حكم بيع المسك في فأرته
قال المصنف رحمه الله: [ولا مسك في فأرته] ذكر المصنف رحمه الله هنا مسألة المسك في الفأرة.
والفأرة: هي وعاء المسك، وتكون من الجلد نفسه، وذكر بعض أئمة اللغة: أنه سأل من يعرف المسك فقال: إن الغزال ينبت في جهة أضلاعه وعاء المسك، وهو أشبه بالثألول أو شيءٌ من هذا، فيكبر قليلاً قليلاً حتى يصل إلى حجم معين، فإذا صاد الصياد الغزال فإنه يربط هذا الموضع، ثم بعد ذلك يقصه فيجتمع ويتخثر فيه الدم، وإذا تخثر فيه الدم وضع في الشعير حتى يطيب ويزكو؛ لأنه إذا تخثر الدم يكون نتن الرائحة، فإذا وضع في الشعير استصلح على طريقة يعرفها أهل (العطارة) فبعد استصلاحه تفوح منه الرائحة الطيبة الزكية، حتى قال من وصفه بهذا الوصف: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطيب به ما تطيبت به؛ لأن من عرف أصله وهو الدم فإنه لا يتطيب به بل ينفر منه؛ لكن (المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ) كما يقول الشاعر، فالله سبحانه وتعالى جعل في هذا الدم هذه الخاصية والرائحة، وقد تطيب به رسول الأمة صلى الله عليه وسلم.
(ولا مسكٌ) أي: أصل التقدير: (ولا يباع المسك في فأرته)، وهي وعاؤه الذي يكون فيه من جلد الغزال نفسه؛ والسبب في هذا أن المسك في الفأرة كاللبن في الضرع وكالحمل في البطن، وكأنك تنظر إلى هذه الثلاثة الأمثلة كلها تشتمل على بيع شيء مجهول داخل وعاء محفوظ، لا يمكن أن يُطّلع معه على حقيقة المبيع، فلو سألك سائل: هل يجوز بيع الأشياء داخل أوعيتها؟ تقول: فيه تفصيل: فإن كان يمكن أن يطّلع على حقيقة المبيع وهو بداخل الوعاء صحَّ البيع، كأن يباع في زجاج ويكون وصفه من داخل الزجاج ظاهراً، كأنه واضحٌ أمام المشتري، يعلم جودته ورداءته ويعلم حجمه وقدره فيصحُ البيع، أمّا لو كان داخل وعاء مصمت لا يمكن كشفه ولا معرفة حقيقته تقول: يحرم بيعه، كما يحرم بيع المسك في الفأرة، والحمل في البطن، واللبن في الضرع.(146/9)
حكم بيع النوى في التمر
قال رحمه الله: [ولا نوى في تمره].
هذا المثال الرابع، أي: لا يباع النوى وهو داخل التمر؛ والسبب في هذا أن النوى والذي يسمى (بالفصي) يطحن ويكون علفاً للدواب، ويدرُّ به حليب البهيمة ويستصلح به، فهذا النوى إذا قال شخص: أبيعك نوى هذا التمر، أي: آكل التمر ثم أبيعك نواه لم يصحّ؛ والسبب في هذا أن النوى يختلف حجمه، فقد يكون كبيراً وقد يكون صغيراً، وإذا كبر الحجم عظم القدر وكان وزنه وكيله كثيراً، وعلى هذا ربما اشتريت النوى في هذا التمر ظاناً أنه من النوى الجيد فيكون من الرديء، وتظنه من الحجم الكبير فإذا به من الصغير، أو تجده يجمع بين الصغير والكبير، فالمسألة كلها تدور حول جهالة المبيع، فلا يهم أن تحفظ مسألة النوى وغيرها، إنما يذكر العلماء لك هذه الأمثلة لشيء يسمى في الفقه (بالتخريج)، والتخريج: أن تطرأ مسألة جديدة في عصرنا الحاضر وتقول: هذا الشيء الذي في وعائه ولا تُدرى صفته بيعه كبيع النوى في داخل التمر، وبيعه كبيع اللبن داخل الضرع، وكبيع الحمل داخل البطن، أي: أنك تخرّج الحاضر على الماضي، وهو الذي يسمى بتخريج الفروع.(146/10)
حكم بيع الصوف على الظهر
قال رحمه الله: [ولا صوفٌ على ظهر].
