إذا امتنع من له الحضانة أو كان غير أهل انتقلت
وقوله: [وإن امتنع من له الحضانة].
هل الحضانة حق واجب لا اختيار فيها للحاضن؟ أم أنها حق تخييري بأن يقال له: هذا حقك، إن شئت أن تلي حضانة الصغير فلك ذلك، وإن شئت أن تترك فلك ذلك، فينتقل الحق إلى من بعده؟ فيه وجهان للعلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: الحضانة حق واجب، وأصحاب هذا القول منهم من يفصل ومنهم من يطلق.
فمن يفصل يقول: إذا كان الشخص المحضون لا يقبل غير الأم، أو لا يقبل غير الأب، وثبتت ولايته دون وجود من هو أحق قبله، فإنه يجب على الأب أو الأم الحضانة، وليس لأحدهما حق الترك والتولي، فإذا تركه أحدهما أجبره القاضي أو الإمام الوالي على القيام بحق الحضانة، هذا على القول بوجوبها.
والذين قالوا بعدم الوجوب يقولون: إذا تخلى وقال: لا أستطيع أو لا أريد أن أحضنه، فإنها تنتقل الحضانة إلى من بعده.
فمثلاً: إذا كانت هناك أخت شقيقة وأخت لأم وأخت لأب، وبينا أن الأخت لأم لا تكون حاضنة للصغير مع وجود الشقيقة، فلو أن الشقيقة قالت: لا أريد الحضانة، وقلنا: من حقها ذلك، انتقل حق الحضانة إلى الأخت لأم، وقس على هذا.
فتبين أنه إذا امتنع الأقرب وكان من حقه أن يمتنع، انتقلت الحضانة إلى من بعده.
وقوله: [أو كان غير أهل] الحضانة لها شروط لابد من توفرها للحكم بأهلية الحاضن للحضانة: من إسلام وبلوغ وعقل وحرية وحسن ولاية، وعدم وجود مرضٍ معدٍ.
ونحو ذلك من الشروط، فإذا توفرت هذه الشروط حكم بالحق لصاحبه لاستحقاقه للحضانة.
فإذا وجد فيه مانع كأن يكون كافراً، أو ارتد -والعياذ بالله- فكفر، سقط حقه في الحضانة، فتنتقل الحضانة إلى من بعد هذا الشخص الذي فيه المانع.
وقوله: [انتقلت إلى من بعده] أي: بالترتيب الذي ذكره رحمه الله، فمثلاً: لو كان عنده عمة شقيقة وعمة لأم وعمة لأب، وكانت العمة الشقيقة كافرة أو مرتدة، فحينئذٍ تنتقل الحضانة إلى العمة لأم، وهكذا لو وجد مانع في العمة لأم كأن تكون مجنونة فإنها تنتقل الحضانة إلى العمة لأب، وهكذا تنتقل الحضانة لمن هو أقرب.(344/6)
موانع الحضانة(344/7)
مانع الرق
وقوله: [ولا حضانة لمن فيه رق] شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الشروط التي ينبغي توفرها في الحاضن، فيشترط فيه: أن يكون حراً، والرقيق ليس أهلاً للحضانة من حيث الجملة، والسبب في ذلك: أن الشرع نزع الولاية عن العبد فهو لا يلي أمر نفسه، حتى إن ماله لا يملكه، إنما هو ملك لسيده إلا ما ملّكه، قال صلى الله عليه وسلم: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يده عن أن يتصرف في ماله، فكيف يتصرف في غيره؟ فهو لا يملك النظر في نفسه فأولى ألا يتولى أمر غيره، والإسلام في مسألة الرق لا يخصها بجنس ولا بلون ولا بطائفة ولا بزمان ولا بمكان، وإنما جعل ذلك راجعاً إلى وجود الكفر بنعمة الله عز وجل والمحاربة لدين الله، فإذا كان الشخص بهذه المثابة سقطت عنه الأهلية حتى صار كالبهيمة، كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، وحينئذٍ يباع ويشترى ويملك.
وعلى كل حال فالرقيق ليس له حق في الحضانة؛ لأنه لا يملك أمر نفسه، فمن باب أولى ألا يلي أمر غيره، ولأنه مشغول بخدمة سيده، فكيف يتفرغ للقيام برعاية هذا الصبي أو هذه الصبية؟! ولذلك لو قيل: إن لهم الولاية لضاعت حقوق الشخص المحضون؛ لأنه إما أن يضيع حق سيده، وإما أن يضيع حق الشخص المحضون، فقالوا: نبقيه على الأصل من أنه مطالب بحق سيده.
والبعض يستغرب من الفقهاء أن يقولوا هذا، وهذه أصول شرعية، فالشرع أثبت الملكية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6]، فجعلهم ملك يمين، فجعل الأمة ملك يمين لسيدها، وجعل المملوك مشغولاً بخدمة سيده.
وبناءً على ذلك: لا يستطيع العبد القيام برعاية الشخص المحضون، ومن هنا أسقط جمهور العلماء رحمهم الله الحق في الولاية للرقيق على المحضون.(344/8)
مانع الفسق
وقوله: [ولا لفاسق].
الفسق: أصله من فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، فأصله الخروج، وسمي الفاسق فاسقاً؛ لأنه خرج عن طاعة الله، والفسق فسقان: فسق مخرج من الملة وهو فسق الكفر، وفسق لا يخرج من الملة وهو فعل كبيرة من الكبائر، أو الإصرار على صغيرة من الصغائر.
والفاسق له أحوال: فتارة يكون فسقه مؤثراً في الحضانة، وتارة لا يؤثر في الحضانة.
والمسألة هي: هل الفاسق يتولى الحضانة، أو لا يتولاها؟
الجواب
من أعدل الأقوال أننا ننظر في فسقه: فإن كان فسقه متعدياً مؤثراً في الحضانة لم يكن له حق في الحضانة؛ لأن المقصود من الحضانة يفوت بولايته، ومقصود الشرع من ولايته أن يقوم بحقوق الحضانة، ومثل هذا لا يؤمن منه.
وأما إذا كان فسقه لا يؤثر في الحضانة، فإنك قد تجد الشخص مثلاً مقصّراً ويقع في بعض المحرمات، ولكنه من أغير الناس على عرضه، ومن أحفظ الناس لحقوق القرابة، وقد تجد عنده أخطاء وزلات ولكنه من أصدق الناس قولاً، ومن أحسنهم معاملة، فليس كل فسق يؤثر في الحضانة.
ولذلك فإن من أعدل الأقوال في المسألة قول من قال أن ننظر في فسقه: فإن كان فسقه يضيع الحضانة ويؤثر فيها فلا يتولاها، مثلاً: شخص معروف والعياذ بالله ببعض المعاصي من شرب خمر أو فعل محرم من الكبائر، أو مستهتر بالحقوق والواجبات، فمثل هذا لا يعطى حق الحضانة، لكن لو كان يشرب الخمر، ولكن يؤمن شره وضرره على المحضون، أو كانت امرأة قذفت فحكم بفسقها، لكنها من أحرص الناس على أولادها، ومن أحفظهم لحق الولد أو لحق بنات أخيها أو بنات أختها، فإن الحضانة تنتقل إليها ولا يؤثر فسقها بالقذف في الحضانة؛ لأن القذف مما يوجب الفسق.
فالشاهد من هذا: أن الفسق إذا أثر في الحضانة نزع الصبي والصغير ولم يكن للشخص حق في الحضانة، وأما إذا لم يؤثر فإن الحق ثابت في ذلك مع وجود الفسق.(344/9)
مانع الكفر
وقوله: [ولا لكافر].
الكافر ليس له حق في الحضانة، على مذهب جمهور من علماء رحمهم الله، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] وإذا جعلنا لهم حق الحضانة كان نوع ولاية، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ولأن الكافر يؤثر على الصغير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه) فبين أن الصغير يتأثر بمن يليه، قال: (فأبواه) ولأن الغالب في الحضانة أن تكون للأبوين.
ومن هنا قطع جمهور العلماء رحمهم الله ولاية الكافر في الحضانة، وهذا هو الصحيح؛ لأن أصول الشريعة تقوي هذا القول وتشهد بصحته.(344/10)
مانع زواج المرأة بأجنبي
وقوله: [ولا لمزوجة بأجنبي] الأم لها حق الحضانة ما لم تتزوج، فلو طلقها زوجها فإنها أحق بولدها وبحضانته، فإذا تزوجت نظرنا في هذا الزوج: إن كان أجنبياً عن الصبية التي هي بنتها فإن الحضانة تنتقل من الأم، لقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي)، فلما قال: (ما لم تنكحي) أخلى يدها عن الولاية بوجود النكاح.
وأما إذا كان الشخص الذي تزوجها بينه وبين المحضون محرمية، ففي هذه الحالة لا تنتقل ولا تسقط الحضانة عن الأم، واستدلوا على ذلك بقصة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه قال: إنها بنت عمي وخالتها تحتي، فهو ليس أجنبياً عنها، قالوا: هناك قرابة بين جعفر وبين حمزة رضي الله عنهما، وهنا يقولون: بسبب الرضاع الذي بين جعفر وحمزة استحق أن يليها؛ لأنه ليس بأجنبي عن هذه البنت.
ومن أهل العلم من قال: إذا كان قريباً ولو بالنسب التي هي قرابة العصبة غير المحرمية فإن له حقاً، وحينئذٍ تعتضد الزوجة بهذا القريب ولو لم يكن محرماً في ولايتها على بنتها.
وعلى هذا فالخلاصة: إن كان قريباً له محرمية فلا إشكال في إبقاء الحضانة عند الزوجة، وإن كانت قرابته لا توجب المحرمية، فاختيار طائفة من أهل العلم رحمهم الله وخاصة في مذهب الحنابلة أنه يكون للمرأة حق الحضانة وذلك لوجود القرابة بين زوجها وبين هذه البنت المحضونة.
وقوله: [من محضون] أي: الشخص المحضون أجنبي.
وقوله: (من حين عقد) إذا قلنا: إن المرأة إذا تزوجت تسقط حضانتها يرد
السؤال
هل تسقط بمجرد العقد أم لابد أن يدخل هذا الزوج الأجنبي بها؟ وجهان للعلماء: فمن أهل العلم من قال: لا تسقط حضانة الزوجة إلا بدخول الزوج، وهو مذهب المالكية ومن وافقهم رحمهم الله.
ومنهم من قال: مجرد العقد يوجب سقوط الحضانة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة رحمهم الله.
وقد استدل الذين قالوا: إن مجرد العقد يوجب سقوط الحضانة؛ بقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي)، والمرأة توصف بكونها منكوحة بمجرد العقد، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] فدل على أن المرأة تكون منكوحة بمجرد العقد.
إذا ثبت هذا فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) وقد نكحت وتزوجت، سواء دخل بها أو لم يدخل.
ومذهب الحنابلة والشافعية على أن العبرة بالعقد أقوى أثراً، ومذهب المالكية ومن وافقهم أقوى نظراً، مع أن الأثر يحتمل؛ لأن العلماء اختلفوا: هل النكاح حقيقة في العقد أو حقيقة في الوطء؟ خلاف مشهور.
بعض العلماء يقول: حقيقة في العقد، وبعضهم يقول: حقيقة في الوطء، ومنهم من يقول: حقيقة فيهما.
والسبب في ذلك: أن القرآن ورد فيه النكاح بمعنى الدخول، وورد فيه النكاح بمعنى العقد، وأكثر ما ورد بمعنى العقد.
وقالوا: إن النكاح بمعنى الدخول دليله قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فجاءت السنة وبينت أن النكاح هنا المراد به الدخول، وليس مجرد العقد، فصار قوله: ((حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)) المراد به الدخول.
ومن هنا يقولون: إن النكاح حقيقة في العقد وحقيقة في الوطء، فإذا كان حقيقة فيهما يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) يحتمل الوجهين: ما لم تنكحي، أي: تعقدي، ويحتمل: ما لم تنكحي، أي: يدخل زوجك بك.
فالمالكية يقولون: لما احتمل الأمرين اعتضد بالأصل، وهو أن الخطر على الشخص المحضون لا يتأتى إلا بعد الدخول، ويكون تقصير الزوجة لانشغالها بالزوج بعد الدخول لا قبل الدخول، فهو أقوى من جهة النظر؛ لأن الأثر من ناحية إطلاق النكاح حقيقة على الدخول أيضاً فيه إشكال.
لأن بعض العلماء يرى أن آية البقرة في الطلاق ثلاثاً هي في النكاح، لكن جاءت السنة بزيادة شرط الدخول.
وعلى كل حال فالمسألة محتملة، أما من حيث النظر والقوة في المعنى فلا شك أن الدخول هو المعتبر.
وقوله: [فإن زال المانع رجع إلى حقه].
أي: فإن زال المانع عن الشخص المحضون رجع إلى حقه، فإذا أسلم الكافر وأفاق المجنون رجع إلى ولايته للحضانة.(344/11)
الأسئلة(344/12)
الحضانة رعاية معنوية لا نفقة فيها
السؤال
فضيلة الشيخ! إن كان الذي له الحق في الحضانة فقيراً، وكان الذي يليه موسراً، هل يقدم الموسر على الفقير نظراً لمصلحة المحضون، أثابكم الله؟ بعض العلماء يرى أن الحاضن له أجرة، فإذا كان فقيراً صار من باب أولى وأحرى، والسائل يظن أن الحاضن هو الذي ينفق ويقوم على المحضون بالنفقة.
فليعلم أن باب الحضانة يشمل أخذ الصغير لتعليمه وتأديبه وتربيته ورعايته، وليس في المسألة إنفاق؛ بل الحضانة رعاية معنوية للشخص وتصريف أموره المادية، لكن لا يدفع الحاضن من ماله، فلينتبه لهذا! فإذا كان الأقرب فقيراً والأبعد غنياً، فنقول: الحاضن له أجرة في الحضانة، فإذا كان له أجرة صار الفقير أولى من جهتها، أي: صارت المسألة بالعكس، أولى لفقره وأولى لقربه، وبناءً على ذلك صار السؤال معكوساً من هذا الوجه.
وعلى كل حال فالحاضن لا يدفع من جيبه شيئاً، فالأصل أن ينفق من مال الشخص المحضون، وإذا كان صغيراً فمن مال والده، على التفصيل الذي ذكرناه في النفقات، فالنفقات لها باب مستقل، ويتولى الإنفاق عليه من ذكرنا من قرابته بالضوابط التي بيناها في باب النفقات، لكن هنا مسألة الرعاية والقيام على المصالح، والله تعالى أعلم.(344/13)
إجراء الأحكام التكليفية على المعتوه
السؤال
هل المعتوه تجري عليه الأحكام؟ وهل هو مكلف؟
الجواب
الأصل أن العته نوع من الضعف في العقل، فإذا فقد الإنسان الإدراك للأمور وتمييزها سقط عنه التكليف، فهو إنسان غير مكلف؛ لأنه في حكم المجنون.
أما العته الذي فيه خرف ونوع من التمييز وله عقل، فطائفة من العلماء رحمهم الله يقولون: إن الشخص يكون في بعض الأحيان من أذكى خلق الله، ولكن فيه قصور، لأن الذكاء شيء والعقل شيء آخر.
ومن هنا فالعته لا يؤثر في العقل من كل وجه، ويؤثر في شخصية الإنسان من ناحية تمييز الأمور وإدراكه لها، لكن لا يصل به إلى حد الجنون، فإذا وصل به إلى حد الجنون لم يكن معتوهاً بل يكون مجنوناً.(344/14)
انتقال الحضانة من الأم إلى أم الأم
السؤال
الأم إذا نكحت هل تنتقل الحضانة إلى أم الأم، أم إلى الأب مباشرة؟
الجواب
ذكرنا أن الحضانة للأم، ثم لأم الأم وإن علت بمحض الإناث، وهي أولى من الأب، لأن شفقة الأم أقوى من شفقة الأب، وأم الأم بمنزلة الأم، وأصول الشريعة دالة على هذا، وأقوى الأقوال عند أهل العلم رحمهم الله: أن أم الأم مقدمة على الأب، والله تعالى أعلم.(344/15)
معنى المأثم المغرم
السؤال
في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) فما هو المأثم والمغرم أثابكم الله؟
الجواب
فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا بأن الإنسان إذا غرم وأصابه الدين وتحمل وقع في الإثم، ولذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعد فلا يفي) أي: يقول سأعطيك غداً، ثم لا يتيسر له السداد، فيصبح مخلفاً لوعده كاذباً في قوله، فاستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحال، كما ثبت في حديث دعاء التشهد وهو حديث صحيح: قالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من هذا وقال: (إذا غرم الشخص حدث فكذب، ووعد فأخلف) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من غلبة الدين، لأن الدين إذا غلب الإنسان كذب في قوله، وأخلف في وعده، وهذه من الفتن العظيمة.
ولذلك لا تظهر قوة الإنسان في دينه وصدقه في إيمانه بمثل ما إذا ابتلي بالدنيا فصدق مع الله عز وجل، فالدنيا بلاؤها عظيم، ومن هنا قال عمر رضي الله عنه: (لا تغرنكم دندنة الرجل في صلاته، انظروا إليه في ديناره ودرهمه).
فالشخص إذا ابتلي في الدنيا وأصبح غارماً مديوناً اضطر إلى أن يكذب ويخلف الوعد، ويقع في المزالق التي لا تحمد عقباها: إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر بوادٍ حول واديها فعلى الإنسان أن يبتعد عن أمور الدنيا خاصة تحمل الديون في التجارات أو في أمور غير واضحة، فهذه لا تحمد عقباها، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم وهو يبين حال الاستدانة وعدم سداد الناس حتى يقع الإنسان في غلبة الدين، ويقع في خلف الوعد والكذب إذا حدث، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) وهذا يدل على أن الإنسان إذا أخذ الديون ينبغي عند أخذه أن ينظر إلى أمرين: أولاً: حسن النية في السداد.
ثانياً: وجود غلبة الظن على أنه سيسدد.
ولا يجوز أن يخاطر بأموال الناس، خوفاً من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)، فالتساهل في هذه الأمور لا ينبغي.
وكم من إنسان تراه مستقيماً على دين الله عز وجل وطاعته ومحبته ومرضاته، فإذا علم الشيطان ضعفه في الدنيا استدرجه حتى يقع فيها، ويمنيه ويعده بالوعود الكاذبة حتى يقع في غلبة الدين، وعندها لا يهنأ له عيش، ولربما تصيبه دعوات السوء والعياذ بالله؛ لأنه قد يضر الناس -والعياذ بالله- في حقوقهم.
المقصود أن غلبة الدين لا خير فيها، فقد تهلك الإنسان وتفتنه في دينه ودنياه، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يقضي عنا وعنكم الدين، ونعوذ بوجهه الكريم وسلطانه القديم من فتنة الدين والدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.(344/16)
الصلاة على فراش في طرفه نجاسة
السؤال
إذا صليت على فراش كبير وفي طرفه نجاسة هل تصح الصلاة، أثابكم الله؟
الجواب
إذا كانت النجاسة في مكان المصلي أثرت في صلاته، وحينئذٍ لا يصح أن يكون الموضع الذي يليه نجساً أو عليه نجاسة، فإذا صلى على موضع نجس بطلت صلاته.
والأصل في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه صلّى بنعلين، ثم خلع النعلين أثناء الصلاة، فخلع الصحابة النعال، فلما سلّم عليه الصلاة والسلام قال: ما شأنكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين) فدل على أنه لا يجوز أن يصلي على الموضع النجس والمكان النجس، والله تعالى أعلم.(344/17)
كيفية قضاء السنة الراتبة
السؤال
إذا فاتت السنة الراتبة قبل الصلاة فهل تقضى بعد الصلاة أثابكم الله؟
الجواب
يشرع قضاء الرواتب بعد الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى راتبة الظهر، وذلك بعد صلاة العصر وقالت له أم سلمة رضي الله عنها: (رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟ قال: هما سنة الظهر، أتاني وفد عبد قيس فشغلوني عنهما آنفاً).
وفي هذا الحديث من الفقه والفوائد شيء كثير، منها: سؤال العالم عما خالف من حاله وهيئته، خاصة فيما يختص بأمور الشرع، فإن الغالب فيها أن يكون لها سبب وموجب.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك فعل الراتبة في وقتها لانشغاله بالدعوة، ومن هنا استدل به على جواز تأخير الرواتب إذا اشتغل طالب العلم بالدرس، أو بمحاضرة، وأراد أن يؤخر الراتبة، فهذا الحديث أصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الراتبة لدعوة وفد عبد قيس، فلما ترك الراتبة لوفد عبد قيس دل على تقديم العلم والنفع المتعدي على النفع القاصر؛ لأن فضل العلم والدعوة أعظم من فضل العبادة.
الراتبة فضيلتها قاصرة، والعلم فضيلته متعدية، ولذلك تجد بعض الجهال يستعجلون في انتقاد الغير ويعتبون على طلاب العلم حينما لا يرونهم يصلون راتبة المغرب ويزدحمون للعلم، وهذا من جهلهم بالسنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه تأخير الراتبة، فلا ينكر على طلاب العلم حيث إن لهم وجهاً من السنة.
وسبب هذا أن فضل العلم والدعوة متعدٍ، خلافاً للرواتب والعبادة القاصرة، فأخذ من هذا أن الفضل المتعدي مقدم على الفضل القاصر، ومنه أخذت القاعدة أيضاً: أن ما يمكن تداركه، إذا ازدحم مع الذي لا يمكن تداركه، قدم الذي لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه.
ومن هنا قال بعض العلماء: إذا أراد أن يصلي راتبة الظهر وحضرت صلاة جنازة قدمت الجنازة على راتبة الظهر؛ لأن راتبة الظهر يمكن تداركها والجنازة لا يمكن تداركها، حتى قال بعض العلماء: له أن يقطع راتبه الظهر، ولكن هذا محل نظر؛ لأن الأصل يقتضي عدم إبطال النوافل؛ لأن الله يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] فهو ينوي في قرارة قلبه أنه لولا اشتغاله بالنافلة لصلى على الجنازة حتى يكتب له الأجر، لكن إذا لم يجد أحداً يصلي عليها فحينئذٍ يكون من باب ترك الأقل المستحب لما هو أوجب وآكد، وهذا إذا ضاق الوقت.
أما بالنسبة للأصل الذي ذكرناه في مسألة الرواتب، فإنه يشرع قضاء الرواتب القبلية، وكان بعض العلماء رحمهم الله يشدد ويقول: حديث أم سلمة رضي الله عنها في قضاء البعدية وليس في قضاء القبلية، ويقول: إذا فاتت القبلية فلا يقضيها، وهذا محل نظر.
وقال: إن السبب في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته راتبة الظهر وصلى بعد العصر ركعتين، وهاتان الركعتان قد صليتا بعد الظهر فصدق عليهما أنهما بعدية، لكن إذا كانتا قبلية وفاتت، فإنها تفوت بفوات القبل، وهذا من جهة النظر والعقل، لكن هذا القول مردود بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضاء راتبة الفجر، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قضاها بعد وقتها.
وأجيب عن هذا الجواب بأنه قضاها مرتبة، أنه عليه الصلاة والسلام فعلها بعد للفرض، لكن رد هذا بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث من قوله: (لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتي الفجر) وفي أحد الأوجه في تفسير هذا الحديث أن المراد به قضاء راتبة الفجر عند من يقول بجواز قضائها بعد تسليم الإمام، ويستثنيها من النهي عن الصلاة بعد الصبح.
وأياً ما كان فإن حديث أم سلمة رضي الله عنها لو نوزع فيه وقيل: إنه فعلها بعدية، فإنه يقال: العبرة بفوات المكان، لأن البعدية بين الظهر والعصر، وقد فعلها عليه الصلاة والسلام بعد العصر.
ومن هنا يوجد عند العلماء شيء يسمونه الأصل، أي: تتقيد فيه بالوارد، فإذا تيسر الوارد كان لك أجر المتابعة كاملة، وإن تركت الوارد وفعلت غير الوارد وكان الأصل دالاً على غير الوارد كان لك أصل الأجر.
مثال ذلك: النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه دعا في السجود، وقال: (اللهم يا مصرف القلوب صرّف قلبي لطاعتك، اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على طاعتك) فأنت إذا دعوت بهذا الدعاء أجرت في الأصل بالدعاء في السجود، وأجرت بالمتابعة في نوعية الدعاء.
لكن لو أنك دعوت في سجودك بغير هذا الدعاء الوارد كان لك الأصل، فنحن نقول: الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الراتبة في غير وقتها، فكون هذه الراتبة جاءت في صفتها بعدية ليس هو المراد، إنما المراد هو مشروعية القضاء.
وحينئذٍ يصلح أن يكون الحديث دليلاً على قضاء القبلية وقضاء البعدية على حد سواء، والله تعالى أعلم.(344/18)
تزاحم العبادات
السؤال
أحياناً تزدحم على طالب العالم بعض الأمور المختلفة، كزيارة الرحم وطاعة الوالدين وما لديه من دروس، فكيف يتعامل مع هذه المهام بالطريقة المثلى أثابكم الله؟
الجواب
هذا سؤال يحتاج إلى نظر، أولاً: من حيث الأصل يقدم الواجب على غير الواجب، فبر الوالدين فرض، وهذا الفرض مقدم على غيره من حقوق الآخرين، فإذا سألك والداك، أو احتاج الوالد منك أن تأتي عنده في القرية، أو في المزرعة أو التجارة، فعليك أن تقدم هذا الواجب، وتتقرب إلى الله عز وجل بذلك.
إذاً: الواجبات تقدم على غير الواجبات، مثل شخص أو جماعة دعوك في سفر لعمرة أو للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، تقول: الدعوة مستحبة وبر الوالدين واجب، والواجب مقدم على المستحب.
إذا ازدحمت الواجبات قُدِّم الآكد على غير الآكد، فمثلاً: إذا نظرنا إلى حق القريب نجده من حيث الأصل حق واجب على المسلم أن يصله، هذا القريب قد يكون مريضاً يحتاج أن تكون معه، أو جاءته ضائقه أو ظرف يريدك أن تكون معه، وهناك مثلاً صديق عنده ظرف ويحتاج أن تكون معه، فإذا نظرت وتأكد عليك أن هذا الصديق ليس له غيرك والقريب ليس له غيرك بعد الله عز وجل، فحينئذٍ يقدم الحق الآكد وهو حق القريب، فتقدم حق القريب ثم الأقرب فالأقرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم أدناك أدناك) فجعل الحقوق مرتبة، والله عز وجل جعل لكل شيء قدراً.
فالمسلم ينظر دائماً للحقوق المؤكدة، فالفضائل والمستحبات والمندوبات يقدم فيها المتعدي على القاصر، وهذه قاعدة في التفضيل، وكما ذكرنا في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد عبد قيس، فإنه يقدم الشيء الذي لا يمكن تداركه، مثلاً: لو كان عندك أثناء الإجازة أشياء لو أخرتها لم يمكن تداركها، وأشياء من المستحبات لو أخرتها عن الإجازة أمكن تحقيقها في غير الإجازة ولو بعض الشيء، فتقدم الذي لا يمكن تحقيقه بعد الإجازة مطلقاً على الشيء الذي يمكن تحقيقه بعد الإجازة بعض الشيء.
هذه كلها أمور لها قواعد وضوابط إذا ازدحمت؛ كأن تكون كلها علوماً، وهذه العلوم لا تدري هل تذهب لهذه الحلقة أو إلى هذه الحلقة أو هذه الحلقة، فإذا كانت الحلقة في علم يحتاج إليه كأن تكثر أخطاء الناس فيه، أو كان عالمه يضبطه أكثر أو يتقنه أكثر، أو كان لا يتيسر لك في غير الإجازة، فتقدم بهذه الوجوه، وتراعي التفضيل من هذه الوجوه، وهذا ليس خاصاً بالإجازة، فهذه أصول عامة، وعند العلماء مبحث في التفضيل تكلموا عليه في كتب القواعد الفقهية في قواعد التفضيل.
فعلى كل حال، تقدم الأشياء الواجبة على الأشياء المندوبة والمستحبة، وتقدم الواجبات المؤكدة على الواجبات غير المؤكدة، ويراعي في هذا كله النية الصالحة، أعني: أن تنوي في قرارة قلبك أنه لولا انشغالك بهذا الشيء لفعلت ذلك الشيء، حتى تؤجر بعملك ونيتك، وجمع الخير كله تقوى الله عز وجل وسؤال العلماء.
فينبغي لكل إنسان أن يرجع إلى أهل العلم: (وما خاب من استخار ولا ندم من استشار) فالذي يسأل أهل العلم ويرجع إليهم في الأمور الشرعية لا شك أنه سيكون على بصيرة من أمره، ويوفق ويسدد.
ومن العجيب -وليس هذا من الله ببعيد- أنك عندما تستشير أحداً من أهل العلم، فيشير عليك بمشورة، أن الله يجعل البركة فيما أشار به، إن عاجلاً أو آجلاً أو هما معاً، ومن أراد فليجرب.
فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى خاصة إذا رزق من يستشيره العقل، فإذا ازدحمت عندك الأمور فإن كانت شرعية فارجع إلى أهل العلم، وإذا كانت أموراً دنيوية فارجع إلى أهل العقل والأمانة، فإنهما شرطان لابد من توفرها فيمن تستشير.
فالذي عنده عقل أبعد منك نظراً، وأعرف منك في الحظوظ والمفاسد والمصالح، وكذلك وأما الأمانة فلأنه قد يكون عاقلاً فاهماً لكن لا أمانة عنده، وليس عنده نصيحة.
فإذا رزقك الله عز وجل استنارة العلم والعقل، فإنك موفق، ومن هنا كان يقول بعض العلماء رحمهم الله: من الناس من رزق العلم أكثر من العقل، فعنده علم كثير لكن عقله صغير، ومنهم من رزق عقلاً أكثر من العلم، فعقله أكبر من علمه، وهذا موجود في الناس، وبعض الناس طالب علم علمه قليل، إلا أن عنده من رجاحة العقل وبعد النظر الشيء الكثير، وهذه هبة من الله عز وجل، ومن الناس من جمع الله له بين الحسنيين: العلم والعقل، فهذا خير المنازل وأفضل ما يكون.
فإذا أراد الإنسان أن يستشير فإن كان لأمرٍ ديني فلا إشكال أنه يرجع إلى أهل العلم، وإن كان في أمر دنيوي فإنه يرجع إلى من هو أعقل: شاور أخاك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات فالعين تبصر ما دنى ونأى ولا ترى ما بها إلا بمرآة فتستشير العاقل الحكيم الذي تأمنه على دينك وعرضك وأهلك.
وهنا ننبه على مسألة مهمة جداً، وهي أن بعض طلاب العلم تنزل مسائل شرعية، فيأتي شخص ويقول: والله ما أدري أفعل كذا أو كذا والدي يأمرني! والدتي تأمرني! أو كذا، أمر يتعلق بالدين، فتجد هذا يعطيه رأياً، والآخر يعطيه رأياً.
والمنبغي على طالب العلم ألا يفتي في المسائل الشرعية إلا إذا كان أهلاً، فالعجب أنك تسمع بعض طلاب العلم يجيبه ويعطيه قاعدة وأصلاً، يفتي ويُنظِّر ويقعد ويستدل وهو ليس بأهل لذلك، فلا يتقحم المسلم النار على بصيرة، هذه نار الله الموقدة، القول على الله بدون علم، حتى في الرأي يجب ألا تستهين بهذه الأمور، فلا تأتِ لأخيك بأمر شرعي ولو في طلب العلم، فتقول: افعل كذا واترك كذا يا إخوان! تحسبوه هيناً وهو عند الله عظيم.
الأمور الشرعية تناط بأهل العلم، ويرجع فيها إلى أهل العلم الذين هم أعلم وأحكم، فنحن نقول هذا لأنه يأتينا بعض الأخيار ويقولون: قال لي بعض طلاب العلم: لا تفعل كذا! وافعل كذا! وبعضهم يقول: إن فعلت كذا أثمت! فهذا لا يجوز، فإن تحليل الحرام كتحريم الحلال.
والمنبغي الرجوع إلى من أمر الله بالرجوع إليه من أهل العلم وتقوى الله عز وجل.
وعلى كل شخص يستشيره أخوه أو يشاوره أن ينصح له، وخاصة إذا أراد الإنسان أن ينصح فيستنصح الأخيار والأتقياء.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهيئ لنا من أمورنا رشداً، وأن يسلك بنا أفضل السبل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(344/19)
شرح زاد المستقنع - باب الحضانة [2]
ترتكز الحضانة على حفظ الصغير عما يضره في دينه أو دنياه، فإذا أراد الحاضن أن يسافر ويأخذ المحضون معه ففي هذه الحالة لابد من مراعاة الأحكام والشروط التي تتعلق بهذه المسألة، كما أن المحضون تنتهي حضانته عند أجل معلوم بينه الفقهاء رحمهم الله، وذكروا تفصيلات ما للحاضن وما عليه.(345/1)
أحكام سفر الحاضن بالمحضون
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن أراد أحد أبويه سفراً طويلاً].
شرع المصنف رحمه الله في بيان بعض المسائل والأحكام التي تترتب على الحضانة، وهذه المسائل تكثر فيها الخصومات والنزاعات بين قرابة الولد المحضون من والد ووالدة أو حاضر من القرابة، فيختلفون فيمن يتولى حضانة الطفل.
وقد بين المصنف الشروط التي ينبغي توافرها، وبعد ذلك رتب أولياء وقرابة الطفل المحضون، ثم شرع بعد ذلك في جواب سؤال مفترض: وهو أننا إذا علمنا من هو الأحق بالحضانة، وفوجئنا أنه يريد أن يسافر بهذا المحضون أو يخرج به، فما الحكم؟ وهذه المسألة على صور: منها ما يتعلق بسبب الخروج والسفر، ومنها ما يتعلق بالمسافة التي يريد أن يخرج إليها هذا المسافر، ومنها ما يتعلق بحال الشخص أثناء السفر، هل هو مأمون أو غير مأمون؛ وكذلك أيضاً حال الطريق التي يريد أن يسلكها أثناء السفر، وحال البلد الذي يريد أن ينزل فيه.
ومن هنا يتبين فضل الله عز وجل على علماء الفقه الإسلامي حيث لم يطلقوا الأحكام دون نظر إلى صفات مهمة تؤثر في أصل المسألة.
فالحضانة في أصلها قائمة على الحضن والرعاية والصيانة، فالذي يتولى الحضانة يقوم على حفظ الصغير عما يضره في دينه ودنياه، وهذا الأمر الذي هو الأساس لا بد أن يرتبط بالصفات والأحوال التي يتم بها السفر، وبالجهة التي يسافر إليها، والشخص الذي يتولى السفر به.
ومن هنا ضبط المصنف رحمه الله مسألة السفر بضوابط: أولاً: إذا أراد الزوج أو الزوجة السفر فلا إشكال إذا كان سفرهما إلى نفس البلد، أو ينتقلون من مدينة إلى مدينة آمنة، ويكون الاثنان مع بعضهما، وحينئذٍ لا تقع خصومة غالباً؛ لأنه إذا انتقل به الوالد أو الوالدة سيكونان مع بعضهما، أو على الأغلب في حالٍ قريب من حال البعض، إلا أن من أهل العلم من يقول: الأب أحق به على كل حال؛ لأن السفر خطر، ويعظم ضرره ويكثر شره، فلا أمانة إلا بالله ثم بالوالد؛ لأن الوالد أقدر على الحفظ والصيانة من الوالدة، والله عز وجل وصف النساء بالضعف، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (إني أحرّج حق الضعيفين: المرأة واليتيم)، فالمرأة ضعيفة في أصل خلقتها وتكوينها الفطري، ومن هنا يقولون: إذا أرادا أن يخرجا فالأصل أن تكون الحضانة للوالد وحينئذٍ يكون أحق بهذا الولد.
وبناءً على هذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الصغير لأمه: (أنت أحق به ما لم تنكحي)، فينتزع الولد عند السفر من الأم، ويعطى إلى الأب في حال السفر، حتى يصلا إلى المدينة أو القرية أو المكان المراد، ثم يُرَدُّ الولد إلى أمه.
إذاً: هذا الحكم في حال السفر إذا كانا مسافرين إلى بلدٍ واحد، لكن إذا كانا مسافرين إلى بلدين مختلفين؛ هل الأحق به الوالد أم الأم؟ نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الأم أحق بولدها ما لم تنكح وتتزوج؛ لأن الأم تحفظ الصغير وتقوم على شئون تربيته وإصلاح حاله حتى يميز، لكن إذا سافرت به، فإن الوالد يرفض ذلك، فنقول: هل نرده إلى أبيه أو نبقيه مع أمه؟ بعض العلماء يقول: إنه يبقى مع أمه؛ لأن الأم هي الأصل، والقاعدة تدل على استصحاب الأصل والأصل أنه عند أمه، فيستصحب الأصل، واستصحاب الأصل دلّت عليه الأصول الشرعية، وهو مسلك في الفقه الإسلامي لا إشكال فيه.
والذين قالوا: يكون عند الأب؛ قالوا: إن استصحاب الأصل شرطه أن لا يرد عارض يوجب الانتقال عن هذا الأصل، والعارض هنا: أن الأم ضعيفة ولا تقوى على حفظ الولد، وعليه فينتقل إلى الوالد.
والمصنف رحمه الله ضبط المسألة حين اشترط أن يكون السفر آمناً، وبناءً على ذلك: إذا كان مخوفاً، فمن أهل العلم من قال: السفر المخوف يكون المرد والمعوّل فيه على الله ثم على الأب، وهذا القول تدل عليه الأصول، فإن الأب أقدر على حفظ الولد وعلى صيانته، وأيضاً فكلهم متفقون على أن الأنثى إذا عقلت واستغنت عن والدتها وجب ردها إلى أبيها حتى يزوجها، وكأن الأب أقدر على حفظ العرض من الأم، فإذا كنا قد اتفقنا أنه في حال اكتمال عقل المرأة بعد السابعة تدفع لأبيها، فكذلك هنا.
فإذاً: قولنا إن الأب أحق من حيث الأصل أقوى للعارض؛ لكن حق الأم جاء في النص: (أنت أحق به ما لم تنكحي) ولم يفرق، من كونها في حضر أو سفر.
ومن هنا يقول بعض العلماء: أنا أستمسك بالأصل، وهو أن السنة دلت على أن الأم أحق به ما لم تطرأ طوارئ، سواء كانت في السفر أو أثناء السفر أو المدينة المسافر إليها.
وإذا قلنا إن الحضانة ترد إلى الأب إذا كانت الأم تريد أن تسافر، فإن كان الذي يريد أن يسافر هو الأب فلا إشكال، وهو البقاء على الأصل، وهو أن الطفل عند الأم، والحقيقة أن هذا القول هو أعدل الأقوال: أعني أن نبقى على الأصل في الحضانة، ولكن إذا كان السفر مخوفاً واحتيج إلى رعاية وصيانة فإننا نرد الولد إلى والده؛ لأنه أقدر على حفظه وصيانته، حتى ينتقل إلى المكان الذي ينتقل إليه ويعود الأمر إلى ما كان.
بالنسبة للسفر هناك سفر لضرورة أو واجب ديني مثل السفر للحج أو للعمرة، فمثلاً: لو أن القاضي قضى بانتقال الولد إلى والده وثبتت الحضانة للوالد، وقد تزوجت الأم ونكحت، ثم أراد الأب أن يسافر إلى الحج أو العمرة، فعلى الأصل الذي قررناه فإنه يسافر، ونقول: إن الولد يرجع إلى أمه؛ لأن السفر فيه خطر وضرر على الولد، وليس بمتعين خروج الولد، وهذا إذا كان السفر لحاجة دينية واجبة.
أما الواجب الدنيوي مثل أن يحتاج الوالد أن يسافر لعلاج مريض والولد في كفالته وحضانته، فهل يسافر به أو يتركه؟ نقول: يبقيه عند أمه؛ لأن العلة التي كنا نقول: إن الأم لو كانت هي التي تحضن الطفل وأرادت أن تسافر والسفر مخوف، فإننا نرده إلى أبيه، والسفر من حيث هو مخوف وفيه ضرر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن السفر عذاب، وهو على الصغار أشد عذاباً وأعظم بلاء، وبناءً على ذلك نقول: يوضع الولد في هذه الحالة عند أمه وتقوم على رعايته.
إذاً: بين المصنف رحمه الله حال السفر إذا كان الطريق آمناً، أما إذا كان مخوفاً وأحدهما مسافر والآخر غير مسافر فإنه يكون الحق للذي لا يسافر؛ لأنه ألزم للأصل الذي ذكرناه، ولأن الحضانة شُرِعت للصيانة والحفظ، والخروج يفوت ذلك، فوجب بقاء المحضون عند الحاضن غير المسافر.
وقوله: [وإن أراد أحد أبويه سفراً طويلاً] لماذا قال المصنف: وإن أراد أحد أبويه ولم يقل: وإن أراد الحاضن؟ نقول: الحضانة هي صيانة الصغير وحفظه والقيام على شئونه ورعايته، لكن هذا الحق يرتبط به حق آخر للوالد أو الوالدة إذا حُكِم به لضده.
فمثلاً: الأم إذا ثبتت لها الحضانة وقضى القاضي أنها أحق بحضانة الولد، وكانا في نفس المدينة أو نفس القرية وليس هناك خروج، فالوالد يتولى تعليم الولد ورعايته وإطعامه وشرابه، وتتولى الأم مرضه وسقمه، فلو أنه مرض أو أصابته علة أو آفة فإنه ينقل إلى الأم، وإذا اصطلحوا على أن الأم تأتيه وتمرضه في بيت والده فلا إشكال.
فالأم أحق به في حال المرض حتى ولو كان الحاضن الوالد؛ لأنها أقدر على هذا الشيء، وانظر كيف أن علماء الإسلام ينظرون إلى الأشياء التي تؤثر وتحقق المصالح وتدرأ المفاسد، فالحضانة المقصود بها تحقيق مصلحة الصبي ودرأ المفسدة والشر عنه، فحيثما وجد السبب الموجب لتحقيق هذا الأصل فإننا معه، سواء مع الوالد أو مع الوالدة.
فإذا ثبت أن الطرف الآخر له حق، فحينئذٍ إذا أراد أن يسافر أحدهما ضاع حق الآخر؛ لأننا إذا قلنا: إنه يريد أن يسافر إلى بلد لا يوجد فيه الآخر، فلو أن الأب حكم له القاضي بأنه حاضن، وأراد أن يسافر بابنه إلى الخارج لسياحة أو نزهة، فإن الأم ستقول: أنا أتضرر بخروج ولدي وأخشى على الولد، والعكس لو قضى القاضي للأم أنها أحق وأخذت صغيرها، فأرادت أن تسافر به ولو لصلة رحم أو زيارة قرابتها، يقول الوالد: أنا أريد أن أرى ابني، وأخشى على ابني من هذا السفر، فلها الحق في الحضانة ما دامت مقيمة، أما إذا أرادت أن تخاطر بالطفل فلا.
إذاً: هذه هي المسألة، ولذلك تدور أقوال العلماء وتفصيلاتهم حول تحقيق مصلحة الصبي ودفع الضرر عنه.
إذاً: علينا أن نلزم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأم أحق، والتفصيل الذي ذكرناه بالأصول الشرعية في ترتيب المستحق للحضانة، ثم إذا طرأ أي طارئ يتحقق به الضرر أو تزول به المصلحة ويحصل في ذلك شر على الصبي، ونظرنا في سببه، فإنه يجب منع ذلك السبب سواءً كان سفراً إلى بلدٍ آمن أو بلد غير آمن، أو كان الطريق مخوفاً أو الشخص نفسه الذي يسافر مخوفاً، فكل هذا ينظر فيه القاضي؛ ولذلك ترد هذه المسائل إلى القضاة للنظر في الأصلح والأفضل للصغير، وهو الأسلم.
ومن هنا كان الأصل الشرعي أن يُنظر إلى مصلحة الصبي، فنحن لا نضبطه بهذه الأوصاف كقاعدة كلية، ولكن نقول: إنه متى كان السفر يترتب عليه الضرر للصغير والمسافر أحد الوالدين وجب بقاء الصبي مع الذي لا يسافر، وأما إذا كان السفر غالبه السلامة أو يؤمن على الصبي من ضرره أو ضرر البلد الذي سيسافر إليه والشخص الذي يسافر معه، فحينئذٍ لا إشكال أن الحاضن يبقى حقه في الحضانة.(345/2)
حكم استصحاب المحضون في السفر الطويل
وقوله: [سفراً طويلاً].
هنا
السؤال
إذا كانت الأم حاضنة لولدها فأرادت أن تخرج إلى غير سفر، فمثلاً: حصلت مناسبة في ضاحية المدينة، فهل من حقها الخروج؟ نفس الشيء لو كان الحاضن هو أبوه ثم وقعت مناسبة في ضاحية المدينة أو أطراف المدينة، فهل من حقه أن يخرج به؟ قال المصنف: (سفراً)، ويشترط في السفر أن يكون طويلاً، فيخرج ما كان في الحضر؛ لأنهم في الحضر أشبه بالمكان الواحد أو بالمدينة الواحدة، وحينئذٍ فلا إشكال، لكن مع هذا لا يجوز للوالد ولا للوالدة أن يخرجا بهذا الصغير إلى مكانٍ فيه ضرر، كأن يخرجا إلى أطراف المدينة وفيها السباع والهوام، وفيها مثلاً المزارع والآبار، فقد يسقط الصبي في بئر، وقد يتعثر في شيء.
فإذاً: مسألة السفر ليست هي التي ينحصر فيها الضرر فقط، فالواجب شرعاً على الوالد أو الوالدة: أنه متى ما أدرك أن خروجه بهذه الصغيرة أو هذا المحضون فيه ضرر، فعليه أن يرده إلى الطرف الثاني كي يتولى حفظه ورعايته، هذا هو الواجب شرعاً؛ صيانة لحق الصبي المحضون ونصيحة له، وهذا هو الواجب على الوالدين، أما من لم ينصح لولده فلا خير فيه؛ لأن أولى الناس بأن ينصح لهم هم أقرب الناس من الإنسان.
وقوله: [إلى بلد بعيد ليسكنه].
أي: كأن يريد أن ينتقل، فيتضرر الطرف الثاني، فالأم تريد أن ترى ولدها، والوالد يريد أن يرى ولده، وبعض العلماء يقول: ننظر في البلد الذي تزوج فيه، فمن كان فيه فهو أحق، وبعضهم يقول: ننظر إلى أخف البلدين وأكثرهما أمناً.
والحقيقة أن هذه المسألة إذا نظر فيها القاضي ووجد أن هناك ضرراً على الصبي في سفره منعه، وإن كان الضرر في إقامته أمر بسفره لانتقاله مع من يسافر بشرط أن يكون محافظاً عليه، فقد يكون بقاء الصبي فيه ضرر، مثل ما يقع في بعض الأمكنة، حيث يدخلها فساد في أخلاقها، فهذا ضرر ديني، أو يدخلها فساد في صحتها من انتشار الأضرار والأمراض ونحو ذلك، فهذا فساد دنيوي، أو يكون فيها فقر وشدة مئونة، فأراد أن يتحول إلى ما هو أرفق، فهذا كله ينظر فيه القاضي إلى ما فيه مصلحة المحضون.
وقوله: [وهو وطريقه آمنان].
أي: أما إذا كان الطريق مخوفاً فلا؛ ولذلك يقول بعض العلماء: إذا كان الطريق مخوفاً فالحق للمقيم، فلو أن زوجاً وزوجة اختلفا في الولد، وقضى القاضي أنه للزوجة، فإذا أرادت الزوجة أن تسافر في طريق مخوفٍ رد الولد إلى والده، وقيل لها: سافري وحدك، أو اجلسي مع ولدك، وهذا عين العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض؛ لأن المراد حفظ الطفل، والصبي بريء ولا يحمل تبعة غيره؛ ولذلك إذا كان الطريق مخوفاً كأرض مُسبعة، أو أرضٍ فيها هوام، أو يريد أن يركب به البحر والبحر هائج، أو يركب بوسيلة خطرة فيخاطر بها، فلا يجوز.
وهذه مسائل تساهل فيها كثير من الناس إلا من رحم الله، فاليوم الناس بين إفراط وتفريط، فتجد حتى الآباء قد يتقصد الواحد منهم أذية الأم وجرح مشاعرها وإخافتها وإقلاقها وإزعاجها، ويبحث عن أي شيء يسيء إلى أهل زوجته، ويزعج هذه الزوجة المسكينة الضعيفة بأخذ ولدها إلى الأسفار أو الأمكنة المخيفة، وقد يستخدم ذلك لأغراضٍ يريدها لنفسه، وحتى مثلاً لو أنه طلقها فقد يحتال ليكون الولد عند أمه أو عنده، وبعد ذلك يضغط عن طريق الولد حتى يرد الزوجة إليه.
وهذا كله من الظلم: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، وإن لله ليملي للظالم ولكن لا يهمله، وويلٌ للظالم إذا نزلت به نقمة ربه، فالله سبحانه وتعالى عزيزٌ ذو انتقام وهو بالمرصاد، لا تخفى عليه خافية، وبالأخص مسائل الوالدة وولدها؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من فرق بين أمٍ وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)، وهذا في بيع أمهات الأولاد، ومع أن للرجل حق البيع والملكية، ومع هذا ضرب الله هذا الوعيد.
ومن هنا ينبغي أن ينتبه الوالد إلى أن أذية الأم وإضرارها بولدها ظلم عظيم، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب المثل في عظيم رحمته سبحانه وتعالى بين للناس بالتمثيل الذي لا يقصد به التشبيه، جاءت المرأة بالسبي تصيح ولهى على ولدها حتى رأته، فلما أخذته ضمته ضَمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟! قالوا: لا، قال: والله أرحم بعباده من هذه بولدها)، فجاء بأعظم شيء في هذه الدنيا حناناً ورحمة وشفقة وهو حنان الأم وعاطفتها تجاه الولد، وهذا الأمر تظافرت به نصوص الكتاب والسنة، فاستغلال هذه العاطفة بالسفر بمحضون، أو استغلال هذه العاطفة لإقلاق الأم وإزعاجها بأخذ المحضون في الأماكن المخيفة وتعريضه للخطر؛ لا شك أنه من أعظم الضرر والأذية، والله يقول بعد الطلاق: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] فإذا حصل الطلاق والفراق بين الزوجين فليذكر الزوج فضل زوجته وفضل أهلها، والزوجة تذكر فضل زوجها وفضل أهله.
كذلك أيضاً استغلال أهل الزوجة لحكم القاضي بأنهم أحق بالولد من منعهم الوالد من رؤية ولده وأذيته إذا جاء يرى ولده، والتضييق والتشويش عليه، والأعظم من هذا والأدهى والأمر أن يسيء الوالد أو الوالدة إلى الولد بتكريهه للطرف الثاني، ويغرس في قلبه كراهيته وعقوقه لوالده وتمرده عليه والعكس، فالوالد يغرس في ولده الكراهية لأمه، فيحاول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء كان بالأساليب القولية أو الفعلية تنفير هذا الضعيف المسكين وإبعاده عن والدته، وكل هذا من الظلم، ولا شك أنه من خيانة الأمانة.
فإذا كانت الأم عندها ولدها فعليها أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى يحصي عليها ما تقوله وتشهد به، فلذلك لا يجوز أن تملأ قلوب الذرية الضعيفة من الأبناء والبنات غيظاً على الوالد، فاستغلال الحضانة لأذية الطرف الثاني ظلمٌ عظيم، وقد انتشر هذا الأمر بين الناس إلا من رحم الله، وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس على هذا الموضوع المهم الذي غفل عنه الكثير، واستغلال الحضانة للأذية والضرر وقطع الرحم والظلم للأطفال والتضييق عليهم، والجبروت بالتسلط من الآباء على أبنائهم، فمنهم من يحبس الولد ويضربه ضرباً شديداً، أو يفزعه ويقلقه حتى لا يصل إلى أمه.
أقول: إن الأمر تعدى إلى ما هو أسوأ وأعظم مما رأيناه وعرض علينا من خلال فتاوى الناس وأسئلتهم، إلى درجة أن الولد ليكره والدته، وسحر الولد حتى يكره أباه وقرابته، وإلى الله المشتكى، فإذا نزع الدين من القلوب فلا تسأل عن حال صاحبه، ولكن: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران:5]، وإن الله يستدرج الظالم حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر، فالعبد عليه أن يحذر من عقوبات الله، ومن أخذات الله وسطواته عز وجل، فيحذر مثل هذه الأمور التي يجاوز فيها قدره، ويتعدى فيها حده، فيظلم الظلم المبين، فإن من أعظم الظلم بعد الشرك بالله عز وجل: عقوق الوالدين، فإذا كان الحاضن يستغل الحضانة لعقوق الوالدين، والحاضنة تستغل الحضانة كذلك، فلماذا الحضانة؟ الحضانة أصلها التربية والرعاية والتنشئة على الخير والصلاح والبر، وإذا بها على العكس تماماً.
ومن هنا: على الآباء أن يتقوا الله في أبنائهم وبناتهم، وعلى الأمهات أن يتقين الله عز وجل، وليعلموا أنها أمانة، وأن العبد يوم القيامة تصور له الأمانة فيرمى في نار جهنم، ويقال له: أدّ أمانتك، فينزل إلى قعر نار جهنم، حتى إذا صعد إلى أعلاها ردت عليه ثانية فيرجع والعياذ بالله، فهو يتقلب في دركات الجحيم من عذابه حتى يؤدي أمانته.
وهذا على قدر الأمانة التي يضيعها، فما بالك بأعظم الأمانات بعد توحيد الله وهو بر الوالدين، إذا كان ربى ولده وربت الأم ولدها على بغض أبيه والنفرة منه وأذيته وإضراره، وإعطائه المغريات حتى يكرهه منذُ نعومة أظفاره، نسأل الله السلامة والعافية، فيربى بطريقة حقد وهو جاهل مسكين، على كراهية والده أو العكس، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيذنا من منكرات الأخلاق وشأن أهل النفاق، وأن يرزقنا الأمانة، وأن يعيذنا من الخيانة فإنها بئست البطانة! الواجب النظر إلى مصلحة الصبي ومصلحة الصبية وما يتحقق به درأ الشر عنهما، فيقضي القاضي بما هو أرفق وأصلح، فحضانته لأبيه، كما ذكرنا؛ لأنهم غلبوا الجانب الأقوى، فإذا كان يريد أن يسافر إلى بلد يسكنه والطريق آمن فإننا نحكم بأن الحضانة للوالد كما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأن الرعاية والصيانة من الوالد أقوى، فإن كان هو المسافر فإنه سيحفظه، ولا ضرر على الصبي، وإن كان هو المقيم فلا إشكال، ولكن الأمر يرجع إلى حال الشخص المحضون.
بعض الأحيان يكون الوالد في شغل وهم وغم، ويكون معتنياً بالدنيا وقد أخذت الدنيا مجامع قلبه لا يلوي فيها على ولد، ولا يفكر فيها في تنشئته ومصلحته، وكل هذه أمور ينبغي أن تربط بالقاضي فينظر فيها الأصلح، والفقهاء رحمهم الله حينما ينصون على مثل هذه المسائل فيقصدون ذلك عند انتفاء الموانع وعدم وجود الدوافع، لترجيح إحدى الكفتين للوالدة أو الوالد.(345/3)
حكم سفر أحد الأبوين لحاجة أو سكنى بمرافقة المحضون
وقوله: [وإن بعد السفر لحاجة].
مثل السفر من المدينة إلى مكة للحج أو العمرة، فهي حاجة دينية، أو أراد أن يسافر من المدينة إلى الرياض للتجارة.
وقوله: [أو قرب لها].
أي: للحاجة، ولما قال: للحاجة خرج السفر بدون حاجة مثل النزهة والسياحة، فهذا يمنع، ويبقى الولد عند الشخص المقيم منهما على الأصل الذي قرره المصنف رحمه الله.
فإذا كان يريد أن يسافر لغير حاجة كالنزهة مثلاً ويريد أن يأخذ الولد معه، فلا يأخذه؛ لأن السفر خطر عليه وسواء بعد السفر أو قصر.
وقوله: [أو للسكنى].
كأن يريد أن ينتقل فيسكن في موضع بعيد عن الموضع الذي كان فيه، فيحكم به في هذه الصور للأم، لأن الأم هي الأحق في الأصل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنت أحق به ما لم تنكحي)، ولأن هذا الخروج يضر بالولد عند اختلاف الأحوال، وانتقاله يضر بمصلحة الولد.
ومن هنا يبقى في البلد والمكان الذي هو فيه، ولا يخرج الولد.
فحينما يريد أبوه أن يسافر لعمرة نقول له: اذهب إلى العمرة واترك الولد عند أمه، أو أراد أبوه أن يسافر للتجارة نقول له: اذهب إلى تجارتك واترك الولد عند أمه، وهذا فيما إذا قضى القاضي بأن الحضانة للوالد.
أما إذا كانت الحضانة للأم، فنقول: يبقى الحكم كما هو، لكن إذا كان عند الأب وأراد أن يسافر للحج والعمرة وقال: أنا أريد أن أحج وأريد الولد أن يذهب معي.
نقول: لا.
بل يبقى عند أمه، فهي أحق وأولى؛ لأن مصلحة الصبي أن لا يسافر، وهذا إذا كان دون التمييز؛ لأن الصبي إذا ميز خُيّر بين والده ووالدته، والمرأة ترجع إلى أبيها.(345/4)
سن تخيير المحضون بين أبويه
وقوله: [فصل: وإذا بلغ الغلام سبع سنين عاقلاً خُير بين أبويه، فكان مع من اختار منهما].
هذه مسألة التخيير إذا بلغ الغلام سبع سنين، ولما قال المصنف: الغلام، خرجت الجارية، والحضانة تستمر إلى سبع سنين، وإذا بلغ الغلام والجارية سبعاً، فالجارية التي هي البنت ترد إلى أبيها إذا كانت الأم هي الحاضنة.
فمثلاً: طلق رجلٌ امرأته وعندهم بنت، فقضى القاضي بأن البنت لأمها، فبقيت عند أمها تربيها وتقوم على شئونها والأب يصرف عليها حتى بلغت سبع سنين، فبعدها تدفع إلى أبيها؛ لأن الأب أقدر على حفظ البنت، وصيانتها مما يضرها في عرضها، وهي أحوج في هذه الحالة إليه، وأيضاً هو أولى بتزويجها، لأنه وليها، فترد البنت إليه، ومن هنا ذكر المصنف الغلام؛ لأن البنت إذا بلغت السبع رُدت إلى أبيها، وتحديد السبع السنين مبني على سن التمييز.
وهناك سن للتمييز وسن للرشد والعقل الذي هو البلوغ، وهو أن يكون بالغاً سن الحلم، فأما سن التمييز فهو السن الذي يميز فيه الصبي الأمور، وبعض العلماء يضبطها بالعدد، فيقول: سبع سنين، وبعضهم يضبطها بالحال، فيقول: أن يفهم الخطاب ويحسن الجواب، فمثلاً لو قيل له: ماذا تفعل؟ يقول: أفعل كذا وكذا، نقول للذي يفعل: لماذا تفعل؟ يقول: أفعل من أجل كذا.
فإذا فهم الخطاب وأحسن الجواب، فإنا نحكم بتمييزه ولو لم يبلغ سبع سنين؛ لأن الأطفال يختلفون، وهذا القول لا شك أنه صحيح، فإن الأطفال يختلفون فهماً وإدراكاً، ولذلك كان الضبط بالحال له وجهُ، لكن لما جاءت السنة بالأمر بالصلاة لسبع، صار أصلاً غالباً أنه لا يصل إلى سبع إلا وقد ميز، والاستئناس بالمشروع والوارد أفضل وأولى، والأصل أن نقدم الوارد على غير الوارد، ومن هنا صارت السبع ميزاناً، وقد مرت بنا مسائل كثيرة في العبادات والمعاملات ربط العلماء بها الحكم بالسبع سنين.
فبين المصنف رحمه الله أن سن التمييز هو السبع، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اختلف الرجل مع زوجه والحديث صحيح على شرط مسلم (خير النبي صلى الله عليه وسلم الغلام، وأمر أباه أن يجلس في ناحية وأمه في ناحية، فقال له: هذا أبوك وهذه أمك اختر أيهما شئت، فاختار أمه) وهذا بالنسبة للغلام الذكر، فيبقى مع من يختار منهما، وحينئذٍ قضى العلماء رحمهم الله بهذا الحكم، وأجمعوا على مسألة التخيير.
وانظر سمو منهج هذه الشريعة الإسلامية في المحضون، فإنه إذا كان دون الإدراك ودون التمييز ينظر إلى مصلحته والأرفق والأعدل به، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمه أولى به؛ ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم وقضى الصحابة رضوان الله عليهم أن الأم أحق، فقال عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق بها ما لم تنكحي).
وعمر بن الخطاب في قصته المشهورة لما فصل القضية في الرجل الذي اختطف ولده من عند جدته وأمه، فاشتكته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: ريحها وحضنها أطيب له منك، يعني: من الوالد؛ لأنه في هذه الحالة أحوج ما يكون إلى اليد الحانية والأم المشفقة، فجعل الأصل في حضانة الصغير أن تتولاها الأم، ثم بعد ذلك إذا ميز الصبي فلا يكره على والدٍ ولا على والدة.
فهذه هي الحرية المعقولة، المنضبطة المبنية على أسس سليمة صحيحة، فيخير؛ لأن هذا من الوحي، وهي الحرية المبنية على الحق الذي قصه رب العالمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، ففصل الله عز وجل بهذا، فيقال له: اختر أيهما شئت: إن اختار الوالد فيكون مع والده، وإن اختار الوالدة فيكون مع والدته.
ولو أنه غير هذا الاختيار، فاختار الأسبوع الأول أن يكون مع الوالد، فقال: أريد أبي فيرجع إلى أبيه، وإذا قال: أريد أمي فيرد إلى أمه ولا يكره، ولا يضيق عليه، ويجعل الأمر على الشيء الذي يرتاح إليه الطفل، فإذا كان يرتاح للوالد والوالدة حرص كلٌ منهما على الإحسان إليه والملاطفة به، خاصة من بعد السبع السنين، فهو يحتاج إلى شيء من الإحسان والبر حتى يعقل الأمور ويميز، فإذا وصل إلى سن الرشد، فلا إشكال حينئذٍ، ومن هنا قضى العلماء رحمهم الله بالتخيير، لكن هذا التخيير له أصول؛ كأن يكون منضبطاً، فإذا اختار الوالد من أجل العبث واللعب منع من ذلك.
ومن هنا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن صبيّ أنه خيره القاضي، فقال له: هذه أمك وهذا أبوك فاختر أيهما شئت، فاختار أباه، فقضى القاضي أنه لأبيه، فقالت المرأة الموفقة العاقلة الحكيمة: يرحمك الله أيها القاضي، سله لماذا اختار أباه؟ فسأله القاضي: فقال هذا الصبي: إن أمي تبعث بي إلى المعلم فيضربني، وأما أبي فيبعثني إلى الأولاد فألعب معهم، فقال القاضي: هو لأمه؛ لأنه إلى الآن لم يميز وأصبح تخييره قائماً على الهوى، وتبين أن الوالد لا يريد مصلحته، فإذاً: ليست القضية قضية حرية منفردة؛ لأن الصبي لا عقل عنده، ولم يصل إلى سن الإدراك، فإذا كانت المصلحة في بقائه عند أمه أبقاه؛ لأن أمه ستعلمه، قالوا: وإنما لم يخير لأن الوالد عليه أمانة التعليم والرعاية للولد، فضيع هذه الأمانة، حتى أن الأم صارت هي التي تقوم على تعليم الولد.
ونسأل الله السلامة والعافية من أمور تتقرح لها القلوب، لو أن الإنسان يسمع أقضية الناس وفتاويهم لتقرح قلبه مما يسمع ويرى من إهمال الآباء لحقوق الأولاد، يتزوج الرجل وينجب، ثم يبحث عن الثانية والثالثة، ويطلق السابقة ولا يبالي بأولاده ولا ينظر إليهم.
إنما المهم أن يشبع شهوته وغريزته دون التفات إلى هذه الحقوق وإلى ما فيه مصلحة الولد، فهذه أمانة ومسئولية عظيمة، فالتخيير شرطه أن لا يكون فيه ضرر على الولد، فإذا كان فيه ضرر على الولد رجع إلى الأصل، فإذا كانت الأم عُرِفت بصلاحها واستقامتها وعنايتها وضبطها للولد وكانت بيئة الوالد فيها إفساد وإضاعة ومجون وهوى، فحينئذٍ للقاضي أن يتدخل.
فيختار جمعٌ من العلماء والأئمة والمحققين: أن الشرع ينظر إلى التخيير فيما فيه مصلحة الولد كما ذكرنا، لكن شريطة أن تكون منضبطة بالأصول الشرعية، إذ لا يعقل أن نقول: يقضي القاضي بأنه لأبيه، وأبوه يفسده، ولا يمكن أن نقول: إن القاضي يقضي بحكم الله عز وجل بما فيه ضرر للولد وفساد، فالتخيير ضبطه بعض العلماء بشرط ألا يكون موجباً لضرر على الولد في دينه أو دنياه.(345/5)
حكم بقاء المحضون عند من لا يصونه ولا يصلحه
وقوله: [ولا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه] أي: حتى ولو قضى القاضي واختار أباه؛ ثم إذا بالولد تردت أخلاقه وساءت أموره، فأصبح والده في شغله وتجارته، وكان الولد أولاً عند أمه ترعاه وتحفظه وتصونه وتعلمه الأخلاق الفاضلة وتقوم على شأنه، فشهد الشهود أنه حينما كان عند والدته كانت أحواله مرضية مستقيمة طيبة، وعندما ذهب عند والده فسدت أخلاقه وأحواله، فحينئذٍ إذا أثبتت الأم هذا بالبينة أو أثبت قرابتها ذلك قضي برجوعه إلى أمه، ولا يقر ولا يترك عند من يفسده ولا يصونه بل يهمله ولا يحافظ عليه.(345/6)
من أحق بالمحضونة بعد السبع
وقوله: [وأبو الأنثى أحق بها بعد السبع] أي: من جهة صيانة العرض، ولأنه أقدر من الأم التي قد لا تستطيع أن تدفع عن ابنتها الضرر، وهو أحق من جهة الولاية في تزويجها، ومن هنا فإن العمل عند أهل العلم رحمهم الله على أن البنت تنتقل إلى أبيها بعد السبع.
وقوله: [ويكون الذكر بعد رشده حيث شاء].
هذه المرتبة الثالثة، وهذا غير التمييز بالقضاء الذي قضيناه في الحضانة، فإنه إذا ميز يخير، فإذا وصل إلى سن الرشد فإن أراد أن يكون عند والده أو والدته أو يكون مستقلاً، فالأمر إليه، لكن يجب عليه أن يبر والديه، ويكون قريباً منهما وأن لا يبتعد عنهما؛ خاصة إذا كانا بحاجة إليه، ولا يجوز سفر الولد إلا بإذن والديه إذا كان معهما في المدينة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحيٌ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد).
ومن هنا أجمع جماهير السلف والخلف رحمهم الله على أنه لا جهاد إلا ببر الوالدين، وأنه يجب استئذان الوالدين ما لم يكن جهاده فرض عين، وهي الثلاثة الأحوال التي تقدمت معنا في باب الجهاد، فحينئذٍ لا يستأذن الوالدين ويسقط إذن الوالدين؛ لأن الدفاع في هذه الحالة دفاع عن الوالدين، لكن لا يجوز للإنسان أن يضيع حق والديه خاصة عند المشيب والكبر، والوالد يحتاج إلى قرب ولده منه، والوالدة كذلك تحتاج، فلا بد أن يكون قريباً منهما، وأن يحسن إليهما ويبرهما.
وقوله: [والأنثى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها] ولذلك فإن الوالد أقدر على حفظ العرض، وهو أحق من جهة الولاية على عقد النكاح، ومن هنا فإن العمل عند أهل العلم رحمهم الله والفتوى على أن البنت تكون عند والدها ولا تكون عند والدتها في هذه السن.(345/7)
الأسئلة(345/8)
حكم بقاء المحضون عند الأب نهاراً إذا كانت الحاضنة الأم
السؤال
إذا خير الغلام بين أبويه فاختار البقاء عند أمه، فهل من حق والده أن يجبره على العمل معه نهاراً؟
الجواب
إذا قضي بالحضانة للأم فالنهار يكون عند الوالد يعلم الولد ويربيه، وسواء علمه العلوم التي يستفيد منها لنفسه، كما كان في القديم حيث لا مدارس تأخذ الأطفال والأولاد، وإنما كانوا في المساجد وحلق الذكر، فيأخذه أبوه من عند أمه ويذهب به إلى شيخ يحفظه أو يعلمه، وكانت مسئولية الأب في النهار، وهذا نص عليه أهل العلم رحمهم الله: أنه يتولى تعليمه والذهاب به إلى من يعلمه ويقوم على تأديبه ودلالته على الخير.
كذلك يعلمه الصنعة، أي: إذا نضج أو اختار أمه وهو في السابعة، فحينئذٍ يحتاج إلى تعليم صنعة، خاصة في القديم فقد كان الولد يحتاج لتعلم صنعة حتى يستطيع أن يقوم على أمره بعد استقلاله عن والديه، فيأخذون ويعلمونه صنعة من الصنعات بعد التاسعة أو العاشرة على حسب قدرته وطاقته للعمل.
فإذاً: المنصوص عليه عند العلماء: أن الوالد يتولى أمور ولده في النهار تعليماً وتهيئة لظروف الحياة والمعيشة، وأما في الليل أو بعد انتهاء العمل أو بعد انتهاء التعليم، فإنه يرده إلى أمه وتقوم على شأنه، وهذا بالنسبة لمسألة الحضانة.
أما الأم فهي أحق به في الليل والنهار، لكن في النهار لا بأس أن يأخذه الوالد من أجل تربيته وتعليمه ما ينفعه، والله تعالى أعلم.(345/9)
حكم زيارة الأم أولادها إذا كانت سيئة الأخلاق
السؤال
إذا كانت الأم سيئة الأخلاق فهل لها الحق في زيارة بناتها، علماً أن الأب يخاف على بناته؟ أثابكم الله.
الجواب
على كل حال، لا يستطيع أحد أن يفرق بين الأم وولدها، الأم لا بد أن ترى أولادها، ولابد أن تمكن من زيارة أولادها، أما سيئة السمعة أو سيئة اللسان، فشرها على نفسها، ولا يوجد أعظم من الشرك، وقد جاءت أم أسماء رضي الله عنها وأرضاها إلى بيتها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تبرها وتحسن إليها وتكرمها.
وليس هناك أعظم من قول الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:15] (جاهداك) أي: أنهم بذلوا غاية الجهد، {عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، وليس هناك أعظم من حق الله عز وجل، وليس هناك ذنب ولا فساد ولا ظلم أعظم من الشرك، ومع ذلك: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فإذاً: لا يستطيع الإنسان أن يتدخل في هذا الحق الذي أمر الله عز وجل به.
نحن لا نقول: تجلس البنات بطريقة تفسدهن الأم، ولكن الناس يبالغون في أوصاف الأشياء طلباً لأحكامٍ توافق آراءهم وأهواءهم، لا يريد الأم أن تدخل البيت، وهو يريد أن يأخذ بذلك حكماً شرعياً ينسب إلى شرع الله عز وجل ودين الله، هيهات! نقول له: تعال، ما الذي تخشى؟ يقول: أخشى أن تفسدهن، نقول: إذا جاءت الأم فاجلس في ناحية البيت واسمع ما تقول، هل تفسدهن أو تأمرهن بشيء، أو تجلس معها امرأة تثق بها، هناك مائة حل موجود، لكن أن تبطل الأصول وتهدم القواعد الشرعية لقضايا عينية، ولأسباب موجبة للاستثناء من هذه الأصول، نحن نقول: هذه عوارض تعالج بما يندرئ به الشر ويتحقق به الخير.
والأم إذا أرادت أن تزور أولادها فتمكن من زيارة أولادها، ثم إذا كان هناك ضرر فتمكن بطريقة لا ضرر فيها، وحينئذٍ أخذ الوالد حقه، فصان ولده، وأخذت الأم حقها فرأت أولادها وبروها وأحسنوا إليها، والعجيب: أنك تجد الأم من شر خلق الله، في إساءتها وإضرارها، ولكنها إذا رأت أولادها وحاول أولادها يحسنون إليها أو يحتوونها، فإنه يخف شرها ويندرئ بلاؤها، فإن كثيراً من الأمور والشرور تندرئ إذا تعقل الإنسان وعالج السيئة بالحسنى، ولكنَّ كثيراً من الشرور تعظم وتتفاقم إذا أطفئت النار بالنار، فالأم تمنع من أولادها فتزداد حقداً وسوءاً وشراً.
والغريب أن الإنسان إذا أنصف وأعذر، هان عليه كثير من الأشياء.
أذكر ذات مرة أن أناساً اشتكوا من امرأة جاءت مع ولدها وهو مصاب بحادث، وإذا بها سيئة مع من معها ومن بجوارها، والكل يشتكي منها، وشاء الله عز وجل حينما جئت من العمل فسمعت وسلمت على الإخوان هناك من باب الزيارة، ففاتحوني في الأمر واشتكوا، فقلت لهم: يا إخوان! اتقوا الله في هذه المرأة، المرأة تخرج عن طورها وتسوء أخلاقها تحت ضغوط وظروف، هذه امرأة ولدها له تقريباً تسعة أشهر بين الحياة والموت، وقع عليه حادث فأغمي عليه، فشلت أطرافه كلها، وما استطاع أن يحرك شيئاً.
وأيضاً قطعت المرأة هذه البحار كلها من أجل أن تعالجه مع زوجها، ثم رماها زوجها وأهمل ولدها؛ وهذه بعض الظروف التي لاقتها هذه المرأة، ولو مرت هذه الظروف على رجل لانهدت عزيمته وخارت قواه، فكيف بامرأة؟ فقلت: يا إخوان لا يصلح هذا، ليست هذه هي الطريقة التي تعالج بها الأمور، الإنسان عندما ينظر إلى شر غيره أن يبحث عن أسباب ذلك.
الولد تجده يفعل الأمور التي لا تفعل، لكن حينما تفتش عن أسباب قد تكون تافهة تعالجها فتستقيم الأمور، وكم من أناسٍ يخرجون من عقولهم وأطوارهم بظروفٍ وضغوط معينة، فهل هناك أم سيئة الأخلاق مع ولدها؟ الغالب لا، فلابد أن يوجد شيء لا معقول؛ لأنها خرجت عن العقل والفطرة، فلا بد من وجود شيء قاهر يقهرها حتى أنها خرجت عن هذه الفطرة، وهذا في الغالب.
ولذلك ينبغي أن تعالج الأمور، وهذا هو شأن الرحماء والعقلاء والحكماء، وبالأخص أهل العلم وطلاب العلم والمفتون ونحوهم، فلا يستعجلون في إصدار الأحكام، فقد يأتي الشخص للقاضي ويتظلم، ويذكر كثيراً من الصفات الشنيعة، وقد يأتي للمفتي وقد هيأ كثيراً من الأسباب، الزوج يشتكي من زوجته أنها تفعل وتسب وتشتم، وقد يكون هو السبب في السب والشتم والأذية والإهانة والإضرار، ارجع إلى الوراء واسأله كيف كان يعاملها، وكيف كان يأخذ ويعطي معها، وسوف تجد لماذا خرجت هذه المرأة عن طورها! وكثيراً ما نجد السائل يعطيك صورة بشعة للطرف الثاني من أجل أن يصل إلى غرض معين تحت حكم الله عز وجل ورسوله وهيهات! فعلينا أن نتقي الله عز وجل وأن نعدل.
ثانياً: المبالغة في الأوصاف في المسائل، فقد يقول لك مثلاً: هذه أم شريرة أو أم سيئة أو أم كذا أو أم كذا، كثيراً ما يمر بي بعض الأشخاص ويقول: فلانٌ شرير، أقول له: ماذا عرفت من شره، فيظل يتذكر، مما يدلك على أنه يريد غرضاً معيناً، ويجلس يبحث، ثم إذا جاء يقدم لك بدأ يقدم لك شيئاً ليس بذاك.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: حضرت قاضياً جاءه رجل فطعن في الشاهد، فقال له القاضي: لا أقبل حتى تبين بماذا تجرحه؟ فقال له: أنا أعلم الذي يجرح من الذي لا يجرح، قال له: لا أقبل جرحك حتى تبين لي، قال: رأيته يوماً يبول قائماً، قال له: وما شأنه أن بال قائماً، قال: إنه إذا بال قائماً لطخ ثوبه وقدميه وصلى بغير طهارة، ثم قال له القاضي: هل رأيته فعل ذلك؟ قال: لا، قال: اسكت رحمك الله، ليس هذا جرحاً، بل هذا اختلاق الأشياء وتركيب بعضها على بعض، وهذا هو مصداق قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ} [الأنعام:43].
إذاً: ليس هناك شيء يهذب الإنسان مثل العدل، ولا يمكن أن يكون العدل من الإنسان في الحكم على الغير إلا بالخوف من الآخرة، فالشخص الذي عنده خوف من الآخرة هو الذي يعرف كيف ينصف إذا حكم أو قوم، بل إنك تجده أبعد الناس عن الكلام في الناس، ومن أسلمهم وأعفهم لساناً وأطهرهم جناناً وذلك من توفيق الله عز وجل.
فالمقصود: أن الحضانة لا يمكن أن يحال فيها بين الأمّ وأولادها، والواجب على الأزواج أن يتقوا الله عز وجل في زوجاتهم.
وأذكر ذات مرة قضية قريبة من هذا: وهي أن أمّاً مُنعت من زيارة بناتها، وفعلاً كانت شريرة وذات بأسٍ شديد، وشاء الله في يوم من الأيام أن جاءني أحد أقاربها واشتكى لي، وكان عاقلاً حكيماً منصفاً، فقلت: ما بها؟ قال: القضية كذا وكذا، فأراد أن يتدخل في الموضوع، فجيء بقرابة الزوج وكان الزوج معهم، فقال الزوج: هذه لا يمكن أن تدخل بيتنا ولا تزور أولادها، هذه تفسد وتفعل كذا وكذا، فقلت لهم: كم مرة زارت أولادها؟ فذكروا أن لها سنوات وكنت أظن أنها قريبة، فتبين أن لها سنوات وأنها جاءت مرات وكرات فمنعت، فسألتهم حينما تأتي تزور ماذا تفعلون؟ وإذا بها أمور لا تمت إلى الإسلام بصلة، إهانة وإذلال وإضرار وتضييق بطريقة عجيبة جداً، وكل هذا لا يرونه، لكن ينظرون أنها سيئة الأخلاق، لا ينظرون أنه ضيف نزل بيتهم وأنه ذو رحم: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، ويوجد فضل وقرابة بين الأسرتين.
فالشاهد: قلت: أريد والد الزوج على انفراد، وهذا أمر أوصي به دائماً في حلول المشاكل الزوجية أنها لا تحل بالعلن، بل تجلس مع كل شخص على انفراد، فقلت له: أتخشى الله والدار الآخرة، وتعلم أنك ستقف بين يدي الله، وخوفته بالله وبالدار الآخرة، وقلت له: أنت مسئول أمام الله؛ لأني أعلم أن له قوة على ولده وسلطة على البيت والأسرة، فقلت له: نعم، هناك أخطاء من أم الأولاد نظرتم إليها، ولكن أنتم عندكم أخطاء، والإنسان العاقل دائماً يبحث عن أخطائه عند الغير، فأخذت أبين له، والمقصود: أني قلت له: الآن تسمحون لها بزيارة أولادها ولكن بطريقة كذا وكذا، وطبعاً مرت بهم ثلاثة أسابيع تقريباً وما جاء بعد شهر ومن فضل الله سبحانه وتعالى صلحت الأسرتين وحسنت الأحوال، وأصبحت الأم كأحسن ما أن تراها في خلقها وهي تدخل البيت، وكلهم مجمعون على أنها كانت شريرة تؤذي وتضر فالشاهد أنها حينما أكرمت وأعطيت حقوقها، ووضعت في مكانتها، استحت وكسرت عينها، وأصبحت تقلل من شرها رويداً رويداً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعيذنا من منكرات الأخلاق والأدواء، والله تعالى أعلم.(345/10)
السنة في الإطالة في سنتي الفجر والمغرب
السؤال
هل من السنة الإطالة في سنتي الفجر والمغرب أم التخفيف؟
الجواب
السنة في صلاة رغيبة الفجر، أنها تخفف، قالت أم المؤمنين عائشة: (لا أدري أقرأ فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب أو لم يقرأ) من خفة الركعتين؛ فالسنة أن لا يطيل في رغيبة الفجر.
أما بالنسبة للمغرب: فوقتها بين الأذان والإقامة، فالسنة يكون وقتها ضيقاً، ولا يتوسع فيه لأمرين: أولهما: أنه يُخشى فوات الفضيلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبادر بصلاة المغرب، فإذا أخر عن الناس الإقامة فوّت عليهم هذه الفضيلة، والواجب على الإمام أن ينصف المأمومين، وأن يحرص على أن تكون صلاته على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكمل والأتم والأفضل.
وثانيهما: أنه ربما أخر الإقامة، وأضر بالناس معه، لأنهم في الغالب يأتون من شغل من أعمالهم، فيريدون أن يستريحوا ويستجموا أو يكون صائماً يريد أن يفطر، فالأرفق بالناس في المغرب هو التخفيف، وهو يشمل قضية المبادرة بالإقامة، ومن هنا جاء الأثر عنه عليه الصلاة والسلام أن يجعل بين الأذان والإقامة قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والمتوضئ من وضوئه.
إذا ثبت هذا فمعناه أنه ليس هناك وقت لإطالة سنة المغرب، فالسنة التي قبل المغرب وقبل الفجر لا يطوّل فيهما، أما السنة البعدية فإذا أراد أن يطيل فيها فلا بأس بذلك.
أما السنة القبلية فقد ثبت فيها حديث صحيح: (صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين)، فالأفضل فيها ما ذكرنا، فالإمام يبادر بالإقامة ولا يطيل في هاتين الركعتين، لكنهما ليستا من السنن الرواتب، أما بعد المغرب فلو أراد أن يصلي الراتبة فله أن يطيل ما شاء ما لم يدخل وقت العشاء كما عند بعض العلماء؛ لأنه السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)، فإذا أراد أن يطيل فليطل، لكن السنة الفعلية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يحفظ عنه التطويل، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب العمل ويتركه توسعة على الأمة، واجتزاءً بالأقل، لكن إذا أحب أن يطيل فلا بأس ولا حرج وليس هناك مانع، ولا يقال: هذا لا يجوز، أو هذا: بدعة أو محرم؛ لأن الأصل جوازه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا غربت فصلّ، فإن الصلاة حاضرة مشهودة)، وهذا يدل على التوسعة ولا بأس في ذلك، هذا بالنسبة لمسألة الإطالة.
أما رغيبة الفجر فإن النص فيها وضحٌ جلي، أن يخففها الإنسان والله تعالى أعلم.(345/11)
النصح لطلاب العلم
السؤال
أنا شابٌ أحببت طلب العلم وأرجو من الله أن يوفقني فيه، ولكن مشكلتي هي أنني أحياناً لا أحب أن أنصح إخواني في طلب العلم، بل ربما أعلم أن هناك شاباً يحب طلب العلم فلا أنصحه ببعض ما يحتاجه المبتدئون، وكل هذا خوفاً أن يكون أفضل مني، أو يتقرب إلى الله أكثر مني، وأنا أعلم أن هذا ليس من أخلاق طالب العلم؟ فأرشدوني أثابكم الله.
الجواب
هذا بلاء عظيم، والشخص إذا حُرم إفادة الغير بالعلم فليعلم أن بركة علمه قد محقت، فالعلم ما قام إلا على نفع المسكين؛ لأن العلم تبليغ رسالة وأداء أمانة، فإذا أراد الله بعبده السعادة والخير بعد الهداية شرح صدره للعلم، هذه أول نفحات الله عز وجل بعد الهداية، أن يشرح صدره للعلم.
ثانياً: إذا وفقه الله لمحبة العلم والرغبة فيه يسر له من يوثق بدينه وأمانته من أجل أن يتعلم، فيكون علمه صواباً وحقاً فلا يذهب يجثو على ركبتيه عند أئمة الضلال، الذين لا علم عندهم أو عند المتعالمين أو نحو ذلك.
ثالثاً: إذا وفقه الله عز وجل لشهود مجالس العلم، وضبط أقوالهم انشرح صدره لهذا العلم، وأحب ما يقولون وما يعملون، فإذا وفق لهذه المرتبة حمل هم العمل بما علم، فيفتح الله عز وجل عليه باب العمل، فلا يتعلم كلمة في مجلس إلا طبقها، ولا سمع نصيحة إلا التزمها وانتقل إلى أهله وولده وهو كاملٌ بتكميل الله عز وجل له في نفسه، فإذا أراد الله عز وجل أن يسعده ويوفقه ويجعل علمه نعمة عليه في الدنيا والآخرة، رزقه نشر هذا العلم.
إذاً: علمٌ ثم عملٌ ثم تعليم، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، فذكر أنهم هدوا الغير لما اهتدوا، فهم مهتدون في أنفسهم هداة لغيرهم رحمة من الله عز وجل، رحمهم الله في أنفسهم ثم رحم بهم خلقه وعبيده، فإذا كان الإنسان أنانياً والعياذ بالله، ولا يحب أن ينشر الخير لإخوانه، فهذا بلاء.
وأوصيك بأمور: إما أن يكون هذا البلاء جاء بسبب ذنب، فالإنسان قد يلتزم ويهتدي وعنده من أدران الجاهلية ما لم يتطهر منه، فعلى العبد أن يسأل الله أن يطهر قلبه، قال الله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة:41]، فقد تكون الهداية كاملة وقد تكون ناقصة.
والهداية الناقصة: أن يلتزم ولكن عنده أدران وظلمات في قلبه من الجاهلية من الغل والحسد والبغضاء وسوء الظن بالمسلمين ومحبة تتبع عثرات الناس، تجده شاباً ملتزماً، لكنه مولع بأذية الناس، نسأل الله السلامة والعافية، فهو التزم بذكر القبر والنار، لكنها لم تهذب سلوكه ولم تقوم طريقه ومنهجه، فينطلق والعياذ بالله بأدران الجاهلية، ولذلك تعجب حين ترى إنساناً صالحاً ديناً، ثم ترى منه أذية الناس والإضرار بهم؛ لأنه أسلم قالباً ولم يسلم قلباً.
ومن أهم ما ينبغي على الإنسان أن يبدأ بقلبه وسماع العقيدة بحق وصدق، لا بكذب وتنميق وتضخيم وتحت غرور أنه عبدٌ صالح، وأنه قد اتبع الصحابة رضوان الله عليهم، كان الرجل منهم يخاف النفاق حتى حين تقبض روحه، من شدة الخوف والوجل والإحسان في العمل، فالإنسان عليه أن يهذب سلوكه، فقد يكون والعياذ بالله ملتزماً ولكن بقيت عنده هذه الآفة، وهذه يعرفها من يعرفها، فمن كان مبتلى بهذا البلاء فعليه أن يسأل نفسه: ماذا كان عنده قبل التزامه وهدايته؟ فإن كان يعرف لنفسه هذا، فليعلم أنه أسلم ولم يسلم قلبه للإسلام تاماً كاملاً.
ثانياً: قد يكون بعيداً عن هذا وليس عنده آفات، قد يكون عبداً صالحاً مستقيماً ولكن ابتلي بهذا البلاء من الله، قد يبتلى بسبب عقوق والديه أو قطيعة رحمه أو همزه للناس، أو تتبع عثرة الدعاة، أو الكلام في أهل الخير أو الصلاح، فابتلاه الله بفتنة، وخذها قاعدة: أن فتن الدين لا تأتي إلا بسبب ما يكون بين العبد وربه في القلب: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
يكون الإنسان كأحسن ما تراه ملتزماً، ثم فجأة يتتبع عثرات العلماء والدعاة الأموات أو الأحياء أو ينتقصهم أو ينظر إليهم نظرات، فينكسه الله عز وجل بسبب ذلك: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، كان مهتدياً صالحاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، ثم أصبح والعياذ بالله خارجاً عن قوله، فاغتر بنفسه، وتعالى على عباد الله أو احتقر خلق الله عز وجل.
فهذا موسى عليه السلام، لما قال: أنا أعلم، عتب الله عليه من فوق سبع سماوات وهو كليم الله، ولكن قال الله له: إن بمجمع البحرين من هو أعلم منك، وهو نبي يقول الله له: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144]، ويقول الله في تشريفه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، لما جاءت حاجة معينة حصل فيها ما حصل؛ عتب الله عليه من فوق سبع سماوات، فكيف بمن يركب على ظهور الناس أو تحصل منه زلة، فلا تأمن من الله عز وجل أن يبتليك، فهذه ابتلاءات تأتي في القلوب بسبب الذنوب، ومن أعظم ما يفتح على العبد الملتزم الهادي الصالح من البلاء بعد حق الله عز وجل حقوق العباد، ولذلك فاحذر وأنت في طلب العلم أن تنتقص أحداً أو تتكلم في أحد أو تذم أحداً، أو تحمل في قلبك غلاً على أحد من أولياء الله عز وجل.
عليك أن تنتبه وتحذر من ذلك أتم الحذر؛ لأن هذه الفتن التي يحرم بها الإنسان بركة العلم وقبول العلم والانتفاع بالعلم كثيرٌ منها بسبب الظلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ظلمات، فالقلب لا يمكن أن يستنير، والنور محله القلب، فاتقوا الله يجعل لكم فرقاناً فالنور الذي في القلوب يطمس، وإذا كان الإنسان لم يهذب نفسه سلبه الله عز وجل البركة في عمره وقوله وعمله، فالحذر من الذنوب.
فلذلك أدعوك: إذا كان هذا الأمر قد جد عليك وطرأ، أن تتفقد نفسك ماذا قلت، وماذا عملت، فلعل مسلماً ظلمته أو آذيته فحرمت الخير بسبب أذيته، فتسأله أن يسامحك وتتحلل من مظلمته وتبتعد عن إساءته.
وأوصيك أخي بأمر لا أظن أن هناك فرجاً ومخرجاً أعظم منه، وهو دعاء الله سبحانه وتعالى، بأن تشتكي إلى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن تتوكل على الحي الذي لا يموت حتى ينزع ما في قلبك، فإن هذا بلاء عظيم، إن لم يتداركك الله برحمته؛ فإنه شيء يخشى منه عليك ألا تبقى لك بركة في علمك.
إذا أحد يريد أن يتعلم هذا العلم دون أن يوطن نفسه على بذله للناس وللخير بالوجه الذي يستطيع، لا يكون إنساناً أنانياً طالب علم ولا معلماً، فلا أنت حينما تعلم شيئاً تعطيه لأخيك وتدله، ولا طالب علم أيضاً من حيث إنك أناني تريد الشيء لك وحدك أو نحو هذا، فهذا أمر عليك أن تحذره قدر المستطاع، وتطلب العلم أنى وجدته، وتحرص على نفع المسلمين.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(345/12)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [1]
من كمال شريعة الإسلام أنها جعلت للإنسان حرمة عظيمة، فحرمت دمه وماله وعرضه، فلا يجوز الاعتداء على شيء من ذلك أبداً، وقد رتبت الشريعة على من اعتدى على شيء من ذلك عقوبات وأحكاماً معلومة، ومن ذلك ما يتعلق بالجناية على النفس والبدن، فمن جنى على غيره جناية متعلقة بنفسه أو ببدنه فإن الواجب عليه هو القصاص أو الدية، بحسب نوع الجناية من عمد أو خطأ أو شبه عمد وما يترتب على كل ذلك من أحكام، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، ولن تصلح الأحوال إلا به، ولا يلتفت بعد ذلك إلى شبه الحاقدين والناقمين على الإسلام وأهله، فإنها شبه متهافتة معلومة البطلان والفساد.(346/1)
تعريف الجنايات لغة واصطلاحاً
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجنايات].
الجنايات: جمع جناية، وأصلها: الاعتداء على النفس أو العرض أو المال أو البدن.
وبعض العلماء يقول: الاعتداء على النفس والبدن والمال.
وهذا في الأصل، فكل اعتداء على نفس، مثل القتل، أو الاعتداء على البدن؛ مثل قطع الأعضاء وبترها، والتشويه للخلقة بالوسم والكي ونحو ذلك، والاعتداء على المال بسرقته أو غصبه، والاعتداء على العرض بالقذف أو الزنا -والعياذ بالله- كل هذا يعتبر جناية في أصل اللغة، والعرب تسميه جناية؛ لما فيه من الإضرار والأذية وتعدي الحد، ومن فعل ذلك فقد جنى عاقبته؛ لأنه يجر على نفسه الشر، فمن جنى جناية، واعتدى على غيره، فإنه يجني من وراء ذلك العاقبة التي لا تحمد في دينه ودنياه.
ولكن العلماء في اصطلاح الفقه خصوا الجنايات: بالاعتداء على النفس والبدن، وأفردوا الاعتداء على المال والاعتداء على العرض بكتاب الحدود، فإذا قالوا: كتاب الجنايات؛ فمرادهم: الاعتداء على النفس والبدن الاعتداء على النفس: بقتلها، وإزهاقها، والاعتداء على البدن-الذي هو أجزاء البدن- إما بقطع يد أو رجل، وإما أن يعمي بصر أو يضر بسمعه، أو نحو ذلك.
فالأول للكل-الذي هو النفس-، والثاني: للأجزاء والأطراف والأعضاء.(346/2)
مقدمة مهمة تتعلق بالجنايات والقصاص
وبناء على ذلك إذا قال العلماء: (كتاب الجنايات) فإنهم يبحثون في مسائل القتل، ومسائل الأذية والضرر المتعلقة بالبدن، بإتلاف أجزاء البدن أو تشويهها أو نحو ذلك.(346/3)
أنواع الجنايات
ثم هذه الجناية وهذا الاعتداء تارة يكون عمداً وقصداً، فيعتدي على النفس فيزهقها عمداً وعدواناً، وتارة يكون خطأً؛ مثل ما إذا دهس بسيارته شخصاً فقتله، وهو لا يقصد قتله.
وأيضاً الاعتداء على الأطراف تارة يكون عمداً وقصداً؛ مثل ما يقع في المشاجرة والنزاع، فيقدم على قطع يده، أو ضربه في مكان يشل حركته، أو يعمي بصره، أو نحو ذلك من الأضرار.
هذا بالنسبة للجناية على النفس وعلى البدن، وهذا ما يسميه العلماء بـ (الجنايات)، ويخصونه بكتاب الجنايات.
وأما الاعتداء على الأموال، والاعتداء على الأعراض؛ فقد اصطلحوا على تسميته بأسماء تخصه، ووضعوه في كتب مستقلة؛ فمثلاً: الاعتداء على الأموال سموه: غصباً، وسموه: سرقة.
فسموه غصباًَ إذا كان الاعتداء على المال علانية وجهراً، وسرقة: إذا كان خفية، واختلاساً: إذا كان على طريقة لم يشعر بها الإنسان، ولم تتحقق فيها صفات السرقة.
وهذا قد تقدم معنا في باب الغصب، وذكرنا أن الفرق بين الغصب والسرقة: أن السرقة تكون خفية، والغصب يكون علانية.(346/4)
الجناية على النفس
فلما قال المصنف رحمه الله: (كتاب الجنايات) معناه: أنه سيبحث في هذا الموضع الاعتداء على النفس، والاعتداء على البدن.
وأما الاعتداء على الأموال فقد تقدمت مسائل الغصب في باب الغصب، وستأتي مسائل السرقة في كتاب الحدود.
إذاً: سيكون حديثنا عن مباحث الاعتداء على الأنفس في القتل بنوعيه: قتل العمد، وقتل الخطأ، ثم قتل الخطأ بأقسامه: شبه العمد، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم: عمد الخطأ، يعني خطأ العمد، وأيضاً الخطأ المحض، وهو ما يسميه بعض الفقهاء: ما جرى مجرى الخطأ.
وعلى هذا فبعض العلماء -كما سيأتينا- يقسم القتل إلى: عمد، وخطأ.
والجمهور على تقسيمه إلى: عمد، وشبه عمد، وخطأ.
وهناك قول ثالث: أنه عمد، وخطأ، وشبه عمد، وجار مجرى الخطأ.
وسيأتي-بإذن الله- بيان هذه الأقسام في موضعها.
هذا بالنسبة للاعتداء على النفس؛ فإما أن يقتل النفس عمداً وعدواناً-نسأل الله السلامة والعافية- وهي نفس محرمة، وإما أن يقتلها خطأً، وفي كلتا الحالتين هي جناية على النفس.(346/5)
الجناية على البدن
وأما بالنسبة للجناية على البدن: فهي الجناية على الأطراف، فيعتدى عليه إما عمداً وعدواناً، كما يقع في المشاجرات، فيقطع يده، أو يفقأ عينه، أو يقطع أذنه، فيؤذيه في سمعه، أو بصره، أو يشل حركته، أو يضربه ضربة تشل حركته، أو تتسبب في إعاقته، فهذه جنايات العمد على البدن والأطراف.
وهناك جنايات خطأ على الأطراف؛ كشخص دهس شخصاً بسيارته فقطع رجله، أو كسر يده، أو ازدحم الناس وأثناء الازدحام لم يشعر أحدهم فدفع الآخر دفعة سقط بها فانكسرت يده، أو دفعه دفعة فسقط من على درج فانكسرت رجله، أو تسبب في إتلاف سمعه، كما لو رمى بشيء فدخل في أذنه فأذهب سمعه، أو فقأ عينه ونحو ذلك، فهذه كلها جنايات على سبيل الخطأ، لكنها على الأعضاء والبدن.
وكل هذه الجنايات يتكلم عنها الفقهاء والعلماء في كتاب الجنايات.(346/6)
القصاص في الجناية
ثم هذا الكتاب -كتاب الجنايات- لما كان أخطر وأشد ما فيه ما هو مثار الخصومة، والجدل بين الناس، ويحتاج القضاة والمفتون إلى معرفة أحكامه، والفصل بين الناس فيما شجر من مسائله؛ يركز العلماء كثيراً على القصاص؛ لأن الله عز وجل شرعه للعدل بين الناس، وبين الخلق، فأمر بالقصاص من الجاني، كما أمر بالقصاص في النفس وما دون النفس، ففي النفس من قتل يقتل، وما دون النفس؛ من قطع يداً قطعت يده، ومن كسر سناً كُسرت سنه، ومن فقأ عيناً فُقأت عينه، كما بين الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه.
فهذا القصاص يحتاج أولاً أن تبحث عن الأسباب التي توجبه متى يحكم بوجوب القصاص، ومتى لا يحكم به؟ فتارة تقول: هذا القتل يوجب القصاص، أو هذا القطع لليد يوجب القصاص، فالأول جناية على النفس، والثاني جناية على الأطراف.
وتارة تقول: هذا القتل لا يوجب قصاصاً، وإنما يوجب دفع الدية، وهو قتل الخطأ، وتارة تقول: هذا الاعتداء على هذه اليد لا يوجب قصاصاً بقطع يد المعتدي، ولكن يوجب دفع نصف الدية، أو هذه الجناية فيها مثلاً خمس من الإبل، أو فيها مثلاً عشر الدية، أو نحو ذلك.
إذاً هناك ما يوجب القصاص، وهناك ما لا يوجب القصاص، وهذا ما يبحثه العلماء في بيان ضوابط قتل العمد، وقتل شبه العمد، وقتل الخطأ.
وقد امتاز الفقه الإسلامي بوضوح قواعده، واشتمالها على العدل والإنصاف، فالشريعة ليس فيها خلط للأمور، وليس فيها ما يوجد اللبس على الإنسان؛ لأن الله تعالى وصفها بالتمام، والكمال، وما بني على أصل صحيح فإن ثماره وعواقبه تكون صحيحة، فالشريعة مبنية على العدل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]، سبحانه وتعالى، فقد وضعت الشريعة القواعد والأصول التي يبنى عليها الحكم بثبوت القصاص، والحكم بعدم ثبوته، ومن هنا يبحث العلماء أول شيء: ضوابط الأنواع الثلاثة التي ذكرناها: قتل العمد، وقتل الخطأ، وقتل شبه العمد.(346/7)
متى يحكم بالقصاص في الجناية على النفس
ثم بعد أن تعرف أن هذا عمد يوجب القصاص، وأن هذا شبه عمد أو خطأ لا يوجب القصاص، وأن شبه العمد يوجب الدية المغلظة، والخطأ يوجب الدية من حيث هي، فحينئذ تنتقل إلى مسألة ثانية- بعد أن تميز أنواع الجنايات ما بين عمد وخطأ اللذان هما الرأس في الجنايات- تنتقل إلى الشروط التي ينبغي توفرها للحكم في القصاص في العمد، متى يحكم باستيفاء القصاص؟ وهذا يستلزم -مثلاً- أن نقول: إذا كان ضربه في مقتل، والحال دال على أنه قاصد للقتل، أو اعترف بأنه قصد قتله؛ فإن هذا عمد، كأن يكون ضربه بالسكين في بطنه؛ فالسكين تقتل غالباً، وهو قصد قتله، فنقول: هذا عمد.
لكن يرد
السؤال
هل الذي ضَرَبَ مكلف أم لا؟ لكي يؤاخذ، فهل هو مجنون أو عاقل، أو صبي أو بالغ؟ وحينئذ نبحث في صفات هذا القاتل، فقد أثبتنا أن القتل عمد، فإذا كان عمداً فلابد من وجود شروط وعلامات وأمارات لكي يحكم بوجوب القصاص من هذا الجاني، وقد يكون في الجاني شيء يمنع من استيفاء القصاص منه، بحيث تكون العقوبة متعدية، فلو عاقبناه لم يتحقق العدل؛ كما لو قتلت امرأة وكانت حاملاً، فإننا ننتظر حتى تضع حملها؛ لأن الجنين لا ذنب له.
فهناك أمارات وعلامات لا بد من وجودها حتى نحكم بوجوب القصاص من الجاني.
فإذاً: أول شيء نثبته أن الجناية عمد توجب القصاص، فلابد من إثبات ما يوجب القصاص، وإثبات أهلية الجاني، والمجني عليه، فلو كان المجني عليه شخصاً يستحق القتل، وقتله وهو قاصد لقتله بما يقتل غالباً، ولكنه قصد إقامة حد من حدود الله عليه؛ كأن يكون ثيباً محصناً، ودخل عليه ووجده على الزنا، والشهود موجودون؛ فقتله، فحينئذ لا يحكم بالقصاص، لكن يعزر هذا الشخص؛ لأنه ليس هو الذي يقيم حد القتل على من زنى محصناً، وإنما نرد ذلك إلى الوالي، وحينئذ نقول: لا يقتص منه؛ لأن الدم الذي أريق ليس بمعصوم، وليس له حرمة؛ لأن الشرع أزهق هذه الروح.
ومن هنا فلابد أن يكون الجاني توفرت فيه شروط، ولا بد أن يكون المجني أيضاً توفرت فيه شروط.
فإذا تمت الشروط لاستيفاء القصاص، فيأتي السؤال: صاحب الحق إما أن يقول: أريد أن أقتص، وأولياء المقتول الذين جعل الله لهم سلطاناً على القاتل، إما أن يقولوا: نريد القصاص، وإما أن يقولوا: لا نريد القصاص، فإن أرادوا القصاص فلا إشكال، وإن لم يريدوا القصاص فما هي ضوابط العفو؟ ومن الذي له حق العفو؟ ومتى يكون عفوه معتبراً؟ ومتى لا يكون معتبراً؟ إذاً: نحتاج إلى مبحث ثالث، أو باب ثالث في العفو عن القصاص ومن هنا رتب المصنف-رحمه الله- الأبواب؛ فجعل القصاص هو الأصل، والفصل الذي يتبعه في مسألة الصفات المعتبرة لقتل العمد، وقتل شبه العمد، وقتل الخطأ، وأتبع ذلك بشروط استيفاء القصاص، ثم بعد ذلك بين مسألة العفو عن القصاص.(346/8)
القصاص في الجناية على البدن
ويبقى عندنا الجناية على الأطراف، وهي الجناية التي تكون فيما دون النفس، وذلك كما ذكرنا مثل: فقأ العين، وكسر السن، وبتر الساق، وكسر الساق، ونحو ذلك.
فهذه الجنايات التي دون النفس أيضاً منها ما يوجب القصاص، فمثلاً: لو قطع يداً تقطع يده، ولو قطع رجلاً تقطع رجله، فيمكننا إذاً أن نستوفي، ويمكننا أن نحكم بالقصاص، وليس هناك ظلم إذا ثبت ما يوجب القصاص على الجاني، وتوفرت الشروط المعتبرة للحكم بالقصاص منه، فيقطع منه مثل ما قطع، لكن في بعض الأحيان لا يمكن تحقق العدل في الجناية، مثل الكسر الذي يهشم العظام، فلا يؤمن فيه الحيف، بحيث لو أن شخصاً اعتدى على شخص، فهشم له عظماً على وجه لا نستطيع أن نفعل به مثل ما فعل، فإننا لا نأمن الحيف، فربما نأتي نقتص من الجاني فنزيد ونحيف، فإذا لم يؤمن الحيف فإنه حينئذ يمنع من القصاص.
ومثل ذلك: أن يكون الجاني شيخاً كبيراً حُطمة، أو كان فيه مرض أو عاهة؛ بحيث لو أننا أجرينا هذا القصاص لأزهقت نفسه، فإنه حينئذ لو أردنا أن نقتص منه فإن معنى ذلك: أننا نعاقبه بأضعاف عقوبته.
فكما أن الجناية على النفس لا بد من توفر الشروط المعتبرة للقصاص فيها، فكذلك أيضاً الجناية على الأعضاء والبدن لا بد من تحقق الشروط المعتبرة للحكم باستيفائه.
وبناءً على ذلك قسم المصنف رحمه الله هذا الباب إلى هذه الأقسام، وقد بحث المصنف في الجنايات أن الأصل أنها تحتاج إلى إثبات، ولا تقبل دعوى كل إنسان بجناية إلا بإثبات، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس أموال أناس ودماءهم -كما قال صلى الله عليه وسلم- فهذا يحتاج منا أن نعرف: متى؟ وكيف؟ وما هي الوسائل المعتبرة لإثبات الجناية والجريمة؟ فالتسلسل المنطقي يستلزم أن تعرف أول شيء نوعية الجناية، والحكم عليها؛ هل هي عمد أو خطأ أو شبه عمد؟ سواء كانت في النفس أو في البدن، فإن كانت الجناية على النفس فنبحث كيف يحكم بها؟ وكيف تثبت؟ ثم بعد ذلك ينظر في الجاني والمجني عليه، وشروط الاستيفاء منهما، ثم بعد ذلك ينظر في عفو الولي، أو طلبه للقصاص.
وبعد ذلك يشرع طالب العلم في دراسة الجناية على البدن والأعضاء على حدة.
فالمصنف-رحمه الله- جعل الثلاثة الأبواب الأولي في الجناية على النفس، وجعل الباب الأخير وما يتبعه منفصلاً في الجناية فيما دون النفس.
وقد تحدثنا عن هذه المنهجية حتى يكون طالب العلم على دراية قبل الدخول في التفصيل؛ فإن أكثر ما يعين طالب العلم على الفهم والضبط للمسائل: أن يكون عنده تصور مبدئي لمنهج العلماء رحمهم الله في التقسيم، ومن هنا نجد الأئمة رحمهم الله حينما يؤلفون الكتب في المسائل الفقهية أو نحوها، يذكرون الطريقة التي يتناولون بها المسائل التي يريدون بحثها وبيان أحكامها، وهذا يعطي طالب العلم ملكة وتهيؤاً وتصوراً مبدئياً يساعده على الفهم أكثر، والربط بين الأفكار.(346/9)
حرمة الاعتداء على المسلم
يقول المصنف رحمه الله: (كتاب الجنايات) جمعها المصنف-رحمه الله- بتعدد أنواعها واختلافها-كما ذكرنا- فالجناية على النفس أنواع، والجناية على البدن، والأعضاء أنواع، فقال: كتاب الجنايات؛ مراعاة للأنواع واختلافها.
أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالجناية على النفس والبدن.
والأصل في شرع الله عز وجل: أن الله عز وجل حرم على المسلم أن يعتدي على أخيه المسلم، في نفسه، وفي بدنه، وماله، وعرضه؛ فلا يعتدي على حق أخيه المسلم، وقد بينت نصوص الكتاب والسنة حصول المسئولية على كل من يعتدي.
فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى نهانا عن الاعتداء، ولكن الإنسان لا يعتدي على حق أخيه المسلم في نفس أو بدن أو مال أو عرض إلا وهناك ما يدفعه من نفس أمارة بالسوء، أو قرين سوء يحرضه، أو مجتمع يهيئ له ذلك، ويستخف بهذه الأمور العظيمة، أو يحبذ الجرم والجريمة، كما يقع في قرناء السوء-نسأل الله السلامة والعافية- والبيئات الفاسدة، فهذه الأمور هي التي تبعث على الجريمة.
ومن هنا افترقت الشريعة الإسلامية عن النظرات البشرية الضيقة في النظريات؛ فتجد النظريات تتخبط في الظلمات، فقسم يرى أن الجريمة والجناية تكون من الإنسان نفسه، فجعل الإنسان مجرماً في الأصل، وهناك من يقول: إن الإنسان ليس فيه أبداً ما يدعو للجريمة، وإنما يرغم عليها ويدفع إليها لا شعورياً، أو يدفع إليها من خلال الاعتياد، والإغراء، ويبرأ الإنسان كلاً.
وجاءت الشريعة بالعدل، والوسط، وبينت أن الله عز وجل هدى الإنسان السبيل؛ إما أن يكون شاكراً، وإما أن يكون كفوراً، وأنه إذا اعتدى أحد على أحد فإنه يتحمل المسئولية، وجعلت المسئولية على صورتين: مسئولية الدنيا، ومسئولية الآخرة؛ فحملته تبعة هذا الاعتداء، فإن كان الاعتداء على البدن أو على النفس اعتداء عمدٍ وعدوان؛ تحمل المسئولية في الدنيا؛ لأنه آثم شرعاً، ويحكم بفسقه إذا اعتدى على أخيه المسلم، وأيضاً يتحمل التبعة والمسئولية بالحكم بإثمه وفسقه شرعاً، ويتحمل المسئولية بالمؤاخذة؛ فيعاقب بعقوبته، أو إذا كانت الجناية توجب الضمان دفع الدية والأرش -أرش الجناية- على حسب التفصيل الذي سنذكره -إن شاء الله- في كتاب الديات.(346/10)
السبب في مؤاخذة المخطئ في الجنايات بالدية والكفارة
لكن
السؤال
إذا كانت الشريعة وسطاً، وقد بينت أن الإنسان مسئول، فلماذا تحمله في حال الخطأ؟ ولماذا توجب عليه تحمل المسئولية في حال الخطأ؟ فمثلاً: لو قتل خطأً؛ كأن رأى طائراً فأطلق النار عليه، فمر شخص فأصابه الرصاص، أو صاد في موضع؛ فمر طفل أو مر أحد فأصابه الرصاص فمات، فلماذا نقول: هو لم يقصد القتل، ولم يرد القتل، وما جاء من أجل أن يقتل، ولا يعرف المقتول، أو مثلاً ركب سيارته فدهس بها شخصاً.
قالوا: لأنه ما من قاتل، وما من جان -ولو كان مخطئاً- إلا وهو مقصر، ولو أنه تعاطى أسباب الاحتياط، وحافظ وصان نفسه لما وقع في هذا الخطأ، ولذلك غالباً لا يقع إضرار بغيره؛ سواء في أنفس الناس أو في أبدانهم؛ إلا وهناك شيء من التقصير.
وهذا هو الذي ركب العلماء منه مسألة الكفارة؛ فإنه يعتق رقبة، فإن لم يجد فيصوم شهرين متتابعين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكيناً، مع أنه قتل خطأ، قالوا: لأنه لا يفعل ذلك غالباً، إلا بسبب تقصير جاء ليصيد؛ فلا بد أن يضع في حسبانه أن يمر شخص، ولو احتاط لذلك فإن احتياطه ناقص؛ بدليل وجود الخطأ.
والمرأة التي تترك طفلها، وتتساهل في هذا الطفل، فلا تشعر إلا وقد سقط في البئر، أو سقط في خزان ماء، أو وقع على النار فأحرقته، وأزهقت نفسه، فإنها قد قصرت في حفظه، وقصرت في رعايته، أو وضعت طفلاً على سطح لا حاجز له، أو وضعته في مكان لا يؤمن سقوطه منه؛ فإن هذا كله من الأسباب الموجبة للمسئولية.
فحملت الشريعة الجاني -متعمداً ومخطئاً- حملته تبعة القصد بالأذية والإضرار، ومن هنا جعلت الشريعة الاعتداء على النفس الواحدة كالاعتداء على الأنفس كلها قال تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، فهو بهذه الجناية كأنه جنى على الناس كلهم، فحملته الشريعة المسئولية؛ لأن هذا الاستخفاف بقصد الجريمة يهيئ له أن يقتل كل نفس.
وأيضاً الاستهتار في حفظ الأنفس تضيع به الأنفس، فالأم التي تركت طفلها في مكان لا يؤمن أن يتعرض فيه لما يوجب هلاكه وحتفه، وكان الطفل قاصراً، غير مالك لنفسه وزمام نفسه؛ فإنها لا يؤمن منها أن تفعل ذلك بغيره، وأن يفعل غيرها مثل ما فعلت، ولكن إذا أوخذت أحجمت، وإذا علمت أنها تؤاخذ حافظت.
ومن هنا حققت الشريعة سبيل الوقاية من الجناية والجريمة، وأغلقت باب الاستخفاف بالجرائم والجنايات، وهذا من أروع ما وجد في الشريعة الإسلامية، ولذلك من نظر إلى نصوص الكتاب والسنة وجد أنها لم تعالج باب الجنايات وأضرار الجنايات من خلال التشريعات والأحكام فحسب، وإنما وضعت جميع ما يمكن وضعه من الأسباب والموانع التي تحول بين الناس وبين الاعتداء.
ولذلك إذا نظرت في نصوص الكتاب والسنة وجدتها جلية واضحة في زجر الناس عن الإقدام على الأذية والإضرار، وزجر الناس عن تعاطي الأسباب الموجبة لهلاك الأنفس، والإضرار بالأعضاء؛ فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسلم السوق حاملاً لرمحه إلا أن يمسك بنصله، والنصل: هو رأس الرمح؛ فإذا جاء يمشي بين الناس وهو غير ممسك برأس الرمح، فيفقأ عيناً، أو يجرح بدناً، أو يبقر بطناً، فيقول: والله ما قصدت، وما أدري، أو الزحام دفعني إلى هذا الشيء، فنقول: لا؛ إن الدخول إلى هذا الموضع على هذه الصفة إهمال، وتساهل في أرواح الناس، فإذا علم أنه مسئول، وأن الشريعة أوجبت عليه حفظ هذا السلاح عن الأذية والإضرار؛ فحينئذ قل أن يقع في هذا الخطأ، ولهذا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدهم المسجد أن يمسك بنصله، فيجعل رأس الرمح في يده، فلا يلمس أحداً، ولا يضر بأحد.
ولو أن شخصاً أراد أن يمزح مع آخر؛ فحمل السلاح عليه، وهدده بالسلاح، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حمل علينا السلاح فليس منا)، فالشريعة وضعت الحواجز والموانع أمام كل شر، وهذا ما يسمى بالعلاج الوقائي، فإن الجريمة تعالج بالوقاية من الوقوع فيها؛ لأنها مثل المرض والداء والبلاء، فتحتاج إلى علاج وقائي، وأيضاً علاج الزجر والعقوبة.
ومن هنا الذي يبحثه الفقهاء إنما هو المسئولية في الدنيا، وهي مسئولية الإنسان أن يحفظ، ولذلك لو أن ولداً -والعياذ بالله- قتل، أو آذى، أو أضر عمداً وعدواناً وعُرف بالجريمة حتى قتل، وعلم القاضي أن والده تساهل معه؛ عاقب والده.
فالشريعة جاءت بالعلاج الناجع، ووضع الأسباب والموانع دون الوقوع في هذه الجنايات.
إذا ثبت هذا بحصول مسئولية الدنيا، فهناك أيضاً مسئولية الآخرة؛ وهي مسئولية العبد أمام الله سبحانه وتعالى عما أزهق من نفس وأتلف من بدن وأضر، ولذلك يسُأل أمام الله عز وجل ويحاسب، فإن تاب في الدنيا عفى الله عنه، واختار بعض العلماء أن الله عز وجل يُرضي المقتول إذا تاب القاتل، كما اختاره ابن القيم رحمه الله وغيره، إذا هو تاب توبة نصوحاً وأناب إلى الله.
فإذاً: فقد جعلت الشريعة مسئولية الدنيا ومسئولية الآخرة، والذي يبحثه الفقهاء رحمهم الله هنا إنما هو في مسئولية الدنيا، من حيث القصاص؛ لأنه حكم قضائي.
ثم دراسة طالب العلم لفقه الجنايات تحتاج منه أول شيء: أن يعرف مسائل الجنايات، وتصورها، والإلمام بمقصود العلماء منها، ثم بعد أن يفهم المسائل ويتصورها، يبحث عن الأدلة التي دلت على الأحكام، فإذا يسر الله عز وجل لطالب العلم، واستطاع أن يدرس كتاب الجنايات، ويفهم ما ذكره العلماء وبينوه، ثم اطلع على أدلتهم في ذلك، حينئذ يكون قد فهم مسلك الشريعة الإسلامية في باب الجنايات.(346/11)
الكلام في الشبهات التي تثار حول الشريعة الإسلامية
وقد نشأت في زماننا مسألة يحتاج طلاب العلم، وبخاصة المتخصصين في الفقه، أن يكونوا على إلمام بها؛ وهي مسألة الشبهات التي تثار ضد الشريعة الإسلامية؛ وهي أحقر من أن تؤثر في شرع الله عز وجل، الذي يحكم ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، والذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وأحكم الحاكمين، العدل الملك الحق المبين، سبحانه وتعالى.
وهذه الشبهات قطعاً لا يخفى أنها كثرت في الأزمنة المتأخرة، وكثر التلبيس والخلط، فيتصدى لهذه الشبهات أولو العلم، الراسخون في العلم، الذين بينوا زيغها، وكشفوا عوارها، وأنها ليست واردة على الشريعة أصلاً؛ لأن الشبهة إذا جاءت فإنها تأتي من أحد شخصين: إما عدو حاقد على الإسلام والمسلمين، وإما رجل جاهل قذف الشيطان-شيطان الإنس أو الجن أو هما معاً- في قلبه شيئاً فران على القلب وأصبح الحق ملتبساً عليه، وهذا لا يؤثر إلا على ضعاف النفوس، والرعاع-نسأل الله السلامة والعافية- الجهلة الذين لا يحسنون فهم الشريعة الإسلامية.
أما النوع الأول: فهو أخبث النوعين وأخطرهما، وينبغي أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى بين وقال: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].
فالله يقول: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ): و (ما) مصدرية، أي: ودوا عنتكم، والعنت: هو الإحراج، والتضييق، فالمسلم يتألم ويتأثر حينما يجد أحداً يتطاول وهو أحقر من أن يتطاول على شرع الله عز وجل، وأحقر من أن يتكلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما كانت هذه الشهبات أثرت، وتؤثر في ضعاف النفوس، وتحدث بلبلة في أفكار المسلمين، وجب صدها؛ لأنه لا يجوز السكوت على الباطل، ولا يجوز السكوت عن الحق، فيجب على طالب العلم أن تكون عنده ملكة، وأن يكون عنده إلمام بمثل هذه الأمور.
وهناك أشياء نحب أن ننبه عليها في فقه الشبهات: أولاً: أنه لا يجوز أن يتصدى للشبهة إلا عالم متمكن من فهم الشبهات ومداخلها؛ حتى يحسن أو يحكم إغلاق هذه الثغرات وسدها وصدها، وكذلك يستطيع بأسلوبه وبيانه أن يبين للناس أنها ليست واردة أصلاً، وأنها ليست بحقيقة، وإنما هي تلبيس وباطل يراد به أذية أهل الحق، ونحو ذلك، وهذا لا يستطاع إلا من العلماء الراسخين بتوفيق من الله عز وجل.
الأمر الثاني: ينبغي ألا يشغل طالب العلم وقته بهذه الشبهات؛ لأن الأعداء -وهذا أمر مهم جداً- يريدون في بعض الأحيان أن يشغلوا أهل الإسلام عن الإسلام، فإذا ما وصلت الشبهة -على الأقل- شغلت طلاب العلم والمتمكنين بدراستها وفهمها، فيجلس فترة يدرس الشبهات، والرد عليها، وفهمها، وعندما ينتهي من هذه الشبهة يأتونه بشبهة جديدة، ثم ينتهي من هذه الشبهة التي بعدها وإذا به بعد فترة لا يستطيع أن يعلم الناس الفقه، ولا أن يتفرغ للتعليم ولا للتوجيه، وهذا ما يريده أعداء الإسلام.
ومن هنا تجد أحياناً من قد يشتغل بالشبهات لا علم عنده، فيأتي الدخل إما أناس يتصدرون لا علم عندهم، أو أناس يتصدون للشبهات ويضيعون أوقاتهم، وحينئذ يحقق أعداء الإسلام ما يريدون، فإن تصدى من لا علم ولا فقه عنده كما يقولون: إن الأحمق يضر الإنسان وهو يظن أنه ينفعه- أتى بأشياء يتكلف فيها برد هذه الشبهات، فيجعل الحق باطلاً.
لقد جاءوا بشبهة الجهاد حتى أصبح يقول: ليس في الإسلام جهاد، وإنما شرع فقط في حدود ضيقة جداً، فلا يشرع إلا لدفع العدو، والنصوص واضحة فيه لماذا في هذا؟ لأن الأعداء يريدون أن يتصدى من لا علم عنده، وهذا هو الذي تعاني منه الأمة؛ أنه قد تقع شبهات فيتحمس لردها من عنده إسلام وليس عنده فقه إسلامي، حتى تكثر الردود من أناس بضاعتهم مزجاة، أو ليس عندهم ذاك العلم، فتكثر الردود بوسيلة معينة، أو بطريقة معينة؛ فيسهل على الأعداء إيراد الشبهات على ما أجابوه، وحتى الشخص الذي يقرأ هذه الأجوبة لا تحصل عنده القناعة، فيزداد-والعياذ بالله- انطماساً في بصيرته، ومن هنا وجب رد الأمر إلى أهل العلم.
إذاً: الاشتغال بالشبهات أكثر من اللازم ليس بلازم؛ بل إنه مضيعة للوقت، ومن هنا ينبغي أن ينبه على مسألة مهمة وهي: أن من أخطر ما يخافه أعداء الإسلام على المسلمين اشتغال المسلمين بالإسلام؛ فلو أن المسلمين وطلبة العلم خاصة اشتغلوا بضبط العلم، وأحسنوه وأتقنوه؛ لما وجد أعداء الإسلام إليه سبيلاً.
وهذه القضية لها أصل في الكتاب وفي السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما بعثه الله عز وجل جاء اليهود والنصارى أهل الكتاب بالشبهات، وأوردوا شبهات على شرع الله عز وجل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت نصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في الوقوف مع الشبهات عند حدود معينة، لم تعق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العناية بالأساس، وهو تعليم الأمة وتوجيهها؛ لأنك إذا علمت الأمة فإنها لا تقف أمام هذه الشبهة المعاصرة الوقتية فقط وإنما تقف أمام كل شبهة، لأنك أعطيتها حصانة دائمة تامة كاملة؛ من شرع تام دائم كامل.
ومن هنا وجب العناية بالأصل والأساس.
وليس معنى هذا أن الرد على الشبهات ليس له قيمة، بل إن له قيمة؛ وقد بينا أنه من شرع الله، وأنه من الحق، وأنه يجب رد الباطل، لكن المقصود هو الاشتغال به أكثر من اللازم، وسواء كان هذا في الفقه أو في الأمور الأخرى.
ولذلك بين الله عز وجل أن الكفار وما يعبدون من دون الله حصب جهنم هم لها واردون، قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، قال ابن الزبرى -عليه لعنة الله-: يامحمد! تقول: إنا وما عبدنا في نار جهنم؛ فنحن عبدنا اللات والعزى، واليهود عبدوا عزيراً؛ فهم وعزير في النار، والنصارى عبدوا المسيح؛ فهم والمسيح في النار.
فهذه شبهة، وشبهة ليست بالسهلة، فهي في ظاهرها قوية، قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:57 - 58]، فما اشتغل بالشبهة؛ لأن الآية: ((إِنَّكُمْ وَمَا)): قيل: إن (ما) في الأصل لمن لا يعقل، فهي لآلهتهم المعبودة، وكل من رضي أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده؛ لأن عيسى عليه السلام لا يرضى أن يعبد من دون الله، وقد بين الله عز وجل هذا في خصومة الآخرة حينما بين أنه يسأل ابن مريم عليه السلام عن هذا.
إذاً: لم يشتغل القرآن بالشبهات أكثر من اللازم، إنما اشتغل بتكوين المسلم على منهج الله، وشرع الله.
فطالب العلم والمسلم إذا علم فقه الجنايات، وضبط فقه الجنايات، وألم بالأصل والأساس؛ لم تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، ولذلك يقولون: ما يؤذي الحسود والحقود شيء مثل الإعراض عنه.
اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله ولذلك يقول الله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119].(346/12)
الشبهات المثارة حول أحكام الجنايات والقصاص
فهؤلاء الذين يوردون الشبهات على الجنايات، وعلى من يطبق شرع الله عز وجل في القصاص، إنهم أناس يريدون شغل وقت المسلمين، وأيضاً الشبهات الأخر المراد بها: إزعاج المسلم حتى لا يتفرغ لقراءته، ولذلك كان بعض أئمة السلف رحمهم الله لما حدثت البدع والأهواء، يعرضون عن أهل البدع، وكان أيوب بن تميمة السختياني رحمه الله لما يأتي القدري ويقول له: اسمع مني كلمة واحدة-عنده شبه- فيقول: اسمع مني كلمه، فيضع إصبعه في أذنه ويقول: ولا نصف كلمة.
رحمه الله برحمته الواسعة.
أما ما علمت فقد كفاني وأما ما جهلت فجنبوني فانظر إلى المسلمين حينما كانوا على فطرتهم، وحينما كان الشخص في باديته بعيداً عن الخوض، تجده أقوى تمسكاً بدين الله؛ لأنه لم يلتفت إلى شيء غير الحق، ولا يمكن أن يقبل شيئاً بمجرد أن يتكلم به شخص، ومعلوم أن كثرة الاحتكاك بالشبهات وكثرة سماعها قد تميت القلب، وقد تحدث عند الإنسان إلفاً للمنكر، ولذلك ما يضر الأعداء شيء مثل الاشتغال بالعلم والأساس، والفقه بالكتاب والسنة، وضبط المسائل الشرعية.
ومع هذا نعود ونكرر: أن عدم الاشتغال بالشبهات وردها ليس المراد به قفل بابها، وإنما عدم المبالغة فيه، فيؤتى لطالب العلم ويقال له: لا بد أن تدافع، وأول شيء أن تعتني بتربية الأمة، وتأصيل المنهج العلمي الصحيح، وتحصن بالأساسيات.
ومن هنا إذا تعلم الناس شرع الله؛ الذي هو الأساس، وبُينت لهم الحِكم والأحكام والأسرار والمقاصد والفوائد والعوائد التي يجنيها من طبق شرع الله عز وجل؛ فإنهم يتمسكون بهذا الدين، ولا يقبلون كلمة تضاده أو تخالفه، ولكنهم إذا درسوا شبهة أو شبهات، وأفنوا فيها أوقاتهم وأعمارهم؛ فلا يستطيعون أن يقفوا أمام غيرها، ولربما أورثت الشبهة في القلب ظلمة، نسأل الله السلامة والعافية.
ومن هنا نعود ونكرر: أننا نحتاج إلى من يتخصص في رد الشبهات، ولكن لا نريد أمراً زائداً يشغل المسلم عن هذا الأساس.
وقد أحببنا أن ننبه على هذا لأنه أمر مهم جداً، وسنعرج خلال دراستنا لكتاب الجنايات على بعض الشبهات؛ ومن هنا أحب أن أنبه على أن من منهجنا -إن شاء الله- الإلمام ببعض الأمور والثغرات التي تقع في بعض الأحكام، ونبين بعض الشبهات التي أثيرت أو تثار، وكيف يجاب عليها، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يلهمنا في ذلك الصواب والسداد، كما نسأله بعزته وقدرته وجلاله وعظمته أن يقطع دابر كل من أفسد وألحد، ونسأله بعزته وجلاله أن يخرص كل من تكلم على الإسلام وأهله، وأن يقطع دابره، وأن يشتت شمله، وأن يسلبه عافيته، وأن ينزل به رجسه وعذابه.(346/13)
صدور الشبهات على وجه الاستهزاء بالدين وأهله
ومن أعظم ما تكون هذه المصائب إذا كانت على سبيل التهكم والاستهزاء، فليس هناك أعظم من الاستهزاء بالدين، ولذلك كان الأئمة والعلماء يقولون: لا يؤمن على المستهزئ أن تسوء خاتمته والعياذ بالله.
وقل أن تجد إنساناً كثير الاستهزاء بالدين، والاستهزاء بشرع الله عز وجل وأحكامه، والاستخفاف بها؛ إلا وجدته مستدرجاً من الله عز وجل، فإن أهل الشرك وعبدة المسيح وغيرهم، يقول الله عز وجل لهم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، وأما الذين استهزءوا بقراء الصحابة، وتهكموا بأهل الخير والدين، فقال الله لهم: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:66]، فجعل الله الأمر فيهم أشد، والعقوبة أسوأ، وسنة الله عز وجل معلومة ماضية، فلله عز وجل سطوات على الظالمين إذا نزلت بالظالم لم يُفلت منه، وإذا حلت به نقمة الله عز وجل فعندها: (سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
ولذلك لا يستطيع أحد أن يعرف عواقب الشر الوخيمة، وعواقب التعرض لدين الله وأولياء الله إلا إذا نظر في خواتم هؤلاء، ولا يمكن للإنسان أن يجد ذلك جلياً ظاهراً إلا إذا قرأ التاريخ، ونظر إلى عظمة هذا الرب الذي: {أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:50 - 53]، فمن قرأ عبر الزمان، واستفاد من التاريخ، يعلم أن أهل الشبهات وأهل التوهين دابرهم مقطوع، وكما أخبر الله عز وجل أن الباطل: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26]، فهذه شهادة الله عز وجل الذي وصف نفسه بصفتين عظيمتين: العليم، والحكيم، فأخبر أن هذا الباطل وأن هذا الغثاء كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
وكلما سمعت من الشبهات التي تدار على الإسلام، وأهل الإسلام، وبلاد المسلمين التي تضاد شرع الله عز وجل، فاعلم أنه: {َكسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، ولذلك جعل الله عز وجل أمرهم كالسراب، فهم في الأمر ينظرون كأنهم يجدون شيئاً، فيستدرجون، كمن يرى السراب فيلهث وراءه، (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) فوصفهم الله بأنهم ظمآنين، فالشخص الذي يرى السراب يلهث يريد الماء، (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ) أي: عندما تأتي نهايته، تأتيه قاصمة الظهر من جبار السماوات والأرض، (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) فيؤخذ بجريمته وجنايته شر أخذ من عزيز منتقم سبحانه وتعالى، ولا يحسب أحد أن الدين عبث، ولا يحسب أحد أن كلمة الله سبحانه وتعالى عبث، والحق يستمد قوته من ذاته، والله عز وجل ليس محتاجاً إلى أحد أن يدافع عنه أو يقول عنه، فالله سبحانه وتعالى له عظمته وجبروته، وهو أعلم وأقدر، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، فلا يحزن المؤمن.
وأهم شيء ينبغي أن يعتمد عليه المسلم: ألا يحزن، ولذلك يقول الله عز وجل لنبيه: {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]، فلا تحزن أبداً؛ مهما سمعت فإن هذه أمور منتهية، والباطل له جذور قديمة، قطعت وبترت وأخذت أخذ عزيز مقتدر.
لكن لا يكون هذا له أثر على القلب؛ لأنهم يريدون هذا، ولذلك يقول الله عز وجل في كتابه: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، فقال: (إن) وهو أسلوب التوكيد، وجاء بكلمة الكيد التي هي غاية المكر والعبث، وجاء بالاسم الظاهر (الشيطان)؛ لأنه لا أخبث من الشيطان الذي يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ولا يجد مسلكاً إلا دخل منه، ولأنه هو الذي أمر وسول هذا وزينه، وأتى بـ (كان) التي تفيد الدوام والاستمرار.
فالباطل والشبهات ضد الإسلام وبلاد المسلمين وأهل الإسلام مهما ترى لها من عجعجة وصخب ولغط، فإنها منتهية، مقطوع دابرها ودابر أرض أهلها، ودابر من أعانها وسول بها وقال بها، شاء أو أبى؛ إن عاجلاً أو آجلا؛ لأنه أبداً لا يمكن أن يبقى.
فلابد على المسلم أن يدرك أن الحق باق ما بقي الزمان، وتعاقب المنوان، وليعلم المسلم حقيقة أنه ليس هناك أصدق من التاريخ شاهداً على صدق الصادق، وكذب الكاذب، فإن هذه الشريعة حكمت العالم من المحيط إلى المحيط، ومع ذلك كانت العدالة الاجتماعية والسمو والرقي الاجتماعي في أبهى صوره، وأجمل حلله، وقادت العالم من المحيط إلى المحيط، وما كانت تقوده بالموازين المختلة، ولا كانت تقوده بالشعارات الطنانة، والكلمات المعسولة، والحقوق المكذوبة الملفقة، ما كانت تقوده إلا بالحق: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105]، وحيثما حل قضاء الشرع، وحكم الشرع، لقد حكم العالم والأمم والشعوب على اختلاف ألوانها وأحسابها وأعرافها وتقاليدها، وإذا قرأت التاريخ تكاد تصاب بالوله من عظمة هذا الدين وجماله ماذا تريد بعد هذا كله؟! متى وقفت الشريعة أمام قضية من القضايا لم تفصل فيها؟! ومتى وقفت أمام مسألة من المسائل ففصلت فيها فخرج الخصمان غير راضين عن حكم الله عز وجل؟! ومن هذا الذي يستطيع أن يأتي بشيء يكمل به نقصاً يزعمه في دين الله وشرع الله عز وجل؟ إذاً: عندنا حقائق واضحة تجعل المسلم كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57]، وهذا الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما هو لكل مسلم علم الشريعة؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء.
فالشريعة ليس فيها خلط، وليس فيها أهواء؛ بل إنها واضحة المعالم: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57]، فهذا هو الحق الذي كان عليه الرسل والأنبياء، وسيبقى ما بقي المنوان وتعاقب الزمان، بعز عزيز، أو بذل ذليل، فكلمة الله ماضية، وشرع الله عز وجل ماضٍ، فلا يحزن الإنسان من هذا الكيد، ومن هذه الأراجيف، ومن هذا التوهين؛ بل عليه أن يزداد استمساكاً بالحق؛ ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، وانظر إلى الأسلوب العربي؛ ففي أسلوب العرب أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فما قال الله: فأمسك الذي أوحي إليك، وإنما قال: (فَاسْتَمْسِكْ)، ومعناه: أن هناك أموراً تزلزل وتقلق وتزعج، فكلما جاءت شبهة زادت ولي الله تمسكاً بالحق، وكلما جاء ران من الباطل وزيف من الباطل انكشف به بهاء الحق ونصوعه، كما قيل: إن الذهب كلما احتك ازداد لمعاناً، وشرع الله أعز وأنفس وأطهر وأقدس من الذهب وغيره، لأنه نور من الله سبحانه وتعالى.(346/14)
أمور يجب على المسلم معرفتها عند التصدي للشبه
إذاً: يجب على المسلم أن يعلم هذه الحقائق: أولاً: العناية بضبط الشريعة، والاشتغال جل الوقت بمعرفة المسائل والأحكام، وتصورها، ومعرفة أدلتها، وعندها سيقف أمام أي شبهة.
ثانياً: إذا رفع أهل الباطل عقيرتهم، كشف زيغهم وعوارهم، ولكن بقدر، فلا يضيع الوقت؛ بل يشتغل بأبناء المسلمين؛ توجيهاً، وتعليماً، وتأصيلاً على مدرسة الحق والهدي الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمة من بعده، ثم من بعد ذلك يزداد رسوخاً بقراءة التاريخ، ومن هنا قالوا: من قرأ التاريخ ازداد عقلاً إلى عقله، وحكمة إلى حكمته، ومن قرأ التاريخ كانت له عقول بدل عقل واحد؛ لأنه تظهر له سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتحول، ولهذا لما قال الله عز وجل: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر:85]، لما بين الله عز وجل أنها سننه، وبين أنها لا تتبدل: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، فأخبر أنها لا تتحول ولا تتبدل؛ لأن كل من عرفها وكل من علم بها فسيكون على الحق الذي لا يتغير ولا يتحول.
فليعلم طالب العلم، وليعلم كل إنسان متخصص في الفقه، أنه لا يمكن أن يكون طالب علم بحق إلا إذا كان عن قناعة تامة، واستفاد من العلم بالشريعة، ومن معرفة سنن الله عز وجل في خلقه من بقاء الحق، وبطلان الباطل، وأن الله سبحانه وتعالى لا يضره كيد الكائدين: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)، وهو سبحانه أعلى وأجل من هذا كله، وكما قلنا أن الإنسان لا يمنع أن يكون عنده إلمام بقدر.(346/15)
ضرورة رد الشبهات وبيان زيفها وباطلها
وأنبه على أننا لا نمنع من رد الشبهات بقدر؛ فقد يقف طالب العلم موقفاً واحداً يرد فيه شبهة؛ يرضى الله عنه رضى لا يسخط بعده أبداً، وقد يأتي إنسان يريد أن يلبس الحق بالباطل، فتقف في وجهه فتخرس لسانه، وتكتم بيانه، وتظهر عواره، وتكشف عيبه، فيكتب الله عز وجل بذلك لك من الأجر ما لم يخطر لك على بال.
فهذا حسان بن ثابت رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله شكر لك قولك: جاءت سكينة كي تغالب ربها وليُغلبن مغالب الغلاب).
فانظر: إن الله شكر لك؛ جبار السماوات والأرض يشكر لـ حسان بيتاً من الشعر قاله، فجاءه الشكر من رب العالمين.
فمن قال كلمات، فكشف للأمة بها عوار أهل العوار، وزيفهم، فهو على خير.
ومن هنا أنبه أيضاً على قضية: أن هناك أناساً فضلاء، وأناساً لهم جهود طيبة في كشف الباطل، والوقوف أمام أهل الزيغ والباطل، تذكر فتشكر، فينبغي أن نشد على أزرهم، ودائماً نشعر أننا يكمل بعضنا بعضاً، ولا ننظر إلى غيرنا بالنقص، فلن تستطيع أن تجد جمال هذا الإسلام وعظمته إلا إذا أحسست أن الذي يقف في خندقه -يذود وينافح عن الإسلام- أنه أخوك، وأنه ينفح عن الدين، وعن إسلامك؛ فتحبه، وتدعو له بالخير، وترجو له الخير، وما وجدت منه من نقص كملته، وما وجدت من عيب سترته، وحرصت على أن تكون معه، كما يكون الأخ مع أخيه، فإن هذا أمر مهم جداً، ونحن والله نحب أناساً تفرغوا للفكر والدعوة، وسطعوا بكلمات نتمنى أن نلقى الله بهذه الكلمات، وأناساً لهم ردود على الشبهات، وعلى أهل البدع والأهواء والشكوك والزيف، نتمنى أن نلقى الله بأقوالهم وأعمالهم.
فلا يحتقر أحد مهمة أحد، إنما أردنا أن ننبه إلى أنه لا يشتغل بهذه الأشياء أكثر من اللازم، وأما من تصدى عن علم ودراية، وغار على الحق، وتفطر قلبه، وتمعر وجهه من أجل الحق، فنسأل الله أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يكثر من أمثاله، وأن يثبت أهل الحق على الحق، وأن يسدد ألسنتهم، وأن يصوب آراءهم، وأن يجمع شملهم، وأن يجمع بين قلوبهم، وأن يصلح بينهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(346/16)
الأسئلة(346/17)
حكم من فرط في دفع الخطر عن نفسه
السؤال
من فرط في حفظ نفسه، كمن سافر في أرض بها أخطار، أو قصر في تعاطي أمور السلامة، فهل هو مؤاخذ شرعاً؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن النصوص واضحة في عدم جواز إلقاء الإنسان بنفسه في التهلكة، وتعاطي الأسباب التي تضر به، وتضر بغيره، ولذلك قال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز المخاطرة بالأنفس والأرواح.
ومن أمثلة ذلك: أن يركب البحر-كما ذكروا في القديم- عند هيجانه، أو تكون السفينة التي يركبها، أو المركب الذي يركبه به عوار، ولا يؤمن غرقه، ونحو ذلك في زماننا، وقد كانوا في القديم ينهون عن السفر في الأراضي المسبعة -أي: ذات السباع- والأراضي التي فيها هوام، مثل الحيات والعقارب، فإذا نام فيها، أو -مثلاً- نام في بطون الأودية بالليل، وتعاطى أسباب الإهمال؛ فهذه موجبة لمسئولية الآخرة، لكن القاضي لو اطلع على شخص فعل هذا الفعل فإنه يعزره.
ومن هنا فإن الألعاب الخطيرة التي لا يؤمن معها إزهاق الأنفس محرمة شرعاً، فإذا جاء مثلاً يعبث بسيارته، أو يعبث بدراجته، أو يعبث بنفسه بألاعيب قد يدق بها عنقه، أو تنكسر بها رجله، واطلع القاضي على هذا؛ فإنه يعزره شرعاً، وهذا معروف في الفقه الإسلامي: أن التلاعب بالأنفس بتعريض نفسه أو نفس غيره لهلاك، هذا فيه التعزير، فإن مات فإنه مسئول أمام الله عز وجل، وحينئذ تنتقل الحكومة من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة؛ لأن هذه الأخطاء من الجنايات، والأخطاء المتعلقة بالشخص نفسه لا ينتقل فيها إلى ورثته، ولا يتحمل ورثته شيئاً، ولذلك يتحمل الإنسان فيها مسئولية نفسه، ويلقى الله عز وجل بتبعة ذلك.
والله تعالى أعلم.(346/18)
متى يقول المصلي: (اللهم أعني على ذكرك ... )
السؤال
قول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، هل تكون بعد الانتهاء من الصلاة، أو عقب التشهد الأخير؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه اللفظة وهذا الذكر ثابت في حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معاذ! والله إني أحبك؛ فلا تدعن كلمات تقولهن دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
فقوله: (تقولهن دبر كل صلاة).
فيه وجهان للعلماء: فبعض أهل العلم يقول: دبر الشيء منه، وبناءً على ذلك يقولها بعد انتهائه من التشهد في الأدعية التي تقال.
وقال طائفة من أهل العلم: المراد دبر كل صلاة؛ أي: بعد أن تنتهي من الصلاة، فجعلها من مقول القول الذي يحكى، والصلاة في أصلها عمل، فجعلها تبعاً للعمل، فجعلها من الجنسين: جنس المقابلة، أي: إذا صليت وفعلت الصلاة فقل، فجمع له بين عبادة القول والعمل، فقالوا: يقولها، ويكون مقصوده بدبر كل صلاة؛ أي: أنه يجعلها عقيب السلام، بعد الاستغفار وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام).
وعلى كل حال: فالأشبه أنها تقال بعد السلام، وإن قالها داخل الصلاة يتأول قول من قال أنها من الصلاة؛ فلا بأس، لكن الأقوى والأشبه -كما ذكرنا- أنها تقال دبر الصلاة؛ أي: بعد الانتهاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين دبر كل صلاة، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) فقال: دبر كل صلاة، وهذه بالإجماع لا تقال داخل الصلاة، فدل على أنه من تنويع الطاعة، أي: بعد فراغك من عمل الصلاة.
والله تعالى أعلم.(346/19)
حكم الخصم الجزائي إذا غاب الموظف
السؤال
إذا غاب العامل عن العمل دون عذر، وقد أخبره صاحب العمل أنه إذا غاب فالجزاء خصم راتب يومين مقابل كل يوم، فهل يجوز لصاحب العمل هذا الفعل؟
الجواب
لا يجوز إلا إذا أراد أن يأكل أموال الناس، ويظلم الناس حقوقهم -نسأل الله السلامة والعافية- يقول الله في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجل استأجر أجيراً فلم يوفه أجره)، والوفاء: أن تعطيه أجرته تامة كاملة.
وبناءً على ذلك فإن نصوص الكتاب والسنة واضحة في تحريم هذا الأمر؛ لأننا إذا قلنا: إن العامل قد عمل شهراً إلا يوماً واحداً، فجاء -بناءً على غيابه في اليوم- وأنقص منه أجرة ذلك اليوم مضاعفاً بيومين مثلاً، فأخذ قط يومين عقوبة، ففي هذه الحالة لم يوفه أجره؛ لأن أجره أجرة تسعة وعشرين يوماً، وهذا أعطاه أجرة ثمانية وعشرين يوماً، وإذا قال: اليوم بثلاثة أيام؛ فقد أعطاه أجرة سبعة وعشرين يوماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فلم يوفه أجره) >فإن قال قائل: هذا من باب العقوبة بالمال.
فنقول: في هذه الحال تصبح إجارة فيها شبهة الربا؛ لأنه قال: إذا عملت العمل فلك عشرة، وإذا ما عملته فسآخذ منك عشرين، وهذا أمر واضح جلي، فليس له مدخل، ثم هذا لا يملك أموال الناس حتى يعاقبه في ماله، فأموال الناس محترمة، وحقوق العامل تسعة وعشرين يوماً، أن يعطى أجرة تسعة وعشرين يوماً، وإذا ضيع من أجرته ساعة واحدة، بل دقيقة واحدة؛ فسيقف بين يدي الله ويسأله عنها، شاء أم أبى، فيسأل عن هذه الأجرة، فلابد وأن يوفيها تامة كاملة (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته)، فدل على أنه باطل وظلم.
وبعضهم يقول: إن هذا جائز ولا بأس به؛ وهو من باب التعزير بالمال، فنقول: التعزير يكون في مسائل خاصة، أما التعزير بالمال ففيه شبهة، وجمهور العلماء على تحريم التعزير بالأموال؛ لأن النصوص واضحة: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم)، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} [البقرة:188]، فكلهم يحرمون العقوبة بالمال، لكن على القول بجوازها: إنما ذلك لولي الأمر، والتعزير مسلك قضائي تشريعي خاص، ولا يتوسع فيه على مستوى الأفراد.
فعلى مستوى الأفراد هناك معاملات وحقوق بين الشركة وبين العامل بين المؤسسة وبين العامل بين الأجير والمستأجر، وهذا الأجير له حق يأخذه، وعليه حق يؤديه، لا يظلم ولا يُظلم، فإن غاب يوماً يخصم منه غياب يوم، وكان غاب يومين يخصم منه غياب يومين.
وقد يقول: إنه متكاسل فلابد من تأديبه سبحان الله! انظر إلى نفسك متى صليت صلاة مع الإمام من أول تكبيرة الإحرام؟ كم تتخلف عن الصلاة؟ وكم يذهب عنك من حقوق الله عز وجل؟ ومع هذا تذهب وتدقق مع عباد الله والله ما شدد عبد على عباد الله إلا شدد الله عليه، ومن عامل الناس بهذه الأذية والإضرار؛ عامله الله بها في الدنيا والآخرة.
ولذلك فإن من يدخل هذه المداخل يظلم الناس، ويجر على نفسه ويلات لا تحمد عقباها، فأوصي السائل، وأوصي من يعمل هذا العمل، وأوصي من يطلع على من يعمل هذا العمل؛ أن يحذره العقوبة من الله عز وجل، والعمال لهم حقوقهم، فإذا عملوا أيامهم فيجب إعطاؤهم أجورهم كاملة تامة بدون منة، وأما بالنسبة للعقوبة؛ فإذا أعجبك عمله وانضباطه أبقيته، وإذا لم يعجبك ولم يناسبك فابحث عن غيره، أما أن تتسلط على ماله، أو تتسلط على عرضه بالسب والشتم والتوبيخ، أو يكتب له خطاباً يؤنبه ويؤذيه ويضره، فهذا مما ليس في شرع الله عز وجل، فلا يجوز هذا العمل، لا في الأمور الخاصة، ولا في الأمور العامة.
والله تعالى أعلم.(346/20)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب)
السؤال
نرجو منكم بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب)؟
الجواب
هذا الحديث أسلوبه أسلوب تحذير، ومحقرات الذنوب: هي الذنوب الصغيرة التي يحتقرها الإنسان، فإذا فعلها واحتقرها ألفها، فلا تزال به حتى تتعاظم فتهلكه-نسأل الله السلامة والعافية- ومن هنا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تنظر إلى معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت).
فالإنسان ينظر إلى عظمة الله جل جلاله، ويستعظم كل ذنب في جنب الله سبحانه وتعالى، وهذا مما يدعوه إلى الإحسان، وإلى الندم، وإلى التوبة النصوح، وقد قالوا في الحكمة: إن الجبال من دقائق الحصى، فالجبل كما تراه هو من دقائق الحصى، وقد ترى الكوم من الرمال متناهي العظمة، ولكنه من ذرات يسيرة، فإذا أحاطت الخطيئة بالإنسان أوبقته-والعياذ بالله- وأهلكته.
والله تعالى أعلم.(346/21)
حكم التدليس في عمر الزوج أو الزوجة
السؤال
هل الزيادة في عمر الزوجة عما أُخبر به الزوج تعد عيباً من عيوب النكاح؟
الجواب
هذا غش، فإذا كان عمرها أربعين أو خمسين أو ستين، فتأتي تقول: إن عمرها ثلاثون سنة، أو خمس وعشرون سنة، فإن هذا غش بلا شك، فإذا كانت كبيرة السن ولم تخبر بالحقيقة فقد غشك.
والمرأة قد تخاف من كبر السن، ولذلك يقولون في الحكمة: إذا اختصم النساء فاعلم أنهن في السن يختصمن.
وعلى كل حال: لا يجوز الإخبار بسن -لا من الرجل ولا من المرأة- خلاف الحقيقة؛ بل المنبغي أن يكون هناك صدق؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
أما بالنسبة للحكم الشرعي: فهذا يرجع فيه إلى القضاء، والعيب المؤثر عند العلماء: هو الذي يؤثر في الجماع، ويؤثر في الحياة الزوجية، سواء من الرجل أو المرأة؛ لأن السؤال: هل هذا عيب يعطي الخيار للمرأة، أو الرجل هذا فيه نظر: فإذا كان سنه يؤثر على حياة المرأة، ويضر بها، ويؤثر على حقها في العشرة الزوجية؛ فنعم، ولذلك نرد هذا إلى القاضي، لكن الأصل في السن أنه لا يؤثر، فقد تجد الرجل مثلاً وعمره أربعون سنة، ويخبر أن عمره مثلاً خمساً أو ثمانياً وثلاثين، فالفارق يسير، فلا يكون نقصاً يوجب الخيار، بل قد يكون عمره خمسين سنة، فيقال: إن عمره مثلاً ثلاثون سنة، ولكن تكون فيه قوة الشباب، ويعطي المرأة حقها، ولا يضر بشيء من حقوقها، فالعقد قائم ولا يؤثر ذلك عليه، مادام أنه يقوم ويؤدي حقوق الزوجية.
فهذا ليس عيباً يؤثر في النكاح؛ بحيث أنه يوجب الخيار، والأصل -كما تقدم معنا في النكاح- أن العيوب المؤثرة مثل: عيوب الفرج التي تمنع من الاستمتاع، أو تمنع من الجماع أصلاً كالعنين والمجبوب، فهذه كلها عيوب مؤثرة، أما بالنسبة للسن فإنه ليس بمؤثر على كل حال.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(346/22)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [2]
ينقسم القتل إلى ثلاثة أقسام: قتل عمد، وقتل خطأ، وقتل شبه عمد، ولكل قسم شروطه وضوابطه، فيشترط في قتل العمد أن يكون القاتل قاصداً قتل آدمي معصوم الدم، وأن يقتل بما يغلب على الظن موته به، فإذا توفرت هذه الشروط وجب القصاص إلا أن يعفو ولي الدم.(347/1)
أقسام القتل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهي عمد يختص القود به بشرط القصد].
تقدم معنا تعريف الجناية، وأن مراد العلماء رحمهم الله بها: الاعتداء على النفس والبدن، سواء كان ذلك بالإزهاق، أو بإتلاف الأعضاء وجرح البدن.(347/2)
القتل العمد
يقول رحمه الله: (وهي عمد يختص القود بشرط القصد).
الضمير عائد إلى الجنايات، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن تكون الجناية عمداً، وإما أن تكون الجناية خطأً، وإما أن تكون شبه عمد.
وقد بينا أن هذا التقسيم الذي ذكره العلماء رحمهم الله هو أصح مذاهب العلماء في المسألة، وهو مذهب جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهو قضاء عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وأئمة التابعين، وهو مذهب الجمهور من الأئمة الأربعة.
قال رحمه الله: (وهي عمد).
يقال: عمد إلى الشيء إذا قصده، ولا يكون العمد عمداً إلا إذا وجد فيه القصد، وهذا النوع من الجناية هو أعظم أنواع الجناية وأشدها.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم قتل النفس المحرمة؛ لدليل الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب: فقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92]، فبين أن المؤمن لا يقتل أخاه المؤمن عمداً {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، فهذه أربع عقوبات، كل واحدة منها من الوعيد الشديد من الله سبحانه وتعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً)، فالأصل أن المؤمن لا يتعمد قتل أخيه المؤمن، ولكن إذا تعمد وقتله عمداً وعدواناً فإنه قد غضب الله عليه ولعنه، وجعل جهنم جزاءه وساءت مصيراً، وأعد له العذاب العظيم فيها، وهذا من أشد ما يكون؛ فإن الله عز وجل إذا رتب العقوبة مكررة على الشيء دل على عظمه.
وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، قال بعض العلماء: (أنفسكم) أي: إخوانكم؛ لأن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، ولذلك قال: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61]، قيل: على إخوانكم، فجعل المؤمن مع المؤمن كالشيء الواحد؛ ولأنه إذا قتل أخاه المسلم فقد قتل النفس المؤمنة، فلا يتورع عن قتل أي نفس مؤمنة أخرى.
وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33]، فحرم الله قتل النفس المحرمة ونهى عن ذلك، والنهي يقتضي التحريم كما هو معلوم.
وكذلك جاءت نصوص السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين حرمة قتل المسلم بدون حق، حتى قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: (اجتنبوا السبع الموبقات) والموبقات هي التي تهلك أصحابها -والعياذ بالله- وهي جمع موبقة، ترهنه حتى تأتي عليه وتهلكه والعياذ بالله، وذكر منها: (الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)، فقتل النفس التي حرم الله بغير حق من الموبقات المهلكات، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً).
أي: لا يزال في فسحة ورحمة ما لم يقع في الدم المحرم -والعياذ بالله- لأنه موبق ومهلك لصاحبه.
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وكذلك جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه اقتص من القاتل، كما في حديث اليهودي الذي قتل الأنصارية.
والإجماع منعقد على تحريم القتل، وأنه من عظيم الذنب وشديد الذنب بعد الشرك بالله عز وجل، ولذلك جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه بعض أصحاب السنن: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل المؤمن)، أي: بدون حق، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه وقف على الكعبة فقال: (إنك عند الله بمكان -أي: محرمة معظمة- وإن دم المسلم أعظم عند الله منك)، أي: أن دم المسلم المحرم أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا ومن الكعبة ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم القتل بدون حق، وأنه من الإفساد في الأرض، وما من أمة ينتشر بينها القتل إلا أصابها البلاء العظيم.
ولذلك إذا أراد الله بقوم شر وبلاء وفتنة جعل بأسهم بينهم -والعياذ بالله- فقتل بعضهم بعضاً وتسلط بعضهم على دماء بعض.
فالقتل العمد مجمع على تحريمه، إلا إذا وجد السبب الموجب للقتل، وأذن الله في القتل وأحل دم المقتول بالدلائل الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(347/3)
وجوب القصاص في القتل العمد
وقوله: (يختص القود به) أي: القصاص، يقال: قاد فلان من فلان إذا اقتص منه، والأصل أن قتل العمد هو النوع الوحيد الذي يوجب لأولياء المقتول المطالبة بدم القاتل.
فإذا توفرت شروط القتل بكونه قتل عمد وعدوان، فإنه يمكن أولياء المقتول من القود من القاتل.
كما قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33]، وهذا السلطان هو سلطان الحق الذي بينه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال لولي المقتول: أما أن تأخذ بحقك فنقتل من قتل وليك، أو تعفو وتكون لك الدية، أو تعفو عن القصاص والدية.
وهذا الأمر متفق عليه بين العلماء رحمهم الله، وهو أن قتل العمد هو وحده الذي يوجب القصاص، وأن ما عداه -وهو قتل الخطأ وقتل شبه العمد- لا يوجب قصاصاً ويوجب الدية، ويخير الولي بين الدية وبين العفو، إن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا.
ولذلك قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178].
وقد كان في شرع من قبلنا أن القاتل يقتل، كما في شريعة اليهود، ولا عفو ولا دية، فخفف هذا الحكم ووضع هذا الإصر الذي كان على اليهود في شريعة عيسى عليه السلام، فقيل لأولياء المقتول: إما أن تقتلوا قصاصاً، وإما أن تأخذوا الدية، وجاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بالتخفيف والرحمة، فخير بين هذه الثلاثة الأشياء: القتل الذي هو القصاص، أو أخذ الدية، أو العفو بدون قتل ولا قصاص.
فالشاهد: أن العمد يختص به القود، وقد دل على هذا القود دليل الكتاب كما ذكرنا من الآيات: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، وكذلك دل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، والقاعدة: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا خلافه.
وقد دل على ذلك دليل السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقاد وإما يودى).
فقول: (إما أن يقاد) أي: يمكن من القود والقصاص، (وإما أن يودى) أي: يعطى الدية؛ فهو بخير النظرين، إن شاء هذا، وإن شاء هذا.
أما لو أسقط حقه وعفا فله ذلك.
إذاً: قوله: (يختص القود به) محل إجماع، أنه لا قود ولا قصاص في قتل الخطأ، فلو أن شخصاً خرج إلى البر للصيد فرمى حيواناً، فسقط رجل بينه وبين الحيوان فقتله، فبالإجماع أنه لا يقتل به؛ لأن الخطأ لا يوجب القود، وكذلك أيضاً شبه العمد لا يوجب القود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتص في شبه العمد، فقد جاء في الصحيحين: (أنه اقتتلت امرأتان من هذيل) أي: اختصمتا وحصل بينهما شجار وقتال (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وجنينها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبدٌ أو وليدة، وقضى بدية المرأة على العاقلة)، أي: على عاقلة المرأة، مع أنها وقعت في حالة الخصومة والشجار؛ لكنه ليس هو بقتل عمد، وإنما هو قتل شبه العمد.
وهذا يدل على أنه لا يوجب القصاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به.
فلا قتل الخطأ ولا قتل شبه العمد يوجب قصاصاً، ومن هنا قال المصنف رحمه الله: (وهي عمد ويختص القود به) أي فلا قصاص إلا في قتل العمد والعدوان.
وقوله: (بشرط القصد) أي: بشرط وجود قصد القتل، فلابد أن يقصد القاتل وأن تكون عنده نية للقتل، وأن يقصد قتل المقتول ولا يقصد قتل غيره، فإذا قصد القتل، والمقتول الذي قصده معصوم الدم، وتوفرت فيه الشروط المعتبرة؛ فإنه يجب القصاص.
إذاً: لا يمكن أن يحكم بكون الإنسان قاتل عمد ويوجب القصاص عليه إلا إذا وجدت عنده نية للقتل -الذي يسمونه القصد- والأمر الثاني: أن يقتل بشيء يزهق، كما سيأتي -إن شاء الله- في شروطه وأن يكون قاصداً قتل المقتول نفسه، فيقول: أردت قتل فلان، والعياذ بالله!(347/4)
القتل شبه العمد
قال رحمه الله: [وشبه عمد].
شبه الشيء مثيله ونظيره، والمشابهة: المشاكلة والمقاربة في الأوصاف والصفات، وشبه العمد: هو النوع الثاني من القتل، وله ثلاثة أسماء: شبه العمد، وعمد الخطأ، وخطأ العمد.
فهذه كلها من أسماء شبه العمد.
وهذا النوع الثاني قد أثبته جمهور العلماء كما سنبينه إن شاء الله، وهو قضاء عمر وعثمان وعلي وجمهور الصحابة رضي الله عنهم، وهذا النوع بين الخطأ وبين العمد، فإن فيه مشابهة للخطأ من وجه، وفيه مشابهة للعمد من وجه، ولذلك يقال له: عمد الخطأ، ويقال له: خطأ العمد.
ودليله: ما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد -قتيل السوط والعصا والحجر- مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها)، وهذا الحديث فيه فوائد: أولاً: ثبوت القسم الثالث من أقسام القتل، والتي هي: العمد والخطأ وشبه العمد، الذي هو الوسيط بين العمد والخطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد)، فأثبت قسماً ثالثاً وسيطاً بين العمد والخطأ، وهذا محل الشاهد.
ثانياً: أنه يوجب الدية ولا يوجب القصاص؛ لأنه قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد)، وفي بعض الروايات: (قتيل خطأ العمد -قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل)، فبين أن فيه الدية وليس فيه قصاص، وهذا يدل على أنه لا يقتص ممن قتل بهذا النوع.
وستأتينا ضوابط شبه العمد.
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثالاً لقتيل شبه العمد، فقال: (قتيل السوط والعصا والحجر)، فكل آلة في الغالب غير قاتلة إذا كانت مستخدمة في القتل فهو من شبه العمد، أما إذا كانت الآلة في الغالب قاتلة فهذا عمد وله ضوابطه التي سنذكرها.
إذاً: بين النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا محل الشاهد- أن هناك قسماً ثالثاً، وهو شبه العمد.
ويكون في حال الشجار والخصومة مثل النزاع في حال اللجج والخصومة، فيأخذ العصا ويضربه فيكون فيها حتفه، وتكون العصا التي ضرب بها غير كبيرة، أما لو كانت كبيرة الحجم جداً بحيث أنها تقتل غالباً فلا إشكال.
وكذلك أيضاً أن يكون الضرب في غير مقتل، فلو أخذ عصا صغيرة ولكنه ضرب في مقتل فهو عمد.
فيشترط أن تكون الآلة لا تقتل غالباً، وأن يكون الضرب في غير مقتل، وأن يكون المضروب مثله يتحمل مثل هذا الضرب.
فلو كانت العصا لا تقتل، ولكنه كرر الضرب على وجه يقتل غالباً، فهذا قتل عمد، ولو أنه ضرب بها في مقتل، والغالب أن الضرب في هذا المكان يقتل، فهو عمد، مثل جهة الخصية والأنف، وكالضرب على جهة القلب، والضرب على المقاتل المعروفة، فهذه إذا حصل الضرب لها، ولو كانت الآلة لا تقتل غالباً، لكن الموضع يقتل غالباً، فهو من العمد.
وكذلك أيضاً كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: قتيل الحجر، كأن يرميه بحجر والحجر لا يقتل غالباً، بحيث لا يكون كبير الحجم، فهذا من شبه العمد أيضاً.
فإذا كان الحجر يقتل غالباً، فإنه حينئذ قتل عمد.
لكنه إذا كان حجراً لا يقتل مثله غالباً والموضع الذي ضربه فيه لا يقتل، فإننا نغلب القدر وأنه ليس بالآلة ولا بالقصد، فالقصد أنه لا يريد القتل؛ لأن الذي قتل لا يريد القتل، فحينئذ يقال: هذا شبه عمد، فيرتفع عن الخطأ وينزل عن العمد يرتفع عن الخطأ فديته مغلظة يشدد فيها؛ لأنه يوجب الدية، وحينئذ يقال: تغلظ الدية، كما سيأتينا إن شاء الله، وينزل عن العمد فلا يوجب قصاصاً، وسيأتي إن شاء الله بيان ضابطه.(347/5)
قتل الخطأ
قال رحمه الله: [وخطأ].
هذا هو القسم الثالث من أقسام القتل، والخطأ: ضد الصواب، وأخطأ في الشيء إذا لم يصبه، والمراد هنا: أنه لا يقصد القتل ولا يريده، وهو يقع على صور منها: أن يرمي شيئاً يظنه صيداً فيصيب آدمياً ويقتله، وهو معصوم الدم، أو -مثلاً- يأتي بقصد الإحسان، كالطبيب يريد أن يعالج، فيهمل في بعض الأشياء بدون قصد للقتل، فيحصل به إزهاق النفس وموت المريض ونحو ذلك، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عليه.
فهذه الثلاثة الأقسام: العمد، وشبه العمد، والخطأ.
أجمع العلماء رحمهم الله على أن القتل يكون عمداً ويكون خطأً، والخلاف فقط في شبه العمد هل هو قسم أو لا؟ وهناك نوع رابع يسميه بعض العلماء: (جاري مجرى الخطأ)، وقد نتعرض له إن شاء الله في أقسام الخطأ.(347/6)
ضوابط وشروط قتل العمد
قال رحمه الله: [فالعمد أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به].
بعد أن بين المصنف أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام، سيضع ضابطاً لكل قسم منها، ثم بعد ذلك سيتحدث عن الصور التي يحكم فيها بقتل العمد، والصور التي يحكم فيها بقتل شبه العمد، والأمثلة أيضاً والصور على قتل الخطأ، حتى يستطيع الفقيه وطالب العلم أن يميز بين هذه الثلاثة الأقسام.
فشرع رحمه الله في ضابط قتل العمد.(347/7)
القصد
قال رحمه الله: (أن يقصد) هذا هو الشرط الأول، وهو أن يكون قاصداً للقتل -والعياذ بالله- بمعنى: أن يقتل ويزهق النفس المحرمة بنية، وإذا تخلفت النية فليس بعمد، ولذلك قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5]، فجعل قصد القلب للشيء عمداً، ومن هنا قالوا: لا يمكن أن يحكم بقتل العمد إلا إذا وجد قصد ونية للقتل.
إذاً: الشرط الأول أن تكون عنده نية، فلو أنه رمى ولم يقصد القتل، كأن يرمي صيداً وهو لا يقصد القتل، ومثل المعلم يعذب طالباً ثم يموت الطالب، فهذا علم يقصد القتل وإنما قصد التأديب، فإذا أردنا أن نحكم بالعمد فلا بد من وجود نية للقتل.(347/8)
أن يعلم كونه آدمياً معصوم الدم
ثانياً: أن يعلم كونه آدمياً، فلو أنه رأى شيئاً فظن أنه حيوان أو ظبي أو وعل -كأن يكون في البر- فرماه فوجد أنه آدمي، أو رأى شخصاً نائماً فظنه حيواناً -صيداً- فقتله، أو ظنه سبعاً مفترساً فقتله، فإنه لم يقصد آدمياً معصوم الدم، ولم يرد قتل الآدمي، وإنما أراد قتل السبع ليدافع عن نفسه، أو أراد قتل حيوان صيداً.
إذاً يشترط وجود القصد، وأن يكون المقصود آدمياً، فخرج قتل الحيوان، فإذا قتل حيواناً فلا يوجب القصاص.
وخرج بقوله: (معصوماً) غير معصوم الدم، كأن يكون حربياً، ففي الجهاد إذا قتل المسلم الكافر فإنه قتل غير معصوم، فلا يوجب هذا القتل قصاصاً عليه.
إذاً: الشرط الأول: القصد للقتل.
والشرط الثاني: أن يكون المقصود والمقتول معصوم الدم، فخرج غير معصوم الدم.
ومن هنا فلو صال على الإنسان شخص يريد أن ينتهك عرضه، أو يريد أن يقتله، فجاء ودفعه وعلم أو غلب على ظنه أنه إذا لم يقتله فسوف يقتله أو يؤذي عرضه، ولا مناص من الخروج من هذا البلاء إلا بقتله فقتله -كما سيأتينا في دفع الصائل- فإنه لا يعتبر قتل عمد وعدوان؛ لأن هذا الصائل أسقط حرمته بالاعتداء على أعراض الناس؛ لأنه أصبح غير معصوم بهذا الاعتداء، فإذا أراد شخص أن يقتل شخصاً فجاءه وشهر السلاح عليه, فهذا الذي شُهر عليه السلاح مظلوم، فأراد أن يدفع عن نفسه فرفع السلاح وعلم أنه إذا لم يقتله فسوف يقتله، فإنه قد قتل غير المعصوم، فخرج الحربي وخرج الصائل لعدم عصمة دمهما.(347/9)
إزهاق الروح
الشرط الثالث: أن يقع القتل وأن يحصل، فلو أنه نوى وقصد المعصوم ولم يحصل القتل؛ فلا يجب القصاص.
مثلاً: لو جاء رجل وهجم على شخص يريد أن يقتله عمداً وعدواناً، وكان يعلم أن هذا الشخص معصوم الدم وأنه محرم النفس، فرماه بسلاحه فكسر رجله، فهو يقصد القتل والمعصوم، ولكن لم يقع القتل، فلا قصاص بالقتل، وإنما يقتص منه بمثل ما آذاه، والجروح قصاص، وينظر في الجرح هل مثله يمكن القصاص به أو لا؟ وسيأتينا في قصاص الجرح.
إذاً: يشترط وجود القصد، وأن يكون المقصود آدمياً معصوم الدم، وأن يقع القتل.(347/10)
أن يكون القتل بما يغلب على الظن موته به
الشرط الرابع: أن يكون هذا القتل بواسطة، وهي الآلة أو الوسيلة أو السببية المفضية للهلاك، كما سيأتي -إن شاء الله- في ضوابط قتل العمد، فقتل العمد ينقسم إلى قسمين -سنبينهما إن شاء الله-: المباشرة والسببية.
فإذا قصد، وكان المقصود آدمياً معصوم الدم، وحصل القتل، فإنه ينبغي أن يكون القتل، فإنه بآلة يغلب على ظننا أنه يقتل مثلها، فتكون الآلة جارحة، مثل السكاكين والسيوف كما سيأتينا إن شاء الله، وسنذكر ضوابط الآلات المؤثرة.
إذاً: هذه الأمور لا بد من توفرها للحكم بكون القتل قتل عمدٍ، فلو كانت الآلة التي استخدمها لا تقتل غالباً، مثل العصا الصغيرة ضربه بها في غير مقتل ومات الشخص، فهو هنا قد قصد القتل، والشخص المقصود معصوم الدم، وحصل القتل والآلة لا تقتل غالباً، فيقولون: الأشبه أنه وافق القدر فمات؛ لأن الغالب أنه لم يمت بسبب الآلة.
وبناء على ذلك لا بد أن تكون الآلة قاتلة، أي: يغلب على الظن أن تكون الآلة قاتلة كما سنذكر إن شاء الله.
هذا بالنسبة لقتل العمد، فلا يحكم بقتل العمد إلا عند وجود هذه الشروط وهذه الصفات المعتبرة للحكم بوصف القتل أنه قتل عمد.(347/11)
القتل بالمباشرة والسببية
قال رحمه الله: [مثل أن يجرحه بما له مور في البدن].
الآن سندخل في تفصيلات تحتاج إلى شيء من التركيز، وقبل أن ندخل فيها سنقدم بمقدمة نرجو من الله أن ييسر على طالب العلم فهم هذه الأمور، فنقول: إن قتل العمد إذا حصل فإما أن يكون بالمباشرة وإما أن يكون بالسببية.
والقتل المباشر: هو أن يباشر القاتل إزهاق النفس والروح، فيأتي تلف النفس من مباشرته لا بواسطته؛ كما لو أخذ السكين وطعن بها في مقتل، فقد باشر القتل، والقتل مسند إليه؛ لأن الفعل والآلة تحت تحكمه وفعله، فحينئذ هو القاتل، ويقال: قتل مباشرة.
وفي زماننا كما لو أخذ المسدس وأطلق العيار الناري على الشخص فأصابه وأرداه قتيلاً، فحينئذ باشر القتل؛ لأن الفعل بإطلاق المسدس جاء من فعله هو، والإزهاق للروح والتلف حصل بفعله لا بواسطة أخرى؛ لأن الآلة لا يمكن أن تقتل إلا إذا حركت، والسلاح لا يمكن أن يزهق إلا إذا حُرك، ومن هنا يقال: إنه مباشر.
فائدة لطيفة: حينما يقال في التصوير الفوتغرافي: إن الآلة هي التي باشرت، هذا غير صحيح، وهو من القوادح التي تقدح فيها؛ لأن ضوابط العلماء كما قالوا: إن الآلة نفسها إذا كانت لا تتحرك إلا بفعل فاعل لم يسند إليها الحكم، ومن هنا حكم العلماء بأنه لا يمكن للسلاح نفسه -المسدس- أن يعمل إلا إذا حركه الشخص، فإذا حرك الآلة وكان القتل ناشئاً عما نتج عن التحريك الذي حصل بسبب القاتل، فهذا قتل مباشرة.
النوع الثاني: قتل السببية: وهو ألا يكون هو القاتل المباشر، ولكن يتسبب في القتل فيكون القتل بشيء آخر، كأن يباشر القاتل إلى شيء يكون سبباً في القتل، مثال ذلك: أن يأخذ حية فيمسكها ثم يلقيها على إنسان فتكون سبباً لوفاته، فالقتل لم يحصل بفعل القاتل نفسه، وإنما الحركة والنهش والسم وقع من الحية -أعاذنا الله وإياكم منها- إذاً القتل مباشرة من الحية، والسببية بحمل الحية وإنهاشها وتقريبها من الشخص القاتل.
وكذلك أيضاً أن يأخذه ويدفعه إلى قفص فيه أسد، أو إلى موضع لا مفر فيه، كغرفة محكمة مغلقة، فيفتح بابها ويدخله داخلها مع أسد أو نمر أو سبع مفترس، أو في فرامة لحم، لكنه ألجأه للدخول حتى فرمته وقضت عليه، فافتراس السبع هو الذي قتل، والموت نشأ من افتراس السبع وهجوم السبع على المقتول، فالحيوان والسبع هو الذي باشر القتل، والشخص الذي أدخل المقتول لم يقتل، إنما تسبب في قتله، وهذا يسمى: قتل السببية.
وكذلك أيضاً لو أنه ربطه ثم رماه في بركة عميقة، أو علم أنه لا يحسن السباحة فرماه في بركة عميقة، فسقط فمات فيها، فإن الموت حصل بالغرق، وزهوق النفس -خروج الروح والهلاك- حصل بقدرة الله عز وجل، فالذي قتله هو الماء، ولكن من الذي ألقاه في الماء؟ ومن الذي أوقعه فيه؟ ذلك القاتل.
فهذا يسمى: قتل السببية، فإن المباشرة ليست من القاتل ولكنها من طرف ثانٍ.(347/12)
اجتماع السببية والمباشرة في القتل
إذاً: هاتان صورتان: سببية ومباشرة، قد تنفرد السببية، وقد تنفرد المباشرة، وقد تجتمع السببية والمباشرة، ومثال اجتماعهما: كأن يكون القتل من شخصين أحدهما متسبب والثاني مباشر، وتوجب الوصف بالعمد.
وهذا على أصح أقوال العلماء في مسألة مشهورة تعرف بمسألة الإكراه، مثل أن يأتي بالسلاح ويقول: يا فلان! اقتل فلاناً وإلا قتلتك فذهب هذا المهدد المكره وقتل الشخص الذي طلب منه قتله، فحينئذ اجتمعت السببية والمباشرة المباشرة بالنسبة للمكرَه الذي هُدد، والسببية بالنسبة للمكرِه الذي دفع وأمر.
فعندنا آمر ومأمور، فالآمر سبب والمأمور مباشر، فيقال: هذا اجتماع سببية ومباشرة، وقد يجب القصاص على الاثنين وقد يجب القصاص على أحدهما دون الآخر.
فيجب القصاص على الاثنين إذا كان كل منهما عاقلاً مدركاً، فجاء الآمر وقال له: إذا لم تقتل فلاناً فسأقتلك، فذهب وقتله؛ لأنه لا يجوز للمسلم إذا هدد بقتله أن يقتل أخاه؛ لأن شرط الإكراه: أن يهدد بشيء أعظم مما طلب منه، والنفس التي سيقتلها مثل نفسه، وحينئذ فلا يكون مكرهاً؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وحينئذ لا يستباح بالإكراه أن يقتل أخاه المسلم؛ لأنه ليس بمكره.
والإكراه شرطه -كما ذكرنا- أن يكون ما هدد به أعظم مما طلب منه من حيث الأصل، فقالوا: في هذه الحالة يعتبر القصاص على المكرِه والمكرَه، على الصحيح من أقوال العلماء، كما هو مذهب المالكية والحنابلة وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
الصورة الثانية لاجتماع السببية والمباشرة والتي توجب القصاص على الآمر دون المأمور: كأن يأتي إلى شخص مجنون أو إلى صبي غير عاقل وأغراه أو هدده حتى قتل آخر، فالذي باشر القتل لا يقتل؛ لأنه غير مكلف، والذي أمر بالقتل يقتل؛ لأنه ألجأه ودفعه إلى القتل، وكذلك العكس؛ فإذا كان الذي أمر وهدد مجنوناً، فجاء المأمور وقتل، فإنه يقتص من المباشر دون الآمر.
إذاً: هذا بالنسبة للأصول العامة، فهناك سببية وهناك مباشرة.
والأصل أن القاتل لا يوصف بكونه قاتلاً إلا إذا باشر.
ومعناه: أنه سيفعل بآلة أو بوسيلة.(347/13)
القتل بالمحدد
قال العلماء: والآلة التي باشر القتل بها إما أن تكون محددة وإما أن تكون غير محددة، والمحددة مثل السكاكين والسيوف والزجاج، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على الحديد المسنن والخشب المسنن، وهو الذي ضبطه المصنف رحمة الله بقوله: (أن يجرحه بما له مور) أي: نفاذ، والنفاذ يكون بقطع الجلد والجرح، ولابد من هاتين الصفتين: قطع الجلد والجرج، فإن قطع الجلد ولم يجرح فلا تكون هذه الآلة مما له مور.
