الرقاب التي لا يجزئ إعتاقها في الكفارات
قال رحمه الله: [ولا يجزيء مريض ميئوس منه ونحوه].
أي: ولا يجزئ في عتق الرقبة مريض ميئوس من مرضه، وقد تقدم معنا في أحكام مرض الموت المرض الميئوس منه، وذكرنا جملة من مسائله وبعض الأمور المتعلقة به، وبعض التطبيقات في زماننا، يقولون: لأنه إذا كان الرقيق ميئوساً منه فعتقه تخلص منه، ففي هذه الحالة كلها مخالفة لمقصود الشرع من العتق.
وهذا صحيح.
ومثل المريض الهرِم أو الزَمِن الذي سقط وأعيا، مع أنه لو أعتقه والحالة كما ذكر فمعنى ذلك أنه يهلكه؛ لأنه حينما يكون مملوكاً له يقوم على نفقته والإحسان إليه وتعهده، لكنه إذا أعتقه فإنه يضره بذلك العتق.
قوله: [ولا أم ولد].
أي: ولا يجزئ عتق أم الولد، وأم الولد: هي التي وطئها سيدها فأنجبت منه، فهي أم ولد تعتق بعد وفاته؛ لأن الولد لا يملك أمه، والولد سيرث من أبيه، فشبه إجماع أنها تعتق بوفاة السيد، فقالوا: إنه لا يجزئ عتقها؛ لأنه إذا أعتقها تخلص منها وهي معتقة عليه، فحينئذٍ لا يتحقق مقصود الشرع من عتق الرقبة في الكفارة، فقالوا: لا يجزئ عتق أم الولد من هذا الوجه.
وهذا تقدم معنا في كتاب البيع في حكم بيع أمهات الأولاد، وتكلمنا على هذه المسألة بالتفصيل في شرح بلوغ المرام، وبينا خلاف السلف والأئمة رحمهم الله في مسألة بيع أمهات الأولاد، ومن العلماء من يفصل في هذا على أنها ليست مملوكة من كل وجه في التصرفات، فبناء على ذلك لا يصح عتقها في الكفارات الواجبة ولا يصح بيعها، والمسألة مشهورة، وتقدم بيانها في كتاب البيوع.(318/5)
ما يجزئ من الرقاب في كفارة الظهار
قال رحمه الله تعالى: [ويجزئ المدبر].
أي: ويجزئ عتق المدبر، والمدبر هو العبد الذي أعتقه سيده عن دبر، بمعنى: علق عتقه على موته، فقال: إذا أنا مت فعبدي فلان حر.
فهذا التدبير ثابت بالنص، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل عند أهل العلم رحمهم الله من السلف والخلف على صحة التدبير وجوازه، وإذا ثبت هذا فإنه لو قال: عبدي فلان حر بعد موتي -أي: أعتقه عن دبر- فهل يجزئ في الكفارة الواجبة أم لا؟ فيه وجهان: الوجه الأول: قال بعض العلماء: لو أعتقه عن دبر فله الحق في الرجوع ما لم يمت، وبعضهم يقول: من أعتق عبده عن دبر فليس له حق في الرجوع.
فعلى القول بأن المدبر يستحق سيده الرجوع يصح عتقه في الكفارات الواجبة؛ لأنه حينما أعتقه في الكفارات الواجبة كان نوعاً من الرجوع؛ لأن الرجوع نوعان: الرجوع الحقيقي، والرجوع الحكمي، فهو حينما قال: عبدي فلان حر بعد موتي ثم جاء في كفارة الظهار وأعتقه دل على أنه لا يريد أن يعتقه بعد موته، بدليل أنه بادر بعتقه، وهذا القول هو أصح القولين، فمن حق السيد أن يرجع عن عتق عبده قبل موته، ويقوي هذا ما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أعتق مملوكه عن دبر، وكانت به حاجة، فرده النبي صلى الله عليه وسلم وباعه وسد حاجته، فهذا يدل على أنه لو كان التدبير لا يملك فيه الرجوع لما صح بيعهم؛ لأنهم أصبحوا معلقين كأم الولد، وهذا القول -أي: القول بصحة رجوع السيد عن عتقه للمدبر- هو أقوى القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب.
قوله: [وولد الزنا].
ولد الزنا يعتق، وصورة المسألة أن تكون عنده أمة، وتغتصب ويزنى بها فتلد، فهذا الولد للفراش، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش)، ويكون ملكاً لمالك أمه؛ لأن الولد يتبع أمه رقاً وحرية، ففي هذه الحالة إذا ملكه وصارت عليه كفارة ظهار أو قتل وقال: فلان حر فإنه يصح عتقه ويجزيه وإن كان ولد زنا.
والدليل على أنه يصح عتقه ويجزيه أمره سبحانه وتعالى بعتق رقبة، وهذا عام يشمل ولد الزنا وغيره؛ لأن الله لم يشترط أن يكون من نكاح صحيح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أوس رضي الله عنه وأرضاه حينما ظاهر من امرأته: (أتجد رقبة؟)، وقال لـ سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه حينما جامع في نهار رمضان وهو صائم: (أعتق رقبة)، ولم يشترط ألا تكون على فراش الزنا أو غيره.
قوله: [والأحمق].
أي: إذا كان به حمق لأن الحمق لا يمنع العمل ولا يضر به من كل وجه، وهناك منافع في الأعمال التي يقوم بها، وهذا العيب راجع إلى النفس، لكن في البيع ذكرنا أن الحمق وسوء الأخلاق وسوء الطبع يعتبر عيباً موجباً للخيار، وبينا أن الخيار يثبت إذا كان المبيع رقيقاً مملوكاً شديد الحمق ولم يُبَيِّن ذلك لمشتريه، والحمق نوع من الغفلة وذهاب التمييز في الأشياء، والأحمق ناقص الكمال، فيقولون: إن هذا لا يؤثر تأثيراً مضراً بالرقبة، أي: لو كان عنده رقيق أحمق فلا بأس أن يكون كفارة في الظهار.
ويقولون في الأحمق: لا تصاحب أحمقاً؛ فإنه يضرك حيث تظن أنه ينفعك.
فالأحمق عنده قصور في فهم الأشياء واستيعابها والتصرف تصرفاً سليماً يضع فيه الأشياء في مواضعها، فتجده كثيراً ما يأتي بالمشاكل والأضرار على من يملكه، فالرقبة إذا كان فيها حمق صح عتقها؛ لأن هذا لا يضر بالعمل ضرراً بيناً، وهو نقص في الكمال.
لكن الأحمق لو زجرته وأخذته بالقوة يستقيم، فهو عيب لكنه يمكن تداركه، وذكرنا في البيوع أن بعض العيوب تؤثر وبعضها لا تؤثر؛ لأنه يمكن تلافي الضرر الموجود، فالأحمق ليس كالأعمى أو المشلول، فالحمق عيب -كما قلنا- راجع إلى النفوس، وأيضاً لو أعتقه فإن هذا لا يمنعه من عتقه؛ لأن الرقبة ليس بها عيب يضر من ناحية بدنية ولا من ناحية نفسية؛ لأن الحمق نوع من الغفلة تذهب إذا ابتلي بشيء واستضر به مرة أو مرتين ففي الثالثة يتوب، وهذا معروف، فالحمق صفة عارضة، وبعض الأحيان مع شدة الخوف وشدة الأذى والضرر يستقيم أمره، فالناس يختلفون، ومن هنا قالوا: إنه ربما يكون العيب في حق قوم ولا يكون عيباً في حق آخرين، فإذا كان الرقيق أحمقاً فإنه يجزئ عتقه في كفارة الظهار.
قوله: [والمرهون].
أي: يصح عتق المرهون والسبب في ذلك أنه تعارض عندنا حق العتق وحق صاحب الدين، فإذا قال: أعتقت عبدي فلاناً كفارة من ظهار أو قتل فإن العتق قد نفذ ومضى، والعتق أشد من حق الآدمي في الرهن؛ لأن استحقاق صاحب الدين الرهن لعارض قد يزول كما لو سدد المدين، ومن هنا يصحح العلماء العتق، وقد بينا ما الذي يجب في حالة إعتاقه للعبد المرهون، وبينا أنه يطالب بمثله، وقد قلنا هذه المسألة في كتاب الرهن، وبينا أن عتقه لا يخرج المدائن عن المطالبة ببديل عنه يقوم مقامه.
فإذا تعارض ما يمكن تداركه وما لا يمكن تداركه قدم الذي لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه، وتوضيح المسألة أنه إذا ارتكب أمراً يوجب عليه الرقبة، وقال: إن عبدي فلاناً حر، وقصد أن يكون كفارة لظهاره، أو لجماعه في نهار رمضان، وكان مرهوناً، فإن فوات يد الرهن على الرقيق يمكن تعويضها بمال آخر يقوم مقامه، لكن العتق لا يمكن تعويضه، ولذلك في كثير من المسائل إذا أعتق مضى عليه؛ لدلالة قوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: العتاق والطلاق والنكاح)، فالعتق أمره عظيم في الشرع، ولذلك لو قال لعبده -وهو يمزح-: أنت حر، م قال: ما قصدت أنه حر نقول: لزمك العتق؛ لأن جده جد وهزله جد.
فهذا يدل على أن العتق أقوى من الرهن، فحينئذٍ إذا أعتق رقبة مرهونة فإنه يصحح العتق، ويلزم بضمان الرهن.
قوله: [والجاني].
الجاني: مأخوذ من الجناية.
والعبد إذا جنى فالجناية تكون في رقبته، فلو أنه أعتقه لا يخلصه من الجناية، سواء أكانت قصاصاً أم مالاً، فيتحمل مسئولية ذلك ويصح العتق، وهذا لا يؤثر، فدخول الضمان بالجناية لا يمنع صحة العتق وإجزائه.
قوله: [والأمة الحامل ولو استثني حملها].
أي: ويصح عتق الأمة الحامل ولو استثنى حملها، وصورة المسألة: إذا ظاهر ووجبت عليه كفارة وعنده أمة حامل، فأعتقها كفارة لظهاره واستثنى فقال: هي حرة إلا جنينها، فقال بعض العلماء: يبطل عتقها.
ويراه من الأمور التي لا تصح في عتق الكفارات، وأنه يجب عليه أن يستبدل، فإما أن يعتق الكل أو يترك الكل، وليس عندهم استثناء في هذه الحالة.
ومن أهل العلم من قال: يصح عتقها، ويصح الاستثناء، ومنهم من قال: يصح عتقها ويبطل الاستثناء، فهذه أوجه عند العلماء رحمهم الله فيها، والأقوى أنه لو استثنى الجنين وقال: هي حرة إلا جنينها فإنه يقوى القول بصحة العتق وإجزائه، والاستثناء معتبر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن لك على ربك ما اشترطتي)، فهذا اشترط واستثنى، وقياسه على البيع فيه علة ليست موجودة في الظهار، فنصححه في عتق الظهار، ولا نصححه في البيع.(318/6)
الأسئلة(318/7)
إعتاق العبد المدبر
السؤال
هل المدبر يعتق فوراً عند وفاة سيده، أم ينظر هل يجاوز الثلث أم لا؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسألة مفرعة على الحديث الذي تقدم معنا وبيناه، وذكرنا أن مسألة الثلث مؤثرة في الأموال، لكن المدبر خارج عن هذا، فمن أعتق عن دبر؛ فإنه يلزم الورثة بعتق مورثهم عند وفاة المورث، فعند وفاته يحكم بحريته، وتسري عليه أحكام الحر سواء بسواء.
والله تعالى أعلم.(318/8)
حكم إقامة الحد على الحر لكونه ارتكب جناية في فترة رقه
السؤال
العبد المملوك لو ارتكب جناية ثم أعتق هل يقام عليه الحد بصفته الماضية أم الحالية؟
الجواب
هذه مسألة لها نظائر، ففي بعض الأحيان الشريعة تنظر إلى حاله وقت الجناية لا إلى حاله وقت الاستيفاء والقصاص، وفي بعض الأحيان يكون الحكم بحال الشخص عند القصاص أو عند إقامة الحد عليه، ولها نظائر كثيرة، منها: لو أنه زنا -والعياذ بالله- ثم جن ففي هذه الحالة سقط عنه؛ لأنه أصبح غير مكلف، وإن كان في الأصل أنه زنى، وهذا يوجب عليه أن يقام عليه الحد، لكنه بجنونه منع من استيفائه.
ومنها ما لو كان -مثلاً- في أول الحال -أعني حال الجناية- ثم انتقل إلى صفة لا يؤاخذ بها عند إرادة القصاص منه.
وكذلك لها نظائر في الحقوق الأخرى، كالحقوق المالية، والحقوق الشخصية الاعتبارية، فيختلف حال الإنسان من حالة إلى حالة، وهل ينظر إلى الابتداء أو إلى المآل؟ وفي مسألتنا عند الاستيفاء لا شك أنه يقوى -وسيأتينا إن شاء الله في كتاب الجنايات- النظر إلى حاله عند تنفيذ الحكم عليه فيؤاخذ ويلزم به.
والله تعالى أعلم.(318/9)
حكم إعتاق العبد إذا كان معيباً في غير موضع الضرر كمشلول الرجلين لمن حرفته بيده
السؤال
العبد إذا كانت منفعته توجد في غير موضع الضرر، كأقطع الرجل لمن حرفته بيده هل يجزئ في الكفارة؟
الجواب
لا يصح ذلك العبد أن يكون كفارة للمظاهر وغيره، وأحياناً قد يكون المشلول من أشد خلق الله عز وجل ذكاءً، ومن حكمة الله تعالى أنه لا يأخذ شيئاً -خاصة من المؤمن- إلا عوضه خيراً منه، فليست القضية أنه يمكن التعويض، وإنما النظر إلى الحال، فاليد إذا ذهبت أثرت، بغض النظر عن كونه يستطيع أن يفعل باليد الثانية ما لا يفعله صاحب اليدين، وهذا موجود، وبعض الناس يكون أقطع اليسرى ولكن يده اليمنى السليمة يفعل بها ما لا يفعله صاحب اليدين، وبعض الناس يكون به عيب في عضو وهو معوض في عضو آخر بأشياء أفضل، وهذا لا ينظر إليه، وإنما ينظر إلى الشخص من حيث هو، فأي ضرر يتعلق بعضو -بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له- فإن هذا في الأصل العام والقاعدة العامة أنه يمنع، فأقطع اليد منع من منفعة يده المقطوعة، وأقطع الرجل منع من منفعة رجله المقطوعة، فحينئذٍ يحكم بكونه ضرراً بيناً، بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له، وهذا كله لا يلتفت إليه، وإنما قد يلتفت إليه في التعويضات، وفي الأروش، وفي مسائل الجنايات.
وهنا مسألة أخرى، فلو أنه -والعياذ بالله- أتلف عين الأعور -وهي عين واحدة- يثبت عليه أداء دية كاملة؛ لأن منفعتها في الأصل منفعة العينين، فهذه أمور مستثناة لا علاقة لها بمسألتنا، وإنما مسألتنا في النظر الغالب أن ذهاب العضو كاملاً، أو الجزء -على التفصيل الذي ذكرناه- مؤثر ومضر بالعمل ضرراً بيناً، بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له.
وقد تجد الرجل فيه آفة في عضو واحد تعطله عن الأعمال، فلا يستطيع أن يقدم أو يؤخر من أموره شيئاً، والعكس، فقد تجد شخصاً عنده أربع آفات في أربعة مواضع، ومع ذلك يفعل أشياء قد لا يستطيعها من كملت أعضاؤه، فهذه أمور لا يلتفت إليها، وإنما يلتفت إلى النظر الغالب، والشريعة تنظر إلى الغالب، ولذلك حينما حكمت الشريعة بجواز الفطر في السفر؛ فلأن الغالب في السفر المشقة، لكن لا يمنع أن تسافر في طائرة وأنت مستريح، ولا يمنع أن يسافر الغني الثري وهو في راحة واستجمام، أو يسافر الشخص المتعود على الأسفار ولا يجد تعباً، أو يسافر الشخص الذي هو في قوة وجلد وعنده صحة وعافية لا يتضرر بمشقة السفر، فهذه كلها أمور مستثناة وأمور نادرة، والشريعة لا تلتفت إليها.
وكذلك -أيضاً-: تحرم الشريعة لمس المرأة الأجنبية ومصافحتها، وقد تجد في الرجل من الإيمان بالله وخوف الله عز وجل ما لا يلتفت معه إلى امرأة حتى ولو صافحها، فلا يجد شهوة ولا يلتفت إليها، لكن هذا لا يلتفت إليه؛ لأن الشريعة لا تنظر إلى الأفراد، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام كلام في هذه المسألة قرره عند كلامه على مسألة الظنون المرجوحة، وبعض العلماء يسمونها المرجوحة أو الفاسدة أو الموهومة، وهي التي تأتي على الأحوال النادرة والقليلة، وإنما جعلت الشريعة الحكم للغالب، ففي هذه الحالة إذا كان مقطوع اليد فإنه في الأصل تعطلت مصالح ذلك العضو، بغض النظر عن كونه في بعض الأحيان يعوض، أو يفعل ما لا يستطيع أن يفعله من عنده العضو كاملاً.(318/10)
حكم انقطاع الصفوف في الصلاة وعدم اتصال خارج المسجد بداخله
السؤال
ما حكم انقطاع الصفوف في الصلاة، حيث إن يوم الجمعة يصلي بعض الناس خارج المسجد، والصفوف غير متصلة؟
الجواب
السنة إتمام الصفوف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول فالأول)، فالواجب على المصلين أن يتموا الصفوف الأول فالأول، سواء أكان داخل المسجد أم خارجه، ومن قصر في إتمام الصف الذي أمامه فإنه يأثم ويتحمل وزره في عدم إتمام الصف الذي يجب عليه إتمامه، سواء أكان ذلك داخل المساجد أم خارجها، وعلى طلاب العلم أن ينصحوا الناس، وأن يعلموهم، وأن يوجهوهم، وأن يعذروا إلى الله ببيان هذه السنة لهم.
والله تعالى أعلم.(318/11)
حكم زيادة ركعة في الصلاة سهواً
السؤال
صليت صلاة العشاء.
فأشكل علي كم بقي علي من الركعات، فزدت ركعة، وبعد الصلاة تأكدت من أني صليت خمس ركعات، فماذا علي؟
الجواب
تسجد سجدتين بعد السلام؛ لأن القاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه)، وقد بان لك أنك أخطأت فزدت في صلاتك، فأنت معذور بهذه الزيادة؛ لأنك بنيتها على ظن صحيح؛ لأن الأصل شرعاً أنك تبني على الأقل؛ لحديث أبي سعيد الخدري: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة)، وكذلك حديث ابن عباس في صحيح مسلم: (إذا صلى أحدكم فلم يدر أواحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن أثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم).
فأنت في هذه الصورة لك حالتان: الحالة الأولى: ألا تستيقن، أو لم ينكشف لك الحال قبل السلام، فإذا لم ينكشف لك الحال قبل السلام فتسجد سجدتين قبل السلام، وذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاتان السجدتان تسميان سجدتي الشك، فأنت لا تدري هل أنت زائد في صلاتك، أو صلاتك تامة، ففي هذه الحالة تسجد سجدتين في حالة الشك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان الذي صلاه أربعاً فالسجدتان ترغيم للشيطان، وإن كان الذي صلاه خمساً فالسجدتان تشفعانها)، ففي هذه الحالة إذا لم تعرف قبل السلام وسجدت السجدتين فإنك لا تسجد بعد السلام، ولو تبين لك أنت زدت، أما إذا تبين قبل السلام أنك زدت فتسلم ثم تسجد بعد سلامك؛ لأنك تحققت من الزيادة في صلاتك، والله تعالى أعلم.(318/12)
إذا كانت المرأة حائضاً ومرت من الميقات ولم تحرم
السؤال
أنا من بلاد الشام سافرت إلى الرياض فمكثت فيها بضعة أيام، ثم أتيت مكة محرماً، أنا وزوجتي، وكانت حائضاً، ثم عندما تطهرت ذهبنا إلى التنعيم وأحرمنا من هناك، وهل هذا جائز، أم علينا الرجوع إلى ميقات أهل الرياض؟
الجواب
يلزمكم الرجوع إلى ميقات الرياض، وكان من السنة أنك إذا مررت ومعك الأهل في حال العذر أن يغتسل الأهل في الميقات، ثم يحرمون بعد الاغتسال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس رضي الله عنها -وهي زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما نفست بـ محمد بن أبي بكر الصديق في البيداء- أن تغتسل وتهل، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (مرها فلتغتسل ثم لتهل)، فمن جاء ومعه نسوة إلى الميقات وهن معذورات يحرم ويلبي، ويحرم النسوة ويلبين، ثم يمضين ولا يفعلن العمرة حتى يطهرن، فإذا تطهرن فإنهن يقمن بأداء العمرة.
وأما إذا جئتِ ودخلتِ مكة وجلست فيها، وبعد ذلك أردتِ بعد أن طهرت أن تأتي بالعمرة، فإنه يجب عليكِ الخروج إلى الميقات؛ لأنكِ مررت بالميقات أولاً ناوية العمرة، وقد أمر الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كل من مر بهذه المواقيت وعنده نية العمرة أو الحج أن يحرم منها، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)، فأنت كان يجب عليك أن تذهبي إلى ميقاتك، أما وقد أحرمت من التنعيم فإن التنعيم ميقاتك إذا أنشأت النية من مكة، أما وقد أنشأت النية خارج مكة فيلزمك الإحرام من موضعك الذي أنشأت فيه، وعليك دم، وعلى الزوج أيضاً دم، وإن كان معكم رفقة آخرون فإنه يجب عليهم الدم إذا فعلوا كفعلكم.
والله تعالى أعلم.(318/13)
حكم ترك بعض الصلوات عمداً بسبب المرض
السؤال
مرض شخص في رمضان، فأجرى عملية استلزمت إفطاره خمسة أيام، وترك الصلاة في هذه الأيام الخمسة بأمر الأطباء، فهل عليه قضاؤها مثل قضاء الصيام؟
الجواب
الأطباء ليس لهم علاقة بالشرع، فكيف أصبحت الصلوات تترك بأقوال الأطباء؟! فالأطباء يتكلمون في الأمور الشرعية، ولهم الحق أن ينصحوا المريض في الركوع والسجود، فيقولون: لا تحنِ.
لا تفعل.
في أمور تضر به، أما أن يقولوا له: اترك الصلاة فهذا ليس من حقهم أبداً، وليس من شأنهم، فعلى المسلم أن ينزل المسائل الشرعية على أهل العلم، وأن يأخذ من الأطباء الثقات ما اتفقوا عليه، أو غلب على ظنونهم أنه يجب على المريض أن يفعله أو يتركه.
وبناءً على ذلك فإنه إذا تعذر عليك في حال العملية الجراحية، أو كنت بحالة لا تستطيع معها القيام ولا القعود ولا الركوع ولا السجود فينبغي أن تصلي على فراشك، وعلى أي حالة كنت، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
وقد جاء عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه ما يجده من البواسير، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فتصلي على حالتك، ولست بمعذور في ترك الصلاة.
وبناء على ذلك يجب عليك قضاء هذه الصلوات كاملة، ويأثم مَن أخذ العلم الشرعي من غير أهله، حتى ولو من أنصاف المتعلمين، أو ممن هم ليسوا بأهل للفتوى، ولا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسأل ويستفتي، ولا أن يأخذ حكماً شرعياً إلا ممن يوثق بعلمه ودينه وأمانته، وهذا شيء نعذر إلى الله منه، وهذا الذي نجده في زماننا من تكالب الناس على الفتوى وسهولة القول على الله بدون علم -نسأل الله السلامة والعافية- أمر منكر عظيم، وتنقض به عرى الإسلام عروة عروة، فالعلم له أهله، والوحي له من المؤتمنين عليه من الأنبياء وورثة الأنبياء من العلماء العاملين والأئمة المهتدين المهديين الذين هداهم الله وهدى بهم، فلا يجوز لمسلم أن يقدم على أي أمر من أمور عبادته أو معاملته بناء على كلام الناس، ولو كان أرفع الناس كلاماً، إنما يتخذ من يثق بدينه وعلمه وأمانته حجة بينه وبين الله عز وجل، فإذا وقف بين يدي الله وقال له: لم أحللت هذا ولم حرمته؟ قال: أفتاني فلان أنه حلال، وأفتاني فلان أنه حرام، وعندها يكون فلان أهلاً للحجة بين يدي الله.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله.
فمن أحب أن يقف بين يدي الله وحجته العلماء الذين أمر أن يرجع إليهم فليفعل، ومن أراد أن يكون حجته من لا عذر له بين يدي الله عز وجل فليفعل، فإنما هي النار فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر، فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يخشى الله سبحانه وتعالى، وأن يراقب الله عز وجل في هذه الأمور، وألا يتساهل فيها، خاصة في المجالس.
ومن الغش أن يكون معك أولادك، أو معك إخوانك -خاصة إذا كنت من طلاب العلم-، وتأتي إلى شخص تعلم أنه ليس أهلاً للفتوى فتسأله، ومن سأل شخصاً لا يوثق بعلمه وجاء أحد واغتر بسؤاله فإنه يحمل وزر نفسه ووزر من سأله، حتى قال العلماء رحمهم الله: من سأل جاهلاً وهو يعلم بجهله، أو يعلم أنه ليس بأهل للسؤال فأفتى بدون علم فعليه مثل وزره؛ لأنه هو الذي أعانه على ذلك، فلا يجوز تكثير سواد الجهال، ولا يجوز إنزال المسائل إلا بالعلماء الذين يوثق بدينهم وعلمهم وأمانتهم.
ولو أن الناس أنزلوا الفتاوى بأهلها وبمن يوثق بدينه وعلمه لارتاح الناس في كثير من الأمور، ولاستقام أمر الأمة، ولكن إلى الله المشتكى، قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء).
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ولايتنا واهتداءنا بالأئمة الهداة المهتدين الذين جعلهم الله هداة مهتدين يقومون بالحق وبه يعملون.
والله تعالى أعلم.(318/14)
تفسير قول الصحابي: (أجعل لك صلاتي كلها)
السؤال
قول الصحابي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أجعل لك صلاتي كلها)، هل معناه ترك الدعاء مطلقاً، وجعل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بدل الدعاء؟
الجواب
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القربات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وقد أحب الله هذا النبي الكريم محبة جليلة كريمة، أحبه الله فجعله رحمة للعالمين، وأحبه فجعله سيد الأولين والآخرين، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وأحبه فصلى عليه من فوق سبع سماوات، وأمر بالصلاة والسلام عليه المؤمنين والمؤمنات، وصلى على من صلى عليه عشر مرات، وأحبه الله وشرفه وكرمه، وقد أقسم أنه بالليل والنهار، وبالعشى والإبكار فقال تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1 - 5]، فهو مقام ما بلغه أحد، وهذا المقام ما بلغه نبي مرسل قبله عليه الصلاة والسلام، وهذا من أجل النعم، ولذلك فتح له فتحاً مبيناً، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأتم نعمته عليه وهداه صراطاً مستقيماً، فهو مقام أعطاه الله عز وجل هذا النبي الكريم ليس في الدنيا فحسب، بل في الدنيا والآخرة، وانظر كيف أن الخلائق تحشر فيجعل الله عز وجل له ذلك المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، فيسجد فيقال له: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ولعظيم حقه على الأمة أمر الله الأمة بالصلاة والسلام عليه تشريفاً له وتكريماً، فصلى الله عليه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، فمحبته كثرة الصلاة والسلام عليه عليه الصلاة والسلام، وكان بعض السلف إذا ذكر الحديث تغرورق عيناه من الدمع وهو يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: فضل الله أهل الحديث بكثرة الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذه من أجل القربات وأحب الطاعات، وللأسف أنها تركت عند كثير من أهل السنة إلا من رحم الله، بل أحياناً تجد الشخص إذا سمع شخصاً يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وضع عليه علامة استفهام، مع أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القربات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة صلى الله عليه بها عشراً، فتأمل ماذا يكون في العشر مرات التي يصلي بها، ثم انظر كيف فضله الله وشرفه، فما جعل الشخص يصلي عليه مباشرة، ولكن جعلك تدعو الله وتسأل الله أن يصلي عليه، وتقول: اللهم صل عليه، وهذا فضل من الله شرف به هذا النبي الكريم، حتى إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (ما أرى ربك إلا يسعى فيما يرضيك).
وهذه كلمة عظيمة جداً، فقد عاشت معه عليه السلام ورأت أحواله، ورأت كيف يكرمه ربه ويشرفه، ففي عام الحزن ينكسر قلبه صلوات الله وسلامه عليه فيجبر الله كسره، ويعظم أمره، فيسري به ليلة من الليالي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ويفضله على الأنبياء، ويقدمه على الأصفياء الأتقياء، ثم يرفعه إلى أطباق السماوات السبع الأولى إلى سدرة المنتهى، قال تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:16 - 18] وأي مقام أرفع من مقام أعطاه له الله سبحانه وتعالى!! وأي مقام أعلى من مقام بلغه عليه الصلاة والسلام من حب ربه له، والمحبة التي وضعها بين عباده سبحانه وتعالى لهذا النبي الكريم.
فحقه كبير، فعلينا أن نكثر من الصلاة والسلام عليه، وخاصة يوم الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال: (فأكثروا علي من الصلاة فيه)، وكان بعض العلماء يقول: إن على الإنسان أن يستحيي؛ لأن الحديث يقول: (فإن صلاتكم معروضة علي)، فالإنسان ينظر إلى صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الإنسان يوم الجمعة قد لا يصلي عليه إلا نزراً قليلاً، فالإنسان يتفكر ويتدبر ويتشرف بالإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي من أجل القربات وأحبها إلى الله.
وحديث كعب رضي الله عنه هذا من أقوى الدلائل -وحسنه غير واحد من العلماء- على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك تجد المكثرين من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنالهم بركة ذلك، وهذا أمر لمسناه ووجدناه، فما وجدنا محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم صادق المحبة مكثراً للصلاة والسلام عليه إلا وجدنا أشرح صدراً، وأثبت جناناً وقلباً، وأشرق وجهاً ونوراً، فتجد عليه نور الطاعة والخير؛ لأنها من أجل الطاعات بعد القرآن، وبعد قول: (لا إله إلا الله)، وليس هناك أشرف ولا أفضل بعد القرآن والباقيات الصالحات من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي قربة للعبد ووسيلة له بين يدي الله، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، فهي عمل صالح وقربة إلى الله عز وجل، وطلاب العلم ينبغي عليهم أن يكثروا من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد وفق، ويحبه الله عز وجل؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن لا يعطي الدين إلا من أحب، فهذه الخصلة العظيمة الكريمة الشريفة -وهي الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم- فيها وفاء لحقه عليه الصلاة والسلام، فهو صلى الله عليه وسلم الذي حمل هم وغم الأمة كلها، ويشهد الله من فوق سبع سماوات أنه كان حريصاً عليها، حيث قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فهو عزيز عليه عنتكم، ويشهد الله له بفضله.
وانظر إلى رحمته عليه الصلاة والسلام حينما اغتم يوماً من الأيام واهتم؛ لأن الله كشف له ما يكون لأمته من الفتن التي تكون في آخر الزمان فأهمه وأغمه، فاشتكى ذلك إلى الله، فأرسل الله إليه جبريل -والله أعلم بما قال وما يقول- فقال: (أقرئ محمداً مني السلام، وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك أبداً)، فهذا وعد من الله سبحانه وتعالى، وهو يقول سبحانه: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1 - 5]، فهو مقام عظيم لمن ملأ الله قلبه شفقة على هذه الأمة، فرحم هذه الأمة كباراً وصغاراً، وشباباً وشيباً وأطفالاً، ورحم الصغير حتى كان إذا صلى فسمع بكاءه خفف الصلاة صلوات الله وسلامه عليه، ورحم الصغير إذا امتطى ظهره فكان لا يزعجه وهو على ظهره، ورحم الصغير وهو يمر عليه ويسلم تواضعاً منه وكرماً صلوات الله وسلامه عليه، ورحم الكبير، ورحم النساء، ورحم الرجال، وذلك كله بفضل الله وحده لا شريك له.
فالذي يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتأمل آيات القرآن والأحاديث الصحيحة التي فُضل بها عليه الصلاة والسلام على غيره من الأنبياء، وفُضل بها على غيره من ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه يعرف حينما يقول: (اللهم صل على محمد) من هو هذا النبي الكريم الذي يصلي عليه، فتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تستشعر منزلته ومكانته، ولا تترك هذه السنن لمن لا يحسن التعامل مع هذه النصوص، ولذلك هجر بعض طلاب العلم ذلك -أصلحهم الله- حتى استغله من يغلو ومن يجهل، بل ينبغي على أهل السنة أن يكونوا أحرص على ذلك، فقد كان الإمام مالك رحمه الله لا يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا طيب مجلسه، وكان إذا جاءه الناس يقرعون بابه تسأل الخادمة والأمة: أتريدون الفتوى والفقه؟ فإن قالوا: نريد الفتوى والفقه خرج إليهم، أو جلس لهم وأفتاهم، فإذا قالوا: نريد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطيب وتوضأ وجلس على أريكة لا يجلس عليها إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إجلالاً وإكراماً لهذا الحديث.
وخرج ذات يوم فسأله أحد طلابه عن حديث فقال: ما كنت أظنك بهذه المنزلة أتسألني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تمشي! إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيريد أن يحدث على أجمل وأطيب الحالات توقيراً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالواجب علينا محبته عليه الصلاة والسلام محبة صادقة في قلوبنا، ومحبة صادقة في أقوالنا وأفعالنا تدعونا إلى الاتباع، فالمحبة شيء والاتباع شيء آخر، فإن المحبة تعين على الاتباع، فهناك فرق بين المحبة والاتباع، لكن المحبة الصادقة أن تتبع، أما نقول: المحبة هي الاتباع من كل وجه فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يعمل بعملهم -أي: لم يحصل منه الاتباع الكامل- فقال له: أنت مع من أحببت)، فأثبت المحبة، والمحبة شعور في القلب، وكان الصحابة رضي الله عنهم يحبونه حباً أعز من أنفسهم التي بين جنوبهم، وهذا أمر فطري جبلي، وهو أن يكون عند الإنسان شعور هذا النبي الكريم، وأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإجلال، ومن ذلك أن نكثر الصلاة والسلام عليه.
ومعنى الحديث أن يكثر من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في أحواله، أي: يصبح يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويختار هذا الذكر الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه، فيجعل له صلاته كلها، فمن المعروف أن الشرع خير المسلم بين الأذكار والطاعات، فمن اختار الصلاة على النبي صلى(318/15)
حكم من حلف على شيء أن لا يفعله ثم فعله ناسياً
السؤال
إذا حلف شخص على عدم فعل أمر معين ثم فعله ناسياً فهل عليه كفارة؟
الجواب
اختلف العلماء في هذه المسألة، فمن أهل العلم من يقول: إن الناسي غير مكلف، فإذا حلف على شيء لا يفعله، أو على شيء أن يفعله، ثم نسي فلم يفعل أو فعل فإنه لا كفارة عليه.
لأنهم يرون أنه غير مكلف، فحينئذٍ لا يعتبر منه ذلك التقصير إخلالاً.
ومن أهل العلم من قال: إن النسيان يسقط الإثم ويسقط الحرج، ولكنه لا يسقط الضمان، فيجب عليه أن يكفر.
وهذا القول أحوط، والقول الأول أقوى من حيث الأصل.
والله تعالى أعلم.(318/16)
حكم الإنفاق على الزوجة حال نشوزها
السؤال
إذا خرجت المرأة من بيتها مع أولادها إلى بيت أهلها بدون إذن زوجها وعلمه طالبة الطلاق، والزوج لا يرغب في تطليقها فهل يلزمه الإنفاق عليها وعلى الأولاد فترة مكوثها ببيت أهلها؟
الجواب
هذا السؤال فيه تفصيل، وفيه أمور: الأمر الأول: على كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تعلم أن حق الزوج عظيم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزوج للمرأة جنة وناراً، فهو جنة إذا اتقت الله، ونارٌ إذا اعتدت حدود الله عز وجل.
الأمر الثاني: أنه ينبغي أن تعلم أنه لا يجوز لها أن تخرج من بيت الزوجية إلا بإذنه، فإذا أذن لها بالخروج خرجت، وإذا لم يأذن تبقى في بيت الزوجية.
وإذا حدثت مشاكل فلا يخلو الأمر من حالتين: الحالة الأولى: أن يمكنها أن تبقى في البيت مع وجود هذه المشاكل حتى يأتي وليها ويتفاهم مع الزوج، فلا يحل لها أن تخرج.
والحالة الثانية: أن يكون بقاؤها فيه خطر، كأن يكون زوجها مبتلى بالسكر، أو مبتلى بأشياء يخشى معها أن يقتلها أو يفعل بها أمراً يضرها أو يضر أولادها، وهذه حالات استثنائية، ويجوز لها أن تخرج من بيت الزوجية ولو لم يأذن لها الزوج.
أما أن تخرج كلما حدثت مشكلة وتذهب إلى أبيها أو أمها فلا، وهذا ليس من حقها، ولا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية، ولا يجوز للأب ولا للأم ولا للقريب أن يعينها على هذا المنكر، والمرأة لا يجوز لها الخروج من بيت زوجها إلا بإذن، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فليأذن لها)، فالأصل أن النساء عليهن السمع والطاعة للزوج في الخروج، فإذا حدثت المشاكل فالله جعل لكل شيء قدراً، وجعل للمشاكل طرقاً تحل بها، أما أن تذهب وتركب رأسها وتجلس عند أبيها وأمها بسبب مشكلة ما، فلا.
وليس من العدل ولا من الإنصاف أن الزوج يدفع المهر، ويتكفل ببيت وبأسرة، ثم تأتي المرأة عند أمور معينة لتخرج من البيت، ولذلك أجاز الله عز وجل له أخذ ما أنفقه على زوجته -المهر- إذا شاءت أن تخالعه إذا لم يكن هناك موجب للطلاق.
أما إذا ظلمها الزوج وآذاها وأضر بها فهذا على أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الضرر مما يمكن الصبر عليه، فتحتسب الثواب، وترجو عند الله حسن العاقبة والمآب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فإن استعانت بربها جبر كسرها وعوضها خيراً مما ذهب عنها، فإذا كانت المشاكل يمكن الصبر عليها من سوء في خلقه وسب وشتم فإن الله عز وجل لا يضيع أجر الصابرين، والله مع الصابرين، فالله معها ويؤيدها ويثبتها ويكفر خطيئاتها بهذا البلاء، ويرفع درجتها، فهذه نعمة عظيمة للمرأة المؤمنة، فتمضي عليها الأيام تلو الأيام، وتغيب عليها شمس اليوم وهي تؤذى في الله عز وجل، وتهان وتذل وهي صابرة لوجه الله عز وجل، فعندها يعظم أجرها وتحسن العاقبة لها، فكم من امرأة أذلها زوجها فأعزها الله في نفسها وأولادها، وجعل الله لها الخلف، فالأمور بالعواقب، فكم من امرأة بكت في أول حياتها وشقيت وتأذت وتضررت من زوجها فأقر الله عينها في آخر عمرها بذريتها، فتوفي عنها زوجها وبقي لها أولادها كخير ولد لوالدته، فعوض الله صبرها وجبر كسرها وأحسن العاقبة لها.
ومن قرأ في أخبار الناس وأحوالهم يجد ذلك جلياً، فهذا شيء نشهد به لله عز وجل، فلا أحد أحسن وفاءً ولا أكرم من الله سبحانه وتعالى، وكم من امرأة تقدم لزوجها وتضحي لبعلها فلا تجد لساناً شاكراً، ولا تجد قلباً معترفاً بالجميل، ولكن الله سبحانه وتعالى يحسن لها الخلف في دينها ودنياها وآخرتها.
فإذا كانت المشاكل يمكن الصبر عليها فلا بأس أن تتحمل والله معها، وكل أمة تؤمن بالله واليوم الآخر تعلم علم اليقين أن الدار الدنيا دار هم وغم وكرب، لا سرور فيها للمؤمن إلا بطاعة الله عز وجل، وتأمل في الحياة كلها، وانظر عن يمينك وشمالك، ومن أمامك وخلفك، ومن فوقك وتحتك، وابحث عن شيء يسرك، فلن تجد إلا ذكر الله وما والاه.
والدنيا ما سميت دنيا إلا لدناءتها، وما سميت دنيا إلا لكفران الحق فيها، فالحق باطل والباطل حق، والخير شر والشر خير، وكل هذا من دناءة الدنيا، وهي سجن المؤمن، ولتعلم المرأة علم اليقين أنها حيثما ذهبت وولت ستبتلى من الله عز وجل، فإذا سلمت من بيت زوجها وخرجت من بيت الزوجية يسلط عليها إخوانها وأخواتها يؤذونها في بيت أبيها، وإن سلمت من إخوانها وأخواتها لم تسلم من كلام الناس، ولم تسلم من قرابة زوجها، ولم تسلم من صويحباتها، فعليها أن تتأمل، وأن تنظر أين الثواب العظيم وأين الجزاء الكبير، فتصبر وتحتسب، وهذا إذا أمكنها الصبر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وأما كيف نصير فالمرأة تعطى قوة من الله بالتصبر، ففرق بين الصبر والتصبر، فالتصبر فوق الصبر؛ لأن الصابر قد ألف سجية الصبر واعتادها ودأبها، لكن التصبر والتحمل والضغط على النفس هذا هو الذي يعلو به الإنسان إلى الكمالات، وهذا التصبر يحتاج إلى معاملة مع الله عز وجل، وأن يكون قلبك مع الله، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا ألذ عيشنا بالصبر.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه من يتصبر يصبره الله)، فالمرأة إذا أرادت أن تصبر على زوجها جاء الشيطان وقال لها: كيف تصبرين وقد قال؟ وكيف تصبرين وقد فعل؟ وكيف تصبرين وقد حصل؟ فتتصبر وتقول: الله يهديه.
وهذا من أجمل وأكمل ما يكون من المرأة المسلمة، فتقابل الإساءة بالإحسان، وتقابل الذنب بالصفح والغفران، وتدعو لزوجها وتدعو لبعلها، فإذا بالشيطان ينخنس، وإذا بذاك البيت المملوء بالمشاكل يعود أنواراً وخيراً وبركة على أمة الله المؤمنة لصبرها وفضل الله عز وجل عليها.
فهي أمة تجدها لله قانتة صابرة، تضايق وتؤذى وتضطهد وهي جالسة في بيتها، ومع ذلك قل أن تجدها تشتكي لأبيها أو أمها أو أخيها؛ لأن قلبها مع الله، وكل يوم تؤذى بصنوف البلاء، وإذا بها تعطى درجة في كل يوم خيراً مما كانت فيه بالأمس، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، فهذا وعد من الله عز وجل.
فإن كانت المشاكل مما يسع الصبر عليها فلا تخرج.
الحالة الثانية: إذا كانت المشاكل مما لا يمكن الصبر عليها، وكانت قد بلغت حدوداً لا تستطيع المرأة أن تتحملها، أو بلغت حدوداً فيها إضرار بأولادها وذريتها فالله عز وجل يقول: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130]، فالله عز وجل يعد بحسن الخلف إذا فارقت زوجها إذا كان الأمر وصل إلى درجة يشرع فيها طلب الطلاق.
فبعد أن تستنفد جميع الوسائل الشرعية لإصلاح الزوج وإصلاح بيت الزوجية تستخير الله عز وجل، فلا تطلب الطلاق حتى تستخير ربها: هل الخيرة أن تطلب الطلاق أو لا تطلبه فإن كان انشرح صدرها واطمأن قلبها فتُقْدِم عليه، وقبلما تستخير، وقبلما تسأل الله عز وجل الخيرة عليها أن ترجع إلى العقلاء من العلماء والفضلاء، فتستشير من تثق بدينه وأمانته من أهل العلم، وكذلك من أهل العقل والحجا فتسألهم، حتى النساء من صويحباتها، فإذا استبان أنه لا بد من الفراق، وأن المصلحة في الفراق، واستخارت وانشرح صدرها تواجه زوجها به إن كانت المواجهة تحقق المصلحة وتدر المفسدة، وإن كانت المواجهة تحدث مشاكل، أو تحدث ضرراً، ولربما تتفاقم الأمور أكثر فحينئذٍ تنظر إلى الأعقل والأرشد والأقوى، فتنظر إلى قوي أمين من قرابتها، فإن لم تجد قوياً أميناً من والديها، ولم تجد قوياً أميناً من إخوانها وقرابتها تنظر إلى القوي الأمين في عشيرتها وجماعتها، وتنزل الأمر به، وإخوانها وقرابتها عليهم أن يعينوها، وأن يتقوا الله عز وجل في ذلك إذا رأوا أن الحق معها، ثم تطلب الطلاق.
وهذا هو الأمثل، فتخرج من بيت الزوجية بالطريقة الشرعية.
أما أن تخرج قبل الطلاق وتجلس في بيت أبيها فكيف ستعتد عدة الطلاق؟ وكيف ستقوم بالأمور التي أوجب الله عز وجل على المطلقة أن تقوم بها من بقائها في بيت الزوجية؟! فعلى النساء أن يتقين الله عز وجل، وأن يأخذن بهذا الأصل الشرعي، فلا يطلب الطلاق إلا من ضرورة، والأصل أن تصبر المؤمنة وأن تتحمل، وإذا طلبت الطلاق بمسوغ شرعي فإنه لا بأس عليها ولا حرج.
أما لو أن المرأة ظلمت وجارت وخرجت من بيت الزوجية فتعدت حدود الله عز وجل وتعالت على زوجها وطلبت الطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غيرما بأس فالجنة عليها حرام)، نسأل الله السلامة والعافية، فهذا أمر عظيم، وعلى المرأة أن تتقي الله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا من جميع أمورنا فرجاً ومخرجاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(318/17)
شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [6]
أوجب الله سبحانه وتعالى عقوبات وكفارات لمن اجترأ على حدوده، ومن تلك الكفارات كفارة الظهار المغلظة، وقد بين ربنا تبارك وتعالى في محكم التنزيل ترتيب تلك الكفارات، فشرع بدايةً في عتق الرقبة، ثم صيام شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكيناً.
وقد تدارس العلماء أحكام تلك الكفارات وأنواعها، ووضحوا كثيراً من الأمور التي يحتاجها الناس في أداء الكفارات، ومن ذلك: اشتراط التتابع في الصيام، وذكر الأمور والأعذار التي لا توجب استئناف الصيام بل رخص فيها الشارع، وحكم تبييت النية للصيام، وحكم مجامعة الزوجة المظاهر منها ليلاً، وذكر الأمور المنبغي مراعاتها في كفارة الإطعام والمجزئ في ذلك.(319/1)
اشتراط التتابع في كفارة الصيام لشهرين متتابعين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: يجب التتابع في الصوم] يبدأ المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الخصلة الثانية من خصال كفارة الظهار، وهي التي أوجبها الله عز وجل على من عجز عن إعتاق الرقبة، وهذه الخصلة هي صيام شهرين متتابعين، ولهذا الصوم أحكام، لذا قال رحمه الله: [فصلٌ: يجب التتابع].
فمن أحكام هذا الصوم: أنه يجب على المكفِّر أن يصوم شهرين متتابعين، والتتابع المراد به الموالاة، فلا يفصل بين صوم يوم وآخر بالفطر، فلو أفطر يوماً ولو قبل تمام الشهرين بيسير؛ فإنه ينقض التتابع إلا إذا كان معذوراً شرعاً بذلك القطع، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة:4]، فنص الله تبارك وتعالى على التتابع، والتتابع هو الولاء دون وجود فاصل، فلما قال: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أي: أنه تتتابع أيام الشهرين دون وجود فطر بينها، فإذا وجد الفطر فله حالات: الحالة الأولى: أن يكون معذوراً فلا يقطع.
الحالة الثانية: ألَّا يكون معذوراً فيوجب القطع واستئناف صيام الشهرين متتابعين.
وقد بين الله تعالى أنه يجب على المكفر أن يصوم شهرين دون أن يسمي شهوراً معينة، ولذلك يجوز له أن يصوم الشهرين ولو كان في زمان اليسر، وزمان اليسر مثل أيام البرد، فإنه يطول ليلها ويقصر نهارها، فيسهل صيامها، ومن هنا نص طائفة من العلماء على أنه لو تحرى أيام البرد وصامها؛ فإن صيامه صحيح؛ لأن الله أطلق الشهرين، فكل من صام شهرين متتابعين؛ فقد أدى ما أوجب الله عليه.
كذلك لو قطع هذين الشهرين المتتابعين صومُ رمضان، فلو ابتدأ الصوم بشهر شعبان ثم صام رمضان ثم أفطر يوم العيد بأمر الله عز وجل، ثم صام بعده فإنه لا يقطع التتابع، ويصدق عليه أنه قد صام شهرين متتابعين، وسيبين رحمه الله الأمور التي يعذر فيها الصائم، فلو تخلل صيامه فطر لأسباب شرعية؛ فإن صومه صحيح ويجزئه، ولا يُلزم باستئنافه من جديد.(319/2)
الأعذار التي لا تؤثر في قطع صيام الشهرين المتتابعين
قال رحمه الله: [فإن تخلله رمضان أو فطر يجب كعيد وأيام تشريق وحيض وجنون ومرض مخوف ونحوه، أو أفطر ناسياً أو مكرهاً أو لعذر يبيح الفطر؛ لم ينقطع].
يلاحظ أن الله تعالى أطلق الشهرين، ومن هنا لا يخلو الصائم للشهرين من حالتين: الحالة الأولى: أن يصوم من ابتداء الشهر، فإذا صام من ابتداء الشهر؛ فإنه إذا تبين أن الشهر ناقص فصومه تام، فلو مثلاً صام المحرم وصفراً، وكان المحرم تسعة وعشرين يوماً، فإنه يحكم بصحة صومه وإجزائه؛ لأنه صام شهرين متتابعين.
الحالة الثانية: أن يصوم ستين يوماً إذا كان صومه أثناء الشهر، فإذا ابتدأ في العاشر من محرم فإنه يتم ستين يوماً تامةً كاملة، وقال بعض العلماء: إنه لو ابتدأ في العاشر من محرم اعتد بالعاشر في الشهر الذي يتم فيه الشهرين، فحينئذٍ من العاشر محرم إلى العاشر من صفر شهر، ومن العاشر من صفر إلى العاشر من ربيع الأول شهر، فلو كان شهر محرم ناقصاً وصفر ناقصاً؛ فإنه سيصوم ثمانية وخمسين يوماً، فيعتد الابتداء.
ولكن هذا المذهب محل نظر، والصحيح: أنه إذا ابتدأ من بداية الشهر أجزأه الشهر ناقصاً وكاملاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة)، والمراد بهذا أن الشهر إذا كان تسعاً وعشرين، فإن الله يكتب للصائم أجر الثلاثين، وقال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)، فعقد ثلاثين في المرة الأولى، وخنس الإبهام في المرة الثانية، أي: يكون تسعة وعشرين وثلاثين، لكن نعتبر الشهر تسعة وعشرين إذا ثبت في الهلال أنه ناقص؛ لكن إذا ابتدأ أثناء الشهر؛ فإننا نلزمه بستين يوماً، فالأصل في الشهر أنه ثلاثون يوماً.
وبناءً على ذلك تقول: من صام شهرين متتابعين في كفارة الظهار أو القتل أو غيرها من الكفارات كالجماع في نهار رمضان، فإن ابتدأ من ابتداء الشهر، اعتد به ناقصاً أو كاملاً، وإن ابتدأ أثناء الشهر أتم ستين يوماً ولو كان الشهران أو الثلاثة فيها نقص.(319/3)
صوم رمضان لا يقطع تتابع الكفارة
قوله: (فإن تخلله رمضان) يعني ابتدأ الصوم في شعبان وأتم شهراً أو أتم بعض الشهر فدخل عليه رمضان، فرمضان لا يقطع التتابع، فيصوم رمضان، ولكن إذا جاء يوم العيد ففيه ثلاثة أوجه للعلماء: الوجه الأول: من أهل العلم من قال: يصوم يوم العيد ولا يفطر.
الوجه الثاني: ومنهم من قال: يفطر يوم العيد ولا يقطع تتابعه.
الوجه الثالث: ومنهم من قال: يفطر يوم العيد ويقطع التتابع.
والصحيح: أنه إذا ابتدأ بما قبل رمضان ثم صام؛ فإنه يفطر يوم العيد، ولا يقطع فطر يوم العيد التتابع؛ لأنه مأمور بفطره، وهذا الوجه هو المعتبر: أعني أن فطر يوم العيد مأمور به شرعاً، فقد ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (أنه خطب الناس على المنبر، وبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين: يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى)؛ لأنهما يوم ضيافة من الله عز وجل.
فالرخصة لمن ابتدأ الصوم وجاءه هذان اليومان أن يفطر، ولا يقطع ذلك التتابع حتى في صيام الكفارات الأخر، ككفارة اليمين على الصحيح أنه يصوم الثلاثة الأيام متتابعة، فلو أنه صام قبل يوم العيد في التاسع الذي هو يوم عرفة ناوياً به الكفارة؛ فإنه يفطر يوم العيد -يوم النحر- ثم يصوم الحادي عشر والثاني عشر؛ لأنه يجوز صيام أيام التشريق لغير الحاج.(319/4)
الفطر الواجب لا يقطع تتابع الكفارة
قوله: [أو فطر يجب كعيد].
أي: أو تخلله فطر يجب، صورة المسألة: أن يصوم شهرين متتابعين، ثم يجب عليه أن يفطر مثل ما ذكرنا لدخول يوم عيد؛ لأن يوم العيد يجب الفطر فيه، إذاً تلاحظ أن صوم رمضان صوم يجب لشهر، ويوم العيد فطر يجب ليوم عيد الأضحى ويوم عيد الفطر.
قوله: [وأيام تشريق].
أيام التشريق اختلف في صومها، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في كتاب الصيام، وأن من العلماء من منع من صوم أيام التشريق، والحقيقة أنه لا إشكال أن الحجاج لا يصومون أيام التشريق؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عنه: (أيام منى أيام أكلٍ وشرب وبعال)، فبين عليه الصلاة والسلام أنها أيام فطر، وهذا الأصل فيه أن يكون للحاج، لكن بعض العلماء ألحق غير الحاج بالحاج، فجعلها أيام ضيافة لعموم الأمة توسعة من الله عز وجل على العباد.
فمن قال بالخصوص منع من صومها للحاج، ومن قال بالعموم منع من صومها مطلقاً، سواء كان حاجاً أو غير حاج، والأشبه والأصل الذي يقتضي أنها خاصة بالحاج.
ومما يدل على أنها خاصة بالحاج، قوله عليه الصلاة والسلام: (أيام أكل وشرب وبعال)، لأن الحاج كان ممنوعاً من جماع أهله، أما الحلال فلا يقال له: (أيام أكل وشرب وبعال)، لأنه لما نص على البعال دلّ على التحلل الأكبر الذي يحصل بطواف الإفاضة، فنبه أنهم لما طافوا طواف الإفاضة يوم النحر حل لهم النساء، وحل لهم كل شيء، فهم فيها في ضيافة الله عز وجل.
قوله: [وحيض].
فلو أن امرأةً وجب عليها أن تصوم شهرين متتابعين، كفارة قتل أو جماع في نهار رمضان حيث كانت مطاوعة -كما تقدم معنا- فصامت ثم جاءها الحيض، فإن جاءها الحيض لم يقطع تتابعها، بحيث لو كانت عادتها ثمانية أيام فصامت شهر محرم، وجاءت الثمانية الأيام أثناء محرم؛ فإنها تفطر أيام الحيض فقط، ثم بعد ذلك تصوم من بعدها؛ لأنه لا يتيسر من المرأة أن تصوم الشهرين المتتابعين، إلا بتخلل للعادة؛ لأن الله جعل للمرأة أن تحيض في كل شهر مرة كما تقدم معنا في كتاب الحيض.
قوله: [وجنون].
لو أنه وجبت عليه كفارة فعجز عن الرقبة، فصام شهرين متتابعين، فابتدأ في محرم فصامه، ثم جُنّ ثم أفاق في ربيع، فحينئذٍ يبني على صومه السابق، وهو حال جنونه ساقط عنه التكليف، ثم إذا رجع له التكليف؛ يرجع مخاطباً بالأصل من إتمام العدة التي أوجب الله عليه، فيصوم ما بقي.(319/5)
ذكر المرض الذي لا يقطع التتابع في صوم الكفارة
قوله: [ومرض مخوف].
إذا كان الصائم للشهرين المتتابعين مريضاً مرضاً مخوفاً، يخشى لو أنه لو صام لهلك، وقال الأطباء: لا بد أن يفطر؛ فأفطر أياماً، وبعدها رجعت له صحته، فهذه الأيام التي أفطرها لعذر المرض المخوف لا تقطع التتابع، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وتقدم معنا ما هو المرض المخوف، وبينا هذا في أحكام عطية المريض مرض الموت، فإذا قرر الأطباء ذلك وهم الأطباء الذين عندهم خبرة ومعرفة وهم الذين يرجع إليهم في هذا الأمر، وقد بينا أن علماء وفقهاء الإسلام رحمهم الله، يقولون: يسأل كل أهل علمٍ عن علمهم، فإذا كان الأمر يتعلق بالمرض؛ رجعنا إلى الأطباء؛ لأنهم أعلم بأمور الصحة لتعليم الله لهم، فنسألهم: هل هذا المرض مخوف أم لا؟ كأن يكون صام شهراً ثم أصابه مرض، فإذا قال الطبيب: لا بد وأن يفطر، لأنه حدث عنده عجزٌ في كليتيه مثلاً، أو على الأقل يفطر عشرة أيام حتى تعود له صحته، فعادت له صحته بعد العشرة فاستأنف، فهذه العشرة الأيام التي قال الأطباء إنه ينبغي عليه فطرها، لا يضر قطعه الإتيان بها؛ لأنه معذور، وبناءً على ذلك: أصبح العذر الشرعي: هو وجود أمرٍ من الشرع بالفطر مثل أيام العيد، أو أمر من الشرع بالصوم مثل رمضان، أو يكون معذوراً شرعاً بجنون أو مأموراً شرعاً بالفطر لسبب يتعلق به كالمريض.
قوله: [ونحوه].
يعني لمن يعذر؛ فلو كان المرض غير مخوف، بمعنى أن المريض يشق عليه الصوم ولكنه ليس بمرض مخوف، فهل يفطر؟
الجواب
لا؛ لأن المرض ينقسم إلى ثلاثة أقسام في الصيام: القسم الأول: إذا كان المرض يغلب على الظن أن صاحبه لو صام لمات؛ فهذا يجب عليه أن يفطر، فحينئذٍ تنتقل الرخصة إلى عزيمة؛ لأن الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فهذه النصوص تدل على حرمة تعاطي الأسباب الموجبة لهلاك الأنفس، والله تعالى جعل الشريعة شريعة رحمة، فلو قلنا له: صم، صارت شريعة عذاب، والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، ومعنى (من حرج) إزهاق الأنفس، فإذاً يجب عليه الفطر.
القسم الثاني: أن يكون المرض لا يسري بالإنسان إلى الهلاك إذا صام ذلك اليوم، ولكن يحدث عنده نوع من الحرج، ويمكنه أن يصبر، فحينئذٍ له أن يفطر فيأخذ برخصة الله، وله أن يصوم فيأخذ بالعزيمة، فإن صام فلا بأس، وإن أفطر فلا حرج، فهنا وجهان مشهوران مفرعان على مسألة الفطر في السفر، أقواهما أنه إذا أصابه حرج، فالأفضل أن يفطر، هذا في السفر وإذا كان صومه في رمضان.
أما في الكفارة كما هنا: فإذا كان يستطيع أن يصوم ولو بنوع من العناء؛ فيجب عليه أن يتم ما أوجب الله عز وجل؛ لأن مقصود الشرع أن يؤدبه؛ ولذلك جعل الشهرين متتابعين حتى أن الصحيح القوي في صيامه للشهرين المتتابعين يجد المشقة والعناء، زجراً من الله له عن ارتكاب ما يوجب الكفارة مرةً ثانية، وزجراً من الله عز وجل لعبده عن الوقوع فيما نهاه عنه، وزجره عنه لما حرمه، وإلا كانت الكفارات لا تؤدي ولا تحقق مقصود الشرع.
القسم الثالث: أن يكون مرضاً يسيراً خفيفاً، فهذا مثله لا يعتد به ولا يوجب الرخصة، خلافاً لمن قال من بعض فقهاء الظاهر: إن مطلق المرض يوجب الرخصة.
والحاصل أنه إذا كان يصوم الكفارات التي يجب فيها التتابع وهو مريض؛ فإننا نسأل الأطباء، فإن قالوا: هذا المرض مرضٌ مخوف ولا يمكن معه الصوم، نقول له: أفطر ولا يقطع فطرك التتابع، وإن كان مرضاً يمكن الصبر معه؛ فإنه يبقى على الأصل من إلزامه بإتمام الصيام.(319/6)
حكم الفطر بالنسيان والإكراه في صوم الكفارة
قوله: [أو أفطر ناسياً].
كان عليه صيام شهرين متتابعين، وفي يومٍ من الأيام أكل أو شرب يظن أنه غير صائم، فإذا أفطر ناسياً ففيه وجهان: الوجه الأول: من العلماء من قال: إن الفطر نسياناً يقطع التتابع.
الوجه الثاني: ومنهم من قال: لا يقطع التتابع لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نسي فأكل أو شرب وهو صائم؛ فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) فهذا نص واضح الدلالة على أن الناسي إذا أكل أو شرب ناسياً لصومه أن ذلك لا يؤثر في الصوم وهذا هو الصحيح، لدلالة السنة عليه.
قوله: [أو مكرهاً].
الإكراه تقدم بيان حقيقته لغة وشرعاً، وبيان شروط الإكراه ومتى يحكم بكون الإنسان مكرهاً، وصورة المسألة: لو كان يصوم شهرين متتابعين ثم في أثنائها هدده شخص، فوضع عليه -مثلاً- السلاح وقال له: إذا لم تفطر فسأقتلك، فمذهب طائفة من العلماء: أنه إذا كان مكرهاً إكراهاً ملجئاً؛ فإنه لا يؤثر في صومه، ومن الإكراه الملجئ أن تربط يداه ثم يوضع الطعام في فمه، أو تربط يداه ويسقى الماء بدون اختيار منه، فإذا فسد اختياره وانعدم رضاه؛ فإنه لا يقطع ذلك تتابع صيام الكفارة.(319/7)
حكم الترخص في صوم الكفارة بالإفطار برخص الفطر
قوله: [أو لعذر يبيح الفطر].
هذا فيه نظر، والصحيح الاقتصار على الأعذار التي تقدمت، وهي التي فيها الإلزام أو فيها ما يدل على الرخصة، سواء كان بعذر من الشرع، كأن يرخص الشرع للإنسان فيفطر، أو يوجب عليه الصيام كرمضان، أو يكون عذراً متلبساً به يمنع من صحة صومه كالحائض، فهذه هي الأعذار المؤثرة.
أما أن يكون العذر سفراً، والسفر عذر من أعذار الفطر، فلو سافر وهو صائم شهرين متتابعين وأراد أن يترخص؛ نقول له: لا رخصة، لأن هناك فرقاً بين عذر الحيض الذي يغلب ولا يقطع التتابع ويهجم على الإنسان بالطبيعة، وبين عذر رمضان الذي هجم على الإنسان بحكم الشرع، وعينه الشرع وألزم به ولا محيد للصائم عنه، فصائم رمضان في السفر يمكنه أن يفطر ويمكنه أن يصوم فهو مخير، فجاء واختار أن يفطر.
أما في الكفارة هنا فإذا اختار أن يفطر فقد اختار أن يقطع تتابع صومه، فهناك فرق بين رخصة السفر التخييرية وبين الرخصة التي معنا، فإن سافر ومرض في سفره مرضاً؛ أوجب أن يُرخص له؛ لأنه وصل إلى حد الخوف، فهذا ينتقل من رخصة السفر إلى رخصة الفطر بالمرض، وقد بينا أنها لا تقطع التتابع.
قوله: [لم ينقطع] أي: لم ينقطع التتابع وصومه معتبر ومجزئٌ في الكفارة.(319/8)
الأمور التي ينبغي مراعاتها في كفارة الإطعام لستين مسكيناً
قال رحمه الله: [ويجزئ التكفير بما يجزئ في فطرة فقط].
الخصلة الثالثة من خصال الكفارة هي الإطعام، ومسائلها مفرعة على ما تقدم معنا في أحكام الزكاة؛ لأنها صدقة واجبة، فألحقت بالأصل الواجب من الزكوات كالزكاة الواجبة في الأصل وزكاة الفطر.
قوله: (ويجزئ التكفير) بمعنى أنه يوجب براءة ذمة المكفر، فحد الإجزاء هو الذي يلزم به الشرع، فإذا قام به المكلف فقد برئت ذمته، وخلي من التبعية، وبناءً على ذلك بين رحمه الله أنه يجزئ في كفارة الظهار ما يجزئ في صدقة الفطر، من برٍ وتمر وشعير وزبيب وأقط، ونحو ذلك من الطعام.
قوله: [لا يجزئ من البر أقل من مد].
تقدمت معنا هذه المسألة: هل يعتد بنصف الصاع الذي هو مدان أو يعتد بربع الصاع الذي هو مُدّ؟ وتقدم معنا أن هناك ما يسمى بالمد الصغير، الذي هو مد النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك ما يسمى بالصاع النبوي، وهناك ما يسمى بالمد الكبير.
فأما بالنسبة للمد الصغير: وهو ملء الكفين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، فلو أن شخصاً وسط في الخِلقة أخذ بكفيه تمراً أو بُراً، فإن هذا القدر غالباً يملأ المد، وهذا المد هو الذي كان يتوضأ به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا زال موجوداً توارثه الناس جيلاً عن جيل ورعيلاً عن رعيل إلى زماننا هذا؛ ولذلك نص العلماء: أن العبرة في المد والصاع والكيل بمد المدينة وصاعها وكيلها؛ لأنها توارثها الناس أمة بعد أمة، وتوافرت الدواعي على حفظه، والمحافظة عليه، وكان الوالد رحمه الله يحرر الصاع بكبار السن الذين هم من الثقات، وكان هناك رجل من حفظة القرآن كنت أحرر الصاع والمد على يديه -رحمه الله ورحمنا الله جميعاً- فهذا الشيء توارث مثلما توارث الناس أن هذا المكان هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا المكان هو الروضة، وأن هذا المكان هو مسجد قباء، وهذا ما يسمى بنقل الكافة عن الكافة، فما خالف هذا فإنه لا يعتد به؛ لأنه مما توافرت الدواعي لحفظه والمحافظة عليه.
وقد بارك النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- للمدينة بمدها وصاعها، وقال: (اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا)، وهذا أمر ثبت به النص ولا مجال لرده أو لإنكاره، بل إنه مجرب أنه إذا كيل الشيء بصاع المدينة ومده وضع الله فيه البركة، وقد لمست ذلك ووجدته، والحديث في الصحيحين ولا إشكال فيه.
فهذا المد يخالف غيره مثل المد الشرقي الذي كان الحنفية رحمهم الله يخالفون فيه الجمهور، فالإمام مالك رحمه الله أخذ بمد المدينة، ولما نازعه محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة قال الإمام مالك: يا فلان، قم فائتني بصاع، ويا فلان! قم فائتني بصاعك، فأمر رجالاً من أهل المدينة أن يأتوا بآصبعهم فأحضروها، فقال كل واحدٍ منهم: حدثني أبي عن جدي أنهم كانوا يخرجون الفطر على زمان النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، فحزروه وقدروه، فوجدوه موافقاً لتقدير الإمام مالك، أن الصاع يسع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال لهذا: مد، ويقال له: ربع صاع، وبعضهم يعتبره أصغر وأقل المكيلات الموجودة، فهناك من يقول: إن الصاع خمسة أمداد أو يقرب منها، وهذا القول غير محرر؛ لأن المعروف والثابت والذي نص عليه الأئمة والعلماء: أن مد النبي صلى الله عليه وسلم ربع الصاع، وهذا هو الذي عليه العمل عند العلماء والأئمة.
واختلف العلماء رحمهم الله في مسألة: هل البر كغيره في الكفارة أم لا، على وجهين: الوجه الأول: يقول: إنه يختلف البر عن غيره.
الوجه الثاني: التسوية بين البر وغيره.
ثم الذين سوَّوا أو خالفوا منهم من يبتدئ بالربع على الأصل ويقول: ستون مسكيناً الذين يجب إطعامهم في كفارة الظهار، يكون لكل مسكين ربع صاع الذي هو مد النبي صلى الله عليه وسلم الصغير، فإذا كان لكل مسكين ربع صاع والكفارة لستين مسكيناً، فمعنى ذلك: أن خمسة عشر صاعاً هي كفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة الجماع في نهار رمضان؛ لأن ربع الصاع لمسكين فـ (4 × 15 =60)، هذا وجه لبعض العلماء رحمهم الله، ويؤيد هذا الوجه ما جاء في قصة خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بعرق من تمر، فأمر أوساً أن يطعمه أهله، والعرق فسره بعض أئمة السلف كـ سعيد بن المسيب رحمه الله وهو إمام المدينة وفقيهها قال: فيه خمسة عشر صاعاً، العرق مثل الزنبيل أو القفة الموجودة في زماننا، والزنابيل الكبيرة هذه لها أسماء: مِكتل، عَرق، فهذا العرق فيه خمسة عشر صاعاً، فإذا كان فيه خمسة عشر صاعاً، فمعنى ذلك: أن لكل مسكين ربع صاع.
وفي رواية أخرى لقصة خولة رضي الله عنها تقتضي أن يكون نصف صاع أي: مدين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (أعينه بعرق، فقالت هي: وأنا أعينه بعرق ثانٍ) فأصبح المجموع ثلاثين صاعاً؛ لأن عرقاً مع عرق يكون خمسة عشر صاعاً مع خمسة عشر صاعاً فيكون المجموع ثلاثين صاعاً، فهذان وجهان، أقواهما في الحقيقة الربع، وأحوطهما النصف.
قوله: [ولا من غيره أقل من مُدَّين] كما ذكرنا أن العلماء يفرقون بين البر وغيره كالتمر والزبيب والأقط، وبينا هذا في صدقة الفطر، وبينا وجهه.
قوله: [لكل واحد ممن يجوز دفع الزكاة إليهم] كأن يكون مسكيناً، أو فقيراً، فيعطى ربع صاع أو نصف صاع على التقدير الذي بيناه.
قوله: [وإن غدَّى المساكين أو عشَّاهم لم يجزئه] أي: المعتبر ستون مسكيناً، وإن غدَّى هؤلاء المساكين أو عشَّاهم اختلف العلماء رحمهم الله في الكفارة: هل يجب عليك أن تملِّك المسكين أو يجب عليك الإطعام؟ والفرق بين القولين: أننا لو قلنا: يجب عليك تمليك المسكين، فمعنى ذلك: أنك تدفع الزكاة إليه، وهو إن شاء طبخها اليوم أو طبخها بعد غد، أو باعها، فهو حرٌ في نفسه؛ لأن الله أمرك أن تدفع هذا القدر له، وهو قدر ما يطعمه، فإن شاء طعمه اليوم، وإن شاء طعمه غداً، وإن شاء أطعمه غيره، فلا تلزمه بشيء، فهذا حق من حقوقه جعله الله عز وجل له.
ومن أهل العلم من قال: إنه إذا صنع الطعام وأطعمه المسكين فقد أطعمه الطعامٍ معتبر، فيصدق عليه إذا أكل المسكين طعامه أنه قد طعم، والله عز وجل أمره أن يطعم المسكين وقد أطعمه، ولا شك أن الأحوط أنه يعطى المسكين؛ لأن الله يقول: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] فبين أن ما لزم واجباً للمسكين أنه يمكن منه، وقد جاء عن بعض السلف رحمهم الله كـ أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يجمع ثلاثين مسكيناً في آخر يوم من رمضان ويطعمهم صدقة عن فطره في شهر رمضان، هذا فعل لبعض السلف، والأحوط أنه يعطى المسكين الطعام كما ذكرنا.(319/9)
حكم تبييت النية في صيام الكفارة
قوله: [وتجب النية في التكفير من صوم وغيره].
وتجب النية في التكفير من صومٍ وغيره، وقد بينا في كتاب الصيام: أن الصيام الواجب يجب تبييت النية فيه، وذكرنا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن أم المؤمنين بقوله: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له)، فدل على أن الصيام الواجب يجب تبييت النية فيه، ولأن هذا الصوم وجب كفارة، ولا يمكن أن يكون مبرئاً للذمة إلا بنية وقصد، فوجبت النية.(319/10)
حكم مجامعة الزوجة ليلاً أثناء فترة صيام الكفارة
قوله: [وإن أصاب المظاهر منها ليلاً أو نهاراً انقطع التتابع].
وإن أصاب المظاهر زوجته نهاراً فلا إشكال لأنه أصبح مفطراً، أو ليلاً فإنه يقطع التتابع، وهكذا لو أفطر في يوم العيد، فجامع زوجته بناءً على أنه مرخص له في الفطر، قطع التتابع، لا من أجل كونه مجامعاً، بل من أجل كون الشرع اشترط أن تكون الكفارة قبل أن يتماسا، وإذا جامعها قبل تمام الكفارة قطع التتابع ووجب عليه أن يستأنف، ولذلك قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]، فهذا يدل على أنه يجب أن يكون التكفير قبل المسيس، فإن حصل المسيس أثناء الكفارة من صيامه وجب عليه أن يستأنف، لأن ذلك يقطع تتابعه.
قوله: [وإن أصاب غيرها ليلاً لم ينقطع].
بلا خلاف بين العلماء، فإنه لو عنده زوجتان ظاهر من إحداهما، ثم صام كفارة، فجامع الثانية ليلاً لم يقطع ذلك تتابعه؛ لأنه ممنوع ممن ظاهر منها دون التي لم يظاهر منها.(319/11)
الأسئلة(319/12)
الوقت المناسب لابتداء صيام الكفارة للنفساء
السؤال
بالنسبة للنفساء إذا كانت عليها كفارة فهل تبني وتستكمل صيامها منذُ انقطاع الدم أم بعد تمام الأربعين يوماً؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد فهذا السؤال مفرع على مسألة الحكم على المرأة بكونها نفساء، فإن طهرت المرأة النفساء -كما تقدم معنا في كتاب النفاس- قبل الأربعين وحُكم بطهرها؛ وجب عليها أن تتم الصوم ولا يجوز لها أن تفطر، فلو أنها نُفِست ثلاثين يوماً ثم رأت علامة الطهر بعد الثلاثين؛ وجب عليها أن تتم ما عليها من صوم، ولا يجوز لها الفطر حينئذ.
وأما إذا تخلل بحيث تقطع فنفست ثلاثين يوماً فصامت يوماً إتباعاً لما قبله، فبان الدم في اليوم الذي يليه فتفطر، وقد بينا كما في حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: (كانت النفساء تمكث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً) وبناءً على ذلك: لا يحكم بكونها منتهية من نفاسها طاهرةً منه إذا تقطع دمها إلا بعد تمام الأربعين كما فصلناه وبيناه في كتاب النفاس، وبناءً على ذلك تقطع وتفطر إذا عاودها الدم قبل تمام أربعين يوماً.
والله تعالى أعلم.(319/13)
حكم إسرار الإمام بالقراءة في الصلاة الجهرية
السؤال
إمامٌ أسر بالقراءة في صلاة جهرية ساهياً هل يفتح عليه من المأمومين، وإذا كان قد شرع في قراءة الفاتحة سراً هل يبني جهراً أم يستأنف من بدايتها، وهل يسجد للسهو؟
الجواب
الجهر بالقراءة فيه وجهان للعلماء رحمهم الله: منهم من يرى وجوبه، ومنهم من يرى سنيته، والذين يقولون بالسنية يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في السرية، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في صلاته الظهر، بأنه كان يسمعهم الآية أحياناً، فقالوا: هذا يدل على أن الجهر سنة، لكن لو حصل من الإمام هذا، فإنه يسبح له وينبه على ذلك بأنه حاصل منه على سبيل السهو لا على سبيل القصد، وما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم كان قصداً، فينبه على ذلك ويسبح له، وإذا لم ينتبه فلا بأس بأن يفتح عليه.
وإذا نبه فإنه يبدأ من الموضع الذي انتهى إليه، كأن يكون قرأ مثلاً آيتين من الفاتحة ثم نبه، فعليه أن يستأنف من الموضع الذي نبه فيه، ولا يرجع إلى الأول؛ لأنه لا يجوز أن يعيد الركن، ولا أن يعيد أجزاء الركن، وقد فعل ما أمر الله به من قراءة الفاتحة ولا تجب عليه قراءة الفاتحة إلا مرة واحدة، ولو قلنا: يرجع من أول الفاتحة فإنه بذلك يكررها، وهكذا لو أنه كان أثناء الفاتحة، فقالوا له: سبحان الله، يقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] * {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فيتمها من المكان الذي وصل إليه.
ولو أتم قراءة الفاتحة فإنه يقرأ السورة التي تلي الفاتحة ولا يكرر قراءة الفاتحة، واختلف العلماء: هل إذا كرر المصلي الفاتحة تبطل صلاته أم لا؟ قال بعض العلماء: إذا كرر الفاتحة بطلت صلاته؛ لأن الفاتحة ركن، ومن كرر الفاتحة مرتين كان كمن ركع مرتين، فكما أن تكرير الأركان الفعلية يوجب البطلان، كذلك تكرير الأركان القولية موجبٌ للبطلان.
وعلى الإمام أن يحتاط ويستبرئ لدينه خاصةً إذا كان إماماً، فإنه يحتاط، وأميل إلى أنه يعيد الصلاة وأن تكرار الأركان القولية كتكرار الأركان الفعلية؛ لأن حكمهما في الشرع سواء من حيث الإلزام، فيكون تكرارهما موجباً عند القصد والتعمد لبطلان الصلاة، والله تعالى أعلم.(319/14)
حكم توكيل الدلال للشراء في بيع المزاد
السؤال
نحن مجموعة نرغب في التجارة في الرطب، ولكن وجدنا في حراج الرطب أمراً لم نعلم حلاله من حرامه، تنزل مجموعة من الرطب فيحرج عليها دلال، فيتزاود الناس من أجل شرائها، وإذا بلغ الزنبيل -مثلاً- تسعين ريالاً؛ يقول الدلّال: سجّله بخمس وتسعين ريالاً لفلان من الناس، فنسأله: أين هو؟ فيقول: هو غائب، ولكنه وكلني، فهل يصح البيع، وهل يجوز أن يوكل المشتري الغائب الدلال على نفس البضاعة لكي يشتريها؟
الجواب
ليس هناك حرج، والتوكيل جائزٌ شرعاً، إن شاء وكل الدلال أو غير الدلال، ولكن المحرم ألا يكون على وجه النصيحة بحيث يُضر صاحب البضاعة، فإذا كان الدلال حابى بحيث علم أن وكيله قال له: لا تصل خمسة وتسعين وأريد هذه البضاعة وأرغبها، فحرج عليها حتى تصل تسعين أو ثمانين، وإذا وصلت التسعين خذ خمسة وتسعين واقفل المزاد، فإذا قفل المزاد فقد ظلم صاحب السلعة؛ لأنه ربما وجد من يرغبها بمائة، وربما وجد من يرغبها بست وتسعين، فإذا كان الدلال يتقي الله عز وجل وينصح لصاحب السلعة فلا بأس ولا حرج؛ لأن هذا توكيل شرعي، ويجوز أن يوكل الدلال وغيره، إنما المحظور أن يكون هناك ظلم لصاحب السلعة الأصلية، كأن يوقف السعر عند حد معين محاباة لمن وكله فإنه لا يجوز له ذلك شرعاً، وليس هناك أي مانع شرعي؛ لأنه بيعٌ صحيح لسلعة قيمتها خمسة وتسعون ريالاً، فكما أن غير الدلال يجوز له أن يشتريها بخمسة وتسعين، فكذا الدلال، وكون الدلال وكيلاً لا يوجب فساد البيع، ولا يؤخر في البيع ألبتة، والله تعالى أعلم.
ومسألة المزاد في السلع ليس فيها شيء، وهناك من العلماء من منعه ونهى عن بيع المزايدة وفيه حديثٌ ضعيف، والصحيح: أنه يجوز التحريج على السلع بشرط ألا يكون هناك نجش، فلا يدخل أشخاص يرفعون القيمة حتى يغروا الناس في شرائهم، وهذا بيناه وفصلناه في كتاب البيوع وأنه محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تناجشوا)، وأما بيع المزاد فإنه بيع لا بأس به ولا حرج فيه، والله تعالى أعلم.
لكن تبقى مسألة المحاذير الموجودة من بيان العيوب وكشفها، فهذه أمانة، وعلى كل بائع يتقي الله عز وجل، وليس هذا خاص ببيع المزاد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)، والله تعالى أعلم.(319/15)
متى يأخذ المغمى عليه حكم المجنون
السؤال
إذا كان المغمى عليه أشبه بالمجنون، فهل هذا الحكم يكون مطرداً في جميع أبواب الفقه؟
الجواب
المغمى عليه من حيث الأصل يأخذ حكم المجنون.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيه على وجهين، منهم من يقول: إنه كالنائم، فهو مكلف وتجري عليه أحكام المكلفين، ومنهم من يقول: إنه كالمجنون، وتجري عليه أحكام سقوط التكليف ونحوها؛ لأنه أشبه بالمجنون منه بالنائم، والقول الذي يقول: إنه أشبه بالمجنون من النائم أقوى وأرجح؛ لأن النائم إذا أيقظته يستيقظ، والمغمى عليه إذا أيقظته لا يستيقظ، فهو في غلبة العقل كالمجنون، ثم القياس يضعف في الإلحاق بالنائم أكثر من ضعفه بالمجنون، لذلك فأنا أميل إلى القول بأنه في حكم المجنون من حيث الأصل إلا إذا دل الدليل على الاستثناء.
والله تعالى أعلم.(319/16)
مدى تأثير الوسوسة في الصلاة
السؤال
الوسوسة في الصلاة هل تؤثر في أجر الصلاة؟
الجواب
يوجد تفصيل: فإذا كانت الوسوسة -حديث النفس- تهجم على الإنسان بحيث لا يمكن أن ترفع، كالذي يكون واقفاً في الصلاة ثم تذكر مالاً من أمواله كأن تذكر مزرعته أو سيارته أو ابنه أو بنته، فهذا شيء يهجم دون أن يكون للمكلف فيه اختيار، فهذا لا يحاسب الله عليه العبد ولا يؤاخذه ولا ينقص درجة الكمال في الصلاة؛ لأنه لا يمكن أن يسلم منه أحد، وهذا شيطان للصلاة يوسوس للعبد، فإذا هجم عليه هجوماً فأوّل الوسوسة لا يؤاخذ عليها، أما إذا استرسل معه ولم يقطع، فهذا يؤثر في كمال الصلاة ويؤثر في أجرها، ويؤثر في حصول المغفرة بها كما في الحديث الصحيح عن عثمان رضي الله عنه: (أنه توضأ أمام الناس فأسبغ الوضوء ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا، فصلى ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه إلا غفر له ما تقدم من ذنبه).
فقوله: (لا يحدث) جعله كأنه هو الذي يحدث، فمعناه أن هناك شيئاً يهجم على الإنسان ليس بيده، فالذي يسترسل مع هذه الوسوسة فذلك يؤثر ويقطع الكمال وينقص الأجر لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يكتب له إلا نصفها إلا ربعها إلا ثلثها، ولما فاته منها خيرٌ له من الدنيا وما فيها)، فهذه اللحظات التي يقضيها الشيطان بالوسوسة على الإنسان لو يعلم ما له من الأجر عند الله والمثوبة؛ فإن ذلك الذي له عند الله خيرٌ من الدنيا وما فيها، هذه اللحظات اليسيرة فقط! ولا شك أن هذا يدل على عظيم ما يكون في الصلوات من الأجر والمثوبة، وقد حكى الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] * {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2]، أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته، أي: ليس له من الأجر في الصلاة إلا قدر الذي عقله من الصلاة وأدرك، وقد يصلي الرجلان الصلاة الواحدة، كتف أحدهما بجوار كتف الآخر، وبينهما من الإخلاص وحضور القلب وعظم الأجر من الله كما بين السماء والأرض، فهذا كله لا يعلمه إلا الله عز وجل المطلع على سرائر الناس وضمائرهم وقلوبهم.
نسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته وأن يجبر كسرنا وأن يكمل نقصنا، والله تعالى أعلم.(319/17)
حكم المشكك في السنة وغير المصدق بها
السؤال
ما نصيحتكم لشخص يقول: لا تصدقوا كل ما نُقِل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل له: هذا الحديث رواه البخاري أو مسلم، لا يصدق ولا يكذب؟
الجواب
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، نعوذ بالله من طمس البصائر، ولا يزال الإنسان في خير ورحمة وبر وهدى في دينه ما تمسك بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فوالله لا يحجب عن نار الله إلا بفضل الله ثم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولن تنعم عينه ولن تطأ قدمه الجنة إلا بفضل الله ثم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا صراط إلى الجنة إلا بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الزمان زمن فتن، تكلم فيه كل من هبّ ودبّ، وكل زاعق وناعق، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، فالذي يُوصى به الرجوع إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عن طريق العلماء العاملين الذين عُرِفوا بضبطهم وإتقانهم وأخذهم للعلم، فهؤلاء الذين يُحتكم إليهم في دين الله وشرع الله.
وأما بالنسبة لهذه الكلمات الجارحة التي تمس مشاعر المسلمين، والتي يطلقها إما من لا دين عنده -والعياذ بالله- وإما أصحاب الأهواء الذين يريدون تشكيك المسلمين في عقائدهم ونزعهم عن دين ربهم، وإما الحسد كأن يحسد الإنسان على دينه كما ذكر الله عن أهل الكتاب، فهذا ليس إلا تشكيكاً في بدهيات عند المسلمين هي أوضح من الشمس في رابعة النهار.
وليعلم الإنسان أن خير ما يُقال في هؤلاء ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر الفتن، وبيّن عليه الصلاة والسلام أن هناك همجاً رعاعاً أتباع كل زاعق وناعق، فالذي يتبع كل زاعق وناعق فإنه على هلاك بلا إشكال ولا مرية.
والشخص الذي يجعل زمام دينه لكل من هبّ ودب عليه أن يعلم أنه على ضلال مبين، فلا يعرف الحق إلا بأهله الذين عُرِفوا بالتمسك بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، الحجة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله جعل السنة مبينة لكتاب الله عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].
وصدق بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه حيث أخبر قبل هذا الزمان بقرون عديدة وكشف الله له ما هو كائن، فكان معجزة من معجزاته فقال عليه الصلاة والسلام: (لا ألفين أحدكم جالساً على أريكته شبعان ريان، يبلغه الحديث مما قلته أو عملته فيقول: ما وجدنا هذا في كتاب الله، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه، ولقد أوتيت القرآن ومثله معه)، فهذه هي السنة التي هي أحب إلينا من أنفسنا، ولا يصدنا عنها غرور المغرورين ولا فتن المفتونين ولا إرجاف المكتوفين ولا إبطال الملحدين، إنما علينا أن نتمسك بدين الله وشرعه.
وليضع كل مسلم في كل دعوة مصادمة لدين الله عز وجل نصب عينيه كلمةً قالها الله جل وعلا من فوق سبع سماوات ثبتت قلوب المؤمنين والمؤمنات، وهي قوله عز من قائل: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43]، وزيادة المبنى في لغة العرب تدل على زيادة المعنى، ما قال له: أمسك الذي أوحي إليك، ولكن ((فاستمسك))، فورد التأديب بهذه الحروف التي لها الوقع القوي في النفوس، ومع أنه لو قال: (اثبت) لكان لها معنى، لكن (استمسك) حتى صوت الكلمات والحروف لها معنى وخطاب مباشر، وخطاب لخير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، فمن باب أولى غيره، فنبه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن الذي يزعزعها وأن الذي يحول بينها وبين وحيها شيء عظيم وكبير، يحتاج إلى قوة وثبات يحتاج إلى اللائق بالإنسان مع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستمساك يدل على عظم الشيء الذي يحول بينك وبينه.
فعلى هذا: ينبغي على كل مسلم أن يثبت على الحق وأن يوصي إخوانه بذلك، فالسنة حجة على من بلغته إذا صحت وثبتت فقل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
من الأمور التي ينبغي لكل مسلم أن يعلمها، أنه إذا عوَّد نفسه إذا صحت السنة أن يسلِّم ويستسلم ويعمل، فليعلم أن حظه من الهداية والرحمة على قدر تمسكه وعمله وتسليمه، وقلَّ أن تجد عبداً من عباد الله إذا بلغته السنة طأطأ رأسه وأسلم لله نفسه إلا وجدته أثبت الناس جناناً، وأصلحهم حالاً وأشرحهم صدراً وأكثرهم توفيقاً من الله عز وجل، ولن تجد شخصاً كثير الشكوك كثير الأوهام كثير الرد للسنة إلا وجدته أعمى البصيرة كثير الفتن والقلاقل، إلا أن يرحمه الله برحمته.
وتأمل قول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، فهذا وعيد شديد لكل من يعترض على السنة، ويردها ويخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالحذر كل الحذر! لا تقبل عن طريق الله وسبيلها تحويلاً، ولا تقبل عن قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم بديلاً أبداً، وعليك أن تستمسك بما أوحى الله، وهذه سنة ماضية للعلماء وورثة الأنبياء، فإنهم يدعوا الناس إلى التمسك بالحق، وعلى الخطباء وأئمة المساجد وطلاب العلم أن يعودوا الناس محبة السنة، وأن يذكروهم -خاصةً في هذا الزمان- بقول الله وقول رسوله عليه الصلاة والسلام وهدي السلف الصالح في محبتهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعملهم بها وتطبيقهم لها، وأن الله عز وجل أسعد أمماً وسيسعد من بقي كما أسعد من مضى بهذه السنة.
فهنيئاً ثم هنيئاً لمن نور الله بصيرته وثبَّت قلبه، وجعل محبة السنة في فؤاده، فلم يلتفت إلى هذه الفتن ولا إلى هذه المحن، وثبَت على الحق بتثبيت الله.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، نسألك بعزتك وقدرتك أن تعيذنا من فتن المفتونين، ومن ضلال المضلين، ومن إلحاد المبطلين، ونسألك بعزتك وقدرتك على خلقك أن تكبت أعداء الدين.
اللهم أخرس ألسنتهم، اللهم أخرس ألسنتهم، اللهم أخرس ألسنتهم.
اللهم اكفِ الإسلامَ وأهلَه أهلَ الضلال بما شئت، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.(319/18)
شرح زاد المستقنع - كتاب اللعان [1]
حرصت الشريعة الإسلامية على حماية الأعراض من أن تنتهك حرمتها، وتوعد الله باللعنات والعذاب الشديد في الحياة وبعد الممات لمن تكلم في أعراض المسلمين والمسلمات، وشرع الله اللعان بين الزوجين حتى لا يلحق الزوج ما طرأ على فراشه من ولد الحرام، وأيضاً حتى تدفع المرأة الضرر عن نفسها إذا اتهمت بالباطل، واللعان يدور على ثلاثة أحوال هي: الوجوب والحرمة والإباحة، كما أن للعان بين الزوج والزوجة كيفية مخصوصة بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وقد شرح ذلك الفقهاء رحمهم الله.(320/1)
تعريف اللعان وكيفيته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [كتاب اللعان].
اللعان: مأخوذٌ من اللعن، وأصل اللعن الطرد والإبعاد، ويطلق اللعن بمعنى الشتم في لغة العرب، ولكن يراد به في شرع الله: الطرد والإبعاد من رحمة الله -والعياذ بالله- فمن لعنه الله فإنه مطرود من رحمته، ولن يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من لعنته وغضبه وشر عقابه! أما في الاصطلاح فالمراد باللعان: شهادات مؤكدات بأيمان مقرونة باللعنة والغضب، وهذه الشهادات مخصوصة تصدر من شخص مخصوص، وهو إما الزوج وإما الزوجة، فليس هناك لعانٌ في الإسلام يقع بين غير الزوجين، فهو مختص بحالة معينة حددها الشرع، لأمور وأسباب سننبه عليها إن شاء الله تعالى.
وهذه الشهادات يشهد فيها الرجل الذي هو الزوج أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما يدعيه من زنا زوجته أو من نفي ولدها منه، فهو إما أن يقذفها بأنها زنت، وإما أن ينفي الولد، فيقول: هذا الولد ليس بولدي، فاللعان من الزوج على أحد هذين الأمرين، وقد يجتمع الأمران بأنها زنت، وأن الولد ليس بولده؛ لأنه إذا كان اللعان بأحدهما، فمن باب أولى إذا اجتمعا، وهذا بالنسبة لشهادات الزوج.
وأما شهادات الزوجة فإنها تشهد بالله أربع شهادات مقرونة باليمين أن زوجها كاذبٌ فيما ادعاه من زناها، أي: فيما قذفها به من الزنا، وتشهد إذا كان الزوج قد نفى ولدها منه أن الولد ولده.
إذاً: إما أن يشهد الزوج على أنها زنت، وإما أن يشهد على أن هذا الولد ليس بولده، والمرأة حينما تشهد الأربع الشهادات تضاد بها وتقابل بها شهادات الزوج، فتشهد أربع شهادات مؤكدة بالأيمان أنه كذب عليها فيما ادعاه من زناها، وكذلك أيضاً أنه كاذب في نفي الولد، وأن الولد ولده.
وهذه الشهادات الأربع المؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن والغضب، أما كونها مقرونة باللعن فمن جهة الزوج، وأما كونها مقرونة بالغضب فمن جهة الزوجة، والمراد باللعن والغضب: لعن الله عز وجل وغضب الله، فالزوج يحلف اليمين الخامسة وهي -والعياذ بالله- الموجبة، ووصفت بكونها موجبة؛ لأنه إذ حلفها أوجبت عليه لعنة الله -والعياذ بالله-، وأوجبت عليه عقوبة الآخرة إذا كان كاذباً فاجراً في يمينه، وفيما ادعاه من زنا زوجته أو نفي ولده منها، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الزوج لما حلف الزوج الأربعة الأيمان والشهادات الأربع الأولى أوقفه بعدها، وجاء في بعض الروايات: أنه أُخذ على فمه، وكل هذا خوفاً عليه من لعنة الله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله! فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ويحك إنها الموجبة)، أي: اتق الله في نفسك، ولا تحمل ما لا تطيق، فإن كنت كاذباً فارجع عما قلته، فحلف الرجل.
وأما بالنسبة للمرأة فالغضب في حقها، فتحلف اليمين الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين -أي زوجها-، وهذه الخامسة -والعياذ بالله- موجبة لغضب الله عز وجل، وإذا حل غضب الله على العبد فقد هوى، يعني: هلك هلاكاً عظيماً؛ ولذلك جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أوقف المرأة عند الخامسة وقال لها: (اتقي الله! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة)، فلما قال لها: إنها الموجبة، أي: أنك لو حلفت هذه الخامسة بأن غضب الله عليكِ، فإنه سيحل عليك غضب الله، والله تعالى يقول في كتابه: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]، وهذا إشارة إلى عظيم ما يصيبه من البلاء، حتى هوى وسقط سقوطاً قد لا يسلم معه أبداً، وهذا أمر عظيم جداً، ولذلك إذا حدث اللعان على هذه الصورة تنتقل الخصومة من خصومة الدنيا إلى خصومة الآخرة، ويكون أمر الزوجين إلى الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل من تائب؟)، أي: منكما، وقد جاء في رواية أنس رضي الله عنه: أن المرأة لما أوقفت، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها الموجبة)؛ تلكأت وكادت أن تعترف ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فحلفتها!(320/2)
سبب نزول آيات اللعان
هذا اللعان وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء رحمهم الله في قصتين صحيحتين ثابتتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: القصة الأولى: وقعت لصحابي يدعى: عويمر العجلاني من بني عجلان، والثانية: لـ هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عز وجل عليهم كما في قصة غزوة تبوك، فاختلف العلماء رحمهم الله: هل نزلت آيات اللعان بسبب قصة عويمر أو بسبب قصة هلال؟ والذي عليه أكثر الأئمة رحمهم الله واختاره بعض أئمة التفسير أنها نزلت في هلال بن أمية لما قذف امرأته بـ شريك بن سحماء رضي الله عن الجميع، واختار الإمام النووي رحمه الله أنها نزلت في عويمر العجلاني، وقصته أنه أتى إلى عاصم العجلاني، وهو ابن عمه فقال: يا عاصم! الرجل يجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي -يا عاصم - عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله، فكره النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام لا يحب المسائل التي لم تقع خشية أن تحدث تشريعات وأحكام تضيق على الأمة؛ ولذلك كان يقول كما في مسند أحمد: (أعظم المسلمين جرماً رجلٌ سأل عن شيء لم يحرم، فحرّم من أجل مسألته)، وقال: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها)، فكان يكره المسائل، فلما جاء عاصم وسأل هذا السؤال ولم يبين أنه وقع لم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع عاصم إلى قومه فجاءه عويمر، وقال: يا عاصم! هل سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له عاصم: قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة، فقال عويمر: والله! لا أنتهي حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، وكانت زوجته ابنة عمه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ يعني: لو أنه قتله، ليس عنده شهود يثبتون أنه زانٍ؛ ولذلك سيقتل به؛ لأنه لو فتح هذا الباب لأمكن كل شخص يكره شخصاً أن يدعوه إلى بيته ثم يقتله، وقد يكون كارهاً لزوجته، فيدعي زناها بالرجل، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنه قد نزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فأت بها، فذهب وجاء بامرأته، وتلاعنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وأما قصة هلال بن أمية رضي الله عنه -وكان أخاً للبراء بن مالك لأمه- فإنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ بين أصحابه فقذف امرأته بـ شريك بن سحماء، أما عويمر ففي قصته أنه قال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه؟ أما هلال بن أمية فإنه تلفظ باللفظ الصريح أن امرأته زنت بـ شريك بن سحماء، قال عبد الله بن عباس كما في صحيح البخاري وغيره: إن هلال بن أمية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقذف امرأته بـ شريك بن سحماء، يعني: سمى الرجل الذي وجده، وقال: يا رسول الله! لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني، والله! يعلم إني صادقٌ فيما أقول، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، فقال هلال: (والله! ما كذبت يا رسول الله! والله! يعلم إني صادق وسينزل الله فيّ قرآناً يصدقني)، فقال عليه الصلاة والسلام: البينة أو حدٌ في ظهرك؛ لأن الله عز وجل أثبت الحد في أول الإسلام على كل من قذف زوجته أو غيرها، فإما أن يثبت زناها بالبينة أو يقام عليه الحد، وهو ثمانون جلدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -على الأصل-: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، يعني إما أن تحضر البينة أو أقمت عليك الحد، وسياق الحديث في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما يؤكد أن القصة أول ما حدثت مع هلال بن أمية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه بالأصل الذي سبق نزول آيات اللعان، فقال له: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، وهذا يرجع ويقوي أنها نزلت أول ما نزلت في هلال، وهو مذهب الأكثرين، فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، اعتذر الرجل بما اعتذر، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي، فلما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي أمره أن يحضر المرأة ثم أمرهما أن يتلاعنا، فبدأ بـ هلال فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، وإنها زنت، وإن الحمل الذي في بطنها ليس منه، ثم خمّس بشهادة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم بعد ذلك شهدت المرأة أيمانها، فقال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إليه فإن جاءت به أُصيهباً أحمش الساقين فهو لـ هلال -يعني: قد كذب والولد ولده-، وإن جاءت به أورق خدلج الساقين فهو للذي ذكر)، فجاءت به على صفة الرجل الزاني والعياذ بالله!(320/3)
الحكمة من تشريع اللعان بين الزوجين
اللعان تشريع حكيم شرعه الله من فوق سبع سماوات، وبيّن شأن هذا الأمر العظيم، وجعل له أحكاماً خاصة، والسبب أن القضايا التي تقع فيها الخيانة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتيسر فيه الدليل وتقوم فيه الحجة من إقرار أو شهودٍ عدول يشهدون بأن المرأة أو الرجل قد وقعا في زنا، وحينئذٍ لا إشكال.
القسم الثاني: لا يتيسر فيه وجود الدليل؛ ولذلك قال سعد رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح: يا رسول لله! أرأيت لكعاً لو أنه تفخذها رجل أيقتله فيقتل أو يذهب فيحضر الشهود فيفرغ الرجل من حاجته؟ لأنه يصعب إحضار أربعة شهود، وهذا الباب شددت فيه الشريعة كما سيأتي -إن شاء الله في باب حد الزنا- بيان حكمة التشريع في وجوب أن يبلغ النصاب أربعة شهود، وقد خصّ أمر الزنا بذلك، لعظيم البلاء فيه، فالضرر لا يقتصر على المرأة ولا على الزوج، بل ينتشر إلى أهل المرأة وإلى أهل الزوج، ومثل هذا الأمر تسفك به الدماء، ويحصل فيه من الشر ما الله به عليم، إضافةً إلى أن الناس عندهم نوع من التساهل في القذف بسبب شدة الغيرة، فقد يكون الرجل شديد الغيرة فيتهم امرأته ويبادر باتهامها، والعكس أيضاً.
وعلى كل حال، لما كان أمراً زوجياً له أحكام خاصة وضعت الشريعة له هذا التشريع، إذ غالب الظن أن الرجل لا يقدم على اتهام امرأته ولا يقدم على نفي ولده منها والأمر بخلاف ما يقول؛ فالغالب أن الرجل لا يقدم على اللعان إلا إذا كان صادقاً، أما الشذوذ وكون الرجل -والعياذ بالله- جريئاً على محارم الله وجريئاً على الكذب على الله عز وجل بشهادة الأيمان؛ فهذه أحوال نادرة، لكن الغالب أن الزوج لا يمكن أن يأتي إلى فراش الزوجية فيتهم زوجته وينفي ولده منها إلا وهو صادقٌ فيما يقول أو عنده ما يدل على ما يثبت صدق دعواه، فنظراً إلى أن الرجل يحتك بزوجته ويطلع على أمور زوجته ويدخل على زوجته في أحوال مختلفة؛ ففي ذلك مظنة أن يقع على شيء، ثم هذا الشيء قد يقع فجأة فلا يتيسر له وجود الدليل، وهذا الذي جعل بعض الصحابة يشتكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت الشريعة حلاً خاصاً بهذه الأيمان التي يُدفع بها الضرر عن الزوج فلا يلحق به ما دنس فراشه من ولد الحرام، وأيضاً يدفع به الضرر عن المرأة إذا اتهمت بالباطل، فعدل الله عز وجل بين الاثنين، وجعل هذه الحالة الخاصة والأمر الخاص مرده إلى الآخرة إذا أصر الزوج على أمره وكذبه أو أصرت الزوجة على كذبها؛ لأنه لابد أن يكون أحدهما كاذباً، فجعل لها هذا التشريع الخاص الذي يخوف به الزوج وتخوّف به الزوجة، فإما أن يقدما وإما أن يحجما، وأمر اللعان فيه تفصيل، فتارةً يجب على الرجل أن يلاعن زوجته، وتارةً يحرم على الرجل أن يلاعن زوجته، وتارةً يباح له فإن شاء لاعن وإن شاء ترك ويكون الأفضل له الستر.
أما في الحالة الأولى وهي التي يجب على الرجل أن يلاعن زوجته فهي أن يتحقق من زناها أو يتحقق أن الولد ليس بولده، مثل أن يدخل فيراها على الزنا، فيرى بعينيه ويسمع بأذنيه ويتحقق أنه قد وقعت الفاحشة بالصفة المعتبرة في إثبات جريمة الزنا، فيرى فرجه في فرجها على الصفة التي لا لبس فيها ولا غموض، فلو أنه رآه مختلياً بالمرأة فلا يكفي هذا لإثبات الزنا، فإنه ربما كان الرجل لم يجامعها بعد، وقد يكون ما بينهما علاقة غرام ومحبة، وتمنعه المرأة من نفسها كما يحدث من بعض النساء فتتمنع، فليس وجود الرجل مع المرأة كافياً لإثبات الزنا، وهذا أمر عام لا يختص بالزوجين، فعلى كل مسلم أن يعلم أن الله سائله ومحاسبه عن اتهامه إخوانه المسلمين، فلا يجوز له أن يثبت الزنا على رجل أو على امرأة حتى يرى بعينه أو تقر المرأة للزوج أو يقر الرجل على نفسه.
فالزوج يحكم بأنه متأكد وعلى يقين من زناها بدليلين أحدهما: أن يرى بعينيه الفاحشة، نسأل الله السلامة والعافية! ثانيهما: أن تقر له زوجته وتخبره أنها فعلت هذا الشيء، وأنه وقع منها.
وفي حكم اليقين غلبة الظن أن يأتي شهود يثق فيهم وفي أمانتهم وصدقهم وعدالتهم فيشهدون عنده أنهم رءوا زوجته على الزنا ويشهدون بالصفة المعتبرة في إثبات حد الزنا.
إذاً: هناك حالتان يتحقق فيها الزوج من زنا الزوجة: الأولى: أن يرى بعينيه ويشهد ذلك بنفسه.
الثانية: أن يشهد عنده العدول، فالأولى تندرج تحت اليقين والثانية هي غالب الظن، ويندرج في حكم اليقين أن تخبره الزوجة كما ذكرنا.(320/4)
حكم اللعان(320/5)
الحالة التي يجب فيها اللعان
الحالة الأولى: إذا تحقق الرجل من زنا زوجته فيجب عليه أن يلاعن إذا ترتب على هذا الزنا حمل وولد، وقطع بأن هذا الولد ليس بولده، مثلاً لأنه لم يجامعها، أو مثلاً حدث الحمل من هذا الزنا فتركها بعد زناها وتحقق أن هذا الحمل من حمل الزنا وأنه ليس بولده، فحينئذٍ إذا لم يستطع أن يتخلى عن هذا الحمل إلا باللعان بحيث يتأكد أنه لو سكت عن هذه الجريمة سيبقى الولد ينسب له، وسيكون هذا الولد شريكاً لأولاده في الميراث ويستحل النظر إلى من لا يجوز النظر إليهن، وكذلك أولاد أولاده، وما يتبع ذلك من تبعات، قال العلماء: يجب عليه أن يلاعن، لكن لو أمكنه أن يتخلص من هذا الولد مثل أن تعترف له بالزنا بعد وضعها الولد، فأمكنه أن يأخذ الولد ويجعله لقيطاً فيخرجه إلى سابلة أو إلى طريق ويضع معه مالاً ليأخذه أحد الناس، ولم يحصل ضرر على فراشه، ولم ينسب الولد إليه، فإذا انعدم عنه الضرر فحينئذٍ إن شاء سترها وهذا أفضل وأعظم أجراً عند الله عز وجل؛ لأن الستر في الزنا مندوبٌ إليه شرعاً، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الشهود -ولو كانوا أربعة- إذا رءوا الرجل يزني فالأفضل لهم أن يستروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في صحيح مسلم من حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه أنه جاءه ماعز بن مالك رضي الله عنه وهو جالسٌ في المسجد، وقال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم أتاه وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، فكرر عليه أربع مرات.
وجه الدلالة: أن ماعزاً اعترف وأقر ومع ذلك صرفه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يستر نفسه، وأن يراجع نفسه في هذا، وأمره أن يتوب لعل الله أن يتوب عليه، ولذلك لما أقيم عليه الحد وفرّ، قال عليه الصلاة والسلام: (هلا تركتموه ليتوب فيتوب الله عليه)، فهذا يدل على رحمة الله عز وجل بعباده، وهذا أمر أجمع عليه العلماء أن الأفضل أن يستر على الزاني زناه، حتى الشخص لو وقع -والعياذ بالله- في الجريمة، وأراد أن يعترف؛ فبالإجماع أنه يرغب في ستر نفسه، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قضية ماعز والمرأة التي اعترفت بالزنا قام على المنبر وقال: (أيها الناس! من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله).
فهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله أن الأفضل والأكمل أن يستر نفسه، لكن إذا كان هناك ضرر مثلما ذكرنا: أنه لو سكت وستر عليه فمعنى ذلك أن فراشه يلوث، وأنه يحصل عليه الضرر، فلا إشكال حينئذٍ في كونه يجب عليه أن يدفع عن نفسه الضرر حتى لا ينسب الولد إليه.
ولوجوب الملاعنة جانبان: الأول: أن يتحقق من زناها.
الثاني: ألا يمكنه دفع الضرر المترتب على زناها، وهو الولد، فحينئذٍ يجب عليه أن يلاعن، وإذا أمكنه دفع ضرر الولد بإخراجه عنه وعن فراشه ودفع بلائه عنه.
فالأفضل أن يستر المرأة، لكن هل يبقي المرأة عنده أم يسرحها؟ هذا فيه تفصيل: فالمرأة التي وقعت في الحرام ثم تابت توبةً نصوحاً، وظهرت الدلائل والقرائن على أنها تائبة إلى الله عز وجل، وأنها كارهة لهذا الأمر، فمذهب طائفة من العلماء أنه يشرع له أن يسترها وأن يضمها إليه، خاصةً إذا غلب على ظنه أنه لو طلقها قد تقع في الزنا، ويفسد حالها أكثر، فيضمها إليه وخاصةً إذا كانت قريبة أو نحو ذلك.
وأما إذا خشي أنها تكذب في توبتها أو لم يظهر له الدليل على صدق توبتها فلا يجوز له أن يبقيها؛ لأن هذا يعرض فراشه ونسبه للحرام، ويؤثر عليه وعلى ذريته ونسبه، فلا يجوز أن يبقي مثل هذه، ويجوز له شرعاً إذا ثبت أنها زانية أن يضيق عليها حتى تدفع له المهر ويخالعها خلعاً شرعياً؛ لأنه إذا أتت بفاحشة مبينة فمن حق الزوج أن يضيق عليها حتى ترد له مهره؛ لأنها خانت عشرته، وأفسدت عليه فراشه، ويكفيه ما بلي به من العذاب، وحينئذٍ يأخذ حقه من المهر لعل الله أن يعوضه خيراً منها، ولا يجوز له إذا علم أنها زانية أنه يبقيها.
ويشكل على هذا حديث: (إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال عليه الصلاة والسلام: طلقها، قال: يا رسول الله! إني أخشى أن تتبعها نفسي، فأمره أن يمسكها)، هذا الحديث -أولاً- ضعيف الإسناد، ضعفه العلماء رحمهم الله، وممن أشار إلى ضعفه الإمام الجوزي رحمه الله في كتاب: العلل المتناهية في بيان الأحاديث الواهية، وبيّن أنه حديث موضوع، ومن أهل العلم من حسن هذا الحديث، وعلى فرض تحسينه يجاب عنه بأجوبة، منها: إن قوله: (إن امرأتي لا ترد يد لامس)، ليس المراد به الزنا، وإنما المراد ما كان في أعراف الجاهلية بما يسمى: بالأخدان، فكانت المرأة لها عشيق وعشير يقبلها ويلمسها ولكن دون أن يزني بها، كما يقع الآن في أعراف الجاهلية المعاصرة عند الكفار أن المرأة المتزوجة يكون لها صديق أو لها خدن، وهذا الذي عناه الله بقوله: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25]، فهذا الخدن قد يستمتع من المرأة بما دون الفرج، فقوله: ترد يد لامس، أي: أنها يستمع بها بما دون الفرج، وهذا الجواب اختاره غير واحدٍ ومنهم الإمام ابن القيم رحمه الله، وعلى كل حال، فقد دلت النصوص على أنه لا يجوز أن يمسك بعصمة المرأة الزانية خاصةً إذا لم تتب من زناها؛ لأن الله يقول: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، فلا يجوز للرجل أن يتساهل في هذا الأمر؛ لأنه ينشر الفساد، ويعين على الفساد، والشريعة ما جاءت بالمعونة على الفساد، ولا شك أن الرجل إذا ضعف في مثل هذه الأمور كان ديّوثاً -والعياذ بالله- يقر الحرام في أهله، فعليه لعنة الله عز وجل، فلا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور، إنما يشرع الستر إذا كانت المرأة معروفة بالمحافظة وحصل الزلل منها، فكل حالة تدرس على حدة، ويرجع فيها إلى أهل العلم، ففي بعض الأحوال يكون الرجل متساهلاً في فراش المرأة ويغيب عنها الشهور فتقع في الحرام بسبب الزوج، وقد تكون هناك أمور مهيأة مثل تساهله في اختلاط أقاربه بها واحتكاكهم بها ونحو ذلك، وعلى كل حال فالأصل الشرعي يقتضي أنه يجب أن نحافظ على الفراش، وهذه هي الحالة الأولى التي يجب فيها اللعان.(320/6)
الحالة التي يحرم فيها اللعان
الحالة الثانية: يحرم اللعان إذا كان الرجل كاذباً على زوجته فيتهمها بالباطل ويتهمها بالزور، وهذا الأمر من السبع الموبقات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في الصحيح، وحذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منها، ومنها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وتوعد الله عز وجل من فعل ذلك باللعنة في الدنيا واللعنة في الآخرة، والعذاب العظيم في الدنيا والآخرة، ويفضحه الله على رءوس الأشهاد؛ فتشهد عليه يده وتشهد عليه رجله ويشهد عليه لسانه بما افتراه على المرأة البريئة من الزور والبهتان، والتساهل في التهم والقذف أمر عظيم، ومن تأمل نصوص الشريعة في الكتاب والسنة وجدها تعظم حرمة المسلم، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن العرض بالدم، ولربما كان قتل الإنسان أهون عنده من أن يُطعن في عرضه، ولكن لا شك أن الله سبحانه وتعالى يعين البريء ويحفظه ويثبته؛ لأن من يصبر يصبره الله، وهذا البلاء يرفع الله به درجته؛ ولذلك قدر الله عز وجل هذا البلاء لخير الأمة صلوات الله وسلامه عليه؛ حتى يُعلّم أمته الصبر على التهم، ويعلم كل مؤمن وكل مؤمنة أن يتجلدا في مثل هذا البلاء الذي يصدر من هذه النوعية من الناس التي لا تبالي بما تقول، وتلصق التهم بأتفه الأشياء، فتجد الرجل بمجرد أن يرى غريباً دخل بيتاً اتهمه بالزنا! وبمجرد أن يرى امرأةً في مكان اتهمها بالزنا! فهذا أمر ينبغي للمسلم أن يتقي الله عز وجل فيه، وأن يخاف الله سبحانه وتعالى، وأن يلتمس لإخوانه وأخواته المؤمنات الأعذار، وأن ينزل نفسه منزلتهم، وإذا فعل ذلك حفظ الله له دينه، وحفظ له عرضه، ومن صان أعراض الناس صان الله عرضه، ومن عف عن الناس عفت الناس عنه، قال الإمام مالك رحمه الله: (أعرف أناساً لهم عيوب سكتوا عن عيوب الناس فسكت الناس عن عيوبهم، وأعرف أناساً لا عيوب لهم تكلموا في عيوب الناس فأحدث الناس لهم عيوباً).
فتهمة الزوج لزوجته بالحرام أمر عظيم، وأجمع العلماء على أن اللعان في هذه الحالة محرمٌ على الزوج، ولا يجوز له أن يلاعن، فإذا بلغت به الجرأة أن ادعى ذلك في مجلس القضاء، وطلب أن يلاعن زوجته فالأمر أشد والمصيبة عليه أعظم؛ لأنه سيحلف الأيمان الفاجرة الكاذبة -والعياذ بالله- ثم يقول في الموجبة الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وإذا قالها حلّت عليه لعنة الله عز وجل والعياذ بالله!(320/7)
الحالة التي يجوز فيها اللعان وعدمه
ذكرنا الحالة الأولى وهي: الوجوب، والحالة الثانية وهي: التحريم، وهما شبه مجمع عليها بين العلماء رحمهم الله.
والحالة الثالثة هي: الجواز، إذا اطلع الرجل على زنا زوجته ولم يحدث من هذا الزنا حمل، ففي هذه الحالة من حقه أن يضيق عليها فيما بينه وبينها حتى تفتدي، ومن حقه أن يلاعنها، فإذا شاء أن يلاعنها لاعنها، وإذا شاء أن يضيق عليها حتى تفتدي ويسرحها فعل ذلك، والأفضل والأكمل -كما ذكرنا- أن يسترها ألا يلاعنها، وإذا أراد أن يأخذ حقه بأن تفتدي أخذه، وإذا أراد أن يطلقها ولا يأخذ شيئاً فإن الله عز وجل سيعوضه.(320/8)
وصية لمن ابتلي في عرضه
والذي ينبغي أن ينبه عليه في مثل هذا: أن خيانة الفراش والوقوع في الحرام بلاءٌ عظيم، ومن ابتلي بشيء من ذلك فعليه أن يصبر، وأن يعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى؛ لأن البلاء إذا حلّ بالعبد ليس هناك أحب إلى الله من أن يصبر ويرضى بقضاء الله وقدره، وقد جاءت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تبشر من صبر عند البلاء، فكما أن البلاء يكون في الجسد يكون أيضاً في العرض؛ ولذلك ابتلى الله عز وجل بالبلاء بالعرض أنبياء الله، فموسى عليه السلام تكلموا فيه وقالوا: إنه آدر، أي: له خصية واحدة كما ثبت في الصحيحين: (أن الله عز وجل ابتلاه بكلام بني إسرائيل فيه فقالوا: إنه آدر؛ لأنه كان لا يغتسل معهم، فقالوا: لا يغتسل معنا وإلا وفيه عيب)، فاختلقوا له هذا العيب، وهذا ابتلاء من الله عز وجل للذين في قلوبهم مرض، فالقلب يمرض فيما بينه وبين الله، ويمرض فيما بينه وبين الناس، فللقلوب أمراض بسبب تعديها على حقوق الله عز وجل ومحارمه، وللقلوب أمراض بسبب تعديها على حقوق المسلمين وواجباتهم، فإذا وجد المرء نفسه لا يرعوي عن إلصاق التهم بإخوانه فهذا مرض في القلب نسأل الله السلامة والعافية! وقد ذكر الله عز وجل أن القوم البهت كاليهود يحل الله عليهم سخطه وغضبه بسبب أذيتهم للناس، فأوذي موسى عليه الصلاة والسلام فقيل عنه: إنه آدر، فشاء الله عز وجل أن ينزل ويغتسل، وأمر الله الحجر أن ينطلق بثيابه، فأصبح موسى يركض وراء الحجر عارياً أمام الناس، وهذا ابتلاء، فلا يظن أحد أنه سيخرج من الدنيا -ما دام عنده إيمان- دون أن يمحص ودون أن يؤذى ودون أن يبتلى، فتجد من عنده ضعف إيمان إذا ابتلي بمثل هذه المصائب طاش عقله وذهب عنه رشده، فأخذ يسب ويشتم ويضيق على نفسه ويكدر عيشه؛ فيزداد ضيقاً إلى ضيق كما قال صلى الله عليه وسلم: (فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط)، فيضيق على نفسه، وهذا من علامة الخسران، حتى إنه -والعياذ بالله- قد تزني امرأته ويطلع على زناها فيتكلم فيها ويفضحها ويشهر بها ويغتابها، فيحمل ذنوباً وسيئات قد تذهب صلاته وصيامه -والعياذ بالله- فيجمع الله له بين مصيبتين: مصيبته في أهله، وأذيته لها بعد وقوعها في هذا الحرام، فيجب عليه أن يصبر ويتجلد، ولذلك قرن الله الصبر بالتقوى، والتقوى: حفظ اللسان، وحفظ الجوارح والأركان، وحفظ الجنان.
فإذا ابتلي شخص بمثل هذه الأمور فإنه يوصى بالصبر، والأئمة والخطباء وطلاب العلم والعلماء والموجهون والأصدقاء والقرناء عليهم إذا اطلعوا على مثل هذه الأمور أن يثبتوا من ابتلي بها؛ لأنه ليس هناك فرج أقرب من فرج الله لمن صبر وصابر ورابط، ويوصى المبتلى بذلك بالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى والالتجاء إليه كما ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصتها التي هي من أعظم القصص عبرةً وعظة، في قوة إيمانها وثبات جنانها وصدق التجائها إلى ربها، حتى جاءها الله بالفرج من حيث لم تحتسب وقالت: (ما كنت أظن أن ينزل الله فيّ قرآناً)، فأنزل الله براءتها من فوق سبع سماوات، حتى أنها من كمال إيمانها وتوحيدها وتعظيمها لله سبحانه وتعالى لما قيل لها: (اشكري رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لا، والله! بل أشكر الله)، فابتدأت بشكر الله قبل شكر أي أحد؛ لأنها مرت عليها ساعات وأيام قاست فيها وعانت وليس معها إلا الله وحده، حتى أنها رضي الله عنها وأرضاها لما عظم البلاء وجلست عند والديها جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- وقال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه)، وانظروا كيف الرحمة واليسر! إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه، ليس هناك أعظم من الشرك، وليس بعد الكفر ذنب، ومع ذلك أمر الله المشركين أن يتوبوا إليه فقال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، فرحمة الله واسعة، إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه، قصة فيها عبرة للزوج وعبرة للزوجة، وعبرة لأهل الزوج وأهل الزوجة، وسلوى للمؤمن، فقال لها هذه الكلمات، فقالت لأبيها وأمها رضي الله عنهم وأرضاهم: أجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استطاعوا أن يجيبوه، فقالت: لا أقول إلا كما قال أبو يوسف -ما استطاعت من شدة ما تعانيه أن تتذكر اسم يعقوب عليه السلام-: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]، فصبرت صبراً جميلاً واستعانت بالله جل وعلا، فما لبث أن نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءتها، والعلماء رحمهم الله لما تكلموا عن بعض أهل الزيغ والضلال الذين يطعنون في أمهات المؤمنين ويتكلمون في الصحابة كان بعض العلماء يقول: لا أشك في كفر من اتهم عائشة رضي الله عنها؛ لأنه يكذب نص القرآن، وهذا بلا مرية، ويكاد يكون بالإجماع أن من قذف عائشة كافر؛ لأن الله عز وجل نص على براءتها، ونص على طيبها، ونص على أنها مبرأة مما اتهمت به، فجعل الله لها هذا الشرف وهذا الفضل، حتى أن القرآن يتلى ويتقرب إلى الله عز وجل ببراءتها رضي الله عنها وأرضاها، فهذه عاجل بشرى الله عز وجل لأوليائه، وحينما تنزل مثل هذه البلايا على الإنسان تضيق عليه الدنيا بما رحبت، ولكن حبل الباطل قصير، وكما بين الله عز وجل أن كيد الشيطان ضعيف، فتضيق الأمور وتعظم وتشتد ويصبح الإنسان في همٍ وغم لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن لا يلبث أن يأتيه الفرج ويكون أقرب إليه من حبل الوريد، فإذا بالأمر كأن لم يكن شيئاً: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، ولكن العجيب أن بعض الناس لقوة إيمانه وثباته -ولعل الله عز وجل يحبه- يجعل الله براءته في الآخرة ولا يجعل براءته في الدنيا، فقد يتكلم فيه الناس فإذا وقف بين يدي الله عز وجل وأظهر الله صدق الصادقين وكذب الكاذبين، فعندها كما قال الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119] فالمرأة والرجل إذا ابتليا بمن لا يتقي الله عز وجل في أعراض المسلمين، فيتكلم فيهم ويتهمهم بالزور والباطل، فما عليهما إلا أن يصبرا، والأمر في حق النساء آكد وأوجب، فإن النساء يُظلمن كثيراً في هذه الأمور، وبالأخص إذا كان الظلم من القريب، فأخوها بمجرد أن يرى أقل الأشياء يضخم الأمور ويتهمها عند والديها أو يضيق عليها، فهذا أمر ينبغي أن ينصح فيه الناس وأن يذكروا بالله عز وجل، وعلى المرأة أيضاً ألا تفتح على نفسها أبواب التهم، وعليها -دائماً- أن تحافظ على دينها وعلى كرامتها وعلى عفتها، وعليها إذا رأت من أخيها أو زوجها أو قريبها تضييقاً في أمر ألا تعتقد أنه يسيء الظن بها، بل إنه قد يخاف الإنسان على عرضه، والله يعلم أنه قد يضحي بدمه وبأغلى ما يملك من محبته لأهله وقرابته، فعليها أن تتحمل ذلك وأن تتقبله.(320/9)
الذب عن أعراض المسلمين وحرمة الطعن فيهم
والوصية الأخيرة التي ينبغي أن يوصى بها وهي عبرة تنبني على هذه المسألة: أن الوعيد الشديد ثابتٌ في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم باللعنات والدركات والعذاب الشديد في الحياة وبعد الممات لمن تكلم في أعراض المسلمين، وإذا كان هذا في العرض فقط، فما بالك بمن يتكلم في عقيدة الإنسان أو يتكلم في فكر الإنسان؟ الأمر أشد، والعرض أهون من الاعتقاد، وهذا لا يعني أن يتساهل الإنسان مع أهل الزيغ والضلال إنما المراد أن يتأكد وأن يتحفظ فيما يقوله.
ولنعلم أن الله عز وجل لم يحل للمسلم أن يستطيل على عرض أخيه المسلم، وأن الله لا يرضى الباطل ولا يرضى الزور ولا يرضى البهتان، وأن ينزل نفسه منزلة من يتكلم فيه، وألا يقبل لنفسه ولا لمتكلم ولا سامع أن ينقل إليه عن أحد -خاصة إذا كان من الدعاة أو الأخيار أو الصالحين- تهمة أو لمزة أو شيء من هذا، بل عليه أن ينصحه بأن يتقي الله عز وجل، ولذلك ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في الذب عن أعراض المسلمين، حتى أن الله سبحانه وتعالى أشاد بهذا، فـ أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه له موقف مع أم أيوب حينما وقعت حادثة الإفك، قال الله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12]، وهذه الآية نزلت في أبي أيوب وأم أيوب لما بلغهم خبر اتهام عائشة رضي الله عنها، فبرءاها واستبعدا ذلك منها ورفعاها رضي الله عنهما، وهي أهل لذلك، وبعيدة عن تلك التهمة، فيقول الله عز وجل: (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ)، فقال: ظن المؤمنون، فوصفهم بأنهم أهل إيمان؛ فلا تجد شخصاً يبرئ سمعه ويبرئ لسانه عن أعراض المسلمين وعن الطعن في الناس إلا وفيه إيمان يردعه ويزجره، وفيه خوف من الله سبحانه وتعالى، ولا يصلح سلوك الإنسان وتصرفاته شيء مثل: الخوف من الله عز وجل ومراقبة الله سبحانه وتعالى والإنصاف والعدل؛ لأن الشخص الذي كما لا يحب أن يُظلم فلا يظلم الناس، فتجد الشخص الذي يخاف أن يرتكب حداً من حدود الله عز وجل لا يقع في إخوانه المسلمين، فلا يأذن لسمعه ولا يأذن للسانه أن يستبيح أعراض المسلمين، قال الله تعالى: (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ)، وما قال: بإخوانهم، وإنما قال: بأنفسهم، فنزل أخاك المسلم منزلة نفسك التي بين جنبيك، ومعنى: بأنفسهم في قول جماهير المفسرين: بإخوانهم، كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، أي: لا تقتلوا إخوانكم، وانظر إلى جمال القرآن وعلوّ هذا الأسلوب الرباني المنزل من لدن حكيم خبير: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، قال الله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12]، فنزهوها رضي الله عنها وقالوا: سبحانك؛ وهذا شيء من الخوف من الله سبحانه وتعالى والمراقبة لله عز وجل.
فالواجب على كل مؤمن فضلاً عن طالب علم، فضلاً عن قدوة، أن ينزه نفسه عن الوقيعة في إخوانه المسلمين، ولا يشعر المرء أن الناس مراتب فيحتقر بعضهم؛ فقد يكون الشخص الذي تراه أشعث أغبر ذي طمرين ليس معروفاً في نسبه وليس عنده وظيفة ويكون ضعيفاً فقيراً لكنه عند الله أمة: (رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)، وقد يتكلم الشخص بعدل في عقيدة مبتدع أو فكره أو منهجه، ولا نقول: لا تتكلم فيمن يستحق، لكن الشريعة وضعت لذلك موازين صحيحة ثابتة قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152]، العدل أمر الله عز وجل به، وكان أئمة السلف يضربون فيه أروع الأمثلة، وكان بعض أئمة الجرح والتعديل يتكلم في الرجال فمر أحد العلماء رحمهم الله عليه، وهو يتكلم في تراجم الرجال، فقال له: اتق الله فلربما تكلمت في أقوام قد حطوا رحالهم في الجنة، فأجهش هذا الإمام الحافظ الذي يتكلم في الرجال بالبكاء من هول هذه الكلمة! وما قال له: أنت عدوّ للسنة، بل كانت قلوبهم ترجف من الخوف؛ ولذلك يقولون: لا يقبل الجرح والتعديل إلا من العدل الذي يعرف بالعدالة والاستقامة، الأمين الذي عنده أمانة فلا يخون الأمة، ومع ذلك يكون خائفاً من الله عز وجل ويتمنى أنه لو كُفي هذا الأمر، ولولا أنه مضطر لما تكلم فيه، فلا يتكلم تشهياً ولا شهرة، ولا يتكلم عن غرض، ولا يتكلم عن حقد، ولا عن حسد، فهذه موازين عامة ينبغي مراعاتها في كل عصر وزمان ومكان؛ لأن واجبنا كطلاب علم وأهل علم أن نبين للناس هذا خاصة في هذا الزمان الذي تساهل فيه عامتهم وخاصتهم، وهذا إذا كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى في غيره.
فعلى كل حال: على الناس أن يتقوا الله عز وجل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال له معاذ: (أو إنا مؤاخذون يا رسول الله! بما نقول؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم)؟! حتى العيب إذا رأيته من أخيك المسلم مندوبٌ لك أن تستره، فأول ما ترى العورة من أخيك المسلم فاعلم أنك ممتحن وأنك مبتلى من الله عز وجل، فالله عز وجل يبتليك بهذا الشيء، جيء بـ حاطب بن أبي بلتعة عندما ارتكب خيانة عظمى، حيث كتب إلى قريش بأن محمداً يريد غزوكم، حتى تستعد قريش قبل أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمى: الخيانة العظمى، حيث يفشو سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكتب لأعداء الله عز وجل من المشركين، أي ذنب بالنسبة للمسلم حينما يوالي أعداء الله إلى هذه الدرجة؟ فلما كتب ما كتب وبعث بالكتاب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه، فلحق بالمرأة ووجد معها الكتاب، قال: ما هذا يا حاطب؟ فقال: يا رسول الله! إن لي ولداً وأهلاً فأحببت أن تكون لي يداً عليهم أحميهم بها، يعني: ما فعلت هذا حقداً على الإسلام والمسلمين، انظروا كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن عذره، مع أن الذنب واضح، والخطيئة واضحة، والجريمة عظيمة، والله ينزل فيها قرآناً من فوق سبع سماوات، مع أن القوم مشركون كافرون بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم، فكاتب قريشاً، وهي ستتخذ الحيطة وستقتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر ليس سهلاً حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: دعه يا عمر! ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)! وأنت ما يدريك أن هذا العالم والإمام الذي تتكلم فيه كانت بينه وبين الله مواقف صدق، وقد يكون الله غفر له ذنوبه.
ونزله منازل ما تخطر له على بال! على الإنسان أن يتقي الله وأن يتورع، وأن يحرص كل الحرص على أن يزم نفسه بزمام التقوى، وليعلم كل إنسان أن أي ناصح وعالم وخطيب ومذكر إذا ذكر الناس وقال لهم: اتقوا الله فيما تقولون في إخوانكم المسلمين، فإنه ما قال شيئاً من عنده، بل كلها من نصوص الكتاب والسنة، وكل أمر بالتقوى يتضمن أن يتقي المسلم أول ما يتقي ما بينه وبين الله ثم يتقي ما بينه وبين الناس؛ ولذلك قيل: (يا رسول الله! من المسلم؟ قال: من سلم المسلمون من يده ولسانه)، فهذه نصوص الكتاب والسنة تحذر من هذا البلاء العظيم، وحينما نذكر قضية القذف والخيانة الزوجية؛ نذكر بما هو أعظم منها وأولى بالتأكيد عليه، وجماع الخير كله تقوى الله عز وجل، وأن يعلم كل مسلم أن الله رضي له العبودية والإيمان والنصيحة والبر والإحسان، وكره إلى قلبه الكفر وعبادة الأوثان، وكره إلى قلبه الفواحش ما ظهر منها وما بطن، سواءً كان في اللسان أو الجنان أو الجوارح والأركان حتى يكون من أولياء الله السعداء، وليعلم كل إنسان أن هذه الدنيا بساعاتها ولحظاتها سيقضي منها ما كتب الله له أن يقضي، فإما أن يعيش عفيفاً عن أعراض المسلمين فيعيش حميداً، ويموت سعيداً، ويبعث يوم القيامة وهو لا يحمل تبعة مسلم، ولا يحاسب بين يدي الله عن مسلم تكلم فيه، وإما أن يطلق لنفسه العنان فتكون منه زلات الجوارح واللسان والأركان، وعندها سيقف بين يدي العظيم الديان، حين لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وتنشر له كلماته، ويرى أمام عينيه عباراته، ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، ويندم حين لا ينفع الندم، فيؤخذ من حسناته، فإذا فنيت منه الحسنات أُخِذ من سيئات صاحبه ثم طُرحَت عليه فيكون مصيره إلى النار، قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ المفلس من يأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته على قدر مظلمته، حتى إذا فنيت حسناته أمر بسيئات صاحبه فطرحت عليه ثم أمر به فطرح في النار)، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل! وأختم هذه الوصية: بأن الأمر لا يختص بنا، وأرى أنه من الواجب أن نربي أبناءنا منذ الصغر على العفة، فينبغي أن نحافظ على أولادنا وذرياتنا، فإن الخير في المجتمع والمحافظة على الحقوق لا يمكن أن ينتشر إلا بإصلاح الذريات، والعناية بالنشأة الصالحة، وعلى كل والد في بيته أن يعود أولاده ألا يتكلموا في أعراض الناس، وأن يرسموا المنهج السديد في حفظ عورات المسلمين، وألا يرضى لابنه يوماً من الأيام أن يأتيه بكلمة فيها لمزة لجاره أو لأخيه أو لقريبه حتى الأولاد بعضهم مع بعض يعودهم ألا يتكلم بعضهم في بعض، ولا يعودهم الوشاية ونقل الحديث، حتى ينشأ الطفل على سلامة وبراءة وطُهر وعِفة، وكذلك يرسم له المنهج في النصيحة والتذكير، بأن يكون لهم خير قدوة،(320/10)
الأسئلة(320/11)
اللعان يوجب الفراق المؤبد بين الزوجين
السؤال
هل يفتقر اللعان إلى طلاق أم أنه طلاق بائن؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا لاعن الرجل امرأته وحلفت المرأة الأيمان فيفرق بين المتلاعنين فراقاً أبدياً لا يجتمعان بعده أبداً، قال سهل رضي الله عنه كما في الصحيحين: (مضت السنة عن رسول صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبداً)، ولما لاعن عويمر، ولذلك عويمر امرأته، وحلفت المرأة قال: (يا رسول الله! كذبت عليها إن أمسكتها، هي طالق ثلاثاً)، فطلقها بالثلاث في كلمة واحدة في مجلس واحد، وهذا الذي جعل الشافعي رحمه الله يقول: إن طلاق الثلاث بلفظ واحد سنة؛ لأنه ثبت كما في الصحيح أنه طلقها ثلاثاً بلفظ واحد، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه بدعة كما تقدم معنا في مسائل الطلاق؛ فالطلاق وقع من عويمر، لكن بدون إذن من النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فوقع الطلاق منه رضي الله عنه حمية وتأكيداً على أنه صادق، ولا يريد أن تبقى معه هذه المرأة، لكن السنة أن يفرق بينهما، فليس هناك طلاق، بل يفرق بينهما فراقاً أبدياً، والله تعالى أعلم.(320/12)
الطريقة المثلى لمن رأى في بيت جاره ما يريبه
السؤال
أحياناً يرى الجار ما يريبه في بيت جاره، فهل له أن يخبر جاره أم الأفضل أن يسكت؟
الجواب
لابد أن يؤخذ في الاعتبار فقه الفتوى فليس كل سؤال يجاب عنه، فما هي هذه الأمور المريبة؟ وما هي الضوابط المحددة التي يمكن أن يعرف فيها أن التهمة قوية أو ضعيفة؟ فصعب جداً أن تضع ضابطاً من الشريعة، فالشريعة لم تضع ضابطاً معيناً للمتردد على البيت أو أحوال البيوت بحيث يحكم أن هناك تهماً قوية أو ضعيفة؛ لكن المنبغي على أهل العلم وأهل الفتوى أن يجيبوا في مثل هذا على كل سؤال بعينه، فالشخص الذي يرى شيئاً من ذلك عليه أن يتصل بعالم، فينبغي عليه أول شيء أن يرجع إلى العلماء، وإذا سئل العالم ودرس الموضوع فيستطيع أن يحكم على هذا الأمر، فقد تقع أمور مريبة منها ما يمكن التحقق فيه، ومنها ما لا يمكن التحقق فيه، فما يمكن التحقق فيه مثل أن تكون المرأة من الأقرباء بحيث يستطيع أن يتصل عليها ويسألها: من هذا الذي يدخل البيت؟ فقالت: هذا عامل يأتي ويفعل كذا وكذا، ويعلم سبب الدخول على المرأة، ويجد أن الأمر ليس فيه أي ريبة، ولا يمكنه قطع الشك باليقين، وفي بعض الأحيان يستطيع أن يتأكد هو بنفسه، مثل أن يرى الشيء ويسهل الاطلاع عليه دون أن يسألها ودون أن يتحرى من الغير، فهذه الأمور ينبغي على العالم حينما يأتيه السائل أن يسأله: ما الذي رآه؟ وما حدود التهمة فيما رآه؟ ثم النساء يختلفن؛ فمن النساء من يعرف لهن قدم سابقة في الخير والصلاح والبر والبراءة والغفلة والبعد عن الحرام، وبعض الأحيان لا يخشى من المرأة لكن يخشى من الرجل نفسه، فالفساد في الرجل أكثر من المرأة، وفي بعض الأحيان العكس، فتكون المرأة فاسدة والرجل دين صالح، يدعى لعمل أو أمر ما والزوجة متساهلة، فهناك أمور تحتاج إلى دراسة، فمن فقه الفتوى أن الأمور التي تحتاج إلى نظر لا يفتى فيها بالقواعد العامة؛ لأن الناس حتى طلاب العلم تختلف أفهامهم، فلو أعطيت فيها قواعد عامة لفسرها كل شخص على حدود فهمه، وهذا يسمى بفقه الفتوى، فعلى العلماء وطلاب العلم والخطباء أن يوجهوا الناس، ولا يضعوا في مثل هذه الأمور قواعد عامة، فالذي نعرفه عن أئمتنا ومشايخنا رحمةُ الله عليهم أنها تُبحث كل مسألة على حدة، فإذا نظر فيها العالم أو الشيخ واستطاع أن يستبين وأن يتأكد من الأمر، فإن كان الأفضل الستر أمر به، وإذا رأى أن مثله لا يسكت عليه بل ينبغي عليه أن يطلع الزوج أمره فليخبر زوجها، وبعض الأحيان يكون الأسلم أن يخبر قرابتها ولا يخبر الزوج، حيث يكون في قرابتها من هو أعقل ومن هو أتقى لله عز وجل وأكثر محافظة من الزوج، وبعض الأحيان يكون ولدها أكثر صيانةً لها وأكثر محافظة فيطلعه على الأمر، فكل هذه مسائل ينبغي أن ينظر فيها على حدة، ويعطى فيها الجواب بحسب أحوالها، والله تعالى أعلم.(320/13)
حكم قضاء الصلاة لمن تركها متعمداً
السؤال
من ترك الصلاة متعمداً هل عليه القضاء؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف مشهور، جمهور العلماء على أن ترك الصلاة متعمداً لا يوجب الكفر، وإذا كان لا يوجب الكفر فيجب عليه القضاء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله عليهم، وذهب الحنابلة رحمةُ الله عليهم إلى أنه كافر، فعلى القول بكفره لا يقضي، وهذا الخلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله، والصحيح الجمع بين النصوص فإذا ترك تركاً كلياً لا يقضي، وإذا صلى أحياناً وترك أحياناً فحديث عبادة يقوي أنه ليس بكافر، خاصةً وأن قوله: (فمن تركها)، يحمل على الترك الكلي، وحينئذٍ يجمع بين النصوص، والله تعالى أعلم.(320/14)
كيفية زكاة من نسي إخراج زكاة ماله
السؤال
من نسي أن يخرج زكاة ماله في وقت الحول ومضى على ذلك فترة، فكيف يخرج زكاة ماله؟
الجواب
يجب عليه أن يخرج عن السنوات التي لم يخرج الزكاة فيها، واختلف العلماء في كيفية ذلك على قولين: منهم من يقول: يحسب السنة الأولى ويخرج منها الزكاة ثم يحسب زكاة السنة الثانية ويسقط قدر الزكاة التي أخرجها، ثم يحسب زكاة السنة الثالثة ويسقط قدر الزكاة من السنة الأولى والثانية، وهكذا، بمعنى: أنه يعفى عن المال الواجب في الزكاة فلا يزكه، ومن أهل العلم من قال: إنه يجب عليه أن يحسب المال تاماً كاملاً، ولا يسقط منه قدر الزكاة في السنوات السابقة، وهذا هو الصحيح فيما يظهر، والله تعالى أعلم.(320/15)
المراد بفتنة المحيا والممات
السؤال
ما معنى فتنة المحيا والممات؟
الجواب
الفتنة تطلق بمعانٍ عديدة، تطلق الفتنة بمعنى: العذاب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10]، يعني: عذبوهم واضطهدوهم؛ لأن الآية في سياق أصحاب الأخدود الذين عذبوا أهل الأخدود من المؤمنين، وتطلق الفتنة بمعنى: الشرك، لقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191]، يعني: الكفر والشرك بالله عز وجل، وتطلق الفتنة بمعنى: الصد عن سبيل الله عز وجل، وفتنة الناس عن دينهم وصدهم عن دينهم وإغوائهم بالضلالات أو الشهوات.
وفتنة المحيا هي: الأمور التي يبتلى بها الإنسان في دينه حال حياته، فما من مسلمٍ ولا مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وابتلاه الله على قدر إيمانه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، فدل على أنه لابد وأن يفتن المؤمن، ولذلك قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، أي: لا يختبرون ولا يمتحنون ولا يبتلون من الله عز وجل، قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141]، وقال: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]، وفتن الحياة التي تتعلق بالدين تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: فتنة الشهوات، والقسم الثاني: فتنة الشبهات.
ففتنة الشهوات هي: الفتن التي يُبتلى بها العبد في شهوته، فبعض العلماء يجعل الشهوة قاصرة على شهوة الفرج والبطن، وبعضهم يجعل الشهوة عامة حتى جعل من الشهوة: شهوة الحديث والكلام، ففتنة الشهوة دركات وبعضها أشد من بعض، فهناك مقاصد، وهناك وسائل، فعلى سبيل المثال: الزنا فتنة شهوة لكن هناك ما هو دون الزنا مما يفضي إلى الزنا، كالنظرة المحرمة، واللمس المحرم، والخلوة بالأجنبية، ومحادثة النساء، وإغرائهن، فقد تصير هذه الوسائل -في بعض الأحيان- بتكرارها وتعاطيها أعظم من الزنا نفسه، فمثلاً شخص -والعياذ بالله- اعتاد أن يحادث النساء ويغريهن ويفسدهن، فلربما أغرى المرأة الواحدة فتصبح عاهرة حياتها كلها بسبب كلامه وإغرائه، فيحمل بين يدي الله وزرها ووزر إغرائها بالحرام، مع أنه ربما لو زنى -والعياذ بالله- لا يصل في الإثم إلى هذا الذي وصله بسبب تكرار هذه الوسائل، فالفتن إذا كانت في الشهوات فهي دركات تختلف بحسب اختلاف آثارها، وما تفضي إليه من غضب الله عز وجل وسخطه، وفتنة الشهوات تشمل فتنة محبة العلو على الناس والمناصب، فتجد الشخص -مثلاً- في وظيفته مبتلىً بحب الظهور والبروز، فيظلم من تحت يديه، ويظلم عماله، ويظلم المستخدمين، وبعض الأحيان تكون عنده فتنة شهوة المدح والثناء والإطراء، فيحب أن يجله الناس ويمجدوه وإن كذبوا في وصفه وتمجيده، فهذه كلها من فتنة الشهوات، وهذه من فتنة الحياة التي قد تفضي بالإنسان -والعياذ بالله- إلى سخط الله وغضبه، والذنب قد يكون بريداً إلى الكفر، وقد يكون صغيراً ويكون بريداً إلى الكفر، فلا يستهين الإنسان بالمعاصي، فإن الجبال تكون من دقائق الحصى، نسأل الله السلامة والعافية! ولذلك قال عبد الله بن عباس: (لا تنظر إلى المعصية، ولكن انظر إلى من عصيت).
أما فتنة الشبهة فتكون في مسائل الدين نسأل الله السلامة والعافية! وأعظمها ما يكون في الاعتقاد من الشكوك في الله عز وجل، فيفتن الإنسان في توحيده وإخلاص العبادة لله عز وجل، ومن ذلك الرياء في الطاعات فتجد الإنسان -والعياذ بالله- يصلي ولا حظ له في صلاته ولا أجر ولا مثوبة؛ لأنه صلى للناس، ويطلب العلم وهو يريد أمراً من الدنيا فيذهب أجره، وهذا من فتنته في دينه، فالفتنة أنواع ودركات مهلكات، نسأل الله السلامة والعافية! ولذلك كان من سنته عليه الصلاة والسلام الاستعاذة بالله عز وجل من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المحيا -كما يقولون-: طول العمر حتى يرى الإنسان ما لا يسره ويسمع ما يسوءه، قال الشاعر: يا رب يومٍ بكيت فيه فلما صرت في غيره بكيت عليه فكم من إنسان رأى شهوات ورأى معاصي ورأى منكرات فمدّ له في عمره إلى زمان بكى على الذي قبله، وقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم-: (ما من زمانٍ إلا والذي بعده شرٌ منه حتى تقوم الساعة)، فمن فتنة المحيا أن يزاد في عمر الإنسان ولا يزال يتهاوى في المعاصي والمحرمات، فيزيده طول العمر معصيةً لله، وبعداً عن الله عز وجل، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (شركم من طال عمره وساء عمله).
وأما فتنة الممات فإن الإنسان يُفتن عند موته حتى أن الشيطان ربما استزله عند موته فختم له بخاتمة سيئة، ولذلك خاف العلماء والصالحون والأتقياء من سوء الخواتم، نسأل الله حسن الخاتمة! نسأل الله الثبات عند الممات! استعيذوا بالله من الفتن خاصةً في سكرات الموت عندما يوقن الفاجر، ويؤمن الكافر، ويزلزل العبد فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، ويرزقهم الله عز وجل القوة واليقين، وليس هناك فيصل في هذه الدنيا أصدق من فصل الخاتمة، فهي التي تفصل بين الناس، فالسعيد يرى خاتمة السعداء: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [التوبة:21 - 22]، فولي الله المؤمن أسعد لحظة له وأعز ساعة عنده؛ إذا دنت سكرته وحانت قيامته وأوذن بالرحيل من هذه الدنيا، فليس هناك ساعة أسعد عنده من تلك الساعة، حتى أنه لو خُيّر بين الرجوع إلى أهله وبين الإقبال على ربه لاختار ما عند الله عز وجل على أهله وولده؛ من عظيم ما يجد عند الله سبحانه وتعالى من البشائر الطيبة؛ لأن الله يثبت بها المؤمنين؛ ولذلك تجد القصص العجيبة للأخيار عند الموت، فتجد الشخص منهم يتهلل وجهه ويشرق جبينه ويصبح كأنه صفحة من قمر أو كالشمس! ولقد رأينا ذلك في الرجال والنساء، وتجد منهم الأمر العجيب جداً من الثبات والسلوى والبشائر الطيبة حتى أنك ربما جلست جواره وهو ميت وأنت لا تحس أنك بجوار ميت! ليس فيه وحشة الأموات، والسبب حسن الخاتمة التي من الله عز وجل عليه بها.
وقد يزلزل الإنسان عند الموت -والعياذ بالله- ولذلك تجد عبدة المال يزلزلون عند الموت، وتجد الشخص منهم قدمه في الآخرة وروحه في الدنيا حاملاً هم المال وهم التجارة وكيف يخرج من هذه الدنيا! وكيف يخرج من شهواتها! لأنه عمّر الدنيا وخرّب الآخرة، فلا يحب أن ينتقل من عمارٍ إلى خراب، فتجده مزلزلاً مشتتاً فإذا حانت قيامته ودنت سكرته فإذا به لا يعرف ما الذي يقول وما الذي يفعل! وإذا بكلامه يتغير، وإذا بصفحات وجهه تبدي ما في مكنون قلبه نسأل الله السلامة والعافية! وأشد الناس فتنة عند الموت الذين في قلوبهم مرض وهم أهل الزيغ في العقائد، وهؤلاء الذين يستهزئون بالدين، ويستهزئون بالصالحين ويغضبون الله سبحانه وتعالى بالكلام في حرماته العظيمة، ولذلك فإن الذي يسب الدين ويسب الله عز وجل لا يؤمن عليه من سوء الخاتمة، ومن يتهكم ويسخر من القرآن أو يسخر من النبي صلى الله عليه وسلم فينتظر لهم الخاتمة السيئة وحينها سيعلم هؤلاء جزاؤهم؛ لأن الله يقول: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، وسيعلمون عاقبة الكلام في الصالحين، وقد ذكرنا قصة الكاتب المشهور أبي رية الذي كان ينتقص أبا هريرة رضي الله عنه، ويتكلم فيه، قال بعض العلماء: لما سافرت نزلت إلى بلده، فشاء الله أني عزمت على زيارته في عصر ذلك اليوم لأجل أن أناقشه، فدخلت عليه وهو، في سكرات الموت، قال: وكان الرجل أبيض الوجه فإذا به قد اسود وجهه! وإذا هو في أشد الأحوال، وروحه ضيقة، ويلتقط أنفاسه بصعوبة شديدة، وهو يصيح ويقول: آه أبو هريرة، آه أبو هريرة، آه أبو هريرة، حتى فاضت روحه! فالكلام في الصالحين والعلماء والأخيار والاستهزاء بأهل الطاعة، وكذلك سب الدين والسخرية من الدين؛ عواقبه وخيمة ذكر والدي رحمه الله أنه جاء مسافرون وأقبلوا على المدينة، وكانوا بحذاء وادي العقيق، فقال رجل: وصلنا المدينة، فقال رجل من الصالحين للمتكلم: قل: إن شاء الله، فقال ذلك الشقي: وإن لم يشأ! جرأة على الله عز وجل، قال: فما جاوزوا العقيق حتى انعطفت بهم السيارة فكان أول من دقت رقبته هذا الكافر، الذي رد على ربه المشيئة وقال: وإن لم يشأ سنصلها، فمثل ذلك عواقبه وخيمة، ولذلك لا يبتلى الإنسان بفتنة في الموت أشد من سوء المعتقد والمرض في القلب، قال بعض العلماء رحمهم الله: لا تعرف سوء الخاتمة لمن صلحت عقيدته، فمن كان صالح المعتقد يعيش في هذه الحياة قوي الإيمان بالله مخلصاً لله عز وجل.
ودائماً على الإنسان أن يعود نفسه أن يكون مع الله عز وجل، فيخلص له العمل كله، فيتكلم لله ويعمل لله ويعطي لله ويفعل كل شيء لله، فإذا صارت أموره كلها لله عز وجل ثبت الله قلبه عند الموت.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل أسعد اللحظات وأعزها عند المصير إليه، وأن يرحمنا برحمته، وأن يعمنا بواسع مغفرته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(320/16)
شرح زاد المستقنع - كتاب اللعان [2]
باب اللعان هو أحد الأبواب التي أولاها الفقهاء اهتمامهم، يتبين ذلك من خلال ذكرهم لمسائل وأحكام اللعان، وهو يختص بالزوجين، وله شروط لابد من توافرها حتى يصح، كما أن له كيفية مخصوصة ذكرتها الشريعة لابد من التقيد بها.(321/1)
اختصاص حكم اللعان بالزوجين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [يشترط في صحته أن يكون بين زوجين].
شرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توافرها للحكم بصحة اللعان، وأصل اللعان أن الزوج يتهم الزوجة بالزنا -والعياذ بالله- أو ينفي الولد أو الحمل عنه، ففي كلتا الحالتين يكون هناك لعان، سواءً اتهمها بالزنا أو نفى الحمل أو نفى الولد، على تفصيل سنبينه إن شاء الله تعالى.
والأصل الشرعي يقتضي أنه إذا قذف امرأته بالزنا.
فإنه يخيّر بين أمرين: إما أن يقيم البينة على أنه صادق، وأن زوجته زانية، وحينئذ لا إشكال، فلا يقام عليه حد ولا لعان.
وإما أن يتعذر عليه إقامة البينة، فالأصل الشرعي حينئذٍ يقتضي أن يُقام عليه حد القذف؛ لأنه لما قذف هلال بن أمية رضي الله عنه امرأته بـ شريك بن سحماء رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ هلال: (البينة أو حد في ظهرك)، فخيّره بين الأمرين: البينة التي تثبت أنه صادق في اتهام زوجته بالزنا، أو الحد الذي أوجبه الله على كل مفترٍ وقاذف، فجاء اللعان ليخرج الزوج من هذا الحد إذا تعذر عليه إيجاد البينة.
فيختص اللعان بالزوج لأمور وأسباب خاصة، والأصل أن كل من قذف نطالبه بالبينة على صحة قذفه أو يقام عليه الحد، لكن مسألة اللعان تختص بالزوج والزوجة، ولذلك لو قذف الوالد ولده، أو قذف الأخ أخاه، أو قذف الصديق صديقه، فهذه الأمور لها أحكام خارجة عن اللعان.
واللعان -كما ذكر العلماء- مستثنى من الأصول، والمستثنى من الأصول هو: الذي خرج بنص عن أصل عام، فالأصل العام هنا وجوب الحد إلا أن يُثبت الزوج بالبينة صحة القذف بالزنا، فلما استثني اللعان وجاء على هذه الصورة الخاصة فينبغي علينا أن ننظر إلى الشروط الشرعية التي يثبت بها اللعان فنقول: إنه لا يثبت اللعان إلا إذا توافرت فيه الشروط تامة كاملة، وهذه الشروط هي التي يعبر عنها بالعلامات والأمارات التي ينبغي توافرها واجتماعها للحكم باللعان الشرعي، وهي الشروط التي يذكرها العلماء.
فاللعان لا يمكن أن يكون لعاناً شرعياً إلا بين الزوجين، فلو أن صديقاً قذف صديقه أو أخاً قذف أخاه، فجاء شخص وقال: يثبت اللعان بين الأخ وأخيه إذا حصل القذف قياساً على الزوج مع زوجته، فنقول: هذا قياس باطل؛ لأن القاعدة الأصولية تقول: ما خرج عن القياس فغيره لا يقاس عليه، وقول القياس، إذا قال العلماء القياس يريدون به الأصل العام، وهذا ينبغي أن ينتبه له طالب العلم فالقياس هو: الشيء الأقيس الذي جرى على النصوص المحفوظة في الباب، فالأصل هنا أن من قذف فعليه أن يقيم البينة أو يقام عليه حد القذف، فخرج اللعان عن الأصل العام وهو القياس، فغيره لا يقاس عليه مع أن صلة الأخ مع أخيه صلة قرابة ولحمة، وربما تكون أعظم من صلة الزوج مع زوجه، لكن الشريعة نظرت إلى أن الزوج يُقدم على إفساد فراشه، واتهامه لزوجه بالزنا إضاعة لمهره، وإضاعة لولده وليس هناك عاقل يتهم زوجته بالزنا كذباً، وينفي ولده منها، فالشريعة أعطت هذه الحالة المستثناة أحكاماً خاصة، ولابد من توافر الشروط الشرعية، وهي: الشرط الأول: أن يكون اللعان بين الزوجين، فليس هناك لعان شرعي بين سيد وأمة وبين أخ وأخيه، ونحو ذلك، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6] فخص هذا الحكم بين الزوج وزوجته، وهذا هو الشرط الأول.
وقوله: (ويشترط في صحته) أي: من أجل الحكم بصحته وتنفيذه، والضمير في قوله: (صحته) عائد إلى اللعان، فلا ينفذ لعان إلا إذا كان بين زوجين، سواءً كان قد عقد على المرأة ودخل بها أو لم يدخل بها، سواءً كانت في عصمته أو طلقها طلاقاً رجعياً؛ لأن المطلقة رجعياً في حكم الزوجة، وهذا اختيار طائفة من العلماء أن المطلقة رجعياً يحق لمطلقها أن يلاعنها؛ لأنه سيتضرر بنسبة الولد إليه، وسيتضرر بنسبة ما يكون من حملها إليه.(321/2)
اللعان باللسان العربي
قال المصنف رحمه الله: [ومن عرف العربية لم يصح لعانه بغيرها].
الشرط الثاني: أن يجري اللعان باللسان العربي، وذلك أن اللعان ثبت بنص شرعي أشبه التعبد، ولذلك اشترط: عدداً معيناً، ولفظاً معيناً، وترتيباً معيناً، فلابد أن يقع على هذه الصفة الشرعية الواردة، وهذا أصل عند العلماء، ومن باب الفائدة: دائماً في الفقه ما استثني من الأصل، وجاء على صورة خاصة فينبغي عليك أن تتقيد بهذه الصورة الخاصة، فلا تزد عليها ولا تنقص؛ لأنه استثناء شرعي على صفة مخصوصة، لذلك لابد أن يكون بالصفة الواردة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه بالنص أنه لاعن بهذا اللسان، فالأصل أن يقع اللعان بلغة العرب لمن استطاع أن ينطق بها وعرف معناها.(321/3)
اللعان بغير العربية لمن جهلها
قال المصنف رحمه الله: [وإن جهلها فبلُغته].
إن جهل الزوج الملاعن أو جهلت الزوجة الملاعنة اللغة العربية؛ فبلغة الزوج وبلغة الزوجة، لكن هنا تفصيل: إذا كان كلا الزوجين لا يعرفان العربية أو أحدهما لا يعرفُ العربية فللقاضي حالتان: الحالة الأولى: أن يكون عالماً بلسانهما، بحيث يستطيع أن يفهم كلامهما دون وجود مترجم، فحينئذ لا إشكال، ويجري اللعان باللسان غير العربي، ويجري عليه القاضي الأحكام كما لو سمعه بالعربي.
الحالة الثانية: إذا كان القاضي لا يعرف هذا اللسان المغاير للسان العرب، فحينئذ يحتاج إلى المترجم، وهل المترجم مخبر أو شاهد؟ إن قلنا: إنه ناقل للخبر فلا يشترط فيه التعدد، ويكون المترجم الواحد كافياً، وإن قُلنا: إنه شاهد فحينئذ لابد من مترجمَينِ، وهذه المسألة ستأتينا إن شاء الله في باب أدب القاضي.(321/4)
اللعان يسقط حد القذف عن الزوج
قال المصنف رحمه الله: [فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان].
الشرط الثالث: أن يقذف الرجل زوجته بالزنا، فلا يجري اللعان إذا لم يقذفها بالزنا، والقاعدة عندهم: أن كل ما يثبت به القذف يثبت به اللعان، وما لا يثبت به القذف لا يثبت به اللعان؛ لأن اللعان في الأصل شُرع لدفع الحد عن الزوج، وهذا يقتضي أن يكون هناك موجب للحد وهو القذف، والدليل على صحة اشتراط وجود القذف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6]، فاشترط سبحانه وتعالى وجود الرمي بالزنا؛ لأن الرمي في لغة العرب يطلق بمعنى التهمة.
رماني بأمر كنت منه ووالدي برياً ومن أجل الطوي رماني فالرمي هو: القذف والتهمة بالسوء، فالرمي في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] يشمل جريمة الزنا، ورميه لها بالزنا إما أن يكون صريحاً أو تعريضاً، فالصريح لا إشكال فيه عند العلماء، وسيأتينا إن شاء الله صريح لفظ الزنا كأن يقول لها: يا زانية، أو يقول: أنت زنيتِ بفلان، سواءً ذكر من زنت معه أو وصفها بالزنا، والرمي المحتمل للزنا كأن يقول: يا خبيثة، أو الرمي بالوصف المتضمن للزنا كأن يقول: يا فاسدة، فهذا يحتمل أنه قصد بالخبث جريمة الزنا، ولذلك فسر قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26] أي: الزانيات للزناة، وقيل: الخبث يطلق بمعنى الفساد الذي يشمل الزنا وغيره، ولذلك قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، فإذا قذفها صريحاً فلا إشكال، وإذا قذفها تعريضاً فهذا فيه تفصيل، وسيأتي عند ذكر الألفاظ التي يثبت بها القذف تعريضاً أنه يسأل، القاذف عن نيته وقصده، فإذا فسر اللفظ المحتمل بالزنا فهو قذف، كأ، يقول: إنه قصد بقوله: يا خبيثة، إنها زانية، فحينئذ لا إشكال، فهو كما لو قال لها مباشرة: أنت زانية، والعياذ بالله! فيشترط -كما ذكر المصنف- أن يكون هناك لفظ دال على التهمة بالزنا، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، منهم من يقول: يثبت القذف بالزنا وحده ولا يشمل ما يلحق بالزنا، فلو رماها بغير الزنا مما يأخذ حكم الزنا فلا يثبت اللعان، مثل أن يرميها بالوطء في الدبر، وبعض العلماء يرى أنه يلحق بحكم الزنا، الوطء بالدبر، فيأخذ حكم الزنا في مذهب طائفة من العلماء، وبناءً على ذلك قالوا: إذا رماها بتهمة في القبل أو الدبر مما يوجب الحد فإنه يحكم باللعان، وقال بعض العلماء: يختص الحكم بالزنا فقط، لكن ظاهر الآية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور:6] أن الرمي يقع بالقبل ويقع بالدبر، وستأتينا هذه المسألة إن شاء الله في باب الزنا بتفصيل، وتبين الحكم الشرعي في الوطء بالدبر.
ومفهوم قوله: بالزنا، أنه لو رماها بما لا يوجب الحد كأن يرميها بالسحاق -وهو إتيان المرأة للمرأة-؛ فلا يوجب اللعان.
وقوله رحمه الله: (فإذا قذف امرأته بالزنا) خرج بذلك قذف الأجنبية، فلو كانت امرأة أجنبية عنه وقال لها: يا زانية، فنقول له: إما البينة وإما حد في ظهرك، فإذا قذف زوجته -سواء زوجته التي دخل بها أو التي لم يدخل بها، والتي طلقها أو التي لم يطلقها- فله إسقاط الحد باللعان، ولا يكون هذا إلا بالشكوى والمطالبة بذلك، أو يكون القذف في مجلس القاضي، وسيأتينا إن شاء الله أن اللعان لا يكون إلا في مجلس القاضي، والدليل على ذلك أن القذف حق خاص، ومن الحدود ما هو حق خاص، ومنها ما هو حق عام، ومنها ما الحق فيه مشترك لله وللمخلوق، فالحق الخاص لا يمكن للقاضي أن يقضي فيه حتى يطالب صاحبه، فمثلاً لو أن شخصاً أخذ مال شخص فعلى القاضي أن يجعل القضاء الشرعي حيادياً، وألا ينحاز إلى إحدى الطائفتين إذا اختصموا، فليس له أن يتدخل ويقول: يا فلان! رد المال إلى فلان، حتى يشتكي صاحب الحق ويقول: إن فلاناً ظلمني في كذا، فلابد أن يثبت أنه ظلمه، وينتظر منه أيضاً المطالبة من صاحب الحق، فهذه الحالة الأولى.
الحالة الثانية: أن يقذف في مجلس القضاء، مثلاً امرأة آذاها زوجها وقذفها بالزنا في بيتها بينه وبينها، أو قذفها بالزنا أمام أمها أو أمام أبيها فرفعته إلى القاضي، فإذا رفعته إلى القاضي وأقر أنه قذفها بالزنا جرى اللعان؛ إذاً: لابد أن يكون في مجلس القضاء أو بمطالبة الزوجة التي هي صاحبة الحق، فإذا قذفها بالزنا ورفعته إلى القاضي، فحينئذٍ يقال له: إما أن تثبته بالبينة، وإما أن يجري اللعان بينك وبينها.
وقوله: (فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان) (فله) أي: للزوج، (إسقاط الحد) أي: حد القذف الذي هو ثمانون جلدة، (باللعان) لأن حكم القاذف ثمانون جلدة وترد شهادته، وانظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى في حكمه وتشريعه، فالذي يتسلط على أعراض المسلمين ويقذفهم ويتهمهم بالباطل جعل جزاءه قطع لسانه، كما قال تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، فمنع من قبول شهادته، ووصفه بالفسق، وهو: الخروج عن طاعة الله عز وجل، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يكون على حذر من الوقوع في أعراض المسلمين، وأن يزين لسانه بتقوى الله عز وجل، وأن يحذر كل الحذر من أن يُطلق لهذا اللسان عنانه في الوقيعة في مسلم أو مسلمة.
فلذلك إذا قذف الرجل امرأته بالزنا فعليه البينة أو حد في ظهره.
وقوله: (فله) أي: للزوج أن يدفع هذا الحد عنه باللعان؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل للأزواج فرجاً ومخرجاً، ثم انظر إلى حكمة التشريع حيث يبدأ باللعان الزوج أولاً ثم بعد ذلك الزوجة، فجعل الرهبة والتخويف أولاً للمتهم للغير، الواقع في عرض الغير زجراً وتخويفاً له، ولذلك يوقف عند الرابعة ويُذكر بالله عز وجل.(321/5)
سبب تقديم الزوج قبل الزوجة في اللعان
قال المصنف رحمه الله: [فيقول قبلها أربع مرات: أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه، ويشير إليها].
يبدأ الزوج باللعان قبل امرأته، فلو أن المرأة بدأت قبل زوجها لم يصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى بدأ بالزوج وثنى بالزوجة؛ لأن الزوج يثبت والزوجة تنفي، والزوج يبني والزوجة تنقض، والنقض يكون بعد البناء، والهدم بعد الوجود، فأولاً يثبت الزوج ويشهد، وكأن كل يمين منه بمثابة شاهد، ولذلك إذا امتنعت الزوجة عن أيمان اللعان أقيم عليها حد الزنا.
إذاً: لابد أن يبدأ الزوج قبل الزوجة؛ لأن هذا اللعان ثبت بصفة شرعية، اقتضت تقديم الزوج على الزوجة، فيبدأ الزوج باللعان ويقول: أشهد بالله لقد زنت زوجتي، وهي لا تخلو من حالتين: إما أن تكون جالسة في مجلس القضاء، فيقول: زوجتي هذه ويشير إليها.
وإما أن تكون غائبة عن مجلس القضاء لعذر فيقول: زوجتي فلانة بنت فلان، فيصفها وصفاً يميزها عن غيرها، ويوجب ثبوت التهمة عليها.(321/6)
التقيد بلفظ أشهد عند اللعان
ويقول: (أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه)، فلابد أن يأتي بلفظ: أشهد؛ لقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6]، فلا يُغير في هذا اللفظ، ولا يزيد ولا ينقص، فلا يغير لفظ أشهد إلى أحلف؛ لأن الحلف يمين يمكن أن يكفر عنها، ولكن قوله: أشهد بالله، أمر عظيم جداً؛ لأنه يشهد الله جل جلاله، وكفى بالله شهيداً، ولذلك نسبة العلم إلى الله في شيء ليس بالأمر الهين، حتى أن بعض العلماء يقول: من قال: يعلم الله أنه حدث كذا وكذا، كاذباً فقد كفر؛ لأنه نسب إلى الله العلم بشيء لم يقع، حيث ينسب إلى الله صفات ليست موجودة، وهذا الذي جعل بعض العلماء يشددون ويمنعون من هذه الكلمة، فإشهاد الله ونسبة العلم إلى الله في أمر ليس من السهولة بمكان.
فذكر المصنف أنه لابد أن يتقيد بهذا اللفظ فلا يبدله ولا يغيره؛ لأنه أشبه بالتعبد، مثل ألفاظ التشهد، فيقول: أشهد بالله لقد زنت، فيثبت التهمة بالصريح من القول، ولا يقول: لقد أخطأت زوجتي، أو لقد زلّت زوجتي، بل لابد أن يقول: لقد زنت، ويُصرح ويقول: زوجتي؛ لأنه لو قال: قد زنت فلانة، فيحتمل أنه يقصد امرأة ثانية يشبه اسمها اسم زوجته، ويقول: زوجتي هذه؛ لأنه قد تكون عنده أكثر من زوجة، ويريد الإضرار بزوجة على حساب زوجة أخرى فاسدة، فيشهد بزنا زوجته قاصداً التي في ذهنه، فيقول: زوجتي هذه.(321/7)
تتابع الشهادات عند اللعان
ويشترط تتابع الشهادات، فإذا أتم الزوج الشهادة الأولى يُتبعها بالشهادة الثانية في مجلس واحد، فلو أنه شهد اليوم في الساعة الواحدة شهادة واحدة، ثم فارق مجلس القضاء ولو خمس دقائق، ثم رجع؛ أعاد الشهادة الأولى، وشهد أربعاً متتالية في مجلس القضاء، وليس خارج مجلس القضاء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم -يثبت هذا الأصل-: (لقد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فائت بهاا)، فجعل اللعان في مجلس القضاء، ووقعت الشهادات في مجلسه عليه الصلاة والسلام، وهذا المجلس يسمونه مجلس القضاء، والنبي صلى الله عليه وسلم له أحوال متعددة، وهذا يسميه علماء الأصول رحمهم الله شخصيات النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، والمراد أنه تارة يكون في حكم القاضي، وتارة يكون في حكم المفتي، وتارة يكون في حكم الإخبار والبلاغ بالرسالة، وتارة يكون في حكم الشارع، وفي حكم البشرية العامة، فهي أحوال مختلفة.
فلما جاء هلال بن أمية وكذلك عويمر وقذفا أمام النبي صلى الله عليه وسلم فهو كان بصفة القضاء لا بصفة الاستفتاء؛ لأنه لو كان بصفة الاستفتاء لكان حكماً آخر، لكن جاءا متظلمين يريدان الحكم الشرعي في قضيتهما، فلو حصلت الشهادات هذه في غير مجلس القضاء لم يبن عليها الأحكام الشرعية، فلابد أن تكون الشهادات في مجلس القاضي، وأن تكون أربع شهادات من الرجل متتابعة لا فاصل بينها مؤثر.(321/8)
تذكير القاضي للملاعن بالله قبل الشهادة الخامسة
وقبل الشهادة الخامسة يوقفه القاضي، ويذكره بالله عز وجل ويخوفه، فيقول له: إنها موجبة، اتق الله عز وجل؛ لأنه يشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وانظر سبب اختيار الشرع للعنة؛ لأنه الذي جرى منه القول بتهمة المرأة بالزنا فناسب أن يعاقب باللعن من الله عز وجل.
والمراد باللعنة في مثل هذا -سواءً كان بالقذف في مجلس القضاء أو خارج مجلس القضاء -لعنة الدنيا والآخرة، فالذي يرمي المحصنة الغافلة المؤمنة، أو الرجل المؤمن المسلم الغافل يلعنه الله في الدنيا والآخرة، وإذا اجتمعت لعنة الدنيا والآخرة فهي عظيمة البلاء على الإنسان؛ لأن لعنة الدنيا قد تغفر، لكن أن يجمع له بين لعنة الدنيا والآخرة فالأمر عظيم، فقبل اللعنة يوقفه القاضي ويخوفه بالله، لكن المرأة لما فعلت لاعنت كأنها هدمت أيمان الزوج، وكأنها فعلت فعلاً مغايراً لفعل الزوج، وذلك بالقول، فجُعل لها الغضب، نسأل الله السلامة والعافية! فاللعنة على الرجل، والغضب على المرأة، فيوقفه القاضي قبلها ويقول له: اتق الله، عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، يعني: لو تعترف أنك كاذب وأن الزوجة لم تزن، ويقام عليك حد القذف ثمانون جلدة أهون من أن تقف بين يدي الله عز وجل فيفضحك، ويلعنك في الدنيا والآخرة، فعذاب الدنيا -وهو عذاب القضاء الشرعي في الدنيا- أهون وأخف من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، واختار بعض العلماء أنه يمسك على فيه خشية أن يتسرع، وكل هذا من باب النصيحة له والشفقة عليه حتى لا يتهور.
فإذا شهد الشهادة الأولى فمن الناس من ينزجر عند ابتداء اللعان إذا كان كاذباً، ومنهم من يرجف قلبه عند الثانية، ومنهم من يرجف عند الثالثة، ومنهم من يرجف قلبه عند الرابعة، فجاءت الشريعة فالإيقاف قبل الخامسة؛ لأنه ربما تردد أثناء الأربع، فإذا جاءت الخامسة فإنه يُعطى المهلة ويذكر وينصح، فلا يجرؤ على الخامسة التي هي الموجبة وهو كاذب إلا من طُبع على قلبه وزاغ قلبه، وانطمست بصيرته، واستخف بعظيم ما عند الله سبحانه وتعالى، فلا تسأل عن حاله إذا شهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وإذا شهد الخامسة وأتمها ففي هذه الحالة كأن كل يمين قامت مقام شاهد، وتوجهت التهمة على المرأة، فلابد أن تأتي بمثل ما أتى به دفعاً للضرر عن نفسها، فربما كانت صادقة وكان ظالماً لها، فتشهد بالله أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فتقول: أشهد بالله لقد كذب عليّ فيما رماني به من الزنا، فنقول: أشهد بالله، فلو قالت: أحلف أو يميني بالله، فلا يقبل منها -كما تقدم-، فلا تغير ولا تبدل ولا تنقص ولا تزيد.
فإذا شهدت أربع شهادات بالله عز وجل توقف عند الخامسة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوقف المرأة عند الخامسة، وقال: (اتقي الله! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة)، فرجفت وتلكأت وكادت أن تعترف، حتى قال أنس وابن عباس رضي الله عنهما: (فتلكأت حتى ظننا أنها سترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، وحلفت الخامسة فكانت الموجبة.
فيوقف الرجل وتوقف المرأة ويقال لهما: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة، ترهيباً وزجراً، فهذه ثلاث كلمات: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، إنها الموجبة، والموجبة من وجب الشيء إذا ثبت، فقوله: الموجبة، يعني: إذا حلفت باللعنة وكنت كاذباً فإنها ستصيبك لا محالة، ولو كنت أتقى العباد، وإذا حلفت أن غضب الله عليها وهي كاذبة، فلن يرد غضب الله عليها شيء، وسيصيبها غضب الله، ومن أصابه غضب الله فقد هوى {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]، فإذا أقدمت على الخامسة فإنها تدفع عن نفسها الحد، وهذا ثبت بقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور:8] يعني: ويدفع عَنْهَا الْعَذَابَ الذي هو حد الرجم إذا كانت قد وطئت ودخل بها، وإن كان عقد عليها وهي بكر لم يدخل بها، فحدها جلد مائة وتغريب عام.
وقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور:8] يدل على أن الزوج إذا حلف الأيمان ثبت الحد، وأنها مُنزلة منزلة البينة، وهذا اختيار طائفة من الأئمة من جماهير السلف والخلف رحمهم الله، فأيمان المرأة تنقض أيمان الرجل.
قال رحمه الله: [ومع غيبتها يسميها وينسبها]: (ومع غيبتها يسميها وينسبها) على وجه تتميز به عن غيرها.(321/9)
أمور تبطل اللعان
قال المصنف رحمه الله: [وفي الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تقول هي أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا، ثم تقول في الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين؛ فإن بدأت باللعان قبله أو نقص أحدهما شيئاً من الألفاظ الخمسة، أو لم يحضرهما حاكم أو نائبه، أو أبدل لفظة (أشهد) بأقسم أو أحلف، أو لفظة (اللعنة) بالإبعاد، أو (الغضب) بالسخط؛ لم يصح].(321/10)
بدء الزوجة بالملاعنة قبل الزوج
قال رحمه الله تعالى: [فإن بدأت باللعان قبله].
أي: لو بدأت الزوجة قبل الزوج بالملاعنة، وشهدت أربع شهادات بالله أنه كاذب فيما رماها به من الزنا وشهدت الخامسة، لم يصح ذلك لما ذكرناه، ونص القرآن في هذا واضح، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا واضح، وهذا هو الأصل عند العلماء رحمهم الله، قال الله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور:8]، فجعل أيمانها بعد أيمانه، وبناءً على ذلك لا يصح أن تكون أيمانها سابقة لأيمانه.(321/11)
إنقاص أحد المتلاعنين لشيء من ألفاظ اللعان الخمسة
قال المصنف رحمه الله: [أو أنقص أحدهما شيئاً من الألفاظ الخمسة] (أو أنقص أحدهما) سواءً الزوج أو الزوجة شيئاً من الألفاظ الخمسة فلا يصح اللعان، وكذلك الإبدال، فإذا قالت: بالله إنه لمن الكاذبين، ولم تقل: أشهد، فأنقصت الشهادة، أو قالت بدل أشهد: يميني أو أحلف، أو قال هو: أحلف بالله أو يميني بالله، فكل ذلك لا يقبل ولا يعتد به.(321/12)
غياب الحاكم أو نائبه عن مجلس اللعان
قال المصنف رحمه الله: [أو لم يحضرهما حاكم أو نائبه] (أو لم يحضرهما) يعني: في اللعان (حاكم) وهو: القاضي أو الوالي العام، فالنبي صلى الله عليه وسلم كانت له الولاية العامة وكان له القضاء، وكانت له الفتوى، وقد بينا أنه لابد في اللعان أن يجري في مجلس القضاء.
وقوله: (أو نائبه) أي: نائب القاضي وهو: الشخص الذي ينيبه القاضي مقامه، أو نائب الحاكم وهو القاضي نفسه، فالقاضي ينوب مناب الحاكم، والحاكم يطلق بمعنى القاضي، ويطلق بمعنى ولي الأمر، فيشترط لصحة اللعان وجود ولي أمر أو نائبه أو القاضي أو نائبه.(321/13)
إبدال ألفاظ اللعان بغيرها
قال المصنف رحمه الله: [أو أبدل لفظة (أشهد) بأقسم أو أحلف] (أو أبدل لفظة أشهد بأقسم أو أحلف) لأن القسم يُكفر، على القول بأن اليمين الغموس الفاجرة يُكفر عنها، واللعان فيه أيمان، وهذا لا إشكال فيه، ولذلك ترجم أئمة الحديث رحمهم الله في كتبهم باب: اللعان أيمان، وبعضهم يقول: باب: شهادات اللعان أيمان، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث ابن عباس في الصحيح- (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)؛ لأن المرأة تبين كذبها، وقد قال عليه الصلاة والسلام لما حلفت الأيمان: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب؟)، فلم يتب أحد منهما، فقال: (حسابكما على الله)، ونقل خصومة الخصمين من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فكأنه قال: هذا الشيء لا أملك منه شيئاً، فما على النبي صلى الله عليه وسلم إلا إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة والنصيحة، فحينئذ ينتقل الأمر من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فرغبهما عليه الصلاة والسلام في التوبة، ولذلك يقول العلماء: يسن أن يرغبهما القاضي في التوبة.(321/14)
إثبات الحدود يكون بالبينات لا القرائن
لما قال النبي عليه الصلاة والسلام هذه المقالة، وامتنع أحدهما أن يتوب؛ قال عليه الصلاة والسلام: (انظروا إليه -يعني الولد الذي ستأتي به- فإن جاءت به أكحل العينين، خدلج الساقين، أسبغ الإليتين؛ فهو للذي رميت به) -يعني: أنها زانية- فجاءت به على الصفة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام -والعياذ بالله- فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة لرجمتها به)، وفي الرواية الأخرى قال عليه الصلاة والسلام -لأن القصة وقعت لامرأة هلال وامرأة عويمر: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)، وفي هذا فوائد: فقوله عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة لرجمتها به) يدل على دقة وسمو منهج القضاء الإسلامي الذي جعل الأحكام الدقيقة راجعة إلى أصول ثابتة لا تتغير، فالذي يدعي شيئاً لابد له من البينة، والقاضي ينبغي أن يكون حيادياً، فدل الحديث على أن القاضي لا يقضي بعلمه؛ لأنه تبين بالدليل الواضح أنها زانية، والوحي نزل على النبي عليه الصلاة والسلام بأنها إن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو للذي اتهمت به، فثبت بالقرينة القوية أنها زانية، خاصة وأنها تلكأت، فيوجد قرائن قوية تدل على أنها زانية، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة) فدل على أن القرينة لا تعد بينة، وأن القرائن لا يُحكم بها في الأصول التي ثبتت فيها البينات الشرعية، وهذا يدل على أن فتح باب القرائن ووسائل الإثبات بالقرائن خلاف السنة، وسيأتينا إن شاء الله في باب القضاء تفصيل هذه المسألة، ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة) قفل هذا الباب، فلابد من البينات والحجج التي تبين صدق المدعي في دعواه.
وفي هذا دليل على أن القاضي لا يقضي بعلمه، إلا في مسألة أجمع العلماء على أن القاضي يقضي فيها بعلمه، وهي: تزكية الشهود أو عدم تزكيتهم.
وفي الشهود يحكم القاضي بما يعلم منهم باتفاق العلما فلو جيء بشاهد يشهد عندك وأنت قاضٍ، وتعلم أن هذا الشاهد فاسق، تقول: أنا لا أرضاه شاهداً، وهذا إذا علمت منه فسقاً، مثلاً ثبت عليه أنه زنى أو قذف وأقيم عليه الحد، فهنا يثبت فسقه فتقول: لا أرضاه شاهداً، أو تعلم منه جرحاً يوجب رد شهادته، فيحكم القاضي برد شهادته بعلمه وليس ببينة، وهذا بالإجماع، ولأن الله يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فجعل الرضا راجعاً للقاضي، فله أن يرضى وله أن يرد، لكن لو أن القاضي يعلم أن فلاناً أعطى فلاناً ألف ريال، وتخاصما إلى القاضي، وقال الدائن: إن لي عند فلان ألف ريال، فقيل له: أحضر الشهود، فلا يقول القاضي: لا، دعواك صحيحة، وأعلم أنك صادق فيما تقول؛ لأن القاضي حيادي، وموقفه موقف الحياد، فلا يتحيز لأحد الخصمين، ولو جاءته بينة يعلم أنها كاذبة، مثل بينة مزكاة بشهود لكنهم أخطئوا أو كذبوا، فيقبل منهم الشهادة على الظاهر، ولا يرد شهادتهم، لكن المخرج أنه يثبت الحكم، بهذه البينة، ثم يقول لصاحب الحق: أنا أشهد لك، فارفع مسألتك عند قاضٍ آخر حتى أشهد لك بذلك.
وعلمه بصدق غير العدل لا يوجب أن يقبل ما تحملا وعدل إن أدى على ما عنده خلافه منع أن يرده وحقه إنهاء ما في علمه لمن سواه قاضياً بحكمه فعلى القاضي أن يقضي في القضاء بكل حياد، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة اللعان قضى بكل حياد، ولم يتحيز لا إلى الزوج ولا إلى الزوجة، وأظهر الحقيقة ورد أمرهما إلى الله عز وجل.(321/15)
حكم القاضي بعد اكتمال اللعان
إذاً: السنة أنه يجري اللعان على هذه الصفة التي ذكرها المصنف رحمه الله، ويكون مهمة القاضي أن يسمع من الخصمين، وبعد الشهادة الرابعة تكون مهمته أن يوقف الزوج والزوجة قبل الخامسة لتذكيرهما، ثم بعد اكتمال اللعان يحكم بما يلي: أولاً: يرغبهما في التوبة، ويقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب؛ لأنه إما أن يكون الزوج صادقاً أو تكون الزوجة صادقة، ولذلك يقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل من تائب؟ والتوبة هي: الرجوع، ورجوع الملاعن أن يقول: كذبت عليها فيما ادعيت من زناها، وتقول المرأة: هو صادق فيما قال أو فيما رماني به، ثم يقام الحد على من رجع سواءً كان الرجل أو المرأة.
فإذا انتهى اللعان، ورغبهما في التوبة ولم يتوبا، حكم بالفرقة بين الزوج وزوجته، فيفرق بينهما فراقاً أبدياً، فلا يجتمعان، وهذا من موانع النكاح المؤبدة، وقد تقدمت معنا، فمن الموانع المؤبدة: الفرقة باللعان، فهذه المرأة محرمة على الرجل إلى الأبد، ولذلك قال الزهري: مضت السنة في المتلاعنين أن يُفرق بينهما فلا يجتمعان أبداً، ولما قال عويمر رضي الله عنه بعد اللعان: (مهري، قال عليه الصلاة والسلام: إن كنت صادقاً فلها ما استحللت من فرجها -يعني: ما استمتع بها قبل الزنا-، وإن كنت كاذباً فهو أبعد لك منها)، وهذا من باب أولى، فكيف يتهمها بالزنا ثم يريد المهر؟! فيفسد فراشه، ويعتدي على أهله، ثم يريد بعد ذلك أن يأخذ المهر! فلا يستحق المهر ويفرق بينهما فراقاً أبدياً.
قال المصنف رحمه الله: [أو لفظة اللعنة بالإبعاد].
أي: لو أنه أبدل لفظة (اللعنة) بالإبعاد، فقال: أبعده الله إن كان كاذباً، لم يُقبل منه، حتى لو كانت اللفظة قريبة من المعنى الذي يفيده اللعن أو الغضب، فلا بد من اللفظين: اللعن والغضب.
قال المصنف رحمه الله: [أو الغضب بالسخط؛ لم يصح]: أي: لم يصح ذلك، ويجب أن تتقيد المرأة بلفظ الغضب.(321/16)
الأسئلة(321/17)
عدم ثبوت الإقرار في جريمة الزنا باللفظ المحتمل
السؤال
قول المرأة: لا أفضح قومي سائر اليوم، أليس هذا يعتبر إقراراً بزناها؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالإقرار شهادة من الإنسان على نفسه، والشهادة لا تثبت بشيء يحتمل، فقولها: لا أفضح قومي سائر اليوم، من حقها أن تقول هذا ولو كانت صادقة؛ فقد تقول المرأة الصادقة: لا أفضح قومي سائر اليوم، تعني: أنني صادقة، وسأحلف الخامسة، فهي كلمة لا تدل على الزنا مباشرة ولا ضمناً؛ لكن تلكؤ المرأة وخوفها وارتباكها، هذه العلامات والأمارات تعتبر قرينة، خاصة وأنها تلكأت وترددت حتى قال أنس رضي الله عنه: (حتى ظننا أنها سترجع)، وقال ابن عباس رضي الله عنه: (تلكأت حتى كادت أن ترجع)، وهذا يدل على إدانة الحال؛ لكن لو قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فقد تكون صادقة، بمعنى: إنني صادقة وإنني امرأة بريئة وعفيفة ولا أرضى أن ينسب إلي الزنا فيجرح ويؤذى قومي، وليس هذا من الإقرار في شيء، وليس بدليل على الإقرار، وإنما هو أمر قالته ويحتمل أن يكون متضمناً للزنا بمعنى أنها لا تريد أن تفضحهم فامتنعت من الإقرار خشية الفضيحة والعصبية، ويحتمل أنها تريد الجزم، ولذلك لو قالها غيرها لكان الحال متردداً، فلا يقتضي ثبوت التهمة، والله تعالى أعلم.(321/18)
تكرار الإقرار بالزنا ينزل منزلة الشهود
السؤال
هل مقصود النبي صلى الله عليه وسلم في إعراضه عن ماعز وهو يعترف بجريرته أن يكرر الذنب الذي أصابه أربع مرات فينزل منزلة الشهود الأربعة؟
الجواب
تكرار الإقرار بالزنا لمن اعترف به مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله، والأشبه والأحوط لظاهر النص أنه يكرر إقراره -وسيأتينا إن شاء الله بسط هذه المسألة وبيان خلاف العلماء فيها فمن حيث الأصل فإن التكرار موجود، والنص واضح في هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ويحك! ارجع واستغفر الله ثم تب إليه) أربع مرات، فهذا أصل يدل على أن كل إقرار ينزل منزلة شاهد.
لكن الذين لا يشترطون التكرار استدلوا بأدلة، منها: حديث المرأة التي اعترفت، وهي قصة العسيف، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، قالوا: فلم يذكر تكراراً للإقرار، لكن أُجيب بأن المجمل لا يعارض المفصل، ولذلك قالوا: ما وكل النبي صلى الله عليه وسلم أُنيساً إلا وعند أُنيس علم، ومن هنا أعطاه الوكالة العامة، كأنه يقول يفعل معها في الإقرار ما هو مشترط شرعاً.
أما إقرار ماعز رضي الله عنه فإنه جاء المرة الأولى -كما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد ثم أتى فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فلما كانت الرابعة وأتمها، سأله النبي صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟) -فقوله: (أبك جنون؟) تدل على أنه لا يُقبل إقرار المجنون- فأُخبر عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمجنون، ثم قال له: (أشربت خمراً؟ -وهذا في صحيح مسلم- فقام رجلٌ فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، وانظروا إلى دقة القضاء في الشريعة الإسلامية، من الذي يتبجح بالحقوق، فأين الذين يتبجحون بحقوق الإنسان المتهم، وحقوق الإنسان، هذا السمو هذا العلو في التشريع يدل على أنه لا أحسن من الله حكماً لكن لقوم يوقنون، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشربت خمراً فقام رجل فاستنكهه) يعني شم رائحة فمه، لذلك بعض العلماء أخذ مما سبق أن الرائحة قرينة على شرب الخمر، وسيأتينا ذلك إن شاء الله في باب شرب المسكر، فلم يجد رائحة، ثم فصل معه في الزنا، وسأله عن الزنا، حتى أثبت أنه زنى بها زناً تاماً، وهذه كلها شروط للإقرار بالزنا.
أما حديث: (واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها)، ففيه نوع إجمال، فأجمل للعلم بتفصيله، فما علم من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام مجملاً فهو مفصل بهديه عليه الصلاة والسلام.
لكن الذين يقولون: لا يشترط التكرار، عندهم دليل آخر، فيقولون: إنه أقر، ثم رجع، ثم أقر، وأنتم تقولون: لابد أن يكون في مجلس واحد، والشهود لابد أن يكونوا أربعة في مجلس واحد، وهذا استدلال قوي، لكن رد بقول الراوي: (فرجع غير بعيد)، بمعنى: أنه ما زال في المسجد، وتتفرع عليه المسألة التالية: المسجد في حكم المجلس الواحد في القضاء، ولا يعتبر مفارقاً لمجلس القضاء ما دام أنه داخل المسجد.
فالشاهد أن المسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله ولكلا القولين ما يدل عليه، وإن كان تكرار الإقرار فيه دقة أكثر، وفيه رعاية لظاهر السنة والعمل بها.
واستدلوا أيضاً بأن المرأة التي اعترفت بالزنا قالت: (يا رسول الله! أتريد أن تردني كما رددت ماعزاً؟!) فهذا يدل على أنه لا يُشترط التكرار، لكن أُجيب بأن التكرار على صورتين، منها: هذه الصورة، أي: أنني مستعدة أن أرجع وأكرر إقراري لك ولو رددتني مائة مرة، فقالت: (أتريد أن تردني كما رددت ماعزاً؟!) فبينت أنها مستعدة أن تكرر الشهادات، وهذه بمنزلة تكرار الإقرار، فالاستنباطات الشرعية من النصوص فضل من الله عز وجل لأهل العلم، والخلاف بين العلماء ما هو إلا رحمة من الله عز وجل إذا ثبتت به النصوص وجاءت به النصوص الشرعية؛ لأنه يجعل الشريعة شريعة مرنة واسعة بالاجتهادات والأقوال والردود والمناقشات التي تتفجر بها ينابيع الحكمة التي لا يمكن أن تصل إليها بقول واحد، ولذلك تجد هذه الشريعة صلحت في كل زمان ومكان، واستطاعت في أوج عظمة الإسلام أن تحكم من المحيط إلى المحيط، وهذا يدل على مرونة الشريعة الإسلامية؛ فمجيء الشريعة بالنصوص التي تحتمل أكثر من وجه معناه: أنها تقر الخلاف السائغ، لا الخلاف المذموم وهو الذي يقوم على رد النصوص الصحيحة الصريحة، والعبث بالأدلة والأهواء والآراء الفاسدة، أما الاستنباطات الشرعية من النصوص الشرعية والخلاف الشرعي الذي وقع بين الأئمة فهو رحمة؛ لأنه مبني على نصوص شرعية، وما كان من الشريعة فهو رحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وعلى كل حال هذه المسألة كما ذكرنا فيها خلاف بين العلماء، وسيأتي إن شاء الله تفصيلها في مسائل الإقرار، والله تعالى أعلم.(321/19)
حكم الإشارة في الصلاة
السؤال
هل الإشارة في الصلاة تبطلها مثل الكلام؟
الجواب
الإشارة تنزل منزلة العبارة، لكن في الصلاة فيها تفصيل: لا تبطل الإشارة في الصلاة على كل حال ما لم تكثر وتتفاحش، والدليل على أن الإشارة في الصلاة لا تبطلها عدة أدلة، وينبغي أن تقيد بالحاجة، فثبت في الحديث الصحيح من حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وعن أبيه وأمه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشية الظهر أو العصر ثم قام بعد الثانية ولم يجلس -أي: للتشهد- فسبحوا له فأشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن قوموا.
وثبت عن المغيرة أنه وقع له ذلك في صلاة المغرب، وأنه أشار إليهم أن قوموا، وقال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت).
كذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أشار بيده حينما دخل وراء أبي بكر رضي الله عنه في الصلاة، فسبح الناس لـ أبي بكر رضي الله عنه فالتفت، فأشار إليه أن مكانك، قال بعض العلماء: هذا وقع قبل تكبيرة الإحرام، لكن بعض أهل العلم يقول: هذا وقع بعد تكبيرة الإحرام.
وفي النافلة فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أشار فيها لرد السلام، فكان إذا دخل عليه الداخل وسلم أشار بكفه عليه الصلاة والسلام، ويشير بكفه إلى الأرض ما يرفع كفه هكذا؛ لأنه قال: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيل شمس! اسكنوا في الصلاة)، فهذا منهي عنه، وأما الذي يشير بكفه إلى الأرض فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام ذلك.
وفيما اختلف فيه هل هو فرض أو نافلة كصلاة الكسوف ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها لما كسفت الشمس، وأن أسماء رضي الله عنها جاءت ونظرت فقالت: ما شأن القوم؟ فأشارت إليها عائشة رضي الله عنها إلى السماء -أي: انظري إلى السماء وهذه إشارة- ففهمت أسماء، فنظرت إلى السماء فإذا بالشمس كاسفة.
فهذا كله يدل على أن الإشارة لا تؤثر، خاصة إذا كان المصلي محتاجاً إليها، فتشير إلى الرجل أن يقترب منك، وتشير إلى الرجل أن يتقدم، أو أن يتأخر عن الصف، فهذا كله لا بأس به إن شاء الله في الصلاة، لكن ينبغي ألا يتفاحش، والله تعالى أعلم.(321/20)
حكم صبغ الشعر بالسواد
السؤال
ما حكم صبغ الشعر؟ وإذا كان الشعر غير أسود، فهل يجوز صبغه باللون الأسود؟
الجواب
صبغ الشعر إذا كان لسبب أذن به الشرع كتغيير الشيب فهو مشروع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأتاه والد أبي بكر رضي الله عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام: (أثقلتم على الشيخ، هلا تركتموه حتى نأتيه! فإذا برأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال عليه الصلاة والسلام: غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد).
ففي هذا الحديث فوائد منها: إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لكبير السن، وهي سنته وهديه، وحفظه لحق الصاحب والخليل والمحب؛ لأن أبا بكر كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم محبة دون الخلة، وأحبه محبة عظيمة، فلم يكن في الخلق أحب إليه منه عليه الصلاة والسلام، وهو صدق في محبته وخلته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرم عليه الصلاة والسلام والده وقال: (أثقلتم على الشيخ)، وهذا يدل على أن الأخيار والصالحين إذا رأى أحد منهم والد صديقه يكرمه ويجله ويحترمه ويقدره ويوقره، وهل الإسلام إلا الأدب ومكارم الأخلاق ومحامدها؟ فهذا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم يدخل إلى مكة -في اليوم الذي أعز الله فيه جنده، ونصر عبده -متواضعاً لله عز وجل، ويقول: (أثقلتم على الشيخ)! يعني: لماذا جئتم به إلينا؟ نحن الذين نأتيه، وقال ذلك كما قال بعض أصحاب السير: تطييباً لخاطر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وحفظاً لحق كل من يعين على هذه الدعوة، فكل من يكون معك في هذه الدعوة معيناً تحفظ له الحق في نفسه وأهله وإخوانه وقرابته، وقال: (هلا تركتموه حتى نأتيه)؛ لأنه كبير السن، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم إلا كريماً، وكان كرمه على الوفاء والتمام.
ولذلك نحن اليوم في غربة، فلا احترام للكبير، ولا توقير للشيبة والمسن، تجد كبير السن يدخل المسجد ويخرج وقد لا يجد من يسلم عليه! وإذا وجد من يسلم عليه قد لا يجد من يوقره! فيسلم عليه كما يسلم على عامة الناس! والأدهى والأمر إذا استخف به، والإنسان لا يسمو إلى الكمالات إلا إذا عاش كما يعيش الغير، لو أن الواحد منا فكر في كبير السن وهو في آخر عمره، فإنه قلّ أن يجد أخاً من إخوانه، وقلّ أن ترى عينه صديقاً من أصدقائه، فكلهم قد أسلموا أرواحهم وصاروا إلى الله جل وعلا، وقد لا يخرج من بيته إلا إلى مسجده أو إلى تشييع حبيب أو عيادة صديق؛ لأنه قد فارقه إخوانه.
اثنان لو بكت الدماء عليهما عيناك حتى يأذنا بذهاب لم يبلغ المعشار من حقيهما فقدُ الشباب وفرقة الأحباب أصعب الأشياء وأمرها فراق الأحبة وفراق الأصدقاء والخلان، فقلّ أن يجد من يأنسه، وقل أن يجد من يُدخل السرور عليه، حتى إنه لربما عاد إلى بيته فوجد كل شيء غريباً عليه، حتى زوجته ربما تتغير عليه، ولربما تغير أولاده ضده، ويصبح كأنه بعيد يعيش في عالم غير عالمه، فما هو إلا في الذكريات، كأن لسان حاله يقول: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب يقول بعض العلماء: الناس يفهمون هذا البيت: (فأخبره بما فعل المشيب) أي: من الونى والضعف، ولكن أعظم ما فعل المشيب فراق الأحبة والأصحاب، ففقدهم له وقع في القلوب لا يعلمه إلا الله عز وجل.
ولقد رأينا هذا حتى في العلماء والأجلاء، وأذكر أن الوالد رحمة الله عليه مع صبره وجلده ما رأيته تأثر وساءت حاله وصحته إلا بعد فراقه لأحبابه الذين يعرفهم بالصدق والمحبة.
ففراق الأحبة صعب فمن الذي بحنانه وعطفه وإحسانه يسد هذا الفراغ؟ ولذلك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المكرمة والمأثرة الحميدة فقال: (إن من إكرام الله إجلال ذي الشيبة المسلم)؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا من يؤمن بالله واليوم الآخر، وقال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا)، فكل ذي شيبة مسلم موقر، فهذا هديه عليه الصلاة والسلام وسنته، فكان يكرم الكبير، ويعطف على الصغير، فيسلم عليه ويرحمه.
قال عليه الصلاة والسلام: (أثقلتم على الشيخ) ثم قال: (غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد)، ففيه دليل على مشروعية صبغ الشيب، وأن السنة أن يغير بغير السواد، مثل: الحناء والكتم، والكتم ضرب من الصبغ بين الأسود والأحمر، وهو معروف وموجود إلى الآن، فهذا السنة في تغيير الشيب.
أما لو كان شعر المرأة أو شعر الرجل أشقر فأراد أن يجعله أسود فلا يجوز؛ وما الدليل؟ من ناحية فقهية عندنا شيء يسمى الأصل، وعندنا مستثنى من الأصل، فالأصل عندنا أنه لا يجوز تغيير الخلقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواشرة والمستوشرة -ثم قال-: المتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، فإذا خلق الله الشعر أحمر أو أشقر فليس من حق المخلوق أن يغيره؛ لأن الله خلقه على هذه الصفة، ولماذا ورد اللعن على تغيير الخلقة؟ قالوا: لأنها -أي المرأة- إذا قالت: لا أريده أحمر، كأنها لم ترض بقسمة الله لها، كما لو لم ترض بطول السن مثلاً، فكأنها لم ترض قسمة الله لها، ومن هنا تعرف سبب فورود اللعن، ورد اللعن ليس فقط لتغيير الشيء، وإنما ورد لمسألة عقدية وهي: عدم الرضا بخلقة الله عز وجل، والعبث بهذه الخلقة، ثم قال: (المغيرات لخلق الله)، فإذا كان الشعر على لون فلا يجوز تغييره إلى لون آخر إلا إذا كان شيباً فيغيره بغير السواد، خلافاً لمن قال: بجواز صبغه بالسواد، إلا أنه يستثنى من ذلك وقت الجهاد في سبيل الله، فقد رخص بعض أهل العلم رحمهم الله أن يصبغ الشيب بالسواد إرهاباً للعدو وتخويفاً له، وكثير من المحرمات استثنيت في الجهاد، ولذلك لما أخذ أبو دجانة السيف وتبختر في مشيته قال عليه الصلاة والسلام: (إنها لمشية يبغضها الله -هذا الفعل يبغضه الله- إلا في هذا الموضع)؛ لأن فيها كسراً لأعداء الله عز وجل، وإظهاراً لعزة الإسلام، فوافقت مقصود الشرع، بخلاف إذا تكبر وتجبر وعلا وطغى في غير هذا الموطن، فإنه يخالف مقصود الشرع، ويقع فيما حرمه الله سبحانه وتعالى.
وبناءً على ذلك فإذا كان الشعر يغير لشيب فلا إشكال، شريطة أن يكون التغيير بغير السواد، وأما إذا كان التغيير لغير الشيب فإنه محرم ولا يجوز فعله، والله تعالى أعلم.(321/21)
حكم نتف الشعر الذي بين الحاجبين
الشيخ: هل يجوز للمرأة أن تنتف ما بين الحاجبين؟
الجواب
لا يجوز نتف الشعر الذي بين الحاجبين، والنص في هذا واضح، حيث أن النمص هو نتف شعر الوجه، وما بين الحاجبين هو من شعر الوجه فلا يجوز نتفه، ولا يجوز العبث به، ويترك على الخلقة التي خلقها الله عز وجل.
وجمهور العلماء على أن هذا لا ينمص ولا يُزال، سواءً كان النمص بالنتف أو بالحرق أو بالحلق أو بالقص أو بوضع مواد من الأصباغ تخفيه فكل ذلك لا يجوز، وهو تغيير لما خلقه الله، وعلى المخلوق أن يرضى بخلق الله عز وجل لما فيه من حكمة عظيمة، وتذكير الناس بهذا الاختلاف الذي يدل على وحدانية الله عز وجل؛ لأن اختلاف الخلقة دليل على وجود الخالق الذي يصور كيف يشاء، ويخلق كيف يشاء، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، والله تعالى أعلم.(321/22)
الربط الدائم للعبادات بالحكم والأسرار
السؤال
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يُنسأ له في أثره ... ) الحديث، ما العلاقة بين زيارة الأقارب والمد في العمر والبركة في الرزق؟
الجواب
الحديث صحيح وهو: (من أحب منكم أن يُنسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويزاد له في عمره، فليصل رحمه)، ولا إشكال في ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بيان منه عليه الصلاة والسلام للثواب والجزاء الذي أعده الله لمن وصل الرحم، واشتمل على إنساء الأثر، وأصل نسأ في لغة العرب: التأخير، كقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]؛ لأنهم كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن مواقيتها ومواعيدها، وسمي ربا النسيئة نسيئاً؛ لأنه تأخير لأحد الربويين مما يجب فيه التقابض في مجلس العقد، فالنسأ أصله التأخير، فالمعنى: يزاد له في العمر.
والأصل أن العمر لا يزيد ولا ينقص، لكن هناك أوجه عند أهل العلم رحمهم الله في كيفية زيادة عمره، فمنهم من قال: إن الله تعالى يبارك في عمر الواصل لرحمه حتى أن السنة تعادل عشرات السنين، ولذلك من الناس من يعيش اليوم كسنة، ومن الناس من يعيش السنة كسنوات؛ لما وضع الله له من البركة والخير، بركة في نفسه، وبركة في أهله، وبركة على الناس، إما أن يكون داعية إلى الله عز وجل يحمل هموم الأمة فينفعهم وينصحهم ويوجههم، فلربما عمل الساعة منه تعادل سنوات؛ لما وضع الله له من البركة والأجر والمثوبة، وربما خطيب في مسجد ينصح الناس ويوجههم ويرشدهم إلى الخير، فيبارك الله في خطبته سنوات من عمره؛ لما يضع لها من القبول والانتشار بين الناس، وينتفع بما فيها من الخير، وكذلك ربما يكون الرجل عنده مال يسخره على هلكته بالحق، فيكسي به العاري، ويطعم به الجائع، ويغيث به الملهوف، وينصر به المظلوم، ويعين به على نوائب الحق؛ فيجعل الله اليوم من أيامه كالسنوات من غيره، لما فيه من الخير والبركة، فيدعو له الناس، ويعظم ترحم الناس عليه، وتكثر صلواتهم ودعواتهم له بالخير والبركة، فيبارك له في عمره وكأنه عاش سنيناً عديدة، وهذا كله راجع للبركة التي يضعها الله عز وجل.
ولذلك تجد أنك في بعض الأيام توفق لكثير من الأعمال التي تعملها في خاصتك لنفسك وأهلك وولدك بما لم يخطر لك على بال؛ لما يوضع من البركة، وهذا كله مقرون بطاعة الله عز وجل، فهذا وجه عند بعض العلماء، فمثلاً: عمره ستون سنة لا يزيد ولا ينقص، ولكنه إذا كان واصلاً للرحم جعل الله عز وجل أيام عمره بعد صلته للرحم طويلة مديدة بسبب البركة، فاليوم -بما يكون فيه من الخير والبركة عليه وعلى غيره- كأيام.
ولذلك تجد بعضهم إذا عاش بين الناس نعم الناس بعيشه بينهم لما فيه من الخير، فتجده -مثلاً- شجاعاً ينصر المظلوم، فيجعل الله عز وجل أيامه أيام خير وبركة، وما كان بين قوم إلا نفعهم الله به، ومنهم من يكون كريماً جواداً حتى أنه يموت وهو حي في الناس بسبب ما يذكرونه له من مآثر ومواقف حميدة، فكم يموت أقوام وهم في الناس أحياء بمآثرهم، فلم تمت مكارمهم ومآثرهم، وهذا زيادة في العمر؛ لأن أحدهم كأنه حي موجود يذكر في المجالس، وكأنه حي بسبب ما كان منه من الخير والبركة.
وهناك قول ثانٍ أنه يزاد في العمر حقيقة، فصحيفة الملك فيها: أن عمره ستون -مثلاً- إن لم يصل رحمه، فإن وصل الرحم فعمره ثمانون، والملك لا يدري، ولذلك يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، فالذي في اللوح المحفوظ لا يغير ولا يبدل، فقد قدر وكتب وجرى القلم بما هو كائن وما يكون إلى يوم القيامة، ولكن صحيفة الملك هي التي يكون فيها التغيير والتبديل بنص القرآن: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، وأم الكتاب هو الذي فيه حقيقة العمر وأصله، وهل هو واصل أو غير واصل؟ وهذا من أعدل الأوجه، وهو أنسب الأقوال.
ولا مانع من القول الأول بأنه توضع له البركة، فحينئذ يكون وضع البركة بالنسبة لأصل اللوح المحفوظ أن يكون في عمره، وتكون النقص والزيادة على صحيفة الملك، لكن القول الأول واضح في الدلالة؛ لأنه يتفق مع ظاهر النص في قوله: (ويزاد له في عمره) فهي زيادة البركة فيما يكون له من الخير والنعمة.
أما السؤال: ما هي العلاقة بين أن يُزاد في العمر وينسأ في الأثر وبين صلة الرحم؟ أخي الكريم: لا يستطيع العقل القاصر أن يربط بين هذا الثواب الذي يضعه الله عز وجل وبين العمل، وهذا تقدير العزيز العليم، ولا يستطيع الإنسان أن يدركه، ولو أنه ظهر له بعض الحكم فلن يستطيع أن يدرك الحقيقة التي من أجلها جاء الثواب على هذا الشكل وعلى هذا الوجه.
ولذلك يوصى طالب العلم ويوصى كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُسلِّم، فالنص إذا جاء بشيء لا تبحث عن العلل، ولا تتعود أن تبحث عن المناسبات والقرائن، وما يسمونه: بعلم اللطائف، فهذه أشياء ليست من أصل العلم، أصل العلم: الرضا والتسليم والقناعة التامة الكاملة؛ لأن الإنسان إذا صار عقلانياً وقف في التعبديات موقف الشك والريبة، وهذا الذي كان علماؤنا ومشايخنا رحمهم الله يشددون فيه، فكانوا إذا جاءتهم هذه المسائل من علوم الغيبيات التي لا يبحث فيها سلموا، والله يحكم ولا معقب لحكمه، فما تستطيع أن تبحث في شيء قد بينه الله عز وجل وبينته نصوص السنة، فلا يسعك أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً إلا قوله سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْت} [النساء:65]، وقوله: (حرجاً) نكرة، تدل على نفي أي حرج كان؛ لأنه قضاء الله، وهو كلام من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، قال: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فسلم رحمك الله! وينبغي على العلماء والأئمة والدعاة والخطباء دائماً ألا يحاولوا ربط الناس دائماً بالحكم والأسرار، خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، التي أصبح المتكلم والعالم في نظر الناس هو الذي يأتي باللطائف، ويحسن تعليل الأشياء، والكلام فيها، وهذا ليس هو العلم كله، حتى إن العلماء لما جاءوا في مسألة ليلة القدر مع أن عدد كلمات سورة ليلة القدر ثلاثون الكلمة، وجاءت الكلمة السابعة والعشرون في قوله: {سَلامٌ هِيَ} [القدر:5]، ومع ذلك تجد أئمة العلم القدماء يقولون: هذا ليس من أصل العلم والفقه؛ لأنه استنباط، وربما جعل الله السورة ثلاثين كلمة امتحاناً أو ابتلاءً للعباد، لكن ما عندنا نص يجزم بأن كون (هي) الكلمة رقم سبعة وعشرون فإذاً ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين، وقد يضع الله هذه ابتلاءً واختباراً للعباد، فقد يقول الإنسان على الله بلا علم، فالذي يدخل في العقلانيات قد يقول على الله ما لا يعلم.
ولذلك كان العلماء يشددون في علم المناسبات من السور والآيات، فالله سبحانه وتعالى يحكم، وتأتي أحكامه على ما يمكن تعليله، وما لا يمكن تعليله، فالقاصر والمخلوق لا يستطيع أن يدرك ما لله عز وجل من الحكم، والله عز وجل أصدق قيلاً، وأكمل حكماً.
فاللهم! إنا نسألك التسليم والرضا بما قدرت وحكمت، إنك ولي ذلك والقادر عليه.(321/23)
شرح زاد المستقنع - كتاب اللعان [3]
إذا حصل اللعان بين الزوجين فإنه يترتب عليه فرقة أبدية بين الزوجين، وهناك قاعدة تتعلق باللعان ذكرها العلماء رحمهم الله وهي: أن كل من يصح قذفها يصح لعانها، وكل من لا يصح قذفها لا يصح لعانها؛ ولذا لو كانت الزوجة صغيرة لا توطأ أو كانت مجنونة، فإنه لا يثبت القذف في حقها ولا يثبت اللعان، كما أن هناك ألفاظاً ذكرها المصنف لا تأخذ حكم القذف ولا توجب اللعان.(322/1)
عقوبة من قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة بالزنا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة بالزنا عزر ولا لعان، ومن شرطه: قذفها بالزنا لفظاً كزنيت، أو يا زانية، أو رأيتك تزنين في قبل أو دبر].
يشترط في صحة اللعان أن يكون المحل الذي ورد عليه القذف يتعلق به القذف، ويثبت به حكم القذف.
وتوضيح ذلك: أن اللعان شرع لدفع الحد عن الزوج القاذف، فلابد في الزوجة المقذوفة أن يثبت القذف في حقها، ولذلك كل من يصح قذفها يصح لعانها، وكل من لا يصح قذفها لا يصح لعانها، فهذه قاعدة عند العلماء رحمهم الله.
فلو كانت الزوجة صغيرة لا توطأ أو كانت مجنونة كذلك فإنه لا يثبت القذف في حقها ولا اللعان؛ لأن اللعان فيه معنى التعبد، والأيمان لا تصح من الصبية ولا من المجنونة، ولذلك لو لاعنها فإنها إذا حلفت لم تؤاخذ على أيمانها.
ومن هنا: لا يصح لعان الصغيرة ولا يصح لعان المجنونة، فقال رحمه الله: (وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة عزر) أي: أنه يثبت التعزير فيعزر، والتعزير يرجع في عقوبته إلى نظر واجتهاد الحاكم والقاضي، فإذا نظر القاضي إلى أي جريمة لا حد فيها؛ ولا عقوبة مقدرة من الشرع فيها، فإنه يجتهد في معاقبة صاحبها، وسيأتينا إن شاء الله بيان ذلك في باب التعزير.
وبناءً على ذلك: لو أن رجلاً تزوج بنتاً عمرها -مثلاً- خمس سنوات، قال وليُّها: زوجتك بنتي، قال: قبلت، وتم العقد بينهما وعقد عليها، ثم قال لها: يا زانية، فحينئذ لا يثبت اللعان ولا يثبت القذف؛ لأن الزنا لا يتأتى من الصغيرة، فليست محلاً للتهمة -وسيأتي في باب القذف من الذي يثبت في حده القذف، ويعتبر قذفه موجباً للحد، ومن هو بخلاف ذلك- فإذا قال لهذه الزوجة الصغيرة: يا زانية ورماها بالزنا، فإن الزنا لا يتأتى منها أصلاً؛ لأن مثلها لا يوطأ وليست محلاً للوطء، وحينئذ لا معنى لقوله: يا زانية، إلا الأذية والإضرار، فليست التهمة بالزنا حقيقية؛ لأنه لا يتأتى منها الزنا الذي له حكمه الشرعي.
لكن هناك عقوبة وهي التعزير، فينظر القاضي في المرأة المقذوفة التي رماها بالزنا، وينظر إلى حاله، ثم يقدر العقوبة بحسب ذلك، وفي هذه الحالة لا يستطيع الزوج أن يقول: أريد أن ألاعنها وهي زوجتي؛ لأن هذا يدرأ ويدفع عنه الحد، فحينئذٍ لا يثبت أصلاً حد القذف في حقه للأسباب التي ذكرناها، فإذا انتفى أمر القذف ولم يثبت حده فلا وجه للعان، وحينئذٍ ينصرف الأمر إلى جناية لا تقدير لها في الشرع، وهي جناية السب الذي ذكره لها بالزنا، وهذه لا عقوبة لها في الشرع محددة؛ لأنه ليس بالقذف الشرعي الذي يثبت، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلات} [النور:23]، والإحصان له شروطه كما سيأتينا إن شاء الله تقريره في باب القذف بإذن الله تعالى، وبناءً على ذلك فلو قذف الصغيرة أو المجنونة التي هي زوجة له، وقيل له: قد قذفتها ونريد أن نعزرك، قال: أريد اللعان، نقول: لا لعان؛ لأن الصغيرة والمجنونة لا يثبت فيمن رماهما حد القذف، ولا يثبت اللعان بسبب ذلك.(322/2)
القذف بالتعريض والكتابة
قال رحمه الله: [ومن شرطه قذفها بالزنا لفظاً] أي: من شروط ثبوت اللعان، (قذفها) الضمير عائد إلى الزوجة، (بالزنا) إما أن يكون صريحاً، كقوله لها: يا زانية -والعياذ بالله- أو رأيتك تزنين أو أنت زانية، وقد يكون تعريضاً، كأن يقول لها في معرض الغضب وحال الخصومة: إني لست بزانٍ، كأنه يقول لها: أنت زانية، فهذا تعريض، فعند بعض العلماء -كما سيأتينا إن شاء الله في باب القذف- أنه يوجب ثبوت التهمة؛ لأن الله اعتبره موجباً لثبوت التهمة، في قوله: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28]، فجعل الله عز وجل هذا من الفرية مع أنهم لم يصرحوا لها بالزنا، وكأنهم يقولون: قد خالفت أباك وأمك فأنت على حال ليس كحالهم.
فعلى كل حال يشترط في ثبوت اللعان أن يكون هناك قذف؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6]، فأثبت الله سبحانه وتعالى وجود الرمي، وقد بينا أن الرمي تطلقه العرب حساً ومعنىً، والمراد به في الآية الكريمة الرمي المعنوي وهو القذف، فيشترط أن يرميها بالزنا لفظاً؛ لأن عويمر العجلاني قال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم ماذا يفعل؟ فقد يجد الرجل مع امرأته رجلاً يزني بها، وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عباس: (إن هلال بن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء)، فأثبت أن هناك قذفاً، وجاءت الرواية عن هلال بن أمية أنه قال: (والله! يا رسول الله! لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني) فأثبت أنها زانية، وبين أنه يستند إلى المشاهدة والسماع اللذين هما أقوى دليل على ثبوت الأمر، وعدم الشك فيه.
إذاً: لابد من وجود الرمي بالزنا، وأن يكون لفظاً، فلو رمى بغير الزنا سواءً كان مما فيه فحش أو مما ليس فيه فحش؛ لا يجب اللعان، فمن قال لامرأته: يا غافلة أو يا بلهاء، فهذا ليس بقذف ولا يوجب إثبات الحد، وهكذا لو قال لها: يا مجنونة، فلابد من وجود التهمة بالزنا، وأن تكون لفظاً لا فعلاً، وقال بعض العلماء: الكتابة تنزل منزلة اللفظ، وهذه مسألة تقدمت معنا في حكم طلاق من كتب طلاقه، فقال بعض العلماء: إن كتابة الشيء كالتلفظ به، فمن كتب لامرأته بالطلاق ولم يتلفظ به وقع طلاقه، ومن قذف بالكتابة ولم يتلفظ به فإنه قاذف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت بها نفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، ولأن الله يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، وقد كتب إلى الملوك ملوك الأرض، فنزّل الكتابة منزلة البلاغ المباشر، فدل على أن الكتابة تنزل منزلة العبارة.
ومن أهل العلم من قال: إنه لابد من وجود الرمي بالقول إعمالاً للأصل؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وإذا قذف بالكتابة لم يكن رمياً من كل وجه، ومن هنا: لا يأخذ حكم القذف، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في كتاب الطلاق.
وقوله: (كزنيت): هذا لفظ صريح، فإذا قال لها وهي حاضرة شاهدة: زنيت، فهذه تهمة بالزنا وقذف، والقذف يوجب ثبوت حكمه، وإذا قال: يا زانية أو رأيتك تزنين فهذا أيضاً لفظ صريح، إذا قاله لزوجته وهي حاضرة شاهدة، فهي تهمة بالزنا وقذف، والقذف يوجب ثبوت حكمه.(322/3)
قول العلماء فيمن قذف امرأته بأنها وطئت في الدبر
وقوله رحمه الله: (في قبل أو دبر) تقدم معنا مسألة هل اللواط ووطء المرأة في الدبر ينزل منزلة القبل؟ فيها وجهان للعلماء رحمهم الله: فمن أهل العلم من اختار أن وطء المرأة في الدبر كالزنا بها إذا كان من غير الزوج، وهكذا إذا كان زوجاً فإنه قد أتى الحرام، وقالوا: إنه يعزر أشد التعزير.
ومنهم من قال: يقام عليه الحد.
ونسب لبعض العلماء الترخيص فيه، ولكنه مذهب شاذ لا يعول عليه ولا يعمل به؛ لأن الله تعالى يقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223]، والحرث إنما هو في القبل دون الدبر، فوطؤها في الدبر كوطء الأجنبية، فهو وطء في غير المحل المعتبر شرعاً، وروى الترمذي حديثاً حسن بعض العلماء إسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم بريء ممن أتى امرأته في دبرها، وهذا وعيد شديد، وجماهير السلف والخلف رحمهم الله أن من كبائر الذنوب إتيان المرأة في الدبر، وللإمام ابن القيم كلام نفيس في هذا، وذكر أن المرأة حينئذ تسوء أمورها، وتفسد أخلاقها، فالرجل إذا أتى امرأته في دبرها أفسدها الله عليه، فذهب ماء وجهها، وأظلم قلبها، وكان سبباً في كثير من المفاسد والشرور، إضافة إلى ما فيه من الاعتداء لحدود الله عز وجل والانتهاك للمحارم، فإن الله يقول: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]، والمراد بإتيان الحرث مكان الوطء، فلو أنه قذف المرأة بأنها وطئت في الدبر، أو وطئت في القبل، فالحكم عند الحنابلة رحمهم الله واحد، فهو كالقذف بالزنا الصريح، فإذا خاطبها بذلك ثبت به القذف، وحينئذ إذا كان زوجاً فإنه يلاعنها.(322/4)
ألفاظ لا تأخذ حكم القذف ولا توجب اللعان
قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: وطئت بشبهة أو مكرهة أو نائمة، أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني، فشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه، لحقه نسبه، ولا لعان].(322/5)
قول الرجل لامرأته: وطئت بشبهة
(فإن قال: وطئت بشبهة) أي: وطأك الغير بشبهة، والشبهة: الشيء المشبه للشيء الذي فيه ما يقارب أوصافه فيختلط به، فالوطأ بالشبهة هو: الذي فيه شبه من الحلال وشبه من الحرام، مثلاً: امرأة يدخل عليها رجل يظنها زوجة له وهي تظنه زوجاً لها، فيطؤها بشبهة، فهو ظن أنها زوجته ولا يقصد الزنا، ولا يريد الحرام، ولو علم أنها أجنبية لما وطئها، وكذلك هي، فهذه شبهة تدرأ الحد، فيه شبه من الحرام؛ لأنها ليست زوجته، وفيه شبه من الحلال حيث أنه لا يؤاخذ ولا يعاقب؛ لأنه يعتقد أنها زوجته، وكذلك هي مكنته من نفسها ظناً منها أنه زوجها، فهذا وطء الشبهة، ومن وطء الشبهة أن يكون في نكاح فاسد يظن أنه صحيح، فيعقد على المرأة عقداً فاسداً، ويظن أنها قد حلت له بهذا العقد الفاسد، ثم تمكنه من نفسها، وينكحها وهو يظنها زوجة حلالاً، وحينئذ يكون الوطء فيه شبهة تمنع الحد، ويثبت بها نسب الولد.
فلو قال لامرأته: وطئت بشبهة، لم يكن قذفاً؛ لأن هذا ليس برمي بالزنا، فليس بقذف ولا يوجب ثبوت اللعان؛ لأنه إذا لم يكن اللفظ قذفاً لا يثبت اللعان.(322/6)
قول الرجل لامرأته: وطئت مكرهة
وقوله: (أو مكرهة): أي: وطئت مكرهة، إذا أكرهت المرأة على الزنا فجماهير العلماء رحمهم الله أنه لا يقام عليها حد الزنا، وأنها لا تأخذ حكم الزانية؛ وذلك لأنها إذا أكرهت سقط التكليف عنها، والله تعالى يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فلو أن امرأة توافرت شروط الإكراه فيها، وقد ذكرنا هذه الشروط في طلاق المكره، وقلنا: إن من شرط الإكراه أن يكون الشيء الذي تهدد به أعظم من الشيء الذي يطلب منها، فالقتل أعظم من الزنا، فلو قيل لها: إذا لم تزني قتلناك أو قتلنا ولدك، وعلمت أنه سيقع هذا الشيء الذي هددت به، ولا يمكنها أن تستصرخ ولا أن تستنجد، فمكنت من الزنا بها، ولكنها كارهة بقلبها غير مطمئنة، فهذه توافرت فيها شروط الإكراه، فجاء زوجها وقال لزوجته: وطئت مكرهة، فاشتكته عند القاضي وقالت: قذفني، فنقول: قوله: وطئت مكرهة، ليس بقذف؛ لأن الوصف بالإكراه يوجب ارتفاع حكم اللعان، وهذا وصف حقيقي، وهكذا لو قال: وطئت بشبهة، أو وطئت مكرهة، على أمر يعلمه بينه وبينها، فإنه لا يوجب ثبوت القذف.(322/7)
قول الرجل لامرأته: وطئت نائمة
وقوله: (أو نائمة): أي: وطئت نائمة، المرأة إذا وطئت وهي نائمة، اندرأ عنها الحد، ولا يوجب ذلك ثبوت زناها، كما إذا كانت ثقيلة النوم، وقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة كانت صالحة، ففوجئ أهلها بأنها حامل، فرفع أمرها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأل عنها فوجد أنها ممدوحة بالخير ويثنى عليها، فسأل عن أمرها فقالت: يا أمير المؤمنين! إني كنت نائمة ولم أشعر إلا وقد فرغ الرجل من حاجته، فدرأ رضي الله عنه عنها الحد.
فالمرأة إذا كانت نائمة فإنها غير مكلفة، فلو وطئت وهي نائمة، ثم قال لها زوجها: وطئت وأنت نائمة، فإن هذا لا يوجب ثبوت اللعان.(322/8)
من لم يرم زوجته بالزنا ونفى الولد
قال المصنف رحمه الله: (أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني) القذف في اللعان يشتمل على صورتين: الصورة الأولى: أن يرميها بالزنا.
الصورة الثانية: أن ينفي الولد ولا يرميها بالزنا، يقول: هذا الولد ليس بولدي، فيقال له: تتهمها بالزنا؟ يقول: هذا الولد ليس بولدي، وقد تحمل المرأة وتكون معذورة شرعاً، مثل أن توطأ بشبهة، أو شاهدها وقد أكرهت فقال: هذا الولد ليس بولدي، فيقع اللعان على نفي الولد.
فتارة يقع اللعان على درأ حد القذف، وتارة يقع على نفي الولد.
دليل الصورة الأولى: حديث ابن عباس رضي الله عنهما -في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ هلال بن أمية: (البينة أو حد في ظهرك)، فهو اتهم زوجته بالزنا، ودرأ عن نفسه الحد بهذا اللعان.
ودليل الصورة الثانية -وهي أن ينفي الولد-: ما جاء في قصة هلال، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انظروا إليه فإن جاءت به خدلج الساقين، أكحل العينين، سابغ الأليتين، فهو للذي رميت به)، وجاءت به على هذه الصفة، وخدلج الساقين: أي: كثير لحم الساقين، وأكحل العينين: أي: أنه شديد سواد منابت الشعر في عينيه كأنها قد أكحلت، وسابغ الأليتين: أي كثير الشحم في الأليتين، فجاءت به على هذه الصفة، فهذا لعان على نفي الولد، فوقع لعان هذا الصحابي على الصورة التي يسميها العلماء: الصورة المركبة، وهي: أن يجمع بين نفي الولد وزناها، فيشهد في اللعان قائلاً: إن زوجتي فلانة زانية، وإن هذا الولد ليس بولدي، وإذا كانت حاملاً يقول: وهذا الحمل ليس مني.
وقد يكون اللعان بنفي الولد دون التهمة بالزنا، والمرأة قد تحمل بدون زنا، فربما لو دخلت مستحماً للرجال، فاستدخلت ماء الرجل في فرجها، فيقع الحمل دون وجود الزنا، وهذا قد يقع، وهذا الذي جعل التحليلات الطبية ليست بدليل شرعي كشهادة الأربعة العدول، ومن هنا تدرك عظمة هذه الشريعة، وبعض الناس قاصر فهمه يقول: الآن عندنا تحليلات طبية، التحليلات الطبية ليست بدليل شرعي، فربما أن المرأة تحمل باستدخال المني في الفرج بدون الوطء، وهذا معلوم وموجود.
فقد يقع الحمل في صور بدون وطء، لكن ليس هناك مثل أربعة عدول من المسلمين يشهدون أنهم رءوا الزنا، وأنهم رءوا الرجل يزني بالمرأة، وأن ذلك منها كالميل في المكحلة، فهذا من أثبت وأوضح ما يكون، أو تقر المرأة أو يقر الرجل على هذا الشيء، فهذه هي البينات الشرعية.
فالشاهد أنه حينما يقول: هذا الولد ليس بولدي، ولا يتهمها بالزنا، فهذا نوع من اللعان فينفي الولد، وهي تلاعن على أن الولد ولده.
قال رحمه الله: (أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني): ليس ولدي أو ليس مني، وهذه المسألة لها صور: إذا كان الزوج يشك في الولد وفي الحمل، ونفى الولد وقال: هذا الولد ليس بولدي، فحينئذ إما أن ينفيه حال حملها قبل الوضع، أو ينفيه بعد الوضع.
فإن نفاه حال حملها فللعلماء وجهان: من أهل العلم من قال: لا تصح الملاعنة حتى تضع، فلا يرون اللعان في حال حمل المرأة؛ لاحتمال أن يكون الانتفاخ الذي في بطن المرأة مرض وليس بحمل، فحينئذ لا لعان؛ لأن هناك شبهة، وهناك أمر غير بين، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة رحمهم الله.
وقالت الشافعية والمالكية: يصح اللعان على نفي الحمل، وهذا ثابت في حديث هلال بن أمية، فإنه لما لاعن نفى النبي صلى الله عليه وسلم الولد منه، ولم يجعله له، فدل على أن اللعان وقع على الزنا وعلى نفي الولد.
والصحيح أنه يصح اللعان على نفي الحمل خلافاً لمن قال: لا لعان حتى تضع المرأة.
إذاً: إذا نفى الحمل قبل أن تضعه المرأة، فالصحيح أنه يقع اللعان، وأن المرأة تلاعن، والرجل يلاعن.
الصورة الثانية: أن يقع نفيه للولد وتهمته لزوجته وأن الولد ليس بولده بعد وضعها، فمن أهل العلم من قال: يشترط أن يكون بعد الوضع مباشرة فلا يتأخر؛ لأن سكوته بعد وضع الولد، وقبوله للتهنئة بالولد يعتبر رضاً منه بنسبته إليه، وإقرار منه أن الولد ولده، فيشترطون أن يكون نفيه مباشرة، وألا يكون هناك تأخر ولا تراخٍ.
فهناك ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يقول: الولد ليس بولدي، وهي زانية، فجمع بين الأمرين بين نفي الولد وزناها.
الصورة الثانية: أن يقول: لم تزن، والولد ليس بولدي، فنفى الزنا لكن أثبت أن الولد ليس بولده.
الصورة الثالثة: أن يقول: الله أعلم زنت أو ما زنت، لا أدري، ولكن الولد ليس بولدي.
هذه ثلاث حالات: فإذا نفى الزنا وأثبت الولد -وهذا الذي يعنينا- قال فيه المصنف رحمه الله: (وشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان)؛ لأن الولد للفراش، والفراش هي الزوجة، وخذ هذه القاعدة: من عقد على امرأة عقداً شرعياً، ومضت مدة يمكن أن تحمل فيها أو تضع، فجميع ما تضعه المرأة -والعقد قائم- ينسب لهذا الرجل، سواء وضعته في حال حياته أو بعد موته بمدة الإمكان على تفصيل سيأتينا إن شاء الله في لحوق النسب، والدليل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، فقوله عليه الصلاة والسلام (الولد للفراش) قاعدة في أننا ننسب الولد للفراش، فإن كانت منكوحة نسب إلى الناكح، وإن كانت غير منكوحة نسب إلى أمه؛ لأنه ولد زنا والعياذ بالله! وبناءً على ذلك: إذا قال: هذا الولد ليس بولدي، ففيه تفصيل: بعض العلماء يقول: إذا نفاه مباشرة بعد الوضع فإنه من حقه، وخاصة على مذهب من لا يرى اللعان حال الحمل، فإذا وضعت الولد وقال: هذا الولد ليس بولدي، أو شهد عدول على أنه نفاه مباشرة وأنه لم يقبل التهنئة به، ولم يثبت الدليل على رضاه؛ صح نفيه ولاعن.
لكن المصنف رحمه الله يقول: (إذا شهدت امرأة ثقة) وهذه المسألة تعرف عند العلماء بشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال، وستأتينا إن شاء الله في باب البينات، ونبين أن الشريعة تقبل شهادة الرجال فقط كما في الحدود والدماء ولا تقبل شهادة النساء، ولذلك ما ذكر الله شهادة النساء في الدماء وفي الحدود، فمثلاً في الزنا، ما يشهد ثمان نسوة، ولذلك قال: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، ولم يذكر البدل من النساء، وفي هذا حكمة عظيمة؛ لأن النساء تغلب عليهن الغيرة، ويغلب عليهن الاستعجال للضعف البشري الذي هو من طبيعة خلقهن، لو خلق الله بنيتي ضعيفة، ما آتي وأقول: لماذا خلقني الله ضعيفاً؟ هذه خلقة الله سبحانه وتعالى، وهذا الضعف الحاصل في المرأة كمال لها في مواطن، لكن خلقها سكناً للرجل وفيها هذا الضعف، ولذلك جبرت شهادتها بشهادة أختها، فقال: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]، فجعل شهادتها في الأموال {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة:282]، فبين الله علة جعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ} [البقرة:282]، وفي قراءة ((فَتُذْكِرَ)) يعني: تجعلها كالذكر، (فَتُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]، فتنقل شهادتها من النقص إلى الكمال، فالأمور التي تقبل فيها شهادة النساء هي الأموال وما يئول إلى الأموال إعمالاً للنص، وهذا هو الأصل الذي ورد في كتاب الله عز وجل، والمرأة لا تساوي الرجل في هذا، يرضى من يرضى، ويغضب من يغضب، هذا شرع الله عز وجل، وهذا كتاب الله، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد بينا غير مرة أن الله سبحانه وتعالى فضّل الرجل على المرأة بنصوص الكتاب والسنة التي لا تقبل جدالاً ولا مراءً، كقوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر:6]، فأول ما خلق الله بيده آدم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، ولم تكن حواء مخلوقة مستقلة، وإنما خلقها من آدم، تشريفاً للذكر وتكريماً له، والله يفضل من شاء كيف شاء ومتى شاء وبما شاء، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]، فذلك فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء، فهذا التفضيل حتى في الخلقة والإدراك والتركيز والشعور، فالمرأة من حيث هي لا تقبل شهادتها في الدماء، ولذلك انظر إلى المرأة إذا وقع أمامها أي جرح تغمض عينيها فهي لا تتحمل، والشهادات تحتاج إلى تحمل، وتحتاج إلى قوة، خاصة الأمور التي فيها قتل، وفيها جرائم، وفيها اعتداء، فمن هنا: نقول إن شهادة النساء تقبل في الأموال، وفيما لا يطّلع عليه إلا النساء -وهذا محل الشاهد معنا هنا- كمسألة كون المرأة بكراً أو ثيباً، كما تقدم معنا في مسائل النكاح، وكمسألة الوضع في الفراش؛ لأن المرأة تلد غالباً عند النساء، فالنسوة هن اللاتي يقمن بتوليد النساء في الأصل، وهذا الذي أثبتته قواعد الشريعة؛ لأن الجنس مع الجنس أبعد عن الفتنة، وأبعد عن الحرام والوقوع في المحظور، فإذا ثبت هذا، فمن حيث الأصل أن المرأة تقبل شهادتها في الأموال، وما يئول إلى الأموال، وفيما لا يطلع عليه إلا النساء، مثل مسألة الولادة، ومسألة الرضاعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل فيه شهادة الواحدة، حينما قال عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟) وسيأتينا إن شاء الله في باب الرضاع، فلما قبل امرأة واحدة في إثبات الرضاع وهو مما لا يطلع عليه إلا النساء دل على قبول شهادتهن في نوع خاص، وهذا فيه تفصيل عند العلماء وضوابط وقيود؛ لأن الأصل يقتضي ألا تقبل الشهادة إلا بالعدد، فإذا شهدت المرأة الثقة أن امرأة ولدت هذا الولد على فراشه، وما زال النكاح قائماً، وما زالت الزوجية قائمة على صفة يلتحق به الولد، فحينئذ الولد ولده ولا لعان على ما اختاره المصنف رحمه الله، ونحن قد بينا أن العمل على التفصيل، فإن كان هناك مبادرة بالإنكار حال حمله أو بمجرد وضعه، فله الحق أن يلاعن وأن ينفي هذا الولد عنه.(322/9)
تكذيب الزوجة لزوجها شرط في وقوع اللعان
قال المصنف رحمه الله: [ومن شرطه أن تكذبه الزوجة]: ومن شرط وقوع اللعان أن تكذبه الزوجة، فلو أن الزوجة صدقته فإنه يقام عليها الحد، لو قالت: هو صادق، وأقرت بذلك في مجلس القاضي ثبتت عليها جريمة الزنا ويقام عليها الحد.
لكن لو أنه قال لها: يا زانية، في البيت وسكتت، وسألتها إحدى النساء: هل أنت زانية؟ قالت: نعم، ووقع إقرارها في البيت، فحينئذ لا لعان؛ لأن اللعان يكون مع امرأة تكذب وتنفي، ولذلك ستشهد بالله أيماناً مغلظة على أنه ليس بصادق أو أن هذا الولد ولده، إذاً: لابد أن تكذبه المرأة.(322/10)
الأمور المترتبة على اللعان(322/11)
سقوط الحد والتعزير
قال المصنف رحمه الله: [وإذا تم سقط عنه الحد والتعزير].
وإذا تم اللعان على الصفة المعتبرة شرعاً فلاعن الزوج سقط عنه الحد، وسقط عنه التعزير، والأصل أن الزوج إذا لاعن فإنه يدرأ بأيمان اللعان الحد عن نفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ هلال بن أمية: (البينة أو حد في ظهرك) فقال: يا رسول الله! الله يعلم أني صادق فيما أقول، وسينزل الله فيّ قرآناً، فأنزل الله فيه قرآناً، فأثبت اللعان لأجل درأ الحد عن الزوج، فدل على أن الزوج إذا لاعن، وحلف أيمان اللعان كاملة أنه يندرأ عنه الحد.(322/12)
الفرقة الأبدية بين الزوجين
قال المصنف رحمه الله: [وتثبت الفرقة بينهما بتحريم مؤبد] إذا لاعن رجل زوجته، وحلفت المرأة أيضاً ولاعنت، فيفرق بين الزوج والزوجة فراقاً أبدياًَ، قال الزهري رحمه الله: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما فلا يجتمعان أبداً، ولذلك لما لاعن عويمر زوجته، وسأل عن المهر قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنت صادقاً -أي بأنها زانية- فالمهر لها بما استحللت من فرجها، وإن كنت كاذباً فهو أبعد لك منك)، فشبه إجماع بين العلماء رحمهم الله أنه يفرق بين المتلاعنين فراقاً أبدياً فلا يجتمعان.
ولكن إذا كذب نفسه وقال: كذبت فيما رميتها به، وهي ليست بزانية، فهل يحق له أن يعقد عليها وترجع إليه؟ قال بعض العلماء: يصح ذلك، ويقام عليه الحد، وترجع إليه زوجته؛ لأنه شرع لسبب وهو بقاء اللعان، ومن العلماء من يقول: إذا وقع اللعان وقعت الفرقة إلى الأبد؛ لأنه تنتقل حكومة الزوج والزوجة من الدنيا إلى الآخرة، فيبقى الفراق بينهما حتى يقضي الله بينهما بالحق، وهو خير الفاصلين، فيقضي الله بينهما في حكومة يوم الدين؛ لأن كلاً منهما قد أتى ببيناته وشهاداته، فتعذر ترجيح إحدى الشهادتين على الأخرى، فبقي الأمر معلقاً إلى يوم القيامة.(322/13)
الأسئلة(322/14)
إذا شهد أربعة على المرأة بالزنا فهل لزوجها أن يلاعنها؟
السؤال
إذا وجد الشهود فهل للزوج أن يلاعنها أو يكتفى بشهادة الشهود وتستحق الرجم؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: هذه مسألة خلافية، فمن أهل العلم من يقول: من عنده بينة فإنه لا يلاعن، وإنما يقيم البينة ولا لعان، وحينئذ لا يثبت اللعان بالشهود.
ومن أهل العلم من قال: هو مخير لاحتمال أن تكون البينة كاذبة؛ لأنه قد يشهد شهود ويكون عندهم خطأ أو يكون عندهم كذب وتزوير والعياذ بالله! ويريدون إلحاق الضرر بالمرأة، قالوا: فالأفضل: أنه يلاعن حتى يمكنها من أن تدفع عن نفسها الضرر، وعلى كل حال، فكلا القولين له وجه، لكن الأحوال تختلف، فإذا كان يعلم أنها زانية وعنده شهود فالأفضل والأكمل سترها بشرط ألا يكون هناك حمل يلتحق به، فإذا كان هناك حمل ولا يمكنه أن يدفع هذا الحمل إلا باللعان فقد فصلنا فيه القول في أول باب اللعان، وبينا متى يجب عليه أن يلاعن، ومتى يجوز، ومتى يحرم.
فعلى كل حال إذا كان عنده بينة، وعلم أنها زانية، وحصل منه قذف لها، واشتكت؛ فحينئذ الأولى والأحرى أن يقيم عليها البينة، حتى لا يكون هناك تلاعب بحدود الله فتشهد بالباطل، وإذا لم تكن عنده بينة ولم يكن هناك شكوى منها وأراد الستر عليها ولا ضرر عليه فالأفضل والأكمل أن يستر عليها؛ لأن الشريعة نصوصها مطبقة على مشروعية الستر وأفضلية الستر، حتى إن ماعزاً رضي الله عنه لما اعترف بالزنا ندبه النبي صلى الله عليه وسلم أن يستر على نفسه، وهذه من الرحمة التي بعث بها سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، والله تعالى أعلم.(322/15)
اندراج الحد الأدنى تحت الحد الأعلى في العقوبات
السؤال
أشكل عليّ قول المصنف: [سقط عنه الحد والتعزير]، فما هو التعزير المقصود هنا؟
الجواب
هو في مسألة إذا جمع بين نفي الولد وبين التهمة بالزنا، فحينئذ يسقط عنه حد القذف بالزنا، ونفي الولد في غير اللعان يوجب التعزير، فيسقط تعزيره باللعان.
الصورة التي ذكرها المصنف رحمه الله أنه ينفي الولد والمرأة تشهد أن الولد ولده، فإذا كان هناك اشتراك بين ما يوجب الحد والتعزير، سقط عنه الحد فيما يوجب الحد، وسقط عنه التعزير فيما يوجب التعزير.
ومن العلماء من يقول: إذا لاعن سقط عنه الحد، لكن يبقى التعزير فيعزر، فمسألة اندراج التعزير تحت سقوط الحد قد تقدمت معنا في مسألة الاندراج، فإن الاندراج يقع في العبادات مثل من يصلي راتبة الظهر فتندرج تحتها تحية المسجد، ومن يطوف طواف الإفاضة وينوي تحتها الوداع، ويقع أيضاً في العقوبات، فيندرج الحد الأدنى تحت الأعلى، وقد أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه ذلك -كما حكاه غير واحد من العلماء رحمهم الله- أنه لو زنى وهو محصن، وسرق، وقتل؛ فإنه يقام عليه حد القتل قصاصاً، ويندرج تحته حد الزنا؛ لأنه اجتمع حق الله عز وجل وحق المخلوق، فلابد أن يقتل مرة واحدة، فإننا لو رجمناه بقي حق القصاص، ولو قتلناه قصاصاً بقي حق الزنا، فقال: يقام عليه حد القصاص ويندرج تحته باقي العقوبات، وحتى إن بعضهم يقول: لا يقام عليه حد السرقة الذي هو الأخف، ومذهب بعض العلماء أنه تقام عليه الحدود الممكنة، تندرج الحدود التي لا يتعذر جمعها، والله تعالى أعلم.(322/16)
السن الذي تتأهل فيه المرأة للوطء
السؤال
ما هو ضابط العمر بالنسبة للتي توصف بأنها صغيرة؟
الجواب
السن الذي تتأهل فيه المرأة للوطء هو التسع سنوات، وهذا يختلف باختلاف النساء واختلاف المناطق، لكن في الغالب تسع سنوات، وقد تقدم معنا هذا في كتاب الحيض، وبينا أن المرأة تتأهل لهذا بوجود الحيض فيها، وقد تكون ضعيفة البنية، لكن هذا بالنسبة إلى الغالب، خاصة في المناطق الحارة، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: أعجب من رأيت في الحيض نساء تهامة، فإني وجدت جدة وعمرها إحدى وعشرون سنة، أي: أنها تزوجت وعمرها تسع سنوات، وحملت ووضعت حملها في العاشرة، ثم هذا الحمل بلغ تسع سنين، فأصبح عمر الأم تسع عشرة سنة، ثم حملت البنت ثم وضعت، فأصبح عمر الأم إحدى وعشرين سنة، لكن هذا لما كان النساء في زمان البركة، ويأكلن أكلاً طيباً، أما اليوم -والله المستعان- ضعفت البنية، الآن لو تزوج بنتاً عمرها ثمان سنوات، تقوم الدنيا ولا تقعد، وعائشة رضي الله عنها تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها -يعني عقد عليها- وهي بنت ست سنوات، ودخل بها وهي بنت تسع سنين! فالمرأة تتأهل للحيض، وتتأهل للوطء، وعمرها تسع سنوات، والله تعالى أعلم.(322/17)
حكم بول وروث الجلالة
السؤال
إذا كان يحرم أكل لحم الجلالة، فهل معنى ذلك أن بولها وروثها نجس؟
الجواب
مسألة الاغتذاء بالنجاسة؛ فيها خلاف وتفصيل عند العلماء رحمهم الله، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه نهى عن أكل الجلالة حتى تحبس، وهذا يقتضي أنها تضررت بما أكلته، وإذا كانت تأكل النجس فقد أثر فيها، وينبغي فهم العلل من النصوص بما فيها من دلائل، فإذا كانت جلالة تأكل النجاسات فهي نجسة، وإن كانت تأكل القاذورات فهي مستخبثة، فيكون التحريم إما للنجاسة وإما للاستخباث، ولذلك طائر الرخم، وهو الطائر المعروف الذي يأكل الجيف ويغتذي بها لا يؤكل، مع أنه ليس من ذوات المخالب كالنسر والباز والباشق والشاهين وغيرها من الطيور الجارحة، قالوا: إنما حرم طائر الرخم لخبث مأكله، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
والجلالة لها صورتان: بهيمة الأنعام أو الدواجن كالدجاج التي تتغذى على النجاسة أو التي تتغذى على القاذورات.
فتتغذى بالنجاسة مثل أن تطعم الدماء، فبعض الدجاج تطعم الدم الذي يكون مسفوحاً، فيجفف ثم تطعم، فهي متغذية بالنجاسة، وحكمها حكم الجلالة، أو تتغذى بالقاذورات مثل أن تطلق البهيمة كالبقر فتأتي إلى الزبائل وتأكل منها -أكرمكم الله-، فلا يشرب من حليبها، ولا يطعم من لحمها، حتى تحبس؛ فإذا حبست وأطعمت طعاماً طيباً حل أكلها وذبحها، وحل أيضاً الاغتذاء بلبنها، وبعضهم يرى حبسها أسبوعاً حتى تطيب.
فالمنع من أكل الجلالة لأمرين: إن كانت تأكل النجاسة فللنجس، وإن كانت تأكل القاذورات فللقذر، والله تعالى أعلم.(322/18)
حكم صلاة الوتر والضحى والإشراق للمسافر
السؤال
هل للمسافر أن يصلي صلاة الوتر والضحى والإشراق؟
الجواب
السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما ترك الوتر حضراً ولا سفراً، ولذلك ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه كان عليه الصلاة والسلام يوتر على بعيره، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه أوتر على بعيره فسئل عن ذلك -كما في الصحيحين- فقال: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته)، فأوتر على بعيره إلى غير القبلة في السفر، فالسنة ألا يترك المسافر الوتر لا حضراً ولا سفراً.
وأما بالنسبة للضحى ففيه خلاف، وظاهر السنة أن صلاة الضحى تترك، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً)، ومن أهل العلم من قال: تصلى الضحى في السفر لحديث أم هانئ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح ضحى فصلى في بيتها ثماني ركعات، فمن أهل العلم من قال: إنها ركعات الضحى، ولذلك يرى بعض أهل العلم أن أوسط الكمال في الضحى ثمان ركعات، وأعلاها اثنتا عشرة ركعة، والصحيح أن هذه الثمان الركعات هي ركعات الفتح، صلاها عليه الصلاة والسلام شكراً لله عز وجل في اليوم الذي أعز الله فيه جنده، ونصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده لا شريك له، فصلى لله شكراً، ولذلك ما صلى كذلك إلا يوم الفتح، وصلاها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه يوم فتح إيوان كسرى، فهذا هو الصحيح أن الثمان الركعات التي صلاها عليه الصلاة والسلام في بيت أم هانئ إنما هي صلاة الفتح شكراً لله عز وجل على نعمة الفتح.
وصلاة الضحى الأشبه أنه لا يصليها المسافر، ولكن إذا أراد أن يصليها من باب الخروج من الخلاف فلا بأس وفيه وجه من السنة، والصحيح والأقوى أنها لا تصلى إلا حضراً.
وأما بالنسبة لركعتي الإشراق، فالإشراق عام، فلو أنه سافر إلى جدة أو سافر إلى مكة أو سافر إلى المدينة فصلى الفجر في جماعة، ثم قال: أريد الخير، فانتظر حتى طلعت عليه الشمس في مصلاه وهو يذكر الله، ويقعد في نفس المصلى يذكر الله عز وجل، ولا ينام ولا يتحدث في أمور محرمة، ولا يتحول عن مكانه، ثم يصلي ركعتين بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، فله أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، ولا يشكل على هذا ما ورد عن الصحابة -كما في الصحيح من حديث جابر - أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر ويتحلقون عليه؛ لأن هذا ليس له علاقة بمسألة ركعتي الإشراق؛ لأن الإنسان مخير بين أن يجلس في مكانه فيصيب ركعتي الإشراق، وبين أن يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم من طلب العلم، وطلب العلم أفضل من العبادة، ولذلك لو تعارض الجلوس إلى الإشراق مع حلقة علم، فإن نفع العلم متعدٍِ فهو مقدم على العبادة القاصرة، بل لو مضى إلى ذلك المجلس وفي نيته أنه لولا المجلس ولجلس إلى الإشراق وصلى، فإن الله يكتب له الأجرين، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، والله تعالى أعلم.(322/19)
الأفضل في حق ولد تجاه والد كبير السن متقاعد
السؤال
والدي كبير في السن، وقد تقاعد من عمله، وهو ممن يحب العمل، فهل من البر البحث له عن عمل أم أحثه على الانشغال بالعبادة؟
الجواب
ابحث له عن عمل إذا كان عنده قدرة وطاقة ويحب أن يعمل، فالتمس رضاه بعد رضا الله عز وجل، وإذا كان يمكنك أن تقوم على معيشته أو راتبه يكفيه فيتفرغ للعبادة فهو أفضل، فمن تفرغ لربه كفاه الله ما أهمه من أمر دينه ودنياه وآخرته، وهكذا كان كبار السن من أهل الإسلام يلزمون بيوت الله عز وجل، ويعكفون على العبادة لعل الله أن يختم لهم بخاتمة الخير، والمؤمن إذا شاب شعره، ورق عظمه انتظر مجيء النذير من ربه، وانتظر الأجل الذي قدره له مولاه، فيستكثر من الأعمال الصالحة، ولربما ينكسر قلبه، ويخشى الله سبحانه وتعالى، فيتوب توبة نصوحاً يغفر الله له بها ذنوب العمر كلها، وكم من رجل مسيء خطّاء كثير الذنوب أسرف على نفسه، فوقف في آخر عمره على باب الله عز وجل يرجو رحمته فانكسر لله قلبه، واطمأن بذكر الله فؤاده، وسأل الله وتعالى أن يعفو عما سلف من الذنوب والعصيان، ولربما كان ابن سبعين أو ابن تسعين أو ابن مائة أو أكثر من ذلك وصدق مع الله فصدق الله معه، فمحا الله عنه ذنوب عمره كلها، والله يفرح بتوبة التائبين، ويحب من عبده أن يقبل عليه وهو أرحم الراحمين، هو أغنى ما يكون عن عباده، والعباد أفقر ما يكونون إليه، فالمؤمن إذا شقي في هذه الدنيا وتعب في جني مالها لكي يعف نفسه ويعف أهله، فعلى أولاده إذا كبر سنه، ورق عظمه أن يتقوا الله فيه، وأن يرحموا كبر سنه، وأن يحاول الابن البار أن يقوم على أبيه في آخر عمره، وأن يتفانى وأن يضحي وأن يجلب له ما يسد رمقه، ويعينه على ذكر الله عز وجل، وكم من ابن بار فتحت له أبواب الخير بدعوات صالحات طيبات مباركات من أم برها أو أبٍ أكرمه في آخر عمره، فكفاه مئونة الدنيا، وكتب الله له بذلك سعادة الدنيا والآخرة، فيوصى الابن أن يبحث أول شيء عن سداد حاجة والده، إذا كان الوالد بحاجة وعندك القدرة على أن تسد حاجته وتضحي له فحينئذ تقطعه عن الدنيا وتقول له: يا أبت! تفرغ لآخرتك واستجمع قلبك لربك، وكفى ما مضى، وجزاك الله عني وعن إخوتي وأهلك كل خير، لم تقصر في شيء فجزاك الله كل خير، والآن سأقوم على أمرك، وأسعى في جلب الرزق إليك، فادع الله أن يعينني، فتسعى والله سبحانه وتعالى لا يخيبك، وكم من عبد يرزق بفضل الله ثم بفضل والديه، ولذلك لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم الرجل يسعى على أخيه وهو عبد صالح قال عليه الصلاة والسلام: (لعله يرزق بسببه)، يعني: الأخ الغني فتح الله له أبواب الغنى والرزق بسبب قيامه على أخيه، وهذا رحمة من الله سبحانه وتعالى يرحم بها عباده.
على كل حال، إذا كان الوالد بحاجة إلى الراحة فالأفضل أن تقوم عليه، وإذا كنت تستطيع أن تكفيه هذا الهم وتقول له: اجلس في البيت وأنا أقوم عليك ولا يتأذى بذلك ولا يتضرر فافعل رحمك الله، واحتسب الأجر عند الله، وإن من أعظم الطاعات وأجلها زلفى عند الله -بعد توحيده والإيمان به وعبادته- بر الوالدين، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم لنا ولك ولكل مسلم التوفيق لذلك، والله تعالى أعلم.(322/20)
إذا نوى المسافر الإتمام ثم تبين أن الإمام مسافر
السؤال
مسافر ظن إمامه مقيماً فنوى الإتمام، ثم تبين أن الإمام مسافر، فهل يلزم بالإتمام؟
الجواب
من دخل وفي نيته أن يتم لزمه الإتمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما لكل امرئ ما نوى)، فإذا نويت الإتمام وجبت عليك الأربع.
ودائماً على الشخص أن يحتاط إذا شك في الإمام: هل هو مقيم أو مسافر أن ينوي القصر، فإذا نويت القصر وكان الإمام مسافراً فلا إشكال، تسلم معه، وإذا نويت القصر وكان مقيماً أحدثت الإتمام؛ لأنه يجوز الزيادة على النقص، فلا بأس أن تدخل بنية القصر ثم يتبين أن إمامك مقيم فتنوي الإتمام، فلا حرج عليك في ذلك ولا بأس، والله تعالى أعلم.(322/21)
إذا سافر بعد الأذان فهل يصليها قصراً أم يتمها؟
السؤال
أذن الفرض وأنا مقيم ثم شرعت في السفر بعد الأذان مباشرة، فإذا أردت الصلاة وأنا في الطريق فهل أتم أم أقصر؟
الجواب
إذا خرجت من آخر عمران المدينة وبيوتها وأذن عليك الأذان بعد خروجك فأنت مسافر، وتقصر صلاتك إذا كانت رباعية، وأما إذا أذن الأذان قبل خروجك -ولو بخطوة واحدة- من المدينة فإنه يجب عليك أن تتم الصلاة؛ لأنه توجه عليك النداء بأربع ركعات، ووجبت عليك وأنت مقيم، فلا يجوز إسقاط الأربع؛ لأنها ثبتت في ذمتك، وبناءً على ذلك يجب عليك الإتمام ما دام قد أذن عليك أذان الظهر أو العصر أو العشاء قبل أن تخرج من آخر العمران، أما إذا خرجت وأذن عليك بعد خروجك فلا إشكال، والله تعالى أعلم.(322/22)
التخفيف في الركعتين الأخيرتين يشمل التخفيف في جميع الأركان
السؤال
هل من السنة في الرباعية تطويل الركعتين الأوليين وتخفيف الأخيرتين؟ وهل التخفيف في جميع الأركان؟
الجواب
الظاهر من السنة أن التخفيف في جميع الأركان، ولكن التخفيف نسبي، فثبت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه -وكان أميراً لـ عمر على الكوفة- وكان رضي الله عنه وأرضاه من أحرص الناس على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الصحابي الجليل الذي يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي)، هذا الصحابي الجليل الذي غبّر قدمه في سبيل الله عز وجل، وأبلى في الإسلام بلاءً عظيماً لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، ومع هذا كله آذاه أهل الكوفة، وانظر كيف يبتلى الصالحون! فكل داعية وكل طالب علم وكل عبد صالح يتكلم فيه فلينظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك أنبياء الله عز وجل، فهذا الصحابي الجليل آذاه أهل الكوفة، وما زالوا يؤذونه حتى أرسلوا وفداً إلى عمر، وذكروا له عدة شكاوى: أول شيء أنه وضع باباً بينه وبين الناس، فجعل على قصره باباً لكي يحتجب عن الناس.
ثانياً: قال قائلهم: أما وقد سألتنا عن سعد فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يمشي في السرية، والشكوى الثالثة إنه لا يحسن أن يصلي بنا! قبحهم الله وقبح ما جاءوا به، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]، فزعموا أنه لا يحسن الصلاة، انظروا ماذا يقولون عن أحد الأجلاء الذي كان سابع سبعة في الإسلام؟ كان يقال له: سبع الإسلام، وقيل: سدس الإسلام، ومع هذا قالوا عنه: ما يحسن الصلاة! شرعت الصلاة فرآها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كفار، أو أن أمهاتهم لم تلدهم، ما كانوا يفقهون من دين الله شيئاً، وهو يجاهد ويجالد رضي الله عنه وأرضاه مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتون ويقولون: ما يحسن أن يصلي! -وهذا في الصحيح-، فأرسل عمر محمد بن مسلمة، فوجد الباب كما ذكروا فأحرق الباب، وكان قد قال له عمر: إن وجدت له باباً كما زعموا فأحرقه ثم لا تلبث حتى تأتيني به، فلما جاء وقف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام الوفد وقال أحدهم: أما وقد سألتنا عن سعد فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يمشي في السرية، ولا يحسن أن يصلي بنا الصلاة، فقال رضي الله عنه: أما الباب فإن الناس الذين في السوق قد شوشوا عليّ أثناء الخصومات؛ لأنه كان يقضي بين الناس، فكان إذا جلس يريد أن يسمع الخصوم، علت أصوات الناس في السوق، فلا يستطيع أن يسمع الخصوم، فاتخذ هذا الباب حتى يحجب عنه أصوات الناس في السوق، ويستطيع أن يقيم شرع الله عز وجل، انظروا كيف تفهم الأمور على العكس تماماً؟! فعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا ولهذا فكل من أظلم قلبه -والعياذ بالله- ساءت ظنونه في خلق الله عز وجل، ولكن المؤمن التقي الورع دائماً يلتمس المخارج، فهذا رده على الشكوى الأولى.
وأما رده على الشكوى الأخرى فقال: إنهم يتهموني أني لا أحسن أن أصلي بهم مثال صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله! ما كنت آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطول في الأوليين، وأحذف في الأخريين، فجاء بالسنة رضي الله عنه، وصدق وبر، ومن عاداه لقمه الحجر، حتى إنه رضي الله عنه قال: اللهم! إن كنت تعلم أنه كاذب فيما يقول، فأطل عمره، وأذهب بصره، وعرضه للفتن، فعمر فوق المائة سنة، وسقط حاجباه، وهو يتغزل بالنساء وعمره فوق المائة، تقول له المرأة: يا هذا! اتق الله، فيقول: أصابتني دعوة الرجل الصالح، نسأل الله السلامة والعافية! فالشاهد في قوله: ما كنت آلو -يعني أقصر- أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أطول في الأوليين، في الأخريين، وهذا يدل على أنه كان يستعجل ويخفف فيهما، والذي عليه العمل أن يكون قيامه في الأخيرتين أخف من قيامه في الأوليين، وأن يكون ركوعه وسجوده أخف، لكن مع مراعاة التعادل في الأركان.
واختلف العلماء رحمهم الله: هل الأولى والثانية من الأوليين بقدر واحد أو تخفف الثانية دون الأولى؟ والذي اختاره بعض العلماء أن ما ورد من الأحاديث بالمساواة في الأولى والثانية فسببه أن الأولى ينسب لها التطويل بالقراءة، لكن ما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية يعادل الذي قرأه في الأولى، وطالت الأولى بدعاء الاستفتاح، وحينئذ تكون روايات الإطالة في الأولى على الثانية محمولة على وجود دعاء الاستفتاح، والتطويل ليس في القراءة، وإنما هو لوجود دعاء الاستفتاح.
وقال بعض العلماء: أنه يطول في قرأءة الأولى، ويقصر في قراءة الثانية.
ثم في الثالثة والرابعة وجهان أيضا ً لأصحاب الشافعي رحمهم الله، منهم من قال: يقرأ في الثالثة والرابعة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فيقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في الثالثة، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في الرابعة، وهذا يعني أن هناك فرقاً نسبياً، وعلى كل حال فالسنة تخفيف الأخيرة عن الأولى، والله تعالى أعلم.(322/23)
حكم رفض المستأجر إتمام عقد الإجارة
السؤال
لو أن المستأجر رفض وأبى أن يتم الإجارة بعد التزام جزء من العين المؤجرة، وبقي جزء آخر صالح الانتفاع فما الحكم في ذلك؟
الجواب
الحكم أنه يلزم بإتمام عقد الإجارة، فجمهور السلف والخلف على أن عقد الإجارة من العقود اللازمة، يعني إذا ثبت بين طرفين إجارة شرعية فإنه إذا صح العقد وثبت يجب على الطرفين أن يتما العقد، فإذا انهدمت بعض العمارة، وبقي بعضها على وجه يمكن الانتفاع به، فقال المستأجر: أنا أريد أن أبقى في هذا الجزء ولا ضرر على المالك، فإنه يلزم شرعاً بإتمام العقد لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، والإجارة عقد، وأمر الله بالوفاء بالعقد، فلزم المؤجر أن يتم العقد لصاحبه، ولا يجوز له في هذه الحالة أن يمتنع؛ لأن امتناعه ليس من حقه وإن كانت العين ملكاً له، فالمنفعة ملك للمستأجر حتى يتم مدة الإجارة، وينتهي عقدها، ومن هنا يرتفع الأمر إلى القاضي، فيلزمه القاضي بإتمام العقد لما ذكرناه، والله تعالى أعلم.(322/24)
وسائل معينة للتخلص من داء الشح
السؤال
أجد في نفسي داءً يكاد أن يهلكني، فلقد كنت فقيراً ثم أغناني الله من فضله بالمال، والآن أجد في نفسي شحاً وبخلاً في الإنفاق في سبيل الله، ويحزنني ما يفوتني من المال، فكيف أتخلص من هذا الداء؟
الجواب
من أعظم النقم التي يبتلي الله عز وجل بها عبده أن يقفل في وجهه أبواب الخير، ومن أعظم أبواب الخير على الإطلاق باب النفع في الدين مثل العلم، وباب النفع في الدنيا مثل الإنفاق لستر العورات وتفريج الكربات وبذل الجاه والشفاعة لمن يحتاج، فإذا أراد الله عز وجل بعبده خيراً فتح به أبواب الخير، وفتح له أبواب الخير، فيسر له تعليم الناس، ودلالتهم على الخير، ولم يشح بعلمه إذا كان طالب علم، وتمنى أن الناس كلهم علماء، وإذا كان خطيباً أو إماماً أو معلماً تمنى أن لو ينزع بيده العلم من قلبه لكي يضعه في غيره مع مساواته فيما هو فيه، من حبه للخير للناس، فهذا ولي الله المؤمن، الذي طهر الله قلبه وسلمه، وهو بخير المنازل عند الله؛ لأن الله أعطاه حكمة فعمل بها وعلمها للناس.
وكذلك إذا أعطاه الله المال، سلطه على هلكته بالحق، وإذا أراد الله بعبده شراً، قسا قلبه، وعزب عنه رشده، فأخذ ينظر لنفسه، وكأنه يستوجب على ربه أنه مالك للمال، وكأن المال قد أتاه بحوله وقوته، فنسي نعمة الله، وبطر بما آتاه الله، وكفر بفضل الله، فعندها لا يأمن من استدراج الله وعقوبته، ولذلك الرجل الأعمى حينما أعطاه الله أمنيته فأذهب الله عنه العمى، وأوتي المال، فأعطي وادياً من الغنم وكثر غنمه، جاءه الملك في صورته التي كان عليها، وقال له: أنا ابن سبيل منقطع، فقال له: كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأغناني الله، والله! لا أمنعك اليوم من مالي شيئاً؛ لأنه يحس أن المال ليس بيده، وأن المال مال الله، ويحس أن النعمة جاءته من الله، فأخذ يلتمس رضا الله بأي وجه من الوجوه، فقال: دونك الوادي فخذ منه ما شئت، والله! لا أمنعك من مالي شيئا، ً إيمان كامل وتسليم كامل، وهذا كله لا يكون إلا بفضل الله ثم بحياة القلوب، فعلى العبد دائماً أن يفكر: كيف يعامل الله؟ الدنيا فانية زائلة لا محالة، يا هذا! إذا أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله أمرك وأصلح حالك، فأما ما سألت عنه من داء الشح فأقول: أولاً: أوصيك ونفسي بتقوى الله عز وجل وأن تكثر من الدعاء، فإنه والله! لا يمكن أن ينجيك مما ابتليت به إلا الله وحده لا شريك له، فتدعو الله في الأسحار، وتقوم في جوف الليل، وتبكي وتتضرع إلى ربك قائلاً: اللهم! أصلح لي قلبي، اللهم! إني أعوذ بك من فتنة هذا المال، اللهم! اجعله لي عوناً على طاعتك، اللهم! بارك لي في مالي، اللهم! اجعل ما رزقتنيه عوناً لي على طاعتك ومحبتك ومرضاتك، يالله! سهل لي الخير، ونحو ذلك من الدعوات التي تسأل فيها ربك ما يرضيه عنك.
ثانياً: أن تكثر من الأسباب التي تعينك على الجود والسخاء، ومن أعظمها قصر الأمل في الدنيا، وعظم الرجاء في الآخرة، يا هذا! ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، وأكلت فأفنيت، وتصدقت فأبقيت، ليس لك من هذا المال إلا ما قدمته لآخرتك وابتغيت به ما عند ربك، فاعلم علم اليقين أن هذا المال لا يمكن أن يكون نعمة حقيقية إلا إذا كان في يدك لا في قلبك، ومن الأسباب التي تعينك على إنفاق المال أن تتذكر كيف كنت، وأن تعلم علماً يقينياً لا شك فيه ولا مرية أن الله قادر في طرفة عين أن يجعلك فقيراً، فكم من إنسان أصبح غنياً فأمسى فقيراً! ولربما يكون الإنسان ثرياً وفي طرفة عين يكون فقيراً، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله برحمته الواسعة، ويقال: إنها حدثت مع الوليد بن عبد الملك، والمشهور أنها عن الوليد، فجاء رجل إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك رحمه الله، فدخل عليه وهو كفيف البصر، فقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أغنى قومي، وكان عندي من المال ما لا يعد ولا يحصى من إبل وغنم، وكان عندي من العبيد والموالي ما لا يحصى كثرة، وكانت لي ضيع -يعني بساتين- ففوجئت في ليلة من الليالي بمطر غزير فجاء السيل فلم يبق من ذلك شيئاً، ما أبقى له مالاً ولا ولداً ولا أهلاً، اجترفهم السيل عن بكرة أبيهم، قال: فرقيت على شجرة فسلمت ونجوت بفضل الله عز وجل، وما زال يبكي عليهم حتى فقد بصره، ففقد أهله وفقد ماله وفقد بصره، وكان في أعز الغنى، فلا يأمن أحد مكر الله عز وجل، ومكر الله يحل على القوم الفاسقين، ويحل على الظالمين، ويحل على المعتدين.
وقد يكون الإنسان في نعمة ورغد من العيش ويبسط الله له النعمة، فيأتيه الرجل في ظلمة ليل أو ضياء نهار، ويقول له: إني في كربة وفي حاجة وفي ضائقة وهو صادق، والله! لو كان عنده شعوره لعلم أن هذا الرجل ابتلاء من الله قبل أن يكون رجلاً محتاجاً، أي شخص يقف عليك وعندك قدرة على أن تعطيه من الدين أو الدنيا فاعلم أنه ابتلاء من الله، قبل أن يكون رجلاً محتاجاً، إلا أن يكون كذاباً فهذا أمر آخر.
فعلى كل حال؛ على الإنسان أن يستجمع الأسباب التي ذكرناها، ومن أعظم الأسباب أنه لا يأمن مكر الله، فقد يؤخذ منه المال في طرفة عين، والله على كل شيء قدير، وهذا أمر لا يعجز الله في الأمم فضلاًً عن الأفراد، فكم من قرية أمست ظالمة فما أصبح لها أثر، وكم من قرية أصبحت ظالمة فأمست وهي بحالٍ بئيس {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود:102] ما قال: الأفراد ولا الأشخاص ولا القرية {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102] ما قال: الأفراد ولا قال: القرية، وإن كان ذكر لنا مثل القرية إذا جاءها بأسه بياتاًً، فإذا جاء بأس الله بياتاً أو جاء صباحاً فهذه سنة الله، أما إذا جاء للأخذ والقدرة الإلهية المتعلقة بصفاته سبحانه وتعالى فقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود:102]، وهذا تعظيم لصفات الله متعلق بالتوحيد، فلما جاء عند الصفة وهي الأخذ جاء بصيغة الجمع {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102]، جملة وهي ظالمة حالية، أي: والحال أنها ظالمة {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، فالإنسان الذي يشح بماله عليه أن يعلم علم اليقين أن لله سطوات، وأن لله أخذات، وأن الله سبحانه وتعالى يبتلي كل من أعطاه النعمة، ولذلك قيل لقارون: {أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77]، فلما عتا وطغى وتمرد على الله جل وعلا، أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فهو في الأرض يتزلزل فيها إلى يوم القيامة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]، فلا أحد يستطيع أن ينصر العبد إذا أخذه الله عز وجل، فعلى الإنسان أن ينتبه، فهذا المال امتحان من الله.
ومما يعين على ترك الشح، وعدم الاغترار بالمال؛ كثرة ذكر الآخرة، فالذي يعلم أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يأخذه بين عشية وضحاها، فإنه يزهد في الدنيا وتهون عليه الدنيا، ولذلك انظر إذا حضر الأجل إلى الشخص فإنه يتمنى لو تصدق بماله كله؛ لأنه تهون عليه الدنيا كلها، ويزول عنه غروره.
ومن الأمور التي أوصيك بها والتي تعينك على ترك الشح أن تنظر إلى الأسباب التي ولدت الشح في قلبك؛ من وجود القرناء، ومنافسة القرناء، والجلوس مع الأثرياء، وكثرة الحديث في الدنيا، فإن هذا مما يورث الشح، ومن جالس قوماً تأثر بأخلاقهم، فجالس الأخيار والصلحاء والأتقياء والفضلاء وابتغ ما عند الله سبحانه وتعالى، واسأل عن عورات المسلمين فاسترها لعل الله أن يسترك، واسأل عن كرباتهم فنفسها لعل الله أن ينفس كربتك، والتمس مرضات الله سبحانه وتعالى.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما وهبنا من الدنيا وزينتها عوناً على طاعته ومحبته ومرضاته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(322/25)
شرح زاد المستقنع - كتاب اللعان [4]
مسائل إلحاق الولد بوالده في نسبته إليه من المسائل المهمة التي اعتنت بها الشريعة الإسلامية، وجاءت نصوص الكتاب والسنة تبين أحكام هذه المسألة التي تعم بها البولى، ويحتاج إلى الفصل في كثير من مشاكلها.(323/1)
مناسبة ذكر مسائل إلحاق الولد بوالده في كتاب اللعان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا الفصل في الحقيقة ليس من فصول اللعان، وليس هو من المسائل التي تتعلق بباب اللعان من كل وجه، ولكنه مختص بمسألة الأنساب، وإلحاق الولد بوالده في نسبته إليه، ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يذكرون المسائل المتشابهة في أقرب المظان، فمسألة الأنساب مسألة مهمة، وتترتب عليها حقوقٌ شرعية، ولذلك اعتنت الشريعة الإسلامية بها، وجاءت نصوص الكتاب والسنة تبين أحكام هذه المسألة التي تعم بها البلوى ويحتاج إلى الفصل في كثير من مشاكلها؛ لأن مسألة النسب تقوم على الإثبات والنفي، فإما أن يثبت نسبة شخص إلى والديه، وإما أن تنفى هذه النسبة، فنظراً إلى أن مسائل النسب فيها إثبات ونفي، وبعض مسائل اللعان تتضمن نفي الولد، فنظراً لوجود هذا الاشتراك ناسب أن يعتني المصنف رحمه الله بذكر أحكام النسب ولحوق الولد بعد باب اللعان؛ لأن اللعان في بعض صوره فيه نفي الزوج للحمل، أو ينفي الولد الذي وضعته زوجته، فينفي نسبته إليه، وحينئذٍ يرد
السؤال
ما هو الأصل في هذه المسائل؟ هل الأصل أن كل من ادعى نسبة ولدٍ إلى شخص أنه يصدق ويقبل منه أم أن الأمر فيه تفصيل؟ هذا ما سيوضحه المصنف رحمه الله في هذا الموضع.(323/2)
البرهان الذي يقيمه من ادعى نسباً إلى رسول الله
مسألة النسب تارة تكون من رجل يدعي نسبة ولدٍ إليه، وتارة تكون من ولدٍ يدعي النسبة إلى رجلٍ آخر ويقول: إنه والده، وقد يدعي ذلك في حال حياة الشخص، ويطالب بإثبات نسبه إلى ذلك الشخص، وتارة يدعي ذلك بعد موته، وقد تحصل الدعوى لشيءٍ عظيمٍ كريم كأن يدعي نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى الأنصار وغيرهم ممن لهم فضل ومكان، والأصل أن الناس مؤتمنون على أنسابهم إلا من ادعى الشرف، فإن من ادعى الشرف والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى من لهم الفضل كالأنصار ونحوهم ممن لهم حق في الإسلام فإنه لا تقبل منه الدعوى مجردة، لكن لو كان يعلم بشهادة العدول من قرابته الذين يأتمنهم في دينه، حيث قالوا له: نحن من آل البيت، أو عندنا ما يثبت أننا من آل البيت، فإن من حقه أن يبني على شهادة من يثق بهم.
فلا يقبل من أحد أن يدعي النسب والشرف إلا أذا أثبت، والإثبات يكون بالشجرة -كما هو معلوم- التي يعرفها أهل الخبرة، ويكون بشهادة العدول أن فلاناً من آل فلان، ويكون آل فلان قد ثبت نسبتهم إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون الإثبات بما يسميه العلماء: شهادة السماع، وشهادة السماع هي: أن يعرف بين الناس أن البيت الفلاني أو الفخذ الفلاني أو القبيلة الفلانية تنسب إلى كذا وكذا، فإذا اشتهر بين الناس أن هذا البيت من آل البيت فإنه يلحق ويحكم بثبوت نسبه بهذه الشهادة، وهذه التي يسميها العلماء: شهادة السماع، يعني يتسامع الناس في بيئة أو حي أو قبيلة أو جماعة بأن بني فلان من آل النبي صلى الله عليه وسلم، أو بني فلان من آل البيت، فيحكم بهذه الشهادة.
وقد ذكر غير واحد من العلماء رحمهم الله أن شهادة السماع حجة في النسب، وشهادة السماع هي أن يستفيض في البيئة أو المجتمع أو بين الناس الذي يعيش بينهم نسبة هذه الجماعة أو هذا الفرد إلى تلك الجماعة وحينئذٍ يحكم بهذا ويعمل به، كما هو معلوم في باب الشهادات.(323/3)
الأمر المترتب على من انتسب إلى غير أبيه
الحاصل: أن الشريعة الإسلامية حرمت على المسلم أن ينفي نسبة ولدٍ من ولده، وحرمت على المسلم أن ينتسب لغير والده، فإذا انتسب الإنسان إلى غير والده فقد اعتدى على حدود الله، وانتهك محارم الله، وحلت عليه لعنة الله والعياذ بالله! لأنه عق والده، وقطع رحمه، وكذب في النسب، والكذب في النسب تترتب عليه حقوق، وتترتب عليه أمور عظيمة، وقد تكون هناك أمور مرتبة على وجود هذا النسب، فبنفيه وإبطاله له تسقط هذه الحقوق؛ كحق العاقلة، وحق الإرث، ونحو ذلك، فيسقطه عن آله وقرابته، ممن يلد أو ممن ينسب إليه.(323/4)
جزاء من نفى نسبة ولده إليه
كذلك أيضاً لا يجوز للوالد أن يعتدي على حدود الله عز وجل فينفي نسبة ولدٍ من ولده، إلا إذا كان عنده ما يدل على عدم نسبته إليه فهذا أمرٌ آخر، أما من حيث الأصل فإنه كفرٌ بنعمة الله، وهذا من أعظم الظلم؛ لأن الظلم مراتب، وأعظم ما يقع الظلم إذا كان على القرابة، وإذا كان الظلم على أقرب الناس إلى الإنسان وهم أولاده فهو أعظم ذنباً عند الله عز وجل، ولذلك قرر العلماء أن الذنب مع الغريب ليس كالذنب مع القريب، فالذنب مع القريب ذنبٌ وقطيعة رحم، فكيف إذا كان من أقرب قريب الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بضعة من الإنسان فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعةٌ مني).
وقد تهور كثيرٌ من الناس -إلا من رحم الله- وتفننوا في مسألة أذية الولد إلى درجة أن الوالد يقول لولده عند الغضب: لست بولدي ولا أعرفك ولا تعرفني! فيتبرأ منه، وهذه كلمة عظيمة جداً، ينبغي أن يحذر منها الناس، وينبغي على الخطباء وطلاب العلم أن ينبهوا الناس إلى هذا الأمر؛ لأنه اعتداءٌ لحدود الله عز وجل، وإذا أخطأ المخطئ فإنه يقوم في خطئه، ولا تزال الحقوق الثابتة ويدعى غير الحقيقة، فالتبري من الأولاد عند حدوث خطأ أو شيء من ذلك لا يجوز شرعاً؛ إلا في مسائل محددة دلت عليها الشريعة، ومنها البراءة في مسألة الولاء والبراء في العقيدة، وهذه مسألة خاصة والتبري فيها له حدود وله ضوابط، ولا يتعرض للنسب، بل لا يجوز للوالد إذا أغضبه ابنه أو أخطأ عليه وهو مسلم وابنه مسلم أن يتبرأ منه إلى درجة أن يحرمه من الإرث وكأنه أجنبي نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أعظم الذنب، ولذلك ذكروا أن من علامات سوء الخاتمة والعياذ بالله! الجور في الوصية، وذلك بحرمان المستحق من الورثة، فهذا ممن يختم له بخاتمة سيئة، حتى أن بعض العلماء ذكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، قالوا: هذا يكون من أصناف أهل الكبائر فيدخلها دخول أهل الكبائر المعذبين، فيظلم ولده فيتبرأ منه فيقول لأولاده: فلان لا تعطوه الإرث، فلان ليس مني ولست منه، فيختم له -والعياذ بالله- بهذه الخاتمة التي توجب دخول النار والعياذ بالله! بناءً على أنها من كبائر الذنوب لما فيها من الظلم وحرمان المستحق من حقه.
الشاهد أن باب نسبة الولد لوالده بينت الأصول الشرعية في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وهو أن ينسب المولود لوالده، ولذلك قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، وبين النبي صلى الله عليه وسلم الأصل في قوله: (الولد للفراش) كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين، فدل على أن المرأة إذا ولدت ولداً على فراش زوجها فالولد منسوب إلى ذلك الزوج.(323/5)
الأحوال التي يحكم فيها بلحوق الولد إلى والده
سيبين رحمه الله في هذا الفصل متى يحكم بلحوق الولد ونسبته إلى صاحب الفراش؟ ومتى يحكم بعدم اللحوق؟ وهذه مسائل -كما ذكرنا- مهمة جداً، ولها أهمية، خاصة النفي إذا كان في غير موضعه أو الإثبات إذا كان على غير وجهه.(323/6)
أن يكون الزوج ممن يمكن أن يولد لمثله
قال المصنف رحمه الله: [من ولدت زوجته من أمكن كونه منه لحقه].
(من ولدت زوجته) هذا شرط أن تكون زوجة له، والأصل أن يكون الزواج زواجاً شرعياً صحيحاً، فلا إشكال حينئذ في نسبة الولد للوالد، وأيضاً لو كان الزواج فيه خطأ ويعتقد أنه زواجٌ شرعي، مثل أن ينكح نكاح الشغار ويظن أنه نكاح صحيح، يزوج هذا بنته على أن يزوجه الآخر بنته ويقع النكاح بينهما ثم يولد لأحدهما، فينسب الولد إلى والده مع أن النكاح محرمٌ شرعاً ولا يجوز، فإذا كان في نكاح صحيح، أو نكاح فاسد وعنده تأويلٌ ويظن أنه صحيح؛ فإن الولد يلتحق به، أو نكح المرأة بدون إذن وليها ويظن أن هذا جائز، ولا يعتقد اشتراط الولي وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله فالعقد فاسد، لكن الولد يلتحق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي)، كما تقدم معنا في باب النكاح.
فالشاهد أنه إذا كان الولد ناتجاً عن وطء في نكاح صحيح أو نكاح فاسد أو ناتجاً عن وطء شبهة -هذه ثلاث صور- فإن الولد يلتحق، ووطء الشبهة مثل أن يأتي شخص إلى امرأة يظنها زوجته وتظنه زوجاً لها، ويطؤها على خلوٍ وبراءة ثم بعد ذلك يتبين أنها ليست بزوجته وتحمل من هذا الوطء، فالولد ينسب لهذا الواطئ، ويكون وجود الشبهة موجباً لدرء الحد.
كذلك لو تزوج أختاً له -نسأل الله العافية- من الرضاع وهو لا يدري، ثم بعد عشر سنوات أو عشرين سنة تبين أنها أخته من الرضاع، فيفرق بينهما، ويعذر لعدم علمه وجهله بالحكم، ثم ينسب جميع الأولاد الذين ولدوا إليه، وحكم من ولدت زوجته في نكاح صحيح أو نكاح فاسد حكم الموطوءة بشبهة.
وقوله: (ولدت من أمكن): عندنا ضابط يتعلق بالزوج، وضابط يتعلق بالموطوءة التي هي الزوجة، فمعنى الإمكان الذي ذكره المصنف رحمه الله أنه لابد وأن يكون الزوج ممن يمكن أن يولد لمثله، فقد يكون زوجاً لا يمكن أن يولد لمثله، مثلاً قال: أريد بنتك -يخاطب شخصاً آخر- فلانة لابني محمد، ومحمد عمره سبع سنوات، قال: قبلت، وعقد النكاح بينهما، ثم إن هذه البنت حملت! ابن سبع سنوات وثمان سنوات لا يمكن أن تحمل المرأة منه ولو وطئها، فمثله غير داخل في الإمكان، فهناك إمكان جرت العادة والحس بإمكانه.(323/7)
عدم نقصان مدة الحمل عن ستة أشهر
قوله: (ومن أمكن) أي: أن يولد لمثله، وكذلك تكون المرأة أيضاً في حملها ووضعها على صفة لا يستحيل أن ينسب الولد إليه، وهذا ما فسره رحمه الله بقوله: [بأن تلده بعد نصف سنة].
بأن تلد الولد بعد نصف سنة من دخوله عليها، فإذا كان دخوله في أول السنة وولدت بعد ستة أشهر من دخوله، فإن الستة الأشهر زمن يمكن أن يكون به الحمل، فينسب الولد للداخل، لكن لو كان قبل ستة أشهر فلا يمكن؛ لأن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، فجعل الحمل مع الفصال -يعني: انتهاء مدة الرضاع حين يفصل الولد وينتهي من الرضاع- ثلاثين شهراً، الرضاع له سنتان، أي: أربعة وعشرون شهراً لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233]، فالحولان أربعة وعشرون شهراً، وإذا كان الله عز وجل يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] فبقي من الثلاثين ستة أشهر، وهي أيام الحمل.
ومن فقه العلماء أنهم فرعوا من هذه الآية الكريمة ما لا يقل عن خمسين مسألة من مسائل الأحكام الشرعية، بل كان بعض مشايخنا يقول: لو شئت أن أوصلها إلى مائة مسألة لأوصلتها! وكلها من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، ومنها مسائل الحمل والإثبات خاصة عند اختلاط الأنساب، وحصول وطء الخطأ، ووطء الشبهة، ومسألة إسقاط الجنين إذا كانت المرأة توفيت وفي بطنها جنين فمتى يشق بطنها؟ كل هذه المسائل تتعلق بالستة الأشهر التي جعلوها زمن الإمكان لدلالة نص القرآن عليه، حتى الأطباء يستفيدون من هذه الآية الكريمة، فالستة الأشهر هي مدة الحمل، فإذا ولد الجنين في أقل منها فإنه ينسب إلى الداخل السابق، لا إلى الداخل الأخير، فإنه إذا ولدت قبل ستة أشهر من دخوله عليها فمعنى ذلك أن الحمل من غيره لا منه هو؛ لأنه لا يمكن أن يقع حمل ووضع قبل ستة أشهر، وبناءً على ذلك قال المصنف رحمه الله: (بأن تلده بعد نصف سنة) أي: ستة أشهر، السنة القمرية اثنا عشر شهراً، فإذا ولدت بأقل من ستة أشهر فإنه لا يمكن أن ينسب الولد إليه.
قال المصنف رحمه الله: [منذ أمكن وطؤه].
القضية ترجع إلى دخوله عليها، فما هو الضابط في السن؟ هل العبرة بتسع سنين أو بعشر سنين أو باثنتي عشرة سنة أو بخمس عشرة سنة؟ ومتى يبلغ الذكر حتى يتأتى منه المني وتحمل امرأته؟ الضابط عند بعض العلماء عشر سنوات، وهي سن التمييز، فإذا دخل في العاشرة فإنه يمكن أن يحتلم، فمن الناس من يبكر ويحتلم وهو في العاشرة، فقالوا: العشر هي أقل حد، فإذا حملت منه وعمره تسع سنين لا ينسب إليه، ولو حملت منه وعمره ثمان سنين لا ينسب إليه؛ لأنه في الغالب -والحكم للغالب- لا يحتلم في مثل هذه السن، وقالوا: سن التمييز ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، وهي أقل ما يمكن أن يكون فيها الاحتلام، وبعض الأطباء المتأخرين يقولون: فعلاً في الطب ما يشهد بصدق من قال من الفقهاء بهذا القول، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام حينما أمر بضرب الصبي لعشر.
على كل حال، الأصل أنه لابد أن يكون حمل هذه المرأة يمكن أن ينسب لزوجها، بأن تلده بستة أشهر منذ أمكن وطؤه، فالعبرة بالوطء الذي يتأتى منه الحمل، فإذا كان إمكان الوطء له أربعة أشهر أو خمسة أشهر؛ نسب إلى ما قبله لا إليه.(323/8)
عدم زيادة مدة الحمل على أربع سنوات
قال المصنف رحمه الله: [أو دون أربع سنين منذ أبانها].
هنا تحتاج إلى معرفة أقل مدة الحمل وأكثر مدة الحمل، فقد يطلق الزوج المرأة ثم بعد شهر أو شهرين يتبين أنها حامل، وقد يتبين أنها حامل بعد سنة، وقد يتبين بعد سنتين، وقد يتبين بعد ثلاث سنوات، وقد تضع بعد ثلاث سنوات، فهنا مشكلة، إذا طلق الرجل المرأة وبانت منه وانفصلت عنه، ثم تبين حملها في المدد المعروف فلا إشكال؛ لأنه إذا طلقها وبان أنها حامل بقيت على حالها حتى تضع، والولد ولده، لكن الإشكال إذا لم يقع هذا الحمل، ولم تلده على المعتاد، بل تأخرت في وضعها إلى أربع سنوات! فهل هناك مدة تبين آخر الحمل؟ اختلف العلماء رحمهم الله: بعضهم يقول: لا أقبل فوق تسعة أشهر، وهذا قول ابن عبد الحكم من فقهاء المالكية، وما بعد التسعة الأشهر لو طلقها وأبانها ثم ظهر فيها حمل؛ فهو لغيره وليس له.
وهذا إذا لم تكن قد تزوجت؛ لأنه إذا تزوجت ينسب للثاني ولا إشكال، نحن نتكلم في امرأة طلقت، وبقيت خالية من الأزواج حتى وضعت ما في بطنها، فهل ينسب إلى الزوج الذي طلقها أو ينسب إليها، ويكون هناك شبهة أنها زنت أو استكرهت على الزنا؟ هنا الإشكال، فما هي أقصى مدة يمكن أن ننسب فيها الولد للفراش؟ من أهل العلم من قال: تسعة أشهر -كما ذكرنا- وهو من أضعف الأقوال، ومن أهل العلم من قال: أربع سنوات، وهو مذهب الشافعية والحنابلة في المشهور، وبعض أصحاب الإمام مالك يقولون بهذا القول، قالوا: إن أقصى ما وجدناه من الحمل أربع سنوات، فإذا وضعت الولد لأربع سنين، يعني: لم يتجاوز أربع سنوات منذ طلاقه وفراقه لها؛ نسب الولد إليه، وقال الحنفية: خمس سنين، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، والحقيقة أن الأربع سنوات هي التي حكيت كأقصى حد وجد، وذكر عن بعض العلماء أن أمه بقيت في حملها أربع سنين، والله عز وجل على كل شيء قدير، وهذا أمر لله فيه حكمة، وقد تضعف المرأة ويكمل الجنين، وحدث في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة صالحة معروفة بالخير والصلاح غاب عنها زوجها، ثم قتل واستشهد، فحزنت عليه حزناً عظيماً، ثم تزوجت برجلٍ من بعده، وبعد زواجها بأقل من ستة أشهر بان الحمل فيها، وهمّ عمر رضي الله عنه أن يرجمها؛ لأنها محصنة، والحمل عند عمر رضي الله عنه دليل على إثبات الزنا، كما في خطبته المشهورة في الصحيح، فكان يرى أن الحمل يدل على الزنا، وأن المرأة إذا كانت لا زوج لها وحملت يقام عليها الحد، فالشاهد أنه هم أن يرجمها، ولكن كان رضي الله عنه يشاور الصحابة، وكانت له طريقته أنه يستشير المهاجرين ثم الأنصار، ثم بعد ذلك يجمع الناس، فلما هم أن يرجمها سأل عنها فوجد أنها امرأة صالحة، وأنها يبعد أن يكون منها الزنا لما عرف من استقامتها وصلاحها، فتورع رضي الله عنه، وكان محدثاً ملهماً كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يكن في أمتي محدثون فـ عمر)، فامتنع عن رجمها وأحب أن يشاور الناس، فاستشار المهاجرين فلم يجد شيئاً، ثم استشار الأنصار فلم يجد شيئاً، ثم جمع الناس كلهم فلم يجد شيئاً، فجمع النساء واستشارهن، فقامت امرأة كبيرة السن معروفة بالعقل وقالت: يا أمير المؤمنين! أنا أقص عليك خبرها، إن هذه المرأة حملت من زوجها الأول، ولما جاءها الحزن ركن الجنين، يعني: ضعف أن يخرج لأمده، ثم لما تزوجها الثاني انكشف بماء الثاني فولدت الجنين قبل زمانه، فحمد الله أنه لم يكن رجمها، وأسقط عنها الحد، وألحق الولد بالزوج الأول.
فقد يقع في بعض الأحيان تأخر في الحمل سواءً لأمور طبية، أو لمشيئة الله عز وجل، وهو على كل شيء قدير، ومن حكمة الله أنه يخلف العادات، ودائماً ينتبه طالب العلم بل كل مسلم إلى أن إخلاف العادات من أكبر الأدلة على وحدانية الله عز وجل؛ لأن أهل الطبيعة يستدلون بأن الطبيعة هي التي أوجدت نفسها، فلما تختلف العادات يدل ذلك على أن هناك رباً يدبر هذا الكون ويصرفه سبحانه وتعالى، وهذا من أقوى الحجج في دمغ قولهم؛ لأن الطبيعة لا تضطرب، وهي التي ينسبون إليها الأشياء، فالشاهد أن الحمل قد يخرج عن الشيء المعتاد وقد يطول أمده، فبين ذلك رحمه الله حين قال: (أو دون أربع سنين منذ أبانها)، فاعتبر الحد أربع سنوات، وهذا قول من ذكرنا من السلف رحمهم الله أنه أربع سنين كحد أقصى، فما بين تطليقه لها وإبانتها من عصمته وبين وضعها لا يجاوز هذه المدة: الأربع السنين.(323/9)
إلحاق الولد إلى من عمره عشر سنوات
قال المصنف رحمه الله: [وهو ممن يولد لمثله كابن عشرٍ].
(وهو): يعني الزوج الذي ولدت زوجته، يشترط فيه أن يكون ممن يولد لمثله، فإن كان ممن لا يولد لمثله -كأن يكون صغيراً- لم ينسب إليه، وعند العلماء الدليل الشرعي والدليل الحسي، فهناك أشياء دل الحس على صدقها، ودل الحس على كذبها، فيستند فيها إلى الحس، فهنا الدليل دليل حسي، إذ يستحيل أن الطفل أو الصبي الذي عمره ست سنوات أو سبع سنوات أن تحمل زوجته، ومن هنا يستند إلى دليل الحس، فإذا كان دون العشر لا ينسب الولد إليه اتفاقاً، فأقل سن ذكروه العشر، فأقل من عشر لا ينسب الولد إليه.
وهكذا بالنسبة للأسباب الأخرى مثل المجبوب، وهو: المقطوع العضو، لا يتأتى منه وطء، فلا ينسب الولد إليه، إلا في مسألة استدخال المني في الفرج، فبعض العلماء يقول: إذا أقر به، وثبت أن زوجته استدخلت منيه إلى فرجها، وإن لم يقع وطء منه لها؛ فإن الولد ولده.
وهذه المسألة ذكرها العلماء في القديم والآن في زماننا جاءت مسألة طفل الأنابيب! وجاءت مسألة تجميد المني من الرجل! بغض النظر عن كون ذلك يجوز أو لا يجوز، لكن انظروا كانت فرضية في القديم ومع ذلك فصلوا في حكمها من جهة ثبوت الولد أو عدم ثبوته، ومسألة يجوز أو لا يجوز هذه مسألة أخرى، إذ لا يجوز الإيلاج في الفرج من الأجنبي، ولا استدخال فيه في الفرج، ولا النظر إليه ولا لمسه، كما هو مقرر، لكن نحن نتكلم على إلهام الله عز وجل لتلك العقول وأولئك الأئمة الذين تكلموا على هذه المسألة، ففتحت وبينت الكثير من الإشكالات الموجودة في زماننا.
على كل حال، إذا كان مجبوباً لا يتأتى منه الحمل فإنه لا ينسب الولد إليه، وكذلك لو كان صغيراً لا يتأتى منه المني الذي يكون به الحمل.(323/10)
عدم ثبوت البلوغ بالشك
قال المصنف رحمه الله: [ولا يحكم ببلوغه إن شك فيه] يعني: إن شُك في البلوغ، فلا يُحكم ببلوغه، (إن شك فيه) يعني: في الزوج؛ لأن العبرة بالبلوغ، لأن البلوغ يكون منه المني، وبينا أن من علامات البلوغ الاحتلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم)، فالمني يكون منه الولد؛ لأن الله خلق الولد من ماء الرجل وماء الأنثى، فإذا كان في سنٍ يتأتى منه أن يحتلم -وهو سن الاحتلام- حكم بأنه بلغ والاحتمال قائم، لكن إذا شك هل بلغ أو لم يبلغ؟ فالأصل أنه لم يبلغ حتى يدل الدليل على أنه بلغ، فلا نثبت أنه بلغ إلا إذا ثبت بالدليل أنه قد بلغ بالاحتلام وبخروج المني، ولا يثبت البلوغ بالشكوك.
وهذا مبني على قاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فهو دون البلوغ، فلا نحكم بكونه بالغاً إلا إذا قام الدليل على بلوغه، لأنه ببلوغه تتعلق به التكاليف والإلزامات، والأصل براءة ذمته حتى يدل الدليل على بلوغه، وهذا مفرع على قاعدة: اليقين لا يزال بالشك، فنحن على يقين من أنه صبي وأنه دون البلوغ حتى نتأكد ونتحقق أنه قد بلغ.(323/11)
وطء الجارية في الفرج أو دونه موجب لثبوت النسب
قال المصنف رحمه الله: [ومن اعترف بوطء أمته في الفرج أو دونه فولدت لنصف سنة أو أزيد لحقه ولدها].
بعد ما فرغ من بيان الأصول العامة شرع في مسألة التسري، وهو وطء الجارية، فالولد يلتحق بالوطء سواءً كان في نكاح وزواج، أو كان في تسري، الذي هو وطء ملك اليمين، فالرجل إذا وطئ مملوكته وأنجبت فالولد ولده، أي: ينسب الولد إليه، وتكون هي أمه، وتعتق عليه بعد موته، كما هو معلوم في الأصول الشرعية.
فالوطء الذي يكون للجارية موجب لثبوت النسب، وهذا قرره النبي صلى الله عليه وسلم في قضية عبد بن زمعة واختصام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كما في الصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل تابع الولد للسيد، وهذا مبني على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش)، فقوله: (الولد للفراش) شمل الأمة والحرة، وبعبارة أخرى: الحديث يشمل الوطء في الزواج والوطء بملك اليمين؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) يثبت نسبة الولد للفراش، والفراش في الشريعة نوعان: فراش بنكاح، وهو في الزواج، وفراشٌ بملك اليمين، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6]، فجعل الفراش الشرعي المأذون به شرعاً على ضربين: فراش الزوجية {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون:6]، وفراش ملك اليمين {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6]، فلما قال: (الولد للفراش) أثبت الولد لكل فراش بناءً على الأصل، فإن كان فراشاً لنكاح نسب إليه، وإن كان فراشاً لوطء يمين نسب إليه.
فهنا لو أقر السيد أنه كان يطأ هذه الجارية وولدت على فراشه -وهي ما زالت في ملكه، وولدت في المدة المعتبرة بعد ستة أشهر من وطئه لها- نسب الولد إليه، هذا من حيث الأصل الشرعي لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش).
وقوله: (ومن اعترف): أي: أقر، (بوطء أمته في الفرج): الذي هو موضع الحرث، فإذا قال: إنه قد وطئها في فرجها الذي يكون منه الحرث، فالولد حينئذٍ ينسب له؛ لأن هذا مما يكون به ولد، وهو الأصل في الولد.
وقوله: (أو دونه) أي: دون الفرج؛ لأنه إذا وطئ دون الفرج احتمل أن يسري الماء إلى الفرج فتحمل، فقد ينزل خارج الفرج فينزل الماء إلى الفرج وتحمل، فالشبهه قائمة، ولذلك إذا كانت هناك دلائل يحتمل أن الحمل منه فإنه حينئذٍ لا إشكال.
وقوله: (فولدت لنصف سنة): من الوطء، لكن لو ولدت قبل نصف السنة -الذي هو الستة أشهر-، فقد ذكرنا أنه لا ينسب إليه سواء كان في وطء ملك اليمين أو غيرها، فمقصود المصنف: فولدت في ستة أشهر.
وقوله: (أو أزيد): ولدت بعد سبعة أشهر أو ثمانية أشهر، أو تسعة أشهر، أو عشرة أشهر؛ لأنه مستصحب حكم الأصل، فالحال كما تعلمون يطول ويقصر.
وقوله: (لحقه ولدها) أي: لحقه ذلك الحمل والذي ولدته، فإذا ولدت فإنه ينسب إليه ذلك الولد سواءً ولدت ولداً أو توأمين، كلهم ينسبون إلى ذلك الفراش؛ لأن الفراش منصوص حكمه بقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش).(323/12)
حال الولد إذا ادعى السيد أنه استبرأ جاريته
قال المصنف رحمه الله: [إلا أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه].
إذا وطئها ثم استبرأها بحيضة أو حيضتين، ثم ظهر فيها الحمل، تبين أنه ليس منه؛ لأنه بالاستبراء يتبين عدم الحمل، كما سيأتينا إن شاء الله في باب العدد والاستبراء، فإذا ظهر الحمل بعد الاستبراء ثبت عندنا أنه حمل غيره وليس بحمله، فلو استبرأها ثم بعد استبرائه لها بستة أشهر -بشرط ألا يطأها بعد الاستبراء- تبين أنها حامل، ووضعت بعد هذا الاستبراء بستة أشهر؛ فمن حقه أن ينفيه.
وقوله: (ويحلف عليه): هذا اليمين تسمى يمين التهمة، وستأتي إن شاء الله أيمان القضاء والأيمان التي تنزل منزلة الشهود، والأيمان التي تسمى أيمان التهم يدفع بها الضرر، وتكون في مسائل خاصة، وهل تكون مغلظة أو غير مغلظة؟ كل هذا سنذكره في باب الأيمان والدعاوي والبينات في كتاب القضاء إن شاء الله تعالى، فيحلف بالله عز وجل أنه استبرأها، وأنه لم يحصل وطء منه بعد الاستبراء؛ لأنه قد يحلف أنه استبرأها ويحصل الوطء بعد الاستبراء فلا ينفيه؛ لأنه لا تبرأ ذمته إلا إذا استبرأها بعد وطئه لها، ولم يحصل وطء ثانٍ بعد الاستبراء؛ لأنه قد يستبرئها ويطؤها مرة ثانية فيكون الحمل من الوطء الثاني، والمراد أن يحلف أنه استبرأها ولم يطأها بعد استبرائها.
قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: وطئتها دون الفرج أو فيه ولم أنزل أو عزلت؛ لحقه].
هذه المسألة ملتحقة بالمسألة التي قبل في النفي، فيقول: إنه حصل الوطء دون الفرج وأنزل دون الفرج أو في الفرج ولم ينزل، ففي هذه الحالة إذا قال: وقع مني هذا الشيء فإنه لا ينفعه؛ والولد ولده؛ لأنه إذا وطئها دون الفرج احتمل أن يسري الماء إلى الفرج وتحمل، وأيضاً هو أقر أن هناك وطئاً، فحينئذٍ أثبت على نفسه أنه تعاطى السبب الذي يمكن أن يكون منه الولد، والغالب أن من يطأ أنه ينزل، فإذا جاء بشيء خلاف الغالب وخلاف المعتاد فقال: لم أنزل، كانت فيه شبهة وتهمة؛ لأنه قد يقصد الإضرار بأمته.
والسبب في هذا أن بعض الناس كان فيهم شيء من الجاهلية، فيستنكفون من وطء الجواري حتى لا يأتي أولادهم منهن، فيعيرون ويعابون بهذا، وهذا من بقايا الجاهلية، وقد يضع الله من البركة والخير في ابن الجارية ما لا يضعه في ابن الحرة، فهذا من الجاهلية ونعرات الجاهلية، ومما ذكر عن زيد بن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه حينما لمزه هشام بن عبد الملك بذلك، قال له زيد: أتعيرني بذلك؟ هذا إسحاق أمه سارة، وقد جعل الله من نسله إخوان القردة والخنازير، وهذه هاجر كانت أمة لكن جعل الله منها خير الأولين والآخرين.
فمسألة أنها أمة أو أنها حرة تعد من مخلفات الجاهلية {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فهذه من النعرات ومن الأمراض والآفات التي بقيت من الجاهلية في نفوس بعض الناس، فوصل به الظلم أنه ينفي ولده منها استنكافاً، ومن حكمة الله -وهو من غريب ما يحدث كما في التاريخ- أنه ربما كان أولاد الجواري والإماء أكثر نجابة وأرجح عقلاً وأكثر فضلاً من غيرهم، فالله سبحانه وتعالى لا يبتلي بشيء إلا عوض بخيرٍ منه.
على كل حال، نتكلم على الظلم ومجاوزة الحد، فالظلم أنهم كانوا يطئون الجواري ويتخلون عن أولادهم، فهذا ضيقت فيه الشريعة، ووقفت الشريعة أمام من يريد الإضرار بالمرأة والإضرار بالولد؛ لأن الولد يتضرر بنفي نسبته إلى والده، فبين رحمه الله أنه في هذه الحال لو قال: وطئتها وأولجت فيها وجامعتها ولكني لم أنزل، فإن هذا خلاف المعهود، والغالب أن الإنسان عند الشهوة لا يستحكم نفسه؛ فحينئذٍ لا يقبل قوله، ويبقى على الأصل.
وقوله: (أو عزلت) يعني: ما أنزلت في الفرج وإنما أنزلت خارج الفرج.
وقوله: (لحقه): أي: لحقه الولد ولم ينفعه هذا الكلام، فهذه كلها دعاوى فيها تهمة، ولا يقبل قوله فيها.(323/13)
الأمر المترتب على من أعتق جارية أو باعها بعد اعترافه بوطئها
قال المصنف رحمه الله: [وإن أعتقها أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولدٍ لدون نصف سنة لحقه والبيع باطل].
شخص كانت عنده أمة فوطئها ثم أعتقها، فتزوجها رجل بعد أن صارت حرة، أو باعها فوطئها المشتري على أنها ملك يمين له، فولدت لدون ستة أشهر؛ علمنا أن الولد للأول وليس للثاني، وحينئذٍ يكون قد باع أم ولده؛ لأنه تبين أنها كانت حاملة أثناء البيع، وتأتي مسألة بيع أمهات الأولاد التي تقدمت معنا، وقد اختار جمع من أئمة السلف -وهو قضاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- أنه لا يصح بيع أمهات الأولاد، وأن أم الولد تبقى جارية عند سيدها حتى يموت فتعتق عليه؛ لأنها أم ولده، ولذلك أحسن الله عز وجل إليها، ولا شك أن هناك ضرراً على ولدها؛ لأنه سيكون حراً ولا يملك أمه بعد موت أبيه، فتعتق بموت سيدها، ولذا مضى قضاء الصحابة رضوان الله عليهم بعدم بيع أمهات الأولاد، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من فرق بين أمٍ وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)، وهذا الحديث فيه وجوه: بعض العلماء يقول: إنه في بيع أمهات الأولاد، فيبيع الأم ويبقي الولد؛ لأنه يتضرر ببقاء أمه جارية، وهذا لا شك أن فيه ضرراً عظيماً عليه.
وقيل: (من فرق بين أمٍ وولدها) يدخل فيه ما يفعله بعض الناس خاصة في هذه الأزمنة التي قلّ فيها الورع، ونسيت فيها الحقوق، فيأتي وينتزع أولاد المرأة منها بعد تطليقه لها، ويأخذهم بالقوة ويفرق بين الأولاد وأمهم، وقد يمضي الشهر وقد تمضي السنة بل تمضي السنوات ولا يمكنهم من رؤية أمهم، فإن فعل ذلك فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة، وكان بعض مشايخنا يقول: إن الله يفرق قلبه ويفرق همه في الدنيا قبل الآخرة، فقلّ أن تجد رجلاً يفعل ذلك إلا وعجّل الله له عقوبة الدنيا قبل الآخرة.
الشاهد: أنه لا يجوز بيع أم الولد على هذا القول، فإذا حصل البيع فالبيع فاسد، وإذا تبين فساده فيحكم برد الثمن لصاحبه، فتسترد الأمة وتبقى أم ولدٍ حتى تعتق على سيدها.
وقوله: (أو باعها بعد اعترافه بوطئها): ثم تبين حملها وولدت قبل ستة أشهر فإنه ينسب الولد إليه.
وقوله: (فأتت بولد لدون نصف سنة لحقه والبيع باطل): لحقه الولد؛ لأنه تبين أنه ولد للأول وليس للثاني؛ لأن الثاني لا يمكن أن يولد له بدون ستة أشهر، مثلاً: وطئها في محرم، ثم باعها في صفر، ولما مضت الستة أشهر من الوطء تبين أنها وضعت في شهر جماد الذي هو الشهر السادس، فحينئذٍ نعلم أن هذا الولد منسوب للأول وليس للثاني، لأنه لا يمكن أن تلد لأربعة أشهر، إذا اشتراها في صفر ووطئها في صفر وربيع، فمعنى ذلك أنه وطئها وهي حامل، وحينئذٍ ينسب للأول ولا ينسب للثاني، ويلغى البيع ويحكم ببطلانه.(323/14)
الأسئلة(323/15)
لا يعترض بالمسائل المستثناة من حكم الأصل عليه
السؤال
كيف يمكن الجمع بين براءة رحم المرأة بعدة الطلاق وبين احتمال وقوع الحمل بعد أربع سنين؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذا لا شك أنه أمر مستثنى من حيث الأصل، ما جعلت العدد إلا لإثبات الحقوق في لحوق الولد وغيرها من الحقوق الواجبة في العدد، لكن هذه المسألة مستثناة، وقد بينا أنه قد يتأخر الحمل لأمور خاصة، والقاعدة عند العلماء رحمهم الله: أن مسائل الاستثناء والأعيان لا يعترض بها على الأصول، فيبقى الأصل كما هو، وتبقى أحكام العدد كما هي، فيقال: هذه أحوال مستثناة تخص بأحكامها، ولا يلغى حكم الأصل، ولا يعترض به على هذه المسائل التي ثبت بالعادة أنه يقع شيء منها.
وإذا نظر المسلم وجد أن هناك أموراً تستدعي العمل بهذه المسائل المستثناة، فإننا لو لم نحكم بذلك لحكمنا برجم المرأة، وأنها زانية؛ لأنه -مثلاً- لو طلقها، وبعد أربع سنوات تبين حملها فإنه في هذه الحالة تتهم بالزنا، وخاصة عند مذهب من يرى أن الحمل دليل على ثبوت الزنا، كما قال عمر رضي الله عنه: (إذا كانت البينة أو الحبل)، ففي هذه الحالة الأصل أنها بريئة والشبهة قائمة، ودرء الشبهات معتبر شرعاً، فعلى كل حال ينبغي أن تنظروا أن المسألة متجاذبة ليست خاصة بقضية نسبة الولد، فيها جانب يتعلق بإقامة الحد، وإذا نفيت الولد يترتب عليه أنه ابن زنا، فلا ينظر الإنسان نظرة من جهة واحدة ويغفل بقية الجهات، ومن حكمة الشريعة أنها تعتني بالحقوق إذا تعدد أطرافها، فتعطي كل ذي حقٍ حقه.
وبناءً على ذلك نقول: ما دام أنه ثبت في العادة أن الحمل قد يطول ويتأخر فإنه يحكم بلحوقه، وقد ينزل من المرأة دم استحاضة وتظنه حيضاً ابتلاءً من الله، ويتكرر معها وتحكم بأنها حاضت ثلاث حيضات، وأنها طهرت، والواقع أنه نزيف، وهذه المسألة لا تقع إلا عند اضطراب الحمل، فقد تضطرب ويجري معها الدم ويحكم ببراءة رحمها بعد ثلاث حيضات، ثم بعد ذلك يتبين أن هذا الدم كله دم فساد وعلة، وأنه دم نزيف، وأن الأمر في رحمها غير مستقر، ولذلك لا شك أنه عين الحكمة والصواب، وفيه إعمال للأصول الشرعية من براءة المرأة وعدم اتهامها بالزنا، والله تعالى أعلم.(323/16)
الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب
السؤال
إن من الأمور الجاهلية التي لا يزال بعض الناس عليها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، فهل من قابلها بهذا الأسلوب يلام على فعله؟
الجواب
التفاخر بالأحساب والأنساب من بقايا الجاهلية؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، الناس كلهم لآدم وحواء، وهذا يدل على أن الأصل واحد، فإذا كان الأصل واحداً فما الذي جعل بني فلان أفضل من بني فلان؟ وما الذي جعل بني فلان أزكى وأشرف وأكرم من بني فلان؟ حتى كانوا في الجاهلية يقتلون المائة بالواحد! وهذا كله من عمل الشيطان الذي أدخله على عصاة بني آدم، ولذلك قال بعض أئمة العلم رحمهم الله: من افتخر بأصله ففيه شبه من إبليس؛ لأن الله يقول حكاية عن إبليس: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فهذا التفاضل والتعالي على الناس من شأن الجاهلية، والإنسان عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أنه لو صعد بنسبه إلى السماء وهو عند الله وضيع فإنه لا ينفعه عند الله شيئاً، وأنه إذا اتقى ربه وخاف ربه رفع الله قدره، وزكى شأنه وأمره ولو كان عند الناس وضيعاً، فالعبرة كل العبرة بما بينك وبين الله عز وجل.
وفي تاريخ الإسلام من الأئمة الأعلام أصحاب دواوين العلم والعمل، والأئمة الذين قادوا الأمة، وسطروا في دواوين المجد الصفحات المشرقة المنيرة، لم يفتخر منهم أحد يوماً بنسبه وحسبه، فالعاقل الحكيم يعلم أنه لا وزن له عند الله إلا بتقوى الله عز وجل والخوف من الله سبحانه وتعالى.
ومن حكمة الله عز وجل أنه ما غيب عبدٌ خوفاً من الله في قلبه إلا أورثه الله محبة وعزة عند الناس، وكانوا يستدلون على خوف الإنسان من الله وخشيته لله فيما يوضع له من القبول، فإن كمل خوفه كمل القبول له من الله في الخلق، وإن عظم خوفه عظمت مكانته، وجلَّت منزلته.
هذا عطاء بن أبي رباح مولى من موالي العرب، أشل أفطس، ومع ذلك يدخل عليه سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه وهو في المسجد الحرام، ويسأله ويقول له: يا عطاء! سلني حاجتك، فقال له: إني لأستحي أن أسأل أحداً في بيت الله عز وجل، فلما خرج من المسجد قال: يا عطاء! ها قد خرجنا فسلني حاجتك، فقال له عطاء: إني لأرجو الله أن يغفر لي ذنبي، قال: يا عطاء! ذلك ليس إلي، إنما أسألك أن تسألني حاجتك من الدنيا، فقال له: إني لم أسأل الدنيا من يملكها أفاسألها من لا يملكها؟! فقال سليمان بعد أن تولى لبنيه: يا بني! اطلبوا العلم فقد أذلنا العبد آنفاً بعلمه، قال: أذلنا، وهو في نظر الناس أعز! فلا ينفع الإنسان حسبه ونسبه إذا لم يقم أمره على تقوى الله عز وجل والخوف من الله سبحانه وتعالى.
ومن نظر إلى الناس بقلبٍ مليء بالاحتقار، ولو عاملهم معاملة حسنة في الظاهر؛ فإن الله لا يزكيه، ولا يعطيه السؤدد، ولا يبارك له فيما أعطاه في الناس، ومن صحب الناس سليم القلب نقي السريرة ولو كان من أوضع الناس منزلة فإن الله يورثه من المحبة والتقدير ما لم يخطر له على بال؛ ولذلك تجد بعض الناس لا يعرف بيته، ولا تعرف قبيلته، ولا جماعته، ولا يعرف نسبه، ولكن ما إن يدخل على إخوانه وأصحابه وزملائه وعلى الناس؛ إلا وجدت المحبة والتقدير والأنس به والرضا به، شيءٌ لا يملكه وإنما هو من الله عز وجل.
وتجد الآخر الذي يتعالى على الناس ويفتخر على الناس مع أنه معروف البيت ومعروف المكانة؛ ومع ذلك نسأل الله السلامة والعافية! تمله النفوس وتكرهه القلوب، ولا يرتاح أحدٌ لمجالسته، وإن جامله في الظاهر، فإنه لا يرتاح له في الباطن.
فالإنسان العاقل ينبغي أن يعلم أنه لن يخفي سريرة إلا ويظهرها الله، فمن أخفى احتقار الناس رماه الله بالاحتقار في قلوب الناس، فكما أنه يحتقر أناساً في الغيبة، وإن جامله الناس في الظاهر، ولكنهم يحتقرونه في كل الظروف، وليجرب ذلك الإنسان وسيجد؛ لأن الله عدل ولا تخفى عليه خافية، ويجزي الإنسان بما في قلبه، فمن أسر سريرة الخير زكى الله له العلانية، ومن أسر سريرة الشر ابتلاه الله في علانيته.
الحسب لا يغني الإنسان عند الله شيئاً، إلا أن الإنسان الذي رزقه الله عز وجل حسباً مثل أن يكون من بيت معروف بالصلاح ومعروف بالعلم، أو من بيت معروف بالإمارة والوجاهة، وحافظ على هذه السمعة الطيبة آباء كرام من بيت عز وشرف وسؤدد، فحافظ على هذا المجد وسار على سيرة آبائه الطيبين، فأكرم الناس واحترمهم وقدرهم، واتخذ من هذا الحسب الطيب الكريم وسيلة لتربية أبنائه؛ لأن لهم عند الناس من المحبة والتقدير الشيء الكبير؛ ولأن آباءهم قد بنوا مجداً فلا يهدمونه، وأخذ من هذه المعاني ما يعين على التواضع، والحرص على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فهذه نعمة من الله عز وجل على العبد، وهذا عصامي عظامي، عصامي حينما يبني مجده بنفسه بتوفيق الله عز وجل، وعظامي طاب معدنه، وإذا طابت الأصول طابت الفروع، إن الأصول الطيبات لها فروعٌ زاكية.
والله عز وجل إذا وضع البركة في بيت أو قبيلة أو جماعة أو أسرة في إمارة أو في علم في دين أو دنيا؛ وضع البركة فيها، وعرفت بالخير وعرفت باستقامة أمور الدين أو استقامة أمور الدنيا، فإذا حافظت هذه الأسر على هذه الأمجاد أبقى الله الخير فيها، وأبقى لها المحبة والتقدير وبارك فيها، وأورثها من حسن العاقبة ما لم يخطر لها على بال.
فلابد من المحافظة على الأصول الطيبة، وليس معنى كلامنا أن يضيع الإنسان نسبه أو يضيع حسبه، فهذه نعمة من الله أنعم بها عليه، لكن لا يتعالى على الناس، الذي يتعالى على الناس بنسبه فقد استذل الناس.
ولذلك في قصة عمر رضي الله عنه مع ابنٍ لـ عمرو بن العاص كان في مصر، وكان والده والياً على مصر، فذكروا في السير أنه أجرى سباقاً بين الناس، فكان فيهم ابن عمرو بن العاص، فسبق قبطيٌ ابن عمرو بن العاص، فأخذ ابن عمرو السوط وصار يضربه ويقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، حتى آذاه فأضره فسبقه، فجاء القبطي إلى عمر في الموسم واشتكى إليه، فسأل عمر الناس ووجده صادقاً فيما قال، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص وقال له: إذا كان الموسم فاقدم عليّ أنت وابنك فلان، فجاء عمرو ومعه ابنه ثم لما دخل عليه، قال عمر رضي الله للقبطي: أهذا هو الرجل؟ -يعني ابن عمرو - قال: نعم، قال: دونك الدرة، فقام وضربه وأمره أن يضربه مثلما ضربه، فلما ضربه وأتم ضربه، قال: وجهها إلى صلعة عمرو، فقال القبطي: أما إني قد ضربت من ضربني، ومراد عمر بقوله وجهها إلى صلعته تعزير ولاته إذا أساءوا للناس وأضروا بهم، فامتنع القبطي وكأنه يقول: هذا الأمر ليس إلي، هذا لك أنت، وأدب من وليت، فقال عمر رضي الله عنه لـ عمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! الناس لهم حق، ولا يظن أحد أنه إذا لقي شخصاً فكأنه مملوكٌ له، فيحتقره للونه، أو يحتقره لفقره، أو يحتقره لمنصبه، لا أبداً، أو أنه إذا أصبح من بني فلان فإن الناس أصبحت دونه، لا، هذا ينبغي أن يضعه المسلم نصب عينيه، ولذلك تضيع حقوق الناس وتعظم مظالمهم حينما ينظرون بهذه النظرات، فتجد المظلوم يؤخذ حقه ولا يستطيع أن يصل إلى حقه؛ لأن فلاناً الذي ظلمه هو فلان، وحينئذٍ يكون باطن الأرض خيراً من ظاهرها.
فعلى كل حال الشر العظيم، والحالقة -حالقة الدين وحالقة الشعر- أن يتفاخر بالأنساب على وجه تضيع فيه حقوق الناس، وتعظم به مظالمهم، وقد قال الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:1 - 8] {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]؛ لأنهم كانوا يتكاثرون بأحسابهم وأنسابهم، وقال: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] أحد الأوجه في تفسيرها أنه تفاخر بعضهم على بعض حتى عددوا الأموات، فذهبوا إلى المقابر، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] يعني: وصل بكم التكاثر والتفاخر حتى بالأجداث والرمم وأموات الجاهلية، {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:4] وهذا تهديد ووعيد من الله لكل من يتفاخر في بنسبه.
فعلى كل حال؛ على المسلم أن يتقي الله عز وجل وأن يحمد الله إذا رزقه الله بيتاً صالحاً وأسرة طيبة، فإن هذا لا يعني أننا ننسى البيوت التي لها فضل وشرف، خاصة إذا كانت عظيمة الخير على الإسلام، وعظيمة الخير على المسلمين، كالأسر التي عرفت بالآباء الكرام الذين كانوا بعد الله عز وجل آباءً للأيتام وللأرامل، سد الله بهم الحاجات، وفرج بهم الكربات، وأحسنوا إلى المؤمنين والمؤمنات، الآباء الذين أغلقت بهم أبواب الشرور، وفتحت بهم أبواب الرحمات، كانوا يسعون في الصلح بين الناس، وسد العوز والفقر وبذل الشفاعات الطيبات المباركات، ولا ينسى من كان من آبائه له مجد في الإسلام من إمارة وولاية، أو كان له مجد في الإسلام من نشر علم انتفع به المسلمون، فكل هؤلاء لا يذكرون إلا بالجميل، ويدعى لخلفهم أن يبارك الله فيه؛ لأن بقاء هذا الخير في هذه البيوت الطيبة فيه نفعٌ عظيم،(323/17)
الجهر بالأذكار عقب الصلوات المكتوبات
السؤال
الأذكار التي تكون عقب الصلاة هل يجهر بها المرء أم أنه يخفي بها صوته؟
الجواب
قولان للعلماء رحمهم الله في هذه المسألة: جمهور العلماء على أن السنة في الأذكار أن تكون سرية، وألا يجهر الذاكر بها صوته؛ لأن نص القرآن يأمر بإخفاء الذكر، وقالوا: لأنه أقرب للإخلاص، وأبعد عن الرياء، وأبعد عن التشويش والإضرار بالغير، وقال بعض أهل العلم رحمهم الله: يشرع الجهر بالأذكار، واحتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ما كانوا يعرفون انتهاء الصلاة إلا بالتكبير بعدها، وأجيب بأن المراد بالتكبير: الرنة التي تكون من مجموع الذكر ولو مع مخافتة الصوت، وهذا معروف، ومن يعرف مساجد البوادي التي لا يكون فيها إزعاج ولا تشويش فإنه يجد أن الناس أثناء الصلاة في سكونٍ تام، وإذا انتهت الصلاة -ولو كانوا يسرون بالذكر- يحس برنة وصوت محسوس واضح يدل على أن الصلاة قد قضيت، وعلى كل حال: من جهر يتأول السنة لا بأس ولا حرج عليه، ومن أسر يتأول السنة لا بأس ولا حرج عليه، والنفس أميل إلى الإخفات وعدم الجهر، إلا إذا كان عالماً يعلم الجهال أو كان في موضع فيه عوام فيرفع الصوت تعليماً لهم، فلا بأس في ذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.(323/18)
مناداة الابن لأبيه بكنيته
السؤال
إذا نادى الابن أباه بكنيته، فهل هذا من العقوق؟
الجواب
هذا يختلف باختلاف العرف والأحوال، في بعض الأحيان قد يحب الوالد أن يدعى بكنيته من ولده، لكن الأصل أنه لابد من تذلل الابن لأبيه؛ لأن الله يقول: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء:24]، فلابد أن يخاطبه مخاطبة تشعره بمنزلته، كقوله: يا أبتِ، وهذا هو الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، وينبغي تحريه فيناديه بالأبوة؛ حتى يشعره بالفضل عليه وأنه دونه، والله تعالى أعلم.
إذا لم يجر بهذا عرف -أي مناداة الأب بكنيته- فهذا فيه قبح، وأشنع من هذا أن يناديه باسمه المجرد، لكن إذا جرى عرف أن الوالد ينادى في بيته وولده بالكنية ولا يتأثر بذلك ولا يتضرر فهذا شيء آخر، لكن المحفوظ أنه يناديه يا أبتِ، ويشعره بحقه عليه، والله تعالى أعلم.(323/19)
نصيحة لمن مل وضعفت همته في الدعوة إلى الله
السؤال
كثيراً ما يجد طالب العلم المشاق في تعامله مع العوام وتبليغ العلم وبيان الأحكام إلى درجة أن يملّ فيها وتضعف همته، فما توجيهكم؟
الجواب
هذا طريق الأنبياء والصالحين، وطريق خيرة خلق الله وصفوة الله من العباد أجمعين، ولابد من الابتلاء والامتحان في الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الله عز وجل، أي طريقٍ هذا الطريق الذي ينتهي بصاحبه إلى الجنة؟ أي طريق هذا الطريق الذي وضعت الملائكة أجنحتها لصاحبه رضاً بما يصنع؟ أي طريقٍ هذا الطريق الذي ينعم فيه العبد برحمات الله عز وجل؟ فكم من عبدٍ أصبح وهو داعية إلى الله فما أمسى إلا وقد غفرت ذنوبه! وكم من عبدٍ داعية إلى الله أصبح وأمسى يأمر بأمر الله وينهى عما نهى الله عنه فكتب الله له رضاه إلى يوم يلقاه! (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه) لا يستحقر الإنسان الخير، فكم من كلمة يسيرة قربت صاحبها إلى الله جل وعلا، خاصة إذا كانت من ذكره، وكم من متكلم بين أناسٍ يجهلون السنن، فأحيا الله به السنة وأمات به البدعة، ودل به وهدى حتى ثقلت موازينه وارتفعت له الدرجات العلى لما كان من أمره بطاعة الله! ولذلك عظُم على عدو الله الشيطان ما يراه من أولياء الرحمن، فأخذ يخذلهم ويثبطهم ويسلط اليأس على قلوبهم، لكن ليصبروا؛ فإن الله مع الصابرين، وليرابطوا على صبرهم؛ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، خاصة في زمانٍ عظمت غربته، وجلت كربته، ولا معين ولا ظهير ولا ولي ولا نصير إلا الله وحده، وهو على كل شيء قدير.
فالواجب على المسلم ألا يمل لذلك، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا) أخي في الله: توكل على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وانظر إلى عظيم نعمة الله عليك حينما تمسي وتصبح وأنت تبلغ رسالة الله، وانظر نعمة الله عليك إذ اختارك واصطفاك لتأمر بأمره وتنهى عن نهيه، فتحبب إلى العوام، وتقرب منهم، ووطئ كنفك لهم، وكن ممن يؤلف ويألف، وكن من الذين سهلت أخلاقهم، وحسنت آدابهم، وجملت خلالهم، حتى تفوز بأحسن المنازل في دعوتك إلى الله.
وعلى كل حال اليأس والضعف لا يصلح لطالب العلم، طالب العلم الحق مجرد ما يضع قدمه في الدعوة إلى الله لا يفكر في السآمة والملل، بل يضع روحه في كفه، طالب العلم في جهاد أعظم من الجهاد في سبيل الله، ولذلك قال كثير من العلماء وهم أغلب طائفة السلف: إن العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل إذا أخلص فيه العبد لربه.
سئل الإمام أحمد رحمه الله: أي منزلة أعظم، منزلة العالم أو المجاهد؟ قال: العلم إن أخلص فيه لوجه الله.
ولذلك قال الله في كتابه: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، فابتدأ الله بالنبيين ثم ثنى بالصديقين وهم: العلماء العاملون الهداة المهتدون، فهذا السبيل الذي أنت فيه هو سبيل الأنبياء وطريق الأصفياء والأتقياء، ولكن الذين صبروا وصابروا ورابطوا وأفلحوا وأدلجوا حتى بلغوا المنزل، عرفوا أن سلعة الله غالية فقدموا لها أرواحهم رخيصة، يصبر الواحد وهو يعلم الناس فيتغرب عن أهله ووطنه ويسافر ويشعر مع هذا كله أنه مقصر.
طالب العلم الحق يتفانى في التضحية وهو يحس أنه لم يقدم شيئاً، وأن الذي قدمه شيئاً يسيراً، والعكس، فمتى أحس أنه قدم كثيراً، وأن الناس لا تتقبل منه، فيقول: ما لك وما للناس! لا، أنت تعامل رب الجن والناس، تعامل رباً لا يضيع مثقال خردلة من عمل صالح، تعامل رباً لا يصيبك هم ولا غم ولا كربٌ ولا نكبة إلا كتب الله أجرك، وأثبتها في ميزان حسناتك، حتى تلقاها في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
ما الذي رفعت به الدرجات وكفرت به الخطايا والسيئات غير الصبر، وأنت تصبر من أجل أحب الأشياء، وهو الدعوة إلى الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت:33]، هذه الآية كان الحسن البصري يقول فيها: هذا ولي الله، هذا حبيب الله، وهو الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تقل: ما لي وما للناس، وإنما إذا دعوت وبلغت وبينت فاحمد الله جل وعلا أن الله جعل لسانك يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه، ولم يجعلك داعية إلى الهوى والردى، وإذا علمت الجاهل قلت: يا رب! لك الحمد والشكر أن رفعتني وكنت وضيعاً، وأعززتني وكنت ذليلاً، ورحمتني وكنت معذباً، وهديتني وكنت ضالاً، ولذلك خاطب نبيه وهو في أعلى مراتب الدعوة والتعليم {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، ذكره بنعمة الله؛ لأن بهذا التذكير تقوى النفس لتعليم الناس، والصبر على أذاهم، ولذلك قال له بعدها سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9 - 11] فالذي يستشعر أن الله أعطاه نعمة عظيمة، وأن الله شرفه وكرمه بهذا العلم؛ فإنه يضحي ويجاهد ويجالد، والله عز وجل لن يضيع لك في هذا العلم ولا في غيره من الأعمال الصالحة مثقال خردل، وقد تسهر على حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تتبوأ به الدرجات العلى من الجنة، وقد تسهر على آية تحل حلالها وتحرم حرامها وتعرف شريعتها ونظامها؛ يكتب الله لك بها من الحسنات ما لم يخطر لك على بال، وتكون لك شفيعة بين يدي الله عز وجل، فهذه نعم ومنن تنالها برحمة الله.
ما الذي يدعوك للسآمة والملل؟ هل تعلمت العلم من أجل أن يمجدك الناس وأن يعظمك الناس؟ هل تنتظر من الناس أن يثنوا عليك وأن يزكوك وأن يمجدوك؟ هيهات هيهات: (فمن تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة).
هل تعلمت العلم من أجل أن تنتظر من الناس مكافأة، وأن تأمر فيطاع أمرك، وأن تقول فيسمع قولك؟ هيهات هيهات، الإنسان وهو يطلب العلم يفكر في شيء واحد وهو رضوان الله جل وعلا، يفكر في مرضاة الله سبحانه وتعالى قائماً وقاعداً ساكتاً ومتكلماً، يفكر كيف يرضي الله سبحانه وتعالى، وإذا فكر كيف يرضي الله فتح الله له أبواب الرحمات، فأصبح إعراض الناس أفضل عنده وأكمل، لا يتألم بإعراضهم بل بالعكس يقول: الحمد لله أن الله عز وجل ما شغلني بهم، ولا علق قلبي بهم، فعلى كل حال عليك أن تنظر إلى ما بينك وبين الله، وإن أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله ما بينك وبين الناس.
ومما يوصى به طالب العلم حسن الظن بالله عز وجل، فإذا وجد الناس أعرضوا عنه أحسن الظن بالله، وقال: لعل الله لحكمة يريدني أن آوي إليه، يريدني أن أخلص له أكثر والعيب فيّ وأنا المقصر، ما يقول: العوام فيهم وفيهم، وإنما يتهم نفسه ويرجع إلى نفسه، ودائماً لا تسئ الظن بالله عز وجل خاصة في هذا العلم، فإن ربك فوق ما ترجو وتأمر كرماً وفضلاً وجوداً وإحساناً وبراً، لا تظن بربك إلا كل خير، سواء كنت طالب العلم أو غير ذلك، لا تظن بهذا الرب إلا كل خير، فالشيطان إذا أراد أن يضر بالداعية أو طالب العلم أدخل إلى قلبه سوء الظن بالله عز وجل، فإذا ساءت ظنونه زاغ قلبه، فمل وسئم وترك الدعوة إلى الله عز وجل، حتى إن أحدهم -والعياذ بالله- ربما يقول: أنا مالي وما للناس؟ وما الذي أدخلني في هذا الأمر؟ حتى يندم عما كان منه من الخير؛ فيحبط عمله فيكون من الخاسرين نسأل الله السلامة والعافية! يقول: يا ليتني ما أمرت، يا ليتني ما فعلت! فتذهب حسناته -والعياذ بالله- كلها؛ لأنه ندم على ما كان منه من الخير، وتبرأ من هذا الخير.
فعلى طالب العلم أن يجند نفسه بشيء واحد -هو سلوته وعماده وروحه ومنه تستمد القوة والعون من الله عز وجل- هو الإخلاص والتوحيد لله سبحانه وتعالى، ومن أراد وجه الله هانت عليه الدنيا وما فيها، ومن أراد وجه الله ثبت الله قلبه وسدد لسانه وشرح صدره، ولم يبال بالناس أقبلت أو أدبرت، والله إنه ليكمل إخلاص العبد مع الله عز وجل فيجلس مع العشرة آلاف وكأنه جالس لوحده.
ويكمل إخلاص العبد ويكمل يقينه بالله عز وجل ويقف بين الأمة من الناس فلا يبالي بها أقبلت أو أدبرت، كل الذي يفكر فيه فقط مرضاة الله سبحانه وتعالى، وكل الذي يفكر فيه أن هذا القول الذي يقوله وأن هذا النصح وهذا التوجيه يصعد إلى الله عز وجل ويقبله، لا يبالي أقبلت الدنيا أو أدبرت، المهم أن يرضى الله سبحانه وتعالى، وعندما تجد عنده لسان صدق فلا يزل صاحبه، ولا يزيغ قلبه، مما أورثه الله عز وجل من كمال التوحيد والإخلاص، وهذا هو حال الرسل والأنبياء ما كانوا يبالون بالناس أعرضوا أو أقبلوا، فلما أعرض الناس عنهم سلموا أمرهم لله، وتوكلوا على الله، وفوضوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، ومن فوض أمره إلى الله تولى الله أمره، ولذلك قال مؤمن آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 - 45].
فجعل الله الفرج بالتوحيد والإخلاص له عز وجل.
فطالب العلم والداعية والخطيب لا يسأم ولا يمل، وليعلم أن الكلمات التي ذكر بها من الأحاديث والآيات البينات أنها إن ضاعت عند الناس فلن تضيع عند رب الجنة والناس، وأنه قد خطها من فمه ومن لسانه، وعليه ملائك حافظون لا يغيرون ولا يبدلون، خطت في صحائف أعماله وأقواله حتى يراها أمام عينيه في يومٍ ينفع الصادقين صدقهم، فيجزى على الحسنات إحساناً، وعلى السيئات إما عقوبة أو صفحاً وغفراناً.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتولانا برحمته، وأن يربط على قلوبنا في طاعته ومرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله(323/20)
شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [1]
لقد شرع الله سبحانه وتعالى للمرأة أن تعتد بعد طلاقها أو وفاة زوجها لحكم عظيمة وجليلة منها الحفاظ على الأنساب، وكذلك إعطاء الفرصة للزوجين إذا كان يريدان الرجعة في حال الطلاق الرجعي، وكذلك حفظ العهد والود الذي بين الزوجين.(324/1)
مشروعية العدة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب العِدد].
(العَد) في لغة العرب: الحساب والإحصاء، فإذا أحصى الشيء، قالوا: عدّه.
ولما كان هذا النوع مما أوجب الله عز وجل فيه الحساب والاعتداد سمي بهذا الاسم؛ لأن المرأة تعد أيام عدتها، وكذلك تحسب وتحصي أيام أقرائها، وهذا الباب المراد به في اصطلاح العلماء: تربص المرأة في أجل مخصوص لانقضاء آثار النكاح.
فالعدة تقوم على تربص المرأة الأجل المسمى الذي بينه الله عز وجل في كتابه، وثبتت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم لانقضاء آثار النكاح.
وهذا الباب في الحقيقة مترتب على كتاب الطلاق؛ لأن الأصل في العدة أنها تترتب على الطلاق، إلا أنها قد تكون في الفُرقة من خلع أو فسخ، وكذلك تقع في الوطء إذا كان وطء شبهة، وتقع في الوطء الحرام على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى، ونظراً لتعلقها بالأبواب المتقدمة من الطلاق والخلع واللعان، ناسب أن يذكرها المصنف -رحمه الله- بعد بيانه لتلك الأبواب.
والأصل في لزوم العدة ووجوبها: كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع العلماء، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، فبيّن سبحانه وتعالى شرعية العدة، وأنها تكون للمطلقة ثلاثة قروء، وكذلك بيّن سبحانه العدة وشرعيتها بطريق المفهوم في الخطاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، فبيّن سبحانه وتعالى أنه إذا وقع الطلاق قبل الدخول فليس هناك عدة تحتسب، ومفهوم ذلك: أنه إذا وقع الطلاق بعد الدخول فإنه تجب العدة وتثبت.
وقال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فبيّن سبحانه وتعالى عدة الآيسة من المحيض، وهي: المرأة الكبيرة، وبيّن عدة الصغيرة التي لم تحض، وبين عدة الحامل، وهذا يدل على مشروعية العدة.
كذلك أيضاً ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدة، حيث أمر بها فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وأرضاها حينما طلقها زوجها، فقال لها: (اعتدي في بيت ابن أم مكتوم)، فهذا يدل على شرعية العدة.
وكذلك أيضاً ثبتت النصوص في الكتاب والسنة بعدة الوفاة، فأمر الله عز وجل المرأة التي توفي عنها زوجها بالعدة والحداد؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، فأمر الله بعدة الوفاة وهي الحداد، وكذلك أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن أم حبيبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميتٍ فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) كذلك -أيضاً- قال لـ فريعة بنت مالك بن سنان رضي الله عنها: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله)، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة المتوفى عنها زوجها أن تبقى مدة الحداد وهي عدة الوفاة.
فمن مجموع هذه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجمع العلماء سلفاً وخلفاً على مشروعية العدة، وهذه العدة تتنوع وتختلف لكن الأصل العام أنها مشروعة.(324/2)
الحكمة من مشروعية العدة
وفي شرعية الله سبحانه وتعالى لهذه العدة حكم عظيمة، والله لا يأمر إلا بكل خير ولا ينهى إلا عما فيه شر، والله يعلم ونحن لا نعلم، وله الحكم البالغة سبحانه وتعالى، وتمت كلمته صدقاً وعدلاً، لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.(324/3)
حفظ الأنساب
فمن الحكم: أن العدة تحفظ الأنساب، وعن طريقها لا يختلط ماء الأزواج في الأرحام، وقد فضل الله عز وجل بني آدم وأهل التكليف بالتشريع بأن لا يساووا البهائم، فالمرأة إذا طلقت بقيت مدة العدة تستبرئ لرحمها، وتتبين من الحمل، فإن وجد الحمل بقيت حتى تضعه، وإن كانت غير حامل فحينئذ لا إشكال.
فالمقصود: أنه عن طريق العدة تحفظ أنساب الناس فلا يختلط الماء.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره) فلو لم تكن هناك العدة لوطئ الرجل المرأة، وربما علقت منه فحملت وكان في بداية الحمل لا يتبين حملها، ثم طلقها فوطئها الثاني فاختلط ماء الأول بالثاني، وفي هذا من الشر العظيم والبلاء الكبير ما الله به عليم.(324/4)
وفاء الزوجة لزوجها
وكذلك أيضاً فالعدة: وفاءٌ من الزوجة لزوجها، فإن المرأة إذا توفي عنها زوجها واعتدت في بيت الزوجية تذكرت فضل زوجها، ولذلك تعتد في نفس البيت الذي جاءها فيه الخبر، فتتذكر ما بينها وبينه، فتترحم عليه، وإن عرفت منه خطيئة أو زلة سامحته واستغفرت له، واسترحمت له، وفي هذا من الخير ما الله به عليم.(324/5)
العدة تعين على مراجعة الزوج لزوجته
كذلك في هذه العدة حكمة عظيمة من جهة الطلاق: فإنها تعين على مراجعة كل من الزوجين نفسه، فإن المرأة إذا طلقت واعتدت فإنها تعتد في بيت الزوجية في الطلقة الأولى، وفي هذه الحالة في الطلاق الرجعي تبقى في بيت الزوجية، فيراها الزوج وتراه في البيت الذي بينهما فيه من الذكريات ما يحرك قلبه ويحرك قلبها، فربما كان هناك أمل بين الزوجين أن يرجعا لبعضهما، وأن يصلحا ذات بينهما، لم يدخل الغريب فيفسد ما بين الزوجين، ولذلك كثير من المشكلات الزوجية تتفاقم وتتعاظم حينما يدخل الغريب بين الزوجين، فأمرت المرأة المعتدة بالعدة والبقاء أثناء العدة في بيت الزوجية، قال تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1]، فقال: (بيوتهن) ونسب البيوت إلى الزوجة، وكأنه بمثابة تأكيد على أنه لا يحل إخراجها، وكأنها مالكة لهذا البيت، ومن كان مالكاً لبيته لا يخرج منه، ولذلك كثيراً ما كان أيام السلف ومن مضى ممن كان يطبق هذه السنة، قل أن تجد رجلاً يطلق زوجته الطلقة الأولى إلا ويرجع إليها ويصلح ما بينه وبينها؛ لأن أباها وأخاها لا يخرجانها ولا يتدخل أحدٌ بينهما تنفيذاً لشرع الله، والتزاماً بدين الله، ولما غير الناس هذه السنة فاتت هذه الحكمة العظيمة، وأصبح الأمر أشد خطراً وأعظم ضرراً، حتى إن المسألة تكون من أيسر ما تكون، فإذا طلقها زوجها وخرجت من بيت الزوجية اشتعلت نار الفتنة، حتى إن المرأة تحن وتئن وتتألم وتتوسل وتتضرع بالكلمات المؤلمة الجارحة للقلوب، لكي ترجع إلى زوجها، فلا تجد أذناً صاغية، وبعض الزوجات يرغبن في الرجوع إلى أزواجهن، ولكن يقف أبوها أو أخوها أو أمها ويتبرأ منها إن خرجت أو رجعت، فيقع الوالد في المنكر العظيم في إفساد الزوجة على زوجها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله من خبب امرأةً على زوجها) والسبب في ذلك قائم على الإعراض عن شرع الله عز وجل، والهُجران لهذه السنة التي فيها هذه الحكمة العظيمة وهي: بقاء المرأة مدة العدة في بيت الزوجية، فمن الحكم المستفادة من العدة: أن الله سبحانه وتعالى يجعل كلاً من الزوجين في فسحة محدودة لكي يراجع نفسه، فإذا أرادت المرأة أن ترجع وهي المخطئة، فإن الزوج يتأخر ويصر قليلاً حتى تتأدب، وإذا أراد الرجل أن يرجع وهو المخطئ فإن المرأة تتأخر بعض الشيء، فيؤدب كل منهما الآخر، ومن هنا قال الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] لكن متى؟ إذا طبقت السنة، والتزم بشرع الله عز وجل.
وبالمناسبة: ينبغي على الخطباء وطلاب العلم والأئمة أن ينبهوا الناس على هذه السنة التي أضاعها كثيرٌ إلا من رحم الله، وهي: العدة أو الاعتداد في بيت الزوجية بعد الطلاق؛ لأن الله عز وجل نهى عن إخراج النساء من بيوتهن، وقال: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1].(324/6)
التعبد لله عز وجل
كذلك أيضاً: في العدة تعبد وتقرب لله عز وجل.(324/7)
زيادة ثواب المرأة
ومن حكمها: أنها تزيد ثواب المرأة وأجرها، وهذا مما جعله الله للنساء خاصة، فالمرأة تعتد في بيت الزوجية أربعة أشهر وعشراً، وتعتد عدة الطلاق ثلاثة قروء في بيت الزوجية وهي تتقرب إلى الله عز وجل، وترجو ثوابه وتمتثل أمره سبحانه، فيزاد أجرها، وتُرفع درجتها، وفي هذا تحصيل لمصلحة الآخرة وصلاح أمر الدين بامتثال أمر الله عز وجل ودينه شرعه.(324/8)
أنواع العدد
يقول المصنف رحمه الله: [كتاب العِدد].
جمعها -رحمه الله- لاختلاف أنواعها، فهناك عدة الطلاق، وقد تكون عدة الطلاق من طلاق رجعي أو طلاقٍ بائن، وكذلك أيضاً هناك عدة الوفاة، وعدة القروء، وعدة الأشهر، وعدة وضع الحمل، فنظراً لهذا التعدد جمعها رحمه الله.
كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعِدد الزوجات.(324/9)
شروط لزوم العدة
قال رحمه الله تعالى: [تلزم العدةُ كل امرأة فارقت زوجاً خلا بها].
(تلزم العدة).
أي: تجب.
والشيء اللازم هو الواجب على الإنسان، وكأنه التصق به فلم ينفك عنه، فلا يبرأ إلا بفعله والقيام به.
(تلزم العدة كل امرأة) الأصل في لزومها قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} [البقرة:228] وهذا خبر بمعنى الإنشاء: أي: عليهن أن يتربصن هذه المدة التي هي مدة العدة.
كذلك مما يدل على لزوم العدة: قوله عليه الصلاة والسلام: (امكثي) هذا أمر، وقوله عليه الصلاة والسلام لـ فاطمة بنت قيس: (اعتدي) وهذا أمر، والقاعدة: (أن الأمر يقتضي الوجوب حتى يصرفه صارف) وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن العدة واجبة ولازمة في حق الزوجة من حيث الأصل.(324/10)
اشتراط المفارقة الزوجية للزوم العدة
قوله: (فارقت زوجاً) العدة لا تكون إلا من فراق، وأصل الفراق: البين والانقطاع عن الشيء، يقال: فارق المكان إذا ابتعد عنه وبان منه، والفراق يكون إما بطلاق وإما بخلع أو بالفسخ سواء كان بعيب أو بلعان كما تقدم معنا في أحوال فسخ عقد النكاح.
(تلزم العدة): أي: تجب.
(على كل امرأة فارقها زوجها).
أي: بان منها زوجها، ويوصف الطلاق بكونه فراقاً -وقد تقدم معنا- لأنه رفع لقيد النكاح، قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130]، وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2]، فالطلاق فراق، وكل امرأة فارقها زوجها تلزمها العدة؛ لأنها مرتبة على الزوجية وأثر من آثار إنحلال هذا العقد.
(تلزم العدة) (ال) في العدة: للمعهود شرعاً (كل) من ألفاظ العموم.
(فارقت زوجاً) أو فارقها زوجها، والفرقة مثل ما ذكرنا: بطلاق أو فسخ أو بوفاةٍ.
(فارقت زوجاً) من حيث الأصل لابد أن يكون الزواج صحيحاً، وعقداً شرعياً صحيحاً، وقد تلزم العدة إذا كان النكاح فيه شبهة، كشخص نكح نكاحاً يظنه صحيحاً فبان فاسداً، وكذلك إذا كان النكاح فاسداً فيه تأويل، كأن يكون فيه خلاف بين العلماء وعمل بأحد القولين وكان قولاً مرجوحاً، وكذلك تلزم العدة في الوطء المحرم الذي هو وطء الزنا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والمصنف -رحمه الله- ينبه على العدة من حيث الأصل، وبناء على ذلك فهناك ارتباط بين العدة والزوجية؛ لأن الأصل في العدة ألا تكون إلا على الزوجية، ومن هنا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] إذاً: العدة تثبت وتنفى -في الأصل- بعد قيام عقد الزوجية لأنها مترتبة عليه، ولذلك يعتبرها العلماء من الأمور المبنية على النكاح.(324/11)
اشتراط الخلوة بين الزوجين لثبوت العدة
قال المصنف رحمه الله: [خلا بها مطاوعة].