بالنسبة للأمثلة السابقة تلاحظ أن الجهالة مستحكمة فانظر إلى دقة المصنف: فقد ابتدأ بالحمل فقال: (وبيع حمل في بطن)؛ لأن الجهالة هنا تجمع عدة وجوه: أولاً: تجهل هل الحمل حيٌّ أو ميت؟ ثانياً: تجهل هل هو كامل الخلقة أو ناقص الخلقة؟ ثالثاً: تجهل السلامة وهي العاقبة، فحتى ولو كان حياً الآن فلا ندري أيخرج سالماً أو غير سالم؟ فاستحكمت الجهالة من أكثر من وجه فقدّمه، وأتبعه باللبن في الضرع؛ لأنه يجهل القدر ويجهل الحال، فهذان نوعان من الجهالة، فالأول فيه ثلاثة أنواع من الجهالة، والثاني فيه نوعان من الجهالة، ثم أتبعه بالنوى داخل التمر، فإنك وإن علمت عدد النوى فإنك لا تعلم صفته: أجيّد هو أو رديء؟ فهذا نوعٌ من الجهالة، ثم جاءك بالمنكشف الذي تراه أمامك، ولكنك تجهل ما يكون من عاقبته وهو الصوف، فالصوف على ظهر البهيمة لا تدري قدره؛ لأنه إذا جُزّ تكون له حال غير حاله وهو على ظهر البهيمة، فحينئذٍ لا تدري أيجز فيكون جزه كاملاً أو جزه ناقصاً؟ ثم لا تدري أجيداً يكون أو رديئاً؛ لأنه على ظهر البهيمة ربما أطبق بعضه على بعض ولا تستطيع أن تكشفه، وهنا تكون الجهالة أيضاً من وجه، فكأن الأمثلة مرتب بعضها على بعض على حسب قوة الجهالة، والعلماء كأنهم ينبهونك على الأشياء التي اجتمعت فيها الجهالة من عدة أوجه، وما كانت الجهالة فيها من وجهين، وما كانت الجهالة فيها من وجه واحد؛ لأنه لو ذكر المصنف الأمثلة الأولى -وهي بيع اللبن في الضرع، والجنين في البطن، والنوى في التمر- وسكت ربما جاءك شخص وقال: يجوز بيع الصوف على الظهر؛ لأن المصنف إنما ذكر المغيب المجهول ولم يذكر الظاهر المجهول، فكأن المصنف من دقته يريد أن يقول لك: لا يقتصر الحال على المجهولات التي تكون في بطن الأشياء، بل إن المجهول قد يكون على ظهر الشيء ولا يجوز بيعه، كالصوف والشعر على ظهر البهيمة، كلّ ذلك مما يجهل حاله ولا يدرى عاقبته، وكما لو باعه جلدها يقول له: هذه البهيمة أبيعك جلدها بعشرة، فهذا جهل السلامة؛ لأن الجزار إذا أراد أن يفصل الجلد عن البهيمة قد يَقُدُّ الجلد، ولا ندري حتى ولو خرج الجلد سالماً أهو من الجلد الثخين فيصلح في حفظ الأشياء التي لابد أن يكون الجلد فيها ثخيناً، أو يكون من الجلد (الرهيف) والرقيق، وهذا يختلف من بهيمة إلى أخرى، فإذاً: الأمثلة مرتبة من المصنف لمعنى ومغزى.(146/11)
حكم بيع الفجل قبل قلعه
قال رحمه الله: [وفجل ونحوه قبلَ قلعه].
لا يختص الأمر بالبهائم فقد يقول قائل: إن الجهالة لا توجد إلا في البهائم، فقال لك: (وفجل)، فإن الفجل -كما تعلمون- يكون في باطن الأرض، ويكون ما نبت منه على وجه الأرض الورق، وحينئذٍ أنت تريد الفجل، وهذا الفجل مغيب في الأرض، فلو باعه فجلاً داخل الأرض فإنه لا يجوز؛ لأنه لا ندري أهو من الحجم الكبير أو من الحجم الصغير؟ ولا ندري إذا قلعه أيقتلعه كاملاً أو ناقصاً؟ وعلى هذا فإنه لا يباع وهو في باطن الأرض، أمّا لو كشف وخرج على وجه الأرض وأمكن تمييزه، ومعرفة جيده من رديئه، ومعرفة قدره جاز بيعه وصحَّ.(146/12)
الأسئلة(146/13)
الخرص كيفيته وحكمه
السؤال
هل ما يسمى بالخرْص يُعد من الغرر، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأول ما يقال في هذا السؤال: ما معنى الخرْص؟ الخرْص: هو الحدس والتخمين، وقد يطلق على الكذب، ومنه قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] أي: الكذابون، و (قتل) بمعنى: لُعن؛ لأن القتل يستعمل بمعنى اللعن، والخارص: هو الذي يقدّر الأشياء.
والسؤال المراد به: إذا كان عندك نخل وأراد شخص أن يشتريه منك فجاء بخارص يخرص كم في النخل لكي يشتريه ويقول لك: هذا إن اشتريته بمائة ألف فأنت رابح، وإن اشتريته بمائة وخمسين فأنت خسران، ففي هذه الحالة الخارص مهمته أن يخرص النخلة، وبناءً على الخبرة والمعرفة قد يطلع على النخلة ويقول: هذه النخلة فيها مائة صاع أو مائتين، فهذا مبني على الخبرة، والخرص له دليل شرعي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه إلى خيبر لكي يخرص النخل، كما ثبت في الصحيح في قصته مع يهود خيبر، فكان يخرص النخل، ويبين ما لليهود وما عليهم في نخل خيبر وتمر خيبر، فهذا يدل على مشروعية الخرص، وهذا من حكمة الله عز وجل ولطفه بعباده؛ لأن القاعدة: أنه (إذا تعذر اليقين يصار إلى ما يقارب اليقين)، فلما كان يتعذر أن تنزل النخلة وتحسب ما فيها أُعطي الخرص ونزل منزلة الوجود.