وقوله: (أن يجرحه بما له مور في البدن)، هذا الذي يجرح يستوي أن يكون من الحديد وغير الحديد.
والحديد -كما ذكرنا- مثل السيوف والسكاكين والخناجر والحديد المزجج والمسنن، ومثل رءوس الرماح والأسنة، وكذلك أيضاً في زماننا المفكات التي يطعن بها أحياناً، فهي نافذة تدخل إلى جوف البدن وتجرح وتنفذ.
فهذا الجارح إما أن يكون من الحديد أو أن يكون من غير الحديد؛ كالخشب المحدد المسنن الذي يفعل كفعل الحديد الذي ينفذ في البدن، ومثل الزجاج الذي يجرح وينفذ في البدن، ومثل النحاس والرصاص والنيكل وغيرها، إذا سنن فإنه يجرح وينفذ إلى داخل البدن.
وقوله: (أن يجرحه بما له مور في البدن) هذا الذي يجرح له صورتان: الصورة الأولى: أن يجرح وينفذ في البدن ولا يخترق البدن حتى يخرج من الجهة الأخرى.
الصورةالثانية: أن ينفذ في البدن ويخرج، أي: يجرح من جهة ثم ينطلق ويخرج من الجهة الثانية.
مثال الصورة الأولى: أن يطعنه بسكين في بطنه ولا تخرج من ظهره، فهذا جارح لم ينفذ، أي: لم يخرج إلى خارج البدن.
ومثال الصورة الثانية: أن يطعنه بسيف ويخرج من ظهره، فهذا جرح دخل في البدن ونفذ.
فيستوي في الجارح هذا أن يكون نافذاً -أي: يخرج- أو أن يكون غير نافذ، وغير النافذ سواءً استقر كالرصاصة التي تدخل وتستقر في البدن، أو لم يستقر مثل أن يطعنه بسكينة ونحوها ثم يخرجها.
فهذا الذي له مور ونفاذ في البدن القتل به عمداً موجب للقصاص.
فلو طعنه بسكين أو بسيف، وفي زماننا كالطلق الناري، فإن الطلق الناري بالرصاص يدخل في البدن وينفذ، وقد يدخل في البدن ولا ينفذ، ولكنه يجرح وله مور في البدن، فسواء استقر في البدن أو خرج فهذا جارح وقاتل.
قال رحمه الله: (أن يجرحه بما له مور).
هذا الجارح الذي له مور في البدن ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يوجب القصاص والقود وهو قتل عمد.
القسم الثاني: لا يوجب القصاص والقود وهو الذي ليس بقتل عمد، وفيه تفصيل.
والقسم الذي يوجب القصاص والقود شرطه أن تكون الآلة قوية تجرح مثلها وتنفذ، وذلك -كما ذكرنا- مثل: السكاكين والسيوف والرماح والرصاص، والقسم الثاني: أن يكون صغيراً مثل الإبرة، فلو أنها غرزت في الإنسان فإنها تجرح، ولها مور في البدن، لكن هل كل طعن بإبرة يوجب القصاص؟
الجواب
هذا الجارح الصغير -كالإبرة والمسلة ونحوها- يفصل فيه، فإن كان على صورة تقتل غالباً فعمدٌ، وإن كان على صورة لا تقتل غالباً فليس بعمد.
مثال الصورة التي تقتل غالباً: أن يطعنه بالإبرة في مقتل، فيغرز الإبرة في مقتل، كجهة قلبه أو جهة جوفه، فنفذت ومات من ساعته، فإن هذا عمد يوجب القود والقصاص.
ومثال الصورة الثانية: أن يغرزها في غير مقتل ومن أمثلة الصورة الأولى -وهي أن يغرزها في مقتل-: كأن يضرب بها شيخاً كبيراً لا يتحمل، فهي وإن كان مثلها صغيراً، ولكن المضروب بها مثله لا يتحمل هذا، وكذلك المريض الساقط بمرضه -الذي بمجرد أن يضرب يموت- قالوا: إن الغالب موته بهذا الضرب، وحينئذ الآلة صغيرة، لكن وجد في الشخص وصف يقتضي صيرورة القتل عمداً؛ لأنه يعلم أن مثل هذا لا يتحمل، والشيخ الكبير لا يحتاج أن يوضع له علامة، فهو واضح الأمر أن مثله بأقل شيء يموت، فغرز مثل ذلك في شاب قوي جلد، ليس كغرزها في شيخ كبير أو مريض، أو غرزها في إنسان قوي لكن في مقتل.
إذاً: فصل العلماء رحمهم الله والأئمة في المحدد بين أن يكون جارحاً يزهق غالباً مثل السكاكين ونحوها، وبين أن يكون جارحاً لا يزهق غالباً.
ففرقوا فيه بين الشخص الذي يتحمل، والشخص الذي لا يتحمل، والمطعن غير القاتل والمطعن القاتل.(347/14)
القتل بالمثقل
قال رحمه الله: [أو يضربه بحجر كبير ونحوه].
هذا هو النوع الثاني: وهو أن يكون القتل بغير المحدد، وهذه مسألة خلافية عند العلماء رحمهم الله، وهي التي يسمونها: القتل بالمثقل.
والقتل بالمثقل له صور، منها: أن يأخذ حجراً كبيراً ويضرب به رأس المقتول، ومثل أن يأخذ رأس المقتول بين حجرين ويرضه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت أن الحجر، تارة يوجب القصاص وتارة لا يوجب القصاص، فلما وجدنا الشريعة تفرق بين الحجر، عرفنا أن الحجر مختلف، فتارة يكون مثله قاتلاً غالباً، وتارة لا يكون مثله يقتل غالباً.
ففرقنا بتفريق النقل والعقل.
والدليل على أن الحجر يقتل: حديث أنس في الصحيحين (أن جارية من الأنصار وجدت مقتولة وقد رض رأسها بين حجرين، وأدركوها في آخر رمق من حياتها، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان فلان، حتى ذكروا يهودياً كان يتوعدها، فأشارت برأسها أن نعم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم باليهودي فأتي به فأقر واعترف أنه قتلها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين)، كما فعل بالجارية.
ومن هنا أخذ العلماء أن قتل المثقل يوجب القصاص؛ لأن اليهودي وله ذمة ودمه محرم في الأصل؛ لأنه ذمي، له أمان الله ورسوله، ومعاهد، له عهد الله ورسوله، فلا يستباح دمه إلا بحق، ولذلك لو كان القتل من باب آخر لما فعل به نفس الفعل عليه الصلاة والسلام، فلما فعل به نفس الفعل، علمنا أن قتل المثقل يوجب القصاص، وأن قتل العمد لا يختص بالمحدد، خلافاً للحنفية وغيرهم، والصحيح من مذهب الجمهور أن المثقل -غير المحدد- يقتل كما يقتل المحدد، ويوجب القصاص والحكم بكون القتل قتل عمد كما يوجبه المحدد.
فهنا قضى عليه الصلاة والسلام في الحجر أنه يقتل، وأنه يوجب القصاص والقود، وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي تقدمت الإشارة إليه (ألا إن في قتيل شبه العمد -قتيل السوط والعصا والحجر-، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها)، فهنا أسقط القصاص، وأوجب الدية، ونظرنا فوجدنا الحجر يختلف، وهنا قاعدة: إذا وجدت الكتاب والسنة يحكم على شيء ويخالف في الحكم، ووجدت الشيء المحكوم عليه مختلف الصفات، فاعلم أن الاختلاف سببه اختلاف الصفات، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً.
ومن هنا اختلف العلماء إذا كان القتل بغير المحدد، فبعض العلماء يقول: لا يقيل القاتل بغير محدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل شبه العمد، قتيل السوط والعصا والحجر)، فجعله شبه عمد ولم يجعله قصاصاً وعمداً.
ولكن الصحيح هو التفصيل؛ لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بكون غير المحدد يوجب القصاص، وإذا ثبت أن غير المحدد يوجب القصاص، فهذا ما يسمى بالمثقل.
والمثقل إما أن يكون مثله يتحكم فيه بالرمي، مثل الحجر، فإذا كان مما يرمى مثل الحجر، فيشترط أن يكون كبيراً، وأما إذا كان صغيراً فإن فيه التفصيل الذي تقدم، وهو إن كان صغيراً وضربه في مقتل قُتِل به وصار قوداً، على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، كما ذكرنا في المحدد، فمثلاً: النبال الموجود الآن، لو أنه حدد في ضربه مكان مقتل ورمى النبال بقوة، فالغالب أنه يقتل، أو كان المضروب لا يتحمل الضرب فغالباً أنه يهلكه، فحينئذ هذا المثقل والحجر إن كان كبيراً فلا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل به اليهودي، وإن كان صغيراً في مقتل قتل به، أو كان المقتول الذي ضرب ضعيفاً لا يتحمل، أو كرر الضرب بالمثقل الصغير، فإنه يصير في قوة الكبير.
ونرجع في ذلك إلى العرف وأهل الخبرة ومن الأطباء ونحوهم، فإن قالوا: الغالب أن هذا الشيء لو كرر مرة أو مرتين أو ثلاثاً فإنه يقتل، وجاء الشهود وشهدوا أنه كرر الضرب عليه ثلاث مرات أو أربع مرات فمات، فحينئذ يكون قتل عمد.
والخلاصة: أن المثقل أو غير المحدد إن كان كبيراً يقتل غالباً مثله قتل به، مثل الحجر الكبير، وإن كان دون ذلك فصل فيه، فإن كان في غير مقتل فهو خطأ لا يوجب قصاصاً، وإن كان في مقتل فإنه يوجب القصاص.
وهذا المثقل -غير المحدد- له صورتان: الأولى: أن يكون متحكماً فيه مثل الحجر.
والصورة الثانية: أن يكون مثقلاً يدفع مثل الجدار، كأن يكون الشخص جالساً تحته فيسقط الجدار عليه فيقتله، فالجدار مثله يقتل غالباً، لكنه يحتاج إلى تفصيل: هل كان المقتول يعلم أو لا يعلم؟ وهل يستطيع الفرار أو لا يستطيع الفرار؟ فهو يحتاج إلى تفصيل ونظر؛ فإن كان قد قيل للمقتول: سيسقط عليك فلان الجدار، فجلس، فإنه قد قصر في حفظ نفسه، وأهمل في دفع الضرر عنها، لكن إذا كان التنبيه في وقت لم يمكنه معه الفرار، أو كان على حالة لا يمكنه معها الفرار، فحينئذ يكون القتل قتل عمد، فإذا أزهقت روحه بإسقاط الجدار عليه، فإنه يعتبر قتل عمد يوجب القصاص.(347/15)
صور القتل بالسببية
قال رحمه الله: [أو يلقي عليه حائطاً].
وذلك كما ذكرنا، وانظر إلى دقة العلماء رحمهم الله! فقد بدأ المصنف بالمحدد ثم غير المحدد، وغير المحدد قسمه إلى قسمين، فلم يأت بالحائط قبل الحجر، مع أن الحائط أكبر من الحجر، ولكن الحجر في المباشرة والتحكم أسبق من الحائط، ولذلك القتل به أقوى من القتل بالحائط، وأغلب وقوعاً بين الناس من الحائط، وهذا من دقة العلماء رحمهم الله وترتيبهم للأفكار، ومراعاتهم للتسلسل المنطقي فيها.
قال رحمه الله: [أو يلقيه من شاهق].
هنا بدأ المصنف بالقتل بالسببية، وصورته: كأن يلقيه من شاهق، فإن هذا يسمى: الإلقاء في المهلكة، وهو أن يلقيه من شاهق؛ كجبل أو عمارة كبيرة -كما في زماننا- أو طيارة في الجو وغيرها، أو يلقيه على سبع، أو يلقيه على زريبة، أو يلقيه في بحر لجي، أو يلقيه في بركة، أو يلقيه في مكان به أسد قاتل.
فهذه كلها من القتل بالسببية، ويحتاج إلى ضوابط إن شاء الله سنتعرض لها ونبينها في المجلس القادم.(347/16)
الأسئلة(347/17)
إثبات قتل شبه العمد بدليل السنة
السؤال
العلماء الذين لا يقولون بقتل شبه العمد، بماذا يجيبون عن حديث السنن وكذا الحديث الصحيح.
عن المرأة التي ضربت ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها؟
الجواب
من أسباب اختلاف العلماء في المسائل: الاختلاف في ثبوت النص.
فمثلاً: الظاهرية لما لم يقولوا بشبه العمد، قالوا: إن الله عز وجل ذكر العمد والخطأ في القرآن، والحديث لا نصححه، وبناء على ذلك بقوا على الأصل، فقالوا: عندنا عمد وخطأ، ولا يثبتون قسيماً ثالثاً، وهكذا من يوافقهم من المالكية وغيرهم رحمة الله على الجميع، يرون أن الأصل في الكتاب العمد والخطأ، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء:93]، قالوا: هذا هو القسم الأول، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] هذا هو القسم الثاني، قالوا: ولم يذكر الله قسماً ثالثاً.
الجمهور فقالوا: إن السنة قد صحت بثبوت هذا القسم الثالث، والسنة تأتي بزيادة على القرآن، وبناء على ذلك نثبت ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم، وصحت به السنة عنه عليه الصلاة والسلام، كما في حديث المرأة التي رمت الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها -قصة المرأتين اللتين اقتتلتا- فإن هذا ليس قتل عمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بحجر ولم يقتل بحجر، فجزمنا بأن الحجر الذي في قصة المرأتين المسلمتين ليس كالحجر الذي قتل به اليهودي الجارية، وإلا لكان هناك تناقض في الشريعة، والشريعة منزهة عن التناقض.
وهذا هو الواقع؛ فإن المرأة لما رمت بالحجر تسبب في سقوط الجنين وسقوط الجنين تسبب في موت المرأة، فالموت لم يأتِ بالحجر نفسه، ولابد أن ينتبه لهذا الاستلحاق، فإن الحجر أسقط الجنين، فأوجب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه الوليدة الذي هو ضمان الجنين.
ولما كان هذا الإسقاط بالحجر ومثله لا يقتل غالباً، والإسقاط ليس بقتل، وهي لما رمتها بالحجر لم تقصد إسقاط جنينها ولم تقصد قتلها، فالقصد غير موجود حتى نقول: إنه عمد، وأيضاً الإسقاط غير مقصود حتى نقول: إنه أيضاً عمد، فمن هنا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيها الدية، وقضى بالدية على العاقلة.
والدليل على أن هذا قتل ليس بعمد: أولاً: عدم وجود القصاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم فيه بالقصاص، وثانياً: كما صرح الراوي وهو عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة على عاقلتها)، والعاقلة -كما سيأتينا إن شاء الله في باب الديات- لا تحمل دية العمد، فلو أن شخصاً قتل شخصاً عمداً -والعياذ بالله- وقال أولياء المقتول: نريد الدية، فلا نقول لجماعته وقبيلته أن يساعدوه؛ لأنهم لو ساعدوه لأعانوه على المنكر، وأعين على سفك الدماء بالباطل؛ لأن الأصل في القاتل العامد ألا تعينه العاقلة في الدية، والعاقلة والقبيلة والجماعة لا تحمل دية العمد، بمعنى: أن القاضي لا يلزمها بدفع الدية في العمد، وإنما يلزمها في الخطأ، وبناء على أن قتل المرأة -التي مرت معنا- خطأ، قضى النبي صلى الله عليه وسلم بديتها على العاقلة، فلما قضى عليه الصلاة والسلام بالدية على العاقلة أدركنا أن القتل خطأ وليس بعمد.
والله تعالى أعلم.(347/18)
حكم دعوى القاتل أنه لم يقصد القتل
السؤال
إذا كان القتل قتل عمد ولكن القاتل ادعى خلاف ذلك، وقال: لم أقصد قتله، وذكر أمراً خلاف القصد، فما الحكم؟
الجواب
قتل العمد فيه إقرار من القاتل وفيه دلالة ظاهر.
فمثلاً: شخص أخذ المسدس وجاء ووضعه في رأس المقتول وضربه وقال: أنا لم أقصد أن أقتله، فهل يصدق في هذا؟ وهذا يسمى دلالة الظاهر، ويحتاج طالب العلم دائماً أن يفقه في المسائل الشرعية دلالة الظاهر، ومنها: مسألة التبديع عند بعض العلماء، فعندما يداوم الشخص على شيء ويقول: أنا ما قصدت أغير شرع الله، فيقال له: مداومتك، الذي هو دلالة الظاهر، هذه المداومة كما تدل على أنك تقصد وتعتقد في هذا الشيء، لكن هذه الدلالة لا يحكم بها كل أحد، وإنما يحكم بها العلماء الراسخون الذين يستطيعون أن يعرفوا متى يحكم بالظاهر ويلغى القصد؟ ومتى يلغى الظاهر ويلتفت إلى القصد؟ ومتى يلزم الأمران اجتماع الظاهر والباطن؟ وهذه من أدق المسائل ومن أعوصها عند أهل العلم رحمة الله عليهم.
وهنا في هذه المسألة: إذا كان الظاهر ودلائل أخرى دلت على أنه يريد قتل العمد والعدوان، كأن يكون سبق منه التهديد بالكلام، كشخص جاء وقال له: أنا سوف أقتلك، وجاء وضربه بشيء غالباً يقتل، أو جاء ووضع الحبل على رقبته وخنقه، ثم قال: أنا ما قصدت قتله، فنقول: هذا الشيء مثله يقتل غالباً، وكونك تقول: ما قصدت قتله، هذا لا نقبله منك؛ لأن دلالة الظاهر واضحة على أنك تريد قتله وإزهاق روحه.
وكأن يصب أحدهم الوقود على آخر ويشعل فيه النار، ثم يقول: أنا ما قصدت قتله، بل قصدت فقط تعذيبه، فلا يقبل هذا، ولو فتح هذا الباب لذهبت دماء الناس بحجة عدم قصد القتل، فالشريعة لا تلتفت إلى مثل هذه المواقف، وهذا هو الذي جعلهم يقولون: أن يجرحه بما له مور.
فدلالة الظاهر ودلالة الأحوال معتبرة، وقتل العمد لا بد فيه من النظر في هذه الأمور، وليس هناك شرع أدق من شريعة الله عز وجل وحكم الشريعة الإسلامية في ضبط الأمور، ولن تجد أحكم ولا أسلم من هذه الضوابط المستنبطة من أصول الشريعة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وقفت القوانين الوضعية وما يسمونها بالتشريعات والنظم المعاصرة والسابقة عاجزة أمام هذه العظمة التي جعلها الله عز وجل كمالاً وجمالاً وجلالاً لشرعه، الذي أخبر في محكم تنزيله أنه تمت كلماته فيه صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، والله تعالى أعلم.(347/19)
الفرق بين الذمي والمعاهد والمستأمن والحربي
السؤال
أشكل علي التفريق بين الذمي والمعاهد والمستأمن والحربي؟
الجواب
أهل الذمة: هم أهل الكتاب، وتختص الذمة بهم، وهم الذين لهم أصل من دين سماوي، فلا تكون الذمة للمشركين، ولا تكون للوثنيين، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وهذا النوع من الكفار نظراً لأن لهم أصلاً من دين سماوي، إذا فتح المسلمون بلادهم خيروهم بين الإسلام أو دفع الجزية، ويقرون على ما هم عليه، ويبقون في ديارهم تحت حكم المسلمين وأمانهم، فإذا اختاروا الإسلام فلا إشكال، وصارت الدار دار إسلام، وإذا اختاروا دفع الجزية وأن يكونوا تحت حكم المسلمين وأمانهم فهم أهل ذمة، لهم ذمة الله ورسوله؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)، كما في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه، فهذه الذمة لا تنقض عهداً لأحد، وقد تقدمت معنا في مسائل أحكام أهل الذمة، وبينا أحكام الشرع ونصوص الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح في معاملة أهل الذمة.
وأما النوع الثاني: وهم المستأمنون، فالمستأمن هو الحربي الكافر الذي جاء وعنده رسالة ويريد أن يدخل بلاد المسلمين لغرض معين بإذن من ولي أمر المسلمين، أو أراد أثناء الحرب أن يدخل موضعاً بإذن من المسلمين، وأذنوا له بالدخول، فإن هذا مستأمن، وذلك مثل الرسل التي كانت تأتي أيام قتال الصحابة رضوان الله عليهم للروم والفرس، فقد كانت تأتي رسل الفرس فيؤمنون حتى يصلوا إلى المسلمين ويروا ماذا عندهم، فهؤلاء مستأمنون، والأمان يكون في حدود ضيقة ولأشخاص محدودين، وقد يكون الشخص مستأمناً وتقام عليه الحجة فيسمع كلام الله، فإذا سمع كلام الله فنبلغه مأمنه، فيرد إلى الموضع الذي يكون فيه آمناً ثم ينتهي أمان المسلمين.
والذمي لا تخفر -تنقض- ذمته إلا إذا نقض العهد، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم مع بني النظير وبني قينقاع، وكذلك أيضاً بنو قريظة لما أخلفوا وغدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فبنو قريظة في يوم الخندق، وبنو النظير في حادثة الحضرمي.
الشاهد: أن المستأمن والذمي لها أمان الله ورسوله، فلا يجوز الاعتداء عليهما؛ لأن لهما حقاً وحرمة، والأصل يقتضي أنهم يعاملون معاملة شرعية مخصوصة ومحددة، فمثلاً: المستأمن تقام عليه الحجة فيسمع كلام الله عز وجل، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، فجعل له أمان الله وأمان رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذه كلها ضوابط وأحوال مختلفة تختلف بحسب الظروف، فتارةً تكون لطائفة وجماعة وأمة، كأن تدخل مدينة كاملة في أمان امرأة من المسلمين فيجب تأمينها، فقد جاءت أم هانئ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه علياً رضي الله عنه أنه يريد أن يقتل ابن عم لها -في يوم الفتح- والنبي صلى الله عليه وسلم يغتسل، (فقال: من؟ قالت: أم هانئ، فقال: مرحباً بـ أم هانئ، فقالت: يا رسول الله! إن ابن عمي قد أمنته وزعم ابن عمك -تعني علياً رضي الله عنه- أنه قاتله، فقال عليه الصلاة والسلام: قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ)، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث علي في الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم)، والمقصود أنه قد تؤمن المدينة بكاملها برجل واحد من المسلمين يدخلون في أمانه، وهذا كان معروفاً في أزمنة المسلمين الماضية، فهذا يسمى المستأمن، سواء كان شخصاً واحداً أو طائفة أو مجموعة حتى تقام عليها الحجة.
وأما المعاهد: فالعهود تقع بين المسلمين والكفار خاصة في أحوال الحرب، فتارة تكون بالهدنة لمدة معينة، كما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش في أشهر محدودة، فهذه لا يجوز فيها القتال ما دام أن هناك بين المسلمين وبين الكفار عهداً، فيجب الإمساك عنهم وعدم التعرض لهم حتى تنتهي المدة، إلا إذا خشي منهم النقض وخشي منهم الخيانة فينبذ إليهم، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]، فلا ينقض العهد الذي بين المسلم وبين الكافر إلا بشروط وضوابط، ولذلك جاء حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما -كما تقدم معنا- يوم بدر فأخذه المشركون قبل أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليه عهداً ألا يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، فلما جاء وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال أصحابه: قاتل معنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل نفي لهم ونستعين الله عليهم).
فحافظ على عهده حتى مع الكافر، ولذلك فإن العهد أمره عظيم حتى مع الكافر، فكيف إذا عاهدت مسلماً، أو كان بينك وبين مسلم عهداً فالعهد أشد وأعظم، فالعهد لا ينقض، وهذه العهود التي تقع بين المسلمين والكفار تحترم، إذا كانت عن طريق ولي الأمر الذي له النظر في مصلحة المسلمين وهو مؤتمن عليها، ولا يجوز لأحد أن يتخطى هذا الحد أو يحاول أن يخفر -ينقض- ذمة المسلمين وذمة ولاتهم، فإن هذا يتحمل فيه المسئولية العظيمة، ولذلك فقتل المعاهد أمره عظيم؛ لأن هذا يسيء إلى الإسلام إساءة عظيمة -نسأل الله السلامة والعافية- ويتحمل الإنسان بذلك وزره، ولذلك حرم الله على نبيه أن ينقض العهد مع الكفار، وهو خير الخلق صلى الله عليه وسلم ويخاطبه بذلك، ما لم يكن الكافر المعاهد على بينة من أمره، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]، فليس في الإسلام خفاء، بل هو واضح أوضح من النهار وأموره مكشوفة؛ لأن الله عز وجل ينصر الحق وأهله.(347/20)
وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء
السؤال
ما هو الدليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل وعدم وجوبهما في الوضوء؟
الجواب
المضمضة تتعلق بالفم، والاستنشاق يتعلق بالأنف، وهناك طهارتان: طهارة صغرى، وهي الوضوء، وطهارة كبرى، وهي الغسل، وقد فرض الله عز وجل في الوضوء -الطهارة الصغرى- أربعة فرائض، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، ولما جاء الأعرابي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يتوضأ؟ قال له: (توضأ كما أمرك الله)، فعلمنا أن المضمضة والاستنشاق ليست من فرائض الوضوء؛ لأنه قال له: (توضأ كما أمرك الله)، وعلمنا أنها من النوافل والفضل، وليست من الواجبات والفرض.
وأما في الغسل فوجدنا أن الشرع أمر بغسل ظاهر البدن، فكل شيء من ظاهر البدن يجب تعميمه بالماء، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6]، أي: طهروا أبدانكم، وفصل ذلك عليه الصلاة والسلام في حديثه في الصحيحين عندما قال: (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدك)، وهذا يدل على أن ظاهر الجسد لا بد من غسله، فهل الأنف والفم من ظاهر الجسد أم لا؟ إن كانا من ظاهر الجسد فهما كاليد التي يجب غسلها وتعميمها بالماء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثم تفيضين الماء على جسدك)، فوجدنا الشريعة جعلت الفم والأنف من ظاهر الجسد لا من باطنه، والدليل على ذلك: أن الصائم لو وضع الطعام في فمه لم يفطر، فدل على أنه من ظاهر البدن وليس من باطنه.
وبناء على ذلك لما وجدنا الشرع حكم بأن الفم والأنف من ظاهر البدن وليس من باطنه، قلنا: تجب المضمضة والاستنشاق في الغسل، ولا يجب واحد منهما في الوضوء، وهذا بتفريق الشرع.
وبناء على ذلك يلتفت في الغسل إلى الظاهر، والفم والأنف من الظاهر، ويلتفت في الوضوء إلى ما سمى الله عز وجل من الأعضاء، ولذلك لو أن شخصاً وجد ماء لا يكفي إلا للأربعة الأعضاء في الوضوء لم يصل إلى التيمم؛ لأنه يستطيع أن يغسل ويمسح الفرائض التي أمره الله بغسلها ومسحها.
والله تعالى أعلم.(347/21)
حكم النداء بعد دفن الميت لمن كان له حق على الميت من دين ونحوه
السؤال
بعد دفن الميت وعند القبر يقف بعض أقاربه وينادي في الناس: أنه إذا كان لأحد في ذمة الميت شيء من الديون فإني أتحملها عنه، فهل لهذا الفعل أصل شرعي بهذه الصفة أثابكم الله؟
الجواب
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا أتي بالصحابي عليه دين سأل: هل ترك وفاء أم لا؟ فإن ترك وفاء -كأن كان عنده بيت أو عنده دواب يمكن بيعها وسداد دينه- صلى عليه عليه الصلاة والسلام، وإن لم يترك وفاء، قال: (صلوا على صاحبكم)، فقد جاء في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام (أنه أتي برجل، فقال: هل عليه دين؟ فقالوا: نعم.
فقال: هل ترك وفاء؟ قالوا: لا.
قال: صلوا على صاحبكم)، وهذا من باب الترهيب والزجر للناس عن التساهل في الحقوق، فلما قال: (صلوا على صاحبكم.
قال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله!)، فانظروا كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم يتراحمون! وكيف كانت محبتهم لبعضهم! وكيف كانت أخوة الإسلام تبقى حتى بعد الموت؛ فلم تكن أخوة مجاملة ولا أخوة مصالح ولا أخوة محدودة مؤقتة، ولذلك كان قول المؤمنين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، وتجد المؤمن يترحم على أخيه المؤمن ويصل ذريته.
فالشاهد: أنه قال: (هما علي يا رسول الله)، فلما قال ذلك صلى عليه عليه الصلاة والسلام، فدل هذا على مشروعية تحمل الدين عن الميت، وإذا كان هذا من أبي قتادة وهو غريب، فلأن يكون من القريب من باب أولى وأحرى.
أما بالنسبة للنداء بعد الدفن فإذا كان الشخص لا يتيسر له الاتصال بغرماء الميت وأصحاب الحقوق، وسهل اجتماعهم عند الدفن، فقال هذه الكلمة لأجل أن يعلم الناس، فهذا لا بأس به، وهذا مثل ما يقع في بعض القرى حيث يصعب فيها الاتصال، فيعلم الناس، حتى يعلم بعضهم بعضاً؛ لأنه يصعب جمعهم وإخبارهم، والمفروض أن يبادر بذلك من بعد وفاته، فإذا توفي بادر بالاتصال بأصحاب الحقوق ومعرفة ما الذي له؛ لأنه لا يجوز التصرف بالمال إلا بعد قضاء الدين عليه، ولا تعطى حقوقهم إلا بعد سداد الدين.
فالمقصود: أنه لا داعي لذلك عند القبر، وهناك أمر مهم جداً ينبغي أن نعلمه، وهو أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دفن الميت عدم شغل الناس عما هو أهم، فبعد دفن الميت هناك أمران هامان: الأمر الأول: اتعاظك بهذا الميت الذي سبقك، وأنك ستصير إلى ما صار إليه، وتنقلب إلى ما انقلب إليه، فتتعظ وتعتبر وأنت ترى هذا بأم عينك؛ فإنه ليس هناك وقت أبلغ في الاتعاظ والاعتبار من ساعة إنزال الميت في لحده وقبره ودفنه والفراغ من ذلك، فإن هذه من أعظم الساعات اتعاظاً وعبرة؛ حيث ترى أقرب الناس من الميت وهو ولده ينزله إلى القبر ويسلمه إلى اللحد، ويغلق عليه القبر، ويهيل عليه التراب، فإذا رأى الإنسان ذلك انكسر قلبه وخشع فؤاده؛ لأنه سيعلم أن أقرب الناس منه سيتولى أمور فراقه لهذه الدار، وهذا من أقرب ما يكون عظة.
ولذلك لم يعظ النبي صلى الله عليه وسلم على القبر، ففي حديث البراء أنه جلس ينتظر الأنصاري يحفر له قبره، ولم يعظ، والصحابة كانوا واقفين على القبر -بمعنى أنهم ينظرون إليه- والذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم كلمتان: (أي إخواني! لمثل هذا فأعدوا)، فربط الموعظة بنفس الحال؛ لأن الحال يكفي موعظة.
فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه هذا.
الأمر الثاني: وهو خاص بالميت، قال عليه الصلاة والسلام: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل).
هذا هو ما يأتي بعد الدفن مباشرة؛ فينصح الخطباء بتنبيه الناس على هذه السنة، حتى تحيا السنة وتموت الأمور المخالفة لها، وهو أن الميت بعد الدفن مباشرة أحوج ما يكون إلى الاستغفار وإلى الترحم، ثم إن هذا الاستغفار يرتبط كل شخص بنفسه، فلا يأتي أحد فيقول: اللهم اغفر لأخينا، فيقول الناس: آمين وهكذا لا؛ فإنه إذا ارتبط الاستغفار بالجماعة لم يكن كاستغفار الشخص لوحده؛ لأن هذا أبلغ ما يكون وأصدق ما يكون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استغفروا لأخيكم)، وكان بالإمكان أن يقول: اللهم اغفر لفلان، ويقول الصحابة: آمين، لكنه قال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل)، وهذا يدل على أن الأمر مرتبط بالشخص بنفسه.
فإذا ترك الإنسان لوحده هو الذي ينظر وهو الذي يدعو، خرج من المقبرة بموعظة تامة كاملة، لكن إذا شغل بغيره هو الذي يدعو له وهو الذي يختار كلمات، ولربما لا يفهمها السامع بنفسه، إذاً: فيقال له: السنة أن تستغفر لأخيك وتسأل له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل، فإذا وقف ولو كان جاهلاً ولو كان لأول مرة يدخل القبر فسمع من يذكره بالسنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت يقول: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) اتعظ واعتبر، وكان ذلك أبلغ ما يكون، فما أطيبها من سنة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك باب خير إلا دلنا عليه، ولا سبيل رشد إلا هدانا بفضل الله إليه.
فنسأل الله العظيم أن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن نبوته، وصاحب رسالة عن رسالته، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(347/22)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [3]
ينقسم القتل العمد إلى: قتل بالمباشرة، وقتل بالسببية، فالمباشرة بأن يباشر القتل بنفسه، فيحكم بكونه قتل عمد، ويجب فيه القصاص، أما القتل بالسببية بأن لا يباشره بنفسه، وذلك مثل إلقاء الحائط على شخص، أو إلقاؤه من شاهق، أو إلقاؤه في النار، أو إغراقه في الماء، أو خنقه بما يقتل، وكل هذه الصور لابد لها من شروط حتى يحكم بكون القتل بها قتل عمد يوجب القصاص.(348/1)
القتل بالسببية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [مثل أن يجرحه بما له مور في البدن، أو يضربه بحجر كبير ونحوه، أو يلقي عليه حائطاً، أو يلقيه من شاهق].
تقدم معنا في المجلس الماضي أن القتل يكون على صورتين، إذا كان قتل عمدٍ يوجب القصاص والقود: الصورة الأولى: أن يكون القتل مباشرة.
والحالة الثانية: أن يكون بالسبب، بمعنى: أن يتعاطى فعل شيء يؤثر في حصول القتل، وهذا ما يسميه العلماء رحمهم الله: بقتل السببية.
وقد ذكر المصنف رحمه الله النوعين: القتل المباشر، والقتل بالسببية، والقتل المباشر ينقسم إلى قسمين أيضاً: فإما أن يكون بآلة جارحة لها مور ونفوذ في البدن، مثل: السكاكين، والسيوف، والخناجر، ونحوها كما ذكرنا في المجلس الماضي.
وإما أن يكون بغير المحدد، مثل: الضرب بالآلات التي لا تجرح ولكن تقتل، كتكرار الضرب بالخشب الذي يقتل مثله غالباً إن كُرر الضرب به، ومثل ما ذكر المصنف رحمه الله: الضرب والرمي بالحجر القاتل يعتبر من قتل العمد، وقد فصلنا في هذه المسألة.
ثم بعد ذلك ذكر المصنف رحمه الله عبارة: (أو يلقي عليه حائطاً)، وقد ذكرنا أن إلقاء الحائط على الشخص مثل الضرب بالحجر، من جهة المقاربة في القتل بهما، والمقاربة بينهما من جهة كون العلماء رحمهم الله ذكروا الصخرة الكبيرة، فقالوا: إن قتل الحجر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فإما أن يكون بحجر صغير، وقد ذكرنا أنه لا يعتبر قتل عمد إلا إذا ضربه بحجر صغير في مقتل، يقتل مثله غالباً، أو كان الشخص الذي ضُرب بهذا الحجر الذي لا يقتل مثله غالباً مريضاً، أو طفلاً صغيراً، أو شيخاً كبيراً يتأثر بمثل هذا الحجر.
والحجر الكبير فيه تفصيل، فتارة يرمى، مثل حجر المنجنيق في القديم، وتارة يدحرج على الشخص، مثلما يقع في الصخرة الكبيرة التي يكون تحتها شخص، أو يكون في موضع وفوقه صخرة فيأتي شخص ويدحرجها عليه، فيكون هذا مثل إلقاء الحجر، فمن دقة المصنف رحمه الله أنه لم يقل: ودحرج عليه صخرة، ولكن قال: (أو يلقي عليه حائطاً)، وإلقاء الحائط بناءً على هذا يتبع القتل المباشر، لكن العلماء في الأصل ذكروه من باب السببية؛ لأن من بنى حائطاً ثم جاء الغير ودفعه على الغير، ففيه سببية ومباشرة، السببية من جهة أنه من بناء الحائط، والمباشرة بالنسبة لمن دفعه على الغير.(348/2)
شروط الحكم بأن القتل بإلقاء الحائط قتل عمد
قال رحمه الله: [أو يلقي عليه حائطاً].
يشترط أولاً: أن يكون الحائط كبيراً يقتل مثله في أغلب الأحوال، بحيث لو سقط على آدمي ففي الغالب أنه يقتله.
الشرط الثاني: أن يكون الشخص لا علم عنده، أي: لا يعلم أن هناك من يريد أن يدفع عليه الحائط، أو غرر به شخص فأجلسه تحت الحائط ثم ختله وخدعه فألقى عليه الحائط.
فلو كان الحائط صغيراً لا يقتل مثله فإننا ننظر في الشخص الذي سقط عليه الحائط ونفصل فيه: فإن كان كبيراً، والحائط لا يقتل مثله غالباً، فهذا ليس بقتل عمد؛ لأن الغالب أن الحائط لا يقتله، وإن كان الشخص صغيراً كالطفل الرضيع والصغير والصبي، فسِنُّه وحجمه الغالب أنه لو سقط عليه لقتله، وإن كان لا يقتل غالب الناس لكنه يقتل مثل هذا، فإنه قتل عمد، وهكذا لو كان الذي قُتل شيخاً كبيراً أو مريضاً يقتل بأقل شيء، فإلقاء الحائط الصغير عليه قتل عمد يوجب القصاص.
إذاً: يشترط أن يكون الحائط مثله يقتل، وإذا كان مثله لا يقتل في غالب الأحوال وغالب الناس فنفصل في الشخص الذي ألقي عليه الحائط.
أما الشرط الثاني: فهو أن يكون المقتول لا يعلم، فإن كان يعلم أنه سيلقى عليه الحائط نظرنا وفصلنا: فإن كان بإمكانه الهرب والدفع عن نفسه ولم يهرب ولم يدفع عن نفسه، فإنه حينئذٍ لا قصاص؛ لأنه قصر في حفظ نفسه، فلا يكون هذا قتل عمد، كالذي أمر غيره أن يقتله؛ لأنه في هذه الحالة بإمكانه أن يهرب، وبإمكانه أن يدفع الضرر عن نفسه، فتقصيره في ذلك وامتناعه من الهرب والنجاة بنفسه كمن قال لغيره: اقتلني، وفيه تفصيل: فمن قال لغيره: اقتلني، فإنه لا يقتل القاتل، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله، فليس هذا بقتل عمد.
ومسألتنا الآن: أن يعلم، وبقدرته وبإمكانه أن يفر ويهرب فلا يحصل القتل، فقصر في ذلك، فلا قصاص على القاتل، وحينئذٍ يتحمل الشخص -كما ذكرنا- المسئولية، لكن لو أنه علم وتعاطى أسباب الهرب وأسباب الفرار، ولكنه لم يفلح شيء من ذلك فقتل، فإنه يعتبر مقتولاً قتلاً عمداً، ويجب القصاص على القاتل؛ لأن علمه لم يؤثر، وقد تعاطى الأسباب ولكنها لم تؤثر، فحينئذٍ وجود العلم وعدمه على حد سواء.
إذاًَ: يشترط أن يكون الحائط يقتل مثله غالباً في أغلب الأحوال، وأن يكون الشخص لا علم عنده بذلك.
الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق وخروج الروح والموت بعد إلقاء الحائط مباشرة، أو يكون مستتبعاً لحكم قتل الحائط.
وبناءً على ذلك نفصل: فإن دفع الحائط عليه فسقط الحائط ومات الشخص مباشرة، فوجهاً واحداً أنه قتل عمد ويوجب القصاص، وأما إذا عاش بعد سقوط الحائط عليه فننظر فيه: فإن كان حاله كحال الذي أنفذت مقاتله، وصار بحالة مثل حالة من أصابته السكرات، أو حالة المقارب للموت، فإن القاعدة: أنه ينسب لأقرب حادث، فهو ميت بالجدار لا بغيره، ويحكم بالقصاص والقود، ولا يؤثر هذا التأخير؛ لأنه في حكم الميت.
لكن لو أنه بقي بعد سقوط الحائط عليه وبه جراحات يمكن علاجه وتداويه ونجاته، فيفصل فيه بالتفصيل الذي ذكره العلماء رحمهم الله، فهل بإمكانه تعاطي المعالجات أو ليس بإمكانه؟ وهل يوجد من يعالجه أو لا؟ فتحكم على حسب تقصيره وعدمه فهو قتل عمد، فإذا كان مثلاً في برية وليس هناك من ينقذه ولا من يقوم به، ونزفت جراحاته حتى هلك فهو قتل عمد؛ لأن الزهوق حصل بسراية الجرح، ولم يوجد في البرية عنده أحد، ولا يمكنه الصراخ، ولا يمكنه الاستغاثة بعد الله بأحد، فحينئذٍ يكون قتل عمد.
قوله رحمه الله: (يلقي عليه حائطاً) في حكم إلقاء الحائط: إسقاط الخرسانات في زماننا، فمثلاً: لو رفع خرسانة ثم رماها على نائم فقتله، فإنه كإلقاء الحائط عليه، وفيه تفصيل: فإذا كان يعلم وجاء ونام وهو يعلم أنه سيقتل، فقد فرط في حفظ نفسه، وإذا كان علم وصرخ عليه أحد ونبهه ولكنه تساهل وتلاعب في حفظ نفسه، ففيه التفصيل الذي ذكرناه في إلقاء الحائط.
وفي حكم إلقاء الحائط أيضاً سقوط السقف على الشخص، وفي زماننا الجرافات، فلو أنه يعلم أن في هذه الغرفة شخصاً أو أشخاصاً، فجاء بالجرافة وهدم قواعد البيت أو أركان الغرفة فسقطت عليهم فقتلتهم، فإنه كإلقاء الحائط والقتل بالحائط، وحينئذٍ يكون قتل عمد، ويفصل فيه بنفس التفصيل السابق.
وفي حكم إلقاء الحائط أيضاً أن يسلط الماء على أساس الغرف والبناء، فتختل قواعد ذلك المسكن حتى يخر على من بداخله السقف ويقتله، فكل هذه الصور في حكم إلقاء الحائط على الشخص، وفيها التفصيل الذي ذكرناه، فإذا تبين هذا فإنه لابد من النظر في الشيء الذي يلقى، والشخص الذي يلقى عليه، والحالة التي حصل بها الزهوق والقتل.(348/3)
حكم من بنى حائطاً فجاء شخص فدفعه على آخر فمات
لقد بينا أنه لو جاء شخص ودفع الحائط على غيره فقتله فإنه قاتل، ويبقى السؤال في الشخص الذي بنى حائطاً: هل عليه مسئولية؟ وهل عليه شيء؟
الجواب
من العلماء من أطلق الحكم فقال: لا شيء عليه، ومن بنى حائطاً فمن حقه أن يبني؛ ولا شيء عليه، صحيح أن الحائط سبب في القتل والزهوق، ولكن المباشرة لفعل الجريمة أسقط حكم السببية، فإن القاعدة المعروفة تقول: (المباشرة تسقط حكم السببية)، وسنبين أن هذه المسألة فيها ثلاث صور، وهي اجتماع السببية والمباشرة: فتارة تقدم السببية، وتارة تقدم المباشرة، وتارة يجمع بين المتسبب والمباشر، وسيأتي -إن شاء الله- تفسيرها في صور السببية.
فالشاهد: أن من بنى الحائط إذا بناه وجاء شخص ودفعه، فإن الجريمة وقعت بالدفع ولم تقع ببناء الحائط، والقتل والزهوق حصل بالفعل المؤثر فيه وهو الدفع وليس بناء الحائط؛ لأن بناء الحوائط لا يقتل الأنفس، ولا يوجب زهوق الأرواح، ولذلك لا يؤثر.
لكن لو أنه بناه من أجل أن يقتل به الغير، فهذا فيه تفصيل في مسألة قتل الجماعة والاشتراك بتعاطي الأسباب؛ لأنه إذا اجتمع أشخاص على قتل شخص، فتارة تكون المباشرة من واحد والسببية من غيره، وتارة تكون المباشرة من اثنين وتكون السببية من أقل عدداً أو من عدد مساوي، وسيأتي تفصيلها -إن شاء الله- في قتل الجماعة.
وقوله رحمه الله: (يلقي عليه حائطاً) حائطاً: نكرة، والحائط: هو الجدار يكون من اللبن، ويكون من الحجر، ويكون من الأسمنت في زماننا، فهو قال: (يلقي عليه حائطاً) وعمم؛ لأن النكرة تفيد العموم، لكن التفصيل هو ما ذكرناه.(348/4)
ما يشترط لإلحاق الإلقاء من شاهق بالقتل العمد
قال رحمه الله: [أو يلقيه من شاهق].
قوله: (أو يلقيه) أي: يلقي المقتول، (من شاهق) الشاهق: هو المكان المرتفع، والمكان المرتفع في القديم مثل: قمم الجبال العالية وأطرافها أيضاً، فلا يشترط أن يصل إلى القمة، بل العبرة أن يكون المكان الذي حصل منه الدفع والرمي عالياً لو سقط منه الإنسان لهلك، وفي حكم قمم الجبال أسطح المنازل، وفي زماننا أسطح العمائر، والأدوار العالية، وأبراج الحديد، كما لو صعد به إلى برج عالٍ فدفعه، فكل هذا يعتبر من الشواهق، لكن الشرط: أن يكون ارتفاعه يوجب الزهوق، أي: أن من سقط من هذا الارتفاع فالغالب فيه أنه يهلك، فإن كان مثله لا يقتل بأن كان قريباً لا يوجب الزهوق، وقد ينجو منه الإنسان غالباً، فيفصل فيه بالنسبة للشخص: فمن رمى طفلاً رضيعاً من فوق سطح غرفة، فقد يموت الرضيع؛ لأن مثله لا يتحمل هذه المسافة، بخلاف الرجل السوي لو ألقي من فوق غرفة ثلاثة أمتار قد لا يقتل ولا يموت، ومن رمى شيخاً كبيراً ضعيف البنية حطمة، أو رمى مريضاً به مرض وبه آفة، ولكن هذا المرض أقل شيء يحصل معه الزهوق والموت، فهذا يفصل فيه إذا كان الارتفاع غير شاهق، لكن المصنف قال: (من شاهق) وهذا من دقة المصنف رحمه الله؛ لأنه راعى أغلب ما يحصل به الزهوق، ولكن هذا لا يمنع في المسائل الخاصة والأحوال الخاصة أن يفصل فيها كما ذكرنا، ومحل ذلك هو كتب المطولات.
وقوله: (أو يلقيه من شاهق) سواء ألقاه بالرمي، كأن يكتفه ويربطه ثم يأتي ويرميه من شاهق، أو يلقيه بالدفع، كأن يتركه على غفلة ثم يدفعه من شاهق؛ أو يلقيه بالمغالبة، كأن يشتبكا ويتدافعا فيدفع المغلوب ويموت.
وأيضاً في حكم الشواهق: ما يقع من الطائرات، فلو أنه ألقاه من طائرة وكانت على ارتفاع يقتل مثله، فحينئذٍ يعتبر قتل عمد، وهذه الصور كلها الشرط فيها تحقق أن يكون الارتفاع يقتل غالباً.
إذاً: الشرط الأول: أن يكون الارتفاع مؤثراً.
الشرط الثاني: ألا يعلم الشخص الملقي أنه سيلقى، كأن يأخذه على غرة، أو غافله بشيء ينظر إليه ثم دفعه -والعياذ بالله- ورماه، أو كان يعلم ولكنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، كمن حُمل مكتفاً إلى سطح العمارة ثم رمي، فإنه يعلم أنه سيرمى، لكنه لا يملك أن يدفع عن نفسه، فعلمه وجهله على حد سواء، ولا تأثير له في الحكم.
إذاً: يشترط ألا يعلم، أو أن يكون عالماً عاجزاً عن الدفع وصرف البلاء عنه.
الشرط الثالث: أن يكون القتل والزهوق والموت حصل بالارتطام أو بالتردي من الشاهق لا بشيء آخر، وهذه ما يسمونها: مسألة الحائل، وتفصيل ذلك: أنه أخذه وصعد به إلى سطح العمارة، سواء رماه من طرف العمارة، أو رماه من داخل العمارة مثل ما يقع في المناور، فليس شرطاً أن يرميه إلى الشارع من أي مكان، مادام أنه يهوي به إلى مكان يقتل مثله غالباً فلا إشكال.
فإذا رماه من الموضع العالي وارتطم بالأرض ميتاً، فقتل عمد؛ لأنه تمحض زهوق الروح وخروج الروح بالارتطام على الأرض، أو بفعل التردي مثل ما يقع على الجبال الشاهقة، فلو أنه صعد به على جبل ثم غرر به ودفعه، فإنه يتردى ويتدحرج على نتوء الجبال، وهذه تقتل؛ لأنها قد تصيب مقتلاً فيقتل قبل أن يصل إلى الأرض، فالقتل في تلك الصورتين حصل بالتردي، إما مآلاً حينما سقط على الأرض وارتطم، وإما بالتردي نفسه قبل أن يصل إلى مآل التردي، ففي تلك الصورتين قتل عمد؛ وذلك لأن الموت والزهوق وخروج الروح حصل بالارتطام، وهذا سببه المؤثر فيه، أو حصل بالتردي والاصطدام بنتوء الجبل أو تعاريج الجبل، مثل ما يقع في الزوائد في العمائر ونحوها، إذا هشمت أعضاءه وقتلته، فهذا لا إشكال فيه أن الموت حصل بهذا التردي.(348/5)
تعارض السببية والمباشرة في القتل
لكن لو أن الموت والزهوق حصل بسبب آخر، مثل ما ذكر الأئمة والعلماء رحمهم الله: أن يلقيه من شاهق، وقبل أن يصل إلى الأرض يتعرضه شخص بسيفه فيقده نصفين، وهذا يقع في بعض الأحيان، كأن يجعل السيف في خاصرته أو في موضع الوسط من الجسم، فينزل الساقط على السيف فيقسم، فيقال: قده بالسيف، إذا قطعه فمات، فيكون الموت والزهوق بالقد لا بالتردي ولا بالارتطام، فحينئذٍ القاتل هو صاحب السيف وليس المرُدِي.
وهذه من الصور التي قدمت فيها المباشرة على السببية؛ لأن التردية سببية، والتعرض بالسلاح هو الذي حصل به الموت صحيح أنه لو وصل إلى الأرض لمات وهلك، ولكن هذا الاعتراض هو الذي أزهق الروح، وحينئذٍ يكون هذا من تقديم المباشرة على السببية، وقد ذكرنا أنه تارة تقدم السببية على المباشرة، وتارة تقدم المباشرة على السببية، وتارة يحكم بالاثنين، ومن تقديم المباشرة على السببية هذه المسألة، فإن الذي باشر القتل هو صاحب السيف.
وفي زماننا لو أطلق عليه ناراً قبل أن يصل إلى الأرض، كشخصين أخذا شخصاً يريدان قتله، وحرص كلٌ منهما على قتله، فأما الأول فدفعه من فوق العمارة مثلاً، وأما الثاني فأطلق عليه النار، فيُنظر: فإن كان طلق النار قد أصابه في مقتل الغالب أنه يزهق الروح قبل الوصول إلى الأرض، فالقاتل هو صاحب الطلق، وإن كان الذي أصابه من الطلق في مكان لا يقتل، فالذي قتل هو الارتطام بالأرض، وهناك مسألة وهي مسألة الجرح؛ لأنه جرحه قبل موته.
ومن هنا ينتبه إلى ترابط الفقه، فهذه المسألة في القتل مثلها في الصيد، كما لو أنه رأى شاة ساقطة من فوق الجبل، وقبل أن تصل إلى الأرض أطلق عليها النار، فإنه إذا أصابها في مقتل وقتلها فيحل أكلها، وإن أصابها في غير مقتل وارتطمت بالأرض فإنها متردية، والله قد حرم المتردية والنطيحة والميتة، فهذا راجع إلى استقرار النفس، فإذا كان استقرار النفس واقع مع حصول هذا الطلق والعيار الناري، فحينئذٍ يحكم بأن القتل وقع بالارتطام لا بالطلق، والعكس بالعكس، فإن كان في مقتل فإنه يكون حينئذٍ القاتل هو المباشر وليس الذي ألقاه من الشاهق.
والسببية والمباشرة إذا اجتمعا تقدم المباشرة على السببية، كما في مسألة القد بالسيف فيمن رمي من شاهق، وكما في مسألة من حفر بئراً وجاء شخص ودحرج الغير فيه فمات، فإن الذي حفر متسبب، والذي دفع مباشر، فتقدم المباشرة على السببية، ومن هنا قالوا في القاعدة: إن المباشرة تسقط حكم السببية، في مسألة بناء الجدار، وحفر البئر، ومسألة القد بالسيف في التردية.
ومن الصور التي تقدم فيها السببية على المباشرة وهي العكس: أن يشهد شهود بالزور على شخص أنه زانٍ محصن، فيرجم فيقتل، ثم يرجعون عن شهادتهم، ويقولون: نحن تعمدنا قتله، فحينئذٍ الذي تسبب في القتل هم الشهود، والذي باشر القتل هو القاضي بالحكم والمنفذ لحكم القاضي، فحينئذٍ القاضي والمنفذ لا يتحملان مسئولية مع أنهما باشرا القتل، لكن الذي يُقتل هم الشهود الذين قالوا: تعمدنا قتله؛ لأنها سببية، ولكنها أقوى من المباشرة.
ومن الصور التي تجتمع فيها السببية مع المباشرة ويكون الاثنان مسئولان وقاتلان: مثل أن يهدد شخص شخصاً ويقول له: إن لم تقتل فلاناً أقتلك، وهذا هو الإكراه، فحمل السلاح عليه وقال له: إن لم تقتل فلاناً أقتلك، فقام المكرهَ -المهدَد- وقتل من طُلِب منه قتله، فحينئذٍ يقتل الآمر والمأمور، يقتل الآمر لأنها سببية مؤثرة موجبة للزهوق ومحصلة للزهوق، والمنفذ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه فليس بمكره؛ لأنه شرط الإكراه: أن يهدَد بشيء أكبر، كما سيأتينا -إن شاء الله- في مسألة قتل المكره، ففي هذه الحالة اجتمعت السببية والمباشرة، فوجب القصاص على المتسبب وعلى المباشر.
إذاً: الشرط الأول: أن يكون الشاهق يقتل مثله، الشرط الثاني: ألا يمكن للشخص الفرار والنجاة، الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق بالارتطام بالأرض لا بسبب عارض كما ذكرنا في السيف.
الشرط الرابع: أن يموت بعد الارتطام مباشرة، فيكون موته بالتردي والارتطام، فلو عاش بعد التردي فننظر: فإن كان قد استنفذت مقاتله، وصار في عداد الأموات فعاش قليلاً ثم مات، فإنه قتل عمد يوجب القصاص، وبقاؤه بعد التردي وبعد الارتطام وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأنه في حكم الميت، وأما إن بقي وعاش ثم بعد ذلك مات فننظر فإن كان من جراح تنزف، وبسبب اعتلال الجسم حتى استنفذت مقاتله وهلك، فإنه في حكم ما تقدم، وينسب لأقرب حادث، فهناك قاعدة تقول: ينسب لأقرب حادث، ولها فروع كثيرة في العبادات والمعاملات.
ففي العبادات مثلاً: لو أن شخصاً رأى على ثيابه المني وهو لا يتذكر متى احتلم، فينسب إلى أقرب حادث، أي: إلى آخر نومة نامها، فيغتسل ويعيد الصلاة منها، فلو نام بعد العصر، ونام بعد الفجر، ونام في الليل، ووجد المني في المغرب؛ فإنه إذا نام بعد الظهر ينسب إلى نومة الظهر، فإذا نام بعد العصر ينسب إلى نومة العصر، المهم أنه ينسب إلى أقرب نومة نامها، ويعيد الصلاة من آخر نومة نامها، وهذا في العبادات، وفي الجنايات فهنا ينسب لأقرب حادث، فإذا استنفذت مقاتله ومات فأقرب حادث هو الارتطام، وحينئذٍ يحكم بأنه مقتول قتل عمد، ويجب القصاص على قاتله.
ولما قال: (أو يلقيه من شاهق) شرع في القتل بالسببية كما ذكرنا، والصور الأولى وهي: أن يجرحه بما له مور، أو يضربه بحجر كبير ونحوه، أو يلقي عليه حائطاً، هذه كلها مباشرة، فلما قال: (أو يلقيه من شاهق)، شرع في القتل بالسببية، وهذه الصورة يعتبرها العلماء من صور الإلقاء في التهلكة.
وقتل السببية يقوم على: قتل بالشرط، أو قتل بالعلة، أو قتل بالتغرير، وكلها صور لقتل عمد، وفيها تفصيل، لكن قتل السببية هنا من صوره الإلقاء في المهلكة، والإلقاء في المهلكة يشمل: الإلقاء من شاهق والإلقاء في نار تحرق ويهلك فيها، والإلقاء في ماء يغرقه، والإلقاء في زريبة أسد أو في جحر فيه أسد، أو فيه حية أو عقرب سامة قاتلة ولا يستطيع الفرار، فهذه كلها صور يصفها العلماء بالإلقاء في المهلكة، فشرع رحمة الله بأن يلقيه من شاهق.(348/6)
شروط الحكم بأن القتل بالنار قتل عمد
قال رحمه الله: [أو في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما].
قوله: (أو في نار) النار معروفة، والإلقاء في النار يشترط فيه: أن تكون النار قاتلة أو يقتل مثلها، وهي النار التي تزهق الروح غالباً، إما مباشرة مثل النار الشديدة والمتأججة والقوية، أو أن تقتل ببطء، وهي أشد عذاباً -والعياذ بالله-، وتكون المدة التي استغرقها بقاؤه في النار تحت ضغط القاتل ومحاصرته كافية لإزهاق الروح.
إذاً: يشترط في النار أن تكون قاتلة غالباً، وإذا لم يكن مثلها قاتلاً غالباً بأن كانت ضعيفة نظرنا في المدة التي مكثها فيها، وهذه أمور يعرفها ما يسمى بالطب الشرعي، وعلم السموم في الطب هو علم خاص يتخصص فيه بعض الأطباء في هذه الأشياء القاتلة، فهم أهل الخبرة وهم الذين يرجع إليهم القاضي، ويرجع إليهم للقول بأنه هل هذه النار تزهق أو لا تزهق؟ درجة النار، طبيعتها، المواد المشتعلة هذا كله أمر ليس مرتجلاً، إنما يكون بضوابط، ولابد من الرجوع فيه لأهل الخبرة.
إذاً: يشترط في النار أن يقتل مثلها، فإن كان مثلها لا يقتل نظرنا في المدة التي حبس فيها الشخص حتى قتلته النار، وأيضاً نظرنا في الشخص نفسه، فقد يكون طفلاً رضيعاً ألقي في نار صغيرة الغالب في مثلها أن يقتل مثل هذا الطفل، فحينئذٍ لا نشترط أن تكون النار كبيرة على كل حال، إنما نشترط أن تكون النار مثلها يقتل في غالب الناس، لكن لا يمنع هذا -كما ذكرنا في الحائط- في صغار السن، وفي المرضى، وفي كبار السن ونحو ذلك ممن تكون لهم ظروف معينة، وكذلك أيضاً النار في الصيف والشتاء تختلف، فنار الشتاء أضعف من نار الصيف، والقتل بنار الصيف ليس كالقتل بنار الشتاء.
الشرط الثاني: ألا يستطيع الشخص الفرار أو الاستغاثة أو الخروج من النار أو المدافعة، فإذا أمكنه أن يدفع عن نفسه أو يستغيث ولم يفعل شيئاً من ذلك، فهذا لا يحكم فيه بالقصاص والقود عند جمهور العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من فصل تفصيلاً دقيقاً وقال: إن النار إذا كان الشخص يمكنه أن يستغيث أو يتعاطى سبباً فننظر في الشخص نفسه: فإن كان مثله فيه دهشة وفيه ضعف، وما يحسن التصرف في الأمور، بحيث بوغت بالنار فأشكلت عليه الأمور ولم يستطع أن يتعاطى أسباب النجاة بسبب الدهش والمفاجأة، ففي هذه الحالة يكون قتل عمد؛ لأن وجود القدرة على تعاطي الأسباب زال تأثيره بنوعية الشخص؛ لأن الشخص فيه نوع من الضعف، مثلما يكون في بعض الناس من الغفلة، وبعض الناس فيهم ذعر شديد بحيث أنه إذا فوجئ بالشيء فلا يحسن التصرف، فتجعله الصدمة لا يحسن النظر في الخروج والهرب، فبعضهم يفصل بهذا التفصيل، لكن الذي جعل العلماء يجعلون القاعدة للغالب: أن من استطاع أن ينجو من النار ولم ينجُ فإنه يتحمل مسئولية نفسه، بغض النظر عن التفصيل الذي ذكروه.
الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق بالاحتراق بالنار، أو ما هو مستتبع لها مثل دخان النار نفسها، وانكتام نفسه في النار التي وضعوه فيها، فإذا حصل الزهوق بحرق النار، بأن كانت النار تشويه، وقوة الشوي أجهز عليه وقتله، أو كان الزهوق بفعل الدخان الذي كتم نفسه، وإن كانت الأعضاء التي احترقت ليست بتلك التي يزهق مثلها، فالمهم أن الزهوق حصل بالحبس في النار والإلقاء فيها، فإذا كان القتل على هذا الوجه فهو قتل عمد موجب للقصاص.
الشرط الرابع: أن يموت في النار، أو يموت بعد خروجه منها مباشرة، بحيث ينسب لها، فإن عاش وأمكن بقاؤه بحيث ينسب لسبب آخر في علاجه ونحوه، فليس بعمد في مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.
والإلقاء في النار يستوي فيه أن يكون بالطريقة القديمة، أو بما يوجد في زماننا -والعياذ بالله- مثل: الإلقاء في الأفران، والحبس في الشقق والغرف إذا اشتعلت فيها النار، كما يقع في بعض الجرائم بأن يسكب البنزين أو الحارق على الشقة وفيها إنسان نائم، أو إنسان محبوس في غرفة، ثم تشعل النار، فكل هذه الصور داخلة، فلا يشترط أن يلقيه إلقاءً كما ذكر المصنف؛ فإن هذا فقط تأصيل تبني عليه غيره، وافرض أنه ما ألقاه، كأن يكون إنسانٌ موجوداً في داخل شقة، وجاء شخص وأشعل عليه شقته وهو نائم، وقفل عليه أبواب الشقة ولم يمكنه الهرب، فكل هذه الصور تعتبر من القتل بالنار والتحريق بالنار، وهذا من أشد ما يكون تعذيباً.
وهنا مسألة: إذا أحرق بالنار فهل يكون القصاص بحرقه بالنار أم لا؟ وإذا حرق بالنار فهل ينظر لنفس درجة النار أو تكون أضعف أو تكون أعلى؟ هذا فيه تفصيل عند العلماء سيأتي في مسألة استيفاء القصاص بالمماثلة، وظاهر النصوص أنه يعاقب بمثل ما عاقب به، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسألة.(348/7)
شروط الحكم بأن الإغراق قتل عمد
وقوله: [أو ماء يغرقه].
كأن يلقي المقتول في ماء يغرق مثله غالباً، سواءً كان بحراً أو نهراً أو سيلاً أو بركة أو مسبحاً أو نحو ذلك، كأن أدخله فوطأ رأسه وغالبه حتى لا يرفع رأسه حتى مات، فلا يشترط الإلقاء كما ذكرنا، إنما المهم أن يحصل زهوق الروح وخروجها بالتغريق.
فالشرط الأول: ألا يمكنه الفرار والنجاة.
الشرط الثاني: أن تكون المدة التي حبسه فيها في الماء كافية لزهوق النفس وخروج الروح.
الشرط الثالث: أن يحصل الموت بالتغريق، بحيث لو أنه خرج فإنه ينظر، ففي بعض الأحيان يخرج وقد امتلأت أحشاؤه بالماء ثم يستنفذ ويهلك، وهذا عند بعض العلماء -كما ذكرنا- ينسب لأقرب حادث.
لكن من أهل العلم من قال: إنه إذا خرج وعلمنا أنه لم يقتل بالغرق فليس بعمد ولا قود فيه؛ لأنه من المعلوم في مسألة الغرق أنها راجعة إلى النفس مثل الخنق، والصحيح في مسألة الخنق -كما سيأتينا إن شاء الله- أنه لو بقي بعد الخنق مدة ومرض فيها بفعل ما فعل به، واستتبعت الأمراض أو الأثر، استتبع أثر الجناية حتى أجهز على الروح، فهو قتل عمد، وهذا القول هو الصحيح في هذه المسألة، أنه حتى ولو خرج وأخرج من البحر، أو أخرج من النهر، أو أخرج من البركة التي غرق فيها، واستنزفه الإعياء والجهد حتى مات بفعل هذا التغريق؛ فإنه يحكم بأنه قتل عمد، ويوجب القصاص، ويشترط ألا يتمكن من الفرار كما ذكرنا والدفع.
ثم فصل العلماء إذا كان يمكنه السباحة، فإذا ألقاه في ماء وأمكنه أن يسبح نُظر: فإن كان الماء الذي ألقاه فيه يعييّ السباح، كأن يلقيه في بحر فإلى متى يسبح؟ فلا شك أنه سيهلك، ومما يذكر أن أبا قلابة رحمه الله التابعي الجليل طُلب للقضاء، فامتنع من ورعه، وهذا من مواقفه، فقيل له: أنت العالم والإمام وتمتنع من القضاء، وعندك العلم بالسنة الفقه؟ فقال: أرأيتم سباحاً ألقي في بحر لجي إلى متى؟ أي: أنه سيسبح ويسبح وأخيراً سوف تعييه السباحة فيهلك.
فلا شك أن الإلقاء في البحر والمكان الواسع الكبير، أو الإلقاء في السيل القوي في حال تضعف فيه المغالبة والسباحة، فإنه يضعف فيها تأثير السباحة، ولا يؤثر في الحكم كون الشخص قادراً على السباحة، ولو كان سباحاً ومنعه من السباحة مثل أن يلقيه مكتفاً، فإذا ألقاه مكتفاً في بحر أو نهر، أو ألقاه -والعياذ بالله- في بركة، وهي فاضية ليس فيها ماء ثم سلط الماء عليها، فإنه ولو كان سباحاً فكونه مكتوفاً فإنه سيغرق لا محالة.
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فإذا غرقه سواء ألقاه كما ذكر المصنف، كأن ألقاه مربوطاً، أو ألقاه مطلقاً في مكان لا يستطيع فيه أن ينجو، أو ألقاه في بركة ثم فتح الماء عليه، أو وضعه في موضع وسلط الماء عليه، فإن هذا كله من التغريق، ويوجب القصاص والقود، والقتل به -والعياذ بالله- يعتبر من قتل العمد.
وفي حكم التغريق ما يجري مثلاً في الجرائم، فلو أنه اعتدى على سفينة فثقبها أو ضربها بآلة أو طلق ناري حتى غرقت في بحر أو في نهر، فهذا قتل عمد، فلا يشترط أن يلقيه، فقد يكون على مركب فيصيبه بشيءٍ ويغرق المركب، أو يصدم مركبه حتى ينقلب، ففي هذه الحالة يكون كالإلقاء؛ لأن المهم أن يزهق الروح بفعل مؤثر في هذا الإزهاق بحيث تكون السببية موجبة للحكم بالعمدية كما ذكرنا، فلا يشترط أن يلقيه كما ذكرنا، إنما العبرة بحصول الزهوق عن طريق التغريق، سواء باشره كما لو جاء به فوضعه في حوض ثم طأطأ رأسه حتى خرجت روحه، أو ألقاه مكتوفاً، أو ألقاه في مكان واسع لا يمكنه أن يسبح فيه، فهذه كلها تعتبر من صور العمدية الموجبة للقصاص والقود.
ويشترط أن يكون الزهوق -كما ذكرنا- بالتغريق كالحال في القتل بالنار.
قال رحمه الله: [ولا يمكنه التخلص منهما].
قوله: (ولا يمكنه) الضمير عائد إلى المقتول، أي: ليس في إمكانه وقدرته التخلص، ويستوي في ذلك أن يكون التخلص بنفسه أو بمعين بعد الله عز وجل يستغيث به، فإذا أمكنه أن يصرخ، أو أمكنه أن يتصل أو يستغيث بأحد بعد الله عز وجل ولم يفعل ذلك تحمل مسئولية نفسه.(348/8)
شروط الحكم بأن القتل بالخنق قتل عمد
قال رحمه الله: [أو يخنقه].
الخنق: حبس النفس، والخنق يأتي على صورتين: الصورة الأول: الخنق المباشر، والصورة الثانية: الخنق بآلة، والخنق بالآلة يشمل الخنق بالحبل، والخنق بالسلك، وبالنايلو، مثل الليات ونحوها، فهذا كله يعتبر من صور القتل العمد، إذا خنقه ومنع النفس عنه بآلة أو بدون آلة.
ونبدأ بالآلة: فيشترط في الآلة التي يخنقه بها أن تكون مانعة للنسم، مثل الحبل القوي، فلو ربط على عنقه حبلاً قوياً وشده، سواء شده بنفسه أو شده إلى عالٍ كما ذكر العلماء، مثلما يحصل في الشنق -والعياذ بالله-، فإذا ربطه في شيء ثم شده حتى حبس نفسه فمات؛ فقتل عمد موجب للقصاص، ويشترط أن يكون الحبل -كما قلنا- قوياً.
ومن ذلك أيضاً لو وضع عليه وسادة، كأن يكون نائماً، فدخل عليه ووضع الوسادة عليه فمنع نسمه حتى مات، فهذا قتل عمد، وقد حدث هذا في قصة أم ورقة الشهيدة رضي الله عنها وأرضاها وهي صحابية جليلة، وقد كانت من النساء اللاتي جاهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، فجاءت تسأله أن تكون معه في الغزو حتى تنال الشهادة، فقال لها: (ستأتيكِ الشهادة)، وفي رواية: (أنتِ شهيدة)، فمكثت رضي الله عنها وأرضاها إلى زمان عثمان، وكان عندها عبدان، فتركاها حتى إذا نامت أخذا القطيفة وجلسا عليها حتى فارقت الحياة، فكان يقال لها: شهيدة، وهي حية، فتحققت فيها معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفيت رضي الله عنها شهيدة، ولكنه نوع من أنواع الشهادة.
فهذا الخنق بالمخدات والوسائد، والآلات الكاتمة، وفي زماننا يستوي أن يكون الخنق بالمواد المؤثرة، مثل رش المواد السامة التي تمنع النسم وتقتل، أو وضع الآلات المخدرة بكمية قاتلة على المنديل ونحوه وخنق الشخص به، فكل هذا من صور الخنق.
فالخنق بالآلة إذا كان باللي أو كان بالحبل، يشترط أن تكون قاتلة، وهكذا لو أخذ المنديل فهو قاتل إذا حبس النسم، فإذا خنقه ومنع النسم منه فيشترط ألا يستطيع أن يدفع عن نفسه، كما ذكرنا فيما تقدم في السببية، فإذا أمكنه الدفع والمنع عن نفسه ولم يدفع فلا قصاص.
وكذلك أيضاً يشترط أن يكون الزهوق بالخنق، فلو أنه خنقه ومات بعد الخنق بوقت نظرنا: فإن كان قد استنفذت مقاتله، وأصبح نبضه ضعيفاً جداً حتى مات، علمنا أنه مات بفعل الخنق، وحينئذٍ يجب القصاص.
إذاً: لابد من تحقق هذه الشروط: تأثير الآلة الخانقة، وألا يستطيع الدفع، وأن يحصل الموت بالخنق لا بسبب آخر.
والخنق بالسلك فيه بعض التفصيل من جهة أن السلك في بعض الأحيان يوحي بقطع الرقبة، فإن بعض الأسلاك إذا شدت جرحت، وقد يكون الموت بسبب النزيف لا بسبب الشد، فمثلاً: لو أنه شد شداً لا يحبس كل النسم بل يبقي بعض النسم، فسيبقى الميت فترة طويلة؛ لأن النسم موجود، لكن النزيف يكون سبب وفاته، فالنزيف مستتبع لحكم الخنق، وحينئذٍ لا نقول: إن الموت لم يحصل بالخنق، لما قلنا: إنه وقع، لكنه أشبه فيه أن يكون بالجرح لا بالخنق، وفائدة الخلاف تظهر في مسألة الاقتصاص بالمثل.
فالشاهد: أن الخنق من قتل السببية ويوجب القصاص.(348/9)
الأسئلة(348/10)
حكم قتل المريض الميئوس منه بطلب منه من قبل الطبيب ونحوه
السؤال
إذا كانت حياة المريض ميئوسة وطلب من الطبيب أن يقتله، فهل يجوز طلب ذلك؟ وهل يلحق الطبيب شيء من التبعية إن فعل ما طلب منه؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير، خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه مسألة خطيرة جداً، وهي التي يسمونها: مسألة قتل الرحمة، ولذلك -والعياذ بالله- من غرائب هذا الزمان أن الحرام في هذا الزمان لا يسمى باسمه؛ بل يصدق عليه قول الله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [العنكبوت:38]، وهذا من تزيين الشيطان لعصاة بني آدم، فهناك قتل يقولون عنه: قتل الرحمة، ويسمونه بهذا الاسم، وصدق عليهم قول الله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11].
وهذا القتل الذي يسمونه بقتل الرحمة يكون المريض ميئوساً من علاجه، فيقولون: لماذا يتعذب؟ يعطى إبرة تقضي عليه فيرتاح من عذاب المرض، ومن آلام المرض، وهذا لاشك أنه اعتداء وقتل عمد، وسيأتينا -إن شاء الله- في مسألة القتل بالسم، فحقن المواد السامة في جسم الإنسان التي يقتل مثلها يعتبر قتل عمد، والطبيب إذا فعل ذلك فإنه يعتبر قاتلاً، وللعلماء كلام في مسألة من قال لغيره: اقتلني، فإذا قال لغيره: اقتلني، فله صورتان: الصورة الأولى: أن يكرهه على قتله، فيقول له: إن لم تقتلني سأقتلك، ففي هذه الحالة لا قصاص ولا دية على القاتل؛ لأنه في هذه الحالة هدده، وله الحق أن يدفع عن نفسه، ولم يستبح نفساً محرمة، وسقط القصاص لوجود الإذن بالقتل، وسقطت الدية لأنه مستتبع لحكم القصاص، كما سيأتينا إن شاء الله في باب الديات، في مسألة: إذا طلب من الغير أن يقتله.
وعلى كل حال: هذا القتل لا يجوز، وقد قالوا: إنما ذلك لأجل أن الشخص يتعذب بالآلام، بل توسع الأمر إلى درجة -والعياذ بالله- أنهم نظروا في الأشخاص المتخلفين عقلياً، ووجدوا أنهم عبء على أهليهم وعبء على ذويهم، فيحقنونهم بمواد تقضي عليهم، وهذا لاشك أنه من الاعتداء على حدود الله عز وجل، والإنسان وصفه الله عز وجل وقال: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، وهناك قاعدة يضعها طالب العلم بل يضعها كل مسلم نصب عينيه، وهي أن الطب له جانبان إن خرج عنهما فليس بطب، ولا تأذن له الشريعة أبداً: الجانب الأول: علاج الأسقام ومداواة الجروح ونحو ذلك، وهو إصلاح الفاسد في الجسد.
الجانب الثاني: بذل الأسباب التي تحول بين الإنسان وبين الوقوع في المرض والسقم، وهو الذي يسمى بالطب الوقائي، فالأول يسمى: الطب العلاجي، والثاني يسمى: الطب الوقائي، فإن فعل الطبيب أي فعل في الآدمي خارج عن العلاج، أو خارج عن الوقاية؛ فهذا ليس بطب، وقد خرج عن رسالة الطب، وخرج عن الإذن الشرعي بالطب.
فإذا قال: إن هذا مريض يتألم ويحصل له كذا وكذا، فنقول له: أنت طبيب تداوي، فإن أمكنك أن تداوي بذلت ما في وسعك، وإذا لم يمكنك أن تداوي فلا تدخلن بين المخلوق والخالق، فإن هذا ليس إليك، ولست أنت الذي ترحم، وليس بيدك الرحمة، إنما هي بيد الله سبحانه وتعالى الذي وسعت رحمته كل شيء، ولا تكن كمن قال الله فيهم: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات:16]، فلست أنت الذي تعلم الله من هو الذي يُرحم والذي لا يُرحم.
ارحم بشيء تملكه، وشيء لا تملكه ليس من صنعك، وقد تكون هناك درجات من درجات العلى في الجنة جعلها الله لولي من أوليائه بعذابه في المرض والسقم، وقد يجعل الله عز وجل في قرارة قلبه من اليقين ما يتلذذ به بهذا السقم والمرض، وقد كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم، وبعض السلف لما مرض في الطاعون كان يقول: (اطعني فوعزتك وجلالك إني لأتلذذ بما يصيبني منك)، وهذه هي منزلة الرضا عن الله عز وجل.
فلست أنت الذي تتدخل بين المخلوق والخالق، فهذه أشياء لا دخل للإنسان فيها، وليست من رسالة الطبيب، فإن حدود الطبيب محصورة، والله عز وجل بعزته وجلاله وقدرته وعظمته وكماله جعل كل شيء لغيره محدوداً قاصراً، فمهما بلغ من القوة ومهما بلغ من المنزلة في العلم والإدراك للأشياء، فإنه يقف عند حد معين، ليقف ذليلاً أمام عزة الله جل جلاله، مهاناً أمام كرامة الله، يقف مكتوف اليدين أمام الله الذي علَّمه، وعندها يعلم علم اليقين أنه لا حول له ولا قوة، ولذلك مهما تقدم الطب فسيصل إلى درجة لن يستطيع أن يتقدم عندها؛ لأن الله قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وسيقولون: إن هذا لا علاج له عندنا، لكي يعلم كل أحد أن الله سبحانه وتعالى وحده الذي يشفي من المرض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك).
هنا تظهر عظمة الله عز وجل، فيعيش المريض يئن ويتألم في المستشفى، والأطباء واقفون، حتى يدخل كل شخص إلى المستشفى فيعلم أن الطبيب لا يملك له مثقال خردلة ولا أقل من ذلك من دون الله عز وجل، فهذا كله فيه أسرار وحكم، ولكن الذين كفروا لا يعقلون.
وهذه أشياء ما كان يعرفها المسلمون، فما كان المسلمون كلما مرض مريض حقنوه بحقنة وقضوا عليه، ما كانوا يفعلون هذا أبداً، ولكن بحكم الاتصال بالكفار وسهولة المعرفة كما يقولون، أصبح شيئاً مألوفاً، وإلا فالمسلمون يعرفون الرضا، والتسليم بقضاء الله وقدره، ويعيش المريض ويأتي شخص ويقول لك: هذا المريض جالس عند أهله سنة أو سنتين وقد عذبهم وما يدريك أن هذه السنة والسنتين كم أصلحت من قلب كان فاسداً، وكم قومت من شخص كان معوجاً، وكم سددت من شخص كان تائهاً بعيداً عن الله سبحانه وتعالى، فقد يعيش مريض في البيت ويئن ويتألم فإذا بالشاب السوي القوي يتذكر أنه إذا شاب وهرم سيئول إلى هذا المآل، فيخاف من معصية الله عز وجل.
فهناك حكم وأسرار كثير من الناس لا يعقلها ولا يعلمها، وأشياء لا يتدخل فيها الإنسان، أما الطب فله حدوده إذا رأى مفسدة أن يزيلها، أما حكم ومصالح ذلك المرض فلا يعلمها إلا الله عز وجل، والله أرحم بخلقه من خلقه بأنفسهم، قال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها).
المقصود: أن هناك حدوداً ينبغي الوقوف عندها، وإذا خرج الطب عن هذه الأمانة والمسئولية من مداواة الأجساد، ووضع الأسباب، والحيلولة بين الأجساد والأسقام بقدرة الله عز وجل؛ فإنه ليس بطب، وإنما هو العبث، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يزن الطب بهذا الميزان، قال صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء)، وقال في الحديث الآخر: (علمه من علمه وجهله من جهله).
فنحن نقول: لا يجوز هذا الأمر، وهو حقن المريض بما يؤدي إلى موته، ولو كان مرضه ميئوساً منه، ولو كان قد استنفذت مقاتله، فيسلم الأمر لله سبحانه وتعالى، فلا يجوز للطبيب ولا يجوز لأولياء المريض ولا للمريض أن يأذن بهذا الأمر الذي لا يحله الله ولا رسوله، والله تعالى أعلم.(348/11)
حكم من أرسل غلاماً لمنفعة فلدغته حية فمات
السؤال
إذا أرسل رجل ولداً صغيراً يشتري شيئاً، وفي الطريق نهشته حية فمات، فماذا يترتب على هذا الرجل من الأحكام، أثابكم الله؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: فإذا كان الموضع الذي أرسله إليه فيه حيات وفيه هوام، فلا شك أنه غرر به، وتكون سببية قوية مفضية للهلاك، وأما إذا كان الموضع لا توجد فيه الحيات، فهذا صادف قدراً وسببية ضعيفة، والمباشرة هي القاتلة، ومن أهل العلم من قوى السببية.
وبناءً على ذلك فإن قال: تعمدت، ففي الصورة الأولى حينما كان الموضع فيه حيات، فعند العلماء تفصيل في مسألة الحية، إذا أرسل شخصاً إلى موضع فيه حية أو عقرب سام أو سبع قاتل، والحية والعقرب يشترط أن تكون سامة، يقتل سمها، فإذا أرسله إلى هذا الموضع فينظر في الموضع: فإذا كان الموضع يمكنه فيه الفرار، فهذا لا قصاص فيه ولا قود في مذهب طائفة، كما يختاره أئمة الشافعية.
لكن بعض العلماء -كما هو في مذهب الحنابلة- يفصلون، ففي بعض الأحيان إذا كان مثل الصبي هذا يندهش ولا يحسن النظر لنفسه، فمسألة التفصيل في قتل الحية بين أن يكون الموضع يمكن فيه الفرار، يقولون: إن الحية تفر من الآدمي، فبعض العلماء يقول: إن القتل بها ليس بقتل عمد، كما لو جمع بينه وبين حية في مكان، فقالوا: لو قتلته فليس بقتل عمد؛ لأن الحية تفر من الآدمي، وإذا رآها فر منها، وإذا فر منها تشجعت، حتى إنهم يقولون: إن السبع يتشجع حينما يرى الشخص يفر، ولذلك إذا ثبت ووقف فإنه لا يصاب بأذى، وأما إذا كان الفرار ممكناً فلا إشكال، لكن المشكلة أنه في بعض الأحيان يكون عاجزاً، كأن تكون الأرض أرض طين ووحل، فالفرار لا يفيد، فالأفضل أنه يقف، وهو سيقع سيقع، فالأفضل أن يكون مقبلاً غير مدبر.
وعلى كل حال: في هذه المسألة إذا كان قد غرر بالطفل فهذا قتل تغرير، وقتل التغرير إذا قال: قصدت قتله، فهذا شيء، وإذا قال: ما علمت أنه يقتل، فإنه يكون نوعاً من الإهمال، وبعض العلماء يوجب فيه الدية؛ لأنه عرضه إلى القتل بسببية قوية التأثير في زهوق الروح، والله تعالى أعلم.(348/12)
حكم من سقط من علو على سيارة واقفة فمات
السؤال
رجل كان واقفاً بسيارته في أحد الشوارع، فسقط رجل على سيارته فمات، فهل يكون صاحب السيارة سبباً في القتل، وتكون عليه الدية، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسائل أصلاً مردها إلى القضاء، لكن طالب العلم ينبغي أن يعلم حكم هذه المسائل، فإذا سقط شخص من مكان عالٍ على سيارة شخص، فإنه يجب الضمان على صاحب السيارة، والسبب في هذا: أن الارتطام وقع على السيارة، ومن دقة الشريعة أن أي شيء تملكه فلك غنمه وعليك غرمه، فإن هذا الشيء لو أصبحت قيمته مليوناً فإن ربحه لك، ولو تسبب في ضرر أحد فأنت المسئول عنه.
وفي هذه المسألة: لو أن السيارة حركت عن موضعها لكان القتل بسبب الارتطام على الأرض، ويحتمل أنه يرتطم على الأرض ولا يموت، ولكنه ارتطم بسيارته فمات، فجميع ما يحصل للسيارة ويكون من السيارة غنماً وغرماً فأنت المتحمل له، فكما أنك تأخذ غنمها فعليك غرمها، ولذلك المعمول به والذي عليه العمل عند مشايخنا، وينقل هذا عن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، أنه يعتبر قتل خطأ، ويجب عليه ضمانه، فتجب الدية على صاحب السيارة.
لكن هناك تفصيل في مسألة إذا دفعه شخص؟ فإن هذه فيها تفصيل قد نتعرض له -إن شاء الله- في مسألة الاشتراك، والله تعالى أعلم.(348/13)
حكم صلاة الوتر بين الأذان والإقامة لصلاة الفجر
السؤال
هل يجوز للإنسان إذا أذن المؤذن ولم يصل الوتر، فهل يجوز له أن يصليها بعد فراغ المؤذن من الأذان في صلاة الفجر، أثابكم الله؟
الجواب
الوتر ينتهي وقته بأذان الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوتروا قبل أن تصبحوا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر، وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء والفجر)، فهذه النصوص تدل على أن الوتر ينتهي بطلوع الفجر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة)، فإذا أذن المؤذن فجمهور العلماء على أنه قد انتهى وقت الوتر ولا قضاء بين الأذان والإقامة، ويكون القضاء بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى زوال الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فاته حزبه من الليل فقرأه ما بين طلوع الشمس إلى زوالها كتب له كأنما قرأه من ساعته).
لكن لو أنك ركعت ورفعت رأسك من الركوع ثم أذن المؤذن، فقد تم لك الوتر، فتستمر في الدعاء، ولا بأس أن تدعو بين الأذان والإقامة، وهو وقت إجابة، ولا بأس لو طولت في الدعاء، أما إذا أذن المؤذن قبل أن تركع وقبل أن تكبر تكبيرة الركوع وتنتهي منها، فقد انتهى وقت الوتر، فتقلبها شفعاً وتتمها شفعاً، والله تعالى أعلم.(348/14)
نصيحة لمن ابتلي بالوسوسة
السؤال
أنا شخص مبتلى بالوسوسة ولا أنام الليل أفكر في الموت، وأصبحت حياتي كلها هم، وأصبحت أنظر للحياة نظرة يائس منها، علماً أن هذا الداء لم يكن فيّ إلا أنه أصابني منذ شهرين، وقد بلغ بي البلاء ما لا أستطيع وصفه، وأرغب في توجيه منكم علّ كلماتكم تكون لي بلسماً، وأرجو منكم الدعاء لي، وجزاكم الله عني وعن المسلمين خير الجزاء؟
الجواب
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفرج همك، وأن يكشف غمك، وأن يشفيك، وأن يعافيك، وأن يعافي كل مسلم.
أخي في الله! الشكوى إلى الله الذي هو منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، سبحانه لا إله إلا هو، وهذا البلاء قد يكون بسبب ذنب، فتفقد نفسك في حقوق الوالدين والرحم، وحقوق المسلمين خاصة العلماء والصالحين والدعاة، فقد تكون آذيت أحداً منهم؛ لأن الإنسان قد يبتلى بالبلايا العظيمة بسبب الذنوب فيحذر من هذا، ولذلك يحذر طالب العلم من التعرض لأولياء الله، وكذلك قد يجعل الله لك هذا البلاء لحكمة يريدها الله عز وجل، كي يرفع به درجتك ويعظم به أجرك، فأحسن الظن بالله عز وجل.
أما العلاج: فأول شيء كثرة الدعاء، وإذا جئت تدعو الله عز وجل فاستشعر في قلبك عظمة الله سبحانه وتعالى، خاصة في رحمته، وأنه أرحم بك من والديك، ثم تأمل لو أن والدك ووالدتك اللذين هما أرحم الناس بك، لو نظرا إلى حالك وبيدهما بعد الله شفاؤك لتقدما بشفائك، وما بالك بالله عز وجل الذي هو أرحم بك من والديك، فإذا شعرت هذا الشعور اعتمدت على الله، وارتاح قلبك؛ لأنه ليس عند الله إلا كل خير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب)، وهو سبحانه غاية في الكرم والإحسان والبر.
فتقوي صلتك بالله عز وجل؛ لتدفع عنك هذه الوساوس، فيضعف سلطان الشيطان على قلبك، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم إذا اشتكى إليه الموسوس والمهموم يوصيه بكثرة التفكر في عظمة الله؛ لأن ذكر الله عز وجل يضعف سلطان الشيطان على القلب، فإذا تفكر في عظمة الله وملكوت الله عز وجل ذكر الله، والله يذكر من ذكره، وحينئذٍ يضعف سلطان الشيطان على القلب؛ لأنه لا يمكن أن يتسلط على قلب معمور بتوحيد الله والإيمان بالله، فأوصيك أن تأخذ بهذا الشعور: رحمة الله عز وجل بعباده، ولا تظن بربك إلا كل خير، واسأل الله المسألتين، فقل: اللهم إن كان لي الخير في هذا البلاء وأن يبقى فيِّ والخير أن أصبر، فأفرغ عليَّ صبراً يرضيك عني، فإذا بلغت هذا المبلغ نعمت عينك وقرت وجعل الله العاقبة لك، والأمور بعواقبها.
فلو عاش الإنسان في هذه الدنيا وقد فرشت له الأرض ذهباً عن يمينه وشماله، ومن أمامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته فلا خير فيها إن لم تحسن العاقبة، فهذا فرعون الطاغية كان في نعمة ورغد من العيش لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25] {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:58] {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:27]، و (كم) للتعظيم والتكثير، فقد كانوا بهذه الحالة، ولكن كانت غايتها أن أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات:25] {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:16] فماذا نفعه ذلك كله؟ إذاًَ: ضيق الدنيا وسعتها لا عبرة به ما لم تحسن العاقبة، وكم من شخص يعيش في هم وغم وكرب لا يعلمه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن سلم من العناء في نفسه جاءته بنته تشتكي، وجاءته زوجته تشتكي، وجاءته أخته تشتكي، وجاءه أخوه يشتكي، وجاءته الدنيا من كل حدب وصوب، فلا يسلم من هم حتى يقع فيما هو أكبر منه، أو أعظم بلاء منه، ولكن ما هي العاقبة؟ إذا كانت هذه الهموم تجر العبد إلى ربه جراً، وتستوجب الرحمات وسحائب المغفرات، وتكفر الذنوب والخطيئات، فيا له من مقام، ينعم به عيشه ويرغد به حاله! قال عليه الصلاة والسلام لتلك المرأة: (إن شئت دعوت لكِ، وإن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، قالت: أصبر يا رسول الله) وهذه هي العاقبة، فلا تفكر فيما فيك، بل فكر في العاقبة، وفكر أن لك رباً، وأنه هو الذي ابتلاك، وأنه هو الذي أنزل الداء ومنه الشفاء والدواء سبحانه لا إله إلا هو، فاستسلم، وما من عبد ينزل به البلاء فيسلم لله ويستسلم لله إلا تأذن الله له بالفرج.
ولذلك قال الله عز وجل: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أي: استسلم لله، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105]، فجاء الفرج من الله عز وجل، وهي لحظة قتل وموت وفراق لهذه الدنيا، ومع ذلك قتل من؟ من يحبه ويهواه وفلذة كبده، وحينما أسلم واستسلم لله قال العلماء: هنا جاء الفرج من الله؛ لأن إبراهيم استسلم لله استسلاماً كاملاً، ولذلك مدحه الله في الموحدين المخلصين الموقنين، وجعل له لسان صدق في الآخرين، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين، بالإخلاص واليقين والشعور بالرضا عن الله عز وجل.
فالعبرة بالعواقب، والإنسان إذا تفكر في العاقبة هان عليه كل شيء، ولذلك لما قال لها: (إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة)، فلما كانت عاقلة حكيمة نظرت للعاقبة فقالت: (أصبر يا رسول الله)!، أفوض الأمر لله عز وجل، وكم من عبد يسلط الله عليه البلاء بالهم والغم والنكد؛ لأن الله يعلم أنه لو كان في عافية لطغى وبغى، فيلطف الله به من حيث لا يشعر، ويقاد إلى الجنة بالسلاسل، بالهموم، بالغموم، بالنكبات، بالفجائع: (إن من عبادي من لو أغنيته أطغيته) يطغى لكن الله يحبه في الصالحين ولا يحبه في الطغاة المجرمين.
ولذلك مما يسلي العبد: استشعار ما له من الأجر والمثوبة عند الرحمن، فكل زمن مر عليك وأنت مبتلى صابر كتبت لك ثوانيه ولحظاته ودقائقه وساعاته في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعلمها رب لا تخفى عليه خافية، سمع فيها شكواك وبثك وحزنك، وأنت تبث حزنك إليه سبحانه، وتشتكي إليه سمعك متضرعاً سائلاً متوجعاً متفجعاً قلقاً، ومع ذلك لم يستجب لك الدعوة عاجلاً، فكتب لك بها درجات، أو صرف عنك مثلها من البلاء، فلا تدري كم لك في هذه الدعوات من خيرات وبركات وعواقب صالحات لا يعلمها إلا فاطر الأرض والسماوات.
ولو علم أهل البلاء ما لهم عند الله يوم القيامة، لتمنوا أن حياتهم كلها كانت بلاء، ولو علم أهل البلاء ما لهم عند الله عز وجل من الأجر والمثوبة لتمنوا أنهم منذ نعومة أظفارهم وهم في البلاء، لعظيم ما يجدون عند الله عز وجل، ويكفي المبتلى قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، تمضي الليلة على أخيك مثلما مضت عليك، لكن يكتب لك في ميزان حسناتك ما الله به عليم، وعلى ذلك الشقي الذي أغوي بالمال والجمال والشباب والصحة والعافية الشقاء، فينغمس في معصية الله عز وجل، فنجوت وهلك غيرك، شهران لم يقر قرارك ولم تهنأ نفسك، ولكن ربك ليس بغافل عنك، فأبشر بكل خير، وأحسن الظن بالله، وارج من الله الفرج.
ومما أدعوك إليه كثرة الاستغفار؛ لأنه سبب الرحمة، وكذلك أيضاً عليك بكثرة قراءة القرآن؛ لأنه شفاء لما في الصدور، ودفع للوساوس والقلق، ومما أدعوك إليه أن تتفكر في أن الموت ليس بهم ولا غم، وإنما الهم والغم أن يكون الله غاضباً عليك، فإذا كان الله غاضباً على عبده فويل له إذا لقي ربه، وويل له من ساعة موته وفراقه لدنياه، وأما إذا كان ربه راضياً عنه فما أسعدها من ساعة وما أسعدها من لحظة! قال صلى الله عليه وسلم حينما قالت فاطمة: (واكرب أبتاه! قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم).
ولذلك قال الله عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34] أذهب عنا الحزن؛ لأنهم عاشوا حياتهم كلها حزن، وأهل الإيمان من حزن إلى حزن، ومن هم إلى هم، ومن غم إلى غم، حتى تطأ قدم عبد الله الصالح الجنة، فينسى كل هم مر به أبداً، وفي الحديث الصحيح: (أنه يؤتى بأبأس أهل الدنيا ثم يغمس في نعيم الجنة غمسة ويقال: عبدي! هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا وعزتك ما مر بي بؤس ولا مر بي هم ولا مر بي غم)، مما رأى من نعمة الله عز وجل ومن كرامة الله سبحانه وتعالى ومن حسن العاقبة.
فليبشر كل مبتلى، وليحسن الظن بالله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفرج همومنا وغمومنا، وأن ييسر أمورنا، وأن يصلح أحوالنا، وأن يفرج عن كل مسلم مهموم مغموم همه وغمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(348/15)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [4]
من أنواع القتل العمد: القتل بالسببية، وهو أن يتسبب الشخص في قتل الغير دون أن يباشر القتل بنفسه، وللقتل بالسببية صور كثيرة: كأن يحبسه ويمنعه من الطعام والشراب حتى يموت، أن يقتله بالسحر، أو يقتله بالسم، أو يشهد جماعة زوراً على رجل بما يوجب القتل فيقتل وكل هذه الصور لابد فيها من شروط حتى يحكم بكون القتل عمداً يجب فيه القصاص.(349/1)
من صور القتل العمد بالسببية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [أو يحبسه ويمنعه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالباً].(349/2)
شروط الحكم بأن القتل بالحبس قتل عمد
ما زال المصنف رحمه الله يذكر الصور التي تتعلق بالقتل بالسببية، ومنها هذه الصورة، وهي: أن يحبس القاتل المقتول، ويمنعه من الطعام والشراب، وتمضي مدة يموت الإنسان فيها غالباً، وهذه الصورة لا شك أنها تفضي إلى القتل في غالب الأحوال، والذي عليه المحققون من أهل العلم رحمهم الله أنه لا يحكم بمدة معينة تحدد، بحيث يقال: إذا حبس فوق ثلاثة أيام أو أربعة أيام فيحكم بكونه قتل عمد، إنما ينظر إلى حال الشخص، والمدة التي حبس فيها، وطبيعة الحبس.
والأصل في هذا أن الطعام والشراب يرتفق بهما البدن، ولا يمكن للإنسان أن يعيش من دون طعامٍ وشراب، ولكن إذا وقع المنع للمقتول من الطعام والشراب فيفصل فيه العلماء من جهة كونه مدة لا يموت فيها الإنسان غالباً، فلو حبس عنه الطعام والشراب يوماً واحداً ثم مات، فإنه يغلب على ظننا أن موته ليس بسبب حبس الطعام والشراب، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى فرض الصيام، والصيام لا يقتل الإنسان، ولو كان يقتل الإنسان لما شرعه الله عز وجل، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله أنه لو حبسه يوماً ومنع منه الطعام والشراب فمات، فالغالب أنه مات بسببٍ آخر لا بسبب حبس الطعام والشراب.
ومن هنا اشترط أهل العلم رحمهم الله أن يكون منع الطعام والشراب مدة مؤثرة، ويرجع في ذلك للأطباء والحكماء؛ لأنهم هم أهل النظر وأهل الخبرة في أحوال الأشخاص.
إذاً: هذه الصورة يشترط فيها أولاً: أن يكون هناك حبس، فلما قال المصنف: (أن يحبس) دل على أنه لو كان بيد المقتول أن يأكل ويشرب، وامتنع المقتول من الأكل والشرب؛ كان قاتلاً لنفسه، وعلى هذا فلو أضرب عن الطعام فإن إضراب المسجون عن الطعام حتى يموت يعتبر من الانتحار، وهو قاتلٌ لنفسه، فإذا كان بإمكانه أن يأكل وبإمكانه أن يشرب وامتنع من الأكل وامتنع من الشرب، فإنه يكون قاتلاً لنفسه والعياذ بالله! كذلك يشترط في هذا الحبس والمنع أن يكون مؤثراً، وقد ذكر العلماء من صوره في القديم: تطيين البيت، فقد كان البعض إذا أراد أن يقتل الشخص يدخله في بيت ويطين عليه البيت، فيسد عليه منافذه بحيث يتعذر على من بداخله الخروج، فهذا التطيين يحقق شرطاً اعتبره العلماء في الحبس عن الطعام والشراب، وهو: ألا يتمكن المحبوس من الاستغاثة، وألا يتمكن من طلب النجدة بالغير، فإذا أمكنه أن يستنجد وأن يستغيث -بعد الله عز وجل- بالغير ولم يفعل، وقصر في هذا حتى مات؛ فإنه لا يعتبر قتل عمدٍ من كل وجه، ولا يجب القصاص، وهذا مبني على ما تقدم معنا أنه متى ما أمكن للمقتول أن يدفع الضرر عن نفسه وقصر في ذلك فإنه لا يحكم بقتل العمد، ولا يحكم بالقصاص؛ لأنه هو الذي قصر في حفظ نفسه والدفاع عنها.
ومثل ذلك ما هو موجود الآن في زماننا، كأن يدخله في غرفة ويغلق عليه ثم يكمم فمه أو يربطه ويربط يديه، حتى لو كان أمامه طعام وشراب فلا يستطيع أن يأكل، بحيث يتعذر عليه أن يدنو من الطعام ليأكل منه، المهم أن يتحقق مانع وحائل من الوصول إلى الطعام والشراب.
إذاً: لابد أن يكون الحبس لا يتأتى معه استغاثة.
الشرط الثاني: أن تمضي مدة مؤثرة، فإذا مضت المدة المؤثرة التي يموت فيها الإنسان إذا حبس عن الطعام والشراب حكم بالقصاص، ووجوب القود.
أما لو لم تمض المدة -كما ذكرنا- كأن يكون يوماً، فشبه اتفاق على أنه لو مضى يوم فليس بقتل؛ لأن الله شرع الصوم -كما ذكرنا- وهذا لا يموت الإنسان فيه.
وانظر إلى دقة المصنف حينما قال: (غالباً)، وهذا مبني على القاعدة المعروفة: أن الحكم للغالب والنادر لا حكم له، فنحن نربط الأحكام الشرعية بالغالب، فغالب الحال أنه لو مضت ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك فإنه يموت الإنسان في الغالب، لكن بعض العلماء يشكك في هذا، ويقول: إنه لا يحد في هذا بحد، وإنما ينظر في كل قضية بعينها وبحسبها، وهذا لا شك أنه أدق وأولى، ويكون للقاضي وأهل النظر والخبرة القول في هذا.
ويبقى
السؤال
لو منع عنه الشراب ولم يمنع عنه الطعام، أو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب، فهل هو قتل؟ هناك خلاف بين العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم يقول: إذا منع عنه الشراب لمدة مؤثرة فإنه يعتبر قتل عمد، وهذا هو الصحيح؛ فإن الله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]، فدل على أن حبس الماء عن المسجون أو الممنوع مؤثر، وأنه لو مات من هذا المنع والحبس فإنه يعتبر قتل عمدٍ على أصح قولي العلماء.
ولو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب فقال بعض العلماء: إنه ليس بقتل؛ لأن الماء قد ينتفع به البدن، واستدلوا على ذلك بقصة أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه مكث أربعين يوماً يغتذي بماء زمزم، وهو مستتر تحت ستار الكعبة، ويشرب من زمزم، ومع ذلك لم يهلك ولم يمت، فقالوا: إذا منع عنه الطعام ولم يمنع الشراب فليس بقتل عمد، والدليل أن أبا ذر عاش، وهذا محل نظر؛ وذلك لأن أبا ذر رضي الله عنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنه طعام طعمٍ وشفاء سقم؟) فهذا خاص بماء زمزم، والخاص لا يثبت حكمه على سبيل العموم، فهذه خاصية في زمزم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها طعام طعم وشفاء سقم)، فإذا منع من الطعام وسقي زمزم وبقي يغتذي بزمزم، فهذا خاص وليس بعام؛ ولذلك ضعف بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من هذا الوجه.
وعلى كل حال فالمنع من الطعام، والمنع من الشراب، متى ما كان على صورة مؤثرة فإنه يوجب القصاص والقود إذا أزهق النفس.
ومن أهل العلم من قيد طبيعة المنع بأنه لا يشترط فيه الرباط، فلو منع في داخل البيت، وفي زماننا داخل الشقة أو داخل غرفة من الغرف، وأغلقت عليه؛ فإن هذا يعتبر كافياً في الحكم، وهكذا لو رماه في بئرٍ فإن هذا يعتبر قتلاً، والأصل في هذه المسألة -أن حبس الآدميين عن الطعام والشراب يعتبر قتل عمدٍ موجبٍ للقصاص- ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فدل على أن هذا يعتبر قتلاً، وأنه إذا منعت النفس من طعامها ومن شرابها حتى مضت المدة المؤثرة فإن هذا يعتبر إزهاقاً للروح، وقتل عمدٍ موجبٍ لثبوت القود والقصاص.(349/3)
القتل بالسحر وشروط الحكم بأنه قتل عمد
قال رحمه الله: [أو يقتله بسحرٍ].
سيأتينا إن شاء الله الكلام على السحر وأحكامه في كتاب الردة بإذن الله عز وجل، وهو من أخبث أنواع الضرر وأسوئها وأعظمها شراً في العباد والبلاد، ولكن الله لحكمته ابتلى عباده بهذا البلاء، وجعل السلوان لمن ابتلي به في رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سحر حتى خيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله.
ليكون في ذلك سلواناً لمن يبتلى بهذا البلاء، وهو تسلط من الأرواح الخبيثة الشريرة على النفس فتضرها.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن السحر يؤثر ويضر في البدن، وأنه يقتل، وأنه يحدث للإنسان النسيان والبغض والكراهية، ويحدث فيه المحبة والتعلق والعشق، ويحدث منه تصرفات غير منضبطة، وكل هذا من الشر والبلاء الذي جعله الله عز وجل اختباراً وامتحاناً لعباده، ومن ابتلي بهذا البلاء فصبر ووثق بالله عز وجل، وسلم قلبه لليقين بالله سبحانه وتعالى، فإن الله لا يخذله، بل يجعل له من حسن الجزاء في الدنيا والآخرة ما لم يخطر له على بال.
والسحر أمره صعب، والقتل به ليس كالقتل بغيره، ولذلك يختلف القتل بهذه الأساليب الخفية عن القتل بالأساليب المعروفة، كالقتل بالسيف -كما تقدم- وبالمثقل، والقتل بالأسباب التي تقدمت، فإنها واضحة جلية، ولكن القتل بالسحر قتلٌ بأسبابٍ خفية، ولذلك من الصعوبة بمكان دخول هذه المسألة على القضاء؛ لأن القاضي لا يستطيع أن يثبت عنده هذا إلا إذا أقر الساحر، فإذا جاء وأقر وقال: نعم، أنا قتلته، فهذا فصل فيه العلماء رحمهم الله، وبينوا أن السحر ينقسم إلى أقسام: قسمٌ يقتل، وقسم لا يقتل، فإذا جاء الساحر وأقر واعترف عند القاضي وقال: لقد سحرته، ثم قال: إن سحري الذي سحرته به يقتل، فحينئذٍ يحكم به.
وتأتي المسألة التي معنا أولاً: أن يقر الساحر أنه سحره، ويعترف بهذا، وثانياً: أن يقول: إن هذا السحر الذي استخدمه قاتل، ويعرف أنه قاتل من خلال التجربة -والعياذ بالله- أو من الممارسة مع غيره، أو من نفس طبيعة السحر ومن أثره حينما سحر الشخص وحدث منه ما حدث، فهذا كله يدل على أن سحره قاتل -والعياذ بالله-، فإذا اعترف وثبت عند القاضي أن سحره قاتل، فحينئذٍ القتل هنا بالسحر موجب للقصاص، وموجب للقود، كما صرح به الأئمة رحمهم الله، لكن المشكلة الآن أن الناس توسعوا في الحكم بالسحر، وقد تتسلط الأرواح الشريرة على الناس بالكذب وادعاء أشياء لا حقيقة لها، فبعض القراء -أصلحهم الله- إذا قرأ على الشخص وجاءه القرين وقال له: سحره آل فلان، صدق القرين، ثم قال للمسحور أو قرابة المسحور: إن امرأتكم أو ابنكم سحره فلان أو فلانة، وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقك وهو كذوب).
والأرواح الشريرة التي هي الشياطين دائماً تريد الشر لبني آدم {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6] {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف:50]، فأخبر الله أنهم أعداء، فمثله لا يصدق؛ لأنه عدو، والعدو يكذب على عدوه، والمعاداة تستلزم الخديعة، ولذلك فلا يجوز للقراء أن يقطعوا ويجزموا بأن فلاناً سحره فلان، فيتهم شخص بأنه سحر آخر ما لم يقر ذلك الشخص أنه سحر، وأنه فعلاً سحره أو أمر من يسحره؛ لأن الأصل البراءة، ولا يجوز اتهام الناس إلا ببينة ودليل، والذي شهد أن فلاناً سحر فلاناً لا نعرف من هو أصلاً، فقد يكون في بعض الأحيان يتكلم الشخص الممسوس وهو في غير شعوره، أو عنده وسوسة أن فلاناً يؤذيه، فإذا ضغط عليه أو كان في حالة فسيتكلم بما في مكنون في نفسه ويقول: فلانٌ سحرني وفلان أضرني، ولذلك -من باب التنبيه- فلا ينبغي للقراء أن يتعاطوا القراءة على الماس ما لم تكن عندهم تجربة على أيدي أهل الخبرة والنظر؛ لأن هذا أمر صعب جداً، وفيه أمور حساسة جداً تتعلق بأرواح الناس وأسرارهم.
فينبغي أن يكون القارئ محافظاً على أرواح الناس وأسرارهم وعوراتهم مثلما يقع للأطباء، فالقراءة نوع من الطب، ومثلما يقع للعلماء والمفتيين، فقد تجد بعض طلاب العلم إذا لم يتمرن على أيدي العلماء كيف يتعامل مع فتاوى الناس وأسئلتهم، فقد يوقع الناس في كثير من الحرج، وربما تعجل في الفتوى في أمور لا ينبغي أن يفتي فيها، وربما تعاطى أموراً تضر ولا تنفع، وتفسد ولا تصلح، والسبب في هذا أنه لم يأخذ هذا العلم عن بينة وبصيرة، وإن كانوا لا شك يريدون مصلحة الناس -نحسبهم كذلك- ويريدون الخير للناس، لكن لا بد أن يكون عندهم خبرة ومعرفة.
فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم حينما جاءه أبو هريرة، وأخبره خبر الشيطان معه في الثلاثة الأيام حينما كان يأخذ من تمر الصدقة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجع إليه أبو هريرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ما فعل صاحبك البارحة؟ حتى تتبين لـ أبي هريرة رضي الله عنه حقيقة الأمر، فما ترك الكتاب والسنة شيئاً إلا وبينه، وهذه من نعم الله عز وجل على هذه الأمة، كما قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا طائر في السماء يقلب جناحيه إلا وعندنا منه خبر)، فمن عظمة الله عز وجل وجلاله سبحانه ما وضع في هذا الدين من الكمال، فانظر إلى هذه القصة العجيبة الطريفة كيف جاءت بكلمتين: (صدقك وهو كذوب)، ولو جئت لتستخرج من هاتين الكلمتين مسائل وأحكام لاستخرجت ما لا يقل عن عشرين مسألة.
فقوله: (صدقك) إثبات ما قاله، وتتفرع عليها المسائل المنبنية على شرعية قراءة آية الكرسي وفوائدها، وآثارها، لكن بعدها (وهو كذوب) أي: الحال أنه في الأصل كذوب، والأصل أنه لا يصدق، فيأتي تفريع مسألة القرين والشياطين، وما هو الأصل في أقوالهم وأخبارهم، فلما قال: (وهو كذوب) لم يقل: وهو كاذب، بل كذوب: فعول وهي صيغة مبالغة، ولو قال: كاذب لكان الأمر شر، فلما قال: كذوب، كان الأمر أشر، ومعناه: أنه كثير الكذب حريصٌ عليه، وأن من شأنه الكذب، فكيف يصدق من عادته الكذب؟ فلا يعتمد على قوله: إن فلاناً قد سحر فلاناً، ولابد أن يحتاط في هذا الأمر، فلا يجوز للقاضي أن يحكم بأن فلاناً سحر فلاناً بناء على أخبار القرناء والشياطين، بل لا بد من إقرار الساحر أنه سحر، أو ثبوت ذلك عليه بالبينة أنه اعترف في مجلس وقال أنه سحر فلاناً، وأن سحره الذي سحر به قاتل.
وقد بين المصنف رحمه الله أن مما يوجب القصاص: القتل بالسحر، وبناءً على ذلك ذكروا الطلاسم -نسأل الله السلامة والعافية- وهي تتنوع، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ما استفيد بالمذاكرة والمدارسة يقولون: كأن يسحره سحراً يمنعه من الأكل والشرب حتى يموت -والعياذ بالله- أو يسحره سحراً يمنعه من النوم بتاتاً حتى يموت -والعياذ بالله- فيقض مضجعه ويصبح يفقد السيطرة على نفسه ثم يهلك، أو يسحره بسحر يجعله يعتدي على نفسه فيقتلها، وغير ذلك من الأنواع، فإذا قال الساحر: سحري قاتل، أو سحري يقتل، أو سحرته سحراً يقتل مثله، فهذا اعتراف، يقول الشافعي وغيره من أئمة السلف أنه بهذا الكلام يثبت عليه القود والقصاص.(349/4)
القتل بالسم وشروط الحكم بأنه قتل عمد
قال رحمه الله: [أو بسمٍ] أي: أو يقتله بالسم، والسم مادة مزهقة للروح، سواء كانت مطعومة، أو كانت مشروبة، أو كانت مشمومة، وسواء كان تعاطيه للسم عن طريق السقي، أو دسه في طعامه، أو وضعه في قطيفة وكممه بها، فاستنشقها حتى مات، أو وضعها في حقنه فحقنه بها، فكل هذا يعتبر من القتل بالسم.
والقتل بالسم في زماننا مثل المواد المخدرة، والمواد السامة، وهذا معروف فيما يعرف بعلم الطب الشرعي، وفيه مباحث خاصة تسمى بمباحث علوم السموم، يبحث فيه المواد التي ثبت طبياً أنها قاتلة.
وللعلم فإنها تنقسم إلى أقسام: فقد تكون مواداً نباتية، أو مواداً كيميائية، أو نباتية مركبة، أو مفردة، أو من الاثنين أي: مركبة من النبات ومن المركبات الكيميائية، المهم أن يثبت عند أهل الطب والخبرة أن هذه المادة التي حقن بها المريض، أو وضعت في طعامه أو في شرابه، أنها قاتلة، وأنها من السمومات، أو أن هذه المادة التي رش بها، أو التي كمم بها فاستنشقها، أو التي حقن بها، أنها قاتلة.
وهذا الأمر يحتاج إلى تفصيل فصل فيه العلماء فقالوا: أولاً: إذا سقاه السم أو وضع له السم، فإما أن يكرهه عليه، ويفرض عليه تعاطي السم أكلاً، فإذا وضع له السم وعرف المقتول أنه سم، فهدده وضغط عليه حتى أكل منه، أو ربط يديه فأدخله في فمه، أو جعله سعوطاً، أو كممه به فشمه بغلبة وقهر؛ فلا إشكال أنه قتل عمد موجب للقصاص والقود.
لكن يشترط عند العلماء رحمهم الله أن تكون المادة والجرعة الموضوعة هي التي تسببت في زهوق الروح، وإذا كانت مادة مشمومة فنرجع إلى الأطباء، وهذا معروف عادة في الجنايات والجرائم، فتحال مثل هذه المسائل إلى الأطباء المختصين فينظرون فيها، فإذا وجدوا أن المادة والجرعة التي وضعت كافية لقتله فحينئذٍ لا إشكال أنه قتل عمد، وإن كانت المادة والجرعة لا تقتل إلا نوعاً خاصاً، فصل في القتل بحسب نوعية المقتول، فلو قالوا: تقتل الصغير ولا تقتل الكبير، وهم عصابة أو شخص اعتدى على طفل رضيع فوضع هذه المادة وكمم بها أنف الرضيع حتى لا يصيح فمات، فهذا قتل عمد؛ لأن مثله يقتل بهذه الجرعة، والجرعة كافية لقتله، وهكذا لو حقنوه حقنة وكانت كمية حكم الأطباء أنها كافية للقتل؛ فقتل عمد، وإن قالوا: لا تكفي للقتل، فهذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله: فمن حيث الأصل لا يحكم بكونه قتل عمد موجب للقصاص والقود، إلا إذا كانت الجرعة والمادة التي يفرض عليه تعاطيها كافية لزهوق الروح، فعندنا شرطان: الأول: أن يفرض عليه تعاطيها، والثاني: أن تكون كافية لزهوق الروح.
فإن لم يفرض عليه ذلك فإنه يأتي على صور: الصورة الأولى: أن يقدمه له في طعام أو شراب، فيضع السم في طعامه، أو يضع السم في شرابه، ويقدمه له، فإن قدم له السم في الطعام والشراب فإما أن يكون ظاهراً أو خفياً، فإن كان ظاهراً وعلم المقتول أنه سم وأكله، فقد باشر قتل نفسه، وحينئذٍ إذا علم المقتول أن المادة سامة وجاء وتعاطاها فشرب، أو استعط بها وهو يعلم أنها سامة وكافية لقتله، أو ما يحصل -نسأل الله العافية- عند بعض أهل المخدرات، فيأتي بإبرة فيها مخدرات والكمية كافية لقتله، فيأخذها ويباشر حقن نفسه بها دون أن يكرهها، ودون أن يلزمها، فحينئذٍ قد قتل نفسه، فهذا إذا علم المقتول أنها مادة سامة.
الصورة الثانية: أنه لم يكره على تعاطيها، فحينئذٍ قتل نفسه، لكن يبقى السؤال إذا عاونه غيره، ففيها تفصيل قد يأتينا في قتل الجماعة ومسائل المعونة على القتل.
الصورة الثالثة: أن يقدمه له وتكون علامة السم واضحة معلومة، ولكن الشخص الذي قدم له السم لا يميز، أو لا يعقل، مثل الصبي والمجنون، ومثل الأبله والمغفل -المعروف بالغفلة- فقدم له هذه المادة، فهذا الصبي لا يعرفها فظنها حلوى، أو ظنه شيئاً يؤكل فأكله، فحينئذٍ هذا قتل عمدٍ يوجب القصاص؛ لأن مباشرة الصبي ساقطة، والسببية مفضية للهلاك، ولو كان عند الصبي تمييز لامتنع، لكن ليس عنده تمييز ومعرفة.(349/5)
الصور التي تكون عليها المادة السامة
وقد ذكر العلماء أن المادة السامة لها صور: الصورة الأولى: أن تكون قاتلة لوحدها، ولا تقتل إذا خلطت بغيرها.
الصورة الثانية: أن تكون قاتلة إذا خلطت بغيرها، ولا تقتل إذا كانت مفردة.
الصورة الثالثة: أن تكون قاتلة سواء أفردت أو خلطت.
فإن كانت المواد السامة يقتل مثلها إذا أفردت، ولا يقتل إذا خلطت، نظر في السم: فإن عرض على المقتول مخلوطاً بغيره فليس بقتل عمدٍ، ولا يوجب القصاص؛ لأن مثلها لا يقتل غالباً، والعكس فإن أعطاه المادة مفردة، فإنه يعتبر قتل عمدٍ.
وكذلك الصور العكسية: إذا كانت تقتل مخلوطة بغيرها، ولا تقتل مفردة، فإن أعطاه إياها مفردة فلا يحكم بالقصاص، وإن أعطاه إياها مخلوطة حكم بالقصاص، وإن قتلت في الحالين حكم بالقصاص في الحالين، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله.
ومن هنا ندرك دقة الشريعة الإسلامية وفقه الفقهاء رحمهم الله، وكيف أن الأحكام الشرعية كان يرجع فيها إلى أهل الخبرة، فمثلاً: مسائل القتل تجدهم يرجعون -إن كانت في علم الطب- إلى الأطباء، حتى بالنسبة للقتل بالمثقل، يرجع فيه إلى أهل الخبرة، ليعلم هل مثله يقتل أو لا يقتل؟ وهذا يدل على أنه يُجعل لكل شيء أمارته وعلامته التي يمكن من خلالها معرفة الحق والحكم به، فلا نستطيع أن نحمل الأشياء ما لا تحتمل، فإنه ربما وضع الشيء الذي لا يقتل ويظن أنه قاتل، ويكون القتل بسبب آخر.
وعلى كل حال: لابد من وجود هذه الشروط التي ذكرها العلماء في سقي السموم، ولا يختص الحكم بالشراب؛ بل يشمل الشراب والطعام والمشموم، وسواء كان ذلك عن طريق الفم أو كان ذلك عن طريق الحقن.
وفي زماننا يوجد ما يسمى بالحبوب، ولو أعطي جرعة من الحبوب قد تكون قاتلة، كممرضة -مثلاً- فعلت ذلك بقصد إزهاق روح المريض، وهذا -إن شاء الله- أمر نادر أو بعيد جداً، لكن لو فرض أنه حدث، كأن تكون كرهت الممرضة مريضها أو مريضتها فأرادت قتلها، فأعطتها جرعة زائدة على الجرعة، فحينئذٍ يكون قتل عمدٍ.
فالقتل بالسموم قتل سببية، يصفه العلماء بالسببية العرفية، وهناك سببية شرعية، وسببية عرفية: فالسببية الشرعية ستأتي، وهي القتل في شهادة الزور، والسببية العرفية مثل القتل بالسم، والقتل بالسم ألحقوه بالسببية العرفية؛ لأن الغالب في العرف أن الضيف إذا قُدم له الطعام والشراب، أنه يأكل ويشرب، فأسقطوا مباشرة المقتول للأكل والشرب، وقالوا: لا تأثير لها؛ لأن هناك شيئاً يفرض عليه وهو الحكم العرفي، والمعتاد بين الناس أنه إذا قدم له الطعام والشراب أنه يأكل ويشرب، وأن الضيف لا يخونه مضيفه، وبناءً على ذلك قالوا: إن هذا من القتل بالسببية العرفية.(349/6)
الدليل من السنة على قتل من قتل غيره بالسم
والأصل في القتل بالسموم: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة اليهودية التي سمته عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قصة الشاة المسمومة، وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وكان يجيب الدعوة، فدعته هذه اليهودية، وقيل: إنها صنعت الشاة وبعثت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألت ما الذي يحبه عليه الصلاة والسلام؟ وكان عليه الصلاة والسلام يحب الكتف، وقد ذكر العلماء في الطب النبوي فوائد عجيبة من كونه عليه الصلاة والسلام كان يحب الكتف، حتى أُخذ منها أن أجود وأفضل وأحسن اللحم في الأنعام ما كان قريباً من العظم، والأطباء يثبتون هذا، ولذلك فإن لحم الكتف قريب من العظم، وأيضاً: الكتف بعيدٌ عن البطن والجوف، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، وكان شيخ الإسلام عنده معرفة قوية بعلم الطب، فذكر أن أفضل اللحم هو هذا النوع، فكان صلى الله عليه وسلم يحبه، فوضعت السم في هذا الموضع -كتف الشاة- فرفع عليه الصلاة والسلام الكتف فنهشه ثم قال: (إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة)، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وكان قد أكل بعض أصحابه، فأكل أبو بكر رضي الله عنه، وأكل بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه وعن أبيه، فأما بشر فمات من ساعته بعد أن أكل السم، فرواية أبي داود بقتلها كانت بسبب موت بشر رضي الله عنه وأرضاه، فقتلها النبي صلى الله عليه وسلم قصاصاً بـ بشر، وبناءً على ذلك صار أصلاً، حتى جاء في الرواية أنه قال أنس رضي الله عنه كما في الرواية عنه: (ما زلت أرى أثر السم في لهاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله)، حتى اشتد ذلك التغير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسب ذلك السم حتى فارق الحياة، ولذلك قالوا في قوله تعالى: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، يخبر عن حال اليهود مع الأنبياء، فقال: {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، وما قال: قتلتم، فعبر بصيغة المضارع التي تدل على أن من شأنهم قتل الأنبياء فيما مضى وفيما حضر وفيما سيأتي، فسم عليه الصلاة والسلام ومات من أثر السم، فكان هذا من إعجاز القرآن وحسن بيانه.
فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَتَل بالسم، وصار أصلاً عند أهل العلم رحمهم الله في القتل بالسم، والإشكال في القتل بالسم: أن الذي باشر الأكل هو المقتول، ولم يفرض عليه أحد أن يأكل أو يشرب، ومن هنا يكون
الجواب
أن العرف يصعب معه أن يمتنع الضيف من أكل الطعام من مضيفه، وإذا لم يأكل طعام مضيفه فلابد أن هذا يعني أمراً، ولذلك كان من عادات العرب أنهم كانوا إذا جاءهم الضيف يمتنع من الأكل حتى تقضى حاجته، وهذا معروف، فلا يأكل أحد طعام أحد إلا وصار شيء من العلقة والحق بينهما، فبعيد جداً، ومن أخبث وأسوأ وأنقص ما يكون للمرء أن يؤذي ضيفه، ولذلك جعل الله عز وجل في شرعه أن الإحسان إلى الضيف إيمانٌ به سبحانه وتعالى: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، فكونه يضع السم للضيف -والعياذ بالله- هذا من أسوأ ما يكون خيانة، وأسوأ ما يكون نقيصة لمن يفعله -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك تخلَّق به هؤلاء الذين لا ذمة عندهم ولا عهد وهم اليهود.
فالأصل في العرف أن الضيف يأكل من طعام مضيفه، فإذا كان هذا قالوا: فتسقط المباشرة؛ لأنه أكل بنفسه، ويتحمل الساقي والمضيف المسئولية عن طعامه.
ويبقى السؤال في مسألة ما إذا كان في غير ضيافة، كما إذا كان في مطعمٍ أو نحوه، وهو يأخذ نفس الحكم؛ لأنه جرت العادة على أنه مأمون، وأنه ملزمٌ بحفظ طعامه وصيانته عما يضر، فإذا وضع له ذلك الشيء فإنه يكون قاتلاً، ويجب القصاص والقود على التفصيل الذي ذكرناه.(349/7)
القتل بشهادة الزور وما يجب فيه
قال رحمه الله: [أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله، ونحو ذلك] قوله: [أو شهدت عليه بينة] البينة: من البيان، يقال: بان الشيء إذا اتضح، بان الصبح إذا اتضح ضوءه ونوره، والبيان: الدليل، وقد سمي الدليل دليلاً لأنه يبين ويظهر ويكشف، ومنه قول زهير بن أبي سلمى أضاعت فلم تغفر لها خَلواتها فلاقت بياناً عند آخر معهدِ دماً عند شلوٍ تحجل الطير حولهُ وبضع لحامٍ في إهابٍ مقددِ يصف غزالاً ريماً فقدت ولدها في الصحراء، فقوله: (أضاعت فلم تغفر لها خلواتها) أي: فقدت هذا الصغير فلم تستر لها الخلوات؛ لأن الغفر الستر، (فلاقت بياناً) هنا موضع الشاهد، فلاقت أي: وجدت علامة وأمارة، (فلاقت بياناً عند آخر معهدِ)، أي: وجدت علامة ودليلاً عند آخر مكان عهدت فيه صغيرها، (دماً عند شلوٍ): الأشلاء التي هي القطع من الصغير وهو ولدها، بمعنى: أنه دليل على أنه قد مزقه السبع وافترسه.
فقوله: (فلاقت بياناً) البيان: هو الدليل والحجة، والشيء البين: هو الواضح، فلما كان الدليل والحجة يظهران ويكشفان وجه الحق، وصف الدليل بكونه بينة؛ لأنه يتبين به الحق.
وإذا أطلق جمهور العلماء كلمة البينة فمرادهم بها الشهود، وإذا قالوا: البينة، فالمراد بها الشهود غالباً، لكن في الأصل الشرعي البينة عامة، ولذلك تُعرَّف بتعريفين: خاص بمعنى الشهود، وعام، وسيأتي بيان هذا في باب القضاء، فيقال: البينة بالتعريف العام: هي ما يكشف الحق ويظهر وجه الصواب.
وهنا المراد بها الشهود، وهو المعنى الخاص، وليس المراد بها المعنى العام.
فإذا شهد شهودٌ على شخص وكانوا شهود زورٍ -والعياذ بالله- فشهدوا عليه أنه زنى وهو محصن، فأخذ المشهود عليه ورجم حتى مات، ثم جاء هؤلاء الشهود إلى القاضي وقالوا: لقد شهدنا عليه بالزور وهم لم يفعل، فإذا قالوا: شهدنا عليه بالزور، فمعنى ذلك أنهم يريدون قتله، وإذا قالوا: لقد تعمدنا قتله، نحن لا نحبه بل نكرهه، وقد تمالأنا وتواطأنا على أن نتعاطى سبباً لقتله، فشهدنا عليه هذه الشهادة، ففي هذه الحالة يكون قتلاً موجباً للقصاص والقود.
أما لو قالوا: نحن أخطأنا، فالشهادة التي شهدنا فيها خطأ، فهذا فيه الدية، فيحكم القاضي بالدية عليهم، ويجب عليهم العتق، وإن لم يستطيعوا فصيام شهرين متتابعين على التفصيل المعروف؛ لأنه قتل خطأ حينما قالوا: أخطأنا، فقد كنا نظنه فلاناً وتبين أنه فلان، فهذا أمر آخر؛ وقد شهد شهودٌ عند علي رضي الله عنه على رجلٍ أنه سرق فقطعت يده، ثم جاءوا إلى علي وقالوا: أخطأنا، فالرجل لم يسرق، وقد شهدنا خطأً، فقال: لو تعمدتما ذلك لقطعت أيديكما كما قطعت يده، ثم أمرهما بضمان نصف الدية؛ لأن هذا من الخطأ الموجب للضمان.
وبالنسبة لمسألتنا: إذا شهد الشهود بالزور بما يوجب القتل، وقتل المشهود عليه ظلماً، فإنه في هذه الحالة يجب القصاص على الشهود، وهذا ما يسميه العلماء: السببية الشرعية؛ لأن في الشرع إذا تم نصاب الشهادة واكتمل فيما يوجب القتل حكم بالقتل.
والسؤال الآن: إذا شهد الشهود على شخص بما يوجب قتله فقتل، فإن الواقع أن الذي باشر القتل هو المنفذ لحكم القاضي، وهو السياف مثلاً، أو الناس الذين رجموه إن مات رجماً في حد الزنا، والشهود سببٌ في القتل؟
و
الجواب
أنه تسقط المباشرة بوجود الخديعة من الشهود، وهذه من الصور التي تقدم فيها السببية على المباشرة، وقد ذكرنا أن السببية تقدم على المباشرة في مسائل، وتارة تقدم المباشرة على السببية، وتارة تقدم المباشرة وتفقد حكم السببية في صور، وتارة يحكم بالسبب والمباشرة، أي: على المتسبب والمباشر، على التفصيل الذي ذكرناه فيما تقدم.
ولاشك أن شهادة الزور من أعظم الفساد، وسيأتي -إن شاء الله- حكم شاهد الزور، وماذا يفعل به القاضي إذا شهد شهادة زورٍ واعترف أنه تعمد ذلك وقصده في باب القضاء إن شاء الله تعالى.(349/8)
الأسئلة(349/9)
حكم من ذهب إلى ساحر تسبب بسحره في قتل إنسان
السؤال
إذا اعترف الساحر أنه قتل فلاناً بالسحر، وأنه قد جاءه رجل وطلب منه ذلك، فهل يقع الحكم على الساحر ومن استأجره أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإغراء الساحر بالمال حتى يقتل سبب، ولكنه ليس بسبب قوي في حصول الإزهاق والقتل، فلا أحد أكره الساحر على فعل السحر، إنما هو الإغراء بالمال فقط، لكن لو أنه جاء إلى الساحر ووضع سلاحه على الساحر وقال: إن لم تقتل فلاناً أقتلك، فهذه المسألة سنذكرها في باب الإكراه، ويكون تهديد وإكراه الساحر وتخويفه مؤثراً، أما في مسألتنا فإن القاضي يعزر هذا الشخص الذي أغرى الساحر بالمال، ولذلك لو جاء شخص إلى شخص وقال له: خذ هذه المائة ألف واقتل فلاناً، فذهب وقتله، لم يجب القصاص على من دفع المال؛ لأن الذي باشر القتل هو الذي يتحمل المسئولية، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في مسألة الإكراه.
والأصل عند العلماء أنه إذا دفع الشخص للقتل فإما أن يدفع بقوة مؤثرة، فحينئذٍ تكون السببية فاعلة ومؤثرة، وإما أن يُدفع دفعاً ليس هو المؤثر حقيقة، فتكون سببية قاصرة، مثل الإغراء بالمال، بمعنى: أن نفس الساحر هي الخبيثة وهي القاصدة للشر، وهي المريدة له، فما فتأت منذ أن وجدت إغراءً أن تتقدم لهذا الشيء، وهذا لو كان القاتل عنده شهوة للقتل وشهوة لإزهاق الأرواح بمجرد ما يأتيه إغراء قام وقتل.
إذاً: هذه المباشرة تعتبر هي المؤثرة، وهي التي يحكم بالقصاص فيها، وأما بالنسبة لهذا الشخص فإذا عزره القاضي فيعزر تعزيراً بليغاً يليق بجنايته وما ترتب على إغرائه للساحر حتى قتل بسحره، والله تعالى أعلم.(349/10)
معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات)
السؤال
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ما هي الشبهات التي تدرأ بها الحدود أثابكم الله؟
الجواب
لو جلسنا إلى الفجر لما انتهينا من الشبهات، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وهذا باب حير العلماء رحمهم الله، فكم من مسائل في القتل قد يقال: فيها شبهة، فلا يقتل لوجود الشبهة، والذي هدد وأكره ليس هو الذي فعل القتل، والله أمرنا أن نقتل الذي قتل، فقالوا: هذه شبهة تسقط الحد عن المُكرِه وتسقط القصاص عن المُكْرَه، فلا قصاص عندنا لا على المُكرِه ولا على المُكرَه، ولذلك فإن أوسع باب في مسائل القتل عند الحنفية رحمهم الله، حتى إنه في أيام الدولة العثمانية كان المذهب الحنفي هو الذي يطبقونه، فكان إذا استعصى عليهم إقليم بكثرة القتل بحثوا عن قاضٍ مالكي؛ لأن المالكية على العكس تماماً، وهذا كله له أصول شرعية وليس من باب العبث، فهم فقهاء أجلاء لهم اجتهاداتهم ومدارسهم الاجتهادية، وهذا من مرونة الشريعة.
فالمالكية يقولون: هذا الدم الذي أزهق لا يذهب هدراً، ولذلك عندهم إذا جئت في باب القتل واختلف العلماء على قولين أو على ثلاثة أقوال: قول يقتل، وقول لا يقتل، فالذي لا يقتل تقول به الحنفية، والذي يقتل تقول به المالكية؛ لأن عندهم لا يمكن أن يستهان بالدم الذي أزهق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل شريعته حياة للناس، وجعل لمن قتل مظلوماً لوليه سلطاناً، وهذا يدل على أن مقصود الشرع ألا يذهب دمه هدراً.
فالشبهات عند المالكية ضعيفة ولا تؤثر أمام أصول عامة وشرعية، ولا يسقطون الحد إلا بشبهة قوية جداً توجب التأثير في الحيلولة دون القتل.
ومن حيث الأصل فإن الشبهة قد تكون شبهة ظاهرة واضحة مؤثرة، وقد تكون أحياناً شبهة ضعيفة، فالأصل حينئذ (ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم)، مثلاً: لو أن شخصاً كان مسافراً مع جماعة ثم جاء في وقت النوم ووطأ امرأة ليست زوجته، ولما تبين أنها ليست زوجته، قال: لقد كنت أظنها زوجتي، فنقول: هذه شبهة تدرأ عنه الحد، فلا نقيم عليه حد الزنا.
وكذلك في مسائل الخمر، فمثلاً: لو أن شخصاً معروفاً بالاستقامة والصلاح والديانة، فشرب شراباً وقال: هذا الشراب لقد خدعني به شخص، كنت أظنه عصيراً فشربته فإذا به خمر، فحينئذٍ تكون هذه شبهة، وستأتي -إن شاء الله- في باب حد الخمر، فهناك أمارات ودلائل وقرائن يصدق فيها قوله، ولو فتح باب الشبهة لسقطت كثير من الحدود والزواجر الشرعية باسم الشبهة، ولذلك لا يفتح هذا الباب على مصراعيه دون ضوابط شرعية، ولا يمكن أن يحكم بكل شبهة أنها مؤثرة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الحدود: جمع حد، وهو يشمل هذا القتل، والقتل من حدود الله عز وجل التي حدها وشرعها لعباده، ويشمل الجلد والرجم في الزنا، وكذلك أيضاً الجلد في شرب الخمر، فلا نقيم هذه الحدود ولا نأمر بتنفيذها متى ما وجدت شبهة فيمن تلبس بموجباتها تصرفه عن وجود القصد لانتهاك حدود الله عز وجل والتلبس بها، فإذا وجدت هذه الشبهة وأثرت فإنه يحكم بسقوط الحد، أما ضوابط الشبه والكلام فيها فهذا أمر طويل جداً.
ولذلك في كل باب سنذكر -إن شاء الله تعالى- وسيأتينا في كتاب الحدود ضوابط الشبهات، بحيث نقول: إن هذه شبهة مؤثرة أو غير مؤثرة، على حسب المسائل التي يذكرها المصنف رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم.(349/11)
كيف يسحر النبي عليه الصلاة والسلام مع مداومته على قراءة الأذكار؟
السؤال
أشكل علي إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر مع أنه عليه الصلاة والسلام محافظٌ على الأذكار التي تقي من الشرور عموماً، أثابكم الله؟
الجواب
مما لا شك فيه أن المعوذات نزلت بعد قضية السحر، ولذلك اقتضت حكمة الله أن المعوذات لم تنزل قرآناً يتلى إلا بعد قضية سحره عليه الصلاة والسلام، وعلى كل حال لا يشكل ولا يلتبس عليك الأمر، ودع وساوس الشيطان عنك، فإذا جاء شيء في الشرع وحكم الله عز وجل به فسلم به واترك عنك كل شيء يشوش عليك في هذا الباب.
والأهم من ذلك أنه لم يحصل لهذا السحر تأثير على الوحي، فإذا جاء عقلاني يريد أن يناقشك فقل له: أثبت لي أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له من هذا السحر تأثير على الوحي، أو أنه قال أو قرأ آية أو ادعى وحياً وهو مسحور هذا أمر.
الأمر الثاني: إذا قال لك: كيف يسحر وهو يوحى إليه؟ فقل له: الأمر بسيط، فإن المسحور يسحر مع زوجته، لكنه مع الناس رجل طبيعي، فإن المسحور إذا سحر لبغض زوجته فتجده طبيعياً في جميع الأمور إلا إذا دخل بيته، فإذا كان السحر محدوداً في شيء معين فما الذي جعلك أنت تتصوره عموماً؟ وإنما أشكل عليهم هذا لأنهم لم يفهموا ما هي حقيقة السحر، وجلسوا يخوضون ويتكلمون في شيء لم يفقهوه، فظنوا أنه ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر فيصبح -أجارنا الله وإياكم- كالمجنون، مع أن السحر جاء محدوداً، وقد بينته عائشة رضي الله عنها فقالت: (كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعل)، هذا ما ورد في الرواية الصحيحة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهذا التأثير المحدود ليس له سلطان على الوحي، لكن البعض يريد أن يدخل في المغيبات ويسأل: كيف يتأثر الجسد بالسحر؟ فنقول له: إذا جئت تخوض في هذه المسألة فأعطنا من عندك علماً بالأسحار كيف تؤثر بالأبدان؟ وكيف هي طبيعتها؟ حتى نعلم أن هذا السحر يستحيل أن يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم أثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر على وجه يتعارض مع الوحي ويتعارض مع الرسالة، فلابد من إثبات القضيتين، والواقع أنه لا يستطيع أن يتكلم ولا أن يخوض في ذلك.
وقد جاءت السنة الصحيحة بإثبات أنه سحر، فنقول: سُحر عليه الصلاة والسلام، فسيقول لك: كيف يُسحر وهو نبي الأمة؟ فنقول: لا يمنع أن الله يسلط الشياطين عليه لحكمة، ألم تكسر رباعيته عليه الصلاة والسلام؟ ألم يشج بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فقد سلط عليه -عليه الصلاة والسلام- الألم النفسي، والألم البدني، والألم الروحي، وهذا كله لحكمة، ابتلي بالألم الروحي حتى إن زوجته تُتهم بالزنا، ويمكث النبي عليه الصلاة والسلام مدة وهو لا يعلم هل هذا صحيح أو لا، وقد جاء في الصحيح أنه جاء إلى عائشة وجلس عندها وقال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه)، فمن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب؟! هذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقف بين الأمة وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، يقول لها: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه)، فما استطاعت رضي الله عنها أن تجيبه حتى بكت.
فقد وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحد، فكان من أعظم الأيام التي مرت عليه، وهذا كله من الأذى، وما من مكروب ولا منكوب ولا مهموم ولا مغموم من أمته -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- يأتيه هم إلا ويجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتلي بأضعافه وأشد منه، فيسلو ويقول: إذا كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم ابتلي فأين أنا من هذا كله! وأنبياء الله عز وجل من قبل أوذوا وابتلوا، فهذا موسى عليه السلام يؤذى في كل شيء، حتى جعل الله وجاهته في الدنيا والآخرة بهذه الأذية {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]، سبحان الله! الوجاهة والإنعام على الأنبياء لا يكون لهم ذلك إلا بعد البلاء، وهذا أيوب قال الله عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] الله أكبر! إذا قيل للإنسان: نعم العبد، كيف بالعبد إذا أثنى عليه والده أو شيخه أو أي إنسان له مكانة ووجاهة، فما بالك إذا قالها أصدق القائلين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى يقول: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] لكن متى؟ لما قدم الثمن، لما قدم الدليل، لما جاء بالصبر {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44]، فما جاءت هذه الكلمة ولا جاءت هذه الشهادة من رب العالمين من فراغ، وما جاءت بالتشهي، ولا بالتمني، ولا بالدعاوى العريضة أن يقول الإنسان: إنه موحد، أو أنه صاحب عقيدة، أو إنه صاحب إيمان، أو إنه من الصابرين، أو إنه من المحسنين {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179] إذاً لا بد أن تأتي فتن ومحن وبلايا.
ثم أيضاً: إذا جئت ونظرت إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم في حياته كلها طيلة ثلاثة وعشرين عاماً من الرسالة، لا يخرج من هم إلا ابتلي بما هو أكثر وأعظم منه صلوات الله وسلامه عليه، حتى جاءته سكرات الموت عليه الصلاة والسلام، فخرج من الدنيا بسكرات الموت، فلو جاء شخص من الناس في يوم من الأيام قد ابتلي بالسحر فقال له شخص: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوذي وفعل به، فيقول: لكن الذي جاءني من السحر ما أظن أحداً ابتلي بما ابتليت به، لكن إذا علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتلي بهذا الأمر سلت نفسه وسلت روحه، وعلم أن هذا لا ينقص قدره.
ومن العجيب أن تسلط الشياطين على الإنسان في بعض الأحيان يجعل الإنسان يشك في مكانته عند الله؛ لأنه من المعلوم أن الله يسلط الشياطين عادة على أوليائهم، لكن أهل الطاعة إذا سلط عليهم الشياطين فقد يظن الواحد منهم أن هذا لنقص عنده، أو غضب من الله عز وجل عليه، أو سخط، لكن حينما يعلم أن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد أوذي وسلط عليه وابتلي صلوات الله وسلامه عليه، عندها تسمو نفسه، ويطمئن قلبه، ويثق بالله عز وجل.
أيضاً: بسبب هذا السحر وهذا الابتلاء أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمعوذات، وهي من أعظم ما يكون، تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله عز وجل بالتعاويذ الشرعية، فلما نزلت عليه المعوذتان لزمهما وترك ما سواهما)، من عظيم ما فيها من الحرز للعبد.
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] فما تركت شيئاً في هذا الوجود من الشر إلا وقد استعذت بالله منه، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] أي: من أي مخلوق شر، كلمتان وجملتان ما تركتا شيئاً، لكن متى جاءت؟ جاءت لما ابتليت الأمة وابتلي نبيها عليه الصلاة والسلام، إذاً فقد صار السحر خيراً على هذه الأمة؟ والله يقول في القذف: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11] في قذف عائشة رضي الله عنها، القذف الذي فيه انتهاك للعرض، وفيه بلاء، يقول الله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، فهي أمة مبتلاة؛ ولكن هذا البلاء رحمة، ولا يمكن أن يظهر فضل أهل الفضل وصبر الصابرين ورباط المرابطين، إلا إذا احتكت قلوبهم بالبلاء من رب العالمين، وعندها: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27]، وعندها ينعم الله على عباده فيسلهم من ذلك البلاء كما تسل الشعرة من العجين، وسلم من ذلك كله لطفاً من أرحم الراحمين وكان ربك خبيراً بصيراً، فالله أعلم بخلقه، وأعلم بعباده، ومن يقرأ قصة أيوب عليه السلام وابتلاءه وتسليط الله عز وجل للشيطان عليه؛ يدرك كيف أن الله عز وجل يمتحن عباده هذا الامتحان العظيم، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.
وعلى كل حال: أعود وأكرر أن المسلم دائماً يلتزم بالتسليم، فلا تدخل في هذه المتاهات، وأوصي أن مثل هذه المسائل الدقيقة لا تقبل من كل أحد، وما يثيره بعض العقلانيين من رد السنن الصحيحة والطعن فيها والتشكيك فيها بناءً على أن عقولهم لا تتحمل، فوالله ليست عقولهم التي تتحمل، وليست نفوسهم التي تتحمل، ولكنها قلوبٌ ران عليها المرض فاستغلقت فما قبلت وما أسلمت وما استسلمت -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك عجز منهم -والعياذ بالله- التصديق لهؤلاء العدول الثقات الذين أجمعت الأمة على قبول رواياتهم فيما صح في الصحيحين وغيره من الأحاديث الصحيحة، فضربوا بها عرض الحائط؛ بل لم يقتصروا على ذلك حتى قالوا بالتشكيك والشبهات؛ لأجل أن يبطلوا حقاً، ويحقوا باطلاً، نسأل الله بعزته وجلاله أن يقطع دابرهم، وأن يخرس ألسنتهم، وأن يكفي المسلمين شرورهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(349/12)
حكم الطواف بالبيت لمن أراد سفراً أو عاد منه لمن كان مقيماً بمكة
السؤال
أنا من سكان مكة واعتدت عند خروجي منها للسفر أن أطوف بالبيت وحين وصولي إليها كذلك، فهل عملي هذا صحيح، وذلك اعتقاداً مني بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين يقدم من السفر أن يبدأ بالمسجد أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالحديث صحيحٌ وثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من السفر أنه يبدأ بالمسجد قبل بيته عليه الصلاة والسلام، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله، وفعلك لا بأس به ولا حرج، ما لم تعتقده تشريعاً، بمعنى أنك تقول: إنه لا يسافر أحد حتى يطوف، أو لا يدخل مكة حتى يطوف، فهذا فيه الزيادة والحدث، وأما بالنسبة لما تفعله فليس فيه من بأس، وليس فيه من حرج؛ بل هو عمل خير وبر نسأل الله العظيم أن يثبتك فيه، وأن يكتب لك الأجر فيه، والله تعالى أعلم.(349/13)
حكم من يداوم على صلاة النافلة في السفر
السؤال
هل يبدع من داوم على صلاة الراتبة في السفر؟
الجواب
لا شك أن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم عدم صلاة الراتبة في السفر، وإذا اعتقدها فلا شك أنها بدعة؛ لأنها أولاً: العدد مخصوص، والزمان مخصوص، أن يصليها قبل الصلاة، وبعد الصلاة، فيصلي أربعاً قبلية، ويصلي البعدية، ركعتين للمغرب بعدية، وركعتين للعشاء بعدية، وهذا كله توقيت، وضوابط البدعة منطبقة عليه، ولذلك إذا اعتقدها سنة راتبة في السفر فإنه لا شك أنه قد ابتدع، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم سافر ولم يصل راتبة في السفر إلا راتبة الفجر، وقال صلى الله عليه وسلم فيها: (لا تدعوها ولو طلبتكم الخيل)، تعظيماً لشأن ركعتي الفجر، فإذا صلى الراتبة في السفر فإنه قد خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعارضه وأحدث في دين الله ما ليس منه؛ لأن الذي في دين الله ألا تصلى هذه الصلاة في السفر، وهو أحدثها وصلاها في السفر، ولو صلاها نافلة عامة فلا بأس، لكن يصليها وهو يعتقدها راتبة، فلا شك أنه مبتدع، ولذلك عليه أن يقلع عن ذلك ويتوب، والله تعالى أعلم.(349/14)
حكم تأجير الوقف للاستفادة منه
السؤال
إذا كان الوقف لا يستفاد منه، فرأى الناظر على الوقف أن يؤجر عينه، ويستفيد من ثمن الإجارة في وقفٍ آخر، فهل تجوز إجارة الوقف في مثل هذه الحالة أثابكم الله؟
الجواب
مسائل الأوقاف مسائل دقيقة، والمسئولية عنها أمام الله عظيمة، ولذلك تلاعب الناس -خاصة في هذا الزمان- في الأوقاف، حتى إنك تجد بعض الأوقاف مسبلة على مصالح يستحدث فيها دكاكين للإيجار، ويستحدث فيها عمارات للاستغلال، وتخرج كثير من الأوقاف عن مقصودها الأساسي من رحمة الضعفاء والرفق بالأيتام والمساكين إلى هذه الأشياء الدنيوية التي لم يردها أهلها يوماً من الأيام.
شخص يأتي ويبني رباطاً لأيتام لأرامل، نظر إلى الدنيا الفانية، والآخرة الباقية، وماله بين يديه، فأحب أن يقدمه لآخرته، فجاء واشترى له أرضاً وبنى فيها رباطاً، وأدخل فيه العجزة والمساكين، وقال للناظر: قم على هؤلاء وانظر في مصالحهم، فيأتي الناظر في يوم من الأيام ويريد أن يهدم هذا الرباط ويجدده، ويحدث دكاكين في البناية الجديدة، ويأتي ويبحث له عمن يفتيه بهدم الرباط الأول، ويستدين مبلغاً من المال من أجل أن يبني رباط جديداً.
كذلك إحداث مرافق مالية تدر أموالاً، حتى يسدد الذي على الوقف، ثم يبدأ يستدرجه الشيطان -والعياذ بالله- وشيئاً فشيئاً، فبدلاً من أن تكون المسألة محدودة بسداد الدين، يبدأ يتوسع قليلاً حتى يصل الأمر إلى أنك تنظر للأيتام والأرامل والمساكين فلا تجد لهم حظاً في هذه البناية بعد بنائها إلا ما ندر.
ويصبح الميت في قبره معدوماً من كثير من الأجر، ولو تركت العمارة على ما هي عليه لدرت عليه من الحسنات والأجور ما الله به عليم، ولكن سيقف ويرهن ويحاسب بين يدي الله، وسيكون خصمه لجرأته على تغيير وتبديل ما لا يجوز له تغييره، فهذه أمور لا ينبغي التلاعب فيها والتساهل، ومن قرأ الفقه وقرأ فتاوى العلماء، يجد كيف كانوا يشددون في مسائل الوقف، حتى الخلاف في المسجد الذي يكون في جزء من أجزائه خلل هل يهدم ذلك الجزء أو لا يهدم؟ وتجدهم يختلفون تعظيماً لحرمة الوقف؛ لأن الوقف ليس بالسهل، وليس بالأمر الهين، بل هو يحتاج إلى نظر، ويحتاج إلى تقوى لله عز وجل وورع وصيانة، فهذه أمور ترتبط بها حقوق الموتى، وترتبط بها حقوق أناس آثروا الآخرة على الدنيا.
فيبحث المفتي والفقيه في المسألة حتى يعرف كيف يقف بين يدي الله ويفتي في هذا الأمر، ولقد عهدنا علماء أمثال الجبال علماً وعملاً ما تضيق عليهم الدنيا إلا إذا جاءت مسألة الوقف، والله إنك تجد وجه الواحد منهم يحمر ويرد السائل، ويحاول جهده ألا يبت في هذه المسألة؛ كل ذلك خوفاً من الله عز وجل، فلا يحسب أحد أن هذا الأمر سهل، ولذلك تجد كثيراً من مشاريع الخير وأربطة الخير غير موجودة، أين ذهبت؟ بحكم الفتاوى، فتجدهم يقولون: نبني عمارة ونستغلها وبدلاً من أن نسكنهم نعطيهم أموالاً من الذي جعلك تغير إرادة الواقف، مع أن الذي أوقف قال: يدخلون فيها ويسكنون هذا المسكن؟ ما الذي جعلك تغير؟ يقولون: المصلحة، وهذا أفضل إلخ.
فلذلك هذه المداخل التي يدخل بها والمصلحة التي تدعى، هذه أمور ينبغي أن تُعرض على علماء ربانيين، ولا يفتى في مسائل الوقف إلا من عنده بصيرة، وعنده نور ورع، وعنده محافظة على هذه الأمور التي ينبغي المحافظة عليها.
وقد نص العلماء على أن الوقف لا يملكه أحد، بل هو مالٌ أخرجه الإنسان عن ملكيته لله عز وجل؛ ولذلك لو أردنا بيع الوقف فلا نستطيع أن نصحح بيع الوقف إلا إذا قضى به القاضي؛ لأن البيع يفتقر إلى ملكية، والوقف لا مالك له، والقاضي له ولاية مستندة مبنية على الولاية العامة لولي الأمر العام فيبيع ما لا مالك له، وحينئذٍ لا يمكن، فلو أفتى أي مفت فلا يصح البيع؛ لأنه لابد من حكم قاضٍ، وهذا كله تعظيماً لأمر الوقف، ولئلا يحسب أحد أن الأوقاف أمرها سهل، خاصة إذا تعلقت بها مصالح لأموات ونحوهم.
وعلى كل حال: الأمر مثلما ذكرنا أنه ينبغي التورع ما أمكن في مسائل الوقف وعدم التساهل فيها.
والخلاصة في الجواب: أنه لا يستفاد منه، فهذا أمر مبهم، فإن الخطأ أن يأتي المفتي ويفتي في هذه المسألة حتى يقرأ صك الوقفية، ويعرف ما هو هذا الوقف، والدعوة التي ادعاها الناظر أن مصلحته تعطلت، كأن يأتيك ناظر ويقول لك: تعطلت مصلحة الوقف، فيأتي إلى عمارة مبنية من عشر سنوات، ويرى فيها أيتاماً وضعافاً ساكنين فيها، وبمجرد ما يجد كهرباءها تعطلت أو ماءها يقول لك: لقد تعطل الوقف.
فلا يعتبر عنده الوقف إلا إذا كان جميلاً جيداً كاملاً من كل النواحي، هذا هو الوقف عنده، لكن إذا حصل أي خلل يقول لك: تعطلت مسألة الوقف، ولذلك هذه الأمور لا تقبل فيها الدعاوى المبهمة غير الواضحة.
وعند العلماء إذا كان -مثلاً- بنى بناية للمسجد، وتعطل المسجد وأمكن أن تصبح مدرسة؛ صرفت إلى أقرب شيء، وقد تتعطل تعطلاً تاماً، فيمكن صرف عين الوقف لما هو من جنسه؛ لأنك لو بعت الوقف أو أجرته أخرجته عن أصل الوقفية؛ لأن أصل الوقفية ليس فيها استثمار، وإنما فيها حسنات وأجور، فينبغي أن تكون إلى الأقرب، ومن هنا قالوا: اختلف العلماء إذا أوقف على بدعة، أي على شيء خاطئ لا يجوز الوقف عليه، كبدعة مثلاً يظن أنها سنة، فأوقف عليها، فمن العلماء من قال: يبطل الوقف.
ومنهم من قال: يصرف لطلبة العلم.
وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وعدد من العلماء والمحققين، يصرف لطلبة العلم؛ لأنه حينما أوقفه على الذكر، أو على أمور غير مشروعة، أراد أن يستغل المكان لطاعة الله وذكره، فبدلاً من أن نحكم بالنقض والإبطال من الأصل وعندنا مجال للتصحيح فنصحح بالأقرب، فهو إذا قال لك: تعطلت مصلحة الوقف، فهل تعطلت تعطلاً كلياً أو تعطلت على وجه يمكن صرفه إلى الأقرب؟ وعلى كل حال: أحب أن أنبه إلى أن من عادتنا مع طلاب العلم أن نفصل في بعض الفتاوى، فنحن نريد المنهج، نريد أن يقعد لطلاب العلم؛ لأننا نجد اليوم من السهولة بمكان أن تسمع أحدهم يقول لك: هذا حلال وهذا حرام، بيع الوقف يجوز أو لا يجوز، وهذا ليس هو المهم، إن الأهم هو رسم المنهج، ولذلك قد نفصل في بعض الأسئلة ونتوسع فيها، والمقصود من هذا: رسم المنهج، حتى يكون طالب العلم على بينة وبصيرة.
وهذا السؤال لا يجاب عنه بالإجمال؛ لعدم وضوح السبب الموجب للحكم بتعطل الوقف، ولم يبين وجه هذا التعطيل، وهل بالإمكان المعاوضة والمناقلة في الوقف أو لا يمكن ذلك؟ وكل هذا أصل في الفتوى في هذه المسألة، لذلك ينبغي على السائل إذا أراد أن يسأل عن حكم هذا الوقف أن يحضر صك الوقفية وننظر فيه إن شاء الله، أو يعرضه على أهل العلم، أو يرفعه إلى القاضي، وهذا هو الذي أوصي به، وما يحكم به القاضي يقوم بتنفيذه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(349/15)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [5]
من أنواع القتل: قتل شبه العمد، وهو أن يقصد جناية لا تقتل غالباً فقتل بها، ومن صوره: أن يضرب بسوط أو عصا، أو يلكزه بيده، فيموت بذلك، وفيه خلاف، والصحيح وجوده.
ومن أنواع القتل: قتل الخطأ، وهو أن يرمي شيئاً فيصيب إنساناً لم يقصده فيقتله، ويندرج تحت القتل الخطأ: عمد الصبي والمجنون.(350/1)
قتل شبه العمد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً].(350/2)
خلاف العلماء في قتل شبه العمد وأدلة القائلين به
شرع الإمام المصنف رحمه الله في بيان القسم الثاني من أقسام القتل؛ وهو شبه العمد، وشبه الشيء: مثيله والقريب منه في الصفات، وسمي هذا النوع من القتل بهذا الاسم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله وسطاً بين العمد والخطأ؛ ولذلك سماه بعض العلماء: خطأ العمد، وسموه: شبه العمد، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدم معنا: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل).
وجمهور العلماء رحمهم الله على أن هذا القسم موجود في القتل، وأنه وسط بين العمد وبين الخطأ، وأنه لايوجب قصاصاً، أي: أن من قتل بهذا النوع وتوفرت فيه الصفات التي لا يرتقي فيها القتل إلى العمد، ويرتفع بها عن محض الخطأ، فإنه لا يُقتص منه، فلا يوجب قوداً، ويوجب الدية إجماعاً، إلا أن هذه الدية تكون مغلظة في قول جمهور العلماء رحمهم الله إجماعاً عند من يقول بهذا النوع.
وخالف بعض العلماء فقالوا: القتل نوعان: قتل عمد، وقتل خطأ؛ لأن الله عز وجل بين هذين النوعين، ولم يذكر النوع الثالث في كتابه وهو شبه العمد.
وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن القتل ثلاثة أنواع: قتل عمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ.
والدليل على ثبوت هذا القسم: ما جاء في صريح السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في قتيل شبه العمد؛ قتيل السوط والعصا)، وكذلك أيضاً يدل على هذا القسم حديث الصحيحين في قصة المرأتين من هذيل حينما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وألقت ما في بطنها -وهو جنينها- فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عاقلتها، ولم يوجب قصاصاً، ولو كان شبه العمد من العمد -كما يقول المالكية في رواية، وكذلك الظاهرية- لكان اقتص رسول الله صلى الله عليه وسلم من المرأة، ولكنه جعله من شبه العمد.
وقد سمي شرعاً بشبه العمد وخطأ العمد، والسبب في هذه التسمية: أن القصد للجناية موجود؛ فشابه العمد، وهو لم يقصد القتل، ولم يرد إزهاق الروح؛ فشابه المخطئ، ومن هنا كان وسيطاً بينهما؛ أي أنه ليس بعمد محض ولا خطأ محض، فارتقى عن الخطأ -أي: زاد في الخطأ- في العقوبة؛ لأن فيه مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، وهذا ما يسمى بالدية المغلظة -وسيأتينا إن شاء الله تفصيله وبيانه في باب الديات- فارتفع عن الخطأ من جهة تغليظ الدية، ونزل عن العمد من جهة كونه لا يوجب قصاصاً، وصار وسيطاً بين العمد والخطأ، والغالب أن هذا القسم يقع في حال الخصومات والنزاعات.
فالقصد موجود؛ وهو الإضرار وقصد الأذية، أما قصد الإزهاق والقتل فغير موجود، كأن يقتتل اثنان، ويضرب أحدهما الآخر بشيء لا يقتل غالباً، مثل الضرب بالعصي، -ومثلها لا تقتل- كالعصا الصغيرة، فوافقت قدراً فقتلت؛ فهذا قتيل شبه عمد، لا يقتص من قاتله، وعلى من قتل الدية مغلظة.(350/3)
ضابط قتل شبه العمد
قال المصنف رحمه الله: [وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً] فهو بحمله للعصا واللكز -الضرب في مجمع اليد- ونحو ذلك، يقصد جناية لا تقتل غالباً، لكن لو لكزه في مقتل-أي: في مكان يقتل غالباً- أو ضربه بشيء له مور-كما تقدم معنا- فهذا عمد.
إذاً: اتفق العمد وشبه العمد في وجود الحالة التي تتوفر فيها بواعث الجناية؛ بمعنى أن الإنسان يختصم مع شخص، ولا يريد قتله، وإنما يريد عقره، أو إضراره، أو أذيته، ولم يكن مستعملاً لآلة تقتل غالباً.
وقوله: [ولم يجرحه بها].
لأنه إذا جرح فقد ذكرنا أنه يكون من قتل العمد، وقد بينا أن العمد في المذهب: أن يجرحه بما له مور في البدن -أي: ينفذ إلى البدن- ويقتله، مثل السكين، والسهام، والسيوف، ونحو ذلك.(350/4)
صور قتل شبه العمد
قال رحمه الله: [كمن ضربه في غير مقتل].
فلو تخاصم اثنان؛ فضرب أحدهما الآخر في غير مقتل، كأن يضربه على كتفه، أو يضربه على فخذه، أسفل الفخذ بعيداً عن الخصية، فضربه ضربة لا يقتل مثلها، وليست في مكان مقتل، والسبب: أنها إذا كانت في مكان لا يقتل غالباً، فترجح أن موته قدراً، وليس بفعل الجناية.
وقوله: [بسوط].
أي: كأن يضربه بسوط، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا)، فاعتبار القتل بالسوط من شبه العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أنه من قتل عمد الخطأ، أو خطأ العمد، كما يسميه بعض العلماء، أو شبه العمد كما ذكر المصنف رحمه الله.
فالقتل بالسوط: كأن جاء وضربه بالسوط ضربة؛ فسقط الرجل ميتاً، والضرب بالسوط فيه تفصيل: فمن حيث الأصل: السوط لا يقتل غالباً، فليس بآلة يحكم بأنها موجبة للعمدية والقصاص والقود، ولكن تقدم معنا أن الآلة إن ضعفت، وكان حال الشخص معيناً على الإزهاق بها؛ كانت من العمد لا من شبه العمد، فلو أنه ضربه بالسوط وهو مريض، أو ضربه بالسوط وهو شيخ هرم ضعيف، لا يحتمل ضرب السوط؛ فإنه قتل عمد، وقد ذكرنا ضوابطه في العمد، وقلنا: إن هناك أحوالاً تستثنى عند العلماء، فهناك الأصل وما يستثنى من الأصل، فالأصل أن القتل بالسوط ليس بقتل، كما لو اختصم اثنان؛ فضرب أحدهما الآخر بسوط -الكرباج في أعرافنا- فمات المضروب، فنقول: هذا شبه عمد، ولكنه إذا كان في مقتل، أو كما قال العلماء: كرر الضرب عليه بالسوط، وكان مثله لا يحتمل التكرار، وأخذ الشاب الجلد القوي ووضعه تحت السياط، وضربه ضرباً مكرراً مفضياً إلى الإزهاق والعمد؛ فإنه قتل عمد، فالتكرار للضرب، والمداومة عليه، والاستمرار تزهق الأرواح، وكم من أنفس أزهقت تحت الجلد والسياط! وبناءً على ذلك: ليس كل ضرب بالسوط يعتبر من قتل شبه العمد، وإنما ذكر العلماء الصفة الغالبة للسوط اتباعاً للسنة، لكن لو كان الشخص لا يحتمل ضرب السوط؛ كالمريض، أو الشيخ الهرم، أو ضربه بالسوط في مقتل، فالغالب أنه يقتل، أو ضربه بالسوط وكرر الضرب عليه على وجه تزهق به الروح غالباً؛ فإنه يعتبر قتل عمد، وموجب للقصاص.
وقوله: [أو عصا صغيرة].
إذا ضربه بالعصا الصغيرة فليس بقتل عمد إذا مات منها، ولكن إذا ضربه بعصا صغيرة، وكرر الضرب عليه، وكان لا يحتمل هذا التكرار؛ كمن أخذ صبياً أو صغيراً وضربه بعصا صغيرة، وكرر عليه الضرب على وجه في الغالب أنه يزهق؛ فإنه قتل عمد، ويوجب القصاص، لكن الغالب في العصا الصغيرة أنها لا تقتل، وقوله: (صغيرة) المفاهيم معتبرة في المتون، ومن هنا لو ضربه بعصا كبيرة يقتل مثلها غالباً؛ فإنه قتل عمد.
وقوله: [أو لكزه].
أي: أن يجمع يده ويضربه بها، والوكز واللكز بمعنى واحد؛ والغالب أنه لا يقتل، لكن لو لكزه في مقتل، أو كان الملكوز صغيراً؛ كما لو أخذ طفلاً في مهده فلكزه لكزة واحدة قضت عليه، فهذا قتل عمد.
إذاً: لا بد من الانتباه إلى أن الأصل العام والغالب في اللكزة أنه لا يقتل مثلها، والناس تقع بينهم الخصومات، ويلكز بعضهم بعضاً، ويضرب بعضهم بعضاً، ولكن لا تزهق الأرواح، ولا تموت، فقد يحصل تأثر وضرر، ولكنه لا يحصل زهوق غالباً، ومن هنا قال رحمه الله: إنه شبه عمد، ولكن الوكز قد يقتل، ولذلك قال تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]، فالوكز قد يقتل، ومن هنا صار وسيطاً بين ما لا يقتل غالباً وما يقتل غالباً، وارتقى إلى درجة شبه العمد، وبعضهم يقول: بقصد الجناية، وإن كان الأشبه أن الوكز فيه أذية، وإضرار وإيلام.
وعلى كل حال: هذا نوع من أنواع شبه العمد الذي لا يوجب القصاص، إلا إذا كان الذي لكزه ضعيفاً، أو مريضاً، أو شيخاً هرماً، أو طفلاً صغيراً؛ تقتله اللكزة غالباً، أو كان شاباً قوياً جلداً، فلكزه لكزة قوية في مقتل، مثل: الخصيتين، أو الضرب على أسفل البطن إلى جهة الكبد، أو جهة القلب، ونحو ذلك، فهذه غالباً مقاتل، فإذا ضربه ولكزه فيها، فهو قتل عمد، ويجب القصاص.
وقوله: [ونحوه].
أي: شبهه.(350/5)
قتل الخطأ
قال المصنف رحمه الله: [والخطأ أن يفعل ما له فعله؛ مثل أن يرمي صيداً، أو غرضاً، أو شخصاً، فيصيب آدمياً لم يقصده].
قوله: (ما له فعله) أي: ماله أن يفعله عمداً، وهذا النوع من أنواع القتل، وهو قتل الخطأ، والغالب في المسلم، بل الأصل في المسلم ألا يقتل أخاه إلا خطأً، ومن هنا قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92].(350/6)
مقاصد الشريعة من إيجاب الدية والكفارة في قتل الخطأ
وقتل الخطأ لا يتوفر فيه قصد إزهاق الروح، ولا قصد الجناية على المسلم، ومن هنا كان أخف أنواع القتل، ولكن الله عظم أمر الدماء، ومن حكمته سبحانه وتعالى أنه أوجب على القاتل خطأً أن يضمن النفس، فصار حقاً للآدميين، وأن يضمن حق الله في الكفارة؛ وهي عتق الرقبة، فإن لم يجد أو لم يستطع شراءها فإنه يصوم شهرين متتابعين توبة لله عز وجل.
والحكمة في هذا ما ذكر بعض أهل العلم: أن كل إنسان يقتل خطأً لا يقتل إلا بإهمال، وأنه ما من نفس مؤمنة تزهق، وتقتل خطأً إلا وهناك تقصير وإهمال من القاتل، وبناءً على ذلك وجبت الكفارة صيانة للأنفس، وحتى يحتاط الناس فيما يوجب الزهوق، فلا يتساهلون فيه، ولا شك أن في ذلك خيراً كثيراً للعباد، الله عز وجل أعلم وأحكم بها.
وقد أجمع العلماء على أنه لا يقتص بقتل الخطأ؛ بمعنى: أنه لا يوجب القصاص، وأجمعوا على أنه يوجب الدية كاملة مسلمة إلى أهل المقتول المسلم المعصوم الدم، بالإضافة إلى الكفارة التي هي عتق الرقبة، وأنه إذا عجز عن الكفارة بالعتق فإنه ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين توبة منه لله عز وجل من التقصير، وتعظيماً لأمر الدم كما ذكرنا، وإلا فهو لم يقصد، والله عز وجل يقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5].
ومن قتل خطأً لم يحكم بإثمه، ولكن الله تعالى عظم أمر الدماء والأنفس، حتى لا يتساهل في ذلك، فإذا تصور المسلم أن القتل وقع بقيادة سيارة مثلاً ساقها، فصدم شخصاً فقتله؛ فإنه يلزم بالدية، فإذا دفع الدية فإنه يتحفظ عن أن يزهق أرواح الناس بالتساهل في قيادته وسياقته، وكذلك أيضاً إذا أعتق الرقبة، فإذا لم يجدها صام شهرين متتابعين؛ فإذا رآه غيره اعتبر، فتصبح الأنفس مهابة، والحرمات معظمة، بخلاف ما إذا قيل: إن هذا أخطأ، فلا شيء عليه، فإن الأمر يكون دون ذلك، فيتساهل الناس في الأسباب الموجبة للزهوق، وإذا جاء الطبيب في طبه وعلاجه فخرج عن السنن والقواعد المعتبرة عند أهل الخبرة، أو تساهل في تدبير أمور المريض؛ حتى زهقت نفسه ومات، فإنه يحكم عليه بالدية، فيضمن هذه النفس، ويحكم بوجوب الكفارة عليه، فعندها يتحفظ الأطباء في أرواح الناس وأجسادهم، وقس على ذلك غيرهم ممن يخطئ وتحصل منه الجناية.
وكذلك في البر؛ فلو أنه خرج ورمى غزالاً وظنه صيداً، فمر شخص بينه وبين الغزال؛ فقتله، أو رمى شاخصاً يظنه فريسة؛ فإذا به إنسان، فإنه في هذه الحالة سيدفع الدية لأهله، ثم بعد ذلك يكفر الكفارة الشرعية، الأمر الذي يجعله إذا أراد وفكر أن يصيد بعد ذلك يتحفظ غاية التحفظ، وإذا علم غيره بخطئه تحفظ أيضاً، فابتعد عن الأماكن التي فيها الناس، ورمى على وجه يأمن فيه غالباً من الخطأ، وكل هذا حكمة من الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أن الأصل يقتضي أن المخطئ لا شيء عليه، ولكن العلماء بينوا أن الشريعة أوجبت هذه العقوبات، وتسميتها عقوبات تجوزاً، فإن المعاقبة بالكفارة وبالدية صيانة للأنفس، وصيانة للأرواح، وحتى لا يتساهل الناس في الدماء، وفي إزهاق الأرواح، ولا شك أن من نظر إلى هذه الأحكام وعواقبها؛ فإنه يجد ذلك جلياً.
وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ} [الأحزاب:5] لا يعارض وجوب الكفارة ووجوب الدية؛ لأن قوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) أي: ليس عليكم إثم، فمن هنا من قتل خطأً لا إثم عليه، لكن لا يمنع هذا أنه يضمن للناس حقوقهم، ولا يمنع هذا أنه لا يقع في هذا الخطأ إلا بنوع إهمال وتقصير؛ فيترتب على هذا الإهمال ما يوجب زجره وجبر النقص الموجود فيه، من باب الخطاب الوضعي، لا من باب الخطاب التكليفي.
وهذا كما قرره الأئمة في كتاب المقاصد ومباحثه: أن المؤاخذ هنا من باب الخطاب الوضعي، وليس من باب الخطاب التكليفي؛ لأن الخطاب التكليفي يفتقر إلى وجود نية وقصد، وهذا لم يقصد القتل، فاستشكل العلماء: كيف أوجبت الشريعة على من يقتل خطأً الضمان والكفارة، مع أنها لا تعتبر عمل الشخص إلا بنية، والأصل أنه لا عمل إلا بنية، فهو لو كان ناوياً للقتل لصح أن يؤاخذ بالضمان، وأن يؤاخذ بالكفارة؟ وقد أجاب على ذلك الإمام الشاطبي -رحمه الله- في كتابه النفيس (الموافقات)، وفي كتاب المقاصد منه؛ فقال: (إنه وإن لم يكن قاصداً للقتل-النية غير موجدة- فإن هذا من باب الخطاب الوضعي، والخطاب الوضعي لا يشترط فيه النية).
ومعنى الخطاب الوضعي: أن الشريعة وضعت علامات وأمارات حكمت بأحكام عند وجودها، بغض النظر عن كون الإنسان قاصداً أو غير قاصد.
فمثلاً: قالت الشريعة: من أتلف شيئاً رد مثله، أو دفع قيمته، بغض النظر عن كونه قاصد لهذا الإتلاف أو غير قاصد، فهذا يسمى بالخطاب الوضعي، ولا يشترط فيه القصد والنية.
ولهذا نظائر كثيرة؛ منها مثلاً: الطلاق؛ فمن طلق زوجته هازلاً فهو ما قصد الطلاق، وما نوى الطلاق؛ بل كان يمزح مع زوجته، فقال لها: أنت طالق، فأوجبت الشريعة عليه تطليق زوجته؛ لأنها جعلت هذا من باب الخطاب الوضعي، بغض النظر عن نيته قاصداً أو غير قاصد.
وهذا يسمى: الحكم بالعقوبة بخطاب الوضع، وبناءً على ذلك لا تعارض بين المؤاخذة بالنيات، وبين العقوبة التي وردت هنا بالكفارة والدية؛ من باب الزجر، ومنع الناس من التساهل في الدماء وإزهاقها.(350/7)
صور القتل الخطأ
قال المصنف رحمه الله: [مثل أن يرمي ما يظنه صيداً].
الآلة التي رمى بها وهي: السلاح تفعل فعل العمد، فتوجب زهوق النفس، لكن في شبه العمد الآلة لا تقتل غالباً، ومن هنا فإن الخطأ يكون برمي شيء بشيء قاتل يظنه غير معصوم؛ فبان معصوماً، كأن رمى بهيمة فأصاب إنساناً، ونحو ذلك، فالآلة قاتلة، والمرمي مقتول، ولكن الرامي لم يقصد المقتول، ولم يرده.
وقوله: [أو غرضاً].
مثلاً: وضع هدف فرمى الناس على هذا الهدف، فلما رموا الهدف، مر شخص بينهم وبين الهدف، فهذا إذا قتلوه فهو قتل خطأ.
وقوله: [أو شخصاً].
كأن رمى كافراً مهدر الدم -حربياً- فجاء مسلم بينه وبين الكافر فقتله، ومن رمى مسلماً يظنه حربياً، ففيه خلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله، لكنه عند بعض أهل العلم يدخل في هذا؛ لأنه ظنه كافراً فبان مسلماً، فليس بقتل عمد.
وقوله: [فيصيب آدمياً لم يقصده].
أي: لم يقصده بالقتل.(350/8)
حكم عمد الصبي والمجنون
قال رحمه الله: [وعمد الصبي والمجنون] أي: وعمد الصبي والمجنون خطأ؛ لأن الصبي غير مكلف، فلو تقاتل صبيان، فأخذ صبي منهما السلاح فطعن الآخر وقتله، فإنه لا يقتص من الصبي القاتل؛ لأنه غير مكلف، وغير مؤاخذ؛ لعدم وجود العقل الذي هو مناط التكليف، ولكن تجب عليه الدية، فإن كان للصبي مال؛ وجبت في ماله، والأصل عند العلماء رحمهم الله أن عمد الصبي والمجنون خطأ؛ لعدم التكليف، فإن كان للصبي عاقلة ضمنت عنه الدية، وإلا كانت من بيت مال المسلمين، على الأصل المعروف في باب الديات.
فالشاهد: أن الصبي إذا تعمد القتل فعمده خطأ، وإذا تعمد الإتلاف فعمده خطأ.
ولو جاء صبي وكسر سيارة شخص، وجب ضمان هذا الشيء المكسور، ويجري عليه مجرى الخطأ، ولا يجري عليه مجرى العمد؛ فإذا تعمد شخص إتلاف شيء، ولا تضمن عاقلته إذا كان فوق ثلث الدية؛ لأن العاقلة تعقل -وسيأتينا إن شاء الله- وهذا نظام شرع في الإسلام، نظام العاقلة: وهم القرابة والعصبة، وهم يتحملون الدية في الخطأ، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المرأتين من هذيل بالدية على عاقلة المرأة القاتلة، فهذا يدل على أن الصبي إذا قلنا: إن قتله خطأ؛ فعاقلته تعقل، وإن قلنا: عمده خطأ، فمما ينبني على ذلك ضمان الجناية، سواء أتلف مالاً أو نفساً، فإنها تأخذ حكم القتل بالخطأ.
ولو أن مجنوناً -والعياذ بالله- أخذ سلاحاً وقتل شخصاً، فإنه لا يقتص من المجنون؛ لأنه غير مكلف، ويجب أن يضمن أولياء المجنون وعاقلته الدية، ولو أنه جنى جناية؛ فقطع يد شخص، أو أتلف مال شخص، فهذا كله يعتبر من الخطأ؛ لعدم التكليف في المجنون والصبي.(350/9)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [6]
من المعلوم أنه يجب أن نعرف نوعية القتل حتى نزل الحكم في منزله، فالعمد له حكمه والخطأ له حكمه والخطأ له حكمه وشبه العمد له حكمه، وقتل الخطأ لا يكون فيه قصاص بل تجب فيه الدية والكفارة.(351/1)
قتل الجماعة بالواحد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: تقتل الجماعة بالواحد].
