، فما كان منه إلا أن حملها إلى تنور مسجّرٍ في البيت ورماها فيه، وهي تستنجد به وتناشده الله حتى هلكت، ثم إنه بعد شربه للخمر أغشي عليه، فلما أفاق وجد أمه -نسأل الله السلامة والعافية- في التنور فمات من ساعته، ومات والعياذ بالله! مدمناً على الخمر وشارباً لها، ومات وهو عاق لوالديه تارك للصلاة.
ومن شرب الخمر استدرج إلى كل قبيحة ورذيلة، ولا يزال يهوي في الرذائل حتى يمسي أو يصبح وليس في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان والعياذ بالله! فهي باب الشر والبلاء، وما فتحت المسكرات والمخدرات على أمة إلا دمرت تماماً، فذهبت فيها الغيرة والحمية، وقتلت الفطرة، وذهبت العقول التي هي نور الله ينير بها لعباده كما قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، فالنور الأول نور الوحي (عَلَى نُورٍ) وهو نور العقل؛ ولذلك لا يمكن للإنسان أن يصيب الهدى والرشاد إلا بهذين النورين: نور العقل، ونور الوحي نسأل الله عز وجل أن يرزقنا منهما، وأن يجعلنا من أهلهما.
فالخمر أساس كل شر وبلاء، قالوا: إنها من أكبر الكبائر لأنها تقود إلى كل شر، وإلى كل بلاء والعياذ بالله.
واتفق لبعضهم أنه دعته امرأة إلى الزنا والعياذ بالله! فامتنع، فاستدرجته حتى دخل البيت، فقالت له: إن لم تفعل الزنا فإنني أصيح في الناس، فخاف وامتنع، فقالت له: إذاً اشرب من هذا الكأس قليلاً وأدعك تذهب، فلا أدعك تخرج حتى تشرب من هذا الكأس، فشرب من الكأس والعياذ بالله! فلما شربها زنى بها والعياذ بالله! فوقع في الخمر ووقع في الزنا، فهي تقود إلى كل شر، قالوا: الخمر من أكبر الكبائر؛ لأنه لا يتورع صاحبها، وممكن أن يشرك بالله عز وجل، وممكن والعياذ بالله! أن يدعى إلى أخبث وأشنع ما يكون من معاصي الله وحدوده ولا يرعوي، ثم إنها تخلف في الإنسان ضعف العقل والدين، وضعف الغيرة وقلة الحياء، وضعف الخجل، إلى غير ذلك مما تورثه من الأضرار الدينية والدنيوية، ومن هنا قالوا: إنها من أكبر الكبائر، والصحيح أنها من كبائر الذنوب، وأكبر الكبائر ما نص الشرع على كونه من أكبر الكبائر، كما صح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه.(380/5)
الإجماع على تحريم الخمر
أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الخمر، وكلهم متفقون على أن الخمر محرمة، وأن من قال: إن الخمر حلال، فقد كفر بالله عز وجل؛ لأنه كذب النص القطعي في القرآن؛ لأن الله عز وجل حرم الخمر، وتحريم الخمر ثابت بدليل قطعي إلا إذا كان جاهلاً فيعلم، أما لو قال: الخمر ما فيها شيء، ولماذا تحرم الخمر؟! الخمر تبهج النفس! وهي حلال، أو قال: ليس في الشرع دليل على تحريم الخمر، وهو يعلم بنص القرآن ونص السنة؛ فهذا -كما ذكر العلماء- كافر مستحل للخمر؛ لأنه يعتقد أنها حلال.(380/6)
دليل العقل على ضرر الخمر على البدن والعقل والمال
وكما دل دليل النقل دل دليل العقل على تحريم الخمر، قال العلماء: إنها تورث الأضرار الدينية والدنيوية، وقد جاءت الشريعة بحفظ: الدين، والعقل، والعرض، والمال، والنفس، وهي الضرورات الخمس، فمنها: العقل، ولذلك قالوا: إن النصوص كلها دالة على أن الشريعة تراعي جلب المصالح ودرء المفاسد، والخمر فيها أعظم المفاسد، ففيها مفاسد الدين، فهي تؤثر في دين الإنسان واستقامته وطاعته لله عز وجل، وقد بيّن الله عز وجل هذه المفسدة الدينية بقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]، وقال: {يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة:91]، فنص على أن فيها أضراراً دينية، وليست الأضرار على الفرد فقط، بل حتى على المجتمع {يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}، إذاً: الضرر الديني موجود فيها.
وأما الضرر الدنيوي فقد تكلم الأطباء في هذا بما يشفي ويكفي، وعلى كل عاقل عنده من الوقت والسعة أن يقرأ بعض البحوث المفيدة التي تكلمت عن أضرار المسكرات والمخدرات، حتى يحصن بذلك نفسه فيزداد يقيناًً بحكم الله عز وجل بالتحريم، وأيضاً ينفع بها غيره؛ إذا وعظه وذكره وزجره عن هذا الداء الخبيث.
ومما يدل على أضراره الدنيوية عظيم أثرها على الجسد، ومن هنا نص عليه الصلاة والسلام على ذلك: (فلما دخل على أم سلمة رضي الله عنها وقد نقعت النبيذ حتى قذف بالزبد، فقال: ما هذا؟ قالت رضي الله عنها: إن فلانة تشتكي بطنها، فدفعه عليه الصلاة والسلام برجله حتى انكسر الإناء وسال النبيذ على الأرض وقال: إنها داء)، أي: ليست بدواء، وجاء هذا أيضاً في حديث طارق بن سويد الجعفي رضي الله عنه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم وغيره- أن ينقع الخمر دواء للناس، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها ليست بدواء ولكنها داء)، فهي داء على البدن، وأثبت الطب هذا الأمر، وإن كان ثابتاً من قبل عند المسلمين، ولا يحتاجون إلى أحد يثبته بعد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت التقارير الطبية أنها تؤثر -والعياذ بالله- على القلب، وأنها من أسباب الجلطات والسكتات القلبية والعياذ بالله، وأنها تؤثر على الدماغ، وتحدث أمراضاً مستعصية -والعياذ بالله- في التفكير والتركيز والذهن، وكذلك تؤثر على الكبد والبنكرياس وغيرها من أجهزة الإنسان، حتى إنها تؤثر على نسله وذريته والعياذ بالله فهي تؤثر في النسل، وبعضهم يظن أن الخمر تقوي الرغبة الجنسية وكذّب الأطباء ذلك، وقالوا: السبب في هذا أن الإنسان في فطرته عنده حياء وخجل، وأمور الشهوة محل الخجل والحياء، فإذا شرب الخمر انقطعت هذه الحواجز وأصبح كالبهيمة، فهو يحس أن هذا قوة في الشهوة، وأنه أصبح فحلاً، والأمر بالعكس، فإن هذا تدمير -والعياذ بالله- للحواجز التي تكبح جماح الشهوة، وتخرج عن حدودها، وكل شيء في الجسد إذا خرج عن حدوده فعواقبه وخيمة، ونهايته أليمة، فالخمر تؤثر في كل شيء حتى في النسل والتركيز، وغير ذلك مما ذكره الأطباء والحكماء.
وبالمناسبة؛ في المؤتمر المشهور العالمي الأول للمسكرات والمخدرات بحوث قيمة ذكرها بعض أطباء المسلمين، وتكلموا كلاماً جيداً في الدراسات، ففيه بحوث موثقة طبياً عن الأضرار الموجودة في الخمر، والعواقب التي ينتهي إليها شارب الخمر والعياذ بالله.
إضافة إلى الأضرار المادية، ولذلك تجد الدول التي ينتشر فيها شرب الخمر تكثر فيها حوادث السيارات، وتكثر فيها حوادث الجرائم والعنف والقتل والاعتداء، إلى غير ذلك من المصائب التي جعلها الله عز وجل لكل من عصاه، والمعيشة الضنكة التي وعدها الله عز وجل لكل من تنكب عن سبيله، وخرج عن شرعه ودينه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا بعصمته، وأن يحفظنا بحفظه.
كان الناس في الجاهلية يشربون الخمر، ويتفاخرون بشربها، وكان بعضهم يظن أنها ترفعه، فإذا شربها ظن أنه أصبح في أعلى المجد، وأصاب من الحظ أوفره وأعظمه، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصيدة له قبل الإسلام: عفت ذات الأصابع فالدلاء إلى عذراء منزلها خلاء ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والدلاء إلى أن قال: فنشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنهنا اللقاء فقال: فنشربها فتتركنا ملوكاً، فيحس أنه أصبح كأن الدنيا كلها تحته، وقال شاعر: فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير يعني: هو إذا شربها ظن أنه أصبح كسرى (رب الخورنق والسدير) وإذا صحا وجد أنه عند البعير والغنم التي يملكها، فهذا من بلاء الخمر، فكانوا في الجاهلية يشربونها، وكان عقلاء الناس لا يشربونها حتى في الجاهلية، وأثر عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم لم يشربوا الخمر لا في جاهلية ولا في إسلام، وهذه من عظيم نعم الله عز وجل، أن يصون الإنسان نفسه عن هذا الداء والبلاء، فكان أبو بكر رضي الله عنه يعافها في الجاهلية، كيف وهو في صحبة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان رضي الله عنه من أشد الناس حياء، ورأى أن الخمر تنزع الحياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)، فالخمر تتدمر الحياء، وتجعل الإنسان صفيق الوجه والعياذ بالله! بعيداً عن المكارم والأمور المحمودة، وتغنى عقلاء الجاهلية بتركها؛ لما فيها من السوء والأذى، ولذلك عاصم بن قيس الشاعر المشهور شرب الخمر، ودخلت عليه إحدى بناته في أمر من الأمور فغمز عكنتها وهو شارب للخمر، لا يعي، فلما أفاق ندم ندماً شديداً وأقسم على نفسه -وهو في الجاهلية- ألا يشرب الخمر أبداً، لا في صحة ولا في مرض، يعني: لا للتداوي ولا غيرها، مع أنهم كان يقال لهم: إنها دواء.(380/7)
تدرج الشرع في تحريم الخمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
من نعم الله عز وجل أنه حرّم الخمر، ولكن الله لطف بعباده، فكانت النفوس متعلقة بالخمر، وهي فتنة وشهوة، فالله عز وجل من حكمته -وهو الحكيم العليم- أن تدرج في تحريم هذا الداء والبلاء، وهذا يدل على عظم شرها، وسلطانها على النفوس.
وأول ما نزل في الخمر قوله عز وجل: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67]، وهذه الآية الكريمة في سورة النحل بيّن الله عز وجل فيها أن ثمرة النخيل والأعناب يتخذ منها السكر والرزق الحسن، فبعض الصحابة كفّ عن الخمر بهذه الآية، وفهموا أن الله يلمح وينبه، على أن الخمر ليست بمحمودة،؛ لأن الله قال: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}، فجعل هذه الثمرات رزقاً حسناً، وجعل ضد الرزق الحسن الخمر، ومن هنا فهم بعض الصحابة أن هناك تنبيهاً، حتى إن عمر رضي الله عنه كان دائماً يقول وهي حلال: (اللهم! بين لنا في الخمر)، أحس من هذه الآية أن الله عز وجل يدعو إلى أمر ما.
ثم نزلت الآية الثانية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] أي: ما يكون منهما من الشر والبلاء، وإلى الآن ما جاء بيان ما يقع من الأضرار والبلاء؛ وهذا يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يفسره إلا إنسان عنده علم وفهم، فإن الإثم معروف أنه ضد النفع، والخطيئة والسيئة ضد الحسنة، وهذا يقتضي أن شاربها يأثم، مع أن الآية لم تقتض تأثيماً، وإنما المراد: (وَإِثْمُهُمَا) أي: ما يكون منهما من الأضرار والتبعات أعظم من النفع الموجود، والدليل على أن الإثم هنا ليس المراد به السيئة: وجود المقابلة: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، وهذه أساليب الكتاب والسنة ما تحتاج إلى النظر في المقابلات، وهذا من صوارف الألفاظ عن ظاهرها، ولذلك يحتاج كل أحد يتعامل مع النصوص أن يفهم ألفاظ الشرع وكيفية دلالاتها.
ثم نزلت الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43]، فبين سبحانه وتعالى أنه حرم على المؤمنين شرب الخمر عند قربان وقت الصلاة، وأول الصلوات الخمس صلاة الظهر كما هو معلوم، فهي الصلاة الأولى؛ لأنها أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبح من ليلة الإسراء، وصلاة الظهر وقت للكسب والمعيشة، ولذلك ما كانوا يستطيعون شرب الخمر في هذا الوقت إلا إنسان خامل أو إنسان ليس عنده عمل، ففي هذه الوقت أكثر المجتمع ينهمك في الكسب.
ولماذا جعلت صلاة الضحى لها الفضل العظيم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)؟ لأنها وقت غفلة، وهي وقت انشغال الناس في البيع والشراء والدنيا، فلا يشربون الخمر في هذا الوقت؛ لأنهم مشتغلون بالكسب، فما يأتي الظهر إلا وهو متعب منهك يريد أن يرتاح في الظهيرة من عناء النهار، وبعد الظهر لا يستطيع أن يشربها فوقت العصر قريب فيمتنع من شربها، فإذا صلى العصر فإنه لا يستطيع أن يشرب لقرب وقت المغرب، ثم إذا صلى المغرب لا يستطيع أن يشرب لقرب وقت العشاء، فأوقاتها متقاربة جداً، فامتنعوا من شربها في النهار إلى صلاة العشاء، فإذا صلى العشاء فإنه يكون مجهداً منهكاً أكثر من إنهاكه في الظهر، وحينئذ أيهما أفضل عنده: الشراب وطعامه أو نومه؟ قال بعض العلماء: إذا ازدحم الطعام والشراب والنوم فإن النوم يسبق الطعام والشراب؛ لأن النوم لذته وسلطانه أقوى من سلطان الجوع والعطش، فإنه ربما ربط على بطنه فصبر، ولكن الناعس ما يستطيع رد النوم، حتى أنه ربما يدهم عليه النوم وهو يقود سيارته، فما يستطيع أن يدفع عن نفسه وروحه الهلاك والموت من شدة سلطان النوم على النفس، فإذا صلوا العشاء فإنهم يحتاجون إلى النوم ويقدمونه على شهوة السكر.
ومن هنا ضاق الأمر، حتى إذا شرب الخمر في هذا الوقت فإنه لا يجد لها لذة ولا طعماً؛ لأنه يريد أن يرتاح ويريد أن ينام فيصلي الفجر فيعود إلى حاله الأول، فصار هذا تدريجاً فكف أقوام عن شربهم في هذا الوقت.
ثم إن الله عز وجل تدارك الأمة بلطفه فحرم الخمر تحريما باتاً، وسلب الخمر ما فيها من منافع بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، وجاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم -وحسنه بعض العلماء- (إن الله سلب الخمر ما فيها من المنافع)، فأصبحت بلاء وداء وشراً، ولا منفعة فيها ولا خير.
فهذا التدريج في التحريم يدل على تأثير هذا الداء والبلاء على النفوس، وإذا كانت الخمر الموجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لها هذا التأثير، فإن في العصور المتأخرة والعياذ بالله! فتح على الناس شر عظيم، وبلاء وخيم، وذلك بأنواع المخدرات التي استشرت وتنوعت واختلفت، وزينها الشيطان للناس والعياذ بالله! فوقعوا في بلاء لا يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى.(380/8)
المخدرات واستخدام البنج في العمليات الجراحية
المخدرات لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن موجودة في عصر الخلفاء الراشدين، ولم تكن موجودة في القرون المفضلة، كان يوجد (البانجو والشيكران) وهذا نبت معروف، يؤثر على العقل، ولذلك الإبل لو أكلت (الشكيران والبانجو) تهيم وتصبح سكرانة، لكن هل للإبل عقل حتى نقول: إنها فقدت عقلها؟ فهي تهيم، ولو تحمل عليها أي شيء، تمشي، لأنها تفقد التحكم، وهي ليس لها عقل، ولكن لها هداية من الله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، فهدى الإبل لكي تخدم الإنسان وتقوم على مصالحه، فإذا أكلت هذا النبت تهيم وتصبح بدون وعي فلا تتحكم في نفسها، وتتحكم في عواطفها، فالشيكران والبنج كان موجوداً، وذكره العلماء المتقدمون رحمهم الله في علاج قطع الأعضاء، كما قيل لـ عروة بن الزبير: ألا نسقيك خمراً؟ وذلك عند قطع رجله، فأبى رحمه الله برحمته الواسعة، وقيل: إنهم عرضوا عليه البنج كما ذكر الإمام أبو نعيم الحافظ في الحلية، فامتنع، وأمرهم أن يقطعوها وهو يذكر الله، قال الزهري: فوالله! ما تغير وجهه يعني: ما تغير من قوة الإيمان، وهكذا الذين يذكرون الله عز وجل بقلوب حاضرة تستشعر عظمة الله عز وجل، حتى إنها تقطع منه الرجل ولا يشعر، وقد وقع هذا لبعض الشهداء، فإنه كان في إحدى المعارك فانفجر به لغم، فقطع رجله وسقط كالمغشي عليه، ثم أفاق فجاءوا يحملونه وهو لا يشعر بقطع رجله، وهو معاق تماماً، فحملوه وهو يضحك ويتحدث معهم، ويقول: والله! إني بخير أشعر بسعادة، ويحدثهم في طاعة الله وذكره عز وجل، ورجله مقطوعة ينزف منها الدم، ومكث ما بين ثلاث دقائق إلى خمس دقائق، وهو يقول لهم: أحس بانشراح وسعادة عجيبة! يقولون له: ألا تشعر بألم؟ يقول: لا، أبداً! إنما أحس بشيء بسيط مثل دبيب النمل عند ركبتي؛ لأن ساقه مبتورة تماماً، حتى فاضت روحه إلى الله رحمه الله برحمته الواسعة.
فالشاهد من هذا، أن الإنسان إذا كان قوي الإيمان يذكر ربه، وهو حاضر القلب؛ لا يحتاج إلى مثل هذه الأشياء، حتى إن الوالد رحمة الله عليه حصل له حادث -وهذا نذكره لأجل الاعتبار- فانقشع جلد رأسه إلى آخر الدماغ، فجاءوا به إلى المستشفى وهو ينزف، فأرادوا أن يخيطوها، يقول من حضر: قيل له: نعطيك المخدر؟ قال: لا، فبدءوا بخياطة جلده بدون مخدر، يقول الشاهد: والله! إنه يتلو القرآن، والله! لم يتألم، ولا تغير وجهه، وهو صابر متجلد، وحدثنا الطبيب الذي أشرف على علاجه فقال: كان الحادث بعد الظهر، وأتيته عند صلاة العصر، فخيطت له الأماكن، حتى إن الممرض الذي يقوم عليه سقط مغشياً عليه، نفس الممرض الذي يداويه ما تحمل هذا الشيء، صار يعيش مع المريض بآلامه أكثر مما يتألم المريض، فسقط مغشياً عليه، ثم إنه قام رحمة الله عليه فتوضأ لصلاة العصر، وهذه القصة حكاها لي الدكتور، وحكاها لي الوالد نفسه رحمة الله عليه، وكان يحكي لي فضل الطاعة وفضل ذكر الله، وفضل القرآن، وكان سني صغيراً في تلك الفترة، كنت في العاشرة أو الحادية عشرة تقريباً، فلما جئناه بعد العصر وهو في المستشفى جلس على سريره، فقال: سمعت الأذان فقمت أتوضأ، فجاء الدكتور يبحث عنه وما وجده على سريره، وهذا الخبر يحكيه لي نفس الطبيب، وما يصدق أن إنساناً فيه هذه الإصابة يقوم من مقامه قال: فوجدته يتوضأ، فقلت له: يا شيخ! والله! لولا الله ثم فضل القرآن الذي في صدرك ما تفعل هذا الفعل؛ لأنه جلس ينزف ما لا يقل عن ربع ساعة قبل أن يصل إلى المستشفى.
فالشاهد من هذا، أن السلف رحمهم الله كانوا يستخدمون هذه الأدوية من البنج ونحوه، حتى كان القرن السادس الهجري وأوائل السابع فوجدت المخدرات، وأول ما وجد منها الحشيشة، وهذا الحشيش نبت جلب إلى المسلمين حينما جاء جنكيز خان، بالتتار إلى بلاد الإسلام، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال رحمه الله: فجلبوا معهم هذه الحشيشة الملعونة، فتعاطاها فساق المسلمين، واستمرءوها حتى أصبحت داء بين المسلمين، وما كان المسلمون يعرفون هذه المخدرات ولا يتعاطونها، ثم توسع الأمر في أواخر القرن التاسع الهجري وأوائل العاشر، فجاء الأفيون ونبت الخشخاش وغيرها من المخدرات النباتية، ثم في القرن الحادي عشر وجدت المخدرات المصنعة والمركبة كيماوياً، وفتح على الناس من باب البلاء والشر ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وصدق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة)، والأصل أن هذه المخدرات محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، وبين أن العبرة والعلة هي الإسكار وذهاب الإدراك والشعور وتغطية العقل.
وفي المخدرات من تغطية العقل والشعور ما يعدل الخمر أو قد يفوقه، ولذلك بين شيخ الإسلام ابن تيمية عندما ذكر أدلة تحريم الحشيشة أنها أشد تحريماً من الخمر، وفيها أضرار أشد من الخمر من وجوه، والخمر أشد منها من وجوه أخر، وقال: إنه يصعب فطام الإنسان عن الحشيشة، وهذا من دقة فهم علمائنا المتقدمين رحمهم الله، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد قرأ الطب، وعرف معلومات من الطب أفاد بها أثناء فتاويه رحمة الله عليه، ولما تكلم عن الحشيشة ذكر أنها تضر الكبد، وأنها تحدث ما يسمونه بتشمع الكبد ونحوه من الأضرار، وهذا لا يعرفه إلا الأطباء في زمانه، ولكنه رحمه الله كان يلم بهذه الأشياء، ويرجع إلى أهل الخبرة في معرفتها وتقريرها.
فدليل تحريم المخدرات: أولاً: عموم: (ما أسكر قليله فكثيره حرام)، وهذا شامل لكل شيء يسكر العقل، ويؤثر فيه.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن كل مسكر ومفتر)، والمخدرات فيها المعنيان، فهي تسكر وتفتر والعياذ بالله! وتؤثر في العقل والإدراك.
ثالثاً: أن الأضرار الموجودة في المخدرات كالخمر أو أشد من الخمر من وجوه، وحينئذ يجتمع دليل النقل والعقل على تحريم المخدرات، وسنتكلم إن شاء الله على بقية المسائل والأحكام المتعلقة بهذه الجملة في الدرس القادم إن شاء الله.
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يعافينا من هذا الداء ومن كل بلاء، وأن يرفع عن المسلمين هذا الداء، وأن يعيذنا وإياهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.(380/9)
الأسئلة(380/10)
الفرق بين الدخان والمواد الكيماوية التي تشرب وتؤكل وتستنشق
السؤال
هل ما يعرف بالدخان يعتبر من المسكرات أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: هذا السؤال يحتمل أمرين: يحتمل أن السائل يسأل عن بعض المواد التي تستنشق، وتؤثر في العقل.
ويحتمل أنه يقصد الدخان المعروف أنه يأخذ حكم الخمر، ما أظن واحداً عنده عقل يجعل الدخان مثل الخمر، ينبغي على الإنسان أن يكون واقعياً، وخاصة إذا تحدثنا عن الأحكام الشرعية أن نتكلم بعقل وببيان، الدخان شيء, والخمر شيء آخر، والدخان بلاء ومصيبة، ولا يمكن أبداً أن يأخذ حكم الخمر، ولا يمكن أبداً أن نقول: إن من شرب الدخان كأنه شرب الخمر، ما يجوز هذا، هذا قول على الله بغير علم، وافتراء وكذب.
الدخان محرم لأضراره للموجودة فيه، ولو أن طعاماً وشراباً تضمن ضرراً وإهلاكاً للصحة كما يتضمنه الدخان لحرمناه كما حرمنا الدخان، ولكن الدخان لا يؤثر في العقل ولا يذهب الشعور، ليس هناك أحد يتعاطى الدخان فيصبح كالسكران أو كالمخمور، فالله تعالى يقول: {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، لا بد من العدل، والعدل أن تقول الصواب والحق، فالخمر شيء والدخان شيء آخر، هذا إذا كان مراده أن يجعل الدخان مثل الخمر.
والخمر كبيرة والدخان ليس بكبيرة يعني: شرب السيجارة الواحدة ليس بكبيرة بحد ذاتها، لكن المداومة عليه تنقله من كونها صغيرة إلى كبيرة، ووجود الأضرار بالدخان في نفسه، وأهله، وولده، لا تقع بسيجارة واحدة يشربها.
ومن هنا ينبغي التفصيل والبيان، فالخمر شيء والدخان شيء آخر.
وإذا كان المراد الأمر الأول الذي ذكرناه وهو: أنه يسأل عن الأمور التي تؤثر تأثير الخمر، ولكنها عن طريق الشم والتدخين ثم تستنشق كما في بعض المواد المخدرة، فهذا لا إشكال أننا لا نفرق في المخدرات بين المشموم وبين المحقون بالحقن وبين المشروب وبين المأكول، كل هذا يأخذ حكم المخدرات في التحريم، والأصل يقتضي عدم جوازه؛ لأن العلة واحدة وهي وجود التأثير على العقل والإدراك، والله تعالى أعلم.(380/11)
حكم من فاته بعض التكبيرات في صلاة الجنازة
السؤال
رجل فاتته من صلاة الجنازة تكبيرة، ثم سلم مع الإمام، فماذا يلزمه أثابكم الله؟
الجواب
هذا فيه تفصيل من فاتته تكبيرات من صلاة الجنازة ولم يمكنه أن يقضي، فإنه يكبر عدد ما فاته من التكبيرات ثم يسلم.
فمثلاً: لو فاتته تكبيرتان، فبعد أن يسلم إذا سلم الإمام يقول: الله أكبر، الله أكبر، ويسلم.
أن الجنازة تترك بعد تسليم الإمام ولا ترفع مباشرة حتى يتمكن الإنسان من القضاء فإنه يقضي كما نص على ذلك جمهور الأئمة رحمهم الله، فيفصل في مسألة القضاء في صلاة الجنازة بين الجنازة التي ترفع مباشرة والجنائز التي تؤخر، فإن كانت ترفع مباشرة فإنه يوالي بين التكبير، وفي هذه الحالة يسقط عنه قراءة ما فاته وصلاته صحيحة.
أما لو سلّم مع الإمام مباشرة، وهو يعلم أن هناك تكبيرات قد فاتته عامداً متعمداً ولم يقض هذه التكبيرات فصلاته باطلة؛ لأنه لا بد من الإتيان بهذه التكبيرات، وهي لازمة في الصلاة، ومن تركها متعمداً وهو يعلم أنه واجب عليه قضاؤها فصلاته باطلة، والله تعالى أعلم.(380/12)
حكم من أدى مناسك العمرة وترك السعي بين الصفا والمروة
السؤال
ماذا يجب على رجل أحرم بالعمرة ثم طاف بالبيت وعاد إلى داره دون أن يسعى بين الصفا والمروة، ظناً منه بأن العمرة تقتصر على الطواف فقط، أثابكم الله؟
الجواب
الجهل ليس بعذر، الجهل عذر في مسائل محدودة، ولأشخاص معينين، وفي فتاوى معينة، أما أن يأتي إنسان إلى بيت الله الحرام، والعلماء موجودون، والكتب موجودة، والأشرطة موجودة، ويمكنه أن يعرف ما هو الواجب عليه في عمرته أو على الأقل يسأل المرشدين الموجودين، ثم يأتي ويقول: والله! أنا كنت أظن أن العمرة طواف، هذا ليس بعذر، هذا تلاعب وتقصير وإهمال، ومن قصر يتحمل مسئولية تقصيره، ولذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم أقواماً أقدامهم تلوح بعد الوضوء، ولم ينتبهوا للأعقاب التي في أقدامهم، فلم يغسلوها فقال: (ويلٌ للأعقاب من النار)، فأخبرهم عن هذا الوعيد مع أنهم ما علموا، وهم من الصحابة، وتوعدهم بهذا الويل: (ويل للأعقاب من النار)، فويل لأصحابها من عذاب الله وعقوبته، لماذا؟ لأنهم أهملوا وقصروا في تفقد القدمين، فالله أمرهم بغسلها كاملة، وكان المنبغي أن يحتاطوا وأن يتنبهوا للفرض الذي أوجب الله عليهم.
فهؤلاء الذين يؤدون مناسك العمرة والحج وأحكام العبادات دون أن يسألوا أهل العلم، ثم يأتون ويقولون: والله ما ندري، والله ما نعلم، هذا ليس بعذر لهم، هذا إهمالٌ وتفريط، ويتحمل المهمل تفريطه.
أما السعي بين الصفا والمروة فهو ركن من أركان العمرة، كما هو قول جمهور العلماء رحمهم الله، وقالت عائشة رضي الله عنها: (لعمري لا أتمّ الله حج وعمرة من لم يسع بين الصفا والمروة).
إذاً: لا بد عليه أن يرجع، وهناك وجهان للعلماء: فبعضهم يقول: لا يصح السعي إذا وقع الفاصل بينه وبين الطواف في العمرة، وهذا ما يسمونه بشرط الموالاة وعدم الفصل، فعلى هذا القول يلزمه أن يعيد الطواف، فيطوف ثم يسعى أي: لا يسعى إلا بعد طوافه، وهذا أحوط، فيرجع فيطوف ثم يسعى بين الصفا والمروة، والله تعالى أعلم.(380/13)
دعوة القريب أعظم وجوباً من دعوة الغريب
السؤال
أخي يتعاطى الخمر، ومع ذلك لا يصلي، وهو متزوج وله أولاد، وهو في غالب وقته كذلك، وأنا أريد أن أدعوه، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه، وأن أدعو له وأن أضاحكه؛ لأنه مع ذلك لين القلب، أثابكم الله؟
الجواب
نسأل الله العظيم أن يهدي قلبه، ويتوب علينا وعليه وعلى المسلمين أجمعين، وأن يرفع عن كل مبتلىً بلاءه.
أخي في الله! أولاً: عليك بمناصحته، وواجب عليك أن تسعى في نجاة أخيك من النار، وهذا فرض عليك، والدعوة للأقارب أعظم وآكد من دعوة الغريب، دعوة القريب أعظم وجوباً من دعوة الغريب.
ثانياً: تحرص على بذل الأسباب التي تؤثر في أخيك، وأنت تعرف النقاط التي هي نقاط ضعف فيه، فتوجد له من يؤثر عليه فيها، فتغتنم الفرص إذا -لا قدر الله- أصيب بمصيبة، فتذكره ذكرته بالله عز وجل، وإذا حدث عنده سرور ذكرته بنعمة الله، فتحاول أن تؤثر عليه، وتأخذ بالأسباب التي يكون لها وقع كبير في نفسيته وفي قلبه لعلّ الله أن يهديه.
ثالثاً: عليك -أخي في الله- أن تحذر مجاراة أهل المعاصي في معاصيهم، خاصة إذا نظروا إليك على أنك على خير وبر، فإذا كانت مؤاكلتك ومشاربتك ومباسطتك له تزيده جرأة على حدود الله، واستخفافاً بمحارم الله فإياك إياك! لا يختمن الله على قلبك، خاصة إذا كان جلوسك معه أثناء المنكر، أو أثناء شربه للخمر، إلا أن تعظه وتذكره بالله عز وجل، فالأكل والشرب مع أهل المعاصي حال معاصيهم مشدد فيه؛ ولذلك جعل الله عز وجل من جارى أهل المعصية في معاصيهم -دون أن ينصحهم، ودون أن يعذر إلى الله فيهم حكمه حكمهم: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]، يعني: لو جاء شخص ووجد شخصاً يستهزئ بالدين أو بالعلماء أو بالصالحين فلا يجوز له أن يجلس معه.
افرض يوماً من الأيام أنك في مناسبة، وجاء أحد يستهزئ ويتكلم في الدين، أو يستهزئ بالعلماء، فقام له واحد في وسط الغداء فقال له: اتق الله! لا تتكلم في العلماء، أمسك لسانك أو اخرج، سيقولون لك في اليوم الأول: متشدد! اليوم الثاني: متشدد! اليوم الثالث: يمسكون هذا الذي يتكلم ويقولون له: احذر! لا تتكلم في الدين، ولا تؤذي من جلس، على الأقل حتى يجاملون أهل الحق.
فإذا سكت الإنسان عن معصية الله محاباة لقريبه أو غيره؛ فإن هذا يعين أهل الباطل على باطلهم، ولا يمكن أن تقام حجة الله على العباد بهذا التخاذل، فينبغي عليك أن تنصحه.
وهناك أمر أخير ننبه عليه: إذا أردت أن تكلمه أو تبين له الحق فإياك ثم إياك! أن يتسلط الشيطان على قلبك فتكون موعظتك من أجل العاطفة لا من أجل الله عز وجل! ولذلك كثيراً ما تضعف دعوة الأقارب؛ لأن الإنسان يأتي بها من منطلق العاطفة، فيقول: فضحتنا، نكست رءوسنا أمام الناس، الناس يقولون: أخوك يفعل إذا أصبح الإنسان يدعو لهذه الأشياء فهي ليست لله، وإنما هي حمية للنفس.
وعلى هذا عليك أن تحرص على الإخلاص، وإرادة وجه الله عز وجل وطلب الخلاص، وأن تتفكر أنك إن أخذت بحجز أحدهم عن نار الله عز وجل عظمت مثوبتك، وجل ثوابك عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة، فإذا كان قريباً كان الأمر أعظم، وإذا كان قريباً كان الجزاء من الله أجل، فتحرص على أن تعامل الله سبحانه وتعالى، وعلى أنك تنصحه لله وتذكره بالله.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا إلى كل خير وهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلْى اللهُ وَسَلّمَ وَباَرَكَ على نَبِيّه وآله وَصَحْبِهِ أجْمَعِين.(380/14)
شرح زاد المستقنع - باب حد المسكر [2]
إن الله سبحانه وتعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه وبيعه، وسلبه كل المنافع التي كانت فيه قبل تحريمه، وقد حرم الله عز وجل الخمر، ومع هذا يقول بعض الجاهلين: لا مانع من شربها لأجل التداوي، أو لأجل قطع اليد أو الرجل، ولا مانع من التدلك والتدهن بها! وكل هذا مردود بالمحكم من الآيات والأحاديث الدالة على حرمة استعمال الخمر.(381/1)
حرمة شرب الخمر للذة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهو خمر من أي شيء كان].
تقدم الحديث عن ضابط الخمر، وبيّنا أنه عام شامل لكل ما أثّر في العقل، سواءً كان من المشروبات القديمة التي كانت تنتبذ من التمر والشعير والزبيب والعسل -كما ورد في أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- أو كان شراباً يتخذ من غير ذلك.
والأصل في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع القاعدة على العموم، وجعل الحكم معللاً بعلة وهي الإسكار، فكل شيء أزال العقل وأثر فيه تأثيراً بيناً واضحاً فإنه آخذ حكم الخمر، ثم بينا أن تحريم الخمر يدور حول علة الإسكار وزوال العقل، وهذا يقتضي إلحاق المخدرات بجميع أنواعها وأصنافها سواءً كانت نباتية كنبات الخشخاش الذي يستخرج منه الأفيون، أو كانت غير نباتية مثل ما يسمى بالمخدرات الكيماوية، فهذا كله محرم، والأصل في تحريمه: أن السنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر؛ لأنها مؤثرة في العقل، وكل ما أزال العقل وأثّر فيه فحكمه حكم الخمر، ولحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن كل مسكر ومفتر)، وهو يدل دلالة واضحة على عموم الحكم، وأن المخدرات بجميع أنواعها تعتبر محرمة شرعاً، وبهذا بيّن المصنف رحمه الله هذا الأصل: وهو أننا لا نقتصر على تحريم الخمر القديمة، بل العبرة بكل شراب يؤثر في العقل، ويذهب الشعور والإدراك، وهذه هي العلة، (والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً)، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأصل فقال: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام)، فجعل الحكم يدور مع علته وهي الإسكار، ومن هنا نأخذ بمذهب العموم، وأن العبرة بتغير العقل أو التأثير في العقل، سواءً كان عن طريق الشراب أو كان عن طريق المواد الجامدة كالحشيشة والأفيون المستخرج من نبات الخشخاش، والبنج، والشيكران، وغير ذلك من المواد الجامدة، ويلتحق بهذا: المشمومات، فما يشم من المواد الطيّارة المؤثرة في العقل حكمه حكم المشروبات المسكرة، وكذلك ما يحقن عن طريق الإبر، فإنه آخذ حكم المسكرات أيضاً؛ لأن العلة هي التأثير على العقل سواءً كان عن طريق المشروب أو المطعوم أو المحقون أو المشموم، فكل ذلك محرم شرعاً.
وإذا ثبت تحريمه فإنه محرم على الإنسان أن يتعاطاه، ومحرم على الغير أن يحقنه أو يناوله أو يعينه على ذلك، ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الخمر، وحرمة الوسائل المفضية إلى الخمر: كصناعة الخمور وترويجها، وصناعة المخدرات وترويجها، والدعاية إلى الخمور وإلى المخدرات محرم شرعاً، والقاعدة تقول: (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها)، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل وهو: تحريم الوسائل المفضية إلى الخمر، وإلى كل مضر بالعقل حينما لعن الخمر، وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وساقيها ومستقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها وآكل ثمنها، فلعن فيها هؤلاء العشرة، وإذا نظرت إلى هؤلاء العشرة وجدت فيهم من هو معين عليها، كساقي الخمر، وعاصرها، وحاملها، وبائعها، وآكل ثمنها، فكل هؤلاء أعانوا على الوصول إلى المحرم، وهكذا المخدرات يحرم تصنيعها، وترويجها، وتحبيب الناس إليها، حتى لو جلس مع أخيه وقال له: إنها تحدث النشاط، والسرور، وهي في الواقع: لا تزيد الإنسان إلا هماً إلى هم، وغماً إلى غم، فإن الله لم يجعل في محرم خيراً، ومن هنا نعلم أن الترغيب فيها ليس منحصراً أن يدعو إليها دعاية للجماعة، بل دعاية الأفراد كذلك، فلو أنه رغب شخصاً فيها، أو مدحها، أو وضعها في وسيلة إعلامية تروج إلى شربها، أو تروج إلى تعاطيها، أو تحببها إلى النفوس، فكل هؤلاء ملعونون-والعياذ بالله- بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد لعنه الله، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، وإذا حلت اللعنة على القلب -والعياذ بالله- تنطمس البصيرة، ويضعف فيه داعي الإيمان، ولذلك قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]، فيصبح الإنسان من هؤلاء تمر عليه المواعظ فلا تؤثر فيه، ويذكر بالله فلا يتذكر؛ لأن الله يقول: (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)، فمن أشد الذنوب ضرراً على العبد الذنوب التي ورد الوعيد عليها باللعن، ومن هنا شُدد في الخمر من هذه الوجوه كلها تعظيماً لحرمات الله، وتعظيماً لحدود الله، وزجراً للنفوس المؤمنة عن هذه المحرمات الموبقات المهلكات، حتى يكون الإنسان على السنن التي فطر الله عليها خلقه من البعد عن هذه المؤذيات والمضرات.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يباح شربه للذة].
ولا يباح شرب الخمر للذة، وهذا بإجماع العلماء، والذين يشربون الخمر يزعمون أنها تنسيهم الهموم والغموم، ويدعون أنها تحدث الهزة والنشاط، ويدعون أنها تفرح القلب، وكل ما ادعوه باطل، ومن تزيين الشيطان، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل:24]، فهذا من صدود الشيطان، ويكون هذا في القلوب الضعيفة بسبب ضعف الإيمان، فيقلب الحق فيها باطلاً، والباطل حقاً، فهو يروج لهم أن فيها لذة، وهي وإن كانت لذة ساعة فهي ألم دهر، وإن كانت متعة لحظة فإنها عذاب دهر، فكم قرحت من قلوب! وأبكت من عيون! وأصابت أصحابها من الهم والغم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل! حتى أصبحوا مأسورين بها، لا يستطيعون الفكاك عنها، فأصبحت داءً تزيدهم هماً إلى همهم، وغماً إلى غمهم نسأل الله السلامة والعافية! ومن قرأ بحوث أهل النظر من الأطباء، وأهل الاختصاص، وما تعقبه الخمر من الويلات والآهات والمفاسد والشرور في دنيا الإنسان وفي جسده، وصحته الروحية، وما يعقب ذلك من الآلام؛ يجد أن هذه اللذة التي تُشرب الخمر من أجلها أحقر من أن تورد صاحبها هذه الموارد، فقد أجمع الأطباء على أنها تدمر الأعصاب، وتدمر الجهاز العصبي بآفات ومفاسد عظيمة، وتذهب تركيز الإنسان، وتفسد ذهنه وحافظته وفكره وشعوره وأحاسيسه، وإذا شربها اختل عقله؛ فأصبح أحط من البهيمة -والعياذ بالله- حتى إنه لربما اقترف الأمور العظيمة، ولذلك شربها بعضهم فزنى بأمه، ومنهم من شربها فوقع على بنته نسأل الله السلامة والعافية! فأي لذة هذه؟! أي لذة يعقبها هذا الويل، وهذا البلاء، وهذا الشقاء، وهذا العناء؟! ومن هنا: ذكر المصنف رحمه الله أن من شربها للذة -وهذا على ما يعرف عند الناس، وتحقيقاً للأصل الذي سيبني عليه عقوبة شرب الخمر- فإنه قد وقع فيما حرم الله عليه بإجماع العلماء رحمهم الله.(381/2)
حكم شرب الخمر للتداوي
قال المصنف رحمه الله: [ولا لتداوٍ].
ولا يجوز شربها للتداوي، وهو العلاج، والخمر كانوا في الجاهلية يعتقدون أنها تداوي وتشفي، وأنها تزيل العلل، وأنها تريح البدن من آفات تكون في شرايين القلب وفي العروق وفي المعدة، ونحو ذلك مما كانوا يظنونه، ولو كان ذلك موجوداً فإنه بعد تحريم الخمر سلبت الخمر هذه المنافع كلها، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنها داءٌ وليست بدواء، وأن الله لم يجعل فيها شفاءً.
وعلى هذا قالوا: إن جميع ما كان فيها من المنافع التي كان يُزعم أنها موجودة سلبت منها فأصبحت داءً، وليست بدواء، وهذا صريح قوله عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم في صحيحه: (إنها داءٌ، وليست بدواء)، وفي لفظ: (ليست بدواء، ولكنها داء)، وقد أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فيجب على المؤمن أن يعتقد ذلك.
في القديم كانوا يظنون أن فيها دواءً، وفي الطب الحديث ثبت أنه لا دواء في الخمر، وأن الخمر ليست علاجاً؛ ولذلك لا تستخدم الخمر علاجاً في الطب الحديث كشراب مخصوص لعلاج مرض، سواءً كان نفسياً أو كان جسدياً، ففي الطب الحديث لا يوجد هذا.(381/3)
التفصيل في استخدام المخدرات للمعالجة والعمليات الجراحية
يوجد عند الأطباء مسألة: استخدام المادة المخدرة، وهي مادة الكحول المعروفة، تستخدم في جوانب من الطب، ومن أشهر هذه الجوانب جانبان: الجانب الأول: ما يعتبرونه مذيباً للمواد القلوية والدهنية.
الجانب الثاني: يستعملون فيه الخمر مسيغة للطعم، حتى يكون طعم الدواء مقبولاً.
وهناك جوانب أخرى اعتنى أهل الاختصاص ببيانها، وتبعه المتخصصون بطب الصيدلة، ولعلوم الصيدلة عدة ملاحظات على هذا الاستخدام أو هذه الجوانب التي ذكروها، ومنها استخدامها كمادة حافظة، وغير ذلك من الجوانب التي ذكروها.
بالنسبة لهذين الجانبين: الجانب الأول: استخدامها كمسيغة للشراب، أو كما يقولون: للطعم، هذا الجانب لا إشكال في تحريمه، ولا يجوز لطبيب ولا لصيدلي أن يصرف دواءً فيه هذه المادة من الخمر؛ لأن قليل الخمر وكثيره حرام، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) فهذا نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على اجتناب القليل والكثير من الخمر، فأي دواء وضعت فيه هذه المادة من الكحول التي هي من الخمر ولو كانت نسبة قليلة فإنه لا يجوز استعمالها.
وفي الحقيقة هذا -بلا إشكال من حيث الأصل- لا يجوز استخدامه على هذا الوجه، وذكر بعض الأطباء المتأخرين أن هذا النوع من الأدوية وجد عند الكفار، ووضعوا هذه المادة-مادة الغول أو الكحول- في العلاج من أجل أن يستسيغوا طعم الدواء، وهم ألفوا الخمر-والعياذ بالله- فاستساغوا طعمها، فهذا هو المبرر، وهذا السبب ليس بضروري ولا حاجي، وإنما هو تكميلي في محرم، وقد أجمع العلماء على أن الأمور التحسينية والتكميلية في المحرمات لا توجب الرخصة، فمقام التحسينات والفضولات والكمالات لا يوجب استباحة المحرمات، أي: لا يوجب الرخصة بالإجماع بين العلماء رحمهم الله.
أما استخدامها كمادة مذيبة للقلويات والدهنيات ففي الحقيقة أن بعض الأطباء يقول: إنه مُحتاج إليه، وهو من المختصين ممن نعرفهم بعلم الصيدلة، وأحسنوا دراسة هذا الجانب دراسة معمقة، وقدموا فيها بحوثاً جيدة في المؤتمر العالمي الأول للمسكرات والمخدرات، واجتمعت ببعضهم فبين أن هذا العذر يمكن الاستغناء عن الخمر لوجود البديل، وذكر البديل، واقترح أن تكون هناك دراسة طبية للأدوية التي فيها هذه المادة، ويمكن الاستغناء عنها بالبديل، والبحوث والدراسات موجودة، ونسأل الله أن ييسر بالقيام بما يجب القيام به تجاه هذا الأمر الذي عمت فيه البلوى بين المسلمين.
إذاً: لا عذر لنا مادام أنه وجد البديل، ويمكن الاستغناء بما أحل الله، ولا شك أن الله جعل العباد في غناء عما حرم عليهم.
أما الاستخدام في الجسد، فإنه يكون في علاج العمليات الجراحية، وهذا من أشهر الجوانب التي تستخدم فيها المخدرات والخمور في القديم من أجل قطع الأعضاء ونحو ذلك، والذي يظهر عند التأمل والنظر: أن استخدام المخدرات كالتخدير الجراحي من أجل العملية الجراحية ليس بعلاج في ذاته، فليس التخدير الجراحي يذهب الزائدة، وليس التخدير الجراحي يقطع البواسير، وليس التخدير الجراحي يصلح الفساد الموجود في العين أو القلب، أو غير ذلك من الأعضاء من القرحة أو نحو ذلك، إنما هو وسيلة من أجل الغاية التي يتوصل إليها في مقام: إما ضروري أو حاجي، وبناءً على ذلك لا تخلو العمليات الجراحية التي يرخص فيها من هذا التخدير نوعان: الأول: أن تكون ضرورية بمعنى: أن المريض إذا لم يقم بهذه العملية يموت، ومن أمثلة ذلك: عمليات الشرايين أو القلب المفتوح، فإنه لا يمكن أبداً أن يترك المريض بدون عملية، كانسداد الشرايين، وتبديل الشرايين والصمامات ونحوها، وهذه يجزم بأن المريض لو بقي سيموت؛ لأن هذا الانسداد يؤدي به إلى الجلطة، ثم قد يؤدي به إلى الوفاة، ولكن علاجه: تحويل مجرى الدم عن طريق وجود البديل، بتجاوز مكان الانسداد الشرياني، أو قطع هذا الموضع على حسب ما يراه الأطباء، وحسب ما يتيسر لهم، وهذا القطع وهذا العلاج لداء يعتبر مفضياً بالإنسان إلى الموت، فلو أنهم لم يعالجوا هذا الموضع من قلبه أو هذا الموضع من شرايينه فإنه سيموت لا محالة، فهو مقام ضرورة بإجماع العلماء، ومقام الضرورات يبيح استخدام هذا التخدير كما هو مقرر، وقد ذكر العلماء ونصوا على جوازه من حيث الأصل.
الثاني: ما دون الخوف على النفس من الهلاك، فإذا كانت العملية الجراحية لمرض يخشى منه الموت، فهي عملية ضرورية؛ لأنه اتفق العلماء رحمهم الله أن الضرورة: هي الخوف على النفس من الهلاك، وهنا لو خشي على العضو أن يتلف، واحتيج إلى قطع شيء أو عمل عملية جراحية لقطع شيء، أو تدخل جراحي لعلاج انسداد في ذلك الموضع، دون أن يُخشى على الإنسان من الهلاك، ولكن عضوه سيذهب كما في جراحة العيون، ويغلب على الظن أنه سيعمى، وأنه سيفقد بصره في عملية الماء ونحو ذلك، ففي هذه الحالة لا نخاف فوات النفس، وإنما نخاف فوات الأعضاء، فألحق بعض العلماء بفوات النفس فوات الأعضاء، وجعل الخوف على فوات الأعضاء مثل أن يخاف الإنسان ذهاب على يده أو رجله أو عينه أو سمعه فهو في مقام الضرورة، ويُرخص له من المحرمات في حدود ما تحصل به الحاجة، فلا يزيد على ذلك.
ولو كان لا يُخشى الموت، ولا ذهاب العضو، ولكنه يجد الألم والتعب الشديد، ولا يستطيع أن يتحمل هذا، بحيث يصل به إلى مقام الحرج، فهو لا يخاف أن يده ستقطع، ممكن أن يقطع رجله أو يده، ولكن هذا الألم يصل به إلى عناء ومشقة شديدة تصل إلى مقام الحرج، فإن وصل به الأمر إلى ذلك فهذا يسميه العلماء: بمقام الحاجيات.
إذاً: ما يُخشى فيه فوات النفس مقام ضرورة، ويلحق بها الأعضاء، ومن يصل إلى درجة الحرج مثل قلع الضرس، فقلع الضرس قد يصعب به الألم، وقد لا يستطيع بعض الناس أن يتحمل قلع ضرسه، فيجد من المشقة والعناء ما الله به عليم، فيُحقن بمادة مخدرة موضعية.
إذا ثبت هذا فإننا نقول بالرخصة في استخدام المخدرات في العمل الجراحي في موضعين: الضروري، والحاجي، وهذا إذا كانت العملية جائزة شرعاً.
يبقى مسألة: إذا كانت العملية الجراحية تكميلية أو كانت العملية الجراحية محرمة في الأصل: فإذا كانت تكميلية فلا توجب الرخصة، مثل: عمليات التجميل التي تكون في الكماليات، والتي ليس فيها تغيير الخلقة، فإذا وصلت هذه العمليات التجميلية إلى تغيير الخلقة فهي من المحرمات، فجراحة تغيير الجنس، وجراحة تكبير الثدي وتصغيره والعبث في الخلقة، هذه كلها جراحات محرمة، وأهواء تُخالف فيها الخلقة، ويعترض فيها على خلقة الله عز وجل، فهي جراحة محرمة، ولا يجوز التخدير فيها؛ لأن التخدير لم يوجبه موجب شرعي، بل إن الفعل الذي يراد أن يتوصل به عن طريق التخدير محرم شرعاً، وعلى هذا لا يجوز تعاطي هذه المواد المخدرة في مثل هذه الأمور.
فالخلاصة: أن المواد المخدرة تستثنى إذا كانت معونة على العلاج والدواء، وذلك في حال الضرورة والحاجة، ومن أمثلة الضرورة: عمليات القلب التي يخشى معها الهلاك، ومن أمثلة الحاجة: عمليات البواسير؛ لأنه تحدث الآلام، وتوصل إلى درجة الحرج، فحينئذ يكون مقامها مقام الحاجيات، وما عدا ذلك مما لا موجب لإجراء الجراحة فيه كتغيير الجنس، وعمليات التجميل التكميلية؛ فإنها لا تجوز شرعاً، ولا يجوز استخدام هذه المواد المخدرة، وتبقى على الأصل.(381/4)
خلاف العلماء في التداوي بالخمر
مسألة: التداوي بالخمر: اختلف فيه العلماء المتقدمون رحمهم الله برحمته الواسعة.(381/5)
قول جمهور العلماء
القول الأول: قول جمهور العلماء أنه لا يجوز التداوي بالخمر، وهذا هو أحد القولين عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله وأحد القولين عن الإمام الشافعي، وهو مذهب المالكية في المشهور، والحنابلة رحمة الله على الجميع، فعندهم لا يجوز للمسلم أن يتداوى بالخمر لا قليلاً ولا كثيراً، وأن الله عز وجل لم يجعل فيها شفاءً للأمة.(381/6)
قول المخالفين للجمهور
القول الثاني: يجوز التداوي بالخمر، وهذا القول هو القول الثاني عن الإمام أبي حنيفة، والقول الثاني عن الإمام الشافعي، لكن جمهور أصحاب الإمام الشافعي اختاروا القول الأول المحرم مثل الحنابلة، واختار هذا القول الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله، الذين يقولون: يجوز التداوي بالخمر، ذكروا لذلك شروطاً: الشرط الأول: ألا يوجد بديل عن الخمر مما أحل الله، فقالوا: إن وجد بديل عن الخمر لم يجز التداوي بها، فهم يتفقون مع الجمهور أنه لوكانت الحالة التي يراد علاجها لها دواء مباح فإنه لا يجوز له أن يتداوى بالخمر، وتكون مسألة إجماعية.
الشرط الثاني: أن يخبِره بالحاجة إلى الخمر، وأنها علاج ودواء لهذا الداء طبيب عدل يوثق بقوله وأمانته، وبعضهم يشترط إسلامه، فلو أخبر بذلك طبيب غير مسلم، قالوا: لا تقبل شهادته؛ لأنه متهم، والغالب أن العداوة الدينية تحمل على الاستهتار في أمور الشرع، فقالوا: لا نقبل قوله، ومن هنا كان الإمام أحمد رحمه الله يعالجه طبيب يهودي فيقبل قوله إلا في أمور تتعلق بالدين، فإذا قال له: أفطر، لا يفطر، وإذا أمره بأمر محرم أن يفعله لم يقبل قوله، حتى يرجع إلى أطباء المسلمين، فلم يكن يقبل شهادته في هذا؛ لأنه متهم في قوله وخبره.
الشرط الثالث: أن يكون تعاطي الخمر في حدود الحاجة والضرورة، فلا يزاد عليها، فإن زاد عليها وقع في الحرام، فيكون تعاطيه للمادة المخدرة في حدود الحاجة والضرورة، وهذا راجع إلى القاعدة الشرعية: ما أبيح للحاجة والضرورة يقدر بقدرها.
الشرط الرابع: أن يشربها بقصد الدواء والعلاج لا تلذذاً، بمعنى أنه أثناء شربه لها يعتقد تحريمها، ويكره هذا الشرب، ويحس كأنه مكره عليه تلافياً للاستباحة؛ لأن الاستباحة تكون بالباطن كما تكون بالظاهر، فهو وإن أُذن له في الظاهر، لكنه في الباطن إن مال قلبه إلى حبها فأحب شربها وتلذذ بذلك خرج عن كونه مسترخصاً، وأصبح يعصي باطناً، وإن كان قد أبيح له في الظاهر.
فقالوا: يجوز التداوي بالخمر إذا تحققت هذه الشروط.(381/7)
أدلة الجمهور القائلين بحرمة التداوي بالخمر
واستدل أصحاب القول الأول بما ثبت في الحديث الصحيح عن وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه: أن طارق بن سويد الجعفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها -كما في رواية مسلم - فقال: (يا رسول الله! إني أصنعها للدواء -يعني أصنعها دواءً وعلاجاً- فقال صلى الله عليه وسلم: إنها ليست بدواء، ولكنها داء) وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الخمر ليست بدواء، وهذا خبر مبني على الوحي الذي لا يمكن أن يأتيه الخطأ، وحكم عليه الصلاة والسلام بالوحي من السماء أنها داء، وأنه لا دواء فيها ولا علاج.
ومن هنا: فدعواهم أنها دواء ليست بمسلمة، هذا الدليل الأول.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها فرأى الجرة، وإذا بالخمر تفور منها حتى خرجت منها، فقال: (ما هذا؟! فقالت: يا رسول الله! إن فلانة تشتكي بطنها، وقد نقعت لها) -يعني: نبذت لها النبيذ- من أجل أن أعالجها بهذه الخمرة.
(فضرب عليه الصلاة والسلام الجرة برجله حتى انكسرت) -أي: حتى انسكب منها الخمر- ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاءً) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة في شيء حرمه عليها، والخمر مما حرم الله، وهذا الحديث نص في المسألة؛ لأنه لا يمكن أن يكون منه عليه الصلاة والسلام ذلك إلا وقد أطلعه الله عز وجل على أنه لا خير في الخمر، ولا دواء ولا علاج، فأكد هذا معنى الحديث الأول، والحديث رواه: أبو داود، وأحمد في مسنده، وكذلك رواه أبو يعلى في مسنده أيضاً، قالوا: هذا كله يؤكد أن الخمر داء، وليست بدواء.
الدليل الثالث من النقل: استدلوا بالأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقد ذكره الإمام البخاري تعليقاً في صحيحه، ووصله ابن أبي شيبة في مصنفه بسند حسن، وقال الحافظ ابن حجر: إنه على شرط الشيخين، وفيه: (إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها) قالوا: إنه أكد الأثر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود من أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أئمة الفتوى، فبين أن الله عز وجل لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.
وهذا الأثر الصحيح موقوف لفظاً مرفوع حكماً؛ لأنه يقول: (إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها) فمثل هذا لا يقال بالرأي، حيث يجزم ويخبر عن الله أنه لم يجعل الشفاء فيما حرم، فهو: موقوف لفظاً، مرفوع حكماً، قالوا: إن هذا يؤكد ما ورد في السنة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يجعل شفاء ... ) خبر عن الله عز وجل أنه رفع الدواء عن الخمر، ولم يجعل شفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم في المحرمات، ووجه الدلالة من النص تارة فيكون أعم بحيث يشمل موضع النزاع، يكون موضع النزاع سبباً في ورود النص فيشمله ويشمل غيره، فحديث: (إنها ليست بدواء، ولكنها داء) خاص بالخمر، فهو خاص بمسألتنا، لكن هذا الحديث الثاني مع الأثر يدل على أن الله عز وجل لم يجعل لهذه الأمة شفاءً فيما حرم؛ فهو أعم، ويشمل مسألة النزاع-وهي التداوي بالخمر- ومسألة التداوي بأي محرم كان، وأنه لا شفاء في المحرمات، مثل: التداوي بالسموم والنجاسات، وكل هذا يكون الأصل فيه التحريم والمنع لهذا النص، وبين أن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة في هذه الأمور المحرمة التي ثبت النص بتحريمها.
كذلك أكدوا دليل النقل بدليل العقل، فقالوا: أولاً: إن تحريم الخمر قطعي؛ لأنه ثبت بنص في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا احتمال فيه، وكون الخمر دواءً ظني موهوم مشكوك فيه، يعني: يتوهمون أنها دواء مع أن السنة تنفي هذا، فيقولون: هو ظني متوهم، بل لو قلت: ما هو موجود أصلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليست بدواء)؛ لصح الكلام، لكن نقول: إنه متوهم، نعطيه ولو (1%) تنزلاً مع الخصم! وليس إثباتاً للحكم؛ لأننا نصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نصدق غيره ممن يخالفه، فلو قلنا: إنه موجود على ما ذكروه فهو وهم، وهذا أضعف درجات العلم، والقاعدة أنه: (لا يجوز ترك القطع لوهم وشك) لأنه يجب البقاء على اليقين، وعلى القطع.
ثانياً: أن الخمر فيها مفاسد، ويترتب على استعمالها ضرر عظيم، فوجدنا أن ضرر الخمر أعظم من ضرر الداء الموجود؛ لأنها لا تقتصر على الإضرار بالبطن والأجهزة المتعلقة بالهضم، بل إنها تضر أجهزة الهضم والقلب، وتضر أجهزة الأعصاب، فضررها جسدي وروحي، فلو جئت إلى الضرر الموجود في الداء وحده، وعادلته بالضرر المترتب على تعاطي الخمور لوجدت أن الضرر المترتب على تعاطي الخمور أعظم من الضرر الموجود في بعض الأمراض، والقاعدة الشرعية أنه إذا تعارضت مفسدتان إحداهما أعظم من الأخرى فإننا لا نرتكب الكبرى، ويجب الصبر على الصغرى دفعاً لضرر الكبرى، ولا يجوز استباح المفسدة الكبرى، دفعاً للمفسدة الصغرى.
فنحن نقول: إن الأطباء اتفقوا على أضرار الخمور والمسكرات، وأن لها تبعات على الجسد وعلى الروح، سواء التي يعالج بها للبطن أو التي يعالج بها لبعض الآفات، فنجد أن المضاعفات المترتبة على شرب الخمور أعظم من هذا الداء الذي يُعالج، فنتنزل معهم كمسلك جدل، فنقول: هب أن فيها دواء وعلاجاً فرضاً مع أننا لا نقول بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الدواء ليس بموجود فيها، ولكن هذا يسمى بالتنزل مع الخصم، فلو فرضنا وسلمنا-جدلاً- أن ما قاله صحيح، فنقول: الداء والضرر المترتب على استعمالها أعظم من الداء الذي يعالج، والقاعدة: أنه يرتكب أخف الضررين، وأنه إذا تعارض الشران وجب ارتكاب الأخف دفعاً للأعظم، ومن هنا نقول بتحريم التداوي بها دفعاً لما هو أعظم، ولا نجيز ذلك حتى لا يقع الأكبر من المفاسد.
لماذا يذكر العلماء أدلة العقل مع النقل؟ قد نبهنا على هذا، فإن بعض الإخوة يستشكل هذا ويقول: لسنا بحاجة إلى الأدلة العقلية مع النقلية! -الواقع أن الأدلة العقلية يذكرها العلماء- لأنه ربما كان اختلاف في ثبوت الدليل النقلي فيُحتاج إلى الدليل العقلي.
كذلك ربما جادلك من لا يؤمن بالشرع-والعياذ بالله- ولا يقبل دليل الكتاب والسنة، فأنت إذا تحصنت بالأدلة العقلية كان هذا أبلغ في دمغه، ورد كذبه أو زيفه، وكشف عواره؛ لأنه يكون عندك شيء يسلم به، فتقول له: إن هذا كما دل عليه النقل، كذلك دل عليه العقل، فهم يذكرون مثل هذه الحجج تأكيداً كما ذكرنا، وإلا فالأصل من لم يستغن بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلا أغناه الله، ومن لم يحتج بهما فلا خير فيه.
ذكر بعض العلماء دليلاً ثالثاً عقلياً أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، وكان من أعلم الناس بالطب، فقال: (إن النفوس لا ينفع الدواء فيها إلا إذا أحبته وقبلته، وارتاحت إليه) يعني: الدواء ما يعظم أثره ولا وقعه على المريض إلا إذا كان هناك استجابة، وهذا أمر مقرر عند الأطباء، فالارتياح للدواء، والاعتقاد أنه قد وضعه الله عز وجل علاجاً لهذا الداء يساعد كثيراً على استجابة البدن، وحصول المصالح، واندراء المفاسد، والواقع في الخمر: أن نفوس المسلمين مشمئزة منها، كارهة لها، وأنتم تشترطون - يا أصحاب القول الثاني- أن يكون في قرارة قلبه كارهاً لها، فمعنى هذا: أنه ليس هناك استجابة وتوافق من المريض مع العلاج.
وهذا من أجمل ما ذكره رحمه الله في الزاد، زأكد به ما بيناه من القول بالتحريم.(381/8)
أدلة القائلين بجواز التداوي بالخمر
أما الذين قالوا بالجواز فقالوا: إننا نحتج بعدة أدلة: الدليل الأول: من الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] قالوا: إنه إذا وجد الداء، أو المرض ولا يمكن علاجه إلا بالخمر فنحن مضطرون إلى الخمر، مدفوعون إليها بغير اختيار، ومأمورون أن نعالج أبداننا، كما في حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه وأرضاه: أن الأعراب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هاهنا، وهاهنا، وقالوا: (يارسول الله! أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله!) قالوا: نحن مأمورون بعلاج البدن، فإذا كنا مأمورين بعلاج البدن، وثبت أنه ما يوجد إلا هذا العلاج والدواء -وهو الخمر- فإننا مضطرون إليه، ومدفوعون إليه بغير اختيار، والله يقول: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي: بين لكم ما حرم، ثم قال: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فنحن حينما اضطررنا إلى هذه الخمر انتقلت من كونها حراماً إلى كونها حلالاً.
الدليل الثاني: من السنة، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أناس من عكل أو عرينة، فاجتووا المدينة -أي: أصابهم الجوى وهو: نوع من المرض الذي يصيب البدن لاختلاف الطعام، واختلاف البيئة- فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحّوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل) الحديث.
وجه الدلالة من هذا الحديث: إن أبوال الإبل نجسة على مذهبهم، فهم يرون أن أبوال الإبل نجسة، كما هو مذهب الشافعية وطائفة، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يشربوا الأبوال النجسة لوجود الضرورة وهي: العلاج، فمن هنا: يجوز شرب الخمر النجسة للضرورة والعلاج، كما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتداوي بأبوال الإبل؛ لأنها كانت علاج الداء والمرض، فيجوز شرب الخمر ولو كانت نجسة محرمة.
كذلك أيضاً استدلوا بالعقل، فقالوا: يجوز شرب الخمر دواءً كما يجوز أكل الميتة عند الاضطرار؛ بجامع وجود الحاجة في كلٍ، قالوا: أليست الميتة حراماً؟ قلنا: بلى.
قالوا: لو أن إنساناً اضطر إليها ألا يأكلها؟ قلنا: بلى.
قالوا: فالخمر حرام شربها، فإذا اضطر إليها جاز له شربها كما جاز للمضطر أن يأكل الميتة بجامع وجود الضرورة، والحاجة في كلٍ منهما.
هذا بالنسبة للأدلة التي ذكروها لجواز شرب الخمر للتداوي، والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بتحريم التداوي بالخمور والمسكرات، والمخدرات أيضاً في حكمها، وذلك لما يأتي: أولاً: لصحة دلالة العقل والنقل على ماذكره أصحاب هذا القول.
ثانياً: لا يصح استدلالهم بقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، ونقول: إن دعواكم وجود الضرورة إلى الخمر مردودة؛ لأن الأطباء لم يثبتوا كونها دواءً، وجاء الشرع أيضاً مثبتاً لهذه الحقيقة، ونقول: أنت تقول: إنك مضطر إلى الخمر لأنها دواء، لكن لا نسلم لك أن الخمر دواء، فأنت تضطر إلى شيء ليس بدواء! فإذا كان ليس بدواء فلست بمضطر؛ لأن الذي ألجأك واضطرك كونها دواءً، وقد ثبت بالشرع والدليل الصحيح الذي لا يمكن أن يكذبه أحد أنها داء، وليست بدواء، فكيف تقول إنك مضطر إليها؟! إنما تكون مضطراً إذا كان فيها دواء، ولكن الواقع أنه ليس فيها دواء، وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأطباء أكدوا هذا في العصر الحديث أنه ليس فيها علاج للأسقام والعلل، بل تزيد الجسد سقماً وبلاءً وضرراً إلى ما يعانيه ويجده.
إذاً: استدلالهم بقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} غير مسلم، ولا يشمل هذه الحالة؛ لأن الشرع نفى الضرورة فيها.
ثالثاً: استدلالهم بحديث العرنيين، الجواب عنه من وجهين: الوجه الأول: نقول: يحتمل أن هذا قبل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لم يجعل شفاء أمته فيما حرم عليها، لأنك ما تستطيع أن تجعل حديث العرنيين متأخراً عن هذا الحديث؛ ليكون أشبه بالناسخ، والقاعدة: أن الأخبار لا يدخلها النسخ، فهي أخبار متعلقة بالأمر الواقع: (إن الله لم يجعل)، فلا يصح أن يقول: الله جعل، وما يمكن هذا! هذا تناقض ولغو ينزه عنه الشرع، لكن على تسليم ما ذكروه، نقول: حديث العرنيين يحتمل أنه سبق حديث تحريم الخمر، وكانت رخصة أن يتداووا بهذه الأشياء، ثم سلبت المنافع من المحرمات والنجاسات، والخمر منها، وبقيت حراماً وداءً إلى يوم القيامة.
الوجه الثاني وهو أقوى: نقول: لا نسلم أن بول الإبل نجس؛ وذلك أن بول الإبل ثبت ما يدل على طهارته؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على بعيره، وطاف على بعيره صلوات الله وسلامه عليه، ولو كان بوله نجساً لما لامس النجاسة عليه الصلاة والسلام، ولما صلى على الموضع النجس، فعن ابن عمر في الصحيحين: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على بعيره إلا المكتوبة) فلو كان نجساً لم يصل عليه عليه الصلاة والسلام، والأشبه أن بول البعير وروثه طاهر، وسنقرر إن شاء الله في كتاب الأطعمة أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ويؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الصلاة في مرابض الغنم، ولم يجزها في معاطن الإبل، وعلل ذلك بالشياطين، ولم يعلله بالنجاسة، وهذا يؤكد أنها طاهرة، وليست بنجسة.
إذا ثبت هذا؛ فإنه يسقط استدلالهم بالآية والحديث، ويبقى قولهم: إنه يجوز شرب الخمر كما يجوز أكل الميتة عند الضرورة، نقول لهم: إن أكل الميتة عند الضرورة حينما تصيب الإنسان المخمصة، معناه أنه سيموت، فلو لم يأكل الميتة فإنه سيموت قطعاً، فيباح له أكل الميتة، أرأيتم لو أكل إنسان جائع مشرف على الموت من الشاة الميتة ألا يحفظه ذلك بإذن الله من الموت؟ قطعاً إنه سيكون سالماً من الضرر، ومن الموت والهلاك، وهل المصلحة في أكل الميتة عند الضرورة مشكوك فيها أو مقطوع بها؟ مقطوع بها، فإذا أكل من الميتة عند الضرورة نجا، ويشهد الحس بأنه ينجو، ومن هنا فرق العلماء بين ترك التداوي وبين ترك الميتة، قالوا: لأنه إذا ترك التداوي ترك شيئاً يحتمل أن ينجح فيصيب الداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فإذا أصاب الدواء الداء برئ بإذن الله)، فيحتمل أن يصيب الداء، ويحتمل ألا يصيبه، فنقول: التداوي محتمل، ولكنه وجدت أدلة على أنه يصيب في غالب الأمر، والواقع هنا أنه شهد الحس، وشهد الأطباء، وشهد أهل الخبرة، أن الخمر لا يصيب الداء، وإنما يزيد الداء والبلاء، ومن هنا نقول: فرق بين الأمرين: فالأمر الأول: يحقق مصلحة، ويدرأ مفسدة أعظم، والأمر الثاني: يحقق مفسدة، ويحدث مفسدة أعظم، وعلى هذا نقول: لا يستقيم الاستدلال من هذه الوجوه، والذي يترجح: أنه لا يتداوى بالخمور، ولا يتداوى بالمخدرات؛ لأن الأدلة دلت على عدم جواز ذلك.(381/9)
لا يجوز شرب الخمر عند العطش
قال المصنف رحمه الله: [ولا عطش].
صورة المسألة: أن يكون الإنسان عاطشاً ولا يجد ماءً أو مائعاً يذهب به العطش من المباحات، نسأل الله بعزته وجلاله ألا يبتلينا بذلك، فيصيبه العطش الشديد الذي يخاف معه الهلاك، هذه صورة، أو يصيبه العطش الشديد الموجب للحرج، فالعلماء والأئمة-رحمهم الله- اختلفوا: هل يجوز شرب الخمر عند العطش الشديد؟ ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز شرب الخمر عند العطش، وهذا مذهب الجمهور، وبعضهم ينسبه إلى عامة العلماء، والواقع أن فيه خلافاً، فقد ذهب بعض العلماء إلى جواز إطفاء العطش بالخمر، كما هو منصوص عليه في مذهب الحنفية رحمهم الله، إذا وصل إلى مقام الحرج.
وذهبت طائفة ثالثة إلى التفصيل، وقالوا: إذا كانت الخمرة مستهلكة بشيء يمكن أن يحصل به انطفاء حرارة العطش، ويحصل بها المقصود فبها ونعمت، وإلا فلا، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وطائفة من أهل العلم من أصحاب الشافعي، وغيرهم رحمة الله عليهم.
أصحاب القول الأول يقولون: لا يجوز أن يطفئ العطش بالخمر؛ لأن الخمر تزيد الإنسان عطشاً إلى عطشه، فمادتها -بشهادة الأطباء- حارة، قالوا: لذلك لا يشرب أحد الخمر إلا وعنده ما يطفئ حرارتها، والغالب فيهم أن يضعوا فيها المبردات، أو يضعون بجوارها ما يبرد، فهذا يدل على أن ما يذكرونه من كونها تطفئ العطش ليست مصلحة موجودة في الخمر، فإذا شككنا في وجودها فإننا لا نستطيع أن نستبيح المحرم الواضح لمصلحة محتملة، وهناك فرق بين التداوي وبين مسألة العطش.
قال أصحاب القول الثاني: يجوز إطفاء العطش بالخمر، وذلك لأنه في مقام الحرج، فإذا شرب الخمر أطفأ عطشه، وهذا يدفع عنه الحرج، ولربما يكون يخشى الموت، فإذا شرب ذهب عطشه.
وفي الحقيقة: مذهب التفصيل هو أعدل الأقوال في المسألة، وكما ذكره شيخ الإسلام، ويشترط أولاً أن يغلب على ظنه أنه إن لم يشربها سيهلك، ويصل إلى درجة الخوف من الهلاك، ولا يجوز له شربها لمجرد العطش الذي لا يخاف معه الهلاك.
ويشترط ثانياً: أن يغلب على ظنه أنه لو شربها أنها تطفئ عطشه، كما لو كان معها مادة مستهلكة فيها، أو عنده خبرة -كما يقع لبعض حديثي العهد بالجاهلية- أن هذا النوع يطفئ عطشه، فحدثت له هذه الحادثة، واضطر إلى شربها على هذا الوجه؛ فيرُخص له، وهذا هو القول الأعدل والأقرب إلى الصواب إن شاء الله في هذه المسألة.
قال المصنف رحمه الله: [ولا غيره] يعني: غير العطش من الأمور الأخرى التي يُتذرع بها، كما يفعله البعض من الدلك بها، فيأخذ مادة الكحول ويدلك بها اليد، أو للتعقيم من الجراثيم، أو زيادة النضرة والجمال، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى خالد: (بلغني أنك تدلك بالخمر، وإن الله حرم الخمر ظاهراً وباطناً، فإياك! أن تفعل ذلك فإنها نجسة) وهذا يؤكد أنه لا يجوز تعاطيها في هذه الأمور ولا في غيرها؛ ولذلك عمم المصنف رحمه الله الحكم كما هو ظاهر العبارة.(381/10)
الأسئلة(381/11)
سلبت منافع الخمر عندما حرمت
السؤال
في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] وقد أثبت الطب الحديث أنه ليس في الخمر علاج، وهذا مشكل، فما هي المنافع التي فيها؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فكون الطب الحديث الآن يثبت أنه ليس فيها منافع، لا يعارض أن يكون فيها منافع في مرحلة من مراحل التشريع؛ وقد جاء في رواية صحيحة -صححها غير واحد من العلماء- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لما حرم الخمر سلبها المنافع)، فالذي يبحثه الأطباء الآن هو بعد سلبها المنافع، أما في القديم، في المرحلة الثانية من تحريم الخمر، وهي مرحلة التنفير، قال الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، وهذا قبل التحريم، وبعد أن حرمت سلبت المنافع، وحينئذ لا إشكال؛ لأن محل الإشكال: لو كانت المنافع موجودة، والآية تتكلم بعد التحريم، فيصبح هناك تناقض بين نفي المنافع وإثباتها، والواقع أن نفي المنافع جاء بعد التحريم، والآية تتحدث عما قبل التحريم، وعلى هذا لا إشكال ولا تعارض؛ لأن القاعدة عند العلماء: إذا اختلف الموردان فلا يُحكم بالتعارض، والله تعالى أعلم.(381/12)
الحذر من خطر دعوى التدرج في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى
السؤال
تدرج الله سبحانه وتعالى في تحريم الخمر، هل فيه دليل على أننا نتدرج أيضاً في نصيحة الناس في أي معصية من المعاصي؟
الجواب
هذه المسألة ينبغي الحذر كل الحذر منها، وأحب أن أنبه إخواني جميعاً أن يتقوا الله عز وجل في الدعوة إلى الله، وأن يعلموا أن أمور الدعوة ينبغي أن يُنتهج فيها المنهج الذي بينه الله في كتابه، وبينه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في سنته، ولا أحسن ولا أجمل ولا أكمل ولا أعلم ولا أحكم من هذا الشرع والطريق والسبيل، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57]، والبينة: الأمر الواضح الذي لا اختلاج فيه ولا خلل، لكن بينة مِنْ مَن؟ من ربه، وبين الله تعالى أنه على هدى، وأنه على صراط مستقيم، وأنه يدعو إلى هذا الهدى، وإلى الصراط المستقيم، إذا ثبت هذا؛ فلا يجوز لمسلم أن يدخل يجتهد في مجالات الدعوة برأيه، ويتحكم في الأمور بهواه، دون أن يكون قد ورث عن أهل العلم العلم الشرعي والبصيرة، عليه أن يتقي الله عز وجل، وألا يغش أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والأصل الشرعي يقتضي أننا إذا نزل النص بتحريم أمر أن نبلغ الناس أنه حرام، فلو أنه دخل على رجل يشرب الدخان، لا يأتي ويقول له: والله! الدخان ما هو طيب، لكي يقول له بعد ذلك: الدخان حرام، فيقول له في اليوم الأول: الدخان ما هو طيب، أو يقول له: إن الأطباء يقولون: إن الدخان فيه أضرار، فيبدأ يقنعه عقلياً، ثم يقنعه نقلياً، افعل ذلك إذا ظننت أنك تبقى إلى غد، أو يبقى هذا الشخص إلى غد، فلو مات ولم تقم حجة الله عليه، وكان بإمكانك أن تقول له الحق، فستلقى الله عز وجل به، ولذلك لا يجوز تأخير الحجج والبراهين والإعذار إلى الله عز وجل في خلقه، ومن أغرب ما ترى! التساهل في إقامة الحجج، أما من يسير على المنهج السوي، يأتي إلى الشخص ويقول له: يا أخي! دل الدليل من كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا الخمر حرام، فاتق الله عز وجل، ودع ما حرم الله يغنك الله، ويكفك بحلاله عن حرامه، يا هذا! اتق الله في نفسك، واتق الله في مالك، واتق الله عز وجل في حدود الله التي أمرك الله باجتنابها، فيعطيه الأمر واضحاً.
فإذا نظرت: وجدت الداعية الذي يسير على هذه الأمور الواضحة مباركاً له في دعوته، ومن يلتزم بسببه يلتزم بقوة، ويلتزم باستجابة للحق، بخلاف الذي يرقع له، ويحاول أن يلطِّف يلطف يلطف حتى إنه لربما جاءت عزائم الإسلام فنكص على عقبيه والعياذ بالله! فهو يلتزم بين بين! إن نظر إلى مجلس فيه ضحك ولهو، وأُخذت أمورالدعوة بإضحاك الناس واللهو معهم؛ استقام على دين الله، فإن خرج إلى مجلس فيه جد، وفيه أحكام الشريعة، وفيه سنن الهدى التي تستنير بها البصائر ضعفت نفسه، ولربما قال كلمة يزل بها إلى لقاء الله عز وجل، فيقول مثلاً: هذا تعقيد! وتجد بعضهم يستحدث في الدعوة أموراً غير شرعية، ويقول: لا تدع الناس مباشرة! بل إن بعضهم-والعياذ بالله- يأخذ آلات اللهو ويضربها لمن يدعوهم حتى يجذبهم إلى الإسلام! إنا لله وإنا إليه راجعون، من الذي قال لك: إن هذا الحرام قد صار حلالاً لك؟! ومن الذي فتح لك أبواب المحرمات تستبيحها في سمتك ودلك وتستخف بدين الله عز وجل هذا الاستخفاف؟! من الذي قال لك: إن هذا الدين ضحك ولهو؟ هذا يماثل قلوب الذين: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة:67]، والهزو: الضحك، {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، فموسى نبي من أنبياء الله برأ رسالته التي بعث بها أن تكون بطريق الجهل، فالدين علم وبصيرة، كما قال الله: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] أي: بعزيمة، وصبر، وتحمل، ومناهج واضحة، وحجج بينة، هذا ربك، وهذا دينك، وهذا نبيك، توصيه بطاعة الله عز وجل وتقواه، وتقرعه بقوارع التنزيل إن كان مثله يقرع، أو تأخذه بمحاسن الإسلام ترغيباً، ولك في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من الحجج الواضحة البينة ما ترق به القلوب، فليس الإسلام بهذه التأويلات وهذه التعسفات، ولا تجد هذه التأويلات عند أهل العلم والبصيرة، ولذلك تجد أهل العلم الذين عرفوا كتاب الله، وعلموا حلاله وحرامه، الراسخون في العلم؛ لا يدعون الناس بمثل هذه التهكمات، وبمثل هذه الاجتهادات، هذه تجدها عند أناس مفلوتين لا زمام لهم ولا بصيرة، تجدهم الواحد منهم يختلق في دين الله وفي دعوته ومنهجه فكراً جديداً؛ لكي يضيفه لنا، وكأن الشريعة ناقصة! الشريعة منهج واضح، ليس فيها اجتهاد ولا تأويل، فيما لا اجتهاد فيه ولا تأويل، فطرق الدعوة واضحة، ومناهج الدعوة واضحة، ومن هنا يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14]، أسلوب التوكيد: (إنه) أي: إنه شرع الله الذي في القرآن، الذي هو الفصل والأساس، فالتدرج عطفاً على الناس، واستخدام الأساليب المضحكة والملهية لتأليف الناس، هذه أمور خلاف المنهج والسنن، وينبغي للإنسان أن يرتبط بمنهج الكتاب والسنة، وأن يصحح مساره، وأن يعرف كيف يدعو! وما هو الأصل! وقد عايشنا العلماء، وجالسنا أئمة من أهل الفضل، ممن فسر كتاب الله عز وجل عشرات السنين، وممن فسر السنة عشرات السنين، فيأتيهم من هو أشقى الناس، ونعرف أن من دخل عليهم من أفسق الناس فجوراً وانتهاكاً لحدود الله عز وجل، وقد كان بالإمكان أن يضحك معه أو يلهو معه، فإذا به يقف معه الموقف الواضح البين، ويقول له: هذا دين الله وشرعه.
سبحان الله! حينما أدعو الناس بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرأ عليهم كتاب الله، وأذكرهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما استجابوا، وقامت عليهم الحجة، هل معنى ذلك أن الكتاب والسنة نفرة؟ لا أبداً، الخلل ليس في كتاب الله، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما في النفوس والقلوب، فهي التي تستجيب، فإن وعت وأراد الله هدايتها فالحمد لله، وقد كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أصدق الناس مقالاً، وأوضحهم منهجاً واعتدالاً، وعلماً بالحكمة ومواضعها، ومع ذلك قال بقول الله عز وجل، وبلغ عن الله صلوات الله وسلامه عليه، ولم يأخذ الناس بالسخرية، ولا باللهو والضحك.
ذُكر عن بعض هؤلاء أنه في محاضراته -والناس يحضرون من أجل أن يسمعوا منه- يمثل للمرأة: كيف تتدلل! وكيف تضحك! من أجل أن يضحك الناس! هذا انحطاط وحط لقدر الشريعة، الشريعة لها مكانة وقدر، على الإنسان أن يستبين منهج الله عز وجل، لا يقول لك شخص: قم وادع بما فتح الله عليك! فتأتي بالطوام، وبالأمور الغريبة العجيبة التي تصطدم مع الشرع تماماً.
حدث لبعض هؤلاء موقفاً: استدعاه بعض مشايخنا رحمة الله عليه؛ لأنه جاء وأضحك الناس في زواج، فقال كلاماً من أجل إضحاكهم، فقال: مو يهديني! ثم استدعاه شيخنا رحمه الله وهو الوالد، وقال له: يا فلان! هل حضرت زواج فلان؟ قال: نعم، قال: هل قلت: كذا وكذا؟ قال: يا شيخ! قلت ذلك، والحمد لله، نفع الله بذلك القول، وما أريد إلا الخير، قال: أوكل مبتغ للخير مصيب له؟! يا هذا! اتق الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! تأتي على مرأى ومسمع من الناس لتضحكهم، وتستخف بدين الله عز وجل؛ لأنه قال كلمة عجيبة، وقال كلمة غريبة ينزه الشرع عنها، ثم قال له: أتعرف أن هذه الكلمة بعض العلماء يراها كفراً واستهزاءً بالدين؟! قال: أعوذ بالله! ما كنت أظن هذا، قال: إذن أنصحك أن تجثو على ركبتيك في مجالس العلماء؛ حتى تتأهل للعلم، والدعوة والبصيرة.
وانظر إلى العلماء كيف يدعون الناس! وكيف يغضبون في مواطن من حقهم فيها أن يغضبوا! وكيف يأخذون الناس بالتي هي أحسن في مواطن يحسن فيها أخذهم بالرفق! إذاً لا بد أن نرجع إلى كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قلّ أن تجد مناهج تخرج عن هذا الأساس، ويوضع فيها البركة، ولا يمكن أن تستقيم أمور العبد بغير كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]،هذه الوصية كان ابن مسعود يقول: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.
} [الأنعام:151]، وآخر هذه الوصية وكلها مسك: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي) صراط الله، ما هو صراط الله؟ قيل: هو القرآن، فمن دعى بعلم بالقرآن وبصيرة بالقرآن فإن الله يبارك دعوته، ويبارك قوله وعمله، حتى لو لم يستجب لدعوته إلا عشرة؛ فإنهم خير من ملء الأرض ممن يستقيم على الترهات والضحك، والاستخفاف والعبث، ولذلك كم وجدنا، وكم سمعنا من أخبار عجيبة ممن يختلق هذه الأمور في الدعوة! فيتدرج في أمور الحكم فيها واضح، ويأتي يريد أن يختلق للناس تدرجاً في الأحكام! كم سمعنا من محق للبركة في دعوتهم! وكم وجدنا من الآثار التي لا يحمد عقباها لمن دعوهم! لأن الله يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]، قال بعض العلماء: إني لأعرف من عبث مع البعض فأدخله باللهو والضحك، حتى جلس عشر سنوات على التزام، فجاءته مصيبة فانتكس فمات شر ميتة-والعياذ بالله-، فهو يلتزم على أشياء محدودة، ومن العجيب أنك تسمع بعضهم يقول: إذا أردت أن ترى الداعية الحق فاذهب إلى فلان، فهؤلاء هم الذين يعرفون كيف يدعون! وهؤلاء هم الذين يعرفون كيف يؤثرون! إن الذي يعلم التأثير، ويعلم مواطن التأثير هو الله وحده المطلع على السرائر والضمائر، وهو سبحانه الذي يضع البركة لمن ابتع كتابه، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس هذا أو ذاك، الله وحده هو المطلع على السرائر والضمائر، والمطلع على عواقب هذا الوحي، وآ(381/13)
حكم من فاتته ركعة رابعة ثم صلاها مع إمام زاد خامسة سهواً
السؤال
رجل فاتته ركعة في صلاة الظهر، والإمام أتى بركعة خامسة، فهل تجزئ؟
الجواب
إذا قام الإمام إلى الركعة الخامسة فإن المأمومين على قسمين: من كانت صلاته أربعاً، وحضر الصلاة تامة فلا يجوز له أن يتابع الإمام، بل يبقى، ويطيل التشهد والدعاء حتى يتم الإمام الخامسة؛ لأنه معذور في ظنه، وله أن يتعبد الله بما يظن، وأنت لست معذوراً في متابعته على الخطأ؛ لأنك مأمور باتباع الإمام فيما شرع، لا فيما لم يشرع، ومن هنا تطيل التشهد كما أطال الصحابة رضوان الله عليهم التشهد وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، فتثبت وتطيل التشهد، فإذا نبه ورجع إلى المصيبين الذين يعرفون الزيادة، وعلم أنه زاد، فرجع؛ فلا إشكال، فيسلم بالجميع، ويسجد للزيادة وتسجد معه؛ لأنك تبع للإمام في خطئه وصوابه.
وأما إذا أصر على موقفه، وأتم الركعة، فله عذر، وصلاته صحيحة، وصلاتك أنت صحيحة؛ لأنها تمت لك أربع ركعات.
القسم الثاني من المأمومين: الذين ورد السؤال عنهم: من جاء متأخراً، فقام الإمام لخامسة، سواءً علم أو لم يعلم أنها خامسة، فيتابع الإمام، والسبب في هذا: أنه مأمور باتباع هذا الإمام، وصلاته ناقصة، فالإمام قائم لركعة نافلة -وهي الخامسة- لعذر، فحينئذ لا وجه أن ينفصل عنه؛ لأن صلاته لم تتم، فيتابعه في هذه الركعة، ويسلم معه، وصلاته صحيحة، ولو فاتتك ركعتان، فقام الإمام إلى ركعة زائدة قضيت معه ركعة واحدة، وهذا مبني على اقتداء المفترض بالمتنفل، والأدلة دالة على جواز ذلك، كما في قضية صلاة الخوف، والله تعالى أعلم.(381/14)
إذا لم يأتِ الخطيب يوم الجمعة
السؤال
جماعة مسجد غاب عنهم خطيبهم يوم الجمعة، فصلوا ذلك اليوم ظهراً بلا خطبة، بحجة عدم وجود من هو أهل للخطابة، هل فعلهم هذا صحيح؟ وإن لم يكن فماذا يلزمهم؟
الجواب
لا شك أنه ينبغي عدم الاستعجال، المشكلة هنا في الاستعجال، فالمؤذن بمجرد ألا يجد الإمام يخاف الإحراج، فيقول مباشرة: يا جماعة! سنصلي الظهر، ثم يصلي بهم ظهراً، فالمنبغي أن يسألهم، ويقول: هل فيكم أحد من طلبة العلم ممن يستطيع أن يصلي بنا الجمعة؟ حتى يعذر إلى الله عز وجل، فإن وجد أحداً بهذه الصفة مكنه أن يقوم ويخطب بالناس، ويؤدي لهم صلاتهم؛ لأن الأصل: أنه يجب عليهم أن يصلوا الجمعة، وأما إذا لم يوجد فحينئذ ينظر: فإن وجدت مساجد أخرى فيها الجمعة، فإنه يجب عليهم أن يخرجوا من هذا المسجد ويدركوا الجمعة في المساجد الأخرى؛ لأن الله فرض عليهم جمعة، ولم يفرض عليهم ظهراً، ولا يستقيم أن يصلوا ظهراً والمساجد الأخرى فيها جمعة، وعلى هذا ينبغي تنبيه الناس لهذا لأمر؛ أنهم لا يصلون ظهراً مع إمكان أداء الفرض-أعني الجمعة- للحاضر المقيم.
أما لو تعذر، ما في في القرية إلا هذا المسجد، وليس هناك إلا إمام واحد، وليس هناك أحد يستطيع أن يخطب، وهذه مصيبة، المؤذن لو وقف وقام وقال: أيها الناس! اتقوا الله ربكم، وذكرهم بآية من كتاب الله، أو بحديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو حتى قال: أيها الناس! اتقوا ربكم، أمامكم الجنة! أمامكم النار! رغب ورهب، فجمعتهم صحيحة، حتى: لو خطب عشر دقائق، أو حتى سبع دقائق، أو حتى خمس دقائق، حتى لو قال: أيها الناس! اتقوا ربكم، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، اتقوا الله في أنفسكم، في أهليكم، في أولادكم، ولو قالها من قلبه لربما كانت مغنية عن عشرات الخطب، وخير الكلام ما قل ودل، فهذا لا يؤثر في صحة الجمعة، ثم جلس، ثم قام مرة ثانية: يحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أيها الناس! أذكركم ما ذكرتكم في الخطبة الأولى، ما يضر، هي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حولها ندندن) أي: الجنة التي نرجو من الله تعالى أن يجعلنا من أهلها، والنار التي نرجو من الله عز وجل أن ينجينا وإياكم منها، هي كلها ندور حولها، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت صلاته أطول من خطبته، وهذا من مئنة فقه الرجل، وصلاته يقرأ فيها بسبح والغاشية، وسبح والغاشية مقدارها صفحتان، يعني: ورقة واحدة، والأئمة الآن يأتي الواحد منهم ومعه درزن من الأوراق، يريد ألا ينفض الناس إلا وقد علموا تفاصيل الشريعة من أول الإسلام إلى آخره، خير الكلام ما قل ودل، فإنه قد يقوم الرجل العامي الغيور، ويتكلم على أمر من الأمور التي يعلم حكم الله عز وجل فيه، أو يرى الناس تقصر فيه، فيقف ويقول: يا ناس! اتقوا ربكم، بأسلوب عامي، لكنها تقع في القلوب، ويقوم البلغاء والفصحاء والمتكلمون، وإن شئت قلت: الثرثارون، ولا يغني ذلك شيئاً، ويخرج الناس كما دخلوا! إذاً: قد يعظ الإنسان بالكلام القليل ويكفي، فلا تصعب الجمعة، وما ذكر من اشتراط الحمدلة، وقراءة الآية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه شروط معروفة، لكن تكلم العلماء فيها، وأنها اجتهادية، والصحيح أن خطبة الجمعة شرطها: البشارة والنذارة، وهي رسالة الرسل؛ لأن أصل الرسالة: السفارة، أي: سفارة الرسل من الله عز وجل إلى العباد، وقد بينها الله في هاتين الكلمتين: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:165]، ومن هنا بعض الناس يقول: العلماء قصروا، وخانوا الأمة؛ لأنهم لم يبينوا دينه، ألا تعلم أنه لو وقف عالم وقال: أيها الناس! اتقوا ربكم، أنه قد أعذر إلى الله في شرائع للإسلام لا يحصيها إلا الله عز وجل؟! من هذا الذي يستطيع أن يقول: اتقوا ربكم، من قلب مخلص؛ فإذا قالها هز القلوب إلى ربها؟ ومن يستطيع أن يقول هذه الكلمة التي كثر قائلوها، وقل العاملون بها؟ ومن يستطيع أن يقولها من قرارة قلبه فلا تجاوز أذناً حتى تستقر في قلبها؟ إنما هو المخلص لله عز وجل.
وأذكر الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله برحمته الواسعة كنا ذات يوم في المسجد النبوي بعد صلاة الظهر -وهذا من تواضعه رحمه الله برحمته الواسعة-، وكان هناك حريق في سوق المدينة، واستمر قرابة سبعة أيام، وكان عبرة! سوق للذهب حُرق ومكث أياماً آية من آيات الله، هذا الموضع كان فيه بعض التقصير والتساهل من بعض الناس، وكأنه ابتلاء من الله عز وجل، فلما صلى الناس الظهر، قام رجل من عامة المسلمين، ولكنه قلّ أن يغيب عن الصف الأول في الحرم، وقل أن يغيب عن مجلس الذكر في المسجد النبوي، ما يمكن أن يغيب بعد المغرب إلى العشاء، لا بد أن تراه في حلق أهل العلم، وعنده عناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعطش للخير، وكان غيوراً على الطاعة والخير، فقام هذا الرجل الكبير السن، ووقف موقفاً مؤثراً جداً، وقف بعد الصلاة وهو شيخ حطمة! ضعيف البدن! ضعيف الصوت! وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه كلاماً مؤثراً، ومما قال: أين السوق بالأمس؟ أين الذهب؟ أين المجوهرات؟ انظروا كيف أن الله عز وجل يبتلي عباده! وكيف تأتي نقم الله عز وجل! تحدث قرابة عشر دقائق، لكن فيها تذكرة لمن عقلها، وله أذن واعية، فأثر فينا كثيراً، وكان الشيخ رحمه الله جالساً في الصف الثاني تقريباً في الحرم، وكان بيني وبينه شخصان، وما كنت أعلم أنه في الحلقة، وفجأة الرجل قال: الله أكبر، الشيخ ناصر موجود؟! فكان كما يقولون: خرب الذي فعل، كنا في الموعظة، وتأثرنا، فإذا بالشيخ رحمه الله ينشج من البكاء، ويرفع صوته، ويقول: أناشدك الله استمر! استمر! استمر! فتأثر بكلامه، وهو رجل من العامة، فوضع الشيخ يديه على رأسه وهو جالس وقد نشج وتأثر وبكى.
فهذا الرجل من عامة المسلمين، ومع ذلك يعظ علماء، ويؤثر فيهم؛ لأن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت كذبة منمقة محسنة -ولوكانت من أبلغ الناس إذا لم يرد بها وجه الله- لم تبلغ مبلغها أبداً؛ ولذلك وعظ أحدهم بكلام بليغ مؤثر في القلوب، فجاءه رجل بعد الخطبة، وقال له: يا فلان! إنك قلت كلاماً تندك منه الجبال، من قوته وبلاغته وفصاحته، ولكني أقسم بالله أنه ما بقي في قلبي منه شيء، فإما أن يكون فيك العيب أو فيّ العيب! يعني: إما أن تكون لا تريد وجه الله-أستغفر الله- بهذا الكلام؛ فاتق الله، وإما أن أكون أنا لا أحسن سماع المواعظ، ولا التأثر بكلام الله عز وجل وكلام رسوله؛ فأنا الذي فيّ العيب، فأعطاه موعظة قصيرة، لكنها مؤثرة.
فتأثر الناس في خطبة الجمعة لا يشترط أن يأتي الإنسان بكلام كثير، وكم رأينا من أمور مؤثرة جداً؟ الشخص يجلس يخطب قرابة النصف ساعة، والناس في شدة الظهيرة، وقد يكون هذا في شدة الصيف، والناس في أحوج ما يكونون إلى من يرفق بهم، وإلى من يتألفهم.
وتجد بعض الخطباء الحكما يختصرون بكلام قليل، وتجد لهم من القبول ومحبة الناس، وغشيانهم لمساجدهم وقبولهم لمواعظهم الخير الكثير؛ لأنهم حببوا الناس في دين الله عز وجل، ولم ينفروهم.
فالشاهد: أن الخطبة -ويُنبه المؤذنون على هذا- تتوقف على التذكير بالله عز وجل، فإذا قام شخص وذكر بالله كفى، لكن إذا وجد مسجد تقام فيه الخطبة فأنا أنصح أنه لا يقوم أحد ليخطب إذا كان نفع الناس بالخطب الأخرى أعظم، وقد يؤم بهم عامي يلحن في الفاتحة أو يخل بها، فتبطل صلاتهم.
فخلاصة القول: إذا لم يوجد مسجد آخر -وهذا الشرط الأول- فيه جمعة جاز لهم أن يصلوا الجمعة.
الشرط الثاني: أن يغلب على ظنه أنه لا يوجد الخطيب إلى آخر الوقت، وهذا يغفله كثير ممن يفتي في هذه المسألة، فإن العلماء قالوا: إن الجمعة واجبة في هذا اليوم، فمنهم من شدد إلى آخر وقت الظهر، فلم يعط رخصة بصلاتها ظهراً إلا إذا ضاق عليهم الوقت, ولم يبق إلا قدر ما يصلون الظهر؛ لأنها فريضة لازمة عليهم، فإن رجوا حضور الإمام أو حضور من يقوم بالخطبة ولو بعد وقت؛ ينتظرون في المسجد، وحينئذ تكون الجمعة لازمة عليهم، فإذا تحقق الشرطان جاز لهم أن يصلوا ظهراً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(381/15)
شرح زاد المستقنع - باب حد المسكر [3]
تعاطي المخدرات بلاء عظيم، وإثمه كبير، وشره كثير، وما انتشر في أمة إلا فتك فيها فتك النار في الهشيم، فلا تبقى لها حرمة، ولا تقوم لها قائمة، فإذا فسدت عقول الناس فسد دينهم، وفسدت أخلاقهم، وصاروا في فتن ومحن وشرور لا يعلمها إلا الله.(382/1)
جواز شرب الخمر في إزالة غصة اللقمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه من سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يباح شربه للذة ولا لتداوٍ ولا عطش ولا غيره إلا لدفع لقمة غص بها].
تقدم معنا تحريم شرب الخمر، وأن هناك بعض المسائل استثنيت من هذا التحريم، وذكرنا مسألة التداوي، وبيّنا خلاف العلماء رحمهم الله فيها، وبعد هذا ذكر المصنف رحمه الله ما يستثنى من تحريم شرب الخمر، وهي حالة الضرورة، عندما يخشى الإنسان أن يموت ويهلك، وقد ذكر الأئمة والعلماء رحمهم الله من المتقدمين والمتأخرين مثالاً على ذلك بالغصة.
والغصة صورتها: أن يأكل طعاماً فيغص، فإذا لم يشرب ما يفك غصته فإنه ستتلف نفسه وتهلك روحه، وحينئذٍ تكون حالته حالة اضطرار يخشى فيها عليه الموت، وهذه المسألة تعرف بإساغة الغصة بالخمرة، وهي مسألة قديمة، وعامة أهل العلم على الترخيص، وأن المسلم يباح له في هذه الحالة أن يشرب الخمر بقدر ما يسيغ هذه الغصة، ويذهب الخطر والضرر.
إذاً: يشترط أول شيء أن يكون هناك خوف على النفس، بمعنى: أن يغلب على ظنه أنه سيموت.
ثانياً: ألا يجد شيئاً غير الخمر مما هو دون الخمر أو من المباحات يمكن إساغة الغصة به، فإن وجد ما دون الخمر فإنه يقدمه، فلو وجد ماءً فبالإجماع يحرم عليه أن يشرب الخمر؛ لأن الأصل أن الخمر محرمة، لكن لو أنه وجد نجاسة -أكرمكم الله- كالبول، فهل يقدم الخمر أو البول؟ كلاهما نجس، قال بعض العلماء: يقدم البول على الخمر؛ والسبب في ذلك: أن البول لا حد ولا عقوبة في شربه، ولكن الخمر فيه عقوبة، والوعيد فيه أعظم، فيقدم شربه للبول على شربه للخمر.
ولو وجد ماءً متنجساً وبولاً وخمراً، فأيهما يقدم؟ قالوا: يقدم الماء المتنجس؛ لأن الأصل أنه مطعوم، لأن الله وصف الماء بكونه طعاماً فقال: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249]؛ ولأن الماء الأصل حِلّه، والنجاسة عارضة عليه، بخلاف البول الذي يحكم بنجاسته بقوة أقوى من الماء المتنجس.
وعلى هذا: يشترط ألا يوجد بديل، وهذه قاعدة تضعها معك أنه لا يفتى بالرخص مع وجود البديل المباح، وبجميع مسائل الرخص لا يمكن لعالم أو فقيه أن يفتي فيها بالرخصة مع وجود البديل.
وإذا خاف الموت ولم يجد بديلاً عن الخمر، فيُشترط الشرط الثالث: أن يكون شربه للخمر بقدر الحاجة والضرورة، فلا يزيد عن قدر حاجته، وإنما يقتصر على قدر إساغة اللقمة أو ما غص به؛ لأن القاعدة تقول: (ما جاز للضرورة يقدر بقدرها)، فلا يجوز له أن يزيد عن القدر الذي تندفع به الغصة.(382/2)
المسائل المستثناة في النجاسات
وهذه المسألة يعتبرها العلماء من المسائل المستثناة في النجاسات، ونظمها بعض العلماء في عشر مسائل، فقال: وجاز الانتفاع بالأنجاس في مسائل نظم بعدّها يفي في جلد ميتة إذا ما دبغ ولحمها للاضطرار سوغ وشحمها تدهن منه البكرة عظامها بها تصفّى الفضة وجاز أن تشلى عليها الغلف بوفقهم والحمل فيه الخلف ولبن الأُتُنِ للسعال والجلد للرئمان فيه جالي وغصة تزال بالرياح وبول الآدمي للجراح(382/3)
حكم جلد الميتة إذا دبغ
هذه عشر مسائل: المسألة الأولى في قوله رحمه الله: وجاز الانتفاع بالأنجاس في مسائل نظم بعدّها يفي في جلد ميتة إذا ما دبغ، هذا فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر).(382/4)
أكل لحم الميتة حال الاضطرار
(ولحمها للاضطرار سوغ)؛ لأن الله يقول: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] فاستثنى المضطر في أكل الميتة.(382/5)
استعمال شحم الميتة
(وشحمها تدهن منه البكرة)، وهي بكرة البئر، فإنهم لا يستطيعون أبداً أن ينزعوا من البئر إلا بوجود الشحم، والماء يكون غالباً في مقام الحاجيات، فإذا لم يتوصل إلى الماء إلا بالنزع، والنزع لا يمكن الوصول إليه إلا بشحم الميتة؛ جاز له في هذه الحالة أن ينتفع به.(382/6)
استعمال عظم الميتة في تصفية المعادن والفضة
(عظامها بها تصفّى الفضة)، في بعض الأحوال تستخدم العظام في المعادن ويحتاج الصاغة إلى تصفية الفضة بعظام الميتة، ولكن الآن يستغنى عنه بوجود المواد البديلة.(382/7)
تحريش الكلب على الصيد
(وجاز أن تشلى عليها الغلف)، الغلف هي: الكلاب -أكرمكم الله- في لغة العرب، (تشلى عليها) يعني: إذا أراد أن يعلم الصيد فإنه يحرشه ويشترط -كما سيأتينا إن شاء الله في إثبات صفة التعليم للكلب وللطائر الجارح حتى يجوز أكل ميتته وصيده- أنه إذا أشلاه ينشلي، وإشلاء الصيد للعلماء فيه قولان: قيل: الإشلاء أن يدعوه فيستجيب، فإذا ناداه يأتي، وهذا كقول الشاعر: أشليت عنزي ومسحت قعبي ثم انثنيت وشربت قأبي فمعناه: أنه نادى عنزه لأجل أن يحلبها.
ويطلق الإشلاء في لغة العرب على المعنى الثاني -وهو المقصود هنا- وهو: تحريش الكلب وتحريش الصقر والباز والباشق والنسور عند تعليمها للصيد، يحرشها بالفريسة فتذهب إلى الفريسة، وهذا هو المراد هنا، قال الشاعر: أتينا أبا عمرو فأشلى علينا كلابه فكدنا بين بيتيه نؤكل هذا رجل بخيل جاءوا يزورونه فأشلى عليهم الكلاب أكرمكم الله! فالإشلاء هنا بمعنى: التحريش، قالوا: لا يكون الكلب معلماً إلا إذا حرشته ثلاث مرات فيتحرش، وقد يستجيب مباشرة، وقيل: بمرتين، وسيأتي إن شاء الله الخلاف بين العلماء في ذلك.
فهنا قوله: (وجاز أن تشلى عليها الغلف) يعني: تحرش الكلاب عليها، (بوفقهم) يعني: باتفاق العلماء.(382/8)
حكم حمل الميتة إلى الكلب
(والحمل فيه الخلف) يعني: حمل الميتة إلى الكلب من أجل أن يأكلها مختلف فيه؛ لأنه فرق بين أن يذهب بنفسه ويأخذ الميتة وبين أن تحمل له، ولذلك حرم بعض العلماء حملها وقالوا: لا رخصة.(382/9)
استخدام لبن الأتان لعلاج السعال الديكي
(ولبن الأتن للسعال) لبن الأتان للسعال الديكي عند تعذر العلاج والدواء عند من يقول بالتداوي بالنجس، فيرخص لهذا المريض أن يستعمل لبن الأتان إذا خشي الهلاك، قالوا: إنه مجرد دواء للسعال الديكي إذا أعيت فيه العلة، وهذا يقولونه من باب الضرورة، وقد قدمنا مسألة التداوي بالنجس.(382/10)
وضع العلف في جلد البقرة التي ماتت لمصلحة ولدها ليأكل
(والجلد للرئمات فيه جالي)، الرئمات: هن صغار البقر، إذا ماتت أمه امتنع من الأكل والشرب، فيتأثر ولا يأكل شيئاً من شدة حزنه على أمه، ووجده عليها، حتى البهائم فيها رحمة، بخلاف -نسأل الله العافية- قساة القلوب حينما يقال له: أمك مريضة يقول: اذهبوا بها إلى المستشفى! وهذا الحيوان يمتنع من الأكل؛ لأنه اعتاد أمه، ولا يمكن أن يشرب الماء ولا أن يأكل الطعام حتى يشم أمه، فماذا يفعلون؟ ماتت أمه، ويغلب على الظن أنه سيموت بعدها؛ لأنه يمتنع من الأكل والشرب، فحينئذٍ هذا تلف مال، ولذلك رخص العلماء أن يأتوا له بالطعام محفوفاً بجلد أمه بعد موتها، فلما يشم رائحة أمه يقبل على الطعام ويأكل: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، حتى البهيمة هداها!(382/11)
إنزال الغصة بالخمر
(وغصة تزال بالرياح) الرياح: اسم من أسماء الخمر، فقوله: (غصة تزال بالرياح) يعني: إذا اضطر إلى إزالة الغصة بالخمرة فهو معذور، ولا حرج عليه ولا إثم.(382/12)
استخدام البول لتجفيف الجروح النازفة
(وبول الآدمي للجراح)، أي: الجرح -أجاركم الله- إذا كان ينزف، كانوا في القديم في الحروب يتعرضون له للإصابات، فينزف الجرح فلا يرقأ، فيصب عليه البول فيتماسك، وهذا مجرب ومشهود إذا صب البول -أكرمكم الله- على الجرح يتماسك ويلتئم؛ لأنه حارق فيحرقه، وهو من طبيعة البدن، ولذلك تقول العامة: (الجرح النحس ما له إلا البول النجس)، فهم يقولون هذا بطبيعتهم، فإذا أعياهم أن يجدوا له دواء إلا هذا فلا بأس، فهذه عشر مسائل ومنها مسألة الباب: (وغصة تزال بالرياح)، وهذه يقول عنها: الإمام ابن قدامة وغيره: عامة العلماء أنه إذا حصل اضطرار إلى الخمر بأن تساغ بها الغصة فلا بأس ولا حرج، وهذا لا يدخل في التداوي بما حرم الله؛ لأنه ليس علاجاً لداء، وإنما هو مقام اضطرار، ألجئ إلى هذا الخمر، فرخص له ذلك جماهير السلف والخلف، وهو قول العامة.
ويحكى عن الإمام مالك وبعض السلف أنهم شددوا في هذه المسألة، ولكن المذهب عند المالكية أنها تزال الغصة بالخمر، وأنه لا حرج ولا بأس حينئذٍ.
قال المصنف رحمه الله: [ولم يحضره غيره] فهذا شرط، لم يحضره غير الخمر، فإذا وجد غير الخمر يمكن إساغة الغصة به، فإنه لا رخصة له في الخمر، بشرط ألا يكون غير الخمر متضمناً للضرر، مثل أن يجد سائلاً ساماً غير الخمر إذا شربه سيموت، فليس هناك علاج للموت بالموت، وحينئذٍ قوله: (لم يحضره غيره) يعني: مما هو أخف من الخمر، ويمكن إساغة الغصة به، وهذا مراده رحمه الله.(382/13)
حد شرب الخمر
قال المصنف رحمه الله: [وإذا شربه المسلم مختاراً عالماً أن كثيره يسكر فعليه الحد].
بين رحمه الله الشروط التي ينبغي توافرها لإقامة حد الخمر، فلابد أن يكون مسلماً، والكافر فيه تفصيل.
قال بعض العلماء: إن الخمر محرمة في الأديان كلها حتى عند أهل الكتاب، لكنهم حرفوا دينهم وشربوا الخمر، فالأصل تحريمها في جميع الأديان لعظيم ما فيها من الضرر والأذية، وهذا القول قاله بعض علماء الحنفية وغيرهم.
وقال بعض العلماء: إن الخمر مباح لبعض الأديان دون بعضها، ولذلك خففوا على أهل الكتاب إذا شربوها، فلا يقيموا عليهم الحد، والذي عليه بعض الأئمة أن أهل الكتاب -وقد نبهنا على هذا القول في مسألة احتكام أهل الذمة- إذا شربوا الخمر ثم رفعوا القضية إلى قاضٍ فإنه يحكم بينهم بشريعة الله عز وجل، فيقام عليهم حد الله عز وجل إذا ترافعوا إلينا، كما قال الله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] فحينئذٍ نقيم عليهم شرع الله عز وجل ويقام عليهم الحد.
واستثني الحربي والمستأمن، والأصل ما ذكرناه أنهم إذا رفعوا إلينا وجب أن نحكم فيهم بحكم الله عز وجل الذي نسخ الأحكام، وبشريعة الله عز وجل وبكتاب الله الذي جعله مهيمناً على ما قبله.
وعلى هذا؛ اشترط المصنف الإسلام من حيث أنه ملتزم بالأحكام.
ويشترط أن يكون مسلماً مكلفاً، فلا يقام الحد على مجنون، فلو أن مجنوناً شرب الخمر لا يقام عليه الحد، ولذلك لما هم عمر رضي الله عنه أن يجلد امرأة زنت، مرَّ عليها علي رضي الله عنه فأمر بإطلاقها وقال: (يا أمير المؤمنين! أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: وذكر منهم المجنون حتى يفيق) ثم قال: إن هذه مجنونة آل فلان، ولعلها زنت أو غشيها الرجل حال جنونها) فعذرها بإسقاط حد الزنا، وكذلك يسقط حد الخمر على المجنون لأنه ليس بمكلف، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على سقوط المؤاخذة عنه.
وكذلك إذا كان صبياً سواء كان مميزاً أو غير مميز؛ لأنه غير مكلف، ولكن إذا كان مميزاً يعزر.
ويشترط أن يكون مختاراً أي: لا يكره على شرب الخمر، فلو أن شخصاً هدده بالسلاح، وغلب على ظنه أنه إذا لم يشرب الخمر فإنه سيقتله أو هدده بشيء أعظم من الخمر حسب الشروط التي ذكرناها في الإكراه، أن فيهدده بما فيه ضرر، ويغلب على ظنه أنه يفعل به ما هدده به، ولا يمكنه الاستنجاد والخروج من هذا البلاء، ويكون ما طلب منه أخف مما هدده به أو يقع عليه من الضرر، ويكون الإكراه بظلم لا بحق، كما في مسألتنا؛ لأنه إكراه على محرم، فإذا استوفيت هذه الشروط المعتبرة للإكراه سقط الحد عمن شرب الخمر مكرهاً؛ لأن الله عز وجل أسقط عن المكره المؤاخذة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وقوله: (وما استكرهوا عليه) يدل على أنهم متجاوز عنهم حال الإكراه؛ ولأن الله أسقط بالإكراه أعظم الأشياء وهو الردة، فقال سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فأعظم الذنوب وأشدها جرماً الكفر بالله، فإذا أسقط الإكراه الردة فمن باب أولى أن يسقط المؤاخذة بما سواها، وعلى هذا يشترط أن يكون مختاراً.
وقوله رحمه الله: (عالماً أن كثيره يسكر).
يشترط أن يكون عالماً بأن ما يشربه خمر، وأن كثيره يسكر، فإذا علم أنها خمر وشربها دون عذر وجب عليه الحد، لكن لو شربها وهو لا يعلم أنها خمر، كأن قيل له: هذا عصير، أو وضع له في شرابه كما يفعله -نسأل الله السلامة والعافية- أهل البطالة والفسوق لأبناء المسلمين، إذا أرادوا أن يغروهم وضعوا لهم في شرابهم المادة المخدرة، فإذا شربها وهو لا يعلم أنها مخدرة فإنه في هذه الحالة يعذر، ولا يكون مؤاخذاً ولا يقام عليه الحد، خاصة إذا أقر شخص أنه وضعها له في شرابه، أو وضعها له في حقنة حقنه بها أو نحو ذلك.
فالإكراه والجهل بكونه مسكراً يسقط الحد في هذه الأحوال كلها، كذلك ألا يكون معذوراً مثل ما ذكرنا: إذا شرب الخمر لقطع عضو على القول أنه يجوز له ذلك كما في القديم كانوا يسقون الخمر لقطع الأعضاء، لمن خشي الضرر، ولم يستطع تحمل الألم، أو وضع مادة التخدير لأجل الجراح الموجودة إذا تعاطاها أو حقن بالمخدر من أجل عملية جراحية، فهذه كلها أحوال هو معذور فيها، وحينئذٍ لا يحكم بوجوب الحد عليه؛ لوجود الشبهة الموجبة لإسقاط الحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات).(382/14)
خلاف العلماء في حد شرب الخمر
قال المصنف رحمه الله: [ثمانون جلدة مع الحرية].
أي: الحد على الشارب (ثمانون جلدة مع الحرية) حد الخمر أجمع جماهير السلف والخلف رحمهم الله على وجوبه وثبوته، واختلفوا في تقدير حده، فمذهب الجمهور من الحنفية والمالكية وقول عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة على أنه ثمانون، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهذه الثمانون لا ينقص منها شيء، يجلد ثمانين جلدة لا تنقص منها جلدة واحدة.
وأصحاب هذا القول احتجوا بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد شارب الخمر بجريدتين نحواً من أربعين)، فقالوا: (بجريدتين نحواً من أربعين)، فكل جريدة أربعون، فأصبح المجموع ثمانين جلدة، وهناك أحاديث ضعيفة ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلد ثمانين جلدة، ولكن لم يصح شيء منها.
واستدلوا بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصته المشهورة، حيث كتب إليه خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو بالشام إبان الفتوحات، وأرسل إليه أبا وبرة الكلبي، فجاء أبو وبرة إلى عمر وقال: (يا أمير المؤمنين! إن خالداً بعثني إليك أن الناس قد تحاقروا عقوبة الخمر، وانهمكوا في شربها، فقال: دونك القوم فاسألهم، وكان في القوم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وأرى أن يجلد حد الفرية، وحد الفرية ثمانون جلدة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـ أبي وبرة: أبلغ صاحبك ما قال)، أي: أنه يجلدهم ثمانين جلدة.
قالوا: ولم ينكر هذا القول أحد من الصحابة، ووقع في زمان الخلفاء الراشدين، وهي سنة، وأكدوا هذا بالرواية الصحيحة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه أتي بـ الوليد وقد صلّى بالناس الصبح أربعاً، وقال لهم: أزيدكم؟! القصة المشهورة، وكان وراءه عبد الله بن مسعود، فقال: (ما زلنا اليوم معك في زيادة)؛ لأنه صلى بهم ثلاث ركعات، ثم قال: أزيدكم؟ وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه تكلم في الصلاة لأنه علم أنها باطلة باطلة، والبعض يقول: هذا يدل على جواز الكلام في الصلاة، فعلم عبد الله رضي الله عنه أن الإمام سكران، وإذا فقد الإمام عقله بطلت إمامته، وبطلت الصلاة كلها، فمادام أن الصلاة باطلة قال: (ما زلنا اليوم معك في زيادة)، وهذا لا يصلح الاحتجاج به على جواز الكلام في الصلاة، إنما يجوز لو كانت الصلاة باطلة، المهم أنه لما صلى بالناس الصبح أربعاً شهد عليه حمران مولى عثمان! وشهد آخر أنه تقيأ الخمر، فصارت شهادتان، حتى إنه لما شهد الثاني وقال: أنا رأيته يتقيأ الخمر، قال عثمان قولته المشهورة: (والله ما تقيأها إلا وقد شربها)، غير معقول أن تدخل إلى جوفه دون أن يشربها.
ومن هنا أخذ طائفة من العلماء أنه إذا تقيأ الخمر فإنه دليل على الابتلاء بالمسكر وأنه شارب له.
فلما تمت البينة قال عثمان رضي الله عنه كما في الصحيح: (يا علي! قم فاجلده، فقال علي: يا حسن! قم فاجلده، فقال الحسن: ولِّ حارها من تولى قارّها)، فكأنه وجد عليه، والحسن قصد أن الخليفة ليتحمل ضرب الناس، ولا نتحمل نحن، فقال له: (ولِّ حارها من تولى قارّها) فكأنه وجد عليه علي رضي الله عنه، فقال لـ عبد الله بن جعفر: (قم فاجلده، فقام عبد الله بن جعفر فجلده وعلي يعد الجلد، حتى بلغ أربعين، فقال له: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين، وجلد عمر رضي الله عنه ثمانين، وكل سنة وهذا أحب إليّ)، يعني: إن جلد أربعين فسنة، وإن جلد ثمانين فسنة.
قالوا: نص علي رضي الله عنه على أن الثمانين سنة، فإذا كانت سنة فإنه حينئذٍ يجب العمل بها؛ لأن السنة إذا سيقت في مقام الاحتجاج، وفي مقام الاحتكام فإنه يقصد بها السنة التي يجب العمل بها والرجوع إليها، فلا يقول علي رضي الله عنه هذا إلا في معرض الاحتجاج، هذا حاصل أدلة من قال بأنه يجلد ثمانين جلدة، ولا ينقص منها.
أما الذين قالوا بأنه يجلد أربعين جلدة، فقالوا: الأربعون هي الحد، والزائد عن الأربعين إلى الثمانين يترك الأمر فيه للقاضي، إن رأى الناس تساهلوا وانهمكوا في شرب الخمر وعلم أنه لابد من زجرهم جعلها ثمانين، وإن كان الناس لم يصلوا إلى هذا الحد بقي على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الحد الأصلي وهو أربعون جلدة، وهذا القول هو مذهب الشافعية والظاهرية ورواية عن الإمام أحمد اختارها الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة من المحققين.
وهذا القول يحتج له بأدلة: أولاً: لا غبار أن الأربعين هي الأصل، وأنها هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الزيادة كانت من عمر، وأما الاحتجاج بحديث أنه جلد بجريدتين نحواً من أربعين، فهذا نص محتمل، يحتمل بجريدتين أي: كل جريدة أربعين، ويحتمل أنه ضرب بالأولى قدراً ثم أتم بالثانية بقية الجلد فأصبح المجموع أربعين، لأنه قال: (جلد نحواً من أربعين بجريدتين)، فهذا يحتمل أنها منفصلة، فجلد بكل واحدة منهما أربعين، ويحتمل أنها مجموعة، والظاهر أن الأربعين هو مجموع الكل، وهو ظاهر السياق، والمعنى الظاهر أقوى من المعنى الخفي المحتمل الآخر.
وعلى هذا فيكون القول: بإن الأصل أنها أربعون هو الأعدل والأوفق والأقرب إلى السنة، وأما كون عمر رضي الله عنه زاد إلى الثمانين فنحن نسلم بهذا، ونقول: يزيد القاضي إلى الثمانين متى رأى المصلحة، وعمر رضي الله عنه ما زاد إلى الثمانين إلا لما اشتكى إليه خالد رضي الله عنه وأرضاه.
وجاءت روايات صحيحة عن بعض التابعين وكبار التابعين أن عمر رضي الله عنه تدرج في الزيادة، والرواية صححها الحافظ ابن حجر رحمه الله، ففي مصنف ابن أبي شيبة أنه جلد أربعين، ثم جلد ستين، ثم أوصلها إلى ثمانين، وهي أقل الحدود حد الفرية، وهذا من فقهه رضي الله عنه وأرضاه.(382/15)
القول الراجح في حد الخمر
ولذلك نقول: تبقى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين جلدة، ثم يزيد القاضي والحاكم متى رأى المصلحة في ذلك، فبين المصنف رحمه الله أنه يجلد ثمانين على ما اختاره طائفة من العلماء وهو مذهب الجمهور كما ذكرنا، والصحيح أن الحد أربعون جلدة، ويجوز أن يزاد بشرط نظر الإمام، ولا يزاد هكذا، ولا يقال: إن الثمانين حد ثابت لا ينقص حد الخمر عنه، بل نقول: إن الثمانين اجتهاد من القاضي متى رأى المصلحة أن يبلغ الثمانين أبلغها، وإلا اقتصر على القدر الأصلي وهو أربعون.
فيقتصر على القدر الأصلي إذا كان شارب الخمر شربها لأول مرة، أو كان في بيئة لا تعرف شرب الخمر فشربها لأول مرة، ولم ينهمكوا في شرب الخمر؛ لأنه عندنا زجر الشارب، وعندنا زجر غيره، فهي عقوبة للشارب، وزجر لغيره، فالشارب إذا كان لأول مرة ويرجى توبته ورجوعه فإنه يجلد الأربعين، وأما إذا كان يخشى منه الاسترسال أو فعلها وأصر -كما ذكر بعض العلماء- أو كرر ذلك فإنه يجلد ثمانين جلدة زجراً له، ومعونة له على نفسه أن يكف عن شرب ما حرم الله عز وجل.
قال المصنف رحمه الله: فقال: [وأربعون مع الرق].
وهذا على الأصل الذي ذكرناه، أن عقوبة الأحرار ضعف عقوبة المماليك، وذكرنا دليل ذلك في حد الزنا، وأنه جرى على ذلك عمل الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فكلهم كانوا يجلدون الإماء والعبيد في الحدود نصف ما يجلدون به الأحرار.(382/16)
المخدرات وضررها على الفرد والمجتمع
قبل أن نختم هذا الباب هناك جوانب نحب أن ننبه عليها، وهي عن البلاء العظيم شرب المسكرات وتعاطي المخدرات.
فهذا الذنب والإثم شره كبير، وما انتشر في أمة إلا فتك فيها فتك النار في الهشيم، فلا تبقى لها حرمة، ولا تقوم لها قائمة، فإذا فسدت عقول الناس فسدت أخلاقهم، وفسد دينهم، وفتح عليهم من أبواب الفتن وشرورها ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
ولذلك يخرج الرجل من بيته فيفاجأ بالرجل قد غاب عن عقله، فلا يأمن أن يشهر عليه سلاحه فيرديه قتيلاً في مكانه، ولربما قاد السكران والمخدور سيارة فقتل الأنفس البريئة، وأتلف الأموال، وأحدث من الأضرار ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
وإذا غاب الرجل عن عقله وهو في بيته وأهله لا يأمن أن يصيب حتى أمه والعياذ بالله، ووردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الخمر أم الخبائث؛ لأنها تدعو إلى كل شر، وإلى كل بلاء.
أنعم الله على عبده بنعمة العقل الذي هو نور يستنير به فيعلم الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والخير من الشر، والرحمة من العذاب، ويميز به الأشياء بعضها عن بعض، ويرتقي به عن مستوى البهيمية إلى مستوى التكريم في الآدمية، ويستنير به فيعقله عما لا يليق بمثله، ولذلك سماه الله: حجراً وسماه: عقلاً؛ لأنه يحجر الإنسان فيمنعه ويعقله ويحبسه عما لا يليق.