(خلا بها) لما قال: (خلا) معناه: أن الذي عقد على زوجته ولم يخل بها فلا عدة له عليها؛ لأن الله قال في آية الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:49]، يعني: عقدتم على المؤمنات: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، ومن هنا أخذ العلماء أن من الحكم المستفادة من شرعية العدة: براءة الرحم، فهنا أسقط الله عز وجل العدة لأنه لم يحصل بين الزوجين مسيس أو خلوة على خلاف بين العلماء، وبعض العلماء يقول: من خلا بامرأة ومُكن من وطئها -بحيث كان بإمكانه أن يطأها بالشروط التي سيذكرها المصنف- ثم طلقها ولم يطأها، فالخلوة على هذا الوجه تمكين، والتمكين ينزل منزلة الفعل؛ لأن من مكن من فعل الشيء كأنه فعله، ولذلك يلزم بعاقبته، وتترتب على هذه الخلوة: العدة، كما لو أن أجيراً استأجرته ليعمل عندك يوماً، فجاء وجلس عندك مستجيباً بحيث لو أمرته بأي أمر ينفذه، فلم تأمره بشيء حتى مضى اليوم، وهو مكنك من نفسه فثبت له الحق، فهذا التمكين ينزل منزلة الفعل للشيء، ومن هنا لما مكنت المرأة نفسها لزوجها أن يطأها وكل الأمور ميسرة له وبإمكانه أن يطأ ولا تحول بينه وبين ذلك لا هي ولا أهلها فإنه ينزل منزلة من أصاب ومن فعل، فتثبت العدة، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، وقال الشافعية والمالكية والظاهرية رحمة الله على الجميع: لا يمكن أن يحكم بالعدة إلا إذا وقع جماع، أي: لا يكفي التمكين، بل لا بد من وقوع الجماع، واستدلوا عليه بظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله عز وجل أسقط العدة إذا لم يحصل بينهما مسيس، والمسيس: المراد به الجماع، فدل على أن الخلوة لا تأخذ حكم الجماع؛ لأنه لم يقع مسيس، فصار كل من اختلى بامرأة وأمكنه وطؤها ولم يطأها داخلاً في هذه الآية الكريمة، فلا عدة على زوجته، وفي الحقيقة من حيث الدليل أن مذهبهم أرجح؛ لأن ظاهر الآية قوي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، وقع الطلاق: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] ما قال: من قبل أن تدخلوا عليهن.
ولذلك الدخول شيء والمقصود من الدخول شيء آخر، فالمذهب الذي يقول باشتراط الإصابة قويٌ جداً من حيث الدليل، ولذلك رجحه غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم، فلا يكفي مجرد أن يخلو بها، بل لا بد من أن يحصل المسيس بينهما، والمسيس يكنى به عن الجماع.
قال ابن عباس رضي الله عنه: (إن الله يكني).(324/12)
اشتراط المطاوعة في الخلوة بين الزوجين للزوم العدة
[مطاوعة].
إذا قالوا: إن الخلوة تنزل منزلة المسيس فلا بد أن ينبهوا على أمور تكون بسببها الخلوة مؤثرة، فلو خلا بها إكراهاً دون مطاوعة منها، فعندهم لا يثبت لهذه الخلوة الحكم الشرعي، ولا يترتب عليها لزوم العدة.(324/13)
اشتراط علم الزوج بالمرأة أثناء الخلوة بين الزوجين للزوم العدة
قال رحمه الله: [مع علمه بها].
هذا شرط ثانٍ.
إذاً: تكون مطاوعة غير مكرهة، فإذا أكرهها وأدخلها بالقوة وخلا بها على وجهٍ يمكنه أن يطأها ثم لم يطأها وكان بالقوة -قالوا:- لا يأخذ حكماً؛ لأن الإكراه يسقط به الحكم، وتسقط هذه الخلوة ولا تأثير لها.
والشرط الثاني: علمه بها، فقد يختلي الزوج بالزوجة وهو لا يعلم أنها معه فلا يكفي ذلك في إيجاب العدة، مثل: أن يكون كفيف البصر وتدخل عليه زوجته في مكان يمكنه أن يجامعها ويصيبها، قالوا: فإذا لم يخبر بأنها زوجته ولم يعلم بها فإن الخلوة حينئذ لا تنفع ولا تثبت بها العدة.(324/14)
اشتراط قدرة الزوج على الوطء للزوم العدة
قال رحمه الله: [وقدرته على وطئها].
وقدرة الزوج على وطء زوجته، فلو كان غير قادر على وطئها، كأن يكون -مثلاً- بحالة لا يمكنه أن يطأها كالنائم أو مثل ما ذكر بعضهم: السكران.
وكان بعض مشايخنا يقول: هذا لا يمكنه؛ لأنه يحتاج إلى شيء من التهيؤ والقصد، وإن كان بعضهم يجعل مسألة السكران في حكم الشرط السابق، وهو: علمه بها؛ لأن السكران لا يعلم، والله يقول: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].
قال رحمه الله: [ولو مع ما يمنعه منهما أو من أحدهما حساً أو شرعاً].
(ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: ولو كانت هذه الخلوة مع وجود ما يمنع في أحدهما أو فيهما، والمانع إما أن يكون حسياً أو أن يكون شرعياً، فالمانع الحسي: مثل أن يكون مجبوباً، وقد تقدمت معنا العيوب ومنها: الجب، وهو: قطع الذكر، وهو إما أن يكون جباً كاملاً كقطع الذكر بكامله مع الخصيتين، فهذا لا يرتبون عليه العدة؛ لأنه إذا كان جباً كاملاً بأن قطع الذكر مع الخصيتين فلا يتأتى منه حمل؛ لأنه لا يتأتى منه جماع، ولو كان الجب ببعض الذكر بحيث يمكنه أن يطأ بما بقي أو ببعضه على وجه يمكنه أن ينزل -لأن الخصيتين باقية- فيمكن أن يحصل الحمل، فلو جامعها مع كونه مجبوباً فربما أنزل المني فحملت من هذا المني فتحتاج إلى العدة للاستبراء، ومن هنا فرقوا بين الجب الكامل والجب غير الكامل.
أي: أن يكون مقطوع الذكر ومقطوع الخصيتين أو لا يكون مقطوع الخصيتين، فهذا المانع الحسي في الرجل، والمانع الحسي في المرأة: كأن تكون رتقاء، وقد بينا عيوب النكاح التي تكون في النساء وفصلنا فيها، كأن يوجد فيها عيب يمنع من وطئها، كأن تكون ضيقة الفرج وهذا عيب يمنع من وطئها؛ فإنه حينئذ لا يحكم بثبوت العدة.
فهذا هو المانع الحسي الذي لا تثبت به العدة سواء كان العيب في الرجل أو في المرأة أو فيهما معاً، كأن يكون مجبوباً أو كانت رتقاء.
كذلك لو كان المانع الذي يمنع من الوطء شرعياً كالحيض، والنفاس، والاعتكاف، والإحرام.
كرجل اختلى بامرأة حائض ثم طلقها، فلا يمنع من ثبوت العدة في حقها، فهذا مانعٌ شرعي لكن تثبت العدة مع وجود هذا المانع الشرعي، ومن الموانع الشرعية: أن يكون محرماً وتكون هي محرمه أو أحدهما محرماً فخلا بها فلا يمنع من ثبوت العدة، فإنه لو خلا بها وثمة مانعٌ شرعي في أحدهما أو فيهما معاً فلا يمنع من ثبوت العدة؛ لأنه ربما -والعياذ بالله- انتهك حدود الله ووطئها، وهذا فيه حفظ للحقوق؛ لأن المرأة لو لم تثبت لها العدة على هذا الوجه، فربما حملت وكتمت حملها، وربما تُوفي عنها وتتهم بالحرام مع أنه قد أصابها، فعلى كل حال: هذا المانع لا يمنع من العدة.
مقصود المصنف -رحمه الله- أن يقول: إذا وجدت الخلوة ولو مع وجود ما يمنعه حساً أو يمنعها حساً أو مع وجود ما يمنعه شرعاً أو ما يمنعها شرعاً من الوطء لزمت العدة، فما دام حصل الاختلاء على وجه يمكن فيه أن يطأها فالعدة ثابتة، هذا مراد المصنف، وبناء على ذلك فلو سألك سائل، فقال: لو تزوج رجل امرأة ثم بعد زواجه منها اختلى بها خلوة يمكنه أن يطأها في هذه الخلوة، لكن فيه أو فيها أو فيهما مانع حسي أو شرعي: فهل تثبت العدة؟ تقول: نعم، فوجود هذا المانع لا يمنع من كونه يحصل مسيس -مثلما ذكرنا- كأن يكون مجبوباً يتأتى الحمل من مَائِه، أو يكون محرماً أو معتكفاً، أو تكون هي حائضة أو نفساء، فهذا كله لا يمنع من ثبوت العدة.
(حساً أو شرعاً) يعني: سواء كان المانع حسياً أو شرعياً.(324/15)
لزوم العدة بالوطء والوفاة
قال رحمه الله: [أو وطئها أو مات عنها].
الوطء يحصل به المسيس الذي هو منصوص الآية، والخلوة على الوجه الذي ذكره بالشروط التي ذكرها تثبت بها العدة، وبناء على ذلك ذكر لنا ضربين: الضرب الأول: ما يتعلق بالخلوة المنزلة منزلة الإصابة.
والضرب الثاني: الإصابة الحقيقية التي هي الوطء.
وقد أجمع العلماء على -الضرب الثاني- أنه لو خلا بها واعترفت واعترف أنه وطئها تثبت بذلك العدة؛ لأنه مفهوم قوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، فهذا طلقها من بعد ما مسها، ولأنه هو الأصل في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ} [البقرة:228].
(أو مات عنها) فتلزمها عدة الوفاة؛ لأنه سيأتي -إن شاء الله- عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشراً، وهذه العدة كانت في الجاهلية، والحداد كان موجوداً في الجاهلية ولذلك ما كان موجوداً في الجاهلية من العادات والشرائع انقسم في شرع الله عز وجل إلى ثلاثة أقسام: الأول: قسم ألغاه الشرع وأبطله: كنكاح الشغار.
الثاني: قسم أثبته وأبقاه وحث عليه كأن يكون من مكارم الأخلاق ومن حسن العادات، كحلف الفضول، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (في دار عبد الله بن جدعان حلف ما أحب لو أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت)، فهذا يدل على إقرار شيء جاهلي لكنه يتفق مع الإسلام؛ لأن هذا الحلف كان لنصرة المظلوم ومنع الظالم من الظلم، وهذا يتفق مع الشرع.
الثالث: قسم هذبه الإسلام، يعني: أبقى منه شيئاً وألغى منه شيئاً، فقد يبقي الشيء في الأصل ويمنع من صفات معينة فيه، وقد يبقي الشيء بأصله، ويحدد له أجلاً معيناً.
مثل: الحداد، فقد كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها تدخل في أضيق وأظلم وأسوأ مكان من البيت -والعياذ بالله- ثم تمكث سنة كاملة، لا تمتشط ولا تدهن، ولا تغتسل وتصبح في حالة مزرية -والعياذ بالله- من العنت الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فإذا أتمت السنة افتضت ببعرة -والعياذ بالله- في فرجها وهذا أشنع وأقذع، فجاء الإسلام فأمر في أول الأمر بالسنة حولاً كاملاً: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240]، ثم نسخ وخفف الله ذلك بأربعة أشهر وعشراً فجعلها عدة الوفاة، فأبقى الأصل الذي هو حداد المرأة على زوجها، ولكنه هذبه وخففه فجعله أربعة أشهر وعشراً.(324/16)
لزوم العدة في النكاح الفاسد
قال المصنف رحمه الله: [حتى في نكاحٍ فاسدٍ فيه خلاف، وإن كان باطلاً وفاقاً لم تعتد للوفاة].
تقدم معنا النكاح الفاسد وهو الذي اختلف العلماء فيه فقال بعض العلماء: إنه فاسد، وقال بعض العلماء: إنه صحيح، ومن أمثلة ذلك: النكاح بدون ولي فإن الحنفية -رحمهم الله- يصححونه والجمهور يبطلونه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس رضي الله عنه: (لا نكاح إلا بولي) - فهذا نكاح فاسد فيه خلاف، فلو نكح نكاحاً فاسداً فيه خلافٌ لزمتِ العدة، فمن حيث الأصل الأنكحة التي فيها خلاف بين العلماء، إذا عقد شخصٌ معتمداً على القول الثاني الذي لا تراه فنكاحه صحيح، لأنه لا إنكار في المختلف فيه.
لكن لو أنك سئلت عن هذا النكاح.
يعني: طلب منك القضاء في مثل هذا العقد ورفع إليك ورضيا بك، فحينئذ تحكم ابتداءً لا استئنافاً؛ لأن الاستئناف تصحيح عقود المسلمين التي مضت على أحد قولي العلماء رحمهم الله، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في كتاب القضاء، هذا في مسائل الفروع المختلف فيها، هل من حق القاضي أن ينقض القضاء أو لا؟ والذي عليه العمل عند العلماء: أنه لا ينقض حكم غيره بناء على اجتهاد الغير إلا إذا خالف نصاً قطعياً في كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو الإجماع، أما إذا كان من المختلف فيه فلا ينقض، لكن لو ترافعا إليه قضى بما ترجح في نظره، فالقاضي يقضي بما ترجح عنده لا بما ترجح عند الخصوم، وبناء على ذلك: يحكم بفساد هذا العقد أو بصحته ولا يوجب الحد على الزوجين؛ لأن لهما شبهة شرعية، وبناء على ذلك: لو رُفع إليه هذا النوع من النكاح الذي يراه فاسداً فإنه تثبت العدة إذا حكم بفسخه.
والفائدة التي نستفيدها من هذا: أن العدة تكون في نكاح صحيح وفي نكاح فاسد، بخلاف بعض العقود الشرعية التي إذا فسدت فسدت آثارها، وبعض الأحيان يفسد العقد ويبقى الأثر، ويحكم ببعض الآثار المترتبة عليه كالعقد الصحيح، مثل مسألة: العدة، حيث تبقى كالعقد الصحيح ويثبت المهر بما استحل من فرجها، وفي بعض الأحيان يحكم بفساد العقد وما يترتب عليه من آثار، كما إذا كان حكم بأن البيع فاسدٌ للربا؛ فإنه يبطل من أصله ويرد الثمن والمثمن، ويرد الطرفان النقدين إذا تصارفا على وجه الربا، ويبطل ما ترتب على ذلك، فلو أن الذهب الذي اشتراه بصفقة ربوية أصبح يساوي أضعافه فلا يأخذ المشتري الربح؛ فهذا يفسد وتفسد آثاره، كذلك في العبادات في بعض الأحيان يفسدها الشرع ويحكم بفسادها وفساد آثارها، ولا تلزم الآثار، ولا يلزم ضمان الإخلالات، وبعض الأحيان تفسد العبادة ويلزم ضمان الأخطاء التي تقع فيها كالصحيح، ومن أمثلة ذلك مثلاً: الصلاة، فإذا حكمنا بفسادها كما لو صلى ثم تكلم كلاماً أفسد صلاته، فإن الصلاة تبطل كليةً ولا يلزمه سجود سهو إن كان قد سها قبل الإفساد، ولا يلزمه ضمان ما فيها من أخطاء.
ولو أنه حج حجاً فأفسده بجماعٍ قبل الوقوف بعرفة، فإننا نقول له: أتم هذا الحج الفاسد، ولو وقع منه أي محظور آخر لزمه ضمانه، فنحكم بفساده ولزوم الضمان كالصحيح، فيشبه الفاسد من وجه ويشبه الصحيح من وجه آخر، وهكذا -مثلاً- في العمرة، لو أنه أحرم بالعمرة وجامع زوجته قبل الطواف بالبيت أو قبل السعي بين الصفا والمروة -بين الطواف والسعي- حُكم بفساد عمرته، ثم لو أنه بعد أن جامعها تطيب أو قص أظفاره أو قلم أظفاره أو قص شعره لزمه ضمان مثل هذا بالفدية.
إذاً: هناك أشياء يحكم الشرع بفسادها وتترتب آثارٌ عليها كالصحيحة، وهناك أشياء إذا حكم بفسادها حكم بفساد ما يترتب عليها، فهنا حكمنا بفساد العقد ولكن تترتب العدة؛ لأنها لبراءة الرحم فيستوي فيه العقد الصحيح والعقد الفاسد، وحتى في الزنا -والعياذ بالله- إذا وطئت المرأة بالزنا وأرادت أن تتزوج بعد هذا الزنا فلا يجوز لها أن تتزوج حتى تستبرئ رحمها، كما سيأتينا إن شاء الله تعالى.(324/17)
عدم لزوم عدة الوفاة في النكاح الباطل
(وإن كان -النكاح- باطلاً وفاقاً) يعني: ما اتفق العلماء على إبطاله، هل تعتد فيه للوفاة؟! العدة هي في الأصل متفرعة عن حرمة الزوجية وشرعيتها، أما إذا كان النكاح باطلاً كنكاح المتعة فهو باطل بالاتفاق، فلو نكحها نكاح متعة وظنه نكاحاً شرعياً، فنقول: تلزم العدة إذا طلقها، أو فارقها، أو فسخ القاضي عقد النكاح من أجل فساد العقد، ثم بعد ذلك نقول،: لا تعتد لو توفي عنها؛ لأنه ليس هناك حرمة زوجية؛ لأن عدة الوفاة في حق الزوج وحرمة الزوجية وهي ليست قائمة في مثل هذه الحال، لكن بالنسبة للعدة من جهة الفسخ قالوا: إنها مترتبة لبراءة الرحم أو لشبهة، ولذلك في العدة -كما سيأتي معنا- أن الحكمة عقلاً: براءة الرحم ونحوها، وفيها جانب التعبد، فأنت ترى الرجل كبير السن ربما يبقى عشرات السنين في آخر عمره مع زوجته لا يطؤها ولا يأتيها، ومع ذلك إذا توفي تعتد، وإذا طلقها تعتد مع أنه لا وطء، لكن الشرع يحكم بالعدة في هذا، فهذا جانب تعبدي، مع أن التعليل المعقول هو براءة الرحم، ودل عليه قوله سبحانه: {طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، فنبه على أن العلة فيها براءة الرحم، وقال في آية العدة: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:228]، فجعل الحكمة من العدة: براءة الرحم.(324/18)
عدم لزوم العدة عند صغر الزوج أو عدم حصول الخلوة
قال رحمه الله: [ومن فارقها حياً قبل وطء وخلوة أو بعدهما أو أحدهما وهو ممن لا يولد لمثله، أو تحملت بماء الزوج، أو قبلها أو لمسها بلا خلوة فلا عدة].
قال رحمه الله: (ومن فارقها حياً قبل وطء وخلوة).
أي: إذا فارق الزوج زوجته وطلقها قبل أن يختلي بها فإنه لا عدة له عليها؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، فنص الله تبارك وتعالى على إلغاء العدة إن وقع الطلاق قبل الدخول، فبيّن المصنف رحمه الله أن هذه الحالة لا عدة فيها، وهذا محل إجماع بين أهل العلم رحمهم الله.
والخلوة فيها تفصيل بين أهل العلم رحمهم الله، لكن الجماهير على أن المراد بالخلوة: الدخول، فإذا دخل بها ووطئها؛ فإنه حينئذ تثبت له العدة وإلا فلا مانع.
(ومن فارقها حياً قبل وطء وخلوة أو بعدهما أو أحدهما).
من فارقها حياً قبل الدخول فلا عدة له عليها، أي: قبل أن يحصل الوطء وقبل أن تحصل الخلوة، وبناء على ذلك فإذا حصل الوطء أو حصلت الخلوة فإن له عليها العدة.
(وهو ممن لا يولد لمثله).
إن حصل الفراق بعدهما -بعد الخلوة والوطء- وهو ممن لا يولد لمثله فلا عدة له عليها.
(أو تحملت بماء الزوج).
قالوا: في الحالة الأولى مثل: الصغير لو أنه خلا بامرأة، أو وطء المرأة فإن هذا لا يولد لمثله، ففي هذه الحالة لا يثبت له الاعتداد في حال مفارقته لها، وكذلك أيضاً إذا تحملت بماء الزوج.
وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في المرأة إذا أدخلت مني زوجها هل في هذه الحالة تثبت العدة، أو لا تثبت؟ وجهان لأهل العلم رحمهم الله: فالشافعية يرون أنها إذا تحملت بماء الزوج تثبت العدة، والجمهور: على أنه لا تثبت العدة.
وقول الجمهور فيه إعمال للأصل، وقول الشافعية -رحمهم الله- فيه الاحتياط، وهو أشبه من جهة النظر، إلا أن الأصول ترجح مذهب الجمهور؛ لأن العبرة بالدخول والوطء الذي هو طريق العادة والغالب، والنادر لا يعلق الشرع الحكم عليه.
(أو قبلها أو لمسها بلا خلوة).
يعني: إذا حصلت منه المقدمات من تقبيل أو لمس.
فلو أن رجلاً عقد على امرأة فلمسها، أو قبلها ثم طلقها بعد ذلك؛ فإنه لا عدة له عليها، لأن اللمس لا يعتبر دخولاً، ولا يعتبر جماعاً، والله تبارك وتعالى اشترط للعدة وجود الجماع، وبناءً على ذلك: إن حصل منه طلاق بعد تقبيل أو لمس، فإن العدة لا تثبت بمثل هذا.(324/19)
الأسئلة(324/20)
العدة من النكاح الباطل
السؤال
من نكح أخته من الرضاع ثم فرق بينهما فهل يجب عليها العدة؟
الجواب
بسم الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد: فهذا السؤال فيه حكم وفيه تنبيه، أما من جهة التنبيه: فينبغي لأهل الرضيع والمرضعة أن يعلموا وأن يحتاطوا في هذا الرضاع على وجه لا يحصل فيه الخلل بهذه الصورة الشنيعة، لدرجة أن الرجل يتزوج أخته من الرضاع ولا يجد المرضعة تنبهه ولا أختها ولا أقرباءها، وهذا سببه الإهمال وعدم التنبيه على الرضاعة، فأمر الرضاعة أمر عظيم تترتب عليه أحكام شرعية، فيجب على المرأة المرضعة أن تحتاط، وعلى أهل الرضيع أن يحتاطوا وأن يتقوا الله عز وجل؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فواجب علينا أن نمتثل شرع الله عز وجل، وأن نحفظ هذه الأنفس من الوقوع في الخطأ، فإذا كان هذا لازماً فإنه يلزم أن يحتاط بالإعلام والإخبار، حتى لا يطأ الرجل أخته من الرضاع أو عمته من الرضاع أو خالته من الرضاع.
ثانياً: إذا تحقق أن الرضاع مؤثر وأنه بلغ العدد المعتبر شرعاً وهو خمس رضعات معلومات، لقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن: بخمس معلومات وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن)، فأثبتت الخمس رضعات.
فإذا ثبت الرضاع على وجهٍ معتد به شرعاً فإنه يفرق بينهما، أما لو لم يثبت الرضاع وفيه شبهة كأن يأتي الإخبار من عدو أو ممن يكذب، أو تكون المرأة التي ادعت الإرضاع معروفة بالكذب وبإفساد البيوت، واحتفت قرائن تدل على بعد هذا الشيء فلا إشكال؛ لأن الأصل صحة العقد حتى يدل الدليل على بطلانه.
إذاً: لابد من أمور: أولاً: صيانة الرضيع ومن ارتضع معها.
ثانياً: لا بد من التحقق من أن الرضاع مؤثر.
ثالثاً: أن يفرق بينهما إذا ثبت الرضاع على الوجه المعتبر شرعاً.
رابعاً: أنه تعتد استبراء لرحمها كما سيأتي -إن شاء الله- بيان حد ما يجب أن تستبرئ به من الحيض، والله تعالى أعلم.(324/21)
كيفية مسح النساء على الرأس للوضوء
السؤال
بعض نساء تجمع شعر رأسها إلى الخلف وتلفه، فهل يجب عليها عند الوضوء حل الشعر الملفوف أم يجزئها المسح عليه؟
الجواب
هذه المسألة فيها جانب يتعلق بالعبادة، وجانب يتعلق بغير العبادة، أما جانب المسح على الرأس: فالأصل أنها تمسح الشعر الذي يحاذي محل الفرض؛ لأن الله فرض على المرأة أن تمسح رأسها كاملاً والرأس من الناصية في مقدمه إلى منابت الشعر في القفا عند حدوده قبل القذال قبل الرقبة، فهذا القدر من جهة الطول، أما من جهة العرض، فمن عظم الصدغ إلى عظم الصدغ، فهذا القدر هو الذي يجب مسحه، والأذنان من الرأس، لقول عليه الصلاة والسلام: (الأُذنان من الرأس) فلو مسحت من رأسها هذا القدر فلا يجب عليها مسح ما استرسل من الشعر؛ لأن العبرة بمحل الفرض وما حاذاه، والصحيح: أنه يجب مسح جميع الرأس ولا يجب مسح بعضه كما يقول الشافعية والحنفية -رحمهم الله- والمالكية في رواية الثلث، فيجب عليها أن تمسح جميع رأسها بكفيها، وتأخذ بالسنة بالإقبال والإدبار على أحد الوجهين عند أحد العلماء، لحديث عبد الله بن زيد ومعوذ بن عفراء رضي الله عنهما.
فإذا مسحت الفرض وما يحاذيه أجزأ، ولذلك قالت أم سلمة رضي الله عنها كما في الصحيحين: (يا رسول الله! إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي، أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدك فإذا أنت قد طهرت) فهي تقول: (إني امرأةٌ أشد ظفر شعر رأسي) تظفر شعر رأسها وسألت عن الظفائر هل تنقضها أو لا؟ قال: (لا، إنما يكفيك) يعني: يجزئك (أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) فدل على أن العبرة بأصل الرأس؛ لأنه من الترؤس والارتفاع، ومحل الفرض هو العبرة، فإذا حثت الماء ثلاث حثيات وروت أصول الشعر فقد غسلت الموضع المأمور بغسله وهو أعلى الرأس، والشعر الزائد على ذلك ليس بمحل للفرض ولا بمحاذ لمحل الفرض ولذلك سقط عنها حل الظفائر، ويستوي في ذلك غسل الجنابة وغسل الحيض على أصح قولي العلماء كما تقدم معنا في أحكام غسل الجنابة.
المسألة الثانية: جمع الشعر إذا كانت داخل البيت مع زوجها وبين أولادها جائز، لكن إذا خرجت في الخارج وجمعت شعر رأسها في أعلى الرأس حتى يكون كالسنام، فهذا فيه وعيد شديد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) -نسأل الله السلامة والعافية- فأحد الأوجه عند العلماء: هو جمع الشعر في أعلى الرأس، فتجعل الشعر مجموعاً في أعلى رأسها، والأصل أنها تحل ضفائر شعرها وترسلها، وهذا هو الأكمل والأبعد عن لفت النظر والإغراء بنظر الغير إليها، والله تعالى أعلم.(324/22)
حكم صلاة المرأة على الميت في بيته
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تصلي على الميت في بيته قبل أن يصلى عليه ويدفن؟
الجواب
هذا الأمر لا أعرف له أصلاً، لكن من ناحية العموم فإنه يصلى على كل ميت، ولكن كونه لم يفعله السلف الصالح رحمهم الله، ولا ثبت أن الزوجات والنساء يجتمعن يصلين صلاة خاصة، وإنما كان يشهد ذلك في مشاهد المسلمين عامة وتصلي المرأة عموماً مع الرجال، ولذلك صلت أمهات المؤمنين مع عموم الصحابة رضوان الله عليهم، وعائشة رضي الله عنها سئلت: هل تدخل المسجد للصلاة على الميت كي تصلي مع الناس؟ ولم تأمر أن تخصص، ولو كان هذا مشروعاً لكان أمهات المؤمنين صلين على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه، فهذا الشيء لا أعرف له أصلاً من حيث فعل السلف رحمهم الله، والأشبه: أن المرأة لا تصلي عليه صلاةً مستقلة، خاصة وأن المرأة لا تخرج من بيتها وأنها ملزمة بعدة الوفاة، ومعلوم أن المرأة لا تخرج من بيتها في عدة الوفاة بأصل شرعي، لتظافر النقل أن كل زوجة تصلي على زوجها قبل خروجه، فهذا يدل على أنه مقتصر في الصلاة على الصلاة الشرعية، ولا شك أنها تقتصر على الدعاء له والاستغفار والترحم عليه، وجوز بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- خروجها للصلاة على زوجها؛ لأنه يراه من الحاجة، ولا يرى في ذلك بأساً، والله تعالى أعلم.(324/23)
حكم الصلاة عن شمال الإمام إذا ضاق المكان في المصلى
السؤال
ما حكم الصلاة في الجانب الأيسر من الإمام إذا ضاق المكان في المصلى؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: قال بعض العلماء: من صلى عن يسار الإمام بطلت صلاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف ابن عباس عن يساره كما في الصحيحين، (قال: فأخذني وأدارني عن يمينه) قالوا: فكونه عليه الصلاة والسلام يأخذ ابن عباس ويديره عن يمينه وهي حركه داخل الصلاة لا تستباح إلا من أجل صحة الصلاة، فلو كانت الصلاة صحيحة لما تكلف هذه الحركة، ورد الآخرون وقالوا: هذا الحديث حجة على صحة الصلاة؛ لأن ابن عباس كبر تكبيرة الإحرام وهي ركن الصلاة ووقعت عن يسار الإمام، فلو كانت الصلاة باطلة لنبهه النبي صلى الله عليه وسلم على قطع صلاته واستئنافها، ولكن كونه عليه الصلاة والسلام لم يأمره بذلك دل على أن صلاته صحيحة، فرد الأولون وقالوا: هذا العذر للتكليف؛ لأنه زمان التشريع، وفعل ابن عباس على البراءة الأصلية فصحت صلاته بالبراءة الأصلية، فقالوا لهم: إذا صححتموها لعذر فإنها تصح عند وجود الحاجة والعذر؛ لأنه لا يصلي أحد عن يسار الإمام إلا عند وجود الحاجة والعذر، فالسؤال الذي ورد أنه إذا ضاق المكان ولم يجد مكاناً فصف عن يسار الإمام، فالذي يظهر -والله أعلم- صحة الصلاة، لكنني أنبه على أنه ينبغي على المسلم التقي الورع أن لا يدخل في الإشكالات، فالصلاة أمرها عظيم، فهذه المواقف المشتبه فيها والتي فيها خلاف يخرج الإنسان من الشبهة ويصلي في آخر المسجد، ولذلك لا داعي أن يحرج نفسه، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نترك ما فيه ريبة، وأن نفعل ما لا ريبة فيه، فيرجع المسلم ويتقي ربه ويصلي وراء الإمام، لكن إذا ضاق المكان فلا بأس أن يصلى عن يساره، والله تعالى أعلم.(324/24)
حكم زيادة (وبحمده) في تسبيح السجود
السؤال
قول المصلي في سجوده: سبحان ربي الأعلى وبحمده، زيادة (وبحمده) هل هي صحيحة؟
الجواب
لا أحفظ -الحقيقة- بالنسبة للسجود، إلا عموم قول عائشة في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]،كان يقول سبحانك اللهم وبحمدك ربي اغفر لي) وهذا أصل عام يدل على مشروعية الدعاء به، ولا أعرف أحداً من العلماء منع من هذه الزيادة في السجود، ولا أعرف أحداً من العلماء بدع هذه الزيادة؛ لأن التعظيم والتمجيد لله عز وجل في السجود مشروع، والأفضل والأكمل فيه أن يكون بالوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، فلما نزلت قال صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في سجودكم) فالتسبيح يكون باسم الله عز وجل الأعلى، بعض العلماء يقول: هو قوله: (سبحان ربي الأعلى) والبعض قالوا: إنه مطلق التسبيح، ولذلك إذا سبح بمطلق التسبيح سقط عنه الواجب، والله تعالى أعلم.(324/25)
حكم الزيادة على الشاتين في العقيقة للمولود الذكر
السؤال
هل الزيادة على شاتين في العقيقة للولد وشاة للبنت مخالف للسنة؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: من زادها يعتقد شرعيتها فقد ابتدع، ومن زادها صلة للرحم وإكراماً للضيف، وإحساناً للإخوان فهو مأجور غير موزور.
مثلاً: جاء في العقيقة عدد كبير جداً فذبح الشاتين ثم ذبح شاتين أخريين فلا بأس وهو مأجور، وهذا من إكرام الضيف ومن محاسن الأعمال التي يحبها الله عز وجل ويرضاها، وهكذا لو أنه دعى الناس إلى عقيقة فذبح الشاتين ثم ذبح جزوراً؛ لأن ضيفه كثير فلا بأس بذلك ولا يعتقد أن الجزور تابع للعقيقة، إنما يقصد به الوفاء والإكرام لضيفه وإخوانه وصلة رحمه، فهو مأجور على ذلك، والله تعالى أعلم.(324/26)
حكم تزويج الولي موليته رجلاً وهي في عصمة آخر
السؤال
رجل خطب امرأة وعقد عليها دون أن يدخل بها، ثم قام والدها بتزويجها لآخر دون أن يطلقها الأول، فهل نكاح الثاني يعتبر باطلاً أم يفتقر أيضاً إلى طلاق؟
الجواب
العقد الأول إذا توفرت فيه الشروط المعتبرة في صحته بأن عقد عليها عقداً صحيحاً فالزوجة زوجته، والزوج الثاني لاغٍ نكاحه ولا صحة لعقده؛ لأن المحصنة المعقود عليها لا يصح أن يتزوجها شخصٌ ما دامت في عصمة الأول، فالنكاح الثاني باطل ولا يمكن أن يصحح حتى يفارق الأول، وهذه امرأة منكوحة ولا تحل للزوج الثاني، والنكاح الثاني فاسد، وعلى ولي المرأة هذا أن يتقي الله، فإن كان الأب هو الذي زوج فإن القاضي يعزره تعزيراً بليغاً، وإذا كان الزوج الثاني عقد على المرأة ودخل بها وهو يعلم أنها في عصمة الأول وأن الأول لم يطلقها فإنه زانٍ، وإذا كان محصناً فإنه يرجم من ناحية الحكم الشرعي؛ لأنها لا تحل له إلا إذا طلقها الأول وخرجت من عصمته، وبناء على ذلك فلا يجوز التلاعب في حدود الله عز وجل، وهذا الأب ظالم معتدٍ على حدود الله، وهذا لا شك من الاعتداء والانتهاك لحرمات الله عز وجل ويفضي إلى الزنا الذي حرمه الله عز وجل، فإذا علم أنها لا تحل للثاني وتلاعب بهذا، فإنه يعزر تعزيراً بليغاً ويزجر، وبعض العلماء يسقط ولاية هذا الأب في النكاح، أي: لا يجعل له ولاية على هذه المرأة؛ لأنه بهذا الفعل فسق في النكاح نفسه، وعند طائفة من العلماء أن الأب أو الولي -ولي النكاح- إذا كان فسقه في نفس النكاح -يتلاعب بشروطه- فإنه لا تثبت له ولاية، وتنتقل إلى أقرب قريب من بعده من العصبة، وإذا كان أخوها موجوداً تنتقل الولاية إليه وتسقط ولاية الأب إذا أقر واعترف أنه يزوجها من أزواجٍ عديدين، أو من أكثر من زوج، وبناء على ذلك ينبغي رفع هذا الأمر إلى القضاء للفصل فيه، والله تعالى أعلم.(324/27)
حكم قول: (رب اغفر لي ولوالدي) في الجلوس بين السجدتين
السؤال
ما حكم قول: (ربي اغفر لي ولوالدي) في الجلسة بين السجدتين؟
الجواب
ما أحسنه وأجمله وأعظمه براً للوالدين وإحساناً لهما، والأئمة والعلماء نصوا وذكروا أنه مما يستحب للابن: أن يدعو لوالديه في صلاته، وإن تعذر في حق النبي صلى الله عليه وسلم لمعنىً؛ لأنه منع من الاستغفار لوالديه فلا تمتنع سائر الأمة من ذلك، والإنسان مأمور أن يشرك والديه في الاستغفار، وأما تبديع من قال بين السجدتين: ربي اغفر لي ولوالدي، فإني لم أجد أحداً من أهل العلم مع التتبع والتقصي نص على هذا التبديع أبداً، والله عز وجل أمر بالدعاء للوالدين، لكن إذا ألزم وقال: يجب أن يدعو لوالديه، نقول: هذا ليس له أصل، أما التبديع لمُطْلَق الدعاء للوالدين فإنني لا أعرف أحداً من أهل العلم يقول هذا، وقد كان الأئمة -رحمهم الله- من السلف يقولون في قوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19] يؤخذ من هذه الآية: الاستحباب للولد أن يشرك والديه بالدعاءفي صلاته، وأن هذا من أعظم البر؛ لأن الله تعالى أمر بالاستغفار والترحم على الوالدين، وجعل هذا من البر حتى بعد وفاتهما كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما) ولا شك أن الصلاة التي هي الدعاء عليهما والاستغفار للوالدين أرجى ما تكون إذا كانت في الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي الدعاء أسمع، قال: أدبار الصلوات المكتوبات) فجعل الصلاة محلاً لاستجابة الدعاء، فإذا دعا لوالديه بين السجدتين، أو في السجود، أو في التشهد، امتثالاً لأمر الله عز وجل ببرهما والإحسان إليهما فقد أحسن، وأسأل الله العظيم أن يعظم أجره ومثوبته إذ لم ينس والديه في هذه المواطن الشريفة التي ترجى فيها الإجابة، وأما إذا اعتقد وجوب هذه اللفظة ولزومها بين السجدتين فهذا ليس له أصل، والإلزام بدعاء مخصوص في موضع مخصوص خاصة في العبادات يفتقر إلى دليل ونص، أما إذا كان مندرجاً تحت أصلٍ عام فلا غبار عليه، وأما أنه امتنع في حقه عليه الصلاة والسلام فلا يمتنع في حق غيره، وقد دلت النصوص على الحث عليه والأمر به، فلا مانع أن يكون بين السجدتين، أو يكون في السجود، أو يكون في الدعاء بعد التشهد، والله تعالى أعلم.(324/28)
حكم إلقاء الكلمات بعد خطبة الجمعة
السؤال
يقوم بعض الناس يوم الجمعة بعد إلقاء الخطبة وأداء الصلاة بالتعليق على موضوع الخطبة أو ينبه على مسألة ما، فما حكم هذا الفعل؟
الجواب
الحقيقة أن هذا الأمر يحتاج إلى تفصيل في بعض الأحيان، فقد يحتاج إلى تعليق على الخطبة إذا كان أمراً لازماً كخطأ في حكم شرعي أو في مسألة اعتقادية فلابد من التنبيه عليها، أو أن خطيباً أخطأ الجادة فأحل حراماً وحرم حلالاً -وإن شاء الله الخطباء أبعد عن هذا، لكن على فرض أنه قد يوجد شيء من هذا- فلابد أن يقوم الإنسان، لأنه إذا لم يتدارك بعد الخطبة، فأين يتداركهم؟!! وهؤلاء ينبغي إعلامهم أن هذا الأمر ليس من شرع الله عز وجل، لكن ينبغي أن يكون الأمر أمراً متفقاً بين العلماء على خطئه، أما لو كان أمراً خلافياً والخطيب يرى فيه قولاً لعلماء وأئمة، فلا يأتي واحد بعد أن ينتهي يعقب عليه أو يكتب ويقول: لي عليك ملاحظة، فهذا أمر مخالف لمنهج السلف الصالح رحمهم الله، خاصة الأئمة والعلماء، فإذا خطبوا أو بينوا أمراً، أو دليلاً أو صححوا ما ضعف الغير، أو ضعفوا ما صححه الغير، وقالوا بما ترجح عندهم، فهم ومن تبعهم يتقربون إلى الله بهذا، فلا يأتي أحد يشوش عليهم؛ لأنك إذا فعلت ذلك ساغ للغير أن يأتي لشيخك ويخطئه كما خطأت أنت شيخه، ويفتح على الناس بلاء عظيم، وقد نبه العلماء على هذه المسألة في مسألة: العذر بالخلاف ومراعاة آداب الخلاف، فتكلموا عليها في كتب الأصول، وكان أئمة العلم ودواوينه يسيرون على هذا.
إذاً: التعقيب على الخطيب لا يكون إلا عند الضرورة؛ لأنه سيؤثر في نفسية الخطيب، ويؤثر في نفسية الناس، وينزع ثقة الناس به، خاصة إذا كانت المسائل مختلف فيها، وخاصةً إذا كان الذي يعقب صفيق الوجه سليط اللسان لا يتقي الله عز وجل، ولا يراعي الحرمة، ونقول هذا؛ لأنه في هذا الزمان كثرت الجرأة على أهل العلم، وهذا ليس بغريب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) ولكن لا شك أن الله سبحانه وتعالى يعلي قدر الإنسان ويعظم أجره، ودواوين العلم كلهم ابتلوا بهذا، وما سلم أحد من أئمة العلم من هذا البلاء، لكن إذا وجدت الضرورة ووجدت الحاجة كالرد على شخص يدعو الناس إلى بدعة متفق على التبديع فيها، أو يدعوهم إلى تحليل حرام وتحريم حلال أحله الله عز وجل، أو إذا قام الناس من المسجد ولا يمكن أن تجمعهم فقمت وحمدت الله وتكلمت وبينت، أو إذا كان الخطيب عنده استعداد أن تنبه وتنصح حيث تأتي وتنبه الناس وتنصحهم، أو تنصحه بينك وبينه، والإنسان الذي عنده استعداد أن يصحح خطأه، يستر ما أمكن، وإذا جئته بالملاحظة وكانت صحيحة ومتفقاً على الخطأ الذي وقع فيها قبلها منك فهذا تنصحه فيما بينك وبينه، وهو يتولى نصح الناس؛ لأن نزع ثقة الناس فيه والكلام في العلماء والأئمة -خاصة ممن لهم قدم صدق في نصح الناس وتوجيههم- مفسدة أعظم، وخاصة عند العوام فإن ثقتهم تنزع منه وتحدث بلبلة وتشويش، فهذه أمور ينبغي أن تضبط بضوابط شرعية وعلى كل من يريد أن يقوم بهذا الأمر أن يرجع إلى أهل العلم، والأشبه والأولى في مثل هذه المسائل أن يفتي في كل مسألة بحدودها حتى يكون أضبط وأرعى للحقوق الشرعية؛ لأن هذا أمر فيه حقوق منها: أولاً: حق المتكلم؛ لأن الواجب على الناس عموماً عالمهم وجاهلهم أن يكرموا كل من يدعو إلى الله عز وجل؛ لأن الله أكرمه وشهد من فوق سبع سموات أنه لا أحسن قولاً ممن يدعو إليه سبحانه وتعالى، والخطيب داعية إلى الله، وليعلم كل مسلم أن لهؤلاء الذين تصدروا لتوجيه الناس في المساجد من الخطباء والأئمة -جزاهم الله خيراً- والدعاة المخلصين، أن لهم حقاً عظيماً على المسلمين، وأنهم على ثغر من ثغور الإسلام، وأن هؤلاء عن طريقهم يرغب في الدين، وعن طريقهم يحبب في الطاعات، وعن طريقهم بإذن الله عز وجل ينفر الناس من معصية الله وانتهاك حدوده عز وجل، فإذا أصيبت الأمة في أمثال هؤلاء فإنه مقتلٌ عظيم، فالواجب علينا أن نعلم أن كل مسلم مطالب بتهيئة الأسباب للمطالبة بهذا الحق، وتجد السلف الصالح -رحمهم الله- حفظوا لأئمتهم ولعلمائهم ودواوين العلم حقوقهم ولم يرضوا لأحد أن يثلبهم أو ينتقصهم أو يجرحهم لما في ذلك من التوهين في الدين، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الإساءة للقاضي في مجلس القضاء أو الكلام فيه أو في علمه لا يسقط فيه الحق ولو سامح القاضي.
ومن جفا القاضيَ فالتأديبُ أولى وذا لشاهدٍ مطلوبُ قالوا: لأن القاضي إذا سامح عن نفسه بقي حق الشرع، والداعية إذا تُكلم فيه وقال: سامحتك، بقي حق الدعوة؛ لأنه كم من أناس نفروا من هذا الداعية ونفروا من هذا الخطيب وقام وراءه في الخطبة وتكلم فيه أو جرحه أو تطاول في عرضه -نسأل الله السلامة والعافية- إذاً: هناك ضوابط لمن أراد أن يقوم يتكلم، ما الكلام الذي يقوله؟ وما الذي ينبغي عليه مراعاته؟ ولذلك نقول: كل مسألة ينبغي أن تحد بنازلتها وأن يفتى فيها بأمرها؛ لأن الأمر يحتاج إلى انضباط، فإذا أراد أن يتكلم، وتكلم في حق هذا العالم أو الخطيب أو الداعية أو الناصح وأساء إليه أو انتهك حرمته، فإنه في هذه الحالة لو سامح الخطيب والداعية عن نفسه بقيَ حق الشرع، فإن هذا الشخص تسمى باسم الدعوة، ولذلك لو أن حارساً يحرس عمارتك أو بيتك فجاء شخص فضربه وهو يحرس عمارتك لاعتبرت ذلك إساءة إليك كما هو إساءة إليه، ولله المثل الأعلى، فكيف بمن قام على حدود الله أن تنتهك؟ ومحارم الله أن تعتدى؟ وذكر بالله ووعظ بالله، أترى ربك لا يفي بعهده ووعده؟ ولذلك قل أن تجد أحداً تصدر لأهل العلم وأهل الفضل إلا وجدت دلائل عقوبة الله عز وجل -خاصةً إذا استطال في أعراضهم- العاجلة والآجلة، ومن شاء صدق ومن شاء كذّب، فالله عز وجل بالمرصاد وهو عزيز ذو انتقام، فهذا الأمر نضيق فيه ونشدد؛ لأننا نعلم أن هذه الأمة قامت على التربية والأدب، وما استقام أمرها إلا بالأدب، وهذا عمر بن الخطاب مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند أبي بكر دليل وعنده دليل ويقول رضي الله عنه: كيف تقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) ومع ذلك يصر أبو بكر ويقول: إنها لقرينتها بكتاب الله، ولأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة -هذا له دليل وهذا له دليل- ويقول عمر: (فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر.
وهذا كله على الأدب، قال: فعلمت أنه الحق) وما ذكر حجة ودليل، قال: رأيت الله شرح صدر أبي بكر.
يعني: هو أعلم منه، والله عز وجل وفقه فرضي بعلمه وفضله، ولذلك كنا مع العلماء وكنا مع المشايخ نجلس في مجالسهم ونسمع من كلامهم، وفي بعض الأحيان ربما تعرضوا للمسألة بدليل واحد وفيها عشرات الأدلة، فيأتي الشيطان ويحاول أن ينتقص العالم وهذا طبيعي جداً؛ كذلك الإمام لو صلى ونسي أو أخطأ في القراءة وله قدم راسخة -فهذا لحكمة من الله عز وجل- هل إذا صلى الإمام ونسي آيةً في قصار السور وهو من حفاظ القراءات يُطعن فيه أو يُنقص من قدره؟ كلا والله، فهذه حكم من الله عز وجل أنه ربما تحصل الزلة ويحصل الشيء اليسير فيدخل الشيطان، فعلى الإنسان أن يحفظ قلبه من انتقاص أمثال هؤلاء سراً وجهراً، ونشدد في هذا؛ لأننا وجدنا الأمة قامت واستقامت أمورها على الأدب، ووالله ثم والله إننا سنلقى الله يوم نلقاه وقد ربينا الناس على حمل حرمات العلماء ولا نربيهم على جرحهم وانتهاك حرماتهم وثلبهم والتشهير بهم، فهذا أمر ينبغي أن يوضع في نصابه، يرضى من يرضى، ويسخط من يسخط؛ لأن علينا أن نرضي الله عز وجل، فالواجب على العلماء والخطباء وطلاب العلم حتى بعضهم مع بعض أن يربي بعضهم بعضاً على تعظيم حرمة المسلم فضلاً عن الداعية إلى الله، فما قامت أمور هذه الأمة إلا بحفظ هذه الحقوق ورعايتها وصيانتها، والخوف من الله سبحانه وتعالى في ذلك، نسأل من الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.(324/29)
شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [2]
المعتدات على أنواع، فإما أن يكون التقسيم بحسب سبب العدة، أو بحسب حال المعتدة نفسها، ومن الأنواع المترتبة تقسيمها على حال المعتدة: الحامل، وعدتها تكون مدة حملها، فإذا وضعت حملها انتهت عدتها على تفاصيل في أحكامها.(325/1)
عدة الحامل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: والمعتدات ست].
قوله رحمه الله تعالى: (والمعتدات ست) إجمال قبل البيان، جمع رحمه الله أصناف المعتدات، فالنساء اللاتي تثبت العدة في حقهن ستة أنواع، وقد بينا غير مرة أن من عادة العلماء رحمهم الله أنهم يجملون الأحكام ثم يفصلونها، وبينا محاسن هذا وأنه مقتبس من هدي الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [الحامل: وعدتها من موت وغيره إلى وضع كل الحمل].
النوع الأول من المعتدات: الحامل، فإذا كانت المرأة حاملاً؛ فإن عدتها أن تضع حملها كاملاً، وينفصل عنها؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فبين سبحانه وتعالى أن عدة المرأة الحامل أن تضع الحمل.
والحمل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أ، تلقيه المرأة وتخرجه، ولا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تلقيه وقد اكتمل وتم، والحالة الثانية: أن تلقيه قبل التمام والاكتمال، فإذا أخرجت المرأة حملها ونفست، وانفصل الولد عنها؛ فإنه يحكم بخروجها من عدتها، ولا يشترط انقطاع الدم عنها، فالعبرة بوضع الحمل؛ لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4].
وأما الحالة الثانية: وهي أن تلقي الحمل قبل تمام المدة فلا يخلو إلقاؤها إما أن يكون بعد تخلق الجنين، وإما أن يكون قبل تخلق الجنين، فإن ألقته قبل تخلق الجنين فإنها لا تخرج من عدتها، وأما إذا ألقته بعد التخلق وفيه صورة الآدمي أو الخلقة أو بعد نفخ الروح فيه فإنه يحكم بخروجها من عدتها.
قال رحمه الله: [بما تصير به الأمة أم ولد].
تصير أم ولد إذا ألقت ما فيه صورة الآدمي، وهذه المسألة: إذا ألقت المرأة وأسقطت، تتفرع عليها أحكام في العبادات والمعاملات، فإذا ألقت المرأة ما في بطنها قبل تمامه واكتماله نظرنا فيه، فإن كانت فيه صورة الآدمي وصورة الخلقة فهذا يؤثر في العبادات والمعاملات، ففي العبادات: الدم يعتبر دم نفاس إن جرى منها قبل إلقائه، وفي المعاملات: يحكم بأنها قد خرجت من عدتها، وأما إذا كان الذي ألقته ليس فيه صورة خلقة الآدمي فإنه في هذه الحالة لا يكون الدم دم نفاس، وإنما هو دم استحاضة، فيكون نزيفاً تغسله ثم تتوضأ وتصلي، ولا يمنع صوماً ولا صلاة، وتعتبر في حكم الطاهرات.
إذاً: الإسلاب والإسقاط ينظر به إلى الشيء الذي أسلبته وأسقطته؛ فإن حصلت فيه صورة التخلق وصورة الآدمي ولو كانت ناقصة فإنه تثبت فيه الأحكام في العبادات والمعاملات، وإن كانت ليست موجودة فيه صورة الآدمي فلا تثبت فيه لا العبادات ولا المعاملات، وهذا هو ما عبر به: أن تصير الأمة أم ولد، وحينئذٍ تعتق على سيدها بعد موته.(325/2)
عدم اعتبار وضع الحمل في العدة إذا كان الزوج لا يولد لمثله
قال رحمه الله: [فإن لم يلحقه لصغره أو لكونه ممسوحاً، أو ولدته لدون ستة أشهر منذ نكحها ونحوه وعاش لم تنقض به].
إذا طلق الزوج امرأته وكانت حاملاً فإما أن يكون ممن يولد لمثله، وإما أن يكون ممن لا يولد لمثله، فإن كان ممن يولد لمثله فالولد للفراش؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل من طلق امرأته بعد الدخول وهي حامل نقول لها: عدتك وضع الحمل، وأما إذا كان قد طلقها وتبين فيها الحمل وهو ممن لا يولد لمثله ويتعذر منه الحمل مثل: الصغير ومثل: ممسوح الآلة الذي ليس لديه عضو، فحينئذٍ يحكم بعدم الاعتداد بهذا الحمل.
(لم تنقض به) يعني: لو حملت ووضعت فالحمل ليس منه، وحينئذٍ لا تعتد بهذا الحمل، وبعد انتهاء حملها تعتد كعادتها من الأقراء، لأن هذا الحمل فيه شبهة الزنا بأن يكون من غيره كما لو اعتدي عليها فأكرهت على الزنا والعياذ بالله، أو وطئها أحد وهي نائمة، ففي هذه الحالة لا يحكم بكون الحمل مؤثراً في العدة.
ومراد المصنف أن يقول: الأصل أن الحامل تخرج من عدتها بوضع الحمل، لكن يشترط أن يكون الحمل للرجل الذي تعتد من طلاقه، فإذا كان الحمل من غيره فلا.
كيف يكون الحمل من غيره؟ إذا تبينا أن مثله لا يحمّل كالصبي، ومثل من كان ممسوح الآلة، فإنه في مثل هذا الحالة تبقى حتى تضع حملها ثم تستأنف عدتها من طلاقها.
(أو ولدت لدون ستة أشهر منذ نكحها).
بينا أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في أقل مدة الحمل، فإذا كان الذي دلت عليه النصوص أنه لا يمكن أن يكون الحمل قبل ستة أشهر؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، فبين أن مدة الحمل ومدة الرضاع هي ثلاثون شهر، والثلاثون شهراً إذا فصلت منها مدة الرضاع بقيت مدة الحمل، ومدة الرضاع أربع وعشرون شهراً أي: سنتان؛ لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] فبقيت من الثلاثين ستة أشهر، فأصبحت الستة أشهر هي أقل مدة الحمل، فإذا وضعت الولد في أقل منها حينئذٍ لا ينسب له، ولا يعتد بهذا الحمل في خروج المرأة من عدتها إذا أخرجته.(325/3)
أكثر مدة الحمل
قال رحمه الله: [وأكثر مدة الحمل أربع سنين].
قيل: أكثر ما وجد في حمل المرأة أنها تستمر إلى أربع سنوات، وذكر عن بعض أئمة السلف أنه مكث في بطن أمه أربع سنين، وهذا هو الغالب الموجود، وهو أكثر ما وجده العلماء وتكرر حتى قال بعض أهل العلم رحمهم الله: لا يعرف بأكثر من أربع سنين، وبناءً على ذلك: فلو كانت المرأة في عصمة الرجل وتأخر حملها إلى أربع سنين، فإنه يحكم ببقائها في عدتها حتى تضع هذا الحمل.(325/4)
أقل مدة الحمل
قال رحمه الله: [وأقلها ستة أشهر].
وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما ذكرنا من دلالة الآيتين الكريمتين، حيث بين الله تعالى أن مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً، وأن مدة الرضاع سنتان: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] فبقيت ستة أشهر، وهذا قضاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اعتبروا أن أقل المدة ستة أشهر.(325/5)
غالب مدة الحمل
قال رحمه الله: [وغالبها تسعة أشهر].
الغالب أن المرأة تضع حملها في مدة تسعة أشهر، تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً، وعلى كل حال: ففائدة معرفة أقل الحمل وأقصى مدة الحمل تكون من جهة النسبة وترتب الأحكام، فإذا وضعته قبل أقل مدة الحمل فالحمل ليس له، فإذا كان العقد في بداية محرم اعتبرنا منها أقل مدة الحمل، فلو لم تتم مدة الحمل فيما بعد محرم، كأن تضعه في خمسة أشهر بعد محرم فإننا لا نحكم بكونه ولده، وتكون قد حملت به قبل العقد، وحصل وطء من غيره فلا ينسب إليه، وهكذا لو أنها وضعت فوق أربع سنين، فإنه لا ينسب إليه، ولا تترتب عليه الأحكام من حيث العدة، فتخرج من عدتها إذا ثبت نسبة الحمل إليه، ولا يحكم بخروجها من العدة إذا ثبتت نسبة الحمل إلى غيره أو تعذرت نسبته إليه.(325/6)
حكم إسقاط النطفة والعلقة والمضغة والأجنة
قال رحمه الله: [ويباح إلقاء النطفة قبل أربعين يوماً بدواء مباح].
(ويباح إلقاء النطفة) هذه المسألة وهي مسألة: إسقاط ما في البطن من النطفة والعلقة والمضغة والأجنة.
وهذا الإسقاط والإجهاض للأجنة فيه تفصيل: وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز أن تجهض وتسقط الأجنة بعد نفخ الروح، وأنه إذا نفخت الروح في الجنين وأسقطت المرأة ذلك الجنين فإنها تعتبر قاتلة، وهكذا إذا أعانها الطبيب فأعطاها دواءً أو علاجاً للإسقاط، وهكذا لو أعانت المرأة أو الرجل من النساء على الإسقاط بترويع أو تخويف أو حمل ثقيل ونحو ذلك.
فإذ نفخ الروح فلا يجوز إسقاط الأجنة؛ لأنها أنفس محترمة، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.
أما قبل نفخ الروح ففيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والذي دل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فيؤمر فينفخ الروح فيه) فدل هذا الحديث على أن نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً.
ومن هنا اختلف فيما قبل نفخ الروح، هل يجوز أو لا يجوز؟ فمن أهل العلم رحمهم الله من حرم ذلك ومنعه وقال: إنه لا يجوز، ومن أهل العلم من رخص فيه وجوز، وكلا القولين موجود في المذاهب الأربعة، إلا أن الذين شددوا من الحنفية والمالكية رحمهم الله وبعض أصحاب الإمام أحمد، والشافعية استدلوا بأدلة صحيحة قوية، فإن الأصل في الأجساد والأرواح أنه لا يجوز الإقدام على العبث بها أو تعريضها للتلف أو تغيير الخلقة، وهذا أصل دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فإن الله لما ذكر قبائح الشيطان ذكر منها: تغيير الخلقة: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] فأخبر الله تبارك وتعالى أن مما يسوله الشيطان لعصاة بني آدم العبث في خلقته، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدمت الإشارة إليه أن ما قبل نفخ الروح من الخلقة، ولذا قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفه، ثم يكون علقة مثل ذلك) ولذا قال: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون:14] فدل على أنها من الخلقة، ونص السنة يدل أيضاً على أنه لا يجوز العبث في الخلقة، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لعن الواشرة والمستوشرة، والواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة قال: (المغيرات خلق الله) فجعل العلة في اللعن -والعياذ بالله- إقدامهن على تغيير خلق الله عز وجل، وثبت في الحديث الصحيح من كلامه عليه الصلاة والسلام بنص الكتاب والسنة على أن مراحل التخلق هي كما في قوله الله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون:14] فهذا يدل على أنها مخلوقة، وأنها من خلق الله سبحانه وتعالى؛ لأنه نسب الخلقة إليه، فالإقدام على إتلاف هذه الخلقة وإزهاقها حرام؛ لأن الأصل الشرعي يقتضي تحريمها، ولم نجد في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم تفريقاً بين ما قبل نفخ الروح وما بعد نفخ الروح.
ثم استدلوا بالعقل وهو النظر الصحيح، وهو قياس قوي جداً: وهو أن جمهور العلماء منهم من يقول -كبعض أصحاب المذاهب- قالوا: إن هذه لم تخلق، فقالوا لهم: أرأيتم بيض الصيد، فإن الله حرم علينا قتل الصيد، فسئلوا عن بيض الصيد هل يجوز إتلافه؟ فقالوا: لا يجوز، وفيه الضمان، مع أن بيض الصيد سيئول إلى الخلقة المكتملة، وهذا يدل على حرمة الإقدام على إتلاف هذه الأشياء، ثم لا يشك عاقل على أن هذا خلق الله عز وجل الذي سيئول إلى الخلقة المعتبرة شرعاً، فبأي دليل يقدم على إسقاطه ومنعه من البقاء؟ وهذا الفعل يخالف الأصول الشرعية، فإن من المقاصد الأصلية في النكاح تكثير سواد الأمة، ونسل الأمة، وهذا الفعل يضاد تماماً قوله: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم) وهذا يمنع مقصود الشرع من النكاح، فالذي تطمئن إليه النفس من حيث الأصول الشرعية والأدلة أنه ليس هناك دليل قوي يدل على جواز الإقدام على إسقاط الأجنة قبل التخلق أو بعد التخلق، أو قبل نفخ الروح أو بعد نفخ الروح، وهذا الأصل تدل عليه أدلة الكتاب والسنة، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن الروح لا تنفخ إلا بعد المائة والعشرين يوماً ليس فيه دليل على جواز إتلاف هذه الخلقة، فإن العبث بهذه الخلقة والإسقاط للأجنة له آثار سلبية، وحتى الأطباء أنفسهم يقررون هذا، فإن المرأة إذا أقدمت على تعاطي الدواء أو تعاطي الأسباب التي تسقط الجنين فإنه لابد من وجود أثر لهذا التعاطي ولهذا الفعل، ولابد من وجود تبعات ومضاعفات تضر بالمرأة وتضر بجسدها، ولا يمكن أن الإنسان يشك في هذا، فالجسد إذا أخرج عن عادته وطبيعته لابد أن يتضرر، فلو استعمل الدواء لابد له من أثر، ولو تعاطت الأسباب الشنيعة الفظيعة من الترويع أو حمل الأشياء الثقيلة فإنها قد تسلب ويحدث معها نزيف وتضطرب عادتها، ويحدث لها من الأضرار في جسدها ما لا يخفى في كثير من الأحوال التي يفعل أو يقدم فيها على الإسقاط، وبناء على ذلك: فالذي نعرفه من نصوص الشرع وأصول الشريعة أن الواجب على الطبيب أن يقدم على علاج الأبدان ووقايتها من الضرر، أما أن يقدم على إسقاط الأجنة والعبث في خلقة الله عز وجل فهذا ليس له دليل لا من كتاب الله ولا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وليس للذين قالوا بجواز الإسقاط إلا دليل واحد وهو حديث ابن مسعود الذي تقدم وقد أجبنا عنه، بل حديث ابن مسعود رضي الله عنه يقوي عدم جواز الإسقاط؛ لأنه يدل أنه من خلق الله، والنصوص تدل على عدم العبث في خلق الله فيقتضي المنع.
ثم أيضاً تجد نفس المذاهب والأقوال التي أجازت الإسقاط تجدها مضطربة في الفتوى والقول بجواز الإسقاط، والذي تطمئن إليه النفس ترك هذه الأجنة وترك هذه الخلقة وعدم إقدام الأطباء على إسقاط الأجنة سواء كان قبل نفخ الروح أو بعده.(325/7)
حكم إسقاط الجنين إذا غلب على الظن هلاك المرأة
لكن تستثنى من هذا مسائل: منها: إذا كان بقاء الجنين يغلب على ظن الطبيب أنه سيفضي إلى هلاك المرأة وموتها، وهذا يسمى عند الأطباء بالحمل المنتبذ أو الحمل القنوي أو الحمل المهاجر، وحقيقته: أن الجنين يتخلق في غير موضعه الطبيعي، ثم ينتفخ ويفجر القناة ثم ينفجر في بطن المرأة فيقتل المرأة ويموت هو بنفسه، فحينئذٍ يجوز الإسقاط، ويجوز التدخل الجراحي لإخراج هذا الجنين إن تعذر إسقاطه؛ وذلك لإنقاذ نفس محرمة، وليس من باب إسقاط الأجنة، وإنما هو تلافٍ لضرر، فالحياة المتيقنة مقدمة على الحياة المظنونة، فنحن لا يمكننا أن نعرض حياة الأم اليقينية للخطر والضرر بسبب حياة قد تبقى وقد لا تبقى؛ لأن بعض الأطباء يقول: حياة الجنين نفسها مستبعدة؛ لأنه إذا تم الاكتمال في هذا الموضع سيفجر القناة، فيموت الجنين في بطن الأم، وتموت الأم تبعاً لذلك.
إذاً: حتى حياة الجنين غير مستقرة، وبناء على ذلك: يجوز إسقاط الجنين في مثل هذه الحالة وأشباهها مما تتعرض فيه الأم للهلاك والضرر، وهذا من باب درء المفسدة العظمى بالمفسدة الصغرى؛ لأن نصوص الكتاب والسنة دالة على هذه القاعدة التي هي: (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) ومن الأدلة على ذلك: أن الخضر عليه السلام كسر لوحاً من السفينة لأجل إنقاذ السفينة كاملة، وهذا يدل على أنه يجوز إتلاف الأقل لما هو أعظم منه، والجنين هنا ليس في مقام الأم، وكذلك حياته ليست غالبة ولا متيقنة، فتقدم الحياة المتيقنة وهي حياة الأم على الحياة الموهومة، وهذا هو الذي يفتى فيه بجواز الإسقاط.
أما بالنسبة لتساهل المرأة في هذا الأمر، وتقول: أتعبتني تربية الأولاد، وأريد ما بين الأولاد تفاوتاً؛ فهذه كلها شهوات ونزوات، ورغبات النساء ليست موجبة للعدوان على هذه الحدود الشرعية من العبث بخلقة الله عز وجل، وتعريض الأنفس للضرر، وإزهاق الأرواح، خاصة إذا كان بعد نفخ الروح، فإن الله عز وجل شرع في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ضمان الأجنة كما جاء في قصة المرأتين لما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى فألقت جنينها، فقتلتها وألقت ما في بطنها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان الجنين، وهذا يدل على أنه له حرمة.
فعلى كل حال: على النساء أن يتقين الله عز وجل، ويشرع للزوج أن يمنع زوجته؛ لأن الولد ولده، إلا إذا قرر الأطباء أن المرأة تتعرض للخطر والضرر كما ذكرنا فهذا يستثنى، ولا يجوز للطبيب أن يعين على مثل هذه الأعمال لما فيها من الاعتداء على حرمات الله عز وجل، والإقدام على إتلاف الأجساد والعبث فيها دون مسوغ شرعي.
قوله رحمه الله: (بدواء مباح).
يعني: عند من يقول بجواز الإسقاط قبل الأربعين وقبل بداية التخلق، يقولون: في هذه الحالة يشترط أن يكون الدواء مباحاً، وسيأتينا -إن شاء الله- أن الحنابلة وطائفة من أهل العلم لا يجيزون التداوي بالمحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز التداوي بالمحرمات، وبناء على ذلك: يشترطون أن يكون الدواء مباحاً، وأن تكون الوسيلة وسيلة مشروعة، وليست بوسيلة ممنوعة.(325/8)
الأسئلة(325/9)
حكم تناول الأدوية التي تزيد في الإخصاب
السؤال
هناك بعض الأدوية تزيد من الإخصاب وإمكانية الحمل، فهل يجوز تناولها رغبة في الحمل؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالمسائل الطبية النازلة الجديدة تحتاج إلى أن لا يفتى فيها إلا بعد الجلوس مع الأطباء ومن لهم خبرة في هذه المسائل؛ لمعرفة حقيقتها.
مثلاً: الأدوية التي تستعمل للإخصاب هل هناك بديل، وهل هناك ضرر يترتب على هذا الدواء؟ لأنه قد تكون هناك مضاعفات، وهل إذا استخدم هذا الدواء لا تتضرر المرأة، وهل إذا حصل حمل لا يتضرر الحمل ولا تنتج آثار سيئة على الحمل؟ هذه الأمور والتساؤلات كلها لا يجيب عنها إلا الأطباء المختصون، وليس كل طبيب يصلح لأن يأتمنه العالم أو يسأله عن هذه المسائل، ففي بعض الأحيان يكون الطبيب عنده تحمس لحل الشيء أو تحليل الشيء، فإذا كان عنده تحمس فشهادته شهادة متهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين) الظنين في لغة العرب المتهم كما قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24]، وفي قراءة ((بظنين) والعلماء عندما ذكروا الشهادة قالوا: إذا كان عنده حرص على الشهادة ويشهد قبل أن يستشهد -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- لا تقبل شهادته، ولذلك في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم قال: ثم يأتي أقوام يشهدون ولم يستشهدوا) فهذا يدل على أنه حرص على الشهادة، وهذا موجب للتهمة في شهادته، فالذي يحرص على تحليل الأشياء متهم؛ لأن له مصلحة في تحليله، أو يريد أن يقنع الناس حتى يتعالجوا عنده، فمثل هذا لا تقبل شهادته؛ لأنها محل حرص على التحليل وسيؤثر هذا الحرص على بيان السلبيات، وسيؤثر هذا الحرص على بيان المضاعفات، وكشف حقيقة الشيء المسئول عنه، ولذلك إذا بين الطبيب حقيقة الدواء، أو حقيقة الطريقة، أو حقيقة الأمر الذي يسأل عنه حينئذٍ تنكشف الأمور ويمكن للعالم أن يفتي بالحل والتحريم.
فهذه الأدوية من حيث الأصل مشروعة لتكثير سواد الأمة، والوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فإذا كان لا يستطيع أن ينجب أو عنده ضعف في الإنجاب، أو المرأة عندها ضعف في الإخصاب والإنجاب فتعاطت الأدوية من أجل أن تنشط فهذا في الأصل العام وسيلة لمشروع، والقاعدة: (أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها)، هذا من حيث الأصل العام.
لكن، ما طبيعة هذه الأدوية، وما هي الطريقة التي يتم بها استخدام هذا العلاج.
مثلاً: الرجال لهم وضع، والنساء لهن وضع، فالنساء قد يكشف في علاجها عن العورة، وقد تلمس العورة، وقد يولج في الفرج شيء، وهذا كلها محاذير شرعية لابد من النظر فيها، لكن الأصل العام من حيث تكثير سواد الأمة، وحصول الذرية فهو أمر سائغ شرعاً ولا إشكال فيه، لكن هذه الأدوية تحتاج إلى نظرة ومعرفة عن طريق الأطباء الذين لهم إلمام بهذا.
فالأصل يقتضي الجواز، ولكن قد يكون هذا النوع من الدواء لا يجوز استعماله، وهذا معروف، حتى مرض الرأس قد يكون علاجه بمسكن له مضاعفات، ومسكن ليس له مضاعافات، فنقول: هذا المسكن الذي له مضاعفات لا يجوز استخدامه مع وجود المسكن الذي لا مضاعفات فيه.
فهل معنى ذلك أن علاج الرأس محرم؟ الجواب: لا.
إنما حرم تعاطي هذا النوع من الدواء لعلة، والإشكال أن بعض الفتاوى تنظر إلى الأصل العام، والإطار العام دون النظر إلى الحقيقة، والسبب في هذا عدم الرجوع إلى الأطباء وسؤال من عنده إلمام وخبرة.
والرجوع إلى الأطباء لا يكفي فيه أن ترجع إلى واحد أو اثنين، ولا يكفي أن ترجع إلى طبيب عنده علم نظري وليس عنده علم تطبيقي، فكلما كان الطبيب عنده علم نظري وتطبيقي وممارسة وتخصص فيما يسأل عنه، ومرور على الحالات المختلفة، كلما ذلك كان أجلى وأوضح.
وعلى كل حال فمن حيث الأصل العام: تعاطي الأسباب التي لا محذور فيها للإخصاب والإنجاب لا بأس به ولا حرج، والله تعالى أعلم.(325/10)
حكم تسمية المولود والعقيقة عنه إذا مات
السؤال
إذا مات المولود بعد ولادته بأيام فهل تجب تسميته والعقيقة عنه؟
الجواب
إذا مات المولود بعد سبعة أيام فالسنة أنه يعق عنه ويسمى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه) وقد نص العلماء رحمهم الله على أن السنة في العقيقة أن تكون في السابع، فإذا تأخر الوالد عن ذبحها ثم توفي المولود قبل أن يتمكن والده من ذبحها، فإنه يذبحها ويتداركها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون) والمرهون أصله من الرهن، والرهن في لسان العرب: الحبس، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] فعيلة بمعنى: مفعولة.
أي: مرهونة، فهذا يدل على مشروعية العقيقة عنه، وكونه يبقى أو يموت هذا لا تأثير فيه ما دام أنه بلغ هذا الوجه، والله تعالى أعلم.(325/11)
حكم صلاة النافلة أربع ركعات متصلة
السؤال
هل يجوز أن تصلى النافلة أربع ركعات متصلة؟
الجواب
في صلاة الليل لا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها أربعاً ولم يجلس إلا في آخرها صلوات الله وسلامه عليه، وفي صلاة النهار فيه خلاف، والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا بأس أن يصل الأربع بتسليمة واحدة، كأن يدخل قبل صلاة الظهر فيما بين الأذان والإقامة ويخشى أن تقام الصلاة لو فصل بتسليمتين، فيجمع الأربع بتسليمة واحدة، فلا بأس بذلك ولا حرج عليه، ولا يجلس في التشهد الأول إذا صلى أربعاً، خلافاً لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله، بل يصل الأربع ويجلس في آخرها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.(325/12)
حكم الدم الخارج بعد انتهاء العادة بأيام
السؤال
إذا أتت المرأة الدورة الشهرية ثم انقطع الدم بعد المدة المعتادة، ثم بعد ذلك بأيام رجع الدم فماذا تفعل؟
الجواب
من حيث الأصل: كل امرأة جلست أيام عادتها حتى أتمتها ثم جاءها الدم بعد ذلك قبل تمام أقل الطهر فإنه دم استحاضة وليس بدم حيض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرأة المستحاضة: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فإذا هي خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتصلي) وقال كما في حديث فاطمة رضي الله عنها في الصحيحين: (دعي الصلاة أيام أقرائك) فقوله عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) يعني: أيام العادة التي كنت تحيضينها، فدل على أن العبرة بأيام الحيض المعتادة.
لكن إذا عاودها يوماً ويومين ثم انقطع بعد ذلك؟ إذا كانت عادتها -مثلاً- ثلاثة أيام ثم انقطع الدم بعد ثمانية أيام، ثم عاودها في اليوم العاشر والحادي عشر، ثم انقطع، فتنتظر ثلاثة أشهر، فإن عاودها في الثلاثة أشهر بهذه الصفة فقد انتقلت إلى عشرة أيام، لكن انتقلت إلى عشرة أيام منفصلة فتصبح عادتها ثلاثة أيام متتابعة ويومان منفصلان، وهذا يحدث عند بعض النساء وتكون عادتها قد انتقلت في الشهر الثالث، فإذا جاءها على هذه الصفة فالعادة تنتقل إلى العدد الجديد انفصل الدم أو انقطع، فلو اتصلت يومان بالعادة فأصبحت العادة عشرة أيام تنتقل العادة إلى عشرة أيام، ولو انفصل ولم يتصل فتكون عادتها ثمانية أيام ثم ينقطع يوماً أو يومين ثم يأتي بعد ذلك دم ليومين وتكرر معها ثلاثة أشهر بهذا المعنى فقد أصبحت عادتها من الثمانية منتقلة إلى العشرة، فاليومان تابعان للحيض إذا ثبت ذلك في ثلاثة أشهر متتابعة، والله تعالى أعلم.(325/13)
حكم صيام المرأة الحائض إذا استخدمت علاجاً يمنع نزول دم الحيض
السؤال
لو شربت المرأة دواءً يمنع حيضها حتى تتمكن من صيام رمضان فما الحكم؟
الجواب
أولاً: الأدوية التي تستعمل لمنع الحيض ذكر الأطباء أن لها ضرراً، وذكر بعض أهل الخبرة أنها قد تتسبب في سرطان الرحم، وهذه المشكلة أقول فيها: لابد من الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة، فأي شيء يخرج البدن عن طبيعته سيكون له مضاعفات؛ لأن الله وزن هذا البدن وقدره وخلقه وصوره، وتبارك الله أحسن الخالقين.
فليس هناك شيء في البدن يخرج عن اعتداله وطبيعته إلا خلّف الضرر والعواقب السلبية، فهذه الحبوب فيها ضرر كما يثبت أهل الخبرة ذلك، حتى إن من علاماتها وأماراتها أن تربك العادة، والله سبحانه ما خلق هذا الدم عبثاً، ولا جعل هذه العادة سدىً، حتى الأجهزة العصبية الموجودة في البدن تتفاعل مع هذا الحدث الذي خلقه الله، وهذا النزيف من الدم الذي يطهر الرحم في مدة معلومة قد يختل ويتأثر نتيجة منع هذا الدم من الخروج وكل هذا يبين فساد هذه الأدوية التي تستعمل، وهذا أمر يعرفه من يرجع إلى الأطباء المختصين الذين عندهم دراية ويتكلمون عن هذا الموضوع بكل وضوح وبكل إنصاف وتجرد.
ثانياً: هذه الأشياء لا يجوز تعاطيها من حيث الأصل كما ذكرناه لوجود الضرر، ويبقى السؤال: هل إذا شربت الدواء وانقطع حيضها تصبح طاهراً؟ خلاف بين العلماء، والصحيح: أنها تصبح طاهرة؛ لأن الله علق الحكم على وجود الدم، فإذا لم يوجد الدم فإنه يحكم بطهرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة) وهذه لم تقبل حيضتها لأنه لم يخرج الدم، وبناء على ذلك يحكم بطهرها، وهذا اختيار طائفة من المتأخرين من أهل العلم، وأشار بعض الفضلاء إلى هذه المسألة بقوله: إذا شربت هند لأن تمنع الدم عن الزمن المعتاد بالطهر فاحكما وذلكم فرع السماع وإن يكن بتعجيل حيض قبل إبانه فما تنال الذي قد حاولت من براءة لشيخ خليل دون ريب وأحجما عن الصوم فيها والصلاة ورجحوا قضاءهما والصوم تقضي متمما فهذه المسألة الصحيح: أنه يحكم بطهرها، فلو شربت العلاج ثم طافت طواف الإفاضة صح طوافها، ولو شربت العلاج وصامت أيامها من رمضان صح صومها؛ لأن الله علق الحكم على وجود الدم، وهو غير موجود، فيحكم بطهرها على أصح القولين عند العلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(325/14)
شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [3]
شرع الله سبحانه وتعالى لمن توفي زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشراً، وهذه العدة فيها من الحكم والأسرار الشيء الكثير، وتختلف أحكام المعتدة هذه العدة بحسب حالها من حيث الحيض وعدمه، والحمل وعدمه، وكذلك من حيث تعلق عدة أخرى بها من عدمه.(326/1)
عدة المتوفى عنها زوجها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: الثانية: المتوفى عنها زوجها بلا حمل منه].
شرع المصنف رحمه الله في النوع الثاني من النساء المعتدات وهي المرأة التي توفي عنها زوجها، وقد شرع الله عز وجل لها العدة أربعة أشهرٍ وعشراً، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، فبيّن سبحانه وتعالى لزوم العدة -التي هي الحداد- على المرأة التي توفي عنها زوجها، ودلت السنة على ذلك، كما في حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها، وفيه: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشراً)، وقد كانت في الجاهلية تمكث المرأة سنة كاملة بعد وفاة زوجها، وتجلس في مكان ضيق، وتمتنع من الطيبات والمباحات، وتكون بأبشع حالٍ وأسوأ صورة حتى تتم سنة كاملة، فخفف الله تبارك وتعالى ويسر، ودفع عن عباده ما كان من أمور الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان، فشرع هذا الحداد أربعة أشهر وعشراً، وهذا النوع من العدة سواء كان الزوج دخل بها أو لم يدخل بها، فكل امرأة عقد عليها زوجها وتوفي عنها وهي في عصمته سواء وقع الدخول أو لم يقع الدخول فإنها زوجته ترثه ويرثها إذا ماتت، فيلزمها الحداد وعدة الوفاة.
(المتوفى عنها زوجها بلا حمل منه قبل الدخول أو بعده).
(قبل الدخول أو بعده)، سواء دخل بها أو بعده، ثم تنقسم هذه التي توفي عنها زوجها إلى قسمين: إما أن تكون حاملاً، وإما أن تكون حائلاً، فالمرأة الحائل التي هي غير حامل هي التي تكون عدتها بما ذكرنا، ولكن إذا كانت حاملاً فإنها تعتد بوضع حملها، لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فجعل الله عز وجل عدة المرأة الحامل أن تضع ما في بطنها، وقد دلّ على ذلك الحديث الصحيح في قصة أبي السنابل بن بعكك رضي الله عنه وأرضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في هذا الحديث الصحيح أن المرأة الحامل تعتد بوضعها لحملها ولو كان الوضع بعد الوفاة أو بعد الطلاق بساعة.
فلو أنه توفي عنها الساعة الثانية ظهراً، وبعد وفاته ولو بدقيقة خرج حملها وجنينها فقد خرجت من عدتها، وهذا حكم الله، والله يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى، وهذا شرعه وهذا حكمه، فهو أمرٌ تعبدي، فإذا وضعت الحامل حملها خرجت من عدتها.
فهنا بيّن المصنف رحمه الله أنها تعتد أربعة أشهر وعشراً بشرط: أن لا تكون حاملاً، فإن كانت حاملاً فإنها تعتد بوضع الحمل، وجماهير السلف والخلف -رحمهم الله ورضي الله عن أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أجمعين-على هذا.
وهناك من الصحابة من أثر عنه القول، بأنها تعتد أبعد الأجلين، فإن كانت حاملاً ووضعت بعد الوفاة بأسبوع أو بشهر أو بشهرين أو بثلاثة فإنها تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً؛ لأن عدة الوفاة أطول، وإن كان حملها يستمر فوق الأربعة الأشهر وعشراً فتعتد لوضع الحمل، فيرون أنها تعتد أبعد الأجلين، وهذا قول ضعيف.
والصحيح: ما دل عليه ظاهر الكتاب، وظاهر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانعقدت عليه كلمة جماهير السلف رحمهم الله أجمعين.(326/2)
عدة الأمة المتوفى عنها زوجها
قال رحمه الله: [للحرة أربعة أشهر وعشراً وللأمة نصفها].
هذه العدة للحرة.
أي: للمرأة الحرة أربعة أشهر وعشرا كما في نص الآية التي سبقت، وكذلك حديث أم حبيبة رضي الله عنها في الصحيحين، فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن عدة المرأة أربعة أشهر وعشرا، وفرق المصنف رحمه الله بين الحرة والأمة، فالأمة في مذهب الجمهور تكون على التشطير في عدة الوفاة، وهذه المسألة خالف فيها بعض أئمة السلف رحمهم الله وقالوا: عدة الوفاة تستوي فيها الحرة والأمة كما هو مذهب الظاهرية، والذي يظهر من ناحية الدليل أن أصح القولين مذهب الظاهرية؛ فإنهم لا يقولون بالتشطير، وفي مذهب مالك أيضاً ما يدل على ذلك، وهذا القول ألزم للأصل، وأقعد للسنة بالدليل، فالكتاب والسنة على أن المرأة حرةٌ كانت أو أمة تعتد بهذه العدة وهي أربعة أشهر وعشرا؛ لأن ظاهر القرآن لم يفرق، وكذلك ظاهر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبقى على هذا الظاهر، والحنابلة ومن وافقهم رحمةُ الله عليهم ألحقوا هذه المسألة بعدة الطلاق فقالوا: لما كانت الأمة تعتد في طلاقها على النصف فكذلك في عدة الوفاة، وفي الحقيقة أن عدة الوفاة جانب التعبد والقياس فيها أضيق، ثم إن مسألة تشطير عدة الطلاق سيأتي -إن شاء الله- الكلام عليها وفيها ما فيها، وبناءً على ذلك يكون هذا من باب رد المختلف فيه إلى غير المختلف فيه، وظواهر النصوص على أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا بالنسبة للمرأة حرةً كانت أو أمة.(326/3)
إذا اعتدت لطلاق رجعي فمات الزوج أثناء عدتها رجعت لعدة الوفاة
قال رحمه الله: [فإن مات زوج رجعية في عدة طلاق سقطت].
هذه مسألة تتعلق بالمرأة المطلقة، فالمرأة إذا كانت في عصمة الرجل.
أي: عقد عليها وتوفي عنها فلا إشكال، وحينئذٍ تعتد، وقلنا: سواء توفي وقد دخل بها أو لم يدخل، حتى لو توفي بعد العقد بثانية واحدة فإنها زوجته ترثه ويسري عليها ما يسري على الزوجة من وجوب عدة الوفاة.
أما بالنسبة للمسألة التي معنا فهي مسألة الطلاق: إذا طلق الرجل امرأته واعتدت في طلاقه لها عدة الطلاق وتوفي أثناء العدة، فإن كانت المرأة في عدة طلاق رجعي كأن يكون طلقها الطلقة الأولى أو طلقها الطلقة الثانية ثم توفي أثناء عدة الطلاق؛ فإنها في حكم الزوجة وتعتد بعدة الوفاة، وبناءً على ذلك: فإنه يحكم بوجوب الحداد عليها أربعة أشهر وعشراً، وتنتقل إلى عدة الوفاة، ومن العلماء من اختار أنها تعتد أبعد العدتين، والذي اختاره المصنف رحمه الله: أنها تنتقل إلى عدة الوفاة وأنها زوجته، وبناءً على ذلك: تأخذ حكم الزوجية، وقد تقدم معنا أن الطلاق الرجعي تبقى فيه المرأة في حكم الزوجة.
قال رحمه الله: [سقطت وابتدأت عدة وفاة منذ مات].
سقطت عدة الطلاق ورجعت إلى عدة الوفاة، حتى ولو كان ما بقي لها من عدة الطلاق إلا اليسير، فما دام أنه قد توفي قبل انتهاء عدة الطلاق، فلا عبرة بعدة الطلاق وتستأنف عدة الوفاة؛ لأنه توفي عنها وهي في عصمته وفي حكم الزوجة، وقد بينا أنها في حكم الزوجة، ولذلك يحق للرجل أن يراجع زوجته الرجعية التي هي في الطلقة الأولى والطلقة الثانية بعد الدخول حتى ولو لم ترض، ويردها بدون مهر وبدون عقد جديد، وهذا يدل على أنها في حكم الزوجة، ومن هنا لو مات عنها فقد شاء الله عز وجل أن يموت وهي في عصمته، فتعتد عدة الوفاة وتبقى في حكم الزوجية، ومن هنا يرد
السؤال
لو بقي قليل من عدة طلاقها وتوفي الرجل، هل تتم عدة الطلاق أم تستأنف عدة الوفاة؟ بين رحمه الله أنها تسقط عدة الطلاق وتستأنف عدة الوفاة منذُ وفاة زوجها، فلو توفي في شهر شوال وكان قد بقي لخروجها من عدة الطلاق إلى نهاية ذي القعدة وبلغ الخبر في خمسة عشر من ذي القعدة فإنها تحتسب من شهر شوال الذي وقعت فيه الوفاة، فبين رحمه الله حكمين: الحكم الأول: سقوط عدة الطلاق؛ لأنها في حكم الزوجة وقد توفي عنها زوجها.
ثانياً: استئناف عدة الوفاة، وهذا الاستئناف لعدة الوفاة يكون من حين وفاته، وهذا ما أشار إليه المصنف رحمه الله حينما جعل بداية العدة منذُ وفاته.(326/4)
طلاق الرجل لامرأته في مرض الموت
قال رحمه الله: [وإن مات في عدة من أبانها في الصحة لم تنتقل].
سيدخل المصنف في مسألة الطلاق والموت بعده، فالمرأة إذا طلقها زوجها وتوفي بعد تطليقه لها لا يخلو طلاقه من صورتين:(326/5)
تطليق الرجل لامرأته قبل الموت مع عدم التهمة
مثال ذلك: أن يطلقها وهو صحيح ثم يخرج -نسأل الله السلامة والعافية- فيحصل له حادث فيموت، وتكون الطلقة الأخيرة، أو يطلقها ثلاثاً -على مذهب الجمهور- وتبين منه، ففي تطليقه لها الطلقة الثالثة أو ثلاث مجموعات في حال صحته وليس هناك مرض مخوف -كما قدمنا في ضبط مرض الخوف- فإنه لا يتهم في إخراجها وحرمانها من الميراث، ولا ترثه ولا إشكال في ذلك، فإذا طلقها وهو صحيحٌ قوي ثم توفي فجأة فإننا لا نشك أن الطلاق قُصِد منه إخراجها عن العصمة وحرمانها من الميراث دون وجود تُهمة أنه يريد ذلك، ولا ترثه لأنها صارت في حكم الأجنبية.(326/6)
تطليق الرجل لامرأته مع التهمة
وقد يطلقها وتجتمع القرائن على إثبات أنه يريد حرمانها من الميراث، كأن يطلقها في مرض الموت المخوف ويبت طلاقها فدل على أنه يقصد أن يحرمها من الميراث، فهذه المسألة اختلف فيها أئمة السلف رحمهم الله، وكان الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه يقضي أنها تورث حتى ولو خرجت من عدتها، وذلك معاملةً له بنقيض قصده حيث خالف شرع الله عز وجل وظلمها وحرمها حقها، فالظاهر شيء ونيته شيءٌ آخر، فمن قضى من الصحابة بهذا القضاء غلب الباطن على الظاهر؛ لأن الشريعة قد يجمع فيها الأمران الظاهر مع الباطن، وقد ينظر إلى الظاهر ولا يلتفت إلى الباطن كما في المنافقين، وقد ينظر إلى الباطن ولا يلتفت إلى الظاهر كما في هذه المسألة، والباطن إما بإقراره كأن يقول: قصدت حرمانها، ويأتي شهودٌ عند القاضي ويقولون: فلانٌ طلق فلانة في مرضه وقال: قصدت حرمانها من الميراث، فحينئذٍ يثبت عند القاضي أنه قصد هذا القصد السيئ الذي يخالف شرع الله، أو تدور القرائن على هذا، كأن يطلقها بالثلاث وبعد أن أخبره الأطباء أن مرضه مرض موت، فليس هناك من داعٍ لهذا الطلاق ومرضه مخوف يؤدي إلى الموت -نسأل الله السلامة والعافية- إلا الإضرار بالمرأة، ولذلك يذكر العلماء من أمثلة ختم العمل -والعياذ بالله- بالعمل السيئ: أن يظلم الإنسان في آخر عمره بتطليق الزوجة وحرمانها من الميراث؛ أو بالجوار في الوصية، كما جاء في الأثر أن من جار في وصيته ختم له بخاتمة سوء والعياذ بالله، فآخر ما يكتب في ديوانه عمل السوء -نسأل الله السلامة والعافية- حتى إن بعض العلماء قالوا: قوله: (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، قالوا: المراد دخول الموحدين، وهو أن يعمل بعمل أهل النار فيفعل كبيرة قبل موته فيختم له بخاتمة السوء، ويشاء الله تعذيبه كي يدخل النار تطهيراً من هذا الذنب.
إذاً: من أمارات سوء الخاتمة أن الشخص -والعياذ بالله- يجور ويظلم في آخر عمره، وفي هذه المسألة قضى الصحابة رضوان الله عليهم -وهو وقضاء عثمان رضي الله عنه- أنها ترث حتى بعد خروجها من العدة، وقد اختار هذا طائفة من أئمة السلف ودواوين العلم رحمهم الله واختاروا أنه يعامل بنقيض قصده.(326/7)
إذا توفي من أبانها في مرض موته
قال رحمه الله: [وتعتد من أبانها في مرض موته: الأطول من عدة وفاة وطلاق].
أي: تعتد عدة الوفاة، وإذا أثبت لها عدة الوفاة فمعنى ذلك: أنه أثبت لها الميراث؛ وعامله بنقيض قصده، فترث في هذه الحالة كل من طلقها زوجها في حال مرضه المخوف -وهو مرض الموت وقد تقدم ضابطه- وكان طلاقه طلاقاً بائناً، ولو كان طلاقه جارياً على العادة لطلقها طلاقاً رجعياً، لكنه حين طلقها ثلاثاً دل على أنه يقصد حرمانها وظلمها، فمن هنا تقوى الشبهة والقرينة في الدلالة على أنه يريد السوء بها فيعامل بنقيض قصده.
إذاً: يثبت لها: أولاً: الإرث؛ معاملةً له بنقيض القصد.
ثانياً: إذا ثبت الإرث ترتب عليه العدة، فلو كانت عدة الوفاة أطول من عدة الطلاق قدمت عدة الوفاة على عدة الطلاق وتعتد عدة الوفاة، وإن كانت عدة الطلاق أطول من عدة الوفاة اعتدت عدة الطلاق.
يعني: تعتد أطول العدتين، وهذا قد تقدم معنا غير مرة، وهي من مسائل الاشتباه، ولذلك يحتاط لحق الله عز وجل؛ لأن العدة فيها معنى التعبد، ومن هنا يقال: إذا كان الأطول عدة الوفاة اعتدتها، وإن كان الأطول عدة الطلاق اعتدتها، فلو أنه توفي في آخر عدة الطلاق فالأطول عدة الوفاة، ولو كان العكس كأن يطول حيضها وطهرها فعدة الطلاق أطول، وحينئذ تقدم عدة الطلاق على عدة الوفاة.(326/8)
حالات تقديم عدة الطلاق على عدة الوفاة
قال رحمه الله: [ما لم تكن أمة أو ذمية أو جاءت البينونة منها فلطلاق لا لغيره].
(ما لم تكن أمةٌ أو ذمية)؛ لأن الأمة والذمية لا إرث لهما، فلو تزوج أمةً وتوفرت فيه الشروط التي تقدمت معنا في نكاح الإماء، وطلقها قبل وفاته طلاقاً بائناً فلا ترثه سواء طلقها أو لم يطلقها.
وموانع الإرث واحدة من علل ثلاث -كما ذكرها صاحب الرحبية-: رق وقتل واختلاف دين فاعلم فليس الشك كاليقين من موانع الإرث: الرق؛ لأن الأمة لا تملك وليس لها يد بالملكية، وحينئذ مالها لسيدها، فلو قلنا بإرثها لكان الإرث للسيد، وبناءً على ذلك تقول: لا ترثه إذا توفي، فإذا كانت لا ترثه إذا توفي فحينئذٍ إذا طلقها فلا تهمة عليه؛ لأنها لا ترث أصلاً، ومن هنا فليس هناك موجب لإدخال عدة الوفاة عليها إذا طلقها طلاقاً بائناً.
(أو ذمية) الذمية: هي المرأة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويجوز للمسلم نكاح نسائهم في سائر الأعصار والدهور؛ لأن النص واضح وصريح ولا إشكال فيه، ولكن قد تستثنى بعض الحالات ويمنع من ذلك، كأن يؤدي به إلى أن يذهب إلى بلاد الكفر، أو أن ذريته ستؤخذ منه، فهذه مسائل مستثناة؛ لكن الأصل الشرعي الذي دلّ عليه نص الكتاب وأصول الشريعة: جواز نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم، والسبب في هذا: الطمع في إسلامهن، وقد أحل الله الزواج من الكتابية ولم يحل نكاح الكتابي للمسلمة؛ لأن الرجل غالب للمرأة، فالغالب أن المرأة تتأثر به، وقد تسلم، وإذا لم تسلم على يد زوجها فقد تسلم على يد أولادها، ولكن إذا كان الزوج كافراً والمرأة مسلمة، فقد يكون الأمر بالعكس، فأحل الله النكاح للرجال ولم يحله للنساء، فإذا قيل: إن عندهم شركاً، فالنصارى يعبدون المسيح، واليهود يقولون: عزير ابن الله.
نقول: لقد نص الله عز وجل على هذا من أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الشرك موجود من أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يختلف فيه اثنان، ووصفهم الله بأنهم أشركوا وكفروا، ونص على ذلك في غير ما موضع من الكتاب، ومع ذلك أجاز نكاحهن.
إذاً: من حيث النصوص فلا إشكال في جواز نكاح الكتابية، لكن لا يفتى لكل شخص بجواز ذلك، فالفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، فلو أن شخصاً سألك عن ذلك، وأنت تعرف حالته أنه ضعيف دين وإيمان، ويخشى عليه من زواج الكتابية، فهذا لا شك أن شرع الله عز وجل يمنعهُ؛ لأن الوسائل آخذة حكم مقاصدها، فالوسيلة إلى الكفر من أعظم المسائل في الشريعة الإسلامية تحريماً، حتى إن الإمام العز بن عبد السلام وكذلك السيوطي وغيرهما من أئمة العلم لما قرروا في قواعد الفقه مسألة الوسائل ذكروا أن أعظمها إثماً: ما أفضى إلى الشرك والكفر، فإذا كان نكاحه للكتابية يفضي إلى الكفر منع من ذلك، وتتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان وفي حق بعض الظروف والأشخاص، لكن أصول الشريعة دالة على جوازه.
إذاً: الشاهد: أنه لو تزوج امرأة من أهل الكتاب وطلقها وأبانها في مرض الوفاة فإنه لا يتهم؛ لأنها لا ترثه؛ لأن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر كما تقدم في موانع الإرث في بيت الرحبية: رقٌ وقتلٌ واختلاف دين فاعلم فليس الشك كاليقين فاختلاف الدين يمنع من الإرث، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- لما سئل عن منزله في حجة الوداع، قال عليه الصلاة والسلام: (وهل ترك لنا عقيل من رباع)؛ لأن قرابته ماتوا وهم على الشرك فلم يرثهم عليه الصلاة والسلام، وعقيل تأخر إسلامه فورث الكفار الذين ماتوا من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، فباع الدور ثم أسلم رضي الله عنه، فجمع الله له بين الدين والدنيا؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل ترك لنا عقيل من رباع)؛ لأن الكفر حال بينه عليه الصلاة والسلام وبين الإرث، فالمرأة إذا كانت كافرة فلا يرثها زوجها المسلم ولا ترثه؛ لأن المقصود من نكاحه لها هدايتها إلى الإسلام، فإذا مات عنها وهي على الكفر فقد فات المقصود، ومن هنا لا علاقة بينه وبينها، وتطليقه لها في مرض الموت ولو كان باتاً موجب لخروجها من العصمة ولا تهمة فيه، وحينئذٍ لا تثبت عدة الوفاة بالنسبة لها.
قال رحمه الله: [أو جاءت البينونة منها فلطلاق لا لغير].
أي: طلبت الطلاق وهذه كلها أمثلة لما تستبعد فيه الشبهة وتستبعد فيه القرينة على أنه يريد حرمانها، وصورة المسألة: امرأة اختصمت مع زوجها في مرض موته، فقالت له: طلقني ثلاثاً، فلو كانت الطلقة الأخيرة فقالت: طلقني، فيفهم حينئذٍ أنها هي التي طلبت الطلاق وليس هو الذي ابتدأ الطلاق، فالتهمة حينئذٍ ضعيفة، والظن ضعيف، فإذا طلقها فلا إرث لها ولا تأثير في عدتها؛ لأنها صارت أجنبية بالطلقة الثالثة وليس هناك تهمة له بقصد حرمانها من الميراث؛ لأنها هي التي طلبت الطلاق، ولم تتوفر العلة التي أعمل الصحابة رضوان الله عليهم بسببها الإرث وحكموا بثبوته، فإذا طلبت وسألت الطلاق؛ فحينئذٍ يسقط حقها في الميراث.
بالمناسبة: يجب التنبيه على هذه المسائل خاصة في هذا الزمان -نسأل الله السلامة والعافية- الذي كثر فيه تطليق الكبار في آخر أعمارهم لزوجاتهم، وهذا أمر يحتم على طلاب العلم نصيحة الناس وتذكيرهم بالله عز وجل، خاصة الأئمة والخطباء، فإن الرجل في آخر عمره قد تسيء إليه زوجته وتضايقه، وقد تكون الإساءة منها بسبب ضعفها وكبرها، فالإنسان إذا كبر ضعف وربما ساء خلقه؛ كما في قصة ثعلبة في قصة الظهار لما جاءت زوجته خولة تشتكيه وقد كان شديداً عليها، وظاهر منها وآذاها وأضر بها، ومع ذلك قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (استوصي بابن عمك خيراً)، فالرجل إذا كان كبيراً في آخر عمره تسوء أخلاقه، والمرأة إذا كبرت تسوء أخلاقها أكثر؛ لأنها أضعف من الرجل، فمسألة الطلاق في آخر العمر يوصى الأئمة والخطباء والعلماء ومن له دور في توجيه الناس بتذكير الناس بالله عز وجل بحفظ العهد، فالمرأة تمكث مع زوجها خمسون سنة وهي أم لأطفاله وتقوم على حاله، وقد يكون في حال فقر وشدة فتكافح وتجاهد من أجله حتى إذا كان في آخر عمره يسرحها ويطلقها، وقد لا يوجد من يعولها، فهذا أمر في شدة الغرابة، وهو يجوز له أن يطلق لكن ليس هذا من الوفاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أولئك بخياركم)، فيذكر الناس بالأخْيَر، ويذكر الرجل بأنه قد صبر هذه المدة كلها أفلا يصبر القليل من عمره؟! وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن حفظ العهد من الإيمان، ومن حفظ العهد: أنه إذا أساء إليك من له حق ومن له سابقة أن لا تقابله بالإساءة، فهذا حاطب بن أبي بلتعة الصحابي الجليل رضي الله عنه، شهد بدراً ثم كتب كتابه إلى قريش يحذرها من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتاب من أخطر الكتب؛ لأنهم إذا أخذوا الحذر فسيقتلون المسلمين وسيحتاطون، ولربما كمنوا للمسلمين، وأخذوا المسلمين على غرة فتسيل الدماء وتزهق الأرواح، ومع ذلك لما أطلع الله رسوله على كتابه قال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك! لعل الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)؛ لأنه جاهد ووقف الموقف العظيم في يوم بدر وكان منه ما كان، ولكن الله جل وعلا من عظيم وفائه، حفظ له جهاده وسابقته في الإسلام: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وهذا من كرمه سبحانه وتعالى، وصدق الله إذ يقول: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]، فلا أوفى من الله، حتى إن الرجل الصالح إذا مات وفى الله له في حياته وبعد موته.
الشاهد: أن الله يحب الوفاء، وعدم الوفاء أمرٌ عمت به البلوى، وكثرت فيه الشكوى، خاصة: تطليق النساء في آخر الأعمار، وأعظم ما يكون ذلك إذا كانت المرأة لا عائل لها وتتعرض إلى سؤال الناس، وأعرف بعض الحوادث التي تئن لها القلوب وتنجرح لها النفوس -نسأل الله العافية والسلامة- استولى عليه الشيطان وطلقها في آخر عمره فعاشت في شر عيشة، مع أنها كانت معه في فقرٍ وشدة وكانت بعد الله سبباً في صبره على كثير من الشدائد التي مر بها، فهذه أمور في الحقيقة يفضل أنه ينبه الناس عليها، خاصةً في هذا الزمان الذي لا يجد فيه الزوج من يصبره، وإلى الله المشتكى والله المستعان.(326/9)
مسألة: إذا طلق بعض نسائه مبهمة أم معينة ثم أنسيها ومات قبل القرعة
قال رحمه الله: [وإن طلق بعض نسائه مبهمة أو معينة ثم أنسيها ثم مات قبل قرعة اعتد كل منهن سوى حامل الأطول منهما].
(وإن طلق بعض نسائه مبهمة أو معينة) مبهمةً: أي: لم يحدد.
كأن يكون عنده ثلاث نساء فقال: واحدةٌ منكن طالق، فالطلاق وقع، ولكن لا ندري أيتهن التي طلقها.
كذلك أيضاً (معينة) لو قال: فلانة من نسائي طالق، وقال هذا في خلوته أو بحضور شخص، فنسي هو والشخص الذي معه من التي طلقها.
إذا أبهم الطلاق فقال: (إحداكن طالق) فقد تقدم معنا أنه يقرع بين النساء، فمن خرجت القرعة عليها فهي الطالق، وفي هذه الحالة إذا أجريت القرعة عرفنا من التي يقع عليها الطلاق، لكن الإشكال: إذا حصلت له الوفاة قبل أن يُقرع، فحينئذٍ تكون القرعة محتملة لكل واحدة، فكل واحدة منهن يحتمل أن تكون هي التي تخرج عليها القرعة لو أجراها في حياته، ومن هنا تلزم جميع نسائه بالأطول من العدة، سواء كانت عدة الوفاة أو عدة الطلاق؛ لما تقدم معنا في مسألة التداخل.
(أو معينة ثم أنسيها) القضية أن يكون هناك إبهام، إما إبهام في الأصل، أو إبهام طارئ، والإبهام الطارئ: أن يعين ثم ينسى.
(ثم مات قبل قرعة) نفهم أنه لو مات بعد القرعة فلا إشكال، فالتي خرجت عليها القرعة هي التي يتعلق بها الطلاق، والباقيات نساءٌ يرثن ويعتددن.
(اعتد كل منهن -سوى حامل- الأطول منهما).
سوى الحامل: فإنها تعتد عدة الوفاة أو عدة الحمل، والحامل بينا أنها تعتد بوضع جنينها؛ لأن ظاهر الكتاب والسنة دال على أن المرأة إذا كانت حاملاً ووضعت حملها انتهت عدتها، لكن بالنسبة للمطلقة فإنه ينظر إلى الأطول في عدتها، سواء عدة الطلاق أو الوفاة، كأن تكون واحدة من زوجاته صغيرة، والصغيرة التي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، وعدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، فتعتد عدة الوفاة؛ لأنها تكون في حكم الزوجة، وفي هذه الحالة نحكم بأنها تعتد الأطول وهي عدة الوفاة، وأسقطنا الأقل وهي عدة الطلاق الثلاثة الأشهر، ولو كان حيضها يطول فيه الطهر بين الحيضتين بحيث تستنفذ مدة الوفاة وتربو عليها فحينئذٍ تعتد بعدة الطلاق، سوى الحامل بنص الكتاب والسنة على أنها تعتد لوضع حملها، فقال رحمه الله: (سوى حاملٍ) وسوى من أدوات الاستثناء.(326/10)
الأسئلة(326/11)
اعتبار السقط في انقضاء العدة بعد التخلق
السؤال
هل السقط معتبر في انقضاء العدة؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد تقدمت معنا هذه المسألة وبينا أن الحمل إذا كانت فيه صورة الخلقة فإنه يحكم به ويعتد، وإذا كان لا تخلق فيه فإن وجوده وعدمه على حدٍ سواء، وتستأنف المعتدة عدة الوفاة إذا كان قد توفي عنها زوجها، وعدة الطلاق إذا كانت مطلقة.
فإذاً: لا بد من وجود صورة الخلقة، فإذا وجد فيه التخلق وكان ذلك بعد نفخ الروح فيه، فيأخذ حكم الحمل، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا وجه اعتبار هذا النوع من الحمل موجباً للخروج من العدة، وأنه تسري عليه أحكام العبادات من كون الدم دم نفاس، والله تعالى أعلم.(326/12)
حكم العزاء بعد ثلاثة أيام
السؤال
جاء في الشرع أنه لا يجوز الإحداد فوق الثلاثة أيام إلا للمرأة المنكوحة المتوفى عنها زوجها فيجب عليها إتمام عدتها، فهل يدل هذا على جواز العزاء بعد الثلاثة أيام؟
الجواب
ذكر بعض العلماء أنه لا يعزى إلا في الثلاث؛ لأنها أقرب شيء إلى المصيبة، ولذلك كانوا يشددون فيما زاد على الثلاث؛ لأنه تذكير بالمصيبة، والشريعة فرقت ما بين الثلاث وما بعد الثلاث، ومن هنا: كانوا لا يستحبون إذا تطاول الزمان أن يعزى الرجل؛ لأنه إذا تطاول الزمان وجاء يعزيه ذكره بالمصيبة، والمراد بالتعزية التثبيت عند المصيبة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) فالثلاثة الأيام هي القريبة من الصدمة الأولى، فهذا وجهها، فكانوا يعتدون بالثلاث، وظاهر السنة واضح في هذا: أنه جعل الحداد في ثلاثة أيام؛ لأنها قريبة من الصدمة الأولى، وما بعد الثلاث -يقولون- يختلف: فإذا كان هناك تقارب في الزمن فيمكن أن يعزى فيه، كشخص كان غائباً مسافراً وقدم من سفره، أو تعذر عليه الوصول خلال الثلاثة أيام، أو لم يعلم الخبر إلا بعد أسبوع، ثم جاء يطيب خاطر أهل الميت، فهذا لا بأس به، لكن إن تفاحش الزمان وطال فإنه تجديد للحزن، وهذا خلاف المقصود من العزاء وهو إسكان النفس من ثورة الصدمة وضررها، والله تعالى أعلم.(326/13)
العدل بين الزوجات
السؤال
من فارق زوجته بأن تزوج عليها ثم مات، فهل تعتبر الزوجة الأولى في عصمته وتعتد؟
الجواب
إذا (فارق) هذا فيه تفصيل، فإذا قصد بالفرقة الطلاق فلا إشكال أنها إذا خرجت من عدة الطلاق فهي أجنبية عنه، وأما ما يجري من بعض الناس -نسأل الله السلامة والعافية- إذا تزوج امرأة ثانية انقطع عن الأولى ولم يأتها، وربما لا ينفق عليها وهي في عصمته، فهذا ينطبق عليه الحديث الصحيح: (أن من تزوج امرأتين ولم يعدل بينهما أتى يوم القيامة وشقه مائل)، إما مشلول -والعياذ بالله- عقوبة من الله له لجوره وظلمه، أو كما يقول بعض العلماء: شقه مائل.
أي: كفة السيئات تميل بكفة الحسنات، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج) -يعني: عظيم الحرج والإثم- في حق الضعيفين المرأة واليتيم) كما في صحيح البخاري، وهذا يدل على أن ظلم المرأة إثم عظيم، والوزر المترتب على أذية النساء لمكان الضعف فيهن أعظم من أذية غيرهن، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي يوم القيامة وشقه مائل نسال الله السلامة والعافية.
وذكر بعض أئمة الحديث في شرحه أن المراد به: أن سيئاته تربو على حسناته لسبب ظلمه لفراشه وأهله، ولذلك كما أن خيركم خيركم لأهله، فمهوم ذلك أن من أشر الناس من كان شريراً على أهله وزوجه، فإذا فارقها بهذا الشكل، وتوفي عنها فهي زوجته وترث منه ويرثها ولو ماتت، وعليها عدة الوفاة بإجماع العلماء، والله تعالى أعلم.(326/14)
حكم الوصية بالثلث للمطلقة
السؤال
إن طلق الرجل زوجته وأراد الإصلاح والإحسان إليها كأن يوصي لها بالثلث، فما حكم ذلك؟
الجواب
إذا كانت المرأة لا ترث ووصى لها فجزاه الله خيراً، وهذا من حفظ المعروف، ومن البر، فإذا وصى لها بشيء من الميراث، فجبر كسرها وجبر خاطرها فهذا خير، والله تعالى يقول: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، ولذلك ليس هناك أكمل من شرع الله عز وجل، ولو تبجح الناس بحقوق المرأة فليس هناك على وجه الأرض أكمل ولا أتم من هذا الدين الذي وصى بالنساء وصيةً لا يمكن أن يُعلى عليه، ولا يمكن لأحد أن يبلغ ما بلغه هذا الشرع الكريم، فإن الله تبارك وتعالى وصى بالنساء خيراً، وثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك: ومن هنا إذا طلقت المرأة مع تفرقهما عن بعضهما، يقول الله تعالى: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، ثم يوصي بمتعة الطلاق فقال: {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236]، وجعل الإحسان أعلى مراتب العبادة لله عز وجل، ثم قال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241]، والتقوى كلها خير، فلا يحفظ هذا العهد إلا المحسن المتقي؛ ولذلك جاء رجل إلى القاضي الفاضل الإمام أبي أمية شريح الكندي رحمه الله برحمته الواسعة وقد كان قاضياً لثلاثة من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، جاءه رجل طلق امرأته فقال له: يا هذا! متع زوجتك متاعاً حسنا، فقال الرجل: لا.
فتلا عليه قول الله جل وعلا: {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236]، فأبى الرجل، فتلا عليه قول الله جل وعلا: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241]، فأبى الرجل، ومضت الأيام، ثم بعد مدة جاء هذا الرجل ليشهد في قضية فأهانه شريح ورد شهادته، وقال له: لا والله لا أقبل شهادتك، إنك أبيت أن تكون من المحسنين، وأبيت أن تكون من المتقين فلا أرضى شهادتك؛ لأن الله يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فلما أبى أن يكون من أهل التقوى، وأبى أن يكون من أهل الإحسان اعتبرها شريح طعناً في شهادته، فأذله وأهانه؛ وإسقاط الشهادة أمر عظيم، ولذلك أسقط الله شهادة القاذف، وأئمة السلف كانوا لا يتساهلون في مثل هذه الأمور التي وصى بها كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل الذي وصى للمرأة من ميراثه صاحب كرمٌ وفضل، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، والله تعالى أعلم.(326/15)
حكم بيع الجلود قبل دبغها
السؤال
هل يجوز بيع الجلد قبل الدباغ لشركات الدباغة؟
الجواب
الجلد قبل الدباغ على وجهين: الوجه الأول: أن يكون جلد مذكاة، فجمهور العلماء على أن جلدها وأجزاءها كلها طاهرة بالذكاة.
وأما بالنسبة للميتة التي ماتت حتف نفسها، فهل يطهر جلدها إذا دبغ أو لا يطهر؟ للعلماء رحمهم الله وجهان: أصحهما مذهب الجمهور: أن الأديم والجلد إذا دبغ طهر، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر)، وقوله في الصحيح: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، وقال في الحديث الحسن: (دباغ الأديم ذكاته) فإذا كان جلد ميتة ودبغ ثم بيع فلا بأس ولا حرج، وإذا كان جلد مذكاة فبيع قبل الدباغ فلا بأس ولا حرج، وإن كان جلد ميتةٍ وبيع قبل الدباغ فذلك لا يجوز؛ لأنه في حكم الميتة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خطب في الغد من يوم الفتح فقال: إن الله ورسوله حرم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام)، فهذا يدل على أن الميتة بجميع أجزائها التي تقبل الحياة لا يجوز بيعها، وبناءً على ذلك: فكما أنه لا يجوز بيع الميتة كلها فلا يجوز بيع أجزائها التي تقبل الحياة، فإذا دبغ جلدها صار طاهراً؛ لأن العلة في هذه الأربع النجاسات كما في حديث جابر بن عبد الله: إما معنوية أو حسية أو جامعة للحس والمعنى، ولذلك يقول العلماء -وممن ذكر هذا ابن رشد في بداية المجتهد -والأصل تحريم بيع الأعيان النجسة لحديث جابر بن عبد الله، فالنجاسة الأصل في تحريم بيعها حديث جابر بن عبد الله هذا، فإن من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر نجاسة في حيوان حي، ونجاسة في حيوان ميت، وذكر نجاسة الجامد والماء، وهذا لأجل أن يكون الحديث أصلاً لغيره فيقاس عليه غيره؛ لأن الشيء إما من الحيوانات وإما من غير الحيوانات، وغير الحيوانات إما جامد أو مائع، والحيوان إما حي أو ميت، فدل هذا على صحة القياس، وأن المقصود أن يلحق بهذه الأشياء غيرها، وبناءً على ذلك: فلو باع جلد الميتة قبل الدباغ، فإنه قد باع نجساً، والنجاسات لا يجوز بيعها في قول جماهير السلف والخلف، فلا يحل مالها ولا يحل أكل ثمنها، ولذلك حرم بيع الكلب وهو نجس، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثمن الكلب سحت)، وقد قال في حديث عبد الله بن المغفل في الصحيح: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات وعفروه ... )، الحديث، فنبه على نجاسته فإذا ثبت هذا فالبيع هذا فيه هذا التفصيل، وأما إذا كانت ميتة ودبغ جلدها فالحنابلة يقولون بنجاسته ولو دبغ ويستدلون بحديث عبد الله بن عكيم عن أشياخ بني جهينة أنهم أتاهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر أو شهرين: (أن لا تنتفعوا من الميتة بيهاب ولا عصب)، وهذا حديث ضعيف وهو مضطرب إسناداً ومتناً؛ ولذلك لا يُعارض، ولو قيل بتحسينه، فإنه لا يقوى على معارضة ما في الصحيح، وبناءً على ذلك فإننا نقول: إن جلد الميتة إذا دبغ حل بيعه؛ لأنه صار طاهراً، وإذا لم يدبغ بقي على الأصل، فهو نجس والنجاسة لا يجوز بيعها ولا شراؤها.
والله تعالى أعلم.(326/16)
حكم بيع المنابذة
السؤال
إذا كان المشتري يجهل أوصاف السلعة فنبذ البائع على المشتري هذه السلعة دون أن يطلبها أو ينظر إليها.
فهل هذه الصورة جائزة؟
الجواب
إذا نبذ الشيء المبيع ومن يشتريه يعرف صفاته؛ فإنه يصح شراؤه؛ لأن المحرم بيع المجهول، والجهالة نوعٌ من الغرر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن بيع الغرر)، فكل بيعٍ لمجهولٍ في صفته، أو قدره، أو وجوده، أو سلامته، أو بقائه لا يصح.
المجهول في قدره: كبيع الحصاة، يقول له: أبيعك ما انتهت إليه الحصاة، فهذا مجهول القدر، أو تقول: أبيعك هذه الدار بدنانير، فالدنانير مجهول قدرها، وكذا لا يصح مجهول الصفة كأن تقول: أبيعك سيارةً بعشرة آلاف، فلا يصح حتى تبين نوع السيارة وصفاتها، أو تقول: أبيعك بيتاً بمائة ألف، فلا يصح حتى تبين صفة البيت ومكانه بما يندفع به الغرر.
أما المجهول في الوجود -هل هو موجود أو غير موجود- كأن يبيع ما في بطن الشاة أو ما في بطن الناقة كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حبل الحبلة)، فإننا لا ندري هل هذا الذي في بطنها نفخ أو جنين، ثم هو مجهول السلامة فلا ندري هل هو حي أو ميت، وهو مجهول الصفة -أيضاً- لأنه بعد خروجه من بطن أمه لا ندري أهو كامل الخلقة أو ناقص الخلقة، فكل هذه البيوعات حرمها الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، لمكان الغرر وجهالة؛ ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عن الجميع-: (بيع الثمر قبل بدو صلاحه)، لأنه مجهول السلامة.
وقال -كما في الصحيح من حديث أنس - (أرأيت: لو منع الله الثمرة على أخيك فبم تستحل أكل ماله)، فالثمرة قبل بدو صلاحها معرضة للتلف، ولكن إذا بدا صلاحها فالغالب السلامة كما تقدم معنا في كتاب البيوع، فهذا النوع من البيوعات حرمه الله ورسوله لمكان الغرر، فإذا قال له: أبيعك سيارةً، وهو يعلم سيارته ويعرفها، وليس عنده سيارة غير هذه السيارة التي يعرفها بصفاتها جاز، أو يقول: أبيعك مزرعتي وهو يعرف مزرعته، أو أبيعك عمارتي وليس عنده إلا هذه العمارة، ولم يصفها له وكان المشتري على علم بها، جاز، وبناءً على ذلك فيصح البيع بشرط: أن لا تكون السلعة قد اختلف حالها بعد العلم، فإن اختلف شيءٌ من حالها بعد العلم كان له الخيار، وعلى كل حال: فمعوّل القضية ومدارها يدور حول زوال الجهالة والغرر، فإن كان يعلم فقد زال الغرر من جهة الجهالة ويصح البيع، والله تعالى أعلم.(326/17)
حكم الضفائر من الخيوط التي توصل بالشعر
السؤال
ما حكم ضفائر النساء التي تُعمل من الخيط وتضفر مع الشعر ومن يراها يعرف أنها خيط وليست شعراً، علماً أن الخيط الذي يضفر له عدة ألوان؟
الجواب
هذا من الوصل الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعله، ومن فُعِل به ذلك، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة)، والسبب في ذلك: أنه لا يجوز تغيير خلقة الله، ومن خلقة الله أن المرأة إذا كان شعرها قليلاً يترك كما هو ولا يوصل، ولذلك لما جاءت المرأة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شعر ابنتها قليل؛ فقالت له: أفأصله؟ فلعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة، مع أن عندها عذراً، وهذا النوع من الفعل سواء كان الخيط على لون الشعر أو على غير لون الشعر، لا يجوز.
وينبغي على المسلمة أن تجتنب هذا الأمر وأن تنصح من ترى من النساء يفعلن هذا، ففيه اللعنة، ومن لعنه رسول صلى الله عليه وسلم فقد لعنه الله، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، واللعن أمره عظيم، فعلى المرأة أن تتجنب ذلك، والسبب في هذا -كما ذكر العلماء- أنه راجع إلى الاعتقاد؛ لأن الواجب على المسلم إذا أعطي خِلقة أن يرضى بها، سواء في شعره أو في جسده، أو في طوله، أو في قصره، يجب عليه أن يرضى بذلك، فإذا لم يرض بقسمة الله عز وجل جاء اللعن من هذا الوجه؛ ولذلك كان الوعيد شديداً والعقوبة أليمة؛ لأنه متعلق بالعقيدة؛ وليست القضية في فعلها؛ إنما الأمر في الاعتقاد، وقد يقول قائل: لماذا ضُيق في هذا الأمر؟ فنقول: لما فيه من عظيم الحكمة، فإن المرأة إذا دخلت على النساء وشعرها قصير، رأتها المرأة ذات الشعر الطويل فحمدت نعمة الله عليها وعرفت فضل الله عليها، فصار أجراً للمبتلاة وذكراً لغير المبتلاة، وكذلك في الخلقة -مثلاً- لو كان أعمى، وكانت عينه عوراءً -مثلاً- فتترك على خلقتها، ولا يستخدم العدسات أو الأشياء التي تركب حتى تظهر العين بصورة جميلة وكأنها عين مُبصر، فهذا كله من تغيير الخِلقة بل تترك كما هي؛ لأن هذا هو الأصل، ولذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم -نسأل الله السلامة العافية- المغيرات لخلق الله.
وجعل اللعن في النساء؛ لأنهن أحوج وأشد حاجة من الرجال، فتترك الخلقة كما هي في صورة الجلود وصورة الأعضاء والشعر، ويُرضى بقسمة الله عز وجل، فذلك أتقى لله وأعظم أجراً للعبد عند سيده ومولاه، والله تعالى أعلم.(326/18)
حكم أخذ أنقاض البيوت التي تهدم مقابل التعويض
السؤال
إذا أُعطيت بدل بيتي بيتاً آخر فهل يجوز أن آخذ الأخشاب التي في البيت مع العلم أن الجهة التي تقوم بهدم البيت لا تهتم بمثل تلك الأنقاض؟
الجواب
بالنسبة لأنقاض البيوت التي تُهدم، إذا كانت ملكاً لبيت مال المسلمين فلا يجوز استحلالها إلا بوجهٍ شرعي، ولا يملكها أحد؛ لأنها لبيت مال المسلمين، والأصل يوجب أن تُباع ثم توضع في بيت مال المسلمين، وأما إذا كان الذي اشترى منك البيت وهدمه غني وثري ولا يريد هذه الأشياء، وأذن للناس أن يأخذوها، فلا بأس أن تأخذها أنت وغيرك فيها على حدٍ سواء، والحق لمن سبق أو من خصص له المشتري أن يأخذ ذلك الشيء، وبناءً على ذلك يفصل في هذه المسألة فنقول: لا بد من وجود الإذن الشرعي أو الإذن من المالك، وإذا وجد الإذن جاز للغير أن يأخذها، وأنت من الغير فلا بأس أن تأخذها ولا حرج عليك، والله تعالى أعلم.(326/19)
حكم الدم الخارج من المرأة قبل الولادة بيوم أو يومين
السؤال
ما هي أحكام الدم الذي يخرج من المرأة الحامل قبل الولادة بيوم أو يومين، وهل تصلي إذا تأخرت الولادة؟
الجواب
الدم إذا سبق الولادة بيوم فإنه من دم النفاس، لأن النفاس قد يسبق الولادة، وقد تأتي المرأة عند نفاسها فيخرج الدم أولاً ثم يخرج الولد، وقد يخرج الولد ثم يخرج الدم من بعده على الصورة الغالبة، فإذا سبق الدم بزمن يسير فإنه دم نفاس، ولذلك يأخذ حكم دم النفاس، وإذا صامت ذلك اليوم لزمها قضاؤه ولا تلزمها الصلاة فيه، فيسري عليها ما يسري على المرأة النفساء، أما إذا تفاحش وسبق الولادة بأسبوع أو بعشرة أيام -مثلاً- فهذا دم استحاضةٍ؛ لأن الحامل لا تحيض على أصح قولي العلماء، رحمهم الله، وبناءً على ذلك: فإنه إذا سبق على هذا الوجه تأكدنا أنه استحاضة ويكون حكمها حكم الطاهرة فتصلي وتصوم، والله تعالى أعلم.(326/20)
الجمع بين النهي عن ذكر مساوئ الميت وحديث ثناء الناس على الجنازة شراً
السؤال
كيف نوفق بين أمر النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم بالكف عن ذكر مساوئ الميت وبين ثناء الناس على الميت شراً وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (وجبت).
الجواب
كلا الأمرين والحديثين ثابت عن رسول الله صلى الله عليه سلم، فقد أمر بالكف عن مساوئ الموتى وذكر محاسنهم، وكذلك سمع صلى الله عليه وسلم من أثنى على الميت شراً، والجواب -فيما يظهر والله أعلم- أن الثناء على الميت بالشر راجع إلى جهة المظلمة مثلاً: شخص مظلوم تكلم -مثل ما جاء في الحديث أنهم أثنوا عليه شراً -فيجوز للشخص إذا كان مظلوماً أن يقول: هذا الظالم، هذا الذي أكل مالي، هذا الذي فعل كذا وكذا، مما فعل معه من الإساءة، فإذا قال ذلك على سبيل التظلم فهو مما استثني شرعاً: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، فالمظلوم من حقه أن يتظلم، ومن حقه أن يبين مظلمته فهو متضرر ولا حرج ولا عذل عليه إذا حكى ما وقع له من الظلم، فإن قالوا له: مات فلان، وقال: الذي فعل بي وفعل، فهذه أشياء تحدث في الجنائز، وتحدث عند سماع خبر الوفاة، وهذا هو الذي وقع في حديث عمر: أنه مُرّ بجنازة فأثني عليها شراً أي: لما مروا قالوا: هذه جنازة فلان، فقال فلان: هذا الذي فعل، وهذا الذي فعل، وهذا الذي فعل -هذا بالنسبة لحقوق الآدميين- فإن كان الثناء الذي في حديث عمر رضي الله عنه بالشر على الجنازة في حقوق الآدميين فلا إشكال؛ لأنها مظالم وتحكى، فصاحبها متظلم ويحكيها كما يحكيها في حياته وفي وجهه، وأما بالنسبة لو كانت تلك المظالم مظالم فيما بينه وبين الله، فيفرق بين الاتفاق والقصد، فإنه لما مُر بالجنازة اتفق الحال فقالوا: هذا فلان فأثنوا بالشر اتفاقاً لا قصداً، وأما بالنسبة لذكر مساوئ الموتى وتتبع عثراتهم، والاشتغال بها والتكلف في ذكرها فلا.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفوا عن مساوئ موتاكم واذكروا محاسنهم)، وما وقع من الصحابة يحتمل أنه قبل أمره عليه الصلاة والسلام بالكف عن مساوئ الموتى، ويحتمل أن يكون بعد الأمر، ويكون الصحابي لم يبلغه، وقوله عليه الصلاة والسلام (وجبت) حكم مترتب على الثناء بغض النظر عن كونه يجوز أو لا يجوز.
والله تعالى أعلم.(326/21)
حكم الإشهاد على الدين
السؤال
هل يجب الإشهاد على الدين، وهل يجب تحديد مدة الدين كسنة أو سنتين؟
الجواب
الإشهاد على الدين ليس واجباً على إطلاقه، فإذا استدان الشخص من أخيه المسلم فالأصل يقتضي أن تكتب هذه الديون وتُحفظ، فإذا حفظت بالشهادة أو بالكتابة فلا إشكال، أو يكتب في وصيته: أن لفلان عليّ كذا وكذا، فإذا حدثت هذه الأشياء أغنت، والشهادة ليست بشرط، فلو كتب في وصيته أجزأ، لكن إذا كان الدين ليس له توثيق لا بكتابة ولا بوصية، وليس هناك ما يدل على ثبوته، كأن يعطي أحدهما الآخر -مثلاً- مائة ألف ريال أو عشرة آلاف ريال في معاملة بينهما، فحينئذٍ يجب الإشهاد على الدين؛ لأن قضاء الحقوق واجب، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر برد الحقوق، ولا وسيلة لقضاء الحق إلا بالشهادة، وما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب، ومن هنا: إذا كان الذي استدان لا يحفظ الدين الذي عليه إلا بالشهادة فالشهادة واجبة.
إذاً: التفصيل في الشهادة كالتفصيل في الوصية، فمن كانت عليه حقوق وأعطى أصحابها ما يوثق هذه الحقوق فالوصية في حقه مستحبة، وأما إذا كانت الحقوق التي أخذها من الناس لم يشهد عليها وليس هناك ما يثبتها فيجب عليه أن يكتبها في وصيته؛ لحديث ابن عمر في الصحيح: (ما حق امرئ مسلم يبيت وله شيء يريد أن يوصي فيه فيبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عند رأسه)، فدل على وجوب توثيق الحقوق والاحتياط فيها، والخلاصة: أن الدين إذا كان محفوظاً كأن يكتب ويسجل في سجلات أو يضبط بكتابة بينهما، أو يوثق بأي وجه فالشهادة فيه غير لازمة، وأما إذا كان غير موثق، وإذا مات أحد الطرفين لم يستطع توثيقه فإنه حينئذٍ يجب توثيقه ويلزم، والواجب على المسلم أن يحتاط في ذلك: وأن يحتاط في حقوق الناس، وأن يعلم أنه إذا توفي مديوناً فإن نفسه مرهونة بهذا الدين، فعليه أن يسعى في حفظ حقوق الناس، وعدم إضاعتها حتى لا يرهن بتلك الحقوق، والله تعالى أعلم.(326/22)
حكم من جاوز الميقات في الحج دون أن يحرم لعدم علمه
السؤال
شخصٌ ركب الطائرة يريد الحج أو العمرة فلما حاذت الطائرة الميقات وأعلن عن ذلك لم يفهم لغة من أعلن حتى جاوز الميقات، فماذا يجب عليه، علماً أنه جاء إلى المدينة، وهل يحرم من ذي الحليفة؟
الجواب
إذا جاوز الميقات فإنه يجب عليه أن يرجع إلى ذلك الميقات، ويجوز أن يرجع إلى أبعد منه أو إلى مثله، فلو كان من أهل الرياض -مثلاً- وجاوز ميقات السيل ونزل بجدة جاز له أن يحرم من رابغ؛ لأنها أبعد من السيل، ويجوز له أن يحرم من يلملم؛ لأنها مثل ميقات السيل، فكلاهما على مرحلتين من مكة، وإذا رجع إلى المدينة -يعني: نزل إلى جدة ثم سافر إلى المدينة- فحينئذٍ لا إشكال؛ لأنه انتقل من الميقات الأدنى إلى الميقات الأبعد، ويلزمه الإحرام من المدينة وجهاً واحد؛ لأنه قد مر على ميقات المدينة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الميقات لأهله ولمن مر عليه من غير أهله، فلو أنه أحرم في الأول لانعقد إحرامه من ميقات بلده، ولكنه لما ترك الإحرام ونزل إلى المدينة لزمه الميقات الأبعد فيحرم من ميقات المدينة، والله تعالى أعلم.(326/23)
ضوابط في نقل الفتوى وأقوال العلماء
السؤال
إذا سأل شخصٌ طالب علم فأفتاه بفتوى عالم فهل هذا يعتبر مجرد نقلٍ للفتوى لا تلحق الناقل أي تبعات أم أنه يعتبر من الفتوى؟
الجواب
هذه المسألة (مسألة التقليد في الفتوى) والعلماء رحمهم الله قد اختلفوا في هذه المسألة، لكن عند من يقول بجواز نقل فتوى العالم يشترط شروطاً، منها: أولاً: أن يكون طالب العلم على مستوى من الفهم والضبط للفتوى التي سمعها وللسؤال الذي ورد عليه.
ثانياً: لابد وأن تكون الفتوى مطابقة ومماثلة للفتوى المسئول عنها، فإذا كان لا بد من المماثلة والمطابقة من حيث المضمون فإنه يستلزم الأهلية عند طالب العلم، ومن هنا لا ينبغي للإنسان أن يأتي ويقرأ الفتاوى على الناس في المسجد دون أن يكون عنده علم وإدراك، فالناس تسمع هذا الفتاوى وتطبقها كيف شاءت، ومقام الفتوى شدد فيه العلماء؛ لأن الفتوى علمٌ له أهله، وليس كل من نصبته الناس وجاءت تسأله في مسجده وفي سوقه وفي عمله أهل للفتوى أبداً.
الفتوى مسئولية عظيمة، ولذلك يوصف العالم بأنه موقعٌ عن رب العالمين، وليس هناك مقام بعد مقام النبوة أعظم من مقام العلم الذي منه الفتوى، فهذا المقام العظيم يشترط في صاحبه أن تتوفر فيه الأهلية، فإذا أراد أن ينقل الفتاوى وأن يكون من طلاب العلم المنشغلين بنقل الفتاوى فلا بد وأن يدرس الأمور المهمة التي ينبغي توفرها في الشخص الذي يتولى نقل فتاوى العلماء، فيحتاج إلى قوة في الذكاء، وقوة في فهم أسئلة الناس والمراد من السؤال، وما وراء السؤال من المقصود، ويستطيع أن يفهم العبارات التي تستخدم في السؤال والكلمات، ومدلول الكلمات، فهذا أمر لا بد من العناية به، مما يحتم على طلاب العلم أن يكونوا على قرب من أهل العلم ليجمعوا بين العلوم النظرية والتطبيق، ولا يكفي أن يكون الطالب مع العالم يسمع فتواه؛ فإنه قد يسمع الفتاوى مختلفة فيحدث عنده التباس وقد يظن أن الشخص تناقض، ولكن الواقع أن الشيخ راعى حال السائل، وقد كنا نجد بعض مشائخنا رحمةُ الله عليهم في بعض الأحيان أضيق ما يكونون حالاً، وفي بعض الأحيان أشرح ما يكونون صدراً، ويسألهم السائل فتجدهم يعطونه الجواب ويفصل، ويبينون له القضية، ثم تجدهم مع شخصٍ آخر يضيقون عليه، وقد كنت مع الوالد رحمةُ الله عليه أسأله بعض الأحيان عن ذلك، لماذا هل فلان يضيق عليك؟ فيقول: يا بني! لأجل تعلم -ولا يجوز لي أن أغتاب الناس- لكني ألاحظ عليه وأعرف أنه صاحب فتنة، ومنهم من يقول لي: هذا ينقل بين المشايخ ويوقع ويغرب على هذا ويضرب العلماء بعضهم ببعض، وأشد ما تكون النميمة وأسوأ ما تكون بين العلماء، فكان العلماء رحمة الله عليهم لهم فراسة ومعرفة، وكان الوالد بعض الأحيان يقول لي: هذا رجل عجل لا يصلح للعلم فأنا أخشى أن مثل هذا يقلد هذا الشيء فيضر بالمسلمين، وللعلماء نظرات في بعض الأشياء والتصرفات، وبعض الأحيان كنت أجد الوالد ضيقاً فأنظر في حاله فيكون مريضاً، وفي حال المرض بعض الأحيان أجد عنده نوعاً من توطئة الكنف واللين، وبعض الأحيان أجده شديداً ضيقاً فيكون مرضه سبب شدته وضيقه خاصة في آخر عمره رحمة الله عليه عندما كان يتعاطى بعض الأدوية فتتغير طباعه ويضيق فأتعجب من بعض الفتاوى التي كنت أسمعها بالأمس وأسمعها اليوم، فأعرف أن حاله لا يسمح، ولو كنت طالب علم مبتدئاً وجئت وسمعت فتواه في آخر عمره التبس عليك الأمر، لكني أعرف ما الذي يقصده وما الذي يريده، لذلك يحتاج بعض العلماء أن يكون طالب العلم على دراية بأحوالهم، هذا إذا كان يريد أن يصل إلى درجات الكمال، والله يحب من عبده أن يتقن، وأولى ما يكون فيه الإتقان وأفضل ما يكون في العلم وفي الدين والشرع؛ ولذلك تجد طلاب العلم الذين يصحبون العلماء بدقة وأمانة وتحفظ ورعاية لا يلبث إلا أن يفتح الله عليهم حتى يوفقون ويسددون ويعانون وينصرون من الله عز وجل، وكنت والله -حتى بعض المشايخ ومنهم الوالد رحمة الله عليهم- أسمع بعض الفتاوى وأستغرب منها، ولكن لما أجلس معه وأسأله وأراجعه أجد عنده من الأعذار ما لو لم اطلع عليه لم أعذره، لكن حينما بلينا بما بلوا به وتحملنا اليسير مما تحملوه -والله المستعان- أصبحنا نلوم أنفسنا على ما وجدنا في أنفسنا؛ ولذلك الفتاوى علمٌ خاص، لا يصلح له كل أحد، وليس كل واحد يصلح لنقل فتاوى العلماء، والواجب أن ننصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نتقي الله في هذه الأمة، فلا يقلد الفتوى كل من هب ودب، ولا ينقل الفتوى كل من هبّ ودب.
وهنا نقطة أحب أن أنبه إليها: ليس من الحكمة والمصلحة أن تنقل الفتوى، مثلاً: بعض الناس يكون غنياً ثرياً متكبراً، عنده أنفة، لا يرجع إلى العلماء، ولا يريد أن يسأل أهل العلم، فمثل هذا تزجره، ولا تكن عوناً له على الكبرياء، بل تقول له: اذهب واسأل، وتهينه؛ لأنه يتعالى على العلم، فإذا نقلت الفتوى فأنت تعينه على الكبر، فلو أنه أراد أن يبني عمارة وأن يشتغل في تجارة لذهب إلى المستشارين والمهندسين وأهل الشأن في محلاتهم، ولكن للدين لا: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74]، والله غني عنه، فالله ليس بحاجة إلى أحد: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، وأهل العلم في غناء عن الخلق، وليس هناك أحد أغنى بالله عز وجل بعد الأنبياء من أهل العلم، ومن ظن أنهم بحاجة إلى أحد، فوالله إنه مخطئ، ولا يعرف قدرهم ومنزلتهم، ولا يعرف العلم الذي قذفه الله في قلوبهم.
إذاً: لا تنقل الفتوى لأمثال هؤلاء المتكبرين -وبعض الأخيار يعين أمثال هؤلاء- وأنت لما تقول له: اذهب للعالم واسأله، فقد يأتي مجلساً من مجالس العلم وتتغير حياته كلها.
ومن ذلك ما حدث لرجل كان ثرياً غنياً لا يعرف العلماء ولم يعاشرهم فابتلي بقضية احتاج فيها إلى أهل العلم، فطلب أحد الأخيار وجاءه وجلس معه وحضرت الصلاة فقال له: قم نصلي، فقال: كيف؟ هذه حسابات، فقال له: قم نصلي، الآن وقت الصلاة ويجب أن نصلي، قال: -نسأل الله العافية- لما ذهبنا لنتوضأ إذا بالرجل لا يحسن الوضوء، فلما توضأ جاء وصلى صلاة المغرب في المسجد وبعد الصلاة قال له: نقوم! وإذا بالرجل جالس يذكر الله، قال: فلما أطال تركته فأطال -ولا أدري هل قال له: نقوم أو لا- فإذا بالرجل جالس مستأنس، قد وجد راحةً نفسية ما حلم بها في حياته كلها، وانتظر إلى أن صلى العشاء ثم ما زال جالساً وقال: شعرت بسعادة ما شعرت بها من قبل.
هذا متى؟ لما احتك بأهل العلم، ولما احتك بمن يتقي الله عز وجل، فقد يأتي إنسان من الأثرياء يتأدب في المجلس هذا، وقد يؤثر احتكاكه بأهل العلم في دينه وخلقه، وقد تكون فاتحة لاتصاله بالعلماء.
إذاً: نقل الفتاوى له سلبيات ووراءه تبعات.
وأذكر أن بعض مشايخنا كان يقول للسائل: اذهب وقل لصاحب السؤال أن يأتي، وما يفتيه، وبعض الأحيان الفتاوى لا بد فيها من حضور الشخص بنفسه، فنقل الفتاوى لا يكفي، وينبغي على الإنسان دائماً أن يضبط العلم وأن يتحرى فيه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(326/24)
شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [4]
من أنواع المعتدات من يجري معها الحيض، ومنهن من لا يجري معها الحيض إما لصغر أو لكبر، وكل واحدة منهن لها حكمها الخاص وتفصيلاتها عند العلماء رحمهم الله في كتبهم.(327/1)
عدة الحائل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [الثالثة: الحائل ذات الأقراء].
شرع المصنف رحمه الله في بيان عدة المرأة التي تحيض؛ لأن الله تبارك وتعالى قسّم المعتدات إلى أقسام، كما بيّن المصنف رحمه الله، ومن هذه الأقسام التي ذكرها الله سبحانه وتعالى: ذوات الأقراء، فقال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه الآية الكريمة: هل المراد بالقرء: الحيض، أو المراد بالقرء: الطهر؟ وقد تقدم معنا في كتاب الطهارة أن المرأة تحيض، ويجري معها الدم أياماً معدودة ثم ينقطع، ثم يعاودها بعد ذلك في الحيضة الثانية، فما بين الحيضة الأولى والحيضة الثانية طهر، فهل مراد الله عز وجل في هذه الآية الكريمة أن تكون العدة ثلاثة أطهار، بمعنى: أن تمر عليها ثلاثة أطهار متتابعة يحتسب فيها طهر الطلاق؟ فالسنة في الطلاق إذا طلق الرجل زوجته أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن ابن عمر: (مره فليراجعها وليطلقها حائلاً أو حاملاً).
فالحائل: هي المرأة التي لا حمل فيها، وتكون حائضاً وتكون طاهراً، فهل المراد: أن يمر عليها ثلاثة أطهار: الطهر الأول الذي طلقت فيه، ثم تحيض، ثم تطهر الطهر الثاني، ثم تحيض، ثم تطهر الطهر الثالث؟ ففي هذه الحالة ثلاثة أطهار، وإذا طهرت ثلاثة أطهار خرجت من عدتها، أو المراد أن تحيض ثلاث حيضات، فإذا طلقها في الطهر انتظر حتى تأتيها الحيضة الأولى بعد الطهر، فتحتسب الحيضة الأولى ثم تطهر، ثم تحيض الحيضة الثانية ثم تطهر، ثم تحيض الحيضة الثالثة؟ فهذه ثلاث حيضات.(327/2)
المراد بالقرء واختلاف العلماء فيه
اختلف العلماء رحمهم الله في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] هل المراد بالقرء الطهر أو الحيض على قولين مشهورين عن الصحابة والتابعين، وأئمة العلم رحمة الله عليهم أجمعين:(327/3)
القول الأول: أن المراد بالقرء الطهر
وحينئذٍ تعتد ثلاثة أطهار، وهذا القول قالت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكذلك قال به إمام التفسير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه شيخ ابن عباس، وكذلك قال به عبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع.
وممن قال بهذا القول بعض أئمة التابعين كـ سالم بن عبد الله بن عمر، والإمام الزهري وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب المالكية والشافعية رحمة الله على الجميع، فهؤلاء الأئمة من أئمة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المذاهب الأربعة يقولون: تعتد ثلاثة أطهار.(327/4)
القول الثاني: أن المراد بالقرء الحيض
وهذا القول أثر عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقال به بعض تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما، ويحكى أيضاً عن ابن عباس، وهو مذهب الحنابلة والحنفية، وأهل الرأي من فقهاء الكوفة وغيرهم رحمة الله عليهم أجمعين، وهو الذي اختاره المصنف؛ لأن المذهب عليه.(327/5)
أدلة من قال إن المراد بالقرء الطهر
واستدل الذين قالوا: إن المراد بالقرء: الطهر في الآية الكريمة بدليل من الآية نفسها؛ وذلك أن الله تعالى قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، والعرب تقول: (ثلاثة أطهار) ولا تقول: (ثلاثة حيضات) لأن العدد (ثلاثة) تذكره إذا كان المعدود مؤنثاً، وتؤنثه إذا كان المعدود مذكراً، فدل على أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) أي: ثلاثة أطهار.
ثانياً: أن لسان العرب في مادة: (قرء) يطلق بمعنى: الاجتماع، ومن هنا فالدم يجتمع في الطهر وينفجر في الحيض، فيكون إطلاق القرء على الحيض؛ لأنه يجتمع فيه الدم، ولذلك يقال: مقراة، لمكان اجتماع الماء عند البئر، قال امرؤ القيس: فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل فقالوا: (القرء) للاجتماع، ومنه سميت القرية؛ لاجتماع أهلها فيها، فإذا كان مادة: القرء أصلها للاجتماع فإن الدم يجتمع في الطهر ولا يجتمع في الحيض؛ لأنه في الحيض ينفجر ويخرج، فيكون في الآية قرينة على أن المراد بالقرء: الطهر.
كذلك أيضاً استدلوا بقوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وبين النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية أن المراد بها (في عدتهن) فاللام في قوله: (لعدتهن) أي: (في عدتهن)، وبناء على ذلك: فقد دلت الآية على أن الطلاق يكون عند ابتداء العدة، والعدة تكون من الطلاق كما جاء في آية البقرة، ولا يمكن أن يقع الطلاق على الوجه المشروع إلا إذا كان في الطهر لا في الحيض، فيكون قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] أي: في عدتهن عند الاستقبال؛ لقوله في الصحيح: (وليطلقها لِقُبل عدتها) يعني: عند استقبالها للعدة، فإذا وصف الله عز وجل الطهر بأنه بداية العدة دل على أنه هو الذي يحتسب به في العدة، وهذا من أقوى الأدلة، ولذلك (اللام) بمعنى (في)، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، أي: في يوم القيامة، (فاللام) تطلق بمعنى (في) في لسان العرب.
وقالوا: إن هذا يدل على أن المراد بالقرء في الآية الكريمة: الطهر.
وأما الذين قالوا: إن المراد به: الحيض قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض، وقالوا: عندنا دليلان: دليل من اللسان الشرعي وهي الإطلاقات الشرعية، وعندنا أيضاً دليل من حيث الاستعمال اللغوي، فمثلما أن الأولين عندهم الدليلان كذلك نحن عندنا الدليلان من هذين الوجهين.
قالوا: إن الله تعالى يقول: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، والمرأة إذا اعتدت بالحيض تمت لها ثلاث حيضات كاملة، ولكنها إذا اعتدت بالطهر سيكون عندها الطهر الثالث ناقصاً؛ لأنها إذا طلقت في الطهر الأول فإنه يحتسب من العدة، وحينئذٍ يكون الطهر ناقصاً، فمعناه أنهما طهران كاملان وشيء، والله عز وجل يقول: (ثلاثة)، والثلاثة لا تكون تامة كاملة إلا بالحيض لا بالطهر، هذا من جهة قوله: (ثلاثة قروء).
ثانياً: من جهة السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) كما في الصحيح، وقوله: (أيام أقرائك) يعني: أيام حيضك، فدل على أن المراد بالقرء في القرآن: الحيض.
هذا في الحقيقة مجمل ما ذكر، وهناك استدلالات أخر لكن هذه أقوى الوجوه، والحقيقة أن القول الأول القائل بأن المراد بالقرء: الطهر، أقوى وأرجح، وذلك لأن ثلاثة أطهار، واضح الدلالة من جهة المعدود.
وأما استدلال من قال: المراد به: الحيض، بأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض فهذا محل إجماع بين العلماء، والقرء يستعمل في الحيض ويستعمل في الطهر، فإذا كان يستعمل في الحيض والطهر فلا مانع أن تكون الآية وردت باستعماله في الطهر ووردت السنة لاستعماله في الحيض؛ لأن حديث: (دعي الصلاة أيام أقرائك) متعلق بالقرء في باب الطهارة، ونحن في باب المعاملة وهي الزوجية، وهناك فرق بين أحكام الحيض في العبادة وأحكام الحيض في المعاملة، فلا مانع أن يطلق على الحيض: قرءاً؛ لأن العبادة تمتنع في حال الحيض، ولكن العدة لا تمتنع في حال الحيض، ومن هنا كان إطلاقه عليه الصلاة والسلام لهذا اللفظ منتزعاً من الأصل اللغوي بأن القرء يطلق على الحيض والطهر، وهذا لا نجادل فيه، وإنما نريد قرائن تدل على قوة إرادة هذا أو هذا، فلما جاء المعدود مذكراً دل على أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) أي: ثلاثة أطهار.
كذلك أيضاً الاعتراض على تفسير قوله: (ثلاثة قروء) بالطهر، بأنه يلزم أنها تعتبر بعض الطهر، وأنها في الحيض تعتبر الحيض كاملاً يجاب عنه بوجهين: الوجه الأول: أنهم يعترضون على اعتبار الطهر ناقصاً فيكون لها طهران وشيء، وهم يقعون في الزيادة؛ لأنهم يلغون الحيضة إذا طلقها في الحيضة، فلا تحتسب عندهم وجهاً واحداً، فإذا طلقها في الحيضة لم تحتسب، وظاهر السنة يدل على هذا، فمعنى ذلك أنها ستزيد إلى أكثر من ثلاث حيضات، وحينئذٍ تطول عدتها، فكما اعترضوا بالنقص يعترض عليهم بالزيادة، فقد قال: (ثلاثة) فكما أنكم زدتم عليها فنحن ننقص منها، فإن أوردتم على النقص أوردنا على الزيادة.
الوجه الثاني: أننا لا نسلم أنه يمتنع إطلاق الثلاثة على بعض الشيء؛ لأن العرب تطلق على الاثنين وشيء: ثلاثة، مثلما تطلق على من دخل في بداية السنة الثالثة أن له ثلاث سنوات، وهنا إذا تمت وأخذت طهرين ودخلت في الثالث أو كان طلاقها في الثالث فرفقاً من الله عز وجل يحتسب الثالث؛ لأنه طهر؛ والمراد منه النقاء.
أما الدليل على أنه يطلق على الشيئين وبعض الشيء فهم أنفسهم يقولون في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] قالوا: جمع، والجمع لا يطلق على أقل من ثلاثة كما هو مذهب الحنابلة والحنفية أنفسهم، ومع ذلك يقولون: شهران وبعض الشهر؛ لأن المقصود: شهر شوال، وشهر ذي القعدة، وينتهي الإحرام للحج ببزوغ فجر العاشر من ذي الحجة، وحينئذٍ يكون المقصود شهرين وبعض الشهر، وقال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، وأنتم تقولون: إن الجمع لا يطلق على أقل من ثلاثة، وهنا أطلقتم الجمع على الاثنين وبعض الثالث، وبناء على ذلك يرد على الاعتراض بالنقص ويقوي قول من قال: إن المراد بالقرء: الطهر، خاصة وأن هذا التفسير للقرآن جاء من زيد رضي الله عنه وأرضاه، وكان إماماً في كتاب الله عز وجل، حتى إن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما كتبوا كتاب الله عز وجل وأرادوا جمعه لم يجدوا أحداً يقدم عليه رضي الله عنه وأرضاه، وابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن انتفع من علم زيد، وأخذ التفسير عن زيد وهو أعلم بدلالة القرآن، ومكانته معروفة رضي الله عنه وأرضاه، حتى إن أبا هريرة رضي الله عنه لما بلغته وفاة زيد بكى رضي الله عنه وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً، ولكن لعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس منه خلفاً)؛ لأنه كان مبرزاً في التفسير، وابن عباس رضي الله عنهما أخذ منه.
وتفسير (القرء) بمعنى: الطهر مأثور عن أم المؤمنين عائشة وهي رضي الله عنها أعلم بشئون النساء، وأعلم بما يكون من حيضهن، وأعلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، حتى إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يرجعان إليها في أمور النساء وما يختص بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وهذا الذي تطمئن إليه النفس: أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) يعني: ثلاثة أطهار.
هذا حاصل ما يقال في المطلقة إذا كانت من ذوات الحيض فتعتد بثلاثة أطهار، وبناء على ذلك: إذا كنت حائلاً، أي: غير حامل ويجري معها دم الحيض ولم تكن آيسة ولا صغيرة ولا انقطع دمها فإنها تعتد بالطهر على أصح الوجهين والقولين عند العلماء رحمهم الله.(327/6)
عدة المختلعة الحائل
اتفق أصحاب القولين على أن الأصل في العدة: ثلاثة قروء، إما بالحيض -ثلاث حيضات- أو بالطهر -ثلاثة أطهار- على التفصيل الذي ذكرناه.
ولكن استثنيت عدة المختلعة، فاختلف العلماء رحمهم الله فيها، فبعض العلماء يقول: إن الحائل من ذوات القروء إذا كانت مخالعة لزوجها فإن عدتها حيضة واحدة على المذهب، وهذا ما اختاره أئمة المذهب من أنها تعتد بحيضة واحدة، وقيل: بثلاث حيضات أو بثلاثة أطهار على القول بأن القرء هو الطهر، أما الذين يقولون: إن المختلعة عدتها عدة المطلقة المعتادة فقد استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ثابت: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فأمره أن يطلق المختلعة، فدل على أن الخلع طلاق، فإذا كان الخلع طلاقاً؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فدخلت في هذا العموم بدليل الكتاب والسنة من جهة لفظ الآية وورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها تطلق.
والذين قالوا: إنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها استدلوا بحديث الربيع رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تستبرئ بحيضة من خلعها وترجع إلى بيت أهلها، وكذلك قالوا في حديث ابن عباس الأول الذي رواه أصحاب السنن، والثاني عند أبي داود في سننه وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أمرت المختلعة أن تستبرئ بحيضة)، قالوا: وهذا يدل على أن عدتها حيضة واحدة.
بناء على ذلك: لو خالع الرجل زوجته فدفعت له المهر فإنها تستبرئ بحيضة واحدة على القول الثاني وتخرج من عدتها، وتصبح مستثناة من هذا العموم، فالأصل فيها ثلاث حيضات، ولكن تحيض حيضة واحدة يستبرئ بها رحمها، قالوا: والعقل يدل على هذا؛ لأن المختلعة إذا طلقها طلقة واحدة فليست طلقتها رجعية، يعني: ليس من حقه أن يراجعها؛ لأن المقصود أن يفسخ النكاح الذي بينهما، فلو كان من حقه أن يرتجعها لفات المعنى الذي من أجله شرع الخلع؛ لأن الخلع يقصد منه دفع الضرر عن المرأة، فالمرأة إذا كرهت زوجها ولم يكن بزوجها عيب يوجب الخيار لها، كأن تكون لا تريده ولا تحبه، نقول لها: ادفعي له المهر كما تقدم معنا من قوله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم) فخالعت جميلة بنت أبي بن سلول، وامرأة ثابت رضي الله عنه وأرضاه وقالت: (إني أخشى الكفر بعد الإسلام) فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفسخ العقد برد المهر لزوجها، فإذا ردت المهر دل على أنها لا تريد أن ترجع إليه ولا تريد استمرار الحياة الزوجية معه، فأمرت شرعاً برد المهر إلى زوجها حتى يفسخ هذا العقد، فإذا ردت له المهر ردت له حقه، فلو كان له عليها سلطان لاستضرت المرأة؛ لأنه بمجرد ما يطلقها يراجعها بعد الطلاق، وحينئذٍ يكسب المهر ويكسب رجوعها مرة ثانية، فيفوت المقصود.
ومن هنا قلنا: إن مراد الشرع من الخلع: دفع الضرر عن المرأة، فترد المهر ويفسخ النكاح بينهما، ويؤمر بتطليقها على ظاهر الحديث الصحيح: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقه) وتخالعه ولو لم يرض، فإذا خالعته على هذا الوجه يقولون: إن مقصود الشرع فسخ النكاح، وإذا كان مقصوده فسخ النكاح خالف الأصل المعروف في الطلاق؛ لأن المرأة إذا طلقها زوجها الطلقة الأولى فإنه يعطى مهلة العدة حتى يراجع نفسه وتراجع نفسها، فإن كان العيب منه ندم وراجعها، وإن كان العيب منها ندمت وأصلحت ورجعت إليه إذا كانا يريدا إصلاحاً وعودة للنكاح، وبناء على ذلك قالوا: هذا المعنى غير موجود في المختلعة، وليس هناك وجه لردها إلى زوجها، فلا تطول العدة عليها، ولما كانت العدة يخشى منها أن تكون المرأة حاملاً فتستبرئ، فعلى هذا الوجه تستبرئ بحيضة واحدة، فإن حاضت تلك الحيضة وخرجت منها دل على أنها حائل، وحينئذٍ علمنا خلو الرحم وحققنا مقصود الشرع من دفع الضرر عن الزوجة.
فالخلاصة: أن المرأة إذا كانت حائلاً -غير حامل- وكانت من ذوات الحيض، فإنها في هذه الحالة تعتد بثلاثة أطهار على أصح قولي العلماء رحمهم الله، واستثنى فقهاء الحنابلة المرأة المختلعة فإن عدتها عندهم حيضة واحدة على ظاهر حديث الربيع وحديث ابن عباس، وكلا الحديثين فيه كلام، فإن صحا قويا على الاستثناء وإلا بقيت العدة على الأصل.
قال المصنف رحمه الله: (الحائل ذات الأقراء).
يعني: جنس المرأة الحائل من ذوات الأقراء.
ذوات: صاحبات الأقراء: يعني: ممن يحضن، لأن المرأة إما أن تكون حاملاً وإما أن تكون حائلاً، فالحامل التي عدتها وضع الولد، وإذا كانت حائلاً غير حامل فإما أن تكون من ذوات الحيض وإما أن تكون قد انقطع عنها الحيض لليأس، أو لم تحض بعد كالصغيرة، فبين رحمه الله أنها من ذوات الأقراء، يعني: ممن يحضن.
قال المصنف رحمه الله: [-وهي الحيض-].
وهي الحَيض أو الحِيضْ على الجمع لأقراء، قلنا: القرء: هو الحيض، الأقراء: هي الحيض.
يعني: يريد أن يفسر القرء بالحيض كما ذكرنا أنه مذهب الحنابلة.
قال المصنف رحمه الله: [المفارقة في الحياة].
يعني: التي فارقها زوجها في الحياة فعدتها عدة الطلاق، لكن إذا فارقها ثم مات عنها فهذه قد قدمناها وهي عدة الوفاة، وسبق الكلام عليها.(327/7)
عدة المبعضة الحائل
قول المصنف رحمه الله: [فعدتها إن كانت حرة أو مبعضة ثلاثة قروء كاملة].
إن كانت حرة فعدتها ثلاث حيضات كاملة؛ لأن الله يقول: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، إن كانت مبعضة، يعني: بعضها حر وبعضها رقيق، فمثلاً: أمة اشتراها رجلان أحدهما أعتق نصيبه، والثاني بقيت في ملكيته، فحينئذٍ نصفها حر ونصفها رقيق، فالمبعضة هذه إذا وقع عليها الطلاق تكون عدتها ثلاث حيضات؛ لأن الأصل عند الحنابلة أن الأمة تشطر العدة في حقها كما ورد عن عمر رضي الله عنه، فإذا شطرت العدة -يعني: تكون على النصف- فإنه ليس هناك نصف حيضة، فعندهم إما أن تكون الحيضة ثلاثة قروء كاملة أو قرئين، لأنه ليس هناك قرء ونصف؛ لأن الحيض لا يتشطر، فحينئذٍ جبروا الكسر وقالوا: عدتها حيضتان، وإذا كان الأمة عدتها حيضتان فحينئذٍ إذا وجد في الأمة حرية -مثلما ذكرنا- وكان نصفها حراً فعندها كسر من الحرية، فتزيد على القرئين بزيادة فتصبح حيضتان وشيء، فإذا كانت الحيضة لا تشطر فتدخل في الحيضة الثالثة.
والأصل في الأمة أو المملوك أنك تعطيه نصف ما تعطي الحر، وهذا طبعاً على القياس، وهي مسألة مشهورة عند علماء الأصول: (تعارض العموم مع القياس) فالعموم في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] هذا عام، والحقيقة أن القول بعدم التشطير من القوة بمكان على ظاهر الكتاب وظاهر السنة، وهو الأصل.
لكن على كل حال في مسألتنا: إذا كانت العدة ثلاثة قروء وأردنا تشطير الثلاثة قروء فإنها لا تشطر، وإذا كان لا يمكن تنصيفها ففي في هذه الحالة ستحسب النصف الموجود كاملاً وتقول: الأمة عدتها قرءان، فإذا قلت: إن لها قرئين في عدتها فإن دخلتها حرية زادت عن القرئين؛ لأنها أمة من وجه وحرة من وجه ثانٍ، فدخلت بالوجه الثاني -وهو وجه الحرية- في جزء الحيضة الثالثة؛ لأنه إذا كان -مثلاً- ربعها أو نصفها حراً فالمنبغي أن يحسب حساب هذه الحرية، ولكن هنا لا يمكن تشطير الحيضة الثالثة، فأصبحت عدة المبعضة ثلاثة قروء، والحرة ثلاثة قروء.
هذا وجه قوله رحمه الله: إنها ثلاث حيضات.(327/8)
عدة الأمة الحائل
قال المصنف رحمه الله: [وإلا قرءان].
وهذا إذا كانت أمة وليس فيها شائبة الحرية وليست مبعضة بل كلها أمة، وهناك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة ولكنه ضعيف، والصحيح عدم ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت أمة فالمذهب على أن عدتها قرءان.
أي: حيضتان.(327/9)
عدة من فارقها زوجها حياً ولم تحض
قال رحمه الله: [الرابعة: من فارقها حياً ولم تحض لصغر أو إياس فتعتد حرة ثلاثة أشهر].
الرابعة من المعتدات: من فارقها حياً، يعني: ليس هناك عدة للوفاة، (ولم تحض لصغر) أي: من أجل كونها صغيرة، أو لعلة الصغر (أو إياس) والله جل وعلا ذكر هذا النوع في آية الطلاق فقال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] فقوله: (واللائي لم يحضن) عطف على قوله: (واللائي يسن) يعني: عدة الآيسات وعدة الصغيرات اللاتي لم يحضن ثلاثة أشهر.
توضيح المسألة: أن هذا النوع من النساء لا يحيض؛ إما لأنها طلقت وهي صغيرة، كرجل قال لرجل: زوجتك ابنتي، -حتى ولو كانت صغيرة مثلما ذكرنا أنها يجوز العقد عليها- فزوجه ابنته وهي صغيرة، ثم كبرت البنت ودخل عليها ولم تحض بعد ثم طلقها، ففي هذه الحالة إذا طلقها بعد الدخول عليها، أو زوج صغير من صغيرة ودخل عليها وجامعها، فإذا حصل الدخول ولزمت العدة من طلاقها فإنها حينئذٍ تعتد بثلاثة أشهر؛ لأنه لا حيض معها، ولا يمكن احتساب الطهر ولا الحيض، فسقط القرء ورجع إلى الاعتداد بالأشهر، هذا إذا كانت صغيرة، وكذلك إذا كانت كبيرة أيست من المحيض، وانقطع دم الحيض عنها كامرأة عمرها ستون سنة فانقطع عنها دم الحيض، فهذه تعتد بالأشهر.
وقد جعل الله عز وجل الثلاثة الأشهر مكان الثلاثة القروء، فهذه المرأة تعتد ثلاثة أشهر تامة كاملة من ابتداء الشهر أو من أثناء الشهر على تفصيل من حيث الجملة، وتعتد بثلاثة أشهر تامة كاملة، وتعتد بالأشهر القمرية ولا تعتد بالأشهر الشمسية وجهاً واحداً عند العلماء؛ لأن الأشهر التي تناط بها الأحكام الشرعية هي الأشهر القمرية، ويحتسب الشهر بهلاله، فإن كان ناقصاً فإنه كامل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شهرا عيد لا ينقصان، رمضان وذو الحجة) فجعل التسعة والعشرين كالثلاثين، وقال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وهذا يدل على أن وصف (أمية) وصف شرف للأمة، وليس بوصف عار أو منقصة؛ لأن الأمية لا تقترن بالجهل، الأمية هي عدم القراءة والكتابة، وقد يكون الشخص لا يقرأ ولا يكتب وهو أعلم الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب ولكنه أعلم الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقد تجد الرجل كفيف البصر لا يقرأ ولا يكتب ومع ذلك عنده علم، فالعلم شيء والأمية شيء آخر، وقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية) هذا يدل على أنه وصف شرف -كما يقول العلماء- للأمة: (لا نكتب ولا نحسب) دل على أن الشهور لا تدخل في الحساب الفلكي، ولا يحكم بدخولها أو خروجها بالحساب الفلكي؛ وهذا تيسير من الله عز وجل ورحمة، فأبقاهم على الفطرة يخرج الناس ويتراءون الهلال، إن رأوه كان الشهر ناقصاً، وإن لم يروه فالشهر كامل، يمشون على هذا كما مشى عليه أسلافهم من قبل، فالمرأة تحتسب الثلاثة الأشهر بهذه الطريقة، إن كانت كاملة فكاملة وإن كانت ناقصة فناقصة، وإن جمعت بين الكمال والنقص فلا إشكال.
وإن كانوا يقولون: لا تأتي ثلاثة أشهر متتابعة ناقصة، أي: من السنن المعروفة أنها لا تأتي ثلاثة أشهر متتابعة ناقصة، فقد يكون النقص في شهرين لكن لا يكون الثالث ناقصاً غالباً.(327/10)
عدة الأمة التي لا تحيض لصغر أو إياس
قال المصنف رحمه الله: [وأمة شهرين].
اختلف المذهب في الأمة، وفيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.
الرواية الأولى: توافق مذهب الإمام مالك وطائفة من أئمة السلف رحمهم الله: أن الأمة تعتد كالحرة ثلاثة أشهر، ولا تشطر عدتها؛ لأن الله عز وجل نص على أن عدة اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن ثلاثة أشهر، ولم يرد ما يدل على استثناء أو تخصيص في هذه الآية الكريمة فتبقى على الأصل.
الرواية الثانية تقول: تنصف عدة الأمة إذا كانت بالأشهر كما تنصف عدتها بالحيضات، وبناء على ذلك: اختلفوا على روايتين التي هي القول الثاني والثالث، فهناك رواية تقول: عدة الأمة شهر ونصف؛ لأن الله جعل في الأصل عدة الحرة ثلاثة أشهر، فنصفها شهر ونصف، وهذا قول للشافعي أيضاً.
الرواية الثالثة: أن الشهر لا يتشطر، وعلى القول بأنه لا يتشطر يصير مثل الحيض، فقالوا: إن الشهر لا يتشطر؛ لأنه بدل عن القرء، والقرء لا يتشطر، والبدل يأخذ حكم مبدله، فلا بد أن تعتد بشهرين، وهذا ما عليه المذهب من أنها تعتد بشهرين، وهو ضعيف من جهة الأصل ومن جهة النظر.(327/11)
عدة المبعضة التي لا تحيض لصغر أو إياس
قال المصنف رحمه الله: [ومبعضة بالحساب ويجبر الكسر].
إذا قلنا: إن الأمة تعتد شهراً ونصفاً، وإذا فرضنا أن النصف منها حرة فحينئذ نحسب الشهرين على أنها أمة، وإذا حسب الشهران على أنها أمة فالنصف الذي فيها يكون بخمسة عشر يوماً وتضاف إلى الشهرين، وحينئذٍ تعتد شهرين ونصفاً، فإذا كان الثلث قالوا: يضاف ويجبر الكسر في اليوم وتعتد بالعشرة، يصبح لها عشرة أيام؛ لأن الشهر تسعة وعشرين يوماً فالأصل تمام الشهر ثلاثين يوماً، فثلث الثلاثين عشرة، فتعتد شهرين وعشرة أيام، وقس على ذلك، وهذا معنى قوله رحمه الله: (ومبعضة بالحساب).
ويجبر الكسر في اليوم، إذا كان مثلاً نصف يوم وثلث يوم فإن الكسر يجبر.(327/12)
عدة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه
يقول المصنف رحمه الله: [الخامسة: من ارتفع حيضها ولم تدر سببه].
المرأة إذا ارتفع حيضها تنقسم إلى قسمين: الأول: إما أن تعلم السبب: كالرضاع، أو مرض معين إذا أصاب النساء ارتفع حيضها.
الثاني: أن يكون ارتفاع حيضها بسبب لا تعرفه والأطباء لا يعرفونه.
فإن كان بسبب تعرفه فلها حكم، وإن كانت بسبب لا تعرفه فلها حكم، والمصنف رحمه الله فصل في الأمرين فقال: (ومن ارتفع حيضها ولم تدر سببه فعدتها سنة).
صورة المسألة: امرأة -في الأصل- تحيض، ثم انقطع عنها الحيض، فإذا انقطع عنها الحيض فتحتاج أول شيء أن تتأكد أن انقطاع الحيض ليس للحمل؛ لأنها إذا حملت -غالباً- انقطع حيضها، فإن تأكدت من أنها ليست بحامل، وأن انقطاع دمها ليس للحمل فتمكث مدة الحمل الغالبة، ومدة الحمل الغالبة تسعة أشهر، فإذا تحققنا بمضي التسعة أشهر أنها غير حامل فإنها تبدأ بالعدة، لأنها ليست من ذوات الحيض فتنتقل إلى عدة الأشهر، فتضيف ثلاثة أشهر إلى التسعة، فتصبح عدتها سنة كاملة، تسعة أشهر للاستبراء والتأكد من أنها غير حامل، وثلاثة أشهر عدة المطلقة إذا لم تكن من ذوات الحيض.
وهذا الحكم قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمحضر من المهاجرين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف أن أحداً خالفه، ولم يعارض فيه أصلاً، بل إن الأصول تدل عليه؛ لأنه يحتمل أن تكون حاملاً، فتعتد عدة الحامل ثم بعد ذلك تعتد عدة الأشهر؛ لأنها ليست بحائل، فالمنتزع الذي انتزعه رضي الله عنه فقه صحيح من الأصول الشرعية؛ لأن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] فالستة الأشهر أقل ما يكون من الحمل، فإذا ثبت هذا يقولون: نأخذ الحد الغالب وهو التسعة الأشهر؛ لأن الستة هي الحد الأقل، والغالب هو التسعة، والأكثر إلى أربع سنوات مثلما ذكرنا، فيؤخذ بالغالب وهو التسعة الأشهر، فنقول لها: تمكث غالب مدة الحمل وهو تسعة أشهر حتى نتحقق أنها غير حامل، ثم بعد ذلك تعتد بعدة الأشهر، هذا بالنسبة لقضاء عمر رضي الله عنه وقد عمل به الجمهور.(327/13)
عدة الأمة إذا ارتفع حيضها ولم تدر سببه
يقول المصنف رحمه الله: [فعدتها سنة تسعة أشهر للحمل، وثلاثة للعدة، وتنقص الأمة شهراً].
الإشكال على المذهب الذي يقول: إن الأمة تشطر وتنصف عدتها، فهل ننصف التسعة الأشهر، وننصف الثلاثة الأشهر أم لا؟
الجواب
من جهة الحمل لا تنصيف؛ لأنه لا تختلف الأمة عن الحرة فيه، فالمرأة من حيث هي إذا حملت حرة كانت أو أمة تمكث تسعة أشهر على الغالب، فتبقى التسعة الأشهر كما هي.
إذاً: ما الذي يشطر؟ تشطر العدة التي هي الثلاثة الأشهر، فهنا: هل تكون شهراً ونصفاً أو شهرين أو شهراً؟ خلاف في المذهب، والذي اختاره المصنف رحمه الله أنه شهر.
نحن قلنا: إن التشطير ليس بوارد أصلاً، والذي نرى أنها تعتد ثلاثة أشهر كاملة، وهذا ظاهر القرآن، وبناء على ذلك نرى أنها سنة كاملة في الأمة وفي غير الأمة.
هذا من حيث الأصل.(327/14)
عدة من بلغت ولم تحض
يقول المصنف رحمه الله: [وعدة من بلغت ولم تحض والمستحاضة الناسية والمستحاضة المبتدأة ثلاثة أشهر].
عدة من بلغت ولم تحض: امرأة عمرها خمسة عشر سنة، فإذا بلغت خمس عشرة سنة فقد بلغت؛ لأن البلوغ يكون بالحيض، ويكون بالاحتلام، ويكون بالحمل، ويكون بالسنوات التي هي خمس عشرة سنة كما ذكرنا في علامات البلوغ وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمان عشرة حولاً ظهر وهذا على خلاف حديث بني قريضة، والصحيح أن إنبات الشعر علامة إذا كان حول العانة.
أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثماني عشرة حولاً ظهر فالمالكية عندهم أن يسن البلوغ ثماني عشرة سنة، والحنفية قدموا الأنثى فجعلوها سبع عشرة سنة، والذكر ثماني عشرة سنة، وأما الحنابلة والشافعية فقالوا: خمس عشرة سنة لحديث ابن عمر، -وهو حديث صحيح- أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، وفي رواية البيهقي: (ورآني قد بلغت) ولذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق لما بلغته هذه السنة، وأبلغه بها الزهري رحمه الله، كتب إلى الولاة في الآفاق: انظروا من بلغ خمس عشرة سنة فاضربوا عليه الجزية، ومن كان دونها فاجعلوه في الذرية -يعني: لا تضربوا عليه جزية- فهذا يدل على أن خمس عشرة سنة هي السن المعتبر للبلوغ.
فإذا بلغت المرأة خمس عشرة سنة ولم تحض فحينئذٍ ليست من ذوات الحيض، وهي بالغة، فتبقى على الحكم؛ لأن الله يقول: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4]، فجعل (اللائي لم يحضن) شاملاً للصغيرة وللكبيرة التي بلغت.(327/15)
عدة المستحاضة الناسية
(والمستحاضة الناسية).
تقدم معنا في كتاب الطهارة ضوابط المستحاضة والفرق بينها وبين الحائض، وبينا أن دم الاستحاضة دم فساد وعلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة) فقوله عليه السلام: (إنما ذلك عرق) اختلف فيه هل هو العاند أو العاذر أو العاذل، وقد بينا هذا وبينا سبب تسميته بهذه الأسماء، وهو دم فساد وعلة، فإذا استحاضت المرأة وجرى معها الدم على هذا الوجه فإنه لا يمكن ربط العدة بها -بالنسبة للمستحاضة-؛ فإذا نسيت عادتها -يعني: كانت لها عادة قبل أن ترتبك ثم نسيتها- مثل: امرأة كانت عادتها خمسة أيام أو ستة أيام ثم ذهبت في غيبوبة أو حصل لها حادث، ثم أفاقت من غيبوبتها ورجع لها عقلها ولم تتذكر كم كانت عادتها، واستحيضت، فحينئذٍ هي معتادة في الأصل لكنها أنسيت عادتها.
وعلى كل حال: إذا أنسيت عادتها بأي وجه من الوجوه وأصبحت مستحاضة فلابد من أمرين: لابد أن تكون مستحاضة لا تستطيع أن تميز الحيضة عن استحاضتها، ونسيت أيام عادتها، فحينئذٍ تعتد بالأشهر، وتنقل إلى حكم المعتدات بالأشهر، وبعض العلماء يفصل فيها وعندهم كلام كثير في هذا النوع من النساء، ومنهم من يجعلها ترجع إلى التمييز، وترجع إلى غالب الحيض وتحتسب غالب الحيض كما يقع في العبادة، وقد تقدم معنا حديث الترمذي -والذي حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله ومنهم الإمام البخاري رحمة الله عليه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرأة التي استحيضت وقالت: (إني أثج ثجاً، فقال عليه الصلاة والسلام: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً) فجعل عادتها ستة أيام أو سبعة.