بعد أن بين المصنف رحمه الله أنواع القتل، ومتى يحكم بقتل العمد، ومتى يحكم بقتل الخطأ، ومتى يحكم بالوسيط بينهما؛ وهو قتل شبه العمد؛ شرع في مسائل القتل بالاشتراك؛ وهذه المسألة -وهي قتل الجماعة الواحد- تكون غدراً، وفتكاً، ومجاهدة، ومغالبة.(351/2)
االقائلون بقتل الجماعة بالواحد
فإذا اشتركت الجماعة في قتل الواحد؛ فالأصل أنهم إذا اجتمعوا وفعلوا به فعلاً، لو انفرد كل واحد منهم بفعله لقتله؛ فكلهم قاتل، وبناءً على ذلك فإن هذه الصورة لا خلاف فيها عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد.
فنبدأ بالمجمع عليه عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد: الجماعة: اثنان فأكثر، والأصل أن الجمع ثلاثة، لكن هنا مرادهم: أن يشترك اثنان فأكثر، فلو اتفق اثنان على شخص أن يقتلاه؛ فجاء أحدهم وبقر بطنه، وجاء الآخر وطعنه في قلبه، فكلا الفعلين وقعا في زمان واحد، أو ضربتان قاتلتان وقعتا في زمان واحد، وكلا الفعلين مزهق، وكل منهما قاتل، فجمهور العلماء من السلف والخلف رحمة الله عليهم على أنه يقتل هذان الشخصان بالواحد، وهذا هو مذهب عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، والمغيرة بن شعبة، وقد نفذ هذا الحكم أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلوا جماعة بواحد، فأما عمر رضي الله عنه وأرضاه فارتفعت إليه قضية من اليمن: أن جماعة تمالئوا على رجل، وقتلوه غيلة، استدرجوه وقتلوه، وهذا ما يسمى: بقتل الغيلة، كأن يخدع ويستدرج ويخرج من المدينة، أو يقولون له: نريدك في نزهة، أو نريدك في غرض ما، أو نريد أو نرى بستانك، أن نريد أن نريك شيئاً، أو نريد أن تذهب معنا في السفر، فيستدرجونه حتى يخرج، ثم بعد ذلك يغتالونه ويقتلونه، فهذا من قتل الغيلة، فيؤخذ على غرة-على حسن نية- فيقتل، وهذا من أخبث ما يكون من أنواع القتل، والغالب أنه لا يقع إلا من الأنفس الشريرة، حيث تكون هناك عصابات تقوم بمثل هذا، الفعل فقال عمر رضي الله عنه: والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به.
فقتلهم رضي الله عنه وأرضاه، وقد قيل: إنهم كانوا سبعة، وقيل: تسعة أشخاص، كانوا متمالئين عليه حتى قتلوه.
أما علي رضي الله عنه فقتل أربعة بواحد، وأيضاً له قصة ثانية في قصة عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه، حين كان عاملاً له على النهروان، فقتله أهل النهروان، فكتب إليهم أن ادفعوا إلي من قتله، فأخذتهم العزة، فقالوا: كلنا قتلناه، فقال: إذن سلموا أنفسكم لأقتلكم جميعاً به، وإلا آذنتكم بحرب، فامتنعوا، فركب إليهم فقتل منهم قتلاً ذريعاً، رضي الله عنه وأرضاه.
وكذلك أيضاً عبد الله بن عباس قضى بهذا، أما الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة فقد قتل في إبان ولايته وإمارته؛ وقد كان أميراً لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه على الكوفة، فقتل ثلاثة بواحد، وقيل: أربعة بواحد.
فهؤلاء أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم أثنان مأمور باتباع سنتهما، والعمل بها؛ وهما: الخليفتان الراشدان: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع وأرضاهم.
وقد وقعت هذه الحوادث ونفذ فيها الحكم من هذين الراشدين أمام الناس، وعمل به الناس، وتوافرت الدواعي لنقله، ولم ينقل إلينا إنكار أحد من الصحابة على هذين الصحابيين.
ومن هنا قال بعض العلماء: إنه حكم متفق عليه بين الصحابة، وهذا ما يميل إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، ويقرره غير واحد من العلماء؛ أن هذا الحكم صدر من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت المدينة مليئة بفقهاء وأئمة الصحابة؛ لأن عمر رضي الله عنه كان يمنع فقهاء الصحابة من الخروج للجهاد؛ لأنه كان يحتاجهم للفتاوى، ومن هنا قالوا: إن المدينة كانت عامرة بأهل الفتوى والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد أحد هذا الحكم وهذا القضاء.
وكذلك أيضاً قال بهذا الحكم: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وابن عون -التابعي المشهور- وكذلك الحسن البصري، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة في المشهور؛ على أنه تقتل الجماعة بالواحد.
واتفقوا على أنه إذا كان كل واحد منهم انفرد فعله بقتل، فإنهم يقتلون به، والذين قالوا بقتل الجماعة بالواحد اتفقوا على الصورة التي ذكرناها، لكنهم فصلوا، واختلفوا في بقية الصور.(351/3)
القائلون بعدم قتل الجماعة بالواحد
وهناك قول ثانٍ: أنه لا تقتل الجماعة بالواحد؛ وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه، وقول ابن المنذر، وطائفة من متأخري السلف رحمة الله على الجميع، حتى قال بعض العلماء: إن هذا القول أسبق، وقد حكي هذا القول عن عبد الله بن الزبير، وعن معاذ بن جبل، ولكن لم يوثق، ولم يحرر بالرواية الصحيحة، ولذلك فإن حكاية الخلاف عن الصحابة لا تقدح في الإجماع ما لم تكن موثقة؛ لأن هناك قولاً للصحابي حكاية أو قولاً للصحابي رواية، وهنا جاء من باب الحكاية، ولم أطلع على رواية صحيحة عن هذين الصحابيين أنهما قالا: لا تقتل الجماعة بالواحد.
وكذلك أيضاً قال به محمد بن سيرين من التابعين.
وهناك قول ثالث: قالوا: إذا قتلت الجماعة واحداً، فيقتل واحد بالمقتول، ثم يؤمر البقية بدفع ما بقي على حسب حصصهم من الدية، فمثلاً: لو اشترك ثلاثة في قتل واحد يقتل واحد منهم، ثم الاثنان الباقيان يدفع كل واحد منهما ثلث الدية، ولو اشترك عشرة في القتل فنقتل واحداً، ويدفع التسعة تسعة أعشار الدية، وقس على ذلك.
وهذا القول ضعيف.(351/4)
أدلة القائلين بقتل الجماعة بالواحد
أما الدليل على أن الجماعة تقتل بالواحد: فقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمرنا أن نقتص من القاتل، وكل واحد من هؤلاء العشرة، أو الخمسة، أو الثلاثة، أو الاثنان، كل واحد منهم قاتل؛ لأنه لو انفرد فعله لقتل، وقد أتى كل واحد منهم بفعل قاتل فهو قاتل؛ لأن النفس أزهقت بهذه الأفعال القاتلة، فهو قاتل.
وكذلك أيضاً عموم الأدلة التي دلت على أن من قُتل له مقتول فله الحق في الأخذ ممن قتله والقصاص، كقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33]، فجعل الله لوليه السلطان في أن يقتل من قتله، وكل واحد من هؤلاء قاتل.
الدليل الثالث: الأثر الصحيح عن عمر بن الخطاب، وقد ذكره الإمام البخاري تعليقاً، ووصله غيره، والسند صحيح عن هؤلاء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أنهم قتلوا الجماعة بالواحد، وسنة الخلفاء الراشدين مأمور باتباعها.
الدليل الرابع: أننا لو قلنا: إن الجماعة لا تقتل بالواحد؛ لانفتح باب الشر والفساد والبلاء، فكل شخص يريد أن يقتل، يعلم أنه لو قتل سيقتل، فيطلب من شخص آخر أن يعينه على القتل؛ وحينئذ تسلم العصابات من القتل، ويسلم أهل البغي من القتل، ويذهب المقصود الشرعي من استتباب الأمن، وحفظ أنفس الناس، فما على أهل الفساد إلا أن يجتمعوا، ويتواطأ بعضهم مع بعض، فيقول أحدهم: أنا أريد أن أقتل فلاناً، فشاركني حتى أشاركك لتقتل فلاناً، وحينئذ تذهب الحكمة من شرعية القصاص، ويسترسل أهل الشر في دماء المسلمين، وقد قال الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، فقوله: (النفس): جنس، فالنفس المقتولة بالنفس القاتلة جنس، سواء اتحدت أو تعددت.(351/5)
أدلة القائلين بعدم قتل الجماعة بالواحد والرد عليها
أما الذين قالوا: إنه لا تقتل الجماعة بالواحد، فقالوا: إن الله تعالى أمر بالمساواة في القصاص، فقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، وأجيب: بأن الآية المراد بها: جنس النفس، بغض النظر عن العدد، وأيضاً نقول: إن كل نفس من هذه الأنفس متهمة بالقتل لا على شك، ولا على مرية؛ لأن الفعل الذي فعلته قتل، وموجب للزهوق، فحينئذ يجب القصاص منها.
وقالوا: إن النفس التي قتلت واحدة، والذين يُقتص منهم أكثر، والله عز وجل يقول: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33] قالوا: فحينئذ أسرفنا؛ لأننا قتلنا عشرة بواحد، وقتلنا ثلاثة بواحد.
ونجيب عن هذا: بأن هذا الكلام ضعيف؛ لأننا نسألهم: هل الذين قتلناهم قتلة أو برآء لم يقتلوا ولم يفعلوا القتل؟ فإن قالوا: برآء، فإن الواقع يخالفهم، وإن قالوا: قتلة، فإن الله أمرنا أن نقتل القاتل.
فنقول: قوله تعالى: (فَلا يُسْرِفْ)، أي: لا يقتل من لم يقتل، أما قتل من قتل فلا يعتبر من الإسراف، وتوضيح ذلك: أن الإنسان إذا أخذ حقه لم يسرف، فإذا زاد عن حقه فقد أسرف، وأساء وظلم، فهذا الذي قتل الاثنين بالواحد قتل من قتل وليه، وإذا قتل من قتل وليه لم يسرف؛ لأنه قتل بحدود حقه، وحده: أن الاثنين قد قتلا، وأن الثلاثة اشتركا في القتل.
ثانياً: نقول لهم: هؤلاء العشرة، أو هؤلاء الثلاثة، أو الأربعة، كل منهم فعل فعلاً قاتلاً، فإذا لم نقتله، فماذا نفعل؟ وإذا لم نقتلهم جميعاً حصل الفساد والشر، كما بينا، فيشترك أهل الفساد فيقتلون المسلمين.
وإن قلتم: نقتل واحداً، فنسألكم: هل الواحد قاتل؟ فإن الظاهرية يقولون: نقتل واحداً ونترك البقية، فنسألهم: لماذا قتلتم هذا الواحد؟ فإما أن تثبتوا أنه قاتل، مع أن الصفة التي فيه موجودة في غيره؛ لأن الكل منهم فعل فعلاً موجباً للقتل، وما الذي جعل هذا يقتل وهذا لا يقتل؟ ثالثاً: نقول لهم: أنتم تقولون: يقتل واحد، ثم البقية يدفعون ما بقي من الدية، فجمعتم بين القصاص والدية! والله جعل الدية عوضاً عن القصاص، وبناءً على ذلك فلا يصح أن تجمع بين الأصل وبديله؛ لأن الشريعة جعلت الأصل، فإن لم يستطع فبديله.
فإذا جئت تقول: يقتل واحد، ثم البقية يدفعون تسعة أعشار الدية، فإنك في هذه الحالة خالفت، فإما أن تقتلهم جميعاً، أو توجب الدية عليهم جميعاً، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.
وعلى كل حال: هنا قاعدة: أن خلاف العلماء وأقوالهم ما تعددت من فراغ، ولا اختلفت من هوى، ولكن حصل لكل منهم شبهة أو دليل، والحق أقوى دلالة، فقد تجد القول المخالف له وجه، لكن الأوجه والأقوى هو الصحيح، وإن وجدت حسناً عند المرجوح، فالأحسن عند الراجح؛ لأنك إذا نظرت إلى هدي السلف الصالح، وأصول الشريعة العامة، وعموم الأدلة التي أمرت بقتل من قتل، لاطمأنت النفس برجحان مذهب جمهور السلف رحمهم الله.(351/6)
صور قتل الجماعة بالواحد
بقي في مسألة قتل الجماعة بالواحد: هناك اشتراك بالفعل، وهناك اشتراك بالفعل مع غير الفعل، فإذا كانوا قد اشتركوا في الفعل ففيهم تفصيل، وإن اشتركوا بفعل ورأي، فبعضهم دبر المكيدة، وبيَّن الطريقة التي يتم بها اغتياله وقتله، وبعضهم نفذ وقام بالعمل، فهذا يحتاج إلى تفصيل.
فعند بعض العلماء: أن الاشتراك بالرأي لا يوجب القصاص؛ لأنه يصبح سببية ومباشرة، وبعض العلماء يقول: إذا كان الذي خطط وقال الرأي عن طريق رأيه تُوصل إلى القتل، أصبحت سببية قوية التأثير في الزهوق، فيقتل مع من نفذ.
ومن هنا احترز بعض العلماء خروجاً من هذا الخلاف؛ لأنه لا يرى مسألة الرأي، فقال: تقتل الجماعة بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهما موجباً للزهوق لو انفرد، كما ذكرنا في الصورة المتفق عليها.
ومنهم من قال بوجوب القصاص على المدبر إذا كان الشخص المنفذ لا يستيطع أن يعرف الطريقة التي يدخل بها، ولا يعرف الوسيلة التي يتوصل بها إلى قتل هذا الشخص وجاءه هذا الشخص، وبين له الطريقة والوسيلة، ومكنه على وجه لولا الله ثم هذا التمكين لما حصل الإزهاق؛ فقالوا: إنه يكون شريكاً له في القتل بسببية مؤثرة؛ لأنها سببية مفضية للقتل بقوة، فليست سببية ضعيفة، وقد بينا أن السببية تارة يقتل المتسبب والمباشر، وتارة يقتل المتسبب دون المباشر، وتارة العكس، فهنا بعض العلماء يرى أنه إذا كان الرأي والتخطيط من الشخص قوي التأثير في الزهوق، فيقتل أيضاً، فمثلاً قال له: افعل كذا، فدخل القاتل على المقتول، ولم يعرف كيف يقتله، فقال له: افعل به كذا وكذا، ففعل؛ فقتله، وفي زماننا الآن توجد أجهزة، وقد تحتاج الجريمة إلى تنظيم وترتيب، فلا يمكن أن تقع بواحد، ولا يمكن أن تغفل الأسباب والمشتركين مع المنفذ بحال، وحينما تنظر تجد الذين تسببوا وأعانوا المنفذ ودلوه سببيتهم قوية التاثير، بحيث يصعب إغفالها أو إسقاطها من القصاص.
ولو رد هذا الأمر أيضاً إلى القاضي فقد يكون أضبط للمسائل، وله نظر فيما اشتركوا فيه.
لكن إذا اتفق اثنان على قتل شخص، فجاءا وفعلا فعلاً أزهق روحه، فإن كان الفعل الذي أزهق الروح صدر منهما معاً؛ فهما قاتلان بلا إشكال، فمثلاً: لو أن الاثنين أمسكا السلاح مع بعضهما وأطلقاه، فهما قاتلان، ولو أن الاثنين أمسكا بالسيف وبقرا به بطن المقتول، فهما قاتلان هذه صورة.
الصورة الثانية: أن ينفرد كل منهما بفعل، فإذا انفرد كل منهما بفعل، فإما أن يكون فعل كل منهما مزهقاً، وإما أن يكون فعل أحدهما مزهقاً والآخر لا يزهق، فإن كان فعل كل منهما مزهقاً؛ فصورتان: إما أن يكون وقوع الفعلان مع بعضهما، فواحد منهما طعنه في بطنه، والآخر طعنه في قلبه، وحصلت الطعنتان مع بعضهما، فالإزهاق حصل بالطعنتين، فكلاهما قاتل، وإما أن يتأخر أحدهما عن الآخر، فإن تأخر أحدهما عن الآخر؛ فننظر: فإن كان الأول قد فعل الفعل، فاندمل جرحه، أو ضعف عن القتل، أو برئ، ثم جاء الآخر وأزهق، أو فعل الفعل القاتل، فالقاتل هو الثاني دون الأول، وإن كان الأول قد ضرب مقتلاً، وأصاب المقتل، ثم جاء الثاني بعده وضرب مقتلاً بعد المقتل الأول، فالقاتل هو الأول دون الثاني؛ لأن الإزهاق وقع بالأول دون الثاني، لكن يشترط في هذه الصورة الأخيرة: أن يتأخر فعل الثاني تأخراً يقوى به الإزهاق بالفعل الأول، فإن لم يتأخر، ولم يتراخ، انتقل للمسألة الأولى التي ذكرناها، وهي أن يشترك الاثنان بفعل موجب للزهوق.
إذاً: إذا كان فعل كل منهما قاتلاً: إما أن يقعا في وقت واحد؛ فكلاهما قاتل، وإما أن يختلفا؛ فإن اخلتفا فتأخر أحدهما عن الآخر، فإما أن يتأخر تأخراً مؤثراً، ومثاله: اثنان يريدان قتل شخص، فجاء أحدهما وطعنه بالسكين، فنقل المطعون إلى المستشفى وعولج، حتى نجا من الموت، وغلب على الظن أنه نجا من الحالة الخطرة، فدخل عليه الثاني وهو على سرير المرض وطعنه فقتله، فالقاتل هو الثاني دون الأول؛ لأن ضربة الثاني تأخرت تأخراً متفاحشاً مؤثراً، ولا يشترط طول الزمان؛ بل يشترط ألا تكون الضربة الأولى تأتي على الروح، وفي هذه الحالة تكون الطعنة الأولى جراحاً، وموجبة لضمانها بالدية، أي: بقدرها وحصتها من دية الجراحات، والضربة الثانية موجبة للقصاص، فالثاني قاتل، والأول ضامن يضمن الجرح الذي جرحه به.
مثال آخر: ضربه الأول على دماغه، ضربة مأمومة-وهي التي تكشف خريطة الدماغ وأم الدماغ- ثم عولجت هذه الضربة؛ ففيها ثلث الدية، والثاني ضربه بسكين فقتله، فالقاتل هو الثاني دون الأول، فالأول عليه ضمان ضربة الدماغ بقدر حصتها من الديات، والثاني يضمن النفس، فيجب عليه القصاص.
وهذا كله إذا كان الفعل الذي فعلاه موجباً للزهوق.
فإذا كان أحدهما يزهق، والثاني لا يزهق، نظرنا: فإن كانت الضربة الأولى من الأول هي القاتلة المزهقة، والضربة الثانية لا تزهق، فالأولى هي القاتلة، فمثلاً: شخصان دخل أحدهما فضرب شخصاً بسكين في بطنه حتى أنفذت مقاتله، وغلب على الظن أنه ميت، فجاء الثاني وجرحه، أو كسر عظمه، فحينئذ إن كانت الضربة الثانية لا تزهق، فإن من العلماء رحمهم الله من حكم بكونها مضمونة، وإن كانت من الجراح ففيها أروش الجراحات، والقاتل هو الأول الذي عليه القصاص، والثاني ضامن، إلا أن بعض العلماء يقول: إذا أُنفذت مقاتله، كما لو ضربه وأصبح في عداد الموتى، وجاء الآخر وخدشه، أو فعل به فعلاً، فلا شيء عليه، وهذا هو ضعيف وباطل، وقد عجبت من بعض المتأخرين حين كان يفتي به! مع أنه لا أصل له؛ لأن نفس المؤمن محرمة، حتى قال صلى الله عليه وسلم (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً)، يعني: في الإثم، وهو من حديث عائشة في سنن ابن ماجة، وهو حديث حسن، وبعضهم يراه صحيحاً لغيره، فهذ يدل على أنه لا تهدر هذه الضربة، وهناك قاعدة تقدمت معنا: الحياة المستقرة هل هي كالعدم أم لا؟ وهذه سيأتي تفصيلها-إن شاء الله- في باب الذبائح، كأن يهجم سبع على فريسة، وأدركتها وهي ترفس فذكيتها، فهل الذكاة تنفع أم لا؟ إن قلنا: الحياة المستقرة كالعدم، فلا تنفع الذكاة؛ لأن الفريسة ماتت بالبقر، وهو فعل السبع، فهي ميتة، وحينئذ التذكية جاءت في غير حياة مؤثرة، وإن قلنا: إنها ليست كالعدم؛ فإنها تكون مؤثرة.
وبناءً على ذلك: إذا ضربه ضربة أنفذت مقاتله؛ فإن قلنا: إنها حياة مستقرة كالعدم؛ فإنه لا يؤثر، وإن قلنا: إنها ليست كالعدم أثرت، وظاهر السنة فيها شيء يدل على أنها ليست كالعدم -أن الحياة المستقرة ليست كالعدم- فقد ثبت في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة كانت ترعى غنمها بحذاء سلم، فجاء الذئب وعدا على شاة منها، فاستصرخت الناس، ففر الذئب وقد بقر بطن الشاة، فكسرت حجراً وذكت الشاة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلوا منها).
فبقر البطن يعتبر مقتلاً، وبعض العلماء يشك، لكن ليس على كل حال، فقد تبقر بطن البهيمة وترد وتخاط أحشاؤها، والآن هذا ملاحظ ومعلوم، فقد يُفك بطن الإنسان، وتخرج أمعاؤه وأحشاؤه، وتدبر الجراحات، ويرجع كما هو.
إذاً: معنى ذلك: أن الحديث لا دليل فيه على مسألتنا، والذي يقولون: إنه لا دلالة فيه، يعارضون بحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وهناك مسائل كثيرة الأشبه بها كتاب الذبائح، منها: لو أصبت عصفوراً وهو على البحر، على وجه الغالب أنه يموت، ثم سقط في النهر ومات، فهل هو ميت بالطلق فحلال مذكى؟ أم هو ميت بالخنق كالمنخنقة لا يحل أكلها؟ هذا كله راجع إلى مسألتنا؛ لأن طلق النار إذا أنفذ فهو قاتل، وبعد ذلك الخنق الذي وقع في النهر جاء والروح قد أُنفذت، فليس له من تأثير، وكذلك: لو أصاب صياد غزالة على جبل؛ فسقطت وارتطمت بالأرض فماتت، فهل هي مذكاة؟ أم هي متردية حينما ارتطمت بالأرض فماتت؟ والأصل عند العلماء أنه إذا تعارض حاظر ومبيح؛ رجع إلى الحاظر، وكل هذا سنفصله-إن شاء الله- في كتاب الذبح.
والخلاصة: أنه إذا أنفذ مقاتله، فكانت الضربة في مقتل، وجاء الآخر وجرحه، ولا زالت النفس باقية، فالأصل يقتضي أنه يضمن، وهذا قد نص عليه غير واحد من العلماء والأئمة رحمة الله عليهم أجمعين.
فبين المصنف -رحمه الله- أن الجماعة يقتلون بالواحد، وقلنا: إن هذا يشمل الغيلة، ويشمل الغدر: وهو أن يخدع الإنسان بأمان، كأن يقال له: اخرج معنا ولن نفعل بك شيئاً، ويتوجس منهم، فيعطونه الأمان-والعياذ بالله- ثم يغدرونه، والفتك: هو الهجوم، فيشمل قتل الجماعة: غيلة، وغدراً، وفتكاً، وصبراً؛ الذي هو الدم البارد، مثل: قتل الإنسان المأسور والسجين، يجتمعون عليه ويسجنونه في مكان أو بئر، ويمنعون عنه الطعام والشراب، ويشترك الجميع في هذه الجريمة، فهم جماعة قتلة، كل منهم قاتل، فكل هذه الصور يجب فيها القصاص، وتقتل الجماعة بالواحد، سواء كانوا اثنين، أو أكثر من اثنين، والجمع -كما ذكرنا- عند العلماء في هذه المسألة: اثنان فصاعداً.(351/7)
إذا سقط القصاص أدت الجماعة دية واحدة
وقوله: [وإن سقط القود أدوا دية واحدة] معلوم أن قتل الجماعة بالواحد مرد القصاص فيه إلى أهل الميت-أولياء المقتول- فإن قالوا: نريد القصاص؛ قتلوا الجماعة، وإن قالوا: نريد الدية، فهل يدفعون_إذا كانوا ثلاثة- ثلاث ديات؟ أم دية واحدة؟
الجواب
يدفعون دية واحدة، يشتركون فيها؛ لأن الدم المضمون دم واحد لا غير.(351/8)
الأسئلة(351/9)
حكم القتل بالعصا والسوط عند من لا يرون قتل شبه العمد
السؤال
الذين لا يرون شبه العمد في القتل، ماذا يسمون القتل بالعصا والسوط؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمن قال بهذا القول يضعفون الحديث الوارد في شبه العمد، وأما القتل إذا كان بآلة أزهقت؛ فعند المالكية: يوجب القصاص، وقد بينا أن مذهبهم رحمة الله عليهم من أقوى المذاهب في مسألة القتل والقصاص في القتل، أما بالنسبة للحنفية رحمة الله عليهم فهم مع الجمهور في مسألة التقسيم، وزادوا القتل الجاري مجرى الخطأ، ولكن عندهم لا يقتص في المثقل، فلا يقتصون بالسوط ولا بالعصا؛ لأنهم يرونه قتلاً بالمثقل، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبينا أن القتل بالمثقل يوجب القصاص؛ لحديث أنس في الصحيحين عنه رضي الله عنه وأرضاه: (أن امرأة من الأنصار وجد رأسها مرضوضاً بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان، فلان، حتى ذكروا يهودياً؛ فأشارت برأسها: أن نعم.
فأخذ اليهودي فأقر واعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين).
وهذا أصل عند العلماء في القصاص بالمثقل، وبه يقول جمهور العلماء رحمهم الله، وهم -أي: الحنفية- لا يرون القتل بالسوط والعصا، ولذلك يحتجون بحديث: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا)، على أنه لا يقتص بالمثقل، واستدلالاً بقصة المرأتين من هذيل، وقد أجبنا عن هذا، وبينا أن الصحيح مذهب الجمهور رحمة الله عليهم، والله تعالى أعلم.(351/10)
مدى صحة الاستدلال بحديث العرنيين على جواز قتل الجماعة بالواحد
السؤال
ألا يمكننا أن نستدل على أنه يقتل الجماعة بالواحد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قتل من قتل الراعي، وسمل أعينهم؟
الجواب
يا أخي! لا تستدل، اترك الأمر للعلماء الجهابذة، هذه مسائل قُتلت بحثاً من بداية القرن الرابع عشر، فتأتي وتستدرج على العلماء! قتل الراعي هو قتل حرابة، وقتل الحرابة شيء، وقتل القصاص شيء آخر، فقتل الحرابة لا يرجع فيه إلى أولياء المقتول، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ما رجع إلى أولياء الراعي، ولا استأذنهم في القتل؛ أما القصاص فلا يجوز للإمام أن ينفذه إلا بإذن أولياء المقتول، ولذلك فقتل الحرابة أدق، فلا يفتي فيه إلا العالم الفقيه المتمكن، ولا يقدم عليه إلا القاضي الورع، الذي يخاف الله عز وجل ويتقيه، وليس كل شيء حرابة؛ بل يحتاج إلى نظر وتعمق؛ لأنه متى حكم بكونه حرابة فإنه يأخذ حكم الحرابة، ومتى لا يحكم فلا يلحق بالحرابة.
وهنا مسألة الراعي مسألة حرابة، والنص فيها واضح: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]، فهذا نص جاء في المحاربة، وهم جماعة خرجت وحاربت، فهذا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله ذمة المسلمين وحرمة المسلمين، فجاءوا إليه في البرية فقتلوه وسملوا عينه-والعياذ بالله- واستاقوا الإبل، فجمعوا بين الجناية على المال، والجناية على الروح، والجناية على البدن، وهي جرائم عظيمة، والجناية على الروح بالقتل؛ فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجناية على البدن بأن سملوا عينه ومثلوا حتى بجثته، ولذلك قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم؛ لأنهم سملوا أعين الراعي، والجناية على المال؛ لأنهم سرقوا الإبل، ومن هنا انظر كيف جاءت الآية: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة:33].
ومن هنا فإن مذهب بعض السلف: أنهم إن قَتلوا قُتلوا، وإن مثلوا مُثل بهم، وصلبوا، وهذا كله نكاية بهم حتى يكون زجراً لغيرهم، والأمر الثالث: إن سرقوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذه كلها اجتمعت فيهم.
والأقوام كانوا من عكل أو عرينة-الشك من الراوي- والحديث في الصحيحين وليس فيه إشكال، فإن هذا قتل حرابة لمن خرجوا عن جماعة المسلمين، وفي حكمهم العصابات المنظمة، كأن يجتمع خمسة أو ستة على إخافة السبل، أو الهجوم على البقالات وتكسيرها وإتلاف ما فيها، أو يهجمون على البيوت وتجمعات النساء، فهذه جريمة منظمة، يخططون ويرتبون وينشرون الرعب، فيحدثون عند الناس نوعاً من الرعب، وينحازون عن جماعة المسلمين، فقد حاربوا الله ورسوله، فهذه جريمة لها حكم خاص، وفي هذه الحالة لو أن هذه العصابات والجماعات جاءوا فقطعوا الطريق، أو أوقفوا حافلة في سفر، وأشهروا السلاح عليها، وأنزلوا من فيها، فبمجرد أن يفعلوا هذا فهذه محاربة، وإن أخذوا أموالهم فلهم حكم، وإن سفكوا الدماء فلهم حكم، قال بعض العلماء: الحكم للقاضي، حتى لو أنهم أنزلوهم بالسلاح والقوة والتهديد، أخذوا مالهم أو لم يأخذوها، مجرد الرعب أو إخافة السبل، فإنه يعتبر محاربة؛ لأن المسلم لا يفعل مع أخيه المسلم هذا.
فصاروا محاربين بهذا، ولو فرضنا أنهم جاءوا وقتلوا شخصاً من المجموعة التي هجموا عليها، لانطبقت عليهم المحاربة، ولو أن الشخص الذي قتلوه قريب لهم، فجاء قريبه وقال: قد عفوت، وما أريد القصاص، ففي هذه الحالة نقول: الحق ليس لك، فهذه محاربة لله ورسوله، وسواء عفوت أو لم تعف فإن هذا ليس لك، ولا يمنع من قتله، فإذا رأى القاضي قتلهم فإنه يقتلهم.
وفي هذه الحالة يفرق بين مسألة الحرابة وبين مسألة القصاص، وما نتكلم نحن فيه هو القصاص، وما تسأل عنه هو محاربة، وأوصي طالب العلم إذا قرأ المسائل فعليه أن يتدرج ويعي ويفهم ويضبط، ولن يرتقي في سلم العلم إلا بهذه الأمور، والمشكلة: أن بعض المربين والموجهين منذ الصغر في تربيته في المراكز والمدارس يحدث في الطالب نوعاً من التهور، كأن يقول له: أنت ما شاء الله عندك طاقات، وهذا من باب التشجيع، فيا أخي! لا تشجعه تهوراً، بل شجعه تعقلاً، وقل له: أخلص لله، اضبط العلم يفتح الله عليك، خذ العلم من سبيله تكن مثل أهله، فإن التشجيع يكون بالشيء المعقول، وهل من المعقول أنه وبعد أربعة عشر قرناً من الزمان، وهذا الكم الهائل من العلماء الجهابذة المشهود لهم لم يستطع أحدهم استنباط هذا الحكم؟ الله المستعان! وأنا لا أقول هذا تهكماً، أقول هذا لأن بعض العلماء في بعض القضايا المنهجية يشدد، ويريد منهجاً، فعلى طالب العلم أن ينتبه، كفانا جرأة على الاجتهاد، وجرأة في استخدام النصوص في غير ما هي له، فعليك أن تقف حيث وقف العلماء، وتفهم كما فهم العلماء، وتحكم الأمر كما أحكمه الحكماء، وإلا زلت القدم، وعندها يعظم الندم، ولات حين ساعة مندم.
فمسائل الشريعة حساسة، ولو أن شخصاً كان من بداية الطلب عنده هذا الذوق، أنه يستكشف و.
إلخ؛ لربما لا يوفق لعالم يبين له خطأه، وإذا به كل يوم يأتي بجديد، ومن الآفات التي ضرت الأمة اليوم مسألة الجديد، ولا يمكن أن يعترف لأحد جاء ليكتب بحثاً إلا إذا جاء بجديد، وما هو الجديد؟ أن يقال: ولقد عثرت على دليل في هذه الآية.
لم يسبقني إليه أحد، وهذه الآية وإن قال العلماء: إنها تدل، فإنها لا تدل!! وهذا لا ينبغي، فينتبه الإنسان! فإن صلاح آخر هذه الأمة مقرون بما كان عليه أولها، وقديم الإسلام جديد، وجديده قديم ما تعاقب المنوان، وتتابع الزمان، وهذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولن يمر قرن من الزمان خال من أهل الحق، فإذا جئت وقلت: الأولون ما عرفوا، فمعنى ذلك: أنه خلا قرن من معرفة الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، فمعنى ذلك: أن هذا الفهم الذي بقي في هذه الطائفة هو الذي تفهم به، وهو الذي تنضبط به، وهو الذي تسعد به في الدنيا والآخرة.
فعلى طالب العلم أن يكون حريصاً على أن يتأدب ويفهم ويضبط، فإذا ضبطت ما معك وتفهمت، فأنت في خير وبركة، ولا تتجاوز ذلك إلى الفهم والاجتهاد، فليس وقتك وقت اجتهاد، ولم تعط آلة الاجتهاد، ولم يسغ لك شرعاً أن تنظر في آية فتستنبط منها حكماً، ولذلك فإن هذا الحديث ظاهره يدل على قتل الجماعة بالواحد، لكنه لا يدل، ولو قال الإنسان بدلالته لضرب النصوص بعضها ببعض، ولذلك فينبغي لطالب العلم أن يكون متقيداً بحاله، فأنت في الطلب تحرص على جمع العلم وضبطه، وقراءة الأصول -علوم الآلة- التي تفهم بها كيف تستنبط، وكيف تستنتج، ثم تعرض فهمك واستنتاجك على العلماء، وبعد أن تمضي فترة طويلة تحصل بها هذا العلم المقرون بعلم السلف رحمهم الله وتنضبط بضوابطهم، سيفتح الله عليك وهو خير الفاتحين، ومن أخذ حيث أخذوا، وانتهل من حيث انتهلوا، ووضع القدم حيث وضعوا؛ فُتح عليه كما فُتح عليهم، وبورك له كما بورك لهم.
فالخير الذي بارك الله به هذه الأمة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما نفع الله به في سلف هذه الأمة؛ سينفع الله به لخلفها، وفضل الله واسع، وليس محجراً في بعض العصور، وكما قال ابن المنير رحمه الله: فمن ظن أنه محصور في بعض العصور فقد حجر واسعاً.
فضل الله واسع، والله يؤتي الحكمة من يشاء، فإذا بدأت بهذه الخطوات؛ فحفظت كتاب الله، وحفظت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفهمت الأحكام، وجئت تطلب الفقه والأحكام، وصرت طالب علم يفهم، واستفرغت جهدك كله في حفظ ووعي ما يقال لك، ثم انتقلت بعد ذلك إلى درجة المقارنة لمن خالفك، وما دليله، وما حجته، وكيف تفهم دليل المخالف، وكيف ترد عليه، وكيف تقرر دليلك، وكيف تشيده، بعد هذا يفتح الله عز وجل عليك بدرجة الاجتهاد، لكن لا تستعجل، ولا يغرك الناس حينما يقولون: إن عندك الفهم، أو الاستنباط، أو ملكة، أو عندك كذا، فكل هذا لا يغني عنك من الله شيئاً، فالحق لا يعرف بطيب الكلام، ولا بلين الكلام، ولا بمدح المادحين، ولا بزخرفة المزخرفين، ولكنه حق ونور، لو أن أهل السماوات والأرض أرادوا أن يأخذوا هذا النور من حيث لم يأذن الله لم يستطيعوا إليه سبيلاً، ولو تكلم من تكلم، حتى ولو كتب، ولو فعل ما فعل، ولو كان البحر له مداداً، وكتب ما شاء، فلن يستطيع أن يجد قوة الحق إلا إذا أعطاه الله إياها.
فهذا الذي ينبغي لطالب العلم؛ فلا تستطيع أن تفهم نصاً، وتحكم فهمه، وتصيب الحق في فهمه، إلا إذا فهمت كفهم السلف.
وأختم كلمتي بأن نعرف من هم السلف؟ فلتعلم أن فيهم أقواماً منذ نعومة أظفارهم ما اكتحلت عيونهم إلا بكتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولتعلم أن فيهم أقواماً حفظوا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم دلالة وتقريراً، حتى أصبح الفهم يجري في عروقهم ودمائهم، فتجد الرجل يضبط أمره كما يضبط الواحد منا فاتحة الكتاب، فهم أناس ما كان عندهم إلا هذا الحق، وما كان عندهم إلا هذا العلم، منذ نعومة أظفارهم، أعرف علماء وأئمة شُهد لهم، منهم من حفظ القرآن وهو ابن تسع سنوات، فما عرف اللعب ولا اللهو، وما نشأ في بطالة، بل نشأ نشأة صالحة، ومثل هذا أكثر توفيقاً من الله، ولذلك يقولون: أوعى القلوب للخير الذي لم يسبق الشر إليه، ومن نشأ نشأة صالحة يفتح عليه بإذن الله عز وجل، ويُعطى نور العلم، ويُنفح من الله عز وجل بنفحاته ورحماته سبحانه وتعالى، كما قالوا: أعضاء حفظناها في الصغر، فحفظها الله لنا في الكبر.
واعلم أن هذا الفقه الذي تدرسه اليوم في مجلس واحد في الأسبوع، أنهم كانوا يجلسون-وهذا معروف في كتب التراجم وطبقات الفقهاء- من بعد صلاة الفجر إلى أذان الظهر في مجلس الفقه، وهم لا يتجاوزون الثلاثة الأسطر، والأربعة الأسطر، يقرءونها، ثم يبينون معانيها، ثم يضربون الأمثلة عليها، حتى إذا استقرت وفُهمت، يأتي لعبارة من العبارات تحتاج لشواهد من اللغة، وتحتاج إلى معانٍ لغ(351/11)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنايات [7]
ذهب جمهور العلماء إلى أنه إذا أكره شخص شخصاً آخر على قتل رجل فقتله، فإنه يقتص من الآمر والمأمور جميعاً، وهناك حالات يقتص فيها من الآمر دون المأمور، منها: أن يكون المأمور غير مكلف، وأن يكون جاهلاً بحكم قتل المسلم، وأن يكون الآمر سلطاناً معروفاً بالعدل، ويقتص من المأمور إذا كان عالماً بتحريم القتل فقتل، وإن اشترك اثنان في قتل واحد وسقط القصاص عن أحدهما وجب على الآخر، وإن عدل إلى الدية وجبت عليهما.(352/1)
القتل بالإكراه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن أكره مكلفاً على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما].
تقدم في المجلس الماضي استفتاح المصنف رحمه الله لهذا الفصل بحكم قتل الجماعة للواحد، وبناءً على ذلك فسينصب كلام الإمام رحمه الله في هذا الموضع على القتل بالاشتراك، وهو يأتي على صور: منها ما ذكرناه سابقاً أن تشترك جماعة في قتل معصوم الدم فيقتلونه، ويكون فعل كل واحد منهما مفضياً إلى القتل، وقد بينا حكم ذلك.
لكن هناك اشتراك من نوعٍ ثانٍ، وهو اشتراك السببية والمباشرة، بحيث يشترك اثنان في القتل على سبيل الإكراه، وقد تقدم معنا في كتاب النكاح -حينما بينا أحكام الطلاق- حكم طلاق المكره، وبينا حقيقة الإكراه لغة واصطلاحاً، وأن الشريعة الإسلامية أعطت هذا النوع من الأمور حكماً خاصاً، لكنه هنا في باب القتل لا رخصة فيه، مع أن الأصل أن المكره معذور بحكم الإكراه، ولكن في باب القتل إذا أكره على قتل معصوم؛ فإنه يُقتص من المُكرِه والمُكرَه معاً، فبين المصنف رحمه الله أن القصاص واجب على الاثنين: على الشخص الذي أكرَه، وعلى الشخص الذي أُكرِه فقتل؛ والسبب في ذلك: أن الذي أكرِه على القتل نجى نفسه بقتل أخيه المسلم، وحينئذٍ يكون كمن قتل غيره ليأكله وينجو.(352/2)
أقوال العلماء في قتل المكرَه
ذهب جمهور العلماء رحمهم الله -وهو مذهب المالكية والحنابلة في المشهور، والشافعية على الصحيح- إلى أنه إذا أكرِه شخصٌ على قتل معصومٍ فإنه لا يستجيب للإكراه، ولا يحق له شرعاً أن يقتل ذلك المعصوم، والسبب في ذلك: أن دم المعصوم محرمٌ كدمه هو، فإذا قال له: إن لم تقتل فلاناً أقتلك؛ فإنه في هذه الحالة ينجي نفسه بقتل أخيه، ومن شرط الإكراه حتى يكون مؤثراً -كما تقدم معنا في كتاب الطلاق-: أن يكون الذي يطلب من الشخص أهون من الذي يهدد به، فحينما يقول له: طلق زوجتك وإلا قتلتك.
فالطلاق أخف من القتل، فحينئذٍ يكون مكرهاً، لكن لو قال له: طلق زوجتك وإلا أخذت منك عشرة ريالات.
فتكون العشرة رخيصة، فالعشرة ليست في الضرر والمفسدة كالطلاق، فهذا بلاء يصبر عليه.
فإذا قيل له: إن لم تقتل زيداً نقتلك، وإن لم تقتل فلاناً -وهو معصوم الدم- نقتلك.
فالواجب عليه أن يمتنع؛ لأنها نفسٌ محرمة، معصومة في الشرع، لا يجوز أن يستبيح حرمتها ولا أن يسفك دمها فيزهقها بدون حق، ومن هنا لا يعتبر الإكراه موجباً للرخصة، وهذا أصح قولي العلماء.
وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله فقالوا: إنه لا قصاص لا على الذي أكرَه ولا على المُكرَه؛ لأن الذي أكره وهدد لم يباشر القتل وإنما قتل غيره، والقصاص للقاتل، وهذا لم يقتل، وليس هناك قصاصٌ على الذي هُدِّد -المكرَه- لأنه خرج عن اختياره، وإذا خرج عن اختياره لم يحاسب، وليس هو بقاتلٍ حقيقة؛ لأن الغير ألجأه، ومن هنا قالوا: كما لو دفع فسقط على الغير فقتله؛ فإنه لا يقتص منه.(352/3)
أدلة القائلين بأنه يقتص من المكرِه والمكرَه
والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، والدليل على ذلك: أولاً: ما ذكرناه من أنه ليس بمكره حقيقة؛ لاستواء ما طلب منه وما هدد به، فلم يتحقق به الشرط المعتبر شرعاً للإكراه.
ثانياً: أن المكرَه الذي أمر بالقتل يُقتص منه؛ لأنه كالشخص الذي أمسك حية فأنهشها للغير فقتلته، فإن الذي قتل في الحقيقة هو الحية، لكن الذي قربها منه وأوصلها إليه وكانت سببية للقتل مؤثرة هو الممسك، ومن هنا يكون الذي أكره وحرك على القتل دافعاً للشخص لسببية لم يشك في تأثيرها في إزهاق الروح؛ لأنه لولا الله ثم هذا الإكراه والضغط لما حصل الإزهاق ولما حصل القتل، ومن هنا يكون الذي أَكرَه قاتلاً من هذا الوجه.
ثالثاً: أننا لو قلنا: إنه لا يُقتص من المكره؛ لعاث الناس في الأرض فساداً، فكل شخصٍ يريد أن يقتل شخصاً ما عليه إلا أن يضع سلاحه على شخصٍ آخر ويقول له: اقتل فلاناً وإلا قتلتك، وحينئذٍ ينجو القتلة من القتل، ويذهب معنى القصاص الذي أمر الله عز وجل به وشرعه لعباده.
وأيضاً: أهل الفساد يتذرعون بالإكراه لخروجهم من تبعة القصاص، ومن تبعة القتل وما ترتب عليه من القصاص والقضاء، ومن هنا فقول من قال: (إنه يقتص من الآمر والمأمور) قولٌ صحيح؛ لأن الذي أمر وهدد فعل فعلاً أفضى إلى القتل وأثر فيه تأثيراً قوياً، بحيث لو انعدم هذا التأثير لما حصل الإزهاق والقتل، والذي قتل باشر، فحينئذٍ لا يسقط القصاص عن الذي باشر؛ لأنه لا رخصة له؛ لأنه فدى نفسه بأخيه، فكانت أنانية لا يقرها الشرع، وليس مثله مرخصاً له أن يقتل، وعلى هذا يقتص من الاثنين الآمر والمأمور على أصح قولي العلماء، وقد اختار المصنف هذا ودرج عليه.(352/4)
شروط الاقتصاص من المكرِه والمكرَه
وقوله (ومن أكره مكلفاً) فخرج من أكره غير المكلف، ومن هنا لو أكره مجنوناً أو صبياً وقال له: اذهب واقتل فلاناً وإلا قتلتك، وهدده بما يخاف، فإنه في هذه الحالة يُقتص من الذي أمر ولا يُقتص من الذي باشر؛ لأن غير المكلف يسقط القصاص عنه، ومن شروط القصاص: أن يكون القاتل مكلفاً، فلو أنه هدد صبياً وقال له: اقتل فلاناً، فإن الصبي لا يعقل الأمور ولا يميزها، وقد رفع الله عنه القلم، فأسقط عنه المؤاخذة، فلذلك جماهير السلف والخلف -إلا قولاً ضعيفاً- أن الصبي ولو كان مميزاً غير مكلف؛ لظاهر النصوص الصحيحة الصريحة التي تدل على عدم تكليفه، فإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: يشترط في القصاص من الاثنين (الآمر والمأمور) أن يكونا مكلفين.
والعكس: فلو أن مجنوناً وضع السلاح على عاقل ومكلفٍ وقال له: إن لم تقتل قتلتك، فإن الحكم لا يختلف، لكن إذا قتل هذا المأمور؛ فإنه يقتص منه ولا يُقتص من الآمر؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وهذا لا يباح في الشريعة.
وقوله: (على قتل مكافئه) من شرط القصاص -كما سيأتي- وجود المكافأة، أي: أن يقتل مكافئاً، فلو كان الذي قتله أعلى منه ففي هذه الحالة ننظر: فتارة يكره حر على قتل عبدٍ؛ فإنه لا يقتل الحر بالعبد، أو مسلمٌ يُكره مسلماً على قتل كافر، فإذا كان هذا الكافر مباح الدم فلا تأثير؛ لأنه لا قصاص مثل الحرب، أو غير معصوم الدم كالزاني المحصن، أو أكرهه على قتل كافرٍ أو على قتل عبدٍ، وهما حران؛ فإنه لا يُقتص منهما.
لكن لو أن مسلماً أكره ذمياً على قتل ذمي، فإن الذمي والذمي مرتبتهما واحدة، فيُقتص منهما، وفي هذه الحالة يُقتل الذمي بالذمي، لكن لا يُقتل المسلم بالذمي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في حديث عليٍ الصحيح: (لا يُقتل مسلم بكافر)، فبين المصنف رحمه الله أن شرط القصاص من الاثنين: أن يكون المقتول مكافئاً لهما، فإذا كان مكافئاًَ لأحدهما؛ اقتص من ذلك الذي يكافئ، وسقط القصاص عن غير المكافئ، كما لو اشترك مكلف وغير مكلف.
وبناءً على ذلك لو أن المسلم أكره الذمي على قتل ذمي؛ اقتص من الذمي القاتل، ولم يُقتص من المسلم المكرِه، وإنما يعزر، على تفصيل عند العلماء في مسألة الإكراه إذا سقطت عن الطرف الثاني، والعكس: فلو أن ذمياً أكره مسلماً على قتل ذمي؛ وجب القصاص على المُكْرِه الذمي دون المُكْرَه المسلم؛ لأنه غير مكافئ له؛ لأن الكافر ليس بكفء للمسلم فيقتص منه، وهذا على مذهب الجمهور، خلافاً للحنفية رحمهم الله الذين يرون أن المسلم يقتل بالذمي، لكن الأحناف رحمة الله عليهم لا يرون في الإكراه قصاصاً، وعندهم قاعدة في هذه المسألة وهي حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، قالوا: إن الذي قتل عنده شبهة، وهي الإكراه، والذي هدد لم يقتل حقيقة، فلا قصاص على الذي هدد؛ لأنه لم يقتل حقيقة، وقد أمر الله بالقصاص من القاتل حقيقة، ولا قصاص على المكرَه؛ لأن فيه شبهة، وقد أمرنا بدرء الحدود بالشبهات.
وهذا قول ضعيف بل باطل لما ذكرناه؛ فكلٌ منهما قاتلٌ من وجه، فإنك لو نظرت إلى الجماعة يشتركون في قتل واحد، لوجدت الإكراه أشبه باشتراك الجماعة في قتل الواحد، كما لو أن أحدهما أمسكه على وجهٍ يحصل به الزهوق، وأزهق الآخر روحه؛ فإنه في هذه الحالة يُقتص من الاثنين: من الذي تعاطى السبب المؤثر في الإزهاق، والذي قتل حقيقة، فكل منهما قاتل.
ويجاب كذلك بأن حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الشبهة فيه مؤثرة، وهنا الشبهة غير مؤثرة؛ لأن الإكراه لم يثبت حقيقة، وكذلك نقول لهم: الشبهة تكون مؤثرة وموجبة للإسقاط في الحدود والقصاص إذا كانت قوية، وهنا لم تقو على إسقاط حكمٍ شرعي، فكل من الآمر والمأمور قاتل من وجه؛ إذ لولا الله ثم هذا الإكراه لما حصل هذا القتل، فهو قاتل وهو يريد القتل، وهو الذي حرك المأمور والمُكرَه على القتل.
والذي قتل وهو المأمور -المكرَه- لا إشكال فيه؛ لأن الإزهاق حصل بفعله، وحينئذٍ يُقتص من الاثنين، فأما الشبهة التي ذكروها فإن الإكراه شرطه: أن يكون ما هدد به أعظم ضرراً مما طُلب منه، وهذا لم يتحقق، فإن المطلوب مساوٍ لما هدد به، وحينئذٍ لم يكن مكرهاً حقيقة.
ثم أيضاً: العجب أن الحنفية رحمة الله عليهم من أضيق المذاهب في تحقيق الإكراه، والحكم بالإكراه، فعندهم الإكراه التام، والإكراه الناقص، والإكراه الملجئ وغير الملجئ، وهذا لأنهم لا يرون الإكراه إلا في حدود ضيقة جداً، ويرون أن الإنسان ينعدم به التصرف كلية كما لو رمي شخص فسقط على الغير وهو مكره؛ لأنه لا يستطيع أن يميل يمنة أو يسرة، فالإكراه عندهم مضيق، وهنا اعتبروه شبهة، مع أنه إكراه غير مؤثر، حتى في الطلاق ومسائل الطلاق، ومثل هذا الإكراه الناقص لا يرونه إكراهاً مؤثراً، ولذلك نقول: الصحيح هو مذهب الجمهور، خاصة وأننا إذا نظرنا إلى حكمة الشرع ومقصوده من القصاص كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، فإن هذا ينعدم؛ إذ لا ضير على أحد بل حتى على المجرمين، لا بأس ولا خوف عليهم، وكلما أراد مجرم أن يقتل شخصاً آخر ما عليه إلا أن يهدد شخصاً جريئاً على أن يقتل، أو شخصاً كثير الخوف على القتل فيقول له: اذهب واقتل فلاناً وإلا قتلتك وهكذا.(352/5)
الشروط التي يتحقق بها الإكراه
وقوله: (ومن أكرَه) لا بد من تحقق شروط الإكراه وهي: أولاً: أن يكون الشخص الذي يهدد قادراً على تنفيذ ما هدد به.
ثانياً: أن يكون الذي هدد به فيه ضرر كالقتل هنا، فيقول له: إن لم تقتل أقتلك.
ثالثاً: أن يغلب على ظن المكرَه أن الشخص الذي هدده صادقٌ في قوله، وعازمٌ على ما وعده من تنفيذ وعده ووعيده، فإذا كان الشخص يعرف فيه اللعب وعدم الصدق، ويعرف فيه المبالغة في الأشياء؛ فهذا مثله لا يعتد بقوله؛ لأنه يغلب على ظنه أنه لا ينفذ، فلا يكون مكرهاً إلا إذا غلب على ظنه أنه ينفذ.
رابعاً: أن يكون الشخص الذي هدد وأُكرِه -المأمور- لا مندوحة عنده، وليس عنده طريقة يستنجد بها، أو ليس عنده طريقة أن يفر أو يستغيث بالغير.
والحقيقة أنه في زماننا قد يُكْرَه الشخص وقد يهدد دون أن يكون بالصور القديمة، بحيث يقال له: لم تقتل فلاناً في حدود الساعة العاشرة -مثلاً- نقتلك، فهذا له حكم الإكراه، لكن نفس المسألة نحن نقول: عند من يقول: إن الإكراه يسقط القصاص لا إشكال، فيصير إذا هدد بهذه الحالة والطريقة فهو مكره ويسقط القصاص، لكن نحن نقول: إن الإكراه لا يسقط القصاص؛ لعصمة النفس المقتولة، والشخص الذي نفذ ما هدد به ليس بمكره حقيقة؛ لأنه لم يطلب منه ما هو أقل مما هدد به، ولذلك يقتص منهما معاً.(352/6)
حالات وجوب القصاص أو الدية على الآمر والمأمور
وقوله: (فقتله فالقتل أو الدية عليهما).
قوله: (فالقتل) أي: إن طلب أولياء المقتول القصاص عليهما، على المكرِه والمكرَه، سواءً قتلا معاً أو قتل أحدهما، كأن يمسك أحدهما ويفر الآخر، ففي هذه الحالة يقتص من الممسك به، ثم بعد ذلك إذا عثر على الآخر يُقتص منه.
فقوله: (أو الدية عليهما) إذا قال أولياء المقتول: نحن لا نريد القصاص، ولا نريد أن يقتل، بل نريد الدية، فالدية عليهما، يدفع المكرِه نصف الدية، والمكرَه النصف الثاني.
وهناك أقوال أخرى في المسألة: فمنهم من يقول: القتل على الآمر دون المأمور، وهناك من يقول: القتل على المأمور دون الآمر، فهي أربعة أقوال في المسألة: يقتص منهما، لا يقتص منهما، يقتص من الآمر دون المأمور، يقتص من المأمور دون الآمر، فهذه أربعة أقوال في المسألة، وكل منها -كما ذكرنا- له وجهه.
فالذي يقول: يقتص منهما، دليله ما ذكرنا، والذي يقول: لا يقتص منهما، دليله الشبهة، والذي يقول: يقتص من الآمر دون المأمور يقول: لأن المأمور مكره ومعذور، والآمر هو الذي حركه، فأشبه ما لو أمسك حية وقتل بها، والذي يقول: يقتص من المأمور دون الآمر قال: لأن المأمور هو الذي باشر، وكان المفروض ألا يستجيب له، وليس بمكره، والآمر فيه شبهة؛ لأنه لم يقتل حقيقة.
والصحيح ما ذكرناه: أنه يقتص من الجميع، وإذا ثبت أنه يقتص من الجميع فالدية على الجميع، أي: على الاثنين، ويستوي في هذا أن يهدد شخصاً، أو يهدد أكثر من شخص، ما دام أنهما باشرا القتل، فلو أن جماعة هددت شخصاً واحداً، وكلهم قالوا له: إن لم تقتل نقتلك، فصار كالاشتراك في القتل، ومن هنا نفهم لماذا صدر المصنف الفصل بقتل الجماعة بالواحد، ثم جاء بمسألة قتل المكرَه والمكرِه، وهذا من باب القتل بالسببية.
فالأول: اشتراك في الفعل وهو القتل، أن تشترك جماعة في الإزهاق، والثاني: أن تشترك جماعة في القتل بسببية ومباشرة.(352/7)
الحالات التي يقتل فيها الآمر دون المأمور
قال المصنف رحمه الله: [وإن أمر بالقتل غير مكلف، أو مكلفاً يجهل تحريمه، أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه، فقتل، فالقود أو الدية على الآمر].
من ترتيب الأفكار ذكر المسائل المفرعة على مسائل الأصول، فقتل الجماعة بالواحد هي مسألة أصل في هذا الباب، وأمر الغير أن يقتل بالإكراه وبدون إكراه، بالإغراء، أو بالتغرير، والكل يجمعها أصل واحد وهو الاشتراك في القتل، فلما كان الاشتراك في القتل له تأثير عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد، فصدر رحمه الله بمسألة قتل الجماعة بالواحد، ثم أتبعها بمسألة السببية، وإذا جاءت مسألة السببية، فتارة تكون السببية بالأمر، وهذه يسمونها: السببية الحسية؛ لأن هناك سببية تؤثر حساً، وسببية تؤثر عرفاً، وسببية تؤثر شرعاً، فالسببية الحسية منها: مسألة الإكراه حساً، كشخص هدد أنه سيقتل، فهذا بالحس ندرك، أنه إذا ضغط عليه سيقتل، فهذه اشتراك للسببية في الحس.
والسببية بالعرف: مثل أن يأتي ويقدم له طعاماً وهو ضيفه، وفي الطعام سم -أعاذنا الله وإياكم- فأكل السم فمات، وهذه قد تقدمت معنا، فإنه قد درج في العرف على أنه إذا قدم الطعام للضيف فإنه يأكله، فصارت سببية مؤثرة بالعرف؛ لأنه قد يقول قائل: إن الشخص الذي أتى بالطعام وقدمه للضيف ما جاء ووضع السم في بطنه، وليس هو الذي باشر قتله، وإنما الشخص هو الذي باشر وأكل، فيتحمل مسئولية نفسه، فنقول: لا، لما كان العرف يحرج هذا الضيف ويلجئه إلى أن يأخذ من هذا الطعام؛ صار العرف يثبت أن صاحب الضيافة يحتاط لضيفه ويصون له طعامه، فصار هذا موجباً لقوة التأثير في السببية؛ لأنه في بعض الأحيان تكون السببية قوية، وأحياناً تكون ضعيفة، فيقولون: إن هذه سببية مؤثرة بالعرف.
وهنا في مسألتنا بالحس مثلاً: الشهود إذا شهدوا بالزور فإنهم ليسوا هم الذين قتلوا، وإنما القاضي قضى، والذي قتل هو الذي نفذ حكم القاضي، لكن سببية الشهادة شرعاً تثبت القتل، والشرع يلزم بقتل هذه النفس، فهي مؤثرة استناداً إلى الشرع، وقس على هذا، ففي مسألة الشهادة، الحس يثبت أن الإكراه يدفع المكرَه دون اختياره، فهناك اشتراك من نوعٍ آخر، وهو أن يأمر غير المكلف.(352/8)
الحالة الأولى: أن يكون المأمور غير مكلف
قال رحمه الله: [وإن أمر بالقتل غير مكلف] كأن دعا صبياً وقال له: اذهب واقتل فلاناً، والصبي لا يعصي، كأن يكون والداً له، أو يكون شريراً يخاف منه الصبي ويفزع، فقال له: اذهب واقتل فلاناً، فذهب وقتله؛ فإنه يسقط القصاص عن الصبي؛ لأنه غير مكلف، ويجب القصاص على الآمر؛ لأنها مثل مسألة الإكراه، فالصبي أو المجنون يندفع بدون شعور.
والمجنون قد يفعل بتمييز، فإن بعض المجانين عنده نوع تمييز، وبعضهم يكون فعله بدون تمييز، فمثلاً: بعض المجانين -أعاذنا الله وإياكم- يقال له كلام معين فيحدث عنده رهبة أو خوف، وعندها يتصرف بتصرفات معينة تفضي إلى القتل، سواء قتلت صبياً أو امرأة أو رجلاً، ما دام أنه يعلم أن هذه الإثارة لهذا الشخص غير المكلف مفضية إلى إزهاق الروح التي أزهقت وماتت؛ فإنه قاتل كفعل الإكراه في المكرَه؛ لأن مراده التأثير، ولذلك فالصبي قد يُدفع إلى القتل بالقوة أو بالتخويف والتهديد، وعقله قاصر، ويضيق شرط الإكراه في الصبي أكثر منه في غير الصبي؛ لأن غير الصبي يكون عنده من العقل والتمييز والإدراك للأمور ما يستنجد معه بالغير، أو يستغيث به بعد الله بالغير، أو يمكر، أو يحتال، ولكن الصبي لا حيلة له غالباً، فمن هنا إذا أمر غير مكلف؛ فالحكم أنه يسقط عن غير المكلف لوجود موجب الإسقاط، كما لو قتل الصبي منفرداً فإنه لا قصاص عليه، فيسقط القصاص عن غير المكلف، ويثبت القصاص على الآمر المكلف.
ويدخل في هذا أيضاً المجنون، فالصبي والمجنون كلٌ منهما إذا أُمر بالقتل فقتل فإنه يقتل الآمر، إذا قال أولياء المقتول: نريد القصاص والقود.(352/9)
الحالة الثانية: أن يكون المأمور يجهل تحريم القتل
قال المصنف رحمه الله: [أو مكلفاً يجهل تحريمه].
انظر إلى فقه المسألة؛ حيث إن المصنف رحمه الله ذكر لك أن هذا النوع من السببية إما أن يوجب القصاص على الاثنين كما في الإكراه، وإما أن يوجبه على أحدهما دون الآخر، فإذا أوجبه على أحدهما دون الآخر نوع رحمه الله في المثال، فجعل الصورة الأولى التي يسقط القصاص فيها عن المأمور الذي هو الصبي غير المكلف، والصورة الثانية يثبت القصاص على الآمر، وهنا إذا أمره السلطان أن يقتل ظلماً، وهو يعرف أن السلطان عادل، أو قال له القاضي: اقتل فلاناً، فإنه من جنس الأول.
فذكر رحمه الله أنه إذا وجد العذر في المأمور؛ كأن يكون صبياً أو مجنوناً، فهنا العذر في ذات الشخص، وصورة أمر القاضي أو أمر الوالي يشترط فيها شروط: منها: أن يكون معروفاً بالعدل، أو يكون الشخص الذي أمر بالقتل مغرراً به، أو يجهل تحريم القتل، فهذه كلها صور سيذكرها المصنف رحمه الله من باب تطبيق القاعدة.
فقوله: (أو مكلفاً يجهل تحريمه) يصبح العذر موجوداً في المأمور، فإذا أمر مكلفاً يجهل تحريمه، كأن يكون حديث عهد بإسلام، فجاءه شخص وقال له: يا فلان! إذا قتلت فلاناً دخلت الجنة، وهو لا يدري؛ لجهله بأحكام الشريعة، ولم يلبث أن دخل في الإسلام يريد الجنة، فجاء وقتل فلاناً، فقلنا له: لم قتلت أخاك، هذا لا يجوز في الإسلام؟ فقال: أنا كنت أظنه يجوز، بل كنت أظن أنه يدخل الجنة.
وقد ذكروا في بعض العصور الإسلامية وقوع مثل هذا -نسأل الله السلامة والعافية- وكان من عجيب ما فعله أحد قضاة المسلمين بالآمر أنه ابتدأ بتعزيره، فعذبه أشد التعذيب، ثم بعد ذلك أمر بقتله، فما اقتصر على الاقتصاص منه؛ لأنه نظر إلى الكذب على الله عز وجل - نسأل الله السلامة والعافية- والجرأة على أن يقول الإنسان: إن قتل معصوم يوجب دخول الجنة، ولا يستطيع الإنسان أن يشهد لنفسه بدخول الجنة.
فالشاهد: أن حديث العهد بالإسلام قد يغرر به وينخدع، أو يفعل فعلاً كان يفعله في جاهليته وكفره، وهو يظن أنه لا بأس بفعله بعد إسلامه، فكل من خاصمه أمسك سلاحه وقتله، فلما أسلم ودخل في الإسلام لم يطمئن قلبه بعد ببيان الأحكام، فجاء وقتل مباشرة، ظناً أن مثل هذا الفعل جائز، فهذا يعذره العلماء، وهو ما يسمى: العذر بالجهل، وهي مسألة دقيقة جداً عند المحققين من أهل العلم.
أما أن يأتي شخص إلى الحج والعمرة، ويدخل في أحكام الحج على مزاجه وعلى كيفه، ثم يقول: أنا كنت أجهل الحكم، ويقال له: ليس عليك شيء؛ فإن هذا مما لا ينبغي، فالعلماء موجودون، والكتب موجودة، والأشرطة مسموعة، وهذا ليس بمعذور، وعذره يعتبر إعانة على الإخلال والتقصير والعبث بالأحكام الشرعية، أما أن يكون هناك شخص يكون الجهل فيه واضح التأثير في إسقاط الحكم.
كحديث العهد بالإسلام وليس عنده وقت يتعلم لكي يدرك مقاصد الشريعة ويبين له ما حل وحرم، فمثل هذا يكون جهله مؤثراً، وكذلك الشخص في البرية البعيدة التي لا يوجد فيها علماء.
وعلى كل حال: سواء كان الجهل عذراً أو ليس بعذر أولاً يحرر ما هو الجهل الذي يعذر بمثله، ومن هو الشخص الجاهل الذي يعذر مثله، ثم بعد ذلك ينظر في مسألة العذر بالجهل، كالمسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله؛ لأن العذر فيها فعلاً مؤثر؛ فحديث العهد بالإسلام لم يسعه الوقت الذي يعلم فيه تحريم قتل أخيه، فيعذر لجهله، ويسقط القصاص في هذا.(352/10)
الحالة الثالثة: أن يكون الآمر سلطاناً معروفاً بالعدل
وقوله: (أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه).
كالقاضي يكون عنده سياف، فقال له: خذ فلاناً واقتله.
فإذا عُرف الوالي أو السلطان أو القاضي بالعدل، وعَرف المأمور منه العدل، وأنه لا يظلم، فهذا عذر به جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الغالب كالمحقق، فلما كان غالبه العدل والإنصاف، وعرف منه العدل؛ فإن مثله يعذر، أما لو كان معروفاً بالعكس فلا يعذر، لكن الإشكال في الشخص الذي يعلم أنه أمر بقتله ظلماً؛ ولذلك قال: (لا يعرف)، فكون المأمور جاهلاً بظلم الآمر، سواء كان قاضياً أو سلطاناً أو غيره، فيعذر، وأما إذا كان عالماً؛ فاختار طائفة من العلماء أن القصاص على المأمور دون الآمر، ما لم يكن الآمر قد أثر عليه وضغطه على وجه يرتقي به إلى الإكراه، فحينئذٍ القصاص على الآمر والمأمور.
قال المصنف رحمه الله: (فالقود أو الدية على الآمر)، أي: في هذه الحالة القود أو الدية على الآمر؛ لأن المأمور جاهل بظلم الآمر، أو غير مكلف، أو يجهل تحريم القتل، وكلها أعذار موجبة لسقوط القصاص عنه.(352/11)
الحالة التي يقتل فيها المأمور دون الآمر
قال المصنف رحمه الله: [وإن قتل المأمور المكلف عالماً بتحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر].
قوله: (وإن قتل المأمور المكلف عالماً) أي: حال كونه عالماً بحرمة قتل من يقتله؛ فإنه في هذه الحالة يكون القصاص على المأمور وحده.
إذاً: هناك القصاص على الآمر، وهنا القصاص على المأمور، ومن هنا ندرك فائدة ترتيب المصنف لهذه المسائل بعد مسألة الإكراه، فالإكراه يقتص منهما معاً، وإن حصل الخلل في المأمور اقتص من الآمر وحده، فإن كان المأمور لا خلل فيه ويعلم أنه أمر بالظلم، وأنه أمر بقتل معصوم، فأقدم على القتل، فالقصاص على المأمور دون الآمر.
فأصبحت الصور ثلاثاً: يقتص من الآمر والمأمور في حالة الإكراه، إذا كان كلٌ منهما قد استوفى شروط القصاص والقود.
ويقتص من الآمر دون المأمور إذا كان المأمور به عذر، مثل أن يكون غير مكلف، أو يكون جاهلاً بحرمة القتل في الإسلام مثل حديث العهد بالإسلام، أو جاهلاً جهلاً معيناً؛ كأن يكون الشخص الذي أمر بقتله مظلوماً، وظن أنه يقتل بالحق، فحينئذٍ في هذه الثلاث الصور يقتص من الآمر دون المأمور؛ لأن في المأمور عذراً يمنع القصاص منه.
والصورة الأخيرة: إذا كان المأمور مكلفاً عالماً غير معذور، فإنه في هذه الحالة يُقتص من المأمور دون الآمر، إلا في مسألة الصبي، فقد ذكرنا أن بعض العلماء قال: في مسألة الصبي يقتص من الآمر دون المأمور، لكن في الصورة الثالثة -وهي التي يقتص فيها من المأمور دون الآمر- قالوا: لأن المأمور أقدم على القتل بدون إكراه وبدون ضغط، ففي هذه الحالة يُقتص منه؛ لعلمه بحرمة دم المقتول، وعلمه بحرمة القتل، فليس فيه عذر يمنع من القصاص منه.
ولو قال قائل: إنه أمر، فنقول: إنه أمر على وجهٍ لم يكن الأمر فيه سبباً مؤثراً -أي قوي التأثير - في الإزهاق، فليس هو مثل الإكراه، حيث إن أمر الإكراه سبب قوي التأثير في الإزهاق، لكن هنا الأمر ليس بسببٍ مؤثر في الإزهاق، إلا فيما استثنيناه في مسألة الوالي إذا أكره أو ضغط، فحينئذٍ تنتقل المسألة إلى مسألة المكرِه والمكرَه، فيقتص منهما، ويجب القصاص والقود عليهما.(352/12)
إذا اشترك اثنان في قتل وسقط القصاص عن أحدهما
قال رحمه الله: [وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك].
من باب ترتيب الأفكار: فقد ذكر رحمه الله مسألة إذا اشترك اثنان، فعرفنا متى يقتص من الاثنين معاً، ومتى يقتص من الآمر دون المأمور، ومتى يكون القصاص بالصورة العكسية، والسؤال الآن: لو أنه اشترك اثنان، أحدهما يجب القصاص عليه، والثاني لا يجب القصاص عليه، وقال أولياء المقتول: لا نريد القصاص، بل نريد الدية، وكنا قد ذكرنا أنه إذا اشترك اثنان يجب القصاص على أحدهما دون الآخر، فيقتص من الذي يجب القصاص منه، فلو عفا أولياء المقتول عن الدم فهل تجب الدية عليهما، أو تجب على الذي يجب عليه القصاص؟ بين المصنف رحمه الله أنها تجب عليهما، وبناءً على ذلك يكون عليه نصف الدية، فقال رحمه الله: (وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك).
فقوله: (فالقود على الشريك) إذا اشترك اثنان لا يجب القصاص على أحدهما، كما لو اشترك -والعياذ بالله- مع شخصٍ أجنبي وقال له: أريد أن أقتل ولدي هذا، فساعدني على قتله، فاشترك الاثنان، وقتل هذا الولد، وحصل الزهوق بفعلهما بالشروط المعتبرة في اشتراك الجماعة، ففي هذه الحالة الأب لا يجب عليه القصاص، كما سيأتي إن شاء الله وسنذكر دليل ذلك، والأجنبي يجب عليه القصاص؛ لأن الأب سقط عنه القود لمعنى يخصه، وهذا المعنى لا يؤثر في السببية؛ لأن الإزهاق والقتل حصل بفعل الاثنين، وكان أحدهما عنده عذر يخصه لم يسرِ العذر إلى غيره، والقصاص في الأصل واجب على الاثنين، فإذا تعلق الإسقاط وتعلقت الرخصة بأحدهما لم تسرِ إلى الآخر وهو الأجنبي، فيجب القصاص على الأجنبي دون الوالد، هذا أصل المسألة.
قال رحمه الله: [فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية].
أي: إذا عفا الأولياء فإن الأجنبي يدفع نصف الدية؛ لأن الدية مشطرة بينهما.
إذاً: المصنف رحمه الله بين حكم اشتراك الجماعة في قتل الواحد اشتراكاً على وجهٍ لو انفرد كل واحدٍ منهم لقتله، فكلٌ منهم قاتل، ويجب القصاص على الجميع، وإن عفي لزمتهم دية واحدة، وانتقل بعد ذلك للاشتراك بالسببية في مسألة الإكراه ومسألة الأمر بالقتل، وفصل رحمه الله في هذا، ثم شرع في مسألة اشتراك من يعذر ومن لا يعذر، فبين أن سقوط القصاص والقود عمن يعذر لا يوجب سقوطه عمن لا يعذر؛ لأنه لو انفرد فعل كل واحد منهما لأوجب الزهوق، وبناءً على ذلك فكلٌ منهما قاتل، فإذا عفي عن أحدهما أو أسقطت الشريعة القصاص عن أحدهما لمعنى لا يوجد في الآخر؛ فإن الرخص لا يُتجاوز بها محالها.
وهذا أصل في الشريعة: أن الشيء الذي يكون معذوراً يختص العذر به ولا يتجاوزه لغيره ممن لا يوجد فيه هذا العذر، وإلا ضاعت أحكام الشريعة، فهذا الأجنبي مع هذا الوالد قاتل، وإذا سقط القصاص عن الوالد لمكان الأبوة لم يسقط عن الأجنبي، وكذلك لو مات أحد الشركاء في القتل قبل أن يُقتص منهم، فإنه يقتص من الباقين، فلو أن ثلاثة قتلوا زيداً من الناس، فمات أحد الثلاثة قبل القصاص، وقال أولياء المقتول: نريد القصاص؛ فإنه يقتص من الاثنين الباقين، وموت أحدهم لا يسقط كون البقية قتلة.
ومن هنا إذا كان الخلل مرتبطاً بسببية القتل، ويوجب التأثير فيها، فحينئذٍ يكون مؤثراً، أما هنا فإنه ليس من هذا الباب، ولذلك لا يوجب إسقاط القصاص عن الأجنبي، فيقتص من الأجنبي ويترك الوالد ولا يقتص منه؛ لأن القصاص لا يجب في حقه.(352/13)
الأسئلة(352/14)
حكم سقوط الجنين نتيجة الحمل الثقيل على الحامل
السؤال
امرأة كانت حاملاً، فرفعت ثقيلاً، ثم سقط الجنين، فهل عليها كفارة أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أولاً: لا بد للإنسان أن يذكر بعظمة الله سبحانه وتعالى، فقد كنا في صلاة المغرب وخلال دقائق يسيرة نظر الإنسان إلى عظمة الله جل جلاله، وحقارة الناس أمام رب الجنة والناس، لحظات يسيرة لو شاء الله أن يهلك من على الأرض لأهلكهم، يذكر الله سبحانه وتعالى الغافلين، ويوقظ النائمين، وهذه الأشياء التي يحتاجها الإنسان ليكون قلبه حياً دائماً، وإذا أرى الله عبده الآيات والنذر فاتعظ قلبه وانكسر فؤاده؛ أصلح الله حاله، وعرف الله عز وجل، ومن عرف الله نال سعادة في الدنيا والآخرة.
وليس هناك شيء في الدنيا أعز ولا أكرم ولا أعظم من المعرفة بالله عز وجل من عرف جبار السماوات والأرض الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها، من أسلم له من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، الكهرباء تقف أمام عظمته ذليلة فتنطفئ، والسيارات تتعطل، والطرقات تتوقف، ولا يستطيع أحد أن يقدم شيئاً أخره الله أو يؤخر شيئاً قدمه الله؛ لأن الأمر أمره، والملك ملكه، والتدبير تدبيره جل جلاله.
ثم لو خرج الإنسان إلى الدول التي فيها الجنات والنعيم، لرأى أشياء تهز القلوب، وهذا الذي نراه يسيراً، ففي بعض الأحيان يأتيهم الإعصار -أعاذنا الله وإياكم- دقائق معدودة فلا يبقي ولا يذر، وتجد الخلق عاجزين لا يستطيع أحد أن يتحرك، والعجب كل العجب أن الله لا يسلط مثل هذه الأمور إلا على أقوى دول الأرض، حتى يعلموا أن الله فوقهم، وأن الله قاهرٌ لهم، وأنه سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، وأن الأمر أمره، والكون كونه، والتدبير تدبيره، ولكن ما أغفل الخلق عن الخالق سبحانه وتعالى! كل شيء يتحدث عنه الناس، وكل شيء يذكره الناس إلا الله جل جلاله، فما أغفلهم عن ربهم! الواحد منا لو حصل له ظرف أو نكبة أو كربة فوجد أحداً يقف بجنبه وقوف العاجز مع العاجز، وضعف الطالب والمطلوب، وإذا أجرى الله على يد هذا العاجز فرجاً، وفتح له باباً ومخرجاً، جعل يتحدث بهذه الحسنات، ويفتخر لهذا الرجل بمآثره، ويزين قبيحه، ويرفع وضيعه، ويزكي فاسده، كل هذا من أجل هذا المعروف، فأين الله جل جلاله؟! أين الله سبحان وتعالى الذي ما من طرفة عين ولا أقل من ذلك إلا وهي نعمة مرسلة عليك، وألطافه، ورحمته، وحلمه، وإحسانه وبره، كيف لو أن هذا البلاء وهذا المطر الشديد لو أن الله سبحانه وتعالى أذن أن يستمر ليلة واحدة، كيف سيكون حال الناس؟! كيف لو أن الله أرسل هذه الصواعق التي يصيب بها من يشاء! وقف رجل ملحد ذات مرة من المرات يقول لشخص أثناء نزول المطر: من هو الله -أعوذ بالله- الذي تدعوني إلى عبادته؟ فما انتهى من كلامه حتى أصابته صاعقة قسمته قصمته نصفين، وصدق الله في وصفه: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13].
فالسعادة التي يبحث عنها كل سعيد، وسيجدها كل موفق، هي المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فلا تمر عليك لحظة إلا وقد ازددت معرفة بملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، وعرفت من الذي بيده الأمر كله {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123].
تعرَّف على ملك الملوك، تعرف على جبار السماوات والأرض، تعرف على من لا تخفى عليه خافية، تعرف على الذي {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88].
لقد كان الناس في شدة وضيق وفقر، والشخص تراه يسافر في خوف وفقر وجوع، وأحوال شديدة، لكن كانت قلوبهم عامرة بالله جل جلاله، فكان خوفهم أمناً، وجوعهم سبعاً، مما يجدون من لذة المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فلن تضيق الدنيا على عبدٍ عرف الله، ولن تضيق الدنيا على عبدٍ أخذ من هذه الدلائل والشواهد زاداً للقاء الله، وعرف من ربه ومن خالقه، فالناس تعتريهم الغفلات، وتحيط بهم من كل جانب الملهيات، وتجدهم بعيداً عن التفكر في ملكوت الأرض والسماوات، ولكن يرسل الله الآيات تخويفاً، فتقرع قلوب المؤمنين فتزيدهم توحيداً وتحقيقاً، وصدقاً وإحساناً وبراً له سبحانه وتعالى، ويقيناً بعظمته، والعبد من لحظة إلى لحظة ومن فكرة إلى فكرة تقربه إلى ربه، وتزيده إيماناً بخالقه؛ فعندها يطمئن القلب بالله عز وجل.
فكيف لو كشف الله للعبد ملكوت السماوات والأرض! وكيف لو كشف الله له أخذه بأزمة الأمور ومقاليدها! فرسول الأمة صلى الله عليه وسلم لما جاءه عام الحزن، وأراد الله عز وجل أن يملأ قلبه بأعز الأشياء وأحبها إليه، أسري به صلوات الله وسلامه عليه، ثم عرج به إلى أطباق السماوات العلى، ومن بعدها ما عرف خوفاً إلا من الله، عرف من هو الله سبحانه وتعالى: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم)، فكان أخشى الخلق وأتقاهم صلى الله عليه وسلم لماذا؟ للنظر في هذه الآيات والدلائل، ولذلك كان إذا هبت الريح دخل وخرج، وعرف في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يخشى أن تكون كريح عاد التي أخذهم الله بها أخذ عزيزٍ مقتدر.
ثم إذا أحس المؤمن أن الكون لهذا الرب الذي يرسل الرياح، ويجري الأنهار والبحار، وله الليل والنهار؛ علم أنه مهما طغى في هذه الأرض طاغية فإن الله سيقصم ظهره، وسيشتت أمره، وسيتأذن الله عز وجل بنهايته إن عاجلاً أو آجلاً، ولذلك عرف الموحدون ربهم فاطمأنوا، تجد الناس في قلق وهم في طمأنينة، في خوف وهم في أمن للمعرفة بالله عز وجل، والمعرفة بعظمته في لحظة واحدة، في شدة الحر والصيف ينزل المطر، وقد يكون نزوله في هذه الدقائق يمكن من خلال فصل ما مر مطر بهذا الشكل؛ لأن الله أذن له أن ينزل.
ثم انظر كيف سبحانه، وهذه من أعظم الدلائل التي ينبغي للمؤمن أن يتفكر فيها، أن الله أخلف السنن والعادات، وأجرى أشياء تناقضها حتى يتفكر الناس، ويعلم أن الأمر له سبحانه لا لغيره، ولذلك فمن عادة الصيف ألا يوجد فيه المطر، ولذلك قال القائل: سحابة صيف عن قريب تقشعُ لكن الله قال لها: كوني فكانت، وقال لها: أفرغي ما فيك فأفرغت، وأسلمت واستسلمت، وذلت لله عز وجل، وحق لها أن تذل، فهذا كله بأمره، ويرينا هذه الآيات والدلائل ليس في فصل الشتاء بل في عز الحر، قبل ساعات ونحن نكتوي بلظى الحر، كلٌ منا يريد شيئاً يبرد عليه، مكيفاً أو غيره، وإذا به سبحانه وتعالى يري عباده عظمته وجلاله.
ثم انظر كيف إذا جاءت آيات الله عز وجل -في غير ما اعتاده الناس- فتهز قلوب العباد هزاً، والله ما من إنسان ملأ عينه من عظيم في الدنيا -أياً كان هذا العظيم- إلا احتقره في جنب الله جل جلاله، من عظمة الله سبحانه وتعالى.
فالناس صنعت الطائرات، وفعلت بأمر الله عز وجل وبقدرته، ولكن الطائرات إذا هبت الرياح لا تطير، وإذا طارت سقطت، وأصبحت في كرب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يمسكها بين السماء والأرض أن تسقط، ولو صنعوا ما صنعوا من القوى العاتية التي مهما بلغت فلابد أن تجدهم يذلون له سبحانه وتعالى، وحق لهم أن يذلوا له وحده لا شريك له.
لكن من الذي يتعظ؟! ومن الذي يتفكر ويتدبر؟! البراكين تنفجر، فإذا انفجرت لو اجتمع أهل الأرض على أن يخمدوا بركاناً لما استطاعوا، هل سمعتم بما يسمونه بالعلم الحديث؟ لا علم حديث ولا قديم، هذا كله تعليم من الله عز وجل: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام:6]، فلا ينفع علم حديث ولا غيره، فهل وجدتم علماً حديثاً أطفأ بركاناً إذا انفجر؟ هل وجدتم علماً حديثاً أمسك إعصاراً أمر الله له أن يجري؟ هل وجدتموه يتحرك ويفعل شيئاً؟ يقفون مستسلمين؛ لأن الله جعل لهم حدوداً معينة إنهم يقفون عندها يذلون له سبحانه وتعالى.
فهذه كلها دلائل لا ينبغي للمؤمن أن يتغافل عنها، فإن المؤمن إذا أرسل الله له الآيات وأصبح في غفلة ولا يتعظ ولا يتفكر؛ قد يطبع -والعياذ بالله- على قلبه فيكون من الغافلين.
فسعادة الدنيا وسرورها بالتفكر في عظمة الله جل جلاله، والتفكر والتدبر في عظمة الله جنة فهنيئاً لمن دخلها، وهنيئاً لمن عاش بينها، حيث يجعل الله بها لوليه المؤمن ما لا يخطر له على بال، فمتى ما عرفت ربك هان عليك كل شيء سوى الله سبحانه وتعالى، ومن جهل بالله سلط الله عز وجل عليه نقمة الدنيا والآخرة، ولذلك تجد أضعف الناس وأخوف الناس وأجبن الناس من كان جاهلاً بالله {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فهؤلاء هم أخوف الناس، وأتعس الناس، ولذلك فإن الشخص منهم يحسب حسابات مادية، إذا قعد على كرسيه ربط حزامه وجلس يحسب الأشياء حساباً دقيقاً من الخوف والذل {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، ولكنه لن يستطيع أن يفلت من عظمة الله جل جلاله ومن أمره.
فهذه كلها دلائل واضحة على عظمة الله سبحانه وتعالى، ينبغي للإنسان ألا يغفل عنها، وهذه الآيات التي نراها أشياء جعلها الله عز وجل حتى نتفكر ونتدبر ونتعظ بها، ونقول ملء قلوبنا وملء ألسنتنا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، ولا معبود غيره سبحانه وتعالى جل جلاله فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يزيدنا من الإيمان به، والتصديق والتسليم له، وأن يملأ قلوبنا بالمعرفة به، وأن يجعلنا من المحسنين والموقنين، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة السعداء المفلحين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين.
أما الجواب عن السؤال: فهذه المسألة فيها تفصيل:(352/15)
إذا مات أحد القاتلين بعد العدول إلى الدية
السؤال
إذا مات أحد الشريكين في القتل بعد العدول إلى الدية، فهل تجب كل الدية على الحي كاملة أثابكم الله؟
الجواب
يجب نصف الدية على الشريك، ثم الآخر الذي مات قبل القصاص تجب نصف الدية في ماله، وحكمها حكم الدين، والله تعالى أعلم.(352/16)
ما يقال بين خطبتي الجمعة
السؤال
نرجو توضيح ما يجب فعله ما بين الخطبتين: هل ندعو أم نستغفر أثابكم الله؟
الجواب
الأمر واسع في هذا، لكن جرت العادة بالاستغفار، وهذا له أصل من فعل بعض السلف رضي الله عنهم من الصحابة، لكن إذا أمر الخطيب بالاستغفار فالأفضل أن يستغفر ولو مرة واحدة؛ لأنه كولي الأمر، فيسمع له لأنه ولي أمر المسجد، فالعالم في حلقته ولي أمرها، والخطيب في خطبته ولي أمرها، فينصت له ولا يتكلم إلا معه، والإمام في مسجده ولي أمره، فإذا أمر بالاستغفار فيطاع أمره، وهذا الموضع -ما بين الخطبتين- مذهب بعض العلماء أنه مظنة الساعة التي يستجاب فيها الدعاء، وقالوا: إن قوله: (وهو قائمٌ يصلي) يشكل على هذا القول، لكن أجاب بعض العلماء بأن قائماً يصلي من الإقامة في المكان والموضع، ومن جلس ينتظر الصلاة فهو في حكم من يصلي، وقالوا: إن الخطبتين في حكم الركعتين الأوليين من الظهر، ولذلك منع الكلام فيهما، وهذا مما خرجوا به، فأحد الأقوال: أنه موضع الساعة التي يجاب فيها الدعاء، فيجتهد فيه بالدعاء، وأما الأصل فإنه فلا بأس ولا حرج على المسلم أن يدعو فيما بين الخطبتين، وهذا محفوظ من فعل السلف، كما في صحيح البخاري من فعل الصحابة مع عمر رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن الجميع وأرضاهم، والله تعالى أعلم.(352/17)
حكم القود من الجد إذا قتل ولد ابنه
السؤال
إذا قتل الجد ولد ابنه فهل يقتل أثابكم الله؟
الجواب
الأصل عدم قتل الوالد بولده، وهذه المسألة ستأتي -إن شاء الله- وأحب أن الأسئلة التي ستأتي تترك، وعلى كل حال هذه المسألة جمهور السلف على أنه لا يقتل الوالد بالولد، والجد والدٌ لولده، ومن هنا يقولون: يشمل الوالد المباشر، والوالد بواسطة، وهناك بعض العلماء يرى أنه يقتل الجد إذا قتل إعمالاً للأصل، ويرون أن القود مختص بالوالد، ولكن ظاهر أثر علي رضي الله في السنن أنه لا يقاد الوالد بولده، والله تعالى أعلم.(352/18)
حكم النفث مع قراءة المعوذات دبر الصلوات
السؤال
هل من السنة النفث عند قراءة المعوذات دبر الصلوات المفروضة أثابكم الله؟
الجواب
السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نفث قبل القراءة عند النوم، كما في حديث عائشة في الصحيح: أنه كان يجمع كفيه فينفث فيهما ثم يقرأ المعوذات فيمسح، ثم يرجع مرة ثانية، ثم مرة ثالثة، هذه هي السنة، ولا يكون النفث بعد القراءة إلا عند النوم خاصة، ولم يحفظ نفثٌ إلا في هذا الموضع، فيقتصر على الوارد، لكن إذا كان يريد أن يرقي نفسه فنفث ومسح على جسمه فلا بأس، فقد جاء في الحديث الصحيح: (فكنت أقرأ الفاتحة ثم أجمع بريقي وأتفل عليه)، فالرقية لا بأس فيها بالنفث وأيضاً التفل اليسير؛ لأن لها أصلاً، أما بالنسبة لقراءة المعوذات فإن الثابت في حديث السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أدبار الصلوات أنه لا نفث فيه، ويقتصر فيه على الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مجرد القراءة، والله تعالى أعلم.(352/19)
حدود قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات)
السؤال
يتوسع البعض في فهم قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، فكلما احتاج إلى أمر قال هذه العبارة، فما هو حد الضرورة المقصودة هنا أثابكم الله؟
الجواب
أولاً: ما هو حد الذي يقول: الضرورات تبيح المحظورات؟ من هو العالم أو الشيخ أو الشخص المؤهل لكي يحكم بالضرورة واعتبارها؟ الضرورات بحرٌ لا ساحل له، لكن نحن نبين الأصول أولاً وقبل كل شيء ليعلم كل إنسان أن الله لا يخادع.
وثانياً: أن أي حكم شرعي يأخذه الإنسان ويدين الله به ويعمل به، سيسأل أمام الله عز وجل عمن أخذه، فلا يجوز أن يأخذ حكماً إلا ممن ترضى ديانته وأمانته ويرضاه حجة له بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإلا زلت قدمه وهلك وأهلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا)، فوصفهم بالضلال، نسأل الله السلامة والعافية.
والضرورات تبيح المحظورات قاعدة شرعية دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، وأجمع عليها علماء الأمة، وهي أن الإنسان عند الاضطرار يباح له فعل المحرم، وكما في الأصول قال تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، فاستثنى سبحانه وتعالى المضطر؛ ولأن الضرورة فيها حرج، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، ولأن الضرورة عسر والله يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، فإذا ثبت أن الشريعة تخفف عن المضطر فالضرورة عند العلماء بالمصطلح الخاص: هي خوف فوات النفس، فإذا خاف الإنسان أنه إذا لم يفعل هذا الشيء فإنه سيموت، فهو مضطر، مثل من جاع ولم يجد طعاماً إلا ميتاً، فإنه إذا بقي على حكم الشرع بالتحريم فإنه سيموت، وحينئذٍ يرخص له بأكل الميتة اضطراراً لا اختياراً؛ لأنه لو لم يأكلها لهلكت نفسه.
إذا ثبت هذا فالضرورة هي خوف فوات النفس، وهذا القول فيه خلاف: هل يشترط في المضطر أن يرى أمارات الموت عليه حتى يحكم باضطراره؟ أو يحكم بغالب ظنه؟ اختار بعض الأئمة رحمهم الله أن الضرورة هي الخوف، فإذا غلب على ظنه أنه سيموت فهو مضطر، وإن لم ير أمارات الموت، وقال بعض العلماء: لا ضرورة حتى يقف الموقف الذي يشرف فيه على الهلاك؛ لأنه ربما جعل الله له فرجاً ومخرجاً قبل أن يشرف على الهلاك، والصحيح في الضرورة: أنها الخوف الذي هو غلبة الظن، والغالب كالمحقق.
واختلف أيضاً في الخوف على الأعضاء، فلو خاف على عضو من أعضائه أن يقطع أو يفسد، أو يشل، فهل يدخل هذا في باب الضرورة؟ أيضاً اختار بعض المحققين أن الخوف على الأعضاء من الجسم ضرورة تبيح المحظور كالخوف على النفس، ولذلك ضبطها علماء القواعد كـ السبكي والسيوطي وابن نجيم في الأشباه أنها: الخوف على النفس والأطراف والأعضاء.
أما بالنسبة لغير هذا فيسمونه: إذا كان يوجد الحرج، فمثلاً: ألم الرأس إذا اشتد شدة عظيمة على الإنسان، فلا هو خوف موت ولا هو خوف على عضو أن يتلف، لكنه يوجب حرجاً شديداً، فهذا يسمونه حاجة، فإذا وصل إلى درجة العنت والمشقة فيسمونه: حاجة، والقاعدة عندهم: أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة.
وكذلك ألم الضرس، فإن الضرس إذا اشتد ألمه فيضطر الإنسان أن يستعمل المخدر، والمخدر محرم، فلا يجوز استعمال المخدرات، لكن إذا كان ألمه شديداً جداً بحيث يصل إلى مقام الحرج فنقول: يجوز له؛ لأنها حاجة تنزل منزلة الضرورة، إذاً: الحاجيات تكون في مقام الضروريات إن كانت أخف من جهة السبب الموجب للتأثير في الحكم.
أما بالنسبة لكل شخص يفتي نفسه بأنه مضطر فلا، فإن الله عز وجل حف الجنة بالمكاره، والمكاره فيها آلام ومشاق، وفيها متاعب، والرجل قد يكون نائماً في فراشه في شدة البرد، فيسمع أذان الفجر فيقوم من فراشه ويتوضأ في شدة البرد، وهذه مشقة، لكن الله كلفنا بها وأمرنا بها، فلا يقل: أنا مضطر، ويترك الصلاة، هذه ليست بضرورة، بل هذا عبث بالأحكام.
ومن هنا ينبغي أن ينتبه لمسألة فتح أبواب الرخص والترخيص للناس، فلا يقبل ذلك إلا من عالم يوثق بدينه وعلمه، وكذلك أيضاً مسألة الضرورة حينما يفتى بها فتاوى عامة، فيقال: اتركوا الناس يخرجون قبل غروب الشمس يوم عرفة، فنقول: لماذا؟ قالوا: هذه ضرورة؛ لأن الناس ازدحموا! هذه أحكام شرعية لا أنا ولا أنت نعبث بها، هذه أشياء مرتبة وأحكام مؤصلة ليست محلاً للعبث، أن يأتي إنسان ويفتي فيها فتوى عامة ويرخص فيها للناس أنهم يتركون ما شرع الله ويقول: باسم الضرورة، فإن هذا شيء شرعه الله عز وجل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وكذلك أيضاً الرمي بعد الزوال، هناك من يقول: دعه يرمي قبل الزوال ضرورة!! العيب يا إخوة! ليس في الشريعة، هذا من الخلط والجهل الذي يصيب البعض، وقد ذكر بعض العلماء أنه أضر ما يكون على المسلمين أنصاف المتعلمين، يمسك قاعدة وعنده نص علمي يستطيع أن يفتح به أبواب المحرمات -والعياذ بالله- فيجعل الحرام حلالاً والحلال حراماً، إما أن يذهب مع المتساهلين فينسلخ من الدين رويداً رويداً، حتى لا يبقى له من الدين -والعياذ بالله- إلا اسمه، من تتبع الرخص والتساهل، وإما أن يذهب مع المتزمتين فيضيق ما وسع الله على عباده باسم نصف العلم الذي عنده، فيشدد حتى يضيق على العباد ما وسع الله عليهم، ولكن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، لا إفراط ولا تفريط، تطبق القواعد حيث أذن الله لك أن تطبقها، وتترك العبث بشرائع الإسلام وأحكامه الثابتة الواضحة والسنن المحكمة التي لم تنسخ يوماً من الأيام، وتبقيها كما حفظتها نصيحة لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فلا تغش المسلمين؛ لأنك إن قلت: الرمي قبل الزوال ضرورة! وما هو ضرورة، والعيب ليس في الشريعة، العيب في أخلاق الناس، ليس العيب أن الناس ترمي قبل الزوال أو بعد الزوال، هذا خلط في الأحكام، العيب جاء من سلوكيات وتصرفات الناس، ومعناه أن عندنا تقصيراً في توجيه الناس، وفي تعليم الناس، مما يؤدي إلى أن تحمل الشريعة أكثر مما تتحمل.
ونأتي ونقول لهم: ادفعوا قبل غروب الشمس؛ لأن الناس يزحم بعضهم بعضاً لا، علم الناس آداب الحج، علم الناس هذه الآداب التي في كتاب ربك وسنة نبيك عليه الصلاة والسلام، وأقم الحجة على عباد الله عز وجل، وبعد هذا لست مكلفاً أن تبحث عما وراء ذلك حتى لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، وهذا هو الفقه.
وهناك سنة وحدود، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها) قال لك: لا تخرج قبل غروب الشمس، معناه أنه حرم عليك الخروج قبل غروب الشمس، ورسول الأمة صلى الله عليه وسلم كان معه مائة ألف.
النقطة الثانية: مسألة الضرورة في أشياء هي من طبيعتها وتكييفها ومقصود الشرع فيها؛ فيها نوع من المقصود الشرعي، فتعطله بمخالفة الشرع.
الآن الحج إذا نظر الإنسان فيه، يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (عليهن - يعني النساء- جهادٌ لا قتال فيه)، فهل معنى ذلك أن الحج لليسر أو للامتحان والاختبار؟ للشدة والامتحان والاختبار حتى يخرج الإنسان عن حياة الترف والبذخ ويأتي إلى حياة المحن، ولذلك تجد الغني والثري ما يصهر بين الناس ويقهر على أشياء مثل أيام الحج، خاصة إذا لم تجد بجوارك من يفتي بالرخص، إذا وجدته يمشي على السنة وجدته يختلف حاله تماماً بالحج، ويصبح الحج له مدرسة حقيقية، فإذا جاء الشخص ينظر إلى الصحابة رضوان الله عليهم يقول الراوي: (كاد أن يقتل بعضهم بعضاً)، وهذه ثابتة، ولما جاء في يوم الحديبية وحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ماذا فعل الصحابة؟ قال: (كادوا أن يقتتلوا على الحلاق)! الصحابة رضوان الله عليهم كادوا أن يقتتلوا على الحلاق؛ لأن طبيعة الشيء يستلزم هذا.
ولما ترى طلاب العلم يزدحمون عند عالم أو عند شيخ، فهذه طبيعة هذا الشيء، فلا تحمل الأشياء ضدها وما لم تتحمله، فالحج طبيعته هذا الشيء من الازدحام وغيره، وأنت تريد أن تغير الحج عن طبيعته، ليس ذلك لك ولا هو لي، هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى، فانظر إذا خفف الشرع فخفف، وإذا ضيق الشرع فيضيق، فإن ضيقه رحمة وسعة بالناس؛ لأن الله يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وكم من إنسان ثريٍ غنيٍ لم يشاهد يوماً من الأيام ضيقاً يذكره بالله، فجاء إلى الحج فضيق عليه في الحج حتى رجع إلى ربه، ولربما رأى الموت في الزحام، وتشهد ورأى الشهادة فتاب توبة نصوحاً، وما وجد هذا إلا في الحج، فهذه أشياء وحكم وأسرار لا يعلمها كل أحد.
ولذلك ينبغي علينا أن نقف عند الحدود، فلا يتوسع الإنسان في الرخص تحت مقام الضرورات تبيح المحظورات، وأحذر كل طالب علم تعلم علماً لم يستوفه ولم يعطه حقه عن أن يرخص لنفسه ما لم يعلم طبيعة المرخص فيه، وحقيقته، وهل مثله يوجب الرخصة أو لا يوجبها، حتى يكون على بينة من أمره وسداد وصوابٍ في حاله وشأنه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك بعزتك وجلالك وعظمتك وقد اجتمعنا في هذا البيت من بيوتك يا واسع الرحمة أن تلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مغيرين ولا مبدلين، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو يضل بنا، أو نزل أو يُزل بنا، يا حي يا قيوم! اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، لا إله إلا أنت توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الرحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(352/20)
شرح زاد المستقنع - باب شروط القصاص
لابد من وجود شروط معتبرة حتى يتحقق ويجب القصاص على القاتل، وهذه الشروط منها ما يتعلق بالقاتل ومنها ما يتعلق بالمقتول، وهي: أن يكون القاتل مكلفاً، وأن يكون المقتول معصوم الدم، وأن يتكافأ القاتل مع المقتول، وألا يكون بينهما ولادة، كالوالد مع ولده، فإن تحققت هذه الشروط وجب تنفيذ القصاص، وإن تخلف واحد منها سقط القصاص عن القاتل.(353/1)
شروط القصاص
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب شروط القصاص].
بعد أن بين المصنف رحمه الله الأمور التي ينبغي توفرها للحكم بقتل العمد الذي يوجب القصاص من القاتل، شرع رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توفرها لكي يحكم لولي المقتول بالقصاص من القاتل، وهذا ما ترجم له رحمه الله بهذه الترجمة: (باب شروط القصاص)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك العلامات والأمارات التي نصبها الشرع لكي يحكم الفقيه ويقضي القاضي ويفتي المفتي بثبوت استيفاء القصاص، وتمكين ولي المقتول من الأخذ بحقه.
قوله: (شروط القصاص)، تقدم معنا تعريف الشروط أكثر من مرة، وأن الشرط: هو العلامة، وأما في الاصطلاح: فما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود.
وجمعها رحمه الله فقال: (شروط)؛ لتعددها واختلافها، فهناك شروط تتعلق بالمقتول، وهناك شروط تتعلق بالقاتل، فلا بد من توفر هذه الشروط حتى يحكم بالقصاص.
والقصاص مأخوذ من قولهم: قص الأثر إذا تتبعه: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11] أي: تتبعي أثره، فلما كان حكم الشريعة بالقود -وهو القصاص- يتتبع فيه ولي المقتول القاتل لكي يفعل به مثل ما فعل بالمقتول وصف بهذا الوصف، وهو وصف شرعي وردت به نصوص الشرع، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، فهو مصطلح شرعي، والمصطلحات منها ما هو مستقى من نص الكتاب والسنة، ومنها ما هو مفهوم من الشرع، فهذا مصطلح مستقى لفظاً من الشرع.
قال رحمه الله: [وهي أربعة].
إجمال قبل البيان والتفصيل، وقد تقدم أن هذا منهج العلماء رحمهم الله.
وقد ذكر المصنف رحمه الله أربعة شروط، شرطاً منها يتعلق بالمقتول، وشرطين يتعلقان بالقاتل، وإن شئت قلت: شرطاً يتعلق بالقاتل وهو كونه مكلفاً، وشرطين مجتمعين يتصل بهما القاتل بالمقتول، وهي قضية المكافأة والمساواة، وقضية عدم البعضية أو عدم الولادة، أو ألا يكون القاتل والداً للمقتول، سواء كان ذكراً أو أنثى، فيشمل الأب ويشمل الأم، وسواء كان مباشراً كالأب المباشر أو بواسطة كجده وإن علا.(353/2)
الشرط الأول: عصمة المقتول
قال رحمه الله: [عصمة المقتول].
المراد بهذا الشرط أننا لا نحكم بوجوب القصاص إلا إذا كان المقتول معصوم الدم، وهذه العصمة يحكم بها الشرع، بمعنى: أن الشريعة حرمت قتل هذا المقتول، فإذا ثبتت العصمة للمقتول؛ فإن من قتله بدون حق يجب عليه القصاص.
والأصل في هذا: أن الله حرم قتل المعصوم، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92]، فبين أن الإيمان عصمة للإنسان، وأنه لا يجوز قتل المؤمن إلا على وجه الحق.
وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] قيل: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) أي: لا تقتلوا إخوانكم، فدل هذا على أن الإيمان عصمة.
ودلت السنة أيضاً على هذا، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فقوله: (لا يحل دم امرئ مسلم) يدل على أن هناك عصمة للمسلم، ولذلك قال: (لا يحل) فعبر بهذه الصيغة المقتضية للتحريم.
واتفق العلماء على هذا المصطلح، وهو ما يسمونه بمصطلح العصمة، وهو مستقى من قوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وحسابهم على الله)، فهذا يدل على العصمة.
والعصمة تكون للدم، وللمال، وللعرض، وهذا ما أشار إليه عليه الصلاة والسلام في خطبته في حجة الوداع حينما قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد)، فجعل العصمة شاملة للنفس والعرض والمال.
والعلماء يسوون بين عصمة الدم وعصمة النفس فالمعنى واحد، فهذه العصمة تكون مستحقة بالشرع وتكون بالأمان، فلا يجوز أن يقتل من له عصمة في الشرع مثل: المستأمن والذمي والمعاهد، وإن كان مثله لا يقتص له على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى.
فهذه العصمة لا بد من توفرها في المقتول، فإن كان المقتول مهدور الدم أو مباح الدم، مثل الحربي، فإنه لا يقتص من المسلم في قتل الحربي؛ لأن الحربي لا عصمة له في الشرع، وليس بمعصوم الدم، فالقتل ليس واقعاً في غير موقعه، بل واقع في موقعه؛ لأن الحربي يقتل، وكذلك إذا كان المقتول غير معصوم الدم كالكافر والمرتد والحربي والمسلم المستحق الدم، فمثلاً: لو أن إنساناً قتل ظلماً وعدواناًَ، وفر القاتل وهرب، وعلم شخص أنه قاتل، فجاء وأراد أن يأخذه ففر عنه، فقتله بنية القصاص لمن قتله، وهذا سيأتينا -إن شاء الله تعالى- بيانه، ففي هذه الحالة ليس بمعصوم الدم.
وأما إذا كان محصناً وزنى -والعياذ بالله- فاستحق القتل، ففيه خلاف بين العلماء فيمن قتله، فبعض العلماء يرى أن المحصن مهدر الدم، وأنه إذا قتله القاتل فلا قصاص عليه، قالوا: لأن دمه مستحق بالشرع، فإذا قتل فإنه لا عصمة له حتى نقتل من قتله، فأسقطوا القصاص لعدم وجود العصمة.
ومن أهل العلم من قال: إن قتل الزاني المحصن أمر إلى ولي الأمر والقاضي، فهو مستحق بحكم الشرع، وليس لأحد أن يأتي ويقتله؛ لأن هذا لا يستند إلى ولاية بالقتل، وقد جعل الله عز وجل ولاية للسلطان ومن يقوم مقامه.
وفي بعض الأحيان يكون قتله حميةً، كما لو جاء ووجده مع زوجته وهو محصن فقتله، أو شهد الشهود الأربعة على أنه زنى بزوجته فقتله، قالوا في هذه الحالة: يكون قتله أشبه بالغيرة، وليس قياماً بحق الشرع، قالوا: فإنه يقتل به، وفي هذه الحالة لا يقال: إن هذا قتل شرعي؛ لأنه ليس على الصفة المعتبرة شرعاً.
ومن أهل العلم من قال كما اختاره الحنابلة وطائفة: إن الزاني المحصن إذا قتل أو مهدر الدم إذا قتله من قتله؛ فإنه يكون مهدر الدم، ولا قصاص على قاتله، وهذا أشبه من جهة الأصول.
أما في مسألة المرتد فالأمر يختلف، فلو أن رجلاً سب الله عز وجل -والعياذ بالله- أو سب الدين، أو تهكم واستهزأ استهزاءً بيناً موجباً للكفر، فهذا كافر مرتد، ومن قال الكفر أو عمل به وقيل له: هذا كفر، وقامت عليه الحجة، فأبى وأصر على ما هو؛ فهو كافر مرتد مباح ومهدر الدم، فإذا قتله فإنه في الأصل ليس هنا حمية إلا حمية الدين، ولا عصبية إلا عصبية الدين، فإذا قتله فإنه مأجور على قتله، لكنه -كما ذكر العلماء رحمهم الله- افتيات على حق السلطان والوالي، لكن مثل هذا مهدر الدم لا يقتص له بوجه، فلا يقتص ممن قتله لما سب الله عز وجل، أو سب الدين، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله، فيكون مهدر الدم.
وفي هذه الحالة لا يكون القصاص على من قتله، فإن قتل به فهو شهيد، إذا ثبت على هذا الوجه أنه مرتد.
قال رحمه الله: [فلو قتل مسلم أو ذمي حربياً أو مرتداً لم يضمنه بقصاص ولا دية].
المسلم إذا قتل حربياً، فإنه مهدر الدم، وإذا حارب المسلمون الكفار سقطت الحرمة لدمائهم، إلا إذا كان بينهم وبين المسلمين ذمة، على تفصيل سبق أن بيناه في باب العهد والأمان.
ولكن من حيث الأصل أنه لو قتل المسلم الحربي فلا يقتل به، لكن لو قتل الذمي الحربي، كما كان في القديم عندما كان أهل الكتاب تحت ذمة المسلمين، فلو خرج رجل من أهل الكتاب أو كتابي فوجد حربياً فقتله، فإن هذا الحربي مهدر الدم، مع أن قاتله كافر مثله، لكن هذا له أمان، وله ذمة الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة)، فله ذمة المسلمين، فإذا قتل فله حرمة في بلاد الإسلام، فلا يقتل بمن قتله؛ لأنه في حكم الشريعة، وفي حكم من أعطاه الأمان والذمة أن هذا الدم مهدر، ولذلك لا يقتل به.
وقوله: (فلو قتل مسلم أو ذمي حربياً) هذا تمثيل على الدم المهدر وهو دم الحربي.
وقوله: (أو مرتداً) أي: لو قتل مسلماً مرتداً، فإن هذا بإجماع العلماء على أن المرتد مباح الدم، لكن عندهم تفصيل هل تشترط الاستتابة أو لا تشترط؟ فمن أهل العلم من قال: إن المرتد لا يستتاب بل يقتل كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أن امرأة وجدت مقتولة في المدينة، فقال صلى الله عليه وسلم: أحرج بالله من كان عنده خبر منها أن يقوم.
فقام زوجها -وكان كفيف البصر أعمى- وقال: يا رسول الله! إنها كانت تسبك وتتكلم في دينك، فما هو إلا أن قمت عليها وهي نائمة بمعول -وهو الفأس- فبقرت بطنها فقتلتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدوا أن دمها هدر)، فأسقط عليه الصلاة والسلام هذا الدم؛ لعدم عصمتها بالردة.
وهذا يدل على أن من سب الله وسب الدين وسب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه مهدر الدم، ولا يقتص من قاتله.
قوله: (أو مرتداً) الردة سواء كانت بالأقوال أو بالأفعال الموجبة للخروج من الإسلام، فهذا كله سيأتي تفصيله -إن شاء الله- في ضوابطه، والأحوال التي يحكم فيها بالردة.
ومن أهل العلم من يشترط الاستتابة، واحتجوا بما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جاءه معاذ رضي الله عنه وقال: (إن رجلاً اختار دين اليهودية بعد أن أسلم، قال: فقربناه فقتلناه، فقال عمر رضي الله عنه: هلّا أدريتموه وأطعمتموه ثلاثاً وعرضتم عليه، وإن أبى قتلتموه، اللهم إني أبرأ إليك، لم أشهد ولم آمر، اللهم إني أبرأ إليك، لم أشهد ولم آمر)، فـ عمر رضي الله عنه برئ من قتله بدون استتابة.
وعلى كل حال الأصل الشرعي يقتضي أن المرتد مباح الدم، والنص في هذا واضح في قضية الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يبقى النظر في تعزير من افتات على السلطان وقتل بدون بإذنه، وهذا يحتاج إلى نظر وتفصيل.
وقوله: (لم يضمنه بقصاص) فلا يقتص من الذي قتله، فلو كان مرتداً في الحقيقة، ولم يوجد شهود يثبتون ردته، وجاء رجل وقتله، فالأصل أن نقول: إنه مسلم، فهذا القاتل إذا أخذه أولياء المقتول، وقالوا: نريد القصاص، فاقتص منه وقتل فهو شهيد؛ لأنه في هذه الحالة قُتل بغير حق، وقتله للمرتد هو على وجه شرعي.
وبناء على ذلك لا يكون دمه مباحاً في الأصل الشرعي، فإذا قُتل به فإنه مقتول ظلماً، ولكنه في حكم الشرع يُقتل؛ لأنه لو فتح هذا الباب لكان أي شخص يقتل شخصاً ويقول: هذا مرتد، ولذلك لا بد من إثبات الردة، وعدم وجود دليل يدل على توبته من الردة؛ لأنه يمكن لأي شخص -والعياذ بالله- أن يرتد ثم يتوب.
وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: من زنى -والعياذ بالله- وهو محصن، ثم قتله القاتل فيقتل به، ما لم يثبت عند القاضي زناه وعدم توبته؛ لأن أصل القضية أنه إذا كان زانياً محصناً فيحتمل أنه تاب، وإذا تاب لم يُقتل؛ لأن الزاني إذا زنى وتاب ولو بعد الزنا مباشرة، ولو زنى مليون مرة -والعياذ بالله- فما دام أنه تاب إلى الله توبة نصوحاً؛ فإن الله يتوب عليه.
والله عز وجل لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وإنما يريد التقوى من القلوب، فالعبد الذي يفعل الذنب ثم يتوب يتوب الله عليه، وهذا وعد من الله عز وجل قطعه على نفسه: {لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]، أما من تاب صادقاً من قلبه بعد ذنبه فالله يغفر ذنبه.
فقالوا: يحتمل أنه زنى ورآه يزني، وعلم أنه محصن، وتاب الرجل بينه وبين الله، فحينئذٍ لا يستحق دمه؛ لأنه في الأصل قد تاب وأناب إلى الله عز وجل، فقالوا: لشبهة التوبة ولاحتمال أن يكون تاب بينه وبين الله لا يفتح هذا الباب.
فقالوا: إذا قتله فيحتمل أنه تاب قبل قتله، ومثل هذه الذنوب تنفع فيها التوبة، وحينئذٍ قتل معصوماً، وأكدوا هذا بالدليل في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أن سعداً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أرأيت لو وجد لكع قد تفخذها رجل، فيذهب فيحضر الشهود، إذاً يفرغ الرجل من حاجته، وإذا قتله قتلتموه).
وفي الصحيحين من ح(353/3)
الشرط الثاني: أن يكون القاتل مكلفاً
قال رحمه الله: [الثاني: التكليف].
الشرط الثاني: التكليف، والتكليف يقوم على أساسين: البلوغ والعقل، قال الناظم: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر فلابد في التكليف من البلوغ والعقل، فإذا كان القاتل غير مكلف، كصبي قتل رجلاً أو قتل صبياً، فإنه لا يقتص من هذا الصبي؛ لأنه مرفوع عنه القلم وغير مكلف وغير مؤاخذ.
وكذلك أيضاً إذا قتل مجنون رجلاً أو قتل جماعة، فإنه لا يقتص منه؛ لأنه غير مؤاخذ، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، وفي الصبي خلاف إذا كان مميزاً، والقول بأنه يكون في حكم المكلف قول معارض للنصوص القوية، والأدلة الواضحة، والإجماع السابق لهذا القول يدل على أنه إن كان مميزاً أو غير مميز فإنه لا تكليف عليه، والتفريق بين الصبي المميز وغير المميز قول ضعيف.
والنصوص واضحة، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عائشة رضي الله عنها الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم)، فهذا نص واضح ليس فيه إشكال، وإن كان بعض أهل العلم رحمة الله عليهم فرقوا بين الصبي المميز وغير المميز، وهو تفريق بدون دليل، ومعارض لما ذكرناه من الأصول الشرعية وإجماع السلف قبل حدوث هذا القول.
قال رحمه الله: [فلا قصاص على صغير ولا مجنون].
ولذلك فعندهم قاعدة تقول: عمد الصبي والمجنون خطأ، فالصبي إذا قتل فلا يجب القصاص ولكن تجب الدية، وهكذا لو أن الصبي قطع عضواً أو ضرب شخصاً فأتلف له عضواً أو نحو ذلك، فإنه يجب ضمان هذه الجناية، ولا يجب القصاص والقود.(353/4)
الشرط الثالث: المكافأة
قال رحمه الله: [الثالث: المكافأة].
الشرط الثالث: المكافأة، وهي المساواة، أي: أن يساوي القاتل المقتول، وألا يكون أزيد منه، وتحقق بمسألة الديانة والحرية، والأصل في ذلك أن الله تعالى قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178]، فجعل الله عز وجل المقابلة، والقصاص في الأصل يقتضي المساواة؛ لأن المقاصة تحتاج إلى مماثلة، وعدم وجود فضل في القاتل على المقتول من جهة الدين أو من جهة الحرية مما يعتبر في المكافأة، قالوا: لأنه إذا كان القاتل فوق المقتول حرية مثلاً، فإننا إذا قتلنا القاتل وهو حر، لم نساوه بمن قتله، وكان هذا ليس قصاصاً؛ بل كان زيادة في القصاص، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33]، فحرم الله الزيادة في القصاص عن الأصل.
وقول الله عز وجل: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] هذا يسمى عند العلماء: مفهوم الحصر، أي: لا تقتلوا الحر إلا بالحر، والسبب في ذلك بيناه في غير مرة: أن مسألة الرق والحرية مبنية على أصول شرعية، ولذلك فإن الإسلام لا يحكم بالرق في الأصل والأساس إلا في حالة مقاتلة المسلمين للكفار وضرب الرق عليهم، فالرق مستفاد من الكفر؛ لأنه عرض عليه الإسلام فأبى، ثم قاتل المسلمين، فلما أخذوه في الأسر ضرب عليه الرق وصار في مستوى البهيمية، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، فهو كافر بالله، ثم حمل السلاح على دين الله وشرع الله عز وجل مانعاً من كلمة الله عز وجل؛ فنزل إلى مستوى أحط من مستوى البهيمية، وهذا المستوى لا يمكن أن يكافئ به المسلم.
ولذلك فإن القول المعتبر عند جماهير السلف والخلف، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان رضي الله عنهم، وجمهرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضائهم: أنه لا يقتل حر بعبد، سواء كان العبد عبده أو عبد غيره، وهذا يستفاد منه الشرط الذي ذكرناه وهو المساواة، وأنه ينبغي أن يكون مكافئاً لمن قتله.(353/5)
خلاف العلماء في قتل المسلم بالذمي
قال رحمه الله: [بأن يساويه في الدين].
أي: أن يساوي المقتول القاتل في الدين، فلا يقتل المسلم بكافر؛ لأن الكافر لا يكافئ المسلم، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث السنن: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم حرب على من سواهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا يُقتل ذو عهد في عهده).
فقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، هذا حصر يدل على أن غير المسلمين لا يكافئ المسلمين، فلا تتكافأ دماء المسلمين مع غير المسلمين.
ومن هنا قال جمهور العلماء رحمهم الله: إن المسلم لا يقتل بغير المسلم إذا كان حربياً إجماعاً، وإذا كان ذمياً على خلاف، فالجمهور يرون أن المسلم لا يقتل بالذمي، فلو أن يهودياً أو نصرانياً دخل إلى بلاد المسلمين ذمياً، وبينه وبين المسلمين عهد الذمة، فجاء مسلم فقتله، فالجمهور يرون أنه لا يقتل به.
وذهب الإمام أبو حنيفة والنخعي وطائفة من السلف إلى أنه يقتل المسلم إذا قتل هذا الذمي، واحتجوا بعموم الأدلة في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178].
واحتجوا بحديث مشهور وهو حديث ابن البيلمان وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد وقال: أنا أحق من وفّى بذمته)، وهذا الحديث ضعيف، حتى إن أئمة الحديث رحمهم الله ردوه سنداً، وقال أبو عبيد رحمه الله مقالة مشهورة: إنه من رواية عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن البيلمان، وبمثله لا تستباح دماء المسلمين.
يعني أنه راوٍ ضعيف، ومثله ليس بحجة حتى يحكم بما تضمنه حديثه فنستبيح دماء المسلمين بدماء الكفار، وهذا لا إشكال في بطلانه ورده.
أما بالنسبة لأدلة الجمهور فقد استدلوا بالآتي: أولاً: استدلوا بما ثبت في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه، أن أبا جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه سأل علياً رضي الله عنه، وقال: (هل خصكم صلى الله عليه وسلم بشيء؟ -لأن الغلاة في علي رضي الله عنه كانوا يقولون: إن آل البيت خصوا بأشياء- فقال علي رضي الله عنه: لا والذي برأ النسمة وخلق الحبة، ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، إلا فهماً يعطيه الله لرجل منا في كتابه وما في هذه الصحيفة، ثم نشرها، وفيها: المدينة حرم من عير إلى ثور، ومن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يوم القيامة، وفيها: لا يقتل مسلم بكافر).
فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مسلم بكافر) هذا نص عام، سواء كان المسلم ذكراً أو أنثى، وسواء كان الكافر ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً أو حربياً أو مرتداً، فقال: بكافر، وكافر نكرة، والنكرة تفيد العموم، وهذا أصل عند العلماء، فلما قال: بكافر، ولم يستثنِ كافراً من هذا العموم؛ دل على أن المسلم إذا قتل الكافر لا يقتل به ألبتة.
إذاً: أدلة الذين قالوا: إنه لا يقتل، صحيحة وصريحة واضحة على أن المسلم لا يقتل بالكافر.
أما ما استدل به الإمام أبو حنيفة رحمه الله من عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] فنجيب عنه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلّم أن هذا يشمل الكافر؛ لأن الله صدر الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:178]، والخطاب بين المؤمنين في قتل المؤمنين بعضهم لبعض، وبقي ما عداهم على الأصول.
ثانياً: أن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] يدل على وجوب المساواة، وإذا كانت الآية تدل على وجوب المساواة في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] فمعنى ذلك أنه لابد أن يساويه ديانة، والمسلم لا يساوي الكافر ديانة.
وهناك جواب آخر يختاره جمع من العلماء رحمهم الله والمحققين وهو أن يقال: إن آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] عامة، وحديث: (لا يقتل مسلم بكافر) خاص، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص.
هذا بالنسبة لقول الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، بل إن بعض أصحابه كالقاضي أبي يوسف رحمه الله أجاز قتل المسلم بالمستأمن، وأنه لو قتل مسلم مستأمناً فإنه يقتل به.
وعند المالكية مسألة غريبة وهي: قالوا: يقتل المسلم بالكافر إذا قتله غيلة، والغيلة هي الجريمة المنظمة التي تكون بترتيب وتنظيم، وفيها نوع من الافتيات على المسلمين والأذية والإضرار بالمسلمين، ففي هذه الحالة أجازوا، مثل أن يستدرج ذمياً ويخرجه إلى خارج المدينة ويخدعه أن عنده شيئاً أو حاجة، فيخرجه عنها ثم يقتله.
وقتل الغيلة من أسوأ أنواع القتل، ولذلك يشدد فيه العلماء رحمهم الله، ومذهب مالك رحمة الله عليه أيضاً من المذاهب التي راعت مثل هذا النوع من الجرائم المنظمة، سواء كانت بشخص أو أشخاص متعددين، فهذه مستثناة؛ لأن فيها نوعاً من المحاربة، والقتل فيها ليس من جهة القصاص إنما من جهة المحاربة، كأنهم حينما نظموا قتل الذميين داخل بلاد المسلمين خرجوا عن مطلق أمان المسلمين، لا من جهة أنهم يقتلون قصاصاً.
والفرق بين القولين: أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يجعل الحق في قتل من قتل الذمي لأولياء الذمي، ولكن عند المالكية يكون الحق في قتله للسلطان.
وبناءً على ذلك: لو عفا أولياء الذمي في قتل الغيلة؛ فإن الإمام أبا حنيفة يسقط القصاص مع الجمهور، ولكن الإمام مالكاً لا يسقط القصاص؛ لأن الحق ليس لأولياء الذمي، ولم يره من جهة الدم، أي أن دم الكافر يكافئ دم المسلم، وللإمام مالك رحمه الله مسائل عجيبة جداً في مسائل القتل، وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام رحمة الله عليه في القواعد النورانية؛ لأن مذهبه مستقى من مذاهب الصحابة رضوان الله عليهم، ومن فهم أصول الشريعة، ومذهبه من أشد المذاهب -كما بينا غير مرة- في مسألة القتل؛ لأنه ينظر إلى أصول في الشريعة لا بد من مراعاتها وتحقيق مقصود الشرع الذي وردت من أجل تحقيقه، فقال: إن هذه المسألة وحدها وهي مسألة الغيلة تستثنى في قتل المسلم بالكافر.
وعلى كل حال: فالذي يظهر من خلال النصوص أنه لا يستباح دم المسلم بالكافر، سواء كان الكافر مرتداً أو حربياً أو ذمياً أو مستأمناً، لكن إذا كان هناك افتيات وأذية ومحاربة لجماعة المسلمين بالخروج عليهم، فهذا أمر يرجع تقديره إلى الوالي، فإن رأى المصلحة في هذا قتله من باب الحرابة لا من باب القصاص فلا بأس، أما من باب القصاص فالنصوص واضحة على أن دم الكافر لا يكافئ دم المسلم بحال.
وعلى هذا فإنه يترجح مذهب الجمهور من حيث الأصل، ويخرج باب الغيلة عن باب القصاص من الوجه الذي ذكرناه.(353/6)
خلاف العلماء في قتل الحر بالعبد
قال رحمه الله: [بأن يساويه في الدين والحرية والرق].
أي: يساويه في الدين والحرية، فإذا قتل حرٌ حراً قتل به، وهذا نص القرآن: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] وهذا يسميه العلماء: مفهوم الحصر، وهو أحد أنواع المفاهيم العشرة المشهورة، وهي: مفهوم الصفة، والشرط، والعلة، واللقب، والاستثناء، والعدد، وظرف الزمان، وظرف المكان، والحصر والغاية.
وقد أشار إليها الناظم بقوله: صف واشترط علل ولقب ثنيا وعد ظرفين وحصر إغيا فلما قال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] يعني: اقتلوا الحر بالحر، وأيضاً لا تقتلوا الحر إلا بالحر.
وبناءً على ذلك: لا يقتل الحر بالعبد، وهذا مبني على أن الحر أرفع درجة من العبد، كما بين الله تعالى أن العبد المملوك لا يقدر على شيء، وأن الحر أرفع منه درجة بأصل الإسلام كما ذكرنا: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
إذا ثبت هذا فإن الناقص لا يقتل به الكامل؛ لأن ذلك لا يعتبر قصاصاً ولا عدلاً، والشريعة جاءت بالعدل، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، فالشريعة جاءت بالعدل، فالحر لا يقتل بالعبد.
وخالف في هذه المسألة داود الظاهري رحمه الله فقال: الحر يقتل بالعبد، وجماهير السلف والخلف على غير ذلك، وفيه حديث مرفوع عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه لا يقتل حر بعبد)، وحديث السنن عند ابن ماجة وغيره، وحسن بعض العلماء إسناده.
فهذا يدل على أن الأصل ألا يقتل الحر بالعبد، سواء كان العبد مملوكاً كامل الملك، وسواء كان مملوكاً للقاتل، أو كان مملوكاً لغيره، وسواء كان الرق فيه كاملاً كالرقيق الكامل، أو مبعضاً، كما لو كان نصفه حراً ونصفه عبداً، فإنه لا يقتل به إلا إذا كان حراً كامل الحرية.
وعلى هذا فلو قتل العبد العبدَ قتل به: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178]، فهذا يدل على أن العبد يقتل بالعبد، وإذا قتل الحر العبد؛ فإنه لا يقتل به، ولكن هل يدفع قيمته أو الدية؟ وجهان للعلماء: قيل: يدفع قيمته بالغاً ما بلغ، وفي بعض الأحيان تكون قيمة العبد أضعاف أضعاف قيمة الدية، مثل أن يكون عبداً عنده صنعة وهو غالي الثمن، فتكون قيمته مثلاً ثلاثمائة ألف، والدية مائة ألف؛ لأنه صاحب صنعة.
فحينئذٍ اختلف العلماء -وسيأتينا إن شاء الله في باب الديات-: هل الرقيق ملحق بالأموال فتقدر قيمته عند الجناية، أو ملحق بالآدمية؛ لأنه في الأصل آدمي، ولا يعامل معاملة الأموال في البيع والشراء بل يبقى على آدميته على الأصل؟ نقول: إن العبد تكون ديته نصف دية الحر، وحينئذٍ تكون خمسين ألف مثلاً، إذا كانت الدية مائة ألف، وإذا قلنا: يدفع قيمته بالغة ما بلغت فقد تكون ثلاثة أضعاف الدية كما ذكرنا، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذا في باب الديات.
قال رحمه الله: [فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد].
(الفاء) للتفريع، وهذا هو التفصيل والبيان، فإذا كان قد ثبت أنه لا بد من المكافأة في الدين والحرية والرق فينبني على هذا، ويتفرع عليه ألا يقتل مسلم بكافر، وهذا عام، كما ذكرنا في الردة، ولو أن شخصاً -والعياذ بالله- ثبت بالشهود أنه سب الدين وسب الله عز وجل، فإنه يحكم بردته، فإذا قتله بعد سبه لله عز وجل مباشرة؛ فإنه قد قتل كافراً، فلا يقتل مسلم بكافر.
ولا يقتل حر بعبد كما ذكرنا، سواء كان عبده أو عبداً لغيره.(353/7)
حكم قتل الذمي بالمسلم
قال رحمه الله: [وعكسه يقتل].
فلو أن ذمياً كان بين المسلمين، وجاء وقتل مسلماً، أو قتل امرأة مسلمة، قُتل بها، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة وجدت وقد رض رأسها بين حجرين، وكانت من الأنصار، فسئلت: من فعل بك هذا؟ فلان فلان حتى ذكروا يهودياً)، وقال بعض أهل العلم: إنه كان اليهودي يتربص بها من قبل، فلما ذُكر اسمه هزت برأسها وأومأت، وهذا ما يسميه بعض العلماء بالتدمية البيضاء، فعند مالك رحمه الله من مسائله في القتل هذه المسألة: أن الشخص إذا وجد في آخر رمق من حياته وقيل له: من الذي قتلك: فلان؟ وهز رأسه، قلنا: هذا تدمية بيضاء موجبة للقسامة ومؤثرة في الحكم؛ لأن الشخص في هذه الحالة أقرب ما يكون إلى الصدق, وأبعد ما يكون عن الكذب؛ لأنه مقبل على آخرته وقد ترك الدنيا، ولا مصلحة له أن يكذب، ولذلك يرى أن قوله هنا يؤخذ به لما ذكر، وستأتي -إن شاء الله- هذه المسألة.
وفي هذه الحالة سئلت المرأة فقيل: من فعل بك؟ فلان فلان؟ فأُخذ اليهودي فأقر واعترف، والحقيقة أن هذا الحديث ليس فيه حجة على ثبوت الدم، بل فيه حجة على ثبوت التهمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ بقولها، وإنما أخذ اليهودي فاعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين، فأخذ ووضع رأسه بين حجرين ورض كما رض رأس الجارية.
وهذا يدل على أن الكافر يقتل بالمسلم، وعلى ذلك إجماع العلماء رحمة الله عليهم، أنه إذا قتل كافر مسلماً؛ فإنه قد أسقط العهد الذي بينه وبين المسلمين فيقتل قصاصاً، ويقتل أيضاً لخروجه عن العهد الذي بينه وبين المسلمين.(353/8)
أقوال العلماء في قتل الذكر بالأثنى
قال رحمه الله: [ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر].
الذكر أرفع درجة من الأنثى، ونصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في أن الرجل لا يساوي المرأة من حيث الأصل، وهذا أمر واضح جلي في الشرع، وعلى المسلم أن يكون على بينة من أمره، وأن يترك هذا الخلط الذي يدعيه أعداء الإسلام من مساواة الرجل بالمرأة من كل وجه، فهذا قول باطل معارض لنصوص الكتاب والسنة.
والله تعالى يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، والله عز وجل خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم بعد هذا التكريم خلق منه حواء، فجاءت خلقة الأنثى بنصوص الشرع تبعاً ولم تأتِ أصلاً، وجاء التكريم استقلالاً للإنسان الذكر، وجاءت خلقة الأنثى بنص الكتاب أنه خلق منها زوجها ليسكن إليها، فهي تبع للرجل، ولحكمة من الله سبحانه وتعالى أن جعلها على هذا الوجه، ولم يسوِ بينها وبين الذكر، والله عز وجل يخلق الضعيف والقوي، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الضعيف كالقوي، فهذه خلقة الله عز وجل، ولا يمكن أن تستقيم أمور الحياة إلا بوجود قوي وضعيف.
وهذا ليس فيه ظلم ولا جور، بل هذه خلقة الله عز وجل، فلا تستطيع أن تستدرك على الخالق، حاشا وكلا! تعالى الله عز وجل.
فالله عز وجل في أصل الخلقة خلق المرأة على هذا التكوين: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] خلقها على هذا الضعف لحكمة بينها تعالى فقال: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، فلو خلقت قوية لما استقامت أمور الحياة، ولتنكد العيش، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الأمر على هذه السنن {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، فلا يستطيع أحد أن يبدل خلق الله.
نعم في الشريعة جاءت التشريعات تخاطب الرجال وتخاطب الإناث، ومع ذلك خصت الرجال بما خصتهم، وخصت الإناث بما خصصتهن، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنها قد جعلت الرجل مثل المرأة سواء بسواء أبداً، هذا أمر واضح جداً في التكاليف الشرعية وفي الأحكام والمسائل، فلا يخلط الأمر، بل ينبغي على المسلم أن يكون على بينة من أمره، وأن تكون الأمور واضحة.
ولذلك متى ما خرجت المرأة عن هذه الفطرة استرجلت، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لعن المسترجلات من النساء، أي: أنها خرجت عن هذا المقام الذي فطرها الله عز وجل عليه، وأرادت أن تساوي الرجل، والله يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228].
فهذه أمور خلطت على المسلمين، ودخلت من الأفكار الوافدة من أعداء الإسلام؛ لأنهم يعلمون أنهم يناقضون كثيراً من أصول الشريعة، وتستقيم أمور المسلمين كثيراً إذا عرفت المؤمنة الصالحة مكانتها وعرف الرجل مكانه، وكمل كل منهما الآخر، وحاول كل منهما أن يكون على السنن والفطرة التي خلقه الله عز وجل عليها ولا يخرج عنها ألبتة.
ولذلك الذين يقولون: حقوق المرأة، هؤلاء والله يعذبون المرأة ويحملونها ما لا تطيق، وفوق ما تطيق، فهل يستطيعون أن يجعلوا فيها من القوة مثل ما في الرجل؟ إذا كانوا لا يستطيعون أن يجعلوا فيها من القوة مثل ما في الرجل فلا يكلفوها، ولا يحملوها ما لا تتحمل.
ومن هنا لما خرج الناس عن هذه الفطرة تنكدت الحياة، وتعذبت المرأة وأهينت وأذلت، حتى إن بعض أعداء الإسلام انتصر لحقوق المرأة، فلما خرجت المرأة في الدول الشيوعية للاتحاد السوفيتي تكنس الشوارع، وتعمل مثلما يعمل الرجل، صارت مهانة ذليلة ورجعت على العكس، فقد كانت تظن أن مسألة حقوق المرأة أنها مسألة يراد بها تكريم المرأة حقيقة، فتبين أنها إهانة للمرأة وإذلال لها.
وأقسم بالله الذي فطر السماوات والأرض لن تجد المرأة تكريماً غير الذي كرمها الله به، وأنها إذا ظنت أنها تجد التكريم في غير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلتعلم أنها لن تزداد عند الله إلا مهانة وذلاً، ولتقدم على ما أقدمت أو تحجم.
فعليها أن تعلم أن التكريم الحق إنما هو حينما تكون في مكانتها الطبيعية الجبلية التي فطرها الله عز وجل عليها، قائمة على أسرتها، وربة لبيتها، ومحافظة على أولادها، وراعية لزوجها، فقادت العالم أجمع بعدل وإنصاف وحكمة وقدرة من الله واقتدار، ومع ذلك ما تخلفت ولا تقاعست وكانت في أوج الحضارة، وكانت المرأة في قعر بيتها قائمة لحقوق أولادها وزوجها.
وهل معنى ذلك أننا لن نتقدم إلا إذا كانت المرأة مثل الرجل؟ أبداً، هذه كلها أمور مخلوطة، وأوراق مغالط فيها ومكابر فيها، فعلى الإنسان أن ينظر إلى الحقيقة.
وعلينا أن نفهم الكتاب والسنة لنرد على كل من يأتي ويروج ويقول: المرأة مثل الرجل، وقد خاطبها الله كما خاطب الرجل، فهذه أمور لو جئنا نفصل فيها وأمسكنا من باب الطهارة إلى نهاية أبواب الفقه الإسلامي، لوجدت من المسائل ما لا يحصى كثرة من التفريق بين الرجل والمرأة، وتجد أن هناك أصلاً شرعياً يرضى به من يرضى ويسخط من يسخط.
وعلى كل حال: الأمر في هذا واضح، وليس هذا مقامه، لكن نقول: إن الرجل إذا قتل المرأة قتل بها، وإذا قتلت المرأة الرجل قتلت به.
لكن إذا قتلت به فبعض العلماء يرى أنه يأخذ أولياء المقتول نصف الدية من أولياء المرأة أو من مال المرأة، قالوا: لأن المرأة نصف الرجل كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها)، فهذا يدل على أنها على النصف، فإذا كانت على النصف فديتها نصف دية الرجل كما سيأتي إن شاء الله، وإذا ثبت أنها على النصف فمعنى هذا أنها لا تساوي الرجل، فلو قتل رجل امرأة وحكمنا بالقصاص، فإنه إذا قتل أولياء المرأة الرجل، فقال بعض العلماء: يدفع أولياء المرأة نصف الدية؛ لأنها لا تكافئ الرجل من كل وجه.
والصحيح: أن المرأة تقتل بالرجل، والرجل يقتل بالمرأة، ولا دفع للفرق بينهما.(353/9)
الشرط الرابع: انتفاء التوالد بين القاتل والمقتول
قال المصنف رحمه الله: [الرابع: عدم الولادة].
الشرط الرابع: عدم الولادة وعدم البعضية، وهو ألا يكون المقتول بعضاً من القاتل، أو ألا يكون القاتل والداً للمقتول، سواء كان ذكراً كأبيه أو أنثى كأمه، فلا يقتل الأب إذا قتل ابنه، ولا تقتل الأم إذا قتلت بنتها أو ابنها، وقد ثبت هذا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى عليه العمل، وفيه حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الحافظ ابن عبد البر: إن الأمة تلقته بالقبول، يقصده حديث: (لا يقتل الوالد بالولد)، وهو حديث تلقته الأمة بالقبول، وأغنت شهرته عن طلب إسناده.
ولـ شيخ الإسلام رحمه الله كلام نفيس في مجموع الفتاوى، وكذلك الإمام ابن القيم تكلم على هذه المسألة في الإعلام، في مسألة الأحاديث التي اشتهرت فأغنت شهرتها عن طلب إسنادها وتلقتها الأمة بالقبول، وهذا الذي درج عليه أئمة الإسلام والسلف الصالح.
والمنبغي للمسلم أن يسعه ما وسع السلف، وما جرى عليه العمل وأجمعت عليه الأمة، وكانوا فيه على السنن؛ فإن المسلم يلزمه ذلك، وهو أولى بالصواب وأحرى به إن شاء الله.
ولماذا لا نقتل الوالد بالولد؟! قالوا: لأن الوالد سبب وجود الولد، فلا يكون الولد سبباً في موته وهلاكه, هذه علة.
وبعضهم قال: لأن الولد جزء من الوالد، وهذا صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها)، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعلهم كجزء من الإنسان.
وقال بعض العلماء: العلة في عدم قتل الوالد بولده: أن الوالد يؤدب ولده، والغالب ألا يقتل والد ولده عمداً وعدواناً لكن هناك شبهة التربية والتأديب، وأنه لا يقدم على ضربه حتى يموت، لما جبل عليه الوالد من الرحمة والعطف عليه، فالشبهة قائمة، والشبهة تسقط القصاص.
وعلى هذا الوجه الأخير استثنى المالكية المسألة المشهورة، وهي أن يضجع الوالد ولده ويقتله، مثل أن يذكيه تذكية مثل البهيمة، ففي هذه الحالة قالوا: تسقط شبهة التربية، ويقوى أن الوالد يريد إزهاق الروح عمداً وعدواناً، فيقتص منه.
وعلى كل حال: فجمهور العلماء على عدم قتل الوالد بالولد مطلقاً، ويشمل هذا الحكم الوالد المباشر والجد والجدة سواء من جهة الوالد أو من جهة الوالدة، أي: سواء تمحضت بالذكور أو تمحضت بالإناث.
قال رحمه الله: [فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل] وذلك كما ذكرنا.
قال رحمه الله: [ويقتل الولد بكل منهما].
أي: العكس، يقتل الولد بكل منهما، فلو قتل الولد -والعياذ بالله- والده، وهذا من أسوأ ما يكون؛ لأنه جمع بين العقوق والقتل -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا من الشقاء المتناهي -والعياذ بالله- فإذا قتله فإنه يقتل به.(353/10)
الأسئلة(353/11)
حكم الذمي إذا قتل رقيقاً مسلماً
السؤال
لو قتل ذمي عبداً مسلماً فهل يقتص منه أم لا، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا قتل الذمي رقيقاً مسلماً فإنه يقتل به، والجارية الأنصارية قيل: إنها كانت مولاة، ومن هنا يقتل به من جهة الكفر، والكافر ليس له فضل على الرقيق، ولذلك قال: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221].
وعلى كل حال ليس هذا مما يمنع القصاص من الذمي، بل يقتص منه ويقتل، والله تعالى أعلم.(353/12)
حكم القصاص من السكران إذا قتل
السؤال
هل هناك قصاص على السكران إذا قتل، أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل السكران مكلف أو غير مكلف؟ ومن حيث الأدلة والأصول قد سبق أن ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطلاق، وأن السكر موجب للحكم بزوال العقل، ونص الله عز وجل على أن السكران لا يعلم ما يقول، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].
فمن حيث الأصل لا شك أن مذهب الظاهرية ومن وافقهم في أن السكران غير مكلف قوي جداً.
وفي مسألة القتل هنا استثنى بعض العلماء فقالوا: لو فتح الباب لكان لا يسع الإنسان إلا أن يسكر ثم يقتل.
وعلى كل حال: فإن قضاء الصحابة هو الأولى، كما ذكرنا في قضاء علي رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه حينما جمع الصحابة، وقد اشتكى إليه خالد بن الوليد أن الناس قد انهمكوا في شرب الخمر، فقال علي: هذا أصل يقتضي أنه يعامل معاملة الصاحي.
والذي يظهر والله أعلم أنه من حيث الأصل في الحكم أنه غير مكلف، لكن لا مانع في بعض الأحوال المستثناة إذا استشرى الأمر وعظم الفساد أن يستثنى كما استثنى الصحابة، فإن الصحابة زادوا في الحد وزادوا في العقوبة عند الانهماك في شرب الخمر.
ولذلك رجح شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه الزيادة راجعة إلى تقدير الظرف، لا من باب أن الزيادة تعزيرية، وليست زيادة نصية حدية، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس إن شاء الله، وهو الأقرب، والله تعالى أعلم.(353/13)
حكم الأكل والتعامل مع تارك الصلاة
السؤال
هل يجوز قبول مال الذي لا يصلي أو الأكل من طعامه أو محادثته إن كان من الأقرباء، أثابكم الله؟
الجواب
أما بالنسبة للأكل من طعامه فلا شك أن فيه خلافاً: هل هو كافر أو ليس بكافر؟ فإن ترك الصلاة كلية وحكمنا بكفره؛ فإنه يجوز الأكل من مال الكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، واستضافه يهودي على خبز وإهالة سنخة، كما في مسند أحمد، ولأنه طعم من شاة اليهودية كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على قبول ضيافة الكافر، خاصة إذا رجي تأليفه وكسبه للإسلام، وبشرط أن يؤمن مكره وضرره.
وأما قبول هديته ففيها تفصيل: فبعض العلماء يقول: إذا كان فيها منة وأذية على المسلم؛ فإنه لا يقبل هديته، ولا يقبل منه شيئاً، فلا يقبل منه مالاً، ولا يجيب له دعوة، فإذا كان فيه خبث وله أغراض سيئة، أو يريد مثلاً أن يدعو إنساناً طيباً وحاله طيب حتى يغري غير الطيبين، أو نحو ذلك من المداخل التي قد يفعلها أصحاب الكفر لأذية المسلمين، فإنه لا يجوز في هذه الحالة قبول الدعوة؛ لأن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، والله عز وجل أمرنا معهم أن نأخذ الحذر، والواجب على المسلم أن يأخذ الحذر، وهذا من الحذر، وفيه استجابة لأمر الله عز وجل، وتحقيق لمقصود الشرع، والله تعالى أعلم.(353/14)
بيان من هم أهل الذمة
السؤال
هل أهل الذمة هل هم أهل الكتاب فقط، أم يشمل حتى المجوس وأهل الشرك أثابكم الله؟
الجواب
الذمة تختص بأهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، واختلف في السامرة والصابئة، هل كانت لهم أصول سماوية أم لا؟ على وجهين مشهورين عند العلماء رحمهم الله.
فالذمة خاصة بالكتابيين كما قدمنا في باب العهد وأحكام الذمة، وقد فصلنا في هذه المسألة وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله، وأن الصحيح أن الكتابي من كان له أصل من دين سماوي، كما قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156]، فخص الكتب السماوية بهاتين الملتين، وهذا هو الأصل فيهم أنهم هم اليهود والنصارى.
وأما المجوس فإنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب في شيء، ويبقون على الأصل في شيء آخر، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم)، فتضرب عليهم الجزية ويعاملون كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم، ومن هنا فإنه يختلف أهل الذمة عن المجوس من وجه، ويوافقونهم في وجه.
وأما المشركون فإنهم لا ذمة لهم عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عند المسلمين، فإن المشرك إما أن يعرض عليه الإسلام وإما أن يقتل، إما أن يسلم وإما أن يقتل.
أما أهل الكتاب فلأن لهم ديناً سماوياً، وقد اختلفوا عن غيرهم من هذا الوجه، فالإسلام يقر الشرك ولا يقر الوثنية، فعباد الأشجار والأحجار وعباد الأوثان إذا هجم عليهم المسلمون فإنهم لا يخيرونهم إلا بين أمرين: أن يسلموا أو أن يقاتلوا.
وأما إذا كانوا من اليهود والنصارى فيخيرون بين الثلاثة الأمور: الإسلام، أو القتال، أو دفع الجزية: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وقد تقدم تفصيل هذه المسائل في كتاب أحكام الذمة، والله تعالى أعلم.(353/15)
حكم الجمع بين صلاة الجمعة والعصر في السفر
السؤال
هل يجوز جمع صلاة الجمعة والعصر للمسافر، أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة الأصول الشرعية تقتضي جواز الجمع بين الجمعة والعصر، وهذا لا إشكال فيه من جهة الأصول، أي: لا فرق بين الجمعة وبين الظهر.
لكن الأصل أن المسافر لا يصلي الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ جمعة في سفره ألبتة، وهذا أمر واضح وجلي، حتى إنه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع كان معه مائة ألف نفس في عرفات، وكان بالإمكان أن يجمِّع ولو مراعاة لأهل مكة، ومع ذلك لم يصلِّ الظهر جمعة.
ومن هنا نص العلماء على أن المسافر في الأصل لا تجب عليه الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر ومعه العدد الذي تصح به الجمعة وما صلّى جمعة واحدة.
ومن هنا كان يشدد بعض مشايخنا رحمة الله عليهم في خروج الإنسان وهو مسافر يجمِّع بالغير؛ لأنه لا يجمع بهم إلا من كان منهم، من أجل تحقيق هذه السنة الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام.
والجمع بين الصلاتين يشدد فيه بعض الحنابلة، وبعض المتأخرين يقول: دليلنا أنا وجدنا العلماء يقولون: يجمع بين الظهر والعصر، وما وجدناهم يقولون: يجمع بين الجمعة والعصر، لكن هذا ليس بدليل، فالعلماء رحمهم الله يذكرون الأصل وينبهون به على ما حلّ محله، ولذلك الجمعة إذا صلاها فإنه يصح له أن يجمع بعدها العصر، ولكن إذا أراد أن يخرج من الخلاف ويحتاط فهذا شيء آخر.
أما من حيث الأصل فإنه لا إشكال في جواز أن يجمع العصر إلى الجمعة، وليس هناك دليل بمنع ذلك، بل الرخصة التي أحل بها الجمع هي وجود السفر، ووجود السفر موجب للرخصة، ولا فرق بين الجمعة وبين غيرها، ولذلك إذا فرق المفرق فعليه بالدليل.
لكننا نقول: إذا احتاط وصلى الظهر وجمع إليه العصر فلا بأس.
وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقولون: يحضر الجمعة فينوي بها الظهر ولا ينويها جمعة, فإذا نواها ظهراً فلا إشكال، ووجه واحد أنه يجمع العصر إليها؛ لأنه يصلي وراء الإمام بنية الظهر، ويصح أن يصلي الظهر لاتحاد صورة الصلاتين، واختلاف النية مخرج على حديث معاذ رضي الله عنه؛ لأن الشرط ألا تختلف صورة الصلاتين، فإذا أراد أن يخرج من الإشكال فينوي المسافر الظهر، ويستفيد من حضور الجمعة للذكرى.
والفرق: أنه إذا حضرها بنية الظهر جاز له أن يتكلم، وجاز له أن يتحرك، وجاز له أن يفعل؛ لأنه ليس بمجمع أصلاً، وهذا مبني على أصل عند العلماء رحمهم الله، وخاصة أن المسافر لا تجب عليه الركعتان الأوليان من الظهر، وقد قالوا: إن الخطبتين منزلة منزلة الركعتين خاصة في الحاضر.
فإذا ثبت هذا فإنه يدخل بنية الظهر، ثم يحضر الجمعة ويستفيد، ويصلي العصر جمعاً، وإن أراد أن يدخل بنية الجمعة طلباً لفضيلة الجمعة فلا بأس؛ لأنه يحصل له فضيلة أفضل من الظهر، إلا أن الوالد رحمة الله عليه كان يختار أن تكون نيته للظهر؛ لأن اتباع السنة بعدم التجميع أولى وأقوى، وإن كان الأصل في ظاهره أن الجمعة أفضل من الظهر، والله تعالى أعلم.(353/16)
حكم تعدد النية في صلاة وصيام النافلة
السؤال
هل يجوز أداء صلاة السنة الراتبة وتحية المسجد في الصلاة الواحدة؟ وأيضاً في نية الصوم هل يجمع بين صيام الإثنين إذا وافق يوماً من أيام البيض، أثابكم الله؟
الجواب
يجوز أن يدخل المسجد وينوي الراتبة وتندرج تحتها التحية، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فلما قال: (يركع ركعتين) دل هذا على أنها إذا كانت مقصودة أو غير مقصودة أجزأت، وأن مراد الشرع ألا يجلس في المسجد حتى يصلي، وعلى هذا فإنه تجزيه عن الراتبة.
وأما بالنسبة للصوم فإنه إذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ووافق الإثنين والخميس؛ أجزأه عن صيامه المعتاد للإثنين والخميس، وهكذا لو وافقت الأيام البيض يوم الخميس أو يوم الإثنين، فإنه ينوي في قرارة قلبه الإثنين, كونها من البيض، وكونه يوماً مستقلاً من عادته أن يصومه، فيكتب الله له أجر اليومين، الأول بنيته والثاني بعمله.
وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله: أن من اعتاد الشيء من الطاعة وحال بينه وبين تحقيقه العذر؛ كتب له الأجر، فهو اعتاد أن يصوم أيام البيض، واعتاد أن يصوم الإثنين، ولا وجه للفصل بينهما، إذا وافق يوم الرابع عشر يوم الإثنين فلا يستطيع أن يجعل أيام البيض في غير يوم الإثنين، ومن هنا يكتب له أجر اليومين، وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة.
وهكذا إذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً؛ شرع له أن يدخل زيادة الإثنين والخميس؛ لأنها مقصودة لليومين، فلو كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فصام الأحد، شرع له أن يصوم الإثنين؛ لأنه لمعنىً مستقل، كما لو صام يوماً وأفطر يوماً، ووافق يوم فطره يوم عاشوراء أو يوم عرفة؛ فإنه يشرع له أن يصومه؛ لأنه لمعنىً خاص، والله تعالى أعلم.(353/17)
نصيحة لزوج يسيء الظن بزوجته
السؤال
زوجي رجل مستمسك بدينه والحمد لله، وحسن الخلق مع الآخرين، ولكنه يشدّ علي، ويسيء الظن بي، ويتلمس أخطائي، ولا يرعى كوني امرأة ضعيفة أمانة بين يديه، فهل يحق لي طلب الطلاق منه، أرجو منكم توجيه النصيحة لزوجي أثابكم الله؟
الجواب
الله المستعان! أولاً وقبل كل شيء: احمدي نعمة الله عز وجل أن رزقك الله زوجاً بهذه المثابة، ما دام أنه يخاف الله عز وجل وفيه حسن خلق، وما كان من إساءة الظن، ففي بعض الأحيان قد يقسو الرجل على زوجته من باب الغيرة، وحب الخير لها، وفي قرارة قلبه هو يحبها ويجلها ويكرمها، فيدخل الشيطان على المرأة بالظنون، فأوصيك دائماً أن تجعلي احتمالاً مضاداً لهذا الاحتمال حتى يضعف سلطان الشيطان على قلبك.
ثانياً: أرجو لك عند الله أجراً عظيماً، وثواباً جليلاً كريماً إن صبرت على هذا الزوج، وأرجو لك من الله أن يعوضك على صبرك في دينك ودنياك وآخرتك؛ لأن لله سنناً لا تتبدل ولا تتحول، والله لا يضيع أجر الصابرين، ولا يخيب أمة أو عبداً صبر لوجهه.
فأنتِ إذا صبرتِ على عبد صالح ترجين رحمة الله؛ فأنتِ على خير، وأما الحدة والشدة فلا خير فيها، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه في الإحرام يضرب عبده وهو محرم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (انظروا إلى هذا المحرم) يعني: هو في إحرامه وهو يضرب.
فكان عند الصحابة قسوة، حتى إنه لما دخل على ابنه عبد الرحمن قسا عليه قسوة شديدة في قصة الضيف المعروفة، وقال له: اخرج غدر.
فقد يكون الإنسان صالحاً وفيه حدة، فالصبر على هذا الصالح المحتد أجره عظيم عند الله عز وجل وثوابه عظيم.
فأوصيك بالصبر، فإذا جاوز حدوده فبالإمكان الاستعانة بمن يوثق فيهم، فإذا كان له عم أو والد أو أخ كبير، فتعرضين الأمر عليه عن طريق أخيك، وإذا لزم الأمر تكلميه مباشرة أو عن طريق الهاتف أن فلاناً يقسو زيادة عن اللازم، وتحددي الأمور التي تضايقك ولا تستطيعين الصبر عليها.
أما الطلاق فليس هو الحل، بل هو نهاية الحلول، وما دام أنه رجل يخاف الله عز وجل؛ فأوصيكِ إذا جاوز الحد أن تقولي له: اتقِ الله عز وجل، فإن المؤمن إذا قيل له: اتقِ الله؛ رعدت فرائصه من الله عز وجل خوفاً من الله سبحانه، فأنتِ عندك سلاح متين.
وأخاف عليكِ -لا قدر الله- إن طلقكِ ألا يبدلك الله خيراً منه، وقد تجدين من يهش لك ويبش، ولكن تجدين منه من الشؤم والبلاء ما لا يخطر لك على بال، وهذه سنة الله عز وجل، أنه إذا أنعم على العبد أو الأمة بنعمة ونظر إلى غيرها أنه يصرفها عنه ويذيقه الويلات فيما انصرف إليه.
ولا أقول لكِ: أنه كامل، ولا أحملكِ فوق طاقتكِ، أنا أقول: ما دام أنه يخاف الله، فبيدكِ سلاح عظيم وهو التذكير بالله عز وجل، ولذلك قولي له: اتقِ الله؛ لأن التقي يخاف من الله عز وجل.
فعندك أمر تستطيعين أن تحلي به مشاكلك وهو تذكيره بالله، وإذا كان لا يسمع منك فكما ما ذكرنا تنظرين إلى العاقل من قرابته وتعرضين الأمر عليه، وثقي ثقة تامة وليثق كل إنسان في هذه الحياة أنه لن يجد شيئاً كاملاً، وأن الحياة جبلت على النكد والبلاء والكد: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، فالله عز وجل الذي خلق كل شيء، وقدر كل شيء، وعلم بكل شيء سبحانه، وأحاط بكل شيء رحمة وعلماً, ووسع كل شيء رحمة وعلماً يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، فأقسم سبحانه وتعالى بالبلد الأمين، وأقسم برسوله وهو حال فيه، وبكل ما خلق: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:3 - 4] أي: في تعب وعناء.
فإذا كان التعب والعناء تستطيعين أن تصبري عليه فهذا خير لكِ، والحكماء والعقلاء على مر العصور والدهور ما كانت حياتهم إلا صبراً وتجلداً، فتجلدي واصبري يا أمة الله، فإن الله يصبركِ.
وما يدريكِ فلعل الله أن يخرج منك من هذا الرجل ذرية صالحة، واحمدي الله عز وجل أن زوجكِ لم يبتلَ بالمخدرات، ولم يبتلَ بالمحرمات، واحمدي الله عز وجل أنه لا يأتيك آخر الليل سكران، ولا يأتيك آخر الليل -والعياذ بالله- من عند مومسة، أو من بعد حرام أو من بعد فحش وآثام، فاحمدي الله عز وجل، وقولي: بعض الشر أهون من بعض، وكم من امرأة أقض مضجعها زوج يقلقها بالمحرمات، ويسبها ويسب أهلها وذويها وقرابتها، واحمدي الله عز وجل أنه لم يظلمكِ في مال، ولم يظلمكِ في فراش، واحمدي الله عز وجل على أشياء كثيرة.
ولابد من وجود النقص، فالإنسان ضعيف، وأنتِ ضعيفة وأضعف منه، لكن الله سبحانه وتعالى يجبر كسركِ ويعينك إن صبرتِ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر).
فما طابت الحياة إلا بالصبر، والصبر لا يكون إلا بالأذية والتعب والعناء، وأشد ما تكون الأذية والتعب والعناء من القريب، ولذلك إذا أراد الله بعبده خيراً ابتلاه، وإذا أراد أن يعظم له الأجر في البلاء جعل بلاءه من أقرب الناس إليه.
الزوجة يؤذيها زوجها، وابن العم يؤذيه ابن عمه وقريبه، والشيخ يؤذيه طالبه، قد يعلم طالباً ثم يوماً من الأيام يرميه بنبله، أو يسييء الظن به، أو يتهجم عليه، فلابد من الأذية والبلاء.
وإذا أتتك الأذية من أقرب الناس إليك؛ رفع الله درجتك، وأعظم أجرك، وأجزل مثوبتك، وجعل عاقبتك لك.
يا أمة الله! إن الله وعدكِ وعداً لا يخلفه والله لا يخلف الميعاد، بشيء واحد إن حققتيه وقمتِ بحقوقه وآمنت به وصدقتيه، فإن الله سبحانه وتعالى سيجعل أمره بين يديه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
فلا تنظري إلى ما أنتِ فيه اليوم، ولا تنظري إلى الهم والغم، فإن هذا من الشيطان، ولذلك كل امرأة تأتيها الهموم والغموم وتنظر فيها وتتأملها؛ تزداد عليها الهموم، ويدخل الشيطان عليها، ولكن إذا نظرت إلى أن الله معها، وأن هذا ابتلاء، وأنها سنة الحياة؛ والله ثم والله لو أن زوجك صفا لك من الكدر، ونعمت حياتك معه؛ إذا بكِ تفاجئيه بأولادك قد خرجوا عليكِ, وإذا سلمت من الأولاد؛ سلّط الله عليكِ صويحباتك، فلن تسلمي من البلاء، وما يزال المؤمن في هم وغم وكرب وبلاء، ومن بلاء إلى بلاء حتى يقف على أبواب الجنة، ويطأ بقدمه أعتابها، فيقول كما قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34]؛ لأن الدنيا سجن المؤمن.
أتظنين أن زوجك إن طلقكِ أنكِ ستعيشين حياة هنية سعيدة؟! أتظنين أنه لو جاءك زوج آخر أنكِ ستعيشين معه حياة سعيدة، وأنكِ ستجدين فيه الكمال والخير الموجود في زوجكِ، ثم هذا النقص الموجود فيه يكمل؟! يا أمة الله! الصبر الصبر، وقد قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (ومن يصبر يصبرّه الله)، تذكري ثم تأملي وتفكري في الأيام التي مضت والسنين التي انقضت وأنتِ في الهم والغم، كم لكِ من درجات وحسنات وأجور وخيرات وبركات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى!! فاحمدي الله، واصبري بصبر الله.
أما الكلمة الأخيرة فأوصي هذا الزوج أن يتقي الله، وأوصي الإخوان والصالحين دائماً أن يتواصوا بحقوق الأهلين والزوجات، وإذا جلس الصديق مع صديقه ينبه لمثل هذا، سواء في حقوق السهر، أو الفراش، أو حقوق المال والنفقة، فإذا رأيت صديقك أو قريبك مقصراً في ولده، كأن يكون بخيلاً، فهو رجل صالح طيب ولكنه لا ينفق على ولده، بل يقتر على ولده وعلى نفسه، فعليك أن تقول له: اتق الله.
فأوصي الصالحين أن يوصي بعضهم بعضاً بالله عز وجل، ويقول: اتق الله عز وجل في أهلك وولدك.
ففي بعض الأحيان تراه يسهر إلى ساعات متأخرة ولا يأتي إلى زوجته إلا في ساعات متأخرة، وهذا لا يأمن على زوجه الحرام، وقد لا يأمن عليها الآثام, فلينصح بعضنا بعضاً، وليذكر بعضنا بعضاً.
وأوصي هذا الأخ أن يتقي الله في أمة الله، وأن يرحم ضعفها، وأن يرفق بها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة واليتيم).
فالله الله في حقها، وليتذكر ما أمره الله عز وجل به: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(353/18)
معاذ القباطي(353/19)
شرح زاد المستقنع - باب استيفاء القصاص
إذا تحققت الشروط المطلوبة لتنفيذ القصاص فإن من حق أولياء المقتول أن يستوفوا حقهم بطلب القصاص وتنفيذه، فإذا أرادوا استيفاء القصاص فلابد من شروط لذلك، وهي: أن يكون ولي المقتول مكلفاً، وأن يتفق أولياء المقتول على طلب القصاص، وأن يؤمن التعدي في القصاص على الجاني، فإذا تحققت هذه الشروط فإنه يحكم بالقصاص، وإذا تخلف منها شرط لم يحكم به.
ولابد من حضور السلطان أو القاضي أو نائبه عند تنفيذ الحكم واستيفاء القصاص، ويجوز أن يكون القصاص بالمماثلة أو بالسيف على خلاف في ذلك.(354/1)
المراد باستيفاء القصاص
بسم الله الرحم الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب استيفاء القصاص].
الاستيفاء: استفعال من (وفى الشيء)، والمراد به: حصول الإنسان على حقه كاملاً، يقال: استوفى حقه، إذا أخذه كاملاً ولم يترك منه شيئاً، ولما كان أولياء المقتول لهم حق عند القاتل، والله سبحانه وتعالى مكنهم من هذا الحق، وجعل لهم سلطاناً أن يطلبوه؛ وصف العلماء رحمهم الله تعالى أخذهم لهذا الحق بالاستيفاء، ومن عادة أهل العلم رحمهم الله تعالى أن يذكروا باب الاستيفاء بعد بيان شروط القصاص؛ لأنه لا يُمكَّن أولياء المقتول من قتل القاتل إلا إذا استوفيت الشروط وتمت الشروط المعتبرة شرعاً للقصاص، فإذا ثبت أنه يجب القصاص والقود قلنا لأولياء المقتول: هذا حقكم، فإن شئتم استوفيتموه، وإن شئتم تنازلتم عنه إلى عوض وهو الدية، أو تنازلتم بدون عوض وهو العفو المطلق، فقد خيرهم الله عز وجل بين هذه الثلاثة الأمور: بين أن يأخذوا بالقود والقصاص، وبين أن يأخذوا الدية، فيكون منهم العفو عن القتل ولكن تثبت لهم الدية، وبين أن يعفوا عفواً مطلقاً بدون دية وبدون أخذ شيء.
وهذا القصاص واستيفاء القصاص هو جوهر القضية ومحور الأمر؛ لأنه عن طريق استيفاء القصاص تسكن النفوس، وتصل الحقوق إلى أهلها، ويشفى الغليل، فإن أولياء المقتول في حنق وغيض بسبب ظلم القاتل وسفكه لدم وليهم.
وسفك الدماء لا شك أن مرارته مؤلمة في النفوس، حتى إن المرأة قد تذهل عن عقلها، والرجل يذهل عن نفسه حتى يقتص من قاتل أبيه أو قاتل أخيه، وقد كانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء يشتط الغضب بالواحد منهم فيقتل بالواحد العشرة، ولا تسكن نفسه إلا بقتل العظيم، فإذا قُتل له أخٌ، أو ابنٌ، أو قريب، التمس أعز الناس في عشيرة القاتل فقتله بوليه، ولربما قتل أضعاف العدد، كل ذلك من أجل أن يشفي غليله، حتى قال القائل: فساغ لي الشراب وكنت قبلاً أكاد أغص بالماء الفرات أي: أنه كان إذا شرب الشراب لا يستطيع أن يستطيبه، وهذا جبلة في النفوس، ولذلك حكم الله تعالى بالقصاص من أجل قطع أسباب التشفي وقطع بوادر الشر، والتوسع في إزهاق الأنفس، كما قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33].
وهذا الاستيفاء له ضوابط في الشريعة الإسلامية، حيث يمكن أولياء المقتول من قتل القاتل، ولكن لا بد من وجود شروط إذا توفرت حكمنا بأن لهم حق الاستيفاء، وقد تأتي عوارض وموانع تمنع من الاستيفاء مباشرة، وحينئذٍ ينبغي أن ينتظر حتى يُمكن صاحب الحق من حقه كاملاً ويمكن من النظر في أمره على الوجه المعتبر وعلى السنن والرشد.
فقوله رحمه الله تعالى: (باب استيفاء القصاص) أي: في هذا الموضع سأذكر لك الأمور المعتبرة للحكم باستيفاء أولياء المقتول حقهم من القاتل، وذلك بالقصاص والقود.(354/2)
شروط استيفاء القصاص
قال رحمه الله تعالى: [يشترط له ثلاثة شروط].
أي: يشترط لاستيفاء القصاص ثلاثة شروط لابد من توفرها حتى يحكم بالقصاص: الشرط الأول: أن يكون طالب القصاص مكلفاً، فلا يُستوفى القصاص إذا طلبه مجنون أو صبي، أو نحوهم ممن ليس بأهل.
الشرط الثاني: أن يتفق أولياء المقتول على القتل، فإذا كان للمقتول وليان فعفا أحدهما والآخر طلب القصاص، فلا قصاص، إذ لا بد أن يتفق الاثنان على القصاص، ولو كانوا عشرة فلا بد من اتفاق العشرة، فلو تنازل أحدهم عن القصاص، وقال: أريد الدية، فحينئذٍ لا قصاص؛ لأننا لو حكمنا بالقصاص لأسقطنا حقه في الدية، وهو يريد حق الدية ولا يريد حق القصاص.
الشرط الثالث: أن يؤمن الحيف، ومحل ذلك في المرأة الحامل، فلا يقتص من امرأة حامل، فلو قتلت امرأةٌ امرأةً ثم حملت القاتلة أو كان بها حمل، لم يقتص منها حتى تضع ما في بطنها، ثم ينظر هل تُنتظر إلى أن تتم الرضاعة أو لا؟ فهذه ثلاثة شروط، قُصِد منها تحقيق العدل، وتمكين صاحب الحق من حقه على الوجه المعتبر.
فالشرط الأول: التكليف، والشرط الثاني: اتفاق أولياء المقتول على طلب القصاص والقود، والشرط الثالث: الأمن من الحيف، وهذه أصول في الاستيفاء سواءٌ في القصاص في الأنفس أم في الأطراف.(354/3)
الشرط الأول: أن يكون ولي المقتول مكلفاً
قال رحمه الله تعالى: [أحدها: كون مستحقه مكلفاً].
قوله: (كون مستحقه)، الضمير عائد إلى القصاص، (مكلفاً) أي: بالغاً عاقلاً، فالمستحق للقصاص هو ولي المقتول الذي له حق طلب القصاص، وله حق العفو عن القصاص، كأبيه وابنه وأخيه من عصبته، وهل يدخل في هذا النساء؟ فيه قولان لأهل العلم: فمنهم من قال: حق القصاص للقرابة الوارثين سواءٌ أكانوا من جهة النسب أم من جهة السبب، فتدخل الزوجة، وهو الذي عليه الأصحاب في المذهب، وهناك رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى وهي مذهب المالكية، واختارها الإمام العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى إمام العلماء، أنها للعصبة، والذين قالوا: إنها لأهل الميراث ذكوراً وإناثاً، فعلى قولهم يكون للزوج الحق، وأما على القول الثاني فليس للأخت ولا للبنت ولا للزوجة حق، وإنما هو حق للرجال العصبة، وهذا هو الصحيح الذي تميل إليه النفس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (أما أنتم يا خزاعة فقد قتلتم القتيل وأنا عاقله)، ومن جهة قال: (من قتل له قتيل فأهله بخير النظرين).
فقوله عليه الصلاة والسلام في هذه القضية: (من قتل له قتيلٌ فأهله)، و (أهل): أصلها في لغة العرب آل؛ ولذلك فإن المراد بهم آل الرجل، وهم عصبته المتعصبون حوله، وهذا يشمل الرجال دون النساء، يقال: آل الرجل في العصبة، وقال الناظم: قال الإمام سيبويه العدل أصل آل لديهم أهل فالأهل في قوله: (فأهله بخير النظرين) أي: قرابته وعصبته.
والذين قالوا: إن النساء يدخلن، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأهله)، والأهل يشمل الزوجة، وهذا ضعيف؛ لأن إطلاق الأهل إذا جاء في جانب العصبة والقتل فالأشبه به الآل والقرابة، تقول: آل فلان، بمعنى قرابته من جهة الرجال لا من جهة النساء.
وإما إطلاق الأهل على الزوجة فهذا معروف في لسان العرب، كما قال تعالى: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [طه:10]، أي: لزوجته، لكن هنا الأهل بمعنى: الآل، وليس الأهل بمعنى الزوجة والقرابة، وإلا لضاق معنى الحديث: (فأهله بخير النظرين)، والأشبه في هذا أن يليه الرجال، وهذا صحيح؛ لأن النساء الغالب فيهن الشفقة وفيهن الضعف، وهذا لا تسكن به تارة النفوس، ولا تستقر به الأحوال غالباً، ولذلك فولاية الرجال فيه أحظ وأقوى، وهو الأشبه إن شاء الله تعالى.
إذاً: يشترط في الولي أن يكون مكلفاً، والتكليف فيه جانبان لا بد من توفرهما في الإنسان ليحكم بكونه مكلفاً: أولهما: البلوغ، والثاني: العقل.
قال الناظم: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر وإن كان الصحيح في البلوغ في السن أنها خمسة عشر حولاً، لكن المراد أن التكليف له شرطان: أحدهما: البلوغ، والثاني: العقل، فإذا كان ولي المقتول مجنوناً فلا يستوفي القصاص حتى يفيق من جنونه، وإن كان صغيراً دون البلوغ فإنه ينتظر إلى بلوغه.(354/4)
فرع: إذا كان الولي صبياً أو مجنوناً
قال رحمه الله تعالى: [فإن كان صبياً أو مجنوناً لم يستوف].
أي: لم يستوف القصاص، فلو أن هذا الصبي قال: اقتلوا قاتل أبي، فنقول: لا يقتص، ولا يستوفى القصاص حتى يبلغ؛ لأنه وهو صغير ضعيف ربما خوّف وهُدد، وربما عطف على القاتل لضعفه وصغره؛ لأن الله تعالى وصف الذرية من الصغار بأنها ذرية ضعيفة، فلذلك ينظر في أمره تمام النظر، إلا إذا كان بالغاً عنده حلم وعقل يميز فيه بين محاسن الأمور وضدها.
فلو قال: اقتلوه، وهو صغير، فإنه لا يقتل حتى يبلغ، ولو طلب فإنه لا يقتل، ولو قال: لقد عفوت، فلا يقبل عفوه حتى يبلغ.
ولو كان وليه مجنوناً، فقال: قد عفوت عنه، لم يقبل عفوه، ولو قال: اقتلوه، لم يقبل طلبه، ولم يستوف القصاص، والسبب في هذا أننا لا نثق بعقله، ومن هنا لا يقتص لصبي ولا لمجنون، فينتظر بلوغ الصبي وإفاقة المجنون.
ولكن اختلف في الوالد: فلو أن هذا الصبي قُتلت أمه وكانت غير زوجة الوالد؛ إذ لو كانت زوجة الوالد لحمله الحنق والغيظ على أن يطلب القصاص، فالوالد هو وليه، فهل يلي الوالد لابنه القاصر؟ هناك رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه يلي، وقال بها بعض أهل العلم، والصحيح المشهور عند أهل العلم: أنه لا يلي، إنما يلي مصلحة الصبي في تدبير أموره، وأما هذا الأمر فإنه متعلق بالصبي بعينه حتى يبلغ وينظر الأحض، هل يطالب بالقصاص أو يعفو؟ وهناك مسألة ثانية: إذا كان الصبي والمجنون فقيرين محتاجين إلى المال حاجةً ماسة، وفي عفو أبِ الأب عن القصاص مصلحة من حيث وجود الدية، وهذا أرفق بالصبي والمجنون، فهل يعفو ويقبل عفوه؟ من أهل العلم من قبل عفوه في المجنون ولم يقبل في الصبي، والسبب في هذا: أن المجنون يطول انتظاره، ويتضرر بهذا الانتظار، هذا قول.
القول الثاني: أن الحكم كما تقدم، وهذا القول أشبه بالأصل وأقوى، فينتظر إلى إفاقة المجنون وبلوغ الصبي، ولو طال انتظار إفاقة المجنون زمناً.
قال رحمه الله تعالى: [وحبس الجاني إلى البلوغ والإفاقة].
حَبْس الجاني: أن يمنع من الخروج، أو يوضع في موضع لا يمكنه الفرار؛ لأننا لا نأمن من فراره وهربه، حتى ولو جاء بوكيل وكفيل فلا يقبل؛ لأنه لو فر فلا نستطيع أن نقتص من الكفيل، بخلاف الأموال، فيمكننا أن نأخذ من مال الكفيل ونستوفي الحق، فإذا قُبِل الوكيل والكفيل في هذا غُرر بحق أولياء المقتول، ومن هنا لا يقبل كفيل، ولو قال: سيرجع ويأتي عند بلوغه، وهذا كفيل يتكفل بحضوري بعد ثلاث سنوات، أو بعد أربع سنوات، لم يطلق ويبقى في السجن، وأما المعسر في المال فإنه يطلق، والسبب في هذا واضح: وهو أن استحقاق الحق بالقتل ليس كاستحقاقه في المال، والكفيل في المال ليس كالكفيل في النفس، فإنه لو فر القاتل وكان قد وضع كفيلاً فبالإجماع لا يقتص من الكفيل؛ لأن الكفيل لم يقْتُل، ومن هنا لا يقبل قوله: خذوا مني كفيلاً، بل يحبس حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون، ولو طال الانتظار إلى عشرات السنين فيبقى في سجنه، فهذه جريمته والحق لصاحبه، إلا إذا عفا من يشارك الصبي والمجنون، فإذا كان مع الصبي والمجنون ورثة وطال الانتظار، فقالوا: ما دام الأمر فيه انتظار فنحن قد عفونا؛ سقط القصاص، ففي أحكام الشريعة إن وجدت فيها تشدداً وجدت فيها رحمةً من وجهٍ آخر.
فقد ينتظر إلى إفاقة المجنون فتلين قلوب أولياء القتيل، وقد لا تلين والله تعالى أعلم بخلقه، وأحكم في تدبيره، فإن طال الأمر إلى إفاقته عذّب بجريمته، وإن لم يطل فإنه قد يعفو الأولياء، ويتذمرون من طول الانتظار فيعدلون إلى الدية ويعفون.
وحينئذٍ لا بد من الانتظار سواءٌ أكان المجنون فقيراً أم كان الصبي فقيراً، ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون، والدليل على حبس القاتل: إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فإن هدبة بن خشرم وهو الصحابي المعروف الذي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم المال بالنهد، قَتَل، ورفع الأمر إلى معاوية رضي الله عنهما، وكانت الحادثة في عهد معاوية رضي الله تعالى عنه، وكان ولي المقتول يتيماً، فحبس هدبة إلى بلوغ اليتيم، وشفع الحسن والحسين رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة في أمره فلم يُشَفَّعوا، وقتل بمن قتله، وانتظر إلى البلوغ، ولم ينكر أحد من الصحابة فعل معاوية رضي الله تعالى عن الجميع، ولذلك قالوا: في هذه المسألة إجماع سكوتي، فلم ينكره أحد، وجرى عليه عمل السلف أنه إذا كان ولي المقتول صبياً لم يبلغ ينتظر إلى بلوغه، ويحبس القاتل ضماناً لحق المقتول ووليه.(354/5)
الشرط الثاني: اتفاق أولياء المقتول على طلب القصاص
قال رحمه الله تعالى: [الثاني: اتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه].