فهذا الداء والبلاء إذا فتح على أمة أهلكها الله عز وجل به، ولذلك يحرص أعداء الإسلام على خديعة أبناء المسلمين، والتغرير بشباب المسلمين من البسطاء ليتعاطوا هذا الداء حتى يفتكوا بالأمة ويدمروا أخلاقها، نسأل الله بعزته وجلاله أن يهدم عروشهم، وأن يزلزل أقدامهم، وأن يكف عن المسلمين بأسهم وشرهم، وهو على كل شيء قدير.
من يعلم أو يسمع أو يرى كم من بيوت هدمت؟ وكم من نساء طلقت وشتتت؟ وكم من سعادة عادت شقاءً بسبب هذا الوباء! ومن يعلم القصص والحكايات المروعة التي أدخلت على أمة مسلمة وكانت محافظة، كانت في خير من الله عز وجل ورحمة حتى خدع شبابها، وعبث بهم الداء الفتاك الذي تسلط على الصغير والكبير؟ من علم الحوادث التي تقع والمصائب والكوارث والمآسي في الأسر التي حصلت بسبب تعاطي المخدرات خاصة، وشرب الخمور عامة؛ لاشك أنه يتفطر قلبه، ويحزن أيما حزن.
ولذلك خليق بالأئمة والخطباء والوعاظ والموجهين أن ينبهوا الناس بشرها بين فترة وأخرى، فإن العدو لا ينام، والعدو لا يستريح نسأل الله بعزته وجلاله أن يسلبه عافيته، فهو يعمل ليل نهار، ثم مع ذلك يأخذ من هؤلاء البرءاء البسطاء أموالهم، يؤخذ الرجل إلى جحيم المخدرات بكأس لا يعلم أن فيها مخدر، ويخدع في ظلمة ليل أو ضياء نهار، فيعطى ذلك الكأس بريئاً جاهلاً حتى إذا شربه دب السم في جسده، ونخر في قواه، فأتلف زهرة شبابه، ودمر حياته لكي يشقيه ويرديه، والله موعد: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] ولن تضيع عند الله هذه الجرائم والفضائع التي ظلم بها المسلمون، ودمرت بها بيوتهم وأسرهم.
فإذا شرب هذا المسكين كأسه طلب مرة ثانية، فأعطي الجرعة الثانية حتى يصبح مدمناً كالآلة المسخرة في يد الإنسان، ولا يستطيع إذا جاءته ساعته أن يرقأ ولا أن يهنأ ولا أن يرتاح حتى يعطى هذا المخدر، فإذا نظر إليه في أمس الحاجة وشدة الحاجة طلب منه أن يفعل أي جريمة أو يقع في أي حرام، فلم يتورع عن ذلك، ولم ينكف عنه! فيا لله كم من أعراض انتهكت! وكم من أموال سرقت واغتصبت! وكم من أسرار أفشيت وكشفت! بسبب هذا الداء الخبيث!! ولذلك كل من لم يفكر في هذا الداء الذي يستشري في أبناء المسلمين فلا يأمن أن يأتيه يوم من الأيام قهراً وغصباً في أبنائه وذريته؛ لأنه إذا لم يحفظه عن الغريب فلا يأمن أن يتسلط على القريب والحبيب، ولذلك خليق بكل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجند نفسه من أجل تنبيه المسلمين وتذكيرهم.(382/17)
الوقاية من المخدرات وعلاج من ابتلي بها
وهناك أمور لابد من ذكرها وبيانها: فالمخدرات تعالج بأمرين، أو تدرس من جانبين: الجانب الأول: جانب الوقاية، والجانب الثاني: جانب العلاج.
فأما الوقاية فهي حصن حصين من الله عز وجل، حصن به من سلّمه الله من هذا البلاء، ومن عافاه الله فليحمد الله على العافية، وكل يوم تمسي وتصبح فيه وقد عافاك الله في عقلك فقل: الحمد لله، واحمد الله كما ينبغي أن يحمد سبحانه أن سلّم لك عقلك، وسلم لك أولادك وذريتك، فالجانب الأول جانب الوقاية.
والجانب الثاني: جانب العلاج لمن ابتلي بهذا الداء.
فأما الذين لم يقعوا في هذا الداء فعلينا أن نحرص جميعاً على غرس أمور مهمة في نفوس الناس لمواجهة هذه الحرب التي لا رحمة فيها، ولا هوادة فيها من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فأولاً: هناك شيء ينبغي غرسه في النفوس يمكن يشكل وقاية ذاتية بإذن الله عز وجل، وهذا ما يسمى بتحصين الفرد في خاصة نفسه، ويكون المنطلق في ذلك الإيمان بالله عز وجل؛ لأن من آمن بالله فهو خير له في الدين والدنيا والآخرة، وما يجلب الإيمان للعبد إلا صلاح أمره واستقامته على رشده، سواء في خاصته أو في عامة الناس، فينبغي غرس العقيدة.
ومن أعظم الجوانب التي يحصن بها الناس عن المعاصي مع الإيمان بالله غرس الخشية من الله، والخوف منه سبحانه وتعالى؛ لأن الخير كل الخير في طاعته، والشر كل الشر في معصيته، وإذا غرست العقيدة -وهي مراقبة الله سبحانه وتعالى- لم يستطع عبد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يمد يده إلى طعمة أو شربة من هذا الداء الخبيث، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) فقال: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) فدل على أن الإيمان سياج وأن العقيدة حفظ من الله للعبد.
كذلك أيضاً العبادات لها أثر كبير في تحصين الأسرة والجماعات والأفراد من هذا الداء الخبيث: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فأخبر الله سبحانه أنها تنهى، وأنها خير زاد للعبد، وقلّ أن تجد أباً يوقظ أبناءه للصلوات، ويراقبهم في إقامة الصلاة على وجهها إلا حفظه الله في ذريته، وكما حفظ حق الله في أهله فإن الله يحفظ له قرة العين في أهله وولده، فالله وفي ولا أوفى من الله لعبده.
فلذلك فليحرص العبد كل الحرص على أن يغرس في أبنائه حب الصلوات، وأن يشعرهم أنها حرز لهم من الفواحش والمنكرات، والمصائب والمحرمات، فإذا غرس ذلك في نفوسهم واعتادوها عصمهم الله عز وجل بعصمته، وحفظهم الله عز وجل وكلأهم، حتى إن الصلاة تصعد وعليها نور، وتنتهي إلى ما شاء الله فتفتح لها أبواب السماء، ثم تنتهي إلى ما شاء الله أن تنتهي إليه وتقول: حفظك الله كما حفظتني، فأهل الصلوات في حفظ من الله عز وجل وحرز.
كذلك من العبادات الصيام؛ لأنه يقوي جانب التقوى فالصائم يمنع نفسه من الشراب الحلال، فمن باب أولى أن يستطيع كبح جماحه عن الشراب الحرام، ولذلك الصوم جنة -كما أخبر صلى الله عليه وسلم- ووقاية.
كذلك ذكر الله عز وجل، فيعود الأبناء والذرية على كثرة ذكر الله عز وجل، فالشيطان يسكن البيت الخرب، وهو القلب الخاوي من ذكر الله عز وجل، ويفر من البيت المعمور بذكر الله سبحانه وتعالى، فذكر الله حصن حصين، فهذه الأمور تتعلق بجانب العبادة.
هناك جانب آخر يقوي هذا الجانب الديني، وإن كان الجانب الديني من حيث الأصل هو قوي، ولكن الله لحكمة قد يجعل القوة المادية معينة لقوة الدين، كما قال تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87] وقال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25] بعد أن ذكر أنه أنزل كتبه، لكي ينبه على أن القوة الحسية قد تقوي الروح المعنوية.
فكما أن الدين له سلطان هناك أشياء تمنع الإنسان من هذا الداء؛ لأن الخمر أجمعت العقول على نبذها وكراهيتها، حتى إن أناساً في الجاهلية كانوا لا يشربونها، ورأوها تورد الإنسان الموارد، وتنزل الإنسان إلى مستوى البهيمية، وكان عقلاء الناس في الجاهلية لا يشربونها ويكرهونها، ولا يضعونها في أطعمتهم ومناسباتهم، كل ذلك كراهية لها.
فهي من ذاتها تنفر، وهذا يسميه العلماء: التنفير الذاتي، فالتنفير الذاتي يقوي القناعة في نفس الإنسان بكراهيتها والبعد عنها، ولذلك استخدم القرآن هذا المعنى حينما جاء تحريم الخمر بأساليب منفرة، لم يأت تحريماً مباشراً، وإنما قال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90]، وبمجرد ما يحس الإنسان أنها قذر ونجاسة ينفر منها، ولذلك صدر الله الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:90]؛ لأنهم هم الذين يستجيبون، وهم أهل العقول والألباب المستجيبة لله عز وجل قال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]، ثم قال بعد ذلك: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] فجعل التنفير أولاً قبل الحكم الشرعي.
ومن هنا ينبغي أن يهيأ في النفوس التنفير، ومن ذلك ذكر الحوادث والقصص للأولاد الصغار تحذيراً لهم من الصغر من هذا الداء الخبيث، ذكر الحوادث المروعة التي يكون لها وقع في النفوس، حتى يكون أبلغ في زجرهم وكراهيتهم لهذا الداء، ذكر أثرها على النفس وعلى الصحة، ولا بأس أن تكون هناك بعض البحوث يقرؤها على أولاده، ويريهم بعض الصور لبعض الأعضاء المتهتكة، وأحوال بعض الذين -والعياذ بالله- ابتلوا بها، وكيف انتهت بهم إلى أحوال مؤلمة، ونهايات وعواقب سيئة.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، وأن يعيذنا وإياكم من سوء الخاتمة في الأمور كلها.
كذلك أيضاً ينبغي أن تهيأ المجتمعات لحرب المخدرات عن طريق الخطب والمواعظ والمحاضرات والندوات، وليعلم كل إنسان يجند نفسه لهذا الأمر أنه مأجور من الله أجراً عظيماً، وإذا أراد أحد أن يعرف مقدار ما يكون له من ثواب من الوقوف في وجه المخدرات وأهلها فليزر المستشفيات التي آوت من ابتلي بالإدمان بالمخدرات، ولينظر إلى أحوالهم وليعتبر، وليزر المستشفيات فينظر إلى الحوادث وما حصل، كم من أرواح أزهقت! وكم من أموال أتلفت بسبب هذه المادة الخبيثة!! فيهيئ نفسه للغيرة على أبناء المسلمين، والغيرة على حدود الله ومحارمها، فيجب على كل إنسان يعلم بمروج للمخدرات أن ينصحه، ويذكره بالله عز وجل، ويتابعه فإن رآه تاب فبها ونعمت، وإن لم يتب رفع أمره، واحتسب عند الله عز وجل ذلك، ولا يجوز له أن يسكت؛ لأنه إذا سكت أعانه على تدمير أبناء المسلمين، وأعانه على أن يفتك بهذه الأمة، وترويج المخدرات لابد من بيان حكمها الشرعي، فالمروج للمخدرات لو روّج حبة فأزهقت أنفساً وقف بين يدي الله مسئولاً عن ذلك، ولو روّج حبة كانت سبباً في زناً أو في جريمة أو في فحش أو في حرام وقف بين يدي الله حافياً عارياً يسأل عن ذلك.
فإدخال هذا الداء إلى مجتمعات المسلمين، وتدمير مجتمعات المسلمين ما هو إلا معونة لأعداء الإسلام على الإسلام وأهل الإسلام، فعلينا أن ندرك هذه الحقيقة، ولا يختص هذا الأمر بالرجال، بل على النساء والداعيات أن يجندن أنفسهن لذلك، وأن يكون هناك جهات تختص بمكافحة هذا الداء، ووجود هذه الجهات نعمة من الله عز وجل، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يبارك جهودهم، وأن يعينهم وأن يبقيهم، لو يعلم الإنسان ماذا سيحدث للمجتمع -لولا الله ثم هذه العيون التي تسهر ضد هؤلاء الذين يدمرون أبناء المسلمين- لحمد الله عز وجل من قرارة قلبه، وسأل الله لهم المعونة في جوف الليل مما يعلم من عظيم بلائهم، وحسن صنعهم للإسلام والمسلمين، فكم من عصابات؟ وكم من أفراد اجتمعوا على الفتك بهذه الأمة؟ لا يراعون فيها إلاً ولا ذمة.
ومنهم من تدمر في نفسه فحقد على مجتمعه فأراد أن يدمر مجتمعه.
فنسأل الله عز وجل أن يهديهم ويصلحهم أو يقطع عن المسلمين دابرهم وشرهم.
وعلى كل حال لابد من التعاون في هذا الأمر، ولا يمكن للداء أن ينقطع ويجتث إلا بالتعاون، وعلى النساء مسئولية، على الداعيات على المربيات على المعلمات وعلى الأمهات مسئولية وعلى الأخوات مسئولية، فعلى النساء أن ينتبهن للمجتمع، وألا ينزوي كل إنسان ويقول: نفسي نفسي! فإنه لا يأمن أن يأتيه البلاء حتى في نفسه، نسأل الله السلامة والعافية.
اتفق لبعضهم والعياذ بالله! من المآسي أن أماً تساهلت مع ولدها، وكان ولدها يتعاطى المخدرات، وكان الولد يتيماً وبلغ، فتساهلت في أمره حتى وقع في يد هؤلاء الأشرار والعياذ بالله! فأعطوه المادة المخدرة، ثم شاء الله عز وجل أنها يوماً من الأيام أحست بآلام غريبة واضطرت إلى اللجوء إلى المستشفى، وإلى الذهاب إلى الأطباء، وفوجئت بالطبيب يقول لها: أنت حامل! قالت: والله! ما زنيت! ولا أذكر أني حملت بعد وفاة زوجي، أنا أرملة! ولي سنوات امتنعت من الزواج من أجل أولادي!! ثم فوجئت بأن ابنها والعياذ بالله! كان يضع لها هذا الداء في شرابها فإذا نامت وقع عليها وزنى بها! هذه أمور عظيمة، هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، وما ستر الله أعظم، فلذلك ينبغي على الأمهات وعلى الأخوات وعلى البنات وعلى المعلمات والمربيات والفاضلات والداعيات أن يقمن بالأمانة والمسئولية، وسيجدون من يدعمهم، وسيجدون من يقف معهم، وقد هيئت الأسباب لذلك، فلا عذر للإنسان في التخلي عن القيام بواجبه ومسئوليته.
ونسأل الله بعزته وجلاله أن يهدي قلوبنا، وأن يصلح أحوالنا، اللهم! ارفع هذا الداء عن البلاد والعباد، اللهم! ارفع هذا الداء عن البلاد والعباد، وأنزل رحمتك علينا أجمعين، واقطع عنا دابر الفساد والمفسدين، يا رب العالمين! إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا م(382/18)
الأسئلة(382/19)
حكم تعزير شارب الخمر بالقتل إذا شرب للمرة الرابعة
السؤال
من شرب الخمر للمرة الرابعة هل يقتل أم يجلد الحد، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمسألة قتل شارب الخمر في الرابعة فيها حديث الترمذي المشهور، وهذا الحديث ذكر الإمام الترمذي رحمه الله أن العلماء عملوا بأحاديث جامعه إلا حديث شارب الخمر في الرابعة، ومن العلماء من قال: إنه منسوخ، وعلى القول بنسخ الحديث لا إشكال.
لكن هناك من أهل العلم من يقول: إن قتل شارب الخمر في الرابعة يرد إلى القاضي وإلى الحاكم إذا رأى المصلحة فيه، فمثلاً لو وجد أن شخصاً إذا شرب الخمر فعل أفعالاً عظيمة، وتقع منه جرائم عظيمة، شربها المرة الأولى فأطلق النار على شخص وكاد أن يقتله، ثم شربها المرة الثانية فجاء إلى جماعة وكاد أن يقتلهم، ثم شربها المرة الثالثة فوقع منه مثل ذلك، ثلاث مرات ويقع منه الضرر العظيم، فبقاؤه شر, فجلده المرة الأولى فلم ينزجر، ثم جلده المرة الثانية فلم ينزجر، ثم جلد المرة الثالثة فلم ينزجر، قالوا: في هذه الحالة يسوغ للإمام أن يقتله تعزيراً، وهي مسألة التعزير بالقتل، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله.
ولكن في الحقيقة هذا الحديث فيه إشكال، والإمام الترمذي رحمه الله حكى الإجماع على رفع حكم الحديث، وهو رحمه الله حجة في نقل فقه العلماء، وهذا ينبغي أن ينتبه له، فالإمام الترمذي أوتي من الورع والضبط لخلافات العلماء، والإلمام بمذاهب الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، رحمه الله برحمته الواسعة فلا يمكن أن يحكي الإجماع من فراغ، ولا نقول: إننا نرفع حكم الحديث بمجرد حكاية، لكن نقول: الإجماع إذا ثبت فإنه يرفع الحديث؛ لأنه ليس هناك إجماع إلا بمستند، يستغرب البعض ويقولون: كيف نرفع السنة بالإجماع؟ هذه مسألة نبه عليها علماء الأصول رحمهم الله والأئمة وأنه ليس رفعاً للسنة بالإجماع، وإنما أجمع العلماء -خلافاً للعنبري - من أئمة الأصول على أنه ليس هناك إجماع إلا وله مستند نقلي قد يذكر وقد لا يذكر.
وبناء على ذلك فأنت حينما تنسخ الحديث بالإجماع أو ترفع حكم الحديث بالإجماع فأنت رافع للنص بالنص، ولست رافعاً للنص بأقوال الرجال وإجماعهم هذا من وجه.
الوجه الثاني: أن الأصل حرمة المسلم فلا يستباح دمه إلا بدليل بيّن واضح، وقد جاءت الأدلة صريحة في هذا المعنى، وأنه: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، ونقول: إنه إذا عمل بالحديث فإننا نعمل به من باب التعزير عند من يقول: بأنه يجوز أن يكون التعزير بالقتل، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله في باب التعزير، والله تعالى أعلم.(382/20)
أهل المعاصي وضابط الستر عليهم في الشرع
السؤال
إذا رأيت في الشارع رجلاً من الجيران سكران وهذا معتاد منه والعياذ بالله- هل أستره أم أبلغ عنه؟
الجواب
الأصل يقتضي ستر المسلم في الذنوب، وأجمع العلماء رحمهم الله أن الستر أفضل، وأعظم أجراً لصاحبه، وأن من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة.
والستر في جميع الأمور ما لم يكن شيئاً يتعدى ضرره كالمخدرات وترويجها، فشخص يروج المخدرات إذا سترته فكأنما تستر ناراً تحرق عباد الله وأولياءه، وهذا لا يمكن أن يجوز.
ومن هنا يستثنى ما تعدى ضرره، ومثّلوا للمرأة القوادة -التي تعين على نشر الفاحشة والعياذ بالله وتفسد المجتمع- فهذه لا تستر إذا كان شرها يتعدى إلى الغير ويستشري.
فمن كان يدعو إلى الفساد وإلى جرمه فهذا يستثنى.
أما لو فعل المعصية في حق نفسه وذاته فالإجماع منعقد على أن الأفضل ستره، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم لهذا فقال لـ هزال: (هلا سترته بثوبك).
وإذا كان الشخص مبتلى بشرب الخمر فأنصحك أن تنصحه، وأن تكرر النصيحة له، وأن تهيئ له الأسباب فلا تبقى على مجرد الكلام، فإن وجدته يقع في الخمر بسبب قرناء السوء فاحرص رحمك الله على أن تهيئ له قرناء صالحين، وإذا وجدت أنه يقع في شرب الخمر بسبب الفقر وشدة الهموم عليه، فهو يحس أنها تنسيه همومه، فاحرص في تفريج كربته وقضاء ديونه، واحرص على أن تقف معه موقف الأخ مع أخيه، فتنظر إلى نفسيته وأحواله من أين يؤتى، وهذا هو العلاج.
ولذلك الرجل الصالح والعالم الفاضل حينما جاءه الرجل الذي قتل مائة نفس وقال له: هل لي من توبة؟ قال: وما الذي يمنعك من التوبة؟! ثم قال له: إن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون فاذهب إلى هذه القرية، يعني: قرية الصالحين، وهذا الحديث أصل عند العلماء في توجيه الناس، وعلاج المدمن والمستمر في المعاصي، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم نبهنا بفقه هذا العالم الجليل الفاهم الواعي الذي عرف كيف يؤثر في هذا الرجل حتى أنقذه الله من النار بسببه، وهذا كله بفضل الله عز وجل.
أنقذ من النار قبل أن تقبض روحه مع الأشرار فيكون من الهالكين، وهذا بفضل الله ثم بالرجوع إلى العلماء، وأهل البصيرة، فإنه نظر إلى حال الشخص، وفعلاً كانت هذه النظرة علاجاً له، فإنه ارتحل من قومه إلى قوم صالحين، فأدركته المنية، فصارت هذه الوصية علاجاً له ونجاة له في الدنيا والآخرة.
كذلك ينبغي عليك أن تنظر من أين يؤتى الرجل؟ ما من معصية إلا ولها ثغرة، فإن أحسنت علاج هذه الثغرة وسدها عن أخيك المسلم سد الله عنك ثغرات الفتن، والجزاء من جنس العمل.
ولذلك تجد الدعاة والأخيار الصادقين الذين يحرصون على سد الفتن عن الناس في عصمة من الله عز وجل أكثر من غيرهم، وفي حفظ من الله أكثر من غيرهم، فأنت إذا حرصت على أن تسد أبواب الفتن عنه ومن أين يؤتى، وتعلم من الذي يجره إلى الخمر، فكأس الخمر ما شربت إلا بقرين سوء زين شربها، أو سوء ظن بالله عز وجل، أو سوء ظن بالناس، أو نحو ذلك من الأمور.
كم من أناس فيهم من الخير الشيء الكثير وقتل هذا الخير فيهم بسبب ظروف معينة وأحوال معينة! كم من أناس فيهم شجاعة وخير وكرم وفيهم إحسان وأخلاق حميدة فمروا بوطأة ظروف قاسية أليمة، وما وجدوا أحداً يقف معهم، وما وجدوا أحداً يناصرهم ويؤازرهم، فتألمت نفوسهم حتى تسلط الشيطان عليهم! فإذا وجدوا من ينتشلهم بعد الله عز وجل من هذا الحضيض، ومن سوء الظن؛ فإن الله سبحانه وتعالى يلطف بهم.
ولذلك ينبغي عليك أن تعلم من أين يؤتى هذا الجار، نعم تستره، وتحاول قدر المستطاع أن تستره، وأن تذكره بالله عز وجل، وأن تنصحه حتى يهدي الله قلبه، وحاول الدعاء له.
ونذكر من العلماء والصالحين من كان حريصاً على هداية أمثال هؤلاء حتى أصلح الله أحوالهم، وكان حريصاً على سترهم، فهذا الوالد رحمه الله ابتلي بجار مبتلى بشرب الخمر، فوجدنا منه موقفاً عجيباً في ستره، ودخل عليه شارب الخمر يوماً من الأيام في ظلمة الليل، بعد منتصف الليل، وفي ليلة شديدة البرد، وإذا به تفوح منه الخمر، ولما دخل البيت كان الوالد حديث العهد بالوالدة، ما كان الوالد يعرف الخمر ولا يعرف رائحتها ويحسب أنه متضمخ بطيب، ما يدري حياته كلها جهل بهذه الأمور، نسأل الله أن يزيدنا بها جهلاً، ولا يضر.
فالشاهد أنه أدخل الرجل فصار الرجل يبكي، ويقول له: زوجتي وزوجتي! ويصيح مثل الطفل، وهو رجل فيه قوة وعافية، ولما تحدث مع الوالد صار يصيح، وأخذ الوالد، يهدئه ويظن أن الرجل صاح، ما يعلم أنه مبتلى بالخمر، وأن هذا الذي يقوله ويفعله ليس بحقيقة، وأنه بسبب الخمر، فصار يتلعثم في كلامه.
والحقيقة سبحان الله! الوالدة كانت فطنة؛ لأنها فوجئت بقوة الضرب للباب، ثم فوجئت بسقوطه؛ لأنه لما دخل من الباب سقط وانكب على وجهه، وفوجئت بعد ذلك برائحة البيت النتنة، وبالصراخ والعويل، والوقت وقت ليل، وفوجئت بكلام مخلط، فنادت الوالد رحمه الله وقالت له: هذا الرجل تعرفه؟ قال: نعم أعرفه، قالت: مجنون؟! قال: لا، هو صاحٍ ما فيه إلا العافية، من أصحى الناس -وهو فعلاً رجل قوي وشديد في صحته وعافيته- قالت له: انتبه! إما أنه مجنون وإما شرب بلاء، فانتبه من الرجل! وقالت له: اختبر الرجل هل هو صاح أو لا؟ فلما اختبره وجده لا يفرق بين السماء والأرض، فانطبق عليه شرط السكر بإجماع الفقهاء، لا يفهم الخطاب، ولا يحسن الجواب.
والوالد في الحقيقة كان في بعض المواطن شديداً تأخذه الحدة، وإذا بطش في ذات الله لا يبالي، أدركت الوالدة هذا فنادت الوالد وقالت: أسألك بالله ألا تتعرض له، واصرفه بالتي هي أحسن؛ والوالد شق عليه أن يدخل عليه في بيته في هذه الساعة وكان سيهم به ولكن الله لطف، وللوالد رحمه الله أحوال من الستر في قصص نعرفها ستر فيها رحمه الله، ودعا الغير إلى الستر، لكنه خشي أن يتسلط لحرمة العلم أو كان يريد أن يتخذ شيئاً، وقبل أن يصنع شيئاً سألته بالله أن يستره، وهذا في ميزان حسناتها؛ لأنه كان في ساعة من سورة الغضب، وكان يريد أن يبطش به، فستره واستدعى أحد قرابته فأخذه ومضى به -وهذا الكلام قبل أربعين أو خمسين سنة- فجاء الرجل بعد أسبوع، وبكى عند الوالد، وعاهده بالله عز وجل ألا يعود إلى الخمر، من شدة هذا الموقف عنده، وستر الوالد عليه ودعاه أن يعاهده بالله ألا يعود إلى شرب الخمر، واستقام أمر الرجل على أحسن ما يكون.
ومن فضل الله عز وجل أن الإنسان إذا عامل الناس بحسن نية، ووفق في معاملته أن الله سبحانه وتعالى يضع البركة في معاملته، كم من أناس -والله- ينتظرون من ينتشلهم من الضلالات! وكم من أناس من شباب الأمة في أحوال لو رأيتهم يكاد الإنسان يسب ويشتم لكن يعلم الله أن في قلوبهم خيراً كثيراً! ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً شرب الخمر، فقال رجل: (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله) يشرب الخمر ويشهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله، ولذلك قال الله عز وجل: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11].
وقد ترى الرجل لحيته إلى نصف صدره يسب العلماء والدعاة وينتقص، ويتتبع عثرات الناس ويؤذيهم، وهو مظلم القلب حسود حقود، لم ينفعه ظاهر التزامه بشيء.
وتجد الرجل في حال أو شكل ليس فيه تلك اللحية الطويلة، ولا ذلك الثوب القصير، وتجده من أبر الناس بوالديه، ومن أعف الناس لساناً، ومن أحفظهم للصلوات، ومن أحفظهم لإكرام الضيف والشيمة والوفاء والمواقف الحميدة، فـ {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11].
بعض الناس بمجرد أن يرى عاصياً يريد أن يبلغ عنه ويؤذيه! الهدف هو الإصلاح، حتى السجون والعقوبة المراد بها الإصلاح، فينبغي أن ندرك هذا، فالشريعة ما تريد الإيذاء بقدر ما تريد من الإصلاح، فينبغي أن يرد العبد إلى الله، ويرد إلى رشده وصوابه.
فليس العلاج مقتصراً على الجوانب الشكلية، بل المراد العلاج الجوهري: {و َقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، قولاً يبلغ إلى المقصد، ويصل إلى الهدف، وهذا لن يكون إلا لأناس ملأ الله قلوبهم بالرحمة؛ لأن الله يقول لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فلما كان رحيماً بالأمة، قال الله له: {و َقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] لا يقول القول البليغ قاسي القلب، لا يقول القول البليغ إلا من كان رحيماً رقيقاً رفيقاً بالناس، يدخل على المجرم فيتذكر أولاده وأسرته، ويحب أن يستر عباد الله كما يحب أن يستر في أهله وعرضه، ويحب الخير للمسلمين كما يحبه لنفسه.
وليس معنى هذا أن يعين أهل الفساد على فسادهم، إنما المراد أن توزن الأمور بالميزان الذي جمع العقل والنقل، ولذلك قال العلماء: من رزقه الله عقلاً يميز به بين الأمور، ورزقه نور العلم والبصيرة؛ سلمت أحواله، وأصاب الرشد والسداد في رأيه، نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل! استر جارك، وذكره بالله، وخذ بناصيته إلى طاعة الله ومحبته، جارك وصّاك الله به من فوق سبع سماوات: (وما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
فنوصيك بجارك خيراً، واحرص -بارك الله فيك- على هدايته ودلالته وستره، وتذكيره بالله، نسأل الله العظيم أن يكتب صلاحه وصلاح كل مفسد على يديك، وعلى يد كل داعية إلى الله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(382/21)
لا يجوز الجمع بين الجمعة والعصر
السؤال
هل يجوز للمسافر أن يقدم صلاة العصر مع الجمعة ويصليها قصراً، أثابكم الله؟
الجواب
السنة أن المسافر لا يصلي الجمعة، وهذا أمر معروف من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت في أي حديث صحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى الجمعة في سفره، حتى إنه في يوم عرفة ومعه أهل مكة وهم أناس محتاجون إلى الجمعة مقيمون؛ صلى الظهر ركعتين صلوات الله وسلامه عليه، ولم يخطب خطبة الجمعة، وهذا أصل معروف عند العلماء رحمهم الله، وكلهم متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ جمعة في سفره، حتى كان معه في بعض أسفاره عشرات الألوف؛ ومع ذلك لم يصلِّ بهم جمعة في السفر.
فالجمعة ساقطة عن المسافر، وإذا كانت ساقطة عنه -وهدي النبي صلى الله عليه وسلم عدم صلاة الجمعة- فالأفضل له إذا حضر المسجد أن ينوي الصلاة ظهراً، وإذا نواها ظهراً فإنه ينال فضيلة سماع الخطبة، والانتفاع بها، ثم إذا انتهى وصلى مع الإمام الركعتين بنية الظهر قام وصلى العصر ركعتين، فجمعهما مع بعضهما، ولا إشكال في هذا الجمع.
وبناء على ذلك فلا يجمع بين الجمعة والعصر؛ لأن المسافر ما يصلي جمعة، ونجد بعض المتأخرين يقول: إنه لا يصح الجمع؛ لأن العلماء يقولون الجمع بين الظهر والعصر، ولم يقولوا: الجمع بين الجمعة والعصر، وغفل أمثال هؤلاء عن أن المسافر لا جمعة له أصلاً، ولذلك لم يذكر العلماء الجمع بين الجمعة والعصر؛ لأن الجمع يقع في السفر بين الظهر والعصر.
وعلى ذلك؛ لا يشكل ما ذكر، فعلى من يريد أن يجمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة يسمع الخطبة ويستفيد، ثم بعد ذلك ينويها ظهراً وراء الإمام، ثم إذا سلم الإمام قام وصلى ركعتي العصر، ولا إشكال في هذا الجمع ولا غبار عليه، والله تعالى أعلم.(382/22)
حكم من أصابته نجاسة في ثوبه وحضرت الصلاة ولا ثوب له غيره
السؤال
إذا حضرت الجماعة وليس عند الرجل إلا ثوب يرتديه وأصابته نجاسة، ولا يتمكن من لبس غيره إلا إذا فاتت الجماعة، فهل يصلي فيه أو ينتظر حتى يجد الثوب الطاهر؟ وهل إذا كان الوقت يفوت يصلي فيه أو ينتظر حتى يجد الثوب الطاهر، أثابكم الله؟
الجواب
إذا كان عنده ثوب وهذا الثوب فيه نجاسة ولا يمكن أن يزيل النجاسة، ولا يجد غير هذا الثوب الذي فيه نجاسة يستر به عورته؛ فإنه تسقط عنه الجماعة إذا رجا أن يجد ثوباً طاهراً.
فمثلاً قال: لو أني غسلت الثوب الآن لن أدرك الصلاة في المسجد، نقول: اغسل الثوب ولو فاتتك الجماعة؛ لأن هذا عذر، وصلاة الجماعة وجوبها ليس كوجوب إزالة النجاسة عن البدن؛ لأن إزالة النجاسة عن البدن والثوب والمكان شرط في صحة الصلاة، والجماعة ليست شرطاً في صحة الصلاة.
ولهذا ينبه أنه تُقدم الشروط على الواجبات، فما كان شرط في صحة الصلاة يقدم على الواجب، ووجوب الجماعة منفصل عن الصلاة، وليس بشرط، وعلى هذا نقول: اغسل ثوبك -رحمك الله- وانتظر حتى ينشف، مادمت ترجو أن يجف قبل خروج الوقت.
وفي هذه الحالة ما يجوز لك الخروج، ولا أن تصلي بهذا الثوب المتنجس، لأن الله يقول: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، فلا بد أن تصلي بثوب طاهر.
وأما إذا كنت تخشى خروج الوقت وما عندك إلا هذا الثوب النجس فهذه المسألة تعرف عند العلماء بازدحام الشرطين، عندنا شرط ستر العورة، وهو أن يلبس الثوب، وعندنا شرط الطهارة، فهل يصلي عارياً بناء على التقديم لشرط الطهارة على شرط الستر أم أنه يصلي مستور العورة إذا خاف خروج الوقت؟ ففي هذه الحالة يقدم ستر العورة؛ لأنه جمع بين حق المخلوق والخالق؛ لأن المخلوق يتضرر بانكشاف عورته، وحق الله عز وجل أيضاً أن يصلي مستور العورة، فإذا صلى بثوب نجس ساتراً لعورته أسقط عن نفسه الحرج، وأسقط حق الله عز وجل في ستر العورة.
ولكن إذا صلى عارياً بدون هذا الثوب؛ فإنه في هذه الحالة ضيع حقه، وحصل له الحرج؛ لأنه تنكشف عورته فلا يأمن أن يدخل عليه أحد، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الله أحق أن يستحيا منه).
وعلى هذا: يقدم شرط الستر للعورة، فيصلي إذا غلب على ظنه أنه لا يجد ثوباً طاهراً قبل خروج الوقت.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(382/23)
شرح زاد المستقنع - باب التعزير [1]
شرع الله الحدود تأديباً وتكفيراً لمن ألم بها، وزجراً لغيرهم عن الوقوع فيها، وما كان من معصية لا حد فيها فيشرع فيها التعزير، وهو تأديب أيضاً، ولكنه دون الحد، وبين التعزير والحد فروق سطرها أهل العلم.(383/1)
التعزير وأحكامه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب التعزير].(383/2)
تعريف التعزير
التعزير في لغة العرب: مأخوذ من عزّر فلان فلاناً إذا منعه، ويقال للنصرة، فالمعزر هو الناصر، والأصل في هذه المادة أنها للمنع والحيلولة بين الشيء والشيء الآخر، ونظراً لاشتمالها على معنى المنع استعملت في التأديب؛ لأن التأديب يمنع الإنسان من العود إلى ما فعله من الأمور الممنوعة والمحظورة، ولذلك عرّفه المصنف رحمه الله: بالتأديب، وهذا أحد التعاريف التي ذكرها العلماء رحمهم الله، وبهذا التعريف -وهو التأديب- تكون المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي: وجود المنع، وذلك أن المعنى اللغوي يدور حول الحيلولة بين الشيء والشيء، والتأديب يمنع الإنسان من الأمور التي لا تليق به والأمور التي حظرت عليه ومنع منها.
يقول رحمه الله: (باب التعزير) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالعقوبة التي لا حد لها ولا تقدير في الشرع.
وهذه العقوبة -عقوبة التعزير- تشرع في غير الحدود المقدرة، سواء كانت الجناية من الجنايات القولية أو الجنايات الفعلية، ولكن
السؤال
لماذا ذكر المصنف رحمه الله باب التعزير في هذا الموضع بعد الجلد؟ فهو قد ذكر عقوبة الزنا، وأعقبها بعقوبة القذف، وأعقبها بعقوبة شرب المسكر، والسؤال: لماذا ذكر التعزير بعد هذه الحدود؟ والحقيقة أنه كان ينبغي أن يؤخر باب التعزير إلى نهاية كتاب الحدود؛ لأن التعزير عقوبة غير مقدّرة شرعاً، فكان المنبغي أن ينتهي من العقوبات المقدّرة شرعاً ثم بعد ذلك يبين ما لا حد فيه ولا عقوبة معينة شرعاً، وهذا مسلكٌ درج عليه بعض الأئمة رحمهم الله؛ أنهم ذكروا أبواب وكتاب الحدود ثم أعقبوها بباب التعزير.
والمصنف رحمه الله لعله لاحظ وجود التعزير في أغلب الصور أنه يقوم على الجلد، ولذلك بعدما فرغ من بيان العقوبات الشرعية المقدرة في الجلد بالأعداد المحددة شرعاً -كما ذكرنا في حد الزنا والقذف- أتبعه بحد الخمر، ثم أتبع ذلك بالتعزيرات لأنها في الغالب بالجلد.
ومن هنا تكون المناسبة وجود اتفاق أو شبه مقاربة بين عقوبة الجلد بالحد وعقوبة الجلد بالتعزير، ومن هنا جاء في باب التعزير أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط، وهذا نوع مناسبة، وإلا فالحقيقة أن الأليق به ذكره بعد كتاب الحدود، ومن العلماء والأئمة رحمهم الله من أخّر باب التعزير، وهذا أدق.(383/3)
مشروعية التعزير
يقول رحمه الله: [باب التعزير].
التعزير مشروع في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع السلف والخلف رحمهم الله من الخلفاء الراشدين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وكذلك أئمة السلف والتابعين لهم بإحسان رحمة الله عليهم أجمعين على مشروعية التعزير.
ففي كتاب الله عز وجل شرع الله تعزير المرأة الزانية قبل نزول عقوبة الزنا، فأمر سبحانه وتعالى بحبس الزانية ومنعها من الخروج حتى يتوفاها الموت أو يجعل الله لها سبيلاً، ثم جاء الحديث ببيان عقوبة الزنا، ونزلت الآيات التي تبين الجلد في الزنا، فقال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، فقبل نزول هذه العقوبة كانت المرأة الزانية تحبس في البيت، والرجل إذا زنى فإنه يؤذى، والأذية تكون بتوبيخه وأذيته، حتى نزلت العقوبة المقدرة شرعاً، فهذا من نص الله على التعزير.
كذلك شرع الله التعزير في الحق الخاص، كما في تعزير الرجل لامرأته: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34]، فالمرأة إذا نشزت على زوجها فإنها قد ضيعت حق الزوج؛ لأن الله جعل الرجال قوامين على النساء، وجعل المرأة تحت الرجل تقوم على أمره وترعى شأنه، فإذا استرجلت ونشزت وخرجت عن طاعته خرجت عن فطرتها، فلا بد من تأديبها وإيقافها عند حدها، فشرع الله عز وجل التعزير على هذا الوجه، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالكتاب.
كذلك أيضاً: شرع الله عز وجل التعزير على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبسنته الصحيحة، فقد عزر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزر الخلفاء الراشدون من بعده، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يُجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله)، فلما قال: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)، بيّن مشروعية الجلد، وأنه يكون في غير الحدود؛ لأنه استثنى الحد في الزيادة، وأجاز العقوبة دون العشرة في غير الحدود، فدلّ على أنه يشرع التعزير بالجلد.(383/4)
العقوبة بالتعزير
والتعزير في الحقيقة لا يتوقف على الجلد، فكما أنه يكون بالجلد؛ يكون أيضاً بالتوبيخ، ويكون بالنفي، ويكون بالتغريب، ويكون بإتلاف المعصية التي يعصى الله عز وجل بها، وكل هذا ثبتت به النصوص.
فالتعزير بالضرب: قال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)، فشرع أن يضرب الصبي، وهو نوع عقوبة تهيئة له لحكم الله عز وجل والقيام بأمره وما أوجب.
كذلك أيضاً: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل وأمر بالقتل عقوبةً وتعزيراً، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم وغيره أنه قال: (من أتاكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه)، فشرع قتله تعزيراً، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية أنه نوع من التعزير بالقتل.
ومن هنا صارت عقوبة التعزير لا تتوقف على شيء معين، وإنما تكون إلى نظر القاضي والإمام، فينظر الأصلح في زجر الناس وردعهم، وحفظ حقوق الخاصة والعامة.
وكذلك أيضاً يكون التعزير بالتوبيخ والتقريع والتأنيب، وقد ثبت بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أبا ذر رضي الله عنه لما قال لـ بلال: يا ابن السوداء، غضب عليه الصلاة والسلام وقال له: (إنك امرؤٌ فيك جاهلية)، فهذا توبيخ وتأنيب لـ أبي ذر حينما قال هذه الكلمة، رضي الله عنه وأرضاه، فدلّ على مشروعية التوبيخ لمن أساء.
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه شرع العقوبة بالقول لمن أساء في قوله، فقال: (من سمعتموه يدعو بدعوى الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، أي: بمعنى أن يوبخ، ويقال له: امصص ذكر أبيك البعيد، إهانةً له وذلة؛ لأنه يفتح على المسلمين باب الاحتقار بالعصبيات والنعرات، وهذا باب شر، فكما أنه يستعلي على الناس؛ أذله الإسلام، وأذله رب الجِنة والناس، فجعله بهذه المثابة، فيقال له: امصص ذكر أبيك، ويذكر تصريحاً بما يعرف بالعرف توبيخاً له وزجراً، وهذا من العقوبة.
أيضا يكون التعزير بالكف عن الخير ومنع الخير عن الإنسان، كما جاء: (أن رجلاً عطس فحمد الله فشمته النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عطس الآخر فلم يحمد الله عز وجل فلم يشمته النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! عطس فلان فشمته، وعطست فلم تشمتني، قال: إن هذا حمد الله فشمته، وأنت لم تحمد الله فلم أشمتك)، فهذا من العقوبة بالمنع من الخير.
ويكون التعزير بالهجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرئ مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)، فشرع الهجر فيما دون ثلاث ليال إذا أخطأ الرجل على الرجل، أو أساء الرجل إلى الرجل، أو أساءت المرأة إلى المرأة، وأرادت أن تؤدبها في إساءتها، ورأت أن من المصلحة ذلك؛ فإنها تعرض عنها وتمتنع من بداءتها بالكلام، فلا تتبسم في وجهها، ولا يتبسم الرجل في وجه الرجل، ولا يبدأه بالكلام، وهذا في حدود ثلاثة أيام، فإذا مضت الثلاثة أيام فلا يجوز الهجر بعدها، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه العقوبة في الثلاثة الذين خلفوا، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب الله عليهم سبحانه وتعالى.
فهذه كلها عقوبات تعزيرية، وهذا يدل على كمال الشريعة الإسلامية وسمو منهجها، أنها عاقبت المسيء في إساءته، ولكن جاءت العقوبة بما يتفق مع الجريمة.(383/5)
الفروق بين التعزير والحد
وهناك سؤال بالنسبة للتعزير والحد: فالحد عقوبة مقدرة شرعاً، والتعزير عقوبة غير مقدرة؛ ولذلك ذكر العلماء جملة من الفوارق بين الحد والتعزير.
فالحدود تقدم معنا أنها مقدرة لا تجوز الزيادة عليها ولا النقص منها؛ لأن حق الله فيها في ذلك الحق المقدر الواجب على الحاكم وعلى القاضي أن ينفذه شرعاً، فلا يزيد عليه ولا ينقص منه على الأصل في الحدود المقدرة، فلا يزيد في جلد الزاني فوق مائة جلدة؛ لأن الله أمر بجلده مائة جلدة، فهذا حد، ولا يجوز أن ينقص من المائة، لكن التعزير قد يزيد وقد ينقص، ويختلف باختلاف الأشخاص، وباختلاف الأزمنة والأمكنة، وباختلاف الأحوال والظروف، فمثلاً: لو أن شخصاً سب شخصاً وأساء إليه، فإننا ننظر إلى الشخص الذي سَب والشخص الذي سُب ولعن، ثم ننظر هل هذا الشخص الذي وقع عليه السب استفز الذي سبه، أم أن الذي سب سَب مباشرة تهكماً واستهزاءً، فينظر إلى الظروف والأحوال والقرائن؛ ولذلك نجد أن التعزير يرتبط بنظر القاضي ونظر الوالي، ولا يتقيد بشيء معين، فالقاضي هو الذي ينظر وهو الذي يقدر وينزل الناس منازلها، سواءٌ كانوا جناةً أو مجنياً عليهم.
وكذلك أيضاً من الفوارق: أن الحد لا تجوز فيه الشفاعة إذا بلغ القاضي، والتعزيرات يجوز فيها الشفاعة، وتدخل تحت عموم قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء)، فلما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغت الحدود السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفِّع)، فمفهوم قوله: (الحدود)، أن غير الحدود تشرع فيه الشفاعة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا)، فالأصل هو الشفاعة ومحاولة درء الضرر عن المسلم ما أمكن؛ لعله أن يتوب ويرجع ويصلح من بعد فساد، ولكن الحدود لا مجال للشفاعة فيها، وكذلك أيضاً يجب على القاضي إذا استبان له الحد أن ينفذه، ولا مدخل للاجتهاد فيه، فهو إذا ثبتت عنده الجريمة توجه إليه خطاب الشرع أن يأمر بتنفيذ الحكم وإيقاع العقوبة والحد، وأن لا تأخذه في ذلك لومة لائم، كائناً من كان، إنما يخاف الله ويراقب الله، وينصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عامها وخاصها، عالماً أنه لا يصلحهم إلا شرع الله سبحانه وتعالى.
وأما بالنسبة للتعزيرات فإنه يسع القاضي والإمام أن ينظرا، فمثلاً: لو أنهما أرادا تعزير شخص، فوجداه قد انكسر وخاف وانزجر، فإنه ربما مجرد التهديد يكون تعزيراً، ومجرد التخويف قد يكتفي به القاضي، وقد يرى أن من المصلحة أن يكتفي به، بخلاف الحدود، فلو بكى الزاني أو الزانية، ولو أقسم الأيمان المغلظة أنه لا يعود، فتنفذ العقوبة عليه، فلا هوادة في ذلك ولا مجال للاجتهاد في رده.
وكذلك أيضاً: التعزير يكون بمختلف العقوبات، فيكون بالأقوال والتوبيخ -كما ذكرنا- ويكون بالضرب -كما ذكرنا في الجلد- ويكون بالقتل، ويكون بالتغريم بالمال، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غرّم في ضياع حق الله، وكذلك غرم في ضياع حق المخلوق، فقد غرم في ضياع حق الله حينما امتنع رجل عن أداء الزكاة التي فرض الله عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا آخذوها وشطر ماله عزمةٌ من عزمات ربنا)، وقد تقدم معنا هذا في باب الزكاة، فهذا تعزير بالمال.
كذلك أيضاً: ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عزر بالمال في حق المخلوق، فحكم عليه الصلاة والسلام أن من دخل الحائط فأكل من الثمر دون استئذان صاحبه، ولم يحمل في جيبه ولم يختلس ولم يأخذ من الثمر؛ فلا شيء عليه، فله أن يأكل من الثمر شريطة أن لا يفسد، ولكن إذا أخذ وانتهب من البستان فوضع في جيبه شيئاً زائداً عن حاجته نُظر: فإن كان الذي أخذه من الثمر من غير الحرز، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من قبل أن يؤويه الجرين)، فإذا أخذه بهذا القدر دون أن يؤويه إلى الجرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فعليه مثليه والعقوبة) فقوله: (مثليه): أي: نغرمه ضعف ما أخذ، فلو أخذ مثلاً صاعاً ألزمناه أن يرد صاعين، وليس صاعاً واحداً وهذا من التعزير بالمال.
والعقوبة بتعزير زائد على ذلك، فهذا كله مما يختلف فيه التعزير عن الحدود.
أيضاً: التعزير يمكن أن يسقطه القاضي ويمكن أن يسقطه الإمام إلا إذا كان حقاً لمخلوق يطالب به، وهذه المسألة فيها خلاف عند العلماء، لكن من حيث الأصل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غض الطرف عن بعض الإساءات وعن بعض الأخطاء ولم يعزر فيها، مع أنه يسع فيها التعزير، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه اختصم رجل من الأنصار والزبير رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شراج الحرة -وكان الوالد رحمه الله يقول: الأشبه أنه في شراج مهزور ومذينيب، ومهزور ومذينيب مما كان يسيح من الماء من شرقي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في الجهة التي تعرف اليوم في زماننا بالحرّة الشرقية، وكان فيها عيون وفيها بعض الأنهار تجري- فكان بستان الزبير فوق بستان الأنصاري، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسقي الزبير ثم يرسل الماء إلى الأنصاري، فقال الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه: أن كان ابن عمتك؟! وهذه كلمة عظيمة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم غض الطرف عن ذلك.
فمن أهل العلم من قال: إن هذا راجع إلى أصل قررته الشريعة في العفو عن الأنصار؛ لأنهم نصروا الإسلام نصراً مؤزراً، وفدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الله وشرع الله بكل ما يملكون حتى بالنفس، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: (إنهم أدوا ما عليهم)، يعني: أدوا الذي عليهم، وهذه كلمة ليست بالهينة أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم أدوا ما عليهم من نصرة الإسلام ونصرة الدين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنهم أدوا ما عليهم، فمن وجد منهم مسيئاً فليتجاوز عنه)، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم تجاوز عنهم لعظيم بلائهم في الإسلام، وغفر هذه الكلمة في مقابل ما كان منهم من الخير تأليفاً لقلوبهم.
وعلى كل حال: فالتعزير يسع فيه العفو في بعض المسائل، وقد استدلوا لذلك بأدلة سيأتي -إن شاء الله- الكلام عليها في حكم التعزير.(383/6)
حقيقة التعزير الشرعية
قال رحمه الله تعالى: [وهو التأديب].
قوله: (وهو التأديب) الضمير عائد إلى التعزير، والمراد بقوله: هو التأديب، بيان حقيقته الشرعية، فاستفتح المصنف رحمه الله باب التعزير بالتعريف بالتعزير، وهذا أصل تقدم معنا في مقدمات الفقه: أن العلماء رحمهم الله يعتنون بالحقائق والتعريفات اللغوية والاصطلاحية من أجل تصور الشيء قبل الحكم عليه، ومن هنا القاعدة: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وقد ابتدأ رحمه الله بالتعريف، فقال: وهو التأديب، وقال بعض العلماء: عقوبةٌ غير مقدرة شرعاً ثابتة في حق لله أو حق لآدمي أو هما معاً، ومنهم من يقول: تجب في حق الله أو حق الآدمي، ومنهم من يقول: تثبت في حق الله أو في حق الآدمي، والتعبير بالوجوب راجح عند من يقول بوجوب التعزير، فمن عبر بالوجوب يرى أن التعزير لازم ولابد منه، ولا يسع فيه العفو، وهذا على القول بأن حكم التعزير واجب، وسيأتي إن شاء الله تعالى.(383/7)
من يحق له التعزير
قوله رحمه الله: (وهو التأديب) هذا التأديب يكون من الوالي والسلطان، ويكون من الشخص من أفراد الأمة، فقد يعزر الإمام العام، مثل أن يعزر الموظفين والعمال الذين يقومون بمصالح الأمة إذا قصّروا، وقد يعزر الإمام العام القضاة إذا قصروا في حقوق الناس، أو ماطلوا في الحكم عليهم، أو أخروا الشهود أو ظلموهم واشتكي إليه، وكذلك من حقه أن يعزر العمال عند أخذهم للرشوة أو تزويرهم، أو نحو ذلك من تضييع حقوق العامة والخاصة، فهذا التعزير للإمام.
وقد يعزر القاضي فيما ذكرنا، كما إذا اشتكى إليه المظلوم أنه ضاع حقه، واعتدي عليه بإساءة لا تصل إلى حد من حدود الله، كأن يسبه سباً لا يوجب حد القذف، فحينئذٍ يعزره القاضي.
ويعزر أيضاً الوالد ولده، فإن للأب أن يعزر ولده، وللزوج أن يعزر زوجته، وللعالم والشيخ أن يمتنع من إجابة السائل -تعزيراً له- إذا لاحظ عليه أن أسئلته مريبة، أو أنه يتعنت في أسئلته، أو أنه يختار الأغلوطات، فمن حقه أن يمتنع في مثل هذا، أو رأى أن من المصلحة أن يعزر الطالب الذي يشوش على إخوانه ويزعجهم، فيمنعه من الحضور إذا علم أنه لا مصلحة في حضور مثله، وغيره يغني عنه، فمن حقه أن يعزر طالبه إذا أساء فتجاوز حدود الأدب.(383/8)
تعزير من أساء الأدب في مجالس العلماء والقضاة
بعض العلماء يرى أن مجالس القضاة ومجالس العلماء لها حرمة، وأن الغلط فيها لا يسع العفو فيه، ولذلك قال بعض العلماء: لو أساء أحد في مجلس القاضي فإنه يجب على القاضي أن يعزره، ومن هنا قال صاحب التحفة: ومن جفا القاضي فالتأديب أولى وذا لشاهد مطلوب فقول: (من جفا القاضي) مثل أن يقول له: أنت ظلمتني في حكمك، أو أنت ظالم في حكمك، أو قال له: لا أقبل حكمك، أو حكمك لا يقبل أو نحو ذلك من التهكم والسخرية بأحكامه، وكذلك إذا أساء إلى الشهود فقال لهم: أنتم كذابون ومزورون، أنتم تأخذون المال لتشهدوا عليّ فاتهمهم، وحينئذٍ إذا كان في مجلس القاضي فإنه لا يسع أن يعفو عنه، وقد يعترض معترض بقضية الصحابي حينما قال: (أن كان ابن عمتك؟!) وقد ذكرنا أن من الأجوبة عن ذلك: أن هذا خاص مراعاةً من النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار، وما كان منهم من سابقة ونصرة، ولما علم من صدق إيمانهم به عليه الصلاة والسلام، ولكن المال فتنة، فغفر للرجل هذه الكلمة لعله لما يعلم منه من سابقته في الإسلام أو حرصه على الإسلام فغفر له ذلك، ولم يجد ما يوجب العقوبة.
ومن هنا قالوا: من أساء الأدب في مجلس القاضي أو العالم فليعزره، والسبب في تخصيص العلماء رحمهم الله لهذين المجلسين: مجلس القاضي -مجلس الحكم- ومجلس العالم: أنه لا يسع فيهما العفو.
ومنهم من يلحق الأئمة والخطباء في مساجدهم، كأن يكون شخص يرد على الخطيب في أمر فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، ويسع الخطيب أن يختار قولاً، فيقوم ويتهجم على الخطيب ويتكلم عليه، فيعزر مثله؛ لأنه ليس من حقه، وإذا أراد أن يتبنى رأياً آخر فيفتح له مسجداً آخر ويخطب فيه بما يرى من الصواب والحق، أما في مجلس العالم ومسجد الإمام فهو أحق أن يبين ما ترجح له من الحق.
قالوا: فإذا أساء الأدب في مجالس هؤلاء فإنه لا يُعفا عنه، وقد ذكر بعض الأئمة أنه لا يسلم من عقوبة الله العاجلة أو الآجلة من أساء الأدب في مجالس العلماء، وأراد التضييق عليهم، أو أساء الأدب مع الخطباء، أو مع الأئمة، فيأتي وراء الإمام من أجل أن يخطئه، وكلما انتهى من الصلاة يضيق عليه فيقول له: ألاحظ عليك كذا ألاحظ عليك كذا فيضيق عليه في إمامته.
فهؤلاء الذين تقدموا للإمامة، وتقدموا لأمور شرعية ومناصب شرعية، في حال الاعتداء عليهم والتضييق عليهم في أداء أمانتهم، والتضييق عليهم في أداء رسالتهم؛ قالوا: لا يسع العفو فيه؛ بل يعزر، وإذا عفا العالم أو الإمام فلا يأمن مثل هؤلاء من بلاء الله عز وجل، وقد ذكروا عن الإمام أبي طالب رحمه الله وكان من أئمة القرآن المبرزين في القراءات، أنه كان لا يخطب خطبة إلا قام له رجلٌ يقاطعه أثناء الخطبة ويعقب عليه ويؤذيه ويشوش عليه، فأكثر الناس عليه، وقالوا: إلى متى تسكت عنه؟! وكان رحمه الله عالماً صبوراً -والعلماء منهم الصابر، ومنهم من لا يصبر- فصبر رحمه الله حتى أكثر الرجل عليه، وفي ذات يوم قام فأساء إليه إساءة بليغة في علمه، فما كان منه إلا أن قال: اللهم اكفنيه بما شئت؛ فسقط الرجل مشلولاً، ولم يعد إلى المسجد بعدها أبداً! فلا يأمن أمثال هؤلاء؛ لأن أهل الدنيا لا يرضى أحد منهم بمثل هذا، فمثلاً: لو أن تاجراً أقام رجلاً في دكانه فأسيء إليه، فهذا التاجر يحس أن الإساءة إلى العامل إساءة إليه، وهكذا المناصب العامة إذا أُسيء إلى أهلها كأنه أُسيء إلى من وضعهم، فكيف بمن وضعهم رب العالمين! وكيف بمن قدمهم الدين والشرع خلفاء للرسل وارثين للنبوة، يبلغون رسالات الله عز وجل! فمن هنا قالوا: لا يسع العفو؛ لأنه لو عفا عنه لتجرأ على حق الله عز وجل؛ لأن الانتقاص هنا ليس للقاضي ولا للعالم، وليس لشخصه، وإنما هو انتقاص للعلم والدين، ومن هنا قالوا: إنه لا يسع العفو لحرمة المجلس، ولو أن الإمام في ذاته والقاضي عفا في نفسه فإنه لا يسع العفو حرمة للمجلس.(383/9)
الأداب وأنواعها
وقوله رحمه الله: (وهو التأديب).
الأدب: رعاية الحرمة، فمن راعى حرمة الأشياء في قوله وعمله وفعله وسمته ودله فهو المؤدب، ويكون الأدب أدب المخلوق مع المخلوق، وأدب المخلوق مع الخالق، وأدب الخالق مع المخلوق، فهذه ثلاث أحوال ذكرها العلماء للأدب.
فالله عز وجل يعلمنا الأدب -مع أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام- في خطابه للرسل فيقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، ولم يقل: (يا محمد) بالاسم المجرد؛ تشريفاً له وتكريماً، فناداه بالرسالة، وناداه بالنبوة؛ تشريفاً له وتكريماً، حتى يعلم الأمة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان العلماء والأئمة لا يقولون: هذا قول محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يقولون: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ رعايةً للأدب، وهذا هو خطاب الله عز وجل لعبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
ومن ذلك قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، وهذا من أجمل ما يكون من الخطاب، أن الله قدّم العفو على التعنيف على الفعل، فقال له: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، فلم يقل له: لِمَ أذنت لهم؟! عفا الله عنك، ولكن قال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، وهذا تعليم للأمة أن يراعوا حقوق من له حق، وحرمة من له حرمة.
قالوا: ومن أدب الخالق مع المخلوق أيضاً قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] * {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:2]، فإن الله لم يقل له: عبست، وإنما قال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، حتى إن من قرأ السورة لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي نزلت فيه هذه السورة.
وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]، لا يعلم من الذي عبس، وهذا من أكمل ما يكون حينما يُحكى الأمر للشخص دون أن يباشر بالخطاب، فهذا من الأدب، وكذلك تأتي إلى الشخص وتقول له: من الناس من يقول فيّ كذا وكذا، والمخاطب هو الذي قال هذا الكلام، ففرقٌ بين أن تقول: من الناس من يقول فيّ كذا وكذا، وبين أن تقول له: أنت تقول فيّ كذا وكذا.
وأما أدب المخلوق مع الخالق فهو، وهو حال الأنبياء خاصة، بل وعباد الله وأوليائه الصلحاء الأتقياء السعداء، وهؤلاء هم الذين يراعون الأدب مع الله.
ومن ذلك قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، ولم يقل: وإذا أمرضني فهو يشفيني، ولا شك أن الله هو الذي يمرضه، ولكنه تأدب: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80]، فنسب المرض إلى نفسه تأدباً مع الله سبحانه وتعالى.
وهناك أدب المخلوق مع المخلوق: وأحوال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم تدل على ذلك، ومن أراد أن ينظر إلى الأدب في أبهى صوره وأجمل حلله فليقرأ قصص الأنبياء، وليقرأ التفاسير الدقيقة التي تبرز الجوانب الجميلة الجليلة لرسل الله صلوات الله وسلامه عليه، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، فهذه الصفوة التي اصطفاها الله من خلقه والخيرة التي اختارها الله من خليقته، هم الذين كانوا يراعون الأدب على أتم أحواله، فمن أدب المخلوق مع المخلوق قول يوسف عليه السلام: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف:26]، فجاء بضمير الغائب، ولم يقل للمرأة: أنت راودتيني عن نفسي، بل قال: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}، وهذا من أدب المخلوق مع المخلوق.
فالأدب: هو رعاية الحرمة، والتأديب: حمل الإنسان على أن يراعي هذه الحرمة، وهو تفعيلٌ من الأدب بمعنى: أن الإنسان يحمل على رعاية هذه الحرمة في أقواله وفي أفعاله وفي تصرفاته وشئونه.
ولا شك أن الحدود كلها فيها معنى التأديب، ولكن هذا النوع من العقوبات يقصد منه أن يحمل الشخص على رعاية الحرمات؛ لأنه لا يقع التعزير إلا عند الإخلال بالحرمات، سواء كانت عامة أو كانت خاصة، فيكون التعزير في الإخلال بالحرمات العامة وبالحرمات الخاصة، فسواءٌ كان في درء المفاسد أو جلب المصالح.
وقوله رحمه الله: (وهو التأديب) تعريف مختصر راعى فيه رحمه الله الاختصار، والمقصود من التعزير أن يحصل التأديب، وإلا فالأصل أن التعزير عقوبة غير مقدرة شرعاً، تثبت أو تجب لحق الله عز وجل، مثل أن يمتنع من الزكاة فيعزر ويؤخذ منه ضعف الزكاة، أو نصف ماله، ويعزر بحق المخلوق مثلما ذكرنا.(383/10)
حكم التعزير
قال رحمه الله: [وهو واجب].
مذهب الجمهور أن التعزير واجب، وفي الحقيقة ينبغي النظر في التعزير: فإذا كان التعزير لحق مخلوق واشتكى المخلوق، فيجب أن يعزر الجاني، فمثلاً: شخص استهزأ بشخص، أو شهّر به فتكلم في مجامع الناس وقال: فلان لا يفهم شيئاً، أو فلان ما هو أهل لكذا وكذا، فشهر به، أو كتب في صحيفة أو وسيلة إعلامية ما ينتقص به أهل الحق ويزري بهم ويشهر بهم أمام الناس، أو اتهمهم بالباطل، فاشتكى أصحاب الحقوق إلى القضاة، فإذا اشتكى إلى القاضي فيجب على القاضي أن يعزر مثل هذا؛ لأن صاحب الحق طالب بحقه، والقضاة في الأصل ما أقيموا إلا لأجل ردع الناس بعضهم عن بعض، والقيام بالحقوق الواجبة.
وكذلك بعض العلماء يرى وجوبه فيقول: في بعض الأحوال التي يكون فيها تقصير ومماطلة فيجب حينئذ على القاضي أن يعزر، وهو واجب، أي: أنه يرى أن التعزير يجب لكن في حالة ما.
وإذا كان متعلقاً بحق الله عز وجل فإنه يسع فيه العفو، ولذلك جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني أصبت من امرأةٍ -وذكر أنه أصاب دون الحد، من قبلة أو نحوها- فأنزل الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، فقال الرجل: أهي لي خاصة يا رسول الله؟ قال: بل هي عامة)، فهذا يدل على العفو والمجاوزة في التعزير في حق الله عز وجل متى وسع ذلك، والسبب: أن الرجل جاء شاكياً تائباً يسأل عما يكفر ذنبه، وهذا نوع من التوبة والرجوع، ومن هنا لاحظ عليه الصلاة والسلام أن رجوعه كاف؛ لأنه أدرك ما قام به، والتعزير نوع من التأديب لرعاية الحرمة، وهذا قد جاء نادماً على إسقاط الحرمة، وحاله يدل على أنه لن يعود بإذن الله عز وجل إلى ذلك.
فمن هنا يسع العفو إذا غلب على ظن القاضي المصلحة في عفوه، ولا بأس بذلك ولا حرج، فيكون التعزير في حالة العفو غير واجب، لكن لا يستطيع القاضي أن يعفو في حقوق المخلوقين بعضهم على بعض، ولا يستطيع القاضي أن يتدخل في شخص سبه شخص فآذاه أو اتهمه بما لا يوجب القذف، ورفع هذا الرجل يتظلم إلى القاضي، فلا يأتي القاضي ويقول: اعف عنه، أو يحاول تعطيل تأديبه؛ لأنه يجب على القاضي في هذه الحالة أن ينصف المظلوم ممن ظلمه، فحينئذٍ لا يتدخل القاضي؛ لأنه يجب على القاضي أن يكون محايداً، وفي حالة تدخله بالصلح قد يسقط حق ذي الحق، ولا يجوز إسقاط هذا الحق بدون موجب.
ومن هنا لا يسع العفو ولا يسع الإسقاط في التعزيرات في الحقوق التي يطالب بها أصحابها، وإنما في حق الله عز وجل، والأمر فيه إلى نظر القاضي، ويحق له في بعض الأحوال أن يعفو ولا يعزر.(383/11)
المعصية الموجبة للتعزير
قال رحمه الله: [في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة].
قوله: (في كل معصية) المعصية تكون بترك واجب أو فعل محرم، فنعزر في ترك الواجبات، كما لو امتنع من أداء الزكاة، أو امتنع من الصلاة مع الجماعة على القول بوجوب الصلاة مع الجماعة؛ فإنه يعزر، وكذلك أيضاً في حق المخلوق، وحقوق المخلوقين بعضهم مع بعض، فمثلاً: لو أن شخصاً جاء الناس ووضعوا عنده أماناتهم، ثم امتنع من إعطاء الأمانات، وشهد الشهود عند القاضي على أنه أخذ هذه الأمانات وماطل وأخّر في دفعها لأهلها، فإذا اشتكاه أصحاب الأمانات إلى القاضي فإنه يعاقبه لظلمه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد) يعني: تأخيره ومماطلته، و (الواجد) أي: الغني الذي يقدر على السداد (ظلم يبيح عرضه وعقوبته)، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقب؛ لأنه عطّل حقوق الناس الواجبة.
وكذلك لو أنه اقترض من الناس أموالهم ثم لم يسددهم، أو هناك عمال يشتغلون عنده، فإذا انتهى الشهر لا يعطيهم حقوقهم ورواتبهم؛ فإنه يجب على القاضي أن يعزر أمثال هؤلاء؛ لأنه امتنع من القيام وأداء الواجب.
فقد تكون المعصية بترك واجب، مثل: عدم أداء الزكاة، أو عدم أداء الأمانات، أو عدم القيام بالحقوق الواجبة كالشهادة، فلو أن شخصاً -مثلاً- عنده شهادة، فهو يشهد أن فلاناً أعطى فلاناً عشرة آلاف ريال، فأنكر الشخص، ولما قيل له: تعال واشهد معي، امتنع، ولا يوجد شاهد غيره، فاحتاج صاحب الحق أن يأتي ويشهد، ففي هذه الحالة يأثم عند العلماء رحمهم الله بالإجماع؛ لأن الشهادة تتعين إذا لم يوجد غيره، فإذا امتنع -وليس من حقه أن يمنع الشهادة لقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]- فقد امتنع من واجب عليه، فإذا اشتكي إلى القاضي ألزمه بالحضور وسأله القاضي: هل تشهد أن فلاناً فعل كذا وكذا؟ فإن قال: نعم أشهد، فحينئذٍ يقبل شهادته، ثم يعزره ويؤدبه للتأخير والمماطلة، وهذه صورة من التأخير في أداء الواجب.
وكذلك يكون التعزير لارتكاب المعصية بفعل الحرام، فمثلاً: لو أخذ أموال الناس عن طريق التزوير، أو الرشوة، ولا يؤدي واجباً، ويأكل الرشوة والربا، أو رجل اختلى بامرأة فأصاب منها ما دون الحد، فهذا لا يجب إقامة حد الزنا عليه؛ لأنه لم يصب الزنا، فحينئذٍ يعرز، وهذه كلها من فعل المحرمات.
فيكون التعزير بترك الواجبات والوقوع في المحرمات، ما لم تبلغ الحدود، فهذه لها أحكامها الخاصة.
وبقي الإشكال عند العلماء في المندوبات والمكروهات، فهل المندوب مأمور به، وهل المكروه منهي عنه، بحيث يذم التارك للمندوب أو الواقع في المكروه على سبيل يقتضي التعزير؟ فيه خلاف معروف عند أئمة الأصول رحمهم الله، وهذه المسألة تبين عليها مسألة التعزير في الإخلالات العامة في الآداب، فمثلاً: لو أن شخصاً جاء إلى مجالس العلم أو مجالس السكينة والوقار ورفع صوته وشوش على طلاب العلم، ففي هذه الحالة لو رفع أمره إلى القاضي فإنه يعزر، مع أنه ليس بالأمر الذي يصل إلى فعل المحرمات، ولكن فيه نوع من الأذية التي تصل غالباً إلى الكراهة الشديدة، ولو أنه جاء بالجوال وفتحه في مجلس العلم فهل يستحق التعزير أو لا؟ خاصة إذا انبعثت منه الأصوات الموسيقية، فآذى وشوّش في بيت الله عز وجل وحرمته، أو أثناء الصلاة، وهذا أعظم، وهذا ليس بالأمر الهين: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، أن يأتي إلى طلاب العلم وهم في مجلس العلم في تركيزهم وحفظهم ويفتح هذه الجولات، مع أنه بإمكانه أن يجعلها على الصامت، وبإمكانه أن يقفله، وهذا من الإهمال واللامبالاة، أو يأتي في المسجد أثناء الصلاة ويفتحه على الأصوات العالية، فمثل هذا لا شك أنه من المكروه كراهةً شديدة، لكن إذا اشتمل على أصوات موسيقية فلا شك أنه في هذه الحالة يقارب الحرمة.
فالمقصود من هذا: أن قوله: (في كل معصية) عموم، والمعاصي تشمل ما كان لحق الله عز وجل أو كان لحق المخلوق.
وقوله: (لا حد فيها) مثل عقوبة من استمتع بامرأة بما دون الزنا.
وقوله: (ولا كفارة) مثل الجماع في نهار رمضان، فإذا جامع في نهار رمضان فلا يعزر؛ لأن الشرع أوجب لهذا الجماع كفارة، ومن هنا على هذا التعريف -في أحد الأوجه عند الحنابلة، وهو مذهب المالكية- أنه يشرع التعزير فيما تقدم معنا من الجنايات التي لا قصاص فيها وفيها الدية، فلو أنه ضربه ضربة متعمداً فهشم عظامه، فإن هذه الجناية تسمى: الهاشمة، ويجب فيها خمسة عشر من الإبل.
ولكن في هذه الحالة إذا كانت هاشمة لا قصاص فيها، وأخذ خمسة عشر من الإبل، فهل يكفي هذا؟ قال طائفة من السلف وهو مذهب المالكية وأيضاً عند الحنابلة وجه: أنه يعزر، أي: يعاقبه القاضي بما يمنعه من الاعتداء على الناس؛ لأن من الناس من عنده المال ولا يبالي، فيهشم عظام الناس، ثم يهشم عظم هذا وعظم هذا ولا يبالي ويسترسل؛ لأن عقوبة المال -الأرش- لا تضره، ومن هنا قال رحمه الله: (لا حد فيها ولا كفارة)، فيدخل في هذا على هذا الأصل ما ذكرناه من الجنايات التي لا قصاص فيها وفيها الديات.
لكن إذا كانت خطأً فلا يعزر إلا إذا كان فيه نوع إهمال، فمثلاً: لو أن مهندساً أشرف على عمارة وأهمل وقصر، وجب عليه الضمان، وأمر بدفع المال، ويضمن الإتلافات الموجودة، وهل يقف الأمر عند هذا؟ لأنه غني وعنده المال، فيذهب ويدفع المال المفروض عليه ولا يبالي، لكن إذا رأى القاضي أن من المصلحة أن يسجنه، أو يشهر به، فيعرف الناس أنه مهمل في عمله، وأنه يعرض أموال الناس وممتلكاتهم إلى الضرر؛ فله ذلك.
فهذه أحوال وأشباهها تدخل تحت قوله: (لا حد فيها ولا كفارة) وعلى هذا فما فيه الكفارات قالوا: إنه لا يشرع فيه التعزير.(383/12)
معاصٍ توجب التعزير
قال رحمه الله: [كاستمتاع لا حد فيه].
فلو أن رجلاً استمتع بامرأة بما دون الفرج، فقبلها أو فاخذها ولم يولج -أي: لم يوجب حد الزنا على الصفة المعتبرة- فإنه في هذه الحالة يعزر.
مثلاً: لو أن رجلاً وجد مختلياً بامرأة أجنبية، أو وجدا في لحاف واحد، أو وجدا متجردين، ونحو ذلك من الاستمتاع الذي هو دون الزنا ودون الحد؛ شرع تعزيره.
قال رحمه الله: [وسرقة لا قطع فيها].
فلو أنه سرق وأخذ مالاً على وجه السرقة، ولكن المال لا يبلغ النصاب، أو أخذ مالاً من غير حرز، كما لو جاء إلى شخص وأمامه مال، فاستغفله فسحب المال من طاولته أو من جيبه، بشرط ألا يشق الجيب؛ فيعزر.
أما الطراق الذي يشق الجيوب فسيأتي الخلاف فيه.
وكذلك نباش القبور هل يوجب نبشه القطع أو لا؟ الذين يقولون: لا يوجب القطع في النباش يقولون: يعزر؛ لأنه عندهم لا يصل إلى حد القطع، فكل سرقة لا توجب القطع ففيها التعزير.
قال رحمه الله: [وجناية لا قود فيها].
وهكذا الجناية التي لا قود فيها -كما ذكرنا (الهاشمة) ونحوها- وقد اختار المصنف هذا القول، وأنا أميل إليه: أنه إذا اعتدى عليه بجناية لا قصاص فيها متعمداً؛ فإنه يشرع أن يعزر، واختاره الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله وغيره.
قال رحمه الله: [وإتيان المرأة المرأة].
أي: السحاق، قالوا: إن المرأة إذا أتت المرأة واستمتعت بها؛ فإن هذا لا يوجب الحد؛ لأنه ليس فيه إيلاج، وحينئذٍ تعزر المرأتان.
قال رحمه الله: [والقذف بغير الزنا].
القذف بغير الزنا كسب الناس وشتمهم، ووصفهم بالكلمات المنتقصة لحقهم، كأن يقول عن عالم: إنه لا يفهم شيئاً، أو لا يعرف كيف يُعلِّم؛ يتهكم به، فهذا السب والشتم والانتقاص والعيب على غير حق وبدون حق يوجب التعزير، وحينئذ ننظر إلى الشخص الذي سُب وشُتم وأوذي، والشخص الذي تكلم بذلك فيعزر بما يناسبه.
قال رحمه الله: [ونحوه].
أي: ونحو ذلك من الجنايات في ضياع حق الله أو انتهاك حرمته مما لا يصل إلى الحد ولا كفارة فيه.(383/13)
الأسئلة(383/14)
صلح القاضي بين المتخاصمين يشرع في بعض القضايا
السؤال
هل يبدأ القاضي بإمضاء حق الخصم المظلوم، أم يحاول الصلح بينهما، فإذا امتنع صاحب الحق أمضى الحكم؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد: فإن الصلح من القاضي يقع في بعض القضايا وليس في كل القضايا.
وينبغي أن ينتبه لقضية مهمة جداً، وهي: أن مقام القاضي يستلزم منه أن يكون حيادياً لا يميل لأحد الطرفين، وهذه الحيادية تقتضي منه أن لا يتدخل، فيعطف على أحد الخصمين على حساب الآخر؛ ولذلك فلا يجوز له أن يدخل خصماً قبل خصمه، ولا يجوز له أن يلين قوله لأحد الخصمين دون الآخر، ولا أن يخص أحدهما بالنظر الشديد دون الآخر دون موجب، ولا يرفع مجلس أحدهما على الآخر، ونحو ذلك مما ذكره العلماء، كل هذا إقامة للعدل، ولذلك جعل الله عز وجل القضاة من أجل أن يقوموا بالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وعلّم الله نبياً من أنبيائه أن يعدل بين الخصمين، فقال لداود حينما أتاه الخصمان: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، فأمره أن يحكم بالحق وبالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فإذا تدخل القاضي بالصلح فقد عطل صاحب الحق عن حقه، وصاحب الحق ما أتى يشتكي إلى القاضي إلا وقد تمعر وتألم وضاقت به الدنيا، فإذا وجد القاضي يقول له: سامحه واعف عنه، فحينئذ ييئس الناس من القضاة؛ لأن القضاة -غالباً- لا يوصل إليهم إلا إذا استنفدت وسائل الصلح، فإذا تدخل القاضي كان هناك ميل لأحد الخصمين على حساب الآخر.
وقد استثنى العلماء رحمهم الله مسائل يجوز للقاضي أن يتدخل بها في الصلح، وسيأتينا -إن شاء الله- تفصيلها في باب القضاء.
منها: إذا أشكل عليه الحكم، كقضية متشعبة متشتتة وأقوالها متباينة، وصعب عليه الأمر واستشكل، فمن حقه -آنذاك- أن يصلح بين الطرفين؛ لأنه لا يستطيع الفصل، ولم يتبين له الحق، أما إذا تبين له الحق فلا يجوز له التدخل بالصلح؛ لأنه مأمور {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، وعليه إذا تبين له الحق أن يحكم ويمضي الحق وينفذه.
ومنها: خوف الفتنة، كأن يعلم أنه لو قضى لأحد الخصمين -وهو صاحب حق- أنه فستقع فتنة، وستسيل دماء، كما لو اختصموا عند القاضي وأحدهم شرير، وله أعوان، ويغلب على ظن القاضي أنه لو قضى له بهذا الشبر من الأرض أو المتر من الأرض فستثور العصبية والحمية، فيقتلون الرجل صاحب الحق، ولذلك ففي هذه الحالة يتدخل بالصلح ولا ينفذ الحكم.
فهذه المسائل استثناها العلماء، قال الناظم رحمه الله: والصلح يستدعى له إن أشكلا حكمٌ وإن تعين الحق فلا ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام فإذا أشكل عليه الحكم فمن حقه أن يصلح، ولا يتكلف الحكم عن جهل؛ فإنه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فإذا أشكل عليه الحكم فيقول: إن قضيتكم مشكلة ومسألتكم مستعصية، فإن شئتم أن تترافعوا إلى غيري فافعلوا، ويقول لهم: اذهبوا إلى من هو أعلم مني، اذهبوا إلى فلان أو فلان -يرشح لهم أحداً أعلى- لكن إذا قالوا: لا نريد حكماً بيننا غيرك، ولا نرضى إلا بحكمك، فحينئذٍ يقول: لقد أشكل عليّ الأمر؛ فلا تحملوني ما لا أطيق، فلا أرى أن أحدكما ظلم الآخر، أو أرى أن كلاً منكما له حق، فإن أبيتم فأرى أن تصطلحوا، ويحق له أن يتصرف هذا التصرف، وكذلك أيضاً إن خاف فتنة أو شحناء للأرحام.
ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أصلح بين الأنصار واليهود في مسألة حويصة ومحيصة حينما قتل عبد الله رضي الله عنه في الرسالة وقد تقدمت معنا في القسامة، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل من بيت مال المسلمين درءاً للفتنة؛ لأن اليهود كان لهم حق وعهد وذمة، ذمةُ الله ورسوله، والأنصار قتل لهم قتيل، والمقتول بين اليهود، وقد وجدوه يتشحط في دمه، فعرض على اليهود القسامة فامتنعوا، وامتنع الأنصار أن يقبلوا أيمان اليهود، مع أن اليهود امتنعوا، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن يحلفوا على رجل منهم فلم يفعلوا، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت مال المسلمين صلحاً.
وقول الناظم: (ما لم يخف فتنة أو شحناء للأرحام) فإن الأرحام إذا وقعت بينهم الشحناء فهذه مصيبة عظيمة وبلاؤها أعظم.
وعليه: فلا لا يجوز أن يتدخل القاضي بالصلح في غير ما تقدم؛ لأنه لو كل من كانت له خصومة وجاء إلى القاضي فيقول له القاضي: أريد أن أصلح بينكم؛ فإن هذا يُذهب هيبة القضاء، ويذهب مكانة القضاة، فالناس ما جاءوا إلى القضاء من أجل الصلح، وإنما جاءوا للفصل في المنازعات وبيان من هو صاحب الحق فيُؤدى له حقه، ومن هو الظالم فيردع عن ظلمه، هذه هي مهمة وأمانة القاضي، فلا يتدخل في مسألة الصلح إلا في مسائل معينة محدودة على ما قرره الأئمة رحمهم الله، والله تعالى أعلم.(383/15)
التعزير بالسجن
السؤال
هل يكون التعزير بالسجن؟
الجواب
الصحيح من أقوال العلماء أنه يجوز أن يعزر بالسجن؛ ولذلك أمر الله عز وجل بسجن الزانية حتى يتوفاها الموت أو يجعل الله لها سبيلاً قبل نزول حد الزنا فقال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء:15]، وهذا نوع من الحبس، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حبس في تهمة، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجة، وكذلك أيضاً حبس الخلفاء الراشدون ونفوا، والنفي نوع من الحبس، وهو أن يُخرج إلى مدينة أو إلى مكان بعيد عن أهله عند خوف الفتنة أو الشر، ولذلك نفى عمر بن الخطاب نصر بن الحجاج إلى البصرة لما افتتن به نساء المدينة، فالنفي والحبس مشروع عند وجود الحاجة والمقتضي لذلك، والله تعالى أعلم.(383/16)
حكم خروج الريح من قُبل المرأة
السؤال
الريح الذي يخرج من قبل المرأة وهو كثير في أوقات متفرقة، فهل تتوضأ عند كل صلاة؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله مشهور، حول: هل القبل يأخذ حكم الدبر في خروج الريح؟ فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: إن خروج الريح من القبل حكمه حكم خروجه من الدبر، وهذا من ناحية إلحاق النظير بنظيره، وهو قول قوي، ولا شك أنه من ناحية الاحتياط أولى، ولكن إذا أصبح مع المرأة على وجه يتعذر عليها أو تحصل لها المشقة والعنت، فحينئذٍ تكون في حكم المستحاضة، كما لو خرج معها الدم واسترسل في الاستحاضة فإنها تتوضأ لدخول وقت كل صلاة، ولا تبالي بعد ذلك بخروج الريح منها، كما لو كان بها سلس الريح من الدبر، فالأحوط أنها تحتاط لدينها وعبادتها بذلك، والله تعالى أعلم.(383/17)
بيع الذهب بالذهب
السؤال
قمت ببيع ذهب لزوجتي لصاحب محل ذهب، ثم اشتريت منه بمبلغ هذا البيع ذهباً آخر، فما الحكم؟
الجواب
هذا المسألة فيها تفصيل: فيجوز لك ذلك إذا بعت الذهب الأول القديم، وقبضت الثمن، وفارقت المحل فاستدبرته وخرجت منه، ثم رجعت واشتريت، فهذه صفقة ثانية، أما كونك تخرج من المحل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، ومن هنا فينبغي أن تفصل البيعتان عن بعض، فإذا بعت الذهب القديم واشتريت ذهباً جديداً، وأنت في نفس المحل، وزدت أو نقصت في القيمة، فقد اشتريت ذهباً بذهب متفاضلين، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل)، فدل على أنه لا بد من المساواة، وقال في لفظ السنن: (فمن زاد أو استزاد فقد أربى)، فمن بدل ذهباً قديماً بذهب جديد وأخذ الفرق البائع أو أخذ الفرق المشتري؛ فإنه الربا الذي لعن الله آخذه وموكله وكاتبه وشاهديه، فلا يجوز أن تبيع قديماً بجديد إلا إذا كانا متماثلين في الوزن دون أية زيادة، وهذا في مبادلة الذهب بالذهب؛ لأنك في الحقيقة بادلت الذهب القديم بالجديد، فلا تأخذ الفضل والزيادة، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا -أي: لا تزيدوا- بعضها على بعضها، ولا تبيعوا غائباً منها بناجز)، فبين ربا النسيئة والفضل.
فلا يجوز لك أن تبادل الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، وعلى هذا فيبادل الذهب القديم بالذهب الجديد إذا كان وزنهما واحداً، عشرين غراماً بعشرين غرام، أو مائة غرام، بمائة غرام، فلو زاد أحد الذهبين غراماً فهو ربا، ولو قال له: أبادلك هذه المائة غرام القديمة بهذه المائة الجديدة، وتدفع لي فرق جودة الصنعة، مثل أن تدفع مائة أو مائتي ريال لجودة صنعة الجديد، أو لأنه موديل جديد كما يقولون؛ فإن هذا ربا أيضاً، سواء كانت الزيادة من الذهب نفسه مثل مائة غرام بمائة غرام، أو من شيء أجنبي عن الذهب، مثل أن يقول له: أستبدل الذهب القديم بالجديد وأدفع لك ألف ريال أو مائة ريال، أو ريالاً واحداً، أو نصف ريال، فأي زيادة من جنس المبيع من الأثمان أو من غيرهما فهذا الربا الذي حرم الله ورسوله.
أما إذا وقع البيع مباشرة وقال له: أبادلك، وحصل أنه اشترى منه البائع الذهب القديم ولم يتشرط عليه أن يشتري منه، وخرج من عند البائع، كما لو باع القديم بخمسة آلاف ريال، فخرج من الدكان حتى تتم الصفقة الأولى؛ لأن الصفقة الأولى ما تمت إلا بالمفارقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، فالصفقة الأولى لا تلزم إلا بالمفارقة، فلابد أن يخرج من الدكان، فإذا خرج من الدكان ورجع مرة ثانية، فهي صفقة ثانية، ويجوز له حينئذ أن يبرم صفقة ثانية بذهب أغلى أو أرخص، ولا بأس عليه في ذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.(383/18)
حكم الصيام في شهر شعبان
السؤال
هل من السنة الإكثار من الصيام في شهر شعبان؟
الجواب
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر من الصوم في شعبان، ولكن هذا الصوم المراد به التقوي على العبادة؛ لأن شهر رمضان قرب، فإذا صام من شعبان ألفت نفسه الصوم، ولذلك فإن من يصوم من شعبان الإثنين والخميس، والثلاثة الأيام البيض، ويصوم من قبل نهاية الشهر فيصوم مثلاً يومين أو ثلاثة أيام؛ فإنه يتقوى، وإذا دخل عليه رمضان فلا تجده يتعب، ولا يجد العناء في أول يوم من رمضان، بخلاف ما إذا دخل عليه رمضان ولم يصم شيئاً من شعبان، فإنك تجده في تعب وعناء، وهذا له سر لطيف ذكره العلماء والأئمة مستنبطاً من السنة، وهو: أن السنة هيأت العبد للعبادة، ولذلك شرعت السنن الراتبة قبل الفريضة لتهيئ للفريضة، وشرعت ركعتي المسجد إذا دخل المسجد حتى يتهيأ للفريضة، فتنقطع عنه الشواغل، وقد نوى أن يتهيأ الجسد فيقوى على العبادة أكثر، فأنت إذا تأملت من يصوم في شعبان وجاء عليه أول يوم من رمضان، تجده يقوم بأموره معتاداً ولا يكسله الصوم عن فرائض الله، ولا يكسله عن مصالحه، وتجده مؤمناً قوياً، ولا يوجد عنده ضعف.
ولكن إذا صام أول يوم من رمضان ولم يصم من قبل، فتجده إما منهكاً أو يعتريه صداع أو آلام من أثر هذه العبادة؛ لأنها فاجأته، ولذلك شرع الصوم في شعبان.
وانظر إلى حكمة الشريعة: فإنها فتحت باب التقوّي على العبادة ما لم يؤد ذلك إلى ضياع الحق، فمن كان الصوم في شعبان يضعفه في رمضان، فإنه لا يصوم بعد منتصف شعبان، ومن هنا جاء النهي في حديث العلاء رضي الله عنه، وهذا من الفقه عند الإنسان أن يعرف موارد النصوص ومقاصدها، فالصوم عبادة بدنية محضة، والصلاة عبادة بدنية محضة، وقد وجدنا الشرع في الصلاة يهيئ الإنسان للأكمل، حتى في النوافل، فليس هذا خاصاً بالفرائض، ففي النوافل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه استفتح قيام الليل بركعتين خفيفتين)، وكان يصلي عليه الصلاة والسلام بأطول الطوال، فيقرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة واحدة، وقد استفتح قيام الليل بركعتين خفيفتين حتى يسهل عليه طول القيام بعد ذلك، أما لو ابتدأ بالركعتين الطويلتين مباشرة، فإن نفسه تمل أو تضعف، ومن هنا قالوا: تهيأ العبادة بالأقل والأضعف، فصوم النافلة أضعف من الفريضة، وأما حديث العلاء فالمقصود به من كان يضعفه الصوم، فلو وجدنا شخصاً يصوم في شعبان، كرجل كبير السن لا يستطيع أن يصوم رمضان إلا بقوة وجهد، فإنه إذا صام شعبان ضعف عن رمضان، وربما اضطره ذلك إلى الفطر، فحينئذٍ نقول له: لا تصم بعد منتصف شعبان، وينهى عن الصوم بعد منتصف شعبان، وهذا هو معنى حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)، فهذا على من يجهده.
ومثل قولنا حديث: (ليس من البر الصيام في السفر)، مع ما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أحد الصحابة قائلاً: (يا رسول الله! إني أطيق الصوم في السفر، قال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر)، فهذا الفقه أننا نجمع النصوص وننظر في دلالتها وننظر في مقصود الشرع، فلا نحرم على الناس الصوم في شعبان، ولا نفتح الباب على مصراعيه حتى يضيع فرض الله عز وجل في رمضان، ولكن نقول: إن الأصل أن الإنسان يتقوى بالنافلة على الفريضة.
والدليل على أنه يجوز الصوم من بعد منتصف شعبان: أن حديث العلاء: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)، أقوى ما قيل أنه حسن، وحديث ابن عمر في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)، فهذا في الصحيح، فهو حديث ثابت لا غبار عليه، فمن أجاز الصوم بعد منتصف شعبان يقول: (لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين)، فمعنى ذلك: أننا لو تقدمنا رمضان بثلاثة أيام أو أربعة أيام فلا حرج؛ لأن الذي مُنع هو اليوم واليومان، فدخل منتصف شعبان الأخير تحت هذا الأصل الصحيح العام، فنقول بالصوم بعد منتصف شعبان لمن يتقوى بذلك على صوم الفريضة، ونمنع من صومه لمن يضعف عن صوم الفريضة، وبهذا أُعطي لكل ذي حقٍ حقه، وحقق مقصود الشرع، والنظر إلى معاني الأدلة والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.(383/19)
حكم الساحة المحيطة بالمسجد
السؤال
هل الساحة الموجودة أمام المسجد تأخذ حكم المسجد، وبالتالي فهل يجوز البيع فيها أم لا؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأمام المسجد أو رواءه، وكذلك الساحات التي تحيط بالمسجد إذا كان السؤال عن الساحات التي تحيط بالمسجد فهي على صورتين: الصورة الأولى: أن تكون مغلقة مسور، مثل ساحات المسجد النبوي فإن عليها سوراً، وهي خارجة عن البناء، فاختار طائفة من أهل العلم وهو أحد الوجهين عند الحنابلة رحمهم الله: أنها من المسجد، وتأخذ حكم المسجد؛ ولذلك فلا يجوز فيها البيع، ولا يبطل الاعتكاف بالخروج إليها -وينبغي للمعتكف أن يحتاط فلا يخرج- لكن لو خرج فإن هذا لا ينقض اعتكافه، أما إذا كانت الساحة التي تحيط بالمسجد لا سور عليها ولا تحفظ ولا تصان، فجمهور العلماء على أنها لا تأخذ حكم المسجد، وأنه يجوز فيها البيع، بشرط أن لا يشوش على المصلين، ويجوز فيها الجلوس، وتأخذ حكم الأرض، ما لم يحدث منها ضرر، مثل أن يقف فيها الباعة ويرفعون أصواتهم بالنداء على وجه يشوش على المصلين في صلاتهم، والله تعالى أعلم.(383/20)
حكم عقد الصفقات التجارية في المسجد وذكر حقوق المساجد
السؤال
مما ابتلي به البعض الكلام في الدنيا في المساجد، حتى إن بعضهم يعقد صفقات البيع والشراء في بيوت الله تعالى، فما هو توجيهكم لنا ولهم؟
الجواب
على المسلم أن يتقي الله عز وجل في بيوت الله، وأن يحفظ وصية الله في كتاب الله، فإن الله عز وجل وصى عباده المؤمنين أن يرفعوا بيوته فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]، فمن يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه أن يحفظ حرمة المسجد، ولذلك لما رأى عمر رضي الله عنه من جلس في المسجد وتحدث في أمور الدنيا قال رضي الله عنه: (يا هذا! إن هذا سوق الآخرة، فإذا أردت سوق الدنيا فاخرج إلى البقيع)، وقد كان بجوار البقيع مكان يتبايعون فيه، أي: اخرج إلى ذلك المحل إذا أردت أن تتكلم في الدنيا، أما هنا فإنها سوق الآخرة.
فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل في بيوت الله، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم البيع في المسجد، وأن للمسجد حرمة، ولا يجوز أن تنتهك هذه الحرمة بالبيع والشراء داخل المسجد، أو إضاعة الأوقات في أحاديث الدنيا، ويجوز أن يتحدث الإنسان بحديث الدنيا داخل المسجد في حدود، ولكن لا يتوسع؛ ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أنه كان يصلي الفجر فيجلس فيحيط به الصحابة، فيتحدثون بما كانوا يفعلونه في الجاهلية، فيضحكون ويتبسم)، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ولكن هذا بقدر وفي حدود، ما لم يصل إلى درجة تنتهك فيها حرمة المسجد، أو يكون الذين يجلسون في هذه الحلق يؤثرون على حلق هي آكد وأولى، مثل حلق العلم ونحو ذلك، فنوصي هؤلاء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يخافوا الله سبحانه وتعالى برعاية هذه الحرمة لبيوت الله عز وجل، وأن يحرصوا على استنفاد الوقت في ذكر الله عز وجل.
ويتصور الإنسان وهو داخل المسجد، خاصة إذا كان مسجداً مفضلاً كمسجد الكعبة أو مسجد المدينة، حينما يدخل يتصور أنه إما أن يخرج فائزاً بتجارته، أو يخرج -والعياذ بالله- خاسراً، يتصور أنه دخل منافساً لغيره راجياً رحمة ربه، وكأن لسان حاله يقول: اللهم لا تجعلني أشقى هؤلاء، وكلما دخلت مسجداً ينكسر قلبك لله عز وجل، وقل: يا رب! لا تجعلني محروماً، يا رب! لا تمنعني خير ما عندك بشر ما عندي، كأن لسان حالك يخاف أن تسقط مكانتك عند الله سبحانه وتعالى، فإن المحروم من حرم، وليس بين الله وبين عباده حسب ولا نسب ولا واسطة؛ بل إنه سبحانه وتعالى السميع المجيب الحسيب الرقيب الذي أعطى كل ذي حق حقه فضلاً منه سبحانه وكرماً، فإذا جئت تنظر كأنك في امتحان، فتحرص على أن تري الله منك خيراً، فتتمنى أن تكون أسبق الناس إلى الصف الأول، وأسبق الناس إلى عمارة هذا الجزء من الأرض المستحق للعبادة، أن تعمره بذكر الله عز وجل.
وقد كان المعتكفون من طلاب العلم والمبرزين هم الذين يجلسون في الصفوف الأول، أما الذي إذا جلس في الصفوف الأول مد رجليه، فيضحك مع هذا ويمزح مع هذا؛ صار قدوة سيئة، وشَانَ المكان الذي يجلس فيه، ولكن إذا جلس خاشعاً متخشعاً متذللاً لربه، متضرعاً؛ كسر القلوب، إذ من الناس من يدعو بسمته ودله قبل أن يتكلم، وهو رحمة لمن نظر إليه يتذكر إذا رآه الآخرة، ويتذكر حرمات الدين، ويتذكر حرمة المكان الذي يصلي فيه.
ولقد كنا في صغر السن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نرى بعض المعتكفين، ووالله! إلى الآن لا زلت أرى بعض العباد الصالحين الأخيار الذين كانوا يعتكفون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، كنت أراهم في محافظتهم وأدبهم وخشوعهم وسمتهم ودلهم ولا تزال صورهم منقوشة في قلبي إلى الآن، وكلما أردت أن أعتكف التمست تلك النماذج العجيبة الكريمة، فالرجل منهم يخرج حريصاً على الصمت، حريصاً على ذكر الله عز وجل، لسانه يلهج بذكر الله، وأقسم بالله أن الرجل يخرج كأنك ترى الشمس في وجهه من نور العبادة، هذه هي النماذج الكريمة.
والرجل إذا جلس في المسجد وراعى حرمة المسجد يكون قدوة لأولاده، ويكون قدوة لأبناء المسلمين، فإذا رأى أبناء المسلمين كبارهم يحرصون على الأدب في بيوت الله؛ حفظوا حرمة المساجد، وحفظوا هيبتها، وحفظوا مكانتها، والعكس بالعكس.
وكذلك أيضاً ينبغي للإنسان أن يستشعر -إذا دخل المسجد- أنه أسعد الناس عند الله عز وجل حظاً وقدراً إذا خشع قلبه، وأناب إلى الله بالذكر والشكر، ولربما دخل إلى المسجد سابقاً لغيره، ففتح الله عليه باب رحمة لا يعذب بعدها أبداً، فربما تسبق إلى فريضة من فرائض الله في بيت من بيوت الله عز وجل فيغفر الله لك ذنوباً لم يخيل إليك أنها تغفر، وما يدريك ففضل الله عظيم؛ فرب عبدٍ تقطر دمعة من عينه فتغفر بها ذنوب عمره، وامرأة بغي -زانية- تسقي كلباً شربة ماء فتغفر ذنوب العمر، فالرب كريم، فهذه سوق الآخرة، سوق الذكر والشكر.
وأيضاً: مما يعين على ذلك استشعار حرمة المسجد، فإذا كان يستشعر حرمة المسجد في الدخول والخروج، ويقول: ماذا أخذت من هذا المسجد؟ فإذا جاء يخرج ووجد أن وقته كله ضاع في القيل والقال والترهات والكلمات الضائعات التي لا يجني منها خيراً، فضلاً عن الغيبة والنميمة -والعياذ بالله- إذا كان قد وقع فيها؛ فإنه يبكي على نفسه ويندب حظه عند ربه، فعلى الإنسان أن يستشعر هذه الأمور المهمة والأصول التي لا يمكن أن يصلح حاله إلا بمراعاتها، فإن المساجد أمرها عظيم، وحرمتها عظيمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من سمعتموه ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا)، تعظيماً لحرمة المسجد، وعلينا دائماً أن نحرص على الأسباب التي تعين على كسب الوقت في المسجد: وأولها: أن الإنسان إذا دخل لهج لسانه بذكر الله عز وجل، ولذلك شرع له أن يسمي الله، وأن يصلي على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأن يدعو ربه عند دخول المسجد أن يفتح له أبواب رحمته، فما معنى هذا؟ معناه: أنه يتخوض في رحمات الله عز وجل، ولذلك قلّ أن تدخل مسجداً وأنت بحضور قلب وخشوع إلا خرجت برحمة أو رحمات -وجرب هذا- ففي المساجد حِلق الذكْر، ولذلك كم من مجلس ذكر قمت منه وقد غيرت حالك، وأصلحت ما بينك وبين الله فأصلح الله مآلك، وكم من مجلس ذكر جلسته في المسجد، وكم من خطبة حضرتها يوم الجمعة فغيرت حياتك، وكم من كلمات طيبات من إمام ناصح بعد فريضة من فرائض الله دخلت إلى القلوب فأصلحت ما بينها وبين الله وما بينها وبين عباد الله، فهنا تنزل الرحمات، وهنا تغفر الذنوب والسيئات، وهنا ترفع الدرجات، وهنا كان يسر الصالحون، هنا كان الشخص المؤمن تضيق به الدنيا فإذا دخل أبواب المسجد تولت عنه الهموم والغموم كلها، كان المسلمون يوم كانوا إذا دخلوا بيوت الله نسوا الدنيا وما فيها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، وصف الله أهلها: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37]، كان الرجل إذا دخل المسجد نسي همومه، حتى لربما كان مكروباً في أهله وماله وولده فينسى كربه كله إذا وطئت قدمه بيت الله عز وجل، من البركات والخيرات التي جعلها الله في هذه المنازل منازل الرحمات.
تقول وأنت تدخل باب المسجد: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وأنت داخل باب المسجد، ومعنى ذلك: أن هذا المسجد محل الرحمة، وليست رحمة واحدة، وذلك أنك عندما تقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فأبواب الرحمة كثيرة: باب العلم، باب العمل.
ولربما تدخل المسجد فترى رجلاً يخشع في قراءته للقرآن فتتعلم الخشوع في صلاتك، ولربما ترى رجلاً ساجداً يطيل السجود فتغار على نفسك وتندب حظك وتتمنى أنك مثله، فتخرج برحمة، وهي طاعة من الطاعات، أو خير أو بر أو عمل صالح، فهذه كلها من الفضائل التي جعلها الله في بيوته، ولكن على المسلم أن يبحث عن الأسباب التي تهيؤه لهذه الفضائل، والنظر للقدوة الكاملة.
والنقطة الأخيرة: أن مما ضر الناس اليوم وحرمهم من كثير من خيرات المساجد: الغرور، فإن الإنسان ربما دخل المسجد وكأنه يظن أنه أفضل من في المسجد، وما من رجل يدخل مسجداً أو منزلاً ويرى نفسه أعلى القوم إلا وقد وضعه الله أدناهم، والعكس: وما من إنسان يدخل إلى مكان ويرى أنه أحقر القوم وأنقص القوم إلا رفع الله قدره، وكمّل نقصه وجبر كسره، قال بعض السلف: والله ما جلست مجلساً أرى نفسي أعلى القوم إلا خرجت وأنا أدناهم، ولا جلست مجلساً أرى نفسي أدنى القوم إلا خرجت وأنا أعلاهم.
فإذا دخلت المسجد فادخل وأنت تستشعر أنك أفقر الناس إلى رحمة الله، وأولى الناس بالانكسار، وأحق من ينكسر بين يدي الله، ولو كنت طالب علم، ولو كنت عالماً، ولو كنت من أصلح الناس، وقد كان العلماء والفضلاء على علو قدرهم ومكانتهم يتواضعون في بيوت الله عز وجل.
كان الوالد رحمه الله يقال له: نجعل لك كرسياً في المسجد؟ فيقول: هل أنا وحدي في المسجد؟! -رحمه الله برحمته الواسعة- ومن أنا حتى أعطى كرسياً أُفضَّلُ به على الناس في بيت الله عز وجل؟! وهذا من شدة ورعه رحمه الله، ومن شدة خوفه من أن يتعالى على الناس في المسجد، وقد كان العلماء والفضلاء والصالحون على هذا من السمت والدل في المحافظة على حرمات المسجد.
والوصية الأخيرة: نوصي كل من يحضر بيوت الله عز وجل أن ينزهها عما لا يليق، وأن يحرص على الكمالات؛ فإذا صلى بجوار أحد فيعلمه أو يتعلم منه، أو يذكره بالله عز وجل، ولو تسلم على أخيك وتقول له: يا أخي! أوصيك ونفسي بتقوى الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، أو تراه قد أخل بسنة أو طاعة فتذكره بها، وعندها تخرج برحمات وباقيات صالحات، وأجور ومكرمات.
جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل، وأحسن لنا ولكم العاقبة في الحياة والممات، إنه و(383/21)
شرح زاد المستقنع - باب التعزير [2]
التعزير عقوبة رادعة شرعت تأديباً، ولها أحكام عدة، وقد جاء بيان حدها في السنة النبوية، بيد أن العلماء استنبطوا: أن لا حد لأقلها، واختلفوا في أكثرها، فمنهم من أخذ بظاهر الحديث، ومنهم من قال: يعزر حتى بالقتل، وأنه راجع إلى القاضي؛ واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم عزر بالقتل وبما دونه.
ومن الذنوب التي تستحق التعزير تلك العادة السيئة المسماة (الاستمناء) وهي مما ينبغي التحذير منه لعموم البلوى بها.(384/1)
التعزير بالجلد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات]: ذكر رحمه الله هذه الجملة، والتي هي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متضمن النهي عن الزيادة على عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله عز وجل، وهو حديث أبي بردة رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله في التعزير، بعد أن اتفقوا على أنه لا حد لأقله، فاتفق العلماء رحمهم الله على أنه ليس في التعزير حد أقلي لا يجوز للإمام أن ينقص عنه إذا عزر، خلافاً لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله الذين قالوا: أقل الجلد ثلاثة أسواط، فلا يعزر بأقل من ثلاثة أسواط، والصحيح: أنه لم يثبت دليل في الكتاب والسنة يدل على أن التعزير له حد لا يجوز النقصان منه.
ومن هنا فالأمر راجع إلى القاضي أو الحاكم أو السلطان، فإذا رأى أن يعزر بالقليل عزر، وإذا رأى أن يعزر بالكثير عزر؛ لأن المقصود زجر الناس، وحملهم على تعظيم حدود الله عز وجل وحرماته، وكذلك كف بعضهم عن بعض، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة.
وظاهر الحديث يدل على أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط، وقد اختلف في هذا الحديث من ناحية السند، ففيه أخذ وعطاء بين العلماء رحمهم الله، وقد استقر العمل على ثبوته عند الأئمة، وأجابوا عن بعض ما ورد عليه، ونظراً لوجود بعض الكلام في السند كان معارضاً بالأصل.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تأويل هذا الحديث: فمنهم من يقول: لا يجوز أن يعزر أحد بضربه فوق عشرة أسواط، فيضرب العشرة ويضرب التسعة وما دون ذلك، أما ما زاد على العشرة فلا يجوز، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقال به إسحاق بن راهويه من أهل الحديث، وأشار المصنف رحمه الله إلى هذا القول.
وذهب الجمهور إلى أن المراد بالحديث ألا يبلغ الحد في عقوبة وتعزير من وقع فيما دون الحد، فكل حدٍ من حدود الله نظر في تعزير الجرائم التي هي من جنسه إلى قدره، فمثلاً: لو أنه تعاطى أمراً دون الحد، كأن يستمتع بامرأة بما لا يحصل به الزنا، قالوا: إنه يعزر ولا يبلغ في التعزير حد الزنا، وهو مائة جلدة إذا كان غير محصن، واستدلوا بآثار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها الأثر عن النعمان بن بشير رضي الله عنه وعن أبيه: أنه جلد الرجل الذي أذنت له زوجته أن يطأ جاريتها مائة جلدة.
وقد كان الأصل يقتضي أنه لو كان زانياً أن يرجم.
وقالوا أيضاً: إنه إذا تعاطى أمراً من الشراب وفيه إخلال، ولا يبلغ حد المسكر؛ فإنه يعزر إذا كان من العبيد بتسع عشرة جلدة فما دون، وإذا كان من الأحرار وقلنا: إن الحد هو أربعون، فإنه يعزر بتسعٍ وثلاثين فما دون، فينظرون في كل جريمة إلى جنسها، فإن كانت من الزنا لم يوصل في ضربه إلى مائة جلدة إذا كان من الأحرار، ولا يوصل إلى خمسين إذا كان من العبيد، وهذا القول للجمهور رحمهم الله، وهناك تفصيل داخل المذاهب؛ لكن الأصل على هذا.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله) فقد أجابوا عن هذا الحديث، واختلفت أجوبتهم: فمنهم من يقول: إن هذا الحديث منسوخ، وأشكل على هذا أن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
ومنهم من قال: إن هذا الحديث المراد به التأديب في غير الحدود، ومرادهم بذلك تأديب الرجل لزوجته، وتأديب الرجل لولده، فلا يضرب فوق عشرة أسواط، وقالوا: قوله: (إلا في حدٍ من حدود الله) المراد به: المعاصي التي تكون عند السلطان وعند القضاة، فخرجوا الحديث على هذا، وهو من أقوى الأوجه عندهم، فأخرجوا الحديث عن كونه متعلقاً بالقضاة وبالإمام إذا عزر، وأن المراد به التأديب الذي هو دون التعزير، ويكون قوله: (إلا في حدٍ من حدود الله) كل معصية فهي حدٌ من حدود الله، ولذلك نهى الله عز وجل عن معصيته وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] وبيّن أن الطلاق في الطهر حد من حدود الله عز وجل، وأن الطلاق في الحيض اعتداء على حد من حدود الله عز وجل، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن المعاصي التي تكون عند السلطان من حدود الله عز وجل، سواء كانت متعلقة بالمصلحة العامة، أو كانت متعلقة بمصالح خاصة، كمن يسب الناس، أو يشتم الناس، أو يؤذيهم في مصالحهم ومرافقهم العامة، فيعطلها؛ فإنه قد وقع في حد من حدود الله، وحينئذ فيشرع للسلطان أن يعزره بما يراه رادعاً له ولغيره أن يفعل كفعله.
وهذا من أقوى الوجوه والأجوبة؛ أن المراد بالحد مطلق المعصية، وأن المراد به التأديب فيما دون العقوبات التي عند القضاة؛ لأنها -أي: المعاصي- عند القضاة من حدود الله عز وجل.(384/2)
التعزير بغير الجلد
وأياً ما كان فإن ظاهر الحديث يدل على المنع من الزيادة على عشرة أسواط، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، ولا شك أن الأحوط أن يقتصر عليه، وعلى هذا فإنه يرد السؤال عن التعزير بالعقوبات الغليظة، فقالوا في الجلد: لا يزاد على هذا الحد -على الخلاف الذي ذكرناه- لكن هل يشرع التعزير بالعقوبات المالية؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات البدنية غير الجلد مثل الصفع؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات المغلظة كالقتل؟ ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى جواز التعزير بغير الجلد، وأن التعزير أمرٌ مرده إلى القاضي، وهو يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والجرائم، فإذا نظر القاضي إلى أن هذه الجرائم لا يردع فيها إلا بعقوبة غليظة؛ غلظ العقوبة، حتى ذهب الإمام مالك رحمه الله وأصحابه إلى جواز التعزير بالقتل، وأن من وقع في حدود الله عز وجل وتكرر منه ذلك، ورأى الإمام والقاضي والسلطان أن المصلحة في قتله حتى ينقطع شره وفساده، ويكون ذلك أبلغ في ردع غيره؛ فإن له ذلك، وقد اختار هذا القول بعض المحققين والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة.
وقالوا: إن الأمر مرده إلى القضاة وإلى الولاة أن ينظروا الأصلح للناس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحل القتل تعزيراً في الخروج عن الجماعة؛ فقال كما في الصحيح: (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق كلمتكم وجماعتكم فاقتلوه كائناً من كان)، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالقتل، وهو أصل عند من يقول بجوازها، واحتج به شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة، وقالوا: إنه إذا وجد الشر والبلاء العام ولا ينقطع إلا باستئصال شأفة من فعل ذلك، فإنه يلجأ إلى مثل هذه العقوبات علاجاً للفساد وقطعاً لدابر أهله، وقد أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم عزروا، وبالغوا في التعزير أيضاً عند حصول الموجب.
ومن هنا قالوا: من تكررت منه جريمة الشرب فيعزر بالقتل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، قالوا: فهي من هذا الباب، فتكون عقوبة تعزيرية عند تكرر الجرائم، فإن من تكررت منه الجريمة وليس للجريمة عقوبة أو لها عقوبة وتكررت منه الجريمة على وجه فيه الاستخفاف والاحتقار للعقوبة، والتهتك في محارم الله عز وجل بعد أن عوقب فيرجع إليها المرة تلو المرة، ويتكرر منه ذلك؛ قالوا: إنه يشرع للإمام أن يقتله، وهذا المذهب هو من أقوى المذاهب في مسائل التعزير، ونظراً إلى المقصود العام، وهو أن المراد بالتعزير كف الناس وزجرهم عن حدود الله، وكف الناس وزجرهم عن بغي بعضهم على بعض، وأذية بعضهم لبعض.
ولذلك في بعض أنواع القتل مثل القتل غيلة، وهي أن يستدرج الرجل البريء المعصوم الدم، أو تفعل الجرائم المستبشعة، مثل أن يستدرج المرأة بطريقة خبيثة ويخدعها، أو يكون له ولاية، أو يكون له مكان يؤتمن فيه على مصالح المسلمين، فيستدرج لذلك على سبيل الأذية والإضرار بالمصالح العامة، قالوا: فيشرع فيه التعزير، فإذا استدرج المقتول من المدينة وأخرجه عنها ثم قتله؛ شرع للسلطان أن يقتله لهذا، ويكون الحق للعام لا للخاص، ذلك: كونه يستدرج في الجريمة بحيث يأمن المقتول، أو يؤخذ على طريقة فيها استهتار بدماء المسلمين، أو فيها بشاعة وشناعة، ورأى السلطان أن مثل هذا لا بد أن يعاقب بعقوبة تردع غيره عن فعله؛ فإنه يشرع له أن يقتله.
وما هي فائدة قولنا: إنه يقتله تعزيراً؟ إذا قلنا: للسلطان أن يقتله تعزيراً؛ فإنه لو عفا أولياء الدم فلن يسقط القتل؛ لأنه لحقٍ عام، وهذا هو الذي جعل العلماء يشددون في بعض الحقوق، حتى قال الإصطخري من أصحاب الشافعية رحمهم الله: إن من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وتكرر منه احتقارهم وأذيتهم أمام أهل السنة، انتقاصاً وازدراءً بهم؛ شرع قتله، وأنه لو عفا السلطان فلا يقبل عفوه، وكل هذا تعظيماً لحرمات الدين؛ لأنه إذا طعن في الصحابة فمعناه أنهم طعنوا في الدين، وقالوا: لأننا لا نعلم عفو الصحابي عن ذلك؛ لأنه ميت.
وكل هذه الأحكام التعزيرية المغلظة قصد بها ردع الناس وزجرهم، وتحقيق ما شرع القضاة من أجله، وهو تعظيم حرمات الله عز وجل وكف الناس عنها.(384/3)
التعزير بغير الجلد
وأياً ما كان فإن ظاهر الحديث يدل على المنع من الزيادة على عشرة أسواط، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، ولا شك أن الأحوط أن يقتصر عليه، وعلى هذا فإنه يرد السؤال عن التعزير بالعقوبات الغليظة، فقالوا في الجلد: لا يزاد على هذا الحد -على الخلاف الذي ذكرناه- لكن هل يشرع التعزير بالعقوبات المالية؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات البدنية غير الجلد مثل الصفع؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات المغلظة كالقتل؟ ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى جواز التعزير بغير الجلد، وأن التعزير أمرٌ مرده إلى القاضي، وهو يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والجرائم، فإذا نظر القاضي إلى أن هذه الجرائم لا يردع فيها إلا بعقوبة غليظة؛ غلظ العقوبة، حتى ذهب الإمام مالك رحمه الله وأصحابه إلى جواز التعزير بالقتل، وأن من وقع في حدود الله عز وجل وتكرر منه ذلك، ورأى الإمام والقاضي والسلطان أن المصلحة في قتله حتى ينقطع شره وفساده، ويكون ذلك أبلغ في ردع غيره؛ فإن له ذلك، وقد اختار هذا القول بعض المحققين والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة.
وقالوا: إن الأمر مرده إلى القضاة وإلى الولاة أن ينظروا الأصلح للناس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحل القتل تعزيراً في الخروج عن الجماعة؛ فقال كما في الصحيح: (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق كلمتكم وجماعتكم فاقتلوه كائناً من كان)، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالقتل، وهو أصل عند من يقول بجوازها، واحتج به شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة، وقالوا: إنه إذا وجد الشر والبلاء العام ولا ينقطع إلا باستئصال شأفة من فعل ذلك، فإنه يلجأ إلى مثل هذه العقوبات علاجاً للفساد وقطعاً لدابر أهله، وقد أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم عزروا، وبالغوا في التعزير أيضاً عند حصول الموجب.
ومن هنا قالوا: من تكررت منه جريمة الشرب فيعزر بالقتل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، قالوا: فهي من هذا الباب، فتكون عقوبة تعزيرية عند تكرر الجرائم، فإن من تكررت منه الجريمة وليس للجريمة عقوبة أو لها عقوبة وتكررت منه الجريمة على وجه فيه الاستخفاف والاحتقار للعقوبة، والتهتك في محارم الله عز وجل بعد أن عوقب فيرجع إليها المرة تلو المرة، ويتكرر منه ذلك؛ قالوا: إنه يشرع للإمام أن يقتله، وهذا المذهب هو من أقوى المذاهب في مسائل التعزير، ونظراً إلى المقصود العام، وهو أن المراد بالتعزير كف الناس وزجرهم عن حدود الله، وكف الناس وزجرهم عن بغي بعضهم على بعض، وأذية بعضهم لبعض.
ولذلك في بعض أنواع القتل مثل القتل غيلة، وهي أن يستدرج الرجل البريء المعصوم الدم، أو تفعل الجرائم المستبشعة، مثل أن يستدرج المرأة بطريقة خبيثة ويخدعها، أو يكون له ولاية، أو يكون له مكان يؤتمن فيه على مصالح المسلمين، فيستدرج لذلك على سبيل الأذية والإضرار بالمصالح العامة، قالوا: فيشرع فيه التعزير، فإذا استدرج المقتول من المدينة وأخرجه عنها ثم قتله؛ شرع للسلطان أن يقتله لهذا، ويكون الحق للعام لا للخاص، ذلك: كونه يستدرج في الجريمة بحيث يأمن المقتول، أو يؤخذ على طريقة فيها استهتار بدماء المسلمين، أو فيها بشاعة وشناعة، ورأى السلطان أن مثل هذا لا بد أن يعاقب بعقوبة تردع غيره عن فعله؛ فإنه يشرع له أن يقتله.
وما هي فائدة قولنا: إنه يقتله تعزيراً؟ إذا قلنا: للسلطان أن يقتله تعزيراً؛ فإنه لو عفا أولياء الدم فلن يسقط القتل؛ لأنه لحقٍ عام، وهذا هو الذي جعل العلماء يشددون في بعض الحقوق، حتى قال الإصطخري من أصحاب الشافعية رحمهم الله: إن من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وتكرر منه احتقارهم وأذيتهم أمام أهل السنة، انتقاصاً وازدراءً بهم؛ شرع قتله، وأنه لو عفا السلطان فلا يقبل عفوه، وكل هذا تعظيماً لحرمات الدين؛ لأنه إذا طعن في الصحابة فمعناه أنهم طعنوا في الدين، وقالوا: لأننا لا نعلم عفو الصحابي عن ذلك؛ لأنه ميت.
وكل هذه الأحكام التعزيرية المغلظة قصد بها ردع الناس وزجرهم، وتحقيق ما شرع القضاة من أجله، وهو تعظيم حرمات الله عز وجل وكف الناس عنها.(384/4)
الاستمناء معصية توجب التعزير
قال رحمه الله: [ومن استمنى بيده من غير حاجة عزر]: الاستمناء: استدعاء المني بالدلك باليد، أو بالغشي على الأرض، ونحو ذلك من الوسائل التي يستخرج بها المني، وهي -أي: الاستمناء- عادة مذمومة، وقد نص الأئمة رحمهم الله على تحريمها في الأصل، واستدل الإمام مالك رحمه الله وبعض أئمة السلف على تحريمها بقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فوصفهم بأنهم عادون، ولا شك أن الاستمناء وراء ذلك، فليس استدعاءً للمني بالشهوة بطريقها المعتاد عن طريق الزوجة أو ملك اليمين، ومن هنا تدخل في الاعتداء، فكانت حراماً.(384/5)
أضرار الاستمناء الصحية
وقد ذكر الأطباء أن لها ضرراً على نفس الإنسان، وعلى مسالكه البولية -أكرمكم الله- وعلى نسله، وعلى جسده وعصبه، وأن المداومة عليها تضر بصحته، فلو لم تحرم من الشرع لحرمت بقول أهل الخبرة بوجود الضرر فيها، ولذلك قالوا: إنها محرمة.(384/6)
خلاف العلماء في جواز الاستمناء عند الحاجة
وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل تجوز عند الحاجة أو لا تجوز؟ وجهان للعلماء: فالجمهور على أنها لا تجوز حتى عند الحاجة، وقالوا: إنه لو خاف الزنا واستمنى فهو آثم، لكنه مرتكبٌ لأخف الضررين، وهو لا يخلو من الإثم، واستدلوا بعموم الآية الكريمة، ومن الأدلة القوية على مذهبهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، ولم يذكر الاستمناء، وقد كان بالإمكان أن يذكره، خاصة وأنه يطفئ الشهوة ويسكن الغريزة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره، ومن هنا قال العلماء: إن الأصل تحريمه، ولا وجه لاستثنائه عند الحاجة.
واستثنى المصنف رحمه الله وجود الحاجة، ووجود الحاجة: أن يخاف على نفسه الزنا، أو يخاف الضرر فنصحه الأطباء أن يستمني، كما لو انتفخ شيء من أعضائه التناسلية جراء احتباس المني، وخشي الضرر على مسالك المني والأنثيين، فإن بعض الأطباء قد يضطر إلى نصيحة المريض أن يستمني، وقد حكوا عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم فعلوا ذلك، فيحتمل أن يكون اجتهاداً منهم، ولكن الأمر يحتاج إلى إثبات صحة ذلك عنهم رضي الله عنه وأرضاهم.
وأياً ما كان فإن الأصل يقتضي تحريم الاستمناء، وأنه لا يجوز، ولكن لو خاف على نفسه الزنا ثم استمنى، فهو مرتكب لأخف الضررين، ويبقى الحكم على الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص، ومن صبر صبره الله.(384/7)
الاستمناء بواسطة الاستمتاع بالزوجة
وهذه العادة تحرم إذا فعلها الإنسان نفسه؛ إذ هو مستمتع بنفسه، والآية تحرم أن يستمتع الإنسان بغير زوجه وملك يمينه، أما لو استمنى بزوجته، أو بالدلك من زوجته فإنه جائزٌ ومشروع؛ لأن الله أحل الاستمتاع بالمرأة، وجعلها للرجل لباساً يمنعه من الحرام، ولذلك يشرع أن يستمتع بها، وإذا استمنى بها فإنه يجوز، كما نص على ذلك بعض أهل العلم رحمهم الله.(384/8)
طرق الوقاية من هذه العادة السيئة
والاستمناء لا شك أنه مما يدعو الشيطان إليه، وقد نصح بعض العلماء رحمهم الله في اتقاء هذه العادة بأمور مهمة، منها: أولاً -وهو أعظمها وأجلها-: الدعاء: فيدعو الإنسان ربه أن يحصن فرجه، وأن يكفيه بحلاله عن حرامه.
ثانياً: الغفلة عن الشهوة: هذا من أقوى أسباب انطفاء الشهوة والبعد عن المحرمات، فإن الإنسان إذا ألهى نفسه بما أحل الله انكفت عما حرم الله، ولذلك وصف الله عز وجل أهل العفة بالغفلة، فالتفكر في أمور الزواج وأمور النساء، وأمور المردان، وأمور الفساد، وسماع مثل هذه الأشياء، أو تتبع هذه الأشياء، أو الاسترسال في هذه الأشياء، يفتح على الإنسان باب شرٍ هو في عافية منه، ومن استغفل نفسه فحاول أن يلهيها بما أحل الله عز وجل، وأوجد في نفسه شعوراً بالقوة أن الله سيعينه؛ سرعان ما يضعف سلطان الشيطان عنه، ولذلك يحاول قدر استطاعته أن لا يفكر في الأمور التي تثير الشهوة إن كان عزباً.
ثالثاً: الاشتغال بطاعة الله: فإذا كان عزباً اشتغل بطاعة الله، فإنها تقوي النفوس على ترك الحدود والمحارم، وتضعف سلطان الشيطان على الإنسان، فمثلاً: لو اشتغل بطلب العلم وبمسائل العلم والتهى بذلك، فكلما حدثته نفسه عن فتنة ألهى نفسه بذلك الخير، وأحس أنه في جنة من رحمة الله عز وجل، وأنه يتخوض في رحمات الله، واستحيا من الله واستعف؛ أعفه الله سبحانه وتعالى، ومن استغنى بالله أغناه الله، ولذلك لن تجد أحداً يقع في المحرمات إلا إذا شغل نفسه بها، أو فتح على نفسه باباً من أبوابها.
رابعاً: أن يجتنب الإثارة: ومن الأبواب التي تفتح أبواب الشهوة على الإنسان جلوسه مع المردان، وصحبته لأهل التهتك والفجور والعياذ بالله، أو نظره في الصور المحرمة والخليعة، أو مشيه في الأماكن التي يرتادها من لا عفة له، كل هذا يحرك كوامن النفس، ويفتح على الإنسان باب الفتنة، فقد يكون في عافية ولا شك أنه في عافية منه.
فمن هنا إذا أخذ بهذا السبب القوي، وهو الالتهاء والاشتغال بطاعة الله وبما ينفع عن معصية الله؛ كان أبعد وأبعد عن الوقوع فيها.
خامساً: البعد عن الخلوة: قال بعض الحكماء: إن هذه العادة لا تكون إلا عند الخلوة، فمن ابتلي بها فإنه يحرص على أن لا يأتي لخلوته إلا وهو منهك متعب، حتى إذا جاء وألهى نفسه وأضعفها عن فعل هذه العادة المذمومة والوقوع فيها هان عليه أمرها، فيكون أبعد عنها.(384/9)
نصيحة وتوجيه لمن ابتلي بالاستمناء
وينبغي لمن ابتلي بها أنه إذا وقع في الاستمناء فعليه أن يشعر بالندم والألم، وأن يندم على ما بدر منه، وأن يعقد العزم على عدم العود، بمعنى: أن يحرك في نفسه أسباب التوبة؛ لأنه إذا تاب تاب الله عليه، ولو عاد لها ألف مرة، ما دام أنه يندم ندماً صادقاً بعد فعلها، ويستشعر من نفسه أنه ما كان له أن يفعلها؛ هيأ الله نفسه للخير، وطهره من أثر الذنب، ولربما عاد عليه الذنب بحسنات بدل السيئات؛ لأن الله يبدل سيئات من تاب حسنات، فيغيض الشيطان بهذا، ويقتل عدو الله بهذا، فيصبح فعله للمعصية جبراً له، وله أن يسترجع بعد الوقوع فيها فيقول المأثور، فيسأل الله أن يأجره في مصيبته وأن يخلف عليه؛ لأنه ليست هناك مصيبة أعظم من مصيبة الدين.