مثال ذلك في الزكاة: فإنه إذا بدا الصلاح في النخيل يبعث الخارص ويحدد كم في البستان من أردب أو كم فيه من أمداد أو من آصع، فيقول: هذا البستان -مثلاً- فيه مائة وسق، ففي هذه الحالة يقول لك: زكاتك كذا وكذا، فهذا التحديد يكون عند بدو الصلاح، وهو مبني على الخرص؛ لكن الشريعة أجازت ذلك؛ لوجود الحاجة، فلو قلنا لأصحاب الأموال وأصحاب البساتين الذين يحتاجون إلى الخرص لابد وأن يخرجوا التمر، فهذا فيه حرج وأنتم تعرفون أن النخل منه ما يؤكل بلحاً، ومنه ما يؤكل رطباً، ومنه ما يؤكل تمراً، ولا يمكن أن يقدر بالصاع إلا إذا كان تمراً، أما بالنسبة للبلح والرطب فهذا لا يوضع في الصاع ولا يكال عادة، إنما يكال التمر، فيعطى مجال لأهل التمر أن ينتفعوا به بسراً وزهواً الذي هو البلح، وكذلك ينتفعون به رطباً وينتفعون به تمراً، وقدم الخرص لوجود الحاجة، وهذا من عدل الله ولطفه بعباده أنه أعطى كل حالة من الحالات التي تقع فيها الحاجة والضرورة حكمها الخاص بها، فيعتبر الخرص خارجاً عن مسألة التقدير العيني؛ لأنه مبني على حالة الضرورة والحاجة.
لكن لو أن إنساناً أراد أن يبيع حباً على الأرض أو أراد أن يبيع تمراً على نخلة واحدة وهو يقول: أبيعك هذا التمر مائة صاع وقدّره بالخرص لا يصح، لكن لو قال: أبيعك ما على هذه النخلة، جاز، أما لو قال: مائة صاع أو خمسة آصع وحدد العدد بالخرص فلا يجوز؛ لأنه قد يزيد وقد ينقص، وبإمكانه أن يجني التمر ويعرف حقيقته، والقاعدة: (القدرة على اليقين تمنع من الشك)، ولهذا فرق العلماء في هذه الأحوال، إلا في مسألة المزابنة، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله في حديث زيد الثابت في الصحيح.
والله تعالى أعلم.(146/14)
الفرق بين الغبن والغرر
السؤال
ما الفرق بين الغرر والغبن، أثابكم الله؟
الجواب
بعض العلماء يرى أن الغبن يندرج تحت الغرر، والغرر أعم من الغبن؛ لأن الغبن يكون في شيء لا يستحق قيمته، وهذا غالباً ما يكون فيه نوع منفعة وهو نوع من أنواع الغرر، ولذلك تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر ولم ينه عن الغبن، أي: ما جاء الأسلوب بالغبن؛ لأنه أخف، وإنما جاء بالتعبير بالغرر؛ لأنه أعم.
ومن الغبن: تلقي الركبان، فإن من يجلب إلى البلد السلع إذا تلقاه التجار لا يدري كم قيمة السلعة في السوق فيغبن بالقيمة، فيقع البيع من حيث هو على ظاهره صحيحاً، لكن في الحقيقة فيه غبن، ولذلك يمثل العلماء لبيوع الغبن بهذا النوع، ويجعلونه نوعاً مستقلاً ويفصلونه عن الغرر، لورود النصوص الخاصة به، فهناك فرق بين الغبن وبين الغرر.
والله تعالى أعلم.(146/15)
حكم بيع ما كان غير معلوم القدر
السؤال
ما الحكم لو قال بائع السمك للمشتري: لك نصف ساعة بمائة ريال فما تصيده من السمك الموجود في الحوض فهو لك، أثابكم الله؟
الجواب
إذا قال هذا فإنه يعتبر من بيع المجهول؛ لأننا لا ندري هل يصيد الكل، فقد يصيد كل ما في الحوض خلال نصف ساعة فيغبن صاحب الحوض؛ لأنه كان يظن أنه لن يستطيع أن يصيد هذا كله، فيحس بنوع من الغبن، وأنه قد ظُلم بدفع ما هو زائد عن القيمة الأصلية، وإذا أخذ ما هو أقل من القيمة غبن المشتري، ولذلك لا يجوز هذا النوع، وهكذا لو قال له: تدخل المطعم وتأكل حتى تشبع، فهذا لا يجوز، وقد ذكر العلماء أن هذا من بيع المجهول، وهو من أكل المال بالباطل على هذا الوجه؛ لأنه يريد أن يجبر نقص طعام هذا بزيادة طعام هذا، وهذا من أكل المال بالباطل، والشريعة تريد بيعاً واضحاً، حيث تدفع المال لقاء شيء معلوم القدر مستحق القيمة، أما أن يقول: لك ما تصيده من هذا الحوض، وتجلس نصف ساعة تصيد، أو ادخل المطعم وهذه أربعة أنواع أو خمسة أصناف كُلْ منها ما شئت حتى تشبع، فإن هذا كله يعتبر من بيع المجهول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(146/16)
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [7]
لقد حرم الشرع البيوع التي فيها تغرير بالمشتري كبيع المجهولات، ومنها: بيع المسك في فأرته، والنوى في التمر، والصوف على الظهر، وحرم أيضاً بيع الملامسة والمنابذة وهما من بيوع الجاهلية.
كما بين الشرع ضوابط الاستثناء في البيع، فإن كان معلوماً لا غرر فيه صحّ ولا حرج فيه، أما إن كان فيه شيء من الجهالة فيحرم.(147/1)
حكم بيع الملامسة والمنابذة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يصحُّ بيع الملامسة].