قوله: (اتفاق الأولياء المشتركين فيه) أي: في حق القصاص والقود، (على استيفائه): أي على طلب القتل، فلو أن المقتول له عشرة من الأولياء، وهم قرابته الذين لهم حق القصاص، فسامح واحد منهم، أو عفا واحد منهم، سواءٌ عفا إلى دية أم عفا بدون دية، فإنه يسقط القصاص ويُعدل إلى الدية، فإذا عُدِل إلى الدية وقال: أنا سامحت عن كل شيء، ولا أريد دية ولا أريد شيئاً، فقد سقط عشر الدية، وتبقى التسعة الأعشار للباقين، فإن أرادوا أن يعفوا أيضاً سقطت الدية كلها وسقط القصاص، وإن قالوا: نريد حقنا من الدية، أخذ كل واحد حقه ونصيبه، وعلى كل حال هناك تفصيل في هذه المسألة، لكن الأصل أن عفو بعض الأولياء يسقط القصاص، والسبب في هذا: أن له حقاً، والقصاص لا يتبعض؛ لأن الآخر يريد الدية، فإذا أراد الدية وقُتِل القاتل لم نستطع دفع الدية إليه.
ومن هنا فلا قصاص مع عفو بعض الأولياء، وليعدل إلى الدية ولا بد بناءً على هذا، وهذا الأمر بإجماع عند العلماء أنه لا بد من اتفاق الأولياء على طلب القصاص، وهو القتل.
قال رحمه الله تعالى: [وليس لبعضهم أن ينفرد به].
قوله: (وليس لبعضهم) أي: بعض المستحقين للقصاص إذا طالب بالقتل فليس له ذلك، فلو أنه قتل رجل آخر وكان له ثلاثة أولياء مستحقون للقود والقصاص، فقام أحدهم وقتله قبل أن يحكم بقضيته، وقبل أن يحكم القاضي بالاستيفاء، فإذا قتله فإما أن يقتله قبل عفو الباقين، وإما أن يقتله على اتفاق الباقين على القتل، أو يقتله وقد عفا بعضهم وطالب الآخرون، فهذه ثلاث حالات: أما الحالة الأولى: فإذا قتله وقد اتفق الجميع على قتله فلا إشكال أنه لا قصاص؛ لأنه سيقتل أصلاً، لكن يؤدب ويعزر؛ لأنه كان ينبغي أن يناط الأمر بولي الأمر حتى يمكنه من حقه، فلما استعجل وقتل كان هذا منه افتياتاً على الحاكم والقاضي كما يسمونه، فحينئذٍ يُعزر بما يناسبه.
وأما الحالة الثانية والثالثة: فهي أن يعفو الجميع، أو يعفو بعض الأولياء، كاثنين شريكين في القصاص، فقام أحدهما وقال: عفوت، فغضب الآخر وأخذ سلاحه وقتله، فإذا ثبت العفو عند القاضي، فإنه حينئذٍ يقتص من هذا الثاني؛ لأنه إذا ثبت العفو حُقِن دم المقتول الذي هو القاتل في الأصل، فإذا جاءه وقتله فقد قتله بدون وجه حق؛ لأنه ليس له حق في القتل، وحينئذٍ يقتص منه في قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى؛ لأنه في هذه الحالة لا حق له في القصاص؛ لكن إذا لم يعلم بعفوه وجاء وقتله، وهو لا يعلم أن شريكه قد عفا، فحينئذ تكون شبهة، ويدرأ عنه الحد ولا يقتص منه.
إذاً: إذا اتفقوا على طلب القصاص، ولم يحكم القاضي بالاستيفاء، وقتل بعضهم، فإنه لا قود ولا قصاص على هذا القاتل؛ لأنه طلب حقه، وهو مقتول لا محالة، وحينئذٍ لم يتعد، وإن عفا بعضهم وثبت عفوه عند القاضي وعلم شريكه، فأخذه الحنق وقتل، فقد قتل معصوماً، وحينئذٍ ليس له حق في هذا القصاص؛ لأنه بعفو شريكه سقط القصاص، وحينئذٍ يكون كأنه قتل معصوماً، فإذا استوفيت الشروط يقتل به ويقتص منه، وأما إذا لم يعلم بعفوه وقتله، أو قتله قبل أن يسأل هل عفا أم لم يعف؟ فإنه لا يقتص منه لوجود الشبهة.
قال رحمه الله تعالى: [وإن كان من بقي غائباً أو صغيراً أو مجنوناً انتظر القدوم والبلوغ والعقل].
أي: إذا قال بعض الورثة: نريد القصاص، ولهم شركاء فيه كصبي أو مجنون أو غائب؛ فإننا ننتظر الغائب حتى يأتي، وننتظر المجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ، كما قدمنا في مسألة المستحق، ففي هذه الحالة لا يقتص بقول بعضهم.
فلو كانوا عشرة، وطالب الأكثرون كتسعة مثلاً، وبقي يتيم قاصر دون البلوغ، فإننا نقول: لا حق لكم حتى يبلغ هذا اليتيم، فإن طلب القصاص اقتص، وإن لم يطلب القصاص فلا إشكال أنه يعدل إلى الدية أو العفو المطلق على حسب الحال.
وبناءً على ذلك: لا ننظر إلى الأكثرية، ولا ننظر إلى نوعية الذين عفوا والذين هم غائبون، إنما ينظر إلى إجماعهم واتفاقهم، وهذا الذي عبر به المصنف باتفاق أوليائه، فلابد أن يتفق المطالبون بالقصاص على طلب القصاص.(354/6)
الشرط الثالث: أن يؤمن التعدي في القصاص على الجاني
قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أن يؤمن الاستيفاء أن يتعدى الجاني].
لو قال: (أن يعتدى على الجاني) لكان ممكناً، لكن مراده: أن يؤمن في القصاص التعدي، فالأصل أن يؤمن الحيف، فبعضهم يقول: أن يؤمن الحيف، وبعضهم يقول: أن يؤمن الاعتداء والزيادة، والمراد بهذا: أن نأمن عند حكمنا بالقصاص الزيادة على الحق.
وتوضيح ذلك: أن القاتل يُقتل، ولا يُقتل معه غيره، فلا يؤخذ بجريمته من لا جريمة له، وتبرز هذه الصورة وتتضح أكثر شيء في المرأة الحامل، ففي بطنها الجنين الذي لا ذنب له، وحينئذٍ لو قتلناها قتلنا نفسين بنفس واحدة، والله عز وجل يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126].
وبناءً على ذلك: لا يقتل هذا الجنين؛ لأنه لا ذنب له، فينتظر إلى وضعها، فذكر العلماء هذا الشرط تنبيهاً على هذه المسألة: أنه لا تقتل المرأة الحامل حتى تضع ما في بطنها، والأصل في ذلك في الحدود: قصتا المرأتين اللتين زنتا وأتي بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما محصنتان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولي المرأة أن يبقى معها حتى تضع ما في بطنها ثم يأتي بها إليه، وفي الثانية قال: حتى ترضعه؛ لأنه لم يوجد من يقوم به ويرضعه، فهذا يدل على أنه لا يجوز التعدي على المرأة الحامل؛ لأن الجنين لا ذنب له، ثم ينظر إذا وضعت ما في بطنها أمرت بسقيه اللبأ؛ لأنه يكون به أوده وحياته، ولا بد له منه، وهو اللبن الذي يكون بعد الولادة، ثم ننظر في رضاعته، فإن وجدت امرأة بدلها ترضعه وتقوم عليه أُخذت أمه واقتص منها وقتلت، وإن لم يوجد امرأة ترضعه والولد متعلق بأمه لا يريد إلا أمه ولا يرتضع إلا من أمه، مثل ما وقع لموسى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، فبعض الأولاد فيهم حساسية لا يمكن أن يقبل إلا ثدي أمه، فإذا أبى أن يقبل إلا ثدي أمه، فإنه في هذه الحالة لو قتلنا أمه لقتلناه معها؛ لأنه سيمتنع من الرضاعة وسيموت، أو يتضرر في صحته، فحينئذ يكون قد حصل القصاص من الجاني وزيادة، وهي زيادة الضرر على الجنين، فننتظر إلى أن ترضعه وتفطمه، ثم بعد ذلك يُقتص من هذه الأم.
إذاً: الشرط أن يؤمن الحيف، كما يعبر بعض العلماء، وأن تؤمن الزيادة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33]، فقتل الأم مع جنينها إسراف في القتل؛ لأن معنى (لا يسرف في القتل) أي: لا يزيد على قتل القاتل، وأخذ الجاني بجنايته دون أن يستتبع من لا حق في قتله، أو يستتبع في الحق الضرر به كالجنين بعد وضعه.
ومن هنا فجمهرة العلماء رحمهم الله تعالى نصوا على أن الجنين لا يقتل مع أمه، فلا تقتل الأم وهي حامل بجنينها، حتى لا يكون إزهاقاً لنفسين بنفس واحدة، فليس بالعدل أن تُقتل النفس البريئة مع النفس القاتلة في مقابل نفس واحدة، هذا هو وجهه.
فيشترط الأمن من الحيف، والأمن من التعدي على الجاني، وذلك التعدي على الجاني بقتل ولده معه ونحو ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [فإذا وجب على حامل أو حائل فحملت لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ].
قوله: (إذا وجب)، أي: القصاص على امرأة في بطنها جنينها، فهذا لا إشكال فيه مثل ما ذكرنا.
فلو أنها كانت حائلاً قبل الحكم، فعند جنايتها كانت حائلاً، ثم جامعها زوجها، وحملت، وظهر الحمل بعد حكم القاضي بالقصاص والاستيفاء، وثبت عند القاضي، وطالب أولياء المقتول واستحق القصاص، ولم يبق إلا التنفيذ، وعند التنفيذ وجدت حاملاً، فإنه لا يقتص منها، فليست العبرة بحالها أثناء القتل؛ لأنها أثناء القتل كانت حائلاً، فالعبرة وجود الضرر والتعدي أثناء القصاص والاستيفاء، ويستوي في هذا أن تكون حاملاً في بداية حملها، أو أن تكون حاملاً في نهاية حملها، أو وسطاً بين ذلك؛ لأن العلة هي أن لا يتعدى في القصاص، وهذا يشمل هذه الأحوال كلها.
وإذا قالت: إني حامل، فقال أولياء المقتول: ليست بحامل، بل هي حائل، عرضت على أهل الخبرة، فإن قالوا: إنها حامل انتظرت، وإن قالوا: إنها حائل اقتص منها، والآن في زماننا يمكن اكتشاف ذلك والتثبت منه على وجه بين.
قال رحمه الله تعالى: [ثم إن وجد من يرضعه وإلا تركت حتى تفطمه].
قوله: (ثم إن وجد من يرضعه) أي: يرضع هذا الصبي الذي وضعته، فإن وجد من يرضعه فلا إشكال، وحينئذٍ يدفع إليها وترضعه، وإن لم توجد من ترضعه، أو وجدت امرأة ترضعه ولكنه لا يقبلها، ولم يرض بها، فحينئذٍ وجودها وعدمها على حدٍ سواء فينتظر حتى تفطمه.
قال رحمه الله تعالى: [ولا يقتص منها في الطرف حتى تضع].
ذكر المصنف رحمه الله تعالى القصاص في الطرف وألحقه بالقصاص في النفس في هذه المسألة؛ لأن المرأة الحامل إذا قطعت يدها ففي الغالب أنها تسقط جنينها، ولا تتحمل، بل تسقط ما هو أخف وأقل من هذا، وبناءً على هذا ينتظر إلى أن تضع الجنين، وبعد أن تضع الجنين يقتص منها، وهكذا لو كانت زانية وحملت من الزنا، فإذا كانت بكراً وأريد جلدها انتظر حتى تضع، وإن كانت محصنة ففي هذه الحالة ينتظر وضعها للجنين ولو كان من الزنا، ثم بعد ذلك يقام عليها الحد.
والقصاص في الأطراف وإقامة الحدود حكمهما حكم القصاص في النفس، فالمسألة تدور حول أصل واحد، بل إن الحد وتنفيذ الحد هو الأصل في تأخير تنفيذه على المرأة الحامل، كما ذكرنا في قصة المرأتين اللتين زنتا، والحديث في أمرهما صحيح وثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جرى عمل السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وذكر المصنف رحمه الله تعالى مسألة القصاص في الأطراف من باب التنبيه بالنظير على نظيره، وهذه يسميها العلماء: مسائل النظائر، وإذا جاءوا يبحثون يقولون: المظانُّ، فهناك مسائل تذكر تبعاً ليست في أصل الباب؛ لأن الباب القصاص في النفس.
وقد يقول قائل: كان ينبغي أن يؤخر مسألة القصاص في الأطراف من الحامل إلى باب القصاص في الأطراف، ولكن المصنف ذكر هذا من باب المظان، ومن هنا يعتني العلماء بذكر المسائل بأقربها شبهاً، وتعرف هذه بالمظان، بمعنى: تذكر في أقرب المواضع وتُجمع المسائل مع أنها ليست تحت الباب.
ولذلك قال رحمه الله تعالى: [والحد في ذلك كالقصاص].
وهذا هو الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من تنفيذ الحد لخوف الضرر على الجنين، وهو أصل المسألة، والحد في ذلك كالقصاص؛ بل هو أصل مسألة القصاص، فلو شربت الخمر -والعياذ بالله تعالى- امرأة حامل، أو زنت، أو قذفت، فإنه ينتظر إلى أن تضع ما في بطنها، ثم يقام عليها حد الزنا وحد القذف وحد الخمر، وهكذا لو سرقت فلا تقطع يدها، بل ينتظر حتى تضع ما في بطنها، ثم بعد ذلك تقطع يدها، للعلة التي ذكرناها.(354/7)
حضور السلطان أو نائبه وشرط آله القتل في استيفاء القصاص
قال رحمه الله تعالى: [فصل: ولا يستوفى قصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه وآلة ماضية].
هناك مراحل للقصاص: المرحلة الأولى: أن يحكم القاضي بثبوت القصاص.
المرحلة الثانية: مرحلة التنفيذ للقصاص، ولا يمكن أن ينفذ القصاص إلا بعد ثبوت الحق وحكم القاضي به، فإذا قضى القاضي بتنفيذ القصاص، فينبغي أنه ثبت لفلان حق القصاص، فالتنفيذ يفتقر إلى أمور لا بد من وجودها: أولها: أنه لا يستوفى إلا بحضرة السلطان، أو الحاكم، أو القاضي، أو من ينيبه، وذلك لأنه قد تطرأ أمور أثناء تنفيذ الحد لا بد من الرجوع فيها إلى رأي القاضي وحكمه، وهذا أصل حتى في الحدود، والسبب في ذلك: تلافي الضرر بعدم وجود القاضي والحاكم.
وبعض العلماء يقول: لا يشترط، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام لولي الدم: (اذهب فاقتله)، فأمره أن يذهب ويقتله، ولم ينصب وكيلاً عنه عليه الصلاة والسلام، ولأن ماعزاً لما آذته الحجارة وأدرك حرها فرّ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه لعله يرجع فيتوب فيتوب الله عليه)، وفي رواية: (يراجع نفسه).
وأصحاب القول الأول قالوا: إنه إذا أقر بالزنا، وكان القاضي موجوداً، وقال: لقد رجعت عن إقراري، أوقف التنفيذ؛ لأنه لا يوقف التنفيذ إلا بحكم القاضي، ومن هنا يمكن أن يحتاط لدماء الناس وحقوقهم؛ لأن هذا يسمونه: حق الجاني بعد صدور الحكم، فللجاني حقوق بعد صدور الحكم عليه، ولا يمكن الاحتياط فيها بالشيء على الوجه المعتبر إلا بوجود القاضي أو الحاكم أو كل منهما.
والحمد لله تعالى فهذا موجود في زماننا، وقد جرت العادة في المملكة -ولله الحمد- أنه يوجد من يكون وكيلاً عن القاضي، وهذا على الحقيقة فيه احتياط، وهو أحوط المذهبين؛ لما فيه من صيانة لحق الجاني، وخوف أن تطرأ أمور يحتاج فيها إلى النظر، وحينئذٍ تحقن دماء الناس وتحفظ، ولا ينفذ القصاص على الوجه المعتبر إلا بحضور الحاكم أو نائبه، وحضور الحاكم لا شك أنه أبلغ في الزجر، وأبلغ في تنفيذ حكم الله عز وجل، وأكثر تعظيماً لشعائر الله عز وجل، ولذلك حضر الخلفاء الراشدون، وكان بعضهم يحضر تنفيذ الحد وتنفيذ القصاص؛ لما في ذلك من إعلاء كلمة الله عز وجل وحصول الهيبة أكثر وأبلغ.
أما كون الآلة حادة، فهذا أصل في الشريعة أنه لا يُعذب عند القتل، وعند إزهاق الروح، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، وهذا في البهائم فالآدمي من باب أولى، فإذا أريد القصاص فيجوز أن يمكِن القاضي ولي المقتول من الجاني، ويقول له: هذا قاتل أبيك فاقتله إن شئت.
فيكون ولي المقتول معه سلاحه أو سيفه، وهذا في القديم كان موجوداً، فإذا قال: أريد أن أقتله بنفسي، ينظر في سيفه والآلة التي يريد أن يقتل بها، فإنه ربما كانت كالة -أي: لم يحدها كما ينبغي- فيضر بالقاتل إذا قتله، فإذا كانت كالة ليست ماضية عذب بها الجاني؛ لأن هذا لا ينفذ الإزهاق بسرعة فيتعذب، وهذا لا يجوز.
وكذلك أيضاً ربما وضع السم في آلته، وهذا كان يفعله بعضهم، وهو زيادة في التعذيب؛ لأن القاتل ما قتل بهذا الوجه، وحينئذٍ لابد أن تتفقد آلة القاتل، لكن في زماننا وُضع من يقوم بالتنفيذ من بيت مال المسلمين، وهذا نص عليه بعض العلماء، وأُرِيْح الناس من هذه الأمور، وكُفوا فيه، وحصل بحمد لله عز وجل الرفق في كثير من هذه الدواخل والاعتبارات التي ربما يفعلها بعض الأولياء احتيالاً لحقه، ومبالغة في التشفي، لكنهم نصوا على هذا الأصل أن على القاضي أن يتفقد آلة القاتل وينظر فيها.(354/8)
المماثلة في القصاص وخلاف العلماء فيها
قال رحمه الله تعالى: [ولا يستوفى في النفس إلا بضرب العنق بسيف].
هذه المسألة في الحقيقة فيها تفصيل، والذي اختاره المصنف رحمه الله تعالى أنه لا قود إلا بالسيف، وحينئذٍ إذا قُتل المقتول قلنا لأوليائه أو لمن يقوم بالتنفيذ: خذ السيف واضرب عنق القاتل، فهذا ما اختاره المصنف رحمه الله تعالى.
لكن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء حاصله: أن القاتل إذا قتل بطريقة، وطالب أولياء المقتول وعصبته أن يقتل بنفس الطريقة؛ كان من حقهم ذلك، فإذا أخذ المقتول وقطع يده، ثم قطع يده الثانية حتى نزف ومات، فنقول لأوليائه: اقطعوا يديه بالطريقة التي قطع بها يدي المقتول.
ولو أنه أخذه وضربه بحجر على رأسه، فرضخ رأسه فمات، قلنا لهم: خذوا حجراً كالحجر الذي قتل به، واضربوه مثلما ضربه، هذا هو الأصل في القصاص، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن جارية من الأنصار وجدت قد رضّ رأسها بين حجرين -أي: أُخذت المسكينة بين حجرين وضرب رأسها حتى ماتت- فقيل لها: من فعل بك؟ فلانٌ فلانٌ؟ حتى ذكروا يهودياً، فأشارت برأسها: أن نعم، فأخذ اليهودي فأقر واعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ رأسه ويرض بين حجرين، وفعل به مثل ما فعل بالجارية)، ولأن الله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، والقصاص: من قصّ الأثر إذا تتبعه، فنتتبع جناية الجاني، ونفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه، وهذا في الحقيقة يختاره غير واحد من العلماء، أي: أن يفعل بالجاني مثلما فعل، إذا طلب ذلك أولياء المقتول، فلو قال أولياء المقتول: لا نريد أن نقتص بالسيف، بل نريد أن نشفي غليلنا وأن نأخذ حقنا كاملاً بأن نفعل به مثلما فعل بالمجني عليه؛ كان من حقهم هذا، ويمكنون من هذا الحق.
ولو أنه أخذه فغمسه في الماء حتى غرق ومات، قلنا لهم: خذوه فاغمسوه في الماء مثلما غمسه، ولو ربطه ورماه في بركة حتى مات، قلنا لهم: اربطوه كما ربط المقتول، وارموه في بركة مثلها يموت غرقاً كما قتل غرقاً، ولو أنه أحرقه فوضع الوقود عليه، ثم أشعل عليه النار فأحرقه، قلنا لهم: خذوا الوقود وافعلوا به مثل ما فعل بالمجني عليه.
وهذا أبلغ في زجر الناس، وأشد هيبة في زجر المجرمين والعصاة، ولو أن ولي الأمر في بعض الأحوال المستثناة يفعل هذا عند استشراء القتل في الناس؛ لكان أبلغ في زجرهم، وهو أبلغ في إسكان الثائرة، وهدأة النفوس، ولكن العبرة بالقتل، فإذا قتل يقتل وقد جاء في حديث ابن ماجة رحمه الله تعالى: (لا قود إلا بالسيف)، ولكنه حديث ضعيف، ولو حُسِّن لعارض ما هو أصح منه، فإن حديث الجارية في الصحيحين.
ولكن لو أنه قتله بطريقة محرمة، مثل أن يسقيه خمراً -والعياذ بالله تعالى-، ويبالغ في سقيه حتى يموت، فإذا سُقي الجاني الخمر سكر، وحينئذٍ لا يجوز لنا أن نسقيه الخمر؛ لأن هذا يفضي إلى حرام، فلا يفعل به مثلما فعل في هذه الحالة، ولا يوجر الخمر في حلقه حتى يموت؛ لأنه يؤدي إلى حرام، فهذا يستثنى، ولذلك قالوا: يفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه ولأوليائه الحق في طلب ذلك، ويمكنهم السلطان والقاضي من ذلك، بشرط ألا يكون الفعل محرماً ولا يمكن الاستيفاء به مثل ما ذكرنا في الخمر.
ومن أمثلتها في زماننا المخدرات، حيث يحقنه بكمية كبيرة من المخدر تقضي عليه، فإنه لا يمكن أن نقول لأوليائه: احقنوه؛ لأنه في هذه الحالة سيسكر، وستؤثر عليه قبل الإزهاق، ولا يجوز تعاطي المسكرات والمخدرات، فحينئذٍ يعدل إلى السيف وتدق عنقه ويقتص منه بالسيف.
قال رحمه الله تعالى: [ولو كان الجاني قتله بغيره].
أي: ولو كان الجاني قتله بغير السيف كما ذكرنا، فالمصنف يرى أنه لا قصاص إلا بالسيف، لحديث: (لا قود إلا بالسيف)، وهذا مرجوح، والصحيح أن لأولياء المقتول أن يطالبوا بالقصاص مماثلةً، وهذا ما يسميه العلماء: القتل بالمماثل، فإن أخذ حديدة عريضة فضربه في رأسه فشق رأسه نصفين، قلنا لهم: خذوا نفس الحديدة أو مثلها، واضربوه بمثل ما ضرب به وليكم، وإن أخذه فغطه وكتم نفسه، أو فعل به أي فعل محرم فنقول لهم: خذوه وافعلوا به مثل ما فعل، وهذا هو الأصل، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (كتاب الله القصاص، كتاب الله القصاص، كتاب الله القصاص)، فنحن نقتص من الجاني بأخذه بجنايته مماثلة.(354/9)
الأسئلة(354/10)
حكم القصاص داخل حدود الحرم
السؤال
ما حكم القصاص داخل حدود الحرم؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالقصاص في الحرم فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى، فمن أهل العلم من قال: يقاد في الحرم، خاصة إذا حصل الإزهاق في الحرم، فمن قَتل في الحرم قُتَل في الحرم، وهذا للأصل الذي ذكرنا؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، ولأن القاتل لم يعظم الحرم فيؤخذ بجنايته وجريمته، ولأننا لو لم نقتص ممن يجني في الحرم، أو لا نقتص من الشخص إذا كان داخل الحرم، فمعنى ذلك أن نجعل الحرم محلاً للمجرمين والمفسدين، فكل قاتل إذا قتل لا يسعه إلا أن يدخل البلد الحرام حتى لا يتعرض له، وفي هذا من الشر والبلاء ما الله تعالى به عليم، بل تصبح هذه البقعة المفضلة المشرفة بقعة أهل الفساد وأهل الشر، وهذا كله يناقض شرع الله عز وجل، وبناءً على ذلك قالوا: يقتص من الجاني ولو كان في الحرم، وهذا أقرب إلى الأصول وأوفق، والله تعالى أعلم.(354/11)
الجمع بين شرعية المماثلة في القصاص تحريقاً وبين النهي عن التعذيب بالنار
السؤال
إذا قلنا بالمماثلة في القصاص لو قتل بالتحريق، فكيف يجمع بين ذلك وبين النهي عن التعذيب بالنار؟
الجواب
لا تعارض بين عام وخاص، فالنهي عن التعذيب بالنار عامٌ، والمماثلة في التحريق قصاصاً خاصة؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، فهذه مسائل مستثناة، والفقه أن تنظر إلى الأصول العامة وما استثني منها، فتجعل الأصل العام كما هو، وتبقي المستثنى على استثنائه، وبهذا تكون عملت بشرع الله عز وجل وطبقته، فالله تعالى قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126].
فالنهي عن التحريق نهيٌ عن عقوبة مبتدأة وعقوبة منشأة، فلا ننشئ العقوبة بالتحريق، ولا يعذب بالنار إلا رب النار، ولكن هذا أخذٌ بالجناية والجريرة، وأمرنا الله عز وجل أن نعاقب بمثل ما عوقبنا به، ألا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ينهى عن التمثيل، وقال لأميره على السرية: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، لا تقتلوا شيخاً ولا صغيراً ولا امرأةً، ولا تمثلوا، ولا تغدروا)، فقوله: (ولا تمثلوا)، نهي عن التمثيل بالقتلى، ولما خرج العرنيون إلى إبل الصدقة، وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا المسامير من النار فسملوا بها عين الراعي، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل بهم مثلما فعلوا بالراعي، فسمل أعينهم، وفي رواية: (سمل وسمّر)، والله تعالى يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، فهذه أمور وأحوال مستثناة لوجود الموجب بصفائهم.
وبناءً على ذلك: يجوز في هذه الحالة أن يقتص من الجاني بمثل جنايته، ومن باب المماثلة ما يوجد الآن عندنا من الأكسيد -أعاذانا الله تعالى وإياكم- والمواد الحارقة، والمواد الكيماوية، حيث يؤخذ المقتول ظلماً ويصب على رأسه وبدنه من هذه المواد، أو يربط ويقتل بأبشع الصور، فيؤخذ مثل هؤلاء المجرمون ويوضعون أمام الناس، ويفعل بهم مثل ما فعلوا بالمجني عليهم، ليكون فيه من الزجر والردع، خاصة في هذه الأمور من القتل الذي توسع فيه بعض الناس، وفي الجرائم المنظمة، فهذا لا شك أنه يردع، ويكون وقعه في النفوس بليغاً، فالجاني يكبت بجنايته، ومن تسول له نفسه ذلك يرتدع عن الإقدام في فعله، وهذا هو مقصود الشرع أن يرتدع الناس، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، قالها أصدق القائلين وأحكم الحاكمين، بل الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى، فإذا اقتص من الجناية بمثلها، أياً كانت هذه الجناية ما لم تكن محرمة، فلا إشكال أن هذا أبلغ وأوجب في حصول المقصود شرعاً، والله تعالى أعلم.(354/12)
حكم الرجوع في العفو عن القصاص
السؤال
إذا طالب أبناء المقتول بالقصاص، وعفا أحدهم فطلب الدية، فقال إخوته: نحن نعطيه حقه من الدية من أموالنا، ونريد أن نُمضي القصاص، فهل يمضي؟
الجواب
لا يمضي، وهذا حكم جديد، فلو أعطوه ملء الأرض ذهباً فلا يمضي القصاص، فإن قال: قد عفوت، فقد عفا، وبناءً على ذلك يسقط القصاص، وهذا أصل.
فإن كانوا يريدون أن يرضوه بالمال فإنهم لم يرضوا المقتول الذي سيقتل؛ لأن الحق للمقتول الذي هو الجاني في الأصل، أما إذا اتفقوا فيما بينهم وقالوا: ما دام أنك فقير ومحتاج، وتريد المال، فنحن نعطيك المال ولا تعفُ، فهذا شيء آخر، إذ قد يكون الشخص مُجرماً مفسداً، وفي القرابة رجل ضعيف، أو فيهم من عنده حنق وغيض، وخافوا أنه إذا لم يُقتل الجاني بالقصاص أن يذهب ويقتله، فيحصل ضرر، فأرادوا أن يضغطوا على قريبهم أن لا يعفو، فلهم الحق أن يضغطوا على قريبهم حتى لا يعفو، وهذا شيء يتفاهمون فيه بينهم.
أما من ناحية شرعية فإذا قال: قد عفوت، فقد عفا وسقط الحق، ويصبح الحق مشتركاً؛ لأنه حق للقاتل أن لا يقتل، وحق لهذا الذي عفا، وهو أن يكون له حق في الدية، والله تعالى أعلم.(354/13)
الآداب الإسلامية تجاه من حُدَّ واقتص منه
السؤال
يسمع من بعض الناس إذا تم تنفيذ القصاص على القاتل الشتمُ والسبُ واللعنُ، فهل يجوز هذا؟ أم أنه تطهر من جنايته بهذا الحد؟
الجواب
لا يجوز أن يُسب ويُشتم ويُلعن القاتل، ولا من طبق عليه الحد؛ كالزاني وشارب الخمر، فلا يجوز لأحد أن يلعنهم، أو يسبهم، أو يشتمهم، فالله تعالى أقامهم أمام العباد اعتباراً، ولم يقمهم شماتةً، ولم يقمهم من أجل أن يعيرهم الناس، أو يسبوهم وينتقصوهم، فلا يجوز هذا، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما جلد شارب الخمر، قال بعض الصحابة: تباً له، وزجروه، فقال عليه الصلاة والسلام: مه! لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله)، فرجل تقطر لحيته من الخمر وقالوا: تباً له، ومع ذلك قال: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله)، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11]، فاحمد الله تعالى على العافية، واشكره أن عافاك.
وقد يكون الإنسان مبتلىً بذنوب ويفضحه الله تعالى بها لكي يرفع درجته؛ لأنه يطهره بها في الدنيا، ثم يصلح له حاله ويحسن له خاتمته، وقد يكون غيره ممن يراه يحد يفعل الذنب ويستره الله عز وجل، فيتراكم عليه الذنب تلو الذنب تلو الذنب، حتى يهلك، وقد يكون ذلك سبباً في سوء خاتمته والعياذ بالله تعالى، فلا يدخلن أحدٌ بين الخالق والمخلوق، وهذا ربهم وهو أعلم بهم سبحانه وتعالى، قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء:113]، فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل.
وهكذا في أهل الجرائم وأهل الفسوق وأهل الجنايات، لا يسخر الإنسان منهم، ولكن يقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به ويشعر بالضعف والمسكنة والحاجة إلى ربه تعالى، فإن الله تعالى إذا أراك عورةً من أخيك لم يركها لكي تشمت به، ولكن أراكها لكي تعرف مقدار نعمة الله تعالى عليك، وفضله وجميل إحسانه وجليل كرمه عليك، فلا تسئ إلى عباد الله تعالى، والله تعالى يقول: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11].
ومن هنا قال بعض العلماء: إن المظاهر ليست قطيعة الدلالة على الجواهر، وقد تجد الرجل لحيته إلى نصف صدره، وهو من أكثر الناس حقداً وحسداً وكراهيةً للناس واحتقاراً للناس، وقد تجد الرجل حليقاً وترى حاله فتزدريه، كأنه غير صالح، ولكنه من أبر الناس بوالديه، وأوصلهم لرحمه، وأكثرهم جوداً وكرماً وسخاءً، فالمظاهر ليس فيها كل شيء، والعبرة بالجواهر والحقائق، وصحيح أن المظاهر تتبع الجواهر، لكن لا يُسخر من الإنسان.
وقد ترى الإنسان مبتلى بشرب الخمر، وهو من أحسن الناس في أشياء يفعلها في جوده وكرمه، وستره لعورات المسلمين، وتفريجه لكرباتهم، وما يكون منه من الخير قلّ أن يوجد له نظير، ولكن الله تعالى ابتلاه بشرب الخمر، وليس معنى هذا أنه قد انتهى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب)، والتثريب: الملامة، فنهاه أن يلومها بعد إقامة الحد، وقال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه القاذروات فأبدى لنا صفحة وجهه أقمنا عليه حد الله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أقيم عليه الحد فهو كفارةٌ له في الدنيا)، فهذا أصل، فلا تحتقر أهل الجرائم ولا تشمت بهم، ولا تتبع الحديث عنهم، فإذا أقيم عليهم الحد فهو كفارةٌ لهم وطهارةٌ لهم، خاصة في الحدود التي هي غير القتل، أما القتل ففيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله، لكن ينبغي للإنسان أن يخاف، وكم من معافىً ابتلاه الله تعالى بتعييره للغير.
والتعيير والانتقاص يكون على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون في الجنان والقلب، والصورة الثانية: أن يكون في اللسان.
فإذا رأيت عاصياً، أو رأيت مبتلىً، أو رأيت أحداً يفعل معصية، فلا تشمت به ولا تتكلم عليه، ولا تقل: كيف يفعل هذا؟ وما يليق به أن يفعل هذا، ولماذا يفعل هذا؟ فهذا ليس من شغلك ولا من شأنك.
وإنما من شغلك وشأنك أن يتفطر قلبك بين يدي الله تعالى، وتقول: يا رب! لك الحمد على العافية، اللهم عافه ولا تبتلني، واسأل الله تعالى لأخيك وادع له بظاهر الغيب، فهذه نصيحة المؤمن لأخيه المؤمن، أما أن يذهب ويشمت به، ويشهر به، ويكون حديثه في المجالس أرأيتم فلاناً كيف فعلوا به؟ وفلاناً الذي فعل؟ ولربما يتوب هذا المسكين، ويأتي هذا يعيره ويتابعه وهذه هي المصيبة العظمى التي ابتلي بها المسلمون، خاصة في هذه الأزمنة الأخيرة، فالعصاة والمجرمون إذا دخلوا السجون قضي عليهم، وانتهى أمرهم، وإذا أقيمت عليهم الحدود أصبحوا محل نبذ من الناس، وهذا لا ينبغي، فإذا أقيم الحد على الإنسان فلتفتح له أبواب التوبة وأبواب الصلاح، وأبواب الاستقامة، وليزره أهل الخير، ويقولون له: لعل الله عز وجل أن يبارك لك فيما بقي من عمرك، ولا تيأس، وكلنا خطاء وكلنا مذنبون، والأمل في الله تعالى كبير، فإن الله تعالى يحب أن يُهدى عبده، ويحب أن يتوب عبده إليه.
فانظر إذا جعل الله تعالى توبته على يدك، وانظر كم يكون من الخير للأمة حينما يُفتح لمثل هؤلاء أبواب الأملُ، وهم مكروبون منكوبون منبوذون، يحتاجون إلى من يرحمهم، ويحتاجون إلى من يحتويهم، ويحتاجون إلى من يريهم بارقة الأمل لكي تصلح أحوالهم، وما أرسل الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام عذاباً على العباد، وإنما أرسله رحمةً للعالمين، وأرسله سعة لا ضيقاً، وأرسله رحمةً لا عذاباً، ويسراً لا عسراً، وقد قال بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)، وقال: (إن منكم منفرين).
فهذا الذي ينصب نفسه للدخول بين الناس وبين ربهم، والاطلاع على أعمال العباد والتشهير بهم، قد فعل سوءاً بنفسه وبالناس، ولا والله ما اتقى الله تعالى في نفسه ولا في عباد الله تعالى.
وعلى الإنسان أن يذكر نفسه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق، فالمرأة أمة عند سيدها، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (فليجلدها الحد ولا يثرب)، وهو سيدها الذي يُعيَّر بها ويُؤذى بها، ومع ذلك يقول: (ولا يثرب)، قالوا: لأن التثريب يُحطِّم الإنسان، ويقتل معاني الأمل في نفسه، ويجعله كأنه انتهى، وهذا هو الذي نجده كثيراً خاصة في هذه الأزمنة.
وعلى الهداة والدعاة والمصلحين والأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس على هذا، ويبينوا لهم أن هؤلاء مكروبون، وأن هؤلاء معذبون ويحتاجون إلى من يذكرهم، وكلٌ منا يسأل نفسه: هل هو سالم من الذنوب؟ لربما يكون الشخص عنده صغيرة من صغائر الذنوب يداوم عليها يبلغ بها ما بلغته كبائر الذنوب، وقد تزيد بأضعاف أضعاف، ولربما يكون الواحد منا يحتقر بعض الصالحين، أو يتكلم في مناهجهم أو أفكارهم، فيبوء بالذنوب والسيئات التي لم تخطر له على بال، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من غضب الله لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرف والمغرب، أو سبعين خريفاً)، فالاستقامة الحقيقية والملتزم الحقيقي هو الذي يشفق على نفسه، ويعلم أن الهداية ما كانت له ولا لأبيه ولا لجده، ولا حكراً عليه ولا حكراً على آله، وإنما هي من الله تعالى يهدي بها من يشاء، سبحانه وتعالى، وليعلم أن الله تعالى رحمه، وأن الله تعالى لطف به بهذه الهداية، فلا يتخد من هدايته وصلاحه وسيلة لتعيير الغير وانتقاصه.
عليك نفسك فاشغتل بمعيبها ودع عيوب الناس للناس وطوبى لمن شغله ربه تعالى عن نفسه، وشغلته نفسه عن الناس، فأقبل عليها فاستكمل نواقصها، وطوبى لمن جعله الله تعالى رحمةً للعالمين، فآوى إلى الناس وآوى الناس إليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون)، فهم المبشرون لا المنفرون، وهم الميسرون لا المعسرون، جعلنا الله تعالى وإياكم منهم بمنه وكرمه ورحمته، والله تعالى أعلم.(354/14)
حكم صلاة الجماعة الثانية في المسجد
السؤال
إذا دخلت المسجد ووجدت الإمام قد سلم من الصلاة، فهل أعود إلى المنزل؟ أم أصلي وحدي؟ أم أنتظر أحداً وأصلي معه؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فهذه المسألة تعرف بالجماعة الثانية، وقد اختلف العلماء فيها، والجمهور على جواز إحداث الجماعة الثانية بعد الجماعة الأولى في المسجد، وذلك لما ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وحده، فقال عليه الصلاة والسلام: من يتصدق على هذا؟ فقام أبو بكر فتصدق عليه فصلى معه)، وهذا الحديث فيه مسائل: المسألة الأولى: بطلان مذهب من يقول: إنه يذهب إلى بيته؛ لأن الرجل صلى في المسجد فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه.
وأما الاستدلال بحديث قباء حينما تأخر عليه الصلاة والسلام ودخل المسجد ووجدهم قد صلوا فرجع إلى بيته، فالجواب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لو صلى جماعة ثانية لوقع الحرج للصحابة، ولكان فيه مما لا يخفى بالنسبة للصحابة حينما يرون أنهم سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عليه الصلاة والسلام يطيب خواطر أصحابه، وكان نعم الصاحب لصحبه صلوات ربي وسلامه عليه، وهل كان ذهابه ليجدد وضوءه؟ أم هل ذهب عليه الصلاة والسلام لأجل أن لا يكسر خواطر الصحابة؟ فليس هناك دليل صريح يبين علة تركه للجماعة، ثم إن حديث أبي بكر قوي الدلالة من وجوه: أولاً: أنه قال: (من يتصدق على هذا)، فجعل سر المسألة أن يحصل الفرد على الجماعة، ولا يختلف اثنان أن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم حصول جماعة ثانية، وإلا فلماذا يقول: (من يتصدق على هذا) بأسلوب الترغيب والتحديد؟ فهذا واضح الدلالة على مشروعية طلب الجماعة الثانية، وتحصيل الجماعة الثانية.
ثانياً: أن هذا الدليل دليل قول، وفعله عليه الصلاة والسلام دليل فعل، والأصل أن أدلة الأقوال أقوى؛ لأنها تشريع للأمة، ومخاطبة للأمة، ودليل الأفعال تدخلها الخصوصية، وإلا فكله من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا مسلك أصولي، فيقولون: إنه إذا جاءنا دليل يحتمل مع دليل لا يحتمل؛ قُدّم غير المحتمل على المحتمل، فدلالة الفعل تحتمل خصوصيته، وتحتمل العارض، أي: أنه عرض له عليه الصلاة والسلام عارض، مع أنه ليس عندنا جزم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ بعد، وإن كان هذا يسمونه: دلالة ظاهر.
فالشاهد: أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه في كونه يذهب إلى بيته ولم يعرج، تدخله كثير من الاعتراضات، بخلاف حديث: (من يتصدق على هذا).
هذا جانب.
والجانب الثاني في القضية: أن القاعدة عند العلماء: أنه إذا تعارض نصان -وهب هنا أن النصين بمرتبة واحدة- فإنه إذا تعارض النصان رُجِع إلى الأصل، فهل الأصل أن يصلى في المسجد أو لا؟ والجواب: أن الأصل أن تصلي في المسجد، وأن تكسب أجر الصلاة في المسجد بالجماعة.
وعلى كل حال: فالقول بأنه يصلي الجماعة الثانية هو الصحيح، وهو الأولى بالأصول الدالة على مشروعية الصلاة في المسجد، وأما تحريم أن يصلي في المسجد ومنعه من ذلك فبعيد.
ثم العجيب أنهم قالوا: لا يصلي جماعة ثانية، أي: نهوا وحرموا، ودلالة الفعل ليس فيها نهي، فنفس الدليل الذي استدلوا به أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى حجرته، ليس فيه دليل نهي، وهذا مسلك ننبه عليه طلاب العلم، وهو أنه إذا استدل أحد بدليل طبق وجه الدلالة على الحديث، فالحديث الذي استدلوا به أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى بيته ولم يعرج على المسجد، هل فيه: (لا تصلوا)؟ وهل فيه نهي ينقل عن الأصل الذي جُعلت المساجد من أجله وهي الصلاة؟ فالواضح من هذا أن مذهب المالكية ومن وافقهم بأنه لا تعاد الجماعة الثانية ولا تكرر مذهب ضعيف مرجوح أمام ما هو أرجح منه قوةً ودلالة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخيراً: فعند العلماء أصل في النصوص، وهو أنه ربما نُبه بالأدنى على ما هو أعلى منه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجل يصلي وحده قال: (من يتصدق على هذا)؟ فندب من صلى أن يصلي مرة ثانية، وهذا يدل على أنه إذا وجد من لم يصل أصلاً فمن بابٍ أولى وأحرى، وهذا ما يسميه العلماء: الدلالة بالأدنى على ما هو أعلى منه، والله تعالى أعلم.(354/15)
وقت صلاة الجمعة
السؤال
متى يبتدئ وقت صلاة الجمعة، هل بعد طلوع الشمس أم بعد الزوال؟
الجواب
الصحيح مذهب الجمهور أن الجمعة تبدأ بعد الزوال، وأما حديث: (نقيل قائلة الضحى ونرجع ونتتبع الفيء)، فإنه ليس بصريح في أن الجمعة تصلى قبل الزوال، وهذا الأمر حرره بعض العلماء بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة بعد الزوال مباشرة، بحيث إنه عليه الصلاة والسلام كانت خطبته قصيرةً صلوات الله وسلامه عليه، وقراءته مرتلة، فالبعض يطبق واقعه على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر إلى الجمعة في زمانه فيقوم الخطيب يخطب قرابة نصف ساعة، ثم يقوم يصلي، وربما يطيل قراءته، وقد يقرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فيما لا يقل عن عشر دقائق، فهذه ساعة إلا ثلث، فلا يتصور في ساعة إلا ثلث امتداد الفيء، فيقول: كيف كان الصحابة يتتبعون الفيء؟ والواقع أن هذا معروف في المدينة، ومن يعرف سمت الظل في الجدران والحيطان يجد هذا، وهذا يقع إذا كان أوقع الجمعة عند بداية الزوال، وخفف الخطبة، فإنه بإمكانه أن يدرك هذا القدر، ثم إن الأمر يختلف صيفاً وشتاءً بحسب بعد الشمس عن خط الاستواء وقربها، والحديث: أنه يتتبع الفيء، لا يدل على أن الجمعة وقعت قبل الزوال.
وأياً ما كان فالأشبه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقعها بعد الزوال مباشرة، وكانت خطبته قصيرة عليه الصلاة والسلام.
ثم انظر رحمك الله تعالى إذا كان يقرأ بالجمعة والمنافقون، أو بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، فهاتان السورتان صفحة ونصف، وخطبته أقصر من صلاته، فكم وقتاً تتوقع؟ وكانت كلماته تعد عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فالأمر يحتاج إلى نظر، فقد كان عليه الصلاة والسلام كلامه محدوداً وقليلاً، فلا يبعد أنه إذا كان بعد الزوال مباشرة وصلى بالناس وقراءته مرتلة أن يخرجوا ويتتبعوا الفيء وانتهى الإشكال، أما إن يقال: أنه صلاها قبل الزوال، ويبنى على ذلك أن الجمعة عيد، ثم تأتي الأقيسة: والعيد تصح صلاته من بعد طلوع الشمس قيد رمح، ثم ركب من هذا أن من صلى العيد سقطت عنه الجمعة، فهذا كله بالاحتمالات والاجتهادات، والأصل أن الجمعة بدلٌ عن الظهر، والبدل يأخذ حكم مبدله، وحديث أنس رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بعد زوال الشمس) هو الأصل، وهو الذي عليه المعول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(354/16)
شرح زاد المستقنع - باب العفو عن القصاص
من رحمة الله تعالى بخلقه أن شرع لهم القصاص إبقاءً لحياة النفوس وحفاظاً عليها، وقد تقع الجناية على النفس عمداً لغضب ونائرة أو غير ذلك، فيجب حينئذٍ القصاص وقد جعله الله تعالى حقاً لأولياء الدم، وما دام حقاً لهم فإنه يصح منهم العفو إن عفوا، وبالتالي فعفوهم إما على دية وإما على إسقاطها.(355/1)
العفو عن القصاص
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب العفو عن القصاص].
هذا الباب يتعلق بعفو ولي المقتول عن حقه في القود، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل لولي المقتول الحق في أن يأخذ بحقه فيقتص، وبين أن يسامح فيعفو، فبعد أن بين المصنف رحمه الله تعالى الشروط المعتبرة للقصاص ولاستيفاء القصاص؛ شرع في الخيار الثاني وهو العفو عن القصاص.
فقوله: (باب العفو عن القصاص)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعفو ولي المقتول عن القصاص والقود.(355/2)
مشروعية العفو عن القصاص
والأصل في مشروعية العفو دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، حيث أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على مشروعية العفو.
فأما دليل الكتاب: فإن الله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، فجعل الله عز وجل لأولياء المقتول أن يعفوا عن القاتل، ورغب الله سبحانه وتعالى في العفو فقال سبحانه: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237]، فمن عفا عن القصاص والقود فإنه بخير المنازل عند الله سبحانه وتعالى، وذلك أن العفو إذا كان عن الجناية العظيمة كان أجره أعظم، وثوابه عند الله تعالى أكبر؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يعفو عن دم قريب من أقربائه إلا بقوة إيمان وحسن ظن بالله عز وجل، ورجاء في عفوه وكرمه وإحسانه، والله عز وجل يعامل عبده بالإحسان إذا عمل الإحسان مع خلقه، وإذا تولى الناس بالرحمة تولاه الله تعالى برحمته.
ولذلك جاءت السنة تؤكد هذا المعنى، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، وهذا الحديث رد النبي صلى الله عليه وسلم فيه ظنون أهل الجاهلية، فإن أهل الجهل في كل زمان إذا أراد الإنسان أن يعفو قالوا له: أنت جبان، وأنت ضعيف، وأنت لا تحترم حقك ولا تأخذ بحقك، وأنت وأنت.
، فيجعلون العفو في نظره منقصة، وذلة وهواناً، فكَذَّب النبي صلى الله عليه وسلم هذا وقال: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، فمن عفا عن أي ذنب، وعن أي جريرة، وعن أي أذية من إخوانه المسلمين، فإن الله عز وجل يبدله بهذا العفو عزاً، فإذا عظم العفو عظمت رفعة الله عز وجل للعبد وإعزازه له وإكرامه له.
ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على مشروعية العفو، وقد جعل الله تعالى لهذه الأمة الخيار بين القصاص وبين العفو إلى الدية، وبين العفو بدون أخذ الدية، فالعفو عفوان: عفو بدون عوض، وهو أعظم العفوين وأجلهما وأكثرهما ثواباً عند الله عز وجل، فلو أن شخصاً قتل له قريب فقيل له: تقتص؟ قال: لا أريد القصاص، فقيل له: تعفو وتأخذ الدية؟ قال: لا أريد الدية، وإنما عفوت لوجه الله عز وجل، فهذا وأمثاله ينطبق عليه قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، فإذا كان يوم القيامة تولى الله أجره وثوابه، ولذلك انظر إلى قوله سبحانه: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، ولم يبين الله عز وجل هذا الأجر والثواب كيف يكون؟ وكم يكون؟ وهذا يدل على أن الله تعالى يتولى جزاءه؛ لأن الأذية والشرور والمظالم والجنايات تتفاوت، والنفوس تتفاوت، وضيق الحال يتفاوت بالإنسان، فالذي يعفو عن القصاص والدية عمن يرجو صلاحه ويرجو هدايته واستقامته، ويكون سبباً في هدايته واستقامته، ولا يُحمِّله الدية، بل يستغني بغنى الله تعالى، فإن الله عز وجل يعوضه عن ذلك كله خيراً، فيعوضه خيراً في الدنيا، وهو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، ويعوضه خير الآخرة، فأجره على الله تعالى إذا كان يوم القيامة.
وقد جاء في الأثر: (أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على الله فليقم، فتقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: فلا يقوم إلا من عفا عن مظلمة)؛ لأنه جعل الأمر إلى الله عز وجل أن يتولى جزاءه وثوابه، وقل أن تجد إنساناً يعامل الناس بالعفو إلا وجدت أمره على اليسر وعلى السماحة وعلى العزة والكرامة، فعدوه يريد أن يهينه والله تعالى يكرمه، وعدوه يريد أن يذله بتلك الأذية فإذا به بعفوه يرفعه الله تعالى ويعزه، والله جل وعلا عليم بخلقه، حكيم في تدبيره سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فهو العدل سبحانه وتعالى الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن أعظم الإحسان العفو، ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على مشروعية العفو عن القصاص.(355/3)
حكم العفو عمن عرِف بالشر والفساد وسفك الدماء
لكن هنا مسألة وهي: إذا كان القاتل الذي قتل المظلوم معروفاً بالشر والأذية والبغي والإضرار، فهل يشرع العفو عنه؟ وهل تشرع الشفاعة من أجل العفو؟ لأنه إذا كان العفو محموداً شرعاً فإن الشفاعة من أجله شأنها كذلك، فلو أن إنساناً شفع ودخل بين قوم بينهم دم وأصلح ودعاهم إلى العفو، فإنه يكون له مثل أجر من عفا، فمن دعا إلى خير وهدى كان له أجره وأجر من عمل به، فإذا رغبهم في ذلك، وأسكن النفوس، وأطفأ ثائرات النفوس، وحاول أن يدعوهم إلى العفو وإلى المجاوزة والصفح فعفو، فله مثل أجرهم، وله أجر الشفاعة وما يتحمل فيها من المشاق والمتاعب، فالله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، و (عظيماً) من الله تعالى ليست بالهينة، ولذلك قال: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114].
فإن أعظم شيء يفسد الناس هو الدماء، فإذا وقعت بينهم الدماء ووقعت بينهم الخصومات والنزاعات، فخرج الشخص للصلح بينهم، بشرط أن لا يخرج إلا لوجه الله تعالى، لا حمية ولا عصبية ولا رياءً ولا سمعة، وإنما يخرج لله تعالى وفي الله تعالى، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، و (ابتغاء) أي: طلباً، أي: أنه يخرج وهو يريد أن يرضى الله تعالى عنه بذلك الذي يفعله، وهو يعلم أن الله تعالى يرضى عنه حين يصلح بين هذين المتخاصمين، أو يطفئ ثارات النفوس بالعفو عن القصاص والمسامحة والمجاوزة عن الجاني؛ فإن الله تبارك وتعالى يأجره على عمله وسعيه.
فالشفاعة في العفو عن القصاص مشروعة، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه تأخر عن الصلاة مع الجماعة من أجل أن يصلح بين حيين من بني عوف، والحديث في الصحيحين، وهذا يدل على فضل الشفاعة، وأنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن إذا كان القاتل معروفاً بالشر والفساد والبغي ففيه تفصيل: إذ يقول بعض العلماء: إذا شفع أحد في إسقاط القصاص عنه وهو يرجو صلاحه، ويغلب على ظنه أن هذا يتسبب في إصلاحه وحسن حاله، فإنه يدخل في فضل الشفاعة، ولا يمنع من ذلك بل يندب إليه ويرغب فيه، ولا يعاتب بل إنه مثاب على هذا العمل.
أما إذا كان رجلاً شريراً لا يزداد بالعفو إلا شراً، ولا يزداد إلا تسلطاً على دماء المسلمين وأذيتهم، كأن قتل فعفي عنه، ثم قتل مرة ثانية، وعرف منه بعد القتلة الثانية أنه على حاله، وأنه مصر على بغيه، ومصر على كبره، ومصر على أذيته للناس، فهذا لا يجوز أن يسلط على دماء المسلمين، فالعفو عنه إبقاء لشره، ومن هنا نص جماعة من أهل العلم على أنه لا تشرع الشفاعة في مثل هذا.
وقد وقع ذلك لبعض مشايخنا رحمة الله عليهم، وأذكر أن رجلاً كان معروفاً بذلك وطلب من الوالد أن يشفع، فامتنع الوالد رحمه الله تعالى؛ لأنه سأل عنه وتبين من حاله أنه لا يزيده العفو إلا بغياً وفساداً، فمثل هؤلاء لا يعانون على الإضرار بالناس والإضرار بمجتمعاتهم والإضرار بالأبرياء، فهؤلاء إذا عفي عنهم تسلطوا على دماء المسلمين، وتسلطوا على الناس بأذيتهم والإضرار بهم، وليس الأمر خاصاً بالقتل بل إنه شامل لكل عقوبة، بحيث إذا كان الجاني يتسلط ويزداد أذية وبغياً وفساداً فمثله لا يعان على بغيه وفساده.(355/4)
العفو عن القصاص إلى الدية
قال رحمه الله تعالى: [يجب بالعمد القود أو الدية].
قوله: (يجب بالعمد القود) أي: القصاص، وقد تقدم؛ لأن الله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، وقال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، وقال صلى الله عليه وسلم: (فمن قُتل له قتيلٌ فهو بخير النظرين إما أن يقاد وإما أن يودى)، فقوله: (إما أن يقاد) يدل على مشروعية القود، والإجماع على هذا، وقد تقدم.
وقوله: (أو الدية) أي: يخير فيقال له: إما أن تقتص وتأخذ بحقك بقتل من قتل وليك، كما قال تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33]، فيقال له: اقتل من قتل أباك، أو اقتل من قتل أخاك، فإن الله تعالى أعطاك هذا الحق، فإن قال: لا أريد أن أقتله، وقد عفوت عن القاتل، فنقول: لك الدية؛ لأن الله عز وجل أمر إذا عفا ولي الدم عن الدم والقصاص بإعطاء الدية له، وقد صحت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فإذا قتل وعفا ولي المقتول فإنه ينتقل إلى الدية، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: [فيخير الولي بينهما].
أي: يخير الولي بين أن يقتل قصاصاً وبين أن يأخذ الدية -وسيأتينا في باب الديات توضيح الدية وضوابطها وأحوالها- فهذا بإجماع أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم؛ لانعقاد نصوص الكتاب والسنة على أنه بالخيار بين الأمرين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا، وهو ظاهر الكتاب، فإن الله عز وجل أمر بالقصاص فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178]، فهذا يدل على أنه يخير بين القصاص وبين أخذ حقه وهو الدية، فإذا كان لا يريد القصاص يأخذ حقه من المال وهو الدية.(355/5)
العفو عن القصاص والدية جميعاً
قال رحمه الله تعالى: [وعفوه مجاناً أفضل].
أي: وعفوه بدون أن يأخذ شيئاً أفضل؛ لأنه إذا فعل ذلك تولى الله تعالى أجره وثوابه، ولأن غاية الإحسان أن يعفو عمَّن ظلمه وعمَّن آذاه، ولا يأخذ منه شيئاً، وإنما ينتظر من ربه العوض والخلف، ولو أنه عفا ثم أخذ الدية فلا يلام.
ومن أدران الجاهلية والعصبيات الممقوتة عند بعض الناس: أن أولياء المقتول إذا قالوا: لا نريد القصاص ونريد الدية، فإنه يعتب عليهم، ويأتي أولاد العم والقرابة ويقولون: أنتم لا تقدرون أباكم، وأبوكم لا يقدر بثمن، وما هذه الدية؟ أترضون بالمال دون دم أبيكم؟ أنتم كذا أنتم كذا ولربما هددوهم بالقطيعة -والعياذ بالله تعالى- وهذا من مضادة شرع الله عز وجل، ومن المحادَّة، ومن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
فإن الله تعالى يحب العفو ويقول: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237]، وهؤلاء -نسأل الله تعالى السلامة والعافية- بخلاء على أنفسهم، ويأمرون غيرهم بالبخل، فهؤلاء لا يجوز طاعتهم؛ لأنهم لا يريدون الخير لمن عفا أو أراد أن يعفو، فالذي يريد أن يعفو ويقول: أسامح لوجه الله تعالى، فأجره على الله عز وجل، والأفضل أن لا يأخذ شيئاً.(355/6)
أخذ الدية والصلح على أكثر منها
قال رحمه الله تعالى: [فإن اختار القود أو عفا عن الدية فقط فله أخذها والصلح على أكثر منها].
إذا اختار القود مكن منه، وإذا قال: أريد أن أقتص، فحاول معه أولياء القاتل، وقالوا له: اعفُ عنه، ورضي بالدية، فلا إشكال، لكن في بعض الأحيان لا يرضى بالدية، فيبذلون أكثر من الدية، وهذا البذل لأكثر من الدية على سبيل الصلح، فيقولون له: إن تنازلت نعطك ديتين، أو إن عفوت نعطك ثلاث ديات، أو إن عفوت نعطك أربع ديات، أو خمس ديات، فهذا من باب الصلح.
وفي الحقيقة من حيث الأصول أن الدم له دية مقدرة شرعاً لا يزاد عليها، لكنه يزاد عليها صلحاً، وقد كنا نميل إلى الوجه الأول، ثم تبين في الأخير بعد تصحيح حديث الترمذي صحة الوجه الثاني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن صالحوا فلهم ما أخذوا) أي: ما اصطلحوا عليه، وهذه الزيادة حسنها غير واحد، وملنا إلى تحسينها في الأخير في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا يجوز الصلح بأكثر من الدية، ولكن من حيث الأصل ينبغي أن ننبه على مسألة ستأتينا في الديات وهي: أن القرابة والعصبة هم الذين يتحملون دية الخطأ في الأصل، فإذا صالحوا بأكثر من الدية ألزموا القرابة أن يدفعوا ثلاث ديات أو أربع ديات، ويقع فيها من الإحراج والأخذ بسيف الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فلا يجوز إحراج القرابة بمثل هذا، وإذا أراد أحدٌ أن يتبرع بدية ثانية أو ثالثة فلا يضر بقرابة القاتل؛ لأنهم لا ذنب لهم، والأصل أنهم يحملون ما في طاقتهم، فتحميلهم فوق طاقتهم وتحميلهم الديون من أجل جانٍ قد لا يستحق أن يبذل له ذلك، وقد يكون شريراً كما ذكرنا؛ كل هذا لا يجوز.
فالمقصود: أن الأصل يقتضي أن يقتصر على الدية، وإن حصل صلح فيجوز أن يصالح على أكثر من الدية، وفي هذا قصة هدبة بن خشرم المعروفة أنه قتل رجلاً، وكان أولياء المقتول يتامى قاصرون، منهم ابن المقتول، فحبس هدبة، ووقعت الحادثة في زمان معاوية رضي الله تعالى عنهما، فشفع سعيد بن العاص وكذلك الحسن والحسين رضي الله عنهم من أجل أن يعفو وليُّ المقتول، وبذلوا لابن القتيل سبع ديات حتى يعفو، فأبى إلا القتل، فقتل به، والشاهد في كون هؤلاء الصحابة بذلوا أكثر من الدية، فاجتمع دليل السنة ودليل الأثر عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وعلى هذا فجمهور العلماء رحمهم الله تعالى على أنه يجوز في الصلح في الديات بأكثر من الدية.(355/7)
إذا اختار الدية أو عفا مطلقاً أو هلك القاتل فليس له إلا الدية
قال رحمه الله تعالى: [وإن اختارها أو عفا مطلقاً أو هلك الجاني فليس له غيرها].
أي: إن اختار الدية فليس له إلا الدية، بمعنى أنه لو قال: عفوت، ثم رجع وقال: أريد القصاص، فإنه لا يمُكن من القصاص؛ لأنه إذا قال: عفوت؛ سقط حقه في القصاص إلى الأبد، ولا رجوع عن هذا الحكم، وليس له إلا الدية إن اختارها.
قوله: (أو عفا مطلقاً) إذا قال: عفوت عنه، ثم رجع إلى القاضي وقال: أريد القصاص، فقال بعض العلماء: لا قصاص ولا دية، وقيل: لا قصاص ولكن له الدية؛ لأنه إذا عفا عن الدية ثم رجع فيكون مثل الهبة إذا وهب شيئاً ثم رجع فيه، فكأنه وهب الدية للقاتل، ثم رجع عن هبته، وهذا مذموم شرعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء، ثم يأكل قيأه).
وقوله: (أو هلك الجاني) أي: لو أن شخصاً قتل عمداً عدواناً، ثم جاءته نقمة من الله تعالى فأخذه الله تعالى وأهلكه، فحينئذٍ لا يمكننا القصاص، لكن يبقى حق أولياء المقتول في الدية، وحينئذٍ تثبت لهم في تركته الدية، فتؤخذ من تركته.
وقوله: (فليس له غيرها) أي: ليس لولي المقتول غير الدية، وليس له القصاص، ولو قال: رجعت، وأريد أن أقتص، فإنه لا يعطى القاتل ولا يمكن من قتله.(355/8)
السراية وأحكامها
قال رحمه الله: [وإذا قطع أصبعاً عمداً فعفا عنها، ثم سرت إلى الكف أو النفس، وكان العفو على غير شيء فهدر].
هذه المسألة صورتها: لو وقعت مخاصمة بين اثنين، فقام أحدهما وقطع أصبع الآخر عمداً وعدواناً، فثبت القصاص أن تقطع أصبعه بأصبعه، فعفا المجني عليه، فلما عفا سرت الجناية -والعياذ بالله تعالى- حتى أتت على يده، ثم سرت على جسمه حتى مات، فالموت وقع بسبب سراية الجروح؛ لأن الجروح تسري في البدن، إما بسبب التلوث، أو بسبب قوة الجناية، أو بسبب الجراثيم التي تدخل، فإذا سرت الجناية فقد تسري على عضو لكون الجناية في جزء العضو، مثل الأصبع والأصبعين، ثم تسري إلى العضو كاملاً، وقد تسري إلى البدن بكماله، وقد تسري إلى نصف البدن كأن تشل نصفه -والعياذ بالله تعالى-، فهذا يسميه العلماء: السراية، وهي في الأصل جناية في موضع، ثم تتوسع حتى تسري إلى مواضع، وقد تأتي على النفس فتهلك صاحبها.
فلو أنه جنى عليه جناية في الطرف الذي هو الأصبع، أو قطع يده، فلما قيل له: إن شئت أخذت بالقصاص وإن شئت عفوت، قال: قد عفوت، فلما عفا سرت الجناية وأتت على نفسه، فنقول: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في هذه المسألة، فقال بعض العلماء وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى: يجب القصاص، فإذا عفا عن الأصبع وسرت الجناية إلى البدن كله فالعفو عن الجزء ليس عفواً عن الكل، وهو إنما عفا عن جناية قاصرة متعلقة بجزء من البدن، ولم يُسأل عن بدنه كله، وبعبارة أدق: أن الجناية لم تتضح بعد، بمعنى أنه سبق عفوه حقيقة الجناية؛ لأن الجناية وقعت على البدن كله، وهي في الأصل على الأصبع، لكنها سرت إلى البدن كله، فهذا الإتلاف إزهاق للنفس أتى على النفس بكاملها، وقد جاء من فعل الجناية، والجناية عمد، فيثبت القصاص في البدن كله.
وخالفه جمهور العلماء فقالوا: ليس هذا موجباً للقصاص، حتى لو قلنا: إنه يقتص منه فإن الشبهة قائمة، فهذا لم يرد إزهاق روحه كلها، وإنما اعتدى على جزء بدنه، فكيف ينزل منزلة من اعتدى على البدن كله، فهناك فرق بين الاثنين، ثم إن القتل لم يحصل بالقطع، أي: أن القطع نفسه للعضو ليس مما يوجب الإزهاق في الأصل، ومن هنا رد الجمهور هذا القول، وقولهم أقوى.
فإذا قطع الأصبع وقال المعتدى عليه: أريد الدية، وأعطي دية أصبعه، ثم سرت إلى بدنه كله فقال أولياؤه: نريد الدية كاملة، فإنهم يعطون الدية كاملة، فإذا لم يعف وأخذ الدية عن الأصبع، وسرت الجناية إلى البدن كله، وجب ضمان الدية كاملة إذا طالبوا بها ولا إشكال في هذا، لكن الإشكال إذا طالبوا بالقصاص، فـ مالك رحمه الله تعالى يقول: يمكنون من القصاص، والجمهور يقولون: لا يمكنون، لكن لو أنه أخذ الدية عن أصبعه ثم سرت الجناية إلى بدنه كله وطالب أولياؤه بالدية، كان من حقهم أن يأخذوا الدية؛ لأنه ليس هناك عفو والولي لم يعفُ.
ومما وقع فيه الخلاف بين العلماء: أنه لما قطعت أصبعه فعفا عن الأصبع، وإذا بالجناية تسري فتأتي على النفس، ف
السؤال
هل يلزم بالدية كاملة؟ أو يلزم بالدية إلا ما عفا عنه وهو الأصبع؟ فمذهب طائفة من العلماء وفي مذهب الحنابلة أيضاً أنه تؤخذ الدية كاملة ما عدا القدر الذي عفا عنه وهو الأصبع؛ لأنه قد عفا عن أصبعه، وحينئذٍ يؤخذ من الجاني بقية الدية وهي تسعة أعشار الدية، وعلى هذا يقولون: إن الجناية في سرايتها مضمونة.
وهذا أصل عند العلماء، على تفصيل سنذكره -إن شاء الله تعالى- في باب الديات.
ولعل الأشبه أن الذي عفا عنه -وهو الأصبع- يسقط حقه فيه، ويبقى الضمان فيما عداه، والقائلون بوجوب الدية كاملة يقولون: يجب ضمان الدية كاملة؛ لأن الجناية على الأصبع جناية، والجناية على البدن جناية ثانية، وحينئذٍ يكون كأنه قتل مباشرة؛ لأنه قتل بسببية هنا؛ فتسبب الجرح في إتلاف البدن كله، فقالوا: ما عفا عنه فهو عفو، وكتب الله تعالى له أجره، ولكن لأوليائه أن يأخذوا الدية كاملة.
على أن السراية إذا كانت بالسلاح فهي أقوى، فإذا كان السلاح آلة كالَّةً، مثل أن يقطعه بسكين ملوثة، أو يقطعه بسكين مسمومة، فالقطع بالسكين المسموم قوي جداً في مذهب القصاص؛ لأن السكين المسمومة معروف أنها مما يفضي إلى إزهاق الروح، فمذهب مالك رحمه الله تعالى فيها قوي، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمه الله تعالى يستثني هذه الحالة، وهي: أن يقع القطع بآلة أو بطريقة تفضي إلى السريان، ويكون السريان غالباً، وحينئذٍ تكون سببية على العضو ولكن المراد بها كل البدن.(355/9)
العفو في السراية
قوله: (وكان العفو على غير شيء فهدر).
إذا قال: عفوت عن الأصبع، فهذه صورة، وكل الذي ذكرناه فيما إذا قال: عفوت عن هذه الأصبع، ويبقى قوله: عفوت عن هذه الجناية، فإذا قال: عفوت عن الجناية فلا شيء له، حتى ولو سرت إلى البدن كله؛ لأنه لما قال: عفوت عن الأصبع، حدد عفوه بالعضو، وحينما قال: عفوت عن الجناية، فقد عفا عن الشيء وما يترتب عليه، ومن هنا لا يُعطى ولا يضمن، ولا يطالب الجاني بضمان سراية الجناية؛ لأنه عفا عن الجناية كلها، فلما قال: عفوت عن هذه الجناية يسقط حقه، وإذا قال: عفوت عن هذه الأصبع، فالتفصيل الذي ذكرناه، والخلاف الذي بيناه بين أهل العلم رحمهم الله تعالى في تلك المسألة.
قال رحمه الله تعالى: [وإن كان العفو على مال فله تمام الدية].
المصنف رحمه الله تعالى اختار أن العفو عن الأصبع عفوٌ عن جزء، ولكن إذا سرت إلى البدن فهو إتلاف مستأنف، وحينئذٍ تجب فيه الدية كاملة، فهذا الذي اختاره رحمه الله تعالى، واختاره أيضاً غيره من أئمة المذاهب رحمهم الله تعالى، وهو قوي جداً من حيث الحجة والدليل.(355/10)
التوكيل في القصاص
قال رحمه الله تعالى: [وإن وكل من يقتص ثم عفا فاقتص وكيله ولم يعلم فلا شيء عليهما](355/11)
حكم التوكيل في القصاص إثباتاً واستيفاءً
هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل: أولاً: هل يشرع التوكيل في إثبات القصاص، والقصاص؟ جماهير العلماء وأئمة السلف على أنه من حق أولياء المقتول أن يوكلوا شخصاً يتولى في القضاء إثبات الجناية، فإذا وكلوا شخصاً وقالوا له: أثبت جناية فلان على عمنا، أو أثبت جناية فلان على أبينا، فإن هذا مشروع، والدليل على مشروعيته عموم الأدلة الواردة على مشروعية الوكالة، وقد بينا في باب الوكالة ذلك، وذكرنا أدلة النقل والعقل، فيشرع للإنسان أن يوكل غيره في إثبات حق من حقوقه، فإذا قالوا له: وكلناك فعلى صورتين: الصورة الأولى: أن يوكلوه في إثبات الجناية التي هي القتل العمد العدوان الموجب للقصاص.
الصورة الثانية: أن يوكلوه في استيفاء حقهم، أي: في القصاص وقتل القاتل.
ففي الصورة الأولى يقوم هذا الشخص بإحضار الأدلة والشهود على أن فلاناً قتل فلاناً، فهذا يسميه العلماء: التوكيل في الإثبات، والتوكيل في الإثبات مشروع فيما قاله جمهور العلماء والأئمة من المذاهب الأربعة وغيرهم، إلا القاضي أبا يوسف رحمهم الله تعالى من فقهاء الحنفية رحمهم الله تعالى، فيقول: لا يشرع أن يوكل شخص لإثبات الجناية، فالإثبات يكون على أولياء المقتول، وهم الذين يحضرون عند القاضي، وهم الذين يكون عليهم عبء الإثبات.
والصحيح هو مذهب جمهور العلماء وأئمة السلف وأهل العلم رحمه الله تعالى أجمعين؛ أنه يشرع لأولياء المقتول أن يقوموا بأنفسهم، وأن يوكلوا غيرهم لإثبات حقهم، شأنه في ذلك شأن سائر الحقوق.
هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية: إذا وكله على الإثبات فهل من حق الوكيل إذا أثبت أن فلاناً قتل فلاناً أن يطالب بالقصاص؟ أي: هل التوكيل في الإثبات توكيل في الاستيفاء؟ جمهور العلماء يقولون: ليس التوكيل في الإثبات توكيلاً في الاستيفاء، وهذا الوكيل ليس من حقه إلا الإثبات فقط، فيحضر الأدلة ويثبت أن فلاناً هو القاتل، فإذا أثبت وحكم القاضي بصحة إثباته انتهت الوكالة.
وخالف في هذه المسألة ابن أبي ليلى من أئمة السلف رحمه الله تعالى فقال: إذا وكل في إثبات الجريمة وإثبات القصاص، كان من حقه أن يطالب بالقصاص؛ لأن المقصود من الإثبات هو القصاص، فإذا وكل في الإثبات فمعناه أنه موكل في القصاص، كما لو وكل في البيع فله حق القبض.
والصحيح هو مذهب الجمهور؛ أنه إذا وكل في الإثبات فقد اختصت الوكالة بالإثبات، فهي وكالة خاصة، ولا يكون من حقه أن يطالب بالاستيفاء.
فإذا ثبتت مشروعية الوكالة على الإثبات، فيبقى الكلام على الاستيفاء فنقول وبالله التوفيق: الاستيفاء: هو تنفيذ الحكم، فقد نص العلماء على جواز أن ينصب ولي الأمر شخصاً، أو جهة معينة تقوم بتنفيذ هذه الحدود والحقوق، وارتاح الناس من كثير من الإشكالات الموجودة في الفقه بهذه الطريقة والحمد لله تعالى.
لكن الأصل أن استيفاء القصاص حق لولي القتيل، وله أن يوكل في ذلك كشأن سائر الحقوق، وهنا يجيء الكلام على مسألة الوكالة في القصاص.
فقد كان في القديم إذا ثبت عند القاضي أن رجلاً قتل رجلاً، فيقول القاضي لولي القتيل: هذا قاتل وليك فاقتله إن أردت، ويمكنه من قتله، فيأخذ الولي سيفه ويقتله، فيكون ولي الدم هو الذي يباشر القتل، كما ذكرناه في الاستيفاء.
إلا أن ولي الدم قد لا يستطيع أن يقتل قاتل وليه، إما لصغر سنه، كصغير بلغ ولا يحسن الضرب بالسيف، أو يكون رجلاً كبيراً في السن، أو مشلولاً، أو مقعداً، أو زمناً، أو مريضاً، فقد تكون هناك أعذار في ولي المقتول، فحينئذٍ يحتاج إلى شخص يقيمه مقامه من أجل تنفيذ القصاص، فهذه مسألة التوكيل في الاستيفاء.(355/12)
عفو ولي الدم بعد التوكيل في الاستيفاء
فإذا وكل شخص شخصاً من أجل أن يقتل قاتل وليه، فلهذه الوكالة صور: الصورة الأولى: أن يوكله ولا يرجع عن الوكالة، ويذهب الوكيل ويقتص، فهذه الصورة لا إشكال فيها، فالوكالة صحيحة والتنفيذ صحيح، ولم يرجع الموكل عن وكالته حتى حصل التنفيذ، وكما أن الأصيل له حق الاستيفاء فقد قام الوكيل مقامه، والقاعدة: أن الوكيل ينزل منزلة الأصيل أو من وكله.
الصورة الثانية: أن يرجع الموكل عن وكالته، وهذه هي التي أشار إليها المصنف رحمه الله تعالى، فيقول الموكل لوكيله: اقتل من قتل أبي، أو وكلتك في قتل من قتل أبي، أو وكلتك في استيفاء حقي في القصاص من فلان، فخرج هذا الوكيل من أجل أن ينفذ الوكالة، فلما خرج رجع الموكل عن وكالته، رجوعاً بالعفو لا رجوعاً مطلقاً؛ لأن الرجوع المطلق الأمر فيه أخف، لكنه رجع بالعفو بقوله: قد عفوت عمن قتل أبي، فالوكيل ذهب، والعفو وقع من صاحب الحق، وحنيئذٍ فلذلك حالتان: الحالة الأولى: أن يقع العفو بعد التنفيذ، كما لو خرج الوكيل وطالب بالدم وقتل القاتل الساعة الواحدة ظهراً، والموكل عفا عن الدم الساعة الثانية ظهراً، أو الواحدة والنصف، فمعنى ذلك أن العفو وقع بعد استيفاء الحق، فلا شيء على الوكيل ولا على الموكل؛ لأن العفو لم يصادف محلاً، فإن الوكيل حينما قتل القاتل قتله وعنده مستند شرعي؛ لأن الوكالة شرعية، وصاحب الحق لا زال على حقه، فقتله بدون أي شبهة، ولا غبار على قتلهِ، لأن عفو ولي الدم بعد القتل، وإذا قتل القاتل سقط حق الموكل؛ لأنه لم يعد للموكل حق، فقوله: (عفوت) عفوٌ عن شيء غير موجود أصلاً؛ لأن حقه قد انتهى بتنفيذ القصاص.
ففي هذه الحالة إذا حصل العفو بعد التنفيذ فإنه لا شيء على الوكيل ولا شيء على الموكل الذي عفا، أما الوكيل فقد نفذ الوكالة، وقتله لمن قتل وقع في محله، وإذن صاحب الحق مستصحب، وأما عفو من عفا -وهو صاحب الدم- فقد وقع في غير موقعه؛ لأنه وقع بعد الاستيفاء، ولما وقع بعد الاستيفاء فقد سقط الحق لولي المقتول بالكلية، وحينئذٍ فقد عفا عن شيء غير موجود أصلاً؛ لأنه قد انتهى حقه.
الحالة الثانية: أن يقع العفو قبل التنفيذ، فيقول ولي القتيل: اشهدوا أني قد عفوت عن القاتل، سواءٌ قال: أريد الدية، أم قال: عفوت مطلقاً، فلهذه الحالة صورتان: الصورة الأولى: أن يبلغ الوكيل رجوع من وكله، فحينئذٍ لا يجوز له شرعاً أن يقتل القاتل بإجماع العلماء، إذا بلغه أناس عدول رجوع موكله، وقالوا له: إن فلاناً رجع عن وكالته لك، وقد عفا عن الدم، فإن ماطل وكابر وقتل القاتل، وهو عالم أن الوكيل قد رجع؛ فحينئذٍ يكون قاتلاً عمداً عدواناً فيقتص منه.
هذا إذا علم وثبت عنده الرجوع.
الصورة الثانية: إذا لم يعلم، كأن يكون بين الوكيل والموكل مسافة أيام، وبلوغ الوكيل لمكان القصاص لم يبق عليه سوى يومين، فالمسافة ما بين الموكل والوكيل لا يمكن أن يتوصل بها إلى إبلاغ الوكيل رجوع موكله، فقتل، ثم علم أن موكله رجع قبل تنفيذ القتل، فهل يتحمل المسئولية الوكيل بناءً على أنه بعفو الموكل سقط حق القصاص، والذي نفذ القصاص هو الوكيل؟ أم أنه يكون الاستحقاق على الموكل؛ لأنه هو الذي عفا وغرر بالوكيل، وكان المفروض أن يتعاطى الأسباب لإعلام الوكيل؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله تعالى، وبعض أهل العلم رحمهم الله تعالى يقول: لا شيء على الوكيل ولا شيء على الموكل، أما الوكيل فلأنه يستند إلى أصل شرعي، والأصل مستصحب وهو الإذن، فلما كان العفو على وجه لا يمكن فيه البلوغ كان ضرباً من العبث، فوجود هذا العفو وعدمه على حد سواء؛ لأنه لم يبلغ الوكيل، فصار عفو الموكل في هذه الحالة واقعاً في غير موقعه؛ لأنه قد انتهى الأمر، وإنما يكون مؤثراً لو كان هناك مجال لإعلام الوكيل وتنبيهه وتلافي القتل، فلما أصبح الأمر على هذا الوجه الذي لا يمكن فيه التدارك سقط، وأما بالنسبة للموكل فلا شيء عليه؛ لأنه حينما وكل كان معذوراً شرعاً، وحينما عفا عفا على وجه لا يؤثر؛ لأنه لا يمكن تدارك الوكيل وإعطاؤه الخبر بالرجوع، وهو معذورٌ؛ لأنه يتعذر عليه إعلام الوكيل.
وهناك وجه ثانٍ للعلماء رحمهم الله تعالى: أنه يضمن الموكل؛ لأنه يعلم أنه لا يبلغ عفوه الوكيل لو عفا، فخاطر بالوكيل، والوكيل معذور في تنفيذ ما أمر به، ولما عفا تحمل عاقبة عفوه؛ لأن كلا الأمرين وقع بسببه، فالوكالة بسببه والعفو جاء بسببه، ففي هذه الحالة إذا رجع تحمل مسئولية الرجوع؛ لأن الرجوع منه، فهو متحمل لتبعة ما نجم عن عفوه، وهذا القول الثاني في الحقيقة من القوة بمكان، فيتحمل الموكل عن الوكيل في الضمان.(355/13)
حقوق الرفيق في الحد والقصاص
قال رحمه الله تعالى: [وإن وجب لرقيق قود أو تأثيرُ قذف فطلبه وإسقاطه إليه].
هذه مسألة أخيرة يختم بها هذا الفصل، وهي: مسألة حقوق العبد إذا كانت في قتل أو قذف، فإذا كان للعبد حق معنوي، فإنه يتولى الأخذ والعفو، فله أن يطالب وله أن يعفو، ولا أحد يستطيع أن يجبره على أمر خيَّره الله عز وجل فيه؛ لأن هذه الأمور لا يملكها السيد، فليس للسيد أن يقول: أنا أتولى أمر عبدي في هذا؛ لأن الحق للعبد، فإذا قذفه شخص فإنه حق ليس بمادي وإنما هو معنوي، والحقوق المعنوية مردها إلى صاحبها، فيتولى العبد أمر نفسه، وليس لسيده عليه سلطان، فبين المصنف رحمه الله تعالى بهذا أن الحق في القصاص في النفس والأطراف راجع إلى العبد وليس إلى السيد، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق كما في القذف ونحوه.
قال رحمه الله تعالى: [فإن مات فلسيده].
أي: فإن مات فإنه ينتقل الحق إلى سيده؛ لأنه وليه، ومعلوم أن الولاء لحمة كلحمة النسب، وهذا في حال العتق، فإذا لم يعتق فمن باب أولى وأحرى، وكما أن النسيب والقريب يرث نسيبه وقريبه في الحقوق، فكذلك السيد يرث حق عبده في هذا، كورثة المقذوف ينزلون منزلة المقذوف بعد موته.(355/14)
الأسئلة(355/15)
الأفضل في الدية من أخذها وصرفها في وجوه الخير، وإسقاطها بالعفو
السؤال
إذا أراد بالدية صرفها في وجوه الخير فهل هذا أفضل أم العفو؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالحقيقة أن هذا أمر يُحتاج فيه أن ينظر الإنسان في الثواب المترتب على عفوه، والثواب المترتب على توزيع هذه الصدقات، وهذا أمر غيبي لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن عند العلماء نظائر من هذه المسائل، وهي: الحكم النسبي، ففي بعض الصور الأحكام النسبية معتبرة، كما إذا كان القاتل غنياً ثرياً لا تهمه الدية، والمال عنده كثير، وهناك ضعفاء وفقراء محتاجون، وقد يكون بعضهم من قرابة المقتول نفسه، فأحب وليه أن يأخذ الدية وأن يتصدق بها على رحمه، وأن يعيل بها أيتاماًَ وضعفاء وفقراء، فهذا لا شك أن أجره عند الله تعالى عظيم، ولكن هذا شيء نسبي، ومن الخطأ تطبيق هذه الصورة عموماً، كما تجد في بعض الفتاوى: أن الأفضل أن يأخذها ويتصدق بها، وذلك أنه إذا أخذها وتصدق بها على الضعفاء والفقراء فهذا أعظم.
فهذا لا ينبغي تعميمه؛ إذ قد يكون أولياء القاتل ضعفاء وفقراء لا يستطيعون الدية، وإذا حملوا الدية تحملوا مشقة كبيرة، وإن كانوا في العمد لا يتحملون، لكن ما جرت به العادة أنه يضغط عليهم ويحملون هذه الدية، فإذا كان القاتل سيتحمل عناء الدية ومشقتها، وكان ضعيفاً، فلا تستطيع أن تطبق عليه هذا الأصل.
ولذلك نقول: من حيث الأصلُ الأمر غيبي، فلا يستطيع أحد أن يقول: ثواب العفو أعظم من ثواب إنفاق الدية على الضعفاء؛ لأن الناس تتفاوت أحوالهم وتختلف، ما لم يرد نص يبين أيهما أفضل، لكن في الأحوال الخاصة -كما ذكرنا- إذا كان أولياء القاتل لا يهمهم المال، ودفع المال يسيرٌ عليهم، ويمكن أخذ هذا المال والتصدق به، فهذا لا شك أنه أفضل وأحسن وأكمل، والتصدق بالمال فيه ثواب عظيم عند الله عز وجل، ولذلك لما باع حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه داره -دار الأرقم- قيل له: بعت مفخرة قريش! قال: ستعلمون من هو المغبون.
ثم نزل ونادى في الناس: من كان عليه دين فليأتني، فما بقي أحد إلا قضى دينه، فكان ربحه عند الله تعالى أعظم، وثوابه أجل من أن يمسك داراً على أنها مفخرة، فرضي بمفخرة الآخرة على مفخرة الدنيا، ورضي بربح الآخرة على ربح الدنيا، ورضي بعز الآخرة على عز الدنيا.
فالأمور النسبية والأحوال النسبية معتبرة، لكنها لا تعتبر قواعد في الفتوى، أي: لا تعتبر أصولاً يُحكم بها حكماً عاماً في الفتاوى، بل يقال: يمكن نسبياً أن يقع هذا، ولذلك نترك الأمر، فإذا نظر الشخص إلى مصلحة قرابته وجماعته وأوليائه، ورأى أن يصل رحمه وأن يحسن إليهم بهذه الدية، وتأول أن يكون ذلك له أفضل عند الله تعالى فأرجو، والله تعالى أعلم.(355/16)
ما يصح فيه الصلح على أكثر من الدية من أنواع القتل
السؤال
هل الصلح على أكثر من الدية في العمد فقط أو في جميع أنواع القتل؟
الجواب
من حيث الخطأ فليس لهم إلا الدية المقدرة شرعاً، ولا يجوز أن يزيدوا عليها إذا كان القتل خطأً، أما في العمد إذا استحق أولياء المقتول القصاص، فيحتاج إلى ترغيبهم ترغيباً أكثر، أما القتل خطأً فلا يحتاج فيه إلى الترغيب بأكثر من الدية؛ إذ ليس لهم إلا الدية، ولا يستطيع القاضي أن يحكم بثلاث ديات أو ديتين؛ لأن هذه مخالفة مضادة لشرع الله عز وجل؛ لأن الله تعالى جعل للنفس حق الدية الواحدة، ومن هنا كنا نستشكل الصلح في قتل العمد على أكثر من الدية؛ لأن هذا وجهه أن الله تعالى قدر المقادير، فلا يجوز لأحد أن يزيد عليها، والله تعالى أعلم.(355/17)
حكم الصرف من الزكاة لمن وجبت عليه الدية
السؤال
هل يجوز صرف أموال الزكاة لمن وجبت عليه الدية وكان فقيراً لا يستطيع السداد؟
الجواب
الغارم وهو المدين يستحق الزكاة، لكن ينبغي أن ينتبه إلى أن الدين فيه نظر، فإن كان سبب الدين يعذر به شرعاً فإنه يعطى من الزكاة سداد دينه، كشخص يعول أسرة، ويسكن في شقة تكفيه وتكفي عياله دون بذخ ودون إسراف، فسكن في هذه الشقة بعشرة آلاف في السنة، وأصبح مديوناً، فنعطيه العشرة آلاف كاملة؛ لأن الغارم يعطى سداد دينه، بشرط أن يكون دينه على الوجه المعروف، لكن لو كان دينه في الحرام، كمن يسافر للحرام والفساد -والعياذ بالله تعالى- ثم أصابته ديون، فحينئذٍ نقول: إنه لا يعطى؛ لأن سبب غرمه محرم، وكذلك لو أنه تزوج وهو فقير، وتكلفة زواجه في فرضنا ثمانون ألفاً، فكانت مؤنة زواجه بمائتي ألف، فيعطى في حدود الثمانين.
أما في هذه المسألة ففيها نظر؛ إذ القتل إما أن يكون عمداً، وإما أن يكون خطأ، فإذا كان عمداً فهو جناية وجريمة، ومثلها لا يساعد فيها؛ لأن أصل الجناية لا تجوز شرعاً، ولو أننا كلما قتل قاتل وعفي عن قتله أعطيناه من الزكاة؛ لذهب المعنى من زجر الناس، وتحملهم لمشقة الدية حتى يجدوا العناء فيحجموا عن الدماء المحرمة وعن سفك الدم الحرام.
أما إذا كان القتل خطأً، كشخص عنده حافلة ووقع عليه حادث، فمات معه شخصان وتحمل ديتهما، فالأصل أن العصبة هم الذين يتحملون من الدية ما كان فوق الثلث، كما سيأتي معنا إن شاء الله تعالى، وهذا نظام معروف في الإسلام بنظام العاقلة، ففي الحديث الصحيح: (وقضى بديتها على عاقلتها)، فالعاقلة نظام شرعي، وهو موجود والحمد لله وعند كثير من القبائل جزاهم الله تعالى خيراً، ولا يزال ما يسمى بصندوق القبائل يفعل حقيقة العقل الشرعي في كثير من الصور تشبه الأصول الشرعية، وهذا أمر محمود ينبغي بقاؤه.
فإذا كانت عاقلته غنية وامتنعت فالواجب أن يشتكيهم إلى القاضي حتى يدفعوا ما عليهم، والقاضي يُلزم عاقلته بما يَلزمه هو، فهذا هو الأصل، فإن كانت العاقلة فقيرة، أو كانت مديونة، فحينئذٍ يشرع إعطاء الزكاة له سداداً لهذا الدين، وسواءٌ أكانت الجناية خطأً بالقتل أم كانت الجناية على الأطراف، كما لو وقع عليه حادث فقطعت يد راكب من ركاب سيارته فعليه نصف دية، ففي هذه الحالة إذا كانت عاقلته قادرة على السداد فلا إشكال، وإذا كانت غير قادرة على السداد فإنه يعطى من الزكاة على قدر دينه.
وعلى كل حال: ينبغي على من يتولى الزكاة أن يتقي الله عز وجل، وأن يحذر من حرمان أهل الحقوق حقوقهم، فهناك فقراء، وهناك مساكين، وهناك أيتام وأرامل لهم حق في هذه الزكوات دون غيرهم، حتى ولو وجدت بعض الفتاوى المتوسعة مثل إجازة طبع الكتب من أموال الزكاة، ومثل إعانة المتزوج من أموال الزكاة، بناءً على قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]، فهذا مذهب مرجوح وضعيف عند أهل العلم، إذ الصحيح أن قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}، مختص بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وحتى لو قيل بهذه الفتوى فينبغي أن ننظر إلى من هو أحوج وأحق، وبدل أن يعطى هؤلاء القتلة يعطى من هو أحوج، وقد تطبع بعض الكتب وتدفع فيها عشرات الألوف، ثم توزع هدراً، فتعطى للذي يستطيع أن يشتري والذي لا يستطيع أن يشتري، وهناك من هو في أشد الحاجة إلى مثل هذا المال.
فينبغي الانضباط، وينبغي تحديد هذه الأمور بالضوابط الشرعية، فهناك من هو أحق وأحوج، فهناك اليتيم، وهناك الأرملة، وهناك الأسر التي تكتوي بنار الفقر والمسكنة، فهؤلاء جعل الله تعالى لهم حقاً في الزكاة، فلا يتوسع في هذه الأمور على حساب من هو أحق وأحوج، وإن كنت طالب علم فانظر كم في مكتبتك من الكتب، فأسألك بالله تعالى كم من كتاب قرأت؟ وتؤخذ المنشورات وتطوى وترمى في الصناديق، ولربما ترمى في المكاتب ولا ينظر إليها إلا قليلاً، وهذا كله على حساب من هو أحوج وأحق، فينبغي أن ينتبه لهذه الأمور في الزكوات وتوزيعها؛ إذ يخشى على من يتولاها أن يصلى بنار جهنم.
فالزكاة أمرها عظيم، وليس من السهل بمكان أن الشخص يحرم صاحب الحق حقه ويُذهبُه في أمور مختلف فيها، بل يصرفه بدون ضوابط.
وأذكر أن رجلاً ذات مرة طبع مطوية في أمر قد نوقش في أكثر من رسالة، وقتله أهل العلم بحثاً، وهو طويلب علم مبتدئ ليس من أهل العلم وليس من أهل التأليف، فجاء وقال: أبشرك أن بعض المحسنين دفع لي مالاً فوزعت منها بتسعين ألف ريال!! فهذه التسعون ألف ريال كم من أسرة لو أُعْطِيَتْ أنقذتها! وكم من نساء قد يتعرضن للحرام بسبب الفقر والجوع والمسكنة لو أعطين لامتنعت من ذلك! وليس معنى هذا أن نحجم أمور الدعوة، فالدعوة لها وسائل كثيرة ولها طرق كثيرة، ولا تقتصر على المطوية ولا على الشريط.
ولا شك أن من دفع في الشريط والمطوية مأجور ومثاب، ولكن ليس على حساب الحقوق الواجبة في الزكوات، وإنما تكون من بابها المعروف، فإذا جئنا لغني نريد أن نصرفه لمقام أفضل، فهناك مدينون في السجون، وهناك أناس أصحاب أسر وعوائل مدينون في حقوق ومسجونون؛ لأن الدائن من حقه سجن الغريم، فمثل هذا الذي عليه عشرون ألفاً أو عشرة آلاف أو خمسة آلاف ربما وقع أولاده في الحرام، وربما وقعت زوجته في الحرام، فهؤلاء هم الذين يوجه الناس لإعانتهم والرفق بهم.
ونريد من هذا أن يُتنبه إلى أن الخير ينبغي أن يصرف في بابه، وأمور المعونة والزكوات والصدقات ينبغي أن تصرف في بابها، وأعظم ما يكون في هذا الباب الزكوات إذا صرفت في غير حقها، وكذلك الصدقات، فقد تجد شخصاً يتبرع لجمعية خيرية من أجل أن تنفق هذا المال على الأيتام والفقراء والضعفاء والمساكين، فتقوم الجمعية وتفعل مسابقة، وتوزع الجوائز والنثريات بعشرات الآلاف! ولا نشك أن أهل الجمعية يريدون الخير، ولا نشك أنهم يريدون الطاعة ويريدون البر، ولكنه الجهل وعدم الرجوع إلى العلماء، وعدم ضبط الأمور بضوابطها الشرعية، إذا وضعت جمعية للصدقات، فضع صندوقاً للمسابقات، وانظر من الذي يتبرع لك من أجل المسابقات، ومن أجل الأمور الزائدة التي تكون على حساب من هو أحق؟ فأنت مؤتمن، فمن دفع لك هذا المال لكي تدفعه للمحتاج فعليك أن تدفعه للمحتاج، وتنضبط بضوابط شرعية، أما الأمور الفاضلة فتوضع لها صناديق خاصة، وهي أمور خير، كتوزيع شريط، أو كتيب، أو منشور، لكن لا تكون عُمية وبدون ضوابط شرعية، فلابد من التقيد بهذا، ولا بد من الرجوع إلى أهل العلم.
وأكثر ما ضر الدعوة اليوم وهو الاجتهاد الذي لا يرجع إلى فتوى من أهل العلم المعتبرين، فكل يجتهد، وكل يرى أنه على حق، وإذا جئت تنبهه على ملاحظة ظن بك ظن السوء -نسأل الله تعالى العافية- وهذا لا يجوز، فلابد من بيان هذه الحقوق، ولابد من التوجيه فيها، ولابد من ضبطها بالضوابط الشرعية.
ولذلك ينبغي صرف الزكاة في مجالها، والله جل وعلا لم يكل أمر قسمة الزكاة إلى ملك مقرب وإلا إلى نبي مرسل، ولكن تولى قسمتها من فوق سبع سماوات؛ لأن فيها الحق المعلوم للسائل والمحروم، وجعل هذه الزكاة لا منة فيها للغني على الفقير، حتى كان بعض أهل العلم يقول: ينبغي على الغني إذا أعطى الفقير أن لا يشعره المن؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24]، فليست فيها منة للغني على الفقير، وهذا يدلك على عظم أمرها، فتولى الله تعالى قسمتها من فوق سبع سماوات، وأنزل جبريل الأمين على نبيه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، فعددها وبينها وجعلها آيات تتلى إلى يوم القيامة، إنصافاً لهم في حقوقهم، وتنبيهاً للأمة على خطر هذا الباب.
فإذا كان الشخص محتاجاً ومن أهل المساعدة في قتل الخطأ لا قتل العمد، فعند عجز أوليائه وعاقلته عن تحمل الدية يعطى من الزكاة من باب سداد الدين عن العاقلة؛ لأنهم أصبحوا مدينين، فيندرجون تحت القسم الذي ذكره الله عز وجل في قوله: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة:60]، والغارمون: جمع غارم، وهو المدين الذي عليه دين، ويشترط عند العلماء أن لا يكون دينه في سفه، كما ذكرنا.
فهؤلاء المدينون من أحق الناس بالزكاة، فينبغي تفقدهم والسعي في قضاء حوائجهم، وتفريج كرباتهم، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتح الخير، وأن يجد الخير على أيدينا وأيديكم إنه سميع مجيب، والله تعالى أعلم.(355/18)
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله.
مائة مرة ... )
السؤال
في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يومه مائة مرة ... ) الحديث، هل تقال المائة مرة مجتمعة أم تقال متفرقة؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالأصل أنها تقال مجتمعة، والتفريق الذي لا يطول لا يضر، ولكن الأصل أنها تقال مجتمعة في حين المساء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قالها حين يمسي.
ومن قالها حين يصبح)، وهذا يدل على أنها تكون في حين الإمساء وحين الإصباح، وأما أن تكون متفرقة طيلة اليوم فهذا ليس ذكراً للمساء والصباح؛ لأن هذا ذكر مقيد من أجل الحفظ والحرز صباحاً ومساءً، فينبغي أن يكون عند أول المساء وعند أول الصباح.
والمساء يبتدئ من بعد العصر، فلو أنه قالها بعد العصر خمسين مرة، ثم جلس ساعة يرتاح، ثم قالها بعد ذلك، فما زال في حين المساء ولا يضره، كما لا يضره أن يقولها عشرين مرة، ثم يرتاح، أو يقوم ليقضي عملاً، ثم يرجع ويقولها عشرين مرة، ثم يتكلم بكلام، ثم يقولها عشرين مرة وهكذا؛ لأنه في حين الإمساء، أما أن يفرقها خلال اليوم كله فلا؛ لأن الفضل هو الحفظ والحرز، وهذا يقتضي أن تكون في أول النهار حتى يحفظ إلى مسائه، أو في أول المساء حتى يحفظ إلى صباحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قالها حين يمسي.
ومن قالها حين يصبح) فالمراد بها الحينية والوقت، وهذا يتقيد بالبداية.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (تقول: قل هو الله أحد، والمعوذتين إذا أمسيت وإذا أصبحت ثلاثاً تكفيك من كل شيء)، فهل معنى ذلك أنه يقولها ثلاث مرات طيلة اليوم؟ فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمسيت وإذا أصبحت) يقتضي أنها تكون حرزاً في حين المساء وحرزاً في حين الصباح، ومن هنا فلابد أن تكون مجتمعة، بمعنى أنها في الحينية والظرفية التي يبتدأ بها المساء، أو الحينية والظرفية التي يبتدأ بها الصباح.(355/19)
تحويل النية في السنة من ركعتين إلى أربع
السؤال
شخص كان يؤدي سنة الظهر بعد الصلاة، فجاء شخص وائتم به، فحول نيته من السنة إلى أربع ركعات، فما الحكم؟
الجواب
هذه المسألة فيها جوانب: الجانب الأول: يجوز الانتقال من الأدنى عدداً إلى الأكثر، كما لو كان في قيام الليل وصلى الركعة الأولى والثانية، ثم رأى أنه يحتاج إلى كسب الوقت، فبدل أن يجلس في التشهد ويسلم، أتى بالأربع متصلة، فلا بأس به، وليس فيه حرج، لكن المشكلة أن الانتقال هنا سيشبه النافلة بالفريضة، وهذا أصلٌ منعَ منه طائفة من أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم، ولذلك نهي في الوتر أن يجلس بين الركعة الثالثة والثانية إذا قصد الوصل، حتى لا يتشبه بصلاة المغرب، وهو الأمر الذي اختلف فيه الجمهور مع الحنفية رحمهم الله تعالى، فالشاهد من هذا: أن الأفضل أن يُصلي ركعتين ويُسلم، ثم يقوم هذا الشخص ويتم الركعتين الباقيتين عليه، والله تعالى أعلم.(355/20)
النذر بعبادة الله تعالى حق عبادته
السؤال
كنت مريضاً ونذرت إن شفاني الله تعالى أن أعبده سبحانه وتعالى، وقلت مرة: أعبده حق عبادته، فشفاني الله عز وجل، ولكنني قلق جداً؛ لأنني نذرت بما لا أستطيع؟
الجواب
تعبده حق عبادته بما تستطيع، فتكون عابداً لله عز وجل، وهذا يستلزم ثلاثة أمور: الأول: أن تكون في عقيدتك أخلص الناس قلباً لله عز وجل، وأصدقهم حباً لله سبحانه وتعالى، وأخوفهم لله تعالى، وأشدهم خشية من الله تعالى، وأكملهم رضاً عن الله عز وجل، وتستجمع معاني العقيدة في الله عز وجل في قلبك، فتوحده في ألوهيته، وتوحده في ربوبيته، وتوحده في أسمائه وصفاته على أكمل وأتم ما يكون التوحيد.
الثاني: أن تعبد الله تعالى بقولك حق عبادته، باستدامه قراءة القرآن، والذكر لله عز وجل.
الثالث: أن تعبده سبحانه حق عبادته في جوارحك وأركانك، وتسخرها في طاعة الله تعالى ومرضاته، وما الذي يمنعك من هذا؟ ما الذي يمنعك أن تعبد ربك حق عبادته؟ إذ الأصل أن المسلم يعبد الله تعالى حق العبادة، وما خلق إلا من أجل هذا، فهذا خير عظيم فتح الله تعالى عليك بابه، فإن استغللت وجوب النذر والإلزام عليك، وصدقت مع الله تعالى صدق الله تعالى معك.
فإذا كان الإنسان في بعده عن الله عز وجل يجد من التيسير، ويجد من الأمور ما لم يخطر له على بال، فكيف بمن أحب الله تعالى وتقرب إلى الله عز وجل؟! وما الذي يحول بينك وبين عبادة الله تعالى حق عبادته؟ ولا شك أنه لا يستطيع أحد أن يبلغ المقام الكامل في العبادة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له)، ولم يقل: إني خشيت الله تعالى كمال الخشية، ولم يقل: عبدته كمال العبادة، وإنما هذا أمر نسبي؛ لأنك تعبده حق العبادة بالنسبة لما تستطيع، وأنت مكلف بما تستطيع لا بما لا تستطيع، ولو قلت: أعبده عبادة الأنبياء، أو أعبده عبادة الملائكة، فهذا أمر ليس بيدك، ونذر فيما لا تملك، ولا نذر على الإنسان فيما لا يملك، ولا طلاق فيما لا يملك، كما في السنن.
فقولك: أعبده حق عبادته، أمر نسبي معروف بالنسبة لك، والنذور تدخلها الحقيقة الشرعية، وتدخلها الحقيقة العرفية، وتدخلها الحقيقة اللغوية، والأصل أن المكلف إذا تلفظ بهذا اللفظ فإنما يقصد الأمر النسبي، أي: إذا نذر أن يكون ملتزماً بالإسلام حقاً، وأن يكون مؤمناً صدقاً، وأن يكون موحداً كما يحب الله تعالى ويرضى، فاستعن بالله عز وجل ولا تعجزن، (ومن تقرب إلى الله شبراً تقرب الله منه ذراعاً، ومن تقرب إلى الله ذراعاً تقرب الله منه باعاً، ومن أتى يمشي أتاه الله هرولة)، ففي أي مقام حين تفكر أن تقبل على الله تعالى، وحين تفكر أن تكون مع الله عز وجل، تجد من نفحاته ورحماته وبركاته ما لم يخطر لك على بال! فالله أكرم من أن تسيء الظن به أن يجعلك من العاجزين، فاستعن بالله تعالى ولا تعجز.
ومما أوصى به العلماء والأئمة: أن تكون في هذه الحياة مستشعراً أن الله تعالى خلقك لعبادته، وأن الله تعالى أوجدك لطاعته، وهو أغنى ما يكون عنك، وأنت أفقر ما تكون إليه، وأنك لو بلغت مقام العابدين في غاية المقامات فلن تنفع الله تعالى شيئاً، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)، ولا تحسب أن الله بحاجة لهذا، وإنما هي أعمال منفعتها للعبد، فالمسلم إذا أراد الله تعالى به الخير، وأراد أن يجعله من الصالحين، وأن يهيأه لمراتب المفلحين، جعل في قرارة قلبه أنه لا يرضى لنفسه إلا بالمقام الأعلى في طاعة الله تعالى ومرضاته، فإذا دخل المسجد تمنى من الله تعالى وسأل الله تعالى أن يكون أحب العباد إليه، وإذا جلس في مجلس الذكر تمنى ورجا من الله عز وجل أن يكون أكثر الناس فوزاً برحمة الله عز وجل، وإذا قال أو عمل أو سلك أي طريق من الخير دخله وفي قلبه من حسن الظن بالله تعالى وحسن الرجاء في الله تعالى ما يبلغ به مقامات الخير، فإذا لم يكن بعمله فبنيته.
والشخص قد يدخل في حلقة، أو يفعل طاعة، أو يأتي في أمر من أمور الخير والطاعة والبر ويشترك مع الأمة، فيدخل المسجد ويصلي مع الجماعة، ويخرج من المسجد حينما يدخل وهو يرجو أن يكون أفلح الناس، وكأنه حينما يدخل المسجد منكسر القلب يقول: يا رب! لا تجعلني أشقى القوم، اللهم لا تحل بيني وبين رحمتك بسبب ما كان من ذنبي وتقصيري، فيدخل منكسر القلب، فيرفعه الله تعالى بهذا الانكسار، ويفتح عليه من الخشوع والقرب والدنو والإنابة إلى الله عز وجل الخير الكثير، فإذا أراد أن يخرج خرج بالانكسار أيضاً، وخرج وهو يظن أنه أحقر الناس، وأنه أقل الناس، فلا يزال بهذا الاحتقار يرفع إلى درجات.
والعكس، فربما دخل -والعياذ بالله تعالى- وهو لا يفكر في شيء إلا أن يؤدي الصلاة، فيدخل وقلبه خاو -والعياذ بالله تعالى-، ثم إذا خرج ظن أنه كطالب علم، أو كأنه بلغ منزلةً من منازل العبادة، وأنه ليس بالحال التي يعتقد فيها البعد عن الله تعالى، فلا يزال في سفال من الله عز وجل.
فإذا جئت للعبادة قائلاً: يا رب! لا تجعلني أشقى القوم، فمعناه: أنك تستشعر أن لله تعالى عليك حقاً، أن تقف بين يديه أكمل الوقوف، وأن تخشع بين يديه كمال الخشوع، فلما استشعرت أن لله تعالى عليك هذا الحق جاهدت نفسك قبل العبادة، ثم احتقرت نفسك وانتقصتها بعد العبادة، فبلغك الله تعالى بهذا مقام العابدين.
وإذا لم يكن عندك هذا الشعور كإنسان صالح تقي، فقد جاءك بالنذر، فأنت حينما تحس أنه نذرٌ عليك، وبينك وبين الله عز وجل أن تكون في هذا المقام الصالح على أكمل ما يكون عليه أهلُ العبادة قولاً وعملاً واعتقاداً، فكلما قصرت احتقرت نفسك، فنحن نريد هذا الشعور أن يبقى معك، ونريد أن هذا الأمر يبقى ملزماً لك لتكون في أعلى المقامات، واستعن بالله تعالى ولا تعجز، فإنه ليس بينك وبين الجنة شيء، فإنها أقرب إليك من شراك نعلك، وليس بينك وبين النار شيء، فإنها أقرب إليك من شراك نعلك، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا الأعمال والأقوال تدني إلى ذي العزة والجلال، أو تنتهي إلى خسارة ووبال، والمعصوم من عصمه ذو العزة والجلال.
فعلى العبد أن يتقي الله عز وجل، وأن يحرص دائماً -سواءٌ نذر أم لم ينذر- على أن يكون في أكمل المقامات، فإذا دخل بيته رجا من الله تعالى أن يكون أبر الناس بوالديه، وأكمل والد لولد، وأعطفهم وأرحمهم على ذريته ومن ولاه الله تعالى عليه من رعيته، ثم إذا جاء إلى عمله طمع من ربه أن يجعله في وظيفته وعمله ومكتبه على أحسن ما يكون من تحمل الأمانة والقيام بها، فيرعاها حق رعايتها، ويسأل الله تعالى أن يجعله موفقاً مسدداً، وهكذا ينتقل من بر إلى بر، ومن خير إلى خير، فيخوض في الرحمات، ويفوز بأعالي الدرجات، حتى ينتهي به الحال والأمر إلى الجنات.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل إنه ولي ذلك والقادر عليه.(355/21)
شرح زاد المستقنع - باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [1]
ينقسم القصاص إلى: ما يتعلق بالنفس، وما يتعلق بما دون النفس، ومما يتعلق بما دون النفس: القصاص في الأطراف؛ كاليد والرجل والعين والأذن ونحوها، فإذا جنى الجاني على المجني عليه بقطع شيء من ذلك قطع منه مثل الذي قطع سواء بسواء، وهناك شروط لابد من توافرها حتى يحكم بالقصاص في الأطراف.(356/1)
أقسام القصاص
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس].
ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة، والتي قصد بها أن يبين أن هذا الموضع مختص بالقصاص فيما دون النفس، وقد تقدم معنا أن القصاص ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالقصاص في الأنفس، وذلك بالاعتداء على الأرواح بإزهاقها.
القسم الثاني: يتعلق بالقصاص فيما دون النفس.
والذي دون النفس ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون الجناية على الأطراف، ويكون القصاص في الأطراف.
القسم الثاني: أن تكون الجناية في غير الأطراف من الجروح والكسور ونحو ذلك.
فإن كانت الجناية في الأطراف فتنقسم إلى قسمين أيضاً: الأول: أن تكون الجناية على الأطراف بقطعها وبترها، مثل أن يقطع يده، أو يقطع رجله، أو يقطع أذنه، أو يفقأ عينه، ونحو ذلك.
الثاني: أن تكون الجناية على الطرف بإتلاف منفعته، مثل أن يجني عليه فيضربه ويلطمه لطمة تذهب نور بصره، فلا يبصر ويصبح كفيف البصر، أو يزول الإبصار من إحدى عينيه دون الأخرى، فهنا العين موجودة، ولكن الجناية أثرت في منفعة العين وهي الرؤية، أو يضربه على أذنه فيذهب السمع والأذن موجودة، فالطرف لم يتضرر ولم يذهب بل هو موجود، ولكن الجناية أثرت في منفعة هذا الطرف، فهذا مجمل الجنايات.
فالمصنف رحمه الله بعد أن فرغ من بيان القصاص في النفس أراد أن يبيّن القصاص فيما دون النفس، وهذا ترتيب منطقي عند العلماء، وهو التدرج من الأعلى إلى الأدنى، وهذا له دليل من الكتاب، فإن الله تعالى يقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45]، فابتدأ الله بالأنفس، ثم بعد ذلك بالأطراف، فابتدأ بما هو أعظم.
ومن هنا سلك الفقهاء رحمهم الله هذا المسلك، فابتدءوا بالقصاص في النفوس، وبيان متى يجب القتل قصاصاً ويثبت القود لمستحقه، ثم بعد ذلك شرعوا فيما يتعلق بالأطراف والجنايات بالجروح، والله عز وجل جاء بالثلاثة الأنواع فقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، فجعل القصاص في هذه الأمور إما في النفس، وإما في الأطراف، وإما في الجروح، وهذا من بديع القرآن، وهو تدرج من الأعلى إلى ما هو أدنى منه.
فالمصنف رحمه الله يريد أن يبين لنا في هذا الموضع القصاص في الأطراف وفي الجروح، فقال رحمه الله: (باب القصاص فيما دون النفس)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بثبوت القصاص في الجناية إذا كانت لا تصل إلى حد إزهاق النفس، ويستوي في ذلك أن تكون جناية بإتلاف الأطراف أو منافعها، أو جناية بالكسر، أو جناية بالجروح.(356/2)
ما يقاد به في النفس يقاد به في الأطراف والجراحات
قال رحمه الله تعالى: [من أُقيد بأحدٍ في النفس أُقيد به في الطرف والجراح].
هذه قاعدة في القصاص في الأطراف، وعلى هذا فلا بد من وجود -أولاً- العمد والعدوان، فلا نحكم بالقصاص على رَجُل قطع يَد رَجُلٍ إلا إذا كان القاطع قاصداً للجناية وقاصداً للإتلاف.
فلو أن شخصاً أغلق باب بيته ولم ينتبه لمن كان واقفاً، فقطع الباب يد رجلٍ، فهذا خطأٌ لا قصاص فيه؛ لأنه ليس هناك موجب القصاص وهو العمد العدوان، وقد تقدم معنا هذا، وبينّا متى تكون الجناية عمداً، ومتى تكون خطأً، ومتى تكون شبه عمد، وبينا الضوابط في هذا من خلال الأدلة النقلية والعقلية.
ولو جنى عليه جناية أضرت بالطرف أو منفعته، أو أوجبت جرحاً أو كسراً، فإننا لا نحكم بالقصاص إلا إذا كان الجاني مكلفاً، فلو أن مجنوناً أقدم على ضرب شخص فقطع رجله، أو قطع يده، أو فقأ عينه، أو قطع أذنه فلا قصاص؛ لأن المجنون غير مكلف، ولو أن صبياً اعتدى على بالغ فقطع رجله، أو قطع يده، فعمد الصبي والمجنون خطأ، وقد تقدم معنا هذا.
وكذلك يشترط أن يكون المجني عليه معصوماً، فإذا قطع المسلم يد المسلم عمداً عدواناً قُطعت يد الجاني، وإذا قطع أذنه قطعت أذنه، ولو أن كافراً قطع يد مسلم عمداً عدواناً قُطعت يده، ولو أن رقيقاً قطع يد الحر عمداً عدواناً قطعت يده، على تفصيل عند الفقهاء رحمهم الله.
فما تقدم معنا في شروط القصاص في النفس كذلك هو شرط في القصاص في الأطراف والجروح، فلابد من وجود العصمة للمجني عليه، ووجود التكليف في الجاني، وقصد العمد والعدوان في الجناية، وألا يكون المجني عليه بعضاً مثلما ذكرنا، وألا يوجد موجب لسقوط القصاص، وبناءً على ذلك: لو أن امرأة قطعت يد رجل قطعت يدها، ولو أن رجلاً قطع يد امرأة قطعت يده، ولو أن جماعة قطعوا يد رجل ظلماً وعدواناً، واشترك الجميع في فعل القطع قطعت أيديهم، لكن لو أن أحدهم قطع أصبعاً، والثاني قطع الأصبع الثاني، والثالث قطع الأصبع الثالث، والرابع والخامس.
قطعنا من كل واحد مثل الأصبع الذي قطعها.
إذاً: لابد من وجود الأصول التي قررناها في القصاص في النفس، واستيفاء الشروط المعتبرة للحكم بثبوت القصاص؛ لأن الله عز وحل شرع لعباده القصاص، وهذه الشرعية من الله سبحانه وتعالى جاءت بغاية العدل الذي تمت كلمة الله عز وجل به كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].
فلا بد من تحقق هذه الأمور لكي نوجب القصاص في الجناية على الأطراف، مثلما قررنا في الأنفس كذلك نقرر في الأطراف.
قال رحمه الله: [ومن لا فلا].
أي: لو أن والداً قطع يد ولده، لم تقطع يد الوالد، كما أنه إذا قتله لم يُقتل به، على التفصيل الذي تقدم معنا، ولو أن مسلماً قطع يد كافر لم تقطع يد المسلم؛ لأن الذي قطعت يده ليس بمعصوم.
قال رحمه الله: [ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس].
أي: ولا يجب القصاص إلا بما يوجب القود في النفس، وقصده في الأول من جهة الأفراد، وفي الثاني من جهة الشروط، من وجود العصمة، وثبوت الجناية العمد العدوان، والمكافأة.
إلى غير ذلك مما ذكرناه في القصاص في النفس.(356/3)
القصاص في الأطراف
قال رحمه الله: [وهو نوعان: أحدهما في الطرف].
أي: القصاص فيما دون النفس نوعان، وهذان النوعان منتزعان من القرآن؛ لأن القرآن قسّم الجناية على ما دون النفس إلى قسمين: الأول: جناية على الأطراف.
الثاني: جناية على الجسد بالجروح والشجاج والكسور، وجمع الله النوعين في قوله: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] فَمِنْ قوله تعالى: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) يبدأ القصاص في الأطراف، ثم قوله تعالى: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ)، جمع فيه الجناية على العين بالذات، والجناية على منفعتها بإذهاب البصر، ومن هنا يقتص بإتلاف العضو قائماً، وإتلاف منفعته، على التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله تعالى.(356/4)
القصاص في ذهاب العين كلها أو منفعتها
قال رحمه الله: [فتؤخذ العين والأنف والأذن والسن والجفن والشفة واليد والرجل والأصبع والكف والمرفق والذكر والخصية والإلية والشفر كل واحد من ذلك بمثله].
قوله: (فتؤخذ العين) أي: فتؤخذ العين بالعين؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45]، فالعين الأولى عين الجاني، تؤخذ بالعين الثانية التي هي عين المجني عليه، فالله عز وجل أوجب علينا أن نفقأ عين الجاني كما فقأ عين المجني عليه، وأن نتلف بصر عين الجاني كما أتلف بصر عين المجني عليه، وأن يكون هذا على سبيل المماثلة بالشروط التي سيبينها المصنف رحمه الله، بما يتحقق به العدل وتتحقق به المساواة، وأن لا يكون فيه جور ولا ظلم.
والعين: العضو المعروف، ويستوي أن تكون العين المقتص منها مماثلة للعين وغير مماثلة، فالعين الكبيرة بالعين الصغيرة، والعين الصغيرة بالكبيرة، والعين الجميلة بالعين ناقصة الجمال، والعين الكحلاء بالزرقاء، والزرقاء بالكحلاء، وتؤخذ العين بالعين على العموم الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، لكنه مقيد بضوابط تتحقق بها المساواة ويحصل بها التماثل.
فإذا جنى الجاني على عين المجني عليه كلاً، فقلع العين كلها، قلعت عينه كما قلع عين المجني عليه، بشرط أن يؤمن الحيف، على تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله في الشروط.
ولو أنه ضربه ضربة أذهبت منفعة العين وأبقت العين، مثل اللطمة، ففي هذه الحالة يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، ومن العلماء من قال: يلطم، فإن ذهب نور بصره حصل العدل، وإن لم يذهب نور بصره أذهب هذا النور بالعلاج، فيقطر في عينه من الدواء ما يذهب نور البصر، كما أذهب نور بصر غيره.
وهذه المسألة فيها قضاء عن الصحابة وشبه إجماع؛ لأنه لم يخالف فيها أحد، وحاصله: أن عثمان رضي الله عنه كان عنده مولى، فجاء رجل من الأعراب بجلب إلى السوق يريد أن يبيعه، فأخذ وأعطى مع هذا المولى، وكان المولى شديداً، فوقعت بينهما خصومة، فقام المولى وضرب الأعرابي ضربة أذهبت نور عينه، وأضرت بالمنفعة والعين قائمة، فوصل الخبر إلى عثمان رضي الله عنه، فنادى الأعرابي، وعرض عليه أن يعطيه ضعف الدية حتى يسامح ويتنازل، فأصر الرجل على حقه، فلما أصر على حقه رفعهما إلى علي رضي الله عنه، فأمر علي أن تحمى حديدة فأحميت، وأمر أن تكف العين الثانية التي هي خارج الجناية وأن تستر، ثم وضع الحديدة أمام العين حتى سالت وذهب بصرها، ففعل به مثلما فعل بالجاني من إذهاب بصره.
وهذا الفعل من علي رضي الله عنه شبه إجماع لم ينكره أحد من الصحابة، وهو خليفة راشد وبمحضر عثمان رضي الله عنه، وفي حال حياته، ولم ينكره أحد.
ولذلك فبعض الفقهاء يقول: إنه إذا لطمه وأذهب بصر العين فإنه لا يلطمه؛ لأن اللطم لا يؤمن معه الحيف، واللطمة عن اللطمة تختلف، ولا نستطيع أن نضبط اللطمة بقدر تتحقق به المساواة، فقالوا: في هذه الحالة ذهاب المنفعة، فنذهب منفعة عينه كما أذهب منفعة عين أخيه.
فمنهم من قال بالدواء، مثلما ذكر بعض الأئمة من تقطير الكافور ونحوه مما يذهب البصر، ولكن يشترط إذا عُولجت العين بالدواء ألا يؤذي هذا الدواء داخل البدن؛ لأنه زيادة على الجناية فلا يجوز.
وفعل علي رضي الله عنه أخرج الأمر عن الإشكال؛ لأنه جاء بالحديدة محماة ثم وضعت أمام العين حتى سالت وذهب نور الإبصار فيها، وما أحرق بها العين، وحينئذٍ تلافى الضرر بتقطير الدواء؛ لأن تقطير الدواء لا يؤمن معه الضرر كما لا يخفى.
وعلى هذا انعقدت كلمة الصحابة رضي الله عنهم، فإنه لا يعرف مخالف لـ علي رضي الله عنه في هذا، ولـ عثمان في سكوته على هذا القضاء.
ويستوي في ذلك أن تكون العين المجني عليها قوية الإبصار والجانية ضعيفة، أو العكس، فتؤخذ العين قوية الإبصار بالعين الضعيفة، ما دام أنه يبصر بها، ومنفعة الإبصار موجودة، فتؤخذ منفعة عينه كما أخذ منفعة عين أخيه، هذا بالنسبة للعين.(356/5)
القصاص في الجناية على الأنف
قوله: (والأنف) الأنف: هو العضو المعروف في الوجه، فلو جنى على الأنف جناية فقطع بها الأنف، كما لو اختصما فأخذ الجاني سكيناً فقطع أنف الآخر، والقطع يكون لما لان من الأنف وهو المارن، فإذا جدع الأنف وقطعه جدع أنفه بأنف أخيه، لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ} [المائدة:45].
ويستوي في ذلك أن يكون الأنف كبيراً وأنف المجني عليه صغيراً، أو أن يكون الأنف طويلاً والآخر أفطس أو قصيراً، فما دام أنه قد أخذ هذا العضو وجدعه من أخيه جُدع أنفه، سواءٌ ماثله في صفات الكمال أم لم يماثله، ولو كان المجني عليه لا يشم بأنفه، فحاسة الشم عنده غير موجودة، وجاء جانٍ فقطع أنفه، والجاني يشم وحاسة الشم عنده موجودة، فيقطع أنفه؛ لأن العبرة بالجرم، ومسألة أن يشم أو لا يشم أمر متعلق بالدماغ في تلك المنفعة، لكن الجناية وقعت على الطرف نفسه، فمادام قد قطع الأنف يقطع أنفه، بغض النظر عن كون الأنف المقطوع يشم به أو لا يشم، وإنما المراد أنه مثّل بأخيه المسلم، ثم إنه إذا قطع أنفه لم تذهب حاسة الشم من كل وجهه؛ لأن حاسة الشم متعلقة بالدماغ، فيقطع أنفه كما قطع أنف أخيه، ويُجدع أنفه كما جدع أنف أخيه.
وهذا لقوله تعالى: {وَالأَنفَ بِالأَنفِ} [المائدة:45]، فأمر الله بالقصاص في الأنف، سواءٌ استوى الأنفان في الطول والقصر -كما ذكرنا- أم اختلفا، فكما أنه أزال العضو بكامله يزال عضو الأنف منه بكماله وتمامه.(356/6)
الأذن والخلاف في القصاص بالمتحشفة
قوله: (والأذن) أي: يجب القصاص في الأذن، فتؤخذ أذن الجاني إن قطع أذن المجني عليه، وذلك لقوله تعالى: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة:45]، فأمر الله بالقصاص في طرف الأذن، وأوجب علينا أن نقطع أذن الجاني كما قطع أذن المجني عليه، سواءٌ اتفقت صفات الأذن طولاً وقصراً وجمالاً ونقصاً في الجمال أم اختلفت.
ولكن عند العلماء خلاف في الأذن المتحشفة، وهي التي تيبست من المرض حتى صارت مثل خسف التمر، فإذا جنى الجاني على أذن متحشفة، وأذن الجاني سليمة، فهل تقطع أذن الجاني أو لا؟ في ذلك وجهان للعلماء رحمهم الله تعالى: فمنهم من قال: إن كونها متحشفة لا يمنع منفعة السمع؛ لأن صوان الأذن يحفظ الأصوات ويعين على السماع، فقطع أذن الجاني مثلما قطع أذن المجني عليه؛ لأن المعنى فيهما واحد، وهذا في الحقيقة أقوى الوجهين وأصحهما وأولاهما بالصواب إن شاء الله؛ لأن العبرة بصوان الأذن كما لا يخفى، وهذا معروف؛ لأن الأذن إذا تحشفت يبست، ولكن الجرم موجود والسماع موجود، والانتفاع بالمتحشفة موجود كالانتفاع بغير المتحشفة.
وكما أننا نقتص من صاحب الأذن الكبيرة بالأذن الصغيرة لوجود الخلقة، فالمتحشفة في حكم الأذن الصغيرة، ولكن المنفعة موجودة وهي السماع، ولأن الله عمم فقال: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة:45]، وهذا عام يدل على أننا نقتص ممن قطع الأذن على الصفات التي ذكرناها.
فإذا نظرنا إلى الأذن ففيها منفعة وهي السمع، وفيها الجرم والذات المتعلقة بالطرف، فإذا كانت الجناية على طرف الأذن أخذت أذن الجاني بأذن المجني عليه.(356/7)
القصاص في الجناية على السن
قوله: (والسن).
أي: وتؤخذ السن بالسن، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أن الربيع بنت النضر رضي الله عنها وعن أبيها، اختصمت مع امرأة فاعتدت على سنها، فبلغت القضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أنس بن النضر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: كتاب الله القصاص -أي: تكسر ثنية الربيع كما كسرت ثنية أختها في الإسلام-، فقال أنس بن النضر رضي الله عنه: لا والله لا تكسر ثنية الربيع، -قالها من محبته، والإنسان تدركه الشفقة، وقد كان رجلاً صالحاً، ومن خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطمع من الله أن لا تكسر ثنية الربيع - فتنازل أهل المجني عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) فما ذهبت يمينه.
فالشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، والله يقول في كتابه: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45].
وعلى هذا فلو أنه اعتدى على سن أو أكثر فقلعها من المجني عليه قُلع مثلها من الجاني، وأخذ بجنايته مثلاً بمثل، كما أمر الله تعالى.(356/8)
القصاص في الجناية على الجفن والشفة
قوله: [والجفن] أي: جفن عين الجاني يُؤخذ بجفن عين المجني عليه، فنأخذ من الجاني جفنه، ولو أنه اعتدى فقطع الجفن الأعلى والجفن الأسفل من المجني عليه قطعنا من عينه مثلما قطع، وهذا -كما ذكرنا- بشرط أمن الحيف، وكما يقع القصاص في الطرف كاملاً يقع في جزء الطرف، فلو أن الجاني قطع يد المجني عليه كاملة من المنكب، فإننا نقطع يد الجاني من مفصل الكتف، مثلما قطع يد المجني عليه.
ولو أنه قطع جزء اليد فقطع الأصابع قطعنا أصابعه، ولو قطع من مفصل الكف مع الساعد قطعنا يده من مفصل الكف مع الساعد، ولو أنه قطع من مفصل المرفقين قطعنا من مفصل المرفقين، فيكون القصاص في كل الطرف وفي جزء الطرف، لكن بشرط أمن الحيف -كما سيأتي-، ويكون له موضع يمكن أن تتحقق به المساواة ويتحقق به العدل.
قوله: [والشفة] أي: لو أنه قطع شفة المجني عليه السفلى أو العليا قطعنا شفته السفلى إن كانت الجناية في السفلى، وإن كانت في العليا قطعنا العليا، وإن قطعهما قطعناهما منه، مثلاً بمثل سواءً بسواء؛ لأن الله أمرنا بالقصاص، فلما ذكر الله عز وجل العين والأنف والأذن والسن نبه بما ذكر على بقية الأعضاء، فلا يأتي شخص ويقول: القصاص في هذه الأعضاء المذكورة فحسب، فإن الله عز وجل ينبه بالمثل على مثيله، وبالشيء على نظيره وشبيهه، فكما أن الجاني إذا جنى على الأذن قطعنا أذنه، كذلك إذا جنى على اليد قطعنا يده، وإذا جنى على الرجل قطعنا رجله مثلاً بمثل سواءً بسواء؛ لأن الله قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، وقال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، فجعل الأمر راجعاً إلى المقاصة والمماثلة، فكما أنها تقع في الأنفس تقع كذلك في الأطراف.(356/9)
القصاص في الجناية على اليد
قوله: (واليد) أي: تقطع يد الجاني باليد وهي يد المجني عليه، وننظر في جنايته على اليد، فإن كانت على اليد كلاً بأن قطع بالسكين يد المجني عليه من مفصل الكتف -والعياذ بالله- فإننا نفعل به مثلما فعل بالمجني عليه، سواءٌ أكانت يده طويلة أم قصيرة، وسواءٌ كانت يده ذات قيمة أم لم تكن، كيد الصناع الذي له حرفة، فيده لها أثر ولها قيمة.
فإذا قطع رجل أو ذو صنعة يد رجل لا صنعة له فقالوا: تقطع أيدي أصحاب الحرف بأيدي من لا حرفة له؛ لأن الإسلام سوى بينهم، وتقطع يد الجاهل بالعالم، وتقطع يد الوضيع بالشريف، والضعيف بالشريف، ويد القوي تقطع بيد الضعيف، عدلاً من الله عز وجل، فمثلما فعل بأخيه يفعل به، وقد سوى الإسلام بينهما، فإذا قطعها كلاً قطعت يده كلها، وإذا قطعها من مفصل يمكن القطع منه دون حيف وجور، قطع من مفصل الكف، وكذلك من مفصل المرفق، وهكذا.(356/10)
القصاص في الجناية على الرجل
قوله: (والرجل) أي: تقطع الرجل بالرجل، فلو أنه اعتدى على رجل المجني عليه فقطعها من الكعبين، قطعنا رجله من الكعبين، أو قطع رجله اليمنى قطعنا رجله اليمنى، أو قطع رجله اليسرى قطعنا رجله اليسرى، مثلاً بمثل سواءً بسواء، سواءٌ أكانت الرجلان على صفة واحدة طولاً وقصراً أم لا، فلو كانت رجل الجاني طويلة ورجل المجني عليه صغيرة، قطعنا الرجل الطويلة بالصغيرة، والعكس؛ لأن المراد الاتحاد في العضو وقد حصل، والعدل يتحقق بأخذ هذا العضو بمثله ممن اعتدي عليه.(356/11)
القصاص في الجناية على الأصبع
قوله: (والأصبع): أي: ولو قطع الأصبع قطعنا أصبعه، فيقطع أصبع الجاني بأصبع المجني عليه، سواءٌ أكان من أصابع اليد أم من أصابع الرجل، ولا بد من العدل في هذا، فإذا قطع الخنصر قطعنا خنصره بخنصر المجني عليه، ولو قطع البنصر قطعنا بنصره، ولو قطع الوسطى قطعنا الوسطى منه مثلاً بمثل، ولو اجتمع جماعة -كما ذكرنا- فقطع بعضهم الخنصر والثاني البنصر والثالث الوسطى والرابع السبابة والخامس الإبهام، قطعنا من كل شخص مثلما قطع.
فإن اجتمعوا كلهم وأخذوا حديدة، أو قاموا بتحريك جهاز كلهم اشتركوا في تحريكه وإدارة الفعل الذي يكون به قطع الرجل، فحسمت الرِّجلُ كلها، أو حسمت الأصابع كلها، أو حسمت اليد كلها، حسمنا من الجماعة جميعاً أيديهم، وحسمنا أرجلهم مثلما يقع من الجناية على المجني عليه؛ لأن كل واحد منهم لو انفرد ففعله موجب للقطع.
وهذا كما ذكرنا في القصاص في النفس أن الجماعة لو اشتركوا في فعل لو انفرد الواحد منهم به قتل، فإنهم كلهم قتلة فيقتلون بالمقتول، وبينّا دليل ذلك، والأصل في هذا قضاء الصحابة رضوان الله في السنة العمرية من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الراشد رضي الله عنه، وإقرار الصحابة على هذا.(356/12)
القصاص في الجناية على الكف والمرفق
قوله: (والكف) أي: وكذلك الكف، والكف سمي كفاً؛ لأنه تكف به الأشياء، وحد الكف من أطراف الأصابع إلى الزندين، فهذا يمسى كفاً، وبطنه تسمى الراحة، فلو أنه قطع الكف قطعنا كفه، فإن قطع كف اليمنى قطعنا كفه اليمنى، وإن قطع كفه اليسرى قطعتا كفه اليسرى.
وقوله: (والمرفق) سمي المرفق مرفقاً؛ لأنه يرتفق عليه، أي: يتكأ عليه، والمرفق: هو مفصل الساعد مع العضد، فالعظم الذي بين زند الكف وبين العضد يقال له: الساعد، وما بين مفصل المرفق ومفصل الكتف يقال له: العضد، فإذا قطع اليد إلى المرفقين قطعنا يده إلى المرفقين، وإذا قطعها إلى الكوع قطعناها إلى الكوع، وهكذا.(356/13)
قطع الذكر والخصية أو تعطيل منافعها
قوله: (والذكر) إذا جنى عليه بقطع ذكره، فقد أجمع العلماء رحمهم الله كلهم على أنه يقتص من الجاني، فيقطع ذكره كما قطع ذكر المجني عليه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، وهذا بإجماع العلماء، كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني؛ أنه يجب القصاص بإجماع أهل العلم في قطع الذكر، سواءٌ أقطعه كاملاً مع الخصيتين، أم قطع العضو وحده دون الخصيتين، فيُقطع منه مثلما قطع من المجني عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، فكما أنه جنى هذه الجناية على أخيه المسلم فإنه يفعل به مثلما فعل به.
وقوله: (والخصية) كذلك لو أنه جنى على خصيته، فإذا جنى على خصيته فقطعها قطعنا منه مثلما قطع، وهذا كله بشرط أمن الحيف، أي: أن يكون القطع بطريقة يمكن أن يقتص منه فيها، ولا تكون هناك زيادة عند القصاص، أما إذا لم تؤمن الزيادة فلا، وهذا سيأتي إن شاء الله تعالى في الشروط.
ولو جنى عليه جناية في خصيته عطلت منافعه فأصبح عقيماً، فيفعل به مثلما فعل بالمجني عليه إذا أمكن ذلك وأمن الحيف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، وكذلك لو اعتدى عليه فعطل منفعة الذكر فأصبح لا ينتشر، فيفعل به من الدواء ما يمنع انتشار ذكره، فيستعمل منه مثلما استعمل من أخيه.(356/14)
القصاص في الجناية على الإلية
قوله: (والألية) وكذلك لو أنه قطع إلية أخيه، فإنه تقطع إليته، ولو قطع الإليتان قطعت منه الإليتان، ويستوي أن يتفقا في حجم الإلية أو يختلفا، كما لو كان أحدهما سميناً ذا شحم فإنه يؤخذ النحيف بالسمين والسمين بالنحيف؛ لأن المراد المساواة في العضو، فما دام أن هذا الجزء قطع فيقطع من الجاني مثله، وهذا كله -كما ذكرنا- بشرط أمن الحيف، وهذه المواضع ليست كالكف، وليست كالمرفق لها مفصل معين، بل تحتاج إلى نظر في الجناية، والرجوع إلى أهل الخبرة والأطباء في تقرير المماثلة والقصاص.
فإن قالوا: تمكن المماثلة حكمنا بالقصاص، وإن قالوا: لا يمكن، فحينئذٍ لها شأن آخر يأتينا إن شاء الله في حال عدم أمن الحيف.(356/15)
القصاص في الجناية على شفر المرأة وشرط اتحاد الجنسين في الأعضاء التناسلية
قوله: (والشَفر) الشفر في فرج المرأة، فإذا اعتدت امرأة على امرأة فقطعت شفريها قُطع منها الشفران، ولو قطعت أحد الشفرين الذي هو جانب الفرج الأيمن أو الأيسر قُطع منها مثلما قطعت من أختها، وهذا بالنسبة لاتحاد الجنس.
أما إذا كان الجاني رجلاً فلا يمكن أن يتحقق التماثل، ومثل هذا لا تستطيع أن تحكم فيه بالقصاص، فيشترط اتحاد الجنسين -أي الجاني والمجني عليه- بالنسبة للأعضاء التناسلية.
ولكن هنا مسألة أخرى وهي: لو أنه اعتدت امرأة على خنثى مشكل، فإن الخنثى إذا أشكل فرجه فليس أصلياً، وحينئذٍ فهناك نزاع بين العلماء رحمهم الله، أما إذا تبيّن وكان فرجاً أصلياً، فبعض العلماء يرى أن الخنثى إذا صار ذكراً صار الشفر وفرج الأنثى فيه عضواً زائداً، وحينئذٍ تأتينا مسألة قطع الأصلي بالزائد، والزائد بالأصلي، وسيكون تفصيله -إن شاء الله- في موضعه.
وكذلك إذا استبانت أنثى وكانت الجناية على عضو الذكر فنفس الحكم؛ لأنها لما تمحضت أنثى وتبين أن الخنثى وجدت فيه علامات على كونه امرأة، فحينئذٍ عضو الذكر فيها زائد، فيكون كالجناية على العضو الزائد.
وقوله: (كل واحد من ذلك بمثله) أي: يؤخذ كل واحد مما تقدم من العين والأنف والأذن والسن والذكر والخصية والإلية والجفن وغيرها مما ذكره رحمة الله عليه بمثله، وعلى هذا فلابد من اتحاد الأعضاء، فلا تؤخذ اليد بالرجل، ولا تؤخذ العين بالأذن، ولو كان المأخوذ أقل منفعة مما أُخذ، فلابد من الاتحاد والتماثل، ولا يجوز اختلاف الموضعين، وهذا محل إجماع، فلو اعتدى على يده وكانت يدي الجاني مقطوعة بأن قطعت بعد الجناية، سقط القصاص؛ لأنه لا يمكن الاتحاد والتماثل.
وكذلك لو اعتدى على رجله فقطعت رجله قبل أن يقتص منه، فلا يمكن القصاص، ولا يجوز أن يقتص من يده مثلاً.
ومن هنا قال رحمه الله: (كل واحد من ذلك بمثله)، فلابد من وجود التماثل بين عضو الجاني وعضو المجني عليه.(356/16)
شروط القصاص في الأطراف
قال رحمه الله: [وللقصاص في الطرف شروط] الشروط: جمع شرط، وهذه الشروط إذا وجدت حكمنا بالقصاص، وإذا فقدت أو فقد بعضها لا يُحكم به.(356/17)
الشرط الأول: الأمن من الحيف
قال رحمه الله تعالى: [الأول: الأمن من الحيف] معنى الأمن من الحيف أي: من الزيادة في القصاص على مقدار الجناية، والدليل على ذلك أن الله تعالى أوجب القصاص؛ كما نص على ذلك دليل الكتاب، ودليل السنة الصحيحة في قوله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، ولا يمكن أن يتحقق القصاص مع وجود الزيادة؛ لأن الجاني حينها يكون مظلوماً، ومن هنا قالوا: لو أنه قلع عينه، وغلب على الظن أننا لو قلعنا عينه بالطريقة التي قلعها الجاني أننا سنزيد ولا نأمن أن تحدث مضاعفات، وقد يموت الجاني، ففي هذه الحالة لا يقتص؛ لأن الجناية التي فعلها الجاني لا يمكننا أن نفعل مثلها بالجاني، وحينئذٍ لا يتحقق القصاص الذي أوجب الله عز وجل وفرضه.
وعلى هذا إذا لم تُؤمن الزيادة، ولم يُؤمن الحيف، فإنه لا يجب القصاص.
قال رحمه الله: [بأن يكون القطع من مفصل].
هذا تفصيل وتفسير لما تقدم، فالأمن من الحيف يتحقق بوجود نهاية للعضو المجني عليه، فيمكننا عند القطع أن نصل إليها، فإذا قطع كفه فعندنا مفصل الكف، وإذا جئنا نقطع كف الجاني فإننا نأمن الزيادة؛ لأن عندنا حداً واضحاً نقف عنده، فحينئذٍ القطع فيه أمن من الحيف والزيادة، فيجب حينئذٍ القصاص ويثبت، ولذلك قال رحمه الله: [أو له حد ينتهي إليه]، وذلك مثل أن يكون له مفصل كالكف والأصابع، فلو أنه أخذ أنملة من أصبع فإنه يمكن أن تؤخذ نفس الأنملة من الجاني؛ لأن لها مفصلاً، فيمكن تحقق المساواة، وحصول العدل المطلوب بالقطع والبتر والإبانة من هذا المفصل.
قال رحمه الله: [كما رن الأنف وهو ما لان منه].
أي: كما في مارن الأنف، فلو أخذه بسكين فجدعه جدعنا المارن من الجاني، وحينئذٍ يتحقق العدل وتحقق المساواة.(356/18)
الشرط الثاني: المماثلة في الاسم والموضع
قال رحمه الله: [الثاني: المماثلة في الاسم والموضع].
أي: يشترط أن يتماثلا في الاسم ويتماثلا في الموضع؛ لأن أصل القصاص المساواة والتماثل، فإذا اختلف الاسم واختلف الموضع فإنه لا قصاص، فإذا أخذ الجاني يد المجني عليه اليسرى فيجب أن نأخذ يده اليسرى، وحينما يأخذها من مفصل الكف نأخذ من مفصل الكف، وهكذا.
ولا يجوز أن تؤخذ اليسرى باليمنى ولا اليمنى باليسرى؛ إذ لابد من التماثل في الاسم والموضع.
ولذلك قال رحمه الله: [فلا تُؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين].
ولو أنهما تراضيا على ذلك، فنقول: لا، حتى ولو تراضيا، فلا تؤخذ اليد إلا بمثلها مستوية في الاسم والموضع؛ لأن موضع اليد اليمين ليس كموضع اليد الشمال، والجناية في موضع اليمين ليست كالجناية في موضع الشمال، وأخطر ما تكون الجناية في اليسار؛ لأنها جهة النزف للقلب، وأكثر المنافع في اليمين؛ لأن اليمين غالباً يكتب بها، ويتعاطى بها الأشياء المنتفع بها الصالحة والطيبة.
فعلى كل حال موضع اليمين ليس كموضع اليسار، واسم اليمين ليس كاسم اليسار، فلا تؤخذ يد يسرى بيد يمنى ولا العكس.
قال رحمه الله: [ولا خنصر ببنصر]: أي: ولا يؤخذ الخنصر بالبنصر، فلو قطع الخنصر - وهو الأصبع الصغير- من المجني عليه، فقال الجاني: اقطعوا بنصري، فنقول: لا يقطع إلا الخنصر الذي قطعت مثله، وسواءٌ أوجد الخنصر أو أم يوجد، فإن لم يوجد الخنصر وقال: اقطعوا البنصر، فنقول: لا يقطع إلا ما قطعت، ولا يبتر إلا ما بترت، ولا يجدع إلا ما جدعت.
قال رحمه الله تعالى: [ولا أصلي بزائد ولا عكسه].
هذه المسألة سبقت الإشارة إليها، فلو كان عنده أصبع زائد، فجاء الجاني وقطع الأصبع الزائد، فلا نقول: اقطعوا أصبعاً من أصابعه؛ لأن الجاني ليس له أصبع زائد، والأصبع الزائد ليس كالأصبع الأصلي.
ومن هنا تفرعت مسألة الخنثى المشكل، فقالوا: إنه إذا قُطع من الخنثى المستبين الذكر شيءٌ من فرج الأنثى وقطعته الأنثى، لم يقتص منها؛ لأنها لم تقطع عضواً أصلياً، والشفر في حق الجانية شفر أصلي، وبناءً على ذلك لو أننا حكمنا بالقصاص في هذه الحالة فقد ظلمنا الجانية؛ لأن المجني عليه لا ينتفع بهذا العضو، وليس هناك مساواة بين هذا العضو ومثله في الجاني.
ومن هنا فُرِّق بين العضو الزائد والعضو الأصلي، فلا ينظر إلى كونه عضواً أصبعاً، أو شفراً، أو ذكراً فحسب، فإذا كانت أنثى فقُطع منها الذكر فإنه لا يقطع الأصلي بالزائد، إذاً فالجناية إذا كانت متعلقة بالزوائد يعدل فيها إلى الضمان.
قال رحمه الله: [ولا عكسه].
أي: لو أن الجاني خنثى استبانت امرأةً فقطعت ذكر رجل، فإن الذكر بالنسبة لها زائد، ولا يقال: إن القصاص تحقق من كل وجه، ولذلك لو بتر فلا تتحقق المساواة.
قال رحمه الله: [ولو تراضيا لم يجز].
قوله هذا إشارة إلى خلاف بين العلماء، فقد قال بعضهم: إذا تراضيا جاز، كما أنه من حق المجني عليه أن يتنازل عن حقه، فلو جنى على أصبع أصلي فقال المجني عليه: اقطعوا الزائد، أو جنى على زائد فقال المجني عليه: اقطعوا الأصلي.
وتراضيا على ذلك، فإنه جائز عند هذا الفريق من العلماء؛ لأن هذا حق المجني عليه، فإذا رضي جاز، ولكن اختار المصنف رحمه الله وهو مذهب طائفة من العلماء أنه لا يجوز وإن تراضيا، والمنصوص عليه عند الجمهور أنه لا يؤخذ الأصلي بالزائد ولا الزائد بالأصلي.
وبعضهم فرق وقال: إن أخذ الزائد بالأصلي فله وجه إذا رضي صاحب الأصلي؛ لأنه دون حقه، فإذا رضي به كان له ذلك.(356/19)
الشرط الثالث: استواء الطرفين في الصحة والكمال
قال رحمه الله: [الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال] أي: الشرط الثالث، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أوجب في القصاص المماثلة؛ لأنه إذا كان العضو الذي يقتص منه مماثلاً للعضو الذي اعتدي عليه تحقق العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فالمقصود من القصاص: العدل بين الجاني والمجني عليه، ومن هنا اشترط الأئمة رحمهم الله اقتباساً من النصوص استواء الطرفين في الصحة والكمال، فلا يؤخذ طرف صحيح بطرفٍ مريض، ولا يؤخذ طرف كامل بطرفٍ ناقص؛ وذلك لأننا لو أخذنا طرفاً كاملاً بطرفٍ ناقص فقد ظلمنا الجاني.
فلو أنه اعتدى عليه فقطع يده، وكانت يد المجني عليه مقطوعة الأصابع، والجاني يده كاملة الأصابع، فإننا لو قطعنا يد الجاني فقد ظلمناه، ومن هنا لابد من وجود العدل في القصاص في الأطراف، كما يجب العدل في القصاص في الأنفس، ولذلك قال رحمه الله: (استواؤهما) أي: وجود التماثل، وعدم وجود التفاوت بين العضوين في القصاص في الأطراف.
قال رحمه الله: [فلا تؤخذ صحيحة بشلاء].
أي: لا تؤخذ اليد الصحيحة باليد الشلاء، واليد المشلولة مسلوبة الحركة، وهذا الخلل في اليد يقتضي نقصها، ومن هنا لو اعتدى على يدٍ مشلولة فقطعها لم نقطع يده الصحيحة؛ لأننا لو قطعنا يده الصحيحة فقد ظلمناه؛ لأن الجناية التي فعلها لا تماثل ما نفعله به، ومن هنا لا بد من وجود العدل، فلا تؤخذ يدٌ صحيحة بيدٍ شلاء، كما لا تؤخذ رجلٌ صحيحة برجلٍ شلاء، ولا أصبعٌ صحيحة بأصبعٍ شلاء، فهذا من العدل، والدليل على هذا قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، وهذا يقتضي أن يكون هناك تماثلٌُ، وهذا أصلٌ منتزعٌ من قوله سبحانه وتعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ.
} [المائدة:45] إلى آخر الآية، فإن من تأمل هذه الآية الكريمة وجد أن المقصود العدل بين الجاني والمجني عليه، فإذا كان طرف الجاني المماثل للطرف المجني عليه أكمل، فإنه لا يمكن أن يتحقق العدل بقطع ذلك الطرف الكامل بالطرف الناقص.
فلا تقطع يد صحيحة -أي كاملة- بيدٍ شلاء، سواءٌ أكانت مشلولة بكاملها أم كان الشلل في بعضها، وسواءٌ أكان الشلل في أكثر اليد أم في بعض اليد، فلابد من وجود التماثل، ولكن لو اعتدى على يدٍ مشلولة الكف، ويده هو مشلولة الكف، فإنه تؤخذ يد الجاني بيد المجني عليه، ويقتص منهما؛ لأن العدل يتحقق بهذا.
قال رحمه الله: [ولا كاملة الأصابع بناقصة] أي: ولا تؤخذ يدٌ كاملة الأصابع بيدٍ ناقصة الأصابع، واليد الناقصة الأصابع تكون على ضربين: الضرب الأول: أن يكون النقص في أصابعها خلقة، كأن خلقها الله عز وجل بثلاث أصابع، أو خلقها الله بأصبعين، أو خلقها الله بأربع أصابع، فهذا نقص في الأصابع خلقة.
الضرب الثاني: أن تكون الأصابع موجودة في الأصل، ولكن قطعت أو بترت، كشخص قطع منه أصبعان في حادث، ثم جاء الجاني وقطع يده، أو قطع كفه، فإذا قطع كفه وكف الجاني كاملة الأصابع، فلا يمكن أن تقطع كف الجاني الكاملة الأصابع بهذه الكف الناقصة الأصابع، فيستوي أن يكون نقص الأصابع خلقة، أو أن يكون نقص الأصابع عارضاً لحادث أو أمر اقتضى بتر هذه الأصابع، فإنه لا تؤخذ الكاملة بالناقصة.
قال رحمه الله: [ولا عينٌ صحيحة بقائمة] أي: ولا يجوز أن تؤخذ عينٌ صحيحة يُبصر بها صاحبها، سواءٌ أكان إبصاره كاملاً أم كان إبصاره ناقصاً، بعينٍ قائمة، وهي التي فيها البياض والسواد، ولكن صاحبها لا يبصر بها، ولا يعتبر في قيامها بالبياض والسواد من ناحية الشكل أنها تماثل العين الصحيحة؛ لأن عين الجاني فيها صفتان: كونها قائمة في الصورة والشكل، وكونه يبصر بها، فمنفعة العين موجودة غير مفقودة، وعين المجني عليه منفعتها مفقودة، فلو أننا قلعنا عين الجاني ظلمناه؛ لأنه قلع عيناً ناقصة، ولا يمكن حينئذٍ أن يتحقق العدل لو قلعنا عينه؛ لأن الكامل لا يتحقق العدل فيه بالناقص، ومن هنا لا تؤخذ ولا تقلع العين الصحيحة بالعين القائمة، وهي التي لا يبصر بها صاحبها.
وهكذا في العينين، فلو جنى الجاني على أعمى، وكانت عيناه قائمتين، فإنه لا يقتص من الصحيح المبصر؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق العدل، فلو اقتلعنا عين الجاني الصحيحة بعين المجني عليه القائمة فقد أخذنا كاملاً بناقص، وهذا لا تأذن به الشريعة، ولذلك يُعدل عن القصاص.
قال رحمه الله: [ويؤخذ عكسه ولا أرش] هذه حالة ما إذا كان الأمر عكسياً، بحيث تكون يد الجاني شلاء، وقطع يد المجني عليه وهي صحيحة، فحينئذٍ نقول: إن يد الجاني يدٌ مشلولة، ويد المجني عليه يد كاملة، واليد الكاملة فيها صفتان: الصفة الأولى: صورة اليد وذاتها.
الصفة الثانية: منفعة اليد، وهي كونه يحركها ويقوم بها.
فالجاني وجُد في يده أحد الأمرين؛ لأن الحركة غير موجودة في المشلولة، والعضو الذي هو ذات اليد موجودٌ، فإذا رضي صاحب الحق -وهو المجني عليه- بقطع يد الجاني المشلولة، فإننا نقطع يده؛ لأنه رضي بالأقل، ومن حقه أن يرضى بهذا؛ لأن القصاص في مثل هذه الحالة يقتضي قطع يدٍ فيها الصفتان، وهذا حقه كاملاً، وللإنسان أن يأخذ حقه كاملاً، وله أن يأخذ حقه ناقصاً، وله أن يعفو، فلو قال: اقطعوا يده، فإني أريد أن يكون مقطوع اليد كما عذبني بقطع يدي؛ قطعنا يد الجاني.
وكذلك لو كانت كفه مشلولة، واعتدى على ذي كفٍ صحيحة، فقال صاحب الكف الصحيحة: أريد أن تقطعوا كفه، كما أنه بتر كفي، لأراه مبتور الكف فأشفي غليلي، قطعت كفه؛ لأنه وإن كانت كفه مشلولة لا يتحرك بها فالصورة قائمة في ذات اليد، والاعتداء على العضو كان صورة ومعنىً؛ لأن المقصود من العضو المنافع، فإذا تعطلت المنفعة فلا يُمنع أن يقتص الإنسان من الصورة وهي بعض حقه، ولذلك قال رحمه الله: (ويؤخذ عكسه)، وهكذا لو كانت كف الجاني فيها ثلاث أصابع وكف المجني عليه فيها أربع أصابع، أو كف الجاني فيها أصبعان، وكف المجني عليه فيها ثلاث أصابع، أو كانت كف المجني عليه كاملة فيها خمس أصابع، وكف الجاني فيها أربع أصابع، أو كانت كف الجاني فيها بعض الأصابع مشلولة، فقال المجني عليه: أريد أن تقطعوا كفه كما قطع كفي، أعطي حقه، ووجب أن يقتص من الجاني، فيؤخذ الناقص من طرفه بالطرف الكامل؛ لأنه يجوز للإنسان أن يأخذ بعض حقه.
وقوله رحمه الله: (ولا أرش) إذا اقتص من العضو الناقص في الجاني، فإن بعض العلماء قال: يضمن له الأرش، أي: أرش الفرق بين اليدين، فلو كان الأرش ألف ريال، أو عشرة آلاف ريال، قطعت يد الجاني الناقصة، ويقال له: ادفع للمجني عليه الفرق بين اليدين وهو العشرة آلاف ريال، وستأتينا -إن شاء الله تعالى- مسائل الأروش، وسنبين كيف يرجع فيها إلى أهل الخبرة في تقديرها وضابطها.(356/20)
الأسئلة(356/21)
حكم استعمال المخدر حال القصاص في الأطراف
السؤال: هل يجوز استعمال المخدر أو ما يسمى بالبنج عند القصاص في الأطراف؟ الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد: فعند القصاص لا يجوز استخدام المخدر؛ لأن المجني عليه تألم بالقطع، فيجب أن يتألم الجاني كما تألم المجني عليه، فالجريمة مشتملة على الألم ومشتملة على الضرر، فالألم بالحسم ووجود الألم الذي تضرر به المجني عليه بعد الجناية، والحسم: هو قطع العضو، فإذا خدرناه وقطعنا يده حصل الحسم ولم يحصل الألم، والمقصود: أن يتألم كما تألم المجني عليه، فعندها يمتنع ويُحرِّم على نفسه أن يقدم على قطع يد مسلم بعد ذلك.
ولذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، فبيّن سبحانه وتعالى أن الأرواح تُصان، وأن الأعضاء تحفظ، والأطراف تصان عن الاعتداء عليها بحصول الألم، فإذا ذاق مرارة الألم كما ذاق غيره، فإنه حينئذٍ يتحقق العدل، وثم شرع الله الذي كتبه الله عز وجل.
ومن هنا فحصول الروع للجاني مثلما فعل بالمجني هو العدل، ولابد أن يتألم كما تألم المجني عليه، ولكن لو أنه أراد أن يقطع يد المجني عليه فخدرها ثم قطعها، خُدرت يده، وفُعل به مثلما فعل بالمجني عليه.
والله تعالى أعلم.(356/22)
العدول إلى الدية حال تعذر القصاص
السؤال
في مسألة اختلاف الجنسين ذكرنا أنه لا قصاص، فهل يكون محله الدية؟
الجواب
هذا سيأتي تفصيله -إن شاء الله- في الكلام على مسائل الديات ولزوم الأرش في حال تعذر القصاص.(356/23)
حكم المسح على الجورب
السؤال
ما حكم المسح على الجوارب التي نلبسها اليوم ولا تُرى البشرة من خلالها، ولكن بلل الماء الممسوح ينفذ من حلال الجورب ويصل إلى البشرة؟
الجواب
المسح على الجوربين سنة محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن المغيرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين)، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله، لكن يشترط في الجورب -وهو الشراب- أن يكون ثخيناً، وأما الرقيق فالصحيح أنه لا يمسح عليه، وهو مذهب جماهير العلماء رحمهم الله تعالى.
والدليل لمن قال بجواز المسح عليه هو: القياس على الثخين؛ لأنه ما كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقيس على الثخين، والقياس في الرُّخَصِ ضَيِّقٌ وضعيف، هذا أولاً.
ثانياً: أن هذا القياس مع الفارق، فإن الرقيق إذا مسحته كأنك تمسح ظاهر القدم، ومذهب مسح ظاهر القدم يمكن أن يكون أرحم وأفضل من مسح الرقيق.
والثخين يُنزل منزلة الخف؛ لأن الخف من الجلد ساترٌ حافظ للقدم، وأما الرقيق فإنه لا يستر ولا يُنزل منزلة الجورب ولا منزلة الخف.
وعلى هذا فالواجب على المسلم أن يستبرأ لدينه، وأن يحتاط لدينه، خاصة أمر الصلاة، فإن أمرها عظيم، ومن هنا قال الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: إن الله فرض علينا غسل الرجلين بيقين، ولما جاءت أحاديث الخفين متواترة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها وانتقلنا إلى هذه الرخصة.
وعلى هذا فكذلك لما جاءتنا رخصة الجوربين نقول: إنها جاءتنا بحديث صحيح بجوربين كانا ساترين لمحل الفرض، ولم تكن الجوارب كهذه الجوارب الموجودة الآن الشفافة الرقيقة، التي لو وضع الإنسان أصبعه لربما وجد حرارته على بدنه من رقتها، فهي حوائل ضعيفة جداً، لا تُنزل منزلة الحوائل الثخينة في الجلد -كما في الخف- ولا في الجوربين.
ومن هنا اشترط بعض العلماء أن يكون الجورب منعلاً؛ لأن الرواية في الجوربين المنعلين؛ كل هذا تحقيقاً لمماثلة الجورب للخف حتى يكون أشبه بالخف.
وعليه فإنه لا يجوز المسح إلا على شُرَّاب ثخين لا ترى البشرة من تحته.
والله تعالى أعلم.(356/24)
كيفية قضاء الفائت من ركعات الصلاة
السؤال
إذا دخل المصلي في الركعة الثالثة لصلاة العشاء، فهل يأتي بالركعتين المتبقيتين جهراً ويقرأ الفاتحة وسورة سواها، على أساس قضاء الركعة الأولى والثانية، أم يأتي بهما سراً ويقرأ الفاتحة فحسب، على أساس أنهما الثالثة والرابعة بالنسبة له؟ أثابكم الله.
الجواب
هذه المسألة الصحيح فيها أن صلاة المأموم مع الإمام هي الأولى، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أتموا) أي: ابنوا على صلاتكم مع الإمام.
وعلى هذا يعتبر صلاته مع الإمام هي الأولى في الأقوال والأفعال، وأما رواية: (وما فاتكم فاقضوا)، فيجاب عنها من وجهين: الوجه الأول: من جهة السند، فإن رواية الإتمام أصح، ومن رواةٍ أقوى؛ لأنهم أصحاب الزهري رحمه الله، فهم الأوثق والأقوى والأضبط ممن روى القضاء.
ثانياً: من ناحية المتن، فالقضاء يستعمل بمعنى الإتمام، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10]، أي: أتِمَّت، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200]، أي: أتممتموها، ومن هنا قويت رواية الإتمام، وصارت هي الأصل؛ لاحتمال أن رواية القضاء جاءت بالمعنى، خاصة وأن رواتها أقل ضبطاً من رواية الإتمام.
وعلى هذا فالأرجح أن صلاتك مع الإمام هي الأولى، وعليه فإنك تصلي بركعتين لا تجهر فيهما في العشاء، وتصلي ركعتين لا تقرأ مع الفاتحة سورة كما في العصر؛ لأن الصحيح أنها لا تقاس على الظهر بقراءة سورة الإخلاص.
والله تعالى أعلم.(356/25)
نية الغسل والوضوء داخل الحمام
السؤال
بالنسبة للنية للغسل أو الوضوء، إذا كانت المغسلة داخل دورة المياه، فهل يشترط أن ينوي قبل دخول الدورة، أو عند إرادة الشروع في الوضوء أو الغسل؟
الجواب
النية ليست كلاماً فيمتنع داخل الحمام، بل النية في القلب، ولا علاقة لها بداخل الحمام أو خارجه، فإذا كان يغتسل داخل الحمام فلا يضره أن ينوي الغسل أو ينوي الوضوء، فينوي في قرارة قلبه ويجزيه ذلك.
والله تعالى أعلم.(356/26)
انتقاض الوضوء أثناء الغسل
السؤال
إذا توضأت قبل الغسل ثم غسلت البدن، وفي أثناء غسل البدن لمست الفرج أو خرج الريح، فهل يجب إعادة الوضوء عقب الغسل؟
الجواب
من مس ذكره أثناء الغسل فغسله صحيح وترتفع جنابته، ولكن لا يصلي بهذا الغسل إلا إذا عمم بدنه بعد هذا اللمس، حتى يندرج الوضوء تحت الغسل أو توضأ بعد غسله؛ لأنه بلمسه للذكر انتقضت طهارته الصغرى دون طهارته الكبرى، فيشترط بعد لمسه للذكر أن يتوضأ وضوءاً كاملاً، أو يعمم بدنه بالماء.
والله تعالى أعلم.(356/27)
استيعاب غسل الرجلين ثلاثاً
السؤال
ما المراد بغسل الرجلين ثلاثاً، هل استيعابها بالغسل ثلاث مرات، أم المراد ثلاث غرفات؟
الجواب
المراد به الاستيعاب ثلاث مرات، وهذا هو الإسباغ، وذلك أن يتوضأ فيغسل رجليه ثلاث مرات، ويغسل وجهه ثلاث مرات، ويغسل يديه ثلاث مرات، وأما رأسه فيمسحه مرة واحدة على الصحيح من أقوال العلماء، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً ومسح برأسه مرة واحدة، فهذه هي السنة، ولأنه لو مسح رأسه ثلاث مرات لأصبح الرأس مغسولاً؛ لأنه بتكرار المسح يصير في حكم المغسول، ومن هنا فُرّق بين مسح الرأس وبقية الأعضاء، فلا يشرع التثليث في مسح الرأس وحده.
والله تعالى أعلم.(356/28)
شرح زاد المستقنع - باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [2]
من أنواع القصاص فيما دون النفس: القصاص في الجراح، وهناك جراح يمكن فيها القصاص، مثل الموضحة التي توضح العظم، وكجرح العضد والساق والفخذ والقدم ونحوها، وهناك جروح لا يمكن القصاص فيها، ويرجع فيها إلى الأرش والضمان، وذلك مثل الشجاج كالهاشمة والمنقلة والمأمومة، ويقتص من الجماعة إذا قطعوا طرف شخص أو جرحوه بما يمكن فيه القصاص.(357/1)
القصاص في الجراح
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: النوع الثاني الجراح] القصاص فيما دون النفس إما أن يكون في الأطراف؛ كالعين والأنف والأذن والسن، وإما أن يكون في الجروح؛ لأن الجاني ربما قطع عضواً كاليد، وربما طعن بسكين، أو جرح بها، أو خدش بها، ولربما ضرب بحديدة فكسر العظم أو هشمه، فالجنايات فيما دون النفس على هذين النوعين، فإما جناية على الأطراف والأعضاء، وإما جناية بالجروح والكسور، والكلام هنا عن النوع الثاني وهو الجناية بالجروح، والجناية بالجروح يتبعها الجناية بالكسور.
والجناية بالجروح كأن يأخذ سكيناً فيضربه على كتفه، أو يأخذ سكيناً فيضربه على عضده، أو يأخذ سكيناً فيضربه بها في بطنه فتُظهر جوفه وأحشاءه، وهي الجائعة، وربما ضربه على موضع من بدنه فتكون موضحة، وربما كانت مأمومة تبين أم الدماغ، وربما كانت الجناية على العظام بهشمها وهي الهاشمة، أو كسرها كسراً ينقل العظم وهي المنقلة، فهذه كلها جنايات في الجروح، وهذا من كمال الشريعة وسعتها، وعظمة هذا الدين في تفصيله لهذه الأشياء، ولذلك لم يقتصر في الجناية على وضع الضوابط العامة، دون دخول إلى تفصيلات، وبيان أنواع هذه الجنايات وأحوالها المختلفة، فرحمة الله على أئمة الإسلام وفقهائه الأعلام، الذين أظهروا مكنونات هذه الشريعة بفضل الله عز وجل الذي لا فضل إلا فضله وحده لا شريك له، والذي علمهم وفهمهم فبينوا هذه الأحوال والظروف.(357/2)
ما يقتص فيه من الجراح
قال رحمه الله تعالى: [فيقتص في كل جرحٍ ينتهي إلى عظم].
أي: يتقص من الجاني في كل جرحٍ ينتهي إلى عظم، وهذا مبني على أن الجناية بالجروح أضيق من الجناية على الأعضاء والأطراف، فإن الجناية على الأطراف والأعضاء يستطاع فيها أن يستوفى من الجاني حق المجني عليه؛ لأنه يستطاع تحديد موضع الجناية على الطرف وعلى منفعته، أما الجناية بالجروح فمقيدة، ولذلك لا يُقتص فيها إلا بحدود، والسبب في هذا: أن الجناية بالجروح لا يؤمن معها الحيف، ولا تؤمن معها الزيادة.
ومدار القصاص على العدل والمساواة، ولذلك يكون أمر القصاص هنا أضيق منه في القصاص في الأطراف، ولذلك قال رحمه الله: (فيُقتص في كل جرحٍ ينتهي إلى عظم)، وذلك مثل الجروح التي تكون في العضد، والجروح التي تكون في الساعد، والجروح التي تكون في الساق، ونحوها؛ لأنه يمكن ذلك، فلو قيل للخبير في القصاص أن يجرحه جرحاً مثل الجرح الذي فعله بالمجني عليه لأمكنه ذلك، ولكن إذا كان في موضعٍ لا ينتهي إلى عظم، والجناية إن لم تنتهِ إلى عظم فلا تستطيع أن تحدد غور الجرح، بحيث تجرحه مثل جرحه، وتبضع اللحم مثلما بضع لحم المجني عليه، ومن هنا يضيق القصاص في الجروح ويكون صعباً؛ لأنه لا يؤمن معه الحيف، فإذا أراد المقتص أن يقطع مثل قطع الجاني فلن يستطيع أن يزن السكين، أو يزن القطع بنفس الوزن الذي وزنه به الجاني، أو يضربه نفس الضربة، أو يطعنه نفس الطعنة، والقاعدة أن كل ما لا يؤمن معه الحيف فإنه لا قصاص فيه؛ لأنه إذا لم نأمن الحيف فإننا لا نأمن التعدي، والأصل أن الجاني له حرمة، وإنما يؤخذ منه بقدر جنايته، فإذا لم نظمن أن نأخذ بقدر جنايته، فحينئذٍ لا يكون ظلمه للمجني عليه داعياً لنا أن نظلمه هو، وحتى يتحقق بين الطرفين فقد وضعوا ضابطاً هو القصاص في الجرح الذي ينتهي إلى عظم.
قال رحمه الله تعالى: [كالموضحة].
الوضوح: ضد الخفاء، ووضح النهار إذا بان ضوؤه، والموضحة: هي التي توضح العظم، كما لو وقعت خصومة بين الجاني والمجني عليه فأخذ السكينة -والعياذ بالله- فضربه على كتفه، فوجدنا أن الجرح الذي جرحه به أبان العظم وأوضحه، وما أضر بالعظم ولا كسره ولا هشمه، لكنه جرح يظهر العظم، فحينئذٍ انتهى الجرح إلى حد معين وواضح، فتستطيع أن تفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه، سواءٌ أكان هذا في العضد، أم في الساعد، أم في الساق، فهذه كلها يمكن فيها الجرح مماثلاً لجرح الجاني، فحينئذٍ يُقدر الجرح ويُسبر، ثم بعد ذلك يُفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه.
قال رحمه الله تعالى: [وجرح العضد].
العضد: ما بين مفصل المرفق إلى مفصل الكتف، وما بين مفصل المرفق ومفصل الكف يقال له: الساعد، ومثل هذا يقع أيضاً في جرح الساعد، فإنه إذا ضربه بالسكين على ساعده وأوضح العظم، وظهر العظم من ضربته، فيمكن أن يفعل به مثلما فعل بالمجني عليه.
قال رحمه الله تعالى: [والساق].
الساق: ما بين مفصل القدم ومفصل الركبة، فلو أنه ضربه بسكين، أو بآلة جارحة فأظهرت عظم ساقه، ولم تؤثر في العظم؛ اقتص منه في الموضحة، ولو أنها هشمت العظم وكسرت عظم المجني عليه، فقال: أريد أن تفعلوا بالجاني موضحة، فإنه يقتص منه بالأقل؛ إذ لا يستطاع أن يكسر عظمه نفس ما كسر، فيقتص بالأقل، وسيأتينا هذا إن شاء الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: [والفخذ].
أي: والفخذ كذلك، وعظم الفخذ ما بين مفصل الركبة ومفصل الورك الذي في الأعلى، وسواءٌ ما أقبل منه أم أدبر، فإذا ضربه بالسكين عليه فأوضح عظم الفخذ فُعل به مثلما فعل بالمجني عليه، واقتص منه موضحة.
قال رحمه الله تعالى: [والقدم].
إذا أتت الجروح في نفس القدم من مفصل الكعبين إلى أطراف الأصابع، فإنها تنتهي إلى عظم، فلو جرحه جرحاً أوضح عظم قدمه فُعل به مثله، فلو كان جرحاً طويلاً جرحناه جرحاً طويلاً، ولو كان وضوح العظم في نصف الجرح أوضحنا عظمه في نصف الجرح، فخدشناه الخدش ثم أوضحنا فيه، ولو كان الوضح في نفس العضو كاملاً فُعل به مثلما يفعل بالمجني، سواءً بسواء، والدليل على هذا كله قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، فإن هذه الآية الكريمة أصل عند أهل العلم في القصاص في الجروح، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نقتص من الجارح إذا جنى على المجني عليه بجرحٍ، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن القصاص يقع في الجروح كما يقع في الأنفس والأطراف.(357/3)
ما لا يقتص فيه من الجراح وأنواع جناياتها
قال رحمه الله: [ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح].
تقدم معنا أن القصاص إما أن يكون في النفس، فيما دون النفس، والذي دون النفس: إما أن يكون في الأطراف -وقد ذكرنا مسائله-، وإما أن يكون في غير الأطراف، والذي في غير الأطراف يشمل: القصاص في الجروح، والقصاص في الشجاج، وهي جمع شجة، ويعبر بها عن الجنايات المتعلقة بالرأس والوجه.
ثم هذه الشجاج والجروح تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يمكن فيه القصاص، وتتحقق فيه المماثلة، ويؤمن فيه الحيف، بمعنى أننا لو أردنا أن نمكن المجني عليه من فعل جناية بالجاني كجنايته عليه أمكن ذلك.
القسم الثاني: أن يتعذر ذلك، بحيث يغلب على ظننا أننا لو أردنا القصاص فلابد من حصول الزيادة -التي هي الحيف-، أو عدم حصول التماثل، ومن هنا بين المصنف رحمه الله أن الموضحة، وجرح العضد، وجرح الساق، وسائر ما سمى رحمه الله أنه يقتص فيها، والموضحة -كما تقدم معنا- هي التي توضح العظم.
ومن حيث الأصل فالجنايات إذا كانت جروحاً ففي الجسم ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: الجلد، والطبقة الثانية: اللحم، والطبقة الثالثة: العظم.
فهذه ثلاثة مواضع تقع عليها الجنايات، وإذا حصلت الجناية على الجلد فإنها تأتي على طبقات، وإذا حصلت الجناية على اللحم فإنها تأتي على طبقات، وإذا حصلت الجناية على العظم فإنها -كذلك- تأتي على طبقات ومراتب.
وبناءً على هذا بين المصنف رحمه الله أنه لا يُقتص في غير الموضحة، وهي التي توضح العظم، فإذا أوضحت العظم فمعنى ذلك أن الآلة وصلت إلى كشف العظم دون أذيته، فهذا النوع من الجنايات له حد ينتهي إليه، بخلاف جرح الجلد، وبخلاف جرح اللحم، فإنه ليس له حد ينتهي إليه.
وتوضيح ذلك: أن الجناية غير الموضحة إما أن تكون أقل من الموضحة، وإما ان تكون فوق الموضحة.
أما الجنايات دون الموضحة فأولها يسمى: بالقاصرة والحاصرة، وهي التي تقشر الجلد، ولا يخرج معها الدم، ثم يلي ذلك البازلة، ويقال لها: الدافعة، والبازلة: هي التي تكشط الجلد، ويخرج معها دم، فالجناية بها أقوى من الجناية الأولى، ثم بعد ذلك الباضعة، والباضعة: هي التي تنتهي من الجلد، وتدخل في اللحم، ولكنها لا تتوغل في اللحم، وإنما تجرح اللحم فتبضعه، ثم بعد ذلك المتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم، ولكن لا تصل إلى العظم، ثم بعد ذلك السمحاق، والسمحاق: هي التي ليس بينها وبين العظم إلا القشرة الرقيقة.
فهذه الجنايات الأول كلها قبل الموضحة، ولا قصاص فيها على ما اختاره المصنف رحمه الله.
وبناءً على ذلك: فلو اختصم اثنان، فجرح أحدهما الآخر بسكين، فكشط لحم جلده، ولم يخرج دم، فهي حاصرة، ولا قصاص فيها، ويعدل إلى الأرش، وفيها حكومة، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- كيف تقدر، وكيف يعطى حقه في هذه الجناية.
وإذا ضربه بالسكين، فنفذ من الجلد إلى اللحم، وغاص في اللحم، ولم يصل إلى العظم، فهي متلاحمة، أو قطع اللحم، ولكن ضربة السكين لم تدخل في اللحم، فهذه باضعة، وكلها لا قصاص فيها على ما اختاره المصنف رحمه الله تعالى.
إلا أن بعض العلماء يرى القصاص في الباضعة، ويرى القصاص في المتلاحمة، ويرى القصاص في البازلة، التي تكشط الجلد ثم يخرج منها دم، وهو مذهب المالكية وأهل الرأي، وقالوا: إنه بالإمكان إذا جُني على شخص جناية بمثل البازلة أن نقيس الجرح الذي جرح طولاً، ونحدد مكان الجناية، ثم نبضعه، ونفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه، وبهذا يمكن القصاص.
والذي دعا الحنابلة والشافعية رحمة الله عليهم إلى منع القصاص في هذا هو قولهم: إنه يتعذر أو يصعب التماثل، ومن شرط ثبوت القصاص في الجروح: حصول التماثل وأمن الحيف، والناس يختلفون من حيث اللحم نحافة وسمناً، ثم طبيعة العضو طولاً وقصراً، وهذا يؤثر في الجناية نفسها، ولا يمكن أو لا يستطاع -غالباً- أن يأتي القصاص مثل الجناية سواءً بسواء، وإذا لم يؤمن الحيف سقط القصاص.
وفي الحقيقة مذهب الحنابلة ومن وافقهم أقوى؛ إذ إن هذه الجنايات والجروح لا يؤمن معها الحيف في الغالب، خاصة لاختلاف أحوال الناس، ومن هنا فالأحوط مذهبهم الذي يقول: لا قصاص في هذه الأشياء.
هذا بالنسبة لما هو أقل من الموضحة.
وأما ما فوق الموضحة: فالهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، فإذا دخلت الضربة في العظم وكسرته فقد هشمته، فالهاشمة توضح العظم وتهشمه وتكسره، والمنقلة -وهي فوق الهاشمة- توضح العظم، وتهشمه، وتنقله، فإذا جاءت الشجة في الرأس، أو في جهة الدماغ، وكسرت العظم ونقلته عن موضعه فهي منقلة، والمأمومة: وهي الدامغة التي تكسر العظم، وتنفذ حتى تظهر لنا خريطة دماغ الشخص، وتسميتها قديمة من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وفيها ثلث الدية، وهي أعلى أنواع الجنايات بالنسبة لما يتعلق بالرأس.
فهذه الثلاث، وهي: الهاشمة، والمنقلة، والمأمومة؛ لا قصاص فيها، ويكاد يكون شبه إجماع على أنه لا قصاص فيها؛ لأننا لا نأمن الحيف، ولا يستطيع أحد أن يكسر عظماً مثل كسر الآخر؛ لأن العظم إذا انكسر تهشم، ولا يمكن أن تكسره كسراً يساوي كسر الجاني، ومن هنا قالوا: يتعذر القصاص، ويمتنع الحكم به.