فمن هنا يأخذ بالأسباب التي تبعده عن مشاهدة الأمور التي تثير الغريزة، ولذلك على المسلم أن يجرب غض البصر إذا مرت به فتنة، وإذا غض بصره غضه بقوة ويقين بالله عز وجل؛ لأن هناك من الناس من يغض بصره وقد بقيت أثر الشهوة في عينه وقلبه -نسأل الله السلامة والعافية- فهو يغض شكلاً لكنه يغض قالباً لا قلباً وجوهراً، والمنبغي أنه إذا رأى الفتن وكان هجوم الفتن عليه فإنه يستغفر، أما من تقصد رؤية الفتن، وذهب إلى أماكنها، وارتادها وطلبها، فلا يلومن إلا نفسه، ولذلك من عوفي فليحمد الله، ومن وقع في مثل هذه الفتن التي تدمر الأخلاق، خاصة بمشاهدة الصور الخليعة، والأفلام الماجنة الساقطة، وغير ذلك من الصور التي تدمر الفضائل، وتحيي في النفوس الرذائل؛ فعليه أن يستغفر الله عز وجل استغفار الصادقين.
وعليه أيضاً أن لا ييأس، فإن الشيطان قعد للإنسان بكل مرصد، فبعض الناس ينهزم أمام هذه الشهوة، وأمام كل شهوة، فمن ابتلي بشهوة من الشهوات فإن الشيطان يحرص على أن يقتل في نفسه البعد عنها، ولذلك يوجد في نفسه شعوراً أنه قد استحكمت فيه العادة السرية أو الاستمناء، وأنه لا يستطيع تركها، وهذا الشعور النفسي من أخطر ما يكون على الإنسان؛ لأنه يضعف فيه العزيمة عن الرشد، ويضعفه عن التوبة الصادقة، ويحطم فيه معاني الخير.
ومن خبث الشيطان أنه يوقع الإنسان في الجريمة المرة والمرتين والثلاث والأربع، فإذا تحكم عدو الله منه ربما غلبه بهذا الشعور بطريقة ملتوية عجيبة، كما يلاحظ من أسئلة الناس وفتاويهم.
فمنهم من يأتيه الشيطان ويتركه فيتوب ويندم، فيعيش الأسبوع والأسبوعين لا يفعل هذه المعصية، فيجد حلاوة الإيمان، فإذا وجد حلاوة الإيمان أوجد عنده شعوراً أنه لن يعود إلى العادة السرية أو غيرها من الذنوب، فإذا ظن أنه لن يعود جاءه عدو الله وقال له: احلف العهود والمواثيق، فيحلف المسكين العهود والمواثيق على نفسه؛ لأن الخبيث يعلم أنه قد استحكم منه بالتكرار، وأن النفس متعلقة بهذه الشهوة، فيأخذ منه العهود والمواثيق، ثم يرجع به مرة ثانية إلى محارم الله، فإذا رجع به مرة ثانية إلى محارم الله استولى عدو الله على قلبه فقال له: أنت ناقضٌ للعهد، ناكثٌ للعهد، أنت كذا وكذا، حتى يدمر نفسيته، ويقطع ما بينه وبين الله.
فمن الناس من أيقظ الله قلبه وأحيا روحه، فقام إلى عدو الله فكبته بذكر الله وقال له: اخسأ عدو الله، فوالله لو أني عدت إليها ملايين المرات فلا أزال أؤمل أن ربي غفورٌ رحيم، فإذا وقع رجع إلى ربه وأغاظ الشيطان، وقال: والله لو عدت المرات والكرات، ما دام أني أندم ندماً صادقاً بعد فعلها؛ فإني أرجو رحمة ربي، ولن يستطيع أحدٌ كائناً من كان أن يدخل بين العبد وربه، فإن الله ألطف بعباده وأرحم بخلقه، فإذا وجد الإنسان أنه قد استحكمت العادة بطول الاستمراء وبطول العهد سواء في العادة السرية، أو في المحرمات من النظر إلى النساء أو المردان أو غير ذلك من الشهوات والمحرمات -إذا وجد أنها قد استحكمت من قلبه، فليعلم أن المعاصي بالتكرار يكون سلطانها أقوى، كما أن الطاعات بالتكرار تكون هينة أمام الإنسان سهلة عليه، فمن اعتاد قيام الليل وكرره المرة بعد المرة، أصبح عنده ألذ من النوم والكرى ساعة التعب، وألذ من الطعام والشراب في شدة الظمأ وشدة الجوع، وهذا من رحمة الله عز وجل، فإذا علم أن المعصية بتكرارها يتسلط الشيطان على شعبة من شعب القلب في نفسية الإنسان، فالعلاج في هذا أن يفرق بين كونه مدمناً على هذا الشيء وبين كونه يقع المرة والمرتين.
فالعلاج لا يكون ولن يكون إلا بتوفيق الله، فأولاً -وقبل كل شيء- يوجد في نفسه الشعور أن قدرة الله فوق كل شيء، وأنه لو عاد إلى الزنا، أو عاد إلى المحرمات، أو عاد إلى العادة السرية ملايين المرات؛ فإن يشأ الله في طرفة عين أن يقلبه كأن لم يفعل شيئاً فعل سبحانه، فإذا أحس بعظمة الله لم يستكثر على الله أن ينجيه، وهنا تكون الثقة بالله؛ لأنه ما أحسن عبدٌ ظنه بربه إلا كان الله عند حسن ظنه، قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، ولذلك يحرص الشيطان في المعاصي دائماً على قتل هذه الروح، ومن هنا فرقوا بين العلماء والجهلاء في مسألة المعاصي، وليس المراد بالعلماء العلماء الراسخون في العلم، وإنما العالم هنا هو الذي يعلم من هو ربه بأسمائه وصفاته، فمن عرف الله في رحمته وحلمه وبره وإحسانه إلى خلقه؛ قتل عدو الله إبليس وأهانه وأذله، حتى إنه يعود إلى ربه ولو بعد السنوات الطويلة من المعاصي؛ لأنه ما خاب ظنه أن الله سيخلف عليه بخير يرده عليه.
ومن هنا نقول: إن هذه العادة لما كثر سؤال الناس عنها واشتد البلاء بها، خاصة في هذه الأزمنة التي كثرت فيها الفتن والمحن، وغيرها من المعاصي، حينما اشتد بلاء المعاصي والفتن والشهوات في هذا الزمان الذي عظمت غربته، والذي لا يشتكى فيه إلا إلى الله وحده لا شريك له، فهو وحده الذي يرحم الغرباء، ويلطف بعباده الضعفاء أمام الفتن، وهذا البلاء الذي لا يكشفه أحدٌ سواه جل جلاله وتقدست أسماؤه، فيغاض عدو الله بهذا.
وعلى المسلم أن يعلم أن إدمان المعاصي وتكرارها يفتح عليه باباً، ومن هنا من وقع في الشهوة مرة ليس كمن وقع فيها مرتين، ومن وقع فيها مستخفاً مستهتراً ليس كمن يقع فيها معظماً، وإذا ثبت هذا فعليه أن يعلم أن العودة والتوبة تحتاج إلى قوة، وليس هناك أقوى من العزيمة، فمن صدقت عزيمته في الله سبحانه وتعالى قوي لطف الله عز وجل به، ولذلك قص الله قصص الأنبياء فجعل تفريج الكرب عنهم، وحسن اللطف بهم من قوة الثقة بالله سبحانه وتعالى، ومن هنا قال يعقوب: {إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:96]، فلما علم من الله ما لا يعلمون رد الله عليه بصره، ورد عليه ابنه في أحسن الأحوال وأتمها وأكملها.
فمن سلب شيئاً من دينه ووقع في الفتنة فاشتكى إلى الله جل جلاله، ويا ليت العبد تصور أو شعر حينما يبتلى بالفتنة أنه لن ينجيه إلا الله، وأنه لا يمكن أن يطهر منها إلا بتوفيق الله، فوثق بهذا الأساس، فالتفت يميناً وشمالاً وعلم أنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إلى الله، ففر إلى الله، وبحث عن أقرب الطرق إلى الله سبحانه وتعالى؛ لكي يشتكي إلى الله ولا يشتكي إلى أحدٍ سواه، فنظر فوجد أن ربه ينزل في كل ليلة في الثلث الآخر، ويسأل: هل من داعٍ فأستجيب دعوته؟ فاختار أحب الأوقات وأفضلها وأقربها وأرجاها إجابة، فتجرد لله مخلصاً من قلبه، ونادى الله في ظلمة الليل لا يسمعه إلا ربه، واشتكى إلى الله.
ويا ليت أن العبد يعلم ما معنى الشكوى، فإنه ما من عبدٍ ولا أمة يقف بباب الله عز وجل ويقول: يا رب! إني أشكو إليك، إلا كانت شكواه عند الله جل جلاله.
فقد سمع الله الشكوى من فوق سبع سماوات من خولة بنت ثعلبة التي جاءت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها أوس بن الصمات، تقول عائشة: (والله! إني وراء الستر يخفى علي بعض كلامها وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي، ونثرت له ما في بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي؛ ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك)، فسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، وأعلم خلقه -كل من تلا الآيات البينات- أنه يسمع الشكوى، وأنه يجيب من اشتكى إليه، فإذا اشتكى العبد إلى ربه في ظلمة الليل، وقال: يا رب! إني أشكو إليك نفساً أمارة بالسوء، وضعفاً أمام معاصيك، اللهم أمدني بحول منك وقوة، اللهم أصلح لي ما ظهر وما بطن من أمري، فإن الله لن يخيب عبداً سأله جل جلاله.
فإذا اختار الإنسان مثل هذه المواقف الصادقة لربما ابتلاه الله عز وجل، فمنهم من يعطيه الله الإجابة أسرع من لمح البصر حتى يقوم من مقامه كأن لم تكن به فتنة، ومنهم من يؤخر الله عنه الإجابة، فإذا تأخرت عنه الإجابة اتهم نفسه أنه مقصر اتهام عبدٍ لا يسيء الظن بالله، فإذا اتهم نفسه أنه مقصر لم يستشعر أن أبواباً غلقت دونه، ولكنه يستشعر أن الله يريد منه صدق اللجأ، وأن الله يحب منه أن يناجيه المرة بعد المرة، فكما أن البلايا تكون في الأجساد بالأمراض والأسقام والعلل فكذلك بلايا الدين، فمن قرع باب الله مرة بعد مرة، فإن الله يلطف به.
وهنا وقفة عجيبة: من الناس من يقع في ذنب الزنا، ومنهم من يقع في ذنب النظر، ومنهم من يقع في فتنة الخمر، ومنهم من يقع في غير ذلك؛ فإذا اشتكى إلى الله صادقاً من قلبه لربما قفل الله عليه باباً في هذه الفتنة هو باب عقوبة، لو لم يشتكِ إلى الله لوقع في أشد مما هو فيه.
إذاً: كل من أحس أن دعوته لم تستجب مباشرة فعليه أن يحسن الظن أن هناك مثوبة، وأن الله عز وجل سيعطيه، وقد يصرف عنه من السوء مثلما سأل، وقد يدخر له يوم القيامة لدرجة لا يبلغها بكثرة صلاة ولا صيام.
فإذا فرج عنه في المرة الأولى فالحمد لله، وقد لا يستجاب له من أول الأمر، كما حصل لأحد الأخيار، فقد اشتكى أنه كان على صلاح واستقامة فابتلي بفتنة؛ صعد ذات يومٍ فوق بيته فرأى زوجة جاره، وكانت متهتكة، ثم لم يزل به إبليس حتى أغواه -والعياذ بالله- فوقع في الحرام معها، ثم فتح عليه باب بلاء ما كان يخطر له على بال، فبلغ به الأمر إلى شدة عظيمة حتى كاد أن ييأس من رحمة الله والعياذ بالله، وكان حافظاً للقرآن، ومن خيار الصالحين، فاشتكى إلى أحد طلبة الع(384/10)
الأسئلة(384/11)
حكم تأديب الوالد ولده بالضرب أكثر من عشرة أسواط
السؤال
في تأديب الوالد لولده هل تجوز الزيادة فيه على عشرة أسواط؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأحد الأوجه عند العلماء: أنه لا يزاد على عشرة أسواط بالنسبة لتأديب الوالد لولده، وتأديب الزوج لزوجته، وهذا لا شك أنه أحوط وأبلغ في متابعة السنة، والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك الأشبه أنه لا يزاد في مثل هذه التعزيرات، والله تعالى أعلم.(384/12)
حكم استمناء الزوج تجنباً للمشاكل مع زوجته
السؤال
زوجتي تمتنع مني في أكثر الأوقات، فهل يجوز لي الاستمناء، ليس دفعاً للوقوع في الزنا، وإنما تجنباً لوقوع المشاكل بيننا؟ أرجو نصحي؛ أثابكم الله.
الجواب
أوصي هذه الزوجة أن تتقي الله في نفسها، وأوصي كل امرأة -تخاف الله عز وجل وتتقيه- أن تتقي الله في زوجها، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فتنه، وعظمت فيه المحن، خاصة على الأخيار والصالحين، فعلى المرأة التي تخاف الله عز وجل أن تحرص على كل الأسباب التي تطفئ الفتنة، وتقفل باب الشر على زوجها من حسن التبعل، وحسن التجمل، وحسن الزينة، بأن تكون على أكمل وأفضل ما تكون عليه الزوجة لزوجها، وأن تتقي الله عز وجل في ولي الله المؤمن، فلا تضيق عليه، خاصة في شهوته؛ خوفاً من الوقوع في الحرام، ولذلك إذا امتنعت المرأة عن زوجها من غير عذر باتت الملائكة تلعنها -والعياذ بالله- في السماء حتى تصبح، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بهذا إلى عظيم حق الزوج على زوجته، وعظيم الفتنة والبلاء الذي يترتب على التساهل في مثل هذه الأمور، فنوصي الزوجات أن يتقين الله في أزواجهن.
وكذلك على الزوج أن يحسن التجمل لزوجته، وأن يصيبها خوفاً من تعرضها للحرام، ويحرص على السنة، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فإذا حصل من الزوجين أن اتقى الله كلٌ منهما في الآخر؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيبارك هذه العيشة.
وأما مسألة: أن يستمني لخوف المشاكل؛ فالنار لا تطفأ بالنار، وما كانت معصية الله عز وجل طريقاً إلى خير أبداً، وإنما هي طريقٌ إلى كل شر، ومن هنا فقد يكون مقصوده أن يغيض زوجته بالاستمناء أمامها حتى تتحرك وتعفه، وقد يكون مقصوده مطلقاً أن يريها أنه لا يبالي، فكلاهما شر؛ لأنه إذا استمنى كان شراً، وإذا استمنى في الخفاء وأشعر زوجته أنه غير مبالٍ، دخل الشيطان على الزوجة وقال لها: إنه لا يحبك، ولا يريدك.
فلا تُعالج النار بالنار، وإنما تعالج بتقوى الله عز وجل؛ فاصبر يصبرك الله، وكن رجلاً شجاعاً، وحتى تكون زوجتك كما ينبغي أن تكون عليه الزوجة فانصحها وذكرها بالله، وخذ بالأسباب ومنها: أنها إذا استمرت على حالها فإن الله أباح لك التعدد، فتزوج عليها يستقم عودها، وإن لم يستقم فيعوضك الله خيراً منها، فأيّة زوجة تلك التي لا تعف زوجها حتى يصبح زوجها يستمني؟! هذه مصيبة، فإذا أصبحت بهذه المثابة، لا تبالي بمشاعر زوجها تجاهها، ولا ترغب أن تعف زوجها عن الحرام وتمنعه عنه؛ فما عليه إلا أن يحضر استمارة التعدد، ولينظر يوماً أو يومين كيف سيكون الحال، فإن المرأة إذا كانت صادقة في محبة زوجها رجعت وأصلحت، فإن أبت وتمنعت فليتبع القول بالفعل، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، وسينظر كيف تكون العواقب؛ لأن هذا درس لها ودرس لغيرها، أنها إذا تمردت على زوجها إلى هذا الحد، فإنه -والحمد لله- قد أحل الله له المرأة الثانية والثالثة والرابعة، هذا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يغضب علينا النساء؛ لأن هذا إذا ظلمت المرأة زوجها.
وعلى كل حال: فإن الاستمناء لا يجوز، وعليه أن يتقي الله ويصبر ويدعو لها.
ثم هناك أمر أخير أحب أن أنبه عليه: وهو أنه قد يكون ظالماً لزوجته، بمعنى: أن الزوجة تقع في هذه الأمور بسبب أذية زوجها لها في أمور أخرى، فإذا قصر معها في حقوقها ربما أضرته في هذا الحق، ومن هنا نقول للزوج: اتق الله! واتهم نفسك بالتقصير، وحاول أن تنظر ما الذي يغضبها؟ وما الذي أخرجها عن رقتها، وعن حسن تبعلها؟ فقد يكون ظالماً لها في النفقة، أو أنه يهينها، ويتكلم عليها بكلمات جارحة، وقد يتكلم عليها أمام إخوانه وأخواته ووالديه ويذلها، وهنا ننصح الأزواج أن يراقبوا الله عز وجل وأن يتقوه، فإن المرأة -غالباً- تحب زوجها، فإذا قال زوجها الكلمة الجارحة لها أمام والديه أو أمام أخواته فلربما جرح قلبها جرحاً لا يمكن أن يرقأ، فعلى كل إنسان أن يتهم نفسه، وإذا قالت له: أرى فيك العيب الفلاني؛ فعليه أن يصلح هذا العيب.
انظر إلى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حينما قالت له اثنتان من أمهات المؤمنين -تمالؤاً عليه-: إنا لنجد فيك ريح مغافير، فحلف بالله أنه لا يطعم في بيت زينب بنت جحش رضي الله عنهن العسل؛ فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] الله أكبر! انظر إلى هذا الدرس الذي ينصف فيه النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه من نفسه، وكيف أن رسول الأمة والرحمة ما جاء يتعالى على الخلق وإنما يراعي كل شيء، فيحب أن يشم منه الرائحة الطيبة.
وهذا بخلاف ما عليه بعض الأزواج، فقد يأتي إلى البيت نتن الرائحة، ويعاشر زوجته وهو نتن الرائحة، متبذل الثياب، لا يعرف كيف يأتي إلى زوجته يتحببها ويحاول أن يطفئ غريزتها، فأورثها النفرة منه، والكراهية له، والاحتقار له، وكيف يضمن ألا تقع في الحرام وهي تمسي وتصبح تذهب إلى عمل أو وظيفة، ويواجهها الرجال، فهذه أمور تهتز لها القلوب، وإلى متى يكون قلب الإنسان ميتاً، حتى ولو رأى منها إعراضاً تجمل لها وتحسن لها، وأعطها حقها، واجبر خاطرها، فهذه أمور يراها الرجل في فترة ليست بشيء، ولكن المرأة تراها شيئاً كبيراً.
وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يدني المكحلة فيكحل عينيه ويتجمل ويقول: إني أحب أن أتجمل لأهلي كما أحب أن يتجملن لي.
وهذا من الإنصاف، فقد تكون المرأة تأبى على زوجها، وتمتنع عن زوجها لأسباب وجيهة؛ فليراجع نفسه.
ولا ينبغي أن نسمع من طرف ونترك طرفاً آخر، وهنا أنبه على هذه القضية؛ لأن البعض يتساهل في قضية الإعفاف، وبالأخص بعض الأخيار تزهداً -وهذا زهد في غير موضعه- ووالله إن مرضاة الله عز وجل تشترى، وأبواب الله جل وعلا لا تعد ولا تحصى؛ تفضي به إلى جنته ودار كرامته، وواسع رحمته؛ لأنه يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، فأبواب الجنة ثمانية، ولكن الخيرات لا تحصى، ولا يحصيها إلا الله وحده، ولو علم أنه إذا نوى لوجه الله أن يعف امرأته كم له من مثاقيل الحسنات حينما يعفها عن الحرام، ولو علمت المرأة أنها كما تتقرب إلى الله بركوعها وسجودها وصلاتها، أنها تتقرب إلى الله بعفة زوجها، فإنها تشتري رحمة الله في ذلك، قال صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟) فالحمد لله على سماحة هذا الدين وكماله.
ولذلك نقول: إن زوجاً يلجأ إلى تعاطي هذا الأمر المحرم -وهو العادة السرية-؛ لا يكون إلا بتقصير من الزوجة، أو يكون هناك تقصير من الزوج دعا الزوجة إلى الوقوع في هذا التقصير، ومن هنا فعلى الجميع أن يتقي الله عز وجل، وأن يأخذ بالأسباب التي تعينه على كف النفوس عن محارم الله وحدود الله، والله تعالى أعلم.(384/13)
إذا نسي المؤذن قول: (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر
السؤال
إذا نسي المؤذن في أذان الفجر قوله: الصلاة خير من النوم، فما الحكم؟
الجواب
يرجع ويقول: (الصلاة خيرٌ من النوم)، وهنا تفصيل: فإذا كان الفاصل يسيراً، فيرجع ويقول: الصلاة خير من النوم، ويعيد الجمل التي بعد قوله: (الصلاة خيرٌ من النوم)، فإن الأذان لا يصح إلا مرتباً وبدون وجود فاصل أجنبي من قول أو فعل، فالفاصل الأجنبي من القول: كالسب والشتم، والفاصل الأجنبي من الفعل: كالأكل والشرب المتفاحش، فإذا لم يفصل بفاصل مؤثر وأخطأ في أذانه، رجع من مكان الخطأ وأصلح، ثم أعاد الجمل التي بعد ذلك.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(384/14)
شرح زاد المستقنع - باب القطع في السرقة [1]
لقد حرم الله عز وجل السرقة، وجعل الله لقطع يد السارق حكماً عظيمة، والشفاعة في حدود الله إذا وصلت إلى القاضي لا تجوز.
وهناك أصناف ممن يأخذون أموال الناس لا تقطع أيديهم لعدم اكتمال شروط السرقة فيهم، وهؤلاء هم: المختلس، والمنتهب، وجاحد العارية، والغاصب، وخائن الوديعة.(385/1)
مشروعية قطع يد السارق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب القطع في السرقة].
القطع هو: الفصل بين الشيئين، وفصل الشيء عن الشيء، والمراد به هنا: قطع اليد من السارق.
وقوله رحمه الله: (في السرقة) أي: في حد السرقة.
والسرقة في لغة العرب مأخوذة من: سرق الشيء، إذا أخذه على وجه الخفية، وكل شيء يقع على وجه الخفية يسمى سرقة، ومنه مسارقة النظر، وهو أن ينظر إلى الشيء دون أن ينتبه الغير إليه، ومنه استراق السمع، كما يكون من الشياطين كما أخبر الله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:18].
والسرقة: أخذ المال المحترم شرعاً على وجه الخفية من حرز مثله بالغ النصاب من مكلف ملتزم مختار، فإذا وقعت السرقة على هذا الوجه انطبقت عليها أحكام هذا الحد الشرعي.
وحد السرقة من الحدود التي أجمع العلماء رحمهم الله عليها، وثبت بها دليل الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]، وهي من التشريع المدني.
وثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قطع في السرقة، فقطع عليه الصلاة والسلام يد المخزومية التي كانت تسرق وتستعير المتاع ثم تجحده، كما ثبت في السنة الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام، وقال في خطبته المشهورة حينما سألت قريش أسامة رضي الله عنه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها، فقال: (أتكلمني في حد من حدود الله؟)، وفي بعض الروايات: (أتشفع في حد من حدود الله؟) فاعتبر السرقة حداً من حدود الله، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم القوي -وفي لفظ: الشريف- تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) فهذا يدل على مشروعية القطع في حد السرقة.
وبيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الحد ليس خاصاً بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من الشرائع الموجودة فيمن قبلنا، بدليل قوله: (كانوا إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه)، وهذا يدل على أن حد السرقة ليس من الحدود التي تختص بها الأمة المحمدية.
وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية القطع في حد السرقة، وفعل ذلك الأئمة والخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وفعله أئمة الصحابة رضي الله عن الجميع وأرضاهم، فالإجماع منعقد على هذا الحد الشرعي.
وفي حد السرقة صيانة لأموال الناس، فكما أمر الله عز وجل بحفظ الدين، وبحفظ النفس من القتل، وبحفظ العرض من الانتهاك بالقول كما في القذف، وبالفعل كما في الزنا، شرع سبحانه وتعالى حد السرقة صيانة لأموال الناس من اعتداء المعتدين عليها، وهذا الحد فيه صيانة لحقوق الناس، وكبح لجماح الأنفس الدنيئة التي تعتدي على أموال الناس، وفيه زجر لأهل العقول السليمة عن الوقوع في رذيلة السرقة، ومن نظر إلى قوة هذا الحد ربما استغرب من شدة ألمه وعظيم موقعه، كيف تُقطع اليد من السارق لقاء هذا المال، مع أن حرمة الجسد أعظم من حرمة المال؟ ولكن من تأمل ما الذي يقع وما الذي يحدث للمسروق منه إذا أُخذ ماله من القهر والأذية والضرر والظلم وجد في هذا الحد حكمة عظيمة، ووجد فيه عدل الله جل وعلا الذي قامت عليه السموات والأرض.
ولذلك استشكل الزنادقة والملحدون هذا الحد من حدود الله، وأوردوا الاعتراض على الشريعة، حتى قال بعضهم: إن الشريعة تناقضت، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ونسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وقهره لخلقه أن يقطع ألسنة أهل الزيغ وأهل الفساد، فقالوا: كيف إذا قطع الرجل يد الرجل وجب القصاص، وإذا قطعها خطأً وجب الضمان بنصف الدية، ثم إذا سرق ربع دينار قطعت يده؟ فكيف تضمن هذه اليد بنصف الدية ثم تقطع في ربع دينار؟ فظنوا أن هذا من التناقض قاتلهم الله! وهذا من انطماس بصائرهم حتى قال قائلهم: تناقض مالنا إلا السكوت عليه وأن نعوذ ببارينا من النار يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار فقال له القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله: قل للمعري: عار أيما عار لبس الفتى وهو عن ثوب التقى عاري عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري فلما عزت وصانت كانت كريمة، ولما هانت وسرقت واعتدت أصبحت رخيصة {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، فالله يضع الرحمة حيث توضع الرحمة لمن يستحقها، ويوجب العقاب والعذاب على من يستحقه، ومن هنا لا تعارض في الشريعة؛ لأنها صانت اليد وهي كريمة، وقطعتها وهي خائنة لئيمة، والحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه.
فقوله: [باب القطع في السرقة] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بقطع يد السارق.(385/2)
شروط قطع يد السارق
قال المصنف رحمه الله: [إذا أخذ الملتزم] السرقة لا تكون إلا بصفة محدودة، وضبطت بالأدلة الشرعية، وهذه الصفة إذا وجدت حكم بثبوت الحد، وإذا فقدت فإنه لا يقام الحد.
ومن هنا بيّن رحمه الله أن السرقة أخذ، وعلى هذا لو هجم رجل على مال يريد أن يسرقه فكشف أمره قبل أن يخرج به من حرزه ويتحقق الأخذ لم تقطع يده، فمثلاً: لو أنه كسر باب العمارة أو باب الشقة، أو دخل إلى الغرفة التي فيها النقود والأموال وكسر الباب أو عالجه فانفتح، ودخل وكسر الأقفال الموجودة على الصناديق، وقبل أن يأخذ المال ويخرج من هذا الحرز الذي هو حرز للمال أخذ، فلا تقطع يده حيث لم تتحقق السرقة.
وعليه فلا بد من وجود الأخذ، حتى ولو حصل الأخذ بدون استصحاب منه، مثل: أن يكسر القفل ويأخذ ما قيمته النصاب، ثم يرميه من وراء الجدر، ثم يكشف أمره، فهنا قد حصل الأخذ؛ لأنه قد خرج المال من حرزه وهو نصاب ومال محترم شرعاً، وحينئذٍ تتحقق السرقة.
إذاً: لابد من وجود الأخذ، فإذا لم يقع الأخذ لم نحكم بثبوت الحد.
والسرقة تتعلق بالسارق والمسروق وفعل السرقة، هذه ثلاثة أركان تتحقق بها السرقة، ففعل السرقة في قوله: (أخذ)، وهذا الأخذ له ضوابطه، وسيبين رحمه الله الشروط المعتبرة للحكم بكون السارق قد تحقق فيه ما يوجب القطع بالأخذ المعتبر.
والسارق هو الركن الثاني، والسارق يشترط فيه: أولاً: أن يكون مكلفاً، فالصبي لا تقطع يده، وكذا المجنون لا قطع عليه بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق)، فإذا سرق وهو صبي أو مجنون فإنه غير مكلف.
ثانياً: أن يكون مختاراً، فلو أكره على السرقة، كما يقع في العصابات، حينما يكره بعض أفرادها، فيهدد بالقتل أو يهدد بالضرر على الوجه والشروط التي ذكرناها في تحقق شرط الإكراه، فإذا هدد وتحقق فيه شرط الإكراه وقالوا له: إذا لم تذهب معنا وتسرق فإننا نقتلك، أو نقتل ابنك، أو نؤذيك أذية هي أعظم من السرقة، فإذا تحقق فيه شرط الإكراه فإنه لا يقطع.
وعلى هذا ينبغي أن يكون مكلفاً بالبلوغ والعقل، وأن يكون مختاراً لا مكرهاً على السرقة.
ثالثاً: أن يكون ملتزماً بأحكام الشريعة الإسلامية، سواءً كان من المسلمين أو من أهل الكتاب كالذميين فإنهم التزموا بالعهد بأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وخاصة على القول بأنه يقام عليهم حكم الله عز وجل إذا تخاصموا إلينا، وأنهم مخاطبون بفروع الشريعة، فيشترط أن يكون ملتزماً مسلماً أو ذمياً، وخرج بهذا الحربي، فالحربي غير ملتزم بأحكام الشريعة، وكذلك -كما قيل-: المستأمن، فإن المستأمن إذا أخذ له الأمان فإنه في مذهب بعض العلماء غير ملتزم.
ومن هنا يشترط في السارق أن يكون مكلفاً ملتزماً مختاراً، فإذا تخلف أحد هذه الشروط لم يقطع، فبيّن رحمه الله شرط الالتزام بأحكام الشريعة.(385/3)
اشتراط النصاب
قال المصنف رحمه الله: [إذا أخذ الملتزم نصاباً].
هذا يتعلق بالركن الثالث، وهو: المال المسروق، فعندنا السارق والمسروق وفعل السرقة، فلما قال رحمه الله: (نصاباً) بين الركن الثالث، وهو: أن يكون المال المسروق نصاباً، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع إلا في ربع دينار) كما في الصحيح، وكذلك في حديث السنن: (لا تقطعوا إلا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما دون ذلك)، وهذا يدل على أنه ينبغي التقيد بالنصاب، وقال في حديث الثمر: (فإذا أواه الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن)، والمجن هو الدرع الذي كان يستر المقاتل، وكانت قيمته تساوي ربع دينار أو أكثر من ربع دينار، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت عن ثمن المجن فقالت: ربع دينار، ففسرت الحديث بما يتفق مع الأصل، فالنصاب ربع الدينار، وسيأتي تفصيله -إن شاء الله-، وفيه خلاف عن السلف رحمهم الله، ولكن الربع دينار هو الذي دلت عليه النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: يشترط في هذا المال المسروق: أن يكون قد بلغ النصاب، فإذا كانت قيمته دون ربع الدينار فإنه لا تقطع يد السارق، فلو أنه سرق كتاباً أو قلماً أو ثوباً أو نحو ذلك مما قيمته لا تساوي الربع الدينار أو ما يعادله من الدراهم، فإنه لا يقطع.
وذهب بعض العلماء إلى عدم اشتراط النصاب وهم الظاهرية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده) وقد أجيب عن هذا الحديث بأن المراد به الوعيد، فلا يلتفت إلى حقيقة ما ذكر فيه، وهذا شأن أحاديث الوعيد، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عقرى حلقى)، وليس المراد: عقرها الله، حلقها الله، وقال: (ثكلتك أمك يا معاذ!)، وهو دعاء بالموت لكن لا يريد الحقيقة، وهنا أراد أن ينبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا.
وقيل: إن الحبل يساوي ربع دينار في السفن، والبيضة المراد بها: بيضة المقاتل، وهي التي تلبس في القتال، وقيمتها ربع دينار فأكثر، وليس المراد بها البيضة من نتاج الدجاج.
وعلى كل حال سيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة، وأن الصحيح اعتبار النصاب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص وقال: (لا قطع إلا في ربع دينار)، وهذا نص صريح، ولا يعارضه المحتمل، ولأننا لا ندري هل تأخر حديث: (لعن الله السارق) أو تقدم؟ ومن هنا لا يقوى على المعارضة من كل وجه، فيشترط في ثبوت حد السرقة: أن يكون المال المسروق نصاباً.(385/4)
اشتراط الحرز
قال المصنف رحمه الله: [من حرز مثله].
أصل الحرز: الحصن، والشيء المحفوظ فيما يحفظ فيه مثله يقال عنه: في حرز، والأحراز تكون في الأموال متفاوتة، وتتفاوت بحسب الزمان وبحسب المكان وبحسب الظروف والأشخاص، ومن هنا ينقسم الحرز إلى قسمين: الأول: ما يكون حرزاً بنفسه، مثل الدور والعمائر والشقق والبساتين، فهذه حرز بنفسها، بمعنى: أن عليها البناء والأغلاق، وفي حكمها الدكاكين، والحوانيت، والأحواش المسورة، فهذه أحراز بنفسها، ولذلك من تسور فدخلها ثم أخذ منها فقد أخذ من حرز.
النوع الثاني من الحرز: حرز الحافظ، أو ما يقول العلماء عنه: حرز الغير، فهناك ما هو حرز بنفسه، وهناك ما هو حرز بغيره، والحرز بغيره هو المكان، ووضعوا ضابطاً يفرق بينه وبين الأول، فقالوا: حرز المكان هو الذي لا يدخل الشخص إلا بإذن من صاحبه، فالعمارة حرز مكان وحرز بالنفس، وهكذا الشقة والغرفة والمكتب إذا كان خاصاً بالشخص، فهذا حرز بنفسه، لا يدخله الغير إلا بإذن من صاحبه، وحرز الغير هو الذي يكون بالحافظ ويقع في الأشياء أو في الأموال أو في الأماكن العامة.
فمثلاً: الأماكن العامة كالمساجد، ولو أن شخصاً سرق من مسجد فليس بسارق؛ لأن المسجد يرتاده الناس، ومفتوح للعامة، ومن هنا ليس له حرز، وليس حرزاً بنفسه، وإنما هو حرز بالحافظ، فلو نام شخص في المسجد ووضع كساءه أو ثوبه أو شنطته التي فيها النقود تحت رأسه فسرقها أحد فإنها تعتبر في حرز، ولذلك لما سُرِقَ رداء صفوان رضي الله عنه في المسجد من تحت رأسه، قطع النبي صلى الله عليه وسلم يد السارق؛ لأنه حينما وضعه تحت رأسه فقط حرزه وحفظه، صحيح أن المسجد عام لكنه حينما قام على ماله ووضعه على وجه يصان به فإنه حرز حفظ، فإذا سرقه من تحت رأسه أو جذب الفراش من تحته أو نحو ذلك فإنه يعتبر قد أخذ من حرز.
وهكذا بالنسبة لحرز الغير، الإبل إذا كانت ترعى فإن حرزها بوجود الراعي معها، فإذا سرقها والراعي معها فهي سرقة من حرز، وإذا سرقها والراعي نائم فليست بسرقة من حرز، لابد من وجود الحفظ والصيانة فيما هو سائب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ليس في حريسة الجبل قطع حتى تأوي إلى المراح)، فجعل الإبل وهي بين الجبال أو في الموضع راعية سائمة ليس فيها قطع؛ لأنها ليست في حرز، فإذا حفظت بالحافظ والأمين فإنه حينئذٍ تكون في حرز.(385/5)
أن يكون المال المسروق محترماً
قال المصنف رحمه الله: [من مال معصوم].
يشترط في السرقة أن يكون المال المأخوذ مالاً معصوماً، فخرج المال غير المعصوم، والمراد بالعصمة: عصمة الإسلام، وعبر الفقهاء بهذا المصطلح انتزاعاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله -وفي لفظ- حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم ... ) الحديث، فقوله: (قد عصموا) المراد بها: عصمة الإسلام، وعصمة الإسلام يدخل فيها الأمان والعهد للذمي، فإذا اعتدي على مال مسلم فهو اعتداء على مال معصوم، وإذا اعتدي على مال ذمي فهو اعتداء على مال معصوم؛ لأنه بموجب العهد يكون للذمي ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين.
وخرج بهذا الحربي، فلو أنه مثلاً كان في القتال وتوقف مثلاً أو تقابل الزحفان ولم يحصل بينهما قتال فانسل مسلم وأخذ على وجه الخفية شيئاً منه فهي ليست بسرقة شرعية؛ لأن هذا من إغاظة الكافر بإيذائه في ماله إذا كان محارباً، ومن هنا لا تعتبر سرقة؛ لأن المال الذي أخذه مال غير معصوم.(385/6)
ألا يكون في المال المسروق شبهة للسارق
قال المصنف رحمه الله: [لا شبهة له فيه].
الشبيه: المثيل، وهذا يشبه هذا إذا كان قريباً منه في الصفات، والشبهة: أن يكون للإنسان شبهة في الملك، كما في السيد في مال عبده، والوالد في مال ولده، على تفصيل عند العلماء، وسيأتي إن شاء الله بيان ضوابط هذه الشبهة، ومتى تؤثر، ومتى لا تؤثر، والأصل في اشتراط عدم الشبهة قوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فأمرنا أن نتقي الشبهات، وإذا وجدت في السارق شبهة، أو في المال المسروق شبهة توجب سقوط الحد وكانت مؤثرة فإنه لا حد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ندرأ الحدود وندفعها بالشبهات.(385/7)
أن يؤخذ المال المسروق خفية
قال المصنف رحمه الله: [على وجه الاختفاء].
أن تكون هذه السرقة على وجه الاختفاء، وهذا أصل في السرقة، ومن هنا لو كانت السرقة عياناً بياناً أمام الناس، مثل: الغصب، فلو جاء واغتصب سيارته، أو أنزله من سيارته ثم أخذها بالغصب والقوة، فهذه ليست بسرقة، لكن لو أنه جاء إلى السيارة وهي في (كراجها) ومكان حفظها وحرزها ففتحها وأخرجها من مكان هو حرز لمثلها؛ فقد حصلت السرقة.
فلا بد من وجود هذا الشرط: أن يكون على سبيل الخلسة والاختفاء، فلو كان على سبيل الظهور كما في الغاصب فإنه لا يقطع، وكما في المنتهب، والنهبة تكون بإغارة بعض القبائل على بعض، أو الجماعات على بعضهم، فهذا لا يعتبر سرقة، فقد كانوا في القديم يغيرون ويأخذون الإبل ويستاقونها، ويكون هذا على مرأى ومسمع، وهذا ليس بسرقة، إنما السرقة على وجه الخفية، ونفس مصطلح السرقة يتضمن ذلك، وهو وجود الخفية وعدم الظهور.(385/8)
قطع يد السارق حد من حدود الله لا شفاعة فيه
قال المصنف رحمه الله: [قطع].
الحكم الشرعي أنه يجب قطع يده، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وإذا توافرت الشروط لم يجز تعطيل حد الله عز وجل.
ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغت الحدود السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفع)، ولما سرق الرجل رداء صفوان ورفعه صفوان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه؛ ما كان يظن صفوان أن الرجل ستقطع يده، فشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (ما علمت أن يده ستقطع فقال: هلا كان هذا قبل أن تأتيني به) أي: أنه كان المفروض ألا تأتيني به؛ لأنك لو أتيتني به أقمت حد الله عليه.
ومن هنا قال المصنف: (قطع) أي: وجب القطع، وهو حد الله عز وجل، ومن أقام حد الله عز وجل فقد أطاع الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام، وتستقيم الأمة بتنفيذ حدود الله، وإقامة هذه الحدود، ويجب ألا تأخذ من يقيمها لومة لائم، وألا يبالي بسخرية الساخرين واستهزاء المستهزئين وإرجاف المبطلين، هذا كله لا يلتفت إليه؛ لأن الحكم لله الذي يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه، والأمر أمر الله، والخلق خلق الله، يفعل بهم ما يريد، ويحكم فيهم ما يريد سبحانه وتعالى.
أجمع العلماء رحمهم الله أنه إذا توافرت الشروط يجب على القاضي الحكم بالقطع، ويجب على السلطان تنفيذ هذا الحكم، وألا يتدخل أحد في حكم الله عز وجل، وهذا الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما ثبت عن المخزومية موجب القطع وجاءت قريش بقضها وقضيضها تشفع وتريد أن تسقط عنها العقوبة، وقدموا الأموال من أجل أن يردوا ما سرقته ويطيبوا خاطر المسروق منه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد هذه النعرات وهذه الحمية الجاهلية الممقوتة التي تعطل حدود الله عز وجل وتمنع من إقامة حق الله عز وجل، ردها بعبارة قوية شديدة، فقال: (والذي نفسي بيده -فأقسم بربه سبحانه الذي أنفس العباد بيده سبحانه- لو أن فاطمة بنت محمد -وحاشاها- سرقت لقطعت يدها) فأخرس ألسنتهم، وكف شفاعتهم، وردهم عليه الصلاة والسلام وأقام هذا الشاهد والمثال في أحب الناس إليه، الذي هو منه بضعة وقطعة، كما في الصحيح أنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني) -أي: قطعة مني- يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها.
ومع ذلك يقول: (والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وهذا يدل على ما ذكره المصنف من ثبوت الحد وهو القطع.
وأجمع العلماء رحمهم الله: على أنه لا تجوز الشفاعة ولا يجوز تعطيل الحدود بالمماطلة والعبث بحق الله سبحانه وتعالى، بل الواجب تنفيذ هذا الحد.
والمراد باليد: من عند مفصل الزندين مع الكف، فيجب القطع من هذا الموضع، وسيأتي إن شاء الله بيان الضوابط الشرعية المعتبرة لتنفيذ هذا الحد وهذه العقوبة.(385/9)
أصناف لا تقطع أيديهم عند أخذهم مال الغير
قال المصنف رحمه الله: [فلا قطع على منتهب].
يقول رحمه الله: (فلا قطع على منتهب)، وهذا ما ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا قطع على خائن، ولا مختلس، ولا منتهب)، والحديث صححه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وأجابوا على ما أورد عليه من الانقطاع بين ابن جريج وأبي الزبير محمد بن تدرس المكي، وصحح غير واحد إسناده، واختار الشيخ الألباني رحمه الله في الإرواء تصحيحه، والحديث صحيح أنه لا يقطع المنتهب، ولا المختلس، ولا الخائن، قال صلى الله عليه وسلم: (لا قطع على منتهب، ولا مختلس، ولا خائن)، وقال الإمام الترمذي: إنه حديث حسن، وأثبت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مما يحتج به.
والمنتهب -كما ذكرنا- هو: أن يأخذ المال على سبيل النهبة، وتكون عياناً، فذكر المصنف رحمه الله المنتهب؛ لأنه سبق وأن بيّن وجه الخفية، فخرج المنتهب؛ لأنه يكون على وجه العلانية.
قال رحمه الله: [ولا مختلس].
المختلس هو: الذي يتغفل الإنسان فيختلس منه الشيء دون أن يكون على علم، وغالباً المختلس يفقد فيه شرط الحرز، ومن هنا يكون الشخص غافلاً فيختلس ماله وهو على الطاولة، أو يختلس ماله وهو على المكتب، فهذا ليس بسرقة إنما هو اختلاس.
فبيّن المصنف رحمه الله: أنه لا بد من شرط الحرز، والمختلس يأخذ من غير الحرز، لأنه لا يستطيع أن يختلس إلا إذا كان المال أمامه، ويكون مثلاً شخص أخرج النقود -كالصرّاف- ووضعها أمامه يريد أن يحاسب شخصاً ثم غفل أو كانت يد ذلك المختلس خفيفة فأخذ من هذا المال، هذا من غير حرز، وحينئذٍ لا تقطع يده.
قال رحمه الله: [ولا غاصب].
وهو الذي يأخذ المال بالقهر والقوة، فلو أن شخصاً أخذ أرض شخصٍ بالغلبة، أو اغتصب منه شبراً من أرضه أو متراً، أو أخذ مزرعته أو أخذ بيته وعمارته فإنه لا يقطع؛ لأنه أخذ المال على غير وجه الخفية؛ لأن الغصب يكون علانية.
قال رحمه الله: [ولا خائن في وديعة].
الخائن هو: الشخص الذي يؤتمن على أموال الناس، فيضيع الأمانة نسأل الله السلامة والعافية، فلو أنه وضع المال عنده لكي يحفظه وديعة، فسرق من هذا المال أو أخذ منه فإنه لا تقطع يده؛ لأنه حينما أعطي المال نزّل منزلة الوكيل، وحينئذٍ لا يتأتى فيه ما في السارق من كونه يأخذ المال على سبيل الخفية دون علم من صاحبه، والخائن لا يتوافر فيه أخذ المال من الحرز؛ لأنه هو في الأصل أعطي كحافظ للمال فهو حرز المال وهو حفظه، ومن هنا لا يعتبر شرط الحرز متحققاً في الخائن، ولو أنه أعطي وديعة ثم أنكرها وجحدها، فإنه إذا تبين أنه جاحد للوديعة لم يقطع؛ لأنه لا قطع في خيانة كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه.
قال رحمه الله: [أو عارية أو غيرها].
الوديعة: تأتي للشخص وتقول له: هذه عشرة آلاف ضعها عندك أمانة إلى نهاية السنة، وهذا محدد الوقت، أو إلى أن أطلبها منك، وهذا غير محدد الوقت، فهذه وديعة.
أما العارية: كأن يأتي شخص مثلاً ويأخذ سيارتك ويقول: أريد هذه السيارة من أجل أن أسافر بها إلى المدينة، ثم أخذ السيارة وفرّ بها، ففي هذه الحالة لا نعتبرها سرقة؛ لأنه ليس على سبيل الخفية، وأنت على علم أن سيارتك عنده.(385/10)
ما يجب على المسلم عندما ترد الشبهات من أعداء الله
من هنا تدرك عظيم ضرر السرقة حينما راعى الشرع فيها قضية الخفية لعظيم ضررها؛ لأنه إذا سرق المال من الشخص اتهم جميع الناس في الأصل إلا من رحم ربك، وحينئذٍ تسوء ظنون المسلمين بعضهم ببعض، وفي المغتصب يعرف من أخذ ماله، وفي الخائن يعرف من خانه، وفي الجاحد للعارية والوديعة معلوم من قام بهذا.
ومن هنا: فعل السارق ليس أذية للأموال فقط بل أذية إلى نفسية الناس، فمن الناس من إذا سرق ماله فقد عقله والعياذ بالله، ومنهم من تأخذه الحمية والقهر حينما يؤخذ ماله وهو لا يدري من الذي أخذ، فيشك حتى في ولده، ويشك حتى في أقرب الناس منه، ومن هنا تراعى عظم شأن هذه الجريمة، فالبعض ينظر إلى ظاهرها من كونها متعلقة بالأموال، ولكن لا ينظر إلى ضرر المأخوذ منه.
ومن هنا تجد من ينتقد الشريعة -وهو أحقر من ذلك ودون ذلك- ينظر إلى المقطوع يده وهو الجاني ولا ينظر إلى المجني عليه، ويقولون: كيف تقتصون من القاتل؟ هذه بشاعة، كيف تقتلونه؟ يأتون ويسفكون الدماء وينتهكون الأعراض ويعتدون على أموال الناس ثم يأتي أهل الحقوق ويتكلمون وينتقدون ويقولون: إنهم أهلُ حقوق، وإنهم دعاةٌ إلى الحقوق: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، فيرون أنهم دعاة للحق، وأنه لا يمكن أن تقطع اليد، ويقولون: ما هذه البشاعة في الإسلام؟ -قاتلهم الله- ولا ينظرون إلى الأعراض التي تنتهك، والدماء التي تسفك، والأموال التي تسرق، أبداً ما ينظرون إلى هذا، بل ينظرون إلى المجرم ويقولون: وراءه أسرة وعائلة، وهم بهذا يعينون أهل الجرائم على جرمهم.
فلو كانوا أهل حقوق بحق لنظروا إلى الطرفين، وأنصفوا الطرفين، حتى حينما نقول لهم: هذا قاتل، هذا قتل غيره، فكما سلب غيره نفسه سنسلبه نفسه، وما ظلمناه، فلا يمكن أن ينظروا إلى المقتول! وهذا عين الظلم والجور، ولا شك أن الكافر كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]؛ لأن الموازين عندهم مضطربة، ولكن أهل الإسلام هم أهل العدل وأهل الحق بتوفيق الله عز وجل، بصرهم الله عز وجل فنظروا إلى الجريمة وآثارها وأضرارها، وحجم ما اكتسبت الأيدي، وأعطوا كل جريمة حقها بأمر الله سبحانه وتعالى، فالسارق ما دام أنه سرق فإنه لا يمكن أن ينزجر إلا إذا قطعت يده، فإذا قطعت يده وحدث نفسه بالسرقة مرة ثانية إذا بيده تذكره بالعقوبة وعندها يرتدع، ولو جئت بالسراق ووقفوا على سارق تقطع يده لهالهم الأمر، ولوقع ذلك في أنفسهم موقعاً بليغاً.
ومن هنا: تطبيق حدود الله عز وجل ليس بمنقصة ولا بشاعة، وليس فيه ظلم ولا ضرر ولا أذية، ومن هنا ينبغي أن يعتز المسلم بهذا الدين ويعتز بأحكامه، وعليه بدل أن يكون مدافعاً عن شبهات الأعداء أن يكون مهاجماً على الأعداء، فيهجم عليهم بالعكس والضد، ويقول: نحن دعاة الحقوق للمجني عليهم، وأنتم دعاة حقوق للجاني، ونقول: نحن دعاة الحقوق للمجني عليه، والمفروض أن ينصر المجني عليه؛ لأن الجاني لا يحتاج إلى نصر إلا بكفه عن ظلمه وزجره عن أذيته للناس، فتقطع اليد حتى تذكره بالجريمة وتذكر غيره، وليتأمل الإنسان حينما يصبح المجرم مجرماً فيسرق، فإذا قطعت يده يكون بين أمرين: إما -والعياذ بالله- أن يبقى سارقاً فيذهب ويعيش بين السراق، فكلما أصبح وأمسى يذكرهم بيده، لأن من ينظر إليه يتذكر عاقبة السرقة، فهي من أبلغ المواعظ والعظات.
وأما إذا رجع وتاب إلى الله زجر غيره، فإذا نظر إلى يده مقطوعة هاب السرقة وهاب أموال الناس، وفي ذلك آيات وعظات بالغات، وكفى بالله عز وجل عليماً حكيماً، ولطيفاً خبيراً، يضع الشدة في موضعها، ويضع اللين في موضعه، ولا ينبئك مثل خبير.
فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كانا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
والكلمة الأخيرة: أننا نوصي في هذا الزمان بأمر مهم جداً وخاصة في مسائل الحدود ومسائل الشبهات التي ترد على الإسلام عموماً، ألا وهي: مسألة التمسك بالحق، فما عليك من إرجاف المرجفين، وسخرية الساخرين، وانظر كيف كان السلف الصالح والأئمة رحمهم الله في زمانهم، فترد الشبهات حتى قالوا: كيف تقطع اليد بربع دينار ويجب ضمانها بنصف دية؟ وهذا من القديم، وللشر أهله؛ فهم لا يخرصون ولا يسكتون؛ لأن الله ابتلى بهم أهل الحق، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20] قال الله: (أَتَصْبِرُونَ) وهذا يقتضي أن نصبر على الحق.
فأثناء إيراد الشبهات -سواءً في السرقة وغيرها- وحينما يتبجح أعداء الإسلام، وأعظم من هذا أن يتبجح من هو من بني جلدتنا بأمور فيها استخفاف بالشريعة أو استهزاء؛ فعلى كل مسلم أن تأخذه الغيرة والحمية لهذا الدين، غيرة الحق لا غيرة الباطل، وحمية الدين لا حمية الجاهلية، ومن غار لحق الله أحبه ربه، فإن الغيرة على الحق تزكي نور الإيمان في القلوب، ومن غار على حق الله عز وجل وتألم وتمعر وجهه نجي من العذاب، فإنه إذا كان الإنسان معجباً بما يقوله أهل الباطل ويدافع عنهم أو يهون من أمرهم دون أن يرد عليهم ودون أن يقارعهم الحجة فإن هذا بلاء عظيم، وشر وخيم، فيوصى الإنسان بالصبر على الحق الذي هو مؤمن به.
ومن أحب الأعمال إلى الله -إذا أرجف المرجفون أو طعن الطاعنون أو شوش المشوشون- أن تكون عندك ثقة كاملة بهذا الحق، وأن تعتز به؛ ولذلك قال تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11]، فإذا زلزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيزلزل من كان على نهجهم في كل زمان بحسبه، ولكن الله تعالى يقول: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] ثم قال الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} [الأحزاب:23] ليسوا كلهم! {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]؛ لأن بينك وبين الله هذا العهد من الإسلام والاستسلام، وإذا جاء حكم الله عز وجل أمعنت وسلمت ورضيت وكنت على قوة من الحق والثبات ولا تتزلزل، قال أبو بكر رضي الله عنه: (والله! لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليها) وهذا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحال في شدة وضيق، وحال المدينة كان من أصعب ما يكون؛ لأن العرب ارتدت، وكان بأشد الحاجة رضي الله عنه إلى جيش أسامة الذي جهزه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أمضى ما أمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت على الحق رضي الله عنه وأرضاه، فكان هذا من دلائل يقينه بالله عز وجل، فكل صاحب حق يثبت على حقه ثباتاً يرضي الله عز وجل؛ لأن الله في الفتن ينظر إلى القلوب، فمن الناس من يلين مع أهل الباطل، ومنهم من تنكسر شوكته، والعياذ بالله! وقال الحكماء والعلماء والصلحاء: الفتن حصاد المنافقين {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]، وكل فتنة وراءها فتنة، فمن صبر في الفتنة الأولى ازداد إيمانه تهيئة للفتنة التي بعدها، ثم تأتي الفتنة التي بعدها أشد من الأولى كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما انتهى مرجف جاء مرجف آخر، وقد يكون المرجف كاتباً واحداً ثم أصبحوا كتاباً، ثم أصبح إرجافاً على مستوى الدول والجماعات، حتى يعظم الإرجاف، ولكن الله غالب على أمره.
الكون كون الله، والأمر أمر الله عز وجل، وكلمة الله ماضية، ولتخرص الأفواه، ولن يبقى إلا الحق الذي فيه كلمة الله جل جلاله، التي سيمضيها بعز عزيز وذل ذليل، فوالله! لقد حصل لهذه الأمة من النكبات والفجائع والأهوال ما لا يعلمه إلا الله سبحانه، وما انطفأ نور الله يوماً من الأيام، بل كلما وقعت فتنة رجع الحق أشد ضياءً ونصاعة وقوة ورهبة وهيبة؛ لأنه من الله! وتأمل قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] أولاً: التعبير بالكتب؛ لأن التعبير به دليل على أنه لا يغير ولا يبدل، ثم ما قال: كتبت، ولكن {كَتَبَ اللَّهُ} [المجادلة:21] فالتعبير بالاسم الظاهر، فحينما تقول: كتبت، شيء، وحينما تقول: كتب محمد، وكتب فلان، فتذكر اسمك ولك مكانة أو لك قوة شيء آخر، وما قال: أن يغلب، إنما قال: {لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة:21]، واللام هي الموطئة للقسم، أي: والله! لأغلبن، والتعبير هنا بالغلبة، ثم قال: {لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة:21] توكيد {أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] ما أحد أبداً يشك في قدرة الله على خلقه، وهذه الشنشنة وهذا الإرجاف من المبطلين أياً كانوا وبأي اسم تسموا، وتحت أي ستار استتروا؛ فليكشفن الله عوارهم وذلهم، وليلبسنهم الصغار كما ألبس من قبلهم، والله عز وجل له حكم.
ومن هنا تجد في بعض الفترات المرجفين يرجفون، والكتّاب يكتبون ما فيه استهزاء بالدين أو سب لله عز وجل والعياذ بالله، فيتمعر قلب المؤمن، ويرفع الله درجاته بهذا التمعر بما لا يبلغها بكثرة صلاة ولا صيام، ولربما تسمع بمن يطعن في كتاب الله، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حد من حدود الله عز وجل، فتجد ذلك السفيه المغمور المتهتك الذي لا دين عنده ولا عقل يلمز الإسلام أو يلزم الأخيار، ثم تجد أن هذه الكلمة لها أثر في قلبك فتتألم وتتغير، ومن الناس من يمنعه قول أهل الباطل النوم! وكان بعض العلماء قد يمرض! وإن كان الأمر لا ينبغي أن يبلغ هذا؛ لأن الله نهى وقال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَ(385/11)
الأسئلة(385/12)
حكم جاحد العارية
السؤال
أشكل عليّ حديث المخزومية بأنها تستعير المتاع ثم تجحده وسماها النبي صلى الله عليه وسلم سرقة مع ما قررنا أنه لا يكون في العارية قطع؟
الجواب
تعرف هذه المسألة بمسألة قطع جاحد العارية، وفيها قولان مشهوران للعلماء رحمهم الله، والصحيح ما رجحناه أنه لا قطع على جاحد العارية، وهذه المرأة ثبت في الرواية الصحيحة أنها سرقت، ولذلك قال في نفس الحديث: (ولو أن فاطمة بنت محمد سرقت)، وقال: (أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف) وسرقت قطيفة من إحدى البيوت، وكانت هذه القطيفة تساوي النصاب وتزيد، فـ عائشة رضي الله قالت: أهم قريش شأن المخزومية التي كانت تستعير المتاع ثم تجحده؛ لأنها كانت هذه الصفة غالبة، ولا يمنع أن جريمتها في الأصل هي السرقة، والقطع لا لجحد العارية وإنما قطع عليه الصلاة والسلام؛ يدها لأنها سرقت.
ولذلك لما قطع عليه الصلاة والسلام يدها لم يستفصل عن المتاع مما يدل على أن القطع إنما وقع بسبب أنها سرقت، وقد جاءت الرواية صحيحة بهذا، ومن هنا قال الجمهور: إنه لا يقطع جاحد العارية؛ لأن الأصل أنه لم ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجود الأخذ من الحرز على سبيل الخفية، والله تعالى أعلم.(385/13)
الشفاعة في الحدود
السؤال
كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) وبين قوله: (أتشفع في حد من حدود الله؟)، فمتى تكون الشفاعة في الحد ممنوعة؟
الجواب
( اشفعوا تؤجروا) عام، و (أتشفع في حد من حدود الله؟) خاص، والقاعدة: (لا تعارض بين عام وخاص)، والحد الذي يمنع من الشفاعة منه حد الزنا حد القتل القصاص حد الحرابة حد السرقة، هذه الحدود لا شفاعة فيها، وكذلك حد القذف، ومحل المنع أن ترفع إلى القاضي فإذا رفعت إلى القاضي لا شفاعة، أما قبل وصولها إلى القاضي فتجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به)، وقال في الرواية الأخرى في الحديث الآخر: (إذا بلغت الحدود السلطان ... ) فقال: (إذا بلغت)، وهذا يدل على أنه إذا رفع الأمر إلى الوالي أو القاضي لا تجوز الشفاعة، والله تعالى أعلم.(385/14)
حكم أخذ المرأة من مال زوجها فوق حاجتها خفية
السؤال
هل أخذ المرأة من مال زوجها دون علمه إذا كان فوق حاجتها من السرقة؟
الجواب
هذا فيه تفصيل؛ لأنه في بعض الأحيان يكون سرقة، ويقع به القطع ويثبت به الحد، وبعض الأحيان لا يكون سرقة؛ لأن فيه شبهة، وهذا سنذكره -إن شاء الله تعالى- في ضابط الشبهات التي تدرأ حد السرقة، لكن من حيث الأصل، أنه إذا خرجت عن الأصل الشرعي أو عن الحد الشرعي أو الضابط الشرعي؛ فإنها تقطع، فمثلاً: لو كسرت قفلاً في غرفة الزوج، وكان للزوج غرفة خاصة به، أو (شنطة) خاصة به، فجاءت وكسرت أقفال هذه (الشنطة) وأخذت المال الموجود فيها، ثم خرجت ونحو ذلك، فهذا كله ظاهره سرقة، فلا يعتبر داخلاً تحت قوله: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، ولا تؤثر الشبهة في هذا؛ لأن قصد استباحة المال والاعتداء عليه موجود، ومن هنا سيفصل في هذه المسألة إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.(385/15)
اشتراط استمرار عذر جمع التقديم إلى الدخول في الصلاة الثانية
السؤال
من جمع صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم ثم وصل إلى بلده قبل دخول وقت العصر، فهل عليه الإعادة؟
الجواب
الجمهور على أن من جمع ثم رجع إلى بلده قبل دخول وقت الثانية فيجب عليه أن يعيد الصلاة؛ ذلك لأنه يشترط في صحة جمع الصلاة الثانية في وقت الأولى أن يدخل وقت الثانية وهو مسافر، فإذا دخل عليه وهو مقيم فقد خاطبه الله بأربع ركعات؛ لأنه إذا أذن عليه الأذان فقد خاطبه الله بأربع ركعات، وهو قد صلى ركعتين، ومن هنا تجب عليه الإعادة، ولا يستبيح بهذا الوجه الرخصة، ومن هنا قال العلماء: ويشترط في جمع التقديم أن يستمر عذر الجمع -الذي هو السفر- إلى دخول وقت الصلاة الثانية، بأن يدخل وقت الثانية وهو مسافر، مثلاً أذن الأذان قبل دخوله بلده ولو بثلاث دقائق أو بدقيقة أو بدقيقتين، فإنه في هذه الحالة قد خوطب بركعتين، ولم يخاطب بأربع فيجزيه ما صلى، والله تعالى أعلم.(385/16)
حكم صلاة المفترض خلف المتنفل
السؤال
ما حكم من صلى الفرض خلف من يصلي النفل؟
الجواب
لا بأس بذلك ولا حرج؛ لأن معاذاً رضي الله عنه كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي قومه بقباء فيصلي بهم، وهم مفترضون وهو متنفل، وهذا يدل على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل، والأفضل أن يخرج الناس من الخلاف في هذه المسألة فيكون الإمام هو المفترض، ولكن لو وقع ذلك فلا بأس ولا حرج؛ لثبوت السنة بالتقرير في هذا، والله تعالى أعلم.(385/17)
شرح زاد المستقنع - باب القطع في السرقة [2]
يجب قطع يد الطرّار الذي يقطع الجيوب ويأخذ منها المال، ويشترط في المال المسروق أن يكون مالاً محترماً، ولا تقطع يد من سرق آلات لهو أو خمر مع التفصيل في ذلك.
ومقدار نصاب المال الذي تقطع فيه يد السارق ربع دينار من ذهب أو ثلاثة دراهم من فضة، أو ما يعادل قيمة أحدهما، مع خلاف بين أهل العلم في ذلك.(386/1)
حكم قطع يد الطرار
بسم الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويقطع الطرّار الذي يبط الجيب أو نحوه ويأخذ منه]: ما زال المصنف رحمه الله يتكلم على صور يتحقق بها مفهوم السرقة، ومن ذلك قوله: (ويقطع الطرّار الذي يبط الجيب) ففي بعض صور السرقة: يقدم السارق على قطع الجيب: إما بالسكين، أو بالموس، أو بالشفرة، فالطرّار هو: الذي يسرق من الجيب، والسرق من الجيب له صورتان: الصورة الأولى: أن يدخل يده فيستلّ المال الموجود في داخل الجيب.
الصورة الثانية: أن يقطع الجيب من أسفله أو من جنبه، ثم يستل المال منه.
فمن أهل العلم من قال: أن الذي يبطّ الجيوب -أي: يقطع الجيوب- لا تقطع يده، ويرون أن القطع لا يكون إلا إذا كان في حرز، وكان صاحب الحرز منتبهاً -يعني: عينه على الحرز- ومن هنا قالوا: إن من نام في المسجد، ورداؤه تحته، أنه ينبغي اشتراط كون الرداء تحت الجسم، أو تحت الرأس، فإذا استله من تحت الرأس فقد استله من حافظ، وحينئذٍ قالوا: إنه إذا كان الرجل في غفلة واستل المال منه بدون أن يعلم فإن يده لا تقطع؛ لأن المال في الجيب ليس في حرز عند من يقول بعدم القطع، إلا إذا كان صاحبه عينه على الجيب، ومن هنا يرون أنه لا قطع عليه، واختار المصنف القول بالقطع.
قالوا: لو استغفل صاحب المال، ثم استل المال من جيبه، وقطع الجيب فأخرج منه المال -من أسفله أو من عرضه- فإنه يعتبر سارقاً، وقالوا: إن الشخص عينه على ماله ما دام حاملاً للمال، ثم إنه قد استل المال منه خفية، فتتحقق فيه شرط السرقة، وقالوا: الطرّار في حكمه إذا كان يبط الشنطة، مثل ما يقع في (المحافظ) ونحوها يقطعها ثم يستل المال منها، فقوله: (أو نحوه) مثل: المحفظة، أو الهميان والكمر، فإذا كان (الكمر) مشدوداً على صاحبه، ثم جاء واستل المال من (الكمر) وصاحبه حامل له قطعت يده.
فقوله: (الطرّار): هو الذي يبط الجيب (يبط الجيب) أي: يقطعه، سواءً كان القطع من أسفله أو من عرضه؛ لأنه لما قطع الجيب فقد أخذ المال من الحرز، وحينئذ يكون بط الجيب مثل كسر الأقفال في الصناديق، وكسر الأبواب، وهذا يعتبر أخذاً للمال من حرزه، فقالوا: إن صورة هذه السرقة -على هذا الوجه الذي اختار المصنف- توجب القطع.(386/2)
اشتراط أن يكون المسروق مالاً محترماً
قال رحمه الله: [ويشترط أن يكون المسروق مالاً محترماً].
أي: لا نقطع يد السارق إلا إذا توافرت الشروط في السارق، وفي المال المسروق، وفي فعل السرقة، ومن هنا: ابتدأ رحمه الله فقال: (يشترط أن يكون المسروق مالاً) والمال عند العلماء هو: كل شيء له قيمة فيعاوَض عليه، ويشمل الذهب والفضة وهو ما يسمى بالأثمان، ويشمل المثمونات، وعلى هذا: تقع السرقة في الذهب والفضة، وتقع في المجوهرات، وتقع في المعادن، مثل: النحاس، والحديد، والرصاص، والنيكل، والزنك، وكذلك تقع في الثياب، وتقع في الأطعمة، وتقع في الأشياء التي يرتفق بها كقطع الغيار الموجود في زماننا لاستصلاح الأدوات الكهربائية، أو أدوات النقل، كل هذا يعتبر مالاً له قيمة، وسمي المال مالاً؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه.
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال فالنفوس تميل بطبعها إلى الذهب والفضة، وكل شيء له قيمة.
لما قال رحمه الله: (أن يكون مالاً): هذا الشرط، مفهوم عكسه: أنه لو سرق شيئاً ليس بمال فلا قطع، والذي ليس بمال، مثل: أن يسرق آدمياً حراً، فالحر ليس بمال، لا يباع ولا يشترى، ومن هنا اختلف العلماء في سرقة الأطفال الصغار: فلو أنه اختطف طفلاً صغيراً؛ خدعه حتى خرج من المدينة، أو خرج به من بيت أهله، فبعد أن أخذه -كانوا في القديم يأخذونه ويبيعونه- أو اختطفه، وأصبح يستخدمه لخدمته، أو نحو ذلك.
الطفل الحر من الصغار غير المميزين والمجنون الذي لا يعقل، اختلف فيهما العلماء رحمهم الله، أما الحر البالغ فلا يمكن أن تقع السرقة به -كما ذكر العلماء- أن يكون نائماً ثم يسرقه، فجماهير السلف والخلف -رحمهم الله- على أنه لو سرق حراً كبيراً لا قطع؛ لأنه ليس بمال، ولا في حكم المال، ولا يباع ولا يشترى.
وأما إذا كان صغيراً مثل: الأطفال الذين لا يميزون، والمجانين الذين يُخدعون، ويسرقون إلى خارج المدن، ويقع هذا في ذوي العاهات، فبعض الأحيان يسرقهم ضعاف النفوس -نسأل الله السلامة والعافة- من أجل أن يتكسبوا بهم، أو نحو ذلك، فلو سرقه؛ هل تقطع يده أو لا؟ جمهور العلماء على أنه لا تقطع يده، فالجمهور على أنه لا تقطع يد من سرق الأطفال، ومن سرق الكبير المجنون، أو الطفل غير المميز.
وذهب بعض العلماء إلى أنه تقطع يده، واحتجوا بحديث ضعيف: أن رجلاً كان يسرق الصبيان، ثم يخرجهم من المدينة، ثم يبيعهم، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده، وهذا الحديث ضعيف؛ لا يصلح للاحتجاج به، وأجاب العلماء عنه سنداً: بالضعف، وأجابوا عنه متناً: بأنه يحتمل أن يكونوا صغاراً وصبياناً مماليك، وحينئذ يكونون من جنس الأموال؛ لأن المملوك يباع ويشترى.
وقوله: (مالاً محترماً) الشرط الأساسي: المال، ثم شرط الشرط: أن يكون محترماً؛ لأن المال منه ما هو محترم، ومنه ما ليس بمحترم، فإذا قلنا: إنه يشترط المال، هذا شرط يخرج منه: سرقة الحر كبيراً كان أو صغيراً، ومن اشتراط المال ذهب بعض العلماء إلى أن من سرق المصحف لا تقطع يده، إذا كانت قيمة المصحف تعادل النصاب؛ قالوا: لأن المصحف ليس بمال، هو كلام الله عز وجل؛ ولذلك لا يعتبر مالاً، لكن هذا ضعيف؛ لأن البيع والشراء ليس لكلام الله عز وجل، والبيع لم يقع لنفس المصحف، إنما هو قيمة الصحف، وكتابة هذه الآيات، والمعاوضة على هذا الشيء، وليس على كلام الله عز وجل؛ ولذلك جماهير السلف والخلف -رحمهم الله- أجازوا بيع المصاحف كما تقدم معنا في كتاب البيع، ومنعه الإمام أحمد -رحمه الله - في إحدى الروايات عنه، وقال ابن عمر: (وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف).
والصحيح: أن المعاوضة في المصحف واقعة على الورق، وعلى ما يكتب فيه المصحف، وعلى كتابة الآيات، ويجوز أن تستأجر شخصاً في كتابة القرآن، وتكون الأجرة على تعبه في الكتابة، وحينئذ الثمن المدفوع لشيء له قيمة، وجمهور العلماء أجازوا بيعه وخالفوا الإمام أحمد، قال الناظم: ومنع بيعه لدى ابن حنبل وكرهه لدى ابن شافع جلي أي: منع بيع المصحف الإمام أحمد، وكرهه الجمهور، ومنهم الشافعي.
إذا ثبت هذا؛ فإنه لو سرق المصحف، والمصحف له قيمة تعادل النصاب قطعت يده، وهكذا لو سرق كتب العلم.
وهناك شرط آخر لم يذكره -رحمه الله-: أن يكون مالاً منقولاً؛ لأن المال ينقسم إلى ثابت: وهو العقار، ومنقول: وهو من غير العقار والأثمان كما بيناه في البيع، وقلنا: إن المثمونات إما أن تكون من العقارات أو من المنقولات، فالأموال تنقسم: إلى ثمن ومثمن، والمثمن ينقسم إلى: عقار ومنقول، والثمن: هو الذهب والفضة، والمثمن: هو كل شيء من غير الذهب والفضة له قيمة، ثم هذا المثمن: إما أن يكون عقاراً كالبيوت، والأراضين، والمزارع، فهذه لا تقع فيها السرقة؛ لأن شرط السرقة: النقل، وهذه لا يمكن نقلها، فيسمى اغتصاباً ولا يسمى سرقة، فلا تقع عليه ضوابط السرقة، كما سيأتي في الشروط التي دلت عليها الأدلة.
ومن هنا: اشترط النبي صلى الله عليه وسلم في ثبوت السرقة: نقلها من الحرز، وثبوت الأخذ الذي هو شرط الفعل، وإذا ثبت هذا: فإن السرقة لا تتحق بالمنقولات، وعليه بنى العلماء: اشتراط أن يكون المال منقولاً؛ لكي يخرج العقار، فإن العقار لا قطع فيه، وكذلك لو أنه اغتصب عمارة، أو اغتصب مزرعة، أو اغتصب مخططاً، فإنه لا يعتبر سارقاً.
إذاً: يشترط أن يكون مالاً، وأن يكون المال متقوماً منقولاً.
وقوله: (محترماً)، المال ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون المال محترماً شرعاً، مثل: الذهب والفضة، والمعادن، والمجوهرات، والأكيسة، والأطعمة، ونحوها.
وإما أن يكون غير محترم شرعاً، مثل: الميتة الخمر الخنزير، فهذه كلها لا قيمة لها شرعاً، فلو أن شخصاً سرق خمراً؛ فإنه لا تقطع يده، مع أن الخمر قد تباع ولها قيمة، فهي مال في الشكل، لكن الشرع أسقط عنها المالية.
والدليل على أن الخمر والخنزير والميتة لا قيمة لها شرعاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام) فهذا يدل على أن هذه الأشياء ليس لها قيمة في الشرع، وإذا لم يكن لها قيمة في الشرع؛ فهي غير محترمة، فلو أنه سرق خمراً، نقول: إنه لم يسرق مالاً؛ لأن الخمر ليست بمال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار) والخمر لا تساوي ربع الدينار ولا أقل؛ لأن الشرع أسقط المالية عنها، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما أهداه الرجل المزادتين من الخمر امتنع من قبولهما، وقام رجل وسارّ المهدي، فقال له عليه الصلاة والسلام: (بم ساررته؟ قال: أمرته أن يبيعها يا رسول الله! قال: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها) وفي رواية: (حرم بيعها)، فلما قال: (حرم ثمنها، حرم بيعها) دل على أنه لا قيمة لها.
من هنا: اشترط العلماء المالية، وأن يكون المال منقولاً ليخرج العقارات، وأن يكون متقوماً محترماً شرعاً، فيخرج آلة اللهو، ويخرج الخمر، والخنزير، والميتة، فهذه لا قيمة لها شرعاً.(386/3)
حكم سرقة آلات اللهو
قال رحمه الله: [فلا قطع بسرقة آلة لهو].
آلة اللهو ينبغي أن يفصل في حكمها، آلة اللهو لا قيمة لها شرعاً، لكن لو كانت الآلة -مثلاً- مصنوعة من ذهب، فإنه إذا سرقها فقد سرق مالاً، إذا كانت مموهة بالذهب، مطلية بالذهب، مصنوعة من الذهب، وفيها ربع دينار من الذهب فأكثر؛ فقد سرق ربع الدينار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً)، ومن هنا: إذا كانت مصنوعة من مادة في الأصل لها قيمة، فإنه حينئذ لا ننظر إلى كونها آلة لهو، وإنما ننظر إلى وجود المالية في عين المال المسروق، ومن هنا: لو أنها كُسّرت جاز بيعها؛ لأنها كسرت، - إذاً: لها قيمة، وإذا كانت مطلية بذهب، أو فضة، وتعادل النصاب فأكثر فقد سرق مالاً معتبراً شرعاً، فكونها آلة لهو لا يضر، وبعض العلماء يفصل، ويقول: آلات اللهو إذا كانت لها قيمة في نفسها، بحيث لو كسرت تصلح أن تباع، وتكون قيمتها في البيع تعادل النصاب فأكثر، حينئذ يثبت القطع؛ لأنه سرق المال المعتبر شرعاً، أو ما يبلغ النصاب، وأما إذا كسرت ولا قيمة لها -أي: لا تعادل النصاب- فإنه لا قطع فيها.(386/4)
حكم سماع الدف
فقوله: (آلة لهو) خرج اللهو المأذون به شرعاً، مثل: الدف، فالدف مأذون به شرعاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف) فلما قال عليه الصلاة والسلام: (الدف) دل على أن الدف من آلات اللهو المأذون بها شرعاً، والمباحة، والنص في هذا واضح؛ ولذلك ضربت الجارية على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالدف، وسمع الدف عليه الصلاة والسلام، وأذن به عليه الصلاة والسلام في النكاح.
والعجيب! من البعض يقول: نعجب من الشيخ يفتي بحل جواز الدف، وكأنه منكر عظيم! يعتبرون أن هذا شيء لا يجوز، كيف يأذن النبي صلى الله عليه وسلم بضرب الدف في النكاح ويقول: (أعلنوا)؟ ولا يمكن أن يتحقق الإعلان إلا بسماع الناس له، ومن هنا: لا ينبغي للإنسان أن يحكم بالأحكام الشرعية بهواه وبالشيء الذي يألفه والذي لا يألفه، وإذا أنكر على غيره ممن بينه وبينه أخذ وعطاء، فلا يدعوه ذلك إلى ألا يتجرد للنص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعلنوا) وهذا خطاب عام، ومن هنا نقول: إن آلات الدف آلات محترمة شرعاً، لها قيمة، ولو أنه استأجر أمرأة لضرب الدف في العرس فبإجماع العلماء -رحمهم الله- على أنها إجارة شرعية، وذكر العلماء هذا وفرقوا بين الدف وغيره كما هو معروف في كتاب الشهادات، ففرقوا بين آلات اللهو والعزف وبين الدف، فالدف مأذون به شرعاً، وضربت الجارية على رأس النبي صلى الله عليه وسلم حينما قفل من غزوته، وكانت قد نذرت أن تضرب بذلك، ودخل عمر رضي الله عنه على المرأة وهي تغني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، وكان عند عائشة رضي الله عنه جاريتان تغنيانها بما كان في يوم بعاث، فالأصول الشرعية تقتضي جواز ضربه وسماعه، لكننا نقول: الإغراق في هذا الشيء والمبالغة فيه مكروهة، لكن لا نقول: إنه حرام، ولا نقول: يسمعه النساء ولا يسمعه الرجال، من أين هذا التفصيل؟! الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أعلنوا) ما قال: أعلنَّ، والنص واضح في هذا، وينبغي للإنسان أن يتجرد للنص وأن يتبع النص، وإذا سمع أحد من أهل العلم يفتي بشيء عنده دليل وعنده حجة، ويعلم أن هناك سنة وأن هناك دليلاً فإنه ربما يرد سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن رد سنة -والعياذ بالله- عن هوى ضل، فعلينا أن نتقي الله عز وجل في الأحكام الشرعية، وأن نفرق بين الدف وغيره، ونقول: إن الإغراق فيه وكثرة سماعه خلاف الأولى، أو نقول: إن هذا مكروه؛ لأنه يشغل عن ذكر الله عز وجل الذي هو أفضل، لكن لا نستطيع أن نقول: إن هذا حرام! وهل يتعبد الله عز وجل عباده أن يضربوا الدف بالنكاح بالمحرمات؟! وهل يأمر الله عز وجل بإعلان النكاح بالأمور الممقوتة شرعاً والمحرمة شرعاً؟! حاشا والله! إذا جاء النص فالإنسان يعمل به، وعليه أن يحترم أهل العلم ويحترم اجتهادهم ونظرهم؛ لأننا مأمورون بالوقوف عند النصوص، وعلينا أن نظن خيراً بأهل العلم المتقدمين الذين أجازوا، والمتأخرين مادام عندهم حجة، فنقف معهم وألا يدعو الإنسان إلى رد السنة بالهوى، وبالشيء الذي يألفه، فيرى الذي يألفه مسنوناً، والذي لا يألفه غير مسنون، ولو كان في بيئة تضرب الدف لكان شيئاً عادياً أن يقول: إنه جائز ومباح! فلذلك ينبغي لنا أن نتجرد للحق، وأن نعلم أن هناك سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا النوع من الآلات وهو الدف وأنه جائز ومشروع.
وإذا كسر الدف وجب ضمانه، وإذا باع الدف واشتراه جاز ذلك؛ لأنه آلة لم يحرمها الشرع، ولم يحرم سماعها الشرع، وعلى هذا لو سرق هذه الآلة يجب القطع إن كانت تساوي نصاباً أو أكثر، وهذا على الأصل عند أهل العلم.(386/5)
حكم سرقة مال محرم كالخمر
قال رحمه الله: [ولا محرم كالخمر].
ولا تقطع اليد في محرم كالخمر، المصنف -رحمه الله- أسقط المالية عن آلة اللهو، وعن الخمر، والخمر إسقاط المالية عنها لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام) فأسقط عن الميتة والخمر والخنزير المالية، والأصنام مفصل فيها على حسب مادتها كما هو معروف في قول جماهير العلماء والأئمة رحمهم الله، ولذلك لو كانت الأصنام من ذهب وسرقها شخص، وفيها ما يعادل النصاب فأكثر؛ قطعت يده، والخمر الخنزير والميتة محرمة العين؛ ولذلك لا مالية لها.
يقول رحمه الله: (فلا قطع)، هذا مفرع على اشتراط المالية، أما الخمر ليست بمال، والميتة ليست بمال، والخنزير ليس بمال، والدليل على أن هذه الأشياء ليست بمال: حديث جابر بن عبد الله في الصحيحين وهو المتقدم، وأما الخمر ففيها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي حرم شربها حرم بيعها)، والخنزير فيه حديث نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان كما في الحديث الصحيح: أنه ينزل حكماً عدلاً مقسطاً، وأنه يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب) فلما قال: (يقتل الخنزير) أسقط عنه المالية، ودل على أنه لا قيمة له شرعاً، ومن هنا: لو أنه سرق خنزيراً فإنه لا يجب عليه القطع.
ولو سرق حيواناً محنطاً، وهذا الحيوان المحنط قيمته -مثلاً- خمسة آلاف ريال، وهذا الحيوان المحنط من الميتات، فنقول: لا قطع؛ لأنه ليس له قيمة شرعاً، ولو سرق آلة لهو، وهذه آلة اللهو من خشب فلو كسرت لا تساوي شيئاً، أو تساوي ما دون النصاب؛ فإنه لا قطع، لكن لو كسرت مادتها وفيها ربع دينار فأكثر أو ثلاثة دراهم فأكثر؛ ففيه القطع، ويفصل بهذا التفصيل.(386/6)
اختلاف العلماء في اشتراط النصاب لقطع يد السارق
قال رحمه الله: [ويشترط أن يكون نصاباً، وهو: ثلاثة دراهم، أو ربع دينار.
أو عرض قيمته كأحدهما، وإذا نقصت قيمته المسروق أو حكمها السارق لم يسقط القطع].
ذهب جمهور العلماء -رحمهم الله- ومنهم الأئمة الأربعة: إلى أننا لا نقطع يد السارق حتى يكون الذي سرقه قد بلغ النصاب، والأصل في ذلك: ما ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً) وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على اعتبار النصاب فقال: (في ربع دينار فصاعداً) فدل على أن ما دون ربع الدينار ليس بمحل للقطع، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام في البستان إذا سُرق منه الثمر بعد أن يؤويه الجرين أنه قال: (فإذا سرق منه بعد أن يؤويه الجرين -الذي هو الحرز- ما يعادل ثمن المجن قطعت يده) فاشترط عليه الصلاة والسلام شرطين: الشرط الأول: أن يكون الثمر قد أواه الجرين: وهو بيت الحفظ للثمرة، وهو حرز الثمرة، أما إذا كان على النخلة وسرق فلا قطع.
الشرط الثاني: أن يكون قد بلغ النصاب، فقال: (إذا بلغ ثمن المجن) وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه قطع في المجن، قالت أم المؤمنين عائشة حينما سئلت عن المجن، قالت: إنّ قيمته كانت ربع دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم.
فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط النصاب للقطع في السرقة، ومن هنا: ذهب الأئمة الأربعة إلى أننا لا نقطع في القليل والكثير، وإنما يشترط: أن يكون المال المسروق قد بلغ نصاباً، واختلف الأئمة الأربعة في قدر النصاب كما سيأتي، لكنهم متفقون على أن النصاب شرط من شروط السرقة.
وذهب الظاهرية رحمهم الله إلى أنه لا يشترط النصاب، وأن من سرق أي شيء قليلاً كان أو كثيراً؛ فعليه القطع، وهذا مبني على عموم القرآن في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، قالوا: إن الله لم يشترط نصاباً، وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) قالوا: والبيضة لا تعادل ربع الدينار، وأجيب عن الدليلين بما يلي: الدليل الأول وهو قوله تعالى: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)) عام مخصص بالسنة، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص، وأن العام من النصوص من الكتاب والسنة يجب حمله على الخاص، وحينئذ نقول: إن هذا النص وهو قوله تعالى: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)) قد جاء ما يبين لنا حد السرقة شرعاً في السنة، فلا نعتبر ما دون النصاب سرقة، ولكن نوجب فيه تغريم السارق ضعفي قيمته، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث السنن، ولا نقطع، فإذا كان دون النصاب فإنه يغرم ضعفي القيمة ويؤدب ويعزر، ولكن لا تقطع يده.
أما بالنسبة لاستدلالهم بحديث: (لعن الله السارق) فأجيب بأن البيضة هي من السلاح، وتكون غطاءً للمقاتل في قتاله، ومنها ما يعادل ثمنه الربع دينار، فمعنى قوله: (لعن الله السارق يسرق البيضة) أي: ما يعادل القطع، والحبل منهم من أجاب: بأن حبل السفن يعادل ربع الدينار، ولكن الأنسب في هذا الحديث أن يجاب عنه من أحد وجهين: الوجه الأول: أن نقول: أنه خرج مخرج المبالغة، وما خرج مخرج المبالغة لم يعتبر مفهومه، يعني: بولغ في الأمر، وليس المراد به اللفظ، مثل قوله: (الحج عرفة) ليس المراد: أنه لا يوجد حج إلا الوقوف بعرفة فقط، وإنما المراد به: المبالغة، وبيان عظم أمر عرفة، وهنا: عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم السرقة فقال: (يسرق البيضة فتقطع يده)، وهذا على سبيل المبالغة والتبشيع.
الوجه الثاني: أن نقول: إن هذا الإطلاق مقيد بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون المراد به: ما عادل قيمة السرقة.
هذا بالنسبة لمسألة اشتراط النصاب، فالصحيح: أنه لا نقطع اليد إلا إذا بلغ المال المسروق نصاباً، وأن هذه الإطلاقات في الكتاب والسنة مقيدة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه: فإننا لا نقطع إلا فيما يكون نصاباً.(386/7)
قدر النصاب في مال السرقة
إذا كان النصاب معتبراً شرعاً؛ ف
السؤال
كم هو النصاب؟ ذهب الحنابلة، والمالكية من حيث الجملة -وعندهم تفصيل- إلى أن النصاب ما يعادل ربع الدينار من الذهب، وثلاثة دراهم من الفضة، والمالكية يرون أن الدراهم هي الأصل، والحنابلة يرون أن الدراهم والدنانير كلاهما أصل، أو ما يعادل قيمة أي واحد منهما، وهذا المذهب هو الذي اختاره المصنف -رحمه الله- ودرج عليه، وهو قول طائفة من السلف رحمهم الله، هذا القول الأول.
القول الثاني: أنه لا يعتد إلا بربع دينار، وأن نصاب السرقة هو: ربع دينار، ولا ينظر إلى الفضة، وأنه لا بد من التقييم بالذهب وحده، وهذا مذهب الشافعية.
القول الثالث: أن النصاب هو: ربع دينار، أو عشرة دراهم، وهو مذهب الحنفية رحمهم الله.
والذين قالوا بأن العبرة بربع دينار أو بثلاثة دراهم، أو ما يعادل قيمة أحدهما استدلوا بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأما ربع الدينار فالحديث ثابت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً) إذاً: هذا أصل في الذهب، ونعتبر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار) أن ما يساوي من الذهب ربع الدينار فأكثر نقطع به.
وأما الدراهم: فعندنا حديث ابن عمر رضي الله عنهما وهو في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في دلو قيمته ثلاثة دراهم.
وهذا يدل: على أن الثلاثة دراهم نصاب في السرقة.
والذين قالوا: إن العبرة بربع الدينار -وهم الشافعية- احتجوا بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
والذين قالوا: إن العبرة بعشرة دراهم استدلوا بحديث الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (لا قطع إلا في عشرة دراهم)، وهذا حديث ضعيف.
والذي يترجح هو القول بأن العبرة بربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو يعادل أي واحد منهما.
والفرق بين قول الشافعية والحنابلة: أنه لو سرق ثوباً وقيمة هذا الثوب -مثلاً- ثلاثة دراهم، ولكنها لا تعادل ربع الدينار، فحينئذ عادل نصاب الفضة، ولم يعادل نصاب الذهب، فالشافعية لا يقطعون، والحنابلة يقطعون، وهو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في المجن وقيمته ثلاثة دراهم، وهم يجيبون عن هذا، ولكن يعادَل بالذهب أو بالفضة، أو ما هو معادل لقيمة الذهب أو قيمة الفضة، وهذا هو الصحيح، وله أصل، واحتج بعض العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة مثل الإمام ابن قدامة بأن هذا التقدير، وهذا المسلك اعتبره نفس الحنفية، والشافعية في كتاب الزكاة، واعتبروه في تقييم الأنصبة، واعتبروه في الديات في القتل كما مر معنا.
إذاً: قول الحنابلة في هذه المسألة أشبه وأولى -إن شاء الله- بالترجيح وأن العبرة بربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو ما يعادل إحدى القيمتين.
ويتفرع على هذا: إذا قلنا: ربع دينار؛ أنه يقطع إذا كسر الدينار، وأخذ من هذا الكسر ما يعادل الربع، أو كان فيه كسرة تعادل ربع الدينار، ويشترط في قطعه بربع الدينار: أن يكون وزنها خالصاً من الذهب، فلو كان ربع الدينار فيه غش مضروب، وفيه مادة من النحاس، بمقدار عشرة في المئة، أو عشرين في المئة، مغشوش بهذا القدر؛ فإن ربع الدينار ليس بخالص، فلا بد أن يكون مصفىً من الذهب بعدل ربع الدينار، فإذا نقص بالشوب؛ فإنه لا قطع.
فيستوي في الربع الدينار أن يكون ربع دينار، أو يكون مقطعاً أجزاء، ويستوي أن يكون من الدينار نفسه، أو يكون من الذهب تبراً، أو حلياً، أو سبائك، وكل هذا إذا عادل الذهب الخالص منه ما قيمته ربع دينار؛ فإنه تقطع به اليد.
كذلك قولهم: ثلاثة دراهم، فإن أي شيء من الفضة يعادل بعد التصفية من الشوب ثلاثة دراهم فإنه تقطع به اليد.
يستوي أن تكون الفضة من الدراهم نفسها ثلاثة، أو تكون ثلاثة دراهم مكسرة، أو تكون قطعاً فضية وزنها وزن الثلاثة دراهم خالصة، أو تكون -مثلاً- أقلاماً، أو حديداً مطلياً بفضة ولو صفي هذا الطلاء الموجود لعادل ثلاثة دراهم؛ ففيه القطع.
كذلك أيضاً: ما قيمته ربع دينار، وما قيمته ثلاثة دراهم: لو أنه سرق مجوهرات، فإننا ننظر إلى قيمة هذه المجوهرات، فلو سرق خاتماً من زبرجد، أو خاتماً من عقيق، أو خاتماً عليه أحجار كريمة، أو خاتماً من حديد، نظرنا قيمة هذه الأحجار الكريمة وقيمة الخاتم، فإن كان هذا الخاتم من حديد بنقشه وما فيه من الأحجار الكريمة وما هو مرصع به من الجواهر يعادل ربع الدينار في قيمته أو يعادل ثلاثة دراهم في قيمته؛ قطعنا يده.
وهكذا لو أنه دخل إلى محل وكسر حرزه وسرق منه -مثلاً- كيس أرز أو كيس سكر نظرنا إلى قيمة هذا السكر أو الأرز، فإن كانت قيمته تعادل ربع الدينار أو تعادل قيمته ثلاثة دراهم؛ أوجبنا القطع.
ولو دخل -مثلاً- مكتبة، وكسر بابها، ودخل إلى داخلها، فسرق منها كتباً أو أقلاماً أو دفاتر، أو دخل إلى محل قماش فسرق منه طاقات قماش؛ ننظر إلى عدل هذه الأشياء من غير الذهب والفضة بالذهب والفضة، فإن بلغت بالذهب ما قيمته ربع الدينار فصاعداً قطعت يده، وإن بلغت بالفضة ما قيمته ثلاثة دراهم فصاعداً قطعت يده، وهذا هو الصحيح، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وأن الأمر لا يختص بنصاب الذهب، بل إنه يشمل الذهب أو الفضة أو ما يعادل إحدى القيمتين.(386/8)
اعتبار قيمة المسروق عند إخراجه من الحرز
قال رحمه الله: [وتعتبر قيمتها وقت إخراجها من الحرز].
أو عرض قيمته -أي: قيمة النصاب- وقت إخراجها من الحرز، مثل ما ذكرنا في الأطعمة والأكسية، لو أنه مثلاً: جاء إلى مستودع فيه حديد وسرق قطع حديد، أو جاء إلى قطع غيار وهي في حرزها محفوظة وكسر أقفالها ودخل إلى الحرز فأخرج حديداً قيمته تعادل النصاب فأكثر؛ فإذا وقع الأمر على هذا الوجه فهو سرقة؛ لأنه عادل النصاب.
لكن
السؤال
هل العبرة في قيمة النصاب أثناء أخذ المسروق أم العبرة بعد إخراجه من الحرز؟ بعض العلماء يقول: العبرة بوقت الأخذ، وبعضهم يقول: العبرة بوقت خروجه من الحرز.
قلنا: إنه يشترط أن تكون القيمة وقت الخروج؛ لأن السرقة لا تتحقق إلا بالإخراج، فلو أنه كسر القفل وأراد أن يخرج المال من الصندوق ولم يخرجه فليس بسارق؛ لأنه لم يأخذ، وكذلك لو أنه دخل إلى مستودع الحديد أو مستودع قطع الغيار، أو المكتبة، أو دخل إلى محل القماش، فهذا شروع في الجريمة، والشروع في الجريمة لا يعتبر جريمة، يعني: لا يأخذ حكم الجريمة كلها؛ لأن الله جعل لكل شيء قدره، فمن عمل مقدمات الزنا ولم يزن فليس بآخذ حكم الزاني، ومن هنا: شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الجرائم التي لها عقوبات لمعرفة الفعل، حتى أنه سأل ماعزاً رضي الله عنه، وشدد عليه حتى يتحقق أن الجريمة وقعت، وأن هناك فرقاً بين الشروع في الجريمة وبين الجريمة نفسها، فالرجل حينما اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصاب من المرأة دون الحد، فهذا شروع في الجريمة، ولكنه لم يصل إلى الجريمة نفسها، فمن دخل إلى محل فيه قطع غيار، أو دخل إلى محل فيه المال فكسر أغلاقه، ولكنه لم يخرج؛ فليس بسارق، فإذا أخرج المسروق فقد وقع فعل السرقة، حينئذ إذا أخرج وتمت صورة الإخراج المعتبرة شرعاً؛ نظرنا في قيمة المخرج، وهنا يرد السؤال عن النصاب: هل الذي أخرجه يعادل النصاب أو لا يعادله؟ فائدة المسألة: أنه لو دخل وكسر الأغلاق ووصل إلى داخل الحرز، ولكنه لم يخرج المال من الحرز فليس بسارق كما سيأتينا، فلو كانت قيمة المال الذي أخذه أثناء أخذه تعادل ربع دينار، ولكنه لما أخرجه نقصت قيمته عن ربع الدينار؛ فليس بسارق، أي: أنه لم يبلغ نصاب السرقة؛ لأن العبرة بوقت الإخراج، وليس العبرة بوقت الشروع في الجريمة، أو فعل الجريمة نفسها، ومن هنا اشترط العلماء: أن تكون القيمة وقت الإخراج.
ويترتب على هذا: ما لو أفسد المال قبل إخراجه، فلو أنه جاء -مثلاً- يريد أن يسرق وعاءً من الزجاج نفيساً غالياً، وكسر الأغلاق ودخل، ثم أراد أن يحمل الوعاء فسقط من يده فانكسر، ولكنه لم يخرجه من حرز، فحينئذ لم تتحقق السرقة، ويعتبر جناية إتلاف، وفيها الضمان، فلو أخذ أجزاء هذا المكسور، وكانت أجزاء المكسور تعادل ربع الدينار فهي سرقة، ولو أخذ أجزاء المكسور وهي لا تعادل ربع الدينار فليست بسرقة؛ لأنها دون النصاب، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا أخذ -أي: من الثمر- بعد أن يؤويه الجرين ما قيمته ثمن المجن قطع) فقال: (أخذ) فاشترط عليه الصلاة والسلام الأخذ، وقال: (ما قيمته ثمن المجن) فجعله عدلاً بالنصاب، ومن هنا نعتبر قيمة النصاب وقت الإخراج، ومن هنا: لو أنه أراد أن يسرق شاة، وهذه الشاة قيمتها ربع دينار، ثم دخل إلى زريبة الغنم وأمسك بالشاة، ثم ذبحها حتى لا تصيح وتفضحه، فلما ذبحها أخرجها وهي مذبوحة نظرنا: فإذا كانت بعد الذبح تعادل ربع الدينار؛ فحينئذ ثبتت السرقة، وإذا كانت بعد الذبح ينقصها الذبح عن ربع الدينار، وعن ثلاثة دراهم فليست بسرقة؛ لأنه لم يأخذ مالاً معادلاً للنصاب.
إذاً: العبرة عند العلماء -كما اختاره المصنف رحمه الله- بقيمة النصاب وقت الإخراج، ولو أنه في الساعة الثانية كسر الأغلاق، وفي الساعة الثالثة جمع المسروقات وخرج بها، فعند خروجه في الساعة الثالثة كان قيمة هذه الأشياء المسروقة لا تعادل النصاب سقط الحد مع أنه وقت الكسر للأقفال، ووقت الشروع في الجريمة كانت تعادل النصاب.
هنا مسألة ذكرها بعض العلماء: يقولون: لو أنه دخل وأتلف الشيء، مثل: أن يبلعه، لو أنه مثلاً: أخذ ذهباً وبلعه حتى لا يعرف أنه سرقه، ثم خرج به، فهل هو سارق؟
الجواب
نعم، يعتبر سارقاً؛ لأنه إذا بلعه فقد حفظه في جوفه كما لو حفظه في جيبه، فالجوف مثل الجيب، وهذه حيلة لبعضهم أثناء السرقة: أنهم يبلعون بعض الأشياء المسروقة، ثم يأخذونها -أكرمكم الله- إذا خرجت من الجسم، وبعض العلماء يقول: لا، هذه شبهة: إذا بلعه فليس بسارق؛ لأنه لم يأخذه محمولاً، وهذا ضعيف؛ لأن الحمل بالجوف كالحمل باليد، ولا شك أنه إذا خرجت فضلات الجسم خرج هذا الشيء، وبعد ذلك يتحقق أنه سرق، فالذين يقولون: إنه لا يعتبر سارقاً، يقولون: لا يعتبر سارقاً إلا إذا أخرجه، فإذا أخرجه فإنه سارق، وإذا لم يخرجه فليس بسارق، لماذا؟ قالوا: لأنه إذا وضعه في جوفه ولم يخرجه احتمال أنه يموت قبل أن يخرجه، وحينئذ لا تتحقق السرقة، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يشترط أن ينتفع به، وإنما يشترط فقط أن يتسبب في إخراجه من الحرز، كما لو أنه أخذ المال، ورماه من فوق الجدار، ثم تأخر بالخروج، وجاء سارق آخر وأخذه، ففي هذه الحالة يعتبر سارقاً؛ لأن السرقة تتحقق بالإخراج، سواءً هو الذي انتفع، أو انتفع غيره، فالجريمة وقعت، ومن هنا يقال: العبرة بوجود الأخذ، والعبرة في القيمة بوقت الإخراج، لا بوقت الأخذ.
قال رحمه الله: [فلو ذبح فيه كبشاً، أو شق فيه ثوباً، فنقصت قيمته عن نصاب، ثم أخرجه، أو تلف فيه المال؛ لم يقطع].
فلو ذبح فيه كبشاً، في داخل الزريبة قبل أن يخرجه من الحرز، وكانت قيمة الكبش مذبوحاً أقل من قيمة النصاب، وقيمته حياً تعادل قيمة النصاب سقط الحد؛ لأنه لما خرج أخرج مالاً دون النصاب.
وقوله: (أو شق ثوباً)، جاء إلى فستان يريد أن يسرقه، وهذا الفستان تعادل قيمته قيمة النصاب إذا كان مفصلاً، ولكنه لو قطع فإنه لا يعادل قيمة النصاب، فجاء يريد أخذ الفستان فشاء الله عز وجل أن ينشق الفستان أو أنه فسد بأي طريقة، سواءً نزعه أو أراد أن يحفظه فانشق، أو هو شقه بالقصد، فكل هذه الأحوال مادام أنه حصل الإتلاف الذي ينقص القيمة عن النصاب فإنه يؤثر.
وقوله: (فنقصت قيمته عن نصاب)، يعني: أثناء الخروج.
وقوله: (ثم أخرجه، أو تلف فيه المال لم يقطع)، أقول: لا تستعجبوا من الأمثلة! لأنه لا بد أن نأتي بأمثلة نطبق عليها قواعد العلماء -رحمهم الله- ومن هنا يظهر الفقه، فلو سرق شخص طبق بيض، وطبق البيض قيمته تعادل النصاب، فلما أراد أن يخرج سقط البيض من يده على الأرض وتلف قبل أن يخرج، فحينئذ لا قطع، ولو أنه أخذ خلاً في إناء من زجاج، والخل هذا قيمته ربع دينار فأكثر، أو ثلاثة دراهم فأكثر، ثم جاء يحمله فانزلق من يده فانكسر، فحينئذ تلف الخل، وتلف البيض، فهذا التلف يذهب القيمة، فلا حد ولا قطع؛ لأنه لم يسرق، والشروع في الجريمة لا يوجب ثبوت الحد كما ذكرنا.(386/9)
الأسئلة(386/10)
لا ضمان ولا قطع في قتل أو سرقة الكلاب
السؤال
هل كلب الصيد أو الحراسة من المال المحترم؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصبحه ومن والاه.
أما بعد: كلب الصيد ليس بمال محترم، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال: (ثمن الكلب خبيث) وفي لفظ: (ثمن الكلب سحت)، وفي الصحيحين أيضاً من حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب)، وفي الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أنه سئل عن بيع الكلب والسنور فقال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في سنن أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وقال: (إن جاءك يريد أخذ ماله، أو أخذ ثمنه فاملأ كفه تراباً)، فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على أن الكلب ليس بمال، وليس له قيمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاءك يريد أخذ ماله فاملأ كفه تراباً)، فأسقط المالية عن الكلب، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكلب المأذون باتخاذه -ككلب الصيد والحرث والماشية- وبين غيرها، ومن هنا: فالحكم عام، وعليه: فإنه لو قتل كلب صيد، فلا ضمان على من قتله، وقد تقدمت معنا في باب البيع هذه المسألة، والله تعالى أعلم.(386/11)
الفرق بين سرقة الثمار من النخل وبين السرقة من مكان مسور
السؤال
أشكل علي أنه لا قطع على من سرق من النخل، وبين من سرق من مكان مسور لا يدخله أحد إلا بإذن صاحبه، مثل مزارع النخيل؟
الجواب
الحرز لا بد من اعتباره في السرقة، والنبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الثمرة على النخلة، وبين الثمرة في حرزها، فقال: (لا قطع في ثمر ولا كثر)، والحديث في السنن عند أبي داود، وابن ماجة، والترمذي، وأحمد في مسنده، والنسائي، وهو حديث صحيح، فبين أنه لا قطع فيها، وروى النسائي -وهو حديث صحيح أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أخذ بفيه -أكل- من غير خبنة، ولم يحمل شيئاً فلا قطع، فإن أخذ -من الثمر- وخرج به -من البستان- قبل أن يؤويه الجرين فعليه العقوبة، وضعف القيمة ... ) يعني: يعاقب بأن يدفع قيمة الثمر مرتين، ويعاقب بالتعزير كما تقدم معنا ما كان دون الحد، (ومن أخذ بعد أن يؤويه الجرين ما قيمته ثمن المجن قطع)، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الحرز، ولم يجعل الثمرة على النخل حرزاً، ومن هنا لو قص العرجون من فوق النخلة، ولوكان يساوي ربع الدينار فإنه لا قطع عليه؛ لأنه لم يحصل الشرط وهو الدخول والأخذ من الحرز.
وأما مسألة البساتين نفسها إذا كانت محاطة، فإن هذا السياج ليس وحده هو الحرز؛ لأن السنة بينت أنه يشترط في الثمر أن يؤويه الجرين؛ لأن البساتين مثل المساجد، ومثل الأماكن العامة، يدخلها الناس، فمنهم من يدخل بإذنه، ومنهم من لا يدخل بإذنه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من مر ببستان فدخله فأكل منه غير متأثل -يعني: غير متمون- وأكل على قدر كفايته فإنه ليس بسارق، وهذا مما أذن به، ولذلك الخارص إذا خرص النخلة أسقط منها هذه الأشياء المأخوذة، ولا زكاة فيها، فالشريعة فرقت بين الأخذ من البساتين من ثمارها ومما فيها من النتاج مادام أنه لم يؤوه الحرز والجرين كما في الثمر، وبين الذي قد آواه الجرين، فما كان داخل الحرز وأخذ من حرزه ففيه القطع، وهذا تفريق السنة، وليس تفريقنا نحن, فليس بمحل إشكال.
وكونك تقول: لو جاء وأخذ من المستودعات المحاطة بأسورة أنه تقطع يده، فهناك فرق، فالمستودعات المعدة للحفظ أسورتها حرز لها، إذا وضعت عليها أسورة تتناسب مع المال المحفوظ، وكانت في موضع وعليها حراسها، ومن هنا: يكون الشيء الموضوع وفي الحرز، والعين الحافظة، فإذا جاء وتغفل الحافظ وسرق المال، فإنه قد سرق من حرز، بخلاف الثمر الذي على النخل، وهذا كله بتفريق الشرع، وهذا مال حرزه أن يؤوى إلى الجرين وهو الثمر، وهذا مال حرزه أن يكون محفوظاً داخل هذه الأسورة، أو داخل هذا الحائط، ونحو ذلك، وعلى هذا لا إشكال، كل مال يعتبر فيه الحرز بحسبه، والله تعالى أعلم.(386/12)
عدم الفرق بين قولك: اتفق العلماء وأجمع العلماء
السؤال
هل هناك فرق بين الاتفاق والإجماع؟ وهل يعتبر اتفاق العلماء إجماعاً؟
الجواب
الإجماع له صيغتان: صيغة قوية، وصيغة ضعيفة، بعض العلماء يقول: قوية وضعيفة، وبعضهم يقول: صريحة وغير صريحة، فصيغة الإجماع القوية والصريحة: أجمعوا واتفقوا، فإذا قال العالم: اتفق العلماء، أو قال: أجمع العلماء، فهو إجماع، ولا يقال: اتفقوا وأجمعوا إلا فيما فيه إجماع مثل ما نقول: اتفقوا على وجوب الصلاة، واتفقوا على وجوب الوضوء، هذا إجماع، والاتفاق بهذه الصيغة يعتبر من صيغ الإجماع القوية والصريحة.
أما صيغة الإجماع الضعيفة فهي: لا خلاف، ولا نعلم مخالفاً، ولا أعلم مخالفاً، ولا يُعلم له مخالف، فهذه كلها من الصيغ الضعيفة، يحتمل ما قلنا: لا نعلم خلافاً، حسب علمنا، ولكننا لم نعلم، ولا يُعلم مخالف -هذه بصيغة البناء للمجهول- ولكن قد يوجد المخالف، لكن حينما تقول: أجمعوا، فمعنى ذلك: أنهم اعتبروا الحكم المذكور في الإجماع، والاتفاق إجماع.
وبعضهم يقول: (اتفقوا) للأئمة الأربعة، و (أجمعوا) لغيرهم، وهذا غير صحيح، فالعلماء وأئمة الأصول يقولون: إنّ اتفقوا: من صيغ الإجماع الصريحة, وليست خاصة بالمذاهب الأربعة، فينبه على هذا، لكن إذا كان عالم من العلماء سار على مصطلح ففرق بين أجمعوا واتفقوا، فجعل اتفقوا في الأئمة الأربعة، وأجمعوا فيما زاد عنهم وهو الإجماع المحرر، فهذا اصطلاح خاص، ولكن الأصل عند علماء الأصول: أن صيغة أجمعوا واتفقوا واحدة، ولا فرق بينهما، والله تعالى أعلم.
الإمام ابن رشد والإمام ابن قدامة من أئمة النقل للإجماع يعبران بـ (اتفقوا)، ويعبران بـ (أجمعوا)، والإمام ابن حزم رحم الله الجميع يقول في مراتب الإجماع: واتفقوا، فيعبر عن الإجماع بالاتفاق، فمسألة أن صيغة (اتفقوا) لا تدل على الإجماع، هذا ليس بصحيح، بل تدل على الإجماع، وعلى هذا تعتبر من الصيغ القوية، وعرفوا الإجماع بقولهم: هو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم على حكم من الأحكام الشرعية في أي عصر من العصور، قالوا: الإجماع: اتفاق، فعبروا بالاتفاق عن الإجماع، فدل على أنهم يعتبرون الإجماع اتفاقاً.(386/13)
متى تدرك الركعة مع الإمام
السؤال
بمَ تدرك الركعة مع الإمام؟
الجواب
تدرك الركعة مع الإمام بإدراك التكبير للركوع والفراغ منه قبل أن يبدأ الإمام بالتسميع، فإذا وجدت الإمام قد حنى ظهره، وفرغت من الله أكبر، فكبرت للركوع قبل أن يبدأ بالسين من (سمع) فقد أدركت الركعة، وإذا أدركت الركعة أدركت الصلاة، وعلى هذا ففي يوم الجمعة، لو أنك جئت في الركعة الثانية والإمام في الركوع، وقلت: الله أكبر، وأدركت الركوع قبل أن يرفع الإمام، وقبل أن يبدأ بالسين من (سمع) فقد أدركتها جمعة، فتضيف ركعة واحدة، ولكن لو أن المأموم جاء وقال: (الله) وقبل أن يقول: (أكبر)، قال الإمام: سمع، فحينئذ لم يدرك الركوع، ويبقى واقفاً؛ لأنه أدرك ما بعد الركوع، فإذا بدأ الإمام بالسين من (سمع) انقطع الإدراك، سواءً كان ذلك قبل أن يكبر للركوع، أو أثناء تكبيره للركوع، وقبل الفراغ، فالشرط أن يفرغ من الله أكبر، قبل أن يبدأ الإمام بالسين من سمع، حتى لو رأيت رأسه مرفوعاً، ولم يتكلم وكبرت أنت بسرعة، وتكلم بعد أن كبرت فإنك قد أدركت الركوع، فالعبرة بالانتقال بالفعل وليس بالقول.(386/14)
كيفية صلاة المجتهدين المختلفين في القبلة جماعة
السؤال
رجلان اجتهدا فتخالفا في القبلة، فأحدهما يصلي إلى جهة المشرق، والآخر إلى جهة الشمال، هل من الممكن أن يصليا جماعة وهما على هذه الحالة؟
الجواب
يصلي كل واحد إلى جهته؛ لأنه يعتقد أن القبلة في غير جهته، فإذا صلى مع الآخر فقد صلى إلى غير قبلة، ومن هنا نص الجمهور على أنه: إذا اختلف مجتهدان في قبلة لم يجز لأحدهما أن يصلي وراء الآخر، وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز أن يصلي أحدهما وراء الآخر، وجعلوا هذه المسألة من مسألة الاقتداء في المخالف في الفروع، وهي مسألة تحتاج إلى تحرير، والأول أحوط وأقوى وأولى إن شاء الله، والله تعالى أعلم.(386/15)
ترك صلاة الجماعة للضرورة
السؤال
أنا طبيب في الطوارئ في أحد المستوصفات الطبية، هل يجوز لي الصلاة في جماعة في العمل حيث أنه توجد أحياناً حالات حرجة؟
الجواب
الأطباء تتعلق بهم أرواح الناس، ولا شك إذا كان في وقت يخشى فيه إتيان الحالات الطارئة، أو خُصص للحالات الطارئة، وهكذا من يكون في حراسة أموال الناس، أو حراسة أرواحهم كأجهزة الأمن ونحوها، أثناء تلبسهم بهذه الأعمال يرخص لهم في ترك الجماعة، ويرخص لهم في ترك الجمعة إذا حصلت ضرورة، وهذا مبني على أصول الشريعة: أنه إذا خشي على الأنفس يجوز لهم أن يصلوا جماعة في أعمالهم، خاصة وأنه يقول: أصلي جماعة في عملي، فهذا لا بأس فيه، ولا حرج، بل حتى لو أدى الأمر إلى ترك الجماعة فهو مرخص له.
وتوضيح ذلك: أنه لو جاءته حالة طارئة بين الحياة والموت، وتوقف لإنقاذ هذه الجراحة على عمل جراحي، أو تدبير جراحي، فإنه في هذه الحالة مسئول أمام الله عن هذه النفس، وتعين عليه شرعاً أن ينقذها، حتى إن بعض العلماء يقول: كل طبيب قدر على إنقاذ نفس ولم ينقذها فإنه -والعياذ بالله- يعتبر قاتلاً، كما لو رأى غريقاً وهو قادر على إسعافه وإنقاذه، ولم يسعفه يعتبر قاتلاً، حتى إن الإمام ابن حزم -رحمه الله- يرى أن عليه القصاص، ويقول: لأنه كان قادراً على إنقاذه، وهذا قول مرجوح؛ لأنه بعض الأحيان لا يقصد قتله، لكن انظروا كيف يشدد العلماء في التساهل في هذا الحق! فهم يعتبرونه من الفرض العيني إذا توقف إنقاذ هذه النفس عليه، وأما الدليل: فلا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم تخلف عن الجماعة للمرض، وكان معه العباس، وعلي رضي الله عنهم، ثم خرج إلى الصلاة وهو يهادى بينهما، فمعنى ذلك: أنهما لم يحضرا الجماعة، وكانا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدلوا أيضاً بحديث أنس في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن، قال أنس رضي الله عنه: (فصلى في المشربة فصلينا بصلاته)، فتركوا الجماعة في المسجد، وصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المشربة، وله أصل من فعل السلف: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع الصارخ على ابن عمه، وهو في سكرات الموت، وهو خارج إلى صلاة الجمعة، فترك الجمعة ورجع إلى ابن عمه، وهذه أحوال خاصة إذا خشي فيها على النفس الموت والهلاك.
فالأطباء عليهم مسئولية، تصور لو أن طبيباً قال: أذهب وأحضر الجمعة، وذهب وحضر الجمعة، وجاءت حالة طارئة في نفس وقت صلاة الجمعة، فمن يكون المسئول أمام الله عز وجل؟ هو خُصص من ولي الأمر، وأعطي راتبه من بيت مال المسلمين على أن يقوم بهذا الأمر، ويُكلف به، ويناط به، فقد تعين عليه أن يقوم به، لكن لو أنه أراد أن يخرج إلى موضع قريب يصلي به واحتاط، وقال لهم: بمجرد أن تروا حالة طارئة أخبروني، فهذا إذا كان يتدارك فيه الأمور لا بأس، أما لو أنه لا يتدارك الأمور، فلا يجوز التغرير بأرواح المسلمين، والمخاطرة بها، ولذلك أسقط الله عن المسلمين الجماعة عند الخوف على النفس، كما في حال المسايفة، فإنه في حال القتال في المسايفة يصلي الرجل وهو يضرب العدو، لماذا؟ لأنه لو تفرغ يصلي لقتله العدو، فحفظ الله النفس، وأسقط بحفظ النفس أفعال الصلاة كلها من الركوع والسجود، حتى إن الرجل ليضرب بسيفه، ويقول: الله أكبر! سبحان ربي العظيم، وهو لا يركع ولا يسجد ولا يستقبل القبلة، كما قال الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]، فأحل في حال المسايفة أن نصلي رجالاً، وركباناً، ولا نستقبل القبلة، ولا نركع ولا نسجد حفاظاً على الأنفس والأرواح، فإذا كان في نفس واحدة تتخلف، فما بالك بمن أنيطت به أرواح الناس! وبمن أنيطت به أجسادهم! لا شك أن هذا أولى وأحرى، ولذلك هؤلاء الأطباء ونحوهم ممن تتعلق بهم أرواح الناس وتتعلق بهم المسئولية عن هذا الأمر العظيم يرخص لهم في ترك الجمعة والجماعة، ولكن ينبغي لكل طبيب أن يرجع إلى عالم ليضع له الضوابط المعتبرة لهذا الترك، ومتى يعتبر معذوراً، ومتى لا يعتبر معذوراً، والله تعالى أعلم.(386/16)
حكم من فقد الماء أثناء ركوب الطائرة
السؤال
من أدركته الصلاة على الطائرة، ولم يجد ما يتوضأ به من الماء، ولا ما يتيمم به، فكيف يؤدي صلاته؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: إذا كان السفر يستغرق وقت الصلاة، بحيث لا يمكن أن ينزل إلى الأرض، ويجد الماء قبل خروج الوقت فإن حكمه حكم فاقد الطهورين، وفاقد الطهورين يصلي على حاله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما فقد النبي صلى الله عليه وسلم العقد لعائشة رضي الله عنها بذات الجيش، وطلبه الصحابة رضوان الله عليه، فذهبت طائفة من الصحابة، وأبعدت، فأدركتهم الصلاة، ولم يفرض التيمم بعد، فصلوا على غير وضوء وعلى غير تيمم، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحح صلاتهم؛ لأن التيمم ما شرع بعد، فنزلت آية التيمم بسبب هذه الحادثة، ومن هنا: أخذ العلماء أن فاقد الطهورين يصلي ولا يقضي، والشرط في هذا: أن يستغرق وقت الرحلة وقت الصلاة، فمثلاً: يسافر وقت الفجر ويدركه وقت الفجر في الطائرة، ولا ينزل إلى الأرض إلا بعد طلوع الشمس، أما لو أنه نزل قبل طلوع الشمس بوقت يمكنه أن يدرك الصلاة في المطار ويتوضأ، فيجب عليه أن يؤخر الصلاة حتى يدرك الماء ويتطهر كما أمره الله عز وجل ويصلي.
وجمع الصلاتين له نفس الحكم، فلو أنه سافر وقت الظهر، وسينزل إلى الأرض في وقت العصر، فحينئذٍ يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فإذا نزل توضأ وصلى الظهر والعصر جمع تأخير، وهكذا المغرب والعشاء، لكن لو أن السفر في ساعات تستغرق وقت المغرب مع العشاء، ولا يصل إلا في وقت الفجر، فحكمه حكم الصورة الأولى التي تقدمت، فيشترط أن يستغرق وقت الفريضة كاملة، سواءً كانت مجموعة إلى غيرها، فينظر إلى وقت الثانية، أو كانت غير مجموعة فينظر إلى وقتها نفسها، والله تعالى أعلم.(386/17)
حكم التسول في المساجد
السؤال
كثيراً ما نرى أناساً يقومون بعد انتهاء الصلاة فيقطعون على المصلين تسبيحهم، ويقومون بشرح ظروفهم المادية ويتسولون داخل المسجد، فهل هذا جائز؟ وهل يجوز منعهم؟ وما هو واجب إمام المسجد تجاه ذلك علماً أن كثيراً منهم يصطنعون الإعاقة؟
الجواب
بالنسبة للذي يكذب ويصطنع فلا إشكال أنه آذى المصلين في بيت الله عز وجل وكذب، وأخذ أموال الناس بالباطل، ومن سأل الناس تكثراً لم تزل المسألة فيه حتى يلقى الله عز وجل وليس في وجهه مزعة لحم.
والسؤال لا خير فيه ما لم يضطر إليه الإنسان لدين أو نحو ذلك؛ فإنه يسأل، أما هذا الشكل الموجود بمجرد انتهاء الناس من الصلاة يقوم ويصيح ويلغط، فالحقيقة لو مُنع هؤلاء برفق وقيل لهم: اذهبوا إلى باب المسجد، وانتظروا حتى يتصدق الناس عليكم، فالمساجد ما بنيت من أجل عرض حال المرضى وحالات المديونين، ولقد كان الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يربط على بطنه الحجر، ولربما صرع في المسجد، كما كان حال أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك ما جعلوا المساجد لهذا.
الإشكال هو في الصياح، أما السؤال داخل المسجد لو مر على الناس وسألهم فأعطوه فجائز، لحديث علي رضي الله عنه المشهور، فيخفف فيه، ما لم يصل إلى حد الأذية.
لكن الذي نشاهده بعد السلام مباشرة والصياح واللغط فهو أمر فيه إزعاج، والأشبه أن هؤلاء يُمنعون برفق حتى لا يقع في نهي السائل، وإن كان بعض العلماء يرى أن قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] أن المراد به: سائل العلم؛ لأن الله تعالى يقول: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، فقال: ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا)) ثم قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]، ولما قال: ((وَوَجَدَكَ ضَالًّا)) قال: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} ولما قال: ((وَوَجَدَكَ عَائِلًا)) قال: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، وهذه مقابلة، والمقابلة معتبرة في نصوص الكتاب والسنة، وإذا قلنا بالمقابلة فإن السائل المقصود به سائل العلم، ولذلك لا ينهر سائل العلم، ودلت على أنه لا يجوز أذية سائل العلم؛ لأن أمره عظيم، ولذلك عاتب الله نبيه من فوق سبع سماوات بسبب الإعراض عن السائل الذي هو عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه وأرضاه.
فالشاهد: أن هؤلاء يشوشون على الناس ويؤذونهم، فذكر بعض الأحوال وبعض القصص، والكشف حتى عن مواضع لا يليق كشفها أمام الناس، فهذا أمر لا شك أنه مؤذٍ جداً، وإذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق، فقد توسع الناس بشكل فظيع جداً، وأعجب من هذا الكذب! ذات مرة قام رجل في مسجد وشكى، ويعلم الله حينما تسمع شكواه يرق قلبك، وكان هذا بعد صلاة المغرب، ففوجئت لما جلس للسؤال، جاءني رجل -هو ليس من المدينة وإنما جاء من مدينة أخرى- جاءني رجل من جماعته، وقال: هذا الرجل يملك ثلاث عمائر بهذه الطريقة التي يكذب بها على الناس، قلت له: أناشد الله أن تصدق فيما تقول، لا تتهم الناس، قال: والله! إني لأعرفه وأعرف أولاده، اسمه فلان بن فلان الفلاني، ويسكن في المكان الفلاني من المدينة الفلانية، وولده الكبير اسمه فلان، اذهب إليه، وقل له: أنت فلان؟ وانظر! وقفت أنا، وليس من شأني هذا، ولكني تألمت جداً أن يكذب على الناس، ويأخذ أموال الناس، وذكر أشياء ليست صحيحة، فقلت: فلان! فالتفت، قال: نعم، قلت: أنت أبو فلان، قال: نعم، قلت: أنت فلان بن فلان، قال: نعم، قلت: تعال أريدك، فسألته قلت: عندك في بلد كذا وكذا عمائر، وأنت رجل غني، فتغير وجهه ولم ينكر، قلت له: الآن تترك هذا المال في مكانه، وتصرفنا معه بما ينبغي، لكن الشاهد: ثلاث عمائر يملكها، ويكذب على الناس، ويأكل أموالهم بالباطل، هذا أمر جد خطير! فلا شك أن هناك من يكذب، وهناك من يتصنع، فنسأل الله السلامة والعافية، فمثل هؤلاء لا يجوز معاونتهم على الباطل، ولا يجوز معاونتهم على الكذب على المسلمين، وأياً ما كان أوصي إخواني ألا يتعجلوا في أذية هؤلاء؛ لأن هناك فعلاً من عنده ظروف قاهرة، وهناك من ألجأته الحاجة، ولذلك يترفق الإنسان حتى لا يؤذي الصادق؛ لأن هناك أناساً هم صادقون، والسبب أن الناس تغيروا، وقل أن تجد من تسأله، حتى اضطر بعضهم إلى أن يقف أمام الناس ويسألهم، فنسأل الله العظيم للجميع التوفيق والهداية، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(386/18)
شرح زاد المستقنع - باب القطع في السرقة [3]
يشترط في قطع يد السارق أن يكون السارق قد أخرج المال من حرز، ويرجع في معرفة حرز الأموال إلى العرف؛ لأن العادة محكمة، وقد بين أهل العلم أدلة ذلك كما تراه في هذه المادة.(387/1)
شروط فعل السرقة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وأن يخرجه من الحرز] أي: يشترط في وجوب قطع يد السارق: أن يكون الشيء المسروق قد أخرجه من الحرز، وهذا الشرط يتعلق بركن الفعل والأخذ، فقد تقدم معنا أن السرقة تقوم على: سارق، وشيء مسروق، وفعل للسرقة، فهذه ثلاثة أركان ذكرها العلماء رحمهم الله في تحقق ماهية السرقة، فلو وجد السارق، ولم يوجد المسروق، ولم يوجد الفعل؛ لم تقع السرقة؛، ولو وجد السارق، ووجد الشيء المسروق، ولم يوجد الفعل لم تقع السرقة، إذاً لا بد من الثلاثة الأشياء.
فأما السارق فقد تقدمت الشروط التي ينبغي توافرها فيه حتى نحكم بقطع يده.
وأما الشيء المسروق فقد تقدم أنه يشترط أن يكون قد بلغ النصاب، وأن يكون مالاً محترماً، إلى غير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه.
شرع المصنف رحمه الله بهذا الشرط في فعل السرقة، وفعل السرقة يقوم على أمرين: الأمر الأول: ما يسميه العلماء: الأخذ.
والأمر الثاني: أن يكون الأخذ من الحرز.
إذاً: لا بد من وجود الأخذ، والإخراج إذا كان الشيء محرزاً في مكان، وأن يكون هذا الأخذ من الحرز، وعلى هذا فإنه يتحقق بهذين الوصفين شرط فعل السرقة المعتبر.
إذاً: لا بد من الأخذ، قالوا: فلو أنه جمع المتاع؛ فإنه لا يوصف بكونه آخذاً إلا إذا انتقل به، ولو أنه كما ذكرنا بلع المسروق، فإنه عند طائفة من العلماء لا يعتبر آخذاً له إلا إذا خرج، فإذاً: لا بد من وجود الفعل وهو الأخذ، وهذا الأخذ يشترط أن يكون من الحرز، فلو أنه أخذ من غير حرز فلا قطع، ومن هنا نص المصنف رحمه الله على اشتراط الحرز.(387/2)
إخراج المال المسروق من حرزه
وأصل الحرز في لغة العرب: الحصن، وهذا حرز للمال، أي: شيء يحفظ به، والحرز ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الحرز بالمكان.