في الكتب الفقهية نكت لطيفة، وإذا تأملت ودققت في العبارات وفي الأمثلة وفي الترتيب تدرك فقه الفقيه، فانظر كيف رتب المسائل هنا، فذكر أولاً بيع الحمل في البطن، ثم بيع اللبن في الضرع، ثم بيع النوى في التمر، ثم بيع الصوف على الظهر، ثم بيع الفجل قبل قلعه، ثم بعد ذلك قال: (ولا يصحُّ)، وجاء بالعطف لجملة مستأنفة؛ لأن هذا له دليلٌ خاص، ووردت به السنة، وهو بيع الملامسة، والأول له دليل ويعتبر قاعدة عامة وهو حديث ابن عمر في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)، فاندرجت كل الصور تحته، لكن هنا بيع الملامسة جاء فيه نصٌّ بعينه، فقال: (ولا يصحُّ بيع الملامسة) تأكيداً على التحريم، وقال: (لا يصحُّ) ولم يقل: ولا يجوز؛ لأنه قد يكون الشيء لا يجوز ولكنه يصحح بيعه التفاتاً إلى العقود، فيحرم البيع ويأثم البائع لكن البيع صحيح، كالبيع بعد أذان الجمعة فعند جمهور العلماء يصحُّ البيع ويأثم المتبايعان؛ لأن شروط البيع وأركانه متوافرة، فقال: (ولا يصحُّ) وهذا أبلغ ما يكون في البطلان؛ لأنك إذا قلت: (لا يصحُّ) فإنه يحكم ببطلان البيع وإثم البائع إذا علم أنه من المحرم فباع به واشترى.
وقوله: (الملامسة): مفاعلة من اللمس، والمفاعلة في لغة العرب تستلزم وجود شخصين فأكثر، كأن تقول: مقاتلة ومضاربة ومشاتمة؛ فإن الرجل لا يقاتل نفسه ولا يشاتمها ولا يضاربها، فقال هنا بصيغة المفاعلة؛ لأنها تستلزم البائع والمشتري.
وأصل اللمس: إفضاء البشرة إلى الشيء، يقال: لمسه بيده إذا أفضى بكفه وبطن راحته فالتمست البشرة بالشيء الملموس، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام:8] أي: أفضوا ببطن أيديهم أو بالراحة إلى ذلك الكتاب.
وبيع الملامسة من بيوع الجاهلية، والله سبحانه وتعالى حرّم هذا النوع من البيوع لحكم عظيمة، تقوم على دفع الضرر عن المشتري لاشتماله على شيء من التغرير، وهنا في هذه الجملة شرع المصنف في نوع آخر من بيوع الغرر، فالأول الغرر بالجهالة، وهنا الغرر بالجهالة من جهة الاشتراط وذلك بالعرف، فقد كان من عُرْفِ الجاهلية: أن الرجل إذا جاء يبيع الثوب جعله مطوياً مطبّقاً، وقد كانوا في أسواق الجاهلية يضعون الثوب على الأرض فمن يريد أن يشتريه فليأخذه، فيأتي رجل فينظر في الثوب فإن أعجبه يأتي ويلمسه دون أن يفتشه، ودون أن يرفعه حتى ينظر جليّة ما في الثوب، إنما يقوم باللمس، وهذا يقع على صورتين: إن كان في الليل فلا إشكال؛ لأنه لا يُبصر المبيع، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: بيع الملامسة أن يبيعه ليلاً، والبيع في الليل يقوم على اللمس دون استكشاف ومعرفة لجلية المبيع، أو يبيعه نهاراً ويقول له: هذا الثوب لا تفتشه، فيقول العبارة التي ذكرها العلماء: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك.
ووجه التحريم في هذا النوع من المبيعات: أن لمسه لا يكشف جليته، فلربما كانت طريقة التفصيل وطريقة العرض على وجه لا تحبه ولا ترغبه، فيختلك بتطبيقه ويزعم أن لمسك قائمٌ مقام نظرك، كذلك أيضاً من التغرير الذي يقع في هذا النوع من المبيعات أنه ربما كان العيب داخل الطي، أي: داخل الثوب في حال طيه، فإذا تفقدته باللمس لن تستطيع أن تصل إلى العيب، ومن هنا قال العلماء: إن هذا النوع من البيع يعتبر من بيوع الغرر؛ لأن البائع يريد أن يختل المشتري، إذ لو كان الثوب صالحاً ولا عيب فيه لما خاف أن يفتشه ويفتحه، فحرّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هذا النوع من البيع، وهو أن أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، وهذا نوع من أنواع الملامسة.