وقد حفظ عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه أنه قضى بالقصاص في المأمومة، وأنكر عليه الناس ذلك، وقالوا: ما عرفنا أحداً يقتص في المأمومة، وهذا الأثر اختلف فيه، وإن كان نص غير واحد من الأئمة على أنه لا يثبت عن عبد الله بن الزبير، فإن لم يثبت فالأمر واضح، والإجماع محكيٌ على أنه لا قصاص في الهاشمة والمنقلة والمأمومة، والسبب في هذا: أنه لا يمكن تحقيق المساواة، كما لا يؤمن الحيف والزيادة، وهذان عذران موجبان لسقوط القصاص.
و (من) في قوله: (ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح) بيانية، والشجاج: جمع شجة، وهي التي تكون في الوجه، وتكون في الرأس، والجروح: هي التي تكون في سائر البدن، فبين رحمه الله تعالى أن القصاص فيما دون النفس، سواءٌ أكان في الشجاج، أم كان في الجروح، لا يقتص فيه إذا كان على هذا الوجه الذي ذكرناه.(357/4)
القصاص في كسر السن
قال رحمه الله: [غير كسر سن].
استثنى رحمه الله السن، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وكلهم متفقون على أنه لو قلع سن أخيه قلعت سنه، إذا أتلف السن كلية، فتتلف سنه كما أتلف سن المجني عليه، وتؤخذ نفس السن التي جنى عليها، سواءٌ أكانت من الأضراس، أم كانت ناباً، أم كانت غير ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45]، أي: كتبنا عليهم أخذ السن -وهي سن الجاني- بالسن، والباء للبدلية، أي: بدلاً عن السن، وهي سن المجني عليه الذي ظُلم بالاعتداء على سنه، سواءٌ أكان ذكراً أم أنثى، وسواءٌ أكانت السن زائدة، أم أصلية، فلو أنه جنى على سن زائدة في أخيه وقلعها، وهو له سن زائدة مثلها، فإنه تقلع سنه بسن أخيه، ولو قلع سناً أصلية من أخيه؛ فإنه تقلع منه مثل السن التي قلعها من أخيه، والدليل على ذلك ظاهر الآية، وما ورد في السنة في حديث أنس بن النضر في قصة الربيع رضي الله عنها لما كسرت سن الجارية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص).
أما إذا جنى عليه جناية دون القلع، فكسر له نصف سنه، أو كسر ربع سنه، ففي القصاص حينئذٍ وجهان للعلماء رحمهم الله: أصحهما وأقواهما أنه يُقتص من سن الجاني بمثل وبقدر ما اعتدى على سن المجني عليه، بشرط أمن الحيف، فلو كسر سن المجني عليه، فقال الأطباء: هذا الكسر نصف السن، أخذ من سن الجاني بقدر ما جنى، وكانوا في القديم يبردونها بالمبرد الحديد، فيأخذون نصف السن برداً، أو ربعها، أو نحو ذلك على قدر جنايته.
فالصحيح أنه يُقتص من السن، والدليل على ذلك الحديث الصحيح في قصة الربيع، فإنها كسرت سن الجارية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، فأمر بالقصاص، فدل على أن السن يُقتص منها بأخذ جزء معادل للجزء الذي جُني عليه.
فإن كان الكسر على صفة لا نستطيع أن نفعل بالجاني قدرها، أو قال الأطباء: لا نأمن أن السن تتهشم، أو أن السن التي كانت في الجاني ضعيفةٌ، بحيث لو بُردت تكسرت وتشهمت، سقط القصاص وعدل عنه إلى الضمان.(357/5)
القصاص بموضحة في أعظم منها
قال رحمه الله تعالى: [إلا أن يكون أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة، فله أن يقتص موضحة، وله أرش الزائد].
أي: إلا أن تكون الجناية أعظم من الموضحة، وهنا مسألتان: المسألة الأولى: لو أنه جُني عليه بجناية فوق الموضحة، وأراد أن يقتص بها موضحةً، فهل يجوز له ذلك؟ المسألة الثانية: إذا اقتُص وأُذن بالقصاص، فهل يضمن الجاني الباقي ويدفع الأرش.
فهاتان المسألتان اختلف فيهما العلماء رحمهم الله، والصحيح: أنه إذا جنى عليه جناية هشمت عظامه، أو نقلت العظم، فإنه يُمكن جرحه موضحة، ثم يؤمر الجاني بدفع الفرق بين الموضحة وبين الجناية، فالموضحة فيها خمس من الإبل، فإذا كانت الجناية هاشمة ففيها عشر من الإبل، فيدفع خمساً من الإبل باقية عليه، وهذا المذهب هو الذي اختاره المصنف رحمه الله.
والدليل على ذلك: أنه جنى عليه جناية يتعذر القصاص فيها، فأخذ بعض حقه، وبقي له الآخر، كما لو قطع له أصبعين، فاقتص من أحدهما وأخذ قيمة الثاني، كما لو كان الأصبع الثاني مشلولاً فقال المجني عليه: أريد أن تقطعوا منه مثل ما قطع مني، وآخذ أرش الباقي لي من الأصبع المشلول، فلا أريد القصاص فيه، فله ذلك، وبناءً على ذلك فإن الأصل يقتضي أن يطالب بحقه كاملاً، وهو القصاص، فلما تعذر أن يأخذ بالقصاص في الهاشمة والمنقلة والمأمومة لما ذكرناه كان من حقه أن يقتص موضحة.
لكن هناك ملاحظة دقيقة لبعض مشايخنا رحمة الله عليهم في هذا، حاصلها أنه يقول: إن هذه المسألة ينبغي أن يفرق فيها بين الهاشمة والمنقلة إذا كان معهما جرح وإذا لم يكن معهما جرح؛ لأن الهاشمة قد تهشم عظامه دون جرح، كأن يضربه بحديدة فتتهشم العظام ولا يحصل جرح، وحينئذ فالجناية في العظم، وليست في الجلد، وكذلك المنقلة فقد ينتقل العظم بالضرب بدون جرح، فلو فُصّل بين ما إذا كانت الجناية قد جرحت، وأوضحت، ثم هشمت أو نقلت، وبين أن يكون الهشم أو النقل بدون جرح؛ لأن الجرح فيه إيلام زائد على الجناية؛ لأن الجناية قد تكون بالضرب والرض فقط، وفرق بين الجرح وبين الرض.
وهذا الملحظ أستسيفه, وأرى له قوة ووجاهة؛ لأن أصل القصاص المماثلة، ومن هنا فلو ضربه بحديدة، فلم تجرح، ولكنها كسرت العظام فهشمتها، أو كانت الجناية منقلة نقلت العظام ولكنها لم تجرح، فحينئذ لو حكمنا بجرح الجاني فمعنى ذلك أننا آلمنا الجاني بغير جنايته؛ لأن جنايته بالرض، وليست بالجرح، فالأشبه أن ينبه على هذا، ويُفرق بين أن تكون المنقلة والهاشمة بجرح الجلد واللحم والنفوذ إلى العظم، وبين أن تكون رضاً بدون جرح.(357/6)
القصاص من الجماعة بالواحد في الأطراف والجروح
قال رحمه الله تعالى: [وإذا قطع جماعة طرفاً، أو جرحوا جرحاً يوجب القود، فعليهم القود].
هذه المسألة فيها نفس التفصيل الذي تقدم معنا في القصاص من الجماعة، والحاصل: أنه إذا اعتدى على الشخص جماعة، فلهم صورتان، والكلام عن إحداهما: وهي إذا كان فعل كل واحد منهم جناية لوحده، بحيث لو انفرد لحصل به القطع، ومن أمثلة ذلك: أن يعتدي ثلاثة أشخاص على شخصٍ، فيقوم أحدهم ويجرحه موضحة في آخر رأسه، ثم يضربه الثاني موضحة في منتصف الرأس، ثم يضربه الثالث موضحة في وجهه، فهذه ثلاث جنايات من جماعة، فيقال له: افعل بكل واحد مثل ما فعل بك في نفس الموضع الذي ضربك فيه، فالأول يقتص منه موضحة في آخر الرأس، والثاني يقتص منه موضحة في منتصف الرأس، والثالث يقتص منه موضحة في وجهه، ولو أراد أن يقتص من بعضهم ويعفو عن بعضهم، أو يقتص من بعضهم، ويأخذ الدية من بعضهم، فذلك من حقه، فلو قال: فلان أقتص منه، وفلان أريد منه المال، وفلان عفوت عنه لوجه الله تعالى؛ فله ذلك، كما لو اعتدوا عليه متفرقين.
وبناءً على ذلك: فإذا اعتدى عليه جماعة، فإننا نظر إلى فعل كل واحد منهم، وإذا كان فعلهم جميعاً في موضع لو انفرد كل واحد منهم بالفعل لأبان ذلك الموضع، فإنه يثبت القصاص على كل واحد منهم منفرداً مستقلاً، كما تقدم معنا تفصيله في القتل.
فالخلاصة: أن الجماعة يُقتص منهم، وهذا هو الذي جرى عليه عمل السلف، ونصوص الشريعة تدل عليه.
أما عمل السلف: فإن عمر بن الخطاب لما قتل جماعةٌ رجلاً باليمن أمر بقتلهم، وقال قولته المشهورة: (والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم)، فلا يفرق بين أن تكون الجناية على الواحد من شخص أو أشخاص، وأما نصوص الشريعة فعموم الكتاب في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] يدل على أنه يقتص من الجاني، وهؤلاء كل واحد منهم جانٍ، وكل واحدٍ منهم يوصف بكونه في فعله جانياً، فيمكن المجني عليه من أخذ حقه من كل واحد بحسبه، وهذا هو المذهب الصحيح، والذي دلت عليه الأدلة، واقتضته قواعد الشريعة، ولو أننا لا نقتص من الجماعة فما على المجرمين-إذا أرادوا أن يفعلوا جريمتهم- إلا أن يفعلوها مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص، وبهذا يحصل الشر والبلاء على الأمة، فقطع الله دابر أهل الفساد، فجعل كتابهَ وشرعهَ وحكمه: القصاصَ من الظلمة والجناة مجتمعين ومنفردين.(357/7)
الأسئلة(357/8)
حكم تعزية أهل المقتول قصاصاً
السؤال
هل تسن تعزية أهل القاتل إذا اقتص منه؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فيجوز تعزية أهل القاتل؛ لأنه لا ذنب لهم، والمسلم يُعزى في مصيبته، والأصول الشرعية دالة على مواساة المسلم لأخيه المسلم، فيشرع إذا قُتل القاتل أن يعزى أهله في مصيبتهم، ولا بأس في ذلك ولا حرج، وكونه يجني هذه الجناية لا يقتضي إسقاط حق أهله، فواجب على المسلم أن يعزي أخاه المسلم في مصيبته، وهكذا بالنسبة لأهل الجرائم، فلو كان قُتل في جريمة المخدرات أو نحوها، فيشرع أن يعزى أهله، فما دام أنه من المسلمين فإنه يشرع تعزية أهله فيه، وبعض الناس يظن أنه إذا قتل في مخدرات، أو قتل في قصاص، أو في جريمة؛ أنه لا يُزار أهله ولا يعزون.
وبعضهم يبالغ في هذا فيقول: مثل هذا لا تعزونا فيه.
وهذا لا يجوز شرعاً؛ لأنه إذا أقيم الحد على العبد طُهِّرَ من ذنبه، والدليل على ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقام الحد على المرأة التي زنت تكلموا فيها، وتكلموا في ماعز حينما أقيم عليه الحد رضي الله تعالى عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام في ماعز: إنه الآن ينغمس في أنهار الجنة)، وهذا يدل على سعة رحمة الله عز وجل، ويدل على أن من أعظم نعم الله على الإنسان ألا يشتغل بالناس، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله كلمة عظيمة في كتابه الفوائد -وكلامه رحمة الله عليه درر- قال: (أخسر الناس صفقة من اشتغل بنفسه عن الله، وأخسر منه صفقة من اشتغل بالناس عن نفسه).
فأخسر الناس صفقة من اشتغل بنفسه عن الله فجلس في الشهوات والملهيات يلذذ نفسه، ونسي ربه -والعياذ بالله- فاشتغل بنفسه عن الله، فهذا على الأقل متع نفسه، وأخسر منه صفقة من اشتغل بالناس عن نفسه، فقد يبدأ الإنسان بغيبة الناس حسبة أو طاعة أو قربة فيزل لسانه، ثم يستدرج حتى تصبح الغيبة في لسانه تأكل من حسناته ما لم يخطر له على بال، ولذلك فالاشتغال بالناس لا خير فيه، ومن هنا قال تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11].
ولما تكلم بعض الصحابة في الذي شرب الخمر رضي الله تعالى عنه، وقالوا: فلانٌ تقطرُ لحيته خمراً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)، فظاهره ذنوب وخطايا ولكنه مبتلىً، وعندها شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله.
عليك نفسك فاشتغل بمعيبها ودع عيوب الناس للناس ولذلك ترى الرجل الصالح التقي الورع شغلته ذنوبه، وألهته عيوبه، وأقبل على نفسه فاستكمل نواقصها، وقال: أنا المسيء، وأنا المذنب، وأنا الذي عندي عورات، وأنا الذي عندي سيئات.
وأذكر أن بعض مشايخنا رحمة الله عليهم كان لا يجلس أحد عنده فيذكر أحداً بسوء إلا نفر وقام كالأسد، فإما أن يطرده، وإما أن يوبخه، وإما أن يسكته، ويقول له: أنا الذي عندي العيوب، ونحن المخطئون، ونحن المذنبون، فدع الناس عنك، ومع ذلك تجده في نعمة محبوباً من الناس، ومقرباً من الناس، ومهاباً عند الناس، ومحفوظ العرض بين الناس، وفي الحديث: (قيل: يا رسول الله! من المسلم؟ قال: الذي سلم المسلمون من لسانه ويده).
وكثيراً ما يُجر الإنسان بسبب الغرور، فإذا التزم نسي أنه لا حول له ولا قوة، ثم يبدأ بنفسه وكأنه قد وصل إلى أعتاب الجنة بل إلى درجاتها العُلا، ثم يبلغ به الشيطان استدراجاً وأخذاً حتى يقف على أبواب الجنة -والعياذ بالله- ليدخل من شاء ويخرج من شاء، فهذه زلات القدم، ولذلك على الإنسان أن يتفقد نفسه، ومن سرته حسنته وأبكته أو ساءته سيئته، فهذا هو المؤمن الحق.
فمن نعم الله على العبد، بل من أجل النعم أن ينظر إلى نفسه وإلى عيوبه وإلى خطاياه، ويزدري نفسه في جنب الله عز وجل، وعندها إذا سمع عن مؤمن أو مسلم أخطاءً أو عيوباً رفع كفه إلى الله، وقال: اللهم عافه ولا تبتلنا، اللهم اهد فلاناً، اللهم تب على فلان، وإذا بالملك يؤمن، بينما تجد البعض -نسأل الله السلامة- يتتبع العثرات، حتى يبلغ به الأمر أن لو قيل له: فلان تاب، فإنه يشكك في توبته -نسأل الله العافية والسلامة- والله تعالى يقول: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8]، وهذا كله بالاستدراج، ووالله لو أن العبد الواعي الفاهم درس نصوص الشرع في بيان كيفية استدراج الله للعبد في معصيته، خاصة في حقوق عباده وأوليائه؛ لتعجب كيف أن الله سبحانه وتعالى يخذل من يؤذي عباده.
وإنما نقول هذا ونؤكد عليه؛ لأننا درسنا نصوص الكتاب والسنة فوجدنا الوعيد الشديد، والتقريع والتوبيخ على ازدراء المسلم؛ لأنه لا يتكلم في الناس إلا من يزدريهم، ولا يتكلم في الناس إلا من يحتقرهم، وانظر كيف عاتب الله نبيه عليه الصلاة والسلام من فوق سبع سماوات بسبب ما حدث من عبد ضعيف جاء يريد أن يستفيد، فقال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52]، مع أنه عليه الصلاة والسلام تأول واجتهد، ومع هذا جاء الخطاب من فوق سبع سماوات.
فحرمة المسلم عظيمة، وليعلم كل إنسان أن أعراض الناس ليست رخيصة، وليعلم كل إنسان أنه إذا جاء ينظر إلى الناس بأحسابها وأنسابها وألونها، وفقرها ومناصبها؛ فذلك لا يغني عند الله شيئاً، وقد قال الله لكل عبدٍ مؤمن بالله واليوم الآخر: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، فويلٌ لك إذا تكلمت في عبدٍ كريمٍِ عند الله عز وجل.
والتقوى في القلوب، والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، فإذا أصبح الإكرام من الله لعبده وكرامة العبد عند الله عز وجل موقوفة على التقوى، فإن التقوى ليس لك سبيل إلى علمها، وغيب القلوب لا يعلمه إلا الله تعالى نعم، لك أن تحكم على الظاهر، وكلامنا إذا لم توجد حاجة، وإنما في الاسترسال في أعراض المسلمين.
والعجيب أن تجد الشخص ملتزماً، وربما يمسي الليل قائماً، ويصبح بالنهار صائماً، ثم إذا به يقول كلمة واحدة عن الجنس الفلاني، والقبيلة الفلانية، فإذا به يبوء بالسيئات العظام؛ لأنه اغتاب جنساً، أو جماعة فلان، أو قوم فلان، وفي الحديث: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً -وفي لفظ: ما يتبين فيها- يهوي بها في النار سبعين خريفاً، أو أبعد مما بين المشرق والمغرب).
فلا يظن أحدٌ أن أعراض المسلمين عند الله رخيصة، وأن المسلم سهل أن يلاك عرضه باللسان، وليعلم أن له رباً يحاسبه، وأنه كما يستشعر عظم عرضه ومكانته، فلربما يكون مرقع الثوب عند الله بمكانٍ أفضل من مكانه، وله عند الله حرمة أعظم من حرمته.
فهنيئاً لمن قدر نفسه قدرها، وأذل نفسه وعرف حقها، هنيئاً لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس، وتوطن بالتقوى، وتسربل بسربالها، وسلم المسلمون من يده ولسانه، وزلات جوارحه وأركانه، وجماع الخير كله في الخوف من الآخرة، وما كف المسلم عن الوقيعة في المسلمين واحتقارهم والكلام فيهم شيءٌ مثل ذكر الآخرة، فوالله لو استشعر الإنسان أنه قائمٌ بين يدي الله، موقوفٌ بين يدي جبار السماوات والأرض؛ لهانت عليه الدنيا وما فيها، ولم يستطع أن يذكر مسلماً إلا بكل خير.
وكم رأينا والله من الصالحين والأخيار من العلماء والأئمة وطلاب العلم الفضلاء من شغلته نفسه عن الناس، فوجدناه في عافية من أمر دينه عجيبة، فقل أن تجده مفتوناً، وقل أن تجده يشتكي فتنة؛ لأن الذي بينه وبين الله صالحٌ، فأصلح الله سريرته، وأصلح ما بينه وبين الناس، فزكت روحه وسمت نفسه، فالمؤمن دائماً يبحث عن هذا، وثق ثقة تامة أنك إن وطنت نفسك على أنك المقصر، وعلى أنك الذي تطلق لسانك، وأنه ينبغي أن تكبح هذا اللسان، وأن تكبح جماحه، وأن تمنعه بمانع التقوى، حفظك الله، وذلك كله بفضل الله، ثم الدعاء، ثم ذكر الآخرة.
فما هذب أخلاق الإنسان وسلوكه شيء مثلُ ذكر الآخرة، والعلم بأنه لا مكان له بين يدي الله إلا بالعمل الصالح، وأن الله لم يجعله حكماً على عباده، وأن الله لم ينصبه من أجل أن يدخل من شاء في جنة الله، ويخرج من شاء عن رحمة الله عز وجل، وإنما هو عبدٌ مربوب، وليس برب يحاسب، وليس برب مطلع على ضمائر الناس في سرائرهم.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا لمحاسن الأخلاق، وأن يصرف عنا شرها وسيئها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد، والسلام عليكم.(357/9)
شرح زاد المستقنع - باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [3]
إذا جنى الجاني جناية على غيره فقد تسري هذه الجناية فتصيب العضو كله كاليد ونحوها، وقد تؤدي إلى إزهاق النفس وهلاكها، فإذا حصل شيء من ذلك فإن الجاني يضمن هذه السراية كلها، وإذا مات المجني عليه اقتص منه جزاء وفاقاً، وأما السراية بسبب القصاص فلا ضمان فيها، وكذلك إذا كانت السراية بعد القصاص والقود من الجاني فلا ضمان فيها أيضاً.(358/1)
أحكام سراية الجناية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(358/2)
سراية الجناية مضمونة فيما انتهت إليه
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها]: السراية: مأخوذة من (سرى) إذا مشى ليلاً، وسرى الشيء إذا مشى، وكأنهم صوروا سريان الضرر من العضو إلى البدن، أو سريان الضرر من جزء العضو إلى العضو كاملاً، ووصفوه بهذه الصفة؛ لأنه يسري ويدب ويمشي داخل العضو.
وهناك نوعان من السرايات: سراية قود، وسراية جناية، فسراية الجناية: كأن يجني الجاني على طرف الأصبع، فتسري الجناية من هذا الطرف فيسقط الأصبع -والعياذ بالله- أو يُشل ويتلف، وقد تسري إلى الكف كاملة، وقد تسري إلى الساعد، وقد تسري إلى الكتف، وقد تسري إلى البدن كله فتقتله، فهذه أحوال وصور لسراية الجناية، ومثلها سراية القود.
وقد تقع السراية بالأسلحة والآلات المسمومة، كما لو ضربه بسكين مسمومة، أو ضربه بسكين كالة وحصل تلوث بسببها، وقد سبق الكلام على القصاص فيما إذا حصلت الجناية على موضع بقطعه.
والأصل في الشريعة أنه لا يقتص من الجاني حتى يبرأ الجرح، خوفاً من السرايات، ولذلك امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من القصاص، وأمر المجني عليه أن يصبر حتى يبرأ.
فالأصل أننا لا نقتص حتى يبرأ الجرح، فإذا برئ الجرح وعرفنا نهاية الضرر، فإننا نقتص من الجاني بمثل جنايته، أما إذا لم يبرأ الجرح وسرى، فإما أن يسري إلى العضو كاملاً، أو يكون أكثر من ذلك، ولربما أتى على النفس فقتل المجني عليه.
فإذا سرت الجناية من طرف الأصبع إلى الأصبع كاملاً، فإننا نحكم بثبوت القصاص في الأصبع كاملاً، ولا نحكم به في الموضع الذي قطع منه؛ لأن هذا مستتبع، وهو تبع للجناية، والقاعدة أن التابع تابع، فهذا الضرر جاء تبعاً للجناية، ومن هنا يقتص منه قصاصاً كاملاً، فإذا أسقط العضو، أو شل اليد-والعياذ بالله-، أو شل الرجل اقتص من العضو كاملاً، او اعتدى على رأسه، ثم سرت الجناية حتى أخذت العين كاملة، فإننا نقتص من عينه كاملة، أو قطع منه طرف الأذن، فسرت الجناية حتى أتلفت الأذن كاملة، قطعت أذنه كاملة، وهكذا في بقية الأعضاء.
فإذا تعدى الضرر من الموضع المجني عليه إلى موضع آخر، فإنه يجب القود كاملاً تاماً، أما إذا سرى الضرر إلى نفس المجني عليه فمات، وقال الأطباء: إن سبب الموت هو هذا الجرح، أو هذه الجناية، كما لو ضرب شيخاً كبيراً وعاجزاً، فطعنه طعنة جائفة، فسرت الجائفة حتى أتت عليه فأهلكته، فإننا نوجب القصاص من الجاني، فيكون القصاص في نفسه بقتله؛ لأن سراية الجناية أتت على النفس، وكتاب الله القصاص في النفس كاملة، ولا نقول: إنه يتقيد بفعله الذي فعله؛ لأن هذا مستتبع بالجناية، فيُفعل به مثل ما فعل بمن جنى عليه.
وعلى هذا فإن سراية الجناية معتبرة، وبهذا قضى الأئمة والسلف الصالح رحمهم الله، وعليه اتفاق الأئمة رحمهم الله من حيث الجملة.(358/3)
سراية القود وحكمها
قال رحمه الله تعالى: [وسراية القود مهجورة].
أي: إذا حصلت السراية في القصاص، كما لو قطعت يده كما قطع يد المجني عليه، وشاء الله تعالى أن لا تبرأ يد الجاني، فنزف منها الدم حتى مات، فإنه لا يجب الضمان، وهذا هو قضاء أبي بكر، وعمر، وعلي رضي الله عنهم، وكلهم قضوا بأن سراية القود والقصاص والحدود لا ضمان فيها، وأُثر عن علي رضي الله عنه حينما أقام الحد على رجل فمات، فقال رضي الله عنه: (الحق قتله)، أي: لسنا الذين قتلناه، وإنما قتله الحق؛ لأن الله أمرنا أن نقتص، فإذا مات بالقصاص، فهذا حكم الله عز وجل وليس بحكمنا، وهذا هو القول الصحيح، وهو مذهب الجمهور رحمة الله عليهم، فسراية القود غير مضمونة.
وقال بعض العلماء كما هو مذهب الحنفية وطائفة رحمة الله على الجميع: إنها مضمونة، والصحيح أنها غير مضمونة.
ومن هنا فلو أن امرأة زنت-والعياذ بالله- وهي بكر، فجلدناها مائة جلدة، وبعد الجلد ماتت، وكان موتها بفعل حر الجلد وألمه، فإنه لا يقتص من الجلاد، ولا نوجب عليه الضمان في ماله، ولا في بيت مال المسلمين؛ لأن الله عز وجل أوجب علينا أن نفعل هذا الفعل، وهذا حكم الله تعالى في خلقه، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا ضمان في قصاص أو حد)، فلو أننا اقتصصنا منه فمات بفعل هذا القصاص، فإنه قد قتله الحق، ولم نقتله نحن، وحينئذ لا ضمان على المقتص، سواءٌ أكان أمره السلطان، أم القاضي، فلا ضمان عليه في ماله، ولا في مال بيت المسلمين، خلافاًً لمن قال: إنه يضمن، ثم اختلفوا: هل يضمن من بيت مال المسلمين إذا كان أمره القاضي؟ أو يضمن من ماله على عاقلته؟ على وجهين مشهورين عندهم، والصحيح أنه لا ضمان في هذا كله.(358/4)
الاستعجال في القصاص أو الدية وحكم السراية بعدها
قال رحمه الله تعالى: [ولا يُقتص من عضو وجرح قبل برئه، كما لا تطلب له دية]: أي: لو أن رجلاً قطع يد رجل، فقال المجني عليه: أريد أن أقتص، فيقال له: انتظر حتى تبرأ مخافة سراية الجناية، وحينئذٍ فننتظر إلى أن يبرأ، ونعرف حدود الجناية، فلا يقتص من عضو ولا طرف، ولا من جرح إلا بعد برئه، فإذا برأ قلنا له: اقتص منه، وهذا كما حديث جابر رضي الله عنه عند الدارقطني رحمه الله، وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم، والعمل على هذا عند أهل العلم رحمهم الله، فالجمهور على أنه لا يُقتص حتى يبرأ الجرح، فنعرف حدود الجناية، وهذا صحيح ولا إشكال فيه.
لكن إن اعتدي عليه فقطعت يده، فقال للقاضي: أريد أن أقطع يد الجاني، فقال له القاضي: انتظر حتى تبرأ، فأصر على حقه ليقتص فوراً، فبعض أهل العلم يقول: يُمكن من حقه، فإذا مُكن من حقه، ثم سرت الجناية بعد اقتصاصه، كما لو قُطع أصبعه، فقال: أريد القصاص وأريد أن آخذ بحقي، فمكنه القاضي، فقطع أصبع الجاني، ثم بعد القطع سرت الجناية حتى سقطت كفه، فسريان الجناية هدر، وفي هذا قصة مشهورة: (أن رجلاً ضرب رجلاً بقرن في ركبته، فقال: يارسول الله! أقدني، فأمره صلى الله عليه وسلم أن ينتظر، فأصر الرجل على القصاص، فقال: أقدني يا رسول الله! فأمره أن ينتظر، حتى ألح عليه فأمره أن يقتص، فلما اقتص سرت الجناية حتى أخذت رجله فعرج، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب حقه، فقال صلى الله عليه وسلم له: بطل جرحك)، أي: ليس لك حق، مادام أنك طلبت القصاص فوراً؛ إذ لو اقتص من الجاني بعدها لكنا قد أوقعنا به الضرر مرتين، وفعلنا به فعلين، وكانت جنايتين في مقابل جناية واحدة، والقصاص يقتضي التماثل، ومن هنا إذا استعجل في مطالبة حقه فقد أسقط حقه بعد ذلك، وقال بعض العلماء: له القصاص، والصحيح ما ذكرناه.
وقوله رحمه الله تعالى: (كما لا تُطلب له دية): لاحتمال أن تقطع أصبعه فتتلف يده كاملة، فيكون له نصف الدية، ومن هنا قالوا: إنه لا يعطى عشر الدية في أصبعه، وإنما ينتظر إلى برئه، فربما سرت الجناية، فكان حقه نصف الدية، فبدل أن يعطى عشر الدية يعطى حقه كاملاً.(358/5)
الأسئلة(358/6)
ضمان التفريط في سراية الجناية
السؤال
إذا كانت سراية الجناية بسبب تفريط المجني عليه، فما الحكم؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذا السؤال له جانبان: الجانب الأول: أن تكون السراية بسبب إهمال الطبيب، أو خطأ الطبيب، كشخص قطع أصبع أخيه، فجاء الطبيب ليعالجه، فلم يعالج أصبعه بالطريقة المعتبرة عند الأطباء، وأهمل مداواة الجرح حتى تلوث الجرح وتسمم، وسقطت يده، أو مات، فحينئذٍ إذا كان الموت بسبب هذه السراية وهذا الضرر فالضامن هو الطبيب، وليس الجاني؛ لأن الموت ما جاء من الجناية، وإنما جاء من العلاج، فإذا كان بالدواء الذي وضعه الطبيب، أو أهمل فيه، حتى حصل الضرر، فإن الطبيب يتحمل المسئولية؛ لأن الإهمال والتقصير من أسباب ضمان الأطباء، والطبيب يضمن إذا تعدى، ويضمن إذا أهمل وقصر في تتبع الأمور المتبعة عند الأطباء.
الجانب الثاني: أن يكون الإهمال من نفس المريض، كما لو كان المفروض عليه أن يذهب إلى الطبيب ليعالجه، فامتنع حتى تسمم الجرح وتلف، فإنه ضامن لنفسه، ولا يتحمل الضمان الطبيب ولا الجاني، فالجرح تعتبر سرايته إن كانت بسبب الجناية، فالطبيب بذل ما في وسعه، ولكن المرض استفحل والداء استشرى، فحينئذ يضمن الجاني، أما إذا كان بإهمال الطبيب، أو بإهمال المريض، فكلٌ يتحمل مسئوليته: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فالجاني تقدر جنايته ويضمن، والطبيب يقدر إهماله وإخلاله فيضمن، وإذا كان التقصير من المجني عليه فلا إشكال؛ لأنه يتحمل مسئولية نفسه.
والله تعالى أعلم.(358/7)
كيفية القصاص في الجناية الجماعية
السؤال
إذا لم تعرف جناية كل جان لوحدها، كالجناية الجماعية، فكيف يُقتص؟
الجواب
إذا لم تعرف الجناية، ففي هذه الحالة إما أن يموت المجني عليه، وإما أن يكون حياً يقبل قوله، فإذا مات فالأمر إلى ورثته، ولهم أن يَدَّعوا فيقولون: فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، فإذا ادعوا على كل واحد جناية جرى في ذلك سنن القضاء وصارت دعوى، فيُحضر كل واحد من هؤلاء الجناة، ويسأل عن دعوى الجناية، فإذا أقرَّ أُخذ بإقراره، وإذا لم يقرَّ فحينئذ يُطالب الورثة بالبينة والدليل، وعليه يمين إذا أنكر، ولو أن واحداً منهم قال: أنا أمسكته، والثاني هو الذي ذبح، وهو الذي بقر بطنه وأشعل النار فيه، فحينئذ في هذه الحالة يؤتى بالثاني، فإن أقر أنه هو الذي قتل، وأنه هو الذي فعل؛ فإن الأول ممسك والثاني قاتل، فالممسك يحبس إلى الموت؛ لأنه أمسك شخصاً لشخص يعلم أنه سيقتله، وكان بإمكان الشخص أن يفر لولا هذا الإمساك، فيحبس كما حبس هذه النفس المحرمة حتى يموت، ولا نستطيع أن نقتص منه؛ لأنه لم يكن الزهوق بفعله، ويقتص من الذي باشر، فالإمساك سببٌ، والبقر والبطن وإشعال النار مباشرةٌ، فحينئذ تجتمع السببية مع المباشرة، وقد تقدم معنا التفصيل في هذا.
ثم الأعضاء على نفس التفصيل، فإذا ادعوا على أن كل واحد فعل فعلاً، فقالوا: هذا قطع يده، والثاني قطع رجله، فنأتي بهؤلاء الذين ادعي عليهم، فإن أقروا فحينئذ يقتص من كل واحد بمثل جنايته، وأما إذا وجدوا مجتمعين، فظاهر الحال أنهم اشتركوا، وحينئذ كل منهم يحتمل أنه جانٍ، مادام أنهم كلهم في مكان الجريمة، وأُخذوا على ذلك، وأقروا، ولا تستطاع استبانة الفعل، والفعل مشترك بينهم، فحينئذ يُقتص منهم جميعاً، فلو أنهم كلهم قطعوا رجله، فأحدهم وضع السكين وحز بها، وقطعوا العضو، فالقطع حاصل بفعل من؟ فتقطع رجل كل واحد منهم.
وكذلك لو أرادوا أن يلقوا صخرة على شخص، فاحتاجوا الى تشغيل جهاز، فاتفقوا على تهيئته ووضعه، وكلهم جاء وشغله، فنزلت الصخرة على يده فقطعتها، أو كانوا يريدون قتله، فشرد الرجل فسقط على يده فقطعها، فحينئذ نقطع أيديهم كلهم.
فالجماعة إذا فعلوا فعلاً بحيث لو انفرد كل واحد منهم لحصل الزهوق بفعله، ولحصل القطع أيضاً للعضو بفعله، فإنه يُقتص منهم.
أما لو فُصل فعل كل واحد منهم فإننا نفعل بكل واحد مثل ما فعل، فلو أن أحدهم قطع يده، والثاني قطع رجله، والثالث قطع أذنه، قطعنا رجل من قطع الرجل، ويد من قطع اليد، وأذن من قطع الأذن؛ لأن كتاب الله القصاص، ولا يُجنى على الجميع بجناية إلا بمثل، ولا يؤخذ من الجميع شيء إلا مثل ما فعل بالمجني عليه، فهذا بالنسبة لاشتراك الجماعة في فعلهم بالمجني عليه، والله تعالى أعلم.(358/8)
نوع القتل بسراية الجناية
السؤال
سراية الجناية على النفس أليست من قبيل قتل الخطأ؛ لأنه لم يرد قتله، ولكن سرى الجرح فقتله؟
الجواب
لا، فليت القضية هنا قضية قتل خطأ، فهذا رجل جاء بالسكين وقطع أصبع المجني عليه، أو قطع يده، أو قطع رجله، فهو جان متعمد قاصد للضرر، وهذا الضرر استفحل حتى أتى على النفس، فيتحمل هذا الضرر كاملاً؛ لأن الموت حصل بهذه الجناية، وحصل بهذا الفعل، والدليل على ذلك: أن جرح أي موضع من البدن لا يؤمن معه أن يفضي إلى البدن كله، وعلى هذا فإنما ينظر إلى وجود العمد العدوان، فالنفس محرمة، والاعتداء على عضو منها لا يؤمن معه سريانه إلى جميع البدن، فيُحمل المعتدي المسئولية عن البدن كاملة، وإلا لضاعت الحقوق؛ إذ ما على الشخص إلا أن يأتي بسكين مسمومة، ويقطع بها أصبعاً، ويتركها حتى يموت المجني عليه.
فإيجاب ضمان السراية هذا ضبطٌ لحقوق الناس، وزجر عن الفتنة، وحسم لمادة الشر، ولو أن شخصاً وخز شخصاً بسكين في موضع وربطه، أليس من المحتمل أن ينزف جرحه حتى يموت؟ ففي بعض الأحيان الضرر البسيط على البدن قد يأتي على البدن كله، فمادام أنه قد أضر به ضرراً يأتي على النفس، فيتحمل مسئولية هذا الضرر، وعلى هذا فإننا لو حكمنا بالقصاص فما ظلمنا الجاني؛ بل فعلنا به مثل ما فعل بأخيه، فاستوى أن يكون ذلك بالطرف، أو يكون فيما هو مقتل، والله تعالى أعلم.(358/9)
طهارة المصاب بالباسور أو الناسور عند إرادة الصلاة
السؤال
إذا كان الإنسان مصاباً بالباسور، ويخرج منه شيءٌ بسيط، فهل عليه وضوء لكل صلاة مثل المستحاضة؟
الجواب
البواسير والنواسير فيها تفصيل؛ إذ البواسير من الخارج، وغالباً تكون على حلقة الدبر، أما النواسير فتكون من داخل الدبر.
فالجروح السيالة التي في داخل الدبر من النواسير إذا استمر النزيف فلها حكمان، والبواسير لها حكم واحد.
أما البواسير فإذا كانت من خارج، أو على الحلقة-حلقة الدبر فتحة الشرج- فإنها لا تنقض الوضوء؛ لأنها من خارج، ومادتها نجسة، وأما النواسير الداخلية فتنقض الوضوء، ومادتها نجسة، فللبواسير حكم واحد، وهو النجاسة، وللنواسير حكمان: وهما النجاسة، ووجوب إعادة الطهارة.
ومن هنا فإذا كان عنده نواسير، وخرجت الدماء مسترسلة، أو كان عنده سلس في خروجها، فإنه إذا استمر خروج الدماء من النواسير، واستغرق وقت الصلاة كاملاً، فحينئذ نقول له: توضأ عند دخول الوقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: (وتوضئي لكل صلاة)، وعلى هذا فإذا دخل الظهر فيتوضأ، ثم يصلي الظهر والسنن الراتبة القبلية والبعدية، ولو خرج معه دم النواسير؛ لأنه معذور، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فيعذر في هذا، وهذا بالنسبة لظاهر الحديث، أما إذا كانت النواسير تستمر معه وقتاً يسيراً كعشر دقائق، أو ربع ساعة، بحيث يأتيه نزيف بعد البراز مدة ربع ساعة، أو عشر دقائق، وحضر وقت الصلاة، فيقال له: لا تصل، وانتظر حتى تطهر، فتنقي الموضع وتطهره وتغسله، ثم تصلي صلاة بطهارة تامة كاملة.
وإذا كانت النواسير سيالة، وأمكنه أن يضع قطنة يسد بها موضع خروج الدم فليفعل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تتلجم، وقال عليه الصلاة والسلام: (أنعت لك الكرسف، قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك)، ومعنى (أنعت): أصف، والكرسف: القطن، وذلك لأنه كان يخرج منها الدم من الفرج، والدم دم الاستحاضة، فهو مثل النواسير؛ لأن هذا من القبل وهذا من الدبر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في دم الاستحاضة (إنما ذلك عرق)، فوصفه بكونه نزيفاً من عرق، وهذا العرق ورد تسميته في السننن وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله بأنه: العاذر، والعاند، والعاذل.
فإذا كان المعنى في النواسير هو نفس المعنى في الاستحاضة فالحكم واحد، فيقال لمن به ناسور: ضع قطنة تمنع خروج الدم وصلِّ، حتى إذا خرج الوقت أعدت الطهارة للصلاة الثانية.
ولكن إذا حصلت مشقة على الإنسان، كأن يكون في زمن شديد البرد، ويصعب عليه أن يتوضأ لكل صلاة، فإن له أن يؤخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها، حتى لا يبقى من الوقت إلا بقدر ما يتطهر، ثم يتطهر فيصلي الظهر، فإذا أذن العصر صلى بعده العصر، ثم يؤخر المغرب إلى ما قبل آخر وقتها، ثم يتطهر فيصلي المغرب، ثم يؤذن العشاء فيقيم ويصلي العشاء، وهذا يسمى بالجمع الصوري، وهذا إذا كان قد استفحل عليه الأمر، أو كان الماء عنده قليلاً، ولا يمكنه أن يتوضأ لكل صلاة، فحينئذ نقول له: اجمع جمعاً صورياً، وهو معذور في ترك الجماعة من هذ الوجه، والله تعالى أعلم.(358/10)
حكم الأخذ من مال اليتيم ديناً دون علمه وإدراكه
السؤال
عندي مال ليتيم، وقد أخذت منه مبلغاً، واعتبرته ديناً عليَّ، لأقوم بإرجاعه، وذلك دون علمه، حيث إنه صغير السن، فهل يجوز لي ذلك؟
الجواب
الله المستعان! والله يعينك، فقد تحملت أمانة عظيمة، وأموال اليتامى بلاء عظيم، ومن تحملها فليجعل الجنة والنار نصب عينيه، فأمرها عظيم، وعليه أن يتقي الله عز وجل، والذي أراه في هذه المسألة -وهو أصح قولي العلماء- أن ولي اليتيم ليس له أن يخاطر بماله، فلا يستدن من مال اليتيم لنفسه، ولا يستدن لغيره؛ لأنه لا يأمن العجز عن السداد، وقد يكون بحال طيب، ثم يتلاعب به الشيطان، فأوصيك أخي ونفسي بتقوى الله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، وأن ترد لهذا اليتيم حقه، وأن تكون ممن أثنى الله عليهم من فوق سبع سماوات بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]، فارع أمانة اليتيم، ورد ماله كاملاً تاماً، ولو استدنت من شخص آخر، فرد هذا المال، وابحث عمن يدينك، وأما مال اليتيم فهو أمانة في عنقك، فالله الله في هذه الأمانة، وأدِّها كما أخذتها، واتق الله عز وجل في مال اليتيم، فهذه وصيتي لك؛ لأن هذا أسلم لدينك، وأبر في طاعة ربك، فاتق الله عز وجل، ولا تخاطر وتعرض مال اليتيم للمخاطرة.
والله تعالى أعلم.(358/11)
حكم قص المرأة لشعرها
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تقص شعرها؟ وهل ورد ذلك عن عائشة رضي الله عنها؟
الجواب
قص الشعر له صور: الصورة الأولى -وهي ممنوعة محرمة-: أن يكون قصاً متفاحشاً؛ لأن هذا تشبه بالرجال، وهذا فعل المسترجلات، فتقص شعرها قريباً من شعر الرجل، حتى تبدو كأنها رجل، وهذا فعل المسترجلات من المتبرجات ونحوهن-أعاذنا الله وإياكم من أدران الأخلاق وسيئها-، ومثل هذا فيه اللعنة؛ لأن المرأة تفعله بقصد الاسترجال، والمرأة إذا استرجلت فهي ملعونة.
الصورة الثانية: قص المشابهة المحرم، وهو أن تقص على نمط أو طريقة وافدة من أعداء الله عز وجل، وهذا أيضاً فيه الوعيد، وفيه تشبه لمن سمى الله عز وجل، ولا يجوز للمسلمة أن تفعله.
الصورة الثالثة: القص النسبي، وهو التخفيف من الشعر، خاصة عند حدوث الأذية منه عند غسله ونحو ذلك، فتخفف منه، أو القص المسنون شرعاً كما في النسك؛ فلا بأس به ولا حرج، ولكن ما ذكرناه من القص الممنوع فإنه محظور.
وعلى كل حال فعلى المرأة أن تحمد الله عز وجل على العافية، وأن تحمد الله عز وجل على نعمته وخلقته، فالعبد المؤمن والأمة المؤمنة عليهم الرضا بخلقة الله عز وجل وتصويره، ومن رضي عن الله أرضاه، ومن أرضاه ربه بارك له، فأوصي المرأة أن تحمد الله عز وجل وتشكره، فكم من امرأة تساقط شعرها حتى تمنت أن تجد شعراً ولم تجده، ولكن إذا حصل ضيق، وتضررت منه، فتقص منه في حدود معقولة، ولا بأس بذلك ولا حرج، وأما أن تقص كما شاءت، وتفعل ما شاءت فلا.
وأما ما ورد عن أمهات المؤمنين فمحل نقاش كبير عند العلماء رحمهم الله تعالى، وفيه إشكالات في قصهن كالوفرة، وهل هذا فعلنه رضي الله عنهن وأرضاهن من باب التقشف والبعد عن الزينة؛ لأنهن من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرغبن في الزواج ففعلن ذلك؟ فهذا وجه، وقد جاء في حديثٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الله قال لهن: (الزمن الحُفُر)، وفيه إشكال عند العلماء معروف، ولكن الأصل في الشرع عدم تغيير الخلقة، والله تعالى خلق للمرأة هذا الشعر، وأحل لها الأخذ منه في النسك، وما عدا ذلك فإذا قصته خرجت به عن سنن فطرتها، وقد جعل الله عز وجل فيها الشعر جمالاً وشيئاً تتزين به، والأصل يقتضي عدم التصرف في هذه الأشياء، خاصة إذا استفحل القص، فإذا ترفعت في القص، وقصت قصاً متفاحشاً، فنقول: الأصل المنع منه، ولا يقال بجوازه إلا بدليل، خاصة وأنها إذا تفاحشت في القص شابهت الرجال، وعلى هذا يمنع منه، وأما إن كان قصاً نسبياً يقصد منه تخفيف الشعر، خاصة عند تضررها في الغسل من الجنابة والحيض ونحو ذلك، فلا بأس بذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.(358/12)
مدى مشروعية توجيه الذبيحة للقبلة
السؤال
هل هناك دليل على توجيه الذبيحة للقبلة؟
الجواب
هذا الأصل ينتزعونه من دليل المقارنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (من استقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا)، ويستأنسون بهذا، ولكن المحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه أضجع الذبيحة على شقها الأيسر، ووضع قدمه عليه الصلاة والسلام على الذبيحة، ثم سمى الله وكبر)، كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا أصل يحبه العلماء، ويقولون: التوحيد لله عز وجل، والذبح لله سبحانه وتعالى يكون ظاهراً وباطناً، ومن هنا فإذا استقبل القبلة، وسمى الله وكبره ووحده سبحانه وتعالى، فقد جمع بين الظاهر والباطن، وعلى كل حال فهذا ليس فيه حظر، وليس فيه منع؛ لأنه حقق مقصود الشرع من التوحيد والإخلاص.
كما انتزع العلماء من ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، وهو حديث حسنه غير واحد من الأئمة، مشروعية الاستقبال عموماً، فقالوا: فيستحب استقبال القبلة حال الحياة وحال الموت، ومن هنا يقولون: إنه يشرع بأصل عام، ولكن لا يلزم به الناس، ولا يكون إلزاماً واجباً محتماً على المكلف، والله تعالى أعلم.(358/13)
حكم وضع الصدقة عن الميت على قبره
السؤال
هل يجوز وضع شيء على القبور كالحب مثلاً بنية الصدقة عن صاحب ذلك القبر؟
الجواب
هذا لا يشرع؛ بل قد نهي عن الجلوس على القبر، ونهي عن وط القبر، وإذا وضع الحب على القبر فلربما جاءت البهيمة ووطأت القبر، وهذا مخالف للشرع تماماً، والذي يريد أن يتقرب إلى الله عز وجل فليتقرب بالمشروع، والقبور ليست مكاناً لتوزيع الحبوب، وهذا ليس بواردٍ وليس له أصل شرعاً، والذي يريد أن يوزع الحب، أو يريد أن يتصدق عن ميته، فالصدقة عن الميت مشروعة، والحديث فيها صحيح وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه سعد بن عبادة رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، وما أُراها لو بقيت إلا أوفت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، فتصدق عنها بحائطه الخراف)، وهذا يدل على مشروعية الصدقة عن الميت، وأن الميت ينتفع بصدقة الحي، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله كلام نفيس في هذه المسألة في مجموع الفتاوى، ويشرع أن يفعل ذلك بالصدقات، فيذبح ويعطي الفقراء والمساكين، أو يطعم الدواب الحبوب، أو يطعمها شيئاً صدقة عن والده الميت، أو والدته، وهذا من البر والإحسان إلى الأموات بعد موتهم.
وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين، وقال في أحدهما: اللهم هذا عن محمد وآل محمد -أي: آل محمد الأحياء والأموات- وقال في الثاني: عمن لم يضح من أمة محمد)، فشمل أحياءهم وأمواتهم، وقد أخذ منه الجمهور دليلاً على مشروعية الصدقة عن الميت، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.(358/14)
حكم من نوى العمرة بعد مجاوزة الميقات
السؤال
رجل جاء إلى جدة، وبعد أسبوعين نوى العمرة وهو في جدة، فهل يُحرم من جدة؟ أم يذهب إلى الميقات الذي جاء منه؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسألة فيها تفصيل: فإذا كان قد مر بميقاته ناوياً بعد الأسبوعين أن يعتمر، فيلزمه بعد الأسبوعين أن يرجع إلى الميقات، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المواقيت: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)، فإذا مر بميقاته مريداً للنسك، فيلزمه أن يرجع إلى ذلك الميقات، وأما إذا مر بالميقات غير ناو للنسك، أو متردداً، لا يدري: هل يسع الوقت للعمرة أو لا، ونزل إلى جدة لعمل، أو حاجة، فجد وطرأ، أو تيسر له أن يعتمر؛ فحينئذ يحرم من جدة؛ لأنه أنشأ النية من جدة، وقد مرَّ بالميقات غير متمحض للنسك، ولا مريدٍ له، وحينئذٍ سقط عنه الميقات، وجاز له أن يحرم من جدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ)، فهذا يدل على أنه ينشئ عمرته من جدة، والله تعالى أعلم.(358/15)
آداب ونصائح لطلاب العلم مع إخوانهم
السؤال
أنا من طلاب العلم، وأشتكي من بعض التصرفات من إخواني الطلاب، فما توجيهكم؟
الجواب
الدنيا كلها كدر، ولا بد من الصبر، ولا يفلح مؤمن في هذه الدنيا إلا بالصبر، فبالصبر تقوى نفسه، وتثبت عزيمته، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر)، فهل وجدت أحداً مرتاحاً في هذه الدنيا؟ وهل وجدت أحداً مطمئناً دون أن يجد منغصاً أو كدراً في هذه الحياة؟ قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، واللام جواب للقسم و (قد) للتحقيق، فقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}، أي: في تعب وعناء، ولا يزال المؤمن من هم إلى هم، ومن غم إلى غم، حتى تطأ قدمه الجنة فتتبدد عنه همومه وغمومه، ويقول إذا رأى نعيمها وسرورها ما قاله الله عز وجل حكاية عن أهلها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34].
أخي في الله! أوصيك أن تحمد نعمة الله عز وجل عليك، وأن تحس أن الله عز وجل يوم اختارك طالباً للعلم أنه قد أعطاك أحسن ما يُعطى بعد الإيمان بالله تعالى، وهو أن تطلب العلم، فإن زكوت واستقمت وصلحت سريرتك، وطابت سيرتك، وزكت علانيتك؛ بوأك الله مبوأ صدق في الدنيا والآخرة، ولن ترى من ربك إلا كل خير، فوالله ثم والله، ونشهد لله في هذا العلم بكل خير ورحمة، فما من أحد يطلب هذا العلم صابراً فيه لوجه باريه إلا أحسن الله له العاقبة في الدنيا والآخرة، ولن تجد أحداً أسعد من أهل العلم وطلاب العلم لو شعروا بالسعادة.
أخي في الله! إن وجدت أذية أو ضيقاً، فاعلم أن العلم لا ينال بالتشهي، ولا بالتمني، ولكن بالعناء والنصب، وهذا التعب والنصب هو الذي ينزل الله به عبده مبوأ صدق في الدنيا والآخرة.
وقد قال الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يعدم والإقدام قتال فبهذه المشقات، وبهذه المنغصات، وبهذه المكدرات، تتبوأ الدرجات العلا في الجنات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره).
ثم الأمر الثاني مما يهون عليك، ومما يوصَى به الإنسان، خاصة إذا أراد أن يطلب العلم: أن يعظم بعد الله عز وجل، وكتابه وسنة نبيه عليه عليه الصلاة والسلام أمرين، ويحبهما في الله عز وجل، ويعتقد هذه المحبة خالصة لوجه الله عز وجل، أولهما: أهل العلم، فلن يفلح طالب علم في علمه ما لم يعظم أهل العلم، ولا يعظمهم تعظيم الغلو، وإنما يعظمهم في الحدود الشرعية، وأن يشعر أن الله عز وجل أعطاهم هذه الأنوار من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فيحبهم ويجلهم ويقدرهم ويوقرهم ويصبر على كل أذية منهم.
أخي في الله: قد يؤذيك طالب عالم، زميل لك-كما تشتكي أنت- تأتي تريد أن تسأل الشيخ -مثلاً- فيسبقك، وينافسك، ولكن هل تعلم من هو هذا الطالب؟ وهل تعلم من هو هذا المجد المثابر الذي تعلق قلبه بمحبة العلم فاستولى على مشاعره، فلم يلتفت إلى من عن يمينه أو يساره؟ ولو أن كل طالب شعر من هو طالب العلم الذي يرافقه، وشعر بحرمته في الإسلام، وشعر بحقه في طلب العلم؛ لهانت علينا كثير من التصرفات.
ومن المجرب أن الإنسان حينما يدخل مسجداً، ويعتقد أنه أقل الناس، وأنه أحقر الناس، وأنه أضعف الناس، حتى يرفع الله درجته، تهون عليه تصرفات الناس كلها، وعندها يرضى عنه ربه، ويعظم أجره، فهذا الطالب-طالب العلم- قد يكون في ذلك اليوم ترك أعز الأشياء عليه من ماله وولده وأهله، وجاء من أجل طلب العلم، فلا تستغرب منه أن يأتي كالبعير الهائج على الشيخ؛ لأنه ضحى بشيء كبير، وقد يكون أتى من مسافات بعيدة، وقد يكون ضحى بأشياء عزيزة عليه، فحينما تحس من هم طلاب العلم، وتحس من هذا الذي ضحى بوقته، وجاء تاركاً لأشغاله وأعماله؛ تحس أنه شيءٌ عزيز، وأنه شيءٌ غالٍ، ولو كان مرقع الثياب فقير الحال، فقد يكون عند الله أعظم منزلة من غيره، وربما كان لا يملك إلا قوت يومه، ومع ذلك يضحي في ركوب السيارة من أجل الوصول إلى الدرس، فلو أن كل طالب علم يستشعر أن إخوانه من طلاب العلم ضحوا، وأنه لم يضح، وأنه لم يقدم شيئاً؛ لأدرك أن طلب العلم شيءٌ كبير، ولصبر على تصرفاتهم وعذرهم وأحبهم، فتأتلف القلوب بهذا.
وكما أننا نوصي هذا الطالب بالصبر، فنوصي أيضاً طالب العلم أن لا يؤذي إخوانه؛ إذ لا يجوز للمسلم أن يؤذي إخوانه، وأذية المسلم للمسلم محرمة، ولكنها لطالب العلم أعظم حرمة عند الله عز وجل، فانتبه واحذر.
إخواني! إن القرب من أهل العلم بلاء ومصيبة والله، وبعض طلبة العلم يظن أن القرب سهل، فربما يقترب طالب العلم من شيخ، ويبوء بسيئات لم تخطر له على بال؛ لأنه ربما تصرف تصرفاً ينفر أخاه من طلب العلم، وربما يتصرف تصرفاً مع الشيخ يكرهه في إفادة طلاب العلم، فهو سلاح ذو حدين، فإما إلى جنة، وإما إلى نار.
والله عز وجل قد نبهنا إلى هذا، فهؤلاء الصحابة الذين تبوءوا المقامات العلا من الجنة نزلت عليهم قوارع التنزيل، تأمرهم بالأدب، فصحبة النبي صلى الله عليه وسلم عزيزة غالية، ولكن لو رفع صوته على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبط عمله-والعياذ بالله-، فتحبط صلاته وزكاته وحجه وعمرته، وهذا يدل على أن القرب من أهل الفضل والعلم خطر، فعلى الإنسان أن يتأدب في مسائله، ويتأدب في تصرفاته مع إخوانه، فلا يؤذِ أخاه ولا يضيق على إخوانه، كأن يستبد بالسؤال، فيريد أن يسأل وحده، ويريد أن يستشكل وحده؛ إذ قد يأتي إنسان عنده كربة في أمر زوجته؛ لأنها مطلقة، فلا يدري: أتحل له أو تحرم؟ وقد يأتي شخص مهموم مغموم يريد كلمة من الشيخ، فعلى القريب من الشيخ أن يعطي مجالاً لغيره، وأن يحذر من هذا القرب، وأن يعلم أنه خطر عليه، فكما أنه سبب في رحمة الله عز وجل فقد يكون سبباً في الخطأ والزلل والغرور، فعلى الإنسان إذا اقترب من أهل العلم، أو جلس في حلق الذكر أن ينتبه لمن حوله.
وعلى الذي يؤذي إخوانه أن يعلم أن أبناء المسلمين ما جاءوا إلى بيوت الله ليهانوا، وما جاءوا ليُذلوا؛ لأن بعض طلبة العلم قد يدفع أخاه، أو يحس أنه أحق من أخيه، وقد يأتي متأخراً، أو يأتي من آخر الناس، ويتخطى الحلقة ليجلس وسطها، فالناس لهم حقوق، ولهم حرمات، والمسلم -ولو كان من كان- له حرمة ينبغي أن تُحفظ ولا تُضيع، ومن حق المسلم أن يكرم ولا يهان، ويُرفع ولا يوضع؛ لأن الله أمرنا بإكرام المسلم.
فشيمة المسلم الموفق أن يستشعر هذا الشيء، وعلى كل طالب علم أن يحذر، ووالله من خاف سلم، ومن خاف في طلبه للعلم، وصحبته لطلاب العلم من أذية طلاب العلم، والإضرار بهم؛ فإنه يسلم بإذن الله عز وجل، فراقب نفسك في جميع تصرفاتك، ولا تزاحم، ولا تؤذِ، ولا تضر.
وهناك أمر لابد من إيضاحه، وهو أن طلاب العلم حين يزدحمون على الشيخ، تجد بعض الناس يستنكر هذا، بينما يرون على أفران الخبز أعداداً من الناس واقفة ولا يستنكرون، فهذا واقع وزمان أصبح المعروف فيه منكراً، والمنكر معروفاً.
فإذا جاء أناس يشترون رحمة الله عز وجل، وتركوا بيوتهم وأهليهم، وجاءوا حفاة الأقدام يلهثون وراء أهل العلم، ويلتمسون زاداً لهم لآخرتهم، فهل هذا شيء يستغرب؟! وإذا رأيت الناس في الدنيا يصيحون، ويهرجون، ويبهرجون، فهذا شيء لا يمكن أبداً أن ينكر؛ بل أصبح هذا من المسلمات والبدهيات؛ لأنه إذا ماتت القلوب فلا تسأل عن أحوالها.
ولذلك ينبغي علينا أن نستشعر مسئولية طلاب العلم أمام الله، فقد ارتحل العلماء، وذهب الأئمة، وخلت الساحة، وأصبحت المسئولية عظيمةً، والكرب عظيماً، والشكوى إلى الله تعالى.
فمثل هؤلاء ينبغي أن نهيئ لهم كل ما نستطيع، وكل ما نقدر عليه من أجل أن يطلبوا العلم، فنحبب العلم إليهم ولا نبغضه، ونرغبهم فيه ولا ننفرهم عنه، ونيسر عليهم ولا نعسر، وقد يحصل العسر بكلام؛ إذ قد يأتي طالب العلم فيسأل أسئلة لا داعي لها، وغيره أحوج إلى الأسئلة، فإذا رأيت طالباً أكثر منك ذكاءً، وأكثر ضبطاً، ويستفاد من أسئلته، فقدمه وآثره حتى تستفيد؛ ليكون هناك وعي عند القرب من أهل العلم، والجلوس في مجالس أهل العلم، والموفق من وفقه الله، فوالله ما زكت ولا صلحت سريرة عبد إلا أصلح الله علانيته ووفقه وسدده، وسيطلب العلم من يطلبه، فإما موفق سعيد يرزقه الله عز وجل المراقبة التامة لأقواله وأفعاله وتصرفاته وانضباطه، حتى يبوئه الله مبوء صدق بهذا، فيكون محل الرضا عند علمائه ومشايخه، ومحل الرضا عند إخوانه، وإما غير ذلك.
وستعاشر طلاب العلم -وهم الصفوة- فلتحتسب عند الله عز وجل أن يأخذوا عنك، فهؤلاء هم شهود الله في الأرض، فإذا شهد عليك طلاب العلم فهم أزكى الشهود، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا لم يكن أولياء الله أهل العلم وطلبتهم فلا أدري من هو ولي الله؟! فهؤلاء هم الصفوة، فإذا عاشرتهم، وكنت معهم على المحبة, والصفاء، والمودة، والنقاء، وعلى المراتب العلا في الإيثار، والإخاء؛ بارك الله لك، وبارك في علمك، وبارك في وقتك، وما وجدنا من ربنا إلا كل خير، فقد وجدنا طلاب علم تأدبوا مع مشايخهم، وتأدبوا مع إخوانهم، فزكاهم الله في الدنيا قبل الآخرة، ووجدنا من كان لا يبالي بطلاب العلم وكان فظاً غليظاً فعاقبهم الله تبارك وتعالى، وقد سألت عن بعض الزملاء طلابهم، فذكروا أنهم في الدعوة الى الله تعالى، وأنهم كذا، ثم سألتهم من بعيد عن أشياء، فإذا بهم يتذمرون، ويقولون: إن طلاب الشيخ يؤذونه، وإني -والله- أعرف أنه كان يؤذي المشايخ، وكذلك جزاءً وفاقاً، فما توفاني الله عز وجل حتى رأيت بعيني وسمعت بأذني سنناً لله لا تتبدل ولا تتحول، ولا يظن أحد أن الله غافل عن خلقه، فليحذر طالب العلم، فاليوم يزرع، وغداً يجني، فمن زرع الخير كان له.
فنسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا السداد في القول والعمل، إنه المرجو والأمل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(358/16)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الديات [1]
إن الله سبحانه وتعالى أوجب الدية في القتل، وهي استحقاق شرعي جعله الله ضماناً للتلف الحاصل بسبب الجناية، والدية تعطى للمجني عليه أو لوليه وهو وارثه من بعده، والدية لها أحوال، ففي العمد المحض تكون حالة ولا تلزم بها العاقلة، وأما في شبه العمد والخطأ فتكون آجلة وتلزم بها العاقلة وهذا من حكمة الشريعة.(359/1)
الديات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الديات].
(الديات): جمع دية، وهي المال الذي يعطى للمجني عليه أو لوليه بسبب الجناية، وبناء على ذلك تكون الدية عوضاً عن الجناية، وهذا في حالة العفو عن القصاص، وكذلك أيضاً في حال الخطأ وشبه العمد، وذكر المصنف رحمه الله هذا الموضع بقوله: (كتاب الديات) وذلك لكثرة أبوابه وتعدد مسائله واختلاف أحكامه، ولذلك يعبر العلماء رحمهم الله بالكتب في المادة الكثيرة، ونظراً لأن الديات منها ما يتعلق بالأنفس، ومنها ما يتعلق بالأعضاء، وهناك أمر مستتبع من أروش الجنايات التي تقدر فيها الجناية، ولا يكون هناك تقدير من الشرع للجناية، وكل هذا يذكره العلماء رحمهم الله في كتاب الديات، وقول العلماء: إن الدية هي المال الذي يعطى للمجني عليه أو وليه.
وهذا استحقاق شرعي جعله الله ضماناً للتلف الحاصل بسبب الجناية، وقد جعل الله عز وجل العوض عن الجنايات: إما أن يكون بالقود، فيفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، وهذا يختص بالعمد كما تقدم معنا، وإما أن يعفو المجني عليه، وحينئذ يكون هناك الضمان بالأموال، وقد يعفو بدون مال.
وقول العلماء رحمهم الله في الدية: إنها المال الذي يعطى للمجني عليه أو وليه؛ لأنه إذا جني على شخص ومات لا يمكن إعطاء المال والدية للمقتول، وإنما يعطى لوليه وهم ورثته من بعده، وقوله رحمه الله: (كتاب الديات) أي: في هذا الموضع سأذكر لك من الأحكام والمسائل التي تتعلق بديات الأنفس والأعضاء، وما يلحق بذلك من أروش الجنايات، والأصل في هذا الباب كتاب الله عز وجل.
إن الله سبحانه وتعالى أوجب الدية في القتل، قال سبحانه وتعالى في قتل الخطأ: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92] فنص الله عز وجل على لزوم الدية، وهذا النص يدل على لزومها في الأنفس، وأما بالنسبة للأعضاء، فورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأعضاء والأطراف حديث يعتبره العلماء رحمهم الله أصلاً في ديات الأعضاء والأطراف، وهو حديث عمرو بن حزم في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان عاملاً له رضي الله عنه وأرضاه، فكتب له مقادير الديات في بعض الأعضاء والأطراف، وأجمع العلماء رحمهم الله أيضاً على اعتبار هذا الأصل -وهو الدية- في الأنفس وفي الأعضاء.
وأما بالنسبة لتقدير هذه الدية، وبيان ما يجب في النفس وفي الأعضاء والأطراف، فالعلماء رحمهم الله يبحثونه في أبواب متفرقة من هذا الموضع وهو كتاب الديات، فيبدءون بالأنفس أولاً؛ لأن دياتها تختلف على حسب نوعية النفس المجني عليها، سواء كانت الجناية جناية عمد أو كانت الجناية جناية شبه عمد، أو كانت خطأ أو جارية مجرى الخطأ عند من يقولون به.
وعلى هذا سيبدأ المصنف رحمه الله -أولاً- في بيان لزوم الدية وتقرير هذه الدية، ثم بعد ذلك يفصل في أنواعها وعلى من تجب، والأحوال التي يتحمل فيها الجاني الدية بنفسه، والأحوال التي تتحمل فيها العاقلة عنه جنايته.(359/2)
وجوب الدية على القاتل
قال رحمه الله: [كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته].
(كل): من ألفاظ العموم.
وقوله: (كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته) هذا الحكم فيه عموم، وبناء على ذلك كل من جنى جناية، أوجبت هذه الجناية زهوق النفس وقتل النفس المحرمة، فإنه يجب عليه أن يضمن الدية، سواء كانت الجناية بالسببية أو كانت بالمباشرة، وبينا أن القاتل إما أن يقتل مباشرة كمن أضجع شخصاً فذبحه بالسكين، أو أطلق عليه النار فقتله، هذه مباشرة، أو سببية -مثلما ذكرنا- كما لو دفعه في بئر أو دفع حائطاً عليه فقتله أو نحو ذلك من صور السببية التي ذكرناها.
(كل من أتلف إنساناً).
يشترط في هذا الإنسان أن يكون له حرمة على الضوابط التي ذكرناها.
(بمباشرة) كما ذكرنا في الصور التي يحكم فيها بأن القتل قتل مباشرة أو سببية بحيث فعل فعلاً أفضى إلى القتل لا على سبيل المباشرة، وإنما كان موصلاً إلى القتل، كما ذكرنا في الإلقاء من شاهق، والحبس في زريبة فيها أسد أو أنهشه حية ونحو ذلك من الصور التي ذكرنا فيها قتل السببية.
(لزمته ديته) الضمير عائد على الجاني القاتل، ولما قال: (كل) يشمل العاقل والمجنون، فلو أن مجنوناً قتل فإننا نجعل قتله خطأً، ونلزم أولياء المجنون الدية على التفصيل الذي يأتينا في عمد الصبي والمجنون، فإن عمد الصبي والمجنون خطأ ويجب فيه الضمان كما سنبين إن شاء الله تعالى.
بين المصنف رحمه الله عظمة هذه الشريعة في صيانة الأرواح والأنفس أن يجنى عليها، حيث أوجبت ضمان الجناية والتلف الحاصل، يستوي أن يكون القتل عمداً أو يكون خطأً، فلو أن إنساناً ساق سيارةً فدهس شخصاً خطأً لزمته ديته، ولو أنه ركب معه شخص ثم انقلبت السيارة وكان هناك سببية في انقلابها بإهمال ونحو ذلك لزمته الدية؛ فإذاً: كل من أتلف بمباشرة أو سببية، فإنه يلزم بضمان ما أتلفه.(359/3)
وجوب الدية حالة في قتل العمد المحض
قال رحمه الله: [فإن كانت عمداً محضاً ففي مال الجاني حالَّةً].
(الفاء) للتفريع.
وقوله: (فإن كانت الجناية عمداً محضاً ففي مال الجاني حالّة) أي تجب الدية، فهناك ثلاثة أحكام: الحكم الأول: أن من تعمد القتل وعفا أولياء المقتول عن القصاص لزمه أن يدفع الدية.
الحكم الثاني: أن تكون هذه الدية حالة نقداً.
الحكم الثالث: أنها في مال الجاني دون عاقلته.
فإذاً: عندنا ثلاثة أحكام: الحكم الأول: لزوم الدية في قتل العمد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يقادَ، وإما أن يودى)، فبين عليه الصلاة والسلام أن القاتل المتعمد إما أن يقتص منه أو يدفع دية المقتول، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.
الحكم الثاني: أن هذه الدية حالة، يعني يجب عليه أن يدفع فوراً، وهذا الإلزام مبني على أن الأصل في الجنايات والإتلافات أنها تكون حالّة، فلو أن شخصاً كسر زجاج بيت أو كسر نافذة بيتٍ، فإننا نقول له: اضمن هذا الزجاج واضمن هذه النافذة فوراً ليس هناك تأجيل، فالأصل في الضمان أنه يكون فوراً؛ لأن حقوق الناس مضمونة، والتأخير والمماطلة ظلمٌ لأصحاب الحقوق وتعطيل لمصالحهم، ولذلك يلزم بدفعها فوراً، وهو معنى قوله: (حالة)، لكن سيأتي إن شاء الله أن دية الخطأ مؤجلة وفيها قضاء الخلفاء رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا مما تفترق فيه دية العمد ودية الخطأ، أن دية العمد: حالة، ودية الخطأ: مؤجلة.
ثم هذه الدية الحالة تكون في مال الجاني ولا نلزم عاقلته بدفعها، وأما في الخطأ فإننا نجعلها على العاقلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها عليها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقد بين المصنف رحمه الله ما يترتب على قتل العمد، فإذا عفا أولياء المقتول يجب أن يدفع الدية، والأصل في ذلك النصوص التي بيناها في الكتاب والسنة.
الحكم الثالث: أن تكون في مال الجاني وليس في مال العاقلة.(359/4)
لزوم الدية على العاقلة في شبه العمد والخطأ
قال رحمه الله: [وشبه العمد والخطأ على عاقلته].
وقتل شبه العمد وشبه الخطأ الدية فيهما على عاقلة المخطئ؛ وذلك لأن شبه العمد والخطأ قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنين بغرة؛ وليدة أو عبد، ثم قضى بديتها -يعني دية المرأة- على عاقلتها) أي: على عاقلة المرأة الجانية.
وهذا يدل على أن من قتل خطأ فعاقلته تحمل عنه، فمثلاً: لو أن رجلاً أركب معه أشخاصاً في سيارته ثم حصل حادث، وكان متحملاً لجميع ما في هذا الحادث من خطأ دون اشتراكٍ مع غيره وأزهق ثلاثة أنفس، فنقول: إن هذه الثلاث ديات على عاقلته.
وعاقلته تحمل عنه هذه الديات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم عاقلة المخطئ بتحمل الدية، وهذا فيه حكمة من الشريعة؛ لأن المخطئ ليس كالمتعمد؛ ولأن العاقلة وهم القرابة يرثون، فالإنسان إذا لم يكن له قريبٌ وارث فإن العصبة ترث جميع المال، ولذلك: الغُنم بالغرم، فهم يغرمون كما يغنمون، ويغنمون كما يغرمون، ولذلك قال الله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] وقد تقدم معنا هذا في مسائل عديدة بينا فيها لماذا تلزم الشريعة الأقرباء بضمان بعض الأشياء لقراباتهم.
وهنا نلزم العاقلة بدفع دية الخطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها على العاقلة، وسيأتي إن شاء الله ضابط العاقلة وكيف تقسط هذه الدية عليهم.
ثم بين المصنف رحمه الله أن هذه الدية على العاقلة معاً.
قوله رحمه الله: (وشبه العمد والخطأ على عاقلته).
المفروض أن يُضاف مؤجلة؛ لأنه نص في العمد على أنها حالة، وسكت عن كونها حالة في الخطأ وشبه العمد من أجل أن طالب العلم يدرك أنها لو كانت حالة لنص على ذلك، لكن لما كان هذا قد يوهم، كان الأولى أن يقال: مؤجلةً، فهي على العاقلة مؤجلة ثلاث سنوات وقيل أكثر من ذلك، والذي قضى به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولم يخالف ذلك أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الدية إذا أُلزمت بها العاقلة تقسط على ثلاث سنوات، وبناء على ذلك تخالف دية العمد، فدية الخطأ مؤجلة، ودية العمد معجلة.(359/5)
حكم من كان سبباً في القتل
قال رحمه الله: [وإن غصب حراً صغيراً، فنهشته حية، أو أصابته صاعقة، أو مات بمرض، أو غل حراً مكلفاً وقيده؛ فمات بالصاعقة أو الحية، وجبت له الدية].
قوله: (وإن غصب حراً صغيراً فنهشته حية).
تقدم معنا في الغصب أن العلماء رحمهم الله يقولون: (يد الغاصب يد ضمان) وبينا وجه ذلك؛ لأنه باعتدائه على المغصوب يتحمل جميع ما يحصل لهذا المغصوب من ضرر، فإن حصل هذا الضرر بفعله لا إشكال، وإن حصل بآفةٍ سماوية أو نحو ذلك فهو ضامن؛ لأن يده يد ضمان؛ كان المفروض أن يرده إلى صاحبه حتى يصبح صاحبه ضامناً له، فمثلاً: من غصب منك سيارة فإن هذه السيارة مدة بقائها تحت يدك تأخذ منفعتها وتتحمل ضررها، لكن إذا أخذها منك أصبحت يده يد ضمانٍ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فجعل يد الغاصبِ يد ضمان، وبينا ذلك ووجهناه وذكرنا له صوراً وأمثلة.
قوله: (وإن غصب حراً صغيراً فنهشته حية) الصغير لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا يستطيع أن يقاتل، ولذلك لا يتحمل مسئولية نفسه، ولا يكون هناك تحمل من النفس المقتولة للجناية، ويصبح الغاصب متحملاً لدية هذا المقتول.
(نهشته حية) الموت حصل بنهش الحية، لكن لولا الله ثم كونه جاء به إلى هذا الموضع وغصبه إلى هذا الموضع ما حصل الموت، فيتحمل التبعة وما يترتب على هذا الفعل وعلى هذه الجناية فيكون ضامناً لهذه النفس.
قال: [أو أصابته صاعقة].
يعني: الإتلاف قد يكون بالعوارض التي لا دخل للمكلف فيها، أو بالعوارض التي يكون فيها دخل على جهة السببية بالحيات والعقارب ونحو ذلك، فإذا نزلت عليه صاعقة فمات، فإن الذي قتله هي الصاعقة في الأصل، لكن كونه حمله إلى هذا الموضع الذي أصابته فيه الصاعقة فإنه غاصب ومتحمل لما يترتب على غصبه، وبهذا الحمل وقع هذا الضرر على الصبي فيتحمل مسئوليته.
قال: [أو مات بمرض].
أو مات هذا الصبي بمرض؛ لأنه بحمله أصبح ضامناً له حتى يؤديه، فإذا لم يؤده ولم يرجع فإنه ضامنٌ له، وبعض العلماء يفرق بين موته بالأسباب الإلهية التي لا دخل فيها للمكلف، وهي الموت بالشيء الطبيعي، وبين موته بأسباب يكون للغصب فيها تأثير، ولكن من أهل العلم من لم يفرق، والسبب في هذا أنه يجعل مرد المسألة إلى أن يده يد ضمان، فلا يزال ضامناً حتى يرد المغصوب، وهذا أصل قرره العلماء في مسائل الغصب، وينبغي أن يكون مطرداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا فقال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فهو ضامن له حتى يرده كما أخذه.
قوله: [أو غل حراً مكلفاً وقيده، فمات بالصاعقة أو الحية].
الأول كان صغيراً وهذا مكلف، فإنه لما وضع الحر في الأغلال ومنعه من الحركة، أصبح هذا المكلف والكبير في حكم الصغير، وحينئذٍ لولا الله ثم هذا الغل لما مات؛ لأنه مقيد ولا يستطيع الحركة، والغل في جسده يمنعه من الحركة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه لو نزلت عليه صاعقة فمن الذي جاء به في هذا الموضع، ومن الذي حبسه في هذا الموضع؟ ولولا الله ثم هذا الحبس وهذا المجيء لما حصل الزهوق، ولذلك يتحمل المسئولية عنه ويضمنه، ولو قال قائل: إنه كبير وإنه مسئول عن نفسه، نقول: إنه لما قيده وغله أصبح في حكم المشلول العاجز.
وحينئذ كونه كبيراً ومكلفاً لا تأثير له؛ لأنه لا يستطيع أن ينقذ نفسه، ولا أن يبذل الأسباب لنجاة نفسه فيكون ضامناً لها.
قال: [وجبت الدية فيهما].
وجبت الدية على الغاصبِ، ويده يد ضمان لما ذكرنا.
هذا بالنسبة للنفس، فإنها تجب الدية إن مات كما ذكرنا، وإن أتلفت هذه العوارض ففيه بعض الدية، فإن أتلف عضواً كيده أو رجله وجب عليه أن يدفع نصف الدية، وهكذا لو عورت عينه أو فقد إحدى أذنيه، أو أصابه ضرر في لسانه فأصبح لا يتكلم، وجبت عليه دية اللسان وهكذا.
إذاً: كما يجب ضمان النفس كاملةً يجب ضمان الأعضاء، فمثلاً: لو أنه قيده ثم وضعه على حالة انكسرت يده فيها، أو وضعه على حالة جرحت فيها أصبعه، ثم سرى هذا الجرح حتى شلت يده، فحينئذ نوجب عليه ضمانه بنصف ديته.
فكما يجب ضمان النفس كاملة يجب ضمان الأعضاء والأطراف وما يحصل من هذا الغصب من ضرر، فوجبت الدية إن كان زهوقاً للنفس كاملة، ووجبت أيضاً دية الأعضاء على حسب ما ترتب من هذه الجناية.(359/6)
الأسئلة(359/7)
الرد على من يقول بعدم أخذ الدية
السؤال
شاع في عرف بعض الناس أن الدية مال لا بركة فيه، وأن أخذه ينافي المروءة وكذلك أخذ الأرش، مما يدفع بعض أهل المجني عليه إلى التنازل عن حقهم مع عدم رضاهم بذلك وعدم قناعتهم، فما توجيهكم أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: الدية شرع الله عز وجل، ومن قال: إن الدية لا بركة فيها بل بعضهم يقول: من أخذها أضره الله في ماله، فهذا قول باطل ومصادمٌ لشرع الله عز وجل، وهناك قاعدة تقول: كل حكمٍ يحلل حراماً أو يحرم حلالاً فإنه خلاف شرع الله عز وجل، وهو ردٌ على من قاله.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها) فهؤلاء كأنهم يريدون أن يحرموا على الناس ما أحل الله لهم، والدية حقك؛ إن شئت أخذتها، وهذا حسن؛ لأنك لم تظلم أحداً وأخذت حقك؛ كما لو جاء شخص -مثلاً- واعتدى على سيارتك فكسرها وجئت وأخذت قدر جنايته وقدر خطئه، ما ظلمته، كأن تكون سيارتك واقفة فجاء وصدمها، فقال أهل الخبرة: أنه هو المخطئ ولزمه أن يصلح هذا الخطأ، فلو كانت كلفة إصلاح السيارة ثلاثة آلاف ريال، فأي ظلمٍ في هذا؟!! وأي جناية في هذا؟ وأي اعتداء؟ فلماذا يُحرم ما أحل الله؟ وهل كل الناس يستطيع كلما جنيت عليه جناية أن يصفح؟ دعوا الأنفس والأرواح؟ لكن نقول: إذا كان هذا في الأموال العادية فكيف بالأنفس؟ السبب في هذه الديات في الأنفس: أن الإنسان إذا اُعتدي على قريبه وأعطي الدية وأخذها سكنت النفس واطمأنت وحصل أنه عوض عن حقه، وحينئذ لا توغر صدور المؤمنين بعضهم على بعض، فإذا قطعت يده بالخطأ وأعطي نصف الدية جبر خاطره وجبرت نفسه، فإذا نظر إلى يده المقطوعة وتذكر ثوابه عند الله عز وجل واطمأنت نفسه للآخرة، فإذا جاءت النفس تتحدث عن الدنيا وجد شيئاً من الدنيا يسليه ويجبر خاطره، وهذا تشريع الحكيم الحميد سبحانه وتعالى، وحكم الله الذي لا يعقب في حكمه سبحانه وتعالى.
ولو علم الله أن فيها شراً ما سكت عن ذلك، ولا يشرع سبحانه لعباده إلا ما فيه الخير لهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ولقد جاءت رسل ربنا بالحق، فهذا من كلام الجاهلية ودعوى أهل الجاهلية، لكن إن تنازلت عن هذه الدية فهذا أحسن، وأعظم لأجرك وأثقل لميزانك.
فإذا تركتها محبة لأخيك في الله ورحمة به، وشفقة عليه آجرك الله، وأحسن لك الخلف، ولكن من تركها خوفاً من أن تأتيه المصيبة، فهذا لم يتركها لله، وإنما تركها خوفاً من الضرر الأعظم، وحينئذ لا ينال الدنيا ولا ينال الآخرة؛ لأنه لم يتركها لله عز وجل، فهذا من تلبيس الشيطان نسأل الله السلامة والعافية، انظروا كيف يصرف الناس وتجتالهم شياطين الإنس والجن بالأهواء والآراء التي ما أنزل الله بها من سلطان، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23].
فهذا أمر الله الذي لا يعقب، فهو سبحانه الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وليس لأحد أن يستدرك على الله في شرعه، ولو علم الله أن في هذه الضمانات والديات ضرراً لما شرعها؛ لأنه قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
فكل تشريع أوحي إليه في كتاب الله وسنته عليه الصلاة والسلام فهو الرحمة والخير والبركة، وعلى كل حال: ينبغي أن يعلم الناس ذلك، وأن يقال لهم: إن هذا حقهم، فالحسن أن يأخذوه والأحسن أن يتنازلوا عنه، {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، فمن صبر ظفر وأحسن الله له العاقبة، ولا شك أن الخلف مضمونٌ من الله عز وجل لمن ترك شيئاً لله.
(فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) والله تعالى أعلم.(359/8)
تربية الأيتام وعظم أجرها
السؤال
هل ينطبق على تربية الأيتام من حيث الأصول والتربية الكاملة ما ينطبق على تربية الأولاد أثابكم الله؟
الجواب
أما اليتيم فأمره عظيم جداً، الأيتام جنة ونار، ومن عال الأيتام وكفلهم واتقى الله فيهم فقد أفلح وأنجح، وأصاب خير الدنيا والآخرة، وكم أسعد الله أقواماً كفلوا الأيتام، حتى إن الله سبحانه وتعالى جعل لهم من عاجل البشرى في الحياة أن جعل حياتهم سعيدة، وجعل خاتمتهم طيبة حسنة، ولقد رأينا ذلك فيمن كان يعول الأيتام ويحسن إليهم.
وجدنا من لطف الله به ورحمته وإحسانه به الشيء الكثير، فكفالة الأيتام والإحسان إليهم جنة للعبد في الدنيا قبل الآخرة.
وأما عدم الرعاية لمشاعرهم، والتقصير أثناء تربيتهم فهذا خطر عظيم، وتربية الأيتام، دحضٌ فيه زلل كثير، ولذلك من يربي الأيتام ينبغي أن يكون على حذر شديد في التعامل معهم.
فإن اليتيم لا يجد من يكفكف دمعه، ولا يجد من يجبر كسره، فإذا قسا عليه من يعلمه تذكر أباً كريماً أن لو كان حياً ما عامله بهذه المعاملة، ولو قسا عليه معلمه نظر إلى ذلك المعلم مع ولده، فقل أن يؤذي أحد يتيماً ويكون عنده أولاد إلا راقبه اليتيم في أولاده، فإن رآه محسناً لولده اغرورقت عينه ودمعت؛ لأنه لا يتصور أن هذا المعلم يريد مصلحته.
فإذا كان المعلم ظالماً أو آثماً أو جائراً وكان الكافل شديداً، خاصة إذا كان اليتيم يعيش تحت كفالة عمه، أو خاله، أو نحو ذلك من أقربائه، فإذا أوذي أي أذية ولو كانت لسبب ورأى إحسان ذلك المؤذي إلى ولده تفطر قلبه بالحزن الذي لا يعلم قدره إلا الله.
ولذلك قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]، فقهر اليتيم أمره عظيم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وقرن بين السبابة والتي تليها)، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على علو درجته عند الله في الآخرة، لكن لابد أن تكون كفالة طيبة كاملة، وكفالة رحمة لا كفالة عذاب، وكفالة إحسان لا كفالة إساءة، وكفالة ود ورحمة وبر وإدخال سرور لا كفالة وحشة وضيق وعسر وتنكيد وتنغيص في العيش، فعلى كل من يعامل الأيتام عموماً أن ينتبه، حتى لو دخلت فصلك -لو كنت معلماً- فانتبه من اليتيم، فإنه أحوج ما يكون إلى إحسانك وبرك وعطفك، واجعل له ميزة على غيره، وهذا ليس من باب الظلم، وإنما من إنزال كل إنسان منزلته، وليس معنى ذلك أنك تفضله على غيره، لكن له شأن خاص، فالابن إذا آلمه مدرسه رجع إلى أبيه، فواساه وأحسن إليه وأنساه ما حصل له من إساءة، ولكن اليتيم يرجع إلى بيته بلا أب، وقد لا يجد أماً، وقد يرحم أمه حينما يراها في همها وغمها، فيصعب عليه أن يدخل عليها هماً إلى همها، أو غماً إلى غمها.
فلذلك من الرحمة ومن هدي الإسلام وسنن الإسلام: النظر إلى هؤلاء والإحسان إليهم، وأن يحاول كل معلم يحبُ الكتاب والسنة، ويلتزم بالشريعة التزاماً صادقاً أن يجعل لهؤلاء في قلبه وفي معاملته وفي إحسانه وبره أوفر حظ ونصيب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وما أعظم جبر القلوب المنكسرة عند الله ثواباً، وما أحسن ما يكون لأهلها عاقبة ومآباً.
ومن أراد أن يجرب حسن العاقبة في الإحسان إلى القلوب المنكسرة والنفوس الضعيفة فليجرب ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة كالصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر)؛ فجعله في هذه المنزلة العظيمة؛ لأن الأرملة لا أحد يعولها، وهي تحتاج إلى من يقوم عليها، فإذا نظر إلى أرملة من أرامل المسلمين، فأمست وأصبحت وهو يسعى عليها يقضي حوائجها وينفس بإذن الله كرباتها، ويدخل السرور عليها جعل الله ما كان منه من حسنات لا يعدل بصيام النهار ولا بقيام الليل.
وهذا يدل على عظم الأجر عند الله في جبر القلوب المنكسرة.
(وهل تنصرون إلا بضعفائكم)، فيحرص طلاب العلم والأخيار على النظر في تربية الأيتام، وإذا كان عندك في حلقة التحفيظ يتيماً فإنك تكرمه وتجله وتعامله معاملة خاصة، وتنظر إليه نظرة خاصة، وتؤويه إلى حنانك، وإلى برك وإحسانك، فإنك إن فعلت ذلك رحمت أموات المسلمين وخلفتهم في ذريتهم بخير، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، وأن يفتح على أيدينا وعلى أيديكم أبواب الخير.
الخلاصة: أن اليتيم ينبغي على من يؤدبه ويعلمه أن يكون على حذر شديد، وأن يعامله معاملة خاصة؛ لأنه أضعف من غيره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الضعيف أمير الركب) فينبغي مراقبة مشاعره.
ونسأل الله العظيم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يتوب علينا وأن يتجاوز عنا، والله تعالى أعلم.(359/9)
تقديم تحية المسجد على السلام
السؤال
إذا دخلت المسجد فهل أبدأ بالسلام على من في المسجد أو بتحية المسجد أثابكم الله؟
الجواب
بسم الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
فالسنة أن يبدأ المسلم بتحية المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين) وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه ودخل رجل -وهو المسيء صلاته- فصلى ثم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم ورحمة الله.
فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل).
فكون الرجل بدأ بالتحية، ثم جاء وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، دل على أن السنة أن يبدأ المسلم بالتحية قبل السلام.
وقال بعض العلماء: إن هذه هي السنة، ولذلك قالوا: من زار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ أولاً بصلاة التحية ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى الرغم من عظم حقه صلوات الله وسلامه عليه، إلا أن الداخل يبدأ بالتحية قبل السلام عليه.
فإذا كان هذا مع رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فما بالك بغيره؟ فالسنة أن يبدأ أولاً بتحية المسجد، لكن لو سلم له وجه.
وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء الأعرابي وسلم رد عليه السلام ثم قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل) فمعناه أنه وقع سلامه قبل الصلاة.
ولكن هناك سبب في هذه الحالة وهو أنه إنما رد عليه السلام لأن رد السلام واجب، والمسلم سلم لشبهة الإتمام.
والمراد حكاية صورة الحال، فكونه يبدأ بالتحية قبل السلام عليه، يدل على أنهم كانوا يفعلون ذلك، وأنه هو السنة المستقرة أن يبدأ بالتحية قبل السلام.
وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، والله تعالى أعلم.(359/10)
حكم الوضوء من المياه الموضوعة للشرب
السؤال
ما حكم الوضوء من المياه الموضوعة للشرب في المسجد الحرام وغيره من المساجد أثابكم الله؟
الجواب
المياه الموضوعة للشرب موقوفة للشرب، ولا يجوز صرفها في غير ذلك.
هذه أوقاف مسبلة في المسجد الحرام وغيره.
ولكن إذا حصل عند الإنسان اضطرار، بحيث ضاق عليه وقت الصلاة وكان هناك سبب موجب صعوبة خروجه من مرض أو ضعف وتوضأ بها، فهذا مغتفر إن كان شيئاً يسيراً لا يضر بالشاربين، وإلا فالأصل أنها موقوفة مسبلة للشرب.
ولذلك كان العباس رضي الله عنه يقول في زمزم: إني لا أحله لمغتسل وهو لشارب حل، والله تعالى أعلم.(359/11)
حكم من صلى المغرب جماعة بنية العصر
السؤال
رجل لم يصل العصر ودخل المسجد ووجدهم يصلون المغرب.
فهل يصلي معهم بنية العصر ويزيد ركعة بعد التسليم، أثابكم الله؟
الجواب
يشترط في صحة الصلاة وراء أخرى: أن تتحد صورة الصلاتين، فلا تصح المغرب وراء العشاء، ولا العصر وراء المغرب؛ لأن المغرب ثلاث ركعات، والعصر أربع.
وحينئذ سيضطر إلى الجلوس بين الثالثة والرابعة، وليس في شرع الله أن يجلس بين ثالثة ورابعة؛ لأن الله ألزمه أن يصلي أربعاً لا جلوس بين الثالثة والرابعة فيها، وإنما يجلس بين الاثنتين على الصورة المعروفة في صلاة المغرب وصلاة العصر، وعلى هذا: لا يجوز أن يصلي المغرب وراء العشاء، ولا أن يصلي العصر وراء المغرب، وإذا دخل المسجد وأقيمت الصلاة وتذكر أنه لم يصل العصر، يدخل وراءهم بنية النافلة، ثم يصلي العصر قضاء.
ثم يصلي المغرب بعد ذلك.
فيتعذر عليه أن يصلي العصر؛ لعدم اتفاق صورة الصلاتين.
ثم يتعذر عليه أن يصلي المغرب؛ لأنه لا تصح المغرب حتى يصلي العصر.
وحينئذ يصليها نافلةً، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فمن حضر المسجد فإنه يصلي نافلة ثم يعيد بعد ذلك، فيصلي العصر ثم يصلي المغرب بعدها.
والله تعالى أعلم.(359/12)
أسباب استجابة الدعاء
السؤال
ماذا أقول حتى يستجاب لي، أثابكم الله؟
الجواب
فتحت أبواب رحمة الله عز وجل فاسأل ما تشاء، فأنت أمام ملك الملوك الذي لا تنفد خزائنه، ويده سحاء الليل والنهار، لا تغيضها نفقة.
يقول صلى الله عليه وسلم: (ألم تر إلى ما أنفقه منذ أن خلق السموات) فهو سبحانه الكريم الجواد الذي يحب من سأله ويرضى عمن سأله.
فمن سأل الله فقد وحده، ولذلك الدعاء هو العبادة؛ لأنك لا تسأل الله إلا وأنت تعتقد أنه هو المسئول، ولا ترجو الله إلا وأنت تعتقد أنه هو المرجو سبحانه وتعالى.
أما كيف تستجاب الدعوة؟ فالدعاء يستجاب إذا حصلت آدابه، وهي كالآتي: أولها وأعظمها: توحيد الله، قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14] فمن دعا الله مخلصاً موقناً فتح الله له أبواب السموات، واستجيب له ما قال من دعوات، وحقق له ما رجا في تلك الكلمات الطيبات المباركات، فعلى العبد أن يدعو بقلبٍ موقنٍ موحدٍ مخلصٍ لله عز وجل، وإذا وقف العبد بين يدي الله، فأحس أنه لا أكرم من الله سبحانه وتعالى! وأنه لو سأل الله عز وجل ذلك الأمر الذي يراه عسيراً أنه أيسر ما يكون عند الله جل وعلا، فإن الله تعالى إذا أراد أن يفتح أبواب رحمته لا يستطيع أحد أن يغلقها، وإذا أمسك رحمته لا يستطيع أحد أن يرسلها، فإذا أحس العبد وأيقن بربه سبحانه وتعالى، وعرف من الذي يسأل، وعرف أن الذي يسأله أرحم به من نفسه التي بين جنبيه، وأن الذي يرجوه أعظم براً وأعظم إحساناً من كل شيء، وأنه المنتهى في الكرم والجود، وأنه المنتهى في الإحسان واللطف والرحمة؛ عندها تنساب نفسه وكأنه يدلَل بين يدي الله جل جلاله، وعندها يعرف من الرب الذي يسأل، فلا يحس أن هناك مسألة تعيي الله عز وجل، ولا يحس أن الله عز وجل يمنع عنه شيئاً.
فإذا أحس بهذا الإحساس دعا وهو موقن بالإجابة، الرجل المشلول لا يتحرك فيه شيء ومع ذلك لا يقنط من رحمة الله عز وجل، وتجده يطلب الأمور فتستعصي عليه وتغلق في وجهه أبوابها، كلما طلب أمراً عسر عليه، وأصبح يسيره عسيراً وسهله حزناً، حتى تضيق عليه الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه التي بين جنبيه، ومع ذلك لا يقنط من ربه ولا ييأس من رحمته، فيرفع يديه للحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، فيدعوه ويقول: يا رب! من قلب يعلم ما معنى قوله (يا رب) أنه الذي رباه بالنعم، وأنه الذي دفع عنه البلايا والنقم، وأنه الذي يحفظه، وأنه الذي يكلؤه، وأنه الذي يرحمه ويحسن إليه، فإذا دعا بهذا الشعور، فإن الله سبحانه وتعالى يستجيب دعاءه.
ثانياً: الثناء على الله بما هو أهله، فإنه إذا استفتح الدعاء بتوحيد الله فلن تغلق أبواب السموات دون اسم الله جل جلاله، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يقول: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب) الثناء على الله بما هو أهله يعين العبد ويحقق للعبد رجاءه.
ثالثاً: أن يكون مضمون دعائه غير مشتمل على قطيعة رحم، ولا على إثم، ولا يدعو على المسلمين، وإنما تكون الدعوة طيبة، يدعو العبد لصلاح دينه، ثم لصلاح دنياه، ثم يسأل الله عز وجل حسن الخاتمة، فلابد لك حين تبدأ مسألتك أن يكون أول ما تبدأ به دينك؛ لأنه رأس مالك في هذه الحياة، وفي الدين تسأل الله عز وجل مسألتين في الرجاء: أولهما: أن يعينك على أداء فرائضه، والثانية: أن يعينك على بلوغ الكمال في الطاعات والخيرات والباقيات الصالحات، ثم ضد ذلك أن يعينك على ترك المحرمات، وأن يبلغك في الورع والزهد منزلة تدع فيها ما لا شبهة فيه خشية الوقوع في ما فيه شبهة، فإذا وفقت في هذا عصمت في دينك.
ثم تسأل الله عز وجل بعد ذلك أن يرزقك الزيادة من الخير والثبات على الحق حتى تلقاه، ثم تسأله حسن الخاتمة، ثم تسأله بعد ذلك أن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، ثم تسأله أن يعيذك من عذاب القبر، ومن فتنة القبر، ومن أهوال القبر، وتتصور كأنك وحيدٌ فريدٌ في قبرك، ثم تنتقل بعد ذلك إلى مشاهد الآخرة، فتسأل الله عز وجل أن يرحم في موقف العرض عليه ذلَّ مقامك بين يديه، وتسأل الله جل وعلا أن ييمن كتابك، وأن ييسر حسابك، وأن يعيذك من الصراط وزلته، وأن يعيذك من بطشته ونقمته، وأن يجعل حسابك يسيراً، ثم تسأل الله أن تدخل الجنة دون عناء ودون هم ودون غم، ثم تسأل الله أن يرفع درجاتك فيها، فإذا انتهيت من هذه المسائل التفت إلى أقرب الناس إليك من والديك، ثم أولادك وذريتك، ثم إخوانك وقرابتك، ثم أهل ودك الذين أحبوك في الله من علمائك الذين كانوا سبباً في هدايتك من أمواتهم، فتسأل الله أن ينور لهم قبورهم، وأن يفسح لهم فيها، فتدعو لعلماء المسلمين حيهم وميتهم، ثم حتى تعم دعوتك جميع المسلمين، فتعيش مع المسلمين في همومهم وغمومهم وأشجانهم، فتدعو الله للمكروبين من المسلمين أن يفرج الله كربهم، فتحس بأحاسيس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
فلا تسمع بنكبة إلا بسطت كفك إلى الله سائلاً إياه أن يفرج عن المكروبين والمنكوبين.
وبهذا تكون رحمة لعباد الله.
ثم تدعو على أعداء الله وأعدائك الذين هم من شياطين الإنس والجن، الذين يحولون بينك وبين ربك.
فتسأل الله عز وجل أن يحول بينك وبينهم، وأن يكفيك شرورهم، وتسأل الله عز وجل للأمة كذلك.
ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم في هذا المقام أن يصلح لنا أمور الدنيا والآخرة، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه، ونسأله أن يحسن لنا ولكم الختام، وأن يدخلنا وإياكم دار السلام، دون حساب ولا عذاب، ولا سبق خصومة ولا عتاب، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يفرج عن كل مهموم منكوب مكروب، وأن يفرج عن إخواننا في أفغانستان من أراملهم وضعفائهم، ونسأل الله العظيم أن يجبر كسرهم، ونسأل الله العظيم أن يرحم ضعفهم.
اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وأنهم جياع فأطعمهم.
اللهم ارحم ضعفهم واجمع شملهم.
يا حي يا قيوم! اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، أن تفرج عن المسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين! اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية يا حي يا قيوم! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(359/13)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الديات [2]
من حكمة الشارع أنه أسقط الدية في أحوال خاصة كتأديب الوالد لولده والمعلم لطالبه والسلطان لرعيته؛ لأن الشرع أذن لهؤلاء بتأديب من تحتهم، فلو فرض عليهم الضمان في حال الضرر لما تحققت المصلحة المرادة من التأديب وهي الإصلاح، لذا فقد رخص الشارع في حصول المفسدة الصغرى درءاً للمفسدة الكبرى.(360/1)
عدم ضمان المؤدب إذا لم يسرف في التأديب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: وإذا أدب الرجل ولده، أو سلطان رعيته، أو معلم صبيه ولم يسرف لم يضمن ما تلف به].
يقول المصنف رحمه الله: (فصل) هنا سيبين المصنف رحمه الله الأحوال التي تسقط فيها الدية لأسباب خاصة، ومن ذلك: تأديب الوالد لولده، وتأديب السلطان لرعيته، والأصل في التأديب أنه يراد به المصلحة أو يراد به درء المفسدة العظمى في ارتكاب المفسدة الصغرى.
فالأصل في الوالد مع ولده أنه لا يريد أن يضره، وهكذا المعلم مع طلابه؛ لأنه يريد الخير، والظاهر من حاله والأصل فيه أنه لا يريد الجناية والأذية، فلذلك يحمل على هذا المحمل الحسن فلا نحكم بلزوم الدية فيما يترتب على التأديب؛ لأن الإذن بالشيء يفقد الضمان في تبعته، لكن هذه القاعدة فيها تفصيل واستثناءات، والشرع أذن للوالد أن يؤدب ولده، وأذن للسلطان أن يؤدب رعيته، وأذن للمعلم أن يؤدب من يعلمه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) فشرع الضرب في التعليم، والدعوة للخير، والأصل: أن العلم يراد به الدعوة للخير؛ يتعلم الإنسان ثم يعمل.
فهذا الإذن الشرعي بالتأديب والتعليم، وأيضاً صيانة الناس والرعية، كل هذا إذا كان الأصل يقتضي جوازه فإن ما يترتب عليه من ضرر مغتفرٌ شرعاً؛ لأن الأصل أن من فعل هذه الأفعال يقصد بها مصلحة المجني عليه، ولذلك لا يجب عليه ضمان.
مما السبب في أنه لا يجب عليه ضمان؟ لأننا لو أوجبنا الضمان في مثل هذا لامتنع التعليم، وامتنع الوالد من تربية ولده، وامتنع السلطان من تأديب الرعية؛ لأنه كلما جاء يؤدب خاف أن يترتب على الأدب ضرر فأحجم، وكلما جاء الوالد يريد أن يؤدب ولده وعلم أنه إذا أصاب ولده ضرر أنه مسئول أمام الله وأنه آثم، وأنه يتحمل الضمان أحجم وامتنع، وهذا يؤدي إلى ضررٍ أعظم وحينئذ اغتفر هذا الضرر بالنسبة للولد لمصلحته.
ثم الأمر الثاني: أن الغالب السلامة في هذا والنادر حصول الضرر، ولذلك الحكم للغالب والنادر لا حكم له.
يدخل في هذا تأديب الزوج لزوجته؛ لأن الله شرع تأديب الزوجة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واضربوهن ضرباً غير مبرح)، فالزوج له الحق أن يؤدب زوجته ولا يعنف ولا يقبح ولا يضرب الوجه، فإذا أدبها وحصل ضرر فالأصل أنه يريد الخير لها ولا يحمل على المحمل السيء.
هذا بالنسبة لقضية القواسم المشتركة في هذه الصور؛ في الوالد مع ولده، والمعلم مع صبيته -الصبية الذين يتعلمون تحت يده- والسلطان مع رعيته، والزوج مع زوجته؛ فكل هؤلاء هدفهم الخير، والغالب فيهم أنهم يريدون مصلحة المُعْلَّمْ ومن يريدون تأديبه، ولذلك لا يجب عليهم الضمان.
قال رحمه الله: [وإذا أدب الرجل ولده].
الذكر والأنثى، أولاً: يجب على الوالد أن يقوم على مصالح أولاده فيأمرهم بما أمر الله به وينهاهم عما نهى الله عنه، وهذا من الوقاية لهم من نار الله وغضبه، وكل والد أدب ولده التأديب الشرعي فقد سعى في فكاك نفسه من نار الله عز وجل، وكل والد أدب ولده وأقام الحجة عليه؛ فإنه يكون قد سعى في فكاك ولده من نار الله عز وجل، ولذلك إذا قام الوالد بحق التأديب والتعليم على الوجه المعتبر أعظم الله أجره وعظم مثوبته، كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عال جاريتين فأدبهما فأحسن تأديبهما، ورباهما فأحسن تربيتهما، إلا كانتا له حجاباً من النار يوم القيامة)، فهذا يدل على أن التأديب والتعليم مقصود شرعاً.
هذه الرسالة -رسالة التعليم والتربية- تحتاج إلى قوة، ولذلك لابد من وجود القوة في بعض الأحوال، فمن الأولاد من ينكف بالزجر، ومنهم من لا ينكف إلا بالضرب، والأحوال تختلف، ومن هنا كان من حق الوالد أن يزجر أولاده ذكوراً كانوا أو إناثاً عن الأمور التي لا تجوز بالتوجيه إن نفع التوجيه، ثم إذا لم ينفع فإنه يضرب ولا بأس في ذلك، وهذا الضرب فيه مصلحة، ولذلك كان من الحكمة استخدامه، وكما قال القائل: قسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم والأب إذا ضرب ولده وتألم الولد فإن هذا الألم صلاح لدينه ودنياه، كما أن الطبيب يؤلم المريض، فهذا الألم من ورائه خير ومصلحة متى ما كان واقعاً في موقعه، ولذلك اتفق الحكماء والعقلاء: على أن أكمل ما يكون في التربية ألا يكون الضرب والإيجاع والألم العامل الأول في الحفز على الخير والمنع من الشر؛ لأن الأولاد إذا أصبحوا لا يرتدعون عن المحرمات إلا بالضرب، ولا يفعلون الخير إلا بالضرب تعطلت مداركهم، وأصبحوا تحت سلطان الرغبة والرهبة، وحينئذ يغلب عليهم الهوى، فإن غابت القوة وغاب الوالد رتع الأولاد كيف شاءوا.
وهذا معلوم ومشاهد -نسأل الله السلامة والعافية- في النفوس التي تتربى على القهر، فإنها متى ما زال عنها القهر طاشت وخرجت وفلتت لنفسها الزمام -والعياذ بالله- فرتعت في حدود الله ومحارمه دون هوادة.
بل إن من الآباء من يحفظ ولده القرآن ويربيه على أكمل ما تكون التربية لكنها بعنف وقسوة وضرر وأذية، فما إن يموت الوالد أو يغيب عن ولده إلا ويضيع ذلك الولد -نسأل الله السلامة والعافية- وكأنه لم يتعلم شيئاً من الخير، بل لربما رجع حاقداً على كل خير وبر، وهذا يدل على ما ذكرنا من اتفاق الحكماء والعقلاء: على أن البداء بالضرب يبلد الإحساس ويقتل معاني النفوس السامية التي تحفز إلى الفضائل واجتناب الرذائل، فلابد من ترسيخ القناعة الذاتية، وتحريك المدارك في الصبيان وفي الأولاد ذكوراً كانوا أو إناثاً حتى إذا بلغوا استطاعوا بأنفسهم أن يحكموا على الأشياء، فما كان من خير قبلوه، وما كان من شر تركوه، وهذا هو الأسلم والأحكم، وهو الذي يجب على الوالد أن يلتزمه.
بناء على ذلك اتفقوا على أنه ينبغي على الوالد أن يبدأ أولاً بالتوجيه، والتوجيه في الكمالات لا يوجب العقوبة، فلا يحفزهم على الكمالات بالقهر؛ لأن الله لم يفرض ذلك على المكلفين فضلاً عن غير المكلفين، ومن هنا يوجه أولاً، ثم يوجه في غير الكمالات التي هي الأمور الواجبة، فيأمرهم بها، والمحرمة ينهاهم عنها، فالتوجيه يشمل الأمر بطاعة الله والنهي عن معصية الله، فإذا كان التوجيه لم يجد فيه أذناً صاغية انتقل إلى مرحلة التحذير، وينذره ويقول له: إن لم تستجب فسأعاقبك إن لم تستجب فسأفعل بك، وهذا من أفضل ما يكون، فيجعل له مدة في الإنذار بالعقوبة، ويعوده على أنه ينذره مرة أو مرتين، ثم الثالثة إذا أنذره فعل به ما وعده، فلا يتأخر؛ لأنه إذا وعده أنه يضربه أو يؤدبه وفعل الصبي خلاف ما أمر أو ترك خلاف ما أمره به، فإنه إذا تسامح معه اعتادت نفس الصبي ألا تبالي بالإنذار، واعتادت الإهمال، وأصبحت نفساً تستهتر بالنُذر، ولكن إذا عوده على أن ينذره المرة الأولى ثم المرة الثانية، فإن رأى المصلحة أن يصبر إلى الثالثة وإلا بطش به.
الأمر الثالث: إذا أراد أن يبطش به، يبطش به على وجهٍ يحمل على مكارم الأخلاق بفعلها على الأمور المحمودة أن تفعل، والأمور المذمومة أن تترك دون قهر ودون مبالغة في العقوبة؛ لأن المبالغة في العقوبة تؤثر على نفسية الصبيان، والأطفال الصغار ذكوراً كانوا أو إناثاً كما ذكرنا، فلابد أن تكون العقوبة معقولة، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه ولطم الصور -يعني لطم الوجه- وكذلك أيضاً نهى عن الضرب المبرح بالنسبة لتأديب المرأة.
هذا الأصل الشرعي: أنه يعاقب بهذا التدرج، وقد ينتهي به الأمر إلى العقوبة وهي المرحلة الأخيرة، فنحن أحببنا أن ننبه على ذلك؛ لأن البعض بمجرد أن يسمع أن للوالد أن يؤدب ولده يبطش بالولد مباشرة، وإنما المنبغي التفصيل، ولذلك قال الله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، فذكر ثلاث مراتب: الوعظ والتذكير بالله عز وجل ثم الهجر في المضاجع.
والهجر في المضاجع يقابله في الأولاد كف الحسنات عنهم، يعني لو كان من عادته أن يأخذ ولده إلى نزهة في نهاية الأسبوع، ومن عادته أن يذهب به إلى مكان يحبه، ففي ذلك اليوم الذي يترك فيه واجباً أو يفعل فيه محرماً يمتنع من أخذه، وهذا ينبغي أن يكون بأسلوب حساس جداً، يعني بطريقة لا تجعل الولد ينقطع رجاؤه في خيرك ويصبح مبلد الإحساس.
بل عليك أن تكون حكيماً، واعلم علم اليقين أنك مهما أوتيت من عقلٍ وبصيرة فلن تستطيع أن تربي ولن تستطيع أن تعلم ما لم تكن موفقاً من ربك.
فالأمور كلها بيد الله عز وجل، وكما قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] فمن افتقر إلى ربه أغناه وسدده.
فالمقصود أن الوالد إذا أدب ولده فكسر يده، أو رجله، فالأصل أنه لا يريد ذلك، ومن هنا تسقط عنه المؤاخذة ولا يجب عليه الضمان.
كذلك السلطان مع رعيته، لو أن السلطان جيء له برجل فعل جنايةً؛ يعني فعل فعلاً لا يبلغ حد العقوبة المقدرة شرعاً، فمثلاً: لو آذى امرأة أذيةً لم تصل إلى الزنا والاعتداء على عرضها، فنظر السلطان فأراد أن يعزره فأمر مثلاً بجلده أسواطاً، فلما جلد سقط الرجل فانشل، أو سقط الرجل فشلت يده أو رجله، أو أصابه مرض بسبب هذا الضرب، فحينئذ لا ضمان على السلطان، ولذلك جاء عن علي رضي الله عنه -وهو قضاء عمر في القود في الحدود- أنه قال: الحق قتله.
وهذا أصل عند العلماء، لكن المشكلة أن التعزيرات فيها الضمان بخلاف الحدود، وهذه مسألة سنناقشها إن شاء الله أكثر في باب التعزير بإذن الله عز وجل.
بين المصنف رحمه الله أنه لا ضمان على هؤلاء، والعلة في هذا كما ذكرنا: أننا لو ذهبنا نضمنهم لتعطلت المصالح العظمى من التعليم والتربية وردع الناس، ولذلك لا يضمن السلطان إذا أدب رعيته.
لكن كل هذا بشرط أن يكون التأديب لا مجاوزة فيه للحدود، أما لو أن السلطان أمر بجلد رجلٍ بطريقة مضرةٍ مؤلمة فإن حصل الضرر فإنه يضمن، وهكذا(360/2)
التسبب في إسقاط الحمل وضمانه
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً ضمنه المؤدب] بين المصنف رحمه الله في هذه المسألة: أنه لو أدب رجل امرأة حاملاً فأسقطت جنينها فإنه يضمن الجنين، والسبب في ذلك: أن الضرر متعدٍ، والتأديب متعلق بالحامل، والجنين لا ذنب له، ولذلك وجب ضمانه، ولأن الحامل أمرها على الخطر، ولذلك كان يجب عليه أن يتحفظ وأن يتقي ما يوجب الضرر، ومن هنا حكم بوجوب الضمان عليه؛ لأنه لا يخلو الأمر من إفراط في التأديب وخروج عن الأصل، فنقول: إن الضمان لازم، ولا يسقط التأديب حق الجنين وضمانه؛ لأن الضرر هنا متعدٍ، وبينا أن التأديب متعلق بالمرأة نفسها وبالمؤدب، فالمصلحة للمؤدب نفسه، وأما الجنين فلا ذنب له ولا علاقة له، فلذلك بقي على الأصل من وجوب ضمانه، وعليه: فلا تتعارض هذه المسألة مع مسألة ما إذا أدب الأب ولده فمات، أو أتلف عضواً من أعضائه، أو أدب المعلم تلميذه ولم يفرط في التأديب -كما تقدم معنا- فحصل الضرر، فإنه يسقط الضمان.
وقد يستشكل طالب العلم كيف قلنا: إن المؤدب لا يضمن، وهنا لو أدب امرأة حاملاً فأسقطت جنينها ضمن؟ ف
الجواب
أن المسائل المتقدمة معنا تعلق الضمان بالأصول التي هي محل المصلحة من جهة التأديب، فالولد إذا أدب هو الأصل المنتفع بالتأديب، وقد أذن الشرع بتأديبه، وأما هنا فإن الضمان للفرع وليس للأصل، وقد أمر الله بتأديب الأصل وأحل تأديب الأصل، ولكن الفرع لا ذنب له، ولذلك وجب ضمانه، وهذا من دقة الشريعة الإسلامية، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فالجنين لا ذنب له، ولذلك يجب ضمانه، وفيه حق لورثته، فيجب ضمان هذا الحق لصاحبه.
قال رحمه الله: [وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق لله تعالى، أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له فأسقطت ضمنه السلطان والمستعدي].
قوله: (وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق لله تعالى) ذكر مسألة ضمان الجنين من المؤدب، وألحق هذه المسألة تبعاً، هي ليست أساساً في الباب، ولكن من باب ذكر النظائر والمسائل في مظانها.
صورة المسألة: أن تكون هناك امرأة لزم حضورها إلى مجلس القضاء أو إلى مجلس الحكم، وطلبت من أجل أن يكشف حق الله عز وجل عندها، فارتعبت وأصابها الذعر فأسقطت جنينها، فإن هذا الإسقاط ترتب عليه ضرر متعلق بالجنين، والجنين لا ذنب له كما ذكرنا، نعم المرأة تطلب تطلب، ولكن الجنين لا ذنب له، فنسأل: كيف سقط هذا الجنين وبأي سبب؟ فوجدنا أن الطلب والأمر بإحضارها أحدث الرعب الذي نشأ عنه إسقاط الجنين، فيكون قتلاً بالسببية -كما تقدم معنا في صور القتل بالمباشرة والسببية- فيجب الضمان، وهذا أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله أنه يجب الضمان للجنين، وأنه لا يسقط خلافاً لما اختير من القول بعدم الضمان، والصحيح أنه يضمن.
قال: [أو استعدى عليها رجل بالشُرَط في دعوى له].
الشُرَط: جمع شرطي؛ لأن الشرطي يحدث الرعب والخوف، ولذلك إذا استعدى عليها -يعني: اشتكاها- وجاءها بالشرط ووقف على بابها فإن هذا يحدث عندها الرعب والخوف، ومن هنا فعله هذا تسبب في سقوط الجنين وحصول الضرر لطرف لا ذنب له، وله دعوى على المرأة نفسها.
قوله: (استعدى) يعني: طلب؛ إما أن يقيم عليها دعوى ثم يطلبها، أو يشتكيها إلى الشرط ثم يبعث معه الشرطي فيقف على بابها فيحدث لها هذا الخوف والرعب ويأمرها بالنزول، سواء كان ذلك بصورة الخوف؛ مثل أن يتكلم بكلام يحدث عندها الخوف والرعب، فارتعبت المرأة وخافت فأسقطت جنينها، فإن هذا الإسقاط جاء بسبب الخوف، والذي تسبب في الخوف وتعاطى أسبابه هو هذا المستعدي؛ لأنه لولا الله ثم استعداؤه ما حصل هذا كله، ولذلك يتحمل مسئولية فعله.
قال: [فأسقطت، ضمنه السلطان والمستعدي].
ضمنه السلطان في الصورة الأولى إذا طلبها للحضور، والسلطان يشمل القاضي، وهذا أكثر ما يقع من الصور، أنه في مجلس القضاء تكون هناك دعاوى مثلاً: لو أن قاضياً أراد أن يطلب امرأة لحق من حقوق الله عز وجل فطلبها، لحق من حقوق الله فاسقطت فإنه يضمن، وعليه فلو طلبها ظلماً فمن باب أولى وأحرى، وهذا من باب التنبيه بالأدنى لكي ينبه على ما هو أعلى منه وأولى بالحكم منه، فبين رحمه الله أن القتل بالسببية في هذه الصور لا يكون قتلاً من كل وجه، الجنين إذا نزل فاستهل صارخاً ثم مات بفعل السقوط والإسقاط لا شك أن الضمان يكون كاملاً، لكن سيأتي أن فيه الغرة إذا كان ميتاً، أو أسقطته ميتاً.
فالشاهد من هذا: أن السلطان يضمن، والمستعدي يضمن، لكن الإشكال في السلطان والقاضي، هل يكون الضمان في ماله أو في بيت مال المسلمين؟ من أهل العلم من قال: إنه إذا طلبها من أجل جريمة أو من أجل حق يتعلق بالمصلحة العامة، فإن عنده مبرراً شرعياً، وهذا المبرر متعلق بمصلحة المسلمين العامة، ولذلك يجب ضمان هذا التلف الحاصل من بيت مال المسلمين؛ لأنه مأمور شرعاً أن يطلبها، وعند السلطان عذر أن يستدعيها، فقالوا: في هذه الحالة يكون الضمان من بيت مال المسلمين، هذا أصل في القضاة والحكام؛ أنهم إذا تصرفوا بما فيه المصلحة العامة، وكان على وفق الحدود الواردة شرعاً، ولم يخرجوا عنها، فإنه يكون الضمان من بيت مال المسلمين بما يشاء من الضرر؛ لأنهم قصدوا مصلحة المسلمين العامة، وسواء فيما يتعلق بشجارات الأفراد أو خصومات الأفراد إذا قصد بها المصلحة العامة وطلب القاضي هذه المرأة من أجل هذه المصلحة، وفي كشف حق الله عز وجل في قضية أو أمر لابد من حضورها، فإنه حينئذٍ يجب ضمان هذا الضرر المترتب على هذا الفعل الذي يقصد به المصلحة العامة من بيت مال المسلمين، ولا يكون من مال السلطان الخاص، لكن لو أنه أسرف وتجاوز أو كان فيه ظلم ضمن من ماله الخاص، هذا الفرق بين الصورتين، والصحيح أنه يضمن من بيت مال المسلمين.
أما المستعدي: فلا إشكال أنه يجب ضمانه من ماله الخاص؛ لأن الأصل في الضمان أن يكون على هذا الوجه بالنسبة له.
قال: [ولو ماتت فزعاً لم يضمنا].
إذا مات الجنين ضمن المستعدي وضمن السلطان، لكن لو أن المرأة نفسها ماتت من شدة الخوف فللعلماء فيه وجهان: منهم من قال: لا ضمان، لا على السلطان ولا على المستعدي، فلو أن السلطان استدعى امرأة، فمن شدة الخوف سقطت ميتة، أو جاء رجل واشتكى امرأة ومن شدة الخوف سقطت وماتت، أو اشتكى رجلاً معروفاً بالخوف، وليس الخوف خوف ذلة ومهانة، وإنما الخوف الطبيعي الجبلي، الذي وقع لأنبياء الله عز وجل، قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ} [طه:67 - 68]، فالخوف فيه جبلة للإنسان، فإنه يخاف من الشيء الذي فيه ضرر، وقد يكون حيياً، وقد يكون عزيز النفس، فبمجرد أن يستدعى لمثل هذه الأمور تضيق نفسه وتتألم ويتعب، وقد يموت قهراً، يعني: ليس فيه ذلة أو خوف أو جبن، وإنما قد يكون هذا لعوارض أخرى، وقد تجد مثلاً الرجل في علمه وخطابته وقوة بأسه ربما لو قام شخص يناقشه يضيق من الغيظ فلا يستطيع أن يجيبه، لكن ليس هذا دليلاً على خوفه وجبنه، فقد يكون من القهر، ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من قهر الرجال، وقال موسى عن نفسه: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء:13]، فقد تكون الحوابس عوارض ذاتية في النفس، فالناس يختلفون في طبائعهم.
فالمقصود من هذا: أنها لو استدعيت إلى مجلس القضاء وماتت فزعاً، أو خرجت من بيتها فماتت فزعاً، أو حبس على بيته فامتنع من الخروج حتى مات فزعاً، في هذه الحالة اختلف العلماء: قال بعض العلماء: يجب ضمانه، وهذا هو الصحيح، والمصنف اختار عدم الضمان، والمذهب على أنه يضمن السلطان ويضمن المستعدي؛ لأنه لا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة التي قبل، لكن الذين قالوا: إنه لا يضمن، قالوا: لأنه طلبه لحق الله عز وجل، وهذا أشبه بالمؤدب إذا أدب، والواقع أن هناك فرقاً بين التأديب وبين الطلب؛ لأنه بالطلب لم يثبت الحق بعد، ولم يجب تأديبه بعد، ولم يثبت السبب الموجب للإسقاط، لكن إذا أدب المعلم فإنه لا يؤدب إلا بعد الخلل، فوجد الخلل المقتضي للتأديب، أما هنا فقد استدعى، ومن المعروف أن الخصم إذا استدعي أول شيء يطلب، ثم بعد ذلك يناقش ويثبت عليه الحكم، وبعد ثبوت الحكم يؤدب، فنحن لم نثبت عليه جريمة بعد، وحينئذٍ لا وجه لتعميم الحكم بالإسقاط، لكن لو أنه كان مجرماً وطلبه السلطان من أجل إقامة حق الله عليه فمات فزعاً يصح قول المصنف أنه لا يضمن، ولذلك الأوجه والأشبه في هذه المسألة أن تستثنى منها ثبوت الحق في مجلس القضاء؛ لأن هذا مبني على مسألة الحكم على الغائب، وستأتينا في القضاء، فإذا حكم عليه غيابياً، وثبت الحكم عليه غيابياً، وطلب بعد ثبوت الحكم عليه، فقد طلب لحق الله عز وجل.
لكن في أكثر الصور من حيث الأصل أنه يطلب المدعى عليه، ثم بعد ذلك يجيب عن دعواه، فيقر أو ينكر، ثم بعد ذلك تجري القضايا على السنن الشرعي، وحينئذٍ لا نستطيع أن نقول: إنه في كل مسألة يسقط الحق، ولا نستطيع أن نقول في كل مسألة: يسقط الضمان، ولا نستطيع أن نقول في كل مسألة: يجب الضمان، فيفصل على حسب ثبوت الحق عليه، بحيث يكون الاستعداء والطلب صحيحاً شرعاً، وبين أن يكون غير ثابت عليه ما ادعي، فحينئذٍ يكون الأشبه ضماناً كما هو المذهب.(360/3)
تقديم المباشرة على السببية في المكلف العاقل
قال رحمه الله: [ومن أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمنه].
(ومن أمر شخصاً مكلفاً) المكلف: البالغ العاقل (أن ينزل بئراً) أن ينزل بئراً يحضر له شيئاً، أو يحفر بئراً، أو -نسأل الله العافية- مثلما يحدث لبعضهم بأن يعجِّز غيره فيقول له مثلاً إذا كان سباحاً: لا تستطيع أن تبلغ قعر البئر، فيقول له: بلى أستطيع، فينزل فيموت، فحينئذٍ اجتمعت السببية والمباشرة، السببية: حينما قال له: انزل إلى البئر، والمباشرة حينما باشر الشخص نفسه النزول، فأصبحت الجريمة فيها سببية من جهة الأمر بالنزول، فيفصل في هذا: فإذا كان الآمر له قوة وأكره الشخص على النزول فنزل وتلف؛ ضمنه، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه إذا كان له قهر وأكرهه على النزول فيكون في حكم من غصبه على فعل، وهذا الفعل أدى إلى الضرر، فيضمن من غصب وأكره وقهر.
الصورة الثانية: أن يقول له بمحض الاختيار: تحفر لي هذا البئر؟ أو تصعد هذه الشجرة وتجني لي منها المحصول؟ فإذا كان حفر البئر محفوفاً بالخطر؛ وهو انهيار البئر أو انهيار جزء منه، فحينئذٍ لو حفر البئر فانهال عليه فمات لم يضمنه الآمر؛ لأن الأمر سببية والنزول مباشرة، والمكلف العاقل كان ينبغي عليه ألا يخاطر بنفسه، فلما خاطر بنفسه تحمل المسئولية عن نفسه وسقط حكم السببية، وتعلمون كما تقدم معنا في القاعدة (أن المباشرة تسقط حكم السببية) فهذا قد باشر قتل نفسه بتعاطي الأسباب وإن كان الآمر لا سلطان له عليه.
لكن هناك مسألة التغرير؛ ومسألة التغرير صورة مستثناة، وهي أن يقول له: مثلاً في داخل هذا البئر ذهب، أو: في داخل هذا البئر مال إن أحضرته أعطيتك نصفه، أو يقول له مثلاً: هذا كتابي قد سقط في هذه الحفرة، انزل فائتني به، ويكون في داخل الحفرة ثعبان، أو سبع مفترس، ولا يخبره بذلك، فيغرره باقتحام المباشرة الموجبة للهلاك والتلف؛ لأن الغالب أنه إذا خلا مع السبع افترسه وأهلكه، وإذا اختلى مع الحية أهلكته، فإذا غرر به على هذا الوجه لم يسقط الضمان.
وإن قصد قتله وغلب على الظن أنه يقتل ويموت بهذا، أو علم أن البئر له مورد ماء ينهار بعد دقائق أو بعد لحظات، وأمره بالنزول من أجل أن ينهار عليه قاصداً قتله، فهذا قتل عمد، وهو من باب التغرير، والتغرير له تأثر، وفي بعض الأحيان ينزل التغرير منزلة السببية، وبعض الأحيان ينزل منزلة المباشرة، وبعضهم يعتبره من القتل بالسببية.
على كل حال: من أمر مكلفاً أن يحفر بئراً، فالمكلف يتحمل مسئولية نفسه، وهكذا لو قال له: أريدك أن تطلي لي واجهة البيت، فأحضر السلالم وبدأ بطلائها فسقط، فإنه في هذه الحالة لا يضمن، سواء هلك أو ترتب على سقوطه ضرر؛ لأن هذه الأفعال المكلف العاقل لا يخاطر بنفسه بإتيانها، وهو مسئول عن مباشرتها، فإذا اختار أن يفعلها بطوعه دون قهر ودون إكراه على الفعل فإنه لا يضمن الآمر والطالب شيئاً.
والذي يختاره الأئمة رحمهم الله أنه لا ضمان على الآمر؛ لأن المكلف متحمل لمسئولية نفسه.
ومن هنا: المستأجرون في الأعمال والحرف لا ضمان على أصحاب الأعمال من حيث الأصل؛ لأن العمال مستأجرون في الأصل مكلفون عاقلون، لكن لو أنه أكرههم وقصرهم على فعل هذه الأفعال بغير اتفاق سابق، يعني: لم يكن اتفاقه مع العامل أنه يطلي له واجهة منزله، ولم يكن اتفاقه مع العامل أنه يشتغل هذه الأعمال الخطرة، فقال له: لابد أن تشتغل، وأكرهه على فعلها، حينئذٍ يضمن، وبناء على ذلك يفصل فيها، ومن حيث الأصل ما دام أن العامل عاقل ومكلف فإنه يتحمل مسئولية نفسه في القيام بهذه الأعمال الخطرة، وما ترتب عليها من أضرار، وهذا من عدل الشريعة، كما أن العامل يأخذ المنفعة والمصلحة كذلك يتحمل الضرر (فالغنم بالغرم) فهو يتحمل مسئولية نفسه إن حصل له ضرر، وإذا لم يحصل له ضرر أخذ النتيجة والمنفعة.
قال: [ولو أن الآمر سلطان].
(ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، وليست القضية خاصة بالسلطان، وإنما المراد وجود الإكراه، فبعضهم يقول: إذا كان مثله لا يرد طلبه فإنه بسيف الحياء والقهر، لكن المصنف رحمه الله اختار القول الذي يسقط الضمان على السلطان؛ لأن هذا مكلف، وكان بالإمكان أن يقول له: لا أستطيع أو لا أخاطر بنفسي، لكن قالوا: الخوف والرعب يمنعه من ذلك فيكون شبه مكره على هذا.
من حيث الأصل مذهب المصنف قوي، لأنه كان المفروض أن هذا المكلف يقول: لا أفعل هذا الشيء، ويمتنع من فعله؛ لأنه مأمور بحفظ نفسه، وغاية ما سيفعله به السلطان أن يؤذيه أو يضره، وإذا قتله السلطان إذا امتنع فأن يقتل شهيداً خيراً من أن يتعاطى أسباب قتل نفسه، هذا وجهه، ولذلك قول المصنف من حيث الأصل صحيح قوي.
ومن حيث النظر وهو الاحتكام إلى العادة الصحيحة؛ لأنه جرت العادة أن مثل هذا يغلبه الخوف ويكون فيه شبه بالمكره، لكن قول المصنف من حيث الأصل قوي جداً، وعلى هذا سنخرج بخلاصة: أن السلطان أو غيره لا تأثير له ما لم يقهر قهراً فعلياً، بحيث يضغط عليه وينزله قهراً وبدون طواعية، فإذا فعل ذلك فإنه حينئذٍ يلزمه الضمان.
قال: [كما لو استأجره سلطان أو غيره].
كذلك نفس المسألة؛ لأن الإشكال هو في إثبات صورة تكون في حكم الإكراه، أما لو أكرهه قوة وقسراً فلا خلاف أنه يضمنه، فإذا أكرهه وقسره على النزول إلى البئر، وانهار به البئر، أو قال له: لابد وأن تأتيني بما في قعر هذه البئر، وهو سباح، وقعر البئر بعيد، فنزل فهلك، فإنه حينئذٍ يضمنه إذا قهره، أما إذا لم يحصل قهر فالأشبه ما اختاره المصنف أنه لا ضمان عليه.(360/4)
شرح زاد المستقنع - باب مقادير ديات النفس [1]
جرت عادة الفقهاء أنهم يفرقون في الديات بين دية النفس ودية الأعضاء وغيرها، والأنفس تتفاوت في ذاتها من حيث الضمان، وتختلف بحسب اختلاف المجني عليه، فدية المسلم ليست كدية الكافر، ودية الكافر الكتابي ليست كدية المجوسي، ودية الذكور ليست كدية الإناث وهكذا، فلما اختلفت الديات وجب ضبطها وبيان القدر الواجب في كل منها.(361/1)
مقادير ديات النفس
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين.
أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [باب مقادير ديات النفس].
تقدم معنا أن الدية واجبة في القتل، وأن للأعضاء والمنافع دية أيضاً تقدر بحسب الضرر المتعلق بالعضو والمنفعة.
والمصنف رحمه الله بعد أن بين لزوم الدية وفصل في دية العمد وشبه العمد والخطأ؛ التي هي أنواع القتل، شرع بعد هذا في بيان مقدار هذه الدية، وبناء على ذلك فإنه يتكلم على القدر الواجب من الديات، وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان هذا، وتعتبر هذه المسألة من المسائل التي أجملها القرآن وفصلتها السنة؛ لأن الله يقول: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} [النساء:92]، فأجمل هذه الدية، هل هي من الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو هي من الذهب أو الفضة، أو من مجموع هذه الأشياء؟ فهذا إجمال، وبينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت أقضية الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين المأمور باتباع سنتهم رضي الله عنهم وأرضاهم بتفصيل هذه الديات.
والمقادير: جمع مقدار، والمراد بذلك: القدر الذي فرضه الله عز وجل.
والسبب في هذا: أن الأنفس تتفاوت في ضمانها، وتختلف هذه الدية بحسب الأنواع، فالدية من الحيوان من الإبل والبقر والغنم تختلف في مقاديرها في الإبل ومقدارها في الغنم والبقر، ومن هنا أفرد المصنف رحمه الله باباً لبيان هذه المقادير، سواء كانت في الأثمان من الذهب والفضة، أو في الحيوانات.
وقال: [مقادير ديات النفس] لأن الدية إما في النفس وإما في الأعضاء، وإما في الجروح والشجاج، ومن عادة الفقهاء رحمهم الله أن يفردوا دية الأنفس على حدة؛ لأنها تحتاج إلى تفصيل، وتختلف بحسب اختلاف المجني عليه، فدية المسلم ليست كدية الكافر، ودية الكافر الكتابي الذي له دين ليست كدية المجوسي، ودية الذكور ليست كدية الإناث، ومن هنا اختلفت مقادير الدية، ولما اختلفت وجب ضبطها وبيان القدر الواجب في كل منها.
قوله رحمه الله: [باب مقادير ديات النفس].
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بتقدير الديات خاصة بالأنفس، وحينئذٍ لا يتكلم على دية الأعضاء والمنافع، لأنه سيأتي الكلام عليها تبعاً، فابتدأ بالأعلى وهو دية النفس، وسيتبع ذلك بالأدنى كما سيأتي في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى.(361/2)
دية المسلم الحر
قال رحمه الله: [دية الحر المسلم مائة بعير].
الأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه المعروف بكتاب عمرو بن حزم الذي تقدم معنا، وكتبه لأهل اليمن في زمانه عليه الصلاة والسلام، بين فيه مقادير الديات، وقال: (دية المسلم مائة من الإبل).
قوله: (دية الحر) خرج العبد، فالعبد بقيمته كما سيأتي، فإذا قتل أحد عبداً فإنه يضمن بقيمته.
قوله: (المسلم) خرج الكافر؛ لأنه لا يبلغ هذا القدر، فدية المسلم أعلى من دية الكافر، فدية المسلم مائة من الإبل، والمراد به الذكر، أما الأنثى فإنها على الشطر من الذكر، تتنصف ديتها عن دية الذكر، فعقل المرأة على النصف من عقل الذكر في النفس.
والدية كانت معروفة في الجاهلية وأقرها الإسلام، والأصل فيها قصة عبد المطلب حينما نذر إذا جاءه عشرة من الولد أن ينحر أحدهم، وكان آخر العشرة عبد الله، وهو والد النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل إلى الكعبة ونذر السهام على عدد أولاده فخرج سهم عبد الله، فأراد أن يقتله وأن يذبحه، فصاحت قريش وامتنعت من ذلك، وقيل: إنه هو نفسه كان يحب عبد الله حباً شديداً، وهذا من قصص التاريخ التي اختلفت، فقيل: إنه ذهب إلى عراف في المدينة واختصم إليه مع قريش، فقال العراف: أخرجوا في كل سهم عشرة من الإبل حتى يخرج السهم على الإبل، وكان الأصل في الدية في الجاهلية عشرة من الإبل، فلما أشار عليه بهذا الرأي أخرج القدح الأول، والعشرة من الإبل التي كانت دية ثابتة، ثم حاول المرة الثانية فخرج الولد عبد الله، فحاول المرة الثالثة والرابعة والخامسة، حتى بلغ مائة من الإبل فخرج السهم على المائة من الإبل، فنحر المائة من الإبل وصارت سنة؛ لأنهم كانوا في الجاهلية ما يفعله العظماء يتخذونه سنة، فأصبحت الدية مائة من الإبل، فجاء الإسلام وهي مائة من الإبل فأقره.
وهذا مثلما ذكرنا أن أفعال الجاهلية منها ما أقرها الإسلام، ومنها ما أبطله، ومنها ما فصل فيه، وذكرنا من هذا أمثلة كثيرة، ومر بنا في العبادات والمعاملات مسائل من هذا، فهذه السنة كانت موجودة في الجاهلية؛ وهي ضمان الدم بالمال، وكانت الإبل أعز شيء وأنفس شيء عند العرب، وجاء الإسلام فجعلها رأساً في الدية، ولذلك لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب عمرو بن حزم لأهل اليمن جعل الإبل أساساً وابتدأ بها، وجاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ألا إن في القتيل الخطأ -شبه العمد قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل) فنص عليها عليه الصلاة والسلام، وهي كما ذكرت أعز ما كان يملكه العرب، فضمن بهذا الضمان؛ لأن الإبل محل إجماع، وكل العلماء متفقون بحمد الله على هذه السنة، ونص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بها الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون رضي الله عنهم كلهم، والصحابة رضي الله عنهم على أن دية المسلم الحر الذكر هي المائة من الإبل.
ويشترط في هذه المائة من الإبل: أن تكون سليمة من العيوب، فلا يجوز أن يكون فيها معيب، وتؤخذ هذه المائة من الإبل من العاقلة إذا كان القتل خطأ، مثلاً شخص عنده سيارة فارتطم بأحدهم حتى قتله، فيطالب قرابته بهذه الدية، وتقدم معنا أنها تكون مقسطة ويطالب بها العاقلة، وهذا من دية الخطأ، فإذا طالب بها أحدهم فإنه يخرج وسط ماله، مثلاً عنده عشرة من أولاد العم، وعدد أولاده عشرة أو أكثر، فإذا تعين مثلاً على واحد منهم أن يدفع بعيراً ننظر إلى وسط ماله، فنقول: أخرج بعيراً من وسط مالك، ولا يطالب بالأنفس والكريم والجيد، ولا يجوز أن يخرج السقيم والعليل، وإنما يتوسط ويؤخذ من أوسط ماله، وهي واجبة على العاقلة، وسيأتي تفصيل العاقلة.
هذه المائة من الإبل يشترط سلامتها من العيوب كما ذكرنا، وهي أصل عند بعض العلماء -الأصل في الدية الإبل- ومنهم من قال: إن الأصول هي: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، فجعل الأصول خمسة في الديات، فالإبل هي الأساس، وكذلك الذهب والفضة والبقر والغنم، فيخير أن يخرج أي واحد من هذه، يعني: ليس بملزم أن يخرج إبله، فلو جاء بمائتين من البقر أجزأه، أو جاء بألفي شاة أجزأه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- قالوا: هذه كلها أصول الديات، أيها أحضر أجزأه.
قال رحمه الله: [أو ألف مثقال ذهباً].
مثقال يعني: دينار من الذهب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم فقال: (ومن الورق ألف مثقال) وفي حديث السنن أن رجلاً من بني عدي عدا على رجل فقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بديته ألف دينار، فهذا يدل على أن الدية تكون من الذهب ألف دينار، وهذا طبعاً على الدينار الذي كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الدينار الذي ضرب على عهد عبد الملك بن مروان رحمه الله: وهو ما يسمى بالدينار الإسلامي، واستشكل العلماء تقدير الذهب في الديات عندنا مع تقدير الذهب في الزكاة والجزية.
وأجيب عن ذلك بأنه لا تعارض بين الاثنين، وهذا راجع إلى صرف الذهب، فإن عدل الذهب في الزكاة كل عشرين مثقالاً تعادل مائتين من الدراهم، فمعنى ذلك أن المثقال والدينار كان يصرف بعشرة دراهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا ذكر المصنف رحمه الله أنها ألف مثقال.
قال: [أو اثنا عشر ألف درهم فضة].
هنا الإشكال (اثنا عشر ألف درهم من الفضة) قالوا: إذا كان ألف دينار، فالمفروض أن يقابله عشرة آلاف درهم؛ لأننا قلنا: إن الدينار يصرف بعشرة دراهم، وتقدم معنا في الزكاة؛ لأنه قال: عشرين مثقالاً أو مائتي درهم من الورق خمس أواق، وهي تعادل مائتي درهم، فاستشكل العلماء هذا في الألف دينار، وأجيب: أن هذا يختلف باختلاف الصرف، وقالوا: إن تقدير الدنانير في صرفها تختلف، ولذلك اختلف الحكم في الزكاة عن الحكم في الديات، وفي الحقيقة هذه المسألة لا زلت أبحثها، وقد سبق أن نبهت في الزكاة على أن فيها إشكالاً وكلاماً طويلاً للعلماء رحمهم الله من المتقدمين والمتأخرين في ضبط الدينار القديم وبعده الدينار الإسلامي البغلي، ثم الدرهم الإسلامي في عهد عبد الملك، واختلاف تقديرها بالعملات الموجودة الآن، ولا زلت أبحث عن المسألة إن فتح الله عز وجل وتبين فيها وجه الصواب يستطيع الإنسان أن يجزم.
لكن مما ذكره بعض الأئمة والمحررين في رفع هذا الإشكال قد أشار إليه بعض الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله وبعض أئمة المالكية، وبعض أئمة الحنفية أيضاً أشاروا إلى أن الصرف اختلف، وقد بين عمر رضي الله عنه ذلك في خطبته في الديات وقال: (ألا إن الإبل قد غلت) وهذا يدل على أنهم كانوا ينظرون إلى تأثير السوق، وعلى كل حال جعل العدل اثني عشر ألفاً، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضمن الرقبة باثني عشر ألف درهم، وهذا عند العلماء رحمهم الله يعتبر أصلاً في الورق الذي هو من الفضة أنها تكون اثني عشر ألفاً، سواء كانت عدلاً للذهب؛ لأن الصرف كل دينار باثني عشر درهماً، أو كانت غير الصرف، فإذا لم تكن صرفاً له صار أصلاً، ومن هنا نفهم أن الفضة ليست عوضاً عن الذهب، يعني: ليست مقابلاً من باب صرف الذهب، فإذا كانت أصلاً فلا إشكال، وأما إذا كانت بدلاً حينئذٍ يرد الإشكال، إلا أن الذين يقولون: إنها بدل وإنها من الأصول لكن فيها معنى البدلية يعتذرون باختلاف الصرف، وهذا وارد: أن صرف الناس بالسوق يختلف من زمان إلى آخر.
قال: [أو مائتا بقرة].
يدفع مائتين من البقر، فيخير؛ إن شاء دفع مائة من الإبل، أو مائتين من البقر، وهذا يدل على التفاوت بين الإبل والبقر، وجاء في الشرع ما يدل على أن الإبل والبقر بمنزلة واحدة، وكلا الأمرين جاء شرعاً، ففي الشرع في حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه (أنهم كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ينحرون الإبل عن سبعة) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بالبقر عن نسائه، واتفق القول على أن البقر عن سبع كما أن الإبل عن سبع، وهذا يقتضي المساواة، لكن جاءت السنة بالتفاوت، قال عليه الصلاة والسلام: (من راح في الساعة الأولى في يوم الجمعة كان كمن قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية كان كمن قرب بقرة) فجعل البقرة دون الناقة، وجعل البقر دون الإبل، فتارة يستويان وتارة يختلفان، ومن هنا انعقدت الكلمة على أنه لو ضحى بالبقر عن سبع أجزأه، ولو ضحى بالإبل عن سبع أجزأه، وفي الدماء الواجبة كذلك، فإن البقرة يجزي عنها الإبل، فهذا يقتضي المساواة، وهنا فرق بينهما.
وفي الحقيقة التفريق هنا وارد، وقد جاء في خطبة عمر رضي الله عنه في جعل العدل من البقر مائتين، ولم يخالفه فيه رضي الله عنه أحد من الصحابة، ولذلك يعتبر شبه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه إجماع سكوتي من الصحابة رضوان الله عليهم.
أيضاً: في البقر يشترط أن تكون سالمة من العيوب، فلا يجزئ أن يخرج من البقر المعيب، ثم لا يشترط أن يخرج نوع البقر الموجود في بلده، يعني: في الإبل يجوز أن يخرجها عراباً أو يخرجها بختية، ولا يشترط أن تكون من غالب إبل القوم الموجودة، فنقول لكل واحد من العاقلة: ادفع تيسر لك على حسب ما هو واجب عليك، سواء كانت عراباً أو بختية، وهكذا بالنسبة للبقر جيدها ورديؤها من جهة النوع.
وأما من جهة المعيبة فإنها لا تجزئ لا في الإبل ولا في البقر كما قدمنا.
قال: [أو ألفا شاة].
وهذا عدل البقر والغنم، ومثلما ذكرنا أن الزكاة والأضاحي تختلف عن الديات، ومن هنا فرق بينهم، وقوي القول الذي قال: إن الألف دينار لا يقال: عدلها عشرة آلاف درهم، بل تفاوتت وزادت في الفضة، وهكذا هنا لا مانع أن تزيد البقر وأن تزيد الغنم، ولذلك في الأصل السبعة من الغنم تعادل البعير -كما في الأضاحي- ولكن هنا العشرة من الغنم تعادل البقرة الواحدة، ولذلك يصبح الواجب عليه ألفي شاة.
قال رحمه الله: [هذه أصول الدية، فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله(361/3)
الأسئلة(361/4)
سبب وجوب الضمان في الإسقاط
السؤال
إذا أسقطت الحامل جنينها خوفاً فهل يكون الضمان على الإسقاط أم على موت الجنين، وهل إذا أسقطت وعاش الولد فلا ضمان؟
الجواب
إذا كان الجنين حياً وأسقطته ميتاً ففيه غرة؛ وليدة أو عبد، وأما إذا أسقطته وعاش وحيا ثم مات فحينئذٍ لا ضمان، الحمد لله أتى الله بالفرج، فبدل أن تتعب في الولادة أسقطته، يعني: ليس هناك قتل ما دام خرج حياً وبقي.
على كل حال: لا ضمان عليه؛ لأنه -كما تقدم معنا في القتل- إذا عاش الجنين ثم مات بعد ذلك فإن هذا الموت بسبب آخر؛ لأنه لو كان بالإسقاط لمات فوراً، ولذلك يفرق بين السبب المؤثر والسبب الضعيف، وهنا السبب ضعيف جداً، ويقول العلماء: إذا وجد الفاصل يقول العلماء: السبب لا يؤثر؛ لأن غالب الظن أنه مات بقدر، ليس له عمر، وكتب الله أنه يموت بعد ولادته، لكن إذا أسقطته ميتاً فهذا ضمانه بالغرة كما ذكرنا، والأصل فيه حديث اقتتال المرأتين من هذيل، وهو حديث في الصحيح، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان الجنين لما أسقطته بغرة؛ وهي وليدة أو عبد وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في مقادير الديات، والله تعالى أعلم.(361/5)
حكم ضمان رب العمل للعامل إذا تضرر
السؤال
أحياناً يتعرض العمال لحوادث من جراء التعامل مع الآلات والمكائن، فيبعد العامل عن العمل فترة طويلة يخضع فيها للعلاج، فهل يجب على صاحب العمل أن يمضي له أجرته الشهرية حتى وهو مبعد عن العمل؟
الجواب
من ناحية شرعية ليس ملزماً، فالعامل إذا عمل وباشر العمل فهو متحمل لمسئولية نفسه، فإذا قطعت يده من المنشار فهو الذي باشر العمل، ولا يحصل القطع إلا بإهمال من نفسه، وحينئذٍ لا ضمان عليه؛ لأن رب العمل ليس هو الذي أمسك هذه الآلات ولا هو الذي حركها، ولا هو الذي باشر الضرر الذي فيها، فالعامل متحمل لمسئولية نفسه، وهو عاقل بالغ رشيد، عنده خبرة وعنده معرفة.
إذا بقي للعلاج ففضل من رب المال أنه يتولى نفقته ويتولى الإحسان إليه، لكن لا يجب عليه ذلك، إنما تجب عليه الأجرة إذا أعطاه عملاً وقدم له عملاً، هذا هو الأصل الشرعي، ولا يلزم رب المال أن يدفع أجرته حتى يشفى ويعافى، فإن هذا ما أنزل الله به من سلطان.
الشريعة عدل وقسط لا جور فيها ولا غلو، لا نأتي ونقول: حقوق العمال! ونغلو في هذا الباب، ولا نأتي ونقول: حقوق أرباب العمل، كما أن العمال لهم حقوق كذلك أرباب العمل لهم حقوق، ولذلك الشريعة لا تغلو.
تجد البعض يقول: أنا فقط مع الضعيف، فيأتي في حق الضعيف ويغلو على حساب حقوق الآخرين، وهذه هي المدنية الزائفة التي هجمت على الناس مناقضة لشريعة الله في كثير من المسائل، وعندما يأتون لحقوق المرأة فيصيحون: حقوق المرأة.
حتى تذهب حقوق الرجال، يا ليت للرجال أناس ينادون بحقوقهم! يعني: تضيع حقوق الرجال على حساب مسألة حقوق النساء، وهذا سبب الغلو في الطرف، فالضعيف في الشريعة ضعيف حتى يرد له حقه دون غلو، فإذا غلي في حقه صار الطرف الآخر هو الضعيف الذي يضيع حقه، فالشريعة لا تنظر إلى هذا الغلو، وإلى هذه النظرات الضيقة التي تخالف شرع الله عز وجل، والتي تبالغ في حق الشخص حتى يكون على حساب غيره، ولذلك أمرنا الله عز وجل أن نشهد شهادة الحق: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135]، إن كان قوياً أو ضعيفاً فالله أولى بهما أيضاً، فبينت النصوص الواردة في كتاب الله عز وجل أنك إذا جئت تشهد لضعيف لا تشهد له بالباطل وتقول: والله خصمه غني أريد أن أشهد له، فالغني لا يضره لو دفع عشرة آلاف أو خمسة آلاف عوضاً.
فهذا لا تأذن به الشريعة، وليس من حقك أن تتدخل في غني أو فقير، ولا في قوي أو ضعيف، فالله هو الذي يحكم، أما أنت فملزم أن تؤدي شهادتك على وجهها، فنقول: العامل هو الذي قام بهذا العمل، وهو الذي فعل هذا الضرر، وترتب على عمله بيده ومحض إرادته هذا الضرر، فيتحمل مسئولية نفسه هذا الأصل الشرعي.
بعد هذا من الإحسان تكرماً من رب المال وتفضلا ًمنه، ومن باب حفظ العهد، وهؤلاء العمال فيهم ضعف، ومنهم من لا يجد حتى براتبه إلا قدر سداد الكفاية، فكون رب المال يريد أن يضع له راتباً مستمراً حتى يبارك الله له في ماله فجزاه الله كل خير، وأكثر الله من أمثاله وأعظم أجره، لكن أن يلزم ويفرض عليه ذلك فلا، هب أن فقيراً جاء بعامل من أجل أن يصلح له باباً أو يفعل له شيئاً، ثم انكسرت يده، فهل يظل الفقير يصرف عليه حتى يشفى؟ أبداً الشريعة ليس فيها هذا، الشريعة تقول: كل شخص يتحمل جناية نفسه، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، فهو من ألحق الضرر بنفسه، إذ لو قام بعمله كما ينبغي وتحفظ لما حدث هذا الشيء، فلما أهمل وقصر حصل الضرر فهو يتحمل مسئولية نفسه، ولا يلزم رب المال بدفع الأجرة له، ولا بمعالجته، ولكن الأفضل والأكمل أن يفعل ذلك والله تعالى أعلم.(361/6)
التوسع في المسائل الخلافية وأقوال العلماء
السؤال
هل يستحب لطالب العلم في دراسته للفقه التوسع في مسائل الخلاف وأقوال العلماء، أثابكم الله؟
الجواب
إذا أراد أن يشوش على نفسه ويتعب ويضيع يتوسع، الفقه يؤخذ بالتدرج، فيبدأ في المذهب بالدليل ويأخذه ويؤصله ويراجع المرة تلو المرة، ويقرأ في هذا الذي سمعه من الشيخ أو قرأه في الكتاب المرة بعد المرة؛ لأنه مسئول أمام الله عز وجل، فكل درس يحضره طالب العلم يسمع فيه حكماً شرعياً فقد تحمل أمام الله المسئولية عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، فلا بظن أحد أن حضور مجالس العلماء هو من باب إضاعة الوقت والتفكه والتندر أبداً هذه المسألة تسأل عن حفظها وضبطها، خاصة إذا كنت من طلاب العلم المتخصصين، فيجب عليك إتقانها.
فالمشكلة أن بعض طلاب العلم بمجرد أن يأخذ هذه المسألة يذهب إلى أقوال العلماء ويبحثها في المطولات، فيدخل في بحر لا ساحل له.
طالب العلم أول ما يبدأ بالتأصيل، ويبدأ بصغار العلم قبل كباره، فيأخذ من شيخ الزبدة والدليل، ثم بعد ذلك إذا جاء أحد يشوش عليه بقول مخالف يسكته، يقول: هذا الذي أعرف، وهذا الشيخ أدين الله عز وجل أنه متمكن في علمه، وأعتقد قوله بالدليل؛ لأنك ستقف بين يدي الله وتعتقد شيئاً بالدليل، الممنوع أن تتعصب بدون دليل، فإذا قال لك الشيخ حكماً بالدليل تبقى عليه، فإن جاءك شخص يشوش عليك بقول آخر أو بدليل آخر فقل له: أنا والله لم أبلغ درجة الاجتهاد حتى أعرف هل هذا الدليل يصح أم لا يصح، وقد يكون في الصحيحين لكن دلالته ليست صحيحة.
وهذا ليس خاصاً بالمسائل، وإنما يشمل حتى الفتاوى في الحوادث التي تقع، تجد فتوى عن علماء أجلاء يذكرون قولاً، ثم يأتي شخص ويعقب على هذه الفتوى بعشرات الأحاديث والآيات والله لو تأمل المتأمل لوجد أنها لا علاقة لها بهذه المسألة التي أفتي فيها لا من قريب ولا من بعيد، والسبب في هذا: أن البعض يغتر، وبعض الأحيان تأتي مسألة يؤصلها العالم بأدلتها وحسن النظر فيها وهو يعرف كيف يفتي، ولا يمكن أن تتجاوز الفتوى فيها خمسة أسطر، ويأتيك شخص يؤلف كتاباً فيها؛ لأنه يجمع من هنا ومن هناك، ويأتي بأقوال العلماء ويسردها ويفهمها بفهمه، ويؤولها بتأويله، ويسوغها على حسب ما ظهر له، وأما العالم النحرير فإنه يعلم ما الذي يقوله، ويعرف ما هي أصول الفتوى، وكيف يخاطب الناس بفتاويه، وكيف يؤصل؛ لأنه يعلم أن كل كلمة محسوبة، وأن كل عبارة يمكن أن تؤول ويمكن أن تصرف، فلذلك لا يتشتت طالب العلم، فإذا وجدت إنساناً تثق بدينه وأمانته وعلمه، أو شهد له أهل العلم أنه أهل؛ سواء كان من المتقدمين أو المتأخرين أو المعاصرين ودرست على يده وأخذت على يده فأنت تبقى على قوله بالدليل، لكن اضبط هذا الذي تسمعه.
وهذه هي مشكلة بعض طلاب العلم فإنه لا يضبط الذي يسمعه، وإنما ينشغل بشيء آخر فيقرأ كتباً كثيرة، ثم يقول: والله أنا لا أستطيع أن أركز، وهذا ما هو إلى بسبب عدم المنهجية وعدم وضوح الطريق الذي يسير عليه طالب العلم، وثق ثقة كاملة أنك عندما تلخص كل درس، وتلخص أحكامه بالأدلة، وتعتقد هذه الأحكام بدليلها وتخاف من الله عز وجل في كل شيء تنسبه إلى الشريعة ألا تنسبه إلا بقول عالم يوثق بدينه وعلمه، حتى في الفتاوى، فليس كل شخص وجد منشورة يوزعها من باب بيان الحق وهو لا يعرف هل هذا الذي أفتى بما فيها إنسان من أهل العلم أم لا، أو إنسان يوثق بعلمه أم لا، وقد تكون في المعضلات والمسائل التي يقف عليها مصير الأمة.
والمشكلة: أنك لا تشك أن من يفعل هذا ويتبعه أنه يريد الحق والخير، فالخوارج رفعوا القرآن على أسنة الرماح وقالوا لـ علي: (لا حكم إلا الله) هل يستطيع أحد أن يرد هذا القول؟ ماذا قال علي رضي الله عنه: (كلمة حق أريد بها باطل).
هذا من رسوخ علي رضي الله عنه الذي كان يقال عنه: (آية في الفقه) رضي الله عنه وأرضاه، وكان ملهماً في فقه القضايا، حتى كان عمر رضي الله عنه يستعيذ من قضية لا يحضرها أبو الحسن، وكان إذا جاءته النازلة أول ما يلتفت إلى علي رضي الله عنه، مما أوتي من الفهم، ومع ذلك يرفعون له القرآن.
ليس كل قول يأتي في المطولات يخالف قولك الذي درسته معناه أنه انتهى الأمر، والله كنا بعض الأحيان نشك في بعض مشايخنا من باب ما يحدث للإنسان، فالإنسان بشر، ولكن إذا زالت الفتن وانقشعت عرفنا حقيقة الفتوى وما هي أصولها، وما هو العمق الذي كانوا يتكلمون به، وما هو الأصل الذي كانوا يعتمدونه، وفي دروسهم وجدنا أن هذه الأحاديث التي كان يشوش علينا بها بعض طلاب العلم من أسهل ما يكون الجواب عنها، وأنها إما أعم من موضع النزاع، أو خارجة عن موضع النزاع، ولكننا في البداية كنا نجد الحديث المتفق في الصحيحين يدل على كذا، والآية تدل على خلافه فلذلك ينبغي التريث.
ثم إني أقول: لا مانع أن تأخذ بفتوى الغير، ولا مانع أن تأخذ بأقوال الغير، ولكن المصيبة كل المصيبة إذا احتقر الشخص قول غيره -نسأل الله السلامة والعافية- فتجده يقول: القول الآخر ضال أو خطأ، ومن باب بيان الحق لابد أن ينشر هذا القول المخالف، ولذلك أنصح كل النصيحة ألا تدخل في الفتاوى وألا تدخل في المسائل بضرب بعضها ببعض، أو الحكم بصواب عالم على حساب عالم آخر، قل: هذا شيخي، وهذا العلم الذي رأيتم بالدليل، وأما غيره فلم يظهر لي، إلا إذا تمكنت من الأصول وقامت علي الحجة، أو خذ الدليل واعرضه على شيخك، أما أن تذهب إلى المطولات وتنظر فيها، أو مثلاً تجمع فتاوى في المسألة، فهذا مما تضيع به الأمة.
وأقول هذا بمناسبة الأحداث التي نعيشها الآن: هي مسألة عارضة، نحن ذكرنا من فقه العالم في المسائل التي تطرح على الأمة ألا يتشتت وألا يشتت الأمة معه، هناك ثوابت مسلمة ينبه عليها، ينصح فيها لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، لا يستطيع أحد أن يقول: إنه كذب أو إنه أخطأ، هذا أمر ينبغي أن يضعه كل شخص في حسابه، وأن يفهم ذلك وأن يعيه كذلك، ويجب على طلاب العلم أن يحرصوا على غرس منهج السلف الصالح بلزوم الجماعة والبعد عن القيل والقال، وهذا أمر لا يُختلف فيه.
إذا حصل اختلاف في المسألة قلنا: في المسألة توقف؛ لأنه إلى الآن لم نعلم الصواب عند زيد أو عمرو، قلنا: كفوا ألسنتكم، هل هذا جاء من فراغ، لو أننا اتضحت لنا الصورة لعرضنا هذه المسألة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصلنا فيها تفصيلاً واضحاً في مسألة الأحداث التي جرت وما كان لها من تبعات، أما أن يأتي الشخص ويلتقط له فتوى يشوش فيها على فتاوى علماء كبار أجلاء ويتهمهم بالباطل ويتهمهم بالمداهنة وبالممالأة أبرأ إلى الله، اتق الله في نفسك! ينبغي على كل إنسان أن يتقي الله ويحذر.
إذا كنت تريد أن تقول لشخص حقاً وكنت من أهل الاجتهاد قل ذلك، لكن إياك أن تكسب الإثمين فتدخل في نوايا العلماء وقلوبهم، هل كلما وجدنا قولاً يخالف العلماء الكبار فمعناه أنه هو الحق، وأن ما قاله العلماء الأجلاء مشكوك فيه؟ هذا حرام ولا يجوز، وما هكذا يقابل العلماء الذين ينصحون للأمة، يا أخي! لست عليهم بمسيطر، ولست تعلم بما في قلوبهم وصدورهم ونواياهم من أنهم يداهنون أو يقصدون غير الله عز وجل، لك الظاهر والله يتولى السرائر، وهم مسئولون أمام الله فيما أفتوا به، فنحن ننبه على هذا؛ لأن هذا من المنهج.
وإذا أفتى أحدهم فتوى وجاء شخص وبرر هذه الفتاوى واتهم العلماء الكبار والله ليقفن بين يدي الله عز وجل، وليسألن عن هذه الأرواح التي أزهقت في هذا الحادث، تفجير ما لا يقل عن مائتي مسلم، وهذا أقل تقدير وقيل: سبعمائة مسلم، سيقف بين يدي الله حافياً عارياً يسأل عن دمائهم، ويسأل عن مشروعية قتلهم، هذا إذا كان يرى أن هذا جائز، أما كون المسلمين هم الذين يفعلون هذا، فلا تستطيع أن تقول: إن هذه الأمة هي التي فعلت هذا الفعل بالمسلمين، وتحتاج المسألة إلى دراسة، هذا إذا كان المسلمون فعلوه، ثم تسأل أمام الله عز وجل عن التبعة التي جرَّت غير المسلمين إلى بلاد المسلمين، وحدث ما حدث من جميع الآثار والأضرار.
إذا روجت فتوى -تعارض فتوى العلماء- تبرر هذه الأفعال ستقف بين يدي الله لتسأل عمن أفتاك بهذا، لا يحسب الإنسان أنه إذا رأى قولاً أن القول الآخر منتهٍ، وأن هؤلاء ضعاف، وأن هؤلاء مساكين، وأن العلماء لا يعرفون قول الحق، عليك أن تتريث، وأن تعلم أنه لو سكت عالم يريد أن يستبين الأمور ليس معناه أنه خائف أو جبان، موسى عليه السلام يواعده الله عز وجل أربعين ليلة، ثم يأتي ويأخذ برأس أخيه وبلحيته ويجره لما عبد قومه العجل، {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150]، ويصيح عليه هارون ويقول له: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]، وبين له عذره فقال: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]، خاف الفتنة، هذا نبي من أنبياء الله، ماذا قال بعدها: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} [الأعراف:151]، ليس كل من سكت معناه أنه خائف أو جبان، من يسكت خوفاً من الله أن يوقع الأمة في خطأ أو خلل، ومن يأتي بالأصول والثوابت ليس كمن يطلق العنان لنفسه في الفتاوى، ولا تحسب أن كل فتوى يقال فيها تبرير لأشياء أنها هي الحق والصواب، وما بلغت مبلغ العلم، وكم من أحاديث سردت في تبرير بعض الأشياء والله لا تمت إلى الأمر بصلة، هناك مسائل واضحة عند العلماء في مواجهة الكفار للمسلمين، وقواعدها معروفة، ومسائل الجهاد أدلتها وأصولها واضحة مضبوطة ليس فيها أي إشكال، والمسائل المستثناة لها ثوابت، وهذه المسألة أقسم بالله أنها لو عرضت على عالم جهبذ من علماء المسلمين لجثا على ركبتيه خوفاً من أن يقول فيها على الله عز وجل، ومع ذلك تجد من لا يبالي، نحن نقصد نوعية من الناس وإن كانت قليلة وشاذة، وأرجو من الله أنهم حسني النية، ولا نحب أن يأخذهم أحد على(361/7)
حكم من أفطر قبل دخول الوقت
السؤال
في رمضان الماضي أذن المؤذن قبل دخول المغرب، فأفطر بعض الناس، فهل عليهم قضاء؟
الجواب
إذا أذن المؤذن قبل الوقت فإنه يجب على الناس أن يقضوا هذا اليوم إذا أفطروا بأذانه، وهكذا لو تأخر المؤذن حتى طلع الفجر ومضى وقت على طلوعه فأمسكوا بأذانه، بمعنى أنهم أكلوا قبل الأذان مباشرة وكان الوقت وقت إمساك فإنه يجب عليهم الضمان.
والأصل في ذلك: أن الله أوجب على المكلف أن يصوم يوماً كاملاً من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وحق الله يجب ضمانه، والخطأ في هذا كونه أذن خطأ فيسقط الإثم ولكنه لا يسقط الضمان للحق، ولذلك الخطأ لا يوجب سقوط الضمان في الحقوق، والله تعالى يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] فقال: (لا تؤاخذنا) والمؤاخذة هي الإثم، فالإثم ساقط بوجود الخطأ ولكن الحق ثابت، ولو أن شخصاً استدان من شخص ألفاً ثم أخطأ وقال: ليس لك عندي شيء، فإن هذا الخطأ لا يسقط حق الرجل، فلو تذكره بعد فترة يجب عليه أن يسدد، فالخطأ يسقط الإثم أثناء التلبس بالعذر، ولكنه لا يسقط الضمان، وإذا كان هذا في حقوق المخلوقين فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دين الله أحق أن يقضى)، فذمة المخلوق مشغولة بحق الخالق من صيام هذا اليوم تاماً كاملاً، فيجب عليه الضمان، والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية: نحب أن نوصي المؤذنين أن يتقوا الله عز وجل في أذانهم، خاصة في شهر رمضان، فلا يجوز للمؤذن أن يتساهل وأن يقوم وقت ما شاء يؤذن للفجر أو يتساهل في أذان المغرب، وعلى أهل الحي إذا وجدوا من مؤذنهم تلاعباً أن يشتكوه وأن يرفعوه إلى المسئولين، وإلا كانوا شركاء له في الإثم؛ لأن أمثال هؤلاء يفسدون على الناس دينهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) قال العلماء: مؤتمن على ركنين من أركان الإسلام: الركن الأول: الصلاة، والركن الثاني: الصوم، فهو إذا أذن قبل الوقت في الفطر أو أذن بعد الوقت في الإمساك عرض صيام الناس للخلل، فلا يجوز السكوت على أمثال هؤلاء، بل يجب نصحهم وتوجيههم، فإذا لم يرتدعوا استبدلوا بغيرهم ممن يخاف الله ويتقيه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يفسد صيامها، والله تعالى أعلم.(361/8)
بيان أن الزكاة تكون في أهل البلد الذي فيه المزكي
السؤال
إذا كان لدي مال سواء كان أغناماً أو مزارع أو أي شيء من عروض التجارة في بلد آخر غير بلدي الذي أسكن فيه، فهل أخرج زكاته في أهل البلد الذي أسكن فيه، أم أخرجها في البلد الذي فيه هذا المال، أثابكم الله؟
الجواب
هذه مسألة مبنية على اشتراط إخراج الزكاة في الموضع الذي فيه المزكى، والدليل عليها قوله عليه الصلاة والسلام: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وهذا في حديث معاذ في الصحيحين، فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الزكاة في نفس البلد الذي هي فيه، ومن هنا يرد السؤال المذكور: هل العبرة بمال الرجل أو بمسكنه؟ الذي عليه المحققون من الأئمة من أصحاب هذا القول أن العبرة بمال الرجل، فيخرجه في الموضع الذي فيه المال، وإن أخرجه في الموضع الذي هو فيه فلا بأس ولا حرج، لكن الأحوط والأسلم أنه يخرجه في الموضع الذي فيه المال، والله تعالى أعلم.(361/9)
حكم قضاء السنن الراتبة
السؤال
من كان مداوماً على السنن الرواتب وفاتته سنة راتبة فلم يتذكرها إلا بعد يوم أو يومين، هل يقضيها أم لا؟
الجواب
كتب له الأجر، والسنن الرواتب ليست واجبة مثلما ذكرنا في الواجبات في الصوم، فحينئذٍ السنن الراتبة إذا نسيها كتب الله له الأجر كاملاً، وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة، فإنك إن داومت على قراءة القرآن والأذكار، وداومت على الأعمال الصالحة، ثم -لا قدر الله- أصابك مرض كتب الله لك الأجر كاملاً، وقد يكون الرجل في عز شبابه وقوته يسافر في تعليم الناس وتوجيههم، ويسافر للحج والعمرة والأعمال الصالحة، فلما كبر قعد عن ذلك كله، فيكتب الله له أجر شبابه تاماً كاملاً، فكل من عذر يكتب الله له أجر الطاعة التي يداوم عليها في السفر يكتب له في المرض يكتب له قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له عمله) وهذه فائدة المداومة على الأعمال الصالحة، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا على حبه وطاعته ومرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا.(361/10)
شرح زاد المستقنع - باب مقادير ديات النفس [2]
أصول الدية: الإبل، والذهب والفضة، والبقر والشياه، وبعض العلماء يرى أن الدية الأصل فيها الإبل.
فإذا أحضر القاتل أياً من هذه الصور فإن الولي يلزم بقبولها، وقد جاء في الكتاب والسنة بيان دية القتل والعمد وشبهه، واختلف العلماء في تغليظها.(362/1)
أصول الدية ولزوم قبول الولي بأي واحد منها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [هذه أصول الدية] تقدم معنا أن المصنف رحمه الله ذكر أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والفضة والبقر والماشية، ومن أهل العلم من قال: الإبل هي الأصل، وهذا من حيث الدليل أقوى وأصح وأولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها في الديات، وهذا في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل) فنص عليه الصلاة والسلام على هذا الأصل.
وفي حديث عمرو بن حزم في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في الديات ما يشهد بهذا، وقد أجمعت الأمة على قبول هذا الكتاب والعمل به، كما ذكر ذلك الإمام الحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والحافظ ابن حجر رحمة الله على الجميع.
حتى قالوا: إن شهرته أغنت عن طلب إسناده، والعمل عند سلف الأمة الصالح رحمهم الله والتابعين لهم من الخلف على هذا، أي: العمل بهذا الكتاب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل) فهذا هو الأصل، والمصنف رحمه الله زاد لنا الذهب والفضة، وفيها قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقضاء الصحابة رضوان الله عليهم، وقدر عمر رضي الله عنه الإبل كما بينا في المجلس الماضي، ومن هنا صارت أصلاً ثانياً عند العلماء رحمهم الله.
ثم بعد ذلك البقر والغنم على الأصل الذي ذكرناه في خطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه اعتبر البقر واعتبر الغنم بديلاً عن الإبل، وبديلاً عن الذهب والفضة.
لكن عند النظر من حيث الأصل فإن الإبل هي الأصل، وعلى هذا فهي التي عليها المعول، وإنما لزم الرجوع لهذا للتنبيه؛ لأنه سيرتبط كلام سيأتي للمصنف رحمه الله بهذه الجملة، وأن العبرة بالإبل بالغة ما بلغت، سواء غلت قيمتها أو نقصت فهي الأصل وهي التي عليها المعول.
قال رحمه الله: [فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله]: قوله: (فأيها أحضر من تلزمه) أي: الدية (لزم الولي قبوله) أي: قبول الذي أحضره، سواء كان الإبل أو الذهب أو الفضة أو البقر أو الشياه، على التفصيل الذي تقدم، لكن إذا قلنا: إن الإبل هي الأصل؛ فالأصل الذي يلزم بأخذه هو الإبل، وحينئذٍ لا يُلزم بالذهب والفضة وله الحق أن يقول: أريد الإبل.
هذا من حيث الأصل، لكن العلماء والأئمة رحمهم الله نبهوا على مسألة إذا شحت الإبل وقلت.
مثلاً: في بعض الأزمنة مثل زماننا تكثر الحوادث ويكثر قتل الخطأ في السيارات ونحوها، فلو تصورت مثلاً السيارة ربما يكون فيها الأربعون ويهلكون في لحظة واحدة، وتلزم دية هؤلاء، فإذا كانوا أربعين، فيلزم لهم أربعة آلاف من الإبل، ثم حادث آخر وثانٍ وثالث حتى تشح الإبل، وحينئذٍ تصبح عزيزة.
لذلك ذكر بعض العلماء هذا من باب المصلحة المرسلة، وعدلوا بها إلى التقويم؛ أي: تقويمها بالذهب والفضة، والتقويم على وجهين: تقويم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويعتبر أصلاً عند أهل العلم إذا قلنا: إنها ألف مثقال من الذهب.
وهناك خلاف في مسألة مهمة وهي: هل تقديرات الصحابة في الأحكام تعتبر وقتية زمانية بحسب عرفهم؟ أم أنها باقية إلى قيام الساعة، يعني تعبدية؟ إن تقديرات الصحابة واجتهاداتهم مثل أقضية الصحابة في قتل الصيد التي تقدمت معنا، حينما قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحمامة في الحرم شاة، وهذا حكم وقضاء من خليفة راشد، وقضاء الصحابة رضوان الله عليهم في الوعل والثيتل، كما قضى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعبد الله بن عباس.
إن قلت: إن هذا القضاء يبقى إلى يوم القيامة فلا يستأنف الاجتهاد فيه، فهذا وجه، ويختاره الحنابلة ويدرجون عليه، ومنها مسألة الحمى؛ فمثلاً عندنا حمى عمر بن الخطاب وحمى عثمان رضي الله عنهما، فهل إذا حموا يظل حمى إلى قيام الساعة؟ أم أنه وقتي زماني مقدر بذلك الزمان، فإذا تغير الزمان ممكن أن يجتهد باجتهاد جديد، فيحكم بارتفاع الحمى، ويحكم بتجديد اجتهاد الحكمين في مسألة الصيد، ومن أمثلتها مسألتنا.
فإن قلنا: إن عمر بن الخطاب وقت وحدد الدية على سبيل الإلزام فلا تغير، فننظر قيمة الألف دينار كم تعادل في زماننا، والاثني عشر ألف درهم، ونقدرها بالدراهم، مثل الريالات الموجودة وعدلها من الذهب بالجنيهات والدنانير والدولارات، هذه من جهة الذهب وهذه من جهة الفضة، هذا إذا قلنا: إنها زمانية محددة بذلك العرف.
ويشهد لهذا قول عمر: ألا إن الإبل قد غلت.
ففارق بين زمانها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبين زمانه هو، فجعل طرو الاختلاف في الأسعار موجباً لطرو الحكم وتجديد الحكم، وهذا وجه عند بعض العلماء رحمهم الله.
وبناءً على هذا تصبح الإبل هي الأصل وتخرج من الإشكال كله.
فإذا قلنا: إن الإبل هي الأصل.
أصبح التقدير بالعدل من اجتهاد عمر رضي الله عنه، وفيه أحاديث مرفوعة ضعيفة، وقد بينّا هذا وأشرنا إليه فيما مضى.(362/2)
مقدار دية قتل العمد وشبهه
قال رحمه الله: [ففي قتل العمد وشبهه خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة].(362/3)
أنواع الدية واختلاف العلماء في تغليظها
قوله: [ففي قتل العمد وشبهه]: الدية تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: الدية المغلظة.
والنوع الثاني: الدية المخففة، أو مطلق الدية، كما يقول بعض العلماء رحمهم الله.
التغليظ في الدية: التشديد والتعظيم، وأصل الشيء الغليظ هو: الشديد والعظيم، وبعض العلماء يرى أنه يُشرع تغليظ الدية، ومنهم من لا يرى التغليظ، والذين يرون التغليظ يختلفون: المذهب الأول: منهم من يحصر التغليظ على صفة القتل، فيقول: إذا قتلَ قتل عمد أو شبه عمد فإنه تُغلظ عليه الدية، ولا يسوى بين دية الخطأ المحض وبين دية العمد وشبه العمد.
والمذهب الثاني يقول: إن الدية تغلظ؛ فتغلظ في صفة القتل، وتغلظ بالزمان وتغلظ بالمكان، وتغلظ بالشخص المقتول، فيغلظونها إذا كانت في حرم مكة، واختلف في حرم المدينة هل تغلظ أو لا؟ فتغليظها في حرم مكة مأثور عن خليفتين راشدين عن عمر حكاية، وعن عثمان رواية صحيحة، وفي شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف.
فهذا التغليظ أُثر عن عمر، وعثمان، وعبد الله بن عمر، وصار التغليظ إلى ثلث الدية، يعني يجب عليه دية مع زيادة الثلث، وهذا كما ذكرنا صح عن عثمان رضي الله عنه، ويلاحظ أن التغليظ هنا ليس في الإبل، وإنما هو في النقد، ويشمل الإبل والنقد ولا ينحصر في الإبل وحدها.
قضى عمر بن الخطاب في رجل وطئ في الطواف في البيت بدية وثلث، يعني زاد على الجاني ثلث الدية تعظيماً للحرم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً.
قالوا: فهذا يدل على أن الدية داخل الحرم تغلظ، وهذا مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وخالف هذا القول قول آخر فقال: إن الدية لا تغلظ في الحرم.
والقول الأول عند الشافعية، وعند الحنابلة قول به، وهو رواية عن الإمام أحمد، ولكن الرواية التي عليها ظاهر مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وهو مذهب الحنفية وأهل الرأي، وقول فقهاء المدينة السبعة: على أنه لا تغلظ الدية داخل الحرم.
فلو أخطأ شخص وقتل شخصاً في الحرم لا تضاعف عليه الدية، واستدلوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة، قال: (وأنتم يا خزاعة! قد قتلتم القتيل من هذيل وإني عاقله) فخزاعة قتلت الرجل من هذيل، وكانت خزاعة حلفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتحمل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتول ولم يغلظ الدية مع أن القتل وقع داخل الحرم، وهذا يدل على أن الدية لا تغلظ لا بالزمان ولا بالمكان.
الصورة الثانية عند القائلين بالتغليظ: التغليظ بالزمان، يقولون: من قتل خطأً في الأشهر الحرم، فإننا نوجب عليه الدية وثلثاً، وهذا من باب التغليظ بالزمان.
ودليلنا على أن هذا القول مرجوح: أن الله تعالى أمر بالدية، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم الدية أنها مائة من الإبل، وغلظ في أثمان الإبل وطريقتها أثلاثاً وأرباعاً على التفصيل الذي سنذكره، ولم يذكر زيادة على الوارد الذي هو مائة من الإبل.