لكن الإشكال عندهم أنه لابد أن تنسى عادتها من كل الوجوه، وقالوا: في الحديث لم تنس من كل وجه، ويمكن أن تحتسب عادتها في أول الشهر أو منتصف الشهر أو آخر الشهر، وقال الحنابلة: نرجع إلى الأشهر، قالوا: لأنها إذا أنسيت العادة وقلنا: تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في بداية الشهر يحتمل أن تكون عادتها في آخر الشهر، وحينئذٍ ربما حكمت بخروجها وهي لا زالت في عصمة زوجها الأول، ومن هنا قالوا: نقطع الشك باليقين ونقول: ثلاثة أشهر لكل حيضة منها شهر؛ لأنه يحتمل أن تكون حيضتها في أول الشهر ويحتمل أن تكون في منتصف الشهر، ويحتمل أن تكون في آخر الشهر، والأصل أنها زوجة ولا تخرج من الزوجية إلا بيقين، فنقول: إذا اعتدت ثلاثة أشهر فقد جزمنا أنها قد خرجت من عدتها.(327/16)
عدة المستحاضة المبتدأة
يقول المصنف رحمه الله: [والمستحاضة المبتدأة ثلاثة أشهر].
والمستحاضة المبتدأة التي لأول مرة يأتي معها الدم، وقد فصلنا في أحكامها.
أي: ابتدأها دم الحيض، لأول مرة تحيض.
فالمرأة المبتدأة من هي؟ قلنا: هي المرأة التي لأول مرة يبتدئها الحيض، فإذا كانت لأول مرة تحيض فحينئذٍ ليست لها عادة، وتحتاج إلى ثلاثة أشهر لكي تثبت عادتها، فلا نستطيع أن نحدد كم عادتها، فأصبحت في حكم الأصل؛ لأنها هي في الأصل من اللائي لم يحضن، فلما جاءت تحيض وحاضت الحيضة الأولى، والحيضة الثانية، والحيضة الثالثة وهي مستحاضة والدم يجري معها ولم ينقطع رجعت إلى حكم الأصل، فاستصحبنا حكم الأصل، فجعلناها من ذوات الأشهر، ولا يمكن أبداً أن نجعل لها غالب الحيض، كالتي أنسيت عادتها.(327/17)
عدة الأمة المستحاضة
يقول المصنف رحمه الله: [والأمة شهران].
لما ذكرناه من التنصيف، والصحيح: أنه لا تنصيف.
يعني: إذا كانت المستحاضة التي نسيت عادتها أمة، فعدتها شهران لما ذكرناه سابقاً، وهكذا إذا ابتدئت وكانت أمة مبتدأة فإنها تعتد بشهرين.(327/18)
عدة من ارتفع حيضها وعلمت السبب
يقول المصنف رحمه الله: [وإن علمت ما رفعه من مرض أو رضاع أو غيرهما فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته].
هذه الجملة بين فيها رحمه الله النوع الثاني من اللاتي انقطع عنهن دم الحيض، وهن اللائي عرفن سبب انقطاع الدم، فإذا عرفت المرأة سبب الانقطاع انتظرت حتى يعود الدم، فإذا انقطع لحمل انتظرت حتى تضع حملها، وإذا انقطع لمرض انتظرت حتى يذهب المرض ثم تعتد، ما الدليل؟ لأن الله ألزمها بالقرء، وليست بآيسة، وليست ممن لا يحيض، فبقيت على الأصل، فتنتظر حتى يعود لها حيضها، وقال بعض العلماء: إنها تعتد سنة، وهذا القول استصحب حكم عمر رضي الله عنه وأرضاه وقال: إذا طال عليها الأمر وطالت بها المدة فلها أن تعتد سنة، فإذا مضت عليها سنة ولم يعد لها حيضها فقد خرجت من عدتها، والقول هذا وجيه وقوي جداً؛ لأن الأمر إذا ضاق اتسع، والأول أصح من جهة الأصل، ووجه القول بأنها تستثنى إذا طالت: أنه واضح الآن استبراء رحمها وتبين استبراء رحمها، وكونها إذا مضت عليها سنة خرجت من عدتها هذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض المتأخرين، وأيضاً سماحة الشيخ ابن إبراهيم المفتي رحمة الله عليه يرون هذا، وبناء على ذلك يقولون: إنها تستثنى.(327/19)
الأسئلة(327/20)
عدة المطلقة المنقطع حيضها
السؤال
ألا تندرج الثلاثة الأشهر تحت التسعة وذلك في التي ارتفع حيضها؛ لأن ما يتحقق في الثلاثة الأشهر قد تحقق في التسعة؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فلا يحصل الاندراج في هذا؛ لأن المعنى لا يتحقق، فالتسعة الأشهر استبراء من الحمل، والثلاثة الأشهر عدة تعبدية، فكيف يدخل هذا في هذا؛ لأن الأول يقصد منه التأكد من أنها غير حامل، والثاني يقصد منها عدة شرعية، وبناء على ذلك: هي في الأول تمكث التسعة الأشهر من أجل أن تتأكد من الحمل، ولا تمكثها على أساس أنها عدة طلاق، ولا تصح منها عدة طلاق؛ لأنها لو نوت في التسعة الأشهر عدة الطلاق لما صح ذلك لاحتمال أنها حامل، وعلى كل حال فهذا التداخل لا يصح، ولذلك لا يحكم به، وتبقى على الأصل من أنها تحتسب السنة تامة كاملة، والله تعالى أعلم.(327/21)
حكم تحية المسجد لمن دخل المسجد وقت غروب الشمس
السؤال
إذا دخل الإنسان المسجد قبل صلاة المغرب بوقت يسير، فهل يظل واقفاً إلى الأذان أم يجلس؟
الجواب
إذا كان الوقت يسيراً فهو مخير بين أن يقف خروجاً من الخلاف، وبين أن يجلس وهو الأصح والأقوى، أما الصلاة أثناء الطلوع وأثناء الغروب وأثناء انتصاف الشمس في كبد السماء فالنصوص قوية وصريحة بالإمساك عن الصلاة في هذا الوقت، حتى إن بعض العلماء يقول: هذا الموضع خارج من الخلاف بين العلماء؛ لأن النصوص فيه قوية جداً: (فإذا طلعت -يعني: عند طلوعها- فأمسك عن صلاتك فإنها تطلع بين قرني شيطان) لأنها عبادة المشركين، فالمشركون يسجدون للشمس عند طلوعها وعند غروبها، وتكون بين قرني شيطان؛ لأن الشيطان يأتي بينهم وبين الشمس، فيكون سجودهم للشيطان لا للشمس، لأنهم يعبدون الشيطان في الحقيقة ولا يعبدون الشمس، لأن الشمس تبرأ إلى الله عز وجل من عبادتهم، فهذا الوقت نهي عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، ومشابهة للمشركين، فالعلة فيه قوية، ولذلك نقول: وقت الطلوع والغروب لا خلاف فيه -وهذا أمر يخلط فيه البعض- وقد جزم غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم بأنه خارج عن موضع الخلاف، وأنه لا يصلى فيه تحية المسجد ولا النوافل، لكن الفرائض فيها أدلة ونصوص واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) وهذا لمكان الفرضية المحتمة، والشرع يخالف بين الفرض وغير الفرض، ومن هنا لا وجه لأن يصلي أثناء الطلوع وأثناء الغروب، فإما أن يقف وإما أن يجلس وهذا هو الأقوى، وهي رخصة من الله وفسحة، وكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان جالساً في مسجده كما في الصحيح في قصة كعب بن مالك لما نزلت توبته ودخل عليه كعب بن مالك بعد صلاة الفجر، والحديث في سياقه يدل على أنه لم يصل تحية المسجد؛ لأن النص نص على أنه لما دخل قال: (فاستقبلني طلحة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست بين يديه)، ولم يذكر تحية المسجد ولا الصلاة، ولذلك هذا الحديث من أقوى الأدلة على أن ذوات الأسباب بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس لا تصلى؛ لأن الصلاة أثناء الطلوع والغروب تشبه بالمشركين، وما بين الصلاة وما بين الغروب والطلوع ذريعة، ولذلك نهي عنها من باب سد الذرائع، لأنها ذريعة ينتهي بها إلى الوقت المحذور، فنهي عن الصلاة في هذين الوقتين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع بين قرني شيطان، فإذا صليت العصر فأمسك عن الصلاة) ما قال: إلا تحية المسجد أو استثنى بل قال: (فأمسك عن الصلاة)، ونهاه عن أن يصلي كما في الصحيح، فهذا يدل دلالة قوية على أنه لا يصلى على أصح القولين، والله تعالى أعلم.(327/22)
حكم شراء الذهب بالعملة التي رصيدها ذهب
السؤال
هل يجوز شراء الذهب بالعملة التي رصيدها ذهب، علماً أن بائع الذهب لا يبيعه بنفس قيمة الرصيد للعملة؟
الجواب
إذا كانت العملة رصيدها ذهباً كالجنيهات والدولارات والدنانير والليرات -فهذه كلها رصيدها ذهب- فلا يشترى بها الذهب إلا إذا تحققت المثلية؛ لأن الورق له رصيد، وإلغاء الرصيد لا يؤثر في الحقيقة؛ لأنه أخذ ودفع الورق مستنداً على الرصيد، ومستند الدين لا يلغى بحال، ولو ألغي عرفاً لا يلغى شرعاً، ولذلك لو قيل: إنه يلغي، فالله ما أمرنا بزكاة الأوراق، وإن قيل: الورق له قيمة فورق الكتب له قيمة وورق الصحف له قيمة.
إذاً: القيمية في الورق لا تستلزم أنه تجب فيه الزكاة، وإذا ثبت هذا: فإن هذه الأوراق ينظر إلى رصيدها، فما كان فضة لا تشترى به الفضة إلا مثلاً بمثل، وما كان ذهباً فلا يبادل بذهب إلا بإدخال الوسيط، فالدولار يحول إلى ريال ثم يحول إلى جنيهات ونحو ذلك، ولا ينقل من ذهب إلى ذهب ولا يشترى به الذهب، وإنما يشترى الذهب بالفضة وتشترى الفضة بالذهب خروجاً من شبهة الربا؛ لأن قاعدة الربا: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل) يعني: إذا لم نتحقق من المثلية بمبادلة الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة فإنه لا يجوز البيع؛ وأصل هذه القاعدة مستنبط من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه في قصة القلادة التي غنمها من خيبر، فإنه اشتراها بعشرين ديناراً وقيل: بأكثر من خمس وعشرين ديناراً ثم وجد فيها بعد فصلها من الذهب ما يعادل خمسة وعشرين ديناراً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع القلادة حتى يفصل الذهب عنها؛ لأنه إذا كان معها الفصوص جهل الوزن، فجعل عليه الصلاة والسلام الجهل بالوزن حتى تتحقق المثلية كالعلم بالتفاضل، فيحرم بيعها حتى تفصل، ومنه استنبط العلماء والأئمة هذه القاعدة في الربا: (أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل) فكل شيء يباع بمثله من نفس صنفه لابد أن نتحقق من المثلية فيه، صاع بصاع، كليو بكيلو، فإذا شككنا وليس عندنا شيء يجزم بأنه متساوٍ امتنعنا من البيع؛ لأن جهلنا بهذا التماثل كأننا تحققنا من التفاضل، أي: يقع الربا شئنا أم أبينا، فقالوا: من هذا الحديث تستنبط القاعدة: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل).
والله تعالى أعلم.(327/23)
الفرق بين الخطبة وعقد النكاح
السؤال
يزعم بعض الناس أنه بمجرد خطبة النكاح يجوز الدخول بالمرأة؛ لأن الإيجاب والقبول قد تم.
فما صحة هذا الأمر؟!
الجواب
الإيجاب والقبول يتم عقداً بحضور الشاهدين العدلين، فإذا زوج الولي موليته بحضور شاهدين عدلين تم العقد، لكن الخطبة أن يأتي ويقول للولي: يا فلان! مثلك أهل أن يتزوج منه، أو بيتك بيت شرف وفضل، وإني راغب في بيتك، أو أريد ابنتك، فليس بعقد وإنما هي حكاية الرغبة، ولا تأخذ حكم العقد، ولذلك لا يكون العقد إلا بإيجاب وقبول أنه نكاح، وصادر من الولي والزوج أو من يقوم مقامهما كالوصي ووكيل الزوج، فإذا حصل الإيجاب والقبول بحصول شاهدين عدلين؛ فإنه حينئذٍ يصح النكاح ويحكم بانعقاده، أما ما قبل هذا من خطبة فإنها لا تستلزم ثبوت العقد، وحينئذٍ المرأة لا تزال أجنبية حتى يثبت عقده عليها، والله تعالى أعلم.(327/24)
حكم وضع الغترة سترة في الصلاة
السؤال
يضع بعض الناس الغترة أو الشماغ عند الصلاة على الأرض فما حكم ذلك الفعل؟
الجواب
بعضهم يضعها أشبه بالسترة مثل أن ينفخها أو يعليها إذا لم يجد سترة، فهذا بعض العلماء يراه سترة وبعض العلماء لا يراه سترة؛ لأنها غير ثابتة، فإذا تحركت الريح انخسفت، فلا تكون ثابتة إلا إذا لفت ودورت حتى تكون أشبه بمؤخرة الرحل، أما إذا وضعها حتى لا تشغله أثناء الصلاة بالرفع والوضع فهذا خلاف الأولى؛ لأن الأفضل والأكمل في المصلي أن يكون بغترته، والله يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، أي: عند كل صلاة، من باب إطلاق المحل وإرادة ما يحل فيه، فالأكمل والأفضل أن يكون بغترته ولا يعبث بالغترة.
وعلى كل حال فالأكمل والأفضل ألا ينزعها عن رأسه؛ لأنها حالة كمال وإجلال وتعظيم للشعيرة، فهذا أكمل وأفضل، لكن هذا الفعل لا يستطيع أحد أن يقول: إنه حرام، بل نقول: خلاف الأولى.
وهل خلاف الأولى مكروه؟ وجهان للعلماء: وصحح غير واحد -ومنهم الحافظ ابن دقيق رحمه الله- أن خلاف الأولى لا يستلزم أن يكون مكروهاً، والله تعالى أعلم.(327/25)
النهي عن البيع في المساجد
السؤال
وزعت قصاصات من الأوراق في المسجد فيها طلب شراء أشرطة الدروس من التسجيلات الإسلامية، فهل هذا يعد من قبيل البيع في المسجد؟
الجواب
نعم.
هذا داخل في النهي ولا يجوز، وللأسف بلغني في درس جدة ودرس مكة أنه وزعت هذه القصاصات للمذكرات وللأشرطة، وهذا من البيع، والمساجد ما بنيت لهذا، فإذا أراد صاحب التسجيلات أن يعرض شيئاً فليعرضه خارج المسجد، أما المسجد فلذكر الله عز وجل، ولذلك لا أرى شرعية هذا الشيء ولو كانت دروسي، فلا يجوز هذا الشيء ولا يشرع، فمحل البيع والتجارة معروف، والمساجد ما بنيت إلا لذكر الله، فعلى الإخوة أصحاب التسجيلات أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا يفعلوا هذا لا في الدروس ولا في المحاضرات، وأن يعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع داخل المسجد، والإجماع منعقد على تحريم البيع داخل المسجد كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لا البيع ولا العرض والترغيب، حتى بعض التقاويم التي فيها دعاية للمؤسسات لا ينبغي أن تكون داخل المسجد؛ لأنه ليس المقصود التقويم، وإنما المقصود الدعاية للمؤسسة، والتجارة، ولذلك نقول لصاحب هذا التقويم: إذا كنت تريد وجه الله عز وجل فاطمس الدعاية حتى يتبين أنك تريد التقويم، ولا تريد أن تدعو إلى مؤسستك أو تجارتك، ولذلك من ناحية شرعية: التقاويم التي فيها دعاية تطمس الدعاية أو تخرج من المسجد؛ لأن المساجد ما بنيت إلا لذكر الله عز وجل، وبعض الأحيان يفقد غريب محتاج ضالته فينشدها في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من وجدتموه ينشد ضالته) رجل محتاج منكوب مكروب (فقولوا: لا ردها الله عليك) مع أنها شريعة رحمة ويسر، إلا إن المساجد لم تبن لهذا، وتكفي الدنيا خارج المسجد، وأما المساجد فليس فيها إلا ذكر الله، وليس فيها إلا تعظيم الله، وتمجيده وتوحيده، وتقديسه بالأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، يتخلى الناس في المساجد من نكد الدنيا وقذرها، فيتطهرون بالإقبال على الله، وبالتوبة والإنابة إليه عز وجل.
ولذلك قال أبو الدرداء لرجل يبتاع في المسجد: (يا هذا! إن أردت البيع فاخرج خارج المسجد، فإنك في سوق الآخرة) يعني: هذا ليس مكان البيع والشراء، فالمساجد لله وحده لا شريك له {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، ولذلك لا يجوز أن يقدس فيها أحد ولا أن يمجد فيها أحد، ولا أن تفعل فيها أشياء لتمجيد أشخاص أو ذوات أبداً إلا الله وحده لا شريك له، فهي أماكن عبادة وذكر لا يجوز لأحد أن يستغلها لأغراض دنيوية، وعلى الجميع أن يتقوا الله عز وجل سواء في مسائل البيع أو غيرها، وأن يعظموا شعائر الله عز وجل نسأل الله العظيم أن يوفقنا لذلك وأن يعيننا عليه، والله تعالى أعلم.(327/26)
الشكوى إلى الله علاج كل هم وكرب
السؤال
أعاني من ضيق شديد، وأحلام مزعجة، فادع الله لي، وما المخرج منها؟
الجواب
نسأل الله العظيم أن يعجل لنا ولك ولكل مسلم مكروب منكوب بالفرج.
أخي في الله! الشكوى إلى الله، ومن أنزل بالله حاجته وفاقته أوشك أن يتأذن الله له بالفرج العاجل، فاجعل شكواك إلى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، واجعل توكلك على الحي القيوم وسبح بحمده، فإنه يعلم حالك، وأرأف بك من نفسك التي بين جنبيك، فهو أرحم الراحمين، وهو رب العالمين، منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، فهو الله الذي لا إله سواه، ولا رب عداه، فاجعل حاجتك عند الله جل وعلا، واعلم أنك بين منزلتين: إن صبرت وسكت وجعلت بثك وحزنك إلى الله وحده رفعت درجتك، وكفرت خطيئتك، وأفرغ عليك الرحمن صبراً، فعاد البلاء نعمة عليك في الدين والدنيا والآخرة، فقويت نفسك، واستجمت روحك، وتعلقت بالله سبحانه وتعالى، حتى إن بعض المؤمنين المخلصين المحسنين إذا زال عنهم البلاء تألموا، فهم يجدون في البلاء من لذة مناجاة الله ما لا يجدونه إذا فارقهم، وهذا من كمال إيمانهم وتوحيدهم وتعلقهم بربهم، فكن ذلك الرجل رحمك الله.
وأما إذا اشتكيت وأخذت ذات اليمين والشمال فأنت بين أمرين: إن اشتكيت شكوى للعلاج والأخذ بالأسباب كشكوى المريض إلى طبيبه فهذا من تعاطي الأسباب، وقد اشتكى عليه الصلاة والسلام فقال: (وا رأساه)، وأما إذا كان إخباراً بالحال فلا بأس كما اشتكى عليه الصلاة والسلام فيما ذكرنا، وأما إذا كانت الشكوى تسخطاً من القضاء والقدر فقد ضاقت النفس، وعزب الرشد، وحينها يقول صلى الله عليه وسلم: (فمن سخط فعليه السخط)، نسأل الله السلامة والعافية، فلا تتسخط على قضاء الله وقدره، وارض بما قسمه الرحمن، وانظر إلى من هو أشد بلاء وضرراً، واحمد الله جل وعلا على عافيتك.
الوصية الأخيرة: ما من بلاء إلا بسبب ذنب، وإذا أراد الله بعبده خيراً نبهه لحقوق الناس ومظالمهم، فلعل مظلوماً ظلمه، أو محروماً حرمه، فتفقد نفسك، فلربما آذى العبد قريباً فقطع رحمه فابتلاه الله بهذه المصائب، ولربما ظلم ضعيفاً، أو حرم ذا حق حقه، أو آذى ولياً من أولياء الله، كأن يغتاب العلماء أو يقع فيهم أو ينتقصهم؛ لأن هذه الأمور غالباً عقوبة الله فيها أليمة وشديدة، خاصة أذية الوالدين والقرابة، وأذية أهل الفضل وأهل العلم، والصالحين والأتقياء، والظلم والبهت، والاستهزاء بالناس، فهذه دائماً تسلط على الإنسان النكد والهم والغم، وتجعل نفسه في ضيق وكرب: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33]، ما ظلم الله عز وجل عباده، ولكن ما وقعت بهم هذه البلايا إلا بسبب ظلمهم وأذيتهم وإصرارهم على اعتدائهم على حدود ربهم، فالواجب على المسلم أن يتفقد نفسه، وسعادة المؤمن وحسن حاله في الدنيا أنك تجده يعرف من أين يؤتى، فقل أن ينزل به بلاء إلا وألهمه الله سبب ذلك البلاء، وهذا إذا قلت سيئاته وكثرت حسناته، عندها يعلم من أين يؤتى، أما -والعياذ بالله- من عظمت سيئاته وأحاطت به خطيئته، فعندها لا يزال يبتلى ويبتلى حتى ينزل الله به نقمته فيأخذه أخذ عزيز مقتدر، نسأل الله السلامة والعافية.
فعلى كل حال أوصيك بهذه الأمور: أولها: الالتجاء إلى الله وحده لا شريك له، واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد وعدك بالفرج، فما من منكوب ولا مكروب يصدق مع الله في دعائه وسؤاله ورجائه إلا صدق الله معه، وما من عبد ينادي ربه في ظلمة ليل أو ضياء نهار وقد فرغ قلبه من كل شيء إلا الله جل جلاله، معتقداً من خالص قلبه أن الله قادر على إزالة كربه، يناديه نداء صدق وهو يعتقد ربوبيته وألوهيته وقدرته على خلقه إلا جعل الله له فرجاً ومخرجاً، فإما أن يزيل البلاء بالكلية، وإما أن يفرغ على هذا الحبيب المؤمن الولي الصالح صبراً، فلو أنه نزل عليه البلاء كأمثال الجبال لم يشعر من ذلك بشيء، ولذلك عليك أن تركز على هذا الأساس وهو الالتجاء إلى الله عز وجل.
ثانياً: تأخذ بالأسباب والتي منها أن تعرف من أين أتيت، فتفقد ما بينك وبين قرابتك من الوالدين والقرابة، وكذلك أيضاً ما بينك وبين صالحي العباد من العلماء والأئمة الأموات والأحياء، فتستغفر الله من ذنوب وقعت بها في حقوقهم، وتسأل الله العفو عنك.
والوصية الأخيرة: الاستكثار من الأمور التي توجب الرحمة والتي من أعظمها وأجلها: أولاً: سماع القرآن وكثرة تلاوته، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، فالذي يكثر من سماع القرآن يبدد عنه الهم والغم، وكذلك أيضاً الذي يكثر من تلاوته فإن الله يشرح به صدره.
ثانياً: مما يزيل الله به الهم والغم ويعجل به الفرج من الأعمال الصالحة: كثرة الاستغفار، فإن الله عز وجل أخبر أنه لا يعذب من استغفر، ولذلك من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، فتستغفره قائماً وقاعداً، وممسياً ومصبحاً، تستغفره على كل حال، وتسأله الرحمة في سائر الأحوال.
نسأل الله بعزه وجلاله أن يرحمنا برحمته، وأن يعمنا بواسع مغفرته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(327/27)
شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [5]
من أنواع المعتدات من ينقطع حيضها لسبب قد يكون معروفاً وقد يكون غير معروف، ولكل حكمه، ومن أنواع المعتدات كذلك من يغيب عنها زوجها، فلا تدري أهو حي أم ميت، وهذه كلها أحكامها مبينة في كتب العلماء رحمهم الله.(328/1)
عدة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [الخامسة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه].
هذا النوع الخامس من النساء المعتدات، وحاصله: أن المرأة يرتفع حيضها وينقطع عنها، ولا تدري ما هو سبب الانقطاع، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله -كما سيبينه المصنف- أن هذا النوع ينقسم في الأصل إلى قسمين: القسم الأول: أن يرتفع الحيض وينقطع ولم تعرف سببه.
والقسم الثاني: أن يرتفع وتعلم سبب الارتفاع.
فهذا النوع من النساء في الأصل ينقطع عنهن دم الحيض، ثم إذا انقطع هذا الحيض إما أن تعلم سبب الانقطاع وإما أن لا تعلم، فإن علمت سبب الانقطاع فلها حكم، وإن لم تعلم سبب الانقطاع فلها حكمٌ آخر، والمصنف رحمه الله شرع في بيان هذا النوع فقال: (من ارتفع حيضها ولم تدر سببه فعدتها سنة).
من ارتفع حيضها ولم تدر سبب انقطاع دم الحيض عنها فعدتها سنة، وهذا قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهذه السنة توجيهها: أنها تعتد تسعة أشهر لاحتمال أن تكون حاملاً، فإذا مضت عليها تسعة أشهر ولم يتبين أنها حامل فإنه حينئذٍ تبدأ عدتها بالأشهر وتكون عدتها ثلاثة أشهر بنص القرآن على أن المرأة التي لم تحض والمرأة اليائسة من الحيض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا أضيفت التسعة الأشهر إلى الثلاثة الأشهر أصبح المجموع اثني عشر شهراً -سنة كاملة- كما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك قالوا: لم يخالف في هذا الحكم، فإذا انقطع دم الحيض عن المرأة ولم تدر ما سبب انقطاعه فإنه يلزمها أن تعتد سنة كاملة، تسعة أشهر لاحتمال أن تكون حاملة استبراءً لرحمها من الحمل، وثلاثة أشهر التي هي العدة الأصلية للتي ليست ممن يحضن.
يقول المصنف رحمه الله: [تسعة أشهر للحمل، وثلاثة للعدة، وتنقص الأمة شهراً].
وتنقص الأمة شهراً؛ لأنه بالنسبة للتسعة الأشهر تستوي فيها الأمة والحرة؛ لأن الحمل لا يختلف من حرة إلى أمة، فالتسعة الأشهر في الحرائر والإماء، فتعتد تسعة أشهر، والثلاثة الأشهر التي هي عدة اللائي لا يحضن من النساء تتشطر على مذهب الحنابلة، وقد ذكرنا أن الصحيح عدم التشطير وهو مذهب المالميكة والظاهرية رحمة الله عليهم، وقول بعض فقهاء المدينة كـ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -أحد فقهاء المدينة السبعة- وسالم بن عبد الله بن عمر، وهو قول مجاهد بن جبر والدليل على ذلك: أولاً: عموم الأدلة الواردة في كتاب الله عز وجل حيث لم يفرق سبحانه وتعالى بين الحرة والأمة.
ثانياً: أن الذين قالوا بالتشطير خصصوا هذا العموم بقول الصاحب، والعموم أقوى.
ثالثا: أنهم خصصوه من جهة العقل، وهذا مبني على المسألة الأصولية: تعارض العموم مع القياس، ودلالة العموم أقوى من القياس في هذه المسألة، فإن الله تعالى نص على التشطير في الحد ولم ينص على تشطيره في غيره من حيث الأصل العام، فبقي الغير على الأصول إذ ورد فيه دليلٌ عام فيبقى على عمومه؛ ولذلك يترجح مذهب من قال: إنه لا تشطير في عدة المرأة إذا كانت من الإماء.(328/2)
عدة من بلغت ولم تحض
قال المصنف رحمه الله: [وعدة من بلغت ولم تحض، والمستحاضة الناسية، والمستحاضة المبتدأة: ثلاثة أشهر والأمة شهران] (وعدة من بلغت ولم تحض) المرأة إذا كانت صغيرة -الصبية- إذا بلغت لها حالتان: الحالة الأولى: أن تبلغ بالحيض وحينئذٍ لا إشكال؛ فعدتها بالأقراء -على التفصيل هل هو الطهر أو الحيض- وهذا بإجماع العلماء؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] وهذه ذات قرءٍ فيجب عليها أن تتربص ثلاثة قروء بنص كتاب الله عز وجل.
الحالة الثانية: أن تبلغ ولا يظهر بها حيض، كما لو بلغت الخامسة عشرة على الصحيح وقد بينا خلاف العلماء رحمهم الله في سن البلوغ، فإذا بلغت -مثلاً- خمسة عشرة سنة على القول بخمسة عشرة سنة، أو سبعة عشرة سنة في مذهب الحنفية في التفريق بين الذكر والأنثى، وثمانية عشرة سنة كما هو مذهب المالكية، فإذا بلغت ولم تحض فحينئذ قال طائفة من أهل العلم: إننا نستصحب حكم الأصل: أن التي لم تحض لصغرٍ تعتد بالأشهر لآية الطلاق، فإن الله تعالى بين في آية الطلاق أن اليائسة من الحيض والتي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا ثبت أن المرأة في صغرها لم تحض فبالإجماع أنها تعتد بالأشهر، فإذا وصلت إلى سن الحيض ولم يجر معها دم حيض استصحب الأصل، فبلوغها لم يؤثر في الحكم شيئاً؛ لأنها لا زالت غير حائض، والله يقول: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] فبين أن اللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر، وهذه لم تحض، فتبقى على حكم الأصل فتعتد ثلاثة أشهر، وهذا كما نص عليه المصنف رحمه الله وهو قول طائفة من أئمة العلم من السلف والخلف.(328/3)
عدة المستحاضة الناسية
(والمستحاضة الناسية) تقدم معنا من هي المستحاضة، وبينا أنها المرأة التي يجري معها دم الحيض، وإذا جرى دم الحيض فله صور، وبينا أنه تارة يكون لها عادة، وتارة يكون لها تمييز، وفصلنا في أحكام هذا في كتاب الحيض.
والمسألة عندنا: امرأة مستحاضة كانت لها عادة ثم نسيتها، فلما نسيت عادتها أصبح حيضها مجهولاً، فقالوا: تعتد ثلاثة أشهر، حتى في مذهب الحنابلة فإنهم يردونه إلى الأصل في كتاب العبادات.
كيف تعتد ثلاثة الأشهر؟ قالوا: تحمل على حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها، وهو حديث حسنه غير واحد من أهل العلم رحمهم الله، ومنهم الإمام البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال لها: (.
أنعت لك الكرسف -قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك، قال لها: استذفري، ثم قال لها: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً، ثم صلي ثلاثاً وعشرين أو أربعاً وعشرين) فقوله: (تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً) ردها إلى الغالب من حيض النساء، فتتحيض ستة أيام أو سبعة أيام على حسب قوة الدم وضعفه، والتي تتحيض ستة أيام أو سبعة أيام وقد نسيت عادتها تنقسم إلى قسمين: أن تعلم مكان العادة -لأنها قد تنسى عدد العادة ولا تنسى مكانها- في أول كل شهر أو في آخر كل شهر، أو في منتصف كل شهر، فإن كانت عادتها تأتيها في أول كل شهرٍ فحينئذٍ نقول لها: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً من بداية كل شهر، وإن كانت عادتها تأتيها في آخر الشهر يقال لها: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً من آخر الشهر، لأنها تعلم مكان الحيض.
كيف نحكم بانتهاء العدة؟ الثلاثة الأشهر هنا فيها وجهان: الأول: من أهل العلم من يقول: ثلاثة أشهر كاملة كأن الحيض سقط اعتباره ورجع إلى التي لم تحض، وقال: لأنها لما كانت ذات حيض ولا تعرف عادتها، ولا يمكن تمييز عادتها أصبح وجود الحيض وعدمه على حدٍ سواء، فيرد إلى ثلاثة أشهر كاملة، وبناءً على هذا القول: لو طلقت في آخر ذي الحجة فإنها تعتد محرم وصفر وربيع الأول، وتخرج في آخر ربيع الأول من عدتها، وتحل للأزواج بنهاية شهر ربيع الأول.
الثاني: من أهل العلم من يقول: تعتد ثلاثة أشهر، على تفصيل حديث حمنة رضي الله عنها وأرضاها، وفي هذا الحديث قلنا: إذا كانت تعلم وقت عادتها في بداية الشهر أو آخره أو وسطه، فيفصل في هذا القول على التفصيل الذي تقدم معنا في الحيض والطهر.
هل عدة المرأة بالحيضات أو بالأطهار؟ أولاً: إن قلت: إن عدة المرأة بالحيضات -كما اختاره المصنف- وهو مذهب الحنابلة والحنفية رحمهم الله: يقولون: تعتد ستاً أو سبعاً من بداية محرم، ثم ستاً أو سبعاً من بداية صفر، ثم ستاً أو سبعاً من بداية ربيع، فإذا انتهت من اليوم السابع أو السادس -على التفصيل- خرجت من عدتها؛ لأنها حاضت ثلاث حيضات، وهذا حيض تقديريٌ بنص الشرع يعني: الشرع اعتبرها في هذا النوع من النساء، وكما أن العبادة ترتبت على هذا الحيض التقديري فالمعاملة مرتبة عليه.
ثانياً: إن قلت إن العدة بالأطهار، فتقول: تتحيض ستاً أو سبعاً من بداية محرم ثم صفر ثم ربيع وتنتهي بالطهر الثالث، وبناء على هذا تختلف: العدة على الوجهين في القول الثاني.
فالقول الأول: يتم العدد.
يعني: لا بد من مضي الثلاثة الأشهر.
والقول الثاني: لا يرى مضي الثلاثة الأشهر، والإشكال حينما يقع الطلاق، فلو وقع الطلاق أثناء الشهر، فلو كانت في بداية الشهر كما لو طلقت في آخر ذي الحجة فلا إشكال أنها تبتدئ من محرم، وتعتد ثلاثة أشهر -كاملة أو ناقصة- قمرية؛ لأن أحكام الشريعة الإسلامية مرتبة على الأشهر القمرية لا الأشهر الشمسية، والأشهر الشمسية ليس لها في أحكام العبادات والمعاملات تأثير، إنما التأثير في الأشهر القمرية التي نص الله عز وجل على اعتبارها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] وبين تعالى بهذه الآية أن الأصل: الاعتبار بالأشهر القمرية، وهذا محل إجماع عند العلماء رحمهم الله.
فلو أنها طلقت في آخر الشهر وابتدأت الثلاثة الأشهر من أول الشهر فتعتد الثلاثة الأشهر كاملة أو ناقصة، وحينئذٍ تارة يكمل الشهر الأول والثاني وينقص الثالث، وتارة ينقص الأول والثاني ويكمل الثالث، وتارة ينقص الأول والأخير ويكمل الوسط، وتارة العكس، فالعبرة في هذا كله بنقص الشهر وكماله فتارة تكون عدتها (89) يوماً وتارة (88) يوماً على حسب كمال الشهر ونقصه.
لكن لو أنها طلقت في منتصف شهر محرم، أو طلقت في (10) من شهر رمضان، أي: طلقت أثناء الشهر، فللعلماء في هذه المسألة خلاف، والذي عليها جمهور العلماء رحمهم الله أنهم يقولون الآتي: عدة الوفاة والطلاق تحتسب بالأشهر، فما زاد عن الشهر يعتبر مضموماً إلى آخر شهر، فإذا طلقت في اليوم العاشر من رمضان فحينئذٍ تتبع عدتها من اليوم الحادي عشر إلى نهاية رمضان، ثم نحتسب شوال ناقصاً أو كاملاً، ونحتسب ذا القعدة ناقصاً أو كاملاً، فإن نقص في الأهلة فهي شهر، وإن كمل فهو شهر، ثم يبقى السؤال في شهر ذي الحجة: ما الذي يضاف إلى الأيام التي مضت؟ فبعض العلماء يقول: يضاف من ذي الحجة عشرة أيام؛ لأن الأيام التي خلت من أول رمضان عشرة أيام، فبناءً على ذلك قالوا: لا بد وأن تحتسب المدة كاملة بناء على الشهر ويقدر الثاني والثالث -أي الشهرين الذين في الوسط- كاملين ويبقى الشهر الأول والرابع على حسب النقص الموجود في الأول ويكمل من الشهر الرابع.
وبناء على هذا القول: لو كان شهر رمضان ناقصاً فعندهم تعتد إلى عشر من ذي الحجة سواءً كان ناقصاً أو كاملاً، قال بعض العلماء: العبرة بالعدد، فما خرج عن الشهرين يرجع فيه إلى الأصل، وبناءً على ذلك: لو نقص فإنه لا بد وأن يحتسب ثلاثين يوماً، فتخرج في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، ومن حيث الأصل فالشهران اللذان هما في الوسط يكون الاحتساب بهما بالنقص والكمال، فلو كانا ناقصين فالعدة تامة كاملة، ولا يلتفت إلى الحساب بالتقدير من جهة أن يكون الشهران ستين يوماً، بل لو نقص الأول والثاني الذي هو شهر شوال وذو القعدة، وكان رمضان كاملاً فإنه يحتسب ويعمل به ولا يؤثر، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (شهرا عيدٍ لا ينقصان: رمضان وذو الحجة)، وقال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا قال الراوي: هكذا: فعد ثلاثين، ثم خنس الإبهام في العدد الثاني) يعني: يكون ثلاثين ويكون تسعاً وعشرين، وهذا من سماحة الشريعة أنها اعتبرت الرؤية، فإن رؤي الهلال فبها ونعمت، وإن لم ير أكملت العدة ولا عبرة بالحساب الفلكي وبينا هذا غير مرة، وبينا أن وصف الأمية لهذه الأمة وصف شرف وليس بوصف منقصة؛ لأن الله وصفهم بهذا، وقلنا بأن الأمية لا تستلزم الجهل، فالذي يقول: إن الأمي جاهل يخلط بين الأمرين، لأن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ أي: أنه باقٍ على حالته كيوم ولدته أمه، وقد يكون الشخص لا يقرأ ولا يكتب وهو أعلم الناس؛ فالأعمى لا يقرأ ولا يكتب، وقد يكون عنده علم، فالقراءة والكتابة ليست هي العلم، إنما العلم بالتحصيل والوعي، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رب مبلغٍ أوعى من سامع).(328/4)
عدة المستحاضة المبتدأة
(والمستحاضة المبتدأة) كذلك الحكم بالنسبة للمستحاضة المبتدأة: تعتد ثلاثة أشهر.
(والأمة شهران) على مذهب التشطير وبينا أنه مرجوح وليس براجح.(328/5)
عدة من ارتفع حيضها وعلمت سببه
قال رحمه الله: [وإن علمت ما رفعه من مرضٍ أو رضاع أو غيرهما فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض] هذا النوع الثاني من النساء: من ارتفع حيضها وعلمت سبب الارتفاع كمرض، وقال لها الأطباء: إن الحيض انقطع عنك بسبب المرض، أو كان بسبب الرضاع، ففي هذه الحالة يحمل هذا النوع من النساء على العدة التي سبقت وتقدمت، فتعتد سنة كاملة، وبهذا قضى الصحابة -رضوان الله عليهم- أن المرأة إذا ارتفع حيضها وعلمت سبب ارتفاعه فإنها تبقى على حالها حتى يعود إليها الحيض، وبهذا قضى الصحابة.
فـ علقمة بن قيس رحمه الله -صاحب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- كانت له زوجة فطلقها طلقة أو طلقتين، فحاضت حيضة أو حيضتين والشك من الراوي -والأثر عند مالك في الموطأ من طريقه، ورواه البيهقي بسندٍ صحيح- فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها الحيض، ثم بقيت سنة ونصف سنة، قيل: إنها توفيت بعد سبعة عشر شهراً، وقيل: بعد ثمانية عشر شهراً، ولم يعد إليها الحيض؛ لأنها كان عندها مرض، وعلمت السبب فحاضت الأولى ثم الحيضة الثانية وجاءها المرض فلم تحض الثالثة، وهذا لطفٌ من الله عز وجل، فلما لم تحض الثالثة توفيت قبل أن يعود إليها الحيض، فرفع أمره إلى عبد الله بن مسعود فورثه منها، وقال له: (حبس الله لك ميراثها).
يعني: الله عز وجل حبس عنها الحيض؛ لأنها لو حاضت الثالثة ما ورث منها شيئاً؛ لأنها تخرج بها من العدة، والرواية صحيحة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وبناءً على ذلك: إذا ارتفع الحيض بمرض وعلمت السبب -كما ذكر المصنف رحمه الله- تبقى حتى يزول هذا السبب وترجع إلى الأصل؛ لأن هذه ليست يائسة من الحيض، بل هي ذات حيضٍ جاءها عذر أو طارئ، فتبقى على الأصل من إلزامها بالحيض حتى يعود إليها حيضها ولو مكثت سنتين أو ثلاثاً فإنها تبقى على عدتها، وهي في حكم المعتدة حتى يعود إليها الحيض وتتم العدة على الوجه المعتبر.
(فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض وتعتد به أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته).
فيستمر الأمر معها حتى تدخل سن اليأس، وقد بينا قضية سن اليأس وهل له سن معين أو لا وبينا أن الصحيح أنه لا حد لليأس، وما دام أن دم الحيض يجري على المرأة فهي حائض، لكن لو انقطع فيما يشبه سن اليأس في غالب النساء أو في أترابها وقرائنها وكذلك أهل بيتها، ومعروف في بيتها أن النسوة اللاتي يبلغن سن خمس وخمسين عاماً ينقطع عنهن الحيض، فجلست تنتظر بعد المرض الذي أصابها ولم يزل المرض ودخلت في سن اليأس، فالغالب كالمحقق، والغالب: أن وضعها ووضع أهل بيتها وعادة أترابها أنها تكون آيسة؛ فحينئذٍ يحكم لها بعدة الإياس فتنتقل من عدة ذات الحيض إلى عدة ذات الإياس، وتلزم بالعدة ثلاثة أشهر.(328/6)
عدة امرأة المفقود
قال رحمه الله تعالى: [السادسة: امرأة المفقود] والمفقود هو: الذي غاب ولا يعرف خبره.
وبعضهم يقول: غاب وانقطع خبره، وبعضهم يقول: لا يعرف خبره، فيخرج الحاضر، والذي يعرف خبره، مثل الذي يراسل زوجته أو أقاربه فحينئذٍ لا يكون في حكم المفقود، فالمفقود يغيب وينقطع خبره، فلا يعرف حاله، وينقسم إلى قسمين:(328/7)
أقسام المفقود(328/8)
القسم الأول: أن يكون غائباً في حال يغلب عليها الهلاك
ومن أمثلته: الذي يفقد في القتال في سبيل الله عز وجل، فيكون بين الصفين، أو تحدث فتنة وقتال وهرج ومرج ويدخل فيها ثم يفقد، فهذا فقد في شيء غالبه الهلاك، أو يحدث زلزال في المدينة أو القرية أو المكان الذي هو فيه وينقطع خبره ولا يدرى أهو حي أو ميت.
أو مثلاً: يحدث فيضان، أو سيل على المكان الذي هو فيه -والعياذ بالله- أو تحصل حرائق أو كوارث أعاصير ثم ينقطع خبره ولا يعرف أحيٌ فيرجى أو ميت فيحكم بهلاكه.
فإذا كان في غيبة غالبها الهلاك فقضاء الصحابة -رضوان الله عليهم- أنه ينتظر أربع سنوات، فإذا لم يأتِ شيء ولم يتبين شيء حكم بموته تقديراً، وهذا على قاعدة: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود)؛ لأن الموت ليس محققاً، لكن ننزله منزلة الموجود، أو (تنزيل الموجود منزلة المعدوم).
وهذا الأصل في التقدير كما ضبطه العلماء.
وفي هذه الحالة نقدر الموجود منزلة المعدوم وهو حياته فنقدرها كأنها ليست موجودة، أو نقدر المعدوم منزلة الموجود وهو موته فنقول: إنه ميت؛ لأن الأصل أنه حي، وعلى كل حال يحكم بموته تقديراً ثم تعتد عدة الوفاة، فإذا اعتدت عدة الوفاة حكم بعد ذلك بحلها للأزواج، إن شاءت أن تنكح وإن شاءت أن لا تنكح، فهي حرة في أمرها.
وقد أثر هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقضى بذلك واشتهر هذا القضاء عنه رضي الله عنه وأرضاه، وعمل به الأئمة، وقال بعض السلف: ينتظر سنة كاملة، كما أثر عن سعيد بن المسيب؛ والرواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي عن طريق سعيد بن المسيب ورواية سعيد رحمه الله عن عمر بن الخطاب فيها خلاف: هل سمع أو لم يسمع؟ وهل هي متصلة أو منقطعة؟ لكن العمل عند أهل العلم على هذا القضاء.
واختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه الأربع سنوات.
هل هي معللة أو غير معللة؟ يعني: هل عمر لما قضى بالأربع السنوات قصد شيئاً من تحديد الأربع دون زيادة أو نقص أو لم يقصد؟ فقال بعض العلماء: قصد شيئاً، فهي معللة، وقالوا: قصد أنها أقصى مدة للحمل، فهي تتربص على هذا الوصف وعلى هذه المدة استبراءً لهذا الميت في حقه بالنسبة لها، ثم تعتد عدة الوفاة.
وقال البعض: الأشبه أنه غير معلل وهذا قول فيه قوة، وقضاء الأربع السنوات يشبه أن يكون الغالب أن الأربع السنوات إذا لم يعرف فيها خبر الإنسان يكون أشبه بالهالك، خاصة إذا كان حاله حال هلاك، مثل أن يفقد في مواضع غالباً لا يعيش صاحبها، مثل أن يسافر إلى أرض مسبعة فيها سباع، أو يكون البحر في حال هيجان، فالأربع السنوات مدة كافية أنه لو كان حياً لحصل أقل شيء الخبر والعلم بحاله.(328/9)
القسم الثاني: أن يكون غائباً في حال يغلب عليها السلامة
مثل أن يسافر للتجارة في بلدٍ آمن، أو أن يسافر ومن عادته أن يسافر، وفجأة انقطعت أخباره ولم يعرف هل هو حي أم ميت، أو سافر لصلة رحم وبعد ما تركهم لم يعرف ماذا صار له وماذا جرى؛ فإذا سافر على وجه غالبه السلامة كالتجارة والنزهة والصيد ونحو ذلك وفقد فمذهب جمهور العلماء: أنه ينتظر.
يعني: الأصل أنه حي وتبقى امرأته على هذا الأصل حتى تستيقن موته، إما أن يأتيها خبر أنه ميت أو تمكث مدة يغلب على مثله أن يموت، هذا وجه.
أو تمكث إلى أن يقدر عمره تسعين سنة، وقيل: إلى مائة، وقيل: إلى مائة وعشرين.
صورة المسألة: الرجل عمره ستون سنة مثلاً، والمرأة شابة عمرها ثماني عشرة سنة، أو خمس عشرة سنة، فتنتظره إلى التسعين، قالوا: والغالب أنه لا يجاوز التسعين.
وقال بعض العلماء: تنتظر إلى مائة وعشرين.
ومن أهل العلم من قال: ينظر إلى أقرانه ومن في سِنّه، فإذا انقرضوا وماتوا حكم بوفاته، وهذا كله لأجل قضية الإرث والحقوق التي سترتب على الحكم بوفاته، فهم يقولون: نبقى على الأصل أنه حي حتى يغلب على الظن هلاكه، والقول بأنه ينظر إلى من هم في مثل سنه ومن هم أقرانه حتى ينقرضوا أشبه، وكل الأقوال هذه عند الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ذكروا أنه ينتظر على التفصيل الذي ذكرناه، فمنهم من قدر التسعين، ومنهم من قدر المائة، ومنهم من قدر المائة والعشرين كما نص عليه بعض فقهاء الحنفية والشافعية رحمة الله عليهم.
فينتظر هذه المدة، فإذا مضت هذه المدة حكم بوفاته.
وفي هذه الحالة لو قلنا: إن المرأة تنتظر.
فالمرأة قد تخاف على نفسها الحرام والفتنة، ولا تستطيع أن تنتظر هذه المدة، وتريد حقوقها، وتريد من يعولها ويقوم عليها، كأن ترغب في الزواج، فترفع أمرها إلى القاضي وتشتكي، وفي بعض الأحيان من حق القاضي أن يطلق عن الزوج إذا رأى ظلم المرأة، وخشي عليها.
إذاً: فالمرأة لها أن تنتظر، لكن متى نحكم بإرثها منه؟ ومتى نحكم باعتدادها من عدة الوفاة؟ وهذا الكلام في حال إذا رضيت أن تبقى وتعتد عدة الوفاة، فإذا قالت: أنا سأبقى، ولا أريد تركه، وأريد حقي في إرثه مثلاً، ففي هذه الحالة نقول: لا حق لك ولا إرث لك حتى تمضي المدة التي غالباً أنه يهلك فيها، ثم بعد ذلك يحكم بموته تقديراً، على تفصيل في مسألة الإرث والميراث، ولكن الذي يهمنا هنا أنها تمكث منتظرة إلى أن يغلب على الظن هلاكه بهلاك أقرانه، أو بمضي مدة على التفصيل الذي ذكرناه.
قال رحمه الله: [تتربص ما تقدم في ميراثه ثم تعتد للوفاة].
تتربص ما تقدم في ميراثه من كتاب الفرائض وقد تقدم، والعلماء دائماً يحيلون المسائل على مواضعها ومظانها، فمظان هذه المسألة في ميراث المفقود وقد تقدم، وهذا التفصيل في كتاب الفرائض وفي غيره أنهم يقولون: إنها تنتظر إلى أن يغلب على الظن هلاكه.(328/10)
عدة الوفاة لامرأة المفقود
قال رحمه الله: [ثم تعتد للوفاة].
إن حكم بوفاته تقديراً ومضت المدة أو هلك أترابه -الأتراب الذين في سنه- {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37] يعني: أنهم في سن واحدة- فلو هلك أترابه وانقرضوا، فحينئذٍ يحكم القاضي بوفاته، ثم بعد ذلك تعتد عدة الوفاة فيحكم بإرثها.(328/11)
تربص أمة المفقود
قال رحمه الله: [وأمة كحرة في التربص].
تتربص مثلما تتربص الحرة، يعني: تمكث أربع سنين مثلما ذكرنا، ولا يشطرون المدة هنا.
قال رحمه الله: [وفي العدة نصف عدة الحرة] التشطير في العدة فقط، والغريب أن بعض المالكية قال بالتشطير -فتمكث سنتين- مع أنهم خالفوا في العدة، وقال: تتم العدة.
وعلى كل حال طالب العلم ربما وجد عند بعض العلماء أقوالاً مختلفة، فليعلم أن وراءها أسباباً، يعني: في بعض الأحيان التفريق بين المجتمع والجمع بين المفترق دليلٌ على فقه العالم؛ لأنه أعطى كل مسألة حقها، والشريعة تفرق بين المجتمع وتجمع بين المفترق، وهذا طبعاً لأنه الأحكام تختلف وتتأثر بعللها وموجبات التغيير فيها.
وعلى كل حال: فالذي عليه العلماء هنا أنهم لم يروا تشطيراً في مدة التربص، فعندنا مدتان: المدة الأولى: أربع سنين، وهي مدة من لا تغلب عليه السلامة، وهذه المدة لا تشطير فيها.
والمدة الثانية: مدة عدة الوفاة وهذه فيها التشطير -وقد تقدم معنا - لأنهم يشطرون عدة الوفاة بالنسبة للأمة، وبينا أن الصحيح أنه لا تشطير في عدة الوفاة ولا في عدة الطلاق.(328/12)
وقت ابتداء التربص بالنسبة لامرأة المفقود
قال رحمه الله: [ولا تفتقر إلى حكم حاكم بضرب المدة وعدة الوفاة] اختلف العلماء رحمهم الله: لو أن المرأة أرادت أن تتربص الأربع السنين فهل تحتسب الأربع السنين منذ سفره، أو منذ انقطاع خبره، أو منذ شكواها ورفعها إلى القاضي؟
الجواب
هناك قولان للعلماء رحمهم الله: القول الأول: تبتدئ الحساب من الوقت الذي انقطع خبره، كأن يكون يراسلها كل شهر وانقطع عنها في شهر محرم، فتبدأ التربص من محرم وتحتسب الأربع السنوات من محرم، وهذه رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وقد كان حُكي عن أصحابه أنها تحتسب منذ فقده؛ لأن الضرر جاءها من حين فقده وفقد خبره.
القول الثاني: تحتسب المدة من قضاء القاضي لها أن تتربص أربع سنين، فتبتدئ الأربع السنوات من قضاء القاضي كما هو في مذهب الإمام مالك رحمه الله، وعن الإمام مالك أنه نص على ذلك، أن تبدأ بالحساب منذ أن رفعت أمرها إلى القاضي.
والفرق بين القولين: أنه ربما انقطع خبره من محرم فسكتت وانتظرت إلى أن جاء شهر -مثلاً- شعبان فرفعت إلى القاضي أمره في شعبان، فعلى القول الأول تحتسب من محرم وتمضي أربع سنين حتى يأتي محرم من السنة التي تكمل فيها أربع سنين فتخرج من الإلزام بالأربع، وتدخل في عدة الوفاة.
وعلى القول الثاني: يبتدئ حسابها من شعبان منذ أن حكم القاضي، وليس العبرة بابتداء الفقد أو انقطاع الخبر، والفرق بين القولين: إذا نظر إلى أن الأربع السنوات تبعدية وأنها تقدير من الشرع اعتماداً للغالب ففي هذه الحالة يقوى أنها تتوقف على حكم القاضي، وإذا نظر إلى أنها اجتهادية وفيها معنى التعليل ففي هذه الحالة العلة موجودة منذ الفقد، ومنذ انقطاع الخبر، فيقوى القول الأول على القول الثاني من أنها معللة؛ لأنه إذا انقطع خبره في هذه الحالة حصل الضرر لها فتبدأ الحساب من ذلك الوقت، وكلا القولين له وجهه، وظاهر الذي اختاره المصنف هنا: أنها لا تفتقر إلى حكم القاضي، يعني: تحتسب المدة من حين انقطاع الخبر.(328/13)
مسألة: إن تزوجت امرأة المفقود وجاء قبل أن يطأها الزوج الثاني
قال رحمه الله: [وإن تزوجت فقدم الأول قبل وطء الثاني فهي للأول وبعدها له أخذها زوجة بالعقد الأول ولو لم يطلق الثاني] (إن تزوجت) هذا تسلسل في الأفكار، وميزة هذه الشريعة العظيمة الكريمة التي هي: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] {يََقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] أنها شريعة تامة كاملة.
ولذلك تجد أن الفقه الإسلامي ضرب أجمل الصور وأروعها في معالجة المسائل والمشاكل والنوازل بدقة وعناية وشمولية، بينما القوانين الوضعية قاصرة، يجلس أصحابها مدة يعاينون الناس وينظرون أعرافهم حتى يسنون القانون بعد ما تحدث القضايا، ويدرسون الأقضية التي تسمى: دراسة القضاء، فيقولون: هكذا في القضاء الفلاني والعلاني، فيجمعون هذه الأقضية ويجمعون تصورات ثم بعد ذلك يحدثون، فلو شاء الله أن الأعراف تغيرت، وأحوال الناس تبدلت واختلفت المعايير في المجتمع واختلفت أوضاع الناس ذهبت قوانينهم أدراج الرياح، وما عادت تنفع؛ لأن البيئة التي فيها التزام ومحافظة ليست كالبيئة التي لا يوجد فيها التزام، والبيئة الغنية ليست كالفقيرة، والبيئة الجامعة بين الغنى والفقر ليست كالمتمحضة فقراً أو غنى، لكن الشريعة الإسلامية هؤلاء علماؤها وأئمتها -رحمة الله عليهم- قد خرجوا المسائل من أصول صحيحة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بأجمل وأكمل ما يكون، فهنا لم يقولوا: إن امرأة المفقود يحكم بأنها تنتظر، فإذا انتهت مدة الانتظار حكم بأنها أجنبية وأنها تحل للأزواج ويقفون عند هذا فحسب؛ ما الذي يترتب على هذا الشيء؟ تحكم الشريعة في الشيء ولا تقف عاجزة، وقد كانت دولة الإسلام من المحيط إلى المحيط ولم تقف الشريعة ولا الفقه الإسلامي يوماً من الأيام عند نازلة أو مسألة أبداً، بل إنها وفت وكفت وجاءت على أتم الوجوه وأكملها، لكن القوانين الوضعية تعجز في كثير من الأشياء والأمور التي تطرأ أو تجد، وهذا ما يسمونه بمسائل (الطوارئ) في لغة العصر، وتسمى: مسائل النوازل عند العلماء، فإذا نزلت النوازل اختلفت المعايير واختلفت الأقيسة، لكن الشريعة الإسلامية لا يحدث تغير فيها ولا عجز، والعلماء -رحمهم الله- منذ فجر الفقه الإسلامي عندهم ما يسمى بمسائل التخريج، وهذه المسائل اعتني بها تقريباً من القرون الأولى في الفقه الإسلامي، يخرجون ما حدث ووجد على ما مضى، حتى أنك تجد أن الفقيه ليس عنده دليل ينص على حكم المسألة لكن يستطيع أن يقول الحكم في المسألة ويصيب الحق؛ ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه -وكان من فقهاء الصحابة ومفتيهم وكان عمر رضي الله عنه يقول فيه: (أتسألونني وفيكم صاحب السوادين والنعلين) - قال: (أقول فيها برأيي -في مسألة سئل فيها- فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان ثم قضى بأن عليها العدة ولها الميراث.
فقال له الأشجعي: أقسم بالله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا).
الله أكبر! يقول: أقول فيها برأيي، ويقول: إنه: ليس هناك نص، ولكنها بصائر تنورت، وقلوب صقلت بروحانية الكتاب والسنة، وأمة تلقت هذا الفقه بضوابط وأصول صحيحة، ومن هنا كان التأدب مع العلماء الراسخين، فهذا يقول: (أقول فيها برأيي) وما كذب رضي الله عنه وأرضاه، وإذا هي برأيه المحض، وهناك من يتهكم بالفقهاء ويقول: أهل الرأي!! والصحابي هنا يقول: (أقول فيها برأيي) فالرأي إذا كان مستنبطاً من الشرع فلا يلام عليه أحد، وأئمة الإسلام ودواوينه ما جاءوا بالرأي من جيوبهم بل من الكتاب والسنة، وإنما الرأي المذموم هو الذي يكون غير مستند إلى العلم، كأن يأتي شخص ويفتي دون أن يكون قد درس الفقه على أصوله.
هذه المسألة من مسائل النوازل وتترتب على الأصل المقرر، وهي مسائل المستتبعات التي يذكرها العلماء، وتختلف مناهج المتون الفقهية، وتقسم تقريباً إلى ثلاث درجات: الأولى: متون تعتني بالأصول فقط ولا يدخلون في التفريعات، وكأنها مختصر المختصر، وأصحاب الفقه والأصول ينهجون هذه الطريقة.
الثانية: ومتون هي وسطٌ بين المختصر والمطول، وتعتني بالأصول والتنبيه على نكت وطرائف وتتمات وفوائد لطيفة، ولا يدخلون في التفريعات.
الثالثة: متون موسعة، وهي متون ومختصرات في الفقه، لكنها تعتني بالأصول وما بني على الأصول، وما يطرأ من مسائل الآثار، وربما في بعض الأحيان يأتي بغرائب المسائل، وهذا يختلف من مذهب إلى مذهب ومن فقه إلى فقه.
وعلى كل حال فقد ذكر المصنف -رحمه الله- المسألة الأخيرة وهي: إذا تزوجت امرأة المفقود وجاء المفقود، وفي هذا قضاءٌ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قضى به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عن الجميع.
أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فإنه قضى أنها لزوجها الأول، ويخير بين أن تعود إليه وبين أن يعطى الصداق وتبقى مع زوجها الثاني، وهذا الحكم من عمر رضي الله عنه مبني على الأصل؛ لأن القاعدة في الشريعة تقول: (لا عبرة بالظن البين خطؤه).
يعني: إذا ظننت ظناً وعندك له دلائل وبنيت عليه أحكاماً ثم تبين أنه خطأ، فهذا الظن لاغٍ، وما بني عليه من حيث الأصل لاغ أيضاً، مثلاً: لو أن شخصاً استدان من شخص عشرة آلاف ريال ثم ظن أنه سدده، ورفع إلى القاضي فحلف بالله فقيل له: هل لك بينة؟ قال: ليس عندي بينة.
فقيل: يا فلان! أتحلف؟ قال: نعم أحلف، فحلف بالله على غلبة الظن، فهو يظن أنه دفع له، ويجوز للمسلم أن يحلف على غلبة الظن، مثلما يحصل بين التجار حين يتعاملون مع بعضهم، فجاء في ظنه أنه دفع له عشرة آلاف من معاملة قديمة، فظن أن هذه المعاملة هي التي عليها الخصومة، ثم بعد سنة أو سنتين أو ثلاث تبين له أنه مخطئ.
فهل يسقط حق الرجل بسبب ذلك الظن؟ نقول: لا عبرة بالظن البين خطؤه ونرجع إلى الأصل، فنحن هنا حكمنا بأنه ميت وأنها خرجت من عدتها وحلت للأزواج، ثم تبين أنه حي، ولم يطلق ولم يحدث بينه وبينها مخالعة وفسخ، والأصل: أن العصمة بيد الزوج، وفي هذه الحالة يلغى الظن ويرجع إلى الأصل من أنها زوجته، فقضى -رضي الله عنه- بهذا، وهذا مبني على القاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان).
وقضى رضي الله عنه بهذا القضاء في امرأة من بني شيبان اختصمت إليه رضي الله عنه وأرضاه، فقضى بخروجها واعتدت أربع سنين واعتدت عدة الوفاة ثم جاء زوجها الأول فخيره بين رجوعها وصداقها.
وكذلك أيضاً: ارتفعت قضية إلى عثمان رضي الله عنه وأرضاه ومضى إليه أهل المرأة وكانوا قد زوجوها فقال عثمان - -وكان رضي الله عنه في الحصار-: (كيف أقضي بينكم وأنا في هذه الحال؟) وهذا من فقهه رضي الله عنه وأرضاه، فقد رجع إلى مسألة القضاء، فقالوا: قد رضيناك، فقضى فيها رضي الله عنه بالقضاء الذي ذكرناه، فلما توفي رفعت القضية إلى علي فأثبت الذي قضى به عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فأصبح قضاء عمر وعثمان وعلي، وحينئذٍ يخير بين أن يرجع إلى زوجته وبين أن يأخذ الصداق.
ثم بقي النظر: هل يرجع في الصداق على المرأة؟ أو يرجع على الزوج ثم الزوج يرجع على المرأة؟ وجهان للعلماء؛ ولذلك جاء في قصة الشيبانية أنها دفعت الألفين -وكان صداقها ألفين- قالت: (ثم أخذ من زوجي ألفين فأغناه الله)، ألفين من عندها، وألفين من زوجها، وقالوا: إن هذا بطيبة نفسٍ منه، لكن من حيث الأصل فإن الصداق يرجع فيه على الزوجة؛ لأنها هي التي نيط بها الحكم، وقال بعض العلماء: يرجع فيه إلى الزوج ثم الزوج يرجع على من غره وهي الزوجة، والغالب على هذا.
ولكن إذا رغب الزوج الأول في زوجته فهنا يرد السؤال عن صداق الثاني؛ لأن الثاني دفع الصداق، فقال: يرجع إلى من غر.
وهذا كله إذا حصل الدخول، أما إذا لم يحصل الدخول فقد ذكر المصنف -رحمه الله- أنها للأول، وقد قضى به غير واحد من أئمة السلف رحمة الله عليهم، وفرقوا بين بين أن يقع رجوع قبل الدخول أو يقع بعد الدخول.(328/14)
الوطء قبل الخروج من عدة الثاني
قال رحمه الله: [ولا يطأ قبل فراغ عدة الثاني] (ولا يطأ قبل فراغ) استبراء للرحم حتى لا يخلط ماءه بماء غيره، ولا بد أن يحصل استبراء، يعني: لو قال: أريد زوجتي.
والزوج الثاني قد وطئها، فينبغي أن يتحرى، فلا يطأ إلا بعد أن تستبرئ لرحمها، فإذا استبرئ الرحم فيحل له حينئذٍ أن يطأها.(328/15)
تجديد العقد الثاني إن ترك الأول
قال رحمه الله: [وله تركها معه من غير تجديد عقدٍ] قال بعض العلماء: يستحب أن يجدد الثاني العقد إذا ترك الأول، وقال: لا أريدها، عافتها نفسي، أو أنه لا يحب أن يسيئ إلى أخيه أو قريبه.
فقال: لا أفسخ النكاح، فهل يجدد عقد الثاني أو لا يجدد؟ هذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، وقد نص المصنف على اختياره -رحمه الله- لعدم التجديد.
قال رحمه الله: [ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني، ويرجع عليها بما أخذه منه] إذا اختار أن تبقى المرأة عند زوجها فيرد له صداقه، ومثلما ذكرنا: هل يرجع على الزوجة أو يرجع على زوجها؟ إن قيل: يرجع على زوجها، فيرجع الزوج بعد ذلك على الزوجة، وإن قيل: إنه يرجع إلى الزوجة مباشرة فلا إشكال، لأن المرأة هي التي أخذت صداق الرجلين الأول والثاني، فحينئذٍ: إما أن ترد الصداق إلى الأول أو للثاني، على التفصيل الذي ذكرناه.(328/16)
الأسئلة(328/17)
عدة من ارتفع حيضها بسبب الرضاع
السؤال
من ارتفع حيضها بسبب الرضاع فهل لها أن تقطع الرضاعة وتعتد بالحيض أم تبقى على الإرضاع وتعتد ثلاثة أشهر؟
الجواب
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا انقطع الحيض عن المرأة فإنها لا تستطيع أن ترده وليس الأمر بيدها، فتنتظر حتى يذهب هذا المانع والرافع للحيض على التفصيل الذي ذكرناه سابقاً، إذاً: الأصل أنها تنتظر حتى يعود إليها الحيض، ثم إذا عاد إليها الحيض حكم بعدتها كعدة ذوات الأقراء.
والله تعالى أعلم.(328/18)
حكم صلاة الميت على المفقود
السؤال
إذا لم يرجع الرجل المفقود هل يصلى عليه صلاة الميت؟
الجواب
لا.
لم يحصل أن أحداً من أهل العلم قال بذلك، ولا أعرف أن أحداً من أهل العلم قال: يصلى على المفقود أبداً.
وحصل الفقد في عصر عمر وعثمان وعلي وهم ثلاثة أئمة من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم وما صليت صلاة الغائب على واحد مفقود، فهذا لا أصل له، فربما ظهر أنه حي، والأشبه أن الصلاة عبادة توقيفية لا يمكن أن يحكم بها وبشرعيتها إلا إذا دل الدليل، والدليل دل على مشروعية الصلاة إذا وجدت الجنازة أو الصلاة على الغائب على اختلاف في ذلك كما تقدم معنا في كتاب: الجنائز، والله تعالى أعلم.(328/19)
حكم إعانة المرأة على مخالعة زوجها
السؤال
امرأة أرادت أن تخالع زوجها وليس لديها ما تخالع به، فاقترضت من رجلٍ قدر مهرها ولكن المقرض اشترط أنه إذا شاء تزوجها بهذا القرض، فما حكم هذه المسألة؟
الجواب
لا يجوز هذا؛ لأن هذا يدخل في تخريب المرأة على زوجها، وإذا فتح هذا الباب أمكن لكل شخص له غرض في امرأة أن يقول لها: أنا أعطيك صداقه واختلعي منه وما أعطيته لك فهو لك صداق، وبهذا تفسد بيوت المسلمين، وتدمر الأسر، وتشتت العوائل، وفي هذا من البلاء ما لا يخفى.
والمرأة إذا أرادت أن تقترض تقترض على الوجه المعتبر للقرض، وهي امرأة في عصمة رجل، فلا يجوز لأحدٍ أن يغريها، ولا يجوز لأحد أن يدفعها إلى ذلك بالإغراء المادي وأنه متكفل بكل شيء، إلا إذا كان أخاً من إخوانها أو قريباً من قرابتها رأى الظلم عليها والأذية، ورأى أنها يخشى عليها الفتنة، وزوجها مقصر في حقها أو كذا، وليس هناك طريق غير الخلع.
فقال لها: أنا أعينك وأساعدك وأقف معك حسبة وقياماً بالحق.
وبالمناسبة: الخلع حقٌ من حقوق النساء، ولكنه للأسف -خاصة في هذه الأزمنة- ضيع عند كثير إلا من رحم الله، حتى إن بعض من يرفع إليهم أمر الخلع من القضاة وغيرهم لا يجريه على السنة، وهذا أمر يحتاج إلى أن يتقى الله عز وجل فيه، المرأة إذا جاءت تشتكي ولا تريد أن تعاشر زوجاً تمكن من الخلع، ولا يجوز تأخيرها ومماطلتها والضغط عليها.
إذا ما أرادت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم.
قال: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فكما أن الرجل يطلق متى شاء وكيف شاء، فالمرأة من حقها أن تترك الزوج إذا لم ترغب فيه، وليس لها محبة له، وقل أن تخالع امرأة زوجها، والخلع له وجهين: إما أن الرجل فيه شيء من العيوب موجب للخيار، أو أمور ليست بعيوب موجبة للخيار -أي: دون الكمال- والمرأة خافت على نفسها الحرام، فتخالع زوجها، ولا يجوز أن تماطل المرأة في ذلك، وأعرف بعض القضايا جلست المرأة سنة كاملة وهي تطالب بالخلع ولا مجيب، وهذا مخالف لشرع الله عز وجل، فالمرأة إذا جاءت تطالب وهي مستعدة أن تؤدي للرجل حقه فهذا حق من حقوقها، وتمكن من حقها.
ولا شك أن بعض القضاة يجتهد -جزاه الله خيراً- ويقول: ربما تكون سفيهة، أو طائشة، لكن لا يجوز هذا، وهذا خلاف السنة، وهذا اجتهاد مع النص، والنص جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) وقد أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إني لا أعيب في ثابت خلقاً ولا ديناً، ولكني أخاف الكفر بعد الإسلام) امرأة من الصحابة وفي عهد النبوة وفي خير القرون تقول: (يا رسول الله! ولكني أخاف الكفر بعد الإيمان) ولذلك بادر النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها حقها.
إذاً: المرأة لها أن تخالع ولكنها لا تعان على سبيل التخريب والإفساد، فيقال لها: زوجك لا يصلح، ما رأيك لو أعطيتك، هذا ماذا تريدين من عنده؟! ما عنده وظيفة، ما عنده كذا، فهذا من باب الإفساد والتحريش؛ النبي صلى الله عليه وسلم يقول في هذا وأمثاله: (لعن الله من خبب امرأة على زوجها) ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، وهذا أمر عظيم جداً.
فلا يجوز إفساد نساء المؤمنين على أزواجهن، وعلينا أن نتقي الله عز وجل، وإذا أراد أن يساعدها بالمعروف فجزاه الله خيراً، أما إذا كان على سبيل الإفساد؛ فإنه محرم ومنكر، وكبيرة من الكبائر، والله تعالى أعلم.(328/20)
الجمع بين اختيار النبي صلى الله عليه وسلم الأيسر وبين كون عظم الأجر مع المشقة
السؤال
إن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فكيف يجمع بين هذا وبين كون عظم الأجر مع المشقة؟
الجواب
تخيير النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيما لم يبت فيه، والفضائل في المشقات فيما بتَّ في حكمه، وتوضيح ذلك: أنه إذا خير عليه الصلاة والسلام بين أمرين أحدهما أيسر للجماعة وللأفراد كان عليه الصلاة والسلام يختار الأيسر؛ لأن الله بعثه رحمة للعالمين، ويختار ما هو أخف على الناس حتى في بعض الأشياء التي تكون منه عليه الصلاة والسلام في شأنه وسمته يختار أيسرها، ومع أهله وزوجه يختار أيسرها؛ لأن التخفيف يكون فيه إحسان إلى الغير إذا كان الغير له تبع كما هو حاله مع أهله وأزواجه، فالمسلم إذا اختار الأيسر في معاشرته لأهله ومعاشرته لمن ولّاه الله أمره من العمال والخدم والأجراء ييسر عليهم، ولا يعنفهم، ولا يشق عليهم ويأخذهم باليسر فهذا أفضل.
مثلاً: لو أن رجلاً أراد أن يبني عمارة وهذه العمارة يمكن أن تبنى خلال خمسة أشهر ويمكن أن تبنى في خلال عشرة أشهر، ولكنه خلال الخمسة الأشهر يضيق على العمال ويضغط عليهم، فيختار النبي صلى الله عليه وسلم -كمثال- في هذا الأيسر، ويخفف على الناس ولو طال الأمد.
وكان صلوات الله وسلامه عليه يختار اليسر في سمته وشأنه كله، ولذلك جاء في الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت للميسرين) أما في مجال العبادات والرقائق - مثلاً - إذا رأيت شخصاً على منكر فإنك مخير بين يسر وعسر، فالعسر أن تأتي بقوة وتقول: يا أخي! اتق الله! فهذا منكر، وما كان ينبغي لمثلك أن يفعل هذا.
فهذا لا تُلام فيه؛ لأنك قلت حقاً وصدقاً، وقلت شيئاً يستند إلى أصل شرعي، فالذي فعله منكر، بشرط أن لا تتجاوز الحد في النهي، مثل أن تقول له: أنت كذا وأنت كذا، وتتهجم عليه، وإنما تأتيه بقوة في اللفظ تقول له: يا أخي، اتق الله.
ولذلك تجد البعض إذا أنكر ينكر بقوة وبشدة، ولا يمس حق أخيه المسلم، ولا يستطيل في عرضه، ولا يسبه ولا يشتمه، فهذا الذي أخذ بالقوة يعطي هيبة للدين، وللشرع، ولا يأتي شخص يسفهه ويقول: انظر إلى هذا لا يعرف كيف يأمر وينهي.
لا.
فهو أخذ بشيء حسن، وقال صدقاً، فلا يستطيع صاحب المنكر أن يرد ما قاله، وأمر به؛ لأنه من شرع الله عز وجل وهذا طبعه وهذه طريقته، أخذ بالحسنى، وقال بالحسنى، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
لكن لو جاءه وقال له: يا أخي! اتق الله عز وجل، فمثلك ينتسب لدين الله وشرع الله ولا يليق بمثلك هذا، وأنت عندي أفضل من أن تفعل هذا الشيء، أو رأه على منكر قال: أسأل الله أن يعافيك من هذا البلاء، أسأل الله أن ينزع من قلبك حبه، أسأل الله عز وجل أن ييسر لك التوبة منه، فشرح صدر الرجل إلى القبول، وشرح صدر الرجل إلى الأخذ بهذا الذي قاله، فهذا قد أخذ باليسر والسهالة.
الأول: أخذه بالقوة وبعزيمة الشرع: (ولتأطرنه على الحق أطراً) وجاءه على الأصل وهذا حسن.
الثاني: أخذ باليسر، وهو أحسن؛ لأنه رغبه ودعاه إلى الخير، وكلاهما من شرع الله عز وجل وكلٌ منهما في حسن؛ فالأول نظر إلى الثمرة والنتيجة فلو أن الناس أخذوا بالعزيمة بقيت هيبة الدين وقوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثاني رغب الناس إلى الخير، لكن ربما يعامل الفاسق والفاجر والمتهتك بذلك فيستطيل على أهل الحق ويستطيل على من يأمر وينهي، فيؤخذ باليسر في موضعه والحزم في موضعه؛ وحينئذٍ الكمال والتمام يأتي بالتي هي أحسن فإن رفع صوته عليه رفعه عليه، وإن أغلظ له أغلظ عليه ورد عليه منكره، فتعطي كل ذي حقٍ حقه.
مثلاً: في بعض الأحيان تقع في وضع لو أنك أخذت باليسر والسهالة لتهتك الناس به ولربما تأتي في موضع لا يستحق الشدة وترى فيه خطأ فتعنف بقوة، وأنت عالم أو شيخ أو داعية، وكان بالإمكان أن تأخذ بالتي هي أحسن لكن قد ترى أن ممن يحضر أناس وتعلم أنك لو أخذته باليسر سيرتكب غيره نفس الخطأ وتعلم أنك لو أخذت بالقوة في هذا أنك تعالج أمراً فيه مصلحة للغير، فحينئذٍ تكون الشدة والقوة في مكانها، واليسر في مكانه، فتأخذ باليسر في موضعه، وتأخذ بالقوة والشدة في موضعها، فإذا أخذت بالذي فيه مشقة، فربما تضجر الناس من ذلك وقالوا: ما ينبغي لهذا الداعية أن يفعل هذا، وربما يسفه رأيك، وربما يستهجن فيعظم أجر الإنسان أكثر، ولربما يحصل بالبلاء ما لا يحصله بغيره.
وفي اليسر يحصل جانباً آخر مثل: أنه يمنع الناس من الكلام في أهل العلم، ولذلك لما مشى بعض أئمة السلف، وكانت به عاهة وبجواره عالم آخر فيه عاهة ثانية، فقال: إذا رآنا الناس قالوا: كذا وكذا.
يعني: يقولون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، فقال له العالم الآخر: مالك وللناس فليقولوا ما قالوا، قال: وما عليك أن يسلم الناس ونسلم.
الأول يقول: أريد الأجر والثاني يقول: وما عليك أن يسلموا ونسلم، انظر كيف النظر الأبعد؛ فمثل هذا يأجره الله.
وهناك جوانب في اليسر تدرك فيها فضائل العسر، وهناك جوانب في العسر تدرك فيها فضائل اليسر، وهذا يرجع إلى الفقه، ولذلك قالوا: الفقه عن الله عز وجل يحصل الإنسان به ما لم يحصله غيره؛ لأن غيره لا يستطيع أن يزن الأمور بموازينها.
وكنا نجد بعض علمائنا ومشايخنا رحمة الله عليهم -نحن عندما نقول: قال بعض مشايخنا كذا، فإنا والله لا نشك أن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم غنيان عن كل أحد، لكن ضرب الأمثلة من الواقع والحياة التي يعيشها الناس يؤثر كثيراً- كنا نجد بعض علماءنا يتعاملون بعنف وبعض الأحيان يتعاملون بيسر، حتى أنك تتألم وتقول: كان ينبغي أن يأخذ بالقوة والحزم، ولكن تمضي الأيام تتتابع، وإذا بالذي اختاره الله له عين الصواب وعين الحق، ويجعل الله من حسن الأثر وحسن العاقبة ما لم يكن في الحسبان، وهذه كلها ترجع إلى أمر واحد وهو: توفيق الله جل وعلا.
فالإنسان عندما يمارس العسر واليسر في دعوته إلى الله لا يريد إلا وجهه، فلن يندم عليها أبداً، وسيوفقه الله عز وجل للصواب ويعينه؛ لأن أهل العلم والدعوة وطلبة العلم والخطباء وكل من تولى ولاية شرعية لحمل الناس على طاعة الله لا يوفقهم الله إلا إذا علم فيهم الخير والصدق، وانظر إلى أهل الدنيا من التجار وأهل الأموال كيف يقفون مع من يعينهم على دنياهم، وكيف أنهم يغارون -وحق لهم ذلك- لأنهم نصحوا لهم وقاموا معهم، فكيف بمن نصح لله جل وعلا ولدينه؟ أبداً لا يخيب، فعسره سيجعل الله به الخير إن اتقى الله فيه، ويسره سيجعل الله فيه خير، وسبحان الله العظيم! بعض الأحيان يختار الإنسان المشقات التي فيها الأجر أعظم، لأنه كما جاء في الحديث: (ثوابك على قدر نصبك) وقلنا: إن هذا فيما بت في أمره.
مثلاً: في التشريعات -مثلاً- المشي في الحج.
لو ركب أو مشى، فإنه إذا ركب تأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو مشى تعب وحصل له الأجر بالعناء والتعب، لكن لا يعتقد أن المشي أفضل من الركوب من جهة كونه سنة، وإن اتفق له أن يمشي فليمش، وله الأجر الأعظم في المشقة، لكن إذا جاء وخير بين الركوب والمشي فيختار سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب، فإذا أخذ باليسر تأسياً أو كان الأمر فيما بت فيه فلا إشكال، والخير في اتباعه وتتبع سنته عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك قالوا: الوارد أفضل من غير الوارد، فالوارد إذا اتبع فيه الشرع كان الأجر أعظم عند الله عز وجل، بل فيه الرحمة والهدى؛ لأن الله جل وعلا جعل الرحمة والهدى لمن اتبع سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(328/21)
شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [6]
هناك مسائل كثيرة تلحق بباب العدة: وهي مسائل تتعلق بدخول عدة في عدة، ودخول النكاح في العدة، والوطء في العدة بنكاح فاسد أو شبهة أو زنا، وغيرها من المسائل والأحكام.(329/1)
عدة المرأة المطلقة من زوجها الغائب أو وفاته عنها وهي لا تعلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل].
هذا الفصل يشتمل على جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بدخول عدة في عدة، ودخول النكاح في العدة، وما الحكم إذا وطئ رجل امرأة وهي في عدتها؟ وهذا الفصل مهم جداً؛ لأنه قد يحصل الخطأ فيقع الوطء بالشبهة، وقد يقع الوطء في نكاح فاسد، وللمرأة في كل حال عدتها، ومن هنا يرد
السؤال
هل العدة الأولى تلغى ثم تستأنف وتعتد من جديد، أم أنها تنقطع عن هذا النكاح الفاسد ثم بعد ذلك تبني على العدة؟! أي: تنقطع العدة بدخول النكاح الفاسد ثم يفرق بينهما -يعني: بين الزوج والزوجة المعتدة- ثم تبني على عدتها القديمة؟ قال رحمه الله: [ومن مات زوجها الغائب أو طلقها: اعتدت منذ الفرقة وإن لم تحد] من هنا أتانا العلماء والأئمة -رحمهم الله- ببيان حكم هذه المسألة، وصدر المصنف رحمه الله هذا الفصل بمسألة أخرى مهّد بها للكلام على ما ذكرناه من المسائل، وهي مسألة: طلاق المرأة من زوجها الغائب، أو وفاة زوجها عنها، ولا تعلم بالوفاة ولا بالطلاق إلا بعد مضي المدة، فالسؤال: هل تحتسب عدة الوفاة من حصول الوفاة الحقيقية، أم أنها تحتسب عدة الوفاة منذ بلوغها الخبر، حيث تبدأ وتشرع في العدة؟ قد بيّن -رحمه الله- أن من مات عنها زوجها الغائب ولم تعلم بوفاته فإنها تعتد من حين الوفاة، فلو وقعت الوفاة في أول شهر محرم ثم مضت مدة العدة أربعة أشهر وعشراً، وعلمت بعد مضي هذه المدة، فقد خرجت من عدة الوفاة.
إذاً: كونه بلغها الخبر متأخراً، أو بلغها أثناء عدة الوفاة، كأن يمضي شهر أو شهران أو ثلاثة أشهر، سواء مضى أكثر العدة، أو نصف عدة الوفاة، أو أقل عدة الوفاة، فالحكم واحد، وتحتسب عدتها من اليوم الذي مات فيه، وفي هذه المسألة مذهبان، ومذهب جمهور العلماء رحمهم الله: أنها تبتدئ بيوم الوفاة وتعتد بيوم الوفاة، حتى ولو بلغها الخبر بعد تمام عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً، فإنه يحكم بكونها قد خرجت من العدة.
المسألة الثانية المفرعة على هذا الحكم، وهي: أن يطلقها زوجها، ثم يكتمها الطلاق ولا يراجعها حتى تخرج من عدتها، أو يطلقها زوجها ثم يكتب لها الكتاب وهو في قرية أو مدينة بعيدة ولا يصل إليها الكتاب إلا بعد مضي ثلاث حيضات -على القول بأن عدة المطلقة بالحيضات، أو ثلاثة أطهار على القول بأن عدة المطلقة بالأطهار- فيحكم بخروجها من عدة الطلاق، وعلى كل حال: سواء مضت عدة الطلاق أو الوفاة كاملة، أو مضى بعضها وهو الأكثر أو الأقل أو في منتصف الوقت علمت فالحكم في جميع هذه الصور واحد، وقالوا: إن العبرة في العدة أن يحصل الاستبراء وقد حصل؛ لأنه مضت مدة بعد الطلاق ولم يجامعها فيها زوجها، وحصل الاستبراء وخلو الرحم، فمقصود الشرع من العدة موجود، وقالوا: هي معتدة محكوم بكونها في حداد وإن لم تحد حقيقة، فهناك شيء يسمونه: الحكمي والحقيقي، وقد تقدم معنا غير مرة، فهي في عدة الوفاة حكماً لا حقيقة، لأنها لم تنوِ ولم تقصد، ولكن يحكم وكأنها اعتدت عدة الوفاة، قالوا: وعذرت لعدم علمها وجهلها بوفاة زوجها، وقال بعض العلماء: إن العدة لها معنى تعبدي، وأن مقصود الشرع أن تتعبد وتتقرب إلى الله، وكنت أرجح هذا القول سابقاً وأفتي به في بعض المسائل، ولكن تبين لي رجحان مذهب الجمهور، وأن العبرة في عدة الطلاق بحين صدور الطلاق سواء بلغها الخبر بعد انتهاء العدة أو قبل انتهائها.
فائدة الخلاف: مثلاً: طلقها محمد ووقع طلاقه في أول محرم، ومضت حيضتان، وعلمت في الحيضة الثالثة، فمن حقه أن يراجعها -بلا إشكال- لأنها إذا علمت قبل الحيضة الثالثة، في هذه الحالة لو راجعها عند الجميع زوجها، وهذا في الطلقة الأولى والطلقة الرجعية، لكن الإشكال ومحل الخلاف: أنه لو طلقها، فمضت الثلاث الحيضات، ثم علمت بعد مضي الثلاث الحيضات فعلى القول الثاني المرجوح استأنفت وحل له أن يراجعها، لأنها لم تتم العدة على قول الجمهور يحكم بأنها خلو، وخرجت من عصمة زوجها، وهو القول الأول الراجح، وحينئذ لا بد وأن يعقد عليها من جديد إن بقيت له طلقات.(329/2)
عدة الموطوءة بشبهة زنا أو بعقد فاسد
قال رحمه الله: [وعدة موطوءة بشبهة أو زنا أو بعقد فاسد كمطلقة]، (وعدة موطوءة بشبهة) امرأة أخطأ رجل فظنها زوجة له، فوطئها وكانت تظنه زوجاً لها، أو حصلت الشبهة، وقد تقع الشبهة من الطرفين وقد تقع من طرف دون الآخر، فيكون الوطء لشبهة بالنسبة للطرفين، وكل منهما يظن أنه زوجه -الزوجة تظن أنه زوج، والزوج يظن أنها زوجة- فوطئها وتبين أنها ليست زوجته وأنه ليس بزوجها، ففي هذه الحالة يسمى: وطء الشبهة، أي: أن الأمر اشتبه وظنها زوجة له أو ظنها حلالاً؛ لأن الشبهة تشمل الاشتباه بكونها زوجة له، والاشتباه بأنها حلال، والتي هي شبهة الحكم وشبهة المحل، ففي هذه الحالة إذا وطئ تكون الشبهة من الطرفين، وقد تكون من أحدهما دون الآخر، مثلاً -والعياذ بالله- يأتي الرجل الفاجر يخدع المرأة وتظنه زوجاً لها، ويأتيها موهماً أنه زوجها، وليس بزوجها، فالشبهة الآن للمرأة، وهو في هذه الحالة لبس عليها والتبس عليها الأمر، فإذا وقع عليها هذا الوطء، فالمرأة في عصمة الزوج الأول، وهذا الوطء يختلط فيه ماء الرجل الثاني بماء الرجل الأول، فإن كانت المرأة بعد طهرها ولم يجامعها زوجها الأول، فلا بد وأن تعتد عدة الطلاق، حتى نتحقق من أن الرحم لم يحصل فيه ذلك الماء بالحمل، يعني: لم ينتج عنه حمل، وحينئذ تتحقق براءة الرحم وسلامته.
و (أو زنا) أما بالنسبة للزنا -والعياذ بالله- لو أن المرأة أكرهت على الزنا، فزنت ثم أرادت أن تتزوج، فنقول: لا يحق لك أن تتزوجي حتى يحصل الاستبراء للرحم، وحتى تحصل العدة بعد الوطء المحرم، فتعتد عدة الطلاق، وهذا تقدم معنا، وسيأتينا إن شاء الله، وتقدم معنا في موانع النكاح الإشارة إلى هذا، وهو أن الزانية لا يجوز نكاحها ولا يحق للمسلم أن يتزوجها إلا بشرطين: الشرط الأول: توبتها من الزنا، والشرط الثاني: أن تعتد.
يعني: يتبين لنا براءة رحمها عن طريق العدة، وهنا يرد
السؤال
هل يحصل الاستبراء بحيضة أو حيضتين أو بعدة الطلاق؟ قالوا: إنها تعتد بعدة الطلاق سواء بسواء، على التفصيل الذي مضى معنا في عدة الطلاق.
بناء على ذلك: -مثلاً- لو أن امرأة خانت زوجها -والعياذ بالله- وزنت، فلا يجوز لزوجها أن يأتيها بعد هذا الزنا، حتى تقع العدة وتكون كعدة الطلاق، أو تستبرئ عند من يقول: إنه يكفي فيه الاستبراء.
إذاً: لا بد من العدة صيانة للفروج، وصيانة للحلال عن الحرام حتى لا يختلط، لأن الله عز وجل جعل للحلال حكماً وللحرام حكماً، ولا يجوز الخلط بينهما، ويجب على المسلم أن يسلم لأوامر الله سبحانه وشرعه، فما كان حلالاً من الأولاد من وطء النكاح له حكمه، وما كان من الأولاد من زنا وسفاح -من حرام وبغي- فإنه يفصل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا الواجب هو تمييز الحلال من الحرام.(329/3)
بناء العدة على العدة
قال رحمه الله: [وإن وطئت معتدة بشبهة أو نكاح فاسد، فرق بينهما وأتمت عدة الأول، ولا يحتسب منها مقامها عند الثاني، ثم اعتدت للثاني، وتحل له بعقد بعد انقضاء العدتين]: (وإن وطئت معتدة بشبهة) امرأة في عدتها من الطلاق، طلقها زيد فجلست تعتد، فجاء رجل وجامعها يظنها زوجة له على وطء شبهة، ففي هذه الحالة يرد السؤال -ونحن قد أثبتنا أن للطلاق الشرعي عدة، وللوطء بشبهة عدة، وللوطء المحرم عدة، فإذا دخلت العدد على بعضها كما ذكرنا في صدر الفصل- ما الحكم؟!! في هذه الحالة حينما اعتدت من زوجها الأول، ومضى الثلث منها كحيضة، ثم حصل وطء الشبهة بعد مضي الحيضة الأولى، وقبل الحيضة الثانية، فالحيضة الثانية في هذه الحالة ستأتي بعد وطء الشبهة فلا تحتسب من حيضة الأول، ويفرق بينهما، هذا بالنسبة لوطء الشبهة.
ويلحق ذلك ما ذكره -رحمة الله- بقوله: (أو نكاح فاسد)، وطئها في نكاح فاسد مثل نكاح الشغار، نكح امرأة شغاراً وهي في عدتها فما الحكم؟! (فرق بينهما)، يعني: فرق بين الواطئ والموطوء -المعتدة- وهذا الحكم الأول أن يفرق بينهما.
(وأتمت عدة الأول)، إذا حصل فراق حكمنا بأنها تبني على ما مضى من عدة الأول، إذاً: يفرق بين الواطئ للشبهة وبين موطوءته، ويفرق بين الواطئ والموطوءة بالنكاح الفاسد -هذا الحكم الأول- فلا يجمع بينهما، وهذا لأجل استبراء الرحم من عدتين، وبعد الفراق تبتدئ بالعدة الأولى، فقلنا: إنه مضت حيضة، فتستقبل الحيضة الثالثة في هذه الحالة، وتتبعها للعدة الأولى، لأن الوطء فصل بين جزئي العدة.
قوله: (وما يحتسب منها مقامها عند الثاني)، يعني: مثلاً: إذا فرضنا أن عدتها بالأشهر، فلا تحسب المدة التي مكثتها عند الثاني، مثلاً: لو كانت تعتد فمضى شهر، ثم عقد عليها الثاني بنكاح فاسد -ينتبه لهذه المسألة- فلا تزال في عدة الأول حتى يطأها الثاني، أي: أن النكاح وحده لا يكفي بل لا بد من وجود الوطء، فيحدث الخلل بدخول الثاني على الأول إذا حدث جماع ودخول، لكن لو أنه عقد ثم تبين له أن العقد فاسد، ألغي العقد واستمرت على عدتها، مثلاً: كانت تعتد بالأشهر فاعتدت شهر محرم ثم عقد عليها عقداً فاسداً في أول صفر، ثم منع من هذا العقد الفاسد وتبين له، ولم يمكن من الدخول، فحينئذ تبني على أنها لا تزال في عدتها، وتحتسب أيام صفر من عدتها، حتى ولو كانت تجلس معه ولم يحدث جماع، يعني: تختلي معه وتظن أن هذا جائز لها، ثم تبين أنه لا يجوز، فهذه المدة تحتسب من العدة، فتبني على الأشهر التي مضت من عدتها.
(ثم اعتدت للثاني) إذاً: تبني على عدة زوجها الأول ودخول وطء الثاني يمنع، فإذا فرق بينهما بُني على عدة الأول؛ لأن الأصل مستصحب وتحل له بعقد بعد انقضاء العدتين.
قلنا: إن الحكم أنه يفرق بينهما، وهذا الإشكال فيه، متى؟! إذا حدث الوطء، وأما إذا فرق بينهما قبل الوطء، فحينئذ لا إشكال أن العدة سارية ويحتسب فيها المدة التي مكثتها عند الثاني، ما دام أنه لم يقع جماع، فلا يؤثر عقد الثاني إلا بالجماع كما ذكرنا.
الحكم الثاني: تتم عدتها من الأول، وهذا الذي يسمى: البناء، يعني: تبني على عدة الأول، ولو مضى من عدة الأول شهر ووقعت هذه الحادثة في الشهر الثاني، ثم حصل فراق بعد منتصف الشهر الثاني، فإذا حصل جماع، فبمجرد فراقه تبتدئ من النصف الثاني، لكن إذا لم يحدث جماع، فكأنه لم يحدث شيء.
إذاً: إذا دخل الثاني بنكاح شبهة أو بنكاح فاسد، فنقول: لا يخلو الأمر من حالتين: إما أن يعقد ويدخل، وإما أن يعقد ولا يدخل، فإن عقد ولم يدخل فغير مؤثر، وهي مستمرة في عدتها، وإن عقد ودخل، فإنها في هذه الحالة تقطع المدة التي قضتها معه ولا تحتسبها، ثم تستأنف بعد فراقه لها، فإذا فارقها -مثلاً- بعد الحيضة الثانية، ففي هذه الحالة تحتسب الحيضة الثالثة، ولو فارقها قبل الحيضة الثانية، فإن الحيضة الثانية تحتسب للأول، وهذا ما يسمى بالبناء، بناء العدة، أي: تبني على عدة الأول ولا تهدمها، لأن منهم من يقول: تقطع، وهذا ما يسمى بالاستئناف، ومنهم من يقول: تبني على عدة الأول، وهذا ما يسمى بالبناء، وهو مذهب الجمهور.
قال رحمه الله: [وإن تزوجت في عدتها لم تنقطع حتى يدخل بها]: (وإن تزوجت في عدتها) تزوجت رجلاً في عدتها، والمرأة أثناء العدة لا يجوز أن يعقد عليها أحد، ولا أن يدخل بها، وهذا حكم مجمع عليه بين أهل العلم رحمة الله عليهم؛ فإن الله تعالى شرع العدة لحق الزوج الأول، وحقه مستصحب حتى تتم هذا الحق، وتتم العدة الثانية.
(وإن تزوجت في عدتها) منهم من يخص ذلك بالنكاح الصحيح، ومنهم من يلغيه، لكن في الصور التي ذكرنا يستقيم الحكم، فإذا تزوجت بنكاح صحيح، أي: ظاهره الصحة، في أثناء عدة الأول، فما الحكم؟! قالوا: فيه تفصيل على الصورة التي ذكرناها: إن عقد ولم يدخل لم يؤثر، وإن عقد ودخل فإن هذا الدخول يقطع المدة التي مكثتها بعد دخوله بها، وما بين دخوله وفراقه هذا لا يحتسب، وفراقه: يعني: التفريق بينهما، ولا يحكم بكونه تابعاً للعدة الأولى، فلو جلست معه شهرين سقطت الشهران من العدة، وبنت من قبل الشهرين، وهكذا لو كانت من ذوات الحيض، كما تقدم معنا.
قال رحمه الله: [فإذا فارقها بنت العدة من الأول، ثم استأنفت العدة من الثاني]، عندنا عدتان: عدة قطعت، وعدة تأتي مستقيمة تامة، فالعدة التي قطعت هي عدة الزوج الأول، لأن الناكح الثاني والعاقد الثاني قد جار وظلم في حق الزوج الأول، أما إذا كان مستحيلاً فهذا ما فيه إشكال أنه زنا، إذ لا يجوز نكاح المرأة في عدتها والعقد عليها، فهذا تلاعب بشرع الله عز وجل، واستهزاء بحكمه، لكن قد يقع في بعض الأحيان وتقع بعض الشبهات، وقد تخدع المرأة الرجل، وقد تجهل المرأة، ويقع هذا في بيئة ليس فيها علماء، ويجهلون الأحكام الشرعية، فيعقد للمرأة وهي في عدتها، يعقد لها أبوها أو أخوها، وهو يظن أن هذا حلال، ثم يزوجها وهي لا زالت في عدة الأول، يعني: لا زالت في عصمة زوجها الأول، وقد بينا أن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجة.
قال رحمه الله: [وإن أتت بولد من أحدهما، انقضت منه عدتها به، ثم اعتدت للآخر]: (وإن أتت بولد من أحدهما، أنقضت منه عدتها به): إذا كان الثاني عقد عليها ودخل بها، وهي حامل من الأول، فمعنى ذلك: أنه قد دخل أثناء عدة الأول التي ينبغي أن تقيد بالحمل، وتعرفون أن الحامل عدتها -كما تقدم معنا تفصيله- وضع الحمل، ففي هذه الحالة، هل يكون الولد للأول أو للثاني؟!! الولد للأول، ونحكم بكونها لا زالت في عدة الأول، ولا يحكم بخروجها، ويفرق بين الثاني وبينها، ثم تنتظر حتى تضع ولد الأول، لتخرج من عدته، لأن الولد ولده، فالحمل إذا وقع في تداخل العدتين، ينظر لمن هذا الحمل، فإن كان الحمل للأول، فحينئذ لا إشكال، وننتظر حتى تضع الحمل، وبمجرد وضعها للحمل تخرج من عدة الأول لا الثاني، لأن الولد ليس بولده، وإن كان الولد للثاني، مثل: أن تعتد من الأول وتكون -مثلاً- صغيرة، ثم بعد ذلك يظهر بلوغها، ويطؤها الثاني بعد البلوغ، ويتبين حملها -أحياناً بفارق المدة على الضابط الذي ذكرناه في نسبة الولد- فإذا مضت المدة أو كان الوطء من الثاني بعد الحيض، علمنا أن الحمل للثاني لا الأول، وإذا كان الحمل للثاني فهنا مشكلة ما الحل؟! قالوا: نحتسب العدة للثاني، وتنتظر حتى تضع هذا الولد، فإذا وضعت هذا الولد خرجت من عدة الثاني، ثم بنت على عدة الأول، فلو كان عدة الأول -مثلاً- مضى عليها شهر، تصبح المسألة المشهورة: (تداخل عدة الحيض مع عدة الأشهر) فعند بعض العلماء أنها إن كانت صغيرة أثناء عدتها من الأول وحصل أنه دخل بها ثم طلقها، واعتدت فالشهر الأول بمثابة الحيضة، فإن جاءها الحيض بعد ذلك، بنت ولم تستأنف، فعلى هذا المذهب يرون أنها تبني يحيضتين؛ لأن كل شهر يقوم مقام حيضة واحدة، فنقول لها: انتظري حتى تضعي ولد الرجل الثاني فتخرجين من عدته، ثم تبني على عدة الأول، كالحال فيما إذا عقد ودخل، فقطع عقده المصحوب بالدخول عدة الأول فتستأنف بعد ذلك، فيكون هذا الولد مع وضعه بمثابة العقد مع هذا الدخول، فإنه لا تحتسب مدة هذا الحمل والوضع من عدة الأول، وإنما هي من عدة الثاني؛ لأن الولد ولده.
قال رحمه الله: [ومن وطئ معتدته البائن للشبهة، استأنفت العدة بوطئه ودخلت فيها بقية الأولى].
(ومن وطء معتدته البائن للشبهة) المرأة إذا طلقها الرجل ثلاثاً لا يحل لها وطؤها.
وصورة المسألة: إذا طلق امرأة فبانت منه، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يجامعها أو أن يعاملها كالزوجة الرجعية، ولو أنه وطئها وهي بائن، فالأصل يقتضي أنه لا يجوز له الوطء، فأصبحت عندنا عدتان على الأصل: يصبح وطؤه لمرأته البائن كوطء الأجنبي أثناء عدته هو، لأنه هو كالأجنبي، فإذا طلقها طلاقاً بائناً -ثلاثاً- فقد بانت منه، وفي هذه الحالة لو حصل وطء فقد حصل منه خلل ويكون هو والأجنبي على حد سواء، ولا يفصل فيه، وإذا كان الولد ولده فالأمر أخف.
(استأنفت العدة بوطئه)، قال بعض العلماء: تتداخل العدتان، وفي هذه الحالة حكمنا أنه في حكم الأجنبي، ويقولون: إنه في حكم الأجنبي من وجه، وفي حكم الرجل الواحد من وجه آخر، فيكون في حكم الأجنبي من وجه لأننا استأنفنا العدة.
فالآن عندنا صورتان: إذا كان محمد طلق زوجته ثلاثاً، ثم أثناء عدتها من هذا الطلاق البائن وقع بها علي، هذا بالنسبة للصورة التي فيها الشرح، والتي ذكرها المصنف رحمه الله في هذا الموضع، وفي هذه الحالة دخل وطء علي وهو أجنبي، فوطء علي غير وطء محمد، فيقولون: يكون وطء الإنسان لمطلقته البائن كوطء الأجنبي حينما حكمنا بالاستئناف.
إذ لو قلنا: إنه وطء واحد لم يستأنف وبنى على ما تقدم، وأتمت المرأة عدتها، وقالوا: إذا استأنف، فيستأنف العدة للأمرين، ووجه ذلك، أنه بوطئه الأخير تكون حينئذ قد خرجت من عدتها، فحينئذ صار كالأجنبي من وجه، وكالشخص الواحد من الوجه الآخر.
(ودخلت فيها بقية الأولى).
يعني: لو كانت اعتدت من العدة الأولى شهراً وحصل الوطء أثناء العدة، فإن هذا الوطء لو وقع في صفر، فقد مضى شهر محرم وهو ثلث العدة، فبقي من العدة الثلثان، وإذا مضت حيضة بقيت حي(329/4)
الأسئلة(329/5)
الفرق بين الطلاق والفسخ
السؤال
ما الفرق بين الطلاق والفسخ عند الفقهاء رحمهم الله؟
الجواب
فسخ النكاح يأتي على صور عديدة، والأصل أن العصمة إذا ثبتت فلا يحكم بزوالها إلا على وجه معتبر شرعاً، وهو الطلاق أو الفسخ، ويفسخ النكاح أحياناً بطلب من المرأة، كما إذا ضاع حق من حقوقها، ومن أمثلة ذلك: إذا ظهر عيب في الرجل، كما لو كان الرجل يقوم بحقوقها الزوجية ثم أصبح عنيناً أو أصبح مجنوناً أو أي إعاقة، وتضررت المرأة فحينئذ تطلب فسخ النكاح، وترفعه إلى القاضي، وتطلب منه أن يفسخ نكاحها من هذا الرجل.
ولو أنه كان عاقلاً ثم فجأة جن فتضررت من جنونه، فرفعت أمرها إلى القاضي، وقالت: أريد فسخ النكاح؛ لأن المجنون لا يمكن أن يطلق، فينظر القاضي ويحكم بفسخ نكاحها من هذا الزوج.
والفسخ لا يمكن أن يكون إلا عن طريق القاضي، فهو الذي يقدر وينظر هل من حق المرأة أن تفسخ النكاح بينها وبين زوجها أم لا؟ وفي بعض الأحوال إذا حصل الضرر، قد يتولى القاضي الفسخ في بعض الصور الخاصة، ويحكم بزوال العصمة، وارتفاع قيد النكاح، واختلف العلماء في مسألة الخلع في النكاح، وقالوا: هل هو طلاق أو فسخ؟ والصحيح: أن الخلع طلاق وليس بفسخ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقه) والأصل في الطلاق أن يكون للرجل، وقد يقوم القاضي مقامه، أو ولي المجنون أو ولي الصبي، وكذلك الوكيل ينزل منزلة موكله، لكن الفسخ في أعظم صورة يكون عن طريق القضاء، والفسخ والطلاق قد يجتمعان وقد يختلفان، مثلاً: يكون الطلاق رجعياً، ويكون بائناً، فلو طلقها قبل الدخول فهو طلاق بائن، ولا يمكن الرجعة فيه، لكن في الفسخ في جميع صوره إذا حكم بالفسخ فإنه لا يملك الارتجاع إلا بعقد جديد، وأما في الطلاق فيمتلك الارتجاع إذا دخل بها فطلقها طلقة واحدة أو طلقتين، ولم تخرج من عدته، ويملك ارتجاعها بدون عقد، سواء شاءت أو أبت، ولذلك هذا الذي جعل بعض العلماء يقول: إن الخلع فسخ، وليس بطلاق، لأنه لو قلنا: إنه طلاق، كان من حق الرجل أن يراجعها، والمقصود من الخلع: أن تدفع المرأة ضرر الزوج عنها، فتعطيه ماله وتخالعه، فلو قلنا: إنه طلاق.
كان من حقه بعد ما تخالعه أن يعود ويراجعها، فخرجوا من هذا الإشكال، وقالوا: الخلع طلقة بائنة، كما أنه لو طلقها طلقه قبل الدخول فإنه في هذه الحالة يحكم بكونه لا يحل له إرجاعها إلا بعقد جديد، وهي البينونة الصغرى، ومن الفوارق أيضاً: أن الفسخ لا يحتسب في الطلاق.
أي: إذا فسخ النكاح لا يحتسب، لكن إذا طلق احتسبت، وأيضاً من الفوارق: أن الفسخ يهدم النكاح، والطلاق قد لا يهدم، مثلما ذكرنا في الرجعيه، وعلى كل حال: فإن الفسخ أقوى من الطلاق -في بعض الصور- ولذلك لا يمكن أنه يحكم بانفساخ النكاح، إلا في صورة خاصة فيما يتعلق بالقضاء.(329/6)
حكم الائتمام بالمؤتم المسبوق بعد سلام إمامه
السؤال
جماعة ائتمت بمأموم -ظنته إماماً- وهو في الحقيقة يقضي ركعات فاتته مع إمامٍ آخر، فما حكم صلاة الجميع؟
الجواب
أولاً: لا يجوز للإنسان أن يصير مأموماً لمن هو مؤتم بالغير، فإذا جئت ووجدت إنساناً يصلي وراء إمام معه أو بعده قابلاً لصلاته، فلا يجوز لك أن تأتم به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به)، فجعل المأموم مؤتماً بالغير، وجعل الإمام غير مؤتم، فإذا ائتم بالمأموم صير المأموم إماماً، والنبي صلى الله عليه وسلم جعله مؤتماً، وصير المؤتم إماماً، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله تابعاً، وبناء على ذلك: لا يجوز الائتمام بالمأموم، وقد اتفق العلماء وأجمعوا على أنه لو كان الإمام يصلي والمأموم وراءه يصلي أثناء الاقتداء بجماعة فإنه لا يجوز الائتمام ولا تحتسب الجماعة، ونبهت طائفة من العلماء إلى أنه إذا بطلت الجماعة وقد نواها بطلت الصلاة ولم تصح ولو توفرت فيها شروط صحتها، ويحكم ببطلان الصلاة ووجوب الإعادة عليه.
ومن العلماء -وهو مذهب ضعيف ولكن في بعض الصور يقوى- يرى أنه ينقلب منفرداً، وتصح الصلاة له منفرداً، يعني: لا ينال أجر الجماعة على القول بصحتها منفرداً، ولا يمكن أبداً إيقاع هذا الحكم في صلاة الجمعة، فإنه لو ائتم في الجمعة بشخص يظنه الإمام وتبين أنه مأموم، ففي هذه الحالة يجب أن يعيدها ظهراً، لأنه لا يصح أن تنقلب له الجمعة منفردة، فيرجع إلى الأصل من صلاته -وهو أربع ركعات- وكونه يصلي بآخرين أثناء ائتمامه بإمام هذا لا يجوز له بالإجماع، لكن اختلفوا لو أن الإمام سلم وبقيت لك ركعة أو ركعتان، وقمت تقضي، وجاء أناس وائتموا بك، ففي هذه الحالة هناك وجه ضعيف عند بعض العلماء يقول به بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمهم الله: أنه يجوز لهم أن يأتموا به، وهذا ضعيف لظاهر السنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من ارتبطت صلاته بالإمام مؤتماً على كل حال، ولذلك قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، ولذلك نجد المأموم مؤتماً بإمامه بعد سلامه، ويبني على صلاته مع إمامه، ولا ينقطع عنها، وبناء على ذلك لا يصح أن يقتدي بالمأموم بعد أن قام للقضاء، لكن لو أنه لا يدرك مع الإمام شيئاً، وجاء في التشهد الأخير ودخلتما معاً المسجد، وقلت له: إذا سلم الإمام فائتم بي أو سأأتم بك فلا بأس في ذلك في قول طائفة من أهل العلم، لأنه ليس بمأموم من جهة الإدراك، لأن قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) من جهة الإدراك، ولذلك لا يحكم بكونه مؤتماً على الحقيقة إلا بإدراك ركعة فأكثر، ومن هنا لو أن هذا المأموم دخل في يوم الجمعة والإمام قد رفع رأسه من الركعة الأخيرة، فإنه يتمها أربع ركعات؛ لأنه لم يدرك الجمعة، فدل على أن الإدراك الحقيقي شيء، والإدراك الحكمي شيء آخر، فمن أدرك حكم الجماعة فضلاً ليس كمن أدرك حكمها حقيقة، فلا يؤتم بالمدرك حقيقة، لأنه مرتبط بإمامه، ويؤتم بالمدرك الحكمي التقديري على أصح قولي العلماء رحمهم الله، لأن الأصل في قوله: (إنما جعل الإمام) أن يراد به المدرك، ويحمل على المدرك الحقيقي لا غيره، والله تعالى أعلم.(329/7)
حكم دخول المرأة الحائض المسجد
السؤال
كثير من الأخوات حريصات على حضور الدروس والمحاضرات التي تقام في المساجد فهل يجوز للمرأة إذا جاءتها الحيضة أن تحضر الدرس والمحاضرات وتجلس عند الدرج أو عند موضع الأحذية -أكرمكم الله- وهي عند مصلى النساء.
أي: داخل الباب من جهة المصلى أو من جهة المسجد؟
الجواب
لا شك أن المرأة المؤمنة التي تطلب العلم وتريد وجه الله سبحانه وتعالى، وتخاف الله عز وجل في خروجها لطلب العلم بعيداً عن الفتنة، لا شك أن الله أراد بها خيراً، وخير ما يوصى به النسوة اللاتي وفقهن الله لحضور مجالس العلم: الإخلاص لله عز وجل، والبعد عن الفتنة ما أمكن، فإذا أراد الله عز وجل أن يعظم الأجر والمثوبة لطالبة العلم، وفقها إلى هذين الأصلين العظيمين: إخلاص لوجه الله، وبعد عن الفتنة في القول والعمل.
وأما ما ورد السؤال عنه من دخول المرأة الحائض المسجد، فإن المرأة الحائض لا تدخل إلى المسجد إذا كانت حال حيضها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: (ناوليني الخمرة، فقالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك)، فدل على أن الأصل عدم دخول الحائض، بدليل أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما قال لها: (ناوليني الخمرة؛ قالت: إني حائض)، فامتنعت من الدخول واعتذرت بكونها حائضاً، فدل على أن هذا كان معمولاً به في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها لا تنشئ الأحكام من عندها، وقد قال لها عليه الصلاة والسلام ذلك صريحاً في قوله: (اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت) حينما حاضت في حجة الوداع، فالذي على المرأة أن تلتزم به: أن لا تدخل مسجداً إذا كانت حائضة والله يأجرها ويكتب ثوابها، فوالله ما من مؤمنة حرصت على مجلس علم، وما من مؤمن حرص على مجلس علم، وواظب عليه ثم جاءه العذر إلا كتب الله أجره، ولو مضى في العذر سنوات، وهذه فائدة المداومة على الطاعة، فكم من رجل مشلول مقعد، تكتب له ملايين الحسنات في اليوم، لأنه نشأ نشأة صالحة، وجاءته تلك المصيبة والنقمة والبلية، وهو على طاعة الله ومرضاته، فلو أنه حصل لك أي ظرف أو أي عذر كتب أجرك كاملاً، فالشخص يصلي ويقوم ويتهجد بالليل فيأتيه العذر، فإذا جاءه مرض أو سافر واتبع السنة وترك فيها القيام، كتب أجر ما يقوم به، ولو كان يختم القرآن كل ثلاث ليال، كتب الله له أجر ختم القرآن إذا سافر ثلاثة أيام وكأنه مقيم حاضر، فإنه يعامل الكريم سبحانه وتعالى، ومن أكرم من الله سبحانه وتعالى؟ الذي لا تنفد خزائنه، ويده سحاء الليل والنهار، لا تغيضها نفقة جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومع هذا كله حتى إن كرمه جعله لكبير السن الذي كان في شبابه محافظاً على الطاعة، ثم جاءه الشيب فإنه يكتب الله له الأجر كاملاً غير منقوص، فإن كان في شبابه يجلس مجالس الذكر ثم لما كبر ضعف عنها، كتب له الله أجر مجالس الذكر، ولو كان في أيام شبابه حريصاً على أن يذهب للرحم بنفسه، حريصاً على أن يفرج كرباتهم، حريصاً على أن يقف مع المكروبين والمنكوبين، ويذهب بنفسه للإصلاح بين الناس، كتب الله له الأجور، فما وقف أحد على بابه، وسأله المسألة، فقال له: والهل لو قدرت لفعلت، إلا كتب الله له الأجر كاملاً، الأول للعمل، والثاني للعذر، قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:6]، يعني: غير منقطع.
قال بعض أهل العلم في تفسيرها -وهو قول طائفة من المفسرين- (لهم أجر غير ممنون) أي: أن الله يكتب لهم أجر الشباب تاماً كاملاً غير منقطع، فلو عمر مائة سنة وكان خلال الخمسين سنة الأخيرة، عاجزاً ولو كان مشلولاً مقعداً فيكتب له الأجر تاماً غير منقوص، وهذا فضل عظيم، بفضل الله والمواظبة على الطاعة، وليس هناك أكرم منه جل جلاله، ولا أتم رحمة بخلقه، ولذلك وصف نفسه سبحانه فقال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]،الود: خالص الحب، تقول: يا فلان! إني أودك، ليس كقولك: إني أحبك، فالود خالص الحب، فالله يتودد لعباده سبحانه وتعالى، وهو أغنى ما يكون وهم أفقر ما يكونون إليه، فمن وده ولطفه ومحبته لخلقه، وإحسانه لهم: أن العبد ما حافظ على خصلة من خصال الخير إلا أدركها، وهذه فائدة المحافظة على السنة والأذكار.
قال بعض العلماء: حتى إن الرجل يكون على طاعة وخير ثم يسري به الجنون فجأة، فيزول عقله -يأتيه حادث فيصبح مجنوناً- فيكتب له الأجر كاملاً، وقالوا -والعياذ بالله-: يخشى على من كان على المعاصي ثم التزم بالدين، وما حال بينه وبين المعصية إلا العذر، لكن الصحيح: أنه لا يأثم، وهناك أشياء يسمونها التقديرات ذكر منها العز بن عبد السلام في قواعد: (التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود والموجود منزلة المعدوم)، قالوا: المجنون الآن ليس بمسلم لأنه لا يقدر أن يتلفظ بالشهادتين ولا يعرف، ولا يعقل، فقالوا: نحكم بإسلامه لأنه كان قبل جنونه مسلماً، فنزلنا المعدوم منزلة الموجود استصحاباً للأصل الذي كان عليه، ونقول: فلان صالح ولو أنه بعد جنونه وبعد سحره اقترف المعاصي، لأنه لا يشعر بنفسه، استصحاباً للأصل الذي عرف عنه، وكل هذا فضل وكرم من الله سبحانه وتعالى، فالمرأة الصالحة التي تحافظ -هذا محل الشاهد- على دروس العلم، لا تحضر المسجد في أيام الحيض، ولا يقولن أحدكم هذا تشديد عليها، فهذا حكم الشرع، والشارع لا يحكم إلا بحكم ترى في ظاهره الرحمة، فانظر إليها تجلس في قعر دارها ويكتب لها الأجر كاملاً، وفي هذه الحالة تجلس خارج المسجد عند باب المسجد وتسمع، لكن لا تدخل، ولها أن تدني رأسها وتصغي -لكن: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن لا تذل ولا يذل طالب علم ولا طالبة علم إلا أعزه، وأن لا يهين نفسه في العلم إلا أكرمه.
وكان أحد العلماء لما وقف موقفاً ظاهره ذل لأجل طلب علم، قال: (ذل في مقام عز).
فطالبة العلم التي تأتي -كما ذكر في السؤال- عند الحذاء -وهذا شيء كبير جداً- وتجدها امرأة وابنة ناس لو سفك دمها ما أهانت نفسها، لكنها للعلم تهين نفسها، وتجد الرجل ابن أناس لكنه على أبواب العلماء يزاحم ويجلس ويذل، وليس للعالم ولكن لله فبخ بخ للمرأة الصالحة في التجارة الرائحة، الغنيمة الرابحة، وعند الله رائجة، ولا شك في عظم ثوابها وأجرها عند ربها سبحانه وتعالى، حينما تتحمل هذه المشاق، والمرأة أكثر شؤماً من الرجل، وعلى كل حال قد أغنى الله بوجود الأشرطة إذا حصل عذر، فالأمر قد يكون أيسر، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم التوفيق للجميع، ويستثنى من هذه المسألة أن تكون هناك غرفة خارج المسجد، فإذا كانت هناك غرفة خارج المسجد إذا اقتطع جزء من المسجد، فهو جزء من المسجد -لكن لو أنها بنيت غرفة خارج المسجد، على أنها مكتبة، أو على أنها غرفة استراحة، أو على أنها غرفة ضيوف يستقبل فيها، والحفلات الخاصة تفعل فيها، ففي هذه الحالة يجوز للمرأة أن تدخل في هذا الملحق، وهو أرفق بالنساء، والله تعالى أعلم.(329/8)
حكم صلاة من توضأ بماء قد تغير طعمه مع عدم علمه بسبب التغير
السؤال
من توضأ لمدة أسبوع بماء قد تغير طعمه بسبب مياه المجاري، علماً بأنه لم يعلم سبب تغير طعم الماء إلا بعد أسبوع وصلى، فهل يعيد هذه الصلوات؟
الجواب
الماء إذا تغير طعمه ولونه، هذان الوصفان هما أقوى أوصاف التأثير، والرائحة قد تكون أضعف لكنها مؤثرة، فإنه يحكم بما غيره، فإن كان تغير لون الماء بمادة طاهرة فهو طاهر لا طهور، كالسدر -مثلاً- فإنه يصير طاهراً لا طهوراً، ولو تغير بنجس حكمنا بكونه نجساً، ولذلك يقولون: المتغير يأخذ حكم ما غيره، يعني: إن كان نجساً فنجس، وإن كان طاهراً فطاهر، أما الدليل على ثبوت القسم الثاني فظاهر السنة، وإن كان القرآن قد دل على ذلك من جهة اللفظ، فإن الله تعالى يقول: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، ولم يقل "طاهراً"، وطهور (فعول) في لغة العرب، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم، يؤكد هذا حينما قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فلما بين عليه الصلاة والسلام أن البحر طهور، ولم يقل: (هو الطاهر ماؤه)، وإنما قال: (هو الطهور ماؤه)، فأثبت كون الماء طهوراً، إذا كان على أصل خلقه، وكيف نقول: إن هناك فرق بين الطاهر والطهور ولمسنا هذا من حديث أبي هريرة، وهو مذهب جمهور العلماء، وذلك أن الصحابي رضي الله عنه، قال لرسول الله: (يا رسول الله: إنا نركب البحر، ومعنا القليل من الماء، إن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر) لأن ماء البحر رائحته متغيرة، ولونه متغير لطول المكث، فمن هنا دل على أن أي شيء يتغير ولو كان متغيراً بطاهر، فإنه حينئذ ينتقل عن الأصل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، فجعل الماء الباقي على أصل خلقته طهوراً، وهذا الماء الطهور يكون على أوجه: كأن يستقر في الأرض، قال تعالى: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18]، وحينئذ تقول: كل ماء سكن في الأرض، واستخرج كماء العين، أو كماء البئر، أو خرج بنفسه كماء العين، فهو طهور، لأن الله وصف أصله بأنه طهور -وهو الذي نزل من السماء- ووصفه بأنه طهور يأتي على وجهين في الأرض: إما أن يسكن في باطن الأرض، وإما أن يجري على وجهها، فإن سكن في باطنها فماء بئر وعين، وإن جرى على وجهها، فماء سيل ونهر، فإذا كان ماء بئر أو ماء عين أو ماء سيل أو ماء نهر، فهو طهور، لأنه باقٍ على أصل خلقته، فالبحر لما كان في أصله طهوراً لكنه تغير دل على أن الطهور إذا تغير ينظر في حال ما غيره، إن كان نجساً فنجس وإن كان طاهراً فطاهر، ومن هنا قال جمهور العلماء: يقسم الماء إلى ثلاثة أقسام، وهناك من قال بأنه قسمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من قصعة فيها أثر العجين، وهذا متغير، والحقيقة أن هناك فرقاً بين قول الصحابي: (فيها -يعني: في القصعة- أثر العجين)، ومن يقول: (فيه أثر العجين)، وأنتم تعلمون من أكل عصيدة، وأكل عجين، يعرف أن العصيدة تيبس في الإناء، ولا تتحلل، فلا ينقلب الماء أبيض إلا بعد فترة، فمعنى: (فيها أثر العجين) أي: فيها شيء يابس باق، ثم بعد ذلك صب عليه الماء، وليس معنى ذلك أنه كان في القصعة عجين فصب الماء عليه، فلا يمكن هذا، وبناء على ذلك لا يقوى هذا الدليل على معارضة الأصل الذي ذهب إليه جمهور العلماء، والله تعالى أعلم.
ففي هذه الحالة إذا كان الماء الذي ذكر ماءً نجساً وهو ماء المجاري، فيلزمه أن يعيد الصلوات، لأنه كان المنبغي عليه لما وجد أن الماء قد تغير طعمه أن يبحث، أما أن الشخص يتوضأ بماء تتغير طعمه وتتغير رائحته، ثم يأتي بعد أسبوع ويسأل عن حكمه -لا- هو الذي قصر، ولذلك لا يقال إن مثل هذا يعذر، الواجب عليه أن يبحث عن الأصل، ولو كان يشرب هذا الماء، كان بمجرد أن يجد طعمه متغيراً يذهب ويفتش ويبحث، وعلى كل حال: لا بد أن يعيد هذه الصلوات؛ لأنه تبين أنه يصلي بغير وضوء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ولأن الوضوء الشرعي يكون بالماء الطهور وليس بالماء المتنجس.(329/9)
حكم المأموم إذا أدرك سجدة السهو مع الإمام
السؤال
من أدرك مع الإمام سجدة من سجدتي السهو، فهل إذا سلم الإمام يسجد المأموم الثانية؟
الجواب
اختلف العلماء -رحمهم الله- في المأموم إذا لم يدرك السهو مع الإمام -إذا لم يدرك نفس السهو- هل هو ملزم بسجود السهو أو ليس بملزم؟!، فعلى القول: بأنه ليس بملزم، فهذه السجدة الثانية ليست بواجبة عليه، وحينئذ إذا سلم الإمام قام وصلى، أما على القول بأنه ملزم بسجود السهو، سواء أدرك السهو أو لم يدركه، فحينئذ هناك إشكال؛ لأنه لم يدرك نفس الصلاة، وإنما أدرك سجود السهو، وهناك فرق بين إدراك الصلاة أو جزء الصلاة حتى يحكم بوجوب السجدتين عليه، وبين إدراك جزء سجود السهو، فإذا أدرك جزء سجود السهو -وهي السجدة الثانية- فالأشبه فيه أنه لا تلزمه السجدة الثانية، لأنه مأمور بالقيام بالركن، وهو إتمام صلاته والقيام بفعل الركعة الأولى، فلا يشتغل بشيء مشتبه على هذا الوجه، وإنما يقوم ويتم صلاته على الوجه المعتبر، والله تعالى أعلم.(329/10)
نصائح في شكر النعم
السؤال
قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وقوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، كيف نشكر نعم الله علينا ونحن لا نستطيع حصرها، وكيف نعد جواب سؤال هذه النعم؟
الجواب
ظاهر أن هناك تعارض بين الآيتين، فالله أمر بشكر النعم ولا يمكن للإنسان أن يحصي النعم، فكيف يكون شاكراً؟ والجواب: إن تكاليف الشرع مبنية على القدرة، والله عز وجل كلف الإنسان بما في وسعه وقدرته، وما ليس في وسعه وقدرته فليس بمكلف به، ولذلك يحمد الله ويشكره على ما ظهر وما بطن من النعم، وما سبق وما لحق من النعم، وله سبحانه الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وسراً وجهاراً، وهو المحمود على كل حال، المشكور على النعم سبحانه وتعالى، وله أن يشكر شكراً عاماً، الذي هو: (اللهم أني أحمدك وأشكرك على نعمتك) فهذا كرم من الله عز وجل، قبل القليل وأعطى الكثير، إذا قال: "اللهم أني أحمدك على نعمك"، ولو قال: "أحمدك على جميع نعمك"، ما بقيت نعمة إلا ودخلت في هذا الحمد، خفيفة على اللسان لكنها ثقيلة في الميزان، وقد تنوء بها الملائكة من كثرتها، وقال صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: (حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه) قال: (والذي نفسي بيده، لقد رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يصعد إلى السماء) وهذا يدل على فضل الحمد والشكر، وهناك شكر خاص على النعم الخاصة، فإذا تجددت النعم تجدد الشكر، فإذا خرج من بيته، فسلمه الله من آفة في جسده، أو آفة في أهله وماله وولده، لهج لسانه بذكر الله عز وجل، ووالله إن الإنسان ليحار، كم تجد من النعم المرسلة والمقيدة، والظاهرة والباطنة، ومع ذلك الإنسان في غفلة عظيمة عن هذا، ولو أنه نظر فقط إلى طرفة هذه العين التي يحركها، طرفة العين تبعد عنه من البلاء، وقال تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى:19]، وما قال: "إني لطيف بعبادي"، قال: (الله) بلفظ الجلالة، وجاء بالاسم الظاهر (الله) لأنه وحده الذي له هذه النعمة، وهذا من كرمه سبحانه وتعالى، وقلما تجد شخصاً إذا دخل البيت تذكر نعمة الله عز وجل، حينما يجد سربه أمناً وأهله وجدهم ولم يفقدهم، فكم من خارج من البيت كان آخر عهده بأهله وولده، فما رآهم بعد ذلك، ماتوا وهلكوا، وكم من إنسان يأتي ويدخل إلى بيته، ويرى من النعم التي حفظ الله بها أهله، كالكهرباء لو حصل أي اختلال لأهلكته ودمرته وحصل منها من البلاء ما الله بها عليم، وينام تحتها وينال خيرها ويحفظ من شرها، فسبحان الله العظيم، والإنسان يركب الطائرة، وهم ممكن في أقل من طرفة عين يدمرون ولا يبقى منهم أحد، فحملهم في البر والبحر، وحملهم في السماء والأرض، برحمة منه، ولطف منه، وإحسان منه، ويمرون في المخاطر الشديدة والأهوال الأكيدة، فمن الذي كان يحلم أنه يطوف في السماء؟ وليس الواحد ولا الاثنين، ولكن أمة من الناس، ولا تحمل فقط، ولكن تأكل وتشرب وتنام، ومع هذا كله، إذا أصابها الحر بردت، فهي في البَّراد، وإن كان في شدة البرد فهي في الدفء والراحة، ولذلك لو حوسب الخلق على هذه النعمة لهلكوا، فمن منا الآن إذا نزل في المطار وقد انتهى من الرحلة شكر الله حق شكره؟ ومن منا قبل أن يخرج رجله من هذه الطائرة تذكر أين كان، ومن الذي كلأه بعنايته ورحمته سبحانه وتعالى? تصور لو أن إنساناً تعرض للخطر في طريقه في البر وليس في السماء، وجاء شخص وقف عليه فقط دقيقة أو دقيقتين، لعد أن حياته كأنها دين لهذا الشخص، ولله المثل الأعلى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]، أي: بسبب أمر الله، أو يحفظونه من الأمر الذي قدره الله، فتبارك الله وجل الله.
ومن عرف الله يعرف نعمته؛ لأن طريق المعرفة بالله أن تعرف نعمته سبحانه وتعالى، ولذلك كان أكمل الخلق معرفة بنعم الله هم أنبياء الله ورسله، وكانوا أشد الناس وأعظمهم شكراً لله، حتى أن الواحد منهم إذا رأى النعمة بين يديه كان أول ما يلهج به الثناء على الله عز وجل، فلا يزهو ولا يختال، ولا يتجبر ولا يتكبر، وإنما ينكسر لربه غاية الانكسار، ويسند الفضل كل الفضل لله وحده لا شريك له، سليمان عليه السلام في وسط البحار -وأين العلم وأين التقدم الحديث؟ - انظر إلى الذي قال له: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي} [النمل:40]، انظر إلى قوله: (مِنْ فَضْلِ رَبِّي)، فما استوجب على الله فضل، فالفضل هو الزيادة كما في لغة العرب (من فضل ربي).
يعني: أعطاني الله عز وجل فضلاً منه وتكرماً، فأنا مربوب لله عز وجل، فمن أنا لولاه؟! ثم قال: (ليبلوني) من أجل أن يبلوني ويختبرني، فعرف الهدف من النعم، وهو ابتلاء العباد بشكرها، فإذا امتلأت القلوب بذكر ربها ولهجت الألسن بالثناء على خالقها سعد العبد، فأصبح يمسي ويصبح وهو ينظر في نعم الله التي يتقلب فيها، فهو من شكر إلى شكر، ومن حمد إلى حمد، ويعتقد في قرارة قلبه أن الفضل كل الفضل لله، حتى إذا لهج لسانه بالشكر والثناء على الله اعتقد من قرارة قلبه، أن الله تفضل عليه بشكره سبحانه وتعالى، وهناك ينال العبد المراتب العلى، فلا يزال لسانه شاكراً حتى يكتبه الله من الشاكرين، ويجعله في ديوان الذاكرين، ثم يتأذن له بالرحمات والباقيات الصالحات، ويجعل له أول بشارة على شكر الله جل جلاله فيضع له البركة في رزقه، فالشيء الذي تشكر الله عليه ترى بركته وترى خيره، ولذلك تجد كبار السن في القديم الشخص منهم يضع الكسرة من الخبز، فيقول: يا رب! لك الحمد والشكر، تجد الواحد منهم يشرب الشربة القليلة بكف ماء من نهر مليء بالطين، ويقول: يا رب! لك الحمد والشكر، ومع ذلك تجد البركة فيها، وهذا الطين الذي يحمل البكتريا اليوم، وتجد فيه من الوسوسة، حتى أن الواحد يخاف أن تكون بجوار البيت، فكيف بهؤلاء وهم يضعونه بداخل أجوافهم؟ ومع هذا كانوا أصح الناس أبداناً وأصلحهم حالاً بالشكر لله جل جلاله، وترى العبد اليوم شبعان تغدق عليه النعم، حتى إنه يجلس على المائدة، ونظر إلى أصناف الطعام التي فيها، جاءته من مشارق الأرض ومغاربها بما لا يحصيه إلا الله وحده، ولا ندري هل ذكر الله أم لا؟ ثم يقوم فيتسخط من هذا الطعام ويعد مثالب هذا الطعام أو يلمز هذا الطعام، وكل ذلك كفر بنعم الله، ونسيان لفضله.
اللهم لا تجعلنا من الغافلين، ولا تسلك فينا سبيل المجرمين، اللهم اجعلنا من الشاكرين، إنك ولي ذلك وأنت أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(329/11)
شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [7]
من كمال الشريعة أنها تراعي أحوال المكلفين، ولهذا شرعت لمن توفي عنها زوجها أن تحد عليه أربعة أشهر وعشراً، وهذا التقييد فيه أسرار وحكم عظيمة، يبينها العلماء عند الكلام عليه.(330/1)
مشروعية الحداد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: يلزم الإحداد مدة العدة كل متوفى زوجها عنها في نكاح صحيح ولو ذمية أو أمة أو غير مكلفة].
شرع المصنف -رحمه الله- في بيان أحكام الإحداد، والإحداد هو: عدة المرأة التي توفي عنها زوجها، فهي عدة تختص بالوفاة، وتختص بنوع من النساء، وأصل الحد: المنع، ومنه سمي البواب حداداً؛ لأنه يمنع الغير من الدخول، والإحداد يمنع المرأة من الزينة، ومما ينبغي على المحتدة أن تجتنبه: الطيب، والحلي، ومحاسن الثياب، والخروج من البيت على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- بيانه.(330/2)
الأدلة على مشروعية الحداد
الإحداد ثبتت مشروعيته بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة:(330/3)
الأدلة من الكتاب
وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، فهذه الآية الكريمة أصل عند العلماء -رحمهم الله- في ثبوت الإحداد وعدة الوفاة على المرأة التي توفي عنها زوجها، وهي خبر بمعنى الإنشاء -كما سيأتي- أي: أنها تضمنت الدلالة على وجوب الإحداد ولزومه.(330/4)
الأدلة من السنة
وأما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فأحاديث كثيرة: منها: حديث أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وعن أبيها: أنه لما توفي أبوها أبو سفيان رضي الله عنه وأرضاه أخذت طيباً فطيبت جارية عندها، ثم مست من ذلك الطيب، وقالت: {والله مالي بالطيب من حاجة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً))، فهذا الحديث المتفق عليه أصل عند العلماء -رحمهم الله- في مشروعية الحداد.
وهناك أحاديث أخر تتضمن الدلالة على مشروعيته كحديث أم سلمة في الصحيحين، وحديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله عنها في الصحيحين أيضاً في قصتها مع سعد بن خولة رضي الله عنه وأرضاه حينما توفي فدخل عليها خالها أبو السنابل بن بعكك رضي الله عنها وعنه.
والأحاديث في مشروعية الحداد كثيرة.
ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الحداد مشروع بهذه السنة على التفصيل الذي سنبينه.
ومرادهم: الحداد الأعلى، وهو أن تحد أربعة أشهر وعشراً، وأما الإحداد ثلاثة أيام فيجوز للمرأة إذا توفي أبوها أو أخوها أو قريبها أن تحد؛ لأن أم حبيبة حدت على أبيها أبي سفيان وامتنعت من مس الطيب إلا بعد تمام الثلاثة الأيام.(330/5)
الإجماع
أما بالنسبة للإجماع: فقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنه يشرع للمرأة أن تحدّ على الميت أربعة أشهر وعشرة أيام، وهي المدة التي سمى الله عز وجل في كتابه، وبيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من سنته.
ومناسبة الإحداد لعدة الطلاق واضحة؛ لأنه بعد أن فرغ المصنف -رحمه الله- من بيان عدة الطلاق شرع في بيان عدة الوفاة، فيجتمع الحداد مع عدة الطلاق في كون كل منهما عدة، فالأولى بسبب الطلاق والفراق في حال الحياة، والثانية متعلقة بالفراق الذي لا اختيار فيه، وهو فراق الموت.(330/6)
الحكمة من مشروعية الحداد
وشرع الله جل وعلا هذا النوع من العدة لحكم عظيمة وأسرار كريمة تنتظم بها مصالح الدين والدنيا والآخرة، فالمرأة إذا فقدت بعلها وفارقت زوجها وبقيت في بيت الزوجية هذه المدة التي سمى الله جل وعلا تذكّرت حق بعلها عليها، فإن كان قد أحسن إليها كان ذلك أدعى أن تترحم عليه، وأن تحفظ وده، وأن تحفظ ما بينها وبينه من العهد، فتذكره بصالح الدعوات، وتسأل الله جل وعلا أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، وفي ذلك من الأجر العظيم والثواب الكريم لها ولبعلها ما لا يخفى.
كذلك أيضاً: فيه حفظ لحق المسلم الميت، فليست أمة الإسلام أمة ضعيفة تنتهي أواصرها ومحبتها وأخوتها ووشائجها بالموت والفراق كما يحدث لأهل الدنيا، فشرع الله جل وعلا هذا الحداد، فأمر المسلمين أن يذكروا حق الميت المسلم، ومن هنا عَظَّم حق الزوجية، حتى إن الزوج إذا فارق زوجته لا يُنسى الحق الذي له مباشرة، فلو تصورنا أن المرأة بعد وفاة زوجها تنكح في اليوم الثاني أو تنكح بعده بيسير لتناسى الناس حقوق أمواتهم.
ثم انظر إلى الوسطية، فلم يجعل الإسلام هذا الحداد حزناً دائماً، ولم يجعله منقطعاً مخالفاً للفطرة، ولكن جاء بالوسط العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وكان أهل الجاهلية يمكثون عاماً كاملاً، فإذا توفي الرجل عن امرأته دخلت المرأة في مكان وهو حش صغير أشبه بـ (الصندقة)، أو أضيق مكان في البيت، تدخل فيه ثم تمتنع من جميع ما أحل الله عز وجل إلا أكلها، فتبقى في تفثها وشعرها وسوء حالها بالحالة المزرية، لا تغتسل ولا تمس الطيب، وبأبشع الأحوال وأشدها حتى تتم سنة كاملة، ثم بعد ذلك تفتض ببعرة كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (وقد كانت إحداكن تجلس حولاً كاملاً في حشها حتى يبلغ الكتاب أجله، ثم تفتض ببعرة) فخفف الله سبحانه وتعالى ويسر، فأحل لها الطيبات، ولكن منعها من الزينة، ومنعها من الحلي، ومنعها من التجمل في جسدها وثيابها، فأبقى حق الزوج، وكذلك أيضاً لم يضيق على الزوجة مع أنها تثاب وتؤجر على هذا الامتناع والطاعة لله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ لامتثال الأمر بالإحداد واجتناب ما نهيت عنه المرأة المحتدة، فالمقصود: أن الحداد فيه حكم عظيمة وأسرار كريمة.
كذلك أيضاً: لا يسع المؤمن إلا أن يسلم أمره إلى الله عز وجل ورسوله، فالمدة التي سماها الله عز وجل أربعة أشهر وعشراً قال بعض العلماء: لو كانت حاملاً يتبين حالة الجنين خلال هذه المدة التي هي الأربعة أشهر وعشراً، وقالوا: (لأنه يجمع خلق الإنسان أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك، فيؤمر بنفخ الروح وكتابة أجله ورزقه، وشقي هو أو سعيد) كما في حديث ابن مسعود في الصحيح، فقالوا: إن هذا النفخ يقع في العشرة الأيام التي تلي الأربعة الأشهر، فإن الأربعة الأشهر -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- مائة وعشرون يوماً، وهي تمام ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأربعين، ثم الأربعون، ثم الأربعون، ثم تأتي العشر، ذكر هذا بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، ولكن مع هذا الله يأمر ويحكم، ورسوله صلى الله عليه وسلم يبلغ، وما علينا إلا الرضا والتسليم.(330/7)
بيان من يلزمه الحداد
يقول رحمه الله: (يلزم الإحداد).
وهذه العبارة تدل على مشروعية الحداد أولاً، والحداد المشروع: هو حداد المرأة المتوفى عنها زوجها، وأما محدثات الجاهلية في الإحداد مما يحدثه الناس سواء كان ذلك على مستوى الأمم والشعوب أو الجماعات فهذا مما لا أصل له في دين الله، ولا في شرع الله عز وجل، فليس هناك حداد إلا الحداد الذي سمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يشرع حداد غير هذا الحداد الذي ورد النص به في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الحداد يكون للنساء ولا يكون للرجال، ولا يكون بين أفراد الرجال، حتى لا تعطل المصالح اليومية، هذا كله مما يحدثه الناس بخلاف شرع الله عز وجل، ولا يمكن أن يعد ذلك من دين الله في شيء؛ لأنه لم يثبت به شرع ولم يثبت به نص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا أصبح أمراً ظاهراً، فإن الواجب تبيين حكمه إعذاراً إلى الله سبحانه وتعالى، وأن هذا مما أحدثه الناس، ومما لا أصل له في دين الله وشرعه.
والحداد يشرع للمرأة إذا كان قد توفي عنها زوجها، أو توفي قريبها إذا كانت مدة الحداد عليه المدة التي ذكرناها وهي الثلاثة الأيام.
قوله: (يلزم) أولاً يدل على مشروعية الحداد كما ذكرنا.
وثانياً: أن هذه المشروعية على سبيل الوجوب، فالمرأة يجب عليها الحداد، وهذا بإجماع السلف والخلف رحمهم الله، خلافاً للحسن البصري والأوزاعي رحمة الله عليهما، فهذان العالمان الجليلان قالا بعدم وجوب الإحداد، والصحيح ما ذهب إليه أئمة السلف ودواوين العلم، ولكن لعل الإمام البصري والأوزاعي لم يبلغهما ما ورد صريحاً في السنة من الأمر بالحداد، فقد يكونا قد قالا بمشروعيته لظاهر القرآن: (يتربصن) دون أن يفهما منه اللزوم، ولكن السنة أمرت وألزمت بالحداد وأوجبته، فالواجب العمل بهذه السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك أيضاً في قوله: (يلزم الحداد) الحداد هو: اجتناب المرأة التي توفي عنها زوجها الطيب وزينة اللباس وما في حكمهما مدة معلومة، وبناء على ذلك فحقيقته الشرعية: اجتناب مخصوص -وهو اجتناب الطيب، ومحاسن الثياب والحلي، والزينة في البدن وفي الملبس- من شخص مخصوص -والمراد به: المرأة التي توفي عنها زوجها، فلا يشمل غيرها كما سيأتي إن شاء الله- مدة مخصوصة.
وهي أربعة أشهر وعشرة أيام على ما بينته السنة إلا إذا كانت حاملاً، فالمدة هي إلى وضع الحمل، فلو أنها بعد وفاة زوجها بدقيقة واحدة وضعت حملها خرجت من عدتها؛ وذلك لصريح حديث سبيعة بنت الحارث رضي الله عنها: (أنها توفي عنها سعد بن خولة وهو بمكة رضي الله عنه وأرضاه، فمكثت بعده -قيل: عشرة أيام، وقيل: ثمانية أيام، وقيل غير ذلك- فوضعت ما في بطنها، فتجملت وتزينت، فدخل عليها خالها، وقال لها: لا والله ما أنت بحل للأزواج حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فجمعت علي ثيابي، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأخبرني أني قد حللت منذ أن وضعت ما في بطني)، فهذا نص واضح يدل على أن مدة الحداد تكون أربعة أشهر وعشراً على الأصل بنص كتاب الله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، وكذلك حديث أم سلمة في الصحيحين: (تحد المرأة على ميتٍ أربعة أشهر وعشراً) فهذا يدل على أن المدة إما أربعة أشهر وعشراً على الأصل، أو إلى وضع الحمل ولو طالت مدته على حديث سبيعة بنت الحارث رضي الله عنها وأرضاها.(330/8)
مدة الحداد
قال رحمه الله: [يلزم الإحداد مدة العدة كل متوفى زوجها عنها].
(مدة العدة) العدة هنا: عدة الوفاة، وهي -كما ذكرنا- أربعة أشهر وعشراً، أو مدة وضع الحمل، لكن هناك من العلماء من يرى الحداد للمطلقة طلاقاً بائناً، ويرى عليها الحداد مدة العدة من طلاقها، والصحيح: أن الحداد يختص بعدة الوفاة فقط، ودليلنا على هذا ما ثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث -وفي لفظ آخر: فوق ثلاثة أيام- إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) فقال: (لا يحل) فدل على أن الحداد لا يجوز إلا في عدة الوفاة فقط، فاجتهاد بعض العلماء بأن المطلقة طلاقاً بائناً تقاس على المعتدة عدة الوفاة ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تفعل هذا الفعل إلا في عدة الوفاة، فدل على اختصاص الفعل بعدة الوفاة، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.(330/9)
اختصاص الحداد بالزوجات
(كل متوفى زوجها عنها).
أي: كل امرأة توفي عنها زوجها، وبناء على ذلك: فإن الرجل بالإجماع لا يحتد، ويختص الحداد بالنساء كما ذكرنا، وكذلك أيضاً (كل متوفى) يشمل الصغيرة والكبيرة، وبناء على ذلك: لو كانت التي توفى عنها زوجها صغيرة وعمرها تسع سنوات -مثلاً- ولم تحض بعد، فإنها تلزمها عدة الوفاة، لحديث معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه في قصته مع عبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، فقد ذكر قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الوفاة للمرأة المعقود عليها.
إذا ثبت هذا فالمرأة الصغيرة تعتد عدة الوفاة، ودليلنا على ذلك: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) والمرأة الصغيرة داخلة في هذا الأصل.
كذلك أيضاً من الأدلة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عن أم سلمة رضي الله عنها، والحديث في الصحيحين-: (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها وهي تشتكي عينيها، أفنكحلهما؟ قال: لا، لا، مرتين أو ثلاثاً) وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها هل ابنتها بلغت أم لم تبلغ، (وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) خاصة أن المرأة إذا سألت وقالت: إن ابنتي.
الغالب أنها تكون دون البلوغ؛ لأنها لو كانت كبيرة لأتت البنت بنفسها وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الحديث أصل في أن الحداد للصغيرة والكبيرة، وهذا مذهب جمهور العلماء، ولذلك هو حق -فيه معنى الحق- للزوج، والصغيرة لزوجها عليها حق.
ثانياً: أنها ترث من الزوج، والأصل حديث معقل، وعدة الوفاة في الأصل مرتبطة بالإرث، فقوله: (كل امرأة) يدل على أن المرأة إذا كانت صغيرة تلزم بعدة الوفاة.
من الذي يأمرها بعدة الوفاة ويراقبها؟ وليها، يقوم وليها عليها، ويجنبها ما تجتنبه المعتدة، مثل الصغير إذا حج أو اعتمر فإنه يقوم وليه بمنعه من محذورات الإحرام.
كذلك أيضاً في قوله: (كل) عموم؛ لأن (كل) من ألفاظ العموم، فشمل هذا اللفظ المرأة المسلمة والكتابية؛ لأن المسلم يحل له نكاح الكتابية اليهودية والنصرانية بشرط أن تكون حرة، ولا يجوز له أن ينكح بالعقد إماء أهل الكتاب، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25]، فاشترط في الرقيقة التي تنكح: عدم الطول، واشترط فيها خوف الزنا، واشترط أن تكون من الفتيات المؤمنات، فدل على أن الكتابية لا يجوز نكاحها إذا كانت أمة.
إذاً: المسلم لا يموت إلا عن زوجة مسلمة أو كتابية التي هي اليهودية أو النصرانية، فإذا توفي عن امرأة يهودية أو نصرانية عقد عليها فإنها يلزمها الحداد، واختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة، فمنهم من قال: اليهودية والنصرانية لا يلزمها الحداد إذا توفي زوجها المسلم، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر).
وأجيب بأن هذا الحديث خرج مخرج الغالب، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:234] فعمم الله عز وجل في كل مسلم ترك وراءه زوجة أن تحد عليه، وبناء على ذلك فهذا النص القرآني العام أصل، ويجاب عن الحديث بأنه خرج مخرج الغالب.
وهناك جواب من وجه ثانٍ: وهو أن الكتابية تؤمن بالله وتؤمن باليوم الآخر، فهي تؤمن أن الله موجود، وإن كانت تشرك بالله حينما تقول: إن عزيزاً ابن الله، فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، لكنهم يؤمنون أن الله موجود، بخلاف اللاديني الذي لا دين له، وبخلاف الملحد والوثني، ففي الأصل عندها إيمان بالله، وأيضاً عند أهل الكتاب إيمان باليوم الآخر، وهذا جواب طائفة من جمهور العلماء عن هذا الحديث: أن الكتابية من حيث الأصل عندها دين، وإن كان دينها فيه تحريف، ولذلك فرق الله بين الكتابي وغير الكتابي، وقد كانوا يفعلون الشرك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله أنهم قالوا: إن عزيراً ابن الله، وقالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ومع ذلك وصفهم أنهم أهل كتاب، وهذا لوجود الأصول العامة من كونهم يؤمنون بأن هناك إلهاً، ويؤمنون بأن هناك رجعة بعد الموت، بخلاف الدهريين والمشركين والوثنيين الذين لا يؤمنون بهذا، فلهذا أعطوا حكماً خاصاً، ولذلك الكتابية إذا نكحها المسلم حل نكاحها؛ لأنها أقرب ويمكن جذبها إلى الإسلام، ولذلك حل نكاح الرجل لنساء أهل الكتاب، ولم يحل نكاح رجالهم لنساء المؤمنين؛ حتى لا يكون سبباً في إغواء نساء المؤمنين، فالمقصود: أن هناك قواسم يمكن أن تكون سبباً في هدايتهن كما بينا هذا في كتاب النكاح.
فالمرأة الكتابية إذا توفي عنها زوجها المسلم يلزمها الحداد على الصحيح من أقوال العلماء؛ لظاهر آية الإحداد، والحديث يجاب عنه بخروجه مخرج الغالب والمخاطبة، وعلى كل حال فالمصنف -رحمه الله- عبر بهذه الأمور لكي يبين لزوم الحداد للجميع.(330/10)
حكم الحداد للذمية
قال رحمه الله: [في نكاح صحيح ولو ذمية].
(في نكاح صحيح) فلا يلزم الحداد إلا إذا وجد النكاح الصحيح، والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا على زوجها) والوصف بالزوجية مقترن بالوصف الشرعي، فكل من وصف شرعاً بأنه زوج وتوفي شرع الحداد عليه، والزوج الذي يوصف بكونه زوجاً شرعياً لا يمكن أن يوصف بذلك إلا بعقد صحيح، وهو العقد الذي توفرت فيه شروط صحته مما تقدم معنا في كتاب النكاح: أن لا يكون هناك مانع يمنع من نكاح المرأة، وأن يكون هذا العقد بولي، وشاهدين، ومهر، وإيجاب وقبول صادرين من المعتبر، إذا ثبت هذا؛ فإنه حينئذٍ إذا وقع العقد صحيحاً وبعد العقد ولو بلحظة توفي عنها زوجها لزمها الحداد؛ لأن الله يقول: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234]، وهي زوجة بمجرد صحة العقد.
وأما إذا كان النكاح فاسداً أو كان وطء زناً -والعياذ بالله- فهذا لا حداد فيه؛ لأن النكاح الفاسد لا تترتب عليه الآثار الشرعية، فوجوده وعدمه على حد سواء، وكذلك إذا كان وطء شبهة فإنه لا يلزم فيه الحداد.
ولو أنه نكح نكاح متعة فإن نكاح المتعة نكاح فاسد، وإذا توفي عنها بعد هذه المتعة لا نقول بوجوب الحداد عليها؛ لأنه نكاح فاسد.(330/11)
حكم الحداد لمن سقط عنها التكليف
قال رحمه الله: [أو أمة أو غير مكلفة].
(أو أمة أو غير مكلفة) يشمل المجنونة، فإن المجنونة لا يلزمها الحداد، وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أنها لا تخاطب ولا تلزم بالحداد؛ لأن التكليف لا يناط بها، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) ويشمل هذا الرجال والنساء، فإذا كانت مجنونة فإنها لا تلزم بالحداد.(330/12)
حكم الحداد للمرأة البائن
قال رحمه الله: [ويباح لبائن من حي].
أي: ويجوز أن يكون الحداد من امرأة طلقها زوجها طلاقاً بائناً، وهي الطلقة الثالثة والأخيرة له، في هذه الحالة إذا طلقها تمتنع من الطيب، وتمتنع من الخروج من البيت، ويلزمونها بالحداد كما تحتد من الوفاة، هذا عند من يقول بوجوبه، وأما المصنف فقال: (يباح) أي: أنه لا يجب عليها، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الجمهور، ولكن لو أنها امتنعت من هذه الأشياء قال المصنف: (يباح) وقال بعض العلماء: لا يباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل)، وهذا نص واضح، (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) وهذا هو الصحيح، فإن السنة حجة في هذا الأمر على أن الحداد خاص بمن سمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يزاد على ذلك ولا ينقص منه، فالقياس هنا يقدح فيه بقادح، وهو قادح فساد الاعتبار، وفساد الاعتبار: أن يكون القياس في مقابل النص من القرآن أو السنة، أو في مقابل الإجماع، فالنص قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) فإذا طلقت المرأة وكان طلاقها بائناً فإنها تدخل تحت هذا العموم؛ لأنها لا يحل لها أن تحد على غير زوجها.(330/13)
حكم الحداد للمطلقة طلاقاً رجعياً
قال رحمه الله: [ولا يجب على رجعية] يعني: لو أنه طلقها طلاقاً رجعياً فإنها لا تمتنع من الزينة ومن اللباس والطيب، والواقع أن الرجعية في الأصل الأفضل والأكمل لها أن تتجمل وتتزين لزوجها؛ لأن هذا يدعو إلى الرجوع والعدول عن فراقه لها، والله تعالى أمرها أن تعتد في بيت الزوجية؛ لأن هذا يعين على رجوع زوجها لها، فالمطلقة الرجعية الشرع يقصد رجوع زوجها إليها، ويحبب في ذلك ويرغب فيه؛ كما قال تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]، فجعله من اليسر والسماحة.
فلو قلنا للمطلقة الرجعية: لا تلبس الثياب الجميلة، ولا تتطيب، وتفعل ما تفعله المحتدة ازداد زوجها نفرة منها، وحينئذٍ يقع خلاف مقصود الشرع، ولذلك حكي الإجماع على أن المطلقة طلاقاً رجعياً لا يلزمها حداد؛ لأن ذلك مخالف لمقصود الشرع، ومخالف للسنة من قصد رجوع الزوج إلى زوجته وتحبيبها إليه.(330/14)
حكم الحداد للمرأة الموطوءة بشبهة أو نكاح فاسد أو زنا
قال رحمه الله: [وموطوءة بشبهة].
(وموطوءة بشبهة) كرجل وطئ امرأة بشبهة، ثم توفي عنها، فإنه لا يلزمها أن تحد عليه؛ لما قدمنا من أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم خصا الحداد بالمرأة التي توفي عنها زوجها، والموطوءة بشبهة أو بنكاح فاسد كلتاهما لا ينطبق عليهما هذا الوصف الشرعي من كونهما زوجة على الوجه المعتبر شرعاً.
قال رحمه الله: [أو زناً].
وهكذا لو كان زناً -والعياذ بالله- فالمرأة المزني بها لو توفي عنها الزاني فإنها لا تحد عليه.
قال رحمه الله: [أو في نكاح فاسد أو باطل].
كنكاح المتعة، وهكذا لو حكم ببطلانه، وكان بطلانه محل خلاف، كمن يبطل النكاح بدون ولي، وبدون شاهدين، فإن كان فيه تأويل فقد قدمنا هذه المسألة وبينا ما يترتب عليه من آثار، وأما إذا لم يكن فيه تأويل فالذي عليه العمل أنه يفتي بما ظهر له، فيحكم ببطلانه على الظاهر؛ لأنه يعتقد هذا ويلزم به.(330/15)
حكم الحداد لملك اليمين
قال رحمه الله: [أو ملك يمين].
وهكذا لو أنه تسرى بجارية من جواريه فوطئها ثم توفي عنها، فلا نقول لإمائه: يلزمكن الحداد؛ لأن الحداد مختص بالزوجات، والإماء لسن بأزواج، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6]، فجعل ملك اليمين غير الزوجة، فدل على أن ملك اليمين لا ينطبق عليها الحداد، وإنما ينطبق على الزوجة، وقد قال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234] فخص الحداد بالزوجات، وملك اليمين ليس بزوجة، ولذلك لا يتعلق الحداد بالإماء.(330/16)
تعريف الحداد
قال رحمه الله: [والإحداد: اجتناب ما يدعو إلى جماعها، ويرغب في النظر إليها].
(اجتناب) يعني: ترك، (يدعو) يعني: يغري، وفي هذه الجملة قصد المصنف -رحمه الله- أن يبين حقيقة الحداد، وذلك بعد أن بين من هي المرأة التي يلزمها الحداد، وشرع في بيان كيفية الحداد، وهذا من التسلسل والترتيب المنطقي، أنك تبدأ أول شيء بالشخص الذي يتعلق به الحكم، وبعض العلماء في بعض المسائل يبدأ بحقيقة الأمر، ثم يبين بمن يتعلق الأمر، وكلاهما مسلك صحيح، لكن هذا يختلف بحسب اختلاف الأبواب والمسائل.
وأما بالنسبة لقوله رحمه الله: (والإحداد) فحقيقة الحداد: أن تجتنب كل ما يدعو ويغري الرجل بالمرأة، ويشمل هذا: زينتها في جسدها، كالطيب ووضع الحناء، ودهن الشعر بالأدهان المطيبة، والاكتحال، وهكذا لو وضعت الحناء في بعض الأعضاء دون بعضها، وهذا حكم عام سواء كان لبعض الأعضاء أو لكل الأعضاء من التجمل العام كالشامبو الموجود في زماننا ونحوه مما يمكن أن تغتسل به ويكون طيباً للبدن، أو كان لبعض البدن، فالحكم في هذا كله أنه يجب اجتنابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المرأة المحتدة أن تتقي الطيب والحلي، والثياب الجميلة من المعصفر والمزعفر، وكذلك أيضاً: تتقي الخروج من المنزل، فهذان الأمران أحدهما: يتعلق بالمرأة وشارتها وهيئتها، والثاني: يتعلق بالمسكن ولزومه، فبين -رحمه الله- أن الأصل يقتضي أن المرأة تلزم بترك كل ما يرغب في نكاحها.
وهذا الذي يدعو ويرغب في نكاحها يعبر عنه بالزينة، والزينة: هي الجمال والحسن، وما يتزين به هو الشيء الذي يزيد من جمال الإنسان وحسنه وبهائه، وهذا الشيء ربطه بعض العلماء بقاعدة وهي: (الرجوع إلى العرف) فكل ما عده العرف زينة يغري بالمرأة ويحبب فيها فإنه يدخل في هذا الأصل ويمنع، يعني: ننظر في كل بيئة وفي كل مكان وعرف ماذا يعدون الزينة، فإذا كان هذا الذي تضعه وهذا الذي تلبسه، وهذا الذي تريد أن تتجمل به يعد في العرف زينة فإنه يحكم بعدم جواز تعاطيها له، سواء تعلق باللباس أو تعلق بالجسد، فالكل في حكم واحد، وينبغي اجتنابه.
قال رحمه الله: (والإحداد: اجتناب ما يدعو إلى جماعها).
(ما يدعو إلى جماعها) يعني: يرغب في المرأة؛ لأن المحاسن والتجمل والتحسن والزينة تدعو إلى جماع المرأة وترغب في المرأة، وهذا يشمل -مثلاً- زينتها في عينيها كالكحل، وزينتها في وجهها كتحمير الخدين كما ذكره العلماء رحمهم الله، وتصفير الوجه في بعض الأحيان، وكذلك زينتها في شعرها مثل وضع الطيب في الشعر، أو ما وجد الآن من الصابون المطيب في الشعر وفي الجسد، وكذلك أيضاً ما يدعو إلى جماعها ويرغب فيها مثل الحناء، أن تحني يديها ورجليها، فهذا يغري بالمرأة، وهو جمال متعلق بعضو خاص، وكذلك ما كان زينة لبعض الأعضاء كالخاتم للأصابع، والقلادة للصدر والأقراط والفتخات، ونحو ذلك مما يكون من الخلخال في القدمين، كل هذا تتقيه المرأة؛ لأنه يرغب فيها ويتشوف الرجال إليها إذا كانت متجملة.
قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فجعل الحلية تزيد من زينة المرأة وجمالها.
قوله رحمه الله: (ويرغب في النظر إليها).
كما ذكرنا، سواء كان ذلك في وجهها أو بدنها أو ثيابها، فالثياب الجميلة مثل الثياب الصفراء واللامعة البراقة، والبيضاء البراقة الجميلة، أو ذات الخطوط المزركشة والمنقوشة بالنقش الذي يغري ويحبب ويجذب الأنظار، هذا النوع كله تتقيه المرأة وتجتنبه.
كذلك الثياب المطيبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة عن المعصفر، وكذلك أيضاً ما هو موجود في زماننا من وضع بعض الأصباغ التي فيها طيب على الثياب فتتقيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المعصفر والمزعفر، والمعصفر من الثياب هي التي توضع في العصفر، وهو نبت في اليمن طيب الرائحة إذا وضع في الثوب كان جمالاً وزينة وطيباً له، فإذا غسل به بدت رائحته زكية، وهو نوع من أنواع الأطياب، ونوع من أنواع الزينة في الثوب، فهو يجمع بين طيب اللون وطيب الرائحة.(330/17)
ما يجتنب في الحداد(330/18)
الزينة
قال رحمه الله: [من الزينة].
على شرط أن يكون زينة، أما إذا كان لا يتزين به ولا يزيد في الزينة فلا يؤثر.(330/19)
الطيب
قال رحمه الله: [والطيب].
والطيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتطيب المحتدة، قال: (ولا تمس طيباً إلا نبذة من قسط أو أظفار عند طهرها) كما في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها، فقوله: (ولا تتطيب) نهي، والنهي يدل على التحريم، وهذه العبارة استخدمت في الحج، قال: (ولا تمسوه بطيب) فدل على أنه محذور على المرأة المحتدة أن تمس الطيب، والطيب سمي طيباً لطيب رائحته، وقيل: لأن النفوس تطيب لشمه، وتجد الإنسان يستزيد من شمه، والطيب يشمل جميع أنواع الطيب، سواء كانت من الأدهان أو كانت من المشمومات كالبخور ونحوها، وقد أخذت أم حبيبة الطيب بعد ثالث يوم من حدادها على أبيها، وبينت وقالت: (والله ما لي بالطيب من حاجة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل) فدل على أن الأصل أنها تمس الطيب، ولا يجوز للمرأة المحتدة أن تمس الطيب، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.
إذا قيل: إن الأصل أنها لا تمس الطيب فهذا يشمل أن تتعاطى الأسباب لشم الطيب كأن تشم الطيب في غيرها فتتشوف لشمه، ولذلك قال بعض العلماء: يمنع عليها أن تشم من الغير لأنها ممنوعة من شم الطيب، والصحيح أن المحظور عليها الوضع، وأما الشم فقال بعض العلماء: لا بأس به إذا شمته من الغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تمس طيباً) فجعل الحكم متعلقاً بالتطيب لا بشم الطيب، وبناء على ذلك قالوا: إنه يجوز، وبعض العلماء يقول -وهو الصحيح- إنه يجوز لها أن تشم الطيب.
لكن أجيب عن هذا بأن قوله عليه الصلاة والسلام: (ولا تمسوه بطيب) أجمع العلماء على أن المحرم لا يجوز له أن يشم ولا أن يضع، ولذلك قالوا: إن الأصل أن تتقي المرأة اشتمامه، فلا تتطيب بشمه اتفاقاً، ولا تضعه في بدنها.
كذلك أيضاً: الأدهان مثل الزيوت أو ما يعرف في زماننا بالشامبو الذي يوضع في الرأس في الشعر، فإذا كان فيه طيب فإنها لا تضعه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمس طيباً) فإذا وضعت هذا النوع من الطيب في شعرها فقد مست الطيب.
وكذلك أيضاً بالنسبة للضرورة، قال بعض العلماء: حتى ولو اضطرت لكسب معيشتها، كأن تكون تبيع الطيب، قالوا: إنها تتقي بيعه والتعامل به حال حدادها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها، وبيعه من الأسباب التي تؤدي إلى المس؛ لأنها إذا باعت لابد وأن تكون في محلها تتعاطى هذا الطيب.(330/20)
التحسين
قال رحمه الله: [والتحسين].
والتحسين: التجميل، والشيء الحسن هو الجميل.
أي: لا تحسن شارتها وهيئتها ولا تتجمل في بدنها وثيابها، فلا تلبس الثياب الجميلة، ولا تلبس الثياب المزركشة التي عليها النقوش، والتي تعد زينة للابسها، ولا تتزين في نفسها بوضع الحناء كما ذكرنا، أو بوضع ما يصفر الوجه أو يحمره ونحو ذلك من الأصباغ، ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن وضع الكحل في عين المحتدة منع عليه الصلاة والسلام من ذلك، ومنع أم سلمة رضي الله عنها من ذلك، وهذا يدل على أنه لا يجوز أن تحسن نفسها، ولا أن تحسن أعضاءها، ولا تتجمل.(330/21)
الحناء
قال رحمه الله: [والحناء].
كذلك الحناء وهي معروفة، فلا يجوز للمرأة المحتدة أن تضع الحناء؛ لأنه نوع من الزينة ونوع من الجمال سواء وضعته في بعض الأعضاء أو في أكثر الأعضاء.(330/22)
ما صبغ للزينة
قال رحمه الله: [وما صبغ للزينة].
الأصباغ التي توضع في البدن للزينة لا يجوز للمرأة المحتدة أن تضعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها عن جميل الثياب، ونهاها عن الطيب، ونهاها عن الحلي لمعنى يفهم من مجموع هذا وهو ألا تتجمل، وألا تفعل ما يدعو إلى نكاحها ويرغب فيها.(330/23)
الحلي
قال رحمه الله: [وحلي].
وهذا نص حديثه عليه الصلاة والسلام: (ولا الحلي) فنهى عليه الصلاة والسلام عن لبس الحلي، وجمهور العلماء على أنها لا تلبس الحلي لا في رأسها -كأن تضع على رأسها ما يمسك الشعر من الذهب أو الفضة أو نحوهما- ولا تضع في أذنيها الأقراط، ولا تضع في رقبتها القلائد، ولا تضع في أيديها الأسورة والخواتيم، ولا الدمالج، والدملج يوضع في أسافل القدمين، فهذه كلها يحظر على المرأة المحتدة أن تتجمل بها، إلا أن بعض العلماء اجتهد وقال: يجوز لها أن تلبس الخواتم إذا كانت من الفضة، واختاره بعض العلماء، واختلفوا في هذا الاستثناء، قالوا: لأن الفضة في الغالب زينة الرجال، وليست من زينة النساء، فهي إذا وضعت الفضة ليست بالمتجملة، ولكن هذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص فقال: (ولا الحلي) فهذا نص يدل على أنه لا يجوز لها أن تلبس الحلي، والفضة من الحلي، ولذلك لا يجوز لها أن تلبس كل ما يصدق عليه أنه حلي سواء كان ذهباً أو فضة أو ألماساً أو جواهر أخر، كل ذلك تتقيه المرأة وتجتنبه.(330/24)
الكحل الأسود
قال رحمه الله: [وكحل أسود].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها- ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه منع أن تكتحل المرأة المحتدة، وقد اشتكت إليه أنها تشتكي عينها.
قال العلماء: إن وضع الكحل يزيد من جمال العين، وهو زينة من الزينات، لكن رخص في وضعه في الليل ومسحه في النهار عند وجود الضرر، وقيل: هذا خاص بالصبغ فإنها تضمد به في الليل دون النهار.
قال رحمه الله: [لا توتيا] هذا نوع من أنواع الزينة، على كل حال: لكل زمان ما يعرف في بيئته وزمانه أنه زينة.
قال رحمه الله: [ولا نقاب].
فلا تضع النقاب؛ لأنه يزيد من جمال المرأة وزينتها.
قال رحمه الله: [وأبيض ولو كان حسناً].
ما كان من الثياب البيضاء والصفراء، والألوان الباهتة البراقة الجميلة منعت منها المرأة؛ لما فيها من زيادة البهاء والجمال، (لا توتيا ولا نقاب ... )، استثناء، وهو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، ولا نقاب أي: لا يحظر عليها لبس النقاب، ولا يحظر عليها لبس الأبيض.
وقال بعض العلماء: تتقي الأبيض والثياب الباهتة الصفراء الجميلة، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة المحتدة أن تلبس المعصفر، وقالوا: إن هذا أصل في المنع من الثياب البراقة والجميلة، والأصل عند العلماء أن الثياب الجميلة والبراقة تمنع منها، وكذلك المنقوشة نقشاً يلفت النظر ويزيد من زينتها وحسنها تمنع منها ولا يجوز لها أن تلبسها في الحداد، لكن الأبيض خفف فيه بعض العلماء كما أشار المصنف رحمه الله، وبعض العلماء قال: تتقي الأبيض؛ لأنه يزيد من الجمال وهو من خير الثياب.
لكن من حيث الأصل العام فالثياب البراقة والبيضاء الجميلة لا شك أنها تلفت النظر، مثل الحرير، أي أنها تكون بيضاء لكن فيها نوع من الزينة، أما أن تكون بيضاء خالصة فاختار المصنف -رحمه الله- الجواز.
وبعض العلماء منع من الثياب البراقة كالصفراء والبيضاء الجميلة التي تكون خامتها ملساء جميلة تلفت النظر فلا تلبسه المرأة المحتدة لما فيه من الزينة والجمال.(330/25)
العدة في بيت الزوجية
قال رحمه الله: [فصل: وتجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت].
وتجب عدة الوفاة على المرأة المحتدة في المنزل، ولذلك قال تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] فأمر المعتدة في عدة الوفاة ألا تخرج من بيت الزوجية، وقد نسخت هذه الآية بالنسبة للمدة ولم تنسخ بالنسبة لحكم عدم الخروج، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ فريعة بنت مالك بن سنان رضي الله عنها لما توفي عنها زوجها: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله) فأمرها بلزوم البيت، وأنها لا تخرج، ولذلك أجاز النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تخرج من حاجة، وإلا فإنه لا يجوز لها الخروج في حال الحداد.(330/26)
حكم التحول من بيت الزوجية في الحداد
قال رحمه الله: [فإن تحولت خوفاً أو قهراً أو بحق انتقلت حيث شاءت].
(فإن تحولت) يعني: انتقلت من بيت الزوجية (خوفاً) مثل أن تكون مع زوجها في صحراء، ويخشى أن يأتيها من يؤذيها في عرضها، أو يأتيها السبع، فحينئذٍ يجوز لها أن تتحول، واختلف العلماء: هل إذا تحولت تنظر إلى أقرب مكان بالنسبة لبيت الزوجية، أم أنها إذا تحولت حل لها أي مكان؟ وجهان للعلماء: وفائدة هذا الخلاف: أننا إذا قلنا: تنظر أقرب مكان لو أن امرأة في ضاحية من ضواحي مكة، وخافت من البيت -مثلاً- فهي ضعيفة وفي مكان منفرد ليس فيه أحد، وكان معها زوجها يقوم عليها، ثم لما توفي عنها زوجها خافت، وخشي عليها ففي هذه الحالة إذا قلنا: تنتقل إلى أقرب مكان فإنها تنتقل إلى مكة، ويلزمها أن تحد في مكة على القول بأنها تنتقل إلى أقرب مكان؛ لأنه إذا تركت هذا المكان فينظر إلى أقرب مكان يمكن أن تحتد فيه.
ومنهم من قال: تخير، فيجوز لها أن تنتقل إلى أي مكان، وهذه المسألة لها نظائر: منها: إذا قلنا: إن الزكاة تختص بالموضع الذي فيه المال، فهل إذا لم يجد فقيراً في المكان الذي فيه المال هل ينتقل إلى أقرب مكان إليه أم أنه يخير في جميع الأمكنة؟ هذه المسألة لها قاعدة عند العلماء رحمهم الله، والذي اختاره بعض العلماء أنه إذا قويت الشبهة من أن مقصود الشرع القرب نظر إلى الأقرب، وأما إذا كان الأمر على الإطلاق فإنه إذا تخلف المقيد حل للمكلف أن ينتقل إلى الكل على حد سواء، وبناء على هذا فإنه يقوى هنا أن يقال: إنها تنتقل إلى أي مكان سواء كان قريباً من بيت الزوجية أو بعيداً، مثلاً: لو كان عندها قريب قريب من الموضع الذي توفي فيه زوجها، وقريب في موضع آخر بعيد، فإنه يجوز أن تنتقل إلى البعيد، ويجوز لها أن تنتقل إلى القريب على حد سواء، ولا تلزم بواحد منهم.
(أو قهراً).
أن تقهر بالقوة والكره، يقال لها: لا تجلسي في هذا البيت، ويقع بعض الأحيان -نسأل السلامة والعافية- كأن يكون هناك شحناء، وتكون امرأة تزوجها رجل وهي ليست بقريبة، وجاءت إلى أقرباء الزوج فغاروا منها -وهذا الكلام يقع مع اختلاف البيئات والأعراف والتقاليد- فإذا توفي الزوج الذي كان يحفظها تسلط عليها أهل زوجها فقهروها وأجبروها بالقوة أن تخرج من بيت الزوجية، وقالوا: نريد أن نبيع البيت، ونريد أن نتصرف في البيت ويخرجونها.
فإذا غلبت بقوة وقهر وأكرهت على الخروج، فإن الإكراه يسقط التكليف؛ لأن الله تعالى يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] فأسقط الله بالإكراه الردة وهي أعظم شيء، فمن باب أولى أن يسقط ما دونه مثل الحداد.
(أو بحق).
مثل أن تحتد في بيت ليس لزوجها، وإنما قال له شخص: هذا البيت اسكنه ما دمت حياً، فجاء وسكن في البيت، وسكنت معه زوجته ثم توفي، فالزوجة في البيت، والرجل يريد بيته، والبيت ليس ببيت الزوج، فحينئذٍ تخرج من البيت بحق؛ لأن البيت بيته له الحق أن يخرجها، وله الحق أن يبقيها، فإن أبقاها ففضل وكرم، وإن أخرجها فماله وحقه، وما على المحسنين من سبيل.
وهكذا لو انتهت الأجرة، كما لو كان مستأجراً فمكثت شهراً، ثم انتهت الإجارة، فقال صاحب البيت: اخرجي؛ فإنها تخرج.
(انتقلت حيث شاءت).
أي: أنها لا تنظر إلى أقرب مكان للبيت الذي جاءها فيها النعي.(330/27)
حكم الخروج أثناء الحداد للحاجة
قال رحمه الله: [ولها الخروج لحاجتها نهاراً لا ليلاً].
ولها أن تخرج لرزقها وحاجتها نهاراً، مثل أن تكون عندها عمل أو وظيفة، أو تحتاج إلى كسب المعيشة لها ولأولادها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمرأة أن تخرج تترزق وتنفع أولادها، فإذا احتاجت لذلك فإنها تخرج، ولا بأس بذلك في النهار، ثم في الليل تأوي إلى بيت الزوجية وتحتد فيه.(330/28)
حكم ترك الحداد
قال رحمه الله: [وإن تركت الإحداد أثمت].