هناك نوع ثانٍ من أنواع الملامسة، وهو أن يقول له: إذا لمست الثوب فهو عليك بعشرة، فيبقى الثوب أمامه، فبمجرد أن يمد يده وتفضي راحته إلى الثوب، وجب عليه البيع، وهذا أعظم غرراً من الأول، فالأول على الأقل يلمس ويستكشف؛ ولكن هنا بمجرد اللمس يلزمه بالبيع، وبعضهم يقول له: إذا لمست الثوب فلا خيار لك، أي: يقطع له خيار المجلس باللمس، وكل هذه الأنواع من البيوع مجمعٌ على تحريمها، وبالنسبة للصورة الأولى وهي: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، هذا بيع من بيوع الجاهلية، والذي يشبهها في عصرنا الحاضر أن يقول له: إذا فتشت هذا الكرتون أو فتحت هذا الغلاف فقد وجب عليك البيع ولا خيار لك، ويلزمه بالبيع بمجرد أن يفتح علبة المبيع أو يفتح الكرتون، وفي هذه الحالة كأن المشتري يلزم بالبيع في شيء لم يعرف حقيقته ولم يستكشف جليته، وهذا يعتبر من بيوع الملامسة المحرمة، وربما يقع أيضاً في الثياب فتكون الثياب داخل غلاف من (النايلون) أو الأكياس الموضوعة فيها للعرض، فإذا جاء المشتري وفتشه ألزمه بالبيع وحرّم عليه أن يرد المبيع، ويلزمه إياه فرضاً، وهذا مثل قوله: إذا لمست الثوب فلا خيار لك، فيقطع له الخيار، وكذلك لو فتش هذا الكيس فرآه فلم يعجبه فقال: لم يعجبني، يقول: ما دمت فتحته وكشفته فإنه لازم عليك، ويلزمه ويقهره على البيع، وهذا لا يجوز.
لكن هنا إشكال: وهو أن البائع يقول لك: لو أنني سمحت لكل زبون أو لكل مشترٍ أن يفتش هذه السلع فإن الفتش يؤثر في طريقة عرض البضائع، وأتضرر إذا كانت بضائعي تفتش، ثم -كما هو معلوم- إن البائع والمشتري ما داما أمام بعضهما في مجلس واحد فالخيار لهما، حتى ولو قال له: لا أريد، فمن حقه.
كأن تشتري سلعة بعشرة فتعطيه العشرة، ثم بعد ساعة أو ساعتين وأنتما واقفان في المكان قلت: لا أريد، فهذا من حقك، ويلزمه أن يرد، حتى ولو لم يكن عندك عذر، وهذا الذي يسمى بخيار المجلس، وسيأتينا أنه ما دمت أنت والبائع في مجلس واحد ولم تفارقه فالبيع ليس بلازم، ومن حقك أن ترجع، حتى ولو لم يكن عندك عذر، ولو اشتريت بالملايين وقلت له -مثلاً-: اشتريت منك العمارة الفلانية بعشرة ملايين؛ فقال: بعتك، وتم البيع، وأعطيته الشيك، وتمت الصفقة وكتبت، ثم قلت: لا أريد، فهذا من حقك ما دمتما في المجلس: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، هذا نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشاهد: أن البائع يقول: ما دام أن المشتري بالخيار مدة المجلس، فمعنى ذلك أنه سيفتش السلع ويردها، ويقول: لا أريدها.
وإن أذنت لكل مشترٍ أن يفتش السلعة فمعنى ذلك أنني أتضرر؛ حيث إني أحسن طيها وكيها، فيأتي يفتش كل واحدة، وهذا يؤثر على عرض السلع، ويكون فيه ضرر عليَّ، فما الحل؟ تقول له: أخرج عينة واحدة منها، فإذا أخرج البائع العينة وجعلها للعرض، يقول له: هذا الثوب من هذا النوع، وطريقة تفصيله بهذه الصورة، أو يصوّر الثوب بصورة واضحة، وتوضع على الغلاف، أو على الكرتون، أو توضع المواصفات كاملة على الكراتين، أو على الأغلفة، عند ذلك يصحُّ البيع، لماذا؟ لأن العلة أن يجهل المشتري حقيقة ما في الكرتون، فإذا انطبقت الصفة الموجودة على الظاهر مع الباطن، أو انطبقت الصفة التي ذكرها البائع للمبيع الداخلي فإنه يلزمه البيع، أمّا لو اختلفت كان له خيار العيب، والذي يسمى خيار الرؤية؛ لأنه بيع غائب أو ما في حكم الغائب.
قال: (ولا يصحُّ بيع الملامسة)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين: (أنه نهى عن الملامسة)، وللعلماء فيها أوجه: فقال بعض العلماء: الملامسة أن يقول: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك.
وقال بعض العلماء: أن يقطع الخيار باللمس، فيقول: إذا لمست الثوب فلا خيار لك.
وقال بعض العلماء: أن يقول له: أي ثوب تلمسه فهو عليك بعشرة.
تبقى مسألة وهي التخريج على بيع الملامسة الذي كان في الجاهلية: فقد خرّج الشافعية رحمهم الله على قوله: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، أنه لا يصحُّ شراء الأعمى؛ والسبب في هذا أن الأعمى يشتري السلع باللمس؛ لأنه لم يرها على حقيقتها.
وقال جمهور العلماء: بصحة بيعه وشرائه، ثم يكون له الخيار إن كذب عليه أو ختل؛ والسبب في هذا: أن الأعمى يلمس الثوب ويفتشه، ولكن في الملامسة يلمس ولا يفتش.
وهناك فرق بين اللمس دون الفتش، وبين اللمس مع الفتش، فالغرر مع الفتش أخف، ولذلك لا تنطبق عليه الملامسة من جميع الوجوه، فلا يصبح مندرجاً تحت التحريم.
قال رحمه الله: [والمنابذة].