ولذلك نقول: هذا هو الأصل والذي دل عليه الدليل، وحرمة الزمان هذه لا دليل على التغليظ بها، فنبقى على الأصل الموجب للدية الأصلية وهي مائة من الإبل.
كذلك أيضاً عندهم التغليظ في الشخص المقتول، ويأتي على صورتين عندهم: منهم من قال: إذا كان المقتول قريباً للقاتل، فلو قتل والعياذ بالله أخاه يغلظون الدية، وهو ذو الرحم المحرم.
وأيضاً عندهم وجه ثان من التغليظ، وهذا وجه قليل من يقول به، وهو التغليظ بغير الصفات، فهم يرون أن قتل المحرم تغلظ فيه الدية.
وكل هذه الأقوال الصحيح أنها مرجوحة، وأنه لا تغليظ إلا في قتل العمد وشبه العمد، كما ذكر المصنف رحمه الله؛ وذلك لأنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غلظ، ولما جاء قضاء الصحابة مخالفاً للمرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتمل الاجتهاد منهم بقينا على الأصل، وقلنا: إن الحجة فيما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب العمل به، والأصل أن مال المسلم حرام حتى يدل الدليل على استباحته، وليس عندنا دليل صريح واضح بهذا التغليظ.
فلا تغلظ الدية إلا في المسألة التي ذكرها المصنف وهي قتل العمد وقتل شبه العمد: لو أن شخصاً والعياذ بالله قتل شخصاً عمداً، ورفع إلى القاضي لأجل الحكم عليه، فقيل لأولياء المقتول: تقتلونه أو تعفون؟ قالوا: نعفو.
فعدلوا إلى الدية، فإذا عدلوا إلى الدية فإنها تغلظ الدية عليه.
هذا التغليظ فيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله في المذاهب الأربعة: القول الأول: كما ذكر المصنف أن تغليظ الإبل أرباعاً: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وقد فصلنا في كتاب الزكاة أسنان الإبل وبينا المراد بها.
ويجب عليه أن يأتي بها على هذه الصفة، كما يجب أن تكون حالة ويحضرها دون تأجيل كما تقدم معنا في دية العمد.
هذا القول اختاره المصنف رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وهو مذهب المالكية والحنفية رحمة الله على الجميع، كما هو مروي عن بعض السلف.
القول الثاني: وهو مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب الشافعية، ورواية أيضاً عن الإمام أحمد: أن التغليظ للدية يكون أثلاثاً: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة -حوامل- في بطونها أولادها، فيرون أنه يجب عليه أن يحضر الإبل على هذه الصفة.
والذين قالوا بالقول الأول -والذي اختاره المصنف رحمه الله وأشار إليه- احتجوا بحديث الزهري عن السائب بن يزيد قال: (كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعاً، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة -طروقة الفحل- وخمس وعشرون جذعة) فأصبح المجموع مائة.
وأصحاب القول الثاني استدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن قتل القتيل فأهله بخير النظرين؛ إن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا أخذوا الدية؛ ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها).
هذا نص واضح دل على تغليظ الدية، فمن قتل له قتيل فأهله بخير النظرين: (إما أن يقتلوه) هذا يدل على أنه في العمد وليس في الخطأ، إما أن يقاد، والقود لا يكون إلا في العمد، وإما أن يدفع الدية، ثم بين الدية، فلما جعل الدية بدلاً عن القتل فهمنا أن هذا في العمد، وأنه عليه الصلاة والسلام شدد في الإبل وجعلها على هذه الصفة.
فنقول: يجب عليه أن يأتي بها على هذه الصفة، وهذا القول الثاني أقوى وأرجح إن شاء الله؛ لأن الحديث حسنه الإمام الترمذي وغيره، وهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بروايته في هذه المسألة، وهو نص في موضع النزاع، حيث بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقوى ثبوتاً من رواية الزهري عن السائب.
ولذلك يقدم العمل بتثليث الدية كما هو مذهب الشافعية، ويحكى عن أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم اختاروا هذا القول، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس؛ أنها ثلاثون حقة -استحقت أن يطرقها الفحل وأن يحمل عليها وأن يركب -وثلاثون جذعة- وهي التي تقدمت معنا في الأضاحي والزكاة- وأربعون في بطونها أولادها.
هذا بالنسبة لقتل العمد وقتل شبه العمد.(362/4)
مقدار دية القتل الخطأ
قال رحمه الله: [وفي الخطأ تجب أخماساً ثمانون من الأربعة المذكورة، وعشرون من بني مخاض]: قوله: (وفي الخطأ): أي في قتل الخطأ.
(تجب الدية أخماساً) أي: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، هذه ثمانون، ثم عشرون من بني مخاض من الذكور.
وهذه ورد فيها أيضاً حديث السنن وحسنه غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم، وهو نص في موضع الخلاف؛ والذي عليه طائفة من العلماء ما اختاره المصنف رحمه الله أنها تكون أخماساً، لكن عارضه قول وهو مذهب الشافعية رحمة الله عليهم، فإنهم يجعلون العشرين الباقية من ابن لبون ولا يجعلونها ابن مخاض، يعني: يلاحظ في قتل الخطأ أنه أوجب عليه الصلاة والسلام العشرين الخامسة من بني مخاض، والشافعية يقولون: بل يجب ما هو أعلى وهو ابن لبون.
والصحيح ما ذهب إليه المصنف رحمه الله والحنابلة، وأيضاً هو قول طائفة من أئمة السلف، ويحكى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب من بني مخاض، حتى قال بعض أهل العلم: إنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل بدل بني المخاض بني لبون، والصحيح أنه ابن مخاض، وهذا أنسب، خاصة على التخفيف، ولذلك يترجح ما اختاره المصنف رحمه الله: أن العشرين الخامسة من بني مخاض وليس من بني لبون.(362/5)
عدم اعتبار القيمة في الإبل
قال رحمه الله: [ولا تعتبر القيمة في ذلك]: أي: في الإبل، والقيمة هي الألف دينار والاثنا عشر ألف درهم، فهذه المسألة فيها إشكال، وإذا دفعنا الدية من الإبل فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن تساوي قيمة الإبل قيمة الذهب والفضة، وحينئذٍ لا إشكال عند العلماء ولا اختلاف؛ لأنه حينئذٍ صارت عدلاً، والقيمة مساوية للإبل.
الحالة الثانية: أن تكون قيمة الذهب والفضة الألف دينار، فهل تكون الإبل أغلى أو أرخص؟ تكون أرخص، بمعنى أنها لا تعادل الألف دينار، فتكون مثلاً تعادل ثمانمائة دينار -ثمانمائة مثقال- فحينئذٍ نقصت قيمة الإبل عن معادلة الذهب.
الصورة الثانية: أن تزيد قيمة الإبل على قيمة الذهب والفضة، فتكون المائة من الإبل تعادل مثلاً ألفي دينار، يعني الضعف، ولربما ألفاً وخمسمائة، فقال: سواء زادت أو نقصت العبرة بالإبل سواء كانت قيمتها غالية أو رخيصة، وهذا هو الصواب إن شاء الله؛ لأن قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدل على هذا أيضاً؛ فإنه قال: (ألا إن الإبل قد غلت).
قال بعض الأئمة كما اختاره الإمام ابن قدامة وأشار إليه: إن الإبل كانت على زمان النبي صلى الله عليه وسلم تعادل الثمانمائة دينار، ولذلك يقول عمر: (ألا إن الإبل قد غلت) ولما غلت عادلت في عهده ألف دينار، وهذا يدل على أن الزيادة والنقص لا تأثير له، وأن الإبل هي الأصل، وهذا مبني على المذهب الذي اخترناه؛ أن الإبل هي الأصل في الديات، وأن الواجب الرجوع إلى الإبل والعمل بذلك.
قال: [ولا تعتبر القيمة في ذلك بل السلامة]: بل يجب أن تكون الإبل المدفوعة في الدية سالمة من العيوب بريئة من العيوب المؤثرة، والعيب هو: النقص، يقال: عاب فلان فلاناً إذا انتقصه، ولما كان العيب في الإنسان نقصاناً في خلقته، قيل له: عيب، من هذا الوجه.
فالعيب ينقسم إلى قسمين: عيب مؤثر، وعيب غير مؤثر.
والعيب المؤثر ضابطه في الإبل والبقر والغنم: هو الذي يوجب نقصان المالية نقصاناً مؤثراً، بعض العلماء يضيف هذا القيد (نقصاناً مؤثراً) يعني لو أنقصها شيئاً تافهاً أو يسيراً لا يؤثر.
وبناءً على ذلك: لو -مثلاً- جئنا نأخذ دية الإبل من القاتل، أو أولياء القاتل، فأعطانا إبلاً عرجاء، أو شلاء، أو مقطوعة الأذن، أو عجفاء، أو هزيلة أو مريضة، كل هذا لا يجزئ، بل لابد وأن تكون سالمة من العيوب.
وكذلك العيب الخلقي، مثل جنون الحيوان، يقولون: يمكن أن يوصف الحيوان بالجنون، فيجن في بعض الأحيان، وليس له عقل في الأصل، لكن يقول العلماء: إنه لا يستقر ويضطرب، ففي هذه الحالة يقولون: لا يجزئ حتى في الأضاحي والزكاة، فإذا كانت معيبة عيباً مخلاً فإنها لا تجزئ في الدية، ومن حق أولياء المقتول أن يردوها.
لكن لو رضوا وقالوا: قبلنا ورضينا بها سقط حقهم، وهم في ذلك بالخيار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(362/6)
الأسئلة(362/7)
حكم التنويع في الدية
السؤال
لو خلط في الدية بين الإبل والبقر والغنم، فهل يلزم الولي قبولها؟ أثابكم الله.
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
هذه دية مشكلة على من يقول: إنها كلها أصول، فحينئذ ينظر إلى التقدير، ويصححون هذا وهو أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله، فإنهم يرون هذا، يعني أنه إذا دفع نصفها من الذهب ونصفها من الإبل صح، كما لو شحت عنده الإبل ولم يجد كمالاً لها وأخرج الباقي من الذهب والفضة قالوا: يصح هذا؛ لأنهم يرون أنها أصول، وكذلك في حالات الاضطرار إذا لم توجد أصلاً في البلد أو المدينة التي هو فيها، فأخرج عدلها فإنهم يصححون هذا ويجيزونه، والله تعالى أعلم.(362/8)
حكم اشتراك العاقلة في دفع دية العمد
السؤال
إذا جرى في عرف القبيلة أن دية العمد يشترك فيها العاقلة، فهل فيه حرج؟ أثابكم الله.
الجواب
لا.
هذا خلاف شرع الله عز وجل، دية العمد لا تشارك فيها القبيلة؛ لأن هذا يجرئ العصاة على سفك الدماء.
لكن لو أن هذا القاتل تاب وأصلح واستقام، وأحبت القبيلة أن تقف معه لتوبته وصلاحه هذا أمر آخر، أما عاص مجرم سفاك لدماء المسلمين يقتل عمداً، ثم تأتي القبيلة وتساعده في ذلك، فهذا من الظلم؛ لأن هذا من الإعانة على الظلم، ويقع فيها إحراجات، فلو أتى شيخ القبيلة وفرض ذلك على القبيلة، فيكون قد ظلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصول الشريعة والإجماع منعقد على أن العاقلة لا تحمل إلا في الخطأ.
أما إذا قتل عمداً وجئنا نساعده فمعنى ذلك أننا نعينه على قتل المسلمين ولا يبالي، ثم هو لا يحس أصلاً أنه قتل؛ لأنه عفا الأولياء عن القتل، ثم قامت جماعته وقبيلته بجمع المال فلم يخسر شيئاً، فإذا أصبح الأمر بهذه المثابة لم يشعر بحرمة هذا الدم الذي سفك، لكن عندما يتحمل دفع الدية إذا عفا أولياء المقتول، وغلظت عليه، وامتنعت قبيلته من أن تعينه أو تساعده، شعر أنه منبوذ بجرمه وأنه مسيء بخطئه، وأنه تعدى حدود الله عز وجل بفعله، وحينئذٍ يصلح حاله ويكون أدعى إلى أن يستقيم.
أما إذا كان كلما جنى جناية يعلم أن قبيلته تقبل شفاعتها، ثم يعلم أن القبيلة الأخرى لا تستطيع أن تطالب بالدم، فيحرجون، ثم يتنازلون عن الدم، وتدفع قبيلته الدية، وهكذا يسترسل في الفساد، ويسفك الدماء المحرمة، فهذا لا يجوز، ويجب على ولي القبيلة وشيخ القبيلة أن ينظر ما هو الأصلح، وأن يتقي الله عز وجل فلا يحمل أفراد القبيلة إلا ما أمر الله عز وجل بتحميلهم إياه، وهو قتل الخطأ، والعاقلة تعقل الخطأ ولا تعقل العمد، وهذا بإجماع المسلمين.
وعلى هذا: فإن هذا الفعل إذا أصبح سنة في القبيلة فإنها سنة سيئة، ويجب تعليم هؤلاء وتذكيرهم بالله عز وجل وبيان الحق لهم، فإن إجماع العلماء على أن العاقلة لا تحمل إلا الخطأ، وعليه: فإننا لو حملنا العاقلة العمد فقد خالفنا شرع الله عز وجل، وهي سنة سيئة ومعونة على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عز وجل عن ذلك بقوله: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
فحرم الله عز وجل التعاون على الإثم والعدوان، فالقاتل أثم بقتل النفس المحرمة، واعتدى حدود الله عز وجل، وزوال الدنيا أهون عند الله من سفك دم المسلم البريء، والكعبة عظيمة الحرمة عند الله، ولدم المسلم أعظم حرمة عند الله من الكعبة.
يقول ابن عمر رضي الله عنه: إن من ورطات الأمور سفك الدماء المحرمة.
وفي الأثر: (لا يزال المؤمن في فسحة من أمره حتى يسفك دماً حراماً) فإذا سفك الدم الحرام والعياذ بالله فقد أوبق نفسه وأهلكها، ولذلك جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الشرك بالله عز وجل، فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات -يعني المهلكات- الشرك بالله، وقتل النفس المحرمة).
فهذا يدل على حرمة هذا الذنب وعلى عظمه؛ وهو قتل النفس المحرمة، فكيف يعان عليه؟ هذا لا يجوز، فإذا ثبت هذا فإنه ينبغي تنبيه هؤلاء وإرشادهم وتعليمهم.
لكن نقول لشيخ القبيلة: جزاك الله خيراً على حفظ الرحم وحبك أن تنصر أخاك، ولكن انظر في حال القاتل، فإن وجدت عنده استعداداً أن يتوب، وحاله صلح واستقام، ورأيتم أن تعينوه فهذه حسنة منكم وأنتم مجزيون عليها خيراً، استصلاحاً لحاله، لكن لابد وأن يشعر بالجريمة التي فعلها، والعظيمة التي أتاها، والله تعالى أعلم.(362/9)
استواء التغليظ في الرجال والنساء
السؤال
إذا قتلت المرأة عمداً فهل التغليظ يرد في ديتها؟ أثابكم الله.
الجواب
إذا قتلت المرأة عمداً نفس الحكم، يعني التغليظ يشمل الرجال والنساء، والله تعالى أعلم.(362/10)
حكم استبدال الموقوف
السؤال
عندي مجموعة من الضأن وهي لأمي، وهي صدقة لوجه الله، تذبح ذكرانها وتوزع وتباع إناثها، ويصرف منها على بقيتها، أحببت استبدالها بغنم حيث أن الغنم مرغوبة عند الناس وقليلة في مصارفها، أفتوني أثابكم الله.
الجواب
إذا كانت الأم قد حددت أو أوقفت هذا الشيء فلا يجوز العدول والتغيير والتبديل، لكن إذا أوصت وقالت في وصيتها النظر لمن يليها، فأنت انظر الأصلح إذا فوضت لك النظر.
أما إذا حددت وقالت: إن هذه الغنم أو هذا الضأن وقف يفعل به كذا وكذا، فالواجب على ولي هذا المال أن يتبع ما قالته وأن يبقى المال بعينه؛ لأنه مخصوص بعينه لهذه الصدقة، فيبقى على حاله.
والحمد لله، الضأن فيه خير كثير، وفيه نفع للناس، ولا شك أن التضحية به أفضل من المعز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوئين)، وهذا يدل على تفضيله بالنسبة للصدقة.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من راح الساعة الثالثة كان كمن قرب كبشاً أقرن) لم يقل: كان كمن قرب معزاً، وهذا يدل على تفضيله في الصدقات، فلا تستهن بالضأن، الضأن فيه خير، لكن الماعز سبحان الله! فيه بركة، خاصة المعز الحجازي الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (كنت أرعاه على قراريط لأهل مكة) وقال: (عليك بالأسود منه فإن فيه بركة) وهو المعز الصغير الموجود بكثرة في جبال الحجاز، فهذا فيه بركة، وأخبر عنه عليه الصلاة والسلام بذلك في الحديث الصحيح، فهذا فيه بركة من جهة النماء، ومثلما ذكرت أنت في السؤال أنه أخف مئونة وأكثر نسلاً، هذا فعلاً موجود فيه، لكن من ناحية الشرع، فالشرع فضل الضأن، ولذلك قالوا: إنه أفضل، والأضحية به أكمل، وإذا كانت الضأن مقصودة بالصدقة فيبقى مالها على حاله.
أما لو فوضت لك النظر، وقالت: هذا الثلث أخرجوا منه شياهاً أو غنماً، واجعلوها على صفة كذا وكذا، فجعلت أنها شاة بغض النظر عن كونه ضأناً أو معزاً، فالأمر إليك أن تنظر الأصلح والأنفع، والله تعالى أعلم.(362/11)
حكم من وجد نجاسة في ثوبه بعد الاستنجاء
السؤال
من استنجى ثم وجد بعد ذلك نجاسة في ثوبه فهل ينتقض وضوءه؟ أثابكم الله.
الجواب
إذا استنجى ووجد النجاسة في الثوب، إما أن يغلب على ظنه خروجها بعد الاستنجاء وقبل الوضوء، فحينئذٍ وضوءه صحيح، ويغسل النجاسة، وصلاته صحيحة لو صلى وهو لم يعلم بهذه النجاسة، إذا كانت النجاسة موجودة ووقعت قبل الوضوء.
مثلاً رجل دخل الحمام الساعة الواحدة واستنجى، ثم خرج من الحمام ونسي أن يغسل النجاسة الموجودة في الثوب مثل من معه سلس، أو تقاطر في البول، فهذه النجاسة قبل توضئه وقبل طهارته، ولكنها ليست على وجه النقض، فصلاته صحيحة ووضوءه صحيح، وكونها في الثوب وصلى ولم يعلم بها لا يؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بنعليه وفيهما نجاسة ثم خلعهما أثناء الصلاة ولم يعد الصلاة من أولها، فدل على أن من نسي النجاسة وصلى فصلاته صحيحة.
لكن إذا شك هل خرجت هذه القطرة، فصلاته باطلة؛ لأنه صلى بغير وضوء، أو خرجت بعد الصلاة فصلاته صحيحة، فاليقين أنها خرجت بعد الصلاة، ولذلك يقولون في القاعدة: ينسب لأقرب حادث، وهذه القاعدة من فروعها هذه المسألة: أنه إذا شك في الخارج هل خرج قبل الصلاة فيجب عليه أن يعيد؟ أو خرج بعد الصلاة فصلاته صحيحة؟ أو إذا طافت المرأة ووجدت دم الحيض، ولم تدرِ هل خرج قبل الطواف أو أثناء الطواف، فطوافها فاسد؟ أو خرج بعد الطواف فطوافها صحيح؟ تنسبه لأقرب حادث؛ لأن الأصل صحة طوافها وصحة صلاتها حتى تستيقن أنه خرج منها الخارج قبل الطواف، أو أثناء الطواف أو أثناء الصلاة أو قبل الصلاة.
هذا من حيث الواجب عليه، صلاته صحيحة حتى يتأكد أنه خرج منه ذلك بعد وضوئه وقبل صلاته أو أثناء الصلاة، فيجب عليه أن يعيد، والله تعالى أعلم.(362/12)
حكم الانتفاع بظل الدار مع وجود الضرر على صاحب الدار
السؤال
هل ظل الدار حق لصاحبه يأثم من ينتفع به إذا تضرر صاحب الدار، ومثال ذلك كمواقف السيارات تحت المنازل في الظهيرة؟ أثابكم الله.
الجواب
هذا أمر يحتاج إلى نظر، مالك الدار يملك أرضها وسماها، ولا يملك ما خرج عن حدودها وسمتها، لكن الذي ذكره العلماء: إذا تضرر بالوقوف في وجه بابه، يعني إذا كان الظل يأتي على جهة الباب، فالضرر حينئذٍ من حيث خروج النساء، وخروج الذرية، وخروج الأطفال والعجزة؛ لأنه تنكشف عورته، وأيضاً يتضرر بخروج نسائه أمام الأجانب، فمن حقه أن يقول له: لا تقف أمام باب داري.
لكن إذا كان الظل في جانب آخر من جوانب البيت، فهو يملك البيت ولا يملك ظله.
ولذلك هذا الظل من سبق إليه فهو أحق به، لا يستطيع أن يمنعه؛ لأن الظل ملك لله سبحانه وتعالى، وهو من ظل الدار وليس للدار نفسها، وليس بمتصل بالدار ولا بفرع عن الدار، ولا منفعة ناشئة عن الدار نفسها نشوء الفرع من أصله، وإنما جاء استتباعاً لجريان الشمس على حسب قربها وبعدها من خط الاستواء في طول الظل وقصره واختلاف جهاته، وهذا أمر ليس مما يملكه الإنسان.
وعلى هذا: الأشبه فيه والله أعلم أنه لا يملكه الإنسان، إنما إذا كان الظل على باب الدار أو على حوش الدار؛ مدخل الإنسان ومخرجه فيمنع، لكن لا يمنع لسبب آخر، أما المنافع التي من الدار نفسها في الأشياء المنفصلة فالأشبه أنه لا يملكها صاحبها، والله تعالى أعلم.(362/13)
الصبر على بر الوالدين
السؤال
لدي مشكلة وهي عدم رضا والدي عني مهما فعلت وبذلت، ويواجه هذا الإحسان بالإساءة والسب، فبماذا تنصحني؟ أثابكم الله.
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: أسأل الله العظيم أن يعينك، وأن يرزقك رضا والديك عنك، وأن ينزع ما في قلب أبيك عليك.
أخي في الله! أوصيك بالصبر، ومن صبر ظفر، وليس هناك أعظم للمؤمن بعد الإيمان بالله عز وجل من صبره على طاعة الله عز وجل، فأنت تخوض غمار رحمات الله ببرك لوالديك.
واعلم أن أفضل ما يكون البر إذا وجدت صدوداً وإعراضاً من الوالدين فأبيت إلا أن تبر، فتحسن ويسيئا، وتكرمهما ويهينانك، وتعطيهما ويحرمانك، فإذا كنت كذلك انصرف قلبك لله، ولم ينصرف لغيره أو أحد سواه، لعلمك أن الله لا يضيع لك الأجر، فاطمأننت بالله ووثقت أن الله نعم المولى ونعم النصير، واستجبت لأمر الله عز وجل، وكأن لسان حالك يقول: يا رب! إني أبر والدي وألتمس رضاهما وأقدم ما أوجبت عليّ في حقيهما، فأسألك أن تتقبل مني وأن ترضى عني.
ثم بعد ذلك رضيا أو لم يرضيا لم تبال بذلك؛ لأنك تعامل الله وحده وترجو ثواب الله المطلع على الخفايا الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] وكان الناس حينما نزل الوحي مبتلين بشرك الوالدين وكفر الوالدين، فيجاهد الوالدان الولد على الكفر والشرك، ومع ذلك تتنزل الآيات بالعضات البالغات والكلمات الصادقات تأمر ببر الآباء والأمهات، ووالداك على الإيمان والحمد لله، فاصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، واصبر فإن الله مع الصابرين، واصبر فإن الله يحب الصابرين، لا تعلم مقدار ما لك من الأجر، وكم من بار لوالديه قد ضحك الوالدان وسر الوالدان ببره فاغتر بسرورهما، وفاته شيء كثير من الإخلاص بسبب عطفهما وأنسهما.
أما أنت فسلط الله عليك أن تدخل على الوالد عبوساً، وأن تدخل على الوالد ساباً شاتماً، فينكسر قلبك لله، وتطمع في رحمة الله، وترجو ما عند الله، فيستهزئ بك أبوك، ولكنك واثق أن معك الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58] الله لك خير من والديك، ومن ولدك ومن الناس أجمعين.
هل تريد أن يكون لك والداك وتحرم عظيم الأجر من ربك، ولكن كن على ثقة بأن كل الذي تفعله إن أخلصت فيه لوجه الله فإن الله لا يحرمك الخير، ولا يحرمك الثواب والأجر، وهذه من بشائر الخير لولي الله المؤمن، ولذلك كما تجد هذا في الوالدين تجده في الولد، تحسن إلى أولادك فلا ترى إلا قلوباً كافرة للمعروف، تحسن إلى الزوجة فتجد قلباً منصرفاً ينكر المعروف ولا يعرف معروفاً، وتحسن إلى طلابك، وتحسن إلى تلامذتك، وتحسن إلى جيرانك وأقاربك، فتجد الصدود والإعراض، فيزيدك الأمر إخلاصاً لله عز وجل، وطلباً لرحمة الله، ومحبة لله، وثقة بالله، وما ألذها من ساعات للمؤمنين والمؤمنات والمخلصين والمخلصات إذا تلذذوا بمعاملة الله ونسوا كل شيء سواه.
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب ماذا تريد من الناس؟ وماذا تريد من الجِنة والناس؟ لك ربك الذي لا تخفى عليه خافية، لك ربك الحليم الرحيم الكريم العدل الذي أقام السماوات والأرض بميزان قسط لا يخيب شعرة، ويقيمه يوم القيامة، فإن كان مثقال حبة من خردل أتى بها، وكفى به سبحانه حسيباً رقيباً، فاطمع في رحمة ربك وثق بالله، وكن قوي العزيمة.
وهذا ليس بخاص بهذا الأخ، بل هو منهج لكل مؤمن أنه إذا فعل الحسنة لا ينتظر من الناس جزاءً ولا شكوراً، هذا مقام المحسنين والصابرين، وهذا مقام الأقوياء، الذين قوي إيمانهم وصح معتقدهم، وسلمت عقيدتهم في ربهم، فأسلموا لله صدقاً وحقاً، لا ينتظرون من أحد جزاءً ولا شكوراً.
تجد علماء السلف ودواوين العلم؛ مثل الإمام البخاري رحمه الله برحمته الواسعة، فقد حفظ للأمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مئات الألوف من الأحاديث، وأصبح الناس يطعنون حتى في عقيدته، وتوفي رحمه الله برحمته الواسعة وهم يسبونه ويشتمونه، ويختلف فيه أهل سمرقند: هل يدخل أو لا يدخل؟ وذلك لخلل عندهم في عقيدتهم، ولكن أبى الله إلا أن يزكيه ويطهر سيرته، ويرفع قدره، ويحسن جزاءه، فأبقى للأمة مشكاة عظيمة اهتدى بها السائرون، وصلحت بها أحوال المؤمنين، وسيلقى عند الله جزاءها وثوابها.
لا تنتظر من الناس شيئاً، الزوجة تعمل في بيت زوجها لا تنتظر مدح زوجها ولا ثناءه، والزوج يخدم زوجته ويقوم على أهله وأولاده لا ينتظر إلا جزاء الحي القيوم الكريم سبحانه، والطالب مع شيخه، والشيخ مع طلابه، لا تنتظر إلا جزاءً من الله، خاصة في أمور العبادات.
هذا هو مقام المحسنين ومقام المخلصين: ألا تلتفت إلى شيء غير الله جل جلاله، وأن تطمع في رحمة الله، وأن تعلم أن الله إذا صرف عنك مدح المادحين، وثناء المثنين، تدخل على أبيك وأمك فتقدم مثاقيل الحسنات فتجابه بالسخرية والاستهزاء بأنك متدين أو صالح أو غير ذلك، ويدخل أخوك فلا يقدم إلا القليل الذي لا يذكر فإذا به يرفع إلى السماء، رفع في الدنيا ورفعت في الآخرة، وأعطي الدنيا وحرم الآخرة، وأعطيت الآخرة وحرمت الدنيا {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17].
يا هذا! أخلص لله وكن مع الله ولله وفي الله، وأبشر بكل خير من الله، قال الحسن رحمه الله: لا يزال الرجل بخير إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله.
وهذا عام في جميع أمور الحياة، وهي وصية من يريد الإخلاص لوجه الله عز وجل، ومن أحس لذة الإخلاص، عرف أن الله له حكم في عباده، إذا أحب عبداً من عباده صرف عنه الحرص على مدح الناس وكرهه إلى قلبه، وجعله لا يفكر في مدح المادحين، فهو لم يفكر في مدح المادحين فضلاً عن ذم من يذم، فتجده في مقام صدق عند رب العالمين.
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، فالإخلاص هو سر الحياة، وصلاحها وسعادتها وفلاحها، وللمخلصين جنة في الدنيا قبل جنة الآخرة، وسرور في الدنيا قبل سرور الآخرة، وهو السرور بالله وحده، فتأنس بالله عز وجل حينما تقدم للناس الخير، وتقدم للناس البر، ولا تجد منهم حامداً ولا شاكراً؛ لأن الله عز وجل يريد أن يدخر لك ذلك كله، فهذه نعمة من الله عليك، فاستبشر بفضل الله، وأحسن الظن بالله، ثبت الله قلبك وسدد قولك وعملك، والله تعالى أعلم.(362/14)
حكم انقطاع النفاس قبل الأربعين
السؤال
امرأة انقطع دم النفاس عنها بعد إحدى وعشرين ليلة من النفاس، هل تصلي وتصوم؟ أو تنتظر إلى الأربعين؟ أثابكم الله.
الجواب
إذا انقطع الدم ورأت علامة الطهر وهي القصة البيضاء والجفوف على أصح قولي العلماء، وانقطع يوماً كاملاً، فإنها تصوم وتصلي فيه، ثم إذا عاودها لفقت؛ يعني أضافت الأيام الجدد إلى الواحد والعشرين حتى تتم أربعين يوماً فتحكم بخروجها من نفاسها، والله تعالى أعلم.(362/15)
الواجب على من أفطر في رمضان لعذر ثم انقطع العذر
السؤال
المسافر في رمضان إذا أفطر ووصل إلى أهله بعد العصر، هل يبقى على إفطاره أو يمسك؟ أثابكم الله.
الجواب
يمسك بقية يومه، قال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن الله فرض عليكم صيامي هذا في مقامي هذا، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه) هذا الحديث دل على أن من كان مفطراً لعذر وانقطع عنه العذر وجب عليه الإمساك لحرمة اليوم، وهو أصل عند جمهور العلماء رحمهم الله، على أن المسافر إذا قدم المدينة أنه يمسك بقية يومه، ويكتب له أجر ذلك الإمساك.
يقول تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184] والمسافر إذا رجع من السفر انقطع فيه؛ لأنه ليس على سفر، ومن هنا رجع إلى الأصل وهو الإمساك، وأجره مكتوب، ولذلك يلتزم بهذا الأصل الذي دل عليه دليل الكتاب والسنة، والله تعالى أعلم.(362/16)
حكم من صام كفارة اليمين بلا تتابع
السؤال
حلفت بالله وأردت أن أكفر عن هذه اليمين المنعقدة، فصمت يومين، وفي اليوم الثالث أفطرت، جهلاً مني بأن الصيام يجب أن يكون متتابعاً، وفي اليوم الرابع أكملت الصيام، فهل يجزئ ذلك؟ أثابكم الله.
الجواب
أولاً: لا يجوز لك الصيام إلا إذا كنت عاجزاً عن الرقبة، عاجزاً عن إطعام عشرة مساكين أو الكسوة، فإذا عجزت عن هذه الخصال الثلاث وأنت مخير بينها، حينئذٍ تصوم ثلاثة أيام متتابعة، ويجب عليك أن تعيد هذا الصوم؛ لأن التتابع لازم في صيام كفارة اليمين على أصح قولي العلماء، لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وهذه قراءة شاذة، والمراد بالشذوذ: انفرادها عن القراءة المعتبرة، لكن نسخت تلاوة وبقيت حكماً.
والقراءة الشاذة يجوز العمل بأحكامها؛ لا القراءة والتعبد بقراءتها، وحكمها لا يشترط فيه التواتر، ولا يشترط فيه أن تكون القراءة غير شاذة، فالصحيح أنه يحكم بها ويعمل بها، ولذلك يجب عليك قضاء هذه الثلاث؛ لأن التتابع لازم، والله تعالى أعلم.(362/17)
حكم شراء المصاحف ووقفها
السؤال
هل يجوز أن أشتري مصاحف وأضعها في الحرم وقفاً لله عن شخص ميت وآخر حي؟ أثابكم الله.
الجواب
هذه المسألة فيها جانبان: الجانب الأول: بيع المصاحف وشراؤها اختلف فيه العلماء: الجمهور على جواز بيع المصحف وشرائه.
وكره الإمام أحمد رحمه الله ذلك وهو محفوظ عن بعض السلف، حتى قال ابن عمر: وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف.
لكن الصحيح أنه يجوز بيعه كمذهب الجمهور، ويجعل الانعقاد على الصحف والورق، وليس على كلام الله عز وجل؛ لأن كلام الله لا يباع ويشترى، وأشار بعض العلماء إلى ذلك بقوله في خواص القرآن: ومنع بيعه لدى ابن حنبل وكرهه لدى ابن شافعٍ جلي فالجمهور على كراهية ذلك، مع صحة البيع.
إذا ثبت هذا؛ فيجوز شراء المصاحف، فإذا جاز شراؤها بقيت مسألة الصدقة بها إذا قرئت وانتفع بها.
وهكذا كتب العلم، كأن تشتري كتب علم وتضعها في مكتبة أو مسجد على أن ثواب قراءتها لك أو لوالديك الأموات، فهذا لا بأس به ولا حرج؛ لأن الصدقة عن الميت ثبت النص بها كما في الصحيح من حديث سعد رضي الله عنه (أنه اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي افتلتت نفسها، وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم ... ).
وفي صحيح البخاري جعل سعد رضي الله عنه حائط الخراف -وهو بستان له- صدقة على أمه بعد موتها، فدل هذا على مشروعية التصدق عن الميت بالأمور التي ينتفع بها، سواء كانت دينية أو دنيوية، فالدينية أعظم أجراً وأعظم ثواباً.
ولذلك يجوز أن تتصدق ببئر الماء وثلاجة الماء، والكتب العلمية في مسجد، أو تشتري لطالب علم كتاباً يقرؤه تنويه عن والديك أو عن ميت لك، فهذا مما تؤجر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(362/18)
شرح زاد المستقنع - باب مقادير ديات النفس [3]
جاء في الكتاب والسنة بيان مقادير الديات، ومنها: دية الكتابي والمجوسي والوثني، وكذلك مقدار دية الجنين والمرأة، وهناك أسباب تؤدي إلى نقصان الدية، وهذه الأسباب هي: الكفر، والرق، والجنين، والأنوثة، وهذه المسائل تعرف عند العلماء بمسألة: أسباب نقصان الدية.(363/1)
دية الكتابي
قال رحمه الله: [ودية الكتابي نصف دية المسلم]: قوله: (ودية الكتابي): قد تقدم معنا الكتابي أنه هو اليهودي والنصراني، لقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156].
فأخبر تعالى أنهم أهل كتاب، وبينّا هذه المسألة، ومنهم الذين ينطبق عليهم أنهم أهل الكتاب فيما تقدم معنا في كتاب الذمة.
إذا قتل المسلم كتابياً فقد يكون القتل عمداً، وقد يكون خطأً، وإذا قتله قتل عمد غلظت الدية، وحفظ تغليظ الدية في قتل الذمي عمداً عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأيضاً حكي عن عمر بن الخطاب لكن عثمان السند عنه صحيح فيما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وغلظ الدية فيه ونزله منزلة المسلم؛ لأن له ذمة وعهداً بينه وبين المسلمين، فغلظ فيه الدية إذا قتل عمداً، وأما إذا قتل خطأً فلا إشكال.(363/2)
النقصان في الدية وأسبابه
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في مسألة تعرف عند العلماء رحمهم الله في باب الديات بمسألة: النقصان في الدية.
المنقصات للدية والتي توجب نقص الدية لها أسباب، والدية مائة من الإبل، لكن يعدل عن هذا الأصل إلى النقص فتجعلها على النصف أو على الثلث، أو تجعل عُشر الدية (الغرة) في الجنين إذا أسقط بالشروط التي سنذكرها، والتفصيل الذي سنبينه إن شاء الله تعالى، أو نصف العشر كما يقول بعض العلماء رحمة الله عليهم، هذا كله يسمى: نقصان الدية.
ونقصان الدية له أربعة أسباب: السبب الأول: الكفر.
والسبب الثاني: الرق.
والسبب الثالث: الجنين.
والسبب الرابع: الأنوثة.
فحينئذٍ تعدل من الكمال في الدية الذي هو المائة وتنقص الدية، ثم يفصل في هذا النقصان: هل تشطّر الدية بالنصف؟ أم هل يُحكم بنقصانها إلى الثلث؟ كل هذا سنبينه إن شاء الله تعالى.
فابتدأ المصنف رحمه الله بالنقصان من جهة الكفر: أن يكون المقتول كافراً، ثم هذا الكافر على أقسام: قسم: محقون الدم، وله عهد وذمة بين المسلمين، وله دين سماوي وهم الكتابيون، ولذلك فرقت الشريعة بين الكتابيين وغير الكتابيين كالمشركين والمرتدين والوثنيين والملحدين، هؤلاء فرقت الشريعة بينهم؛ لأن الكتابيين لهم أصل من الدين السماوي، ولأن الكتابيين يؤمنون بوجود الله عز وجل، ولكن والعياذ بالله بعض الكفار يقول: لا يوجد إله.
أو يجعل مألوهه حجراً أو شجراً أو بقرة نسأل الله السلامة والعافية، فيعبد غير الله سبحانه وتعالى.
فالشاهد من هذا أن أهل الكتاب الذين لهم دين سماوي خولف في أحكامهم عن الكفار من سائر الملل الأخرى والطوائف، فالكتابي إذا قتله المسلم اختلف فيه العلماء رحمة الله عليهم على ثلاثة أقوال مشهورة: القول الأول يقول: الكتابي ديته نصف دية المسلم، وهذا على ما اختاره المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من السلف، وأيضاً مروي عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين.
القول الثاني يقول: دية الكتابي مثل دية المسلم، فإذا قتل المسلم كتابياً، فالواجب أن تدفع الدية لأوليائه وأهله كاملة مثل المسلم، وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.
والقول الثالث يقول: دية الكتابي على الثلث، وهو مذهب الشافعية، والأول مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله على الجميع.
فالذين قالوا: إن دية الكتابي مثل دية المسلم استدلوا بقوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] وسوى في هذا الوصف بين دية المسلم ودية الكتابي، وقالوا: هذا يدل على أن ديته كدية المسلم، واستدلوا بحديث استظهر بعض العلماء عدم صحته، وبعضهم يقول: لا نعرف له أصلاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الكتابي مثل دية المسلم).
قالوا: هذان الدليلان من الكتاب والسنة يقتضيان أن الكافر الكتابي إذا قتله المسلم وجب دفع الدية إليه كاملة كالمسلم سواءً بسواء، ثم قالوا: إنه لما أصبح ذمياً في بلاد المسلمين، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، فتكون ديته مثل دية المسلم إذا اعتدي عليه.
والذين قالوا: إن الدية تكون على الثلث استدلوا بقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك أنه جعل دية الكتابي على الثلث من دية المسلم، وعلى هذا يقولون: إنه تثلث الدية ولا يعطى على التشطير، وقالوا: إن عمر بن الخطاب من الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم وهديهم، فيصبح هذا الحكم لازماً وسنة متبعة.
والذين قالوا: إن دية الكتابي على النصف من دية المسلم كما اختاره المصنف رحمه الله، وهو قول طائفة من السلف كما ذكرنا استدلوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عقل الكتابي على النصف من عقل المسلم) وهذا الحديث حسن إسناده غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم، وهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جعل دية الكتابي نصف دية المسلم.
وبناءً على ذلك لما قال: (الكتابي) شمل اليهود والنصارى، فتكون ديتهم نصف دية المسلم؛ خمسين من الإبل في ذكورهم، وخمس وعشرين من الإبل في إناثهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وخمسمائة دينار بالنسبة للذهب، وستة آلاف درهم بالنسبة للفضة، ومائة بقرة وألف شاة بالنسبة للبقية، ومائة حلة من الثياب على القول بأن الحلل تدخل في أصول الديات.
وهذا الحديث هو أصح، والقول به أرجح، ويجاب لما ورد في القرآن في قوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] أن هذا مطلق، وجاءت السنة فقيدته، والقاعدة: (إن المطلق يحمل على المقيد).
وكم قيدت السنن من إطلاقات القرآن وخصصت من عموماته وبيّنت من إجمالاته، فلا إشكال أن السنة تبين القرآن.
ثانياً: الاستدلال بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه نقول: تعارض المرفوع والموقوف، فيقدم المرفوع على الموقوف، ويعتذر لـ عمر بأنه يحتمل أنه لم يبلغه قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الرواية عنه ضعفها بعض العلماء رحمة الله عليهم في كونه قضى بالثلث الذي ذكروه.
وعلى هذا يترجح القول الذي اختاره المصنف: أن الكتابي ديته تكون على النصف من دية المسلم.(363/3)
دية المجوسي والوثني
قال: [ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم]: قوله: (ودية المجوسي): هم عبدة النار، وهم وثنيون في الأصل ومشركون، ولذلك سوى الكتاب العزيز بينهم وبين أهل مكة فقال: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:1 - 5].
هذا مبني على أن الروم غزوا الفرس، وكان الفرس عبدة للنار، ففرح المشركون بانتصار المجوس على الروم، وحزن المسلمون؛ لأن بيننا وبين أهل الكتاب أصل مشترك وهو الإيمان بوجود الله عز وجل، وهم أهل دين سماوي ونحن أهل دين سماوي، فبيننا وبينهم قاسم مشترك من هذا الوجه، ففرح المشركون بانتصار الفرس على الروم كما أخبر الله عز وجل أنهم من بعد غلبهم سيغلبون، وأخبر أنه إذا غلبت الروم الفرس فرح المؤمنون بنصر الله، وجعل انتصار الروم على الفرس نصراً من الله عز وجل؛ لأنهم أهل دين سماوي، والذي له دين سماوي أفضل من الذي لا دين له، وأفضل من الملحد، وأفضل من المشرك من جهة أن له أصلاً، وهذه من ناحية أن الله عز وجل جعل لكل شيء قدراً، وهذه حكمة في الشريعة الإسلامية.
قال الله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] مع أنهم كفار لكن وجد القاسم المشترك بيننا وبينهم، فأنت حينما ترى أهل الأديان السماوية مثل اليهود والنصارى تجد أن أديانهم في الأصل فيها قواسم مشتركة؛ وتجد اللاديني إباحي، يرى الإباحية ويرى -والعياذ بالله- الفواحش والمحرمات أنها مباحة وأنه لا دين ولا خلق ولا قيم ولا تقاليد، لكن تجد اليهودي والنصراني أرحم من هذا الذي لا دين عنده، وهذا من جهة الفارق النسبي وليس من كل وجه، ولذلك تبغض من وجه وترى أصلاً توالي فيه من وجه آخر.
ومن هنا جعل الله عز وجل المحبة والفرح مبني على أصل وهو وجود القاسم المشترك؛ لأن المشركين شمتوا بالمسلمين حينما غلبت الفرس الروم.
وبين الله تعالى أنه سيمكن الروم من الفرس، وجعل ذلك نصراً؛ لأن الروم لهم دين سماوي كما ذكرنا.
إذا ثبت هذا فالشريعة تفرق بين الاثنين، فإن المجوس عبدة النار، وهم وثنيون، والأصل يقتضي أن الوثني والملحد والمشرك دمه لا قيمة له، وليس له دية في أصل الشرع، هؤلاء الذين لا دين لهم لم تجعل الشريعة لهم دية في الأصل.
لكن لو دخل المجوسي إلى بلاد المسلمين بأمان -مستأمن- أو دخل كرسول عنده رسالة يريد أن يؤديها، ثم قتله مسلم خطأً فحينئذٍ يرد الإشكال؛ لأنه دخل إلى بلاد المسلمين وله أمان، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فلو أنه قُتل خطأً مثلاً في بلاد المسلمين فقضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووافقه على هذا طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدية؛ ثمانمائة درهم، وهذا القضاء لم يخالف فيه، ولذلك لم يرد شيء مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض هذا القضاء، فوجب العمل به، ومن هنا عمل بهذه السنة، وقال بها جمهور العلماء رحمة الله عليهم.
المجوسي إذا لم يكن له أمان وقتله مسلم خطأ، فهذا ليس له دية في الأصل، وإنما هذا القضاء وقع في الأحوال التي يكون له فيها ذمة وعهد بين المسلمين.
قال: [ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم]: هذا في أحوال الأمان، ومن أهل العلم من قال: يختص الحكم بالمجوسي، وأما من عداه من الوثنيين والملحدين فهؤلاء ليس لهم شيء، ولو أن شخصاً ارتد عن الإسلام واستهزأ بالدين أو سب الله والعياذ بالله ثم ركب سيارته وصدمه مسلم فقتله خطأً، إذا شهد عدول أنه قال كلمة الكفر وحكم بكفره، لا دية على قاتله ولا ضمان عليه؛ لأنه ليس له حرمة، وليس له دية، وهذا بإجماع العلماء أن المرتد إذا قتله المسلم خطأً لا دية له.
وهكذا إذا قتله عمداً، لكن الأصل أنه يرد إلى ولي الأمر، وهو الذي يستتيبه، كما سيأتينا إن شاء الله في أحكام الردة، لكن من حيث الأصل ليس لهذا عصمة عند الله وعند رسوله صلوات الله وسلامه عليه وعند المؤمنين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله).
مفهوم ذلك أنهم إذا لم يفعلوا ذلك سقطت عصمتهم فلا عصمة لهم، وإذا كان المقتول لا عصمة له فقد قدمنا أن الدية لا تثبت إلا لمعصومي الدم، وحينئذٍ يسقط اعتبارها.(363/4)
دية نساء أهل الذمة
قال رحمه الله: [ونساؤهم على النصف كالمسلمين]: ونساء أهل الذمة على النصف من ديات ذكورهم، كما أن نساء المسلمين على النصف من دية ذكورهم، وهذا فيه أثر مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضاً مرسل عن سعيد بن المسيب في الصحيح رواه مالك في الموطأ: (عقل المرأة على النصف من عقل الرجل).
وعليه سواد الأمة الأعظم على أن المرأة ديتها على نصف دية الذكر، وهذا هو السبب الثاني من النقصان: الأنوثة، أن يكون المقتول أنثى، السبب الأول: الكفر، والسبب الثاني: الأنوثة، فإذا كان المقتول أنثى فإن ديتها على النصف.
ذكر المصنف الكتابية ثم قال: [كالمسلمين] فأشار إلى أصل المسألة، فالمرأة المسلمة إذا قتلت خطأً فإن ديتها على النصف، وإذا قتلت عمداً أيضاً ديتها على النصف -تشطر ديتها- وهذا كما ذكرنا حكى بعض العلماء الإجماع عليه.
وخالف في هذه المسألة الأصم بن علية، وخلافه شذوذ، وللأصم بن عُلية شذوذات عجيبة، فقد خالف في أشياء منصوص عليها، وخرجوا فيها إجماعات العلماء رحمهم الله، ولذلك لم يعتد بخلافه، حتى إن الإمام ابن العربي رحمه الله الفقيه المشهور لما ذكر مشروعية الإجارة وذكر نصوص الكتاب والسنة الواضحة على أن الإجارة مشروعة، وكان الأصم يقول: لا تجوز الإجارة؛ لأنها بيع لمعدوم، والمنفعة غير موجودة أثناء العقد، فشكك في جوازها مع ورود النصوص في الكتاب والسنة، فقال الإمام ابن العربي رحمه الله كلمته المشهورة: ولم يخالف فيها إلا الأصم فكان عن شرعها أصم.
وعند العلماء عبارات قد تكون ثقيلة في بعض الأحيان، لكنهم يريدون التشنيع على المخالف حتى لا يقتدي به غيره، مثل قول الإمام أحمد عن أبي ثور في مسألة أكل الذبيحة إذا لم يذكر عليها اسم الله عز وجل قال: أبو ثور في هذا كاسمه، ومع أنه يقول عن أبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي: أبو ثور أعرفه بالسنة منذ ثلاثين عاماً، فأثنى عليه هذا الثناء العظيم.
هذا منهج عند العلماء وهو فقه الفقه: إنه إذا كان القول شاذاً يشنعون فيه حتى تستبشع الناس اتباعه وينفر طالب العلم؛ لأن بعض طلاب العلم عندهم قصور في الفهم، فلربما قرأ الدليل لهذا القول الشاذ المخالف للإجماع فاغتر به، لكن لو وجد التشنيع من أئمة السلف والتقريع والتوبيخ صار أمراً زائداً على المسألة، وهذا فقه الفقه، أنه ينبغي النصيحة لعامة المسلمين ولكن لا يقصد بها التحقير، مع أن العلماء ذكروا خلافه واعتنوا بنقل قوله من باب التنبيه، والتحذير من متابعته في شذوذه.
على كل حال: هذه المسألة خالف فيها الأصم بن علية فقال: إن عقل المرأة كعقل الرجل، وهو خلاف من ذكرنا من السلف، حتى إن فتوى الصحابة وقضاءهم على ذلك، يعني على تشطير دية المرأة.
إذا ثبت أن دية المرأة نصف دية الرجل في المسلمين كذلك في الذميين والكتابيين، فلو قتل مسلم امرأة من اليهود أو نصرانية، أو قتلها يهودي مثلها خطأً أوجبنا عليه نصف الدية الواجبة في الكتابي، فيجب فيها خمس وعشرون من الإبل؛ لأن دية الكتابي خمسون.(363/5)
دية العبد
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ودية قن قيمته].
هذا السبب الثاني من المنقصات وهو: الرق، فإذا كان المجني عليه رقيقاً فإن هذا ينقص ديته، والأصل في الرقيق أنه ينظر إلى قيمته، فلو أنه قتل عبداً نظرنا إلى قيمة هذا العبد، سواء كان مملوكاً لسيده ولا زال عليه الرق حتى مات وقتل، أو كان مكاتباً أو كان مدبراً أو كان أم ولد، فجميع هؤلاء قيمتهم بالغة ما بلغت.
وعلى هذا جمهور العلماء رحمهم الله: أن دية العبد قيمته بالغة ما بلغت، واختلف في العبد، لكن من حيث الأصل أن العبد مملوك يباع ويشترى، ولذلك تكون ديته إذا قتله الإنسان خطأ أو قتله عمداً ولم يثبت القصاص لمانع أن يدفع قيمته بالغة ما بلغت.
قال: [وفي جراحه ما نقصه بعد البرء].
يعني: إذا جني عليه جناية فإننا ننظر إلى قيمته قبل الجناية وقيمته بعد الجناية والبرء، والناقص يدفعه ذلك الجاني، فلو كانت قيمته مائة ألف قبل الجناية، وبعد الجناية خمساً وتسعين يجب أن يدفع خمسة آلاف، فما أنقصته الجناية يجب ضمانه، وهذا أصل في جميع الأموال أنها تضمن بالنقص، كما تقدم معنا في باب الضمان.
هناك خلاف للعلماء رحمة الله عليهم: إذا جنى أحد على العبد جناية فقطع يده أو فقأ عينه، أو قطع أذنه، هل ننظر إلى نسبة هذا العضو من قيمته الأصلية؟ أم أننا نقدره فما نقص يدفع؟ وجهان لأهل العلم رحمة الله عليهم: من أهل العلم من قال: إذا قطع يده نظرنا إلى نصف قيمته فأوجبناها على القاطع؛ قياساً على الحر.
ومنهم من قال: ينظر إلى قيمته قبل قطع يده وقيمته بعد قطع يده، ويدفع الفرق كما قدمنا في الجراح.
القول الأخير قيل: إنه هو المذهب، واختاره شيخ الإسلام رحمة الله عليه، وطائفة من أهل العلم، وصوبه المرداوي رحمه الله في (الإنصاف)، وهو أحد الأوجه عند الشافعية وينص هذا القول على: أننا ننظر إلى ما نقص من قيمته بعد الجناية بغض النظر عن كونه إتلافاً لما في الأصل، ينظر في نسبته إلى الدية مثلما ذكرنا في اليد، فإن فيها نصف الدية، والرجل فيها نصف الدية، والعين فيها نصف الدية كما قدمنا.
في هذه الحالة عندنا قولان: الصحيح منهما الذي اختاره طائفة من العلماء أنه ينظر إلى أرش الجناية وما نقصته الجناية.
فالفرق بين القولين: أنه في بعض الأحيان تنقصه الجناية ثلاثة أرباع القيمة، مثلاً: يكون خطاطاً بيده، أو عنده صنعة في يده، وتكون قيمته غالية، وقد تكون قيمته ضعفي قيمة العبد المعتاد، ولكن بعد الجناية قد تنقص ثلاثة أرباع القيمة، وحينئذٍ يكون ضمان هذا أكثر من ضمانه بنسبته لأصل القيمة، فهناك فرق بين ثلاثة أرباع القيمة وبين نصف القيمة، وهذا القول كما ذكرنا اختاره جمع من المحققين رحمهم الله.(363/6)
دية الجنين
قال رحمه الله: [ويجب في الجنين ذكراً كان أو أنثى عشر دية أمه غرة].
هذا النوع الثالث من المنقصات وهو: الجنين، والجنين: من جن الشيء إذا استتر، وتوارى عن الأنظار فلم يرَ، ومنه سمي البستان جنة؛ لأن من دخل البستان سترته أشجاره وزروعه.
وسمي الجن جناً؛ لأنه مستور عن الأنظار ولا يرى، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].
فأصل الجن هو: الاستتار، وسمي المجن وهو الدرع؛ لأنه يقي الإنسان ويحفظه من الضربات أثناء القتال، وقال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة) أي: أنه وقاية للعبد من النار، قال بعض العلماء: المراد بقوله: (الصيام جنة) أنه إذا ضرب الصراط على متن جهنم، وأمر الناس أن يجتازوا كان الصوم وقاية من كلاليب النار، فمن حفظ صومه تاماً كاملاً حفظه الله من ناره، ومن ضيع خطفته الكلاليب على حسب ضعف هذه الجنة؛ لأنها وقاية، فالجن والمجن هو الساتر هو الاستتار.
لو حصلت جناية على نفس فإنها تضمن بديتها كاملة، هذا الأصل، لكن الجنين نقص عن هذا، وجاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء، والجناية على الجنين لها صور.
تارة تكون جناية عمد مثل المرأة الحامل تختصم مع غيرها -ذكراً أو أنثى- فيضربها على بطنها، فيقتل جنينها فتسقطه، هذه صورة من صور العمد، أو يكون الطبيب قاصداً إسقاط هذا الجنين متعمداً لقتله بعد ثبوت حياته, فيعطيها دواء ليقتل الجنين في بطنها ثم تسلبه وتسقطه، هذه جناية عمد كذلك إذا تحقق وثبت أنه حي.
ومن الجنايات: جناية الخطأ وشبه العمد في الاختصام، مثل أن تقع خصومة بين امرأتين ولا تقصد قتل جنينها فتضربها، فمن أثر الضربة تسقط المرأة، أو تأتي الضربة في مكان قريب من الجنين فلا تتمالك المرأة فتسقط جنينها، فهذه تعتبر عند العلماء رحمهم الله والجمهور شبه عمد.
ومن قتل الجنين والاعتداء عليه: الاعتداء على سبيل الخطأ؛ مثل أن يعطيها أحد دواءً ولا يعلم أن هذا الدواء يترتب عليه إسقاط الجنين، فتسقط جنينها.
كذلك المرأة نفسها تستعمل الدواء فتخطئ في الدواء فيسلب هذا الدواء جنينها، كل هذه صور من صور إسقاط الأجنة والاعتداء عليها.
هذه المسألة -الاعتداء على الجنين- فيها قضاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت حادثتان -فيما شهر- الحادثة الأولى: لمرأتين من هذيل، والحديث في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن امرأتين من هذيل اختصمتا، فضربت إحداهما الأخرى فقتلتها فأسقطت ما في بطنها وقتلت الجنين).
كذلك أيضاً في الحديث الآخر وهو صحيح: في اختصام امرأتين من بني لحيان اقتتلتا فضربت إحداهما الأخرى فأملصت وأسقطت جنينها.
وجاء عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين أنهم عملوا بهذا القضاء، فـ عمر رضي الله عنه وقعت في عهده هذه الحادثة -وهي الاعتداء على الجنين- فقام رضي الله عنه خطيباً في الناس وقال: أحرج بالله على من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر قضاء أن يخبرنا، فقام له المغيرة بن شعبة فقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.
وذكر له الحديث، فقال له: لتأتيني بمن يشهد معك، فقام محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه وشهد معه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في إملاص المرأة بغرة وليدة عبد أو أمة.
الغرة هي من أنفس المماليك، وأصل الغرة: البياض في جبين الفرس، وفي قوائمه: التحجيل، ومنه الحديث: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء).
والقضاء بثبوت الغرة شبه مجمع عليه، وفيه بعض الخلاف الشاذ لكن لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضى به جماهير السلف والخلف رحمهم الله.
ولابد من وجود أمور حتى نحكم بهذا القضاء، فإذا اعتدى أحد على الجنين لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تسقط المرأة الجنين حياً ثم يموت.
الحالة الثانية: أن تسقط الجنين ميتاً.
فإذا أسقطت الجنين حياً من أثر الضربة، فلا يخلو إما أن يعيش فترة وجيزة جداً أو يموت مباشرة بعد سقوطه، والضابط عندهم في ثبوت الحياة: أن يتحرك حركة قوية أو يصيح؛ مثل رفع اليد ورفع الرجل، هذه تثبت الحياة، ولذلك يثبت له الإرث، وتترتب عليه أحكام الحي.
فإذا سقط الجنين حياً وثبت بقول أهل الخبرة، أو ظهرت الدلائل على أن موته وسبب موته بفعل الجناية، فهذا فيه دية كاملة ذكراً كان أو أنثى، على نفس التفصيل الذي تقدم معنا.
وإذا قصد قتله فهذا قتل عمد، فإذا ثبت وأقر أنه قصد قتله عمداً وعدواناً فلا إشكال، فيه القصاص على التفصيل الذي تقدم معنا.
من حيث الأصل عند أهل العلم رحمهم الله: أنه إذا نزل الجنين وسقط مباشرة بعد الضربة أو وجدت الآثار والدلائل الواضحة على أن هذا السقوط كان بفعل الضربة، وأنه أثر في الجنين حتى مات، وكان موته بسبب الإسقاط والإملاص، فإنه حينئذٍ يكون حكمه ثبوت الدية كاملة إذا عدل عن القصاص، على التفصيل من حيث كونه عمداً أو خطأً.
لكن لو عاش هذا الجنين بعد الإسقاط وبقي فترة ثم مات، وقال الأطباء: إن موته الغالب فيه ليس بسبب الإسقاط، فحينئذٍ لا ضمان فيه.
إذاً: إذا سقط حياً ومات بفعل السقوط بسبب الإملاص والضرب والاعتداء ففيه ما فيه من الاعتداء على الحي؛ لأنه اعتدى على جنين حي وأضر به وأزهق روحه إن كان أدى إلى موته، وحينئذٍ يضمنه بما يضمن به الزهوق في حال الاعتداء والقصاص، وإذا عفوا فالدية.
لكن الذي يهمنا: أن الدية لا تنقص؛ لأنه في هذه الحالة جناية على روح ونفس لها ما للأنفس، سواء كان الجنين ذكراً أو كان أنثى، هذا الأصل.
الحالة الأولى: أن يعيش فترة ويثبت أن موته بعد عيشه بسبب آخر، فحينئذٍ لا ضمان عليه؛ لأنه مات بسبب لا دخل للجاني فيه.
الحالة الثانية: أن يسقط الجنين ميتاً؛ فإما أن يكون كامل الخلقة أو يكون ناقص الخلقة، فإذا أسقطت جنيناً كامل الخلقة أو ناقص الخلقة بل حتى لو أسقطت وليس فيه من صور الآدمي -كما لو أسقطت قطعة لحم فيها تخلق يد أو رأس أو رجل- فهذا هو الذي يضمن بالغرة.
وهذه الغرة: عبد أو أمة وليدة، واختلف العلماء، فبعضهم يقول: ما بين سبع سنوات إلى عشرين سنة، والأنثى لا تبلغ أكثر من عشرين، وهو أحد القولين عن الشافعي، وقيل في الذكر: لا يزيد عن خمسة عشر سنة، وقال بعض العلماء: إنه غرة وليدة أو عبد سواء حتى ولو كانت كبيرة، لكن يشترط في هذه الغرة أن تكون سالمة من العيوب، فلا يجزئ أن تكون هرمة، أو يكون شيخاً هرماً، ولا يجزئ أن تكون معيبة بنقص في الخلقة: كالعور، والعرج، والشلل، والصمم والبكم ونحو ذلك من العيوب التي تقدمت معنا.
فيجب أن تكون سالمة من العيوب، ولا تضمن الجناية بغرة معيبة، ويشترط في إثبات الضمان بالغرة أن ينفصل هذا الجزء، فلو أنها أخرجت يداً أو رجلاً أو قطعاً من اللحم فيها صورة تخلق الآدمي يشترط أن تنفصل، ولا تكون متصلة، لكن لو أنها أخرجت يداً ثم ماتت ولم ينفصل، وجاء عن بعض العلماء أنه لا ضمان عليه، والضمان على النفس التي هي الأم، ويفصل فيها إذا كان الاعتداء بالجناية عمداً أو خطأ، هذا من حيث الأصل.
(فيها وليدة) الوليدة تعادل عشر دية الأم، ولذلك قضى الخلفاء الراشدون ومنهم عمر رضي الله عنه بأن الغرة تعادل خمساً من الإبل؛ لأن الدية مائة بالنسبة للذكر، وخمسون بالنسبة للأنثى، وعشر الخمسين خمس من الإبل، ولذلك تضمن بهذا القدر (خمس من الإبل) وهناك رواية صححها بعض العلماء عن عمر رضي الله عنه أنه جعل العدل خمسين ديناراً أو ستمائة درهم، وهذا على نفس الأصل؛ لأنها تعادل خمساً من الإبل، وهذا عشر الدية، فإذا ثبت أنها عشر الدية فبعض العلماء يخصها بالإبل، وإذا قلنا: إن الذهب والفضة أصول يصبح عشر دية المرأة من الذهب هو خمسون ديناراً؛ لأننا بينا أن ألف دينار هي الدية، والمرأة ديتها خمسمائة دينار، وعشر الخمسمائة خمسون، وبالنسبة للفضة فهي اثنا عشر ألف درهم، ونصفها ستة آلاف درهم دية المرأة، وعشر الستة آلاف درهم ستمائة درهم، وبعض العلماء يقول: لا نعطي إلا خمساً من الإبل، والخمس من الإبل تعادل الوليدة.
الجواري والعبيد ما عادوا موجودين في الوقت الحاضر، ففي هذه الحالة إذا قلنا: إن الإبل أصول والذهب والفضة عدل الإبل، ينظر قيمة الخمس من الإبل كم تعادل، وإذا قلنا: إن الذهب والفضة أصول، فحينئذٍ ننظر كم تعادل الخمسون ديناراً؟ وكم تعادل الستمائة درهم؟ لكن إذا قلنا: إنها عدل عن الإبل فحينئذٍ تنظر إلى قيمة الخمس من الإبل، ولربما كانت قيمة الخمس من الإبل مائة دينار، ولا تعادل خمسين ديناراً، وهذا هو الفرق؛ فأنك إذا جعلت الإبل هي الأصل وألغيت الذهب والفضة في الغرة فحينئذٍ تقول: انظر إلى قيمة الخمس من الإبل بالغة ما بلغت، إذا ما تيسر وجودها يدفع عدلها.
من حيث الأصل قالوا: إن خمساً من الإبل تعادل الغرة، وهي عشر دية الأم.
قوله: [وعشر قيمتها إن كان مملوكاً].
أي: قيمة الأم، إن كان الجنين مملوكاً، صورة المسألة: أن يعتق سيد أمة ويستثني ما في بطنها، فيكون ما في بطنها وهو الولد مملوكاً له، فمثلاً: لو أذن لأمته أن تتزوج وتزوجت عبداً، فلما تزوجت عبداً أعتقها، وإذا أعتقها يكون لها الخيار -كما تقدم معنا في النكاح- فإذا حملت من هذا المملوك فالولد تابع لأمه رقاً وحرية؛ لكن المولى استثنى هذا الجنين وقال: هذا الجنين ملك لي، يعني: أعتقها وأستثني جنينها الذي تحمله في بطنها، وهذا وجه عند العلماء، فيجوز أن يعتق الأمة ويستثني ما في بطنها، فإذا استثنى ما في بطنها فحينئذٍ تنزل الأم -التي قد أعتقت وأصبحت حرة- منزلة الأمة فتقوم كأنها أمة، وينظر كم قيمتها فيدفع عشر القيمة، والسبب في هذا واضح؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: إن الغرة تعادل الخمس من الإبل كما ذكرنا، وهي بهذه الحالة تعادل عشر دية المرأة.
وفي الرقيق قلنا: إن المعتبر في ديته النظر إلى ما أنقصته الجناية من قيمته.
قوله: [وتقدر الحرة أمة].
ال(363/7)
أحكام جناية الرقيق
قال رحمه الله: [وإن جنى رقيق خطأ أو عمداً لا قود فيه، أو فيه قود واختير فيه المال، أو أتلف مالاً بغير إذن سيده: تعلق ذلك برقبته، فيخير سيده بين أن يفديه بعشر جنايته، أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه، أو يبيعه ويدفع ثمنه].
قوله رحمه الله: [وإن جنى رقيق خطأ أو عمداً لا قود فيه].
الرقيق جنايته في رقبته، وبناء على ذلك بين المصنف رحمه الله في هذه المسألة أنه إذا كانت جنايته قدرت نقول لسيده: إن شئت ادفع قيمة هذه الجناية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) فكما أنه يأخذ نفعه يتحمل ضرره، ونقول له: إن شئت أن تدفع هذه الجناية وإلا كانت الجناية في رقبة المملوك، وإذا كانت في رقبة المملوك فرضنا أن هذه الجناية تعادل قيمته، أو أكثر من قيمته، فحينئذٍ قال السيد: أنا لا أدفع! ولا أريد أن أدفع وهذا العبد عندكم، يرد
السؤال
لو قال المجني عليه: لا أريد العبد، أنا أريد ثمن الجناية التي جنى عليّ.
مثلاً: الجناية بخمسين ألفاً، والعبد قيمته خمسون ألفاً، فحينئذٍ لابد من بيع العبد، فمن الذي يتولى البيع ويتحمل تكاليف البيع وعبء البيع؟ وجهان للعلماء في ذلك، وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمة الله عليه: هل يتولى السيد أو يتولى ذلك المجني عليه؟ والأقوى في الحقيقة أنه يتولاه سيده؛ لأنه استحقاق وهذا عبده، فيسلم للمجني عليه حقه.
قال: [أو فيه قود واختير فيه المال].
يعني: شيء يثبت في عوض ماله، وإذا قلت: يثبت في عوض ماله إما أن يجني جناية قطعاً فعوضها بالمال وفيها الدية وأرش الجناية، وإما أن يجني جناية عمد ويعفو من جني عليه ثم يطالب بالمال.
قال: [أو أتلف مالاً بغير إذن سيده].
مثلاً: دخل مزرعة شخص وأتلف شجرة، أو أحرق سيارة، أو هدم داراً، أو قتل حيواناً، وهذا الحيوان مملوك، فهذه كلها أموال اعتدى عليها، ولكن هذا الاعتداء من العبد لم يكن بإذن من سيده؛ لأنه لو أذن له سيده ففي هذه الحالة يضمن السيد؛ لأن العبد في الأصل مطيع لسيده، وربما كان يظن أن سيده عنده شبهة، فلذلك يتحمل السيد ضمان هذه الأشياء؛ لأن فيها نوعاً من الإكراه، والعبد لا يستطيع أن يخرج عن إذن سيده في الغالب، ومن هنا يضمن السيد إذا قهره على ذلك وأمره به وألزمه به.
لكن إذا فعل العبد من تلقاء نفسه هذه الجنايات وأتلف للناس أموالهم، فإنه حينئذٍ يجب الضمان على ما ذكرناه.
قال: [تعلق ذلك برقبته].
نقول لسيده: إن شئت أن تدفع وإلا قمت ببيع العبد؛ على القول أنه يتولى بيعه، وإلا أخذناه؛ على القول الثاني أنه يأخذه ولي المجني عليه ويبيعه.
قال: [ويخير سيده بين أن يفديه بأرش جنايته].
(يفديه): يخلصه، يقول سيده: كم أتلف؟ قالوا: أتلف خمسة آلاف، فيفديه بدفع الخمسة آلاف ويخلصه.
قال: [أو يسلمه إلى ولي الجناية].
أو يعطيه ولي الجناية ويقول له: دونك العبد، وهذا على ما ذكرنا أن الذي يبيعه هو ولي الجناية، لكن لو امتنع ولي الجناية وقال: أنا لا أريد إلا حقي؛ لأن بيع العبد قد يتأخر، ولأن فيه كلفة ودفع مال للبائع، وأجرة من يتولى بيعه، فهذا كله فيه ضرر على المجني عليه، يعني: ينقص من قيمة العبد.
قال: [فيملكه أو يبيعه ويدفع ثمنه].
لو كانت الجناية قيمتها خمسين، والعبد قيمته خمسون، فقال: رأس برأس! نقول لسيده: هل تدفع؟ فإذا قال: لن أدفع، قلنا: هذا العبد قيمته خمسون والجناية قيمتها خمسون، إذاً: الجناية متعلقة برقبته، فنقول للمجني عليه: ما رأيك؟ فإذا قال: أنا آخذه بقيمته، فحينئذٍ لا إشكال.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم.(363/8)
شرح زاد المستقنع - باب ديات الأعضاء ومنافعها [1]
جاءت الشريعة الإسلامية ببيان ديات الأنفس، وجاء عند الفقهاء التفصيل في تحديد المقادير المختلفة لهذه الديات، وكما أن الدية تثبت بالجناية على النفس، فهي تثبت أيضاً بالجناية على العضو، والجناية على العضو إما أن تكون بالجناية عليه كقطع اليد أو الرجل أو الأذن، وقد تكون بالجناية على منفعة العضو، وقد بين العلماء رحمهم الله دية العضو والطرف إذا قطع وأبين، ودية منفعته ودية الشجاج والكسور.(364/1)
دية الأعضاء التي في الإنسان منها شيء واحد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب ديات الأعضاء ومنافعها].
تقدم معنا أن الديات تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالديات من ذوات الأنفس، فإذا كانت الجناية بالقتل فإن الدية تكون كاملة.
وأما القسم الثاني: فهو الجناية على ما دون النفس، وتقدم بيان الديات إذا كانت متعلقة بذوات الأنفس، فبينا فيها دية المسلم والكافر، على اختلاف أنواع الكافر، وكذلك أيضاً دية الرجل والمرأة ودية الجنين.
بعد هذا شرع المصنف رحمه الله في بيان الدية المتعلقة بما دون النفس، وما دون النفس ينقسم إلى قسمين: الأطراف وغير الأطراف، فالجناية إذا كانت على الأطراف، مثل: أن يقطع عضواً كاليد أو الرجل أو الأذن أو الأنف ونحو ذلك.
وإما أن تكون جناية على منفعة الطرف، أو جناية بالشجاج أو الكسور.
فهذه كلها تتعلق بالجناية على ما دون النفس، والديات إذا بحثها العلماء رحمهم الله فيما دون النفس: إما أن يبينوا دية العضو والطرف إذا قطع وأبين، وإما أن يبينوا دية منفعته، وإما أن يبينوا دية الشجاج، وإما أن يبينوا دية الكسور.
هذه أربعة مباحث سنتكلم عليها، وسيبينها المصنف رحمه الله: الأول: يتعلق بدية الأعضاء إذا قطعت وأبينت، وهو الذي يسميه العلماء رحمهم الله: بإبانة الطرف، فإذا قطع يده أو قطع أنفه أو أذنه، فإنه تجب عليه الدية في ذلك العضو الذي قطعه.
الثاني: تكون الجناية على منفعة العضو، لا على العضو نفسه، فلو ضربه ضربة -والعياذ بالله- أذهبت سمعه، أو أذهبت بصره، أو أذهبت شمه، فهذه منفعة من المنافع، العضو موجود ولكن منفعة العضو غير موجودة, وحينئذ يكون الضمان للمنافع.
الثالث: يتعلق بالشجاج، وهي الجروح التي تكون في الوجوه؛ خاصة في الرأس.
والمبحث الرابع والأخير: ما يكون من الكسور؛ سواء كانت الكسور تامة أو قاصرة أو ناقصة، كل هذا سيبينه العلماء رحمهم الله في قولهم: (باب ديات الأعضاء ومنافعها).
إذا كان الأمر يتعلق بأربعة أشياء: الأعضاء، منافع الأعضاء، الشجاج، الكسور، والمصنف رحمه الله قسم هذه الأربعة إلى بابين: الباب الأول: يتعلق بالأعضاء ومنافعها.
والثاني: يتعلق بالشجاج والكسور.
ففي الموضع الأول الذي سنبحثه اليوم -إن شاء الله تعالى- يتعلق بديات الأعضاء ومنافعها، والذي يليه سيتعلق بالشجاج والكسور.
قسم هذا الباب إلى قسمين: الأول: يتعلق بديات الأعضاء، والثاني: يتعلق بمنافع الأعضاء.
قال رحمه الله: [من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد؛ كالأنف واللسان والذكر، ففيه دية النفس].
الأعضاء في بدن الإنسان تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: ما كان منه في الإنسان شيء واحد، مثل ما ذكر المصنف رحمه الله؛ كاللسان والذكر.
وهناك أعضاء في الإنسان منها شيئان، مثل: الأذنين، والعينين.
وهناك أعضاء في الإنسان فيها ثلاثة أشياء منقسمة وهو: الأنف؛ لأن الأنف ينقسم إلى منخرين وحاجز بينهما.
النوع الرابع: ما في الإنسان منه أربعة أشياء: كالأهداب والأجفان.
النوع الخامس والأخير: ما في الإنسان أكثر من أربعة أقسام: مثل الأسنان والأصابع.
هذا بالنسبة للأقسام الرئيسة الموجودة في أعضاء الإنسان، وابتدأ المصنف بما في الإنسان منه شيء واحد، فقال رحمه الله: [من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد].
أجمع العلماء رحمهم الله على أنه إذا كان العضو واحداً في البدن وقطعه أن عليه الدية كاملة، وهذا له أحاديث وأصول وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه الذي كتبه عليه الصلاة والسلام لأهل اليمن.
يقول رحمه الله: [من أتلف.
] الإتلاف أصله: الإفساد، والمراد هنا: أن يقطع العضو كاملاً، أو يبينه من الجسد إبانة كاملة، فلو كان الإتلاف ناقصاً مثل: أن لا يقطع العضو كاملاً، ولكن يقطع نصف العضو، أو ربع العضو، أو ثلث العضو، فحينئذ تكون الدية بحصة ما قطع، فإن قطع النصف فالنصف، وإن قطع الربع فالربع، فمثلاً: لو قطع نصف اللسان، وأذهب نصف الحروف، فعليه نصف الدية، ولو أنه قطع نصف الأذن فعليه ربع الدية؛ لأن كل أذن فيها نصف الدية، فإذا قطع بعضها وأتلف بعضها، وكان هذا الإتلاف بقدر النصف، فإنه حينئذ يكون نصف النصف: الربع، فيكون عليه ربع الدية، ولو أنه قطع ثلث الأذن فحينئذ يكون ثلث النصف بالنسبة للأذن اليمنى، أو الأذن اليسرى.(364/2)
الأنف
قال رحمه الله: [كالأنف]: الأنف هو العضو المعروف، والذي جعل الله عز وجل فيه حاسة الشم للإنسان، والمراد بالأنف: ما لان منه، وهو العضو البارز في الوجه، وقطع هذا العضو المراد منه: أن يستأصل ما لان منه، يعني: الزائد عن حد الوجه، لو أنه قطعه واستتم القطع، وهذا ما عبر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: (وفي الأنف إذا أوعب جدعاً)، يعني: إذا استوعبه كاملاً، وهذا يكون لما لان من الأنف، وهو الذي يسمى: مارن الأنف، وفيه ثلاثة أشياء: المنخر الأيمن، والمنخر الأيسر، والحاجز بينهما، فلو أنه قطع أنفه-والعياذ بالله- فاستتم القطع، فقد أذهب الجمال، وأذهب المنفعة، وفي بعض الأحيان تُذهب المنفعة، ولا يذهب العضو، لكن مادام أنه قد أزال العضو كاملاً فعليه الدية، وبناءً على ذلك: يرد
السؤال
ما الدليل على إيجاب الدية في قطع الأنف؟ نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه: (وفي الأنف إذا أوعب جدعاً: الدية) فأمر عليه الصلاة والسلام في الأنف إذا قطع كاملاً: الدية.
ولو أنه قطع نصف أنفه، فأخذ النصف الأعلى، وترك النصف الأسفل، فإنه يجب عليه نصف الدية، أما لو أنه قطع المنخر الأيمن، أو قطع المنخر الأيسر فعليه ثلث الدية، ولو أنه قطع المنخرين فعليه ثلثا الدية، ولو أنه عمل له طبيب عملية جراحية فأزال الحاجز بين المنخرين، وقال الأطباء: إنه أخطأ الطبيب، وأن هذا ليس بسائغ طبياً، وليس له داع، فإذا تبين أن الطبيب أخطأ فعليه ثلث الدية.
إذاً: في المنخر الأيمن ثلث، وفي الأيسر ثلث، وفي الحاجز بينهما الثلث، لكن المصنف رحمه الله هنا يتكلم على قطع الأنف كاملاً.(364/3)
اللسان
قال رحمه الله: [واللسان]: والمقصود هنا اللسان المتكلم، أي: إذا قطع لسان متكلم لا أخرس، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لو قطع لسان رجل يتكلم أن عليه الدية، سواء كان صغيراً أو كبيراً، يجب أن يضمن له ذلك، ولو قطع بعض اللسان، مثل: نصف اللسان، نظرنا: فإذا أذهب الحروف كاملة وأصبح لا يتكلم، فإنه حينئذ تجب الدية كاملة، لكن لو أنه بقي يتكلم ببعض الحروف، وذهبت بعض الحروف فإنه تقسم الدية على ثمانية وعشرين حرفاً، وهي حروف الهجاء، وينظر في كل حرف بحسبه، وينظر ما هي الحروف التي ذهبت، ثم تقسط الدية على قدر ما ذهب من الحروف.
الدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وفي اللسان الدية) وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه لو قطع لسان شخص عليه الدية، لكن بعض العلماء يفصل في مسألة الحروف وانقسامها، ويفرق بين الحروف الأربعة التي تخرج من الشفة، والستة التي تخرج من الحلق، التي تخرج من باقي اللسان، فيجعل أقساط الدية على هذا، ولكن المحفوظ المشهور: أنها تقسم على الحروف كلها، وينظر: ما الذي أتلف من هذه الحروف ولم يستطع أن يتكلم به، فيجب عليه ضمانه.(364/4)
الذكر
قال: [والذكر]: وفي الذكر الدية، أجمع العلماء أيضاً رحمهم الله على أنه لو قطع الذكر فعليه دية، مثلاً: لو أن طبيباً قرر: أن الشخص مصاب بالسرطان -والعياذ بالله- وقال له: لابد من استئصال هذا العضو، فلما استأصله تبين أنه ليس مصاباً به، فإنه يجب عليه ضمان الدية كاملة، ولو أنه جنى عليه جناية فقطع ذكره، فإنه يجب عليه الدية كاملة، ولو قطع بعضه كانت الدية بقسط ما قطع، لكن عند بعض العلماء مسألة: إذا منع انتشار الذكر، فإذا منع انتشار الذكر وجبت الدية كاملة، وهذا سيأتي في المنافع أنه أصل عندهم، فإذا ذهبت وجبت الدية.
ذكر المصنف رحمه الله هذه الثلاثة الأشياء: الأنف، واللسان، والذكر، على أنها موجودة واحدة في الإنسان، وعلى أن هذه الأعضاء إذا قطعت ففيها الدية كاملة، إذن الضابط: أن يكون العضو واحداً في الإنسان فتجب به الدية، يلتحق بهذا الصلب؛ فإن الصلب إذا جنى عليه فأضره وأذهب منفعته، وجبت الدية كاملة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه في الديات: (وفي الصلب الدية)، وأجمع العلماء رحمهم الله من حيث الجملة: أن الصلب فيه الدية.
أيضاً يلتحق بالأعضاء الواحدة في الإنسان: الجلد، قالوا: فلو سلخ جلده-والعياذ بالله- مثل: أن يرميه في بركة فيها أسيد، أو مادة حارقة، فانسلخ جلده كله، ثم جاء شخص وقتله، لأن الجنايات -والعياذ بالله- والجرائم تتنوع، فلو أن شخصين اعتديا على شخص، فجاء الأول ورماه في هذا الموضع حتى سلخ جلده، ثم أدركه الثاني قبل موته، لأنهم يقولون: إذا انسلخ الجلد لا يعيش الإنسان، وهذا نص عليه بعض الأئمة رحمهم الله وذكروه عن بعض الأطباء، لكن لو أنه بقي بعد سلخه، وجاء الآخر وقتله، فحينئذ السلخ فيه الدية كاملة، والقاتل أيضاً يجب عليه القصاص إذا كانت النفس مستقرة على الأصل الذي قررناه في مسألة ما تقدم معنا في الحياة التي يشرف الإنسان معها على الهلاك، هل هي حياة مستقرة؟ أو هي كالعدم؟ فالشاهد: أنه لو سلخ جلده وجبت عليه الدية كاملة، فلو أنه أخذه فرماه في بركة فيها أسيد، أو صب عليه الأسيد حتى سلخ جميع جسده، ثم جاء سبع وقتله، فإنه يجب على من سلخ الجلد الدية كاملة، والجلد واحد في البدن، فهو من الأعضاء التي لا تتعدد، كذلك أيضاً شعر اللحية، وشعر الرأس، هذه واحدة في البدن، فلو أنه سقاه الطبيب دواءً، أو قال له: أعالج لك تساقط الشعر، فسقاه دواءً فأسقط جميع شعره، فأصبح أصلع الرأس، ولا يمكن علاجه، وجب على الطبيب أن يضمن الدية كاملة، وكذلك اللحية، لو سقاه دواءً فأسقط لحيته، وتبين أن هذا الدواء مضر، أو أنه من الخطأ أن يأخذه المريض، أو لا حاجة لسقي المريض منه، فإنه حينئذ يضمن، لكن لو وجدت حاجة، مثلاً: في بعض أدوية السرطان -أعاذنا الله وإياكم- أو أدوية بعض الأمراض، إذا سقي الدواء تساقط شعر اللحية، فهذا ليس بمؤثر، خاصة إذا وجدت الحاجة والضرورة إلى ذلك.
قال رحمه الله: [ففيه دية النفس]: أي: فيه الدية كاملة؛ لما ذكرناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذه الأشياء كما في كتاب عمرو بن حزم، وكذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الدية كاملة إذا قطع لسانه، أو قطع أنفه، أو قطع ذكره، وكذا إذا اعتدى على صلبه، وإذا اعتدى على الجلد كما ذكرناه، فإنه يجب عليه أن يضمن هذا العضو الذي أتلفه بالدية كاملة.(364/5)
دية الأعضاء التي في الإنسان منها شيئان
قال رحمه الله: [وما فيه منه شيئان: كالعينين، والأذنين، والشفتين، واللحيين، وثديي المرأة، وثندوتي الرجل، واليدين، والرجلين، والإليتين، والأنثيين، وإسكتي المرأة، ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها]: قال: [وما فيه منه شيئان]: هذا النوع الثاني من الأعضاء، وهو ما في الإنسان منه شيئان، يشمل ذلك: العينين، والأذنين، واللحيين، والثديين، وثندوتي الرجل، وإسكتي المرأة، وإليتي الرجل، والرجلين، واليدين، فهذه كلها مثناة في الإنسان، يلتحق بها الأنثيان، وقد نص عليهما عليه الصلاة والسلام ولم يذكرهما المصنف، لكن تلتحق بالأعضاء المثناة، ويلتحق أيضاً حلمتا الثدي، وسيأتي-إن شاء الله- بيانهما.(364/6)
دية العينين
قال رحمه الله: [كالعينين]: لو أنه قلع عينيه، أو اعتدى على العينين ففقأهما، وجبت عليه الدية كاملة، وذلك محل إجماع بين العلماء رحمهم الله: أن العينين فيهما الدية كاملة، وأن كل عين فيها نصف الدية، ولا تفضل اليمنى على اليسرى، وإذا كان أعور ففقأ عينه، أو قلع عينه، فقضى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ عمر، وعلي، وغيرهم رضي الله عنهم أن عين الأعور فيها الدية كاملة؛ لأنها منزلة منزلة العينين، والأصل: أن العين الواحدة فيها نصف الدية، ولكن قالوا: لأنه لما لم تبق له إلا هذه العين واعتدى عليها، أذهب له منفعة النظر.
ويستوي في العينين أن تكونا صغيرتين، أو تكونا كبيرتين، ولو أنه سقاه دواءً، أو عالجه طبيب فأذهب عينيه، وقال الأطباء: إن الطبيب قد أخطأ؛ لأن الأطباء يجب عليهم الضمان، فيشهد طبيبان عدلان: أن هذا الذي فعله الطبيب خطأ، ومسألة ضمان الطبيب فيها تفصيل، خاصة في عصرنا الحاضر، في بعض الأحيان يكون الخطأ من التشخيص الذي يُكتب للطبيب، ولا يتحمل الطبيب فيه المسئولية، إلا إذا كانت هناك أصول يجب عليه أن يتبعها من التأكد، ونحو ذلك، أما إذا كان العبء الأكبر على غيره، وكتب له ذلك الغير مثل التحاليل، والتصاوير، وكتب المصور تقريره، وبنى الطبيب على هذا التقرير، فحينئذ يكون المتحمل المشخص لهذا المرض؛ لأنه هو الذي تسبب في خطأ الطبيب، المهم أن هذا كله يحتاج إلى تفصيل، لكن من حيث الأصل: لا تذهب أرواح الناس وأجسادهم هدراً، وأن الطبيب إذا أخطأ يتحمل المسئولية؛ وذلك أدعى للاحتياط والمحافظة على أرواح الناس وأجسادهم، ولو أنه سقاه دواءً فأذهب البصر، أو أضر بعينيه، فإنه يجب عليه الدية كاملة، ولو أضر بإحدى عينيه، أو قال: أفعل لك عملية جراحية، فعمل له العملية الجراحية وأتلف عينه، أو أتلف عينيه فإنه يجب عليه الضمان.(364/7)
دية الأذنين
قال رحمه الله: [والأذنين]: لو قطع الأذنين فعليه الدية، ولو قطع إحدى الأذنين ففيها نصف الدية، كما نص عليه الصلاة والسلام على هذا، والأصل يدل على هذا، فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن في اليدين وفي الرجلين الدية، وفي العينين الدية، وقال عليه الصلاة والسلام: (وفي اليد الواحدة خمسون من الإبل) فبين أن الاثنين: وهما اليدان، والرجلان، والعينان، فيهما دية كاملة، أما الواحدة منهما: فيها شطر الدية، ومن هنا أخذ العلماء القاعدة: أن العضو الذي في الإنسان منه شيئان اثنان فيهما الدية كاملة، وإن أتلف واحداً منهما ففيه نصف الدية.(364/8)
دية الشفتين
قال رحمه الله: [والشفتين]: الشفتان: عضوان في الإنسان، فيهما منفعة المحافظة على الأسنان، والمحافظة على اللثة، ويستفيد منهما في طعامه، ويستفيد منهما في شرابه، ففيهما منفعة للإنسان، وحدهما: مما أقبل منهما على الفم، العليا: إلى حدود المنخر أو الأنف طولاً، وبالنسبة للسفلى: من العالي منهما المنطبق مع الشفة العليا إلى الحد الذي ينفصل عن أسفل أصول الأسنان، فلو أنه استأصل الشفتين من المنخرين إلى ما سفل عند اللحي والذقن؛ فإنه يجب عليه أن يدفع الدية كاملة، لكن لو أنه أخذ جزء هذا المحدود بقدر النصف وجبت ربع الدية في الشفة السفلى إذا أخذ نصفها، وربع الدية في الشفة العليا إذا أخذ نصفها.
فهذا العضو: أجمع العلماء رحمهم الله على أن فيه الدية كاملة، وأن في كل واحدة من الشفتين نصف الدية.(364/9)
دية اللحيين
قال رحمه الله: [واللحيين]: وهما العظمان السفليان اللذان عليهما الأسنان والأضراس، اللحي الأيمن، واللحي الأيسر، فلو أنه ضربه ضربة أتلفت أحد لحييه، كما في بعض حوادث السيارات ونحوها-نسأل الله السلامة والعافية- فإنه يجب في كل واحد من اللحيين نصف الدية، ولو أنه قضى على اللحيين فأزال اللحيين كليهما فإنه يجب عليه الدية كاملة.(364/10)
دية ثديي المرأة
قال رحمه الله: [وثديي المرأة]: ثديا المرأة فيهما منفعة الجمال للمرأة، وفيهما منفعة اللبن للرضيع-الولد- فهي ترضع ولدها، وتقوم عليه؛ لما جعل الله عز وجل في هذين الموضعين من الرزق له في شرابه، فلو أنه اعتدى على ثديي المرأة فأزالهما؛ وجبت الدية، ولو قرر طبيب استئصال الثديين مدعياً وجود مرض في المرأة، وتبين أن المرض غير موجود، وأن هذا الاستئصال ليس في محله؛ وجب عليه أن يضمن الثديين بدية كاملة، ولو استأصل واحداً من الثديين دون الآخر؛ وجب عليه نصف الدية، ثم الحلمتان: وهما في أعلى الثدي، ومنهما يكون سقاء الصبي، ويلتقمها الصبي عند ارتضاعه، هاتان الحلمتان: مذهب طائفة من أهل العلم أن في كل واحدة منهما نصف الدية، ولا يمتنع هذا، كما هو معروف في الأجفان والأهداب، فإن كل جفن فيه ربع الدية، ولو أنه اعتدى على جفنه فأتلف الشعر الموجود في الرمش الأسفل الذي في العين وجب عليه ربع الدية، فلا يمتنع أن يكون متشطراً في جزء الجزء الذي فيه نصف الدية، والحلمة جزء الجزء، ولكنها لوجود المنفعة الخاصة بها في التقام الرضيع لها، وحصول منفعة الارتفاق، حتى إن اللبن قد لا يستمسك، وهذا يضر بالمرأة، فمذهب جمهور العلماء رحمهم الله على أنه لو استأصل الحلمتين فقط، كأن يقول الطبيب: فيهما مرض، ثم تبين أن المرض غير موجود، وأخطأ فاستأصلهما، فإن عليه الدية كاملة، وهذا لا يلتحق بما ذكره المصنف رحمه الله، لكن لو أنه أزال الثدي كاملاً فالحلمة تبع، والتابع تابع، لا يعطى دية خاصة، ومن هنا يكون تابعاً، ولا يكون أصلاً، إنما يكون أصلاً إذا كانت الجناية متعلقة به برأسه.(364/11)
دية ثندوتي الرجل
قال رحمه الله: [وثندوتي الرجل]: وهما موضع الثديين بالنسبة للرجل في مقابل المرأة، لو أنه استأصل هذا الموضع من الرجل، فهل عليه الدية؟ وجهان للعلماء: بعض العلماء يقول: إذا اعتدى على ثديي الرجل فاستأصلهما لا دية عليه، وإنما فيها حكومة، تقدر هذه الجناية عن طريق أهل الخبرة، ثم يجب عليه دفع وضمان ما يقوله أهل الخبرة في الحكومة.
القول الثاني: وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله أن فيهما الدية، وهذا هو الصحيح؛ لأن فيهما جمالاً للرجل، وفي استئصالهما ضرر على الرجل، ولأن المرأة قد لا ترضع، ومع ذلك استئصال الثديين يضر بها، فإذن: استوى الرجل مع المرأة في وجود الجمال، وحصول الضرر في إتلاف هذا الموضع منه، فتجب الدية في ثندوتي الرجل، وفي كل واحد منهما النصف.(364/12)
دية اليدين
قال رحمه الله: [واليدين]: نص عليهما عليه الصلاة والسلام فقال: (وفي اليدين الدية، وفي اليد الواحدة خمسون من الإبل)، فبين عليه الصلاة والسلام أن اليد إذا قطعت فيها نصف الدية، وأن اليدين إذا قطعتا فيهما الدية كاملة، وإذا قطع الكف فقد أذهب منفعة اليد، ومن هنا قالوا: تجب عليه الدية؛ لأن الله يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة:38]، فقالوا: وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وفي اليد الواحدة خمسون) فإذا قطع اليد من الزندين وجبت الدية، ولو قطعهما من المنكب ففيهما الدية، مثلما ذكرنا في الأهداب والأجفان، فهذا كله مشطر لكنه يوجب، ولو قطع الكفين ففيهما الدية، قال بعض العلماء: إذا قطع الكفين فيهما الدية، ثم الزائد عن الكفين نقدر له الزيادة، وهذا مذهب مرجوح، والصحيح ما اختاره المصنف رحمه الله: أن الدية تشمل اليدين سواء قطعهما كاملة أو قطع الكفين، كما لو أخذ الأشفار والأهداب من الأجفان فإنها تجب الدية كاملة.(364/13)
دية الرجلين
قال رحمه الله: [والرجلين]: وكذلك الرجلان: فلو قطع رجليه فإنه تجب عليه الدية كاملة، وهذا بإجماع العلماء، وإذا قطع رجلاً واحدة؛ فعليه نصف الدية.(364/14)
دية الإليتين
قال رحمه الله: [والإليتين]: وهما في مؤخر الإنسان، وما بدا من ظهر الإنسان، وفيهما منفعة الجلوس، وهما كالوسادة للإنسان إذا جلس، وفيهما منفعة الستر للدبر بالنسبة للرجل والمرأة، فإذا قطعت الإليتان فإنه تجب الدية كاملة، وهذا مذهب جماهير العلماء رحمهم الله.(364/15)
دية أنثيي الرجل وإسكتي المرأة
قال رحمه الله: [والأنثيين]: بينا أن السنة نصت على اليدين والرجلين، ونصت على العينين والأذنين، فنبهت بهذه المواضع على أمثالها، فيلتحق بها ما يشابهها من كل مثنى في جسد الإنسان، فذكر المصنف رحمه الله الإليتين، وإسكتي المرأة، وهما الشفران على الفرج، فلو أنه قطع أحد الشفرين فإنه تجب عليه نصف الدية، ولو قطعهما فإنه تجب عليه الدية كاملة، وفي الشفرين منفعة للفرج، واستمتاع في الجماع، وقد يستأصل الشفرين فيضر بالبكارة، وحينئذ إذا استأصل الشفرين-وهما إسكتا المرأة- وأضر بالبكارة، وجبت الدية في الإسكتين والشفرين، ووجب ضمان البكارة على الأصل الذي تقدم معنا في النكاح.
قال: [وإسكتي المرأة ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها]: يلتحق بهذا الأنثيان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي البيضتين دية) فالأنثيان وبيضتا الرجل إذا قطعهما وجبت الدية كاملة، وفي الواحدة نصف الدية، فلو أن طبيباً عالج مريضاً فقطع منه الأنثيين، -استأصل البيضتين- وجب عليه الدية كاملة إذا تبين أنه أخطأ في هذه الجراحة، وأنه لم يكن يجب قطعهما.(364/16)
دية المنخرين
قال رحمه الله: [وفي المنخرين ثلثا الدية]: (المنخرين): المنخر الأيمن، والمنخر الأيسر، والأنف فيه ثلاثة أشياء: المنخر الأيمن، والمنخر الأيسر، والحاجز بينهما، فهذه الثلاثة الأشياء توجب تقسيم الدية أثلاثاً، فإذا اعتدى على واحد منها وجب عليه ثلث الدية.
قال: [وفي الحاجز بينهما ثلثها]: وفي الحاجز بينهما -يعني بين المنخرين- الثلث؛ لأنه قد ذكرنا أن المنخر الأيمن والأيسر في كل واحد منهما الثلث، والحاجز يجب فيه ثلث الدية.(364/17)
دية الأجفان
قال رحمه الله: [وفي الأجفان الأربعة الدية]: جعل الله الأجفان لحكمة عظيمة، ورحمة منه سبحانه وتعالى بالمخلوق.
سبحان الله العظيم! عجيب أمر هذا الشرع، يعني الفقهاء رحمهم الله بحثوا في الطب، حتى إنك تجد في الجنايات علوماً طبية مفيدة جداً، وهذا الذي نذكره كله باختصار، فلو أردنا أن نتوسع في ضوابط هذه المواضع، وكيفية الجناية عليها وتدقيقها، وكلام العلماء فيها لأخذ منا وقتاً طويلاً، لكن تتعجب كيف أن العلماء رحمهم الله مع قدمهم، وتجد الكتب القديمة الصفراء قد بحثت هذه الأشياء وتناولتها كأنك تدرس علم التشريح، واليوم يفتخرون باكتشافات في الإنسان، وهذا كان يعرفه العلماء رحمهم الله، ثم تأتي في الطب في كتاب الحج، وتأتي إلى مسائل الطيب، وكونه محظوراً من محظورات الإحرام، فيبحث العلماء ما هي الشجرة، أو الثمرة التي تعد طيباً، والتي لا تعد طيباً، وهناك عالم عجيب في عالم الأعشاب وخصائصها، وأنواعها، وما الذي يعتبر منها طيباً، وما الذي لا يعتبر منها طيباً.
ثم تأتي إلى الصيد، فيتكلمون على ما أحل الله عز وجل صيده، وما حرم الله صيده، ويكشفون لك كنوز العلوم العجيبة الغريبة، وقد يعجز بعض من يدرس علم الأحياء عن اكتشاف تلك الدقائق؛ لأنها كانت تجربة واقعية مدروسة خلال قرون متعددة من أناس عاشوا هذه البيئات وعرفوها، حتى إنه في بعض الأحيان يقول: وهذا يجوز أكله، وقال فلان: لا يجوز أكله؛ لأنه يورث كذا وكذا، أي أن لحمه يورث مرضاً معيناً، وهذا من أغرب ما يكون، بل في بعض الأحيان يقول: وهو صيد، ولحمه ينفع من مرض كذا وكذا، فتجد فوائد عظيمة جداً، وهذا كله كتب بعض العلماء فيه في القرن الثالث الهجري، بل بعضهم في القرن الثاني الهجري، ولم يقتصروا على ذلك، بل بحثوا في الأفلاك، ومنازل القمر، وحسابات المنازل وترتيبها، ومتى يحكم بدخول الشهر، ومولد الهلال، ومتى لا يحكم.
فتعيش في علم الفلك، والكسوف، والخسوف، ثم تدخل في علم الفلك في الجهات، واستقبال القبلة، وكيف تعرف القبلة إذا كنت في غيم، وكيف تعرف القبلة إذا كنت في سفر، وإذا كانت القبلة في الغرب تجعل الشمس أمامك عند غروبها، ووراء ظهرك عند شروقها، هذه الأشياء المفيدة القيمة درسها العلماء ونبهوا عليها، ومنها ما نحن فيه الآن؛ الأعضاء وصفاتها، وحينما يتكلمون عن الأدلة يفصلون فيها، يقولون مثلاً: الجفن فيه منفعة المحافظة على العين، فإذا استؤصل الجفن انكشفت عينه وتضرر، وفيه منفعة الجمال، ويقي ويحفظ، والشفة كذلك: تحفظ الأسنان، وتحفظ اللثة، وأيضاً فيها السقيا عند السقاء، واللسان فيه منفعة الكلام، وفيه منفعة إدارة الطعام على الطواحن، وإدارته على الأسنان، وأيضاً عند شربه، هذه كلها أشياء ذكرها العلماء رحمهم الله وفصلوا فيها، ثم فصلوا، وهذا ما نؤخره إلى مسألة المنافع كي يتضح أكثر؛ لأننا في الأعضاء نتكلم عن الجفن وإبانته، لكن في المنافع يتضح هذا أكثر، وهنا يبين رحمه الله ما في الإنسان منه أربع: وهي الأجفان: الجفن الأعلى، والجفن الأسفل في العين اليمنى، والجفن الأعلى والأسفل في العين اليسرى، فلو أنه جنى على الجفن الأعلى فيهما-يعني في العينين- وجبت عليه نصف الدية؛ لأن الجفن الأيمن فيه الربع، والجفن الأيسر فيه الربع، ولو جنى على جفن واحد من الأربعة الأجفان فعليه ربع الدية، كذلك أيضاً بالنسبة للشعر -الرموش- الموجودة في العين: إذا أعطاه دواءً أسقط رمش عينه في الجفن الأعلى وجب عليه ربع الدية، ولو أعطاه دواءً أسقط الرمش والشعر الذي في العينين وجبت الدية كاملة؛ لأن كل جفن فيه ربع الدية، وحينئذ يجب عليه أن يضمن الدية كاملة إذا أتلف الأربع، وإذا أتلف البعض فبحسابه.
قال: [وفي كل جفن ربعها]: وفي كل جفن من أجفان العين الربع، فإذا كان الأسفل ففيه الربع، وإذا كان الأعلى ففيه الربع؛ من اليمنى، أو اليسرى، مثلما ذكرنا، العين نفسها لو فقأها فيها نصف الدية، وهذا لا يمنع؛ لأن العين نفسها فيها منفعة الإبصار، ثم الجفن له منفعة تغاير منفعة العين، ومن هنا فصل العلماء في مسألة قطع اليد-كما ذكرنا- وذكروا أنه تجب فيه الدية، ونصف الدية على إبانة الكف، وهي منفعة كاملة، فإذا قطع يده من الزندين؛ أذهب منفعة كاملة، لأنه لا يستطيع أن يمسك الأشياء، ولا يستطيع أن يحمل الأشياء، ولا يستطيع أن يرتفق في كتابته، وغير ذلك من المنافع الموجودة في الكف وليست موجودة في الساعد، ومن هنا تكون مستقلة, ويجب ضمانها بحقها كاملاً.(364/18)
دية الأصابع
قال رحمه الله: [وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين, وفي كل أصبع عشر الدية]: الأصابع عشرة، والدية مائة من الإبل، ففي كل أصبع عشر من الإبل بالنسبة للذكر، وخمس من الإبل بالنسبة للأنثى، فكل أصبع يعادل العشر، فنوجب عليه إذا قطع أصبعاً واحداً عشر الدية، ولو قطع أصبعين، فعليه عشران، لو نظرنا إلى هذه الأصابع وجدناها مختلفة، فالسبابة ليست كالإبهام، والخنصر ليس كالبنصر، لكن الحكم واحد، تستوي هذه الأصابع كلها، فكل واحد من هذه الأصابع إذا جنى عليه وجب عليه أن يضمنه بقسطه من الدية.
ثم لو أنه جنى على جزء الأصبع، فقطع مثلاً أنملة الخنصر العليا، ففيها ثلث العشر، ولو قطع الأنملة الثانية، ففيها ثلثا العشر، فالأنملة لها قسط من هذا العشر، إلا في الإبهام، ففي الإبهام ينقسم العشر إلى قسمين، فيكون نصف العشر في نصف الإبهام الأعلى، وهذا مبني على أن الله تعالى جعل الإبهام على هذه الخلقة، منقسم إلى اثنين، بخلاف بقية الأصابع، فهو الوحيد الذي يفارق جميع الأصابع عند قطع الجزء، لا عند قطع الكل، فإذا قطع الكل فهو مستو معها في وجوب عشر الدية.
قال: [وفي كل أنملة ثلث عشر الدية]: أجمع العلماء على ما ذكرنا في دية الأصبع: أن فيها عشر الدية، وفي كل أنملة ثلث العشر، إلا في الإبهامين كما ذكرنا، ففي كل أنملة من الإبهام نصف العشر.
لو أنه قطع مثلاً أنملة الإبهام اليمنى، وقطع أنملة الإبهام اليسرى، فإن الواجب عليه عشر الدية، لكننا هنا أعطيناه نصف العشر لنصف إبهام اليمنى، ونصف العشر لنصف إبهام اليسرى.(364/19)
دية الأسنان
قال رحمه الله: [والإبهام مفصلان، وفي كل مفصل نصف عشر الدية كدية السن]: وهذا -كما ذكرنا- اختصار من المصنف رحمه الله.
الإنسان فيه اثنتان وثلاثون سناً وضرساً، الثابت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: أنه جعل في كل سن خمس من الإبل، ولم يفرق بين سن وأخرى، ولذلك تستوي الثنايا، والرباعيات، والنواجذ، والطواحن، وبقية الأضراس، لكل واحد منها إذا جنى عليه يجب أن يدفع خمساً من الإبل، هذه هي السنة، مع أنها على خلاف القياس؛ لأنها تقارب مائة وستين من الإبل، لكن من حيث الأصل، لو أنه أعطاه دواءً أسقط جميع أسنانه وأتلفها، فإنه يجب عليه أن يدفع الدية كاملة، وأما بالنسبة للأشطار -التشطير والأجزاء- ففي كل سن ما ذكرناه: خمس من الإبل، يستوي السن الطويل، والسن القصير، لكن إذا كان صغيراً فيشترط أن يكون قد أثغر، وليست السن لبنية، فإذا أثغر الصبي فإنه يجب ضمان هذه السن، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله، وهناك خلاف عن بعض الصحابة يروى عن عمر رضي الله عنه: أنه جعل في الضرس بعيرين، ويروى عنه بعير، ولكن ضعفه ابن المنذر رحمه الله، وأن السند لا يصح عنه رضي الله عنه في هذا، والسنة واضحة: أن في كل سن خمس من الإبل، وعلى هذا: لو أنه كسر نصف السن وبقي نصفها، فإنه حينئذ يجب عليه ضمان الجناية بحصتها من القدر الواجب في السن، وهو نصف الخمسة، فيقدر نصفها ويجب عليه ضمان ذلك.
لكن لو أنه اعتدى على نصف السن؛ فاختلت وسقطت كاملة؛ وجب عليه ضمان الخمس كاملة، إنما المراد إذا بقي فيها منفعة-منفعة النصف- أما إذا أتلفها ولم يبق فيها شيء، أو اسودت، أو سقطت، فإنه في هذه الحالة وجودها وعدمها على حد سواء.(364/20)
الأسئلة(364/21)
حكم الاعتداء على الذراع مقطوعة الكف
السؤال
إذا كانت الكف مقطوعة، ثم اعتدى عليه في الذراع هل تجب عليه نصف الدية.
أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمذهب طائفة من العلماء على أنه إذا جنى على اليد بعد استئصال منافعها في الكف وفي الساعد، أنه يقدر القدر الواجب من نصف الدية، فيجب عليه ضمانه؛ وذلك لوجود المنافع في الكف دون الساعد، واختار بعض العلماء رحمهم الله أنه يجب عليه نصف الدية؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (في اليدين الدية، وفي كل واحدة منهما خمسون من الإبل)، وهذا كان يختاره بعض مشايخنا لعموم النص، وإذا كان قد جنى على يده، خاصة إذا كانت يده مقطوعة خلقة كالأكتع ونحو ذلك، قالوا: تجب عليه؛ لأنه توجد له منفعة، ولأنه يحرك اليد، ويرتفق بها في بعض مصالحه، يقولون: إن هذا أشبه من جهة النص؛ لأن النص عام، قال: (وفي اليد الواحدة خمسون من الإبل) ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الأصل الذي ذكرناه من كونه يقطعها تامة كاملة، أو يقطع جزءها من مفصل الكف، بعد وجود المنفعة في الساعد، وفي العضد.
والله تعالى أعلم.(364/22)
حكم إذهاب العقل عمداً أو خطأ
السؤال
إذا جنى على شخص، فأذهب عقله عمداً أو خطأً، فما الحكم، أثابكم الله؟
الجواب
سيأتينا-إن شاء الله- حكم الجناية على العقل، ولا شك أن فيه الضمان، وتجب الدية كاملة، فلو أنه ضربه بخشبة على رأسه ففقد عقله -والعياذ بالله- وقال الأطباء: إن هذه الضربة لا يرجى منها عود العقل إلى صاحبها، فإنه يجب عليه أن يضمن الدية كاملة، والعقل منفعة كاملة، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله: أن في العقل الدية كاملة، فلو أن طبيباً سقى مريضاً دواءً مخدراً وأذهب عقله، أو مثلاً عمل له عملية في دماغه فأخطأ، فترتب على الخطأ اختلال عقل المريض، فإنه يجب عليه أن يضمن الدية كاملة إذا ثبت خطؤه، والله تعالى أعلم.(364/23)
حكم ضمان التابع
السؤال
كيف تكون الدية لو فقأ عينه مع إفساد جفنيه في نفس العين.
أثابكم الله؟
الجواب
قلنا: هذا تبع، والتابع تابع، ولذلك لا يجب ضمان أشفار العينين، ولا الأهداب، مع أن كل واحد من الأشفار فيه ربع الدية؛ لأنه وقع تبعاً، ولا يجب ضمان التابع، وهذا أصل في الشريعة: أنه يُغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، ولذلك يجوز بيع البستان قبل بدو صلاحه، وتكون الثمرة تابعة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في الصحيحين من حديث ابن عمر، وحديث أنس بن مالك رضي الله عن الجميع: (أنه نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها)، لكنها وقعت تبعاً، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما-: (من باع نخلاً قد أُبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع)، فهنا وقعت الثمرة بعد التأبير وقبل بدو الصلاح تبعاً، ولم تقع أصلاً، فيجوز حينئذ إعطاء حكم التابع، ولا يجب الضمان في مسألة الأجفان، فلو أنه فقأ عينه-والعياذ بالله- قلنا: عليه نصف الدية، سواء اشتمل الفقء على إتلاف الأجفان أو لم يشتمل، والعبرة بذهاب العين، ففي كل عين نصف الدية، سواء بقيت الأجفان أو تلفت، والله تعالى أعلم.(364/24)
سنن الاعتكاف وآدابه
السؤال
من أراد الاعتكاف فما هي سننه وآدابه.
أثابكم الله؟
الجواب
الاعتكاف من أجل العبادات وأشرف الطاعات، شرعه الله في كتابه المبين, وبهدي رسوله المبين صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]، وقال تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125]، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف، وأمر أصحابه رضوان الله عليهم الذين اعتكفوا العشر الوسطى من رمضان: أن يعتكفوا العشر الباقية تحرياً لليلة القدر.
والأصل عند الأئمة رحمهم الله: أن الاعتكاف جائز في كل زمان، وأنه لا يختص برمضان، ولكنه في رمضان مؤكد الاستحباب، والدليل على جوازه في سائر السنة: عموم الأدلة في كتاب الله عز وجل الواضحة في الدلالة على أن المساجد محل للمعتكفين، لم تخص رمضان عن غيره، وهذا أصل عند العلماء، وفيه شبه إجماع، وليس هناك أحد يقول: لا يجوز الاعتكاف في غير رمضان، هذا الذي يحفظ عن الأئمة رحمهم الله لثبوت النص في كتاب الله عز وجل دون تفريع.
لكن عند العلماء: ما جاء الأصل باستحبابه، يقال مثلاً: يجوز الاعتكاف، ولكنه في العشر الأواخر آكد، وفي العشر الأواخر أكثر استحباباً، هذا الذي نص عليه الأئمة رحمهم الله وهو على أنه في العشر الأواخر أكثر استحباباً، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه في اعتكافه حينما نذر، ولم يسأل: هل نذرت في رمضان؟ أو غير رمضان؟ وهذا يدل على أن الاعتكاف جائز في سائر السنة، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، كما هو مقرر في الأصول.
فالمحفوظ عند العلماء رحمهم الله أن الاعتكاف مشروع في كل وقت، ولكنه في العشر الأواخر آكد.
المسألة الثانية: إذا ثبت أنه مشروع، والإجماع منعقد على شرعيته، فإنه يشرع في سائر المساجد، لكنه إذا نوى أن يعتكف العشر الأواخر، فلابد وأن يكون المسجد مسجد جمعة؛ لأنه يجب عليه أن يصلي الجمعة، وإذا كانت الجمعة واجبة عليه، فلا يمكن أن يشتغل بالنافلة حتى يضيع الفرض، ولو أنه خرج للفرض لبطل اعتكافه، ومن هنا: اشترط العلماء والأئمة رحمهم الله في العشر الأواخر إذا نواها كاملة أن يكون في مسجد جمعة.
المسألة الثالثة: أن الأفضل في الاعتكاف أن يكون في المساجد الثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)، وهذا نفي مسلط على حقيقة شرعية محمول على الكمال؛ لورود الدليل الذي يدل على صرفه عن ظاهره، مع أن هذا الحديث فيه ضعف عند طائفة من أئمة الحديث-رحمة الله عليهم- لكن على القول بتحسينه يحمل على الكمال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة): محمول على الكمال، وهو النفي المسلط على الحقيقة الشرعية الذي دل الأصل على صرفه عن ظاهره، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له): فإنه لا يدل على كفر من خان الأمانة، وإنما المراد نفي الكمال.
المسألة الرابعة: إذا ثبت أن الاعتكاف يكون في المساجد الثلاثة، فأفضلها وأعظمها ثواباً وأجراً المسجد الحرام؛ وذلك لأنه تجتمع فيه فضيلتان ليستا موجودة في غيره: الفضيلة الأولى: الطواف، حيث لا يشرع الطواف إلا بالبيت العتيق، وهذه العبادة لا تجوز ولا تكون إلا في هذا الموضع-أعني المسجد الحرام- ومن هنا فُضّل المسجد الحرام بوجود هذه المزية.
ثانياً: أن فيه مضاعفة الصلاة إلى مائة ألف، وهذه المزية يفضل بها بقية المسجدين: مسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فالمدينة بألف، والأقصى بخمسمائة على اختلاف في الروايات.
إذا ثبت هذا نفهم من هنا أن قوله: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) للكمال؛ لأن في الثلاثة الأشياء قرينة الوصف التي تدل على التفضيل، فدل على أنه للكمال، ولم يأخذ بظاهر هذا الحديث على النفي: (لا اعتكاف) إلا مجاهد، وقال بعض العلماء: إنه قول شاذ.
المسألة الخامسة: ما هو الاعتكاف؟ الاعتكاف: من العكوف على الشيء، والمراد به: لزومه، ومن هنا قال تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] أي: ملازمون لها، فالمعتكف هو الملازم لبيت الله عز وجل-أعني المسجد- بقصد التقرب لله سبحانه وتعالى وطاعته، فإذن لابد من أن يلزم المسجد، وأن تكون النية: إرادة ما عند الله سبحانه وتعالى، والتقرب لله جل وعلا، فلزوم المسجد يقتضي ألا يخرج منه إلا لضرورة وحاجة، مثل: أن يقضي حاجته، ومثل أن يتعذر أن يجد طعاماً داخل المسجد؛ فيخرج بقدر أن يطعم، ثم يعود.
فالأصل يقتضي أنه يلزم المسجد، وأجمع العلماء رحمهم الله: على أن من نوى الاعتكاف، أو نذر الاعتكاف، فخرج من المسجد من دون حاجة بطل اعتكافه، وعليه أن يعود ويستأنف النية، ومن هنا لابد وأن يعلم المسلم: أن الاعتكاف: هو الملازمة للمسجد، فلا يخرج من المسجد إلا لضرورة وحاجة، فلا يخرج لعيادة مريض، ولا لتشييع جنازة، ولا يخرج لغسل؛ إلا إذا كان واجباً محتماً عليه كغسل يوم الجمعة على القول بوجوبه، أو غسل جنابة إذا أصابته جنابة، أما إذا لم توجد حاجة، فالأصل يقتضي عدم جواز الخروج.
إذا عُلم أنه يلازم المسجد، ينبغي عليه أن يعلم أنها ملازمة لذكر الله عز وجل، وأن المعتكف الصادق في اعتكافه هو من ترسم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقته وساعاته ولحظاته في ذكر الله سبحانه وتعالى، حتى إنه يحتسب عند الله عز وجل النومة ينامها من أجل أن يتقوى بها على طاعة الله، هذه العبادة مدرسة من مدارس رمضان، وانظر إلى حكمة هذه الشريعة كيف جعلت الاعتكاف في ثلث الشهر، ولم تجعله في كل الشهر؛ لأن الإسلام دين لا رهبنة فيه، وهذا يدل على أن الإنسان إذا تعبد واجتهد في العبادة، ينبغي أن يكون بحدود، وألا يغلو كغلو النصارى فيترهبن، ويصبح من الرهبان، فلا رهبانية في الإسلام، ومع أن الموسم موسم طاعة -شهر رمضان- لم يدع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاعتكاف الكامل، وقد كان صلى الله عليه وسلم يترك شيئاً ويحب أن يفعله، لكن وقع منه اعتكافه عليه الصلاة والسلام تحرياً لليلة القدر، والدليل على ذلك: أنه اعتكف العشر الوسطى، فلما نزل عليه جبريل أن ليلة القدر في العشر الأواخر، وقال كما في الصحيح: (إن الذي تطلبه أمامك)، أصبح عليه الصلاة والسلام وأمر أصحابه أن يعتكفوا العشر معه عليه الصلاة والسلام.
هذا الاعتكاف يقصد منه إصابة فضيلة ليلة القدر، وهو الاعتكاف المخصوص في رمضان، ويتعلم المسلم منه ذكر الله عز وجل وطاعته، فهذا الجو الإيماني الذي يهيئ العبد لمرضاة الله جل جلاله ومحبته، وبلوغ الدرجات العلا في جنته، ودار كرامته، كم من معتكف صادق في اعتكافه دخل إلى معتكفه ناقصاً، فخرج منه مكملاً، دخله شقياً فخرج منه سعيداً، دخله مذنباً فخرج منه مغفوراً مرحوماً، ودخله بعيداً عن الطاعات فخرج بالباقيات الصالحات، المعتكف الصادق في اعتكافه الذي تعلم من اعتكافه حفظ اللسان، وصيانة الجوارح والأركان، والإكثار من ذكر الله عز وجل في سائر الأوقات والأزمان، ومن الناس من خرج من اعتكافه بختم القرآن كل ثلاث ليال، ومنهم من خرج من اعتكافه بالبكاء عند سماع القرآن، ومنهم من خرج من اعتكافه بمحبة كل خير، وكل طاعة وبر، وهل يراد من العبد إلا أن يكون اعتكافه زيادة له في الخير، وزيادة له في البر، وكل معتكف حقيق وواجب عليه: أن يقف في آخر يوم من أيام اعتكافه فينظر إلى نفسه، وينظر إلى قلبه وعمله؛ لكي يسأل: ما الذي خرج به من هذه العبادة؟ فإن وجد أنه خرج بطاعة يحبها ويأنس بها، ويشتاق إليها، ويرتاح بالجد والاجتهاد فيها، فليحمد الله عز وجل عليها، ويسأل الله الثبات، ولذلك علينا أن ندرك أن الاعتكاف مدرسة للخير والبر، يُحبس ولي الله المؤمن في بيت الله عز وجل، الذي ترى عينه فيها الراكع والساجد، فينظر إلى هذا ساجداً بين يدي الله عز وجل، وينظر إلى هذا رافعاً كف الضراعة إلى الله، وينظر إلى ثالثٍ يتلو كتاب الله، وينظر إلى رابعٍ قد أقبل على نفسه يلومها في طاعة الله، وفي جنب الله، فعندها يطمئن قلبه، وينشرح صدره، مع رفقة إيمانية، وفي مجالس رمضانية، مليئة بذكر الله، مليئة بطاعة الله، يصبح ويمسي بوجوه مشرقة من طاعة الله سبحانه وتعالى، كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا أصبحوا من قيام الليل تلألأت وجوههم: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] فهذه نعمة من الله عز وجل على المعتكف، كل معتكف يريد أن يكون موفقاً في اعتكافه؛ فليسأل الله، وليدع قبل أن يدخل معتكفه أن يرزقه الله عز وجل التوفيق، فالتوفيق أساس كل خير، وأساس كل بر، ومن وُفق أصاب الخير؛ لأن الأمور كلها لا تكون بحول الإنسان وقوته، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فإذا دخل الإنسان إلى المسجد مفتقراً إلى رحمة الله، وهو يقول: يارب! أسألك التوفيق، يارب! أسألك اعتكافاً يرضيك عني، وأسألك ساعات ولحظات معمورة بذكرك وشكرك.
ثانياً: من الأسباب التي تعين على الاجتهاد في الاعتكاف: أن تستشعر نعمة الله عز وجل عليك، فكم من ميت تمنى هذه العشر -التي أنت فيها- فحيل بينه وبين ما يشتهي، وكم من مريض طريح الفراش يتمنى العافية التي أنت فيها، وكم من مشغول في تجارته وأمواله وأولاده، شُغل عن المكان الذي أنت فيه، فتحمد الله عز وجل أن هيأ لك ذلك، ويسر لك ذلك، فإذا دخلت مستشعراً أن الله أنعم عليك، وأن الله اختارك من بين الناس، عندها تعرف قيمة هذا الاعتكاف.
ثالثاً: إذا دخلت المعتكف فاعلم أنه ليس لك من هذا الاعتكاف إلا ما قضيت في طاعة الله عز وجل، فليكن أنسك بالله عز وجل أعظم من أنسك بالناس، أي معتكف هذا الذي ينتقل من فلان إلى فلان؟!! أي معتكف هذا الذي جعل اعتكافه زيارة الأصحاب، والجلوس مع الأحباب، والتفكه بالنك(364/25)
شرح زاد المستقنع - باب ديات الأعضاء ومنافعها [2]
الحواس جملة من المعاني يستشعر بها الإنسان فيدرك بها الأمور، ويستطيع أن يميز بها بين الأشياء، ويفصل بعضها عن بعض، فحاسة البصر يميز بها ما لا يميزه بحاسة الشم وحاسة السمع، وهكذا حاسة العقل، فكل حاسة أو منفعة عضو فيها الدية، وإذا اعتدى إنسان على آخر فقطع أذنه مثلاً وأصبح لا يسمع، فإنه تكون عليه دية العضو -والتي هي النصف- ودية منفعة العضو أو الحاسة إن ترتب على ذلك فقدها.(365/1)
دية منافع الأعضاء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يبارك لنا في أعمارنا، وأن يرزقنا الصواب والسداد في أقوالنا وأعمالنا، وأن لا يؤخرنا إلى شر، ولا يقدمنا إلى بلاء وضر.
يقول المصنف رحمه الله تعالى [فصل: وفي كل حاسة دية كاملة].
هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله بعد الباب الذي تقدم، ومن عادة العلماء رحمهم الله في باب الديات؛ أن يتكلموا على الأصل، وهو دية الأنفس، ثم بعد ذلك يتكلمون على دية الأعضاء ومنافعها، ثم الشجاج والكسور.
فهنا أربعة أشياء: أولها: الأعضاء.
وثانيها: منافع الأعضاء.
وثالثها: الشجاج.
ورابعها: الكسور.
بالنسبة للأعضاء، تقدم معنا فيما مضى في آخر الدروس بيان ديات أعضاء الإنسان، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وكذلك ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من القضاء والفتوى في مسائل الأعضاء.
شرع المصنف رحمه الله، فقال في قسم آخر: (فصل)، إذا قال الفقيه: (فصل) فمعنى ذلك أن هناك اشتراكاً أو رابطاً بين اللاحق والسابق، فإذاً: لابد من وجود ارتباط بين الفصل الذي نتكلم عليه اليوم، وبين المقطع الذي مضى معنا في آخر الدروس.
المقطع الذي مضى معنا في دية الأعضاء، بين فيه كيف تقسم الدية على ما في الإنسان منه شيء واحد، وما في الإنسان منه شيئان وأربعة كما تقدم، ثم بعد ذلك قال: (فصل) ولذلك يترجم بعض العلماء لهذا الفصل فيقولون: (فصل في دية المنافع) وبناء على ذلك سيتكلم عن القسم الثاني من الباب كله، فالباب في دية الأعضاء ومنافعها، وعليه فيكون قد قسم الباب إلى قسمين: القسم الأول: الأعضاء.
والقسم الثاني: منافع الأعضاء.
المنافع: جمع منفعة، وهي ضد المضرة، ومنفعة الشيء: مصلحته التي تقصد منه، فاليد مصلحة الإنسان فيها أن يبطش بها، ويحمل، ويضع، ويكتب، وغير ذلك مما يكون من حركات اليد وأعمالها، والرجل منفعتها المشي عليها، والاعتماد عليها ونحو ذلك، واللسان منفعته الكلام، ومنفعته الذوق، والأنف منفعته الشم، والأذن منفعتها السمع، فهذه أعضاء خلقها العزيز العليم وقدرها بتقديره، وجعل فيها هذه المنافع، وكل منفعة من هذه المنافع بحثها العلماء رحمهم الله، ومن هنا كان من سمو الشريعة الإسلامية، وكمال منهجها، وعظم ما منحها الله عز وجل ووضع فيها من البركة والخير، أنها فصَّلت في أحكام الجنايات، حتى في أحكام الجنايات على الأعضاء -جملة وتفصيلاً- وعلى منافعها، ولن تجد على وجه البسيطة حكماً أتم من حكم الله عز وجل، ولا حاكم إلا الله سبحانه وتعالى: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57].
فالعلماء رحمهم الله ذكروا هذا القسم الثاني وهو ما يتعلق بالمنافع، وبناء على ذلك سيتحدث المصنف رحمه الله في الجناية على الحواس؛ حاسة السمع، وحاسة البصر، فلو أن رجلاً بطش برجل فضربه ضربة فأصبح المضروب -المجني عليه- أخرس لا يتكلم، أو أصبح أصم لا يسمع، أو ضربه ضربة أذهبت عقله -نسأل الله السلامة والعافية- أو أصبح لا يمشي، أو أصبح لا يستطيع الأكل، أو أصبح لا يستطيع الجماع، كل هذا محل سؤال، فكما بين العلماء رحمهم الله أحكام الجناية على الأعضاء وتقديرها كان من الأهمية واللازم أن يبينوا أحكام الجناية على المنافع وتقديراتها في شريعة الله عز وجل.
قوله رحمه الله: [وفي كل حاسة دية كاملة].
الحاسة: واحدة الحواس، وأحس بالشيء: إذا شعر به، والحواس: جملة من المعاني يستشعر بها الإنسان فيدرك بها الأمور، ويستطيع أن يميز بها الأشياء، ويفصل بعضها عن بعض، فحاسة البصر يميز بها ما لا يميزه بحاسة الشم وحاسة السمع، وهكذا حاسة العقل.
يقول رحمه الله: (في كل حاسة) وهذا بالاستقلال؛ يعني كل حاسة ينظر إليها منفردة، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الجناية على المنفعة كالجناية على العضو، والذي في كتاب الله عز وجل، الجناية على الأعضاء: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] فهذه كلها أعضاء من حيث الأصل، لكنها أعضاء لها منافع، والغالب في الجناية على المنافع أن يصرف إلى الدية؛ لأنه قد يتعذر أن يفعل بالجاني فعلاً يفقده ذلك المعنى الذي أفقده المجني عليه، لكن إذا أمكن أن يفعل بالجاني مثل فعله فلا إشكال، والغالب في هذه المسائل من مسائل الجناية على المنافع، وكثيراً ما تحدث في زماننا في حوادث السيارات ونحوها، وحوادث الأعمال في البناء، والمصانع، والحرف، وتحدث أيضاً في الطب، فالطبيب قد يعطي دواء يتسبب في ذهاب السمع، وقد يعطي دواء يتسبب في ذهاب البصر، وقد يعطي دواء يتسبب في ذهاب حاسة الشم، أو حاسة الكلام، وكل هذه تترتب عليها مسئولية متعلقة بمسئولية شرعية دنيوية قبل الآخرة، وهي ضمان هذا التلف، ووجوب الدية فيه.
يقول رحمه الله: (في كل حاسة) أي من الحواس (دية كاملة) وبناء على ذلك نقول: إن الجناية على العضو غير الجناية على الحاسة، فلو أنه قطع أذنه، فسرت الجناية حتى أتلفت السمع، فحينئذ عليه دية ونصف، دية السمع إذا ذهب السمع من الأذنين معاً، ودية الأذن التي هي نصف الدية لو قطع له أذنه اليمنى، قلنا: الأذن فيها نصف الدية، ثم سرى القطع حتى أذهب السمع فأصبح لا يسمع بالكلية بالأذنين، فحينئذ تجب عليه دية كاملة لذهاب السمع، ونصف دية لذهاب أحد العضوين المثنيين، فالأذنان في كل واحدة منهما نصف الدية، مثلما ذكرنا فيما تقدم معنا في دية الأعضاء، فنفصل بين الأعضاء وبين المنافع، وهناك فاصل بين الأعضاء والمنافع، فجعل رحمه الله الأصل أن كل حاسة لها ديتها المستقلة بها.
قوله: (في كل حاسة) الجناية على الحاسة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون الجناية موجبة لذهاب الحاسة بالكلية، فحينئذ تكون الدية كاملة، فلو أنه ضربه ضربة، أو صدمه بسيارته صدمة أخرست لسانه وأصبح لا يتكلم ألبتة، فحينئذ له الدية كاملة.
القسم الثاني: أن تكون الجناية موجبة لذهاب شيء من الحاسة، وليس كل الحاسة، فضربه ضربة أصبح بصره فيها بعدها ضعيفاً، كما لو كان في السابق يبصر إبصاراً تاماً، فأصبح بعد الحادث يبصر إبصاراً ناقصاً، فأذهب بعض البصر أو بعض السمع أو بعض الكلام، كما سيأتينا في اللسان فحينئذ ننظر إلى الجزء الذي ذهب، وقدره من الأصل، فلو ذهب النصف أوجبنا عليه نصف الدية، وإذا ذهب الربع أوجبنا عليه ربع الدية، وإذا ذهب الثلثان، فالثلثان.
وهكذا.
لكن كيف نعرف هذا حتى نعلم أننا أمة لسنا متخلفين، ولسنا متحجرين، وأن قياس السمع كان يعرفه سلفنا الصالح من القرون الأولى؟ يقول الإمام الشافعي رحمه الله: تسد الأذن المريضة التي جني عليها وتفتح الأذن السليمة، فيصيح رجل من بُعْد، فإذا لم يشعر بصوته اقترب حتى يسمع أول سماع من صوته، فيحد الحد عندها، ثم بعد ذلك تفتح الأذن المريضة وتغلق الصحيحة، فلا يزال يقترب ويصيح حتى يبلغ المدى، فلو بلغ نصف المسافة فإنه قد ذهب نصف سمعه من الأذن اليمنى، وإذا بلغ الربع فالربع، وإذا بلغ الثلث فالثلث، والآن لو جئت تقدر بالآلات الموجودة في قياس السمع لا تبعد، يضعون آلات فيها صوت معين لا يزال يرفع حتى يشعر به المريض أو يشعر به الذي يراد قياس سمعه.
أما في البصر، فقارن نفس الشيء، يوضع الرجل عن بعد، ويوضع له شاحصة فإذا لم يرها اقترب ثم اقترب للعين الصحيحة حتى يميزه، فإذا أثبته وميزه كفت العين الصحيحة، ثم اقترب وما زال يقترب، ثم يضع الشاخص أو العلامة على المكان الذي ميز فيه، ثم يقترب والعين المعيبة أو التي جني عليها مفتوحة حتى يميزه، فإن وصل عند ثلثه فثلث بصره بقي وضاع الثلثان، وإن وصل إلى النصف فقد أذهب نصف بصره ووجب عليه ربع الدية؛ لأن البصر للعين الواحدة فيه نصف الدية، هذا كله تفصيل لقوله: (وفي كل حاسة دية كاملة) إن أذهبها كلها وجبت الدية كاملة، وإن أذهب بعضها فبقسط ذلك البعض الذي أذهبه، سواء أذهبه في جناية عمدٍ، وقال الرجل: لا أريد القصاص أريد الدية، أو أذهبها في خطأ كما ذكرنا، فكل ذلك يجب فيه الضمان على التفصيل الذي بيناه.(365/2)
دية السمع
قال رحمه الله: [وهي السمع] قوله: (وهي) أي: هذا تفصيل لقوله (في كل حاسة) فقال رحمه الله: (السمع)، والسمع حاسة من أعظم الحواس، ولذلك قدمه الله قيل تشريفاً له، حتى إن مذهب بعض العلماء أن السمع أفضل من البصر كما قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} [الإسراء:36] فقدم السمع على البصر، وقالوا: إنه أعظم، ويقال: إن الفهم بالسمع أقوى من الفهم بالبصر، ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله في الطفل؛ لأن الطفل يميز الأشياء بعد السماع، والسماع يعين الطفل على التمييز، ومن هنا كان أمر السمع أعظم، وشأنه أكبر، فلو جنى عليه جناية أذهبت سمعه والعياذ بالله كلياً، فإنه يجب عليه ضمان السمع كاملاً بديته كاملة.
لكن الذي استشكله العلماء في هذه المسألة، أنه قد يدعي -والعياذ بالله- شخص أن سمعه ذهب، فكيف يمكن أن يعرف في السمع والبصر أنه فعلاً قد أثرت الجناية فيه حتى أذهبت سمعه؟ وهذا أمر أيضاً ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، فقالوا: إنه إذا كان يدعي أن سمعه ذهب، وقال الجاني: لم يذهب سمعه، واختلفا، اختبر وامتحن.
قالوا: ومن الامتحان: أن يترك في حال غفلة ثم يصاح عليه صيحة مزعجة، فإن تأثر بها فجأة، فمعنى ذلك أنه كذب، ولذلك هذه مما ذكرها العلماء رحمهم الله والأئمة، لأنه لو فتح هذا الباب، فهناك من الناس -نسأل الله السلامة والعافية- من لا يتورع عن الكذب، حتى ولو لم يؤثر الإضرار في حقيقته إلى ذلك، لكن قد يكون هناك رغبة في الإضرار بالجاني بسبب العداوة، أو لحب الانتقام، أو بسبب محبة الدنيا، -نسأل الله السلامة والعافية- مهما كانت الدوافع والموجبات، لكن الذي يهمنا أنه يختبر ويمتحن، وفي البصر قالوا: إذا ادعى أنه لا يرى شيئاً، تؤخذ له حية، أو شيء مخوف، وهو مؤتمن على نفسه، وقد يكون رجلاً ليست عنده أمانة، قالوا: فيقال له: سر في مكان فيه حية، وفيه تلف، أو يكون آخر المسير فيه مثلاً كبوة أو حفرة، فإذا اتقى أو امتنع أو تلكأ أو تأخر يعني: وجدت الريبة في تصرفه، ظهر أنه ليس بصادق.
، فعلى كل حال هذا مما ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، وكل هذا يراد به الوصول إلى حقيقة الجناية، فإذا ثبت أن السمع ذهب كله وجبت الدية كاملة، فإذا جنى عليه فأبقى شيئاً من سمعه، والسمع يشترط ذهابه من الأذنين، فإذا أذهب السمع من الأذنين فيه الدية كاملة، لكن لو أنه أتلف السمع في أذن والأذن الأخرى سليمة، أو جاء مريض إلى طبيب واشتكى أذنه فعالج تلك الأذن فأذهب سمعها، فإنه حينئذٍ يجب ضمان السمع بجزئه بحسب ما فات وهو النصف.
يجب عند الحكم بالدية كاملة أن يراعى أمر مهم جداً وهو أن يقول الأطباء: إن هذه الحاسة التي تلفت لا تعود، فلو قال الأطباء: إن هذه الضربة تذهب السمع إلى حين، وهناك أمل أن يعود السمع بعد علاج أو دواء، أو بعد مضي مدة فحينئذٍ ينبغي التريث والتربص، ثم اختلف العلماء في التفصيل فقالوا: إذا قال الأطباء إن سمعه يمكن أن يعود فلا يخلو قولهم من حالتين.
الحالة الأولى: أن يحددوا زماناً لرجوع السمع، وهذا التحديد ليس من علم الغيب، إنما هو راجع إلى التجربة، وهذا مما يقبل فيه القول؛ لأن الله عز وجل جعل في الحياة سنناً، فإذا ثبت بتجربة الأطباء أنه مرت عليهم حوادث من جنس هذه الحادثة ذهب فيه السمع سنة ثم عاد، أو شهراً أو شهرين ثم عاد، فإذا حددوا كان في ذلك تفصيل: فإن حددوا مدة يغلب على الظن عيش المجني عليه إليها؛ فإنه لا يجب إعطاء الدية إلا بعد مضيها، فإذا مضت المدة ولا زال فاقداً لسمعه وجبت الدية، وأما إذا حددوا مدة يغلب على الظن موته وهلاكه قبل مضيها ففيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله: فمنهم من يرى التربص، ومنهم من يرى أنه يعطى الدية وهو أقوى.
أما إذا لم يحدد مدة، قالوا: يمكن أن يرجع إليه ويمكن ألا يرجع، فإنه قد جنى جناية توجب الدية، فالأصل وجوب الدية، وحينئذ احتمال أن يرجع أو لا يرجع ساقط ما لم يغلب ويترجح، وعلى هذا فإننا: نوجب على الجاني أن يدفع للمجني عليه الدية كاملة.(365/3)
دية البصر
قال رحمه الله: [والبصر] وهو الحاسة الثانية من الحواس التي إذا جني عليها وجبت فيها الدية كاملة، وهذه الحواس -السمع والبصر- قرنها الله عز وجل في كتابه لعظم أمريهما، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي العينين الدية) وكذلك صح عن الصحابة رضوان الله عليهم قضاؤهم بأن العين فيها الدية، وهذا أصل عندهم أن منفعة الإبصار فيها، ولذلك أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلاً اعتدى على رجل فأذهب سمعه وبصره، ونكاحه وعقله -أصبح مجنوناً- فأوجب فيه عمر أربع ديات، وهذا الأثر رواه البيهقي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفه، والعمل عند أهل العلم رحمهم الله عليه، فجعل لكل حاسة دية كاملة، وهذا هو الأصل في الباب، وإن كان في حديث معاذ رضي الله عنه أيضاً عند البيهقي وفي المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بالدية، وفي العقل أصل الإجماع على أنه لو ضربه فجن أن فيه دية كاملة.
فإذا جنى على بصره وأذهب البصر، ففيه الدية كاملة، ولو أذهب بصر إحدى العينين وجب قدر ما ذهب وهو النصف، ولو أذهب نصف النظر باليمنى فعليه ربع الدية، فيتقسط المال بقدر الجناية.(365/4)
دية الشم
قال رحمه الله: [والشم] الشم حاسة يدرك بها الإنسان الروائح، فيميز الروائح طيبها وخبيثها، وهذه الحاسة موجودة في الأنف، ومن نظر وتأمل إلى بديع خلق الله وعظيم صنع الله فيما حار فيه الأطباء، وتعجب واستغرب منه الحكماء، مما وضع الله سبحانه وتعالى في هذه الحاسة؛ من الحفظ والحرز للإنسان من حيث يشعر أو لا يشعر، فكم من الشرور والمصائب والبلايا يحفظ الله بها عبده بفضله سبحانه، ثم بفضل هذه الحاسة، وقد يكون الإنسان بين الحياة والموت ولا ينجو إلا بفضل الله، ثم بوجود هذه الحاسة، وهي حاسة الشم، فبها يميز الأشياء، ويتنعم ويرتفق بالروائح الطيبة، وقد حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيب وهو من الروائح، فجعل الله عز وجل في هذه الحاسة الخير الكثير للإنسان.
وتقع الجناية لو أن طبيباً عالج مريضاً وعنده حاسة الشم، فأذهب هذه الحاسة، وبعض العمليات الجراحية التي تجرى في الدماغ -نسأل الله السلامة والعافية- قد يحدث فيها خطأ فتذهب حاسة الشم، وبعض العمليات أيضاً التي تحدث في الأنف قد تعطل حاسة الشم، فلو حصل هذا وجب فيه الضمان، فإذا أصبح لا يشم ولا يميز الأشياء التي يشمها، فإنه تجب له الدية كاملة، وهذا محل إجماع عند العلماء رحمهم الله، ولا يعرف فيه مخالف، فمن اعتدى على غيره فأذهب حاسة الشم، فإنه يجب عليه ضمان تلك الحاسة بالدية كاملة، ولو أذهب بعض الحاسة فإنه يقدر بقدر الجناية، ويجب ضمان ما أذهبه.(365/5)
دية الذوق
قال رحمه الله: [والذوق] الذوق: تمييز للأشياء التي تطعم وتشرب، يميز حلوها ومرها، وحامضها وعذبها، وهذا التمييز جعله العلماء مقسط على هذه الأربعة التي ذكرناها، قالوا حاسة الذوق موجودة في اللسان، وهناك عصب موجود في اللسان يتذوق به الأشياء بقدرة الله عز وجل، وهذه الحاسة إذا عطلت كلها فلا إشكال، لكن لو أصبح لا يذوق الحلو ولا يجد له طعماً، أو العكس لا يجد طعماً للمر، ففي هذه الحالة يتقسط بقدر الجناية التي جني عليه فيها، كما تقدم معنا في الحواس الأخرى، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الذوق، فقال بعضهم: الذوق موجب للدية كاملة، وهذا طبعاً منصوص عليه عند الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، ومشى عليه المصنف رحمه الله، وهناك وجه ثان عند العلماء رحمهم الله يقول: إن الذوق لا يبلغ مبلغ الحاسة الكاملة، وإنه إذا ذهب فيه الحكومة -والحكومة سيأتي إن شاء الله تفصيلها- فيقدر قبل الجناية عليه ثم يقدر بعد الجناية عليه، وينظر إلى الأرش بين الحالين فيجب ضمانه.(365/6)
دية الكلام
قال رحمه الله: [وكذا في الكلام] هذه الحاسة الخامسة التي ذكرها هي من نعم الله عز وجل على الإنسان؛ لأنه يتكلم فيبين عن مراده ويفصح، ولذلك يعتبر من المعاني، وهذا من الجناية على المنافع والمعاني، فالكلام الذي عليه جماهير السلف رحمهم الله والأئمة على أنه إذا جنى عليه جناية أخرس لسانه؛ فإنه تجب الدية كاملة، ولو ضربه ضربة على رأسه فأصبح لا يتكلم أو يتكلم فلا تعرف ماذا يقول، أو لا يخرج الحروف كما هي أبداً؛ فإنه حينئذ تجب الدية كاملة، سواء أخرسه بالكلية بحيث لا يتكلم -نسأل الله السلامة والعافية- أو يصيح بدون أن يبين الحروف، ومن المعلوم أن الأصل في اللغة العربية ثمانية وعشرون حرفاً، فإذا جنى عليه جناية وأصبح لا يتكلم بالكلية فلا إشكال، لكن لو أنه جنى عليه جناية فتكلم ببعض الحروف ولم يتكلم ببعضها، فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: نقسم الدية على ثمانية وعشرين حرفاً التي هي أصل حروف اللغة العربية، ومن أهل العلم من قال: تقسم على ثمانية عشر حرفاً؛ لأن اللسان الذي يخرج منه ثمانية عشر حرفاً، والستة الحروف التي تخرج من الحلق، والأربعة التي تخرج من الشفتين هذه خارجة عن المعدود؛ لأن الجناية على اللسان وليست على الكل، ومن هنا اختلف -يعني قول العلماء رحمهم الله والأئمة في هذا- والذي نص عليه الأكثرون أنها تقسم على ثمانية وعشرين حرفاً، وأن اللغات من الغير عربية تنزل منزلة العربية، فإذا كانت اللغة غير العربية نظر إلى عدد حروفها، وما أبطلت الجناية من تلك الحروف بحيث تعذر على المجني عليه أن ينطق بها، فلو أنه أفسد له نصف الحروف وجب عليه أن يدفع نصف الدية، وإذا أفسد الثلثين فالثلثان وهكذا يعني تقدر بقدر الجناية، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وفي اللسان الدية) فأثبت عليه الصلاة والسلام الدية في الجناية على اللسان وإن كان الأصل فيها العضو.(365/7)
دية العقل
قال رحمه الله: [والعقل] العقل في لغة العرب: الحبس، ومنه العقال الذي يحبس البعير عن المسير، ويسمى العقل عقلاً؛ لأنه يحبس الإنسان عن الأمور التي لا تليق بمثله، ولذلك سماه الله حجراً وسماه نهية فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} [طه:54] وقال سبحانه وتعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:5] أي لذي عقل يحجره عما لا يليق به، فالعقل به يدرك الإنسان صحيح الأشياء وفاسدها، وصوابها وخطأها، وجعله الله عز وجل في قلبه، فعقل الإنسان في قلبه، وهذا منصوص النصوص التي جاء بها الوحي من السماء، من لدن حكيم خبير، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] فنسب الفقه والفهم إلى القلوب، وهذه المسألة حصل فيها خلط وخلاف قديم مشهور إلى يومنا هذا، والأطباء يصرون على أن العقل في الدماغ، وهذا خلاف النص الذي نعتقده وندين الله عز وجل به، فإن العقل في القلب، ولا يمنع أن تكون آلة العقل في الدماغ، وهناك فرق بين الآلة وبين الروح التي هي متحكمة في مشاعر الإنسان، ألا ترى الرجل من أكمل الناس عقلاً، فإذا دخل عليه الحزن في قلبه لم يعرف أن يفعل شيئاً، وإذا دخل عليه الفرح في قلبه لم يعرف أن يقدم أو يؤخر شيئاً، ولذلك القلب يؤثر تأثيراً عجيباً في نفس الإنسان خيراً وشراً، ونسب الله عز وجل إليه فلا يمتنع أن يكون العقل في القلب، ولكن مع وجود هذه الأجهزة يقولون: إن الشخص لو ضرب على دماغه يصبح مجنوناً ولا يعقل، وهذا ليس بدليل، فقد استندوا إلى أدلة عقلية، أما نحن فنتكلم على الروح الخفية؛ لأن العقل ليس من الأشياء الملموسة، وما يوجد في خريطة الدماغ فهذه أشياء أشبه بالآلة، وهي التي تتصرف بالإنسان وتتحكم وتصدر منها الأوامر للإنسان، لكن العقل والفهم كله في قلب الإنسان، ولذلك تجد الإنسان في نفسيته يرجع إلى قلبه وفؤاده، فإن حزن أو فرح فإنك تجد الفرح والحزن كله متعلق بفؤاده وقلبه، ولذلك وجود هذه القضية، وأنه إذا ضرب على رأسه ربما فقد عقله، وبعض أهل العلم لما احتج عليه بهذا الدليل قال: إن الشخص ترض خصيتيه فيغمى عليه، فهل معنى ذلك أن عقله في خصيتيه، لما اعترض أحد الفلاسفة على أحد أهل العلم رحمة الله عليه وقال له: لقد قلت قولاً عجيباً، فأجاب بهذا الجواب، قال له: الإغماء وفقد العقل لا يستلزم وجود العقل في المكان؛ لأنها آلة من الآلات، وقد تكون شدة الأذية والضرر موجبة لذلك، ولذلك الفرح الذي يكون في القلب يعمي الإنسان عن معرفة الأشياء، ونهي القاضي أن يقضي وهو غضبان، ومن القضاء وهو في شدة الفرح والسرور، فمعنى ذلك أن القضية ليست قضية الآلة نفسها، إنما القضية قضية روح موجودة في الإنسان، ولذلك تجد أن إدراك الأشياء يستند إلى روح أودعه الله سبحانه وتعالى لا يستطيع الإنسان أن يقول أن العقل مثلاً أصفر أو أحمر أو ملموس، ولا أنه ذاك الشيء الذي في الدماغ، وبالرغم من الاكتشافات التي اكتشفوها -والتي نسلم بها- إلا أنهم لا زالوا في حيرة، ولن يزالوا في حيرة ما لم يهدهم الله سبحانه وتعالى، ولا زالوا إلى الآن لا يعلمون أين أماكن السمع، ولم يعلموا إلا فيما بعد، وإن كانوا وصلوا إلى بعض الأشياء التي يثبتون بها محل السمع، ومحل الكلام، ويعملون عمليات جراحية معقدة جداً في الدماغ بأدق الأجهزة، فما إن يختل هذا الجهاز بأقل مقدار إلا ويحدث خلل لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فإذا بالرجل لا يستطيع الكلام، وإذا به لا يستطيع أن يتحكم في بوله، أو لا يستطيع أن يتحكم في مشيه، فسبحان الله العظيم {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] هذا تقدير العزيز العليم، فإذا قدره العزيز العليم فلا ينبئك مثل خبير، فإن قال لك العقل في القلب، قلت: نعم، سمعنا وأطعنا، فلو أجمع أهل الأرض كلهم على خلاف ذلك لم نسمع ولم نطع، ولا نعبأ بأحد إذا خالف نص كتاب الله، فقد نص الله عز وجل على ذلك وبين أن العقل هو فهم الأمور؛ لأن الأصل في الفهم مستند إلى العقل، ولذلك لم يوجه الخطاب إلا إلى عاقل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة؛ وذكر منهم المجنون حتى يفيق) فعلى هذا لو أنه جنى على عقله جناية أذهبت العقل -نسأل الله السلامة والعافية- وأصبح مجنوناً وجبت الدية كاملة، وفيه أثر مرفوع عنه عليه الصلاة والسلام، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الجناية على العقل إذا أفسدت العقل كلاً أنها توجب الدية كاملة.
لكن لو أنه جنى عليه جناية أذهبت العقل حيناً دون حين، فأصبح مثلما يقع في بعض الأحوال يجن مثلاً فترة ثم يفيق فترة، ولو عمل له عملية جراحية تسببت في حصول غيبوبة للعقل فترة ثم رجع الشخص طبيعياً فترة أخرى ننظر في هذه الفترة التي يفيق فيها والفترة التي يستضر فيها، فلو كان يفيق يوماً ويجن يوماً، فإنه تجب نصف الدية؛ لأنه عطل عقله نصف عمره، وحينئذ كأنه عطل نصف العقل، لأنك لا تستطيع أن تقول: هذا عاقل أو هذا نصف عاقل، ولا تستطيع أن تقول: هذا ربع عاقل ولا ثلثي عاقل، إنما ينظر إلى التقدير بالزمان، وهذا ضابط كثير من أهل العلم رحمهم الله، لو أنه جنى على عقله فغاب عقله ستة أشهر ويرجع إليه ستة أشهر ففيه نصف الدية، ولو غاب عقله ثمانية أشهر ورجع إليه أربعة أشهر فعليه ثلثا الدية، وهكذا يتقسط بقسطه من العقل.(365/8)
دية منفعة المشي
قال رحمه الله: [ومنفعة المشي].
وهكذا لو جنى عليه جناية لم يستطع أن يمشي بعدها فأصبح مشلول الرجلين؛ فإنه تجب عليه الدية كاملة، وهذا قول جمهور العلماء رحمهم الله: أنه إذا عطله عن منفعة تامة -وهي منفعة المشي- أنه يجب عليه ضمان ذلك بدية كاملة، لكن لو أنه اختل مشيه فحينئذ يتقسط بقدر ما حصل من الضرر، إن كان يقوم يمشي ويحصل له ضرر ففيه الحكومة، وأما إذا كان عطله على وجه تتشطر معه الجناية فإنه يتشطر بقدرها من الدية.(365/9)
دية منفعة الأكل
قال رحمه الله: [والأكل] لو جنى عليه جناية عطلت منفعة الأكل فأصبح لا يستطيع أن يأكل وإنما يؤكل، أو لا يستطيع بلع الطعام، أو يستضر في أكله، فإن الذي اختاره المصنف رحمه الله وجماعة وهو منصوص عليه في مذهب الحنابلة أنه تجب الدية كاملة، وهذا مبني على أن الأصل ملحق به نظيره، فأنت إذا نظرت إلى أن السمع حاسة، والبصر حاسة، وهي منفعة قائمة بذاتها، فالأكل منفعة قائمة بذاتها وعليها أود وقوام البدن، وبها يرتفق الإنسان، وإذا كان عمر رضي الله عنه قد قضى بأن الرجل الذي ضرب الرجل فأفسد نكاحه وهي شهوة من الشهوات لا تعدل شهوة الأكل؛ لأن الأكل أعظم منها بل حياة الإنسان موقوفة على الأكل، فإذا كان هذا فيما عمل به الخلفاء رحمهم الله وقضوا به وقالوا أنه يلتحق بهما هو أولى، فإن منفعة الأكل أعظم.(365/10)
دية منفعة النكاح
قال رحمه الله: [والنكاح] النكاح: الجماع، والمراد بذلك أن يعطله فلا ينتشر عضوه، ولا يستطيع أن يجامع، فإذا عطله عن الجماع فإنه في هذه الحالة تجب الدية كاملة، وإن عطل بعض المنفعة وحصل عنده ضعف وعجز عن الجماع قدر بحسب ذلك العجز، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في كتاب عمرو بن حزم أن في الذكر الدية، وقضى عليه الصلاة والسلام أيضاً في البيضتين الدية، ونظر إلى هذه الأعضاء كل عضو ففصل البيضتين عن الذكر؛ فدل على الالتفات إلى المنفعة، ففي الخصيتين -أكرمكم الله- من المنفعة ما ليس في الذكر نفسه، ولذلك كان نظر الفقهاء صحيحاً، وهو نظر مستنبط من الأصل المنصوص عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنسل والحيوانات المنوية والتأثير في الماء والجينات الوراثية كلها موجودة في الخصيتين، وهي أشبه بالمعمل الذي يخرج وينتج هذا الشيء بقدرته سبحانه وتعالى، ولذلك كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا نوع من الإعجاز، وهذه الأمور لا يمكن أن تدرك إلا بدقائق الطب ومعرفة الأسرار الموجودة في هذه الأعضاء لكن نبأه العليم الحكيم سبحانه وتعالى، وبين له العليم الخبير جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدل على أن اعتبار المنافع في الأعضاء أصل، وثبتت به السنة واعتبرته.(365/11)
دية استمساك البول والغائط
قال رحمه الله: [وعدم استمساك البول والغائط] هذا يحدث في الجنايات، فلو ضربه على خصيتيه ضربة أو على مثانته ضربة فأصبح لا يستمسك بوله، أيضاً يحدث في ضرب الصلب في بعض الخصومات والنزاعات قد يجني أحد على آخر فيضربه على ظهره، فضرب الظهر في بعض الأحيان -نسأل الله السلامة والعافية- يضر بالنخاع الشوكي، وحينئذ يؤثر في استمساك البول واستمساك الغائط، فإذا ضربه على بطنه فلم يستمسك غائطه أو ضربه على خصيته فلم يستمسك بوله، أو ضربه على أي موضع بحيث أثر في استمساك البول والغائط فإنه يتضرر بذلك، وهذه منفعة موجودة في البدن ألحقها كما اختاره المصنف وغيره من بعض العلماء رحمهم الله بمسألة الجناية على المنافع التي تقدمت معنا.(365/12)
الأسئلة(365/13)
حكم تحمل العاقلة للدية في منافع الأعضاء
السؤال
في حالة إتلاف حاسة بطريق الخطأ فهل تجب الدية على العاقلة، أم على الجاني، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن وآلاه.
أما بعد: فإذا كانت الجناية خطأ حملتها العاقلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المرأتين بالدية على العاقلة، فالدية تحملها العاقلة إذا كانت الجناية خطأ، والله تعالى أعلم.(365/14)
تعدد الديات في الجناية على منافع الأعضاء
السؤال
أشكل عليّ استحقاق المجني عليه لأكثر من دية إذا جني على أكثر من حاسة، بينما لو جني على النفس لم يستحق إلا دية واحدة، بينوا لنا هذا الإشكال، أثابكم الله؟
الجواب
هذا لا إشكال فيه، والجواب عنه من عدة وجوه: الوجه الأول: أن الأصل يقتضي تجزئة الجنايات كما هو معلوم، وجاء قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الرجل الذي جني عليه بالجنايات، وأوجب فيها أربع ديات دون إنكار من الصحابة، فصار عند الفقهاء ناقلاً عن الأصل، ولذلك يعتبرون أنه مستثنى، وركبوا منه مسألة الجناية على المنافع، هذا الوجه الأول، وهو أن تقول: لا تعارض بين العام والخاص، الأصل العام أن المقدم للجنايات ويعني إذا جني مثلاً على العين كلها فيها دية واحدة مع أن منفعة الإبصار تابعة للعين، ومع ذلك لم تجب ديتها، لم نقل: إن الإبصار منفعة، ثم لم نجزئ مثلاً الحاجب؛ الجفن الأعلى فيه ربع الدية، والجفن الأسفل فيه ربع الدية، والرموش كذلك العليا فيها الربع، والسفلى فيها الربع، ومع ذلك تجب دية واحدة، وهنا نقول: تجب أكثر من دية، والجواب أننا نقول: الأصل عندنا أنها تتداخل، لكن جاء قضاء عمر فاستثنى من الأصل، وهذا منهج أصولي لا تستطيع أن تتكلم فيه؛ لأنك لو اعترضت عليه عارضتك التخصيصات في الشريعة، لأنك تقول بها وتعتبرها، فهذا شيء مألوف في الشريعة أنه يجعل شيئاً عاماً ثم يستثني أشياء خاصة.
الوجه الثاني: أن يقال -وهو أقوى-: أن المستقل ليس كالتابع، فالمستقل لا يأخذ حكم التابع، والجناية المستقلة تأخذ حكم الاستقلال ولا يلتفت إليها تابعة لغيرها؛ لأن الله أعطى كل شيء حقه وقدره، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] فالنبي صلى الله عليه وسلم أحل لـ كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه أن يحلق رأسه وأن يفتدي مع أن الأصل لو أن شخصاً وقعت منه الجناية على الأعضاء سواء كان في ضمان حق الله عز وجل كما في الفدية، أو في ضمان حق المخلوق كما في الديات فإننا نوجب عليه التبعية؛ لأن التابع تابع لكن إذا جنى في الجناية فهناك منهج للشريعة وهي معاقبة الجاني، فإذا قلت: إذا أتلف هذا الشيء وجبت عليه دية واحدة، فحينئذ هذا يخالف أصل الباب؛ لأنه جنى على سمعه، فهذه جناية مستقلة، وجنى على بصره، وهذه جناية مستقلة، وجنى على عقله، وهذه جناية مستقلة، أرأيت لو أن شخصاً هجم على بيت فيه ثلاثة أشخاص، فضرب أحدهم فأصمه، والثاني أخرسه، والثالث أصبح مجنوناً، ألا توجب على الجاني ثلاث ديات، تقول: نعم، هذا الأصل، نقول: لماذا؟ تقول: لأن كل فعل له حقه وقسطه، نقول: ما دام أن كل فعل في شرع الله له حقه وقسطه متفرقاً، كذلك أيضاً له حقه وقسطه مجتمعاً وهو تعظيم للأنفس، يعني منهج للشريعة في الجنايات وحينئذ لا يستشكل الإنسان، لأنه حين اعتدى على السمع نعاقبه عقوبة من اعتدى على السمع مستقلاً، والسمع بذاته له حقه دية كاملة، والبصر كذلك، والعقل كذلك، وهذا لا إشكال فيه، حينئذ نقول: هذا قصد الشريعة، والشرع له أن يقول: دية الإنسان كاملة إذا جنى عليه كاملاً فيكون السمع والبصر تبعاً؛ لأنه ما فقأ عينه، ولو أنه جاء وفقأ عينه فأعماه، ثم ضربه على أذنه فأصمه، ثم قتله وجبت عليه ثلاث ديات، وليست دية واحدة، وهذا الذي أردنا: أن الشريعة تريد كل جناية لها حقها وقدرها، لكن لو أنه قتله فعطل جميع هذه الحواس لا نقول: إن عليه عشر ديات، هذا أمر واضح، يعني: في حالة الجناية كل شيء فعله يؤاخذ عليه، فلما قتل النفس جاء غيرها تبعاً، كما لو جنى على العين فاقتلعها فأصبحت الرموش والشعر والجفن تبعاً، فحينئذ لا يوجد ضمان إلا بنصف الدية مع أن كل واحد من هذه الشعور فيه ربع الدية، فالرمش الأعلى فيه الربع، والأسفل فيه الربع، ثم الجفن الأعلى فيه الربع، ثم الجفن الأسفل فيه الربع، هذه تكملة الدية، ثم العين نفسها فيها نصف الدية لكن هذا كله تبع، فإذا جنى على النفس فقتله وجبت دية كاملة؛ لأنه جنى على النفس فأصبح غيرها تبعاً، لكن لو أنه قبل جنايته على النفس فقأ عينه أو قلع عينيه، أو أصمه، أو أخرسه أو -والعياذ بالله- ضربه حتى جن، أو سقاه سماً حتى أصبح مجنوناً ثم قتله واعتدى عليه، فجنايتان وليست بجناية، وحينئذ لا يقال بالاندراج والتبعية؛ لأنه ينبغي أن يعاقب على كل جناية وجريمة فعلها، وهذا الجواب أشبه وأقوى، وحينئذ نقول: إنه لا تعارض، ففي حالة الجناية على النفس جنى على شيء واحد وهو النفس، وحصلت الجناية على الحواس تبعاً، فبتعطيل النفس تعطلت الحواس وجاء ذلك تبعاً ولم يأت استقلالاً، وعندنا هنا جاء استقلالاً فوجب أن يعاقب على كل جناية بحقها وقدرها، والله تعالى أعلم.(365/15)
حكم التنازلات التي يوقع عليها المرضى لإخلاء مسئولية الطبيب
السؤال
يطلب الأطباء من بعض المرضى التوقيع على أوراق تخلي مسئوليتهم عن أي خطأ منهم، أو حالة وفاة، أو أي أمر آخر، فهل يعتبر بذلك، وما الحكم أثابكم الله؟
الجواب
من حيث الأصل هناك شيء يسمى: التنازل؛ إذا الشخص قال: افعل لي هذا الأمر وأنا متنازل عن حقي، هذا من ناحية شرعية إذا كان عاقلاً عنده شعوره فلا إشكال، بشرط أن يكون الذي طلبه من الفعل مأذوناً به شرعاً، يعني: أن تكون هذه العملية ليست بخطرة، والغالب فيها السلامة، لكن لو الغالب فيها الهلاك وقال له: افعلها لي، قال له: يا أخي! الغالب أن تهلك، فقال: افعلها لي، فهذا لا شك أنه لا يجوز له أن يقدم على هذه العملية الجراحية إذا كان غالبها الهلاك، وقدر الأطباء وعرف بالاستقراء والتجربة أنها تهلك، وقد بينا هذا في شروط جواز الجراحات الطبية أنها لا تجوز؛ لأن هذا من الإقدام على التهلكة، وقد أذن الله بالجراحة إذا كانت نفعاً لا إن كانت ضراً، والظنون الفاسدة هي النسب الضعيفة المرجوحة، ولا تلتفت إليها الشريعة الإسلامية، ولذلك الحكم للغالب، والنادر لا حكم له، فكما حكمنا بجواز هذه الأعمال عند غالب السلامة نحكم بعدم جوازها عند غالب الهلاك، وحينئذ نقول: إذا أذن له بفعل عملية جراحية أو أمر لا محظور فيه والغالب فيه السلامة فإنه لا يضمن الطبيب، أيضاً بشرط أن يكون تطبيق الطبيب للعمل الجراحي أو لطبه أو الدواء الذي صرفه للمريض موافقاً للأصول المعتبرة عند الأطباء، فإن خرج الطبيب عن هذا تحمل المسئولية ولا يعتبر معفياً؛ لأن المريض إنما أذن له بالمعروف عرفاً ولم يأذن له بغير المعروف، وحينئذ يكون الإذن مقتضياً للإباحة إذا سرى على وفق المتبع عند الأطباء.
إذاً: المسألة تحتاج إلى تأصيل؛ وهو: أن المريض لا يجوز أن يقدم على عمل شيء بجسم الإنسان بإذن الإنسان، إذا علم أن هذا العمل مفسدة ولا يجوز شرعاً، ويكون الطبيب في هذه الحالة متحملاً للمسئولية، وهي مسئولية أخلاقية؛ لأن المسئولية الأخلاقية منها ما يرجع إلى إذن الشرع، ومنها ما يرجع إلى الأخلاق من خلف المواعيد والصدق ونحو ذلك، فالمسئولية الأخلاقية الراجعة إلى الشرع أنه لا يجوز له أن يقدم على هذا العمل إذا كان غالبه الهلاك، ويعلم أن المريض إنما يقتل نفسه أو يتلف عضوه أو نحو ذلك.
فهذا الإذن منه لا يسقط معاقبة الطبيب، ولو رفع الأمر إلى القاضي فالقاضي يعاقبه؛ لأنه خرج عن مهمته الأصلية، وكذلك اشترط أن يكون الطبيب من أهل العلم والمعرفة، فلو قال له مثلاً: اعمل لي عملية، وهي عملية جراحية صحيحة، والغالب فيها السلامة، ولكن هذا الطبيب لا يعمل هذه العملية، كأن يكون طبيب آذان وقال له: اعمل لي عملية في العيون، فهذا ليس من تخصصه وليس من مجاله، فحينئذ يكون من التطبب، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عند ابن ماجة: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) فالشاهد من هذا أن إسقاط المسئولية ليس على كل حال.
يبقى النظر في مسألة وهي: هل يجوز للأطباء أن يحرجوا الناس ويقولوا لهم: لا تدخلون إلا بعد أن توقعوا.
هذا الأمر يحتاج إلى نظر وبحث؛ لأنه ليس من حق الطبيب؛ لأن الطبيب مأمور شرعاً بإنقاذ هذه الأنفس، ولا يستغل حاجة المريض من أجل إسقاط التبعية عنه عند تقصيره، فالطبيب إذا قصر يؤاخذ بتقصيره حتى ولو وقع المريض؛ لأن المريض وقع على أن الطبيب يقوم بواجبه، والمشكلة أن البعض يظن أنه بهذا التوقيع أصبح الطبيب لا ضمان عليه والواقع أن عليه الضمان إذا خرج عن الأصول المتبعة عند الأطباء وخالف المجال الذي يعمل به أو نحو ذلك من الأمور التي كان ينبغي عليه أن يراعيها، فعلى كل حال: لا ينبغي إحراج الناس بإسقاط حقوقهم، وثانياً: لو أن قاضياً رفع إليه هذا الأمر وكان المريض محتاجاً إلى هذا العمل والطبيب أحرجه بهذا التوقيع؛ فمن حقه أن يعتبره نوع من الإكراه بحيث لم يوجد إلا هذا الطبيب فقال له: لا أفعلها لك إلا إذا وقعت على هذا، فهذا نوع من الإكراه بإسقاط الحق، وحينئذ تكون هناك شبهة في تنازل المريض، ومن الشبه التي تسقط التنازل: وجود الإكراه أو شبه الإكراه، لأنه جعله بدون محض اختياره، يعني: لم يعطه اختياراً وإنما حاجته إلى النجاة، وإلى التخلص من الألم فإنه لا يخفى على أحد من الناس ما يتعرض له المريض من الأذية والضرر عند وجود العاهات والأمراض عافانا الله وإياكم منها ورزقنا وإياكم السلامة، فهذا كله يعتبر من أنواع الإكراه، كأنه محرج ومضطر، وقيل له: نجاتك في هذا العمل، فأصبح مستعداً أن يقول للطبيب: لست مسئولاً، وأن يوقع له ما يشاء، لكن هذا كله يحتاج إلى نظر وإلى بحث، ومرد هذا كله إلى القضاء، والأصل الشرعي يقتضي أن التنازل معتبر إذا كان على السنن الشرعي، والله تعالى أعلم.(365/16)
حكم تكرار الإمام للآيات في الصلاة
السؤال
هل يجوز للإمام أن يكرر بعض الآيات وذلك لتفكير المصلين أو التأثير فيهم أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: إذا كان الإمام يكرر الآية من شدة الحزن والتأثر والخشوع فهذا اغتفره بعض العلماء رحمهم الله.
ولكن إذا كان يكرر الآية وهو لم يتأثر ذلك التأثر، وكأنه يتهم الناس بالغفلة ويحاول أن يذكر غيره، وهو أبعد الناس عن التذكير، فهذا نبه بعض العلماء على أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن السنة أن يقرأ بدون تكرار.
أما إذا كان صادقاً في خشوعه، صادقاً في تأثره، وقد وصل القرآن إلى شغاف قلبه وسكن في فؤاده، وبلغت الآية مبلغها فأصبح يرددها يذوق حلاوتها ويؤثر في الناس بذلك الأثر فلا بأس، قيل: إن عثمان رضي الله عنه قام يتهجد من الليل واستفتح قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] فما زال يكررها وهو يبكي حتى انبلج عليه الفجر وأصبحت وتره، وهذه أحوال بعض الناس إذا صدقوا، ولا شك أن الخاشع الصادق في خشوعه ليس بغريب عليه ذلك.
وأما التكلف والتشدد في هذه الأشياء وكل ما قرأ يحاول أن يكرر آيتين أو ثلاثاً في أي سورة يقرؤها أو أي مقطع يقرؤه، فالذي أراه تحري السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم للقراءة المسترسلة، وإعطاء القرآن حقه بمتابعة القراءة، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ في صلاة الصبح وسمع نشيجه من البكاء، وهذا من الغالب؛ لأن الخشوع غلبه، لذلك كان يبكي رضي الله عنه خاصة حينما بلغ قوله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:84 - 86] فما زال رضي الله عنه يكررها حتى أبكى الناس، وهذا خشوع الصادقين، خشوع المتأثرين الذين صدقوا مع الله عز وجل في سرائرهم وزكى الله سريرتهم وعلانيتهم، وللخاشعين الصادقين في الخشوع دلائل واضحة في قلوب الناس إن خطبوا أو أموا أو صلوا أو وعظوا؛ لأن الله لا يغش عباده، فما من عبد يسر سريرة يصدق فيها مع الله إلا صدق الله معه، ولذلك تجد الصادق إذا قرأ آية وتأثر بها والله يعلم أنه خاشع فيها تبلغ هذه الآية مبلغها، وكان أئمة السلف ومن بعدهم من الخلف من الصالحين يخفون الخشوع ويخافون الرياء، ويخافون اغترار الناس بهم، وكنا نذكر بعض مشائخنا من إذا خلا في قيامه في الليل تسمعه يبكي بكاء الطفل، وإذا جلس أمام الناس وورد شيء يؤثر عليه فيحاول أن يخفي شيئاً كثيراً من ذلك، وذات مرة سألت بعضهم، فقال: أخشى أن يتكلف بعض الحاضرين الخشوع فيهلك، والخشوع أمره عظيم، والله الذي يُقرأ القرآن بين يديه ويقف الإمام بين يديه أجل وأحق من عبد، وينبغي على الإنسان أن يصدق مع الله، وأن يخاف الله جل جلاله، وألا يكرر القرآن إلا وهو صادق التأثر، وتكون قراءته قد خرجت من قلبه فذلك أصدق وأبلغ.
ولا شك أن الناس بحاجة إلى من يذكرهم الله، وما شرعت الصلاة الجهرية إلا وفيها الخير العظيم والبركة العظيمة من سماع كتاب الله عز وجل، فالله أعلم كم من قلوب اهتدت، وكم من قلوب خشعت وعيون دمعت، وكم من نفوس استقامت على منهج ربها وطاعة خالقها حينما سمعت آيات ربها ممن صدق في تلاوتها، الله أعلم كم من أناس خشعوا وخضعوا وصدقوا، وأرادوا وجه الله عز وجل، وابتغوا ما عند الله في تحبيب عباد الله وتقريبهم لله سبحانه وتعالى، وتعريفهم لله جل جلاله، فتلوا الآيات حق تلاوتها، وتأثروا بها، ومن الأئمة من يقرأ المقطع الذي يريد أن يقرأه على الناس، فلا تسكن له عين من دمعة ولا يفتر له قلب من خشوع خالياً فيما بينه وبين الله، فيتلوها ويتأثر فيما بينه وبين الله عز وجل، ومن الخطباء والوعاظ والمحاضرين ومن الموجهين والمعلمين من إذا أراد أن يعظ أو يحاضر أو يخطب تدبر ماذا يقول، وعرض قلبه عليه وقالبه على ذلك، وتأثر به في نفسه فرآه ربه وعلمه ربه خاشعاً متخشعاً صادقاً في خشوعه وتذلّله لربه، فلما خرج إلى الناس وخرجت كلماته موعظة للناس أسكنها الله في القلوب وهز بها المشاعر وأصغى لها الأذان، {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] أولئك الذين صدقوا وأولئك الذين خشعوا فلم ينافقوا ولم يراءوا، وهان عليهم الناس أمام عظمة رب الجنة والناس، وأن الواحد منهم ليصلي بالناس فيقرأ من كتاب الله جل جلاله ما تخشع له الجبال وتهتز له المشاعر والقلوب، فإذا به يخشع ويتخشع ويبكي ويدمع صادقاً لربه، ثم يتمنى بعد صلاته أن لو كان هذا بينه وبين الله لم يره أحد، فلا يفرح أن الناس اطلعت، ولا يفرح أن الناس خشعت، ولا يسأل: هل الناس تأثرت؟ على خلاف من دخله الدخن فتجده يخطب الخطبة ثم يبحث ما هو أثرها وما وقعها، ثم يدخل عليه هذا ويقول له: صار لها موقع وصار لها كذا، فلا يزال الشيطان يأخذ من قلبه الشعبة تلو الشعبة حتى ينصرف القلب كله عن الله، فعندها لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك.
وعلى كل تال لكتاب الله وكل واعظ وكل إمام وخطيب وكل موجه وكل مربٍ وكل معلم أن يجعل الله نصب عينيه، وأن يعلم أن ما عند الله أسمى وأعلى وأزكى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17] الله أكبر! لو أن النفوس أيقنت وتعقلت وفقهت، ولو علمت من تعامل ولمن تذل وتخضع؟ لو علمت أن اللحظة بل لربما طرفة عين من خشوع صادق لربما رضي الله عن عبده رضاً لا سخط بعده أبداً، ولو علمت أن هذا الرب الكريم لربما نظر إلى عبده في مقام ذل وانكسار، فجعله في كرامة لا مهانة بعدها أبداً، فكم من عين دمعت حرمها الله على النار! وكم من قلوب خشعت تكفل الله أن يسعدها فلا تشقى أبداً.
يعامل الإنسان ربه، ويعلم أن الإمامة في الدين، وأن التقدم والتصدر والتوجيه والموعظة ليس من أجل أن يجتمع حوله الناس أو ترمقه الأبصار، أو تخطفه الأنظار، ولا أن يتحدث به الناس، إنما المراد أن يذكر في الملأ الأعلى راضياً مرضياً عنه من الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً من عباده ... ) يكون الإنسان إماماً فيحبه الله في إمامته، ويكون خطيباً فيحبه في خطابته، ويكون طالب علم فيحبه في طلبه للعلم، ويكون عالماً فيحبه الله في علمه، ويكون مفتياً قاضياً في أي أمر من أمور الطاعات، حتى يكون رب أسرة رحيماً بأولاده رحيماً بزوجه واصلاً لرحمه، فتكون خصلة من الخصال الموجبة له للزلفى والوسيلة عند الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] فجعلها وسيلة إليه من الأعمال الصالحة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً من عباده ... ) اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك أن تجعلنا ممن أحببت، اللهم اجعلنا ممن أحببته وناديت فيه جبريل (يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه) فإذا نادى الله عز وجل: يا جبريل! ارتجت السموات فقال (.
يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فينادي جبريل: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه ... ) ينادي باسم الإنسان في السموات وهذا هو الشرف، وهذه هي الكرامة والعزة، وهذه هي الرفعة، وهذا هو المجد والسؤدد، وهذه هي الغاية التي وراءها جنات عدن التي فيها النعيم المقيم (إني أحب فلاناً فأحبه) لكن ليس بالتشهي ولا بالتمني، ولا بالهوى ولا بالمبالغة، ولا بالتصنع للناس ولا بالتزلف، ولا بالنفاق ولا بالرياء، بل بحقائق أمور صادقة؛ لأن الله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيباً (إني أحب فلاناً فأحبه، فينادي جبريل: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) فإذا كان إماماً قبلت إمامته، ورضي الله عن إمام قبلت إمامته، فإن خشع قبل خشوعه، وإن خضع قبل خضوعه، وإن أمر وضع الله القبول لأمره ونهيه ووعظه، هكذا كان الصالحون، وهكذا يمضي بعدهم الأخيار والمتقون، هكذا وإلا فلا.
معاملة مع الله صادقة نظيفة زكية، يرى العبد ما يقدمه لربه قبل أن يكون في قوله وعمله، وقبل أن يتكلم، وقبل أن يعمل، يرى ما الذي يقدم لله جل جلاله، أيقدم له شيئاً مليئاً بالرياء والنفاق، ومحبة المدح والثناء؟ ماذا يفيدك الناس إن غضب عليك رب الجنة والناس؟ إن العبد في منزلة لو سخط عليه أهل السموات والأرض ما استطاعوا أن ينزلوه عنها شعرة إلا بإذن الله جل جلاله، وإن العبد في منزلة إذا رضي الله عنه لو أطبق الخلائق كلهم على أن ينزلوه منها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وذلك الذي عناه الله بقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4].
فعلى الإمام إذا أراد أن يؤثر في الناس أن يعلم أن التأثير ليس بتكرار الآيات، وليس التأثير أن نشتغل بالتأثير في الناس قبل أن نؤثر في أنفسنا، وليس التأثير في الناس بتنميق العبارات وتجميل الكلمات وتحبير الخطب، إنما التأثير أسرار بين الأبرار والواحد القهار، جن عليه الليل وأضاء عليه النهار، أسرار في القلوب لا يعلمها إلا الله جل جلاله، هكذا عاش السلف الصالح؛ بالإخلاص والإحسان واليقين وإرادة وجه الله عز وجل {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19] هذا الشرط، ولا إيمان إلا بإخلاص وتوحيد، ولا إيمان إلا بمعرفة أسماء الله وصفاته ومعرفة من هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وإذا عرف العبد ربه استجمع جميع ما يملك مما بين يديه وخلفه، وفوقه وتحته كله لمرضات الله سبحانه وتعالى.