وإن تركت الإحداد أثمت؛ لأن الله أمرها أن تحتد، فإذا لم تمتثل ما أمرت به أثمت إذا كانت عالمة، وإذا كانت جاهلة لم تأثم، وكذلك لو كانت غير عالمة بوفاة زوجها، كأن يتوفى عنها زوجها وتمكث أربعة أشهر بعد الوفاة ولم يأتها خبر، ثم يأتيها الخبر بعد سنة فلا شيء عليها، لكن إذا قصدت وعلمت فإنها آثمة، ولا يلزمها أن تقضي فلو أنها -مثلاً- تطيبت أثناء الحداد ولبست جميل الثياب فهي آثمة، ومن عصى الله ورسوله فإنه يخشى عليه، فإن المعاصي بريد إلى ما هو أعظم، ولربما استدرج صاحبها إلى الكفر والعياذ بالله.(330/29)
انتهاء عدة الحداد
قال رحمه الله: [وتمت عدتها بمضي زمانها].
سواء علمت أو لم تعلم، فإذا مضى الزمان عليها فإنها لا تلزم بقضاء ما فرطت فيه وامتنعت فيه من الأيام التي خلت.(330/30)
شرح زاد المستقنع - باب الاستبراء
حرصت الشريعة على حفظ الأنساب وعدم اختلاطها، ومن هذا أنها ألزمت من اشترى أمة أو سباها أن يستبرئ رحمها حتى يتأكد من خلوها من الحمل فلا تختلط الأنساب.(331/1)
وجوب استبراء الإماء
بسم الله الرحمن الرحيم قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الاستبراء: من ملك أمة يوطأ مثلها من صغير وذكر وضدهما حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها].
(من ملك أمة يوطأ مثلها) من ملك أمة، فخرج حكم الزواج؛ لأنه هنا سيتكلم على استبراء الإماء، والإماء هن الرقيقات، وهن من السبي الذي يكون بالجهاد في سبيل الله عز وجل، فإذا حصل الجهاد الشرعي، وأخذ الأسرى من الكفار فإن الإمام من حقه أن يضرب الرق على هؤلاء الأسرى وينظر المصلحة، إن شاء ضرب رقابهم، وإن شاء فادى، وإن شاء ضرب الرق عليهم.
والرق لا يختص بلون، ولا بجنس، ولا بطائفة في الإسلام، فالرق لكل من كفر بالله عز وجل، والسبب في ذلك والحكمة منه واضحة: أن المشرك ومن ضاد العقيدة وخرج عن الدين والإسلام والتوحيد نزل إلى مستوى هو أردأ من مستوى البهيمية؛ لأن الله يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، لكن إذا كفر بالله عز وجل فإنه خالف تكريم الله عز وجل فأصبح مهاناً بإهانة الله كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، وهذه الإهانة راجعة إلى قول الله سبحانه وتعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44] أي: إنهم لما كفروا وأشركوا ولم يوحدوا الله عز وجل، وصرفوا حق الله لخلقه أياً كان، ولو كان لصالح أو طالح أو عظيم أو صغير فإنهم قد أشركو مع الله غيره -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- ونزلوا إلى مستوى أهون وأحقر عند الله عز وجل وعند عباده المؤمنين من البهيمة، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، فكان من حق الإمام في الإسلام أن يضرب عليه الرق؛ لأنه خرج عن تكريم الله عز وجل له حينما أعطاه العقل الذي يدله على وحدانية الله ويهديه، فكفر بذلك وأنكره، فنزل هذه المنزلة السيئة التي تليق بمثله، فالإسلام لا يميز بالألوان، ولا بالأحساب، ولا بالأنساب، ولا بالمدن ولا بالقرى، ولا بالأقطار، ولا بالأمصار، فكل من كفر الله وضاد الله عز وجل، وحاد الله ودينه وشرعه فإنه إذا حكم بكفره وقاتل المسلمين ضرب عليه الرق.
وإذا أخذ الأسارى وضرب عليهم الرق قسم هذا السبي بين المجاهدين، فلو أخذ رجل امرأة سبياً في الجهاد في سبيل الله عز وجل فهذا جائز بإجماع العلماء، ونصوص الكتاب والسنة فيه واضحة ظاهرة، فإذا أخذت هذه المرأة ملكاً لليمين، وأراد أن يطأها فلا يجوز له أن يطأها حتى يستبرئها، ولذلك لما أخذت المسبيات في غزوة أوطاس وقام الرجل يريد أن يدخل على مسبيته وقد ظهر بها الحمل، قال عليه الصلاة والسلام: (أيريد أن يلم بها؟ والذي نفسي بيده لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره) فهذا يدل على أنه لا يجوز أن يطأ الأمة حتى يستبرئها؛ لأنه في هذه الحالة يخلط بين مائه وماء زوجها الذي كان معها قبل أن تؤخذ رقيقة؛ لأن نساء الكفار يؤخذن وهن حوامل ويؤخذن وهن مستبرئات وغير ذلك، فعلى كل حال: إن كان مثلها يوطأ فلابد من استبرائهن، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمته فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه حرث غيره) لأنها إذا كانت حاملاً من غيره ووطئها فإنه كمن سقى ماءه ومنيه لحرث غيره، فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله في استبراء الإماء.
(من ملك أمة يوطأ مثلها).
لأن القضية هي: استبراء الرحم؛ فإذا بلغت عنده سن الوطء، فحينئذٍ يجوز له أن يطأها؛ لأن البراءة معلومة بالأصل.
(من صغير وذكر وضدهما).
يعني: إذا اشتراها وملكها صغيراً كان أو كبيراً فإنه لا يجوز له أن يطأها؛ وقد يقول قائل: مادامت العلة هي خوف اختلاط الماء، فلو اشتراها صغير؟ نقول: يمنع الصغير كما يمنع الكبير من وطئها فقوله: (من ملك) هذا عام شامل للصغير والكبير والذكر أياً كان.
(حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها).
حرم عليه أن يطأ هذه الأمة، وحرم عليه أن يستمتع بالمقدمات حتى يستبرئها، والبراءة المراد بها: خلو الرحم من الحمل من زوجها الذي كان معها قبل، وهكذا لو اشتراها من غيره؛ لأنه ربما وطئها الأول الذي كانت عنده، فلربما حملت منه، فلابد أن يستبرئ الأمة سواء كان ذلك في السبي أو كان بملك اليمين -الشراء أو الهبة- قال له: وهبتك جاريتي، قال: قبلت، فأصبحت ملكاً له، فلا يجوز له أن يطأها حتى يستبرئها.(331/2)
استبراء الحامل بوضعها
قال رحمه الله: [واستبراء الحامل بوضعها].
شرع رحمه الله في بيان بم تكون البراءة، وتثبت براءة الرحم، فقال: (الحامل بوضعها)؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فبين أن براءة رحم المرأة في عدتها بوضع الحمل، فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله أن الحامل عدتها وضع الحمل.(331/3)
استبراء من تحيض بحيضة
قال رحمه الله: [ومن تحيض بحيضة].
وإذا كانت تحيض فإنها تستبرئ بحيضة، وهذا فيه قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، وفيه بعض الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال: إذا استبرأت بحيضة حل له بعد ذلك أن يطأها على الاستبراء بحيضة عند الحنابلة رحمهم الله؛ لأنهم يرون أن القرء الأصل فيه أنه متعلق بالحيضات، فتكون عندهم البراءة بالحيض كما هي في الطلاق، أي: كما أنه في الطلاق تكون البراءة بالحيضات، فكذلك في الاستبراء.(331/4)
استبراء الآيسة والصغيرة بشهر
قال رحمه الله: [والآيسة والصغيرة بمضي شهر].
وإذا كانت الأمة التي اشتراها آيسة كبيرة سن، وبلغت سن الإياس وانقطع معها الحيض فإن عدتها واستبراءها يكون بالأشهر، فإذا كانت العدة ثلاثة أشهر لكل حيضة شهر، فكذلك إذا كانت البراءة بحيضة فإنها تكون بشهر واحد، فإذا اشترى صغيرة فإنه يستبرئها شهراً ثم بعد ذلك يطؤها، وإذا اشترى آيسة من الحيض يستبرئها شهراً كذلك.(331/5)
الأسئلة(331/6)
حكم الحداد للقواعد من النساء
السؤال
لو كانت المرأة من القواعد هل تنطبق عليها أحكام الحداد كاملة؟
الجواب
الحكم في وجوب الحداد شامل للنساء سواء كن كبيرات أو صغيرات، فهذا أصل عام كما ذكرنا في النصوص الواردة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث لم تفرق بين كبير ولا صغير، والحكم والأصل في هذا أنه يشمل الجميع، ولا يختص بالبعض دون البعض، وليس هناك دليل يدل على تخصيص البعض دون البعض في هذه المسألة، والله أعلم.(331/7)
حكم التقيد بلباس السواد في الحداد
السؤال
ما حكم لبس النساء في مدة الإحداد لباساً واحداً مثل الأسود خاصة، هل هذا يجوز؟
الجواب
التقيد بالأسود هذا محدث وبدعة، بل إن بعض العلماء يقول: إن الأسود قد يكون جميلاً، يعني: هناك أنواع من الأسود تكون جميلة، ولا يكون بها الحداد لأنها زينة، فلبس السواد في الحزن من المحدثات والبدع، فالمرأة تلبس ما تيسر لها من الثياب التي لا زينة فيها، وليس هناك نص وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بتكلف السواد وشراء السواد، ويا ليت أن هذه العادة الممقوتة المذمومة تقطع بالصالحات والخيرات وتوجيه الناس ودلالتهم؛ لأن هذا ليس له أصل، والسواد -كما قلنا- بعض الأحيان يكون فيه نوع من الزينة والجمال، فهذا كله محدث وبدعة؛ والمشكلة أن المرأة لو دُخِل عليها في حداد وهي غير لابسة للسواد لأنكرت النساء ذلك؛ لأنهن يعتقدن أنه لا حداد إلا إذا دخلت في ثوبها هذا، وهذا لا شك أنه بدعة، وعلى كل حال فلا يجوز اعتقاد أمر لم يدل عليه دليل من الشرع، فهذا من البدع والمحدثات، وفي الحداد كثير من البدع المحدثات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكل ما خالف نص الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح في الأمة وخالف إجماعهم فإنه يرد على صاحبه كائناً من كان، سواء كان ذلك في الملبوسات، أو في طريقة العزاء، وطريقة الحداد، كل هذا إذا خالف شرع الله عز وجل، وجاء بالضيق والحرج خلاف اليسر الذي يسر الله به على عباده فإنه يرد، وبينه الناس على أنه لا أصل له في شرع الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(331/8)
شرح زاد المستقنع - كتاب الرضاع [1]
بين الله سبحانه وتعالى ما يصلح الناس في معادهم ومعاشهم والمعاملات في الإسلام حظيت بتفصيل دقيق ينظم للعباد شئونهم، والرضاع من الأمور التي تؤثر في العلاقات الاجتماعية، إذ به تثبت المحرمية وغيرها من الأمور التي يثبتها النسب، غير أنه لا يثبت التوارث، وهو من المسائل التي ينبغي عدم تجهاهها أو التساهل فيها.(332/1)
تعريف الرضاع وحكمه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الرضاع].
شرع -رحمه الله- في كتاب الرضاع، وهذا الكتاب هو أحد الكتب المتعلقة بكتاب النكاح؛ لأن كثيراً من المسائل والأحكام التي تتعلق بالرضاع مرتبطة بأحكام النكاح؛ ولذلك يعتني العلماء -رحمهم الله- بذكر هذا الكتاب في هذا الموضع.
والرضاع في لغة العرب: هو مص الثدي سواءً خرج منه القليل أو الكثير من اللبن.
والمراد به في الشريعة: مص مخصوص من شخص مخصوص، من موضع مخصوص، على صفة مخصوصة.
وهذا التعريف المراد به: أن الرضاع لا يمكن أن يحكم بكونه رضاعاً شرعياً إلا إذا كان من شخص مخصوص، وهو مَن دون الحولين.
سواءً كان من الذكور أو كان من الإناث، إذاً: لابد أن يكون الرضاع في الحولين، واختلف فيما زاد عن الحولين إلى الستة أشهر إذا لم يفطم الصبي، فمن أهل العلم -رحمهم الله- من قال: الستة الأشهر -أي: بعد- الحولين ليس الرضاع فيها بمؤثر.
ومنهم من تسامح في الشهر والشهرين، أي: ما قارب تمام الحولين، ولكن الذي دل عليه القرآن أن الأصل في الرضاعة أن تكون في الحولين؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]، وقال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15].
فقد يكون للحمل ستة أشهر، وأربعة وعشرون شهراً للرضاع.
لكن لا يمنع هذا أن يقع الرضاع من الكبير، وذلك في مسألةٍ مخصوصة، وهي أن يكون الشخص قد تربى ونشأ في بيت من البيوت ولا يكون بينه وبينهم قرابة أرحام، مثل: بيت الجيران، أو بيت عمه، أو بيت خاله، فزوجة العم وزوجة الخال ليست بمحرم.
فينشأ بينهم كواحد من أولادهم، ثم يكبر، فإذا كبر فإنهم في الغالب لا يتحرجون منه، بل يعتبرونه كواحد من أولادهم.
وحينئذ يُشْرَع لمثل هذا -دفعاً للحرج- أن ترضعه زوجة العم، أو زوجة الخال، لحديث سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكت له زوجة أبي حذيفة -وهي سهلة بنت الحارث رضي الله عنها- أن سالماً كان عندها كواحد من أولادها، وأنه لما كبر وجدت في نفس زوجها شيئاً.
وكأنه يتحرج ويتضايق من دخوله.
فقال عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه).
فأثبت عليه الصلاة والسلام الرضاعة للكبير في مسألة مخصوصة.
إذاً: فنعقب على التعريف ونقول: إن الأصل في الرضاع أن يكون في الحولين فما دون، وأما بالنسبة لما زاد عن الحولين فيفتى فيه في المسائل الخاصة كما تقدم، وكذا فيما زاد عن الحولين قريباً كالشهر والشهرين إلى نصف السنة -كما ذكرنا أنه قول لبعض العلماء- فإذا حصل فطام في الحولين فلا إشكال، بمعنى: أنه صار يغتذي بغير اللبن، لكن الإشكال إذا بلغ الحولين وأتمهما، ولكنه لا يزال رضيعاً لم يفطم، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين الحنفية والمالكية -رحمة الله عليهم- وغيرهم.
وقولنا: (على صفة مخصوصة) من أهل العلم من يخص الرضاع بمص الثدي كالظاهرية، ولا يرون رضاعاً بغير مص الثدي، حتى أنهم يقولون: لو أن اللبن وضع في إناء أو وضع في زجاجة -كالرضاعة الموجودة في زماننا- وشرب منه الصبي فلا يوجب ثبوت الأحكام المتعلقة بالرضاع، وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت أن الرضاعة من المجاعة.
وإذا شرب من الإناء فإنه يسد به الجوع، وأثبت أن الرضاع يفتق الأمعاء، وأنه ينشز العظم وينبت اللحم، والرضاع إذا كان من الإناء ينشز العظم وينبت اللحم، كالرضاع المباشر.
وبناء على ذلك: لا فرق بين أن يكون الرضاع بالمص، وبين أن يكون بالشرب من الإناء، ثم العبرة في الرضاع بالوصول إلى الجوف، فلو أنه قطر في أنف الصبي وهو كـ (السعوط)، أو أوجر أي: صب في حلقه وهو (الوجور)، فإنه يثبت الرضاع.
ويستوي في هذا أن يكون مصاً، أو يكون من الأنف كالسعود، أو يكون وجوراً، أو لدوداً.
ثم كذلك أيضاً يتبع هذا ما لو صار لبن المرأة جبناً، أو خلط لبن المرأة بغيره وشربه الصبي، فإنه يؤثر وتحدث المحرمية؛ لأنه يسد الجوع وينبت اللحم وينشز العظم، هذا بالنسبة لقولنا: على صفة مخصوصة.
والعبرة في هذا الرضاع أن يكون بالعدد المؤثر، وهو خمس رضعات، كما سيأتي إن شاء الله.
لقوله عليه الصلاة والسلام: (خمس رضعات معلومات يحرمن) ولقوله عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه).
وقول عائشة رضي الله عنها: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى).
والرضاع الأصل في ثبوته وثبوت أحكامه دليل الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23]، وهذا في سياق ذكر المحرمات، فأثبت التحريم للأصول والفروع والحواشي فدل على أن الرضاع مؤثر، وكذلك دل على مشروعية وجواز الرضاع قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة:233]، وقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6]، إلى غير ذلك من الآيات، وكذلك دلت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس - أنه قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وكذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الرضعات الخمس المتقدم.
وحديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه -في قصته مع زوجته- وفيه: (أن امرأة جاءته وقالت: إنها أرضعته هو وزوجته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراق زوجته فقال: يا رسول الله! كيف؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: كيف، وقد قيل؟!) فأثبت أن للرضاع تأثيراً، وأثبت أنه يحرم، وجاء ذلك صريحاً في الحديث الذي ذكرناه -وهو متفق عليه-: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
فهذا يدل على أن الرضاع مؤثر، وأنه تترتب عليه الأحكام الشرعية من ثبوت أمرين، أولهما: ثبوت الحرمة، والمراد (بالحرمة) حرمة نكاح المرأة.
والثاني: ثبوت المحرمية، وهذا إذا كان على الصفة المعتبرة، فتصبح من ارتضع منها له أماً، وفروعها إخواناً وأخواتٍ للمرتضع، وهكذا بقية الأحكام المتعلقة بالرضاعة.
يقول رحمه الله: (كتاب الرضاع).
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالرضاع.(332/2)
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
قال رحمه الله تعالى: [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب].
هذه الجملة هي قطعة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق على صحته، وهي قاعدة عند العلماء وأصل عند أهل العلم، قاعدة فرعت عليها فروع كثيرة، وأصل رد العلماء إليه كثيراً من المسائل والأحكام المتعلقة بالرضاع، وهذا من بليغ كلامه -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، فقد أوتي جوامع الكلم حتى أن الجملة الواحدة يتفرع عنها ما لا يحصى من المسائل.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) بيَّن: أولاً: أن الرضاع يحرم، أي: أنه يوجب التحريم في النكاح، وقد تقدم أن القرآن قد نص على هذا.
ثانياً: أنه أثبت المحرمية، فكما أن النسب يثبت المحرمية، فكذلك الرضاع يوجب ثبوت المحرمية.
ثالثاً: في قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يدل على المساواة والتشريك في الحكم من جهة التحريم، لا من جهة بقية الأحكام؛ فلا يحصل التوارث في الرضاع، فالأم التي أرضعت لا ترث كما ترث الأم من النسب، وإنما قال: يحرم، وهذا يدل على اختصاص الحكم بالحرمة والمحرمية دون بقية مسائل الأحكام.
ومن هنا قال بعض العلماء: إن الأم من الرضاع، والقرابة من الرضاع، ليس لهم في الحق من الزيارات وصلة الرحم ما للنسب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص الرضاع بثبوت الحرمة والمحرمية، فدل على أنه لا يشابه النسب من كل وجه، ولكن هذا لا يمنع الإحسان، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذت هوازن في الأسر، وكان فيهم بنو سعد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من قسمة الغنيمة -غنيمة حنين- وكان ينبغي قسمتها بعد انتهاء الغزوة، ولكن أخر ذلك إلى أن فتح الطائف، ثم رجع بعد فتح الطائف وكل هذا -كما ذكر بعض أهل العلم رحمة الله عليهم واختاروه-؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أن لا يبادر بأذيتهم لمكان الرضاعة التي في بني سعد، من أجل أن يأتوا إليه عليه الصلاة والسلام قبل أن تقسم الغنائم، فلما تأخر هذا التأخير ولم يكلموه عمد عليه الصلاة والسلام إلى القسم، فلما رجع إلى الجعرانة وقسمه فزعوا إليه عليه الصلاة والسلام بعد الله عز وجل فقال شاعرهم: امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك يملؤه من محضها الدرر فخشع عليه الصلاة والسلام، ولما قام خطيبهم، وقال: (يا رسول الله! والله! إن اللائي في الحظائر، ما هن إلا أمهاتك وأخواتك من الرضاعة وخالاتك من الرضاعة)، فكاد أن يبكي عليه الصلاة والسلام وقال: (ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم)، فأحسن عليه الصلاة والسلام ورد الإحسان بأفضل منه، وما كان عليه الصلاة والسلام إلا كذلك، فإنه يقابل الحسنة بأحسن منها.
فلا يمنع هذا أن الأم من الرضاعة يكون لها حق الإحسان والتفقد، وإذا احتاجت أن يسد حاجتها وأن لا يقطعها من خير وبر؛ فذلك لا شك أنه من رد المعروف فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه).
يقول المصنف رحمه الله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وهذا أدب مع السنة، وهكذا ينبغي للعالم والفقيه ومن يعلم الناس أن يحرص على الالتزام بالكتاب والسنة، وأنه متى أمكن التعبير بنص القرآن والسنة فذلك أتم وأعظم أجراً، وهو دليل صادق على فقه العالم؛ لأنه إذا قدم كتاب الله وسنة رسوله قدم ما حقه التقديم، دون أن يكون له فضل في ذلك، فقال المصنف: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
ولذلك هذه المتون الفقهية تساير النصوص، وتمشي مع النصوص الشرعية، وإن كانت لا تأتي بالحديث نصاً، لأنها لم تتخصص في رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما دلت على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (يحرم من الرضاع) يعني: بسبب الرضاع، فمن: سببية.
كقوله: (إنما الماء من الماء)، وقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح:25].
أي: بسبب خطيئاتهم.
وقيل: المراد بها: الجهة أي: (يحرم من جهة الرضاعة ما يحرم من جهة النسب)، والنسب: الإضافة، يقال: نسب الشيء إلى فلان، إذا أضافه إليه.
وسمي النسب نسباً؛ لأن الإنسان يضاف إلى ذويه، فيقال: محمد بن علي بن صالح مثلاً، فهذه إضافة، فالنسب لا بد فيه من الإضافة، ويقال: خال فلان.
وعم فلان.
وكله مبني على الإضافة.
والمراد بالنسب: القرابة.
وتفرعت عن هذا الحديث عدة مسائل: أولاً: التحريم من جهة النسب؛ فتحرم الأم من الرضاعة، والبنت من الرضاعة، والأخت من الرضاعة، وبنت الأخت من الرضاعة، وبنت الأخ من الرضاع، وكذلك العمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، هؤلاء كلهن محرمات من جهة الرضاع، كما أنهن محرمات من جهة النسب.
كذلك أيضاً: فيه دليل على أن الرضاع يشابه النسب، فقد يكون الأخ من الرضاع شقيقاً، وقد يكون الأخ من الرضاع لأب، وقد يكون الأخ من الرضاع لأم، وصورة ذلك: أن محمداً لو ارتضع من عائشة وهي زوجة لعلي، فجميع من تنجبه عائشة يكون أخاً لمحمد، كما أنه في النسب أخ له، ولكن إذا كان الذي أنجبته عائشة من علي فهو أخ له شقيق، وإن أنجبت من زوج سابق -قبل الزواج بعلي- أولاداً؛ فهم إخوة -من الرضاع- لأم.
ثم إن علياً -الزوج- لو أنجب أولاداً من زوجة أخرى -قبل عائشة أو بعدها-؛ فهم أخوة من الرضاع لأب؛ لأنهم شاركوه من جهة الأب، ولم يشاركوه من جهة الأم، وهذه تفريعات كالنسب سواء بسواء.
وعلى هذا: أثبت العلماء التحريم بالرضاع من جهة مشابهة النسب.
كذلك أيضاً: أخذ منه بعض أهل العلم -وقد وقع عليه الإجماع، لكنهم يستدلون بهذا الحديث- كالحافظ ابن رجب وغيره رحمة الله عليهم، يقولون: إن الجمع بين الأختين من الرضاع محرم كالجمع بين الأختين من النسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت في الرضاع ما يثبت في النسب، فكما أنه لا يجوز الجمع بين الأختين من النسب كذلك يحرم الجمع بين المرأة وأختها إذا كانت أختاً لها من الرضاع.
سواء كانت أختاً شقيقة أو أختاً لأب أو أختاً لأم، لعموم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23]، وكذلك أيضاً: يحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها من الرضاعة، كما أنه يحرم في النسب الجمع بين المرأة وعمتها من النسب، والمرأة وخالتها من النسب، لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها)، كذلك في الرضاع يحرم أن يجمع بين المرأة وعمتها من الرضاعة أو خالتها من الرضاعة، وذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
كذلك: أخذوا منه دليلاً على أنه تثبت فيه المحرمية من جهة المصاهرة، فإذا تزوج امرأة فانبتها من الرضاع ربيبة، كما أن ابنتها من النسب ربيبة، وكذلك العكس، فلو تزوج امرأة حرم عليه أن ينكح أمها من الرضاع، كما أنه إذا نكحها حرم عليه أن ينكح أمها من النسب، وهذا كله متفرع من قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).(332/3)
عدد الرضعات التي ينبني عليها التحريم
قال رحمه الله: [والمحرم خمس رضعات في الحولين].
إذاً: يشترط العدد ويشترط فيه الزمان، والتفصيل كما يلي: أولاً: أن تكون الرضعات خمساً، ومفهوم العدد أنه لو كان الرضاع دون الخمس لم يحرم.
فلو ارتضع منها أربع رضعات، فإنه لا يثبت له حكم الرضاع، ويشترط في هذه الخمس رضعات أن تكون مشبعة، فلا يكفي أن يمص الثدي ثم يؤخذ عنوة منه، إنما الشرط أن تكون الرضعة مشبعة، وحقيقة الإشباع: أن يرضع الصبي الثدي باختياره، ثم يتركه باختياره، فعند الترك بالاختيار تحتسب له رضعه، فإن تركه قهراً أو بغير اختياره ثم رجع، فإنها رضعة واحدة، فلو تركها قهراً كأن تكون أمه نزعت ثديها من فمه ثم أرجعته إليه مرة ثانية، أو هو هجم على الثدي ثانية بعد أن أجبر على تركه؛ فهي رضعة واحدة.
وهكذا لو دهمه عطاس فعطس ثم رجع، فهذا بغير اختيار، فحينئذ تحتسب رضعة واحدة.
إذا: لا بد أن تكون خمس رضعات مشبعات وضابط الإشباع: أن يدع الثدي باختياره، فإذا ترك الثدي وتركه باختياره ثم عاد مرة ثانية فهي رجعة مستأنفة، وبناء على ذلك: قد تقع الخمس رضعات في مجالس متعددة وقد تقع في مجلس واحد، وعلى هذا لا يشترط الاختلاف في المجالس وتعددها.
قوله: (خمس رضعات) هذه الخمس رضعات تأتي على ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تثبت التحريم للأب والأم معاً -أي: لصاحب اللبن (الزوج) والمرضعة (زوجته) - فيكون صاحب اللبن أباً، وتكون المرضعة واحدة وهي الأم، وتارة يثبت حكم الرضاع لصاحب اللبن دون اللائي أرضعن، وتارة العكس، أي: يثبت للتي أرضعت دون صاحب اللبن.
أما تفسير ذلك: فإن كان هذا الرضيع قد رضع خمس رضعات من امرأة واحدة من لبن زوج واحد؛ فإنه حينئذ ابن لهذه المرأة وابن لذلك الرجل، مثلاً: محمد زوج لعائشة، ارتضع خالد منهما، من لبن عائشة حال قيام الزوجية بينهما خمس رضعات، أو بعد تطليقه إياها وقبل دخول الزوج الثاني عند بعضهم، أو بعد دخوله وقبل الحمل منه، في هذه الصور كلها يكون ابناً للاثنين -للأب وللأم- لأنه استنفد الخمس رضعات من ماء الزوج ومن لبن المرأة؛ لأن اللبن يفور بوطء الزوج.
وبناء على ذلك: يثبت الحكم كما قلنا، فيكون هذا أباه وهذه أمه.
الصورة الثانية: أن يكون الرضاع متعلقاً بالأم دون الأب.
مثلاً: عائشة أرضعته -وهي عند محمد قبل أن يطلقها- ثلاث رضعات، ثم أرضعته بعد زواجها من أبي بكر رضعتين، فإنه في هذه الحالة ينتفي تأثير اللبن من جهة الفحل؛ لأنه لم يتمحض عدد خمس رضعات لفحل واحد، وإنما جاء من أكثر من فحل فلا يثبت؛ لأنه لم يتمحض لواحد منهما خمس رضعات، فيثبت الرضاع للأم، وتكون أماً له، ولا يكون له أب من الرضاع.
ولذلك يقولون: هل يوجد رضيع له أم، ولا أب له من الرضاع؟ تقول: إذا ارتضع خمس رضعات من امرأة واحدة كانت عند رجل ثم طلقها فتزوجها آخر، والعكس قد يحدث؛ فلو أن محمداً تزوج عائشة، فارتضع هذا الرضيع من عائشة ثلاث رضعات، ثم انتقل إلى ضرتها -زوجة محمد الثانية- وارتضع رضعتين، أكمل خمساً من ماء الفحل الذي اللبن لبنه، ولم يكملها ويتمها من إحدى نسائه، فحينئذ له أب من الرضاعة ولا أم له من الرضاعة، يقولون: هل يوجد رضيع لا أم له من الرضاعة وله أب من الرضاعة؟ تقول: إذا لم يستنفد خمس رضعات من امرأة واحدة، وإنما من نسوة متعددات متزوجات برجل واحد، هذا بالنسبة لمسألة الخمس الرضعات.
واشتراط الرضعات الخمس محل خلاف بين العلماء رحمهم الله.
فأصح أقوال العلماء -رحمهم الله- أن العبرة في الرضاع أن يكون خمس رضعات، والدليل على ذلك حديثان قويان صريحان في الدلالة على اعتبار أن هذا العدد مؤثر في الرضاعة: الأول: حديث سهلة بنت الحارث رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: أرضعيه خمساً تحرمي عليه)، وهذا الحديث رواه مسلم في الصحيح وغيره.
ولفظ: (خمساً) جاء في معرض البيان، ولو كان الحكم يبنى على الأقل من الخمس لذكره لها، وإنما ذكر العدد الذي لا يمكن أن يؤثر ما دونه، فقال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه) ففهمنا أنه لو أرضعته أربعاً لم تحرم، ولو أرضعته ثلاثاً لم تحرم، ولو أرضعته ما دون ذلك لا تحرم.
ثانياً: حديث أم المؤمنين عائشة في الصحيحين أنها قالت: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم (عشر رضعات معلومات يحرمن) فنسخن بخمس، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) هذا الحديث بين أنه كان في شرع الله عز وجل -بنص القرآن- أن العبرة في التحريم بالرضاع عشر رضعات، ثم خفف الحكم إلى خمس رضعات.
(عشر رضعات معلومات يحرمن) فهذا يدل على أنه لابد أن تكون معلومة، وأن لا تكون مبنية على الشك، وأن تكون مشبعة، لأن الرضعة المعلومة هي المشبعة، قالت: (فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فأثبتت أن العشر قد نسخت، وأن الخمس محكمة حكماً لا تلاوة، والقرآن منه ما نسخ تلاوة وحكماً، ومنه ما هو محكم تلاوة وحكماً، ومنه ما هو محكم تلاوة منسوخ حكماً، ومنه ما هو منسوخ تلاوة ومحكم حكماً.
قالت: (توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهن مما يتلى من القرآن) أي أن هناك أناساً يتلون هذه الآيات، وقد نسخت في العرضة الأخيرة التي عرضها جبريل؛ لأن جبريل عليه السلام كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم.
كما في الصحيحين من حديث ابن عباس في الصحيحين: (كان يعرض عليه القرآن كل رمضان).
وفي آخر سنة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه القرآن مرتين، وهذه تسمى بالعرضة الأخيرة التي استقر عليها المصحف في زمان أبي بكر رضي الله عنه، ومن بعده من الخلفاء الراشدين.
فهذه العرضة الأخيرة نسخ ما عداها من العرضات السابقة، فهناك من الصحابة من حفظوا شيئاً من العرضات السابقة، ولا زالوا يتلونه، ولم يبلغهم أنه منسوخ؛ لأن كل واحد يعمل بما علم.
والشاهد من الحديث: أنه أثبت أن الخمس توفي صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن، وأن الخمس محكمة، ولم يأت نص ينسخ هذه الخمس، وقد اعترض على هذا الحديث باعتراض مشهور وهو قولهم: إن هذا الحديث إن قلتم: إنه من القرآن فالقرآن لا يثبت بالآحاد، وإن قلتم: إنه سنة فعائشة تقول: (إنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فأثبتته قرآناً، وإن قلتم: إنه قرآن، فالقرآن لا يثبت بالآحاد؛ لأنه -بالإجماع- لا يثبت القرآن إلا بالتواتر.
وبناء على ذلك: يقع الاعتراض على هذا الحديث فيسقط الاستدلال به؛ لأنك لا تستطيع أن تعتبره سنة؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها روته قرآناً، وإن أردت أن تثبته قرآناً فلا تستطيع أن تثبته قرآناً؛ لأنه جاء برواية الآحاد، ولم يأت برواية التواتر.
ومن حفظ الله للقرآن لهذه الأمة أنه منقول بالكافة عن الكافة نقلاً متواتراً، وهذا من الحفظ الإلهي الذي حفظ به الكتاب، حتى كيفية النطق ومخارج الحروف، فسبحان من حفظ كتابه وكلامه، فهذا الأصل عند العلماء.
فإذاً: الحديث ليس بقرآن -لأنه آحاد- ولا هو بسنة؛ لأنها حكته قرآناً، وأجيب عن هذا الاعتراض بأقوى الأجوبة وهو الذي اختاره شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي) رحمه الله، وكذلك اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أئمة الأصول، قالوا: إن هذا الحديث فيه جانبان: جانب التلاوة -أي: إثبات كونه قرآناً، وكونه يتلى كالقرآن- وجانب العمل بما في المروي؛ للحكم وليس للتلاوة.
فأما كونه قرآناً فقد ثبت عندنا بالتواتر أنه منسوخ؛ لأنه ليس في العرضة الأخيرة إجماعاً، فهذا لا نثبته قرآناً وليس لنا فيه كلام، ولكن الذي يعنينا ما بقي، وهو الشرط الثاني: إثبات الحكم، وإثبات الحكم لا يشترط فيه التواتر، ولا يشترط فيه أن يكون قرآناً فالآية قد تنسخ تلاوتها، ولكن تبقى حكماً وهم يسلمون بهذا؛ وبناء على ذلك: يدفع ما ذكروه، وخاصة وأن عندنا حديثاً آخر يغني عنه وهو: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه) وهذا يدل دلالة قوية على أن العبرة بالخمس.
أما الذين خالفوا فمنهم من يقول: قليل الرضاع وكثيره يحرم، كالحنفية ومن وافقهم، ومنهم من يقول: الثلاث رضعات محرمة، والرضعتان لا تحرم، ومنهم من يقول: العشر رضعات محرمة.
فهذه الثلاثة الأقوال تخالف القول الذي اخترناه.
أما من قال: قليله وكثيره يحرم، فاحتج بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة:233]، وقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23]، ولم يشترط عدداً معيناً، وقالوا: لو أن شخصاً ارتضع من امرأة رضعة واحدة فهي أمه التي أرضعته، إذ لا يوجد في القرآن (أرضعنكم خمس رضعات) قالوا: إن القرآن أطلق ولم يقيد -هذا وجه الدلالة- فنقول: هذا الإطلاق قيدته السنة، وبناء على ذلك لا تعارض بين مطلق ومقيد، فالإطلاق الذي ورد من كتاب الله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23].
لم يبين الله عز وجل فيه عدد الرضعات، ثم جاءت السنة تحدد وتبين عدد الرضعات.
ثانياً: كما أنكم تقولون: إن الإطلاق في قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23].
مقيد بالحولين، لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233].
فأنتم تقيدون الرضاع بالحولين مع أن الله يقول: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23] عموماً، فما خص الحولين ولا غيره، وبناء على ذلك: كما أنكم قيدتم بالكتاب فقيدوا -أيضاً- بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الذين قالوا: إن الثلاث رضعات تحرم، فاستدلوا بحديث: (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان) وهذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عقبة بن ا(332/4)
صور للرضاع المحرَّم
قال رحمه الله: [والسعوط والوجور ولبن الميتة، الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد أو باطل أو زنا؛ مُحَرِّم].(332/5)
الرضاع بالسعوط
(والسعوط) تقدم معنا في أكثر من مسألة، كما في الصوم، ولا يكون إلا عن طريق الأنف بالتقطير، أسعط الشيء إذا تناوله عن طريق الأنف، واللبن يكون سعوطاً، إذا قطر منه قطرات في الأنف؛ لأنه في بعض الأحيان يمرض الصبي أو يأبى أخذ اللبن بفمه، أو يمرض مدخل حلقه، أو فمه، ولا يمكن إعطاؤه عن طريق الفم، فيضطر إلى تقطير اللبن عن طريق الأنف، فهذا يسمى سعوطاًً.(332/6)
الرضاع بالوجور
(والوجور) يصب في حلقه صباً، يفتح فمه ثم يصب اللبن داخل حلقه، وغالباً يقهر عليه الصبي قهراً.
فبيَّن رحمهُ الله أنه إذا وصل اللبن عن طريق المص -الذي هو الطريق الطبيعي-، أو عن طريق الصب بالاختيار، أو بدون اختيار أنه مؤثر، كأنه يقول: العبرة بوصول اللبن إلى الجوف، وهذا صحيح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما فتق الأمعاء)، وإذا نزل عن طريق الأنف إلى الأمعاء أثر فينشز عظماً وينبت لحماً، ولا إشكال في كونه عن طريق الأنف أو عن طريق الفم.
أما الدليل على أن الأنف ينفذ إلى الجوف فحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً).
فالصائم يحرم عليه أن يوصل شيئاً إلى جوفه، وإذا أراد الصائم الاستنشاق فقد نهاه الشرع أن يبالغ خشية أن يدخل الماء من الخياشيم إلى الحلق.
فدل على أن الأنف متصل بالجوف، وهذا ثابت طبعاً وشرعاً.
وبناء على ذلك: فلو أن اللبن وضع في أنفه فقطر ووصل إلى جوفه فإنه مؤثر وموجب للحكم بالتحريم.
(والوجور) وكذلك (الوجور) إذا صُبَّ في حلقه صباً؛ والظاهرية يقولون: إنه لابد أن يمص الصبي، ويرتضع، ومراد المصنف: أن الرضاعة لا تختص بالمص فقط، فلو أنه صنع منه جبناً فأكله المرتضع، أو وضع لبن المرأة في زجاجة أو إناء ثم خلط به ماء وخفف أو خلط به غيره -مثل العقاقير التي توضع مع لبن المرأة للدواء أو نحو ذلك- فهذا مؤثر؛ لأن مادة اللبن موجودة، ويتغذى بها الجسم ويرتزق، ويفتق أمعاءه وينشز عظمه وينبت لحمه، وبناء على ذلك: سواء كان خالصاً أو مشوباً، وسواء كان عن طريق الفم أو غيره مما يصل إلى الجوف، فإنه مؤثر.(332/7)
الرضاع من لبن المرأة الميتة
قال رحمه الله: [ولبن الميتة].
(ولبن الميتة) أي: المرأة إذا ماتت وشرب صبي لبنها هل يثبت التحريم؟ نحن قلنا: خمس رضعات تحرم، فلو ارتضع أربع رضعات، ثم جاءت سكتة قلبية للمرأة وماتت، وشرب الرضعة الخامسة بعد موتها -وقد تقع هذه في بعض الحوادث والأحوال- والارتضاع من الميتة وارد، وحتى في زماننا -في مثل حوادث الزلازل التي وقعت- وجد صبي رضيع قد عاش مع أمه ما لا يقل عن أسبوعين، وسخر الله له ثديها مع أنها ميتة.
فكان يعيش على لبن هذا الثدي، فالشاهد: إذا ماتت هذه المرضعة وبقي عدد من الرضعات ارتضع منها وهي ميتة فإن حكمها ثابت، خمس رضعات.
ولنفرض -مثلاً- أن صبياً احتاج إلى لبن -وما عندنا إلا امرأة ميتة ماتت الآن- فأراد أن يرتضع منها، وأرضعناه منها خمس رضعات، يأخذ الثدي اختياراً ويتركه اختياراً خمس مرات.
فهل لبن الميتة يحرم؟! هناك وجهان للعلماء رحمهم الله، قال بعض أهل العلم -وهم الجمهور-: لبن الميتة مُحَرِّم.
وهو الصحيح، وذلك لقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23]، أي: وقع الإرضاع منهن، وهذا لا شك أنه قد ارتضع لبنها، كذلك اعترض بعض العلماء -رحمهم الله- على الذين قالوا: إن الميتة لا يحرم لبنها باعتراض -وهو من أوجه الاعتراضات وأجملها- فقالوا: أرأيتم لو أن هذه الميتة حلبت لبنها في إناء، ثم ماتت فشربه الصبي، هل يثبت التحريم؟!! قالوا: نعم.
قال: إذاً: لا فرق بين كونه يشربه وهو داخل الثدي، أو يشربه وهو خارج الثدي.
وفي الحقيقة: أن الخوف عندهم أن يكون اللبن قد استنفد واستهلك، وهذا طبعاً وبلا إشكال أنه إذا تبين أن اللبن مستنفد وفاسد فقد يضر -بل قد يقتل- الصبي.
لكن نحن نتكلم عن لبن صحيح، أي: شرب لبناً صحيحاً، أما كيف يعرف أنه صحيح فمعروف بالفطرة أن الصبي إذا عاف اللبن تركه؛ لأنه في بعض الأحيان يكره على رضاع اللبن الطبيعي بقوة، فضلاً عن أن يكون فيه زنخ أو يكون مستنفداً مستهلكاً، إذ ليس من السهولة بمكان أن يقدم الطفل على الرضاع من ثدي خالٍ من اللبن أو متغير اللبن؛ لأن الله يقول: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، هدى: دلَّ، فالنحلة -وبقية الحيوانات- هداها الله عز وجل كيف تحصل أقواتها، وحتى الكلب المسعور -أعاذنا الله وإياكم- يسعر، ثم فجأة ينطلق إلى الحديقة التي فيها مئات الأنواع من الأزهار ومن الأعشاب، ويأتي إلى عشب مخصوص أو إلى وردة معينة فيشمها وينتهي ما به!! من دله وهداه؟! دله اللطيف الخبير وهداه {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
فالطفل من حيث هو فيه هداية فطرية، ولا يمكن أن يمتص لبناً فاسداً، والغالب أنه لا يرتضع إلا لبناً صالحاً، فإذا رأيناه يرتضع ثم يترك الثدي، ثم يرتضع، ثم يرجع إليه خمس مرات أمامنا، علمنا ظاهراً أن اللبن صالح، وحكمنا بهذا الظاهر، وهذه من المسائل التي يحكم فيها على الظاهر؛ لأن دلالة الحال تدل على أن اللبن في ظاهره صالح، وبناء على ذلك: يثبت التحريم.(332/8)
الرضاع من لبن الموطوءة بشبهة
قال رحمه الله: [والموطوءة بشبهة].
(والموطوءة بشبهة) لو أن امرأة بكراً كانت نائمة، فجاء رجل فظن أنها زوجته فوطئها وحصل حمل، وثاب لبن بسبب هذا الحمل، فهذا اللبن لبن مبني على وطء شبهة، كذلك لو تزوج زواجاً فاسداً، وظنه صحيحاً كنكاح الشغار، فحملت المرأة ودرت اللبن، ثم أرضعت هذا اللبن طفلاً، فالوطء شبهةً كالوطء الصحيح، واللبن للمرء الشبهة كاللبن للمرء الصحيح.(332/9)
التحريم بلبن الموطوءة بعقد فاسد أو باطل
قال رحمه الله: [أو بعقد فاسد أو باطل] وهكذا إذا كان بعقد فاسد، مثل: أن تتزوج امرأة بدون ولي، فهذا النكاح -عند الجمهور- محكوم بفساده.
قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل).
والفاسد والباطل لا فرق بينهما عند الجمهور في المعاملات، فحكمنا ببطلان النكاح وفساده، فإن حصل من هذا النكاح لبن، فرضعه رضيع، فإن هذا الرضاع يثبت له ما يثبت من الوطء الصحيح في عقد نكاح صحيح.
قال رحمه الله: [أو زنا] وهكذا -والعياذ بالله- لو زنا رجل بامرأة، فحملت ثم ثاب اللبن من هذا الوطء المحرم، وشربه صبي، فإنه تثبت له أحكام الرضاعة، ولكن في الأم دون الأب، قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) فلم يجعل للزاني شيئاً في الزنا، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم -واختاره الجمهور-: إنه لا ينسب الرضيع للأب من الزنا.
كالحال في النسب، ولذلك ينسب الولد إلى أمه في الزنا، ولا ينسب إلى أبيه، كذلك في الرضاع ينسب إلى أمه ولا ينسب إلى أبيه الزاني.
قال رحمه الله: (محرم).
أي: لا فرق أن يكون هذا اللبن ثاب بوطء في نكاح صحيح أو بنكاح فاسد، أو وطء شبهة، فكل ذلك الحكم فيه سواء؛ لأنه لبن فتق الأمعاء وأنشز العظم وأنبت اللحم، وأعطاه الشرع هذا الحكم لوجود هذه الخاصية.(332/10)
صور لرضاع غير محرم أو مختلف فيه
قال رحمه الله: [وعكسه البهيمة].
فلو أن اثنين شربا لبن شاة ما نقول: هذه أمه من الرضاعة، ولو أنهم أخذوا علبة حليب وشربوا منها فلا يثبت بهذا ما يثبت للرضاع -شرعاً- من آدمية، لكن لو جفف لبن امرأة وصار مثل المسحوق، وشربه صبي ثبت حكم الرضاعة، لكن بالنسبة للبهائم لا يثبت، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.
أحد المعاصرين من طلبة العلم لما سئل عن اثنين ارتضعا من شاة قال: هما أخوان من الرضاعة -أعوذ بالله من القول على الله بدون علم- ومن هذه الفتاوى.
حتى أن أحدهم أراد أن يدرس الفقه فجاء إلى كتاب القصر، فقيل له: المغرب تقصر أو لا تقصر؟ قال: هناك قولان، فقيل له: كيف نصليها ركعة ونصف؟ أيسجد أو لا يسجد، أو يقدم السجود؟! - نسأل الله السلامة ونعوذ بالله من الزلل والزيغ.
قال رحمه الله: [وغير حبلى].
(وغير حبلى) بعض العلماء يشترط أن يكون اللبن قد ثاب من وطء، فإذا حصل اللبن من وطء حكم به، أما إذا كان لم يثب من وطء -وهذا يقع في بعض الأحيان أن المرأة تدر اللبن قبل الزواج أي: درت هذا اللبن من غير وطء-؛ فبعض العلماء يرى أن لبن البكر لا يحرم، والصحيح: أنه يحرم؛ لأن الطفل يغتذي به، وبعضهم يبني المنع منه على أنه نادر، والحكم للغالب لا للنادر، يقول: كلبن الرجل، والرجل لا يوجد له لبن، لكن قد يقع في بعض الأحيان أن يرتضع من رجل كما يقولون، وهي مسألة أندر من النادر، يقولون: لا يثبت، وقد يقع في الخنثى المشكل إذا تبين أنه ذكر، ثم ثاب منه لبن بسبب الهرمونات والاختلال في جسمه، ففي هذه الحالة يقولون: إنه إذا كانت المرأة صغيرة وثاب لبن فيها من غير وطء، أو من غير حمل، فيحكم بأنه رضاع مؤثر وهو ابن لهذه المرأة، وهذا هو أصح القولين: أنه لا يشترط وجود الحمل، لكن المصنف بين أنه عكس الأصل.
قال رحمه الله: [ولا موطوءة].
ومثال غير الموطوءة: البكر، فإذا ثاب من ثدييها اللبن من غير وطء، ومن غير حمل، وكذلك تكون ثيباً خلواً، ومن بعد ذلك ثاب منها اللبن؛ قالوا: إن هذا ليس باللبن المعتاد على الصفة المعتادة، فيحكمون بأنه لا تأثير له؛ لأنه خرج عن الأصل المعتاد.(332/11)
الأسئلة(332/12)
كيفية حساب الرضعات الخمس إن كان اللبن في إناء أو كان اللبن قد تحول جبناً
السؤال
كيف تثبت الخمس رضعات ويحصل تمامها، إذا كان شرباً من الإناء أو أكلاً إذا تحول جبناً؟
الجواب
فأما بالنسبة للإناء فذكر بعض العلماء أن الإبانة عن الفم كالإبانة عن الثدي، أي: أنه إذا أخذ الإناء ثم أبانه عن فمه فهذه رضعة كاملة، وبناء على ذلك تحتسب خمس مرات أن يأخذ الإناء ويبينه؛ ثم يأخذ الإناء ويبينه؛ لأنه لا يبينه إلا بعد حصول الارتواء من أجل النفس، وبعض أهل العلم يرى أن الحكم يختلف في الشرب من الإناء عن الرضاع، ويرى أن العبرة بالمجالس، فلا بد أن يتكرر ذلك في خمسة مجالس، وأن كل مجلس يعتبر رضعة؛ لأن فيه اشتباهاً، والحقيقة أن المذهب الذي يقول: إن المعتبر هو الإبانة من الفم فيه قوة، فالشرب من الإناء ثم إبعاده هذا يعد رضعة، فإذا استتم كان في حكم الخمس رضعات المعلومة.(332/13)
عدم اشتراط الرضا في ثبوت الرضاع المحرِّم
السؤال
هل من شروط الرضاعة أن يكون الأب موافقاً؟
الجواب
لا يشترط في الرضاعة أن يكون الأب موافقاً، ولذلك الحكم مترتب على وجود الرضاع؛ لأنه إذا شرب هذا اللبن، نبت لحمه ونشز عظمه، رضي أو لم يرضَ، وهذا يسمونه الحكم بالأسباب، فقد جعل الشرع الحكم هنا مرتباً على وجود سبب وهو الرضاع، سواء أذن صاحبه أو لم يأذن.
ولذلك في بعض الأحيان لا الأم ترضى ولا الأب، كأن تكون نائمة وهجم عليها صبي والتقم ثديها وهي نائمة أو ظنته ولدها، في هذه الحالة لا يكون هناك رضا -لا من الأب ولا من الأم-؛ وفي بعض الأحيان قد تحمله ولا تشعر إلا وقد أخذ ثديها ورضع بدون خيارها، فلا يشترط الرضا في الرضاع والعبرة في هذا الحكم بالسبب وهو وجود الرضاع، سواء كان هناك رضا أم لم يكن، والله أعلم.(332/14)
معنى قوله تعالى: (إلا ما قد سلف) من قوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف)
السؤال
أشكل علينا قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] ما معنى قوله: (إلا ما قد سلف)؟
الجواب
( إلا) استثناء موجب للعطف المشرك للحكم، وهذا معروف في لسان العرب، ولذلك يكون قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] أي: ولا ما قد سلف، لا تستديموهن ولا تبقوهن.
أي: ما كان من الوطء بنكاح منكوحة أبيه، ومن بقيت معه بعد نزول الآية فعليه أن يفارقها، ويكون معنى قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} أي: لا تستبقوهن، وقالوا في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92]، أي: ولا خطأ، وذلك بتعاطي الأسباب الموجبة للتساهل حتى يحصل القتل.
وهذه اللغة استشهد بها الإمام ابن قدامة رحمة الله في هذه المسألة وفي مسألة بيع الكلب المعلم للصيد، في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد؛ لأن العرب كانت مشهورة بالصيد، فخاطب البيئة التي نزل فيها القرآن بما ألفت، فقوله: (إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد، فإذا كان كلب الصيد -للحاجة- لا يجوز فمن باب أولى تحريمه لغير الحاجة؛ لأنه قد يظن شخص أن الإذن به للصيد يبيح ويحل بيعه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد، فدل على أنه لا يجوز بيع الكلاب وشراؤها، ولو كان مأذوناً باتخاذها، فالعطف هنا للمأذون، واستشهد الإمام ابن قدامة بقول الشاعر: وكل أخٍ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان أي: والفرقدان، فهذا عطف موجب للتشريك في الحكم، وما ذكرناه ذكره بعض أئمة التفسير في الآية الكريمة.
وقيل في معناها -على وجه-: أي: عفوت فيما وقع منكم فيما قد سلف، فاستأنفوا الحكم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أسلمت على ما أسلفت من خير) وكما قال الله تعالى: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنه} [المائدة:95]، فيكون من باب التنبيه على أن النفوس تتحرج، حتى إن العرب في الجاهلية كانوا إذا توفي الرجل وخاف الابن على زوجة أبيه يرمي ثوباً عليها حتى لا يتزوجها غيره، ومعنى ذلك: أنه يريد أن ينكحها، فهذا من عادات الجاهلية، فيرمي ثوبه عليها، فتعلم أنه يريد نكاحها، فإذا نكحها مقتته العرب، وكانوا يمقتون هذا مع أنهم كانوا يفعلونه، إلا أنهم كانوا ينظرون إليه نظرة مستبشعة، وكما قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22]، أي: أن نكاح زوجة الأب ممقوت، حتى في أعرافهم الجاهلية.
وعلى كل حال: الآية تدل على أحد أمرين: إما عطف موجب للتشريك في الحكم، كما ذكرنا، فلا إشكال، فيكون ما يستفاد منها: أنه لا تبقوا النكاح الذي كان في الجاهلية، ويجب أن تفارقوهن، فالآية الكريمة جمعت بين تحريم نكاح زوجة الأب ابتداء واستدامة؛ فابتداءً لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء:22]، واستدامة لقوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] أي: لا تبقوهن ولا تستديموا نكاحهن.
وأما الاحتمال الثاني: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} المراد به: استأنفوا الحكم، فما كان مما قد سلف فإن الله قد عفا عنه؛ لأن الله لم ينزل فيه شرعاً؛ ولذلك أعذر فيه سبحانه وتعالى، وأسقط المؤاخذة.
والله تعالى أعلم.(332/15)
الفرق بين العبد المدبَّر وأم الولد في الإجزاء في كفارة الظهار
السؤال
في كفارة الظهار في الرقبة، يجزئ إخراج المدبَّر ولا تجزئ أم الولد، فما الفرق بينهما مع أن كل منهما يعتق بموت السيد؟
الجواب
أم الولد عتقها لا إشكال فيه، لكن المدبر فيه خلاف وذكرنا هذا في مسائل التدبير أنه من حق السيد المدبِّر أن يرجع عن عتق المدبَّر، وبناء على ذلك: صار المدبَّر أضعف حالاً من أم الولد، ومن هنا يجوز التفريق، فإذا كان أحدهما أقوى من الآخر، فلا يمكن أن يسوى بينهما؛ فالمدبَّر يمكن أن يُرجع عن تدبيره؛ لأن المدبَّر هو أن يعلق عتق عبده على موته، فيقولون: عتق عن دبر، ودبر الشيء: آخره، فكأنه إذا أدبر ومات عتق عليه عبده، فقيل له: المدبَّر؛ أي: الذي يعتق بعد وفاة سيده، وفي بعض الأحيان يقول: إذا مت فاعتقوا عبدي فلان، ثم يرجع عن هذا التدبير، قالوا: لأنه مثل الهبة، والهبة لا تملك إلا بالقبض، ولا تثبت إلا بعد ثبوت حكمها من حيث القبض، وهنا ما حصل الموت، فمن حقه أن يرجع، وعلى هذا قالوا: إنه يجوز، وحملوا عليه عتق الرجل الذي أوصى أن يعتق عبيده، وكان عليه دين فرد النبي صلى الله عليه وسلم وصيته، وهذه وصية عن دبر، أي: أوصى بعتق عبيده بعد موته، فهو كالتدبير، وهذا أصل لمن يقول بجواز الرجوع عن التدبير.
وعلى كل حال: الفرق بين المدبَّر وأم الولد واضح، وبناء على ذلك لا يرد الاعتراض؛ لأن الحكم يكون مساوياً إذا كانا في منزلة واحدة ودرجة واحدة من القوة.
والله تعالى أعلم.(332/16)
الجمع بين حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، وحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)
السؤال
كيف يمكن الجمع بين حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، وحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).
الجواب
لا تعارض بين الحديثين، والحمد لله؛ كلاهما خرج من مشكاة واحدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، على رواية الرفع، المراد به: أن الإنسان إذا ألم بمعصية ثم ستره الله بستره، وذهب وتكلم جهاراً بما ألمَّ به، فقد هتك ستر الله، وهذا يقع من بعض أهل الضلال، والفسوق والفجور، يفعلون المعاصي، ثم يأتي إلى صديقه ويقول: فعلت وفعلت وحدث وحصل، فيتفاخر ويتباهى.
فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- سلب الله منه العافية؛ لأن من العافية أن يصرف الله عن عبده الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فإذا أذنب وألَمَّ بخطيئة وستر الله عليه؛ عوفي في علانيته.
أما إذا أصبح يهتك ستر الله، ويأتي يفاخر ويباهي بذنبه ويقول: فعلت وفعلت، فهذا عافاه الله علانية فلم يرضَ عافية الله؛ فجمع بين بلاء السر وبلاء الظاهر والعلانية.
أما بالنسبة لحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).
فدل الحديث الأول على أن من ستر فهو معافى، فكيف يجمع بينه وبين هذا الحديث فيمن فعل المعصية في الخلوة؟ الجواب: أنه في حديث ثوبان رضي الله عنه: (أعرف أقواماً من أمتي يأتون بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباءً منثوراً، قالوا: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا، لئلا نكون منهم ونحن لا ندري، قال: أما إنهم منكم يصلون كما تصلون، ويأخذون من الليل كما تأخذون، إلا أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) أي: أن عندهم استهتاراً واستخفافاً بالله عز وجل، فهناك فرق بين المعصية التي تأتي مع الانكسار، والمعصية التي تأتي بغير انكسار، بين شخص يعصي الله في ستر، وبين شخص عنده جرأة على الله عز وجل، فصارت حسناته في العلانية أشبه بالرياء وإن كانت أمثال الجبال، فإذا كان بين الصالحين أَحْسَنَ أيما إحسانٍ؛ لأنه يرجو الناس ولا يرجو الله، فيأتي بحسنات كأمثال الجبال، فظاهرها حسنات، (لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) فهم في السر لا يرجون لله وقاراً، ولا يخافون من الله سبحانه وتعالى، بخلاف من يفعل المعصية في السر وقلبه منكسر، ويكره هذه المعصية، ويمقتها ويرزقه الله الندم، فالشخص الذي يفعل المعصية في السر، وعنده الندم والحرقة ويتألم، فهذا ليس ممن ينتهك محارم الله عز وجل؛ لأنه -في الأصل- معظم لشعائر الله، لكن غلبته شهوته فينكسر لها، أما الآخر فيتسم بالوقاحة والجرأة على الله؛ لأن الشرع لا يتحدث عن شخص أو شخصين، ولا يتحدث عن نص محدد، إنما يعطي الأوصاف كاملة.
من الناس من إذا خلا بالمعصية خلا بها جريئاً على الله، ومنهم من يخلو بالمعصية وهو تحت قهر الشهوة وسلطان الشهوة، ولو أنه أمعن النظر وتريث، ربما غلب إيمانُه شهوته وحال بينه وبين المعصية، لكن الشهوة أعمته، والشهوة قد تعمي وتصم، فلا يسمع نصيحة ولا يرعوي، فيهجم على المعصية فيستزله الشيطان، قال تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155]، فإذا حصل الاستزلال من الشيطان، فزلت قدم العبد، لكن في قرارة قلبه الاعتراف بالمعصية، والله يعلم أنه لما وقع في المعصية أنه نادم، وأنه كاره لها، حتى إن بعضهم يفعل المعصية وهو في قرارة قلبه يتمنى أنه مات قبل أن يفعلها، فهذا معظم لله عز وجل، ولكنه لم يرزق من الإيمان ما يحول بينه وبين المعصية، وقد يكون سبب ابتلاء الله له أنه عير أحداً أو أنه عق والداً أو قطع رحمه، فحجب الله عنه رحمته، أو آذى عالماً أو وقع في أذية ولي من أولياء الله؛ فآذنه الله بحرب، فأصبح حاله حال المخذول، مع أنه في قرارة قلبه لا يرضى بهذا الشيء، فيخذل عند التعرض للمعاصي.
ومحاربة الله للعبد على صفات، منها -والعياذ بالله- أن يأكل الربا فيأذن بحرب من الله عز وجل، فيأتي إلى المعاصي فيسلب التوفيق، ويأتي إلى المظالم فتجده في بعض الأحيان يقع في ظلم أخيه فيستغرب كيف وقع هذا؟! لأن الله خذله، ويكون الخذلان لأسباب: إما أنه عير مبتلى فعاقبه الله، أو أصابه غرور بطاعته فعاقبه الله ووكل إلى حوله، وأشياء أخرى كثيرة، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، فهذه الأمور لا ينظر الإنسان فيها إلى شخص معين، وإنما ينظر إلى أحوال الناس، فمن الناس من يكون عنده حسنات في الظاهر كأمثال الجبال، ولذلك تجد بعضهم إذا وقف مع الناس فهو ذلك الرجل اللين اللسان، الطيب الجنان، فإذا غاب عنهم حقد عليهم وسبهم وشتمهم، وربما يجلس في مجالس الخير والذكر، وكأنه واحد من أصحابهم، فإذا غاب عنهم أخذ يغتابهم ويذمهم ويلومهم، ولا يعظم الله ولا يرعوي عن حرمات المسلمين، فعنده جرأة -والعياذ بالله- على معصية الله، ولكن إذا وقع العبد في معصية وهو في قرارة قلبه يكره أن يقع في هذا الشيء ولو أنه أُعطي التوفيق من الله تعالى بتعاطي الأسباب لما ابتلي بهذا، وإذا وقع في الذنب صحبه الندم والألم، فهذا ممن رجا رحمة الله عز وجل، ومن هذا الذي رجا رحمة الله وخيبه الله؟ وكيف يكون العبد تائباً إلا من ذنب? فهناك مراتب وأحوال ينبغي مراعاتها، ومنها: أنه لا ينبغي أن نأتي ونضع منزلة المحسن للمسيء، ومنزلة المسيء -الذي هو بالغ الإساءة- للمحسن، والمسيء ظاهراً وباطناً ليس كمن يسيء ظاهراً لا باطناً، فإذا جئت تنظر إلى معصية السر، فالذي يعصي في السر على مراتب: منهم من يعصي مع وجود الاستخفاف، فبعض العُصاة تجده لما يأتي إلى معصية لا يراه فيها أحد يذهب الزاجر عنه، ويمارسها بكل تهكم وبكل وقاحة، وبكل سخرية ويقول كلمات، ويفعل أفعالاً، ولربما نصحه الناصح، فيرد عليه بكلمات كلها وقاحة، وإذا به يستخف بعظمة الله عز وجل ودينه وشرعه، لكنه إذا خرج إلى الظاهر صلى وصام، وإذا خلا بالمعصية لا يرجو لله وقاراً -والعياذ بالله- فليس هذا مثل من يضعف أمام شهوة أو يفتن بفتنةٍ يراها ويحس أن فيها بلاء وشقاء، ويقدم عليها، وقلبه يتمعر من داخله ويتألم من قرارة قلبه، ثم إذا أصاب المعصية ندم، ولذلك الشيطان تجده يلبس على بعض الأخيار، فتجد بعض الأخيار -وهو نادر- مبتلى بالعادة السرية، فيأتيه الشيطان ويقول له: أنت ممن يصدق عليهم: (إذا خلو بمحارم الله انتهكوها)، فأنت منافق.
أبداً، هذا ليس بصحيح، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يفعل هذه المعاصي في السر، وعليه أن يتقي الله عز وجل في السر، حتى يتبوأ الدرجات العلى في الأولى والآخرة، لكن {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
فالله لا يظلم العباد، ولا ينزل عبداً جريئاً على حدود الله ومحارمه منزلة عبد يخاف الله ويرجو رحمته، ولذلك جاء في الأثر أن الله يوقف العالم بين يديه، أو يوقف الرجل الصالح بين يديه، فيقول: (عبدي! فعلت وفعلت حتى إذا رأى أنه هالك لا محالة قال: عبدي! قد كنت ترجو رحمتي؛ قد غفرت لك)، أي: مع كل هذه الذنوب ومع هذه الإساءة ترجو رحمتي، وقد علمت منك أنك كنت مشفقاً على نفسك وتخاف الله عز وجل، فإني لا أخيبك، وهذا شأنه وهو الكريم سبحانه وتعالى، وهو الذي يبتدئ بالإحسان ويتفضل بالنعم، ولا يستحق أحد ذلك؛ لأنه كله فضل الله وكرمه، لا منتهى لكرمه ولا منتهى لجوده، والحمد لله على حلمه، والحمد لله على كرمه وجوده وإحسانه ورحمته، وسع العباد جوداً ورحمة وإحساناً وبراً، فهذا الحديث ليس على إطلاقه، وإنما المراد به من كانت عنده الجرأة -والعياذ بالله- والاستخفاف بحدود الله، ونسأل الله بعزته وجلاله كما أنعم علينا بنعمة الإسلام وتوحيده والإخلاص لوجهه، والخوف منه سبحانه، أن لا يسلبنا هذه النعمة، وأن لا ينقصنا منها، اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا بطاعتك، ولا تهنا بمعصيتك، وأنت أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.(332/17)
حكم أمر الرجل لزوجته بالإفطار في صيام القضاء
السؤال
هل يجوز للرجل أن يأمر زوجته أن تفطر وهي صائمة قضاء ما أفطرته في رمضان؟
الجواب
يجوز للرجل أن يأمر زوجته أن تؤخر قضاء رمضان؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بينت في حديثها في الصحيح، أنها كانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فدل على أن القضاء موسع، فإذا أرادت أن تصوم في محرم، فمن حقه أن يقول: أخري الصيام إلى شعبان، لكن إذا صامت ودخلت في الصوم، فليس من حقه أن يأمرها بالفطر؛ لأنها إذا صامت فإنها مأمورة بالإتمام وتلزم بإتمام الصوم، ولا يجوز له أن يأمرها بالفطر؛ فالقضاء يحكي الأداء ويأخذ حكمه، فلا سبيل له لمنعها، والدليل على أنها لا تفطر في الفريضة قوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه) فدل على أن المفترض ليس أميراً لنفسه، وبناء على ذلك: لا تفطر لأمر الزوج إذا كانت في صيام الفريضة، أو صوم قضاء إذا دخلت فيه، أما أن يؤخرها ويقال لها: أخري القضاء، فذلك له، لأن القضاء موسع، والله تعالى أعلم.(332/18)
حكم من أفطر قبل المغرب يظن أن الشمس قد غربت
السؤال
ما حكم من أفطر في رمضان قبل المغرب يظن أن الشمس غربت؟
الجواب
من أفطر قبل الغروب ظناً منه أن الشمس قد غربت سقط عنه الإثم ولزمه القضاء، لأن الشرع ألزمه بصوم يومه كاملاً، فإذا أفطر شيئاً من اليوم، فإنه يعذر لمكان الخطأ، ويلزم بالإتمام والقضاء، وقياس الخطأ على الأكل والشرب نسياناً قياس على الخاص، لأن ما جاء على خلاف الأصل فغيره عليه لا يقاس، والشرع استثنى الناسي، والنسيان سهو وغفلة من الشخص، وأما المخطئ فلديه نوع من التقصير؛ لأنه لو بذل الأسباب وتحرى لانكشف له الأمر جلياً، وعليه: يفرق بين المخطئ والناسي من هذا الوجه؛ لأن العذر في الناسي أقوى منه في المخطئ، فالمخطئ لو تحرى وبذل أسباب التحري لأمكن عدم الوقوع في الخطأ، ومثال آخر للخطأ: رجل استيقظ من الليل وظن أنه لم يؤذن للفجر بعد، ثم أكل وشرب، وتبين أنه أكل وشرب بعد الفجر، فهذا لو تحرى وبذل الأسباب لانكشف له الأمر جلياً، ولكن الناسي قد ذهل وزال عن عقله ذلك الشعور وليس عنده أي سبب يمكن أن يتعاطاه تلافياً للقصور والإخلال بحق الله عز وجل، ومن هنا فرق جمهور العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة وقالوا: إنه يلزمه القضاء، وقال عروة رحمه الله كما في صحيح البخاري حينما قيل لهم: هل صليتم ذلك اليوم؟ قالوا: وهل في القضاء شك، فالأصل يقتضي أنهم يصومون اليوم كاملاً، وإذا حصل الخطأ، فإنه يسقط عنهم الإثم لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5].
فأسقط الله الإثم، ولكن يلزمه ضمان، وكذلك في حقوق العباد، كما لو قتل خطأً أسقطنا عنه الإثم، لكن أوجبنا عليه الضمان، وهنا نسقط عنه في حق الله الإثم ونوجب عليه ضمان الصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فدين الله أحق أن يقضى) فحق الله أحق وأولى، والله تعالى أعلم.(332/19)
حكم صلاة ركعتي العشاء وراء صلاة التراويح
السؤال
هل يجوز أن أنوي في الركعتين الأوليين من صلاة التراويح أنها سنة العشاء؟
الجواب
نعم؛ يجوز ذلك، إذا نوى بها سنة العشاء فإنه يتحقق مقصود الشرع، وحينئذ تجزئه عن راتبة العشاء، وإذا أخر راتبة العشاء إلى ما بعد وتره مع الإمام فلا بأس ولا حرج، ولكن الأفضل أن يصلي الراتبة بعد صلاة العشاء، ثم يقوم ويصلي القيام كاملاً تاماً مع الإمام، ويوتر معه، والله تعالى أعلم.(332/20)
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك)
السؤال
ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك) وكيف يكون ذلك؟
الجواب
هذا الحديث حديث عظيم، وتفسير هذه الجملة يحتاج إلى مجالس، ولكن جماعها كله في تقوى الله عز وجل، فليس هناك حافظ حفظ حدود الله عز وجل ومحارمه مثل المتقين، أما إذا أراد الله عز وجل أن يتم النعمة على الحافظين وأن يعلي لهم الدرجة، وأن يعظم لهم الأجر والمثوبة، فإنه ينقلهم إلى درجات الإحسان، فأعظم ما يكون الحفظ أن لا يرى الله عبده حيث نهاه، وأن لا يفقده حيث يحب أن يراه؛ لأن الحفظ استخدم في الشريعة في الأوامر وفي النواهي، {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة:112]، هذا بالنسبة للنواهي، {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34]، فحفظ أوامر الله عز وجل أن تأتي بها على أتم الوجوه وأكملها، ولا ترضى لنفسك أبداً أن تكون في الدون، مثلاً: الصلاة؛ فبدل أن يأتي الإنسان أثناء الصلاة، يأتي على أتم الوجوه وأكملها قبل الأذان، وبدل أن يصلي في الصف الثاني فحفظه على أتم الوجوه وأكملها إذا كان في الصف الأول، وإذا صلى الصلاة بدل أن يخشع في ثلثها أو ربعها أو نصفها، خشع فيها كاملة.
وبدل أن تبكي عينه عند سماع الآيات، بكى عند تسبيح الله أيضاً.
فإذا أراد الله أن يزيده من فضله، بكى حتى في سجوده وهو يدعو، فإذا أراد الله أن يزيده رزقه خشوع القلب والصلاة على أتم الوجوه وأكملها، حتى إنه منذ أن يكبر إلى أن يسلم وهو في ذكر لله عز وجل، وحضور القلب على أتم ما يكون ذكره، وهذه من مراتب الإحسان العلى، فتجده يكبر التكبيرة وهو يستشعر معنى قول: (الله أكبر)، إما لكونه مظلوماً مضطهداً، أو يكون غنياً قوياً، يظن أن (الله أكبر) من كل شيء، فإذا قال: (الله أكبر) وهو مظلوم تبددت جميع هموم الأرض وزالت، لأنه يعلم أن الله أكبر من كل شيء، لأن الذي يشوش في الصلاة هموم الإنسان وغمومه، إما سراء أو ضراء، فإذا قال: (الله أكبر) وهو في سراء علم كيف أن الله أغناه وهو فقير، وأعزه وهو ذليل، وأكرمه وهو مهين، ورفعه وهو وضيع، فيقول: (الله أكبر) من قرارة قلبه ومن صميم فؤاده، يعرف ما معنى هذه الكلمة، ولذا يقولها بصدق ويقين وإخلاص وحضور قلب، فإذا قال دعاء الاستفتاح، كل كلمة يستشعر معناها، فإن أراد أن يسبح ويثني على الله عز وجل، عرف كيف يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) وكذلك أيضاً: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)، تذكر أنه مذنب وأنه فار إلى الله عز وجل، كذلك أيضاً: إذا قرأ القرآن تدبر كل كلمة وكل حرف من كتاب الله عز وجل، ولا يزال في هذه النعمة حتى إن العبد يستفتح بكتاب الله عز وجل، ويتمنى أنه ما انتهى من التلاوة، وهذه المراتب يتفضل الله بها على عباده، فمستقل ومستكثر، ولذلك تجد بعض الأخيار والصالحين في قيام الليل، عندما يقوم الليل يبتدئ القيام وهو يريد أن يقرأ الجزء فإذا به يمضي إلى الجزئين والثلاثة إلى الأربعة، ووالله! ربما ختم العشرة -ثلث القرآن- ولربما وصل إلى نصف القرآن وهو لا يزال في الركعة الواحدة، ما وسعه الوقت لكتاب الله عز وجل، من لذة ما هو فيه، لكن سبحان من يتفضل على عباده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فهذا الشعور مرتبة عالية في الحفظ، حفظ حدود الله عز وجل، وإذا أراد أن يصلي وأراد أن يكون من الحافظين تخيل أنها آخر صلاة من عمره، وأحياناً ينتقل -متفكراً- إلى الآخرة فيتخيل أن الله سيحاسبه على كل كلمة وعلى كل حرف، وهو يعرف أين يقف؟ ومن يناجي؟ ومن يسأل؟ فإذا تليت عليه آيات الله وكان مأموماً تدبر كل كلمة وكل حرف، لا يؤثر عليه الإمام ولا يؤثر عليه القارئ، وتراه غير محصور في القراءة والقراء، ولا بمسجد دون مسجد، أبداً؛ لأنه مع الله، حافظ لحدود الله، أينما كان، وحيثما كان، هذا بالنسبة للحقوق والواجبات في حق الله، وفي الحقوق والواجبات التي أمر الله فيما بيننا، فتجده في حق إخوانه المسلمين صالحين أو غيرهم، يحفظ حق المسلم على أتم الوجوه وأكملها، فهو يعلم أن الله عز وجل أمره أن يعطي لأخيه حقاً فيعطيه على أتم الوجوه وأكملها دون مِنَّة، ويعلم أن هذا أخ له في الإسلام، فإذا لقيه لقيه بقلب صافٍ من الغل والحقد والشحناء والاحتقار، ولا يمكن أن يدخل في قرارة قلبه احتقاراً لمسلم للونه، ولا لمنصبه ولا لجاهه أبداً؛ لأن الله أمره أن يحفظ هذا القلب، لئلا يدخل فيه شيء من عمل الشيطان أو كيده، فالجاهلية لا تجد منفذاً إلى قلبه، هذا بالنسبة لما يكنه لأخيه المسلم في باطنه، وأما في ظاهره فالكلام الطيب والألفة، فتجده حينما ينعم الله عليه ويكون من الحافظين فلا تجده يعامل صغيراً أو كبيراً إلا وخرج من عنده وهو يشكره على ما يكون منه من حسن عمل، ولن تستطيع أن ترى أحداً يحفظ حدود الله في حقوق إخوانه المسلمين إلا مع الضعفاء.
-أما الأقوياء فلسنا بصددهم- إذا أرادت أن تزن الرجل حقيقة فانظر إليه مع الغلمان وانظر إليه مع الخدم، وانظر إليه مع من هم تحته، ممن جعل الله عز وجل فضله عليهم، فمثلاً: إذا كان عنده خادم، أو كانت المرأة عندها خادمة، فتجدها تتقي الله في هذه الخادمة، وتعطيها راتبها في وقته، ولا تؤخر راتبها ولا يمكن أبداً أن يحصل لهذه الخادمة مشكلة أو تضطر إلى معونة أو مساعدة إلا ساعدتها، حتى إن بعض الأخيار والصالحين -كما كان يذكر لنا بعض مشايخنا- يقول: والله! إنه ليأتيني الرجل الضعيف من ضعفاء المسلمين فيجعل الشيطان بيني وبينه من الحواجز والحوائل العديدة التي لا يعلمها إلا الله، كيف تعطي هذا وليس من جماعتك؟ ولا من قرابتك، ومع ذلك يكذب ويغش؟! فيأتيه الشيطان من كل حدب وصوب، قال: أتجاهل كل هذا وأتصور ما لو جاءني أعز وأقوى وأحب شخص، ماذا أفعل معه؟! فأرفع هذا الوضيع الضعيف، وأضعه منزلة ذلك الشخص المحبوب لدي، فأجلس أنصت إليه كأني أنصت لمن له عليَّ حق، أو أخاف منه أو أرجو منه نِعمِة، فإذا بالأمور تختلف تماماً، وعندها يشتري رحمة الله بتجاوزه وإرغام نفسه فيما يحبه الله، وصدق الله عز وجل في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]، يشري نفسه أي: يبيع نفسه، فهذا الذي حفظ حق الله عز وجل في عباده المؤمنين لا يمكن أن يكون إلا في مثل هذه المواقف، ولا شك أنه يتبع ذلك حقوق؛ فلا يرضى بغيبة ولا يرضى بنميمة، ولا يرضى بسب مسلم ولا بشتمه، ولا بأخذ حقه، وأما بالنسبة لمراعاة وحفظ حقوق الله في المحارم، فإنه يكون أعف الناس لساناً وأتقاهم جناناً، وأصونهم جوارح وأركاناً، لا يمكن أبداً أن يقع في حرمة من حرمات الله، كلما أراد أن يتكلم تذكر أن الله سائله عن هذا الكلام، وكلما أراد أن يعمل شيئاً تذكر أن الله سيسأله عن هذا العمل، ومن الأمور التي تساعد على ذلك: أن يتصور الإنسان دائماً أنه في هذه اللحظة في لحده وقبره، ما الذي يتمناه؟ فإذا أردت أن تقدم على أي عمل، وأردت مرتبة الإحسان، فلتتصور رحمك الله أنك الآن ممدد في قبرك، فكيف تحتاج في قبرك إلى الحسد؟! حتى إن هذا الشعور إذا صحبك تتواضع للناس وتألف الناس، وتوطئ لهم الكنف، وتبذل لهم كل ما تستطيع، فإذا أراد الله أن يتم النعمة على العبد رزقه الإحسان في العمل وأتمها عليه بالإخلاص، فأصبح لا يتحدث ولا يتكلم بهذه النعمة ولا يباهي بها، بل يتمنى أنها سر بينه وبين الله، فإذا أراد الله عز وجل أن يزيده من فضله أخذه الشعور الذي يشعر معه أنه إذا أحسن إلى الناس أن الناس هم أصحاب الفضل عليه وليس هو صاحب الفضل عليهم، ولذلك تجد من الناس من يعطي ويحسن ولكن تذهب حسناته بالمن، ومنهم من يعطي ويحسن ومع ذلك يحس أن الذي جاءه بمسألته هو صاحب الفضل عليه، قال ابن عباس رضي الله عنه: (ثلاثة أرى أن لهم حقاً عليّ: رجل نزلت به نازلة فجاءني من بين الناس).
انظروا كيف هذا الكرم.
وكان ابن عباس من أكرم الناس، وليس بغريب على هذا العبد الصالح الذي تربى على يدي النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول: (إذا جاءني الرجل في حاجة عددته صاحب الفضل).
وهكذا الخطيب إذا خطب وأنصت له الناس، عد أن الناس هم أصحاب الفضل، وكذلك العالم إذا درس وأفتى وعلم ووجه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من الحافظين لحدوده وأن يحفظنا بخيره، وأن يتم علينا نعمته، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة السعداء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(332/21)
شرح زاد المستقنع - كتاب الرضاع [2]
الرضاع نوع من أنواع العلاقات التي أثبتها الشرع، ورتب عليه أحكاماً متعلقة بحرمة النكاح والمحرمية والنظر والخلوة إلخ.
وهذه الأحكام والآثار منصوص عليها في الكتاب والسنة.(333/1)
ما يترتب على الرضاع
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيلهم ونهجهم إلى يوم الدين؛ أما بعد: فيقول المصنف-رحمه الله تعالى-: [فمتى أرضعت امرأة طفلاً صار ولدها في النكاح، والنظر، والخلوة، والمحرمية] شرع المصنف-رحمه الله- بهذه الجملة في بيان الأحكام المترتبة على الرضاع، وهذا ما يسميه العلماء بآثار الرضاع، فبعد أن بين-رحمه الله- حقيقة الرضاع، ومتى يكون رضاعاً مؤثراً، وماذا ينبغي حتى يحكم بتأثيره، شرع في بيان الآثار المترتبة على الرضاع، وهذا من ترتيب الأفكار، وتسلسلها، لأن الآثار يتكلم عليها بعد إثبات الشيء.
فبين-رحمه الله- أنه متى أرضعت امرأة طفلاً، أي: وقعت الرضاعة الشرعية على الصفة المعتبرة، فكانت في الحولين، وكانت خمس رضعات معلومات مشبعات، فإنه يصير ولداً لها في النكاح.(333/2)
تحريم النكاح
وهناك أحكام تتعلق بالرضاع؛ منها ما يتعلق بالنكاح، ومنها ما يتعلق بالمحرمية، ففي النكاح لا يجوز له أن ينكحها؛ لأنها أمه من الرضاع، والله تعالى ذكر في المحرمات الأم من الرضاع فقال سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23].
فإذا أرضعت امرأة طفلاً صار ولداً لها، وحينئذ لا يجوز للولد أن ينكح والدته، والله تعالى جعل الرضيع فرعا عمن أرضعه فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] فمعنى ذلك أن الرضيع ولد للمرضعة.(333/3)
جواز النظر
قال رحمه الله: (صار ولدها في النكاح والنظر) أي: فيجوز له أن ينظر إليها كما ينظر المحرم لمحرمه، فليست بأجنبية عنه، وهذا الفرع الثاني، فالأول يتعلق بالنكاح، والثاني يتعلق بالنظر، فيجوز له أن ينظر إليها.(333/4)
جواز الخلوة
قوله: (والخلوة) فيجوز له أن يختلي بها لأنها من محارمه، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).
فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز لأي رجل أن يخلو بامرأة أجنبية لا تحل له، وأنه إذا فعل ذلك كان الشيطان ثالثهما، وهذا يدل على أنها الفتنة والبلاء العظيم والشر المستطير، فإنه إذا كان الشيطان ثالثاً لهما؛ سول لكل منهما، وأدخل عليهما البلاء ولكن إذا حكم بالرضاع حل له أن يختلي بها، فهي أمه من الرضاع، أو أخته من الرضاع، أو عمته من الرضاع، أو خالته من الرضاع، كما يختلي بأمه من النسب، وأخته من النسب، وعمته من النسب، وخالته من النسب.(333/5)
ثبوت المحرمية
قوله: (والمحرمية) فيجوز له أن يلمسها، ويجوز له أن يصافحها، فإذا مد يده إليها ردت عليه وصافحته، لأنه لا يجوز له أن يصافح امرأة ليست من محارمه، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لا أصافح النساء)، لما قالت له هند: امدد يدك نبايعك يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: (إني لا أصافح النساء -يعني: الأجنبيات- إنما قولي لواحدة منكن كقولي لسائركن).
وقالت عائشة رضي الله عنها -كما في الحديث الصحيح-: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ما مست يده يد امرأة قط) أي: أجنبية، فما مس امرأة أجنبية صلوات الله وسلامه عليه.
وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط خير له من أن يمس امرأة لا تحل له).
كأن يصافحها، أو يلمسها ولو بدون شهوة، إلا إذا كان لضرورة؛ كالطبيب، أو إنسان يريد أن ينقذ امرأة من مهلكة، أو غريقة أو نحو ذلك، فاضطر إلى لمسها لأمور مستثناة بقدر الضرورة والحاجة، كما تقدم معنا في بعض المسائل المتعلقة بالرخص.(333/6)
ثبوت التحريم في الرضاع كما هو في النسب
قال رحمه الله: [وولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطء] من نسب لبنها إليه هو زوجها، وعليه: فإنه يصبح والداً من الرضاعة، للراضع لبن امرأته الناتج عن الوطء والحمل منه، وبنوه يكونون إخوة للمرتضع.
فلو فرضنا أنه ارتضع من خديجة، وخديجة زوج لعبد الله، وحملت منه، فأنجبت محمداً، ثم بعد إنجابه ثاب اللبن، فجاء طفل رضيع وشرب من هذا اللبن، فهو ابن لهذا الرجل، ولو أن الرضيع كان أنثى-بنتاً- فإنها تصبح محرماً لهذا الرجل، لأنه أبٌ لها من الرضاع، وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، أن أفلح أخي أبي القعيس رضي الله عنه وأرضاه، استأذن عليها، وكانت عائشة رضي الله عنها قد رضعت من امرأة أبي القعيس، فاستأذن أخوه أفلح، فلم تأذن له عائشة، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يارسول الله! إنما أرضعتني امرأته -ما أرضعني أبو القعيس - فقال عليه الصلاة والسلام: (ائذني له تربت يداك! إنه عمك من الرضاعة).
وهذا ما يسميه العلماء بلبن الفحل، أي: أن الرجل له تأثير في الرضاع، كما أن للمرأة تأثيراً، وهذا راجع إلى أن أصل المسألة هو: أن اللبن يثوب من ماء الرجل، ومن ماء المرأة.
فكما أنه في النسب يكون هناك اشتراك بين الرجل وبين المرأة، فكذلك أيضاً في الرضاع، يكون هناك اشتراك بين الرجل وبين المرأة.
فالرجل أب، والمرأة أم من الرضاعة.
ويسري ذلك إلى الأقرباء، ولذلك قال خطيب بني هوازن للنبي صلى الله عليه وسلم: يارسول الله! إن اللاتي في الحضار ما هن إلا عماتك وخالاتك من الرضاعة، فأثبت لبن الفحل، وأسراه كسريان النسب، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، ولأنه لو أخذ بالنسب لكان الرجل الذي وطئ أباً، والابن ابنه، والفروع التي شاركت هذا الأب في أصليه -كالأعمام والعمات- محارم، كذلك أيضاً في الرضاع محارم، فجميع من ينجبه هذا الرجل الذي ارتضع الرضيع لبنه يعتبر أخاً لهذا الرضيع.
ثم ننظر؛ إن كان هذا الذي أنجبه أنجبه من نفس المرأة التي ارتضع منها الرضيع؛ فهو أخ شقيق، وإن كان هذا الرجل له زوجة ثانية، فأنجبت أولاداً فهم أخوة من الرضاع لأب، ولو أن هذه المرأة تزوجت رجلاً قبل أو بعد الرضاعة، وأنجبت قبل أو بعد الرضاعة، فهم إخوة من الرضاع لأم.
فجرى في الرضاع ما يجري في النسب؛ فهناك أخ من الرضاع شقيق، وهناك أخ من الرضاع لأب، وهناك أخ من الرضاع لأم، والحكم كما هو سارٍ في حق المرأة، فهو سارٍ في حق الرجل، لأن تأثير اللبن مشترك بين الرجل وبين المرأة.(333/7)
من يستثنى من ثبوت أحكام الرضاع من الأقارب
قال رحمه الله: [ومحارمه محارمها، ومحارمها محارمه، دون أبويه وأصولهما، وفروعهما]: (ومحارمه محارمها) يعني: محارم المرأة، فهذا الرضيع إذا ارتضع من المرأة، صار جميع ما تنجبه المرأة، وجميع المحارم المتعلقين بالمرأة في الأصل، يعتبرون قرابة له كالنسب.
مثلاً: إذا كان لها بنات فهن أخوات للمرتضع، وإذا كان لها ذكور فهم إخوة له.
والعكس؛ لو كان الرضيع أنثى، فإنه في هذه الحالة يعتبر الذكور إخوة ويكونون محارم لها، وكذلك أيضاً بالنسبة للإناث في حق الذكور، فالحكم جارٍ في الرضاع كما هو جارٍ في النسب، وبنى العلماء ذلك على قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
(ومحارمها محارمه): أي: أن المرأة أصولها أصول لهذا الرضيع، لأن أصول الأمهات أصول للفروع، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبيناها في موانع النكاح، وبينا أن الأصول إذا تعلق بها محارم، مثلما ذكرنا وقلنا: إن الرجل تحرم عليه أصول والديه مباشرة، وعمة أبيه وعمة أمه، فعمة الأب عمة لأولاده، وعمة الأم عمة لأولادها، وخالة الأب خالة لأولاده، وخالة الأم خالة لأولادها.
فلا يختص الحكم بنفس الأم، ولا يختص بنفس الأب، فالأصول يجري عليها التحريم كما يجري على الفروع، والفروع يجري عليها التحريم كما يجري على أصولها، ومثل ما ذكرنا في النسب نذكر أيضاً هنا في الرضاع.
لماذا؟ لأنه لما ارتضع صار فرعاً لهذه المرأة، وسرت عليه أحكامها، وكذلك الأب -لو كان الذي ارتضع ذكراً- جميع محارمه يعتبرون محارم لابنه من الرضاع كما أنهم محارم لابنه من النسب، فالأب بناته محارم، وأخواته محارم، لهذا الرضيع من حيث الأصل.
لكن هذه القاعدة -كما مر في الأصول- قد يستثنى منها، مثلاً: الربيبة محرم للأب، لكنها ليست محرماً للابن، وكذلك هي في الرضاع.
وبنت أخت الشخص أو بنت أخيه محرم له، وليست محرماً لابنه، وبناءً على ذلك -من حيث الأصل- فإنه يحكم بأن الرضاع يأخذ حكم النسب، وقصد المصنف من هذا أن يبين أن التحريم في الرضاع يجري فيه ما يجري من التحريم في النسب.
قوله: (دون أبويه): يعني بالنسبة لهذا الرضيع، فأبواه أجنبيان عن مرضعة ولدهما، وكذا أصول المرضع وزوجها وفروعهما، ولذلك الرضاع يختص بالرضيع نفسه، فإخوانه، وأخواته، وأبوه، وأمه -أصوله-؛ هؤلاء كلهم لا يجري عليهم الحكم، أما فروعه فإنهم يأخذون حكم أصلهم نسباً ورضاعاً، لأنه اغتذى بهذا اللبن، ويسري الحكم إلى فرعه كما سرى إليه هو، لكن بالنسبة لأصليه: الأب، والأم، فإنه لا يجري عليهما الحكم، فهم أجانب كما قدمنا.
فلو فرضنا أن محمداً ارتضع من خديجة فهو ولد لها، لكن أباه ليس بمحرم لها، وأبوه من الرضاعة ليس بمحرم لأمه من النسب، فهذا يختص به الرضيع دون أصليه.
قوله: (وأصولهما، وفروعهما) أي: أصول وفروع أبويه كالجدة، والجد، فهم أجانب بالنسبة للمرضعة وذويها.
فلو أن شخصاً جاء يريد أن يرتضع، فهو في الأصل أجنبي، وحينما جاء إلى الرضاع فهو أجنبي، ثم جاء وارتضع، فتعلق التحريم به، وبما يتفرع من هذا الجسم الذي اغتذى باللبن، وأصوله وحواشيه أجانب، فالأصل فيهم أنهم أجانب لا تتعلق بهم محرمية، فلذلك اختص التحريم به وفروعه هو فلا يُنظر إلى أصله، ولا إلى فروع أصله وحواشي الأصل، مثل: أخواته، وإخوانه، وأعمامه، وعماته، فيجوز لأخيه من الرضاع أن ينكح أخته من النسب، لأنه ليست هناك محرمية بينه وبينها، وليس هناك أمر يوجب تحريم نكاحها عليه.
قال رحمه الله: [فتباح المرضعة لأبي المرتضع]: لو أن أباه من الرضاعة توفي عن هذه الزوجة، وأراد أبوه من النسب أن يتزوجها فإنه يحل له أن يتزوجها، ولا بأس بذلك لانها أجنبية عنه، فالتحريم اختص بالذي ارتضع، أما أبوه فلم يرتضع، والمرأة المرضعة ليس بينها وبين أبي المرتضع أية علاقة محرمية، ويحل أيضاً حتى لأخي المرتضع أن يتزوج أمه من الرضاعة، لأنه أجنبي عنها، وهي أجنبية عنه، ومراد المصنف: أن يبين بهذا أن التحريم يختص بالمرتضع دون أصوله وحواشيه.
وتستطيع أن تفهم مسائل التحريم إذا نظرت إلى أن الأصل أن هؤلاء أجانب، وأن الرضيع أدخل على نفسه سبباً موجباً للتحريم، فإذا أدخل على نفسه سبباً موجباً للتحريم بقي ما عداه على الأصل، ثم تنظر إلى ما تفرع من هذا الرجل، لأن الذي تفرع منه آخذ حكم الأصل -حكمه هو- ولذلك اختص التحريم بالمرتضع -ذكراً كان أو أنثى- ولا يسري لأصله، لا للوالد، ولا للوالدة، ولا لأصول الأصول، ولا لفروع الأصول، لأنهم كلهم أجانب لا يتعلق بهم تحريم.
قال رحمه الله: [وأخيه من النسب] كذلك أخوه من النسب، لوأراد أن يتزوج أخت المرتضع من الرضاعة حل له ذلك؛ لأنه ليس بينهما علاقة محرمية.
مثلاً: محمد ارتضع، وأخوه خالد يريد أن يتزوج أخت المرتضع من الرضاعة، قلنا: يحل له ذلك، لأنه أجنبي، وليس بينه وبينها أي موجب للتحريم.
قال رحمه الله: [وأمه، وأخته من النسب لأبيه وأخيه]: أي: من الرضاع، فهذا جائز، والعكس كذلك، فأبوه من النسب يحل له أن ينكح أمه من الرضاع، والعكس جائز؛ فلأبيه من الرضاعة أن ينكح أمه من النسب؛ لأنها من حيث الأصل أجنبية، كذلك لو أراد أبوه من الرضاعة أن ينكح أخت المرتضع من النسب، فلا بأس، لأنها أجنبية، وليس هناك موجب للتحريم.(333/8)
حكم نكاح من أرضعتها من تحرم ابنتها
قال رحمه الله: [ومن حرمت عليه بنتها، فأرضعت طفلة، حرمتها عليه، وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجة] (ومن حرمت عليه بنتها) كالزوجة، إذا تزوج الإنسان امرأة حرمت عليه ابنتها، فلو أن هذه الزوجة أرضعت طفلة، عقد عليها هذا الرجل.
مثلاً: محمد عقد على طفلة، وأراد أن ينكحها، وعنده زوجة، فغارت الزوجة من هذه الطفلة، فأرضعتها فصارت ابنته من الرضاع، لأنها بنت لهذه الزوجة، فإذا أرضعتها؛ نقلتها من الحل إلى الحرمة، وأصبحت حراماً بالرضاع، وهي ابنته، ولا يحل له أن ينكح ابنته من الرضاع.
إذن: معنى ذلك أن الزوجة أفسدت النكاح، وإذا أفسدت النكاح تتحمل الآثار والمسئولية عن هذا الإفساد، وعلى ذلك ينفسخ عقد النكاح بهذه الطفلة.
وإذا انفسخ النكاح، يبقى السؤال عن المهر؛ -إذا كان قد عقد عليها وتم العقد صحيحاً- فإذا حصل الفسخ استحقت الطفلة نصف المهر، وإذا حصل الفسخ -على اعتبار أن رضاع الكبير يحرم- بعد الدخول، فهذه مسألة ثانية، لكن نحن نتكلم الآن عن مسألة الإرضاع قبل الدخول، فإذا أرضعت الطفلة، في هذه الحالة استحقت الطفلة نصف المهر؛ لأنه فسخ قبل الدخول، فمن الذي يكون مسئولاً عن هذا؟ المرضعة التي تسببت.
متى؟ حينما تأتي وترضع الطفلة، أو تغري الطفلة، أو ترغم الطفلة بالقوة، هذه كلها أحوال.
فالمؤلف ذكر الزوجة لأنها تحرم، فيكون قد ذكر موجب التحريم! لكن لو أن امرأة أخذت هذا الحليب محلوباً في كأس، وأخذته وأرضعته الصبية بالقوة، أو أن شخصاً هدد هذه الزوجة، وأكرهها بالقوة حتى أرضعت الطفلة، فهذه مسألة ثانية، لكن نحن نتكلم عما إذا جاء الإخلال من الزوجة -المرضعة- نفسها، فحينئذ تتحمل نصف المهر، لأنه مستحق إذا حصل الفسخ قبل الدخول.
(ومن حرمت عليه بنتها، فأرضعت طفلة، حرمتها عليه) (حرمتها عليه) إذا لم يكن عقد عليها، ولا يحل له الزواج بها، وهذا بالإجماع، لأنها ابنته من الرضاع، وبالإجماع لا يجوز أن ينكح ابنته من الرضاع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).(333/9)
يفسخ عقد النكاح إذا ثبت الرضاع المحرِّم
(وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجة) أي: إن كان قد عقد على طفلة -وهذا يجوز- مثال ذلك: لو قال شخص لآخر: زوجتك ابنتي، وهي طفلة، فقال الآخر: قبلت، وتم ذلك العقد بحضور شاهدين عدلين، كما ذكرنا في شروط صحة النكاح، صح النكاح وثبت، فتصبح زوجة له.(333/10)
حكم المهر في حال فسخ النكاح بإرضاع الزوجة لضرتها
قال رحمه الله: [وكل امرأة أفسدت نكاح نفسها برضاع قبل الدخول فلا مهر لها وكذا إن كانت طفلة فدبت فرضعت من نائمة] وهذا طبعاً يقع في صور منها: عقد رجل على طفلة، ثم إن الطفلة مشت بنفسها، فجاءت إلى ضرتها وهي نائمة، ورضعت منها خمس رضعات مشبعات، ما الحكم؟ صارت بنتاً لها، وهذا التحريم وقع بفعل الرضيع، والرضيعة قاصرة دون البلوغ، أما من حيث الإثم وعدمه فنشترط البلوغ، لكن في الأحكام الوضعية التي هي: الأسباب، الشروط، الموانع، هذه لا يلتفت فيها إلى التكليف، بل يلتفت فيها إلى وجود الشيء بغض النظر عن كون الإنسان بالغاً أو غير بالغ.
فهذه الطفلة إذا دبت، ورضعت هذا الحليب، فقد فعلت ذلك بنفسها، وأدخلت الفساد على نفسها، لذلك لو أن هذه الطفلة حصل منها أنها جاءت- كما سيأتينا في الجنايات- وبركت على أمها وقتلتها، فهذا القتل خطأ، لكنه يعتبر قتلاً، ولا نقول: إنها قاصرة، بل تأخذ حكم قتل الخطأ، لها وعليها.
والشاهد: أن هذه الطفلة إذا دبت، وشربت اللبن، ولا يوجد إغراء من الضرة ولا أعانت على ذلك، وإنما كانت نائمة، أو تظنها بنتاً لأختها -مثلاً- فما شعرت إلا وقد التقمت ثديها، فسكتت عنها، ثم تبين أنها ضرتها الصغيرة، فما الحكم؟ يفسخ النكاح، لكن الفساد لم يأت بفعل الزوجة الكبيرة، وإنما جاء بفعل الصبية، وحينئذ لا تلزم الزوجة بدفع نصف المهر الذي يكون للصبية في حال فسخ عقدها؛ لأن الصبية هي التي تسببت في فسخ النكاح وزواله، وحينئذ لا شيء لها، لأنها أفسدت على نفسها.
وهكذا لو أن امرأة قامت بإرضاع زوجته، فإنها في هذه الحالة تصبح أماً للزوجة، وأم الزوجة محرمة بالعقد على بنتها.
فالمرضعة أفسدت نكاح نفسها وفي هذه الحالة تتحمل مسئولية نفسها، ولا يكون لها استحقاق.
قال رحمه الله: [وبعد الدخول مهرها بحاله] بالنسبة للأصل، هذه المسألة فيها خلاف، هل يسقط المهر إذا تسببت المرأة في المحرمية بالرضاع أو لا يسقط؟ بعض العلماء يقولون: إذا تسببت يسقط مهرها، إذا كان قد دخل بها، وهذا يقع في حال اعتبار رضاع الكبير، ويقع أيضاً في إرضاع الصغير، لأنها إذا أرضعت الزوجة؛ صارت أماً للزوجة من الرضاعة، وأم الزوجة من الرضاعة حرام كما بينا أن المصاهرة يسري فيها ما يسري في النسب، وأن الرضاع يسري التحريم به في النسب، وفي المصاهرة، أي: في المحرمات من النسب، والمحرمات من المصاهرة، فأم الزوجة من الرضاع محرمة، وبنت الزوجة من الرضاع محرمة، وزوجة الابن من الرضاع محرمة، وزوجة الأب من الرضاع محرمة، مثل ما يقع في النسب، وبينا هذا، وبينا أنه محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.
وفي هذه الحالة إذا وقع التحريم على هذا الوجه، فإنه في هذه الحالة؛ اختلف العلماء؛ إذا كان قد دخل بهذه الزوجة التي تسببت في إفساد عقدها، هل المهر يسقط بناءً على أنها أفسدت العقد، وليس لها مهر؟ أم أننا نقول: إن المهر مستحق بالدخول، وقد دخل بها، واستمتع، ثم يفسخ النكاح بينهما، فهذا الإفساد وقع على النكاح، لكنه لا يوجب سقوط المهر؟ وجهان عند العلماء رحمهم الله، عند الإمام أحمد روايتان، والجماهير على أنه لا يسقط، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (ولها المهر بما استحل من فرجها).
وعنه: أنه يسقط؛ لأنها تسببت في ضياع حقها، وحينئذ لا يكون لها استحقاق المطالبة، وهو في الحقيقة من القوة بمكان، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والإمام ابن القيم هذه الرواية عن الإمام أحمد، ويقويها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم العلامة الإمام -رحمه الله برحمته الواسعة- ويميل إلى هذا القول ويقويه أن سقوطه أوجه من حيث القوة، ومن حيث المذهب.
قال رحمه الله: [وإن أفسده غيرها، فلها على الزوج نصف المسمى قبله] مثل ما ذكرنا، لو أن الغير تسبب في إفساد نكاح هذه الطفلة، كما لو أنه هددها فأرضعتها بالقوة، فقد أفسد عليها النكاح، في هذه الحالة نقول: هذا الذي تسبب، وكانت السببية قوية التأثير، ومفضية إلى الرضاع، مثلما هو مقرر في السببية والمباشرة -ومسألة السببية والمباشرة ستأتينا إن شاء الله في الجنايات، لكن يهمنا هنا في مسألة الرضاع- كما لو أنه هدد الزوجة، وقال لها: أرضعي -بالقوة- هذه الصبية، فأرضعتها، فالمباشر للرضاع هي المرأة -الزوجة- والذي تسبب المهدِّد -المُكْرِه- فهل الضمان في هذه الأحوال يكون على المهدد المُكْرِه أو على المُكْرَه؟ فيقولون: هل يكون الحكم للسببية، أو يكون للمباشرة، أو يجمع الاثنان؟ في بعض الأحيان يكون الحكم مؤاخذة الطرفين؛ مثل: القتل، فلو أن شخصاً وضع السلاح على شخص، وقال: إذا لم تقتل فلاناً أقتلك.
فقتل؛ يقتل الاثنان، يقتل الذي هدد؛ لأنها سببية قوية مفضية للقتل، ويقتل الذي باشر القتل، لأنه ليس بالمكره، فالمكره شرطه أن يهدد بشيء أعظم، ونفس أخيه كنفسه، فهل ينقذ نفسه من القتل بقتل أخيه؟! لا يكون ذلك إكراهاً في حقه، لكن لو هدد بالقتل على أنه يطلق، فيجوز له أن يطلق، ويسقط الطلاق؛ لأن الطلاق أخف من القتل، لكن لو خُيّر بين أمرين: بين أن يُقتل، وبين أن يقتل أخاه، ولو صبر ربما ما قُتل، ولا نُفذ التهديد، لكنه أفضى إلى القتل بمباشرة قوية.
ولذلك في بعض الأحيان تكون سببية، لكن تكون سببية قوية في التأثير، بحيث يكون الحكم للسببية وتسقط المباشرة.
مثلاً: لو أنه أخذ حية وأنهشها بشخص؛ فقتلته -أي: الحية فلدغت شخصاً فقتلته- من الذي قتل؟ الحية.
لكن من الذي جاء برأس الحية؟ ومن الذي قربها؟ فالمباشر: الحية، والسبب: المكلف، فحينئذ تسقط المباشرة، ويكون الحكم بالسببية.
وفي بعض الأحيان تقوم المباشرة، وتسقط السببية؛ كما لو حفر رجل بئراً، أو بنى جداراً، فلما بنى الجدار جاء شخص ورماه على شخص فقتله، فهذا الذي دفع الجدار باشر، والذي بنى الجدار تسبب، أي: أن الجدار لو لم يكن موجوداً لما حصل القتل.
ومسألة تقديم السببية على المباشرة والعكس لها أحوال ثلاثة: تارة نغلب السببية، وتارة نغلب المباشرة، وتارة نعطي الحكم لمجموع الأمرين.
فهنا عندنا سببية، ومباشرة؛ وذلك إن هدد أحد امرأة وأجبرها أن ترضع ضرتها الصغيرة فأفسدت عقد زوجها بهذا الرضاع، فهل ننظر للذي باشر الرضاع -الزوجة التي هي المرضعة- أو ننظر للذي تسبب بالإفساد والذي هو المُكرِه؟ في مسألتنا هذه ننظر للذي هدد، والذي ضغط على المرأة، لأن الإكراه يرفع التكليف، وقد بينا هذا في مسائل؛ كطلاق المكره، وغيرها من المسائل التي بينا فيها حكم الإكراه.
فهنا تقوى السببية، ومن هنا بين-رحمه الله- أن من تسبب في إفساد النكاح فإنه يضمن، فيكون عليه ضمان نصف المهر قبل الدخول، وذلك بأن يطالب الزوج بدفع نصف المهر، ثم يرجع هذا الزوج على من تسبب في إفساده، وقد بينا هذا في مسائل متقدمة معنا في الضمان.
قال رحمه الله: [وجميعه بعده] يعني: بعد الدخول، وهذا على القول بأن المهر لا يسقط، وقد بينا هذا.
قال رحمه الله: [ويرجع الزوج به على المكره] يطالب الزوج بجميع الصداق إن كان قد دخل على هذه التي فسد نكاحها، أو يطالب بنصفه إذا لم يدخل، فيدفع هذا، ثم بعد أن يدفع، نقول له: أقم دعوى، وطالب من تسبب بهذا الإفساد، إن كان الإفساد ناشئاً منه، وطالبه بالمهر كله إن كان بعد الدخول، وطالبه بنصفه إن كان قبل الدخول.(333/11)
حكم من قال لزوجته: (أنت أختي من الرضاع)
قال رحمه الله: [ومن قال لزوجته: أنت أختي من الرضاع بطل النكاح] ومن قال لزوجته: أنت أختي من الرضاع، فقد أقر واعترف أنها لا تحل له، فيؤاخذ بإقراره؛ ولذلك بينا أن أقوى الحجج وأقوى الأدلة: الإقرار.
وهذا ما يسميه بعض العلماء: بسيد الأدلة.
والسيد في لسان العرب: هو المقدم في كل شيء.
فقالوا: إذا أقر بأنها أخته؛ فإنه في هذه الحالة يؤاخذ بإقراره، ويلزم به، ويحكم بالمحرمية ظاهراً، أي: أنها حرمت عليه، بناء على القول الذي قاله شهادة من نفسه على نفسه ببطلان النكاح، وليس هناك أصدق من شهادة الإنسان على نفسه، لكن لو كان يريد من قوله هذا أن يسقط حق المرأة، فحينئذ يتهم؛ لأن الشهادة حجة، والإقرار حجة، مالم تدخله التهمة، فإذا دخلته التهمة ضعف الاحتجاج به، كإقرار المجنون فهو متهم، وليس بمقبول، ولا بحجة؛ لأنه قد يكذب على نفسه، إذ ليس عنده عقل، وكذا إقرار السكران لا يعتد به، ولذلك لما جاء ماعز وأقر واعترف، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمراً؟!)؛ لأن السكران إقراره محل تهمة، فهنا التهمة عندنا في العقل والإدراك، وقد تكون التهمة في جلب النفع أو دفع الضرر.
فإذا قال لها: أنت أختي من الرضاع، وكان قد استحق عليه مهرها، حينئذ يتخلص من المهر، لأنها لم تعد له بزوجة له، وحينئذ يفسخ نكاحها.
قال رحمه الله: [فإن كان قبل الدخول وصدقت فلا مهر] إذا صدقت الزوجة فما عندنا إشكال في فسخ النكاح، ومسألة إسقاط المهر قبل الدخول بلا إشكال؛ لأن العقد إذا كان على أخته من الرضاعة، أو ابنته من الرضاعة، أو عمته من الرضاعة فهو عقد فاسد وباطل، لا يُستحق فيه المهر لا نصفاً، ولا كلاً، فحينئذ في هذه الحالة يسقط، فإذا صدقته قبل الدخول؛ فلا شيء لها.
قال رحمه الله: [وإن أكذبته فلها نصفه] وإن أكذبته قبل الدخول، قالت: لست بأخ لي من الرضاع، والدتي ما أرضعتك، أو أنا لم أرتضع من والدتك، وهذا الكلام الذي تقوله ليس بصحيح -فكذبته- ويقع هذا إذا كان الرجل لا يخاف الله- نسأل الله السلامة والعافية- أو رجل كثير التهم والشكوك، يصدق أقل شيء، فجاء شخص يريد الزوجة، فأوعز إلى شخص ضعيف النفس، فما تصدقه المرأة، لكن إذا كان شخصاً ثقة، وقال: أنا وهمت.
فكأن بعض العلماء كالإمام أبي حنيفة -رحمه الله- وغيره يقبل منه العذر، قال: أنا كنت أظنها فلانة بنت فلان، لكن تبين لي أنها غيرها، وأنا رضعت من فلانة، فحينئذ الغالب صدقه، إذا كان الرجل أسند إلى عذر مقبول، فيرى بعض العلماء كالإمام أبي حنيفة -رحمه الله- وبعض السلف أن عذره مقبول، وأنه يحكم بقوله، فهنا إذا كذبته، تستحق نصف المهر.
ما هي القضية؟ القضية أن الزوج لما عقد على هذه الزوجة؛ استحقت نصف المهر لو فارقها قبل الدخول، إذا كان العقد صحيحاً وشرعياً، فحينما يدعي الفسخ، كما لو أقر أنها أخته من الرضاع، فيفسخ النكاح بناءً على إقراره، ويؤاخذ بهذا الإقرار، لكن بالنسبة للحقوق لا يسقط المهر إذا كذبته، ولا يسقط لها نصف المسمى، لأنها تستحق نصف المسمى، ويحكم بالظاهر بانفساخ العقد، لأنه أقر على نفسه أنها لا تحل له.
قال رحمه الله: [ويجب كله بعده] ويجب عليه دفع الكل بعده، لأن إقراره موضع تهمة؛ لأنه يتهم بأنه يريد أن يسقط مهرها، إذ لو فتح هذا الباب؛ فكل رجل استمتع بالمرأة، وانتهى وطره منها، قال: هذه أختي من الرضاعة، أو بنت أختي من الرضاعة- نسأل الله السلامة والعافية- قد يفعل هذا، ويفتح هذا الباب لك شخص حتى يتخلص من حق زوجته في مهرها.
قال رحمه الله: [وإن قالت هي ذلك، وأكذبها فهي زوجته حكماً] وإن قالت له: أنت أخي من الرضاعة، فإنه في الظاهر يعمل بقولها، وفي باطن الأمر يجوز له أن يستمتع بها، لأنه لم يكن ثم شيء يدل على صدق هذه الدعوى، أي: من حيث الباطن هي زوجته، وتحل له، لكن وجود هذه التهمة في الظاهر حكماً، تمنع الحكم ظاهراً باستحلاله لها، لأنها من حقها أن تمتنع منه، إذا أقرت، أو تبين لها أنها أخته من الرضاع، ويقع هذا-نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الحوادث -مرت علينا- أن امرأة اكتشفت -ولم تكن تعلم بهذا- أنها مكثت مع أخيها من الرضاع عشرين سنة، وأنجبا أطفالاً، وهذا يدل على أن الرضاع ينبغي أن يحتاط فيه، وأن على الأم وعلى أهل الولدين أن يتقوا الله عز وجل، وأن يحفظوا الرضاع، وأن لا يضيعوه، فالأم إذا كان ولدها ارتضع وهو صغير، فتخبره، تقول له: يا بني، أنت ارتضعت من بني فلان، وتحدد له المرأة التي ارتضع منها، وهكذا الأخت إذا علمت أن هناك رضاعة لأخيها؛ بينت له، حتى لا يقع في الحرام، لأن هذه الأمور يعظم ضررها إذا تساهل الناس فيها، وذكر بعض أهل العلم أن شخصاً تبين له أن زوجته أخت له من الرضاع ففقد عقله، ما استطاع أن يتحمل الصدمة، ويقع هذا في النساء أيضاً، وهذا يدل على أن ضررها عظيم جداً، ولذلك ينبغي أن يحتاط لهذا الأمر.(333/12)
حكم الشك في الرضاع أو كماله
قال رحمه الله: [وإذا شُك في الرضاع أو كماله، أو شكت المرضعة ولا بينة فلا تحريم] يقول المصنف رحمه الله: (وإذا شُك في الرضاع) الشك: استواء الاحتمالين، دون وجود مرجح، فإذا استوى الاحتمالان وجوداً وعدماً، فإننا نبقى على الأصل، فنحن لا نحكم بالرضاع إلا إذا ثبت وجوده، أما إذا لم يثبت أن هناك رضاعاً فإننا لا نحكم بالشكوك، لأن الأصل واليقين أنها أجنبية، وأنها حلال، ولا نعدل عن هذا اليقين إلا بيقين مثله.
(أو كماله) مثلاً: قالت المرضعة: أرضعته أربع رضعات وأنا متأكدة منها، لكن الخامسة أشك فيها.
هل تم العدد أو لا؟ فحينئذ يقال: اليقين أنها أربع رضعات حتى يستيقن أنها خمس.
(أو شكت المرضعة ولا بينة) يعني: شكت هل هذا محمد الذي ارتضع منها أو غيره، ولا بينة تبين حقيقة الحال، وسميت البينة بينة؛ لأنها يتبين بها جلي الأمر، ويكشف فيها وجه الحق، ويظهر بها الصواب، فإذا لم تكن هناك بينة، يعني: ما كان هناك شهود يبينون من الذي رضع، فحينئذ لا نحكم بهذه الظنون، ولا نحكم بهذه الاحتمالات، ويبقى الحكم على الأصل.
(فلاتحريم) أي: أن عقده عليها صحيح وهي زوجته، حتى يثبت له موجب التحريم بيقين، ولذلك تقدم معنا في القاعدة الشرعية: (اليقين لا يزال بالشك) فإذا شك في الأعداد بنى على الأقل الذي هو اليقين، ودائماً إذا شك هل هناك رضاع؟ أو ليس هناك رضاع؟ فمعناه: هل هي حرام، أو حلال؟ فالأصل أنها حلال حتى نستيقن أنها حرام، وإذا شك هل هي أربع رضعات أو خمس؟ فاليقين أنها أربع، والخامسة محل شك، فنبني على الأربع، وقس على هذا مثلها من المسائل.(333/13)
الأسئلة(333/14)
جريان الأحكام الشرعية الخمسة في الرضاع حسب الأحوال
السؤال
هل الرضاع مندوب إليه في الشرع، ووردت نصوص في الترغيب فيه، أم هو على الإباحة فقط؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: الرضاع الأصل فيه أنه حلال، مباح، ولا بأس به، ولا حرج، لكنه يكون واجباً إذا كان إنقاذاً لنفس، كما لو رأت امرأة رضيعاً يكاد أن يموت ويهلك، ويحتاج إلى من يرضعه، فقامت بإرضاعه، فهو واجب؛ لأن إحياء النفس واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا توقف على الرضاع فالرضاع واجب.
يكون مندوباً إليه إذا كان هذا الرضيع يجد مرضعة غير صالحة، مثلما ذكر أئمة السلف ودواوين العلم كأن تكون المرضعة -نسأل الله العافية- بغياً من بغايا الزنا -أعاذنا الله وإياكم- أو امرأة كافرة، أو مشركة من أهل الكتاب، يهودية، أو نصرانية، أو كانت وثنية، فلا يوجد إلا المسلمة، مثلما يقع الآن لبعض الجاليات في الخارج، وفي هذه الحال تكون هناك مرأة مسلمة فيها لبن، وجميع من حول هذا الرضيع كافرات، أو من المومسات البغايا، فلا شك أن ارتضاع الرضيع من غير المسلمة يضره، لذلك كان عمر رضي الله عنه يشدد في الرضاع، وينهى عن الارتضاع من الفاجرات، والكافرات، كما روى عنه ابن أبي شيبة وغيره ويشدد فيه -رضي الله عنه وأرضاه- ويقول: (إن الرضاع يعدي)، يعني: يؤثر في الأخلاق، ولأنه إذا ارتضع من الكافرة ربما أثرت عليه في الدين، وربما أثرت عليه في العقيدة، والولد يحن إلى أمه من الرضاع في بعض الأحيان كما يحن إلى أمه من النسب، وقد يحن إلى أمه من الرضاع أكثر من أمه من النسب إذا ماتت، فإنه حنين الرضاع، لذلك تجد الولد الذي ارتضع عنده من الحنان، والعاطفة، أكثر من الولد الذي يرضع من الحليب المجفف المعلب، فإنه غالباً ليس كالذي رضاعته طبيعية فهذا تجد عنده من الحنان، والشفقة، والعاطفة ما ليس عند غيره، الآن بعض من رضع حليباً مجففاً ولم يرضع من أمه تقول له: أمك مريضة، يقول: خذوها المستشفى، ما يبالي أبداً، وهذا مشاهد وهو دليل حسي واضح.
على كل حال: الرضاع يؤثر.
ويكون واجباً إذا كان فيه إنقاذ نفس، ويكون مندوباً شديد الندب إذا خشي على الولد أن يرتضع رضاعاً يضره، خاصة إذا كان قريباً أو ذا رحم، مثلاً: امرأة ترضع ابن أختها، أو ابن أخيها، جبراً لخاطر أختها، فيكون مندوباً، وفيه فضل وصلة رحم، وفيه إدخال سرور على قريب، وإدخال السرور على القريب منه من الأجر والمثوبة أكثر من غيره.
ويكون الرضاع محرماً: إذا قصد به تحريم الحلال، مثلما يفعل البعض -نسأل الله السلامة والعافية- ترضع المرأة بنات العم، حتى لا يتزوج أولادها من بنات أخي زوجها، فتريد أن تجذب -مثلاً- بناتها أو أبناءها إلى قرابتها هي، ويفعل هذا بعض النساء، وهذا غرض سيء، وقصد سيء لتحريم ما أحل الله، ولأنه يقصد به قطع الصلة، من المحبة التي تكون بالزواج والنكاح، فإذا قُصد به محرم فهو محرم للقصد، وإذا قُصد به القيام بواجب كإحياء نفس فهو واجب، وإذا قصد به مندوب فهو مندوب.
فعلى كل حال: يختلف الحكم باختلاف الحال، لكن الأصل العام أنه مباح، والأصل العام أن الوالدة المرضعة لها أجر ومثوبة، ولذلك يكون في مقام المندوبات؛ لأن فيه مشقة وعناء، ولذلك أحل الله للمرأة المرضعة أن تفطر؛ لأنها من الذين يطيقون الصيام ويجدون فيه المشقة والكلفة والعناء، ووجود العناء قدره الشرع في هذه المرضعة، وما كان فيه عناء، ففيه أجر، وفيه مثوبة، خاصة إذا كان فيه إصلاح للنفس، وإنقاذ لها.
وذكر بعض العلماء أن المرأة إذا كانت حمقاء، أو عصبية، أو هوجاء معروفة الهوج، فلا ينصح باسترضاعها؛ لأن الرضاع يؤثر في الطباع، وهناك حكمة يقولونها: (الرضاع يؤثر في الطباع) حتى قال بعضهم: الرضاع أشد من الطباع، يعني: أن توارث الأخلاق يأتي من الرضاع أكثر مما يأتي من النسب؛ لذلك إذا خافت المرأة المرضعة أن يرتضع الطفل من امرأة عصبية، أو فيها مرض، أو فيها بلاء، وأرادت جذبه إليها، فقد أحسنت، وأجرها أعظم، فيختلف الحكم بحسب اختلاف الأحوال، والله تعالى أعلم.(333/15)
الفوارق بين الرضاع والنسب
السؤال
ما هي الفوارق أو المسائل المستثناة، التي بين الرضاع والنسب كانعدام الإرث في الرضاع مثلاً؟
الجواب
الفروق تحتاج إلى ضوابط، فالنسب شيء والرضاع شيء آخر، فالذي يثبته الرضاع هو من جهة المحرمية، والحرمة، وما ذكرناه من آثاره، ولا يثبت إرثاً، وإنما النسب هو الذي يثبت إرثاً.
والرضاع لا يُثبت عقلاً، يعني: لو قُتل الشخص خطأً فتعقل عنه عاقلته -عصبته- وهم أقاربه الذكور من النسب؛ فأخوه يعقل عنه، وعمه، وابن عمه، وأبوه، وجده، ولكن الابن من الرضاع، والأخ من الرضاع، والعم من الرضاع، لا يشارك في العقل -وهو الدية-.
كذلك أيضاً بالنسبة للنفقات: النسب يوجب ثبوت النفقة: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233].
فإذا افتقر الابن بعد بلوغه، ورشده، ولم يستطع، ولم يجد كسباً، لزم الأب أن ينفق عليه، وأن يعوله، وأن يقوم عليه، لكن لو أن ابناً من الرضاعة افتقر، فلا يلزم أن الرضاع بما يلزم به الأب من الإنفاق عليه.
ومن الفروق: أنه لا يجوز إعطاء الصدقة للابن من النسب، وهل الابن من الرضاعة يحرم أن يعطيه أو لا يحرم؟ قال بعض العلماء: لا يحرم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني).
وقالوا -بناءً على ذلك-: يجوز له أن يعطيه؛ لأنه ليس بضعة منه.
وقال بعض العلماء: إنه بارتضاعه اللبن يكون في حكم البضعة من الشخص، وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن الرضاعة تنشز العظم، وتنبت اللحم).
فلا يعطى، وهذا نص عليه غير واحد من العلماء، فحينئذ يستوي الرضاع مع النسب أو لا يستوي على الخلاف المعروف في مسألة النسب.
كذلك أيضاً في مسألة الإرث: النسب يوجب ثبوت الميراث، بينما الرضاع لا يوجب الإرث.
مسألة الصلة: الأم من النسب، والأخ من النسب، والعم من النسب، والخال من النسب، له حق من الصلة، ولكن الرضاع لا يكون له من الصلة ما يكون للنسب، فليس من ذوي الأرحام الذين أمر بصلتهم أمراً لازماً، ولذلك فرق بين ما يكون من الرضاعة وما يكون من النسب.
والفوارق بين الرضاع والنسب ذكرنا أكثرها، والرضاع -في الأصل- أكثر ما يجري عليه من أحكام؛ يجري في مسألة المحرمية، وثبوت الآثار المتعلقة بالنكاح، والخلوة، والنظر، والسفر، وغير ذلك.(333/16)
حكم الصلاة بعد الوتر إذا كانت تطوعاً أو ذات سبب
السؤال
أشكلت علي مسألة أنني صليت الوتر، ثم أتيت المسجد، فصليت تحية المسجد، ففقدت فضيلة الوتر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً).
فكيف أدرك هذه الفضيلة؟
الجواب
هناك فرق بين أن تقول: فقدت فضيلة الوتر، وبين أن تقول: فقدت فضيلة تأخير الوتر، ففضيلة الوتر ما تفوت، والوتر لك أجره، فالله تعالى يقول: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195].
فأجرك ثابت، ووترك ثابت، وأبشر بخير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعدما أوتر، كما في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أنه صلى ركعتين بعدما أوتر.
وبعض أهل العلم قالوا: فعل ذلك لبيان الجواز، وأنه يجوز أن تصلي الشفع بعد الوتر، وقوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) هذا لمن يقوم آخر الليل، فإذا قمت في آخر الليل وأردت أن تصلي؛ فصلِّ ما شاء الله بعد أن تنقض أول الوتر الذي أوترته، ثم تصلي ما شاء الله، ثم توتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وتران في ليلة).
فلما قال: (لا وتران) دل على أن الوتر ينقض الوتر، وأنت إذا أوترت في أول الليل، وتريد فضيلة آخر الليل، فقد بنيت على ظن بان خطؤه، كأن كنت تظن أنك ما تستطيع آخر الليل أن تقوم، فإذا قمت نقضت الوتر الأول بركعة، ثم بعد ذلك صلِ شفعاً ثم أوتر، وهو فعل مأثور عن علي رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر السنة يدل عليه إذا كان في آخر الليل، أما إذا أوترت من أول الليل، ثم صليت ركعتي الوضوء، أو تحية المسجد، أو أردت أن تتنفل، أو أردت أن تسأل الله من فضله، أو تستغفر من ذنب، فصليت ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً، أو ثمانيَ، فلا بأس؛ لأن الشفع بعد الوتر جائز، ولكن الأفضل والأكمل إذا قمت في آخر الليل أن تجعل آخر صلاتك بالليل وتراً.
فلو قمت آخر الليل، وليس عندك نية أن تصلي، ولكن تريد أن تصلي الفجر، فتترك الوتر الأول كما هو، ولك أن تصلي ركعة، ثم تصلي ما شاء الله، ولو ركعتين، ثم توتر، فكله جائز، والأمر على السعة -والحمد لله- وقد دلت السنة على جميع ذلك، دلت على أنه يجوز أن توتر من أول الليل، قالت عائشة رضي الله عنها: (من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أوله، وأوسطه، وآخره).
وفي رواية: (من أوله، وأوسطه، وانتهى وتره إلى السحر).
وهذا يدل على السعة والحمد لله، فليس هناك إلزام بشيء، لكن الأفضل والأكمل أنك إذا قمت آخر الليل أن تنقض وترك، ثم تشفع، ثم بعد ذلك تصلي وتراً لكي تصيب دعوة في السحر، وتصيب الدعوة في الوقت الذي تستجاب فيه الدعوة؛ ولأن الصلاة في هذا الوقت أعظم أجراً، وأعظم مثوبة، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الصلاة قال عليه الصلاة والسلام: (وركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر).
وقال: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن).
هذا يدل على فضل أن تكون صلاتك في هذا الوقت.
والسبب الثالث: أنك تمتثل السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتك بالليل وتراً).
والله تعالى أعلم.(333/17)
حكم من أكل ولم يعلم بدخول الفجر
السؤال
شخص استيقظ من الليل، فشرب وأكل، يظن الفجر لم يؤذن، وعندما انتهى سمع إقامة الصلاة، فظهر له أنه أكل بعد الأذان.
فماذا عليه؟
الجواب
ينبغي أولاً على الإنسان أن يحتاط، فإذا أمكنه أن يسأل، أو أمكنه أن يرجع إلى الساعة، أو أن يتحرى؛ لزمه، لأن حق الله عز وجل في هذا الوقت أن تمسك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فينبغي الاحتياط في حق الله، أما أن يقوم ويدعي أنه لا يعلم شيئاً، ثم يذهب إلى طعامه وشرابه ويأكل، وبعد أن يأكل يبحث هل دخل الفجر أو لا، لا يجوز، فلا يرضى أحد لحقه أن يضيع بهذا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الله لا يخادع) يعني: لا يخدع أحد ربه بهذا، ويذهب بعض الذين يترخصون ويقول: لا يلزمه أن يسأل بل يأكل ويشرب، ثم يسأل! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى).
هذا في الحج، فبين أن حق الله عز وجل لا يتساهل فيه، فهذه حرمات ينبغي حفظها، وحدود، ولذلك ذكر الله عز وجل بعد الصوم أنه من حدود الله، وأن علينا أن نتقي الله عز وجل، فذكر حدوده، وأمر بتقواه سبحانه وتعالى، وأن لا نقربها، فالواجب على المسلم أن يتحرى، وأن يصبر، ولعل الله عز وجل أن يبتليه في تلك الليلة فيقوم بعد ما أذن الفجر فلا يعلم مقدار أجره وصبره إلا الله وحده لا شريك له.
الصوم وحده من الأعمال التي لا يعلم ثوابها إلا الله وحده لا شريك له: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
قالوا: جعله مفتوحاً؛ لأنه يقوم على الصبر، والله يقول عن الصبر والصابرين: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
وكان بعض العلماء يقول: إن من أجره: أن لو صام عبد وصدق في صومه، وأتم لله الصوم، فقامت عليه الحقوق كَثَّر الله أجر الصيام، حتى تقضى عنه الحقوق والمظالم؛ لأنه قال: (فإنه لي وأنا أجزي به).
وإذا كان الصوم بعناء، ومشقة، وكدح، وابتلاء، فأجره أعظم، وثوابه عند الله أجل، وأكبر، والصوم بتقوى، وخوف، وورع، بأن يتحرى، ويلزم نفسه الموارد، ولا يضع نفسه في الأمور المشتبهة، فهذا أعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى، وأثقل في ميزان العبد، وأتقى لله عز وجل؛ ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضله سلباً وإيجاباً، ففي الإيجاب عظيم أجره حينما قال: (إلا الصوم فإنه لي).
هذا في الثواب، وأما في دفع الأشياء، ودفع الضرر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (الصوم جنة).
والجُنة: الوقاية، قالوا: إنه جُنة للعبد من النار، فإذا مضى على الصراط؛ فإنه لا يحفظه شيء بعد الإيمان بالله عز وجل مثل إقامته للصوم على أتم وجهه وأكمله، فإذا كانت الجُنَّةُ مخروقة، أو فيها تضييع، فحينئذ يأتيه من كلاليب النار، وخطفها، وخدشها، على قدر ما ضيع من جنته والعياذ بالله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتولانا برحمته، وأن يجبر كسرنا، وأن يرحم ضعفنا، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين، ونسأله بعزته، وجلاله، وعظمته، وكماله، أن يجعلنا وإياكم ممن صام الشهر فاستكمل الأجر، وأدرك ليلة القدر، وأفضل له ربه من الخير، والفضل، والأجر، والإحسان، والبر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(333/18)
شرح زاد المستقنع - كتاب النفقات [1]
من الحقوق المترتبة على عقد الزوجية: إنفاق الزوج على زوجته، وهذه النفقة من النفقات الواجبة التي يراعى فيها ما تحتاجه المرأة من طعام وشراب ولباس وسكن، بحسب العرف السائد دون إفراط ولا تفريط، وكل هذا يكون راجعاً إلى قدرة الزوج واستطاعته.(334/1)
وجوب النفقة وقدرها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:(334/2)
الأدلة على وجوب نفقة الزوج على زوجته
فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن للزوجة على زوجها أن ينفق عليها، وأن يرزقها ويكسوها بالمعروف.
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح أن هند جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجلٌ شحيح مسيك، أفآخذ من ماله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فقوله: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فيه فوائد: منها: وجوب النفقة على الزوج، ولذلك استحقت المرأة أن تأخذ من ماله قدر ما يجب عليه أن ينفق.
ومنها: أنه استدل به بعض العلماء على أن العبرة في النفقة بالزوجة لا بالزوج؛ لأنه قال: (ما يكفيك وولدك)، فجعل الأمر راجعاً إلى الزوجة.
وصورة المسألة: لو كانت الزوجة غنية والزوج فقيراً، فهل ينفق عليها نفقة الفقير، أو نفقة الغني؟ إذا قلنا: العبرة بالزوجة فإنه ينفق نفقة الغني، وإن قلنا: العبرة بالزوج فإنه ينفق نفقة الفقير، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى، وأن الصحيح أن الزوج ينفق نفقته هو، إن كان غنياً أنفق نفقة الغنى، وإن كان فقيراً أنفق نفقة الفقر؛ لكن هذا الحديث استدل به من يقول: إذا أمرنا الزوج أن ينفق فالواجب عليه أن ينفق على حسب حال زوجته، لا على حسب حاله هو؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فجعل الأمر راجعاً إلى كفايتها هي، وأن العبرة بها لا بالزوج.(334/3)
مسألة الظفر
كذلك استدل به بعض العلماء على مسألةٍ لطيفة وهي: مسألة الظفر، ومسألة الظفر: أن يظلم شخصٌ شخصاً في حق، كأن يعمل عنده ولا يعطيه راتبه، أو ظلمه فاغتصب منه مائة ألف أو عشرة آلاف ريال، وشاء الله عز وجل أن هذا المظلوم ظفر بمالٍ للرجل الذي ظلمه، فهل له الحق أن يأخذه خفية دون علم الرجل؟ وهل له الحق أن يتسلط على ماله بحكم المظلمة؛ لأن هند رضي الله عنها تسلطت على مال أبي سفيان رضي الله عنه باستحقاق؟ فأخذ منه بعض العلماء أنه إذا ثبت له استحقاق، جاز له أن يأخذ من المال بقدر ما ظُلِم به.
والصحيح أنه لا يجوز له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)، فلو أن عاملاً ظفر براتبه من مال من يعمل عنده فقد خان الأمانة؛ لأنه مؤتمن على رعاية هذا المال.
وأما حديث هند هذا فلا يدل على مسألة الظفر بالعموم، بل نقول: الأصل أن تحفظ الأمانة، وجاء حديث هند في مسألة الأزواج والزوجات؛ لأن الزوجة إذا افتقرت ربما تعرضت للحرام، ولأن الزوجة إذا أخذت لا يتهمها زوجها، وتستطيع أن تقول له: نعم، قد ظلمتني في كذا وكذا، ولكن الرجل إذا كان أجنبياً عن مال الرجل فإنه يُتّهم، ويترتب على ذلك من الضرر ما لا يخفى.
فالذي يظهر -والله أعلم- أن حديث هند لا علاقة له بالمسألة من كل وجه، وهم جعلوه من باب القياس، فقالوا: يقاس على الزوجة، وفي الحقيقة أن تخصيص الزوجة أقوى وأولى؛ ولذلك لا يقوى القول بالعموم.
الشاهد: أن هذا الحديث يدل على أنه يجب على الزوج أن ينفق على زوجته، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، والذي يعول إنما هم الأقربون من زوجته وأولاده، وهم أقرب الناس إليه ممن يتولى رعايتهم، فقوله: (كفى بالمرء إثماً) يدل على أن الأصل أن يقوم عليهم، وأن الأصل والواجب عليه أن يقوم برعايتهم وسد حاجتهم وخلتهم في أمورهم وشئونهم.
بناءً على هذا نقول: دلّ دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن النفقة واجبة، وفي هذا عدلٌ من الله سبحانه وتعالى بين الأزواج والزوجات، فالرجل أعطاه الله حقوقاً والمرأة أعطاها حقوقاً، فكما أن المرأة مطالبة بأن تؤدي حق الرجل في فراشه وعفته والقيام على بيته وولده وإحسان التبعل له؛ كذلك الزوج مطالب بحقوق واجبةٍ عليه، فعدل ربنا سبحانه وتعالى بين الاثنين، يقص الحق وهو خير الفاصلين، ويحكم بالعدل وهو خير الحاكمين، سبحانه وهو رب العالمين.(334/4)
يلزم الزوج نفقة زوجته قوتاً
قال رحمه الله: [يلزم الزوج نفقة زوجته قوتاً].
وإذا كان يلزمه أن ينفق على زوجته وأنه واجبٌ عليه، فيترتب على هذا أنه إذا لم ينفق طولب بالنفقة؛ لأنها واجبة، ومن قصر في الواجب فعليه أن يؤدي ما فرض الله عليه، ومن هنا يأمره القاضي ويوجب عليه ذلك، ومن حق المرأة أن تشتكي إذا لم تطق صبراً، أو خافت على نفسها وولدها، كما اشتكت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه الصلاة والسلام، فدّل على أنه حقٌ من حقوقها.
قوله: (قوتاً)، النفقة تشمل الطعام والشراب، والكسوة، والسكن، فهذه ثلاثة جوانب في النفقات: الطعام والشراب وما يقتات به، والكسوة، والسكن الذي يؤوى إليه.
ويتبع السكن فراش السكن وما يجلس عليه من مفارش بالمعروف، وكذلك اللحاف، فهذه هي أصول النفقات، وأجمع العلماء من حيث الجملة على أنها هي الأصول الواجبة في النفقات، وأن على الزوج أن يطعم زوجته، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأن تطعمها إذا طعمت)، وفي لفظٍ: (أن تطعمها مما تطعم، وأن تكسوها مما تكتسي).(334/5)
كيفية الإطعام وقدره الواجب
نص المصنف رحمه الله على تقديم الطعام؛ لأنه قوام الأبدان، وهو صلاحها بإذن الله عز وجل، فإذا لم تأكل المرأة وجاعت فإنها تضطر إلى أمورٍ لا تحمد عقباها، وقد تهلك وتموت، ولعظم أمر الطعام وحاجة البدن إليه أحل الله للمضطر أن يأكل من الميتة، فهو حق عظيم، وواجب على الزوج أن يتفقد زوجته وأولاده في طعامهم، وهذا الطعام لا يكفي فيه أن ينظر إليه نظرة عابرة، وأن يجد من سكوت أولاده وزوجه ما يظن أن هذا يعذره أمام الله عز وجل، فليس كل طعام معتبراً، وليس كل طعام تبرأ به الذمة، وليس كل إِطعام يُعذر به العبد بين يدي الله عز وجل.
فتراعى نوعية الطعام، وكون الطعام مما يرتفق به، وسلامته مما فيه ضرر أو مما يضيّع الزوج أو الولد بضعفه وعدم سده للحاجة من حيث الصفة ومن حيث القدر، فهذه أمور معتبرة، أعني صفة الطعام وقدره ونوعيته وجودته ورداءته، كل هذه يسأل عنها أمام الله عز وجل، فحق واجب على الزوج أن يطعم زوجته وأولاده وأن يحسن النظر في ذلك؛ لأنها أمانة ومسئولية، كما أنه يحب لنفسه أن يطعم من الطعام الذي فيه رفق بدنه وقوام ذلك الجسد وسلامته من الآفات، فواجب أن يتفقد ولده في الإطعام وزوجه من هذا الوجه.
فقد يأتي الزوج بطعام رخيص ويكون في هذا الطعام عدم الكفاية من ناحية القدر، أو عدم سد الحاجة من ناحية الجودة والرداءة، وقد يأتي بطعام جيد فيه ضرر على الزوجة والولد، جيد في الظاهر فيما يتسامعه الناس ولكنه لا يصلح للزوجة ولا للولد، لكن يصلح له هو.
إذاً لا بد أن ينظر إلى ما فيه صلاح هذا البدن المسئول أمام الله عز وجل عن إطعامه كما أنه مسئولٌ عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم أنزل الولد منزلة الجسد نفسه فقال: (إنما فاطمة بضعةٌ مني).
فالواجب الشرعي في الرعاية للولد أن يتفقدهم بإطعامهم على الوجه الذي يرى فيه قوام أبدانهم وصلاحها وسلامتها من الضرر، وقد توجد بعض الأطعمة يطعمها الأولاد وهي مضرة لهم، وتطعمها الزوجة وهي مضرة للزوجة.
وقد يختلف الطعام من شخصٍ إلى آخر، فلو قالت له الزوجة: إن هذا الطعام يضربها، قال لها: هذا الذي لك عليّ، إن شئت أن تأكلي أو لا تأكلي، فهذا الطعام إن ثبت أنه يضرها فوجوده وعدمه على حدٍ سواء، وقد ظلمها في طعامها، فليست القضية فقط أن يأتي بالطعام ثم يرميه في البيت ثم يقول: قد أتيتها بالطعام، بل عليه أن يتفقد وأن ينظر أحسن الطعام؛ ليعذر أمام الله عز وجل، ويكون قد أدى الواجب الذي فرض الله عز وجل عليه بما تبرأ به ذمته أمام الله سبحانه وتعالى.
وقد يُطعم أولاده الطعام الضعيف الذي لا يقيم البدن، مثلاً: هناك بعض الأرزاق والأقوات فيها غذاء نافع للبدن، ويكون الأبناء في بعض الظروف بحاجة إلى طعام يغذيهم ويعطيهم القوة والجلد على ظروف معينة، فأطعمة الشتاء ليست كأطعمة الصيف، والأطعمة في حال الإجهاد والتعب والنصب -خاصة إذا كان يطلب ذلك منهم- ليست كالأطعمة في حال الرفق والراحة.
هذه كلها أمور ينبغي على الزوج أن يتفقدها؛ لأنها أمانة ومسئولية، وليس من المعروف أن يأتي ويطعمهم طعاماً لا يرتفق به البدن؛ ولذلك قيد الله عز وجل هذه النفقة بالمعروف، وهذا يدل على أنه ينبغي أن ينظر إلى العرف والحالة، واختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال والظروف، فقد يكون الطعام قاتلاً مميتاً ويقتل بالتدريج، مثلاً: بعض الأطعمة يوجد فيها بعض الأمراض لكنها أرخص ثمناً وأقل كلفة، فيذهب ويقول: أنا عليّ أن أطعمك، وهذا الطعام إذا أردت أن تأكلي منه فكلي وإلا فلا، فهذا لا يعذرهُ أمام الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الطعام إذا ترتب عليه الضرر فإنه يتحمل المسئولية أمام الله عز وجل عليه، وهذا موجود.
إذاً: لا يكفي أن يقوم بالإطعام حتى يتفقد وينظر ما الذي يحتاجه الولد، وينظر إلى البيئة وإلى راحة الابن دون غلو، فالمرأة قد تسرف، حتى أن بعض العلماء يقول عن هند لما أتت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها نشأت في بيت عز، وبيت جاه؛ لأنها كانت من أرفع أسر قريش رضي الله عنها وأرضاها، وكان لها مكانة، وكأنها تريد النفقة التي ألفت حال كونها عند أبيها، فيقولون: فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وقال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فرد الأمر إلى العرف ولم يجعله مطلقاً.
فنحن لا نقول: إن الزوج يتكلف ما يكون فيه مبالغة وإسراف، وأيضاً لا يضيع هذا الحق الواجب بأن يكتفى بمجرد إطعامهم أي طعامٍ دون أن يسد حاجتهم ودون أن يكون به قوام الأبدان، والولد في صغره يحتاج إلى نوعية من الطعام تقوي بدنه وتساعده، وتكون هناك نوعية أردأ منها، لا تقوّم البدن ولا تساعده وإن كانت تسد الخلة، وهناك الوسط بينهما، فعلى الوالد أن ينظر إلى هذا كله، وأن يرفق بولده، وأن ينظر إلى الحاجة التي يحتاجها، والزوجة نفس الشيء إن كانت حاملاً فقد تحتاج إلى نوع من الطعام، لأنها في ظروف وأكثر عناء أكثر تعباً ونصبا، فهذه كلها ظروف ينبغي للزوج أن يقدرها بقدرها وأن يحسن القيام فيها بحقوقها.(334/6)
قدر الكسوة الواجبة للمرأة على زوجها
قال رحمه الله: [وكسوة].
الكساء هو الغطاء الذي على البدن مما يُلبس، سواء كان مفصلاً على الجسد كالقميص ونحوه من المفصلات كالبردة، وفي زماننا الثياب والسراويل والفنايل، وإما أن يكون غير مفصل مثل الإزار والرداء، الإزار لأسفل البدن، وهو مثل الإحرام أسفل البدن؛ وأعلاه يقال له: رداء.
فالكسوة تكون بما هو مفصل وغير مفصل، وهذا يُرجع فيه إلى العرف، إن جرى العرف أن الأولاد يكسون بسكوة مفصلة فعليه أن يفصل لهم ثياباً، وينظر إلى ما يتناسب مع حاله هو، وكذلك أيضاً إذا جرى العرف بأنهم يكسون بثياب غير مفصلة فيكفي أن تكون كسوتهم من غير المفصل.
[وسكناها].
أي: سكن الزوجة.
وكذلك الزوجة إذا كانت الزوجة تلبس اللباس المفصل مثل الفساتين في زماننا ونحوها فيعطيها ذلك، ويكسوها كسوة في الصيف وكسوة الشتاء هذا هو الأصل في الكسوة، أن لها كسوة الصيف وكسوة الشتاء كما سيأتينا.(334/7)
خطر الإسراف والتبذير في اللباس
الأمور بين الإفراط والتفريط، وما أضر الضرر الذي نزل على المسلمين بهذا التهور الذي أغرق فيه النساء في الملبوسات، حتى أن الأموال لا ينتفع بها إلا أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت لهم قوة على دين الله وأولياء الله عز وجل، وكل هذا بسبب اللهث وراء الأشياء الزائفة التي ابتلي بها النساء، وأصبحت فتنة عظيمة على النساء وعلى الأمة جمعاء لوجود هذا البلاء، وهو الإغراق في الملبوسات، حتى إنه يبلغ من البطر وكفر النعمة أن المرأة تفصل ثوبها بعشرات الآلاف من الريالات ولا تلبسه إلا مرةً واحدة، فإذا ذهبت به إلى مناسبة لا يمكن أن تلبسه مرة ثانية حتى ولو في بيتها، ويقول بعضهن -كما نسمع من شكاوى الرجال الكثيرة: كيف ألبسه؟ وكيف يرى عليّ الثوب مرتين؟! أي: كيف تحضر مناسبتين بثوب واحد؟! وهذا والله كله من كُفر النعمة والإسراف والبذخ الذي بين الله تعالى في كتابه أنه يسلب صاحبه المحبة منه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، وغضب الله عز وجل على من ابتلي بهذا البلاء حتى أنه قرنه بأعدائه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]، وانظر تعبير القرآن بـ (إِنَّ)، وجاء بالاسم (الْمُبَذِّرِينَ)، (كَانُوا) التي تدل على صفة الدوام (إِخْوَانَ) فقرنهم بالشياطين نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك تجد المرأة التي تبتلى بهذا التبذير في كسوتها كأن الشيطان مستحكمٌ على قلبها، وتجد ولية الله المؤمنة التي تخاف الله وتراقبه وتخشاه تحاسب نفسها على اللباس ولا تبالي بمن ينظر إليها، ومع ذلك تجد من الطمأنينة في القلب وانشراح الصدر، والبركة في النفس والحال ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولكن الأخرى تجدها مفتونة من مناسبة إلى مناسبة ومن بلاء إلى بلاء، وتنفق مالها حسرةً عليها يوم القيامة -نسأل الله السلامة والعافية- فهو وبال عليها في الدنيا ووبال عليها في الآخرة.
وعلى كل امرأة أن تعلم أنها مهما لبست من جميل الثياب، أو بالغت في مطالبة الزوج وإرهاقه وظلمه بمطالبته بالأشياء التي هي زائدة عن حاجتها وزائدة عن حقها؛ فإن الله سبحانه وتعالى لا يبارك لها فيما لبست ولو كان من مالها؛ لأنه ليست القضية أن تضر بزوجها، فقد تقول قائلة: عندي راتبي أنفق منه، إذا كان عند المرأة راتبها فلتعلم أنها تفسد بنات المسلمين، ولتعلم أنها تفسد زوجات المسلمين؛ لأنها إذا لبست لباساً معيناً أغرت غيرها بهذا اللباس، ودعتهن إلى أن يشاكلنها، فتشاكلها أختها والتي قد تكون عند زوج ضعيف المال قليل المادة، وتشاكلها قريبتها أو بنت عمها أو بنت عمتها؛ لأنها في بيئة تتأثر برؤيتها، ثم قد تشاكلها المرأة الغريبة، فكل هذا مما جر على المسلمين من الضرر والبلاء ما لا يخفى.
فأولاً كثر إنفاق الأموال في غير طائل، ونزعت البركة من الأموال، ولو أن المرأة المؤمنة العاقلة نظرت إلى الخمسمائة ريال، فضلاً عن الألف، فضلاً عن العشرة آلاف، وفكرت أنها لو سدت بها ثغرة من ثغرات المسلمين سيكون لها من الرحمة والخير والبركة الشيء الكثير، فكم من صدقةٍ حجبت صاحبتها عن النار! فلا شك أن من توفيق الله عز وجل أن يوفق العبد لاغتنام هذه الأموال في مرضاة الله عز وجل، فعلى المرأة أن تعلم علم اليقين أن حقها على الزوج كسوة الصيف وكسوة الشتاء وما زاد على ذلك فليس بواجب.
وتبع هذا البلاء إنفاق الأموال، ثم تبعه الإغراق في مشاكلة أعداء المسلمين في لباسهم وهيئتهم حتى حصل بسبب ذلك البلاء من التبرج وخروج النساء ومخاطبتهن للرجال، حتى تخاطب المرأة الرجل بالساعات، وتأخذ معه وتعطي، وهي لو كانت من أتقى التقيات فلتعلم أن الرجل قد يكون به مرض وقد تكون به فتنة، وهذا كله فيه تعد لحدود الله عز وجل شعرت به المرأة أو لم تشعر، ولكن هي الدنيا بما فيها من فتنها وهواها، لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقيقة ما فعل من معصية الله وانتهك من حدود الله إلا إذا ولج قبره: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].
فإذا علمت المرأة أنها ستسأل عن كل ريال تنفقه، وعن كل ريال ترهق به زوجها وترهق به والديها، وأن الله سائلها عن ذلك كله؛ حاسبت نفسها قبل أن يحاسبها الله عز وجل، فهذا بلاء عظيم، ولا يمكن علاج هذا البلاء إلا بالصالحات القانتات، أن يكن قدوة قبل غيرهن، وأن يكن قدوة يتأثر بهن الغير؛ لأنهن إما قدوة في الخير أو الشر، فإذا وجد في المجتمع من لا يبالي بالقيل والقال ولا يبالي بالمظاهر، فعندها سيتغير كثير من الأخطاء ويصلح كثير من الفساد، وعلى كل حال، نسأل الله بعزته وجلاله أن يهدينا وأن يعصمنا وأن يزيل هذا البلاء عنا وعن المسلمين أجمعين.
فالذي للمرأة على زوجها كسوة الصيف وكسوة الشتاء، وما وراء ذلك ففضلٌ وليس بفرض، فيكسوها كسوة صيف وكسوة شتاء، ولكن لو أن المرأة ابتليت بهذا وهي صالحة ودينة، ونظر الزوج إلى أنه لو كان في كل مناسبة يلبسها فسيقع في الإسراف، وأنه لو ألبسها كسوة واحدة في الصيف أو كسوة في الشتاء أن هذا يحدث لها شيئاً من الضرر والحرج، وأحب أن يتسامح فالله يأجره، لكن يتسامح في حدود معقولة، ويكون هناك نوع من الالتزام حتى لا يكون فتنة للمرأة، فإن المرأة قد تفتن عن دينها، وقد تتضرر، وقد يتسلط عليها من لا خير فيهن.
وكان بعض الأخيار يقول: إنه تزوج امرأة رزقها الله عز وجل التعقل في نفقتها فكانت لا تلبس إلا ما يسترها في حدود معقولة ولا تبالغ في الزينة فسلمت من المجالس، وسلمت من الحفلات وسلمت من المناسبات؛ لأنها التزمت بالأصل، فما أنفقت ولا أسرفت، ولكن تجد الأخرى التي ابتليت بالإنفاق تحب الغير أن يرى ما عليها، وإذا أحبت المرأة أن يُرى ما عليها فتنها الشيطان، ففي المرة الأولى تحب أن تراها امرأة غيرها، ثم مرة ثانية تحب أن يراها الرجل والعياذ بالله، فتفتن في دينها نسأل الله السلامة والعافية، وربما فتنت فتنةً يكون لها بها شقاء لا سعادة بعده أبداً.
فعلى المرأة أن تتقي الله عز جل، وهذه ويلات يجر بعضها بعضاً، والله جل وعلا يقول: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]، فمسألة الإنفاق والكسوة والإغراق فيها على المرأة أن تفكر: أين يذهب هذا المال؟ ولمن يذهب؟ وكيف يفصل هذا الثوب؟ وتفصيل الثوب على أي نمط من أنماط الكفار تمجيدٌ للكافر شعرنا أو لم نشعر، وفيه إغراءٌ للغير أن يفعل هذا الفعل، وكل هذا له أضرار وتبعات، وعلى المسلمة أن تفكر في هذه العواقب، وأن تعلم أن الشر لا يقتصر على هذه التي لبست وإنما يتعدى إلى غيرها، فنسأل الله العظيم أن يصلح الأحوال، وأن يعيذنا ويعيذ المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن.(334/8)
الخلاف في اعتبار النفقة بحال الرجل أو المرأة
قال رحمه الله: [بما يصلح لمثلها].
أي: تكون النفقة من القوت والكسوة بما يصلح لمثلها، فيكون الطعام صالحاً لمثلها، فلو كانت مريضة فلها طعام المريضة، ولو كانت صحيحة فلها طعام الصحيحة، لكن إذا كانت مريضة سيأتي أن الدواء لا يجب على الزوج؛ وسنبين -إن شاء الله- هذه المسألة.
على كل حال: النفقة بالطعام والكسوة ينظر فيها إلى ما يصلح لمثل المرأة، واختلف العلماء رحمهم الله: هل العبرة -كما ذكرنا- بحال الرجل أو بحال المرأة أو بحالهما معاً؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم رحمةُ الله عليهم: من أهل العلم من قال: العبرة بحال المرأة، سواءٌ كانت غنية أو فقيرة، فالزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته بحسبها، إن كانت زوجته فقيرة، فحينئذٍ ينفق عليها نفقة الفقيرة ولو كان غنياً، ولو كانت زوجته غنية فإنه ينفق عليها نفقة الغنى ولو كان فقيراً، وهذا القول هو مذهب أبي حنيفة ومالك رحمةُ الله على الجميع، واستدلوا بحديث هند الذي تقدم معنا: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وكذلك بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233].
والقول الثاني يقول: العبرة بحال الرجل غنىً وفقراً؛ فإن كان فقيراً أنفق نفقة الفقراء وإن كان غنياً أنفق نفقة الأغنياء ولو كانت زوجته فقيرة، فالعبرة بحاله هوَ، ينفق على حسب حاله، وهذا القول هو مذهب الشافعية رحمة الله عليهم، واستدلوا بقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر الزوج أن ينفق على قدر حاله، فقال: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}، بمعنى: أنه ينفق على قدر ما وسع الله عليه إذا كان غنياً، ثم قال في ضده: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ} وهو الفقير؛ لأن التقدير في لغة العرب: التضييق، ومنه قوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] يعني: ضيق حِلق الدروع حتى لا يؤثر السلاح، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام (فاقدرا له) فالقدر أصل التضييق، وهنا لما قال: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي: كان فقيراً، {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7]، فدلّ على أنه إذا كان ذا سعة وثراء فإنه ينفق من السعة، وإذا كان فقيراً فإنه ينفق على حسب فقره.
فهذا نصٌ واضح في الدلالة على أن العبرة بالرجل وليس العبرة بالمرأة.
أما القول الثالث فقالوا: ينفق بحالٍ مشترك بينه وبينها، فإن كانا غنيين فلا إشكال، وإن كانا فقيرين فلا إشكال، وإن كان غنياً وهي فقيرة أو العكس، نظر إلى الوسط بينهما، فإن كان غنياً نفقة مثله ثلاثة آلاف وهي فقيرة نفقة مثلها ألف، أعطى ألفين وهي وسطٌ بين الثلاثة وبين الألف، فيعطي النفقة الوسطى بين الغنى وبين الفقر إذا كان أحدهما غنياً والثاني فقيراً، وهو مذهب الحنابلة ودرج عليه أئمة المذهب رحمةُ الله عليهم؛ قالوا: نجمع بين الدليلين، نجمع بين حديث هند وبين الأدلة التي دلّت على أن العبرة بحال الرجل، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أن تطعمها مما تطعم، وأن تكسوها إذا اكتسيت)، فهذا يدل على أن العبرة بالرجل.
فقالوا: نجمع بين ما دلّ على أن العبرة بحال الرجل وبين الدليل الذي دلّ على أن العبرة بحال المرأة ونقول ينفق الوسط بينهما.
والذي يترجح -والعلم عند الله- القول القائل: إن العبرة بحال الرجل، فالآية نصٌ واضح في أن العبرة بحال الرجل في الغنى والفقر، ولذا قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، فالمكلف بالنفقة هو الرجل، وبينت الآية الكريمة أنه ينفق في حال الغنى وفي حال الفقر بحسبه دون التفات إلى المرأة.
أما ما استدل به من حديث هند: فأولاً: حديث هند تقدم أن قوله عليه الصلاة والسلام: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فقدر هذا بالمعروف أي: بما تُعورف عليه من نفقة زوجك عليك.
ثانياً: أن الحديث قالت فيه هند: (إن أبا سفيان رجل شحيحٌ مسيك ولا يعطيني نفقتي)، أي: لا يعطيني ما ينبغي أن يعطيه مثله، ولذا قالت: (شحيحٌ مسّيك) فرجعت إلى الرجل، فدل على أن المظلمة قائمة على أنه لم ينفق عليها النفقة التي ينبغي أن ينفقها مثله.
ودليل القول بأن العبرة بحال المرأة محتمل والاحتمال فيه قوي، والقاعدة: أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، ويشترط في ردّ الدليل بالاحتمال أن يكون الاحتمال قوياً، وهنا سياق الحديث يدل على أنه قصر في نفقتها؛ ولذلك ما قال: خذي على حسب حالك، بل قال: بالمعروف، فردها إلى ما تعورف إليه من حال الرجل، وهي قالت في أصل
السؤال
( إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك) أي: إن أبا سفيان رجلٌ شحيح مسيك ولا يعطيني نفقتي أو لا يعطيني مما ماله: أي لا يعطيني عطية مثله، ولذلك قدمت قولها: شحيحٌ مسّيك، أي كان ينبغي أن ينظر إلى غناه فيعطيني نفقة مثله، من الأغنياء.
على كل حال: الآية قوية الدلالة في كون الرجل ينفق على حسب حاله، ونص الله فيها بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وهذا نصٌ قوي على أنه لا يمكن أن يكلف الرجل على حسب المرأة؛ لأننا لو قلنا: إن العبرة بحال المرأة، وكان الرجل فقيراً فقد كلفناه غير ما آتاه الله، وهذا واضح جداً في أن التعارض سيكون قوياً جداً ومصادماً للآية تماماً؛ ومصادمة الآية ليست كمصادمة الحديث؛ لأن دلالة الحديث محتملة.
وكان بعض مشايخنا يقول: إن حديث هند لا يصلح للاستدلال من كل وجه؛ لأنه متردد محتمل من حيث الأصل، فهي اشتكت أن أبا سفيان شحيح مسيك، فرد النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرف، ولم يحدث للحديث تمييز واضح، فليس كالآية التي ميزت ووضحت أن الغني ينفق بغناه، وأن الفقير ينفق بفقره، فليس هناك تعارض؛ لأن القاعدة: أنه لا يحكم بتعارض النصين إلا إذا استويا في قوة الدلالة.
وأما مذهب الحنابلة الذي يقول: نجمع بين الدليلين، فالقاعدة: أنه لا يحكم بالجمع ولا يصار إلى مذهب الجمع إلا إذا ثبت التعارض، ونحن عندنا دليلان، أحدهما: قوي الدلالة كالشمس في أن العبرة بحال الرجل غنىً وفقراً، والآخر محتمل، فيقدم الصريح والقوي؛ لأن القاعدة: أنه إذا أمكن الترجيح يقدم على الجمع، ولا يصار إلى الجمع إلا إذا تعذر الترجيح، فإذا تعذر ترجيح أحدهما لقوة الآخر عليه دلالةً فلا يحكم بالتعارض الذي يبنى عليه الجمع، وبناءً على ذلك: القول الذي يقول: العبرة بحال الرجل، أقوى القولين دليلاً، ثم إننا لو نظرنا إلى الأصول الشرعية لوجدنا أن تكاليف الشريعة إذا كُلّف بها العبد نُظر إلى حاله، فهذا القول أقرب إلى الأصول، وهو أرجح إن شاء الله تعالى.(334/9)
اعتبار النفقة الواجبة في حال التنازع
قال رحمه الله: [ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما عند التنازع].
(يعتبر الحاكم ذلك) أي: تقدير النفقات، وتقدير الكسوة (بحالهما عند التنازع) كما ذكرنا أن الحنابلة قد يجمعون، ويقولون: ينظر إلى حالهما فيخرج الوسط، فإذا تخاصم الزوجان فقالت المرأة: ما أنفق عليّ إلا نفقة قليلة، وقال الرجل: أنفقت عليها نفقة مثلي، فينظر القاضي الوسط بينهما ويحكم، فلو أنفق عليها ألفاً، والوسط ألف وخمسمائة، قال له: أكمل الخمسمائة، ويلزمه بإتمام الخمسمائة التي هي وسط بين النفقتين.
(عند التنازع) إذا قلنا: العبرة بحالهما معاً -كما هو مذهب الحنابلة- يرد
السؤال
قد تكون المرأة تطالب بنفقة مثلها، فيقصر الزوج شهوراً، ثم تشتكي بعد ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وقد تغير الحال وتغيرت الأوضاع، فقد تكون الأرزاق في حال الشكوى غالية، وتكون في حال المظلمة كاسدة، فهل ننظر حال شكواها أو حال ظلمها، وهل تقدر النفقة بحال الشكوى أو بحال المظلمة؟ فاختار جمعٌ من العلماء: أن التقدير يكون بحال الشكوى، ويكون هذا نوعاً من الإسقاط، فتتحمل المرأة هذا الحال ربحاً وخسارة، فإذا كان هناك ربح فلها، أو كانت خسارة فعليها، فالعبرة بالحال عند الشكوى.
ومن أهل العلم من نظر إلى أنه ينظر إلى استحقاق النفقة من حيث هي، فلو كانت النفقة مثل أن يعطيها فيما يكلف ثلاثة آلاف ريال، فإن غلت الأشياء حال الشكوى حتى أصبحت سبعة آلاف وهو الضعف، فإننا نطالبه بالضعف؛ لأن العبرة بحال الشكوى لا بحال المال.
فاعتبر المصنف رحمه الله بحال الشكوى؛ لدلالة حديث هند: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فلم يردها إلى ما مضى، بل جعل الحكم مستأنفاً، قالوا: وهذا يدل على أن العبرة بالحال عند الشكوى.(334/10)
ما يفرض للموسرة تحت الموسر
قال رحمه الله: [فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها].
هناك ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يكونا غنيين موسرين، هي من أسرة غنية وهو من أسرة غنية.
الصورة الثانية: أن يكونا من أسرتين فقيرتين أو متوسطتي الحال، فحينئذٍ يتفق حالهما بما دون اليسر ودون الغنى.
الصورة الثالثة: أن يختلفا فتكون هي غنية وهو من أسرة فقيرة أو العكس، فإذا اتفقا في الغنى ألزمناه بنفقة الغني، وإذا اتفقا في العسر والضيق والفقر ألزمناه بنفقة الفقير، وإذا اختلفا نظرنا إلى الوسط بين غناها وفقره، وفقرها وغناه، فإذا كان الغنى ثلاثة آلاف والفقر ألفاً فالوسط يكون ألفين، فيفرض لها حدود نفقة الألفين.
قال رحمه الله: [من أرفع خبز البلد].
إذا نُظر إلى الغنى واليسر فإنه يختلف، فالغنى طبقات، فإن كانت من أغنى الغنى نُظِر إلى أرفعه، وأوسطه وأدناه، كل شيء له قدر: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، فهم يقولون: إذا قُدّر بغناهما أو بفقرهما نظر إلى الحال؛ لكن المصنف قال: ينظر إلى أرفع الحال في الغنى.
وفائدة المسألة: أنه إذا كان خبزها وطعامها بثلاثة آلاف في أرفع الغنى، وأوسط الغنى فلو كان الغنى يبدأ من الألف، وينتهي بثلاثة آلاف يكون أوسطه الألفان، فينظر إلى حالها في الوسط أو في دون الغنى أو أعلاه.(334/11)
الطعام اللازم للزوجة على زوجها
قال رحمه الله: [وأُدمه].
يعني: ما يؤتدم به مع الخبز، واختلف العلماء رحمهم الله في طعام المرأة: هل الزوج يجب عليه أن يعطي طعاماً مقدراً محدداً فنقول: عليه نصف صاع أو عليه صاع، أم أن النفقة لا تحدد، ونقول له: أنفق بما يسد جوعها بالمعروف؟ الصحيح الثاني.
استدل الذين قالوا: إنه يجب أن تقدّر، بأن الله تعالى وصف الإنسان بكونه مُطعماً بأقل ما في الكفارات وهو ربع صاع أو نصف صاع على خلاف عندهم، فإذا نظر إلى كفارة الظهار فهي ربع صاع، وإذا نظر إلى كفارة الفدية في الحج فهي نصف صاع؛ ولذلك يختلف الضابط باختلاف هذين القدرين؛ فوصفت الشريعة من يعطي هذا القدر بكونه مطعماً، قالوا: فيطعمها في كل يوم هذا القدر، فإذا أطعمها كل يومٍ هذا القدر فقد أطعم.
وجمهور العلماء على أنها لا تقدر وأن الأمر يرجع فيه للمعروف، فلا نقول: عليه ربع صاع ولا نصف صاع ولا صاع، وإنما يطعمها بما يتوافق مع عُرفها وبيئتها، وهذا الثاني أقوى القولين: أنه لا يقدر بحدٍ معين.
قال رحمه الله: [ولحما].
كذلك الإدام واللحم، فمثلاً: إذا نظر إلى أجود اللحم -مثلاً- يكون لحم الغنم، وأجود الغنم الضأن ثم الماعز، ثم بعد ذلك نفس الضأن على مراتب، فقد يأخذ الغني من جدي الضأن، والغني الأوسط يأخذ من أوسطه وطبقة الغنى المطلقة يأخذون بأعلاه، فيلزم بحاله.
أيضاً لحم الدجاج، فلحم الدجاج هو من رزق الله عز وجل، لكنه معروف بكثرة الأمراض الموجودة فيه وكثرة الأضرار، وعدم ملائمته لصحة الإنسان في كثير من الأحوال، خاصةً إذا كان يعلف بالفضلات أو كان مما لا يعتنى بطعامه، فلا شك أن فيه إضراراً بالولد، خاصة إذا كان في بيئة لا يحسنون إطعامه، وهكذا بقية الدواجن، إذا كان علفها يضر، فهذا لا يصرف نفقة ولا يلتفت إليه؛ لأننا قررنا أنه ينبغي على الزوج في نفقته على زوجته، والوالد في نفقته على ولده أن يتقي الله فيما يُطعم.
فإذا ثبت أن طعامهم من أجود اللحم أطعمهم من الضأن، وإذا كان من أوسطه كلحم الإبل أطعمهم من لحم الإبل، وإذا كان من أقله وهو لحم الدجاج والداجن كالحمام ونحوها أطعمهم من الأقل، وقد يكون بعض هذه اللحوم أفضل من بعض، فقد تكون بيئة تفضل لحم الإبل ويكون أفضل ما يكون، وقد تكون هناك بيئة تفضل لحم الطيور وتكون أعز، وقد تفضل -مثلاً- نوعاً من أنواع الطيور، وقد تكون بيئة تفضل الأسماك، فيطعمهم من أجود الأسماك وأوسطها على حسب حالهم، فينظر إلى طعام مثلها من هذا الشيء إن كان في الإدام أو اللحم وما يؤتدم به.
فلو أنه أراد أن يطعمها فأطعمها الخبز دون أن يطعمها ما يؤتدم به فإنه قد قصر، مثلاً: زوج عنده زوجة وأولاد، يطعمهم أرزاً بدون ما يؤتدم به، أو وضع الرز مع إدام بدون لحم، فهذا لا شك أنه يضر بالبدن؛ لأنه يحتاج إلى لحم يكون به قوام البدن وقوة البدن، فجرى العرف عندنا أن يكون الإدام بلحم، لكن لو قال: ما أضع فيه لحماً ولست مطالباً بشيء من هذا، نقول في هذه الحالة: إنه أجحف وأنقصهم عما جرى العرف أن مثله يطعم به.
على كل حال: إن كان اللحم من بهيمة الأنعام أطعم من بهيمة الأنعام، فإن كان من أجوده في عرفه فالواجب الأجود، وإن كان من أوسطه فالواجب الأوسط، وإن كان من أقله فالواجب الأقل، ولا يحرم الرجل أولاده، ويقول: أنا والله أريد أن آكل من الأشياء العادية وما أريد أن أعوّد ولدي على الترف، هذا ليس بصحيح ولا بسليم، فمعنى أنك لا تعودهم على الترف أي: لا تبالغ في حقهم الذي لهم، أما أن تعطيهم قدر الكفاية فهذا ليس من الترف، بل هذا قيام بالواجب، وليس للإنسان فيه منّة على ولده؛ لأنه واجبٌ عليه في الأصل.
فيفرق في هذه القضية، فبعضهم يقول: أنا أريد أن أربيهم على شظف العيش وعلى الخشونة، والمنبغي أن يثق كل إنسان أن التربية ليست تربية الأكل ولا الملبس، التربية تربية الروح، فيغرس في قلبه تقوى الله عز وجل، والزوج والوالد الذي يكون قدوة في قوله وفعله ويغرس في أولاده المعاني الطيبة الكريمة، يكون قد قام بحق ولده على أتم الوجوه وأكملها، أما أن يجعل ذلك عن طريق الطعام والشراب، فهذا قد يكون في بعض الظروف، وبقدر، وفي أحوال خاصة، لكن أن يكون هو الشيء المطرد فلا؛ لأن هذا يجحف كثيراً بالأولاد ويجحف بالزوجة.
فالزوجة تتضرر بين أخواتها وقريناتها وأهلها وذويها ومجتمعها، فإنها تتضرر إذا منعت حقها، ويدخل الشيطان في إفساد الزوجة على زوجها، فيجب أن يطعمها الخبز والإدام واللحم بالمعروف، وفي هذه الثلاث مع خبزٍ يؤكل وإدام يؤتدم به ذلك الخبز؛ لأنهم في القديم كانوا يأكلون الخبز والإدام، وكان البرُّ في القديم يُعصد أو يصنع على أرغفة، فإذا صُنِع -عُصِد- كالعصيدة ونحوها لا بد له من إدام، وهذا الإدام يكون قوياً نافعاً باللحم، فذكر المصنف هذا، ولا زالت بيئات المسلمين إلى يومنا موجوداً فيها هذا الشيء، حتى في زماننا نجد الأرز أشبه بالخبز، ونجد له ما يؤتدم به، ونجد قوة في هذا الذي يؤتدم به إما أن يكون مع الرز أو يكون مع الإدام مثل اللحم، فهذه أشياء ذكرها المصنف رحمه الله وهي موجودة في أعراف المسلمين، وتكون قواماً لهم في أقواتهم.
قال رحمه الله: [عادة الموسرين بمحلهما].
عادة الموسرين؛ لقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:236]، والقاعدة: أن العادة محكمة، والمرجع في هذا إلى بيئتها وفي حق أمثالها من النساء.
فلو كان الأغنياء في المدينة التي هو فيها يأكلون اللحم، وفي مدينة أخرى أهلها وذووها يأكلون نوعاً هو أجود وأرفع من هذا النوع الموجود في بيئته، فإننا لا نطالبه بما في المدينة الأخرى، إنما نطالبه بما هو موجود في قريته أو مسكنه أو مكان عمله الذي انتقل إليه، فينظر أجود الطعام فيه، إلا إذا كان فيه ضرر أو كان مضراً بصحتها، فهذا شيءٌ آخر.(334/12)
الكسوة اللازمة للزوجة على زوجها
قال رحمه الله: [وما يلبس مثلها من حرير وغيره].
بعد ما بين الطعام انتقل إلى الكسوة، فينظر إلى كسوة مثلها في بيئتها والمحل الذي هي فيه، فإذا كانت المرأة الغنية تلبس -مثلاً- في حدود (3000)، والوسط في حدود (2000)، والفقيرة في حدود (1000)، فالأعلى (3000) والأدنى (1000) والوسط (2000)، ففي هذه الحالة إن كان من الأغنياء أنفق كسوة الأغنياء بثلاثة آلاف، وإن كان من الفقراء أنفق كسوة الفقراء بالألف، وإذا كان فقيراً فأنفق بالألف والخمسمائة أو أنفق بالألفين دون أن يكون هناك ضرر، وقصد فيما بينه وبين الله عز وجل إدخال السرور على أهله، وجبر خاطرها، واحتساب الأجر عند الله، فهو داخلٌ في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركُم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، فهذا من الخيرية، شريطة أن لا يكون هناك شيء يفسدها أو يضرها في دينها، أو يتسبب في الفتنة لها، مثل الألبسة والأكسية التي فيها محاكاة للكفار أو تعين الكفار على المسلمين أو نحو ذلك، فهذه تُتقى، وينبغي أن لا يعينها على ذلك، وأن لا يفتح على نفسه باب الفتنة بكسوتها بهذا النوع من الألبسة.(334/13)
الأثاث اللازم للزوجة على زوجها
قال رحمه الله: [وللنوم فراش ولحاف وإزار ومخدة].
هذا بالنسبة لأثاث الزوجة، فهناك طعامها ولباسها وأثاثها، فلها أثاث بالمعروف، وإذا تزوج امرأة فالواجب أن يؤثث بيته بما يتفق مع حاله هو، ويكون هذا الأثاث بما ترتفق به في منامها فقال رحمه الله: [وللنوم فراش].
أي: فراش يكون فراش النوم بحاله هو، غِنىً وفقراً وما بينهما، فإذا كان غنياً يأتي بفراش الغني، وإذا كان فقيراً يأت بفراش الفقير، ولا بد من وجود الفراش.
[ولحافٌ] أي: لحاف الفراش لا بد منه.
[وإزار] أي: وإزار تأتزر به، [ومخدة]: والعرف في ذلك محتكم إليه، وفي القديم كانت هذه الأشياء بالبركة، وكان الناس في عافية من الفتن التي صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كشف الله له عما يكون من الفتن، فأخبر عن عظيم ما يكون في الأمة، فالرجل في القديم لا يجد إلا القليل معه، ومع ذلك تجد المرأة سامعة مطيعة في بيتها تكتفي بالقليل، وهذا القليل خرجت منه من الذرية ومن الأمة من نفع وقاد الأمة علماً وعملاً، وصلاحاً وتقوى، مما يدل على أن المظاهر ليست هي كل شيء، فهذه الأمة قادت العالم من المحيط إلى المحيط، وكانت على أقل ما يكون الحال من اليسر والرضا والقناعة، وما كانت أمورها تسير إلا بالرضا عن الله جل وعلا، وهؤلاء أئمة الإسلام يذكرون ما كان عليه بيوت المسلمين.
وأما اليوم فكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: تجده شبعان ريّان جالساً على أريكته قلّ أن يذكر الله جل جلاله، نسأل الله السلامة والعافية، ولربما تجده شبعان ريان جالساً على أريكته يستهزئ بالإسلام وبأهل الإسلام وبأهل الاستقامة، فشاه وجهه وخرس لسانه، لا يحمد النعمة ولا يعرف ما هو فيه من الخير الذي أعطاه الله عز وجل؛ لأن الله نزع البركة منه، وكل هذا بسبب عدم الشكر.