(المنابذة) ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، والمنابذة كالملامسة: مفاعلة من النبذ، وأصل النبذ الطرح، ومنه سمي النبيذ نبيذاً؛ لأن صفته أن يُطرح التمر في الماء، أو يُطرح البلح في الماء حتى يستطيب ويعذب بطعم التمر والبلح، وهذا النوع من البيوع حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لاشتماله على ختل المشتري والتغرير به، وذلك أن البائع يقول للمشتري: إذا نبذت الثوب فهو عليك بكذا، أو يقول له: أي ثوب أنبذه لك -أي: أرميه- فهو عليك بعشرة، وبعض الأحيان يقول له: إذا نبذت الثوب فلا خيار لك، كل هذه الصور محرمة؛ والسبب في هذا: أنهم كانوا في القديم يأتي الرجل -كما ذكرنا- ويبسط ثوبه للبيع، ويمر رجل يريد أن يشتري، فإذا أعجبه الثوب الذي طُرح للبيع رمى ثوبه هو، فإن أعجب الآخر الثوب يقوم مباشرة وينبذ له الثوب، ولا يقول له: بعت، ولا يقول الآخر: اشتريت، وهذا وجه الغرر فيه وهو أنه لا يفتش، بل يجعلان النبذ ملزماً بالبيع.
على هذا الوجه -وهو كون بيع المنابذة محرماً؛ لأن كلاً منهما ينبذ ولا يتكلم- فرّع الشافعية المسألة المتقدمة معنا وهي تحريم بيع المعاطاة، والمعاطاة قائمة على النبذ بدون صيغة، فقالوا: إن تحريم بيع المنابذة سببه عدم وجود الصيغة في قوله: بعت، وقول المشتري: اشتريت، وقد قدّمنا الكلام في مسألة بيع المعاطاة، وقلنا: إن الصحيح مذهب الجمهور وهو: أنّ المعاطاة تصحّ في الكثير والحقير؛ لعموم الأدلة الدالة على جواز البيع.
أمّا حديث المنابذة فلا يشمل بيع المعاطاة؛ لأن المنابذة أن ينبذ له الثوب وينبذ الآخر الثوب دون فتش ودون(147/2)
حكم بيع الشيء غير المعين
قال رحمه الله: [ولا عبد من عبيده ونحوه].
أي: ولا يصحُّ بيع عبد من عبيده، وفي القديم كان بيع العبيد والأرقاء، وذكر بيع العبد من عبيده يدخل فيه بيع شاة من الشياه، وبيع بقرة من البقر، وبيع ثوب من الثياب، فأصل المسألة بيع المجهول، وإذا قال له: أبيعك عبداً من عبيدي، أو ثوباً من ثيابي، أو شاةً من شياهي، أو بقرةً من البقر الذي عندي، فهذه لها صورتان: الصورة الأولى: أن يكون الجميع بمنزلة واحدة، ولا تتفاوت واحدة عن أخرى، فيقول له: أبيعك عبداً من عبيدي وكلهم في مرتبة واحدة، وفي درجة واحدة، وفي صفة واحدة من حيث الجودة أو الرداءة، أو يقول له -كما هو موجود في عصرنا الحاضر-: أبيعك سيارة من سياراتي، وعنده ثلاث سيارات كلها بصفة واحدة، أو أنه لا يورِّد إلاّ نوعاً معيناً من السيارات وكلها بصفة واحدة، فإذا قال له: أبيعك عبداً من عبيدي، أو ثوباً من ثيابي، أو قلماً من أقلامي، أو كتاباً من كتبي، أو سيارة من سياراتي، أو عمارةً من عماراتي، وكلها بصفة واحدة، صحَّ البيع ولا إشكال؛ لأن البيع قد تردد بين أشياء متساوية، فلا غرر، إن أخذ هذا فهو كأخذه لهذا، وحينئذٍ يكون التغرير زائلاً إذا وصف أحدها صفة تزول بها الجهالة.
أمّا لو قال له: أبيعك كتاباً من كتبي، وكتبه لا تعرف، فهذا قطعاً من المجهول، وهو محرم؛ لكن إذا قال له: أبيعك كتاباً من صحيح البخاري من النسخ الموجودة عندي، والنسخ كلها بمرتبة واحدة صحَّ، أو قال: أبيعك قلماً من أقلامي، وهو ليس عنده إلاّ نوع معين من الأقلام، وكله بصفة واحدة صحَّ، إذاً: ما دام أنّ المبيع يتردد على صفة واحدة فلا غرر ولا إشكال، فكل واحد منها قائمٌ مقام ما هو مثله.
الصورة الثانية: أن يقول له: أبيعك عبداً من عبيدي، أو ثوباً من ثيابي، أو قلماً من أقلامي، أو سيارة من سياراتي، وهي متفاوتة، فأسعارها مختلفة، وصفاتها مختلفة، فحينئذٍ لا يجوز البيع، ولا يصح؛ والسبب في هذا: أنه إذا قال له: أبيعك سيارة من سياراتي، أو أرضاً من أراضيّ، أو عمارةً من عماراتي، فإنه قد ردده بين جيد ورديء، فتنصرف همة وقصد المشتري إلى الجيد، وتنصرف همة البائع إلى الرديء، فإن أخذ المشتري الجيد ظلم البائع، وإن ألزم البائع المشتري بالرديء فقد ظلمه، فكل منهما يريد أن يغرر بالآخر، وكأن البيع وقع على شيء لا يدرى أهو الجيد أو الرديء؟ فسر المسألة: أنه يجعله في مجهول، ويتردد بين مجهولين أو ثلاثة مجاهيل أو أكثر، فإذا جعله متردداً بين الرديء والجيد على الصفة التي ذكرناها حَرُمَ البيع.(147/3)
الاستثناء في البيع وحكمه
قال رحمه الله: [ولا استثناؤه إلاّ مُعيناً].