فنسأل الله العظيم رب(365/17)
شرح زاد المستقنع - باب ديات الأعضاء ومنافعها [3]
أنواع الشعر في الإنسان أربعة: شعر الرأس، وشعر اللحية، وشعر الحاجبين، وشعر الأهداب، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الشعور: هل هي موجبة للدية أو موجبة للضمان بالحكومة، كما جاء عن أهل العلم التفصيل في الدية إذا كان الجاني أو المجني عليه أعور العين.(366/1)
دية الشعور
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وفي كل واحدة من الشعور الأربعة الدية].
شرع في بيان أحكام الاعتداء على شعر الإنسان، سواء وقع الاعتداء على شعر الرأس، أو وقع الاعتداء على شعر اللحية، أو على شعر الحاجبين، أو على شعر الأهداب؛ فهذه أربعة شعور في الإنسان يعتدى عليها فتزول ولا تعود، وتكون الجناية موجبة لذهاب الشعر، فلا ينبت شعر الرأس ولا شعر اللحية، ولا ينبت شعر الحاجبين ولا شعر الأهداب، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: إذا اعتدي على الشعر على هذا الوجه في المواضع الأربعة التي ذكرها، هل هي موجبةٌ للدية أو موجبةٌ للضمان بالحكومة؟ في ذلك خلافٌ بين العلماء رحمهم الله، فاختار الحنفية والحنابلة ومن وافقهم القول بوجوب الدية، وهو محفوظ عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قضى بذلك، وكذلك أيضاً دلّ عليه دليل النظر الصحيح، فإن في كل واحدٍ من هذه الشعور الأربعة جمالاً للإنسان وزينة، كما أن في ذهابه ضرراً عظيماً وتأذياً، ولذلك أوجب العلماء رحمهم الله في الأنف الدية، مع أن شاخص الأنف، وهما المنخران والمارن كما تقدم معنا ليس فيهما منفعة الشم، وإنما فيهما الجمال، وبذهابهما وجبت الدية، والأذن كذلك تجب فيها الدية مع أن السمع يكون بداخل الأذن وليس بالصوان الخارجي، وقد بينا وجه وجوب الدية في ذلك كله، وذكرنا المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقتضي الضمان، فهذا أصل شرعي يدل على أن الديات لا تنحصر في الأعضاء التي فيها المنافع، وإنما تشمل أيضاً الزينة، وقوى أصحاب هذا القول مذهبهم لهذا الوجه، وعليه فإنه لو أضر بشعر المجني عليه فسقط بسبب الجناية والاعتداء أو بسبب الخطأ فإنه يجب عليه دية كاملة في كل واحدٍ من هذه الشعور الأربعة.(366/2)
دية شعر الرأس
قال رحمه الله: [شعر الرأس] نبدأ بشعر الرأس، من أكثر ما تقع هذه الجناية في الطبيب إذا أخطأ في العلاج، أو أعطى دواءً تساقط معه الشعر، وهو في هذه الحالة لا يخلو إما أن لا ينبت الشعر بالكلية، وقرر الأطباء أنه لا أمل في رجوعه، فحينئذ الدية كاملة على الوجه الذي ذكرناه من قول أهل العلم رحمهم الله وهو أشبه بالأصول وأقواه.
ثانياً: أن تكون الجناية موجبة لذهاب بعض الشعر دون البعض، فحينئذٍ إذا كانت مما يتشطر مثل الحاجب لكن الرأس لا يتشطر، فإذا أتلف شعر أحد الحاجبين فإن عليه نصف الدية، وكذلك إذا أتلف أحد الأهداب الأربعة وهي الرموش، الرمش الأسفل من العين اليمنى، والرمش الأعلى منها، وكلاهما من اليسرى، فلو أتلف واحداً من هذه الأربعة فعليه ربع الدية؛ لكن لو أنه جنى عليه جناية أذهبت نصف شعر رأسه، فهل يتشطر أو لا يتشطر؟ المعمول به عند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه يتشطر، وتكون الدية بحصته، فإن أتلف نصف شعر رأسه قالوا: يتشطر، وهناك وجه أن فيه حكومة بتقدير الجناية؛ لأن الشعر في الأصل يتساقط من رأسه لكن هذا لا يخلو من نظر، كذلك أيضاً لو أنه جنى عليه جناية وسقط شعر رأسه أو أخطأ الطبيب في العلاج فأسقط شعر الرأس، لكن نبت شعر الرأس بعد ذلك فإنه لا دية، إلا أنه في هذه الصورة لو حصل ضرر في موضع الشعر مثل ما يقع والعياذ بالله في جناية الاعتداء العمد، مثل أن يصبّ على رأسه حارقاً أو أسيداً، وفي بعض الأحيان تكون الجناية مذهبة للشعر فلا إشكال، لكن لو أنها أذهبت الشعر ثم عاد الشعر، لكنها أحدثت ضرراً في الموضع، فالشعر ليس فيه شيء، لكن موضعه فيه تشوه أو فيه ضرر، فحينئذٍ يقدر حكومةً بمعنى أننا ننظر، وسيأتي إن شاء الله بيان ما هو الحكم وما هو الأصل فيها.
المقصود: أن الجناية على شعر الرأس إذا أتلف الشعر كاملاً ففيه الدية يتشطر لبعضه، ويبقى النظر إذا جنى عليه فنبت الشعر، وكان تشوه في الخِلقة، فإنه حينئذٍ يقدر ذلك التشوه بحصته ويعطاه على سبيل الحكومة.
قال: [وهي شعر الرأس].
وهي: بيانٌ للأربعة، وهي شعر الرأس، والرأس من التراوس وهو العلو، والمراد به الشعر الذي ينبت على رأس الإنسان ذكراً كان أو أنثى، يعني هذه الدية لا تختص بالإناث وهن أكثر تضرراً؛ لأن هذه الشعور الأربعة منها ما يختص بالذكور كاللحية ومنها ما يشمل الجنسين كبقية الشعور.
ففي هذه الحالة إذا جنى على شعر الرأس فإنه تجب عليه الدية، سواء كان المجني عليه ذكراً أو كان أنثى، وسواء كان الشعر طويلاً أو كان قصيراً، أو كان ملفوفاً مثلاً، الأصل يقتضي أن عليه الدية كاملة بإتلاف هذا الشعر، وحينئذٍ إذا كانت الجناية عمداً فلا إشكال، وهناك أصل قررناه في مسألة القصاص، بحيث أنه لو فعل به فعلاً يمكن أن يفعل به مثله، أو سقاه دواء يسقط الشعر وهذا الدواء من خاصيته أنه يسقط الشعر، فاعتدى عليه وسقاه هذا الدواء، وهذا الدواء يمكن أن يقتص بالفاعل بمثله، فإنه يسقى نفس الدواء حتى يتساقط شعره كما تساقط شعر المجني عليه.(366/3)
دية شعر اللحية
قال رحمه الله: [واللحية].
اللحي: هو العظم الذي هو فك الإنسان، ومجمع اللحيين: هو الذقن، فاللحية تنبت على هذا العظم، ولذلك مبتدؤها من طرف عظم الصدغ، الذي هو ابتداء اللحي وتقيدت به، وكان ابن عباس رضي الله عنهما في الحج والعمرة إذا أراد أن يحلق رأسه أمر الحلاق أن يقف عند العظمة، وهذه العظمة تفصل بين الشعرين؛ الممسوح والمغسول، وتفصل بين المأذون بحلقه وغير المأذون بحلقه، فاللحية في الأصل ما نبت على اللحي -العظم- وللعلماء فيها وجهان: من أهل العلم من يقيدها بهذا الموضع، ولذلك يجيز أخذ ما نبت على الخد والوجنة ويقول: هذا ليس من اللحية، وإنما أُمِر باللحية وهي ما كان على اللحي، وقال أصحاب هذا القول: ما كان أسفل من اللحي، وهو مما يلي الرقبة يجوز أخذه وحلقه؛ لأنه ليس من اللحية، فتقيدت اللحية عندهم بما نبت على اللحي، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإرخاء اللحى كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح وغيره، فيقولون: إن اللحية تتقيد بهذا الموضع، ومجمع اللحية وهو الذقن: العظم أسفل الفم، ويرون أن العنفقة والمسربة لا تدخل في اللحية، وقد أثر عن بعض الصحابة أخذهم من نفس المسربة، والذي يهمنا الآن هو الشعر الذي على اللحيين.
وهناك وجه ثان يقول: إن ما قارب الشيء أخذ حكمه، واللحية تشمل في الأصل ما نبت على اللحي، وما نبت على الوجنة آخذٌ حكم اللحية؛ لأن ما قارب الشيء فهو آخذ حكمه، وهذا لا شك أنه أحوط وأسلم لكن لا ينكر على من أخذ من شعر وجنته أو أخذ من جهة رقبته؛ لأن له وجهاً، وهناك من أهل العلم ومن أجلاء أهل العلم من يقول بهذا القول، خاصة وأن ظاهر اللغة فيه وجه لهذا.
الشاهد من هذا: أن تحديد اللحية على هذا الوجه يشمل ما نبت على أسفل اللحي دون ما يلي الرقبة، فلو سقاه دواءً أسقط لحيته فإنه في هذه الحالة يجب ضمان هذه اللحية بدية كاملة على الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله، وهذا النوع من المضمونات يختص بالرجال دون الإناث، فالمرأة اللحية ليست لها زينة، وقد قررنا أن الأصل في الضمان لهذه الأشياء إنما هو وجود الزينة، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: سبحان من زين الرجال باللحى.
فهي زينة من الله سبحانه وتعالى، والأصل عدم جواز حلقها، فإذا اعتدى عليها بدواء أو اعتدى عليها عمداً فإنه لا قصاص في هذه الحالة؛ فهذا مانع شرعي؛ لأن المانع يكون مانعاً حسياً من جهة كونه يوجب الزيادة فينتفي القصاص، وكونه مانعاً شرعياً؛ لأنه مأمور بترك هذا الموضع، في هذه الحالة يجب عليه ضمان الدية كاملة، لكن لو أنه أسقط بعض شعر اللحية، ففيه الوجه الذي ذكرناه في التقسط؛ أنه يتقسط بقدر جنايته.(366/4)
دية الحاجبين
قال رحمه الله: [والحاجبين].
والحاجبان: مثنى حاجب، وهو في الأصل: الشعر الذي ينبت على العظم فوق العين، سواء اتصل الحاجبان أو انفصلا؛ ولذلك جاء في النمص وهو: نتف شعر الوجه الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، وأكثر ما يقع في النساء، ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن النامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، المتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، فلا يجوز الاعتداء على هذا الشعر، حتى ولو اتصل الحاجبان؛ لأن سر المنع وورود اللعن هو عدم الرضا بخلقة الله عز وجل، فإذا خلق الله الحاجب متصلاً وجاءت هي تفصله فقد غيرت الخلقة ولم ترض بقسمة الله، ولذلك ورد اللعن على هذا؛ لأن هناك أفعالاً قد تكون أخف، لكن لما اتصل أمر هذا الفعل بالعقيدة وهو عدم الرضا بخلقة الله عز وجل والاعتداء عليها؛ ولذلك جاء في آخر والحديث: (المغيرات خلق الله)، فرجع الأمر إلى الاعتقاد، فمن نمصت شعر حاجبها سواءً فيما كان بين الحاجبين لكي تفصل الحاجبين أو كان ترقيقاً للحاجب بعد أن كان عريضاً ونحو ذلك فيشملها.
الحاجبان إذا اعتدي عليهما، أو مثلاً وقع حادث فحصلت منه جروح وحصل منه ضرر على شعر الحاجبين حتى قُلِع الشعر ولم يعد ذلك الشعر وجبت الدية، وإن حصل الضرر على أحد الحاجبين، تقسطت الدية بقسط ذلك وهو النصف، وهذا يشمل الرجال والنساء؛ لأن الحاجبين زينة في الرجل وزينة في المرأة أيضاً.(366/5)
دية شعر أهداب العينين
قال رحمه الله: [وأهداب العينين].
والمراد بها الشعور التي تنبت على الجسم الأعلى والأسفل من كل عين، فالعينان لكل واحدة منهما جفنان، فأصبحت الأهداب أربعة؛ وهو الذي يسمى: الرمش، فلو سقاه الطبيب دواء خطأ حتى تساقط شعر العين -الرمش- فإنه يجب عليه ضمان ذلك بالدية كاملاً: إن كانت الجناية في العينين فتكون كاملة، وإن كانت الجناية في عينٍ دون أخرى وجب عليه النصف، وإن كان في جزء العين وهو شعر الجفن الأعلى أو شعر الجفن الأسفل فبقسطه وهو ربع الدية؛ لأنها أربعة، فتتقسط الدية وتقسم على أربعة، فكل واحد من هذه الشعور الأربعة إذا جُني عليه فإن فيه ربع الدية، وهذا يخالف به شعر الرأس كما قدمنا، ويشمل الرجال والنساء على حد سواء.(366/6)
سقوط دية الشعر إذا نبت
قال رحمه الله: [فإن عاد فنبت سقط موجبه].
ليس خاصاً بشعر الأهداب، فليس قوله: (فإن عاد) يعود إلى آخر الكلام، وإنما المراد: إن عاد الشعر في هذه المواضع التي ذكرناها سقطت الدية، وإن عاد الشعر في حاجبٍ سقطت نصف الدية، وإن عاد الشعر في أحد الرموش سقطت ربع الدية، فلو اعتدى على رمش منها فعاد الشعر أو قال الأطباء: سيعود.
ننتظر حتى تمضي المدة التي قرروها للعود، فإن عاد فإنه تسقط الدية، ولو أخذ الدية ثم عاد شعره وجب عليه ردها.(366/7)
مقدار دية عين الأعور
قال رحمه الله: [وفي عين الأعور الدية كاملة].
قضى بهذا عمر وعثمان وعلي من الخلفاء الراشدين، وقضى به من الصحابة أيضاً عبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع: أن الأعور في عينه الدية كاملة؛ لأنه حينما فقد العين الأخرى قامت منافع العينين في عين واحدة، سواء كان ذلك العور خِلقةً أو جناية أو مرضاً، فقالوا: إن الاعتداء عليها يوجب الضمان بدية كاملة، وهناك قول ثان: أن فيها نصف الدية وهو من حيث الدليل إعمالاً للأصل، لكن قضاء هؤلاء الخلفاء الراشدين، لا شك أن له وجهاً ومعناه صحيح؛ لأنه انتقلت منافع العين الثانية إلى منافع العين الباقية، وتجده في عينه أكثر مصلحة من العين المعتادة، ومن هنا ورود هذا عن هؤلاء الصحابة الخلفاء المأمور باتباع سنتهم جعلوا كان قول الإمام أحمد رحمه الله وطائفة من أئمة السلف بهذا لوروده عن هؤلاء الخلفاء ولزوم اتباع سنتهم.(366/8)
حكم الأعور إذا قلع عين الصحيح
قال رحمه الله: [وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمداً فعليه دية كاملة ولا قصاص].
إذا جنى الأعور على صحيح العينين فقلع عينه اليمنى عمداً فعليه الدية كاملة؛ لأنه في الخطأ تجب نصف الدية ولا إشكال، لكن لو أنه اعتدى على مثل عينه، كأن تكون العين الباقية عنده هي اليمنى فقلع عين خصمه اليمنى عمداً وعدواناً، فالأصل يقتضي أن يقتص من عينه اليمنى، على مذهب طائفة من العلماء، قالوا: لأنه اعتدى، والله أمرنا بالقصاص، فيجب أن نقلع عينه كما قلع عين غيره؛ لأنه هو الذي تسبب بالضرر على نفسه وهو الذي رغب لنفسه بهذا، وذلك بالاعتداء عمداً وعدواناً على أخيه المسلم، وقد أُثر عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قضيا في هذا، لكن قالوا: لو أن المجني عليه قال: لا أريد القصاص أريد الدية، يعني: أريد العوض، فللعلماء وجهان: من أهل العلم من قال: يبقى الأصل، وهو نصف الدية؛ لأنه قلع عيناً واحدة ولم يقلع عينيه، ولا يمكن أن نقول: إن عليه الدية كاملة وعينه الثانية باقية، لكن الذين أوجبوا الدية وهم الحنابلة وطائفة من أهل العلم، قالوا: لأنه فدى عينه، يعني: المفروض أن تُقلع عين الأعور، فإذا عدل إلى الدية فقد فدى عينه، فيجب أن يفدي بدية كاملة، ولذلك قالوا: الغنم بالغرم، كما أسقط الضمان عنه، وهذا من فقه الصحابة رضوان الله عليهم، وفيه إعمال للقاعدة التي ذكرناها: الغنم بالغرم، فهنا يغرم دية كاملة؛ لأنه نزلت عينه منزلة تلك العينين، بدليل أن عمر لم يقتص منه، فقالوا: لما سقط عنه القصاص كان واجباً عليه أن يضمن عينيه بالدية كاملة، فله الغنم بإسقاط القصاص عليه، هذه غنيمة ونعمة وخير له، وأيضاً عليه الغرم إن فدى هذه العين التي أنجته من القصاص أن يفديها بدية كاملة.
هذا من حيث الأثر ومن حيث النظر، وهذا مذهبهم وهو الأصل الذي اعتمدوه.
والذين قالوا: إنه لا يجب إلا نصف الدية، مذهبهم أقعد بالدليل وأعمل للأصل.
قال: [ولا قصاص].
كما ذكرنا(366/9)
دية قطع يد الأقطع
قال رحمه الله: [وفي قطع يد الأقطع نصف الدية كعين].
قالوا: لأنهم بقوا على الأصل فلا إشكال؛ لأن تلك فيها أقضية عن الصحابة فاستثني، والفقه أن تجري المسائل على الأصول الواردة في الشرع: وهي أن اليد الواحدة فيها نصف الدية، وأن اليدين فيهما الدية كاملة، فإذا حصل العارض من كونه أعور، فلو نظرنا لوجدنا آثاراً عن الصحابة الذين أمرنا باتباع سنتهم فخرجنا عن الأصل المستثنى باتباع سنتهم، فاستثنى الإمام أحمد من هذا الوجه وأبقى ما عدا هذا على الأصل، فإذا اعترض معترض وقال: هذا أمر خرج عن الأصل لوجود قضاء عن الصحابة، وهؤلاء مأمورون باتباع سنتهم خاصة الخلفاء الراشدين، فلهم من المزية ما ليس لغيرهم، وبقي ما عدا ذلك على الأصل، ومن هنا فإن الشافعية وطائفة الذين يخالفون يلزمونهم بهذا، فيجعلون الأمر فيه اعتراض من هذا الوجه، لكنه لا يلزمهم هذا؛ لأن الاستثناء إنما هو لورود المستثني المقتضي لذلك، فلا يرد الاعتراض به.(366/10)
الأسئلة(366/11)
حكم المتعجل إذا خرج من منى قبل الغروب ثم عاد لحاجته
السؤال
المتعجل إذا خرج من منى قبل الغروب ثم عاد لحاجة، هل يلزمه البيات، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: الأصل الشرعي يقتضي حقيقة التعجل، وهذا هو ظاهر القرآن: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَليه} [البقرة:203]، واختار بعض العلماء العمل بهذا الظاهر: وهو أنه لابد وأن يكون متعجلاً حقيقة، قالوا: ولو فتح هذا لتحايل الناس على الشرع، وأصبح الحكم صورة لا معنى، قالوا: بإمكان الشخص أن يخرج قبل الغروب بجسده، ثم إذا غربت الشمس رجع فأخذ متاعه ثم صدر وسافر، قالوا: وهذا خلاف الشرع؛ لأن الشرع نص على أنه متعجل، ومن رجع إلى منى ولم يزل له بها غرض لم يتعجل حقيقة، وهذا وجه من أخذ الأصل، ولا شك دائماً في المسائل أنها ينبغي أن تبقى على الأصل؛ لأنه في الأصل ملزم بالمبيت، والرخصة جاءت بشرط، وكثير من الناس يجهل هذه الرخصة حتى إن بعض السلف يقول: من تعجل -ليس كل متعجل- لابد وأن يكون متعجلاً بشرطه، قالوا: وما شرطه؟ قال: أن يكون متقياً لله عز جل، يعني: ليس كارهاً للمبيت، ولا نافراً من المبيت، ولا متضجراً من العبادة لكن إذا كان هذا المعنى أن الشخص يخرج ويأخذ أغراضه بعد المبيت أو مثلما يقول بعض منهم، بمجرد ركوبه للسيارة: إنه تعجل.
والنص القائل: {فَمَنْ تَعَجَّلَ}، لابد أن يطبق كما هو، بمعنى أنه تغرب عليه الشمس وليس في منى لا بمتاعه ولا بحوائجه، قد خرج حقيقة: {فَمَنْ تَعَجَّلَ}، وانظر إلى تعبير القرآن: (تعجّل) ومن كان على عجل فحاله يقتضي أن يكون مهيئاً لأموره مرتباً لها، فإذا كان على هذه الصفة الشرعية مع هذا يقول الله عز وجل: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، فإذاً: لابد أن نلاحظ أن الفتوى في هذه المسائل ليست بمجرد الشكل، أي: مجرد أن الشخص يخرج ثم بعد ذلك يعود، حتى كان بعض مشايخنا رحمه الله عندما يسأل هذه المسألة يقول: أمر الناس عجيب، فمنهم من يأتيك ويقول: خرج من منى ثم عاد ثم خرج ولا يقول: عاد لمتاعه، ولا يقول: عاد لحاجته، وهذا من فقه أسئلة الفتوى: أنه ليس كل سؤال يقبله المفتي؛ فإن عاد سأله: لماذا عاد، وكيف عاد، وما الذي دعاه للعود؟ إن عاد إلى متاعه ليس بمتعجلاً حقيقة، فالمفتي يقول له: قد خرجت، والعبرة بالخروج، وأنت إذا خرجت فأنت في حلّ المبيت، فإذا رجعت بعد ذلك لا يضر، وقد يكون خرج بجسده ولم يخرج متعجلاً حقيقة، ومن هنا لابد من رعاية الأوصاف الشرعية.
الوصف الشرعي فيه أمران: أحدهما، فمن تعجل، ثانياً: أن يكون لمن اتقى، واللام للاختصاص، أي: هذا الحكم خاصٌ بمن اتقى، والشخص الذي تحرى فامتثل أمر الله سبحانه وتعالى وخرج آخذاً بسماحة الشرع، وآخذاً بيسره ورفقه، أو شخصٌ عنده مريض أو عنده ضعفة أو عنده أناس يحتاجون إليه، فهذا هو الأصل، وهذا هو الذي عليه العمل، فكونه يقول: (ثم عاد) على صورة مبهمة فلا يقتضي أن يجاب، بل لابد أن ينظر فيه ويفصل، والله تعالى أعلم.(366/12)
حكم من تأخر في ذبح هدي التمتع إلى ما بعد أيام التشريق
السؤال
رجل تأخر في ذبح هدي التمتع إلى ما بعد أيام التشريق بيومين فما الذي عليه؟
الجواب
قال بعض العلماء: إن الهدي يتقيد كتقيد الأضحية، ولذلك يكون فواته بفوات زمانه، فيرون أن الهدي مقيد بالزمان، ومنهم من يعتد ببلوغه للبيت سواءً كان في أيام التشريق أو قبل خروجه من شهر ذي الحجة فإنه يجزيه، وهذا القول يختاره بعض مشايخنا رحمةُ الله عليه ويميل إليه؛ أنه لو ذبح قبل خروج شهر ذي الحجة فلا بأس بذلك.(366/13)
سبب إلزام النبي صلى الله عليه وسلم كعباً بالفدية وهو مضطر
السؤال
أشكل عليّ لماذا ألزم النبي صلى الله عليه وسلم كعباً بالفدية وهو مضطر، ولم يلزم المضطر إلى استخدام السراويل والخفين رغم الحاجة والضرورة في الكل.
أثابكم الله?
الجواب
هذه هي العبادة، وهذا هو الدين، وهذا هو التسليم، وهذا هو الشرع، أن يجمع بين المفترق وأن يفرق بين المجتمع، حينما يأتي الشرع ويأتي بأشياء تجدها نظائر فإذا أحكامها مختلفة، وتجد أشياء متضادة وأحكامها متفقة، هنا تأتي العبادة ويأتي التسليم والرضا.
أما بالنسبة للمسألة، فالله تعالى يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، هنا أوجب الله سبحانه وتعالى على الذي به ضرر كما أثر عن كعب بن عجرة رضي الله عنه كما في الصحيحين أنه حُمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أُرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى)، يعني: ما كنت أظن القمل والضرر المترتب عليه أن يصل بك إلى هذه الحالة، من يتأمل حالنا اليوم يعلم ما نحن فيه من النعمة والرخاء، فقد كان الرجل يجلس عامه لا يحلق شعر رأسه، وكان الرجل إذا كان عنده شعر كبير لا يفتأ كلما جاء في ليلة ينام يتسلط عليه القمل ويتسلط عليه هوام الأرض، حتى إن الرجل يحمل شعر رأسه فيحمل هم إزالة هذا الشعف الذي فيه والقمل الذي بينه من شدة العناء والتعب، ينامون تحت الأشجار، بل ينامون في بيوتهم، لا يهدءون من البعوض والذباب، ولا من الحيات والعقارب، فمن يشكر نعمة الله التي نحن فيها اليوم، ومن يشكر منة الله عز وجل؟! كان الرجل يضع رأسه لكي ينام في الظهيرة فلا يستطيع أن ينام من أذية الذباب، وإذا انصرف عنه الذباب سلط الله عليه النمل، وإذا سلم من هوام الأرض وطائر السماء جاءه من الغبار والأتربة ما الله به عليم، من الذي يتفكر ويتدبر في نعمة الله عز وجل؟ الناس اليوم في نعمة ورغد من العيش لا يعلمه إلا الله عز وجل، فالرجل ينتقل من قاع الأرض إلى سبعين متراً إلى مائة متر في عنان السماء في ظرف دقيقة أو دقيقتين بالمصعد، وكانوا سابقاً لا يبلغون ذلك إلا بشق الأنفس، لا يصعد إلى الدور العشرين والثلاثين والأربعين والخمسين إلا وروحه في حلقه، واليوم يصعدون في دقائق، بل حتى في بعض الأحيان في ثوان، من الذي سخر هذا؟ هو الله، ولكن هل هناك شاكر، هل هناك ذاكر؟! السؤال يقول: لماذا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم على كعب الفدية وهو مضطر، ولم يلزم المضطر إلى استخدام السراويل؟ الفرق بينهما واضح، ولو تأملت رحمك الله لوجدت أن هناك فرقاً شاسعاً؛ لأن حلق الرأس إزالة لجزء من البدن ولبس السراويل ليس فيه إزالة، هنا أتلف جزءاً من البدن بحلقه وهو الشعر، ولذلك الناسي لو نسي وحلق شعره يجب عليه الضمان ولو كان ناسيا، ولو نسي وغطى رأسه ثم أزال الغطاء لم يجب عليه شيء؛ لأنه ما حصل إتلاف، ولو نسي وقلم أظفاره لوجب عليه الضمان، ولو نسي وتطيب ثم أزال الطيب لم يجب عليه الضمان، والفرق واضح بين الاثنين، يعني الأول ليس فيه ضمان، والثاني فيه الضمان الأول فيه إزالة وإتلاف، والثاني لا إزالة فيه ولا إتلاف، فهذا عين الحكمة وعين التقدير، والله تعالى أعلم.(366/14)
حكم المرأة إذا حاضت قبل طواف الإفاضة ولا تستطيع البقاء
السؤال
امرأة حاضت قبل طواف الإفاضة وهي لا تستطيع البقاء حتى الطهر، فهل يجوز لها الطواف وهي على هذه الحال؛ لأنه قد يترتب على تأخرها ضرر، أثابكم الله?
الجواب
الذي أعرف في دين الله وشرع الله: أن المرأة لا تطوف وهي حائض، وفي هذا أحاديث واضحة صحيحة صريحة مما اتفق عليها الشيخان، هذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقول: (عقرى حلقى! أحابستنا هي؟)، يقول العلماء في شرح الحديث: يقول النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المرأة: (أحابستنا) ما قال: أحابستني، قالوا: لأنه لو لم تطف طواف الإفاضة لتأخر النبي صلى الله عليه وسلم من أجلها، وهذا يثبت أنه سيتأخر، وإذا تأخر تأخر المسلمون معه، فقال: (أحابستنا هي؟ ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر؟ قالوا: نعم.
قال: فلا إذاً)، معناه: أنه لو لم تكن طافت يوم النحر للزمنا أن نبقى حتى تطهر، فأيهما أهون أن تتأخر امرأة من أجل حجز في طائرة، أو مائة ألف من الصحابة يحبسون؟ هذا دين وشرع، وهذا ركن من أركان العبادة، فليس هناك طواف أجمع العلماء على ركنيته في الحج إلا طواف الإفاضة: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، وما هذا إلا لعظم أمره وعظم شأنه.
لو أن هذه المرأة حصل عندها خطأ بسيط في اسمها وجوازها لتأخرت وقعدت ولو قعد معها مليون شخص، وهذا في حكم البشر فكيف بحكم رب الجنة والناس؟ هذا دين وشرع، فإذاً لابد أن تبقى حتى تطهر، ولا تدخل بيت الله؛ لأن الله منع منه الحائض، قال صلى الله عليه وسلم: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت).
ثانياً: عائشة رضي الله عنها وأرضاها جاءت بعمرة نسك قصدت به البيت، والله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، وجاءها الحيض بسرف -كما في الرواية الصحيحة- قبل الحج، فهي لا تستطيع أن تؤدي عمرتها قبل الحج، فانقلب نسكها من نسك إلى نسك كله من أجل أن لا تدخل البيت؛ تعظيماً لهذا البيت.
فلو قالوا: تلبس حفاظة وتذهب تطوف، فنقول: أعطونا دليلاً من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم! لسنا نحن الذين نرخص ما دام أن الشرع شدد في هذا، وهذا ليس بتشديد، كل من أفتى بفتوى له دليل من أدلة كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو المشدد، ومن وصفه بالتشديد فقد جار وظلم؛ لأنه من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليأتين على الناس زمان تصبح الواجبات أشبه بالسنن، وليأتين على الناس زمان لا يعرفون واجباً ولا يعرفون سنة! فهذا من غربة الشرع والدين.
تجد أنك إذا جئت قلت لها: تتأخر، قالوا: هذا والله تشدد، وهذا والله التضييق على الناس، وهذا خلاف شرع الله، الدين يسر ورحمة، جاء بها من آلاف الكيلومترات من أجل أن تحج، هذا يسر: (عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) نحن نيسر إذا يسر الله سبحانه وتعالى، أما ديننا وأركان شريعتنا وواجباتها وفرائضها فنبقيها كما أبقاها النص، لا نتقدم ولا نتأخر، سواء أرضي الناس أو كرهوا، المهم عندنا حكم الشرع، قال: (أحابستنا هي -ثم يدعو ويقول:- عقرى عقرها الله، وحلقى حلقها الله)، بمعنى: أن تأتيها مصيبة، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأنه إذا دعا، قال: (أيما مسلم دعوت عليه أو سببته فاجعلها له رحمة)، فهذا من مناقب أم المؤمنين أنها عادت عليها رحمة، لكن انظر كيف النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه الكلمة تعظيماً للأمر، مع أن العذر ليس بيدها.
فالمقصود نقول: تتأخر، فإذا كان لا يمكنها التأخر لها أن تسافر، ولكن لا يقربها زوجها وترجع وتؤدي فرض الله كما أوجب الله عليها، فتطوف بالبيت معظمة لشعائر الله عز وجل وهي طاهرة، أما أن نقول: تلبس حفاظة تتلجم من عنده دليل فليأتنا به، أما أن نوسع للناس أمراً ضيقه الله، أو نضيق على الناس أمراً وسعه الله فلا، الذي عندنا من النص أنه لا يجوز لها أن تطوف ببيت الله ولا أن تدخل بيت الله وهي حائض، هذا نص واضح، فينبغي أن نلتزم به.
فالذي ظهر لي: أنه يجب عليها أن تبقى حتى تطوف طواف الإفاضة، إما إن كان هناك عليها ضرر وتريد أن تسافر فلتسافر، وأجمع العلماء على أنه لو صدر الحاج قبل أن يطوف طواف الإفاضة أنه عليه الرجوع من أجل أن يطوف طواف الإفاضة ويلزمه ما يلزم من التحلل الأصغر، ولم يتم التحلل، فتمتنع من الموانع التي منها: الجماع، والمباشرة، وعقد النكاح، ومقدمات الوطء ودواعيه، واختلف في قتل الصيد: هل يبقى محظوراً على الطواف أو لا؟ على وجهين مشهورين للعلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم.(366/15)
الواجب على الصبي إذا تمتع في النسك
السؤال
لو تمتع الصبي فهل يلزمه الدم أم لا؟ وإذا لم يستطع الدم فهل يصوم، أثابكم الله؟
الجواب
إذا تمتع الصبي لزمه الدم، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزله منزلة البالغ من حيث صحة الحج، وهذا مذهب جمهور العلماء من حيث الأصل، أن الصبي يعامل معاملة الكبير على تفصيل في كونه: هل أحرم هو أو أحرم وليه، فالشاهد من هذا: أنه إذا كان وليه هو الذي لبى عنه مثل أن يكون صغيراً لا يعرف التلبية فتكون حينئذٍ في مال الولي وليس في مال الصبي، ولكن إذا لبى الصبي نفسه وتمتع بعمرته إلى الحج فإن الضمان يكون في ماله، والله تعالى أعلم.(366/16)
حكم من ترك المبيت بمنى أيام التشريق
السؤال
هل يكفي دم واحد لمن ترك المبيت بمنى أيام التشريق كلها، أثابكم الله؟ بالنسبة للمبيت في منى فيه وجهان: بعض العلماء يرى أن لكل ليلة نسكاً تاماً، وهذا هو الذي يظهر والأصول تقويه، ومنهم من يرى أن مبيت الليالي كلها نسكٌ واحد، وعليه دار الخلاف: هل عليه دم أو ثلاثة دماء؟ والصحيح: أن المبيت كل ليلة يعتبر نسكاً تاماً مستقلاً يجب ضمانه بحقه، والله تعالى أعلم.(366/17)
مكان إحرام المكي لنسك القران
السؤال
لو أراد المكي نسك القران فمن أين يحرم للعمرة، أثابكم الله؟
الجواب
الصحيح أنه يصح القران من أهل مكة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا بظاهر قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196]، فجعل التمتع عاماً شاملاً للمكي وغير المكي، والتمتع؛ تمتع القران والتمتع المعروف بالعمرة، فلما عبرت الآية على سبيل العموم فقال الله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} [البقرة:196]، دل على أن أهل مكة يتمتعون تمتع القران وتمتع العمرة المعروف، وبناءً على ذلك: فإنه في هذه الحالة إذا أحرم أهل مكة بالعمرة مع الحج، فإن مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، أنهم يخرجون إلى أدنى الحل تغليباً للأصل في العمرة؛ لأنه إذا وجد ما يوجب الخروج وما لا يوجبه وهما مجتمعان قُدّم الذي يوجب؛ لأنه شغلٌ للذمة يوجب الخروج عن الأصل، فيقدم، ومن هنا قالوا: إنه يخرج إلى أدنى الحل ويحرم بمكان العمرة، ومنهم من يقول: إنه مغتفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحج والعمرة بمثابة النسك الواحد، فيكون مخففاً عليه في ذلك، والأول هو الأحوط، والله تعالى أعلم.(366/18)
حكم من رجع إلى بلده ولم يطف طواف الإفاضة ومات قبل أن يطوف
السؤال
رجلٌ سافر إلى بلده وبقي عليه طواف الإفاضة ثم لم يتمكن من الرجوع حتى توفاه الله، فهل يحج عنه، أثابكم الله؟
الجواب
إذا توفي الشخص قبل أن يتم حجه فأصح قولي العلماء أنه لا يتم الحج عنه، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الرجل الذي وقصته دابته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة فوقف معه هذا الرجل، فجنحت دابته فأسقطته فاندقت عنقه، فمات رضي الله عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب)، قالوا: ولم يأمر بإتمام الحج عنه، مع أنه حاج وقف بعرفة وبقيت عليه بقية الأركان، ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم قرابته بالحج عنه، وهذا وقت الحاجة ووقت البيان، قالوا: فلما سكت عليه الصلاة والسلام عن ذلك دلّ على الإجزاء، وهذا أصل؛ لأنه أدى ما عليه، وجاء إلى الحج وبذل ما يستطيع والله لا يكلفه فوق طاقته، وورثته ليسوا ملزمين؛ لأن ذمته لم تشغل، ولما تعذر عليه الإتمام تعذر بعارض من الله سبحانه وتعالى، وحينئذٍ لا يلزم بالإتمام ولا يلزم ورثته أيضاً بالإتمام على أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم.(366/19)
أسباب استجابة الدعاء
السؤال
ألححت في الدعاء يوم عرفة أن يرزقني الله علماً نافعاً وعملاً صالحاً، فما هي الأمور التي ينبغي أن أتعاطاها حتى أصيب هذا الفضل، أثابكم الله؟
الجواب
في هذا السؤال جوانب: الجانب الأول: من ألح على الله في الدعاء فحريٌ به ألا يقنط وألا ييئس، بل عليه أن يتخذ من كثرة الإلحاح ما يدعوه إلى الزيادة؛ لأن الله يحب من عبده الإلحاح وكثرة الدعاء، فهو الكريم الذي لا تنفد خزائنه، ويده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة سبحانه وتعالى، فالله يحب من عبده كثرة الإلحاح، ثم إن كثرة الإلحاح توحيدٌ لله عز وجل؛ لأنه إذا دعا المرة الأولى والمرة الثانية والمرة الثالثة، ثم ما زال يدعو، وما زال مؤمناً موقناً أن الله يسمع دعاءه، وأن الله أحكم وأعلم، وأن الله أعلم بحاله، فقد يكون من الحكمة من الله سبحانه وتعالى، فإنه يعلم أنه لو أعطاه العلم الآن فتن في دينه، فيؤخر عنه تلك العطية، فلذلك يرضى عن الله سبحانه وتعالى، وسعادة الدنيا وسرورها وبهجتها في الرضا عن الله سبحانه وتعالى، أي شيء تسأله الله عز وجل فيؤخره عنك، فارض عن ربك فهو أرحم بك من نفسك التي بين جنبيك، وأرحم بك من والديك، وأرحم بك من الناس جميعاً، فهو الحليم الرحيم، إذاً لا يقنط الإنسان ولا يسئ الظن بالله مهما ألح.
ثانياً: عليه أن ينظر إلى حاله بما يدعوه بحسن الظن بالله عز وجل، فمثلاً: المبتلى يبتلى بمرض أو يبتلى في دينه فيجد أنه لا زال على نفس المعصية أو لا زال على نفس البلاء في جسده، والله لو لم يدع لكان حاله أسوأ، ولكن الله عز وجل يلطف به بهذا الدعاء.
ثالثاً: أنه ما من عبدٍ يدعو الله عز وجل مخلصاً موقناً إلا أعطاه الله سؤله، أو صرف عنه من البلاء مثل ما دعاه، أو ادخرها له يوم القيامة.
فإذاً: قد يدعو الإنسان فيؤخر الله عز وجل عنه الإجابة، فلا يزال يكسب خيراً كثيراً، وما يدريك ما الذي سيعود على الإنسان الملح إن أكثر في سؤال الله عز وجل والله يؤخر عنه الإجابة، فكم من درجات تنتظره يوم القيامة لا يبلغها بكثرة صلاة ولا صيام، ادخرها الله له يوم القيامة، فإذاً يدعو الإنسان، قالوا: (نكثر يا رسول الله! قال: الله أكثر)، يعني أكثر كرماً وأكثر جوداً، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فأكثر من الإلحاح واستمر في دعاء الله عز وجل، لكن إذا سألت الله فكن في سؤالك على بصيرة، من سأل الله العلم فليسأله العمل، ومن سأله العلم والعمل فليسأله الإخلاص، ومن سأله العلم والعمل والإخلاص، فليسأله القبول، وإذا رزق الله العبد العلم والعمل والإخلاص والقبول؛ احتاج إلى الثبات وحسن الخاتمة، فيسأل الله أن يثبت ذلك في صدره، وأن يثبته على الحق حتى يلقاه سبحانه وتعالى راضياً عنه، ثم بعد ذلك يسأله من خير المسائل مما يعين على هذه المنزلة الشريفة الكريمة؛ وهي حسن الخلق، فيسأل الله هذه المسائل الجامعة للخير؛ علمٌ وعمل وإخلاصٌ وقبول، وثباتٌ على الحق، في بر وحسن خلق، ومن رزقه ذلك فبخٍ بخ، أي تجارة رابحة وأي منزلة رابحة فاز بها من الله جل جلاله، أن يسأل الله هذه المسائل العظيمة وأن يكون على بصيرة.
كيف يسأل الله عز وجل، ذكروا عن الإمام أبي بكر بن العربي الفقيه المشهور المالكي في مسألة: (زمزم لما شرب له) يقول: إني شربته فسألت الله العلم فرزقنيه، فندمت أني لم أسأله مع العلم العمل، فانظر إلى فقه الدعاء؛ وهو أنه كان ينبغي أن يسأل مع العلم العمل.
وعالمٌ بعلمه لم يعملن معذبٌ من قبل عباد الوثن وتسأل الله البركة؛ لأنه في بعض الأحيان قد يكون الإنسان من أعلم الناس في زمانه، لكنه ممحوق البركة من علمه، وقد ترى الرجل حافظاً للسورة والسورتين من كتاب الله عز وجل، وضع الله له فيهما البركة بما لم يخطر لك على بال، فهو يردد هذه السورة على لسانه، فينال ملايين الحسنات، ثم إذا جلس لا يرى شخصاً لا يحفظها إلا حفظه إياها، فكم له من الأجور والحسنات والخيرات والبركات، وكم له من قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) >فالمقصود: أن الإنسان يبحث عن الأمور المهمة في الدعاء، نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعل ما وهبنا من العلوم نافعاً شافعاً: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، والله تعالى أعلم.(366/20)
حكم تأخير طواف الإفاضة إلى ما بعد النصف من شهر ذي الحجة
السؤال
من أخر طواف الإفاضة إلى ما بعد النصف من شهر ذي الحجة أو آخره؛ وذلك بسبب الزحام، فما الحكم أثابكم الله؟
الجواب
ما شاء الله تبارك الله! الزحام مستمر إلى آخر ذي الحجة! إذا كان الذي ليس عليه حج يزاحم، فمن باب أولى الذي عليه باقي حج أنه يذهب يزاحم.
على كل حال: ليس كل ما قاله الناس في أسئلتهم يكون صحيحاً، المطاف يخلو خاصة في الليل، ويخلو في أوقات مثل ساعات الظهيرة، والأصل يقتضي أن من أخر طواف الإفاضة إلى ما بعد أيام التشريق فيه وجهان: بعض العلماء يقول: العبرة بأيام التشريق، ومن أخر لغير عذر فعليه دم، وبعضهم يرى أن الدم لا يجب إلا بخروج ذي الحجة، وهذا هو الذي أميل إليه، أن الدم لا يجب على من أخر طواف الإفاضة إلا إذا خرج عليه شهر ذي الحجة، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله.
وينسب للجمهور أنهم يرون أنه إذا خرج عن ذي الحجة، وهذا هو الذي عُني بقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، قالوا: تمام الأشهر في ذكر الآية مراعاة للانتهاء، فنهاية الحج بنهاية طواف الإفاضة، وآخر أمده بغروب شمس آخر يوم من شهر ذي الحجة، والله تعالى أعلم.(366/21)
أحكام صيام العاشر من محرم
السؤال
أيهما أفضل: صيام يوم قبل العاشر من محرم أم بعده مع صيام العاشر؟ وهل يكره إفراد العاشر بالصيام ولو وافق يوم الجمعة أو السبت، أثابكم الله؟
الجواب
أما بالنسبة للمسألة الأولى: الأفضل أن يصوم التاسع والعاشر، وهذا هو السنة، ومن أهل العلم من قال: الأفضل أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، ولكن شهر محرم الأفضل صيامه والإكثار من صيامه، لما سُئِل عليه الصلاة والسلام: (ما أفضل الصيام بعد شهر رمضان؟ قال: شهر الله المحرم)، يعني كل شهر محرم مرغب فيه الإكثار من صيامه، لكن في هذا اليوم يوم عاشوراء سنة المخالفة أن يصوم التاسع والعاشر، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) والتاسع محمول على الحقيقة، والعاشر محمول على الحقيقة، وأما بأن العاشر المراد به: تاسوعاء فهذا فيه ما فيه، وتكلم العلماء على هذا، لكن الأصل أن الأفضل أن يصوم التاسع والعاشر.
فلو قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)، ولم يقل: والعاشر، نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم سكت عن الأصل مستصحباً له؛ لأنه هو قالها: (نحن أولى بموسى منكم)، يعني في شكر نعمة الله بنجاة موسى صوم هذا اليوم، فإذاً: الشعيرة باقية؛ لأن سببها بخصوص اليوم، وهو شكر الله عز وجل على نجاة هذا النبي، حمداً لله عز وجل بنصرة أهل التوحيد على أهل الشرك، وأهل الإيمان على أهل الوثنية، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بموسى منكم)، لأنه على التوحيد والإخلاص، وأنتم غيرتم وبدلتم، فإذاً: الموجب للصوم باق لا يتغير، فلما كان ثابتاً سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معمول على القاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، ثانياً: نقول: من منع من صيام يوم عاشوراء خالف الأصل؛ لأن الأصل إذا ثبت الصوم بدليل شرعي يدل على الفضيلة، لا ينقل عنه إلا بدليل مثله، والدليل المثبت صريح، والدليل النافي الذي يدعونه محتمل؛ لأنه لما قال: (لأصومن التاسع)، سكت عن العاشر، هل يصومه أو لا يصومه، وليس إثبات أحد النقيضين بأولى من الآخر كمسلك جدلي، فلا يستقيم لهم الاستدلال بقوله:: (لأصومن التاسع)، وهذا ما أحببنا أن ننبه عليه حول من يقول: إنه يصوم التاسع فقط، وهذا شذوذ، يعني: مذهب من أضعف المذاهب، ومخالف للأصل الذي ذكرناه، ويفوّت مقصود الشرع بتعظيم نعمة الله عز وجل بهذا، فصوم يوم التاسع والعاشر هو الأفضل في صوم عاشوراء على ما ذكرناه.
أما الجانب الآخر من السؤال والذي يقول: هل يكره إفراد العاشر بالصيام ولو وافق يوم الجمعة أو السبت؟ الجواب: إفراد العاشر بالصوم هو خلاف السنة، والسنة أن يخالف اليهود، فيصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، وأما بالنسبة لإفراد عاشوراء، إذا وافق السبت وصام السبت، فإن النهي عن صوم يوم السبت حديثه متكلم في إسناده، وإثبات هذا الحديث مبني على القول بتحسينه مع أن فيه ما فيه، إذا قيل بتحسين هذا الحديث، فإن الحديث الحسن لا يعارض الحديث الصحيح، ولذلك: وهو في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح ثانياً: الذي عليه العمل عند أهل العلم رحمهم الله: أن المنع من صوم يوم السبت المراد به من قصد يوم السبت تعظيماً للسبت، وهذا أصل في جميع ما ورد، مثل يوم عرفة لو وافق يوم سبت ونحو ذلك من الأيام المفردة، فإنه يشرع صيامها، ولا بأس في ذلك، ولا حرج أن يصومه؛ لأنه يصومه لسبب شرعي، ولذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم من تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ثم قال: (إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)، فهذه هي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما كان معتاداً لصيام ذلك اليوم والشريعة منعت من صوم يوم قبل رمضان حتى لا يزيد في العدد فيغلو في العبادة أذن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فات المعنى الشرعي.
فالمعنى الشرعي في إفراد يوم السبت، هو تعظيمه؛ لأنه شعار اليهود، وقد أمرنا بمخالفة أهل الكتاب، ومن هنا لا بأس ولا حرج إذا وافق يوماً، لأن الشرع ندب إلى صيامه، والله تعالى أعلم.(366/22)
أمور تعين على استجابة الدعاء
السؤال
ألححت في الدعاء يوم عرفة أن يرزقني الله علماً نافعاً وعملاً صالحاً، فما هي الأمور التي ينبغي أن أتعاطاها حتى أصيب هذا الفضل، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فلا شك أن من توفيق الله عز وجل لك: أن ألهمك أن تدعو الله عز وجل بهذا الأمر، وإذا وقف الإنسان في يوم عرفة أو وقف في ساعات يرجى فيها إجابة الدعاء فاختار أفضل المسائل وأحبها وأكرمها وأعظمها ثواباً وخيراً للعبد في الدنيا والآخرة، فليعلم أن هذا من توفيق الله عز وجل له، فالدعاء إذا وفق العبد فيه نال خير الدنيا والآخرة.
الأمر الثاني: في قولك (علماً نافعاً وعملاً صالحاً) أعظم الأسباب التي تعين على بلوغ العلم النافع: الإخلاص لوجه الله عز وجل، وهو أساس النفع في كل عمل صالح، فلا يمكن أن يكون العمل نافعاً إلا إذا أراد طالب العلم به وجه الله سبحانه وتعالى، فينطلق في طلبه للعلم، والجنة والنار بين عينيه، وكل يوم يجدد إخلاصه، بل كل ساعة بل كل لحظة إذا أمكنه ذلك، كلما جلس في مجلس علم ينظر ماذا في قلبه، وكان السلف إذا سُئلوا عن حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أثر عن سفيان رحمه الله يمتنع من الحديث ويتأخر قليلاً فيقولون: ما بك؟ يقول: حتى أنظر ما في قلبي، يعني: هل أريد أن أحدث لله أو أريد أن أحدث لغير الله عز وجل، وكان يقول قولته المشهورة: ما رأيت مثل نيتي، إنها تتقلب عليّ، يعني أشد ما جاهدت النية لإرادة وجه الله عز وجل، يمشي الإنسان إلى مجلس من مجالس العلم وهو يريد وجه الله، ولا يريد قضاء الأوقات، ولا إضاعة الوقت، ولا من أجل التفكه في المجلس أو التندر فيه، وإنما يريد وجه الله سبحانه وتعالى، يستشعر هذا الإخلاص حينما يشعر بالمسئولية، فوالله ثم والله ما جلست في مجلس علم ولا سمعت علماً ولا نظرت عيناك إلى علم إلا حوسبت بين يدي الله عليها.
ما من مجلس تجلسه فتسمع قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو هذا حلالٌ أو هذا حرام؛ شيءٌ من دينك وشرعك إلا سُئِلت أمام الله عز وجل عن هذا العلم الذي بلغك، إن هذه الكلمات وهذه الأحكام وهذه المسائل حجج يلقيها العلماء من على أكتافهم ويلقونها على ورثة العلماء وهم طلاب العلم، وهذا يحتم عليك كطالب علم أن تعرف ماذا يراد بك، وماذا ينتظر منك، كم من عالم تمضي عليه عشرات السنين، وقل أن يجد طالب علم يملأ عينيه، كم من عالم يضحي ويتعب ويكدح، فقل أن يجد طالب علم جمع فأوعى، وهذا بسبب عدم الاستشعار، يصحب أناس أهل العلم وكأن الأمر نوع من التفكه والتندر، ويقفون لمسائلهم والأسئلة التي تنهال عليهم وتكرر الأسئلة عشرات المرات، ثم يفاجأ ذلك العالم والشيخ وإذا بنفس الطالب يأتي بنفس الأسئلة، وقد كان أهل العلم يضبطون العلم من أول مسألة، فإذا سمع المرة لم تعد عليه، يحفظ كلام الشيخ حتى إن طالب كان يحفظ الفتوى من العالم ثم يمكث العلم يجلس الأربع سنوات والخمس سنوات وإذا به يجدها عند العالم كما هي فيطمئن على أن قلبه لا يزال بخير حيث حفظ ووجد العلم كما هو لم يتغير.
أما أن يأتي هكذا تفكها وتندراً، والله ما اقترب أحد من أهل العلم إلا حوسب بين يدي الله عز وجل وسُئِل أمام الله عز وجل.
إذاً: استشعار المسئولية بعد الإخلاص، هذا الاستشعار يلهب القلب، ويلهب الضمير والإحساس، حتى إنك تجد طالب العلم إذا جلس مع العالم لا يفرط في ثانية أو دقيقة فضلاً عن ساعة، ولذلك تجد العلماء يجلسون مع الناس ويحضرون، فقل أن تجد سائلاً يسأل، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا سُئِل العالم أسئلة مكررة وأسئلة فيها خلاف بين العلماء لِيرى هل هذا العالم أخذ ذات اليمين أو أخذ ذات الشمال، أو يميل إلى قول فلان أو علاّن؟ ما لهذا كان العلم، ولن يكون العلم من أجل هذا، العلم رفعة لهذه الأمة ومجد لها، ولن يكون مجداً ورفعة لهذه الأمة إلا إذا كان حملته أصحاب مبادئ، وأصحاب أسس صحيحة، أهل الدنيا يتنافسون في علومهم ويكدحون ويتعبون، وكل واحد يستشعر ما الذي يتعلمه، ودين الله عز وجل قلّ أن تجد من يرعى حرمته، فالشكوى إلى الله سبحانه وتعالى، لا يعني هذا أنه لا يوجد طلاب العلم، إنما نتكلم على الصفة الغالبة، فإذاً: الاستشعار أمر مهم جداً بعد الإخلاص.
ثالثاً: يصحب هذا الاستشعار الثقة بالله عز وجل، والثقة بالله سبحانه وتعالى هي التي تفتح لطالب العلم آفاق العلم ورحابه الواسعة بمجرد أن يضع قدمه في أي منهج أو طريق أو سبيل يقوده إلى العلم، يضع قلبه في السماء وإن كان قالبه في الأرض؛ لأنه من أولياء الله سبحانه وتعالى وتولى الله سبحانه وتعالى، يريد أن يحمل شرعه ودينه ويكون أميناً على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو في منزلة شريفة كريمة.
كيف تكون الثقة بالله عز وجل؟ يبدأ طالب العلم وكله أمل في أن الله سبحانه وتعالى ينفحه برحماته: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]، {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة:31]، من الذي علم آدم؟ ومن الذي فهم داود وسليمان؟ الله سبحانه وتعالى، الثقة بالله عز وجل، الصدر المنشرح، القلب المطمئن، النفس القوية، قوية صادقة؛ لأنها توقن أن الله سبحانه وتعالى لا يخيب من سلك هذا السبيل، وتكفل الله بالجنة لأهله لما أعد لهم من النعيم، كيف تثق بالله؟ تثق بالله أنه سيعلمك، والله ثم والله لو تعلمون كيف كان أهل العلم ممن أدركنا وعرفنا، ومما رأينا من ألطاف الله في أنفسنا يحار عقل الإنسان، العالم حينما تنظر كيف يجمع هذا العلم، وكيف يفهم هذا العلم، وكيف يرتب مسائل العلم تثق ثقة تامة أنه لا حول له ولا قوة، وأن وراءه قوة إلهية، وحفظاً إلهياً فوق ما يخطر للإنسان على بال، والله إن الإنسان يكون متعباً منهكاً مريضاً لا يفتر أن يجلس في مجلس العلم، وكأن لسانه يقاد فيما يقول وفيما يتكلم؛ لأن هذا دين الله عز وجل، وإن لم يكن العلماء أولياء الله عز وجل فمن؟ فيا طالب العلم! إذا كنت تريد أن تسلك سبيل الله عز وجل فلابد أن يكون عندك ثقة أن الله يفهمك؛ ولذلك كل طالب علم يأتي الشيطان ويقول له: أنت لا تستطيع أن تحفظ، أنت إنسان كسول خمول، ابحث عن شيء آخر غير العلم، فيثبطه عن طاعة الله عز وجل ويجعل الأمر راجع إلى ملكته، وليس راجعاً إلى فتوح الله جل جلاله الفتاح العليم الرزاق الكريم سبحانه وتعالى، لكن حينما يقول: أنا الضعيف، أنا المسكين، أنا الجاهل، أنا المقصر، وربي هو الكريم، وهو الحليم الرحيم، وأملي في الله كبير، فتح الله له أبواب رحمته: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، إخلاص واستشعار وثقة بالله سبحانه وتعالى، كنا جاهلين فعلمنا الله، وكنا ضلالاً فهدانا الله، والله عز وجل يقول لنبيه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} [الشورى:52]، يقولها لخير الخلق صلوات الله وسلامه عليه: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، يا طالب العلم! حينما تطلب العلم وصدرك منشرح أن الله يكرمك ويعلمك، وأن الله يرحمك، وأن الأمة في حاجة إلى من يعلمها ويفهمها، فتطرح بين يدي الله عز وجل، وكان بعض العلماء يصغي بخده، ويقول: يا معلم آدم! علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، فيكون فتوح من الله سبحانه وتعالى، ولعل العبد في ساعة من الساعات يحتقر نفسه فيسمو إلى درجات الكمال، فإذا كان هناك إخلاص واستشعار بالمسئولية وثقة أخذت بالأسباب؛ من ضبط العلم وإتقانه فلا تفوتك الكلمة فضلاً عن الجملة والعبارة، وتحسّ أنك ستسد ثغراً لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأن هؤلاء العلماء لا يبقون ولا يدومون، وأن سنة الله ماضية ومضت في خيرهم وخير خلق الله عز وجل وأحب رسل الله إلى الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، فإذا علم الإنسان أنهم سيزولون وأنهم سيذهبون ويرتحلون، وأن الأماكن التي استنارت بعلومهم ستخلو يوماً من الأيام، وتخبو فيها شموسهم وتطفأ فيها أنوارهم، ولا يبقى إلا الله سبحانه وتعالى، ثم ما خلفوه من ثقات أهل العلم الذين صحبوهم، وينبغي ألا نكون مقصرين نائمين لا نستشعر أين نحن ولا نحس أين يجب أن نكون، بل على كل إنسان أن يستنهض الهمة في نفسه.
كذلك أيضاً من الأمور التي تعين على ضبط هذا العلم وإتقانه: كثرة التكرار والترداد، طالب العلم الصادق في طلبه قد نزع الله من قلبه الدنيا وملأ قلبه بالآخرة، وثق ثقة تامة أنه لا طالب علم ولا عالم إلا بمبدأ، العلم ليس بالمظاهر وليس بالألقاب، وليس بكثرة الكتب ولا بكثرة الزينة والتعالي، وإنما هو مبادئ قيمة، وما سما العلماء إلا بمبادئهم وبصدقهم مع الله وقولهم للحق، وصدعهم بالحق، وتبليغهم لرسالة الله عز وجل، وتفانيهم في نصح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على تعليم الجاهل وتنبيه الغافل ودلالة الحائر وإرشاد التائه، كل هذه المبادئ كانت من أسس صحيحة وهو استشعار المسئولية والتفاني فيها بالجد والاجتهاد، وإذا أراد طالب العلم أن يطلب العلم فعليه أن يتعب وأن ينصب، وأن يعلم أنه على قدر تعبه اليوم يبوأ غداً من الله سبحانه وتعالى، فمن كانت له بداية مليئة بالمصاعب والمتاعب ستكون له النهاية التي يبوئه الله فيها مبوأ صدق، العلم لا يأتي بالتشهي ولا بالتمني، ولا بالدعاوى العريضة، وهنا أنبه على مسألة مهمة جداً ينبغي على كل طالب علم أن يستشعرها، فإذا صحب العلماء أو صحب عالماً فوجد العالم يعطيه ألقاباً أكثر مما يستحق أو وجد العالم يزكيه وكأنه أخرجه من النار وأدخله الجنة، وكأنه أصبح مزكى فليعلم أن هذا هلاك للعبد، ولذلك على الإنسان أن يصحب العلماء محتقراً لنفسه مقبلاً على آخرته مجداً مجتهداً في تحصيله وضبطه وإتقانه، لا يفتر ولا ينصب في حفظ هذه الأمانة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والله كم من عيون للعلماء بكت، وكم من قلوب انكس(366/23)
شرح زاد المستقنع - باب الشجاج وكسر العظام
إن من رحمة الله بعباده أن شرع لهم الحدود، حتى لا يتساهل الإنسان بدم أخيه، فلم يهمل حتى الشجة، وجعل منها ما قدر ديتها ومنها ما جعل فيها حكومة، أي: يحكم القاضي فيها وبقدرها بحيث لا تزيد على المقدر شرعاً، والشجاج يختص بما يكون في الرأس والوجه، بينما الكسر يختص بما يكون في العظام.(367/1)
بيان الديات المتعلقة بالشجاج المقدرة وغير المقدرة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشجاج وكسر العظام] هذا الباب يختص بالديات المتعلقة بالشجاج فيما ورد التقدير فيه من الشرع، وكذلك أيضاً بيان حكم كسر العظام، وما يجب فيه من الحكومة والتقديرات الواردة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين.
قوله: (الشجاج) جمع شجة، تقول العرب: شج المفازة إذا قطعها، وأصل الشج في لغة العرب: القطع، والشجاج لا يكون إلا في الرأس والوجه، ومن هنا تختص بالجناية على الرأس والوجه، وتشمل الشجة ما كان في مقدم الرأس عند الناصية، وما كان في وسط الرأس عند الهامة، وما كان في القذال وهو آخر الرأس، وكذلك أيضاً تشمل الشجة ما كان في أعراض الرأس، مثل أن تكون في العظم الذي يلي الأذن، سواءً من الأذن اليمنى أو اليسرى، فكل هذا تقع الجناية عليه وتسمى: بالشجة، فتارة تكون جرحاً للجلدة، وتارة تنفذ من الجلدة إلى اللحم، وتارة تنفذ من اللحم إلى العظم، وتارة تكسر العظم وتهشمه، وتارة تكسره وتهشمه وتنقله، وتارة تصل إلى خريطة الدماغ، كما إذا كانت الضربة في جهة الدماغ، هذا بالنسبة للشجاج في الرأس.
كذلك في الوجه، والوجه يشمل اللحيين، والخدين، والوجنتين، وكذلك أيضاً الجبهة، واستظهر طائفة من العلماء الأنف بطرفيه، فكل هذه المواضع الجناية عليها تكون على الترتيب الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، وفيه المقدرات الواردة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في سنة الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم وهديهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وأما العظام فجمع عظم، ومراده هنا كسر العظام، أي: الجناية على العظم بكسره، فتارة تكون الجناية بهشم العظم وتارة تستفحل فتهشم العظم وتكسره، ثم ينتقل العظم بحيث ينفصل بعضه عن بعض، والعظم تارة يكون في الصدر، وتارة يكون في الذراع، وتارة يكون في الفخذ، وتارة يكون في الساق، إلى غير ذلك من المواضع التي تكون فيها العظام.
قوله: (باب الشجاج وكسر العظام) أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالجناية، والاعتداء بالشجاج وكسر العظام، ثم هذه الجناية تكون عمداً وتكون خطأً، ومن أمثلتها في العمد: هي أن تحصل الخصومة بين الرجل والرجل، فيأتي والعياذ بالله! فيضربه على رأسه فيشج رأسه شجة تدميه، يعني: تسيل الدم، أو شجة حارصة أو قاشرة تقشر الجلد ولا يسيل معها الدم، وتارة تكون شجة تكشف اللحم وتصيبه، وتارة تكشفه وتصيبه وتغوص فيه، وتارة تكون الشجة بالوصول إلى العظم دون قشرته حتى تحول القشرة دونه وهي السمحاق، كل هذا يقع بالعمد.
ويقع بالخطأ مثل حوادث السيارات، فلو أنه كان يقود سيارة فانقلبت به وبمن معه، فأصابت من معه شجة قشرت جلدة رأسه، أو أدمته، يعني: سال الدم منها، أو كسرت عظامه، فهذا من الخطأ، أو طبيب يعالج، فأخطأ في علاجه فترتب على الخطأ ضرر في العضو، وحصل منه جناية من هذه الجنايات، كذلك يعتبر من الخطأ أن يقوم رجل يحمل متاعاً ثم أسقط المتاع على غيره فشجه، وقس على هذا من الصور في الأخطاء التي تقع بين الناس، وكل هذا له أحكام خاصة في العمد اختلف العلماء في بعضها، يقولون: في بعضها القصاص، وبعضها لا يتأتى فيه القصاص؛ لأننا لا نستطيع أن نفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه بالمماثلة، فمثلاً لو كانت الهاشمة: تهشم العظام، وتكسر العظام، فلا نستطيع بحال أن نضرب الجاني إذا كان متعمداً ضربة مثل ضربته بحيث تكسر نفس العظام وتصل إلى ما وصلت إليه الضربة الأولى في الجناية، ومن هنا يسقط القصاص وينتقل إلى الأرش إلى الحكومة إلى الدية، على حسب نوع الجناية، فهذه الأشياء التي سيذكرها المصنف في الشجاج تشمل عشرة أنواع، منها: الخمس التي لا تقدير فيها.
ومنها: الخمس المقدرة، فهي عشرة أنواع من الجنايات في الشجاج وما يتبعها، وهي الجائفة التي تكمل العدد العاشر، وفي بقية البدن لا تكون هذه الأشياء الخمسة التي لا تقدير فيها، كما سنبينه إن شاء الله في موضعه.(367/2)
حقيقة الشجة وما تختص به وعددها وحكمها
قال رحمه الله: [الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة] قوله: (الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة) وهذا عليه جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله، وأصله قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، أنهم خصوا الشجة بالوجه والرأس، وله أصل في اللغة، ومن هنا قالوا: إن الجناية بالشجاج تختص بالضربات في الرأس والضربات في الوجه، على ما سبق بيانه، يستوي في هذا أن تكون في مقدم الرأس أو في وسطه أو في آخره، أو في جوانبه، لكن اختلف في آخر الرأس، فآخر الرأس مما يلي الرقبة وهو العظم المتدلي هل يعتبر من الرأس أو يعتبر من الرقبة؟ فالرقبة لا يعتبر فيها شجاج سواء من جهة ما أقبل أو ما أدبر، فالجناية عليها لا تأخذ حكم الجناية على الرأس والوجه، وبالنسبة للوجه يشمل ما ظهر وحصلت به المواجهة، وما كان تحت الحنك، أو تحت اللحيين، أو تحت الذقن مما لا مواجهة فيه فإنه آخذٌ حكم الوجه، ما لم يصل إلى الرقبة، فإن وصل إلى الرقبة ففيه الحكومة على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
قال: [وهي عشر]: قوله: (وهي عشر) أي: الشجات أو الشجاج، أو الجنايات المتعلقة بالرأس والوجه عشرٌ، وهذا إجمالٌ قبل البيان والتفصيل، وبينا أن المراد به استحضار الذهن وتهيئته لما يذكر بعد.
هذه العشر منقسمة إلى قسمين: الخمس الأولى: التي فيها الحكومة وليس فيها مقدر ولا دية.
والخمس الثانية: التي فيها مقدر، الخمس الأولى إذا أراد طالب العلم أن يضبطها؛ ليعلم أنها مرتبة تلو بعضها، فالمصنف رحمه الله من دقته وحسن بيانه ذكرها مرتبة، فراعى ترتيب الوقوع على حسب الجنايات.
ومن العلماء من عكس فقدم الخمس المقدرة على الخمس التي لا تقدير فيها، وهذا من باب العناية بالأهم، وهو الذي فيه مقدرٌ شرعاً، لكن طريقة المصنف أنسب وأدق في البيان والتوضيح.(367/3)
الحارصة حقيقتها وحكمها
قال رحمه الله: [الحارصة وهي التي تحرص الجلد، أي: تشقه قليلاً ولا تدميه].
الحارصة، وتسمى: القاشرة، وهذه فسرها أئمة اللغة ومن يُحتج بتفسيره، كـ الأصمعي رحمه الله وغيره، حيث قالوا: هي الجرح الذي يكون في الوجه أو الرأس، يقشر الجلد ولكنه لا يخرج معه الدم، فلو أنه ضربه على رأسه ضربة قشرت جلدة الرأس ولم يخرج الدم منها، فهذه تسمى: بالحارصة وبالقاشرة، فهي أصلها من الحصر وهو الشق، يقال: حصر الثوب إذا شقه.(367/4)
حقيقة الدامية وحكمها
قال رحمه الله: [ثم البازلة الدامية الدامعة وهي التي يسيل منها الدم] قوله: (ثم البازلة الدامية الدامعة) ثلاثة أسماء لها، النوع الثاني: أن يضربه على رأسه أو وجهه ضربة تقشر الجلد، ثم يخرج الدم ويسيل، فهي دامعة؛ لأن الدم يخرج ويسيل مثل دمع العين، ودامية؛ لأنها أدمته فأسالت الدم منه، والبازلة؛ لأنها بزلت الدم فأخرجته، هذه المرتبة الثانية من الجناية، الأولى تقشر الجلد، والثانية تقشر الجلد وتدمي، بمعنى: تسيل الدم.
قوله: (وهي التي يسيل منها الدم) أي: أن الدم يسيل منها قليلاً.
يلاحظ هنا في الحارصة طالت أو قصرت، يعني مثلاً: لو أنه قشر جلدة رأسه بقدر أنملتين، أو قشر جلدة رأسه بقدر أنملة، فالحكم واحد، طولها وصغرها وكبرها هذا لا تأثير له، ما لم تتعد فتنزل، فتصبح في الرأس بازلة، وفي الوجه بازلة، أو حارصة في الرأس وحارصة في الوجه، أو تكون في موضعين من الرأس فتكون فيه ضربة في شقه الأيمن من الرأس، والثاني في الشق الثاني من الرأس، وكلاهما حارصة، فهما: حارصتان.
وهكذا إذا خرج الدم من اليمنى وخرج من اليسرى فهما: بازلتان، وداميتان، ودامعتان، فإن خرج الدم من واحدة ولم يخرج من الأخرى فحارصة وبازلة.(367/5)
حقيقة الباضعة وحكمها
قال رحمه الله: [ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم] هذه الدرجة الثالثة، فبعد أن قشرت جلده وأدمته بضعت اللحم، وأصل البضع القطع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) يعني: قطعة مني، وقوله عليه الصلاة والسلام حينما سئل -كما في حديث طلق بن علي رضي الله عنه- عن مس الذكر؟ قال: (إنما هو بضعة منك) فالبضع القطع، والمِبْضَعُ هي السكين التي يقطع بها، كسكين الجراح ونحوه، فالباضعة تقطع اللحم لكنها لا تغوص فيه، يعني: تأتي إلى مشارف اللحم فتقطع فيه.(367/6)
حقيقة المتلاحمة وحكمها
قال رحمه الله: [ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم] قوله: (ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم) المتلاحمة درجتها فوق الباضعة، والشق فيها أمكن، ويأتي بالضربات الشديدة سواءً في الوجه أو في الرأس، وسواءً في الخطأ أو في العمد، فتبضع اللحم ثم تغوص فيه، كما لو ضربه بسكين أو بآلة حادة، وغاصت هذه السكين في لحمه دون أن تصل إلى العظم فهي متلاحمة.(367/7)
حقيقة السمحاق وحكمها
قال رحمه الله: [ثم السمحاق وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة] فإن غاصت فلا تخلو من حالتين: إما أن تغوص ولا تكشف هذه القشرة وهي السمحاق، فلا تقارب العظم.
وإما أن تكون نسبة اللحم كثيفة نوعاً ما فغاصت في نصفها أو غاصت في ثلثيها فهي متلاحمة، ما لم تنته من اللحم وتصل على مشارف العظم، هنا قشرة رقيقة أشبه بالماء أو بالزجاج حينما تظهر ترى العظم من ورائها، هذه تسمى: السمحاق، وهي فوق العظم، هذه السمحاق إذا جاوز اللحم وصل إليها، فإذا وصل إلى السمحاق فإنها درجة رابعة، وحينئذٍ يقال لها: الملطاة، ويقال لها: السمحاق، وتسمى: بالملطاة كما في مذهب الشافعية رحمهم الله، وقالوا: إنها لغة أهل الحجاز، والسمحاق: هي القشرة التي على العظم.
قال: [فهذه الخمس لا مقدر فيها بل حكومة] أي: أن هذه الخمس الجنايات لا مقدر فيها في شرع الله عز وجل، وعن بعض الصحابة رضوان الله عليهم تقدير في بعضها عن زيد رضي الله عنه، لكن تكلم بعض العلماء في ثبوت ذلك عن زيد، ولكن للعلماء في هذه الخمس وجهان: الوجه الأول يقول: هذه الخمس فيها الحكومة، وليس فيها تقديرٌ شرعي، وحينئذٍ نقدر هذه الجناية في المجني عليه، فننزله منزلة العبد ونقدره قبل الجناية، ثم نقدره بعد الجناية، ثم نوجب على الجاني أن يدفع الفرق بينهما.
ثم هذا التقدير يتأثر بالشين، يعني: ربما يأتي يضربه ضربة فيها حارصة فتشين وجهه، يعني: إذا شفي واندمل الجرح وبرئ تبقى آثار تشين الوجه؛ لأنها في الوجه تظهر، بخلاف ما إذا كانت في الرأس فهي مستترة، وللعلماء في هذا الشين وجهان: بعض العلماء يقول: تقدر الجناية حكومة، ثم يقدر الشين استقلالاً، يعني ينظر إلى أثر هذا الشين ويدفع له حقه فيه.
الوجه الثاني: إن هذه الخمس لها نسبة من الموضحة، إذا كان في الموضحة فيعطى خمساً من الإبل، فهذه الخمس نقسط الجناية التي دون الموضحة على حسبها، فنجعل لكل جناية من الجنايات قدراً ينزل عن حصة الخمس من الخمس، يعني: عن البعير، حتى تصل إلى حد الموضحة، والوجه الأول الذي اختاره المصنف رحمه الله أقوى، وهو أن فيه الحكومة.(367/8)
حقيقة الموضحة وحكمها
قال رحمه الله: [وفي الموضحة وهي ما توضح العظم وتبرزه خمسة أبعرة] الآن انتهينا من الجلد واللحم، وننتقل إلى الجناية على العظم، فإن وقعت الجناية، ووصلت إلى العظم ولم تصبه فإنها تكون الموضحة، أما لو وصلت إلى العظم فهشمته وكسرته كسراً يسيراً أو كثيراً متفاحشاً، منحصراً في الموضع، أو متفرقاً في نفس الموضع فإنه تكون الجناية بالهاشمة، والهاشمة بعد الموضحة، والموضحة فيها خمس من الإبل.(367/9)
حقيقة الهاشمة وحكمها
قال رحمه الله: [ثم الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة]: الهاشمة: توضح العظم وتهشمه، والهشم الكسر للعظم، ويقال: هشم الشيء إذا فككه وكسره، ومنه هشم الثريد، ولذلك سمي جد النبي صلى الله عليه وسلم: بـ هاشم؛ لأنه هشم الثريد للناس بمكة من كرمه فكانت مفخرة له.
الشاهد أن الهاشمة هي التي تهشم العظم في الوجه والرأس، وفيها عشر من الإبل، وللعلماء في هذه العشر وجهان: الوجه الأول: أن خمساً من العشر لكونها أوضحت العظم، والخمس الثانية؛ لأنها هشمت العظم.
الوجه الثاني: أن الهاشمة فيها عشرٌ من الإبل ولا يفصل.
فائدة الخلاف بين الوجهين: أنه لو ضربه فهشم عظمه دون أن يجرحه، يعني هشم العظم داخل الجلد دون جرح، فعلى القول الأول لا يجب عليه إلا خمس من الإبل؛ لأنه لم يقع إلا الهشم، ولم تقع الموضحة، وعلى القول الثاني يجب عليه عشرٌ من الإبل، سواء كان هناك جرح وإيضاح للعظم، أو لم يكن هناك جرحٌ وإيضاح للعظم.
الموضحة: فيها خمس من الإبل قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل في ذلك كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن حزم، وقد تقدم معنا وبينا أنه الكتاب الذي أجمعت الأمة على تلقيه وعلى قبوله، وضربه العلماء مثالاً للحديث الذي أغنت شهرته عن طلب إسناده، وحسن أئمة الحديث كالإمام الترمذي وغيره إسناد هذا الحديث، والعمل عند العلماء على حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه الذي هو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم له في الديات ومقاديرها، هذا الكتاب جاء فيه: (وفي الموضحة خمسٌ من الإبل)، وسكت عليه الصلاة والسلام عن الهاشمة، فلم يرد عنه عليه الصلاة والسلام حديث صحيح يبين حكم الهاشمة، ولكن جاء عن أصحابه رضي الله عنهم، وقضى زيد بن ثابت وهو الصحابي الفقيه رضي الله عنه وأرضاه ولم يعرف له مخالف: أن الهاشمة فيها عشرٌ من الإبل، وبناءً على ذلك جرى العمل عند أئمة الإسلام سلفاً وخلفاً على هذا القول، هناك من خالف من العلماء رحمهم الله وقال: إن فيها حكومة، وذلك بأن يقدر المجني قبل الجناية ويقدر بعد الجناية -وسيأتي إن شاء الله بيان الحكومة- وهو مذهب مالك رحمه الله وغيره، والصحيح ما ذكرناه.(367/10)
حقيقة المنقلة وحكمها
قال رحمه الله: [ثم المنقلة وهي ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها وفيها خمسة عشر من الإبل] قوله: (ثم المنقلة) المنَقَّلَة والمُنْقِلة هي التي تنقل العظم من مكانه، فيلاحظ أن الضرب في الهاشمة أخف من الضربة في المنقلة، فالمنقلة ضربة قوية تهشم العظم فتفصله عن بعض حتى ينتقل، ويعرف ذلك الآن عن طريق الأشعة، وكانوا في القديم يعرفون ذلك بالسبر، ويلاحظون العظم ويلاحظون انتقاله، ويكون ذلك من أهل الخبرة كالأطباء.
(خمس عشرة من الإبل) وذلك كما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن حزم، فإذا ضربه في رأسه أو ضربه في وجهه فكسر عظمه وانتقل هذا العظم المكسور، فإنه حينئذٍ يلزمه خمس عشرة من الإبل؛ لأن الكسور تكون متفاوته، فإما أنه يهشم العظم ولا ينتقل، أو يهشم العظم هشماً قوياً يفصله عما جاوره، وحينئذٍ ينتقل، فإذا حصل هذا الهشم بهذه القوة ففيه خمس عشرة من الإبل، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأولون الذين سبق بيان مذهبهم يقولون: المنقلة: خمسٌ من الإبل للموضحة، وخمس من الإبل للهاشمة؛ لأنها هشمت العظم، وخمس لكون العظم انتقل، هذه خمس عشرة من الإبل يجعلونها على هذا الوجه.(367/11)
حقيقة المأمومة وحكمها
قال رحمه الله: [وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية] قوله: (وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية) أُمُّ الشيء أصله، وأم الدماغ خريطة الدماغ، فإذا ضربه -والعياذ بالله- على دماغه ضربة أوضحت عظم الدماغ، وكشفت خريطة الدماغ، فإنها في هذه الحالة يقال لها: مأمومة، وأم الدماغ، هذه جناية، فإذا لامست الدماغ ووصلت إلى الدماغ يقولون لها: دامغة، والمصنف قال: المأمومة والدامغة.
وفي الحقيقة من العلماء من يذكر المأمومة ولا يذكر الدامغة؛ لأنهم يقولون: في الغالب إذا وصل إلى الدماغ يقتله؛ لأنها في مقتل.
وغالباً ما تحدث أضراراً توجب الديات مثل أن تخرسه -والعياذ بالله- فلا يتكلم، أو يصبح أصمّ لا يسمع، خاصة إذا جاءت على مواضع الحواس، فالشاهد عندنا أنه إذا ضربه على دماغه ضربة كشفت خريطة الدماغ، فحينئذٍ يجب عليه ثلث الدية، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لـ عمرو بن حزم (أن المأمومة فيها ثلث الدية).
الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة يستوي فيها الذكر والأنثى، يعني: من حيث تقدير الجناية، أما من حيث ما يجب على الجاني فالأنثى على النصف من الذكر، تقدر على الأصل الذي قررناه: أن الأنثى يكون لها النصف، ومن أهل العلم من يرى: أن عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث، وهذا في حديث السنن: (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها).(367/12)
حقيقة الجائفة وحكمها
قال رحمه الله: [وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى باطن الجوف] الجائفة تكون في غير الرأس والوجه، تكون جائفة في البطن، وجائفة في الصدر، وتكون الجائفة في ثغرة النحر، وتكون جائفة فيما بين السبيلين، وهذه الجائفة فيها ثلث الدية، فلو طعنه بسكين ودخلت السكين إلى جوفه فأبانت أحشاءه فهي جائفة، وهكذا لو ضربه من ظهره فأظهر عظمه فهي جائفة، ولو ضربه على صدره فأبان جوف الصدر فهي جائفة، ولو ضربه بين السبيلين فنفذ إلى مجرى البول ففيه وجهان عند العلماء رحمهم الله: من أهل العلم من قال: إنها جائفة كالضرب في جهة العجان سواءً بالذكر أو الأنثى.
قوله: (وهي التي تصل إلى باطن الجوف) باطن الجوف من جهة البطن ومن جهة الصدر ومن جهة الظهر، وغالباً ما تكون بالآلات الحادة، وممكن أن تكون بغير آلة حادة.(367/13)
حكم كسر الضلع وإحدى الترقوتين
قال رحمه الله: [وفي الضلع وكل واحدة من الترقوتين بعيرٌ] (وفي الضلع) لو كَسَرَ ضلعاً من المجني عليه ففيه بعير، وهذا في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهي سنة راشدة عمرية لا مخالف له من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أُمرنا باتباع سنته- حين كتب إلى عامله رضي الله عنه وأرضاه: أن الضلع فيه جمل، فإذا كسر أحد أضلع شخص فإنه يجب عليه ضمان الكسر بجمل، لكن لو أنه كسر هذا العظم أو هذا الضلع ثم برئ مستقيماً فلا إشكال، وإن برئ مشوهاً معوجاً ففيه وجهان للعلماء: منهم من قال: يأخذ فقط المقدر ولا شيء زائد.
والصحيح أن فيه حكومة في الشين، والحكومة في هذا تتبع الشين، وتتبع الضرر، وتتبع الألم، فلو أنه كسر الضلع أو مثلاً الترقوة فحصل شيء مثلاً في الترقوة كأن ينعقد العظم، ويصبح موضع الإصابة مثل الكرة عند الالتحام، فهذا الشين يقدر بحكومة، ينظر إليها أهل الخبرة، وسيأتي معنا الحكومة، فنقدر كم تضرر وكم نسبة هذا الضرر فيعطى حقه في ذلك.
لو حصل أيضاً ألم، حيث برئ ورجع العظم على صفته، ولكن يوجد ألم في الموضع إذا قام وإذا قعد، وإذا تنفس فينظر في هذا الألم، وقدر تضرره ويقدر له حقه.(367/14)
حكم كسر الذراع والعضد والفخذ
قال رحمه الله: [وفي كسر الذراع -وهو الساعد والجامع لعظمي الزند والعضد- والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيماً بعيران] قوله: (وفي كسر الذراع) لو كسر عظم الذراع، وهو العظم الجامع ما بين الزند والعضد، والزندان: هما عند مفصل الكف مع الساعد، الزند الأعلى والأسفل، فهذان العظمان الناتئان هما زندا اليد، يلي الزندين الساعد إلى المرفق، والمرفق هو الذي يرتفق به الإنسان والذي أمر الله بغسله في الوضوء وهو حد غسل اليد في الوضوء، هذا كله يسمى: بالساعد، فكسره فيما ذكر رحمه الله فيه بعيران، أي: في الساعد وفي الزند، وإذا كان الزندان فمعنى ذلك: أن فيهما أربعةَ أبعرة، وهذا له أصل من كتاب عمر رضي الله عنه أيضاً، فإنه كتب إلى عامله بذلك، ومن هنا عمل به جمهور العلماء رحمهم الله على أن فيه بعيرين.
قوله: (والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيماً بغيران) يدل على أن المصنف يرجح مذهب من يقول بالحكومة في الشين والألم والضرر بعد البرءُ، يعني: إذا حصلت الجناية وانكسر العظم ننتظر إلى أن يشفى ويبرأ، فإذا شفي والتحم العظم، ننظر في هذا العظم الذي التحم، هل التحم مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا ألم معه، ولا شين؟ فحينئذٍ لا إشكال، حكمنا بهذا المقدر، وأما إذا جبر معوجاً، أو جبر وفيه شين، أو فيه ألم قُدر هذا الزائد بحقه وحكومته.
ومن نص المصنف رحمه الله على قوله: (إذا جبر ذلك مستقيماً)، وعظم الفخذ والساق ذكر فيه البعيرين كله من باب الإلحاق؛ لأن عمر رضي الله عنه لم ينص على عظم الفخذ والساق، ولكن هو في حكم عظم الساعد والزندين، والمنافع فيه كالمنافع في المفصل؛ لأنه من جنس المفاصل التي يرتفق بها.(367/15)
بيان وحكم الجروح التي لا تقدير فيها
قال رحمه الله: [وما عدا ذلك من الجراح وكسر العظام ففيه حكومة] ذكر المصنف رحمه الله الواجبات المقدرة في الاعتداء على الأنفس والأعضاء، وبينا فيما مضى ما ثبت من النصوص ودلت عليه في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في مقدرات وأحكام الجنايات، هناك جنايات لا تقدير فيها، وهي ما عدا ما ذكر مما له أصل مقدر، فلو أنه جرحه جرحاً لا تقدير فيه، أو ضربه ضربة على مكان أورمت المكان، وحصل ضرر لا تقدير فيه في الشرع، فما الحكم؟ قال رحمه الله: (وما عدا ذلك) أي: من الشجاج والكسور والجراحات.
قوله: (ففيه حكومة) الحكومة: أن يقدر هذا المجني عليه وينزل منزلة العبد، فيقدر قبل الجناية ويقدر بعد الجناية، وينظر كم أنقصته الجناية من القيمة، وهذه النسبة تكون مقدرة من دية المجني عليه، وسميت بحكومة؛ لأنها راجعة إلى الحكام وهم القضاة، فلا يقدر هذا التقدير ولا يجتهد هذا الاجتهاد ولا يبين حكم هذه المسائل إلا الحكام والقضاة، ومن هنا وصفت بكونها حكومة، وبين رحمه الله أنه يرجع فيها إلى حكومة عدل، إذ يطالب القاضي من له خبرة ومعرفة بتقدير المجني عليه على الوجه الذي ذكرناه، ثم إذا ثبت ذلك القدر حكم به، وسيبين المصنف رحمه الله ذلك بالمثال.(367/16)
الحكومة في الجنايات التي لا تقدير فيها
قال رحمه الله: [والحكومة: أن يقوّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به] قوله: (لا جناية به) مثل أن يقدر بمائة ألف قبل الجناية.
قال: [ثم يقوم وهي به قد برئت] قوله: (وهي به) أي: الجناية.
قوله: (قد برئت) أي: بعد البرء فينظر ماذا حدث في الجسم أو في العضو من النقص؟! فإذا قوم قبل الجناية بمائة، ثم قوم بعد الجناية بخمس وتسعين أو بسبع وتسعين ونصف، فحينئذٍ يكون نصف نصف العشر، يكون قد أنقصته نصف نصف عشره، فيقدر ذلك القدر الذي أنقصته من الدية؛ لأنه لا تقدير في تلك الجناية.(367/17)
شروط صحة الحكومة في الأمور التي لا تقدير فيها
ويشترط في صحة الحكومة ما يلي: الشرط الأول: أن تكون الجناية لا تقدير فيها في الشرع، فهذا محل اتفاق على أن هذا الأمر -وهو الحكومة- يختص بالجنايات التي لا تقدير لها في الشرع، هذا أول شرط.
الشرط الثاني: أن يكون من ذوي الخبرة والنظر والمعرفة، يقال لهم: قدروه قبل الجناية وقدروه بعد الجناية، وانظروا نسبة النقص هذه التي تكون من هذا الشخص المجني عليه ذكراً كان أو أنثى، يعني: يستوي في ذلك أن يكون المجني عليه ذكراً أو أنثى.
قال رحمه الله: [فما نقص من القيمة فله مثل نسبته من الدية] سيذكر هذا بالمثال.
قال: [كأن كان قيمته عبداً سليماً ستين وقيمته بالجناية خمسين ففيه سدس ديته] أي: إذا كانت القيمة تساوي الستين، يعني: يعادل ستين ألف ريال، ثم بعد الجناية أصبح بخمسين، فمعنى ذلك: أنها أنقصته عشرة، والعشرة تعادل السدس من القيمة، فحينئذٍ يجب على الجاني أن يدفع له سدس ديته، وهنا بالنسبة للحكومة يكون الرقيق أصلاً والحر مبنياً عليه، والعكس بالنسبة للديات، يكون في المقدرات والأعضاء المقدرة يكون الحر أصلاً والرقيق مبنياً عليه.
قال: [إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدر فلا يبلغ بها المقدر] مثلاً: لو كانت الجناية على أصبع من أصابعه، وهذه الجناية ليس لها تقدير، بمعنى: أنه ما قطع الأصبع كاملاً، وفي بعض الأحيان يكون الرقيق ذا صنعة، وإذا قدر قبل الجناية على أنه بمائة ألف، ثم أنقصته الجناية الربع، مثلاً: أصبح بخمسة وسبعين ألفاً، فحينئذٍ أنقصته ربع القيمة، يعني: لو حصلت فيه هذه الجناية في أصبعه، وكان قبلها كاتباً، أي: عنده صنعة الكتابة، أو عنده صنعة غيرها ينتفع بها، فأنقصته -مثلاً- الربع، في هذه الحالة الأصبع لا تعادل الربع؛ لأن الأصبع لو قطعت ففيها عشر الدية، فلا تبلغ الحكومة أو مقدر الحكومة لا يبلغ دية العضو الذي فيه الجناية، وهذا أصل شرعي، وبناءً على ذلك ينقص من هذه الحكومة حتى تصل إلى أقل من عشر الدية؛ لأن الأصبع موجود ولا يعقل مساواتها بعدم الوجود، فلو قطعت الأصبع كاملة لكان فيها عشر الدية، فكيف نقول له: جناية الحكومة يقدر أكثر من المقدر شرعاً والأصبع موجودة؟! فهذا يخالف شرع الله عز وجل.
ومن هنا اشترط العلماء رحمهم الله شرطاً في الحكومة وهو الشرط الثالث: أن لا يبلغ التقدير أكثر من قيمة العضو الذي فيه الجناية.(367/18)
الأسئلة(367/19)
إشكال في تعبير المؤلف بالبعير لا الإبل في الهاشمة
السؤال
ذكر المصنف في حد الهاشمة عشرة أبعرة، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، والمعروف عن الأبعرة هي ذكران الإبل، أما الإبل فيشمل الذكر والأنثى، فهل في ذلك فرق، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، في الحقيقة هذا أمر ملاحظ، والأصل في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد التعبير بالبعير، وإنما ورد التعبير بالإبل، قال: خمسٌ من الإبل، وعلى هذا فقد يكون هناك تسامح من المؤلف، وأنه لا يعتبر المعنى الذي ذكرته، والله تعالى أعلم.(367/20)
حكم طلب المجني عليه من الجاني تكاليف العلاج
السؤال
لو طلب المجني عليه من الجاني تكاليف العلاج بدلاً من الدية هل يعطى ذلك؟
الجواب
نعم إذا أراد أن يخالف شرع الله، ويجتهد من عنده، ويعبث بالأحكام الشرعية، هذه أحكام شرعية ما فيها تلاعب، لا ينظر لا إلى أجرة الطبيب، ولا إلى تكاليف العلاج، هذا دين وشرع جاء بهذه الصفة، ينفذ هذا الوارد كما ورد، كونه يقول: أريد تكاليف العلاج أو قيمة العلاج ليس من حقه ذلك، وليس له غير هذا الذي حكم به الشرع، حتى ولو كانت تكاليف العلاج أكثر، العبرة بالمقدر شرعاً قليلاً كان أو كثيراً؛ لأنه لو فتح هذا الباب قد تكون تكاليف العلاج لا تساوي شيئاً، ولذلك الشريعة لا تنظر إلى تفاوت الأزمنة، وهذا من سمو منهج الشريعة أنها أعطت أحكاماً تقديرية، سبحان الله العظيم! الآن لو جئت تنظر تجد في غالب الأحوال أن هذا المقدر يعادل العلاج وزيادة، وهذا نعرفه من خلال أسئلة الناس، وعلى كل حال هذا غير وارد، وتكاليف العلاج ليست بواردة، إنما الوارد أنه يعطيه حقه الشرعي سواءً كان قليلاً أو كثيراً، وعليه أن يرضى بحكم الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.(367/21)
الصحيح في تعريف الموضحة
السؤال
تعددت النسخ في قول المصنف رحمه الله في تعريف الموضحة وهي ما توضح اللحم، وفي بعض النسخ ما توضح العظم، فأيهما أصح، أثابكم الله؟
الجواب
الصحيح ما توضح العظم، وهذا استدركه الشراح رحمهم الله، وقالوا: إن هذا موجود في النسخ، ولكن الصحيح أنها توضح العظم، وهذا هو الذي ذكره أئمة اللغة، والاحتجاج في هذه التفسيرات مرده إلى أئمة اللغة؛ لأن القاشرة إيضاح اللحم، والقاشرة مع ذلك ليس فيها ما في الموضحة، الموضحة هي التي توضح العظم، وعبارات النسخ توضح اللحم خطأ، ونبه على ذلك، والله تعالى أعلم.(367/22)
حكم من فرط في قضاء الصوم حتى عجز عنه
السؤال
تبلغ أمي من العمر خمسين سنة، كانت تفطر في شبابها من التعب، وبعد زواجها أفطرت في ولادة إخوة لي، وكانت تجهل قضاء ما عليها من الأيام، وهي الآن مريضة حيث عندها القلب والضغط وتجلطٌ في الدم، أفيدونا في قضاء هذه الأيام أثابكم الله؟
الجواب
أولاً: لا ينبغي للمسلم أن يتساهل في حقوق الله عز وجل، والصوم إذا وجب على المسلم فهو دين، وقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما- قالت: (إن أمي ماتت وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى) حق الله أحق بالوفاء، وأحق بالقضاء، ولا ينبغي للمسلم أن يتساهل في حقوق الله عز وجل، سواءً كانت كفارة في الصوم أو كفارة في الحج أو كفارة في العمرة، أو كفارة في سائر الأمور التي تجب فيها الكفارات فلا يتساهل في شيء منها، حتى قالوا: إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه حتى يؤدى عنه) يقولون: إن الإنسان والعياذ بالله! قد يرهن عن كثير من الخير بسبب تعطيل حقوق الله عز وجل وحقوق الناس، ولذلك تجد المديون في بعض الأحيان لا يستطيع تحصيل أشياء من الخير كان يحصلها قبل دينه وقبل انشغال ذمته للناس، تجده قبل تحمل ديون الناس مستجماً ومنشرحاً ومنطلقاً، ولكن ما أن يقع في الدين حتى يصبح كالمرهون، وهذا مصداق قوله: (نفس المؤمن مرهونة) والرهن الحبس.
ولذلك ينبغي للمسلم أن يبادر بسداد حقوق الله عز وجل، فإذا تساهل وفرط لم يأمن أن يأتيه المرض أو يأتيه البلاء أو يتقدم به السن ويعجز عن أداء حق الله، وحينئذٍ تكون الحالقة؛ حالقة الدين لا حالقة الشعر، فيخرج من الدنيا وقد فرط في حق الله، حتى أصابه الكبر فحيل بينه وبين الوفاء، وبين رد الحقوق والقيام بالواجبات، وقد وصف الله أهل الجنة بأنهم موفون بعهودهم مؤدون للحقوق التي عليهم، فعلى المسلم والمسلمة أن يتقي الله عز وجل كل واحد منهما في حق الله خاصة، وفي الحقوق عامة؛ لأن حق الله أحق، الله أحق أن يعبد وأحق أن يؤدى حقه، وهو الغني عن عباده في جميع ما أوجب عليهم سبحانه وتعالى.
ثانياً: إذا بلغت هذا المبلغ وأصبحت عاجزة عن الصوم فإنها تنتقل إلى الإطعام عن كل يوم، مع الندم والاستغفار والتوبة، والله تعالى أعلم.(367/23)
جواز الرد على الخطيب عند خطئه في الآية
السؤال
إذا أخطأ الإمام في الآية مثلاً في خطبة الجمعة هل يرد عليه أم لا؟
الجواب
الصحيح أنه إذا أخطأ في الآية فإنه يرد عليه ويفتح عليه؛ لأن كتاب الله عز وجل تجب صيانته عن الخطأ، وهذا جائز في الصلاة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالناس الفجر فارتج عليه في آية، ثم لما سلم قال: (أفي الناس أبي؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: ما منعك أن تفتح عليَّ آنفاً؟) فدل على عظمة كتاب الله عز وجل، وعظيم حقه أنه يصان من الخطأ، ومن اللحن، ومن القصور الذي يكون من بني آدم، المبني على الجهل والإساءة كما قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فلا ينبغي التساهل في كلام الله عز وجل، بل ينبغي الرد عليه وتنبيهه على الخطأ والفتح عليه، فإذا كان هذا في الصلاة فمن باب أولى في خطبة الجمعة، والله تعالى أعلم.(367/24)
حكم صلاة الليل جماعة في غير رمضان
السؤال
أسكن ومعي زميلي في بيت وأصلي صلاة الليل فهل يجوز أن نصلي جميعاً ونوتر مع بعضنا، أثابكم الله؟
الجواب
يجوز اتفاقاً لا قصداً، فإذا قمت تصلي بالليل وجاء أخوك وصلى معك فلا بأس، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، لكن أن يكون بالترتيب والقصد كأن تقول له: إذا صارت الساعة الثانية أقوم وتقوم معي، أو إذا صارت الساعة الواحدة من الليل فلا؛ لأن الأصل أن القيام المرتب لا يكون إلا في التراويح، وقيام رمضان خاصة، وأما في بقية السنة فإنها عبادة خفية قصد منها الإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل، ولا تكونوا جماعة إلا في الوارد، والله تعالى أعلم.(367/25)
كيفية تشميت من عطس أكثر من ثلاث مرات
السؤال
إذا عطس الإنسان مرات عديدة خارج الصلاة هل يشرع تشميته في كل مرة يحمد فيها الله، أثابكم الله؟
الجواب
نعم يشرع إذا عطس وكرر العطاس ففي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عطس الرجل رد عليه، ثم عطس الثانية فرد عليه، ثم عطس الثالثة فقال: إنه مصاب) فمن أهل العلم من قال: لا يرد عليه؛ لأنه مريض، وإنما يدعى له بالشفاء، فانتقل من العطاس المألوف المأمور بتشميته إلى الدعاء له بالشفاء، ومن أهل العلم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بكونه مريضاً، فبقي الأصل على ما هو عليه وهو تشميت العاطس، ولم يسقط هذا الأصل صلوات الله وسلامه عليه فهذا وصف حال.
وعلى كل حال إذا شمته فهذا أفضل، فهو إذا قال: الحمد لله فعليك أن تشمته، أما إذا عطس وسكت فهذا منه، وبعض العلماء يقول: إنه إذا كانت الثالثة والرابعة وكان مريضاً فلا يقول: الحمد لله؛ لأنه أصبح مريضاً والأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق، لكن كل هذه اجتهادات وآراء، هذا الأصل عطس رجل عند رجل فشمته، ثم عطس الثانية فشمته، ثم عطس الثالثة فقال: يرحمك الله مائة، فعطس الرابعة فقال: اللهم من عندك، يعني أصبحت المائة دين كلما عطس قال: اللهم من عندك، هو لو نظر اللهم من عندك، أخف من أن يقول له: يرحمك الله، نسأل الله السلامة والعافية من الحرمان! هذا دعاء بخير وفيه أجر لك ولمن تدعو له، فلا يبخل الإنسان بهذا.
كم هي سعادة للمسلم أن يلهج لسانه بذكر الله عز وجل؟! هذا اللسان الذي تجده يتحدث في أمور الدنيا فلا يكل ولا يتعب، ويجلس الرجل مع ضيفه وصاحبه وحبه، يسأله عن ثوبه ومأكله وملبسه ومخبزه وبيته وعن كل صغيرة وكبيرة ولا يكل ولا يمل، ولكن لما يريد أن يكرر يرحمك الله أربع مرات خمس مرات تجد السآمة والملل، وهذا حال الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية- في تقصيره في حق الله عز وجل، ولكن للآخرة أهلها، فيا حبذا المسلم أن يكون متلذذاً بذكر الله عز وجل حريصاً على هذا الخير، يشمت العاطس، فكلما قال: الحمد لله تشمته، فهو من ذكر الله سبحانه وتعالى، قال بعض العلماء: إلا إذا كان هناك ما يشغل، مثل: أن يكون هناك ما هو أشرف كاشتغالك بقراءة القرآن، أو اشتغالك بعلم، أو اشتغالك بشيء أوجب وأوكد، حينئذٍ لا مانع أن تأخذ بالسنة، وهي أن يشمت ثلاث تشميتات، ثم بعد ذلك يكون الإنسان في العفو، والله تعالى أعلم.(367/26)
نصيحة عامة لمن يتكرر منه الذنب بعد التوبة منه
السؤال
عندي ذنبٌ كلما تبت منه رجعت إليه، وأدعو الله أن يبعدني عنه، ولكن كلما أردت الاستقامة لم أثبت على ذلك بم تنصحني، أثابكم الله؟
الجواب
إذا كان المستقيم هو السالم من الذنب فإنا لله وإنا إليه راجعون! يعني: إذا كان المستقيم هو الذي لا ذنب له البتة فحينئذٍ الله المستعان، من هو هذا الذي لا ذنب له، ولا خطأ عنده؟! إن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة:222] ووصفهم بأنهم توابون، والتواب فعال، أي: كثير التوبة وما كثرت التوبة إلا من كثرة الذنوب.
أخي في الله! لا يتسلط الشيطان على قلبك، ولا يحولن بينك وبين ربك، فالله جل وعلا يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وهو سبحانه الحليم الرحيم، هل رأيته دفع تائباً عن بابه؟ هل رأيته خيب تائباً في رجائه؟ هل رأيته قطع تائباً من محبته وإنابته إلى ربه؟ كلا والله بل إنه فرح بتوبته وشمله بعفوه وحلمه ومنّه وكرمه ورحمته.
أخي في الله! تب إلى الله، واقهر عدوك إبليس بالإنابة إلى الله ولو (مليون) مرة تكرر التوبة، صادقاً منيباً إلى ربك، ولا تبال إن قال لك: أنت منافق، أنت كذاب، أنت غشاش، تبت المرة الأولى، تبت المرة الثانية ثم ترجع، ثم تبت المرة الثالثة، إذا كان الشخص يقع في الذنب وبعد فعله للذنب يكره هذا الذنب ويمقته في جنب الله، ويعقد العزم في قرارة قلبه على كراهته وعدم الرجوع إليه، فإنه مبشرٌ بخير وهو التوبة من الله، {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71].
والله سبحانه يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] فقوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ) لأنه علم سبحانه أنه لا رب لنا سواه، ولا أمل ولا رجاء لنا في أحد عداه، فأخي في الله! اصدق مع الله يصدق الله معك، ولا تقولن: تبت مائة مرة، أو ألف مرة.
ثم هنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو: أن الشيطان عليه لعائن الله تترى إلى يوم الدين، قعد للإنسان بالرصد وأعظم شيء يحرص عليه الشيطان قطع العبد عن ربه، وبالأخص إذا كان خيراً صالحاً، فإنه يأتيه بالذنب ويحول بينه وبين الله، فيقول له تارة: لو كنت من الصالحين ما أوقعك الله في الذنب، ولو كنت صالحاً بحق ما أوقعك في الزلة، قاتله الله عدو الله! أنى يؤفك وأنى يكذب على الله سبحانه وتعالى، بل إن الله يبتلي ويمتحن ويختبر إذا كان التائب موحداً لربه؛ لأنه إذا قال: رب اغفر لي فقد علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب.
وينادي الله في ملائكته: (يا ملائكتي! علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب قد غفرت لعبدي).
فإذا كان الإنسان في هذه الصورة من الفتنة جعله يعود إلى الذنب المرة تلو المرة، ثم يقول له: أنت لا تصلح أن تكون مع الأخيار، اترك الأخيار واترك الملتزمين، واترك الصالحين, ولا تجلس معهم، لا تدنس مجالسهم، يعني: وكأن إبليس ما شاء الله! غيور على الصالحين، ومحب للصالحين.
وضع السم في العسل؛ لأنه يعلم أنه متى ابتعد عن الصالحين تخطفته الشياطين، فأعرض عن سبيل رب العالمين، فكانت الهلكة والضلال المبين نسأل الله السلامة والعافية! فيأتيه من هذا الباب.
ثم هناك صنف ثالث: إذا أذنب الواحد منهم المرة والمرتين والثلاث والأربع يأتيه بنوع من الانشراح يخلي بينه وبين الطاعة؛ لأنه يعلم أن المعصية قد استحكمت في قلبه، وأن قرناء السوء حوله، فتراه يتركه اليوم واليومين والأسبوع والأسبوعين في نوع من الانشراح، ويكف عدو الله عنه حتى يأمن ويطمئن ويقول له: افعل عهداً على أنك لا تعود، واجعل عليك المواثيق بينك وبين الله أنك ما تعود، فهذا المسكين من حبه لربه، وحبه للطاعة يأتي بالعهود المغلظة ثم لا يلبث في اليوم الثاني أن يتسلط عليه عدو الله، فينهزم وينكسر وعندها يريد أن يسلخه من دينه بالكلية والعياذ بالله! فيقول له: أنت فعلت هذا فإذاً لا عودة ولا رجعة، وهذا كله من الأباطيل، ومن الإرجاف من عدو الله.
ولذلك على المؤمن أن يعلم أن ربه هو الحليم الرحيم الغفور الذي يفرح بتوبته، ويشمله بعفوه وحلمه ورحمته، والذي وسعت رحمته كل شيء سبحانه وتعالى.
أخي في الله! لو تبت (ملايين) المرات، فكل مرة تتوب فيها فاعلم أن الله يعوضك خيراً مما فقدت، وكل ذنبٍ تقع فيه فقف بعد ذنبك منكسراً إلى ربك، وقل يا رب! أسأت وأخطأت، منك الخير ومني الشر، منك الإحسان ومني الإساءة، تب عليَّ يا خير التوابين! تب عليَّ وارحمني وأنت أرحم الراحمين! واسأل الله عز وجل أن يجبر كسرك في دينك، فكم من شخصٍ يقع في الذنب فيقول صادقاً من قلبه: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي هذه واخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته وخلف له خيراً منها، وصفع الشيطان على وجهه، واندحر عدو الله مغاظاً مهاناً ذليلاً، هكذا يكون ولي الله المؤمن.
ثم قضية الرجوع إلى الذنب ففي بعض الأحيان -والعياذ بالله- قد يُبتلى الإنسان بالذنب تلو الذنب، قد يكون سببها غيبة الصالحين، وقد يكون سببها أذية أولياء الله المتقين؛ لأن أعظم شر ينزل على الإنسان عداوته لله أو لرسوله أو للصالحين من عباده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث كما في صحيح البخاري وغيره يقول الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، لما يشتكي الشخص من كثرة الرجوع إلى الذنب يقول له: تفقد نفسك، لابد وأنك عاديت ولياً من أولياء الله.
مثال ذلك: أن الشخص يأتي ويحضر الجمعة ثم يخرج من الجمعة ويقول: والله الخطيب أطال الخطبة، والله عندنا إمام مسجد يطيل بنا.
فيغتاب عبداً صالحاً، وهذا العبد الصالح في كل ليلة يناجي ربه ويقول: اجعل ثأرنا على من ظلمنا، فهذا الذي اغتابه ظلمه بغيبته فلا يأمن أن يُنكب، ولذلك ينبغي الحذر من التعامل مع الصالحين والأخيار؛ لأن القرب منهم خير، لكنه سلاحٌ ذو حدين لمن لم يحفظ حرمتهم، وكنا نجد أناساً يجلسون في مجالس العلم يكثرون الاعتراض، ويكثرون الأذية للعلماء ولإخوانهم من طلاب العلم، فما وجدناهم سلكوا سبيلاً -نسأل الله السلامة والعافية- في الطاعة، وغالباً ما تأتي نهايتهم سيئة، وغالباً ما يحرمون، حتى إن الواحد منهم يأتي ويشتكي ويقول: قسا قلبي، كنت على حال طيبة ثم أصبحت في حال سيئة، يعني كان الإنسان على حال صالحة حينما كان يحفظ الحقوق والذمم.
كذلك أيضاً مما يُبتلى الإنسان به الوقوع في الفتن بسبب أذية أولياء الله، والله تعالى يقول في الذين سبوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزءوا بهم وقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء يكثرون عند الطمع، ويقلِّون عند الفزع، وفي بعض الألفاظ يجبنون عند اللقاء، فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] انظروا كيف جعل الاستهزاء بالقراء استهزاء بالله والرسول؛ لأنه جاء من جهة الدين.
فكل شخص ينتسب لهذا الدين من داعية وعالم وخطيب وإمام يجب أن تحذر في التعامل معه؛ لأنه ولي لله تعالى قائم بحقه، ولما تستهزئ به من خلال أدائه لرسالته وأمانته التي يحبها الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] هذا الذي أثنى عليه ربه من فوق سبع سماوات، فقال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة:65 - 66] حتى لم يقبل منهم المعذرة وقال: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] لأن الأمر نشأ من الاستخفاف بالدين والاحتقار للصالحين، فقد يجلس الشخص يلمز جماعة وقد يلمز منهجاً لإخوان عندهم بعض الأخطاء، ثم يأتي يتهكم بهم، ويسخر بهم، ويستهزئ بأمور قد تكون من أمور الطاعة في شأنهم، فهنا تأتي الفتنة والعياذ بالله.
قال تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:66] فجعل - والعياذ بالله- هذا البلاء والفتنة بسبب التعرض لأولياء الله عز وجل، وكانوا يقولون: من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمن عليه سوء الخاتمة والعياذ بالله! وقل أن تأتيه حسن خاتمة، وقلَّ أن يتولاه الله برحمته، وهذا معروف في بعض أهل البدع نسأل الله السلامة والعافية! فالمقصود من هذا الحذر حتى لا يقع في الفتنة، ولذلك تجد شخصاً يتوب توبة صادقة، ومع ذلك يُبتلى بالوقوع في الذنب مرة ثانية، بمعنى: أن هناك أمراً بينه وبين الله عز وجل، فليقل بصادق من قلبه: اللهم! إني أستغفرك من ذنبٍ أوقعني في هذا البلاء، اللهم أدركني برحمتك، ونحو ذلك من الدعاء الصادق.
كذلك أيضاً مما يوجب الوقوع في الفتن تلو الفتن، والمعاصي تلو المعاصي، عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، ولذلك قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] نسأل الله السلامة والعافية! فالعقوبة التي جلت بهم الصمم وعمى البصيرة مع اللعنة، وكل هذا جاء بسبب قطيعة الرحم، فما بالكم بعقوق الوالدين! وهو أعظم من قطيعة الرحم! الرجل يستهزئ بأمه فيكون عاقاً، ويستهزئ بأبيه فيكون عاقاً، ويرفع صوته في وجه أبيه كاشحاً له في وجهه فيكون عاقاً، ولربما والعياذ بالله يلمز أباه في وجهه فيكون عاقاً، وتبقى جرحاً في قلب الأب إلى أن يموت، فيكون عاقاً والعياذ بالله! كلما تذكر الأب آلامها وأحزانها تجدد البلاء على من قالها.
إذاً على الإنسان أن يحذر في التعامل مع الناس: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُو(367/27)
بيان فضيلة الجماعة الأولى والفرق بينها وبين الثانية
السؤال
بعض الناس يتأخر عن صلاة الجماعة في المسجد ويقيمون جماعة ثانية بعد الجماعة الأولى فهل يكون أجر هذه الجماعة مساوياً لأجر الجماعة الأولى، أثابكم الله؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: الجماعة الأولى من حيث الأصل أفضل، وقد حصلت فضيلة أول الوقت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها وما فاته من وقتها خيرٌ من الدنيا وما فيها) الثواني بين الجماعة والجماعة خير من الدنيا وما فيها، يصلي أهل المسجد الأول في الوقت ويصلي أهل المسجد الثاني بعده ويكون الفرق بينهما يسيراً وبينهما كما بين السماء والأرض، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها) يعني: على أول وقتها، فهذا أفضل الأعمال وأحب إلى الله، فالجماعة الأولى أفضل وأعظم وأزكى أجراً عند الله عز وجل.
ومن هنا كان من الخطأ قول أهل الرأي -وبعض المتأخرين اختار هذا القول-: إن الشخص إذا أتى والجماعة في التشهد فيظل واقفاً حتى تأتي جماعة ثانية، نقول: أولاً: دخولك مع الجماعة الأولى إدراكٌ لفضيلة أول الوقت، وحينئذٍ تدرك فضيلتها، ثم بعد ذلك إذا كان بجوارك شخص فتتمان جماعة، وتحصلان على الفضيلة وإن لم تحصلا على الحكم، فهذا أمر يغفل عنه الكثير، ومن هنا ينبغي الحرص على الجماعة الأولى.
ثانياً: الجماعة الثانية تكون أقل من جهة العدد، فإن الجماعة الأولى في الغالب هي أكثر عدداً، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذه الفضيلة الثانية: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أزكى) فالجماعة الأولى أزكى من هذا الوجه ومن حيث إدراك فضيلة أول الوقت.
كذلك أيضاً ينبغي أن ننبه على أمر وهو: قِدَمُ الإنسان في الطاعة، فإن إمام المسجد في محافظته على الإمامة أكثر خيراً ممن هو دونه، والصلاة وراء الإمام الراتب المداوم على إمامة الناس والصلاة بهم ومعونتهم على الخير، أفضل من الصلاة وراء شخصٍ لا يلي الإمام إلا في الأحوال الطارئة، وهذا هو الراجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان رمضان فاعتمري فيه، فإن عمرة في رمضان كحجة معي) فجعل للفضل مزية في الطاعة، ومن هنا قالوا بأفضلية القدم، وكانوا يفضلون في الأئمة من يكون الأخشع، ولماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قال (أقدمهم سلماً) يعني: أقدمهم إسلاماً، فهذه كلها من الفضائل، فالإمام الراتب هذا أكثر فضلاً وأكثر طاعة وأحض، خاصة إذا كان لا ينسى المأمومين، ويأخذ بالسنة في دعائه له ولمن وراءه، فإن بعض الأئمة يكون حريصاً على الدعاء بالخير للمأمومين، فيسأل الله لهم الطاعة والخير والبر، ويكون فيهم حفظة لكتاب الله عز وجل، قائمون بحقوق الله، داعون إلى الله، فالصلاة وراء هؤلاء المتمسكين بالسنة، المتمسكين بطاعة الله عز وجل، لا شك أنها أفضل وأعظم وأقرب وأحظى منزلة، والله تعالى أعلم.(367/28)
حكم رفع اليدين في الدعاء ومسح الوجه والجسم بعده
السؤال
ما حكم رفع اليدين في التأمين، وكذا مسح الجسم بعد الفراغ من التأمين أثابكم الله؟
الجواب
السؤال عام: من حيث الأصل المؤمِّن داعٍ، قال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس:89] وكان هارون مؤمِّناً ولم يكن داعياً، ومن هنا نص العلماء على أن المؤمِّن داعٍ؛ لأنه يقول: آمين.
ومعنى: آمين، اللهم! استجب، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه رفع كفيه في الدعاء، وجاء عنه في ذلك أكثر من خمسين حديثاً، ما بين صحيحٍ وحسن وضعيف، مما يقبل بعضه الانجبار، فهذه السنة محفوظة ما فيها إشكال، حتى في الصحيحين عليه الصلاة والسلام أنه ذكر: (الرجل أشعث أغبر يطيل السفر يمد يديه إلى السماء) يقول العلماء: إن هذا الحديث فيه ثلاث خصال من أسباب إجابة الدعاء، أولاً: أشعث أغبر، وقد قال في الحديث الآخر: (رب أشعث أغبر مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) لأن الدنيا ولّت عنه، فدفعه أهل الدنيا وأهانوه، ولكن الله لم يدفعه ولم يهنه، بل فتح له أبواب رحمته، فلم يجمع له بين هم آخرته ودنياه، بل عوضه عن دنياه بأحسن الثواب وأتمه وأكمله، فلو أقسم على الله لأبره واستجاب دعاءه.
ثانياً: قوله عليه الصلاة والسلام: (يطيل السفر) فالمسافر مستجاب الدعاء، وإذا كان سفره أبعد فإن الاستجابة أحرى، كما ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله ونقله عن الأئمة.
ثالثاً: يمد يديه إلى السماء، وقد قال في الحديث الذي حسنه غير واحد من العلماء: (إن الله حييٌ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً) وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة أنه رفع كفيه ودعا، إلا في بعض العبادات التوقيفية مثل: الصلاة، فلا يرفع فيها الكف إلا في المواضع التي شرع فيها رفع الكف، مثل: القنوت.
وذكر الحافظ ابن الملقن وحسن إسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنه رفع يديه لما قنت عليه الصلاة والسلام)، ونص الأئمة على أنه يشرع للمأمومين أن يرفعوا أيديهم تأميناً لدعاء الإمام في القنوت، فهذا الرفع ما فيه بأس.
وأما مسح الجسد والوجه فهناك تفصيل: مسح الوجه فيه حديث عمر، وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في البلوغ: أن له طرقاً يقوي بعضها بعضاً، مما يشهد أن للحديث أصلاً، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه) وهذا الحديث أصل في مشروعية مسح الوجه، وذكر الإمام الصنعاني رحمه الله في السبل وغيره: أن هذا من باب الفأل، كأنه من ثقته بالله وكمال توحيده وصدق ظنه في الله أصابته الرحمة، وأخذ حاجته من ربه، فكان أفضل وأشرف شيء ما عفره بالسجود لله وهو أن يمسح وجهه، هذا إذا صح الحديث، ومن العلماء والأئمة من ذكر: أن المسح للوجه يشرع في الدعاء، فلا ينكر على من فعله، لأن له أصلاً وإن توقف الإنسان متحرياً للسنة فلا بأس.
وأما بالنسبة لمسح الجسم كله فلا؛ لأنه لم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسحه، وإذا كان في مسح الوجه إشكال فكيف بمسح الجسم كله؟! ولذلك إن كان ولابد ماسحاً فإنه يقتصر على مسح الوجه، والله تعالى أعلم.(367/29)
المرأة المسلمة والدعوة إلى الله
السؤال
ما هو واجب المرأة المسلمة تجاه أخواتها من الأقارب والجيران في الدعوة إلى الله؟ وما هي الوسائل المعينة على ذلك؟ وهل المرأة مأجورة على دعوتها لأهلها وأقاربها، حتى وإن رفضوا وأعرضوا، أثابكم الله؟
الجواب
في الحقيقة الكلام على دعوة المرأة أمر يحتاج إلى تفصيل، ويحتاج إلى تأصيل، ويحتاج إلى شرح وبيان؛ لأنه كلما عظم الشيء وجلَّت مرتبته ومنزلته عند الله عز وجل، كان أحق أن يوفى حقه، ولكن هناك أمور: فالمرأة الصالحة إذا أراد الله بها خيراً حبب الدين إليها، فشرح صدرها، وطمأن قلبها بذكر الله عز وجل، فإذا أراد الله أن يعلي مرتبتها، وأن يعلي منزلتها، ألهمها طلب العلم، وألهمها أن تتبصر في أمور دينها، فتحب العلم، وتحب سماع العلم ومذاكرة العلم، فتتفقه في أمور دينها، وتعرف حلال ربها وحرامه، وشرعه ونظامه.
وتعلم كذلك ما يجب عليها فيما بينها وبين الله سبحانه وتعالى، من تصحيح عقيدتها، وسلامة إيمانها والتعرف على حقوق ربها، من الإخلاص وابتغاء ما عنده سبحانه وتعالى، فإذا أراد الله أن يعلي مرتبتها أكثر هيأها إلى العمل بهذا العلم الذي تعلمته، فتجد المرأة الصالحة تبحث عن الخير، فإذا وجدته تعلمته وعلمته، ثم إذا تعلمت ذلك العلم حرصت على التطبيق والعمل، فإذا أراد الله أن يزيدها علواً في الدرجة وعظماً في الأجر، شرح صدرها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأصبحت آمرة بأمر الله، ناهية عما نهى الله عنه، تقول بقول الله، وتنهى بنهي الله، وعندها تنال الحكمة التي لا يعطاها ولا يؤتاها إلا من أراد الله له الخير الكثير: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] وكثيراً من الله ليست بالهينة.
والحكمة المراد بها هنا علم القرآن والسنة؛ لأن الله أحكم بهما الأمور، وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:1] فالدين المستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم محكمٌ في ذاته، أحكمت آياته وأحكمت شريعته، فهو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى، وهو محكمٌ في بيانه، ومحكمٌ في تفصيله، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].
فتؤتى المرأة الحكمة، والنساء هن شقائق الرجال، فإذا أصبحت المسلمة حريصة بدأت أول ما تبدأ بفلذات كبدها، وأهل بيتها، فأمرت بطاعة ربها، بين بناتها وأبنائها، وكانت خير قدوة لهم، فكم من أبناء نشئوا على الخير والطاعة والبر حينما تربوا في أحضان أمٍ صالحة، وكم من بنات نشأن على الخير والبر حينما كانت تتلقفهن الأيدي الأمينة، من تلك الأم التي تخاف الله عز وجل في أمانتها ورسالتها، فتبدأ بأولادها والذكور والإناث، فإذا أراد الله عز وجل أن يعلي لها الدرجة جعلها داعية في قرابتها.
فلا تجلس مجلساً إلا كانت مباركة على ذلك المجلس، كما قال الله عن نبيه يحيى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31] فحملة العلم ودعاة العلم مباركون أينما كانوا، ما داموا يعلمون العلم وينشرون العلم، ويقولون بالحق وبه يعدلون، فالمرأة الصالحة إذا قالت بالخير ودعت إلى الخير كانت مباركة.
أما واجبها تجاه مجتمعها فإنها تأمر بما أمر الله عز وجل به، وتنهى عما نهى عنه بالموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة، والنصيحة الهادفة، وتأخذ بمجامع قلوب بنات المسلمين، وتحرص على أن تحببهن في الخير، وتؤلفهن في الخير، ما تكون فظةً، ولا تكون غليظة، ولا تكون منفرة، وإنما تكون ميسرة لا معسرة، مبشرة لا منفرة، إذا جاءت المجلس وتكلمت كان كلامها كالغيث لتلك القلوب العطشى الظمأى التي تنتظر ماء الوحي أن يحيي مواتها بإذن الله عز وجل، فتتكلم ذلك الكلام الهادف، الكلام المختصر المفيد الجيد، وعلى كل امرأة أرادت أن تسير في هذا المسير أن تكون على بصيرة.
فالذي ينبغي أن يحذر منه الرجال والنساء في مسألة الدعوة: الحذر من فتنة الدعوة، فإن للدعوة فتنة، قل أن ينتبه لها من يتحمل مسئوليتها، وهي فتنة الغرور بالنفس، فالمرأة والرجل والداعي والداعية، يبدأ الواحد منهم في الوعظ والرقائق، ثم يفتي في المسألة الواضحة، ثم لا يلبث أن يجر إلى الفتاوى الكبرى، التي لو عرضت على أئمة السلف لجثا الواحد منهم على قدميه خوفاً من الله عز وجل، ومع ذلك تجده من أجرأ الناس فيها، وهذا هو سبيل الردى؛ لأن الشيطان إذا يئس من الشر أخذ -والعياذ بالله- المفتون من جهة الخير، فعلى المرأة الحذر من هذه الفتاوى العجيبة التي يطلقها بعض النساء في الدعوة.
والعجب والأعجب من هذه الفتنة أن بعض النساء يغرر بهن، يقال لهن: من قال لكن: إن الدعوة خاصة بالرجال، ومن قال لكن: إنه لابد أن نحضر عند الرجال وعند المشايخ، ينبغي أن يكون عندنا مشايخ أيضاً من النساء، ونحن شقائق الرجال، والمرأة مثل الرجل، وغيرها من الدعوات والنعرات التي تخالف شرع الله عز وجل، من الغلو في أمر المرأة.
أقول: لا حرج أن يكون هناك داعيات من النساء، لكن أن تغتر هؤلاء الداعيات، وتصبح الواحدة منهن متصدرة لكي تفتي في الحلال والحرام، يقولون: ما وجدنا شيخاً إذاً هذه هي التي تفتي، وهي التي تعلِّم، وهي التي تجتهد، وهي التي تقعد وتؤصِّل، هذا هو الغلو الذي ينبغي الحذر منه.
وما هو موجود في النساء موجود في الرجال أيضاً، ولذلك تجد أناساً يتصدرون للدعوة بالوعظ، وما عرفوا إلا بالخطابة وترقيق القلوب، وفجأة أصبحوا يتكلمون في الأحكام، وفجأة أصبحوا يفتون، وفجأة أصبحت لهم أقوال، حتى إذا نزلت النازلة بُحِثَ عن رأيهم في المسألة، الله الله! رحم الله امرأً عرف قدر نفسه! ورد الأمر إلى أهله، وأنزل نفسه منزلتها اللائقة بها، فإذا كان واعظاً وقف عند وعظه، وزم نفسه بزمام التقوى، وجلس في مجالس العلم يتعلم ويضبط العلم حتى يصل إلى الدرجة التي يبوئه الله فيها مبوأ صدق، ولا يغشنَّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
من الغش أن يأتي الإنسان ويتصدر وليس عنده علم، ولم يأذن له العلماء بالفتوى، ولم يأذن له العلماء ببيان الأحكام، وهل تشتت الأمة وتفرقت إلا حينما لمع أقوام لا حظّ لهم في العلم، فأصبحوا يفتون، وأصبحوا يقعدون ويؤصلون، حتى شوشوا على أئمة العلم والهدى، فأصبح منارُ الحق ملبساً عليه بفتاوى عجيبة غريبة قل أن تجد الناس تصل إلى عالم يوثق بدينه وعلمه من كثرة من يفتي، فتجد الفتوى على لسان كل أحد، والأعجب من هذا أنك تجد مثل هذا في الرجال والنساء على حد سواء، فالمرأة تقول: هذا في رأيي ما فيه شيء، والرجل يقول: هذا في رأيي ما فيه شيء، متى كان الرأي حكماً في دين الله وشرعه؟ متى كان الرأي يفتى به في الحلال والحرام؟ والله عز وجل يقول: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23] فالذي يريد الهدى من ربه، فليتبع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والمرأة الداعية تزم نفسها بزمام التقوى، فإذا سئلت عن شيءٍ لا تعلمه قالت: الله أعلم، أو قامت بسؤال العلماء ونقل المسألة إلى العلماء، لكي يفتوها ويعلموها ويرشدوها ويدلوها، كي تدل أخواتها على الخير، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله علَّمه، ومن اتقى الله فهمه، ومن اتقى الله جعل له فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، وجعل له نوراً يمشي به، وصراطاً يهتدي به إلى لقاء ربه، حتى يلقى الله غير مبدل ولا مفتون ولا مفتون به.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم! أن يجعلنا ذلك الرجل، وأن يوفقنا لهذه النعمة الكريمة، وفي الختام تعلمون ما أصاب إخوانكم في فلسطين وهم أشد ما يكونون حاجة إليكم بعد الله عز وجل، وللمسلم على أخيه المسلم حقوق ينبغي عليه أن يحفظها ولا يضيعها، والمسلم إذا أصابته النكبة فينبغي على أخيه المسلم أن يقف معه، وأن يناصره ويؤازره بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وأقل ما يكون -وليس بالقليل- كثرة الدعاء لهم، والابتهال لله سبحانه وتعالى، فكم من كفٍ صادقة من قلبٍ صادق كَبَتَ الله بها عدوه! وكم من كفٍ صادقة من رجلٍ مؤمن صادقٍ مع الله عز وجل رفع الله دعوته! وأعلى بها منزلته! فكونوا صادقين في الدعاء لإخوانكم، وتذكروا ما يعانونه من الظلم ومن الاضطهاد، ومن الأذية والبلاء مما لا يشتكى إلا إلى الله جل وعلا، فاجتهدوا في الدعاء لهم ومناصرتهم ومؤازرتهم بالماديات والمعنويات على قدر الاستطاعة، وتذكير المسلمين بذلك.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينصر إخواننا في فلسطين، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! أصلح أحوالهم، اللهم! نور قلوبهم، اللهم! أنزل عليهم السكينة والثبات، اللهم! أنزل عليهم السكينة والثبات، اللهم! اجمع شملهم، اللهم! وحد صفوفهم، اللهم! سدد آراءهم، اللهم! صوب آراءهم، اللهم! سدد سهامهم، اللهم! صوب آراءهم.
اللهم! عليك بأعدائك أعداء الدين، اللهم! عليك باليهود فإنهم طغوا وضلوا، وأشركوا وأفسدوا وأرجفوا، اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت يا من يسمع الدعاء ويكشف البلاء فاطر الأرض والسماء، اللهم! إنا نستغيث بك لا إله إلا أنت لإخواننا، اللهم! عليك باليهود ومن شايعهم، اللهم! شتت شملهم، اللهم! فرق جمعهم، اللهم! صدع بنيانهم، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! فرق جمعهم، أنزل بهم لعنتك، اللهم! اسلبهم عافيتك، اللهم! اسلبهم عافيتك، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل بهم رجسك ولعنتك إله الحق لا إله إلا أنت، اللهم! اقصم ظهورهم، وشتت أمورهم، اللهم! اقصم ظهورهم، اللهم! اجعل أمرهم إلى سفال، وعاقبتهم إلى خزيٍ ووبال، يا ذا العزة والجلال! يا كبير يا متعال! اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت نسألك بعزتك وق(367/30)
شرح زاد المستقنع - باب العاقلة وما تحمله [1]
إن من رحمة الله بعباده أن فرض على العاقلة التي هي عصبة الإنسان وقرابته أن تتحمل الدية عنه في قتل الخطأ، ولقد كانت العاقلة موجودة في الجاهلية، وأقرها الإسلام؛ لما فيها من الألفة والتكاتف والترابط والمحبة بين الأقرباء بعضهم بعضاً.
وللعاقلة ثلاث جهات: جهة النسب، وجهة الولاء، وجهة الحلف.
وللعاقلة أحكام كثيرة منها: الاكتفاء بالأقربين حال الغنى واليسار، وعدم وجوب العقل على غير المكلف ولا الرقيق ولا المرأة، ولا مع اختلاف الملة وغير ذلك من الأحكام.(368/1)
حقيقة العاقلة وما يجب عليها وجهاتها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
فقال رحمه الله تعالى: [باب العاقلة وما تحمله] العاقلة من العقل، والعقل في لغة العرب: الحبس والمنع، يقال: عقل البعير إذا ربطه ومنعه من السير، وسمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه، بمعنى: يمنعه عما لا يليق من سفاسف الأمور، والمراد بالعاقلة هنا في اللغة والاصطلاح شيء واحد: وهو العصبة، والعصبة سميت عصبة من العصابة، والمراد بهم قرابة الإنسان المتعصبون بأنفسهم، كإخوانه وبني إخوانه من جهة الأشقاء أو لأب، وكذلك أيضاً بنو العمومة كأعمامه وبني أعمامه وبني بني أعمامه وإن نزلوا من جهة الأب والأشقاء، هؤلاء كلهم قرابة الإنسان، يوصفون بكونهم عصبة كما تقدم معنا في العبادات والمعاملات أكثر من مرة، وصفوا بذلك لأنهم كالعصابة تحيط بالرأس وهم يحيطون بالقريب، فإذا نزلت به نازلة أو ألمت به مصيبة -لا قدر الله- فهم الذين يتعصبون له ويحيطون به، هؤلاء يوصفون بكونهم عاقلة؛ لأنهم يعقلون قريبهم، بمعنى: يحيطون به فيمنعونه من الأعداء إذا أرادوه بسوء؛ ولأنهم إذا وجدت الدية أخذوا الإبل فعقلوها عند باب المجني عليه؛ لأنهم هم القرابة الذين يذهبون؛ ولأنهم يعقلون بمعنى: يتحملون الدية، يقال: عقلت الدية أي: تحملتها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (ثم أنتم يا خزاعة! قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا عاقله) يعني: دافع ديته، فهذه كلها أوجه في سبب تسميه العاقلة بهذا الاسم.
المراد بالعاقلة: تشريع إسلامي كان موجوداً في الجاهلية، حيث كانوا في الجاهلية تتحمل قرابة الإنسان الدية وتدفعها عن قريبهم، وأقر الإسلام هذا العمل الذي كان موجوداً في الجاهلية، وهذبه وقومه، وجاءت شروط شرعية أحق الله بها الحق وأبطل بها الباطل، وبناءً على ذلك لو أن شخصاً أخطأ فقتل شخصاً خطأً ووجبت عليه الدية، فقرابته وعصبته يدفعون هذه الدية ويتحملونها عنه، وهكذا لو أنه صدم شخصاً بسيارته خطأً فوجبت عليه نصف الدية، فقرابته هؤلاء من العصبة يدفعون نصف الدية، فهم يتحملون عنه هذه الحمالة، وهذا قضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قضى بالدية على عاقلة المرأة من هذيل، وذلك حينما اختصمت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فقضى عليه الصلاة والسلام بديتها على عاقلتها.(368/2)
الجهة الأولى: جهة الحلف
في قصة قتيل هذيل الذي قتلته خزاعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تحمله من باب الحلف؛ لأنه بين أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وخزاعة حلفاً في الجاهلية، وخزاعة أحلاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية والإسلام، ولذلك كما تعلمون في صلح الحديبية أن من أسباب نقض هذا الصلح من قريش إغارة حلفائهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم من خزاعة، حتى قال قائل خزاعة: اللهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا فناشده بالحلف الذي كان موجوداً واستمر وبقي بعد الإسلام، ويدل هذا على مشروعية العاقلة بالأحلاف بين القبائل، فإذا وقع الحلف بين القبيلة والقبيلة على المناصرة والمؤازرة والتحمل، فإن هذا له أصل في الإسلام، ومحمول على ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه أبقى حلف آبائه وأجداده مع خزاعة، مع أنه حلف مع القبيلة، فإذا وقعت المناصرة بين قبيلة وقبيلة وبينهم حلف، فإن هذا الحلف تجب به المناصرة، وتتحمل به القبيلة عن القبيلة الأخرى إذا حصلت دماء، وحصلت ديات كثيرة لم تستطع القبيلة الأولى أن تتحملها، فإنها تنتقل إلى القبيلة الثانية بالحلف.
والعاقلة في الأصل كما سيبين المصنف رحمه الله: من جهة النسب ومن جهة الولاء، ويلتحق بذلك حلف القبائل -كما ذكرنا- لثبوت السنة به، وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] على أن المراد به التعاقد باليمين، والحلف على النصرة بين القبائل بعضها مع بعض، وأما إذا انتقل شخص من قبيلته إلى قبيلة أخرى؛ بسبب دم أو فرار من حق فهذا لا حلف فيه على قول طائفة من العلماء، ولا يحصل به العقل، كما قرره غير واحد من الأئمة رحمهم الله، وبينوا: أن المراد به الأحلاف الظاهرة، والحلف إذا كان على الوجه الذي ذكرناه، وكان على أمور شرعية لا جاهلية فيها فإنه مشروع؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: (شهدت بدار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أُحب أن لي به حُمر النعم ولو دُعيت لمثله في الإسلام لأجبت) وهذا الحلف: هو حلف الفضول، وحلف الفضول وقع في دار عبد الله بن جدعان في أنهم يناصرون المظلوم، ويعينون المحروم، وأنهم يعينون الحاج والمنقطع، ونحو ذلك من الأمور التي لا تخالف شرع الله عز وجل.
قوله: (باب العاقلة وما تحمله) هذا الباب في الحقيقة هو من عدل الله عز وجل، وهو باب عظيم، عدلت فيه الشريعة بين الناس، وجعلت العقل على قرابة الإنسان؛ لأن الذي يرث الإنسان هم قرابته، فكما أنهم يأخذون الإرث ويغنمون، كذلك يتحملون الخسارة، ومن يعترض على الإسلام أنه أعطى الذكر مثل حظ الأنثيين أخطأ في فهم الإسلام؛ لأن الإسلام في الأصل جعل الذكر يتحمل ويعقل ويغرم، وفي النفقة يتحمل النفقة والأنثى لا تتحمل هذه التبعات، ولذلك في نظام العاقلة في الإسلام لا تتحمل الأنثى، كما سيأتي إن شاء الله تفصيله؛ لأن العقل للقرابة بالنسبة للعصبة المتعصبين بأنفسهم، وهذا من أقوى الأمور التي تدمغ بها هذه الشبهات.
والإسلام ربط بين الغنم والغرم، والقاعدة تقول: إن الغرم بالغنم والغنم بالغرم، وهو معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنن: (الخراج بالضمان).
فالمصنف في هذا الموضع سيذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقل الديات.(368/3)
الجهة الثانية: جهة العصبة من النسب
قال رحمه الله: [عاقلة الإنسان عصبته كلهم من النسب] قوله: (عاقلة الإنسان عصبته كلهم) أي: أن عاقلة الإنسان إذا جنى جناية هم عصبته، لو أنه قاد سيارة ودهس شخصاً، أو كان معه في السيارة أربعة أشخاص وماتوا، وكان متسبباً في موتهم، فعليه أربع ديات، من الذين يتحملون هذه الديات؟ هم العاقلة، وهم عصبته كلهم، العصبة هي الأقرب فالأقرب.
وعصبة الإنسان هم عمود النسب: أولاً: آباؤه وإن علوا، أبيه وأبو أبوه الذي هو جده من جهة الذكور متمحضاً بالذكور دون الإناث.
ثانياً: أولاده الذكور وفروعه من الذكور: أبناؤه وأبناءُ أبنائه وإن نزلوا، فالإناث لا يدخلون في هذا التعصيب.
ثالثاً: فروع أبيه كإخوانه الأشقاء، ومن شاركه في والده وهم الأخوة لأب دون الأم، فالأخ لأم ليس من العصبة ولا يتحمل.
ثم رابعاً: ننظر إلى من شاركه في جده الذين هو أصل أبيه، وهم أعمامه الأشقاء، وأعمامه لأب، وأبناؤهم.
خامساً: ننظر من شارك أبا الجد، ثم من شارك جد الجد، ننظر في هؤلاء الأقرباء، إن كان عندهم قدرة وعندهم مال، واستطاعوا أن يدفعوا خمسين ألفاً التي هي نصف الدية، أو مائة ألف فلا إشكال، حينئذٍ نكتفي بالأقرباء، الأقرب فالأقرب، فإذا كانوا فقراء وضعفاء وفيهم من لا يتحمل، وظروفهم لا تساعد ننتقل إلى الأبعد فالأبعد، حتى نصل إلى جميع العشيرة، يعني: ينظر إلى الأقرب، ثم إلى العشيرة، ثم إلى القبيلة بكاملها فيتقسم عليها، فلو كانت القبيلة قليلة العدد، قليلة المال، ولا تستطيع، ولها حلف مع قبيلة أخرى، انتقلت العصبة إلى القبيلة الأخرى كما ذكرنا في العقل بالأحلاف.
هذا بالنسبة لجهة النسب والقرابة، وقد بينّا تعريف النسب والقرابة وقلنا: ما سمي بذلك إلا لأن الإنسان ينسب، بمعنى: يضاف؛ لأن النسب أصله الإضافة، وسمي القريب بهذا الاسم؛ لأنه يضاف إلى قريبه.(368/4)
الجهة الثالثة: جهة الولاء
قال رحمه الله: [والولاء] الولاء: نعمة المعتق على العتيق، وهناك مولى أعلى ومولى أسفل: المولى الأعلى: هو نفس المعتق، والمولى الأسفل العتيق، فإذا أعتق المولى صار بينه وبينه ولاء، ونحن بيّنا أن الرق ليس مختصاً بلون ولا بجنس ولا بطائفة، وإنما هو راجع إلى الكفر، فإذا ضرب الرق بهذا السبب وأعتق شخص مولىً له صار هذا العتق موجباً للولاء، حتى ولو أعتقه في كفارة واجبة، فإذا ثبت الولاء، ففائدته: أن هذا الرقيق لو توفي يرثه موالاه عند انعدام الورثة، مثلاً: لو فرضنا أنه أخذ عبداً من الروم، ثم أسلم هذا العبد وأعتقه سيده في كفارة أو أعتقه نافلة، فلما أعتقه قام هذا المعتق وباع واشترى فأصبح ذا مال كثير، فلما توفي نظرنا إلى قرابته لم نجد له قريباً يرثه، وليس عنده أولاد ولا إخوان ولا قرابة ولا زوجة، أو عنده زوجة وفاض المال، من الذي يرثه إذا انقطع من جهة النسب؟ الميراث ينتقل إلى الولاء، فالولاء سبب من أسباب الميراث، كما أن السيد يأخذ الولاء في حال الغنيمة، يتحمل أيضاً مع المولى الأسفل في حال الجناية، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب) كما في الصحيح، وقال: (قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق) والنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى عن بيع الولاء وهبته)، فجعل هذه وصلة بين المعتِق والمعتَق، وفي هذه الحالة يتحمل بالولاء كما ذكرنا.(368/5)
الاكتفاء بالأقربين في الدية حال الغنى واليسار
قال رحمه الله: [قريبهم وبعيدهم] قوله: (قريبهم وبعيدهم) نبدأ بالأقربين، إذا اكتفوا بهم، خاصة إذا كان فيهم غنى ويسار وتحملوا الدية، وقالوا: نحن نتحمل، فمثلاً: لو أن شخصاً لزمته دية في قتل الخطأ، وكان له، ثلاثة أعمام أشقاء، أو ثلاثة أعمام أشقاء ولأب، وهم أغنياء أثرياء فقسموا هذه الدية بينهم، وقالوا: نتحملها، سقطت عن الأبعد، ولزمت هؤلاء، لكن لو لم نكتف بالأعمام، فحينئذٍ ننتقل إلى بني الأعمام وبني بني الأعمام، وإذا كان الأعمام في درجة الجد، فإنه ينتقل إلى أعمام الأب وأعمام الجد وأعمام جد الجد وبنيهم، يعني: لو كان لهم نسل وذرية، فهؤلاء كلهم قريبهم وبعيدهم يستوون في فرض العقل.
وهذا من نعم الله عز وجل على المسلمين، وما كانت تعجزهم هذه الحقوق، ثم انظر رحمك الله! إذا أعان القريب قريبه في حال الخطأ كيف تجتمع القلوب! وكيف تتآلف وتتكاتف وتتعاطف! ويحصل بينها المحبة والتواصل! وهذا مقصود الإسلام: أنه يحرص على ربط الناس بعضهم ببعض، فكيف إذا كانوا أقرباء؟! فلو أن إنساناً مثلاً: يقود سيارته ومعه أشخاص وحصل له حادث وتوفي هؤلاء الأشخاص، ثم جاء أقرباؤه وتحملوا الديات، كيف يكون أثرها في نفس هذا الشخص؟ وكيف يحب جماعته وقرابته ويتصل بهم؟ إذاً الإسلام يقوي هذه الوشائج، ويقوي هذه الصلات، ويذكر القريب بحق قريبه عليه، ولا شك أن في هذا خيراً كثيراً، مع أن فيه تحملاً للمسئولية وتحملاً للضرر؛ لكنه يحدث شيئاً من المحبة والترابط بين أفراد المجتمع، ناهيك عن القرابة الذين هم أولى وأحق من يكون بينهم ذلك.(368/6)
وجوب الدية على الحاضر والغائب من الأقرباء
قال رحمه الله: [حاضرهم وغائبهم] (حاضرهم وغائبهم) الأقرباء فيهم الذي يكون في نفس المدينة، وفيهم الذي يكون في مدينة أخرى، وفيهم الذي يكون في الحضر، وفيهم الذي يكون في البادية، فبعض العلماء يرى: أنه إذا كان الغائب غائباً بعيداً فإنه ينظر إلى الأقرباء الحاضرين ولا ينظر إلى الأقرباء البعيدين، وتفرض الدية مقسمة على الأقرباء الحاضرين.
ومن أهل العلم من قال: إن الأقارب لو كانوا في بلد بعيد، فعلى قاضي البلد الذي فيه الجناية أن يكتب إلى قاضي البلد الذي فيه البعيد ويلزمه، والحقيقة من حيث الأصل هذا أقوى؛ لأن العبرة بوجود الموجب للتحمل والمسئولية، وهذا موجود من جهة القرابة، فيستوي قريبهم وبعيدهم، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله.(368/7)
حكم دخول الجاني في تحمل الدية
اختلف العلماء رحمهم الله في أخذ الدية من القاتل نفسه، لو أن شخصاً قاد سيارة، وحدث له حادث وتحمل فيه ثلاثَ دياتِ، هل الدية يدفع هو فيها أم أنها تكون على العاقلة فقط؟ وجهان لأهل العلم: الوجه الأول: من أهل العلم من قال: العاقلة هي التي تحمل والقاتل لا يتحمل شيئاً، وهذا له نظائر في الشريعة، ويقولون: إن العاقلة ترثه، وتأخذ الميراث من تعصبهم بأنفسهم، كما ذكرنا في القرابة من جهة الآباء والأصول، فقالوا: في هذه الحالة يتحملون، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث في الصحيحين: (قضى بديتها على عاقلتها) ما قال: عليها وعلى عاقلتها، قالوا: فخص الدية بالعاقلة، وفي الحديث الآخر: (فقضى بديته على عاقلته) وقال: (ثم أنتم يا خزاعة! قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله) فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه أنه يعقل، ما قال: إن على القاتل أو على قرابة القاتل أو في مال القاتل شيئاً من العقل.
والوجه الثاني: أن يتحمل القاتل جزءاً على قدر غناه ويسره، كما سيأتي إن شاء الله، فإن كان القاتل ما عنده مال فإنه ينتقل إلى أقربائه.
وفي الحقيقة القول الأول قوي جداً من جهة النص.
قال: [حتى عمودي النسب] في المسألة الأولى: إذا أثبتنا أن القاتل لا يتحمل بناءً على ظاهر الحديث، في هذه الحالة اختلف العلماء في عمودي النسب أصوله وفروعه، قالوا: إذا امتنع فإن عليه أن يدفع فأصله آخذ حكمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني) فالولد قطعة من والده، وإذا كان الفرع لا يلزمه فالأصل من باب أولى وأحرى؛ لأنه أصله، ولأنه لم يجن الجناية، قالوا: فتسقط عنه، والفرع كذلك؛ لأنه بضعة من القاتل، والأصل كذلك؛ لأن القاتل بضعة منه.
فقوله: (حتى عمودي النسب) يرد على هذا القول، ويرى بعض العلماء: أن الحكم مختص بالقاتل فقط؛ لأن الأصل أنهم يتحملون، وسقطت عن القاتل الدية على الذي ذكرناه، فيضعف جريان القياس أو جريان الأصل من هذا الوجه.(368/8)
الأصناف التي لا يجب عليها العقل(368/9)
عدم وجوب العقل على الرقيق
قال رحمه الله: [ولا عقل على رقيق] قوله: (ولا عقل على رقيق)؛ لأنه لا يملك المال، وملكيته ضعيفة، والدليل على ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يد العبد عن الملكية.(368/10)
عدم وجوب العقل على غير المكلف
قال رحمه الله: [وغير مكلف] قوله: (وغير مكلف) الذي هو الصبي والمجنون، فلو أن قرابته كان فيهم صبيان، كما لو كان لو كان ابن عمه صبياً دون البلوغ، وعنده مال، أو كأن يكون يتيماً وورث عن أبيه مالاً، فإننا لا نوجب في ماله عقلاً؛ لأن العاقلة لا تثبت في غير المكلف، قالوا: لأن الأصل في العاقلة المعاضدة والنصرة، فكما أنه ينصره إذا أخطأ، كذلك يتحمل هو خطأه، الآن هذا الولد لو أنه بالغ وحصل له نفس الخطأ تحمل قريبه، والعكس مادام وقع لقريبه فإنه يتحمل، لكن حينما يكون قاصراً ودون البلوغ ولا يستطيع النصرة ولا يستطيع المعاضدة، وبناءً على ذلك قالوا: إنه لا عليه، وهذا الحق سقط عنه بناءً على الحديث الذي ذكرناه، وقالوا: إن غير المكلف من صبي ومجنون لا عقل عليهما؛ وذلك لسقوط المعاضدة والمناصرة منهما.(368/11)
عدم وجوب العقل على الفقير
قال رحمه الله: [ولا فقير] قوله: (ولا فقير)؛ لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فلو كان بنو أعمامه كلهم فقراء فإنه يُنتقل إلى بني أعمام الأب، وإذا كان بنو أعمام الأب كذلك فإنه ينتقل إلى بني أعمام الجد، يعني: يُنتقل إلى الأقرب فالأقرب على حسب اليسار والغنى، ولا تجب على فقير، فالفقير لا يستطيع أن يعول نفسه فكيف يعول غيره؟ ولذلك قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] والإجماع على أن الفقير لا يجب عليه العقل.(368/12)
عدم وجوب العقل على الأنثى
قال رحمه الله: [ولا أنثى] قوله: (ولا أنثى) لقد ذكرنا أن هذا مختص بالذكور دون الإناث، ولذلك الذكر عليه النفقة وله الميراث بالعصبة، ولذلك لو انفرد هذا الذكر لأخذ مال قريبه كله بالتعصيب، وانظر كيف يكون التفريق في الشرع بين الذكر والأنثى، في الميراث وفي المؤاخذة، ومن هنا جاء العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، والأنثى لا تناصر ولا تعاضد؛ لأن الأنثى ليست من أهل النصرة والمعاضدة، ولذلك سقط الجهاد عن النساء، ومن هنا قالوا: إن الأنثى لا تتحمَّل ولا تعقل.(368/13)
الأحوال التي لا يجب فيها العقل على العاقلة(368/14)
عدم وجوب العقل على من خالفت ملته ملة الجاني
قال رحمه الله: [ولا مخالف لدين الجاني] قوله: (ولا مخالف لدين الجاني)؛ لأنه ينقطع إذا كان على ملة غير ملة الجاني، فليس بينهما الأصل الموجب للمعاضدة والمناصرة في الدين والشرع؛ لأن العاقلة فيها المناصرة والمعاضدة بالطبع، والمناصرة والمعاضدة بالشرع، فإذا وجد ما يمنع المناصرة والمعاضدة بالطبع امتنع، وإذا وجد ما يمنع المعاضدة والمناصرة بالشرع امتنع، ومن هنا لا يقضي القاضي على قريبين من ملتين مختلفتين، وصورة هذه المسألة: كانوا في القديم -هذا بالنسبة لأهل الكتاب- إذا كانوا تحت حكم المسلمين وحكم القاضي بينهم في العقل بشريعتنا، فإن القاضي يحكم بالعاقلة، فإذا كان هناك قريب من العاقلة على ملة غير ملة الجاني لم يحمل، ولا يقضي القاضي بحمالته، فلا يقضى بين ملتين مختلفتين، ومن باب أولى بين المسلمين والكفار.
ولذلك قطع الله التوارث بين المسلم والكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح، حينما قال له أسامة بن زيد -حبه وابن حبه رضي الله عنه وعن أبيه-: (أين تنزل غداً؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ -ثم قال عليه الصلاة والسلام-: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، منزلنا بخيف كنانة حيث تقاسموا على الكفر)، فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التوارث بين المسلم والكافر.(368/15)
عدم وجوب العقل على العاقلة في العمد المحض
قال رحمه الله: [ولا تحمل العاقلة عمداً محضاً] قوله: (ولا تحمل العاقلة عمداً محضاً) بعد أن بين حقيقة العاقلة، ومن هم العاقلة، ومن الذي يُدخل في العاقلة، ومن الذي لا يدخل، شرع رحمه الله في الموجبات للعقل، وهو الخطأ دون العمد، لكن لو قتل -والعياذ بالله- عمداً فالعاقلة لا تحمل الدية، لو قال أولياء المقتول: نريد الدية، فقال القاتل لعاقلته: ادفعوا الدية، نقول: لا تلزم العاقلة الديةُ، إذا كان عمداً محضاً.(368/16)
عدم وجوب العقل على العاقلة إذا جنى الرقيق
قال رحمه الله: [ولا عبداً] قوله: (ولا عبداً) كذلك لا تحمل العاقلة العقل إذا كان الجاني رقيقاً مملوكاً؛ لأن جنايته في قيمته.(368/17)
عدم وجوب العقل على العاقلة في صلح الإنكار
قال رحمه الله: [ولا صلحاً] قوله: (ولا صلحاً) أي: لا تحمل العاقلة العقل في صلح الإنكار، وهذا تقدم معنا في مسألة الصلح، وبينَّا في مسائل الصلح أن الصلح يكون على الإقرار وعلى الإنكار، فخصه طائفة من العلماء على أن العاقلة لا تحمل في صلح الإنكار خاصة، وهذا الذي نفاه المصنف من عدم العقل في هذه الصورة، وأصله أثر ابن عباس الذي رواه البيهقي في سننه، وصحِح وقفه وضعف رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الزيلعي في المرفوع: إنه غريب، يعني: المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضعف بعض العلماء رحمهم الله إسنادَ المرفوع، لكن العمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله.(368/18)
عدم وجوب العقل على العاقلة في اعتراف لم تصدق به
قال رحمه الله: [ولا اعترافاً لم تصدقه به] لو اعترف بجناية وقال: أنا قتلت فلاناً خطأً، والعاقلة لا تصدقه بهذا، قالوا: إنه لا تحمل العاقلة هذا الاعتراف الذي تنكره، إذا كان لإنكارها وجه؛ لأنه قد يتواطأ هذا الشخص مع أولياء المقتول، في أنه يضغط على جماعته وقرابته وقبيلته، ثم يقتسم ذلك بينه وبين من يدعي زوراً وكذباً أنه اعتدى على صاحبهم أو سفك دمه، وهذا من باب سد الذرائع.(368/19)
أقوال العلماء في القدر الذي تحمله العاقلة
قال رحمه الله: [ولا ما دون الدية التامة] قوله: (ولا ما دون الدية التامة) اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة القدر الذي تحمله العاقلة، بعض العلماء يقول: العاقلة تحمل القليل والكثير في الضمانات التي ذكرناها، ولا يتقيد هذا لا بالثلث ولا بنصف العشر من الدية، ولا بما يعادل الغرة، ومن أهل العلم من حده بالغرة كـ أبي حنيفة رحمه الله، ومنهم من حده بالثلث كما هو مذهب الحنابلة، والمالكية عندهم وجه في ذلك رحمة الله على الجميع، وفي الحقيقة عندهم نظر في الأدلة قد يقوى حمل القليل والكثير؛ لأن التحديد بالثلث مبني على النظر، والأصل في الحمالة بأسبابها وموجباتها أنه يتحمل جناية غيره، سواءً كانت قليلة أو كثيرة.(368/20)
الأسئلة(368/21)
حكم الانتقال من القريب إلى البعيد في العقل مع الاستطاعة
السؤال
هل الانتقال من القريب إلى البعيد توقيفي، أم أننا نلزم القبيلة بالدفع والمشاركة، علماً بأن أقرباء الجاني يستطيعون تغطية الديات، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فعلى القاضي أن ينظر في قرابة الشخص ويفرض عليهم على حسب غناهم ويسرهم، فهناك الغني، وهناك المتوسط، فإذا اجتزأ بالأقرباء القريبين من الشخص فإن له ذلك، ولا ينتقل للأبعد، فهي تختص بالأقرب فالأقرب، فإذا سدوا لم ينتقل إلى الأبعد، والله تعالى أعلم.(368/22)
حكم جمع المال للنوازل وحكم زكاته
السؤال
عندنا في القبيلة يلزم كل بالغ بدفع مبلغ معين، وأحياناً تتكدس الأموال المجموعة لغرض العقل، فهل في هذه الأموال زكاة، أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة لصندوق القبيلة، ينبغي أن يعُلم أنه لا يُحكم بخروج المال من ذمتي أنا الدافع إلا إذا وصل لمستحقه، فمن هنا نقول: إن الأصل أن المال لمن دفع، وإذا كان لمن دفع فلا نحكم بانتقال يده؛ بدليل أنه لو مات لوجب رده إلى ورثته شرعاً، لو قالت القبيلة: ما نرده، نقول: هذا حكم خلاف شرع الله عز وجل، الأصل أنه يرد إلى صاحبه؛ لأنه دُفع من أجل الطارئ، وما دُفع لسبب يتقيد بذلك السبب، وإذا مات الشخص ولم يُدفع ذلك المال فإنه يرد إلى قرابته وورثته، هذا مال يجب أن ينظر إلى سبب الدفع فيه، فإذا كان الذي دفعه على أنه للنوازل والعوارض، وإذا لم توجد هذه النوازل والعوارض، فهو في ملكيته حتى تحدث هذه النوازل والعوارض، إذا ثبت هذا فعليه زكاته، وإذا مات فإنه يرد إلى ورثته ولهم النظر في ذلك المال.
بعض العلماء يقول: هذا المال أصبح لا مالك له، وإذا كان لا مالك له فإنه لا تجب فيه الزكاة، وهذا محل نظر، أولاً: إذا اختلف عندنا قولان نرجع إلى الأصل، هل الأصل في هذا المال أنه مملوك لدافعه أو لغيره؟ وهل الذي دفعه لسبب خرج عن يده؟ كأن يقول: إذا حدث حادث، فاخصموا منه قسمي أو نصيبي من العقل، فلو قال قائل: إن هذا مدفوع ومفروض على أفراد القبيلة، من أجل إذا طرأ طارئ، بغض النظر عن العاقلة أو غيرها، نقول: إن هذا الأصل ينبغي أن ينُظر فيه؛ لأن إلزام الناس بالدفع في غير ما ألزمت به الشريعة يحتاج إلى نظر، ولا يُحرج الناس ولا يؤخذ المال بسيف الحياء، وأموال الناس لها حرمة كحرمة الدماء.
ومن هنا نقول: إن هذا المال ملك لمن دفع، حتى يدل الدليل على أنه خرج عن ملكيته، فلو قال قائل: إنه تصدق به، قلنا: لم يصل إلى يد المتصدق عليه، فأصبح شيخ القبيلة وكيلاً بدفعه للمحتاج، ومن دفع صدقة إلى شخص من أجل أن يعطيها إلى محتاج ولم يعطها، فالوكيل منزل منزلة الأصيل، ولا زالت يده يد أمانة، والمال واجب زكاته، فلو أعطيت رجلاً مائة ألف ليتصدق بها على الفقراء، وحبسها حتى حال عليها الحول وجبت زكاتها إجماعاً؛ لأنها لم تصل إلى مستحقيها، ولم تخلُ يدك من الموجب للزكاة إلا بعد أن يستلمها المسكين والمحتاج، فإذا كانت الأموال دفعت بسبب، والسبب لم يقع ولم يحدث، فلا زالت في ملك أهلها، ويجب ردها إلى أهلها إذا طلبوا ذلك المال، أو حدث أن توفي الشخص حينئذٍ يُرجع المال إلى ورثته، وينظر في قول الورثة، ويجري عليها حكم التصدق بالثلث، على الأصل المعروف في الشرع إذا قصد بها الصدقة، وأما إذا قصد بها العقل فلا إشكال أنها ترجع إلى الورثة، ثم ننظر في عقل الورثة إذا نزل الموجب للعقل، والله تعالى أعلم.(368/23)
حكم تحمل الدية عن الفاسق
السؤال
إذا كان القول الصحيح: أن العاقلة تتحمل الدية ولا يتحملها القاتل المتسبب في الحادث، فهل إذا كان هذا القاتل معروفاً عنه عدم المبالاة وعدم الاستقامة؟ فهل يدفع عنه أيضاً، أثابكم الله؟
الجواب
تحمل العاقلة يستوي فيها البر والفاجر، يعني: لو كان هذا السائق فاسقاً يشرب الخمر أو يزني -والعياذ بالله- فهذا حق من حقوقه، فلو أنه توفي لَوَرِثْتَه سواءً كان براً أو فاجراً، ما دام أنه مسلم ولم يخرجه فسقه عن الإسلام، فالشاهد: لا ينُظر فيه إلى كونه فاسقاً أو صالحاً، هذا لا عبرة به، العبرة بكونه قريباً له حق القرابة، وما بينه وبين الله من الأخطاء والذنوب هذا شيء بين العبد وربه وليس بيننا وبينه، فنحن لسنا مكلفين بهذا الأمر.
إذاً يستوي في ذلك برهم وفاجرهم، وعليه فيعقل عن الفاسق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل، ولم يقل: على عاقلتها إن كانت تقية، ولم يقل: على عاقلتها إن كانت صالحة، هذا حكم عام في الشرع، له سبب وهو القرابة، ومن ذلك يبقى الحكم على هذا الأصل، والله تعالى أعلم.(368/24)
التوفيق بين قوله: (ولا تبطلوا أعمالكم) وقوله: (المتطوع أمير نفسه)
السؤال
كيف نوفق بين قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (المتطوع أمير نفسه)، أثابكم الله؟
الجواب
لا تعارض بين عام وخاص، فقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] عام وقوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه) خاص، فلا تبطلوا أعمالكم عام، يشمل الفرائض والنوافل، ويشمل جميع الأعمال الصالحة، سواءً كانت في الفريضة: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] فإذا كبرت لصلاة الفريضة فعليك أن تتمها، وإذا ابتدأت صوم الفرض فعليك أن تتمه، وإذا حججت فعليك أن تتم الحج، وإذا اعتمرت فعليك أن تتم العمرة، {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] هذا في الفرائض.
أيضاً قوله سبحانه: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] في النوافل، فلو أن شخصاً تطوع بصلاة، فإنه لا يقطعها إلا إذا طرأ له طارئ، أو رخص له الشرع بالقطع.
لقد نهانا الله عز وجل أن نبطل أعمالنا؛ لأن إبطال الأعمال فيه مخالفة للشرع إذا كان العمل واجباً، فمن قطع صلاته وهو يصلي الظهر بدون سبب فإنه آثم شرعاً؛ لأن الله أمره بإتمام صلاته وأداء حقه سبحانه، ومن أفطر في رمضان من دون عذر فإنه آثم شرعاً، ولم يقضه صيام الدهر ولو صامه، ومن جاء في حج فجامع زوجته قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه وأبطله، وهكذا لو جاء في عمرة فجامع قبل الطواف بالبيت فإنه قد أفسد عمرته، هذا كله منهي عنه شرعاً في الفرائض وفي النوافل.
فجاء النص في النافلة: (المتطوع أمير نفسه) في مسألة الصوم، فمن صام الإثنين ثم رأى من المصلحة أن يفطر، إما جبراً لخاطر قريب، أو دُعي إلى وليمة، أو أمره والده أو والدته أن يفطر فهذا خاص، قال صلى الله عليه وسلم: (المتطوع أمير نفسه)؛ لأنه ألزم نفسه ما لم يلزمه الشرع، فوسع الشرع في حقه أكثر من غيره، والقاعدة: لا تعارض بين عام وخاص، والله تعالى أعلم.(368/25)
حكم التكبير لسجود التلاوة في الصلاة
السؤال
سجود التلاوة إذا وقع في الصلاة هل أكبر أم أسجد بدون تكبير، أثابكم الله؟
الجواب
الظاهر والصحيح وجوب التكبير على ظاهر حديث أبي داود وغيره في سجوده عليه الصلاة والسلام في الصلاة، فيشمل الصلاة وغيرها، والله تعالى أعلم.(368/26)
أجر النافلة في الصف الأول كأجر الفريضة عدا روضة المسجد النبوي
السؤال
هل أجر النافلة في الصف الأول مثل أجر صلاة الفريضة في الصف الأول، أثابكم الله؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: في بعض المساجد النافلة في غير الصف الأول أفضل، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم النافلة في الروضة أفضل من النافلة في سائر المسجد؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) وهذه الروضة يحرص المسلم على أن يصلي فيها ويستكثر فيها من الخير، وهذا عليه عمل أهل العلم رحمهم الله من السلف والخلف، هذه الروضة أفضل بقعة في المسجد النبوي.
لكن في الفريضة الصف الأول أفضل على أصح قولي العلماء، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله جمعاً بين النصوص، وقال: إذا أُقيمت الصلاة فالصف الأول أفضل؛ لورود النص الخاص به؛ لأن الصف الأول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في غير الروضة، وحينئذٍ يتقدم من أجل الصف الأول، أما في سائر النوافل فالأفضل أن يصلي في الروضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) دل على فضلها وفضل العمل الصالح فيها، وهذه مزية منصوص عليها، لا يقدم الإنسان معها ولا يؤخر، شيء ثبت به الدليل لا يُعْمِل رأيه في رد هذه السنة الصحيحة، ولذلك الذي عليه العمل عند العلماء: أن الطاعة في هذا الموضع أفضل، ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم حال الطاعة، فقال عليه الصلاة والسلام: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة) وهذا دليل على عظم الأجر، فدل على فضل هذا المكان وعظم الأجر.
قال بعض العلماء: قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) أي: أن الطاعة فيها موصلة لدخول الجنة، وهذا فضل عظيم، وخير كبير جداً، والإنسان يحرص على أن يكون في هذا المكان؛ لأنه أفضل ما في المسجد، أما ما عدا المسجد النبوي، مثلاً: الآن شخص دخل المسجد، وجاء إلى الروضة وصلى نافلة، فإذا أُقيمت الصلاة يريد أن يتقدم إلى الصف الأول، نقول: الأفضل أن تأتي إلى الصف الأول وتصلي تحية المسجد فيه، وتجلس في مكانك؛ لأن الملائكة تصلي وتترحم عليك مادمت في مصلاك.
ومن هنا فلا تقطع هذا الفضل العظيم، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء ثم خرج إلى مسجده لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخطُ خطوة إلا كتبت له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه تقول: اللهم اغفر له! اللهم ارحمه!) وهذا فضل عظيم يفوت بالانتقال، ومن هنا يحرص على هذا الفضل من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.(368/27)
حكم استخلاف الإمام في الصلاة
السؤال
كيف يتصرف الإمام إذا تذكر أنه على غير وضوء أثناء صلاته بالمأمومين، أثابكم الله؟
الجواب
إذا علم أنه محدث أو حصل له الحدث أثناء الصلاة فإنه يسحب شخصاً ويستخلف، وهذا يسمى: بالاستخلاف، يسحبه ويقيمه مكانه ثم ينصرف، ويسحب أَوْلَى الناس بالإمامة، فإذا كان وراءه ثلاثة أشخاص أحدهم أولى فإنه يقدمه، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) فهذا لأجل وجود حاجة الإمام قالوا: إن هذا الحديث نبه على قضية الاستخلاف؛ لأن الإمام يحتاج إلى أن يستخلف عند حدوث عارض له، والله تعالى أعلم.(368/28)
بيان وقت النهي قبل الظهر وحكم التنفل فيه
السؤال
هل هناك وقت نهي قبل صلاة الظهر؟ وإذا كان فمتى يبدأ، أثابكم الله؟
الجواب
قبل صلاة الظهر إذا انتصف النهار لا يتنفل الإنسان، وانتصاف النهار عند وقوف الشمس عن الحركة، فالشمس تسير من المشرق إلى المغرب، وإذا وصلت في منتصف النهار في كبد السماء وقفت هُنيّة، يعني: وقت يسير، وهذه الساعة ممنوع من الصلاة فيها؛ وذلك لقوله: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة) حين يقوم قائم الظهيرة؛ لأن الشمس إذا جاءت من المشرق فإن الظل يتقاصر حتى تقف الشمس في كبد السماء، فالظل يتحرك أثناء مسيرها من المشرق إلى منتصف كبد السماء، فإذا انتصفت في كبد السماء وقفت، فيقوم قائم الظهيرة الذي هو الظل، فإذا وقفت الشمس وجدت الظل لا يتحرك لا بنقص ولا بزيادة، هذه ساعة انتصاف النهار، فإذا انتصف النهار منع من صلاة النافلة؛ لأنها ساعة تسجر فيها نار جهنم والعياذ بالله! وفي الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام علَّم بعض الصحابة بأوقات النوافل حيث يقول: (فإذا طلعت الشمس فصلِّ فإن الصلاة حاضرة مشهودة) يعني: تنفل، وقوله: حاضرة مشهودة، أي: تحضرها الملائكة وتشهدها، وقيل: مشهودة بالخير، أو مشهود لها بالخير، (فإذا قام قائم الظهيرة -يعني: انتصف النهار- فأمسك عن الصلاة فإنها ساعة تسجر فيها نار جهنم) يعني: أنها ساعة غضب وليست بساعة رحمة، هذا وقت نهي، والصحيح مذهب جمهور العلماء: أن هذا النهي يشمل حتى يوم الجمعة، والإمام الشافعي رحمه الله وبعض أئمة السلف يستثنون يوم الجمعة، وفيه حديث ضعيف وأشار إليه الحافظ ابن حجر في البلوغ، والصحيح أنه يشمل يوم الجمعة وغيره على حد سواء؛ وذلك لورود النص على العموم، والله تعالى أعلم.(368/29)
معنى حديث: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها)
السؤال
ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه)، أثابكم الله؟
الجواب
النضارة: هي الحسن والجمال، فقوله: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغٍ أوعى من سامع) حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ندب فيه الأمة إلى حفظ السنة، والعناية بهذا الحفظ حتى يكون حفظاً متقناً لا يرويه بالمعنى، قال: (فحفظها فأداها كما سمعها) فقوله: (نظر الله) النضارة: هي الحسن، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فلما نظرت إلى وجه الله عز وجل ازدادت جمالاً وحسناً.
النضارة التي وردت في هذا الحديث اختلف فيها العلماء على قولين: أولاً: قال بعض العلماء: إنهم يحشرون يوم القيامة تتلألأ وجوههم كالشمس، وهم حفظة السنة، فمن أكثر من حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نضر الله وجهه، ونوره بالسنة، ولذلك أهل السنة على وجوههم نور، وقال بعض العلماء: إن لأهل السنة نوراً في وجوههم في الدنيا، وذلك أن الله عز وجل يجعل لهم النور والنضارة، فوجوههم وجوه خير، إذا رأيت وجه الرجل منهم يطمئن قلبك، ورأيت أنه وجه رجل فيه خير وصلاح وبر؛ لأن الناصية والوجه تابعة للعمل، قال تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16].
ولذلك تجد أهل الظلم والأذية والإضرار، لو نظرت إلى شخص منهم يقطع رحمه تجد وجهه مظلماً، وانظر إلى شخص واصل للرحم أو بار بوالديه أو كثير الصدقات أو كثير الحسنات ترى نور الطاعة في وجهه، وهذا أمر جرت به العادة من الله سبحانه وتعالى، وهو معروف، وقوله: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها) يعني: سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يشمل الصحابة من باب أولى؛ لأنهم الذين باشروا السماع منه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين، ويشمل من بعدهم؛ لأنه قال: (سمع مقالتي) ما قال: سمع مني، يعني: سمع حديثي، وفي قوله: (مقالتي) يختص بالصحيح دون المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المكذوب لا ينسب إليه عليه الصلاة والسلام، وقوله: (سمع مقالتي فوعاها) يعني: وعى هذه المقالة، وشبه القلب الفاهم للشيء بالوعاء الذي قد حفظ ما فيه، (فأداها كما سمعها) يعني: عنده ضبط في الحفظ، وضبط في الأداء، فيأتي باللفظ كما سمعه، وهذه أعلى منازل حفظ السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاحفظ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تستطيع، فلك من النور والنظارة على قدر ما حفظت؛ لأن الله وعدنا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الفضل العظيم، ومن نضر الله وجهه في الدنيا نضر الله وجهه في الآخرة.
ومن هنا يبدأ الحرص على حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعناية بما اتفق عليه الشيخان، فيبدأ المسلم بالأحاديث التي في أحكام دينه، مثل أحاديث: عمدة الأحكام؛ لأنها تتعلق بالحلال والحرام والعبادة، وكيفية القيام بحق الله، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الآداب والأخلاق ونحو ذلك، ويتوسع في الحفظ، فالأصل أن هذا الفضل خاص بمن حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: لم يكتم هذا العلم بل أداه وبلغه، فمن بلغ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فحفظه كان له مثل أجره، ولم ينطق لسان ذلك الذي حفَّظْته من أولادك أو من طلابك بهذا الحديث إلا كان لك مثل أجره، ولا يعلمُ أحداً فينطق به ذلك المعلم إلا كان لك مثل أجره، فالله أعلم كم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة والأجر؟ ولذلك فازوا بخير لا تستطيع الأمة أن تدركهم في ذلك الخير والفضل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه) في هذا الحديث إشارة إلى أنهم تبوءوا المنزلة السامية العالية في هذا الفضل العظيم.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيننا على حفظ السنة ومحبتها، وأن يجعلنا من أهل هذا الفضل، وأن يجعل لنا فيه أوفر حظ ونصيب، والله تعالى أعلم.(368/30)
صلاة المسافر خلف المقيم
السؤال
مررت وأنا مسافر بأحد المساجد على الطريق، ووجدت جماعة يصلون صلاة العصر، ودخلت معهم في الركعة الرابعة، وبعد أن سلَّم الإمام قمت وصليت ركعة واحدة وسلَّمتُ بنية القصر، ثم سألتهم هل صليتم أربعاً أم قصرتم الصلاة؟ قالوا: صلينا أربعاً، فقمت فأتيت بركعتين ثم سجدت للسهو، هل عملي هذا صحيح؟ وإن كان غير ذلك فماذا أفعل، علماً أنه مضى على ذلك شهر، أثابكم الله؟
الجواب
الصلاة صحيحة وما فعلته صحيح سديد، وفيه خروج من خلاف العلماء رحمهم الله، أما كونك تكلمت بين الركعتين الأوليين والأخريين، فكلامك كان لعذر ولمصلحة الصلاة، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -إما الظهر أو العصر والشك من الراوي- فسلَّم من ركعتين، فقام له رجل يقال له: ذو اليدين -وهو الخرباق رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما كان شيء من ذلك، قال: بلى قد كان شيء من ذلك ... ) الحديث، فأنت تكلمت لمصلحة الصلاة، وصححت صلاتك، خاصة على مذهب من يقول: المسافر يتم وراء المقيم مطلقاً سواءً صلى الصلاة مع الإمام من أولها أو من آخرها؛ لعموم قوله: (من السنة أن يتم المسافر وراء المقيم) وهذا أحوط في الخروج من خلاف العلماء.
ولكن لو أنك سلمت من ركعتين واجتزيت بهما فإنه يجزيك؛ لأن عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأُقرت في السفر وزيدت في الحضر) فدل على أنك في السفر تصلي الركعتين، وأقرت على هذا الأصل، فلما كان المسبوق يتم النقص في صلاته، والمسافر لا نقص له في صلاته؛ لأن الله فرض عليه الركعتين، ومن هنا لو أدركه في الركعة الأخيرة فأضاف ركعة أجزأه، ولو أدركه في الركعتين الأخيرتين من الظهر فسلم معه أجزأه، ولكن الخروج من الخلاف أفضل، ولاشك أن الذي فعلته صحيح وصلاتك صحيحة، والله تعالى أعلم.(368/31)
أقسام التشهدات في الصلاة وأحكامها
السؤال
ما حكم التشهد في الصلاة، أثابكم الله؟
الجواب
التشهد تشهدان: التشهد الأول: في الثلاثية والرباعية واجب وليس بركن، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن مالك ابن بحينة -رضي الله عنه وعن أبيه وأمه- في الصحيحين قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في الظهر، ثم لما كان السجدة الثانية من الركعة الثانية قام عليه الصلاة والسلام ولم يجلس -يعني: لم يجلس في التشهد الأول- فسبح له القوم فأشار إليهم أن قوموا) فلم يرجع عليه الصلاة والسلام إلى التشهد، ولو كان ركناً لرجع إليه، فلما لم يرجع إليه قال رضي الله عنه: (حتى إذا كان في التشهد وانتظر الناس تسليمه كبر فسجد سجدتين عليه الصلاة والسلام جبراً للنقص) فدل على أنه من الواجبات لا من الأركان، ولذلك رجع عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين إلى الركعتين؛ لأنها أركان، ولم يرجع إلى التشهد الأول؛ لأنه واجب، ومن هنا كان تقسيم العلماء رحمهم الله للواجبات والأركان منتزع من أصول شرعية صحيحة.
فالشاهد من هذا: أن التشهد الأول واجب وليس بركن، والتشهد الثاني ركن من أركان الصلاة، ومن هنا أمر به عليه الصلاة والسلام، وبين للمسيء صلاته هذه الركنية فقال: (ثم ارفع -يعني بعد السجدة الأخيرة- حتى تستوي جالساً) فالتشهد الأخير والجلوس له ركن من أركان الصلاة على أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم.(368/32)
ثبوت الولاء للمعتق مطلقاً مع عدم جواز عتق الكفار
السؤال
هل الولاء يبقى مكانه لو أسلم هذا المعتق؟ أم حتى لو بقي على كفره وأعتق ثم مات فهل يرثه مولاه، أثابكم الله؟
الجواب
أولاً: إذا كان كافراً لا يعتق؛ لأن الدخول في الرق سببه الكفر، وتوضيح هذه المسألة أنّا ذكرنا غير مرة: أنه في حال الإسلام إذا كان هناك كفار ودعوا إلى الإسلام فامتنعوا، فإن كانوا من أهل الكتاب عرضت عليهم الجزية، فإن امتنعوا وجاءوا يقاتلون المسلمين وجمعوا بين الكفر ومحاربة الإسلام، حينئذٍ يضرب عليهم الرق، والرق لا يضرب إلا بولي أمر المسلمين، وفي حال الجهاد الشرعي الصحيح، ولذلك لا يختص بمكان ولا بزمان ولا بلون ولا بطائفة ولا بجنس معين، بل يشمل كل من كفر بالله؛ لأن الله يقول: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44] يعني: الكفار، فلما يقف في وجه الإسلام فإنه ينزل عن مستوى الآدمية إلى مستوى البهيمية، بل أضل من البهيمة، وحينئذٍ يباع ويشترى.