القسم الثاني: الحرز بالحافظ والمراقب.
فأما حرز المكان فهو أن يكون المكان ممتنعاً، ولا يحق لأحد أن يدخل فيه إلا بالإذن، فكل مكان انطبقت عليه هذه الصفة فهو حرز، فمثلاً: البيوت تعتبر حرزاً؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يدخل بيت أحد إلا بإذنه، ولأنها تحفظ ما بداخلها، وإذا قلت: إن البيت حرز، فإنه لو دخل وأخذ شيئاً من البيت، مثل: أن يأخذ طاولة أو أواني ثم يخرج بها فهو سارق؛ لأننا نعتبر البيت حرزاً.
ومن هنا حرز المكان أن يكون حافظاً لما فيه، ولا يمكن لأحد أن يدخل فيه إلا بالإذن، ويشمل هذا البيوت والشقق أو -كما يقول المتقدمون- الدور، ويشمل أيضاً في زماننا الصناديق والخزائن والأحواش المحصنة والأسوار المغلقة التي لا يستطيع أحد أن يدخلها إلا باحتيال، وكل شيء محصن محفوظ من الأبنية فإنه حرز، وعلى هذا فإن أي بناء منع الغير من الدخول فيه أو لا يتمكن الغير من الدخول فيه إلا بإذن فإنه حرز.
ثم هناك أحراز يمكن نقلها مثل: الصناديق، فإنها تعتبر حرز مكان، والخزائن تعتبر حرز مكان، هذا القسم الأول من الحرز.
القسم الثاني من الحرز: الحرز بالحافظ، وهو أن يكون المال له عين تراقبه، كالإبل معها الراعي، والغنم والبقر معها الراعي الذي يحفظها بإذن الله عز وجل، فحرز الحافظ يكون للشيء الذي لا يشترط في الدخول فيه إذن، مثلاً: المسجد، فلو أن شخصاً سرق من المسجد شيئاً يساوي النصاب لم نقطع يده إلا إذا كان محرزاً بحارس أو أمين أو مراقب، أو سرقه من تحت الشخص، ولذلك صفوان رضي الله عنه قطعت يد سارقه؛ لأن صفوان وضع الرداء تحته، وسرق السارق رداء صفوان من تحت رأسه، ولو أنه نام والرداء تحته ثم انقلب عنه فلم يصبح تحته وجاء السارق وأخذه لم تقطع يد السارق؛ لأن المسجد ليس بحرز مكان، إذ يدخل فيه الإنسان من دون إذن، فالأماكن العامة والحدائق والمنتزهات لا تعتبر حرزاً إلا إذا كان عليها رقيب أو حارس وتمت السرقة باستغفال هذا الرقيب والحارس وأخذت خفية، فحينئذٍ يحكم بكونها سرقة، وفرق العلماء رحمهم الله بين هذين بتفريق الشرع، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن سرق الثمر من النخل لا قطع فيه، فلو أن شخصاً أخذ من فوق النخلة عرجوناً؛ فإنه لا تقطع يده، وإنما عليه ضمان هذا العرجون بمثليه ثم يعاقب، وبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحكم، وقال: (من أكل منه دون أن يحمل معه شيئاً فلا قطع عليه، ومن أخذ -أي: الثمر- بعد أن يؤويه الجرين ما يعدل ثمن المجن؛ قطع) فاعتبر عليه الصلاة والسلام البستان من حيث الأصل ليس حرزاً؛ لأن الغالب أنه يمكن دخوله والأخذ منه، وجعل عليه الصلاة والسلام لمن مر ببستان فأكل منه دون أن يحمل معه شيئاً؛ أنه لا شيء عليه.
إذاً: الأصل عندنا أن الحرز يكون على هذين الوجهين: الوجه الأول: إما أن يكون الحرز بالمكان، وهو الذي يكون معداً لحفظ الأشياء.
الوجه الثاني: أن يكون معداً لحفظ الأشياء مثل: الصناديق والأحوشة والأسورة المغلقة على ما فيها، ولا يستطيع أحد أن يدخل فيها إلا بإذن، فإذا تحقق هذان الوصفان؛ فإنها أمكنة تعتبر حرزاً لما فيها، فمثلاً: جاء إلى دكان -الدكان يعتبر حرزاً- ثم كسر باب هذا الدكان، وأخذ ما بداخله أو احتال على قفل الدكان فكسره ثم فتح الباب ودخل، أو جاء إلى زجاج المحل فكسره أو احتال فقصه ودخل؛ فإنه قد دخل إلى مال في حرزه.
وهكذا لو أنه جاء إلى بقالة وهي مغلقة وموصدة أبوابها فكسر أقفالها أو احتال على الدخول عليها من الأبواب التي تكون في الظهر وتكون بعيدة عن أعين الناس؛ فدخل منها بكسر الأغلاق، أو كسر تلك الأبواب أو الاحتيال على النوافذ برفعها والدخول فيها؛ فقد دخل إلى الحرز.
إذاً: هذه الأمكنة المبنية المعدة للحفظ تعتبر حرزاً، وكذلك الأمكنة التي لا يدخل إليها إلا بإذن، تعتبر حرز مكان.
يبقى
السؤال
لو كان المكان حرزاً لا يدخل فيه إلا بإذن لكن فتح بابه، فهل حكمه أثناء غلق الباب كحكمه إذا فتح بابه، والعكس؟ مثلاً: نقول: إن الشقة حرز، وإذا كان بابها مغلقاً واحتال على الباب ودخل وسرق منها فهو سارق، لكن لو أنه جاء ووجد باب الشقة مفتوحاً، فانسل خفية ودخل، فهل هو سارق؟ وجهان للعلماء رحمهم الله: الوجه الأول: منهم من اعتبر دخوله واحتياله بالدخول دون أن يشعر به أهل المحل سرقة من الحرز، ويستوي عند هؤلاء أن يكون الباب مفتوحاً أو يكون الباب مغلقاً في الأمكنة المعدة للحرز.
الوجه الثاني: من أهل العلم رحمهم الله من قال: إذا كان الباب مفتوحاً؛ فالمنبغي على أهل البيت أن يراقبوا، وأن يجعلوا أحداً يراقب، ومن هنا إذا دخل لا قطع، والمذهب الذي يقول بوجوب القطع يقول: إن هذه الأماكن في الأصل -حتى ولو كانت أبوابها مفتوحة- لا يستطيع أحد أن يدخلها إلا بإذن، والعرف جارٍ بكونها حرزاً، ولا يدخل إليها إلا بإذن.
النوع الثاني من الحرز: الحرز بالحافظ والمراد به الحارس، ومن يوضع لمراقبة الأموال، فالأشياء التي تحفظ بالرقيب إذا عدمنا المكان، أو كان الشيء في غير موضع حرز؛ فإنه يحفظ بالرقيب، فمثلاً: الإبل البقر الغنم تحفظ بالرقيب.
فالأسواق المفتوحة تحفظ بالحراس، فلو وقعت السرقة في حال عدم وجود حارس؛ فإنها ليست بسرقة؛ لأنها ليست بحرز، فليس هناك من يحفظها، والأصل في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الحرز، وهذا أصل يدل على وجود الحفظ للمال، ونفهم من كونه عليه الصلاة والسلام يأمر بالقطع إذا وضع الثمر في الجرين، ولا يأمر بالقطع إذا أخذ من غير جرين أن هناك فرقاً بين المسألتين، وأن الأمر راجع إلى حفظ المال، وأنه متى ما كان المال سائباً أو كانت الأموال من جنس ما يكون في البراري والفيافي ونحو ذلك فحرزها بحارسها، والرقيب عليها، فإذا وجد الحارس وسرقت أثناء وجود حارس؛ فإنها سرقة.
وأما إذا أخذت دون أن يوجد حافظ أو حارس؛ فإنها ليست بسرقة.
وقوله: (وأن يخرجه) الضمير عائد إلى المال، (من الحرز) أي: من المكان الذي هو حرز لذلك المال، فكل مال ننظر فيه إلى حرز مثله، فالذهب والفضة -اللذان هما الأثمان- لهما حرز يناسبهما، فالذهب والفضة حرزها وهي نقود ليس كحرزها وهي حلي، فالحلي تحفظ في صناديق غير صناديق النقود، وتحفظ في الدكاكين في أماكن ليست كأماكن النقود، فمثلاً: محلات الذهب قد يضطر صاحب المحل أو الدكان أن يضعها في الزجاج، وهذا إذا جئت تضعها أمام الناس في زجاج فإنه يسهل كسره والأخذ منه، لكن نفس الدكان حرز وحفظ لها، فالذهب والفضة لهما طريقة يحفظان بها، والإبل والبقر لها طريقة تحفظ بها، والأغذية لها طريقة تحفظ بها، والأكسية كلها ينظر فيها إلى حرز مثلها.
قال رحمه الله: [فإن سرقه من غير حرز فلا قطع].
الفاء للتفريع (فإن سرقه) سرق المال، (من غير حرز) فلا قطع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع في ثمر ولا كثر)، ومن المعلوم أن الثمر فوق رءوس النخل , وقد يدخل السارق إلى البستان -والبستان يعتبر مثل السياج- فلما أسقط عليه الصلاة والسلام القطع في الثمر الذي هو على رءوس النخل، وفي الكثر الذي هو طلع الفحل، دل على أنه لا بد من وجود الحرز، بدليل أنه قال: (بعد أن يؤويه الجرين وقد بلغ ثمن المجن قطع) فاشترط عليه الصلاة والسلام الحرز، فدل على أنه إذا لم يكن حرز فلا قطع.(387/3)
الضابط في معرفة حرز المال
قال رحمه الله: [وحرز المال ما العادة حفظه فيه]: أي: ما جرت العادة بحفظه في ذلك المكان، وهذه المسألة مبنية على قاعدة شرعية، تقول: (العادة محكمة)، وهذه القاعدة دلت عليها نصوص الكتاب ونصوص السنة، وأجمع العلماء رحمهم الله على حجيتها، فإن الله تعالى رد عباده إلى العرف، والعرف هو العادة، فإذا جرت العادة بشيء بين المسلمين حكمنا بهذه العادة، ويشترط دليل الكتاب، فمن أمثلة أدلة الكتاب: قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، فرد الأمر إلى العرف، وقال تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، فأمر بمعاشرة النساء بما جرى به العرف.
كذلك أيضاً السنة قال صلى الله عليه وسلم: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فردها إلى العرف.
والإجماع انعقد على اعتبار القاعدة التي تقول: (العادة محكمة)، فالعلماء مجمعون على العمل بها؛ لأن الشرع أطلق في أشياء وردها إلى العرف، فمثلاً: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبضه، بماذا يتحقق القبض؟ يختلف في الطعام في المكيلات، والموزونات، والمعدودات، والمذروعات؛ فإذا ألحقناها بالطعام فهذا القبض يرجع فيه إلى العرف.
أيضاً: قال صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضاً ميتة فهي لها)، بماذا يتحقق إحياء الموات؟ نرجع إلى كل عرف بحسبه، وكل زمان بحسبه، في القديم قد يكون غرس شجرة واحدة يعتبر إحياءً، وفي القديم قد يكون وضع الحجر بعضه فوق بعض دون بناء إحياء، ولكن في زماننا: في المدن الإحياء له طريقة، وفي القرى له طريقة، وهذا يدل على أن الشريعة تعتبر العرف.
ويشترط في هذا العرف: أولاً: ألا يكون مصادماً للشرع، فليس هناك عادة نحتكم إليها إذا صادمت الشرع، وذكر العلماء لهذا أمثلة: فلو جرت العادة بمحرم كشرب المحرمات، لا نقول: إن العادة محكمة، فيجوز شرب المحرمات، وكذلك: لو جرت العادة بحلق اللحية لا نقول: يجوز حلق اللحية؛ لأن العادة جرت بها، فيشترط ألا تصادم العادة الشرع، ومن هنا قالوا: وليس بالمفيد جري العيد بخلف أمر المبدئ المعيد فإذا كانت العادة تخالف الشرع رددناها وعملنا بالشرع؛ لأن الله يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى.
ثانيا: ً أن تكون هذه العادة منضبطة، وكذلك تكون في الغالب أو الأكثر على خلاف عند العلماء فيما هو غالب أو أكثر.
الشاهد: أننا نرجع في العادة إلى قول أهل الخبرة، فإذا كان المال المسروق من البهائم سألنا أهل البهائم، كيف تحفظون بهائمكم؟ فالحفظ في القرى ليس كالحفظ في المدن، فإذا قالوا: نحن عندنا في بيئتنا أننا نضعها في الأحواش، وأن من يريد حفظ غنمه يضعها في هذه الأحواش، فوجدنا السرقة تمت من هذا المكان الذي يعتبر في العادة حرزاً لمثل هذا المال؛ فحينئذٍ يقطع السارق.
كذلك أيضاً: لو جرت السرقة في السوق، فسرق طعاماً من سوق الأطعمة، فنسأل أهل هذا السوق: ما هي عادتكم في حفظ هذا المال؟ فإذا قالوا: عادتنا أنه إذا جاء المزارع بهذا الطعام نفعل به كذا، ونحفظه في كذا، فحينئذٍ نعتبر الحرز الذي جرت به العادة، فيقول رحمه الله: (ما العادة بحفظه) أي: ما جرت العادة بحفظه، فالحرز نحتكم فيه إلى العرف والعادة، ومن هنا قالوا: يختلف باختلاف الزمان، والمكان واختلاف الجور والعدل في الأزمنة، فإذا كان الزمان زمان عدل فإن أقل حفظ حرز.
وإذا كان الزمان زمان فساد وجور وظلم، يحتاج الناس إلى حرز أمين، ولذلك بين العلماء والأئمة رحمهم الله اختلافه باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص.(387/4)
اختلاف الحرز باختلاف المال
قال رحمه الله: [ويختلف باختلاف الأموال].
أي: الشيء المحفوظ، فمثلاً: شخص يريد أن يحفظ ذهباً أو فضة ليس كالذي يريد أن يحفظ الخشب، فتاجر الخشب جرت العادة أنه يضع خشبه في داخل أحوشة مغلقة، وتاجر الحديد يضع الحديد في أحوشة مغلقة تكون حرزاً لها، فجرت العادة بهذا، لكن تاجر الذهب له طريقة أخرى، فهو له دكاكين معينة، ثم أيضاً هذه الدكاكين فيها مواضع مخصوصة يضع فيها الذهب أو طريقة معينة يضع الذهب فيها عند العرض للناس، ويضع فيها الذهب عن انتهاء عمله أو خروجه من عمله، فإذاً: نرجع إلى كل عرف بحسبه، فقال رحمه الله: (ويختلف باختلاف الأموال) يختلف بسبب اختلاف نوعية الأموال، فعندنا الذهب مال، والفضة مال، والطعام مال، والبهائم مال، والمعادن مال، وكل شيء له قيمة يعتبر مالاً.
قال رحمه الله: [والبلدان].
بعض البلدان يكون الحرز فيها يحتاج إلى قوة، والإمكانات متوفرة وآلات الحرز موجودة، فحينئذ نطالبه بحرز يتناسب مع بيئته، لكن لو كان في بيئة ضعيفة لا يتيسر فيها الإمكانات لحفظ الأموال، حافظها على قدر استطاعته، ونعتبره حرزاً؛ لأن عرفه يتناسب مع هذا الحرز، فكل بلد وما جرت عادتهم بحفظ المال به.
قال رحمه الله: [وعدل السلطان].
أي: إذا كان السلطان عادلاً فإن الحرز يكون خفيفاً، وذلك أن الناس إذا أخذوا بالعدل استقامت أمورهم، ويحصل عند الناس خوف من الله عز وجل، ويأمن الناس بعضهم بعضاً؛ لأنه يحس أن له مثل الذي عليه، وحينئذ يأمن الناس، ولا يلتفت بعضهم إلى مال الآخر من أجل أذيته والإضرار به، والعكس، فإنه إذا حصل الجور، وكان الزمان زمان جور تنافسوا -والعياذ بالله- في الجور، فإذا أخذ الناس بسلطان العدل الذي قامت عليه بالسماوات والأرض واستقامت عليه أمور الدنيا ولا تستقيم إلا به؛ فإن أمورهم تستتب، ولربما وضع الرجل قماشاً على باب محله وبداخله من المجوهرات والخيرات ما الله به عليم! ولكن الله عز وجل يصرف النفوس عن الفساد، ويصرفها عن الأذية والضرر، ولذلك أزمنة الفتنة تنساق النفوس -والعياذ بالله- فيها إلى الفساد والأذية والإضرار والبطش والسوء حتى إن الناس كأنهم قد سلبوا -والعياذ بالله- عقولهم، وكأن الله إذا أراد بقوم فتنة سلبهم عقولهم؛ فعاثوا وعاثت بهم الشياطين والعياذ بالله، وعندها يكون بطن الأرض خير من ظاهرها، وهذا في أزمنة الجور والظلم، ولذلك تجد أهل الجور يتنافسون في الفساد.
أما إذا غلب العدل تنافس الناس في الخير، فهم تبع لهذا المؤثر بعد الله سبحانه وتعالى، فكونهم مأخوذين بالعدل أو مأخوذين بالجور له أثر، ففي أزمنة الجور يكون الحفظ أشد، والحرز أقوى، وأما في أزمنة العدل فإن الأمر يكون أخف، ولذلك جاءت كنوز كسرى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة، فوضعها رضي الله عنه وأرضاه في المسجد، حتى أن المسجد أضاء في ظلمة الليل من كثرة ما فيه من المجوهرات والنفائس، فلما رآها بكى رضي الله عنه وقال: (إن أناساً أدوا هذا لأمناء)، ووضعوا عليها القماش، وكان الناس في زمان عمر رضي الله عنه -وهو زمان الخلافة الراشدة- راضين مطمئنين مأخوذين بالعدل؛ ولذلك كان عمر رضي الله عنه يضعها في المسجد، فما احتاج أن يضعها في أغلاق، وكان الرجل يسافر بهذا المال حين يبعثه قائد المسلمين بالفتح، فيرسل القافلة وهي مليئة بالأموال والمجوهرات، ويستطيع الرجل منهم -وحاشاه- أن يسرق أو يخبئ أو يغل منها ما شاء، ولكن أبى الله عز وجل إلا أن يكونوا أمناء؛ لأنهم تربوا في مدرسة النبوة على يد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، الذي عرف منذ صغره بالأمانة، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
زمان العدل يخف فيه الجور والتعدي على أموال الناس، ومن هنا ينظر في كل زمان بحسبه، وفي كل مكان بحسبه، وفي كل مال بحسبه.
ومن مسائل الاختلاف أن يختلف الحكم باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فهذه منها مسألة الحرز في الأموال.
قال رحمه الله: [وجوره].
إذا كان عدلاً أو كان جائراً.
قال رحمه الله: [وقوته وضعفه].
إذا كان قوياً فإن الناس تهاب وتخاف، حتى بلغ ببعض الولاة -من قوته- أن الناس كانوا إذا رءوا المال المسروق في زمانه هربوا عنه، فإذا أخذ الناس بالقوة والحزم في البطش والسرقة والتعدي على أموال الناس، فإن الناس يأخذهم من الخوف والرعب الشيء العظيم، حتى إن الرجل لو رأى مالاً مسروقاً فر عنه، ولربما غير الطريق الذي يسير فيه، وجاء عن بعضهم أنه مر على كيس من الطعام ثم ذهب إلى الوالي -وكان معروفاً بالحزم- فقال له: إني وجدت كيساً من الطعام فيه كذا، قال: ما أدراك بما فيه! حللته فككته؟ قال: لا، ولكني تحسسته بأصبعي، قال: اقطعوا أصبعه! وهذا نوع من الإسراف في الحزم، لكن إذا أخذ الناس بالقوة احتاطوا لأنفسهم، فأزمنة الجور يعظم فيها الفساد، وهكذا أخذ السلطان للناس بالقوة يكفهم عن أخذ الأموال، وحينئذ يعتبر أيسر شيء حفظ للأموال، حتى إن الرجل لربما وضع أبسط الأشياء على ماله لكي يحفظه ويعتبر في العرف قد حفظه وصانه، ويعلم الناس أنه محفوظ، والعكس بالعكس، إذا أصبحت أزمنة فساد؛ فإنه لا يغني فيها الأغلاق، ولربما لا يغني فيها البناء، إلا إذا كان على صفة مخصوصة، مثلاً في بعض المدن تكثر السرقة حتى يصبح الشخص لو وضع المال داخل بناء لا يكفي، ما لم يضع عليه أجهزة تراقبه، أو يستخدم الأشياء الحديثة من أجل حفظ أي اعتداء أو الانتباه لأي داخل ومع ذلك تحدث السرقة! فإذاً: لا بد من النظر لكل عرف ولكل بيئة بحسبها.(387/5)
من أمثلة حروز الأموال
قال رحمه الله: [فحرز الأموال والجواهر والقماش في الدور والدكاكين والعمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة].
فقوله: (وحرز الأموال).
أي: الأثمان من الذهب والفضة لا بد أن تكون في الأغلاق، أي: داخل الصناديق المغلقة، ووراء البناء، فلو أنه وضع الذهب في صندوق وأبرزه للناس، فإنه ليس بحرز، لكن لو يدخله في بيته، أو دكانه فإنه يكون داخل الحرز، وهو الصندوق، ولذلك جرى العرف عندنا الآن أن الشخص لو دخل على بائع وعنده أموال فإنه يجد صندوقاً مخصوصاً للأموال، ويجد خزنة للدكان والبقالة وللمتجر، فهذه الأموال محفوظة وراء الدور الذي هو البناء، وداخل الأغلاق؛ فلو أنه وضع المال داخل الدكان بدون غلق، ففي هذه الحالة لا يعتبر حرزاً إذا جاء السارق وسرق، ولو أنه أخرج الأموال من الصندوق أو من الخزنة ووضعها على الطاولة؛ ثم جاء السارق وسرقها فإنه لا يعتبر آخذاً من حرز.
إذاًَ: لا بد من أمرين: أن يكون في الأغلاق التي هي الصناديق المغلقة، وأن تكون وراء الجدران، أي: في الدور أو في الدكاكين.
وقوله:) والجواهر) كذلك؛ لأن الأموال تدعو النفوس إلى حفظها، وجبلت النفوس على حفظها، والجواهر لربما كانت أغلى من الذهب والفضة، ومن هنا من كان عنده ألماس لا يضعها في بيته، إنما يبحث عن مكان أمين يضع فيه الألماس، ولو وضعها في بيته لا يضعها في درج مكتبه، ولا يضعها مثلاً في كيس في غرفته، إنما يضعها في خزنة تحفظ هذا المال النفيس، أو يضعها في صندوق قوي محكم يغلقه على هذا المال، فكل مال بحسبه، والجواهر تحتاج إلى صيانة أكثر من الذهب والفضة في بعض الأحوال، والذهب والفضة في بعض الأحيان يحتاج إلى صيانة أكثر، ومن هنا نبه المصنف على اختلاف الأموال واختلاف الأحوال.
وقوله: (والقماش) مثلاً: تاجر عنده أقمشة؛ فإنه يضعها داخل الدكان ويغلق عليها دكانه، فلا بد أن تكون في حرز ومغلق عليها.
وقوله: (في الدور) هذا الحرز الأول.
وقوله: (والدكاكين) دكاكين القماش حرز للقماش الذي فيها.
وقوله: (والعمران) القماش داخل المدينة ليس كالقماش خارج المدينة، فإذا كان داخل المدينة يكون داخل الدكان، وداخل البناء، وإذا كان خارج المدينة فلا بد أن يبحث عن حرز يحفظه به، فلو أنه كانت عنده (بسطة)، وليس عنده دكان، وجاء شخص وسرقها، فإنه لا تقطع يده إلا إذا كان هناك رقيب، ونحن هنا نتكلم عن الحرز بالمكان، ولا نتكلم عن الحرز بالنظر، فلو كان القماش تحت عين الرقيب، وجاء وسرق من تحت عين الرقيب؛ فإنه في هذه الحالة يعتبر سارقاً.
وقوله: (وراء الأبواب) إذا كانت في بناء تكون وراء الأبواب ووراء النوافذ المغلقة.
وقوله: (والأغلاق الوثيقة) هي الخزنة، فمثلاً: النقود في المحل توضع داخل خزنة، فلو أن سارقاً سرقها من غير الخزنة دون حافظ ولا رقيب لها، لم تقطع يده؛ لأن هذا إهمال وتسيب، والإهمال والتسيب ليس فيه حرز على وجه.
قال رحمه الله: [وحرز البقل وقدور الباقلاء ونحوهما وراء الشرائج إذا كان في السوق حارس].
انتقل هنا إلى النوع الثاني وهو قضية الحرز بالحافظ، والحافظ هو الحارس الذي يراقب المال، فمثلاً: أكيسة فيها أطعمة، مثلاً: أسواق الفواكه أسواق الخضار أسواق التمر ونحو ذلك، فهذه حرزها إذا كانت تحت مراقبة الحارس؛ فإذا وجد حارس يراقبها وجاء السارق وسرق؛ فإنه في هذه الحالة قد أخذ من حرز، وأما إذا كانت هذه الأشياء موضوعة أو بائعها انصرف وتركها أو انشغل عنها وتركها؛ فليست في حرز، وحينئذ لا يثبت القطع.
قال رحمه الله: [وحرز الحطب والخشب الحظائر].
جمع حظيرة، وأصلها تكون للحيوانات والبهائم، وجرت العادة أن الذي يبيع الحطب والفحم في القديم يضعها في الحظائر، فيأتون -مثلاً- بجريد النخل، ويكونون منه سياجاً على محل البيع، فتكون هذا السياج بمثابة السور في البناء، وجرت العادة أن مثل هذا يحفظ الحطب والفحم ونحو ذلك، وعبر به المصنف كنوع من الأنواع التي تحفظ بها الأموال، بطريقة غير الطريقة الأولى؛ لأن الطريقة الأولى بالبناء، وهذا لا بناء فيه، فعبر رحمه الله بهذا تنبيهاً على نوع من أنواع الحرز، وهذه الأشياء ضعيفة بالنسبة للبناء، أي: إذا جئت تنظر إلى الحرز بالحظائر فهو أخف من الحرز الذي بالبناء، مع أنها تكون محكمة، وتكون قوية في بعض الأحيان، ولا يستطيع أحد أن يدخل منها، لكن قد يكون الولوج عن طريق الحظائر أخف من الولوج عن طريق البناء، ومع هذا تعتبر الحظائر حرزاً، فإذا جرت العادة أنها تحفظ في مثل هذه الحظائر فهي حرز، فلو سرق كيساً من الفحم وهذا الكيس تعادل قيمته النصاب، وكان من داخل حرز مثله؛ قطع، وإلا فلا.
قال رحمه الله: [وحرز المواشي الصير].
الصيرة تحفظ المواشي بإذن الله عز وجل، وهذا إذا كانت في معاطنها كالإبل والبقر والغنم فإنها توضع في الصيران وتحفظ، لكن إذا كانت سائمة وراعية؛ فإنها تكون بالراعي إذا كان معها راعيها وحافظها فإنه حرز لها، وهذا حرز الحافظ.
قال رحمه الله: [وحرزها في المرعى بالراعي].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق في الإبل -كما في حديث السنن- بين حبيسة الجبل وبين ما أخذ منها من معطن، فما أخذ من المعاطن أخذ من الحرز إذا كانت محفوظة، وما أخذ من البراري دون أن يكون عليها رقيب فلم تؤخذ من حرز، فلا قطع.
وعند العلماء تفصيل في المطولات بالنسبة للإبل والغنم والبقر، فكل هذه البهائم إذا رعت فلها طرق مختلفة، فتارة تسرق أثناء سيرها إلى المرعى، وتارة تسرق أثناء قيامها بالرعي، فالحافظ الذي معها إذا كانت عينه على مجموعها؛ فإنه حرز، سواء أخذ من أطرافها أو أخذ من وسطها إذا كانت مجتمعة في وادٍ وهو قائم عليها يراقبها.
لكن إذا كانت سائرة إلى المرعى فبعض العلماء يرى القاطرة حرزاً إذا كان قد أخذ بالفحل؛ لأن الفحل تسير وراءه الإبل، أو حصلت السرقة من آخرها فهي سرقة، يعني: يعتبر بالخط الواحد للبهائم ولو كانت عشرة أو عشرين، هب أنها تسير وهي تبع لقائدها، وقائدها عينه عليها، لكنه تتناوب عينه على الأول والثاني والثالث، وأثناء تناوب عينه على أولها سرق السارق من آخرها، فيكون قد سرق من حرز؛ لأنه في هذه الحالة تحت النظر، وإذا قلنا: تحت النظر فلا يشترط أن يكون النظر محدداً للكل، إنما الكل بمثابة المال الواحد، ففي هذه الحالة تقطع يده، ويفرقون في المطولات بين كونها مسروقة من قاطرة الإبل أو قطيع الغنم أو قطيع البقر، في أثناء مشيه أو في أثناء رعيه.
قال رحمه الله: [ونظره إليها غالباً].
هذا هو حرز النظر، فيكون مراقباً لهذا المال، ولا يكون أحد حارساً ولا حافظاً إلا بالمراقبة غالباً، أي: يعني في غالب الحال، لكن لربما ينصرف نظره لشيء يسير فينظر إليه، ثم فجأة ينظر أمامه حتى ينظر الطريق الذي تسير إليه، وينظر إلى الشمس، ونحو هذا، لكن الغالب أن نظره عليها.
وعلى هذا: إذا وجدت مع الحارس على الصفة المعتبرة من كونه حافظاً ومراقباً عليها؛ فإنه إن وقعت السرقة قطع السارق، ونعتبر وجود الحارس حرزاً لهذا المال.(387/6)
الأسئلة(387/7)
حرز السيارات
السؤال
كيف يكون حرز السيارات؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فنحن وضعنا الضابط، العلماء رحمهم الله في باب السرقة تكلموا كلاماً طويلاً جداً في مسألة الحرز، والسبب في هذا أنهم يتكلمون في زمانهم، والحرز يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وبالنسبة للسيارات فيكون على حسب العرف.
السيارة من حيث الأصل: إذا كانت -مثلاً- موضوعة في (كراجها) في البيت، ومغلق عليها، فجاء شخص وكسر الغلق، ثم سرقها فهو سارق، وفي هذه الحالة يكون قد أخذها من الحرز، وانطبقت عليه شروط السرقة؛ فتقطع يده.
أما إذا كانت السيارة معروضة للبيع في المعرض، فننظر إلى البناء الموجود، فإذا كانت داخل حوش المعرض فجاء وتسور الحوش، أو احتال ودخل الحوش، ثم سرقها فهو سارق؛ لأن العبرة بالأخذ من الحرز، أما إذا كان المعرض مفتوحاً، والناس تدخل وتخرج فحينئذ يعتبر الحافظ والمراقب.
إذاً: ينظر في الأحوال بحسب اختلافها.
لكن هنا مسألة: يشترط أن تكون السيارة في الحرز، لكن إذا سرق شيئاً من السيارة فهناك فرق بين أن يسرق السيارة وبين أن يسرق من السيارة، فلو أنه كسر زجاج السيارة وأخذ المسجل منها فهو سارق؛ لأن مسجل السيارة يحفظ فيها، وقد جرت العادة أنه محفوظ بغلق باب السيارة، وقفل الزجاج، فإذا اعتدى على هذا الزجاج وكسره أو عبث في مفتاح السيارة حتى فتحها ثم دخل وأخذ المسجل؛ فإنه قد أخذه من حرزه، فالمسجل مربوط ومتصل بالسيارة، وحرزه هذا الرباط، مثل: حرز الأغلاق؛ لأنه موثق ومضبوط وموضوع في السيارة، فلو سرق مركبة السيارة وكانت تساوي نصاباً قطع، لكن لو أن صاحبها تركها مفتوحة فجاء هذا وفتحها فحينئذ نعتبره إهمالاً من صاحب السيارة، ولا يتحقق في ذلك معنى الحرز، والله تعالى أعلم.(387/8)
حكم نقض الوتر بصلاة بعده
السؤال
أشكل عليّ من أراد أن يصلي في الليل هل يسلم مع الإمام في التراويح حتى يكسب قيام ليله أم يشفع الوتر بركعة حتى يصلي في آخر الليل، وتكون صلاته آخر الليل وتراً؟
الجواب
الذي يظهر -والعلم عند الله- أن أقوى الأقوال في هذه المسألة أنه يسلم مع الإمام، ويصيب فضيلة من قام مع الإمام حتى ينصرف، ثم ينتظر إلى آخر الليل ويأتي بركعة ينقض بها الوتر، ولذلك أصل في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل الوتر ناقضاً للوتر، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة)، فقوله: (لا وتران في ليلة) يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يقتصر على الوترين، وهذا يدل على أن الوتر الثاني ينقض الوتر الأول.
ومن هنا: يجوز له أن يوتر وترين للحاجة ثم يوتر الوتر الأخير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه تأخير الوتر إلى السحر، وفعل ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ فإنه كان إذا صلى الوتر أول الليل قام آخر الليل فصلى ركعة نقض بها الوتر الأول ثم صلى ما شاء ثم أوتر، وهذا هو الأشبه لما فيه من موافقة السنة.
أما كونه بعد سلام الإمام يقوم ويأتي بركعة فهذا فيه إشكالات: أولاً: لأنه يدخل مع الإمام بنية المخالفة في العدد، وفرق بين المخالفة في النية فرضاً ونفلاً وبين المخالفة في صورة الصلاة، والمخالفة في صورة الصلاة مؤثرة؛ ولذلك جماهير العلماء والأئمة من السلف رحمهم الله -حتى على مذهب الأئمة الأربعة- لم يصححوا صلاة المغرب وراء العشاء لاختلاف صورة الصلاتين، وحينئذٍ سيدخل بثنائية وراء فردية فيضطر إلى الجلوس بالتشهد ولا يعرف في الشرع الجلوس بين ركعتين في ثنائية، إنما يكون الجلوس في آخر الثنائية أو يكون في آخر الوترية إذا كانت واحدة.
ثانياً: سيستبيح الدعاء بعد الركعة الأولى وهو يعلم أنه سيصلي ركعتين، فإذا قال قائل: إن هذا كان لمكان المتابعة، فنقول له: إذاً: يتابع الإمام على الحقيقة، فيسلم مع الإمام، والقول بأنه بعد سلام الإمام يأتي بركعة، يقول به بعض العلماء، والصحيح أنه يسلم مع الإمام تحقيقاً للمتابعة وإعمالاً للأصل وخروجاً من المخالفة؛ لأنه يفعل أموراً لا تعرف في سنن الصلاة الشرعية من الجلوس بين الركعتين، وإحداث الدعاء في الركعة الأولى، وإنما عرف في الشرع القنوت في الثنائية بعد الثانية وليس بعد الأولى إذا كانت ثنائية، أو القنوت بعد الأولى كما في الوتر، الأول كما في الفجر، والثاني كما في الوتر، وحينئذ يخرج عن سنن الصلاة، فلو قال قائل: هذا للمتابعة، نقول: نعم، هذا في الفريضة حينما يلزم، ولكن هنا ليس بملزم، وبإمكانه أن يحقق الموافقة في الشرع بالتسليم مع الإمام، وخاصة وأنه يحوز على فضيلة متابعة الإمام حتى ينصرف، والله تعالى أعلم.(387/9)
صلاة التراويح في البيت
السؤال
هل إذا قمت في ليالي رمضان منفرداً في بيتي يكتب لي قيام ليلة، وإذا كان ذلك فكيف أجمع هذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)؟
الجواب
لا يكتب للإنسان أنه قام ليلة إلا إذا استتم القيام كاملاً لليلة، هذا بالنسبة إذا كنت تريد أن تحيي الليل، مثل: العشر الأواخر إذا أحييتها بالصلاة، لكن فضيلة الصلاة مع الأئمة جاء لها استثناء، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر المأمومين وراء أئمتهم فقال: (من قام مع إمامه حتى ينصرف) وهذا الحديث المقصود به أن يبقى المأمومون وراء أئمتهم، فلا يأتِ إنسان ويقول: لدينا إمام أول وإمام ثانٍ، فإذا انصرف الأول انصرفنا معه.
هل يعرف في زمان النبي صلى الله عليه وسلم إمامان؟ إذاً: الأصل أن ننظر ماذا قصد الشرع؟ هل قصد الصورة أم قصد المعنى؟ بل قصد المعنى وهو: أن نقوم مع الأئمة ولا ننصرف عنهم، ويقولون: استنباط المعنى من النص الذي يعود بإلغاء معنى النص باطل، فمقصود الشرع أن تقوم مع الإمام حتى ينصرف، فخرج مخرج الغالب، ففي زمان النبي صلى الله عليه وسلم الغالب فيه أن يؤم إمام واحد، وعلى هذا لو جاء يستنبط من هذا النص: أن ينصرف مع الإمام حتى في أول الصلاة فإنه سيلغي معنى النص؛ لأن معنى النص المراد به التكثير، لماذا قيل: (من قام مع إمامه)؟ هل جاء لصورة أم جاء لمعنى؟ بل جاء لمعنى وهو: الحرص على متابعة الأئمة والحرص على الصلاة معهم.
فقوله: (من قام مع إمامه) المراد به: أن يقوم مع إمامه إلى أن ينصرف، فإذا ثبت هذا؛ فإن هذا المعنى موجود في الجماعة، وليس موجوداً في الفرد؛ لأن الفرد ليس له إمام، وليس هناك إمام يريد أن يتابعه فيكثر سواده؛ لأن الصلاة صلاة نافلة، ولذلك ورد الترغيب فيها بهذا المعنى، فإذا أراد قيام الليلة وكان يريد أن يحصل الفضيلة فليصلِّ مع الجماعة.
لكن السؤال هل الأفضل أن يصلي مع الجماعة أول الليل أم الأفضل أن يصلي في بيته وحده ويحيي آخر الليل؟ الأشبه أن صلاته في بيته -إذا كان حافظاً للقرآن خاشعاً مخلصاً ويتأثر ويضبط القرآن، ويعطي للقرآن حقوقه- أفضل؛ ولذلك عمر رضي الله عنه ترك الجماعة، وكان يمر عليهم ويقول: (نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل)، وهو الذي أمرهم أن يجتمعوا، لكن ينقسم الناس إلى قادر وغير قادر، فعامة الناس في غالب أحوالهم لا يقدرون أن يقوموا السحر وآخر الليل، ومن هنا جعل التراويح لهم في أول الليل ولكن قال: (والتي ينامون عنها أفضل)، فهم في حال حسن، وهناك ما هو أحسن وأكمل، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، فالأفضل والأكمل أن يصلي في بيته بالصفات التي ذكرناها: أن يكون قادراً على إحياء آخر الليل بالقرآن، قادراً على القيام في آخر الليل، لأن ذلك يكون أخشع لقلبه، وأكثر تأثراً، وقد يصلي مع جماعة وإمامه يسرع في القراءة، ولا يستطيع أن يتدبر القرآن كما ينبغي، ولكن إذا خلى بربه وخلى في بيته وقرأ القرآن بورك له في قراءة القرآن في بيته، وبورك له في نفسه، وبورك له حتى في البيت الذي يقرأ فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، فإن الله جاعل له من صلاته في بيته خيراً)، هذا بالنسبة لمن يقدر.
أما إذا كان ضعيفاً أو كان لا يستطيع أن يقوم آخر الليل، فيحرص على أن يقوم مع الجماعة، وهذا هو الأشبه.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع الإمام حتى ينصرف) له أن ينوي في قرارة قلبه أن يحصل على الفضيلة لوحده حتى يكتب له الأجر بالنية، والله تعالى أعلم.(387/10)
مدة القصر في السفر
السؤال
ما هي المدة التي يقصر فيها المسافر؟ ومتى يعتبر المسافر مقيماً؟
الجواب
المدة التي يقصر فيها المسافر أن يكون ناوياً للجلوس أقل من أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج، فإذا نوى أن يجلس أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج لزمه الإتمام من أول وصوله إلى المدينة، فلو سافر من مكة إلى الرياض وفي نيته أن يجلس السبت والأحد والإثنين والثلاثاء، ثم يسافر الأربعاء وكان سفره يوم الجمعة فمكث السبت والأحد والإثنين والثلاثاء، لزمه الإتمام عند وصوله إلى الرياض، وحكمه حكم المقيم بالوصول.
وأما إذا قدم إلى الرياض وهو لا يدري كم سيجلس، ولا يدري كم المدة، فإنه يقصر مدة جلوسه ولو طال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك كان ينتظر العين، فأرسل عيونه، وكانت تبوك ماء من مياه العرب، لم تكن مدينة كحالها اليوم، ولا قرية وإنما كانت ماء من مياه العرب، ونزل عليه الصلاة والسلام فأرسل عيونه ولا يشك أحد -وهذا يعرفه أهل السير- أنه لا يدري هل سيبقى يوماً أو يومين أو ثلاثة؛ لأنه أرسل عيونه لينظروا جيش بني الأصفر -وهم الروم- هل عندهم نية لغزو النبي صلى الله عليه وسلم أو لا، وهذا أمر يستغرق وقتاً طويلاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري متى يرجعون، قد يكون أرسل عينه ثم يأتيه العين اليوم الثاني ويقول: هم على ماء كذا، أو هم قد خرجوا على موضع كذا، ومن المعلوم أن بين تبوك والشام مفاوز، ولذلك لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً كم سيمكث.
وجمهور العلماء والأئمة كلهم يحتجون بهذا الحديث على أنه إذا لم يعلم مدة مقامه أنه يقصر، وأن حديث تبوك ليس من التحديد في الشيء؛ لأن البعض يظن أنه دليل على أنه يقصر الصلاة لو نوى سبعة عشر يوماً، وهذا ليس بصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم المدة التي سيمكثها في تبوك؛ لأنه أرسل عينه، والعين قد يأتيه بالخبر اليوم أو بعد يومين أو ثلاثة أو أربعة، فهذه الحالة الأولى للمسافر.
الحالة الثانية: أن يكون ناوياً لأقل من أربعة أيام؛ فإنه يقصر ولا بأس ولا حرج أن يصلي الرباعية ثنائية ولو في منزله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في ذلك كما في الصحيح في قصة مسجد الخيف، وهذا بالنسبة للمدة التي تقصر فيها الصلاة: أن تكون أقل من أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج أو لا يعلم المدة التي سيمكثها؛ ولذلك مكث أنس بن مالك رضي الله عنه في فتح تستر أكثر من ثلاثة أشهر وهو يقصر الصلاة؛ لأن الثلج حبسهم.
والأصل عند جمهور العلماء رحمهم الله أن المدة محددة، والدليل على تحديد الأربعة الأيام: حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجرين أن يبقوا في مكة ثلاثة أيام)، فدلت هذه السنة على أن المسافر ينتقل من كونه مسافراً إلى كونه مقيماً في اليوم الرابع؛ لأنه رخص لهم ثلاثة أيام، وهم قد تركوا مكة لله، والمهاجر لا يجوز له أن يرجع إلى بلده فيقيم بها، فلما أجاز لهم ثلاثة أيام ومنعهم من اليوم الرابع دل على أنهم في اليوم الرابع يكونون في حكم المقيم.
وعلى هذا؛ فإنه يحدد بهذا القدر من الأيام غير يوم الدخول والخروج، فلو سافر يوم الجمعة ووصل يوم الجمعة ويسافر يوم الأربعاء، فحينئذٍ تتحقق المدة، لكن لو كان يصل يوم السبت، ويسافر الأربعاء؛ فإنها ثلاثة أيام، فيقصر، فالعبرة بإلغاء يوم الدخول ويوم الخروج حتى تتمحض هذه المدة على ظاهر السنة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(387/11)
شرح زاد المستقنع - باب القطع في السرقة [4]
من الشروط في إقامة الحد على السارق: أن تنتفي الشبهة في المال المسروق، وهناك أصناف من الناس لا تقطع أيديهم وإن أخذوا مال غيرهم، وثبتت السرقة بشهادة عدلين، أو بإقرار السارق نفسه.(388/1)
ما يمنع من قطع يد السارق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأن تنتفي الشبهة].
يشترط لوجوب حد القطع أن تنتفي الشبهة في السارق، وقد تقدم معنا تعريف الشبهة في حد الزنا، وبينّا أن السنة وآثار الصحابة رضوان الله عليهم وردت بإسقاط الحد عند وجود الشبهة، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده، وهو منهج الأئمة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أوسع الناس في باب الشبهة، وكان يسقط الحد عند وجود الريبة والشبهة، ولذلك استقر مذهبه على ذلك، وثبتت عنه الآثار الصحيحة لإعمال الشبهة في إسقاط حد السرقة، كما في قصة غلام الحضرمي، وهي من القصص التي اعتبرها العلماء دليلاً على إثبات أن الشبهة موجبة لسقوط حد السرقة.
فيقول: (وأن تنتفي الشبهة) النفي ضد الإثبات، وإذا قلت: تنتفي الشبهة، بمعنى: ألا توجد شبهة، وهذا شرط راجع إلى الملكية.
ومن هنا نجد من العلماء -رحمهم الله- من عبر في شروط السرقة بالملك التام القوي، أي: يكون المسروق منه قد ملك المال ملكاً تاماً قوياً بحيث لا تحصل منازعة بينه وبين السارق، فإذا وجدت الشبهة فإن هذا يؤثر في الملكية التامة كما في الشريك مع شريكه، وكما في الابن مع أبيه، والأب مع ابنه، ونحو ذلك من صور الشبهة، وهذه الشبهة اعتبرها أئمة الإسلام رحمهم الله -ومنهم الأئمة الأربعة- أنها موجبة لسقوط الحد، لكنها تختلف في صور، فتارة تكون الشبهة شبهة البعضية، وتارة تكون الشبهة شبهة الملك، ومن هنا فرق العلماء رحمهم الله فأعملوا صوراً من الشبهة، وأسقطوا صوراً أخرى، وقالوا: إن الشبهة لا تعتبر موجبة لسقوط الحد، والأصل الشرعي يقتضي أنه إذا توافرت شروط السرقة فإننا نقطع يد السارق، وعلى هذا لا نسقط الحد إلا إذا وجدت شبهة قوية.(388/2)
السارق من مال أبيه والعكس
قال رحمه الله: [فلا يقطع بالسرقة من مال أبيه وإن علا].
يعني: لو سرق الابن من مال أبيه فإنه لا تقطع يد الابن، ولو سرق الابن من مال جده وإن علا لم تقطع يده، والعكس: لو سرق الأب من مال ابنه، أو سرقت الأم من مال بنتها، أو سرقت الأم من مال حفيدتها، أو الأب من مال حفيده، فإنه لا يثبت القطع، وهذه الشبهة هي شبهة البعضية، والمراد بالبعضية: أن السارق يكون بعضاً من المسروق منه، أو يكون المسروق منه بعضاً من السارق، ومعنى ذلك: أن الولد قطعة من والده، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، وهذا في صحيح البخاري، فقال: (بضعة مني)، فكأنها قطعة منه عليه الصلاة والسلام، وإذا كانت منه عليه الصلاة والسلام صارت هي وهو كالشيء الواحد، فإذا سرق الولد من والده كأنه أخذ من ماله.
وجاءت السنة تؤكد هذا فيما رواه ابن ماجة وغيره -وصححه غير واحد من العلماء- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعل الوالد له يد على مال ولده، وإذا كانت له يدٌ على مال ولده فإنه حينئذٍ لا يقطع؛ لأنه لم يسرق، فكأنه أخذ من ماله؛ ولهذا جماهير الأئمة -حتى حُكي الإجماع في هذه المسألة- على أنه لا يقطع والد من مال ولده، ولا مولود من مال والده.
هذا الحكم عند العلماء والأئمة رحمهم الله عام وشامل للأصل مع فرعه وللفرع مع أصله، وعلى هذا نحكم بسقوط الحد إذا سرق الابن من مال أبيه وجده وإن علا، وإذا سرق من مال أبيه الذي تمحض بالذكور كجده من جهة أبيه أو جده من جهة أمه كأبي أمه، فلو سرق من مال جده لأمه لم يثبت الحد، وكذلك أيضاً لو ثبت أن السرقة من الوالد لولده فإنه يستوي في ذلك الأب مع الأم، فيستوي الذكور والإناث من الولد والوالد.
قال رحمه الله: [ولا من مال ولده وإن سفل].
هذا هو العكس، فهو أثبت أن الوالد لا يقطع بولده، وأيضاً الولد لا يقطع من مال ولده، والأصل في هذا السنة كما بينا، وهذه يسميها العلماء شبهة البعضية، ويستوي الذكر والأنثى في الآباء والأمهات، ويستوي الذكر والأنثى في الأولاد، ويستوي القريب والبعيد، فالأب المباشر والأب بواسطة، والابن المباشر والابن بواسطة وهو الذي يسمى بالحفيد.
قال رحمه الله: [والأب والأم في هذا سواء، ويُقطع الأخ].
ويقطع الأخ إذا سرق من مال أخيه؛ لأنه لا شبهة بين الأخ وأخيه، ولذلك تصح الزكاة على الأخ، ويجوز أن يدفع زكاته لأخيه؛ لأنه ليست هناك شبهة بعضية، ومن هنا قسّم العلماء القرابة في السرقة أو شبهة السرقة إلى قسمين: القسم الأول: قرابة مؤثرة، مثل: قرابة البعضية في الوالد والولد.
القسم الثاني: قرابة غير مؤثرة، وهي قرابة الأخ مع أخيه، مثل سرقة الأخت من مال أخيها، والأخ من مال أخته.
قال رحمه الله: [وكل قريب بسرقة من مال قريبه].
وكل قريب يُقطع إذا سرق من مال قريبه، والدليل على ذلك: عموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]، فأمرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن نقطع يد كل سارق سواءً كان قريباً أو غريباً، فلما جاءت السنة تستثني الوالد مع ولده والولد مع والده، أبقينا الحكم على العموم، واستثنينا ما استثنته السنة.(388/3)
السارق من مال زوجته والعكس
قال رحمه الله: [ولا يُقطع أحد من الزوجين بسرقته من مال الآخر].
إذا سرق الزوج من زوجته، أو سرقت الزوجة من مال زوجها، فهذا يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الأخذ من حرز.
الصورة الثانية: أن يكون من غير حرز.
فلو أن زوجة أخذت مالها ووضعته في صندوق وقفلت عليه، فجاء الزوج خفية وكسر الصندوق وأخذ المال الموجود فيه، فهذه سرقة؛ لأنها أخذ من الحرز، وتنطبق عليها شروط السرقة.
الصورة الثانية: أن يكون الأخذ من غير حرز كما لو أن الزوج دخل بيته، ووضع المال على الطاولة فجاءت الزوجة وأخذت منه خمسمائة ريال خلسة دون علم منه على صورة السرقة، ولكنه من غير حرز، والعكس لو أن الزوج فعل ذلك بزوجته.
في الصورة الأولى إذا كان من حرز اختلف العلماء رحمهم الله: بعض العلماء يرى أن الزوج يُقطع إذا سرق من مال زوجته، والزوجة تقطع إذا سرقت من مال زوجها، وبعض العلماء يرى أن الزوجة لا تقطع والزوج يقطع، وبعضهم يرى أنه لا يُقطع واحد منهما بسرقته من مال الآخر.
فالذين قالوا بأنه لا تُقطع يد الزوجين إذا سرق أحدهما من مال الآخر احتجوا بما ثبت عن عمر رضي الله عنه في قصة عبد الله بن عمرو الحضرمي كان له غلام، ثم إن هذا الغلام سرق من مال زوجته -غلام أي: عبد مملوك- فجاء بهذا العبد المملوك إلى عمر رضي الله عنه وقال له: يا أمير المؤمنين! إن هذا سرق فاقطع يده.
قال: ماذا سرق؟ قال: سرق مرآة زوجتي وهي بستين درهماً، وهذا يعادل النصاب وزيادة، فقال عمر رضي الله عنه: (خادمكم أخذ متاعكم، لا قطع عليه)، وفي بعض الروايات: (مالك سرق مالك) أي: العبد من مالك وسرق مالك، قالوا: إن هذا يدل على أن الزوج لا يقطع إذا أخذ من مال زوجته؛ لأن العبد مع سيده كالشيء الواحد، وإذا كان العبد مع سيده كالشيء الواحد ولم تقطع يد عبده فمن باب أولى ألا تقطع يد السيد نفسه، وهذا دليلهم على إسقاط الحد عن الزوج.
وقالوا: هذا قضاء من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا القضاء سنة، ولم ينكر عليه، وهذا أمر تدعو الضرورة إلى انتشاره؛ لأنه كان في خلافة عمر رضي الله عنه، ومع هذا لم ينكره أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: إن المرأة لا تقطع إذا سرقت من زوجها لوجود الشبهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سلط يدها على مال زوجها، وذلك عند وجود الحق لحديث هند في الصحيح أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك أفآخذ من ماله؟ قال: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فهذا يدل على أن المرأة فيها شبهة في تسلطها على مال زوجها.
فقالوا: إن كلاً منهما -أي: الزوج والزوجة- يتبسط في مال الآخر ويرتفق به، والغالب أنه لا يفعل هذا على سبيل الاعتداء وعلى سبيل السرقة، وإنما يفعل هذا غالباً لوجود نوع من الانبساط، وقالوا: هذا القضاء يدل على أنه لا قطع على أحد الزوجين إذا سرق مال الآخر.
والذين قالوا: لا تقطع الزوجة ويقطع الزوج، احتجوا بحديث هند، قالوا: إنها هي التي تتوسع في مال زوجها، وليس الزوج الذي يتوسع في مالها، فبقي الزوج على الأصل.
والحقيقة أن ظاهر قضاء عمر بن الخطاب -خاصة وأننا أمرنا بالعمل بسنة الخلفاء الراشدين- يقوى به الاستثناء.
وأما بالنسبة لمسألة الأخذ من غير حرز فلا إشكال في سقوط الحد فيه، وبه يقول جمهور العلماء رحمهم الله، فالمصنف رحمه الله أخذ بهذا القول الذي عمل به الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وله أصل من السنة، وخاصة في حديث هند رضي الله عنها وأرضاها.
قال رحمه الله: [ولو كان محرزاً عنه].
قوله: (عنه): أي: عن السارق سواءً كان الزوج أو الزوجة، ولو كان المال في حرز وقوله: [لو]: إشارة إلى خلاف مذهبي؛ لأن من العلماء من فرق بين كون المال المسروق من غير حرز، وبين كونه مسروقاً من حرز، ففرق بين المسألتين.(388/4)
السارق من مال سيده والعكس
قال رحمه الله: [وإذا سرق عبد من مال سيده].
العبد إذا سرق من مال سيده له صورتان: - الصورة الأولى: أن يحوجه السيد ويلجئه إلى السرقة، فمثلاً: يمنع عنه طعامه ويمنع عنه شرابه، فيعتدي العبد على مال السيد ويسرق منه، فهذا سبب يعتبره العلماء موجباً لسقوط الحد، وأُثر عن عمر بن الخطاب رضي الله: أن غلماناً -أي: عبيداً- كانوا لـ حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة ونحروها ثم أكلوها، فرفعهم حاطب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأراد منه أن يقطع أيديهم بالسرقة، ثم سأل عمر رضي الله عنه فوجد أن حاطباً رضي الله عنه كان مقصراً معهم في الإطعام، فقال: (أراك قد أحوجتهم بالسرقة) وأسقط القطع عنهم.
ومن هنا منع القطع في زمان المجاعة؛ لأنه إذا حصل الجوع والضيق بالناس، واضطر السارق للسرقة أو أن امرأة -مثلاً- ترملت وما عندها أحد يعول عليها ثم التجأت للسرقة وهي مضطرة إلى ذلك، فهذه الأحوال تستثنى، وهكذا مسألة العبد مع سيده: إذا كان السيد ظالماً للعبد لا ينفق عليه ولا يطعمه، وحبسه ومنعه حقه، فسرق العبد من مال سيده، فلا إشكال في سقوط الحد عنه.
- الصورة الثانية: أن يكون أخذه على غير وجه ضرورة، فالأصل في هذه المسألة يدل على أن العبد من مال السيد، ولذلك جاء في أثر ابن مسعود رضي الله عنه لما رفع إليه سرقة العبد من مال سيده قال: (مالكم سرق بعضه بعضاً)، فالمملوك إذا سرق من مال سيده يحكم بكونه من المال ويسقط الحد، وهذا فيه قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقضاء عبد الله بن مسعود، ولا يعرف لهم مخالف، ولهذا اعتد بسقوط الحد إذا سرق العبد من مال سيده، خاصة وأن العبد له حق في هذا المال.
وأما سرقة السيد من مال عبده، فمن المعلوم أن السيد يملك العبد وما ملك، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع) فهذا يدل على أن العبد ليس له يد على ماله، وأن للسيد ماله، ومن هنا سقط الحد لوجود الشبهة.
وهذه الصور التي ذكرها رحمه الله تسمى صور الشبهة في الملك، فالأولى -وهي صورة الوالدين- شبهة البعضية، والعبد في مال سيده شبهة الملك، وسيذكر لها صوراً أيضاً في صورة السيد مع عبده، والعبد مع سيده شبهة الملك، والشريك مع شريكه، والفقير من بيت مال المسلمين، فكل هذه من صور شبهة الملك.
قال رحمه الله: [أو سيد من مال مكاتبه]: هذا على القول بأن المكاتب عبد حتى يؤدي أنجم الكتابة، وهذا هو الأصل أنه إذا عجز عن أنجم الكتابة رجع عليه الرق.(388/5)
السارق المسلم الحر من بيت مال المسلمين أو من غنيمة لم تخمس
قال رحمه الله: [أو مسلم حر من بيت المال].
أو سرق مسلم حر من بيت مال المسلمين، هذه المسألة ضابطها: أن يكون هناك شبهة للسارق في المال الذي سرق منه، بمعنى أن له حقاً فيه، ولكنه حق مبهم غير معين، فالمسلم له حق في بيت مال المسلمين كما قال عمر رضي الله عنه وغيره: (إنه ما من أحد إلا وله حق في بيت مال المسلمين)، وهذا أصل، لكن هذا الحق ليس معناه التسلط على أموال بيت المال وسرقتها أو أخذها، وهذا لا يمنع تعزيره، ولا يمنع عقوبته، لكن الحدود تدرأ بالشبهات، فإذا سرق من بيت مال المسلمين سقط عنه الحد؛ لأن له حقاً في بيت مال المسلمين.
وقوله: (أو مسلم) اشترط أن يكون مسلماً؛ لأن الكافر ليس له حق في بيت مال المسلمين، وقوله: (حر) لأن العبد مملوك لسيده.
قال رحمه الله: [أو من غنيمة لم تخمس].
أو سرق من غنيمة لم تخمس، تقدم معنا أحكام الغنائم وتخميسها، وما هو المراد بذلك، فإذا غنمت الغنيمة فقبل قسمتها يختلط حق الغزاة مع حق بيت مال المسلمين، فالغنيمة يكون فيها حق للغزاة الذين هم الأصل في حصول الغنيمة، وبيت مال المسلمين له حق، ولذلك ذكرنا كيفية تقسيم الغنيمة، وبينّا الأدلة الشرعية في ثبوت حق لبيت مال المسلمين في خمس الغنيمة.
فالخمس يخرج من الغنيمة، والأربعة الأخماس تقسم بين الغانمين: للفارس سهمان، وللراجل سهم، على الأصل الذي بيناه، فإذا كانت الغنيمة لم تخمس، فإنه في هذه الحالة إذا سرق غير الغزاة منها فله حق باستحقاق بيت مال المسلمين إذا كان مسلماً حراً.
لكن لو أنها خمست، وأخرج منها خمس بيت المال، فهذه الأربعة الأخماس إذا سرق السارق منها نظرنا فيه: فإن كان من الغزاة، فهذا غلول -نسأل الله السلامة والعافية-، وفيه الوعيد الشديد، ولكن له شبهة؛ لأنه من الغزاة، وله حظ في الأربعة الأخماس، وأما إذا كان من غير الغزاة فتقطع يده؛ لأنها إذا خمست وفصل حق الغزاة عن حق بيت المال وسرق من حق الغزاة؛ فقد سرق من غير ملكه، وحينئذٍ يثبت الحد، ولا شبهة له؛ لأنه ليس من الغزاة، وليس له حق في هذا المال، فيعتبر أشبه بالسرقة من سائر الأموال.
لكن لو أنه كان من الغزاة وسرق من الأربعة الأخماس فلا تقطع يده لمكان الشبهة.
فلو كان من الغزاة وسرق من الخمس فإن له أصلاً بكونه في بيت مال المسلمين، وله الأصل العام في كون له حق كسائر حقوق المسلمين عموماً في بيت المال.(388/6)
السارق الفقير من غلة وقف على الفقراء
قال رحمه الله: [أو فقير من غلة موقوفة على الفقراء].
سرق فقير من غلة وقف على الفقراء، لو أن غلة وقف تصرف على الأيتام والأرامل والفقراء.
فالفقراء -مثلاً- لهم الثلث من الغلة بحكم شرط الواقف، فجاء فقير وسرق منه، فإذا سرق من غلة الفقراء لم تقطع يده؛ لأنه سرق من مال له فيه شبهة؛ لأن له حقاً في هذا المال كالحق العام، وإذا سرق شخص من مال موقوف على طلاب العلم قُطعت يده؛ لأنه سرق من مال لا حق له فيه.
هذه الصور كلها مندرجة تحت شبهة الملك.(388/7)
السارق من مال له في شركة
قال رحمه الله: [أو شخص من مال فيه شركة له].
أو سرق شخص من مال فيه شِركة -وشَركة وشُركة-، إذا سرق أحد الشريكين أو الشركاء من مال الشركة، فإنه في هذه الحالة توجد شبهة الملك؛ لأنه ما من جزء من هذا المال إلا وله فيه سهم ونصيب بحسب حصته من الشركة العامة، وحينئذٍ لا تقطع يده، ولكن لو ميزت حصص الشركاء، فمثلاً ربحوا مليوناً، وقسم هذا المليون بينهم أرباعاً كل واحد له ربع، وميز نصيب كل واحد، وقبضه وحازه، ثم تسلط أحدهم على نصيب شريكه قطع.
إذاً: الشرط أن يكون المال لم يقسم، وأن يكون المال على صورة الشركة، وسواءً وقعت السرقة في أصل المال أو وقعت في الربح؛ لأنه يملك في أصل المال ويملك في ربحه.
قال رحمه الله: [أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه].
صورة المسألة: أن يكون ولده شريكاً، فسرق الأب من شركة ولده، فمثلاً: ابنه شريك لثلاثة أجانب ليسوا بقرابة، فجاء الأب وسرق من شركة ابنه، فإن الأب مع ابنه كالشيء الواحد، فكما أننا فلا نقطع يد الابن لا نقطع يد الأب، والعكس، فلو كان الأب هو الشريك وجاء الابن وسرق من مالٍ لأبيه فيه شركة؛ لم تقطع يده؛ لأننا أثبتنا في السنة أن الابن مع أبيه والبنت مع أبيها وأمها والابن مع أبيه وأمه كالشيء الواحد.
قال رحمه الله: [لم يقطع].
أي: لم يقطع في جميع هذه الصور لوجود الشبهة.(388/8)
ما تثبت به السرقة(388/9)
شهادة عدلين
قال رحمه الله: [ولا يقطع إلا بشهادة عدلين].
هذا الشرط معتبر لثبوت حد السرقة، فالسرقة جريمة من الجرائم لا يثبت فيها القطع إلا ببينة ودليل، والدليل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: شهادة الإنسان على نفسه، وهو حجة الإقرار، فيقر ويعترف أنه سرق، ولذلك جاء السارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر واعترف، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يده.
القسم الثاني: أن يشهد الشهود على أنه سرق، فإذا ثبتت هذه الشهادة بالصفة المعتبرة في القضاء الإسلامي حكمنا بقطع اليد.
إذاً: هناك دليلان: الأول: البينة، وهي: الشهود.
الثاني: الإقرار، وهو: شهادة الإنسان على نفسه بالجرم.
ويشترط في الشهود أن يكونوا عدولاً ذكوراً بالغين عاقلين، سالمين من التهمة، ولا تقبل شهادة الصبيان، ولا تقبل شهادة المجانين، ولا تقبل شهادة خفيف الضبط وكثير النسيان وكثير الوهم؛ لأن الله يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، ومثل هذا لا ترضى شهادته.
ولا تقبل الشهادة من ذي خصومة، فلو أن عدواً شهد على عدوه أنه سرق لا نقطع يده، فمثلاً: وقعت خصومة بين أشخاص، ثم فوجئنا بهؤلاء الأشخاص الذين هم طرف في الخصومة والعداوة جاءوا شهوداً على أعدائهم أو على شخص من أعدائهم أنه سرق؛ فلا تقطع يده لأنهم متهمون في هذه الشهادة.
ومن هنا ثبت الحديث عند الحاكم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين)، والظنين: هو المتهم.
قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] في قراءة: ظنين أي: بمتهم، فإذا كان الذي شهد على خصمه عدماً لم نقبل شهادته.
كذلك يشترط في الشهود: أن يبينوا شهادتهم على وجه تنتفي به الريبة، فيبينوا المال المسروق، ويبينوا أن السرقة وقعت من حرز، ويبينوا الشخص المسروق، ويقولون: هذا.
ويشيرون إليه في مجلس القضاء أو يذكرونه باسمه ويرفعون نسبه على وجه يتميز به عن غيره، واشترط بعض العلماء أن يبينوا أنهم رءوه يسرق من مال فلان، فيحددونه ويبينونه.
كذلك أيضاً يشترط في الشهود: توافق شهادتهم، فلا يكون هناك اختلاف في الشهادة، فلو شهد شخص أنه سرق بالليل، والآخر شهد أنه سرق بالنهار؛ لم تقطع يده حتى تكمل شهادة الليل أو شهادة النهار؛ لأن سرقة الليل غير سرقة النهار.
أو شهد أحدهما أنه سرق ذهباً والآخر شهد أنه سرق فضة؛ لم تقطع يده؛ لأن سرقة الذهب غير سرقة الفضة، ما لم يكن المسروق ذهباً وفضة، أو شهد أحدهم أنه سرق إبلاً والثاني قال: سرق غنماً، هذه شهادة وهذه شهادة، هذه سرقة وهذه سرقة، فلابد من اتحاد مضمون الشهادتين وألا تتناقض الشهادتان، حتى يكون بينهما اتفاق على وجه تستطيع أن تعتبرهما بينة واحدة.
ولذلك قالوا: لو قال أحدهما: سرق ثوباً من نوع كذا.
وقال الآخر: بل سرقه من نوع كذا.
أي: نوع غير النوع الأول، لم تقبل شهادتهما، وهذا مذهب الجمهور خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه قال: ربما يخطئ الشاهد في هذا ويغتفر.
ويشترط في الشهود: العدد، فتقبل شهادة الاثنين، وأقل من الاثنين لا تقبل في السرقة، فإذا شهد واحد وحلف المدعي للحق أن فلاناً سرق منه؛ ثبت المال ولم يثبت القطع، بمعنى: لو قال الشاهد: فلان سرق من فلان عشرة آلاف ريال، وليس هناك شاهد آخر، فالقاضي يقول للمدعي: احلف يميناً، فإذا حلف اليمين ثبت المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الشاهد مع اليمين في الأموال، فنوجب على الشخص المشهود عليه أن يضمن العشرة آلاف، لكن لا نقطع يده؛ لأنه لم تكمل بينة القطع.
كذلك يشترط في الشهود: الذكورة، فلا تقبل شهادة النساء، فالشريعة لم تقبل شهادة النساء في الجنايات لما في النساء من ضعف في خلقتهن، ولذلك المرأة لو وقفت أمام جريمة لا تتحمل، ولذلك تجدها تصرخ وتغمض عينيها وتنفعل، وهذا الانفعال يخرجها عن التركيز، والإنسان لا يستطيع أن يغير في خلقة الله عز وجل، ولا أن يحمل المخلوق الضعيف مالا يتحمل، فهذه خلقة الله عز وجل، ومن هنا فشهادتهن قاصرة في الحدود كالسرقة والقتل وفي الجنايات على الأطراف والأعضاء، وهذه الأمور تحتاج إلى قوة من الشاهد حتى يستطيع أن يستبين، ويحتاج إلى نفس صابرة أثناء الجناية، فتستطيع أن تصبر حتى تستوعب الجريمة كاملة، وتستطيع أن تدلي بشهادة بينة واضحة، ومن هنا اشترط فيهم الذكورة والعدد والعدالة، فلا تقبل شهادة الفساق؛ لأن الله عز وجل قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، فأمرنا بالتبين من خبر الفاسق؛ فدل على أن الفاسق لا يقبل مباشرة، وهذا يدل على سقوط شهادة الفاسق، والعدل هو: الذي يجتنب الكبائر، ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم: العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر وذو أنوثة وعدل والحجا وذو قرابة خلاف الشهداء هذه كلها من شروط الشهادة، فيجب توافر هذه الصفات حتى نحكم باعتبار الشهادة على السرقة، ولذلك لا تقبل شهادة الشهود مجملة، فلو قال الشاهد: هذا سرق مالاً.
لا نقبل شهادته ما لم يبين، ولا تقبل متناقضة، بل لابد فيها من الاتفاق بين الشاهدين، وإذا اختلف المضمون في بعض الصفات -مثل: اللون- فقال أحدها: سرق ثوباً أبيض، وقال الآخر: سرق ثوباً أصفر؛ فبعض العلماء يتسامح فيه إذا تقاربت الألوان.(388/10)
إقرار السارق بالسرقة
قال رحمه الله: [أو بإقرار].
الإقرار حجة، والإجماع منعقد على أنه ليس هناك حجة أقوى من الإقرار؛ لأن الإقرار شهادة الإنسان على نفسه، وليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر، بل إنه لا يشهد على نفسه إلا وهو صادق في شهادته، ولذلك يعتبر الإقرار عند بعض العلماء -كما يعبرون- سيد الأدلة؛ لأنه ليس هناك حجة مثل الإقرار، ولذلك اختاره الله عز وجل في أعظم الأمور، وهو الشهادة على وحدانيته، وأخذ العبادة بشهادة الإقرار، فقال سبحانه: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران:81]، فالشاهد من هذا: أن الإقرار هو أقوى الحجج، ولكن لابد وأن يكون المقر عاقلاً؛ فلا يقبل إقرار المجنون ولا السكران على التفصيل في مسألة السكر، وسبقت معنا هذه المسألة، وسنبينها -إن شاء الله- في باب الإقرار، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصين رضي الله عنه وأرضاه- لما أقر عنده ماعز بن مالك بالزنا قال عليه الصلاة والسلام: (أبك جنون؟ فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمجنون، فقال بعد ذلك عليه الصلاة والسلام: أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، فالصحابي أقر واعترف بالجريمة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أبك جنون؟) وهذا يدل على أن المجنون لا يقبل إقراره، ثم قال له: (أشربت خمراً؟) وهذا يدل على أن السكران لا يقبل إقراره، فإذا أقر فلابد وأن تتوافر فيه الأهلية للإقرار، ولذلك لا بد من البلوغ والعقل وسلامته من الآفات، وألا يكون متهماً في إقراره، والجمهور على أنه لو أقر بالسرقة لا يقبل إقراره مجملاً، ولذلك يزاد شرط التفصيل في الإقرار، فلابد أن يبيّن المال الذي سرقه، وقدره، حتى نستطيع أن نعرف: هل بلغ النصاب أو لم يبلغ؟ وكذا نوعه حتى نستطيع أن نعرف: هل هذا يوجب القطع أو لا يوجبه؟ فلابد من توافر هذه الشروط حتى يعتد بإقراره، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل شروط الإقرار العامة.(388/11)
اختلاف العلماء في تكرار الإقرار
قال رحمه الله: [مرتين].
اختلف العلماء في السارق إذا أقر: هل يشترط تكراره؟ وقبل هذا؛ اعلم أن الإقرار لا يعتبر حجة إذا كان بإكراه، فلو أكره شخص على الإقرار فإقراره ساقط؛ لأنه لا إقرار مع الإكراه، قال عبد الله بن مسعود ويروى عن غيره من الصحابة: (إن الرجل ليس بأمين على نفسه ولا على ماله أن يقول ما لم يقل إذا ضرب أو أوذي)، فقال: ليس بأمين، والإقرار حجة إذا كان الشخص أميناً.
وبالنسبة للإقرار هل يشترط فيه التكرار؟ ذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى أن الإقرار لا يكون حجة في السرقة إلا إذا كرره مرتين، فقال: إنه سرق.
ويعود مرة ثانية يقول: إنه سرق.
ويبيّن ما الذي سرقه ويحدده، لاحتمال أن يظن أن الشيء الذي سرقه يوجب القطع، والواقع أنه لا يوجب القطع؛ لأن الناس تختلف ظنونهم، فلربما سرق مالاً تافهاً وظن أن هذا يوجب القطع، ولربما أخذ مالاً من غير الحرز فظن أنه سارقاً وهو ليس بسارق، فلابد أن يقر، وأن يكون إقراره مرتين بما يثبت به الحد، فإذا كرر الإقرار مرتين ثبت عليه الحد، وهذا مذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، واحتجوا بحديث الحاكم والدارقطني والبيهقي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بسارق فقيل: يا رسول الله! إن هذا سرق.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أخالك سرقت.
فقال: بلى يا رسول الله! فأمر به فقطعت يده)، لما قال له: (ما أخالك سرقت) كأنه يلقنه أن يمتنع من الإقرار.
وهذا يسمى عند العلماء -وتكلم عليه الأئمة-: تلقين الخصم، فإذا اتهم بالجريمة يلقن في السرقة ما يدرأ عنه الحد، وفعله بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من الخلفاء الراشدين كـ علي رضي الله عنه وغيره وعمر أيضاً رضي الله عن الجميع، فقالوا: إن هذا يدل على تكرار الإقرار؛ لأنه لما أقر المرة الأولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أخالك سرقت) فرد الإقرار الأول، فرجع الرجل وقال (بلى) يعني: قد سرق، والسؤال معاد في الجواب، فلما قال له: (ما أخالك سرقت) يعني: ما أظنك سرقت، كأنه يلقنه أن يدفع عن نفسه التهمة فقال: (بلى)، فرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبت عليه الصلاة والسلام عليه الحد.
والجمهور يرون أنه لا يشترط تكرار الإقرار، وأن المرة الواحدة تكفي في ثبوت الحد عليه، واحتجوا بحديث صفوان رضي الله عنه وأرضاه، فإن السارق لما سرق رداءه أقر، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره ولم يأمره بتكرار الإقرار، فدل على أن الإقرار مرة واحدة يوجب ثبوت الحد، والصحيح إن شاء الله أنه لا يشترط التكرار، ويجاب عن حديث التكرار بأنه في التلقين وليس في الإقرار؛ لأنهم قالوا: يا رسول الله! هذا سرق.
ولم يقر الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة: (ما أخالك سرقت)، فليس هناك ما يدل على أنه صرح بالسرقة.
فالحديث من هذا الوجه يجاب عنه متناً، والسند فيه ضعف، وفيه مجاهيل، والمتن ليس فيه تكرار؛ لأنهم قالوا: (يا رسول الله! إن هذا سرق فقال عليه الصلاة والسلام: ما أخالك سرقت)، فهي دعوى وردها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يقر الرجل، وكان ينتظر منه الجواب فقال: بلى.
فصار هذا تلقيناً للخصم، وليس بتكرار للإقرار، وعلى هذا لا يقوى دليل من قال بالتكرار، والصحيح الذي يترجح -والعلم عند الله- أن المرة الواحدة كافية وإن صح الحديث فإنه يحمل على التلقين.
قال رحمه الله: [ولا ينزع عن إقرار حتى يُقطع].
يشترط في الإقرار أن يبقى عليه حتى يقطع، وهناك شيء يسميه العلماء إثبات الجريمة، ثم بعدها الحكم، ثم بعدها التنفيذ، ثلاث مراحل: - الإثبات، والحكم، والتنفيذ.
وعبء الإثبات يبقى على المدعي، فلابد في السرقة من وجود مدعٍ وهو صاحب المال، وإذا ثبتت السرقة بإقرار الشخص أو بالبينة فحينئذٍ يحكم القاضي بثبوت الجريمة، والقاضي سلطته سلطة تشريعية يثبت بها الجريمة، فيبقى التنفيذ، فإذا جاء التنفيذ الذي هو القطع والعمل بما أمر الله عز وجل به، فالأصل يقتضي المبادرة، فنص الأئمة رحمهم الله على أنه لا يجوز التأخير، وأنه يجب المبادرة بقطعه إحياءً لحق الله عز وجل، وإتماماً لأمره سبحانه وتعالى، والأمر يقتضي الفور؛ لأن الله أمرنا إذا ثبتت السرقة أن نقطع، والأمر يقتضي الفور في هذا.
فإذا ثبت هذا؛ فإنه إذا ادعيت عليه السرقة فأقر ثبتت، فوجب على القاضي أن يحكم، فإذا حكم القاضي، فيشترط أن يبقى الرجل على هذا الإقرار إلى التنفيذ، فلو أنه قبل القطع ولو بلحظة رجع عن إقراره، فقال البعيد: كذبت، فأخبر عن نفسه أنه كذب في إقراره، أو قال: ما سرقت.
أو كنت أمزح أو نحو ذلك، وقف الحد ومنع من تنفيذه.
إذاً: يشترط في إتمام العمل بهذه البينة أو بهذه الحجة أن يبقى على إقراره حتى ينفذ، هذا قول الجمهور رحمهم الله.
وهناك من قال: إن الرجوع لا يؤثر، وأنه لو رجع لم يسقط الحد؛ لأنه تعلق به حق الآدميين، والصحيح: أنه يسقط حد القطع، ولا يسقط الحق المالي، وخذها قاعدة في الإقرارات: إن الرجوع إن كان لحق الله أثر، وإن كان لحق المخلوق لم يؤثر.
فلو أن شخصاً أقر أن عليه لفلان عشرة آلاف ريال، ثم قال: لا ليس له عشرة آلاف ريال، لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق لمخلوق، وبإقراره ثبت في ذمته العشرة آلاف ريال التي أقر بها، لكن لو أنه قال: إنه زنى، ثم قبل التنفيذ رجع؛ عند ذلك يسقط الحد عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة ماعز: (هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه)؛ لأنه لما فر عندما أدركته الحجارة كما في الصحيح.
وقد تقدم معنا أن من أقر بالزنا وأراد أن يرجع عن إقراره فإن الشرع يرغبه في ذلك، وأنه إذا رجع يحكم باعتبار رجوعه، لكن الحق هنا لله عز وجل.
أما في السرقة فقد اجتمع الحقان: حق الله وحق المخلوق، فحق المخلوق أنه يقول: سرق مالي؛ لأن من سرق يجب أمران إذا ثبتت سرقته: نطالب القاضي بإقامة الحد والحكم عليه بالقطع، ونطالب السارق برد وضمان المال المسروق، فهو إذا أقر أنه سرق مالاً فقد أقر أن في ذمته للشخص مالاً، وحينئذٍ نلزمه برد هذا المال الذي أقر به، فإذا رجع عن إقراره فقد رجع عن حق ثابت للمخلوق فلا ينفع الرجوع منه، فيجب عليه ضمان المال المسروق الذي أقر أنه سرقه، ولكن لا ينفذ الحد؛ لأن رجوعه شبهة.(388/12)
اشتراط أن يطالب المسروق منه بماله
قال رحمه الله: [وأن يطالب المسروق منه بماله].
يشترط أن يطالب المسروق منه بماله؛ لأن السرقة فيها حق للمخلوق، ولذلك ما سأل النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدعوى من صاحب الحق، وفي رداء صفوان أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الحد بدعوى صفوان، وعلى هذا العمل أنه يشترط أن يطالب المسروق منه بماله، فإذا طالب المسروق منه بماله، وثبت أن السارق سرق أو ادعى أنه سرقه وأقر المدعى عليه فقد ثبتت الجناية، ولكن لو أنه طالب ثم رجع عن المطالبة قبل إتمام القضية فإنه يسقط الحد، فإذا رجع قبل الإثبات، وأما إذا ثبت وأقر الرجل فرجع الشخص عن المطالبة ثبت الحد ولو رجع.
ولذلك صفوان رضي الله عنه وأرضاه لما سرق السارق رداءه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده، وصفوان رضي الله عنه ما كان يظن أن يد الرجل ستقطع، فقال: (يا رسول الله! هو له.
-أي الرداء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به)، فهذا يدل على أنه لو أسقط دعواه بعد الحكم أو قبل التنفيذ لم ينفع، وقبل الإثبات وقبل الحكم ينفع.(388/13)
قطع يد السارق من مفصل الكف
قال رحمه الله: [وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت].
(وجب) بمعنى: ثبت، فإذا وجب القطع وثبت فإننا نحكم بحد الله عز وجل وينفذ هذا الحد ولا يؤخر كما ذكرنا.
وقوله: (قطعت يده اليمنى)، الدليل على ذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، وفي قراءة ابن مسعود ((أيمانهما))، ودرج الصحابة رضوان الله عليهم وأئمة السلف والجماهير على قطع اليد اليمين؛ لأنها في الغالب التي يتعاطى بها السرقة، وهي التي فيها القوة، وهي التي فيها الأذية والضرر، فقطعها أبلغ، فتقطع يده اليمنى.
وقد بين رحمه الله أنها تقطع من مفصل الكف مع الساعد، فمن طرف تشد اليد كما ذكر العلماء والأئمة رحمهم الله حتى إذا قطعت، وذلك أبلغ في انفصالها وبيانها، فتقطع من مفصل الكف مع الساعد، وهناك قول ضعيف وشاذ: إنها تقطع من المنكب.
والصحيح: أنها تقطع من مفصل الكف، وعليه درج أئمة الصحابة رضوان الله عليهم في أقضيتهم، فإنهم قطعوا من مفصل الكف، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قدم اليمين وأن القطع يكون لليمين، وظاهر هذا أنها تقطع اليد سواءً كانت صحيحة كاملة أو كانت معيبة أو ناقصة، فلو أنه في يمينه مقطوع الأصابع أو بعضها قطعت يده ولو كانت معيبة على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من فرق بين أن تكون أكثر الأصابع مقطوعة أو أقلها، ومن أهل العلم من قال: إنها تقطع من عند الأصابع، وهذا كله ضعيف.
والصحيح أنه إذا كانت اليد موجودة قطعت.
واختلف في اليد المشلولة هل تقطع أو لا تقطع؟ فمن أهل العلم من منع من القطع، وعلل ذلك بأنه ربما نزف وحصل الضرر وقد يموت؛ لأن اليد المشلولة لا يتحكم في دمها، ومن أهل العلم من توسط كما اختاره الإمام النووي وغيره أنه يرجع إلى قول أهل الخبرة، فإذا كان الأطباء يستطيعون حسمها فإنها تقطع.
والأصل: أنها تقطع بالألم، فلا يكون القطع بالتخدير، فلا تخدر يده، والمقصود إيلامه حتى يشعر بجريمته وجنايته.
والحسم المراد به: وضعها في الزيت أو الدهن المغلي؛ لأن اليد إذا قُطعت نزف الدم، وإذا نزف الدم هلك الإنسان، فلابد أن الدم يمنع ويحبس، وجاء في الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي والدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه الأمر بحسم اليد إذا قطعت، منعاً من النزيف، والحديث فيه كلام، ولكن العمل عليه عند جمهور العلماء؛ لأنه يعضده مراسيل وموقوفات على الصحابة رضوان الله عليهم، لكن في زماننا -والحمد لله- يوجد طرق لإيقاف الدم وإيقاف النزيف.
وهنا مسألة معاصرة، وهي: أنه بإمكان الأطباء أن يعيدوا اليد بعد قطعها، فبعد تطور الطب وسهولة الجراحات الدقيقة بإمكانهم أن يعيدوا اليد بعد قطعها، والعجيب أن بعض المتأخرين أفتى بجواز ذلك! وهذا من أغرب ما يكون، فيقول: وضع التخدير إذا قطعت، ثم إذا قطعت ترد! إذاً: ماذا جرى؟ تقطع يد السارق اليوم وغداً تعود إليه! فأين العبرة؟ وأين الاتعاظ؟ والحدود شرعها الله زواجر وجوابر.
(جوابر): للنقص الذي في المكلف حينما عصى الله عز وجل فيجبر الله كسره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فأقمنا عليه حد الله فهو كفارة له)، فأثبت أن الحدود كفارات، فهي جوابر لنقص العبد.
(وزواجر): لأن من رأى هذه اليد المقطوعة اتعظ واعتبر وارتدع ولم تسول له نفسه ذلك، فإذا قطعت يده ورجعت لم تعد زاجرة ولا جابرة، فهو في نفسه لم يتألم، فلم يحصل له الألم الذي يعظه ويذكره؛ وأيضاً غيرة لم يره بهذه الحالة التي تزجره وتمنعه عن الوقوع في السرقة، ثم إنها إذا خدرت ولم يشعر بشيء لم يتعظ الناس، ولم يجدوا نوعاً من العبرة التي تردعهم عن حدود الله عز وجل ومحارمه، فالأصل يقتضي أن يقام حد الله عز وجل على الصفة الواردة.
قال رحمه الله: [ومن سرق شيئاً من غير حرز ثمراً كان أو كثراً أو غيرهما أضعفت عليه القيمة ولا قطع].
هذه مسألة التعزير بالمال، من سرق ما هو أقل من النصاب، أو من غير حرز، يعني: أخذ، وهو قال هنا: (سرق) تجوزاً؛ لأن السرقة لا تثبت إلا إذا كانت من حرز، فقوله: (من سرق) بمعنى: من أخذ، فمن أخذ مالاً دون النصاب، أو أخذ مالاً يبلغ النصاب ولكنه من غير حرز، بمعنى: أنه ما توافرت فيه شروط السرقة، فعند ذلك يعزر، وهذا ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تضعف عليه القيمة، ويغرم قيمة الذي سرقه مرتين، ويعزر بما يليق به ويمنعه من العودة للجريمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أضعفت عليه الغرامة وعليه العقوبة) , فأمر بأمرين في تعزيره: الأمر الأول: مضاعفة قيمة المال المسروق.
الأمر الثاني: عقوبة السارق بالتعزير، فيعاقب بما يناسبه، إما بسجنه أو جلده أو توبيخه، على الأصل الذي ذكرناه في باب التعزير، فمن الناس من يعاقب بالقول ويكفيه، ومنهم من يعاقب بالضرب الذي يردعه، ومنهم من يعاقب بالسجن الذي يردعه، فكل على حسب حاله.(388/14)
الأسئلة(388/15)
حكم الخادم أو الخادمة إذا سرقا
السؤال
إذا سرق خادم أو سرقت خادمة من أصحابها، فهل حكمه كحكم العبد أو الأمة؟ أثابكم الله.
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالخادم والخادمة ليسا بمملوكين، ولذلك لا ينطبق عليهما ما ذكره العلماء في المملوك، وهذا يسمى عند العلماء بسرقة الأجير من مال مستأجره، فإذا تحققت شروط السرقة فتقطع يد الخادم، وتقطع يد الخادمة، على الأصل الشرعي؛ لأنهما داخلان في عموم النص الآمر بقطع يد السارق، والله تعالى أعلم.(388/16)
حكم من سرق للمرة الثانية
السؤال
إذا سرق السارق مرة أخرى بعد قطع يده فما الحكم؟
الجواب
اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، والوارد في قضاء الصحابة أن تقطع رجله اليسرى، فتقطع يده اليمنى أولاً في السرقة الأولى، ثم تقطع رجله اليسرى؛ لأنه حد شرعي، ولذلك في الحرابة أمر الله عز وجل بقطع اليد والرجل من خلاف؛ لأنه إذا قطعت اليدان تعطلت المصالح، وهذا من حكمة الشريعة، وإذا قطعت يد ورجل بقيت له مصالح؛ ولأنه يحتاج أن يرتفق ويمشي.
وكان علي رضي الله عنه يقول: (كيف يغتسل؟ كيف يتوضأ؟ كيف يقضي حاجته؟ كيف يصلي؟) فلما كرر السارق السرقة احتار في أمره رضي الله عنه وأرضاه.
ومن أهل العلم من قال: تقطع يده الثانية، والأقوى أنها تقطع رجله، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن تعذر قطع اليمين وقطعت اليسار في الأولى قطعت رجله اليمنى في الثانية، والله تعالى أعلم.(388/17)
دفن اليد أو الرجل المقطوعة
السؤال
يقول السائل: اليد التي قطعت في حد من حدود الله ماذا يفعل بها؟ هل تغسل وتكفن أم تدفن مباشرة؟
الجواب
الجزء لا يأخذ حكم الكل، وهناك مسائل يأخذ الجزء فيها حكم الكل، مثل أن يقول لزوجته: يدك طالق، رجلك طالق، يدك مني عليّ كظهر أمي، ونحو ذلك، فهذا الجزء يأخذ حكم الكل.
وهناك مسائل الجزء لا يأخذ فيها حكم الكل، ومنها هذه المسألة، فإنه إذا قطعت يده أو صار عليها حادث فبترت فإنها تدفن.
واستدل العلماء على مشروعية الدفن بدليلين: الدليل الأول: دفن الأظافر، وهذا فيه إشكال؛ لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن الأظافر هو خوف السحر، وفيه حديث حسنه بعض العلماء رحمهم الله، فالأظافر ربما -والعياذ بالله- تستعمل لأذية الإنسان بالسحر، ولذلك شرع دفنها بعد القص.
الدليل الثاني وهو القوي على أنها تدفن قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] فقوله تعالى: {فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] يدل على قبر الإنسان بعد موته، والتعبير للكل والمراد به أيضاً الجزء، فلو قطعت يده أو رجله، أو أصاب يده مثلاً تآكل فقطعت يده فإنها تدفن، والله تعالى أعلم.(388/18)
الفدية بالإطعام لمن لم يستطع صوم رمضان
السؤال
والدي رجل كبير ومريض ولا يستطيع الصيام، فهل لي أن أطعم عنه في أول شهر رمضان، وهل أدفعها في مشروع تفطير الصائم أم لابد من الإطعام؟
الجواب
إذا كان الشخص مريضاً أو كبيراً في السن فهو بالخيار بين أمرين: - إما أن يخرج عن كل يوم بيومه.
- أو يخرج في آخر رمضان.
أما الإخراج عن كل يوم بيومه فينتظر إلى أن تغيب الشمس في قول بعض العلماء، وبعض العلماء يقول: من بداية اليوم؛ فبمجرد فطره في الصباح يطعم؛ لأنه حينئذٍ ثبت وجوب الحق عليه، وأما من بداية الشهر فإنه لم يثبت عليه استحقاق؛ لأنه ربما مات، وربما لم يكتمل الشهر، ولذلك لا يجب عليه الإطعام إلا بعد ثبوت الحق، وإذا أطعم قبل تمام المدة أو أطعم في بداية رمضان لم يجزه إلا عن اليوم الذي أطعم فيه، وذلك كما لو أخرج الزكاة قبل بلوغ النصاب، فزكى ولم يملك النصاب، فسبب الوجوب غير موجود، وعلى هذا لابد أن يكون في اليوم نفسه إذا أراد أن يطعم، أو ينتظر إلى نهاية الشهر ويجمع الأيام كلها، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه في آخر الشهر يجمع ثلاثين مسكيناً ويطعمهم.
وعلى هذا؛ فإنه إن شاء أطعم عن كل يوم بيومه، وهذا هو الأفضل والأحسن والأكمل، فإن هذا يمكنه من الفقراء، ويعينه على الإطعام على الوجه المعتبر.
ثم إنه إذا أطعم المسكين في يومه، يدعوه هذا إلى أن يتحرى في المحتاج، بخلاف ما إذا جمع المساكين الثلاثين، فإنه ربما يتساهل في بعضهم، فالأولى أنه يطعم في كل يوم بحسبه.(388/19)
حكم العمرة في رمضان لأهل مكة
السؤال
ما حكم العمرة في رمضان لأهل مكة؟
الجواب
العمرة في رمضان لأهل مكة وغيرهم سواء، والأصل في ذلك عموم النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ترغيباً في العمرة، وما ورد عن السلف من التشديد في العمرة إنما هو في العمر المطلقة؛ لأن المقصود من العمرة: الطواف بالبيت، وأهل مكة بمكة، فكان عطاء وغيره من السلف الصالح رحمهم الله يستحبون لأهل مكة بدل أن يخرجوا للتنعيم ويكثروا من العمر أن يطوفوا بالبيت؛ لأن المقصود من العمرة: زيارة البيت، فهم في البيت ومن أهل البيت، ومن هنا ضيق عليهم في إنشاء العمر.
أما العمر المقصودة الوارد بها النص التي لم يرد فيها استثناء؛ فهي باقية على الأصل، والترغيب فيها وارد، ومن اعتمر في شهر رمضان من أهل مكة وغيرهم كانت عمرة كحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لامرأة: (ما منعك أن تحجي معي؟ -حينما قفل عليه الصلاة والسلام من حجة الوداع_ قالت: يا رسول الله! ليس لنا إلا ناضح وقد أخذه أبو فلان، فقال صلى الله عليه وسلم -مطيباً لخاطرها وللأمة جمعاء- إذا كان رمضان فاعتمري، فعمرة في رمضان كحجة معي)، فلم يقل: إلا أهل مكة، بل قال: عمرة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذلك لو قيل بالتخصيص لخصص النساء دون الرجال، ولو قيل بالتخصيص لخصص المعذور دون غير المعذور، ولو قيل بالتخصيص لخصصت المرأة فقط لوحدها، لكن القاعدة: العبرة بعموم اللفظ (عمرة في رمضان كحجة معي)، وما قال لها: اعتمري في رمضان القادم فإن لكي بها حجة عوضاً -مثلاً- عن الحجة، إنما خاطب بخطاب العموم، وهذا العموم ليس فيه تخصيص ولا استثناء، فيبقى على الأصل وهو الأظهر، وهذا مذهب جمهور العلماء: أن العمرة مشروعة لأهل مكة وغيرهم على حد سواء، والله تعالى أعلم.(388/20)
حكم السعي إلى الصلاة
السؤال
أيهما يقدم المسلم حين القدوم إلى الصلاة إذا أراد أن يدرك تكبيرة الإحرام أو الركعة، هل يسرع إسراعاً لا يخل بمقصود الصلاة من الخشوع -كأن يكون سريع المشي عادة- أم أنه يمشي بسكينة ويفوته خير بسكينته؟
الجواب
الأصل يقتضي عدم الإسراع عند سماع الإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، إلا أن بعض السلف رحمهم الله خففوا في الإسراع اليسير واحتجوا بحديث قباء (لما خرج عليه الصلاة والسلام إلى قباء ثم سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع في مشيه)، وهذا الإسراع ربما يكون هو مقصود السائل؛ لأنه يوجد إسراع بسعي، ويوجد إسراع جد في السير، وكان صلى الله عليه وسلم من هديه الخلقي أنه إذا مشى مشى مشية الرجل ولم يمش مشية المتماوت.
ولذلك قال الراوي: (كأنه يتحدر من صبب)، أي: كأنه نازل من جبل أو نازل من مكان عالٍ، من قوته ورجولته بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فالاشتداد بالمشي الذي لا يذهب السكينة ولا يذهب الوقار معفو عنه، وورد عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورخص فيه الأئمة.
ولكن الإسراع الذي هو الهرولة والجري فهذا منهي عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكرة: (زادك الله حرصاً ولا تعد) أي: لا تعد إلى هذا الإسراع؛ لأنه سمع منه جلبة، وعلى هذا إذا كان الإسراع من الضرب الذي يوءذن به فلا بأس، وإن كان على خلافه فإنه ممنوع منه، والله تعالى أعلم.(388/21)
تقديم بر الوالدين
السؤال
أبي رجل كبير في السن فهل الأفضل الاعتكاف أم بر الوالدين، مع العلم أن هناك أخوة لي يبرونه؟
الجواب
الله المستعان! ليس هناك شيء -يعدل بعد توحيد الله عز وجل وإقامة فرائض الله- بر الوالدين، ليس هناك أجمل ولا أكمل ولا أفضل من ساعة تلزم فيها رجل الأم أو رجل الأب تقضي حوائجهما وتنفس كرباتهما بعد توحيد الله عز وجل، وتفرحهما وتحسن إليهما، استجابة لأمر الله عز وجل الذي لم يقله المرة ولا المرتين، وإنما كرره وقرنه بأعظم الحقوق {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23].
من هذا الذي يستطيع أن يعدل اعتكافه ببر الوالدين؟ برك لأبيك وأمك أعظم، وإدخالك السرور على الوالدين أفضل وأجل، ولو كان ذلك لقضاء حوائجهم الدنيوية، ولو قال لك أبوك: اجلس في الدكان، فتجلس في الدكان وتبره، ويشهد الله بقرارة قلبك أنه لولا الله ثم بر الوالدين للزمت المساجد، وتحفظ دينك وتحافظ على القيام على الوالدين والإحسان إليهما، حتى إن الله تعالى يقول له: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وعبر بالمصدر ثم اختار أعظم كلمة في العبادة وهي الإحسان، فأحب شيء لله عز وجل أن تعبد الله كأنك تراه، وهذه العبادة وصفها الله بصفة الإحسان (قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه)، وقال الله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، ما خلق الله الخلق إلا ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فاختار الله هذه الكلمة العظيمة التي اختارها لنفسه في عبادته، واختارها أيضاً للوالدين فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23].
تأمل كيف يأمر ربك سبحانه وتعالى ببرك لوالديك وجلوسك معهما وقضاء حوائجها، فلا يمكن أن يعدل بركوع وسجود في اعتكاف؛ لأن بر الوالدين حق واجب، والاعتكاف نافلة؛ ولأن بر الوالدين مفضل بعد الصلاة المفروضة، يقول عبد الله بن مسعود: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها.
قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين.
قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) قال عبد الله رضي الله عنه: (حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني).
احرص بارك الله فيك! على البر بوالديك، وخاصة في هذه المواسم الطيبة المباركة؛ مواسم النفحات والرحمات والخيرات، فيبحث الإنسان عن أقرب السبل وأقصرها مما يفضي به إلى جنة الله ورضوانه، ألا وإن من تلك السبل المحببة إلى الله: بر الوالدين.
واعلم أنها ساعة سعيدة حينما تفوز برضا الوالدين، وأي ساعة تلك الساعة إذا خرجت ووراءك أب صالح يرفع كفه إلى الله لك بصالح الدعوات! وأي ساعة تلك الساعة حينما تخرج ووراء ظهرك أم جبرت كسرها وأدخلت السرور عليها، وبددت حزنها، وعالجت سقمها ومرضها وداءها، وبردت كبدها وحرها وضمأها، وقمت على حوائجها، فخرجت من عندها وهي راضية عنك، فرضي الله عنك برضاها! أي ساعة تلك الساعة حينما تحس أن والديك راضيان عنك! ولو لم يكن في بر الوالدين شرفاً وفضلاً إلا أن الله قرنه بتوحيده، وأمر به أنبياءه وصفوته من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لكفى بذلك فضلاً وشرفا، ولكن من هو الموفق؟! ومن هو السعيد؟! يا هذا! لو تعلم ما لك في برك لأبيك خاصة حينما رق عظمه وشاب شعره وخارت قواه، لو علمت ما لك في برك لأمك الحنون التي حملتك وأرضعتك وكابدت من أجلك وعانت ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، لو علمت ماذا تساوي الدقيقة من الأجور والحسنات ورفعة الدرجات، وماذا تساوي من حسن الخاتمة عند الممات، لما تركت طاعتها لحظة.
فما رأينا باراً بوالديه إلا فتحت أبواب الخير في وجهه، ولا رأينا باراً بوالديه إلا سعيداً قرير العين، ولا رأينا باراً بوالديه ضاقت عليه الدنيا إلا نفس الله عنه ضيقها، ولا تكالبت عليه الأحزان والأشجان إلا بدد الله عز وجل همها وغمها، ما رأينا البر يعود إلا بالخير والفضل والبركة والإحسان.
كل إنسان رزقه الله أباً وأماً فليحس أن هناك أمانة، وأن الله ائتمنه عليهما عند المشيب والكبر، فماذا يغني لك الأحباب والأصحاب والسهر معهم والأنس بهم ووالداك بحاجة إليك؟ أي محروم هذا المحروم الذي يخلف أمه وراء ظهره مريضة سقيمة محتاجة إليه تئن وتحن، ثم يذهب ويحتال حتى يأخذ منها الرضا الملفق المزور، ويعلم الله من قرارة قلبه أنه خان والديه، وأنه قد غشهما، لكي يذهب ويدعي أنه يركع ويسجد وأنه يتقرب إلى الله عز وجل؟! من هذا المحروم الذي يترك والديه وراء ظهره، وهما أحوج ما يكونان إلى علاج أو دواء أو مال أو أي حاجة من الحوائج وهو قادر عليها؟! فاتق الله في والديك، والزمهما واحرص كل الحرص على إدخال السرور عليهما، فهما طريق الجنة، وفي الحديث: قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت أبواي يبكيان.
قال: أتريد الجنة؟ قال: نعم.
قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)، ما المراد بأن يضحكهما؟ هل بكلمة أو كلمتين؟ (أضحكهما) يعني: كن في حالة وهيئة وشأن وفي جميع أمورك تضحك بها الوالدين، حتى إن العبد الصالح قد تتكالب عليه هموم الدنيا وغمومها ويؤذى في عمله ووظيفته، ويأتي من عمله ووظيفته مكروباً محزوناً فيدخل على والديه ويكتم حزنه فيضحك معهما، والله يعلم كم في قرارة قلبه من الأشجان والأحزان، وكم من مكروب منكوب إذا دخل على والديه ضحك كأنه في جنة وفي سعادة، وهذا والله! لن يخرج إلا قرير العين برحمة ربه.
فليبحث الإنسان عن رضا الوالدين، وليبحث عن كلمة تبدد أحزانهما، وليبحث عن سرور يدخله على الوالدين حتى ولو كان بالحكاية والرواية، فإن المحسن بمجرد أن يجلس عند أمه يبحث عن كلمة أو قصة أو حكاية تدخل السرور عليها التماساً لمرضاة الله ((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [الإسراء:22].
وقف العبد الصالح على والدين عند مشيبهما وكبرهما وكتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم نصب عينيه لا يفتر ولا يتعب ولا ينصب، يجتهد ويجد في رضا الوالدين، هذه هي السعادة، وهذا هو طريقك إلى الجنة.
فعليك أن تبدأ بحق الله أولاً من الفرائض التي فرضها عليك، كإقام الصلوات وإيتاء الزكاة والصوم والحج، ثم بعد ذلك تثني ببرك لوالديك، فالتمس رضاهما، وجد واجتهد وشمر عن ساعد الجد في ذلك.
وبعض الأحيان الشيطان يدخل على الإنسان مدخلاً غريباً، يكون الوالد تاجراً، فيقول لولده: ابني! أريدك أن تجلس في الدكان.
صحيح أن هناك فتناً، ولكن الفتن من تعرض لها فتن، ولكن الإنسان إذا اتقى الله ربط الله على قلبه، فيأتيه الشيطان ويقوله له: الناس في عبادة، يركعون ويسجدون وأنت جالس تبيع وتشتري! أو تأتيه والدته وتقول له: أريد أن أذهب إلى المستشفى.
أو تريد أن تدخل السرور على أولادها، أو تريد أن تشتري شيئاً من السوق، فتجد الواحد يدقق ويبحث عن مآخذ، فيقول في نفسه: لا السوق فيه فتن، فيه كذا وكذا، نقول: نعم في السوق فتن، ولكن ابحث عن طريقة تستطيع أن تبر بها والديك، ولا تضيق الأمور، وتجده إذا أراد حاجة لنفسه ذهب إلى السوق في أعز أوقات الفتن، ولم يبالِ! والنفوس مجبولة على أن الشيء الذي للغير تنتقد فيه وتضيق فيه، والشيطان حريص على حرمان الإنسان من الخير.
اجعل بر والديك نصب عينيك، واتق الله عز وجل في الطريق التي تبر بها والديك، وسيسهل الله عز وجل لك ذلك؛ لأن الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7].
فإذا كنت في نيتك وقرارة قلبك حريصاً على برك لوالديك، فتح الله لك أبواب الرحمة، وأدخل السرور على الوالدين بك، إن من عباد الله الأخيار الصلحاء من فاز في رمضان وغير رمضان ببره لوالديه، فلا يعلم أحد مقدار ما فاز به من الدرجات والباقيات الصالحات إلا الله وحده.
فبر الوالدين هو الطريق إلى الجنة والرحمة والبركة والتوفيق، وهو الطريق إلى كل خير ورشد.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر حظ ونصيب.
وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أمشي في حاجة مكروب أو منكوب أو مسلم -يعني: في قضاء حاجة- أحب إلي أن أعتكف في هذا المسجد)، ويروى عن بعض التابعين، ويروى عن بعض السلف رحمهم الله.
وهذا من باب تقديم النفع المتعدي على النفع القاصر، ونقول أولاً: بر الوالدين فرض والاعتكاف سنة، وثانياً: إنك إذا بريت الوالدين ونويت الاعتكاف كتب لك الأجران، وثالثاً: إن بر الوالدين نفعه متعدٍ، والصلاة والعبادة نفعها قاصر، والنفع المتعدي مقدم على النفع القاصر، والأمر الرابع: أن الأصل يقتضي في باب المفاضلات أن ينظر إلى حصول الضرر فـ (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)، فبعض الإخوان إذا غاب عن والديه تشوشا، وهنا ننصح الأساتذة الفضلاء الذين يحرصون -جزاهم الله خيراً- على أخذ بعض الشباب الصغار إلى المساجد، وبالأخص الحرمين، أن ينتبهوا لهذا، وأنا من وجهة نظري أن بعض الصغار دخولهم الحرمين يضيق على من هو أكبر وأولى بالاعتكاف، وإذا نظر إلى شدة الزحام ودخول هؤلاء الصغار الذي بعضهم قد يعبث، وبعضهم قد لا يشعر بمعنى الاعتكاف، ولا يتأثر به التأثر المحمود، فلو اقتصروا على من يتأثر وعلى من ينتفع لكان أفضل؛ لأن الناس كثرت الآن وليس كما كان في السابق، وتعليم الشباب وتعويدهم على الخير يكون في أزمنة أخرى غير رمضان، ونحن لا نشك أن هذا من باب الخير ومن باب التعاون، لكن الذي نلحظه ونجده، وقد اشتكى لنا كثير من الناس، أنهم قد يأتون بعدد كبير من صغار السن ويدخلونهم إلى الاعتكاف، وهذا يؤثر ويضر في مزاحمة من هو أكثر خشوعاً وأولى بالعبادة ممن هو قاصر.
وخروج هؤلاء(388/22)
شرح زاد المستقنع - باب حد قطاع الطريق [1]
من حدود الله عز وجل في كتابه الكريم حد الحرابة على من تعرض معصوم محترم بسفك دمه أو أخذ ماله أو الاعتداء على عرضه، وهذا الحد قد وضعته الشريعة ردع الشذاذ المحاربين وعصابات السلب والقرصنة، وقد بين الشارع الحكيم الأمور التي تتحقق بها الحرابة، ونحو ذلك.(389/1)
مشروعية حد الحرابة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب حد قطّاع الطريق] هذا الباب يشتمل على حد من حدود الله عز وجل، التي ثبتت بدليل الكتاب والسنة، وإجماع العلماء رحمهم الله.
ومناسبة هذا الباب للباب الذي قبله أن حد السرقة اعتداء على الأموال، وحد الحرابة وقطع الطريق فيه اعتداء على الأموال والدماء والأنفس والأعراض، واعتداء على أمن الناس، وذلك بتخويف السبل، فإما أن تكون المناسبة لخاص مع خاص، بأن ننظر إلى أن حد السرقة اعتداء على الأموال، وقطع الطريق الغالب فيه طلب المال، فناسب أن يذكر الحد الأكبر بعد الحد الأصغر؛ لأن الحرابة أكبر من السرقة.
وإما أن يقال: إن حد الحرابة أشمل، فيصبح حد الحرابة عاماً بعد خاص، والخاص هو السرقة وهي اعتداء على الأموال، وقبلها جريمة الزنا والقذف وغيرها من الاعتداءات، فبعد أن بيّن الحدود الخاصة بالأموال بالسرقة، والجناية على العقل كحد شارب الخمر، والجناية على الأعراض من القذف وحد الزنا، شرع في بيان الحد الذي يجمع أكثر من حد وعقوبة، وهو: حد قطع الطريق أو ما يسمى: حد الحرابة.
وكلتا المناسبتين صحيحة، ولا شك أن من دقة المصنف رحمه الله أن يذكر حد الحرابة بعد الحدود الخاصة، ومن دقته أن يراعي المناسبة بين حد السرقة في الجناية على الأموال وحد قطع الطريق.
وقد اختلفت عبارات العلماء رحمهم الله في هذا الباب، فمنهم من يقول: باب حد قطع الطريق أو قطاع الطريق، ومنهم من يقول: باب الحرابة.(389/2)
مناسبة باب الحرابة لما قبله(389/3)
تعريف حد الحرابة
والحرابة: مأخوذة من الحرب، وهي ضد السلم، ومن عبر بالحرابة راعى نص الكتاب وتأدب مع الكتاب؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33] فوصفهم بكونهم محاربين؛ ولأن هذه الجريمة لا يمكن أن تكون إلا وفيها صفة المحاربة لجماعة المسلمين وأفرادهم والخروج عليهم بما فيه خوف وضرر وأذية، وليس المراد به خروج البغاة.
وأيضاً لا تكون جريمة إلا إذا اشتملت على صورة مخصوصة، وهذا ما سنذكره إن شاء الله من الشروط المعتبرة لكي نحكم بأنها جريمة حرابة.
فالذين عبروا بالحرابة راعوا لفظ القرآن، والذين عبروا بقطع الطريق راعوا أيضاً وصف نبي الله لوط عليه السلام لقومه، قال: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29] فكلا التعبيرين صحيح، ولكن التعبير بالحرابة فيه نوع من العموم، وذلك إذا قلنا: إن الحرابة لا تختص بالصحراء فقط، بل تقع الحرابة داخل المدن في الجرائم والعصابات المنظمة، أو حتى الاعتداء الفردي المسلح الذي يكون جهاراً وتخويفاً للناس علانية.
والصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله: أن الحرابة لا تختص بالصحراء، ولا تختص بالبحر كما في قرصنة البحار، ولكن يمكن أن تكون داخل المدن، وهذا يترتب عليه مسائل؛ لأن عقوبة الحرابة عقوبة قوية، حتى ولو سامح أهل الحقوق فإنها لا تسقط، وينفذ الإمام والسلطان الحكم وينزل العقوبة ولو سامح أهل الحقوق، وحينئذٍ فأي شيء تعطيه حق الحرابة فهو أمر عظيم، وليس من السهولة بمكان الحكم على أي جريمة أو جماعة أو أفراد بأنهم محاربون لله ورسوله.
ومن هنا وضع العلماء الضوابط، فالتعبير بالحرابة فيه شمولية وعموم أكثر من التعبير بقطع الطريق؛ لأن التعبير بقطع الطريق يشعر بأن الحد متعلق بالاعتداء في الصحراء دون المصر ودون المدن، وهذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله على تفصيل عندهم في ضابط المدن؟ ومتى تكون الجناية داخل المدن؟ منهم من يفصل في هذا ومنهم من يطلق.
والشاهد عندنا: أن من عبر بالحرابة يمتاز بأمرين: الميزة الأولى: مراعاة لفظ القرآن.
والميزة الثانية: أنه أشمل وأعم، إذ لا يشعر باختصاص العقوبة والحد بالجناية في الصحراء دون البنيان.(389/4)
تعريف مصطلح قطاع الطريق
قوله: (حد) تقدم معنا تعريف الحد لغة واصطلاحاً، وأن هذا المصطلح يطلق على العقوبات المقدرة شرعاً.
ومن هنا لما كانت الحرابة مقدرة من الله عز وجل وجعل فيها القتل عقوبة، ومع القتل الصلب للمقتول الجاني، وجعل فيها قطع اليد والرجل من خلاف، وجعل فيها النفي من الأرض، وكلها عقوبات حددها الشرع وعينها وقصدها، ومن هنا وصفت بكونها حداً.
وقوله: (قطاع) جمع قاطع، وأصل القطع ضد الوصل، قالوا: إن الناس يسافرون ويخرجون في السفر قاصدين المدن، وقاصدين أماكن مخصوصة، فإذا حصلت الحرابة قطع المحارب عليهم سفرهم وطريقهم، فوصفت بكونها قطعاً للطريق وقطعاً للسبيل.
وقوله: (الطرق) جمع طريق، وسمي بذلك؛ لأن الناس يطرقونه بالنعال، أو يسمع فيه طرق النعال من الإنسان إذا سلكه، والطريق والسبيل معناهما واحد، وقيل: السبيل للمعنويات، والطريق للمحسوسات، وإن كان قد جاء في القرآن: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} [العنكبوت:29] وهذا يدل على أنه يطلق على المحسوسات كما يطلق على المعنويات.
قال تعالى في إطلاق السبيل على المعنويات: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان:3] أي: ألهمناه سبيل الخير والشر، وهذا من إطلاق السبيل إطلاقاً معنوياً.
وقوله رحمه الله: [باب حد قطّاع الطريق] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحد قطع الطريق، وما جعله الله من العقوبة لهذه الجريمة.(389/5)
أدلة القرآن على عقوبة الحرابة
الأصل في ذلك كتاب الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل آيتي المائدة، وهما قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:33 - 34]، وهاتان الآيتان نزلتا في إثبات عقوبة الحرابة، وإسقاطها، فالآية الأولى: إثبات لعقوبة المحاربين وقطاع الطرق، والآية الثانية: في إسقاط الحد عنهم، وذلك بتوبتهم قبل القدرة عليهم، فبيّن الله سبحانه وتعالى شرعية هذا الحد.
وسيأتي إن شاء الله في معنى قوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] هل (أو) هنا للتخيير، وأن الأمر راجع للإمام والوالي ينظر الأصلح؟ أم أن (أو) هنا للتنويع على حسب الجرائم التي تقع من هؤلاء الذين اعتدوا على سبل المسلمين فقطعوها وأخافوها، ومنعوا الناس من مصالحهم، وأرعبوا الناس وأدخلوا الخوف عليهم؟ فهل هي عقوبة تختلف باختلاف جرائمهم فيكون القتل لمن قتل، والصلب لمن قتل وسرق؟ على تفصيل سيأتي إن شاء الله في موضعه.(389/6)
أدلة السنة على عقوبة الحرابة
أما دليل السنة فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن أناساً من عرينة قدموا المدينة، فاجتووها) أي: أصابهم الجوى، والجوى: نوع من الأمراض يأتي الإنسان عند اختلاف الطعام عليه، واختلاف المكان والبيئة (فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم، فأمرهم أن يلحقوا بإبل الصدقة، فخرجوا إلى إبل الصدقة، فلما صحوا ووجدوا العافية قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، فجاء الصارخ في أمرهم إلى المدينة، فما غابت الشمس حتى أتي بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسملت أعينهم) أي: أمر بالمسامير فأحميت بالنار، ثم سملت بها أعينهم.
قيل: إنهم سملوا عين الراعي فسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وهذا هو الصحيح، والرواية في هذا صحيحة: (ثم تركوا في الحرّة) وهي من حرار المدينة، والمدينة لها حرتان، والظاهر أنها حرة الوبرة، وهي الأقرب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأقرب في تنفيذ الحد فيها (يستسقون فلا يسقون حتى هلَكوا)، قال الراوي عن أنس رضي الله عنه: (قد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفمه من شدة العطش).
هذه هي الشريعة التي وضعت الحزم في موضعه، والرفق في موضعه، والرحمة في موضعها، وحينئذٍ أعطت الناس حقوقهم، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت حد الحرابة كما أثبتها القرآن.
واختلف العلماء رحمهم الله: هل نزول آية المائدة سببه هذه القصة؟ - من أهل العلم رحمهم الله من قال: إن سبب نزول هذه الآية قصة العرنيين، وحينئذٍ تكون نازلة في قوم مخصوصين، وينظر إلى عموم لفظها؛ لأن اللفظ عام: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} [المائدة:33] وهذا فيه عموم.
وبناءً على ذلك تكون نازلة في المسلمين.
وقيل: إنهم ارتدوا، وهذا أحد الأوجه، فتصبح نازلة في أهل الردة وهو الوجه الثاني لسبب نزول الآية.
وقيل: إنهم كانوا على الإسلام ولكنهم بطروا النعمة، وكفروا نعمة الله عز وجل عليهم، وقابلوا المعروف بالإساءة، فتكون حينئذٍ مشروعة في المسلمين.
ومن أهل العلم رحمهم الله من قال: إن الآية لم تنزل في العرنيين، وإنما نزلت بعد العرنيين، وهذا يترتب عليه أمر، وهو أنا إذا قلنا: سمل العينين والتمثيل بهم لم يكن بسبب أنهم فعلوا ذلك بالراعي، فحينئذٍ تكون نسخاً للمثلة ويكون لها حكم خاص، وهذا القول يختاره جمهور العلماء، والقول بأنها نزلت في العرنيين قال به أنس بن مالك وقتادة بن دعامة السدوسي الإمام المشهور، ومذهب الجمهور على أن الآية عامة، وأن الله سبحانه وتعالى أنزلها للمسلمين تشريعاً لهذا الحد.(389/7)
دليل الإجماع على عقوبة الحرابة
أجمع المسلمون على اعتبار عقوبة الحرابة، وإن كانوا قد اختلفوا فيمن يمكن أن نصفه بكونه محارباً قاطعاً للسبيل؟ ومن الذي لا يمكن وصفه بذلك؟ على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى بيان ما تيسر منه.(389/8)
مسائل في حد الحرابة
إذاً: فقوله رحمه الله: (باب حد قطّاع الطريق) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقوبة قاطع الطريق.(389/9)
صور وقوع جريمة الحرابة
قال رحمه الله تعالى: [وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء أو البنيان، فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة].
ذكر المصنف رحمه الله شرطين هامين لا بد من توفرهما لكي نحكم بجريمة الحرابة: الشرط الأول: التعرض للناس بالسلاح، وحينئذٍ يصدق عليهم أنهم حاربوا الله ورسوله.
الشرط الثاني: أن يكون هذا الفعل منهم جهرة لا سراً وخفية.
فلا بد من وجود هذين الشرطين، فإذا تحقق هذان الشرطان لم يلتفت إلى كون جريمتهم داخل المدن أو خارجها، ولم يلتفت لكون الجريمة صادرة من جماعات أو أفراد، وعلى هذا فتشمل الحرابة جرائم الجماعة وجرائم الأفراد، وفي جرائم الجماعات تشمل العصابات وتشمل الاتفاق من الجماعة دون وجود تعصب.
وتوضيح ذلك: أن الحرابة يمكن أن تكون بالجماعة، إذا نظمت ورتبت وخططت للاعتداء على مال أو نفس أو عرض مسلم، أو على ذي حرمة كالذمي، فإنهم إذا خططوا لذلك فهي جريمة منظمة، وبالتالي فإنه يدخل فيها من لا يدخل في فعل الأفراد، فيدخل في الجريمة المنظمة: المخطط والمنفذ والمدبر.
فلو أن جماعة اجتمعوا وخططوا للهجوم على جماعة من المسلمين، أو على متاجر، أو على أسواق، أو على محلات، أو على دور فيها أعراض، وحرمات بقصد قتل من فيها أو قصد ضربه وأذيته أو قصد الاعتداء على الأعراض كما في المجموعات إذا صارت بتنظيم وتخطيط لأماكن تجمع النساء من أجل فعل الفاحشة والاعتداء على الحرمة من النساء.
كل هذا يستوي فيه من يمثل ومن يخطط، فلا يختص الحكم في الجماعات المنظمة بمن ينفذ، بل إن الذي يدبر ويخطط قد يكون أشد جرماً وأعظم بلاءً من الذي ينفذ، حتى إن الجريمة لربما لم تقع ولن تقع إلا إذا وجد من يعرف بعض الأسرار وبعض والوسائل والطرق التي يمكن أن يتوصل بها المجرم إلى جريمته.
ومن هنا ففي عصرنا الحاضر لو اجتمعت عصابة للهجوم على محل أو مركز تجاري داخل المدن أو الاستراحات كما في المحطات والصحاري، واحتيج مثلاً إلى فك رموز لأجهزة الكترونية أو أجهزة معقدة، فجاء إنسان عنده خبرة ومعرفة وخطط لذلك وأعانهم عليه، فهو شريك لهم ومحارب، وهم في الفعل هم الذين ينفذون.
ففي الواقع لا يستطيعون أن يصلوا إلى هذه الحرمة من الدماء والأموال والأعراض لولا هذا التدبير.
كذلك لو خان الخائن فتدخل في الجرائم المنظمة خيانة الخائن، مثل أن يكون قائداً لنساء وهن من حرمات المسلمين يؤتمن عليهن، كأن يوصلهن إلى مكان خارج المدن، فيتفق مع هذه العصابة أو مع هذه المجموعة، فهذه الجريمة منظمة مرتبة.
ومذهب طائفة من العلماء أن هذه الجرائم للجماعات المنظمة يستوي فيها المدبر والفاعل الممثل، فكلهم سواء، ويستوي أيضاً فيها العاقر مثل من يحمل السلاح، ومن ينفذ الجريمة بالفعل، فإذا هجم هؤلاء بسلاحهم على محل، فحمل أحدهم السلاح حتى لا يتحرك أحد، وقام الآخر بفتح الخزانة أو قام الآخر بالزنا والعياذ بالله، أو قام الآخر بربط المجني عليه أو نحو ذلك من الأذية، فحامل السلاح لم يفعل فعل الجريمة، ولم يفعل الجريمة من القتل أو السرقة، ولكنه يعتبر في حكم الفاعل.
وأيضاً يدخل في هذه الجماعات: العصابات المنظمة بالردء، وهو ما اختلف فيه العلماء، والجمهور على أن الردء والحماية للعصابات المنظمة حكمها حكم الجريمة نفسها، فلو كانت العصابة تتكون من مجموعتين: مجموعة تحرس وتكون قبل الجريمة، أو أثناء الجريمة، ردءاً وحفظاً لمن يفعل الجريمة، فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أنهم يدخلون في ذلك، وأنهم محاربون.
كذلك تكون من الجماعات غير المنظمة وهو ما يسمى بالاتفاق، وكثيراً ما يقع في أهل الشر، لو أن شخصاً خرج مع عائلته بسيارة مسافراً، ونزل في موضع في الصحراء فيه مجموعة من الأشرار، أو نزل في محطة واتفق نزوله مع وجود مجموعة من الأشرار، فجاء أحدهم فوقف أمام هذا الرجل، يريد أن يعتدي على عرضه، وجاء البقية من أصحابه الأشرار ووقفوا معه، وهجموا على هذا الرجل واعتدوا على عرضه أو دمه أو ماله، فهذه جريمة غير منظمة ولا مرتبة، لكنها في حكم الجناية الواحدة، يستوي أن يجتمعوا بتدبير وتخطيط وترتيب للهجوم وترتيب للفرار وتغطية للجريمة بعد فعلها، وبين أن يقوموا بذلك الفعل اتفاقاً، كأن يتفق رأيهم على الشر، سواء كانوا مع بعض أو كانوا متجانسين، مرّوا على هؤلاء ووجدوهم يضربون الرجل أو يعتدون على عرضه، فنزلوا وفعلوا معهم فعلتهم فهم سواء، وحكمهم حكم المحاربين سواء.
هذا بالنسبة للجماعات، ويدخل فيها العصابات المنظمة كما هو موجود في الأزمنة والعصور على اختلافها، وتدخل فيها الجماعات غير المنظمة التي تحصل اتفاقاً بالتواطؤ على الشر ومحبة الشر والتشوف للشر، من أذية الناس وانتقاص حرمات المسلمين والاستخفاف وعدم المبالاة بها.
كذلك أيضاً: كما تقع الحرابة من الجماعة تقع من الفرد، فلو أن رجلاً أشهر سلاحه على رجل مسافر وقال له: أعطني مالك، أو أشهر سلاحه وأخذ ما في جيبه، أو أشهر سلاحه وأخذ بضاعته من سيارته، أو أشهر سلاحه واعتدى على امرأة موجودة في السيارة، أو اعتدى على الرجل في حرمته، أو اعتدى على الأطفال تحت تهديد السلاح؛ فإنها حرابة.
إذاً: لا تختص الحرابة بالفرد ولا بالجماعة، وإنما هي عامة شاملة لحمل السلاح تهديداً للوصول إلى جريمة، سواء كانت بالاعتداء على النفس، أو على الحرمات من الأعراض أو الدماء، ولو كانت مجرد إخافة.(389/10)
التعرض للناس في الحرابة يشترط فيه حمل السلاح عند البعض
وقوله: [هم الذين يعرضون للناس بالسلاح] يشترط وجود السلاح في قول بعض العلماء، والجمهور على أنه لا يشترط السلاح، وأن العبرة بوجود الضغط والقوة والقهر.
وقوله: (بالسلاح) يستوي أن يكون قديماً أو حديثاً، ففي زماننا حمل السلاح مثل المسدسات والرشاشات والقنابل اليدوية، ونحو ذلك من المتفجرات وتلغيم الأماكن، كل هذا يعتبر من الحرابة.
وأيضاً: الأسلحة القديمة التي تسمى الأسلحة البيضاء، فلو حملوا السيوف أو الخناجر أو السواطير، فهذه كلها تعتبر من السلاح عند العلماء رحمهم الله، فإذا أخاف بها السبيل، فأرعب حافلة في سفر أو دخل على محل تجاري جهرة حاملاً للساطور أو السيف وأخذ وفعل ما فعل، فهذا كله يعتبر حرابة.
إذا كان بغير سلاح فمثل الضرب واللكز واللكم، وهذا نص عليه بعض العلماء رحمهم الله، وفي زماننا لو كان يحسن بعض الأعمال الهجومية التي يخيف بها السبيل، فإنه إذا كان يحسن الضرب بيديه أو رجليه وأرعب من في الحافلة بذلك، أو أرعب من في المحل التجاري بذلك وهدده وخوفه أو خنقه، فكل هذا يعتبر من الحرابة.
إذاً: يشترط المصنف وجود السلاح، وعلى هذا الشرط إذا لم يوجد السلاح فليس بحرابة.
لكن من العلماء من قال: السلاح وما في حكمه، وهذا المذهب أقوى.