وعلى كل حال: فهذه أمور ذكرها العلماء على أساس أقل ما يجزئ، وفي زماننا أثاث البيت يكون بما هو مناسب للعرف، فهناك غرف للنوم تكون للغني وتكون للفقير وتكون للمتوسط، فإن كان حاله حال غنى جعل أثاث بيته أثاث الغني، ويتقي الله عز وجل في زوجته؛ لأنها تزوجت كما زوجت أخواتها وقريباتها، وهذا يضرها إذا كان أثاث بيتها على النقص مع قدرة زوجها على أن ينفق عليها نفقة الأغنياء، وهكذا بالنسبة لما يكون به هذا الأثاث من الفراش.
وأما الشيء الزائد عن الأصول مما فيه بذخ وفيه إسراف، مثل السيارات التي تشترى، والألوف التي توضع في المظاهر الشكلية التي لا قيمة لها ولا نفع لها، فهذه ساقطة أي: ليست محسوبة، وليس بملزم بعرف يعارض الشرع، وهذه الأشياء ليس فيها فائدة، فعندما يشتري عربية وفيها ثلاثة أو أربعة صحون توضع فقط عند الباب، ماذا تفيد غير المظهر والشكل؟! فتنفق أربعة آلاف أو خمسة آلاف تغني ما لا يقل عن خمسين أو مائة بيت من ضعفاء المسلمين وفقرائهم، كلها تذهب في هذا الشيء الذي لا معنى فيه، نحن ما نقول بالعرف إلا بأمور: أولاً: أن يكون هذا العرف غير معارض للشرع، فلو قال قائل: هذا جرى به العرف، نقول: نعم، لكن شرط الاحتكام إلى العرف في مثل قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، في الأمر بالنفقة بالمعروف، وأمره عليه الصلاة والسلام بالمعروف شرطه أن لا يتضمن مخالفة شرعية، فلما يشتري شيئاً بالمائة والمائتين والثلاثمائة والأربعمائة والخمسمائة على أنه صورة وزينة في البيت لا ينفع ولا يفيد فإنه إسراف، والإسراف مخالف للشرع، فحينئذٍ لا يعتبر عرفاً مؤثراً، ولذلك يقولون: إن العادة لا تكون محتكماً إليها إلا إذا وافقت الشرع أو كانت على المباحات، أي: الأشياء المباحة التي لا تضاد الشرع، قالوا: وليس بالمفيد جري العيد لخلف أمر المبدئ المعيد (فليس بالمفيد جري العيد) يعني: جريان العادة (لخلف أمر المبدئ المعيد) يعني: بخلاف الشرع، ومن هنا قالوا: لو جرى العرف بالمخالفة للشرع من إسبال ثوبٍ، أو جرى العرف بزينة للنساء تكون للرجال أو نحو ذلك من المحرمات، لا يكون عرفاً مؤثراً، فإذاً: الشرط ألا يعارض الشرع.
ثانياً: أن يكون هذا العرف مطرداً، فلا يكون لبعض الناس دون بعض، فإذاً نلزمه بفراش وأثاث البيت على حاله من الغنى والفقر فيما يكون في حدود الشرع، دون أن يكون مرتكباً لمحظورٍ ومنتهكاً لحدٍ أو حرمةٍ من حرمات الله عز وجل.
قال رحمه الله: [وللجلوس حصير جيد وزلي].
فراش البيت في القديم كان الحصير، والحصير كان من سعف النخل، وأيضاً يكون من الجريد، وفي بعض الأحيان تكون الخيوط مع السعف، هذا ما كان في الأعراف في القديم، وكانت هذه الأشياء يصنعها المسلمون وينتفع بها المسلمون ويبيعها المسلمون ويشتريها المسلمون، فأموالهم تؤخذ منهم وتدفع إليهم، وكان أعداء الإسلام يشترون من المسلمين، وما كان المسلمون بحاجة إليهم، ولذلك لما كان المسلمون هم الذين يسدون حاجاتهم كانوا في خير ونعمة، وأموالهم كانت لهم، وقل أن تجد أحداً عاطلاً عن العمل، وقل أن تجد أحداً لا يجد كفايته؛ لأن الله وضع لهم البركة، فتجد الخير والبركة، حتى أن الرجل يصنع من سعف النخل فراش بيته، ويصنع سقف بيته من جريد النخل ومن جذوع النخل، ويصنع منه سفرة طعامه، ويصنع منه الكرسي الذي يجلس عليه، ويصنع منه المروحة التي يروح بها، وهذا من البركة التي وضعها الله عز وجل للمسلمين.
ولا يظن أحد أننا نتكلم عن خيالات، ونحن نتكلم بهذا لما أصبح البعض يظن أنه منقصة وهو كمال، ويظن أن هذا مذمة وهو شرف وليس بعيب أبداً، هذه الأمة التي كانت في أوج عزها وعظمتها هكذا كانت، كانت بمبادئها، لكن منذُ أن لهث المسلمون وراء الأعداء أصابتهم الذلة التي لا يمكن أن ينزعها الله عنهم إلا إذا رجعوا إلى دينهم ورجعوا إلى ما كانوا عليه، فيضع الله لهم البركة في عمرهم كله.
فالنفقة والكسوة والحصير والفراش يرجع فيه إلى العرف، فإذا كان العرف سائداً وجارياً بالغنى، أن يفرشها من الفراش الجيد فنقول له: يجب عليه جيد الفراش، وإذا كان هناك ما يسمى بالموكيت أو الفراش المفصل فنقول: أفرشها منه، ولكن إذا كان غنياً فمن الأجود، وإن كان فقيراً فمن الأقل، ويقاس على هذا بقية ما يكون من لوازم البيت وأثاثه.
قال رحمه الله: [وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد].
كذلك مثلما تقدم، ذاك في أعلاه وهذا في أدناه، قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، فلا يطالب بأن ينفق نفقة الغني وهو فقير، والمصنف رحمةُ الله عليه نظر إلى أن المرأة لها حق أن تقدر النفقة بحالها، ونحن بينا أن المرأة لا يلتفت إليها وإنما يلتفت إلى الرجل والعبرة بحال الرجل، وبناءً على ذلك: إن كان غنياً أنفق نفقة الأغنياء من مثله وإن كان فقيراً فعكس ذلك.
قال رحمه الله: [وأدم يلائمها].
كما تقدم.
قال رحمه الله: [وما يلبس مثلها ويجلس عليه].
(ما يجلس عليه) الذي هو الأثاث الذي تقدم في الحصير.
قال رحمه الله: [وللمتوسطة مع المتوسط].
ينظر إلى الاثنين، إذا كان متوسطاً أو كان غنياً أو فقيراً، ولذلك ذكر الموسرة تحت الموسر، وللفقيرة مع الفقير، وللمتوسطة مع المتوسط، أما إذا كان كما ذكرنا أن العبرة بحال الرجل، فحينئذٍ ينظر إلى حاله غنى وفقراً ثم إذا كان وسطاً فتقدر نفقته بنفقة الوسط.
قال رحمه الله: [وللمتوسطة والغنية مع الفقير، وعكسها، ما بين ذلك عرفا].
هنا خالف الحنابلة رحمهم الله ما ذكرناه راجحاً من مذهب الشافعية، فقالوا: إنه ينظر للغني مع الفقير، والفقيرة مع الغني إلى الوسط بين الغنى والفقر، وقلنا: الصحيح أن العبرة بحال الرجل لا بحال المرأة، فلا تأثير للمرأة في النفقة.(334/14)
الأسئلة(334/15)
كيفية إنفاق من له زوجتان إحداهما لها أولاد دون الأخرى
السؤال
إذا كان للزوج أكثر من زوجة، وبعضهن لديها أولاد والأخرى ليس لديها ولد، هل يجب على الزوج أن يساوي في عطيته أو ينظر إلى ذات الولد من زوجاته؟
الجواب
هذا السؤال متعلق بحق القسمة بين الزوجات والعدل بين الزوجات، فإذا كانت الزوجة عندها أولاد زاد في نفقتها بنفقة أولادها، مثلاً: عنده زوجتان: واحدة من الاثنتين ليس عندها أولاد والثانية عندها ولدان، فرضنا أن رأس كل واحدة في نفقتها -مثلاً- في حدود خمسمائة ريال، والأولاد كل واحد منهم يكلف مائتين، فهذه عندها ولدان، معنى ذلك أنها تستحق أربعمائة ريال، لكل واحد مائتان، والأربعمائة مع الخمسمائة التي هي رأس لها تصير تسعمائة ريال، فيعطيها تسعمائة ريال، خمسمائة مستحقة لها وأربعمائة لولديها، والتي لا ولد لها يعطيها فقط خمسمائة نفقة الرأس ولا يلزمه أن يزيد؛ لأنه ليس عندها موجب للزيادة، فالأصل أن ذات الولد تعطى نفقة ولدها؛ لأن هذا ليس لها هي وإنما لولدها، وهذا لا يضر بالعدل والقسم بين الزوجات، والله تعالى أعلم.(334/16)
إنفاق الرجل على أهل زوجته
السؤال
هل للزوجة أن تطالب بنفقة أهلها وإطعامهم إذا لم يكن هناك من يعول أهلها؟
الجواب
هي تطالبه تكرماً وتفضلاً وإحساناً منه إليهم وصلة للرحم، عل الله أن يخلف عليه ويبارك في ماله، وكم من زوج موفق كان دخوله على أهل زوجته خيراً وبركة، فتجده لا يقصر في الإحسان إلى رحمه، ولا يقصر في النفقة، ولا يقصر في الجاه، وإذا وجد منهم حاجة سدها أو خلة قام بها، ينظر هل يحتاجون إلى جاهه وشرفه، فيقوم بذلك ما يستطيع، فيكون نعم الرحم لرحمه.
وهذا من توفيق الله للعبد أن يعيش مرضياً عنه بين والديه، مرضياً عنه بين قرابته، مرضياً عنه بين عشيرته، مرضياً عنه بين رحمه، تسأل أقرب الناس عنه فلا يذكرونه إلا بخير، ويقولون: نعم الرجل، حافظٌ للرحم وصول لهم.
وما استقامت أمور الأمة إلا بهذه المكرمات والفضائل، فتجد الرجل ينظر إلى مقام المحسنين ولا ينظر إلى مقام الإجزاء فقط.
نقول: إنه ليس بواجب عليك الإنفاق عليهم، وليس من حقها أن تلزمك بهذا، ولكنها فتحت عليك باب رحمة، إن أردت أن يرحمك الله وإن أردت الخير والبركة فاحتسب، وإنه والله مما يقرح القلوب أن تجد الرجل قوي الهمة ينظر إلى الفقراء يميناً وشمالاً، ويلهث في سد حوائجهم ولا ينتبه لأقرب الناس منه، تجده يفيض الله عليه المال فإذا جاء ينظر إلى الغريب ولو كان عنده كفاية يقول: هذا مسكين، وإذا نظر إلى قريبه دقق في كل شيء، فلو وجد عند قريبه أقل المال ظن أن قريبه غني فيصرف عنه كل خير منه، وهذا من الحرمان، نسأل الله العافية.
ومن توفيق الله للعبد وتسديده وإلهامه الرشد أن يبدأ بأقرب الناس منه؛ ولذلك يقعد الشيطان للإنسان بالمرصاد، وانظر إلى أي مسألة فيها إحسان إلى أقربائك تجد الشيطان يدخل عليك من المداخل التي لا يعلمها إلا الله، فتارةً يقول لك: لا تعطهم، إنك إذا أعطيتهم أفسدتهم، وتارة يقول لك: إذا أعطيتهم تسلطوا عليك ثم غداً يأتونك وهكذا، وتارةً يقول لك: إذا أعطيتهم يذهبون ويخبرون الوالد والوالدة، والوالد والوالدة يغضبون عليك، ويصير الشيطان فقيهاً لا يريد لك غضب الوالدين!! وهو لا يريد الخير للعبد بل يريد أن يسلبه الخير، ولكن الموفق السعيد يقول: أنا أعطي وأما العواقب فعلى الله، أنا أعطي وأرجو من الله رحمته فيجد أن تلك الوساوس تزول، وبمجرد ما يعطي يجد في قرارة قلبه عاجل البركة والخير، وهذا مجرب.
فليس هناك أشياء وجدناها أكثر نفعاً وأسرع وأحسن عاقبة من صلة الرحم، وهي من أسرع الأشياء بركة على الإنسان، سواء من الإخوان أو الأخوات أو أولاد الأسرة من أولاد الأخوات والأعمام والعمات، كأولاد العم وأولاد العمة وأولاد الخال وأولاد الخالة، فالمسارعة إليهم وقضاء حوائجهم، تجد دونه من الفتن والمحن ما الله به عليم، ولكن ما أن تضع قدمك على أول الطريق إلا نفحتك من رحمات الله ما لم يخطر لك على بال؛ لأنه قال: (فمن وصلها وصلته)، فتحصل بركة العمر، وبركة الرزق، فينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويزاد له في عمره، ومن أراد أن يجرب ذلك فليجرب.
فمن نعم الله عز وجل على العبد، أن يحرص على أهل الزوجة، فإذا جاءت الزوجة واشتكت أن أقربائها أصابهم شيء، وتأثرت، فيقول لها: أبشري وأرجو من الله أن يجملني معك، حقك وحق أهلك عليّ عظيم، والشيطان يقول: لا تقل هذا الكلام؛ لأنك إذا قلت هذا الكلام تحدث مشكلة، ربما تذهب وتقول للوالدين، وإذا قلت هذا الكلام سوف تخربهم عليك، وغداً سيأتونك ويفتحون لك باب عطاء وكذا.
وقد كان مسطح يتكلم في عائشة يتهمها بالزنا، وهو قائم بعد الله على أبي بكر في صدقاته ونفقاته.
ومنذُ أن تكلم أقسم أبو بكر أن لا يعطيه، فينزل القرآن من فوق سبع سماوات في رجلٍ افترى الفرية وقذف عائشة، وليس هناك أعظم بعد الدين من العرض، وهذا الأمر ليس بالسهل في ثاني رجلٍ في هذه الأمة وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:22]، نهاهم أن يحلفوا امتناعاً عن الفضل والإحسان للقريب من فوق سبع سماوات، مع أنهم آذوه أذية عظيمة، وقطع الرحم الذي بينه وبين أبي بكر بقذفه لابنته وفراش النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن ناحية دينية: كونها فراشاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ناحية الرحم والقرابة: كونها بنت ابن خالته وقريبه، ومع هذه الإساءة كلها أمر القرآن بالإحسان إليه: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]، كأنه باب مغفرة، فلا تفوت على نفسك يا أبا بكر.
فرجع أبو بكر عن يمينه وكفر عنها ورجع إلى الخير الذي كان، إن لم يكن قد زاده عما كان فيه من خيره، فالواجب على الإنسان أن لا يفوت مثل هذا، ومن المكرمات لأناس أن الله عز وجل فتح عليهم فجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومن الناس من جعله الله عز وجل يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله يقول: (ومن الناس)، أي: وليس كل الناس: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
فيجرب الإنسان حينما تأتيه زوجته في ضائقة لأبيها أو أمها، فإذا بلغته الضائقة قامت له الدنيا وقعدت كأنه أبوه وكأنها أمه، وقال لها: أبشري بكل خير، وأرجو من الله أن يجملني معك، ثم قام وسد الخلة حتى ولو يتحمل، وكم في قصص السلف من المواقف الجليلة والحوادث الغريبة في الإحسان للرحم، وما عادت لصاحبها إلا بكل خير في دينه ودنياه وآخرته، بل منهم من تأتيه الإساءة من الرحم فيقابلها بالإحسان ويقف موقف الذليل، وهذا كله إحسان لأخته أو رحمه.
أحد الأخيار كان له زوج لأخته، فضرب أخته ذات يوم وطردها من البيت، وكان هو المخطئ -وهذا يحدثني به الرجل- وكان الرجل الذي هو أخٌ لهذه الزوجة حافظاً للقرآن من أهل الفضل في المدينة رحمةُ الله عليه، وكان من أصدقاء الوالد ومن الناس الذين قل وجودهم في هذا الزمان، وكان من أكرم الناس وأسمحهم نفساً فيما علمت منه، أحسبه ولا أزكيه على الله في بره للناس، حتى أنه كان يفطر في رمضان ولا يخرج من المسجد حتى يملأ سيارته من الفقراء والضعفاء، ولا يمكن أن يفطر في رمضان أو يتغدى أو يتعشى في أيام عادية إلا بضيف، وهذا مما عرف عنه واشتهر.
هذا الرجل يحدثني صهره بعد موته -الذي هو الزوج- يقول: أهنتها وضربتها وأخرجتها من البيت -وكان رجلاً عصبياً- يقول: ففوجئت وأنا جالس في محلي بعد صلاة الظهر في عز الظهيرة، إذا به قد هجم عليّ، وأنا أحترمه كثيراً، لكن طاش عقلي من شدة الغضب، قال: فدخل عليّ وقبل خشمي على عادته وعادة الجماعة -يقولون: هذه كبيرة عندنا- يقول: أنا المخطئ وأنا المسيء، فإذا به يقبل خشمي، ويقول لي: أسألك أن تعفو عن فلانة، يقول: والله ما تمالكت نفسي بالبكاء، شيء لا يمكن أن يتخيل! الرجل ينزل نفسه هذه المنزلة، وهذا الرجل له مكانة، ومن أعيان المدينة الذين لهم قوة ولهم مكانة كبيرة، ومع ذلك يأتي صهره هذا الذي هو بائع في دكان ضعيف الحال، لكنه كان بعيداً عنه: فإذا به يأتي في عز الظهيرة وليس بمجرد ما جاءت أخته تشتكي جاء يقول له: ماذا فعلت بها؟ أو أرسل له رجلاً من أجل أن يتفاهم معه، أو اتصل به، بل جاء يغبر قدميه إكراماً لأخته، وإكراماً لوالديه؛ لأن الوالد إذا مات، فمن بر الوالدين أن تحفظ وترعى الأخت، وترعى فلذة كبده، ترعاها في شئونها وحالها، وتعلم أن هذا يصلح حالها ويصلح به، يقول: والله منذُ تلك الحادثة لا أستطيع أن أرفع وجهي في وجهه، ويقول: إذا حضرت معه في مناسبة خجلت خجلاً عظيماً، قتلني بسر الحياء.
قال: ما أظن أن يبدر هذا ذكاء منه أبداً، لكني أعرف أن هذا جاء من طيبته ومن سلامة صدره ومن حرصه على الرحم، فليس هو بمتكلف، فقتلني بهذا الموقف.
فأصبحت تستأسد علي في بعض الأحيان حتى لو كانت مخطئة يقول: في القديم ربما كنت أضربها، وضربتها أكثر من مرة وآذيتها، يقول: لكن تلك المرة لما كانت الأمور شديدة ضربتها بقوة فاشتكت، يقول: فمن بعدها ما رفعت يدي عليها، وأصبحت في هذا الموقف، ولا شك أن الإنسان الموفق موفق، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أهل الخير وأن ييسره لنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(334/17)
شرح زاد المستقنع - كتاب النفقات [2]
ينبغي للزوج أن يرعى حق زوجته في النفقة فيما تحتاجه، ومن هذا أن يأتيها بما تحتاجه في نظافتها، لأنها من الأمور المهمة للنساء، وأما ما عدا ذلك من دواء لها أو أجرة لطبيب فهذا غير لازم عليه.(335/1)
ما يلزم الزوج وما لا يلزمه من مؤن النظافة والخدمة والدواء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:(335/2)
إلزام الزوج بمئونة نظافة زوجته
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وعليه مئونة نظافة زوجته دون خادمها] أشار المصنف رحمه الله في هذه المسألة إلى أن الزوج ملزم بدفع التكاليف التي تتعلق بمئونة تنظيف الزوجة، وقد نص طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن الأمور التي تحتاجها المرأة للتنظيف من السدر والأشنان يلزم الزوج أن يهيئ ذلك لها؛ لأن هذا مما يتحقق به المقصود من النكاح.(335/3)
حكم إخدام الزوج لزوجته
أما بالنسبة لمن يخدمها، وهي المرأة التي تقوم على خدمتها، فليس بملزم بنفقتها، وإنما يختص الحكم بالمرأة نفسها، وهذا متعلق بالمسألة التي ذكرناها من أن بعض النساء يلزم الزوج بإخدامهن، وذكرنا أن ذلك مبني على العرف، وأنها إذا كانت من بيئة يخدم مثلها فإنه يجب على الزوج أن يخدمها وأن يحضر لها خادمة، فإذا أحضر لها الخادمة فإنه لا تلزمه مئونة تنظيف الخادمة؛ لأن الاستمتاع بالزوجة وليس بالخادمة، ومن هنا تلزمه مئونة الزوجة دون مئونة الخادمة.
وعندما قال: (وعليه) دل على أنه أمر لازم وواجب عليه، وفي زماننا ما يكون من الصابون وأدوات التنظيف التي تحتاج إليها المرأة للنظافة إذا اغتسلت، فتحتاج مثلاً إلى الليف الذي تتنظف به في جسدها، وتحتاج إلى الصابون، وتحتاج إلى بعض المطهرات في الحدود التي يستطيعها الزوج.
وأما إذا أراد الأكمل والأفضل فزادها وطلب لها الأفضل والأكمل في هذه الأشياء، فهذا أجره أعظم عند الله عز وجل؛ لأنه من كمال العشرة، ومن كمال الإحسان، بشرط ألا يصل إلى الإسراف.
فإذاً: من حيث الأصل: على الزوج تهيئة الأدوات التي تحتاجها المرأة للنظافة، ومن هنا إذا احتاجت ماءً لتغتسل به فإن عليه أن يحضر هذا الماء، وكذلك أيضاً إذا احتاجت إلى الصابون والمطهرات، وفي زماننا الأشياء المنظفة المعروفة في كل زمان بحسبه، يحضر هذه الأشياء إليها.
ولذلك تتضرر المرأة ويضيق عليها الأمر إذا كانت لا تجد هذه الأشياء، فلو عاشت مع زوج لا تجد ما تتنظف به فإن هذا يؤذيها ويضر بها، ولا يحسن منها التبعل لزوجها.
ومن هنا قالوا: إن هذا يحقق مقصود الشرع من حصول الألفة والمحبة، والمرأة إذا تزينت لزوجها وتجملت لبعلها في الحدود الشرعية دون إسراف ولا بذخ ولا مشاكلة لأعداء الإسلام، فإن هذا يبعده عن الفتنة، ويعينها على العفة، ويمكنها من أن تحسن لبعلها أكثر.
وكان هذا محفوظاً حتى في السير وأخبار الصحابيات أنهن يتزيَّنَّ ويتجملن، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (فتمتشط الغائبة وتدّهن) وهذا يدل على أن المرأة تتجمل لبعلها وتتزين لبعلها، فيشمل هذا أدوات التنظيف -كما ذكرنا- وأدوات التسريح للشعر، وأدوات الحلاقة التي تحلق بها أو تنتف بها شعرها، مما جرى العرف به في كل عرف بحسبه.
في القديم كان الصابون وكانت أمشاط العاج على اختلاف طبقات النساء، وفي زماننا توجد مساحيق طبيعية ليست مشتملة على مواد محرمة، ويمكن للمرأة أن ترتفق بها، فهذا يحبب الزوج لزوجته.(335/4)
حكم معالجة الزوج لزوجته
قال رحمه الله: [لا دواء وأجرة طبيب] أي: ليس على الزوج أن يداوي زوجته، وليس على الزوج أن يعالجها إذا مرضت، وهذا محل إجماع واتفاق بين المذاهب الأربعة رحمة الله عليهم وغيرهم، فكلهم نصوا على أن الزوج ليس ملزماً بعلاج زوجته، وذلك لأن المرض متعلق ببدنها، وهذا أمر يتعلق بذاتها وليس له صلة بالحياة الزوجية، صحيح أنه لا يمكنه أن يستمتع بها إلا إذا شفيت، هذا شيء لا يعنيه، مثل ما لو استأجر أجيراً لعمل فمرض الأجير، فليس من حق الأجير أن يطالب بعلاجه.
وإن كانت في بعض القوانين والأعراف تُلزم رب العمل بمداواة الأجير، ولكن هذا ليس له أصل في الشرع، فالأجير بيني وبينه عقد أن يقوم ببناء أو أن يقوم بعمل ويأخذ أجره، أما أن أكلف بعلاجه ودوائه فهذا ليس له أصل شرعي يدل عليه، وهذا هو المعروف عند العلماء.
ولذلك لما ذكروا مسألة الزوجة أنه لا يجب تطبيبها قاسوها على مسألة الإجارة، كما نبه على ذلك الإمام ابن قدامة وغيره رحمة الله عليه؛ لأن طب البدن نفسه من مصلحة الزوجة لذاتها، وإن كان لا يستطيع أن يحقق مقصوده من الاستمتاع بها.
إذاً: إذا أحب أن يتفضل فهذا فضل منه وليس بفرض عليه، فليس بواجب عليه أن يعالج زوجته، ولكن من المعروف والإحسان أن الزوج يقوم على معالجة زوجته، ويسعى في تطبيبها ودوائها، وهذا من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل؛ لأن فيه إحساناً إلى أقرب الناس إليك بعد والديك وهي زوجك وحِبك وأهلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
والعلاج ينقسم إلى: طب دوائي وطب وقائي، فإن خرج عن الطب العلاجي والوقائي إلى أمور بعضها قد يكون معارضاً للشريعة، فحينئذٍ لا، فإذا كانت المرأة محتاجة لعلاج ضروري لإنقاذ نفسها من أمراض كأمراض القلب وأمراض الشرايين -أعاذنا الله وإياكم منها- ونحو ذلك من الأمراض المميتة، فهذه ضرورية، أو كانت حاجية كآلام الضرس ونحوها، فهذه حاجية؛ لأن فيها حرجاً، أو كانت وقائية مثل أن تستخدم بعض العقاقير لأمر يغلب على الظن أنها وقوعه، وبعض العقاقير التي يقصد منها التحصين من الأمراض ونحوها.
أما إذا خرج عن الدواء والوقاء وأصبح من الفضول، أو أصبح مخالفاً لمقصود الشرع مثل: وضع اللولب، فهذا ليس بعلاج ولا دواء، وليس بوقاية من حيث الأصل، وفيه استباحة الفرج مع اشتماله على المحاذير، من استباحة النظر إلى الفرج، والإيلاج في الفرج، ومس العورة وكشفها، وكذلك إرباك العادة، فإنه يربك العادة، مع أنه يخالف مقصود الشرع؛ لأنه يقطع النسل في مدة وجوده، ومقصود الشرع من الزواج التكاثر والتناسل.
ولذلك لما ضعف إيمان الناس في هذا الزمان إلا من رحم الله عز وجل، وأصبحت المرأة تشتكي من الحمل؛ أصبح كل شيء ضرورياً، وأصبحت تقول: ضرورة.
مع أن الله عز وجل أثبت أن الحمل كره وأنه وهن على وهن، وأنه عذاب، ولماذا أعطى الله الأم من الحق ما لم يعطه للأب، وأعطاها من الفضل والخير والأجر، حتى إنها لو ماتت في نفاسها فهي شهيدة؟ هذا كله يدل على أن الشرع له مقصود في هذا.
فالمقصود أنه إذا كان علاجها مشتملاً على تغيير الخلقة، أو مشتملاً على محذور، فهذا لا يعالجه؛ لأنه إذا عالجها على هذا الوجه أعانها على معصية الله عز وجل.
فيداويها ويعالجها إذا احتاجت، أما إذا كان العلاج للحمل، فالحمل واجب عليه أن ينفق عليه وأن يقوم عليه؛ لأن الولد ولده، ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فبيّن سبحانه وتعالى أن الحمل مستحق لوالده، ولذلك يُلزم بالنفقة عليه، فإذا احتاجت لدواء لهذا الحمل وجب عليه أن ينفق على هذا الجنين؛ لأن حياته ونجاته بإذن الله عز وجل موقوفة على هذا الدواء أو هذا العلاج، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك يجب عليه أن ينفق، ونفقة حياة الجنين والمحافظة على حياة الجنين أعظم من نفقة ما يتبع ذلك.
ولذلك يجب عليه أن يعالج المرأة إذا كان ذلك متعلقاً بحملها، بناءً على ما قرره العلماء رحمهم الله من أن المولود له، وأنه يطالب بنفقة الحمل.(335/5)
الأسئلة(335/6)
حكم نفقة الزوج على زوجته إذا أنفق عليها أولادها
السؤال
هل تبرأ ذمة الزوج من النفقة إذا قام بها الأولاد لأمهم؟
الجواب
الأولاد ليسوا مطالبين بالنفقة مادام الزوج موجوداً، فالواجب عليه أن ينفق على زوجته وأن يتقي الله عز وجل في امرأته ويعطيها حقها، لكن لو تبرع الأولاد ورضي هو فلا بأس، ولكن الأصل يقتضي أنه هو الذي ينفق، ولا شك أن الأم تتضرر بنفقة ولدها عليها؛ لأن ولدها إذا أنفق عليها اكتسب المنة عليها.
فالأصل أن ينفق عليها زوجها، وأن يطالب الزوج بالقيام بحقها، وأن يتقي الله عز وجل، ولو كانت نفقته واجبة على أحد وأسند ذلك الشخص النفقة إلى من هو أصغر منه سناً لتمعر بذلك وتضرر وتألم، فلا شك أن في هذا غضاضة على المرأة وأذية لها أن تأخذ نفقتها من ولدها، ولو أن الولد يتشرف بذلك؛ لكن ليس كل الأولاد يحسن الملاطفة والإحسان لمشاعر والدته.
ومن هنا الأصل يقتضي أن الوالد هو الذي ينفق ويقوم بالنفقة، فإذا رضيت الأم وتسامحوا وتشاوروا عن تراض منهم فهذا شيء لا يتكلم فيه، لكن أن يشتمل على الإهانة والضرر لمكانة الأم والإذلال لها بنفقة ولدها عليها فلا؛ لأنه حق واجب على الزوج، ولا يجوز أن تمتهن في حقها، بل واجب عليه أن يؤدي هذا الحق كما أمره الله عز وجل.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (حقها عليك أن تطعمها مما تطعم وأن تكسوها إذا اكتسيت) وهذا يدل على أنه متعلق بالزوج، وأن على الزوج أن يتقي الله عز وجل في نفقة زوجته.
والله تعالى أعلم.(335/7)
عبر وعظات من غزوة بدر
السؤال
في غزوة بدر كثير من المواقف والعبر، هلا حدثتمونا فضيلة الشيخ بشيء من ذلك؟
الجواب
غزوة بدر ملحمة من ملاحم الإسلام، ويوم من أيامه الجميلة العظام، أعز الله فيه جنده ونصر عبده وأعلى كلمته، وصدق وعده، سبحانه لا يخلف الميعاد، هذه الغزوة تعتبر من أعظم غزوات الإسلام، ولذلك فتح الله عز وجل بها على المؤمنين فتحاً مبينا، وكلما نظر المؤمن في حوادثها وتدبير الله جل وعلا لأحداثها ازداد إيماناً بالله جل جلاله، ويقيناً بالله سبحانه وتعالى، وثباتاً على الحق واستمساكاً بدين الله عز وجل.
فهو يوم سماه الله عز وجل يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، مستضعفون مضطهدون محتقرون، في قلة من العدد والعدة، فأخرجهم الله جل وعلا أعزة أقوياء {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115].
ففصل الله عز وجل فيها بين الحق والباطل.
غزوة بدر تلك الغزوة العظيمة التي تُذكر المؤمن الصادق بأنه لابد من الصدق مع الله، وأن هذا الدين لا يمكن أن يستقيم الأمر فيه إلا بالإخلاص التام لله جل وعلا، وأن من كان لله كان الله له، ومن كان مع الله فإن الله لا يخذله، وأنه إذا صدق مع الله، فإن الله يصدقه.
هذه الغزوة التي خرج فيها أولئك النفر الذين كُتبت لهم السعادة في بطون أمهاتهم، أولئك النفر الذين نادى عليهم منادي الله: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، أولئك النفر الذين صدقوا وثبتوا، قالوا فبروا في قولهم، وصدقوا في مقالهم: (والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا عنك رجل واحد، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون).
{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] اشتروا الموت لمرضاة الله عز وجل، وباعوا الحياة رخيصة من أجل هذا الدين، لا يريدون بها دنيا ولا رياءً ولا نفاقاً ولا سمعة، ولكن لله وفي الله وابتغاء ما عند الله جل جلاله.
ولذلك فاز البدريون بالمناقب العظيمة، والمنازل الجليلة الكريمة.
هناك في ذلك المكان الذي كان اللقاء فيه على غير ميعاد، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42] فربك إذا قدر، وربك إذا أمر، وربك إذا دبر الأمر من فوق سبع سماوات كان ما أراد، فأخرج جحافل الكفر وأئمة الكفر ورءوس الشر، الذين كم قالوا وكم فعلوا، وكم عذبوا وكم آذوا وكم طغوا وبغوا، حتى جاء أمر الله جل جلاله.
أخرجهم من عزتهم إلى ذلة، ومن كرامتهم إلى مهانة، ومن حياتهم إلى موت وجحيم ودركات لا يعلم عذابها إلا الله جل جلاله؛ لأن الأمر أمره والقدر قدره، والأمر كله له جل جلاله {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123] الله أكبر! أناس كانوا في عزتهم وقوتهم وبطشهم، يُستدرجون هذا الاستدراج! {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16] ويعلم كل مؤمن أن كل طاغية وكل باغية وكل معتد حبله قصير، وأنه في متاع الغرور {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
فما خلق الله السماوات والأرض عبثا.
بدر ملحمة تحرك القلوب إلى الله جل جلاله، يقف الإنسان متأملاً متدبراً، حفاة حملهم ربهم، عراة كساهم ربهم، جياع أطعمهم ربهم، كان غذاؤهم وقوتهم وشوكتهم كلمة التوحيد والإخلاص: لا إله إلا الله، خرجوا من أجلها وقاتلوا من أجلها، فأعزهم الله بها العزة التي لا ذلة بعدها أبداً، وأكرمهم بها الكرامة التي لا مهانة بعدها أبداً.
الله أكبر! أبو جهل رأس الكفر والعداء للإسلام، الذي كان يقول ويفعل، وإذا به يقف عليه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، ويقف هو ذلك الموقف الذليل المهان؛ لأن كل من اعتدى إذا جاءته نقمة الله تأتيه على أسوأ الأحوال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] قالوا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} [هود:102] بالتشبيه أي: مثل ذلك، وهذه تدل على أنها مثلات لله عز وجل، لا تتخلف ولا تتبدل، ليست في شخص ولا في شخصين ولا ثلاثة {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} [هود:102] ما قال: أخذي بل: {أَخْذُ رَبِّكَ} [هود:102] الذي يربي خلقه بالنعم، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر بالنقم، {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود:102] ما قال: الأشخاص ولا الأفراد، {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102] جملة حالية، أي: في حال الظلم والبغي والعدوان.
في يوم بدر مواقف عظيمة، فالعبد الصالح المؤمن الموقن يعتبر من عزة الإيمان واندحار الشيطان، فالباطل حبله قصير، يملي للعبد ثم يخذله في موقفه، ولذلك قال الشيطان لما رأى ما رأى: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال:48] قال بعض أئمة التفسير ويروى عن بعض أئمة السلف من الصحابة: رأى جبريل يتنزل والملائكة نصرة من الله عز وجل لنبيه وأوليائه، فرجع خاسئاً ذليلاً، جاء بهم وهم في عدد وعدة وقوة وشوكة من أجل أن يكون فيها مصارعهم وسوء خواتمهم والعياذ بالله، فلما رأى جبريل جاءت ساعة الحق.
في غزوة بدر مواقف عظيمة: في ليلة بدر أنزل الله سبحانه وتعالى المطر: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11] الله أكبر! إذا وقف العبد لله يزلزل بالفتن كان الله معه، وما أن تثبت قدمه حتى تأتيه الرحمات وتتنزل عليه من الله السكينة والثبات، في كل كرب وفي كل شدة، في فرد أو جماعة أو أمة، فإنها إذا ضاقت عليها الأمور وثبتت مع ربها تنزلت عليها السكينة، وجاءها الثبات من الله سبحانه وتعالى وجاءت المعونة وجاءها النصر، فرأيت بشائر الخير وبشائر الرحمة عند الله سبحانه وتعالى الذي لا يخذل أولياءه {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196].
لكن لابد من الثمن، والثمن هو الإيمان والعقيدة والتوحيد والإخلاص، ليس النفاق ولا الرياء ولا الكلام المنمق أبداً، بل العمل والتطبيق بقلوب صادقة، ولذلك في مواطن الشدة والبلاء لا ينظر الله سبحانه وتعالى لشيء أحب إليه من القلب.
ولذلك {رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:18] أول شيء النظر {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] * {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح:19] وذلك لأنه لما نظر إلى قلوبهم وجد فيها التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، فيتزلزل الناس ويرعبون ويخافون ولكن هؤلاء يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله، وتجد هذه المواقف كلها تتجدد بهذا الدين، وبهذا الإخلاص.
الإيمان الذي كان مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليقين الذي ثبت به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت به المؤمن في كل زمان ومكان، ولكن لابد أن يكون مع الله حتى يكون الله معه.
هناك على ذلك المكان الطيب الطاهر، إذا تذكر المؤمن كيف خرجوا رضوان الله عليهم، والله عز وجل يعدهم إحدى الطائفتين، ثم إذا بهم يقفون أمام الموت، ومن هنا يقول العلماء: دائماً تأتي المنازل العلا والتشريفات والكرامات والمكرمات من الله عز وجل حينما تقف أمام شيء لا تريده، أنت تريد شيئاً معيناً من الهوى ومحبة الناس، ولكن هناك ابتلاء وتمحيص من الله، فيأتيك ما تكره، فتقدم لله عز وجل الرضا، وتقدم له التسليم، وتقدم له الإيمان والمحبة التامة الكاملة والرضا بقضائه وقدره، فيمدك الله عز وجل بأمن وثبات وتأييد وقوة لم تخطر لك على بال، وعندها تجد من بشائر النصر والظفر من الله سبحانه وتعالى ما لم يخطر لك على بال.
{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران:151] وعد الله سبحانه وتعالى أن كل من كفر وعاداه، أنه سيلقي في قلبه الرعب، وهذا كله لما تخلف الأساس وهو: التوحيد والإخلاص، فالعبد الصالح حينما يتأمل مواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الأمة التي اصطفاها الله واجتباها لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين، هذه الأمة التي ما كانت تتجمل بقولها ولا بفعلها، ولا كانت تنمق العبارات، ولا كانت تتفاخر بأحسابها ولا بألوانها ولا بأمجادها، كانوا يقفون بلا إله إلا الله، من أجلها ولأجلها يتقدمون ويتأخرون، ويأخذون ويعطون، رضي الله عنهم وأرضاهم.
ولذلك أعطاهم الله عز وجل؛ لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، كما شهد من فوق سبع سماوات أنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
الله أكبر! ذلك اليوم الطيب المبارك الذي يتفكر المؤمن في عظيم ما أعد الله سبحانه وتعالى لأهله، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) انظر إلى التشريف والتكريم من الله سبحانه وتعالى، ما اطلع على الأغنياء، ولا على الأثرياء بل اطلع على(335/8)
الطواف ليلة رمضان هل يعتبر عمرة في رمضان
السؤال
يقول السائل: أحرمت بالعمرة نهار يوم الثلاثين من شعبان، ولكن لم أبدأ الطواف إلا ليلة رمضان، فهل تكون العمرة واقعة في رمضان، أم في شعبان؟
الجواب
هذه المسألة لها نظير وهي مسألة عمرة التمتع، حيث يشترط في العمرة لكي تكون عمرة تمتع أن تقع في أشهر الحج، وأشهر الحج تبدأ بليلة العيد؛ لأن ليلة العيد هي بداية شوال، فقال العلماء: لو أن شخصاً أحرم في يوم الثلاثين من رمضان، وطاف وسعى، أو سعى في ليلة العيد، هل هو متمتع أو لا؟ هذه مسألة خلافية، والصحيح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم.
من أهل العلم من قال: العبرة بالإحرام، كالظاهرية ومن وافقهم، ومنهم من قال: العبرة بدخول مكة، كـ عطاء وغيره من أئمة السلف، ومنهم من قال: العبرة بابتداء الطواف، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، ومنهم من قال: العبرة بأكثر الطواف، أربعة أشواط فأكثر، كالحنفية، ومنهم من قال: العبرة بالتحلل، كالمالكية، وهذه خمسة أقوال مشهورة عن السلف.
فإذا كان هناك تخريج للفتوى في هذه المسألة على أصول العلماء، فالأشبه أنها تقاس على هذه المسألة، وبناءً على ذلك إذا ابتدأ الطواف بعد غروب الشمس من آخر يوم من شعبان، أي: ابتدأ الطواف في الليلة الأولى من رمضان فإنه معتمر في رمضان؛ لأن الركن الأعظم الطواف بالبيت والسعي، ومن أجله كانت العمرة؛ لأن العمرة من أجل أن يزور البيت.
ومن هنا إذا وقعت زيارته للبيت وابتدأ طوافه بعد مغيب الشمس، فإنها عمرة رمضانية، وإن وقع ابتداؤه بالطواف قبل غروب الشمس فهي شعبانية، ولا تكون آخذة حكم العمرة في رمضان، وهذا على التخريج الذي ذكرناه.
والله تعالى أعلم.(335/9)
وصايا لاستغلال العشر الأواخر من رمضان
السؤال
أقبلت العشر الأواخر، فبماذا يوصى العبد في وقته، وبماذا توصى المرأة في بيتها؟
الجواب
جماع الخير كله الوصية بتقوى الله عز وجل {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:4 - 5] وعلى المؤمن إذا دخلت عليه العشر أن يتحرى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، فإن الله جعل الخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه، وأسعد الناس في العشر الأواخر، وأسعد الناس في كل زمان ومكان من رزقه الله حب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بها.
فيسأل المؤمن كيف كان هديه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- في هذه العشر؟ وكيف كان حاله عليه الصلاة والسلام حينما عرف حقها وقدرها؟ فقد كان أتقى الأمة وأعرفها بما لهذه العشر من فضيلة ومزية، فأحيا ليلة وشد مئزره وأيقظ أهله، صلوات الله وسلامه عليه، واعتكف في هذه العشر في مسجده صلوات الله وسلامه عليه، فإن تيسر للمؤمن أن يصيب هذه السنة فيعتكف فعليه أن يتحرى الأمور العظيمة في اعتكافه، والتي أساسها إخلاص العمل لله جل وعلا.
وأن يعلم أنه ليس له من اعتكافه إلا ما أريد به وجه الله، فإذا خرج من بيته من أجل أن يعتكف هذه العشر فليتأسَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليخرج وليس في قلبه إلا الله، يتمنى أنه يعتكف ولا أحد يراه، ويتمنى أنه معتكف ولا أحد يسمعه أو يحس به من إخلاصه لله سبحانه وتعالى.
ثانياً: إذا دخل في اعتكافه فعليه أن يتحرى ما يعينه على طاعة الله عز وجل ومرضاته، فيعلم أنها أيام قليلة، وأن هذه الأيام إن وفق فيها لطاعة الله فإن الله قد أحبه بتهيئة الخير له؛ لأن الله لا يهيئ الخير إلا لأحبابه، وصفوة عباده، جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه.
فإذا أحس أن كل ساعة يتنافس فيها مع الصالحين، ويتسابق فيها مع الأخيار والمتقين، شمر عن ساعد الجد في مرضاة الله رب العالمين، فإذا جاء من يضيع عليه وقته في حديث ولهو نظر يميناً فرأى عباد الله الأخيار، ونظر شمالاً فرأى الصفوة الأبرار، ما بين قائم وراكع وساجد وتال، هذا يسأل ربه، وهذا يذكر ربه، وهذا يبكي ذنبه، فعندها يحتقر كل شيء يلهيه عن هذا المقصود الأعظم.
يتفرغ تفرغاً تاماً كاملاً لذكر الله عز وجل والإخلاص، وأفضل الذكر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى كثرة تلاوة القرآن، فهنيئاً ثم هنيئاً لمن رزقه الله عز وجل لساناً تالياً لكتاب الله في اعتكافه وفي كل حين، فأسعد الناس من جعل الله القرآن ربيع قلبه ونور صدره وجلاء حزنه وذهاب همه وغمه.
كذلك أيضاً عليه أن يحرص على الاستفادة من هذه العشر أثناء تلاوة القرآن في صلاح قلبه، ومن أعظم ما يصلح به القلب ويتأثر به القلب كثرة الخشوع، فإن من يكثر من قيام الليل ويتخشع في قيامه، حتى ولو كان في قلبه قسوة فإنه يضغط على هذا القلب، ويلوي بعنقه إلى طاعة الله ومرضاة الله، ويكون شديداً على نفسه، فيفرحه وعد الله عز وجل، ويبكيه وعيده، ويخشع لكلام الله عز وجل، ويرتعد من تخويفه وتهديده، عندها لا شك أنه سيجد بركة القرآن وخيره، فيحاول قدر الاستطاعة أن يكون أكثر الناس انتفاعاً بالقرآن، وخشوعاً عند سماع القرآن، وأن لا يلتفت إلى النغمات ولا إلى الأصوات، ولا إلى العبارات إلا لمقصود أعظم وهو التفكر والتدبر والتذكر من كتاب الله جل جلاله، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
كذلك أيضاً عليه أن يحرص في هذه العشر على الأعمال الصالحة التي فيها تفريج كربات للمسلمين، كإفطار الصائمين، وكسوة العارين، وتفريج الكربات عن المكروبين، يتنافس في كل خير وبر يرضي الله عز وجل عنه.
ولا مانع أن يستفيد من الخير في صحبة عالم أو أحد من أهل الفضل، فيذكره قوله وعمله وسمته ودله بالله، فهذا خير عظيم.
كذلك ينبغي عليه أن يبتعد عن الأمور التي تبعد عن الله عز وجل، من كثرة الكلام في فضول الدنيا، وكثرة القيل والقال والغيبة والنميمة، والضحك واللهو.
الذي يدخل إلى المعتكف وهو يضحك مع هذا أو هذا، وينظر إلى المعتكف على أنه ساعات، ويرتب وقته على أنه في ساعة معينة يأتي فيجلس مع هذا ويباسط هذا، وكأن الأمر ساعات يريد أن يقضيها دون تفكر وتدبر أنه معتكف لله، وأن هذا الوقت مستحق لطاعة الله عز وجل؛ يفوته من الخير شيء كثير، فالله الله ولن يكون الإنسان معتكفاً ومتحرياً للسنة في بلوغ الخير في هذه العشر إلا إذا ضن وبخل بكل دقيقة وثانية، وصار أكره ما عنده أن يأتيه شخص يلهيه عن طاعة الله عز وجل وذكر الله عز وجل.
فمن عرف الطاعات ولذة الذكر لله عز وجل ولذة العبادة، لا شك أنه يهون في قلبه كل شيء سوى هذا، ويتذمر إذا جاء أحد يشغله عن هذا، ولكن هذه منح من الله سبحانه وتعالى وهبات من الله عز وجل، ومن بشائر القبول ودلائل القبول للعبد الصالح، أن الله يصرف عنه كل من يشغله عن طاعة الله عز وجل ويهيئه لما هو أسمى وأسمى.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم بمنه وكرمه ذلك الرجل، وجماع الخير كما قلنا: في تقوى الله عز وجل.
ومن الأمور التي يسعى إليها العبد في العشر الأواخر: أن يحرص على بر الوالدين وصلة الرحم، والإحسان إلى القرابات، وزيارة الإخوان والأخوات وقضاء حوائجهم، خاصة إذا احتاجوا أموراً في عيدهم وفرحتهم، فيدخل السرور عليهم، ويجبر خواطرهم، خاصة إذا كانوا أيتاماً أو أصغر منه سناً، أو أختاً تحتاج إلى مواساة، أو قريباً يحتاج إلى قضاء دين وتفريج كربة.
على كل حال: أبواب الجنة عظيمة، وطوبى ثم طوبى لمن وفقه الله عز وجل أن يشمر عن ساعد الجد، فينتهل من مناهل الخير في طاعة الله ومرضاته، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا أوفر عباده حظاً ونصيباً في كل خير وبر ورحمة.
والله تعالى أعلم.(335/10)
حكم الإكثار من الصلاة في نهار رمضان
السؤال
هل الفضل في رمضان يقتصر على الليالي دون الأيام؟ وهل يجوز لي أن أكثر من العبادة بالصلاة في النهار؟
الجواب
أما الجواز فبالإجماع أنه يجوز أن تصلي ليلاً ونهاراً، ولكن الفضل في رمضان أعظم في الليل بالنسبة للقيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً) فجعل القيام لليل.
أما النهار ففيه تفصيل: إذا كان عندك قوة وجلد وكان الليل قصيراً والنهار طويلاً، ويمكنك أن تقوم الليل، وتستفضل وقتاً للنهار، فلا بأس أن تصلي بالليل والنهار؛ لأن هذا داخل تحت أصل عام وهو الاستكثار من النوافل، لكن إذا كان الليل طويلاً والنهار قصيراً، وإذا نمت في النهار استعنت بنوم النهار بعد الله عز وجل على قيام الليل، فلا يشك أن اشتغالك بالنوم أفضل؛ لأنك إذا اشتغلت بصلاة النهار شغلتك عن صلاة الليل وهي أفضل.
والنصوص في سنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار عموماً، لذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصلاة قال (وركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر) وقال: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن).
فهذا يدل دلالة واضحة على أن قيام الليل وصلاة الليل أفضل وأحب إلى الله سبحانه وتعالى.
والله تعالى أعلم.(335/11)
حكم الدم الخارج من الحامل
السؤال
امرأة تقول: أنا امرأة حامل والدم يجري معي بكثرة غير أني أصلي وأصوم، فهل صيامي صحيح؟ أم يجب عليّ القضاء؟
الجواب
هذه المسألة خلافية، وقد بينّاها، وبينا أن الصحيح أن المرأة الحامل لا تحيض، وبناءً على ذلك يكون الدم دم استحاضة لا يمنع صوماً ولا صلاة على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، ولذلك قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] وهذا أصل عند أهل العلم في أن الحامل لا تحيض، ولذلك جعل الله عز وجل الحيض مقروناً بالحمل، ولذلك فالأقوى والأرجح من قولي العلماء أن الحامل لا تحيض.
وبناءً على ذلك فما رأته من الدم فهو دم استحاضة، إلا إذا رأت الدم قبل النفاس بيوم أو يومين أو ثلاثة بالكثير كما هو مذهب الحنابلة فإنه يُلحق بدم النفاس؛ لأن النفاس ربما استعجل وانفجر قبل وقته، وما قارب الشيء أخذ حكمه، فقالوا: إذا كان قبل الولادة بيوم أو يومين أو ثلاثة، على اختيار طائفة منهم الإمام ابن قدامة، وطائفة من محرري أئمة الحنابلة رحمة الله عليهم، أنه يلحق بدم النفاس ويأخذ حكمه.
والله تعالى أعلم.(335/12)
حكم التمر الزائد عن الحاجة في تفطير الصائم
السؤال
تعطى لبعض المساجد تمور لتفطير الصائمين، وينتهي شهر رمضان، ويبقى منها شيء، هل يجوز التصدق به على مجاوري المسجد من الحي نظراً لكونها تزيد عن حاجة المسجد، أو تكون وقفاً لذلك المسجد؟
الجواب
أولاً: ينبغي أن يحتاط من يتقبل الصدقات، فلا يأخذ أكثر من حاجته، خاصة في الأوقاف أو الأمور المسبلة على أماكن مخصوصة أو أغراض معينة، فإن هذه الأشياء المسبلة والتي هي أشبه بالحبس على مسجد معين أو مكان معين أو زمان معين ينبغي أن ينصح فيه، وأن ينفذ شرط صاحبها الذي تصدق بها، فإن كانت صدقة لتفطير صائم فهي صدقة لتفطير صائم، وإذا كان المسجد فيه كفاية فإنهم يقولون لمن يحضر: عندنا كفاية، فينصرف إلى مسجد آخر، ولا يجوز أن يأخذوا أكثر من كفايتهم؛ لأن هذا يُعطل هذه الصدقة عما هو أولى وأحرى، وقد تكون هناك مساجد هي أحوج.
ولذلك ينبغي أن يعلم أنه إذا كانت الصدقات لتفطير الصائم، فينبغي أن لا يأخذ المسجد إلا قدر كفايته، وأن ينقص ويصل الحق إلى كل مستحق خير من أن يزيد؛ لأنه إذا نقص من هذا المسجد فإن الصدقات ستمضي إلى المساجد الأخرى وتسد حاجة الناس فيها، لكن إذا أعطيت الزيادة وأصبحت فضلاً فاتت، فلا صاحبها أدرك تفطير الصائم ولا عرف حتى الذي أخذها ماذا يفعل بها فالصائم لم يعد موجوداً، وصرفها إلى غير تفطير الصائم هذا خلاف أصل الصدقة وأصل التحبيس من صاحبها، وقد تكون أموال أعطيت في الأصل، أشبه بالوقف على هذا الباب من الخير.
فعلى كل حال: إذا كان الشخص الذي أعطى المبلغ وكّل أشخاصاً ليشتروا التمر والصدقة على أنها لتفطير صائم، فالمال محبس على تفطير الصائم، وبناءً على ذلك: لا يصرف في غير تفطير الصائم، وإذا انتهى تفطير الصائم في رمضان يمكن أن يؤخر إلى رمضان آخر، وكان بعض مشايخنا يقول: الأشبه أنه يمكن أن يصرف إلى تفطير الصائم في الإثنين والخميس وقضاء رمضان، ويمكن أن ينزل منزلته.
لكن هذا المال إذا قصد به أن يحبس وقال له: خذ عشرة آلاف ريال وأنفقها في تفطير الصائم، فقد حبست لتفطير الصائم فلا تصرف في غيره، أو جاءه مثلاً بعشرين أو بثلاثين صندوقاً من التمر وقال: هذه تعطى تفطيراً للصائم، إذا قال: هذه تعطى تفطيراً للصائم فقد حبست وأصبحت أشبه بالوقفية على تفطير الصائم، وتصرف في هذا الوجه من الخير، وفي بعض الأحيان تكون من أموال أموات وأوصوا بها، وفي بعض الأحيان تكون من نفس المتبرعين، فهذه أمور كلها توقف وتحبس على الوجه الذي قصده صاحبه أو نص عليه من تصدق بها.
أما إذا كان الشخص نفسه اشترى هذا الشيء ونوى في قرارة قلبه أنه لتفطير الصائم، ثم لم يجد صائماً يفطره به، فله أن يصرفه في أي وجه من وجوه الخير، لأنه ما تعين وقفاً ولا تسبيلاً ولا تحبيساً، ففي هذه الحالة هو حر بماله، فإن يسر الله له ووجد صائماً يفطره فالحمد لله، وإن لم ييسر له فأنفقه في سبل الخير ووجوه الخير الأخرى فلا بأس ولا حرج.
والله تعالى أعلم.(335/13)
حكم المسبوق بركعة في صلاة شفع إذا أوتر إمامه
السؤال
يقول السائل: أشكلت عليّ مسألة: كنت أصلي الشفع مع الإمام، وقد فاتتني ركعة من ركعتي الشفع، ولكن الإمام قام ووصل به الوتر، فهل أسلم معه وأكون قد صليت ركعتين؟
الجواب
إذا سلمت معه حينئذٍ تكون الصلاة شفعية، والأشبه أنك تأتي بركعة حتى توتر بها، وكان بعض العلماء رحمهم الله يقول: إنه إذا دخل وراء الإمام على صورة تعينت عليه تلك الصورة؛ لأن الشرط عند المخالفة أن لا تختلف صورة الصلاتين، لأنه إذا صلى وراء الإمام وسلم شفعاً والإمام قد صلى ثلاثاً اختلت صورة الصلاتين، وحينئذٍ ألزموه بركعة حتى يستقيم الاقتداء ويصح منه ائتمامه بالإمام.
إلا أن القول الذي ذكرناه من أنه يجوز له أن يسلم مع الإمام وتكون له شفعاً يقولون: هو مخير بين أن يصليها وتراً وبين أن يصليها شفعاً، كما أن الإمام لو أراد أن يصلي ركعتين فقام إلى الثالثة، فهو مخير أن يضيف لها ركعة فتصبح شفعية، وبين أن يجلس ثم يسجد سجود السهو للزيادة، لأن صلاة الليل على السعة، والوقت فيها متسع أن يصلي العبد فيها شفعاً ووتراً، فالمحل قابل للشفع وقابل للوتر.
فعلى كل حال: إن سلمت مع الإمام أشكل على تسليمك وجود الدعاء بين الركعتين، ولا يعرف في صلاة شفعية دعاء بين الركعتين؛ لأنك ستدعو دعاء الوتر وتكون صليت ركعتين استبحت الدعاء في وسطها.
ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لا يقوم بعد تسليم الإمام وينقض الوتر مباشرة؛ لأنه لو قام في هذه الحالة أحدث دعاءً بين الركعتين؛ لأن الركعة التي صلاها مع الإمام هي الأولى ودعا بعد ركوعها، ثم قام لثانية، فهو يدخل وراء الإمام بنية الشفع في شفعية لا يأذن الشرع بها، إذ ليس في الشرع أصل يدل على أنه يجوز للعبد أن يدعو بين الأولى والثانية، إنما يكون الدعاء في الثانية والأخيرة.
وبناءً على ذلك قالوا: يشدد في هذا؛ لأنه مخالف للأصل الشرعي، ولا تعرف ركعتان يدعى في وسطها.
من هذا الوجه لو قام وجاء بركعة، خاصة على مذهب من يقول: إن المسبوق يقضي، فحينئذٍ يزول الإشكال نهائياً؛ لأنه سيأتي بركعة ينويها الركعة الأولى، وحينئذٍ تستقيم في الصلاة الثلاثية، كالمغرب إذا جاء في الاثنتين الأخيرتين أضاف لها واحدة، قالوا: وهذا أشبه بالاقتداء وله أصل؛ لأنه في المغرب إذا جاء أضاف ركعة فاستقامت صلاته وترية؛ لأن المغرب وتر الفرائض.
وبناءً على ذلك يقوون أن يأتي بركعة حتى لا تختل صورة الصلاتين، ولا يستبيح في الركعتين دعاءً وسطاً بين الأولى والثانية، حيث لا أصل في الشرع يدل على أن الركعتين يدعى في وسطها، وإنما الدعاء المسنون في شرع الله عز وجل في الصلوات إنما يكون في الركعة الواحدة، أو في آخر الركعات إن كان العدد وترياً.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(335/14)
شرح زاد المستقنع - كتاب النفقات [3]
النفقة على الزوجة من حقوقها على زوجها، وللنفقة أحكام وتفصيلات تتعلق بها، من حيث القدر والصفة والوقت، والنشوز والمرض، وغير ذلك مما يجب على كل متزوج أن يعرفه، وذلك حتى يعرف ما يجب عليه فيلتزم به ولا يقصر، وما لا يجب فلا يقع في الحرج بإلزام نفسه به فيكلف نفسه فوق طاقتها.(336/1)
نفقة المطلقة ونحوها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ونفقة المطلقة الرجعية وكسوتها وسكناها كالزوجة] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله أن الزوجة يجب على زوجها أن ينفق عليها بالمعروف، وبيّنا الأدلة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المسألة، وبيّنا ما هو الحد المعتبر في النفقة، شرع بعد ذلك في بيان حكم المرأة المطلقة، وهي إما أن تكون مطلقة طلاقاً رجعياً، وإما أن تكون مطلقة طلاقاً بائناً، وقد تقدم معنا بيان الفرق بين الطلاق الرجعي -وهو الذي يملك الزوج فيه ارتجاع زوجته ما دامت في العدة- والطلاق غير الرجعي سواء كان بائناً بينونة كبرى كما لو طلقها ثلاثاً، أو كانت البينونة صغرى كأن يكون طلقها قبل الدخول، أو يكون قد طلقها الطلقة التي يحكم بكونها آخذة حكم الفسخ وهو طلاق الخلع.(336/2)
المطلقة الرجعية تأخذ حكم الزوجة دون القسم
فبعد أن بيّن حكم النفقة على الزوجة أراد أن يبين حكم النفقة على المطلقة، فالمرأة إذا طلقت طلاقاً رجعياً فهي في حكم الزوجة حتى تخرج من عدتها، وقد بيّنا مذاهب العلماء رحمهم الله في ذلك، وأن الصحيح أن الرجعية تأخذ حكم الزوجة من وجوه، وذكرنا الأدلة على ذلك، ومن ذلك أنها تستحق النفقة، فبيّن المصنف رحمه الله أن المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً يجب على زوجها أن ينفق عليها حتى تخرج من عدتها، ومثال ذلك: لو طلقها الطلقة الأولى، فإنها كالزوجة يجب عليه أن ينفق عليها في طعامها وكسوتها حتى تخرج من عدتها، فقال رحمه الله: [ونفقة المطلقة الرجعية وكسوتها وسكناها كالزوجة].
وقد تقدم بيان نفقة الزوجة وسكناها والأدلة الدالة على ذلك من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونجد العلماء رحمهم الله يقولون: الرجعية كالزوجة، قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] يعني: في عدتهن {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فجعلها في حكم الزوجة، ولو لم تكن في حكم الزوجة لوجب أن يعقد عليها عقداً جديداً إذا أراد ارتجاعها.
قال رحمه الله: [ولا قسم لها].
لو كان عنده زوجتان طلق إحداهما طلقة واحدة، بعد الدخول بها، وهي طلقة رجعية، فقلنا: إن المطلقة الرجعية لها حق النفقة، ولها حق السكنى بالمعروف والكسوة، فيرد
السؤال
هل يقسم لها؟ بمعنى: هل يبقى حقها في القسم وهو المبيت، فيبيت عندها ليلة وعند الأخرى ليلة كما كان؟ فقال رحمه الله: (ولا قسم لها) أي: يبيت عند زوجته الأخرى فقط، وإذا كان عنده ثلاث زوجات فطلق إحداهن قسم على ليلتين، ولم يحتسب للمطلقة الرجعية ليلة؛ لأنها لا حق لها في الفراش.(336/3)
حكم النفقة على المطلقة البائنة
قال رحمه الله: [والبائن بفسخ أو طلاق لها ذلك إن كانت حاملاً] (والبائن) أي: والمطلقة طلاقاً بائناً (لها ذلك) أي: لها نفقتها وكسوتها؛ لكن بشرط أن تكون حاملاً.
فإذا طلق امرأته طلاقاً بائناً كالطلقة الثالثة فحينئذ ننظر في هذه المطلقة، فنجدها على ضربين: إما أن تكون حاملاً فلها النفقة حتى تضع حملها، وإما أن تكون حائلاً، أي: ليست بذات حمل، فلا نفقة لها، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.
قال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فأمر الله جل وعلا بالإنفاق على المطلقات الحوامل (حتى يضعن حملهن)، وهذه النفقة يعطيها إياها يوماً يوماً، بخلاف من قال من الفقهاء: ينتظر حتى تضع الحمل حتى نتأكد أنه حمل حقيقي.
والصحيح أنه ينفق عليها ما دام قد استبان فيها الحمل، أو قال الأطباء: إنها حامل، فإنه ينفق عليها حتى تضع الحمل، والنفقة للجنين لا لها، وسنبين وجه ذلك ومعناه.
ودليلنا على أن النفقة كل يوم بيومه قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فجعل الإنفاق إلى حين الوضع، وهذا يدل على أنه مستصحب منذ تبين حمل المرأة حتى تضع ذلك الحمل، وبناء عليه فإنه لا ينتظر إلى وضعها وإنما ينفق عليها قبل الوضع، فإذا كانت حاملاً فإنه ينفق عليها، وهذا بالإجماع وبنص القرآن على ذلك، ولها حقها بالمعروف.(336/4)
نفقة الحامل لحملها والخلاف في ذلك
قال رحمه الله: [والنفقة للحمل لا لها من أجله] فائدة هذا: أن النفقة إذا كانت للزوجة ووجد فيها مانع من موانع النفقة، قطعت النفقة عنها ولو كانت حاملاً، وإن كانت النفقة من أجل الجنين ترتبت على وجوده، وزالت بوضعه حياً أو ميتاً.
فبعض العلماء يقول: النفقة لها لا للجنين، وبعضهم يقول: النفقة للجنين لا لها، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أحد القولين في مذهب الحنابلة رحمهم الله.
والصحيح أنها للجنين لا لها؛ لأن الله قيد الإنفاق بوجود الحمل، وحكم بزواله بزوال الحمل، فقال: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فجعل الغاية وضع الحمل.
الفائدة: أننا لو قلنا: النفقة من أجل الحمل، فإنها إذا كانت زوجة في عصمته، ونشزت وهي حامل، بقي حقها في النفقة ولو كانت ناشزة؛ لأن النفقة للجنين.
أما إذا كانت النفقة لها، وكانت في عصمته فإن نشزت فالناشز يسقط حقها في النفقة كما تقدم، كذلك لو سافرت وهي حامل بدون إذن الزوج، أو بإذنه على التفصيل الذي سيأتي في سقوط النفقة، فإذا سافرت سقط حقها من النفقة، لأنها سافرت سفراً يوجب سقوط حق الزوجة من حين خرجت بدون إذنه، أو خرجت لحاجتها بإذنه؛ لأنه وجد فيها مانع يمنع من وجوب النفقة عليها.
وهكذا بالنسبة للأمة وغيرها مثلاً: شخص عقد على امرأة يظنها امرأة ليس فيها مانع، وتبين أنها أخته من الرضاعة، أو عمته من الرضاعة أو خالته من الرضاعة، وحملت من وطئه، وهو لا يدري أنها أخته، لكن بعد أن تزوجها ودخل بها وحملت تبين أن هناك مانعاً يوجب فساد النكاح، حينئذ يفسد النكاح، فإن قلنا: النفقة من أجلها هي، بطل حقها ببطلان النكاح، وإن قلنا: النفقة للحامل من أجل جنينها وجب عليه أن ينفق عليها حتى تضع الحمل، هذه من فوائد الخلاف بين العلماء في مسألة: هل النفقة من أجل الجنين أو من أجل المرأة؟ والصحيح أن النفقة من أجل الجنين، ومن أجل الحمل.
وينبني على هذا: العكس، فلو ظن أنها حامل كما في القديم حيث لم تكن هناك وسائل تبين الحمل بدقة، فقد يكون بها انتفاخ، فيظن أنها حامل، ثم بعد مضي المدة وقد أنفق عليها يتبين أنها ليست بحامل، فيجب عليها رد النفقة؛ لأنها شرعت بسبب وتبطل بزوال السبب، إذ ما شرع لسبب يبطل بزواله.(336/5)
حالات سقوط حق الزوجة في النفقة
قال رحمه الله: [ومن حبست ولو ظلماً، أو نشزت، أو تطوعت بدون إذنه بصوم أو حج، أو أحرمت بنذر حج أو صوم، أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة وقته، أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه؛ سقطت] بعد أن بين المصنف نفقة الزوجة سواء كانت في العصمة أو كانت مطلقة، وسواء كانت حاملاً أو غير حامل، شرع في مسألة: متى يسقط حق المرأة في النفقة عليها؟(336/6)
حكم إسقاط النفقة على المحبوسة
قال رحمه الله: [ومن حبست ولو ظلماً]: أي: إذا كانت الزوجة محبوسة عن زوجها، فلم يستطع أن يطأها لأنها في السجن أو محبوسة في دار، فبعض العلماء يقول: المحبوسة إذا منعت عن زوجها سقط حقها في النفقة مطلقاً، سواء كانت محبوسة بظلم أو كانت محبوسة بحق.
فتحبس بحق مثل ما لو وقع منها أمر وعزرت من القاضي فأمر بسجنها، فهذا سجن بحق تعزيراً من القاضي، وهذا حكم شرعي، فسجنت -مثلاً- شهراً، في هذه الحالة لا يستطيع الزوج الوصول إليها، ولا تستطيع أن تقوم بحقه؛ لأنها محبوسة عنه، وهو ممنوع منها، فهل يسقط حقها؟ للعلماء وجهان: من العلماء من يقول: كل امرأة منعت عن زوجها وحبست ولو ظلماً، سقط حقها في النفقة.
ومنهم من يقول: إن كان الحبس ظلماً لم يسقط حقها؛ لأنه سبب خارج عن إرادتهاز مثلا: والدها أخذها ومنعها من زوجها وحبسها أن ترجع إلى بيت الزوجية، فحبست ومنعت ظلماً وهي ترغب في زوجها وتريد زوجها، أو أصلح ذات بينهما فمنعها وليها أبوها أو أخوها أو قريبها، فحال بينها وبين بيت الزوجية، لكنها هي تريد بيت الزوجية، وترغب في بيت الزوجية، ففي هذه الحالة هي محبوسة ظلماً، وفي الحالة الأولى محبوسة بحق، فسواء حبست بظلم أو بحق يقولون: سقط حقها في النفقة، وهذا هو الذي درج عليه المصنف، ولذلك أشار رحمه الله بقوله: (ومن حبست ولو ظلماً).
وقد قلنا: إذا قال المصنف: (ولو) فهو إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: أن هناك قولاً يقول: إذا حبست الزوجة عن زوجها ظلماً لم يسقط حقها في النفقة، قالوا: لأنها مستعدة للقيام بالحقوق ولكن حيل بينها وبين هذا لعذر، كما لو كانت حائضاً فلم يستطع زوجها أن يجامعها فهذا عذر، وكما لو مرضت ولم تستطع أن تقوم بحقوق بيت الزوجية فهذا عذر، قالوا: كذلك لو منعت ظلماً فالعذر بالظلم كالعذر القاهر، فلا يسقط حقها في هذه الحالة.
وفي الحقيقية هذا القول له قوة، أي الذي يقول: إنها لو حبست ظلماً وعندها الرغبة الحرص على أن تأتي زوجها فلها النفقة، لكن المصنف رحمه الله اختار القول الذي يقول: إنها إذا منعت الزوجة سقطت نفقتها، وهو أيضاً قوي من وجه آخر، وهو أن الزوج له الحق بغض النظر عن كون الذي لم يقم بحقه معذوراً أو غير معذور، فالنفقة لقاء القيام بحقوق الزوجية، قال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فجعل الحق مقابل الحق،: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] فإذا لم تقم بحقه لم ننظر إلى كونها معذورة أو غير معذورة، هذا ليس لنا به علاقة لأنه من باب الأسباب، أعني أن الشريعة تنظر إلى وجوب القيام بالحق، فإذا لم تقم بحق زوجها سواء كانت معذورة أو غير معذورة؛ سقط حقها في النفقة، فيبن رحمه الله أنها إذا حبست سواء كانت مظلومة أو محبوسة بحق، فإنه يسقط حقها في النفقة.(336/7)
معنى النشوز وبطلان تسوية المرأة بالرجل
قال رحمه الله: [أو نشزت] الناشز في لغة العرب: المرتفع من الأرض، والنشوز تقدم أن معناه أن المرأة تتعالى على زوجها، ومن حكمة الله عز وجل أنه فضل الرجل على المرأة وهو الحكيم العليم، وجعل المرأة تبعاً للرجل، وهذا بنص كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح، يرضى من يرضى ويسخط من يسخط، فهذا دين الله وشرعه، لا يسع إلا الرضا والتسليم، كرم الله آدم وخلق الزوجة منه، ولم يجعلها خلقاً مستقلاً، فقد خلقها من ضلع، وبين أن خلق المرأة من أجل الرجل فقال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] فالأصل في التكريم للرجل، وأنه هو الذي يقوم على المرأة، والمرأة تبع له.
ولذلك فقضية أن المرأة مثل الرجل سواء بسواء من كل وجه، باطلة، لأن الله يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36] وبين سبحانه وتعالى أن هناك فرقاً في الخلقة والفطرة: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] وجعل شهادة الرجل ضعف شهادة المرأة، وجعل من الحقوق للرجال ما لم يجعله للنساء، وهذا حكم الله عز وجل، كما لو خلق الإنسان على خلقة تامة وخلق غيره على خلقة ناقصة، ما يستطيع أحد أن يعترض على حكم الله عز وجل وفطرته التي فطر الناس عليها، وما من أحد يخرج عن هذه الفطرة إلا تنكد عيشه، وتنغصت حياته، ولذلك جعل الله المرأة تحت الرجل، ما جعلها ناشزاً وما جعلها مساوية للرجل تساويه من كل وجه.
فالنصوص من الكتاب والسنة واضحة في هذا جلية، ولا يخلط الحق بالباطل، ولا يلبّس الحق بالباطل، ومن رجع إلى نصوص الكتاب والسنة، يجد هذا واضحاً منها، ومن هدي السلف الصالح رحمهم الله من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
ولذلك جعل الله الأمور العامة والولايات العامة للرجال؛ لأنهم في خلقتهم وفطرة الله عز وجل التي فطرهم عليها أقدر على ذلك، وتحميل المرأة ما لا تطيق خروج عن الفطرة.
ولذلك الذي ينادي بحقوق المرأة ينبغي أن يرجع للإسلام الذي أعطى كل ذي حق حقه، وأن يرجع إلى حكم الخالق الذي هو أعلم بخلقه، وأحكم في صنعه سبحانه وتعالى، وليس للأهواء ولا النظر، بل إن المرأة المنصفة العاقلة إذا قرأت شرع الله عز وجل في كتابه وسنة رسوله وجدت أنها لن تستطيع أن تزيد خردلة على ما أعطاها ربها، ولن يزيدها أحد مثقال خردلة عما أعطاها ربها سبحانه وتعالى.
فالله جل وعلا جعل المرأة تحت الرجل، تسمع له وتطيع، وجعل القوامة للرجل فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] هذه فطرة الله عز وجل، فإذا أصبحت المرأة تساوي الرجل، خرجت عن الفطرة، وإذا أصبحت تسترجل على الرجل، وتريد أن تنشز وتتعالى على الرجل، خرجت عن الفطرة، وعصت الله عز وجل واعتدت حدوده، وأي مجتمع تكون فيه المرأة وراء الرجل تعينه وتشد من أزره وتسمع لأمره وتطيع، تجدها فيه في أمن وأمان وسعادة ورخاء.
وهذه الأمة قادت العالم من المحيط إلى المحيط، وكان النساء تبعاً للرجال، ومع ذلك ما جاء النساء يطالبن بشيء أكثر مما أعطاهن الله جل جلاله، واستقامت أمور الأمة واستقام حالها واستقام أمرها، هذه فطرة الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن يغير شرع الله عز وجل، ولذلك فأمور الإسلام واضحة، ولا يحتاج أحد إلى أن يلبس الحق بالباطل، ولذلك تجد من يغير هذا الحكم يتلقف أموراً ضائعة من هنا وهناك لكي يلفق له مذهبه أو قوله، ويترك النصوص الواضحة الجلية المسفرة البينة.
عائشة رضي الله عنها لما جاءت إلى علي في وقعة الجمل، قال لها: (ما الذي أخرج هذه من بيتها، أفلم تسمع لربها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]؟) مع أنها جاءت للصلح بينه وبين إخوانه رضي الله عنهم جميعاً، واحتج عليها بكتاب الله عز وجل وهي أم المؤمنين الفقيهة العالمة، ويقول لها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أيتكن تنبحها كلاب الحوأب) خرجت رضي الله عنها، فلما كانت في الطريق نبحت الكلاب -وهذا في صحيح مسلم- في وادٍ، فسألت عنه فقالوا: (هذا وادي الحوأب) عتبى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كله يدل على أن المرأة لا يمكن أن تساوي الرجل من كل وجه، والنصوص في هذا واضحة.
فالنشوز أن تخرج المرأة عن هذه الفطرة، وتريد أن تكون مثل الرجل سواء بسواء، يأمر وهي تأمر، وينهى وهي تنهى، يكون الولد -مثلاً- قد أمره والده بشيء فتأتيه وتأمره بخلافه، هذا نشوز في حق الأولاد، ونشوز في التربية، إلا إذا كان الذي تأمره به طاعة الله عز وجل والزوج يأمر بمعصية الله، فهذا أمر آخر، وإنما نحن نتكلم عن الأصول، حتى ولو أمر الرجل والزوج بشيء يغلب على ظنه أن فيه المصلحة فعلى المرأة أن تسلم، وأن تنظر أن اعتراضها عليه ربما يحدث مفسدة أكثر من المصلحة التي تريدها من ذلك الاعتراض.
ولذلك تجد بعض النساء العاقلات الحكيمات الفاضلات؛ تسلم لزوجها في كثير من الأمور مع أن بعضها قد يكون مرجوحاً، لكن يجعل الله من البركة والخير في هذا الذي اختاره زوجها، كل ذلك بتقوى الله سبحانه وتعالى، لأنها اتقت الله عز وجل، وكم من أمور تراها ربما تكون مفضولة، كلنا شاهد هذا وكلنا عاش مع كبار السن ورأى أموراً قد يكون في ظاهرها القسوة، لكنها كانت في عواقبها كأحسن ما يكون.
واليوم أخرجت بنت الإسلام عن هذه الفطرة وعلمت كيف تتمرد على الوالد، وكيف تتمرد على الزوج، وكيف تتمرد على مجتمعها، كان الوالد يأمرها بالزواج من الرجل الكبير الذي ربما هي لا ترضاه، ولكن تسلم لأبيها وتذعن له، فيخرج الله من صلبه من الذرية الصالحة، ويجعل الله سعادتها مع ذلك الرجل الكريم من إكرامها والإحسان إليها وتجد ما لم يخطر لها على بال، بيد أنها ربما ترد قول أبيها وتتزوج الشاب الذي يدمر حياتها وينغص عيشها، وهذا كله أمر مضت عليه الفطرة ومضت عليه الأمة.
ونحن أمة واضحة نصوصها ومعانيها لا تحتاج إلى أحد أن يدخل عليها شيئاً من الدخن في دينها، فإذا استرجلت المرأة ونشزت لم تستحق النفقة، وهي إما أن تنشز في القول، أو تنشز في الفعل، تنشز في القول وذلك إذا عارضت الرجل، ورفعت صوتها عليه، وصرخت في وجهه، وتنشز بالفعل مثل أن يأمرها بشيء، فتعطيه ظهرها، أو تلوي بوجهها، أو تحدث حركات غريبة تدل على عدم محبتها، وإعراضها عن الزوج، وكل هذا من النشوز.
وذكرنا أمثلة حينما تكلمنا على النشوز وأحكامه، منها مثلاً: إذا دعاها إلى الفراش فامتنعت، أو خرجت من البيت بدون إذنه؛ لأنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من البيت إلا بإذن زوجها، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إذا استأذنت امرأة أحدكم المسجد) الله أكبر! حتى إلى الصلاة لا تخرج إلا بإذن زوجها،: (إذا استأذنت امرأة أحدكم المسجد فليأذن لها) فجعل خروجها مرتبطاً بإذن الزوج فيما هو من أمور الدين، فما بالك بأمور الدنيا.(336/8)
سقوط النفقة على الناشز
فإذا نشزت وأصبحت تخرج بدون إذنه، فحينئذ يسقط حقها في النفقة، لأن له عليها حتى السمع والطاعة بالمعروف، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن المرأة إذا نشزت سقط حقها في النفقة، إلا خلافاً شاذاً لبعض العلماء فقال: لها النفقة، وهو قول الحكم، لكن الصحيح هو ما ذهب إليه جماهير السلف والخلف رحمهم الله من أن النشوز يوجب سقوط حق المرأة.(336/9)
سقوط النفقة على الزوجة إذا تنفلت بصوم أو حج بغير رضا الزوج
قال رحمه الله: [أو تطوعت بلا إذنه بصوم أو حج] يلاحظ في النفقة أنها كل يوم بيومه، فيطعمها وينفق عليها، فلو أنها خرجت في ذلك اليوم بدون إذنه كان من حقه ألا يعطيها نفقة طعامها، كذلك أيضاً لو أنها تطوعت بالصوم في ذلك اليوم.
والصوم إما فرض وإما نافلة: فإن كان نافلة فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز للمرأة المؤمنة بالله واليوم الآخر أن تصوم تطوعاً وزوجها شاهد إلا بإذنه، وهذا يؤكد حق الزوج، فلا تصوم تطوعاً؛ لأن حق الزوج أعظم أجرا ً لها من صيامها نافلة، وما تقرب عبد ولا تقربت أمة إلى الله عز وجل بشيء أحب إليه مما افترض، فالفرائض مقدمة على النوافل، فلا يجوز لها أن تصوم النافلة وزوجها حاضر شاهد إلا إذا إذن لها كما في الصحيحين، فإذا صامت بدون إذنه نافلة أو خرجت بعمرة أو حج نافلة تطوعاً بدون إذنه، سقط حقها في النفقة.
لكن لو أذن لها، قال جمع من العلماء رحمهم الله: لم يسقط حقها في النفقة لو أذن لها بالصوم.
والسبب في هذا: أنها إذا صامت نافلة لم يستطيع أن يجامعها ولا أن يصل إلى حقه في الفراش، وهذا تضييق على الزوج، ومن هنا يسقط حقها في النفقة، وهكذا لو سافرت في الحج أو سافرت إلى العمرة مع أخيها أو قريبها، لكن لو كان الحج واجباً أو كانت العمرة واجبة وأرادت أن تؤدي فرض الله عليها، لم يسقط حقها في قول طائفة من العلماء، وقال بعض العلماء: خروجها للواجب حق لها، لكنه يسقط النفقة عن الزوج من باب الأسباب كما قدمنا، لكن من أهل العلم من قال: إنه عذر شرعي كحيضها ونفاسها.(336/10)
سقوط النفقة على الزوجة إذا أدت نذر حج أو صامت كفارة ونحوها مع سعة الوقت
قال رحمه الله: [أو أحرمت بنذر حج أو صوم، أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة وقته] أي: يشترط في هذه الأشياء أن يكون الوقت واسعاً، فقضاء رمضان ممكن أن تؤخره إلى شعبان، فلو صامت القضاء قبل وقته المضيق كانت في حكم المتنفلة؛ لأنها تنفلت بالتعجيل، وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: (كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله دليلاً على أن قضاء رمضان موسّع، خاصة وأن الله عز وجل يقول: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185]، فأوجب على من أفطر لعذر عدة من أيام أخر، ولم يلزم بأيام معينة، فنقول: إذا كان عليك صوم رمضان -كما تقدم معنا في كتاب الصوم- فلك أن تصوم ولك أن تؤخر، ما لم يدخل شعبان فيبقى من شعبان على قدر أيام صومك الواجبة ما عدا يوم الشك.
فإن كان الذي عليك عشرة أيام تعين عليك الصوم من يوم التاسع عشر، وأصبح متعيناً عليك أن تقضي من التاسع عشر؛ لاحتمال أن يكون الشهر ناقصاً.
قوله: [أو أحرمت بنذر حج أو صوم] نذر الحج إذا كان مضيقاً لم يسقط حقها على التفصيل الذي ذكرناه في الحج والعمرة إذا كانا واجبين، فبعض العلماء يقول: العبادة الواجبة إذا أحرمت بها لا تسقط حقها في النفقة، كما لو أحرمت بصلاة وزوجها يريدها لجماع والصلاة فريضة، فإنها في هذه الحالة مشغولة بحق لله عز وجل، فلا يسقط حقها.
ومن أهل العلم من قال: خروجها للحج والعمرة إنما هو متعلق بنفسها ولا دخل للزوج في ذلك، فحينئذ يسقط حقها في النفقة، وبينا أن من قال بعدم سقوط الحق قال: إنها كالحائض والنفساء، فالحيض لا يسقط الحق، مع أنه لا يجامعها، والنفساء أيضاً لا يسقط حقها مع أنه لا يستطيع أن يستمتع بها.
وعلى كل حال بين رحمه الله أن النذر إذا كان مضيقاً كأن تقول: لله علي أن أصوم غداً، فحينئذ لا إشكال.
أما إذا كان موسعاً بأن قالت: لله علي أن أصوم ثلاثة أيام من شعبان، وهي في أول شعبان، في هذه الحالة يمكنها أن تؤخر إلى آخر شعبان، فتصوم هذه الثلاثة أيام.
قوله: [أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة وقته] ذكر صيام الكفارة لأن وقته موسع، وهذا فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: إذا كان الصيام عن كفارة يمين أو كفارة نذر، أو كان عن فدية فالأمر فيه موسع.
ومن أهل العلم من قال: إنه يجب عليها على الفور؛ لأن الأمر يقتضي الفورية، فإذا أخلت وجب عليها أن تكفر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فليكفر عن يمينه وليأتِ الذي هو خير).
قوله: [أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه] بأن احتاجت إلى أن تسافر لأبيها أو لأمها أو لعلاج مرض أو لأمر طارئ يخصها، فإذا سافرت ولم تستأذن وخرجت بدون إذنه فهي ناشز، وحينئذ يسقط حقها وجهاً واحداً عند جماهير السلف والخلف؛ خلافاً لمن شذ كما بينا، وإن خرجت للسفر بإذنه فللعلماء وجهان: قال بعضهم: ما دام أنها قد استأذنت فحقها في النفقة ثابت، وقال بعضهم: إن حقها في النفقة يسقط بمجرد الخروج؛ لمكان الفوات، حيث فوتت عليه حقه، وهذا من باب ربط الأسباب بمسبباتها.
وقوله: [سقطت] الضمير عائد إلى النفقة، أي: سقطت النفقة، فلا يجب عليه أن ينفق عليها هذه الأيام التي سافرت، ولا يجب عليه أن ينفق عليها الأيام التي صامتها، أو الأيام التي ذهبت فيها لحجها وعمرتها النافلة.(336/11)
سقوط النفقة على المتوفى عنها
قال رحمه الله: [ولا نفقة ولا سكنى لمتوفى عنها]: أي: ولا نفقة ولا سكنى لمرأة توفي عنها زوجها؛ لأن النفقة مبنية على الزوجية، وقد زالت عصمة الزوجية بالموت من حيث الأصل، أي: زال ما بينها وبين الرجل بالموت من بعض الوجوه، ومنها حقوق النفقة، فالمقابلة في الحقوق زائلة بمجرد الوفاة وهذا وجه عند بعض العلماء.
وضعف بعض العلماء هذا الوجه، وهناك خلاف: هل العصمة تزول بالموت أو لا؟ قدمنا هذه المسألة وذكرناها في بعض الدروس، وحاصلها: أن من أهل العلم من يقول: العصمة تزول بالموت، ولذلك لا يجيزون للرجل أن يغسل الزوجة إذا ماتت، ولا يجوز للزوجة أن تغسل زوجها إذا مات.
وذهب الجمهور إلى أن العصمة لا تزول بالوفاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: (أرأيت لو متِّ فغسلتك وكفنتك) وكذلك فعل السلف، فإن أبا بكر رضي الله عنه غسلته زوجه أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وعلي رضي الله عنه غسل فاطمة، فدل على أن العصمة لا تزول بالموت، فلو زالت لما حل له أن يغسلها؛ لأنه لا يجوز له أن ينظر إليها ولا يجوز له أن يباشرها باللمس كما هو معلوم، لكن لما كانت عصمة الزوجية باقية لم ينكر السلف رحمهم الله هذا الفعل، فدل على أن عصمة الزوجية باقية.
لكن يرد الإشكال هنا على قول الجمهور: كيف أسقط العلماء رحمهم الله حق المرأة في السكنى بالوفاة؟ فقالوا: لأن المال ينتقل إلى الورثة، ويصبح ملكاً للورثة وليس ملكاً للميت، وبناء على ذلك فلا حق لها في هذا المال، إلا إذا كانت حاملاً، فإن كانت حاملاً فقد اختلف فيها على وجهين: بعض العلماء قال: لها حق النفقة، وتصبح ديناً في ماله، ومنهم من قال: إنه ينفق على هذا الحمل من نصيبه من الإرث كما سيأتي -إن شاء الله- في كتاب الفرائض؛ والله تعالى أعلم.
أي: بالنسبة لقضية وجوب النفقة عليهم من حقه فهو أقوى، لكن بالنسبة للترجيح في هذه المسألة فبعض العلماء يرى أنه إذا توفي الرجل وانتقل المال إلى ورثته، فلا حق للمولود فيه؛ لأن المال لأجنبي وهم إخوانه أو قرابته.(336/12)
توقيت النفقة
قال رحمه الله: [ولها أخذ نفقة كل يوم من أوله لا قيمتها] قوله: (ولها) أي للزوجة والمطلقة الرجعية، ومن ذكرنا ممن لها حق النفقة كالبائنة الحامل المتوفى عنها، فلها أخذ النفقة كل يوم، أن تأخذ طعامها وكسوتها بالمعروف.(336/13)
وقت أخذ الزوجة للنفقة
[من أوله] أي: من أول اليوم.
قال بعض العلماء: النفقة في آخر اليوم، وقال بعضهم: النفقة من أول اليوم، وهو الصحيح، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، فتأخذه من بداية اليوم حتى تستطيع أن تتقوت وتستطيع أن تعيش، فيعطيها النفقة من أول اليوم، وهذا القول اختاره المصنف رحمه الله وهو الصحيح؛ لأنه لو قيل: إنه لا ينفق عليها إلا في آخر يومها، حصل في ذلك من الحرج والعنت ما لا يخفى.(336/14)
حكم أخذ القيمة في النفقة
وقوله: [لا قيمتها] أي: لا قيمة النفقة، يعني: لو جاء بالطعام والشراب ووضعه في البيت ومكنها منه، وأخذت قدر ما تريد من طعامها وشرابها بالمعروف هي وأولادها فلا إشكال، فلو قالت: أنا أريد المال، وأنا أشتري بنفسي، وأفعل بنفسي، فليس لها ذلك، إنما لها حق أن تطعم وتكتسي من ماله بالمعروف، فإذا أصرت على أن تأخذ النقد، فمن حقه أن يمنعها ويقول: لك طعامك وشرابك بالمعروف.
وهكذا لو كانت النفقة شهرية، فقالت: أريد النقد نفسه، فإن من حقه أن يقول: لك حق الطعام والشراب، وهذا لك وللأولاد بالمعروف، وليس لك حق عين المال، أي: لا تستحقين عين المال، إنما فقط تستحق أن تطعم وتكسى بالمعروف.
قال رحمه الله: [ولا عليها أخذها] أي: لا يجب عليها إذا أعطاها قيمة النفقة نقداً أن تأخذه، إذ الأصل الإطعام والقيام بالحقوق المعتبرة في النفقة، وأما بالنسبة للقيمة والنقد فلا يجب عليه أن يعطيها إياه إذا طالبت، ولا يجب عليها أن تأخذه إذا فرضه عليها، فإذا قال: أعطيك النقود وعليك أن تشتري ما شئت، فلا يجب عليها هذا.
لكن إذا تراضيا فيما بينهما بالمعروف، واتفق الزوج مع الزوجة على تحقيق الأمور الزوجية، كأن يتفق الزوج مع زوجته أن يعطيها ألف ريال كل شهر، أو يعطيها ألفين أو يعطيها ثلاثة أو أربعة على حسب ما يتفقا ويتراضيا مع بعضهما بالمعروف، فهذا كله لا إشكال فيه، إنما الإشكال في الحكم الشرعي من حيث الأصل، فالذي للمرأة أن تطعم وتكتسي بالمعروف، وللزوج أن يقوم بذلك، ويشتري لها ما يعد عرفاً نفقة لمثلها كما بينا، ويقدر بمثله غنى وفقراً كما تقدم معنا، فالنفقة تتقيد بحال الزوج، ثم ما بعد ذلك ليس بواجب عليه.(336/15)
حكم الاتفاق على تأخير النفقة أو تعجيلها
قال رحمه الله: [فإن اتفقا عليه أو على تأخيرها أو تعجيلها مدة قريبة أو طويلة جاز] كأن اتفقا على أن تكون النفقة في آخر الشهر، أو على أنها تأخذ النفقة كل شهرين، أو على أنها تأخذ النفقة كل أسبوع، أو على أخذ النفقة كل ثلاثة أيام، فلا جناح عليهما فيما تراضيا بينهما بالمعروف، وهذا هو الأصل في بيوت المسلمين؛ أنها تقوم على المحبة والمودة والتفاهم والرضا والقناعة، وإنما يذكر العلماء هذا إذا وقعت مشاحة وأصرت المرأة على شيء أو أصر الرجل على شيء، فحينئذ يفصل بينهما بمقاطع الحق، أن الذي تستحقه المرأة على زوجها ينفقه عليها.(336/16)
وقت لزوم الكسوة للزوجة على زوجها
قال رحمه الله: [ولها الكسوة كل عام مرة في أوله] أي: للزوجة، وللمطلقة الرجعية، وللمطلقة البائنة الحامل، والمتوفى عنها زوجها حاملاً: كسوتها مرة في العام.
والكسوة في الحقيقة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، لكنّ الأوجه أن الكسوة تختلف بالصيف والشتاء، فيكسوها كسوة الصيف ويكسوها كسوة الشتاء، والزائد على ذلك لا يجب عليه، وكون المرأة كلما حدثت مناسبة فرضت على الزوج أن يكسوها؛ كل هذا من الإسراف والبذخ والمجاوزة للحدود الشرعية.(336/17)
نصيحة للنساء في عدم الإسراف في الملابس
ولذلك محق الله بركة الأموال، وأصبح كثير من النساء يجدن الضيق والعنت بسبب أنهن ضيقن على أنفسهن، ولربما أدخلن أزواجهن في الديون وأرهقن كاهل الزوج فيما لا طائل تحته، فالمرأة تتقي الله عز وجل، وتعلم أن حقها عند زوجها كسوة صيفها وشتائها، وأنه إذا كساها على هذا الوجه بالمعروف فقد أدى ما أوجب الله عليه.
وأما ما وراء ذلك من شراء الملبوسات والمبالغة فيها، حتى إن المرأة كلما جدت لها مناسبة اشترت ثوباً، حتى بلغ ببعضهن أن تقسم أنها لن تلبس فستاناً مرتين، وتقول: كيف أحضر زواج فلانة بما لبسته في زواج فلانة؟!! وكم من أمور يراها الناس أدق وأقل من الخردلة في أعينهم، وهي عند الله عظيمة كأمثال الجبال.
وإن العبد ليصنع الأمر اليسير فيوجب مقت الله له وهو لا يدري، ولذلك أخبر الله عن شؤم عاقبة هذا الأمر وهو الإنفاق بالإسراف والبذخ، وتوعد الله سبحانه وتعالى أهله بوعيد شديد، حيث قال: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] فمن أعظم البلاء وأعظم الشؤم على المرأة التي لا تتقي الله عز وجل -حتى ولو كان عندها راتب ولو كان عندها مال- كلما حضرت مناسبة اشترت ذهباً وفستاناً ولباساً، وأخذت تتباهى بما تلبسه في كل مناسبة وكل سبب، ولا تلبس لباسها مرتين بل تحاول أن تجدد لباسها، وهذا كله عواقبه وخيمة، وإذا كانت امرأة صالحة وقدوة للغير فالأمر فيه أشد وأعظم.
وينبغي على الصالحات أن يكن قدوة لغيرهن، فإذا كان غيرهن يسرف فعليهن أن يتقين الله عز وجل، وكم من أمور في المجتمعات تصلح بصلاح الصالحات حينما تتمسك الصالحة بشرع الله عز وجل، وترى أن هذا المال بدل أن تنفقه فيذهب في كسوة ربما تأتي من أعداء الله ورسوله، ويذهب المال لهم بالملايين، ترى أنها لو أنفقته وكست به عارية، أو أطعمت به جائعة، واقتحمت العقبة، ونالت مرضاة الله عز وجل بإطعام ذي المسغبة، لفازت فوزاً عظيماً.
وكم من امرأة لم تبال بهذه الأمور والترّهات جعل الله لها من المحبة والقبول والعزة والكرامة، فلم يتق عبد ولم تتق أمة ربها إلا جعل الله لها من أمرها يسراً وجعل العاقبة لها؛ لأن الله يقول: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، خصوصاً إذا كانت ملتزمة، وخصوصاً إذا كانت طالبة علم، فإذا كانت تشهد كل درس وكل محاضرة وكل مناسبة بلباس جديد، وتبالغ في ملبسها وتبالغ في هيئتها، فلتعلم أنها تكون قدوة للغير، وكم من امرأة تجر بلاء على غيرها من حيث لا تشعر، فقد تكون جارة لامرأة ضعيفة أو زوجها فقير، فإذا أخذت تفعل هذه الأفعال ربما دعت الزوجة أن تتنكب على زوجها، وأن تحمله ما لا يطيق، أو تفسد عليه فراشه.
ولذلك كان على النساء المؤمنات أن يتقين الله عز وجل، وأن يخفن الله سبحانه وتعالى، خاصة في أمور الكسوة والمبالغة فيها؛ لأن كثيراً من عائداتها تذهب إلى من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولو أن المرأة علمت أن الدرهم بل الريال الواحد قد يكفّ الله به نار جهنم عن عبده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) فشق تمرة يحجب العبد عن نار الله عز وجل؛ فما بالك إذا كان المال الغزير! هذا عثمان رضي الله عنه لما صب الذهب والفضة في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلّب عليه الصلاة والسلام ماله وقال: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، فما بالك بالمرأة الصالحة الدينة، التي تشح بمالها ومال زوجها أن تنفقه فيما لا طائل له ولا نفع، والله إن الناس لا ينظرون إلى الجمال، ولو نظروا إليه فإنه متاع حائل وظل زائل، ولكن إذا سمت المرأة المؤمنة بأخلاقها وآدابها وسلوكها، واستقامت على طاعة ربها، وكان بينها وبين الله سريرة صالحة نقية تقية، زكاها الله عز وجل، وأبقى في النساء محبتها وإجلالها.
وكم من امرأة تراها النساء ويجتمعن بها وهي تملأ قلوبهن محبة وإجلالاً لم ينظرن يوماً من الأيام ماذا لبست وماذا تركت؛ لأن المحبة في القلوب، والمحبة محبة المبادئ والأخلاق والقيم، وأنت ترى الرجل ربما تراه أشلّ، وربما تراه دميم الخلقة، ولربما تراه بحالة بائسة، ومع ذلك قد تحبه أكثر من أخيك، بسبب أخلاقه وتصرفاته وأدبه واحترامه للناس وإلفه في تواضعه وما يكون من شمائله وخلاله، فليس السمو والكرامة والعلو بهذه الملبوسات، ولتسأل المرأة نفسها: كم وقفت؟ وكم أخذت؟ وكم أعطت؟ وما زادها هذا اللباس؟! وكم من كاسٍ في الدنيا عار في الآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم: (رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة).
فعلى المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأن تعلم أن هذا قد جرّ على الأمة بلاء عظيماً، حينما أصبحت المرأة تتبرج من سوق إلى سوق، ومن مكان إلى مكان، بحجة أنها محتاجة إلى الكسوة، وكلما طرأت مناسبة تذهب لكي تشتري لها كسوة، وخير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، خير للرجال أن لا يروا المرأة، وأن لا يحتكوا بالمرأة، واليوم أصبحت المرأة خرّاجة ولّاجة كل يوم، وفي كل مناسبة تجدد ملابسها وتعدّ إلى أن تتعب من المناسبات واللقاءات، وكلما جاءت مناسبة أخذت تفكر ماذا تلبس لهذه المناسبة، ولكنها لو اتقت ربها وخافت من الله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كانت طالبة علم، وخاصة إذا كانت قدوة داعية فعليها أن تتقي الله عز وجل، وأن تترسم المنهج السوي.
وليس المراد أن تتبذل وتذهب جمال الإسلام وجلاله، ولكن المراد العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فتتطيب وتتزين في الحدود الشرعية، وتتجمل لأخواتها، والإسلام لا يمنع من هذا، ولكن يمنع من الغلو والإسراف المبالغ فيه، وكم من أشياء تجدها في أوقاتها جميلة جليلة، ولكن بمجرد أن تزول يذهب وقتها تزول بزواله، ولذلك يذهب عقل المرأة وراء هذه الأشياء التي لا تجني منها خيراً، ولربما تجني منها سخط الله وغضبه، فتجدها اليوم تصيح على هذا اللباس أنه أفضل الموجودات، وأنها محتاجة إليه، حتى تقنع زوجها بشرائه.
فإذا لبست وذهبت به في المناسبة، ومضى يوم أو يومان، فإذا بها في اليوم الثالث تأتي وتقول له: هذا لا يصلح.
سبحان الله! بالأمس كان أفضل اللباس، وبالأمس كان أطيب اللباس، وبالأمس كان هو الذي لا يمكن أن يستغنى عنه، لكن بمجرد أن يمضي اليوم واليومان كأنه لا شيء!! وهذا ليس في اللباس فحسب، بل حتى في متاع البيت، إذا جاء العيد، أو جاءت المناسبة، أقامت الدنيا وأقعدتها من أجل أشياء معينة، ومظاهر معينة، وأنفقت الألوف، وذهبت أموال المسلمين ومحقت بركتها، لكن لو أن أمة الله عز وجل اتقت الله عز وجل زال كل هذا، فأكثر هذا البلاء جاء من المرأة، ونحن لا نتهجم على المرأة ولكن نقيم الأمر في نصابه، فالمرأة هي التي تحكم زوجها وتستطيع أن تقول: لا أريد، وهذا شيء طيب! وكم من امرأة صالحة منعت زوجها من الإسراف في البذخ، وكم من امرأة حفظت مالها فبارك الله لها ولزوجها ولأولادها، فهذه أمور ينبغي للمرأة أن تنتبه لها، وبالأخص طالبات العلم، وبالأخص النساء الصالحات؛ لأنهن قدوة لغيرهن، فعليها أن تحمد الله عز وجل على العافية، ولذلك يقول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] خاطب الله عز وجل عباده قال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] ما حرم الطيبات ولا منع منها {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف:31] فجمع جميع أصول النفقة: الكسوة والأكل والشرب، ثم قال بعد ذلك: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] ثم انظر التأكيد بـ (إنَّ) وقوله: (لا يُحِبُّ) نفي للمحبة، والعبد يصوم نهاره ويقوم ليله، وهذا كله من أجل أنه يبحث عن محبة الله عز وجل، في صلاته وزكاته، وإذا بهذه المحبة تزول عند الإسراف، نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك ينبغي على المرأة أن تحاسب نفسها في هذا الأمر، وأن تتقي الله عز وجل في نفسها، فليس لها من نفقة الكسوة إلا كسوة الصيف وكسوة الشتاء، كما هو مقرر عند أئمة الإسلام رحمهم الله.(336/18)
إلزام الزوج بما أنفقته زوجته في حال غيابه
قال رحمه الله: [وإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى] أي: إذا غاب الزوج ولم ينفق بأن سافر عن المرأة سفراً مفاجئاً، فأنفقت المرأة بنية الرجوع أخذ بذلك، ولزمه أن يدفع لها تلك النفقة التي أنفقتها على نفسها وعلى ولدها.(336/19)
حكم ما تنفقه الزوجة من مال الزوج بعد موته
قال رحمه الله: [وإن أنفقت في غيبته من ماله فبان ميتاً غرمها الوارث ما أنفقته بعد موته] كأن أعطاها النفقة، ثم سافر عنها وتوفي في السفر، ولم يتبين أنه ميت إلا بعد شهرين، وكان قد أعطاها نفقة ثلاثة أشهر، فشهر قبل وفاته وشهران بعد الوفاة، رجع عليها الوارث بالشهرين، لأنها لا تستحق هذا، إذ قد انتهى حقها في النفقة بموته.(336/20)
الأسئلة(336/21)
حكم استئذان الزوجة من الزوج في أداء التطوع
السؤال
إذا أرادت الزوجة أن تكثر من الطاعات غير الصوم، ككثرة الصلاة والعكوف على قراءة القرآن، فهل يجب أن تستأذن زوجها أيضاً؟
الجواب
لا حرج على المرأة أن تستكثر من الخير، ولكن إذا طرأ شيء في البيت أو احتاجها زوجها أو احتاجها أولادها فلتعلم أن ذلك أفضل من الطاعات النوافل، من صلاتها وذكرها؛ لأنه أمر واجب فتقوم عليه وتقوم به على وجهه.
فعلى كل حال تطيع الله عز وجل، ولا تحتاج إلى استئذان أثناء وجودها في البيت، لكن إذا طرأت حاجة تقوم بها وتسدها بها سواء للزوج أو للأولاد، والله تعالى أعلم.(336/22)
حكم أخذ المال بدل الطعام في النفقة كما في حديث هند
السؤال
هل يكون إذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ هند زوجة أبي سفيان رضي الله عنهما، دليلاً على إعطاء المال في النفقة بدل الطعام والشراب والكسوة؟
الجواب
هذه المسألة في البدل وليست في الأصل، لأن هند رضي الله عنها، قالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك، أفآخذ من ماله؟) أي: هي لا تستطيع أن تأخذ طعاماً ولا شراباً ولا كسوة، وليس لها إلا البدل وهو النفقة، فأمرها أن تضمن بالبدل؛ لأن الأصل ليس بموجود، ولذلك تقدر وتأخذ بقدره، أي: تأخذ بقدر قيمة الطعام والنفقة، وهذا لا ينقض الأصل الذي ذكرناه، ولذلك أرسل زوج فاطمة بنت قيس رضي الله عنه لها بالشعير، وهو نفقتها من الطعام، وهذا يدل على أن المعروف عند الصحابة والسلف إنما هو الإطعام والقيام بالنفقة الأصلية، فإذا تعذر وجود الأصلية أعطاها البدل، كما لو أنفقت هي وقامت على البيت وهو غائب ثم رجع، فإنها تحتسب النفقة بالنقد، أي: يعطيها نقداً.
على كل حال: الأصل هو الإطعام والكسوة والنفقة العينية، ثم بعد ذلك يكون عوضها بالتقدير، وهو القيمة، والله تعالى أعلم.(336/23)
حكم الاقتداء من خارج المسجد مع عدم رؤية من بالداخل
السؤال
ما هو حكم صلاة المأمومين خارج المسجد إذا كانوا لا يرون الإمام ولا المأمومين؟
الجواب
لا يصح الاقتداء خارج المسجد إلا برؤية الإمام أو رؤية من يأتم بالإمام، وأما بالنسبة للبلاغ فمذهب جمهور العلماء أنه لا يكفي، وجمهور الأئمة على أنه لا بد من رؤية الإمام، أو من يقتدي بالإمام، ولذلك لو تعطلت الكهرباء لم يعلموا ماذا يصنعون، ولو أن الإمام كان يصلي -مثلاً- الظهر وسها ولم يجلس التشهد الأول ووقف، فإن الذين هم خارج المسجد سيجلسون؛ لأنهم لا يرون الإمام ولا يرون من يقتدي بالإمام، فلا يرون سهو الإمام، فسيجلسون، فإذا كبر للركوع ستختل صلاتهم، وهذا قد وقع، فإذا كانوا لا يرون الإمام ولا من يقتدي بالإمام، ففي هذه الحالة كيف يصلون مع انقطاع الكهرباء؟ ولذلك اشترط العلماء والأئمة رؤية الإمام، أو من يقتدي بالإمام، ولو كان شخصاً واحداً فقط، لأن هذا الشخص يرى غيره، ولو خرج شخص واحد من الباب ورئي من ورائه صح الاقتداء؛ لأن هذا الشخص مبلغ، فبمجرد أن يحدث سهو للإمام يرى، وبمجرد ما ينتقل الإمام من ركن إلى ركن يرى، وإذا تعذر السماع أمكنت الرؤية، ولذلك كان المقرر عند الجمهور رحمهم الله أنه لا بد من رؤية الإمام أو من يقتدي بالإمام على الصحيح.
هناك من العلماء من أجاز الاقتداء بسماع الصوت، وقاس بعض المعاصرين عليه الأجهزة، واستدلوا لهم بحديث أسماء في الحجرات، حينما ائتم أقوام بصلاته عليه الصلاة والسلام، وكذلك في قبته في الاعتكاف، وهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه قد يكون باب القبة مفتوحاً ويرون النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم.
أما اقتداء أسماء فكان في الحجرة وهي تسمع الصوت، وحجرات النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن بذلك البناء والشموخ، فهي تراه في بعض الأركان دون بعضها، فلا يصح الاستدلال به من كل وجه.
ثم أيضاً أسماء تسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمع تكبيراته عليه الصلاة والسلام.
ومن يعرف المسجد النبوي يعرف أن حجراته بجوار روضته عليه الصلاة والسلام، ما بين حجرة عائشة التي كانت تجلس فيها أسماء وبين الروضة إلا الجدار، وهذا شيء بسيط جداً بجواره، ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تسمع خطبه، وميمونة رضي الله عنها كانت تقول: (ما حفظت سورة ق إلا من فم النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة ما يرددها في الجمعة) وحجرة ميمونة كانت في آخر الحجرات فإذا كانت في آخر الحجرات تسمع الخطبة فما بالك بالتي في أول الحجرات.
وهذا أمر مهم وهو أن النصوص لا بد من ضبطها ولا بد أن يكون طالب العلم عند الاستدلال بها يعرف الحال الذي كان عليه عليه الصلاة والسلام، حتى يستقيم الاستدلال بها على هذا الوجه.
وبناء على ذلك: فالذي نراه أحوط للصلاة والعبادة ولشرع الله عز وجل، أن المأموم رجلاً كان أو امرأة لا بد أن يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام، ولو شخصاً واحداً، حتى يحصل به البلاغ، ويكون الاقتداء على وجهه، لأنه يبني صلاته على صلاة الإمام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) فكيف يتابعه إذا كان لا يراه، وإنما يسمعه بواسطة، وأسماء رضي الله عنها كانت تسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يخشى انقطاع تيار كهربائي، ولا يخشى وجود فاصل ولا حائل، ولكن الآن في زماننا بوجود هذه الأجهزة لا يؤمن انقطاعها، ولا يؤمن أيضاً اختلال صلاة المأمومين فيها، والله تعالى أعلم.(336/24)
حكم زكاة الدين
السؤال
يقول السائل: لي مبالغ مالية عند بعض الناس استدانوها مني وفيهم الموسر وفيهم المعسر، وفيهم من لا أعلم حاله، فما حكم زكاة بهذه الأموال؟
الجواب
إذا كان لك دين على أحد، فإن كان غنياً ويمكنه السداد، أو كان عنده قدرة أن يسددك وجبت عليك الزكاة؛ لأنك إذا طالبته كأن المال في يدك، وفي بعض الأحيان يكون هذا الغني صديقاً لك، أو يكون أخاً لك، فتستحي أن تقول: أعطني المال، لكن في الحقيقة ما دام أن الأجل حل، وهو قادر أن يسدده، فكأن المال في يده إذا كان غنياً قادراً على السداد، فتجب زكاته، وأما إذا استدان منك فقير، أو استدان منك شخص، ولما جاء وقت السداد قال: أنا عاجز ولا أستطيع أن أسددك، فإنه لا زكاة عليك؛ لأن المال غير موجود.
ومن هنا تنتظر حتى يسددك وتزكي لسنة واحدة، فلو مكث خمس سنوات أو عشر سنوات، وأعطاك المال بعد عشر سنوات، فلا تزكي إلا لسنة واحدة، والله تعالى أعلم.(336/25)
حكم إدخال العقيقة تحت الأضحية في النية
السؤال
هل يصح إدراج العقيقة تحت الأضحية؟
الجواب
لا يصح إدراج العقيقة تحت الأضحية؛ لأن الأصل عند العلماء في مسائل الإدراج أن يتحقق مقصود الشرع، فالعقيقة مقصود الشرع أن تكون في يوم السابع للولد والولد مرهون بها، قال صلى الله عليه وسلم في حديث الحسن عن سمرة: (كل غلام مرهون بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه) فهذا حق واجب مقصود لسبب.
وأما الأضحية فإنه على القول بوجوبها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها) تكون مقصودة، ولا يجزئ أن يعق بنية الأضحية، ولا أن يضحي بنية العقيقة، لا يجزئ أحد الأمرين عن الآخر، فواجب عليه أن يذبح لكل منهما ذبيحته المعتبرة، والله تعالى أعلم.(336/26)
حكم المماطلة في أداء الحقوق للناس
السؤال
من استدان مالاً وماطل في السداد، وتساهل، هل يعتبر غاصباً وآكلاً للمال بغير حق؟
الجواب
منع الناس حقوقهم والتساهل في رد الحقوق إلى أصحابها كبيرة من كبائر الذنوب، عواقبها وخيمة، ونهايتها موجعة أليمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذه الحالة بأنها ظلم، والمظلوم إذا دعا على من ظلمه فإن دعوته مستجابة ولو بعد حين، وقد حرم الله الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (مطل الغني ظلم يبيح لومه وعرضه).
حتى لو أنه أخر راتبه أو منعه إياه مدة خمسة أشهر أو ستة أشهر فهذا ظلم، ويحاسب بين يدي الله ويسأل بين يدي الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يقول الله تبارك وتعالى: ثلاثة أنا خصمهم ومن أكن خصمه فقد خصمته، رجل أستأجر أجيراً فلم يوفه حقه) قال العلماء: ممكن أن يعطيه راتبه ولكن بعد شهر، فلم يوفه؛ لأنه قال: (لم يوفه) وهذا يدل على أنه ينبغي الوفاء؛ فإذا قال: أعطيك في نهاية الشهر، فإنه يعطيه في نهاية الشهر.
كذلك أيضاً إذا استدان وقال: أعطيك في نهاية الشهر، أو أعطيك بعد سنة، فإنه يجب عليه أن يفي إذا كان قادراً، أما إذا كان عاجزاً فإن الله تعالى يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] والتأخير والتوسعة على المديون من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وبها تفرج الكربات، وبها تكون النفحات والرحمات من الله عز وجل، فالشخص إذا أعطيته ديناً، ووجدت أموره معسرة، وأنه محتاج إلى هذا المال، وأنه يحتاج أن تأخره وأن تنظره، فهذا مكياله أوفى عند الله عز وجل، بل قال بعض العلماء: الصدقة على المستدين أعظم من الصدقة على المحتاج.
فعندما ترى إنساناً مديوناً مكروباً في دينك، قد ضاقت عليه الأرض، وتأتيه في ظلمة الليل أو ضياء النهار وتقول: يا فلان مالي ومالك كالشيء الواحد، قد عفوت عنك، فهذا من أعظم الأعمال الصالحة عند الله عز وجل.
كان رجل يدين الناس ويقول لغلمانه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عني، فلقي الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: (فقال الله: يا ملائكتي نحن أحق أن نتجاوز عن عبدنا، قد غفرت لعبدي) فغفر الله له وتجاوز عنه لما تجاوز عن عباده وخلقه؛ لأن الله رحيم ويحب من عباده الرحماء، ويرحم من عباده الرحماء.
والمشكلة اليوم دخول شياطين الإنس والجن، تأتي إلى شخص لك عليه دين، ويتأخر في السداد، فتجدهم يأتون ويقولون: لماذا لا تأخذ حقك؟ هذا يتلاعب بحقك، هذا كذا هذا كذا نزعت الرحمة من المسلمين إلا من رحم الله، لكن لو أنزل الإنسان نفسه منزلة هذا المديون ونظر في حاله وقدر ظروفه وقال: قد سامحتك، قد أسقطت عنك نصف الدين، قد أسقطت عنك بعض الدين؛ يرجو رحمة الله عز وجل، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ً: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] فهذا من الإحسان، والنفوس مجبولة على محبة الأموال.
فالتوسعة على المديونين وعدم التضييق عليهم أمر مطلوب.
أما أن يكون قادراً على السداد ويمنعك حقك ويماطل، فبعضهم يقول: إنها شطارة في التجارة، وبعضهم يقول: إنها شطارة في الأموال أن يتأخر عن حقوقك، وأن يماطلك في حقوقك حتى يستفيد من المال، ولا يريد أن يدفع المال مباشرة! فهذا من الظلم، ولو دعا صاحب المال على هذا الشخص فإنها تستجاب دعوته؛ لأن الله يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرك ولو بعد حين) ودعوة المظلوم على الظالم مستجابة، ولذلك نجد بعض الناس الذين أعطاهم الله الأموال ويؤخرون الناس في السداد، تكون أمورهم منكدة منغصة، لا يأتون إلى باب إلا أقفله الله في وجوههم، ولا يسلكون طريقاً إلا عسر الله عليهم؛ لأن الله مكنهم من الخير فضيقوا على العباد مع قدرتهم أن يوسعوا على العباد.
وتجد الشخص الآخر إذا استدان من الناس يوفي لهم ويعطيهم، حتى إنه في بعض الأحيان يذهب ويتسلف من أجل أن يفي بوعده، وهذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) والسمح إذا قضى: كما إذا قلت لك: أسددك في نهاية الشهر، فوجدت المال قبل نهاية الشهر، فآتي لأسددك وأقول لك: جزاك الله كل خير.
ولا أنتظر إلى نهاية الشهر، مع أن الذي بيني وبينك نهاية الشهر، فآتي وأقدر أن بيني وبينك التزاماً، لكني مع ذلك أقدم السداد، هذه من السماحة.
ومن السماحة أنه إذا استدان -مثلاً- ألفاً يزيد ويعطي عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم أحسنكم قضاءً) فينبغي على المستدين أن يقدر المعروف، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، فلا يماطل ولا يؤخر، وإذا ماطل وأخر وظن أن ذلك يكثر ماله، فإن الله ينقص ماله، ويذهب البركة من ذلك المال، ومن أراد أن يجرب ذلك فليفعل.
فتأخير حقوق الناس مضرته عظيمة، يمنع خشوع الصلاة ويمنع رقة القلب، ويمنع بركة الرزق، ويوجب على الإنسان ويجلب عليه العواقب الوخيمة، وربما يكون المال الذي جمعه وأخره يريده لشيء فيمحق الله بركة ذلك الشيء، ولذلك ينبغي إنصاف الناس، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] والعقود: الالتزامات التي بين المسلمين، قال عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط) فإذا اشترط عليك الوفاء في نهاية الشهر فعليك أن توفّي له، خاصة الخدم والضعفاء والغرباء، فهؤلاء أمرهم أعظم، فإذا كان الإنسان يستغل ضعف صاحب الدين، أو ضعف الخادم، فيؤخر حقوقه، إذا قال له: في نهاية الشهر أعطيك المال، فإن نفسه مرهونة بالدين، هذا الراتب أو هذا الحق الذي للأجير أو الدائن إذا جاء الأجل ولم توفه، فإنه يصير ديناً عليك، وحتى ولو كان راتباً، فيصبح هذا الضعيف أو هذا الخادم أو هذه الخادمة أو هذا الأجير دائناً لك.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نفس المؤمنة مرهونة بدينه) ولذلك تجد طالب علم بمجرد ما يدخل في الديون تتنكد حياته، وإذا كان أعبد الناس بمجرد ما يدخل في الديون يتنغص عيشه، الدين هم الليل ذل النهار، فيحرص الإنسان على أن لا يدخل في الدين، خاصة إذا كان قادراً، وخاصة إذا جاءه الأجير وقال: عندي ظروف فأريد راتبي وأريد حقي.
والأعظم أن يجمع بين السيئتين، تأخير الحقوق، وإذا طلب منه أن يقضيها أقام الدنيا وأقعدها وظن أن هذا من سوء الأدب، ويقول: كيف يقول: أعطني مالي؟! وكيف يقول: أعطني حقي؟! فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم لما جذبه اليهودي بردائه حتى أثر في عنقه، وقال: (أعطني يا محمد فإني ما عهدتكم آل هاشم إلا مطلاً) أراد عمر أن يبطش به، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعه، فإن لصاحب الحق مقالة) فكانت سبباً في إسلام اليهودي، فهذه أمور ينبغي للمسلم أن يلتزم بها: وفاء الناس، وأداء حقوقهم وسدادها.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يخلصنا من حقوق عباده، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(336/27)
نصائح في الإخلاص للدعاة
السؤال
ترد على الداعية والمتقلد للإمامة والخطابة وغيرها من أمور الدعوة بعض الموارد من الرياء والعجب، فكيف يدفع هذه الأمور ويحصل الإخلاص في عمله؟
الجواب
إن الله يبارك للداعية وللخطيب وللإمام ولكل متكلم بشرائع الإسلام متى ما أراد وجه الله جل جلاله، وابتغى ما عند الله، وتوجه بكليته إلى الله، ومن كان لله كان الله له، ومن عامل الله فتجارته رابحة، وأموره مستقيمة، وأحواله صالحة، ومن هذا الذي كان مع الله، فخذله ربه؟ ومن هذا الذي استقام لله، فضيعه ربه؟ وقد قال الله: {إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ} [المائدة:12].
فالعبد إذا أقام لله أمره، وأخلص لله قلبا وقالباً، وأراد ما عند الله، وابتغى الدار الآخرة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن، كان سعيه مشكورا، ً وإذا شكر الله السعي باركه، ووضع الخير فيه، فقليله كثير، ويسيره عظيم، وكم من عمل عظمته النية، فمن وطن نفسه على إرادة وجه الله جل جلاله، وابتغاء ما عند الله، فإنه سعيد بحق، سعيد في الدنيا وسعيد في الآخرة، ففي الدنيا جنة للمخلصين الذين يريدون وجه الله رب العالمين، لا يمكن لأحد أن يحقق شرطها وأصلها إلا نال سعادتها وخيرها وبرها.
وإذا دخل هذه الجنة في الدنيا أدخله الله جنة الآخرة، يعيش فقيراً مرقع الثوب بالي الحال، ولكنه بالإخلاص عزيز كريم غني بالله سبحانه وتعالى، هذا هو الأساس الذي ينبغي أن يبني عليه العبد أموره كلها فضلا عن طالب العلم، فضلاً عن الداعية، فضلا عن غيره.
وماذا يريد الإنسان بالناس، هل أحْيَوا ميتاً؟ هل شفوا مريضاً؟ هل أطعموا بدون إذن الله جائعاً أو كسوا عارياً؟ {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196] فالذي يكون لله، فالله هو الولي وحده، والذي يكون لغير الله فلن يجد من دون الله ولياً ولن يجد له من دون الله نصيراً، طاب عيش المخلصين بإرادة وجه رب العالمين.
فماذا يريد الإنسان من الرياء؟ وَهَبْ أن أهل الأرض كلهم رضوا عنك ولم يرضَ عنك الله جل جلاله -لا قدر الله- فماذا يقدمون مما أخر الله منك؟ وماذا يؤخرون مما قدم الله لك؟ العبد الصالح يتوجه إلى الله جل جلاله؛ لأنه يعلم أنه لا صلاح إلا بإرادة وجه الله، ولا يمكن لشيء في هذا العلم وهذا الدين أن يُنْظَر لصاحبه في جزائه وحسن عاقبته، إلا بعد أن ينظر في قلبه، وإرادة ربه.
وينتبه الإنسان إلى من يعامل، فإنه يعامل ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ويعامل من بيده خزائن السماوات والأرض، الذي بيده الخزائن التي لا تنفد، الرب الكريم الحليم العظيم جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومن أراد أن يعرف المعاملة مع الله، فليعرف من هو الله، فيتعرف على الله بأسمائه وصفاته؛ لكي يرى عظيم الكرم والجود والإحسان والمنن والفضل والرعاية والعناية والكفاية، وكل ما تريد من خير الدين والدنيا والآخرة: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:88] من الذي بيده ملكوت كل شيء؟ سبحانه لا إله إلا هو، فما الذي يريد الإنسان من الناس؟ هب أن الناس كلهم مجدوك، وهب أن الناس كلهم مدحوك، وهب أن الناس كلهم رفعوك، وهب أن الناس كلهم رفعوا وأخذوا وأعطوا، فماذا يغنون عنك من الله سبحانه وتعالى؟ تأمل كم من كلمات قلتها وأنت تريد رؤية الناظرين، وسماع المستمعين، فماذا أغنوا عنك من رب العالمين؟ لمّا مرضت التفت يميناً وشمالاً فما وجدت إلا الله جل جلاله، الذي أحاطك برحمته وبلطفه وبمنه وكرمه في ظلمة الليل، ولو كان الإنسان أعز من في الأرض غنى وقوة ويساراً، فربما يأتيه المرض في ظلمة الليل، فلا يسمع صوته إلا الله وحده لا شريك له.
فليعامل الإنسان الله سبحانه وتعالى ويذهب عنه الرياء، ويبعد عنه السمعة، فإذا قام خطيباً فليعلم أن مفاتيح قلوب الناس لا يمكن أن يعطيها الله إلا للمخلصين، وأن التأثير في قلوب العباد لا يمكن أن يكون بحلاوة الكلام، ولا بتنميق العبارات، ولا بتحسين الجمل، ولا بتكلف في الشكل ولا في الملبس، ولا بالهيئة، ولكنها أسرار بين العبد وبين الله المطلع على الضمائر، المطلع على السرائر، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
تستحي من الله حينما يرفعك على رءوس الناس لكي تخطب أو تعظ أو تحاضر، تستحي من الله أن ينظر في قلبك أن فيه غير الله جل جلاله، فمن الذي بوأك هذا المبوأ؟ ومن الذي أعطاك هذه النعمة؟ ومن الذي أحسن عليك بهذا الإحسان فصرت تتقدم تصلي بالناس؟ فتتذكر أن الله قدمك عليهم، وأن الله فضلك عليهم، وأن الله جعلهم يسمعون لقولك، وأن الله جعلهم يركعون بركعوك، ويسجدون بسجودك، فتستحي من الله جل جلاله.
أخطر شيء في هذا الوجود الإخلاص، والمسألة العظيمة التي من أجلها قامت السماوات والأرض هي الإخلاص، حتى إن أهل الخير لا يمكن أن يتنافسوا أو ينالوا خيراً إلا بقضية الإخلاص، هي المحك الخطير في الدين والدنيا والآخرة، فلا تتكلم ولا تعمل ولا تقدم ولا تؤخر إلا وأنت تريد ما عند الله سبحانه وتعالى، وإذا كنت لله كان الله لك، ولا يخذل الله عبداً أخلص لوجهه وابتغى ما عنده، واعلم أن مدح الناس وثناء الناس وتعظيم الناس لا يغني عنك من الله شيئاً، ولا يغني عن الحقائق.
وقف رجل على الحسن البصري رحمه الله، وقال له: (عجز الزمان أن يأتي بمثلك، فقال: ويحك، ويحك ماذا تقول؟ أوعلمت ماذا أفعل حينما أغلق باب داري؟) يعني: تزكيني أني صالح وأنت لا تعرف سري وغيبي، هذا لا يعلمه إلا الله جل جلاله، فلا يعامل العبد إلا ربه، ولا يبتغي إلا ما عند الله سبحانه وتعالى، فإن مدح الناس وثناء الناس لا يغير في الحقائق.
والعبد المخلص أكره ما عنده مدح الناس، فليكن أكره ما عندك أن يأتي واحد ويقول لك: والله خطبتك نافعة، خطبتك مؤثرة، خف من هذا، فإن هذا لا يغني عنك من الله شيئاً، وأشفق على نفسك وقل له: يا أخي اتق الله، إذا كنت وعظتك وذكرتك بالله، فلا تقع بيني وبين آخرتي، ولا تأتِ تمدحني وتقطع لي عنقي: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ} [النجم:32] وحده لا إله غيره، ولا رب سواه {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] بل يعرف العبد مقدار نفسه، ويشفق طلاب العلم على بعضهم.
تزكية العلماء والخطباء والأئمة ومدحهم وتمجيدهم وتضخيم أمورهم لا تغني عن العبد من الله شيئاً، ولنشفق على أهل الخير وأهل الصلاح فلا نقطع رقابهم، وليستح العبد من ربه، أن يأتي ينمق الخطب وينمق المحاضرات والدروس والمواعظ وهو يريد مدح الناس وثناءهم، فعليه أن يستحي من الله جل جلاله، إذا كان يريد الدنيا فسوق الدنيا واضحة، وإذا كان يريد الآخرة فليجعل نصب عينيه الموت ولقاء الله سبحانه وتعالى، وليجعل بين عينيه قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ} [المائدة:119] هذا اليوم يوم لقاء الله سبحانه وتعالى.
والله ما استشعر عبد موقفه بين يدي الله إلا هانت عليه الدنيا وما فيها وأراد ما عند الله، وبالأخص الدعاة والهداة للناس، فتحضر الخطبة ولربما تقوم فتأتي تسأل الرجل بعد أن يخرج من المسجد: عن أي شيء كانت الخطبة؟ وإذا به لا يدري عن ماذا كانت، نسأل الله السلامة العافية.
وقد يكون هذا بسبب من الخطيب، وقد يكون بسبب من الناس، وقد يكون بسبب منهما، فإن الشهوات والمنكرات والمعاصي إذا كثرت عم بلاؤها: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] وقد يأتي الرجل كأخشع ما يكون ويحال بينه وبين التأثير بسبب ذنوب الناس.
لكن ليس هناك شيء يؤثر مثل نية الخطيب ونية طالب العلم، ونية الإمام ونية الواعظ؛ فلا تغتر بالناس، وليكن أكره ما عندك أن يمدحك أحد، وربما مدحك عن حسن نية فتأتي بالتي هي أحسن وتقول له: يا أخي! والله إني مشفق على نفسي، إني كثير الذنوب وعندي خطايا، فخف الله جل جلاله فيّ، ولا تمدحني ولا تمجدني.
ثم إن هذا المدح شهادة، فأي شخص تقول عنه: فلان أعلم الموجودين، فلان أفقه الموجودين، فلان أحسن الدعاة، فلان أحسن الخطباء، فلان أحسن القراء، تقف بين يدي الله عز وجل وتسأل: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} [الزخرف:19] يخطها ملائكة حافظون لا يغشون ولا يزيدون ولا ينقصون لتراها أمام عينيك، ويقول لك ربك: هذا الذي قلته لم قلته؟ من الذي نصبنا حكاماً على الناس نزكي من نزكي، فعلى العبد أن يتقي الله في نفسه ويخاف من الله سبحانه وتعالى.
وعلى أهل الخير والدعوة والصلاح والبر أن يعاملوا الله سبحانه وتعالى، وأن يعلموا أن تجارة الله لا تبور، وأن العبد إذا كان لله حفظه الله في نفسه، وحفظه الله في أهله وولده، وحفظه الله في طلابه، وحفظه الله في من يصلي معه، حتى إن بعض الأئمة إذا كان على صلاح وخير ترتاح للصلاة وراءه، وتجد من البركة التي يضعها الله في قراءته، ومن البركة التي يضعها الله في خطبه، ومن البركة التي يضعها الله عز وجل في مواعظه، وكل هذا بفضل الله، ثم بالسر الذي بين العبد وبين ربه.
وينبغي إذا كان يوم الجمعة وجئت تخطب أن تشفق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا تحرم الأمة خير كلماتك ومواعظك بسبب الرياء، أو بسبب محبة المدح والثناء، ولنكف عن تمجيد الناس، ولنكف عن الغلو، ولنتقِ الله في أنفسنا، وليدعُ بعضنا لبعض، ونطّرح بين يدي الله عز وجل، ونسأل الله لنا التوفيق والسداد، والرعاية والعناية.
فإذا وجدت داعية أو خطيباً أو عالماً أو فقيها أو غيره ممن يشتغل بالدعوة، قلت: اللهم وفقه، اللهم سدده، اللهم خذ بيده لما يرضيك عنه، اللهم اجزه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، فتدعو له بالخير، وهكذا كان السلف وهكذا كان الأئمة.
وتشفق عليه أيضاً، وتسأل له المعونة وتقول: اللهم وطنه للإخلاص، اللهم ثبته على الحق، فهذا هو الذي تواصى به الصالحون وتواصى به الأئمة واهتدى به المهتدون: إرادة وجه الله جل جلاله، ولذلك قال تعالى: {أَلا(336/28)
شرح زاد المستقنع - كتاب النفقات [4]
تستحق المرأة نفقة زوجها من حين أن تسلم نفسها له، والتسليم إما حقيقي وإما حكمي، والزوج إما أن يسلم النفقة كاملة، أو يعجز عنها كاملة، أو عن بعضها، ولكل حالة حكمها وتفصيلاتها.
وهي أحكام مهمة قد يترتب على بعضها فسخ النكاح.(337/1)
وقت استحقاق المرأة للنفقة تسليمها نفسها للزوج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن تسلم زوجته أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ، وجبت نفقتها ولو مع صغر زوجٍ ومرضه وجبه وعنته].
بعد أن بيّن المصنف رحمه الله وجوب النفقة على الزوجة وبيّن ما تقدر به النفقة، والأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الأصل، شرع في بيان متى تستحق المرأة النفقة.
فهناك أصلٌ ينبغي اعتباره: وهو أن الزوج إذا سلمت إليه الزوجة ومُكّن منها فقد وجبت عليه نفقتها، وهذا الأصل نبّه عليه رحمه الله في بداية هذا الفصل؛ لأن الله سبحانه وتعالى رتب النفقة على الاستمتاع وعلى قيام الزوجة بحقوق زوجها، وبينا ذلك في مسائل النشوز، وإذا ثبت هذا فإنه إذا تسلّم الزوجة ومُكّن من الاستمتاع منها فإنه حينئذٍ تجب عليه نفقتها، لكنه لو عقد على الزوجة ولم يتسلمها ولم يُمكّن منها فإنه لا تجب عليه نفقتها، وتبقى نفقتها على أبيها أو على إخوانها وقرابتها أو على نفسها إن كانت مستطيعة أن تنفق على نفسها، حتى يُمكّن الزوج منها وتسلّم إليه.(337/2)
التسليم الحقيقي للمرأة
وهناك ضربان من التسليم: التسليم الحقيقي والتسليم الحكمي.
التسليم الحقيقي: مثل أن يكون له منزل ويؤتى بالزوجة وتسلّم له بالمعروف وبالعرف، فحينئذٍ قد تسلمها وتمكّن منها حقيقة، وتجب نفقتها عليه بإجماع العلماء رحمهم الله، لكن لو أنها بقيت في بيت أبيها، وقال أبوها: لا أمكنك من الدخول عليها إلا بعد شهر، أو بعد أن تجد عملاً، أو بعد أن تتخرج، أو بعد كذا وكذا من الزمان أو من الشروط، فإنه في هذه الفترة لا يجب عليه أن ينفق عليها، وتبقى على نفقتها في الأصل، فإن كانت تحت رعاية أبيها وجبت نفقتها على أبيها، وإن كانت تحت رعاية قريبٍ وجبت نفقتها على ذلك القريب حتى تسلم إلى الزوج.(337/3)
التسليم الحكمي للمرأة
قوله رحمه الله: [أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ] وهذا التسليم الحكمي: بألا يكون عندها مانع، ولا عند أهلها مانع، وقالوا له: في أي وقتٍ تريد أن تأخذها فخذها، فحينئذٍ يكونون قد مكّنوه منها، وقالوا له: أي وقت تشاء أن تدخل بها فنحن على استعداد، والأمر يسير بالنسبة لنا، فلم يمنعوه من شيء، فأصبح التأخير منه لا منها، ففي هذه الحالة قد مكنوه، وهو لم يتسلمها حقيقة لكنه تسلمها حكماً؛ لأنهم لم يمنعوه منها، ولم يحولوا بينه وبين الدخول بها، وفي هذه الحالة تجب عليه نفقتها.
إذاً: هناك التسليم الحقيقي وهناك التسليم الحكمي، فإذا بذلت نفسها له أن يستمتع بها، فحتى ولو كانت في بيت أبيها، فحينئذٍ تجب نفقتها عليه، ولا يشترط أن تنتقل إلى البيت، بل لو استمتع بها في بيتها، أو مكنته من نفسها في بيت والديها ولا يوجد مانع ولا حائل شرعي يحول دون ذلك؛ فإنه يكون في حكم من تسلّم زوجته حقيقة.
وقد تقدم أن الشريعة الإسلامية تجعل التسليم الحكمي منزلاً منزلة التسليم الحقيقي، ومن أظهر ذلك ما ذكرنا في الأجير، أن الأجير أو العامل -مثلاً- لو استأجره شخصٌ يوماً كاملاً على أن يعمل عنده فجاء العامل ومكّن صاحب العمل من نفسه، ولكن صاحب العمل لم يعمل أو لم يطالبه بشيء، فإنه قد مكنه من نفسه، ويكون حينئذٍ رب العمل ملزماً بدفع أجرة العامل، فكذلك المرأة إذا مكنت نفسها ولم يمنعه أولياؤها منها، صار ذلك موجباً لثبوت حقها في النفقة عليها.(337/4)
لزوم نفقة المرأة بتسليمها لزوجها ولو كان صغيراً
قال رحمه الله: [وجبت نفقتها ولو مع صغر زوجٍ].
[وجبت نفقتها] أي: على الزوج، هنا (وجبت) بمعنى: لزمت أو ثبتت نفقتها؛ لأن الواجب يطلق بمعنى: الثابت والمستقر، كقوله تعالى: ((فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)) [الحج:36] أي: ثبتت على الأرض واستقرت، ومنه قوله: (والمغرب إذا وجبت) أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا سقط قرص الشمس وغاب، ويطلق الواجب بمعنى اللازم الذي هو الحكم الشرعي.
فمعنى (وجبت) أي: أصبحت النفقة واجبة على الزوج ولازمة، وفي الأول لم تكن واجبة عليه، لكن إذا تسلم الزوجة أو مكنته من نفسها فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن ينفق عليها.
[ولو مع صغر زوجٍ] من أهل العلم من قال: إن الزوج إذا سلمته الزوجة نفسها أو مكن الزوج منها، وجبت نفقتها بغض النظر عن كون الزوج صغيراً أو كبيراً، ومن أهل العلم من قال: إذا كان صغيراً لم تجب نفقتها عليه، وإذا كان كبيراً وجبت النفقة.
فالمصنف رحمه الله قال: (ولو مع صغرٍ) إشارة إلى القول المخالف؛ لأننا قلنا: (لو) يؤتى بها إشارة إلى خلاف في المذهب، فيستعملها المصنف رحمه الله في المتن إشارة إلى القول المخالف في المذهب، فإذا قلنا: إن الصغير إذا مكنته الزوجة من نفسها أو تسلمها وجبت النفقة فإن الذي يدفع النفقة هو وليه؛ لأن الصغير لا يتولى القيام على ماله كما قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] وبالإجماع فإن الصبي لا يتصرف بماله، وإنما يتصرف وليه، فيجب على وليه أن ينفق على تلك المرأة.(337/5)
لزوم نفقة المرأة على زوجها ولو كان مريضاً أو معيباً
قوله: [ومرضه] أي: ولو مع مرض الزوج، فإذا كان الزوج مريضاً، لا يمكن أن يطأ، أو كان صغيراً فالوطء منه ليس كما إذا كان كبيراً، فبين رحمه الله أننا لا نلتفت إلى العذر، بل نلتفت إلى أن المرأة لها حق النفقة متى مكنته من نفسها وسلمتها إلى هذا الزوج، مالمانع منه لا يعنيها، كما أن الأجير إذا مكن نفسه ممن يستأجره فإنه يجب عليه أن يدفع له أجره.
قوله: [وجبه] قد تقدم أنه من العيوب، فلو كان مقطوع الذكر لا يتأتى منه أن يجامع ففي هذه الحالة تلزمه النفقة؛ لأن النفقة ليست قضيتها قضية الجماع فقط، بل ولأن المرأة أسيرة عند الزوج، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإنهن عندكم عوان) وهو يقتضي ثبوت حق النفقة، ولذلك قد تكون المرأة عند زوجٍ لا يأتيها ككبير السن ونحو ذلك، فلا يشترط أن يكون قادراً على الجماع، فالعبرة بكون المرأة مكنت من نفسها، وسلمت نفسها إلى الزوج.
قوله: [وعنته] هذا أيضاً من العيوب، ومراده أن يقول: إذا كان العيب موجوداً في الزوج وقالت الزوجة: مكنتك من نفسي، أو سلمها أولياؤها إليه، ففي هذه الحالة لا يعنينا وجود العيب فيه أو العذر، والذي يهمنا هو أن للمرأة حقاً، وهو أنه متى مكنت الزوج من نفسها بغض النظر عن كونه يقدر كالكبير الصحيح القادر على الوطئ، أو لا يقدر كالصغير أو المجبوب أو من به عنة -وهو من لا ينتشر عضوه- وقد بينا هذا في عيوب النكاح، فهؤلاء كلهم فيهم عيوب تمنع الوطء.
ونحن بينا أن العلة ليست أن يجامع أو لا يجامع، فإذا مكنت من نفسها وسلمت إلى زوجها وجب حقها في النفقة، ووجب عليه أن ينفق عليها بالمعروف، وبينا أن هذا مبني على الأصل، وليس الجماع هو المعول عليه من كل وجه؛ إنما العبرة بكون المرأة سلمت ومكنت الزوج من نفسها.(337/6)
حكم امتناع المرأة عن تسليم نفسها حتى تقبض صداقها الحال
قال رحمه الله: [ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال] إذا تزوج الرجل من امرأة، وعقد عليها وسمى لها صداقها حالاً أي: نقداً، فقال: مهرك -مثلاً- ثلاثون ألفاً أدفعها نقداً، أو قال: ثلاثون وسكت، فإذا سكت وجب دفعها نقداً؛ لأن المؤجل خلاف الأصل؛ فإذا اتفقوا على الثلاثين ألفاً ولكنه لم يحضرها، فمن حقها أن تمتنع من تمكينه من نفسها، ومن حق أوليائها أن يمنعوه حتى يدفع المهر؛ لأن مقاطع الحقوق عند الشروط.
فإذا سكتوا على كون المهر مسمىً بدون تأجيل وجب تعجيله، وهذا أشبه بالشرط؛ لأن العقد أصلاً يتضمن التزامات من الزوج والزوجة، فواجب على الزوج أن يؤدي ما التزم به وواجبٌ على الزوجة أن تؤدي ما التزمت به، فمما فرض الله عز وجل أن يعطيها مهرها، ولذلك قال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فمن حقها أن تمنع زوجها أو يمتنع أولياؤها من تسليمها حتى يدفع الزوج المهر كاملاً، وهذا قد يكون له سبب؛ فإن المرأة في زواجها قد تتحمل أموراً في لباسها، ويتحمل أولياؤها أموراً في تهيئتها لزوجها، وتهيئة بيتها لها، وهذا يحتاج أن يكون عندها المال أو يكون عندها المهر، فإذا قالت: أنا لا أمكنك من نفسي حتى تدفع لي صداقي، فهذا من حقها، وكذلك من حق والدها ومن حق وليها أن يمنعها منه حتى يؤدي صداقها الحال.
ولما قال رحمه الله: (الحال) مفهومه أن المؤجل ليس من حقها أن تمتنع بسببه، فلو قال: أدفع لك عشرة آلاف الآن وعشرين بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، فإنه ليس من حقها أن تمتنع حتى يدفع لها المؤجل؛ لأن المؤجل إلى أجل، وبناءً على ذلك لا تمتنع إلا إذا اشترطت وقالت له: أنا لا أمكنك من نفسي حتى تدفع لي الصداق كاملاً، فقال: إذاً: أدفع لك عشرة هذه السنة، والعشرة الثانية في السنة القادمة، والعشرة الثالثة في السنة الثالثة، فمعناه أنه سيكون الدخول بعد السنة الثالثة.
وهذا على حسب ما يتفق عليه الزوجان؛ لأنهم إذا تراضوا على شيء وتم العقد على اشتراط شرطٍ لا يعارض الشرع ولا يناقضه، وجب الوفاء به.(337/7)
حكم امتناع المرأة بعد تسليمها نفسها
قال رحمه الله: [فإن سلمت نفسها طوعاً ثم أرادت المنع لم تملك] أي: (فإن سلمت نفسها) في هذه الحالة، وهي أن يكون لها استحقاق في المهر المعجل، فقال لها: مهرك ثلاثون، فاتفقا على ذلك، فقيل له: ادفع المهر، قال: ليس عندي إلا عشرون، فسلمت نفسها له على أساس أنه دفع ثلثي المهر، فلما سلمت نفسها أو مكنته من نفسها أرادت أن ترجع، فهنا سقط حقها في الرجوع، ووجب عليها أن تبقى في بيت الزوجية، وفائدة إسقاط حقها: أنها لو امتنعت تكون ناشزاً ويسقط حقها في النفقة.
فإذا مكنت زوجها من نفسها مع أن من حقها أن تؤخر، فقد دل هذا الفعل على الرضا بالتأخير والرضا بإسقاط حقها، فإذا أسقطت الحق فليس من حقها أن ترجع عن هذا الإسقاط؛ لأن حقوق المقابلة لا يملك الإنسان الرجوع فيها.(337/8)
إعسار الزوج بالنفقة
قال رحمه الله: [وإذا أعسر بنفقة القوت أو الكسوة أو ببعضها أو المسكن، فلها فسخ النكاح] العسر ضد اليسر، وعسر النفقة أن لا تتيسر للإنسان، ويكون عسر النفقة على صورتين: الصورة الأولى: أن لا يجد شيئاً، وهو حال الفقير، فلا يجد شيئاً له ولا لزوجته.
والحالة الثانية: أن يجد بعض النفقات، ويجد بعض القوت الذي لا يسد الكفاية.(337/9)
خيار الفسخ للمرأة في حال إعسار الزوج بالنفقة
فإذا أعسر ولم يقم بواجب النفقة على الزوجة فإنه اختلف العلماء رحمهم الله فيه، من أهل العلم من يقول: الإعسار في النفقات يوجب الخيار للزوجات، فالزوجة إذا حبسها زوجها ولم ينفق عليها ولو كان فقيراً -أي: لم ينفق عليها لعذر - فإن من حقها أن تطلب فسخ النكاح، ومعنى الخيار: أنها تخير بين أن تستمر وتصبر حتى يأتي الله بالفرج، وبين أن تفارق الزوج، وحينئذٍ يفسخ النكاح بينهما.
ومن أهل العلم من قال: لا خيار في الإعسار بالنفقة.
والذين قالوا: إن الخيار ثابتٌ في الإعسار في النفقة قالوا: إن أصول الشريعة دالة على دفع الضرر، ولا يمكن للحياة الزوجية أن تكون حياة زوجية والمرأة معذبة في عصمة الرجل، ولا يمكن أن تقوم المرأة بحقوق الرجل والرجل لا يقوم بحقوقها في النفقات، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لما فيه من الحرج والمشقة، ومعلوم أن المرأة إذا أعسرت ولم تجد طعاماً -خاصة إذا كان عندها أولاد- ربما تعرضت للحرام لأجلهم، وتعرضت للضرر في دينها وفي عرضها، ومن هنا قالوا: إن الإعسار يوجب ثبوت الخيار.
وقالوا: إذا كانت الشريعة أعطت المرأة حق الخيار في عيوبٍ تكون في الزوج، مثل عيوب الجماع إذا طرأت، فمن باب أولى في عيوب النفقة؛ لأن النفقة أعظم ضرراً وأشد خطراً من عيوب النكاح، فمن هنا قالوا: يثبت الخيار للمرأة، ونقول لها إذا أعسر زوجها ولم ينفق عليها: إن شئت صبرت وإن شئت طلبت فسخ النكاح، فإن اختارت فسخ النكاح ورفعت الأمر للقاضي فإنه يوقف الزوج ويقول له: يا هذا، هل تستطيع أن تنفق على زوجك؟ فإن قال: لا أستطيع، ثبت عند القاضي إعساره وعدم قيامه بحق نفقة زوجته، فحينئذٍ يحكم بفسخ النكاح بينهما.
والذين يقولون: إن الخيار لا يثبت بالإعسار يحتجون بالأحاديث الصحيحة التي منها: ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من شدة الحاجة والفاقة، حتى أن فاطمة رضي الله عنها زوجة علي وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت تشتكي إلى رسول الله من شدة ما تجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين يمر عليه الشهر والشهران والثلاثة وما يوقد في بيته نار.
قالوا: فهذا يدل على أن الإعسار في النفقة لا يوجب الخيار.
والحقيقة أن هذا الاستدلال محل نظر؛ لأن فقه المسألة: إذا لم تصبر المرأة، وأمهات المؤمنين كنّ صابرات راضيات؛ لذلك خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الدنيا وبين الآخرة، فاخترن ما عند الله سبحانه وتعالى والرضا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحقيقة أن الاستدلال بهذه النصوص محل نظر؛ لأن الزوجات راضيات، ومحل الكلام إذا لم ترضَ الزوجة وقالت: أنا لا أستطيع، وهذا شيء أحمل فيه ما لا أطيق؛ فأصول الشريعة في الدلالة تقتضي ثبوت هذا النوع من الخيار، وهذا هو القول الصحيح إن شاء الله تعالى: أن الزوج إذا افتقر واشتد أمره حتى حبس عن المرأة نفقتها؛ فإننا نقول له: إما أن تنفق عليها بالمعروف؛ لأن الله أمرك بالعشرة بالمعروف، وإما أن تسرحها بإحسان، ولا نستطيع أن نقول للمرأة إنها ملزمة بشرع الله عز وجل أن تبقى على هذه الحال التي لا تجد فيها قوتها ولا قوت أولادها؛ فهذا لا شك أنه مخالف لأصول الشريعة، وبناءً على ذلك: ترجح القول القائل بأن الخيار يثبت للزوجة إذا أعسر الزوج بالنفقات.
وأما إذا صبرت المرأة فلا شك أن هذا أفضل وأكمل، ما لم تخش على دينها، أو على عرضها، فإذا خافت الفتنة ووجدت أن هذا ليس بيدها فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن من حيث الأصل صبرها وتحملها واحتسابها للأجر عند ربها لا شك أنه أعظم، والله تعالى يجعل مع العسر يسرا، فمن هنا (لن يغلب عسرٌ يسرين) لأن الله يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6].
وشهد الله جل وعلا أنه لا يكون عسر إلا معه يسر، وكرر إثبات هذا اليسر مرتين، فصار العسر في الآية الأولى والثانية واحداً، واليسر الذي شهد الله به مرتين، فمن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسرٌ يسرين) لأن الله شهد باليسر، فإذا صبرت المرأة واحتسبت فالحمد لله، وأما إذا طالبت بحقها فلها حق الفسخ.(337/10)
تخيير المرأة عند إعسار الزوج بالكسوة
[أو الكسوة] بأن يطعمها ولكن لا يكسيها، مثلاً: رجل عنده القوت وليس عنده المال الذي يشتري به الكسوة، فقلنا له: اكس زوجتك، فقال: ليس عندي ما أكسوها به، ففي هذه الحالة نقول للمرأة: أنت بالخيار، فإن تضررها بالعري وتضررها بعدم الكسوة قد يوجب لها الحرج، وقد يكون بالغاً، مع أنه قد يعرضها للحرام كما لا يخفى، وقد يضرها؛ لأن كسوة الشتاء تحتاجها لصلاح نفسها، فإذا كان لا يكسوها وبقيت على كسوة واحدة أو على كسوة بالية، تضررت في صيفها وتضررت في شتائها، وهذا لا شك أن فيه حرجاً وفيه ضيقاً على المرأة، والله عز وجل يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] أي: ليس في حكم الله ولا في شرع الله الحرج والضيق الذي لا يتحمله الإنسان، أو يوجب له العنت.
ومن هنا نقول: إن المرأة إذا لم تُكْسَ تعرضت للحرج، فلو قلنا لها: اصبري، صار أمراً بالحرج، وهذا ليس من حكم الله عز وجل، ولذلك الذين قالوا بثبوت الخيار في الإعسار منهم من فصل فقال: الإعسار يثبت في القوت وفي الكسوة، أي: سواء أعسر في القوت، أو أعسر في الكسوة؛ لأن الزوجة تتضرر بهما.(337/11)
تخيير المرأة عند إعسار الزوج ببعض النفقة
[أو ببعضها] قلنا: الإعسار على صورتين: إما إعسار كلي بأن لا يجد النفقة، أو إعسار جزئي وهو الذي يجد بعض النفقة، فالمرأة تتضرر بعدم وجود النفقة التي تحصل بها الكفاية، فإذا كان -مثلاً- قوتها من الطعام لا يجد إلا نصفه، وقال: ليس عندي إلا نصف طعامك، أو نصف ما يكفيك وأولادك، فإنه إعسارٌ.
ولو أنه كساها بعض الكسوة لا كل الكسوة، أي: أنه يكسوها في الصيف ولا يكسوها في الشتاء، على القول بأن لها كسوتين: كسوة في الصيف والشتاء؛ فإن كسوة الصيف تضرها في الشتاء، وإن قال لها: أكسوك في الشتاء ولكن لا أستطيع كسوة الصيف، فإن لباس الشتاء لا يمكن لباسه في الصيف، فهذا فيه ضرر على المرأة، وحينئذٍ يثبت لها الخيار في الإعسار، سواءً كان بكل ما يجب أو ببعض ما يجب.
قوله: [أو المسكن] أي: بأن قال: إني لا أجد لك مسكناً، وهي ساكنة في بيت أبيها، أو مثلاً أخذها وأسكنها في موضع عراء لا يعتبر مسكناً في العرف، فهو ملزم بأن يسكنها بالمعروف.
مثال الإعسار بكل السكن: أن يضعها في بستان أو في أرض عراء ويقول لها: ما عندي شيء حتى أسكنك في مسكن، فنقول لها في هذه الحالة: لك الخيار، إن شئت صبرت وإن شئت طلبت فسخ النكاح، ويقال له: إما أن تسكنها بالمعروف ويكون لها السكن الذي أمر الله عز وجل بما لا حرج عليك فيه ولا مشقة، وإما أن تسرحها بإحسان.
قوله: [فلها فسخ النكاح] أي: أنه من حقها، لكن لا نوجب عليها، فهو ما قال: فيجب عليها فسخ النكاح، أي: أنها بالخيار؛ ولذلك سموه خياراً، يعني: لها أن تختار أحد الأمرين إما أن تصبر وتحتسب، وإما أن تطالب بحقها فتفسخ النكاح.(337/12)
ما يلتحق بالإعسار بالنفقة من الصور
قال رحمه الله: [فإن غاب ولم يدع لها نفقة وتعذر أخذها من ماله واستدانتها عليه فلها الفسخ بإذن حاكم] بين رحمه الله صورة من صور الإعسار الحكمي، فإنه قد يعسر حقيقة، وقد يكون الحال والصورة صورة الإعسار، مثل أن يسافر عنها، أو يذهب إلى عمل في ضاحية في المدينة، أو يخرج من البيت ويتركها، فيغيب عنها ولا يترك لها أي نفقة، ولا تستطيع أن تستدين من أحد على حسابه إن جاء.
في هذه الحالة صار إعساراً في حكم امتناعه هو؛ لأن الأصل يقتضي أنه لا يغيب حتى يترك لأهله وولده قدر كفايتهم، والله أمره أن يتقيه سبحانه فيمن يعول، فإذا خرج وسافر وهو لا يبالي بزوجته، ولا يعطيها حقوق نفقتها في الطعام، والكسوة، والسكن، ولم يترك لها ولأولادها ما يكفيهم، فحينئذٍ فصل بعض العلماء واختاره المصنف، أنه يقال لها: هل بإمكانك أن تستديني من أحد حتى إذا حضر الزوج يطالب برد هذا الدين وقضائه عنك؟ إن قالت: نعم، لزمها أن تستدين، وليس من حقها أن تطالب بالفسخ؛ لأن الأصل بقاء العقد، والأصل بقاء العصمة، والزوج قد تأتيه ظروف لا يتمكن معها من إرسال النفقة.
فإذا أمكن أن تستدين فإنه لا يبقى إلا هذا الخيار، وأما إذا تعذر عليها بأن يكون زوجها غريباً، أو أهلها فقراء وليس عندهم مال، أو لا تعرف أحداً يدينها، أو الناس الذين تعرفهم فيهم شح وبخل فلا تتمكن من الاستدانة، فلا الزوج ترك لها النفقة، ولم تتمكن من الاستدانة، وليس عندها مال تنفق، ففي هذه الحالة يثبت الخيار لها في قول طائفة كما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأن هذا في الضرر كالإعسار في النفقة؛ لأنها تعرضت لنفس الحالة التي تعرضت لها في حال وجوده.
قالوا: فلا فرق، فكما أن الزوج لو كان حاضراً وحصل لها ما حصل من الضرر، فإن من حقها أن تطلب الفسخ، فكذلك لو غاب، وهو الذي فرط، وهو الذي ضيع حقه؛ لأنه كان المنبغي أن يحتاط بترك حقها وحق أولادها ونفقتها ونفقة من يعول، فلما ترك ذلك لزمه حكم الشرع بالفسخ، هذا بالنسبة لحالة غيابه دون أن يترك نفقة ودون أن تتمكن المرأة من الأخذ على سبيل الدين، سواء من مالها أو من قرابتها أو ممن تعرف.(337/13)
الأسئلة(337/14)
حكم التضييق على المرأة في النفقة إذا كانت تجعلها في الحرام
السؤال
إذا كانت المرأة تنفق ما يعطيها زوجها من النفقة فيما حرم الله، فهل يجب أو يجوز التضييق عليها؟
الجواب
هذا السؤال في الحقيقة يتأتى فيما إذا أعطاها المال نقداً، بحيث تتمكن من شراء المحرمات، وإذا أعطاها المال نقداً من أجل أن تشتري طعامها وتشتري كسوتها، وهذا يستطيع أن يشتريه بنفسه، وإذا رأى أنها تسرف إسرافاً زائداً عن الحد فإنه يتابعها، لأن بعض الإسراف قد يسكت عنه الإنسان من باب الكماليات التي ليس فيها الحرام، فهذا يمكن أن يغض النظر عنه ويتسامح فيه.
لكن إذا أنفقت المال الذي يعطيه لها ولأولادها في شراء المحرمات فإنه يجب عليه في هذه الحالة أن يقوم بشراء طعامها، ويوكل من يشتري لها كسوتها، أو يذهب بنفسه ليختار لها، أو يذهب معها لكي تشتري ما تريد من الكسوة التي لها ولأمثالها بالمعروف، ولا يمكنها من المال إذا كانت تعصي الله عز وجل به أو تشتري به المحرمات، وهذا واجبٌ عليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6] فالواجب عليه أن يقي زوجه من نار الله عز وجل ومن سخطه وغضبه، والله تعالى أعلم.(337/15)
حكم القول بأن نسك الإفراد منسوخ
السؤال
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) يستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أنه لا يجوز إلا نسك القران والتمتع، ومنع نسك الإفراد فما الحكم؟
الجواب
هذا القول شاذ عند العلماء، قال به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس وخالفه جمهرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالفه الأئمة المأمور باتباعهم من الخلفاء الراشدين، فإن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في أكثر من خمس وعشرين سنة مدة خلافتهم الراشدة كلها ما حجوا إلا مفردين بالحج، وهذا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقول بأن الإفراد منسوخ قولٌ ضعيف لا عمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله، وإنما اختاره أفراد من العلماء، لكن النصوص واضحة: أولاً: ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه لما أتى ذا الحليفة قال عليه الصلاة والسلام: (من أراد منكم أن يهل بحج فليهل، ومن أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحجٍ وعمرة فليهل) ثم أمر عليه الصلاة والسلام من لم يسق الهدي أن يفسخ حجه بعمرة، فهذا الفسخ المراد به بيان مشروعية العمرة في أشهر الحج، وليس بيان لزوم أن يكون النسك في الحج تمتعاً، وفرق بين المسألتين، ولذلك قال أبو ذر في صحيح مسلم -وهم الصحابة الذين هم أعلم بالتنزيل-: (متعتان لا تصلح إلا لنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: متعة النساء ومتعة الحج) يعني: الإلزام بفسخ الحج بالعمرة.
فهذا الإلزام فهمه ابن عباس مطلقاً، وكان ابن عباس رضي الله عنه من صغار الصحابة وانفرد بالقول بحل المتعة، وانفرد بمسائل معروفة من ربا الفضل ونحوه، وله جلالة قدره وعلمه ولكن لا يؤخذ بقوله إذا خالف من هو أعلم منه، وقد قرر هذه القاعدة بنفسه، ففي الصحيحين عنه لما أفتى بربا الفضل قال أبو سعيد: (يا ابن عم رسول الله! ألا تتقي الله؟! أيأكل الناس الربا بقولك؟ أهذا الذي تقول به وتفتي به شيء وجدته في كتاب الله، أو شيء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أما كتاب الله فلا -أي: ليس فيه نص يدل على ربا الفضل- وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني).
هكذا لا يعرف الفضل إلا أهله، وهذه مسألة واضحة جلية، جماهير سلفنا الصالح والأئمة رحمهم الله من الصحابة والتابعين وكبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان يعتمد عليهم في العمل والفتوى لا يحجون إلا مفردين، وهم الخلفاء الراشدون، وعلي رضي الله عنه لما رأى الناس قد يظنون أن المتعة لا تحل أهل بها وصاح بالعمرة لكي يرد على العكس.
فلا الذين يقولون بالإفراد دائماً مصيبون، ولا الذين يقولون بالتمتع مطلقاً مصيبون بحيث يلزمون به الناس؛ إنما العدل الذي ينبغي القول به أنها أنساك ثلاثة خير الناس بينها، وأن الشريعة أرادت أن ترد على أهل الجاهلية في بدعتهم حينما كانوا يمنعون من العمرة في أشهر الحج؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه وهو الذي أفتى بهذه الفتوى كما في صحيح البخاري: (كانوا يقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر) فمنعوا من العمرة في أشهر الحج، وكانوا يرون أن من أفجر الفجور أن يأتي الشخص بعمرة في أشهر الحج؛ ولذلك خالفهم الشرع وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه من لم يسق الهدي أن يتحلل ويجعلها عمرة.
وأما مسألة أن الإفراد منسوخ فهذا قول شاذ، يقولون: إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفى والمروة وليس معه هدي فقد حل شاء أو أبى، هذا قول شاذ؛ ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن عروة بن مضرس رضي الله عنه وأرضاه، وكان هذا الحديث ليلة عيد النحر، وهذا الصحابي رضي الله عنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المشعر، فقال: (يا رسول الله! أقبلت من جبل طي، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، ما تركت جبلاً ولا شعباً إلا وقفت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليلٍ أو نهار، فقد تم حجه).
فهذا نص واضح على أن الإفراد لا زال باقياً، وهذا الحديث متأخر عن الأمر بفسخ الحج بالعمرة، ولذلك فالصحيح أن إيجاب الفسخ الذي يقول به ابن عباس رضي الله عنه خاص بتلك السنة.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (دخلت العمرة في الحج) أي أنه يجوز فعل العمرة في أشهر الحج، حتى لا يظن أن ذلك خاص بتلك السنة فيعود الناس إلى عادة الجاهلية.
ومن هنا فالأحاديث واضحة في دلالتها، فينبغي أن يحمل كل نص على دلالته، فالأحاديث التي دلت على أن العمرة دخلت في الحج، معناها أنها دخلت في أشهر الحج فحل وقوعها في أشهر الحج؛ لأنها لها سبب، وليس المراد أنه لا يمكن أن يأتي الإنسان بحج منفرد وأنه لابد أن يكون معه عمرة إما قران أو تمتع، لأنه لابد من ربط السنة القولية بالسنة الفعلية، وسبر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والأحوال التي قيلت فيها النصوص حتى تفسر النصوص كما وردت، وتربط بفهم السلف الصالح.
فإذا كان أئمة الصحابة رضوان الله عليهم والخلفاء الراشدون من بعدهم قد فهموا ذلك وفسروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، فالواجب العمل بذلك، ولا شك أن القول ببقاء نسك الإفراد نسكاً شرعياً يخير المنسك فيه هو الأرجح، ولذلك اختار شيخ الإسلام رحمه الله أن الأفضل للشخص إذا أمكنه أن يأتي بالعمرة بسفر مستقل والحج بسفرٍ مستقل، فالأفضل له أن يفرد، وأما إذا أمكنه أن يسوق الهدي معه من بلده فالأفضل له القران تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وإن كان كما هو حال كثير من الحجاج الذين يأتون من الخارج ويصعب عليهم الإتيان للعمرة بسفرٍ مستقل، فالأفضل لهم التمتع، هذا من أفضل الأقوال في الجمع بين الأنساك الثلاثة؛ لأنه جمع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع أيضاً بين الآثار الواردة عن الصحابة.
فإن عمر بن الخطاب وعلياً رضي الله عنهما وهما أعلم بكتاب الله كانا يقولان في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] (إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك) أي: تنشئ للحج سفراً مستقلاً وللعمرة سفراً مستقلاً، فهذا أعظم للأجر وأتم للحج والعمرة.
ثم قول ابن عباس كما يقولون: إن الأمر بالفسخ معارض للقرآن، لأن القرآن يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] أي: إذا أحرمتم بحجٍ أو أحرمتم بعمرة فأتموها، سواءً وقعتا مجتمعتين أو منفردتين؛ وهذه الآية تدل على لزوم إتمامه بالإجماع، حتى أن الحج لو فسد يجب عليه أن يتمه مع الفساد.
ولذلك قضى أبو هريرة وجابر بن عبد الله وابن عمر رضي الله عنهم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوب إتمام الحج الفاسد، وعمر رضي الله عنه قضى بذلك: فإن الرجل لما جامع زوجته قبل عرفة أمره رضي الله عنه أن يمضي في نسكه الفاسد وأن يتمه.
فنسك الحج لا يقال بوجوب فسخه لكن ممكن أن نقول للإنسان: افسخ حجك بعمرة وارجع بحجة وعمرة فهذا خير لك وأفضل، وليس هناك مانع من ذلك، مثلاً: جاء الحج، فنقول له قبل أن يطوف بالبيت: افسخ حجك بعمرة حتى تصيب العمرة مع الحج وتصبح متمتعاً وتنال فضيلة التمتع، وليس هناك بأس في هذا، لكن هذا على سبيل الفضيلة لا على سبيل الفريضة، وفرق بين الإلزام وبين التخيير، والله تعالى أعلم.(337/16)
الفرق بين بيع التورق والتقسيط
السؤال
فضيلة الشيخ ما هو التورق، وهل هو نفس بيع التقسيط، وما حكمه؟
الجواب
التورق: من الورق، أي: أن الإنسان يريد المال، فيشتري السلعة وهو لا يريدها، ولكنه يريد أن يبيعها من أجل أن يسدد ديناً أو يتزوج، أو يبني بيتاً، فهو يريد مالاً وليس هناك أحد يسلفه هذا المال، فاشترى سيارة بعشرين ألفاً مقسطة، ثم باعها نقداً، قالوا: إنه يريد الورق.
فجمهور العلماء على أن من اشترى سيارة أو اشترى عيناً مؤجلة، ثم باعها معجلة بالنقد لغير الذي اشترى منه، كأن تأخذها من معرض ثم تبيعها على معرض أو على مشترٍ ثانٍ؛ فلا بأس في ذلك ولا حرج.
والدليل على ذلك هو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فإنك لو اشتريت السيارة بالتقسيط بمائة ألف، فإنه يجوز بيع التقسيط ولا حرج فيه إلى أجل، فهذا بيع صحيح، ثم إذا بعتها على يدٍ ثانية بيعاً شرعياً تملكه به وقيمة السيارة حاضرة بتسعين ألفاً، قالوا: يجوز لك أن تملك هذه التسعين ولا بأس.
أما كونك تدفع الزيادة في الأجل لزيادة الأجل فهذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) لأن هذا ما يحصل به ربا؛ لأنه من المعدودات، والربا هو في المكيلات والموزونات، فأمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كانت تأتي عليه الغزوة فجأة وليس عنده ظهر يركبه، فيأمر عبد الله بن عمرو أن يستدين للجيش، فيأخذ مائة بعير بمائتين ليرد لصاحب البعير بعيرين (أمرني أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) أي: إلى أجل، وهو أن يأتي الناس بصدقاتهم فتقضى هذه الديون، فدل هذا الحديث على أن قيمة النقد ليست كقيمة المؤجل {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] فإذا كانت السيارة قيمتها إلى أجل بـ[90] ألفاً أو بـ[100] ألف فلا بأس ولا حرج، هذا بيع شرعي، فقد أحل الله بيع المؤجل كما أحل المعجل ما لم يدخله الغرر.
لكن المحظور أن تبيع لنفس المعرض؛ لأنه لو باع لنفس المعرض الذي اشترى منه بمائة إلى آخر السنة القادمة، فباعها نقداً بتسعين أصبحت الحقيقة أنه بيع [90] نقداً مقابل [100] إلى أجل، وهو بيع العينة الذي حرمه العلماء وهو قول الجمهور، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) فالمقصود أن التورق غير مسألة العينة، العينة يبيع لنفس المعرض الذي أخذ منه، لكن التورق يبيع لشخص آخر، فإذا باع لشخصٍ آخر فالجمهور على أن هذا ليس به بأس، وأنه لا حرج عليه.
وشدد فيها بعض العلماء فقالوا: إن هذا الشخص يريد المال، فأصبح كأنه أخذ مائة حاضرة بمائة إلى أجل، وهذا عين الربا، فردوا عليهم بأنه يصير عين الربا لو كانت اليد واحدة، ولكن أخذ من شخص وأعطى لشخص آخر هذا ليس بربا.
ثم قالوا لهم: إذا كانت العلة في التحريم عندكم أنه اشترى بمائة إلى أجل وباع بمائة حاضرة لحرمت بيوع التجار؛ لأنهم هنا يقولون في التورق: هذا مقصوده المال، وليس مقصوده السلعة، فنقول: والتجار مقصودهم الأموال وليس مقصودهم السلع؛ لأن التاجر حينما يشتري عشر سيارات ما يريد إلا أن المليون التي دفعها في العشر ترجع له مليوناً ونصفاً، وهذا لا يشك فيه أحد، فهي حلال على الغني حرام على الفقير الذي جاءه ظرف!! ما يمكن هذا؛ لأن الصورة عكسية، الغني يشتري بمليون ويربح مليونين ويتأخر في بيعها حتى تنفد، والفقير اشترى إلى أجل فليس برابح بل هو خاسر عكس الغني؛ لأنه سيدفع مائة ويأخذ تسعين.
وبما أنه ليس هناك نص يدل على تحريم هذا، والعلة العقلية التي ذكروها منتقضة، فإنهم إذا كانوا يقولون: هذا مقصوده المال وليس مقصوده التجارة، قلنا: ليس هناك تاجر يشتري سلعة وهو يريد السلعة، فحينما تدخل بمال في التجارة، أو تدخل في معرض سيارات، أو تدخل في شراء القماش أو أي شيء تريد أن تتاجر فيه تدفع أموالاً وأنت تريد المال.
وعلى كل حال الذي يظهر جواز هذا وصحة قول جمهور العلماء رحمهم الله، ولذلك شيخ الإسلام رحمه الله لما اختار هذا القول روجع كثيراً في هذه المسألة؛ لأن الحقيقة أن القول بجوازها يؤيده عموم النص: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فإنه أصلٌ في حل البيع حتى يدل الدليل على تحريمه.
وكذلك أيضاً العلة التي جعلوها موجبة للفساد منتقضة، بدليل أنهم يبيحون للتاجر أن يشتري وقصده المال، غير أن التاجر ربح وصاحب الدين غرم، فالأول غنم والثاني غرم، وعلى كل حال الذي يظهر جواز هذه الصورة وأنه لا بأس بها.
وأما بيع التقسيط: فالتقسيط بيعٌ مشروع، ولكن هناك صور محرمة، ووجود الصور المحرمة لا تقتضي تحريم البيع نفسه.
وبيع التقسيط يقوم على أن تشتري شيئاً وتدفع قيمته أقساطاً بزيادة، ففيه أمران: الأمر الأول: تقسيط الدفعات، والثاني: الزيادة على قيمة السلعة لقاء الأجل.
فأما الزيادة على السلعة لقاء الأجل ففيها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو دالٌ على جواز مثل هذا لقاء الأجل؛ إنما المحرم أن يقول له: إن أخذتها ودفعت الأقساط في سنة فهي بمائة ألف، وإن دفعتها في سنتين فمائة وخمسون، فيخرج من عنده ولم يحدد هل هي إلى سنة أو سنتين أو ثلاث، فهذا عين الربا؛ لأنه يمكن أن يعجز في السنة الأولى فيختار التأخير للثانية وهذا عين الربا، وهو (زد وتأجل) الذي كان من ربا الجاهلية، لكن التقسيط الموجود والشائع في أكثر صوره خاصة عندنا هنا أن الشخص يأخذ بمائة ألف كل شهر يدفع قسطاً، فإذاً الزيادة لقاء الأجل مشروعة لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص (بعير ببعيرين) إذا كان باتاً، لأنه ما قال: فإن تأخرت فثلاثة أبعرة، إنما قال: ببعيرين، وهذا الذي يسمونه الجزم والبت، فإن كان التقسيط على البت فلا إشكال.
بقيت قضية كون المال أقساطاً فهذا فيه حديث صحيح، وهو حديث عائشة في الصحيحين، فإن بريرة رضي الله عنها لما جاءت إلى عائشة في قصة أهلها لما كاتبوها وعجزت عن أقساط الكتابة، فنفس عقد الكتابة أقساط مؤجلة، وقد أحل الله عز وجل الكتابة في كتابه وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي -أي: الكتابة- مكاتبة بين العبد والسيد قائمة على بيع الأجل بالأقساط، فإذاً: وجود الأجل في التقسيط لا يمنع شرعاً لأن له نظيراً من نظيره.
ووجود الزيادة لقاء الأجل لا يمنع، إنما الممنوع أن يقول له: هي لك مؤجلاً على أن تدفع لقاء تأخير كل سنة من القيمة الحقيقية 6% من القيمة الإجمالية أو 10%، أو 5%، فهذا عين الربا ولا يجوز، حتى ولو علم أنه سينتهي في السنة الأولى، ولذلك تجد بعض الناس واثق من نفسه أنه سيسدد في السنة الأولى ويقول: إذاً لا أقع في الربا، نقول: لا، رضاك بالعقد كفعلك له؛ لأن كتابة هذا الربا فيه اللعنة، وحينما رضي به فإنه ملزم به، والراضي به يعتبر شريكاً لصاحبه في الإثم؛ لأنه يؤكل الربا.
وعلى كل حال فبيع التقسيط ليس من البيوع المحرمة للوجوه التي ذكرناها من دليل الكتاب والسنة، والله تعالى أعلم.(337/17)
حكم أداء تحية المسجد وقت الأذان يوم الجمعة
السؤال
يقول السائل: دخلت المسجد يوم الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني، فهل أصلي ركعتين تحية المسجد أو أستمع إلى المؤذن وأصلي بعده أثناء خطبة الإمام؟
الجواب
في الحقيقة إذا استمعت للمؤذن الأذان الثاني سيفوتك شيء من الخطبة، وعند العلماء هذه المسألة تعتبر من مسائل الازدحام، فعندهم مسائل يسمونها مسائل الازدحام، حيث ازدحم عندنا الاستماع للخطبة من أولها ومتابعة الأذان، وذكر الخطبة واجب؛ لأنه أمر بالإنصات له، فهو في مقام الواجبات، ولذلك أمر بالإنصات له وعدم الانشغال عنه، بخلاف الإنصات للمؤذن فإنه في الرغائب، فالأول بمنزلة الواجبات المؤكدة وهو المقصود من السعي إلى الجمعة {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9].
إضافة إلى أن الترديد وراء المؤذن من جنس العبادات واستماع الخطبة من جنس العلم، والعلم أشرف من العبادة، فمن هذه الأوجه اختار جمع من العلماء وكان اختيار الوالد رحمة الله عليه أنه يصلي ولا يردد وراء المؤذن، هذا كله على القول بأنه لا يردد أثناء النافلة، وهناك قول عند بعض العلماء أنه لو أذن المؤذن وأنت في نافلة فإنك تردد معه؛ لأنه من الذكر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس وإنما هو التسبيح وقراءة القرآن وذكر الله) فقالوا: هذا من ذكر الله.