ومن هنا لا يعتق إذا كان كافراً، إذ كيف يعتق وهو إنما ضرب الرقُ عليه بسبب الكفر؟ إذاً تفوت مصالح الشريعة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الصحابي أن يعتق أمته قال: (عليَّ بها، فلما جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) جملة (فإنها مؤمنة) جملة تعليلية، يعني: أعتقها؛ لأنها مؤمنة، ومفهوم ذلك: أنها لو كانت كافرة لما عُتقت؛ لأنه فات مقصود الشريعة، وعلى هذا يختص العتق بهذا الوجه الذي ذكرناه، والولاء ثابت على كل حال للمعتق، والله تعالى أعلم.(368/33)
حكم صلاة الجمعة مع عدم إتمام الخطبتين
السؤال
شخص صلى في مسجده بالناس الجمعة، وخطب الخطبة الأولى ولم يتمها؛ لمرض ألم به منعه من إتمام الخطبة الأولى، ولم يخطب على ذلك الثانية، ولم يصل بالناس، وبعد ذلك قام رجل من الجماعة وصلى بالناس ولم يتم الخطبة الأولى، ولم يأت بالخطبة الثانية، هل صلاتهم صحيحة أم باطلة، أثابكم الله؟
الجواب
إذا لم تقع الخطبة الثانية فإنهم يصلون ظهراً، والأصل فيهم أنهم ينظرون إذا كان فيهم أحد يحسن الخطبة ويحسن أن يعظ الناس قام وخطب، وقد بينا في باب الجمعة أنه لا تشترط للخطبة شروط معينة، وأن المدار يدور حول البشارة والنذارة، فلو وقف أمام الناس وأوصاهم بتقوى الله عز وجل، وأمرهم بالصلاة، وأمرهم ببر الوالدين، وأمرهم بأي عمل من أعمال الخير، ونهاهم عن أي عمل من أعمال الشر، أو حذرهم من عقوبة الله العاجلة أو الآجلة، فقد تمت الخطبة، وكما قلنا: ليس لها شروط معينة بحيث لو أنها فقدت بطلت الجمعة، لا، إنما تقوم على البشارة والنذارة، فإذا حقق ذلك المقصود فقد تمت الخطبة وكملت وأجزأت، وبقيت الخطبة على السنة كاملة تامة.
أما الوارد في السؤال: فلا تصح الجمعة على هذا الوجه، بل كان عليهم أن يجعلوا شخصاً يخطب بهم، وإذا تعذر فإنهم يصلونها ظهراً، وإذا لم يفعلوا ذلك فإنهم يعيدون الصلاة ظهراً، والله تعالى أعلم.(368/34)
حكم من ترك الحلق في العمرة ناسياً
السؤال
اعتمرت قبل خمس سنوات ولم أحلق ناسياً، ولبست الثياب وانشغلت ولم أتذكر إلا بعد مدة، فماذا عليَّ، أثابكم الله؟
الجواب
الله المستعان! ما أهون الدين عند الناس؟! وما أكثر الغفلة عن حقوق الله عز وجل؟! شخص يأتي في عمرة ويأتي في حج ولا يحس أنه ضيف على الله سبحانه وتعالى، ولا يفرِّغ قلبه من هذه الدنيا، ولا يحس أنه في أشرف المواطن وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يحس بنعمة الله عز وجل، ولا يستشعر أن الله اختاره من بين (الملايين) لكي يطوف حول بيته، وقد يكون في ساعة لا يطوف فيها إلا القليل، ولا يحس بنعمة الله عز وجل الذي سلَّمه من المصائب والنكبات والبلايا، وقد كان بالإمكان أن تنقلب به سيارته، أو تغرق به سفينته، أو تهوي به طائرته ولكن الله سلّم سبحانه وتعالى.
يا ليت الذي يعتمر أو يحج يستشعر أين هو؟ وما هو حاله؟ وفي باب من يقف؟ لو أن الإنسان بمجرد أن يلبي بالعمرة يستشعر أنه ينادي ربه، كان علي زين العابدين يقول: لبيك، فيخر مغشياً عليه، فقيل له: ما شأنك رحمك الله! يا ابن بنت رسول الله؟! قال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك، فعلى الإنسانِ أن يستشعر أنه ضيف على الله عز وجل، فإذا جاء ووطئ هذه الرحاب مؤمناً مخبتاً خاشعاً متخشعاً متذللاً لربه سبحانه يرجو رحمته، عندها تهون عليه الدنيا وما فيها، ويصبح في لذة وأُنس، فالإنسان عندما يدخل -ولله المثل الأعلى- ضيفاً على غني من أغنياء الدنيا يحس أنه في نشوة، بعضهم إذا زار غنياً جلس يتحدث بهذه الزيارة السنة، بل السنوات، بل عمره كله، وهو يتحدث أنه زار فلاناً، لا إله إلا الله! كيف وهو في هذه الرحاب الطاهرة في زيارة لملك الملوك وجبار السماوات والأرض؟! الحاج والمعتمر ضيف على الله، وهذه الغفلة من الناس سببها أن الشخص يأتي ويفعل المناسك وكأنه في سجن، إذا أهل بالحج والعمرة فهو ينتظر فقط متى ينتهي من حجه وعمرته؟! ومتى يحل إحرامه؟! ثم إذا حل من إحرامه لم يفكر مع الغفلة إلا بالرجوع إلى بلده، يريد أن يرجع إلى أهله، لا ينظر إلى نسكه هل أتمه أو لم يتمه؟ لا ينظر هل كان في نسكه على حال توافق السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على خلاف ذلك؟ لا يتفقد نفسه ولا ينظر، ولذلك يعتمر المعتمرون ويكررون، وحالهم بعد العمرة كحالهم قبل العمرة.
ومن الناس من اعتمر فزار بيت الله عز وجل، وسعى بين الصفا والمروة، فانقلبت حياته وتغيرت شئونه، ومن الناس من وقف في هذه المواقف ونزل في هذه المنازل، فرفع الله درجته وأعظم أجره وكفر خطيئته، وهو في كل لحظة وفي كل ثانية يستشعر أنه ضيف على الله جل جلاله، فأفاض الله عليه من الرحمات والبركات والخيرات، ما لم يخطر له على بال، وما أسعد أولئك الأقوام والفئام من الناس، الذين وقفوا وابتهلوا وتضرعوا وتذللوا وتبذلوا بين يدي الله عز وجل، في عمرة ما جاوزت طوافاً وسعياً، ولكنهم قاموا بحقها وحقوقها وآدابها وصفاتها على أتم الوجوه وأكملها، فدعوا الله دعوة نالوا بها سعادة لم يشقوا بعدها أبداً.
كيف بهذا الإنسان الذي يأتي ويعتمر، ولم يقصر ولم يحلق؟! بل بمجرد ما ينتهي يركب سيارته، وينسى أين كان غفلة ما بعدها غفلة؛ لأنه لو كان مستشعراً لهذه العبادة، مستجم الروح والبدن؛ لأصبح في هذه اللذة، من الناس من يعتمر ويبقى في لذة عمرته شهراً، بل منهم من يبقى في لذة عمرته سنة، بل منهم من يبقى في لذة عمرته دهراً.
أُناس يأتون من مسافات بعيدة وهم يتمنون أن يعتمروا، فإذا وقفوا أمام بيت الله عز وجل خشعت قلوبهم، وذرفت من خشية الله عيونهم، والواحد منهم يتأمل الكيلو مترات وآلاف الأميال التي قطعها وجاوزها، راجياً لرحمة ربه، فيقف أمام ذلك البيت متضرعاً لربه، متخشعاً متذللاً كل التذلل والتبذل في ذلك المقام الكريم، فيجد تلك النشوة وتلك اللذة وتلك السعادة وذلك الأُنس العظيم بربه سبحانه، قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97].
ويقول تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء:5] اربط بين الآيتين، من أجل المال تقوم به الدنيا ولا تقعد، والله عز وجل يقول: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97]؛ لأن فيها قيام الدين والدنيا في هذه العبادة الجليلة؛ لأنها تذكر بالتوحيد وبالإخلاص وبالتجرد.
الإنسان يأتي إلى هذا المكان وإلى هذا البيت، الذي هو بيت ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ولذلك قل أن يأتي مكروب بكربه إلا فُرج كربه عنه، أو ملأ الله قلبه من الإيمان واليقين ما يجعل كربه أُنساً عليه إلى أن ينتهي، نعم! إنها المنازل التي لو علم الناس مقامها عند الله جل جلاله، لعظمها الإنسان؛ لأن تعظيمها من تقوى القلوب لله جل جلاله.
قوله: (ذَلِكَ) اسم الإشارة الذي يدل على العلو، العرب لا تقول: ذلك إلا لشيء بعيد بعيد، ما تقول ذلك لشيء قريب، (ذَلِكَ) يعني: الشيء البعيد، (ذَلِكَ وَمَنْ) يعني: من ذكر وأنثى، غني وفقير، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ} [الحج:32] والتعظيم كلمة ليست بالسهلة، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] زكى الله من فوق سبع سماوات الذين يعظمون شعائره، ووصفهم بأنهم متقون، وزكاهم سبحانه وتعالى بأنه قد صلحت قلوبهم؛ لأن القلوب لا تصلح إلا بالتقوى، أما من كانت فيه الغفلة نسأل الله السلامة والعافية! فهو يأتي بمناسكه ولا يلتفت إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحرص على أن يتحلل في مكة بعد عمرته كما هو هديه عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي.
وعلى الإنسان عندما يأتي بعمرته ويطوف ويرمل عند بيت الله عز وجل، أن يتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل، ويتذكر أنها أماكن وأنها منازل تسكب عندها العبرات، وأنها منازل تستجاب فيها الدعوات، هنا خشع المؤمنون والمؤمنات، هنا بكى الصحابة والصحابيات، هنا رجفت القلوب، هنا أنابت إلى علّام الغيوب، هنا المقامات بين يدي فاطر الأرض والسماوات، هنا السعادة التي لا شقاء بعدها أبداً، هنا الكرامة التي لا مهانة بعدها أبداً، هنا العز الذي لا ذل بعده، والغنى الذي لا فقر بعده، فكم من رجل فقير وقف بهذا المكان فسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة، فرجع غنياً بالله وحده لا شريك له، فالذي يطوف بالبيت وعنده هذه المشاعر، ويبث أشجانه وأحزانه إلى ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ويقف عند المقام يصلي ركعتين فيبتهل إلى ربه، فيسأله في تفريج كربه وتنفيس همه وغمه، ثم ينطلق إلى الصفا والمروة فيقف كما وقف رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، يترسم خطاه وكأنه أمامه عليه الصلاة والسلام، يقف كما وقف، ويبتهل كما ابتهل، ويدعو كما دعا، ويسأل كما سأل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على الصفا حتى إن أصحابه يصيبهم الملل، يقول ابن عمر: فكنا نملُّ ونحن شباب من طول موقفه عليه الصلاة والسلام، لماذا يقف؟ إنه يقف بين يدي الله عز وجل، وكانت له دعواته، وكان من دعائه كما روى البيهقي في سننه بسند صحيح: (اللهم! إنك قلت وقولك الحق: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم! كما وعدتني فاستجب لي، اللهم كما أذقتني الإسلام وهديتني إليه فلا تنزعه مني حتى ألقاك مسلماً)، فسأل الله أعز مسألة.
من عاش هذه اللحظات وهذه المواقف، وجاء وسعى بين الصفا والمروة فهرول وتذكر المكروبة التي فرج الله همها في هذا المكان، لما يأتي بهذه المشاعر ويستشعر هذه المشاعر أينسى هذه العبادة؟ لما يكون متبعاً للسنة ينسى الحلق والتقصير؟ أو ينسى شيئاً من نسكه؟ لا ينسى؛ لأنه متبع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، والغفلة عن السنة نسأل الله السلامة والعافية! من أسباب الحرمان.
فإذا استشعر هذه المشاعر انتهى من سعيه وقلبه ونفسه يحدثانه، يريد أحب شيء وأعز شيء وهو رحمة الله عز وجل، ومن أصابته رحمة الله فلا عذاب بعدها أبداً، رحمة الله التي وسعت كل شيء، وكتبها للذين يتقون ويقيمون الصلاة فأفلحوا في الدنيا والآخرة، هو ينتظر الرحمة من الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بها ثلاث مرات، (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: والمقصرين).
حسناً! إذا كان عنده هذا الشعور بمجرد ما ينتهي من عمرته، وقلبه يحدثه أن يبادر حتى يصيب هذه الدعوة من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات يدعو له بالرحمة من نبي لا ترد دعوته، إنها رحمات مكررة سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتهل بها إلى الله جل جلاله، ثم يأتي وينتهي من عمرته وقلبه معلق بالسماء؛ لأنه في سائر عمرته يدعو الله عز وجل هذه الدعوة: اللهم ارحمني، ومن رحمه الله فلا يعذب، ومن رحمه الله سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وأصاب العز الذي لا ذل بعده أبداً؛ لأن من أصابته رحمة الله فهو في حفظ الله ورعاية الله له سبحانه وتعالى، حتى إن الجنة التي هي غاية ما يتمنى الإنسان من رحمة الله: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) من تغمده الله برحمته حسنت خاتمته، وصلح قوله وعمله، وزكى ظاهره وباطنه، ومن أصابته رحمة الله أُمن في قبره وسعد في حشره ونشره، ودخل جنة الله برحمته عز وجل.
نعم! أعدنا وكررنا في هذا السؤال؛ لأنه عمت به البلوى، وكثرت الشكاوى من الناس، بمجرد ما يذهب بعائلته ويركبون السيارة وينطلقون إلى جدة، وبعد أداء العمرة يقول: يا الله! انتهينا من العمرة، وكأن العمرة ثقل يلقى، وكأنها حمل يتخلص منه، ما يستشعر أين كان؟ وأين هو؟ وما هذه الرحمة التي يعيشها؟ فحينئذٍ ندعوه إلى أن يحرص عل(368/35)
شرح زاد المستقنع - باب العاقلة وما تحمله [2]
لقد جعل الله عز وجل في قتل الخطأ كفارة، والحكمة من ذلك أن يحذر الناس من التساهل في هذا الأمر، ولعظم حرمة الدماء عند الله سبحانه وتعالى، والكفارة لا تكون إلا في قتل الخطأ؛ لأن قتل العمد عقوبته القصاص.
ويشترط في كفارة القتل أن يكون المقتول نفساً معصومة، كأن يدوس مسلماً بسيارته خطأ.
وقتل الخطأ يدخل فيه مباشرته للفعل بنفسه أو تسببه فيه، وفي كل تلزمه الكفارة.(369/1)
بيان كفارة القتل وما يتعلق بها من أحكام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: من قتل نفساً محرمة خطأً مباشرة، أو تسبباً بغير حق فعليه الكفارة] شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان كفارة القتل، وهذه الكفارة قد دل عليها الدليل الشرعي الثابت في كتاب الله عز وجل، حيث أمر من قتل خطأً أن يكفر، وأجمع عليها العلماء رحمهم الله، ومن عادة أهل العلم أنهم إذا فرغوا من بيان مسائل القتل، والأحكام المترتبة عليها من الحقوق، والواجبات، من الديات للأنفس، والأعضاء، والجروح، والشجاج، والكسور، فإنهم يشرعون بعد ذلك في بيان حق الله عز وجل من وجوب الكفارة، وهذا حق لله سبحانه وتعالى، ولا شك أن حق الله هو أعظم الحقوق، ولكن المقاصة والمشاحة في حقوق المخلوقين أكثر، ومن هنا أمر الله عز وجل بالدية المسلَّمة إلى أهل القتيل إن قتل خطأً، فقال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:92] فأمر الله سبحانه وتعالى بهذا الحق له جل جلاله، بعد أن رتبه على حق المخلوق: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فابتدأ العلماء بالديات، وأحكام الديات، ثم ثنوا بعد ذلك بحق الله عز وجل، ومن هنا هذه الدية تكفر عن العبد، وأصل الكفارات: أنها تكفر الذنوب، بمعنى: أنها تسترها، وتذهب بلاءها وشقاءها عن صاحبها، فإذا كفر الله عز وجل للعبد ذنبه، فإنه قد أمن العبد من عقوبة الله عز وجل، وأمن من سوء السيئة في الدنيا والآخرة، كما هو معلوم، ولذلك سميت المغفرة كفارة للعبد، وقالوا: الكفر في لغة العرب أصله: الستر، يقال للباذر الذي يبذر البذر: كافر؛ لأنه إذا بذر البذر غطاه، فيقولون للمزارع: كافر؛ لأنه يكفر البذر، والكفر: هو الستر، ومنه قول الشاعر: وفي ليلة كفر النجومَ غمامُها.
يعني: ستر النجومَ الغمامُ ولما كانت توبة الله عن العبد، ومغفرة الله للعبد تمحو ذلك الذنب، فكأنها صارت غطاءً لذلك الذنب، فكأنه لم يكن من العبد، فلا تراه عين، ولا يحس به أحد، فالكفر والغفر، معناهما متقارب، فلما كانت هذه الحقوق التي أوجبها الله عز وجل لقاء ذنوب معينة من العبد، سواءً كانت في الجنايات بين المخلوقين بعضهم مع بعض، مثل: كفارة القتل، أو كانت الجناية والاعتداء على حق الله سبحانه وتعالى: كالجماع في نهار رمضان، أو كانت جامعة بينهما: كقوله لزوجته: أنت علي كظهر أمي، فهذا جعل الله عز وجل فيه الكفارة.
والكفارات كما تقدم معنا منها ما هو مغلظ، ومنها ما هو دون ذلك، فأعظم الكفارات المغلظة: عتق رقبة، ويترتب على ذلك، وجوب صيام شهرين متتابعين لمن عجز عن الرقبة، وقد جعل الله ذلك في الظهار، وجعله سبحانه في قتل النفس المؤمنة المحرمة, وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك في من جامع أهله في نهار رمضان وهو صائم، هذه الكفارة المغلظة اعتنى العلماء ببيانها، وتقدمت معنا، ولذلك المصنف رحمه الله لم يفصل كثيراً فيها في باب القتل؛ لأنه تقدم معنا ما هي الرقبة التي تجزي، وبينا هذا في كتاب الصوم، وكذلك في كفارة الظهار، ولذلك أجمل المصنف رحمه الله الكلام في تفصيلات هذه الحقوق الواجبة.
الكفارة في الشريعة منها ما هو مخير؛ أي: يخير الإنسان فيها، ومنها ما هو مرتب، فإذا كانت الكفارة تخييرية، كقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فهذا كله على التخيير، يختار أي نوع من هذه الثلاث، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كان في القرآن بأو فهو خيار للعبد-يعني: يختار أيَّ واحدة منها فيجزيه- وما كان بثم فلا يجزي الثاني إلا إذا عجز عن الأول.
ومن هنا اختلفت كفارة القتل عن كفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان: من جهة النوع الثالث وهو: إطعام ستين مسكيناً بدلاً من صيام شهرين متتابعين، والذي يقويه الدليل، ويختاره طائفة من أئمة العلم رحمهم الله: أنه لا إطعام في كفارة القتل، وأن الواجب هو عتق الرقبة، فإن عجز عن عتق الرقبة، أو لم يجد الرقبة، فإنه ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين توبة من الله عز وجل على عبده، وإذا كفر بعتق الرقبة المؤمنة، أعتق الله كل عضو منه من النار، كما ورد في الخبر، وصحيح أن هذا التكفير ورد في قتل الخطأ، وجعل الله عز وجل هذه الكفارة في قتل الخطأ، ويجري مجرى الخطأ شبه العمد، وقد تقدم معنا ضابط الخطأ، وضابط شبه العمد، وبينا أن كثيراً من المسائل يشترك فيها شبه العمد مع الخطأ، ولذلك تجب الكفارة في شبه العمد كما تجب في الخطأ؛ لأن شبه العمد جرى مجرى الخطأ ولم يجر مجرى العمد، ولذلك لا يجب القصاص في شبه العمد، كما لا يجب في الخطأ، فهذه الكفارة جعلها الله سبحانه وتعالى في قتل الخطأ، ومن هنا يرد الإشكال: كيف يجب على الإنسان أن يكفر، مع أنه قد أخطأ ولم يكن متعمداً للقتل؟ هذا فيه تعظيم للدماء، وتعظيم لأرواح المسلمين، والدماء المحرمة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتساهل في تعاطي الأسباب التي تزهق أرواح الناس، كأن يتهور في أمر مثلاً: يحفر لعمارته دون أن يضع حواجز تقي الناس من السقوط في هذه الحفرة، أو مثلاً: يأتي إلى طريق سابل فيضع فيها شيئاً يوجب هلاك الأنفس، كل هذه الأشياء في مجامع الناس، أو في الأماكن التي يوجد فيها الصيد، ولكنها عامرة بالسكان، فلا يأمن إذا صوب بندقيته أو سلاحه أن يقتل شخصاً، أو يصيب شخصاً، فلما وضعت الشريعة كفارة القتل زجرت الناس عن التساهل، صحيح أنها لم توجب القصاص، ولكنها أوجبت الدية فعظمت دم المسلم.
هذا الفصل فصله المصنف، وبناه على ما تقدم، وذلك لوجود الإشتراك؛ لأن العاقلة تحمل الخطأ، وكذلك أيضاً الكفارة تكون في قتل الخطأ، فإذا قتل خطأً فإنه تجب عليه الدية، وأما قتل العمد فإنه لا كفارة فيه؛ لأن من قتل عمداً فقد صار الحق لأولياء المقتول، فإما أن يقتلوه، وإما أن يقبلوا بالدية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فمن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يقاد -يعني: يأخذ بالقصاص- وإما أن يودى -يعني: يأخذ الدية) ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم في حال العفو عن القاتل بالكفارة، والصحيح من مذهب العلماء رحمهم الله: أن قتل العمد عقوبته القصاص، قال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله القصاص)، وفي كتاب الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، فإذا عفا المؤمن عن أخيه القاتل وسامحه، فقد سقط الحق في هذه الحالة، إن سامحه لبدل فحقه أن يأخذ الدية، وإن سامحه لغير بدل فقد عظم أجره وثقل ميزانه، والله عز وجل مثيبه على ذلك، حتى قال بعض العلماء: من فك الرقبة كان له أجر ما يكون فيها من صلاح وعبادة إذا بقيت، يعني: جميع ما يكون منها من طاعة وخير وبر، فهو في ميزان حسنات الذي عفا، وهذا يشمل كل من يتسبب في إنقاذ الأرواح، أو يكون مثل الأطباء ونحوهم، ويتسبب في إنقاذ إنسان من الهلاك، ناوياً أن يبقى فيعمر حياته بطاعة الله ومرضاته.
فإذا تنازل عن حقه وعفا، فقد سقط الحق كله، ومن هنا قالوا: لا كفارة في قتل العمد.(369/2)
أوجه الكفارة وشروط وجوبها
هذا الفصل بين المصنف رحمه الله فيه وجوه الكفارة: بقوله: (من قتل نفساً محرمة).
من قتل نفساً محرمة -فخرج بذلك من قتل نفساً غير محرمة- مثلما يقع بين العدو وعدوه، فقد تقع عداوة وخصومة بين اثنين من المسلمين، فيقتل أحدهما الآخر، هذا ظاهره العموم، فيشمل العمد.
أو يقتلها خطأً مثل أن يدوسه بسيارته، فيقتل نفساً محرمة، إذاً يشترط أن تكون نفساً معصومة، سواءً كانت هذه النفس صغيرة، أو كبيرة، يعني: لو قتل طفلاً صغيراً، فإنه تجب عليه الكفارة، كما لو قتل كبيراً، ولو قتل أنثى وجبت عليه الكفارة، كما لو قتل ذكراً.
فإذاً لابد أن تكون النفس محرمة، وعلى هذا قالوا: لو ضرب امرأة حاملاً خطأً، فألقت جنينها ميتاً، وعُلمت حياته قبل الضرب، قالوا: إن هذا عليه كفارة القتل، أو طبيب أعطاها دواءً فأخطأ فأسقطت الجنين، فخرج ميتاً، فإنه يجب عليه كفارة، أو أعطى دواءً لصغير قريب الولادة، فكان سبباً في موته خطأً، فإنه يجب عليه أن يكفر.
قال: (محرمة) بناء ًعلى ذلك يرد
السؤال
لو أنه قتل نفساً مباحة القتل، مثلاً الآن: وجب القصاص على قاتل، فجاء السياف وضرب عنق القاتل، فالسياف قاتل، لكنه قاتل لنفس يباح قتلها، فلا تجب عليه الكفارة.
إذاً يشترط أن تكون النفس محرمة، كذلك أيضاً لو أن شخصاً كان في بيته، فهجم عليه شخص معه سلاحه يريد أن يقتله، أو يريد أن ينتهك عرضه والعياذ بالله! أو يريد أن يأخذ ماله، فقال بعض العلماء: بمشروعية المقاتلة؛ وذلك لقوله كما في الحديث: (يارسول الله! أرأيت إن جاء يريد أخذ مالي، قال: لا تعطه قال: أرأيت إن قاتلني قال: قاتله قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار قال: أرأيت إن قتلني، قال: أنت شهيد)، فجعل من ذب عن عرضه، وعن نفسه، وعن ماله شهيداً، وجاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (من قُتِلَ دون عرضه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون ماله فهو شهيد)، ففي هذه الحالة، لو أنه كان في بيته فهجم عليه شخص صائل، وحاول أن يدفعه بالموعظة فلم يندفع، وحاول أن يذكره بالله فلم يتذكر، أو لم يسع الوقت أن يذكره، كأن جاء شاهراً سلاحه، وعلم أنه إذا لم يقتله سيقتله، أو أنه يريد أن يقتل قريبه، أو زوجه، وكان هو متخفياً ومعه سلاحه، فعلم أنه لو تأخر سيقتله.
والشرط في دفع الصائل: هو أن لا وسيلة لدفع شره من اعتدائه على العرض بالزنا مثلاً إلا بقتله، فإنه يكون هدر الدم، ففي هذه الحالة لو أطلق عليه النار وقتله، وكان مستوفي الشروط، فإنه حينئذ تكون نفساً يباح قتلها؛ لأنه باعتدائه على عرضه، وصولانه على أعراض المسلمين بدون حق، أهدر حقه وأسقطه، فإذا قتله فقد قتل نفساً مباحة القتل، بهذا الوجه، كذلك أيضاً البغاة الذين يبغون، ويخرجون على إمام المسلمين، فلو قاتلهم شخص فقتل منهم، فلا يجب عليه القصاص ولا الدية.
إذاً يشترط في وجوب كفارة القتل الخطأ: أن تكون النفس المقتولة معصومة محرمة، وعلى هذا لو كان حربياً، لو كان باغياً، لو كان صائلاً، لو كان مباح الدم؛ بأن قتل فقُتل بالدم الذي قتله، أو كان محصناً فتأول قتله، فإنه لا تجب عليه الكفارة.
قوله: (خطأً) مفهومه أنه لو قتله عمداً فلا كفارة عليه، وفي قوله: خطأً يلتحق به شبه العمد؛ لأن شبه العمد يجري مجرى الخطأ ويأخذ حكم الخطأ.
قوله: (مباشرة) مثل أن يحمل السلاح ويقتله، كما تقدم معنا في قتل المباشرة.
قوله: [أو تسبباً بغير حق] مثلاً: ألجأه حتى أدخله في مكان فيه أسد، وقفل عليه الباب، فالذي باشر القتل هو الأسد، أي أن الذي افترسه وقتله هو الأسد، لكن الذي تسبب وأغلق الدار، أو ربطه في حوض، وملأ عليه الحوض بالماء حتى فلتت نفسه، هو ذلك الشخص المتسبب في هذا.
وقد تقدمت معنا صور السببية والمباشرة، وفصلنا فيها، فإن كانت سببية -وهذا في العمد- فالشافعية عندهم: أن العمد يوجب الكفارة، لكن إن قلنا: إن العمد لا يوجب الكفارة، كيف يكون قتل المباشرة؟ مثلاً: أخطأ وظنه كافراً، وأطلق عليه على أنه حربي أو معادٍ، فقتله، وتبين أنه مسلم فعليه الكفارة، كذلك أيضاً في مسألة السببية: أن يتسبب في قتله، مثل الطبيب يخطئ في دواء فيعطيه لمريض خطأً، ويكون هذا الدواء قاتلاً، فتناوله المريض، فالذي باشر قتل نفسه هو المريض حينما تناول الدواء؛ لأن الطبيب لم يضع الداء، لكن لو أعطى الطبيبُ الحقنةَ للمريض بنفسه فقد باشر، لكن حينما يصف له دواءً فقد تسبب، هذا قتل بالسببية، وهو خطأ؛ لأن مقصود الطبيب أن يداوي ويعالج، والظن بالطبيب أنه يريد الخير للمريض، فإذا أخطأ ووقع المكروه من فوات النفس، وجبت عليه الكفارة.
قوله: (فعليه الكفارة).
أي: تلزم القاتل الكفارة.(369/3)
الأسئلة(369/4)
حكم الكفارة على من قتل نفسه خطأً
السؤال
يقول الشارح: ومن قتل نفساً محرمة، ولو نفسه، فهل تجب الكفارة في ماله؟ ولمن تدفع أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالمصنف رحمه الله يقول: (ولو نفسه) يعني: ولو قتل نفسه خطأً، هل ممكن أن يقتل نفسه خطأً؟ ممكن، مثلاً: جاء يصلح سلاحه، فثار عليه السلاح وقتله، أو جاء يريد أن يأخذ السكين فحركها فسقطت عليه وقتلته، هذا هو الذي تسبب في قتل نفسه، في هذه الحالة للعلماء وجهان: من أهل العلم من قال: تجب عليه كفارة نفسه، على هذا القول؛ لو توفي وله مال، أخذنا من ماله قيمة الرقبة، قبل أن نقسم التركة؛ لأنه دين لله عز وجل، نأخذها من ماله ونشتري رقبة ونعتقها كفارة لنفسه؛ لأنه قتلها، قتل هذه النفس، والمصنف قال: (ولو نفسه) لو: إشارة إلى خلاف مذهبي، فبعض العلماء يقولون: لا يجب عليه في قتل نفسه، وهذا أظنه أقعد وأقوى، ولذلك لا يجب عليه في قتل نفسه أن يكفر.
والله تعالى أعلم.(369/5)
حكم قراءة الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية
السؤال
هل تجب على المأموم قراءة الفاتحة، مع الدليل، وبيان قول المخالفين في ذلك؟ وإذا لم يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة في سكتة الإمام فهل يقرؤها والإمام يقرأ؟ وماذا عن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال على التفصيل، وقولان من حيث الإجمال: القول الأول: وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية وراء الإمام، وهذا هو مذهب الشافعية، وطائفة من أصحاب الحديث رحمهم الله.
واستدلوا بأدلة منها: أولاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب ... ) والقاعدة في الأصول: أن أي من صيغ العموم، تقول: أيما رجل، أيما امرأة، هذا من صيغ العموم.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ما قال: إلا إذا كان مأموماً.
ثالثاً: ورود الدليل النصي في موضع النزاع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى وارتج عليه، قال: (إنكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم، يا رسول الله!) لأن المسألة في أول الإسلام- فكانوا إذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة بعد الفاتحة، قرءوا معه، فكان إذا قرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] وهو إمام، يقرءون هم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فقال: (إنكم تقرءون ورائي قالوا: نعم.
قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) هذا نص صريح واضح على أن فاتحة الكتاب مستثناة.
القول الثاني: الذين قالوا: إنه لا يقرأ وراء الإمام احتجوا بحديث جابر، وغيره رضي الله عن الجميع وفيه: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة): أولاً: هذا الحديث من حيث السند أضعف، ومختلف في ثبوته، وبين العلماء نزاع طويل في حديث:) من كان له إمام) وغاية ما فيه أنه حسن لغيره عند بعض العلماء بالشواهد، ولعل القول بأنه حسن لا يرتقي إلى معارضة الصحيح الصريح؛ لأن قوله: (لا صلاة) نكرة في سياق النفي، وهي تفيد العموم، وهذا من أقوى المتون.
ثانياً: هذا الحديث مما اتفق عليه الشيخان، وهذا حديث حسن، هذا من ناحية السند.
أما من ناحية المتن فقوله: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة): القراءة تحتمل أمرين: الأمر الأول: تحتمل كل شيء يقرؤه الإمام.
الأمر الثاني: تحتمل ما بعد الفاتحة؛ لأنهم كانوا يفعلون كل شيء معتقدين فيه بالإمام، ولابد أن نفهم الأحاديث كما فهمها الصحابة، لا على فهمنا الآن، وهذا أمر مهم جداً يفيد طالب العلم، لأن البعض يتصور الأحاديث الآن ويحملها على صور معينة محدودة، مع أن الأحاديث في زمان التشريع لها أوجه، ومن هنا: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) كانوا يقرءون وراء الإمام، فماذا قال لهم عليه الصلاة والسلام؟ قال: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فقراءة فاتحة الكتاب مأخوذة من هذا الحديث، وهذا الحديث يفسر ذلك الحديث.
أولاً: نقول: إن حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام ... ) من ناحية السند أضعف من حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
ثانياً: من ناحية المتن، نقول: احتمل معنيين: معنى العموم، ومعنى الخصوص، فحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) عام، نخصصه بحديث: (إلا بفاتحة الكتاب)، وتخصيص العموم واضح ومعروف، أو نقول: إنه محمول على قراءة غير الفاتحة، حينئذ لا إشكال؛ لأنه خرج عن موضع النزاع، وموضع النزاع في الفاتحة لا فيما بعد الفاتحة، هذا بالنسبة للذين قالوا: لا يقرأ وراء الإمام.
أما آية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] هذه الآية الكريمة لا تعارض ما نحن فيه؛ لأن الآية غاية ما فيها وجوب الاستماع للقرآن عند الإمكان، ولذلك لو أخذت بعموم هذه الآية: كأن خرجت إلى السوق وسمعت شخصاً يقرأ القرآن، أيجب عليك أن تستمع له؟ لا يجب عليك؛ لأن المراد بها الفضل في قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: من أجل أن ترحموا، وبالإجماع عند العلماء رحمهم الله: أن من مر على قارئ قرآن لا يجب عليه أن يجلس ويستمع لقراءته، بل هو مخير إن أراد الرحمة جلس، وإن أراد الانصراف انصرف، وقد نزلت في الصلاة, والمراد بهذا: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: أنصتوا للقرآن، وهذا أعم من موضع النزاع؛ لأن عندنا أحاديث مستثناة خاصة، فغاية ما تقول في الآية: إنها متعارضة مع الحديث، وهذا القول لا يسلّم به؛ لأنه في اعتراضات واردة، لكن لو سلِّم أن هذه الآية تعارض الحديث، وأنها في الصلاة، نقول: الحديث دل على ركنية الفاتحة، حتى الذين قالوا بالاستثناء؛ فإنهم يسلِّمون أنها ركن، إلا الحنفية رحمهم الله، فإذا كان يُسلّم أنها ركن، فالحديث الذي أثبت وجوب قراءة القرآن في الركنيات، وآية: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} غاية ما فيها أنها في الواجبات التي هي ليست أصلاً في الصلاة؛ لأن هناك واجبات من أصول الصلاة، مثل: التسبيح، والتحميد، وأذكار الصلاة، وواجبات ملحقة بأصول الصلاة، ليست هي أصلاً في الصلاة، بدليل أنها لا تجب إلا في القراءة الجهرية، دون غيرها، فليست من الواجبات المؤصلة، إنما من الواجبات العارضة، وواجبات العوارض لا تعارض واجبات أصول الصلاة؛ لأن الفاتحة واجبة في الصلاة، ثم كيف تعارض ما هو ركن في الصلاة؟! حتى لو سلم أنها من واجبات الصلاة، وأنها داخلة في واجبات الصلاة، والفقه أن تعرف دلالة كل دليل، ومنزلة هذا الدليل، هل في أصول الصلاة، أو هو ملحق بالصلاة؟ وبناءً على ذلك نقول: إن هذه الآية الكريمة لا يمكن بحال أن ننزلها منزلة: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) الذي هو نص في موضع النزاع.
ثم نقول: إن حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وآية: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} يمكن الجمع بينهما: فليقرأ الفاتحة، ويسمع القرآن، أليس عند قراءة الفاتحة يستمع للإمام، وحصل امتثال للأمر فيما هو في الإمكان؟! فجاءه عذره الشرعي، فقرأ القرآن واشتغل بما هو ركن عن واجب، وعندنا نظائر في الشريعة في الاشتغال بالأركان عن الواجبات، وبالواجبات الأهم عن الواجبات المهمة، وبناءً على ذلك نقول: إننا نقدم الأقوى، والقول بوجوبها على المأموم من هذه الأوجه كلها أقوى وأحرى، ويدل على ذلك فعل السلف: فهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اعترض عليه بهذه الآية، وقال المعترض: إن الإمام يقرأ، فقال له: إقرأها في نفسك يا فارسي! من شدة تشديده على هذا الأمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: اقرأها في نفسك، فإذا قرأها في نفسه فقد اشتغل بواجب في حظ نفسه، وحرص على إتمام ما فرض الله عز وجل عليه إتمامه.
والله تعالى أعلم.(369/6)
حكم المسبوق بركعة في الرباعية مع قيام الإمام للخامسة سهواً
السؤال
صليت مسبوقاً بركعة في الصلاة الرباعية، وكان قد سها الإمام وزاد في صلاته، وصلى خمساً، فماذا عليّ؟ هل أسلم معه أم آتي بالركعة التي كنت مسبوقاً بها أثابكم الله؟!
الجواب
إذا صلى الإمام ركعة زائدة، عذر بالسهو في قيامه، لكن يسبح له المأمومون، فإن أصر على أنه بقيت ركعة، فمن ناحية شرعية يتعبد الله الإمام باعتقاده، والمأمومون يتعبدون الله باعتقادهم؛ فمن كان قد صلى أربع ركعات لا يقوم وراء الإمام إذا علم أنه في الخامسة، وإذا قام المأموم بطلت صلاته؛ لأنه قام إلى شيء زائد، وزاد ركناً في الصلاة عالماً متعمداً، فتبطل صلاته.
لكن لو كان مسبوقاً بركعة جاز له أن يتابع الإمام؛ لأن ركعة الإمام في حق نفسه صحيحة، وغاية الأمر أنه مفترض يتأسى بمتنفل، وحينئذ تسلم مع الإمام، ثم إذا سجد الإمام سجود السهو، سجدت معه، كمن لم يدرك سهو الإمام؛ فإنك تسجد لمكان المتابعة، فصلاتك تامة، وصلاة الإمام مجبورة.
والله تعالى أعلم.(369/7)
معنى قوله: (خير النساء بركة أيسرهن مئونة)
السؤال
ما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (خير النساء بركة أيسرهن مئونة) أثابكم الله؟
الجواب
( خير النساء بركة أيسرهن مئونة): يعني: أن المرأة إذا تزوجها زوجها، فخففت في مهرها، وخففت في وليمة عرسها، وخففت في تكاليف زواجها، وضع الله البركة في ذلك النكاح، وهذا مجرب، وقد أخبرنا الثقاة: أنهم تزوجوا فبالغوا في زواجهم، فما مكثوا إلا مدة وجيزة، ثم تزوجوا وخففوا قليلاً فلم يمكثوا إلا مدة أطول قليلاً من التي قبلها، حتى تركوا البذخ والإسراف فتزوجوا بيسر الحال، وبقيت الزوجة الأخيرة معه مدة طويلة، ولذلك يقول لي شخص: تزوجت ودفعت قرابة ثلاثمائة ألف، قال: والله ما مكثت معها إلا شهراً ونصفاً، أو قرابة شهرين، قال: ثم تزوجت الثانية: بحوالي مائتي ألف -وكان ثرياً عنده مال- فمكثت معي ستة أشهر، ثم تزوجت الثالثة، ويسر الله عز وجل أن تزوجت من رجلٍ صالحٍ، وكانت مئونة الزواج بجميع ما فيه قرابة ستين ألفاً، قال: هي الآن أم أولادي، والآن لي بلغت سبع سنوات وأنا معها، فخير النساء أيسرهن مئونة، وهذا ليس في النكاح فقط، كل من يسر على المسلمين، وأخذ الأمور بالسماحة واليسر يسر الله له في الدنيا والآخرة، وأي أمر من الأمور الآن تشاهده وتجده مبنياً على السماحة واليسر، إلا وضع الله فيه البركة، ووضع الله فيه الخير؛ لأن الله يحب التيسير على عباده؛ لأنها من الرحمة، والراحمون يرحمهم الله.
والله تعالى أعلم.(369/8)
حكم من صرف مالاً ولم يعطه الصراف كل المال
السؤال
كان عندي مبلغ من المال، فأردت أن أصرفه، فذهبت إلى الصراف، فأعطاني جزءًا من المبلغ، وقال لي: تعال غداً؛ لأنه ليس لدي الباقي.
فهل هذا ربا؟
الجواب
إذا لم يكن هذا هو الربا، فما هو الربا؟ هذا ربا نسيئة، وإذا قال لك الصراف: تأتي بعد عشر دقائق، أو تعال بعد خمس دقائق، فقد افترقت ولم تأخذ حقك من الصراف، وهذا عين الربا، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لك أن يفارقك وبينكما شيء) يداً بيد، تصرف عشرة ريالات، وتأخذ عشرة ريالات حديد يداً بيد، مثلاً بمثل، فمن زاد أو استزاد، فلعنة الله على من أخذ وأعطى، فهذا عين الربا، فإذا قال شخص: هذا ورق، وهذا حديد، وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، نقول: لماذا تزكي الورق والحديد؟ لماذا يقال له: نصف ريال؟ ولماذا يقال له: ربع ريال؟ ولذلك هذه رصيدها فضة، فإذا صرفها ورقاً، أو حديداً، ناقصة بزائد؛ فاللعنة على الآخذ والمعطي، ولو لم يكن رباً لكان من أكل المال بالباطل؛ لأنه بأي حق يأخذ الواحد عشرة من أخيه المسلم، ويعطيه تسعة، واليوم يصرفون بتسعة، وغداً سيصرفون بخمسة، يقولون: والله عندنا فتوى أنه لا بأس في ذلك، لي الحق أن أصرف بأربعة، من يمنعني؟ وقد قيل: بيعوا كيف شئتم، وحينئذ يتسلط الأغنياء على الفقراء؛ لأن السيولة موجودة عند الأغنياء غالباً، وما الذي جعل الشريعة تحرم الربا في القروض؟ لأن الغني الذي عنده رأس مال يعطي الناس قروضاً، وتأتيه الأموال زائدة بالقرض ويصبح غنياً، الآن يفتح له مكتب صرافة، ويصرف العشرة بتسعة، وبعد شهر ما شاء الله يغتني، على حساب من؟ على كد الفقراء وضعفهم، تصرف من راتبك خمسمائة ريال، إذا جئت تصرف الخمسمائة تصرفها بنقص، ثم تصرفها مئات بنقص، ثم تصرفها بخمسينات بنقص، ثم تصرفها عشرات بنقص، لو لم يحرم من جهة الربا، لحرم من جهة أكل أموال الناس بالباطل، لابد أن نعي الأمور، ليس المسألة أن الإنسان يبحث عن مخرج، ثم يأتي الشخص وينشر هذه الفتوى ويعلقها، وما شاء الله! من الحق الواضح، ينبغي علينا أن نتورع وننتبه، وأن لا ننظر إذا كان الناس يفعلون هذا الأمر نقوم ونبحث لهم عن مسوغ شرعي، علينا أن نزن الأمور بموازين الشريعة، وأن ننظر إلى الأصول العامة، وإلى القواعد العامة، وأن نعرف أين هذا الأمر؟ أمر الربا أمر عظيم، فهذا هو الربا الذي حرمه الله ورسوله: (ولا يحل لكما أن تفترقا وبينكما شيء) يجب التقابض، ويجب التماثل، يداً بيد، ومثلاً بمثل، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(369/9)
نصيحة لمن سئم مذاكرة العلم ومدارسته
السؤال
ما نصيحتكم لطلبة العلم الذين سئموا المذاكرة، وأصبحت قلوبهم فيها قسوة؟ وما علاج هذه القسوة أثابكم الله؟
الجواب
الله المستعان! هل أحد يسأم من العلم؟! يا أخي! والله لو تعلم مقدار نعمة الله عليك، وأنت جالس في مجلس واحد من مجالس العلم، لجثوت على ركبتيك، ولخررت ساجداً لربك حامداً لنعمته وفضله عليك، أي نعمة أنت فيها! وأنت تذاكر قال الله، قال رسوله عليه الصلاة والسلام؟ إن لم يكن أهل العلم في جنة فلا أدري من هو الذي في الجنة؟(369/10)
حكم الصلاة خلف إمام لا يحسن قراءة القرآن
السؤال
أنا أصلي خلف إمام مسجد الحي، وهو لا يجيد قراءة القرآن! هل يجوز أن أصلي في مسجد آخر في نفس الحي؟ وما حكم صلاة المصلين الذين يصلون خلفه أثابكم الله؟
الجواب
قولك: لا يجيد قراءة القرآن، فيه وجهان: الوجه الأول: أن يكون مرادك أنه يخطئ في قراءة القرآن خطأً مؤثراً، والخطأ المؤثر عند العلماء: أن يلحن في الفاتحة لحناً يحيل المعنى، أو يبدل حرفاً مكان حرف، فهذا هو الذي يسميه العلماء: الأمي الذي لا يحسن قراءة الفاتحة، فهذا لا تصح صلاته إلا بمن هو مثله أو دونه، أما إذا كان الإنسان الذي يصلي خلفه يضبط الفاتحة، فلا يصلي وراء مثل هذا، ولا يجوز تقديم أمثال هؤلاء الجهلة الذين يخطئون في قراءة الفاتحة خطأً يحيل المعنى، أو لا يتقنون إخراج الحروف على الوجه المعتبر الذي يحصل به الإجزاء، ففي هذه الحالة لا تصل معه، وينبغي نصح هذا وتعليمه، وإذا صليت وراءه تصحح له الخطأ، وتفتح عليه في خطئه، ولو امتنع تردد عليه حتى يرجع عن خطئه، فلا تصح صلاة الأمي إلا بمن هو مثله أو دونه.
الوجه الثاني: أن يكون قولك: لا يجيد القرآن: يعني: لا يحسن بعض الأحكام المتعلقة بالتجويد، فتحصل عنده بعض الأخطاء في القراءة، فإذا كان هذا في القراءة من مراعاة أحكام التجويد، فالأمر أخف، إذا كان لا يحسن هذا لا يحكم ببطلان الصلاة، لكن يعلّم وينبه على أنه ينبغي عليه إتقان هذه الأشياء، إلا إذا كانت قراءته قراءة سرد وحدر، وخفف فيها في بعض الأحكام، هذا شيء آخر، لكن الظاهر أن سؤالك أنه ليس من هذا النوع.
على كل حال: إذا كان من النوع الثاني، فالذي أراه أن تصلي معه، وتحرص على تقويمه، وإعطاء ملاحظتك له بين الفينة والأخرى، فلعل الله أن يقوّمه، قال صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) أي: لكم صلاتكم كاملة، وعليهم خطؤهم، هذا إذا كان الخطأ لا يحيل المعنى، وليس بذاك الذي يوجب الحكم ببطلان الصلاة، لكنه آثم، هذا الإمام إذا أمكن أن يضبط أحكام التجويد ويتعلمها لكنه لم يتعلمها، فإنه آثم شرعاً؛ لأن تجويد القرآن واجب، والقرآن ينبغي أن يُقرأ كما نزل، وأما قول البعض: إن التجويد بدعة، فقوله رد عليه؛ لأن أئمة الإسلام، ودواوين العلم كلهم على إثبات هذه القراءة كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن المرد فيها إلى أهل العلم بالقراءة، ولذلك فالتجويد لازم، فمعنى قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4] أي: رتله كما نزل، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما نزل فليقرأه ... ) الحديث، فقال: غضاً طرياً كما نزل، وهذا يدل على أن التلقي عمن روى موجب ومتبع، ومن هنا قال العلماء: القراءة سنة متبعة تؤخذ من أفواه الرجال، فالأصل في هذا: أن هذا التجويد واجب، ولا يجوز الإخلال به، وعليه ضبطه وإتقانه، فإن قال قائل: إنه لا دليل على هذا، نقول له: أنت الآن تقول: {الم} [البقرة:1] ما الدليل على أنك تقول: ألف لام ميم؟ لماذا لم تقل: ألم، وهي مكتوبة: ألم، من الذي قال لك: إنها تقرأ: ألف لام ميم، وكذلك: {كهيعص} [مريم:1] تقرأها: كهيعص ما يمكن هذا.
لو قال شخص: إن زيادة الحرف في القرآن باعتقاد أنه من القرآن، وهو ليس من القرآن موجب للكفر، ونقص حرف من كتاب الله، وباعتقاد أنه من كتاب الله موجب للكفر، فهو يقول: {يََا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا} [هود:42] لا ينطق بالباء، وهي قراءة حفص، لماذا تسقط حرفاً من كتاب الله؟ لو جاء وقال: يا بني اركب معنا، خالف الأصل في الرواية؛ لأن هذه رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تقرأ على هذا الوجه.
إذاً من أين الدليل على هذه الأشياء؟ نقول: الدليل على هذه الأشياء: الرواية عن أئمة القراءة، يقول شيخ الإسلام: كل أهل علم يرجع إليهم فيه، وكل أهل فن يُرجع إليهم فيه، هذا الذي أمرنا الله عز وجل أن ننزل الناس منازلهم، ونأخذ عنهم العلم، فالذين يقولون: إن التجويد بدعة، هؤلاء لا يفقهون، ولا يعرفون ما كان عليه سلف الأمة، ولو كان بدعة والله ما بقي يوماً واحداً بين أئمة الإسلام، وما كانوا ليجاملوا في أعظم شيء وهو القرآن، ما شاء الله! الأمة أربعة عشر قرناً ساكتة عن هذه البدعة، وتسكت عن أئمة القرّاء يعلمون الناس البدع! هذا أمر ما ينبغي، إذا كان الإنسان يجهل التجويد، أو على وجه لا يحسن به التجويد، لا يأتي يهين هذه القراءة النبوية المحفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي جثا فيها أئمة الإسلام جيلاً بعد جيل ورعيلاً بعد رعيل في مجالس العلم يتلقون فيها ويكافحون ويكابدون من أجلها، فالتجويد سنة متبعة، ولذلك ينبغي الأخذ به، والأصل: أن الله عز وجل أمرنا بترتيل كتابه على الوجه الذي نزل، وقال سبحانه: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] وإبانة القرآن: إفصاحه، وإعطاء الحروف حقها من صفة لها ومستحقها دون تغيير ولا تبديل، فالمقصود من هذا أنه يجب عليه أن يتعلم هذه الأحكام، وأن يلم بها؛ حتى يؤدي للقرآن حقه وحقوقه.
والله تعالى أعلم.(369/11)
عدم جواز إخراج المصاحف الموقومة وغيرها من المساجد
السؤال
لا يخفى على فضيلتكم ما لكتاب الله عز وجل من تأثير في النفوس، كما لا يخفى الأجر العظيم المترتب على تلاوته، وحفظه، وتدبره، وحيث أن كثيراً من أبناء العالم الإسلامي حرم هذا الأجر بسبب عدم تملكه لكتاب الله، ولضيق ذات اليد، وحيث إنه توجد أعداد كثيرة من نسخ المصحف في المساجد، وهي في حالة جيدة موضوعة في المستودعات، وعدم الحاجة إليها، مما يعرضها للتلف، والامتهان، إضافة إلى عدم الاستفادة منها، حيث أن المساجد تستقبل سنوياً أعداداً جديدة من المصاحف، مما يجعل القديمة التي في حالة جيدة لا يستفاد منها، لذا اقترح بعض منسوبي بعض الجمعيات الخيرية، والتي لها نشاط واسع في أنحاء العالم، وخاصة العالم الإسلامي: مخاطبة أئمة المساجد بأخذ تلك المصاحف الموجودة في المستودعات، والتي غالبها من طبعة المجمع، ولا يُحتاج لها، وإرسالها مع الدعاة إلى تلك المناطق الخارجية؛ لتوزيعها على المسلمين هناك مجاناً للاستفادة منها، لذا نأمل منكم إيضاح الحكم الشرعي في هذه المسألة أثابكم الله؟
الجواب
أولاً: حقيقة هذه الطبعة-طبعة المجمع- من يعرف حال الطبعات قبل عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، يعلم أنه من أجل نعم الله، وأعظم نعم الله عز وجل في حفظه لكتابه وجود هذه الطبعة، هذه الطبعة التي نعرف من العلماء والأئمة الذين قاموا على تحريرها وضبطها، ممن شُهد لهم في العالم الإسلامي من أئمة القراءة، ومن علماء الأزهر، ومشايخ الأزهر القدماء، الذين نعرفهم بالصلاح والاستقامة والضبط والتحرير، وبلوغ الإمامة في هذا الشأن، وغيرهم من العلماء الفضلاء، رحم الله أمواتهم! وأحسن الخاتمة لأحيائهم وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، هذه الطبعة: الحقيقة كنا في الحرم النبوي نجلس فتأتي طبعات من مختلف العالم الإسلامي، بعضها القرآن فيها محرف، يعني: اطلعنا على بعض طبعات محرفة، والكلام محرف، والآيات فيها سقط، وفيها تحريف، فنعمة عظيمة من الله عز وجل وجود هذه الطبعة، نسأل الله أن يعظم الأجر والمثوبة لمن كان سبباً فيها؛ لأنها حقيقة أغنت العالم عن كثير من الغثاء، وعن الدَّخل الذي ضر المسلمين في كتاب الله، وأن الله تكفل بكتابه.
المسألة الثانية: مسألة المصاحف الموجودة في المساجد لا يجوز إخراجها من المسجد، هذا أول شيء.
والأصل أنه إذا وضع في مكان، هذا يسمونه: دلالة الفعل على خصوص الحبس، والوقف هو الحبس.
أولاً: الوقف إذا وضع في مكان، كأن يضع فراشاً في مسجد، نفهم من هذا الفعل أنه قصد وقفه على هذا المسجد، ولو لم يتلفظ بلسانه، فيصبح وقفاً على هذا المسجد إلى أن يتلف بالكلية، فلا يجوز إخراج المصاحف من المساجد، حتى ولو كانت قديمة، وهذا للأسف يتساهل فيه البعض، والذين أوقفوا مصاحف للمساجد، فهم يرجون الأجر والمثوبة، وفيهم أموات أوقفوا هذه المصاحف، وهذه البسط، وهذه الأجهزة، لا يجوز لأحد أن يقدم على التغيير، أو التبديل بها إلا بوجه شرعي، هذا أمر مقرر عند العلماء في الوقف.
ثانياً: حينما يقول الإنسان: أوقفت هذا، أو سبلت هذا، فقد أخرجه من ملكيته لله عز وجل، ما يستطيع أحد أن يتولى النظر فيه؛ لأنه أصبح وقفاً لوجه الله عز وجل، مسبلَ المنافع، فلا يجوز العبث بالأشياء الموجودة في المساجد والاجتهاد فيها، إلا ممن له الشأن في ذلك، هذه المصاحف تكتبون في شأنها إلى جهات الأوقاف، هناك جهات معنية بهذا الشيء، مفوض إليها النظر في هذا الشيء، هي التي تتحمل المسئولية، أما أن يأتي كل شخص ويجمع المصاحف من المساجد ويخرجها ويرسلها إلى الخارج فلا! هذا اجتهاد باطل مردود؛ لأن هناك ضوابط شرعية.
هذا وقف مسبلٌ على هذا المسجد، فلا يجوز إخراجه.
نعم هناك أماكن تحتاج إلى مصاحف، ليس معنى هذا أنها ما تحتاج، بل هناك حاجة وهناك فاقة، بإمكانك أن تكلم الأغنياء أن يشتروا نسخاً وطبعات وترسل بها إليهم.
هناك جمعيات جزاهم الله كل خير، يعتنون بهذا الأمر، لكن ليس من حق الإنسان أن يأتي إلى طبعة موقوفة في المسجد، ويخرجها من هذا المسجد، هذا أمر لا إشكال فيه، من جهة الوقفية هناك أمور: الأمر الأول: أن من سبل أو حبس، فإنه لا يجوز لأحد أن يخرج حبسه عن مكانه إلا بوجه شرعي، ولذلك قالوا: إن الأوقاف لا تباع إلا بقضاء من القاضي؛ لأنه ليس لها ولاية، فتحتاج إلى الولاية العامة من القاضي؛ حتى يحكم ببيعها وصحة التصرف فيها.
الأمر الثاني: لا يجوز لأحد أن يأتي والمصاحف موجودة في المسجد، ويدخل مصاحف جديدة، مادام المسجد مستكفياً، ولذلك مادام أن المسجد مستكفٍ، فاذهب بالمصاحف إلى مسجد آخر، وبدلاً من أن تخرج المصاحف القديمة التي أوقفها أصحابها فبقاؤها أولى وأسبق، خذ الأشياء الجديدة وقل لهم: أرسلوها إلى من هو أحوج، أما من سبق فهو أحق، ولذلك لا ينبغي إخراج حتى الفراش، لو أن شخصاً فرش مسجداً، وفتح هذا الباب، لأتى شخص وقال: والله هذا الفراش ما يعجبني، فيأتي بفراش آخر، والثاني يقول: وأنا أيضاً هذا الفراش ما يعجبني، أبغي الأجر والمثوبة، وَلَمَا انتهى هذا الأمر، ولذلك الأصل أن من سبق فهو أحق، ونقول لمن لحق: ابحث عمن هو أحوج، واجعلها له، إن شئت أن توقف مصاحف، أو أن توقف أجهزة، أو أن توقف أشياء أُخر، فالأصل أنه ليس من صلاحية الإمام ولا غيره النظر في هذه الأشياء، إنما توكل إلى من هو معني بهذا الأمر، تكتبون إليه، ثم يُجتهد في هذا الأمر بما فيه المصلحة، نسأل الله التوفيق لذلك! أحب أن أنبه إلى ما يعانيه إخوانكم في فلسطين من الكرب العظيم، والبلاء العظيم الذي نزل بهم، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعجل بالفرج لنا ولهم وللمسلمين، وتعلمون كما لا يخفى على الجميع تكالب أعداء الإسلام عليهم، وما فعله اليهود بهم، الأمر الذي يحتم على المسلم أن يكون مع إخوانه، كما بين الله عز وجل في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من وجوب نصرة المسلم لأخيه المسلم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، ولذلك أقول: على كل مسلم أن يقدم ما يستطيع تقديمه لإخوانه، ومن أعظم ما تنصرون به إخوانكم كثرة الدعاء، فإن الدعوة فيها خير عظيم، ولعل دعوة منك تفتح لها أبواب السماوات، تفرج بها كربات المؤمنين والمؤمنات، ترفع بها إلى عالي الدرجات، وتعظم لك فيها الحسنات في الدنيا والآخرة، فاجتهدوا -رحمكم الله- في الدعاء لإخوانكم، وتصوروا كربهم حينما يقتل شيوخهم، وترمل نساؤهم، وييتم أطفالهم، وهم إخوانك في الدين والعقيدة، وما نقموا منهم إلا أنهم آمنوا بالله، وصدقوا رسله، فالمسألة مسألة إيمان وعقيدة، فعلى المسلم أن يجتهد في الدعاء لهم بين الأذان والإقامة، وفي السجود في الأسحار، في مظان الإجابة، عند خشوعه، وحضور قلبه، يجتهد في الدعاء لإخوانه المسلمين.
فنسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، اللهم!! أنت الله لا إله إلا أنت يا من يكشف البلاء! ويزيل العناء! يا فاطر الأرض والسماء! لا إله إلا أنت، نسألك اللهم!! أن تجعل لإخواننا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، اللهم!! داو جرحاهم، واشف مرضاهم، وتقبل شهداءهم، اللهم! ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب آراءهم، واجمع شملهم، وأصلح ذات بينهم، يا حي يا قيوم! اللهم!! بارك أرزاقهم، اللهم!! بارك أرزاقهم، اللهم! بارك أقواتهم، اللهم! بارك أرزاقهم وأقواتهم يا حي يا قيوم! اللهم! أنزل عليهم من الثبات والصبر أضعاف ما أنزلت عليهم من البلاء، اللهم! إن اليهود قد طغوا، وبغوا، وأسرفوا، وأرجفوا، اللهم! جبار السماوات والأرض لا إله إلا أنت، يا من يسمع الدعاء! ويكشف البلاء! يا فاطر الأرض والسماء! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! نسألك اللهم بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تزلزل عروشهم، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! صدع بنيانهم، اللهم! شتت شملهم، اللهم! فرق جمعهم، اللهم! أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! اسلبهم عافيتهم، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل بهم رجزك ولعنتك، إله الحق لا إله إلا أنت، اللهم! شتت شملهم، وشمل من شايعهم، وظاهرهم، وأعانهم، ورضي أفعالهم، اللهم! اقصم ظهورهم، اللهم! اقصم ظهورهم، وشتت أمورهم، اللهم! شتت أمورهم، يا حي يا قيوم! اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك، عجل لنا ولإخواننا بالفرج، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(369/12)
شرح زاد المستقنع - باب القسامة [1]
كانت القسامة مما يعمل به العرب في الجاهلية، فجاء الإسلام وأقرها وهذبها وجعل لها شروطاً، فهي لا تكون في أموال أو عروض أو غيرها، وإنما تكون في القتل والدماء.
والأيمان في القسامة إما أن تكون أيمان إثبات من أولياء الدم، وإما أن تكون أيمان نفي من أولياء المدعى عليه.(370/1)
مقدمة في القسامة وما يتعلق بها من أحكام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب القسامة].(370/2)
تعريف القسامة ومشروعيتها
القسامة: مأخوذة من القسم وهو اليمين، وهذا الباب المراد به: أيمان مكررة لاستحقاق دم على صورة مخصوصة.
والقسامة وقعت في الجاهلية، وأقرها الإسلام، وهي من الأمور الخاصة التي جاء فيها دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبتت على خلاف الأصل، وهي أصل في باب الأيمان في القتل، لكنها في الأصل مستثناة؛ لأن الأصل في القتل أولاً: أننا لا نقتل أحداً إلا إذا أقر واعترف أنه قتل عمداً عدواناً، وتوافرت فيه أهلية الإقرار بالقتل، وسيأتي إن شاء الله بيان أهلية المقر في كتاب القضاء.
ثانياً: أن توجد بينة، وهي شاهدان عدلان من الذكور، يشهدان أن فلاناً قتل فلاناً، ويكون ذلك برؤيا منهما، أي: أنهما رأيا قتل ذلك الشخص، وهناك شروط سنذكرها في الشهادة: كأن يتفقون على صفة القتل، وطريقة القتل، وتتفق الشهادة لفظاً ومعنى، بحيث لا يكون هناك خلاف بينهم، فإذا ثبتت الشهادة على الوجه المعتبر، وزُكي الشهود، ولم تكن هناك تهمة ولا ظنة بالشاهدين، ولا أمر يقدح ويوجب رد شهادتهما؛ فإنه في هذه الحالة نحكم بوجوب القصاص.
إذاً: لا بد من وجود البينة: شاهدين عدلين، أو إقرار من الشخص، هذا هو الأصل، فلا يعطى الناس بدعواهم، كأن يأتي شخص ويقول: فلان قتل أبي، أو فلان قتل أخي، فلا نقبل منه مجرد الدعوى، وإنما نأتي بالشخص المدعى عليه، ونقول له: هل قتلت فلاناً؟ فإن أقر وقال: قتلته، أخذناه بإقراره؛ لأنه ليس هناك أوثق من شهادة الإنسان على نفسه، فإذا أقر فقد شهد على نفسه، ومن شهد على نفسه، فالأصل أنه لا يشهد بالضرر على نفسه، فيؤاخذ بإقراره، لكن لو قال: لم أقتله، نقول للمدعي: أحضر البينة وشهودك على أن فلاناً قتل أباك أو أخاك، فإن أحضر البينة والشاهدين، فنحكم بالقصاص، ما لم يُطعن في الشاهدين، ويتبين أن هناك عداوة للمشهود عليه، أو أن هناك قادحاً يمنع من قبول شهادتهما، فحينئذ نرد الشهادة، لكن لو زُكوا وثبتت عدالتهما وضبطهما، وأنهما أهل للشهادة بالقتل، حكمنا بالقصاص، إذا طلب أولياء المقتول القصاص.
لكن باب القسامة خرج عن هذا الأصل، كما خرجت أيمان اللعان عن الأصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الأصل، وأشار إلى الاستثناء، فإذا قال العلماء: هذا على خلاف الأصل، فليس مرادهم أنه مخالف للأدلة، هذا لا يقصده العلماء أبداً، ولا يمكن للعلماء أن يثبتوا شيئاً مخالفاً للأدلة، إنما المراد بالمخالفة للأصل: أنها صورة مستثناة لا يقاس عليها غيرها، ولذلك يقال: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس.
فلا يفهم البعض هذه العبارات ويظن أن العلماء إذا قالوا: هذا على خلاف الأصل، فإن معنى ذلك أنه رأي خارج عن الأدلة لا؛ فإن هذا لا يمكن أن يقوله العلماء مادام أنه قد ثبت به الدليل، ولكن مراد العلماء أن يبينوا ما هو أصل وما هو مستثنى من الأصل، فأعطوا كل دليل حقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال في مسألة الأصل والمستثنى من الأصل، جاءه هلال بن أمية، وقذف امرأته بـ شريك بن سحماء، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عن الجميع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة، أو حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله! الله يعلم أني صادق، وأني لم أكذب عليها، وسينزل الله قرآنا يبرئني)، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم آيات اللعان، وقيل: نزلت في عاصم مع عويمر العجلاني، كما تقدم معنا في باب اللعان، فإنه قال له: سل لي يا عاصم لو أن رجلاً وجد مع امرأته.
إلخ.
الشاهد: أنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (البينة أو حد في ظهرك)، فالأصل: أنه إذا قذف زوجته أو قذف أي محصنة، فعليه أن يأتي بالبينة، أو إقرار من المرأة، فتقول: نعم إني زنيت، أو شهود يشهدون أنها زنت، فلما لم يقل ذلك، قال له: (البينة أو حد في ظهرك)، فنزلت آيات اللعان، فكان قوله: (البينة أو حد في ظهرك) أصل، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بالأصل، فلما نزلت آيات اللعان، نزلت على خلاف الأصل، بحيث اختصت بالزوجين ولم تشمل غيرهما، ومن هنا: لو قذف القريب قريبه، كأن يقذف أخ أخاه، وجاء شخص يقول: أنتم تثبتون القياس، إذن نجري اللعان بين الأخ وأخيه، كما نجريه بين الزوجة وزوجها، بجامع وجود القرابة والرحم في كلٍ منهما، فنقول: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس، وهنا تعرف فائدة الخروج عن الأصل، والاستثناء من الأصل، حتى لا يحصل الخلط.
ومن لم يعرف الأصول المقررة, والأصول الخارجة عن الأصول التي هي أصول في بابها، لكنها مستثناة من الأصول؛ فإنه لا يأمن من الخطأ، خاصة في الأقيسة ومعرفة النظائر، وعمر رضي الله عنه يقول لـ أبي موسى: اعرف الأشباه والنظائر، ثم قس الأمور بها.
فالأصل في هذا أننا نطالب من ادعى القتل أن يحضر بينة، وإلا رددنا دعواه إذا أنكر المتهم وحلف.
إذاً: في هذه الحالة جاءت أيمان القسامة على خلاف الأصل: وذلك أنه قُتل قتيل لبني هاشم -كما روى ابن عباس رضي الله عنهما- فقال أبو طالب: احضروا خمسين رجلاً منكم يحلفون خمسين يميناً ونبرئكم، فأحضروا تسعة وأربعين رجلاً إلا ولي يتيم هو المكمل للخمسين من العصبة، فقال: إني أدفع هذا القسط من الدية عن يتيمي، فحلف التسعة والأربعون أيمانهم في الجاهلية، وكانت أيماناً فاجرة، فما مضى الحول وفيهم نفس حية.
ولذلك يقولون: من المعروف في أيمان القسامة أنه لا يحلفها أحد كاذباً إثباتاً أو نفياً، فلا يمر عليه الحول وهو بخير أبداً؛ لأنه يثبت أن فلاناً قتل، فيُقتل هذا المسكين ظلماً، ومن هنا صار أمرها عظيماً، حتى كان أهل الجاهلية يخافون اليمين، وكذلك يمين القضاء كلها، فمن وقف في القضاء وطلبت منه اليمين، فحلف بها فاجراً، لقي الله وهو عليه غضبان، وهي اليمين التي تغمس صاحبها في النار، تسمى: الغموس، فإذا كانت في الدماء فهي أشد وأعظم.
ومن هنا جعل الله الفكاك من هذه المصيبة العظيمة، وهي ورطات الدماء، فإن أصعب شيء بين الناس ثارات الدماء، خاصة إذا كانت بين الجماعات، أو ثارات ومنازعات بين القبائل، أو بين الأحياء، أو منازعات وثارات بين القرابة أنفسهم في أفخاذهم، فلو لم تشرع هذه القسامة لحصل للناس شر عظيم، وبلاء وخيم، ولذلك حكمة عظيمة عالجت فيها الشريعة حقن الدماء، عالجت فيها الاسترسال في الدماء والثارات، وكان العرب في جاهليتهم الجهلاء يسترسلون في القتل بدرجة مستبشعة، حتى إنه إذا قتل الرجل من القبيلة، قد لا يرضون إلا بمائة نفس، ولا يرضون إلا أن يكون من عظماء القبيلة الأخرى، فيدخلون في تسلسل من سفك الدماء، حتى عصم الله دماء عباده بفضله سبحانه، ثم بهذا الشرع: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] قال: (يا أولي الألباب) ولم يقل: المجانين، وأولو الألباب: هم أهل العقول الراجحة السوية، التي تعي وتفقه عن الله عز وجل.(370/3)
حادثة عبد الله بن سهل وحويصة بن مسعود في القسامة
هذه القسامة اضطرت الشريعة إليها، ولا يحكم بها إلا في حالة مخصوصة، وقد وقعت في الجاهلية، وكذلك وقعت في الإسلام، وذلك لما فتحت خيبر خرج عبد الله بن سهل وحويصة إلى خيبر، وافترقا في الطريق في حي من خيبر، فذهب حويصة وترك عبد الله في مكان آخر، فرجع حويصة فوجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه مقتولاً قد انتهى، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء هو وأخوه الأكبر منه محيصة وعبد الرحمن أخو عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطالبون بحقه، فهنا يلاحظ: أن هناك عداوة بين الأنصار وبين اليهود، وهي عداوة دينية، وأشد العداوات العداوة الدينية؛ لأنها عداوة يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، فهي أعظم من عداوة الدنيا.
إذاً: في هذه العداوة لوث، ومن هنا من فقه العلماء أخذوا هذا الحديث كلمة كلمة، وجملة جملة، وبنوا الأحكام على هذا التفصيل، فوجدوا أن هناك عداوة بين من يدعي وبين المدعى عليه، فهذا أول شرط لمسألة القسامة: أن يكون هناك لوث أو لطخ، أي: وجود عداوة بين الطائفتين أو الجماعتين، أو يثبت أن جماعة فلان هددوا جماعة فلان وقالوا: إنهم سيضرون بهم، وذلك باعترافهم، أو قالوا: سنفعل بكم، أو سنضركم، أو لن نترككم، أو ستذكرون، ستندمون، كلمات تدل على أنهم يريدون أو يتربصون بهم الشر.
كذلك من اللوْث أيضاً قالوا: لو وجد هذا القتيل في مكان وبجواره رجل معه سلاح، وثوبه ملطخ بالدم، فحينئذ هذه يسمونها: القرينة القاطعة؛ لأن الرجل مقتول، وليس هناك أحد معه آلة القتل إلا هذا القائم، ونحن لم نره يقتل حتى نقول: إنه هو القاتل؛ لأنه احتمال أن يأتي شخص يريد إسعافه وإنقاذه، فيحمل السكين عفواً، ثم تلطخ بدمائه، فالاحتمال موجود، والشبهة موجودة، لكن هناك غلبة الظن، فإذا وجد بجواره في هذه الحالة، حتى ولو لم تكن هناك عداوة فهذا أيضاً لوث.
إذاً: عندنا حالتان: الحالة الأولى: أن تكون هناك عداوة، وحينئذ تكون الشبهة بالقتل، وبالقسامة يثبت القصاص، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة هو في هذا الحديث في مسألة القصاص، لكن إن قلنا: إن القسامة تثبت الدية في قتل الخطأ، فمثلاً: وجدنا شخصاً مقتولاً ملطخاً بالدماء، وبجواره شخص بسيارته وهي ملطخة بالدماء، فقلنا له: هل قتلته؟ قال: ما قتلته، وأبى أن يعترف، وليس عندنا شهود يثبتون أنه قتله، فحينئذ تكون القسامة على القول بأنها تجري في الخطأ كما أنها تجري في العمد، وهو الوجه الثاني عند أهل العلم.
وبناءً على هذا قالوا: لو حدثت زحمة عند بئر، ثم خرجت هذه الجماعة المزدحمة ووجد بينهم رجل ميت، فيحلف أولياء المقتول على هذه الجماعة، ويلزمونهم الدية، كذلك أيضاً لو كان في يوم جمعة، المهم أن يكون في مكان فيه زحام، فمات بينهم، فهم الذين قتلوه، وحينئذ يحلف أولياء المقتول: أن هذه الجماعة هي التي قتلت، ويستحقون الدية، لكن لا يستحقون القصاص، على القول بأن الخطأ يجري مجرى العمد في ثبوته بالقسامة.
وإن قلت: إن القسامة خرجت عن الأصل، فتقول: تنحصر في قتل العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبتها في حادثة العمد، وهذا أقوى من جهة الأصول، وأقيس كما يقول العلماء؛ وذلك لما وجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه، انطلق حويصة -الذي وجده على هذه الحالة- وأخبر قريبه، فمضوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يميناً، فتستحقون على رجل منهم-يعني من اليهود- فيدفع إليكم برمته)، وفي لفظ في الصحيح: (تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم) يعني: اختاروا أي رجل منهم، وقولوا: هذا هو الذي قتل، وتحلفون خمسين يميناً، فيقتل به قصاصاً.
ومن هنا قالوا: إذا وجد اللوث-العداوة- أو كان بين الشخصين عداوة، وأثبت أولياء المقتول أن فلاناً كان يتوعد قريبهم، أو عرف عن هذا الشخص أنه رجل سوء، وقد ذكر عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف، وقرره واختاره: أنه لو كان هناك شخص في حي، وهو معروف بسفك الدماء، معروف بالبغي، معروف بالاعتداء على الناس، فوجد قتيل في نفس ذلك الحي، فإننا نقول لأولياء القتيل: احلفوا على هذا الرجل؛ لأن دلالة الظاهر تدل على أنه ليس في هذا الحي أحد يجرؤ على القتل إلا هذا الرجل، ولا يستمرئ القتل ولا يستخف به إلا هذا الرجل، قالوا أيضاً: كذلك العداوات المشهورة بين أهل الأحياء، أو بين الجماعات والطوائف، توجب اللوث.
قال صلى الله عليه وسلم: (تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون على رجل منهم، فيُدفع إليكم برمته، قالوا: يار سول الله.
!) انظر إلى هذا الورع! انظر كيف ربى الإسلام هذه الأمة، فالأنصار كانت بينهم الثارات، حتى إنهم دخلوا ذات يوم إلى حديقة، تواعدوا أن يتقاتلوا فيها، فدخل في الحديقة رجالهم وأبطالهم وشجعانهم، فما خرج منهم أحد حي؛ من شدة ما كان بين الأوس والخزرج من القتال، وذلك يوم بعاث، فالشاهد من هذا: أن هؤلاء القوم الذين كانوا منغمسين في الثارات، وفي سفك الدماء، ومحبة الانتقام، انظر كيف أثر الإسلام فيهم، فقوّم أخلاقهم، وقوّم سلوكهم، وأصلح ظاهرهم وباطنهم بإذن الله عز وجل، وعلى من؟ على اليهود أعدائهم، ومع هذا كانوا أهل عدل حتى مع الأعداء، فإذا بهم يقولون: (يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟!) فما شهدنا قتله، ولم نر القاتل، فكيف نحلف خسمين يميناً؟! وقد قرر العلماء أن من غلب على ظنه أن فلاناً قتل قريبه، فيجوز له أن يحلف اليمين؛ لأن اليمين تجوز على غلبة الظن، والدليل على ذلك: مسألة القسامة.
فقالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! والله تعالى يقول: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81]) انظر كيف تورعوا مع وجود الدلائل والظواهر، ومع وجود الحمية لقريبهم، ومع هذا كله كفوا، وعفوا، ومع من؟ مع اليهود، فيا ليت المسلم يفعل عشر معشار هذا مع أخيه المسلم، حينما يتكلم في فكره، وفي منهجه، ويسفِّه، ويبدع، ويفسق، ويخرج المسلمين من الملة، دون أن يرعى فيهم حق الإسلام! فإن هؤلاء الأنصار اتقوا الله وتورعوا حتى مع أعدائهم، وهكذا يكون من يتأسى بالسلف الصالح حقيقة، ويكون على منهج الصحابة الذين هم أئمة السلف الصالح، قالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً)، فدل على فائدة وهي: أولاً: أن توجه الأيمان على أولياء المقتول على رجل، فإن حلفوا ثبت القصاص، وهذه يسمونها: أيمان الإثبات، فيحلفون ويقولون: والله إن فلاناً قتل فلاناً، يحضرون إلى مجلس القضاء ويقولون: إن فلان بن فلان، ويشيرون إليه؛ لاحتمال أن يكون أحد يشبهه في الاسم، ولذلك يقولون: إن فلان بن فلان الفلاني هذا قد قتل قريبنا فلانَ بن فلانَ، فإذا كانوا خمسين رجلاً فتقسم عليهم الأيمان, وإذا كان عددهم عشرة حلف كل واحد منهم خمسة أيمان حتى يكمل النصاب إلى خمسين، فهم مجتمعون، ومنفردون، فيحلفون على الإثبات، قالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! قال: تبرئكم يهود بخمسين يميناً) وهذه شهادة النفي، أي: على العكس، فإذا ادعوا، أحضرنا خصومهم، فإن قالوا: نحن ما نحلف، نقول لخصومهم: احلفوا خمسين يميناً على أنكم ما قتلتم، وتفصيل هذه اليمين أن يقول الحالف: والله ما قتلته، ولا أعنت على قتله، ولا تسببت في قتله، ولا أعلم من قتله، فيحلف هكذا؛ لأنه ربما يقول: ما قتلته، ويعني مباشرة، ولكنه تسبب في قتله، لكن عليه أن يقول: ما قتلته، ولا تسببت في قتله، ولا أعلم من قتله، فيحلف هذه الأيمان على هذا الوجه، فهي يمين نفي، ولما كانت يمين نفي.
قال صلى الله عليه وسلم: (فتبرئكم يهود)، فهي يمين براءة، وتكون من المسلم والكافر، لكنهم قالوا: (يا رسول الله! كيف نقبل أيمان كفار?!)، فامتنعوا من قبول يمين اليهود، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال بمائة من الإبل؛ لأن اليهود كانوا تحت ذمته، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وهذا دم معصوم، ولا بد من وجود قاتل، فهو مقتول من شخص إما من المسلمين وإما من اليهود، ولا نعرف بالضبط من الذي قتله، وما استطاع أولياء المقتول أن يحلفوا، فإذا كان من المسلمين، أو من غير المسلمين، ممن تحت ولاية المسلمين، فحينئذ يضمنه بيت مال المسلمين، هذا وجه، وبناءً على هذا الوجه: يجوز للقاضي الاجتهاد إذا حصل مثل هذا، فمثلاً: وجد شخص مقتول، ولا يعلم من قتله، أو في الموت الذي يحصل من الجماعات أثناء الزحام والعمية، فإنه يودى من بيت مال المسلمين، هذا الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطر إلى دفع المائة من الإبل دفعاً للثارات؛ لأن الأنصار لن يسكتوا، ستأخذهم الحمية، وإن سكت الرجل فلن يسكت قريبه، وحينئذ سيحدث ضرر، وهؤلاء اليهود لهم ذمة، فلربما استطال أنصاري على يهودي، ولم يكن القاتل بعينه، فيدخلون في ثارات لا تنتهي، فمن هنا صار أشبه بدفع الضرر الأعظم عن المسلمين؛ لأنه سيؤدي إلى حدوث عواقب وخيمة، فكان من حكمته عليه الصلاة والسلام أنه قفل هذا الباب، ومن هنا لو أن القاضي رأى خصومة وقعت بين حيين، أو قبيلتين، أو جماعتين، أو فخذين من جماعة، وحدث فيها مثلما حدث في هذه القضية، فلا أيمان للإثبات، ولا أيمان للنفي، وهو يعلم أن أولياء المقتول لن يسكتوا، وسيتربصون، وستحدث أضرار، فإنه يودي من بيت مال المسلمين، حقناً لدماء المسلمين، ولا يبطل دم في الإسلام.
ومن هنا حدثت القضية لـ عمر وعلي رضي الله عنهما، ففي زمان عمر الخليفة الراشد جاء رجل ووقف بعرفة فقتل من الزحام، فجاء أولياؤه إلى عمر، فقال عمر: ال(370/4)
مناسبة ذكر باب القسامة بعد كتاب الجنايات والقتل والديات
قوله رحمه الله: [باب القسامة].
أيك في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بباب القسامة.
وكأن باب القسامة مرتب على باب القتل، فبعد أن بين لنا متى يكون القتل قتل عمد وقتل شبه عمد وقتل خطأ، وبين أحوال القتل ومن يقتص منه ومن لا يقتص منه، ثم تكلم على الجناية على الأطراف؛ شرع في باب القسامة؛ لأن إثبات الشيء أو طلب الإثبات -كما يسمى في القضاء- لا يكون إلا بعد وجود الجريمة، فلا نطالب بإثبات شيء غير ثابت في الأصل لا تتقدمه دعوى، فعلى هذا لابد أول شيء أن تثبت الجريمة على صفة معتبرة، ثم بعد ذلك يسأل عن إثباتها.
وكان المفروض أن يؤخر باب القسامة إلى باب القضاء؛ لأنه متعلق بالحجج والبينات، ولكن نظراً لأن القسامة لا تكون في شيء غير القتل -وهي خاصة بالقتل- فمن دقة الفقهاء رحمهم الله أنهم يذكرون الخاص في بابه الخاص، ويذكرون المتعلق الخاص في بابه، ولا يذكرونه في الأبواب العامة.
وباب الشهادات العام سيأتي الكلام فيه عن ضابط الشهادة عموماً في القتل، وفي الحدود والجنايات، وفي الأموال وفي الحقوق ونحوها، ولكن في باب القتل هناك نوع من الإثبات خاص به، من المناسب أن يذكره المصنف رحمه الله في بابه، ولا يذكره في الباب العام، وعلى هذا يكون ترتيب المصنف ترتيباً منطقياً راعى فيه تسلسل الأفكار، حيث بيَّن القتل والجريمة، ثم بعد ذلك بين ما يتعلق بإثباتها.
يرد الإشكال أن المصنف رحمه الله ذكره بعد باب الجناية على النفس والأطراف، ولا شك أن هذا له عذره فيه، فقد ذكر الجناية على الأطراف لأنها مرتبة على الجناية على النفس؛ ولأنه قسيم مشارك، ثم بعد ذلك ذكر القسامة باختصاصها بهذا الحكم الذي بيناه، وهو متعلق بباب القضاء، فكان الأولى والأجدر أن يؤخر، ومن هنا يكون منهجه منهجاً صحيحاً راعى فيه ما ذكرناه.
ثم من المعلوم أن القسامة لا تثبت إلا في قتل مخصوص وعلى صفة مخصوصة، ومثل هذا -عند الفقهاء رحمهم الله- يسمى الباب الخاص، ويؤخر عن الأبواب العامة.
قال رحمه الله تعالى: [وهي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم].
قوله: (وهي) أي: القسامة، فالضمير عائد إليها، وحقيقتها عندنا -معشر الفقهاء- أيمان، وهي جمع يمين، وأصل اليمين: الحلف، والأصل في اليمين القوة، يقال: أخذها باليمين: أي: بقوة، كما قال الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين يعني: بالقوة، ثم تطلق على اليد، وهذا إطلاق حقيقي وليس بمجازي، وكذلك أيضاً هنا تطلق على الحلف، وهو القسم، قالوا: سمي القسم يميناً لأنه يقوي جانب المقسم، فالشخص إذا حلف وأقسم قوي جانبه، وضعف جانب مكذبه؛ لأن كل من يخبر عن شيء فهو متردد بين أن يكون صادقاً أو يكون كاذباً، أو مخطئاً، ومن هنا إذا حلف فإنه يقوي ما يقوله، ويقوى جانبه في الخبر.
وقوله رحمه الله: (أيمان) جمع، وعبر بصيغة الجمع؛ لأن القسامة خمسون يميناً يحلفها أولياء المقتول على الصفة التي سنذكرها، فنظراً لكونها أكثر من واحدة، جمعها رحمه الله، وهذا الإجمال بينته السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما قال -كما في الصحيحين- للمدعين: (تحلفون خمسين يميناً)، ولذلك قال المصنف: (أيمان)، والمراد باليمين هنا: اليمين الشرعية المعتد بها، وهي اليمين بالله سبحانه وتعالى.
وهل تكون مغلظة أو غير مغلظة؟ الأصل ألا تغلظ اليمين إلا إذا دل الدليل على تغليظها، وتغليظ اليمين أن يقول: والله الذي لا إله غيره، أو والله الذي لا إله إلا هو، فإذا أضاف هذا القيد فقال: والله الذي لا إله إلا هو فقد عظّم يمينه، وإذا فجر فيها كان فجوره -والعياذ بالله- أعظم وأشد جرأة على الله سبحانه وتعالى مما لو قال: والله، فالأصل فيها أن تكون باليمين المجردة: والله.
وبعضهم يقول: يضيف قوله: والله الذي لا إله إلا هو ما قتلناه، ولا نعلم من قتله.
هذا بالنسبة لمن يدعى عليهم، وهي ما تسمى عند العلماء بيمين النفي.(370/5)
أقسام القسامة
والقسامة -التي هي الأيمان المكررة- التي ذكرها المصنف، تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أيمان إثبات.
والقسم الثاني: أيمان نفي.
أما أيمان الإثبات فتكون من أصحاب الدم، وهم الذين جني عليهم وهم أولياء المقتول، فأيمانهم أيمان إثبات، لابد أن يحددوا القاتل ويصفوه بما يتميز به عن غيره، وإن كان موجوداً في مجلس الحكم والقضاء، يقولون: والله إن هذا -ويشيرون إليه- قتل مولينا أو فلان بن فلان.
ويذكرونه بما يتميز به أيضاً.
هذه يمين الإثبات.
أما أيمان النفي: فتكون من المدعى عليهم؛ لأن الطرف الثاني وهم المدعى عليهم، إذا امتنع أولياء المقتول من الحلف طالبناهم أن يحلفوا، فيحلفون بالله خمسين يميناً أنهم ما قتلوا ولا يعلمون من قتله، فتكون اليمين على الأمرين، أما اليمين الأولى -وهي يمين الإثبات- فقد أشار إليها عليه الصلاة والسلام بقوله: (تحلفون خمسين يميناً وتستحقون بها دم صاحبكم) وفي اللفظ الآخر أيضاً في الصحيح (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم، فيدفع إليكم)، وفي لفظ أحمد (تحلفون خمسين يميناً) أو (تقسمون خمسين يميناً على رجل فيدفع إليكم برمّته) هذه كلها أيمان إثبات.
أما أيمان النفي فقوله: (فتبرئكم يهود بخمسين يميناً)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (تبرئكم يهود) أي: يحلف المدعى عليهم -وهم الطرف الثاني الذين وقعت فيهم الجريمة، وادعي أنهم هم الذين قاموا بالجريمة، أو فيهم من قام بالجريمة- يحلفون خمسين يميناً.
فقوله رحمه الله: (أيمان) يشتمل على أيمان الإثبات من المدعي، وأيمان النفي من المدعى عليه.
ومن هنا كانت القسامة متضمنة للنوع الثاني من شهادة النفي، فالأصل عند العلماء أن شهادة النفي لا تعتبر حجة إلا في مسائل منها هذه المسألة؛ لأنه يحلف المدعى عليهم أنهم والله ما قتلوه، ولا يعلمون من قتله، أو يحلف الشخص الذي يدعى عليه أنه قتل، يقول: والله ما قتلته، ولا أعلم من قتله.
قوله رحمه الله: (أيمان مكررة) إن كانت من شخص واحد، سواء في الطرف الأول، إذا قلنا: الطرف الأول فهم أولياء المقتول؛ لأنهم هم الذين يبدءون أولاً، وإذا قلنا: الطرف الثاني، فهم الذين يدعى أن فيهم القاتل، فأولياء الطرف الأول تكون الأيمان مكررة منهم -طبعاً- على صور، منها: ألا يوجد ولي للمقتول إلا شخص واحد، كأن يكون المقتول ليس له إلا ابن، ذكر عاصب، فحينئذ -بالإجماع- تتوجه إليه الأيمان ويحلف الخمسين كاملة.
ومن حيث الأصل هناك من العلماء من قال: لا يقبل فيها أقل من شهادة اثنين، فلا يقبلون شهادة الواحد، كما هو منصوص عليه في بعض المذاهب كمذهب المالكية، لكن وعلى هذا يكون قول الجماهير على أنه يكررها.
وأيضاً الصورة الثانية: تكرر الأيمان إذا كان أولياء المقتول -مثلاً- ابن وأخ شقيق فبعض العلماء يرى أنها تقسم بالميراث وبعضهم يرى أنها تقسم بالعصبة، فعلى التقسيم بالعصبة يحمل الأخ الشقيق أيضاً.
لو توفي في الأيمان المكررة من الوليين مثل ابنين أو أخوين شقيقين، الابنين تقسم اليمين بينهما، فيحلف أحدهما خمساً وعشرين والثاني يحلف خمساً وعشرين، فهي مكررة من هذا الوجه.(370/6)
شروط القسامة(370/7)
من شروط القسامة: أن تكون في قتل
قال رحمه الله: [أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم] يشترط في هذه الدعوى ألا تقع القسامة حتى يدعي أولياء المجني عليه أنه قد اعتدي على وليهم، وهذه الدعوى لا تكون إلا بالقتل، ولذلك قال: (في قتله)، فلو أنهم ادعوا أن شخصاً قطع يد شخص أو قطع يد فلان من أقربائهم، أو رجله، أو فقأ عينه، فلا تقبل في الجناية على الأطراف، لماذا؟ لأنه في الجناية على الأطراف المجني عليه يتولى الخصومة عن نفسه، وحينئذ لا تكون فيها قسامة، إلا وجه شاذ عند الشافعية، ورده بعض العلماء كما أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة، لكن من حيث الأصل فالقسامة لا تكون إلا في القتل والدماء.
أيضاً لا تكون في الأموال، فلو أن شخصاً اعتدى على سيارة شخص، أو على بيته، أو على داره، وادعى أولياؤه أن فلاناً عدو فلان هو الذي صدم سيارته أو أتلفها، أو أتلف مزرعته، أو أتلف ماله، لا نقول بالقسامة، إذاً القسامة لا تكون في دعوى الأموال، ولا تكون في دعوى الجناية على الأطراف.
فهي تختص بالقتل، ويشترط في الدعوى أن تكون مبينة ومحررة، وما يشترط في دعوى القتل من حيث الأصل، ولابد أن تكون الدعوى بالقتل، وهذا شرط.(370/8)
من شروط القسامة: أن يكون القتل مفسراً
الشرط الثاني: أن يكون القتل مفسراً، يقولون مثلاً: قتله قتل عمد، فيبينون هل القتل قتل عمد، أو قتل شبه عمد، أو قتل خطأ، فإذا قالوا: قتل عمد، يقولون: إن فلاناً ابن فلان قد قتل وليَّنا بالسيف، ضربه السيف، أو حز رقبته وطعنه بخنجر، أو أطلق عليه النار، فهذا التفسير لابد منه، فلا تقبل مجملة.(370/9)
من شروط القسامة: أن تكون الدعوى على مكلف
وكذلك أيضاً تكون الدعوى على شخص مكلف، فلا تقبل الدعوى على غير مكلف، فلو ادعوا أن الذي قتله صبي، أو مجنون، فإنه لا تقبل الدعوى على الصبي والمجنون، وجهاً واحداً عند الأئمة الأربعة رحمهم الله.
وعلى هذا لابد أن تكون هناك دعوى، وأن تكون بالقتل، فلا تقبل في غير الدماء: كالأطراف والجناية على الأعضاء، ولا تقبل في الأموال.
ويشترط في هذا القتل أن يكون لمعصوم، وهو معصوم الدم، وقد تقدم معنا هذا الأصل الشرعي في الاستحقاق للدية وللقصاص، أنه لا تستحق الدية ولا يستحق القصاص إلا إذا كان في قتل معصوم، وبينت الضوابط في ذلك، متى تستحق الدية ومتى يستحق القود والقصاص في قتل معصوم.
وهذه الدعوى لابد أن تكون في مجلس الحكم والقضاء، يأتون إلى القاضي ويدعون، والأصل في هذا -يعني لماذا وصف المصنف رحمه الله بهذا الوصف- لأن الأنصار رضي الله عنهم -وهم قوم عبد الله بن سهل - جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس القضاء والحكم، وادعوا أن اليهود قد قتلوا ابن عمهم، وادعى عبد الرحمن أنهم قد قتلوا أخاهم، وبينا سبب ذلك وهو أن عبد الرحمن أخو القتيل، لم يكن موجوداً، وإنما الذي خرج إلى خيبر محيصة، وعبد الله بن سهل، قيل: إنهم كانوا يرتادون للتجارة، وقيل: إنهم كانوا يطلبون مالاً، وكان هذا لا شك أنه بعد فتح خيبر، وهذا يؤكد أن القسامة كانت بعد السنة السادسة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، نعم.(370/10)
من شروط القسامة: اللوث
قال رحمه الله: [ومن شروطها اللوث]: اللوث: وهو العداوة الظاهرة، واللطخ، وبعض العلماء يرى أن اللوث هو العلامة التي تدل على صدق الدعوة، وفي الحقيقة أن اللوث له ضوابط عند العلماء رحمهم الله، ومما يتميز به وجود العداوة، فإذا كان بين شخص وشخص عداوة، أو بين قبيلة وقبيلة عداوة، أو بين جماعة وجماعة عداوة، ووجد المقتول مقتولاً في أرض الأعداء؛ فإن هذا واضح الدلالة على أنهم هم الذين قتلوه.
وبناء على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه من حيث الأصل لا تقبل القسامة في غير علامة ظاهرة، وأمارة ظاهرة.
ثم اختلف العلماء في هذه العلامة والأمارة، كلهم متفقون على أنه لو وجدت عداوة، أننا نحكم بالقسامة، لماذا؟ لأن الذي كان بين الأنصار وبين اليهود عداوة، ومن هنا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا النوع من الأقضيات في حال مخصوص، على صفة مخصوصة، ووجدت هذه الصفة وهي صفة العداوة، فقالوا: العداوة تنقسم إلى قسمين: عداوة دينية، وعداوة دنيوية.
والعداوة الدينية: مثل ما وقع بين الأنصار واليهود؛ لأن عداوة الأنصار لليهود، وعداوة اليهود للمسلمين أصلها عداوة ناشئة من دينهم المحرف وديننا الأصلي، فهي عداوة عقدية.
كذلك أيضاً تكون العداوة عداوة دنيوية مثل: أن يكون هناك تنافس بين شخصين، أو تحصل فتنة أو خصومة بين اثنين، فحلف أحدهما أن ينتقم، فتوعده وقال: سأريك، أو سأفعل بك، أو سأقتلك، فإذا توعده بالقتل، وشهد شهود أنهم سمعوا أن زيداً قال لعمرو المقتول: سأقتلك، ووجد عمرو بعد ذلك مقتولاً، فإن التوعد السابق بالقتل قرينة وأمارة على اللوث، ومن هنا يستحق أولياء المقتول أن يحلفوا على هذا القاتل.
كذلك أيضاً إذا كان هناك أشخاص معروفين بالأذية والإضرار: كأهل السوء والشر، ووجد بينهم مقتول، فإن هذا يكون علامة وأمارة على اللوث.
قال رحمه الله: [ومن شروطها اللوث] قال: (من شروطها) فلها عدة شروط، وهذا من شروطها، وإذا قال العلماء: من شروطها كذا، فإن هذا لا يعني الجمع لكل الشروط.
ومن هنا فائدة المتون أنها تختصر، وإذا قال: من شروطها؛ نبه القارئ على أن هناك شروطاً ينبغي عليه أن يرجع إليها زائدة عن ما ذكر.
ومن هنا قلنا: أول شرط: أن تكون الدعوى في القتل.
ثانيا: أن تكون الدعوى مبيّنة مفسرة لهذا القتل: قتل عمد، أو شبه عمد، أو خطأ.
ثالثا: أن يكون المدعى عليه مكلفاً، إذا لم تكن الدعوى على غير مكلف.
رابعاً: اللوث، وهو الذي أشار إليه رحمه الله بقوله (ومن شروطها اللوث) وهو العداوة الظاهرة.
ومن هنا فائدة في قوله: (من شروطها)، بعض الأحيان ترد هذه العبارة في الفتاوى في كلام العلماء المتقدمين، وينبه على أن بعض العلماء مثلاً لما يُسأل: ما هي أسباب السعادة؟ مثلاً.
فيقول: من أسبابها تقوى الله، من أسبابها كذا، ليس معنا ذلك أنه جمع كل الأسباب، وليس معنى ذلك أنه أراد استيفاء أو بيان جميع أجزاء المسئول عنه، وهذا منهج عند العلماء، أنه إذا عبر بـ (مِنْ) التي تقتضي التبعيض أنه ليس ملزماً بالإحاطة والشمول.
ومن هنا فإن بعض العلماء من المتقدمين رحمهم الله يذكرون في فتاويهم بعض المسائل حينما يسألون في الفتاوى، أو يسألون في الشروط، فيذكرون بعض الشروط لأهميتها، هذا ما يسمونه بفقه الفتوى، أنهم لا يتعرضون لأشياء ظاهرة معلومة، أو يتعرضون لأشياء عظمت بها البلوى فيركزون عليها في الإجابة أكثر من غيرها، ولما يقولون: من الشروط كذا، ومن أسباب السعادة كذا، فقد حفز ونبه السامع إلى أن هناك أموراً ينبغي أن يرجع إليها، إما في كتابه أو في موضع آخر، غير الموضع الذي سئل عنه.
فهذه من فوائد الإشارة في التبعيض، وهي في الحقيقة تسقط المسئولية أمام الله عز وجل، فالمسئول إذا سئل عن أمر وهو يعجز عن إحاطته لضيق الوقت، أو عدم مناسبة المكان، وأراد أن يتخلص من المسئولية أمام الله عز وجل، فيقول: من كذا من الأسباب كذا من الشروط كذا، فهذا لا يكلف فيه بالإحاطة والشمول، وهذا منهج معروف عند العلماء رحمهم الله.
قال: [وهو العداوة الظاهرة]: (وهو) أي اللوث (العداوة الظاهرة) البينة الواضحة، وفي الحقيقة لا يختص الأمر بوجود العداوة فقد، بل تقع القسامة في القتل الخطأ، مثلاً: لو أن شخصاً كان في زحام، ثم سقط ميتاً، وانقشع الناس عنه وهو ميت، وكان معه قريبه، فقال: هذا مات بفعل فلان وفلان، أحدهم كان أمامه والثاني خلفه، فزحماه حتى ضاق نفسه فمات.
أو أحدهما مثلاً وكزه خطأ فمات، ففي هذه الحالة يكون القتل خطأ، حيث أنه لم يقصد أن يقتله، لكن في هذه الحالة لا توجد عداوة ظاهرة، مثل أن يزدحموا على بئر -كما ذكر العلماء-، أو في رمي الجمرات في الطواف، فإذا ازدحموا في مكان ومات أحدهم، يحتمل أمرين: الأول: يحتمل أن يكون مات قضاء وقدراً، وحينئذ لا يجوز لأوليائه أن يحلفوا القسامة؛ لأنه إذا مات قضاء وقدراً لا يستحقون الدية.
الثاني: يحتمل أنه مات بفعل فاعل، بإذن الله عز وجل وقدرته، فهذا الفعل تسبب في موته، وحينئذ يستحقون القسامة، فإذا استحقوا القسامة استحقوا الدية، لكن هذا يقع في صور، ويغلب على الظن فيها أن توجد الأمارات والدلائل، لكن في قوله رحمه الله (من شروطها اللوث وهو العداوة الظاهرة) طبعاً في بعض الأحيان يكون القتل عمدا، ً ونجد علامة ظاهرة بغير لوث، مثل أن نجد شخصاً حاملاً لسكين ملطخة بالدماء، وهو واقف على رأس القتيل، فلما أخذ، ما أقر، قال: ما قتلته.
وإذا بثيابه ملطخة بدم القتيل قالوا: هذا أيضاً من اللوث، ومما يبيح ويحل القسامة على هذا الشخص فيحلفون خمسين يميناً، ويستحقون به.
إذاً: لابد للعلماء أن يضعوا شروطاً لكي يحكم بالقسامة، فإذا لم تتوافر هذه الشروط التي منها اللوث، وما ذكرناه من الشروط؛ فإنه حينئذ تصبح الدعوى على الأصل.
ما معنى على الأصل؟ معناه أن نقول للمدعي: أحضر البينة، فإذا قال: ما عندي بينة، نقول للخصم: احلف اليمين, وتنتهي القضية.
والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيها بينة والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين هذا أصل في القضاء والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيها بينة أي أن حالة العموم واضحة، فلو جاءنا أصدق الناس، وقال: فلان قتل فلاناً؛ فإننا لا نقبل منه دعواه هذه، ولو كان أصدق الناس، ما لم يقم دليلاً وحجة.
ولو جاءنا أفجر الناس وأفسق الناس وقال: فلان قتل فلاناً، نقول: أحضر بينة؛ لأننا لا نحكم بكلامه، وإنما نحكم بالبينة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ألك بينة) للخصم لما ادعى، (لو يعطى أناس بدعواهم لادعى أقوام دماء أناس وأموالهم) وعلى هذا لابد من وجود البينة.
ومن هنا قال العلماء: القسامة خرجت عن الأصل، وما معنى خرجت عن الأصل؟ معنى ذلك أنها استثنيت من الأصل العام، ليس المعنى أنها شاذة، كما يفهم البعض، أو أنها شيء عقلي خرجت عن القياس أو أصبحت خارجة عن العقل والنقل، لا إنما في الشرع أصول عامة كما ذكرنا خرجت القسامة عنها، فإذا لم يتوفر شرط اللوث رجعت المسألة إلى العرف القضائي، نقول له: أحضر بينة، فإذا عجز المدعي عن دعواه، نطالبه بيمين واحدة، ما نطالبه بخمسين يميناً، ومن هنا نفهم أن القسامة باب خاص، وله أحوال خاصة -كما ذكرنا.(370/11)
من شروط القسامة: وجود أثر القتل
أيضاً مما يشترط إضافة إلى اللوث وجود أثر القتل عند جمهور العلماء رحمهم الله على تفصيل، قالوا: أن يكون المقتول قد وجدت به أمارة وعلامة تدل على أنه قد قتل عمدا، ً فإذا لم توجد فيه أمارة، قالوا: إنه يحتمل أنه توفي قضاء وقدراً، وليس مجنياً عليه، بمعنى أنه ليس هناك قتل عمد.
وعلى هذا قالوا: لابد من وجود الأمارة بأن يكون مطعوناً بسكين، أو محزوز الرقبة، أو مضروباً في مقتل، أو مخدوشاً في موضع في مقتل، فبعض العلماء يقول: هذا لا يشترط؛ لأنه يمكن أن يقتل بالخنق.
وفي عصرنا الحاضر، يوجد ما يسمى بعلم الطب الشرعي، وهذا علم خاص في كشف الجنايات والجرائم، ممكن أن يثبت هذا الأمر أو ينفيه، وحينئذ يمكن أن يعول على هذا الإثبات والنفي، في إثبات القسامة وعدمها، فمثلاً لو قال الطبيب الشرعي: هذا جاءته سكتة قلبية، أو مثلاً: حصل له عارض، فعنده نزيف داخلي، وليس له علاقة بالجناية، فحينئذ تسقط دعوى القسامة؛ لأنه ليس هناك دليل على القتل.
وأما إذا وجد عن طريق البصمات أو الآثار التي تدل على الجناية، كأن لا يوجد أي أثر للقتل، لكن ثبت أنه قتل بالخنق، أو مثلاً بحقن مادة مسمومة ونحو ذلك، فالطبيب الشرعي يمكن أن يثبت هذه الأشياء بإذن الله عز وجل، فيعول عليه، ويعمل بأدلته، وتكون أيضاً قرينة أو شاهدة على اللوث.
قال: [وهو العداوة الظاهرة كالقبائل التي يطلب بعضها بعضاً بالثأر]: وهذا من طبيعة البشر حيث أنه إذا وقعت بينهم ثارات، أنه يطلب كل منهم ثأره عند الآخر، من هنا قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، فبين سبحانه وتعالى أن في القصاص حياة للناس، ولعدم وجود القصاص في الجاهلية كانوا إذا قتل القتيل لربما قتلوا به المائة.
ومن هنا الحروب التي وقعت في الجاهلية كحرب البسوس وغيرها، لما قتل القتيل في حرب البسوس، وكانت من أشدها ضراوة، قال ولي المقتول: لعلك قتلته بكليب، فأطفأ الثأر، فقال له: قتلته بشسع كليب، يعني -أكرمك الله- بالنعل الذي يلبسه المقتول، فكانوا يستحلون الدم، ويجعلون المقتول إذا قتل لزعيمهم أو كبيرهم مقابل لشسعه أكرمكم الله، أو نعله، وهذا يدل على ما كانوا عليه من الجرأة على الدماء والعياذ بالله.
من هنا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دم الحارث ... ) في قصته المشهورة في قتيل هذيل، فالمقصود من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الثارات، والإسلام قطعها، فإذا وجدت ثارات بين القبائل أو عداوة بينهم واضحة، فحصل شيء من هذا، فإنه يوجب القسامة، وهذا يرجع إلى القاضي، والقاضي هو الذي ينظر ويتحرى حتى يستطيع أن يحكم بثبوت.
ما الدليل على هذا الشرط؟ طبعاً نحن ذكرنا شرط دعوى القتل، والدليل عليها أن الصحابة رضوان الله عليهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وادعوا قتل يهود لـ عبد الله رضي الله عنه.
ثانياً: أن تكون دعوى القتل مبينة، بأن يكون بالقتيل أثر القتل، وهذا يشترطه بعض العلماء رحمهم الله، وهي الأمارة.
والدليل عليه: رواية الصحيح فوجد عبد الله وهو يتشحط في دمه، فلما وجده كان على صفة المقتول المعتدى عليه؛ لأن محيصة افترق عن عبد الله رضي الله عنه، ثم رجع محيصة إلى المكان الذي كان فيه، فوجد عبد الله رضي الله عنه يتشحط في دمه، فهذه أمارة.
أن تكون القسامة على مكلف، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (على رجل منهم)، والأصل أن شرائع الإسلام منوطة بالمكلف لا بغير المكلف، ولأنه مستثنى عن الأصل.
كذلك أيضاً أن يكون الذي يدعيها مكلف، فلا يدعيها صبي؛ لأن الصبي لا يمكن أن يحلف أيمان القسامة، ولا تقبل يمينه.
وأن لا يدعيها مجنون؛ فالمجنون لا تقبل دعواه.
فأيضاً يشترط في المدعي أن يكون كذلك؛ لأن الصحابة حرصوا على الاستدلال بهذه الصفة، بوجود اللوث وهو العداوة الظاهرة؛ لأنه كانت بين اليهود وبين الأنصار العداوة الظاهرة.
هذه كلها شروط نبه عليها الشرع، وقوله رحمه الله: (اللوث) وهو العداوة الظاهرة، والعداوة تكون ظاهرة وتكون خفية.
والمراد بالظاهرة: الواضحة الجلية، كأن يأتي شخص ويقول: وجدنا مقتولاً في موضع كذا، فقال أولياء المقتول: هم الذين قتلوه، قلنا: لماذا قتلوه؟ قالوا: لأنهم أعداؤه، فنقول: هل عندكم دليل على دعواكم؟ فلو قيل في الدليل مثلاً: هؤلاء فقراء وهذا غني، ودخل بثياب الغنى فقتلوه، نقول: هذه ليست علامة ظاهرة، هذه علامة يسمونها ظن التهم، والظن المرجوح، ومثل هذا صحيح، أن تكون هناك عداوة بين الأغنياء والفقراء، والضعفاء والأقوياء، لكن لا تصل في الغالب إلى هذا الحد، أو إلى هذه الصفة، ومن هنا لا تكون عداوة ظاهرة.
فالمصنف رحمه الله قال: (اللوث وهو العداوة الظاهرة).
قال: [فمن ادعي عليه القتل من غير لوث؛ حلف يميناً واحداً وبرئ].
(فمن ادعي عليه القتل من غير لوث) يعني: من غير عداوة (حلف يميناً واحدة وبرئ).
هناك تفصيل كبير للعلماء رحمهم الله في مسألة دعوى القتل، فإذا ادعوا على شخص، سموه، أو على شخصين سموهما، مثلاً: إذا قالوا: قتله بنو فلان، نقول لهم: حددوا من الذي قتله منهم، وما الدليل على التحديد؟(370/12)
من شروط القسامة: تحديد القاتل
ومن شروطها: تحديد القاتل؛ لأن بعضهم أوصل الشروط إلى عشرة لكن فيها نظر، فتحديد القاتل أصل في دعوى القتل، وهو شرط معروف في دعوى القتل بأن يذكروه محدداً باسمه ونسبه، ويرفعون النسب، أو يكون حاضراً في مجلس الحكم كما ذكرنا، فيشيرون إليه.
لكن لو أنهم ادعوا وقالوا: جماعة قتلته، فلا تقبل القسامة؛ حتى يحددوا، فإذا حددوا وبينوا؛ فحينئذ تقبل دعواهم.
وعلى هذا قال رحمه الله: (فمن ادعي عليه القتل من غير لوث) فإذا ادعوا على شخص أنه قتل موليهم، نقول لهم: أثبتوا اللوث.
كيف يثبت اللوث؟ يثبت اللوث بالعداوة بين قبيلة القاتل وقبيلة المقتول، فيشهد الشهود أن بين بني فلان وبني فلان ثارات، وقد يكون بين البيتين، فإذا ثبت بشهادة العدلين، فهو لوث.
ثانيا: ً يثبت اللوث أيضاً -وهو العداوة- بأن تكون خصومة وقعت بين اثنين، كأن يكونا قد اختصما في أرض، أو في مال، فهذه عداوة ظاهرة.
فإذا ادعى عليه ففي هذه الحالة نحكم، لكن لو لم يثبت اللوث، بأن قالوا: فلان قتل فلاناً، قلنا: هل هناك عداوة ظاهرة؟ هل هناك لوث؟ قالوا: لا، فحينئذ إذا كان هناك حال لاجتماعهم مثلاً: أن يكونوا في زحام على سيارة، أو في زحام على بئر، أو في زحام على طاعة أو قربة، وتفرقوا وهذا مقتول، فحينئذ هذا لا يشترط فيه اللوث، فتقبل فيه الدعوى، لكنها دعوى على قتل خطأ، وليست على قتل عمد، ونحن نتكلم على قتل العمد.
ومن هنا ينبغي أن ينتبه إلى كلام المصنف؛ فقوله: (من غير لوث) ليس على إطلاقه.
قد تقع القسامة في غير قتل العمد كما ذكرنا، كالقتل الخطأ، وقد يكون في زحام شديد، أو طلب لحاجة أو مصلحة، فيجتمعون ويعصر بعضهم بعضاً ويؤذي بعضهم بعضاً، ويحصل القتل، فإذا حصل القتل من هذه الجماعة، قالوا: فلان هو الذي رأيناه أو شاهدناه يفعل كذا وكذا، وحينئذ يؤخذ ويطالب فإذا ثبتت عليه الأيمان، فإننا نحكم عليه بموجب القسامة.
لكن لو لم تكن هناك عداوة ظاهرة فيما هو من قتل العمد، ولم يكن هناك لوث، فإنه في هذه الحالة إذا قالوا: فلان قتل فلاناً، قلنا لهم: أحضروا البينة، قالوا: نحلف أيمان القسامة، قلنا: لا نقبل؛ لأنه ليس هناك ما يدل على شرعية القسامة في هذه القضية، فإذا قلنا لهم: لا تحلفوا، أحضروا البينة، قالوا: لا بينة عندنا، قلنا للخصم الذي ادعي عليه: احلف اليمين، فإذا حلف اليمين بالله عز وجل أنه ما قتل، ولا يعلم من قتله، فلا إشكال، لكن لو امتنع من حلف اليمين فوجهان: قال بعض العلماء: إذا امتنع من حلف اليمين كان اللوث، وأصبح نكوله عن اليمين موجباً للتهمة فيه؛ لأنه لو برئ سيحلف، ولا تضره اليمين شيئاً، فإذا نكل وامتنع، فإنه حينئذ يثبت اللوث، فيقيم القاضي القسامة، ويأذن لأولياء المقتول أن يقيموا عليه أيمان القسامة.
هذا طبعاً مذهب الجمهور من حيث الأصل، حيث يذهبون إلى أنه لا تقام القسامة مجردة.
وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية ثانية: أنه إذا ادعي على شخص أنه قتل شخصاً، ولم يكن هناك لوث، فعند عجز المدعي عن البينة يطالب المدعى عليه بأن يشهد خمسين يميناً بالله عز وجل أنه ما قتل ولا يعلم من الذي قتله، هذا الأصل.
وعلى هذا نقول: الصحيح أنه إذا ادعي على شخص أنه قتل شخصاً لا نحكم بالقسامة إذا لم يكن هناك لوث، ما لم تكن في المسائل التي لا يشترط فيها اللوث، فإذا عجز أولياء المقتول عن إثبات اللوث، قلنا للخصم: احلف اليمين عند عجزهم عن إثبات اللوث، وعجزهم عن البينة؛ فإذا حلف اليمين برئ؛ لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولكن اليمين على المدعى عليه)، وفي لفظ: (ولكن اليمين على من أنكر) وفي حديث البيهقي وغيره: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، وفي لفظ: (على المدعى عليه) فنحن لا نطالب المدعى عليه بأكثر من يمين واحدة، فإذا قال: ما قتلته، فإننا نقبل قوله، ونقول له: احلف اليمين أنك ما قتلت، فإذا نكل عنها، فاختار جمع من العلماء -كما نص عليه الإمام النووي رحمه الله وبعض المحققين- أنه يكون أمارة على اللوث؛ فيستحق الأولياء بعد ذلك أن يشهدوا أيمان القسامة.(370/13)
الأسئلة(370/14)
إشكال في ضوابط اللوث ونصيحة لطالب العلم في الالتزام بآداب الطلب مع العلماء
السؤال
أحسن الله إليكم، وأجزل لكم المثوبة والأجر، فضيلة الشيخ! التوسع في ضابط اللوث، ألا يؤدي إلى الوقوع في ظلم الغير، وهل للقاضي أن يقتصر على العداوة الظاهرة، كما في حديث عبد الله بن سهل، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: كررنا النصيحة أكثر من مرة لطالب العلم بأن يكون عنده ورع، وأن يكون عنده أدب مع العلماء رحمهم الله، فكل شخص جاء ليقرأ شيئاً لم يفهمه، ولم يضبط بضوابط العلماء رحمهم الله واستغربه، وأراد حصر العلماء في شيء معين؛ فهذا من الخطأ بمكان، ولن يستطيع أن يفهم طالب العلم فهم العلماء ما دام بهذه الصفة؛ فعند أن تقول: التوسع في اللوث، من الذي قال لك أن هذه الضوابط التي ذكرها العلماء توسع، بعض طلاب العلم تعود أسلوب النقد، وإلا فضبط الشيء يمنع من التوسع فيه، فهذا تناقض من السائل أصلاً، توسع في ضابط اللوث! بالعكس العلماء حينما يضعون ضوابط للوث، يمنعون من التوسع فيه، حينما تأتي الشريعة بالعداوة الظاهرة بين اليهود والأنصار، ووجدت به القسامة.
فاعلم رحمك الله أن الشريعة تنبه بالنظير على نظيره، وبالمثيل على مثيله، وإلا فقد حجّرت واسعاً؛ لأنك إذا انطلقت من هذا المنطلق فستقول: لا أقبل إلا العداوة الدينية؛ لأن الذي ثبت في النص العداوة الدينية، أثبت لي أن العداوة بين القبائل يثبت بها القسامة، أين الدليل؟ لا دليل.
ومن هنا قال العلماء: اللوث العداوة، ثم وضعوا الضوابط فقالوا: العداوة الظاهرة، التي لا تكون مبنية على الشكوك والشبهات والتهم، وهذا صحيح؛ لأن الشريعة تعتبر أن العداوة الظاهرة هي التي تحمل على الضرر والأذى، وباب القسامة في باب الضرر والأذى؛ فينبغي أن تتقيد بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، شرط أن تفهم وتقعَّد وتأصَّل من خلال الفهم، أما أن يأتي شخص ويضع قواعد من عنده، فهذا توسع كما قلت، ونردها.
لكن أن يفهم شخص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الفهم محمود غير مذموم، مأجور غير مأزور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) يعني: يزيده فهماً.
فإذا كان ذلك فلماذا وضع العلماء ضوابط اللوث؟ أولاً: حكمة مشروعية القسامة؛ لها أبعاد أكثر مما يتصورها الإنسان القاصر في فهمه، فالأصل أن كل أهل محلة ومدينة ومنطقة وقرية وجماعة مسئولون عن محلتهم وقريتهم وجماعتهم؛ فإذا وجد القتيل بينهم طلبوا قضاء وألزموا اليمين، وهذا نبه عليه الإمام الكاساني رحمه الله في (بدائع الصنائع)، فله كلام جميل نفيس لو يرجع إليه! لماذا شرعت القسامة وطولب بها، يعني مثلاً في العداواة الظاهرة حينما تكون أهل محلة وأهل قرية وأهل بلدة؟ لأنهم قصروا في حفظ محلتهم وقريتهم ومدينتهم، طلبوا قضاء وألزموا اليمين، وتحملوا المسئولية ثم يلزمون بعد ذلك بأن يقوموا على محلتهم ويحفظوا دورهم.
ليست القسامة فقط أن تأتي بالناس يحلفون، فهذا له أبعاد بعيدة جدا، ً فأوجدت الشريعة الدية، وصوم شهرين متتابعين، وعتق الرقبة، وصوم الشهرين المتتابعين على شخص قتل خطأ، لماذا وهو قتل خطأ؟ قالوا: تعظيماً للدماء، ولذلك فالمسلم يأخذ حذره، فإذا جاء يصيد في البر، فهو يعلم أنه لو أخطأ سلاحه، فقتل مسلماً أنه سيلزم بديته، ويلزم بعتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين إن عجز عنها، عندئذ يعرف أين يصيب وكيف يصيب، وكيف يحافظ على أرواح المسلمين.
وإذا جاء يقود سيارته، وهو يرى أنها قد تفضي بمن معه إلى الموت، بحيث قد تكون قديمة، فيتساهل في أشياء قد تفضي به إلى الموت، ثم تذكر ذلك دعاه ذلك إلى أن يتحفظ، ولذلك قالوا: إن القسامة شرعت في الدماء، ولم تشرع في الأطراف؛ تعظيماً لأمر الدماء.
فإذا قلت: القسامة محصورة في العداوة الظاهرة، بمثل ما ورد في حديث عبد الله بن سهل، كيف تحجم السنن بهذا التحجيم؟ فعندما يلزمك بالنظير من نظيره، يصبح الحكم بالقياس، وعند هذا يستوي العلماء والجهلاء، وما على أحد -إذا أراد أن يصير فقيهاً- إلا أن يحفظ الأحاديث، ويطبقها مثل ما وردت على ظاهرها، ولا يعمل فكراً ولا فهماً، وعندئذ يكون من حفظ السنن وفهمها على ظاهرها أعلم الناس وأعلم الخلق، فهذا ممكن أن يكون، فلابد من الفهم، ولابد من التقعيد، ليس هناك تثريب على من فهم إذا كان فهمه من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
نحن نقول هذا؛ لأننا نعرف من خلال الطلب حينما كنا مع علمائنا ومشايخنا كانوا يمنعون الطالب من النقد المشكلة الآن في العصور الأخيرة، مسألة التربية على النقد، الآن الطالب يأتي ويقول: لماذا لا نقتصر على العداوة؟ ولو جئت أسأل الآن: ما هي الشروط التي ذكرناها؟ لم يستطع أن يرددها، نقول: قبل أن تنتقد العلماء اضبط ما يقال لك، مشكلتنا اليوم أن الشخص يجلس ويستمع، فهل يفهم هذا الشيء؟ ثم هل يتقبله أو لا يتقبله؟ هنا المحك، أما أن يأخذ شيئاً مستنبطاً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يحاول أن يجلس ويضبط هذه الأشياء ويلخصها ويفهمها، ويقرأها المرة والمرتين والثلاث والأربع، وعندها تكون منحة الله له بعد ضبط هذه العلوم، وتقريرها وتكرارها وإتقانها والإلمام بها، بعد ذلك يأتيك فتح الله عز وجل، وتصل إلى ما وصل إليه العلماء، وتضبط كما ضبط العلماء والفقهاء، ولا تعجل رحمك الله، لا تعجل فلست الآن في إطار النقد، ولا أفتح مجالاً لطلاب العلم في بداية الطلب للنقد، ومن جاء ناقداً رجع فاقداً.
أول شيء نريد ضبطه هو حفظ هذا العلم، وإتقانه، ثم بعد أن تصل إلى درجة تضبط فيها أصول الفقه، الذي يسلحك بسلاح الفهم، حتى تصل إلى درجة هؤلاء العلماء، عندها تعرف لماذا قالوا هذا الكلام.
والله ثم والله، ما من طالب علم يقعد ويؤصل بتأصيل العلماء، ويفهم ويقرأ الكتاب والسنة، بحيث يحضر تفسير القرآن على يد عالم أهل لتفسير كتاب الله، ثم يحضر دروس الحديث على يد عالم أهل لتفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجلس السنوات تلو السنوات وهو يضبط ويحصل ويقرر، إلا جاء اليوم الذي يستوي فيه فهمه، وينضج فيه فكره، وإنه ليقرأ كلام العلماء، فيقرأ الصفحات التي كان بالأمس يعيبها، وإذا به لا يمل ولا يسأم، ويعذر العلماء حين قعّدوا وأصّلوا.
كنا في القديم نقرأ بعض المطولات، فنستغرب منها -نستغفر الله- هذا شيء عايشناه، وكان الوالد رحمه الله يمنعنا من المطولات في بداية الطلب.
وأقسم بالله ما نمدح أنفسنا، لكن بعد أن قرأنا ورأينا ضوابط العلماء، أصبحنا نقرأ عشرات الصفحات، لا نمل ولا نسأم ونعرف قيمة العالم، ونتلذذ بهذه الفروع المبنية على الأصول، ثم نجد أيضاً الشوارد والتتمات والفوائد والمسائل الملحقة، حتى إذا ما قررت الأصل، جاء بعد ذلك يقرر لنا دليله ووجه دلالته، وكيف دل على المسألة؟ وهل دلالته عامة أو خاصة؟ مطلقة أو مقيدة؟ بعد أن ننتهي من هذا كله، نأتي إلى تطبيقات هذه الفهوم التي فهمها العلماء رحمهم الله على ما عايشوه، فنجد كيف أنهم يختلفون في هذه التطبيقات، وكيف أن كلاً منهم يدلي بحجته، ويبين سبيله ومحجته، ثم بعد ذلك تأتي أنت من نفسك تجد أشياء في داخل نفسك ربما أنها تلحق بما ذكره العلماء.
ويمكن أن تتربى فيك ملكة هذا التأصيل والفهم، ومن هنا قالوا: لا يعرف قدر العالم إلا العالم.
مثال بسيط: الشخص إذا جاء وجلس عند عالم يفتي في مسألة من المسائل، فوجد العالم يقول: لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال كذا وكذا، وهذا الحديث عام، فهذا جواب، في بعض الأحيان يقول: وهذا الحديث عام، إلا أنه يستثنى منه هذه المسألة.
عامة الناس إذا سمعوا العالم يفتي بهذه الفتوى، يكون الأمر عادياً عندهم؛ لأنه مفتٍ، فما يشعرون ولا يحسون بقيمة هذا العلم.
لكن لو جاء إنسان متمكن من الفقه، متمكن من هذا العلم، ينظر أول شيء إلى حكم الشيخ على المسألة.
ثانياً: دليله ووجه الدلالة، ثم لا يقف عند وجه الدلالة، بل يرى ما هي العبارات التي اختارها هذا الشيخ لبيان وجه الدلالة؟ وهل هذه العبارات محتملة أو غير محتملة؟ تفيد المقصود أم لا تفيد المقصود؟ هل هذه العبارات يستطيع أحد أن يستغلها في الفتوى أم لا؟ وهل العالم لما أجاب في هذه المسألة يقصد الفتوى، أو يقصد التوجيه، أو يقصد مطلق النصيحة؟ فلا يعرف العالم إلا العالم، فهل الذي تراه من الضوابط لا يعرف قدرها إلا من اشتغل بفهم النصوص وضبطها، يا سبحان الله! إذا قعّد العلماء وأصّلوا، قالوا: بالغوا، وإذا اختصروا ولم يسهبوا، قالوا: متون معقدة، وطلاسم غير واضحة، فلا يفهم العلماء إذا فصلوا وقعّدوا، ولا يسلم الاختصار.
الآن تجد بعض المعاصرين يقول لك: يا أخي! كتب المتقدمين هذه أساليبها صعبة، وغير واضحة نحتاج الآن أن نشرحها ونوضحها، ثم بعد ذلك يقول لك: نريد أن نقتصر فقط على المطلوب والأصل.
والآخر يأتي ويقول: هذه المطولات كثيرة، نريد الآن أن نختصرها ونختصر فيها على المراد، دعونا من الذين يقولون: أسهبوا، ومن الذين قالوا: اختصروا، دعونا نأخذ علماً موروثاً عن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين أخذوا هذا العلم بحقه، دعونا نتعلم، دعونا نضبط، قالوا: تعلم ثم تكلم، أما إنسان بمجرد أن يجلس يشتغل بالنقد، فهذا لا نريده، ولا نعول على طلاب علم بهذه المثابة، وثقوا ثقة تامة، فمثل بعض الإجابات أسهب فيها؛ لعموم الحاجة إليها والبلاء فيها؛ تحذيراً من ذلك، وبعض الأحيان أكثر من عشرين مسألة، نحتاج إلى بيان حكمها؛ لأنه إذا لم يكن لطالب العلم منهج، وإذا لم يكن له سبيل يقوم ويسدد، فلا يستطيع أن يصل إلى المراد.
فنحن نقول: إن ضوابط العلماء التي ذكروها، مبنية على أصول، وهذه الأصول ما دام أن السنة قد قررتها وبينتها؛ فلا إشكال، فإذا قلت: العداوة الظاهرة، ما تستطيع أن تضع لها ضابطاً.
والعداوة الظاهرة كيف نفهمها وكيف نُفهمها للغير، هذا هو الذي اعتنى العلماء رحمهم الله بوضعه بالضوابط التي تستشكلها.
وعلى كل حال، نسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا الأدب، وأ(370/15)
بر الوالدين مقدم على غيره من أعمال البر
السؤال
فضيلة الشيخ! يقول السائل: يحتاج الوالدان إلى الولد كثيراً، خاصة أثناء العطلة، الأمر الذي قد يتعارض مع بعض الأنشطة، فما الحكم أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أوصيك أخي بوالديك خيراً، وأن تبدأ بوالديك بعد حق الله عز وجل، وإذا كنت تبحث في الأنشطة عن مرضاة الله، ومحبة الله، فاعلم أن محبة الله في رضا الولدين، وأن الله رضي عمّن رضي عنه والداه، فمن أرضى والديه أرضاه الله في الدنيا والآخرة، وليس هناك حق قرنه الله بحقه -ونبه عليه سبحانه وتعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بعد حقه وتوحيده- مثل حق الوالدين، فاتق الله في والديك، واعلم أن الله سيفتح عليك -إن كنت تطلب العلم- بفضله ثم برضا الوالدين، وأن الله سيبارك أنشطتك، وأمورك الخيرية بعد رضا والديك، كم من بار بوالديه بكت عيناه، وتفطَّر قلبه، وعظم حزنه، حينما كان مشغولاً في دراسته، وكان يتمنى أن يكون عند رجل أمه وأبيه، وكان يتمنى ساعات رضاً من والديه، وحيل بينه وبين ذلك بأمور قاهرة أثناء تعلمه وانشغاله.
هاهي العطلة سويعات ولحظات، وأيام وليال، فهل لك أن تشتري مرضاة الباري في رضا والديك، اجتهد في رضا الوالدين، وقدم والديك على الناس، الله أعلم كم قدمتك أمك على غيرك، وعلى نفسها، الله أعلم كم قدمك أبوك على نفسه وماله وأهله والناس أجمعين، فاتق الله في والديك.
وأحسن كما أحسن الله إليك، فإن وجود الوالدين نعمة عظيمة من الله عز وجل، هنيئاً لبارٍ لزم والديه فقام بحقهما وحقوقهما، وأدخل السرور عليهما حتى فاز بمرضاة الله، والأنشطة والأمور التي فيها إدخال سرور على الأصدقاء أو على الملتزمين أو على من يريد الخير، هذه أمور تكون تبعاً لرضا الوالدين، فإذا جاء الوالد أو الوالدة يطلبان أمراً، وأنت خارج لأي شيء فقل: سمعاً وطاعة، واعتذر من أصدقائك، قائلاً: أعتذر لأن عندي ظرفاً، قلها بشرف، وبرضا وافتخار وقوة؛ لأنك تعلم أنه ليس هناك أحد أوجب أن تطيعه بعد الله عز وجل من والديك، فاتق الله في والديك.
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، وتركت أبواي يبكيان، قال: أتريد الجنة، قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وأحسن صحبتهما ولك الجنة)، فهذا الذي أوصيك به أخي في الله! ودع عنك التأويلات، ودع عنك الاجتهادات والآراء، فوالله لن تفلح إلا برضا الله ثم برضا الوالدين، ولن توفق إلا برضا الله ثم برضا الوالدين، ولن تعان على أمرك إلا برضا الله ثم برضا الوالدين.
وكم من قابع عند قدم والديه، يقوم عليهما ويدخل السرور عليهما، حتى لربما مضت عليه أكثر أيام العطلة وهو في جهاده يبر والديه، ولم يفوِّت إلا أياماً معدودة لإخوانه وخلانه وأصحابه، بورك له في هذه الأيام، ما لم يبارك له في غيرها من أيام العطلة كلها، البركة في أمور الدعوة وأمور الخير، إذا نزعها الله منها فلا خير فيها، فابدأ بوالديك، ابدأ بمن أمرك الله ببرهما، الشاب يخرج إلى زيارة المسجد النبوي ويسافر الأيام، ووالدته مريضة، الشاب يخرج إلى مسافات شاسعة ويسافر إلى بلدان بعيدة، وأبوه في أشد الحاجة إليه، وقد يكون الوالد مريضاً، وقد تكون الوالدة مريضة، بل والله لو كانت لأبيك مصلحة -في بيع وشراء- وقبعت في دكانه ومتجره، تجاهد في بره ورضاه؛ ليفتحنَّ الله عليك إما عاجلاً أو آجلاً، ما ضر البر أحداً، فالبر مفتاح لكل خير (وإن البر ليهدي إلى الجنة)، ومن أعظم البر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى: بر الوالدين.
فيا رعاك الله! احرص كل الحرص على والديك واتق الله فيهما، واعلم أن الله أعطاك نعمة بقاء الوالدين أو أحدهما، فهما من أبواب الجنة، فليحرص على هذه الأبواب، حتى ينتهي به ذلك إلى حسن خيرٍ في صلاح وهدى وصواب.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يوفقنا لذلك، أوصي كل موفق أن يحس أنه أيام الشغل كان مقطوعاً عن بره لوالديه، فليحتسب العطل والإجازات في بر والديه، في ليس للمسلم عطلة وإجازة، وإنما هو أمر نسبي، فهذه فرصة يبتلي الله فيها الصادق.
بعض الناس أيام الدراسة يقول: لا أستطيع أن أقوم الليل؛ لأني إذا قمت الليل تعبت في النهار.
نقول له: الآن ما عندك شيء، فإذا تعود في أيام عطلته أن يقوم الليل، وداوم عليه، ثم شغل بدراسته ومرت عليه الشهور كلها، مشغول، كتب أجر القائم لليل، لأنه أظهر لله عز وجل أنه في فراغه لا يقصر في طاعة، يصوم الاثنين والخميس، لكن إذا جاءت أيام الدراسة لا يستطيع الصيام؛ لأن والده يمنعه شفقة عليه، فيبره، ومع ذلك إذا جاءت العطلة يصومها، فالعطلة والإجازة مدرسة للخير والصلاح والبر، مدرسة وفكر للإنسان فيها في تقديم الأهم فالمهم، أولاً بر الوالدين، ثم صلة الرحم، إذا لم تصل عمك وعمتك وخالك وخالتك، , وأقرباءك وتدخل السرور عليهم في العطلة، فمتى تصلهم؟ متى تأتيهم إذا لم تأتهم في الإجازات، ليست الإجازة هملاً، ولا عبثاً، فما خلق الله الخلق سداً، وما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، فالإنسان ينبغي عليه أن يتفكر وأن يتدبر أن الله أعطاه هذه الأيام امتحاناً، فإذا كنت في أيام العطلة تحرص على بر والديك، ورضاهما؛ فقد سعدت ونجحت وأفلحت، وحينئذ يجب على المربين والدعاة، والأفاضل الذين يقومون على أبناء المسلمين أن يكونوا خير عون لهم على ذلك.
وللأسف أن البعض يستهزئ من بعض الطلاب ويقول: اذهب واجلس عند أمك، فقل له: نعم أجلس عند أمي، وهذا شرف لي أن أجلس عند أمي قبل أن أراك أو أجلس معك.
هكذا بلغنا عن بعضهم، يقول: اذهب واجلس عند أمك! هل أصبح البار بوالديه محلاً للنقد والسخرية؟! هذا أمر عظيم.
قد يخرج الإنسان تاركاً والديه وهما غضبانان عليه، ولربما يرجع ولا يلقاهما أبداً، فيموتان وهو عاق لهما والعياذ بالله، فهو مسئول أمام الله عن ذلك.
الشاهد: أن يأتي إنسان إلى أمه يبلغها أنه سيسافر، فلا توافقه أمه في ذلك؛ شفقة عليه وخوفاً من أن يصيبه مكروه، هل تلام أمك لشفقتها عليك؟ يعقوب عليه السلام أبيضت عيناه من الحزن -وهو من أولي العزم من الرسل- على فراق ابنه، وهو يعلم أن ابنه سيعود إليه، ويشفق أن يرسل ولده للعب يقول: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13]، هو يعلم أنه نبي ولا يأكله ذئب، لكن هذا نوع من الشفقة، تذكرنا بشفقة الآباء على الأولاد، وتذكرنا بشفقة الأمهات على فلذات الأكباد، فهذا شيء لا يملكه أحد.
نبي مرسل عليه الصلاة والسلام، فضله الله عز وجل وشرفه، وقد أوتي من الصبر والقوة حتى أنه يقاتل كقتال الأربعين شدة وبأساً، وحين فقد ابنه دمعت عيناه، فقيل له: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (رحمة أسكنها الله في قلوب عباده) من هذا الذي يريد أن يدخل بين أم وفلذة كبدها، من هذا الذي يستطيع أن يقف بين يدي الله عز وجل وهو يربي أبناء المسلمين على العقوق، بل ربهم على المحبة والبر، وقل لهذا: قم لوالديك، واذهب إلى والديك وأدخل السرور عليهما، يجب أن تكون مجالسنا مع أبنائنا وإخواننا من طلبة العلم ومن كل من يلوذ بنا التربية على بر الوالدين ومحبتهما، والحرص على بر الولدين، ولو كنا في كل درس وفي كل محاضرة نؤكد هذا، والله ما ملت منه أذن يؤمن صاحبها بالله واليوم الآخر؛ لأنه يعلم أن هذا منهج القرآن وهذا منهج الكتاب والسنة.
فالله عز وجل في أكثر من موضع يقرن هذا بتوحيده، ومع ذلك يؤكد عليه ويقول: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] الشخص حينما يقرأ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] ثم بعد ذلك يعقبها ويقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، هل هذا كله لا يعقله الإنسان ولا يعيه، فنحن لا نربي لدعوة ولا خير ولا بر ولا ندعوا لمشاركة في دعوة وخير وبر، إلا بعد أن نرى باراً بوالديه، رضي عنه والداه، حتى إذا تكلم بارك الله في كلامه، وإذا دعا بارك الله في دعوته، وإذا نصح وفقه الله في نصحه وإرشاده أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا البر، وأن يعيذنا من العقوق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(370/16)
شرح زاد المستقنع - باب القسامة [2]
القسامة هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم، وقد بين الشرع القسامة على صفة مخصوصة لابد من وقوعها عليها، وعلى هذا فيلزم في القسامة أن يبدأ فيها بأيمان الرجال من أولياء الدم، فإن نكلوا أو بعضهم انتقلت القسامة إلى المدعى عليه وبرئ بها.(371/1)
أحكام ومسائل متعلقة بالقسامة(371/2)
من يبدأ بالقسامة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويُبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم]: شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة القسامة، وكيف يجريها القاضي في مجلس الحكم والقضاء، وقد اعتنى الفقهاء رحمهم الله ببيان هذه الجملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع القسامة أو بيّن القسامة على صفة مخصوصة، فلابد من وقوعها على هذه الصفة، فقال رحمه الله: (ويبدأ بأيمان الرجال).
هذه المسألة الأصل فيها ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه حينما ادعى حويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل أن اليهود قتلوا عبد الله بن سهل، قال صلى الله عليه وسلم: تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم، وتستحقون دم صاحبكم)، وفي اللفظ الآخر: (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته).
فهذا يدل على أنه توجه أيمان القسامة إلى المدعين أولاً قبل أن توجه إلى المدعى عليه، فلو ادعى شخص على شخص أنه قتل، أو ادعت جماعة على جماعة أنها قتلت، فالأصل أن نبدأ بالمدعين، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، وظاهر السنة عن رسول صلى الله عليه وسلم يقوي هذا القول.
وقال بعض العلماء رحمهم الله: إنه يبدأ بأيمان المدعى عليهم، واحتجوا برواية الصحيح، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عبد الرحمن وحويصة ومحيصة -أي: الأنصار الذين ادعوا الدم- عن البينة بأن اليهود قتلوه، يعني عن الشاهدين، فقالوا: لا بينة عندنا، فقال عليه الصلاة والسلام: (فتبرئكم يهود) فقالوا: لا نقبل بأيمان قوم ضالين، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعى عليهم قبل أيمان المدعين.
وحديثنا الذي في الصحيح أوضح وأتم وأشد بياناً، وحديثهم فيه نوع إجمال، ولا يمتنع أن يحمل على أصل القضية؛ لأن الحادثة لما وقعت وقعت على صورتين، ينبغي لطالب العلم أن يُلِم بهما حتى يستطيع أن يجمع بين الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الصورة الأولى: هي الأصل.
والصورة الثانية: هي المستثناة التي شرعت بها القسامة.
فأما صورة الأصل فهي أصل الحكومة والقضاء، أن كل من ادعى على شخص أنه قتل نطالبه بالبينة؛ إما إقرار القاتل، أو شهود عدول يثبتون الجريمة على الصفة المعتبرة في الشهود، فهذا الأصل، وهو أن نُطالب المدعي بالبينة، فجاء حديثهم الذي ذكروه على صورة الأصل، وحديثنا على الصورة الخارجة عن الأصل، وهي أيمان القسامة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الأنصار عن البينة وقالوا: لا بينة عندهم، وجّه اليمين إلى اليهود، فإما أن نقول: إنها يمين الدعوى، وهي أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وحينئذٍ تكون يميناً غير يمين القسامة، ومن هنا نقول: إن هذه جارية مجرى الأصل، ثم جاء حديثنا بالتفصيل للصورة المستثناة وهي صورة القسامة، فوجه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أيمان القسامة أولاً للمدعين، وهذا الحديث واضح الدلالة، قال لهم عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم؛ فتستحقون دم صاحبكم، قالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ولم نر ولم نشهد، فقال: فتبرئكم يهود)، فجعل أيمان المدعى عليه بعد أيمان المدعي، وهذا جار مجرى الأصل، وهذا هو الوجه الأول الذي نرجح به حديثنا على حديثهم.
الوجه الثاني: أن حديثنا يقوى بالأصول الشرعية، فإن الأصول الشرعية تقتضي أن المدعي هو الذي يبدأ أولاً قبل المدعى عليه بالنسبة للحجج، فلما نوجه أيمان القسامة على المدعى عليه فكيف نوجهها على المدعي بعد ذاك، ومن هنا الأصل يقتضي رجحان رواية المذهب الذي اختاره المصنف رحمه الله؛ لأنه جار على السنن.
والقاعدة أنه لو جاءت روايتان: إحداهما موافقة للأصول معتمدة ومعتضدة، فإنها مقدمة على غيرها مما خالف، وإلا قد يكون الذي خالف ناقل عن الأصل فيقدم، وقد ذكرنا أمثلة لذلك في صور من الخلاف الذي وقع بين العلماء رحمهم الله.
في هذه الجملة دليل على أننا نبدأ بالمدعي، فنقول له: احلف خمسين يميناً، وهذه الخمسين يميناً تُقسم على الورثة، إما على العصبة -وهذا وجه- وإما على أقرباء الميت الذين يرثونه، وتقسم على قدر حصصهم في الميراث، فلو كان المقتول له ابن وبنت، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فالابن له ثلثا المال، والبنت لها الثلث؛ فتقسم الأيمان بين الابن والبنت، ولو توفي عن أربعة أبناء أو خمسة أبناء تقسم الأيمان على الخمسة الأبناء؛ لأن حظوظهم متساوية، فتقسم على حسب الرءوس إن حصل كسر في الخمسين ولا تنقسم الأربعين إلا بكسر على أربعة؛ فحينئذٍ يُجبر الكسر ويتمم، فلو كانوا أربعة قلنا: يحلف كل واحد منهم ثلاثة عشر يميناً؛ لأنه جبر من كسر اثني عشر ونصف فيحلف كل واحد منهم ثلاثة عشر يميناً.
يطالبهم القاضي أن يحلفوا هذه الأيمان، ويشترط في هذه الأيمان أن تكون في مجلس القضاء والحكم؛ لأن الحجج المعتبرة مكانها مجلس القضاء، والإقرار معتد به في مجلس القضاء، فإذا حلفوا هذه الأيمان، اشترط أن يكون في مجلس القضاء، وأن تكون أيمان شرعية بالله عز وجل أو بصفة من صفاته، والذي عليه العمل عند أئمة العلم رحمهم الله أن القاضي يبدأ قبل أن يحلف هؤلاء أيمانهم بتخويفهم بالله سبحانه وتعالى، وتحذيرهم من غضبه وسخطه جل وعلا؛ لأن اليمين توجب غضب الله للعبد إن كانت يميناً فاجرة، فما بالك إذا كانت أكثر من يمين.
ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما وقعت بين الكندي وأخيه خصومة، قال عليه الصلاة والسلام: (ألك بينة؟ قال: ليس عندي يا رسول الله! بينة، قال: ليس لك إلا يمين، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر، ويحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين وهو فيها كاذب؛ ليقتطع بها حق امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان)، وهذه يمين واحدة، وأعظم الأيمان أيمان القضاء التي تكون في مجلس الحكم، وهي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار -والعياذ بالله-، فيخوفهم بالله عز وجل، ويذكرهم بالله سبحانه وتعالى أن يصدقوا وألا يكذبوا، ولهم الحق كما ذكرنا أن يبنوا على غالب ظنهم.
قال رحمه الله: (ويُبدأ بأيمان الرجال) أي: يُبدأ بأيمان الرجال من المدعين قبل النساء؛ لأنهم الأصل.
قال: [ويُبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم، فيحلفون خمسين يميناً]: (فيحلفون خمسين يميناً) تُقسم هذه الأيمان على قدر حصصهم من الميراث، وإن كانوا عصبة كانت منقسمة على عدد الرءوس، ويشترط أن يستتم هؤلاء الأيمان، فلو أنهم كلهم حلفوا إلا واحداً؛ فإنه لا توجب القسامة الحكم بالدم، يعني: لا يُقتل حتى يحلف الجميع، فلو حلفوا الأيمان إلا يميناً واحداً لم يقبل منهم إلا أن تكون تامة كاملة، وهذا هو الأصل، ولا يُشترط الولاء المتتابع بين اليمين والأخرى، فلو حلف بعض الأيمان في مجلس، ثم أتمها في مجلس آخر -كأن يحلف خمسة أيمان، وكانت عليه عشرة أيمان، ثم تردد، ثم حلف بعدها الخمسة، أو حلف الخمسة وجاءه عذر فقضى حاجته، ثم رجع وحلف الخمسة- فهذا لا يؤثر ما دام أنه حلف العشرة الأيمان المطلوبة كاملة في مجلس القضاء والحكم.(371/3)
نكول الورثة عن الحلف
قال رحمه الله: [فإن نكل الورثة أو كانوا نساءً؛ حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ]: يحلف المدعون في الأيمان على القاتل، ويقولون: والله إن فلاناً أو إن هذا قد قتل فلان ابن فلان إذا كان القاتل في مجلس الحكم، وإذا لم يكن في مجلس الحكم يذكرونه باسمه على وجه لا يشترك معه غيره، كما ذكر العلماء بأن يرفعوا نسبه، فيذكرون اسم أبيه وجده، وما يتميز به عن غيره أنه قتل فلاناً قتل عمد أو قتل خطأ أو قتل شبه عمد، فيصفون القتل، وهذا حتى تكون اليمين معتبرة.
بيّن رحمه الله أنه يبدأ بأيمانهم، ثم إذا نكل هؤلاء بأن قالوا: لا نحلف، أو نكل بعضهم فقال بعضهم: نحلف، وقال بعضهم: لا نحلف، فالنكول عن أيمان القسامة وقع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأقره، وهذا يدل على مشروعيته، وأن من حق الإنسان أن يتورع عن القسامة، وقد وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم خيار الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، فقالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟ ولكن في حوادث من الحوادث الأخرى يأتيك شخص تثق به ثقة كاملة، أو مثلاً يقع القتل على وجه تطمئن أنت إلى صدق المخبر، ولا تعرف فيه كذب؛ فتطمئن إلى قوله، ويسبق أن هذا الرجل توعد المقتول، أو بينه وبين المقتول عداوة، أو بينه وبين المقتول ثأر، فأنت مطمئن لهذه اليمين، وإن لم تر ولم تشهد، لكنك تحلف على غالب الظن، ومن رحمة الله عز وجل وتيسيره للعباد أنه أجاز الحلف على غلبة الظن، ففي هذه الحالة لك أن تنكل وتمتنع من اليمين تورعاً، وقد امتنع عن اليمين تورعاً خيار الأمة من الصحابة.
بل إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه باع عبداً، فظهر في العبد عيب، وقال المشتري: به عيب، واشتكاه إلى عثمان رضي الله عنه، فقال: ما علمت فيه عيباً، فقال له: تحلف اليمين، قال: لا أحلف اليمين، ولكن يأخذ ماله ويعطيني العبد، فتورع رضي الله عنه عن حلف اليمين، وما كان في ذلك منقصة له رضي الله عنه، وشاء الله أن يبيع العبد بأضعاف قيمته بعد ذلك؛ لأنه ما عامل أحد ربه إلا غنم في دينه ودنياه وآخرته، فهو تورع عن هذه اليمين؛ لأنه يؤثر ما عند الله سبحانه وتعالى، لكن إذا تبين للإنسان أن هناك حقاً، وأن هناك دماً، وأن هناك قاتلاً ظالماً، وأراد أن يشهد اليمين ويحلف بالله على هذه اليمين شهادة حق، فإنه لا ملامة عليه ولا غضاضة.
(فقالوا: يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟) وفي هذا دليل على أن الحلف ينبغي أن يكون على علم في الأصل، فتستفيد فائدة وهي: أن هناك أصلاً، وهناك مستثنى من الأصل، فالأصل في حلف اليمين: أن يكون عن علم وبينة، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81]، فجعل الشاهد لا يكون شاهداً بالحق إلا إذا كان بشيء يعلمه، قال: (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا)، واليمين شهادة، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] فقالوا: نشهد، يحلفون بالله أنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا المراد به من تسمية الأيمان شهادة، وكقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6] فهذا كله فيه تسمية الأيمان شهادة، فدلت على أن اليمين لا تكون إلا عن علم ومعرفة، وبناءً على ذلك فالأصل أنه يحلف على شيء يعلمه، فإذا كان قد غلب على ظنه -لاحظ لم ير ولم يسمع ولم يشاهد ولكن غلب على ظنه- بأن جاءه مثلاً عشر نسوة أو عشرون امرأة قد شاهدن القتل، وجئن يشهدن ما تقبل شهادتهن في القتل، وبين الرجل وبين الرجل ثارات، أو بينه وبينه عداوة، أو سبق وأن توعد -كما ذكرنا- في فاطمئنت نفسه لهذا أن يشهد به، فحلف يمينه، فإنه في حكم ما ذكرناه؛ لأن الشهادة واليمين على غالب الظن معذور فيها صاحبها.
قال: [فإن نكل الورثة]: (فإن نكل الورثة): النكول هنا يستوي فيه -كما ذكرنا- كلهم أو بعضهم، صورتها: أن يكون النكول من الورثة جميعهم بقولهم: لا نحلف، مثلما قال الأنصار، أو أن يكون النكول من بعض الورثة لا من كل الورثة، سواء كانوا أكثر أو أقل، فقال بعضهم: نحلف، وقال بعضهم: لا نحلف، وهنا ننبه على مسألة مهمة، وهي أنه إذا امتنع البعض عن الحلف لا يكره على الحلف، كما يقع بين القرابة، حيث يغضبون عليهم ويقولون لهم: أنتم ضيعتم دم قريبنا، أنتم ليس لقريبنا عندكم حق، وليس له قدر، وهذا لا يجوز، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يلم بعضهم بعضاً، وتورعوا، بل إنه إذا تورع أحد يقبل منه هذا الورع، هذا بالنسبة للنكول، وهناك صورة ثالثة وهي: أن يكون النكول مِن من حلف، فيحلف بعض الأيمان ويمتنع من بعضها سواء حلف أكثر مما نكل أو أقل أو استويا -الحلف والنكول- بأن تكون عليه يمينان فحلف واحدة ونكل عن الثانية، فالحكم في جميع هذه الصور واحد.
والنكول من البعض كالنكول من الكل، وإن نكول بعض الورثة كنكول جميع الورثة، وإن نكول الحالف عن بعض الأيمان كنكوله عن جميع الأيمان، ما نقول: تقسط الدية أو نقسط الحكم، أو يحكم ببعض ويترك بعض أبداً، يبقى الحكم أن يحلف الجميع أو يحكم بالنكول إذا وقع من بعضهم دون البعض.(371/4)
كون الورثة نساء
قال رحمه الله: [أو كانوا نساءً] إذا كان الذين يحلفون رجالاً ونساء فلا إشكال، ويقولون بالاندراج، ويكون النساء مع الرجال، لكن أن يتمحضوا إناثاً، فمذهب الجمهور عدم قبول شهادة النساء منفردات على الدم، وهذا له أصل؛ لأن الله عز وجل لم يجعل شهادة النساء في غير الأموال، وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى، فالمرأة يعتريها من الضعف والتسرع ما لا يكون في الرجل، ولذلك لا يقبل في شهادة القتل امرأة، فلا تثبت بشهادة امرأتين أو أربع نسوة، بل لابد وأن تكون شهادة القتل والزنا للرجال، وسيأتينا إن شاء الله تعالى في باب القضاء، ونبين الأدلة، ونبين وجه الحكمة في ذلك، وهذه حكمة من الله سبحانه وتعالى ولا تعقيب لأحد على الشريعة في هذا، فالله عز وجل إذا حكم لا يعقب على حكمه، وهو سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.
فالمرأة لا تستطيع أن ترى مشهد قتل أو غيره، ولو وقع أمامها منظر من المناظر المؤلمة -فضلاً عن القتل- سرعان ما تغيب وجهها، أو تضع يديها على عينيها، ولا تستطيع أن تستمر في المشاهدة والرؤية، وقد تستعجل من الخوف من رعب الحوادث، فتخطئ في تصور الحوادث وتسلسلها، بل إنك لو سألتها أن تصف شيئاً رأته، فإنك لن تستطيع أن تنتزعه إلا على أحوال متعددة: إذ يغلبها البكاء ويغلبها الضعف، وهذا شيء جبلت عليه فلا تلام عليه، فالله يخلق القوي والضعيف، وهو أعلم وأحكم سبحانه وتعالى.
ولكن لا ينبغي لأحد أن يكابر في الحقائق، ولا ينبغي لأحد أن يُحملها ما لا تتحمل، وأن يظن أنه يحسن وقد أساء؛ لأنه لا أحسن من حكم الله سبحانه وتعالى، ولا أعلم بخلقه منه سبحانه، بل هو أعلم بكل شيء جل جلاله وتقدست أسماؤه {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14].
فالشاهد أن أيمان النساء لا تقبل؛ لأن شهادتهن في الأصل إذا انفردن لا تقبل، لكنهم اعتضدوا بالأصل هنا، وإن كان بعض العلماء لم يقبلها مطلقاً في الأيمان، وهذا له أصل سنذكره إن شاء الله في باب الشهادات في مسألة الاعتضاد.(371/5)
حلف المدعى عليه حيث لا يمين من المدعي
قال رحمه الله: [حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ] قال المصنف: (ويُبدأ بأيمان الرجال)، فلو أن هذه اليمين تمت على الوجه المعتبر، هل يستحقون قتل الشخص الذي حلفوا عليه؟ قولان للعلماء رحمهم الله: جمهور العلماء على أنهم لو حلفوا على شخص الأيمان على الصفة المعتبرة شرعاً أنه يقتص من القاتل الذي حلفوا عليه، وهذا المذهب دل عليه دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم)، فهذا نص واضح أنهم يستحقون بالخمسين اليمين القصاص والقود.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحلفون خمسين يميناً -وفي رواية السنن- تقسمون خمسين يميناً على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) ما قال: فتستحقون الدية، وما قال: فتأخذون العوض، وإنما قال: (يدفع إليكم برمته)، والقتل الذي اشتكاه الصحابة قتل العمد؛ لأن عبد الله بن سهل رضي الله عنه وجد يتشحط في دمه؛ لأنه كان معه محيصة، وكانوا على مقربة من الليل -قبل الليل بقليل- فافترقا في حي من أحياء اليهود، فذهب عبد الله رضي الله عنه في ناحية، وذهب محيصة في ناحية، فرجع إلى الناحية التي كانا قد تواعدا فيها؛ فوجد عبد الله يتشحط في دمه، وهذا قتل عمد، والنبي صلى الله عليه وسلم أثبت للأنصار في قوله: (فتستحقون به دم صاحبكم)، فلا مقابل في قوله: (تستحقون دم) إلا قتل العمد، فلا يصح تأويل هذا الحديث، أو حمله على أنهم يستحقون به الدية، وهذا المذهب هو الصحيح الذي دلت عليه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن هناك إشكال عند الذين قالوا: يستحقون به الدم، هل يحلفون على أكثر من رجل، منهم من قال: يحلفون على رجل واحد ولا يزيدون، كما هو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، واحتجوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (تحلفون على رجل منهم، فتستحقون دم صاحبكم) (تحلفون على رجل فيدفع إليكم برمته)، فعبر بالواحد ولم يعبر بالأكثر، ومنهم من قال: إنه لا يستحق أكثر من واحد؛ لأنه لا تقتل الجماعة بالواحد، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبينا أن دليل الكتاب والسنة قد دل على أن الجماعة تقتل بالواحد، والذين يقولون بقتل الجماعة بالواحد ويمنعون أكثر من واحد في القسامة، يقولون: لأن القسامة خرجت عن الأصل فتقيد بالوارد.
وفي الحقيقة أن القتل يصح للاثنين كما يصح للواحد، وجاءت السنة إعمالاً للأصل في الحادثة أنه يكون قتل من واحد، فلو قال: تحلفون على جماعة منهم، أو تحلفون على عدد معين لأوهم خلاف المراد، ولظن ظان العكس، أن القسامة لا تكون إلا على جماعة، وهذا ما يسميه علماء الأصول: التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان يُقتل الواحد فدم الواحد كدم الجماعة، وقد بينا هذا في مسألة قتل الجماعة بالواحد، وعلى هذا إذا حلفوا الأيمان تامة كاملة على الصفة الشرعية يستحقون قتل أكثر من واحد.
قال: [حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ]: فإذا لم يحلف ونكل المدعون أو امتنعوا أو امتنع بعضهم، حلف المدعى عليه وتطالب الجماعة الذين ادعي عليهم أن يحلفوا خمسين يميناً أو يحلف الشخص الذي ادعي عليه خمسين يميناً ويبرأ، فإذا امتنع منها، قال بعض العلماء: يحبس حتى يحلفها، وهذا فيه أصل سيأتينا إن شاء الله في باب القضاء، أنه إذا توجهت اليمين على أحد وامتنع من الحلف، هل يجبر على أن يحلف؟ وهل يُحبس حتى يكون منه حلف؛ لأن القضية لا تزال معلقة، والنبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، قال صلى الله عليه وسلم في حديث البيهقي وغيره: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)، وفي الصحيح: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أقوام وأموالهم، ولكن اليمين على من أنكر).
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الكندي: (ليس لك إلا يمينه)، هذا يدل على أن المدعى عليه يحلف اليمين، والمدعي يطالب بالبينة، أما إذا ادعى شخص على شخص، وقلنا للمدعي: أثبت، قال: ما عندي بينة، قلنا للمدعى عليه: احلف أنك بريء، فقال: لا أحلف، فهذه المسألة التي هي القضاء بالنكول, فهل في بعض الصور ترد الدعوى، وسنبينها إن شاء الله في باب القضاء، تشكل هنا في باب القسامة وبعض العلماء يرى أنه يحبس حتى يحلف الأيمان.
قال رحمه الله: (حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ) (وبرئ) يعني برئ من الدعوى ويطلق سراحه ما لم يثبت بالبينة أنه قتل، فلو قامت البينة بعد أن حلف الخمسين يميناً -والعياذ بالله- على أنه قاتل فإنه يقتل، يعني البراءة هنا فقط في مسألة القسامة، هذه قضية مستقلة، برئ من هذه الدعوى، لكن لو أقيمت عليه دعوى ثانية ووجد أولياء المقتول دليلاً من شهود عدول أو كان الشهود غائبين ثم حضروا وقالوا: رأيناه يقتل فلاناً، وشهدوا، فإن أيمانه التي حلفها أيمان فاجرة في حكم القضاء، وإلا قد يكون صادقاً بينه وبين الله، وقد يكون الشهود مخطئين فلنا حكم الظاهر، فتسقط هذه الأيمان ولا يعتد بها، فبرئ هنا المراد به من الدعوى التي هي دعوى الدم في أيمان القسامة.
لو حلف المدعي الخمسين يميناً، ثم قال المدعى عليه: أريد أن أحلف الخمسين يميناً حتى تسقط الدعوى، نقول: هذه البراءة لا تكون إلا إذا نكلت أولياء الدم، يعني لا يحلف المدعى عليه إلا إذا نكل أولياء الدم، أما إذا حلف أولياء الدم، فإنه يستحق القتل إذا كان قتل عمد، وإن كانوا أكثر من واحد فيستحقون القتل، ويجري فيه ما يجري في قتل العمد، وإذا كان قتل خطأ فلا إشكال.(371/6)
الأسئلة(371/7)
حكم قسامة القصار
السؤال
إذا كان من بين ورثة الدم قصار فما الحكم، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله هل ينتظر الصبي حتى يبلغ ويطالب بالحق؟ وهذا اختاره جمع من العلماء رحمهم الله، وهو الأشبه بالأصول، ولكن إذا كان هناك من به عذر مثل الصبا يمنع، ولكن إن كان فيه ما يصعب انتظاره: كالجنون؛ فإنه لا ينتظر، ويكون وجوده وعدمه على حد سواء، فينتقل إلى غيره، فلا يحلف إلا من كانت به أهلية، والله تعالى أعلم.(371/8)
حكم التمالؤ باليمين أو شهادة الزور على أحد
السؤال
لو حلف المدعون أيماناً كاذبة على المدعى عليه، ولم يعلم ذلك إلا بعد إنفاذ الحكم، فهل يقتلون جميعاً، أثابكم الله؟
الجواب
أولاً: كيف يُعلم أنهم كاذبون، لابد وأن يقروا ويقولوا: إنهم كاذبون في الأيمان وإنهم تعمدوا قتله، كما سيأتينا إن شاء الله في باب شهادة الزور، أن من شهد على إنسان أنه قتل، أو شهد شهود على أن شخصاً قتل، ثم جاءوا وقالوا: تعمدنا قتله، فإنهم قتلة، وسبقت الإشارة في مسألة القتل بالسبب، ومن القتل بالسببية شهادة الزور، أن يشهد شهود زور أن فلاناً قتل فلاناً، وكانوا قاصدين لقتله، لكن لو قالوا: أخطأنا؛ فهذا قتل خطأ، فهل تقبل شهادتهم الثانية؟ لأن ثبوت خطأ في الشهادة الأولى يوجب الضعف في الضبط عندهم، ومن شرط صحة الشهادة الضبط، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه.
لكن إذا قال الشهود، أو قال أصحاب هذه الأيمان: إنهم يعلمون علماً أكيداً أن فلاناً لم يقتل، وهذا لا يتأتى إلا لمن كانوا يعلمون من هو القاتل حقيقةً، فإذا كانوا يعلمون من هو القاتل حقيقة، وعدلوا إلى شخص آخر، وحلفوا -والعياذ بالله- الأيمان الفاجرة، فلينتظروا ما يصيبهم، فقد كان يقال: من حلف اليمين الفاجرة في أي مجلس من مجالس القضاء، لا يمر عليه الحول وهو بخير.
هذه من السنن المجربة، حتى في أيمان القسامة هذه، فقد وقعت لـ عبد المطلب وجاء ولي يتيم وامتنع، فدفع المال، وهذا على سنن الجاهلية، فحلف التسعة والأربعين يميناً، فمضت السنة فلم تبق فيهم عين تطرف، كلهم ماتوا، وهذا من عجائب ما يقع، ولذلك فإن كبار السن وأهل العقول تجد الواحد منهم يدفع ماله كله ولا يحلف يميناً في مجلس القضاء، فالأيمان أمرها عظيم، خاصة في مجلس القضاء، فإنه لا يحول الحول على صاحبها بخير، وهذا مما يعلم بالسنن، ولا يشترط فيها الدليل إذا ثبتت بالتجربة، وعادة الله عز وجل وسنته لا تتخلف؛ لأنه عندنا أصل عام وهو أن الله منتقم، وينتقم من كل ظالم، ومن أظلم الظلم سفك الدماء البريئة، وأكل الأموال المحرمة، واتخاذ القضاء وسيلة للوصول إلى هذه الأغراض، ولو كان سفك الدم مباشرة أهون من أن يأتي ويكذب على القاضي، ولذلك قالوا: من كذب على القاضي بشهادة زور فقتل بها، أعظم مما لو قتل مباشرة؛ لأنه لو قتل مباشرة فهو قاتل فقط، لكن أن يستخدم القضاء وسيلة للوصول إلى غرضه -والعياذ بالله- من استباحة دماء المسلمين المحرمة وأموالهم وأعراضهم، فحينئذٍ يكون قد جنى فوق جنايته الأصلية الذنب والإثم، ثم جنى على القضاء، وذلك بكونه استغله لكي يبطل الحق ويحق الباطل، نسأل الله السلامة والعافية.
فعلى كل حال إذا كانوا يعلمون من هو القاتل فذلك يقع بالصور التالية: الصورة الأولى: أن يعلموا من هو القاتل حقيقة، فيعدلون إلى غيره.
الصورة الثانية: أن يعلموا أن فلاناً لم يكن موجوداً أثناء القتل، على وجه يتحققون من أنه لم يقتل.
الثالثة: أن يكون بينهم وبين هذا الشخص الذي حلفوا عليه عداوة وأرادوا أن يقتلوه إشفاءً لغليلهم، لا إحقاقاً لحق، ولا وصولاً إلى حق، هذه كلها من الصور التي تكون فيها الأيمان كاذبة فاجرة -والعياذ بالله- فإذا قالوا: تعمدنا قتله؛ قتلوا به جميعاً، ولو كانوا مائة شخص، ولو كانوا مليوناً، وقد ذكرنا هذا في قتل الجماعة بالواحد، على قول عمر رضي الله عنه: (والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به)، فتقتل الجماعة بالواحد؛ لأن الله سبحانه وتعالى عصم دماء المؤمنين، ولو فتح الباب أن الجماعة لا تقتل بالواحد؛ لقامت عصابات بقتل الناس ثم يسلمون من القصاص، وفي ذلك من الشر والبلاء ما لا يخفى، والله تعالى أعلم.(371/9)
بعض آداب طلب العلم
السؤال
إن من النعم الكبيرة عليّ أن أصحب طلاب العلم، وأن أحضر هذه المجالس، وأحتاج كثيراً إلى أن تذكرنا بشيء من الآداب التي ينبغي علينا أن نراعيها خاصة في هذه المجالس المباركة، أثابكم الله؟
الجواب
بارك الله فيك، نِعم السؤال، والله إنها نعمة عظيمة من الله عز وجل أن يوفق السائل في سؤاله، وكم من أسئلة أحيا الله بها موات القلوب، وأنار الله بها البصائر، فالموفق في سؤاله عظيم أجره إذا أخلص لربه، وأراد الخير للمسلمين، وهذا من النصيحة لعامة المسلمين.
السؤال المفيد ينفع من في الدرس، وينفع كل من يستمع إلى هذا الشريط، فلا شك أن المسلم يبحث عن أمور مهمة جداً، وأي خيرٍ وأي بر أعظم من أن يكون الإنسان في طاعة الله عز وجل، ومرضاته سبحانه وتعالى، وأي شيء أفضل أن يُسأل عنه، مثل طاعة الله سبحانه وتعالى، والسبيل الأمثل والمنهج الأقوم في تلمس مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإلا فمن أعظم ما يُسأل عنه نعم الله التي تغدق على العبد صباح مساء، وإن الله إذا أراد أن يسعد عبداً من عباده جعل النعمة بين عينيه؛ فعرف حقها وعرف قدرها، فاعتقد فضل الله في قلبه، ولهج بالثناء على الله بالشكر بلسانه، واستخدمها في طاعة الله بجوارحه وأركانه، فعندها تتم نعمة الله مباركة على ذلك الولي الصالح.
كم من عبد ترسل عليه النعم إرسالاً، ويتقلب فيها صباح مساء، ولكنه لم يشعر بحقها ولا بقدرها حتى عاقبه الله عز وجل بزوالها، فبكى حين لا ينفع البكاء، وندم حين لا ينفع الندم، والله لو تقلب الإنسان في العلم من أخمص قدميه إلى شعر رأسه، وهو لا يُحس بنعمة ربه؛ لم يبارك له في ذلك العلم، ولو أوتي اللسان الذي تحار العلماء والحكماء في فصاحته وبلاغته، ولم يشكر ربه؛ فلا خير في قوله.
الشكر هو الذي قرن الله به الزيادة، ولو أن العبد كان أرفع ما يكون نسباً، وأعظم ما يكون طاعة لله عز وجل، وأعطي نعمة من نعم الله ولم يشكرها، لم يتأذن الله له بالمزيد؛ لأن الله يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، وعلى هذا فحري بكل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى نعم الله عز وجل، وأن يعرف حقها وحقوقها، وهل هناك نعمة أعظم من نعمة الإيمان، ثم بعدها نعمة العلم الذي يعبد العبد به ربه على نور من الله، يرجو رحمة الله ويخشى عذابه.
هذا العلم حقيق بالمسلم ألا يكتب فيه حرفاً، ولا يسمعه ولا يقرأه، إلا ونعمة الله شاهدة بين عينيه، قد جرت في دمه وعروقه من كمال إخلاصه لربه، حريٌ بكل إنسان يريد أن يطلب هذا العلم أن يعرف مقدار نعمة الله عز وجل عليه، كما قال الله عز وجل لنبيه: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، وإذا كان الله يعلم نبيه مقدار النعمة التي أنعم بها عليه، فخليق بكل مسلم أن يُذكر بذلك، وخاصة طلاب العلم، والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
جثا العلماء على الركب، فجرت مدامعهم، وخشعت قلوبهم، ولهجت ألسنتهم بالثناء على ربهم، أذلة صاغرين بين يدي الله رب العالمين؛ تواضعاً لنعم الله عز وجل عليهم.
يا معشر طلاب العلم! إن الساعات واللحظات والمجالس التي تجمعكم في ذكر الله ومرضاته نعمة لا يمكن أن توازيها نعمة على وجه الأرض، هل هناك أحد أشرف من عبد يقرأ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فيهما من حكم وأحكام، قد فرغ لها قلبه، وأشغل بها وقته؛ كل ذلك طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وهل خلق العبد إلا لهذا؟! طالب العلم الموفق السعيد الذي حين يخرج من بيته يقول: يا رب! لك الحمد أن أخرجتني لطلب العلم، ولم تخرجني أشراً ولا بطراً ولا غروراً ولا رياء ولا سمعة، ولم تخرجني إلى حرام ولا إلى فحش وآثام، يا رب! من أنا حتى تختارني لكي أجلس فأسمع كلامك وكلام نبيك عليه الصلاة والسلام، وكلام العلماء؟! فلنحمد الله عز وجل ولنشكره، كل طالب علم يريد أن يتأدب في مجلس العلم، عليه -قبل أن يجلس في مجلس العلم- أن يعرف نعمة الله عز وجل عليه بالعلم، فلا يمكن أن يتأدب في مجالس العلماء إلا من عرف مقدار نعمة الله عليه بالعلم، وكم من إنسان رزقه الله عز وجل هذا الشعور، فسعد به سعادة لم يشق بعدها أبداً، كم من طلاب علم بينهم كما بين السماء والأرض من الدرجات والحسنات والمثوبات من الله جل وعلا؛ بسبب هذا الشعور، إن الإنسان حينما يمضي إلى مجلس العلم وليس في قلبه إلا الله، معظماً لنعمة الله، لاهجاً لسانه بشكر الله، معتقداً في جنانه أن الفضل -كل الفضل- لله؛ فهو أعظم عند الله أجراً، وأعظم عند الله ثواباً، وأكثر إخلاصاً وقرباً من رجل يخرج من بيته ساه عن نفسه، غافل عن نعمة ربه، لا يشعر إلا أنه حامل لكتابه، يذهب ثم يرجع ولم يشعر أن الله قد أنعم عليه بنعمة، وعندها تكون المصيبة -بل المصيبة الأعظم- حينما يحس أنه قد بلغ مبلغاً رفيعاً حينما يجلس مجلس العلم ويسمع الحكم والأحكام، فيحس أنه يفهمها قبل أن يُفهمه ذلك العالم أو من يستمع إليه.
نعم، علينا أن نتذكر أولاً مقدار نعمة الله عز وجل علينا بالعلم.
ثانياً: كيف يتأدب الإنسان؟ أول شيء يجب أن تسأل عن أخلاق المسلم مع المسلم عامة، فهناك أخلاق أدبنا الله عز وجل بها: أولها: صفاء القلب، فلا يمكن للإنسان أن يجلس في مجالس العلم فيتأدب مع الصغير والكبير، إلا إذا صفا قلبه، وخلص من الشحناء والبغضاء واحتقار المسلمين، فأول ما يوصى به الإنسان أن يخرج من بيته وهو يتقي الله في قرارة قلبه، لا ينظر في الناس إلى ألوانهم، ولا إلى أحسابهم،، ولا إلى أموالهم، ولا ينظر إلى جاههم، لا ينظر إلا إلى تقوى الله جل جلاله، وعندها لو رأى رجلاً مرقع الثياب وأخلق الحال سيراه كما يرى أعظم الناس وأغناهم؛ لأنه بتقوى الله كان شيئاً كبير، فأول شيء: تطهر القلب، ولذلك لن تجد طالب علم يسيء مع طالب علم الأدب؛ إلا وجدت المسيء يحتقر أخاه، ولم يبدأ بسلوك المسلم مع أخيه المسلم بنقاء قلبه، قال صلى الله عليه وسلم -يشير إلى هذا المعنى-: (بحسب امرءٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) يجب أن نستل من قلوبنا هذه الضغائن، وهذه المعاني الرديئة التي لازمها الناس في دنياهم، وأن نحسن بطلب العلم سلوكنا، فطلب العلم أرفع وأقدس من أن نجعل الدنيا أكبر همنا، ومبلغ علمنا، وغاية رغبتنا.
ثانياً: إذا جاء الإنسان إلى مجلس العلم عليه أن يحب جميع إخوانه في الله عز وجل، وأن ينظر إلى أمة اصطفاها الله واجتباها؛ لكي تحمل دينه، وتحمل شرعه إلى الأمة، أن ينظر إلى هؤلاء الذين قضوا وقتهم في ذكر الله عز وجل ومرضاته، وما يُدريك فلعل من بينهم أئمة سيُهتدى بهم غداً، وما يُدريك كم فيهم ممن سيسد الله بهم ثغور الإسلام غداً، وما يُدريك كم فيهم من شموس ستضيء أنوارها بإذن الله عز وجل في الغد القريب، وما ذلك على الله بعزيز.
فكم من علماء وأئمة كانوا في أقدارهم صغاراً -وهم طلاب علم- رفع الله أقدارهم لما أخلصوا، ووطنوا أنفسهم لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فإذا شعرت أنك تجلس بين أناس سيصطفيهم الله عز وجل، وتحسن الظن بالله؛ فإن الله ذو فضل عظيم، فتحس أنك أمام أناس لهم فضل عليك، ولهم حق عليك أن تحبهم، وأن توقرهم، وأن تجلهم، وأن تنوي لهم كل خير، وأن تعتقد لهم الفضل من الله عز وجل.
ثالثاً: إذا جلست معهم فاحرص كل الحرص أن تكون خير طالب علم لأخيه، فتنافس في الخير، فإذا دخلت المسجد فادخل ولسان حالك يقول: يا رب! اجعلني خير الناس في هذا المسجد، اللهم اجعلني خير الناس في هذا المسجد، اللهم اجعلني أعظم الناس أجراً عندك في دخولي هذا؛ لأنه مكان تنافس وتسابق للخير والبر داخل المسجد، وتقول: يا رب! لا تجعلني محروماً، ولا تجعلني شقياً، اللهم لا تحرمني خير ما عندك بشر ما عندي، فإذا دخلت المسجد فادخل وأنت تطمع أن يجعلك الله خير طالب علم مع أخيه، وخير صديق لصديقه، وخير أخ لمحبه، فإن الله عز وجل يعظم أجرك، لهذا تنال الخيرات والمرضاة، حينما تدخل وعندك شعور بأنك تسمو إلى مرضاة الله عز وجل، والطمع في رحمة الله عز وجل أن يرزقك القول السديد والعمل الرشيد، وأن تكون مع أحبتك وإخوانك كأحسن وأجمل وأفضل ما يكون عليه طالب علم مع أخيه.
رابعاً: أن تعلم أنك مهما جالست ومهما صاحبت، فكل من جالسك شاهد لك أو عليك، فهنيئاً ثم هنيئاً لمن جالس صفوة الله عز وجل من خلقه بعد الأنبياء والعلماء، وهم طلاب العلم، فلم يشهدوا له إلا بخير.
من طلاب العلم من جلس في مجالس العلم السنين المتتابعة، ويعلم الله أنه ما آذى أخاً له في الله، من طلاب العلم من جلس في مجالس العلم، والله يشهد أنه ما أساء إلى مسلم فيها، ومنهم من جلس في مجالس العلم السنوات تلو السنوات، فما قام من مجلس إلا وقد فاز بعظيم الأجور والحسنات ورفيع الدرجات، اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! خامساً: على الإنسان أن يسمو بنفسه ثم عليه -بعد ذلك- أن يوطن نفسه بالكلام الطيب واللين، وأن يعلم أن الناس -خاصة في هذا الزمان المليء بالفتن والمحن- قد امتلأت صدورهم من الهموم والغموم والكربات، فإذا مر عليك أخوك ولم يسلم عليك؛ فالتمس له عذراً، وإذا رأيته عابس الوجه فقل: لعل أخي نزلت به مصيبة، اللهم فرج كربه، اللهم نفس عنه، اللهم يسر له أمره، ولا تسئ به الظن.
ثم النقطة السادسة: الحذر من أن ينشغل طالب العلم بغيره عن نفسه، وأن ينشغل بنفسه عن ربه، لا تشتغل بالناس عن نفسك، البعض بمجرد ما يجلس يجلس يستكشف الحال، ينظر عن يمينه وعن يساره ومن أمامه ومن خلفه، ولو وجد ما ينظر إليه إلى سابع أرض لنظر إليه، هذا ليس بطالب علم، يجلس حتى يكتب في الأسئلة، بعض طلاب علم يفعلون، وبعض طلاب علم يكتبون، يشتغل بعيوبهم، ويشتغل بمثالبهم، هل طلاب العلم الذين أمامك ملائكة وأنبياء معصومون؟ هم بشر يخطئون كما يخطئ غيرهم، ولكنهم بما فيهم من الخير -نحسبهم بما وطنوا به أنفسهم من طاعة الله ومرضاته، وبما غلب عليهم من الحرص على الخير- هم أسمى وأحب إلى قلوبنا من غيرهم، والإنسان إنما يرجى بثقل الحسنات.
فإذاً لا تلتفت إلى عيوب إ(371/10)