وقوله: [بالسلاح] الأصل أن حمل السلاح لا يكون إلا في الحرب، وانظر في دقة العلماء رحمهم الله، كيف أن حمل السلاح لا يكون إلا لشخص يحارب، فإذا جاء هذا الشخص، أو جاءت هذه المجموعة حاملة للسلاح على المسلمين في أسفارهم أو بيوتهم ومساكنهم ومحلاتهم التجارية، فقد أعلنت الحرب على المسلمين، فهي محاربة وإن كانت لا تأخذ حكم الحرب العامة؛ لكن انظر كيف نزلت الشريعة! ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمَل علينا السلاح فليس منا) فلا يمكن أن يحمل المسلم السلاح على أخيه المسلم، ولذلك بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) والعياذ بالله.
إذاً: هذا أمر عظيم، ولذلك عظمت الشريعة حمل السلاح على المسلم، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من حمل السلاح على المسلم فليس منه، فاشترطوا لكي يكون محارباً أن يحمل السلاح على المسلمين، وهذا على التفصيل يستوي فيه القديم والجديد.
والقاضي ينظر في الجريمة والحادثة ونوعية السلاح الموجود فيها، فإذا كان يشترط السلاح نظر فيه وحكم بكونه حرابة، وإلا لم يحكم بكونه حرابة.
والصحيح أن التخويف بالسلاح وما في حكم السلاح له حكم واحد، ومن هنا لو حمل العصا أو الحجارة فقد نص طائفة من العلماء على أنها حرابة، فقد يفعل الحجر ما لا تفعله السكين، وقد تفعل العصا ما لا يفعله السيف، ولذلك لا يختص الحكم بالسلاح المقصود عيناً، فلو أنهم هجموا على حافلة وحمل كل واحد منهم حجراً، وهدد صاحب الحافلة أن ينزل، أو المرأة أن تنزل، أو دخل بيتاً وحمل معه حجراً فهدد رب البيت واعتدى على عرضه جهرة، أو اعتدى على ماله، أو اعتدى على حرمة من حرماته، فكل هذا يعتبر حرابة.
وقد بيّن المصنف رحمه الله اشتراط السلاح، والصحيح أن السلاح وما في حكمه سواء.(389/11)
حكم اغتصاب المال مجاهرة
وقوله: [في الصحراء أو البنيان، فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة].
الشرط الثاني: أن يكون هذا الاعتداء على سبيل الجهر والعلانية، لا سراً وخفية، ولذلك فمن جاء خفية وسرق من محل تجاري، أو سرق من خزينة، أو من بنك، أو من مصرف خفية؛ فهو سارق.
أما الحرابة فيشترط أن تكون جهاراً، والجهر يكون تحت القهر والتهديد، فلو كان جهاراً بسرعة، بأن اختطف المال من الرجل وهرب دون تهديد بالسلاح، فهذا مختلس ومنتهب، وليس عليه قطع، وقد تقدم بيان حكمه، وانظر كيف أن الشريعة تفصل في كل جناية وجريمة بما يليق بها، وتعطيها حقها وقدرها.
ومن هنا فإذا كانت الجريمة بالاعتداء على المال سراً فهي سرقة إذا تحققت فيها شروط السرقة، وإذا كانت علانية فيفصل فيها: فإن وقعت علانية تحت قهر ووطأة السلاح والتخويف فهذه حرابة، وقد بيّن المصنف رحمه الله أنها حرابة سواءً كانت داخل مدينة أو خارجها.
وإن كانت جهاراً أمام الناس ولكنها ليست تحت وطأة السلاح مثل ما يقع الآن، حيث يكون الشخص سريعاً فيخطف من الرجل شنطته، أو محفظته، أو مالاً أو كتاباً أو شيئاً في يده ذا قيمة ثم يفر، فهذا ليس بسارق وإنما هو منتهب، ويأخذ حكم الانتهاب.
لكن لو أنه هدده وأرعبه وخوّفه، فهذا التهديد تنتقل به الجريمة إلى الحرابة، وحينئذٍ يأخذ حكم المحارب.
وقد اشترط العلماء رحمهم الله أن يكون علانية، والمصنف رحمه الله يختار أن هذه الجريمة تقع داخل المدن في البنيان كما تقع في الصحراء.
والعلماء متفقون على أنها لو وقعت في الصحراء خارج المدن وكانت على مسافة بحيث لو صرخ الصارخ لا يسمعه أحد، ولا يمكن نجاته أو استغاثته؛ فإنها حرابة، سواء كانت في البر أو البحر، مثل القرصنة البحرية بالاعتداء على السفن والبواخر التجارية واختطافها، أو أخذ ما فيها تحت وطأة السلاح، فكل هذا حرابة.(389/12)
لا يشترط في الحرابة أن تكون في الصحراء
وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا يشترط أن تكون في الصحراء وهذا هو الصحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى عمم في الآية الكريمة ولم يخص الحكم بالصحراء، وإذا قيل: إن سبب نزولها في العرنيين وقد فعلوا هذا في إبل الصدقة، وإبل الصدقة كانت بعيدة، فجوابه: أولاً: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثانياً: أن العلماء لم يتفقوا على أن المقصود بالآية هم العرنيون.
ومن هنا: يقوى القول بأن الحكم لا يختص بالصحراء، وبناءً عليه فالاعتداء على الأموال في البنيان والمدن والاعتداء على الأعراض والأنفس، وتخويف الناس داخل المدن جهاراً بحمل السلاح كله حرابة.
مثلاً: لو أن جماعة هجموا على محل تجاري، وأشهر أحدهم السلاح وقام الآخر بأخذ المال من الخزنة، أو أخذ الأموال من الدواليب ونحوها كما في المجوهرات ونحوها، فهي حرابة.
لكن لا بد أن يكون هذا العمل أمام الناس، وذلك كما تفعل بعض العصابات التي تأتي وتدخل في وضح النهار إلى المحل وتمارس هذا العمل، فهذا حرابة، وينطبق عليها حكم المحارب، سواء كانوا جماعة أو أفراداً، يدخل الفرد المحل التجاري ويضع سلاحه على من عند الصندوق، ويقول له: أخرج لي المال، فهذا التهديد فيه إشهار السلاح، وثانياً: أنه جهرة ولم يكن سراً، فحينئذٍ نحكم بكونه حرابة مع أنه داخل المدينة؛ لأنه وقع على ملأ، وحصل به تخويف الناس، وحصل به المحاربة لجماعة المسلمين وأفرادهم، وحينئذٍ يصدق عليه أنه حرابة.
كذلك أيضاً: لو أن جماعة أو عصابة هجمت على رجل في بيته بقصد الاعتداء على عرضه والعياذ بالله، فأشهر أحدهم السلاح، وقام الآخرون بفعل الجريمة، أو قام بعضهم بالزنا والعياذ بالله، أو الاعتداء على الرجال أو الأطفال القصّر، فهذه حرابة ولو كانت داخل البيت؛ فقد نص العلماء على أنه يأخذ حكم الحرابة، وهذا في الاعتداء على الأعراض.
أما الاعتداء على الدماء كأن تحقد عصابة على رجل، فجاءوا جهرة أمام الناس ومعهم السلاح فهددوا الناس أن يقف أحد أو يتعرض أحد، ثم أخذوا الرجل وقتلوه، فهذه حرابة بالاعتداء على النفس.
فالنوع الأول: حرابة بالاعتداء على المال.
والنوع الثاني: حرابة بالاعتداء على العرض.
والنوع الثالث: حرابة بالاعتداء على النفس.
ويستوي في المال أن يأخذوه أو لا يأخذوه بل يتلفوه، فالعصابات التي تدخل إلى المدن في وضح النهار وتحت وطأة السلاح تكسر وتخرب وتفسد الأشياء محاربة، وهذا يسمونه الإرعاب والخوف.
فهم لا يريدون مالاً ولا عرضاً ولا قتلاً، وهذا النوع يعتبر جناية على جماعة المسلمين بالتخويف والإرهاب وإدخال الرهبة والرعب، وتفعله العصابات من أجل أن يخاف الناس، يفعلونه في المدن وخارج المدن.
فخارج المدن يتسلطون على أطراف المدن كالمزارع ونحوها ولا يقتلون أشخاصاً معينين مقصودين، ولكن يقتلون أشخاصاً لأجل أن يرهبوا الآخرين، فالعصابات تحدث الرعب وتحارب بإحداث الرعب، فمسألة قصدهم للمال ورغبتهم فيه ليست هي الأساس، إنما العبرة في بإشهار السلاح، وأن يكون ذلك جهرة، سواء قصدوا قتل النفس كما يحدث في قتل المعينين، أو إحداث الخوف والرعب عندهم، أو قصدوا أموالهم أو أعراضهم، فجميع ذلك يأخذ حكم الحرابة.
وفي دخولهم للمدن واعتدائهم على الأعراض والأموال والأنفس، أو مجرد الإخافة في الصحراء، يقع باحتكار السبل، وقد ذكر العلماء رحمهم الله من ذلك أن يأتوا إلى الطريق التي يمشي فيها المسافرون، فيقفون أثناء الطريق ومعهم السلاح ولا يقتلون، ولكن لا يسمحون لأحد أن يمر إلا بإذنهم، أو لا يسمحون لأحد أن يمر حتى يدفع لهم ضريبة، وهذا كله يعتبر قطعاً للسبيل وحرابة، وهذا الأصل الذي ذكرناه هو الذي تدل عليه معاني الشريعة.
وذكر بعض العلماء رحمهم الله أن تخصيص الحرابة بالصحراء ضعيف: أولاً: لأن الله لم يفرق بين الصحراء والبنيان، وجعل الأمر راجعاً إلى محاربة الله ورسوله.
ثانياً: أن العرنيين لو فعلوا هذا في الصحراء ونزلت الآية في حقهم، فإن هذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإن إخافة الناس في المدن أعظم وقعاً وأشد بلاءً وأعظم جرأةً وفساداً في الأرض؛ لأن إخافة المدن ليست كإخافة السبل، مع أن إخافة سبل المسافرين نوع لا يحتمله الناس، لكن أن يهجم على الناس في عقر دارهم، ويحدث الخوف للناس في مدنهم وقراهم، فهذا كله أشد من الذي اتفق عليه العلماء رحمهم الله، وهي الجرائم التي تكون في الصحراء خارج البنيان.
وعلى هذا: لا نحد مسافة ولا مكاناً، بل نقول: العبرة بحمل السلاح على التفصيل الذي ذكرناه، وأن يكون ذلك جهرة، حتى يتحقق فيه أنه محاربة لله ورسوله.
ويستوي أن يكون في البر أو البحر أو الجو، كاختطاف الطائرات بإشهار السلاح، سواء قصد أخذ مال المسافرين، أو قصد الاعتداء عليهم، أو قصد مجرد الإخافة.
فالعلماء رحمهم الله قرروا أن مجرد إحداث الرعب في أمن الناس وطمأنينتهم خروج ومحاربة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام.
إذاً: لا نشترط أن يكون الأمر فيه إغراء، سواء كان الإغراء بطلب الدماء أو الأموال أو الأعراض من الشهوات ونحوها.(389/13)
إلحاق الغيلة بالحرابة
وفي حكم هذا الأمر ما كان بين الجريمتين، وهي مسألة الغيلة، ومسألة الاستدراج.
ففي حكم المحاربين الشخص أو الأشخاص الذين يستدرجون بفعل الجرائم من المدن، فعلى القول باشتراط الصحراء قرر بعض العلماء أنه لو استدرج امرأة بفعل الزنا بها، حتى أخرجها من المدينة ثم هددها وزنى بها، أو استدرجها أمام الناس بالقوة أو اختطفها، أو استدرج صبياً لفعل الفاحشة -والعياذ بالله- أو رجلاً لقتله، فإن هذا كله يعتبر حرابة.
والفائدة إذا قلنا: جريمة، سواء جريمة قتل أو جريمة زنا أو جريمة لواط أنه يسري عليها حكم الجريمة الخاصة، لكن إذا قلنا: إنها حرابة، فيجب على ولي الأمر تنفيذ الحكم، ولو شفع فيه أهل الأرض كلهم ردت شفاعتهم، ولا يجوز لأحد أن يقف ويمنع من قتلهم وصلبهم، أو قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا اعتدوا على الأموال على التفصيل الذي نذكره؛ لأن الحق فيها لله عز وجل.
فالاستدراج بفعل الجرائم في زماننا كاختطاف الناس جهرة، وإعطاء المخدر له حتى لا يتحرك، أو ربط المجني عليه حتى لا يتحرك، وأخذه أمام الناس واختطافه من بيته أمام جيرانه تحت وطأة السلاح، أو اختطافه من عمله أو مكتبه أمام زملائه تحت وطأة السلاح، وإخراجه من المدينة، كل هذا يعتبر من الحرابة؛ لأنه وجد فيه حمل السلاح، ووجد فيه المجاهرة وقصد به ما ذكرناه فهو في حكم الحرابة؛ لأن شرطها قد تحقق فيه.(389/14)
التعرض للذميين وإخافتهم والاعتداء على أموالهم
يقول رحمه الله: [وهم الذين يعرضون للناس].
الناس المراد بهم المسلمون أو من لهم حرمة كالذميين، فالذمي له حرمة المسلم، لا يجوز الاعتداء على ماله ولا على دمه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم).
فالكفار الذين يدخلون بلاد المسلمين بإذن من ولي الأمر أو من يقوم مقامه، أو دخل كافر بلاد المسلمين تحت أمان من امرأة مسلمة فإنه لا يجوز أن يتعرض له، وذمة هذه المرأة كذمة المسلمين جميعاً، ففي الصحيحين: (أن أم هانئ رضي الله عنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل، وفاطمة تستره بثوب يوم الفتح -فتح مكة-، فقال: من؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ فقالت: زعم أخي -وهو علي رضي الله عنه، وكانت قد أمنت أحد قرابتها من الكفار- أنه قاتل لرجل أمنته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) فدخل في جوار النبي صلى الله عليه وسلم وأمانه، مع أن الذي أجارته امرأة.
ولذلك نص النبي عليه الصلاة والسلام على هذا المعنى، فقال: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم).
وقتل الكافر المؤمَّن داخل بلاد المسلمين فيه وعيد شديد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويخشى غضب الله عز وجل على صاحبه، وإعراضه عنه يوم القيامة والعياذ بالله؛ لأنه أخفر ذمة المسلمين، ولذلك لا يجوز أن يتعرض للذمي والمؤمَّن والمعاهد، فمن له ذمة من مسلم فذمة المسلمين واحدة كما نص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقوله: [يتعرضون للناس] يشترط أن تكون للناس حرمة في دمائهم، وفي الأموال على اشتراط القطع في السرقة لابد أن يكون المال له حرمة على تفصيل عند العلماء رحمهم الله.
وقوله: [بالسلاح] أي: يكون هذا التعرض مصحوباً بالسلاح.
وقوله: [في الصحراء أو البنيان] هذا ظرف الجريمة (والبنيان) أي: داخل المدن، وعلى هذا: يرى المصنف رحمه الله وهو مذهب طائفة من أهل العلم أن الحرابة لا تختص بالصحراء، وقدم المصنف الصحراء لأنها محل إجماع، وقوله: أو البنيان؛ لأنها تابعة لذلك على الصحيح.
وقد بينا أن الاعتداء في البنيان أعظم من الاعتداء في الصحراء.(389/15)
لا يشترط في الحرابة قصد المال أو النفس أو العرض بل تكفي الإخافة
وقوله: [فيغصبونهم المال] ذكر رحمه الله هذا؛ لأن قطع الطريق وإخافة السبل غالباً ما يقصد به أخذ أموال الناس، لكن الحكم لا يختص بغصب المال بل يشمل الاعتداء على النفس والعرض، وحينئذٍ فإن من دقة المصنف أنه ذكر الأدنى للتنبيه على الأعلى، وذكر المال وإن كان أخف من إخافة السبل، لأنه أقل ما يكون في الحدود؛ لأن فيه قطعاً لليد والرجل من خلاف في الحرابة، فذكر المال, وإلا فلو أنهم تعرضوا للناس بقصد قتلهم هناك، فمثلاً: بعض الجرائم وبعض المجرمين الذين يخرجون بالسلاح بقصد قتل الناس واستباحة دمائهم، ويكون هذا عن حقد على المجتمع أو نوع من الإرعاب للمجتمع والإرهاب والتخويف له، وهذا يدخل في الحرابة، فالمصنف رحمه الله ذكر المال لكنه لا يقصد تخصيص الحكم بالمال فقط، فينتبه لهذا.
فقوله: [يغصبونهم المال] هذا على الغالب أن الاعتداء يكون من أجل الأموال، ويقع أيضاً بالاعتداء على الأعراض، فلو جاء مثلاً في منطقة يغشاها النساء، أو أماكن تجمع النساء في الأفراح، فجاء وأشهر سلاحه عليهن، فهذا يعتبر من الاعتداء على العرض وإن لم يفعل الجريمة.
المقصود أن المصنف لا يقصد تخصيص الحكم بالاعتداء على المال، فإن الاعتداء على الدماء بالقتل، والاعتداء على الأجساد بالضرب، والاعتداء على السوءات والأعراض بالانتهاك وفعل الفواحش، كل هذا يعتبر من الاعتداء، ولو سلم من الاعتداء بحيث تجرد الفعل وصار محض تخويف فإنه إرهاب واعتداء على أمن الناس، وهذا يعتبر جريمة، وله عقوبة في حد الحرابة أيضاً.
وقوله: [مجاهرة] هذا الشرط الثاني الذي ذكرناه، وهو أن يكون جهاراً لا خفية.
وقوله: [لا سرقة] ولذلك لما كانت الجناية على المال خفية سرقة، فقال: (لا سرقة) و (لا) هنا للإضراب، أي أنه لا يشمل حد السرقة، فالسرقة لها حكم خاص، فلو أنه اعتدى على المال خفية فإنه يحكم بكونه حد سرقة، ولا يحكم بكونه حد حرابة.(389/16)
اشتراك المكلف مع غير المكلف في الحرابة لا يسقط الحد
قال رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئاً أو غيره كالولد والعبد والذمي وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر].
قوله: (فمن) من صيغ العموم، والمجرم في جريمة الحرابة يشترط فيه أولاً أن يكون مكلفاً، بالغاً، عاقلاً، فلو كانت جريمة الحرابة من مجنون رفع السلاح، فهذا لا يقام عليه حد الحرابة؛ لأنه مجنون وغير مؤاخذ.
ولو كان صبياً فإنه أيضاً لا يقام عليه حد الحرابة, لكن لو اشترك الصبي مع البالغ، والمجنون مع المكلف العاقل، فهل هذا الاشتراك شبهة يسقط الحد عن الشريك؟ الصحيح أن اشتراك المكلف مع غير المكلف لا يسقط الحد عن المكلف، وأن هذا لو فتح بابه لاستطاع أهل الجرائم أن ينفذوا جرائمهم بواسطة غير المكلفين.
وإن قيل: غير المكلف شبهة؟ نقول: غير المكلف كالآلة، فلو أن مكلفاً أمسك حيةً وأنهشها لشخص فقتلته الحية، لقلنا: إنه قاتل، فهو الذي أغرى الصبي، وهو الذي دفعه وحفزه، وربما هدد الصبي أن يخرج معه، ولربما أغراه، وهكذا بالنسبة لضحكه وعبثه بالمجنون حتى يطيعه.
وقد تقدم معنا في باب القتل أن الاشتراك بين المكلف وغير المكلف لا يسقط الحد عن المكلف، ولذلك فإن الذي عليه العمل أنه لو اشترك الصبيان مع البالغ سقط الحد عن الصبيان، وأدبوا بما يتناسب مع سنهم؛ لأن فيهم المميز وغير المميز، ولا يعني هذا أن نطلقهم هكذا، وإنما ينظر فيهم، فمن كان مميزاً فله حكم، ومن كان غير مميز فله حكم آخر.
وأما بالنسبة للمكلف فإن الحكم أن يقام عليه حد الحرابة، وليس عندنا دليل على إسقاط الحد عنه، فكون شريكه غير مكلف لا تأثير له في مؤاخذة الشرع لهذا النوع من المكلفين.
وعلى هذا: فإنه لو اشترك من يسقط عنه الحد ومن لا يسقط عنه الحد وجب الحد.(389/17)
لا تشترط الذكورة في المحاربين
كذلك أيضاً قوله: (من) يشمل النساء، فلو أن عصابة من النساء اتفقت على جريمة الحرابة، فإن جمهور أهل العلم على أن النساء يطبق وينفذ عليهن حد الحرابة كالرجال، وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله في ظاهر الرواية عنه، وإن كان بعض أصحابه قد قال بقول الجمهور كـ الطحاوي وغيره، وبينوا أن المرأة والرجل على حد سواء، وعليه فإن النساء يقام عليهن حد الحرابة كالرجال.
ومن هنا قال المصنف: (فمن) وهذا يشمل الذكور والإناث المكلفين، والمراد بقوله: (من) أي: المكلف الملتزم وهو المسلم أو المعاهد أو الذمي الذي التزم بأحكام الإسلام.
قال رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئاً] فجريمة الحرابة تختلف على حسب اختلاف الجريمة، وهذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله.
أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الصواب، وأن يلهمنا الحق فيما اختلفوا فيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(389/18)
الأسئلة(389/19)
الفروق بين الحرابة والغصب
السؤال
ما الفرق بين الحرابة والغصب أثابكم الله؟
الجواب
كل من الحرابة والغصب فيهما مغافصة ومعافصة ومغالبة، فيشتركان في هذا المعنى، وكل منهما يقهر المجني عليه للوصول إلى جريمته من أخذ المال ونحو ذلك.
لكن الفرق من وجوه: أولاً: الغصب يكون في الأموال والحرابة تكون في الأموال وغير الأموال.
ثانياً: الغصب ليس فيه اعتداء على النفس، والحرابة فيها اعتداء على النفس، وهذا راجع أيضاً للفرق الأول.
ثالثاً: الحرابة فيها تهديد بالسلاح، والغصب لا يشترط فيه التهديد بالسلاح.
رابعاً: أن الغصب في كثير من صوره يكون فيه نوع من الشبهة، فالجار يأخذ شبراً من جاره، ويقول: هذا حقي، فيكون عنده نوع من الشبهة، ونوع من الاحتيال، قد تكون شبهة حتى بالنسبة له، فيظن أن هذا حقه، وهو في الحقيقة غاصب لمال أخيه، وهذا من أهم الفوارق.
خامساً: الغصب ليس فيه عقوبة بالحد، وإنما فيه تعزير إذا ثبت، والحرابة فيها عقوبة وفيها حد مقدر، وهذا من ناحية الأثر.
سادساً: الغصب يسقط بعفو المغصوب منه، والحرابة لا تسقط بعفو المجني عليه.
سابعاً: يستحب العفو عن الغاصب ومسامحته لعظيم الأجر، قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، والحرابة لا يجوز للإنسان أن يتنازل فيها عن حقه، ولذلك حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإجماع على أن المحاربين لا تجوز مسامحتهم؛ لأن هذا أمر عظيم جداً، وحتى لو عفا فلا يعتد بعفوه، لكن يقولون من ناحية المكلف نفسه: لا يجوز له أن يسامح.
هذه بعض الفوارق بين جريمة الغصب وجريمة الحرابة، والله تعالى أعلم.(389/20)
حد الحرابة إذا كان المجني عليه مسلحاً
السؤال
إذا كان المجني عليه يملك سلاحاً، وغلبه الجاني، فهل يكون الجاني محارباً أيضاً؟
الجواب
العبرة بوجود الفعل وهو المجاهرة وحمل السلاح، بغض النظر عن كون المجني عليه عنده سلاح أو ليس عنده سلاح، فقد يكون عند المجني عليه سلاحان فضلاً عن سلاح واحد، ولكن أمامه عشرون شخصاً مسلحون، فماذا يفعل؟! وقد يوجد عنده سلاح ولكن لا يستطيع أن يتحرك؛ لأن السلاح على رأسه، إذاً: الحرابة تكون من الجاني وإن كان المجني عليه يملك سلاحاً؛ لأن الحرابة سلوك إجرامي وجريمة وانبعاث للأذية والضرر، يستوي أن يكون المجني عليه قادراً على الدفع أو غير قادر على الدفع.
ومن هنا يكون حرابة ولو كان المجني عليه مسلحاً.(389/21)
صور نقل الفتوى
السؤال
إذا سمعنا الفتوى في الدرس، فهل يجوز لنا أن نقول: قال الشيخ فيها كذا، إذا سألنا أحد، أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة تعرف عند العلماء بنقل الفتوى، ونقل الفتوى له صورتان: الصورة الأولى: النقل الحرفي للسؤال الحرفي أو المشابه، فإذا كانت المسألة التي سئل عنها الشيخ هي التي وقعت خارج الدرس، فهذا هو النقل الحرفي للسؤال.
أو ينقل فتواه حرفياً وليس مجيباً عن سؤال، كأن يقول: جلست في الدرس وسمعت الشيخ يقول كذا وكذا، فهذا رخص فيه العلماء وأجازوه، ويستحب للإنسان أن ينشر العلم، ومن أراد أن يبارك له الله في علمه فليحفظ ما استطاع ويكون وعاء خير، كما مثّل النبي صلى الله عليه وسلم بالأرض التي أمسكت الماء وأنبتت الكلأ، وشرب الناس منها، وأكلت الدواب من الكلأ.
فهذا حال أعظم الناس انتفاعاً، ينتفع بالعلم في نفسه، ثم يبلغه للغير، وهذا هو السنة في العلم: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] هذا أول شيء، ثم بعد ذلك: {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
فأي شخص يجلس في مجلس علم، ويسمع فيه آية أو حديثاً أو علماً ينتفع به فعليه أن ينشره، ويبين للناس، وإذا نشرت العلم أسقطت عن نفسك مسئولية عظيمة، وإذا لم تنشره فإنه لا يزال أمانة في عنقك حتى تبلغه، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب).
فمن جلس في مجالس العلماء وعرف الحكم أو المسائل أو الفتاوى، فعليه أن ينشره بين الناس إبراءً وإعذاراً إلى الله عز وجل، خاصة في المحرمات والمنكرات والحقوق والواجبات، فالأمر أشد والمسئولية أعظم.
فمثلاً: جلست عند الشيخ، فبين لك أنه يجب فعل كذا، أو يحرم فعل كذا، فهذا واجب على المسلم أن يبلغه.
الصورة الثانية: إذا كان النقل للفتوى بالمعنى، كأن ينقل فتوى تشبه الفتوى التي قيلت للشيخ، أو لم ينقل الناقل حرفياً، ففي الحالة الأولى ينقل نقلاً مجرداً لا في مقابل فتوى، فيقول: سمعت الشيخ سئل عن مسألة كذا وكذا، فقال فيها كذا وكذا.
فهو لم يجب عن سؤال ولا يحكي الفتوى جواباً للسؤال، فهذا مرخص فيه كما ذكرنا، وهو من حمل العلم، وهو مستحب.
لكن أن يأخذ الإنسان فتوى في مسألة، ثم يسمع سائلاً يسأل في مسألة، فيفهم بحسب فهمه وتقديره أن المسألة التي في الدرس هي المسألة التي تشبه المسألة التي أمامه والتي يسأل عنها، فهذا شدد فيه العلماء رحمهم الله.
فلابد أن يكون عالماً بالمسألتين، هل هما في حكم المسألة الواحدة أم مختلفتان؟ فإن شك وجب عليه أن يسكت، ولا ينقل الفتوى حتى لا يخلط، يقول للسائل: اذهب إلى فلان واسأله.
فإن قال قائل: كيف يكتم العلم؟ قلنا: هذا ليس كتماناً للعلم، هذه مخاطرة؛ لأنه ربما كان المسئول عنه الآن غير المسئول الذي أجاب أو حصلت الفتوى عنه.
فلذلك لا يجوز في هذه الحالة أن ينقل الفتوى إلا إذا كان ضابطاً للسؤالين، وبعض طلاب العلم من خلال التجربة والجلوس مع العلماء والمشايخ تصبح عنده ملكة ودرجة من الفهم والوعي، فيميز بين المسائل؛ لأن بعض طلاب العلم فتح الله عليه في الفهم والفقه، ومنهم من فتح الله عليه في فهم عبارات العلماء في المتون، لكن لا يعرف في الفتوى ولا يحسن نقلها ولا يحسن الإفتاء، ولو طلبت منه أن يدرس كتاباً لأبدع وأجاد وفتح الله عليه في ذلك.
ومنهم العكس: لا يحسن شرح الكتب، ولا يحسن تحرير العبارات وبيان معانيها ودلالاتها، ولكنه ما إن يسمع سؤالاً إلا وضبطه، ولا يسمع جواباً إلا حرره، فعنده ملكة في فهم الفتاوى.
وتجد بعضهم شغوفاً بسماع الفتاوى، ثم يقرأ السؤال مرتين أو ثلاثاً ويحدد عناصر السؤال، ثم يحدد عناصر الجواب، ويكثر من قراءة فتاوى المتقدمين؛ لأنهم يضبطون العبارات والفتاوى، فعندما تصبح عنده هذه الملكة التي يغلب معها في الظن السلامة، فيجوز له حينئذٍ إذا غلب على ظنه أن هذه المسألة هي المسألة التي سئل عنها، مثل لو أنه أيام طلبه سمع شيخه يسأل عن مسألة، ثم سئل عن مسألة مشابهة لها، وهو يعلم أن الجواب واحد، فإنه حينئذٍ ينقل جواب شيخه، سواء أسنده أو لم يسنده، لكنه عن علم ومعرفة، فهذا نقل للفتوى محرر، وقد وجدت عنده ملكة يفهم بها السؤال وموارد الفتوى، ويفهم الجواب والمقصود من الجواب، فحينئذٍ يغلب على الظن السلامة، فهذا يجوز فيه النقل.
أما المحفوظ عن العلماء رحمهم الله فهو التشديد في نقل الفتاوى، وعدم قراءتها على الناس، خاصة إذا كانت في المسائل الدقيقة، مثل مسائل البيوع أو المسائل التي فيها تفاصيل.
أما المسائل الظاهرة المحرمة التي نهى الله عنها ورسوله، وفيها فتاوى، مثل فتاوى تحريم المحرمات من الزنا والخمور ونحوها من المحرمات الظاهرة، فإن العبارات فيها واضحة، والمسائل المسئول عنها واضحة حتى لعوام الناس، فهذا لا بأس بحكايته ونشره، وهذا نشر للعلم، ويؤجر الإنسان على ذلك.
وهنا ننبه على أن طالب العلم ينبغي له أن يحرص على البركة في هذا العلم، فأعظم الناس بركة في العلم أعظمهم نفعاً للمسلمين، وجمعاً له وعملاً به ودعوة إليه.
ومن هنا قال الله عن نبي من الأنبياء: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31] فما بورك النبي إلا بالنبوة، والنبوة فيها خير، كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص:29] فبركة العلم نشره، ولذلك أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبلغ ما أوحي إليه، وأن يبلغ ما أنزل إليه.
وهذا كله يحتم على المسلم أن يحرص على نقل علم العلماء، ولا يشترط أن يكون في الأجوبة والفتاوى، فعلمهم لا يختص بذلك، وإنما يشمل جوانب عديدة، خاصة فيما تعظم الحاجة إليه، والله تعالى أعلم.(389/22)
حكم الدعاء بغير العربية في السجود
السؤال
هل يجوز أن يدعو المصلي بلغته في السجود إذا لم يعرف اللغة العربية؟
الجواب
يجوز للساجد أن يدعو بلسانه وبالعربية، وذلك لأن النصوص عامة في مشروعية الدعاء، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم) ولم يرد اشتراط أن يكون الدعاء عربياً، وإنما يكون اشتراط العربية في الأذكار الخاصة: كالتشهد، والتكبيرات والتسمية والتحميد، ونحوها مما يشترط فيه التعيين.
وأما بالنسبة للدعاء، فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أنه يجوز للمصلي أن يدعو بلغته ولسانه، والله تعالى أعلم.(389/23)
حكم الوساوس في العبادة والغلو فيها
السؤال
امرأة تسأل وتقول: إنها تصلي ولكنها لا تشعر بأنها تصلي، وتصوم ولكن لا تشعر أنها تصوم، فبالتالي تفطر، ولو أذنبت ذنباً فإنها تتوقف عن كل عمل صالح، نرجو التوجيه أثابكم الله؟
الجواب
هذه الأخت نوصيها بتقوى الله عز وجل، وأن تتحرى الحق والصواب، فليس من الصواب هذا الاعتقاد, والغلو في العبادة، أنها لا تعتبر نفسها في عبادة إلا إذا شعرت شعوراً تاماً كاملاً، من هذا الذي يصلي صلاة تامة كاملة؟ من هذا الذي يصوم صياماً تاماً كاملاً؟ لقد تولى الله جبر كسر عباده، وتكميل نقصهم، ورحمة ضعفهم، فعلى هذه الأمة من إماء الله أن تتقي الله في عبادتها لربها، وألا تشدد على نفسها، فإن هذا من الشيطان.
صومي وصلّي فإن حضر قلبك في الصلاة ففضل من ربكِ عليكِ، وإن شغلت أو ضللت عن بعض الصلاة فلا تقطعيها، بل أتمي الصلاة، وإذا كنت في آخر الصلاة فتندمي على فوات ما فات من الخشوع، وبهذا تغيظين الشيطان، وتقهرين عدو الرحمن.
فإن العبد الصالح إذا حصل منه ذنب، أو حصلت له خطيئة، وقال: أنا لست من الصالحين! سأترك طلب العلم، ومجالس الصالحين، ويأتيه الشيطان ويقول له: كيف تجلس مع الأخيار وأنت تفعل وتفعل! هذا كله من تخذيل عدو الله قاتله الله، الشيطان الذي قعد بين العبد وبين ربه، والله أرحم بعباده من أنفسهم بأنفسهم: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).
فالعابد يبحث عن مرضاة الله عز وجل، فإذا حصل منه الهم أو التقصير ندم، والندم بعد المعصية وفوات الطاعة يبلغ العبد الأجر كاملاً، وبهذا يصفع عدو الله على وجهه، ويقتله من الغيظ، حتى إنه لربما كرر هذا مرات فلا يعود الشيطان إليه، بل إنه يجده يرضخ، فعليها كلما وقعت في معصية أن تندم ندماً صادقاً وأن تشتكي إلى ربها.
إن من أسعد اللحظات وأجملها أن الإنسان إذا أصابته الهنة والزلة انكسر قلبه، وذلت رقبته، وفاضت بالدمع من خشية الله عيناه, وقال: رباه رباه! اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فيفرح الله بتوبته، وفرح الله بهذا الشعور، وبهذه الإنابة، وبهذا الإقبال، وينادي الله في ملائكة قدسه: (علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب، قد غفرت لعبدي).
ما هذا الذي تريده المرأة؟ أتريد امرأة كاملة لا نقص فيها بالعبادة، لو أن امرأة أتمت عبادتها فماذا يحدث في الدنيا؟ لو أن كل مصل يصلي صلاة تامة كاملة، وكل من يصوم يكون صيامه تاماً كاملاً، والله لتغير وجه الأرض، لو كانت العبادة تامة كاملة لرحمنا الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96].
فكلنا تحت رحمة الله عز وجل، وكلنا تحت لطفه وبره وإحسانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
يا أمة الله! عليك أن ترفقي بنفسك، وأن تتقي ربكِ، وألا تتركي الخير ولا تزهدي، بل إن تسلط الشيطان على المطيع بعد طاعته دليل على أن فيه خيراً، وأنه يلتمس منه مواطن الضعف، فاقتل عدو الله عز وجل بغيظه، وأصبه في مقتله بالتوبة الصادقة لله عز وجل، وإن الشيطان لا أحقر منه مع العبد عند ساعة التوبة، ما من عبد يتوب إلى الله عز وجل إلا كانت ساعة حنق وغيظ على عدو الله إبليس، هذه الساعة المريرة المقاتلة حينما يجد العبد يفعل المعاصي ويذنب ثم يتوب إلى ربه، فيرجع كيوم ولدته أمه، بالتوبة الصادقة.
فابذلي كل الأسباب على ألا تعصي الله عز وجل، فإذا وقع منكِ شيء من المعصية أحسنتِ الظن بالله مباشرة، وأقبلتِ على الله وصدقتِ مع الله عز وجل، وأبشري من الله بكل خير: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49] لكن: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:50].
لا بد من الجمع بين الرغبة والرهبة، فالرهبة لا تصل إلى درجة ترك الطاعات، فهذا خوف كاذب، وخشية كاذبة، الخشية الصادقة هي التي تحمل على كمال الطاعات، والخشية التي تحمل على حسن الظن بالله عز وجل مرفوقة بالرجاء بالله سبحانه وتعالى، فهي خشية صحيحة على منهج الكتاب والسنة: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] وهما جناحا السلامة للعبد.
لكن أن تكون سبباً في ترك الطاعات والإعراض عن الله عز وجل، فهذا قنوط من رحمة الله والعياذ بالله، وسوء ظن بالله، ومن أحسن الظن بالله كان الله عند حسن ظنه، بل الله كريم وأكرم سبحانه وتعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:3] سبحانه وتعالى, وصيغة أفعل (أكرم) تدل على بالغ الكرم منه سبحانه وتعالى.
فننصح هذه المرأة وننصح كل مسلم أن يحسن الظن بالله عز وجل، وأن يصدق الرجاء في الله عز وجل، ومن أحسن ظنه بربه رجي له الخير في دينه ودنياه وآخرته، والله تعالى أعلم.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يمدنا وإياكم بعونه وتوفيقه، وأن يتقبل منا ومنكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(389/24)
شرح زاد المستقنع - باب حد قطاع الطريق [2]
شرع الله تعالى حد الحرابة زجراً لمن تسول له نفسه قطع الطريق وترويع الآمنين، أو الاعتداء على حقوق الآخرين، والأصل في هذا الحد آيتا المائدة، ولكن العقوبة تختلف باختلاف الفعل الذي قام به المحاربون، وفق ما بينه الفقهاء وأهل العلم.(390/1)
من شروط تطبيق حد قطع الطريق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئاً].
تقدم بيان بعض الضوابط والمقدمات المتعلقة بحد الحرابة وقطع الطريق، وقد شرع المصنف رحمه الله في هذه العبارة في بيان العقوبة الشرعية المترتبة على جريمة قطع الطريق وإخافة السبيل.
فبين المصنف رحمه الله أنه إذا أقدم المحاربون وقطاع الطريق على القتل وأخذ المال؛ فإن العقوبة تجمع أمرين: الأمر الأول: أن يقتلوا.
الأمر الثاني: أن يصلبوا.(390/2)
يستوي المنفذ والمخطط من المحاربين في استحقاق العقوبة
فأما بالنسبة للقتل، فبين المصنف رحمه الله يقتلوا سواء حصلت المكافأة بينهم وبين المقتول أو لم تحصل، وهذه العقوبة أشار إليها الله عز وجل بقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33] فجمع لهم بين القتل والصلب، وقد جاء في أثر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، أن المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فإنهم يقتلون ويصلبون، وظاهر قوله أنهم يقتلون يستوي فيه المباشر للقتل والمعين عليه.
وهذه المسألة لها صور عديدة، وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، لكن من أشهرها قضية الحماية، وهي أن يكون قطاع الطريق على مجموعتين: مجموعة تهدد بالسلاح، ومجموعة تباشر الجريمة، فالظاهر من الأصول الشرعية والمختار من أقوال العلماء رحمهم الله أنه إذا قتل واحدٌ منهم فإنهم يستحقون القتل جميعاً، ويستوي في ذلك المباشر للقتل أو المخطط له، أو المهدد للمقتول، أو من ربطه، أو عقره، أو أغلق عليه الباب، فكل هؤلاء يجمعون في حكمٍ واحد؛ لأن الجريمة تمت بهذه الوسائل، فيستوي في ذلك المباشر والمتسبب والمعين بالرأي.
ومن هنا فإن في زماننا قد توجد بعض الوسائل التي تحتاج إلى تفكير وعمل وجهد يُتوصل من خلالها إلى الجريمة، كما في بعض الأجهزة التي تحتاج إلى فك شفراتها السرية، أو بعض المخابئ أو بعض الأشياء التي تحتاج إلى خبرة ومعرفة، فهذا الخبير لو أخذه المحاربون وتواطأ معهم على الجريمة أو أعانهم على فك هذه الأمور السرية أو الشفر، ففتح أسرارها وكشف لهم طريقة الدخول، وبين لهم كيفية حماية أنفسهم من الضرر، وكيف يستطيعون أن يصلوا إلى جريمتهم؛ فهو شريكٌ لهم، بل هو رأس الداء والبلاء، فإذا دخلوا بواسطة هذا التخطيط وهذه المعونة فقتلوا ولو واحداً فقط، فإنهم يقتلون جميعاً ويقتل هذا المدبر؛ لأنه لولا الله ثم تدبيره ومعونته على ذلك بالرأي الذي توصل من خلاله إلى الجريمة ما وقع شيء.
ومن هنا لا يشترط في الحكم بالقتل أن يكونوا مباشرين للقتل، بل يعطى الحكم للجميع، ووقوع القتل من البعض كوقوعه من الكل؛ لأن كل واحد منهم راضٍ بالقتل، وكونه يشهر السلاح وغيره يباشر القتل يدل على أنه راضٍ بهذا الفعل؛ لأن الإعانة بإشهار السلاح هي التي تعقر المقتول، وتمنعه من أخذ الحيلة وطلب الوسيلة للنجاة والفرار، فلذلك يستوي من يشارك بالعمل، ومن يشارك بالرأي، ومن يشارك بالحماية.
يقولون: إذا اشتركوا فقد يفعلون الجريمة كلهم، فأحدهم يقتل، والثاني يسرق، والثالث يضرب، فهؤلاء كلهم يعتبرون في حكم الفاعل وهو القاتل فيقتلون جميعاً.
ومن هنا لا يشترط في ثبوت القتل للجميع أن يباشر الجميع القتل، فالمعونة والحماية والتدبير والتخطيط والتهديد وإشهار السلاح، كل هؤلاء يعتبرون في حكم القاتل.(390/3)
لا تشترط المكافأة لإقامة حد الحرابة
كذلك يستوي أن يكون قتلهم للمكافئ أو غير المكافئ، ومثل له المصنف رحمه الله بقتل الوالد لولده، فلو كان في المحاربين أب، واشترك مع غيره في قتل ولده، فحينئذٍ يستوي أن يكون مكافئاً أو غير مكافئ؛ لأن الأصل أن الوالد لا يقتل بولده، وكذلك أيضاً لو كان المقتول عبداً والقاتل حراً.
وفرق بعض العلماء في هذه المسألة، فجعل الحكم أخف إذا كان غير مكافئ، وجعله أشد إذا كان مكافئاً، والأصل يقتضي التسوية.
وقوله: [ومن منهم قتل مكافئاً أو غيره كالولد والعبد والذمي] أي: كالولد إذا قتله أبوه، والعبد إذا قتله الحر، والذمي إذا قتله المسلم، لأن قتل الذمي من أشد الجرائم والعياذ بالله، ومن تتبع السنة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد الوعيد الشديد على التعرض لمن له ذمة الله ورسوله، وأنه إذا دخل بلاد المسلمين في ذمة المسلم أو ذمة إمام المسلمين أو من يقوم مقامه، فلا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخفر ذمة المسلمين، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذمة المسلمين واحدة، كما قال: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) أي: أدنى شخص في المسلمين؛ فلو دخل الكافر في ذمته فكأنه دخل في ذمة المسلمين جميعاً، وورد الوعيد الشديد من اشتداد غضب الله عز وجل على من خفر ذمة الله ورسوله والعياذ بالله.
فالشاهد من هذا أنه لو اعتدى على مال ذمي، فإن الذمي إذا دخل بلاد المسلمين وله ذمة المسلمين فدمه وماله وعرضه حرام، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وكما تقدم معنا في عقد الذمة، حيث بينا كيف كان حال السلف الصالح من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم في الوفاء بالذمم، وما هو منهج الشريعة في مسألة إعطاء الكافر الذمة، فهذه الذمة لا تخفر، فلو أخفرت فإن هذا الذمي له حرمة، والاعتداء عليه قد يوجب أن يقتل المسلم به من باب الحرابة، لا من باب المكافأة.
أي أنه إذا قتل الحر العبد فلا نسوي بين الحر والعبد لأن الشريعة فرقت في ذلك، كما في أسلوب الحصر والقصر في القرآن في قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] أي: لا تقتلوا الحر إلا بالحر، لكن هذا القتل ليس من باب المكافأة، وإنما هو من باب آخر، وهو أن قتل الذمي يعتبر حرابة للمسلمين، ومن حارب المسلمين فإنه يقتل، وهذا المعنى تسقط فيه المكافأة، بدليل أننا ذكرنا أن المقتول لو كان له أولياء، فقالوا: سامحنا وتنازلنا لوجب القتل، وهذا شبه إجماع بين السلف الصالح رحمهم الله؛ لأن القتل واجب لحق الله؛ لأن القضية قضية إشهار سلاح ومحاربة المسلمين، بغض النظر عن كونهم قتلوا مكافئاً أو غير مكافئ، فهذا لا يلتفت إليه، فالقضية ليست قضية مساواة أو قصاص؛ لأن القصاص له ضوابطه وشروطه.
القضية هنا مبنية على محاربة جماعة المسلمين, ومن هنا ننظر إلى الأصل الذي قرره العلماء في الحرابة، وهو أن الحرابة لا تكون إلا إذا أشهروا السلاح على المسلمين، فبإشهار السلاح يكونون قد خرجوا على جماعة المسلمين، ومن هنا يستوي أن يقتلوا مكافئاً أو غير مكافئ، فالعقوبة من باب آخر، وليست من باب المؤاخذة بالجريمة.(390/4)
القتل والصلب إذا اعتدوا على المال وقتلوا النفس
ومن هنا نبين أن العقوبة بالقتل والصلب والقطع لا يشترط فيها بعض الشروط المشترطة في القتل، أو السرقة ونحو ذلك.
وقد بين المصنف رحمه الله أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال فالعقوبة أن يقتلوا ويصلبوا، والقتل في أصح القولين أن تضرب أعناق المحاربين، وذهب بعض العلماء إلى أن الصلب يكون قبل القتل، بأن يصلبوا ثم يطعنوا بالحربة وهم مصلوبون، والصحيح أن يقتلوا ثم يصلبوا، وأن القتل بعد الصلب فيه مثلة وتعذيب.
فأما صلبهم فبأن يربط المقتول على خشبة يقال لها: صلب، لأنها على شكل علامة الصليب توضع من وراء يديه، وهذه الخشبة المعترضة تربط فيها يداه، وأما القائمة فيربط فيها جسده على وجه لا تسقط به، ثم ترفع الخشبة بعد ربطه وإحكامه عليها، وتوضع في مكان وتثبت، فيصلب بعد قتله.
وقد اختار بعض السلف أنه يصلب ثم يقتل، وراعوا في ذلك السنة، وهي (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة)، وقد قال في الحديث الصحيح: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) فهذا أصل في الشريعة؛ ولأن القصاص يكون ضربة بالسيف وهذا أرفق، فبذلك يعتبر هذا هو الأصل.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يصلب ثم يقتل، وقد استدل الذين قالوا: إنه يصلب ثم يقتل، فقالوا: إن الصلب عقوبة، والعقوبة تكون للحي لا للميت، ومن هنا نصلبه حياً ثم نقتله بعد الصلب، فلا بد أن يمس جسده الصلب، ثم بعد ذلك يقتل، أما إذا قتل ثم صلب فالصلب لا معنى له.
وهذا ضعيف؛ لأن الصلب قد يكون فيه تعذيب لنفس المصلوب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً) أي في الإثم، وبين أن الميت يتأذى، وأثبت هذا حتى في قبره، ولذلك لا يمنع أنه إذا صلب يعذب، وأن هذا لا نعرفه نحن ولا نطلع عليه، فأمور الآخرة غيبية.
ثانياً: أن الصلب لا يمنع أن الشريعة أرادت القتل لأنه قتل، وأرادت الصلب زجراً لغيره، ومن هنا فقولهم: إن الصلب لا معنى له بعد القتل ليس صحيحاً؛ لأن الحرابة فيها معنيان كسائر الحدود: أنها تعاقب الشخص وتطهره من إثمه وجرمه، وكذلك أيضاً تزجر غيره، ولذلك قال الله تعالى في الحدود الشرعية وفي العقوبات: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] وكل هذا من أجل زجر المجتمع.
ومن هنا فقولهم: إنه لا بد أن يكون الصلب عقوبة للمصلوب ليس بوارد من كل وجه، وعليه فالصحيح أنه يقتل ثم يصلب.
وهذا الصلب حكمه في الشرع واجب، بمعنى أنه متصل بالعقوبة، وأنه يجب على السلطان والقاضي إذا نفذ حد الحرابة بالمحاربين وتم الشرط المعتبر للجمع بين العقوبتين أنه يقتلهم ثم يصلبهم، فهو واجب، وهو حق من حقوق الله عز وجل؛ لنص الآية الكريمة عليه.(390/5)
مدة صلب المحاربين
وقد اختلف العلماء في الصلب على وجهين: الوجه الأول: أنه غير محدد ولا مقدر.
الوجه الثاني: أنه محددٌ مقدر.
فالذين قالوا: إنه غير محدد، قالوا: يصلب حتى يشتهر أمره، وحينئذٍ لا يحدون بالزمان ولا بالصفة بأن يتغير أو يخشى تغيره أو نحو ذلك، بل يقولون: يجعل مصلوباً في داخل المدينة، وإذا كان الصلب في مكان الجريمة أبلغ في زجر الناس وتخويفهم، فيوضع في نفس مكان الجريمة، فالذي يراه القاضي أو الإمام أصلح وأمكن في زجر الناس وتخويفهم من حدود الله عز وجل والوقوع في محارمه فليفعله، فقد ورد عن الإمام أحمد أنه قال: يصلب حتى يشتهر أمره، ولم يحد في ذلك حداً، وهو قول بعض السلف.
وقال بعض العلماء: يصلب ثلاثة أيام، كما اختاره الشافعي وطائفة من السلف رحمهم الله.
والذين قالوا: حتى يشتهر أمره؛ قد يحصل اشتهار الأمر بنصف النهار، بأن يجتمع الناس كما في القرى الصغيرة وفي الأماكن المحدودة ويطلعوا على عقوبته ويتعظوا ويعتبروا ويتسامع الناس بذلك ويروه، فحينئذٍ إذا رأى ذلك كافياً أنزله وأعطي لأهله لكي يغسلوه ويكفنوه ويصلى عليه، فالمحارب المسلم لا زال له حق الإسلام، فبعد قتله وصلبه يعطى لأهله فيقومون بحقه من تغسيل وتكفينٍ وصلاة عليه.
والذين قالوا: إنه يصلب ثلاثة أيام: أجيب عنهم ورد قولهم بأن هذا التوقيت ينبغي أن يكون فيه نص من الشرع يدل عليه، وليس هناك دليل على أن الصلب لابد وأن يكون ثلاثة أيام، والأزمنة تختلف، ولذلك قد يصلب لمدة يومين وينتن، ويؤذي الناس برائحته، فيكون فيه أذية للأحياء، مع أن المقصود قد يتحقق بأقل من ثلاثة أيام.
ومن هنا فإن التوقيت بثلاثة أيام ضعيف، والصحيح ما اختاره بعض أئمة السلف رحمهم الله أن الصلب يكون حتى يشتهر أمره على الوجه الذي يردع الناس ويزجرهم، وهذا هو المقصود الشرعي من هذه العقوبة.(390/6)
لا يشترط في الحرابة لتطبيق العقوبة بلوغ المال نصاب السرقة
بين المصنف رحمه الله أن من قتل وأخذ المال قد اختلف العلماء فيه على قولين: فمنهم من قال: يشترط أن يبلغ المال حد النصاب، وقد تقدم معنا بيان حد النصاب، والدليل الشرعي على تحديده وخلاف العلماء رحمهم الله.
ومن أهل العلم من قال: إن هذا المال الذي يأخذه المحارب ويستوجب قتله أو قطع يده ورجله من خلاف -كما سيأتي- لا يشترط فيه أن يكون قد بلغ حد النصاب في السرقة، وهذا القول هو الصحيح؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى حد للسرقة نصاباً، وفي الحرابة لم يثبت في الكتاب ولا السنة تحديد للقطع فيها بالنصاب.
فلو قال قائل: إننا نلحق هذا بهذا.
قلنا: لا يصح ذلك، فإننا وجدنا أن عقوبة الحرابة جمعت بين قطعين: قطع اليد والرجل من خلاف، وهذا لا يكون في السرقة إلا بجريمة مكررة -أي: مرتين- فدل على أن مقصود الشرع تعظيم الجناية، وحينئذٍ فكوننا نقيسها على السرقة ليس بوارد؛ لأنها جاءت فيها عقوبة السرقة مضاعفة مرتين، فإذا قالوا بالنصاب فيلزمهم أن يقولوا: يكون النصاب مضاعفاً؛ لأنه قطع لليد والرجل من خلاف، ومن المعلوم أن السارق تقطع يده، فقطع العضوين لا يكون إلا مكرراً إلا على القول الذي تقدم أن بعض العلماء يختارون أن السارق إذا تكررت سرقته بد قطع يده أنها تقطع رجله.
والشاهد من هذا أن القول بالتوقيت ضعيف، والصحيح أنه لا يحد في قطعه، وبناءً عليه فلو هجمت عصابة مسلحة على محل تجاري في الاستراحات أو في البراري على القول بأن الحرابة تكون خارج المدن، أو هجموا داخل المدن عياناً أمام الناس فأشهروا السلاح، وجاء واحد منهم وأخذ من الصندوق أو أخذ من الرفوف شيئاً لا يساوي النصاب، حتى لو أخذ علبة عصير لا تعادل النصاب وشربه واستباحه أو أخذه معه، فإنه في هذه الحالة يكون قد تحقق المقصود من الاعتداء على المال، وهذا من أبلغ ما يكون، أي أنه إذا نظر إلى حد الحرابة وجد أن قضية التهديد بالسلاح مؤثرة جداً في إثبات جريمة الحرابة، حتى يوصف بكونهم قد حاربوا الله ورسوله.
ومن هنا نجد طائفة من العلماء اشترطوا أن يكون من المحاربين إشهار للسلاح، فمحور الجريمة يعود على الخروج والعصيان الظاهر، وحينئذٍ يستوي أن يكون ما أخذوا من المال يساوي النصاب أو لا يساويه، لأننا ما جئنا هنا لنطبق حد السرقة حتى نشترط ما يشترط في السرقة، ولذلك لم نشترط الحرز، فلماذا أسقطنا شرط الحرز؟ ومن المعلوم أن السرقة تكون خفية والحرابة تكون علانية، فتبين أن هذه جريمة وتلك جريمة أخرى مختلفة عنها.
وبما أن جريمة الحرابة علانية فإن فيها تحدياً عظيماً للمسلمين بخلاف جريمة السرقة فهي خفية، وفيها استتار ونوع من الرعاية للحرمة والخوف والهيبة، لكن أن تكون عياناً بياناً تحت وطأة السلاح أمام الناس فإن هذا شيء آخر، والحرمة فيها أشد، فينبغي أن تكون العقوبة أبلغ، ومن هنا لا يشترط أن يكون المال الذي يأخذونه قد بلغ النصاب، وأن العبرة في اعتدائهم على المال.
إذا ثبت هذا فحينئذٍ يستوي أن يأخذوا أو يتلفوا، فالعصابات المسلحة لو أنها دخلت بيوت الناس فأتلفت شيئاً من المال أثناء دخولهم كأن كسروا مثلاً زجاجات المحلات، وقتلوا ولو شخصاً واحداً، ثبت القتل وثبت الاعتداء على المال، وحينئذٍ يقتلون ويصلبون.(390/7)
اشتراط قصد المال للجمع بين القتل والصلب في حد الحرابة عند بعض العلماء
أعلى ما يكون في حد الحرابة أن يجمع بين القتل والتصليب وبعض العلماء فرقوا فقالوا: لا يجمع بين القتل والصلب إلا إذا اجتمع الاعتداء على النفس والاعتداء على المال، ثم فصلوا في الاعتداء على المال، فقالوا: لا نأمر بصلبهم بعد القتل بناءً على اعتدائهم على المال إلا إذا كان السبب الباعث لهجومهم واعتدائهم إرادة وطلب المال، وعلى هذا القول يفرق بين القتل من أجل أخذ المال، وبين القتل دون قصد أخذ المال.
ففي الصور التي يجمع فيها بين العقوبتين: أن يأتي إلى محل تجاري أو إلى بنك ويهجم عليه فيقتل الحارس أو يقتل أي شخص ممن هم موجودون ثم يأخذ المال، فحينئذٍ يتبين أن الجريمة من أجل أخذ المال، وأنهم قتلوا من أجل الوصول إلى المال، وفي هذا الوجه يجتمع العلماء على أنه يقتل ويصلب.
الصورة الثانية: وهي محل الخلاف، وذلك أن يكون مقصودهم القتل، مثل أن يقع بين العصابة وبين شخص آخر عداوة ويريدون قتله، فيأتون إليه في منزله أو في عمله ويدخلون تحت وطأة السلاح فيقتلونه ثم يأخذون ماله، ففي هذه الحالة لم يكن أخذ المال مقصوداً، وإنما جاء تبعاً لجريمة القتل، وعلى القول الذي يشترط أن يكون القتل من أجل أخذ المال، يقولون: لا يصلبون، وإنما يقتلون.
والصحيح أننا نقول: إنه يجب صلبهم سواء قتلوا من أجل أخذ المال، أو قتلوا بدون قصدٍ وأخذوا المال ولم يكن قصدهم من القتل أخذ المال وإنما إرعاب الناس، أو العداوة أو الأذية ونحو ذلك.
وقوله: [وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر] القتل وأخذ المال جريمتان، ويستوي أن تكون من الجميع أو من البعض.
فمن الجميع مثلاًَ: ثلاثة أشخاص تعرضوا بسلاحهم لرجل ومعه زوجته وأخته، وكل واحد منهم قتل واحداً وأخذ المال الذي معه، حينئذٍ كل واحد منهم يصدق عليه أنه قاتل وآخذ للمال، ولا إشكال في هذه الصورة أن القتل يكون من الجميع وأخذ المال من الجميع.
أما من البعض: فمثلاً: جاءت عصابة أو جاء قطاع طريق وهجموا على قرية أو مدينة، فدخلوا محلاً تجارياً، فأشهر أحدهم السلاح على من بداخل المحل، وقام الآخر بطعن شخص تعرض له، فقتله، وقام الثالث بجمع الأموال الموجودة في الخزنة.
إذاً: أحدهم هدد وهو الذي رفع السلاح، والثاني باشر جريمة القتل، والثالث باشر جريمة السرقة، وفي هذه الحالة قلنا: لا يشترط، وهناك تفصيل عند بعض العلماء، ولكن الصحيح هو مذهب الجمهور أنه لا يشترط أن يكون الجميع قتلة، ولا يشترط أن يكون الجميع أخذوا المال، ولا يشترط أن يكون الجميع هم الذين يمارسون العمل، فالكل حكمهم واحد: أن يقتلوا ويصلبوا، هذا الذي نختاره، وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى.(390/8)
حكم المحارب إذا قتل ولم يأخذ المال
وقوله: [وإن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب] هذه الدرجة الثانية من العقوبة، وهي القتل دون الصلب، وفيها أثر ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: (إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا ثم صلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا) ففرق بين أن يكونوا قد اعتدوا على المال مع القتل، وبين كونهم قتلوا فقط، ومن هنا اختار الإمام أحمد وأصحابه وهو مذهب بعض العلماء أيضاً، أنهم إذا قتلوا ولم يأخذوا المال أنهم يقتلون ولا يصلبون، وهذه الصورة كثيراً ما تقع في حالات البغي والاستكبار، وهي العصابات التي تريد إثبات عدوانها على المجتمع بتخويف المجتمع وإرهابه، وليس لها مطمع بالمال أكثر، وإنما تريد زعزعة أمن الناس، وإقلاقهم وإشعارهم بأنهم أهل قوة وشوكة وغلبة، ويقع هذا من العصابات في العمران والصحاري.
فالعصابة حينما تقدم على القتل المجرد دون أخذٍ للمال فهذا غالباً ما يكون من أشد الأذية والإضرار بالناس، لأنهم يريدون إرعاب الناس، ومن هنا قال العلماء: إن من تأمل حد الحرابة وجد أنه يضر الناس في أعظم مصالحهم بعد الدين، وهو عصب حياتهم وهي التجارة، لأن هذا النوع من الجرائم كان مؤثراً تأثيراً شديداً في أمن السبل، وأمن السبل لا يراد فيه غالباً إلا انتقال الناس؛ لأن السفر أكثر ما يقع للتجارة، وابتغاء فضل الله عز وجل، ومن هنا قال بعض الأئمة: إن الله عز وجل رحم عباده بالتجارة، وبين أن التجارة ابتغاء لفضل الله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20]، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]، وقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] فجعل المال من رزقه وعطائه لعباده وخلقه، فإذا وقعت الحرابة قطعت سبل الناس، وحينئذٍ تجد بعض القرى قد يموت فيها الناس ويهلكون، ولا يستطيعون أن يتوصلوا إلى طعام، ولا دواء ولا كساء؛ لأن التاجر لا يستطيع أن يخاطر بنفسه ولا بروحه.
وهذه هي الميزة التي ينبغي لكل من يدرس الفقه الإسلامي خاصة فقه الجنايات أن لا ينظر إلى العقوبة مجردة، وإنما ينظر إلى الجريمة التي شرعت من أجلها العقوبة بجميع صورها، وينظر إلى آثارها، فأكثر ما تأتي العقوبة مراعية للأثر المترتب على الجريمة، حتى إنك لو تأملت شيئاً قليلاً في السرقة فقط، لو تأمل الإنسان العقوبة مجردة عن أسبابها قد يزيغ رأيه والعياذ بالله، ويعزب رشده، كيف تقطع اليد من أجل مبلغ من المال والنفس والروح أعظم، وكيف يقتلون هنا ويصلبون وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، من أجل مال يسير، خاصة إذا كان دون النصاب.
لكن إذا نظرت إلى أن الشخص الواحد الذي يحمل سلاحه في العراء وفي الصحراء يهدد أمة، لا قافلة أو شخصاً أو شخصين.
وأيضاً: فإنه يعين غيره أن يسلك مسلكه، فلو سكت عنه الناس وسكتت عنه الشريعة ولم تعاقبه، لفتحت باب الإجرام والمجرمين، فينظر الإنسان للآثار، ولذلك فإن الذين يشهرون بالإسلام ويرفعون عقيرتهم بأذية المسلمين في باب الحدود والجنايات كلهم لا يعقلون؛ لأن الذي عنده عقل ينظر إلى الجريمة من جميع الجوانب، وهؤلاء ينظرون يقولون: كيف يقتل وكيف يصلب! هذا شيء بشع، أن يؤتى بالشخص ويعلق مصلوباً أمام الناس، فينظرون إلى الجاني ويرحمونه، ولا ينظرون إلى الأمم التي تخوف في أموالها ودمائها وأعراضها ومصالحها، وكيف يضرب في عصب الحياة، ليس على سبيل القرية أو المدينة، بل قد يكون ذلك على سبيل الأمصار والأقطار، ومن هنا ففي العقوبة التي وردت في الشريعة في حد الحرابة ينبغي أن ننظر إلى الآثار المترتبة على الجريمة كاملة، ولا ننظر إلى مجرد شخص يأتي ويعتدي فقط، أو: هل المال بلغ النصاب أو لم يبلغ النصاب؟ أو كيف نعاقب بهذه العقوبة الشديدة على شيء تافه؟ فلو أنه أخذ مالاً يسيراً أو كسر زجاجاً فإننا نعتبره معتدياً على المال ونستبيح قطع يده ورجله من خلاف.
وعلى هذا فإننا نقول: إن من اعتدى على الأنفس ولم يعتدِ على المال فإنه يقتل ولا يصلب، وهذا هو الذي يدل عليه أثر حبر الأمة وترجمان القرآن، وهو الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.(390/9)
جناية المحاربين على أطراف بدن الإنسان
وقوله: [وإن جنوا بما يوجب قوداً في الطرف تحتم استيفاؤه] الجناية على الأطراف تقدم تفصيلها وضوابطها في الشريعة، ومتى يحكم بالقصاص ومتى لا يحكم بالقصاص، والجناية على الطرف بأن قطعوا يد شخص، أو ضربوه حتى أصابها الشلل، أو فقئوا عين شخص، أو قطعوا لسانه، أو قطعوا أصابعه، كل هذه الجنايات على الأطراف فيها القصاص بالضوابط التي تقدمت في باب القصاص.
والمصنف رحمه الله يختار هنا القول بالتفريق بين حق الله وحق المخلوق، وأن الجناية لو وقعت منهم على أطراف الناس وأعضائهم بما يوجب قوداً.
قال: تحتم استيفاؤه.
ومن أهل العلم رحمهم الله من قال: إن القتل يأتي على جميع ذلك، وأنه لا يقتص في الأطراف، وأنه يحكم بحد الحرابة وخاصة على القول الذي يقول: إن الأمر إلى الإمام، فإذا كان الإمام رأى أن المصلحة بالقتل قتلهم ولو لم يقتلوا، وهذا القول الثاني الذي اختاره بعض أهل العلم رحمهم الله، وهو أنه لا يشترط في حكم القاضي بالقتل أن يكونوا قد قتلوا.
وعلى هذا القول لو جنوا على الأطراف ولم يقتلوا ورأى الإمام المصلحة في قتلهم قتلهم، وهذا موجود في مذهب المالكية والظاهرية وبعض أئمة السلف، وقالوا: الإمام هو المخير، والقاضي هو الذي له النظر، فلو جاءوا ودخلوا بالسلاح على بيت رجل وهددوه، ثم قاموا فقطعوا رجل شخص، وآخر قطع يد ابنته، والثالث اعتدى على عين ففقأها، فإذا استبشع هذا القاضي، وقال: لا أريد القصاص إنما أريد قتل هؤلاء؛ لأن هذه الجريمة بهذا الشكل أرى أنه لا يردع الناس فيها إلا القتل، فقضى القاضي بالقتل، فالصحيح أن له ذلك، وأنه لا يتعين القتل بحالة قتلهم.
وفي هذه الحالة إذا قلنا: إن له ذلك فإن القتل يأتي على جميع جناياتهم على الأطراف ونحوها، وأما إذا قلنا: إنه ليس من حقه أن يقتل إلا إذا قتلوا كما يختاره المصنف رحمه الله وهو مشهور في المذهب، فحينئذٍ ينظر فإذا جنوا على الأطراف بما يوجب قصاصاً تحتم استيفاؤه، فلو عفا صاحب الجناية فإنه لا يلتفت إلى عفوه، بل يؤاخذهم القاضي أو الإمام بجريرتهم، سواء عفا صاحب الحق أو لم يعف، فالأمر سيان، فيقطع ما قطعوا من الأطراف.
وإذا قلنا بذلك فلو أن شخصاً من مائة شخص من المحاربين اعتدى على طرف إنسان فإنها تقطع أطراف الجميع؛ لأنهم يرون أنهم في حكم الشخص الواحد كما تقدم في القتل.(390/10)
حكم المحارب إذا أخذ المال ولم يقتل
وقوله: [وإن أخذ كل واحد من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق ولم يقتلوا، قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا، ثم خلي] هذه المرتبة الثالثة في العقوبة، أنهم لو اعتدوا على المال ولم يقتلوا وكان اعتداؤهم على المال ما يعادل نصاب السرقة فأكثر، فحينئذٍ تقطع يد المحارب ورجله من خلاف، وهذا صريح آية المائدة.
وإذا قطعت يده ورجله من خلاف فإن القطع للموضعين يكون في ساعة واحدة، ولا يؤخر قطع الرجل عن قطع اليد، وتقطع يده اليمنى مع رجله اليسرى، وهذا هو ظاهر القرآن: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة:33].
فتقطع يده اليمنى بناءً على أنهم يرون أنه سرق، واشترطوا أن يكون قد أخذ ما يعادل نصاب السرقة، والتي تخالف اليد اليمنى هي الرجل اليسرى، ومن هنا تقطع اليد مع الرجل من المفصل في اليد والرجل وتحسم بالزيت المغلي بالنار، لأجل قطع النزيف، وقد تقدم معنا الحسم في حد السرقة.
وبناءً على هذا لا يرى المصنف رحمه الله أنهم إذا اعتدوا على الأموال أن يقتلوا، وهذا هو القول الذي اختاره الحنفية رحمهم الله فهم يوافقون الحنابلة في أنه إذا اعتدى المحاربون على الأموال فيشترط أن تكون الأموال قد بلغت نصاب السرقة، ويشترطون حرمة المال، إلى غير ذلك مما يشترط في اعتبار المال المسروق، فإذا اختل الشرط لم تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وعند غير الحنابلة حتى عند بعض أصحاب الإمام أحمد رحمه الله اختار أنه لا يشترط النصاب، والدليل على ذلك: أولاً: أن الآية الكريمة لم تنص على اشتراط النصاب ولم يأت في السنة ما يدل على اشتراط النصاب.
وثانياً: أن القطع في الحرابة غير القطع في السرقة، فالقطع في الحرابة جاء بطريقة مخالفة للسرقة من جهة الزيادة؛ إذ لم يتقيد بقطع السرقة الذي هو قطع اليد، ومن هنا لا نشترط فيها ما يشترط في السرقة؛ بل نقول: إن للشرع مقصوداً في هذا، ونزيد على ذلك أنه لو رأى الإمام أن من المصلحة قتلهم بالاعتداء على الأموال قتلهم بذلك.
مثال ذلك: لو أن عصابة من قطاع الطريق هجموا على محلات تجارية فأتلفوا وأفسدوا ما فيها، ولم يأخذوا معهم شيئاً يعادل نصاب السرقة، فإنا نقول بتعزيزهم لأجل السلاح حين أشهروه، وإن كانوا في السبل أخافوا السبيل، وخرجوا على جماعة المسلمين بهذا السلاح، وجاءوا علانية وجهرة لا خفية كطريق السرقة، فإذا قلنا باشتراط النصاب حينئذٍ لا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
ولكن إذا لم نشترط النصاب ونظرنا إلى الأصل الذي ذكرناه أن الحرابة فيها خروج وتمرد وتحدٍ للمسلمين في دمائهم وأعراضهم وأموالهم؛ حينئذٍ لا نشترط أن يكون الذين اعتدوا عليه من المال قد بلغ نصاب السرقة، ولا نشترط أيضاً أخذهم لهذا المال، وبناءً على ما قرره المصنف يشترط فيه الأخذ، ولكن على ما نختاره لو أنهم لم يأخذوا بل أتلفوا، وأكثر ما يفعله أهل الفساد والطيش أنهم يتلفون أموال الناس ويعتدون عليها، فيأتون إلى المحلات التجارية وهي أسواق المسلمين فيها أرزاقهم ومصالحهم، ومملوكة لمسلم له حرمة، وله ذمة الإسلام، ثم يأتي عياناً بياناً ويشهر السلاح، ثم يتلف هذا المال أمام الناس من غير أن يأكله أو يشربه وإنما يفتح العلب ويهريقها على الأرض، ثم يتلف الأشياء الموجودة من الأطعمة، فمثل هؤلاء لا يردعهم أن يقال بتعزيرهم.
قد يرى الإمام أن هذه عصابات قد تستشري، هذا يعلم هذا، وهذا يجر هذا، ولا يقطع دابرها بشيء مثل أن ينظر للأصلح والأوفق للمجتمع، فإن رأى أنه اعتداء معتبر على المال نظر هل يكفي قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأن ذلك يردع الناس، ووجد له أثراً فيكتفي به، لكن إذا وجد أنهم متمردون عصاة، وأنهم يجرئون غيرهم، وأنها لا تنحسم مادة شرهم إلا باستئصالهم من المجتمع، فإذاً: لا يتقيد الأمر بالنصاب ولا بالأخذ، لأن الإتلاف اعتداء، بل إن الإتلاف أسوأ من الأخذ؛ لأن الذي يأخذ الطعام يأكله ويرتفق به فهو يراعي حرمة الطعام؛ لأنه يريده لنفسه ويرتفق به حتى لو أخذه وباعه، لكن أن يأخذ المال، أو الطعام الذي جعله الله عز وجل طعمة لخلقه فيرمي به في الأرض، ويتلفه دون أن ينتفع به الإنسان، فهذا من أبلغ ما يكون جناية وجرماً.
وفي حكم هذا لو أنهم أخذوا السفينة ونهبوا ما فيها صدق عليها أنهم أخذوا، وانطبق الشرط الذي ذكره المصنف، لكن لو أنهم أغرقوا السفينة بما فيها من طعام وأرزاق، ولم يأخذوا شيئاً فهذا يكون له حكم الحرابة، ويوجب الحد الذي ذكرناه، وجعل الأمر والنظر للإمام أبلغ، وهو إن شاء الله أقرب إلى الصواب؛ لأن مقصود الشرع حسم مادة الشر، وإيقاف البلاء عن المجتمع، وعدم فتح باب الفتنة على المسلمين بالجرأة على دمائهم وأموالهم ونحو ذلك.
وقوله: [قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى]: هذا هو القطع يكون من خلاف، وبعض العلماء يفصل بين أن تكون يده هي التي يعمل بها، فمثلاً: لو أن أكثر عمله ومصالحه باليسرى قطعت اليسرى مع الرجل اليمنى؛ لكن المحفوظ عن الجماهير أنها تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى.
وقوله: [في مقام واحد] وهذا من أبلغ ما يكون عقوبة وزجراً، ولو أن قاطع طريق قطعت يده ورجله بحكم الله، لكان ذلك من أبلغ ما يكون في ردعه وردع غيره أن يسلك سبيله، فلن تسول له نفسه يوماً من الأيام أن يخرج على المسلمين ويشهر سلاحه من أجل أن يعتدي على أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم، إذ كلما حدثته نفسه رفع كفه التي قطعت، وجاء يقف من أجل أن يذهب أو يروح وإذا برجله المقطوعة تذكره، ما الذي سيكون له؟ وما الذي سيجنيه من فعله وتمرده على المسلمين في مصالحهم ومرافقهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54] فهي آيات بينات {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة:50] أي: لا أحد أحسن من الله حكماً ولا أتم شرعاً {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].(390/11)
حكم استخدام التخدير عند تطبيق الحدود
وقوله: [وحسمتا]: لأن النزيف قد يهلكه، فتحسم بالزيت حتى تنسد أفواه العروق، لأنها لو تركت من دون حسم فإنه سينزف، وإذا نزف فإنه يموت، وهكذا الرجل تحسم حتى لا ينزف، وفي زماننا يمكن إيقاف النزيف بالطرق الطبية المعروفة، فلا بأس أن توقف، ولكن لا تخدر يده أو رجله، وإنما يذوق ألمها كما آلم المسلمين جماعة وأفراداً، فيتألم ويذوق الألم، ولا يجوز شرعاً أن يخدر؛ لأن هذا لا يجعله يحس بشيء، ولا يجد مرارة الذنب وأثر الجريمة كما ينبغي، لكن إذا قطعت يده وهو تحت وطأة الألم، فصاح وتأوه وتضرر وتألم، حتى أبلغ صياحه الناس، وسمعه الخلق وتأثروا؛ وقع المقصود شرعاً.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نزلت عليه هذه العقوبة دون وجود معالم رفق؛ لأن الله يقول في الحدود: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] فليس هناك رأفة بمن يستحقها، وهذا من عدل الله الذي قامت عليه السماوات والأرض، والرحمة توضع في موضعها، لكن هناك من يرحمون القاتل الجاني! ويقولون: كيف تقتلونه؟ وهم دعاة الحقوق، يقولون: كيف ييتم أطفاله، وكيف ترمل نساؤه؟ وذلك لأن عقولهم قاصرة، ونظرتهم عمياء، ألا شاهت وجوههم، ينظرون إلى القاتل أنه سييتم أطفاله، وترمل نساؤه، ولا ينظرون إلى من قتل وأزهقت روحه بالباطل، أف لهم وما يدعون، وهذا من الباطل، والمبطلون دائماً نظرتهم قاصرة، ومعارفهم محدودة؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه الحكيم العليم، وهؤلاء لا حكمة عندهم ولا علم، لأن من يقف في وجه شرع الله عز وجل فقد سلب البصيرة والعياذ بالله، وانطمس نورها من قلبه، وذهب فرقان الحق ونوره من صدره، فأصبح كما قال الله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام:71] فلا يدري ولا يعي ما يقول.
فهؤلاء الذين ينظرون إلى الجاني دون المجني عليه لا شك أن نظرتهم قاصرة، فنحن نقول: إنها لا تخدر اليد، ولا يرأف به ولا يشفق عليه ولا يرحم، وإنما يعاقب بعقوبة الله، ويذوق ألمها ويحس بهذا الألم وبمرارته، بغض النظر عن كونه قطعاً أو غير قطع، قطعاً في الحرابة أو قطعاً في السرقة.
وقوله: [ثم خلي] أي: يترك، ولا يوجد عقوبة زائدة، فإذا قيل: تقطع يده ورجله من خلاف فهذا حد الله، ولا يزاد على حدود الله المقدرة.(390/12)
تطبيق حد الحرابة على استباحة الأعراض
من أهل العلم من أدخل في الحرابة الاعتداء على الأعراض، فإن الاعتداء على العرض أعظم من الاعتداء على المال، وقد يتمنى الإنسان أن يقتل دون عرضه، والنبي صلى الله عليه وسلم سوى بين الدم والعرض، فقال: (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام) فالاعتداء على العرض يقع في الجرائم والعصابات المنظمة التي تختطف النساء، أو تستدرج الأطفال والقاصرين، أو تستدرج بفعل الفواحش تحت وطأة السلاح، فهذا من الاعتداء على العرض.
ولذلك فالنظر في الحرابة بنظرة شمولية لا يتوقف عند مسألة الاعتداء على المال وعلى النفس فقط؛ بل ننظر إلى مقاصد الشريعة كما يقول الإمام ابن القيم، وذلك هو شرع الله.
ومن نظر النظرة العامة الشاملة فإنه نظر النظرة التي ترضي الله عز وجل، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3].
فالعقوبات ينبغي أن تكون مستوفية لجميع ما يقع من الجرائم، فلقائل أن يقول: ما ورد إلا القتل وقطع اليد والرجل من خلاف والنفي.
ونقول: إن الشريعة قد تنبه بالأدنى على الأعلى، فنبهت بالقتل على غاية ما يقع من الاعتداء، ونبهت بالاعتداء على المال، وهناك وسط بينهما وهو العرض، فله نفس الحكم وهذا له نظائر في الشريعة، ومن هنا لا يمكن إغفال الاعتداء على الأعراض في الجرائم المنظمة، والعصابات التي تتخصص بإشهار السلاح في الاعتداء على الأعراض داخل المدن، أو الاعتداء على العرض خارج المدن، أو الاعتداء على العرض داخل المدن استدراجاً إلى خارج المدن تحت وطأة السلاح، فهي محاربة، وحكمها حكم الحرابة.
وقد بينا أن الصحيح أن القاضي له الحق أن يعاقب بالقتل إذا رأى أن حسم مادة الشر تكون بذلك، ومن هنا لو أن عصابة مرت عليها سيارة داخل المدينة، فأوقفت السيارة وأخرجت منها امرأة واختطفت هذه المرأة، فالاختطاف في داخل المدينة للنساء يكون من البيوت من السيارات من المجامع العامة من مجامع النساء كله يعتبر حرابة، وهو أشد وأعظم من أن يعتدى على المال.
أين العرض من المال؟ وأي شيء أشد شناعة وفظاعة من يؤتي إلى حرمات المسلمين التي يتمنى الإنسان أن يسيل دمه ولا يرى عرضه ينتهك، ولذلك فالاعتداء على العرض يدخل في الحرابة إذا كان داخل المدن، سواء كان بالقتل لفعل الفاحشة، أو التهديد بالقتل لفعل الفاحشة، أو الإخافة، وقد تجد مجموعة يأتون إلى مجامع النساء ويشهرون السلاح ويحدثون الرعب بين النساء، أو بين من يقوم على مصالحهن ومرافقهن كمساكن النساء، كل هذا إذا تكرر ينظر فيه وتدرس كل قضية على حدة، وينبغي أن ينظر القاضي إلى ما فيه مصلحة المسلمين، وينظر الإمام إلى ما يقطع دابر أمثال هؤلاء عن المسلمين.
وإذا نظرنا إلى حكمة الله وسنن الله عز وجل وجدنا أن نقم الله عز وجل في العرض أعظم من نقمه في الأموال، فقل أن يتعرض أحدٌ لأعراض المسلمين إلا أخذه الله أخذ عزيز مقتدر إذا لم يتب ويرجع عن ذلك.
والشهوة قد تعمي الإنسان وتصمه، سواء كان الاعتداء بالحرابة أو غير الحرابة، فلن تجد أحداً يستبيح أن يستغوي المرأة أو يغازلها أو يستدرجها للفحش والفساد، ويزين ويحبب إليها ذلك وهي ضعيفة، ويغريها من أجل فعل الفاحشة، إلا وجدت مكر الله عز وجل به عاجلاً أو آجلاً، أو هما معاً والعياذ بالله.
ومن هنا نجد أن من سنن الله عز وجل تعظيم أمر العرض؛ لأنه ليس لقمة سائغة يلوكها من شاء، بل يغص بها الإنسان، ولن يموت حتى يرى ما يسوؤه كما أساء إلى أعراض المسلمين، إن أساء إليهم في الغيبة سلط الله عليه ما يسوؤه في غيبته، وإن أساء إليهم في المشهد لن يموت ولن يخرج من الدنيا حتى يريه الله بأم عينيه ما يقرح قلبه ويبكي عينه كما قرح قلوب المسلمين وأبكى عيونهم.
وأيضاً نعرف أن من مقاصد الشريعة تعظيم أمر العرض، ولذلك لا يمكن إغفال الاعتداء على الأعراض، خاصة أننا في هذا الزمان حيث تساهل الناس -إلا من رحم الله- في هذا الأمر حتى أصبح بعض الفحش والفساد عند الناس شيئاً مألوفاً، فيأتي الرجل ويعتدي على العرض فيكلم المرأة الأجنبية أو يغازلها أو يؤذي سائقها ونحو ذلك عياناً بياناً أمام الناس، بلا حياء من الله ولا حياء من خلقه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
فكم من عينٍ امتدت إلى أعراض المسلمين ينتظرها العمى في لقاء الله عز وجل، وكم من عينٍ تمتعت بأعراض المسلمين سيذيقها الله عز وجل عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، ومن تاب تاب الله عليه.
وكل شخص ينبغي أن يضع نصب عينيه أن أمر العرض ليس هيناً، ومقاصد الشريعة عند دراسة الاعتداء على العرض لا يمكن أن تغفل ذلك، وعليه فإننا نقول: إذا كانت هناك عصابة أو جماعة تحت وطأة السلاح اعتدوا على العرض، فهذا على مراتب: اعتداء يبلغ الغاية القصوى ويستدرج المرأة ويقتلها مثلما يقع في بعض العصابات، يفعلون الفاحشة ثم يقتلون المرأة، فلا مانع أن يجمع الإمام والقاضي لهؤلاء بين القتل والصلب، ولا يختص القتل والصلب بالقتل وأخذ المال، فلو أنهم اعتدوا على عرض من أعراض المسلمين في الأسفار، فأوقفوا السيارات في طرقها، وأنزلوا النساء منها، وفعل بعضهم الفاحشة والعياذ بالله وقتل، فإنهم يقتلون ويصلبون كما جمعنا بين الاعتداء بالقتل وأخذ الأموال بين القتل والصلب، فالعرض أولى وأشد وأعظم حرمة عند الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو مقصود شرع الله، أي: أن ينزجر الناس عن حدود الله ومحارمه، والعرض أشد حرمة من المال، فإذاً نقول: إذا أنزلوا وقتلوا قتلوا وصلبوا.
فلو أنهم أنزلوا النساء واعتدوا بالزنا، ورأى الإمام أن هذه حادثة سابقة، وأنه يُخشى إن فتح الباب، أو أنه لو أقام عليهم الحد أن هذا لا يردعهم؛ خاصة إذا كانوا غير محصنين، فحينئذٍ إذا رأى أن المصلحة في قتلهم فله قتلهم.
كذلك لو أنهم أنزلوا النساء فكشفوا ستر المرأة، واستهزءوا بها، فهذا اعتداء على العرض، لكنه دون الاعتداء الأول، وكذلك لو أنهم تكلموا.
فهناك أذية باليد كأن يمد يده على غطاء المرأة، وهنا أذية باللسان كأن يتكلم بكلام فحشٍ وبذاءة ونحوها من الأذية، فهذه أخف عقوبة، فينظر القاضي والوالي ما هو الأصلح في زجر هؤلاء وعقوبتهم بفعلهم.
فالشاهد من هذا أنه يدرج في مسألة الاعتداء في الحرابة الاعتداء على الأعراض، ويستوي في ذلك أن يحصل غاية الاعتداء بالقتل وفعل الجرائم، أو يكون بدون ذلك من الأذية، كما يحدث في مضايقات النساء ونحوه، فإنها إذا كانت تحت وطأة السلاح والتخويف والتهديد فهي في حكم الحرابة.(390/13)
حد الحرابة بالنفي
وقوله: [فإن لم يصيبوا نفساً ولا مالاً يبلغ نصاب السرقة نفوا، بأن يشردوا، فلا يتركون يأوون إلى البلد] هذه من العقوبة في الحرابة وهي النفي، وقد اختلف العلماء في النفي على وجهين: الوجه الأول: الحبس، فيدخلون إلى السجن ويحبسون.
الوجه الثاني: أن يشرد بهم فلا يستقرون في مكان إلا بعث في طلبهم من بلد إلى بلد حتى يتوبوا إلى الله عز وجل ويرجعوا قبل أن يقدر عليهم، وهذا الوجه الثاني من أقوى الأوجه، ولا مانع من الأخذ بالوجه الأول في بعض الظروف التي يصعب فيها التشريد، خاصة إذا خشي من تركهم أن يسري فسادهم إلى البلدان والأمصار والقرى التي يشردون إليها.
فالصحيح التشريد، ولكن لا يمنع في بعض الظروف أن يأخذ بسجنهم وحبسهم إذا رأى الإمام ذلك ووجد فيه مصلحة لجماعة المسلمين.
وهذا النفي إذا لم يكن منهم قتل ولا اعتداء على المال أو العرض، فمثلاً: جاءوا وخوفوا السبل؛ لكنهم لم يأخذوا الأموال ولا اعتدوا، كما يقع في بعض الأماكن، حيث تأتي بعض العصابات وتحتكر السبيل، فلا تدع أحداً يمشي أو يمر بهذا السبيل إلا بعد تخويف وتهديد وإرعاب؛ لكنهم لا يعتدون على الأموال ولا على الأنفس، فحينئذٍ يشرد بهم وينفوا من الأرض على ما اختاره المصنف رحمه الله وطائفة من أئمة السلف رحمة الله عليهم، وهو قول ابن عباس في الأثر المشهور عنه.(390/14)
الأسئلة(390/15)
التوفيق بين آية المائدة وحديث العرنيين في تقديم القتل على الصلب
السؤال
جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل الذين قتلوا الراعي، بل قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وهم قد قتلوا الراعي، فلماذا لم يقتلوا في الحال أثابكم الله؟
الجواب
قضية العرنيين فيها كلام طويل للعلماء رحمهم الله، واختلف أئمة التفسير في الجمع بين آية المائدة وبين حديث العرنيين، حتى إن بعض العلماء يرى أن الآية ناسخة لحديث العرنيين، وأن حديث العرنيين جاء على وجه خاص لأن فيه شيئاً من التمثيل، والصحيح أنه لا تعارض بين الآية والحديث، وكلٌ قد خرج من مشكاة واحدة وهو الوحي: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] عليه الصلاة والسلام {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] فأما بالنسبة للعرنيين فحصل منهم أمران: الأمر الأول: الاعتداء على بيت مال المسلمين.
الأمر الثاني: الاعتداء على الراعي نفسه.
وهناك أمر ثالث ورد في بعض الروايات واختاره بعض العلماء أنه حصل منهم موجب الردة، أي: أنهم ارتدوا، حتى أن بعض العلماء لما جاء في سبب نزول الآية ذكر أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان يرى أن الآية نزلت في العرنيين، وأن قضية العرنيين هي سبب نزول آية المائدة، ولكن خالف الجمهور في هذه المسألة، وهناك قول أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب آخر من الأسباب، وهو أن الآية نزلت في قوم ارتدوا، وهو القول الثالث في سبب نزول الآية، وهذا القول الذي قيل فيه: إنها نزلت في قوم ارتدوا، يعني العرنيين، لأنه وقع منهم الردة بناءً على الرواية التي ذكرناها وأشرنا إليها.
وحينئذٍ لا تستطيع أن تعطي مسألة العرنيين مسألة ما نحن فيه؛ لأن العرنيين إن جئت تنظر إلى الاعتداء على المال فهو موجود، والاعتداء على الأشخاص بتسميل عين الراعي، لأنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم بالنار، فكان يؤخذ المرود ويُحمى بالنار ثم يوضع في عينه حتى تسيل، وهذا من أشد ما يكون مثلة، ومن هنا قالوا: هذه العقوبة لا تتأتى مع الأصل الشرعي في النهي عن المثلة، وهذا الذي جعل بعض العلماء لم ينظروا إلى رواية تسميل عين الراعي، وإنما نظروا إلى أصل الحديث؛ لأن بعضهم ينظر إلى أصل الرواية وهي أنهم اعتدوا على المال وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن هنا قالوا: إن هذا تمثيل منهي عنه شرعاً؛ لأنه لا يجوز التمثيل بعين الجاني إلا إذا مثل بعين غيره فإنه حينئذٍ يمثل به {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194].
فالشاهد من هذا أننا ننظر إلى جريمتهم في حق الراعي وجريمتهم في حق المال، وردتهم عن الإسلام، فهذه ثلاث جرائم، والنبي صلى الله عليه وسلم جمع لهم بين عقوبة المال في قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وبين عقوبة المثل في تسميل أعينهم، وبين عقوبة القتل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، وهذا هو القتل البطيء، فهو لم يقتلهم مباشرة لكنه قتلهم قتلاً بطيئاً؛ لأنه إذا حبس الماء عنهم قتلوا، ومنع الماء عن العطشان نوع من القتل، وقد ذكرنا هذا في القتل بالسببية، وجاء في الرواية: (فلقد رأيت أحدهم يكدم بفمه الأرض -من شدة العطش - وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون).
فهذا فيه قتل وفيه قطع، وفيه عقوبة للردة بقتلهم واستباحة دمائهم، وفيه عقوبة للمال بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وفيه عقوبة بالمثل بتسميل أعينهم، فإذا نظرنا إلى أنه لا بد أن يقتلهم مباشرة جاء على هذه كلها، وهو عليه الصلاة والسلام مشرع للأمة، فلما أعطى كل جريمة حقها وحظها كان هذا غاية العدل والقضاء وأتم ما يكون عليه القضاء والحكم، فكل جريمة وقعت منهم وجد لها علاج، ووجد لها عقوبة، وهذا ما نعنيه بالنظرة الشمولية في العقوبة، أي: أن الإنسان حينما ينظر نظرة شاملة للجريمة ويجد عقوبتها مناسبة لكل شيء وقع من الجاني؛ فهذا أبلغ في عقوبة الجاني وأبلغ في ردع الغير عن أن يسلك مسلكه، والنبي صلى الله عليه وسلم له المقام الأعظم والمنزلة الأتم في الحكم بين العباد صلوات ربي وسلامه عليه.
ولما أمسك الرجل بردائه صلوات الله وسلامه عليه، قال له: اعدل يا محمد! قال: (ويحك! ومن يعدل إن لم أعدل؟)، فمن الذي يعدل إذا لم يعدل النبي صلوات ربي وسلامه عليه، فالشاهد من هذا أنه عدل، فأعطى حق الله عز وجل بقتلهم بالردة، وأعطى المخلوق حقه حينما سمل أعينهم، وأعطى بيت مال المسلمين حقه حينما قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
فلا يشكل حديث العرنيين على الآية، إنما يشكل إذا نظرنا إليه من بعض الجوانب وقيل إنه ليس فيه قتل، وقد قلنا: إنهم إذا اعتدوا على المال وقتلوا فإنهم يقتلون، فكيف لا يوجد قتل وقد قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والصحيح أنه قتل بطيء؛ لكن هذا النوع من القتل لا نستخدمه في حكم الحرابة؛ لأنها جاءت نصوص تورد الشبهة، وهي نصوص النهي عن المثلة والتعذيب، ومن هنا لما تعارض عندنا هل هذا سابق للنهي أو متأخر عنه قلنا: الاحتياط أن نأخذ بالنهي؛ لأن آخر الأمرين نهيه عليه الصلاة والسلام عن المثلة، وعلى هذا فلا إشكال ولا تعارض إذا حمل على أول الأمر، والله تعالى أعلم.(390/16)
مشروعية صلاة الجماعة ثانية
السؤال
هل الجماعة الثانية لمن فاتته الصلاة مشروعة؟ وهل فضلها مثل فضل الجماعة الأولى أثابكم الله؟
الجواب
يجوز للمسلم أن يحدث جماعة ثانية بعد انتهاء الجماعة الأولى على أصح قولي العلماء رحمهم الله، والذين منعوا إحداث الجماعة الثانية احتجوا بحديث ابن مسعود في صلاته عليه الصلاة والسلام حينما تأخر عن الصلاة، فصلى الصحابة رضوان الله عليهم، وكان قد تأخر بقباء عليه الصلاة والسلام، فلما أتى المسجد لم يعرج عليهم، ومضى إلى بيته، قالوا: فهذا يدل على أن الجماعة الثانية لا تجوز.
والواقع أنه ينبغي لطالب العلم أن ينظر بين الدليل وبين الدعوى، فهم يقولون: لا تجوز الجماعة الثانية ويمنعون من إحداثها، وعدم الجواز والتحريم لا يؤخذ من الفعل، لأن دلالة الفعل محتملة، ولذلك تجد الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى المسجد ووجدهم قد صلوا ولم يصل في المسجد جماعة يحتمل وجوهاً: منها: أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد الجماعة في المسجد ثانية.
ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام -وهو الأقوى- لم يرد كسر خواطر الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنك لو نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء وأحدث الجماعة الثانية فيكون هذا حرجاً كبيراً لمن أمهم وصلى بهم، وهذا واضح جلي، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، وهذا يجعل الصحابة مرة ثانية يتأخرون أكثر، ويؤخرون الجماعة أكثر؛ لحضوره عليه الصلاة والسلام ورغبة في الصلاة وراءه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
فالشاهد أننا لا نجد في الفعل ما يدل على التحريم، بل غاية ما نقول: إن السنة أن يمضي إلى منزله، لكن في النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس في غيره، ومن هنا لا يقوى هذا الحديث على صرف النصوص الواردة في الصلاة في المسجد عموماً.
وثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بدليل الأولى، حينما قال: (من يتصدق على هذا؟ فقام أبو بكر فصلى معه) أولاً: كون الصحابي يقوم ويصلي في المسجد من أصدق الدلائل على أنه لا يذهب إلى بيته، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى البيت والصحابي صلى في المسجد، فلو كان الذهاب إلى البيت واجباً، لقال له: يا هذا! اقطع صلاتك واذهب إلى بيتك وصل فيه، ولا يجوز أن تصلي في المسجد، ولا يجوز أن يسكت عن تنبيهه عما هو منهي عنه ومحرم شرعاً، وأنتم تقولون: لا يحدث جماعة ثانية.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يتصدق) أسألك بربك! لو وجد شخص لم يصل أيقول عليه الصلاة والسلام: من يتصدق؟ ثالثاً: لو لم يكن الصحابة قد عهدوا وألفوا أن يصلي المتأخر وإن وجد غيره صلى معه هل يأتي ويقوم الرجل ويصلي؟ ولذلك قال: (من يتصدق على هذا؟) كأنه وجده بدون جماعة؛ لأنه ألف أن يكونوا في جماعة، ولكنه تعذر وجود من لم يصل، فقال: (من يتصدق) فالذي صلى يعيد الصلاة مرة ثانية.
رابعاً: يندب إلى إعادة الصلاة مع أنه ينهى عن إعادة الصلاة مرتين.
فكله تحسين للأجر، أليس هذا أصل في تحبيب الشرع وترغيبه أن يكون المصلي الثاني مع جماعة؟ إذا قلت: نعم، نقول: نبه بالأدنى على الأعلى، فإذا صحت الجماعة الثانية بإعادة الصلاة الأولى فلأن تصح بدون إعادة من باب أولى وأحرى، فهذا هو الذي نختاره؛ وهو أن الصحيح جواز إحداث الجماعة الثانية بعد انتهاء الجماعة الأولى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(390/17)
شرح زاد المستقنع - باب حد قطاع الطريق [3]
توبة المحاربين لها شروط وضوابط بينها أهل العلم في مصنفاتهم، وبتوبتهم قبل القدرة عليهم تختلف الأحكام في حقهم، ولكن لتوبتهم شروط مختلف فيها، ويترتب عليها أحكام مختلف في بعضها عند أهل العلم.(391/1)
حد الحرابة على من لم يصب نفساً ولا مالاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فإن لم يصيبوا نفساً ولا مالاً يبلغ نصاب السرقة نفوا، بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى البلد].
تقدم بيان عقوبة النفي، وبينا مذاهب العلماء رحمهم الله فيها، والأصل في النفي التغريب والإبعاد، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حقيقة النفي، فذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بنفي أهل الحرابة أن يطلبهم الإمام فلا يتركهم يأوون إلى بلد، كلما استقروا في مكان طلبهم حتى لا يكون لهم قرار في الأرض، وهذا على ما اختاره المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم أجمعين.
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالنفي الحبس، وأنه يحبسهم الإمام، ثم اختلفوا على وجهين: فمنهم من قال: يحبسهم في بلد غير الموضع الذي كانت فيه الحرابة، فيبعدهم عن بلادهم مسافة القصر كما يختاره المالكية، ومنهم من قال: يحبسهم حيث شاء، وهذا اختيار الحنفية رحمة الله على الجميع.
والأصل أن النفي عقوبة شرعية، جاءت على قسمين في الحدود والجنايات والجرائم: القسم الأول: النفي الذي هو مقدر ومنصوص عليه كحد من الحدود.
والقسم الثاني: النفي الذي يقع عقوبة تعزيرية، فنفي الحرابة من النفي الذي هو حد من حدود الله عز وجل، وإذا تعين فليس للحاكم ولا لأحد أن يسقطه؛ لأنه من العقوبة، وهذا النفي يكون في حد الحرابة واجباً، ويكون أيضاًً في حد الزنا واجباً، والصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أن النفي والتغريب ثابت في حق الزاني البكر ذكراً كان أو أنثى؛ وفي حديث عبادة في الصحيح عنه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام)، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (تغريب عام) أثبت النفي.
ولكن نفي الزنا يختلف عن نفي الحرابة، فإن نفي الزنا جاء فيه التحديد في المدة، وأما نفي الحرابة فلم يأت فيه تحديد بمدة، ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم قال: يقاس حد الحرابة على حد الزنا، فيطلبهم الإمام وينفيهم سنة كاملة، ومن أهل العلم من قال: يطلبهم ويتابعهم ويؤذيهم ويضر بهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله عز وجل؛ لأن النص جاء مطلقاً.
وأقوى القولين أن النفي في حد الحرابة لا حد له، وأنه غير مقدر بسنة ولا يمكن فيه القياس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حد عقوبة الزنا ولم يحد النص الشرعي الوارد في كتاب الله عز وجل حد الحرابة.
وبناءً على ذلك: تبقى هذه العقوبة إلى صلاح المحاربين، فإن تابوا وأصلحوا ورجعوا إلى الله رفعت عنهم العقوبة، وإلا بقي طلب السلطان لهم حتى يتمكن منهم.
ومن أهل العلم من قال: النفي أن يبعدوا إلى ديار الكفر، وهذا قول أنس بن مالك في طائفة من السلف في تفسير الآية الكريمة عنه رضي الله عنه.
والصحيح أنهم لا يغربون إلى بلاد الكفر؛ لأن هذا أعظم وأشد بلاءً، والأشبه فيه أنه يحتمل أن أنساً رضي الله عنه نزع إلى هذا القول؛ لأن هناك قولاً أن المحاربين في الأصل مرتدون، ومن هنا ينفون عن بلاد المسلمين، بمعنى أنهم يبعدون إلى من هو مثلهم من الكفار، وحينئذٍ يستقيم هذا القول مع الأصول، وإلا لا يمكن أن نقول: إن مسلماً ينفى إلى بلاد الكفر؛ لأنه ربما ارتد -والعياذ بالله- عن دينه، أو على الأقل يكون فيه الفساد أكثر.
والذي عليه العمل عند العلماء رحمهم الله أن آية المحاربين نزلت في المسلمين، وأن قضية العرنيين كانت صورة من صور الحرابة لا تقتضي تخصيص الحكم بها، والقاعدة في الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، حتى ولو كانت سبباً لنزول الآية الكريمة.
والحاصل: أن النفي يفوض فيه الأمر إلى السلطان والقاضي والحاكم، فإن رأى أن المصلحة أن يسجنهم بأن قبض عليهم وأخذهم وأمر بسجنهم فله ذلك؛ لأنه مفوض للنظر في مصالح المسلمين، وإن رأى أن المصلحة أن يطلبهم فيزعجهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله عز وجل فله ذلك، ومن هنا تختلف أحوال وصور الحرابة، فيعطى لكل صورة ما يناسبها.
وقد بين المصنف رحمه الله أن النفي عقوبة، وهذه العقوبة هي الثالثة، وقد نص الله عز وجل عليها بقوله في آية الحرابة: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]، وعلى هذا النص قلنا: إن الصحيح أنه لا يتقدر بمدة معينة؛ لأن الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لم يحدا هذا النفي حداً معيناً.(391/2)
توبة المحاربين قبل أن يقدر عليهم
وقوله: [ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه].
(ومن تاب منهم) أي: من المحاربين (قبل أن يقدر عليه): هذا شرط، أنه لا يحكم بالتوبة المؤثرة في إسقاط العقوبة التي هي لله عز وجل في حد الحرابة إلا إذا كانت قبل القدرة على المحاربين، أما لو تمكن منهم المسلمون وقدروا عليهم فيستوي أن يتوبوا أو لا يتوبوا، فيقام عليهم حق الله عز وجل.
ومن أهل العلم من فصل بين حقوق الله عز وجل وحقوق عباده، والصحيح: أنه إذا قدر عليهم وجب تنفيذ حكم الله عز وجل فيهم، إذ لو فتح هذا الباب ما وسع المجرمون إلا أن يفعلوا ما شاءوا ويحاربوا المسلمين، فإذا قدر عليهم قالوا: تبنا، ومن هنا لا تقبل التوبة بعد القدرة بالنسبة للحكم القضائي، وينفعهم التوبة فيما بينهم وبين الله عز وجل، أما فيما بينهم وبين الناس، وحكم القضاء بوجوب الحد عليهم ولزوم تنفيذه على الإمام، فلا ينفع فيه إلا أن يكون قبل القدرة.(391/3)
المعتبر في توبة المحاربين قبل القدرة عليهم
والمراد بما قبل القدرة: أن يرجع هؤلاء قبل أن يتمكن منهم القاضي أو الحاكم.
ومن أهل العلم من قال: إنه يجب أن تكون توبتهم بعلم الإمام، فيرجعون إلى الإمام ويسقط الإمام عنهم ذلك فتصح توبتهم، وهذا أُثر عن أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين علي بن أبي طالب، أنه جعل توبتهم مشروطة بإسقاط الوالي أو القاضي أو الإمام، كما نص عليه واختاره بعض العلماء رحمهم الله.
والجمهور على أن توبتهم لا يشترط فيها أن يرفعوا أمرهم إلى الإمام، وإنما تكون توبتهم فيما بينهم وبين الله وفي ظاهر حالهم، فلو أنهم أسقطوا السلاح، ورجعوا إلى جماعة المسلمين، وظهرت عليهم أمارات الخير والاستقامة؛ فإنه يحكم بتوبتهم، ولا يشترط أن يرفعوا أمرهم، إذا ظهرت منهم التوبة والاستقامة قبل أن يتمكن منهم، وهذا هو الصحيح وهو مذهب الجمهور.
ثم إذا قلنا: إن العبرة في رجوعهم وتوبتهم بصلاح حالهم، فهل تشترط مدة معينة لابد أن تمضي حتى يظهر منهم أنهم صادقون في التوبة؟ وجهان للعلماء رحمهم الله، قال بعض العلماء: لا يسقط الحد عن المحاربين إلا إذا مضت عليهم مدة من الزمان، واختلفوا في تقديرها، هل هي نصف حول؟ أو هي حول؟ قالوا: الحول يضبط حال الإنسان؛ لأن الإنسان يتحول فيه من حال إلى حال، فإذا مضى عليهم سنة كاملة حكم بتوبتهم، ومنهم من يقول حتى يمضي عليهم أكثر السنة وهو ستة أشهر فأكثر.
والصحيح وهو مذهب الجمهور أنه لا يحد ذلك بزمان معين، وأن العبرة بإسقاطهم للسلاح ورجوعهم إلى جماعة المسلمين، وظهور التوبة عليهم ولو للحظة واحدة قبل أن يقدر عليهم.(391/4)
ما يسقط عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم
فإذا تابوا ورجعوا وأعلنوا توبتهم لله عز وجل ورجعوا إلى جماعة المسلمين فإنه يسقط عنهم حق الله عز وجل، ولكن حق العباد من المظالم التي ارتكبوها والأموال التي أخذوها ونحو ذلك من المظالم يطلب فيها القصاص، ويؤخذون بها كما سيبينه المصنف رحمه الله.
إذاً: في حد الحرابة أمران: الأمر الأول: حق الله عز وجل وهو وجوب قتلهم إذا كان محكوماً بقتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذا الحق يسقط إذا تابوا، ولا يتعين قتلهم ما لم يكونوا قد قتلوا أحداً، فإذا قتلوا أحداً عمداً عدواناً وتمت شروط القصاص، دفع بهذا المحارب إلى ولي الدم، ويقال له: أنت بالخيار، إن شئت أخذت حقك، وإن شئت أخذت الدية، وإن شئت عفوت، فيجري عليه ما يجري على القصاص.
فإن قيل: ما الفرق؟ قلنا: الفرق أنهم لو أُخذوا قبل توبتهم فإنه يجب قتلهم؛ لأنهم قتلوا، ويصلبون، ولكن إذا تابوا يُجعل الخيار لولي الدم، فهنا فرق بين الحالتين.
الحالة الأولى: يتعين قتلهم ولو سامح أولياء المقتول.
والحالة الثانية: إذا تابوا ورجعوا وأنابوا إلى الله عز وجل وصلحت أحوالهم نقول لهم: هذا ينفع فيما بينكم وبين الله، أما حقوق العباد فواجب عليكم أن تؤدوها وتردوها، وهذا هو أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور.
وعن بعض السلف وهو قول الإمام مالك رحمه الله أنها تسقط عنهم جميع الحقوق من السرقة والزنا وشرب الخمر وغيرها من الحقوق، ولكن لا يسقط عنهم الدم، فإذا قتلوا أحداً فإنهم يؤخذون بالقصاص، ومذهب مالك رحمه الله من أشد المذاهب الأربعة في الاحتياط للدماء، وهذا معروف عنه، وقد تقدمت الإشارة إلى جملة من المسائل التي كان يحتاط فيها للدماء، ويرى أن دم المقتول لا يذهب هدراً.
ومن هنا قال: كل شيء يسقط عنهم من الحدود وإذا تابوا نفعتهم التوبة، وأما بالنسبة للدماء فإنه لا تنفعهم التوبة في حقوق العباد، أي: لا يسقط عنهم القصاص، وإذا قلنا: لا يسقط عنهم القصاص ولا الحقوق الواجبة عليهم فإنا نطبق شروط كل حد على حِدة، وحينئذٍ في حد الحرابة لا نعتبر المماثلة والمكافأة على التفصيل الذي ذكرناه، ولكن إذا تابوا فإنها تعتبر المماثلة والمكافأة واستيفاء الشروط المعتبرة للحكم بالقصاص.
هذا الفرق بين حالة كونهم تابوا وبين كونهم أُخذوا بحد الحرابة.
وقوله: [سقط عنهم ما كان لله] أي: أنه لا يجب على القاضي أن يقيم عليهم الحد، والمراد به حد القتل وما تقدم من كون الحرابة لا يسقط حدها ولو عفا فيها أولياء الحقوق عن حقوقهم، لأن هذا الحق لله عز وجل.
وقوله: [من نفي] (من) بيانية، والنفي يكون حقاً واجباً في موضعين: في حد الحرابة، وفي حد الزنا، ويرجع فيه إلى نظر ولي الأمر إذا كان نفياً تعزيرياً.
والنفي التعزيري أن يجتهد القاضي فيرى من المصلحة إخراج هذا الشخص من هذا البلد، فينفيه إلى بلد ما، طلباً لاستقامته أو إبعاداً له عن بيئة فاسدة تعينه على الفساد، وهذا صحيح؛ فإن النفي يعين على التوبة وعلى صلاح الحال، وهذا النوع من النفي التعزيري له أدلة صحيحة، منها: قصة التائب الذي قتل مائة نفس، فقال له العالم: (ولكن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون فاذهب إليهم) فأمره أن يترك قريته، وحينئذٍ يكون في الإبعاد عن مدينته وبيئته ما يعينه على الصلاح.
ولذلك ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لعن المخنثين من الرجال، ولعن المترجلات من النساء) كما في حديث ابن عباس في صحيح البخاري، وفي رواية: (ونفى فلاناً وفلاناً) فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم النفي.
ومن هنا إذا وجد شخص فيه فساد وعهر بحيث ينشر الفساد بين الناس فإنه ينفى عن هذا الموضع؛ حتى لا يضر غيره، فما وجدنا طعاماً فاسداً بين طعام صالح يصلحه، وإنما وجدنا أنه يسري فساده إليه.
وأما بالنسبة لنفي الصحابة فقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنفى نصر بن حجاج حينما وقعت به الفتنة في المدينة، ونفى كذلك صبيغاً حينما تكلم في آيات القرآن في المرسلات والعاصفات، وأورد الشبه، فنفاه رضي الله عنه، وهذا يسمى النفي التعزيري.
والنوع الأول نفي العقوبة، وهو نفي الحرابة ونفي الزنا، والفرق بينهما: أنهما يجتمعان في شيء ويفترقان في أشياء، فيجتمعان في كون كل منهما واجباً، فيجب النفي في عقوبة الزنا للبكر على الصحيح من أقوال العلماء، ويشمل الذكور والإناث، ويجب النفي أيضاً في عقوبة الحرابة على ظاهر القرآن من الأمر؛ لأن الله جعله جزاءً محتماً لازماً ينبغي تنفيذه.
ويفترقان في أن نفي الزنا محدد ونفي الحرابة غير محدد، وعند من يقول: نفي الحرابة هو الإبعاد كما يختار المصنف أنهم أن لا يتركوا يأوون إلى بلد، يختلف عن نفي الزنا، فإن نفي الزنا يكون على مسافة القصر، ونفي الحرابة يكون إلى أبعد.
وبين رحمه الله أن التوبة تنفع، وهذا ظاهر القرآن؛ لقوله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34] فبين سبحانه وتعالى أن شرط التوبة عدم القدرة، فإذا كان الأشخاص المحاربون قد تابوا وأصلحوا قبل قدرة السلطان والوالي عليهم سقط حق الله عز وجل في وجوب تنفيذ حد الحرابة عليهم.
وقوله: [من نفي وقطع] (من) بيانية (نفي وقطع) فلا تقطع أيديهم إذا اعتدوا على الأموال، ولكن يجب عليهم ضمان هذه الأموال التي أخذوها وردها إلى أهلها، فلو أنهم اعتدوا على قافلة وأخذوا منها مائة ألف ريال وجاءوا وقالوا: نحن تائبون، وتركنا الحرابة، وسلموا أنفسهم، نقول: نسأل الله أن يتقبل منكم توبتكم، وعليكم أن تضمنوا المال المسروق الذي أخذتموه كاملاً.
وفي قرصنة البحار لو أنهم اعتدوا على سفينة أو مركب فأخذوا منه حلي الناس وجواهرهم فإنه يجب ضمانه كاملاً، ولا تسقط عنهم حقوق المخلوق، ومن هنا فإن الأصول الشرعية تقتضي أن مال المسلم له حرمة، وأن اعتداءهم على المال المحترم شرعاً وهو مال المسلم يوجب عليهم الضمان، وقد تقدم معنا بيان هذه الأصول في حد السرقة، وأن السارق يجب عليه ضمان المسروق.
قوله: [وصلب] أي: أنه لا تقطع أيديهم ولا يصلبون، فمثلاً: لو أنهم قتلوا وتابوا، وكان المقتول مكافئاً للقاتل، فحينئذٍ ننظر في طريقة القتل، فالحرابة لو أن ثلاثة كلهم محاربون، أحدهم أمسك السلاح لكي يمنع الشخص من أن يتحرك فهدده، والثاني ربطه وأوثقه، والثالث ضربه في موضع فقتله، فكلهم يقتلون، ويستوي من باشر ومن كان معيناً على القتل.
لكن بالنسبة لحد القصاص لو اجتمع ثلاثة، فكانت سببية ومباشرة على التفصيل الذي ذكرناه في باب القصاص، وكانت السببية لا تفضي إلى إزهاق الروح، فحينئذٍ يجب القصاص على من باشر، وتسقط السببية على الأصل الذي ذكرناه أن المباشرة تسقط حكم السببية، بشرط أن تكون السببية غير مفضية إلى الزهوق.
إذاً: هناك فرق بين عقوبة الحرابة وبين عقوبتهم أو أخذهم بالحقوق بعد توبتهم، فلو أن أحدهم قطع يد شخص، ففي الحرابة نقتص من هذا القاطع، ونقطع يده على التفصيل الذي تقدم معنا في القصاص في الأطراف، ولو أنه فقأ عيناً فقأنا عينه، ولذلك يؤخذ بجريمته، ويقتص من الفاعل المباشر، ثم المشتركون في الجريمة ننظر إذا كان اشتراكهم يؤدي إلى الحكم بكونهم مجرمين كلهم، فإننا نحكم بوجوب القصاص عليهم جميعاً، وهذا تقدم معنا في القصاص في النفس والأطراف، وأن قتل الجماعة بالواحد هو الصحيح عند العلماء رحمهم الله؛ لأن كل واحد منهم يصدق عليه أنه قاتل، وبينا وجه ذلك وخلاف العلماء فيه ووجه الترجيح لهذا القول.
إذا ثبت هذا فإننا نسقط عنهم الصلب والقطع، فلا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولا يصلبون.
ففي قوله: [والصلب]: لو حكمنا بالقصاص بأن واحداً منهم قتل مكافئاً، فقلنا له: توبتك تنفعك فيما بينك وبين الله، ولكن يجب أن يقتص منك لحق المقتول، واعترف أنه قتله، فقال أولياء المقتول: لا نسامح بل نريد القصاص، فإنه إذا اقتص منه وقتل لا يصلب؛ لأنه قد تاب، والصلب حق لله عز وجل فيما إذا كان قبل التوبة، وهذا على الأصل الذي ذكرناه أن التوبة تسقط هذه العقوبات؛ لأنها حق لله عز وجل.
وقوله: [وتحتم قتل] تقدم أنه إذا ثبت أنهم فعلوا موجب القتل وعفا أولياء المقتول، لم يؤثر في الحرابة وأنهم يقتلون، وقلنا: إن الحق لله عز وجل ولو عفا أولياء المقتول، ولكن لو تابوا قبل أن يقدر عليهم سقط تحتم القتل، ونقول: لكم أن تعفوا، وإذا عفوتم سقط القصاص، إذاً: يكون لهم الخيار في حال التوبة، ولا خيار في وجوب وتحتم القتل إذا لم يتوبوا.
وقوله: [وأخذ بما للآدميين من نفس وطرف ومال إلا أن يعفى له عنها] أي: فلو أنه قتل يقتل.
وقوله: [وأخذ بما للآدميين] هذا يجعلنا نرجع إلى باب القصاص، فإن كانت جناية الذي جنى في النفس نظرنا إلى شروط القصاص في النفس، وإن كانت جنايته على الأطراف نظرنا إلى القصاص في الأطراف، وهكذا بالنسبة لبقية الأحكام.(391/5)
الأسئلة(391/6)
حجب الدعاء بسبب الدين
السؤال
فضيلة الشيخ: هل يحجب الدعاء بسبب الدين، أثابكم الله؟
الجواب
الدين لا يحجب الدعاء، إلا إذا ظلم الناس وأكل أموالهم، فإنه إذا أخذ الدين بنية أنه لا يرده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) فإذا أخذ الدين وفي نيته أنه لا يرده فحينئذٍ يكون قد أشبه المغتصب، وحينئذٍ لا يكون ديناً بل يكون غصباً، ومثل هذا يحجب الدعاء؛ لأنها طعمة حرام؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) وهو الذي يأخذ الديون، ويقول: إن شاء الله أسددك وهو يعلم جازماً أنه لا يسدده، وينوي في قرارة قلبه ويقول: هذا غني شبعان لا يضره إذا أخذت منه ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف، فلو أخذ منه ريالاً واحداًَ بنية أن لا يسدده أتلفه الله -والعياذ بالله- وعلقت نفسه ورهنت بحق الناس، فالواجب الحذر من هذا، وينبغي على الإنسان قدر المستطاع أن لا يقع في الدين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(391/7)
وجه كون الحرابة محاربة لله ورسوله
السؤال
ما وجه كون الحرابة محاربة لله ورسوله، أثابكم الله؟
الجواب
وصف الذين يقومون بموجب الجناية بكونهم محاربين لله ورسوله بسبب الخروج عن جماعة المسلمين وحمل السلاح عليهم، وهذا لا يفعله مسلم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) والسلاح لا يحمله الإنسان إلا إذا كان محارباً، فإذا حمله وأشهره في وجه جماعة المسلمين فإنه لم يشهره في وجه شخص، إنما هو جانٍ على جميع المسلمين بقطعه لطرقهم وإخافته لسبلهم أو جنايته على أموالهم، على التفصيل الذي ذكرناه في الحرابة، وهذا يقتضي أنهم بتشكيل هذه العصابة وخروجهم عن جماعة المسلمين ووقوفهم في وجه مصالح المسلمين محاربين لله ورسوله، إذ هذا لا يفعله إلا العدو مع عدوه، فهذا وجه كونهم محاربين لله ورسوله.
وانظر عظمة هذا الدين في تعظيمه للحرمات، وليس هناك أتم ولا أكمل من شرع الله {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] فإنه هذب مجتمعات المسلمين وقوم أفرادها، وجعل كل إنسان يعرف التصرف الذي يصدر منه، وأنه إذا شهر السلاح في وجه المسلمين فهو ليس من المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) فإذا جاء يحمل السلاح طمعاً في المال أصبحت حرمة المال ومحبته عنده أعظم من حرمة المسلم، ومن هنا يعظم الدنيا أكثر من تعظيمه للدين، وصار مثل الذي يقف في وجه المسلمين.
وفي الحقيقة أنه لا يفعل هذا إلا الكفار والأعداء مع المسلمين، لكن أن يأتي إنسان ينتسب إلى الإسلام ويحمل السلاح على المسلمين ويقطع طرقهم، ويؤذيهم في دمائهم، فيسفك دماءهم، وينتهك أعراضهم، ويخيف سبلهم، ويقطع التجارة عنهم، والتي فيها أقوات الناس ومصالحهم؛ فإذا جاء يحمل السلاح على هذه المصالح كلها، فما معنى هذا؟ هل هذا يوصف بكونه موالاة لله ورسوله؟ هل يوصف بكونه مصلحة للإسلام والمسلمين؟ هذه عداوة للإسلام والمسلمين، ومن هنا وصفها الله بأشنع الأوصاف: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33] صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أنه ينبغي على كل مسلم أن يتحفظ في معاملته لإخوانه المسلمين، وما من أحد يقرأ نصوص الكتاب والسنة إلا ويجد نصوص الشريعة كلها تدل على تعظيم الحرمات، وأن الإسلام ليس بالتشهي ولا بالتمني ولا بالتسمي ولا بالدعاوى العريضة ولا بالأشكال، ولو طالت لحية الإنسان إلى قدميه، ولو قصر ثوبه إلى أعلى جسمه، فلا ينفعه ذلك إذا لم يكن معظماً لحرمات الله عز وجل: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وقد تجد الرجل في شكل الصلاح والخير وهو عند الله في النار؛ لأنه لا يعظم حرمة، فتجده لا يبالي أن يسب عالماً أو طالب علم أو صالحاً، فأين الإسلام؟ الإسلام هو الاستسلام لله.
وقد هذب الإسلام جماعة المسلمين وأفرادهم، وانظر إنكاره على الشذوذ عن جماعة المسلمين حتى في الصلاة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس في الحج فرأى حاجين من الصحابة رضوان الله عليهم في مسجد الخيف منفردين عن الجماعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليَّ بهما، فأتي بهما ترعد فرائصهما من الخوف، قال: ما منعكما أن تصليا في القوم، ألستما بمسلمين؟) فانظر كيف تعظيم أمر الشذوذ والخروج، فقال: (ألستما بمسلمين؟) فالإسلام يهذب الجماعة والأفراد: (قالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا، قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا).
وقال -كما في الصحيح-: (يا أبا ذر كيف بك إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة إلى غير وقتها، قال: فما تأمرني يا رسول الله، قال: صل الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم ولا تقل: إني صليت) كان ممكن للشخص أن يقول: أنا إذا صليتها في وقتها فقد قمت بالحق وأصبت السنة، فلماذا لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر على الأقل أن يقول: أنا قد صليت، حتى يحيي السنة ويبين أن الناس في خطأ؟ والجواب: حتى لا يشق ولا يحدث بين المسلمين خللاً في جماعتهم، ولأن الصلاة لها أول ولها آخر، فانظر كيف يحرص الإسلام على هذه القضية، فالذي يأتي ويشهر السلاح فهو كما قال الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة:33] لأنه يشهر السلاح على جماعة المسلمين، ويقطع سبلهم، حتى ولو كان في المال والتجارة.
ومن هنا تعلم أن دين الإسلام ليس دين العبادة والرهبنة فحسب، نعم هو دين العبادة والطاعة والإنابة، ولكنه دين شمولي يكون مع الإنسان في متجره في بيعه في شرائه، حتى جعل التاجر وهو يسافر يبتغي من فضل الله، ومن هنا يعلم الإنسان أنه يتقرب إلى الله عز وجل حتى ولو كان في ماله ولو في تجارته.
وإذا كان الأمر كذلك فمعناه أن مصالح المسلمين التي أذن الله عز وجل بها لا يجوز لأحد أن يحول بينهم وبين ذلك، {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] أي: يطلبون فضل الله، وقد نص جماهير المفسرين على أن المراد بها أهل التجارة الذين يريدون المال ولكنهم ينفعون المسلمين ولا يضرونهم، ينفعونهم بجلب أرزاقهم وكفايتهم مئونتهم، فإذا جاء من يحمل السلاح على هؤلاء تعطلت سبل المسلمين، فقلت الأرزاق في المدن، وانقطعت عن الناس، وغلت الأسعار، هل هذا فيه مصلحة لجماعة المسلمين؟ صحيح أن القضية مادية، لكن ما هي الآثار؟ البعض قد ينظر إلى الجريمة في عقوبتها من الشرع فيستعظم العقوبة، لكنه لا ينظر إلى حقيقة الجريمة وأثرها، بغض النظر عن آحاد الصور، خذ مثلاً: السرقة، قد يقال: كيف تقطع اليد، وتسيل الدماء، ويحرم الإنسان من الانتفاع من يده؟ لكن لو تصور الإنسان أن المجني على ماله جمع مالاً أفنى فيه وقته، وأعمل فيه جهده في سهر ليل وتعب نهار، حتى إذا جمعه ويريد أن يحصل مصلحة من مصالحه؛ إذا به يفاجأ بشخص يأتيه على غرة في ظلام الليل يأخذ هذا المال ويحرمه من هذا المال، وهو لا يعرف من هذا الشخص، تصور عاقبة هذه الجريمة، أولاً: ما أثرها النفسي؟ فقد يفقد الإنسان عقله؛ لأن الله عز وجل يقول عن المال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} [محمد:37] والله هو رب المال وهو المنعم بالمال، لكن النفوس من الشح وتعلق النفوس بالمال تبخل، فتصور أنه قد يفقد عقله؛ لأن هذا قهر له، حيث ظل يتعب ويكدح، ثم بكل بساطة يأتيه السارق ويختله، هذه واحدة، لكن الذي أعظم منها أن تنظر إلى المسروق الذي أُخذ منه المال يشك في كل من حوله -وهنا بيت القصيد- فلا يثق في أحد، وكل من يدخل داره حتى ولو كان ابنه فهو عنده في محل التهمة.
ولذلك فرقت الشريعة بين من يأخذ المال علانية وبين من يأخذه خفية؛ لأنه يجني على المسلمين جماعة وأفراداً، وهذه كلها أسرار وحكم: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فليس هذا الحكم عبثاً {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] فكل جريمة إذا نظرت إلى آثارها النفسية، وآثارها على الأفراد، وآثارها على الجماعة ثم نظرت إلى عقوبتها وجدت أنها مناسبة تماماً للجريمة، وقد جلست مع بعض المختصين في علم الاجتماع، يقول: إني أتعجب من تقدير الشريعة لبعض العقوبات، فإني حينما أدرس آثارها وتبعاتها النفسية، إذا بالعقوبة مناسبة تماماً للجريمة، لا تستطيع أن تزيد عليها ولا تنقص منها! إنه العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.
فوصف الله قطاع الطرق بأنهم محاربون لله ورسوله؛ لأنهم يقطعون السبل، تصور أنك يوماً من الأيام تريد أن تخرج من مدينة إلى مدينة، فلا تستطيع أن تخرج؛ لأن في الطريق قاطع طريق، كيف يكون أمرك؟ الذي يريد أن يعود مريضاً لا يستطيع أن يعوده، والذي يريد أن يصل رحماً لا يستطيع أن يصل رحمه، والذي يريد أن يجلب تجارة لا يستطيع، فتتعطل بذلك مصالح المسلمين، فإذاً: وصف القرآن بأنها محاربة لله ورسوله ليس فيه مبالغة ولا هو عبث، إنما هو شيء وراءه أسرار وحكم وغايات.
ومن هنا إذا أردت أن تفند شبه أعداء الإسلام فقف معهم في الجريمة نفسها، وحلل آثارها على الأفراد والمجتمعات، تجد أن الخصم يسلم لك، وإلا فإنه يدمغ بحجة الله الدامغة؛ لأنه لا يمكن أن ينظر إلى جريمة مختصة بحال أو بشخص، ومن هنا وصفهم الله بهذا الوصف {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33].