لكن هذا ضعيف، والصحيح أنه لا ينشغل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أذكاراً محددة، فينبغي أن لا يردد معه، لكن يمكن أن يردد في نفسه، وكما لو كان في بيت الخلاء ونحو ذلك فإنه يردد في نفسه.
وعلى كل حال أن تصلي تحية المسجد ثم تنصت للجمعة أفضل وأكمل، والله تعالى أعلم.(337/18)
حكم من اعتمر وسعى ثلاثة أشواط فقط
السؤال
لو أن شخصاً اعتمر، وبعد الطواف سعى بين الصفا والمروة ثلاثة أشواطٍ فقط فما الحكم، هل عليه ذنب، أو الإعادة مرة ثانية؟
الجواب
أولاً: ينبغي للمسلم أن يتقي الله في فرائض الله، الحج والعمرة أمر بإتمامهما ولا يجوز التلاعب بشعائر الله عز وجل فإن تعظيمها من تقوى القلوب، وتضييعها والاستخفاف بها لا يؤمن على صاحبه والعياذ بالله.
وغالباً أن الاستخفاف بشعائر الله التي أمر الله أن تعظم وتركها وعدم المبالاة بها، هذا شيء يخشى على صاحبه، وعواقبه وخيمة؛ لأن الله تعالى أمر من أهل بالعمرة أن يتمها ومن أهل بالحج أن يتمه، إلا ما استثناه الله من الإحصار وغير ذلك مما يوجب الفسخ.
على كل حال فيجب عليك أن ترجع وتتم سعيك، ونظراً لأنك سعيت ثلاثة أشواط ثم حصل الفاصل بين الشوط الثالث والرابع فقد انقطع التتابع، وعليك أن تبدأ بالسعي من أوله؛ لأنه يشترط في صحة السعي التتابع والموالاة، فإذا وقع الفاصل المؤثر كالأكل والشرب والخروج من المسعى فإنه يجب عليك أن تستأنف وتبتدئ سعياً جديداً، وعلى القول بأنه لا سعي إلا بطواف تطوف طواف نافلة ثم بعد ذلك تسعى بعده.
لكن لو كان قد وقع جماع من هذا الشخص فإنها قد فسدت عمرته؛ لأنه لم يتم ركن العمرة، وإذا وقع الجماع قبل الطواف بالبيت أو قبل السعي بين الصفا والمروة أو أثناء السعي قبل أن يتمه فإنه يحكم بفساد العمرة ولزوم إتمام الفاسد، ثم يقضي مكانها عمرة وعليه دم.(337/19)
حكم من صلى بالناس وهو محدث جاهلاً حدثه ثم علم بعد الصلاة
السؤال
إذا صلى الإمام وهو على غير طهارة ولم يتذكر إلا بعد الصلاة، فذكر للمأمومين أنه صلى على غير طهارة، فما حكم صلاة الإمام والمأمومين؟
الجواب
هذه المسألة فيها قولان مشهوران للعلماء، جمهور العلماء على أن الإمام إذا صلى بالناس ناسياً للطهارة أن صلاة المأمومين صحيحة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) فإذاً: صلاتكم تامة صحيحة وعليهم خطؤهم.
فقالوا: إن من صلى وهو محدثٌ فقد أخطأ، فخطؤه عليه، ومن صلى وراءه فأتم الأركان واستوفى الشروط وأتى بالصلاة كما أمر فله صلاته، وهذا هو الصحيح، وفعل الصحابة دال على ذلك فإن مالكاً رحمه الله روى في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف، وبين الجرف والمدينة ما لا يقل عن أربعة أميال إلى خمسة أميال، فلما جلس على الساقية بعد طلوع الشمس رأى أثر المني على فخذه رضي الله عنه، فقال رضي الله عنه: (ما أراني إلا احتلمت وصليت وما اغتسلت) ثم اغتسل رضي الله عنه وأعاد الصلاة ولم يأمر الناس بالإعادة.
وهذا يدل على أن الأصل أن صلاة المأمومين صحيحة ما دام أنه لم يتذكر أنه محدث إلا بعد سلامه ولم يعلم المأمومون بحدثه.
أما الإمام فقولٌ واحد أنه يلزمه أن يعيد صلاته، فلو صلى وهو يظن أنه طاهر ثم تبين أنه محدث حدثاً أصغر أو أكبر وجب عليه أن يتطهر كما أمره الله، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ لـ مسلم: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول) وهذه الصلاة بغير طهور، وبناءً على ذلك يلزمه أن يتطهر كما أمره الله، وأن يصلي على الوجه المعتبر، والله تعالى أعلم.(337/20)
حكم بيع التماثيل للكفار
السؤال
النجارون في بعض البلاد ينحتون التماثيل ويبيعونها للكفار بأثمان غالية، هل هذا جائز؟ علماً بأن هذه التماثيل منها ما هو من ذوات الأرواح.
الجواب
التماثيل محرمة، ولذلك قال علي رضي الله عنه لـ أبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا كسرته، ولا صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) فدل على حرمة التماثيل.
وبيعها محرم بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) وحرم بيع التماثيل لأنها تفضي إلى أعظم الشرور، وهو الشرك بالله عز وجل؛ وتحريم بيعها من تحريم الوسائل المفضية للمفاسد.
والوسائل منها ما هو وسائل تفضي إلى المصالح، ومنها وسائل تفضي إلى المفاسد، فهناك وسائل تفضي إلى المصالح مثل: ركوبك السيارة من أجل أن تصلي في المسجد، وركوبك السيارة من أجل أن تدرك الحج، هذا وسيلة إلى طاعة وعبادة وقربة، وكذلك قد تكون الوسيلة إلى شر وفساد، فالوسيلة إلى الحرام من الزنا وشرب الخمر والربا وغير ذلك تأخذ حكم مقصدها، فمن هنا قالوا: أعظم الوسائل شراً وأعظمها ضرراً وأعظمها إثماً بعظم مقصدها، فإذا كانت وسيلة إلى الشرك فهي أعظم الوسائل ذنباً، وأعظمها شراً، وتشدد فيها الشريعة، ولذلك نهي عن الغلو في صالح أو طالح، في دين أو دنيا؛ لأن العبد الصالح إذا غلوا فيه ربما عُبد من دون الله واعتقد فيه، ووقع الشرك المحظورَ.
وأيضاً عظيم الدنيا إذا عظِّم وصار يُعْطَى أشياء لا تليق إلا بالله عز وجل، فإنه يصرف القلوب من الخالق إلى المخلوق، فلذلك نهي عن الغلو؛ لأنه وسيلة للشرك.
كذلك نهي عن بيع الأصنام؛ لأنه وسيلة إلى تعظيمها، وعبادتها، فلا يجوز بيع الأصنام مطلقاً، وما ورد في السؤال أنه يبيعها إلى الكفار فإنه في قول جماهير العلماء رحمهم الله محرم، سواء باع لكافر أو مسلم، وكونهم كفاراً لا يعني أن نعينهم على معصية الله عز وجل، وهذا نوع من الإقرار على ما هم فيه؛ ولذلك كان القول بأن الربا يجوز مع الكفار وبيع الخمر يجوز للكافر، والأصنام يجوز بيعها للكافر، كلها اجتهادات في مقابل النصوص، وأرى أنها مصادمة لنصوص واضحة، ولو نُظر وتؤمل إلى المعاني والاجتهادات الشرعية التي هي خلافها لكان أولى وأحرى.
فلذلك لا يجوز بيع الأصنام والتماثيل لا إلى مسلمين ولا إلى كفار، ودليلنا: عموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما فتح مكة نهى عن بيع الأصنام والتماثيل دون أن يفرق بين الذي يباع له هل هو مسلم أو كافر، والأصل أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، ولا مخصص لهذا العموم، ولذلك لا يجوز هذا البيع وماله حرام، لكن لو كسرت التماثيل وأريد الاستفادة من مادتها كالخشب فيصنع به شيء آخر ينتفع به، أو كانت من نحاس وبيعت نحاساً من أجل أن تصهر ويستفاد منها بشيء آخر، فلا بأس ولا حرج، شريطة أن لا تباع لمن يعيدها إلى حالتها التي كانت عليها، ويستوي أن تكون التماثيل لذوات الأرواح أو تكون لمعبودات من غير ذوات الأرواح ما دام أنها لعبادة، فيستوي في ذلك أن تكون من ذوات الأرواح أو غيرها، والله تعالى أعلم.(337/21)
حكم المبادلة بالنقد مع التفاضل
السؤال
كانت مع أخي [500] ومعي [490] فاحتاج الصرف الذي معي، هل يجوز أن أبادله ما معي بما معه، أم يشترط التماثل رغم أنه قال: الزائد هدية مني إليك.
الجواب
الصرف لا يجوز في المتماثلين إلا مثلاً بمثل يداً بيد، ففي الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد - وفي لفظ - سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى).
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى في الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض - يعني: لا تزيدوا بعضها على بعض- ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائباً منها بناجز).
فبين عليه الصلاة والسلام أنه يجب عند صرف الذهب بالذهب والفضة بالفضة أن يكون مثلاً بمثل، وهذه الأوراق النقدية ينظر إلى رصيدها، فإذا كان رصيدها من الذهب كالجنيهات والدولارات والدنانير وجب صرفها مثلاً بمثل يداً بيد، وإن كان رصيدها من الفضة كالريالات والدراهم فإنه يجب أن يكون صرفها مثل بعضها مع اتحاد الصنف، ريالات بريالات مثلاً بمثل يداً بيد.
وأما كوننا ننظر إلى أن هذه ورقة وهذا حديد -كما يوصف الريال بالحديد- وأن هذا من اختلاف الصنفين فهذا بعيد، لأن هذه العملة في الأصل أعطيت مستنداً لدين، وهذا الدين كان ريالاً فضة حقيقياً، وكوننا لا نستطيع الوصول إلى الرصيد لا يلغي الأصل من وجود الدين، لأن الدين لا يُلغى رصيده حتى ولو ألغي حقيقة بالتعامل مع الجماعات في الدول بعضها مع بعض، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، ولذلك يجب صرفها مثلاً بمثل ويداً بيد، فيجب فيها التماثل ويجب فيها التقابض.
ثانياً: أن هذا ليس من العدل وليس من الإنصاف، ولهذا حرمت الشريعة صرف الذهب بالذهب متفاضلاً؛ لأن المسلم يظلم أخاه حين يصرف ديناراً بدينارين، ظُلم صاحب الدينارين، والظلم الموجود في صرف الدينار بالدينارين في القديم موجود في هذه الورق نفسها في صرف الـ[500] بالـ[490]-مثلاً- لا يشك أحد، وهل أحد يشك أنه لو صرفت 10 ريالات من الورق بـ 9 ريالات من الحديد أنه لا يظلم صاحب الورق؟ لا يشك في هذا، ولولا أنه محتاج ومضطر ما صرف العشرة بالتسعة، وهذا كل واحد يعرفه والله عز وجل يقول: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] والرضا غير موجود في هذا، ولذلك تجده يعطيها وهو كاره وهو مضطر، وهو محتاج إلى هذا الشيء.
وذكر العلماء في علل الربا والمعاني التي من أجلها حرمت الشريعة الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين: أن هذا ظلم للفقراء، ويجعل الأغنياء يحتكرون الأموال، فإذا جاء الغني وعنده أموال يريد أن يصرفها، صار الذي عنده سيولة أكثر يأخذ أموالاً بدون تعب وعناء، وهذا هو الموجود الآن في الصرف، فإنه إذا كان عند الشخص القطع المعدنية استغل حاجة أصحاب المرض، فاليوم يصرف له عشرة ريالات بتسعة، وغداً لو صرفها بخمسة ريالات لم ينكر عليه أحد؛ لأنه يقول: عندي فتوى بجواز هذا، ولذلك تجده يمر على الشخص يكون له راتب دون [500] ريال فيصرف الخمسمائة بالنقص ثم المئات بالنقص، ثم الخمسينات بالنقص، ثم العشرات بالنقص، ماذا يبقى له من راتبه؟ يؤول له الأمر بعد أن كدح وتعب على [500] إلى أنها [490] والمستفيد الأول والأخير هو الغني على حساب الفقير.
ونفس المعنى موجود في الذهب والفضة لا يختلف عنه، فيتضرر الأفراد وتتضرر الجماعة بالصرف المتفاضل، والموجود في القديم موجود الآن إذا صرف الريال بغيره متفاضلاً.
ثانياً: لو قيل: إن هذا الورق ليس له رصيد، فلماذا أمر بزكاته؟ فالله ما أمرنا بزكاة الورق، إنما أمر بزكاتها لأن رصيدها مأمور بزكاته، والورق ليس فيه زكاة، إذ ليس في شرع الله أمر بتزكية الورق إنما أمر بتزكيتها لأن رصيدها من الذهب، أو رصيدها من الفضة، فالعلة كلها تدور على أن الرصيد ألغي، فنقول: لو أن شخصاً استدان من شخص وأعطاه مستنداً وقال له: لا رصيد لك، لم يصح شرعاً، كذلك إلغاء الرصيد واقعٌ في غير موقعه، أي: لا يؤثر في حقيقة الريال؛ ولذلك تجد نفس الخمسمائة تسمى خمسمائة ريال التي هي برأس واحد وورقة واحدة، والخمسمائة من المئات تسمى باسم واحد فالورق هو نفس الورق، والاسم هو نفس الاسم، ولذلك سمي الحديد باسم الورق، ولهذا كان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، العلامة الإمام المجدد، هذا الإمام العظيم الذي في الحقيقة ما رأيت عالماً حفظ الفقه على أصول المتقدمين مع عمق في العلم والورع مثل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، ومن أراد أن ينظر إلى الفقه المؤصل الذي أبدع فيه وأجاد رحمه الله خاصة في الفتاوى يحار من دقة هذا الإمام -والله لا أقولها مبالغة إنها حقيقة- من يدرس هذه الفتاوى يجد فيها العجب، وحدثني من أثق به من المشايخ، يقول: أنا كنت من رجال الحسبة، وكان يرسلني لتعزير من يصرف الريال بتسعة عشر أو ثمانية عشر قرشاً، قال: أنا ممن عزر في هذا بأمره، كان يرى أنه يجب صرفها متماثلة، وعلى كل حال: الصحيح أنه يجب فيها التماثل ويجب فيها التقابض وأن تكون مثلاً بمثل يداً بيد، إعمالاً للأصل، والله تعالى أعلم.
أما قوله: الباقي لك هدية، فهذا حيلة، وإذا أراد أن يهدي فليقبض أولاًَ ثم يهدي، فهناك عقد صرف وهناك عقد هدية، فبعد ما ينتهي الصرف على السنن الشرعي يعطيه ما شاء، وحينئذ سترى هل تجد هدية أو لا تجد؟ وعلى كل حال هذه حيلة على الشرع، فمكنه من مالك ثم انظر هل يهدي أو لا يهدي، على كل حال الأصل يقتضي أن تقبض ويقبض، وانظروا إلى عدل الشرع، فإنه من أروع وأجمل ما يكون! الناس يظنون أنه إذا حرمنا هذه المعاملات أننا نضيق، والله ما من حكم يستنبط من الشريعة فيه تحريم إلا وجدت فيه من الرحمة ما لا يحصى، ثم انظر إلى عدل الشريعة: تعطيه خمسمائة كاملة، وتقول الشريعة: لا تأخذ بذلها إلا كاملة، يقول لك: أنا راضٍ، تقول له: ترضى بإتلاف مالك!! هذا سفه، والشريعة تحجر على السفيه، ولو كان راضياً أن يدفع تسعة مقابل عشرة، لكن لا يرضى بذلك عاقل.
ولذلك حرمت الشريعة بيع درهم بدرهمين، ودينار بدينارين، حتى لا يستغل الغني الفقير والقوي الضعيف، وهذا من عدل الله عز وجل، وتجد أن الشريعة أمرت بالتماثل في الموزونات والمكيلات، لكن المعدودات ليس فيها تماثل؛ لأنك لو أردت أن تبيع ثوباً بثوبين فقد تجد الثوب من الجودة بحيث يكافئ الثوبين، لكن الموزون محرر والمكيل محرر، وهذه الريالات في أصلها من الورق لها وزنها، ولذلك وجب النصاب فيها بالوزن، (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)، فهذا يعني الموزونات والمكيلات، فكله من عدل الله عز وجل، لأن المكيل ينضبط، فلا تستطيع أن تكون عادلاً مع أخيك إذا أخذت الصاع بالصاعين، وأخذت المد بالمدين، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا وأمر بالتماثل فيها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(337/22)
شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [1]
ألزم الشرع الحكيم كل موسر بالنفقة على المعسر ممن كان من قرابته الأصول أو الفروع، وكذلك على الداخلين في الفروض أو العصبات من الحواشي، واستحب له أن ينفق على ذوي الأرحام أيضاً، وهذا كله من التكافل الاجتماعي الذي ينفرد به الإسلام عن غيره من المذاهب الأرضية المنحطة.(338/1)
النفقة على الأقارب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب نفقة الأقارب والمماليك].(338/2)
أسباب وجوب النفقة
تقدم أن النفقة من الحقوق التي أوجبها الله عز وجل على المسلم، وأن هذا الحق له أسباب تقتضيه وتوجبه، وهذه الأسباب تتنوع في الشريعة الإسلامية، وهناك ثلاثة أمور مهمة ينبني عليها الحكم بوجوب النفقة: الأول: ملك النكاح.
والثاني: ملك اليمين.
والثالث: البعضية والقرابة.
فهذه ثلاثة أسباب توجب النفقة: إما من جهة ملك النكاح؛ لأن الرجل يملك الاستمتاع بالمرأة.
وإما ملك اليمين؛ كما قال تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3]، والرقيق والعبد والمملوك محبوس لخدمة سيده، كما أن المرأة محبوسة لزوجها، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنهن عندكم عوان)، والعوان: هو الأسير المحبوس، فالمرأة مملوكة بالنكاح محبوسة لحق الزوج، وملك اليمين -الرقيق- مملوك لسيده ومحبوس لمصالحه.
وكذلك القرابة والبعضية توجب النفقة.
فهذه ثلاث جهات ينبني عليها الحكم بوجوب النفقة.
والمصنف رحمه الله قد بيّن لنا ما يتعلق بوجوب النفقة من جهة الزوجية، وهي ملك النكاح، وشرع الآن في بيان جانبين؛ الأول منهما يتعلق بالقرابة والبعضية، والثاني يتعلق بملك اليمين.
وكلا الجانبين وردت فيه نصوص في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بينت بعض الأمور والمسائل والأحكام المتعلقة به.
يقول رحمه الله: (باب نفقة الأقارب والمماليك) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق ببيان النفقة الواجبة من جهة القرابة، والنفقة الواجبة من جهة ملك اليمين.(338/3)
النفقة للآباء على الأبناء
قال رحمه الله: [تجب أو تتمتها لأبويه وإن علوا].
أي: أنه يجب على المسلم أن ينفق على والديه، وهذه النفقة على الوالدين إما أن ينفقها نفقة تامة كاملة؛ بأن كان الوالد لا يستطيع العمل، وليس عنده أي دخل؛ فحينئذ يقوم ولده بنفقته نفقة تامة كاملة، أو يكون عند الوالد بعض الدخل، ويحتاج إلى سد العجز والنقص الموجود، فهذه تتمة النفقة.
الأصل في وجوب ذلك: أن الله تعالى أمر الولد-سواء كان ذكراً أو أنثى- بالإحسان إلى الوالدين، قال الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] أي: أحسنوا بالوالدين إحساناً، ولأن الوالد أنفق على الولد، فجعل الشرع من العدل؛ أنه إذا احتاج الوالد أن ينفق عليه ولده.
ولأن الولد كان بسبب الوالدين، فحقهما آكد الحقوق، وفرضهما آكد الفرائض، ولذلك لا يتقيد بقدر -كما سيأتينا- لعظم حقهما.
ووجه الدلالة من الآية الكريمة: أن الله فرض على الولد أن يحسن إلى والديه، وليس من الإحسان أن يكون الولد قادراً وبالوالدين عجز ولا ينفق عليهما بل هذا من الإساءة.
وأما نص السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم).
فدل هذا الحديث على أنه إذا أكل الوالد من مال ولده فكأنه يأكل من كسبه هو.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح من حديث فاطمة رضي الله عنها: (إنما فاطمة بضعة مني يري ما رابها، ويؤذيني ما آذاها).
والبضعة من الشيء كالشيء، فكما أنه يجب على الولد أن ينفق على نفسه، كذلك ينفق على والده.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (أنت ومالك لأبيك).
فهذا كله يدل على أن الوالد له حق في مال ولده، وأنه إذا أعوز الوالد أو أعسر وجب على الولد أن يتقي الله فيه، وأن يؤدي الحق الذي أوجب الله، فيسد خلته ويقضي حاجته.
وإذا قلنا (الوالد) فهذا يشمل الأب والأم؛ أما الدليل على أنه يشملهما: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن البر، وأحق الناس بالبر: (يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب؛ حقاً واجباً، ورحماً موصولاً)، كما في رواية أبي داود في السنن.
فهذا يدل على أنه يجب على الولد أن يقوم بحق والده إن عجز الوالد أباً كان أو أماً، ويسد هذا العجز بالنفقة عليه.
وإن كان عجزاً جزئياً؛ فيجب بعض النفقة، أي: يجب عليه أن يتم مادام قادراً مستطيعاً على ذلك الإتمام.
الأمر المهم بالنسبة للنفقة أنها قد تكون على الزمان المتباعد، وقد تكون على الزمان المتقارب، فإذا كان الوالدان بهما حاجة في يوم -الذي هو جزء الزمان- فيجب عليه أن ينفق عليهما في ذلك اليوم، لأن الوالد قد يحتاج في يوم من الأيام، وقد يحتاج طيلة الشهر، وقد يحتاج طيلة الأسبوع، المهم أنه يجب عليه أن ينفق.
فلو أن والداً لم يجد طعاماً، أو والدة لم تجد طعامها؛ فإنه يجب على الابن أن يعطيها نفقتها من أول اليوم، كما ذكرنا في نفقة الزوجة، وبينا وجه أن النفقة تستحق من أول اليوم.
قوله: (لأبويه) هذا من باب التغليب: كالعمرين، والقمرين.
وقوله: (لأبويه) يشمل الوالد والوالدة، الذكر والأنثى.
وقوله: (وإن علوا): يشمل جده من جهة أبيه، وجده من جهة أمه، وكذلك جدته من جهة أبيه، وجدته من جهة أمه، الجدة سواء كانت صحيحة أو كانت -كما يسمونها- ساقطة أو كاسدة، أي: أنها ساقطة وفاسدة في الإرث، وليس عندها سبب يقتضي ميراثها، كما سيأتي إن شاء الله بيانه في باب الفرائض.
لو أن رجلاً عنده أب الأب - الجد الصحيح- ليس عنده نفقة، ولا طعام، ولا كسوة؛ وجب عليه أن ينفق عليه، ولو كان عنده جدة تمحضت بالإناث كأم أمه، أو تمحضت بالذكور كأم أب الأب، أو جمعت بينهما؛ كأم أب الأم؛ ففي هذه الحالة يجب عليه أن ينفق عليها إذا كانت معسرة.
فقوله: (وإن علوا) يشمل أب الأب؛ الجد المباشر، والجد بواسطة، أب أب الأب، وأم أم الأم، وإن علوا.
أي ولا ينظر إلى القرب والبعد.(338/4)
النفقة للأبناء على الآباء
قال رحمه الله: [ولولده وإن سفل] ويجب على المسلم أن ينفق على ولده وإن سفل-أي: وإن نزل- لأن الله عز وجل وصى الوالد على ولده، وأمره بالإحسان إليه، وجاءت النصوص في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تقتضي بالقيام على الولد بالرعاية والعناية، قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233].
والمولود شاملاً للذكر والأنثى على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله؛ فهذه الآية تدل على أنه يجب على الوالد أن ينفق على ولده.
والإجماع قائم على ذلك، وجاءت السنة تؤكد ما في كتاب الله عز وجل، كما في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصة هند، لما قال لها عليه الصلاة والسلام - أي: لـ هند -: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فقوله يدل على أنه يجب على الوالد أن ينفق على ولده، لأنها قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، أفآخذ من ماله؟ فدل على تقصيره في النفقة، على دعواها أو سؤالها، على الخلاف هل هي دعوى أو فتوى؟ والصحيح أنها فتوى.
فأفتاها عليه الصلاة والسلام أن تأخذ من ماله ولكن بالمعروف، فدل على أن الولد تجب نفقته على والده، لأنه جعل له حقاً في المال، وأمر الزوجة أن تأخذ من ذلك المال بالمعروف للولد.
فلو كان الولد لا نفقة له على والده لما أحل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأخذ من ذلك المال.
وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه يجب على الوالد أن ينفق على ولده.
قوله: (وإن سفل) يعني: وإن نزل، وهذه العبارة يستعملها العلماء والفقهاء رحمهم الله في كتاب الفرائض وغيره، والمراد بها سواء كان مباشراً كالابن، أو بواسطة كابن الابن، سواء تمحضت الواسطة من جهة الذكور كابن ابن، أو تمحضت بالإناث كبنت بنت، أو جمع بين الذكور والإناث: كابن البنت، وبنت الابن.(338/5)
النفقة على ذوي الأرحام
قال رحمه الله: [حتى ذوي الإرحام منهم].
أي: حتى ذوي الأرحام من الأصول والفروع، فهاتان الجهتان أقوى جهات الحقوق في النفقة، أعني جهة الأصول والفروع؛ لأن نصوص الكتاب والسنة تدل على عظم حق الولد عند والده، وعظم حق الوالد عند ولده، وكما في حديث فاطمة رضي الله عنها: (إنما فاطمة بضعة مني)، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عن عائشة في السنن: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن ولدكم من كسبكم)، فجعل كسب الولد والوالد كالشيء الواحد؛ فهذا يدل على قوة هذه الجهة من جهة الأصول، أو من جهة الفروع.
والواقع يصدق ذلك، فالابن فرع لوالده، والوالد أصل للولد، فتعظيم هذا الجانب حق حتى ولو كان من ذوي الأرحام، وذوو الأرحام هم في الحقيقة دون جهة الفرض والتعصيب.
وذوو الأرحام لا يرثون؛ فالخال، والخالة، والعمة، وابن العمة، وابن الخالة، وبنت العم؛ هؤلاء ليس لهم ميراث في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأصل، لكن اختلف العلماء رحمهم الله إذالم يوجد وارث لا بفرض ولا بتعصيب، هل ينزلون منزلة من أدلوا به؟ فاختار جمع من العلماء رحمهم الله أنهم ينزلون، ودليلهم حديث: (الخال وارث من لا وارث له).
والأصل عندهم قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]، فدل على أنها جهة تستحق، وسيأتي تفصيل هذه المسألة إن شاء الله في الفرائض.
مثال لذوي الأرحام: الجدة الصحيحة، والجدة الفاسدة، فالجدة الصحيحة من تمحضت في الإناث، من أمثلتها: أم الأم، فهذه حقها ثابت من جهة النفقة، لكن بالنسبة للجدة الأنثى إذا أدلت بذكر بين أنثيين، فهذه تعتبر ساقطة في الإرث، يسمونها الجدة الفاسدة أو الساقطة، إشارة إلى أنه لا حق لها في الإرث، فتعتبر من ذوي الأرحام، ولا إرث لها في الأصل، كأم أبي الأم، هذه جدة لا إرث لها في الأصل، لا فرضاً ولا تعصيباً، وهي من ذوي الأرحام في الأصول.
فذوو الأرحام يكونون في الأصول، والفروع والحواشي، فالنسبة لذوي الأرحام في الأصول والفروع لا يسقطون، فبنت بنت الابن لا تسقط، لأننا قلنا: الأصول والفروع لا يسقط ذوو الأرحام منهم، وهذا لعظم جهة الأصول والفروع، وبناءً على ذلك؛ لو كان له جدة أم أبي أم فاسدة، أو جدة ساقطة، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها مع أنها من ذوي الأرحام في جهة الأصول، ولو كان عنده بنت ابن البنت، فهذه من جهة الفروع تعتبر من ذوي الأرحام، بخلاف بنت الابن فلها فرضها في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بالنسبة لبنت ابن البنت، وبنت البنت، هذه تعتبر من ذوي الأرحام، ويجب عليه أن ينفق عليها، فلو أن بنت بنته احتاجت وجب عليه أن ينفق عليها وكذلك بنت بنته.
فالأصول والفروع لا يسقطون إذا كانوا من ذوي الأرحام.(338/6)
النفقة على المعسر المحجوب في الوراثة
قال رحمه الله: [حجبه معسر، أو لا].
أي: سواءً كان الأصل أو الفرع يحجب هذا الذي يجب أن ينفق عليه أو لا.
والحجب أصله المنع، والحجب مصطلح يستعمله العلماء رحمهم الله في الفرائض، لأن الشريعة جعلت الحقوق في الإرث مرتبة مفصلة، فالله جل وعلا تولى قسمة الحقوق والفرائض من فوق سبع سماوات، ولم يكلها لا إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176].
والكلالة مسألة من مسائل الميراث، وهو من انقطع من النسب فلا والد له ولا مولود، أي: انقطع من الآباء والجدود والأبناء.
فهذه الفرائض فرضها الله عز وجل وقدرها، وهناك من يحجب ويمنع بوارث جعله الله أحق منه بالإرث، وإذا حجب هذا الشخص ذكراً كان أو أنثى، فإما أن يحجب في شرع الله حجباً كلياً باسم الحجب الكامل (حجب الحرمان) وإما أن يحجبه حجب نقصان، فالشريعة الإسلامية جعلت الحقوق مرتبة في الفرائض، واصطلح العلماء في هذا الحرمان وهذا المنع الكلي أو الجزئي على تسميته بالحجب.
فإن قيل: فلماذا أدخل العلماء مسألة الحجب في النفقة؟ ف
الجواب
لأن النفقة التي للقرابة مبنية على الإرث، وهذا في الحقيقة من عدل الله سبحانه وتعالى، حيث جعل الغرم بالغنم، فإذا كان قريب الإنسان إذا مات يرثه، فكذلك هو يستفيد من إرثه، ويأخذ الربح من جهة إرثه، فكذلك إذا افتقر هذا القريب في حال حياته، فإنه ينفق عليه، فعدل الله سبحانه وتعالى وجعل الإرث مؤثراً: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]، فجعله موجباً لثبوت حق النفقة.
فهنا في مسألتنا إذا كنا نقول: إن الإرث سبب من أسباب وجوب النفقة، فالوارث تارة يحجب وتارة لا يحجب؛ فإن لم يكن محجوباً فلا إشكال لأنه مستحق من جهة الإرث.
لكن إذا كان في الإرث يحجب حجب نقصان أو حجب حرمان؛ فهذا يؤثر، لكنه في الأصول والفروع لا يؤثر، وهذا جعله استحقاقاً ثابتاً لأن الأصل والفرع جهته متمحضة من حيث البعضية بخلاف الوارث؛ فإنه من جهة التشريك في القرابة، سواء كان من الفروع أو الحواشي أو نحوها.
ففُرق بين الأصول والفروع في مسألة ذوي الأرحام- التي تقدمت معنا- وهنا في مسألة وجود من هو حاجب؛ سواء كان حجب حرمان أو حجب نقصان.
فقوله: [حتى ذوي الأرحام منهم حجبه معسر أو لا].
لو أن له جداً، هو أبو أبيه، والأب فقير، فتستحق النفقة عليه للوالد وللجد.
إذا جئنا من ناحية الإرث، فإن الجد لا يرث مع وجود الابن.
فهذا الذي يريد أن ينفق عليه محجوب، ولا يرث من جده مع وجود أبيه، فالأصل يقتضي أنه لا تجب عليه نفقة هذا الجد، وإنما تجب على الأب، سواء حجبه معسر أو لا.
ففي هذه الحالة نقول للابن: أنفق على أبيك وجدك، فإذا حكمنا بإنفاقه على جده، فإنه في الأصل لا يرث من هذا الجد لوجود الأب، ولكن هذه مسألة مستثناة في الأصول-كما ذكرنا- بخلاف غير الأصول والفروع كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأيضاً قوله: (حجبه معسر أو لا): يفهم منه أنه إذا لم يحجبه؛ مثل أن يفتقر جده ويحتاج إلى النفقة، ووالده ميت - الذي هو أبوه- ففي هذه الحالة يجب عليه أن ينفق على الجد، فاستوت العبارة في الدلالة على أنه ملزم بالنفقة، سواء كان محجوباً بمعسر-الذي هو الأب الموجود- أو كان غير محجوب؛ كأن يكون جده قد مات ابنه-الذي هو الأب- فيجب على هذا الولد أن ينفق على جده سواء حجب من معسر أو لم يحجب.(338/7)
تأثير التوارث في وجوب النفقة
قال رحمه الله: [وكل من يرثه بفرض أو تعصيب].
هذا الجانب الثاني في القرابة، فالجانب الأول: أصل الإنسان وفرعه، وهنا الجانب الثاني، ويشمل البقية؛ كالحواشي والقرابات، كما سيأتي بقية القرابات.
فبقية القرابات بين المصنف رحمه الله أنه يجب عليه أن ينفق على من يكون وارثاً له منهم، سواء كان بفرض أو بتعصيب، فإذا كان وارثاً بفرض أو تعصيب استحق النفقة، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233].
فهذه الآية الكريمة من سورة البقرة أوجب الله سبحانه وتعالى فيها النفقة، وبينت حكم النفقة على الولد في الرضاعة، فأمر الله عز وجل الوالدة أن ترضع ولدها، وأمر الله الوالد أن ينفق على هذه المرضعة، ولما أمره بالإنفاق، وبين أن المولود له -وهو الوالد- يجب عليه أن ينفق، قال بعد ذلك: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233].
فبعد أن قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة:233]، قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]، فاستفدنا من الآية أن الوالد ينفق على ولده في الرضاعة، وذلك حق عليه واجب: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233].
ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] أي: فلو كان والد الطفل ميتاً لنظرنا إلى قرابته الذين يرثونه، وقلنا لهم: أنفقوا على هذا المولود الذي لا والد له بالمعروف، فكما أنهم يرثون هذا المولود لو مات، كذلك يجب عليهم أن ينفقوا عليه إذا أعسر.
ومن هنا ندرك ما ينقمه الأعداء على الإسلام؛ أنه يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين أمور جاءت مرتبة مفصلة من لدن حكيم خبير، الذي أعطى كل شيء حقه وقدره، لا تستيطع أن تزيد فتظلم وتجور، ولا تستيطع أن تنقص فيكون فيه إجحاف بحقه، لا تستيطع أن تزيد على ما شرع الله قليلاً ولا تنقص.
وهذا هو العدل؛ تجد أن الأنثى لا تحمل ما يحمله الذكر، وتجد في طبيعة الناس وفطرتهم التي فطرهم الله عز وجل عليها أن النساء لا يستطعن في حال العوز والفقر أن يقمن ببعض مايقوم به الرجال، ففضل الله بعضهم على بعض، وهو أعلم وأحكم سبحانه وتعالى؛ يحكم ولا معقب لحكمه.
فهذه أمور كلها ارتبطت ببعضها، كما أنه في الإرث يستحق أن يرث منه؛ لوجود الإرثية والقرابة الموجبة للإرث، كذلك إذا أعوز هذا الموروث يجب عليه أن ينفق عليه.
ونصت الآية على أن للقريب حق النفقة عليه، وجاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وحسنه غير واحد من العلماء؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يبر؟ فقال له: (أمك-أي: بر أمك- وأباك، وأختك، وأخاك، ثم أدناك أدناك).
يعني الأقرب فالأقرب إليك، وهذا يدل على أنه ينبغي أن توصل الرحم، فينفق عليها إذا احتاجت، فمثلاً لو كان له أخ محتاج ليس عنده نفقة يومه، نقول له: أنفق على أخيك، كذلك لو كان عنده أخت محتاجة ما وجدت نفقتها، ولا ما تكتسي به، وبحاجة إلى السكنى، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها بالمعروف.
فهذا الحكم أجمع عليه العلماء رحمهم الله، والأصل فيه دليل الكتاب في قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]، ودليل السنة والعقل يقتضي هذا، وبناءً على ذلك أجمعوا على أنه يجب على الوارث أن ينفق على قريبه، والتفصيل في هذا يرجع إلى مسألة الإرث، فينفق عليه بقدر ما يكون له من النصيب.
قوله: (بفرض، وتعصيب) الفروض في كتاب الله عز وجل ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.
وبعضهم يختصر فيقول: النصف، ونصفه، ونصف نصفه، والثلثان، ونصفهما، ونصف نصفهما.
نصف وربع ثم نصف الربع والثلث والسدس بنص الشرع والثلثان وهما التمام فاحفظ فكل حافظ إمام هذه الفروض المحددة المقدرة في شرع الله عز وجل؛ إذا قيل بالفرض؛ فإما أن يكون له النصف، فيكون له النصف، أو نصفه، أو يكون له الثلثان، أو نصفهما، أو نصف نصفهما.
أما التعصيب: فهو من العصبة، وعصبة الإنسان: قرابته الذين يحيطون به، وتتمحض العصبة من جهة الذكور، وسموا بذلك: لأنهم في الشدائد يتعصبون معه، ويحيطون به كالعصابة التي تحيط برأس الإنسان.
فالإرث في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إما فرضاً وإما تعصيباً، فيجب على القريب أن ينفق على قريبه الوارث؛ سواء كان الإرث من جهة الفرض أو التعصيب.
ويشمل هذا عشرة من الذكور، وسبعاً من الإناث في الفرائض: والوارثون من الرجال عشرة أسماؤهم معروفة مشتهرة الابن وابن الابن مهما نزلا والأب والجد له وإن علا والأخ من أي الجهات كانا قد أنزل الله به القرآنا وابن الأخ المدلى إليه بالأب فاسمع مقالاً ليس بالمكذب والعم وابن العم من أبيه فاشكر لذي الإيجاز والتنبيه والزوج والمعتق ذو الولاء فجملة الذكور هؤلاء هؤلاء عشرة يرثون بفرض الله عز وجل الذي فرضه في كتابه، إما أن يرثوا بالفرض المقدر الذي ذكرناه، وإما أن يرثوا بالتعصيب.
وأما بالنسبة للإناث فهن سبع من النسوة: والوارثات من النساء سبع لم يعط أنثى غيرهن الشرع بنت وبنت ابن وأم مشفقه وزوجة وجدة ومعتقه والأخت من أي الجهات كانت فهذه عدتهن بانت فهؤلاء سبع يرثن في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويستحق هؤلاء سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً النفقة عليهم، وسيأتي إن شاء الله تفصيل ذلك في كتاب الفرائض.
فالوارث: سواء كان إرثه من جهة الفرض أو من جهة التعصيب له حق على القريب، والأصل في هذا-كما ذكرنا- دليل الكتاب، ودليل السنة، وإجماع أهل العلم رحمهم الله.(338/8)
وجوب النفقة على عمودي النسب من ذوي الأرحام
قوله: [لا برحم سوى عمودي النسب] أي لا يجب عليه أن ينفق على القريب من ذوي الأرحام، وذوو الأرحام كبنت البنت، وبنت ابن البنت من جهة الفروع، وكذلك أيضاً من جهة الحواشي؛ كبنت الخال، أو الخال نفسه، وبنت الخالة، أو الخالة نفسها، لا يجب عليه أن ينفق عليها في الأصل؛ لأنها من جهة ذوي الأرحام، وهؤلاء ليسوا من الوارثين، والله عز وجل خص النفقة الواجبة اللازمة بالوارث.
وذوو الأرحام لهم إرث كما ذكرنا، لكن من قال بتوريثهم فهذا عندما ينزل منزلة من أدلى به، لكنه ليس في الأصل من الوارثين، وإنما قيل بتوريثه لقوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]، ولحديث: (الخال وارث من لا وارث له).
وفيه كلام عند العلماء رحمهم الله.
قوله: (سوى عمودي نسبه): فعمودي النسب من جهة الأب، والأم، والأجداد، والجدات لا يسقطون إذا كانوا من ذوي الأرحام.
أما الجدة الساقطة، والجد الساقط، أو كما يقولون: الجدة الفاسدة، والجد الفاسد، فهؤلاء يجب عليه أن ينفق عليهم، وكونهم ساقطون في الإرث لا يسقط حقهم في النفقة؛ لأن في عمودي النسب موجباً للإنفاق أكثر من القرابة والورثة، فليس الأنفاق عليهم بسبب الإرث -أي: عمودي النسب- إنما هو بسبب نعمة الوجود؛ لأن الله عز وجل جعل وجود الابن بفضل الله ثم بفضل والديه، ولذلك قال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14].(338/9)
النفقة على الوارث من جهة
قال رحمه الله: [سواء ورثه آخر كأخ أو لا؛ كعمة وعتيق].
أي: سواء ورثه آخر كأخ، أو لم يرثه كعمة وعتيق.
فلو أن الأخ توفي فأنت أخوه ترثه ويرثك، فالتوارث من الجهتين، وهذا من دقة الفقهاء رحمهم الله أنهم ذكروا أن بعض الأسباب تتمحض فتكون من الجانبين، مثل مسألتنا هنا: ترث الذي تريد أن تنفق عليه ويرثك؛ فالتوارث من الطرفين.
في بعض الأحيان يكون التوارث من طرف واحد، فالعمة أنت ابن أخيها فترثها، لكنها لا ترثك، فالتوارث من جهة لا من جهتين، وبناءً على ذلك يقول: سواء كان من جهة أو كان من الجهتين.
العتيق أو المعتقة: جعل الله عز وجل الولاء لحمة كلحمة النسب، فإذا لم يوجد وارث ولا عاصب للميت، فإنه يرثه من أعتقه، فالمولى يرثه سيده الذي أعتقه، أو قرابة السيد -على التفصيل الذي سيأتينا- لأن الولاء سبب من أسباب الإرث الثلاثة المشهورة: وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب هذا الولاء قال عنه صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب)، يرث به السيد من أعتقه في حال عدم وجود من يرث العتيق.
مثلاً: أخذ عبده ثم أعتقه، وهذا العبد جميع قرابته كفار، وليس هناك له وارث؛ لأن الكفر مانع من موانع الإرث؛ ففي هذه الحالة يرثه سيده الذي أعتقه، فيبقى الولاء بين السيد وعبده.
لكن من الذي يرث؟ السيد يرث العبد، والعبد لا يرث سيده؛ فإذاً التوارث من جهة وليس من الجهتين.
فبين رحمه الله أنه يستحق به الإنفاق، فلو أن هذا المولى الذي أعتقه سيده أصبح فقيراً، ولا عائل له، نقول لسيده: أنفق عليه، ويجب عليك أن تنفق عليه لوجود السبب الموجب؛ وهو التوارث.(338/10)
مقدار ما ينفق على الأقارب والمماليك
قال رحمه الله: [بمعروف].
الأصل في النفقة أنه يرجع فيها إلى العرف والعادة، وأعراف المسلمين يحتكم إليها، والمراد بأعراف المسلمين: الأعراف الغالبة التي لا تطرأ عليها معارضة للشرع، يعني يشترط في العادة أن تكون موافقة للشرع لا مخالفة له؛ لذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لو جرى في العادة محرم ومنكر فإنه لا يحتكم إليها.
وهذه المسألة راجعة إلى الأصل الشرعي الذي قرره العلماء رحمهم الله، واستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم: أن العادة محكمة، وهي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها الفقه الإسلامي: الأمور بمقصادها -اليقين لايزال بالشك- المشقة تجلب التسير -الضرر يزال- العادة محكمة.
فهذه العادة محكمة؛ أي: يحتكم إلى عادات المسلمين وأعرافهم، والمراد فيما لا نص فيه، أما الذي فيه نص فلا يلتفت فيه إلى العرف.
فالعرف إنما يرجع إليه ويلتفت إليه في حالة عدم وجود النص، وبشرط عدم معارضته للنص، فلو جرت العادة-والعياذ بالله- بأمور مستقبحة أو مشينة لم يحتكم إليها.
والسبب في هذا أن الله عز وجل نص في كتابه على الرجوع إلى العرف: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، وقال صلى الله عليه وسلم لـ هند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
والعلماء رحمهم الله اختلفوا في مسائل النفقات؛ كيف تقدر منها مسألة العسر واليسر ومقدار النفقة؟ أي: متى نحكم بكون القريب معسراً؟ ومتى نحكم بكونه موسراً؟ ومتى نحكم بكونه في حال وسط بين الإعسار واليسار؟ من العلماء من قال: الرجوع إلى العرف، ومنهم من حد ضابطاً، وقال: ينظر إن كان دخله أكثر مما ينفق فهو موسر.
وإن كان إنفاقه أكثر مما يدخل عليه فهو معسر.
وإذا استوى الأمران فهو متوسط بين اليسار والإعسار.
وهنا في مسألة إعطائه النفقة، أنه ينفق عليه بالمعروف، وسبق أن بينا هذا في نفقة الزوجة، وتقدير ذلك: أنه يصار إلى نفقة مثلها بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها.(338/11)
الأسئلة(338/12)
حكم تكليف الأب ابنه فوق طاقته من النفقة
السؤال
أنا أنفق على والدي وزوجتي، ومصدر دخلي قد لا يكفي، وأحياناً بل غالباً يأمرني والدي بأن أستدين من الناس.
فهل أطيعه في هذا الأمر؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالنفقة على الوالد سداد لحاجته، وقيام بما يكفيه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خذي من ماله ما يكفيك).
فجعل الأمر موقوفاً على الكفاية، وما زاد عن الكفاية فهو فضل وليس بفرض.
فلو كان الوالد يحتاج مائة، فأعطاه ما زاد عن المائة فهو فضل من الولد على والده ليس بواجب عليه وليس بلازم، فإذا فعله فهو مأجور، والله يخلف عليه، وإذا لم يفعل واقتصر على قدر الكفاية؛ فقد أدى ما أوجب الله عليه.
لكن إذاكان عند الابن قدرة ويساراً، فهنا اختلف العلماء: هل يأثم أو لا يأثم؟ مثلاً: الوالد طلب منه ألف ريال فوق النفقة، والابن عنده قدرة، فهل هذا المستحب يصير واجباً بأمر الوالد؟ بعض العلماء يقول: إذا امتنع مع قدرته على ذلك كان من العقوق، وهذا من جانب آخر لا من جانب الاستحقاق بالنفقة، ولا شك أن الابن لا يكلف فوق طاقته، حتى غير الابن فأي إنسان ينفق لا يكلف فوق طاقته، ولذلك قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] وذلك حينما بين أحكام النفقات في سورة الطلاق، فبين سبحانه وتعالى أنه لايكلف إلا على قدر ما في وسع الإنسان من النفقة، وبناءً على هذا لا يكلف الابن فوق طاقته وفوق كفاية الوالد إذا كان ذلك يجحف به ويضر.
أما إذا أمكن الابن أن يتفضل ويتجاسر -شريطة ألا يكون هناك من الوالد الإنفاق على المحرمات أو إسراف- فلا شك أنه لا يزال له من الله عون ومدد، وسيخلف الله عليه إن عاجلاً أو آجلاً.
لو أن الوالد صادفته ضائقة في دين، وطلب من الابن أن يستدين من الناس، فنظر إلى مصاريف والده فوجدها مصاريف معقولة، وأنها في حاجة الوالد، ونفقة إخوانه وأخواته، فاحتسب عند الله عز وجل أن يفرج كرب والده، فوالله لن يخيب، وسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً.
فأعظم طاعة بعد الإيمان بالله وتوحيده بر الوالدين، فلذلك قرنه الله ببره فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] ألا ترى والداً ينفق على الإخوان والأخوات، وقد يستدين من أجل الإنفاق عليهم، فإذا نظرته ينفق نفقة معقولة، أو ممكن أن يسدد ديونه التي ترتبت على النفقة بالمعروف؛ فتقف معه، وتستعين بالله عز وجل فتؤدي عنه، والله لن تخيب إن فعلت، فهذا فضل عليك وليس بفرض، والله عز وجل يجزي المحسن على الإحسان، فما بالك إذا كان الإحسان على أحق الناس، وأولاهم بالإحسان؟! وأنت حينما تعطي الوالد؛ إيماناً بالله واحتساباً للأجر عند الله، فما الذي تنتظره عند ربك الذي لا يخلف الميعاد، وقال لك: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]! والإحسان أعلى مراتب العبادة.
فاختار للعبد في بره لوالديه أجمل وأكمل المراتب، حتى إنه قال: {ِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]، ما قال: أكثر عملاً، والإحسان- كما هو معلوم-: أن تعبد الله كأنك تراه، وهو أعلى مقامات العبودية، فاختار الله هذا المصطلح الكريم الجليل العظيم في التعبير عن حق الوالدين؛ أي: أحسنوا في حق الوالدين إحساناً.
فلا شك أنه إذا احتسب الولد وأنفق على والده أن الله سبحانه وتعالى لا يخيبه، لكن إذا كان الأمر يجحف بالابن ويضر به، ولربما يعرض حياته للضرر؛ فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فليس للوالد على ولده إلا قدر الكفاية.
والله تعالى أعلم.(338/13)
حكم النفقة على ذات الزوج المعسر من البنات
السؤال
البنت المتزوجة إذا كان زوجها معسراً هل تجب نفقتها على أهليها؟
الجواب
من حيث الأصل فإن نفقة الزوجة على زوجها، ولا يجب على الأب أن ينفق على البنت وهي في عصمة زوجها، وقد بينا أنه إذا كان الزوج معسراً فلها أن تصبر، أو تستمر، ولها حق الفسخ -على التفصيل الذي ذكرناه- فإذا اختارت الصبر؛ فحينئذ حقها عند زوجها، ولا يجب على أهلها نفقتها في حال كونها في عصمة الرجل؛ لأن هذا يؤدي إلى تعدد جهات الإنفاق.
والأصل الشرعي: أنها في حق الزوجة جهة واحدة؛ وهي إنفاق الزوج على زوجته.
والله أعلم.(338/14)
الإهلال بالإحرام لأهل مكة إن أتوا من خارجها
السؤال
إذا كنت من سكان مكة، وذهبت لزيارة الوالدين خارج مكة، ثم رجعت في اليوم الثاني، فهل يجب علي الإحرام من الميقات؟ أم أهل بالحج من مكة؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: إذا دخلت أشهر الحج، وهو الميقات الزماني، وخرج من كان من أهل مكة إلى قريب أو بعيد؛ كأن سافر إلى المدينة وعنده نية الحج في ذلك العام؛ فإنه في هذه الحالة قد مر بميقات المدينة بعد دخول الميقات الزماني المعتبر، فيأتي بعمرة ويتمتع بها-إذا كان الزمان بعيداً عن الحج- إلى الحج.
وأما إذا كان سافر إلى المدينة وليس عنده نية أن يحج، ومر بالميقات راجعاً إلى مكة، وليس عنده نية الحج في ذلك العام، ثم طرأت عليه النية بعد أن رجع إلى مكة، فيحرم من مكة، لأنه أنشأ النية من مكة، ثم يفصل في ذلك: إن طرأت عليه النية في أثناء الطريق، وجب عليه أن يحرم من مكانه، فيتمتع بعمرة، ثم يهل بالحج من عامه.
والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام، من حديث ابن عباس في المواقيت: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة).
فهذا قد أتى إلى الميقات الأبعد -وهو ميقات المدينة- بعد دخول الميقات الزماني، وعنده نية للحج.
لكن لو أنه سافر إلى المدينة في رمضان، وعنده نية أن يحج، ثم رجع إلى مكة قبل أن يدخل شهر شوال- الذي هو الميقات الزماني- لم يؤثر، لأنه ما دخل عليه الميقات الزماني، فلم يؤمر بالميقات الأبعد، ولم ينطبق عليه الإلزام بالإحرام من الميقات الأبعد.
والله تعالى أعلم.(338/15)
حكم طواف القدوم لمن دخل مكة يوم التروية
السؤال
من أراد الحج مفرداً من غير أهل مكة، هل عليه طواف القدوم إذا دخل مكة يوم التروية؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: بعض العلماء لا يرى وجوب طواف القدوم، والأصل عندهم قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه وأرضاه: أنه لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم النحر، فقال: (يا رسول الله! أقبلت من جبل طي أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه.
فقال صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه، وقضى تفثه).
وكان عروة لم يأت إلى مكة ولم يطف بالبيت، كما هو ظاهر الحال في سؤاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن أهل العلم من قال: إن هذا يختص بمن ضاق عليه الوقت، وأما من اتسع له الوقت فيجب عليه أن يأتي ويطوف طواف القدوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف قدومه عند قدومه على مكة.
وظاهر الحديث، يقتضي عدم وجوبه، لكن السنة أن يطوف بالبيت إن أمكنه.
والله تعالى أعلم.(338/16)
حكم الأخذ من الشعر قبل السعي للرجل والمرأة
السؤال
عن امرأتين طافتا ولم يسعيا، فما حكم عمرتهما؟
الجواب
الواجب على المرأة والرجل أن يتما عمرتهما نويا العمرة أو الحج، فمن نوى العمرة من الرجال والنساء فالواجب عليه أن لا يتحلل، وأن لا يأخذ من الشعر إلا بعد أن يطوف بالبيت ويسعى، وبناءً على ذلك وقوع القص بالشعر أو التقصير يكون قبل السعي واقعاً في غير موقعه؛ فعليهم الفدية؛ لأنهم أخذوا من الشعر قبل تمام النسك.
فيرجعون ويؤدون السعي، ثم بعد ذلك يفتدون.
أما بالنسبة لركعتي الطواف؛ فهما سنة، وفعلهما بعد الطواف في داخل البيت سنة، على كل حال عليهم أن يصلوا ركعتي الطواف، وإذا أعادوا الطواف ثم سعوا بعده، جعلوا الطواف نافلة بناءً على قول من قال: لا يصح السعي إلا بعد طواف.
هذا أفضل.
وكونهم يأتون إلى التنعيم، هذا لا أصل له، وما له داع ولا موجب.
فيجب عليهم الآن الذهاب إلى مكة ليعيدوا الطواف؛ لفوات الموالاة بين السعي والطواف، فقد كان المفروض أن يقع السعي بعد الطواف.
فالأفضل له أن يطوف، ثم يسعى، ثم بعد ذلك يتحلل، وتجب عليهما الفدية إن كانوا قد تطيبوا.
أما إن كانوا لم يتطيبوا ولم يكن هناك محظورات فعلوها؛ فهم إلى الآن محرمون، ويجب عليهم أن يذهبوا.
وإن كانوا قد قصروا الشعر فهذا يوجب عليهم الفدية؛ لأنه لا يجوز أن يقصروا إلا بعد انتهاء السعي.
والله أعلم.(338/17)
حكم تطييب البدن بعد الإحرام
السؤال
هل يجوز التطيب في البدن فقط بعد ارتداء ملابس الإحرام؟
الجواب
إذا دخل في النسك فلا يجوز له أن يتطيب؛ لأن الله تعالى حرم على المحرم أن يتطيب.
وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الطيب من محظورات الإحرام، قال صلى الله عليه وسلم: (إنزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب).
فأمر المحرم أن لا يتطيب.
في هذه الحالة: الواجب على المسلم أن لا يتطيب بعد إحرامه، فإن تطيب قبل الإحرام واغتسل أو اغتسل ثم تطيب قبل أن يدخل في النسك؛ فهذا لا بأس به، وهو في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت).
سواء وقع الطيب بعد الغسل أو قبل الغسل؛ فإن الصحيح أنه من السنة، ولا بأس به، وقد قالت أم المؤمنين عائشة: (كنت أرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم).
فهذا يدل على أنه لا بأس أن يكون على بدن المحرم الطيب، بشرط أن يكون قد وضعه قبل الدخول في النسك.
وبعض الناس يرى أنه بمجرد اللبس قد دخل في النسك! وهذا ليس بصحيح، فإن التجرد عن المخيط ليس دخولاً في النسك، إنما يكون الدخول بالنية, وبناءً على ذلك فلا عبرة بلبسه، وإنما العبرة بدخوله في النسك.(338/18)
حكم العمرة بعد الحج
هذه المسألة من حيث الأصل: السنة أن من أتى بعمرة قبل حجه، ثم حج وتمتع بها: أن يكتفي بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح، لما أرادت عائشة رضي الله عنها أن تأخذ عمرة بعد حجها، قال عليه الصلاة والسلام: (طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك).
فالنبي صلى الله عليه وسلم عتب عليها، وضيق عليها بعض الشيء، كأنها تأتي بعمرة بعد عمرتها، لكن إذا وجد لبعض الناس سبب؛ مثلاً: والده أو قريبه لم يعتمر، وأراد أن يأخذ العمرة عنه؛ فلا بأس أن يأتي بالعمرة بشرط أن تكون النية طرأت عليه في مكة، لا من الميقات الأبعد.
والله تعالى أعلم.(338/19)
حكم ثوب الإحرام الذي فيه أزرار
وبالنسبة لثوب الإحرام الذي فيه (طقطق) هذا ينصح الناس فيه، ولا يجوز لهم لبسه؛ لأنه في حكم المخيط.
الإحرام الذي فيه أزارير يجب أن تزيلها، وتفكها، وتبقى مفتوحة، ولا يضر إن شاء الله.
والله أعلم.(338/20)
حكم حج من اعتمر في أشهر الحج ثم نوى الحج
السؤال
من أتى بعمرة في أشهر الحج، ثم نوى بعد ذلك الحج في العام نفسه، هل يلزمه التمتع، أم يخير؟
الجواب
ليس هناك إلزام بنسك، فعن أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى الميقات قال: (من أراد منكم أن يهل بحج فليهل، ومن أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل).
فالأصل في هذه الأنساك أنها تخييرية -أي: الأنساك الثلاثة- ومن أتى بأي واحد منها فلا حرج عليه ولا عذر، والخلاف بين العلماء رحمهم الله في الأفضل، وليس هناك إلزام بأحد هذه الأنساك.
بل يبقى هذا النص على الأصل وأن المسلم مخير.
وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بفسخ الحج بعمرة، وهو إيجاب فسخ الحج بعمرة على من لم يسق الهدي؛ فهذا كان في ذلك العام، ولذلك لم يلزم بها أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان مدة الخلافة الراشدة كلها، وفهم الصحابة ذلك وطبقوه، وهم أعلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (متعتان لا تصلح إلا لنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: متعة النساء، ومتعة الحج).
يعني إيجاب الفسخ، وليس مراده مطلق التمتع بالحج، يعني أن إيجاب الفسخ كان في ذلك العام هدماً لعقيدة الجاهلية الذين كانوا لا يجيزون العمرة في أشهر الحج، وكانوا يقولون كما في الصحيح عن ابن عباس: (إذا برأ الدبر، وعفى الأثر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر)، فكانوا يرونها من الفجور.
ولذلك قالوا: (يارسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: لا؛ للأبد، للأبد).
صلوات الله وسلامه عليه.
وقال: (دخلت العمرة في الحج).
أي: أنه يجوز لك إيقاع العمرة في أشهر الحج إلى الأبد، لا ما كان يعتقده أهل الجاهلية من تحريم إيقاع العمرة حتى ينسلخ صفر، فذاك من أدران الجاهلية، ومما اختلقه أصحاب الجاهلية من المسائل المحدثة وألصقوها بالحنيفية وهي منها براء فردها عليه الصلاة والسلام, ورد الأمر إلى أصله؛ من أنه يجوز الاعتمار في أشهر الحج، ولذلك وقعت عمرته عليه الصلاة والسلام في أشهر الحج؛ كعمرة الجعرانة حينما وقعت في ذي القعدة لما انتهى عليه الصلاة والسلام من قسم الغنائم بعد فتحه للطائف؛ صلوات الله وسلامه عليه.
والله تعالى أعلم.(338/21)
حكم صيام أيام عشر ذي الحجة
السؤال
هل يعتبر صيام عشر ذي الحجة من السنة؟
الجواب
صيام عشر من ذي الحجة ما عدا يوم النحر لا بأس به ولا حرج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة، قالوا: يارسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بماله ونفسه فلم يرجع بشيء من ذلك).
فهذا يدل على أنه يشرع فعل الطاعات، وأنه لا بأس بصيامها؛ سواء صام التسع كاملة أو صام بعضها، فلا حرج في ذلك ولا بأس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يُفعَل الشيء ويتركه، وقد شرع ذلك للأمة بقوله: (ما من أيام العمل الصالح فيهن ... ) وبناءً على ذلك يبقى هذا النص القولي على عمومه، ولم يأت ما ينقضه، فيبقى صيامها مستحباً على الأصل.
والله أعلم.
أما يوم النحر: ففيه حديث عمر في الصحيحين: (أنه عليه الصلاة والسلام خطب ونهى عن صوم يومي النحر والفطر)، فلا يجوز الصيام في هذين اليومين؛ لأنهما يوما عيد الإسلام، والصيام فيهما إعراض عن ضيافة الله عز وجل، فلا يجوز صيامهما بإجماع العلماء.
والله تعالى أعلم.(338/22)
حكم الدم إن أصاب الثوب
السؤال
هل دم الإنسان إذا أصاب الثوب يجب غسله؟ أو أن الشرع حدد المقدار الذي يجب غسله؟
الجواب
جمهور العلماء على أن الدم المسفوح نجس؛ لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (اغسلي عنك الدم، ثم اغتسلي وصلي)، فهذا أصل عندهم في أن الدماء نجسة.
وقال بعض العلماء: إنها طاهرة؛ لحديث الشعب، ولصلاة عمر رضي الله عنه وجرحه ينزف، وقد أجيب عن حديث الشعب؛ بأنه من النزيف الذي لا يرقأ، لأنه أصيب بالسهم، والسهم غالباً ينزف، والنزيف لا يرقأ، ولذلك محل الخلاف لا يستقيم به الاستدلال، وكذلك عمر رضي الله عنه، لأن جرحه استنزفه إلى الموت، ولذلك قالوا: لو رعف الإنسان -مع قولهم بالنجاسة- أو المرأة المستحاضة يستثقل معها الدم، فهذا من العفو؛ لأنه لا يمكنها إيقافه، فالاستدلال بهذا الحديث فيه نظر من هذا الوجه، كما ذكر جمهور العلماء رحمهم الله والصحيح: أنه نجس، وحكمه حكم النجس؛ يجب غسل الدم، لكن الدم على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون يسيراً.
والحالة الثانية: أن يكون كثيراً، وهو الذي يسميه بعض العلماء: متفاحشاً.
واختلف العلماء رحمهم الله في التفريق بين اليسير والكثير، أو الكثير والمتفاحش، فمنهم من يقول: إذا بلغ قدر الدرهم فهو يسير، وإن كان أكثر من الدرهم فهو كثير يجب غسله.
ومنهم من قال: إن الكثير والقليل يفرق بينهما بما لا يتفاحش في النفس؛ يعني إذا رآه كثيراً حكم بكونه كثيراً، وإذا رآه قليلاً حكم بكونه قليلاً.
والأول أقوى، لكن يوجد حديث ضعيف، وهو حديث الدرهم البغلي، لكن حكي الإجماع على أن قدر الدرهم من العفو، ولذلك يستدل بعض العلماء على أنه يصح من جهة العفو، ويؤخذ بهذا الأمر المتفق عليه؛ وهو أشبه.
وقدر الدرهم تقريباً: قدر الهللة القديمة الصفراء؛ فإنها تقارب الدرهم كما حرره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، فإذا كان مجموع الدم مقدار ذلك فهو من العفو فما دون، ولذلك عصر عبد الله بن عمر بثراً في صلاته ولم يقطعها؛ لأنها من اليسير، وهذا من حيث الأصل-أعني اشتراط أن يكون كثيراً- ودليله ظاهر آية الأنعام؛ فإن الله تعالى يقول: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]، فجعل الحكم بالنجاسة مبنياً على كونه مسفوحاً، والمسفوح في لغة العرب: الكثير.
ففرق الله بين القليل والكثير، ولذلك ذهب جماهير السلف والخلف إلى هذا التفريق، على ظاهر النص في قوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145].
والله تعالى أعلم.(338/23)
حكم معارضة الوالد إن أراد غير المعروف
السؤال
أبي يريد أن يزوج أختي بشاب لا يصلي، وأنا معارض لهذا الأمر، فهل أكون عاقاً، وكيف أنصح والدي؟
الجواب
هذا من طاعة الله عز وجل، والسمع والطاعة الأصل أن تكون بالمعروف لا بالمنكر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما السمع والطاعة بالمعروف).
فسماعك لأمر والدك وامتثالك له إنما هو مقيد بالمعروف الذي أقره الله عز وجل، أما إذا كان بالمنكر فلك أن تنكره وترده عليه، فالحق معك، ولا يزال معك من الله معين وظهير.
كيف تزوجها من رجل لا يصلي قد قطع صلته بالله عز وجل، خسر الدنيا والآخرة؛ ذلك هو الخسران المبين، ففي هذه الحالة من حقك أن تعترض، ومن حقك أن تبين للوالد، وتحاول بالتي هي أحسن أن تؤثر عليه، وأن تستعين بالأشخاص الذين يؤثرون عليه إذا لم تستطع بنفسك، وتوصي الأخت أن لا تقبل مثل هذا زوجاً لها؛ بل تمتنع وتصر على عدم القبول، وهي مثابة على إصرارها على هذا الحق.
فلا بارك الله بزوج لا يصلي؛ إنه منزوع البركة، مشئوم على من يتزوجه؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وربه؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل والكفر ترك الصلاة).
فحرمان الخير-والعياذ بالله- موقوف على ترك الأمور التي فرض الله عز وجل، والتي أعظمها عماد الدين بعد الشهادتين.
فمثل هذا لا يزوج، وحري به أن لا يكرم بالتزويج، ونسأل الله أن يهدي والدك إلى سماع الحق وقبوله، وأن يختار لأختك ولبنات المسلمين من فيه الخير والصلاح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(338/24)
شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [2]
جعل الله تعالى لصلة القرابة حرمة وقداسة، ومن آثار ذلك أنه يجب على القريب أن ينفق على قريبه الذي يرثه لو مات.
وهذا الإنفاق إنما يجب بشروط لابد أن تتحقق، وهي لا تسمح للكسول بأن يركن على غيره، ولا تكلف الغني فوق طاقته، بل تحقق التكافل الأسري والتكامل الاقتصادي على أحسن الوجوه وأتمها.(339/1)
ما يشترط لوجوب نفقة القريب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستنَّ بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فنسأل الله العظيم العليم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل ما نتعلمه ونعلمه خالصاً لوجهه الكريم؛ موجباً لرضوانه العظيم.
ولا شك في أن حلق العلم ومجالسه خير ما تستفتح بها الوصية بحق الله جل وعلا، ولو كرر ذلك في كل مجلس لم تسأم منه الآذان، ولم تملّ من سماع ذلك؛ لأن حق الله هو أعظم الحقوق، فالوصية بتقوى الله والإخلاص في طلب العلم زاد طالب العلم الذي لا يمكن أن يستغني عنه لحظة من اللحظات؛ لأن الله لا ينظر إلى قول قائل ولا إلى عمل عامل إلا بعد تحقيقه والعمل بحقوقه.
وخير ما نتواصى به: أن يخلص الإنسان لوجه الله، وأن لا يجلس في مجالس العلم إلا وهو يريد ما عند الله، وأن يعلم علم اليقين أن التجارة مع الله رابحة، وأنها عند الله رائجة، وأن أسعد الناس في القول والعمل من نظر الله إلى قلبه فوجده خالصاً مستقيماً لربه أسعد الناس من أرى الله من نفسه خيراً حينما يجلس في مجالس العلم، ويستمع العلم، ويقرؤه، ويكتبه، ويتحدث به، وليس في قلبه إلا الله، وهي أمارة من الأمارات بل هي أشرف الأمارات وأعزها وأكرمها؛ إذ لا يعطيها الله إلا لخاصة أوليائه.
فمن نظر في قلبه أنه مليء بالله معمور به، مصروف عن زخارف الدنيا وشهواتها وملذاتها؛ لا تصغي أذنه إلى مدح المادحين، ولا يميل قلبه إلى عجب الناس به؛ فقد كملت ولايته لله جل جلاله، وهي العطية التي يختص الله بها من أحب.
اللهم ربنا ورب كل شيء نسألك أن تجعلنا ممن اصطفيته فجعلته من المخلصين وأراد وجهك يا رب العالمين.
وقد تحدثنا فيما سبق عن مسألة النفقة، وبيّنا أن المصنف رحمه الله جعل الأصل في النفقة على الأقارب من الأصول والفروع والحواشي، مبنياً على شروطاً لابد من تحققها، فنحن لا نلزم شخصاً أن ينفق على قريب إلا إذا توافرت فيه هذه الشروط.
والنفقة تبعة من التبعات، فأنت حينما تتحمل طعام شخص وكسوته وسكناه، هذا أمر فيه كلفة ومشقة، لكنه لا يأتي إلا من خلال أسباب وشروط، وهي العلامات والأمارات التي نصبها الشرع لإيجاد النفقة.
أول هذه الشروط: وجود العلاقة والسببية الموجبة للنفقة، وهي القرابة المبنية على صفة الإرث، فالقريب الوارث يستحق النفقة، وهذا المذهب اختاره طائفة من العلماء، وذكرنا دليله من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن الإسلام عدل حينما جعل الإنسان يرث من الميت، وكما أنه يأخذ غنيمة الإرث بعد موته يتحمل غرم الإنفاق عليه في حياته، فهذا من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، ومن العدل الذي هو كمالٌ في هذه الشريعة.
أما الشرط الثاني: فقد بينا من هم الأقرباء الذين يجب عليك أن تنفق عليهم من الأصول؛ كالآباء والأمهات والأجداد والجدات وإن علت، والفروع: كالأبناء والبنات وإن سفلوا، والحواشي من جهة العصبة ونحوها.
وبهذه العبارة التي ذكرها المصنف شرع في الشرط الثاني من شروط وجوب النفقة.(339/2)
شرط فقر القريب مع عجزه عن الكسب
قال رحمه الله: [مع فقر من تجب له] أي: يشترط في وجوب النفقة على القريب لقريبه أن يكون القريب محتاجاً؛ فتوجد فيه الحاجة والفاقة والفقر، وقريبك الذي تنفق عليه كالأخ والأخت مثلاً، إذا وجب عليك أن تنفق عليهما لابد وأن يكونا فقيرين، ومع الفقر يكون العجز عن التكسب؛ فقد يكون فقيراً ولكنه قادر على أن يتكسب، فحينئذ يفصل العلماء رحمهم الله.
أما الفقر فلابد وأن يكون فقيراً؛ لأنه لو كان غنياً فقد أوجب الله عليه أن ينفق على نفسه، وأما إذا كان فقيراً وليس عنده مال فحينئذ يجب عليك أن تنفق عليه بالمعروف.
وهذا الشرط مجمع عليه بين العلماء رحمهم الله، فلا نوجب عليك النفقة لقريبك إلا إذا كان فقيراً، لكن يستثنى من ذلك الوالدان والأولاد.
فالوالد ينفق على ولده ولو كان غنياً ما دام أنه تحت كفالته، كزوجته يجب عليه أن ينفق عليها ولو كانت غنية؛ لأن الاستحقاق هنا في الأصول والفروع آكد وأوجب، ولذلك ينفق الأصل على والديه وعلى فرعه، كالوالد ينفق على أولاده ولو كانوا أغنياء.
مثال لغنى الفرع: أن تموت الأم وتخلف مالاً لولدها، والولد قاصر عمره سنة أو سنتان، عنده مال لكن في الأصل المخاطب بالنفقة عليه هو والده حتى يستقل بنفسه، فحينئذ لا يشترط في الولد الفقر، فينفق على الأصل والفرع سواء كان غنياً أو فقيراً.
والزوجة تكون غنية ولكن يجب على زوجها أن ينفق عليها؛ لأن هذا الاستحقاق لا يتوقف على وجود الفاقة، وإنما هو مبني على وجود العلقة والقرابة.
ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الفرع بمنزلة الإنسان، كما في الصحيحين من حديث فاطمة رضي الله عنها، في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) فالمقصود أننا لا نوجب النفقة عليك لقريبك كالأخ والأخت إلا إذا كان فقيراً ومحتاجاً عاجزاً عن الكسب، أما لو كان غنياً عنده قوت يومه فلا؛ لأننا نتكلم عن نفقة كل يوم بحسبها، فلو أن الأخ أو الأخت لم يجد طعامه وقوته في يومٍ، فحينئذ ننظر إن كان عنده مال؛ فإنه ليس بفقير، فلا يجب عليك أن تنفق عليه، لكن لو لم يكن عنده مال، ولا يستطيع أن ينفق على نفسه، فإنه يجب عليك أن تنفق عليه، إلا أن بعض العلماء قال: ينظر في قدرته على التكسب، فإن كان قادراً على التكسب سقط عنك إيجاب النفقة، ويجب عليه أن يقول له: اطلب العيش بالتكسب، لأن نفقتك عليه إعانة له على البطالة وترك السعي.
ومن هنا لا يجب عليك أن تنفق عليه متى كان قادراً على التكسب، وبالتكسب يتحصل على رزقه.
لكن لو ضاق الكسب والعيش، فقال بعض العلماء: في هذه الحالة يجب على القريب أن ينفق عليه، ولو كان قادراً على التكسب، ما دام أنه لا يجد مجالاً للتكسب، فالقدرة على التكسب هنا وجودها وعدمها على حدٍ سواء.
إذاً لابد وأن يكون فقيراً عاجزاً عن التكسب؛ يكون فقيراً بالنسبة لصفة الحال، والعجز عن التكسب يكون بصغر السن كما هو الحال في الأولاد ونحوهم، أو يموت ويترك أيتاماً أخوه يتيم قاصر فينفق عليه لأنه عاجز عن التكسب، وكذلك أيضاً يكون العجز عن التكسب لسبب الكبر والشيخوخة، كأن يكون له أخ مسن أو أخت مسنة عاجزة وليس لها من يعول، وكذلك يكون العجز عن التكسب للمرض والزمانة، كالشلل -أعاذنا الله وإياكم من الأمراض- والعمى فلا يقوى على العمل لوجود هذه الآفات، فعلى كل حال إذا كان فقيراً عاجزاً عن الكسب ثبت استحقاقه للنفقة.
قال رحمه الله: [وعجزه عن تكسب].
هذا الشرط الثاني: أن يكون فقيراً عاجزاً عن التكسب، وهو في الحقيقة شرط يتضمن شرطين، لكنهم جعلوه بمثابة الشرط الواحد بسبب تعلقهما بجهة واحدة، يعني: يشترط في القريب أن يكون فقيراً عاجزاً عن التكسب، ومفهوم الشرط: أنه لو كان غنياً لا يجب عليك أن تنفق عليه، إلا من استثنينا، ولو كان قادراً على التكسب لا يجب عليك أن تنفق عليه، إلا إذا كان الزمان لا يتيسر له فيه سبل العيش؛ فوجود القدرة على التكسب وعدمها على حد سواء.(339/3)
أن تفضل النفقة عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه
قال رحمه الله: [إذا فضل عن قوت نفسه].
هذا الشرط الثالث، وهو يتعلق بالقريب المنفق.
تقدم معنا شرطان، الشرط الأول: وجود الوراثة السببية الموجبة للنفقة.
الشرط الثاني: عجز المنفق عليه وهو القريب.
الشرط الثالث: وجود القدرة على النفقة بالنسبة للقريب المنفق، وهو أن يكون عنده قدرة على أن ينفق على قريبه، والعبرة بذلك اليوم، فلو عجز قريبه عن النفقة ذلك اليوم بسبب المرض والفقر، فهو عاجزٌ عن الكسب فقير.
فننظر في قريبه، إن وجدنا القريب عنده مال، نظرنا في هذا المال، فإن كان هذا المال على قدره وقدر عياله، ومن تلزمه مئونته، فلا يجب أن ينفق على القريب الأبعد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول) فهذا في الأصل بدأ بنفسه ثم بمن يعول من الأولاد، ولم يجد فضلاً: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
وهذا لم يؤته الله شيئاً زائداً عما هو لازم له في الأصل، فلا يجب عليه أن ينفق على الأبعد إذا كان المال الذي عنده لا يكفي لصرفه إليه.
قال رحمه الله: [عن قوت نفسه وزوجته ورقيقة].
أي: فاضلاً عن قوت نفسه وزوجته، إذا كان له زوجه، وإذا لم يكن عنده زوجه نظرنا إلى قوته هو.
مثلاً تكسب في يوم خمسين ريالاً.
إذا جئنا ننظر إلى طعامه وطعام أولاده في ذلك اليوم وجدناه بخمسين ريالاً، فحينئذ لا فضل، فلا نفقة؛ لأنه ليس بغني، فننتقل بالنفقة إلى قريب آخر أبعد منه، ولا يجب في هذه الحالة على من كانت هذه صفته أن ينفق؛ لأنه لم يفضل عن قوته شيء فاستوى مع غيره فلا نكلفه؛ لأن الله يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وهذا لم يؤته الله فضلاً حتى نوجب عليه أن ينفق.
إذاً: يكون فاضلاً عن قوت نفسه وزوجه ورقيقه: لأن هؤلاء من تلزمه نفقتهم، والرقيق يجب عليك أن تنفق عليه، وسيأتي إن شاء الله تفصيله أكثر في النفقة على الأرقاء وهم الموالي، فإن الإسلام أوجبه على المسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم؛ فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يطعم، وليكسه مما يكتسي)، فهذا يدل على أنه يجب عليه أن ينفق عليه بالمعروف، فيقدم المولى والعبد في خاصة الإنسان على القريب من حيث الأصل، ولذلك يجب عليه أن ينفق على زوجه وولده وعبده، ولا ننظر في الفضل إلا بعد الانتهاء من الأقربين الذين هم أحق.
قال رحمه الله: [يومه وليلته].
النفقة ننظر إليها في اليوم والليلة، فإذا كان عنده مائة ريالاً ننظر نفقة طعامه في النهار ونفقة طعامه في الليل، فإذا كان طعامه في الليل والنهار وكسوة من تلزمه مئونته في حدود الستين ريالاً ومعه مائة ريال، كان إيجاب النفقة في الأربعين، لأنها فضلت عن قوته وقوت زوجه ومن تلزمه نفقته، فيجب عليه أن ينفق على القريب من الأربعين -لأنها زائدة- في اليوم والليلة.(339/4)
أن يكون الإنفاق زائداً على الكسوة والسكن
قال رحمه الله: [وكسوةٍ وسكنى].
(وكسوة) يعني: كسوة من تلزمه نفقته، من نفقة نفسه ومن تلزمه نفقته، ومثال ذلك: عنده زوجة أو أولاد يحتاجون إلى كسوة وطعام، فقدرنا نفقة الكسوة والطعام، فوجدناها بثلاثمائة ريال، وتكسب في ذلك اليوم الزائد عن ماله الموجود ثلاثمائة ريال، فنقول: لا له ولا عليه، يجب عليه أن ينفق على نفسه وزوجه ومواليه بإطعامهم وكسوتهم ولا يجب عليه أن يصرف على القريب؛ لأن الطعام والكسوة استغرقا ما عنده، لكن لو كان لا يحتاج إلى كسوة في ذلك اليوم، ولا يحتاج أحد ممن تلزمه نفقته إلى كسوة، والطعام له ولمن تلزمه نفقته في حدود المائة، وكان عنده في ذلك اليوم مائة وخمسون، فحينئذ نقول: ما دامت النفقة التي تلزمه بخاصته هي مائة، فإن الخمسين تصرف إلى قريبه المحتاج.
إذاً لا يختص الأمر بالطعام بل الكسوة داخلة في هذا، فلو كان في كل يوم عنده قريب محتاج، وكل يوم يتكسب مائة ريال، ينفق منها على أهله وولده ثمانين، ويأخذ العشرين ويعطيها إلى قريبة.
الثمانون التي ينفقها تصرف كلها في الطعام، لكن في يوم من الأيام احتاج إلى كسوة له أو لزوجته أو أولاده أو لمولاه، وهذه الكسوة تحتاج إلى العشرين، فاستحقاق الكسوة في ذلك اليوم يسقط حق القريب.
فإذاً لا يظن أن النفقة مخصوصة بالطعام والشراب، بل شاملة الكسوة أيضاً.(339/5)
أن تكون النفقة لديه من حاصل أو متحصل
قال رحمه الله: [من حاصل أو متحصل].
(من حاصل) أي: الموجود.
يقولون: إذا كان رزقه الذي حصل عليه مائة ريال، هذا الحاصل، والمتحصل هو الموجود عنده مثل رأس المال الذي يأخذه دخلاً إما في تجارة وإما في عمل وكدح.
لماذا يقول المصنف: من حاصل أو متحصل؟ لأن الرجل في بعض الأحيان لا يعمل، ولكنه عنده مال، مثل رجل غني عنده ألف ريال، الألف في القديم مثل المليون في زماننا، فهذه الألف التي عنده لا يحتاج معها إلى عمل ولا كسب، فعنده حاصل من المال يكفي أن ينفق منه وأن ينفق على قرابته، فنقول له: أنفق من الحاصل، يعني: من الموجود عندك.
أو شخص يأخذ المال عن طريق التحصيل بعد أن يعمل ويكدح، كأن يكون عنده بقالة أو مخبز أو سيارة يتكسب فيتحصل، فنسأله: على كم تحصلت اليوم؟ قال: على مائة، فنقول حينئذ: كم قدر نفقتك ونفقت قرابتك الخاصة، قال: خمسون، نقول: أنفق من المتحصل الزائد على نفقتك ونفقتهم، فلا يشترط في نفقتك على القريب أن تكون فقط من الحاصل، بل إنما تشمل الحاصل والمتحصل.(339/6)
أن لا ينفق من رأس المال
قال رحمه الله: [لا من رأس مالٍ] أي: إذا كانت عنده تجارة، أو عمل يومي له رأس مال، لا نقول له: اسحب من رأس مالك.
بعض الأحيان يكون رأس ماله هو الذي يثمر دخله ودخل أولاده، فلذلك لا نكلفه ما كان من رأس المال، إنما يكلف بالشيء الفاضل عن رأس المال مما يكون حاصل، مثلما قلنا في حال الغني الحاصل والمتحصل في حال العمل، أو ربح التجارة، فإنه يعد تحصيلاً.(339/7)
أن لا ينفق من ثمن بيع أملاكه
قال رحمه الله: [وثمن ملكٍ].
أي: لا يطالب بذلك؛ فلو أن شخصاً عنده بيت يملكه، أو مزرعة، والمال الذي يتحصل عليه يومياً هو مائة ريال، والمائة ريال تكفيه وتكفي من تلزمه النفقة، وعنده أقرباء محتاجون، فقلنا له: أنفق على أقربائك، قال: المال الذي يأتيني أنفقه على نفسي وعلى من تلزمني نفقتهم، وليس عندي شيء زائد، فحينئذ يرد
السؤال
هل نطالبه ببيع مزرعته، ونقول: أنفقها على القرابة؟ لا، لا يطالب ببيع ما يملك.(339/8)
أن لا ينفق من ثمن آلة صنعته
قال رحمه الله: [وآلة صنعةٍ].
مثل أن يكون حداداً أو نجاراً وقال: أنا دخلي المائة، وليس عندي إلا هذه الآلة أفأبيعها وأنفق على قريبي؟ نقول: لا يلزمك هذا.
لكن لو فعل ذلك وآثر واجتهد ما لم يعرض نفسه وأهله للضرر؛ فهذا شيء آخر، لكن من حيث الأصل لا يلزمه أن يبيع آلته التي يتكسب بها ويطلب بها عيشه ورزقه.
وهكذا لو كان عنده سيارة أجرة يتحصل بها على قوته وقوت أولاده، لا نقول: له بع آلة صنعتك وهي السيارة، وهكذا لو كانت عنده حراثة يحرث بها الأرض ويؤجرها للناس، لا نقول: بعها وأنفق على قرابتك.
لكن كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: إذا كانت هذه الآلة ويمكن الاستغناء عنها، أو كانت في حال الكمال ويمكن أن يجد آلة دونها، بحيث لو باعها واشترى ما هو أقل قيمة استطاع أن يسد به عجز أقربائه؛ فالأشبه أن يقال له ذلك، ولو كان عنده سيارة أجرة فارهة غالية ويمكنه أن يبيعها ويتحصل على سيارة أجرة عادية، وينفق بها على قرابة، فإنه يؤمر بذلك، من النظر إلى الفضل والكمال.(339/9)
وجوب النفقة على الورثة
قال رحمه الله: [ومن له وارث غير أبٍ؛ فنفقته عليهم على قدر إرثهم].
شرع رحمه الله في مسألة ثانية، فبعد أن عرفنا شروط الوجوب، وأنه لابد من: أولاً: وجود السببية الموجبة للنفقة، وهي: أن يكون وارثاً.
ثانياً: أن يكون المنفق غنياً وعنده قدرة على الإنفاق، فيجد ما ينفقه فاضلاً عن قوته وقوت من تلزمه مئونته.
ثالثاً: أن يكون الشخص الذي ينفق عليه عاجزاً عن التكسب وفقيراً ليس عنده ما يسد به رمقه أو يكفي لعيشه.(339/10)
النفقة على القريب المحتاج على قدر الميراث منه لو مات إلا في الأب
بعد هذا يرد
السؤال
كيف تنفق على هذا القريب؟ وما الذي تنفقه؟ وما الذي نلزمك به في النفقة؟ وهل أنت ملزمٌ بكل النفقة أو ملزم ببعض النفقة، أو ملزم بقدر إرثك من هذا الشخص؟ هذه مسألة فيها تفصيل عند العلماء رحمهم الله، وهذا إنما يتأتى إذا كان القريب عصبة وليس له عاصب مثله، فحينئذ يتمحض وينظر إلى وجوب النفقة عليه كاملة؛ لأنه لو انفرد في الإرث لحاز المال كاملاً، فيقال له: عليك النفقة كاملة، وأما إذا كان القريب يشاركه غيره في منزلته أو يشاركه غيره ممن يُنقص إرثه فرضاً أو تعصيباً، انقسمت النفقة على قدر إرثهم.
فبين رحمه الله أن النفقة في القريب على قريبه على قدر الإرث، لكن يستثنى من هذا الولد مع والده، فإنه ينفق عليه على قدر كفايته، أعني أن الوالد حينما ينفق على أولاده لا ينظر إلى قدر إرثهم منه، وإنما يسد حاجتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فجعل سد العوز والحاجة لازماً على الوالد تجاه ولده، فنوجب على الوالد في نفقته على ولده أن ينفق نفقة تامة كاملة بحيث لا يبقى عند الولد حاجة.
لكن لو أن الفقير له قريبان غنيان أخوان، فحينئذ لو مات قسمنا المال بين أخويه، فكل أخٍ يأخذ نصف الإرث، كذلك أيضاً في النفقة نطالب الأخوين النفقة على قدر حصصهما ونقول: كل منكما يدفع نصف النفقة، فبين المصنف رحمه الله أن القريب الوارث ينفق على قريبه المحتاج على قدر إرثه منه.
وهذا عدل؛ كما أنه يغنم هذا القدر كذلك يغرمه؛ لأن الله يقول: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233].(339/11)
إذا اجتمع الذكر والأنثى من قرابة المعسر
ولو أن هذا القريب المحتاج له أخ وأخت، ففي الإرث يكون للأخ الثلثان وللأخت الثلث؛ لأن الذكر له مثل حظ الأنثيين، والعجيب في مسألة الإرث أن الشريعة لما فضلت بين الذكر والأنثى صار فيها العدل؛ لأن الأنثى أضعف في الكسب من الرجل، وأيضاً في الحمالة، فلما حمل الأنثى حملها دون الذي حمله الذكر، فأعداء الإسلام يخلطون الأمور، وينظرون من زاوية واحدة فقط، ولذلك إذا نقد أحد الإسلام في هذه الجزئية نقول له: نظرك قاصر؛ لأنه نظر إلى حالة الغنم ولم ينظر إلى حالة الغرم، وصدق الله في قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، من هذا الذي يريد أن يستدرك على رب العالمين، وأحكم الحاكمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى! فهذا من العجز والقصور.
ولذلك كانت الشريعة الإسلامية شريعة كاملة تامة شاملة، ربطت الأمور ببعضها.
هناك من العلماء من يقول: لو اجتمع الوارث الذكر والأنثى أُسقط الأنثى وألزم الذكر، وهذا أحد الأوجه عند الشافعية وغيرهم، ويقولون: إن علقة الذكر أقوى من علقة الأنثى، ولأن الذكر يتكسب والأنثى لا تتكسب -هذا في الأصل- ولذلك جعل الله النفقة على الزوج ولم يجعلها على الزوجة.
ومن هنا تنظر كيف عظمة هذا الإسلام ودقته، وهنا نلمح حقوق المرأة الحقيقية المبنية على النظر إلى الحالة ودراسة أحوال الناس، وإعطاء كل شيء حقه وقدره، دون غلو أو مبالغة أو تزييف للحقائق، فهذه الحقوق الدقيقة المفصلة في الفقه الإسلامي لن تجدها في غيره؛ لأنها مبنية على شرعٍ كاملٍ تام؛ فبعض العلماء يرى أن على قدر الإرث ينفق الإناث، ويرى أنه إذا اجتمعن مع الذكور سقطن، فلو أن القريب له أخ وأخت يقول: أوجبها على الأخ ولا أوجبها على الأخت؛ لأن خطاب الشرع في التكسب موجه للذكور غالباً وهو الأصل، هذا وجه.
وهناك وجه ثان يقول: يجب عليهما، ثم يختلف هذا الوجه الثاني على وجهين، فأصحاب هذا القول منهم من يقول: ويفرق بينهما على قدر الإرث، فيتحمل الذكر ضعف ما تتحمله الأنثى، ومنهم من يقول: يسوى بين الذكر والأنثى، لأن السببية جاءت من جهة القرابة.
فالحنابلة يرون أن سبب وجوب النفقة على الأخ والأخت هو وجود الإرث، وذلك كقاعدة الغنم بالغرم، والربح لمن يضمن الخسارة، فكما أنهم يأخذون في الإرث بهذا النصيب، ينبغي أن يتحملوا في النفقة بهذا النصيب، ويستدلون بقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]، وهذا المذهب أصح وأقوى؛ لأن الله لما أوجب نفقة الرضيع على من يرثه في حال موت أبيه وموت من ينفق عليه قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]، أي: عليه أن يدفع نفقة الرضيع؛ لأنه لو مات الرضيع ورثه، فجعل وجوب النفقة عليه، وإذا كانت السببية هي الإرث، فينبغي أن تقيد بنص القاعدة التي وضعها الشرع في الإرث، ومن هنا يترجح هذا القول الذي سلكه المصنف رحمه الله، وهو مذهب الحنابلة رحمهم الله، أن النفقة على قدر الإرث.
قال رحمه الله: [فعلى الأم الثلث، والثلثان على الجد].
أي: لو كان له أم وجد؛ فإن الأم تأخذ الثلث فرضها، والجد يأخذ الثلثين فرضاً وتعصيباً، ففي هذه الحالة يقولون: إذا افتقر وله جد وأم فإننا نوجب على الأم ثلث النفقة فقط والباقي على الجد، فإذا افتقر وهو يحتاج إلى ثلاثين ريالاً فنقول للأم: ادفعي عشرة، ونقول للجد: ادفع عشرين، عليه الثلثان وعلى أمه الثلث، لأن أصل الإرث على هذا الوجه.
قال رحمه الله: [وعلى الجدة السدس، والباقي على الأخ].
وهكذا لو كان له جدة وأخ؛ يكون السدس للجدة فرضها في شرع الله عز وجل، ويأخذ الأخ الباقي وهي الخمسة الأسداس.
فلو كانت النفقة ثلاثين ريالاً نقول: ادفعي خمسة ريالات التي هي سدس الثلاثين، والباقي وهي الخمسة الأسداس على الأخ، فنقول للأخ: ادفع خمسة وعشرين، لأنه لو مات وترك الجدة مع الأخ وترك ثلاثين ريالاً كان سدسها للجدة، وخمسة أسداسها للأخ، فما ظلم أحد، مثلما يأخذ الغنم يدفع الغرم.
وهذا أتم وأكمل وأجمل وأبهى ما يكون من العدل، لا يستطيع أحد أن يستدرك على الشرع.
ولذلك كان من أعدل المذاهب أن ينظر إلى قدر حصته من الإرث، لأن استحقاقه جاء عن جهة الإرث، ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، دل على أن الشريعة ترتب الربح على الخسارة، فالخسارة وهي وجوب النفقة؛ لأنه دفع من ماله، والإرث لا يأتيك بدون مقابل في الأصل، وقد يكون الشخص من أفقر خلق الله، ثم يموت له قريب فما يدري إلا والملايين قد دخلت عليه رضي أو لم يرض، مال ساقه الله إليه، لكن يتحمل أيضاً عن وارثه مثلما يأخذ منه.
قال رحمه الله: [والأب ينفرد بنفقة ولده].
ذكرنا أن الأب ينفرد بنفقة ولده ولا يقسم بين الإخوة، وإنما ينفرد الأب بنفقة ولده؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فدل على أنه يجب على الأب أن ينفق على ولده قدر كفايته.(339/12)
الأسئلة(339/13)
حكم نفقة الزوج على زوجته المريضة
السؤال
هل يجب أن ينفق الأخ على أخته المتزوجة المريضة، حيث إن نفقة المرض لا يلزم بها الزوج، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالعلاج من حيث الأصل فيه خلاف بين العلماء، هل الزوج يعالج زوجته أو لا؟ والصحيح من حيث الأدلة: أنه لا يجب على الزوج أن يعالج زوجته، لكن إذا كان هناك سبب يوجب العلاج؛ بحيث جاء المرض من جهة حملها لجنينه وجاء بالتبعية فإنه يجب عليه أن ينفق عليها.
لا يجب على الزوج وليس بفرض عليه، ولكن من ناحية الأفضل والأكمل، وهو من المعروف والخير الذي لا يشك أحد في حسن الخلف والجزاء فيه من الله عز وجل، أن يضحي الزوج وينفق على زوجته، هذا من حيث الأصل.
وينبغي على الإنسان أن يفرق بين الشرع والعواطف، فبعض الناس حينما يقال له: إن الزوج لا يجب عليه علاج زوجته، يستغرب وينكر، ولا يجوز لأحد إذا سمع حكماً شرعياً أن يبادر بالاستغراب والتعجب؛ لأن الله إذا حكم لا يعقب على حكمه، فالزوجية رباط له حرمته وضوابطه، والشريعة لا تكلف أحداً إلا بأصول وقواعد صحيحة؛ الذي بين الزوجين أن الزوج يملك الاستمتاع من زوجته ويقوم على نفقتها، وما تحتاج من الأمور اللازمة.
بعد ذلك ما يتعلق بجسدها من إصلاح حاله إذا مرضت وسقمت، فهذا أمر خارج عن أساس الزوجية في الأصل، ولذلك لم توجبه الشريعة.
لكن لو كان المرض متعلقاً بسبب من الزوج، وأن الزوج أمرها بشيء وترتب عليه هذا الضرر، أو فعل بها ما ترتب عليها بسببه هذا الضرر، فهذا شيء آخر.
حتى الرجل الأجنبي لو أن شخصاً عمل عنده، وألزمه بشيء وترتب عليه ضرر، فهذا شيء آخر، لكن نحن نتكلم على الأصل، فالأصل يقتضي أن الزوج ليس ملزماً بعلاج زوجته.
وبعض الباحثين من المتأخرين يقول: إن هذا حكم غريب في الفقه الإسلامي.
وهذا ليس بصحيح، وإنما يجب على الشخص إذا ألزم الزوج بعلاج زوجته أن يحضر دليلاً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا ينسب إلى الشريعة الشيء بالهوى وبالعادة وبالتقاليد، ولكن بنص الكتاب والسنة، والذي في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم القيام على نفقة الزوجة بإطعامها وسكناها وتعهدها في كسوتها ونحو ذلك بالمعروف، وأما مسألة العلاج فهذا ليس بلازم كما ذكرنا، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وأشرنا إلى هذه الأدلة وبيناها.
إذا ثبت هذا نقول ونكرر: إن الزوج الأفضل له والأكمل أن يضحي من أجل زوجته، وأن يحتسب عند الله سبحانه وتعالى ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى لا يضيعه.
وأما بالنسبة لنفقة الوارث والقريب فهي وجود الحاجة من الطعام والكسوة، مثلما ذكرنا في الزوج، لكن لو أن أُخته احتاجت للعلاج، فمما لا يمكن للإنسان القريب أن تسمح له نفسه في حق الأخوة أن يترك أخته مريضة ولا يقوم بعلاجها ولا بمداواتها، لا يمكن أبداً إذا كانت نفسه أبية صالحة ولا يهنأ له عيش.
والحمد لله فالفطر السليمة والنفوس تختار مرضاة الله سبحانه وتعالى، وأفضل ما يكون التقرب وأبلغ ما يكون من الرضا من الله عن عبده إذا بدأ بأقرب الناس إليه.
وقد يستغرب الإنسان إذا تأمل هذا؛ أنك تجد الشيطان لا يقعد لك في الرصد مثلما يكون فيما بينك وبين قرابتك، فتجد الإنسان أنشط وأقوى ما يكون مع الغرباء، وتجده يضحي من أجلهم حتى إنه يذهب لأحدهم يقضي له حاجته ويحس بنشوة إيمانية وراحة نفسية لا يعلمها إلا الله، لكن ما إن تأتي الحاجة لعم أو عمة أو خال أو خالة أو ابن عم أو ابن خالة أو قريب، إلا وجد دون ذلك من الحواجز والضيق والتعب والعناء والكراهية من نفسه ما الله به عليم؛ لأنها غاية وأمنية عظيمة، قد حفت الجنة بالمكاره؛ فلما عظم ثوابها وجل عند الله جزاؤها، وحسنت عاقبتها، صده الشيطان.
حتى إن العبد لو غبر قدماً واحدة من أجل أن يصل رحمه للسلام؛ فإن الله يبارك له في العمر والرزق، فما بالك إذا مد المال لكي يقضي دين القريب أو يعالجه من مرضه؟ لا شك أنه أكمل وأعظم، ولذلك قعد عدو الله بالرصد، فالشيطان يجعل الإنسان في هذا أضيق ما يكون إذا ذهب يعالج أخته.
تقول له: أنا محتاجة إلى علاج، فتجده يختلق من الأعذار وتضيق به الدنيا، ويحس أنه في أكرب يوم، ويتثاقل يتثاقل حتى يقف على باب بيته، ثم تجده يتضايق ويصيح عليها ويحملها في سيارته وهي مليئة بالكلام الذي تكره معه معروفه، ثم يحملها إلى مكانها حتى يقضي لها علاجها، أو يقضي لها حاجتها، ثم يرجع وهو مكره، مشمئز النفس، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من الحرمان.
لكن لو أنه شعر أنه في أوج الرحمة، وأبلغ ما يكون في الرضا؛ لأن أولى الناس بخيرك أقرب الناس إليك، وإذا لم ترحم الأخت فإلى من تتجه بعد الله عز وجل، الأخت والأخ هم أحوج الناس إليك، خاصة بعد موت الوالدين، خاصة إذا كانوا أيتاماً، وخاصة إذا كانوا قاصرين، وخاصة إذا بليت الأخت بزوج لا يرحمها أو لا يحسن إليها.
فتكون في ظلها وكنفها دليلاً لها، تشتهي مرضاة الله بإدخال السرور عليها، تشتري مرضاة الله عز وجل بقضاء حوائجها، تشتري مرضاة الله عز وجل بعلاجها ومداواتها، وتحتسب عند الله كل حركاتك وسكناتك وستجد أثر ذلك؛ ربما تجد العوائق أولاً قبله، لكن والله ما إن تمضي قليلاً منه إلا وجدت من الانشراح والبركة والخير ما الله به عليم، فإن ضاقت عليك الدنيا وسع الله ضيقها، وإن عظم عليك الكرب وجدت من الله تنفيساً، وإن زاد عليك الهم وجدت من الله تثبيتاً، ومن أراد أن يجرب هذا فليجربه.
من أبلغ ما تشترى به مرضاة الله عز وجل بعد بر الوالدين؛ الإحسان إلى الإخوان والأخوات، وكل يوم إذا استطاع الإنسان بل في كل ساعة، فضلاً عن كل يوم، أو أسبوع، أو شهر، أو سنة، أن يسأل نفسه ما الذي قدمه لإخوانه وأخواته؟ متى زار الأخ والأخت؟ ومن أفضل وأكمل ما يكون الأخ الكامل الفاضل الذي يريد أن يشتري مرضاة الله عز وجل، والقريب الفاضل الكامل الذي يشتري مرضاة الله؛ ألا ينتظر من الأخ والأخت أن يعرض حاجته، ربما في المرة الأولى تجدهم يسألونك حوائجهم، ثم يرفعك الله إلى درجة أبلغ وأكمل، وهي أن تصبح أنت الذي تتفقد حوائجهم، وتجد الأخت في بعض الأحيان تريق دمعتها خجلاً أمام أخيها من كثرة ما تجد من إحسانه وبره وملاطفته لها، حتى إنها توري أمورها وتغيبها، لأنه سما إلى مرتبة عالية.
هناك من الإخوان من لا يبدو لإخوانه إلا إذا سألوه، فهو يعطيهم لكنه بمنزلة أقل، لكن الأكمل والأفضل هو الأخ الذي يذهب بنفسه يتفقد حوائجهم، والأفضل والأكمل الأخ الذي قضى حوائجهم حتى وصل إلى درجة الكمالات.
وتصور الساعة التي تدخل فيها على الأخت خاصة؛ لأن النساء فيهن ضعف وحاجة وحنان ورحمة.
والكلمة اليسيرة البسيطة عند المرأة تقع بمكان أبلغ من ملايين الأموال من شدة الحنان الذي تجده الأخت، فإذا دخل الإنسان، ومسح رأس ابنها وأدخل السرور عليها بكلمة طيبة، ووقف في ظلها وأخذها لحاجتها أو واساها في كربها، كم سيجد من الرحمات، وليجرب نفسه حينما يخلفها وراء ظهره، وقد رفعت كفها إلى ربها، وتوجهت بقلبها وقالبها إلى خالقها أن يجزيك بالحسنى في الدنيا والآخرة؛ لأنها تدعو من قلبها، وليس هناك أبلغ من دعاء القريب لقريبه، ولا أبلغ من وفاء وحب القريب لقريبه؛ الحب الذي لا تشوبه شائبة، ولا يدور حول المصالح، ولا تكدره الأكدار.
الأخ يؤذي أخاه فيزداد بذلك محبة له، والأخ يهين أخاه فيذهب ليكرمه، لأن هذا شيء في القلب.
لذلك النبي صلى الله عليه وسلم مع ما وجد من قريش فإنه قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).
فالحاصل أن النفوس لا ترضى إذا وجدت من القرابة الحاجة إلا بمساعدتها، فليصبر الإنسان خاصة طالب العلم الذي يريد أن يفتح الله عليه في علمه، والقدوة كالإمام والداعية والمعلم والشيخ، ينبغي دائماً أن يربأ بنفسه أن يكون في مرتبة قاصرة عن الكمالات، وليعلم أن الرحم تعلقت بالله سبحانه وتعالى، وقالت: (هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك)، فرضيت من الله أن يصل من وصلها وأن يقطع من قطعها.
فنسأل الله بأسمائه وصفاته أن يرزقنا صلة الرحم، وأن يجعلنا ممن وصله بصلتها، وأن يتقبل ذلك خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم، والله تعالى أعلم.(339/14)
أنواع الإجارة في الحج
السؤال
من حج عن الغير بأموالهم، ماذا يفعل بالمال الزائد، أثابكم الله؟
الجواب
الحج إذا كان بمال، فهذا يسمى عند العلماء الإجارة على الحج، والإجارة على الحج تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إجازة البلاغ: أن يقول لك: سأحج عن قريبك، أو أحج عنك وآخذ نفقة الحج، وحينئذ يستحق نفقة الركوب والطعام والشراب والسكن والهدي إن كان هناك هدي واجب بتمتع أو قران، فيستحق أربعة وجوه للنفقة، فإذا قال لك: أنا أحج على قدر نفقتي، فالإجارة صحيحة، ويسميها العلماء إجارة البلاغ.
القسم الثاني: إجارة المقاطعة؛ يقول لصاحب الحج: أنا أحج عنك أو عن قريبك بعشرة آلاف ريال، إن زاد شيء أخذته وإن نقص شيء كملته، يعني آخذ منك عشرة آلاف وأتحمل الخسارة أو آخذ الغنيمة، فهذا فيه قولان عند العلماء رحمهم الله، والصحيح: أنه لا تجوز إجارة المقاطعة؛ لأن الحج ليس محلاً للمعاوضات، لأنه عبادة وليس محلاً للمزايدة والبيع والشراء، فبناءً عليه نقول: خذ ما يكفيك بالمعروف ذهاباً وإياباً، وتقدر نفقته من خروجه إلى مكان عودته إلى أهله.
وأما بالنسبة للمسألة المذكورة، فإذا كان إجارة مقاطعة على القول بجوازها فإنه يأخذ الزائد.
وهذا قول ضعيف، وعلى القول بعدم جوازها -وهو الصحيح- فيجب عليه أن يذهب إلى صاحب الحج، ويقول له: زادت ثلاثة آلاف ريال أو زاد ألف ريال، فإن قال: سامحتك أو هي لك، فلا بأس بأخذها؛ لأنها ليست على سبيل إجارة المقاطعة، وإنما صارت هبة زائدة عن أصل التعاقد بين الطرفين، والله تعالى أعلم.(339/15)
حكم استئجار بئر الماء
السؤال
ما حكم استئجار البئر، أثابكم الله؟
الجواب
أولاً: مسألة بيع فضل الماء معروفة، وفيها نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ).
فإذا كان هناك آلة ترفع الماء أو استأجر من ينزح الماء؛ يجوز له بيع الماء.
فإذا جاز له بيع الماء، صار الماء هو عين المبيع، فلابد من معرفة قدره، وهنا ما يبيعه مجهول القدر.
بل لابد وأن يقول: أبيعك مثلاً الوايت الموجود سعة كذا كذا لتراً، أو أبيعك مثلاً هذا الخزان وأملأ لك ماءً من هذه البئر تذوقها وتعرف طعمها بمائة ريال، فهذا جائز.
فالوايت الآن يأتي بالماء من بعيد ويتكلف ويقول لك: الوايت بسبعمائة.
فلا بأس بذلك، لأنه أخذ أجرة تعبه وتحصيله، لكن لو قال: أبيعك الماء في البئر على أن تسحب منه يوماً لم يصح؛ لأن بعضهم يعتبره من إجارة الزمان؛ لكن الواقع أنه بيع عين، ونحن لا ندري كم الناتج في اليوم، فلابد من تحديده، يقول مثلاً: خمسة وايتات من سعة كذا وكذا، لأن البيع يشترط فيه معرفة قدر المبيع، وهذا مما يحتاج إلى معرفة قدره دفعاً للغرر؛ لأن جهالة القدر توجب فساد البيع.
ولذلك ثبت في صحيح مسلم وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة)، وبيع الحصاة عند العلماء أصل من الأصول في تحريم البيع للأشياء المجهولة القدر، وقد كان ذلك في القديم، ومن صوره أن يقول: أبيعك من أرضي هذه ما انتهت إليه حصاته بمائة، فلا ندري هل هو بعيد أو قريب؟ فهنا جهالة قدر، فلما جهل القدر حرم البيع.
ومن هنا فكل شيءٍ له قدر ويمكن ضبطه بالقدر، ووقع البيع عليه دون تحديد لذلك القدر، فلا يجوز لأنه من بيع الغرر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر وغيره رضي الله عنهما: (أنه نهى عن بيع الغرر).
وبناء على ذلك نقول: حدد المبيع من الماء من البئر، فيقول له: القدر عندي مائة لتر بألف ريال، كل لتر بعشرة ريالات، وهكذا يحدد قدر المبيع، هناك من يقول: هذه إجارة تدخل في إجارة الزمان، لكن هذا بعيد.
والأشبه من قال: إنه لابد من تحديد القدر، والله تعالى أعلم.(339/16)
حكم التصرف في أوقاف المسجد إن كانت معطلة
السؤال
ما حكم الاستفادة من حاجيات المسجد، كالمكيفات والسجاد في مصالح خيرية أخرى، كوضعها في مدارس التحفيظ أو سكن الإمام أو بعض أمور الدعوة، علماً بأن هذه الحاجيات لا تستعمل في المسجد؛ نظراً لاستبدالها بأخرى، وهي ملقاة في مستودع المسجد، أثابكم الله؟
الجواب
هذا السؤال يحتاج إلى أمور ينبغي التنبيه عليها: أولاً: المساجد إذا كانت مرتبطة بجهات تتحمل المسئولية عنها، فهي المسئولة عنها أمام الله عز وجل، وهي التي تنظر في مصالحها، وتقوم بصرف حوائجها على حسب ما يقتضيه الأمر كما هو معلوم، ولذلك لا يتدخل الأفراد إلا عن طريق هذه الجهات المسئولة عن هذه الأشياء إذا كانت في المسجد خاصة، فينبغي أن يعلم أن كل شيء في المسجد أوقف عليه ينبغي أن يبقى في المسجد، ولا يجوز إدخال الأشياء الجديدة، وإخراج القديمة طلباً للأكمل والأجمل والأفضل؛ لأن أي شيء يوقف فمعناه: أنني أخرجته من ملكي صدقة لله عز وجل، ولذلك لا يملك أحد ذلك الشيء.
ومن هنا لا يجوز بيع الوقف ولا هبته، ولا شراؤه؛ لأنها خلت اليد عن الملكية، حتى ولو قال: هذا المسجد ملك لي، نقول: ليس ملكاً لك؛ لأنك أوقفته لله، وبناءً على ذلك فصاحب المسجد لا يملك المسجد؛ لأنه خرج بالوقفية لله عز وجل والتسبيل، ومن هنا قال ابن عمر رضي الله عنهما في حديث عمر الذي هو أصل الأوقاف كما في الصحيحين: (فتصدق بها عمر رضي الله عنه إلى أن قال: على أن لا يباع أصلها) أي: لا يباع أصل الرقبة المسبلة من حد السهم.
فهذا أصل عند العلماء، فإذا كان في المسجد مكيف أو مصاحف أو كراسي المصاحف، أو فراش أو ساعات أو إضاءة وأنوار، فإنها تترك كما هي حتى تتلف وتتعطل تماماً، لأنها موقوفة ومحبسة على هذا المسجد، ومن أوقفها وحبسها يريد ثوابها عند الله عز وجل، فلا يجوز لأحد أن يأتي ويقطع أجره وخيره، ويقول: أنا أريد أن أحدث فراشاً جديداً، فالمساجد ليس محلاً للمباهاة، هذه المساجد المقصود فيها صلاح القلوب والقوالب والتوجه إلى الله عز وجل، ولو كانت مفروشة بالحصى.
فإن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مفروشاً، ولم يكن مزيناً ولا منمقاً، صلوات الله وسلامه عليه، هذه أماكن عبادة، وأدخل الله عز وجل إليها الأغنياء والأثرياء وهم في أوج غناهم وثراهم لكي يذلوا بين يدي ربهم عز وجل بالسجود على الأرض ولو كانت تراباً، ويذلوا بين يدي الله عز وجل حينما ينكسر كبرياؤهم فيصلي عن يمينهم الفقراء وعن يسارهم الضعفاء، ليست أماكن مباهاة.
وهذا مقصود الشرع فيها.
ولذلك كان من علامات الساعة المباهاة بالمساجد فيما ورد في أكثر من أثر، ومن هنا مسألة الغلو؛ فكلما وجدنا شيئاً قديماً في المسجد سحبناه وأتينا بشيء جديد، ليس المسجد محلاً للتنافس في هذه الأمور التي يقصد بها الكمالات، لكن لو تعطلت مصلحة هذا الشيء فأصبح المكيف لا يشتغل، فإن أمكن تصليحه يصلح، ونقول للشخص: إذا أردت أن تتصدق فأصلحه حتى يكون صدقةً عليك وعلى صاحبه الذي أدخله، وحينئذ تنصح لعموم المسلمين وتنصح لإخوانك المسلمين الذين تقدموا، تريد أن تشتري شيئاً جديداً اذهب وابحث عن مسجدٍ لا يوجد فيه مكيف واشتر له.
أما أن تأتي إلى هذا المسجد المسبلة فيه هذه الأوقاف وتتصرف فيها بهذا فلا.
ثانياً: الصرف إلى الجهات الخيرية الأخرى، هذا أمر استثناه بعض العلماء في مسائل ضيقه تحتاج إلى حكم القاضي، إذا تعطلت مصلحة الوقف في جهة من أوجه الخير، ولها جهة تشبهها صرفت إليه، وهذه المسألة اختارها بعض العلماء، وبعض العلماء يقول: لا يصرف إليه، بل يبقى حتى ولو تعطلت مصالحه لأننا لا نملكه، ولا يملك أحد التصرف فيه، واختاره جمع من المحققين كـ شيخ الإسلام في أكثر من مسألة، أنه إذا تعطلت مصلحة الوقف أو كان الوقف على محرم صرف إلى الأشبه، مثلاً لو أوقف على بدعة أو ضلالة صرف إلى طلاب العلم؛ لأنه لما أوقف على البدعة كان يظنها قربة، فننظر إلى الشيء المثيل لها في الذكر ونصرفه إلى طلاب العلم، حتى تصرف في وجهها المعتبر، هذا يختاره بعض العلماء؛ لأن الإعمال أولى من الإهمال؛ فبدلاً من تعطيل الوقف وإهماله يعمل أفضل من أن يكون باطلاً من أصله ولا يعمل.
على كل حال من حيث الأصل أوصي الإخوان ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأوصي الأئمة وجيران المسجد أن يتقوا الله في مصالح المسجد الموقوفة عليه، وأن يجتنبوا الأمور المبالغ فيها، فالبعض يظن أنه يتقرب بهذا إلى الله عز وجل حينما يقول: نكيف بيت الله عز وجل، وإذا ما أصلحنا بيت الله فما نصلح وكذا.
لا يعمر المسجد شيء مثل ذكر الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، أول ما ذكره الله عز وجل الذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والتواد والتعاطف والتراحم، لا تعمر المسجد بشيء أعظم من الإيمان بالله عز وجل.
وإذا أردت أن تكون من عمار المسجد حقيقةً فانظر إلى أمرين اثنين هما أساس بناء المساجد، أولاً: أنك إذا دخلت المسجد تدخل بتوحيد الله حتى تخرج منه وفي نفسك من الإيمان حينما خرجت أعظم وأسمى منها يوم دخلت، فإذا فعلت ذلك فوالله قد عمرت بيت الله عز وجل وجزيت خيراً على ما صنعت، ولن يضع الله أجر من أحسن، فمن أخلص بالتوحيد، هذا أول شيء تعمر به المسجد.
ثانياً: تعمر المسجد بحقوق إخوانك المسلمين، إذا أصبحت مساجدنا مزينة منمقة جميلة، وأصبح الرجل يدخل المسجد ويخرج من المسجد ولم يصافح أخاً له مسلماً، وإذا أصبحت مساجدنا جميلة منمقة ويجلس الإنسان في المسجد ساعات، وهو لم يتعرف على أخٍ مسلم، ولم يدخل سروراً على أخٍ له مسلم، فأين عمارة المساجد؟ إن الله عز وجل يجمعنا في اليوم خمس مرات على مستوى الحي، ويجمعنا في الجمعة من خارج المدينة مع من يأتي من أهل البادية لكي يتعرفوا على الحاضرة، ثم يجمع الأمة الإسلامية من مشارق الأرض ومغاربها في العام مرة واحدة في الحج، فإذا كانت المساجد تسري على هذه الأهداف السامية والغايات النبيلة؛ عمرت وازدانت وجملت، وازدانت بعظيم الحسنات.
كيف تعمر المسجد لما يكون الفقير إذا دخل إلى المسجد وجد من يواسيه ويكفكف دمعته، ويقضي حاجته، ويبدد بإذن الله همه وغمه وكربه أحب المسجد وأحب بيت الله، وعرف بركة الطاعة والخير، وإذا أصبح كبير السن يدخل للمسجد فيجد صغار المسلمين يقبلون رأسه ويجلونه ويحبونه ويكرمونه ويدخلون السرور عليه حتى نسي همه وغمه، وعاش بكرب من فراق إخوانه وأقرانه، فوجد من إخوانه المصلين الراكعين الساجدين من يتبسم في وجهه، فيمسح عنه دمعته، ويجلي عنه همه وغمه بإذن الله عز وجل حتى أصبح يعود إلى المسجد، حتى إن الرجل تجده من أشد الناس مرضاً وسقماً، لكن إذا قيل له: تذهب إلى المسجد، يفرح وينتشي؛ مما يرى فيه من وجوه الخير وأخلاق الإسلام السامية والكاملة، لكن إذا أصبح يدخل المسجد ويخرج ولا يرى أخاً ولا صديقاً، وإخوانه ذهبوا، وأصبح الناس ينظرون إليه وكأنه كَلٌّ على غيره، يحمل ويوضع، ولا يجد عطفاً ولا رحمة ولا شفقة، فعندها يمل من المسجد -أستغفر الله العظيم- أو يأخذ برخصة الله عز وجل ويقبع في بيته، ويقول: حتى لا تشمت بي الأعداء، وكأنه ينظر إلى الناس كأنهم أعداء.
فهذه هي الأمور التي تعمر بها المساجد، لا تعمر بالقيل والقال، ولا بأمور الدنيا ولا بزينتها، فوالله ما كانت مساجد رسولنا صلى الله عليه وسلم مضاءة إلا بأنوار التنزيل، وهذا لا يعني أننا نترك متاع الدنيا وزينتها، بل نقول: لا مانع أن يوجد الخير وأن تزين المساجد، لكن شريطة ألا تكون فيها الزينة التي تلهي عن ذكر الله.
لكن لو بنى مسجداً وأحسن بناءه فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة).
كما في الحديث الصحيح، والقطاة: طائر معروف، وهو طائر صغير لا يذكر.
فانظر كيف أحب الله عمارة بيوته، فمن عمر هذه المساجد بنى الله له قصراً في الجنة، فنحن لا نقلل من بناء المساجد، ولكن نقول: بشرط ألا يكون على حساب حقوق الناس أو على حساب الأصول الشرعية المراعاة في الأوقاف، خاصةً إذا كان إمام المسجد يسحب المكيف من المسجد لأجل أن يجعله له، هذا لا يمكن، لأن النفع للجماعة ليس كالنفع للفرد، وهذه الأمور كلها ينبغي أن يجتنبها الإنسان تحصيلاً للأصول العامة المعتبرة في الأوقاف، والله تعالى أعلم.(339/17)
الوقت الذي تستباح به رخص السفر للمسافر
السؤال
من كان مقيماً وأراد السفر وقت الظهر، فهل يجوز له أن يصلي العصر قصراً؟
الجواب
رخص السفر لا تستباح إلا بعد خروجك من آخر عمران المدينة، فإذا أذن الظهر وأنت في بيتك وعندك نية للسفر، فلا عبرة بالنية؛ لأن الله يقول: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]، فلابد وأن تكون على سفر، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر) أي: في حال الحضر، فأنت في حال الحضر ولست في حال السفر.
ومن هنا يجب أن يكون العمل بهذه الرخص بعد ثبوت حججها، والموجب أن تكون على السفر، ولا توصف بأنك على سفر إلا إذا اجتمع فيك الظاهر والباطن.
وبعض الفقهاء ينظر إلى الباطن ويغفل الظاهر، فيقول: أنت عندك نية، وهذا يكفي، وبعض العلماء يقول: لابد من النية مع الظاهر، لتعلق العبادة بهما، وهذا هو الصحيح، ولذلك لا تترخص بالجمع ولا بالقصر إلا بعد الخروج من العُمران، لكن لو أذن المؤذن وأنت لم تخرج من آخر بيتٍ من المدينة؛ فإنه يجب عليك أن تصلي الظهر أربعاً والعصر أربعاً والعشاء أربعاً، لكن لو خرجت وبعد مجاوزتك لآخر بيت في المدينة أذن المؤذن صليت الظهر ركعتين والعصر والعشاء ركعتين ركعتين لأنك على سفر.
فالسبب أنه لو أذن الظهر وعندك نية للسفر ولم تخرج من المدينة، فقد توجه عليك الخطاب بأربع ركعات ولم يتوجه بركعتين، لأنك في الحضر ولست في السفر، ولذلك قالت: (فأقرت في السفر وزيدت في الحضر) ولما قالت: أقرت في السفر، ليس من الصواب أن ننظر إلى الباطن ونلغي الظاهر، وحديث: (إنما الأعمال بالنيات) مقيد بالظاهر؛ لأنه قال: (على سفر) لذلك لا ينظر إلى حال الإنسان إلا إذا اجتمع فيه الظاهر والباطن.
وهذا مذهب الجمهور عملاً بالسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لحجة الوداع وغيرها من أسفاره صلى الظهر بالمدينة أربعاً والعصر في ذي الحليفة ركعتين، مع أنه كانت عنده نية للسفر في نفس اليوم، وما ورد عن بعض الصحابة من أنهم كانوا يفطرون وهم في داخل المدينة فقد كانوا يجتهدون مثل عدي بن حاتم لما وضع العقالة، فكان هذا فهمه، لكن ظاهر السنة والفقه بالتحري كما هو مذهب الجمهور والأئمة أنه لابد من وجود الظاهر والباطن في رخص السفر، {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184].
ولما قال: (على سفر) كان له معنى في اللغة، وهذا أبلغ من قول من يقول من العلماء: ومن كان منكم مريضاً أو مسافراً، وإنما قال: (على سفر)، وهذا يدل على أن حالته حالة سفر، ومن هنا ظاهر القرآن أسعد بالقول بوجود الظاهر والباطن من أجل الحكم برخص السفر، فيخرج من آخر العمران في المدينة وحينئذ يحكم بكونه مصلياً صلاة المسافرِ أو صلاة المقيم على حسب الخروج وعدمه.
والله تعالى أعلم.(339/18)
الجمع بين لغو اليمين وإنشائه
السؤال
كيف يجمع بين قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225]، وقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، أثابكم الله؟
الجواب
لغو اليمين مختلف في تفسيره، قال بعض العلماء: أن يحلف على الشيء يظنه صواباً فيتبين أنه غيره، فهو لغوٌ أي: لا كفارة فيه.
وهذا مأثور عن ابن عباس رضي الله عنه، كأن ترى رجلاً من بعيد، فتقول: هذا محمد، فقال لك قائل: لا، هو علي.
تقول: والله إنه محمد، فأنت حلفت على شيء تظنه بغلبة الظن، والحالف على غلبة الظن إن تبين خطؤه كان قوله لغواً لا كفارة فيه.
فقوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225] أي: مؤاخذة التكفير، هذا على التفسير بأنه يحلف على شيء يظنه.
فآية المائدة في قوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225] من جهة إيجاب الكفارة بضمان حق الله عز وجل.
أما قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، فمن جهة الحلف نفسه، وإنشاء اليمين، يعني: أن الإنسان لا يحلف كثيراً بالله عز وجل، وهذا من باب تعظيم الله عز وجل، ولذلك كان بعض السلف يتقي الحلف بالله عز وجل باراً أو غير بار.
وابن عمر رضي الله عنهما لما اختصم مع الرجل في عبدٍ من عبيده باعه، فادعى الرجل أن فيه عيباً واختصما إلى عثمان رضي الله عنه، فقال للرجل: هل عندك بينة؟ قال: ما عندي بينة، فقال لـ ابن عمر أن يحلف، قال له ابن عمر: لا أحلف، ولكن أرد العبد وأعطيه المال.
كل هذا من باب تعظيم الله عز وجل، لا يريد أن يحلف بالله عز وجل، فلما رد العبد باعه بأضعاف قيمته بعد ذلك، فعوضه الله خيراً مما ترك، وهذا من تعظيم الله؛ لأنه لا يعامل أحدٌ ربه إلا كان له الخير في دينه ودنياه وآخرته.
فقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] هذا المراد به الإكثار من حلف اليمين، والنهي عن الإكثار منها، هذا في الإنشاء والثاني في الأثر، وحينئذ فلا تعارض.
يعني تقول: نجمع بين الآيتين إذا وجد تعارض، لكن إذا كانت إحدى الآيتين في شيء والآية الأخرى في شيء آخر فلا تعارض بينهما أصلاً، ولا يجمع بين شيئين مفترقين، وبناء على ذلك لا تعارض بينهما من هذين الوجهين.
والله تعالى أعلم.(339/19)
حكم إهداء العامل من أملاك سيده
السؤال
عاملٌ يعمل في دكان سيده، فهل يجوز له أن يهدي من هذا المحل، وهل يجوز لي أن آخذ من هذه الهدية، أثابكم الله؟
الجواب
العامل ليس ملكاً لصاحب الدكان، وإنما بينهما عقد إجارة، فينبغي دائماً أن يعلم الإنسان أن المسلم ليس بالرخيص، ولا بالهين، لا للونه ولا لحسبه ولا لنسبه، ويعلم أن الإسلام شيء كبير، وأن للناس حقوقاً في أعراضهم وكرامتهم، ولا تحسبن أعراض الناس سهله؛ أو أن الناس إذا كانوا غرباء أو ضعفاء فليس لهم حقوق، بل اعلم أن الإسلام قد سوى بينك وبينه، عاملاً أو غير عامل، ولو كان فقيراً فقراً مدقعاً.
ولذلك جبلة بن الأيهم لما كان يطوف، فوطأ الأعرابي طرف إزاره فسقط الإزار، فلطم جبلة الأعرابي في داخل المطاف، فاختصما إلى عمر رضي الله عنه، فقال لـ جبلة: كتاب الله القصاص، يلطمك مثلما لطمته، فقال: يلطمني هذا الأعرابي؟ قال: نعم، يلطمك كما لطمته، فإن الإسلام قد سوى بينك وبينه، وكان من ملوك العجم، من أصحاب العزة والمكانة في الروم، فقال له: أنظرني ليلتي.
وهذه من قصص العبر التي ذكرت في التاريخ الإسلامي.
وأنبه على أنه كان من منهج العلماء أنهم لا يطبقون عليها موازين الجرح والتعديل، والآن كل يوم يأتي من يقول: هذه قصة لا تثبت.
هذه القصص التي تقال للاعتبار، كما قال الإمام أحمد: كنا إذا ذكرنا التاريخ تساهلنا، وتجد اليوم من يقولون: لا تثبت، فيطعنون فيها، حتى أنك تجد مبتدئين من الطلاب حينما يمسك (البداية والنهاية) لـ ابن كثير يهينها وينقص من مكانتها، لأنه سمع أن فيها قصصاً لا تثبت، ولما يحضر للشيخ محاضرة ويسمع عنده قصة لا تثبت، يسقط الشيخ من نظره، فهم يفسدون أكثر مما يصلحون، موازين الجرح والتعديل معروفة أين تطبق، لذلك ما وجدنا الحافظ ابن كثير والأئمة والعلماء يشتغلون بنقد مثل هذه القصص، ويخرجون قصصاً لا تثبت في أشياء يقصد منها الاتعاظ والعبرة.
الشاهد أنه لطمه لطمة، فقال له: أيلطمني هذا الأعرابي، قال: إن الإسلام قد سوى بينك وبينه.
ولو كنت في أعز الناس فأنت معه في الإسلام في قدم واحدة ومكانة واحدة.
قال: دعني أنظر ليلتي.
ثم إنه ارتد، كما جاء في الخبر أنه انسحب بمن معه وارتد، وكل هذا من أجل عزة الإسلام.
ولما وقعت قصة القبطي مع ابن لـ عمرو بن العاص، لما قال: خذها وأنا ابن الأكرمين، أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص أن يوافيه الموسم ومعه ابنه، فلما جاءه وقدم عليه، قال: هذا الذي ضربك؟ قال: نعم، قال: دونك فاضربه، فقام وضرب ابن عمرو كما ضربه، فقال عمرو بن العاص: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: وجهها على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين! أما أنا فقد ضربت من ضربني، فقال عمر رضي الله عنه مقالته المشهورة: يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً! فالإسلام سوى بين الناس، فلا يظن أحد أنه إن كان عنده عامل أو أجير أنه قد ذهب حقه وقدره؛ لأنه يعمل، ووالله إنه في قمة الشرف ما دام أنه تغرب للقمة العيش التي يريد بها أن يعف بطنه وأهله وولده وزوجه، وأيضاً يريح نفسه من ذل السؤال، فهذا كريم شريف عزيزٌ جداً، ولذلك لا يحق لك أن تصف صاحب العمل بأنه سيد له، لا والله فالسيد هو الله، وهو رب كل شيء ومالكه، وهو العزيز الذي ذل له كل عزيز، سبحانه وتعالى، فهذا أمر مهم جداً، وينبغي على طلاب العلم والأخيار ألا تأخذهم سفاسف الناس ومحقراتهم فيخاطبوا الناس بمثل هذه العبارات.
فينبغي أن تحفظ للناس حقوقهم وكرامتهم، وأن لا ينظر إلى الناس بألوانهم وأحسابهم، ولا بحوائجهم وضعفهم.
كما قال صلى الله عليه وسلم ينبه الأمة: (رب أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع على الأبواب، لو أقسم على الله لأبره) فلو قصد السائل بقوله: (سيده) يعني: صاحب الدكان، فهذا ممكن، لقوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] وهي زوجة، والسيد في لغة العرب يطلق بمعنى صاحب الشأن، ومن هنا تجد بعض الناس يقول لك: يا سيدي، وليس قصده أنك سيد له، ولذلك تجد في كل بيئة كلمة لا يراد بها حقيقتها، وعندنا ينتشر كلمة: (يا شيخ) مع أن كلمة (شيخ) إجلال، وكذلك كلمة: (سيد) إجلال، لكن لا يقصد منها المعنى، فإذا قصد السيد بهذا بمعنى صاحب الشأن فلا بأس.
على كل حال: إذا كان العامل يهدي من ماله، وكانت الهدية قليلة لا تضر بالمال كتب الله له أجرين، أجراً للمهدي وكتب لصاحب المال أجره، والأفضل أن يستأذن صاحب المال، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا، إذا كان عبداً كما في الموالي، وكان أجيراً وأعطى دون أن يضر؛ فهذا استثناه العلماء، وخاصة إذا جرى بهذا العرف.
مثال: جرى العرف أنه إذا اشترى شيئاً أعطى هدية منها لغيره، وجرى هذا العرف بين الناس من باب الإحسان والكرم، فلا بأس إذا أعطاه هذا الشيء، فإذا أعطى العامل في الدكان هذا الشيء كتب الله له الأجر، وكتب لصاحب الدكان أجره، فله مثل أجر صاحب الدكان؛ لأنه أعطى وبذل ويده يد إعطاء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمره به سيده) يعني لأنهم كانوا عبيداً وموالي (له مثل أجر صاحبه)، فهذا كرم من الله وفضل.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بفضله وإحسانه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(339/20)
شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [3]
من موجبات النفقة على شخص أن يكون المنفق من الوارثين، وتكون هذه النفقة بقدر ما يستحق من الميراث، ومن وجبت عليه نفقة شخص وجبت عليه نفقة من يعول؛ ولا نفقة عند اختلاف الدين إلا بالولاء أو الوالدين.
وتلزم الوالد نفقة ولده، ومن ذلك أجر المرضعة، ولو طلبت أمه إرضاعه بأجرة المثل فلها ذلك، ولا يصح منعها لأنها أولى به.(340/1)
إذا كان القريب الحاجب معسراً والمحجوب موسراً لم تجب النفقة على أحدهما
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن له ابن فقير وأخ موسر؛ فلا نفقة له عليهما].
تقدم أن الوارث يقوم بالنفقة على قريبه، وأن الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أقوى القولين عند أهل العلم رحمهم الله: أن النفقة تكون مقدرة على حسب الإرث، وأن هذا متفق مع أصول الشريعة؛ لأن الغنم بالغرم، فكما أنه ينال من مورثه قدر تلك الحصة فينبغي أن يتحمل من نفقته قدرها، والوارث له حالتان: الحالة الأولى: أن يرث فرضاً أو تعصيباً.
والحالة الثانية: أن يكون محجوباً.
وبناءً على ذلك شرع المصنف رحمه الله في تفصيل الحكم بكون الوارث ينفق على قريبه على حسب الميراث؛ إذ يتفرع على هذا الحكم أنه لو اجتمع شخصان أحدهما يحجب الآخر، فهل تجب النفقة عليهما بناءً على أنهما من الورثة من حيث الوصف العام، أم أننا نطبق قواعد الإرث ونقول: يحجب الأقرب الأبعد، فتجب النفقة على الأقرب ولا تجب على الأبعد؟ والثاني هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، واستثنينا من هذا عمودي النسب، وبيّنا وجه الاستثناء وذلك في مسألة الجدة.
وبيّن رحمه الله مثالاً على القريب الذي يحجب قريبه، فقال: [فإن كان له ابن فقير وأخ موسر] فاجتمع اثنان من الورثة أحدهما الابن والثاني الأخ، وكلٌ من الابن والأخ ميراثه بالتعصيب.
لأن الإرث ينقسم إلى فرض وتعصيب، فأصحاب الفروض فروضهم مقدرة في كتاب الله عز وجل، وهي الستة الفروض المنصوص عليها: النصف، ونصفه وهو الربع، ونصف نصفه وهو الثمن، والثلثان، ونصفهما وهو الثلث، ونصف نصفهما وهو السدس، فمن كان يرث فرضاً وله النصف يتحمل نصف النفقة، فلو كان هناك فقير وله وارث وجبت النفقة على هذا الوارث، وإذا كان يرث النصف فإنه يجب عليه أن ينفق عليه نصف نفقته، ولو كان له وارث يرث الربع فكذلك، ولو كان له وارث يرث الثلثين أو الثلث أو السدس فكذلك، وقد تقدم ذلك في مسألة الجدة.
واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما فالفرض في نص الكتاب سته لا فرض في الإرث سواهما البته نصف، وربع ثم نصف الربع والثلث والسدس بنص الشرع والثلثان وهما التمام فاحفظ فكل حافظ إمام هذا بالنسبة للفروض المقدرة، نجعل وجوب النفقة فيها على حسب قدر الإرث.
وإذا كان تعصيباً يأخذ الباقي، إن كان معه ذو فرض حكمنا بوجوب النفقة عليه على قدر حصة ذي الفرض، ثم الباقي وهو الواجب بعد الفرض يكون للعصبة.
فالأخ والابن من العصبة، والابن لو انفرد أخذ المال كله، والأخ لو انفرد أخذ المال كاملاً كما هو معلوم، فلو اجتمع ابن وأخ، وكان الابن فقيراً والأخ موسراً، ف
السؤال
أن الأخ لا يرث مع وجود الابن، والأصل في النفقة أنها واجبة على الابن؛ لأن الابن يحجب الأخ.
فالذين يرثون بالتعصيب العصبة من جهة الأصول وفروع الأصول، وأيضاً تكون من جهة الفروع، والعاصب يكون الأب وأباه وإن علا، والأخ الشقيق والأخ لأب، وابن الأخ الشقيق وابن الأخ لأب، والعم الشقيق والعم لأب، وابن العم الشقيق وابن العم لأب، فهؤلاء هم عصبة الإنسان القرابة الذين لو انفرد أحدهم أخذ المال كله، فلو مات ولم يترك إلا ابن عم شقيق فإنه يأخذ المال كله، فلو افتقر وليس له إلا ابن عم شقيق أوجبنا عليه جميع النفقة؛ لأنه عاصب لو انفرد أخذ المال كله.
حتى لو اجتمع العصبة مع الغير مثل الابن مع البنت، فلو أن والداً افتقر وعنده ابن وبنت، فمذهب الحنابلة رحمهم الله أنه لو افتقر الأب وعنده بنت وابن ويحتاج إلى ثلاثين ريالاً، أوجبنا على الابن العشرين وعلى البنت العشرة، على قدر حصصهم من الإرث.
وهناك مذهب يقول: إنه لا تجب على البنت النفقة، وإذا اجتمع الذكر والأنثى غُلب جانب الذكر، وهذا لحكمة من الله عز وجل، أن جعل الكسب والنفقة في الأصل واجباً على الذكور، وهذا هو أحد الأوجه عند الشافعي رحمه الله، لكن الصحيح أن الله تعالى قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] فأوجب نفقة الرضيع على الوارث، وجعل صفة الميراث مؤثرة في الإيجاب فقال: (وَعَلَى الْوَارِثِ)، فإذا كان الأمر كذلك وجب أن نجعل نصيب الوارث في النفقة على قدر نصيبه من الإرث.
في مسألتنا هنا مثل المصنف رحمه الله بمثال، وهو: أن يجتمع اثنان من الورثة كلٌ منهما لو انفرد لوجبت عليه النفقة كاملة وهما الابن والأخ، وكلٌ منهما لو انفرد لأخذ المال كله، فلو مات وليس له إلا ابن ذكر فإن الابن يأخذ المال كله تعصيباً، ولو مات وليس له إلا أخ فإنه يأخذ المال كله تعصيباً، هنا يرد السؤال: إذا كان الابن -وهو الأقرب- معسراً وليس عنده قدرة على النفقة، والأخ -وهو الأبعد- موسراً وعنده قدرة على النفقة، فعلى من تكون نفقة الرجل؟ إذا طبقت أصول الميراث فإن الابن يمنع الأخ من الميراث الذي يسمى في مصطلح الفرائض بالحجب، والحجب حجب نقصان وحجب حرمان، فحجب النقصان مثل الابن يحجب الزوجة حجب نقصان فيجعلها بدل أن تأخذ الربع تأخذ الثمن، لكن لا يحجبها بالكلية، وحجب الحرمان يمنع الوارث غيره بالكلية فلا يرث، والحجب بين الابن والأخ من حجب الحرمان؛ لأن العصبة تقدم بالجهة ثم القرب ثم القوة.
فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا فالعصبة يقدمون على هذا الترتيب، فالابن لو اجتمع مع الإخوة الأشقاء أو الإخوة لأب حجبهم حجب حرمان، وهنا النفقة واجبة في الأصل على الابن، ووجوده يمنع إرث الأخ فيسقط النفقة عن الأخ، فبعض العلماء يقول: ما دام أنه فقير ينتقل الحكم إلى الأخ؛ لأنه موسر، ويكون وجود الابن وعدمه على حد سواء.
وفي الأصول الشرعية أنك إذا اعتبرت أصول الميراث فإنه يسقط وجوب النفقة عن الأخ لوجود الابن، ويسقط وجوب النفقة على الابن لكونه معسراً، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقد ذكرنا أننا لا نحكم بوجوب النفقة على القريب إلا إذا كان قادراً، والابن غير قادر فتسقط النفقة عنه وعن الأخ.
وفي هذا الحال إذا سقطت عن الوارث فإنها تنتقل إلى بيت مال المسلمين على تفصيل آخر، لكن من حيث الأصل فإن المصنف قصد من هذا المثال أن يبين أنه إذا اجتمع الوارثان وأحدهما يحجب الآخر، وكان الحاجب لم يتوفر فيه شرط وجوب النفقة سقطت النفقة عنهما: سقطت عن القريب الأقرب لكونه معسراً ولعدم تحقق الشرط فيه، وسقطت عن الأبعد لوجود الأقرب.(340/2)
وجوب النفقة على الجدة إن أعسرت الأم
قال رحمه الله: [ومن أمه فقيرة وجدته موسرة؛ فنفقته على الجدة].
هذا من باب أنه يستثنى عموداً النسب؛ لأن النفقة متأصلة فيهما، فنفقة الفرع لازمة على الأصول، وقد بينا هذا وبينا دليله وإجماع العلماء على أن الولد يجب على والده أن ينفق عليه.
في المثال السابق حجب الابن الأخ، وهنا الأم تحجب الجدة؛ لأن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة إن وجدت، والجدة تدلي بواسطة الأم، والأم تحجب الجدة بالإجماع، وبناءً على ذلك لو كانت الأم فقيرة والجدة موسرة فنقول: ينتقل وجوب النفقة إلى الجدة، وهذا مستثنى من الأصل الذي ذكرناه؛ لأن عمودي النسب تجب عليهم النفقة على الأصل الذي ذكرناه، وهذا خاص بعمودي النسب، فيجب على الجدة أن تنفق على ذلك الولد.(340/3)
النفقة على القريب المعسر وعلى من تلزمه نفقته
قال رحمه الله: [ومن عليه نفقة زيد؛ فعليه نفقة زوجته].
قرر رحمه الله النفقة، وبين على من تجب، وشرط وجوبها، وبيَّن إذا كانت تجب على الوارث ما الحكم عند ازدحامهم وحصول حجب من بعضهم لبعض.
ثم شرع رحمه الله في مسألة تنبني على مسألة النفقة، وهذا كما ذكرنا من التسلسل في الأفكار والترتيب المنطقي، فإن الفقه الإسلامي يمتاز بالشمولية؛ وهو أنه لا يقتصر على بيان الأصول، بل يبين الفروع المبنية على الأصول، فالسؤال الآن: إذا وجبت النفقة على الوارث لوجود السبب الموجب في المورث الذي ينفق عليه وهو عجزه، فهل يختص إنفاقه على ذلك القريب نفسه فقط، أم أنه يلتحق بهذا القريب من لزمته نفقته وحاجته اللازمة الضرورية؟ هذه المسألة مفرعة على الأصل الذي ذكرناه: هل أنت مطالب بالنفقة على القريب؟ لو فرضنا وجود شخص مات وترك ابناً رضيعاً، وهذا الابن الرضيع ليس له وارث غير فلان فأوجبنا النفقة عليه، لكنه يحتاج إلى مرضعة، فهل نقول: يجب عليك أن تنفق على المرضعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]؟ فهذا والد الطفل أوجب الله عليه النفقة، ثم بين حال موت الوالد فقال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه إذا مات شخص وله قرابة وترك أولاداً واحتاجوا إلى النفقة عليهم والاسترضاع لهم؛ وجبت نفقة الرضاعة على القريب الوارث، فإذا كانت نفقة المرضعة واجبة على القريب؛ فهذا تنبيه من الشرع أن الأشياء اللازمة لهذا القريب الذي تنفق عليه لازمة عليك أيضاً بالتبع، ولا يقتصر الأمر على أن تنفق عليه فقط، بل إن من يعول ومن تلزمه نفقته يجب عليك أن تنفق عليهم بالمعروف، وهذا لأن الآية نصت على وجوب الاسترضاع على الوارث، مع أن الأصل يقتضي أن ننفق عليه.
قال رحمه الله: [ومن عليه نفقة زيد فعليه نفقة زوجته كظئر لحولين].
إذا كان هناك شخصان بينهما قرابة موجبة للنفقة، فالأصل يقتضي أن ينفق أحدهما على الآخر إذا كان معسراً، فلو كانت عنده زوجة وأولاد واحتاجوا للنفقة، فإنه ينفق عليهم أيضاً إذا كان ماله يسع ذلك، وقد ذكر المصنف رحمه الله في الأصل هذا فقال: [كالظئر].
أي: وذلك كما أن الله أوجب علينا أن ننفق على الرضيع نفقة إرضاعه فقال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] فأوجب على الوارث أن يعطي نفقة المرضعة، وهذا يقول به بعض العلماء، ويرى أنه يجب عليه أن ينفق على زوجه؛ ولأنه لو أنفق عليه ولم ينفق على زوجه لم يقم بحاجته ولم يسد له الحاجة، ولذلك فهو يحتاج النفقة عليه وعلى من تلزمه نفقته.
قوله: (كالظئر لحولين) فائدة المتون اختصار المسائل وإدخال بعضها على بعض، والتنبيه على الفروع المبنية على الأصول، والتنبيه على الأصول التي ينبني عليها غيرها، ومن هنا تظهر قوة العالم والفقيه في صياغة المتن، والبعض لا يحسن فهم مقصود العلماء من هذه المتون، ولذلك يقول: إنها تخلو من الأدلة.
والمراد من هذه المتون صياغة الأحكام المستنبطة من الأدلة؛ أما الأدلة فلها كتب متخصصة، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، ولذلك لما قال: (كالظئر) أشار إلى الأصل الذي بُني الدليل عليه، وهو النفقة على المرضع؛ فإن الله عز وجل أوجب على الوارث أن ينفق على المرضعة، فإذا نظر الفقيه في ذلك فهم أن الواجب أن تنفق على الرضيع، لكن لما كان ذلك لازماً له وضرورياً صار كالنفقة عليه.
وأجاب بعض العلماء عن هذا الدليل وقال: إن الأصل أن تنفق بالطعام والكسوة، والاسترضاع نوع من الطعام، فهو لم يخرج عن الأصل، فأوجب النفقة عليك بالنسبة للقريب فقط، وأما من تلزمه نفقته فلا يوجب عليك نفقته، هذا اختيار بعض العلماء رحمهم الله، وهو من حيث الأصل أقوى، يعني: لا شك أن الأصل أن الواجب أن تنفق على الشخص نفسه.(340/4)
لا نفقة مع اختلاف دين إلا بالولاء
قال رحمه الله: [ولا نفقة مع اختلاف دين إلا بالولاء].
هذا الحكم وهذه المسألة نحتاجها بين المسلمين وغير المسلمين، كما كان يقع في البلدان الإسلامية، حيث يكون أهل الذمة فيسلم الذمي وقرابته تحت حكم الإسلام ويكون فقيراً، فلا نوجب نفقة مع اختلاف الدين، وتجب نفقة هذا المسلم الذي ليس له قريب مسلم من بيت مال المسلمين، ويصبح المسلمون هم أولياءه الذين ينفقون عليه، كما أنه لو مات ورثه بيت مال المسلمين.
وهكذا تصان الحقوق في الإسلام، فليست بالدعاوى ولا بالتشهي ولا بالتمني، ولكنها حقائق مبنية على أصول، هذا مع أنه كان كافراً ثم أسلم ودخل بين المسلمين، فصار منهم وأخذ حكمهم وكأنه لبنة من هذا البناء له ما لهم وعليه ما عليهم، فيكون معهم كالجسد الواحد، فلو أنه افتقر أنفقوا عليه، ولو أنه مات وعنده مال رد إلى بيت مال المسلمين.
لا يجب الإنفاق بين المسلم والكافر، ولو أن هذا الذي أسلم له قرابة كفار تحت حكم الإسلام كالذميين، فلما أسلم افتقروا وقالوا: هذا قريبنا فلينفق علينا، فلا يحكم المسلمون لهم بالنفقة، ويقولون: اختلاف الدين يمنع من وجوب النفقة؛ لأن اختلاف الدين يمنع من الإرث؛ لأن من موانع الإرث اختلاف الدين؛ فلا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له: (أين تنزل غداً؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من دار؟)، وهذا الحديث أصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا قرابته للإسلام، وأبى من أبى منهم، بقي عقيل وتأخر إسلامه، فورث الكفار من قرابته، وأخذ هذه الأموال وباعها، ثم أسلم عقيل فحاز خير الدين والدنيا، ولم يرث النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء القرابة الكفار.
وفي الحديث الصحيح أنه قال: (لا يرث المسلم الكافر) فلا توارث بين المسلمين والكفار، لذلك يعتبر من موانع الإرث اختلاف الدين، قال الناظم: ويمنع الشخص من الميراث واحدة من علل ثلاث رق وقتل واختلاف دين فافهم فليس الشك كاليقين فاختلاف الدين يمنع الإرث والنفقة، لكن يستثنى من ذلك نوعان: النوع الأول: الولاء، فإن الرقيق ينفق عليه مولاه ولو اختلف الدين، والأصل فيه حديث الدارقطني؛ استثنى الرقيق بوجوب النفقة ولو كان كافراً؛ لأنه معلوم أن السبب هنا بين السيد وعبده ليس كالسبب بين القريب وقريبه، ولذلك استثني.
النوع الثاني: الوالدان، لو كان له والدان كافران هل ينفق عليهما أولا ينفق؟ الصحيح أنه يجب عليه أن ينفق على والديه الكافرين، وهو اختيار مذهب الشافعية وطائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأن النصوص التي وردت بالأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما نزلت في الكفار: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] وليس من المعروف أن يكون غنياً ووالداه محتاجين فقيرين ولا ينفق عليهما، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء أن تحسن إلى أمها وأن تبرها.
فالوالدان يستثنيان من هذا، فيجب على الولد أن ينفق على والديه ولو كانا كافرين؛ لأن النصوص وردت في الكفار، وهما مستثنيان من الأصل الذي ذكرناه.
وبناءً على ذلك نقول: الوارث والقريب من غير الوالدين أوجبنا النفقة عليه لقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] لكن الوالدين استثنيا من هذا، ولذلك يجب على الوالد لو انفرد تحمل النفقة كاملة، وكذلك أيضاً بالنسبة لوجود الكفر يجب عليه أن ينفق على والديه وأن يقوم بالإحسان إليهما: لأن النصوص التي أمرت بالإحسان إلى الوالدين في الأصل إنما نزلت في الكافرين.
ولأن الوالد ذكراً كان أو أنثى له حق عظيم وفضل كبير، والله عز وجل لم يمنع الولد من رد هذا الجميل والمعروف؛ لأنه أنفق عليه حتى كبر وشب.
فاستثني الوالدان لأمور: أولاً: لورود النصوص، وثانياً: لأن المعنى الموجود في الوالدين يخالف غير الوالدين من بقية الورثة.(340/5)
وجوب الاسترضاع وأجرته على الوالد
قال رحمه الله: [وعلى الأب أن يسترضع لولده ويؤدي الأجرة] بمعنى: أن على الوالد أن يطلب من يرضع ولده، وإذا طلب المرضعة فعليه أن ينفق عليها بالمعروف، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] فأمر الله عز وجل المولود له وهو الوالد أن يقوم على نفقة ولده، وأن يتعهد حاجته إلى الرضاعة بالاسترضاع.
فبين رحمه الله وجوب الاسترضاع على الوالد، وهذا مجمع عليه بين العلماء، لورود نص آية البقرة على وجوب الاسترضاع للولد، ولا يجوز للوالد أن يضيع ولده بحرمانه من الرضاعة؛ لأنه إذا حرم من الرضاعة فإنه يموت، وهنا ننبه على الوقت الذي يطلب فيه الوالد امرأة ترضع ولده.
إذا كانت الأم موجودة وقالت: أنا أرضع ولدي فلا إشكال، فهي أحق بإرضاع ولدها، لكن الإشكال إذا ماتت الأم أو طُلقت وتزوجت من الغير، أو تحولت عن البلد التي هي فيه، أو كانت مريضة لا تستطيع الإرضاع؛ فحينئذٍ لو ترك الولد سيموت؛ لأنه لابد له من الرضاعة، لينشز بها عظمه وينبت بها لحمه.
فإذا كان لابد له من الرضاعة فإن المسئول عن هذه الرضاعة في تكاليفها وطلب المرضعة هو الأب، فيجب عليه أن يطلب من يرضع هذا الصبي.
وفي هذه الحالة يجب عليه أن ينصح، فقد يجد من المرضعات من هي أقل ثمناً وأقل كلفة، ولكنها أضعف، وقد يضر لبنها الصبي؛ فلا يجوز له في هذه الحالة أن يغلب مصلحة المادة على مصلحة الصبي، كما هو موجود الآن في زماننا في شراء الحليب الذي يحتاجه الطفل، إذا كان نوعاً رديئاً ونوعاً جيداً فيجب عليه أن ينصح ويتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن هذه النفس المحرمة أمانة في عنقه، وهو مسئول أمام الله عز وجل عنها، فيسترضع المرأة التي يحسن رضاعها.
ولذلك كانوا يشددون في الرضاعة، وقد بينا في كتاب الرضاعة أن المرأة التي ترضع قد يفسد الولد بسبب لبنها من سوء أخلاقها، ولذلك نهى السلف كـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من الصحابة من الرضاعة من الفاجرات؛ لأن الأخلاق تعدي.
وينبغي عليه أن ينصح في هذه الرضاعة لعل الله أن يوفقه للقيام بحقه على أتم الوجوه {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] فأوجب على الوالد أن يدفع أجرة الرضاعة للمرضعة، وبين المصنف رحمه الله أن المسئول عن هذه النفقة هو الوالد.(340/6)
حق الأم في الرضاع
قال رحمه الله: [ولا يمنع أمه إرضاعه].
أي: ولا يمنع الوالد أم الولد من إرضاع الولد، فلو قالت الأم: أريد أن أرضع ولدي؛ فهي أحق به وأولى.
فلا يمنعها أن ترضع ولدها، ولو وجد الغير الذي سترضعه من قرابته أو من تتبرع ولو مجاناً، أو تزوج امرأة فقالت: أنا أرضع ولدك ولا أريد منك شيئاً، وقالت أم الولد: أنا أرضعه؛ فهي أحق وأولى ولا يمنعها إرضاع ولدها.(340/7)
حالات إلزام الأم إرضاع ولدها
قال رحمه الله: [ولا يلزمها إلا لضرورة كخوف تلفه].
أي: لا يجب على الأم أن ترضع ولدها إلا لضرورة، ومن أمثلة الضرورة: أن لا يقبل الولد ثدياً غير ثديها، بعض الأولاد تكون عندهم حساسية ولا يمكن أن يقبل غير ثدي أمه، وهذا من الله سبحانه وتعالى كما وقع لموسى عليه السلام: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12] فكلما جاءت امرأة لم يقبل ثديها.
فإذا امتنع ولم يقبل النساء الموجودات وقالت أمه: لا أرضعه، فطلبها زوجها الذي هو والد الطفل فقال: أرضعي ولدكِ واتقي الله في ولدكِ، فقالت: لن أرضعه، فهنا يجبرها القاضي على إرضاعه؛ لأن إنقاذ هذه النفس المحرمة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك قال: (ولا يلزمها إلا لضرورة)، وهي أن يمتنع الولد أو لا يوجد من يرضع هذا الصبي غير هذه الأم، فيجب عليها أن ترضع هذا الصبي.(340/8)
حكم طلب الأم أجرة إرضاع ولدها
قال رحمه الله: [ولها طلب أجرة المثل].
أي: من حقها أن تطلب أجرة مثلها، فإذا أرضعته حولين، نظرنا لو أن مرضعة أجنبية أرضعت هذا الولد كم ستأخذ في الحولين؟ فنعطيها أجرة المثل، فلو طلبت أكثر من أجرة المثل لم يجب على الوالد أن يعطيها تلك الأجرة، وإنما تتقدر الأجرة بالمعروف.
قال رحمه الله: [ولو أرضعه غيرها مجاناً].
أي: أنها أحق بإرضاع ولدها، ولو أرضع الولد غيرها مجاناً، ولها أن تطلب الأجرة، ولو وجد من يقول: أنا متبرع بإرضاعه؛ لأنه لا شك أن مصلحة الولد في الرضاعة من أمه أعظم، والأم أنصح لولدها وأكثر محافظة عليه، ولذلك هي أحق، وإذا كانت هي أحق فلو وجدت امرأة وقالت: أنا أرضع لك ولدك مجاناً والولد يقبل ثديها، فقالت الأم: أنا أريد أن أرضعه فهي أحق، ونقول للوالد: أنفق عليها بأجرة مثلها.
فلو قال: أنا عندي من يتبرع، نقول: وجود هذه المتبرعة لا يسقط حق الأم ولو طلبت الأجرة، ولذلك قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] فأمر الله عز وجل بإعطاء الأجرة للمرضعة، وقد صدر الآية بقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233]، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] فبين الله سبحانه وتعالى أن الوالدة ترضع ولدها وهي أحق للصفات التي فيها من كون لبنها أكثر نفعاً للولد واغتذاءً له، وكذلك هي أكثر نصحاً للولد وشفقة وعطفاً وإحساناً وبراً لولدها؛ فهذه كلها مصالح، فلذلك تقدم على غيرها.
وفي قوله: (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي في داخل مذهب الحنابلة، فهناك من العلماء من قال: نعطيها الأجرة بشرط أن لا يوجد من يتبرع مجاناً، فإذا وجد من يتبرع مجاناً فإننا نقول لها: إن شئت أن ترضعيه بدون مقابل فلك الحق في ولدكِ، فإن قالت: أنا أريد الأجرة صرف إلى غيرها وليست بأحق، والصحيح ما ذكرناه.
قال رحمه الله: [بائناً كانت أو تحته].
أي: سواء طلقها وبانت منه أو كانت تحته، فحتى لو كانت تحته ثم قالت له: أريد أن أرضعه وآخذ الأجرة، فإن الحكم لا يختلف باختلاف حال الأم، فسواء كانت تحت الزوج أو لم تكن فهي أحق وأولى بولدها ولها الأجرة إن طلبت، لا يختلف الحكم بين كونها تحت الزوج أو بائنة منه.(340/9)
حكم منع الزوج الثاني إرضاع ولد الأول
قال رحمه الله: [وإن تزوجت آخر فله منعها من إرضاع ولد الأول ما لم يضطر إليها].
أي: وإن تزوجت آخر فقال لها: ما أريدك أن ترضعي ولدكِ من فلان؛ لأن الرضاعة تضر بالمرأة، وتؤثر على صحتها، وتؤثر حتى على الاستمتاع بها، ومن هنا لا يتدخل الزوج الثاني في حق الأول إلا إذا حصل الضرر عليه.
وبعض العلماء قالوا: إنه ينتشي في ماء الثاني فيكون له الحق من هذا الوجه.
ولكن الأشبه: أن هذا يؤثر عليه ويؤثر على صحة المرأة، ولذلك خفف على المرأة المرضع في الصيام، وأخذت أحكام الرخص في مسائل، وهذا يدل على أن الرضاعة تؤثر، وإذا كانت تؤثر وأسقط الله بها الحقوق فكذلك أيضاً بالنسبة لحقوق المخلوقين، فإذا قال الزوج الثاني: لا ترضعيه، فحينئذٍ له حق المنع.
وإذا منعها نظرنا: فإن كان للصبي بديل صرف إلى البديل ولم تلزم الأم ولم يلزم الزوج، وإن كان لا بديل له فإنه يكون مضطراً ويسقط حق الزوج؛ لأن ضرر الابن أكبر، وهذا من باب المقارنة بين المفاسد؛ لأنه إذا تعارضت مفسدتان قُدمت المفسدة العظمى، فالطفل إذا لم يرتضع تضررت صحته وربما هلك، والزوج إذا أرضعت زوجته ضعفت مصلحته وصار النقص عليه نقص كمال في الاستمتاع، ونقص الضرورة المفضية إلى هلاك الأنفس فيه مفسدة فيه أعظم من نقص الكمال في الاستمتاع والشهوة، ولذلك يقدم حق الولد من هذا الوجه، فنقول: يجب عليكِ أن ترضعيه.
فلو قال الزوج: لا أسمح لها بذلك.
أُجبرت عليه وسقط حق الزوج، فلا تسمع له ولا تطيع؛ لأن هذا فيه إضرار بالنفس وتعريض لها للهلاك.(340/10)
الأسئلة(340/11)
حكم التضييق على الأهل للنفقة على المحتاجين
السؤال
من ضيق على أهله في النفقة لأجل ما يتعاهده من الصدقات وبذل الخير للمحتاجين، فهل يأثم في هذا التصرف، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمن ضيق على من تجب عليه نفقته ينقسم إلى قسمين: إما أن يضيق في الحق الواجب، وإما أن يضيق في الكمالات، فإن ضيق في الحق الواجب فهو آثم شرعاً، ولا يجوز للمسلم أن يمنع أولاده وزوجته من حقوقهم في النفقة بناءً على الصدقات والتبرعات للغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله الصحابي فقال: (عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي غيره، قال: أنفقه على أهلك) فهذا يدل على أن نفقة القريب أحق وأولى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثم أدناك أدناك) فيبدأ بالأقربين، وهم أولى وأحق، والنفقة عليهم واجبة، والنفقة على الغير إحسان وغير واجبة، فيقدم الواجب على غير الواجب.
أما إذا كان التقصير في الكمالات، بمعنى: أنه رأى الغير محتاجاً فصرف الكمالات لأولئك المحتاجين، فهل الأفضل أن يصرف الكمال للقريب ويدخل السرور على قريبه وأولاده، أم الأفضل أن ينفق على البعيد؟ هذه مسألة الذي يظهر فيها: أن الغريب إذا كانت النفقة عليه نفقة إنقاذ؛ بحيث إنه محتاج حاجة شديدة، فإن النفقة عليه أفضل من نفقة الكمال على القريب، والسبب في هذا: أنه ربما يكون الغريب محتاجاً حاجة قد يتعرض معها للحرام، فالمرأة قد تزني -والعياذ بالله- إذا افتقرت، والأولاد قد يضيعون، وربما هلكوا وماتوا من الجوع، فإذا كانت النفقة من هذا الجنس فهي الأفضل إن شاء الله؛ لأن جنسها في إنقاذ النفس واستبقاء الأرواح والمحافظة على العرض، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص.
وعلى كل إنسان ينفق على الغريب أن تكون له نية، فإذا حسنت نية العبد أجره الله وجعل أجره على نيته، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يتصدق على الغني وهو لا يعلم بغناه، فجعل الله صدقته بحسن نيته عبرة للغني، فأثابه الله عز وجل عليها.
فإذا كان قد أنفق على الغرباء والأجانب ممن ليسوا بأقارب له، وهو ينوي إنقاذ أنفسهم وحفظهم من الحرام أو تحبيبهم في الخير، كان بالوسيلة والنية أفضل وأعظم أجراً، لكن لو كانت النفقة على هذا الغريب من جنس الكمالات، وأولاده يريدون الكمالات فالنفقة على الأولاد وإدخال السرور على الأقرباء في الكمالات أفضل من إدخال السرور على غير الأقارب، بل حتى إدخال السرور على ابن العم القريب في الكمالات أفضل من إدخال السرور على الغريب، فمثلاً: لو احتاج إلى سيارة وعنده سيارة أو متاع أو ثياب زائدة يمكن أن يعطيها لقريبه ويمكن أن يعطيها لغير القريب.
فالقريب سواء كان من الأقربين كأولاده، أو كان من الأبعدين كابن العم، فإن إعطاء الثوب له ولو كان من الكمالات أفضل من إعطائه للغريب ولو كان صديقاً، ولو كان خليلاً للإنسان ومحباً، فإن الإحسان إلى القرابة فيه أجران: أجر الصدقة، وأجر الصلة.
والإحسان إلى الغريب مهما كان ففيه أجر واحد وهو أجر الصدقة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لامرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها وأرضاها في الحديث الصحيح.
وبناءً على ذلك ينبغي على المسلم أن يزن الأمور بميزانها، ولا شك أن تفقد الأقرباء والإحسان إليهم وتصديق معنى القرابة أمر مهم، فالإنسان دائماً يتفقد القرابة، وأول ما تفكر في بذل المعروف والإحسان يجب أن تنظر إلى من حولك من الأقرباء، حتى في أمور الدين والدعوة، مع أنها لا محاباة فيها ولا مجاملة، قال الله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] أي: مر القريبين الأقربين.
وهذا يدل على أنهم أولى الناس بخيرك وبمعروفك وبإحسانك؛ حتى الابتسامة التي تبتسمها والسرور الذي تدخله على المسلمين تقدم فيه الأقربين الأقرب فالأقرب، فإذا وجدت القريب حرصت على أن تكون على مراتب الكمالات التي تفعلها مع الغرباء، وأن تكون في أحسن وأجمل وأفضل.
وانظر رحمك الله إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهو صديق الأمة يحسن إلى مسطح وهو ابن خالته وقريبه، ثم إذا به يفاجأ بـ مسطح وهو أحد الذين قذفوا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فمع أنه أحسن إليه، ومع وجود القرابة تأتي هذه الإساءة العظيمة في طعنه في زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فحلف أبو بكر أن لا يحسن إليه بعد ذلك؛ فأنزل الله عز وجل القرآن يعاتب أبا بكر رضي الله عنه: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] حتى إن أبا بكر رضي الله عنه بكى وقال: (بلى! والله نحب أن تغفر لنا).
قريب يطعن في ابنته مع أنها أم المؤمنين رضي الله عنها، فاجتمعت جميع الحقوق من الناحية الدينية ومن الناحية الطبيعية الفطرية، ومع هذا كله ينزل القرآن بالإحسان إليه ورد المعروف كما كان، فأحسن أبو بكر رضي الله عنه ورد المعروف إلى مسطح، فهذا يدل دلالة واضحة على عظيم أمر الرحم والقرابة.
نحن ننبه على هذه الأمور لأنها عظمت، وسببها التفكك الأسري الذي يعيشه الناس، كثير من المشاكل والأضرار والمصائب سببها هذا التفكك الأسري، كان الناس في القديم في فقر وضعف وحاجة ماسة، ولكن رزقهم الله عز وجل من التواصل والتحاب والتعاطف وحفظ حق القرابة ما هون عليهم مصائب الدنيا كلها، والله إن الناس كانوا يعيشون بحالة لا يعلم شدة ما هم فيه إلا الله جل جلاله، ولكن ما لطف الله عز وجل بهم بشيء بعد الإيمان به وتوحيده مثل بر الوالدين وصلة الرحم.
وانظر إلى كبار السن والرعيل الأول، تجد الواحد منهم عطوفاً شفوقاً على قرابته، ما إن يسمع أن قريباً له نزلت به نازلة إلا وجدته لا يهنأ له عيش ولا يرتاح له بال؛ ويسافر إلى المسافات البعيدة، فهذا التواصل والتعاطف والتراحم والتكاتف الذي كان بين الناس هو الذي رحم الله به أمرهم، فجعل ضيق عيشهم سعة، والهموم والغموم عليهم يسيرة، وكم من مصائب تنزل بالإنسان يدفعها الله بفضله ثم بصلة الرحم.
لا يحسب الإنسان أن تفقد القرابة أمر هين، كثير من مشاكل اليوم سببها عدم الصلة، وتجد الرجل يقول لك: أنا في ضيق واكتئاب.
وقد يكون قاطعاً لرحمه من حيث يشعر أو لا يشعر، ويكون هذا البلاء الذي نزل به إما بسبب أذية أو قطيعة لرحم، أو عدم زيارته لأعمامه وأخواله، هذا التفكك الذي يعيشه الناس أكثره بسبب عدم القيام بحقوق القرابة.
ونحن نركز على هذه المسائل ونطيل في الجواب عليها لأهميتها؛ لأن كثيراً من مشاكل اليوم سببها ذلك، الآن لما تجد القريب تنزل به ضائقة دين، لا يستطيع أن يجد في قرابته من يساعده، فيذهب إليه ويريق ماء وجهه عنده، ويقول له: يا فلان أريدك أن تساعدني، فيجد أول من يقفل الباب في وجهه قريبه -والعياذ بالله- ويجده أول من يتهكم به ويستهزئ به ولا يصدقه فيما يقول له، مع أنهم في القديم ربما كان فيهم جهل لو قتل القريب جاءه ونصره مع أنه يعلم أنه ظالم؛ من شدة الحمية والعاطفة، صحيح أن هذا خطأ، لكن كانوا معهم في الخير والشر، وينصره ظالماً ومظلوماً، ويقف معه ويقدم له ما يستطيع من المال، هذا الذي رحم الله به الأمة.
لا تحسب أن القليل للقرابة هين عند الله عز وجل، وقد يرفع القريب كفه إلى الله عز وجل فيدعو لك دعوة تنال بها سعادة لا تشقى بعدها أبداً؛ لأنه يدعو من قلبه، ويتمنى لك الخير من صميم فؤاده، ويرى أنك قد أحسنت إليه ووصلته.
والله إن كثيراً من النفوس تتبدد أحزانها وأشجانها بالكلمة من القريب القريب تجده مريضاً مهموماً محزوناً، ما إن يلتفت ويجد قرابته حوله إلا تبددت أحزانه وذهبت أشجانه، ولا عليه بعد ذلك يذهب عنه الهم أو لا يذهب، تجده مديوناً معسراً ما إن يأتيه القريب ويجلس معه ويقول: أتمنى لو كان عندي مال أعطيكه، فما إن يقول له هذه الكلمة إلا وكأنه قضى له دينه.
ما كان أحد يترك قريبه، بل يقف معه ويبذل له كل ما يستطيع، بل إن دعوة الإسلام كلها قائمة على التوحيد وعلى أداء الحقوق، فإذا أُدي حق الله عز وجل بتوحيده وإخلاصه أُديت حقوق العباد، وأول حق ركزت عليه نصوص الكتاب والسنة وتضافرت عليه واعتنت به أيما عناية بر الوالدين وصلة الرحم، حتى إن أبا سفيان لما سأله هرقل قال: بماذا يأمركم، قال له: يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، ويأمرنا بالبر وصلة الرحم.
وأذكر حادثة غريبة وقعت قبل أشهر: كنت في السفر فوجدت رجلاً كبير السن، فاقتربت منه وسألني عن مكاني، وسألته من أين أنت، قال: أنا من بدر، رجل في آخر سنه فوق السبعين تقريباً، ويبيع تمراً، ولا يملك إلا القليل، وجالس في شدة الشمس يتعرض للمشقة، قلت: ما دمت أنت من بدر كيف جئت إلى هنا -كان قريباً من جدة- قال: هذا التمر الذي تراه أريد أن أبيعه وأذهب لأختي بمكة لديها أيتام وأريد أن أعطيها هذا المال، والله حينما نظرت إليه تأثرت من حاله وهيئته، ليست بحال الإنسان الذي يستطيع أن يقوم على نفسه، فضلاً عن أن يبحث عن أخته التي يريد أن يصلها، هكذا كان الناس، وهكذا يكون العيش تواصل تراحم تعاطف.
وحدثني أحد كبار السن في المدينة، وهو من أصدق الناس وخيارهم رحمة الله عليه، يقول: عشت يتيماً فكان خالي يأتينا من أكثر من أربعمائة كيلو متر من المدينة، وكان يأتي بالهدايا، فقير معدم ما عنده شيء، لكن يأتي الأربعمائة كيلو هذه، لا يمر شهر حتى يزور أخته، ويدخل على أيتامها ويلاطفهم ويحسن إليهم ويقول لأخته: أسألكِ بالله لا تسقيني شيئاً من مال اليتامى، يعني: إذا جاء في ضيافتها لا يستطيع أن يشرب عندها فنجان القهوة، وهذا شيء كبير معروف بالعادات، وإنه لصعب جداً أن(340/12)
حكم رفع الصوت بالقراءة في قضاء الصلاة الجهرية
السؤال
هل يلزم المصلي رفع الصوت بالقراءة في قضاء ما فاته من الصلاة الجهرية، أثابكم الله؟
الجواب
الجهر في الصلاة فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: يجب الجهر في الجهرية، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقع بياناً لواجب، وبيان الواجب واجب.
ومن أهل العلم من قال: الجهر والإسرار ليس بواجب، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في صلاة الظهر أنه رفع صوته بالآية والآيتين، فجهر فيما يسر؛ فدل على أن الأمر فيه السعة، وبناءً على ذلك ينبغي على المسلم أن يحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون قضاؤه يحكي أداءه، فيجهر في الصلاة المكتوبة، فإذا قضى الفجر بعد طلوع الشمس يجهر في قراءته، وهكذا لو نام عن صلاة العشاء حتى ذهب وقتها، وسواء ذهب وقتها أو لم يذهب، إذا قضاها أو أداها في آخر وقتها منفرداً فإنه يجهر بقراءتها، والله تعالى أعلم.(340/13)
الفرق بين قاعدتي التعبد بالظن وعدم التعبد به
السؤال
ما الفرق بين أن الله تعبدنا بغلبة الظن، وبين قاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه، أثابكم الله؟
الجواب
الحقيقة ليس هناك اجتماع بين القاعدتين، فقاعدة غلبة الظن هي التي تعبد الله بها العباد، والإنسان إذا اعتقد شيئاً له أربعة أحوال: الحالة الأولى: أن يعتقد الشيء على وجه لا شك فيه ولا مرية البتة، وهذا يسمى باليقين كما يقول بعض العلماء: (100%)، فهو يعتقد مثلاً: أن الله واحد، فهذا الاعتقاد لا يدخله أي شك ولا مرية فيه، وهذا اعتقاد اليقين.
الحالة الثانية: أن يكون اعتقاده للشيء غالباً وراجحاً، وهناك احتمال ضد هذا الاعتقاد لكنه ضعيف، وهذا يبدأ من (51%) إلى (99%) فمثلاً: أنت تعلم أن الوالد إذا صلى العصر يرجع إلى البيت، فجاءك شخص وقال لك بعد صلاة العصر: الوالد موجود في البيت؟ أنت لم تر الوالد ولكن صليت العصر ثم جلست في المسجد، يحتمل أن الوالد رجع إلى البيت ويحتمل أنه لم يرجع، لكن الغالب أنه إذا صلى العصر يرجع إلى البيت، فأنت إذا قلت: الوالد في البيت، فإنه ظن غالب وخبر صادق؛ لأن غالب الظن أن يكون في البيت، هذا الغالب يجوز لك شرعاً أن تخبر به ولست بكاذب، بل لو حلفت وقلت: والله إنه في البيت لم تحنث؛ لأن الحلف على غلبة الظن مشروع.
الحالة الثالثة: أن يكون الشيء مستوي الطرفين، مثلاً: الوالد بعد المغرب ربما يجلس في البيت وربما لا يجلس، وليس هناك حالة راجحة، فسُئلت: هل الوالد موجود؟ تقول: أشك، يعني: ما أدري أهو موجود أو غير موجود؛ لأنه تارة يكون موجوداً وتارة لا يكون موجوداً، وهذا الشك يسمى استواء الطرفين.
الحالة الرابعة: أن يكون الظن مرجوحاً، وهو عكس الظن الراجح، فأنت حينما قلت في صلاة العصر: الوالد موجود في البيت، عندك احتمال أنه خارج البيت، فلو سألك شخص: الوالد خارج البيت؟ تقول: أظن، فظنك في هذه الحالة ضعيف وليس براجح، ولو سألك: أهو في البيت؟ تقول: نعم؛ لأنه ظن راجح.
فهذه أربعة أحوال للظنون، ولا يتعبدنا الله بالأوهام، وهو الظن الضعيف، لأنها ظنون فاسدة ولا تبنى الشريعة على الظنون الفاسدة، وهذا قرره الأئمة، ومن أنفس من تكلم على ذلك الإمام العز بن عبد السلام حينما تكلم على مسائل الظنون في قواعد الأحكام، وبين أن الظنون الفاسدة لا يلتفت إليها، مثلاً: شخص قلت له: اذبح هذه الشاة، فذبحها وجاءك بها، يحتمل أنه ما ذكر اسم الله عليها، ويحتمل أنه أخطأ في الذبح، ويحتمل احتمالات كثيرة، لكن هذا الاحتمال ضعيف ومرجوح، فتلغي هذه الظنون، وتعمل بالظن الراجح، وتتقرب إلى الله عز وجل بالظن الراجح.
فقس على هذه من المسائل الكثيرة، فقد تعبدنا الله بها حتى في استباحة الدماء والفروج، الآن لو أن شاهدين شهدا أن فلاناً قتل فلاناً، فإننا نحكم بالقصاص، مع أنه يحتمل أن أحد الشاهدين أخطأ، ويحتمل أنهما زورا الشهادة، لكن الظن الغالب أنهما إذا زُكيا وعدلا وعرفا بالضبط أنهما مصيبان، لكن يحتمل الخطأ، والظن مرجوح ولا عبرة فيه.