(ولا استثناؤه) الاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، تقول: خرج القوم إلاّ محمداً، لما نقول: خرج القوم شمل الجميع ومنهم محمد، فلما قلت: (إلا محمداً) خرج مما يتناوله اللفظ السابق، فأنت تقول له: أبيعك سياراتي إلاّ سيارةً، وتكون سياراتك فيها الجيد وفيها الرديء، فيحتمل: (إلاّ سيارةً) يستثني منها الجيد، ويحتمل أن تنصرف إلى الرديء، وعلى هذا فالاستثناء يقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الاستثناء في البيع واضحاً معلوماً لا غرر فيه، فحينئذٍ يصحُّ الاستثناء ولا حرج، كأن تقول له: أبيعك هذه السيارة وأستثني ركوبها اليوم إلى الساعة التاسعة ليلاً، فحينئذٍ استثنيت من بيعها منفعة الركوب إلى الساعة التاسعة، أو تستثني إلى المكان، تقول: أبيعك هذه السيارة -وأنتم في سفر- وأستثني وصولي إلى مكة، صحَّ البيع؛ لأن الثنيا معلومة، ومنه حديث جابر في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه بعيره فاستثنى جابر ركوب البعير إلى المدينة-، قال: واشترط حملانه إلى المدينة)، فهذا استثناء من البيع، فقد استثنى منفعة الركوب المعلومة والمقدرة، ووجه علمها أنه قدرها بالمكان فقال: (إلى المدينة)، فصحَّ هذا وجاز، كذلك إذا قدرتها بالزمان تقول: أبيعك بيتي وأستثني سكناه شهراً حتى أجد بيتاً آخر، أو أبني داراً أخرى، فاستثنيت بالزمان المعين أو المكان المعين فصحَّ البيع، والثنيا غير مؤثرة، لكن متى تحرم الثنيا، والتي ورد فيها الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثنيا)؟ نقول: الاستثناءات المحرمة إن أدخلت الجهالة، أو أوجبت الجهالة، فجعلت في البيع شيئاً من الجهالة والغرر، حينئذٍ يحرم البيع على هذا الوجه، ومثّل لذلك المصنف، فقال رحمه الله: [وإن استثنى من حيوانٍ يؤكل رأسَه وجلدَه وأطراَفه: صحَّ].
(وإن استثنى من حيوانٍ يؤكل)، ماذا استثنى؟ (رأسه وجلده وأطرافه)، فاستثنى الرأس؛ لأن الحيوان يباع ويراد به الظهر، وهو الذي يسمى البهيمة المركوبة، أي: التي تباع من أجل الركوب، فإن الناس في القديم كانوا يشترون لأغراض محددة، فإذا دخل السوق يريد أن يشتري بعيراً، فإن البعير فيه منفعة الركوب، وفيه منفعة الأكل، وفيه منفعة الحليب -إن كانت ناقة-، فيقولون: اشترى الركوب، فدلّ على أنه قاصدٌ أن يركب، فإذا أراده للركوب يبحث في صفات معينة، وإذا أراده للأكل يقلبه على طريقة معينة، وإن أراد الناقة للحليب قلبها على طريقة معينة، فإذا اشترى الشاة مثلاً لأكلها فاستثنى البائع الرأس أو الجلد أو الأطراف، فإن الرأس لا يؤكل، والجلد لا يؤكل، والأطراف لا تؤكل -في الغالب- فالمصنف رحمه الله يقول: إن اشْتُريت للأكل واستثنى الرأس هذه حالة، وإن اشْتُريت للأكل واستثنى الجلد هذه حالة، وإن اشتريت للأكل واستثنى الأطراف هذه حالة، فهذه ثلاث حالات، فقال رحمه الله: (وإن استثنى من حيوانٍ يؤكل رأسَه وجلدَه وأطراَفه: صحَّ) أي: صحَّ البيع، بمعنى أن الغرر هنا زائل؛ لأنه استثنى المعلوم، ولا غرر على المشتري؛ لأنه لما اشتراها للأكل فالأكل موجود في الشاة لا غرر فيه؛ لكن لو استثنى جزءاً من المأكول، ربما اشترى الشاة رغبة في لحمها، وكان أطيب ما فيها هذا الذي استثني، ولذلك قالوا: إن الثنيا إذا كانت معلومة لا غرر فيها صحَّ البيع وجاز.
[وعكسه الشحم والحمل].
قال: (وعكسه الشحم)، فإن الشحم يؤكل -إذا اشتراها للأكل- ويستخرج منه السمن، بل قد تطبخ البهيمة بشحمها، تؤخذ الإلية ثم تُصهر، ثم بعد ذلك تطبخ البهيمة بسمن أو ودك السنام ونحو ذلك، فإذا استثنى الشحم فإنه لا يجزيه ولا يصحُّ؛ لأن هذا -كما ذكرنا- استثناء ما قُصد بالبيع، فأدخل الغرر على المشتري من هذا الوجه.