قد يقول شخص كما قال السائل: كيف يوصفون بهذا الوصف العظيم؟ هم لم يقولوا: نحن نحارب الله، ولا قالوا: نحارب رسوله عليه الصلاة والسلام، مثلاً: الشخص إذا جاء وحمل السلاح وخرجت عصابة منظمة للسطو -مثلاً- على السفن في البحر، فقد تجدهم يصلون، ولكن يقولون: نحن نحب المال، وبعضهم يعد هذا شجاعة والعياذ بالله {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر:8] ويؤدي أعمال الإسلام، لكنه يقول: أنا مغرم بالمال، تقول له: أنت محارب لله ورسوله، يقول: لا والله، أنا لم أحارب الله ولا رسوله عليه الصلاة والسلام.
لكن إذا جئت تنظر إلى قاعدة الإسلام العظيمة، وأن الرجل إذا دخل على فراش الرجل ولو كان قاتلاً لابنه لا يقتله؛ لأنه دخل في حرمة بيته، وكانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء، لو جاء الجاني ودخل على فراش الرجل وطعم من طعامه فقد أصبح في حرمته يمنعه ظالماً أو مظلوماً، فإذا كان هذا في المخلوق -ولله المثل الأعلى- فكيف بالخالق سبحانه الذي يقول في الحديث الصحيح: (ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته).
المؤمن له حرمة عند الله عز وجل، فمن يحارب المؤمن فقد حارب الله، ومن والى المؤمن فقد والى الله؛ إذا كانت المحاربة والموالاة مبنية على العقيدة والإيمان، وعلى كونه ولياً من أولياء الله عز وجل، ومن هنا إذا خرجوا عن جماعة الم(391/8)
كيفية التوبة من الغيبة
السؤال
هل تكفي التوبة من الغيبة لمحو الذنب أم لابد من الاستسماح من صاحبها، أثابكم الله؟
الجواب
التوبة من الغيبة تنفع الإنسان فيما بينه وبين الله عز وجل، ولا يسقط حق الشخص المغتاب حتى يسامحه بطيبة نفسه، وإذا لم يسامحه فإنه سيلقى الله بذنبه ويأخذ من حسناته على قدر جرمه، حتى إذا فنيت حسناته أُخذ من سيئات المجني عليه وحملها على ظهره -والعياذ بالله- ثم طرح في النار، فهذا فيه عظة للإنسان أن يتقي الله عز وجل في الغيبة.
ومن أهم ما ينبغي للمسلم أن يحذره أن ينظر إلى سبب ودافع الغيبة، خاصة في هذا الزمان الذي أصبحت الغيبة من أسهل ما يكون، حتى لربما وقع الإنسان في الغيبة وهو لا يشعر، والذي يدفع الناس اليوم، إليها سببان ما اجتمعا في إنسان إلا انتهك حدود الله عز وجل في عباد الله وأولياء الله المؤمنين، ونسأل الله عز وجل أن يعيذنا منهما.
السبب الأول: الاحتقار، ولذلك يجب على المسلم دائماً ألا يمسي ولا يصبح، ولا تغيب عليه شمس يوم ولا تشرق إلا وهو يعرف من هو المسلم؟ وما هي حرمة المسلم عند الله عز وجل؟ وعندها لا يمكن أن يفرق بين الناس بألوانهم أو بأحسابهم أو أنسابهم أو مناصبهم ووظائفهم أبداً، تجده يخاف من غيبة الفقير أكثر من خوفه من غيبة الغني، ويخاف من الضعيف أكثر من خوفه من القوي، وذلك من شدة خوفه من الله سبحانه وتعالى.
فعليك أن تعرف أن هذا المسلم له حرمة وحق عندك، وأن كونك مسلماً يوجب عهداً وذمة للمسلم عندك، والله يقول: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] (الإل): القرابة، و (الذمة) العهد، وأشد ما تكون الغيبة للقرابة، قد يجلس الشخص يقول: أبي يصرف المال الكثير، فهذه غيبة يهوي بها في نار جهنم، وهذه من أسوأ أنواع الغيبة، وهي غيبة الوالدين.
السبب الثاني الذي يوقع في الغيبة: النقد، فقد أولع الناس بالنقد، وحرص الناس على النقد، تجد الشخص يجلس في أي مجلس يريد أن يبدي رأيه فيه، ويشجع الصغير على أن يصبح عنده جرأة، ويعلمه كيف ينتقد، وكيف يقول الصواب والخطأ؟ وما وجدنا كيف نعلم الصغار وننشئ أبناءنا إلا على الغيبة، والعياذ بالله! فالنقد طريق الغيبة، ومن أشنع الطرق أن الإنسان إذا تعود كلما جلس مع أحد أن يراقب أخطاءه، فهذا من المحرومين -والعياذ بالله- وفي الحديث: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس) فالذي تجده دائماً يجلس في المجلس وينتقد، وكما انتقد الناس عندك سينتقدك عند الناس، والذي تجده طويل اللسان صفيق الوجه لا يخاف الله في حرمات المسلمين، فبعض الأحيان تجده يجلس ويتكلم عن الإمام في المسجد ويغتابه، ويتكلم عن الخطيب في المسجد ويغتابه، يبدي رأيه في كل شيء، فهذا على خطر.
ثم هم يقولون: نحن في زمان الحرية، وعليه فكل شخص يتكلم، وهي حرية إلى جهنم وبئس المصير -والعياذ بالله- لأنها حرية على حساب أعراض المسلمين، حرية على التهور واحتقار الناس وعدم المبالاة.
فعلينا أن نهذب أنفسنا ونهذب أخلاقنا بترك احتقار المسلمين، والاحتقار كما يقع في عامة المسلمين يقع حتى بين طلاب العلم، طالب العلم القديم يحتقر طالب العلم الجديد، ويقول: من هذا حتى يأتي هنا، حتى يفعل أو يسأل أو حتى يقترب من الشيخ؟ وفلان أنا لا أحبه لأنه يسأل كثيراً ويفعل كثيراً، وما نريد كذا! فكل شخص يريد أن يقود الناس على طريقة معينة آمن بها ورضيها، لكن لو أن كل إنسان عرف قدر نفسه واشتغل بتهذيب نفسه وتقويمها، وشغلته عيوبه عن الناس لعرف أين يضع لسانه، والله ما من إنسان يراقب نفسه مراقبة تامة كاملة إلا سلم له دينه وعرضه، فتجد الإنسان الذي يعف عن أعراض المسلمين وفيه نظرة إلى عيوبه وخلله يشتغل بها عن عيوب المسلمين؛ تجده من أسلم وأحسن الناس.
النفس إذا هذبها الإنسان وقومها بالخوف من الله والورع والعفة استقامت لله عز وجل، ولذلك تجد الإنسان إذا جلس في مجلس وسمع فيه غيبة يتضايق ويتذمر، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لا يجلس في مجلس يغتاب فيه مسلم، ويقول: أنا لا أسمح بحسناتي أن يأخذها أحد، ويقول: أنا بخيل بحسناتي، أكون كريماً في كل شيء إلا بحسناتي فلا أعطيها لأحد، لأنك إن سمعت النقد في الشيخ، أو في المحاضر، أو المدرس، أو المعلم، أو الملتزمين وغير الملتزمين، أو في فلان وعلان، فاعلم أنك ستنتقد كما انتقد غيرك، وقالوا: من جر إليك عيوب الناس جر عيوبك إلى الناس.
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن ومن هنا قالوا: من اغتاب الناس اغتابوه، ومن سب الناس سبوه، ومن أهان الناس أهانوه.
فعلى الإنسان أن يعلم أن هناك رباً حكماً عدلاً، فينبغي علينا في ترك هذه الآفة، أن يُحرص على الاشتغال بعيوبنا، وأن نترك عيوب الناس، إلا إذا كان المتكلم مصلحاً هادياً يفكر كيف يقود الناس إلى الخير، أما أن تجعل لحوم المسلمين وأعراضهم رخيصة فإن من فعل ذلك سيندم، ولكن الندم في أعراض المسلمين طويل ومؤلم، حينما يجلس يكتوي ليله ونهاره يريد أن يتوب إلى الله عز وجل، فإذا به لا يسقط عنه حق أخيه المسلم ما لم يسامحه، فيأتي إلى أخيه المسلم فيصده الشيطان ويقول له: كيف تجيء تقول له: اغتبتك، فيغلبه الحياء، أو الخجل، أو يغلبه إبليس، أو النفس الأمارة بالسوء، فتأخذه الأنفة والعزة بالإثم، حتى يموت الشخص فيعجز عن طلب السماح منه -والعياذ بالله- وعندها سيقف بين يدي الله عز وجل لكي يقتص منه.
فالحذر كل الحذر، ومن هنا ما من عالم ولا طالب علم ولا خطيب ولا أي إنسان يلتزم بدين الله عز وجل، ويهذب الناس ويقومهم ويقرعهم بقوارع التنزيل في حقوق المسلمين بعضهم على بعض؛ إلا نصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فما دمرت كثير من مصالح المسلمين إلا بسبب الغيبة، وما حرص أعداء الإسلام اليوم على شيء مثل أن يربوا في الأمة قضية النقد، فتجد الشخص ولو كان صغير السن لا يرضى عن أحد، ودائماً يفكر في المثاليات وكأنه يبحث عن شيء كامل.
ومن أراد أن يبحث في الناس عن إنسان كامل فلن يجده، وسيتعب ويطول تعبه ويطلب المستحيل كما ذكر الحكماء والعقلاء، لأن الكمال لله عز وجل، والله يقول: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8].
فإذا عاشرت المسلمين رحمك الله، فكن من خيارهم: إن رأيت خيراً حمدته، وإن رأيت عيباً سترته، وإن رأيت فساداً أصلحته، وإن رأيت اعوجاجاً قومته، وشغلتك عيوبك عن عيوب الناس، تمسي وتصبح وإذا بك تريق دمعة الندم والألم كلما آواك فراشك في الليل تفكر ما الذي قلته في المسلمين؟ وما الذي عملته مع المسلمين؟ وتفكر كيف تسعى إلى الأكمل والأفضل؟ فإذا فعلت ذلك وفقك الله، وفتح لك أبواب الرحمة.
فإن المسلم دائماً يوبخ نفسه ويعاتبها حتى تستقيم على طاعة الله عز وجل، والنفس إذا كثر توبيخ الإنسان لها، ومحاسبة الإنسان لها: ماذا قلتِ؟ ماذا عملتِ؟ غداً لن أعود؛ طال عمره في الخير، وحسن عمله، وصلح لله عز وجل، لكن إذا كان من الغافلين -والعياذ بالله- فإنه خاسر، والأشقى من هذا والأدهى أن يزين له سوء عمله، وأن يقال له: إن غيبة العلماء والكلام فيهم قربة وحسبة، وأن جرحهم وسلبهم وكشف عوراتهم واجب حتى لا يغتر بهم.
وانظر إلى عوقب من فعلوا ذلك، ما الذي شادوا من بناء؟ وما الذي أصلحوا من فساد؟ وما الذي قوموا من اعوجاج؟ والله ما زادوا البناء إلا هدماً، ولا زادوا الأمة إلا شقاءً وفرقة، حتى إن بعضهم حينما تاب يقول: والله ما وجدت إلا قسوة القلب، والتسلط على أعراض المسلمين؛ لأنه إذا تسلط على الصلحاء فمن باب أولى أن يتسلط على غيرهم، فيجب أن يرتدع الإنسان بزواجر التنزيل.
وانظروا كيف أن السائل أصبح في حيرة، لا يستطيع أن يتوب من ذنبه إلا إذا رجع إلى صاحب الحق.
وآخر ما نختم به ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه كبير، أما أحدهما فقد كان يمشي بالنميمة) ومعنى: (وما يعذبان في كبير) أنه ليس كبيراً عليهما تركه ولا هو شاق، وانظر حتى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له جاءت محدودة، وما رفع العذاب عنه، ولكن خفف، فما بالك إذا أصبح الإنسان يغتاب الناس والعلماء، وينفر من مجالسهم، فإذا كانت النميمة بين شخصين في أمور الدنيا هذه عاقبتها، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع في رفع العذاب، إنما قال: (لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا)، فقط، فكيف بمن يتكلم في العلماء!! لابد أن يتأمل الإنسان هذا، وسنقول ذلك ونعذر إلى الله عز وجل، والسعيد من وعظ بغيره، فقد رأينا من العواقب الوخيمة لغيبة الناس أينما كانوا، وبالأخص لأولياء الله وصالحيهم، فإننا وجدنا العواقب الوخيمة لمن يجرؤ على ذلك، ومن يستخف بذلك، والله يستدرج العبد من حيث لا يعلم، ومن حيث لا يحتسب، اللهم لا تجعلنا ممن استدرجته، اللهم لا تجعلنا من المستدرجين، وخذ بنواصينا إلى ما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.(391/9)
الدخول مع الإمام في التشهد الأخير
السؤال
إذا حضرت صلاة الجماعة والإمام في التشهد الأخير، فهل أصلي معه أم أنتظر جماعة أخرى، أثابكم الله؟
الجواب
في قول جماهير العلماء يجب عليك أن تدخل مع الجماعة الأولى، ولا يجوز أن يقف الشخص ينتظر جماعة ثانية، والحديث واضح في هذا وصريح، قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) ومن هنا نلحظ الشذوذ عن الجماعة، وقد كان مشايخنا يقولون في هذا: إن الإنسان إذا أتى ولو قبل السلام بلحظة فليكبر ويدرك فضيلة الجماعة الأولى؛ لأن الجماعة الأولى فضيلتها في الوقت، والجماعة الثانية فضيلتها في العدد والتكثير، ويكتب لك فضيلة الخمسة والعشرين درجة مادمت قد أدركت الإمام قبل سلامه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في مسجده تفضل على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفاً وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة) الحديث، هذا كما في الصحيح من حديث أبي هريرة، فجعل الخمسة والعشرين درجة للخروج.
ومن هنا تدرك فضيلة الجماعة الأولى، وأحد أقوال العلماء أن السبعة والعشرين درجة لمن أدرك الجماعة كاملة، والخمسة والعشرين درجة لمن أدرك الجماعة في آخرها، وأياً ما كان فإنك إذا أدركت الجماعة الأولى أدركت فضيلة الوقت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها -أي: قد يكون بين الجماعة الأولى والجماعة الثانية ربع ساعة- ولما فاته من وقتها خير له من الدنيا وما فيها) أي: يمكن لو فاتك من أول الوقت دقيقة، فهذه الدقيقة في الثواب والجزاء خير من الدنيا كلها من أولها إلى آخرها، فقوله: (ولما فاته من وقتها) إشارة إلى أقل شيء من الوقت، (خير من الدنيا وما فيها) فتحرص على فضيلة أول الوقت في الجماعة الأولى، ولا يجوز لك أن تقف؛ لأن هذا شذوذ عن الجماعة، والواجب عليك أن تدخل مع جماعة المسجد، والله تعالى أعلم.(391/10)
شرح زاد المستقنع - باب أحكام الصيال
قد يهجم على الإنسان من يعتدي عليه في نفسه أو ماله أو عرضه، وقد يكون هذا الهاجم آدمياً أو غير آدمي، وحينئذٍ قد يتمكن الإنسان من دفعه ورده عن حرمته وقد لا يتمكن، وهذا ما يعرف بمسائل الصيال، وقد فصل أهل العلم أحكامها المختلفة بأدلتها، وبينوا طريقة الدفع الشرعية، وما يترتب على ذلك من لزوم الضمان وعدمه.(392/1)
معنى الصيال ومتعلقه وأدلة مشروعية دفع الصائل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف -رحمه الله تعالى -: [ومن صيل على نفسه، أو حرمته، أو ماله: آدمي أو بهيمة، فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به]: هذه الجملة وما بعدها إلى نهاية الباب خصها المصنف رحمه الله بأحكام الصائل، ومناسبة أحكام الصائل للحرابة واضحة ظاهرة؛ لأن المحاربين إذا اعتدوا على الناس صالوا على أنفسهم، وأعراضهم وأموالهم، وقد بيَّن حكم المحارب الذي يصول، فبقي أن يبين لنا حكم من صيل عليه.
فهل يجوز للشخص إذا اعتدى عليه غيره، وأراد قتله، أو أخذ ماله، أو الاعتداء على حرمة من حرماته كعرض ونحو ذلك؛ هل من حقه أن يدفع؟ وهل هذا الدفع واجب عليه؟ وهل الأفضل أن يدفع أم لا إذا لم يكن واجباً؟ وكذا إذا قلنا بمشروعية الدفع فالدفع له مراتب وأحوال، فهل يجوز له أن يدفع بالأقوى مع إمكان الدفع بالأخف؟ كل هذا سيفصله المصنف رحمه الله في أحكام الصائل.(392/2)
المواطن التي يدفع عنها الصائل
يقول رحمه الله: (ومن صيل على نفسه) وفي بعض النسخ: (ومن صال) وهو أوجه.
الصائل: اسم فاعل من صال يصول فهو صائل، إذا وثب على الغير واستطال عليه.
ويطلق الصولان على القوة والاندفاع في الشيء، وهذا الصائل على الغير: تارة يكون آدمياً، وتارة يكون من غير الآدميين، وهنا المصنف -رحمه الله- يقول: (ومن صال) وبين بعد ذلك من هو فقال: (آدمي أو بهيمة) فهذا فيه عموم حيث يشمل كل من يهجم عليك، أو يهجم على الغير.
فإن كان الصائل آدمياً: فإما أن يكون مكلفاً كالمسلم البالغ العاقل يهجم على غيره يريد أن يقتله، أو ينتهك عرضه، أو يأخذ ماله، وإما أن يكون من غير المكلفين، مثل: أن يكون مجنوناً يهجم على الإنسان بالسلاح، ويفاجأ الإنسان به وقد أشهر عليه سلاحه، أو أنه سكران، أو مخدر، وقد يكون صبياً مميزاً، أو غير مميز، وكل هذا يدخل في الصائل، وكذلك قد يكون بهيمة.
ثم هذا الصائل إذا هجم على الغير قد يهجم بحق، وقد يهجم بغير حق، فقد يهجم الإنسان على الغير، ويهدده بالسلاح ومعه حق في هذا التهديد، كأن يكون الذي هُجم عليه مطالباً بحق لله عز وجل أو بجريمة، أو أُمر هذا الشخص أن يأتي بهذا الشخص الذي يصال عليه من أجل معرفة حق من حقوق الله عز وجل عليه، وهذا في حالة ما إذا كان الصائل معه حق، حتى البهيمة في بعض الأحيان تصول على الإنسان بحق، مثلاً: إذا دخل اللص إلى حائط بستان، وفيه كلب للحراسة، فإن هذا الكلب إذا صال على هذا الشخص فإن هذا حق من الحقوق؛ لأن الشرع أذن باتخاذ الكلب لحراسة الزرع ولحراسة الماشية، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أذن بكلب الصيد والحرث والماشية، فإذا هجم الكلب في هذه الحالة فهذا بحق.
وقد يكون بغير حق كما إذا هاج البعير أو الثور، وهجم على الإنسان، وخاف على نفسه، أو خاف على أموال عنده، بأن هجم على دكانه أو متجره، وغلب على ظنه أنه سيتلف أمواله، فكل هذا يدخل في أحكام الصائل، لكن كلام العلماء ينصب على حالة ما إذا كان الصائل بغير حق، وليس المراد إذا كان بحق.
فمن هجم على الغير وعنده حق في هذا الهجوم، وله إذن شرعي، فإنه يخرج من مسألتنا، ولذلك قد يكون الهجوم على الغير من الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الجند والشرط إذا هجموا على قطاع الطريق، أو هجموا على المجرمين، وكان المجرمون لهم سلاح وفتك، فإنهم إذا دافعوا عن أنفسهم أو طلبوا هؤلاء المجرمين يكونون كالمجاهدين في سبيل الله؛ لأنهم يحفظون دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، ويقومون على مصالح المسلمين العامة؛ لأنه طلب بحق، فهذا الهجوم إذا كان له مبرر شرعي فإنه لا يدخل معنا في مسألة الصول.
الصول المراد به هنا أن يكون بغير حق، مثل ما يقع في الحرابة وفي مسائل العصابات إذا هجمت على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وغير ذلك.
يقول رحمه الله: (ومن صال على نفسه) الصول على النفس للقتل، ويثبت هذا بالأمارة، فيكون صائلاً على نفس الإنسان إذا أشهر عليه سلاحاً يقتل غالباً، أو وضع هذا السلاح على مقتل كالرأس وقال له: افعل كذا، أو ادفع لي مالك، أو يهجم على المرأة لانتهاك عرضها، أو يريد من عدو أن يقتله فيسفك دمه.
وقوله: (أو حرمته): الحرمة: كالمرأة مثلاً يصول عليها من أجل أن يزني بها والعياذ بالله.
وقوله: (أو ماله): أي: يصول عليه من أجل أن يأخذه.
فبين رحمه الله محل الصول، والسبب الدافع لهذه الأذية والإضرار، وهو: قتل وإزهاق النفس، والاعتداء على العرض، أو أخذ المال.
وأعلى هذه الأشياء وأعظمها حرمة النفس، ثم يلي ذلك العرض، ثم يلي ذلك المال، ولذلك فإن شدد الشرع في أحكام الصائل في النفس والعرض والمال، ولم يقع خلاف في النفس والعرض، ولكن وقع الخلاف في المال، ولذلك تجد العلماء لما قالوا بوجوب دفع الصائل، لم يختلفوا في دفعه إذا كان لأجل النفس أو العرض، ولكن الخلاف في المال هل يجب أم لا يجب؟ على تفصيل عندهم رحمهم الله.(392/3)
لا يشترط لدفع الصائل أن يكون مكلفاً
وقوله: (آدمي) أي: سواء كان الصائل آدمياً، ويشمل الآدمي المعصوم، لأن الآدمي إما أن يكون مكلفاً، أو يكون غير مكلف، والمكلف: هو البالغ العاقل، وغير المكلف كالصبي، والمجنون، وفي حكمه السكران على الصحيح من أقوال العلماء، وقد تقدمت معنا مسائل السكر وتأثيره، وأن السكران غير مؤاخذ بأقواله وأفعاله على التفصيل الذي بيناه في طلاق السكران.
وكذلك أيضاً: إذا تعاطى المخدرات يكون في حكم المجنون إذا فقد عقله وإدراكه.
والصائل يكون بعقله وإدراكه، مكلفاً مؤاخذاً، وقد يكون غير مكلف كالصبي والمجنون.
وأيضاً إذا كان مكلفاً بالغاً عاقلاً: فقد يكون معصوم الدم مثل المسلم، وقد يكون غير معصوم الدم كالكافر، وهذا عام.
وقوله: [أو بهيمة]: البهيمة أيضاً تشمل البهائم الهائجة أو غير الهائجة، والمراد بذلك إذا كانت بدون حق.(392/4)
أدلة مشروعية دفع الصائل
وقوله: [فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به] أي: للشخص الذي يصال عليه دفع هذا الصائل بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به، ومشروعية دفع الصائل ثبتت بها الأدلة الشرعية، أي: يشرع للمسلم أن يدفع عن نفسه وعرضه وماله.
وأجمع العلماء رحمهم الله على العكس: أي أنه لا يجوز للصائل أن يصول على دماء الناس، ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد).
فحرم الاعتداء على هذه الأمور، وشرع للمسلم أن يدفع، ولذلك قال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وإذا سكت الإنسان عن هذا الصائل، فمعناه أنه يسلم نفسه للهلاك، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] أي: لا تتعاطوا أسباب قتل النفس، فإذا سكت عن هذا الصائل فإنه سيقتله، ولا يجوز للمسلم أن يسكت عن الأسباب المفضية بنفسه إلى الهلاك، بل عليه أن يتعاطى الأسباب المنجية لنفسه من هذا الهلاك؛ ولذلك شرع له أن يدفع الصائل.
كذلك السنة أكدت هذا، ومن هنا قال رجل: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء يريد أخذ مالي، قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني، قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) فأهدر دمه وأسقط حرمته لمكان الاعتداء، فدل على حق دفع الصائل؛ لأنه جعل دم الصائل هدراً.
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد) وهذا يدل على مشروعية دفع الصائل، وأن على المسلم نفسه أمانة أن يتقي الله عز وجل في حفظها بتعاطي أسباب صيانتها عن الهلاك.(392/5)
حكم دفع الصائل
وقوله: (فله الدفع) هذا الدفع فيه تفصيل: هل هو واجب؟ أو غير واجب؟ والعلماء مجمعون: أن من حق الإنسان أن يدافع عن نفسه، وعرضه؛ لثبوت النصوص بهذا، ولكن هل هذا على سبيل الفرض؟ أو على سبيل التخيير، أعني: التوسعة؟ يرى المصنف رحمه الله وهو مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه أن الدفع واجب، وأن الإنسان إذا هُجم عليه من أجل أن يسفك دمه، أو ينتهك عرضه، أو يؤخذ ماله بغير حق؛ أنه يجب عليه أن يدفع، إلا في زمان الفتنة.
والإمام أحمد رحمه الله له مسلك عجيب في التعامل مع النصوص، وهذا المسلك له أصل عند السلف والأئمة والصحابة رضوان الله عليهم، وهو أن يعمل كل نص في مورده، ولذلك استثنى حال الفتنة، وجعل أحاديث الفتن التي ندب فيها النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أن يكون عبد الله المقتول ولا يكون القاتل؛ جعلها محمولة على الفتن التي فيها تأويل، وما يقع بين المسلمين من الفتن، فالإنسان يحفظ نفسه فيها، وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يلزم بيته، قال: (ولو دخل علي في بيتي أأحمل معهم؟ قال: إذن شاركت القوم، قال: فما أفعل.
قال: الزم بيتك، قال: حتى ولو دخل علي في بيتي؟ قال: ولو دخل عليك في بيتك) فهذا كله يدل على أن الفتن مستثناة.
فجعل النصوص العامة في وجوب حفظ الإنسان لنفسه وعرضه وماله على ما هي عليه، وجعل الدفع هنا على سبيل الوجوب؛ لأنها دالة على الوجوب، واستثنى أحوال الفتن.
ومن دقة المصنف رحمه الله أنه جعل لكل دليل دلالته، وجعل العام على عمومه، والخاص على خصوصه، ولم يحكم بالتعارض بينها.
قال رحمه الله: (فله الدفع بما يغلب على ظنه): الشريعة كلفت المسلم بغالب الظن، بمعنى: أنه يجتهد ويقدر، فإذا غلب على ظنه أن الرجل سيقتله، ولا يمكن بحال أن يخرج من هذا القتل، وينجو منه إلا إذا قتله، فحينئذٍ يقتله، وغالب الظن متعبد به شرعاً، ومن تأمل النصوص في العبادات والمعاملات لم يشك أن الشريعة تعبدت بغالب الظن، وعلى ذلك جرت النصوص، وللإمام العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام كلام نفيس في أن الشريعة تبني أحكامها على غالب الظن، وغالب الظن: هو نظر الإنسان.(392/6)
التدرج في دفع الصائل
لما قال المصنف رحمه الله: (بما يغلب على ظنه) فمعناه: أنه لو شك وتردد، فعليه أن يتوقف، ويمتنع من الإقدام على شيء لوجود الشبهة، ولا يستحل دم الصائل إلا إذا غلب على ظنه أنه سيهلك، وغلب على ظنه أنه لا يمكن دفعه إلا بهذا.
فمثلاً: إذا وجه السلاح عليك إنسان، في بعض الأحيان يغلب على ظنك أن السلاح فيه حشو، وتعرف الشخص أنه يحسن استعماله، وتعلم أو يغلب على ظنك أنه سيقدم مثل الفاسق المتهتك الجريء على الفعل، أو سبق له أن فعل ذلك، فحينئذٍ يغلب على ظن الإنسان أنه سيقدم على فعل.
لكن لو كان الشخص ضعيفاً، ولم يغلب على ظن الإنسان أنه سيطلق عليه سلاحاً، وقد يكون من أهل المزاح والعبث، وحينئذٍ يصبح من غلبة الظن أنه لا يقتل، فحينئذ لا يستبيح.
إذاً: لابد أن يغلب على ظنه وجود استباحة النفس والدم، وأنه لا يمكن دفعه إلا بهذه الطريقة.
والدفع مراتب: أقلها وأول ما ينبغي أن يفكر فيه من الدفع: الكلام، فلو هجم شخص على شخص، وأمكن أن يدفعه بالأسهل والأخف، كأن يهدده بالكلام، ويقول له: إن هذا يضرك، ويعظه، ويذكره، ويغلب على ظنه أن الوعظ والتذكير سيؤثر؛ فلا يجوز له أن يضربه فضلاً عن أن يقتله، فضلاً عن أن يعتدي عليه؛ لأنه متى ما أمكن درء المفسدة بما لا ضرر فيه على الطرفين وجب وتعين المصير إلى ذلك، فإذا كان الكلام مؤثراً لم يجز له أن يقدم على الضرب.
كذلك أيضاً إذا كان بإمكانه أن يصرخ، أو يستنجد بعد الله بجيرانه، أو يتصل كما هو موجود في زماننا فيطلب نجدة، أو يتصل بالمعنيين من أجل أن ينقذوه، فهذا لا رخصة له إذا غلب على ظنه أنه سينجو، وأن هذا سينفع، وأن هذا سيحول بينه وبين أذية الغير له في نفسه أو عرضه.
كذلك المرأة إذا اعتدي على عرضها، وأمكنها أن تصرخ وتستغيث، فإنه لا يجوز لها أن تقدم على القتل.
أما إذا كان الكلام لا ينفع، فقد تدرج العلماء إلى مسألة الضرب، والضرب يكون على صورتين: الضرب بالجارح، والضرب بغير الجارح.
الضرب بالجارح: كالطعن بالخنجر، والجرح بالسكين.
والضرب بغير الجارح أيضاً على صورتين: يكون بالسوط وبالعصا، فالأشياء التي يُضرب بها، إذا أمكن دفع ضرره بالضرب نظرنا: فإن أمكن دفعه بالأسهل وهو الضرب بغير الجارح، فحينئذٍ إن ضربه بالجارح ضمن، وإذا كان قد أمكن ضربه بغير الجارح ننظر: فالسوط أخف من العصا، ثم السوط يختلف على مراتب، فالضرب بالسوط من الجلد، ليس كالضرب بأسلاك الكهرباء، ونحو ذلك، فينظر إلى الأخف؛ لأنه لا يجوز الارتقاء إلى الأعلى مع إمكان دفع الضرر بالأخف.
كذلك أيضاً: إذا تعذر دفع ضرره بالضرب، كالمرأة أو الرجل إذا هُجم عليه، فأمسك العصا، وهدد الذي يهدده أنه لو أقدم عليه فسيضربه بالعصا، فلا يجوز أن يمسك السلاح ويثوره عليه، كأن يطعنه بالسكين أو يطلق عليه النار؛ لأنه يمكن دفعه بما هو أخف.
ثم إذا كان جارحاً كالأسلحة الموجودة في زماننا، فالجارح الذي يستعمله الإنسان يفصل فيه: فإن كان قد صال عليه يريد قتله، وعنده سلاح يريد أن يدفع به، فهذا السلاح إذا أمكن أن يضرب الصائل في يده فيعطله عن قتله لم يجز أن يقتله، وإذا قتله ضمنه، ومن هنا: تفصل الشريعة ولا تعطي الإذن باستباحة دم الصائل إلا في حال التعذر، وأن جميع هذه الوسائل لا تنفع، ولا يمكن بحال دفع ضرره إلا بقتله.
فلو أنه وضع السلاح على حرمة الإنسان، وهدده أنه سيقتلها، وغلب على ظنه أن الرجل سيفعل، ولا يمكنه أن يضربه في يده، وغلب على ظنه أنه لو ضربه في يده قد لا يصيبه، فوجه سلاحه إلى رأسه من أجل أن يقتله مباشرة حتى لا يستطيع أن يقتل من تحت يده؛ حل له ذلك، وينذره إن وجد مجال للإنذار.
وكل هذا التفصيل محله ألا يشتبك الطرفان، فإذا اشتبك الطرفان، وكان الحال حال مغالبة، والرجل معه سلاح يقتل، وتصارع معه، وغلب على ظنه أنه إذا لم يقتله أنه سيصل إلى السلاح ويقتله؛ قتله، وارتفعت هذه التفصيلات كما نص عليها طائفة من المحققين من العلماء رحمهم الله.
فالتفصيل إنما يكون إن وسع الوقت، وأمكن تلافي الضرر، وأمكن التفكير في هذه الوسائل، أما لو هجم عليه هجوماً مباشراً، أو باغته وهو في بيته أو حرمته، ودخل عليه فجأة، أو دخل عليه وهو في غرفته، فلم يفاجأ إلا والرجل هاجم عليه، فحينئذٍ لو أخذ السلاح وقتله فله وجه عند طائفة من العلماء فيقولون: إنه يسقط التفصيل، لأنه لا يمكن؛ فهذا داخل عليه بسلاحه، وهو لا يستطيع أن تفكر أنه يقتل أو لا يقتل، ولا يدري هل هو سيبادر بالقتل أو يتأخر؟ فالظاهر أنه إذا دخل بهذه الصورة، فقد سقطت حرمته، وهو الذي أهدر دم نفسه، وحينئذٍ لا يودى وليس له حرمة، ودمه هدر.
هذا كله إذا وقعت المباغتة أو هجم على الإنسان هجوماً مباشراً، ويقع هذا في بعض الجرائم المنظمة، وقد يقع في المدن والصحاري، كل هذا التفصيل يذكره العلماء رحمهم الله متى ما أمكن للشخص أن يمعن النظر ويفكر، أما إذا لم يمكنه وباغته وهجم عليه، وغلب على ظنه أنه لا يمكن دفع هذا الضرر إلا بقتله فإنه يقتله بكل حال.
وقوله: [فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك ولا ضمان عليه].
أي: فإن لم يندفع الصائل أو البهيمة: كأن هاج بعير، والبعير أو الثور إذا هاج فإنه يقتل، فإذا هجم على الإنسان، وأخذ يبطش بالناس، وأنت ترى بعينك أنه قتل هذا وقتل ذاك، أو هجم الشخص هجوماً لا يمكن دفعه إلا بالقتل، كأن يكون الشخص واقفاً في مجموعة من الناس، فهجمت عليهم عصابة، فابتدأت بقتل من أمامها، وغلب على ظنه أنه سيفضي إلى الهلاك، فإنه يقتل بكل حال، وحينئذ لا يمكن الدفع إلا بالقتل، وهذا يوجب الرخصة، سواء كان في الصائل المكلف، أو الصائل غير الكلف على أصح قولي العلماء رحمهم الله.(392/7)
الضمان في دفع الصيال
إذا قُتل الصائل فدمه هدر، ومن أهل العلم من قال: كل من صال لغير حق على ذي حرمة في دمه أو ماله أو عرضه، فإن دمه هدر.
ومن أهل العلم من أخرج المال، وقال: إن القتل لا يكون من أجل المال، وظاهر الحديث قال: (لا تعطه قال: أرأيت إن قاتلني، قال: قاتله.
قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني، قال: أنت شهيد) فظاهره العموم، وهو شامل للجناية، بل إن الشخص يطمع في المال فيقتل من أجله، وعندما يأتي لطلب المال مسلحاً، أو العصابة تهجم على التجار مسلحة، فالغالب أنها ستقتل من أجل المال، وحينئذٍ يجوز قتل من صال من أجل أن يأخذ المال.
وهل يجب على الإنسان إذا هجم على ماله أو صال عليه الغير من أجل أخذ ماله؛ هل يجب عليه أن يدفع؟ أما إذا صال عليه من أجل دمه فإنه يجب في قول طائفة من العلماء رحمهم الله وهو الصحيح، ومن أهل العلم من قال: لا يجب، بل يخير، ويجوز له أن يستسلم، ولا بأس في ذلك ولا حرج، لأن الله ذكر عن قابيل وهابيل أنه قال له: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28] فهذا استسلم ورضي أن يقتل.
ولكن رد هذا بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقد قال الله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] أي: لا تتعاطوا أسباب القتل، ولأن من سكت على الظالم أن يقتله فقد أعانه على الظلم والعدوان، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: أرأيت إن كان مظلوماً أنصره، ولكن كيف أنصره وهو ظالم؟ قال: تحجزه وتمنعه عن الظلم، فذلك نصره) فهذا يدل على أنه يجب عليه أن يدفع، ولا يجوز له أن يستسلم.
إذا أراد الإنسان أن يستسلم، ويرى أن المال أحقر من أن يقتل أخاه، فهذا رخص فيه بعض العلماء، والصحيح أنه إذا أشهر السلاح لقتله من أجل المال، أنه يجوز له أن يقاتله، وظاهر الآية الكريمة في النفس، ولكنها تعارضت مع الآيات والأحاديث الواردة في شرعنا، ولذلك لا يقوى الاحتجاج بها من الوجه الذي ذكرناه.(392/8)
الخلاف في ضمان الصائل غير المكلف
وقوله: [فإن قُتل فهو شهيد]: أي: فإن قتل الذي صيل عليه فهو شهيد، أما إذا قُتل الصائل فدمه هدر، وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل حكمنا بكون الدم هدراً يشمل الصائل عموماً أم فيه تفصيل؟ يقول بعض العلماء: يفرق بين الصائل العاقل والمجنون والصبي، فإذا كان الصائل صبياً أو مجنوناً، فإن من حقه أن يقتله، مثلاً: هاج عليه مجنون ومعه السكين، وجاء يريد أن يطعنه، وغلب على ظنه أنه لا يمكن بحال أن يدفع ضرره إلا إذا قتله، فقتله.
فإذا قتل المجنون فإنه لا يُقتص من الشخص بالإجماع؛ لأن له شبهة، والنبي صلى الله عليه وسلم درء الحد بالشبهات، وله الحق في دفعه، لكن كون هذا الشخص غير مكلف ولا عاقل، هل يوجب الضمان؟ قال بعض العلماء: يجوز له قتل المجنون والصبي، ولكن يجب عليه ضمان دمه، والصحيح أنه لا يضمن دمه، فلا تجب عليه الدية؛ لأن الشرع أذن له أن يدفع، وفي هذه الحالة يستوي أن يكون مجنوناً، ويستوي أن يكون عاقلاً؛ لأنه إذا سقط القصاص بإذن الشرع، سقط ما يترتب على الدم، وحينئذ لا يجب عليه ضمان النفس، ولا يعتبر ملزماً بالدية.
فبين رحمه الله: أنه إذا قتل فلا ضمان عليه، وهذا يشمل الآدمي والبهيمة.
فلو أن بعيراً هاج، وأصبح يبطش بالناس، يكسر أيديهم وأرجلهم، ويعضهم، ولربما يبرك على الشخص فيقتله، وكان عند شخص أطفال، أو هجم عليه وغلب على ظنه أنه لو تركه فسيقتله، فأخذ السلاح فقتله، أو تمكن من عقره فعقره، بأن ضربه في رجله أو يده، وعلم أن هذا يعطله عن الصول على الناس فله ذلك ولا ضمان عليه.
وعلى هذا يصبح الشخص الذي ظُلم وصيل عليه غير مطالب بدم، ولا بضمان دية، ولا بقيمة، لا في الإنسان، ولا في الحيوان.(392/9)
مرتبة الشهادة للمقتول في الدفاع عن نفسه أو ماله أو عرضه
وقوله: [فهو شهيد]: أي: لنص النبي صلى الله عليه وسلم.
وسمي الشهيد شهيداً، قيل: لأن الملائكة تشهده، فإذا قبضت روحه حفته الملائكة، ففي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله: (لما قتل أبوه عبد الله بن حرام يوم أحد، فجعل جابر يكشف عن وجه أبيه ويبكي فيمنعه قومه، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم أخته تبكي، فقال: تبكيه أو لا تبكيه، فما زالت الملائكة تظله حتى صعدت به إلى السماء) فقالوا: سمي شهيداً لأن الملائكة تشهده، أي: تحضره، والشهادة تكون بمعنى: الحضور، كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44] أي: من الحاضرين.
وقيل في تسمية الشهيد أقوال أخرى.
وقوله: (شهيد): الشهادة على مراتب، فأعلاها وأعظمها أجراً وثواباً عند الله سبحانه وتعالى: الشهادة في سبيل الله عز وجل، أن يقتل من أجل إعلاء كلمة الله، بأن يكون القتال جهاداً شرعياً ولم يقصد به الحمية، أو المقاصد الدنيوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (الرجل يقاتل حمية، ويقاتل للذكر، ويقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
أي: من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فيكون هناك غرض شرعي واضح.
فراية الجهاد الشرعية من قتل تحتها فهو في سبيل الله، وإن كانت الراية عمية، فالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل تحت راية عمية فهو إلى نار جهنم) والعياذ بالله، فلا تكن الشهادة شهادة إلا إذا كانت منضبطة بأصول شرعية، وأعلاها أن تكون في الجهاد، ثم بعد ذلك من كان مبطوناً فهو شهيد، ومن كان غريقاً فهو شهيد، والحريق شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد، والنفساء شهيدة، ومن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد.
ثم هذه الشهادة نفسها لها مراتب، أعنى الدفاع عن النفس، ومن قتل دون عرضه أيضاً على مراتب، وكل هذا يختلف باختلاف الشهادة والقتل نفسه، وعلى هذا إذا ثبت أنه يشرع للإنسان أن يقاتل، ولو غلب على ظنه أنه سيقتل فإن هذا نوع من الشهادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا: قال: (أرأيت إن قتلني قال: أنت شهيد) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد) فهذا نص على أنها شهادة في سبيل الله عز وجل، لكن الشهادة إذا أطلقت فهي الشهادة في سبيل الله، فيشترط فيها: أولاً: أن تكون لأجل كلمة الله.
ثانياً: أن تكون في المعركة.
فلو أنه جُرح، ثم سحب من المعركة، فأخذ يتداوى ثم مات، فهذا نوع شهادة، لكنه لا يصل إلى الشهيد الذي مات في المعركة، بل يعامل معاملة الميت: فيغسل، ويكفن؛ ولذلك فإن سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه لما انفجر عليه جرحه الذي أصيب به يوم الأحزاب، داواه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم فاضت روحه ومات، ومع ذلك غُسل وكُفن، وأخذ حكم الميت، لكنها نوع شهادة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (اهتز عرش الرحمن لموت سعد) رضي الله عنه وأرضاه، وذلك من عظيم بلائه في الإسلام.(392/10)
حكم قتل الصائل من أجل المال
وقوله: [ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله].
أي: أنه لا يجب عليه أن يقاتل من أجل المال، وهذه المسألة خلافية، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه يجب عليه أن يدفع حتى عن ماله؛ لأن سكوته يعين الظالم على ظلمه.
والذين قالوا بالوجوب فرقوا بين المال القليل والمال الكثير، وقارنوا بين مفسدة الاعتداء على المال، ومفسدة الإضرار بالصائل.(392/11)
حكم قتل الصائل إذا هجم على منزل
وقوله: [ومن دخل منزل رجل متلصصاً فحكمه كذلك].
أي: من دخل منزل رجل متلصصاً للسرقة، أو دخل دار رجل لهتك العرض والفساد، أو دخل دار رجل للقتل، فكله في حكم الصائل.
ولو دخل من أجل المال فهو في حكم الصائل متلصصاً، واللص إذا دخل فغالباً ما يكون معه السلاح، لكن لا يجوز للشخص إذا دخل أحد يريد أن يسرق من ماله أن يقدم على قتله إلا بالتفصيل الذي ذكرناه.
ومحل قتله إذا كان معه سلاح ويطلب المال، وكان يقصد أن كل من يقف في وجهه ليمنعه من أن يصل إلى المال فإنه سيقتله؛ فهذا يقتل، وأما إذا أمكن دفعه بالأخف دون قتله فقد تقدم تفصيل ذلك.
وقوله: (متلصصاً) هذا ذكره في الآدمي، وقد تدخل البهيمة متلصصة، والبهيمة غير مكلفة، فلو دخلت البهيمة إلى دار الإنسان، كأن جاء بعير إلى التجار وهم يعرضون أطعمتهم، فهجم عليها ليأكلها وهذا يحصل كثيراً، وقد كانت هذه المسألة من المشاكل التي تشغل المحتسبين في الأسواق، حيث يأتي الناس بدوابهم، وبعضهم يعرض الطعام، فما يشعر إلا والبهيمة تهجم على الطعام، وبعض الأحيان تدخل إلى الدكان أو المتجر.
إذاً يحصل من الآدمي ومن غير الآدمي، لكن المكلف تستطيع أن تتكلم معه، وأما البهيمة فلا، ولذلك يشرع دفعها.
وقد كان أهل العلم يذكرون بعض الطرائف في دروسهم: وقد كان معنا طالب في دراسة الابتدائي، وكان من أذكى خلق الله، وكان من بيت علم وفضل، وفيه أدب، ولا أذكر أني رأيت شيئاً يعيبه في دينه أو دنياه، وكنا في السنة الثالثة الابتدائية، وكان صغيراً غير مكلف، لكن كان فيه شيء من الذكاء، فكان يأتي بعد تحضير المدرس، فإذا انتهى التحضير يأتي إلى حارس المدرسة، ويقول له: المدير يريدك، فيذهب الحارس، وقد وضع الطالب حقيبته وراء الباب، فيأخذ الشمطة ويخرج من الباب، وكان يأتي إلى الحارس في فترات حتى لا ينتبه له، وكان الحارس كبير السن، وفيه نوع من البساطة، وفي يوم من الأيام خرج بشمطته، وفعل فعلته، وشاء الله عند خروجه أن يكون أمامه ثور هائج، ومعه شمطة حمراء، والثور قد حبس الناس في الطريق، وفوجئ أن هذا خارج من المدرسة بشمطة حمراء يجري، فما كان منه إلا أن جرى وراءه، يقول: لقد جريت جرياً ما جريته في حياتي، أي: قرابة كيلو، حتى نجاه الله عز وجل، وبعد ذلك حرم أن يخرج من المدرسة.
وهذا شيء طيب! أنه كلما يخرج الشخص من محاضرة أو درس يجد ثوراً هائجاً فهو يعين على طلب العلم.
وتسقط حرمة البهيمة إذا صالت بالاعتداء على النفس أو المال، وهذا شرطه إذا لم يمكن دفعها بالأخف، فلو أمكن دفعها بالصياح عليها أو بالإشارة بالعصا ونحوها دون ضربها، فلا يجوز استباحة الأعلى؛ على التفصيل الذي ذكرناه في المكلفين.(392/12)
الأسئلة(392/13)
طلب الصائل إذا قتل ثم هرب
السؤل: لو قتل الصائل أحداً من أهل المصول عليه، وهرب الصائل، فهل لصاحب الدم أن يلاحقه؟ أم لا ترد مسائل دفع الصائل في هذه الحالة؟
الجواب
إذا هجم الصائل يريد المال أو العرض أو النفس، فإنه إذا صد فهرب لم يجز ضربه ولا عقره ولا قتله؛ لأن الحاجة انتهت بكف شره بانصرافه، وأما إذا قتل وأزهق الروح، فإنه إذا قتله المصول عليه -أخو القتيل- وقصده أن يقتص لأخيه المقتول، فحينئذٍ يكون قد أخذ بحقه، ولكن يعزره السلطان؛ لأن القصاص إنما هو للقضاة والحكام، فيعزره السلطان والقاضي بعد دراسة حاله، ومعرفة السبب الذي دعاه لذلك، وقد لا يعزره، كأن يكون هذا ردعاً للناس، وإذا سمع الناس ذلك خافوا، فحينئذٍ لا يعزره، فينظر القاضي أو الإمام في الأصلح.
أما من حيث الأصل: فإنه إذا لم يفعل شيئاً وهرب، فإنه لا يجوز طلبه ولا عقره بالإضرار، أما طلبه فإنه يشرع أن يطلبه من أجل أن يرفعه ليؤدب ويعزر، حتى لا يفعل مع الناس مثل فعله.
أما لو قتله على أنه صائل، فهذا فيه الضمان على التفصيل الذي ذكره العلماء رحمهم الله في مسألة القتل، أما لو نوى به القصاص، فحينئذٍ يكون قد أخذ بحقه، وسقط القصاص في هذه المسألة.
والله تعالى أعلم.(392/14)
الفرق بين قتل الصائل والقتل بسبب العداوة
السؤال
أشكل علي في مسائل دفع الصائل حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)؟
الجواب
هذا لا علاقة له بالصائل، فقوله: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما) المراد به: أن يحصل بين الشخص والشخص عداوة، فتأخذ الإنسان الحمية والغضب فيرفع السلاح، فيرفع عدوه السلاح ويقتتلان، إما من أجل أن يثبت أنه قوي، أو أنه أشجع من الآخر.
هذه أمور تقع في الخصومات والنزاعات بين الناس، فكل منهما يريد أن يثبت أنه هو الشجاع، وأنه هو الأقوى، فما حصل من الهيشات بين الناس والخصومات والنزاعات ويقصد بها إراقة الدماء على هذا الوجه؛ فالقاتل والمقتول في النار؛ لأن المراد بهذا الحمية والعلو، وكل منهما تأخذه أنفة فيقول: لماذا يقاتلني فلان؟ أنا أقوى منه! وأكثر ضرراً منه! فهذا يحمل السلاح، وهذا يحمل السلاح، فالقاتل والمقتول في النار.
ثم هذا ليس غرضاً شرعياً، أما أن هذا صائل فلا، وليس له علاقة بمسألتنا ألبتة، فهذا شيء، وهذا شيء آخر، فهنا وجد الموجب الشرعي للمصول عليه أن يدفع، ووجد الوصف الشرعي للصائل بالظلم، وأما إذا التقيا بسيفيهما فهي خصومة ونزاع، وقد تكون لأتفه الأسباب، وقد تكون حتى بدون سبب، بأن ينظر إليه، فيقول له: لماذا تنظر إلي؟ فيقول: ومن أنت حتى تقول: لا أنظر؟ فحمل هذا سلاحه، وحمل هذا سلاحه، وقتل كل منهما الآخر، (قال: يا رسول الله! قد علمنا القاتل يذهب إلى النار، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) فلم يكن قتلاً لله، أو لإعلاء كلمة الله، ولا قصاصاً ولا بحق، فأصبح موجباً للدخول في النار؛ لأن من أكبر الكبائر إزهاق النفس، وقتلها بدون حق.
والله تعالى أعلم.(392/15)
حكم التشريك بين الأضحية والعقيقة
السؤال
ما حكم من أشرك نية العقيقة بنية الأضحية في يوم عيد الأضحى؛ لأنه وافق الأسبوع الثاني لولادة الطفل - أي: اليوم الرابع عشر- فكانت الشاتان بنية العقيقة والأضحية؟ وماذا عليه؟
الجواب
لا يجزئ أن يجمع بين نيتين؛ لأن العقيقة مقصودة، والأضحية مقصودة، ولذلك لا يحصل الاندراج، فالأضحية مقصودة لدى الشرع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانهاأخرى) فكل مكلف قادر مطالب أن يذبح ذبيحة خاصة، شعيرة لهذا العيد، وسنة بقصد، بمعنى أنها مقصودة.
وأما العقيقة فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أنها متعلقة بالولد، فقال: (كل مولود مرهون بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه) فهذا يدل على أن الشرع قصد أن يُذبح عن الغلام، وأن يعق عنه، وهذا لا يحصل فيه الاندراج، فلم يصح الجمع بين النيتين.
والله تعالى أعلم.(392/16)
حكم الدخول بالمرأة المعقود عليها قبل إعلان النكاح
السؤال
ما حكم الرجل يباشر المعقود عليها - زوجته- قبل إعلان الدخول بها؟
الجواب
هذه المسألة ينبغي التنبيه عليها، وعلى ولاة أمور النساء ألا يسمحوا للأزواج بالدخول قبل إعلان النكاح؛ لأنه يترتب على هذا مفاسد عظيمة، يأتي الزوج يزور الزوجة بعد العقد وقبل الدخول، فيدخل بها في بيت أهلها، فلو فرض أنه توفي، ولم يعلم أحد أنه دخل بها، ثم فوجئ الناس أن المرأة حامل، فكيف يكون الحال؟ وكذا لو كان رجلاً فاسداً -والعياذ بالله- أو فاسقاً ودخل بها، واستمتع بها، ثم قال: لا أريدها، فإن قيل: لماذا؟ قال: اعترفت لي بالحرام، ثم فوجئوا أنها حامل، وهو فاسق متهتك! فعلى أولياء أمور النساء أن يتقوا الله عز وجل، وقد حصلت مشاكل كثيرة في هذا الأمر، وكذلك ينبغي على الزوج أن يحذر من هذا؛ لأنه في بعض الأحيان قد تكون بعض النساء فاسدات، ونحن لا نتهم النساء، لكن نعرف ذلك من تنبيهات بعض العلماء والمشايخ؛ فإذا كان فيها فساد في عرضها، وقامت واستدرجت الرجل، وأحدثت له نوعاً من المباشرة قبل الدخول لأجل أن لا ينتبه لبكارتها، ثم انسحبت كأنها خائفة، ثم تدرجت معه إلى ذلك حتى تستر ما بها من الفساد، فهذه أمور فيها أضرار على الزوج والزوجة.
وعلى الناس أن يتقوا الله عز وجل، وألا يكون الدخول إلا على الوجه المعروف المشهور، حتى يكون أسلم للإنسان من الفتنة، وأبعد من الريبة، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتقاء ما فيه ريبة، وهذا فيه ريبة، وإن كان الأصل جوازه، لكن جرى عرف الناس على شيء، فليعمل به.
ثم على الزوج أن يكون عنده حياء من الله عز وجل ثم من الناس، كيف يأتي المرأة في أهلها دون علم وإذن من أهلها، هذا أمر ممقوت لا يفعله إلا ضعاف النفوس، فالإنسان الصالح تمنعه ديانته وشيمته ويأنف من أن يأتي الزوجة عند أهلها، نعم هي زوجته ولكن ليس كل شيء مباح يباح، فمثلاً: كشف الرأس مباح، لكن إتيانه على غير الوجه المعروف مسقط للمروءة، وموجب لرد شهادة الإنسان.
وعلينا أن نتقي الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت) فينبغي أن يكون عند الإنسان حياء من الله عز وجل يردعه ثم من الناس.
فالذي يظهر منع هذه الأمور؛ خوفاً من ضياع الحقوق، لكن لو حصل ترتيب، وعلم أهل الزوجة، وحُفظت الحقوق، فإنها زوجته، فلو دخل عليها فليس عليه من شيء، لكن نحن نتكلم عن المفاسد والأضرار التي تنبني على الخفاء.(392/17)
شرح زاد المستقنع - باب قتال أهل البغي [1]
من المعلوم لدينا أننا في زمن الفتن التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يميز هذه الفتن كثرة ظهور أهل البغي، الذين يتكلمون في العلماء والسلف، وقد يؤدي بهم هذا إلى فعل الخوارج، لذا لزم معرفة من هم الذين يحكم أنهم أهل بغي وما هي شروطهم، ومتى كان أول ظهور لهم في أمة الإسلام.(393/1)
قتال أهل البغي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:(393/2)
صور الخروج على الإمام وجماعة المسلمين
فيقول المصنف رحمه الله: [باب: قتال أهل البغي].
تقدم تعريف القتال، أما البغي فأصله الاعتداء، ومجاوزة الحد والعلو والاستطالة، هذه كلها معانٍ ذكرها أئمة اللغة رحمهم الله، يقال: (بغى) إذا طغى وجاوز الحد في أذية الناس وأذية الغير، وبغى على فلان إذا استطال عليه.
وقوله رحمه الله: [باب قتال أهل البغي] البغاة هم الخارجون عن إمام المسلمين وجماعته، ويوصف هذا الباب بباب قتال أهل البغي، أو باب أهل البغي، كما يعبر بذلك بعض العلماء رحمهم الله، وظاهر صنيع المصنف رحمه الله أنه ربط بين باب الحرابة وباب قتال أهل البغي، وحينئذ تكون المناسبة كالآتي: وهو أن الخروج على الإمام وجماعة المسلمين له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون الخروج بدون تأويل سائغ، بمعنى أنه لا يكون هناك شبهة ولا تأويل، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
والصورة الثانية: أن يكون الخروج بتأويل وشبهة.
فأما ما كان بدون تأويل وشبهة فهو خروج المحاربين، وقد بينه رحمه الله وانتهى من أحكامه التي فصلناها فيما مضى.
وأما الخروج بشبهة وتأويل فهو الذي يعتني العلماء رحمهم الله ببيانه في باب قتال أهل البغي، فلما انتهى من بيان حكم الحرابة شرع في بيان قتال أهل البغي، والمناسبة من هذا الوجه واضحة، حيث يجتمع البابان في حكم الخروج، فينفرد الباب الأول بأنه خروج من دون تأويل، والباب الثاني بأنه خروج بتأويل وشبهة.
ومن أهل العلم رحمهم الله من فصل بين البابين، وجعل قتال أهل البغي منفرداً عن باب الحرابة، ولكن يلاحظ أن العلماء رحمهم الله ذكروا باب قتال أهل البغي في كتاب الجنايات، وجعلوه متصلاً بالحدود والجنايات.
والسبب في هذا أن البغاة والخارجين عن جماعة المسلمين قد جنوا جناية شرعية توجب عقوبتهم بالقتل، كما سيأتي إن شاء الله تفصيله؛ وذلك لورود النصوص في الكتاب والسنة بمعاقبتهم بذلك، قطعاً لدابرهم واستئصالاً لشأفتهم، ودفعاً لمفاسدهم وشرورهم عن الإسلام والمسلمين؛ فهذه العقوبة تتصل بباب الجنايات من جهة المؤاخذة على الفعل في كل منهما، ومن هنا يعتني العلماء رحمهم الله بذكر قتال أهل البغي في كتاب الجنايات من هذا الوجه.
فمنهم من يقدمه كما يفعل بعض أئمة الشافعية، ومنهم من يؤخره كما يفعل أئمة الحنابلة رحمة الله على الجميع.
ومما ينبغي التنبيه عليه: أن الخروج على الأئمة من حيث الأصل فيه جانبان: الجانب الأول: التقعيد والتأصيل لمسألة الإمامة وشروط الإمام والإمام العدل، والطائفة المتعلقة به وهم الذي يسمون بأهل العدل.
الجانب الثاني: ما يتعلق بعقوبة الخروج عن هذه الجماعة.
فأما بالنسبة للفقهاء والمحدثين رحمهم الله فقد تناولوا جانب العقوبة وهذا هو المتصل بكتاب الجنايات، وهو محل حديثنا.
وأما الإمامة فهذا من شأن أئمة العقيدة، يبحثونه في مسائل العقيدة تقريراً لمنهج أهل السنة والجماعة رحمهم الله في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وعدم الخروج على الأئمة، وتقعيد ذلك وتأصيله بنصوص الكتاب والسنة.
ومن هنا نجد الفقهاء رحمهم الله يبحثون في هذا الباب عن: متى تكون العقوبة؟ وما هي الشروط التي ينبغي توفرها لمعاقبة أهل البغي؟ وماذا يجب على الإمام أن يصنع؟ وكيف تتم محاورتهم؟ ونحو ذلك من الأمور المتعلقة بمواجهة هذا البلاء، ولكن لا يبحثون في باب الإمامة لاتصاله بالعقيدة أكثر من اتصاله بالفقه.
ومن هنا سيكون الحديث عن موجب وسبب الجناية، ثم بعد ذلك العقوبة المتعلقة بالخروج، وهذا شأنه شأن بقية الجنايات التي ذكرناها في الحدود والقصاص.(393/3)
معالم أهل البغي
يقول رحمه الله: [باب: قتال أهل البغي] سيذكر المصنف رحمه الله ضابط البغي، وهذا يتعلق بالتعريف الاصطلاحي، وسنؤخره إلى أن يذكره رحمة الله عليه.
فالبغاة لهم ضوابط ذكرها العلماء أشبه بالتعريف لأهل البغي من جهة الاصطلاح: وهم القوم الخارجون على الإمام وجماعة المسلمين، ولهم شوكة ومنعة بتأويل وشبهة.
هذه أهم المعالم التي ينبغي توفرها للحكم على من خرج بكونهم بغاة وآخذين حكم أهل البغي.
قوله: [إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ فهم بغاة] ذكر أربعة شروط: الشرط الأول: الخروج على الإمام وجماعة المسلمين.
الشرط الثاني: أن يكونوا قوماً وجماعة ذات عدد على تفصيل عند العلماء رحمهم الله في هذا الموضع.
الشرط الثالث: أن تكون لهم شوكة ومنعة.
الشرط الرابع: أن يكون عندهم تأويل سائغ، أو كما يقول بعض العلماء: عندهم شبهة.
فهذه أربعة شروط لابد من توفرها للحكم بكونهم بغاة.
وهناك من العلماء أو الأئمة -مذهب الشافعية وغيرهم- من ذكر اشتراط أن يبايعوا إماماً لهم، أي: ينفردوا بإمام، وهذا اختلفت فيه أنظار العلماء، فمنهم من اشترط ذلك لمقاتلتهم، ومنهم من قال: إنه ليس بشرط أصلاً، فإن مجرد خروجهم وانعزالهم عن جماعة المسلمين، وكونهم لهم شوكة ومنعة، يكفي للحكم بأنهم أهل بغي، ولا يشترط أن يكون لهم إمام، وهذا أقوى في الحقيقة.(393/4)
تاريخ الإمام علي مع الخوارج
قوله رحمه الله: [إذا خرج قوم]: الخروج معتبر للحكم بكونهم بغاة، والأصل في ذلك أن الخوارج خرجوا على علي رضي الله عنه وجماعة المسلمين، ومن هنا ذكر العلماء رحمهم الله أن حد الحرابة وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، والبغي وقع في زمان علي رضي الله عنه بخروج الخوارج عليه، وإن كان من أهل العلم من يذكر بعض النماذج في حرب الردة تتعلق بطوائف كانوا في حكم أهل البغي، ولذلك يرون أن الخروج أول ما حدث في عهد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
ولكن خروج الخوارج على علي رضي الله عنه، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الطائفة -طائفة الخوارج- بأنها مارقة، وأنها باغية، يقتضي أنهم أول من خرج.
ويعتبر هذا الأمر من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر عن هذه الجماعة قبل خروجها بأكثر من عشرين سنة، أو ما يقارب ربع قرن، ووصفهم بصفات وجدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملة غير ناقصة، واضحة غير ملتبسة، حتى وصف منهم ذا الثدية، وقصة علي في الصحيحين معه واضحة، وأنه وجده بين القتلى، فكبر وحمد الله عز وجل.(393/5)
صفات الخوارج كما جاءت بها الأحاديث
وقد صحت النصوص في وصفهم كما في الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيخرج في آخر الزمان ... ) قوله: (في آخر الزمان) فسره علي رضي الله عنه بالخوارج، وقال بعض العلماء رحمهم الله: إن هذا لا يختص بزمان علي، فإن علياً رضي الله عنه كانت عنده نصوص أخرى غير هذا الحديث.
لكن لا ينبغي لطالب العلم أن يجعل هذه الصفة نصب عينيه، وأن يعلم الزمان الذي هو فيه، قال: (سيخرج في آخر الزمان أقوام حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون بقول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) حداث الأسنان: صغار السن.
سفهاء الأحلام: في عقولهم ونظرهم سفه وخفة.
يقولون بقول خير البرية: أي كلهم يدعي أنه صاحب سنة وأنه صاحب حق وأنه أولى بالكتاب والسنة.
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية: في اللفظ الآخر: (يقرءون القرآن) وفي لفظ آخر: (لا يجاوز الدين حناجرهم) أي: تجده يقول لك: أنا مسلم، أنا مؤمن، أنا على مذهب أهل السنة والجماعة؛ لكن لم يدخل الإيمان في قلبه، ولا يرقب لمؤمن حرمة، ولا يرعى فيه ذمة؛ لأنه لو كان في القلب إيمان، لكان أخوف ما يخاف من حدود الله عز وجل، وأبعد ما يكون من محارم الله؛ لأنه لا يعصم الإنسان -بعد توفيق الله عز وجل- شيء مثل الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فبين عظيم أثر الإيمان في القلوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن إيمانهم في ألسنتهم ولكن لم يستقر في قلوبهم.
واليوم -ما شاء الله- في الإنترنت -ولا نسمي أشخاصاً معينين- تجد الطفل الصغير عمره 17سنة يمسك عالماً من أئمة السلف لكي يرمي به في جهنم وبئس المصير: (حداث الأسنان، سفهاء الأحلام) لأن مثل هذا لو نظر من هذا العالم الذي يكفره أو يبدعه أو يضلله، وماذا وضع الله له من القبول، وما نفع الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم لردعه عقله، لكن لا دين ولا عقل -نسأل الله السلامة والعافية-.
هذه من صفاتهم وهذا أمر بسيط، لكن أعظم من ذلك ما كانوا عليه من الجد والاجتهاد في العبادة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين من حديث علي: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم) فكان الخوارج من أعبد الناس، وهم من أضل خلق الله، إذا جن عليهم الليل فما ترى منهم إلا قائماً، وإذا جاء النهار لا ترى فيهم إلا صائماً، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث علي: (تحقرون) وفي اللفظ الآخر: (ليست قراءتكم مع قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم مع صلاتهم بشيء، ولا صيامكم مع صيامهم بشيء) نسأل الله السلامة.
فلما سفهوا علياً رضي الله عنه، وأعرضوا عن علماء الصحابة، وتركوا الرجوع إلى أهل العلم، وأصبحوا يفهمون الدين بفهمهم وبأهوائهم وآرائهم؛ عندها زلت القدم، وعندها تكون العواقب الوخيمة؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يصل إلى الحق بدون عالم له بصيرة ونور.
فالخوارج وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة، مع أنهم كانوا أعبد الناس، يقول ابن عباس -وهو الصحابي الجليل العابد الذي نام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم-: لما دخلت عليهم هالني ما رأيت، رأيت وجوهاً مقرحة من كثرة السجود، وأيدي قد ذهبت من كثرة الجثية عليها في السجود، والركب تكاد تنمحي.
ويقول أبو حمزة الشاري: في خطبته بقديد حينما أتى إلى مكة، وكان من الشراة وهم من أشد الخوارج، وكان يقال لهم: الشراة؛ لأنهم اشتروا الآخرة كما يزعمون، وقيل: اشتروا الجنة بقتل أنفسهم والجهاد، وقيل: لأنهم شراة من الشري بمعنى البيع؛ لأنه من الأضداد، كأنهم باعوا أنفسهم لله عز وجل؛ وكان الخوارج لا يعرفون الكذب، ويرونه كفراً؛ لأنه من الكبائر وهم يكفرون بالكبائر، فيصف أصحابه هذا الوصف العجيب الغريب، يقول: يا أهل الحجاز أتعيرونني بأصحابي، وتزعمون أنهم شباب؛ شباب مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح، قد نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة طار شوقاً إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنيه، موصول كلالهم بكلالهم، كلال الليل بكلال النهار؛ حتى إذا رأوا السهام قد فوقت، والرماح قد أشرعت، والسيوف قد انتضيت؛ أقبل الشاب منهم قدماً حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجه، فيالله، كم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خشية الله، وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في السجود بين يدي الله.
اهـ.
لقد كانوا أشد الناس عبادة وقرباً إلى الله عز وجل، وأمرهم في ذلك عجب، ومع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) إذاً: لا بد من العلم والبصيرة؛ كما نبه العلماء والأئمة رحمهم الله أن الفتن لا يعصم منها إلا الإيمان بالله عز وجل، والرعاية لحرمات الله سبحانه وتعالى، ورعاية حرمة المسلم وذمته والخوف من الله عز وجل، وتأدية حقوق العباد، ولا يكون ذلك إلا بالعلم والبصيرة.
هذه الثلاث إذا جمعها الله للعبد سلم واستقام له دينه، خاصة في الفتن، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.(393/6)
نقمة الخوارج على علي بن أبي طالب
أول ما ظهرت هذه الطائفة خرجت على علي رضي الله عنه، ونقمت عليه أموراً كفروه بها.
وكان علي رضي الله عنه وأرضاه من السابقين للإسلام، ومن علماء الصحابة وفقهائهم، وهو أحد العشرة السابقين للإسلام، لقد تربى في بيت النبوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو تحت يده، وشهد المشاهد كلها، ومن العشرة المبشرين بالجنة، ومع ذلك يأتي من يقول له: أنت كافر.
فانظروا كيف انطماس البصيرة، وتتبع الأهواء -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك كان أعظم شيء في الإنسان بصيرته، فإذا انطمست البصيرة صار كما أخبر الله: {صُمٌّ بُكْمٌ} [البقرة:18]، {عَمُوا وَصَمُّوا} [المائدة:71] ولذلك لما سئل علي رضي الله عنه عن كفرهم قال: (لا، ولكنهم قوم أصابتهم الفتنة فعموا وصموا)؛ تأتي للشخص تقول له: لماذا تتكلم في هذا العالم الجليل من أئمة السلف ومن دواوين العلم، فلا تجد عنده أذن صاغية، ولا بصيرة واعية، نسأل الله السلامة والعافية.
من يستطيع أن يملك لأحد شيئاً! فإذاً ينبغي لكل إنسان أن يحذر هذه الفتن التي تقصم ظهور الناس، وتأخذ الإنسان أخذ عزيز مقتدر، ومن هنا قال الحكماء والعلماء: إن الفتن فيها حصاد المنافقين، ومن صفاتهم: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19]، فهذه البصيرة تنطمس والعياذ بالله في الفتن، ومن هنا قيل لـ علي: أكفارٌ هم؟ قال: (لا، ولكنهم قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا) أي: أصابهم العمى عن السبيل والصمم عن قبول الحق، نسأل الله السلامة والعافية.
علي رضي الله عنه وأرضاه كان في منزلة عظيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيه لما استخلفه على المدينة: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) أي: في هذه الواقعة تكون كما استخلف موسى أخاه هارون على قومه، وليس المراد به إلغاء خلافة أبي بكر كما يقول بعض أهل البدع، إنما المراد بيان منزلته رضي الله عنه ومكانته.
ومع هذا كله يقال له: إنه كافر، وهنا وقفة لكل طالب علم، ولكل مؤمن يؤمن باليوم الآخر؛ أن أهل الفضل لا ينالون الفضل إلا بالله ثم بهذه الألسنة الحداد، ومن الأمور العجيبة الغريبة أن الله ما زاد أهل الحق إلا قوة مع ضعفهم بين الناس، ولا زادهم إلا عزة في إذلال الناس لهم، ولا زادهم إلا كرامة في امتهان الناس لهم، حتى كان بعض العلماء يقول: أتمنى دائماً أن يخرج من يتكلم فينا؛ لأننا ما وجدنا أحداً يتكلم فينا إلا رفعنا الله، فأصبح يحب أن يستكثر من هذا الشيء، من عظيم ما وجد؛ لأنه ما وجد في السلف الصالح ولا الأنبياء ولا المرسلين إلا من بدع وضلل، وكفر أخرج من الملة، وكأن مفاتيح الجنة بأيدي هؤلاء.
يقال لـ علي رضي الله عنه إنه كافر؟ ألا شاهت الوجوه! يدخل عليه الرجل وهو يصلي في المسجد واقف بين يدي الله، فيتلو قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] قاتله الله، كأنه يقول له: تصلي أو لا تصلي فعملك قد حبط، أعوذ بالله! بكل جرأة وبكل سفه ووقاحة؛ لأن هذا هو سبيل الشيطان.
والذي لا تجد فيه أدباً، ولا رعاية لحقوق الله وحدوده، فاعلم أنه على سبيل الشيطان ولذلك قصد ذلك الخارجي علياً بقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] يخاطب علياً رضي الله عنه وأرضاه وهو الذي سال دمه في سبيل الله عز وجل، وهو الذي فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه، وهو المبشر بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا لنعلم مدى خطورة الهوى على أهله، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من هذه الفتن.
وفي هذا سلوة لكل طالب علم، ولكل داعية، ولكل خطيب، ولكل إمام مسجد حينما يسمع أهل حيه يتكلمون فيه أو ينتقصون، فلا يبالي بهذا، بل يستبشر؛ لأن وجود الصفات التي تبوئ الإنسان مبوأ صدق، قد تكون إن شاء الله من بشائر القبول أو من علامات القبول: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] جعلني الله وإياكم هداة مهتدين، وأعاذنا من فتن المفتونين وإرجاف المرجفين.(393/7)
إرسال ابن عباس لمناظرة الخوارج
إذاً: هم آذوا علياً وكفروه ونقموا عليه أموراً، فأرسل إليهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، وناظرهم ابن عباس رضي الله عنه كما في الرواية الصحيحة فسألهم: ما ينقمون عليه؟ قالوا: حكم الرجال والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57].
وقالوا: إنه لم يسب أهل الجمل في وقعة الجمل، فإن كانوا على حق فلم قاتلهم؟ وإن كانوا على غير حق، فلم يمنع من حق الله فيهم من سبي نسائهم وذراريهم؟ وأما الأمر الثالث قالوا له: إنه محا نفسه عن إمرة المؤمنين، فهو إما أمير المؤمنين أو أمير الكافرين.
قاتلهم الله! هذه ثلاثة أمور جادلهم فيها عبد الله بن عباس رضي الله عنه! ورد عليهم فقال: أما ما قلتم من تحكيم الرجال، فإن الله تعالى يقول: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] أكان هذا كفراً؟! الله عز وجل رضي بتحكيم الرجال، فهل تحكيم الرجال على مذهبكم كفر؟! إذاً كيف يأمر الله عز وجل به.
ورضي بحكم العدلين في جزاء صيد أرنبة فقال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] قال: أكان هذا كفراً؟! فما بقي على قولهم إلا أن يكفروا رب العالمين -ونعوذ بالله-! فأفحمهم بهذا ورد الأولى.
أما الثانية فقال لهم: أنتم تقولون إنه كفر لأنه محا نفسه عن إمرة المؤمنين، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية قال لـ علي: (اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، قال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فأمر بأن تمحى من الكتاب، وامتنع علي من محوها، فمحاها النبي صلى الله عليه وسلم بيده) أكان هذا شكاً في الرسالة؟! إذا كانت محيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يطعن ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بما هو دون ذلك، فإن ذلك لا يستلزم أن الإنسان على ضلال.
وأما الثالثة: وهي قولهم: قاتل ولم يسب، فقال لهم: إن الله تعالى يقول: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] فهذه أمكم بنص القرآن، إن سبيتموها فلن تكون أماً، بل تكون سرية وحينئذ تكفرون، وإن لم تسبوها؛ فهذا ما فعله علي رضي الله عنه.
فألقمهم حجراً.
بعد أن ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه رجع منهم ألفان، وكان ذلك من قوة حجته رضي الله عنه وعلمه بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا وقفة أنه ينبغي على طالب العلم وعلى كل مسلم، أن يعلم أن الفتن تأتي بأمور ملتبسة، قد تسمع الدليل والحجة، وقد تسمع من يتكلم بإيراد الشبه والأدلة، ولكن لا يكشف عوار هذه الأدلة وهذه الحجج إلا أهل البصيرة كما قال الإمام ابن القيم حينما بين أسباب الهدى: نص من كتاب وسنة وطبيب ذاك العالم الرباني إذاً: الكتاب والسنة تحتاج إلى طبيب، وليس كل من يحتج بالكتاب والسنة يقبل احتجاجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عنهم: (يقولون بقول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) فتبين أنه ليس كل من يحتج يقبل احتجاجه، ولا يمكن أن يكشف عوار النقص والهوى إلا أهل العلم والبصيرة، ولا يقبل الاحتجاج إلا ممن عرف منه سداد منهجه واستقامة دينه في فهم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم فهم نصوص الكتاب والسنة على وفق هواه؛ لأن الاحتجاج بالكتاب والسنة لن يصيب أحدٌ فيه الحق إلا بالأمانة، والأمانة أن يكون تقياً نقياً ناصحاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما يستدل به.(393/8)
مقاتلة علي بن أبي طالب للخوارج
عندما خرج الخوارج عن جماعة المسلمين وإمامهم، وكانت لهم شوكة ومنعة، وحدث فيهم أنهم قتلوا وتعرضوا لحرمات المسلمين، فإن علياً رضي الله عنه استحل قتالهم وأمر بقتالهم؛ من ذلك أنهم قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت ابن الصحابي الجليل، وكان قد ولاه علي على النهروان، فجاءوا إلى عبد الله وسألوه عن رأيه في الشيخين، فأثنى خيراً، ثم سألوه عن رأيه في عثمان، فأثنى خيراً، ثم سألوه عن علي رضي الله عنه فأثنى عليه خيراً.
ففي بعض الروايات أنهم قتلوه بعد ثنائه على علي رضي الله عنه؛ لأنهم يرون أنه كافر، وبعض الروايات أنهم قتلوه حينما مروا على خراج ظاهر النهروان، فوجدوا تمرة لمعاهد، فأراد أحدهم أن يأكلها، فقال قائل: هذه تمرة معاهد، أي: كيف تأكل تمر معاهد، والمعاهد له حرمة، فقال: ويحكم! لدمي أعظم عند الله من هذه التمرة، تتورعون عن تمرة ولا تتورعون عن دمي -نسأل الله السلامة والعافية- فغضبوا عليه وقتلوه، وهذه الرواية لـ ابن أبي شيبة في مصنفه.
فالشاهد من هذا أنهم لما قتلوه آذنهم علي رضي الله عنه بحرب، وخرج لهم رضي الله عنه وأرضاه وقاتلهم، وما زال العلماء وأئمة السلف رحمهم الله على إنكار بدعتهم وخروجهم، وهذا أصل هذا الباب، وكثير من أحكام قتال أهل البغي أخذت من السنة الراشدة عن علي رضي الله عنه وأرضاه، في تعامله معهم وحكمه عليهم.(393/9)
الأسئلة(393/10)
كيفية التعامل مع كل ما يزعزع وحدة المسلمين
السؤال
لقد حرص الإسلام على وحدة الصف، وعدم تفرق الجماعة، ولذلك شرع قتال أهل البغي، فكيف يتأتى للمسلم أن يحافظ على جماعة المسلمين، وكيف يتعامل مع كل ما يزعزع ذلك أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالنصوص في الكتاب والسنة واضحة في لزوم جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لإمامهم، وجاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من معجزاته التي تضمنت الخبر والإنشاء، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم عما يكون بين يدي الساعة من فتن الأئمة، ومن حدوث الجور والظلم، وهضم الحقوق، ولكن أمر بالصبر ولزوم جماعة المسلمين وعدم الخروج عليهم، وهذا هو الأصل عند أهل السنة والجماعة.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة) وقال الصحابي كما في أكثر من حديث: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وألا ننازع الأمر أهله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) ولما ذكر صلى الله عليه وسلم أئمة الجور والظلم؛ قالوا: (يا رسول الله! أفلا نناجزهم بالسيوف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) وهذا نص صريح واضح في عدم الخروج.
ومن نظر إلى حال السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين لهم بإحسان، يجد هذا جلياً واضحاً، ولا أظن أن هذا يخفى على أحد من طلبة العلم، ولكن ينبغي على طالب العلم مع هذا كله أن ينصح وأن يبين الحق، سواء كان لمن يخطئ، أو لمن يخرج عن جماعة المسلمين، فيحرص على بيان مذهب أهل السنة والجماعة له وتوضيحه.
والواجب على الناس أن يلتزموا هذا الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وبين أن صلاح الأمة موقوف عليه، ومن نظر في تاريخ الأمة وجد أن كثيراً من الحوادث والمصائب والفتن التي وقعت كانت عواقبها وخيمة، والناس ينبغي عليهم أن يلتزموا هذا الأصل الذي أجمع عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين رحمهم الله أجمعين وألحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين، ولا مغيرين ولا مبدلين.
أما الواجب على المسلم فهو أن يثبت على الحق، وعليه أن يدرك أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، فإذا عرف الحق عمل به ولا عليه من أحد، وعليه أن يثبت وألا يضعف ولا يصيبه الخور، ولا ينتظر أن الناس تجتمع عليه، أو يكثر سواده، فالحق لا يكثر سواده، الحق يستمد قوته من نفسه، وعلينا أن ندرك أن هذا الكتاب المنزل على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كان فيه رجل واحد، كان في كهف مظلم، وأشرقت به دياجير الظُلْمِ والظُلَم من مشارق الأرض إلى مغاربها.
نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء وهو وحده صلوات الله وسلامه عليه، فابتدأ بواحد وانتهى بأمم لا يحصيها إلا الله جل جلاله، فالحق لا ينصره كثرة الناس أو كثرة الأتباع والأشياع؛ لأنه يستمد قوته من ذاته، وكل من قال بالحق فقد صدق، وكل من قال به وحكم به فقد عدل، وكل من لزم سبيله فقد استقام له دينه، وعليه أن يدرك أنه ما دام على هذا الأصل الذي دل عليه نص الكتاب والسنة، وسار عليه السلف الصالح لهذه الأمة، فليس عليه بعد ذلك من شيء، بمعنى أن الفتن التي تقع والإرجاف والتشكيك والتخذيل لا يلتفت إليه، ومن المعروف دائماً أن أهل الحق لا يمكن أن يخلو لهم زمان من فتن ومحن، فإن هذه الأمة ممتحنة.
فعجب والله! خليفة راشد من العشرة المبشرين بالجنة هو عثمان رضي الله عنه يقتل في الشهر الحرام، في البلد الحرام، بجوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، صائماً، وهو ابن ثمانين سنة، على كتاب الله! أمة ممتحنة لكنها والله قوية، ومن ظن أنها ضعيفة فهو الضعيف، ومن ظن أنها مخذولة فهو المخذول، الحق لا يقوى بالناس ولا يقوى بالشعبية ولا يقوى بالكثرة، الحق يستمد قوته من ذاته: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء:18] ما قال بأهل الحق: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18].
فعلى كل طالب علم وعلى كل إنسان إذا علم مذهب أهل السنة والجماعة في لزوم جماعة المسلمين ألا يلتفت إلى إرجاف المرجفين، ولا إلى تثبيط المثبطين، عليه أن يثبت وألا يبالي بأحد، وسيأتي اليوم الذي يرى فيه عاقبة ما ألهمه الله من صواب، وما حرمه من غيره.
كذلك أيضاً على المسلم أن يبذل ما عنده، إذا رأى إنساناً يحتاج إلى النصيحة نصحه، كم من شباب من أبناء المسلمين ينتظرون من يبين لهم الحق والصواب والرشد، فإذا وجد أحداً يحتاج إلى التوجيه وجه ولا يشتغل بأهل الفتن، ولا يضيع وقته معهم؛ لأن مناظرة هؤلاء وكثرة مناظرتهم إذا لم يكن عند الإنسان علم لا يأمن أن يقع في قلبه شيء، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحذرون من أهل الأهواء والجلوس معهم وكثرة مناظرتهم؛ لأنه لا يأمن الإنسان أن يقذف في قلبه شيء.
إذا عرفت الحق فتمسك به، وهذا الذي تعبدك الله به، ولا يمنعك هذا أن تنصح من يستنصح، أو تقيم الحجة على من يجهل، أو تهدي من ضل، وأهم من ذلك كله هو أن تتمسك بالحق، وألا تلتفت إلى من يخذلك أو يثبطك عنه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يثبتنا على ذلك، وأن يلهمنا الرشد.
جماعة المسلمين أمرها عظيم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من فارق الجماعة وترك الطاعة فمات؛ فميتته ميتة جاهلية) فعلى الإنسان أن يسأل جماعة المسلمين وإمامهم، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة في الأئمة والحكام: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) أي: هم يتحملون الأخطاء ويسألون أمام الله عز وجل، ويحاسبون عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن على الإنسان أن يؤدي الحق الذي عليه.
ومن هنا فالواجب على طالب العلم أن يتمسك بمذهب أهل السنة والجماعة، وأن يلزم هذا الأصل، وألا يبالي بمن يشككه أو يوهنه، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.(393/11)
حكم الصلاة على بقية الأنبياء عليهم السلام
السؤال
إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يصلى عليه، فهل الأنبياء المتقدمون كذلك، أثابكم الله؟
الجواب
مذهب العلماء وأئمة السلف رحمهم الله: الصلاة والتسليم على الأنبياء جميعاً، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولذلك يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويصلى على الأنبياء والرسل ويسلم عليهم، كما قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:181 - 182].
فيسلم عليهم ويصلي عليهم، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على الأنبياء كتب له الأجر المضاعف؛ لأن صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم بعشر، وكذلك إذا صلى على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كتب له الأجر الذي جعله الله لمن صلى على الأنبياء، صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، والله تعالى أعلم.(393/12)
حكم إعادة الأذان إذا نسي المؤذن أحد ألفاظه
السؤال
إذا نسي المؤذن قول: (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر، هل يلزمه إعادة الأذان؟
الجواب
يرجع إلى هذا الموضع ويقول: (الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله) بشرط ألا يطول الفاصل، طولاً متفاحشاً، أما لو أنه أذن ونسي (الصلاة خير من النوم)، ثم أطفأ المكرفون ثم تذكر مباشرة، فعليه أن يشغل المكرفون ويرجع ويعيد العبارة.
وهكذا لو أنه أذن وانتهى، ثم مضى أو جلس، وتذكر بعد عشر دقائق أو سبع دقائق؛ فإنه يقوم ويقول القدر الذي نسيه سواء في الشهادتين أو الحيعلة، أو الصلاة خير من النوم، يقولها تامة كاملة، ويستدرك ما فاته، وهذا مذهب البناء، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله.
ولو احتاط بإعادة الأذان فهذا أفضل، لكن المنصوص عليه في مذهب جمهور العلماء رحمهم الله أنه يعيد الجملة التي نسيها ما دام أنه لم يقع الفاصل المؤثر، والله تعالى أعلم.(393/13)
حكم الطلاق قبل الدخول
السؤال
يقول السائل: طلقت زوجتي قبل الدخول، فهل تعتبر هذه الطلقة الأولى أم هي الأخيرة، وماذا علي إذا أردت الرجوع إليها؟
الجواب
إذا طلقت المرأة قبل الدخول فهذه طلقة بائنة، والطلاق ينقسم إلى قسمين: طلاق بائن، وطلاق رجعي.
الطلاق الرجعي: هو الذي يملك فيه الزوج ارتجاع زوجته بدون عقد بل وبدون رضاها، وهو الطلقة الأولى والطلقة الثانية بشرط أن تكون المرأة مدخولاً بها.
فإذا طلقها الطلقة الأولى، أو طلقها الطلقة الثانية، ولم تخرج من عدتها، وكان قد دخل بها؛ فإنه يحق له أن يراجعها ما دامت في العدة، وهذا يسمى الطلاق الرجعي، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228].
وأما الطلاق البائن فينقسم إلى قسمين: البائن بينونة صغرى، والبائن بينونة كبرى.
البائن بينونة صغرى: هو الذي لا يملك الزوج فيه ارتجاع زوجته إلا بعقد جديد، وهو الطلاق قبل الدخول، وطلاق الخلع على الصحيح من أقوال العلماء، لقول النبي عليه الصلاة والسلام في قصة المخالعة: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة)، فإذا عقد على امرأة ولم يدخل بها ثم حصل ما حصل فطلقها، فإنها تبين منه، ولا يجب عليها أن تعتد؛ لأنه ما دخل بها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] هذا طلاق قبل الدخول: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] وهذا يسمى بالطلاق البائن بينونة صغرى.
والبائن بينونة كبرى: هو الذي يطلق الطلقة الثالثة، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
فإذا طلقت قبل الدخول فلا ترجع إليك إلا بعقد جديد وبمهر جديد، وكأنها أجنبية منك.
ولكن إذا وقعت هذه الطلقة فإنها تحتسب طلقة واحدة ولا تحتسب ثلاث طلقات، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، فقد أجمعوا على أن الطلاق قبل الدخول إذا كانت طلقة واحدة لم يطلق قبلها أنه لا يوجب الثلاث، وإنما هي طلقة واحدة تبين بها المرأة، ويجب عليه أن يعقد عليها من جديد إذا أراد أن ينكحها، والله تعالى أعلم.(393/14)
حكم طاعة الوالد في تأخير زواج الولد مع حاجة الولد للزواج
السؤال
إذا كان الشاب في حاجة ماسة إلى الزواج، وقال والده: اصبر بعد سنة أو سنتين، فهل يطيعه أم أنه يقدم على الزواج؟
الجواب
بالنسبة لهذه المسألة فيها جانبان: الجانب الأول: إذا كان يخشى الفتنة، وغلب على ظنه أنه قد يقع في الحرام؛ وجب عليه أن يقنع والده، ولا يجب عليه أن يسمع ويطيع لوالده، وليس هذا بمؤثر في البر إذا غلب على ظنه أنه سيقع في الحرام، ففي هذه الحالة يتزوج، ولكن يحرص على إقناع والده، وعلى رضا والديه؛ حتى يبارك الله له في زواجه.
وإذا أصر الوالد على موقفه، فعليه أن يشرح له بكل تفصيل، وإذا عجز عن إقناع والده؛ فليكلم أعقل الناس في أسرته، وأكثرهم تأثيراً على والده كإمام المسجد -مثلاً- أو يكلم رجلاً صالحاً يأتي إلى والده ويشرح له ظروفه، وأنه يخاف الفتنة، فإذا بذل كل هذا وأصر الوالد على موقفه، فإنه حينئذ يجوز له أن يتزوج.
وأما الجانب الثاني: أن يمكنه الصبر وأن يتحمل، فحينئذ يصبر، وإذا كان والده طلب منه الصبر، فلعل في تأخير الزواج خيراً له من الله عز وجل، فيرضى برأي والده ووالدته، فيصبر ويتصبر.
وهنا تنبيه: بالنسبة للزواج هو سنة، ولكن لو أن كل طالب علم يأتي ويقول لوالده: أخاف الفتن، فإن الوالدين لهما هدف بتأخير الزواج، خاصة وأن الوالدين هما اللذان سيتحملان مسئولية الزواج، ففي بعض الأحيان قد تقع ظروف مالية فيخشى الإحراج فيها ويخشى أن يتحمل الدين، فإذا أمكن الابن أن يرفق بوالديه، وأن يتقبل من والديه تصبيره فليصبر، وهذه الفتن التي يخاف منها ما تأتي إلا لمن يشتغل بها.
طالب العلم أو الإنسان في دراسته، إذا أقبل على العلم واشتغل بالعلم وأعطى العلم كليته بارك الله له، وصرف الله همته حتى يأتي الوقت المناسب لزواجه ما دام أن والديه يريدان منه أن يؤخر الزواج، فحينئذ ينال العلم، وينال رضا والديه.
وأما أن يقول دائماً: أنا في فتن، أنا في فتن ويكبر الأمر، فمن كبر الفتنة كبرت عليه، وعلى طالب العلم أن يشتغل بما يفيده قدر المستطاع، وطالب العلم إذا حرص على أن يكون في نهاره مراجعاً للعلم مذاكراً له، وفي ليله أن يكون له قسط من قيام الليل، ويستعين بعد الله بالصيام؛ كصيام الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر؛ فلن تبقى أمامه فتنة، وهذه الأمور إذا أعرض عنها تعرض عنه، ولكن إذا ذهب يشتغل بها ثم يقول: عندي فتن عندي فتن، أنا لا أستطيع أن أصلي، وقد يكون في المسجد الحرام! أخي اذهب وغض بصرك، واشتغل بما يفيدك، جرب واخرج من بيتك وأنت تتلو القرآن واشتغل بمعاني القرآن، وانظر هل تجد فتنة أو لا، إذا كان هذا الطريق فيه فتن فهناك طريق آخر ليس فيه فتن.
والإشكال أن البعض يضخم هذا الأمر ويحاول أن يدخل أو يقحم على نفسه الفتنة، فمن المجرب أن من اشتغل بما ينفعه وبما يفيده وانصرفت كليته لله، لا يجد ألم ولا ضرر هذه الفتن، وهل تجد نفساً زاكية راضية مطمئنة لكلام الله وكلام رسوله مشتغلة بذكر الله عز وجل تصيبها فتنة، حتى لو أصابته فتنة فعليه أن يستغفر فيحفظه الله عز وجل، وأن يستعيذ فيعيذه الله عز وجل.
فعلى طالب العلم أن يكون كما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم، ولا يعني هذا التقليل من أمر الزواج أو صرف الناس عن الزواج، فالزواج خير وبركة وسنة، ولا يلتفت لمن تركه ولو كان من أعلم الناس، وعليه أن يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال الإمام مالك: ليس كل الناس يستطيع أن يبدي عذره، فالإنسان يبحث عن السنة ويبحث عن العفة ويبحث عما يصونه، ويحصن فرجه، ولكن لا يبالغ في قضية الفتن، فالفتن حصاد لمن اشتغل بها، ومن قرب منها.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يصرفنا عنها وأن يسلمنا منها ومن أهلها، والله تعالى أعلم.(393/15)
نصيحة في كيفية استغلال العطل والإجازات
السؤال
كيف يستغل المسلم على وجه العموم، وطالب العلم على وجه الخصوص وقته في العطل والإجازات؟
الجواب
أفضل ما تستغل به العطل طاعة الله عز وجل، وبالاختصار يكون له ورد من طاعة الله عز وجل يتبع فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
بمعنى أنه إذا جاءت العطلة فليحرص الإنسان على عدم ترك أذكار الصباح والمساء؛ لأنه ما عنده شغل، فيحرص على ذكر الله عز وجل في صباحه ومسائه بجميع ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرص على صيام الإثنين والخميس، ويحرص على صيام الأيام البيض، والثلاثة الأيام من كل شهر.
يحرص بعد هذا على كثرة تلاوة القرآن، وعلى أداء الفرائض في أفضل أحواله، بمعنى أنه أيام الشغل تفوته الركعة والركعتان، ولربما تفوته الصلاة -نسأل الله السلامة والعافية- لكن عيب عليه في العطلة أن تفوته الصلاة، فمن الناس من لا يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد، ومنهم من يحرص على الصلوات الخمس في الصفوف الأول.
وقد يقال: ما فائدة الحرص على الطاعة أثناء الفراغ؟ ونقول: الفائدة أنك إذا فعلت الطاعة أثناء الفراغ ثم شغلت؛ كتب لك الأجر كاملاً؛ أي أنك إذا كنت أثناء العطلة، تري الله من نفسك قيام الليل وصيام النهار والحرص على الطاعات على أكمل وجوهها، فأنت تعلم أن الصف الأول أفضل، وأن تكبيرة الإحرام أفضل، وأن الخشوع عند قراءة القرآن أكمل وأعظم أجراً، والآن أنت في فراغ، فأثناء عملك ودراستك قد تقول: عندي شغل، وإن كان والله لا ينبغي أن يشغل عبد عن طاعة الله، ولا ينبغي أن يحجب المرء عن ذكر الله عز وجل، وألا تشغله الدنيا عن الآخرة لكن نقول لك: في أثناء فراغك إذا حرصت على هذه الأعمال الصالحة، ثم جاءك شغل عنها؛ كتب لك الأجر كاملاً.
ولذلك يجلس طالب العلم أو المشغول طيلة شغله وهو يتألم ويتأوه، حينما تفوته الركعة من الصلاة، بل يتأوه ويتألم إذا فاتته تكبيرة الإحرام، فإذا بالله يبلغه الأجر كاملاً.
ولو أن الشاب في عُطَلِه حرص على إتمام الطاعة، ثم لا قدر الله صار له حادث، فأصابه شلل؛ كتب له الأجر مدة عمره كله، من كان في صحته على طاعة واستقامة ثم مرض؛ كتب له الأجر كاملا، ً ومن كان في شبابه على استقامة وطاعة ومداومة على الخير، ثم هرم وكبر؛ كتب له الأجر كاملاً: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:5 - 6] قال بعض أئمة العلم: هو الرجل يشيب ويكبر وقد كان في شبابه حريصاً على طاعة الله، ومعنى (غَيْرُ مَمْنُونٍ): غير مقطوع، فيكتب له أجر شبابه كاملاً؛ لأن الله علم منه لما جاءته القوة والصحة أنه ما فرط، ما ذهب يعبث بها في الفساد، إنما ذهب يستغلها في طاعة الله ومحبة الله.
فالأصل العام أنه يجب أن يكون الإنسان كاملاً أو قريباً من الكمال في الاستقامة والطاعة والخير والذكر، والبر، ومحبة الله سبحانه وتعالى.
وأيضاً أن يحذر من إضاعة العطل في معاصي الله عز وجل، فكما أننا ننبه على هذا الجانب من الخير ننبه على ضده من الشر، كالسفر إلى الخارج، وأعظم من ذلك أخذ الأبناء والبنات وتعويدهم على السفر إلى بلاد فيها فساد، وتعويدهم على التكشف والعري، هذا أمره خطير وشأنه عظيم، ولذلك يحمل فيه الوالد المسئولية أمام الله عز وجل، فكل خائنة عين وكل زلة قدم، وكل طيش يكتب عليه وزر ذلك: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13].
إذا ضيعوا حق الذرية في النصيحة.
فحرام على الرجل أن يجر ذريته إلى الهلاك، وأن يجر عرضه وأهله إلى الفساد والدمار، فعليه أن يتقي الله عز وجل، ولذلك لا تجد العواقب الحميدة لمن أضاع وقته وفراغه في غير مرضاة الله عز وجل، وليأتين يوم يبكي فيه على هذا، حتى إن بعضهم عود أبناءه السفر في العطلة إلى الخارج، فلما كبر وشاخ أصبحوا يتركونه في البيت وحده، ثم يسافرون ولا يبالون به: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] هذه ثمرة غرسه ونتاج فعله.
فإذاً: ينبغي على الإنسان أن يحرص على المحافظة على أوقات العطلة في طاعة الله عز وجل والبعد عن محارم الله عز وجل.
ومن الأمور التي يوصى بها عموماً أيضاً: أن يبارك هذه العطلة بالعمل الصالح، السفر لزيارة الوالدين، السفر إلى الأعمام والعمات والأخوال والخالات والقرابات، تجلس بينهم وتسلم عليهم، وتصل رحمك، تسأل عن أحوالهم، حتى إذا وجدت ابن عم لك مديوناً؛ تسدد دينه، أو محتاجاً تسد حاجته، أو ذا فاقه تعينه وتواسيه، ونحو ذلك من الأمور الطيبة الصالحة التي تعود عليك بالخير في دينك ودنياك وآخرتك.
كذلك أشغل العطلة بالسفر إلى العمرة، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يستحب للإنسان أن يعمر وقته وعمره بها.
أما بالنسبة لطلاب العلم -باختصار- فليس هناك أفضل من مراجعة العلم ومذاكرته، يحاول طالب العلم أن يضع له جدولاً يراجع فيه هذا العلم، ويضبطه قدر المستطاع ليكون حافظاً للعلم.
الأمر الثاني: أن يحرص على أن يشوب هذا العلم بشيء من العبادة، فطالب العلم أثناء السنة قد يكون مضغوطاً، لكن إذا جاءت العطلة فيحرص على أن يختم القرآن كل ثلاث ليال، يقرأ القرآن ويجعل له ورداً في أول النهار، أو في آخر النهار أو في وسط النهار، ويجعل له ورداً في الليل، ولأنه لا يستطيع أن يقوم في السحر في غير العطل، فيعزم وينفذ ذلك في العطل، فيقوم السحر ويحاول أن يستكثر من الخير، وأن يعود نفسه على بكاء واستغفار الأسحار، وتلاوة القرآن في جوف الليل، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة، فإذا وفق الله طالب العلم للعلم والعبادة بورك له في عطلته، ولا نستطيع أن نضع للناس منهجاً معيناً؛ لأن الناس تختلف، والقرآن والسنة فيهما الأمر بالقواعد العامة، ولم يفصل فيهما؛ لأن الناس تختلف أحوالهم وتختلف ظروفهم.
وعلى طالب العلم أن يبحث عن شيء يصل به إلى هدف ضبط العلم، وأن يستشعر أنه مؤتمن على دين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى علمه، فعليه أن يري الله من نفسه خيراً، فيراجع حفظ القرآن، ويحاول كل ثلاث ليال أن يختم، ويحاول أن يقرأ قراءة المتدبر المتأمل؛ لأنه خلال السنة لا يجد وقتاً لتدبر القرآن، فيقتطع وقتاً من يومه أو من أسبوعه لمراجعة القرآن، وإذا راجعه يراجعه ببكاء وحزن ورقة، ويقف مع القرآن، ويأخذ شيئاً من تفسير القرآن أثناء العطلة، ويضع له برنامجاً يقرأ فيه شيئاً من التفسير ليستفيد منه لنفسه، ويفيد به غيره، ويأخذ شيئاً من السنة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، المهم أن يعمر الوقت بما يتجانس مع العلم؛ لأن هذا يقويه في العلم.
وآخر شيء أوصي به طالب العلم: أن يبذل ما عنده، فإذا سافر إلى قريته وإلى جماعته واحتاجوا أن يعلمهم علمهم، إذا احتاجوا إلى نصيحة نصحهم، وإذا احتاجوا إلى توجيه وجههم، ويحرص على أن يكون على أكمل حال في هذا كله، نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا.
اللهم اجعل خير أعمارنا خواتمها، وخير أعمالنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين، يا سميع الدعاء! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(393/16)
شرح زاد المستقنع - باب قتال أهل البغي [2]
إن الناظر بنظرة فاحصة في أسباب الخروج على جماعة المسلمين وإمامهم يجد أن أعظم أسباب ذلك الخروج مرده إلى الهوى ومجانبة الكتاب والسنة، الأمر الذي يؤدي إلى احتقار المخالف، فيظهر ذلك أولاً بالشتم والنقد ثم بالخروج بالسلاح.
وقد ذكر الفقهاء الأحكام المتعلقة بذلك، واستنبطوها، وبينوا الأحوال المختلفة لهؤلاء الخارجين، وكيف يتعامل الإمام مع كل حالة.(394/1)
الخروج عن جماعة المسلمين فتنة عظيمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف -رحمه الله تعالى-: [إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ فهم بغاة].
فقد ذكر المصنف رحمه الله في هذه الجملة الضوابط التي يمكن أن يتوصل من خلالها إلى معرفة البغاة، وقد اختلفت تعاريف العلماء رحمهم الله، ولكن هذه الصفات التي ذكرها هي من أجمع الصفات في معرفة أهل البغي، وقد قسم(394/2)
صفات الطائفة الباغية
العلماء رحمهم الله الطوائف في هذا الباب إلى طائفتين: طائفة عادلة، وطائفة باغية.
فأهل البغي ذكرهم المصنف أربعة صفات، هذه الصفات الأربع لا بد من توفرها للحكم بكونهم بغاة: الصفة الأولى: أن يخرجوا عن جماعة المسلمين وإمامهم، فيكون فيهم خروج على جماعة المسلمين وإمامهم.
الصفة الثانية: أن يكونوا جماعة.
الصفة الثالثة: أن تكون لهذه الجماعة شوكة ومنعة وقوة.
الصفة الرابعة: أن يكون لهم تأويل سائغ.
هذه الأربع الصفات لا بد من توفرها.
يقول رحمه الله: (إذا خرج قوم) الخروج على الأئمة وعلى جماعة المسلمين فتنة عظيمة، ولذلك اعتنى العلماء رحمهم الله بهذا الأمر حتى ذكروا في مسائل الاعتقاد، أن مذهب أهل السنة والجماعة أنه ينبغي لزوم جماعة المسلمين، وتلك هي وصية الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ودرج عليها أئمة السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين، وجعل الله الخير للأمة في اتقاء الفتنة، والبعد عنها، ولزوم الجماعة ما أمكن.
ولذلك نجد في مباحث العقيدة هذا المبحث، ويعتني العلماء فيه بالتأصيل الشرعي للإمامة، ولزوم الجماعة، والسمع والطاعة، والضوابط المعتبرة في ذلك، وكلام الفقهاء في هذا الباب من الفقه إنما هو في باب الجنايات، بمعنى: في حكم من خرج، وليس في تأصيل وتقعيد هذا الأمر والكلام عليه، ولذلك يشير العلماء رحمهم الله فقط إلى أنه مذهب أهل السنة والجماعة من حيث الأصل.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أنه لو تغلب أحد على المسلمين بالشوكة والمنعة، وأصبح يحكم فيهم بالشرع فإنه تلزم طاعته، إذا انعقدت عليه جماعة المسلمين، ولا يشترط انعقاد الكافة عليه، بل المراد أن تنعقد كلمة أهل الحل والعقد والرأي، ولذلك جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر المسلمين كلهم في الستة الذين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ومن هنا قالوا: العبرة بأهل الحل والعقد، وأهل الصلاح كالعلماء والفضلاء، ومن يعرف برجاحة العقل وسداده، ونحو ذلك ممن لهم رأي، وحسن نظر، والناس تبع لأمثال هؤلاء.
فإذا انعقدت الكلمة من هؤلاء؛ فإنها تكون جماعة المسلمين، والمنبغي لزوم هذه الجماعة، وبين النبي صلى الله عيه وسلم أن على المسلم السمع والطاعة وإن تأمر عليه عبد حبشي؛ ولذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المثل، وقد كانت العرب فيهم العصبية والأنفة أن تقبل بمثل هذا الأمر، ولكنه أراد بذلك إرغام أنف المسلم لحكم الشرع.
والعجيب أنك لن تجد الأمة تسير على هذا الأصل إلا وجدت غياباً لكثير من الشرور، وإن وجدت شروراً في جماعة فإنك تجد أشر من ذلك أن يخرج الإنسان عن الجماعة، ومن هنا لم تأت هذه النصوص من فراغ، ومن تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) يجد أمراً عجيباً، وعلى هذا كان مذهب أهل السنة والجماعة في لزوم هذا الأصل.(394/3)
مظاهر الخروج عن جماعة المسلمين
يكون الخروج أول ما يكون بالرأي؛ ولذلك نجد نصوص الكتاب والسنة تأمر المسلم بعدم اتباع بالهوى، وعدم المبالغة في تخطئة الغيره، وعدم الدعوة للشذوذ، ومن تأمل أيضاً هدي السلف الصالح رحمهم الله وجد ذلك جلياً ظاهراً.
فيبدأ الخروج بالاحتقار، والكلام في الولاة والحكام، ثم في العلماء والفضلاء واتهامهم في الدين والرأي، حتى تنسل ثقة الناس من هؤلاء، وإذا نزعت الثقة من العلماء فإنه ينتظر الشر العظيم، والبلاء الوخيم، وهناك كلمات يقولها العلماء قد لا يلقي الإنسان لها بالاً، ولكنه إذا تأملها وعاش حقيقتها أدرك ما يعنيه العلماء وأهل العلم حينما يتقون الفتنة، ويحرصون على جمع الكلمة ما أمكن، وليس معنى ذلك أننا سنصل إلى حال يشابه ما كان في عصر الصحابة أو الخلفاء الراشدين، إنما الشريعة تمشي على الأغلب، وتراعي في المصالح الأغلب، ومن هنا تجد أن المصالح في اتباع هذه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأكبر من أن يجتهد الإنسان عليها، أو يحاول أن يخرج عنها باجتهاد أو برأي.
الخروج من حيث هو بالأصل لا يكون إلا بالرأي، وقد ضرب الله المثل للإنسان حتى في البهائم والحيوانات فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] فالحكيم العاقل ينتبه للأمثال، والإنسان لو أراد أن ينظر إلى جماعة المسلمين ويشذ عن رأيهم فلينظر إلى بيته، حينما يرى أنه يقوم على مصالح أولاده ورعاية أسرته، ويسهر عليهم، وفي قرارة قلبه يتمنى أن يكون أفضل بيت، وأحسن بيت، ولكنه ببشريته وضعفه تنتابه الشهوات والملهيات، حتى لربما ضيع كثيراً من حقوق أولاده، وهو في دولة صغيرة وبيئة صغيرة، لا يستطيع أن يجد فيها عشر معشار ما يجده غيره ممن هو أعظم منه مسئولية، وأكثر منه أمانة.
ومن هنا: إذا أنصف الغير تمعن وتريث، ونظر إلى الأمور بأغلبها خيراً وأقلها شراً كما قرر هذا العلماء والأئمة رحمهم الله، فتجد الإنسان إذا أراد ابنه أن يشذ عنه، أو أن يتمرد عليه في بيته، أول ما يبدأ التمرد بالاحتقار، وأول ما يبدأ الابن إذا كان ابناً شاذاً عن بقية الأبناء أن يذكر مثالب أبيه، وأن يحاول أن يفسر كل خير ونصيحة، وكل ما يداوي به جراحه، وكل ما يحسن به إليه، يحملها على العكس والضد.
ومن هنا لا يزال الإنسان يتألم مما يرى ويسمع، وكل يوم هذا الابن يسل محبته ومودته وتقديره من آبائه ومن بقية الأسرة، حتى لربما أصبح البيت جحيماً لا يطاق.
فأول ما يبدأ الشر بالاحتقار، ولذلك تجد الأمور إذا قامت على حسن التقدير، وعدم الغلو في هذا التقدير، وعدم المبالغة في الإطراء والمدح، وأن يكون هناك نوع من التعقل، إلا في المواطن المحددة التي تجابه بضدها، فيقابل الإنسان بالضد من المدح والثناء، حتى يقطع دابر من هو ضده، أما في الشهادة فيشهد شهادة الحق، ويحاول قدر المستطاع أن يعذر وأن ينصف، وأن ينظر إلى غلبة الخير وغلبة المصالح، ووجود الشر في ضده.
فالخروج على الأئمة والجماعة يكون بالاحتقار، ويكون الاحتقار للعامة والخاصة، فيحتقر أئمة المسلمين، ثم بعد ذلك لربما استرسل به الشيطان -والعياذ بالله- إلى أن يحتقر العوام.
ومن نظر في أحوال الخارجين في القديم, وحتى في العصر الحديث، نجد أحدهم -في بعض البلدان الخارجية- ينتسب للإسلام ثم يكفر مجتمعه, ويرى أن هذا المجتمع كله كافر، وعندها لا يبالي أن يقتل الصغير أو الكبير أو المرأة أو الطفل، بل ويرى أن هذا حقاً، وأن هذا يطاع به الله عز وجل، ويتقى به الله عز وجل -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا كله كما أخبر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] والشيطان له خطوات.
ومن هنا يبدأ بالاحتقار، ثم بالنقد؛ لأنه إذا بدأ الاحتقار في القلب تسلط اللسان، فبدأ بالنقد، ثم بعد النقد يبدأ يضخم هذه الأمور، ثم يصل إلى قاعدة أو أساس أن الأمر منكر، ثم هذا المنكر يوجد معه منكر آخر، ثم المنكر الثالث، حتى يصل إلى التكفير، ثم يتعدى بتكفيره إلى من رضي به ومن سكت عنه ومن مدح مدحة واحدة قد يلحق بهذا، والسبب في هذا كله الجهل بحكم الله عز وجل، وعدم الرضا بما أنزل الله، وقد يقال له: قد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم المرء المسلم على السمع والطاعة، فيرد عليك قائلاً: أنت بهذه الأفكار وبهذه الرجعية تريدنا صماً بكماً.
فيتعالى على النص؛ لأن عقله لا يستطيع أن يتقبل مثل هذا؛ لأن عنده هوى متبعاً.
فيبدأ الخروج بالاحتقار والازدراء، وعدم المبالاة بجماعة المسلمين، وعدم المبالاة بعلمائهم، وعندها تزل القدم بعد ثبوتها، والله قد أعذر لهؤلاء، فنص الكتاب ونص السنة واضح، وجماعة المسملين أمامه وعلماؤهم أمامه، فمن احتقر هذا كله فلا يلومن إلا نفسه، وكل ما يأتي من تبعات، وكل ما ينجر إليه من ويلات وعواقب وخواتم، فلا يلومن في ذلك كله إلا نفسه، ولن يهلك على الله إلا هالك؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر المنكرات، ويذكر ما سيكون من الولاة من المساوئ والمثالب، ثم قال الصحابة رضوان الله عليهم الذين هم أغير الخلق على الحق، وأغير على هذه الأمة: (أفلا نناجزهم بالسيوف؟ قال: لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) من يستطيع أن يجتهد مع هذا، هل يستطيع أحد أن يقدم على هذا أو يؤخر؟ فما على المسلم إلا التسليم.
لا يعني هذا التخاذل أو التواكل، بل يعني السمع والتسليم، وهل الإسلام إلا الاستسلام، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ويقول: (يا رسول الله! كيف نعطي الدنية في ديننا!) أي: بتلك الشروط القاسية على المسلمين، ثم هم محرمون يتحللون من إحرامهم، ويرجعون إلى ديارهم، ثم إذا أسلم أحد يرد إلى الكفار، وإذا ارتد مسلم فإنه لا يرد إلى المسلمين (أنعطي الدنية؟!).
إذا جئت تنظر إلى الظاهر وجدت الذلة والصغار في الظاهر، وأموراً لا يسلم بها العقل، لكن الشريعة تأتي لكي تحكم الإنسان بالسمع والطاعة، وتأمر بالاستسلام والتسليم الذي يأتي به الفرج والمخرج، ويظن البعض أنها أوهام وأحلام، ونحن نقول له: اتبع وسترى ما يسرك، وإن كان يظن الإنسان أنه سيجد خيراً في اجتهاده، فسيجد خيراً من ذلك الخير في اتباعه للكتاب والسنة، ولن يجد أعلم من الله بخلقه، ولا أحكم ولا أعدل من الله عز وجل في شرعه ونظامه! فلا يستدرك أحد على الله عز وجل، ولذلك تجد أعداء الإسلام يدخلون السموم على المسلمين في هذا، ويحاولون تشكيكهم، ويعتبرون أن هذا ذلة، ويعتبرون أن هذا نوع من الخور والغفلة والسذاجة، نعم؛ ذلة في مقام عزة، ومهانة في مقام كرامة، وعقل وإنصاف، وبعد نظر، ومن قرأ التاريخ يجد العبر، وكم من أشياء خرجت عن جماعة المسلمين تحت دعاوى، ثم لما تمكن أصحاب تلك الدعاوى رموا وراء ظهورهم ما كانوا يقولون.
هناك أمور لا يمكن للإنسان أن يدركها، فمادام أن هناك نصاً وشرعاً أمر أن يسلم به فليسلم به.
فالخروج لا يكون أول ما يكون إلا بالاحتقار، ولذلك يبلغ ببعض الناس في بعض الزمان أن يقول: لم يبق عالم أثق به.
وإذا قال هذه الكلمة؛ فليعلم أنه قد ضل ضلالاً مبيناً، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) وقد زكى حملة هذا العلم، وانظر إلى نفسك حينما تريد أن تحفظ آية من كتاب الله لا تستطيع أن تحفظها، بعض السور قصيرة لا تستطيع أن تحفظها، لتدرك أن هذا الدين عطية من الله، وأنه مادام وأنه قد زكى هؤلاء العلماء فوالله إن العالم ليخاف، ولكنه يخاف على المسلمين لا على نفسه، وينصح للمسلمين لا لذاته، ولا يدخل في جعبته شيئاً، وإنما يعلم أنه إذا أصغت له الآذان، ووعت منه القلوب فإنه على شفير جهنم، وأنه إن أخذ بهم بالسلامة سلم له دينه، وإن أخذ بهم على منهج السلف الصالح ابتعد بهم عن هذه العواقب الوخيمة.
بين العلماء رحمهم الله أن الشذوذ لا يكون إلا بالاحتقار، ومن هنا تجد نصوص الشريعة كلها تذم شيئين، ولو نظرت في كثير من المصائب الموجودة اليوم وجدتها بسبب هذين الشيئين: الأول: في قرارة الإنسان وقلبه.
والثاني: في لسانه، في اللسان الذي يكب الناس في النار على وجوههم والعياذ بالله.
أما في القلب: فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) فما بالك إذا احتقر العلماء، واحتقار العلماء -في الخروج على الأئمة والخروج على الولاة والعلماء- لا يكون بأن يقول لك: أنا أحتقر فلاناً، ولكنه كما يكون بالمقال يكون بلسان الحال.
هناك نماذج، ونذكر في واقعنا ما يقوله البعض الآن عندما تقول له: الشيخ أو العالم فلان نصح بكذا، وإذا به يقول: والله ما يفقه الواقع! ولا بد من فقه الواقع! لكن ما هو فقه الواقع؟ فقه الواقع أن تعي ما تقول، والواقعة التي تتكلم فيها، وعندك فيها نص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو تجتهد وعندك أمانة وورع وإخلاص، فقد فقهت في واقعك، أما فقه الواقع أن تكون بمثابة الشهادة والتزكية تُعطى لمن يوافق رأيي، وتنزع ممن لا يوافق رأيي، فبهذا نصير علماء للعلماء، ومعلمين للعلماء، وأعرف من العلماء بدين وشرع الله عز وجل! ولذلك ينبغي الحذر، فقد يكون هناك كلمة حق يراد بها باطل، وقد بينت النصوص أنه لا يهلك على الله إلا هالك، فعلى كل إنسان أن يحتاط من هذه اللمزات، وهذا الاحتقار؛ لأنه يؤدي بالإنسان إلى العواقب الوخيمة.(394/4)
بداية خروج الخوارج على علي رضي الله عنه كان بالاحتقار
الخروج على الأئمة لا يكون إلا بالاحتقار، ومن نماذج ذلك في التاريخ: أن أول فتنة وقعت للخوارج حينما خرجوا على علي رضي الله عنه فاحتقروه، واحتقروا مكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتقروا مكانه من العلم والفقه، وقد أمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه بعثه إلى اليمن قاضياً ومعلماً، واستخلفه على المدينة صلوات الله وسلامه عليه وقال له:: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) فكان بهذه هي المنزلة العظيمة، وإذا بالخوارج يحتقرونه في ذلك، فخرجوا عليه رضي الله عنه وأرضاه، بالنقمة؛ نقموا عليه أنه قبل التحكيم، وقد بينا في المجلس الماضي كيف عتبوا عليه، وكيف أنه رضي الله عنه أقام عليهم الحجة.
فأصل الخروج لا يكون إلا بالاحتقار، ومن هنا أول ما قال ابن عباس رضي الله عنهما -وهذا موضع الشاهد- أنه قال لهم: ماذا تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه؟ ماذا تنقمون منه وهو أسبق للإسلام وأعرف بشرع الله عز وجل وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم؟ فهو يخاطب أناساً لو كان عندهم عقل وبصيرة، لرجعوا إلى أنفسهم، إذ كيف يحتقرون هذا الصحابي الجليل المبشر بالجنة والخليفة الراشد، ورموا بكل ذلك وراء ظهورهم، بل وصل الأمر إلى تكفيره رضي الله عنه وأرضاه.
ومن هنا أول ما يكون الخروج بالاحتقار، وما وجدنا أئمة السلف رحمهم الله يحرصون على شيء مثل احترام المسلم لأخيه المسلم، فضلاً عن العلماء وفضلاً عمن له حق وله فضل.(394/5)
صفات البغاة المستحقين للقتال
يقول رحمه الله: (إذا خرج قوم) أي: تميزوا عن جماعة المسلمين بمكان يتجمعون فيه، أو يتحزبون فيه، كما حصل للخوارج حينما اجتمعوا بحروراء، وهذا شرط عند بعض العلماء رحمهم الله، ومنهم من أخذ بمطلق الخروج.
وقوله رحمه الله: (قوم) هذه العبارة تشير إلى أنه لا يكون الخروج من الأفراد، وأن خروج الأفراد لا يأخذ حكم خروج الجماعات، فلو أن شخصاً تبنى الخروج على جماعة المسلمين، ولم يكن له أتباع أو أفراد كالاثنين والثلاثة؛ فالصحيح: أنهم لا يأخذون حكم البغاة؛ وذلك لتعبير القرآن بالطائفة، والأصل في ذلك: عمل السلف الصالح رحمهم الله.
والشرط الثالث: أن يكون لهم شوكة ومنعة، أما إذا كانوا لا شوكة لهم ولا منعة، وانحصروا في مكان دون أذية للمسلمين، ودون تحريض للغير أن يخرج معهم بشق عصا الطاعة والشذوذ عن الجماعة؛ فإنهم لا يأخذون حكم الخوارج في قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله، وإنما من حق الإمام أن يعاملهم بما يقطع شرهم وبلاءهم عن المسلمين: إما بعزلهم، وإما بمنع الناس من الاتصال بهم، أو نفيهم ونحو ذلك مما يرى فيه المصلحة.
والشرط الأول دليله إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على قتال الخوارج بالخروج، وهذا يدل على أنهم لا يقاتلون، ولا يستباح منهم القتال إلا بخروجهم، ويتحقق الخروج بالاعتداء على حرمات المسلمين، ومن هنا استدل العلماء بأن علياً رضي الله عنه كما في الرواية الصحيحة عنه: ما قاتل الخوارج إلا لما قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت رحمه الله ورضي عن أبيه، فلما قتلوه آذنهم علي رضي الله عنه بالقتال، فقالوا: إنهم لا يقاتلون إلا بهذا الشرط.
وهناك من العلماء -وهو رأي صحيح وأميل إليه- من يقول: إنه لا يشترط أن يبدءوا بالقتال إذا غلب على الظن أنهم سيفعلونه؛ لأنه لو اشترط هذا الشرط فمعناه: أنهم لا يقاتلون إلا إذا فعلوا الضرر بالمسلمين، والواقع أنه إذا غلب على الظن أنهم أعدوا العدة يريدون التعرض أو الأذية بالمسلمين، فحينئذ يجوز قتالهم، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، وهو أنه لا يشترط وجود القتال منهم، وأنه إذا غلب على ظن الإمام أنهم سيخرجون، وأنه سيكون منهم الضرر؛ فمن حقه أن يبدأهم دفعاً للشر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بادر عدوه قبل أن يأتي إلى المدينة كما صح عنه في غزواته صلوات الله وسلامه عليه، وكان من شجاعته عليه الصلاة والسلام أنه لا يسمع بقوم يريدون غزوه إلا بادرهم.
وقوله رحمه الله: (بتأويل سائغ) هذا الشرط الرابع هو التأويل: أن تكون عندهم شبهة، وهذه الشبهة تكون في الرأي كما اشتبه الأمر على الخوارج، وتأولوا في قتال علي رضي الله عنه وأرضاه، فإذا تحققت هذه الأربعة الشروط فحينئذ يوصف هؤلاء بكونهم بغاة أو أهل بغي.(394/6)
مشروعية مراسلة أهل البغي لإزالة الشبه ورفع المظالم عنهم ليرجعوا
قال المصنف رحمه الله: [وعليه أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه].
قوله: (وعليه) أي: يجب على الإمام أن يراسلهم، فيبعث إليهم أناساً من أهل العلم ومن أهل الصلاح، أو ممن يقبلون قوله ويناقشونه ويناظرونه، وقد يكون بعض العلماء أقدر على ردهم إلى الحق، والدليل على هذه المسألة فعل علي رضي الله عنه، فإنه بعث إلى الخوارج عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما فناظرهم، ورجع معه ألفان.
وانظر كيف أن الإسلام يحفظ الحقوق ويعالج الأمور بحكمة! فلا أكمل من شرع الله عز وجل، ولا أتم من هديه، فأرسل رضي الله عنه وأرضاه عبد الله بن عباس وناظرهم؛ لأنه قد يكون هناك أناس لبس عليهم، فكم من كلمات ظاهرها السلامة وباطنها الخطأ والخلل، ويغتر بعض المسلمين من الأخيار والصالحين بظاهرها من الخير؛ ولذلك لا يكشف عوارها، ولا يبين زيفها إلا من عنده علم وبصيرة، فحينئذ يوكل الأمر إلى العلماء أن يناقشوهم وأن يناظروهم ويقيموا عليهم الحجة، وقد نص عليه جماهير العلماء رحمهم الله: على أنه يجب على ولي الأمر أو الوالي أو الإمام أن يبعث إليهم من يقيم عليهم الحجة.
قوله: [فإن ذكروا مظلمة أزالها].
أي: فإن ذكر البغاة مظلمة، يعني أنهم خرجوا بسبب مظلمة؛ أزالها؛ وقد ذكر بعض العلماء أنه يجب على ولي الأمر أن ينصفهم إذا ذكروا مظلمة، ويكون معهم؛ لأنهم إذا كانوا مظلومين فالواجب عليه أن يزيل عنهم الظلم, وقد تكون في الناس عصبية، أو ضعف في الدين، فإذا حصل أقل الظلم بالغوا فخرجوا، وربما حصلت فتنة وشر، فمثل هؤلاء يبين لهم أن هذه المظلمة ستزال عنهم، ويرفع ما بهم من البلاء، ويكشف عنهم الظلم؛ لأن الله أمر بالعدل، وأوجب العدل على الحكام والولاة، ولا يجوز لهم أن يظلموا رعاياهم، ول أن يكونوا سبباً للخروج عليهم بهذه المظالم.
وقد يستطيل بعض العمال في عمالته، ويستغل عمله، فيظلم ويكره الناس في ولاتهم، فحينئذ يجب على الولاة أن ينصفوا المظلومين، وأن يردوا المظالم إلى أهلها، وألا يمنعهم من قبول الحق كونه أتى من هؤلاء، بل عليهم أن يقبلوا الحق، ويردوا المظالم إلى أهلها، وينصفوهم في ذلك؛ لأن الله أوجب عليهم ذلك، وما شرع الله عز وجل الإمامة إلا لهذا المقصد العظيم وهو: إقامة العدل، ومنع الظلم، وكف الظالم عن ظلمه، فإذا ذكر البغاة المظلمة فالواجب على الإمام أن ينصفهم فيها.
قوله: [وإن ادعوا شبهة كشفها].
بأن يخرجوا في مدينة، ويكون سبب خروجهم في هذه المدينة كون عامل المدينة ظالماً، وبعض الأحيان يكون في البوادي فيظلمهم السعاة والجباة، وأصحاب الضرائب؛ فعلى الولاة أن يزيلوا هذه المظالم كلها، وهذا واجب عليه لتزال هذه الشبهة.
قوله: [فإن فاءوا].
أي: رجعوا إلى جماعة المسلمين، كف عنهم، وقبل رجوعهم؛ ولذلك قبل علي رضي الله عنه الخوارج الذين تابوا ورجعوا وكانوا قرابة الألفين، ولم يعنف أحداً منهم ولم يلمه.
فإذا تبين الحق للمسلم ورجع إليه، فهذا يدل على خيره وفضله، والمسلم الحق هو الوقاف عند حدود الله، الذي إذا استبانت له المعالم، وتبين له أن الشرع يلزمه بجماعة المسلمين، وسمع من العلماء النصيحة والتوجيه وقبله بنفس مطمئنة ورجع، فهذا يدل على فضله، وأنه إنسان يريد الخير، فيُقبل منه ذلك ولا يحاسب ولا يقرع ولا يوبخ، بل يثبت على رجوعه ويعان على ذلك.(394/7)
حكم مقاتلة الخوارج ابتداء بعد إقامة الحجة بمراسلتهم
قوله: (وإلا قاتلهم) أي: قاتلهم وجوباً، أي: يجب عليه قتالهم، وهذا قول جماهير السلف والخلف؛ لأن الله تعالى يقول: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9] فأوجب الله القتال بالأمر، ولأن علياً رضي الله عنه قاتل الخوارج، وقد أجمع أئمة السلف رحمهم الله على مشروعية قتال من خرج على جماعة المسلمين، وأن على ولي الأمر أو الإمام إذا لم يرجعوا بعد أن تقام عليهم الحجة أن يقاتلهم، واختلف العلماء رحمهم الله في كيفية القتال على وجهين: فمن أهل العلم من يقول: يقاتلون تدريجياً، فيحاول بالأخف ثم بالأقوى منه، ثم بالأقوى منه، فإن رجعوا وإلا شد وطأته عليهم حتى يكسر شوكتهم، ويستأصل شأفتهم، ويقطع دابرهم عن المسلمين.