حينما تسأل العالم ويفتيك في مسألة اجتهادية فإنه يفتيك على غالب ظنه، فيحتمل أن القول الذي اختاره مرجوح، لكن الله عز وجل أمرك بالرجوع إليه وأمرك أن تقبل حكم القاضي؛ لأن الغالب في ظنه هو هذا، وأنت تعمل بهذا الظاهر وأنت مكلف بهذا.
وبهذا انضبطت أمور الدنيا، ولو كانت أمور الدنيا لا تسير إلا باليقين لدخل من الوسوسة والبلاء على الناس ما الله به عليم، فاستقامت أمور الدين والدنيا على ذلك، وبُنيت مصالح العباد دينية كانت أو دنيوية على هذا، الآن مثلاً: لما تركب السيارة وترى غالبها السلامة تمشي بها، لكن إذا كان غالبها الهلاك ورأيت فيها أعطال فلا تطيعك نفسك أن تخاطر، والطائرة مثلها: لولا أن الغالب السلامة ما جاز لأحد أن يركب بين السماء والأرض معرضاً نفسه للخطر، والباخرة لولا أن الغالب فيها السلامة لما جاز لأحد أن يركبها فيعرض نفسه للغرق، كل هذا مبني شرعاً على غلبة الظن، وبها استقامت مصالح العقلاء والحكماء واندرأت بها المفاسد، فالشريعة تتعبد بغالب الظن.
مسألة: لا عبرة بالظن البين خطؤه، عدل وإنصاف، وقد تعبدك الله أن تعمل بهذا الظن الغالب، لكن لو ظهر لك أنه خطأ رجعت عنه؛ لأن الرجوع إلى الحق فريضة وليس بفضيلة فقط، مثلاً: لما يقول العلماء: لا عبرة بالظن البين خطؤه، فهذا في الحقوق، من أمثلته: شخص أعطاك ألف ريال ديناً، فقلت له: رددتها لك، قال: ما رددتها، مثل التجار يتعاملون كثيراً بهذا، كل يوم يأخذ ويعطي.
فجاءه شخص ظن أنه أعطاه، فقال له: أعطيتك، قال التاجر: ما أعطيتني.
اختصموا عند القاضي، من حقك أن تقول: والله أعطيته؛ لأن غالب ظنك أنك أعطيته، وبعد شهر أو شهرين أو سنة أو مائة سنة، تبين لك أنك أخطأت في هذا الظن، فحينئذ يجب عليك أن تقضي الرجل حقه، ونقول: لا عبرة بالظن الذي بان خطؤه في حقوق العباد.
من أمثلتها في حقوق الله عز وجل: مسألة الصوم، إن أكلت وأنت تظن أن الفجر ما طلع، ثم بعد ما أكلت أقيمت الصلاة، فأنت في المسألة الأولى في حق المخلوق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى)، فمذهب طائفة من العلماء أنه إذا بان لك الخطأ وجب عليك القضاء؛ لأنه إذا كان في حقوق المخلوقين يجب القضاء إجماعاً؛ فحق الله أولى أن يضمن، فنقول: ظنك أن الفجر لم يطلع يسقط عنك الإثم، وتبينك للخطأ يوجب عليك رد الحق، سواء كان لله أو للمخلوق.
فللمخلوق تقضي الدين الذي عليك وللخالق تقضي ذلك اليوم؛ لأن الله تعبدك أن تصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأنت لم تصم صياماً تاماً كاملاً، فحق الله ينبغي أن يؤدى، ودين الله ينبغي أن يقضى، ولذلك قاس النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة، قال: (أرأيتِ لو كان على أمكِ دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)، فأنت إذا تبين لك الخطأ في حق المخلوق فإنه تؤديه، كذلك في حق الخالق ما لم يرد النص بالاستثناء، فلا عبرة بالظن البين خطؤه.
فنقول: قاعدة العمل بغلبة الظن؛ معمول بها في حال غلبة ظنك، وقاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه معمول بها بعد الاستبيان، فأنت تعمل بالأصل حتى يتبين لك خلافه، وبهذا تكون القاعدتان صحيحتين ولا إشكال فيهما، والله تعالى أعلم.(340/14)
عدد الرضعات الموجبة للتحريم
السؤال
امرأة أرضعتني عدة مرات وهي لا تعلم العدد، وحاولت التذكر لكن دون جدوى، فهل أنا محرم لها ولبناتها، أثابكم الله؟
الجواب
لا تثبت أحكام الرضاعة إلا إذا ثبت أنها أرضعتك خمس رضعات، فلا يجوز لك أن تعتبرها أماً من الرضاعة إلا إذا ثبت أنها أرضعتك خمس رضعات معلومات مشبعات، فإذا ثبت ذلك ثبت حكم المحرمية لها ولبناتها، وأما إذا لم يثبت ذلك، فإنه لا يجوز لك أن تحكم بثبوت الرضاعة، والله تعالى أعلم.(340/15)
حكم تغسيل الرجل لمحارمه
السؤال
هل يجوز للابن أن يغسل أمه وأخته، أثابكم الله؟
الجواب
الرجل لا يغسل المرأة إلا في حالة واحدة، وهي: أن الزوج يغسل زوجته والزوجة تغسل زوجها، وذلك على أصح قولي العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها كما في حديث السنن: (لو أنكِ متِ لغسلتكِ وكفنتكِ) وهذا يدل على أن الزوج يغسل زوجته، ولأن علياً رضي الله عنه غسل فاطمة رضي الله عنها ولم ينكر عليه الصحابة، والمرأة تغسل زوجها؛ لأن أسماء بنت عميس رضي الله عنها غسلت أبا بكر الصديق رضي الله عنه ولم ينكر الصحابة ذلك، فلا يجوز للرجل أن يغسل المرأة إلا في هذه الحالة، ولا يجوز للمرأة أن تغسل الرجل إلا في هذه الحالة.
وأما الابن مع أمه فلا يغسلها، وهذا يفعله بعض العوام جهلاً منهم؛ لأن عورة الأم ينبغي للغاسل أن ينقي الفرجين، وهذا مع اتحاد الجنس أخف منه عند اختلاف الجنس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلى النسوة أن يغسلن بناته، فغسلت زينب رضي الله عنها وأرضاها أم عطية وغيرها من الصحابيات رضي الله عنهن، ولم يغسلها أحد من قرابتها الذكور، وكذلك بالنسبة للرجل لا يغسله النساء.
وبناءً على هذا: لا يجوز للأخ أن يغسل أخته، وإنما يتولى النساء أمر النساء والرجال أمر الرجال، فإن توفيت امرأة بين رجال يممها ذو المحرم ثم كفنت، ويصلى عليها ولا تغسل، وهكذا الرجل إذا مات بين النساء ولا زوجة له وليس هناك رجل، فإن النساء تيممه ثم بعد ذلك يدرج في ثيابه ثم يصلى عليه، فلا يتولى النساء أمر الرجال ولا الرجال أمر النساء على التفصيل الذي ذكرناه في قول جماهير السلف والخلف، والله تعالى أعلم.(340/16)
سبل تحقيق العشرة الزوجية بالمعروف
السؤال
العشرة بالمعروف تتعدى اقتصار الزوج على بذل الواجب في النفقة والرعاية فقط لزوجته، فكيف يمكن لي أن أحقق العشرة بالمعروف، أثابكم الله؟
الجواب
العشرة بالمعروف من أعظم الدعائم التي تقوم عليها السعادة الزوجية، ومن أراد أن يحقق هذه العشرة فليقرأ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت سنته عليه الصلاة والسلام إلا امتثالاً للقرآن، وقد كان عليه الصلاة والسلام لا يقدم أمراً ولا يؤخر غيره إلا بكتاب الله عز وجل، فمن أراد أن يكون معاشراً لأهله بالمعروف فلينظر إلى أوامر الله جل جلاله، وإلى ما ندب الله إليه من الإحسان والبر والصلة والعفو والصفح والتجاوز وحسن النية، وغير ذلك من الأمور التي تعين على سلامة العمل، وكذلك ينظر بعد كتاب الله إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يستلهم منها المواقف الجليلة والحوادث الجميلة التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع حبه وزوجه، وكيف كان أبر الأزواج بأزواجه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والأصل أن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى الكمال ما لم يكن نقي الصدر الدعامة الأولى سلامة الصدر، ولذلك لن تجد إنساناً يستقيم على طاعة الله أو يهتدي فينال كمالات هذا الدين إلا بسلامة الصدر، وما إن يتغير قلبه ويكون فيه أي دخل أو درن من أدران الجاهلية إلا أثر على عمله وقوله، أهم شيء يبدأ فيه الإنسان سلامة صدره، ولذلك من دخل إلى بيت الزوجية سليم الصدر، نقي السريرة؛ فإن الله يبارك له في ظاهره، فمن أسر سريرة أظهرها الله في قوله وعمله، وظهرت في علانيته في معاملته.
وانظر هذا مع الناس، فالشخص الذي يعاشر إخوانه من طلاب العلم أو غيرهم من الملتزمين أو المهتدين، وهو لا يفرق بين الأبيض والأسود والأحمر والأصفر والغني والفقير، سليم الصدر نقي الصدر تجده في أكمل ما يكون الأخ مع أخيه (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) وما تفسد القلوب إلا بمعصية الله، فإن دخلها الحقد والحسد واحتقار الناس وانتقاصهم، ودخلها سوء الظن والتهم ونحو ذلك، ساء كل شيء.
فالرجل إذا دخل بيت الزوجية وهو يفكر أول ما يفكر أن زوجته نعمة من الله أنعم بها عليه، وأنه يحتقر نفسه، ويقول: من أنا حتى تأتيني هذه المرأة الصالحة، إذا كانت امرأة دينة أو على الأقل تحافظ على واجباته، يقول: الحمد لله الذي رزقني هذه المرأة على هذا الخير والاستقامة، وإذا كانت قريبة قال: الحمد لله الذي سخر لي من أصل به رحمي وأبُلها ببلاها، ودخل وهو نقي الصدر ويحس أنها نعمة أنعم الله بها عليه، وأن المنبغي عليه أن يحافظ على هذه النعمة، وينظر إلى هذه النعمة نظرة الصفاء والنقاء والمودة، كما أخبر الله عز وجل: (مودة ورحمة).
فإذا دخل بسلامة الصدر والأسس التي تنبني عليها العشرة بالمعروف موجودة في قلبه وقالبه، بارك الله له في قوله وعمله، فهو إذا دخل إلى بيت الزوجية في أي ساعة يحس أن أي معروف أو أي عمل تقوم به المرأة لا يستوجبه عليها.
فإذا دخل فوجدها طبخت طعامه، أكبر منها ذلك ورمى لها بالكلمة الطيبة، وقال: جزاكِ الله كل خير وبارك الله فيكِ، فدعا لها، وهي ردت له دعوته بالخير، وأكبرت منه إكبارها للمعروف فأحبته، وعرفت أن عنده الإنصاف وأنه سليم الصدر لها، ولكن العكس إذا دخل وهو يظن أنه يستوجب عليها الحق، وأنها كالأجيرة عنده، وأنها دونه، وأنها أحقر؛ جعل ينظر إلى نفسه نظرة الكمال وأنه يستوجب عليها، فعندها تسوء أخلاقه ويسوء قوله وعمله، ولذلك ثبت عن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم: أنه ما عاب طعاماً وضع بين يديه، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا لا يمكن أن يكون إلا حينما ينظر نظرة التواضع والإكبار من أهله وزوجه.
المرأة الصالحة إذا نظر الإنسان إليها زوجة له والفتن تحيط بها من كل جانب، تذكر أن الله رحمه بهذه المرأة الصالحة، فكان أول من يعينها على صلاحها وتقواها لله عز وجل، يعينها بالكلمة الطيبة، بالابتسامة، بإدخال السرور، والله إن العبد يشتري رحمة الله عز وجل كما أنه راكع وساجد، بالابتسامة يبتسم بها في وجه أهله وزوجه، ولذلك حرص عدو الله إبليس على الدخول بينك وبين كل قريب، فيجعل الابتسامة حلال ومحبوبة وطيبة إلا إذا كانت للقريب منك، ويقول لك: لا تبتسم للزوجة، إنك إن ابتسمت إليها أفسدتها، ولا تفعل كذا وافعل كذا وكذا، فيصبح المعروف منكراً ويصبح الشر خيراً والخير شراً.
كل هذا -نسأل الله السلامة والعافية- لسوء القلب، إذا دخلت بهذه الأسس وهي سلامة الصدر ونقاء الصدر، وأن تحس أن الله أنعم عليك بنعمة شكرتها، ودائماً إذا أحس الإنسان أن زوجته نعمة؛ شكر هذه النعمة، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53].
فإذا عرفت قدر الزوجة، وأن بنت الناس ما جاءت إلى بيتك لتهان، وأن حرمات المسلمين ما دخلت إلى بيتك لكي تذل، وإنما لتكرم ولتعز ولتحسن إليها وتقابل بالإحسان؛ عندها يجتمع شمل الزوج والزوجة.
العشرة بالمعروف أقوال وأفعال، وإذا سلمت السرائر صلحت الظواهر، وزكاها الله جل وعلا المطلع على الضمائر، ولا يمكن أن تزكو علانية الإنسان أو يكون محبوباً بين الناس وهو خبيث السريرة أبداً، ولذلك قالوا: لا يسود حقود ولا حسود، لا يمكن أن تجد إنساناً يحسد الناس ويعطيه الله السؤدد، فلا يسود الناس حتى ولو كان مع أهله وزوجه، لا يمكن أن ينال السؤدد ولا ينال الكمال ولا العشرة بالمعروف إلا إذا كان سليم الصدر نقي النفس مهذب الأخلاق طيب المعدن، فإذا وفق الله له بسلامة الصدر رزقه العشرة بالمعروف.
كيف تكون هذه العشرة؟ اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، اقرأ هذه السيرة وحدك متأملاً متفكراً متدبراً، وانظر في كل حدث يقع بينه وبين زوجه، والله إن القصة الواحدة من قصص النبي صلى الله عليه وسلم -حينما كنا نتذاكر العلم- لأمضي فيها الثلاثة الأيام! اقرأها المرة بعد المرة بعد المرة، كلما تقرأها تجد فيها غير الذي كنت تراه من قبل، مما فيها من الخير والبركة والمواقف الجميلة، والمعاني الكريمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشهد من فوق سبع سماوات بكرم خلق هذا النبي صلى الله عليه وسلم عبثاً، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فما نال هذه العشرة بالمعروف إلا بالخلق العظيم صلوات الله وسلامه عليه.
ولن تستطيع أن تكون العشرة بالمعروف بينك وبين زوجك إلا إذا عظمت حرمات الله، وأخذت تنظر إلى الأسس التي أوجب الله عليك أولاً فتؤديها كاملة، وبعد ما تؤدي الواجبات تنتقل إلى الكمالات، ودائماً يوصى الإنسان أن لا ينظر إلى نفسه نظرة كمال، بل عليك أن تتهم نفسك بالنقص والتقصير حتى يكمل الله نقصك ويجبر كسرك.
والموفق من وفقه الله، فسل الله عز وجل أن يعطيك، وأكثر من الدعاء وقل: اللهم إني أسألك حسن الخلق لأهلي وزوجي وللناس أجمعين، وسل الله عز وجل أن يحسن أخلاقك، وقل: اللهم كما حسنت خلقي فحسن خُلقي، وقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني شرها وسيئها لا يصرف عني شرها وسيئها إلا أنت).
الوصية الأخيرة: مما يعين على العشرة بالمعروف: الإنصاف والعدل، فأي موقف تحس أنك أخطأت فيه فعليك أن تتراجع في نفسك وتستدرك في خطئك، وتخاف من الله عز وجل فيما يكون منك من التقصير، فإذا وفقك الله عز وجل لهذه الأسس: سلامة الصدر وقراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنت الموفق؛ لأننا لو جئنا نتحدث كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاشر بالمعروف ما انتهى الحديث، ولكن نقول: قراءة السيرة.
ثم إذا وفقت بعد ذلك إلى أنك دائماً لا تنظر إلى نفسك نظرة كمال، وإذا وقع منك الخطأ أصلحته؛ فإنه لا يزال لك من الله معين وظهير.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حسن الأخلاق، وأن يعيننا على ذلك؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(340/17)
شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [4]
ضمن الشرع للأرقاء حقوقهم، فضمن للرقيق أوقات الراحة وعدم تكليفه بما لا يطيق، كما أوجب على المالك الإنفاق على مملوكه وأن يكفيه حاجاته اليومية وضرورياته المعيشية، حتى إنه إن قدر على تزويجه زوجه.(341/1)
أحكام النفقة على الرقيق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وعليه نفقة رقيقه طعاماً وكسوة وسكنى].
شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يجب على السيد تجاه عبيده ومواليه، وهذا الفصل في الحقيقة تابع للذي قبله من جهة كونه من فصول النفقات، وقد تقدم أن النفقات في الإسلام لها ثلاثة أسباب: السبب الأول: النكاح والزوجية.
السبب الثاني: النسب والقرابة.
السبب الثالث: المِلك، ويشمل مِلك اليمين وملك الدواب والبهائم.
وبعد أن بيّن المصنف رحمه الله النفقات المتعلقة بالزوجية، وأحكامها ومسائلها، بيّن رحمه الله أحكام النفقات من جهة النسب، ثم بعد ذلك شرع في بيان أحكام النفقات المتعلقة بملك اليمين والنفقة على البهائم.
وفي الحقيقة أن النفقة على المملوك والرقيق أمر فرضه الله عز وجل على عباده، وهو يدل دلالة واضحة على سماحة الشريعة، ولقد كان في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص ما يدل دلالة واضحة على عظمة هذا الدين، وسموه وكماله، وأنه أبعد مما وصفه به أعداء الإسلام من المنقصة والمعايب التي ألصقوها به زوراً وبهتاناً، خاصةً في مسألة الأرقاء.
فمن هنا ومن هذا الدين ومن أنوار التنزيل، كانت الحقوق الواضحة البينة التي بيّنها رب العالمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، هنا حقوق المخلوقين تامة كاملة، هنا يوصف الشخص فيبين ما الذي له وما الذي عليه، هنا النظرة الكاملة التامة؛ لأنه تشريع الحكيم العليم الذي تمت كلمته صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، وهنا المناداة بالحقوق دون أن يتقمصها المنادي لأغراضه الشخصية، وهنا النظر للحقوق دون أن تكون نظرة عمياء أو نظرة عوراء تنظر للحقوق التي لها دون الحقوق التي عليها.
فهذه عظمة الإسلام تتجلى وتظهر في أبهى صورها وأجمل حللها، دون كذب وافتراء ومبالغة وخداع للناس وتمويه عليهم، فهذه الأبواب التي انعقدت في الفقه الإسلامي في بيان الحقوق التي منها حقوق النفقة؛ انظر فيها كيف يكون الترابط، يقال للشخص: أنفق على زوجتك ولا تظلمها، وأعط المرأة حقها.
ويقال للمرأة: أعطي حق الرجل، ويقال للسيد: أعط حق المملوك ومن جعله الله أمانة في عنقك ورقبتك، وأنت مسئول عنه أمام الله عز وجل، ويقال لللملوك: أدّ حق سيدك.
هنا العدل والإنصاف التي قامت عليه السماوات والأرض، وهنا الحقوق واضحة جلية قائمةً على العدل الإنصاف الذي لا يمكن أن تستقيم أمور العباد إلا به، ولا يمكن أن تستقيم أحوال البلاد إلا بهذا الذي شرعه الله جل وعلا، وبيّنه سبحانه وتعالى.(341/2)
الأرقاء أمانة في أعناق من ولاهم الله عز وجل أمرهم
قبل أن ندخل في حقوق النفقة ننبه على أمرٍ مهم: وهو أن أعداء الإسلام شوهوا صورة الإسلام في الرق، ومن هنا وجب أن نبين أن دين الله وشرعه لم يخص الرق يوماً من الأيام بجنس من الأجناس، ولا بلونٍ من الألوان، ولا بطائفة ولا بأحد، إلا بمن كفر وسلب نفسه كرامة الآدمية، ولو كان أجمل الناس صورة، وأعز الناس مكانة، فعندها ينزل إلى مستوى البهيمية بل أضل: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44].
ضُرب الرق على الكافر ولا يضرب الرق على المسلم، فلا يسترق إلا الكافر، وإذا استرق الكافر فإنه إذا أسلم بعد ذلك استمر على الرق على تفصيل نبينه؛ لأن الشخص إذا كفر وأشرك نزل عن التكريم الذي كرمه الله به، وظلم ومنع حق الله الذي أوجب عليه ذلك، وقد وصف الله الكافر والمشرك بأنه ظالم: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فلما كفر لم يبق الكافر على كفره بل جاء ووقف في وجه الإسلام محارباً له، فإذا حاربه ووقف في وجهه كفر بالعبودية لله عز وجل، وكفر نعمة الله سبحانه وتعالى، ثم جاء وحارب الإسلام ووقف في وجه الإسلام.
فإذا تمكن الإسلام منه خُيّر الإمام بين ضرب رقبته واسترقاقه والمنِّ عليه؛ على تفصيل تقدم في كتاب الجهاد، فإذا أمر ولي الأمر برقه ثبت الرق، وليس كل أحد يأتي ويأخذ كل من أسر، ويقول: هذا مملوك لي، ولكن بضوابط وقيود محددة ومرتبة من لدن حكيم عليم: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4]، يضرب الرق على الرجال والنساء والذراري والأطفال كما جاء في حديث سعد حينما حكم في بني قريظة، قال: (أرى أن تسبى ذراريهم، وأن تقتل مقاتلتهم).
فإذا سبيت الذرية وضرب عليها الرق ربما تسلم بعد ضرب الرق ويبقى نسلهم مسلمين، لكن العبرة بالأصل، أنهم كانوا على الكفر، ومن هنا إذا أسلموا: رغب الإسلام في عتقهم، ولذلك لا يعتق الكافر، قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)، أي: أمرتك بعتقها لما آمنت، وانظر كيف ضُرِب عليه الرق لما كان كافراً وحارب الإسلام، وفتح له باب الحرية ورُغّب في عتقه إذا أسلم وآمن ورجع إلى الأصل، لكن لو أن الإسلام جعل كل من يسترق إذا أسلم يفك عنه الرق ولو كذباً، لكذب الناس والأرقاء في إسلامهم.
على كل؛ فهذا نوع من الاسترقاق، والله يحكم ولا معقب لحكمه، فنحن نؤمن ونقتنع قناعة تامة بهذا الأمر الذي هو باقٍ ما بقي الملوان وتعاقب الزمان، لا يحرم تحليله أحد ولا يحل ما حرم الله فيه أحد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم؛ ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجلٌ أعطي بي ثم غدر، ورجلٌ استأجر أجيراً ولم يوفه أجره، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه)، وهذا يدل على أن الإسلام لا يسمح باسترقاق العباد وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ولا يسمح بالاسترقاق للألوان أو الأجناس أو الطبائع أو الملل أبداً، إنما يُضرب الرق في حالة مخصوصة، ولا يدعو هذا إلى رد شبهات الأعداء بأن ننهزم ونحرم ما أحل الله وننطلق من منطلق الضعف، ونجعل الرق وكأنه أمر عند الضرورة.
لا.
فهذا حكم الله يرضى به من يرضى، ولا علينا أن يسخط من سخط، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، هذا حكم الله الذي يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى.
لما حكمت الشريعة بالرق لم تترك الأمر هملاً وسدى بل جاءت بالتشريعات التامة الكاملة في بيان حقوق الأرقاء، فلهم الحق في حدود ما جعل الله عز وجل لهم، فبين الله عز وجل حق السيد وحق المملوك، كما قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:50]، وكان من آخر وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على آخر أعتاب هذه الدنيا وقد أوذن بالرحيل منها، واشتاق إلى الرفيق الأعلى، كان يقول: (الصلاة، وما ملكت أيمانكم).
فالإسلام ليس يتهم أحداً زوراً وبهتاناً، الإسلام أسمى وأعلى من كل هذه الترهات، ولكن الكافرين هم الظالمون والمعتدون، كما قال القائل: (رمتني بدائها وانسلت)، فهم أهل هذا العيب والنقص؛ الذين استرقوا الشعوب والأمم، وأكلوا خيراتهم وحرموهم حقوقهم، فهذا هو الذي يثلب ويعاب.
أما الإسلام الذي عظم الحقوق وبين الواجبات، فهو أعلى مما يوصف به ظلماً وزوراً وبهتاناً.(341/3)
حق المملوك في السكنى والطعام واللباس
قال المصنف رحمه الله: [وعليه]: الضمير هنا عائدٌ على السيد، والتعبير بقوله: (وعليه) يدل على اللزوم، أي: يجب على السيد تجاه عبيده وإمائه النفقة، وقد تقدم تعريفها وبينا هذا الطعام والكسوة والسكنى، والأصل في ذلك: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس، ولا يحمله ما لا يطيق؛ فإن حملتموهم ما لا يطيقون فأعينوهم).
في هذا الحديث الشريف دليل على وجوب إطعام السيد لعبده وأمته.
ولذلك جاء في الحديث الآخر: (للملوك نفقته وكسوته بالمعروف)، فلما قال رحمه الله: (وعليه نفقته)، أي: على السيد نفقة عبده، ويشمل ذلك الطعام لقوله عليه الصلاة والسلام: (فليطعمه مما يطعم)، والكسوة لقوله: (وليلبسه مما يلبس)، وكذلك يجب عليه أن يسكنه.
وهذا كله بإجماع العلماء رحمهم الله لثبوت النصوص فيها.
أما الطعام: فإن كان السيد غنياً فإنه لا يجب عليه أن يطعمه طعام الأغنياء، ومن هنا: اختلفت النفقة في الزوجية عن النفقة في ملك اليمين، إنما يطعمه الطعام الذي يقوم به عوده ويصلح به حاله، وأما إذا كان السيد معسراً فإنه يطعم طعام المعسرين.
وأما بالنسبة لنوعية الطعام، فلحديث الشافعي في مسنده: (بالمعروف)، يدل على أن هذا يرجع إلى العرف، فالعبيد والموالي لما كانوا في أيام المسلمين كانوا يطعموهم بالعرف، فموالي الغني يُطعمون طعام موالي الأغنياء، والفقراء كذلك يطعمون طعام الموالي الفقراء والضعفاء، على حسب العرف الذي فيه السيد والمولى.
وأما اللباس: فهو يختلف بحسب اختلاف المولى: فإذا كان العبد أو الأمة بحال فإنه يلبس ما يليق بحاله، فإذا كان عنده مهنة وعمل لبس لباس المهنة والعمل، ولذلك فرق العلماء والأئمة بين لباس الأمة التي يطؤها سيدها لأنه لباس زينة وجمال، وبين الأمة التي تخدم في البيت وتطبخ على أنه لباس بذلة تحتاج معه إلى شيء يساعدها على ما هي فيه من المهنة والعمل، فاللباس يختلف بحسب اختلاف الرقيق والمولى ذكراً كان أو أنثى.
ثم قوله: (عليه) عام يشمل إذا كان الرقيق يعمل أو لا يعمل، وذلك لأن النفقة على الرقيق لا يشترط فيها أنه يخدم سيده حتى ولو كان المولى عاجزاً صغيراً أو كبيراً، فإن الإسلام يلزم سيده بالنفقة عليه، وكذلك لو كان به عاهة أو مرض يمنعه من التكسب والقيام على نفسه، فإن سيده ملزم بأن يقوم عليه وينفق عليه بالمعروف، وفي هذا دليل على رحمةِ الله بعبيده وخلقه، حيث إنه سبحانه راعى أحوال هؤلاء وأمرهم أن يطيعوا لمواليهم ويحسنوا لهم؛ حتى وعد المولى الذي يقوم على خدمة سيده الجنة إذا مات وسيده عنه راضٍ، يعني: أدى حق سيده على أتم الوجوه وأكملها.
فبين المصنف رحمه الله: أنه يجب على السيد أن ينفق بالطعام والكسوة والسكنى على الرقيق.(341/4)
أحكام معاملة الرقيق
قال رحمه الله: [وأن لا يكلفه مشاق كثيراً].
الكلفة دائماً تكون في الشيء الذي يحتاج إلى عناء وتعب ونصب، فلا يجوز للسيد أن يحمل الرقيق ذكراً كان أو أنثى ما لا يتحمل، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تكلفوهم ما لا يطيقون)، فنهى عن تكليفهم بما لا يطيقون، لما فيه من الظلم والأذية لهم والإضرار بهم.
وبين بعض العلماء رحمهم الله: أنه يدخل في هذا أن يطالبه بعمل يرهق بدنه حتى يصاب بالمرض بعد فترة، أو يطالبه بعمل فيه إرهاق على مر الأيام، مثلاً: في اليوم الأول يطيقه المولى، ثم في اليوم الثاني يطيقه، ثم في اليوم الثالث يعجز عنه، فالعبرة بمشقة العمل وعنائه، كأن يقول له: احمل هذا الشيء الثقيل.
ومن تحميله ما لا يطيق: أن يطالبه بالعمل ويعطيه ساعات يسيرة للراحة، فهذا يشق على المولى ويضر به، والواجب عليه أن يتقي الله في مولاه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحميلهم ما لا يطيقون.(341/5)
المخارجة بين السيد وعبيده
قال رحمه الله: [وإن اتفقا على المخارجة جاز].
إن اتفق السيد مع مولاه على المخارجة، وهي: مفاعلة من الخرج والخراج، وهو النسبة التي يحددها السيد لمولاه أن يأتي بها في اليوم أو الشهر، يقول له: اذهب وتكسب، وكل يوم أحضر عشرة دراهم، أو في كل يوم ديناراً، أو يقول له: كل شهر تدفع ثلاثة دراهم.
فهذا يسمى الخراج، إن اتفق السيد مع عبده على المخارجة، ويكون عند المولى مهنة كالنجارة والحدادة، فيقول له: اذهب وتكسب واشتغل ثم أعطني كل شهر ثلاثة دنانير، أو يقول: أعطني كل يوم درهماً.
فهذا خراج.
والأصل في ذلك: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه حجمه أبو طيبة رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبو طيبة مولى من الموالي، فلما حجمه رضي الله عنه أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أجرته وأمر مواليه أن يخففوا عنه في خراجه، فدل على أن الخراج بشروط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم أن يخففوا؛ فلم يحرم عليهم التكسب من طريق المولى والرقيق.
وكذلك إذا كانت أمةً تخدم في البيوت وتعطي خراجها، يقدر لها خراجاً، ويجب على السيد أن يتقي الله عز وجل في الرقيق، وأن لا يحمله خراجاً فوق طاقته، أو يحمله الخراج وهو صغير، انظروا كيف يصيحون في حقوق الأطفال من العمل، هذا هو ما نادى به الإسلام قبل ألف وأربعمائة سنة، وكان أئمة الإسلام يقولون: لا يحمل أطفال الموالي لا يطالب بالكسب حتى يبلغ أشده ويقوى على التكسب.
ومن هنا قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم، كما هو مأثور عن عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين والخليفة الراشد، قال: (لا تأمروا الصبي بالكسب فيسرق) لأنه إذا لم يجد الكسب يضطر إلى السرقة فعقله ناقص قاصر؛ إذ ليس عنده عقل يمنعه، فإذا حمله سيده وهو صغير ولم يجد الكسب اضطر إلى السرقة أعاذنا الله وإياكم.
ثم قال: (ولا تحملوا الأمة ما لا تطيق فتزني)، وفي رواية: (فتكسب بفرجها) والعياذ بالله، انظروا عظمة أئمة هذا الإسلام رحمهم الله برحمته الواسعة، كل هذا الخير مستقى من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هنا النزاهة في بيان الحقوق وتصوير الواجبات؛ فلا يطالب الصبي بالخراج، ولا تطالب به المرأة إذا لم يكن لها مكان تعمل فيه وخُشي عليها أن تعمل في الحرام.
والأصل في الخراج -كما ذكرنا- السنة، وكذلك إجماع الصحابة؛ فإن عمر رضي الله عنه في قصة أبي لؤلؤة المجوسي -لعنه الله- لما اشتكى إلى عمر اشتكى من مولاه المغيرة -كما في الأثر الصحيح- أنه يطالبه بخراج كثير، فلما عرض ذلك على عمر، دل على أنه كان معروفاً بين الصحابة رضوان الله عليهم المخارجة، فبين المصنف رحمه الله: أن يجوز أن يضرب السيد على مولاه خراجاً ذكراً كان أو أنثى على أن يعطي أجرةً يومية أو شهرية.
إذا قال له: تكسب وأعطني ثلاثة دراهم؛ فما زاد ملكٌ للعبد ينتفع به ويرتفق، وهذا بين السيد وعبده، لا يدخل في هذا مثلاً العامل مع كفيله؛ لأنه ليس ملكاً له، فلينتبه لهذا؛ لأن السببية في الاستحقاق من الشرع، وأما ما عداه فإنه باق على أصل الحرية لا يملك عرض المسلم وتعبه وكده إلا باستحقاق شرعي.
إذا ثبت هذا؛ فإنه يضرب له الخراج إن اتفقا، ونفهم من هذا أنه ليس من حق السيد أن يجبر مولاه على التكسب، فلو قال له: يجب عليك أن تحضر كل يوم درهماً لا يكون إلا باتفاق الطرفين، وهذا اختيار بعض العلماء رحمهم الله.(341/6)
حق العبد في الراحة والنوم والصلاة
قال رحمه الله: [ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة].
للرقيق حقوق ينبغي أن يتقي المولى الله فيها، فلا يجوز أن يضيق عليه في هذه الأمور التي جعلها الله من الفطرة، وسجية الإنسان أنه يحتاج إليها، فلا يضيق عليه في نومه وراحته، ولا يحمله ما لا يطيق، ولا يرهقه في وقت نومه وقيلولته، بل يمكنه من النوم في ساعات النوم، ومن القيلولة في ساعة القيلولة.
وهذا يدل على أنه لا يجوز للسيد أن يؤذي مولاه أو رقيقه في وقت راحته أو يزعجه ويحمله ما لا يطيق، فما بالك إذا كان عاملاً بأجرة متفق عليها أو أجرة على العمل في وقت معين؛ فيأتي ويرهقه ويستغل ضعفه ويطالبه بالعمل في وقت راحته، هذا من الظلم والأذية والإضرار، ولا يجوز للمسلم أن يؤذي أخاه المسلم.
وكما أنه لا يجوز له أن يضايقه بالحس، بأن يطالبه بالعمل أثناء نومه أو أثناء راحته، لا يجوز كذلك أن يؤذيه بالمعنى، والأذية بالمعنى هي السب والشتم، فلا يشمته ولا يسبه ولا يؤذيه بالإهانة؛ لأن للمسلم حقاً في عرضه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد)، فجعل خطبة حجة الوداع التي كان الناس أحوج ما يكونون فيها إلى تبيين الأمور العظيمة، جعل فيها بيان حق عرض المسلم، وقرن العرض بالدم، فكما أنه لا يجوز لك أن تقتل المسلم فكذلك لا يجوز لك أن تستبيح عرضه، ولا يظن أحد أن عرض المسلم رخيص، أو أن الكلام في الناس أمرٌ هيّن؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
ومن هنا: فإذا كان السيد مع عبده لا يستطيع أن يطيل لسانه عليه، فما بالك بالمسلم مع أخيه المسلم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي: (أن رجلاً اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إنني لي موالي آمرهم فيعصونني؛ فأسبهم وأشتمهم وأضربهم، فما تأمرني يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إذا كان يوم القيامة نُظِر في أمرك وعصيانهم لك، وسبك وشتمك وضربك لهم ثم يقتص، فتولى الرجل يبكي، وقال: أشهدك أنهم أحرارٌ لله)؛ لأنه يخاف من الله عز وجل.
وفي حديث أبي مسعود أنه غضب على عبدٍ من عبيده، فأخذ السوط وضربه، قال: (فسمعت صوتاً من ورائي يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه)، أي: لا تحسب أن كونه مولى وأنه ضعيف أن الله سبحانه وتعالى سيفلتك من عقوبته إن اعتديت عليه وأضررت به، قال: (فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أشهدك أنه حرٌ لوجه الله)، فأمر الرقيق ليس هملاً في الإسلام، لا يستبيح الناس الأرقاء بما شاءوا أبداً، إنما بقيود.
فإذا كان هذا حال السيد مع رقيقه فكيف بالعامل الذي يكون غريباً عن أهله ووطنه وولده وهو يتكسب الرزق الحلال؟ وهذا من أشرف وأعظم ما يكون للعبد، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام: (إن نبي الله موسى آجر نفسه لطعمة بطنه وعفة فرجه)، فجعل هذا شرفاً لنبي من أنبياء الله أن جعل نفسه أجيراً من أجل طعمة البطن وعفة الفرج.
فالعامل إذا تغرب عن أهله وولده هو أحوج ما يكون إلى من يرحمه ويحسن إليه، ويتصور الإنسان حينما يسافر عن أولاده اليوم واليومين في نفس بلده ومكانه، كيف يجد من الألم والشجى والحزن، فما بالك بأخيك المسلم إذا كان غريباً عن أهله وماله وولده ويعاني الأمرين من تشوش فكري من أمور قد تكون نازلة به؛ فهو أحوج ما يكون إلى الرفق والرحمة.
الرقيق ملك للإنسان ملكه الله إياه، ولكن عند خطئه إذا ضربه وآذاه وأهانه اقتص منه، فما بالك بالمسلم إذا كان غريباً لأمرٍ يريد به عفة نفسه وأهله وولده وطُعمة بطنه؟ فالأمر آكد والحق ألزم؛ ولذلك كتب على المسلمين أن يتقوا الله، وأن يتقي الله بعضهم في بعض، وأن يخافوا الله عز وجل من حقوق إخوانهم؛ لأن أعظم ما يضر بالإنسان يوم القيامة بعد الكفر بالله عز وجل الحقوق والمظالم، وأخبر صلى الله عليه وسلم: أن عقول الناس تطيش وتصاب بالرعب الشديد مما ترى في صفحات الأعمال من الحقوق التي بين الناس.
فالواجب على السيد أن يتقي الله في المولى، وأن يشعر أن كونه رقيقاً ليس معناه أنه يسبه ويشتمه دون أن يحاسبه الله عز وجل على سبه وشتمه ومخاصمتهما.
قال رحمه الله: [ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة].
القائلة تكون قبل الظهر، وهي القائلة المحمودة، وغالباً ما تعين على قيام الليل، وقد تستمر بعد الظهر فيستجم بها الجسم، فكانوا يريحون أنفسهم غالباً بعد الظهر إذا كانوا من أصحاب الأعمال؛ لأن وقت الظهر يشتد فيه وهج الشمس فيخلد الناس إلى الراحة، ولا يستطيع العامل أن يعمل في هذا الوقت، إذاً: يريحه وقت القائلة، ويمكنه من وقت القيلولة التي تكون في النهار ووقت النوم الذي يكون في الليل، وهكذا لو أنه سافر معه، فاحتاج أن ينام نهاراً كأن يكون سرى بالليل، فعليه أن يمكنه من النوم نهاراً.
وكذلك أيضاً يريحه وقت الصلاة، وهذا يدل على أن للعامل حقاً في أن يُمكن من الراحة وقت الصلاة؛ لأنه حقٌ لله عز وجل، وحق الله مقدمٌ على حق خلقه، فهو مالك المملوك وما ملك، فهو سبحانه المالك لخلقه، وملكية السيد لعبده نسبية، ولكن ملكية الله سبحانه وتعالى للخلق ملكية مطلقة، وبناءً على ذلك: لا يجوز أن يضيق عليه في وقت صلاته أو يطالبه بالعمل في وقت الصلاة، بل يعطى وقتاً للوضوء ووقتاً للصلاة، وإذا أعطي وقت الصلاة فعلى المملوك أن لا يشتغل عن ذلك، وكذلك العامل في عمله والموظف في وظيفته إذا جاء يصلي، فعليه أن يحدد قدر وقت الحاجة ويذهب ويتوضأ مباشرة، ثم يؤدي صلاته ويرجع إلى عمله مباشرة.
وأما أن يستغل وقت الصلاة من أجل أن يجلس ويعقد ندوة أو كلمة من أجل مصالح للمسلمين، فلا يمكن للإنسان أن يشتغل بالنوافل على حساب الحقوق الواجبة، وأما جلوسه مع إخوانه وزملائه في العمل، فهذا له وقت آخر غير أوقات الوظيفة وأوقات الحقوق الواجبة التي ترتبط بها مصالح المسلمين، والله عز وجل لا يطاع من حيث يعصى.
وينبغي للمسلم أن يعلم أن وقت الوظيفة أمانة في عنقه، خاصة إذا كان هناك ارتباط بمصالح المسلمين العامة، وليعلم أن الثانية في مصالح المسلمين أجرها عظيم؛ فضلاً عن الدقيقة فضلاً عن الساعة، فكما أنه يحب الله ويطيع الله في سجوده وركوعه فليعلم أنه متقربٌ لله سبحانه وتعالى في كل مصلحة من مصالح المسلمين، ولربما تكون الدقيقة اليسيرة وهو في مصلحة الطب والعلاج أو قضاء حوائج المسلمين العامة تعدل ساعات من العبادة؛ لأن ساعات العبادة نفعها قاصر، وأما ساعات الوظيفة فقد يكون نفعها متعدياً، وقد يأتي الشخص الغريب المسافر والمكروب فيوسع عليه ويفرج كربته، فالمولى والرقيق لا يشتغل وقت الصلاة من أجل أن يتوسع في النوافل إنما يقيد وقت الصلاة، وينظر إلى قدر الحاجة والزائد على ذلك المستحق للعمل؛ لأن ساعات الوظيفة وساعات العمل إجارة بالزمان.
والقاعدة في إجارات الزمان: أن وقتها يستغل بكامله في العمل؛ لأنه اتفاق بين الطرفين على استنفاذه في العمل إلا إذا استثني شيء شرعاً.
فيخرج إلى الصلاة ويؤدي حق الله عز وجل ثم يرجع مباشرة، وإذا أمكنه أن يصلي في مكان قريب وبعيد فإنه يقدم المكان القريب على البعيد، ولو كان هناك فضائل في البعيد كالصلاة في داخل الحرم بمائة ألف صلاة وفي مكان آخر الصلاة فيه لا تضاعف فإنه ينظر إلى أقرب مكان؛ لأن ما أبيح للضرورة والحاجة يقدر بقدرها، ويكتب له أجر الصلاة في المكان المضاعف بالنية؛ لأنه حبسه العذر، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن المعذور يكتب له أجره كاملاً تاماً.
فيريح السيد مولاه ساعة صلاته وساعة نومه وقيلولته، ومن باب أولى إذا كان المولى مريضاً، فلما قال: يريحه وقت القيلولة ولصلاته ونومه؛ فكذلك يريحه عند مرضه وسقمه، فإذا مرض العبد فإنه يعطى الراحة، وهكذا العامل، والعامل إذا كان مريضاً ومرضه لا يمكنه من العمل فله أن يترخص، وأما إذا أمكنه أن يقوم بالعمل مع المرض دون حرج، فإن الله يأجره على ذلك، فالأصل يقتضي أنه لا يحمله ما لا يطيق، فإن المريض لا يطيق أن يعمل أثناء مرضه.(341/7)
حمل الرقيق على الدابة في السفر
قال رحمه الله: [ويركبه في السفر عقبة].
بمعنى أنه إذا سافر فقد جرت العادة أن الرقيق يقوم على دابة السيد، فقد يقود به البعير، فإذا قاد به البعير فعلى السيد أن ينزل من أجل أن يركب الرقيق، فمن يقول هذا؟! من الذي يحفظ الحقوق على أجمل صورة وأكملها؟ حتى إن عمر رضي الله عنه وأرضاه نزل لمولاه، كما في السير حينما سافر إلى الشام، فإنه أركب مولاه عقبه، وأخذ بخطام البعير رضي الله عنه وأرضاه وهو ثالث رجل في الإسلام، وما منعه علو مكانه وشرفه، بل ازداد والله شرفاً وكمالاً رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه تربى في مدرسة النبوة التي هي أنوار التنزيل من الله سبحانه وتعالى الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين.
فالمولى يعطى حقه حتى في الطعام، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في الحديث الصحيح: (إذا كفى أحدكم خادمه طعامه حره ودخانه) يعني: إذا كفاك العبد مئونة تهيئة الطعام فجلس ينفخ على الحطب والنار ويؤذى بدخانه حتى أنضج لك الطعام (فليجلسه معه وليطعمه مما يطعم، فإن لم يفعل فليروغ له لقيمات وليعطها له)، أين يكون هذا؟! من الذي يتكلم بالحقوق بكل نزاهة ونقاء وصفاء ووضوح وجلاء غير هذا النبي الكريم الذي علمه ربه وأدبه صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين؟ فالمقصود أن الرقيق إذا قام بالعمل أعطي شيئاً من الراحة، فيجلسه يأكل معه، وإذا كان الأمر فيه صعوبة أو أن الطعام لا يسع اثنين، فليروغ له لقيمات، يعني: يأخذ الخبز ويضعه في الإدام ثم يعطيها لذلك الرقيق شكراً للمعروف وذكراً للإحسان، وهل قامت أمور المسلمين إلا على حفظ حق أهل الحقوق؟ حتى الرقيق حفظ حقه مع أنه مملوك ويخدم فيشعره أن له فضلاً، وأن له حسنة ومعروفاً؛ لأن هذا تشريع العليم الحكيم سبحانه وتعالى؛ الذي يعدل بين خلقه ويفصل بين عباده، فلا أتم منه حكماً جل جلاله وتقدست أسماؤه، فإذا قام على الطعام أطعمه من الطعام وواساه وأحسن إليه، وإذا كان معه في السفر وقام على دابته وتعب وهو يقود به دابته أركبه مكانه.
وهذا أيضاً يشعر السيد بما قام به العبد؛ ولذلك لا تستقيم أمور الإسلام، ولا يستقيم أمر مسلم إلا إذا عرف لكل ذي فضلٍ فضله، ولا تجد أحداً ينال السؤدد والعظمة والكمال والشرف إلا إذا كان يحفظ حق الصغير قبل الكبير، وتجده يتلمس مواضع إحسان الغير إليه، فإذا جلس مع الناس ولو كان هو المحسن، ولو كان هو الذي يكرمهم ويعطيهم فأول ما يفكر أن يفكر في الذي قدمه له الناس قبل أن يفكر ما الذي قدمه للناس، وهذا شأن أهل الكمالات والعلو، الرجل يدخل إلى بيته فإذا جاءت زوجته ووضعت الطعام بين يديه شكر لها صنعها، وولده يأتي ويقدم له حذاءه فيدعو له دعوةً صالحة، ويقول له: بارك الله فيك.
وإذا كان مُعلِّماً وأحسن إليه تلميذهُ أو قام على شأنه، أو إمام مسجد أو رجلاً مسناً وجد من يخدمه؛ رمى له بالكلمة الطيبة وجعله بخير، وشعر بفضل أهل الفضل.
والعكس أيضاً: فإنه إذا قابل المعروف بالإحسان قابله محسن بإحسان أعظم مما أحسن إليه، فألفت الناس على الخير والإحسان.
وأما إذا كان الشخص لا يعرف فضل أهل الفضل -والعياذ بالله- لا في الدين ولا في الدنيا، يتعلم من أئمة وعلماء السلف، ثم لا يلبث أن يؤلف الكتب في نقدهم وتتبع عثراتهم وكشف عوارهم، أو يتعلم عند المعلم فيجلس ليجمع سقطاته، أو ينتفع بمحاضرة الداعية في صلاحه واستقامته ثم لا يلبث أن يكشف عوار محاضرته، وهكذا حتى يظلم قلبه ويطمس عليه؛ لأن الله لا يرضى بكفران النعم، والكفر أساس الشر، وكُفر النعم يكون برد المعروف بالإساءة؛ {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
فالإسلام لا تقوم أموره إلا على حفظ المعروف، فانظر إلى الرقيق عندما يحفظ سيده له هذا المعروف؛ ولذلك قال الإمام الشافعي: (إن الحر من حفظ وداد لحظة وتعليم لفظة)، فلا يمكن أن تستقيم أمور الإسلام والمسلمين إلا بهذا؛ أن تكون عالي النفس عالي الهمة، تشعر أن للناس عليك فضلاً قبل أن تشعر بفضلك على الناس، فإذا نظر الإنسان بهذه النظرة بارك الله أمره ووضع بين الناس محبته والقبول.
ولذلك تجد الإنسان الذي يعيش بين الضعفاء يتلمس إحسانهم إليه ويقابله بالإحسان؛ تجده في أحسن المراتب وأفضلها وأكرمها وأعزها؛ فالناس تلهج بذكره الجميل، وتعطر له الثناء الطيب، وإذا مات صار حياً بين الناس بذكره الطيب وبحسناته ومآثره، كما كان ذلك لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان لهم فيه قصب السبق، فكان أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه إذا مشى معه عبيده لا تستطيع أن تفرق بين ثوبه وثيابهم، حتى إنه قد لا يعرف من بينهم مما كان منه رضي الله عنه، حفظاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصى بها في الرقيق.
والعكس: فإذا وجدت الشخص لا يحفظ هذا المعروف، فتجد الزوج لا يتلمس حسنات زوجه التي كفته ولده، ويقابل ذلك بالنقد والتنقد للأمور والكشف للعوار والعيب وجدت القلوب تظلم عنه، والمرأة تنفر منه، ومن هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله)، وهذا مفهومه أن شر الناس شرهم على أهله، وكذلك أيضاً العامل إذا كان عند من يكفله يتفقد حسناته ويقول له: جزاك الله خيراً، ويرد له بالكلمة الحسنة، وإذا جاء يعطيه أجرته قال له: جزاك الله خيراً، قمت بخير كثير، فشكر له معروفه وإحسانه، فيخرج من عنده وهو يذكره بكل خير، وكم تجد الآن من الناس ممن يجلس معك يقول: كنت أعمل مع فلان جزاه الله كل خير، وعملت مع فلان فصنع لي وفعل، وهكذا إذا فعل الإنسان الإحسان حفظ الله له إحسانه.
فالمطلوب من السيد أو الولي أن يحسن إلى مولاه، وأن يتفقد حاجته؛ وكما أنه يحسن إليه يحسن إليه فيتفقد حوائجه ويركبه في السفر عقبة.
وقد اختلف في مقدار العقبة: أثر رواية عن الإمام أحمد أنه يركبه في اليوم ستة أميال في مسير الإبل، وهذا قد يقارب سبع إلى ثمن المسافة في السفر في الوقت المعتدل ليس بشديد الحر ولا شديد البرد؛ لأن الإبل تسير ما بين (70 - 80) كيلو في اليوم الكامل من أول النهار إلى آخره، والعقبة إذا كانت ستة أميال فإنها تقارب الثمن؛ لأن مسيرة اليوم ثمانية وأربعين ميلاً هاشمياً وهي تقارب الستة الأميال فيما أثر عن الإمام أحمد رحمه الله وبعض العلماء يقول: لا يقدر، وهذا في الحقيقة فيه مناسبة.
والفرق بين القولين: أنك إذا قلت: ستة أميال قد تكون الستة الأميال في آخر السفر، لكن هناك قول ثان يقول: لا يقدر.
بمعنى أنه يركب ثم إذا قطع مسافة نزل وأركب المولى بقدر ما يستريح، وهذا القول ربما يكون أعدل.
وكان بعض مشايخنا رحمه الله يقول هذه المسألة: الأوْلى فيها أن يترك السيد لحاله مع رقيقه ينظر إلى حاجته، والأوضاع والأسفار تختلف، والمواضع تختلف، فلا يقدر بقدر؛ لأنه ليس هناك نص بالتحديد، فيبقى الأمر على ما فيه رفق وعلى ما فيه معروف وإحسان.
وهذا هو الأشبه في هذه المسألة.
قوله: (في السفر) مفهومه أنه في الحضر لا يلزمه ذلك؛ لأن المسافات فيه لا تصل إلى قدر الإحراج، ولكن في السفر المشقة عظيمة.(341/8)
حق العبد في الزواج
قال رحمه الله: [وإن طلب نكاحاً؛ زوجه أو باعه].
إن سأل الرقيق سيده أن يزوجه، وقال: أريد أن أتزوج، فهذا حق من حقوقه؛ لأنه إذا لم يزوجه وقع في الحرام، والشريعة قفلت الأبواب المفضية إلى الفساد، والزنا من أعظم الفساد، ولذلك قفلت جميع الأبواب الموصلة إليه؛ فنهت عن النظر إلى المحرمات، ونهت عن لمس الأجنبية والخلوة بها، وسفر المرأة بدون محرم، وضرب المرأة بقدمها ليعلم ما تخفيه من زينتها كل هذا قفل للأبواب المفضية للفساد وهو الزنا، فإذا كان الرقيق محتاجاً إلى الزواج وشكى إلى سيده أنه يريد أن يتزوج زوجه سيده.
واختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: الشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الظاهر على أنه يجب على السيد أن يزوجه؛ لقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، فأمر الله بتزويجهم، وقال المالكية والحنفية: لا يجب عليه الزواج إنما هذا من باب المعروف والإحسان.
وظاهر الآية يدل على الوجوب: (وَأَنكِحُوا)، ولذلك مذهب الحنابلة والشافعية أشبه من حيث النص؛ لأنه أخذ بظاهره، فنقول له: إما أن تزوجه وإما أن تبيعه؛ لأنه لو بقي عنده بدون زواج وهو لا يأمن الفتنة، أفسد نفسه وغيره، نقول له: إما أن تزوجه وإما أن تبيعه، ويؤمر ببيعه.(341/9)
حق الأمة في الوطء أو الزواج
قال رحمه الله: [وإن طلبته؛ وطئها أو زوجها أو باعها].
وإن طلبت الأمة الزواج وطئها، فإذا وطئها عفها عن الحرام، أو باعها.
وطئها لأنها ملك يمين، وحق من حقوقها أن تعف عن الحرام، فإما أن يعفها هو أو ييسر لها سبيل الإعفاف بأن يزوجها من آخر، والدليل على ذلك الآية المتقدمة من سورة النور: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، فهذا يدل على أنه يجب عليه أن يزوجها.
فالأمة تختلف عن الرجل؛ لأنها توطأ، ومن هنا جاء فيها الخيار الثالث، وأما العبد الرجل ففيه خياران: إما أن يزوجه وإما أن يبعه.(341/10)
الأسئلة(341/11)
جواز أخذ العبد ما زاد عن الخراج بإذن السيد
السؤال
أشكل عليّ جواز الاتفاق على المخارجة مع أن مال المملوك كله للسيده أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فلا إشكال في هذا؛ لأن السيد له الحق أن يملك مولاه؛ ولذلك يأذن له بالتجارة ويمكن من المال، وإذا مكنه من المال فلا حرج في ذلك ولا بأس، فإذا قال له: أعطني ثلاثة دراهم يومياً والباقي لك فله ذلك، أي: إذا أذن له بالملكية ثبتت له يد الملكية على ما المال، والله تعالى أعلم.(341/12)
حكم خصم صاحب العمل على العامل من أجرته لسبب يراه
السؤال
يعمل عندي عامل ولم يقم بالعمل على الوجه المطلوب، فخصمت عليه من الأجرة ثم أعطيته المتبقي، فلم يقبل فما العمل، أثابكم الله؟
الجواب
هذه قضية فيها طرفان وخصمان فلا يحكم لشخص على آخر، ولا يحكم بين خصمين بقول أحدهم؛ لكن ننبه على الأصل، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له في فقه الفتوى، قد يأتيك من يسألك فتحكم له على الطرف الثاني وأنت لم تسمع منه؛ ولذلك عتب الله على داود من فوق سبع سماوات حينما قال: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:22 - 23]، لما قال الخصم دعواه، قال داود: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:24]، كان المفروض أن ينتظر حتى يتكلم الخصم الثاني، وهذا تعليم من الله عز وجل لنبيه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ومن هنا أخذ العلماء الأصل الشرعي؛ أنه لا يجوز في القضاء أن يحكم على خصم دون أن يسمع من خصمه، لابد أن يسمع من الطرفين، ومن هنا كانت الحكمة المأثورة عن علي رضي الله عنه وتحكى عن غيره: (إذا جاءك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم له، فلعل خصمه فقئت عيناه)، يعني: إذا جاءك يشتكي من مظلمة فقد يكون صاحبه عنده عشرات المظالم يقول: ضربني فلان، وتجد أنه قد ضربه أضعاف الذي ضربه، أو تجده فعل فعلاً يستحق به الضرب؛ فإذاً لا يحكم بين طرفين ما لم يسمع منهما.
هذا عامل وهو خصمك أمام الله جل وعلا، هو أجير استأجرته؛ والأصل أنك لست من يقدر عمله، الخطأ الذي أخطأته أنك قدرت عمله وخصمت عليه، وهذا ليس من حق أحد كائناً من كان أنه يخصم من العامل شيئاً بل ينبغي أن يقدر عمله الذي قام به، ويعاقب على خطئه، فالعمل الذي قام به لست أنت الذي تقدره، وليس من حقك أن تقدره، وإنما تنظر إلى اثنين من أهل الخبرة يأتون وينظرون إلى عمله الذي قام به ويقدرونه، فإن قدروه بالأجرة التي دفعتها، فما ظلمته، وإن قالوا: إن أجرته ستة آلاف ريال وأنت أعطيته أقل منها فقد ظلمته، ومن حقه أن يمتنع؛ لأنك لم تعطه حقه، فنحن لا نستطيع أن نقول: هو المخطئ أو أنت، إنما نقول: الأصل الشرعي يقتضي أنك لا تقدر العمل، وإذا امتنع لا تترك الأمر هملاً، وهذا أمر ننبه عليه، أنت الآن تتحمل مسئولية أمام الله عز وجل عن هذه المظلمة وعن منع الأجير أجرته.
الواجب على الشخص إذا حدثت بينه وبين العامل خصومة ألا يتركه حتى يفصلها بالوجه الشرعي، ويقول له: ما أدعك، إما أنك محق فأعطيك حقك، وإما أن أكون محقاً فاعرف ما الذي أريده، أما أن تترك الأمر هكذا، وتترك الرجل يذهب، فليس من حقك هذا، وقد قصرت في الجانبين: الجانب الأول: أنك قدرت عمله وليس من حقك أن تقدره، هذا مرده إلى أهل الخبرة.
وثانياً: أنك تركته يذهب، المفروض أن تذهب به إلى أهل الخبرة، أو كانت المسألة مشكلة عندك تذهب إلى من تثق بعلمه أو إلى القاضي تقاضيه، أو تنظر من عنده معرفة يفصل بينك وبينه؛ أما أن تعطيه باجتهادك ورأيك، ثم إذا امتنعت يذهب هكذا، فلا فإنه هو خصمك في هذه الأجرة.
والذي أوصيك به: أن ترى أناساً من أهل الخبرة يقدرون عمله، ثم إذا كان المبلغ الذي أعطيته دون الذي يستحقه تبحث عنه وتعطيه حقه كاملاً، هذا الذي أوصيك به، فإن عجزت عن معرفته والوصول إليه وتعذر عليك ذلك، تصدقت بهذا الثمن على نيته؛ حتى إذا وافيت الله عز وجل وسألك عن حقه؛ أخذ من حسناتك مما تصدقت به فكفيت مظلمته، والله تعالى أعلم.(341/13)
الفرق بين مصطلح الجمهور والجماهير
السؤال
ما الفرق بين قولنا: جمهور العلماء، وجماهير العلماء، أثابكم الله؟
الجواب
هذا مصطلح، فإذا قيل: الجمهور.
فهم الثلاثة في مقابل الواحد من الأربعة، مثلاً الحنفية والمالكية والشافعية، يقولون: يجوز، والحنابلة قالوا: لا يجوز، تقول: قال الجمهور: يجوز، وتقصد الثلاثة في مقابل الواحد.
وممكن أن تقول الجمهور.
إذا كان خلاف بين الحنفية والمالكية من وجه والشافعية والحنابلة من وجه، إلا أن أصحاب الشافعي مع الحنفية والمالكية، فحينئذٍ تقول: الجمهور، إذا انسحبوا واختاروا قول غير إمامهم.
وممكن أن تقول: الجمهور النسبي، وصورته: أن يختلف العلماء الثلاثة على الجواز، ويخالف غيرهم بالتحريم، ثم الذين قالوا بالجواز يختلفون في الجواز مع الكراهة والجواز مطلقاً، فهؤلاء فيما بينهم يختلفون في مسألة أو في قيد، فتقول: جمهور الجمهور، ويكونون -مثلاً- ثلاثة فيكون اثنان في مقابل الواحد، هذا يقال له: جمهور القائلين بالمسألة.
وأما بالنسبة للجماهير فهذا مصطلح يقارب الإجماع، إذا قيل: جماهير العلماء.
فيقصد به عامة العلماء وهو يكاد يقارب الإجماع، وغالباً لا يقال: جماهير إلا إذا ضُعّف المخالف، أعني: إذا كان المخالف له أفراد فيقال: جماهير العلماء على الجواز.
وتجد هذا عند أصحاب المذاهب، فمثلاً: عند الحنفية عالم، ومن علماء المالكية عالم، والشافعية كذلك، فهم أفراد يقولون بضد هذا القول، حينها تقول: الجماهير؛ لأن الخلاف ليس بين الأربعة أنفسهم؛ فالأربعة مع بعضهم على الجواز أو عدمه؛ فتقول: الجماهير.
والجماهير غالباً مصطلح لا أستعمله إلا فيما يقارب الإجماع، إذا قلت: الجماهير فهذا مصطلح ألتزم به في الغالب فيما يقارب الإجماع، أو يكون الخلاف في المقابل ضعيفاً في أغلب الأحوال، والله تعالى أعلم.(341/14)
حكم قراءة المسبوق التشهد
السؤال
المسبوق بركعة هل يقرأ التشهد الأول والأخير أم يبقى صامتاً، أثابكم الله؟
الجواب
المسبوق فيه وجهان للعلماء رحمهم الله: القول الأول: بعض العلماء يرى أنك إذا صليت وقد سبق الإمام فعلت كل شيء مع الإمام كأنك تابعته من أول الصلاة، وبناءً على هذا القول: يقرأ التشهد الأول والتشهد الثاني كاملاً ويدعو؛ لأنه بحال المتابعة فيتابع الإمام.
القول الثاني: بعض العلماء يرى أن المتابعة في الظاهر دون الباطن، ومن هنا قالوا بالاختلاف والافتراق، فيقرأ التشهد الأول مرتين، ففي التشهد الأخير لا يتم ويحتسبه كالتشهد الأول، وحينئذٍ يبقى صامتاً بعد فراغه كما لو قرأ التشهد الأول وراء الإمام وطوّل الإمام فإنه يبقى صامتاً.
إذا كان التشهد عند قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبينا أن هذا هو الراجح، وأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تجب في التشهد الثاني دون الأول؛ لأن التشهد أصل من الشهادتين، فإذا بلغ قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ فقد وصل وأتم التشهد.
أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي دعاء واستفتاحٌ للدعاء، ولذلك كان التشهد الثاني دون الأول.
وأكد هذا الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا جلس في التشهد الأول كأنه على الرضف)، وهي الحجارة المحماة، أي: أنه كان يبادر بالقيام، وهذا يدل على أنه ما كان يطيل في التشهد الأول، ثم إن إيجاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول والإطالة فيه ليس لها دليل قوي يدل عليها.
على كل حال: يقرأ التشهد الأول في التشهدين، ويكون جلوسه لعذر المتابعة في الظاهر ولا يتابع في الباطن.
بناء على هذا الخلاف: هل المسبوق يتابع الإمام أو يخالفه؟ وهنا ترد مسألة الصلاة على الجنازة؛ فمن دخل والإمام في تكبيرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مسبوقاً، أو دخل والإمام في تكبيرة الدعاء، فعلى القول بالمتابعة يدخل بالدعاء، وعلى القول بأنه ينظر حال نفسه: يدخل بقراءة الفاتحة، ثم بعد ذلك يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو؛ لأنه لخاصة نفسه، ثم إذا سلم الإمام والى بين التكبيرات على التفصيل الذي تقدم معنا في الجنائز.
على كل حال: المسألة فيها القولان المشهوران، وإذا قرأ التشهد كاملاً فله وجه، وإن كان الأشبه في الحقيقة أن المتابعة للظاهر دون الباطن، والله تعالى أعلم.(341/15)
حكم خروج الطائف بالبيت إلى المسعى بسبب الزحام
السؤال
بعض الناس عند طوافهم بالكعبة على سطح المسجد الحرام يخرجون إلى المسعى لإكمال الشوط اجتناباً للزحام الذي يوجد بمحاذاة الحجر الأسود، فهل في هذا العمل شيء، أثابكم الله؟
الجواب
اختلف العلماء رحمهم الله في المسعى، هل يعتبر داخل المسجد أو خارجه، والصحيح: أن المسعى خارج المسجد وليس بداخله، وعليه قرار المجمع الفقهي، وهو الأشبه في زماننا أنه خارج المسجد وليس بداخله.
فائدة الخلاف: أن المرأة لو جاءت في العمرة وطافت وصلت ركعتي الطواف، ثم خرجت إلى المسعى وحاضت، شرع لها أن تتم عمرتها؛ لأنه لا تشترط الطهارة لصحة السعي، وليست بداخل المسجد، فتتم سعيها.
كذلك أيضاً يتفرع على هذا: أنه لو طاف فوق المسعى -إذا قلنا: إنه ليس من المسجد- فإنه قد خرج عن المسجد، ويشترط لصحة الطواف أن يكون داخل المسجد، ومن خرج من باب من أبواب المسجد أثناء الطواف ودخل من باب آخر فقد بطل شوطه، وذلك لأن الله تعالى يقول: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26]، فدل على أن الطواف لا يصح إلا داخل مسجد البيت، وبناءً على ذلك: لو خرج إلى جهة المسعى فهذا يؤثر، ولا يصح ذلك الشوط إلا إذا رجع من المكان الذي خرج منه، وأتم طوافه، فحينئذٍ يجزيه، والله تعالى أعلم.(341/16)
إجزاء السعي والطواف عن المطوف به والمطوف
السؤال
من يدفع الكرسي المتحرك في الطواف والسعي هل يجزئ الطواف عمن يجلس على الكرسي، أو عمن يدفع الكرسي، أو عن الاثنين سوياً، أثابكم الله؟
الجواب
يجزئ عن الاثنين؛ لأن الطواف من القاعد على الكرسي وقع تاماً كاملاً، وقد طائف المطوف على قدميه؛ لأن العربة هي التي استغرقت مكان الطواف فكانت كرجلي البعير ويديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الإفاضة على بعيره لما ركبه الناس كما في الصحيح، وهذه المسألة غير مسألة حمل الصبي؛ لأنه إذا حمل الصبي أو حمل غيره، فكلاهما على قدميه، ولا يجزئ طواف القدمين إلا عن شخص واحد لا عن شخصين، ومن هنا إذا كان على عربته أو دابة فإنه يجزيه حتى ولو لم يقده أحد، وكما لو كانت تتحرك بالكهرباء ونحو ذلك، فإنها تجزيه ويصح طوافه، والله تعالى أعلم.(341/17)
نفقة الخدم والسائقين وحقوقهم
السؤال
هل الخدم والسائقون والخادمات لهم من النفقة والحقوق مثل ما للأرقاء، وبماذا يوصى في التعامل معهم، أثابكم الله؟
الجواب
ليس للخدم حقوق الأرقاء؛ لأنهم ليسوا بملك اليمين، فهم أحرار ولا يثبت لهم ما يثبت لملك اليمين، ملك اليمين له حقه، والخادم حقه يندرج تحت أصل يسمى بحق الأجير، هذه إجارة وهذه ملك يمين، هذا باب له أحكامه، وهذا باب له أحكامه.
الخدم يوصى بتقوى الله عز وجل فيه، وأول ما يفكر فيه المسئول عنهم أن يكفهم عما حرم الله، وأن يحملهم على طاعة الله عز وجل، وأن لا يفكر في مصلحته ومصلحة أهله وولده قبل أن يفكر في هذا الأمر، وليعلم أنه ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، وأنها عورة من عورات المسلمين وضعت أمانة في رقبته، فإذا اتقى الله عز وجل فيها فقد نجح وأفلح وصلح له أمره، وبارك الله له فيما يكون منها.
وإن ضيق فالله محاسبه وسائله، خاصة إذا كانت خادمة، فأمرها عظيم، فيرى أنها كواحدة من بناته أو أخواته، وأنها عرض من أعراض المسلمين، وأن كونها أجيرة لا يسقط حقها خاصة إذا كانت مسلمة؛ فعليه أن يتقي الله عز وجل فيها، وأن يحفظها ويصونها، ولا يفتح لها أبواب الشر، وإذا فتحت عليها أبواب الشر قفلها عنها كما يقفلها عن عرضه؛ لأن المسلم مؤتمن على عرض أخيه المسلم، فما بالك إذا كانت أجيرة عنده؛ فإن نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توصي بالجار، فما بالك بالأجير الذي هو تحت كفالة الإنسان! فالواجب أولاً: حق الله عز وجل، بأن تتفقد الخدم في الصلوات الخمس، وأمرهم بها ومتابعتهم في ذلك ومراقبتهم؛ لأنهم إذا صلوا استقامت لهم أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم، وإذا لم يكونوا مصلين محقت البركة، فما من إنسان لا يصلي إلا كان شؤماً على من كان معه، نسأل الله السلامة والعافية.
فيتفقدهم في الصلاة، وفي أخلاقياتهم ومحافظتهم على أمور دينهم، فيأمرهم بما أمر الله، وينهاهم عما نهى الله عز وجل عنه، بعد هذا يفكر في مصالحه الدنيوية، ويحدد ماذا لهم وماذا عليهم، فإذا وجد أنهم يحملون ما لا يطيقون، فإنه يوصي زوجته وبناته وأهله أن يتقوا الله عز وجل في الخادمة ويحفظوا ألسنتهم عن أذيتها وسبها وشتمها، ويذكرهم بأنها غائبة عن أهلها، وأنها غريبة عندهم كالضيف، فيحرص الناس على الإحسان إليها، فإنك إن رحمتها رحمك الله كما رحمتها، فالراحمون يرحمهم الله ارحموا عزيز قوم قد ذل، فقد تكون عزيزة في أهلها فاضطرتها الأمور والظروف أن تتغرب، فيحرص كل الحرص على أن يهيئ لها بين أهله وولده من يحفظ حقها، وأهم شيء الرحمة؛ فإن الرحمة إذا سكنت في القلوب أصلح الله بها القوالب، ومن كان قاسي القلب فهو بعيد عن الله عز وجل، لا يَرحم ولا يُرحم، ولما قال الأقرع للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت أحداً منهم قال: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك)، فالإنسان ينبغي أن يحرص على سكون الرحمة في قلبه.
وعليه أيضاً أن يتقي الله عز وجل في الحقوق في الأجرة، يعطيها أجرتها عند نهاية العمل، ولا يؤخر الراتب، ومن أعظم الظلم تأخير الرواتب عن العمال والمستخدمين؛ لأنهم في أمس الحاجة إلى هذه الرواتب، وقد يحتاجها لعلاج مريض، أو لسداد ديون، وقد يأتي بعضهم تحت وطأة الديون، وهو أحوج ما يكون إلى أن يفك أسره منها، وقد يكون بيته ومتاعه مرهوناً في بلده؛ هذا كله ينبغي أن يحس بها الإنسان ويستشعرها ويتقي الله عز وجل.
وهذا حقه وهذه أجرته، وإذا جاءه يعطيه الأجرة فلا يعنته ولا يؤذيه، لا تعطيه الأجرة بطريقة يذل بها، ولا تحيله على مكان يذهب يأخذ منه راتبه أو أجرته، لأنه ليس من حقك هذا، فيذهب في الشمس والحر ليقف مع الناس، وهذا ليس من حق أحد في أجور الناس وحقوقهم؛ لأن الأجير يعطى أجره، فكما أنه وفى لك في عملك وأعطاك عملك فعليك أن تعطيه أجرة عمله، وتتقي الله عز وجل، وهذه من حقوق العامل مطلقاً.
كذلك أيضاً من حقه عدم تعريضه للخطر والضرر كما تقدم معنا في ملك اليمين، فالأعمال التي فيها خطورة عليه في نفسه وبدنه يحفظهم منها سواء كان خادماً أو خادمة.
كذلك أيضاً يحفظ السائقين من مواضع الفتن والريب، ويحجبهم عنها إذا نزلوا في أماكن تكثر فيها الفتن، ويختار أوقاتاً ليس فيها فتن، يتقي الله عز وجل فيهم ويرحم غربتهم، ويحرص كل الحرص على الإحسان إليهم.
كذلك مما يوصى به في حقهم: القبول للمحسنين والتجاوز عن المسيء، فإذا أخطأ في كلمة فقد تكون هذه كلمة خرجت من لسانه دون أن يشعر، فالعامل حينما يكون سائقاً قد يسوق ويرهق إلى ساعات متأخرة من الليل، وهذه زائدة على الاتفاق بينه وبين الأجير، ومقاطع الحقوق عند الشروط، فانظر العقد الذي بينك وبينه ووفه له كاملاً، وإلا كان خصماً لك أمام الله عز وجل، فخير لك أن تلقى الله خفيف الحمل خفيف الظهر.
وكم من إنسان يمسي ويصبح وهو في كرب وهمّ وبلاء وغم في نفسه، لأنه قد ظلم غيره وهو لا يدري، فإن المظلوم إذا رفع كفه على من ظلمه فإنه يؤذنه بدمار والعياذ بالله، والله تعالى يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)، وأجمع العلماء على أن دعوة المظلوم تستجاب على من ظلمه ولو كان المظلوم كافراً؛ لأن الله يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)، فليتق الله الإنسان وليعلم أن هناك عقداً واتفاقاً؛ إذا كان الاتفاق أن يعمل إلى المغرب فإنه ينتهي عمله عند أذان المغرب، فما زاد فإنه يخير هل يريد أن يعمل أو لا، وإذا كان يعمل فتسأله: كم يريد؟ ثم تعطيه أجرته.
كذلك إذا كان يراد لأعمال معينة ينجزها، فإذا أنجز هذه الأعمال، فمن حقه أن يستوفي حقه، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، وكما أن رب المال ورب العمل له حق، فكذلك عليه حق للأجير.
وكذلك على الأجير أن يتقي الله في حقوق أصحاب الأعمال، وأن يتقي الله عز وجل في أداء العمل بالنصيحة والشعور بأن ماله كماله، وحينما يكون خادماً في البيت؛ فليعلم أن أسرار البيت أمانة ومسئولية أمام الله عز وجل، والإنسان يعلم خادمه هذا، ويقول: هذه الأسرار أمانة في عنقك، ويعلمه أن فضيحة سر المسلم تؤذي العبد بفضيحة الله عز وجل، فقد تأتي الخادمة وتجلس مع خادمة ثانية تحكي لها جميع ما تراه في البيت، وهذه أمانة ومسئولية أمام الله عز وجل، فلا يجوز للمسلم أن يهتك ستر أخيه المسلم، ولو قال: عندنا بعض الناس يفعل كذا، فيفهم من كلامه أنه يقصد هؤلاء حتى ولو لم يذكرهم، ما دام أنه معلوم أنه لا يعمل إلا عند هؤلاء؛ فطبيعة الحال تظهر أنه يقصد من يعمل عندهم.
ومثل هذا أسرار التجارة، فهناك أسرار للعمل في التجارة لا يفشيها، وهناك أسرار لزوجته وولده من خصومات ونزاعات، فلا يقول: والله فلان يكره ولده، فلان يضرب ولده، فلان يفعل مع أولاده وهم يفعلون، هذه أسرار ينبغي حفظها.
ومن حقوق أصحاب الأعمال على العمال أن يتقوا الله عز وجل ويحفظوا ألسنتهم، وأن لا يفشوا هذه الأسرار؛ لأن المسلم مأمور بالستر على أخيه المسلم؛ لأنه مع أخيه المسلم كالجسد الواحد؛ يحب له ما يحبه لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة؛ ولذلك ينبغي على العمال أن يتقوا الله عز وجل في حقوق أصحاب الأعمال، وأن يؤدوها كاملة.
كذلك من الخيانة أن يتقن العمل حال وجود صاحب العمل، فإذا غاب عنه تساهل في أداء العمل ولم يبال بعمله؛ فإن الله رقيب وحسيب وشهيد، ومراقبة الله لك أعظم من مراقبة المخلوق لك، وإذا نصحت في غيبته سخر الله لك من ينصح لك في غيبتك كما نصحت للناس، والله جل وعلا يجزي المحسن بإحسانه، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا، وأن يتوب علينا، وأن يتجاوز عنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(341/18)
شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [5]
إن رحمة الإسلام قد شملت حتى البهائم، ونفقة الحيوانات ليست من المسائل الاختيارية، أو التي يكون فيها فضل للمنفق، بل هي من اللوازم، فيلزم صاحب البهائم القيام بكل ما يتبع ملكيته لها من نفقة وأكل وشرب ورعاية لها بما يصلحها وإلا باعها ولا يحملها ما لا تطيقه أو تعجز عنه.(342/1)
أحكام نفقة البهائم ورعايتها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وعليه علف بهائمه، وسقيها، وما يصلحها]: شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان الأحكام المتعلقة بالنفقة على الدواب، وقد تقدم معنا في أول الباب أن النفقة لها ثلاثة أسباب: السبب الأول: النكاح.
والثاني: النسب والقرابة.
والثالث: المِلك.
وبيّنا النفقة على الزوجة فيما يتعلق بسببية النكاح، ثم النفقة على الأقارب فيما يتعلق بسببية النسب، ثم بيّنا أن سبب الملك يشمل جانبين: الجانب الأول: يتعلق بملك اليمين بالنسبة للآدميين.
والجانب الثاني: يتعلق بملك الحيوانات والبهائم.
فالإنسان إذا ملك ذوات الأرواح: إما أن يكون المملوك من الأرقاء والآدميين، وإما أن يكون من الحيوانات والبهائم.
وفي الفصل السابق تحدث المصنف رحمه الله عن أحكام النفقات بالنسبة للآدميين، وهذا الفصل سيتحدث المصنف رحمه الله فيه عن النفقة على البهائم.
فقدّم النفقة على الآدميين؛ لشرف الآدمي، ولأن الله كرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، فابتدأ بالنفقة على الإنسان قبل بيان نفقة الحيوان.
والنفقة على الحيوان حق من حقوق الحيوان، وقد بيّنا أن الشريعة الإسلامية هي وحدها التي كفلت حقوق المخلوقين، وأعطت كل ذي حق حقه بعدل من الله سبحانه وتعالى الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، وهذا يدل على كمال هذه الشريعة الإسلامية، ويدل دلالة واضحة على أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى أن ينعق أعداؤهم بالحقوق فيعلموهم شيئاً يجهلونه، بل إن الحقوق مقررة عندهم منذ فجر الإسلام.
فهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وهو في سياق الموت يأمر بالحقوق، ويذكر بها، فكان آخر ما أوصى به: (الصلاة وما ملكت أيمانكم)، أي: اتقوا الله في الصلاة فهي حق الله، واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، وهذا حق المخلوق، فنبه بقوله: (الصلاة) على كل حق من حقوق الله، ونبه بقوله: (وما ملكت أيمانكم) على كل حق من حقوق المخلوق، سواء كان من الآدميين، أو من غير الآدميين.(342/2)
علف البهائم
وقوله رحمه الله: (فصل) يدل على أنه قسيم لما قبله، وهذا مبني على أنه متعلق بالنفقات.
قال رحمه الله: [وعليه علف بهائمه].
أي: على المسلم أن يقوم بعلف البهائم، والبهائم: جمع بهيمة، قيل: لأن كلامها مبهم غير واضح، فهي من العجماوات مما لا يعرف كلامه.
والمراد بـ (عليه): يجب على المسلم أن ينفق على كل بهيمة يملكها بإطعامها، وهذا ما عبر عنه بقوله: (علف).
والبهيمة لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون راعية وسائمة، فيمكنه أن يطعمها عن طريق الرعي والسوم، كما يحدث هذا في البادية.
الحالة الثانية: أن تكون محتاجة إلى العلف، بأن يشتري لها العلف، أو يحش لها الحشيش ويأتي به إليها.
وقد يكون هناك قسم ثالث يجمع بين الأمرين، لكن إذا كانت البهيمة يمكن أن ترعى ويوجد الرعي فيخرجها إلى المرعى، فيجب على المسلم أن يمكّن البهيمة من حقها في العلف، إما أن يطعمها إذا كانت محبوسة، وإما أن يرسلها لكي ترعى إذا وجد الحشيش والمرعى الذي يمكن عن طريقه أن تتحصل على طعامها وعلفها.
والأصل في وجوب النفقة على البهيمة: حديث أبي هريرة في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فدل هذا الحديث على أن من حبس البهيمة فإنه يجب عليه أن يطعمها، أو نقول له: أرسلها حتى تصيب الطعام، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله لظاهر هذا الحديث.
فقد أجمع الأئمة على أن من ملك البهيمة يجب عليه أن يقوم على علفها، سواء قام بذلك مباشرة، أو أقام من يقوم بعلفها كالعامل والأجير، فإذا وكل أحداً بالقيام على علفها، فعليه أن يتقي الله، وأن يعلم أن هذا الحق لا تبرأ ذمته فيه إلا إذا أقام عليه الأمين الذي يوثق به، لأنه ربما أقام شخصاً لا يوثق بأمانته، وحينئذ يضيع البهيمة، ويقصر في حقوقها في الإطعام، فإن العامل إذا لم يكن أميناً، ولم يتق الله عز وجل في البهيمة؛ ربما لم يجد الطعام والعلف، أو وجد مشقة إذا حش الحشيش أو جزه لها، فربما عدل إلى طعام لا يقوم به حالها، وقد يطعمها بعض الطعام لا كله، وقد يبخل عنها بالكلية فيعذبها، فحينئذ يكون من أقامه شريكاً له في الإثم والعياذ بالله.
فالواجب على المسلم أن يقوم على علف بهائمه، وإذا أعلفها ينبغي عليه أن يتقي الله في هذا العلف، فإذا أراد أن يطعمها ينبغي أن يكون هذا العلف مما يتحقق به سد حاجة البهيمة، ويكون مما ترغب فيه البهيمة، فإذا كان علفاً مضراً بصحتها، أو قليلاً لا يقوم بها، فإن هذا من تضييع الحيوان، ولا يجوز له ذلك.
فقوله: (عليه علف بهائمه): أي عليه أن يطعم البهائم.
والذي قرره العلماء: أنه إذا أرسل البهيمة لترعى، فليس بواجب عليه أن يتركها حتى ترعى غاية الرعي، إنما المراد الحد الذي تحصل به الكفاية.
وهذا يختلف من بهيمة إلى أخرى.(342/3)
سقي البهائم
قال رحمه الله: [وسقيها].
أي: يجب عليه أن يسقي بهيمته كما أنه يجب عليه أن يطعمها، وسقي الماء تختلف فيه البهائم؛ فمن البهائم من يصبر عن الماء كالإبل، ولكن لها مورد وأمد معين، فيراعي هذا الأمد، فيختار أولاً الزمان لسقيها، ويمكنها من أن تشرب، ويكون هذا الشراب الذي تشربه أو المورد الذي ترده مورداً صالحاً؛ بحيث لا يهمل البهيمة فيضع ماءها في أوانٍ قذرة، أو يسقيها من الماء القذر، أو الماء الذي يكون فيه ضرر على صحتها، كل هذا واجب عليه أن يراعيه في طعامها وشرابها.
وهذا كله مبني على الأصل؛ لأنه إذا قصر فإنه يحاسب، فإما أن يطعمها ويسقيها بالمعروف، وإما أن يرسلها.
قال رحمه الله: [وما يصلحها].
لما ذكر المصنف أن عليه سقي بهائمه، دل على أنه لا يجب عليه سقي بهائم الغير، ولا يجب عليه أن يطعم بهيمة الغير، لكن هذا فيه تفصيل: فلو أنه مر على بهيمة ووجدها محتاجة للطعام أو للشراب؛ فإنه يحسن إليها؛ فيسقيها ويطعمها، وهذا من أعظم المعروف.
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال (مرت بغي من بغايا بني إسرائيل على كلب يطوف ببئر، فنزلت فملأت موقها-يعني: خفها- فسقته؛ فشكر الله له): يعني أن الكلب سأل الله أن يشكرها لأنه لا يستطيع أن يشكرها، وسأل الله جل وعلا المالك لكل شيء، ورب كل شيء، والمطلع على كل شيء، فهو بهيمة لا يستطيع أن يعبر عن شكره لذلك المعروف فسأل الله أن يشكرها، فما كان من ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض الرحيم الذي يرحم من يرحم؛ إلا إن غفر لها ذنوبها، فجعل شربة ماء سبباً في رحمته لها، فغُفرت بها ذنوب عمرها.
وفي الرواية الثانية: (شكر الله لها) أي: أن الله أعظم منها هذا المعروف، وهو سقي هذه البهيمة في هذا المكان، ونزولها إلى البئر، وتكبدها مشقة سقيه رحمة منها بهذه البهيمة، فما كان من الله إلا أن رحمها، لأن الله يرحم خلقه، ويرحم من يرحم خلقه.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن).
وقال عليه الصلاة والسلام: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من لا يرحم لا يرحم)، ومفهومه أن من يرحم يُرحم، ففي هذا الحديث الجليل: أنه يسقي بهائم الغير ويحسن إليها كما يحسن إلى بهائمه، لكن الفرق: أن بهائمه على سبيل الوجوب واللزوم، وبهائم غيره على سبيل الندب والاستحباب.(342/4)
حق البهائم في تحميلها قدر طاقتها
قال رحمه الله: [وأن لا يحملها ما تعجز عنه].
أي: وعليه أن لا يحمل بهائمه ما تعجز عنه، فلا يكلف البهيمة ما لا تطيق، والمراد بهذا: النهي عن تعذيب الحيوان، وتعذيب الحيوان يكون على قسمين: القسم الأول: تعذيبه حياً.
القسم الثاني: تعذيبه عند موته.
وكلاهما محرم بإجماع العلماء رحمهم الله، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان، ونهى أن يتخذ الحيوان غرضاً؛ مثل أن يتخذ العصفور أو الطائر هدفاً يرميه بالسلاح ويتدرب عليه، أو يصيده من غير حاجة، فلا يجوز أن يعذب الحيوان بحياته ولا بعد موته.
ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته).
فبين عليه الصلاة والسلام أن هذا من الإحسان، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يعذب الحيوان بتحميله ما لا يطيق.
فلو كانت عنده بهيمة وأراد أن يحمل عليها المتاع؛ نظر إلى طاقتها في حمل المتاع، ولا يجعل عليها من المتاع فوق طاقتها، وإنما يحملها قدر طاقتها، كذلك أيضاً لو أراد أن يسقي على البهيمة، فإنه إذا أراد أن لا يتلفها في السقي وإدارة السواني؛ احتسب لها المدة التي تطيق فيها الإدارة، ولم يحملها فوق طاقتها وما تعجز عنه.(342/5)
حق البهيمة في إرضاع ولدها
قال رحمه الله: [ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها].
أي: ولا يجوز له أن يحلب من لبن البهيمة ما يضر بولدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر؛ فقال: (لا ضرر ولا ضرار)، وهو حديث أجمع العلماء على صحة متنه، وهناك خلاف في سنده، لكن من أهل العلم من حسنه، وهو قاعدة عند أهل العلم مجمع عليها، وهي: الضرر يزال.
فلا يجوز أن يحلب لبنها إذا كان ولدها يحتاج هذا اللبن، والسبب في هذا أنه إذا حلب لبن البهيمة ربما امتنع الولد عن شرب لبن غير أمه، وهذا يحدث في بعض الحيوانات؛ وحينئذ لو شرب الإنسان هذا اللبن أضر بالحيوان، ولربما أزهق روحه ومات الولد أو ساءت صحته، فحينئذ تقدم مصلحة ولد البهيمة على مصلحة الشارب وهو المالك، ونص العلماء على اختلاف مذاهبهم: على أنه لا يجوز لمالك البيهمة أن يحلبها متى احتاج ولدها إلى ذلك اللبن.(342/6)
ما يلزم به المالك العاجز عن نفقة بهائمه
قال رحمه الله: [فإن عجز عن نفقتها أجبر على بيعها].
يقول رحمه الله: (إن عجز) المالك عن نفقة بهيمته، (أجبر على بيعها)، وهذه مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله: لو أن إنساناً ملك بهائم ثم افتقر ولم يستطع أن يشتري طعامها، هل يجبر على بيعها، أو لا يجبر؟ جمهور العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم على أن القاضي يجبره على بيعها.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه: إلى أنه ليس من حق القاضي أن يجبر صاحب البهيمة على بيع البهيمة؛ والسبب في هذا: أن الإمام أبا حنيفة نظر إلى مسلك قضائي، ووجهه: أن الدعاوى لا تكون في القضاء إلا وجد الطرفان المتنازعان، وسأل صاحب الحق حقه، وصاحب الحق هنا بهيمة، وليس هناك مسلك قضائي يقيم البهيمة خصماً قضائياً لمالكها، صحيح لو كانت البهيمة إنساناًَ، والإنسان هذا طالب بحقه، صح قضاءً أن تجرى الخصومة، وتكون خصومة شرعية، لكن البهيمة لم ترفع الدعوى ولم تدع ولم تشتك بسيدها ومالكها، فالإمام أبو حنيفة يقول: لا يصح أن يقال: إن القاضي يحكم على المسلم ببيع ماله، فالمال ملك له، وحينئذٍ لا يلزم ببيعه، لكن يقول: يأمره بالعدل وبالإحسان، ويحثه على إطعامها أو بيعها، لكن لا يلزمه.
وذهب الجمهور إلى غير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السلطان ولي من لا ولي له)، وهذه بهيمة ولا ولي لها، وهي لا تستطيع أن تسأل حقها، فولي الأمر ولي لمثل هذه الأمور، فهو منصب كالناظر في مصلحتها.
فمسلك الجمهور أعدل، وأقيس، وأقعد للأصول، وهم إن شاء الله أولى بالصواب.
وبناءً على ذلك: نجبر صاحب البهائم على بيعها، لكن هذا فيه تفصيل: إذا كانت عنده بهائم كثيرة فلا نجبره على بيعها جميعها، بل نجبره على بيع العدد الذي يمكن من خلاله شراء الطعام للعدد الباقي.
فلو كانت عنده بهيمتان؛ فلا نقول له: يجب عليك بيع البهيمتين إذا لم يطعمها، بل نقول: بع واحدة، وأنفق على الثانية من نفقة هذه الواحدة.
فلا يجبر على بيع الجميع، إنما يجبر على بيع البعض إذا كان البهائم فيها عدد كثير يمكن بيع بعضها وإبقاء البعض.
وهذا مبني على أصل شرعي: أن الأصل بقاء اليد، وأن القضاء لا يتدخل بنزع اليد والملك إلا عند الضرورة.
وهذه القضية هي التي أثنى الله فيها على حكم سليمان عليه السلام وجعله أفضل من حكم داود عليه السلام: رجل غفل عن غنمه، فأكلت الغنم زرع غيره، فاختصم صاحب الزرع وصاحب الغنم إلى داود عليه السلام، فنظر داود ووجد أن قيمة الطعام الذي أكلته البهيمة تعادل قيمة الغنم، فحكم وقضى عليه السلام: أن صاحب المزرعة يملك الغنم، وحينئذ أخلى صاحب الملك عن ملكه، فلما خرج قال سليمان: لو كان الأمر إلي لحكمت بغير هذا؛ لحكمت على صاحب الغنم أن يأخذ الأرض يزرعها، فيعيدها كما كانت، وأن يأخذ صاحب الأرض غنم الرجل فيشرب من حليبها، وينتفع بها حتى يعود إليه زرعه.
فقال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79].
فأثنى الله على حكم سليمان وفضله على حكم داود، والسبب في هذا أنه أبقى يد الملك، ولم يحكم بانتقال الملكية؛ فراعى الأصل، ومن هنا لا نقول: بأنه يجب عليه بيع جميع الغنم أو البقر أو الإبل، بل تبقى يد الملكية، ويبيع بقدر الحاجة فقط.
لأن القاعدة تقول: ما أبيح لأجل الحاجة يقدر بقدرها، فنحن مضطرون للإنفاق على البهائم، فنقدر قدر الإنفاق، ونوجب عليه البيع بقدر ذلك، ولا يلزم ببيع، وإذا قلنا: يبيع بعض الغنم، فإن كان الغنم كله بحالة واحدة جيدة أو رديئة فلا إشكال، لكن إذا كان بعضه أجود من بعض، فإن القاضي لا يجبره على بيع الجيد، وإنما يجبره على بيع الرديء؛ لأنه يتضرر بيع الجيد كما لا يخفى.
قال رحمه الله: [أجبر على بيعها، أو إجارتها].
نقول له: بعها أو أجرها؛ لأنه إذا أجرها أمكنه أن يأخذ الأجرة، وينفق عليها ويطعمها.
قال رحمه الله: [أو ذبحها إن أكلت].
إذا قال: ليس هناك من يستأجرها، قلنا له: بعها، ففصلنا بنفس التفصيل الذي تقدم.
في هذه الحالة إذا لم يمكن إجارتها ولا بيعها، قال: يؤمر بذبحها؛ لأن الحيوان في هذه الحالة سيموت ويهلك؛ لأنه إذا لم يجد طعاماً فإنه سيهلك لا محالة، وحينما يهلك بالذكاء أفضل من أن يهلك حتف نفسه.
وهذه المسألة بنيت عليها مسألة وهي: إذا مرضت البهيمة، وتعذبت بمرضها، أو وجدت بهيمة فيها عاهة وتعذبت بهذه العاهة، وذكاها من أجل أن لا يأكلها ولكن من أجل أن يريحها بالموت، وهذا ما يسمى بقتل الرحمة.
فقتل الرحمة: منع منه طائفة من أئمة العلم رحمة الله عليهم، وقالوا: الله أرحم بخلقه، ونحن لسنا مسئولين عن هذه البهائم، إنما نحن مسئولون عما نملك، وأما قتلها وإزهاق روحها لغير الأكل فمنهي عنه شرعاً، فكونها فيها عاهة، فالله خلقها على هذه العاهة، فلا يتدخل مخلوق في أمر الله عز وجل، وهو أعلم سبحانه وتعالى بخلقه.
وقال بعض العلماء: يجوز أن يذكيها وأن يقتلها إذا رآها تتعذب، ولكن في الحقيقة إذا كانت حالة الذكاء تمكن من الانتفاع بها، وكان تركها لا يمكن من الانتفاع، قدمت الذكاة، والدليل على ذلك كما ثبت في الحديث الصحيح: أن امرأة كانت ترعى غنمها بسلع، وسلع كان خارج بناء المدينة قديماً، وإلا فهو داخل حدودها، وكان سلع أشبه بالمرعى لأهل المدينة لأنه خارج العمران، وكان سلع إلى إلى الثمانين هجرية خارج سور المدينة، مع أنه لا يفصله عن المسجد بعض الأحيان إلا ميلاً واحداً، فمع هذا كانت ترعى في هذا الموضع، فهجم الذئب على غنمها، وأخذ شاة وبقر بطنها، فاستغاثت المرأة، ففر الذئب، وأخذت الشاة تخرج أمعاؤها، فقامت المرأة وكسرت حجراً، وذكت الشاة، فلما ذكت الشاة سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه البهيمة؛ فأجاز أكلها وأحلها.
وهذا الحديث العجيب مع أنه واقعة عجيبة، إلا أن فيه من دقائق ونفائس الأحكام الكثير، بل هو من غرر الأحكام.
منها: أن هذا الحديث فرعوا عليه قاعدة فرعت عليها مسألة موت الدماغ الموجودة الآن.
هذا الحديث أخذوا منه مسألتنا هذه وهي: أن المرأة قتلت البهيمة وذكتها، لأنها لو تركتها ستموت حتف نفسها فتصبح ميتة، فلا ينتفع بها.
وإذا ذكتها صلحت للأكل فانتفع بها.
وفرق بعض العلماء بين قتل الرحمة، وبين هذه المسألة؛ فقتل الرحمة: أن تقتل البهيمة ولا تؤكل، وهنا تقتل البهيمة وتؤكل.
والأصل أن البهيمة مخلوقة للآدميين للانتفاع بها، وقتل الرحمة يخوف الانتفاع، لأنه البهيمة يكون فيها مرض، ولا يمكن الانتفاع بها، وغالباً ما يكون المرض مضراً، أو نحو ذلك.
الشاهد: أن حديثنا هذا أخذ منه جواز قتل البهيمة، لكن لو كان قتلها للمنفعة، مثلاً: دهستها سيارة، فإذا تركت ماتت حتف نفسها، فلم يحل أكلها، فيأتي الشخص فيذكيها حتى تصلح للأكل، لكن إذا ذكاها في هذه الحالة، فهل القاتل الذي دهسها؟ أو الذي ذكاها؟ هذه مسألة مهمة-هي التي تفرع عنها مسألة موت الدماغ- الحياة المستقرة هل هي كالعدم أو هي حياة؟ الحياة المستقرة: هي أن تضرب البهيمة ضربة قاتلة، وترفس وهي في آخر رمق من حياتها، فلو أنها ذكيت، وقلنا: إن حياتها في هذه الحالة حياة مستقرة، فالذكاة صحيحة ويحل أكلها؛ لأنها ماتت بالذكاة، وإن قلنا: إن الروح شبه مزهقة؛ فحينئذ لا تنفعها الذكاة لأنه قد استنفذت روحها.
فوجه دخول هذه المسألة: أنه إذا كانت البهيمة تتعذب، وتتضرر بالمرض، وأراد ربها أن يقتلها، فإنه: يجوز قتلها، ومن هنا قالوا: يؤمر بذبحها، لكن الأمر بذبحها لا يمنع من أكلها بعد الذبح، فهي شبيهة بالحديث الذي معنا، لأنه إذا ذبحها دفع الضرر عنها، وحل أكلها، ولكن إذا تركها ماتت حتف نفسها، فلم تصلح للأكل.
وحينئذ يستقيم قول المصنف رحمه الله: إنه يؤمر إما ببيعها، أو إجارتها، أو ذبحها.(342/7)
الأسئلة(342/8)
حكم خصي البهائم لتطييب اللحم
السؤال
هل خصي البهائم من أجل تطييب اللحم أمر جائز؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد اخلتف العلماء رحمهم الله في مسألة خصي البهائم: فمن أهل العلم من قال: يجوز خصي البهائم لتطييب اللحم؛ لأنه يقصد به مصلحة، والبهيمة في الأصل مخلوقة للآدمي، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13].
قالوا: فإذا خصيت طاب لحمها، واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوأين.
والذي يظهر أن هناك فرقاً بين الإيجاء والخصاء، فإذا كان خصاءً وليس تعذيباً مضراً، فإنه لا بأس به، وأما الخصي لقطع نسلها، والإضرار بها وتعذيبها؛ فإنه غير جائز، إعمالاً للأصل.
والله تعالى أعلم.(342/9)
حكم قتل الحشرات كالنمل وغيره
السؤال
أشكل علي مسألة بعض الحشرات غير الضارة؛ مثل النمل، هل يجوز قتلها أم لا؟
الجواب
لا يجوز قتل النمل من غير حاجة، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نبياً من أنبياء الله نزل في ظل شجرة، فنام فقرصته نملة، فقام فأمر برحله فرُحل؛ فإذا هو بقرية من النمل، فأمر بها فأحرقت، فأوحى الله إليه: أبنملة واحدة أهلكت أمة تسبح الله؟).
وهذا يدل على أنه لا يجوز قتل الحشرات، إلا إذا أضرت وآذت.
نعم يجوز قتلها بقدر الحاجة، أو تنفيرها من البيت، أو إخراجها منه، فإذا لم يمكن إلا بقتلها فإنها تقتل إذا ضرت بالإنسان، أو ضرت بالطعام، أو نحو ذلك.
وقد قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56].
قال: قطع الشجر، وقتل الحيوانات من غير حاجة، فهذا منهي عنه، ولا يجوز شرعاً.
والله تعالى أعلم.(342/10)
حكم حبس الطيور للزينة
السؤال
ما حكم حبس العصافير ووضعها في الأقفاص من أجل الزينة؟
الجواب
يجوز حبس العصافير والطيور إذا كان يطعمها ولا يعذبها، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال-وهو من حديث أنس في السنن-: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟!).
والنغير تصغير النغري؛ وهو نوع من الطير معروف، قيل: يحبس لجماله، وقيل: لجمال صوته، وهذا يدل على أنه لا بأس بحبس البهائم والطيور، بشرط أن يقوم على طعامها ولا يعذبها.(342/11)
حكم البيع في المسجد وتوابعه
السؤال
هل يجوز البيع في المنطقة الواقعة مؤخرة المسجد، كالمظلات؟
الجواب
إذا كان في المسجد فلا يجوز، سواء كان في آخره أو أوله أو أوسطه، فالمسجد لا يجوز البيع فيه، ومن باع فيه فلا أربح الله صفقته؛ لأن المساجد ما بنيت للبيع، ولكن إذا كان خارج المسجد؛ فخارج المسجد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون رحبة؛ له سور محيط به، فإذا كان له سور ويحفظ، وأرض موقوفة مسبلة تابعة للمسجد؛ فمذهب بعض العلماء: أنها تابعة للمسجد، يجوز للمتعكف أن يخرج إليها، ولا تجوز للحائض أن تدخل فيها، فتسري عليها أحكام المسجد.
وأما إذا كانت غير مسورة وغير محاطة، فإنها لا تأخذ حكم المسجد، فيجوز فيها البيع والشراء.
والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(342/12)
شرح زاد المستقنع - باب نفقة الأقارب والمماليك [6]
ما زالت رحمات الله تتوالى على عباده حتى شملت البهائم، ومن رحمته جل وعلا بهذه البهائم أن ألزم مالكها بتبعات الملكية من أكلها وشربها ورعايتها، وقد ذكر الفقهاء تفصيلات وضوابط لما يجب على المالك من حقوق الحيوان المملوك، حتى ذكروا ضوابط ومقادير الحمل عليه والسفر به، وما يحكم على المالك عند العجز عن أداء حقوق البهائم التي تحت يده.(343/1)
نفقة البهائم وأحكام رعايتها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وعليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها].(343/2)
وجوب علف البهائم على المالك
يقول رحمه الله: (وعليه) أي: يجب على المسلم أن ينفق على بهائمه، والدليل على ذلك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة التي عُذِّبت في الهرة، وهذا يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يحبس الحيوان، إلا إذا قام على رعايته وطعامه وما يحتاج إليه؛ لأنه إذا حبسه ومنعه من الرعي ومما فيه رفق به فقد عذّبه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان، والعكس بالعكس، فكما أن الإسلام نهى عن تعذيب الحيوان فقد رغب في الإحسان إليه، حتى أخبر صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة الزانية أن الله غفر ذنوبها بشربة ماء سقتها لذلك الكلب، فدل هذا على أمرين: أولاً: مشروعية القيام على الدواب ورعايتها والإحسان إليها فيما تحتاج إليه من طعام وغيره.
وثانياً: وهو عكسه، تحريم الشريعة للإساءة والأذية والتعذيب للحيوان والقتل له بدون وجه حق، ومن هنا قال بعض أئمة التفسير في قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]، قال: من ذلك قتل الحيوان من غير ما حاجة.
قال رحمه الله: [وعليه علف بهائمه] لعلف البهائم صورتان: إما أن يكون هناك مرعى يمكن للحيوان أن يخرج إليه ليرعى ويسوم فيه، فحينئذٍ الواجب عليه تمكين الحيوان من الرعي، وفي هذه الحالة لو أخرج الحيوان بنفسه أو أخرجه وكيله أو العامل عنده فقد برئت ذمته بهذا، لأن الحيوان من طبيعته وفطرته أن يأكل قدر حاجته، لكن الإشكال عند العلماء إذا أخرجه للرعي والسوم هل يجب عليه أن يترك البهيمة إلى أن تشبع غاية الشبع، أم أن الواجب قدر الكفاية، ثم ما فضل بعد ذلك فهو فضل؟ قال بعض العلماء: الواجب أن يخرج بالبهيمة للرعي في حدود حاجتها، وفائدة الخلاف: أنه لو خرج يوماً وعنده ظرف ووقته ضيق وما استطاع أن ينتظر الحيوان حتى يصل إلى حد الشبع، فمكن الحيوان من الرعي إلى حدود الكفاية، أجزأه على القول الذي لا يشترط الكمال، ولم يخل من مسئولية على القول الثاني.
والصحيح: أن العبرة بقدر الإجزاء، أعني: القدر الذي تحصل به كفاية الحيوان.
إذا كانت ترعى البهيمة فلا يخلو الرعي من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون قائماً بالكفاية على أتم الوجوه، بمعنى أنه يرتفق به الحيوان ويجتزئ به، فحينئذٍ لا إشكال.
وإما أن يكون الرعي قليلاً كما يحصل في بعض أحوال الجدب، فإذا كان الرعي قليلاً وجب عليه أن يسد كفاية البهيمة من العلف، ولذلك لو كانت البهيمة تحتاج إلى رعي فرعت ثم بقي عندها عجز في طعامها فعلية تأمين هذا العجز، وهذا يختلف باختلاف الإبل والبقر والغنم، فالمقصود أنه لابد من تحصيل قدر الكفاية.
وقوله: (عليه) يفهم منه الوجوب وهو محل إجماع، أعني أنه يجب على من ملك البهيمة أن يطعمها.
وقد سبق أن بينا أن النفقة تجب: إما بسبب النكاح، أو بسبب القرابة، أو بسبب الملك، وهي هنا بسببية الملك، فنظراً لكونه مالكاً للبهيمة أمر بالنفقة عليها، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، فالعبد كما أنه ينال منافع البهيمة ويملك رقبتها، فالواجب عليه أن يؤدي حق هذه البهيمة، وعليه علف بهائمه.
الحالة الثانية: أن لا يكون هناك مرعى، فإذا لم يكن هناك مرعى وجب عليه أن يشتري للبهائم طعامها، وحينئذٍ ينظر: فهناك طعام من العلف، وهناك طعام من الحبوب، والعلف والحبوب فيها الغالي والرخيص، فحينئذٍ ينظر إلى حال الإنسان، فإذا كان غنياً قادراً فإنه ينفق على قدر ما يحصّل، فلا ينتقل ببهائمه إلى الطعام الرديء القليل الذي يضر بها، أو يجحف بها، بناءً على أنه يريد سد الكفاية، خاصة إذا كان غنياً، فقد أمر الله عز وجل الزوج أن ينفق على زوجته بقدر وسعه، فلما وسّع الله على الغني لزمه أن ينفق نفقة الغني ويحسن إلى بهائمه، ولا يضيق عليها.
أما لو ضاق عليه الحال، وصعب عليه أن يشتري العلف الغالي، فإنه يطعمها من العلف الذي يحصل به قوام بدنها، فلو فرضنا أن علفها في اليوم الواحد يختلف، فالجيد منه بعشرين والمتوسط بخمسة عشر والرديء بعشرة، فإن كان العلف الرديء لا يضر بصحتها ولا يجحف بها، علفها من العلف الرديء، وهذا قدر وسعه وطاقته، فإن كان يضر بصحتها ولا يملك هذه القيمة؛ ففيه التفصيل الذي سنذكره، من أنه يؤمر ببيع بعضها والنفقة عليها بالمعروف.
وقد بيّن رحمه الله أنه يجب عليه ذلك، والضمير في قوله: (عليه) يعود على المالك، وقوله: (عليه) يدل على اللزوم، أي: أنه أمرٌ على اللزوم وليس على التخيير.(343/3)
وجوب سقي البهائم على المالك
قال رحمه الله: [وسقيها].
في القديم كان الماء عزيزاً، وكان الناس يستقون من الآبار لأنفسهم ولدوابهم، وهناك آبار تردها البهائم.
وهذا السقي سواء قام به الشخص نفسه، أو قام به عامله، أو من يوكله؛ فعليه أن يورد البهيمة في الأيام التي تحتاج فيها إلى السقي، وذلك يختلف: فالإبل أكثر صبراً من البقر والغنم، فيقدر الوقت الذي تحتاج فيه إلى السقي، ولا يجوز تأخيرها عن اليوم الذي ترد فيه.
وهكذا لو كانت محبوسة عنده في البيت، فيجب عليه أن يتفقد طعامها وشرابها وأن لا يتكل على العامل، لأن البعض قد يتكل على عماله، وهذا لا يجوز على سبيل الإطلاق، بل الراجح: أن عليه بين فترة وفترة أن ينظر في بهائمه، وأن يتفقد هذا القيام على حوائج البهائم، وهذا أصل واجب على الموكِّل في كل من وكله، فإذا وكلت وكيلاً فلا تتكل عليه، بل عليك أن تباغته، وأن تأتي فجأة لتنظر كيفية رعايته لهذا الشيء الذي ائتمنته عليه، ولا تحسب أن توكيلك له يخليك من المسئولية والأمانة، فإن الوكيل عنك أمين -كما ذكرنا في باب الوكالة- وقد نزلته منزلتك، فلابد من أن يكون اختيارك له في محله، فقد يكون أميناً في حال، وقد يغتر بحسن ظنك فيه فيهمل ويقصر، والإنسان ضعيف.
فالواجب على رب البهيمة أن يتفقد بهائمه بسقيها، ويسأل العامل: متى تسقي البهائم؟ ومتى تطعمها؟ ومتى تقوم؟ عليها، فإذا وجد أنه قائمٌ على الوجه المعروف برئت ذمته وخلصت.
إذاً: طعام البهائم وسقيها واجب على المالك، سواء قام به بنفسه أو وكل عنه من يقوم بذلك، وليس كل ماء تسقاه البهيمة، وليس كل مورد تورد عليه البهائم؛ فإذا كان الماء كدراً وفيه القاذورات والأوساخ، أو يسقي البهيمة في أواني قذرة لا يهتم بتنظيفها ولا يبالي بحسن القيام عليها، فإنه مسئولٌ أمام الله عز وجل عن هذا التقصير.
فالبعض لا يبالي، يقول: هذه بهيمة.
ثم يطعمها ويسقيها في أي إناءٍ ولو كان قذراً، فالواجب عليه أن يتفقد الأواني التي تسقى فيها وأن يتعهد ذلك بالرعاية لأنها أمانة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته) فمن قام على البهائم في علفها وسقيها وتفقد ذلك فذاك، أو وكَّل غيره فلابد أن يذكره أنها أمانة ومسئولية، وأنه يجب عليه أن يحسن الرعاية على أتم الوجوه وأكملها حتى تبرأ ذمته.(343/4)
حق البهائم في كل ما يصلحها
قال رحمه الله: [وما يصلحها] ومما يصلح شأن البهيمة: أنها في بعض الأحيان قد تحتاج إلى تنظيف بدنها بالغسل، أو إلى جز صوفها وشعرها، وأحياناً تقليم لأظفارها؛ لأنها تؤذيها أثناء مشيها، وأحياناً تحتاج إلى إصلاح في البدن نفسه إذا كانت مريضة أو عليلة، فعليه أن يتقي الله عز وجل فيها، وأن يقوم على رعايتها؛ فإن احتاجت إلى دواء أو علاجٍ قام على ذلك، وطلب من يعالج، لا يقول: هذه بهيمة والله يشفيها، بل إن هذه البهيمة نفس معذبة بالمرض والسقم، فيجب عليه أن يحسن إليها وأن يتعاهدها.
وقوله: (وما يصلحها) يشمل إصلاح كل شيء في الشارة والهيئة، وما يصلحها في مسكنها، فمثلاً: إذا كانت البهيمة في مسكنٍ قذرٍ وخيم يضرها ويؤذيها ويضر بصحتها، فإنه يسأل أمام الله عن ذلك.
وانظر حقوق الحيوان في الإسلام، وفقهاء الإسلام من فجر التاريخ الإسلامي يبينونها ويقررونها، حتى ذكروا كيف تسكن البهيمة، ولو نظرت في تفصيلات وكلام الفقهاء والعلماء رحمهم الله لتعجبت، وصدق الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] فهذا دين كامل من أصله.
فقد تكلم العلماء حتى على مسكن البهيمة، وفي فتاوى العلماء عندما يسألون عن هذا يقررون أنه لا يجوز تعذيب الحيوان لا في مسكنه ولا مطعمه ولا حاجته من دواء وإصلاح شارة وهيئة؛ حتى في المسير إذا سار بها فلا يعذبها ولا يرهقها، بل يريحها وقت الراحة ولا يحملها في الأسفار فوق طاقتها، بل حتى في الحضر، فكل هذا يدل دلالة واضحة على عظمة هذا الدين، ويدل دلالة واضحة على كماله ووفائه بحوائج الناس، حتى الحيوانات.
وحينئذٍ لا تحتاج الأمة الإسلامية أن يأتي من يتبجح أمامها أو يذكرها من غفلة أو يعلمها من جهل؛ فعندها في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته الغراء التي جمعت محاسن الأخلاق ومكارم الآداب ما يغني عن ذلك، قال الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43].(343/5)
ما ينهى عنه في حق البهائم
قال رحمه الله: [وأن لا يحملها ما تعجز عنه] أي: لا يحمل البهيمة فوق طاقتها، مثلاً: الركوب على البهيمة مشروع؛ ولذلك امتن الله على عباده بذلك فقال: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] فجعلها ركوباً للإنسان، ولكنه لما أحل لنا ركوبها لم يحل لنا تعذيبها، ولا أن نحملها ما لا تطيق.
فإذا أراد أن يركب البهيمة فينبغي أولاً أن تكون البهيمة مما يعد للركوب، كما في الخبر حينما ركب أحدهم بقرة فقالت: (إن الله لم يخلقني لذلك)، يعني: ما خلقني ظهراً للركوب، وكذلك الشاة ليست محلاً للركوب، لكن الخيل والبغال والحمير والنوق، وهذا الأصل -وهو جواز الركوب- تختص به بهائم.
ثم نفس البهائم تختص بزمان وسِنٍّ تطيق فيه الركوب: فإذا كان من الإبل فأن تكون حقة، وسميت حقة لأنها استحقت أن يركب عليها وأن يطرقها الفحل، كما تقدم في كتاب الزكاة، فإذا بلغت السن الذي يركب عليها ويحمل عليها ركبها وحمل عليها.
ثم أيضاً في الحمل عليها يفصل، فيقال: لا يحملها ما لا تطيق بل بالمعروف، وهذا الأصل الذي هو جواز الحمل على الدواب محل إجماع عند العلماء رحمهم الله، لكن بشرط أن لا يكون فيه تعذيب للحيوان، ويختلف ذلك من حيوان إلى حيوان، فهناك حيوانات تطيق الحمل أكثر فيحملها ما تطيق، وهناك حيوانات لا تطيق إلا القليل فيحملها على قدر طاقتها.
قال رحمه الله: [ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها].
قوله: (ولا يحلب من لبنها) يعني: من لبن البهيمة (ما يضر ولدها)، وهذه المسألة تسمى بمسألة ازدحام الحقوق؛ فالبهيمة فيها حق للمالك وحق للولد.
هذا إذا كانت ولوداً وولدت واحتاج ولدها إلى اللبن فصار له فيه حق، وأيضاً ربها ومالكها يحلبها ليبيع الحليب أو ليشرب، ففي هذه الحالة هل نقدم حق المالك لأن يده يد أصل، أم نقدم حق الولد؟
الجواب
إذا كان حلبك يضر بالولد لم يجز، والسبب في هذا: أن الولد لا يجد بديلاً والمالك يجد بديلاً، والولد لا يستغني عن حليب أمه والمالك يستغني عن هذا الحليب، وإذا ازدحمت الحقوق نظر إلى الأحق والأحوج، ولذلك نجد في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وقضاء الشريعة أنه ينص على الحق، فإذا كان ولد البهيمة يحتاج إلى هذا اللبن ولابد له منه ولا تستطيع أن تصرفه إلى ناقة ثانية، أو إلى بهيمة ثانية، خاصة الحرائر إذ فيهن شغف وتعلق بالوالدة عجيب، حتى إنه لو ماتت أمه ربما مات بعدها، لأنه لا يُقبِل على ضرع غيرها، وهذا موجود، فكما أن نفوس الآدميين تختلف أصالة وحناناً كذلك نفوس البهائم.
فهذا الولد لو صرف إلى غير أمه ربما يتضرر بذلك، والمالك يمكنه أن يجد بديلاً؛ فقدم الأضيق والأحق، ولأن المالك مستفيد على طيلة زمانه والولد محتاج لزمان مخصوص، فيقدم الخاص الذي حاجته خاصة على ما هو عام يمكنه أن يرتفق في أي زمان غير هذا الزمان المحتاج فيه الولد إلى اللبن.
واستدل العلماء رحمهم الله بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) وهذا الحديث حسَّن بعض العلماء إسناده، لكن متنه صحيح بإجماع العلماء رحمهم الله، وأصول الشريعة كلها دالة على صحة هذا المتن، ومن هنا انبنت القاعدة الشرعية المجمع عليها، والتي تقول: الضرر يزال.
فعندنا ضرر متعلق بهذا الولد لا يمكن إزالته إلا أن يرتضع من أمه، فحينئذٍ يقال بتقديمه من هذا الوجه.(343/6)
ما يجبر عليه المالك في حق البهائم عند عجزه عن القيام بحقها
قال رحمه الله: [فإن عجز عن نفقتها أجبر على بيعها].
بعد أن بين رحمه الله الأصل وهو: وجوب النفقة على البهيمة، شرع في المسائل الطارئة، وقدمنا أن هذا من دقة العلماء رحمهم الله، ومن تسلسل الأفكار عندهم، فإنهم يذكرون الأصل ويذكرون ما خرج عن الأصل، وهو المستثنيات والأمور الطارئة فمما امتازت به الشريعة في أحكامها وتشريعاتها أنها لا تقف فقط عند الحكم، بل إنها تبين الحكم والأثر المترتب على الحكم، وما يطرأ مما يمنع من وقوع الأثر أو كمال الأثر أو يضر بالأثر، ولا شك أن العلماء رحمهم الله اعتنوا به، ولذلك بين المصنف ذلك بقوله: [فإن عجز].
وعجز المالك أمر طارئ والأصل أنه ينفق، لكنه إذا عجز أو كان فقيراً لا يستطيع أن ينفق، فالحكم ما سيذكره المصنف رحمه الله.(343/7)
إجباره على البيع أو التأجير
قال: (أجبر على بيعها).
أي: أجبر على بيع بهائمه التي عجز عن الإنفاق عليها، وهذا هو الأصل.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيه على قولين مشهورين: فجمهور العلماء على أن المالك إذا عجز عن شراء العلف وقال: لا أستطيع، وليس عندي مال أنفق منه على بهائمي؛ فإنه يجبر على بيع بهائمه على التفصيل الذي سنذكره.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه لا يجبر، واستدل بأن الحق للبهيمة، والحقوق في القضاء تقام حينما يطالب بها صاحبها، أما إذا لم يطالب بها صاحبها فلا يطالب بها غيره، والبهيمة لا يمكن أن تطالب بحقها؛ لأن القضاء في الإسلام حيادي لا يميل لأحد الخصمين، ولذلك لا يحكم على الخصم إلا إذا طلب خصمه.
وهذا أصل، حتى إن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة لما ولي القضاء أراد اثنان من أصحابه أن يبينوا له فقه القضاء، فاختصما إليه وقال أحدهما: لي عند فلان كذا وكذا، فقال له: ما تقول؟ قال: صدق، فسكت المدعي، فقال القاضي: أعطه حقه، فقال صاحب الحق: ومن أمر القاضي أن يسأل خصمي أن يعطيني حقي.
ثم قالوا: إنما أردنا أن نبين لك أن للقضاء فقهاً غير الفقه الذي تعلمته.
وهذا أصل عند الجمهور، يقولون: من حيث الأصل فإن القاضي حيادي لا يميل لأحد الخصمين دون الآخر، فإذا حكمنا على رب البهيمة أن يبيعها فما هو مستند هذا الحكم؟ أين الدعوى؟ وأين ما يثبتها؟ الدعوى متعذرة لأن صاحب الحق وهو البهيمة لا يمكن أن تطالب بحقها، وإثباتها ممكن عن طريق الحسبة، بأن يشهد عليه جيرانه أو رفقاؤه، لكن الإشكال في أصل الدعوى، فالإمام أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعذر عندهم في هذه المسألة أن يحكم قضاءً، ولكنه يجب عليه ديانة أن يبيعها إذا عجز ولا يجب عليه قضاءً، وفرق بين الديانة وبين القضاء، فمعنى الديانة أنه مطالب فيما بينه وبين الله أن يبيعها، لكن لا يحكم عليه بذلك حكماً شرعياً قضائياً.
والجمهور رحمهم الله قالوا: للسلطان ولاية عامة، وهذا أصل في الشريعة، قال صلى الله عليه وسلم: (فالسلطان ولي من لا ولي له) وهذه البهيمة لا ولي لها فهي كالمجنون إذا لم يكن له ولي، فحينئذٍ يتصرف السلطان بالولاية العامة، وهذا أصلٌ صحيح، وقول الجمهور في هذه المسألة أرجح وأظهر إن شاء الله وأولى بالصواب، وبناءً على هذا يجبر قضاءً على البيع.
ثم إذا ترجح القول بالإجبار ففيه تفصيل: إن كان عنده بهيمة واحدة فحينئذٍ لا إشكال في أنه يجبر على بيعها، لكن الإشكال إذا كان عنده أكثر من بهيمة وعجز عن إطعام الكل، نقول له: بع بعضها بالقدر الذي تستطيع به أن تنفق على الباقية، فلو كان عنده مثلاً عشر من الغنم، ويمكنه أن يبيع رأسين يتمكن من خلالهما من النفقة على البقية، نقول له: بع الرأسين وأنفق على البقية.
ثم إذا أجبر على البيع فلا يجبر على بيع كرائم ماله، وإنما ينظر إلى الأخف؛ لأن ما جاز للضرورة يقدر بقدرها؛ لأن المقصود أن ينفق على بهائمه، فلو بيعت الكريمة تضرر ببقاء غيرها مما هو دونها، وبناءً على ذلك لا يُجبر على بيع كل بهائمه.
هذه المسألة الأولى.
ثانياً: أنه لا يجبر على بيع كرائم ماله إلا في مسائل، وهو أن يكون كل ماله كريماً كما ذكرنا في الزكاة، وهذا أصل عام؛ فحينئذٍ يجبر على بيع الكريم، ويكون البيع بقدر الحاجة، أي: أن يباع من الرءوس على قدر الحاجة مما تحصل به الكفاية والقيام على نفقة البهائم الباقية.
قال رحمه الله: [أو إجارتها] بعض العلماء يقول: لا يجبر على البيع إذا أمكنت الإجارة؛ لأن إبقاء اليد أولى من إلغائها، كما في قضاء داوود وسليمان عليهما السلام، فإن الله عز وجل أثنى على حكم سليمان وقدمه على حكم داوود؛ لأن سليمان عليه السلام أبقى يد الملكية في قصة الغنم الذي نفشت في غنم القوم.
وبناءً على ذلك نقول: لو قلنا له: بعها.
مع إمكان الإجارة فقد أزلنا يد الملكية جبراً، وإزالة يد الملكية جبراً خلاف الأصل؛ لأن الأصل أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسٍ منه، فنحن لا نجبره على البيع متى لم يمكن الإيجار، لكن في بعض الأحيان قد تكون الإجارة أضر عليه من البيع، وهذا في أحوال خاصة، فقد تكون إجارتها تحتاج إلى قيام على علفها ومؤنتها، وقد تتعب من خلال إجارتها، فعلى كل حال ينظر القاضي، فإن كان الأخف ضرراً عليه أن يبيع بدأ بالبيع وقدمه على الإيجار مع أنه نقلٌ للأصل، وذلك لوجود ما ذكرناه، وأما إذا كانت الإجارة ممكنة فإنها مقدمة على البيع في الأصل.(343/8)
إجبار مالك البهيمة على الذبح
قال رحمه الله: [أو ذبحها إن أكلت].
إن لم يمكن بيعها وإجارتها، أو عرضت للبيع فلم ترغب، وعرضت للإجارة فلم ترغب، أو كانت لا تؤجر مثلاً، ففي هذه الحالة قال بعض العلماء: يؤمر بذبحها إن كانت تؤكل؛ لأنه إذا ذبحها باع لحمها.
وأولاً: إذا ذبحها قطع عنها العذاب؛ لأنها إذا بقيت تعذبت.
وثانياً: ممكن عن طريق ذبح بعضها أن يحصل اكتفاء للباقي، وهذا أصل، أعني أن إتلاف البعض لاستبقاء الأغلب مشروعٌ شرعاً، ودليل ذلك قصة موسى عليه السلام مع الخضر، فإن الخضر عليه السلام كسر لوحاً من السفينة ليبقي السفينة، وحينئذٍ فذبح بعض البهائم من أجل أن يشتري العلف للبقية، أو ذبحها من أجل بيع لحمها لإطعام الباقية سائغ على هذا الأصل.
وهذا يظهر في مسألة الأوقاف والتصرف في مال اليتيم بإتلاف بعضه، كذلك أيضاً في ذوات الأرواح جاء ما يقرر هذا الأصل، وذلك أن يونس عليه السلام لما كان في السفينة وتعرضت للغرق، واحتاجوا إلى أن يلقوا بشخص منهم، فساهم فخرجت القرعة على نبي الله يونس فرمي في البحر، وهذا أصل عند بعض العلماء، فيقولون: إنه إذا كان لا يمكن نجاة الكل إلا بهلاك البعض قدم بقاء الأكثر، وهذه لها مسائل تفصيلية وكلام طويل لعلماء الأصول، ومنها مسألة تترس الكفار بالمسلم، وفيها تفصيلات في ذوات الأرواح بالنسبة للآدميين.
بالنسبة للحيوان هنا فإنه إذا أمكن ذبح البعض حتى يكفي الطعام للبعض الآخر جاز ذلك، وهذه لها أصول عامة حتى في الأرزاق؛ فذبح بعض البهائم التي يملكها من أجل أن يصبح الطعام كافياً للبقية، سائغ للأصل الذي ذكرناه، أو تذبح لأجل أن لا تبقى فتموت حتف نفسها؛ لأن موتها حتف أنفها يضيع حق المالك، وموتها بالذكاة يبقي استفادة المالك، فحينئذٍ يقال له: اذبحها؛ لأنه لو تركها تموت حتف نفسها تعذبت، فلا هو يستفيد ولا هي تستفيد، ولكن إذا ذكيت استفادت هي فاستراحت، ثم أيضاً هو استفاد بالانتفاع بلحمها، فهذا من حيث الأصول الشرعية سائغ.(343/9)
ذبح الرحمة وموت الدماغ
وتفرعت على هذه المسألة مسألة قتل الحيوان للرحمة، وهي: إذا كان الحيوان قد أنفذت مقاتله، وتفرعت عليها المسألة المعاصرة في موت الدماغ، وهل يجوز سحب الأجهزة على المريض إكلينيكياً وسريرياً أو لا؟ فهل هذه الحياة في حكم الحياة المستقرة، أو هل الحياة المنعدمة في حكم المستقرة؟ اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة من أنفذت مقاتله، هل حياته حياة مستقرة أو في حكم العدم؟ فبعض العلماء يقول: حياته مستقرة، وبعضهم يقول: حياته في حكم العدم، إذا قلنا: إن من أنفذت مقاتله كمن ضرب في مكان لا يشك أنه لو ترك سيموت، مثل البهيمة تصدم بالسيارة، وتقطع على أنها لو تركت دقائق ستموت، أو تسقط من مكان عالي وتدركها وهي ترفس فلو تركت ستموت، أو يأتي السبع فيفترسها فيبقى فيها شيء من الحركة، فهل هذه الحركة في حكم الحياة المستقرة وحينئذٍ إذا ذكيت جاز أكلها؟ أو هي في حكم العدم وحينئذٍ إذا ذكيت لا يحل أكلها؛ لأنها أنفذت مقاتلها فهي متردية أو مقتولة حتف نفسها ميتة؟ فبعض العلماء يقول: إنها في حكم العدم، وإذا قيل: إنها في حكم العدم فإن الذكاة لا تؤثر، وظاهر الحديث أن الشاة التي بقر بطنها الذئب فكسرت المرأة الحجر وذكتها، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم أكلها؛ يدل على أن الحركة حياة، وحينئذٍ فما دام قلب المريض يتحرك فهو حي، وما دامت الحياة فيه فلا يجوز سحب الجهاز، ويكون حينئذٍ محظوراً.
حتى ولو كانت حركة لا إرادية التي هي الحركة الأخيرة، وذلك استصحاباً للأصل؛ ولأن تشخيص الدماغ فيه اضطراب بين الأطباء، وحتى على تحديد هذا التشخيص لا يتيسر إلا في مستشفيات متقدمة، وهذا يخاطر بأرواح الناس.
وهناك مبررات كثيرة ذكرناها في أحكام الجراحة، لكن الذي يهمنا هنا: أن الحيوان يقتل رحمة به على هذا الوجه؛ لأنه لو بقي دون إطعامٍ على الوجه المعروف تعذب، ولا يجوز تعذيب الحيوان، أما الآدمي فلا يجوز قتله، فلو أن إنساناً أصيب بالسرطان -أعاذنا الله وإياكم- وقطع الأطباء على أنه لا يعيش؛ فإنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتله، لأن الله حرم هذه النفس، وللمعاني المعتبرة شرعاً في ورود هذا البلاء عليه؛ لأن البلاء مقصود شرعاً، فالله أرحم به من خلقه، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29].
سبحان الله! كيف جمال هذا القرآن وعظمته؛ لأنه تنزيل من حكيم خبير {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29].
أحد الأوجه في تفسير الآية: أن أنفسكم إخوانكم؛ وذلك مثل قوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] يعني على إخوانكم، فقيل معنى: (لا تقتلوا أنفسكم) أي: إخوانكم، فجعل المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم: (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو ... ) والجسد الواحد نفس واحدة، فلما قال: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) عقب ذلك بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)) فإذا تبجح أحد وقال: نريد أن نرحمه، فقد كذبه الله عز وجل، وقال: أنا أرحم بعبدي الذي ابتليته، وأنا أرحم بعبدي الذي أسقمت بدنه، وأنزلت به البلاء.
ولذلك ليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه، هذا شيء بيد الله، يقف الأطباء عند إمكانياتهم وحدودهم التي يقفون عندها والباقي لله عز وجل مالك كل شيء وخالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.
والطب له هدفان: الوقاية والعلاج، وإذا خرج عن هذين الهدفين فليس بطبٍ شرعي، ولذلك إذا قال: نقتله، فلا هو علاج ولا وقاية، فالقتل ليس بوقاية، فهذا ليس بطبيب! وليس هذا تخصصه، ولا من شأنه، وليس له أن يتدخل بين العبد وربه، فهو الذي ابتلاه وهو الذي يدبر أمره.
وكذلك إذا وجدتهم يدخلون في هندسة وراثية أو غيرها فإنهم يكونون قد خرجوا عن مقصود الطب إلى العبث، فهذا عبث وتصرف في خلقة الله عز وجل التي خلق عليها العباد.
والله شرع الطب دواءً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن شريك في السنن: (أنه جاءه الأعراب فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواء) فجعل الطب علاجاً للأسقام، وفي حكم العلاج الوقاية، وما عدا ذلك فليس بطب، فحينئذٍ قتل الرحمة ليس بعلاج ولا دواء.
وإن قلنا في البهيمة: إنها تقتل؛ فإنما ذلك لأنه يستطاب لحمها، ويجوز أكله، من المشاكل الآن أنه من ذهب يبحث في مسائل فقهية فيما يسمى بالاجتهاد المقيد، وهو أن يأتي إلى مسألة ويجمع ما فيها ثم ينظر فيها ويخرج بخلاصة الواقع أن هؤلاء الباحثين الذين لا يعرفون مصطلحات العلماء ولا ضوابطهم يجنون كثيراً ببحوثهم، ولذلك ينبغي على طالب العلم ألا يتقبل البحوث الفقهية إلا ممن كان عنده دراية وخبرة بمتون العلماء وأساليبهم، ومصطلحات وضوابط أهل العلم في الحكم؛ لأنه في هذه الحالة سيتعرض للزلل بلا شك.
فبعض الذين يبيحون قتل الرحمة يقولون: إن العلماء أجازوا قتل البهيمة، وذلك لأنها إذا بقيت تعذبت، فالبهيمة إذا جاز قتلها لأنها تتعذب فالآدمي أعظم حرمة! فانظر كيف يقيسون؟! فإذا قرر الأطباء أنه ميت ومتعذب ومتضرر بهذا المرض؛ فليسقوه داءً وليحقنوه حقنات ويقضوا عليه، وهذا القضاء أرحم به، ويقولون: عند الطبيب رسالة وهي رحمة المريض، فحينئذٍ ينبغي أن يرحمه بهذا العقار الذي يقضي عليه ويريحه، ثم يريح أهله من عناء التكاليف المادية والعناء النفسي لمتابعته، هذه مبرراتهم.
فنقول لهم: إن العلماء رحمهم الله لما أجازوا قتل البهيمة قيدوها بما إذا أكلت، ومعناه: أنها إذا لم تؤكل صار ضرباً من الفساد، والآدمي لا يؤكل، فإذاً الذبح كان متعلقاً لإفادة الغير، وأما الآدمي فلا يذبح ولا يؤكل، فإذا ثبت هذا سنقول: إن هذا الفهم جاء عوره من عدم النظر لضوابط العلماء، ولذلك قال المصنف: (إن أكلت) يعني: إن كانت تؤكل، وهذا قول يدل على أنه لا يجوز ذبحها إذا كانت مما لا يؤكل.
فلو كانت عنده بهيمة لا تؤكل كالحمار -أكرمكم الله- ففي هذه الحالة يقال له: أنفق عليه أو بعه أو أجره، لكن لا يؤمر بذبح الحمار لأنه لا يؤكل.(343/10)
الأسئلة(343/11)
حكم ضرب البهائم في السباق أو الحرث
السؤال
هل ضرب البهائم للإسراع في السباق أو المضي في الحرث والعمل أمر جائز، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: ضرب البهيمة لتسرع أجازه جمهور العلماء رحمهم الله، والمنصوص في كتبهم الجواز إذا وجدت حاجة، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما ضرب البهيمة.
وفي حديث جابر في الصحيحين قال: (كنت أسير على جملٍ فأعيى، فجاءني النبي صلى الله عليه وسلم فنخسه - وفي رواية - فضربه، فسار سيراً حثيثاً) حتى إن جابراً عجز عن أن يكبح جماح البعير، وهذا من معجزاته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فرواية: (فضربه) أشكلت عند العلماء على حيث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب بهيمة ولا ضرب إلا في سبيل الله).
وأجيب برواية: (فنخسه بقضيبٍ)؛ لأنها مفسرة، وراية: (فضربه) مجملة، والقاعدة: أن المجمل محمولٌ على المبين المفسر.
فضرب البهيمة للإسراع يجوز عند الحاجة وبقدر الحاجة؛ بشرط ألا يكون تعذيباً للبهيمة، فأجاز العلماء الضرب لكن شريطة ألا يكون تعذيباً.
لكن إذا أسرعت وجاء يزيد في سرعتها حتى ربما يتسبب بحادث، وفي هذه الحالة لو ضربها عذبها؛ لأن هذه غاية ما في البهيمة، فإذا ضربها ازداد في تعذيبها، وأصبح عندها عذاب السير والضرب، ففي هذه الحالة يمنع، لكن لو كان عنده ظرف يحتاج معه إلى أن يسرع لحاجة، والبهيمة نزلت عليها السكينة فعطلت مصالحه فاحتاج إلى ضربها، فله أن يضرب ولا بأس، لكن يضرب الضرب المشروع دون أن يكون على سبيل التعذيب.
إذاً يفصل: إذا كان قد ضره سير البهيمة، وكانت البهيمة متلكئة وإذا ضربت سارت فهي التي جنت على نفسها، أما إذا كانت تسير سيرها وتقوم بواجبها، وليس عندها تقصير؛ فهذا يكون ضرباً للأذية والإضرار، ولا يجوز تعذيب الحيوان والإضرار به من هذا الوجه.
والعلماء نصوا على جواز ضرب البهائم في الحدود التي يحتاج إليها؛ لأنه قد يتعطل الإنسان عن مصالحه، وقد يحتاج إلى ضرب البهيمة لأنها قد تؤذي وتضر ولا يكبح جماحها إلا بالضرب، فتضرب، وهكذا الآدمي شرع الله الضرب له عقوبة، وشرع الله عز وجل الضرب عقوبة لضياع حقوق الله عز وجل وضياع حقوق الآدمي (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فإذا أتلفت البهيمة ضربت حتى تكبح جماحها.
وهكذا في بعض الأحيان يهيج بعض الدواب ولا ينتهي كبح جماحها إلا بالضرب، فتضرب، فعلى كل حال يجوز الضرب عند الحاجة، لكن بشرط أن يقدر بقدر هذه الحاجة، وبشريطة ألا يوجد أسلوب بديل يكبح هذا الجماح، أو يحقق المصلحة التي يرجوها الإنسان من ضربه للبهيمة، والله تعالى أعلم.(343/12)
الجمع بين جواز إشعار البهيمة وحرمة أذيتها
السؤال
أشكل علي عدم جواز الإضرار بالأذية، مع أن الإشعار فيه إيلامٌ لها؛ فأرجو التوضيح أثابكم الله؟
الجواب
الإشعار فيه خلاف بين العلماء، والمانع منه سببه هذا؛ لأنه يقال: فيه تعذيب للحيوان، وتعذيب الحيوان ممنوع، نقول: إن الأصل أن يكون السؤال: هل البهيمة مخلوقة لنفسها، أو مخلوقة لغيرها؟ قال الله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] فهي مسخرة للآدمي، ولمصالح الآدمي، وتنقسم إلى مصالح في عقد نفسه ومصالح بينه وبين ربه، فالذي خلق البهيمة أذن له أن يشعرها، وهذا شيء بسيط جداً، والإشعار تطيقه البهيمة، لكن لو جئت تنظر إلى أن الإشعار عذاب لها فركوبك فوق البعير أعظم إيلاماً من الإشعار.
ولو جئت تقارن بين إشعار البعير مع ركوبك عليه الشهر والشهرين والثلاثة لوجدت أن الإشعار ليس بشيء، فلا يدخل الإنسان الأغلوطات على السنة، فهي واضحة، وهذا التعذيب لا يأتي شيئاً أمام المصلحة الشرعية المترتبة على هذا الإشعار، من توحيد الله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه جل جلاله، فالعبد وما ملك ملك لله، ولكن الله سبحانه يجعله يتقرب إليه بهذا، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] يعني: الإخلاص والتوحيد.
سبحان الله! يأمر بهذا وهو أغنى ما يكون عن خلقه: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني).
فالشاهد: أن هذا إيلام بسيط جداً لا يأتي شيئاً أما المصالح التي تفعلها هذه البهيمة، وهذه هي السنة، وما علينا إلا أن نرضى بما شرع الله عز وجل، وليس للعقل مجال أمام النقل، فالنقل ثبت بهذا، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قلد هديه وأشعره صلوات ربي وسلامه عليه؛ فتبقى السنة كما وردت، والله تعالى أعلم.(343/13)
صفة الإقعاء المنهي عنه في الصلاة
السؤال
ما صفة الإقعاء المنهي عنه في الصلاة، أثابكم الله؟
الجواب
الإقعاء فيه صفات اختلف العلماء رحمهم الله فيها، لكن من صفاته: الصورة الأولى: أن ينصب القدمين ويفضي بإليتيه إلى الأرض بين القدمين المنصوبتين.
هذه صورة.
الصورة الثانية: أن يجلس جلوس الكلب -أكرمكم الله- فينصب ساقيه مع الفخذ ثم يرد يديه إلى الخلف، مثل الكلب إذا أقعى وجلس، وهذه صورة شبه متفق على تحريمها، وغالباً ما يفعلها البعض من الجهلة إذا أراد يقوم من الركعة الثانية أو الرابعة، فإنه يرجع ثم ينصب قدميه ويديه وراء ظهره، مثل الكلب يرحمكم الله حينما يجلس ينصب قدميه ثم يقعي، فهذا الإقعاء محرم.
وورد عن بعض العلماء أن من الإقعاء نصب القدمين وجعل الإليتين على العقبين، وهذا من الإقعاء؛ لكن هذا ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فلعه، فرُخِّص فيه، واختلفت أقوال العلماء: منهم من رخص فيه في التشهد، ومنهم من خصها فيما بين السجدتين، هذا بالنسبة للإقعاء الذي اختلف العلماء رحمهم الله فيه، والله تعالى أعلم.(343/14)
جواز التعزية بالعناق والمصافحة
السؤال
ما السنة في التعزية، هل هي بالمصافحة، أو المعانقة، أو بوضع اليد على الكتف، أثابكم الله؟
الجواب
التعزية تكون بالمصافحة، وتكون بالمعانقة، لورود السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصافحة هي الأصل، وذلك بأن تصافح أخاك وتسلم عليه ثم تعزيه.
والمعانقة تكون من الرحمة، ولذلك قرر الأئمة رحمهم الله أن العناق ينظر في سببه، فإذا وجد له سبب فهو مشروع، وإذا لم يوجد له سبب فهو ممنوع، ومن هنا قرر الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنة: أن العناق يجوز عند حصول فرح، كأن تهنئ أخاك المسلم فتضمه إليك وتعانقه، فرحاً بنعمة الله عز وجل وخاصة نعمة الدين والطاعة، ويكون أيضاً عند الحزن تضمه إليك من أجل أن تشعره بأخوتك بقوته، وتطفئ ما في قلبه، ويكون أيضاً عند السفر إذا أراد أن يسافر تلتزمه وتعانقه، وإذا قدم من سفر، وقال: على ذلك جرت السنة.
أما حديث: (لا عناق إلا من سفر) أولاً: فيه ضعف، وثانياً: حسن بالطرق لكن المحققون من أهل الحديث ذكروا أن هناك اختلافاً في الألفاظ يؤثر في التحسين، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يستشكل هذا.
وأجيب عن ذلك بأن هذا الحديث لا يعارض ما هو أصح منه، لأن قوله: (لا عناق إلا من سفر) جاء من باب أن الشريعة قد تطالب بالكمال، فالمعنى أن أكمل ما يكون العناق من سفر، وهذا موجود في الشريعة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ربا إلا في النسيئة) وليس المقصود بأن ربا الفضل جائز، وهنا ليس المعنى أن غير العناق من السفر محرم، وكقوله: (الحج عرفة) والمراد المبالغة في الشيء، وهذا واضح.
ويدل لهذا ما في الصحيحين من قصة كعب بن مالك رضي الله عنه: أنه لما نزلت توبته وجاء بعد صلاة الفجرة ودخل المسجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقام لي أبو طلحة فالتزمني فحفظت له هذا، وهذا يدل على مشروعية العناق عند وجود الموجب والسبب.
ومثل القيام للداخل والزائر، كلها إذا وجد السبب فلا بأس فيه ولا حرج.
وهذه الأمور بعض الأحيان تأتي عفوية بدون أن يكون الإنسان قاصداً أن العناق لمعنى أو اعتقاد، ولذلك تجد في بعض الأحيان أنك لا ترى أخاً أو قريباً لا قدر الله أصابه كربة أو نكبة إلا وتضمه إليك، فأنت لا تستطيع أن تملك نفسك، فهذا شيء ينبعث من النفوس من أسباب الرحمة، والفرح والحزن، لكن يحذر مما كان فيه غلو أو تكلف الشخص يعانق وبعد عشر دقائق يأتي يعانق مرة ثانية، يعانق أول النهار ثم يأتي آخر النهار ويعانق، حتى تكون كالشغل، فهذا التكلف والمبالغة لا أصل له؛ لأنها تحظر ويمنع منها، أما عند وجود السبب الموجب فلا بأس أن تضم أخاك إلى صدرك.
أما وضع اليد على الكتف: فاختلف فيه العلماء رحمهم الله، ومن مشايخنا المتأخرين وغيرهم من يراه بدعة؛ لأن الأصل المصافحة والعناق، وبعض مشايخنا رحمة الله عليه يفصل فيه ويقول: إن لمس الكتف إذا كان أثناء الحزن إذا رأيت أخاك اشتد بكاؤه وعظم، فأمسكت بكتفه تصبره أو تثبته فلا بأس به، أما الذي يحدث من الوقوف وكل واحد يمر ويمسك كتف الثاني فهذا لا أصل له عند الكل.
لكن إذا كان واقفاً على القبر ووجدته حزيناً، فتمسك بعضده أو بساعده تذكره؛ لأنك بالقرص والمسك كأنك تذكره بالصبر، وتذكره أن يتعزى ويتجلد، وفي بعض الأحيان قد تكون يده في يدك فتضغط عليها، هذه الأشياء يراد بها التنبيه فقط.
أما الذي يفعل من الوقوف فيأتي يمسك كتف هذا ثم كتف هذا، فلا له أصل، ماذا يفعل بالكتف، المصافحة فيها فضيلة المصافحة، ومعناها الشرعي، ولها أصل في السنة، وتتحات بها الخطايا، فهذا هو المنضبط، والحرص على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه خير، وكذلك ترك هذه الأمور التي لا يسمح بكونها أموراً في شرع الله عز وجل، وإنما يجارون بها عاداتهم وتقاليدهم.
وانظر إلى الأمر العجيب الغريب؛ فلو جئت إلى قوم يمسكون ويعزون بالأكتاف وقلت لهم: لا تفعلوا هذا.
أنكروا عليك، فهذا يزيدها بدعة، لأن التشبث والتمسك بها والإصرار عليها يجعلها كالسنة، وكالأمر المعتقد فيه، وهذا ما يسميه العلماء بدلالة الحال؛ لأن الشخص في بعض الأحيان يأتي بدلالة الحال، وإن لم يقل: أنا أعتقد أنها سنة، لكن الإصرار والحرص عليها، وأنه لا يمكن أن يتركها؛ لا شك أنه يشكك في أمره.
أما إذا كان واقفاً مع أخيه على القبر وتوفي والده أو قريبه، ثم أراد أن يسليه فأمسك بيده، أو رأى أن الحزن قد اشتد به، فشده كأنه يذكره بالله عز وجل، ويذكره بالصبر عند المصيبة، فهذا الإمساك لا بأس به ولا حرج، والله تعالى أعلم.(343/15)
ما ورد من الدعاء بين العلمين في الصفا
السؤال
هل ورد بين العلمين دعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أثابكم الله؟
الجواب
لا أحفظ في هذا شيئاً صحيحاً مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول بين العلمين: (رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم) وهذا استحبه بعض العلماء رحمهم الله لوروده عن السلف، وأشار إليه بعض الأئمة.
ثم لا شك أن أدعية الصحابة رضوان الله عليهم من جوامع الدعاء، وبعضها قد تكون فيه سنة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي الصفا حفظ هذا عن عبد الله بن مسعود، ولذلك استحب بعض العلماء هذا الدعاء.
وكذلك استحب بعضهم الدعاء على الصفا بما كان من دعاء عبد الله بن عمر: (اللهم إنك قلت وقولك الحق: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم كما رزقتني الإسلام فأسألك أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني عليه).
وهذا من أعظم الدعاء.
وكان من دعائه كما في الصحيح: (اللهم حببني إليك، وحببني إلى ملائكتك وأنبيائك ورسلك وإلى خلقك، اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين)، وأشار إلى هذا شيخ الإسلام رحمه الله في شرح المناسك لوروده عن السلف، والصحابة وهم خيار سلف الأمة بعد نبينا صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين، والله تعالى أعلم.(343/16)
حكم الجمع بين الصلاتين إن كان سيصل قبل دخول وقت الثانية
السؤال
هل يجوز للمسافر القادم إلى مكة جمع صلاة العشاء مع صلاة المغرب وهو يعلم أنه سوف يصل إلى مكة قبل العشاء، أثابكم الله؟
الجواب
إذا كنت في السفر وأردت أن تجمع بين الصلاتين وأنت راجع إلى موطنك، فيشترط أن يدخل عليك وقت الثانية قبل وصولك إلى البلد، فإذا كنت راجعاً إلى مكة فيشترط أن يؤذن عليك أذان العصر وأنت في السفر، ولو قبل دخول مكة بدقائق، لأنه إذا أذن عليك الأذان وأنت في السفر وجبت عليك الصلاة ركعتين، وأما إذا أذن عليك بعد دخولك مكة، فقد وجبت عليك أربعاً وأنت قد صليت ركعتين.
ومن هنا قرر العلماء والأئمة رحمهم الله أن شرط صحة جمع التقديم أن يستمر العذر إلى دخول وقت الثانية، فإذا لم يستمر إلى دخول وقت الثانية فإنه أذن لك أن تصلي الرباعية الأولى ركعتين ولم يؤذن لك بقصر الرباعية الثانية وهي العصر، ومن هنا كان لابد من دخول وقت الثانية والعذر باق، فإذا لم يدخل فإنه لا يصح الجمع، ويجب عليك إعادة صلاة العصر على أصح قولي العلماء رحمهم الله، وهو مذهب الجمهور، والله تعالى أعلم.(343/17)
اشتراط التتابع في الصيام في كفارة اليمين
السؤال
هل يشترط التتابع في الصيام عن كفارة اليمين، أثابكم الله؟
الجواب
في هذه المسألة قولان للعلماء، وجمهور العلماء على أنه لا يشترط التتابع؛ لأن الله تعالى أمر بصيام ثلاثة أيام {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] فآية المائدة مطلقة، ولم تبين وجوب التتابع في صيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين، وذهب الحنابلة رحمهم الله إلى وجوب التتابع واستدلوا بقراءة عبد الله بن مسعود: (فمن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فقالوا: إن هذا يدل على أنه يجب التتابع في صيام الثلاثة الأيام في الكفارة.
وهذه المسألة أصولية؛ أعني: هل يجوز الاحتجاج بالقراءة الشاذة في إثبات الأحكام أو لا؟ وإذا قلنا قراءة شاذة فليس فيها انتقاص للقراءة، لأن الوصف للأقوال والقراءات بالشذوذ المراد به عدم جريان العمل عليه، فالقراءة الشاذة لا يقرأ بها؛ لأنها نسخت في العرضة الأخيرة.
وضوابط الشذوذ في القراءات معرفة: ومنها مخالفة اللغة، والرواية، وهذا أمر يقرره أئمة القراءات.
أما من حيث الاحتجاج بالمتن فالأشبه أنه يصومها ثلاثاً متتابعات، ويحرص على التتابع فيها، وهذا أسلم، ويكون ورود العرضة الأخيرة بغير تقييد: (فصيام ثلاثة أيام) لا ينقض الأصل الذي جاء في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فهذه المسألة القول بالتتابع فيها قوي جداً، فيأخذ بها المسلم ويحرص على صيام أيام الكفارات متتابعات.
لكن الإشكال الذي ينبغي التنبيه له، وتنبيه الناس عليه: أن بعض العوام يعتقد أنه إذا حلف في يمين أن عليه أن يصوم ثلاثة أيام مباشرة، والواقع أن صيام الثلاثة الأيام لم يوجبه الله سبحانه وتعالى إلا عند العجز، وكفارة اليمين جمعت بين التخيير والترتيب، فهي في خصالها الأولى وهي: عتق الرقبة، وأن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم تخييرية، إذا فعل واحدة من هذه الثلاث الخصال أجزأه، سواء قدر على غيره أو لم يقدر.
وأما الخصلة الأخيرة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة:89] فتدل على وجوب الترتيب، واشتراط العجز، لأنه لما علقها بفقدان الاستطاعة دل على أنه لا يصح له أن يصوم الثلاثة الأيام إلا عند عجزه عما تقدم، فبناءً على ذلك يجب عليه أن يراعي الترتيب، فإذا صام الثلاثة الأيام وهو قادرٌ على إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم؛ فإنه لا يصح صيامه ولا يجزيه، ويعتبر صيام نافلة، ويجب عليه أن يعتق إن وجد الرقبة، أو يطعم العشرة مساكين أو يكسوهم، وهذا محل إجماعٍ بين العلماء رحمهم الله، أعني أنه لا يجوز صيام الثلاثة الأيام متى قدر على واحدة من الثلاث الخصال: العتق أو إطعام العشرة المساكين أو كسوتهم، والله تعالى أعلم.(343/18)
حكم الدعاء بأمور الدنيا في مواطن إجابة الدعاء
السؤال
ما حكم الدعاء في أمور الدنيا في مواطن إجابة الدعاء أثناء الصلاة، أثابكم الله؟
الجواب
الدعاء بأمور الدنيا جائزٌ على أصح قولي العلماء، ولا بأس للمسلم أن يدعو بدفع مكروه دنيوي، أو تحصيل أمرٍ دنيوي في صلاته، خلافاً للحنابلة رحمهم الله، واستدل الحنابلة على المنع بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيءٌ من كلام الناس) قالوا: وأمور الدنيا من كلام الناس.
واستدل الجمهور بالأحاديث الصحيحة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم) والمغرم الدَّين، وهو من أمور الدنيا.
وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر دعائه: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) وهذا يشمل جميع ما فيه الخير من أمور الدنيا، ولذلك اعتبر من جوامع دعائه، فالصحيح أنه لا بأس أن يدعو.
وأقوى الأدلة للجمهور على هذه المسألة، قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء) يعني بعد التشهد، وهذا عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه، وليس هناك ما يدل على التخصيص، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يصح فيها شيء من كلام الناس) إنما جاء في مواضع الذكر المخصوصة؛ لأن صورة السبب قطعية الدخول في الحكم، فهذا ليس له علاقة بالدعاء لأن له أصلاً دل عليه، وإذا تعارض الأصل العام مع الأصل الخاص قدم الأول، وقوله: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء) جاء بياناً لأصلٍ خاص وهو الدعاء، وأما قوله: (لا يصح فيها شيء من كلام الناس) فجاء على سبيل العموم، فيقدم هذا الخاص الوارد في أصل المسألة وهي الدعاء في أمور الدنيا، وهو الأشبه والأرجح إن شاء الله.
ولكن من الحرمان أن يدعو الإنسان في الأماكن الفاضلة التي ترجى فيها الإجابة بالدنيا، ومنها الدعاء أدبار الصلوات، ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام: (أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، وأدبار الصلوات المكتوبة) فأدبار الصلوات أماكن ترجى فيها الإجابة، فيخصها الإنسان بالدعوات العظيمة، وأن تكون همته للآخرة، ولذلك عجب الله من قومٍ دعوا بالدنيا فقال: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200].
فالمنبغي أن الإنسان يتشوف إلى ما هو أعظم، ولا مانع أن يسأل الله في الدنيا الحسنة، وبذلك أقول: إنه ينبغي للمسلم أن يتخير لهذه الأماكن الفاضلة ما يناسبها من جوامع الدعاء وخير الدين والدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.(343/19)
صلاة المسبوق في الجنائز
السؤال
فاتتني بعض التكبيرات في الصلاة على الميت، فوجدت الإمام في الدعاء، فكيف أتم الصلاة، وهل صلاة الجنازة تقضى، أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة فيها وجهان للعلماء مشهوران، فبعض العلماء يقول: إذا دخلت مع الإمام فإنك تعتبر بحاله، فإذا دخلت في تكبيرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فعليك أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتسقط عنك الفاتحة، وإذا دخلت مع الإمام وهو يدعو، فإنك تدعو وتسقط عنك الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من حيث الأصل أقوى.
وبعضهم يقول: إن صلاتك مع الإمام تعتبر فيها حالك، فتبدأ بقراءة الفاتحة ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تدعو إن وسعت تكبيرة الدعاء، وهذا مبني على قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) فلما عبر عليه الصلاة والسلام بقوله: (أتموا) دل على أن صلاتك مع الإمام هي الأولى، وإذا كانت صلاتك مع الإمام هي الأولى فمعنى ذلك أنك لا تتقيد به، لأنك إذا أدركته في الركعة الأخيرة -من الظهر مثلاً- وهي الأولى بالنسبة لك؛ قرأت الفاتحة وسورة على هذا القول، وكذلك إذا أدركته في العشاء، فإنك تقرأ الفاتحة وسورة، ولكن لا تجهر لمكان المتابعة، لأنه لا تجوز المخالفة الظاهرة في القول والعمل.
وبناءً على ذلك فالأمر مثلما ذكرنا: أن المذهب الذي يقول تدخل بحال الإمام، أشبه من حيث الأصل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تختلفوا عليه) وبناءً على ذلك لو دخل مع الإمام على حاله كان أشبه، فإن ترجح عنده القول الثاني ودخل بأنه مبتدئ، فدخل بقراءة الفاتحة ثم كبر التكبيرة الثانية وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فله وجه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(343/20)
شرح زاد المستقنع - باب الحضانة [1]
لقد اعتنى الإسلام بالقاصرين من الصغار والمعتوهين والمجانين ونحوهم، فجعل لهم حق الحضانة على الأقربين، وقد بينت الشريعة أحكام الحضانة، وحقوق المحضون، وشروط الحاضن، وترتيب الأقرباء في ولايتها؛ بياناً قائماً على تحقيق مصلحة المحضون.(344/1)
مشروعية الحضانة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الحضانة] الحضانة مصدر مأخوذ من قولهم: حضن الشيء يحضنه حضانة إذا ضمه إليه، والحضن الصدر مما دون الإبط إلى الكشح.
وسميت الحضانة بهذا الاسم لاشتمالها على ضم المحضون، وهو الشخص الذي يعجز عن القيام بأمور نفسه؛ لصغر أو جنون أو عتهٍ أو غير ذلك.
وباب الحضانة يتعلق بالقيام على حقوق الضعفاء من الصبيان والصغار والمجنون والمعتوه.
ومناسبة باب الحضانة لما قبله: أن المصنف رحمه الله بيّن حقوق النفقات، فناسب بعد ذلك أن يبين حقاً خاصاً للصغير والمجنون، وهو حق الحضانة.
وتقديم باب النفقات على باب الحضانة مبني على أن النفقات لا تختص بنوع معين من كل وجه، ولكنها أشمل وأعمّ من الحضانة، ولكن الحضانة يراها بعض العلماء خاصة بالصغير فلا تشمل الكبير كما عند المالكية، وإن كان جمهور العلماء رحمهم الله على أن الحضانة تشمل الصغير، وتشمل الشيخ الكبير والزمن ومن في حكمهم.
ونظراً لأن الحضانة تختص بنوع خاص، فالأنسب أن يبدأ بالحق العام قبل الحق الخاص، من باب التدرج من الأعلى إلى ما هو دونه.
والحضانة: هي القيام بأمور من لا يستقلّ بنفسه، وتربيته ودفع الضرر عنه أو ما يهلكه.
ولذلك تشتمل الحضانة على القيام بمصالح الصغار، ورعاية هذه المصالح بما يكون فيه الخير إذا كان المحضون صغيراً أو مجنوناً، أو للشيخ الكبير الزمن إذا تحمّل وليّه مصالحه وقام على رعايته.
والحضانة القيام بتحصيل المصالح من رعاية المحضون في نومه ويقظته، وبمتابعة أحواله، والإنفاق على تعليمه، وتأديبه وتقويمه، ودلالته على ما يصلح دينه ودنياه وآخرته، فالصبي والصغير سواء كان ذكراً أو أنثى يحتاج إلى من يرعى شئونه ويقوم بأموره، فيرعى شئونه مادياً ومعنوياً.
والحضانة تتكفل بذلك كله، والإسلام جعل هذه الحضانة إلى شخص مخصوص بشروط مخصوصة لابد من توفرها فيه، وجعل لهذه الحضانة أموراً ينبغي على الحاضن أن يقوم بها على وجهها، وجعل لها أمداً وغاية تنتهي عند بلوغها إليه، وكل هذا يبينه العلماء رحمهم الله في باب الحضانة.
يقول المصنف رحمه الله: (باب الحضانة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحضانة الصغير ومن في حكمه، ويشمل هذا ثلاثة جوانب: الجانب الأول: بيان من هو الشخص الحاضن؟ ومن هو الأولى والأحق بالحضانة؟ الجانب الثاني: بيان من الذي يحضن؟ وهو الشخص المحضون.
الجانب الثالث: بيان صفة الحضانة والمسائل والأحكام المتعلقة بها.(344/2)
أدلة مشروعية حضانة الصغير
قال المصنف رحمه الله تعالى: [تجب لحفظ صغير ومعتوه ومجنون].
(تجب) بمعنى تثبت، فالحضانة ثابتة إما بسبب الصغر أو الجنون أو العته، وبناءً على ذلك لا حضانة لكبير بالغٍ إذا كان عاقلاً، إلا إذا كان شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يقوم بأموره ومصالحه، فأفتى طائفة من أهل العلم بأنه في حكم الشخص المحضون، لكن هذا فيه تفصيل: إذا غاب عنه عقله، فيلحق بالمجنون ولا إشكال، وكذلك إذا كان فيه خرف أو سفه.
فبين المصنف رحمه الله أنها تثبت إذا كان المحضون صغيراً، سواء كان ذكراً أو أنثى، والسبب في هذا: أن الصغير ضعيف العقل لا يحسن رعاية مصالحه والقيام على نفسه، وبناءً على ذلك لابد من شخص يقوم عليه، ولهذا قال الله عز وجل: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37] فجعلها في كفالة من هو أكبر، وهذا يدل على أن الصغير يحتاج إلى من يكفله ويقوم على رعايته.
قال بعض العلماء: الحضانة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
فأما دليل الكتاب فقوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه.
وأما دليل السنة فأحاديث، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ أحق به ما لم تنكحي).
فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به) إثبات للحضانة، وهذا الحديث حسن الإسناد، من رواية الوليد بن مسلم عن عمرو بن شعيب، والرواية في السنن بالعنعنة، والوليد مدلس، ولكن هناك رواية في البيهقي صرح فيها بالتحديث، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يحسنه طائفة من العلماء رحمهم الله، ويختارون أنه من قبيل الحسن.
وأما الحديث الثاني فهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد صححه غير واحد من العلماء والأئمة، وفيه: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فجاء زوجها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام! هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه) وهذا الحديث الثاني يستدل به العلماء على انقطاع الولاية بعد الحضانة في مسألة التخيير بعد سبع سنين وسيأتي الكلام عليها.
وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الصغير ذكراً كان أو أنثى تثبت الحضانة في حقه، وذلك على التفصيل الذي سنذكره في قرابة المحضون أو من هو أولى بحضانته.
ثم إن دليل العقل يؤكد ما تقدم، فإن الصغير قاصر في نظره قاصر في رعاية مصالحه، وبذلك أمرنا الله بالحجر عليه، قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وأمر بالحجر على اليتامى، فهذا يدل على أن الصغير يحتاج إلى من يرعاه، وإذا كان الصغير غير قادر على رعاية مصالحه، فإنه ينبغي أن تسند الرعاية إلى من هو أهل، وأحق من يقوم بذلك قرابته.(344/3)
حضانة المعتوه والمجنون
قوله: [ومعتوه ومجنون].
العته ضرب من الجنون، والجنون ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الجنون المستديم.
القسم الثاني: الجنون المتقطع.
فإذا كان الشخص به جنون فإنه يولى عليه من يقوم على شأنه ورعاية مصالحه، وهذا قول الجمهور رحمهم الله، وهو أن الحضانة تثبت للكبير إذا كان بالغاً مجنوناً.
وأما العته فيقولون: إنه ضرب من الخرف، بأن يكون ناقص العقل، ليس مجنوناً ولا عاقلاً من كل وجه، أو أنه يميز الأمور بعض الأحيان ويخلط بعض الأحيان، وهذا نوع من العته، وقد يكون العتة بسبب الحوادث، كأن يضرب على رأسه، فيصبح عنده نوع من الخلط وعدم تمييز الأمور، نسأل الله السلامة والعافية.
فالمقصود أنه إذا كان قاصراً في مصالحه لنفسه، سواء كان سبب القصور صغر السن، أو عدم وجود العقل، أو ضعف العقل والإدراك، فإنه يولى عليه من يقوم عليه.(344/4)
أحق الناس بالحضانة
وقوله: [والأحق بها أم].
هذا ترتيب للأشخاص الذين لهم حق الحضانة، فالحضانة تثبت للأم، ثم أمها وإن علت بمحض الإناث، ثم الأب وأمه وإن علت كأمه وأم أمه، وهي جدة المحضون، وبعد ذلك للجد ثم أمه وإن علت بمحض الإناث، ثم للأخت الشقيقة، ثم للأخت لأم، ثم للأخت لأب، ثم بعد ذلك الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم الخالة لأب، ثم العمة الشقيقة، ثم العمة لأم، ثم العمة لأب، ثم بعد ذلك تثبت الحضانة لخالة الأم الشقيقة، ثم لخالة الأم لأم، ثم لخالة الأم لأب، ثم عمة الأب الشقيقة، ثم عمة الأب لأم، ثم عمة الأب لأب، ثم بعد ذلك بنت الأخ الشقيق، ثم بنت الأخ لأم، ثم بنت الأخ لأب، ثم بنت الخالة الشقيقة، ثم بعد ذلك لبنات أعمام الأب الأشقاء، ثم بنات العمات الشقيقات على الترتيب الذي تقدم.
فعمات الأب الشقيقات، ثم بعد ذلك بنات العمات الشقيقات، ثم بنات العمات لأم، ثم بنات العمات لأب، ثم بعد ذلك لأقرب عاصب من أولياء المحضون.
هذا بالنسبة للأصل في الترتيب، وروعي فيه تقديم جهة تقديم الأم؛ لأن الحضانة بالإناث ألصق منها بالذكور، ولذلك قدم النبي صلى الله عليه وسلم حضانة الأم على حضانة الأب، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث المرأة: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي)، فالذي اختصم هنا عندنا الأب وهو الزوج، والأم وهي الزوجة، فبين عليه الصلاة والسلام بقوله: (أنتِ) خطاباً للزوجة وهي أم المحضون (أحق به ما لم تكنحي) أي: ما لم تتزوجي.
فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله في أن جهة الأمومة مقدمة، ويراعى في الحضانة جهة الأمومة، وهذا لا شك أنه عين الحكمة والصواب، فإن الطفل والصغير يحتاج إلى الرعاية والحنان من الأم، والحنان من الإناث أكثر من الحنان من الذكور والرجال.
والرعاية لمصالح الصغار من الإناث أبلغ من رعاية الذكور، فإن في الرجال من الخشونة والعنف والقوة ما لا يخفى، وفي الإناث من اللين والصبر وتحمل أذية الأطفال والصغار ما لا يخفى، فأعطى الله عز وجل كل ذي حق حقه.
ومن هنا قدمت جهات الأمهات، فمثلاً: إذا وُجدت أخت لأب وأخت لأم قدمت الأخت لأم على الأخت لأب، وإذا وجدت عمة لأم وعمة لأب قدمت العمة لأم على العمة لأب.
وهكذا.
فهذا كله راعى العلماء رحمهم الله فيه الأصل الشرعي من تقديم الإناث على الذكور.
إذاً: الأولى والأحق الأم، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق) فيه دليل على أن الأم مقدمة في الحضانة، وهذا بإجماع العلماء من حيث الأصل على أن الأم أولى وأحق بالحضانة، ولذلك هي التي تقوم على تربية ولدها ورعاية شئونه، فأولى من حضن الصبي وقام به الأم.
وقوله: [ثم أمهاتها القربى فالقربى] لأن أم الأم كالأم، وهي أم؛ ولذلك تنزل منزلة الأم عند فقد الأم، وهي بعد الأم في الترتيب، ثم أم أم الأم، وهي جدة أم المحضون.
وقوله: [ثم أب] من أهل العلم من قدم الأب على أم الأم، ومنهم من جعل جهة الأم مقدمة على الأصل في رعاية الشرع لها، فقالوا: إن الأب يكون بعد فقد أم الأم، أو وجود مانع في أم الأم، والأب له حق، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة: (أنت أحق به) و (أحق) صيغة أفعل في لغة العرب تدل على اشتراك شيئين فأكثر، وأن أحدهما أعظم مزية من الآخر، فإذا قيل: محمد أعلم من علي، فهم أن محمداً وعلياً كل منهما عالم، ولكن منزلة محمد أعلى من منزلة علي في العلم.
فصيغة أفعل، تقتضي التشريك والمزية بالتفضيل، لكن لما قال عليه الصلاة والسلام: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) أثبت عليه الصلاة والسلام للأب حقاً، ولكنه بين أن الأم أولى، وإلا لأبطل دعوى الأب من أصلها، وقال: لا حق له في ذلك، ولكنه لما قال: (أنت أحق) دل على أن للأب حقاً في حضانة ولده.
ولأن في الأب من الشفقة والحنان والرعاية والقيام بالمصالح ما لا يخفى، وفيه من القدرة على رعاية مصالح الصغير ما ليس في الأم، خاصة عند وجود الحاجة لحقوق الصغير عند الناس أو نحو ذلك، أو يحتاج الصغير إلى تعليم أو تأديب أو دلالة على صنعة أو حرفة، فالأب هو الذي يتولى إخراجه لذلك والقيام عليه ومتابعته وأمره بذلك وحثه عليه.
وقوله: [ثم أمهاته].
أي: أمهات الأب، أمه وأم أمه وإن علت بمحض الإناث.
وقوله: [ثم جد] لأن الجد منزل منزلة الأب، والجد أب من وجه، ولذلك قال الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] فالجد بمنزلة الأب، وعلى ذلك أصول الشريعة، فإذا لم يوجد الأب، أو كان في الأب مانع، انتقلت الحضانة إلى الجد.
وقوله: [ثم أمهاته كذلك].
أي: ثم أمهات الجد لهن الحق في الحضانة؛ لأنهن منزلات بمنزلة الأب.
فإذاً: أصبح عندنا في الأصول الجهات التالية: الأم، ثم تليها أمها وإن علت، ثم الأب، وتليه أمه وإن علت، ثم الجد، وتليه أمه وإن علت، فهذه ستة أنواع كلها مرتبة من جهة الأصول: إما من جهة الأب أو من جهة الأم.
وقوله: [ثم أخت لأبوين].
أي: أخت شقيقة.
فإذا لم يوجد أحد من الأصول الستة انتقلت الحضانة إلى فرع الأصل، والأصل عندنا من جهة الأب والأم، وأصل الأصلين من جهة الإناث، ومن جهة الذكر بالنسبة للأب، وبعد ذلك انتقل إلى فرع الأصل وهي الأخت، وقد بينا أن الأخت هي التي شاركتك في أحد أصليك أو فيهما معاً.
فهنا الأخت الشقيقة لها حق الحضانة، وفيها من الشفقة والحنان والعطف لأنها صنو المحضون، ولا شك أنها ترعى مصالح أخيها؛ لأنها أدلت من جهتين.
ثم تليها الأخت لأم؛ إعمالاً لأصل الشريعة بتقديم جهات الأمهات على جهات الآباء، ثم الأخت لأب.
وقوله: [ثم لأم، ثم لأب] كل هؤلاء النسوة الثلاث من جهة الأخوة، فتقدم الشقيقة، ثم بعدها الأخت لأم ثم بعدها الأخت لأب، فإذا لم يوجد شيء من الأصول أو وجد وفيه مانع كأب كافر أو أم كافرة والعياذ بالله، وليس هناك من قرب بعد الأصول إلا الأخت الشقيقة، فانتقلت الحضانة إليها، فإن لم توجد الأخت الشقيقة أو بها مانع انتقلت إلى الأخت لأم، فإن لم توجد أو فيها مانع انتقلت الحضانة إلى الأخت لأب.
وقوله: [ثم خالة لأبوين].
أي: تستحق الحضانة الخالة الشقيقة، وهي كل أنثى شاركت الأم في أصليها، وأما الخالة لأب أو لأم فإنها شاركت في أحد الأصلين، فالخالة تنزل منزلة الأم في الحضانة، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما فتح مكة جاءت بنت حمزة تقول: يا عم يا عم يا عم! فقال علي رضي الله عنه لـ فاطمة: دونك بنت عمك خذيها واحتمليها، فحملتها فاطمة، فاختصم فيها جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب).
فهذه بنت حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بنت أخيه من الرضاعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم عمها، وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يأخذون ملحظاً بسيطاً وهو أن هذه بنت صغيرة يتيمة عقلت عمها من الرضاع ونادته: يا عم يا عم! وهو عم من الرضاع، فكيف ببنات اليوم تجهل عمها من النسب! انظر كيف يراعى تربية البنات وكيف كانت الأم تربي، لأن أباها حمزة رضي الله عنه استشهد في أحد، وهذا في فتح مكة، والمسافة بعيدة، ومع هذا عقلت عمها من الرضاع، فما بالك بعمها من النسب، وكذا قرابتها من النسب؟! لأن البنت كانت تربى في حجر أمها، وكانت الأم لا تفرط في فلذة كبدها، أما اليوم إذا دخل عليها عمها أو خالها أو قريبها من النسب، فربما جهلته والعياذ بالله، كل هذا بسبب قطيعة الرحم أو بسبب إسناد التربية إلى المربيات والعاملات، وترك الأمهات لواجبهن من الرعاية.
الشاهد أن هذه الصغيرة عقلت وصاحت، فاختصم فيها هؤلاء الثلاثة: علي بن أبي طالب يقول: إنها بنت عمي، وكذلك يقول جعفر رضي الله عنه وأرضاه، لكنه قال: وخالتها تحتي، وقال زيد بن حارثة: إنها ابنة أخي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين زيد بن حارثة وحمزة رضي الله عنهما.
فقال عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) وهذا من أقضيته عليه الصلاة والسلام، قضى في هذه الخصومة وفصل بالحق الذي فصل به ربه سبحانه وتعالى وهو خير الفاصلين.
وهذا في الحقيقة ينبغي أن يلحظ في أن علياً رضي الله عنه وجعفراً كل منهما أدلى بالسبب الذي هو من جهة العصبة، فكل منهما يعتبر ابن عم من جهة العصبة، فالقرابة موجودة، لكنَّ جعفراً رضي الله عنه وأرضاه فضل من جهة وجود الزوجة التي هي خالة، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) وفضلت من هذا الوجه.
ومحل الشاهد في قوله عليه الصلاة والسلام: (الخالة بمنزلة الأم) حيث دل هذا الوصف على أن الخالة تنزل منزلة الأم.
ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله أن الخالة لها حق في الحضانة.
وقوله: [ثم عمات كذلك] تقدم الشقيقة منهن لأنها أدلت من جهتين، ثم تقدم العمة لأم، ثم العمة لأب.
وقوله: [ثم خالات أمه] انتقل إلى خالات الأم، والخئولة جاءت من جهة الأم، ويقدم فيها خالة الأم الشقيقة، وهي التي شاركت أم الأم في أصليها، ثم تقدم الخالة لأم على الخالة لأب.
وقوله: [ثم خالات أبيه] أي: أن الخئولة من جهة الأم مقدمة على الخئولة من جهة الأب، يقدم فيها الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم الخالة لأب، على التفصيل الذي تقدم.
وقوله: [ثم عمات أبيه] عمات الأب يراعى فيهن نفس الترتيب: فالعمة الشقيقة، ثم العمة لأم، ثم العمة لأب، هذا من جهة عمات الأب، ولا حق لعمات الأم، وذلك لأنهن يدلين بأب الأم، وهو من ذوي الأرحام وليس من العصبة.
ومن هنا فلا حق لعمات الأم من جهة الترتيب الذي ذكرناه في الحضانة.
وقوله: [ثم بنات إخوته وأخواته] بنت الأخ الشقيق، ثم بنت الأخ لأم، ثم(344/5)