ومن أهل العلم من قال: يجوز أن يبتدئهم بالقوة والعنف.
المذهب الأول للشافعية والحنابلة: أعني أنه ينبغي التدرج، والمذهب الثاني: للحنفية والمالكية.
والحقيقة من حيث الأصول والأدلة: أن مذهب المالكية والحنفية أقوى دليلاً؛ لأنهم قالوا: إن الله أوجب القتال وقال: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9] وهذا يستلزم القوة وأن يكون حكمه حكم القتال سواءً بسواء، فيُهجم عليهم ويقاتلون حتى بالمنجنيق، وبالرمي بالنار ما لم يكن فيهم نساء وأطفال، على تفصيل في هذه المسألة.
قالوا: لأن المراد من هذا قطع دابرهم، وفي هذا استئصال للشر، وأيضاً ردع للغير أن يسلك مسلكهم.
والمذهب الأول فيه احتياط، لكن من حيث الدليل فمذهب القائلين أنه يجوز له قتالهم مباشرة أقوى دليلاً، وقد قاتلهم علي رضي الله عنه، والقتال الذي فعله بهم رضي الله عنه كان كسائر القتال إلا في مسائل فيما يترتب على القتال، فإن أهل البغي ليس قتالهم كقتال الكفار كما هو معلوم، فلا يجهز على جريحهم إذا كان هناك جريح ينزف بل يداوى ويعالج.
وأيضاً ثبت عن علي رضي الله عنه في ابن ملجم لما طعنه أنه أمر أن يسقى وأن يضاف، ولم يأمر بقتله رضي الله عنه مباشرة، وأمر بالإحسان إليه، فإذا مُكن منهم فلا يعاملون معاملة غيرهم؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: (إخواننا بغوا علينا)، فالأصل في هذا أنهم يقاتلون دفعاً لشرهم، وما جاز للضرورة يقدر بقدرها، فقتالهم بقدر الضرورة وبقدر الحاجة ولا يزاد عليه، ولذلك قالوا: إنه لا تسترق نساؤهم، ولا يضرب عليهم الرق، ولا يجهز على جريحهم، ولهم أحكام خاصة تفصيلها في كتب الفروع، لكن من حيث أصل الحكم الشرعي: أنه يشرع له قتالهم وابتداؤهم بالقتال إذا غلب على ظنه وجود الشر منهم.
وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يختار التفصيل: وهو أنه يرد الأمر إلى نظر الإمام، فإذا رأى أن من المصلحة أن يبادرهم بالقتال بقوة بادرهم، وإن رأى أن المصلحة أن يبدأ بالتدرج معهم فلا بأس بذلك على حسب الظروف والأحوال، ويرى أن هذا أعدل القولين وأقربهما إلى الصواب.(394/8)
قتال العصبية
قال المصنف رحمه الله: [وإن اقتتلت طائفتان بعصبية أو رئاسة فهما ظالمتان].
بعد أن انتهى من أحكام البغاة شرع في مسألة قتال العصبية والحمية والثارات، كما يقع بين القبائل والجماعات، ويقع في العداوات والخصومات، وهذا لا يأخذ حكم قتال أهل البغي، ولذلك إذا وصفنا الفئة المقاتلة بأنهم بغاة، فهو أهون من أن يقال: إنه قتال عصبية؛ لأن أهل البغي يعاملون معاملة خاصة, ولهم أحكام خاصة، أما إذا كان قتال عصبية فالحكم مختلف، ففي قتال أهل البغي: لا يجب على أهل البغي ضمان ما أتلفوه، فلو وقع بينهم وبين جماعة المسلمين وإمامهم قتال فقتلوا وقُتل منهم لم يجب الضمان، لا على الفئة العادلة ولا على الفئة الباغية، وهذا في قول جماهير السلف والخلف.
وهناك رواية عند الشافعية وقول عند الحنابلة: أنهم يضمنون.
والصحيح: أن الفئة العادلة لا تضمن، والفئة الباغية لا تضمن، فلا يجب عليهما الضمان إذا كان هناك إتلاف أو قتل أثناء القتال، لكن في قتال العصبية وما يقع في الثارات والعداوات، فإنه يجب الضمان, ويعاقب الإمام الطائفتين، ويصلح بينهما بالعدل، لكن يؤاخذ الطائفة الباغية الظالمة أكثر، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن النداء بالشعارات والثارات أنه يورد الإنسان يوم القيامة النار.
وكان قد وقع بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من تلك العصبية بسبب ما أثار بينهم يهود من تذاكر قتلى يوم بعاث الت يوقعت بين الأوس والخزرج، حتى قال الأوسي: يا للأوس، وقال الخزرجي: يا للخزرج، وثارت بينهم الثائرة، حتى كادت أن تحصل مقتلة عظيمة بينهم، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100] ولما تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات بكى الصحابة رضوان الله عليهم لما تبين لهم ما كانوا فيه من عظيم الخطأ والخلل.
فالعصبيات موردها وخيم وعاقبتها وخيمة، ومن قاتل تحت راية عمية حُشر في نار جهنم -والعياذ بالله- تحتها، وهي بعث النار، حتى لو كانت في الجهاد، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية -بمعنى أن الدافع له هو بلده ووطنه ومكانه وأهله وعشيرته- والرجل يقاتل ليرى مكانه، والرجل يقاتل للمغنم؛ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فكل هذا خارج عن سبيل الله، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يحذر من العصبيات والنعرات؛ فإنها تورد الإنسان الموارد، حتى إنه لربما استباح دماء المسلمين المحرمة.
وإذا اقتتلت طائفتان وكل منهما يتعصب لطائفة فإنها ليست آخذة حكم قتال أهل البغي، فإذا انتهى القتال؛ وجب على كل طائفة أن تضمن ما أفسدته، ووجب على كل طائفة أن تضمن ما أفسدته على الأخرى، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن هذا: (إذا التقى المسلمان بسيفيها؛ فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) وهذا كله يدل على خطر هذه النعرات والعصبيات.
فبين المصنف رحمه الله أن القتال على هذا الوجه لا يأخذ حكم قتال أهل البغي، فقال: [فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى].
(فهما ظالمتان): أي: لا يعتبر هذا من قتال أهل البغي، بل يجب على الإمام أن يوقفهما عند حدودهما، وتضمن كل طائفة ما أفسدته على الأخرى.
فلو حصل إتلاف للأموال وجب عليهما ضمان هذه الأموال التي أُتلفت، كما لو أحرقت منازل، أو مزارع، أو كسرت مصالح وأتلفت؛ فإنه يجب على المتلف أن يضمن، وما وقع من الدماء يجب ضمانه، فلو عرف القاتل بعينه فإنه يقتص منه؛ إعمالاً للنصوص الشرعية التي تقدمت معنا، وهكذا من أتلف المال إذا عرف بعينه وجب عليه الضمان، إذا أقر وجب عليه الضمان، وأما إذا كان لا يعرف فإنه يجب عليهم جميعاً أن يضمنوا ما أتلفوه.(394/9)
الأسئلة(394/10)
حكم المفاضلة بين العلماء
السؤال
هل يجوز لطلبة العلم أن يفاضلوا بين العلماء؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: هذا سؤال غريب عجيب! لكن إن شاء الله تؤجر على اختياره.
الحقيقة أن هذا أمر قد عمت به البلوى، فالمفاضلة بين العلماء وغير العلماء مسئولية، ومن قال: فلان أفضل من فلان؛ فقد زكاه، وتعتبر هذه شهادة، والله تعالى يقول: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] إذا كان الشخص يتكلم في المفاضلة: أولاً: عن علم.
ثانياً: عن حاجة.
ثالثاً: بإخلاص.
عن علم: بمعنى أن يعرف من هو العالم الذي فضله، بأن يكون قد درس عليه، قرأ عليه، ضبط العلم على يديه، ويعرف من هو العالم الآخر -المفضول- فيكون قد أدرك علم الرجلين.
ووجدت حاجة للتفضيل: لأنه من اللؤم ومن نسيان المعروف والخير: أن يأتي لعالم تتلمذ على يديه ثم يجد من هو أعلم منه ليقول: فلان أعلم من فلان دون وجود حاجة، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، يقول: فلان عالم وفلان عالم، ولعل فلاناً قد أعطاه الله علماً كثيراً، فلا تقل: فلان أفضل من فلان بدون حاجة، لكن إذا وجدت الحاجة فلا بأس، كأن يأتي رجل وقال: سأمكث في مكة أو المدينة سنة، وما عندي إلا هذه السنة، وأحتاج إلى أن أضبط العلم وأتقنه في علم الحديث، علم العقيدة، علم الفقه، فسألك قائلاً: دلني هل فلان أفضل أو فلان؟ هل أدرس على فلان أو فلان؟ فهنا وجدت حاجة.
وأن يكون بإخلاص، أي: مراده النصيحة للأمة، وليس مراده التحقير والانتقاص، فإذا وجدت هذه الثلاثة الضوابط فلا بأس.
أيضاً: إذا فضلت أحداً على أحد فينبغي ألا يتضمن الأسلوب التحقير للمفضول؛ لأن من النصيحة لأئمة المسلمين ومنهم علماؤهم: ألا يُنتقص قدرهم، فإذا قيل: إن فلاناً أعلم من فلان على طريقة فيها تهكم بالمفضول؛ فهذا ظلم له واستباحة لعرضه، وليحذر من غيبة العلماء ومن الغيبة عموماً.
ولا يلام أحد خاصة إذا كان بين طلاب العلم أن يكثر من تحذير الناس أو طلبة العلم من الوقيعة في أهل العلم، وخاصة في هذا الزمان، ولو أن كل مجلس يُستفتح ويُختم بقرع القلوب بقوارع التنزيل في الحذر من الوقوع في أولياء الله من أهل العلم من الأموات والأحياء والتفضيل بينهم، وانتقاصهم على سبيل الانتقاص والاحتقار، لكان حسناً، ولم يلم من قال ذلك.
وعلى كل حال إذا وجدت هذه الثلاثة الضوابط؛ فأرجو ألا يكون في ذلك بأس، أما أن يجلس شخصان أحدهما قرأ على شيخ، والآخر قرأ على شيخ لكي يفاضلان بين شيخيهما، فلا، أو يتناظر اثنان في مسألة فيقول أحدهما: رجحه الشيخ فلان، فيقول الآخر: رجحه الشيخ فلان، فيقول: فلان أعلم من فلان، فهذه أمور عواقبها وخيمة، وبالأخص إذا كانت في المجالس العامة، أو بين عامة الناس؛ لأن ضررها عظيم.
فينبغي على طلاب العلم ألا يفعلوا ذلك.
والله تعالى أعلم.(394/11)
حكم تأخر الإمام عن المجيء إلى المسجد إلى وقت الإقامة
السؤال
هل السنة لإمام المسجد أن يأتي بعد الأذان مباشرة أو ينتظر في بيته إلى وقت الإقامة؟
الجواب
إذا كان بيته قريباً من المسجد مثل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل وقت الصلاة، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، يتأول السنة وحينئذ فلا بأس، وإذا كان بعيداً من المسجد، ولا يأمن زحمة الطريق، ولا يأمن التأخر عن الجماعة وإضرارهم فبكر فلا بأس بذلك ليحتاط للمسلمين.
وهنا مسألة ننبه عليها: وهي أن الأئمة والمؤذنين عليهم مسئولية عظيمة، ولذلك تحد الناس في كثير من المساجد تتألم من حال الإمام في عدم دخوله إلى الصلاة إلا متأخراً، ومتعجلاً في مبادرته بالخروج، والمنبغي تحري السنة.
فكون الإمام مثلاً يأتي قبل الأذان، ويتفقد أحوال مسجده، ويحس بالأمانة والمسئولية، ويجلس في المسجد ليقرأ القرآن، ويصلي، ويحيي في الناس الخير فذلك حسن.
النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل وقت الصلاة، لكنه كان يجلس في المسجد، وكان يعلم الناس في المسجد، ويحرص على الجلوس في المسجد، وكثير من الأحاديث رويت عنه في مجالسه في المسجد صلوات الله وسلامه عليه، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وكنت رجلاً أصحب النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، أشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا) فالأفضل للإمام أن يكون على حال وسمت يعطي الهيبة والمكانة للإمامة، وبالأخص المؤذنين أيضاً؛ لأن بعض المؤذنين يأتي متأخراً عن الأذان، وبعد أن ينتهي من الأذان يخرج من المسجد، وبعضهم يخرج ويجلس يتحدث مثلاً في مكان قريب من المسجد، وإن تيسر دخل بيته، وإن تيسر شرب القهوة في بيته حتى يأتي الوقت! ماذا نقول للناس؟! والله إنه شيء يؤذي جداً إذا لم يشعر المسلمون بعظم هذه الشعيرة العظيمة وهي الصلاة.
وهل هانت الأمة وذلت إلا لما هانت شعائرها، وحينما كان يصلي بالناس الأئمة والعلماء والفضلاء كانت الأمة في أوج عظمتها وعزها وكرامتها، وأما اليوم فيبلغ ببعض المساجد أن يحضر وقت الأذان -وقد رأيت ذلك مراراً وتكراراً- ويدخل الذي يكنس في الشارع لكي يؤذن الأذان؛ لأن المؤذن وصاه جزاه الله خيراً حتى لا يضيع الوقت، ولا تسأل عن اللحن، ولا تسأل عن الكلمات المحرفة، وقد يكون أذاناً باطلاً من اللحن الذي يحيل المعنى، وكل هذا ولا أحد يبالي! ونحن نريد عزة وكرامة للأمة، فإذا كان أعز شيء في دينها بعد العقيدة الصلاة، والأمة بهذا الحال إلى درجة أن الإنسان مؤذناً أو إماماً لا يبالي بمسئوليته وأمانته، فلما أصبحت هذه الشعائر ليس لها مكانة في القلوب ضاعت.
إذا كان بيت الإمام قريباً من المسجد فينبغي أن يدخل وقت الصلاة، والأفضل أن يكون له مجالس بين الفترة والفترة لأهل الحي ينصحهم ويوجههم ويسمع ما عندهم من أحوال، يجلس معهم ويؤانسهم ويباسطهم تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان بيته بعيداً فيأتي مبكراً ليحتاط للصلاة، انظر إلى إمام يؤذن الأذان وهو في المسجد! انظر إليه قارئاً لكتاب الله، وانظر إليه متأثراً بالقرآن الذي يقرؤه، أو قائماً يصلي ويذكر! وتخيل وأنت من صغرك في مسجد ترى إمام مسجدك بهذه الصفة: تالياً لكتاب الله، مبكراً للصلوات، محسناً ومتقناً فيها، محافظاً على كمالها وعلى أفضل الأحوال فيها، وقد لا يؤذن الأذان إلا وهو في المسجد، كيف يكون حالك؟ كيف يكون نظرك لهذه الإمامة وهذا الإمام؟ سيكون الحال أنه إذا أمرك أطعته، وإذا جاء على المنبر يقول: اتقوا الله سمعت له، وإذا نصحك رضيت نصيحته, وإذا أردت أن تستشيره في أمر تباركت بعد فضل الله عز وجل به، فكونه مستقيماً على خير؛ يجعل الله الخير على لسانه، فمثل هذا الإمام المبارك هو الذي يكون إماماً بحق، أما إذا كان بعيداً عن المسجد وقال: أنا أريد أن آتي على وقت الإقامة، فلا بأس، ما دام أنه يحفظ للناس وقت صلاتهم، المهم ألا يضيع على الناس وقت صلاتهم، هذا هو المطلوب.
والله تعالى أعلم.(394/12)
حكم كراهية الذي أنعم الله عليه بالنعم
السؤال
كثيراً ما أجد في نفسي -إذا تذكرت نعمة معينة في أحد- كراهية وضيقاً وهماً، ثم أبادر إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، لأني لا أود أن يصاب في الحقيقة بأذى، لكن ما وجدته في نفسي هل هو حسد أعاقب عليه؟ وما هو العلاج؟
الجواب
هذا على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون حديث نفسٍ ليس له استقرار في القلب، فلا تلبث أن تراجع دينك وشرعك وتستغفر وتذكر الله، فهذا لا يضرك إن شاء الله، واستمر على هذه الطريقة: أن تبارك وأن تستغفر الله عز وجل وترجع إليه.
الصورة الثانية: أن يستقر ذلك في قرارة قلبك، وديدن نفسك، فهذا مرض، ولا شك أنه من الحسد وضعف الإيمان، أن الإنسان إذا رأى نعمة على أخيه المسلم؛ حصل له هذا البلاء العظيم.
والذي أوصيك به أولاً: الدعاء: أن تدعو الله عز وجل أن يرزقك قلباً سليماً.
وثانياً: أن تبحث عن الأسباب التي لأجلها ابتلاك الله عز وجل بهذا البلاء، فقد تكون ظلمت أحداً، أو آذيته، أو هضمته حقه؛ فابتلاك الله بفتن في قلبك، وهذه تسمى فتنة الحسد، وفتن القلوب كثيراً ما تأتي بسبب الذنوب؛ فقد يكون للإنسان ذنب فيسلط الله عز وجل عليه هذه الفتنة بسببه، فإن تاب تاب الله عليه، ورفع عنه أسباب البلاء؛ لأن الله جعل البلاء في الفتن دائماً بسبب ما يكسبه الإنسان من الظلم والأذية والتعدي لحدود الله، فأوصيك بالتوبة والاستغفار وكثرة الدعاء، وليس هناك حل إلا أن تسأل ربك أن يرفع عنك هذا البلاء، فليس له من دون الله كاشفة، فعول على ربك، وأكثر من الدعاء ولا تيأس ولو استمر معك هذا البلاء سنوات، ولعل الله بدعائك أن يجعل لك فرجاً ومخرجاً بعد توفيقه ورحمته بعباده.
والله تعالى أعلم.(394/13)
حكم المسبوق بركعة من الرباعية وقد زاد الإمام ركعة خامسة سهواً
السؤال
كنت مسبوقاً بركعة في الصلاة الرباعية، وكان قد سها الإمام وزاد في صلاته خامسة فماذا علي؟ هل أسلم معه؟ أم آتي بالركعة التي كنت مسبوقاً بها؟
الجواب
إذا سها الإمام وأنت في نفس المتابعة وتيقنت سهوه وأنه سيسجد بعد السلام فعليك أن تنتظر، ولا تقوم مباشرة، حتى يسلم فلا تسلم، وابق على ما أنت عليه؛ لأنك معذور بالسلام، فإذا سجد تابعته، فهو مأمور بالسلام للأصل الشرعي، وأنت غير مأمور به؛ لأنك مأمور بإتمام صلاتك، ولكنك مأمور بمتابعته، فقد سها ووقع السهو في حال متابعته، وحينئذ تنتظر إلى سلامه ثم تسجد.
هذا الوجه الأول عند العلماء رحمهم الله.
الوجه الثاني يقول: إنه يجوز لك أن تقوم، ثم إذا انتهيت من صلاتك سجدت قضاءً لهذه السجدة؛ لأنه لا يمكنك متابعة الإمام على هذا الوجه؛ لأنها سجدة بعدية، وصلاتك ليس فيها سجدتي السهو قبل الإتمام.
وكلا الوجهين صحيح.
والوجه الأول أقوى من حيث النص، والمتابعة أن تنتظر حتى يسلم، ثم بعد ذلك تسجد سجود السهو ثم تتم لنفسك.
والله تعالى أعلم.(394/14)
حكم قراءة الآيات الأخر من سورة آل عمران عقيب النوم
السؤال
هل يستحب استفتاح اليوم بعد النوم بآخر الآيات من سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190] كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نعم؛ هذا من السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بت عند خالتي ميمونة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبت في عرض الوسادة، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله عليها، فلما كان هويٌ من الليل، قام فمسح النوم من عينيه، ثم تلا الآيات من آخر سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ.
} [آل عمران:190] ثم قال: ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن) فيقرأها الإنسان ويتعظ بها.
والله تعالى أعلم.(394/15)
تعطل أجر الوقف بتعطل منفعته
السؤال
ما حكم توقف الوقف كتعطل برادة الماء، أو من أوقف كتاباً ضاع أو تمزق؟ هل أجر هذا الشخص مستمر أم منقطع؟
الجواب
من حيث الأصل: الثواب على العمل، ومن حفر بئراً، أو أجرى نهراً، أو أوقف كتاباً، فمادام الخير موجوداً والناس منتفعة؛ فله أجره على قدر انتفاع الناس، ثم إذا تعطلت مصالح هذا الوقف؛ فالواجب على ناظر الوقف أن ينصح للميت، وأن يبذل الأسباب لإعادته حتى ولو ببيعه ونقله إلى مكان آخر، وهذا عن طريق القاضي، حيث ينظر إلى الأصلح ويأمر بذلك.
أما من حيث الثواب: فالثواب على حصول النفع عاماً كان أو خاصاً، فإذا أجرى نهراً وانقطع النهر؛ فالأجر موقوف على جريان النهر، فإذا انقطع النهر انقطع الأجر والثواب، فالأجر موقوف على وجود المنفعة للمسلمين ومصالحهم.
والله تعالى أعلم.(394/16)
حكم ترك الهرولة في الطواف لمن كان معه نسوة
السؤال
من كان معه نسوة وكان في أثناء الطواف، هل يهرول في الأشواط الثلاثة؟ أم يسير مع النسوة سيراً طبيعياً؟
الجواب
النسوة لا يهرولن، قال عبد الله بن عمر، ويروى عن عمر: (ليس على النساء رمل لا في الطواف بالبيت، ولا في السعي بين الصفا والمروة) لأنها إذا رملت تكشفت، ومن هنا فالرمل خاص بالرجال دون النساء، وهذا مما خالف سبب شرعيته تطبيقه، فإن الأصل أن الهرولة بين الصفا والمروة للنساء؛ لأن هاجر -وهي أم إسماعيل- هرولت بين الصفا والمروة، وهذا مما ذكره العلماء في اختلاف السبب عن التشريع، ومن هنا قالوا: إنه لا يشترط المطابقة في المسائل.
فالحاصل أن النساء لا يهرولن، ومن كان مع نسوة فينبغي أن يتعاطى الأسباب في بعدهن عن الفتنة بأن يطفن في حاشية المطاف، وأن يطفن في وقت بعيد عن الفتنة ما أمكن، ويحرص قدر الإمكان على إبعادهن عن الزحام، ومن الأخطاء الموجودة أن البعض يدخل نساءه إلى داخل المطاف خاصة في الزحام، ثم يدفع ويؤذي الناس، وهذا لا يجوز، بل المنبغي أن يجعل النساء في أطراف المطاف، أو يختار وقتاً مناسباً لطوافهن.
أما لو كان معه نسوة ويخشى عليهن الضياع، فهذا يرخص له أن يهرول، وهو وجه ثان عند العلماء عندما يشتد الزحام فيهرول بقدر ما يستطيع، وهي ما يسمونها بهرولة الواقف على القول الثاني بأن الرمل هو هز المناكب وتقارب الخطى، على هذا الوجه يحتاط به، وإن شاء الله لا بأس عليه ولا حرج.
والله تعالى أعلم.(394/17)
نصيحة للقائمين على المراكز الصيفية
السؤال
ابتدأت الإجازة؛ فما توجيهكم للقائمين على المراكز الصيفية؟
الجواب
لا شك أن الإخوة الذين يقومون على هذه المراكز من الإخوة الحريصين على الخير، نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله، وعليهم مسئولية عظيمة في توجيه أبناء المسلمين, وحفظ أوقاتهم واستغلالها فيما يفيد، وعلى كل معلم وموجه أن يحرص على الأمور التي لا بد من توفرها لكي يكون توجيهه وتعليمه على السنن، فأساس الخير كله في الإخلاص لله عز وجل.
فعلى هؤلاء الموجهين القائمين على هذه المراكز الصيفية أولاًَ وقبل كل شيء أن يخلصوا لله سبحانه وتعالى، ومن أخلص لله بارك الله قوله، وبارك عمله، وأيده وأعانه ووفقه، ووضع له القبول وألهمه الرشد، وكل ذلك خير له في دينه ودنياه وآخرته.
الأمر الثاني: الحرص على أبناء المسلمين وعلى أوقاتهم، بمعنى النصيحة؛ فإن أبناء المسلمين أمانة في أعناقهم، فينبغي تحبيب الخير إلى قلوبهم، والحرص على وضع البرامج المفيدة والأنشطة النافعة التي يستغل فيها الوقت في طاعة ومحبة ومرضاة الله، فيخرج النشأ ويخرج الابن من هذه الإجازة حافظاً لشيء من كتاب الله، أو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحرص على تذكيرهم بالحكم والفوائد وأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وربط خلف هذه الأمة بسلفها، فقديم الإسلام جديد وجديده قديم، ولن يستقيم أمر هذه الأمة، ولن يصلح إلا بما صلح عليه أولها، وهي الأمة المرحومة باتباع نبيها صلوات الله وسلامه عليه، والأمة المهتدية باقتفاء أثره صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فيحرص هؤلاء الأساتذة الفضلاء على ذلك، وليعلموا علم اليقين أنه ليس لهم من هذا الذي يعملونه ويقضونه من الأوقات إلا ما أرادوا به وجه الله وأصابوا به الحق والصواب.
الوصية الثالثة: الصبر؛ فإن توجيه الناس يحتاج إلى صبر، والصبر في جوانب: الجانب الأول: الصبر على إسداء الخير للغير، فإن هذا يحتم على هؤلاء القائمين أن يبذلوا أوقاتهم وأن يضحوا بكثير من مصالحهم ابتغاء النجاح في توجيه أبناء المسلمين وتعليمهم، ولا شك أن الله مطلع على ذلك كله، فهم إذا استشعروا مراقبة الله لهم، وأبدى كل واحد منهم من نفسه أن يري الله خيراً، وأن يكون بأحسن الأحوال وأفضلها، وطمع من ربه أن يكون على أحسن ما يكون عليه الموجه؛ فهذا لا يكون إلا بتوفيق الله ثم بالصبر، الصبر على هذا التعليم واحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، واستشعار المثوبة منه جل وعلا.
الجانب الثاني: الصبر أثناء التعليم، فإن توجيه أبناء المسلمين والتعليم عموماً يحتاج إلى صبر، لأنه يأتي الجاهل بجهله، والسفيه بسفهه، والطائش بطيشه، والضال بضلالته، فينبغي أن تكون هناك نفس طيبة زاكية كريمة سامية عالية، ترجو رحمة الله عز وجل وتمتص هذه الأخطاء والشرور، ولن تستطيع أن تكون بهذه المثابة ولا بهذه المنزلة إلا إذا تذكرت رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في صبره وتحمله لكثير من المشاق والمتاعب، فهذا يقوي هذه النفوس الأبية الصالحة على الخير.
الجانب الثالث: الصبر على الأذى؛ فإنه ربما يأتي من يشكك ومن يهول ومن يخذل ومن يتهم، وعلى كل موجه ومرب أن يعلم أن الكمال لله عز وجل، وأن الرسل وأتباع الرسل، وكل من قام بهذا الدين لا بد أن يمتحن ويبتلى فيه، ومن كان أصدق في إيمانه، وأصدق في إخلاصه، وأبلغ في الصواب فامتحانه أشد؛ ولذلك ربما يربي أحد أبنائه في هذه المراكز ثم يفاجأ به بعد فترة وإذا به قد انقلب عليه، وهذه نوعيات شاذة، لكن إذا لم يكن عنده صبر فقد يضيع أجره بكثرة غيبته وكلامه وحنقه عليه، ولكن بصبره وتحمله وتذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، وكيف مرت عليهم الشدائد، وأن هذه الأمة أمة مبتلاة ولكنها مرحومة بإذن الله عز وجل، فالعاقبة للمربي بإذن الله إذا صبر ولم يبال، ولم يعرف العجز ولا الخور ولا التواني، بل عزيمته صادقة، ونفسه قوية؛ لأنه يعلم أنه على صواب وحق، ومتى ما علمت أنك على الحق؛ فلا تبالِ بمن اتبع ولا بمن رجع، فعليك أن تستبين الصواب وأن تعمل به، وتصبر على ما يأتيك من التهم ومن التخذيل والتشكيك ونحو ذلك.
ولا مانع من الأخذ ببعض المباحات التي دلت النصوص على جوازها، ولكن ينبغي استغلال الوقت في الأهم في طاعة الله ومرضاته.
والنقطة الأخيرة: نوصي الإخوان من طلبة العلم أن يشدوا من أزر هؤلاء، وأن يشيدوا بفضائلهم وأن ينصفوهم وأن يعلموهم إذا كان عندهم خطأ أو خلل، وأن يبينوا لهم الصواب، وينبغي معونتهم على ما هم فيه من توجيه أبناء المسلمين.
إن الفتن قد عظمت، والمحن قد جلّت وأحاطت بأبناء المسلمين من كل حدب وصوب، وإذا رأيت أحداً يتلقف أو يأخذ ابناً من أبناء المسلمين للحظات في طاعة الله، فاعلم أنه قد أحسن ولم يسئ، كأن يجعله على طريق خير أو حلقة ذكر؛ لأن أبناء المسلمين اليوم إذا لم يأخذهم الأخيار أخذهم الأشرار، ولربما ترى الابن في عز شبابه وزهرة أيامه فيتلقفه ذو شر إلى مجلس مخدرات يدمر به حياته، وذلك بمجلس واحد، ولربما تزل قدمه في الفواحش والمنكرات والمحرمات بجلسة واحدة.
فعلى كل إنسان عاقل وكل إنسان يخاف الله ويتقيه أن ينظر إلى واقع أبناء المسلمين ويتألم ويشفق عليهم مما يرى من المغريات والملهيات، ومما يرى من الكلاليب التي تتخطفهم إلى المصائب والشهوات، فإذا وجد من يدعوهم إلى الخير، أو وجد المراكز الصيفية تحرص على قضاء أوقاتهم في الخير؛ كمل نقصها، وسدد خطاها، وصوب خطأها، وحرص على أن يعين إخوانه على هذه الرسالة، ومثل هؤلاء الأساتذة الفضلاء لا شك أنهم على ثغر عظيم، ونحن والله نقدر ما يكون منهم لأبناء المسلمين.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يمدهم بعونه وتوفيقه، وأن ييسر لهم الأمر، وأن يشرح لهم الصدر، وأن يجزيهم عن أبناء المسلمين بأحسن الجزاء، وأن يكثر من أمثالهم على الصواب والحق والهدى، وأن يلهمنا وإياهم الرشد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله تعالى أعلم.(394/18)
حكم قراءة القرآن من المصحف في قيام الليل
السؤال
إذا كان الإنسان ليس حافظاً للقرآن؛ فهل يجوز له أن يقوم الليل وهو يقرأ من المصحف مباشرة؟
الجواب
لا بأس بذلك ولا حرج، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله أنها كانت تأمر مولاها ذكوان أن يقوم بها الليل بالمصحف، وجماهير العلماء على جواز ذلك وعلى مشروعية أن يحمل المصحف ويقرأ منه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(394/19)
شرح زاد المستقنع - باب حكم المرتد [1]
الإسلام دين رحمة للعالمين، من دخل فيه فقد فاز، ومن خرج منه فهو مفسد في الأرض يستحق العقوبة، وللردة أحكام بينها أهل العلم، وقسموا خلالها الردة إلى ما تقبل التوبة منه في الشرع وما لا تقبل.(395/1)
أدلة تحريم الردة من الكتاب والسنة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد ذكر الإمام المصنف رحمه الله هذا الباب، وترجم له بقوله: (باب حكم المرتد) وهذا الباب يتعلق بعقوبة جناية من الجنايات، وهي راجعة إلى أصل الدين، وهي أعظم جناية وأعظم حدٍ ينتهكه العبد فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ومناسبة هذا الباب لما قبله واضحة ظاهرة، فإنه بعد أن بين حكم الخروج عن جماعة المسلمين شرع في بيان حكم الخروج عن الإسلام والدين.
وهنا يعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان عقوبة المرتد، ومتى يحكم بردة الإنسان وما يسميه أهل العلم بالموجبات وبنواقض الإسلام، ثم ما الذي يترتب على ذلك من عقوبة، ثم يبحثون في توبة المرتد.
فهذه ثلاثة عناصر يبحثها العلماء والأئمة رحمهم الله في باب الردة، ويعتنون بالجانب الفقهي العملي، وإن كان تفصيل المسائل ومباحثها يعتني به أئمة الإسلام رحمهم الله في كتب الاعتقاد.
وقوله رحمه الله: (باب حكم المرتد) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالردة، فهي عقوبة شرعية يستباح بها دم الإنسان وماله، ولذلك تزول عنه عصمة الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث -وذكر منها- التارك لدينه المفارق للجماعة) فهذا هو المرتد.
والأصل أن الردة محرمة بإجماع العلماء رحمهم الله، وهي الذنب الأعظم، والخلل الذي ليس بعده خلل، ولذلك قال العلماء: ليس بعد الكفر ذنب، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] فحرم الله الردة، وأخبر أن صاحبها قد حبط عمله في الدنيا والآخرة، وأنه قد خسر خسارة لا ربح وراءها أبداً، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] فهذا الخسران الذي ليس بعده خسارة.
وكذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين حكم المرتد، وأنه مباح الدم كما في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فبين حرمة الردة، وأنها موجبة لزوال العصمة عن الإنسان.
وأجمع العلماء رحمهم الله على حرمة الردة عن الدين، والنصوص في الكتاب والسنة في هذا المعنى كثيرة، ولكن أردنا أن نشير إلى هذا الأصل، حيث قال العلماء إنه قد اتفقت عليه نصوص الكتاب والسنة والإجماع.
ومدار بحث المصنف رحمه الله في ثلاثة جوانب: الجانب الأول: في حقيقة الردة وبم تكون؟ وهذا ما يسمى بموجبات الردة، وأسباب الردة، ويعبر العلماء عنه بقولهم: نواقض الإسلام.
والجانب الثاني: عقوبة المرتد، وهذا هو الذي يركز عليه الفقهاء رحمهم الله، وأما في مسائل الاعتقاد فيركز العلماء المعنيون بها على بيان أسباب الردة على سبيل التفصيل والبيان الواضح، وقد اعتنى أئمة الإسلام رحمهم الله قديماً وحديثاً بهذا الباب العظيم، ومن أنفس من كتب في ذلك من العلماء المتقدمين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى، حيث بين نواقض الإسلام، ونواقض العقيدة، وكذلك أيضاً اعتنى به أئمة الإسلام رحمهم الله في كتب الاعتقاد ومباحثها، حتى جاء شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله برحمته الواسعة، وكان في عصره قد تفشى في الناس الكفر والشرك؛ حتى أصبح البعض ينسب الأمور المحرمة إلى الدين والشرع، وهو منها براء، فأصبح الناس يتخذون القبور والمشاهد والأولياء يطوفون بها، ويصرفون حقوق الله عز وجل إلى أصحابها، ومن دخل تلك الأماكن فنظر أو سمع أو شاهد أحوال أهلها بكى على الإسلام بكاءً من صميم قلبه، وأحس بغربة الإسلام الحقيقية، حتى إنه ليسمع الرجل ويسمع المرأة تضفي على صاحب القبر من التقديس والمهابة والإجلال والصفات ما لا يجوز صرفه إلا لله وحده لا شريك له.
كما يصرف لتلك القبور ولأصحابها من السجود والطواف والذبح والنذر ما تشيب منه الرءوس، ومن هنا سلط الله على المسلمين الذلة، وأصبحوا بحالٍ -كما يشاهد الإنسان- يرثى له بسبب انهدام أصل الدين، ووجود هذه النواقض التي تضاد شرع الله عز وجل، وما أنزل الله كتبه ولا أرسل رسله إلا لكي يكون الناس عباداً لله لا عباداً لخلقه، وتكلم رحمه الله في كتبه عن نواقض الإسلام، وجاء العلماء من بعد ذلك فشرحوا وفصلوا ذلك وبينوه، وسيبين المصنف رحمه الله جملة من هذه النواقض، وهل للمرتد من توبة على اختلاف أنواع الردة؟ كل هذا ما سيفسره وسيبينه رحمه الله في هذا الموضع.
فاعتنى في الباب الأول بالجزئيتين الأوليين: بيان حقيقة الردة وعقوبة المرتد، وذكر في الجزئية الثانية: ماذا ينبغي أن يفعل بالمرتد من تمام العقوبة، وهل للمرتد من توبة، أو ليست له توبة.(395/2)
تعريف الردة لغة واصطلاحاً
قال رحمه الله تعالى: [وهو الذي يكفر بعد إسلامه] قوله: (وهو) الضمير عائد إلى المرتد، والردة مأخوذة من الرجوع في لسان العرب، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الردة في اللغة هي الرجوع، فمصادر اللغة كلها متفقة على أن مادة الردة راجعة إلى مادة الرجوع عن الشيء.
وأما في الاصطلاح: فاختلفت عبارات العلماء رحمهم الله في حقيقة الردة والمرتد: فبعض العلماء يقول: الردة هي الرجوع عن الإيمان كما يعبر فقهاء الحنفية رحمهم الله.
وبعضهم يقول: كفر المسلم، كما عبر به طائفة من العلماء ومنهم فقهاء المالكية.
وبعضهم يقول: قطع الإسلام، كما يعبر فقهاء الشافعية.
وبعضهم يجمع بينها كما اختاره الإمام ابن قدامة رحمه الله فقال: المرتد هو الراجع عن الإسلام إلى الكفر، فجمع بين الاثنين، والمعنى واحد.
ومن هنا نجد التعاريف الاصطلاحية تختلف ألفاظها وتتفق معانيها، فكلهم اتفقوا على وصف الردة بكونها رجوعاً عن الإسلام، وهذا هو ظاهر القرآن: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة:217] فظاهره أنه يرجع بعد إسلامه إلى الكفر، نعوذ بالله العظيم من ذلك، ونعوذ بوجه الله العظيم أن يسلب الإسلام منا بعد أن وضعه في قلوبنا، ونسأله أن يزيدنا ولا ينقصنا منه.
فتعريف المرتد بأنه: هو الراجع عن الإسلام، أو الراجع عن الإيمان، أو الرجوع عن الإيمان، أو كفر المسلم؛ المعنى كله واحد، وهذا الرجوع له أسباب ودلائل وأمارات وعلامات، منها ما يرجع إلى الاعتقاد، ومنها ما يرجع إلى الأقوال، ومنها ما يرجع إلى الأعمال، وتكون هذه الاعتقادات والكلمات والأعمال موجبة للحكم بكفر صاحبها.(395/3)
صور ومظاهر الردة(395/4)
المظهر الأول: الشرك بالله
قال رحمه الله: [فمن أشرك بالله].
الفاء للتفريع، والشرك أصله مأخوذ من قولهم: شرك الشيء بالشيء إذا جمعه وخلطه به، فالشِرك والشُرك والشَرك مثلثة هي الخلطة، والأصل أن تكون فيما فيه الاختصاص، فيجمع بين من اختص بالشيء وبين غيره، فحينئذٍ يكون قد شرّك أو شرك به غيره.
والمشرك من جعل لله نداً، سواء كان ذلك في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته، فالذي يعتقد أن هناك خالقاً مع الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- فهو يقول: الله خالق، ولكن أيضاً الطبيعة تخلق مع الله.
فهذا جعل مع الله نداً، وهذا شرك في الربوبية، وهكذا إذا اعتقد أن هناك من يرزق، وأن هناك من يصور المخلوقات ويوجدها، ويقدر الأشياء، فإن هذا كله شركٌ في الربوبية.
وإذا أشرك مع الله غيره في ربوبيته أشرك مع الله غيره في ألوهيته، فاستغاث بغير الله، واستجار بغير الله، واعتقد أن هناك من يصرف الكون مع الله، وأنه ينبغي الرجوع إليه والاستغاثة به، والتقرب إليه -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- كما يفعل البعض ممن يعتقد أن للجن نفوذاً وتصرفاً في الكون، ولذلك يستغيثون بهم ويستجيرون بهم ويذبحون لهم، نسأل الله السلامة والعافية.
والله تعالى يقول عن خلقه الضعيف -الجن- الذين يعظمونهم ويذبحون لهم: {وَأَنَّا ظَنَنَّا} [الجن:5] أي: أيقنا، وهنا استعمال الظن بمعنى اليقين والحكاية هنا عن عظماء الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12] فلا يستطيع أحد أن يخرج عن قهر الله سبحانه وتعالى؟! فالجن خلق الله ولا يجوز اعتقاد أن هؤلاء الجن يدبرون ويتصرفون.
ويستوي في شرك الألوهية دعاء الجن أو دعاء رجل صالح أو طالح في قبره، أو دعاء وثن أو الاستغاثة به مع الله، نسأل الله السلامة والعافية.
النوع الثالث: أن يكون شركاً في الأسماء والصفات، فيجعل صفات الله عز وجل لغيره، فيصرفها لغير الله عز وجل أو يثبتها لمخلوق مع الله عز وجل، كمن يعتقد في بعض الناس أنه يعلم الغيب ويعلم ما سيكون، كما وقع في أئمة طوائف الضلال حين عظموا أئمتهم، واعتقدوا أنهم يعلمون ما يكون ويحدث في الكون، والله عز وجل أخبر في كتابه ونص على أنه لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] فعلم الغيب هذا مما استأثر الله به، وهو سبحانه موصوف بأنه عالم الغيب والشهادة، جل جلاله وتقدست أسماؤه، فإذا اعتقد أن الشيخ أو أن الولي الفلاني يعلم ما يكون وما يحدث؛ فإنه قد صرف ما لله لغير الله.
قوله: (فمن أشرك) أي: بناقض من نواقض الإسلام، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] وهي الموجبة الكبرى التي توجب لصاحبها الخلود في النار، وحلول غضب الله عز وجل عليه أبد الآبدين.
ويستوي في ذلك أن يجعل لله نداً من الصالحين أو غيرهم؛ كقوم نوح الذين جعلوا أنداداً مع الله عز وجل، من ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فقد كانوا قوماً صالحين، فجاء الشيطان قومهم وقال لهم لما ماتوا: إنهم كانوا قوماً صالحين، فلو أنكم صورتم صورهم وفعلتم لهم تماثيل تذكركم عبادتهم وصلاحهم واستقامتهم، فتجتهدون إذا رأيتموهم، ففعلوا ذلك، فاجتهد الجيل الأول في العبادة، فلما انقرضوا خلف من بعدهم خلوف، فقال لهم الشيطان: إنه لم يصور آباؤكم هؤلاء إلا ليعبدوهم، فعبدوهم، فوقع الشرك -والعياذ بالله- مع أنهم قومٌ صالحون.
وقد قال الله تعالى عمن يشرك الصالحين مع الله عز وجل من الأنبياء وغيرهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] أي: هؤلاء الذين تدعونهم كعيسى حين تعبده النصارى مع الله عز وجل، وتعتقد أنه ثالث ثلاثة، وأنه ابن الله وأنه هو الله، وهو أصلاً يدعو ربه، ويستغيث بالله عز وجل، ويسأل الله سبحانه وتعالى، فعتب الله عليهم أن صرفوا حقه لهؤلاء الصالحين.
فالشاهد أنه إذا صرف العبد حق الله عز وجل لغيره فقد أشرك، سواء كان الغير وثناً لصالح أو لطالح، كل ذلك يوجب الحكم بردته وخروجه عن الإسلام.(395/5)
المظهر الثاني: جحد الربوبية والوحدانية لله تعالى
قال المصنف رحمه الله: [أو جحد ربوبيته أو وحدانيته] فلو قال: إن الله ليس برب.
وهذا ما يعتقده الدهريون وأهل الطبيعة الذين يقولون: لا يوجد رب لهذا الوجود! والحياة أوجدت نفسها، والطبيعة هي التي أجرت الأنهار والرياح، وهي التي أخرجت الثمار، وهي التي والتي فكل شيء للطبيعة، حتى إنك تجد من بعض المسلمين من يقول: من خيرات الطبيعة! أي طبيعة يزعمون؟ أفٍ لهم ولما يدعون.
وصدق الله حيث قال: {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67] يخلقه ربه ويطعمه ويسقيه، ثم يزعم أنه لا رب ولا خالق لهذا الوجود، فهؤلاء لا يريدون أن ينسبوا المخلوقات لخالقها سبحانه، والله يقول: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:3]؟
الجواب
لا، فلا خالق إلا هو سبحانه، وهم يقولون: الطبيعة.
بل انظر كيف ينزل ذلك الكفور إلى مستوى الحضيض، حيث يكرمه ربه فيهين نفسه، ويرفعه ربه فيضع نفسه، فالله عز وجل يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] ويأتيك بالحق على أجمل وأجل وأكمل ما يكون من إتيان، فيبين لك أن الله خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد لله ملائكته، فكرمه وشرفه وفضله فيقول سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] ثم يأتي الشقي التعيس المنكوس ويقول: إن الإنسان أصله قرد! أي حضيض وصل إليه؟ {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] هذه الجاهلية وهذا الهبوط من الكفران.
ثم بين الله سبحانه وتعالى في نصوص الكتاب أنه خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وأنه قسم أرزاقهم فلم ينس منهم أحداً، وأنه تولى أمورهم فرداً فرداً، جل جلاله وتقسدت أسماؤه، فإذا بهم يشرِّكون بين المخلوق والخالق، وإذا بهم يصرفون أبناء المسلمين عن هذه الفطرة إلى الكفر بأساليب شتى، وألاعيب مكذوبة وأغاليط لا تنطلي إلا على السذج، وأهواء وترهات لا تعقل، حتى إن الأرزاق التي وضعها الله عز وجل وسخرها لعباده ولإمائه ولخلقه في هذا الكون كان الأصل أن تصرفهم إلى الاعتقاد بالله، لا للاعتقاد بغير الله، وإليكم مثال بسيط على ما سبق: يقولون وهم يتحدثون عن تاريخ البترول: إنه منذ ألف مليون سنة كان هناك حيوان يقال له: الديناصور -معروف طبعاً أن الديناصور انقرض- ثم توالت عليه أطباق الأرض فمات، وبفعل الحرارة ثم بفعل الضغط.
إلخ فانظر ما عندهم من قياسات، وبالإمكان أن يعطوك عدد الأطباق التي نزل إليها هذا الديناصور حتى أصبح بترولاً.
إن الإنسان إذا جاء يكذب يأتي بشيء يستساغ كما يقولون، فالديناصور من ذكائه ما وجد مكاناً يموت فيه إلا في الخليج، أو في عرض البحر، هم يقولون كل شيء إلا أن يقال: إن الله خالق كل شيء، ويجوز عندهم كل شيء إلا أن يصرف حق الله لله وحده لا شريك له، هذا حتى يعلم الإنسان مدى تمرد الكافر على ربه والعياذ بالله! وانظر إلى التشريف والتكريم الذي يكرم الله عز وجل به بني آدم، وانظر كيف ينصرف المخلوق عن خالقه، يعمل مع الشياطين {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام:71] فهو في الحيرة والضلال والحضيض؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] فكل من كفر بالله، وجحد ربوبية الله عز وجل، أو جحد حقاً من حقوق الله عز وجل ليذيقنه الله الذلة والصغار، حياً وميتاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأذن أن يصرف حقه عنه جل جلاله.
فهم يقولون: لا يوجد خالق! -والعياذ بالله- وكل شيء يلقن إلى أبناء المسلمين على أن الأشياء كلها طبيعة، وأنه ليس هناك إله، ومن هنا جاءت العناية في دعوة هؤلاء، والعناية بنصوص الكتاب والسنة، ومن أعظمها نصوص الآيات الجميلة الجليلة البديعة -وكل آيات الله جميلة جليلة بديعة- التي أخذت بمجامع القلوب في القرآن، فلفتت نظر الإنسان إلى السماء فوقه، وإلى الأرض تحته، وإلى الأشجار والثمار والأنهار والرياح المرسلة التي تسبح بحمد ربها، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، تسبح بحمد ربها وتقدس له جل جلاله {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44].
فمن جحد ربوبيته يقول: ليس هناك خالق، ولا رازق، وينفي عن الله عز وجل أنه يخلق الخلق، أو يرزقهم، فإذا جحد بالربوبية كفر بالله عز وجل، وحكم بردته.(395/6)
المظهر الثالث: سب الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله: [أو سب الله أو رسوله] السب: الانتقاص والاستخفاف، وقد تكلم العلماء في ضابط السب، وأشار إليه القاضي عياض رحمه الله في الشفا عند حكم سب النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء، وأشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول؛ لكن من أجمع ما ذكروه أن السب هو الانتقاص والاستخفاف، فمن انتقص إنساناً، أو استخف به؛ فقد سبه، وهذا هو ضابط السب، الذي به يحكم أن الكلام يعتبر سباً أو لا يعتبر.
وسب الله عز وجل جريمة وجرأة عظيمة على حدود الله عز وجل، وما أحلم الله سبحانه وتعالى، وعزة ربي لو أذن الله للأرض أن تفتك بهذا الكافر الفاجر الظالم الذي يسب ربه ما أبقت منه شيئاً، لخسفت به ولتزلزل فيها، ولو أذن سبحانه للسماء لأرسلت عليه قاصفة، فأخذت عمره، وأخرست لسانه، ولكن الله حليم، ولذلك على المؤمن إذا سبه أو آذاه أو انتقصه الناس، أن يتعزى بصفوة خلقه من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، الذين نالهم من ذلك الشيء الكثير.
فموسى عليه السلام اشتكى إلى ربه حين تكلم الناس فيه، فقال الله: يا موسى! إني أنا ربهم، أطعمهم وأرزقهم، ثم يدعون أن لي صاحبة وأن لي ولداً.
فهذا عزاء لكل مسلم، أن يتعزى إذا جاءه البلاء، ومن حلم الله ورحمته أن يوفق للتوبة من فعل هذا الأمر.
والسب لله موجب للكفر والردة، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.
قوله: [أو رسوله] من سب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يحكم بكفره، وحكى الإجماع غير واحد من الأئمة والمحققين منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وقبله القاضي عياض، وغيرهم رحمة الله عليهم، فأجمعوا على أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم كافر ومرتد، وانتقاص النبي صلى الله عليه وسلم وسبه ولعنه -بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه- موجب للكفر؛ لأن هذا مضاد تماماً لأمر الله سبحانه وتعالى.
قالوا: لأنه يتعلق بالدين، وسبه وانتقاصه عليه الصلاة والسلام انتقاص للدين، ولذلك فالعلماء رحمهم الله يدققون في هذه المسائل، وتجد أن الكلام في الأنبياء وفي رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم محرم، وحرمتهم مبنية على حرمة الشرع؛ لأنهم رسل الله، وصفوة الله من خلقه.
ومن هنا ننزل الكلام في العلماء والأئمة أنه طعن في الدين، كما يفعل بعض الفساق إذا قيل لهم: إن العلماء يفتون بكذا وكذا؛ فإنه يسبهم أو يشتمهم -والعياذ بالله- وهذا أمر خطير جداً؛ لأن هؤلاء العلماء تكلموا بالشرع، ونطقوا ونصحوا به، فالكلام فيهم يعتبر كلاماً في الشرع وانتقاصاً فيه، ومن هنا قال العلماء: لو أن الخصم -وسيأتينيا إن شاء الله- سب القاضي في مجلس القضاء فإنه يؤدب ولو سامحه القاضي؛ لأن هناك حقاً للشرع، فإذا القاضي تسامح بحقه فقد بقي حق الله عز وجل في حرمة مجلس القضاء، ولأن انتقاص القضاة انتقاص للدين وحكمه، وكذلك انتقاص العلماء كما قال صاحب التحفة: ومن جفا القاضي فالتأديبُ أو لا وذا لشاهدٍ مطلوب إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم سباً مباشراً باللعن -والعياذ بالله- أو انتقصه، كأن يصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً ينتقصه به، كأن يقول: إنه بدوي يرعى الغنم، وقصد به التحقير له صلوات الله وسلامه عليه، ونحو ذلك من العبارات؛ فإنه يحكم بكفره، وقد ألف في هذه المسألة وفصل فيها العلماء رحمهم الله، ويعتبر كتاب شيخ الإسلام رحمه الله (الصارم المسلول على شاتم الرسول) صلى الله عليه وسلم من أنفس هذه الكتب، حيث فصل فيها.
ومما يحكى أن شيخ الإسلام رحمه الله كان في مجلس، فسب نصرانيٌ النبي صلى الله عليه وسلم فجرد سيفه وقتله، وبعض العلماء رحمهم الله بينوا هذه المسألة وممن بينها من المتقدمين القاضي عياض في الشفا، وغيره من فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية، وحكى غير واحد الإجماع على ردة من سب النبي صلى الله عليه وسلم.
[فقد كفر] جاء بـ (قد) التي تدل على التحقيق، وقوله: (كفر) أي: يحكم بكفره.(395/7)
المظهر الرابع: جحد ما علم من الدين بالضرورة
يكون الكفر بالاعتقاد كما ذكرنا في الشرك، ويكون بالأقوال: كسب الله عز وجل وسب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هنا مسألة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وتحليل الحرام، أي اعتقاد حل الحرام المجمع عليه، أو عكسه من اعتقاد حرمة الحلال المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، أو الذي قامت الحجة بتحليله أو تحريمه.
يقول رحمه الله: [ومن جحد تحريم الزنا] والزنا من الأمور المعلومة الظاهر تحريمها، وقد اتفقت الشرائع السماوية على تحريم الزنا، وليست هناك شريعة تجيز الزنا، ولذلك لو قال: إن الزنا حلال، ولا شيء فيه، وبعضهم يقال له: إن هذا الرجل زنا بالمرأة، يقول: لا بأس، هذه حرية، وليفعل ما يشاء، والمرأة حرة تفعل ما تشاء، فإن شاءت أن تزني فلها ذلك، وكذلك الرجل فهذا تحليل لما حرم الله، وإذا اعتقد حل ما حرم الله فهو يكذب الله، فإن الله يقول: هذا حرام، وهو يقول: هذا حلال! وحينئذٍ يكون قد ضاد الله في شرعه وحكمه، وتحليل الحرام كتحريم الحلال، وإن كان الشهوات تختلف في تحليل المحرم بخلاف تحريم الحلال، فإن هذا جانب إفراط والثاني جانب تفريط، فالأول يُفْرِط والثاني يفّرط.
قوله: [أو شيئاً من المحرمات الظاهرة] أي: إذا كان الشيء محرماً وظاهر التحريم، ولا يكون ظاهر التحريم ولا واضح الحرمة إلا بالنصوص من الكتاب والسنة، وعند اعتقاده للضد يكون -كما ذكرنا- قد ضاد الله في شرعه، وحينئذٍ يكون موجب التكفير تكذيبه لله عز وجل، وتكذيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنت ترى الرجل حينما تقول له: إن الله حرم الزنا، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم، وعاقب من فعله، فيقول: ليس فيه شيء.
فما معنى هذا؟ معناه أنه يكذب الله ويكذب رسوله، لأنه يقول: ليس فيه شيء! والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] وهو يقول: لا، ليس فيه شيء، وهذه حرية، وهذا انطلاق، أو يأتي بالعكس، فيقول: هذا حكم متحجر، هذا تخلف، لكن بشرط أن يكون معلوماً عنده، أي: لا يكون حاله يوجب العذر لوجود شبهة فيه.
مثلاً: لو أن شخصاً أسلم وكان حديث الإسلام، وبيئته فيها الإباحية -والعياذ بالله- أو بيئة فيها جهل، ويقعون في المحرمات، فيشربون الخمور ويفعلون الزنا، فأسلم ثم شرب الخمر أو فعل الزنا، فقيل له: إن الزنا حرام، قال: لا، الزنا ليس فيه شيء، نقول: إن هذا معذور لجهله، فتقام عليه الحجة، ويعلَّم.
قوله: [المجمع عليها] أي: كالخمر والربا، ونحو ذلك من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها، فإذا قال: ليس فيها شيء، وكذب الله رسوله في حكمه وضادهما في الشرع؛ فإنه يحكم بردته والعياذ بالله.
قوله: (بجهل) أي: إذا كان يجهل الحكم، فهذه من المسائل التي نص العلماء فيها على العذر بالجهل، وذلك أن يكون الشخص حديث عهد بإسلام وقد وقع هذا، ونعرف بعض الحوادث حيث أسلم الشخص وكان حديث العهد بإسلام، ثم قيل له بعض المحرمات الظاهرة، فقال: ليس فيها شيء، ثم قيل له: لا، إن الله عز وجل يقول، ورسوله عليه الصلاة والسلام يقول، والشرع يحرم هذا الشيء؛ فقال: سمعت وأطعت، فمثل هذا كان معذوراً في جهله، وحينما نطق بحكم الحل، فإنه معذور في هذا، ولا يحكم بكفره بذلك.
قوله: (عُرِّف ذلك) أي: أقيمت عليه الحجة، وبُين له نص الكتاب والسنة والأدلة التي تدل على التحريم، أو التحليل إذا حرم حلالاً، كما يفعله الغلاة من الزهاد والمتنطعين والغالين في العبادة، فمن غلا في تحريم شيء ثم قيل له: هذا الشيء أحله الله، وكان حديث عهد بإسلام ولا يعلم هذا التحليل وأقيمت عليه الحجة؛ فإنه حينئذٍ إذا أقيمت عليه الحجة ورجع، لا يحكم بردته وكفره؛ سواء حلل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله.
قوله: [وإن كان مثله لا يجهله كفر] أي: حكم بكفره في الظاهر، كشخص يعيش بين المسلمين، وولد بينهم، ويعرف أحكام الإسلام وشرائعه، وفجأة جاء وقال: إن الزنا حلال! أو إن الخمر حلال، أو إن الربا حلال، فمثل هذا لا يجهل هذه الأمور، وليس بجاهل فيعلم، فإذا توفرت الدواعي وقامت الأمارات، وكان الظاهر على حاله وبيئته أنه يعلم أخذ بهذا الظاهر، وحكم بكفره ظاهراً، كما يقولون: حكم القضاء، وحكم الديانة.
لكن لو أنه بين لنا شبهة واضحة يعذر بها عذرناه، لكن في الظاهر نحكم بكونه كافراً، فلو خرج رجل من بين المسلمين في بيئة إسلامية معلومة فيها شرائع الإسلام وقال: الزنا ليس فيه شيء! هل نقول: إن مثل هذا يعذر بالجهل، أو يؤخر حتى نقيم عليه الحجة؟ هذه أمور ظاهرة وواضحة، فمثل هذا يحكم بكفره في الظاهر.
وأما إذا كان هناك ما يحتمل؛ فإنه ينتظر حتى تقام عليه الحجة، وإذا ثبت جهله، فإنه يعذر بالجهل.(395/8)
حكم الاستهزاء بالصالحين وشعائر الدين
ذكرنا أن السب معناه: الانتقاص والاستهزاء، وهنا نحب أن ننبه على مسألة مهمة جداً وهي: مسألة الاستهزاء بشرائع الإسلام أو بالأخيار والصالحين، أو بالعلماء، وهذا لا شك أنه تفشى كثيراً خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، وكل من عنده ديانة واستقامة فإنه يتقرح قلبه ويتألم أشد الألم حينما يرى ويسمع من الجرأة على حدود الله عز وجل ومحارمه والاستهزاء بالدين، أو الاستهزاء بشعائر الدين، ومسألة الاستهزاء من الأمور التي يجب على طلاب العلم وعلى العلماء أن يبينوا ويكشفوا للأمة حكمها وحكم هؤلاء الذين ينتقصون الإسلام وأهله.
فبعض أهل الهوى -نسأل الله بعزته وجلاله أن يهديهم ويصلحهم وإلا أن يقطع دابرهم عن الإسلام والمسلمين؛ وأن يخرس ألسنتهم- تجده إذا كتب لا يجد شيئاً يكتب فيه إلا الأخيار والصالحين، فيلمزهم في سلوكهم، وينتقصهم في ديانتهم واستقامتهم، وكأنه لا هم له في صحيفته أو مقاله أو كتابته أو توجيهه إلا هؤلاء الأخيار الصالحين، فتارة يقول: إنه دخل مسجداً فرأى شخصاً على صفة كذا وكذا، ويأتي بصفات أناس على خير واستقامة ثم يقول: وقال لي، وقلت له، والله أعلم بصدقه من كذبه، ولكنه سيقف بين يدي الله عز وجل، وسيعلم إذا كان ظالماً أي منقلب ينقلب إليه.
إن هذه الكتابات المشبوهة التي تشكك الناس في ثوابتها، وتطعن في دينها، وتريد سلخ شباب الأمة من الدين ومحبته، ومن محبة الخير والصلاح، كل هذه الأقلام المشبوهة ينبغي أن تكف وأن تتقي الله عز وجل قبل أن يعاجلها الله عز وجل بعقوبته، ووالله ما من أحد يتهكم بهذا الدين، ويستخف به، إلا أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وليعلم كل أحد أن الكلمة كلمة الله، وأن الدين دين الله، وأنه سيبقى ما بقي الملوان وتعاقب الزمان، بعز عزيز وذل ذليل، وإن ظن هؤلاء أنهم يطفئون نور الله عز وجل فقد ظنوا كذباً، والشيطان قد مكر بهم بهذه الظنون، وسيوردهم الموارد كما أورد من قبلهم، إذا لم يتوبوا إلى الله ويرجعوا.
إن هذه الأفعال وهذه الكتابات من أسباب الإرهاب؛ لأنها تحرض الشباب وتحرض من ينتسب إلى الإسلام على أن يخرج عن طوره، حتى يشك في مجتمعه حينما يجد شخصاً يتبجح في ذات الله عز وجل، ويكتب كتاباً أو ينشر مقالاً يطعن في الله عز وجل وفي أسمائه وصفاته، أو يعرض مسرحية، أو نحو ذلك يستخف فيها بالدين، أو يطعن بها في الدين، ولا يجد له سلعة إلا الدين، رغم كثرة الأمور التي تحتاج إلى الإصلاح والبناء، وإقامة المعوج فيها وتسديد الناس ودلالتهم على ما فيه الخير، وشباب الأمة أحوج ما يكونون إلى أيدٍ أمينة وإلى أقلام نظيفة تبني ولا تهدم، وتصلح ولا تفسد.
الدين هو صلاح كل شيء، وأساس كل خير، ومنبع كل فضيلة، من لم يعرف هذا عن الدين فقد ظلمه وجهله، فعليهم أن يدركوا إدراكاً تاماً أن هذا كله سيكون وبالاً عليهم، وعليهم أن يعلموا أن هذا الدين كبيت الله عز وجل، وأن للبيت رباً يحميه، ودين الله عز وجل ماضٍ.
واعلموا أن الأمة عامة وشباب الأمة خاصة أحوج ما يكونون إلى إصلاحهم في مجتمعاتهم، وإصلاحهم في سلوكهم، في أخلاقهم، في توجهاتهم، في أفكارهم، لبناء أنفسهم ولبناء مجتمعاتهم وأوطانهم وشعوبهم، ولكن للأسف أن هذه الجهود والطاقات توجه كلها ضد الدين.
وليعلم هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى له سننٌ لا تتبدل، وله سنن لا تتحول، وكم من شقي عنيد خرج عن المنهج السوي؛ فلعنه الله لعنة دخلت معه في قبره كل شيء إلا اللعب بالدين والاستهزاء به! وإن كان هناك شيء في هذا الأمر فليس هناك أعظم من حرمة الإسلام، ومن حرمة الدين، التي من أجلها أقام الله سماواته وأرضه، وأوجد هذا الكون كله شواهد على هذه الكلمة الصادقة، فكل هؤلاء إذا عبثوا بهذا الدين عليهم أن يعلموا أن الله سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وعلى الآباء والأمهات، وعلى الأسر والمجتمعات، وعلى الناس أفراداً وجماعات، أن ينتبهوا من غرس أسلوب التهكم والسخرية ولو من بدايته، فكل ما يتصل بالدين يقفل باب السخرية به ما أمكن، ويقفل باب الاستهزاء؛ لأن الشيطان يستدرج، وعلى كل إنسان أن يحذر، حتى أن بعض الصالحين يشتكي من بعض إخوانه أنه يقول له كلمات قد تكون مشابهة لكلمات بعض أصحاب تلك المقالات المشبوهة، فعلينا أن نربي أولادنا وأن نربي أنفسنا على تعظيم شعائر الله {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، فالدين أشعر الله بتعظيمه، فينبغي الحذر من مثل هذا.
وأذكر على سبيل المثال أن الشيخ الأمين رحمه الله كان يخرج من باب وكان يضع حذاءه عند رجل عند الباب، ويعطيه ما تيسر، وذات يوم كان الشيخ خارجاً من درسه، وكان مشغولاً بالإفتاء؛ يسأله سائل ويفتيه وهو في طريقه، فلما وقف بالباب وضع الرجل حذاءه، فانتعل الشيخ رحمه الله، فقال الرجل: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل:12] يريد مالاً، فغضب الشيخ غضباً شديداً وكهره وطرده، ولم يأذن له أن يأخذ حذاءه بعد ذلك اليوم، كل هذا حتى لا يستدرج الشيطان الإنسان من حيث لا يشعر.
ومن هنا ينبغي تعظيم شعائر الله من الآيات والأحاديث والنصوص وكل ما يتصل بالدين، وينبغي تربية الأبناء والبنات والأفراد والجماعات على تعظيم هذا الأمر، وعلى الخطباء وطلاب العلم دائماً أن يغرسوا هذا الأمر، خاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الاستخفاف بحرمات الدين.
الخلاصة أن الاستهزاء ذكره العلماء، وبينوا أنه من موجبات الردة، قال بعض العلماء: إن الاستهزاء بالدين والاستهزاء بشعائر الدين وبالصالحين من أسباب سوء الخاتمة -والعياذ بالله- فالغالب أن صاحبها إذا استمرأ هذا وأصبح لا يجد له فاكهة، ولا يجد له لذة، ولا يجد له سوقاً إلا في السخرية والاستهزاء بما ذكرنا؛ فإن هذا يقود -والعياذ بالله- إلى سوء الخاتمة.
ومن قال الكلمة التي تغضب الله عز وجل وتوجب لعنته؛ لعنه الله، فإذا استدرج - نسأل الله السلامة والعافية - لعنه الله لعنة دخلت معه في قبره، وختم له بخاتمة الأشقياء، ولذلك ينبغي الحذر من هذا ما أمكن، ومعلوم لديكم قصة الذين كانوا يستهزئون بالصحابة رضوان الله عليهم حينما قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
وقال بعض العلماء: هناك من طوائف الضلال من يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويستهزئ بهم، يقول: وبالاستقراء قل أن نجد منهم تائباً، وقل أن نجد منهم من يصلح حاله، وجدنا عبدة الأوثان يرجعون، ولكن هؤلاء تجدهم يتشبثون بسب ولعن الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن قل أن تجد منهم تائباً، وهذا يدل دلالة واضحة على الحذر من الاستخفاف والاستهزاء بأولياء الله عز وجل، وبالأخص أهل العلم.
وهذا مما أحببنا التنبيه عليه؛ لأنه كثر، خاصة في بعض مواقع الإنترنت ونحوه -نسأل الله السلامة والعافية- ولعل الله أن ييسر بعض الكلمات إن شاء الله في المستقبل نبين فيها ما ينبغي على طلاب العلم وعلى الأخيار من الحذر من هذه الآفات، فقد أصبحت أراضي المسلمين، وأصبح الإسلام وكرامته ومكانته وهيبته سوقاً لأمثال هؤلاء، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يهديهم وأن يصلح من شأنهم، وأن يتوب علينا وعليهم، وإن لم يكونوا مهتدين أن يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، وأن يقطع دابرهم عن الإسلام والمسلمين، إنه على كل شيء قدير.(395/9)
شرح زاد المستقنع - باب حكم المرتد [2]
الحكم على الشخص بالردة بحيث يستحق عقوبتها لابد أن تتوفر فيه شروط موجبة للعقوبة، ثم إن الردة تختلف باختلاف موجبها، فهناك من أنواع الردة ما قد يحكم بعض العلماء بعدم قبول التوبة منها، كسب النبي صلى الله عليه وسلم.(396/1)
اشتراط الاختيار والتكليف في المرتد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار] بعد أن بين لنا المصنف رحمه الله أدلة تحريم الردة شرع في الجزيئة الأخيرة وهي ما يترتب على الردة، فقال رحمه الله: (فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار).
قوله: (وهو مكلف) أي: والحال أنه مكلف، والتكليف يكون بالبلوغ والعقل، فلو قال كلمة الكفر وهو صبي لم يؤاخذ، واختلف في الصبي المميز، أما إذا كان مجنوناً فلا إشكال، والنصوص تدل على سقوط المؤاخذة عن الصبي والمجنون كما في حديث علي وعائشة رضي الله عن الجميع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ) فهذا يدل على أن كلاً من المجنون والصبي غير مكلف، وأنه لو حصل منه ما يوجب الردة لم يحكم بردته وكفره.
وقوله: (مختار): الاختيار ضد الإكراه، وعلى هذا يشترط أن يقول كلمة الكفر أو يقول ما يوجب الردة دون وجود إكراه، فلو أكره على أن يقول كلمة الكفر -والعياذ بالله- أو يفعل ما فيه الكفر، فإنه إذا توفرت فيه شروط الإكراه حكمنا بعذره؛ لأن الله تعالى يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] فنص سبحانه وتعالى على العذر بالإكراه، وقد نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن أبيه وأمه، فإنه لما أكره على كلمة الكفر قالها.
وذكرنا في طلاق المكره شروط الإكراه وهي: أن يهدد الإنسان بما فيه ضرر، وأن يكون هذا الضرر أعظم مما يطلب منه، من ناحية أن يحصل به العذر للشخص في نفسه، ويدخل في ذلك أهله وعرضه، وأن يغلب على ظنه أن المهدد يفعل ما هدد به، وألا يمكنه الفرار ولا الاستغاثة، وأن يكون التهديد حالاً لا مؤجلاً ولا مؤخراً، وألا يكون الإكراه على الباطن، بمعنى أن يقول كلمة الكفر في الظاهر، ولكنه يعتقد الإيمان في الباطن لقوله تعالى: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].
وهذه الشروط إذا توفرت حكم بكون الإنسان مكرهاً، فإذا كان مكرهاً سقطت مؤاخذته، فلو وضع عليه السلاح وقيل له: إذا لم تقل كلمة الكفر قتلتك، فحينئذٍ إن غلب على ظنه أنه يفعل ذلك، فيجوز له أن يأخذ بالرخصة.
واختلف العلماء على قولين: هل الأفضل أن يصبر ويحتسب نفسه عند الله عز وجل، أم الأفضل أن يأخذ برخصة الله عز وجل؟ من أهل العلم من قال: الأفضل أن يصبر، كما صبر الإمام أحمد رحمه الله برحمته الواسعة، فخلد الله ذكره في العالمين، لموقفه المشهود له في فتنة خلق القرآن، ونسي غيره، ومع أن غيره صبر، ولكن ما صبر عليه رحمه الله وعاناه كان عظيماً، فلم يأخذ بالرخصة، وجعل الله عز وجل له فيها مبوأ صدق في الدنيا، ونسأل الله أن يبوئه مبوأ صدق في الآخرة وأن يقدس روحه وأن ينور ضريحه وأن يجزيه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء.
ومن أهل العلم من يفصل بين من هو قدوة، أو ليس بقدوة، أو غلب على ظنه أن يكون لها أثر في دعوته، فهذا الأفضل أن يصبر، وهذا القول هو الأولى بالصواب إن شاء الله، فإنه لو نظر إلى الأحوال وما يترتب من حسن البلاء وحسن العاقبة؛ فإن بعض البلاء يزيد في إيمان الناس وثباتهم على الحق.(396/2)
لا تشترط الذكورة في المرتد
قوله: [رجل أو امرأة] يستوي في الردة الرجل والمرأة، فإذا وقعت الردة من الرجل أو المرأة؛ فإن كلاً منهما يعاقب بعقوبة المرتد، فمذهب جمهور العلماء رحمهم الله، أن الردة من المرأة توجب عقوبتها، وأن المرأة إذا ارتدت يقام عليها حد الردة كما يقام على الرجل.
وخالف في هذا المسألة بعض السلف كـ ابن عباس رضي الله عنهما وبعض الصحابة، وهو مذهب الحنفية وطائفة رحمة الله على الجميع، قالوا: إن المرأة إذا ارتدت لا تقتل، وسيأتي أن النص عام في قوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه) فإنه من صيغ العموم التي تدل على شمول الحكم للرجال والنساء على حد سواء.(396/3)
أقوال العلماء في حكم استتابة المرتد
قوله: (دعي إليه ثلاثة أيام).
أي: دعي إلى الإسلام والرجوع مدة ثلاثة أيام، وهذا ما يسمى بالاستتابة، وهي أن يطلب منه الرجوع عن هذا الأمر الموجب للكفر ثلاثة أيام، فيعرض عليه أن يتوب إلى الله ويرجع.
وهذه الاستتابة يتفق جميع العلماء على استحبابها، وقد وقعت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرغبها فيها كما في قصة معاذ رضي الله عنه، ودرج على ذلك العلماء والأئمة.
ولكن
السؤال
هل يجب أن يستتاب، أم أنه يجوز لولي الأمر أن يقتله فوراً؟ فلو رفع إلى القاضي وشهد الشهود أنه مرتد وبقي على ردته ولم يرجع؛ فهل يجوز للقاضي أن يقتله ابتداءً بعد ثبوت ردته؟ أو قال كلمة الكفر أمام القاضي، فأمر القاضي بقتله فوراً؛ هل يجوز له ذلك أم يجب عليه أن ينتظر ثلاثة أيام؟ جمهور العلماء رحمهم الله على وجوب الاستتابة، وأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام، وذهب الشافعية في قول والحنابلة في رواية، وصححها غير واحد من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه وهو قول طاوس بن كيسان رحمة الله على الجميع، أن هذا على الاستحباب وليس على الحتم والإيجاب.
واستدل الذين قالوا بالوجوب بقصة عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه جاءه رجل من اليمن، فقال له: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم، رجل ارتد عن دينه إلى دين السوء -كان يهودياً ثم أسلم، ثم رجع إلى اليهودية- فقال: ما فعلتم به؟ قال: قربناه فقتلناه، فقال: هلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً؛ لعله أن يتوب، لعله أن يرجع إلى ربه، اللهم إني لم أشهد ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني.
رواه مالك في الموطأ.
فيقولون: هذا الأثر يدل على وجوب الاستتابة؛ لأن عمر رضي الله عنه أنكر عليهم ذلك.
واستدل الذين قالوا بعدم وجوب الاستتابة بالأدلة الصحيحة الصريحة في السنة بوجوب قتل المرتد دون ذكرٍ للاستتابة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ولم يأمر باستتابته، وهذا يدل على أنه يحكم بردته، وتزول عنه عصمة الإسلام بمجرد كفره، ولو كانت الاستتابة واجبة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وأكد هذا قصة معاذ رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري، وفيها: (أن معاذاً رضي الله عنه دخل على أبي موسى، فوجد رجلاً مكبلاً بالحديد أو موثقاً، فقال: ما شأن الرجل؟ قالوا: إنه كان على اليهودية ثم أسلم ثم رجع إلى دينه، فقال معاذ رضي الله عنه عندها: لا أجلس حتى تقتلوه، قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -قالها ثلاثاً- فقتل).
قالوا: والصحابي إذا قال: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، دل على أنه في حكم المرفوع؛ لأنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلأنه لم يسأل: هل استتبتموه أم لا، دل على عدم وجوب الاستتابة، والرواية الأصلية ليس فيها ذكر الاستتابة.
لكن أجاب الجمهور عن هذا بأن الرجل كان قد أمهل شهراً، وقيل: عشرين يوماً، والروايات مختلفة في هذا، لكن قول معاذ رضي الله عنه: (لا أجلس حتى يقتل قضاء رسول صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بدل دينه فاقتلوه)، فاحتج بالنص على ظاهره دون ذكر استتابة، وهذا يدل على أنه لا تجب الاستتابة، وإنما يجوز فعلها؛ لأنها سنة عند الخليفة الراشد، ولكن هذا ليس على سبيل الحتم والإيجاب.
ومن الأدلة لهم أيضاً: حديث ابن عباس في الصحيح المتقدم الذي استدل فيه معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) حيث نص النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب قتل المرتد دون ذكرٍ للاستتابة، فلو كانت الاستتابة واجبة لقال: من بدل دينه فاقتلوه بعد ثلاث، أو اقتلوه بعد أن تستتيبوه، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فدل هذا على عدم وجوب الاستتابة، وأولى القولين بالصواب إن شاء الله تعالى أن الاستتابة مستحبة وليست بواجبة.
قوله: [وضيق عليه] أي: يسجن ثم يضيق عليه حتى يرجع ويتوب إلى الله عز وجل.
قوله: [فإن لم يسلم قتل بالسيف] كلهم متفقون على أنه إذا عرض عليه الإسلام بعد الثلاث ولم يقبل أنه يقتل.(396/4)
توبة من سب الله أو رسوله
قال المصنف رحمه الله: [ولا تقبل توبة من سب الله أو رسوله].
هذا أحد القولين عند العلماء، وجمهور العلماء رحمهم الله على قبول توبته، وأنه إذا تاب توبة نصوحاً تاب الله عليه، وهذا هو الصحيح على ظاهر النصوص التي دلت على قبول توبة الكافر: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] وقد كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم ويسبون الله عز وجل، ويسبون الدين، وإذا قبلت توبة من سب الله عز وجل، فمن باب أولى أن تقبل توبة من سب ما دونه.
ولكن الذين قالوا: إنه لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه فيها حقاً لآدمي، وحقاً لله عز وجل، وحق الآدمي لا نعلم هل يسامحه النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟ وهذه الشبهة ضعيفة؛ لأننا أعطيناه الحرمة لحرمة النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وقد دلت النصوص في الأصل على أنه إذا تاب توبة نصوحاً أنه يتوب الله عليه، وعلى هذا فالصحيح مذهب الجمهور أنه إذا تاب توبة نصوحاً أنه تقبل توبته.(396/5)
حكم من تكررت ردته
قال المصنف رحمه الله: [ولا من تكررت ردته].
هذا هو الذي يعرف بالزنديق، يسلم ثم يقول كلمة الكفر، فيرتد ثم يرجع مرة ثانية، ويسلم ثم يرتد، فهذه فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، والصحيح أنها تقبل توبته.
لكن لو أن القاضي أو ولي الأمر اطلع على أنه يتلاعب وقتله فله وجه، وقد يكون ذلك أنكى فيه وأقطع لدابر أهل الفساد؛ لأنه ربما يردع غيره.
وهذا ما يعتبر بفقه الخلاف، فنأخذ بالقول المرجوح في أحوال خاصة إذا وجد استشراء الناس وتساهلهم بحدود الله عز وجل فأراد الإمام أن يزجرهم، فله أن يأخذ بالقول الأوثق والذي فيه النصيحة، وله أن يجتهد في ذلك طلباً للمصالح ودرءاً للمفاسد، وليس هناك مفسدة أعظم من الاستخفاف بالدين والشرع، فالزنديق هو الذي يكفر ويقول كلمة الكفر ثم يرجع ثم يكفر ثم يرجع، والذين يقولون: لا تقبل توبة الزنديق يقولون: قد شهد على نفسه بالكذب، وشهد على نفسه أنه يتلاعب بتوبته.
ومن هنا أثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قصته مع بعض المرتدين أنه قبل توبتهم، ثم رأى رجلاً وقال: إنك كنت قد فعلت هذا عام أول ثم أمر بقتله، أي أنه تكررت ردته وتوبته مرتين، فلم يقبل منه ذلك وقتله واستحل دمه.
وأياً ما كان فالنصوص الصريحة في أن من تاب تاب الله عليه، وأن علينا أن نأخذ بظواهر الناس، وأن نكل سرائرهم إلى الله، واستباحة دم من أظهر الإسلام أمر صعب جداً، ولذلك ينبغي الاحتياط في هذا والبقاء على الأصل، إلا أن لولي الأمر أن يجتهد في مسائل خاصة.
قوله: [بل يقتل بكل حال] أي: لا تقبل منه التوبة ويقتل بكل حال، فتنفعه التوبة فيما بينه وبين الله، فلو قُتل يُقتل على الظاهر؛ لأنه ثبت كذبه، ثم لو أنه كان في المرة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة صادقاً وقتل؛ فإن العلماء متفقون أن ذلك ينفعه بينه وبين الله، ولكن الإشكال أنه إذا كانت توبته على الظاهر هل لنا أن نقبل هذا الظاهر أو لا؟ لأنه قد ثبت بالظاهر أنه تلاعب، وأنه كذب، وقصة وحشي تدل على قبول التوبة.(396/6)
توبة المرتد
قال المصنف رحمه الله: [وتوبة المرتد وكل كافر إسلامه، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه؛ فتوبته مع شهادتين إقراراً بالمجحود به] فرق رحمه الله في التوبة إذا ارتد المرتد بالأمور التي تقدمت من الشرك وجحود الربوبية ونحو ذلك، وبين التوبة من الذنب بإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، فأما مطلق التوبة فإنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه إذا شهد شهادة الإسلام والتوحيد رجعت له عصمة الإسلام، ويعتبر هذا توبة ورجوعاً منه إلى الله عز وجل، ومن تاب تاب الله عليه.
وأما إذا كان قد أنكر حرمة الزنا أو أنكر المعلوم من الدين بالضرورة وقال: الصلاة ليست مفروضة، وليس في الإسلام صلاة، أو ليس في الإسلام زكاة، كما قال أهل الردة ونحو ذلك، فقلنا: إذا كان جاهلاً يعلَّم، وإذا كان عنده شبهة تزال، وأما إذا كان عالماً وأنكر هذا الشيء؛ فإن توبته أن يتشهد ثم يرجع عما كان يعتقده من عدم فرضية الصلاة وعدم فرضية الزكاة؛ لأن ما شرع بسببه يزول بزواله، ويبطل بزواله، فنحن حكمنا بردته بإنكاره للمعلوم من الدين بالضرورة، فلا نحكم بإسلامه إلا إذا أقر بهذا الذي أنكره، فلو أنه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يرجع عن جحوده؛ فإنه ما زال على كفره، ولا يحكم بتوبته من ردته.
قوله: [أو قوله أنا بريء من كل دين يخالف الإسلام] هذا بالنسبة للتوبة العامة، والأصل الشهادة.(396/7)
الأسئلة(396/8)
حكم السكران إذا ارتد حال سكره
السؤال
هل السكران يحكم بردته إذا فعل أو قال ما يوجب الردة أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن السكران لا يحكم بردته إذا قال أو فعل أثناء سكره وزوال عقله ما يوجب الردة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] فبين سبحانه وتعالى أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن لا يعلم ما يقول فلا يؤاخذ بقوله.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن علياً رضي الله عنه كان قد أعد مهر فاطمة رضي الله عنها وجاء بشارفين وأناخهما بباب حمزة، ثم انطلق يهيئ بعض الأغراض للمهر، فشرب حمزة رضي الله عنه الخمر قبل أن تحرم، فلما شرب الخمر غنته جاريتان، فانتشى ثم قام إلى البعيرين، وجبَّ سنامهما، فجاء علي رضي الله عنه، قال: فرأيته، فهالني ما رأيت، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى له ما فعل حمزة، فأتاه فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة وسأله ووبخه على ما فعل، فرفع حمزة رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: وهل أنتم إلا عبيد لآبائي؟ فلما قال هذه الكلمة -كما في الرواية- رجع النبي صلى الله عليه وسلم القهقرى، أي: علم أنه سكران، وأنه لا يدري ما يقول، فرجع القهقرى وانصرف، ولم يأمره رضي الله عنه أن يجدد إسلامه، ولذلك قالوا: إن هذا يدل على أن السكران لا يؤاخذ بقوله، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله، أعني أن السكران لا يعتد بقوله لا في ردة ولا في طلاق ولا غير ذلك؛ لأن النص دل على أنه لا يعلم ما يقول، وثانياً: عذر حمزة حال سكره.
وهذا كما يقول العلماء في قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: (وهل أنتم إلا عبيد لآبائي؟) يقولون: إن هذا ردة؛ لأنه استخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم واستهزاء، وشراح الحديث نصوا على أن هذا اللفظ لو قاله الصاحي كان ردة، ومن هنا يجعلونه عنواناً في عذر السكران إذا قال ما يوجب الردة، وأن من تلفظ بكلمة الكفر حال السكر يعتبر معذوراً، وهذا أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم.(396/9)
إذا أسلم المرتد بعد موت مورثه وقبل قسمة تركته
السؤال
إذا ارتد شخصٌ حكمنا أنه لا يرث من مورثه المسلم، فهل إذا أسلم بعد موت مورثه وقبل أن تقسم التركة؛ هل يكون له الحق أو لا، أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فبعض العلماء يقول: إنه لا يرث ما دام أن الميت توفي وهو على الكفر والردة، فحينئذٍ انقطع حقه ولا حق له في التركة، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، وقال به جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن المرتد لا يرث حتى ولو أسلم قبل قسمة التركة.
أما إذا أسلم قبل موت مورثه فإنه يرثه بلا خلاف، لكن الإشكال إذا أسلم بعد الموت وقبل قسمة التركة، فتبين أن له ثلاث حالات: أولاً: أن يسلم قبل الموت، فهذا يرث إجماعاً؛ لأنه مسلم.
ثانياً: أن يسلم بعد الموت وبعد قسمة التركة فلا يرث إجماعاً؛ لأنه انتهت العلاقة، وانتهى السبب الموجب.
ثالثاً: إذا أسلم بعد الموت وقبل قسمة التركة، ففيه خلاف: فمن أهل العلم من يقول: العبرة بالموت، لأن الإرث يثبت بموته، وهذا هو الصحيح، والأدلة دالة على ذلك؛ لأن الله تعالى نص على ذلك في كتابه، وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم نص على الإرث بمجرد الموت، وعلى هذا تكون العبرة بحاله عند موت الشخص، فإذا كان مسلماً حال موت المورث فهو يرث وإلا فلا.
وأما الذين قالوا: إنه قبل القسمة يرث لو أسلم بعد الموت، فاستدلوا بقضاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم، وقالوا: بحديث قسم الجاهلية وقسم الإسلام، وأنه إذا أسلم فقد أدرك القسمة، والعبرة بالقسمة، ومن هنا قالوا: إنه إذا أسلم قبل قسمة التركة فإنه يرث، والصحيح أنه لا يرث ما دام أنه توفي مورثه وهو على الكفر، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله.
وصورة المسألة لو أن رجلاً له ولد ارتد، ثم توفي هذا الرجل يوم الإثنين ولم تقسم تركته، فرجع الولد وتاب عن ردته يوم الثلاثاء وقسمت التركة يوم الأربعاء، فحينئذٍ يرد الخلاف، لكن لو قسمت الثلاثاء ورجع الولد عن ردته الأربعاء لم يرث بالإجماع، فهذه المسألة مشهورة عند العلماء رحمهم الله، وهي من مسائل الإرث.(396/10)
حكم زوجة المرتد
السؤال
إذا تزوج الرجل امرأة مسلمة وهو مسلم ثم ارتد، فما حكم النكاح بينهما؟ وهل يجوز له أن يطأها في العدة إذا فسخ النكاح بينهما أثابكم الله؟
الجواب
يجب عليه فراقها، فيفرق بين المرتد والمسلمة، ولا يجوز للمسلمة أن تمكن زوجها المرتد من نفسها، ويفسخ العقد بينهما قولاً واحداً بين العلماء رحمهم الله.
وهناك تفصيل في مسألة العدة، فإذا كانت في عدتها وحصل وطأ فإنه في هذه الحالة يكون وطأً لأجنبية، والأصل أنه لا يجوز لها أن تمكن نفسها منه، ومن المؤسف أن تسمع المرأة زوجها يسب الدين ويسب الرب وتعاشره، وتكون معاشرة على الزنا إذا ارتد والعياذ بالله، وينبغي عليه أن يجدد إسلامه ويتوب، ثم يجدد عقده، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له وأن ينبه عليه الناس، حتى يعرفوا ما معنى الردة.
هم يعرفون أن الردة أمر عظيم وليس بالأمر السهل، ولكن المرأة تسمع زوجها كلما غضب ينتهك حدود الله عز وجل ويكفر بالإسلام، ثم بعد ذلك كأن شيئاً لم يكن، فهذا أمر في غاية الخطورة، ولذلك -نسأل السلامة والعافية- تعيش معه في الحرام، ولا يجوز له أن يطأها بعد ردته، إلا بعد تجديد العقد ورجوعه عليها على الصفة المعتبرة شرعاً، والله تعالى أعلم.(396/11)
أسباب محق بركة العلم
السؤال
ما أسباب محق بركة العلم أثابكم الله؟
الجواب
روح العلم بركته، وإذا أراد الله عز وجل بعبده خيراً بارك له في علمه، وتظهر بركة العلم إذا استجمع الإنسان أسباب البركة، وأول سبب وأول علامة على أن الإنسان أنه سيبارك له في علمه أن يجد توفيق الله له بالإخلاص، فإذا وجد أنه يذهب إلى حلق العلماء مخلصاً لوجه الله عز وجل ولا يريد شيئاً سوى ذلك، وأنه يريد به وجه الله والدار الآخرة، فهو موفق، ومن كان كذلك كان سعيه مشكوراً، والله عز وجل شكر سعيه فيضع له البركة في علمه.
وكم من أناسٍ تعلموا القليل بإخلاص فرزقهم الله السداد والخلاص وفتح عليهم وبارك في أقوالهم، وبارك في علومهم، ونفع بهم الإسلام وأهله! الأمر الثاني: من الدلائل التي تدل على بركة العلم أن يحرص الإنسان على أخذ هذا العلم عن أهله، فكل علم ورث من العلماء العاملين فهو مبارك؛ لأن السلسلة متصلة، وكما بورك للعلماء السالفين ليباركن الله للعلماء اللاحقين ما داموا على نهجهم، وساروا على طريقهم.
ومما يبارك الله به للعالم في علمه تقواه لله عز وجل؛ لأن التقوى سبب البركة، ومعنى ذلك: أن يكون علمه مشهوداً بالطاعات وبالأعمال الصالحة، فكل من تعلم العلم فوجد أن العلم يهذبه في أخلاقه، ويقومه في سلوكه، وأنه بهذا العلم يجد سريرة نقية تقية سوية ترضي الله عز وجل، ويجد سيرة محمودة عند الله وعند عباده، يحرص فيها على الفضائل واكتساب الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة الفاضلة والتواضع، وحب الخير للمسلمين، وصفاء القلب، ونقاء السريرة، والبعد عن الحسد والبغضاء، وانتقاص الناس، واحتقارهم، والابتعاد عن الغيبة والنميمة، والسب والشتم؛ فإن الله لا يبارك له في جميع أمره {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96].
فطالب العلم هو الذي طلب العلم وعمل به، وظهر العلم في قوله وعمله، ففتح الله له أبواب البركات من السماء والأرض، فوجدت البركة في قوله وعمله ونفعه للمسلمين، واقرأ سيرة السلف الصالح كيف كانوا مباركين، فتجدهم إذا علموا نفع الله بعلمهم.
الناس لهم آذان صاغية وقلوب واعية، وتجد من دلائل البركة أنه إذا جلس يعلم أبناء المسلمين شغلهم بما ينفع، وشغلهم بما يفيد، وشغلهم بما يعود عليهم بالخير؛ ولذلك تجد العلماء والأئمة الماضين يكررون في كتبهم أموراً واضحة، لكنها عظيمة البركة والخير، حتى أصبحت دعائم الإسلام وشرائع الإسلام من البديهيات عند المسلمين، ولكن تجد المتأخرين، وتجد بعض طلبة العلم محقت البركة من علمهم؛ لأنه إنما يدخل يريد شيئاً معيناً، وكانوا يقولون: من أسباب البركة في العلم أن الإنسان يحرص على تعلم صغار العلم وضبطه قبل كباره، والآن انظر إلى بعض طلبة العلم حينما ندخل في باب من أبواب العبادة، فيمسك الأمور الواضحة ويكررها ثم يكررها، ويستمع ويصغي ولا يناقش حتى يضبط الأصل، وبمجرد أن ينتهي من حلقته ومجلسه يقوم وعنده علم وعنده فائدة.
لكن بمجرد أن يأتي فينظر إلى حلق العلم ويستمع إلى العلماء، فإذا وجد مسائل خلافية ومناقشات وردود، أحب وقال: هذا العلم، وإذا وجد غرائب المسائل حضر، وقال: هذا والله العلم، هذا والله الدرس، في الغرائب والردود والمناقشات، ثم من مسألة إلى مسألة ومن مناقشة إلى مناقشة، وإذا جلست معه بعد الشهر والشهرين تجده قد ضاع وتاه، ولا يمسك من ذلك إلا القليل.
فعلى الإنسان أن يتعلم الأصول، هذه الأصول التي بدأ طالب العلم يحتقر نفسه أن يتعلمها، هي عزك هي كرامتك، إن لم تعتز بدينك وتبدأ بالألف قبل الباء، وبالباء قبل التاء، وتتهجى هذا العلم وتأخذه حرفاً حرفاً، وتضبطه مسألة مسألة حتى البديهيات، وتتواضع مع هذا العلم؛ فلن تفلح في العلم، ولا تعظم نفسك وتقول: كيف أجلس وأكرر مسائل واضحة! وانظر إلى دواوين السلف الذين كرروا الأمور البديهية، وهل العلم إلا تكرار المعلوم؛ لأن هذا التكرار له أثر على النفسية وعلى التطبيق، كم مرة تكرر الفاتحة في اليوم في صلاتك وتتقرب إلى ربك، وكم تسجد وكم تركع وأنت تكرر الصلاة، كل هذا لكي تصبح عقيدتك راسخة لا تقبل التحويل، ولذلك ما عرف في أهل دين ثبات مثلما عرف للمسلمين، وقل أن يرجع أحد من أهل الإسلام عنه إلى دين آخر بفضل الله عز وجل ثم بفضل الأمور العديدة، ومنها: تكرار هذه الأمور وضبطها.
وانظر إلى طلاب العلم الذين أخذوا صغار المسائل، وكلما جلس في مجلس يلخص المسائل الصغيرة ويضبطها ويقرأها المرة تلو المرة، ويحرص على تكرارها، فيجد البركة والخير، فلا ينتهي بعد شهر أو شهرين إلا وقد حفظ ثلاثة أو أربعة أبواب؛ لأن عنده أموراً هي الأساس ثم بعد ذلك يبني عليها، أما الولع بالخلافات والردود، وأن يجلس طالب العلم في المجلس ويقرأ على الشيخ الكتاب فيقول له الشيخ: هذا كذا، فيقول: لماذا كذا؟ ولماذا لا يجعلونه كذا؟ ولماذا يقولون كذا؟ ولماذا يفعلون كذا؟ حتى يصبح معلماً للعلماء، فبدلاً من أن يأتي متعلماً إذا به قد صار معلماً! قال أحد الحكماء لطالب عنده أكثر من مناقشته: يا بني ما علمت أن مجلسك هنا.
أي: كان المفروض أنك تجلس مكاني، لا أن أجلس أنا هذا المكان، بسبب كثرة الاعتراضات.
فكثير من العلم نزعت بركته بسبب كثرة الاعتراضات، وقد كان في الماضي إذا أفتى العالم وجد الآذان صاغية، والقلوب واعية، والناس مستجيبة، وإذا بالبركة والخير والنفع يحل للناس، ولكن اليوم ما إن يفتي واحد فتوى إلا وخرجت مئات الفتاوى، ثم وجدت هذا يعلق على هذا، وهذا يرد على هذا، وعندها محقت بركة العلم {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33] فالذي يريد العلم الصافي عليه أن يحرص على أخذ صغار العلم قبل كباره، وهو علم الربانيين، وعليه ألا يتعاظم نفسه أمام العلم، فهذا مما يزيد بركة العلم.
وجماع الخير كله أن يسأل العبد ربه، وأن يقول: ربي إني أسألك علماً نافعاً؛ ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يرزقه علماً نافعاً، فإذا كان العلم نافعاً من الله عز وجل، فهو المبارك.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من علم لا ينفع، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل علمنا حجة لنا لا حجة علينا ألهمنا الصواب، وأحسن لنا الخاتمة والمآب، وارفع بالعلم درجاتنا، وكفر به خطيئاتنا، وآمن به روعاتنا، وأصلح به أمورنا، يا حي يا قيوم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(396/12)
شرح زاد المستقنع - علاج الجريمة في الشريعة الإسلامية
شرع الله الحدود والعقوبات والزواجر التي تردع عن حدوده ومحارمه، وقد امتازت الشريعة الإسلامية في هذا المجال بميزات عظيمة تدل على سمو منهجها، وحكمة الله عز وجل العظيمة ولطفه بخلقه، ومما امتازت به الشريعة الإسلامية إلى جانب معاقبة المقترف للجريمة، أنها وضعت الحلول لمنع اقتراف الجرائم بداية وذلك بمنع أسبابها ودواعيها.(397/1)
التدابير الوقائية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: التدابير كثيرة، لكن يمكن أن نلخص جوانب منها ونتكلم عنها، وهي تبرز القليل من الكثير، والغيض من الفيض، ومن ذا الذي يستطيع أن يكشف تلك الأسرار والعلوم والمعارف التي هي تنزيل من حكيم حميد؟! من يستطيع أن يصل إلى هذه الأسرار والحكم والفوائد التي حار فيها العلماء، وحار فيها الحكماء، وكشف كنوزها أولو العلم وأولو البصيرة والراسخون في التفاسير وشروح الأحاديث، وبينوا الحكم والأسرار والفوائد؟! لكننا نستطيع أن نجمل شيئاً منها في ثلاثة جوانب مهمة، فهناك تدابير وقائية جعلها لله عز وجل للمسلم: إما أن تكون للإنسان في نفسه.
أو تكون في أقرب الناس منه، وهم أهله وذووه والداه وولده، وزوجته ومن هو مسئول عنهم.
وإما أن تكون فيمن يخالط، وهي البيئة والمجتمع.(397/2)
الوازع الديني
هذه الثلاثة الجوانب تبدأ بنفسية الإنسان، هذه النفسية المؤمنة التي خاطبها الله عز وجل فأيقظها من منامها، ونبهها من غفلتها وأرشدها من ضلالتها، وهداها من غوايتها، هذه التدابير المتعلقة بالنفس تدور حول قضية حساسة جداً، وهي القضية التي تسمى بالوازع الديني.
فليس هناك سياج أعظم ولا أكمل ولا أتم من هذا السياج الذي وضعه الله عز وجل بينه وبين عبده، إذ هو سرٌ في القلوب لا يطلع عليه إلا الله جل جلاله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
الوازع الديني هو القوة الإيمانية الرهيبة التي لو خلا العبد معها بحد من حدود الله عز وجل؛ ما استطاع أن يفكر في اقترافه فضلاً عن أن تمتد له يد، أو تلتبس جارحة من جوارحه بذلك الحد الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
الوازع الديني قوة خفية في الإنسان وهي خشية الغيب، كخشية الشهادة، فخشية الغيب تظهر إذا خلا العبد بحرمة من حرمات الله عز وجل؛ فإن هذه الخشية تحمله على أن يتركها؛ كما لو أنه على رءوس الأشهاد، وخشية الغيب هي التي لم تكن معها خائنة عين.
هذا الوازع الديني ما فتئت نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحركه، وتوقظه وتنبهه، وتجعله أميناً على ولي الله المؤمن، وعلى الأمة من إماء الله عز وجل أن تخون أمانتها أو تضيع رسالتها ودينها وشرفها وعرضها وكرامتها، هذا الوازع الديني، تضافرت نصوص الكتاب والسنة على إحيائه وإذكاء جذوته، ولذلك تجد المسلمين في سائر العصور والدهور يمتازون بهذه القضية، وفي جميع العصور والدهور لن تجد أطهر ولا أنقى ولا أتقى ولا أفضل ولا أكمل من مجتمعات المسلمين، حتى ولو فسدت مجتمعات الأرض فإنك تجد أقرب المجتمعات إلى الخير وأحسنها وأفضلها -بالنسبة لغيرها- مجتمعات المسلمين.
وكلما قوي باعث هذا الوازع وكلما قويت جذوته في النفوس؛ استحكم الإيمان في القلب، وكلما عظمت الهيبة للرب سبحانه أصبح الإنسان بعيداً عن مقارفة الذنب والتلبس بالعيب.(397/3)
تنمية الوازع الديني
الوازع الديني له روافد تغذيه، وقد غرسه الله ونماه في نفس المؤمن في كل حد من الحدود التي مضت معنا، بل في كل حرمة من حرمات الله عز وجل، لن تقرأ آية في كتاب الله، ولن تسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا وجدت إشارة تحكي ذلك المعنى الخفي العظيم.
لو بدأنا مثلاً بالنصوص في الكتاب والسنة، وكيف حركت في النفوس وازع الدين في اتقاء هذه الجرائم، والبعد عن التلبس بالجريمة، وكيف أن القرآن خاطب بأحسن الخطاب ووجه بأكمل التوجيه ووعظ بأحسن الوعظ: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58]، وكيف تمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، تقيم الإنسان على هذا المنهج الذي ينفر بسببه ويبتعد عما حرم الله.
ميزة هذا الوازع الديني أنه يثمر شيئاً ينتهي إلى شيء، فالوازع الديني يثمر القناعة الذاتية، والقناعة الذاتية تنشأ عنها النفرة، وهي من أعظم الأسباب التي تحول بين العبد وبين حدود الله ومحارمه، فالذي عنده وازع ديني وقويت فيه جذوة الإيمان والدين -ولا يمكن أن تقوى إلا بالإيمان ولا يقوى الإيمان إلا مع قناعة- وصحبه قناعة ذاتية؛ فعندها لا يستطيع أن يصغي بأذنه أو ينظر بعينه أو يمد يداً أو يخطو خطوة إلى شيء حرمه الله عز وجل عليه.
هذه الأمور كلها اجتمعت في عبارات النصوص في الكتاب والسنة، أروع وأجمل وأجل وأكمل ما أنت راءٍ وسامع من خطاب يوجه إلى عبدٍ أو إلى أمة لكي يحال بينه وبين حرمة الله عز وجل.(397/4)
التحذير من الاعتداء على النفس المحرمة
خذ -مثلاً- جريمة القتل، إذا أخذت جريمة القتل ونظرت كيف خاطب الله عز وجل عباده بتعظيم النفس المحرمة، وكيف جاءت النصوص في القرآن تربي ذلك الوازع الديني العظيم وتذكي جذوته في النفوس، علمت أنها أصدق عبارة وأصدق كلمة، وأتم بيان يكون في التوجيه وفي الوعظ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، أي مؤمن يقرأ هذه الآية ويتأمل هذا الكلام من الله سبحانه وتعالى يتعظ.
((وَمَنْ)): صيغة من صيغ العموم، أي: ولو كان أغنى الناس في الأرض، وأشرف الناس، وأعلى الناس، ولفظ: (مؤمن) نكرة، أي: ولو كان أفقر خلق الله، ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا))، ولم يفرق الله بين الناس، لا بأحسابهم ولا بأنسابهم ولا بصورهم ولا بأشكالهم ولا بمراتبهم ولا بوظائفهم.
وعبر بالإيمان الذي هو حرمة من حرمات الله عز وجل ويجب أن تتقى.
((مُتَعَمِّدًا)) أي: قاصداً الجريمة وطالباً إزهاق نفس بدون حق.
((فَجَزَاؤُهُ)) ليس له جزاء إلا هذا الجزاء، وانظر! كيف جاء التعبير بالجزاء؛ لأنه عندما تأتي كلمة (جزاء) فالنفوس دائماً تطمع، فلما تأت العقوبة في سياق تطميع يكون هذا مثل الصدمة.
((فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ)) أي: ما له جزاء إلا هذا، وهذا فيمن استحل قتل المؤمن، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، ولا يخلد إلا من استحل، فالمستحل يكفر، وعندها يكون من الخالدين أبداً، لكن لو أنه لم يستحلّ، وتعمد القتل فهو إلى مشيئة الله: إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، كما دلت على ذلك النصوص، وهو مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكبي الكبائر.
((فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ))، وليس هذا فحسب؛ بل ((خَالِدًا فِيهَا))، تصور مؤمناً كلما ذكر النار طار فزعاً منها، وكلما مر عليه اسم النار فزع وخاف، ما الذي أبكى عيون الصالحين، وأسهر جفونهم في جوف الليل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا} [السجدة:16]، خوفاً من جهنم، خوفاً من النار، فإذا بالله عز وجل يأتي بها جزاءً في القتل، هذه جهنم التي وصف الله أغلالها وعذابها، وشدتها وبلاءها وكربها، فما رأت عين ولا سمعت أذن أعظم ولا أشد من عذاب الله في جهنم.
قال تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، وليس الجزاء أنه خالد فيها فقط، بل: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، الغضب: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]، ولعنه: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:52] اللهم إنا نعوذ بك من لعنتك.
فإذا أصابت اللعنة قلباً خُتم عليه والعياذ بالله، إلا أن يتداركه الله برحمته.
{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، قف عند قوله: ((وَأَعَدَّ))، وقف عند قوله: ((عَذَابًا)) نكرة، و ((عَظِيمًا))، والعظيم من الله عظيم! فالنفس المؤمنة التي تقرأ هذه الآية، ماذا يحدث لها؟ ثم يخاطب الله عباده في هذه الجريمة أفراداً وجماعات شباباً وشيباً؛ ذكوراً وإناثاً: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، أسلوب آخر من أساليب الزجر، يقول الله تعالى: ((وَلا تَقْتُلُوا))، ما قال: لا تقتل، فما خاطب خطاب الفرد، بل خاطب خطاب الجماعة حتى يشمل طبقات المجتمع كلها ويشمل الصغير والكبير، وأن تعلم أن العزيز والذليل في حكم الله سواء.
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام:151]، العبد حينما يتذكر كلمة (حرمة) يعرف أنها من أعظم الأشياء والحرمة لها حرمة، قال سبحانه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] فهو خير له في دينه ودنياه وآخرته، فكون الله عز وجل يحرم القتل، ويجعل القتل لشيء محرم له حرمة، تنفر النفس بمجرد ما تقرأ هذا الشيء، وتحس أن بينك وبينه حواجز تنبني عليها تقوى الله والخوف منه جل وعلا، ثم يقول الله عز وجل في آية ثالثة: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وأسلوب النهي يتضمن التحريم.
(لا تقتلوا أنفسكم)، ما قال: لا تذبحوا، وإنما قال: لا تقتلوا؛ لأن القتل أعم من الذبح؛ لأن الذبح يكون بالإضجاع ولكن القتل يكون على أية صورة، سواء قتل قائماً، أو قاعداً، أو مضطجعاً، بسكين، أو برمي، أو غيره، كله يسمى قتلاً: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)).
وما أبلغه من تعبير بقوله: (أنفسكم) جعل الله المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، فمن قتل مؤمناً فكأنما قتل المؤمنين، {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32].
هذا الأسلوب الرباني في النهي عن هذه الجريمة التي تتعلق بالاعتداء على النفس، من شأنه أنه إذا قرأه الإنسان متأملاً متدبراً اقتنع بالحكم، وحصل عنده وراء هذه القناعة ما نريده من النفرة مما حرم الله.
وكون هذه الخطابات: تشريعاً، ووصفاً، وبيان عاقبة، فهذه الثلاث الأسس ما اكتملت في خطاب ولا توجيه؛ إلا كان له أطيب الأثر في النفوس، فجاء الحكم بالتحريم: ((وَلا تَقْتُلُوا))، فإنه نهي يقتضي التحريم، وجاء الخطاب بوصف النفس المقتولة: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام:151]، {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، وهذا يجعل عند الإنسان تعظيماً لهذه النفس المحرمة، ثم بيان العاقبة.
فأنت حينما تنهى، وتصف المنهي عنه بأن له حرمة، وتصف أن اقتراف هذه الحرمة يعود بالعواقب الوخيمة والنهايات الأليمة، فإن ذلك أبلغ ما يكون تأثيراً في النفوس، إذ هو {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، فلذلك جاء الأسلوب لهذه الجريمة في هذه الآيات، وأما في السنة، فهناك أحاديث كثيرة، لكن سنقتصر على آيات القرآن في حد جريمة القتل.(397/5)
التحذير من الاعتداء على العقل
جريمة الاعتداء على العقل: أعز ما مع الإنسان بعد نفسه ودينه؛ عقله، الذي هو نور يميز به بين الحق والباطل، والهدى والضلال؛ الاعتداء عليه إما بشرب المسكرات والمخدرات، وإما بغيرها.
فكلما هم بها العبد إذا بالقرآن يأتي بأبلغ العبارة وأصدق الإشارة ويهز القلوب هزاً؛ فتحصل الاستجابة ويعمل على التخلص من الخمور، ويسعى للإقلاع عن المسكرات وتجنب سبيلها.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:90]، فكون الآية تصدر بخطاب فيه وصف التشريف والتكريم فما ذلك إلا لأنه أدعى للاستجابة؛ لأنه لا يستجيب لربك الاستجابة التامة الكاملة إلا أهل الإيمان، ولذلك خصهم الله بندائه، وشرفهم بدعوته.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمِنُوا)): لأن المؤمن ينظر إلى الآخرة، ينظر إلى الحساب إلى العذاب إلى الجنة إلى النار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة:90]: أسلوب الحصر والقصر، كأنه يقول: هذه الخمر، ما فيها إلا كذا، بخلاف أن يقول: الخمر كذا وكذا، وابتدأ بها قبل الميسر والأوثان، فقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة:90]، فجعلها قبل الشرك لأنها طريق إليه؛ ولأنها أم الخبائث، ومن فقد عقله فإنه قد يشرك بالله عز وجل ويرتد ويسب الدين، وينتهك الحرمات ويسفك الدماء المحرمة، ولربما قتل أمه وأباه، والعياذ بالله.
فإذاً: هي أم الخبائث، فقدمها قائلاً: ((إِنَّمَا الْخَمْرُ))، قبل الشرك بالله عز وجل والميسر، والأنصاب والأزلام: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90]، فجاءت نكرة، والعرب إذا جاءت بالنكرة فإنها تشير بذلك إلى استغراق الشيء في الوصف، أي: إنها الرجس كله، فعندما تقول: فلان رجل، يعني جميع صفات الرجولة فيه، فلما قال الله: الخمر رجس، فجميع صفات الأرجاس الحسية فيها، فليس هناك أخبث منها، ولا أنتن منها، والأرجاس المعنوية التي فيها الكفر بالله عز وجل وسب الدين وفيها قتل النفس المحرمة، فالأرجاس القولية والفعلية كلها في الخمر.
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} ثم يقول تعالى: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]، والمؤمن بينه وبين الشيطان نفرة؛ لأن الله قال له: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53]، وإذا علمت أن هذا من عدوك فهل ترضى به؟ {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، أمر باجتنابه، ولم يقل: لا تشربوا الخمر، وإنما قال: ((فَاجْتَنِبُوهُ))، ومعنى المجانبة ألا يشرب من باب أولى، فهذا نهي عن الاقتراب منها، بخلاف ما إذا قال: لا تشربها، فإنه قد يطلي بها، وقد يتعطر بها، لكن قال: ((فَاجْتَنِبُوهُ))، فجاء النهي عاماً بالترك، وعدم التلبس بهذه الخمرة التي حرمها الله ورسوله.
{فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، كونه يرتب الفلاح على ترك الخمر، فوالله ما ترك الخمر عبدٌ لله مؤمناً موقناً صادقاً مستجيباً لله عز وجل إلا أفلح وأنجح.
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91]، وهذا من بيان الآثار السيئة للجريمة: {أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}، والله عز وجل يريد القلوب أن تجتمع وأن تأتلف، والأرواح أن تتصافى، وكل نصوص القرآن والسنة تجمع المؤمنين ولا تفرقهم، وتحبب بعضهم إلى بعض ولا تبغضهم ولا تُبغِّض المؤمن للمؤمن.
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة:91]، فما شربت الخمر إلا سَب شاربها ولعن وقذف، ووقع في حدود الله عز وجل وانتهكها، فقال الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91]، لما قال: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}، جاء الله عز وجل بوصفين خبيثين في الخمر: الأول: يضر بالناس، وفيه إضاعة لحقوق الناس، والثاني: يضر بحق الله وفيه إضاعة لحق الله، {أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}، {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ}، فجمع الله فيها بين الشرين، فيما بين العبد وربه وفيما بينه وبين الناس.
{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ}؟! عبارة جميلة وأسلوب بلاغي رفيع، ما ملك الصحابة حينما سمعوا هذه الآية إلا أن صاحوا وصاح عمر رضي الله عنه: انتهينا انتهينا، ورد في رواية أنه جثا على ركبتيه وقال: انتهينا يا رب! انتهينا يا رب! فهذه الخمر التي كانت مفتونة بها النفوس استلت بالآيات البينات من كتاب الله عز وجل؛ فما بال الذي يقترف معصية من المعاصي ويقال: يا أخي! اتق الله واترك، فيقول: لا أقدر! كان بعض الصحابة يشرب الخمر، والخمر من أشد ما يكون فطم الإنسان عنها، ولكن قال الله: اتركها فتركها، وقال الله: اجتنبها فاجتنبها، كمال الاستجابة من كمال التوحيد وكمال الإيمان.(397/6)
التحذير من الاعتداء على العرض
الاعتداء على الأعراض: الله عز وجل يعظم حرمات العرض في جريمة الاعتداء على العرض القولية والفعلية.(397/7)
الاعتداء الفعلي على العرض بالزنا ونحوه
الفعلية: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]، يستفتح بها سورة، ويجعلها أول تنبيه من الله عز وجل في سورة النور التي تعلقت بصفة من صفات الله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، إذا بها تستفتح بذكر هذا الذنب العظيم والإثم الكبير، وهو جريمة الزنا، اعتداء على الأعراض، وإذا بالله عز وجل يبين عقوبة الزنا، ولكن بأسلوب يثمر القناعة، ويحصل منه الزجر والتخويف: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
أي: الزاني أياً كان، شريفاً أو وضيعاً، قوياً أو ضعيفاً: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}، ثم يقول تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فجعل العقوبة ديناً لله عز وجل يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى.
هذا الأسلوب في كونه أول شيء يعاقب على الذنب، وثانياً: كونه سبحانه وتعالى يمنع من الرأفة بهما، إذا به يعقب ذلك، ويقول: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، وفي ذلك التشهير، والتشهير بالعقوبة يؤثر على الفاعل للذنب، ويؤثر على من يراه، ومن رأى زانياً يجلد إذا كان بكراً أو رأى زانياً ثيباً يرجم، قلّ أن يفارقه إلا وقد اتعظ، ولن يستطيع أن يرفع حجراً يرميه إلا وزجر نفسه عن أن يفعل فعله، وخاف من الله عز وجل أن يرجم غيره وهو مثله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
{الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3]، قيل: لا ينكح: لا يطأ ولا يزني، لا يفعل الزنا إلا زانٍ أو مشرك، زانٍ من فساق المسلمين أو كافر، {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، فجاء التحريم بعدها.
وهذا أسلوب من أساليب التنفير من الذنب والجريمة، أعني أسلوب الخطاب بالتحريم، وإذا بالشرع يزيد على هذا في تحريم الزنا بقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].
والله ما تأمل أحدٌ هذه الآية بإيمان وصدق فيزني أبداً، فإنه قال: ((وَلا تَقْرَبُوا)): ما قال: لا تزنوا، والنهي عن القرب من الشيء أبلغ من النهي عن فعله.
ثم قوله الله: ((وَلا تَقْرَبُوا)) أي: ذكوراً وإناثا، أغنياء وفقراء، شرفاء ووضعاء، خاطب الله عز وجل الأمة كلها: ((وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى)).
وهل الزنا هو الفعل فقط؟ لا، بل النهي عن الزنا بجميع صوره، فكل ما سماه الله ورسوله زنا يتقى، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فزنا العين النظر، وزنا اليد اللمس، وزنا الرجل المشي، وزنا القلب بعد ذلك بأن يهوى ويتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، حتى تنتهي الجريمة الكبيرة وهي فعل الزنا واقترافه والعياذ بالله.
هذا النهي (لا تقربوا الزنا) تشريع، والتعبير بصيغة (لا تقرب) أبلغ في التحريم.
ثم انظر كيف الله عز وجل يقول: ((إِنَّهُ)) بصيغة التوكيد، ونحن لا نشك في شيء يخبرنا الله عز وجل عنه أبداً، فلا أصدق من الله حديثاً ولا أصدق من الله قيلاً، فكيف إذا أكد الله ذلك بصيغة التوكيد، فهذه الصيغة تحتاج إلى تأمل! ((إِنَّهُ)) الضمير عائد إلى الزنا بجميع صوره، وإلى وسائل الزنا وفعل الزنا كله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].(397/8)
الاعتداء الفعلي على العرض بالنظر ونحوه
الزنا فاحشة بالنظر، فاحشة بالسمع، فاحشة باللمس، فاحشة بجميع صوره.
البعض يظن أن الفحش أن يفعل الزنا، نعم هذا فحش، وما علم أن الزنا فاحشة إذا نظر بعينه، ولذلك كل من تكون عنده جرأة على أن يزني بعينه يكون من أهل الفاحشة، فتجده جريئاً على حدود الله في نظره، والله تعالى يطمس من عينه نور البصيرة، ولا تزال ترتع عينه في حرمات المؤمنين، وأعراضهم حتى يرفع منها نور الفراسة، ولا يزال يرتع بعينه والعياذ بالله في حرمات المؤمنين حتى يشهد الناس عليه أنه زانٍ بعينه، فهو قد يبدأ بخيانة الأعين يسرق النظرات، ثم بعد ذلك تجد الفحش في عينه، حتى لربما نظر إلى المرأة وهي مع زوجها وأومض بعينه إشارةً إلى الخنا والفجور.
ومن هنا تجد من يزني بعينه، ربما يسير في الشارع فلا يقف على عورة من عورات المسلمين إلا أرسل النظر إليها، ولا ينظر إلى بيت إلا وجدته خائناً في نظره فاحشاً متفحشاً في بصره، ينظر إلى باب البيت، ينظر إلى النافذة، ينظر إلى خلل البيت يبحث عن الأماكن الخفية، بل حتى لربما لو وقف بجوار سيارة يقلب نظره في السيارة يمنة ويسرة يريد أن ينظر إلى عورة من عورات المسلمين! وهذا فاحش! وكل النفوس تمقته، وكل الناس تزدريه وتشمئز منه، تأتيه المرأة -وهي عورة من عورات المسلمين- وهو بائع أو طبيب أو في أي عمل من الأعمال، لمصلحة من المصالح، فإذا به ينظر إليها فيومض عينه ومض الخنا والفجور، فلا تملك أمة الله إلا أن تكره ذلك الشيء الذي تريده منه، ولربما كرهت وخرجت من عنده، وإذا صبرت خرجت بقلب مجروح لما اقترف من محارم الله فيها.
من هذا الفاحش الذي لا يخاف الله عز وجل حينما يرسل النظر، كلما جاء إلى عورة من عورات المسلمين تجده يسترسل في النظر إليها؟!(397/9)
الاعتداء القولي على العرض بالفحش والنميمة والقذف ونحوها
ثم تجد زنا اللسان، اللسان يزني بالكلمات الفاحشة البذيئة، بالتسلط على عورات المسلمين بالمغازلة، يكلم أمة من إماء الله عز وجل يستدرجها إلى الحرام، إلى الفواحش والآثام، فتجد الفاحشة في لسانه، ولذلك قلّ أن تجد أحداً ممن يسترسل في أذية النساء بلسانه فيرزق القول السديد؛ لأن ذنب اللسان لا يجتمع معه نور القول والعمل، فنور الإيمان لا يجتمع مع معصية الله عز وجل، فتجده لا يوفق في كلامه، ولا يوفق في قوله، ولا يرزق القول السديد.
وتجده فاحشاً في قوله، حتى لربما يجلس مع بعض إخوانه فتجد زلات اللسان واضحة لا يستطيع أن يتحكم: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ) [آل عمران:117]، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10]، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، من الفحش وغيره.
كذلك يقول: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:32]، يعني الزنا، فهو إذا تسلط على عورات المسلمين بالكلام، لا يمكن أن يحول بين نفسه وبين الفحش.
وإذا تسلط على عورات المسلمين بالمشي، (وزنا الرجل المشي) كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فتجده يخرج في ظلمات الليل وفي مظان الريب، من أجل أن يبحث عن عورة من عورات المسلمين.
والمرأة الفاسدة والعياذ بالله تجدها أفحش، ولذلك بدأ الله في الزنا بالنساء؛ لأن المرأة لو استعصمت بعصمة الله ما وقعت في الحرام ولا وقع منها الزنا، ولذلك قال: ((الزَّانِيَةُ والزاني))، فبدأ بها، ولما كانت السرقة غالباً تأتي من القوي وهو الرجل قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38]، فقدم النساء في الزنا وقدم الرجال في السرقة، وكل له ما يناسبه وما يشاكله.
فالمرأة إذا زنت أصبحت تحب سماع الخنا والفجور، تجدها والعياذ بالله متفحشة، لا تريد أن تسمع إلا كلاماً بذيئاً ساقطاً، وتستعذب ذلك، وليأتين عليها يوم تتجرع فيه مرارة ما كسبت، إما عاجلاً أو آجلاً.
يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:32]، هذا في مقدمات الزنا، فكيف بفعل الزنا، والذي يقع في الزنا والعياذ بالله أفحش ويكون بلغ الفحش به غايته؛ فتجده لا يتورع عن حرام من سيئات الفرج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والفرج يصدق ذلك أو يكذبه).
في هذه الآية يقول الله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ} [الإسراء:32]، وقع التعبير بكان التي تدل على الدوام والاستمرار، فالتصق الزنا مع الفحش ولا يمكن أن يفارق الزنا الفحش، {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] أي: ساء طريقاً.
فمن سلك طريق الزنا بكت عيناه وتقرح قلبه، وإن لم يتب إلى الله عز وجل فلربما قاده ذلك إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله، وكما يقول: ساء سبيلاً، فمن يزني بإماء الله ويتعرض لعورات المسلمين؛ ليبكينه الله في الدنيا أو يبكينه في الآخرة أو يجمع له بين البكائين في الدنيا والآخرة، فمن تسلط على عورات المسلمين واستدرج الغافلات، واستدرج النساء، وأوقعهن في حبائله وأمنياته المكذوبة فلابد وأن يسوء سبيله وتسوء خاتمته، ولذلك تجد من يستمرئ هذه العادة في أسوء الأحوال، وما سميت السيئة سيئة إلا لأنها تسيء إلى صاحبها.
ولقد رأيت بعيني رجلاً كان فاحشاً متفحشاً بذيئاً، متسلطاً على عورات المسلمين، وجاءني أكثر من شخص يشتكي منه، وكان معنا في الدراسة، ووعظته أكثر من مرة ولم أستطع أن أقول له: بلغنا عنك كذا وكذا؛ لأنني لا أستطيع أن أتهم الناس، ولكني ذكرته بالله بما ظهر لي من حال، فما كان إلا أن استهزأ واستخف، فوالله الذي لا إله غيره! ولا رب سواه! لقد رأيته في حادث فكانت خاتمته من أسوأ الخواتم، وكان جريئاً على استدراج البرآء وضعفاء الصغار ونحو ذلك إلى الفساد والعياذ بالله، فلا يحسب أحد أن الكون همل وأن عورات المؤمنين سهلة، فمنهم من يبتلى بالشرود الذهني، ومنهم من يبتلى بشتات النفس، ومنهم من يبتلى بالفقر، ومنهم من تضرب عليه الذلة والعياذ بالله، ومنهم من ينطفئ نور الإيمان في وجهه، إلخ.
{وَسَاءَ سَبِيلًا}، والعاقل الحكيم لا يمكن أن يستدرج نفسه إلى عواقب السوء والعياذ بالله (وساء سبيلاً): نكرة، أي: ساء طريقاً على أيٍ كان هذا الزنا.
كذلك الاعتداء على العرض كما يكون بالزنا؛ يكون بالقذف: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} تعبير بالتوكيد: إن {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]، وعيد شديد! كون الله سبحانه وتعالى ينظر إلى النساء الصالحات الغافلات المؤمنات، ويغار عليهن سبحانه من فوق سبع سماوات، فلا يظنن أحد أن أعراض المسلمين رخيصة، ولا يظنن أحد أن اللسان لا سلطان عليه، والله سبحانه وتعالى قد حذر من الوقوع في حقوق الناس، ولذلك تجد أن العواقب الوخيمة في إضاعة حقوق الناس أليمة في الدنيا والآخرة، وجاءت الصيغ في القرآن والسنة في المنهيات، من حقوق الناس من أبلغ ما تكون، ولذلك تجد مثلاً في النميمة، وهي نقل الحديث بين الناس: يمر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فيقول: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فقد كان يمشي بالنميمة ... )، نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، الذي يقول الله له يوم العرض الأكبر: (ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع)، فيشفع في الأولين والآخرين، ولم يستطع أن يشفع في رفع العذاب عن نمام، إنما قال: (لعله أن يخفف عنه ما لم تيبسا)، لا يرفع العذاب وإنما يخفف فقط؛ لأن حقوق الناس أمرها عظيم.
وهذا نذير من الله عز وجل؛ فإن استطعت أن تخرج من الدنيا ولم تسب مسلماً ولم تتهم مسلماً في عرضه، ولم تتهمه في فكره ومنهجه وعقيدته، وتخرج وأنت خفيف الظهر والحمل من حقوق المسلمين، فافعل ذلك رحمك الله، وإلا لتندمن وليطولن ندمك، ولتندمن حين لا ينفع الندم.
فهنا في القذف يقول الله عز وجل: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:23]، فلهم لعنة الدنيا ولهم لعنة الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]، وصف العذاب بكونه عظيماً، وكأن سائلاً سأل: ما هو هذا العذاب العظيم يا رب؟! متى يكون؟ وأين يكون؟ فإذا به يقول: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور:24]، التي كانت لا تبالي بأعراض المسلمين، هذه الألسنة التي كانت سليقة حادة: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19]، هذه الألسنة التي لا تبالي بحرمة، إذا به سبحانه يخبر أن هذه الألسنة التي أذنبت تشهد، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
ورد في بعض الآثار أن العبد يقول حينما تشهد عليه الملائكة (يا رب! لا أرضى حتى تقيم عليّ شاهداً من نفسي، فيقول: من نفسك؟ قال: نعم، فيختم الله عز وجل على فيه، ويتكلم فرجه، وتتكلم رجله، وتتكلم يده)، في يوم يسوؤه كلام ويسوؤه ما يسمعه، فإذا به يخبر الله عز وجل أنه تشهد عليهم ألسنتهم بما رتعوا في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وما استحلوا من محارم الله.
كم من أمة من إماء الله عز وجل سهرت ليلها تبكي، وأصبحت نهارها متقرحة القلب تشتكي إلى جبار السماوات والأرض من المظالم في اتهامها في عرضها، وكم من طالب علم وعالم وداعية وصالح يتهم في فكره ومنهجه، فلا يحسب أحد أن أعراض المسلمين رخيصة، وإن هذا اللسان الذي يرتع ليعاقب به العبد إذا كان يرتع في العرض؛ فكيف بالدين؟ وكيف بالفكر؟ وكيف بالمنهج؟ جعل الله عز وجل هذه الجرائم محل المقت في قلوب المسلمين، وليس هناك أحد هذب أخلاق المسلمين وقوّم سلوكهم وسدد وصوّب اتجاههم، مثل ما جاء في كتاب الله عز وجل.
ومن هنا يتضح لنا كيف بيّن الله عز وجل عظم الاعتداء عن العرض، وكيف حذر من هذا الذنب.(397/10)
التحذير من الاعتداء على الأموال
الاعتداء على الأموال: الله سبحانه وتعالى بيّن حد السرقة وحد الحرابة، وهذه العقوبة بقطع اليد التي هي من أبلغ ما تكون ألماً، ومن أبلغ ما تكون زجراً للفاعل وزجراً لمن يرى هذه العقوبة.
قل أن تجد أحداً يرى سارقاً تقطع يده فيفكر في السرقة، يقول أحد العلماء: جاءني رجل كان مبتلى بالنصب والسرقة والعياذ بالله، بل الأسرة عنده مبتلاة بهذا ونشأ في هذا الانحراف، يقول: ولا يستطيع أن يتركه، قال له: اطلب العلم لعل الله سبحانه وتعالى أن يكسر قلبك بزواجر التنزيل وتتعلم، وكان من بيئة ضعيفة.
فابتدأ طلب العلم، وصار يسرق طلاب العلم، فصارت المصيبة أكبر، ذكره بالله وخوفه بالله عز وجل، وإذا به يقول: لا أستطيع؛ لأنه مبتلى بهذا البلاء، فشاء الله يوماً من الأيام أن قال له موعظة، قال له: أنا أوصيك بوصية، وهي: أن تحرص أن ترى سارقا تقطع يده، ترى بعينك فقط وتعتبر، وشاء الله عز وجل بعد فترة وإذا به يقام حد سرقة، فجاء ووقف على السارق تقطع يده ورأى الدم ورأى اليد تفصل، ورأى حال من قطعت يده فأغمي عليه، ومن بعدها لم يمد يده إلى مال حرام، فقضاء الله عز وجل فيه زجر، والله أعلم بالنفوس، الله أعلم بما يزجر عباده وبما يصلحهم.
هذه مجمل التشريعات الواردة وأسلوب النهي فيها.
الأسباب التي تعين على وجود الوازع الديني، جعلها الله عز وجل في التشريعات التي تقوي الإيمان، وتسلم بها عقيدة المسلم ويصلح بها عمله.
وهناك جوانب أخر، جعل الله عز وجل فيها السلامة من الجرائم، ونبه عباده على أنها علاج للجريمة، وسبب في ترك الجريمة والسلامة منها، والتي منها الإيمان بالله، وإقام الصلاة، والصوم، والذكر؛ فهذه أسباب كلها تقوي جذوة الإيمان، وينتج عنها البعد أو مقارفة الجرائم والوقوع فيها.
سنتحدث إن شاء الله في الأسبوع القادم عن جوانب من التشريعات الإلهية التي أعانت الناس على اتقاء الجرائم وعدم الوقوع في هذه المحرمات التي دلت نصوص الكتاب والسنة على تعظيم أمرها وعلى وجوب تركها والبعد عنها، نسأل الله العظيم أن ييسر ذلك وأن يرزقنا القول السديد، إنه ولي ذلك وهو الحميد المجيد، والله تعالى أعلم.(397/11)
الأسئلة(397/12)
المعاصي علامة على ضعف الوازع الديني
السؤال
المسلم يذنب ويرتكب المعاصي، هل هذا يدل على أنه ليس له وازعٌ ديني أو خوف من الله؟ أثابكم الله.
الجواب
الناس ووقوعهم في المعاصي -وهذا سننبه عليه- على أحوال: منهم من يقع في المعصية، ولا إشكال أنه لا يقع في المعصية إلا بضعف إيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)، فمن كمل إيمانه بالله كملت استقامته على طاعة الله بفعل ما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر.
وأما من ضعف إيمانه فعلى العكس، وعلى هذا: فلا شك أن الإيمان مؤثر في هذا، وله أثر على سلوك الإنسان، ولكن بالنسبة للتلبس بالمعاصي فهو على أحوال؛ فهناك أسباب تدعو إلى المعاصي، ومنها ما يكون من الشخص نفسه، من النفس السيئة وغلبة الهوى وغلبة الشهوة، ومنها ما يكون من قرناء السوء، ومنها ما يكون في بيئته، ويدل على ذلك حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأتم المائة فأمره العالم أن يترك بيئته وأن يخرج، وقال له: إن في قرية كذا أناساً صالحين، وأوصاه أن يترك قرية السوء، وكان في ذلك علاج له، والسنة أقرت هذا، وهذا يدل على أن المعاصي قد تكون بسبب البيئة.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.(397/13)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الأطعمة
الأطعمة أنواع: منها النباتية، ومنها الحيوانية، ومنها الجمادات، وكل طعام الأصل فيه الحل حتى يدل الدليل على خلافه، وهذا يدل على أن الشريعة جاءت بما فيه المصلحة والتيسير لا التشديد، وهي إذا حرمت نوعاً من الأطعمة فإنما لما فيه من الضرر على الإنسان وحياته.(398/1)
حقيقة الأطعمة وأحكامها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الأطعمة] الأطعمة جمع طعام، واختلف العلماء رحمهم الله في حقيقة الطعام شرعاً على وجهين: الوجه الأول: أن الطعام ما يؤكل ويشرب.
الوجه الثاني: أن الطعام ما يؤكل مطلقاً.
وفائدة هذا الخلاف: هل يدخل الماء في المطعومات أو لا يدخل؟ وهكذا بقية المائعات، فالذين قالوا: إن الشراب والمائع يدخل في الطعام، احتجوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249]، فقالوا: (ومن لم يطعمه) وقد انصرف ذلك إلى الماء، فدل على كون الماء مطعوماً، كذلك استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في زمزم: (إنها طعام طعم، وشفاء سقم) قالوا: فهذا يدل على أن الماء والمائع يكون طعاماً، ومن هنا قالوا: إن الحقيقة الشرعية تشمل هذا -أعني: المأكول والمشروب-.
ومن فوائد ذلك: جريان الربا في الماء، فلو قلنا: إن الشريعة إذا أطلقت الطعام تقصد به المأكول والمشروب، فمعنى ذلك أنه يدخل في عموم الحديث الذي رواه معمر بن عبد الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل)، ومن هنا لا يجوز بيع الماء بالماء إلا متماثلاً ويداً بيد، بناءً على أنه يدخل في الطعام الشرعي.
وقوله رحمه الله: (كتاب الأطعمة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بما أحل الله وما حرم، وما كره للعبد أن يطعمه.
وهذا الباب باب عظيم؛ لما يشتمل عليه من بيان أحكام ومسائل شرعية تعم بها البلوى، ويحتاج المسلم إليها في نفسه وفي أهله وفي الناس جميعاً، ولما في الطعام الطيب والأكل من الطعام الطيب، أو من الطيبات من الخير العظيم للإنسان؛ لأن الله يزكيه بذلك حتى تستجاب دعوته، وتقبل دعوته إذا طاب مطعمه، قال صلى الله عليه وسلم: (أطب مطعمك؛ تستجب دعوتك).
وقد جمعها رحمه الله في قوله: (الأطعمة)؛ لأنها أنواع من حيث الحقيقة، فهناك أطعمة نباتية، وهناك أطعمة حيوانية، وهناك أطعمة من الجمادات، وكذلك أيضاً لاختلاف أنواعها الشرعية: فهناك طعام محرم، وهناك طعام مباح، وهناك طعام مكروه، فنظراً لتعددها قال رحمه الله: (كتاب الأطعمة).(398/2)
الأصل في الأطعمة الحل
قال رحمه الله: [الأصل فيها الحل]: قوله رحمه الله: (الأصل فيها الحل) الضمير عائد إلى الأطعمة، أي: حكم الشريعة على الطعام أنه حلال للمسلم، وهذا الأصل دل عليه دليل الكتاب كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، وهذا التسخير لبني آدم يقتضي الانتفاع، فإن كان الشيء الموجود في السماوات والأرض مطعوماً يطعمه، وإذا كان مشروباً يشربه، وإذا كان من جنس ما يركب يركبه، إذن قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ) يقتضي الإباحة والحل، ومن هنا: نص العلماء والأئمة على أن الأصل في الطعام: أنه حلال.
وفائدة هذا: أن الفقيه، وطالب العلم، والمسلم يعلم أن أي طعام الأصل فيه أنه حلال، حتى يدل الدليل الشرعي على عدم جوازه، ومن هنا لو اختلف العلماء رحمهم الله في طعام هل يجوز أكله أو لا يجوز أكله، فإن الذي يقول بجواز الأكل يستدل بالأصل، ويقول: الأصل عندي أن الطعام حلال، ولذلك يجوز لي أن آكله حتى تعطيني دليلاً يدل على أنه لا يجوز لي أن آكل هذا, ومن هنا نجد أن العلماء والأئمة يقولون: إن حفظ الأصول هو الطريق للوصول، ولذلك قالوا: من حرم الأصول حرم الوصول، والمراد بالأصول: أصول الأبواب، وليس أصول الفقه، وإن كانت أصول الفقه مهمة، لكن المقصود أصول الأبواب: أي أنك في كل باب تعرف ما هو حكم الله، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي شرعه في كتابه، وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم على الشيء: هل هو حلال، أو غير حلال؟ فإذا علمت هذه الأصول تسأل عما يستثنى، وعندها تكون قد وصلت إلى خير كثير من العلم.
وقوله: (الحل) أي: الجواز، بدليل الكتاب، ولإجماع العلماء رحمهم الله على أن الأصل في الطعام أنه حلال.(398/3)
إباحة كل طاهر لا ضرر فيه
قال رحمه الله: [فيباح كل طاهر لا مضرة فيه]: الفاء: للتفريع، أو سببية، يتفرع على ما سبق من كون الأصل في الأطعمة أنها حلال، أن نقول ونحكم بأنه يباح كل طاهر لا مضرة فيه، فيباح كل طاهر، و (كل) من صيغ العموم.
قوله: [كل طاهر لا مضرة فيه] هذان الوصفان ما اجتمعا في شيء من الأطعمة إلا كان طيباً: أن يكون طاهراً، وأن يكون لا مضرة فيه، فكل ما جمع هذين الوصفين فإنه الطيب الذي عناه الله عز وجل بقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57]، وعتب على من حرم فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]، فكل طاهر لا مضرة فيه فإن الله قد طيبه، وهو حلال، هذا الأصل.
قوله: (كل طاهر) هذا اللفظ له مفهوم وهو: أن من أسباب التحريم: عدم الطهارة، أو كون المأكول أو المطعوم ليس بطاهر، أي: إما نجس، أو متنجس؛ لأن المتنجس يأخذ حكم النجس، أو يكون مما فيه ضرر، وسيأتي أنه لا يجوز أكل النجس.
[من حب، وثمر وغيرهما]: قوله: (فيباح كل طاهر لا مضرة فيه) هذا كما قلنا عموم، وهذا العموم يحتاج إلى بيان، ولذلك قال: (من حب، وثمر وغيرهما).
الضرر: ضد النفع، وهو نوعان: إما ضرر ينتهي بالإنسان إلى الموت والهلاك.
وإما ضرر دون ذلك.
فأي طعام اشتمل على فوات الأنفس وهلاك الأرواح فإنه لا يجوز أكله، أو يكون فيه ضرر يتسبب في إتلاف الأعضاء، أو تعطيل منافعها، أو يُحدث للإنسان ضرراً في عقله، أو ضرراً في حاسة من حواسه، أو يشوش عليه، أو يقلقه، أو يزعجه ونحو ذلك، فإنه يحكم بعدم الجواز؛ لأن النصوص في الكتاب والسنة دلت على تحريم إضرار الإنسان بنفسه، ولذلك حرم الله على العبد أن يقتل نفسه، كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وقال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، وكل ما فيه ضرر يلقي بالإنسان إلى التهلكة، وقد يُهلك عضواً من أعضائه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً)، ومن هنا: حرم أكل وشرب الأشياء المضرة، سواءً كانت من الجامدات، أو كانت من المائعات.
قال رحمه الله: [لا مضرة فيه] فلا يجوز أكل السم؛ لأن فيه ضرراً، ولا يجوز أكل ما فيه ضرر على الإنسان في حواسه كما ذكرنا، مثل: الشاة التي فيها مرض، فإنه إذا أكلها انتقل إليه المرض ونحو ذلك، كل هذا لا يجوز، وهو مفرع عن الأصل الذي ذكرناه: أن الأصل لا يكون طيباً إلا إذا كان طاهراً لا مضرة فيه.
قال رحمه الله: [من حب، وثمر وغيرهما]: قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، فأحل الله عز وجل أكل ثمار الأشجار، والزروع، وأباح الانتفاع منها، وكذلك أيضاً دلت الأدلة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم على إباحة أكل الحيوانات من بهيمة الأنعام من الإبل، والبقر، والغنم، وكل هذا داخل تحت العموم، فيباح كل طاهر لا مضرة فيه؛ من حب، وثمر وغيرهما، و (من) هنا بيانية.(398/4)
تحريم كل نجس وضار من الأطعمة
قال رحمه الله: [ولا يحل نجس] ولا يحل نجس: هذا المفهوم جاء بالمنطوق تقريراً للأصل: أنه يباح كل طاهر لا مضرة فيه، والمفهوم: يحرم كل نجس، وكل ما فيه ضرر.
والنجس في لغة العرب أصله: القذر، والقذر: هو الشيء الذي تعافه النفوس؛ من المستقذرات، والأشياء الخبيثة، فإنه يحرم أكل النجاسات، والأصل في ذلك: تحريم الله للميتة، وما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما حرم لحوم الحمر الأهلية، نادى مناديه -كما في الصحيح- قال: (إنها رجس)، والرجس: هو النجس، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكل كل النجاسات.
قوله: [كالميتة] الميتة: هي الحيوان الذي هلك حتف نفسه بغير ذكاة.
والميتة لا توصف إلا في الحيوانات، فلا يمكن أن نقول للبرتقال ميتة، ولا للتفاح؛ لأنه لا توجد فيه حياة، إذن العلماء رحمهم الله إذا قالوا: ميتة، فمعناه: أنه متعلق بالحيوان، وتوضيح ذلك: أن الحيوان إما أن يذكى؛ إذا كان من جنس ما يذكى، وإما أن يموت حتف نفسه، أو بذكاة غير معتبرة شرعاً، ولذلك نجد بعض الفقهاء في تعريفه للميتة يقول: هلك حتف نفسه، أو بغير ذكاة، لأنه لما قال: هلك حتف نفسه، مثل الشاة تموت بأمر الله عز وجل، يعني: تموت فجأة، ولو أن شخصاً أمسك الشاة فخنقها، أو وضعها في ماء حتى هلكت، أو رماها من شاهق حتى تردت، فهي منخنقة، أو متردية، أو رماها بحجر على رأسها فهلكت فهذه موقوذة، فكل هذه الأنواع ميتة، ولكنها ماتت بغير ذكاة شرعية، ولذلك نجد بعض العلماء يضيف هذا القيد: هلك حتف نفسه، أو بغير ذكاة شرعية، حتى يشمل النوعين.
والميتة نجسة، ولا يجوز أكلها؛ لأن الله تعالى قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، وذلك في آية البقرة، وآية المائدة، وقال تعالى أيضاً في آية الأنعام: {قُُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام:145] فهذه النصوص تدل على حرمة أكل الميتات؛ من الإبل، والبقر، والغنم، ويقال: ميتة، لما له ذكاة، وللحيوان الذي في الأصل لا يؤكل إذا مات، لأنه يعتبر ميتة، فاجتمع فيه التحريم بالأصل، والتحريم بعدم وجود الذكاة، وهذا مبني على مسألة حله عند الاضطرار، هل يشترط فيه الذكاة أو لا؟ كما سيأتي في باب الذكاة.
فالميتة لا يجوز أكلها، كلاً وجزءاً، ولا يجوز الانتفاع بها، إلا ما ورد الدليل من الانتفاع بجلدها، وهذا الأصل محل إجماع عند العلماء رحمهم الله.
[والدم]: لا يجوز شرب الدماء، والدم المراد تحريمه هنا: الدم المسفوح، وهو: الدم الذي يسبق الموت، والدم الذي يكون أثناء التذكية، فلو أن شاة جرحت، فتطاير دمها على ثوب الإنسان، فإن هذا الدم دم مسفوح، والدم هو الذي يكون بغير ذكاة، سواء سبق الذكاة أو أثناء الذكاة، ولو أراد أن يذبح الشاة أو ينحر البعير، فتطاير عليه دمه فإنه نجس، وهو الذي يسمى بالدم المسفوح: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145]، فالدم المسفوح: هو الذي يكون في البهيمة حال حياتها إذا نزفت، أو قطع عضو من أعضائها فجرى منها الدم، أما الدم الذي يكون في الحيوان المذكى بعد ذكاته، فإنه طاهر، فلو أن شخصاً أتى عند جزار، والجزار يقطع له كتفاً من شاة مذكاة، فتطاير عليه دمها، فإنه طاهر، لكن الدم الذي يكون في الرقبة، والدم الذي يكون في السفح-الذكاة- أو أرسل سهماً، أو ببندقيته، فضرب بهيمة فتطاير دمها؛ فهذا الدم المسفوح الذي يكون أثناء الذكاة نجس.
فلا يجوز شربه، ولا الائتدام به، ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيعه، لكن يجوز الانتفاع به في حال الاضطرار، كما لو احتاج إلى أن يتبرع بدمه لإنقاذ نفس، فهذا استثناه الله عز وجل في قوله: (إ ِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، وقوله سبحانه: {إ ِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173]، فإذا توقفت حياة شخص على أن يُتبرع له بالدم، فإنه يجوز للإنسان أن يتبرع له، وينوي إنقاذ حياته، وهو مأجور على ذلك، ويدخل في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، وهذا الدم يعتبر من إنقاذ الأنفس، وتكون الحالة حالة اضطرار.
[ولا ما فيه مضرة كالسم ونحوه]: لا يجوز أكل ما فيه مضرة كالسم؛ لأن السم قاتل -أعاذنا الله وإياكم منه- وهو يكون في الحيوانات، ويكون في النباتات، ويكون في الجمادات، فسم الحيوانات: مثل ما ذكر العلماء: في السمك، فهناك نوع من أنواع السمك، يقولون له: السمك المسموم، ويكون في الحيوانات كالوزغ الأبرص، فإنه من الحيوانات المسمومة -وذكروا: الزنبور، والنحل- الميت منه يقتل الإنسان غالباً إذا أكله، فهو محرم، سواءً كان من الحيوانات، أو كان من النباتات كالخردل، أو كان من الجمادات كالزرنيخ، فهذا لا يجوز أكله.
إذاً: سبب تحريم السم وجود الضرر، فإن كان السم لا يشتمل على ضرر، بمعنى أن يتعاطاه الإنسان بطريقة لا تضره، ولا تأتي ببلاء عليه في عضو من أعضائه، أو في جسده، فيجوز أكله، ويجوز تعاطيه للحاجة، مثل الدواء، فبعض الأدوية توضع فيها جرعات من السم، وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعاطي السم للوقاية، كما كان يفعله بعض الأطباء للعظماء، والسلاطين إذا خشوا أن يُسموا، فكانوا يعطونهم جرعات من السم، حتى يصبح الجسم قابلاً للسم، فكانوا يرخصون في هذا؛ لأن سبب التحريم خوف الهلاك، والعلة إذا زالت يزول الحكم المترتب عليها، وعلى هذا لو زال أو غلب على ظنه أنه لا يستضر فإنه يجوز تعاطيه.
أما بالنسبة لدليل تحريم السم فقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، والسم ينتهي بالإنسان إلى الموت، وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تحسى سماً فمات منه، فهو في نار جهنم يتحساه، خالداً مخلداً فيها)، فهذا يدل على تحريم أكل السموم.
وإذا ثبت أنها حرام، فإنه يحرم بيعها، إلا إذا كان على الوجه الذي استثنيناه، ولكن لو علم أن شخصاً سيأخذ السم، ويقتل به نفساً محرمة فلا يجوز وهكذا.
ومما يتفرع على هذه المسألة بيع الأدوية ممن لا يحسن صرفها، كأن يبيعها الصيدلي، أو يعطيها للمريض، أو يصرفها طبيب ليس من تخصصه، والأدوية، إما أن تكون فيها سموم، أو فيها ضرر، وكلاهما موجب؛ لأن أصل تحريم أكل السموم: الضرر، فالقاعدة العامة: وجود الضرر، والمثال: السم، فإذا كانت الأدوية تصرف من شخص ليست عنده أهلية، فالغالب الضرر، وحينئذ لا يجوز أن يأكلها، ولا يجوز أن يتعاطاها.(398/5)
ما يحرم من الحيوانات البرية وما يباح
قال رحمه الله: [وحيوانات البر مباحة]: هذا أصل عام.
والحيوان ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون برياً.
وإما أن يكون بحرياً.
فحيوان البر: يشمل ما كان في السماء، كالطيور، وما كان في الأرض؛ مثل بهيمة الأنعام، ونحو ذلك من الوحوش في البراري، وغيرها مما أحل الله عز وجل، هذا حيوان البر.
وحيوان البحر: كالسمك، والحوت ونحو ذلك، والحيوان البحري: هو الذي لا يعيش إلا في البحر، أو غالب عيشه في البحر، بحيث إذا خرج يهلك، أو يقل خروجه، ونسله وتكاثره في غير البحر.
حيوانات البر تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: مستأنسة: وهي التي تكون بين الناس وتأنسهم، وتألف الناس ويألفونها ولا تنفر منهم؛ كالإبل، والبقر، والغنم، ومن الطيور: كالدجاج، والإوز، والبط، هذه يسمونها: مستأنسة وداجنة.
والقسم الثاني: المتوحشة، وهي بطباعها تنفر من الإنسان، كبقر الوحش، وحمار الوحش، والثيتل، والوعل، ونحو ذلك من حيوانات البر، والطيور: مثل العصافير، والحباري، والقماري وغير ذلك.
فحيوانات البر: الأصل حلها، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] معناه: أنه حلال لكم إذا لم تكونوا محرمين، هذا بالنسبة للصيد البري، وصيد البحر.
أما بالنسبة للمستأنس البري: فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الإبل، والبقر، والغنم، وهذا يدل على حل حيوانات البر.(398/6)
حكم أكل الحمر الإنسية والوحشية
قال رحمه الله: [إلا الحمر الإنسية]: الحمر نوعان: الأول: حمر إنسية، أو أهلية: وهي التي تعيش بين الناس، الأسود منها، أو الرمادي، أو الأبيض، أو الأغبر.
الثاني: حمر وحش: وهي التي تعيش في البراري، وهو الأبيض والأسود المخطط، وهو معروف إلى الآن في زماننا، وموجود.
ولكن يقل وجوده في جزيرة العرب؛ لأنه كان يأتي من أفريقيا، كما حدثنا كبار السن، وقل وجوده بسبب عدم وجود الهجرة.
فبالنسبة للحمر الأهلية: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها عام خيبر، ونهى عنها عليه الصلاة والسلام عام الحديبية -كما في بعض الروايات- ونهى عنها في خطبة حجة الوداع، والإجماع قائم -بعد أن وقع بعض الخلاف عن الصحابة- على تحريمها، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور، كما في حديث أنس، وحديث جابر: نادى مناد: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن الحمر الأهلية) وهذا يدل على تحريم أكلها.
واختلف العلماء في العلة: فقيل العلة أنها تجول، وتأكل النتن، والقذر في القرى والهجر، وهذه العلة يرتضيها الإمام البخاري، ويقويها حديث الغالب بن أبجر: (إنها جوال القرية): أي تجول في القرى.
وقيل: إنها لا تخمس في الغنائم، وهي علة ضعيفة، وقد تقدم معنا أحكام الخمس.
وقيل: إنه يحتاج إليها للظهر؛ أي: أن يحمل عليها، كما يشهد لذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وقيل-وهي العلة القوية-: كما في حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح، ورجحه غير واحد من العلماء أن العلة هي: النجاسة، وذلك لحديث: (وأمر أن تكفأ القدور، وقال: إنها رجس)، والرجس هو: النجس، وهذا يدل على أن تحريم أكل الحيوانات المحرمة يؤدي إلى الحكم بنجاستها، وهذا صحيح، ولذلك حكم بنجاسة الميتة، وهذا الذي أجمع عليه العلماء، وشكك فيه بعض المتأخرين، وقال: لا يعرف دليل على نجاسة الميتة، لكن يقوي القول بنجاستها حديث الحمر؛ ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت الحمر تؤكل، ثم في اليوم الثاني عندما حرِّم أكلها قال: (إنها رجس)، فدل على أنها سلبت ما فيها من الطيب، وأصبحت نجسة، ولا يجوز أكلها من هذا الوجه.(398/7)
حكم أكل ما له ناب من السباع
قال رحمه الله: [وما له ناب يفترس به]: الناب: هو السن الذي يلي الرباعيات ويفترس به؛ وهنا وصفان: أن يكون له ناب، وأن يفترس؛ أي: أن يكون من العاديات، وهذا لا يكون إلا في السباع.
والأصل في تحريمه قوله صلى الله عليه وسلم: (كل ذي ناب من السباع حرام) والحديث في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.
فهذا أصل عند جمهور العلماء في تحريم أكل السباع العادية؛ كالأسد، والنمر، وكل ما له ناب، يعدو به على الناس، ولذلك لا يحل أكل لحمه.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن العلة في هذا التحريم: أن السباع العادية فيها قوة، وفيها كلَب، وفيها نفس خبيثة في الاعتداء، وإلحاق الضرر بالغير، واللحم يؤثر في الطبائع، ولـ ابن خلدون كلام تاريخي على مسألة النباتية والحيوانية، يعني أكل النباتات والحيوانات، وتأثير ذلك على الطباع.
فالسباع العادية إذا أكل لحمها تأثر الإنسان بطباعها الخبيثة من العدو والكلب، ولذلك نهي عنه، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (السكينة عند رعاة الغنم من مضر) لأن طبيعة الغنم السكينة؛ ولذلك بين أن السكينة في رعيها وأكل لحمها، ثم قال: (والجفاء عند رعاة الإبل من ربيعة) فهذا يدل على أن أكل لحم الإبل يؤثر في الطبائع، ويؤثر في نفسية الإنسان، ومن هنا قال الإمام ابن القيم: إن السباع العادية فيها نفس خبيثة، وفيها كلب وعدوان، فأكل لحمها يؤثر في طبع الإنسان، ولهذا حرمت.
واختلف العلماء في مسألة كل ذي ناب من السباع: الجمهور على التحريم، والمالكية عندهم رواية بالجواز، واحتجوا بقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام:145]، قالوا: إن آية الأنعام لم تذكر السباع.
ونقول لهم: إن قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}.
دل على عموم التحريم، وحديث: (كل ذي ناب من السباع) دل على خصوص التحريم في السباع العادية، فلا تعارض بين هذا وهذا، حيث جاءت السنة بالزيادة، والسنة تزيد على القرآن، وهذا هو الذي عليه العمل عند جماهير السلف والخلف والأئمة.
قوله: [غير الضبع]: الضبع: اختلف فيه على قولين: قيل: إنه لا يجوز أكله، كما يقول المالكية والحنفية.
وقيل: بجواز أكله، كما هو مذهب الشافعية والحنابلة.
والذين قالوا بالجواز أسعد بالدليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحل الضبع، فقد سأل عبد الرحمن بن عبد الله بن عمارة التابعي جابر بن عبد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (الضبع صيد؟ قال: نعم، قال: آكله؟ قال: نعم، قال: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم).
وهذا الحديث صححه الإمام البخاري، وابن خزيمة، وابن حبان، والإمام الترمذي، والعمل عند العلماء-من ذكرنا- على متنه، أنه يدل على جواز أكل لحم الضبع، وعلى هذا فقول من قال بتحريمه مرجوح.
[كالأسد، والنمر.
كالأسد، والنمر، والذئب، والفيل: هذا تمثيل للسباع العادية، فالأسد: يقتل، ويعدو بنابه، وله كلَب، وفيه وجهان: أولاً: الأسد، والنمر من السباع العادية، وهذا النص فيه واضح.
وثانياً: اغتذاؤها بالجيف، ومن هنا تكون خبيثة، فجمعت بين الأصلين؛ لذلك التحريم فيها أقوى.
[والذئب]: والذئب له ناب، ويعدو بنابه، ويقتل.
[والفيل]: فيه قولان للعلماء: الجمهور على تحريم أكل الفيل؛ وذلك لأمرين: أولاً: وجود الناب فيه، حتى قال الإمام أحمد: لم أر أعظم منه ناباً، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب.
وهو يعدو؛ فإنه إذا آذاه الإنسان يفتك به، وإن كان فتكه ليس بالناب، لكنه يعدو عليه ويقتله، ففيه الكلَب.
الوجه الثاني: خبث الفيل، ومن هنا قالوا: إنه جمع بين الوصفين.
وهناك من يقول بجواز أكل لحم الفيل.
[والفهد، والكلب، والخنزير]: أما الكلب: فاختُلف في نجاسته وطهارته: فقيل: إنه نجس، وهذا هو الصحيح، وقد تقدم هذا في الطهارة وبينا الدليل على نجاسته، وبناءً على ذلك لا يجوز أكل لحم الكلب، ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله من الفواسق، وإن كان قد خص الكلب العقور، وقد أمر بقتل الكلاب صلوات الله وسلامه عليه، ولو كانت تؤكل لأمرهم أن يأكلوا لحمها، ولكنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتلها، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكل لحم الكلب.
الأمر الثاني: أن الكلب يغتذي بالجيف، ففيه استخباث لحمه، وقد جمع بين الوصفين لتحريمه.
قوله: (والخنزير) دل دليل الكتاب والإجماع على تحريم أكل لحم الخنزير، كما قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3]، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكل لحم الخنزير، ولا الإدهان بشحمه، ونحو ذلك من بقية أجزائه.
[وابن آوى، وابن عرس، والسنور] ابن آوى: فوق الثعلب، ودون الذئب، ويكثر صياحه لبني جنسه، وصوته أشبه بصوت الصبيان فيما ذكروا من ضوابطه، وهو مستخبث، وفيه خلاف، والجمهور على تحريم أكل لحمه.
(وابن عرس) كذلك مثله؛ لأن له ناباً، وكلباً.
(والسنور) القط: سواء كان برياً، أو أهلياً، فله كلب، وله عدو، خاصة المتوحش منه؛ وهو البري، ولو خلا بالإنسان فإنه يقتله، والقط البري المعروف، يقال: إنه من فصيلة النمور، وهو يغتذي بالجيف والأهلي يغتذي بالحشرات، فيستخبث لحمه، فهذه الأنواع كلها لا يجوز أكلها.(398/8)
حكم أكل ما له مخلب من الطير
قال رحمه الله: [والنمس، والقرد، والدب]: الدب استخبثوه؛ لأن فيه الكلب، وفيه الاستخباث.
[وما له مخلب من الطير يصيد به]: بعد أن بين رحمه الله تحريم السباع العادية، بالنسبة لما يدب على وجه الأرض، شرع في بيان النوع الثاني من البري؛ لأن البري إما طائر، وإما غير طائر، فبين غير الطائر، الذي هو ذو الناب من السباع، ثم شرع في بيان المحرم من الطير، وهو كل ذي مخلب من الطير، والمخلب: الظفر، والمراد به: ما يعدو من الجوارح؛ كالصقر، والباز، والشاهين، والباشق، ونحوها من العاديات في الطيور، فهذه محرمة.
أولاًً: لوجود العدو منها، كالعدو في ذوات السباع؛ لأنها ذوات مخلب.
كذلك أيضاً: خبث تناولها للجيف، وأكلها للجيف يقوي تحريمها.
[كالعقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والباشق، والحدأة، والبومة]: هذه كلها من الطيور العادية، والعادية ورد فيها النص؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الحدأة في الحل والحرم، وهذا يدل على أنها ليست بصيد؛ لأن المحرم لا يقتل الصيد، ولو كانت مما يحل أكله لكان فيه الضمان في قتله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنها فاسق، وأنها تقتل، فهذا يدل على أنها ليست مما يحل أكله.(398/9)
حكم أكل ما يأكل الجيف
قال رحمه الله: [وما يأكل الجيف]: هذا المستخبث من الطيور.
[كالنسر، والرخم]: النسر معروف، وهو يعدو على الجيف، وكثيراً ما يوجد في فضلات البهائم في البر.
والرخم: وهو من أسوأ وأقذر أنواع الطيور لحماً، حتى كان بعض الأطباء إذا أعياه وجود الدود في بعض الجسم، يضع لحم الرخم على الجلد من خارج، فيترك الدود داخل البدن ويخرج إلى الرخم، وهذا من غريب ما فعله بعض الأطباء حينما أعيته الحيلة والرخم يضربون به المثل للشيء الذي يكون عديم الفائدة، لأنه لا أحد ينتفع به.
[واللقلق، والعقعق، والغراب الأبقع]: أما الغراب فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتله كما في حديث الفواسق، والأبقع: هو الذي فيه البقعة البيضاء، قيل: فيه بياض.
[والغداف: هو أسود صغير أغبر، والغراب الأسود الكبير]: كل هذه يحرم أكلها -أنواع الغراب- لأنها مستخبثة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الغراب، وجعله من الفواسق، ولو كان حلالاً لما أمر بقتله عليه الصلاة والسلام، ولما جعله من جنس ما لا يضمن، كما في حديث الفواسق.(398/10)
حكم أكل ما يستخبث
قال: [وما يستخبث كالقنفذ، والنيص، والفأرة، والحية، والحشرات كلها، والوطواط، وما تولد من مأكول، وغيره كالبغل] قوله: [وما يستخبث]: الأصل في تحريمه قوله تعالى: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، والأصل عند جمهور العلماء أن العبرة بالاستخباث العرب؛ لأن بيئتهم هي أوسط البيئات، وطبائعهم هي أعدل الطبائع، لما جبلهم الله عز وجل عليه من الصفات، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله اختارهم واصطفاهم.
وهذا الاختيار من الله عز وجل والاصطفاء، فيما جبلوا عليه من النعم التي وضعها الله عز وجل في طبائعهم.
فما استخبثته العرب فهو خبيث، وما استطابته فهو طيب، ثم ينظر: العرب فيهم بادية وحاضرة، وفيهم الغني والفقير، وفيهم أزمنة الرخاء وأزمنة الشدة، فهل نحكم في الاستخباث والطيب بضابط معين؟ أو يترك الأمر هكذا؟ الذي عليه المحققون: أن الاستخباث والطيب أمر نسبي، وأن العبرة فيه بأعدل الناس، لأن الغني يستخبث ما يستطيبه الفقير، فلو أنه جُعل الاستخباث للأغنياء لعظم التحريم، ولم يبق شيء إلا حرم؛ لأنهم لا يأكلون إلا شيئاً معيناً خاصاً، ولذا نُظر إلى الأعدل في هذا، قيل: إنه يُنظر إلى الفقراء.
أما بالنسبة للمدن، والقرى، والبادية، فينظر إلى الوسط بينها؛ لأن البادية بحكم شدة الظروف فيهم من الجلد والقوة ما ليس بالحاضرة، ولذلك يقوون على بعض الأشياء، ويرون أنها مستطابة، وقد يكون العرب في الحاضرة لا يستطيبونها، فلو قيل: إن العبرة بطبائع البادية، لحصل توسع، ولذلك قالوا: ينظر إلى الطبائع المعتدلة في القرى، والهجر، ونحوها.
كذلك أيضاً بالنسبة للغنى والفقر، وأزمنة الخصب والجدب، فإن العبرة بالوسط بين الحالتين، وهو الذي يعتبر فيه الاستخباث وعدمه، وليس فيه إشكال إلا قليل جداً؛ لأنه ما حدث الخلاف بين العلماء إلا في مسائل معدودة، لأن كثيراً منها وردت بها النصوص، وحُل إشكالها؛ لأنه لم يُترك الشرع إلى طبائع الناس، وإنما هو وارد في بعض المسائل المحددة، وقد اختلف فيها، مثلاً: بعض الدواب مثل القنفذ، هل هو مستخبث أو ليس بمستخبث؟ حصل الخلاف بين العلماء في هذا، لكن الأمر في الأوسط، وهو الذي عليه العمل عند المحققين رحمهم الله.
[كالقنفذ، والنيص]: القنفذ معروف؛ ذو الشوك، وهو حيوان يعدو بشوكه على الأفاعي، واستخباثه من جهة مطعمه، وتستخبث النفوس أكله، وأُثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنهم حرموا أكله، ونصوا على ذلك، كما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما، وغيره.
[والنيص]: قيل: إنه أكبر القنافذ أي: شيخ القنافذ، ويأخذ حكم التابع لما قبله، وقيل غير ذلك، ويقال له: (الدلدل) وعلى كل حال هو آخذ حكم القنافذ؛ لأن الخبث فيه من جهة أنه يعدو على الحيات والأفاعي، وهو يتكور، فتؤذيه الحية حتى يقتلها بشوكه، وقيل: إن النيص يلقي شوكه، والقنفذ لا يلقي شوكه، يعني: يرمي النيص، لكن هذا اختلف فيه بين العلماء رحمهم الله، وسواء هذا أو هذا، كلاهما شر.
[والفأرة]: النص فيها واضح، وخبثها معلوم، حتى إن الأطباء -والعياذ بالله- ذكروا أنها من أسباب الطاعون.
[والحية]: لا يجوز أكل الحيات؛ لما فيها من الضرر، وقد عدها النبي صلى الله عيه وسلم من الفواسق.
[والحشرات كلها]: لا يجوز أكل الحشرات؛ لأنها مستخبثة، إلا الدود الذي يكون في الطعام، مما لا نفس له سائلة، كدود التمر، ودود الحب، فهذا طاهر، ويجوز أكله، والأصل في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحلت لنا ميتتان، ودمان، أما الميتتان: فالجراد، والحوت)، فجعل الجراد من الميتات يؤكل بغير ذكاة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقتلونه بالرماح، والجراد مما لا نفس له سائلة، ولذلك دود التمر، وسوس التمر، والسوس الذي يكون في الحبوب ونحوها، يجوز أكله مع أنه من الحشرات، ولا يعتبر محرماً.
[والوطواط]: كذلك لاستخباثه، وقد أثر عن السلف رحمهم الله خبث لحمه.
[وما تولد من مأكول وغيره، كالبغل]: البغل يتولد من الحمار ومن الخيل، فإذا غُلب الحلال، فإنه يقال بجواز أكله، وإن غُلب الحرام، فيقال بتحريم أكله، والذي عليه المحققون: أنه إذا اجتمع الحل والحرمة في الدواب، كأن يكون متولداً من حلال وحرام، سواءً كانت الأنثى الحلال، أو العكس، فالحكم في الجميع التحريم، والسبب في ذلك: أنه ليس فيه ذرة من لحمه إلا وفيها اختلاط حلال بحرام.
وهذا لا يجوز أكل السنع والسيعار، والسنع من الذئب والضبع، والسيعار من الكلب والضبع، وقيل أيضاً: النعجة قد ينزو عليها الكلب-أكرمكم الله- فتأتي بنصف شبه للكلب، ونصف شبه للبهيمة، فكل هذا محرم؛ لأنه ليس فيه شيء إلا وقد اشترك فيه الحلال والحرام، ولا يشكل على هذا مسألة من كان يتعامل بالربا، إذا أردت أن تأخذ منه ديناً، أو استضافك، وقد اختلط ماله الحلال بماله الحرام، فليس من هذا، ولذلك قالوا: من اختلط ماله الحلال بماله الحرام لا يمتنع إلا إذا جزم بأن هذا المال من الحرام، وعلم أن هذا المال الذي يأكل منه من الحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من شاة اليهودية، واستضافه اليهودي كما في الحديث المسند على خبز وإهالة سخنة، وأكل صلى الله عليه وسلم، لأن عين المال لم يجزم بحرمته، فبقي على الأصل من حله.(398/11)
ما يحل أكله من الحيوانات
قال رحمه الله تعالى: [فصل: وما عدا ذلك فحلال] أي: سوى ما ذكر فحلال، وهذا من بديع ذكر المصنف رحمه الله؛ فإنه ذكر المحرمات، ثم أعقبها بالحلال، من هنا يدرك المسلم أن ما أحل الله من الطيبات أكثر مما حرم، ولذلك قال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام:145] فجعل الحل عاماً، وجعل التحريم خاصاً، وهذا يدل على سماحة الشريعة ويسرها، ولا يحرم إلا لسبب؛ إما وجود الخبث، وإما وجود الضرر، وقد يكون لسبب إلهي مثل أن يكون مذبوحاً لغير الله عز وجل، كأن يكون مما ذبح على النصب، وأهل لغير الله به.
[كالخيل]: اختلف في الخيل على قولين: قيل بتحريمها، وقيل بحل أكلها، والصحيح جواز أكلها، فقد حل نص صلى الله عليه وسلم على ذلك كما في حديث جابر في الصحيح أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الحمر الأهلية، وأذن لنا في الخيل) وقالت أم المؤمنين: (نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً وأكلناه)، فهذا يدل على حل أكل الفرس، وقد حرم الحنفية وبعض المالكية أكل الخيل، لقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] قالوا: إن الله جعل الخيل مع الحمير، وهذه تسمى: دلالة الاقتران، وهي ضعيفة؛ لأن العطف لا يقتضي المساواة في الحكم، قال تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] كلوا، وآتوا: فالأكل من الثمر ليس بواجب، وآتوا حقه-الذي هو الزكاة- واجبة، فالعطف لا يقتضي من كل وجه التشريك في الحكم، فالصحيح القول بجواز أكل لحم الخيل، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج.
[وبهيمة الأنعام، والدجاج، والوحشي من الحمر، والبقر، والظباء، والنعامة، والأرنب، وسائر الوحوش] هذا فقط مجرد تمثيل، وما سوى ذلك الأمر واضح فيه، فلو أنه عدد، لم ينته الكتاب؛ لأن ما أحل الله لا ينحصر، وذلك من سعة رحمة الله بعباده.
وقوله: (بهيمة الأنعام) أي: الإبل، والبقر، والغنم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل الإبل، وأكل الغنم كما في حديث الشاة، وحديث الكتف، وكذلك أيضاً البقر، فقد ضحى عن نسائه بالبقر، أما الدجاج، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة) ثم الشاة، ثم الدجاجة، فدل على حل أكل الدجاج.(398/12)
ما يباح من حيوان البحر وما يحرم
قال رحمه الله: [ويباح حيوان البحر كله]: شرع رحمه الله في بيان حكم حيوان البحر، وقد اختلف في الأصل فيه على قولين: القول الأول: أن حل حيوان البحر لا يختص بنوع معين، أي: أن الأصل حله، لقوله عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقوله: (الحل ميتته) عام، فنأكل السمك، ونأكل الحوت، ونأكل سرطان البحر، ونأكل الجنبري ونحو ذلك، وذهب الحنفية رحمهم الله إلى تخصيص الحكم بالسمك والحوت، وأن ما عداه لا يؤكل، واختلفوا في نوعين: أحدهما (الجرّيث): وهو السمك الذي كالترس المدور، و (الماراماهي): وهذا أيضاً فيه خلاف لبعض أهل البدع مع أهل السنة، والصحيح جوازه، وهو مذهب جماهير العلماء، لظاهر السنة.
فلا نحرم شيئاً من لحم البحر إلا إذا ثبت ضرره، كالسمك إذا تفسخ، وقال الأطباء: فإنه يضر، أو كان من النوع الذي فيه ضرر، فنقول: لا يجوز أكله.
إذاً: لا نحرمه إلا إذا وجد سبب يقتضي التحريم، وإلا فالأصل جوازه.
[إلا الضفدع]: لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله.
[والتمساح]: وهو من العوادي، فلا يحل أكله.
[والحية]: تقدم معنا أنها من الفواسق، ومراده هنا: حية الماء.(398/13)
أحكام المضطر
قال رحمه الله: [ومن اضطر إلى محرم غير السم حل له منه ما يسد رمقه]: بعد أن بين أحكام الاختيار شرع رحمه الله في بيان أحكام الاضطرار.
والضرورة: الإلجاء، ومن اضطر إلى الشيء احتاجه ولجأ إليه بعد الله سبحانه وتعالى، ولا تكون الضرورة إلا عند الخوف على النفس من التهلكة، أو على عضو من الأعضاء؛ كاليد والرجل أن تقطع، أو تذهب منافعها، فهذا مقام ضرورة.
قوله: (من اضطر) كمن أصابته مخمصة: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة:3] قيل: ألا يكون سفره لحرام، وقيل أن يقصد تقوى الله عز وجل، وألا يعتدي ويسرف في أكله، فإذا أصابته المجاعة ولم يجد شيئاً إلا الميتة، ينتظر حتى يغلب على ظنه أنه لو لم يأكل يهلك، فحينئذ يأكل، وقد ذكر الإمام الحافظ ابن حجر أمراً عجيباً عن بعض الأطباء، وهو: أن الجسم إذا وصل إلى درجة المخمصة الشديدة وأصبح في مجاعة شديدة، وبلغ حالة الاضطرار، تكون فيه مثل المادة السمية، مما يفرزه من شدة حرارة الجسم، وهي في حُمياته، وهذه المادة تقوى على دفع سم الميتات وضررها.
وقال: هذا من البديع الحسن، وكل شرع الله عز وجل حسن، ومن هنا لو اعترض معترض بأن الميتات خبث، وأنها كذا، لا يبعد أن الله سبحانه وتعالى أحل هذا، وجعل في الإنسان ما يؤهله لذلك، ولذلك لما حرم الخمر سلبها المنافع، فالله إذا أحل وحرم، حلل وحرم لحكمة: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
فمن اضطر -أي بلغ مقام الاضطرار- فقد أجمع العلماء رحمهم الله على حل الميتات والمحرمات له؛ لأن الله نص على ذلك، فقال سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:173]، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:3]، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145]، وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] فالمضطر يسقط عنه التكليف، وحينئذ ينقذ نفسه، وهذا من باب دفع الضرر الأعظم بتناول أو تعاطي الضرر الأخف، وعلى هذا أجمع العلماء والقاعدة المشهورة: (الضرر يزال) ومن فروعها: (الضرورات تبيح المحظورات).
قوله: [ومن اضطر إلى محرم]: كالميتة، فيجوز للمضطر أن يأكل منها، وهل يأكل إلى حد الشبع، أو يأكل بقدر ما يدفع المخمصة؟ وجهان: أحوطهما: أن يأكل بقدر ما يدفع به المخمصة، وإذا غلب على ظنه أنه يجد ما ينقذ به نفسه فلا يجوز له أن يحمل منها، وإذا غلب على ظنه أنه لا يجد فيجوز له أن يحمل، هذا بالنسبة للأكل مما يضطر منه.
فالقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) فُرعت عليها القاعدة: (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) ومن هنا يأكل بقدر ما يدفع به الضرر عن نفسه، والزائد على ذلك يبقى على الأصل.
[غير السم]: لأن السم لا ضرورة فيه، فإنه إذا أكله هلك، وحينئذ لا ينقذ، بل يعجل بالوفاة، فلا يجوز تعاطي السم في الضرورات، يعني ليس بموجب لاغتذاء الجسم، وليس بموجب لاندفاع الضرر عنه، إلا فيما استثنيناه من أن يكون السم للتداوي أو ما شابه، فهذا قد استثناه بعض العلماء ولا يدخل في مسألتنا، إنما المسألة: رجل جائع ويريد أن يأكل، ولم يجد إلا سماً، أو عطشان، ولم يجد إلا سائلاً من السم، وإذا شربه يموت، فإن هذا ليس مما يؤذن له بشربه.
قال رحمه الله: [حل له منه ما يسد رمقه] حل له من الميتة، أو من الطعام المحرم ما يسد رمقه؛ لأن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
قال رحمه الله: [ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه]: بعد أن بين الاضطرار إلى الأكل شرع في الاضطرار إلى المنافع، إذا اضطر إلى المنفعة مع بقاء العين، كأن يضطر إلى ركوب سيارة، مثل أن تكون امرأته في حالة يخشى عليها الموت، أو عنده مريض يريد أن يسعفه، ولم يجد إلا هذه السيارة وعليها مفتاحها، إذن اضطر إلى نفع في مال غير، وهي السيارة، والنفع هو الركوب، مع بقاء العين: التي هي السيارة، وسيردها إلى صاحبها، فليس فيه استهلاك للمادة، وهذا يدخل في العواري، والأصل: أن المسلم يمنح أخاه المسلم ويعطيه، دل على مشروعية ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما ركب على فرس أبي طلحة، وذلك عندما سمع الصحابة ذات ليلة صيحة، فخرجوا -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشجع الناس، وهذا الحديث من السير يمثل به العلماء على شجاعته عليه الصلاة والسلام- فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد رجع من عند الصوت، وهو يقول: (لا تراعوا)، وكان عليه الصلاة والسلام قد ركب على فرس أبي طلحة من غير سرج، وأخذوا من هذا الحديث -يقولون- ما لا يقل عن ثلاثين فائدة، منها: استعمال مال الغير عند الحاجة مع بقاء العين، وقيل في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7] قيل: الماعون: هو الإناء، وهذا قول لبعض العلماء، ولكن قول طائفة من أئمة اللغة، وهو معروف في لسان العرب، واختاره بعض أئمة التفسير، ومحفوظ عن أئمة الصحابة أن الماعون: كل ما يحتاج إليه الإنسان؛ لأنه من المعونة، والآية فيها وعيد شديد على أن للإنسان الذي يرى أخاه محتاجاً إلى شيء زائد عنه ثم لا يعطيه ذلك الفضل، وهذا هو المعنى الصحيح، وقد أشار إليه الأئمة كالإمام القرطبي وغيره من المفسرين، وعلى هذا لا يمنعه مالك الحاجة.
واختلف العلماء لو رأى شخصاً بين الحياة والموت, وعلم أنه لو لم يركب معه أنه سيموت، وامتنع من إركابه؛ فـ ابن حزم يرى أنه قاتل، وأنه يقتل به، وهذا من مسائله الغريبة، لكنه سيكون عليه إثم عظيم، وهذه سببية، لكنها سببية لا تفضي للزهوق، ولم يقصد بها الزهوق، ولم يقصد بها الإتلاف؛ لأنه قد يمتنع لعارض، وليس كل من يمتنع معناه أنه يريد أن يقتل أخاه، كأن تمر على شخص في الطريق في شدة الظهيرة وهو واقف فتمتنع من إركابه، كأن تكون معك عائلة، أو تخشى على عرض، أو تخشى على شيء، وهذا شيء آخر، أو وجدت شبهة وريبة، وإلا والله الأمر عظيم في منع المسلم لأخيه المسلم ما يحتاجه.
قال رحمه الله: [لدفع بردٍ، أو استسقاء ماء، ونحوه]: لدفع برد: أي من أجل دفع البرد، وإذا كان يريد منك لحافاً (بطانية)، أو استسقاء: مثل أن يريد الدلو للبئر، فحينئذ ينبغي للإنسان أن يساعده.
[وجب بذله له مجاناً]: معناه: أنه يأثم إذا لم يعطه، وفي حال الاضطرار يصير واجباً عليك، وفي حال الاختيار يكون غير واجب؛ لأنه يجد مندوحة، وعنده القدرة أن يشتري، لكن شخص مضطر يريد أن يشرب ماء ولا يجد إلا دلوك من أجل أن يغرف به فتعطيه، أو رجل يرتعش من شدة البرد، والضرر سيأتيه في بدنه، وعندك مثلاً لحاف، أو بطانية، أو كوت، أو نحو ذلك، وتستطيع أن تعطيه إياه، أو في شدة الحر يمشي على الوهيج، وقد يتأذى يتضرر، وعندك حذاء-أكرمكم الله- زائد عن حاجتك، وجب بذله، قال: (وجب) يعني: يأثم إذا امتنع.
قال رحمه الله: [ومن مر بثمر بستان في شجرة، أو متساقط عنه، ولا حائط عليه ولا ناظر، فله الأكل مجاناً منه، من غير حمل]: من مر بثمر داخل بستان: ينادي على صاحبه، فإذا لم يأت صاحبه حل له أن يأكل غير متمون، ولا يرمي الشجر فيسقط ما عليه، له أن يأكل ما أسقطه النخيل أو ما أسقطته الرياح من النخيل، وله أن يلتقط من الفواكه غير متمون، وفيها حديث السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (ينادي على صاحب البستان ثلاثاً، ثم يأكل بالمعروف).
قال رحمه الله: [وتجب ضيافة المسلم المجتاز به في القرى يوماً وليلة].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) فالمسلم إذا اجتاز بالقرى، فيجب على أهل القرية أن يكرموه، فإذا تبرع شخص أن يؤويه، وتبرع آخر أن يطعمه، سقط الإثم عن الجميع، وإلا أثموا، فعندما يمر الضيف أو يمر المسلم بإخوانه المسلمين ولا يجد من يضيفه، هذا من أسوأ ما يكون.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا.(398/14)
شرح زاد المستقنع - باب الذكاة
الذكاة أصلها الشيء الطيب، وتنقسم في الشريعة إلى قسمين: ذكاة أصلية، وذكاة بدلية، ولكل منهما شروط حتى يحكم بصحتهما، فينبغي على كل مسلم معرفة هذه الشروط يلزم توافرها ليعرف ما أحل الله له من الذبائح وما حرم عليه.(399/1)
الذكاة تعريفها وأقسامها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الذكاة].
الذكاة أصلها: الشيء الطيب، ومنه قولهم: رائحة ذكية، وقيل: الذكاة الحدة، والفراسة القوية، ولذلك وصف بها إنهار الدم؛ لأن الآلة تفري، وتنهر الدم، فكانت هناك مناسبة بين الإطلاق اللغوي والإطلاق الشرعي.
قوله رحمه الله: (باب الذكاة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالذكاة الشرعية، والمناسبة: أن هذه الحيوانات المباحة، يحل أكلها إذا ذكيت وكانت من جنس ما يذكى.
فإن هناك حيوانات من حيث الأصل أمر بتذكيتها، وهناك حيوانات لا تذكى، وقد بين لنا المصنف ما يحل وما يحرم، فنستبعد الذي يحرم؛ لأن الذي يحرم لا يذكى، إلا في خلاف عند العلماء في حال الضرورة، كأن يكون مثلاً جائعاً ووجد أسداً، فهل يذكيه؟ هذا إذا ما كان الأسد سيبقى إلى تذكيته! لكن بعض العلماء يرى أنه يذكى، والأقوى أنه لا تجب الذكاة؛ لأنه أصلاً ليس من جنس ما يذكى.
الذكاة نوعان: منه ما أمر الله بذكاته، ومنه ما لم يأمر الله بذكاته، وهو حيوان البحر، وأيضاً ما لا نفس له سائلة؛ كالجراد، والدود، فهذا يؤكل بدون ذكاة، أما بالنسبة للذي يكون من غير حيوان البحر، ومما له نفس سائلة مما أحل الله أكله ففيه الذكاة.(399/2)
أقسام الذكاة
وتنقسم الذكاة إلى قسمين: الأول: الذكاة الأصلية.
الثاني: الذكاة المنزلة منزلة الأصل، فهي بدل عنه.
والذكاة الأصلية: تنقسم إلى قسمين أيضاً: الذبح والنحر، وما جمع بينهما: فهناك حيوانات تذبح؛ كالغنم، وتيس الجبل ونحو ذلك، إذا كان مستأنساً.
وهناك حيوانات تنحر، كالإبل، فلا يوجد أحد يذبح الإبل وإنما ينحرها، ولذلك يقال: نحرت البعير، ولا يقال: ذبحت البعير.
وما يجمع الأمرين: كالبقر، ففيه موضع للذبح، وموضع للنحر، هذا بالنسبة لما يحل أكله من الحيوان الذي يذكى الذكاة الأصلية.
والذكاة البدلية: هي ذكاة الصيد، وقد نزلت منزلة هذه الذكاة الأصلية حتى نفقه عموم حكم الشريعة في الذكاة، فالحيوان الذي يكون برياً؛ إما أن يكون من جنس ما يذكى بالأصل، وهو الحيوان المستأنس، وإما أن يكون له ذكاة بدلية، وهو الصيد، وتعكس، فتقول: إذا صار الصيد مستأنساً عومل معاملة المستأنس، فلو أمسك بقر وحش، فإنه ينحره أو يذبحه، ولو أن المستأنس أصبح متوحشاً عومل معاملة الصيد.
ومعاملة الصيد على إحدى النوعين من الذكاة، فكما أن المستأنس له طريقتان، فالصيد له طريقتان: الأولى: أن تكون تذكيته بالآلة، مثل: أن يرسل السهم، أو يثور السلاح كالبندقية، فتنهر الدم في أي موضع، فيحل أكله إذا وجده ميتاً، أما إذا وجده حياً فإنه يجب أن يعامله معاملة المستأنس، إذن هي بدلية، وليست أصلية.
الثانية: أن تكون بالحيوان، ثم إذا كانت بالحيوان؛ فإما أن تكون بالعاديات، كالكلب، والأسد، والنمر، ونحوها من الحيوانات العادية التي تعلم الصيد، وإما أن تكون بالطيور كالباز، والصقر، والنسر، والباشق، والشواهين مما يعلم من الطيور العادية.
هذا بالنسبة لمجمل نظرة الذكاة، فإما أن تكون من جنس ما يذكى، وإما أن تكون من جنس ما لا يذكى.
فمما لا يذكى، حيوان البحر، وما لا نفس له سائلة.
أما الذي يذكى وهو البري، فإنه غير ما ذكر، فإن الذكاة فيه إما أن تكون أصلية، وإما أن تكون بدلية قائمة مقام الأصل.
هذا كله يسمى من حيث الأصل: الذكاة الاختيارية، وهناك نوع من الذكاة يسمى: الذكاة الاضطرارية: وهي مثلما ذكرنا: أن يفر المستأنس، ويعجز الإنسان عن إمساكه، فيرميه في أي موضع، فيعامله معاملة الصيد، مع أنه في الأصل يذكى الذكاة الشرعية.(399/3)
وجوب الذكاة في الحيوان المقدور عليه
قال رحمه الله: [لا يباح شيء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة]: (لا يباح، ولا يحل): من الصيغ الصريحة في التحريم؛ وذلك لأن الله تعالى قال: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] فدل على لزوم الذكاة، وهذا في جنس ما تجب ذكاته.
قال رحمه الله: [إلا الجراد، والسمك، وكل ما لا يعيش إلا في الماء]: إلا الجراد: هذا ما لا نفس له سائلة؛ ولذلك كان الصحابة يضربونه بالرماح، ويقتلونه من غير ذكاة، ثم بعد ذلك يشوى، أو يقلى، ويؤكل.
والسمك والحوت: هذا لا يذكى؛ لأنه من حيوان البحر، وحيوان البحر يؤكل بدون ذكاة إلا على مذهب المدلسين، فإنهم يكتبون على بعض الكراتين: مذبوح بالطريقة الإسلامية، وهو سمك، وهذا-نسأل الله السلامة والعافية- من خداع المسلمين، والحرص على ترويج البضاعة ولو بأي شيء، ولو بالكذب في أمر الدين-نسأل الله السلامة والعافية-.(399/4)
شروط الذكاة(399/5)
الشرط الأول: أهلية المذكي
قال رحمه الله: [ويشترط للذكاة أربعة شروط: الأول: أهلية المذكي]: لا تصح الذكاة إلا إذا كان المذكي أهلاً، ويكون أهلاً [بأن يكون عاقلاً، مسلماً، أو كتابياً]: قوله: (بأن يكون عاقلاً فالمجنون لا تصح ذكاته، وكذلك السكران أما المجنون: فلأنه لا يقصد الذكاة، وحكي الإجماع، لكن عند الحنفية أنه إذا كان المجنون يضبط، قالوا: تصح صلاته، أي: إذا جاء وذبح أو نحر، وضبط الذبح والنحر، تصح ذكاته، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يوجد القصد، الذي ذكرناه في الإراقة على وجه التعبد.
أما بالنسبة للسكران؛ فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، فسيقول السكران: باسم الله، وهو لا يعلم ما يقول، وهذا يدل على أنه لا تصح ذكاة السكران؛ لأنه لا يعلم ما يقول، والمجنون في حكمه أيضاً، من باب أولى وأحرى، وهكذا من تعاطى المخدرات وزال شعوره، فإنه لا تصح تذكيته.
قوله: [مسلماً، أو كتابياً]: سواء كان مسلماً، أو كان كتابياً من اليهود والنصارى، يقول تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5]، والشرط: أن يكون ذبحه ونحره وقيامه بالتذكية على المعروف في دينه، فطعام الذين أوتوا الكتاب حل لنا، وقد خص الله عز وجل من بين الكفار أهل الكتاب؛ لأن غيرهم لا يتقيد بشريعة، وهم متقيدون بشريعة، وهذا الوصف يقتضي التخصيص.
وهناك من يقول: لما قال: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ): يعني ما يأكلونه من ذبائحهم، بأي طريقة ذبحوه، فكل شيء جاءنا من عندهم يؤكل، ولو كان بالآلات، يا سبحان الله! لو أن مسلماً وضع آلة، وصرعت البهيمة ودوختها، أو جاء بالآلة، وجعلها هي التي تفري الأوداج، وهي التي تقطع الرءوس، فإننا نقول: حرام، ولا يجوز، وإذا جاء كتابي -يهودي، أو نصراني- نقول: إنه يجوز؛ لأن الله يقول: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) لا يمكن هذا، (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ما حل طعام الذين أوتوا الكتاب إلا لطيبه؛ وطيبه لأنه من شرع سماوي، ولذلك أكل النبي صلى الله عليه وسلم من شاة اليهودية.
ومن أقوى الأدلة على ضعف القول بجواز أكل كل ما أكلوه: حديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إلا السن، والظفر، وأنا أنبئكم؛ أما السن فعظم-وتعرفون أن العظم زاد إخواننا من الجن، فإذا ذبح به فالدم المسفوح نجس- وأما الظفر فُمدى الحبشة) والحبشة كانوا من أهل الكتاب، وكانت الكنائس موجودة عندهم، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، فكانوا يذكون بأظفارهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه التذكية، أحلال لأهل الكتاب حرام علينا؟! ويأتي المسلم يذكي به، إذن معناه: أنهم خرجوا عن دينهم، قال: (مدى الحبشة)، ما قال: (مدى النصارى)، ولذلك خص به: أهل الموضع.
فالذي نجده الآن في الذبائح المستوردة، نجد شيئاً خارجاً عن السنن، لا ينضبط بضوابط الشريعة الإسلامية، ولا بضوابط أهل الكتاب، فالشركة تبحث عن كثرة الإنتاج، وتبحث عن كثرة ما تصدره من الذبائح، فتقتل بأي طريقة، وتزهق بأي طريقة، وبأي وسيلة، ثم بعد ذلك لا يُسأل، ونقول: إن هذا حلال، لا، ينبغي التقيد بالوارد، وهذا الوارد هو الذي وردت النصوص باعتباره، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5].
ومن طرق أهل الكتاب الموجودة الآن ما يأتي: أولاً: لا نجد تقيداً من شركات الذبائح بذبيحة أهل الكتاب، بل تعمل هذه الشركات بالطرق التي يراد منها تكثير الإنتاج، بغض النظر عن كونه موافقاً أو مخالفاً، ولذلك لا يتقيد أحد من أهل الكتاب عدا اليهود في ذبائحهم، ومن هنا أكل النبي صلى الله عليه وسلم شاة اليهودية، وكان بعض مشايخنا مثل الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله عندما سافر إلى الغرب ما أكل إلا من ذبائح اليهود؛ لأنهم يتقيدون بشريعتهم، والذي يتقيد بشريعة أهل الكتاب تقيد بملة، ودين، وحينئذ يجوز أكل ذبيحتهم.
لكن الذي يجري في اللحم المستورد أنه يتم قتله -بالنسبة لما يتاجر به- على مرحلتين: المرحلة الأولى: التمهيدية؛ وهي السيطرة على البهيمة.
والمرحلة الثانية: مرحلة الإزهاق.
والمحظور موجود في المرحلتين، فمرحلة السيطرة على البهيمة هذه أصلاً ليست من شرع أهل الكتاب، إنما هي من بقايا اليونانية, فإنهم كانوا لا يقتلون إلا بضرب البهيمة بالعصا على رأسها حتى تدوخ، ثم بعد ذلك يذكونها، وهذا الضرب قد يقتل البهيمة قبل أن تزهق روحها، ويقولون: إن هذا أرحم بالبهيمة.
والمصدّر من الطعام: منه ما يكون من الدجاج، ومنه ما يكون من الغنم، ومنه ما يكون من البقر، فالنسبة للحيوانات الكبيرة، يُعتنى بصرعها وتدويخها، ومسألة التدويخ تكون بطريقة الصعق الكهربائي بالمسدس في النخاع، أو الدائرة الكروانية، وهناك طريقة للدجاج خاصة؛ لأنه لا يحتاج إلى سيطرة عليه مثل البقر والغنم، وهي التي تسمى بالطريقة الإنجليزية، وهي مشهورة: يخزعون -وحتى في البهائم البقر والغنم يفعلون هذا- ما بين العظم الرابع والخامس في عظام الصدر بالمنفاخ، ثم يضخون الهواء، عندها تتخثر البهيمة، ويضعف النفس.
وهذا التدويخ من سلبياته: معارضته للشريعة، فإن الشريعة قصدت الإزهاق وإنهار الدم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه).
قالوا: إن البهيمة تستطاب بخروج الدم منها؛ لأنه بمجرد حدوث أي نزيف يسترسل الدم، وهذا أبلغ في طهارة المذبوح كما هو معروف طبياً، وأبلغ في طهارة اللحم، واستطابته، والعملية التي يفعلونها - وهذا إذا سلمت البهيمة- الدجاج أول شيء: يقلب، ثم يحضر بالماء ويعلق من رجليه، ولا يصل إلى المكان الذي فيه الآلات إلا وشيء منه يموت أثناء حمله، وشيء منه يموت أثناء تعليقه، ثم لا يبالى أهو حي أو ميت، ثم بعد ذلك يرش بالماء لتنظيفه بطريقة معروفة، وهذه الطريقة أبدى بعض الذين حضروا ورأوا أنه قد يحصل خنق للبهيمة بسبب الماء المبرد، ثم بعد ذلك يحضر بالتدويخ، كل هذه المراحل تأتي بعد مرحلة الزهوق.
وبالنسبة للبقر والغنم فإنهم يدخلونه بين نوعين: الدوار، والمثبت، وهي معروفة في الغرب، وجميع هذه الأحوال للبقر، والغنم، والدجاج، والآلة هي التي تزهق، فهذا هو التحضير كله، وهناك التدويخ الذي يأتي على نفس البهيمة، وقد تموت بفعل الخزع بالنخاع، ومعروف أن خزع النخاع قد يقضي على البهيمة، ولذلك من العلماء من قال: إذا ذبح الذابح، وأدخل السكين، وقطع النخاع قبل قوة المور في فري الأوداج، والحلقوم والمريء، أصبحت شبهة؛ لاحتمال أن البهيمة ماتت بخزع النخاع ولم تمت بفري الأوداج والحلقوم والمريء، وهذا سيأتي في فصل الرأس، ومن هنا قال بعض العلماء بعدم حلها، وإذا قطع النخاع وصبرت قبل الزهوق تذبح من الخلف، كل هذا من أجل أن يكون الفوات للنفس عن طريق النزف وإنهار الدم، وهذا كله مصادم لما في الشرع فيترك.
ثم تأتي المصيبة العظمى وهي: عمل الآلة، أي: أن الذي يقتل هو الآلة؛ فليس هناك آدمي؛ لا كتابي ولا غيره، بل الآلة هي التي تذكي، إلا إذا كانت الآلة من أهل الكتاب، لا أدري!! فما العجب من أن نسأل: هل ذكوا أو لم يذكوا، أهل لأن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أناساً يأتوننا بلحم، حديثو عهد بجاهلية، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا) فهذا الحديث خارج عن مسألتنا؛ فمسألتنا: خرجت فيها الذكاة عن الصورة الشرعية المعتبرة عند الكتابيين وعند المسلمين، أما حديث عائشة: (إن أناساً حديثو عهد بجاهلية) فمعناه: أنهم أسلموا، لكن لا ندري عندما ذبحوا؛ هل ذبحوا على طريقة الإسلام، أو على الطريقة التي ألفوها.
والأصل: أنهم لما أسلموا يعاملون معاملة المسلمين لا معاملة أهل الجاهلية، ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم لها: (سم الله) يعني هذا لا يسأل عنه؛ لأن الأصل في المسلم إذا ذبح أن تؤكل ذبيحته، وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وذبح ذبيحتنا، فذلك المسلم).
فهؤلاء الأصل فيهم: أنهم إذا أسلموا أن يعملوا بوفق شريعة الإسلام، ولذلك ألغى النبي صلى الله عليه وسلم الشك، وهذا ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بمسألتنا، فالذي معنا: إعمال الذكاة، وإنفاذ الذكاة على الأصل الذي لا يمت لا إلى الشريعة الإسلامية، ولا إلى ذبائح أهل الكتاب بصلة، فوجب العمل بالأصل الشرعي: أننا نقول: هذا ليس من طعام أهل الكتاب؛ لأنه لا يحل لهم في دينهم، وإنما هو خارج عن الأصل، فلا يحل أكله حتى يكون ذبحه من المحافظين؛ فإذا كان نصراني يذبح بذبيحة النصرانية فأقبل، ولو جئت نصرانياً، وذبح ذبيحته على طريقته أقبل وآكل، كما أكل النبي صلى الله عليه وسلم من شاة اليهودية، أما أن تذبح الآلات، وتسفك، وتنهر الدم الآلات، فهذا ليس بداخل تحت قوله:: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) والجمهور على أن العبرة في طعام أهل الكتاب: أن يكون وفق شريعتهم، وليس على كل ما فعلوه أنه يقبل منهم، خاصة وحديث مدى الحبشة يدل على أنهم إذا استطابوا شيئاً أو أكلوا شيئاً، لا يأخذ حكم الأصل من جواز أكله.
وقوله: [ولو مراهقاً]: ولو: إشارة إلى الخلاف المذهبي.
(مراهقاً) مثلاً: صبي قبل البلوغ؛ في الثانية عشرة أو في الثالثة عشرة، ولم يحتلم، ولكنه يعقل، وسمى الله وذبح الذبيحة، قال: تحل ذبيحته.
قوله: [أو امرأة]: وكذلك المرأة، كما ثبت في صحيح البخاري في قصة المرأة عندما عدا الذئب على شاتها، فقطعت حجراً ثم ذبحتها.
قوله: [أو أقلف]: وهو غير المختتن، فلا تأثير له في الذكاة، وتصح ذكاته.
قوله: [أو أعمى]: جمهور العلماء على صحة تذكية الأعمى إذا ضبط ذكاته، وقال الإمام النووي(399/6)
الشرط الثاني: الآلة الشرعية
قال رحمه الله: [الثاني: الآلة]: الشرط الثاني: الآلة.
[فتباح الذكاة بكل محددٍ].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنهر الدم)، وقال: (وليحد أحدكم شفرته)، فدل على أن المحدد من جنس ما يذكى به، مثل: السكاكين، والزجاج، فلو أنه لم يجد سكينة فله أن يذبح بالزجاج، فالزجاج له مور ونفاذ، فإذا أمسك البهيمة وذبحها بالزجاجة، أو ذبحها بنحاس له مور ونفاذ كل ذلك مؤثر ما دام أنه ينهر الدم، ولذلك لما سأل أبو ثعلبة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيد بقوسه، قال: (ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل)، وفي بعض الروايات: (إن أصاب فخزق) وهذا يدل على اعتبار المور، والنفاذ وقد تقدم معنا في القتل العمد بيان مسألة المحدد.
قوله: [ولو مغصوباً]: إشارة إلى خلاف مذهبي، قال بعض العلماء، وهو موجود في مذهب الحنابلة: أنه لو غصب سكيناً وذكى بها، لم تصح التذكية، والصحيح مذهب الجمهور: أنه لو أخذ سكيناً فذكى بها، صحت التذكية.
قوله: [من حديدٍ، وحجرٍ، وقصبٍ وغيره]: (من): بيانية، من حديد: مثلما ذكرنا: محددة، كالسكاكين.
[وحجرٍ]: لحديث المرأة؛ لأنها كسرت حجراً.
[وقصبٍ وغيره]: القصب معروف، فإذا كان له مور ونفاذ، فإنه يذبح به وينحر.
[إلا السن، والظفر]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثناهما كما في الحديث الصحيح: (أما السن فعظم) والعظم زاد إخواننا من الجن، فلو أخذ ناباً ونحو ذلك من بهيمة، وأراد أن يطعن به خزقاً كما ذكر بعض العلماء وكان بعض العرب في القديم يأخذ البهيمة بسنه، كما لو صاد عصفوراً.
فهذا من المخصصات لحديث: (ما أنهر الدم) لأن السن ينهر الدم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبره ذكاة.
(والظفر) كذلك: وهو معروف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمدى الحبشة).(399/7)
الشرط الثالث: قطع الحلقوم والمريء
قال رحمه الله: [الثالث: قطع الحلقوم والمريء]: الشرط الثالث: قطع الحلقوم والمريء.
الحلقوم: مجرى النفس، والمريء: مجرى الطعام.
وهناك أربعة أشياء ينتبه لها: الحلقوم: مجرى النفس.
المريء: مجرى الطعام.
ثم الجانب الأيمن والأيسر من رقبة البهيمة فيها الودجان -العرقان- وبقطعهما يكون زهوق الروح.
وقد أجمع العلماء على أنه إذا قطع الحلقوم، والمريء، والودجين، أنها تحل البهيمة، وهناك من العلماء من اشترط ثلاثة من أربعة: الحلقوم، والمريء، وأحد الودجين، ومنهم من اشترط ثلاثة من أربعة دون تعيين، أن يأخذ ثلاثة من هذه الأربعة دون أن يحدد، ومنهم من اشترط الحلقوم والمريء، كما درج عليه المصنف، وبهما يتحقق الزهوق والإنهار للدم، فهذا هو القدر الذي اقتصر عليه.
[فإن أبان الرأس بالذبح لم يحرم المذبوح] الذبح يكون تحت الجوزة، أو الغلصمة كما تسمى، فإذا كان من تحتها أو عليها نفسها وفصلها، فلا إشكال، لكن لو أنه ارتفع -من فوقها- فقطع من هذا الموضع؛ فالجمهور على صحة ذلك، والمالكية عندهم قول بالمنع، والصحيح مذهب الجمهور لعموم الخبر.
قال رحمه الله: [وذكاة ما عُجز عنه من الصيد، والنعم المتوحشة، والواقعة في بئر ونحوها: بجرحه في أي موضع كان من بدنه] بعد أن بين رحمه الله ذكاة المقدور عليه، شرع في حكم ذكاة الصيد، وذكاة المعجوز عنه، فقال رحمه الله: [وذكاة ما عجز عنه من الصيد]: هذا النوع الأول.
[والنعم المتوحشة]: سيأتي في الصيد بيان أحكامه.
[وما يشرد] فمثلاً: لو أن شاة شردت، وهو في بر، وغلب على ظنه أنه لا يستطيع أن يمسكها، وأنها ستنفق في مقطعة، أو نحو ذلك، فإنه يأخذ السلاح ويرميها في أي موضع.
رأى الشاة فرت منه إلى الشارع، وهو جازم بأنها ستضربها السيارة وتموت، وإذا ضربتها السيارة فإنها حينئذ تموت بالصدم، وهذا أشبه بالارتطام وبالتردية، وحينئذ أراد أن يدرك ذكاتها، فقتلها قبل أن تصدمها السيارة.
أو جاءت على بئر، أو على هاوية، أو على شفير جبل، وهو يعلم أنها ستموت، فحينئذ لو ثور السلاح وقتلها، حلت، وتكون ذكاتها.
والدليل على ذلك: حديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه: أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير وشرد، فأهوى رجل بسهمه فعقره وقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) فدل على أن المستأنس إذا توحش يعامل معاملة الصيد، وهذا ما عناه المصنف رحمه الله، ولم يخالف في هذه المسألة إلا الإمام مالك، فالجمهور على أنه يقتل في أي موضع، ويرمى في أي موضع، وأنه يحل بهذه التذكية، واستدلوا بحديث أبي رافع، ولذلك كان الإمام أحمد يقول: لعل مالكاً لم يبلغه حديث أبي رافع، ما قال: أخطأ مالك، أو: هذه من أوهام مالك ومن شذوذه، لا.
بل قال: لعل مالكاً هكذا وإلا فلا، هكذا يطيب العالم، ويطيب قوله، ويُطيّب بما يكون منه من حسن المعذرة لأهل العلم رحمة الله عليهم، وقد ضرب أئمة الإسلام المثل السامي في حسن الأدب رحمهم الله وفي رعاية الحرمة، وفي حفظ الحق لذي الحق، مع أن الإمام مالكاً يقول: إذا وجدتم قولي يخالف قول الرسول فاضربوا بقولي عرض الحائط، والظن به: أنه لو بلغته السنة لعمل بها، فيقول: لعل مالكاً لم يبلغه حديث أبي رافع.
[والواقعة في بئر، ونحوها]: لو وقعت شاة في بئر، فإنها ستموت بأحد أمرين: إما أن ترتطم بأرض البئر إذا لم يكن فيه ماء، وحينئذ تكون متردية، وإما أن تموت بخنق الماء إذا كان هناك ماء في البئر، فحينئذ يعاجلها بضربها في أي موضع، ويزهق روحها قبل وصولها إلى الماء.
يقول رحمه الله: [بجرحه في أي موضع كان من بدنه، إلا أن يكون رأسه في الماء ونحوه، فلا يباح].
قوله: [إلا -استثناء- أن يكون رأسه في الماء]: هذه مسألة اجتماع الحاضر والمبيح، فإنه إذا رمى الشاة، أو الطير، أو البط، أو الإوز وهو على النهر، وانغمس، وشُك: هل مات بالخنق، أو مات بالذكاة؟ فخذها قاعدة: الأصل في الصيد-يعني في الشيء الذي لا تمسكه، ولا تذكيه الذكاة الشرعية- أنه ميتة حتى تحله الذكاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عدي: (فإن أكل-يعني الكلب من الصيد- فلا تأكل، فإني أخاف -لم يجزم- أن يكون إنما أمسك لنفسه) لم يجزم بالتحريم، والأصل: حل الأشياء، لكنه غلّب التحريم، ومن هنا استنتج العلماء قاعدة: الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل.
فالصيد بضرب البهيمة في أي موضع رخصة، وتوسعة من الله، لكن لما شككنا أنها أزهقت النفس، أو أزهقها الماء بالخنق، قدمنا الحاضر على المبيح، ومُنع من أكل الطير، وإذا رأى الشاة ساقطة من علو ورماها، وغلب على ظنه أن المرمى يزهق نفسها قبل الوصول إلى الأرض، أو تكون مستنفذة الروح، حل، لكن لو رماها -مثلاً- في رجلها، وارتطمت، وقوي وغلب على الظن أن موتها كان بقوة الارتطام، فحينئذ لا تحل له، وهذا معنى قوله: إلا أن يرى رأسه في الماء، وهذا فيه أثر عنه عليه الصلاة والسلام.(399/8)
الشرط الرابع: التسمية
قال رحمه الله: [الرابع: أن يقول عند الذبح: باسم الله]: وهذا لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118]، ولقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، وهذا يدل على لزوم التسمية، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل) وهذا شرط يدل على أنه إذا أرسله ولم يذكر اسم الله عليه لم يحل أكله، وأجمع العلماء على أن الأصل بالتذكية: أن تكون بذكر اسم الله عز وجل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (باسم الله) عند تذكيته صلوات الله وسلامه عليه كما في حديث أنس وغيره رضي الله عن الجميع.
[ولا يجزيه غيرها]: لا يجزيه غير باسم الله، فلو ذكر غير اسم الله-والعياذ بالله- ولو كان نبياً، أو ملكاً، فإنها تعتبر ميتة لا يحل أكلها، فلو قال: باسم النبي، أو باسم الولي فلان، أو الشيخ فلان؛ لأن الذبح لغير الله شرك (كفر) والعياذ بالله، فالذبح لا يكون إلا لله، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وهذا يدل على أنه لا يجوز ذكر غير اسم الله عز وجل مع اسم الله عز وجل عند الذبح.
[فإن تركها سهواً أبيحت، لا عمداً]: هذه مسألة خلافية، فمن العلماء من يرى أنه تحل الذبيحة إذا تركت البسملة نسياناً، ومنهم من يبقى على الأصل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] وهذا أقوى، أن العبرة بذكر اسم الله، وأنه تحل الذبيحة به، وأنه لازم في الذكر والنسيان.(399/9)
مكروهات الذبح
قال رحمه الله: [ويكره أن يذبح بآلة كالة]: شرع رحمه الله في بيان مكروهات الذبح، فيكره للمسلم أن يذبح بآلة كالة كالسكين غير المحددة، قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (هلمّ المدية) فجاءت بها، فقال: (اشحذيها بحجر)، فدل على أن السنة: أن تشحذ، قال صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)، هذه هي السنة، قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)، فإذا ذبح بآلة كالة غير مسننة وغير محددة عذب الحيوان، ولذلك أُثر في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمتها مرتين) وفيه ضعف، لكن معناه صحيح، وأثر عن بعض الصحابة: (لا تمتها مرتين).
[وأن يحدها والحيوان يبصره]: وهذا فيه أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه؛ فإنه ليس من الإحسان، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان عند الذبح، فيكره أن يأتي بالبهيمة ويحد السكين أمامها؛ لأن هذا مما يؤذيها.
فهذه هي الحقوق الواقعة في موقعها والواقعة في موضعها، أما أن ترى الذين لا يعقلون ولا يفقهون يريدون أن يعلموا المسلمين الحقوق! ألا شاهت الوجوه!! هذه حقوق الشريعة من قبل ألف وأربعمائة سنة، وهي تقر المبادئ السامية العادلة، أما هؤلاء فلم يعرفوا حقوق الحيوانات إلا الآن، لكنا عرفناها وعرفها أبناء المسلمين، وأطفال المسلمين وهم يمصون أصابعهم كيف يعاملون حتى الحيوان، وعلموا الحرمة حتى في الشجر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم في مكة شجرها، وكان المسلم يعي ما الذي له وعليه، حتى الجماد، فهذه أمة سامية، ولذلك ينبغي للمسلم أن يعتز بدينه، وأن يعلم أنه ليس بحاجة لأن يعلمه أحد، وأن ما علمه الله عز وجل يكفيه عن غيره: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]: إنه فضل الله عز وجل عليه، وعلى أمته صلوات الله وسلامه عليه وعلى خلقه أجمعين، فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
[وأن يوجهه إلى غير القبلة] لأن النبي صلى الله عليه وسلم وجه إلى القبلة، وهذه هي السنة، وقد قال في الحديث الحسن: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً).
قال رحمه الله: [وأن يكسر عنقه، أو يسلخه قبل أن يبرد].
لأن في هذا إيلاماً لها؛ لأنه إذا كانت ترفس فلا زالت فيها حياة، نعم، هي كالعدم، لكن من باب الرفق أنه ينتظر حتى تبرد، ومن الأخطاء: أن ترى بعض من يذبح يدخل السكين، أو يحاول أن يكسر الرقبة قبل أن تبرد.
فتقول له: لا، افر الأوداج واقطع الحلقوم والمريء، واترك البهيمة حتى تبرد، هذا هو الرفق، وهذا هو الإحسان، وهذا الخطأ يقع من بعض الجزارين؛ لأنه يريد أن يذبح أكبر عدد فيفعل مثل هذا.(399/10)
شرح زاد المستقنع - باب الصيد
سخر الله سبحانه وتعالى الأرض لبني آدم؛ فمنها طعامهم وشرابهم ولباسهم ومساكنهم، ومن جملة ما سخر الله سبحانه في هذه الأرض أن سخر الحيوان لبني آدم، فبه يصطادون ومنه يأكلون، ولحل هذا الصيد والأكل جاءت الشريعة الإسلامية بعدة شروط وأحكام، تطالعها -أخي القارئ الكريم- في هذه المادة.(400/1)
الصيد شروط حله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الصيد.
لا يحل الصيد المقتول في الاصطياد إلا بأربعة شروط:] باب الصيد مفرع على باب الذكاة، والصيد -كما ذكرنا في الحيوان المتوحش- وأحكامه بينتها أدلة الكتاب والسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عدي بن حاتم الطائي، وكان عدي رضي الله عنه يربي العاديات، حتى قالوا: إنه لما مات عكفت على قبره السباع من حبها له رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كان مولع بالصيد بالسباع العادية، وكذلك أيضاً: حديث أبي ثعلبة الخشني في الصيد بالمعراض والصيد بالقوس.
والصيد يكون واجباً إذا كان لإنقاذ نفس، ويكون مكروهاً إذا فوت الإنسان به الأفضل والأكمل؛ لأن الصيد يشغل الإنسان ويلهيه، ويكون مندوباً إذا كان الإنسان يستغني به، أو يريد أن يطعم به ضيفاً أو نحو ذلك، ويكون مباحاً في غير ذلك.
ويكون محرماً إذا كان لإزهاق الأرواح، كمن يقتل البهيمة دون أن يأكلها، ويترك الطير بعد قتله، ولا يأكله، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عنه (أن يتخذ الحيوان غرضاً) يعني: هدفاً، فالصيد على هذا النوع محرم لا يجوز.(400/2)
الشرط الأول: أهلية الصائد
قال رحمه الله: [أحدها: أن يكون الصائد من أهل الذكاة].
وقد تقدم هذا في شروط أهلية المذكي.(400/3)
الشرط الثاني: الآلة الشرعية
قال رحمه الله: [الثاني: الآلة، وهي نوعان]: الصيد إما أن يكون بالسهم، وبالرمح كما في القديم، أو بالبنادق وبالرشاش كما في عصرنا الحاضر.
وإما أن يكون بالحيوان.
يعني: الصيد إما أن يكون بآلة، وإما أن يكون بحيوان.
قال رحمه الله: [محدد يشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح وأن يجرح].
يشترط في هذه الآلة أن تكون جارحة، فيجوز أن يصيد بالبنادق الموجودة الآن؛ لأن البندق يخزق البهيمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أصاب فخزق فكل).
فإذا خزق البهيمة فقد أنهر الدم، فيذكر اسم الله عند ثوران السلاح، ويأكل ما صاد له، ما دام أنه أنهر الدم.
لكن لو كان لا ينهر الدم مثل النبال الموجودة الآن، بأن يضع الحصى ويرمي الطائر، فهذا إذا وجد الطائر ميتاً فهو موقوذ لا يحل، فقد حرم الله الموقوذة، وإذا كانت الآلة التي يستخدمها أو السلاح الذي يقتل به البهيمة له مور ويشق ويخزق ونحو ذلك حل أكل البهيمة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) ومفهومه: أن الذي لا ينهر الدم لا يأكل منه، كما لو كانت عنده خشبة يضرب بها الطير فتموت الحمامة أو يموت العصفور، نقول: هذا لا يجوز؛ لأنها ميتة بالارتطام، وليس فيها خزق، لكنه لو رمى سهماً أو نحو ذلك فخزق الروح ونفذ إلى البدن فإنه يحل أكله.
[فإن قتله بثقله لم يبح].
كما ذكرنا، ومنه صيد المعراض، فقد كانوا في القديم يضعون المعراض ويضعون الحجر المقلاع ويرمون به، فيجدون البهيمة ميتة، فإذا وقعت الحجرة على رأس البهيمة أو في مقتل منها فماتت، لم يحل أكلها.
[وما ليس بمحدد كالبندق والعصا والشبكة والفخ لا يحل ما قتل به].
لأنه ليس بمحدد، البندق قالوا: كان الطين يجفف ويرمون به، فيدوخ البهيمة وقد يقتلها ويقضي عليها، فله قوة قريبة من قوة الحجر، فهو يأخذ حكم الوقيذ.
والشبكة فيها خنق، فقد كانوا يضعون فيها أكلاً، وبعض الأحيان يضعونها في مجرى الصيد، ثم يثيرون الصيد من ناحية ويأتون إلى الشبكة -وهي غير الشبكة الموجودة الآن التي تمسك البهيمة حية- وكلما تقدم الحيوان جذب حتى ينخنق ويبرد، وهذا نوع من الخنق، ولذلك لا يحل أكله، لأن الإزهاق به ليس بإنهار الدم، وقد اشترط النبي صلى الله عليه وسلم لحل الذكاة إنهار الدم.
[والنوع الثاني: الجارحة، فيباح ما قتلته إذا كانت معلمة].
الجوارح نوعان: طيور، وسباع عادية، فالسباع العادية الصحيح أنه يجوز الصيد بأي منها، فلو علمت أسداً فصد ما شئت، وهذا له طريقة، وقد بين كتاب: حياة الحيوان، ونهاية الأرب، وصبح الأعشى للقلقشندي أنواع الحيوانات التي يصاد بها، وطريقة تعليم الصيد لهذه الحيوانات، والأصل في الشريعة أن هذا السبع وهذا الطائر يعلم بطريقة مخصوصة، ويشترط فيه أن يدعوه فيجيب، وأن يشليه فينشلي، وألا ينطلق إلا بأمره.
فمثلاً: السباع العادية نوعان مما يعلم: مما له كلب: إما أن يكون من السباع العادية كالأسد والنمر والفهد والكلب، فهذه كلها تعلم الصيد، فإذا علم الصيد جاز أكل صيده وميتته، وكذلك أيضاً الطيور الجارحة مثل الباز والنسر والباشق والشواهين والعقاب ونحو ذلك إذا علم جاز أكل صيده.
أما كيفية تعليمه: فأولاً: يعلمه استجابة الدعاء، كأن يكون بينه وبينه صوت معين، فإذا ناداه بهذا الصوت عرفه فأتاه.
ويكرر هذا ثلاث مرات، أي: يدعوه ثلاث مرات فيستجيب، ويكون هذا الصوت متعارفاً عليه، فلو علمه مرتين، ودعاه فاستجاب مرتين، فرأى الفريسة في الثالثة وانطلق بأمره وجاءه بها لم يحل أكلها، لأنه لا يصبح معلمه إلا بعد الثالثة.
الشرط الثاني: أن يشليه فينشلي، والإشلاء: التحريش أتينا أبا عمرو فأشلى علينا كلابه فكدنا بين بيتيه نؤكل هذا رجل بخيل، وجاءوا يريدون أن يطعمهم، فوجدوا طعاماً لكن من نوع خاص، فالإشلاء هو التحريش، أن يحرش الكلب أو الأسد الذي يعلمه أو النمر ثلاث مرات، فبعض الأحيان يكون عنده لحم ويرميه له، فيدعوه أن يذهب ويأتي باللحم، أو يرمي له دجاجة فتفر، فيحرشه بها.
ويكون ساكناً ينتظر أمره، فإذا استجاب ثلاث مرات ورأى صيداً في الرابعة فحرشه عليه فجاء بالصيد ميتاً حل أكله.
إذاً: هذه الأمور لابد أن تكرر ثلاث مرات: دعوى مع الإجابة، والإشلاء؛ فينشلي بأمر سيده، ويكون انبعاثه بأمر السيد لا بنفسه.
قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4]، وهذا يدل على مشروعية تعليم الجوارح، ويشمل جارحة الطير، قال أبو ثعلبة: (يا رسول الله! إني أصيد بهذه البزاة -الباز من أفضل أنواع الطيور التي يصاد بها- وأصيد بكلبي المعلم، وأصيد بكلبي غير المعلم، فما يحل لي؟ -فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل له إلا أكل ما صاد المعلم- إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل) فدل على اشتراط التعليم، كما هو ظاهر القرآن.(400/4)
الشرط الثالث: إرسال الآلة قاصداً
قال رحمه الله: [الثالث: إرسال الآلة قاصداً].
يعني: لو أن البندقية ثارت من نفسها، فضربت فريسة، فهذا لا يؤثر ولا يعتد به، وإنما تكون ميتة.
ثم الخلاف: هل يشترط أن يعين الصيد أم لا يشترط؟ وفائدة الخلاف: لو أنه أرسلها على حمامة معينة، ثم طارت وجاءت حمامة أخرى، فإن قلنا: يشترط التعيين، فإنها تكون ميتة، وإن قلنا: لا يشترط التعيين حلت، والأقوى أنه لا يشترط التعيين، ويتخرج عليه أنه لو ذبح الشاتين بشاة واحدة، فإنه يصح، وهكذا يتفرع عليها مسألة الرصاص المنتشر؛ لأنه إذا أرسله على الصفة الشرعية بذكر اسم الله عز وجل صار مذكياً، يستوي أن يصيب ما عينه صيداً أو ما لم يعينه، ثم إنه من الصعوبة بمكان لو قلنا بالتعيين وجاء بقطيع من تيس الجبل، فصعب جداً أن يحدد واحداً، لا يمكن هذا، فأنت عندما ترى القطيع يفر ترمي مباشرة، وقد تصيب هذه أو هذه، فهل تظل تبحث عن واحدة معينة؟!! هذه مشكلة وحرج عظيم، لذلك لا يشترط التعيين، وهو الصحيح.
والسلاح الموجود الآن والذي ينتشر منه عدة طلقات إذا أصابت طلقة واحدة الفريسة فإنه يحل أكلها على الصحيح، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله.
[فإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه لم يبح إلا أن يزجره فيزيد في عدوه بطلبه، فيحل].
إذا استرسل الكلب وأنت جالس، سواء رأيت الصيد أو لم تر، فما شعرت إلا والكلب -أكرمكم الله- قد هاج على الصيد، فهذا له صورتان: الصورة الأولى: أن يشليه -يحرشه-، أي: فبعد أن رأيته مسرعاً زدت في تحريشه، فهذه فيها خلاف بين العلماء.
والصورة الثانية: أن تسكت.
فأما إذا سكت فإنه قد أمسك لنفسه فلا يحل الصيد؛ لأن الله يقول: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] أي: لكم، وإذا انبعث من نفسه فهو يريد الصيد لنفسه وليس لسيده، ولذلك قال: (إذا أرسلت كلبك) ومفهوم الصفة في قوله صلى الله عليه وسلم: (أرسلت) أنه لا يحل إذا لم يرسله، فالذي يترجح مذهب من قال: أنه يستوي إذا حرشه بعد انبعاثه أو لم يحرشه، فما دام أن الكلب بنفسه انبعث فإنه لا يحل أكل صيده، وهكذا لو أن الباز بنفسه انطلق دون أن يكون هو الذي أطلقه، ودون أن يكون هو الذي أرسله لم يحل الصيد.(400/5)
الشرط الرابع: التسمية
قال رحمه الله: [الرابع: التسمية عند إرسال السهم أو الجارحة].
لأنها شرط، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] فدل على اشتراط التسمية، ولا بد من ذكر اسم الله عند إرساله، وهكذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه)، وقال: (وما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه)، فأكدت السنة ما دل عليه القرآن من اشتراط التسمية.
[فإن تركها عمداً أو سهواً لم يبح].
تقدم معنا في باب الذكاة أنهم قالوا: لو نسي البسملة في الذبح والنحر صح، أي: جاز أن يأكل، وهنا -في الصيد- قالوا: لم يجز، وهذا يؤكد أن باب الصيد أضيق من باب التذكية؛ لأنه خرج عن الأصل.
قال رحمه الله: [ويسن أن يقول معها: الله أكبر كالذكاة].
لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.(400/6)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الأيمان [1]
إن مسألة عن الأيمان من المسائل المهمة في الشريعة، لما يتعلق بها من أحكام عقدية وفقهية، فمن الأحكام العقدية: أن يكون الحلف بالله وأسمائه وصفاته؛ لأن الحلف بغير الله كفر وشرك كما ثبت ذلك في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.(401/1)
بيان الأحكام المتعلقة بالأيمان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:(401/2)
ما تنعقد به اليمين
فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الأيمان].
قال رحمه الله: [واليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث هي اليمين بالله] لا تكون اليمين شرعية إلا بما ذكر المصنف رحمه الله: أن تكون باسم من أسماء الله أو بصفة من صفاته، على التفصيل الذي سنذكره، فالمصنف رحمه الله بين أن اليمين التي تنعقد وتعتبر يميناً شرعياً هي التي تكون باسم الله عز وجل، أو بصفة من صفاته.
والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) وسمع النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- عمر وهو يحلف بأبيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) قيل: أو للتنويع، وقيل: للعطف، بمعنى: قد كفر وأشرك، كفر نعمة الله، وأشرك مع الله غيره.
قوله: (تجب بها الكفارة) وهي اليمين الشرعية التي تسمى: اليمين المنعقدة؛ لأن هناك يميناً منعقدة ويميناً غير منعقدة، فاليمين المنعقدة لابد من توافر الشروط الشرعية فيها.
قوله: (هي اليمين بالله) أن يقول: والله، وبالله، وأقسم بالله.
أما لو قال: أقسمت.
ولم يقل: بالله.
فهل تكون يميناً؟ قالوا: إنها حلف ويمين.
ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أنه لما أول الرؤيا (قال: يا رسول الله! أخبرني هل أصبت أو أخطأت؟ قال: أصبت وأخطأت.
قال: أقسم أن تبين لي ما أصبت به وما أخطأت، قال: لا تقسم) فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقسم) يدل على أنها قسم.
وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109] قالوا: إنه إذا قال: أقسمت.
فهو متضمن معنى قوله: أقسمت بالله.
وهذا مثل حذف المعلوم، ولذلك قالوا: إنها تكون يميناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تقسم) وهذا رد له لقسمه.
[أو صفة من صفاته] كأن يقول: والأول، والآخر، والظاهر، والباطن، والسميع، والعليم، وعزة الله، وقدرة الله وعظمة الله، والدليل على ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عن النار (تقول النار: قط قط وعزتك).
وكذلك أيضاً في حديث أيوب عليه السلام، قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (اغتسل أيوب فأنزل الله عليه جراداً من ذهب، فجعل يجمع منه في ثوبه، فقال الله تعالى: أولم أكن أغنيتك؟ فقال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك) فهو أقسم بعزة الله، فدل على أنه يمين شرعي، فيكون بالله وبأسمائه وصفاته.(401/3)
حكم الحلف بالقرآن أو بالمصحف
قال رحمه الله: [أو بالقرآن أو بالمصحف]: قوله: (بالقرآن) هو أن يقصد كلام الله عز وجل؛ لأن كلام الله صفة من صفاته ليس بمخلوق، منه بدا وإليه يعود، ولذلك استدل الأئمة رحمهم الله على قول السلف: منه بدا وإليه يعود، بقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أن القرآن يرفع في آخر الزمان)، وابتداؤه من الله عز وجل؛ لأنه هو المتكلم به، وهو صفة من صفات الله عز وجل.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق، فإذا حلف به فقد حلف بصفة من صفات الله.
قال تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} [الأعراف:144] فهذا يدل على أن كلام الله من صفاته، فيجوز أن يحلف به، كأن يقول: والقرآن، ويكون مراده كلام الله عز وجل، ويجوز أن يحلف بالسور وبالآيات؛ لأنها من كلام الله عز وجل، فلو قال: وسورة البقرة.
ومراده كلام الله عز وجل في سورة البقرة، كما قال: والقرآن ومراده ما في القرآن، وهكذا لو أقسم بآية، فكل هذا صحيح.
قوله: (أو بالمصحف) كذلك إذا حلف بالمصحف على أنه كلام الله عز وجل، ولا أعلم أحداً ضيق في مسألة الحلف بالقرآن والمصحف إلا الحنفية؛ لأصل عندهم رحمهم الله، وهو: أن اليمين لا تنعقد إلا بالشرط الأول، وشرط جريان العرف، قالوا: أن يجري العرف بكونه قسماً، ومن ثم قالوا: إن الحلف بالقرآن لم يجر به العرف وهذا مذهب المتقدمين من الحنفية، وليس مرادهم الطعن في كون القرآن صفة من صفات الله؛ لأن أهل السنة والجماعة متفقون على أنه كلام الله وصفة من صفاته سبحانه، إنما مرادهم في مسألة اليمين هل يشترط فيها جريان العرف أو لا؟! والصحيح أن هذا يمين ويعتبر قسماً وتجب به الكفارة.(401/4)
حكم الحلف بغير الله
قال رحمه الله: [والحلف بغير الله محرم ولا تجب به كفارة].
الحلف بغير الله عز وجل سواءً كان هذا المحلوف به ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً لا يجوز، حتى الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجوز الإمام أحمد -وهو مذهب الحنابلة كما ذكره صاحب: الإنصاف- الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم لله عز وجل، فلو قال: والنبي والرسول فإنه لا حرج عليه في ذلك، وتعتبر يمينه فيها الكفارة، ونص صاحب الإنصاف على أنها يمين منعقدة، ولكن هذا القول مرجوح.
والصحيح أنه لا يجوز الحلف إلا بالله عز وجل، أو باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته؛ لأن الدليل نص على هذا، (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فهذا يدل دلالة صريحة على أنه لا تنعقد اليمين إلا اليمين الشرعية، التي تكون باسم من أسمائه أو صفة من صفاته سبحانه وتعالى.(401/5)
شروط وجوب كفارة اليمين
قال رحمه الله: [ويشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروط:](401/6)
الشرط الأول: أن يكون الحالف مختاراً لا مكرهاً
قال رحمه الله: [الأول: أن تكون اليمين منعقدة، وهي التي قصد عقدها على مستقبل ممكن] خرج من هذا اليمين على الماضي، مثل قوله: والله وقع كذا، حصل كذا، فإذا كان كاذباً فإنها -والعياذ بالله! - اليمين الغموس، التي تغمس صاحبها في النار، وإن كان صادقاً فقد صدق وحلف على ما ذكر، ولكن إذا كان كاذباً فلا تجب عليه الكفارة، وهذا مراد المصنف: أن الكفارة لا تكون إلا إذا كانت اليمين على أمر مستقبل، ويكون هذا الأمر مما يمكن.
قال: [فإن حلف على أمر ماض كاذباً عالماً فهي الغموس].
بمعنى: أنه لا تجب عليه الكفارة؛ لأنه قيد التي فيها الكفارة بما ذكرنا.(401/7)
لغو اليمين أنواعه وحكمه
قال رحمه الله: [ولغو اليمين الذي يجري على لسانه بغير قصد، كقوله: لا والله، وبلى والله] وهذا قول طائفة من أئمة السلف، منهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو أن قول الرجل: لا والله وبلى والله، تجيء والله تجلس والله ولا يقصد به اليمين، ليس بيمين، هذا إذا لم يقصده، أما إذا قصده وحلف قاصداً لليمين انعقدت يمينه.
هذا بالنسبة للنوع الأول من لغو اليمين.
النوع الثاني: أن يحلف على شيء يظنه، ويرى عليه أمارات ثم يتبين أنه أخطأ، كأن يرى رجلاً من بعيد يظنه فلاناً ثم تبيّن أنه ليس بفلان، فقال وهو يراه من بعيد: والله فلان، قالوا: ليس بفلان.
قال: والله فلان.
وهو على غالب ظنه ثم تبين خطؤه، فإنه حلف على غالب الظن فلا تجب عليه كفارة، ولا تعتبر يميناً منعقدة، ويعذر في هذا.
هذا بالنسبة لمسألة لغو اليمين.
قال بعض العلماء: إن لغو اليمين تكون في المحرمات، وهذا ضعيف عند أئمة التفسير، وقد استدلوا بقوله تعالى {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55] بناءً على أن اللغو في الأمر المحرم، وكل من حلف على أمر محرم فإنه لغو، والصحيح أن لغو اليمين ما ذكرناه وهو: أن يحلف الرجل على الشيء يظنه، أو جريان الكلام بدون قصد، كما يقع مع الضيف، وما يقع في السباق، يقول لصاحبه: تتقدم ويقول الآخر: والله تتقدم أنت، والله تتأخر، وهذه يجري على لسان الناس دون إرادة عقد اليمين.
[وكذا يمين عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافه] وهذا مأثور عن بعض السلف، وعن ابن عباس رضي الله عنهما.
[فلا كفارة في الجميع] لأنها من اللغو.(401/8)
الشرط الثاني: انعقاد يمين من حلف مختاراً لا مكرهاً
[الثاني: أن يحلف مختاراً، فإن حلف مكرهاً لم ينعقد يمينه] أن يحلف مختاراً غير مكره، وقد تقدمت معنا شروط الإكراه، فلو هدده شخص وقال له: تحلف بالله على شيء.
فإنه لا تنعقد يمينه، ولا تجب عليه الكفارة إذا حنث فيها؛ لأنه مكره على قوله.
والإكراه نوعان: - إكراه بحق.
- وإكراه بدون حق.
فإذا كان الإكراه بدون حق فحينئذٍ لا يعتبر يميناً، لكن إذا كان الإكراه بحق، فإنه يكون يميناً معتبراً شرعاً ويجب عليه أن يصدق، كأن يأبى أن يحلف وطلب منه أبوه أن يحلف وأكرهه على الحلف في القضاء، وقال له: إن هذا شيء فيه إحقاق حق وإبطال باطل، فهذه يمين شرعية مع أنه مكره ولا يريدها.
وكان أئمة السلف لا يحلفون حتى يمين القضاء، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما لما اختصم مع الرجل في عبد من عبيده قال: بعته لي بكذا بعيب.
قال: ما علمته.
قال: بلى قد كنت تعلمه.
قال له القاضي: احلف قال: ما علمته.
قال له: احلف.
قال: لا أحلف.
قال: إذاً ترد على الرجل ماله، قال: أرد له ماله.
فرد له المال تورعاً، فباع العبد بأضعاف القيمة التي كان قد باعه بها، وذلك أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومن يتق الله لا يرى إلا خيراً.(401/9)
حكم الحنث في اليمين من حيث الفعل والترك والإكراه والنسيان
[الثالث: الحنث في يمينه، بأن يفعل ما حلف على تركه أو يترك ما حلف على فعله مختاراً ذاكراً] قوله: (الحنث في يمينه) هذا الشرط الثالث، فإذا حلف أن يفعل شيئاً فالحنث أن لا يفعله، وإذا حلف أن لا يفعل شيئاً فالحنث أن يفعل، فإذا قال: والله لا أدخل الدار حنث بالدخول، وإذا قال: والله سأدخل الدار ولم يدخل حنث بعدم الدخول، فإذا حنث لزمته الكفارة.
قال صلى الله عليه وسلم: (إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) بمعنى: أنه يفعل عكس ما حلف عليه، والعكس كما ذكرنا: أن ينفي ما أثبته، ويثبت ما نفاه.
[فإذا حنث مكرهاً أو ناسياً فلا كفارة] قوله: (مكرها) لأن الله أسقط بالإكراه المؤاخذة، قال: والله لا أدخل الدار.
فأخذوه وربطوه وحملوه وأدخلوه الدار، فهذا إكراه ملجئ تام، فلا تجب عليه كفارة؛ لأنه أسند الدخول إلى نفسه وطوعه وإرادته، ومن دخل بحمل الناس له فقد دخل بغير اختياره وبغير إرادته، فحينئذٍ لا يكون حانثاً.
قوله: (أو ناسياً) اختلف العلماء رحمهم الله في الناسي، هل هو مكلف أو غير مكلف؟ وتفرع عليه هذه المسألة، فإن قلنا: إنه غير مكلف لا يجب عليه، والأقوى أنه يجب عليه الضمان في الإخلال، وهي مسألة الأصول التي كررناها أكثر من مرة، وفي الأيمان تستثنى من هذا الأصل؛ لأن المراد به الانتهاك للحرمة، ومن كان ناسياً ليس فيه معنى الانتهاك، فهذا وجه الاستثناء للناسي من الأصل الذي ذكرناه، وهو مؤاخذته للضمان بحق الله وحق المخلوق.(401/10)
الاستثناء في اليمين
قال رحمه الله: [ومن قال في يمين مكفرة: إن شاء الله لم يحنث].
بهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الحسن، وصح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح في قصة سليمان عليه السلام، أنه قال: (والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة) الله أكبر! الأنبياء أعطوا هذه القوة، في ليلة واحدة يطوف على تسعين امرأة! (تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله) انظروا كيف الهمة وبماذا تتعلق النفوس!! أنبياء الله أعظم الناس قربة لله عز وجل، في سائر شئونهم وأمورهم، حتى عند إتيانهم الشهوة يصرفونها في طاعة الله.
قال: (والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة) فأقسم، لكن لم يرد الله عز وجل ذلك، فألقت واحدة منهن بعض مخلوق وليس مخلوقاً كاملاً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنه قال: إن شاء الله) وعلى كل حال قيل هذا: مسألة التحقيق، وقيل: مسألة التعليق، وقال من حيث الأصل: إنه أقسم، ووجدت المشيئة لتحقيق القسم والاستثناء.
أما الحديث الحسن: (من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه) فيشترط اتصالها باليمين، كأن يقول: والله تقوم إن شاء الله.
أو يقول: والله إن شاء الله تقوم، والله إن شاء الله تفعل، والله إن شاء الله لا تفعل، ويشترط أن يكون قاصداً للاستثناء قبل انصراف اليمين، أما إذا طرأ عليه أن يستثني بعد انعقاد اليمين فلا، وإلا قال كل شخص بمجرد الشك أنه لا يفي إن شاء الله.
هذا يدل على أنه لابد من اتصال الاستثناء، ولابد من قصده، وقد فصلنا في هذه المسألة في تعليق الطلاق بالمشيئة وبينّا ضوابط المشيئة وتأثيرها.(401/11)
استحباب الحنث في اليمين وإتيان الذي هو خير
قال رحمه الله: [ويسن الحنث في اليمين إذا كان خيراً] اليمين قد يُندب له برها ويكره له الحنث فيها، وقد يجب عليه البر ويحرم عليه الحنث، وقد يستحب له البر ويندب له الحنث، وقد يحرم عليه البر ويجب عليه الحنث، هذه أحوال لليمين، وهي: الحالة الأولى: يجب عليه البر ويحرم عليه الحنث في يمينه، كما لو قال: والله لأصلين مع الجماعة، وهو ممن تجب عليه صلاة الجماعة، فيجب عليه أن يبر ويحرم عليه أن يحنث؛ لأن هذا واجب بأصل الشرع.
أو تقول له أمه: افعل كذا وأمرته به فقال: والله أفعل.
فحينئذٍ يجب عليه البر ويحرم عليه الحنث؛ لأن طاعة أمه واجب مؤكد.
الحالة الثانية: يحرم عليه البر ويجب عليه الحنث، كما لو أقسم أنه لا يصلي صلاة الظهر، فهذا لا يجوز؛ لأنه حلف على ترك واجب، أو حلف على فعل محرم، كأن يقول: والله لأشربن الخمر -والعياذ بالله! - فيجب عليه الحنث ويحرم عليه البر.
الحالة الثالثة: يندب له الحنث ويكره له البر، كما لو حلف على أن لا يصوم الأيام البيض وقال: والله لا أصوم الأيام البيض من هذا الشهر.
فيندب له أن يحنث ويكفر في يمينه ويصوم الأيام البيض، ويكره له أن يمضي في يمينه ويفوت على نفسه الخير.
الحالة الرابعة: يندب له البر ويكره له الحنث، كما لو قال: والله لأصومن الخميس والإثنين.
فيندب له أن يصوم وأن يبر، ويكره له أن يفوت على نفسه الخير.
هذه أحوال اليمين.
إذاً الإنسان إذا رأى شيئاً أفضل مما حلف عليه فالأفضل له أن يكفر، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) وهذا يستثنى من الأصل من حفظ اليمين والبر فيها، فإن المسلم إذا مثلاً: والله لا أكلم فلاناً اليوم -وهو يجوز له أن يهجر أخاه المسلم دون الثلاث- فرأى أن الخير أن يكلمه، كأن يأمره بالمعروف أو ينهاه عن المنكر، أو وجدت مصلحة أخرى، أو قال: والله لا أزور فلاناً اليوم، ورأى من المصلحة أن يزوره، أو توفي أحد أو مرض أو جاء سبب يندب إلى الإتيان، فنقول له: الأفضل أن تكفر عن يمينك وتأتي الذي هو خير.(401/12)
حكم يمين من حرم حلالاً وصوره
قال رحمه الله: [ومن حرم حلالاً سوى زوجته من أمة أو طعام أو لباس أو غيره لم يحرم، وتلزمه كفارة يمين إن فعله].
هذه المسألة تقدمت معنا في قول الرجل لزوجته: أنتِ عليّ حرام، وذكرنا: أن هذه المسألة فيها ما لا يقل عن عشرين قولاً، ذكرها أئمة التفسير في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] قال بعض العلماء: إنه إذا حلف وحرم على نفسه لبس الثياب، أو حرم على نفسه لبس غطاء رأسه كالعمامة، أو حرم على نفسه أن يركب السيارة، أو حرم على نفسه أن يطعم الطعام، أو حرم على نفسه أن يتزوج، قالوا: كل هذا لغو ولا شيء عليه ولا تجب عليه كفارة، وهذا مذهب الظاهرية وأهل الحديث، قيل: مذهب جمهور أهل الحديث.
وذهب الجمهور -على تفصيل عندهم- إلى أنه إذا حلف على تحريم حلال فإنه تنعقد يمينه ويجب عليه الكفارة، وهذا مبني على أصل، والأصل: أن تحريم الحلال يأتي على صورتين: الصورة الأولى: إذا قصد به التحريم فهو لغو.
الصورة الثانية: إذا حلف على أن يحرم على نفسه شيئاً حلالاً، فإنه حينئذٍ يُكفِّر، وهذا معنى ما ورد في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة العسل، عندما قالت أم المؤمنين حفصة: أجد منك ريح مغافير، وهذا من باب الغيرة؛ لأنه شرب عند زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها العسل، وغارت أمهات المؤمنين وتمالأن عليها، وقمن يذكرن ذلك له عليه الصلاة والسلام، وقلن: جرست نحلة في العرفط، وهذا عندما شرب عندها عسلاً، وبين الله عز وجل ذلك لنبيه وقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] فالنبي صلى الله عليه وسلم لما امتنع من شرب العسل، قال الله عز وجل له: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] وهذا يدل على أنه قصد اليمين.
ومن هنا من حرم على نفسه الحلال وقصد اليمين انعقدت يمينه، وأما إذا حرم الحلال معتقداً تحريمه فهذا لغو ولا يؤثر، ومنه ما فعله الصحابة حينما اجتمعوا: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعهم عثمان بن مظعون، وكان من أشد الصحابة عبادة وصلاحاً رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عنهم أجمعين، وتكلموا في شأن الإسلام ثم اتفقوا على أنهم لا يتزوجون النساء وأنهم يختصون، فأدركتهم نشوة الدين ومحبة الطاعة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال -كما في الحديث الصحيح حديث جابر -: (رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان التبتل، ولو أذن له لاختصينا).
فتحريم المباحات من شأن أهل الضلال، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يحرم شيئاً أحله الله له، وذلك لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32] وهذا استفهام إنكاري، يدل على أن الحلال ما أحله الله، ولو حرمه الناس، والحرام ما حرمه الله ولو أحله الناس، فلو حرم حلالاً كان لغواً.
قوله: (سوى زوجته) تقدم معنا أنه إذا قال لزوجته: أنتِ عليّ حرام، أو أنتِ الحرام، أو الحرام يلزمني منك.
كل هذا تقدم.
والحنابلة كما ذكرنا يقولون: إنه ظهار، وقد صح عن عثمان رضي الله عنه أن من حرم زوجته فهو مظاهر، وقد بينّا أن الصحيح: أن من قال لامرأته: أنتِ عليّ حرام، نسأله عن نيته، إن قصد به اليمين فعليه الكفارة، وفيه عن ابن عباس أثر صحيح، وإن قصد به الطلاق سألناه كم ينوي؟ وإن قصد به الظهار فظهار، وإن لم يقصد شيئاً فهو لغو، مع أنها ليست بحرام وإن قال: إنها حرام، فهو أخبر بشيء مخالف للواقع، فلا يقع شيئاً ولا يعتد به ويكون لغواً.
قوله: (لم يحرم) لم يحكم بتحريمه عليه، ويكون كلامه لغواً.
قوله: (وتلزمه كفارة يمين إن فعله) كما ذكرنا بالتفصيل الذي بيناه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(401/13)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الأيمان [2]
إن من تيسير الشرع على المكلفين أن جعل التخيير في كفارة اليمين لمن لزمته الكفارة، وهذا من فضل الله على عباده، كما جعل الرجوع في الأيمان إلى نية الحالف وقصده؛ لأن في الأيمان ما هو لغو يؤاخذ المرء عليه، ومنها ما هو يمين معقود يتحقق فيه لزوم الكفارة.(402/1)
التخيير في كفارة اليمين بين خصال الكفارة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يخير من لزمته كفارة يمين بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة] الواجب في الشريعة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الواجب المضيق المرتب، الذي لا يجوز للمسلم أن ينتقل فيه بعد ترتيب الشرع إلى أمر لاحق؛ إلا بعد العجز عن الأمر السابق، كما في كفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان؛ فإن هذه واجبة لازمة على من ارتكب المحظور، ولكنه لا ينتقل إلى الخصلة الثانية التي رتبها الشرع على الأولى إلا بعد العجز عن الأولى، وهذا يسميه العلماء: بالواجب المرتب.
وقد نص ابن عباس رضي الله عنهما على أن ما ورد بثم، لا يجوز للمسلم أن ينتقل إلى الخصلة الثانية إلا بعد عجزه عن الخصلة الأولى.
فهذا واجب مرتب يجب على المسلم أن يلتزم ترتيب الشرع فيه.
القسم الثاني: الواجب المخير، وهو الذي وسع الشرع فيه على المكلف، فخيره بين خصلتين أو ثلاث أو أربع، إن فعل واحدة منها أجزأه.
وفي الحقيقة كفارة اليمين جمعت بين النوعين، ففيها الواجب المرتب، وفيها الواجب المخير، فخيّر الله عز وجل بين الإطعام والكسوة والعتق، ورتب ما بين هذه الثلاثة إذا عجز عنها أن ينتقل إلى الصيام.
وعلى هذا يكون الواجب في كفارة اليمين قد جمع بين الأمرين: الترتيب والتخيير، فبيّن المصنف رحمه الله: أن من لزمته كفارة -وقد قدمنا شروط الحنث، ومتى يحكم بكون الإنسان حانثاً في يمينه- فعليه الكفارة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب الكفارة كما في آية المائدة: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] فهذه الآية أصل في كفارة اليمين، وقد نص الله عز وجل فيها على خصال الكفارة.
فبيّن رحمه الله الواجب الأول: وهو إطعام عشرة مساكين، وإطعام عشرة مساكين على وجهين عند العلماء: الوجه الأول: أن يطعم كل مسكين ربع صاع، كما في كفارة الظهار، من حديث سلمة بن صخر البياضي، حيث أطعم ستين مسكيناً خمسة عشر صاعاً، وهذا يقتضي أن يكون لكل مسكين ربع صاع.
الوجه الثاني: أن يطعم كل مسكين نصف صاع، كما في كفارة الفدية في النسك من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الذي في الصحيح، وفيه أن من ارتكب المحظور من حلق رأس ونحو ذلك لزمته الفدية، وقد أمر الله عز وجل فيها بنصف صاع، فقالوا: هذا يدل على أن الإطعام يكون بنصف صاع.
والحقيقة أنه لو اقتصر الشخص على ربع صاع أجزأه، لكن الأحوط والأحسن له أن لا ينقص عن نصف صاع، هذه الصورة الأولى.
ثم يرد
السؤال
هل الكفارة في اليمين تمليك، أو يقصد منها مطلق الوقوع؟ بمعنى: أن الشخص يجب عليه أن يعطي المسكين الطعام، والمسكين يتصرف في الطعام كيف شاء، فهذا تمليك، وحينئذٍ لا يجوز أن يصنع الطعام ويدعو المسكين إليه؛ لأن التمليك يقتضي أن يكون المسكين حراً بين أن يأكله اليوم أو غداً أو بعد غد، فيملك هذا الذي ملّكه الله عز وجل إياه، وإن قلنا: إنها ليست بتمليك فيكون من حقه أن يطعمه، وأن يصنع الطعام ثم يدعو عشرة مساكين فيأكلون ذلك الطعام.
ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم أطعموا، كما في قصة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأيضاً الأصل يقتضي عموم الإطلاق، ولكن التمليك أحوط، والجمهور على أنه لو أطعم يجزيه.
وإطعام عشرة مساكين يستوي فيه أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً، أي: تمحضوا بالذكور، أو تمحضوا بالإناث، أو جمعوا بين الذكور والإناث، ويستوي أن يكونوا كباراً أو صغاراً، فلو نظر إلى أسرة فيها عشرة أفراد أجزأه، ثم يرد السؤال: هل يشترط أن يكون الصغير بعد الفطام ليأكل أكل المفطوم، أم يكون رضيعاً فيشتري له ما يرتضع به كحليب ونحو ذلك؟ وجهان للعلماء: والصحيح: أنه يجزيه سواء كان قبل الفطام أو بعده؛ وذلك لإطلاق القرآن، ولكن الأحوط أن يبرئ ذمته على الوجه الذي لا شبهة فيه.
قوله: (أو كسوتهم) الكسوة فيها وجهان للعلماء: منهم من أطلق الكسوة، حتى لو ألبسه ثوباً يستر عورته أجزأه، والصحيح: أن الكسوة لابد فيها من أن تكون كسوة تصح بمثلها الصلاة، وعلى هذا لو كساه ثوباً شفافاً لم يجزه، ودليلنا على ذلك السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما، نساء كاسيات عاريات) فوصفهن بالكسوة، ولكن سلبهم هذا الوصف بالعري، وقد أمر الله بكسوة المسكين، فدل على أنها كسوة خالية من العري.
وعلى هذا لابد وأن تكون الكسوة التي تصح بها الصلاة في المرأة: الدرع والخمار، وفي الرجل: ما يستر به عورته، فلو أنه ستره بثوب غامق اللون يستر عورته، فيكون السروال والفنيلة فضلاً، ولو ستره بقميص وسروال أجزأه، ولو ستره بإزار ورداء كإزار الحج والعمرة وردائهما، فإنه يجزئه.
إذاً: بالنسبة للثياب يشترط فيها: أن لا تكون معيبة عيباً يقدح في وجود الكسوة فيها، فلو أنه كانت عنده ثياب يلبسها هو وكساها فيجزيه ذلك، ما دام أنها نظيفة صالحة للاستعمال، وهكذا بالنسبة للثياب التي كساها للصغار من المساكين، لو أخذ كسوة أولاده فكساهم إياها وهي صالحة للاستعمال أجزأه.
قوله: (أو عتق رقبة) يستوي أن تكون الرقبة صغيرة أو كبيرة، وقد بينا هذا وفصلناه في مسألة العتق في كفارات الظهار والجماع في نهار رمضان.
ولكن هنا هل يشترط إيمان الرقبة أو لا يشترط؟ الأقوى أنه يشترط إيمان الرقبة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في صحيح مسلم من حديث معاوية بين الحكم رضي الله عنه-: (أعتقها فإنها مؤمنة) وذلك بعد أن سأل الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
قال: أعتقها فإنها مؤمنة) أي: أعتقها من أجل أنها مؤمنة.
فالرق ضُرب من أجل الكفر، فلا يعقل أن الشريعة تأمر بضرب الرق على الكفار المحاربين، ثم بكل سهولة يعتقون، إذاً ما هي الفائدة؟ وعلى هذا لابد وأن تكون الرقبة مؤمنة، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (أعتقها فإنها مؤمنة) جملة تعليلية، أي: لأنها مؤمنة، ولم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق مباشرة، بل أمره أن يحضر الجارية، وسألها وامتحنها واختبرها صلى الله عليه وسلم وتكلف ذلك، فدل على أنه لا يجزئ أن يعتق كل رقبة.
قال بعض العلماء: يشترط عدم العيب في الرقبة إذا كان عيباً مخلاً يمنع العجز فإنه لا يصح ولا يجزئ، والصحيح أنه قد يجزئ، إلا إذا كان على وجه يريد به التخلص من الرقبة، فهذا أمر آخر.
[فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة] وقد نص القرآن على ذلك، قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] وفي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب، الأولى عند عبد الرزاق بسند صحيح، والأخرى عند ابن جرير وجود إسنادها غير واحد من العلماء: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وهذا أخذ منه الحنابلة وطائفة وجوب التتابع في صيام الكفارة في الأيمان، وهو الصحيح إن شاء الله.(402/2)
حكم من لزمته أيمان متكررة قبل التكفير حال اتحاد موجبها أو اختلافه
قال رحمه الله: [ومن لزمته أيمان قبل التكفير موجبها واحد فعليه كفارة واحدة].
قوله: (ومن لزمته أيمان) يعني: متكررة عديدة، ويكون ذلك على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون على شيء واحد، فمثلاً قال لفلان: والله ما تدخل البيت.
ثم قال له: سأدخل.
قال: والله ما تدخل.
قال: سأدخل، فهذه يلزمه كفارة واحدة.
الصورة الثانية: إذا كانت متعددة فكل واحدة منها يمين، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.
[وإن اختلف موجبها كظهار ويمين بالله لزماه ولم يتداخلا] أي: وهكذا إذا اختلفت أجناسها كظهار ويمين ونحو ذلك، فكل ذلك يحكم بكل مقسم عليه بيمين مختصة به، إذا حنث فيها يلزمه الكفارة لكل يمين.(402/3)
شرح زاد المستقنع - باب جامع الأيمان
من المسائل التي تواجه الناس في حياتهم اليومية مسائل الأيمان، لذا فلابد لهم من معرفة أحكام أيمانهم، وما يجب عليهم منها، وما لا يجب، وقد فصَّل العلماء في أحكام الأيمان تفصيلاً دقيقاً، فبينوا حكم نية الحالف، وسبب اليمين، وأحكام تعيين الشيء المحلوف عليه، وغير ذلك من الأحكام التي يكثر احتياج الناس إلى معرفتها؛ ليقوموا بحق الله عليهم فيها.(403/1)