(والحمل) لأن ذكاة الجنين ذكاة أمه، فإذا كان في بطن الناقة ولد وذكيت الناقة فهل يصحُّ أكل الولد -أي: الجنين- أو لا؟ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء -وستأتينا إن شاء الله في كتاب الأطعمة والذكاة، نسأل الله أن يبلغنا ذلك بعفوه وعافيته-، فعلى القول بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه يصحُّ ويجوز أكله، بناءً على هذا إذا استثنى الحمل وقال: أبيعك هذه الشاة وأستثني حملها لم يصحّ؛ لأنك حينما تشتري الشاة وفيها الحمل، فإن الحمل يصورها لك كاملة ويصورها لك فاضلة، وترغب شراءها لوجود هذا السِّمَن الذي منه الحمل، فكأن الحمل متصل بالمبيع، وأنت تريدها للأكل، فإذا فوّت لك جزءاً من الأكل جُهل قدر المبيع، وكأن هذا الحمل إذا استثني أدخل الجهالة على قدر المبيع، وكذلك لو استثنى الشحم فإنه يدخل الجهالة على قدر المبيع، ففي كلتا الصورتين لا يصحُّ، ولذلك قال: (بخلافه) أي: العكس بالعكس، فلا يصح البيع على هذا الوجه، ولا تصحُّ الثنيا في هذه المسألة.(147/4)
حكم بيع ما مأكوله في جوفه
قال رحمه الله: [ويصحُّ بيع ما مأكوله في جوفه: كرمانٍ وبطيخٍ].
عندما ذكر المصنف رحمه الله مسائل بيع المجهولات، قد يقول لك قائل: أنت تقول: لا يصح بيع الجنين في بطن أمه ولا اللبن في الضرع، فقد يشتري الإنسان البطيخ، والبطيخ تشتريه من أجل ما بداخله، والذي بداخله لا يدرى أهو من الجيد أو من الرديء؟ ولا ندري أهي سالمة أو غير سالمة؟ فقد تخرج وفيها مرض بداخلها -كما يقع في المبيعات من هذا النوع- وإذا خرجت سالمة لا ندري أكاملة أو ناقصة؟ أهي حمراء أو دون ذلك؟ وإذا كانت حمراء لا ندري أهي حلوة أو ليست بحلوة أو بينهما؟ فهذا كله من الجهالة، وأنت قررت في القاعدة الماضية: أن بيع المجهول المغيَّب لا يصحّ، فالمصنف: -وانظر إلى دقته رحمه الله؟! - قرر لك القواعد فيما مضى، ثم شرع الآن فيما يستثنى منها، فقال رحمه الله: (ويصحّ بيع ما مأكوله في جوفه كبطيخ).
فالبطيخ يصحُّ بيعه، فإن اشتريته كان لك الخيار، فإن كان البطيخ قد انكشف معيباً رددته بالعيب، وإن انكشف رديئاً رددته بالرداءة، وإن انكشف صالحاً للأكل لكنه ليس بجيد ينظر إلى الشرط، فإن قلت: أشترط أنها على السكين كان لك الحق في الرد، وإن لم تشترط لزمك البيع، إذاً إذا باع بطيخاً فإما أن تظهر معيبة فيجوز لك ردها بالعيب، وهذا بالإجماع على أن المبيعات المعيبة ترد بعيبها لحديث المصراة وسيأتي، وإن ظهرت غير معيبة وكانت صالحة للأكل فحينئذٍ إمّا أن يشترط المشتري الكمال فيردها لعدم وجود الكمال، وإمّا ألا يشترط الكمال فيلزمه؛ لأنها تؤكل، والمنفعة موجودة فيها، وهو الذي قصَّر على نفسه في اشتراط الكمال؛ لكن بعض العلماء يمنع من قولك: أشترط أن تكون على السكين، وأنا أميل إلى هذا القول؛ لأن الذي على السكين يختلف الذوق فيه من شخص إلى آخر، ولذلك تقع الخصومة بين الناس والنزاعات، ويفضي إلى قطع أواصر الأخوة بين الناس، والبيوع إذا أفضت إلى النزاعات حرمت، كبيع الرجل على بيع أخيه، وسومه على سوم أخيه، فمقصود الشرع لا يوافق مثل هذه المبيعات؛ لكن الذي يظهر أنه لا يبيع البطيخ إلاّ وسكينه بجواره، يفتش البطيخ إن كانت على ما يريد المشتري مضى البيع وإلا فلا، أما أن يبيع هكذا فالنفس لا تطمئن إلى بيعه على هذا الوجه.
يبقى النظر في الرمان، والفرق بين البطيخ والرمان وجود المشقة في الرمان أكثر منه في البطيخ، ولذلك الرمان يصحّ بيعه على وجه الجهالة لوجود الحاجة، كبيع أساس الأرض مغيباً؛ لأن المجهولات إذا غيبت جاز، ثم إن بعض العلماء يقول: جواز بيع هذه الأمور يختلف عن اللبن في الضرع، ويختلف عن الحمل في البطن؛ والسبب في هذا: أن الرمان جعل الله له صفات على ظاهره يعلم بها سلامته من عدم سلامته، ويعلم بها جودته من رداءته، فالمشتري كان من الواجب عليه أن يكون عالماً بهذه الصفات، فإذا اشترى كان ينبغي ألاّ يُقدم على أن يغرر بنفسه فيشتري شيئاً لا يعلم كيفية شراء جيده من رديئه، فيشتري على هذا الوجه، فالرمان فيه صفات ظاهرة؛ لكن في الحمل الذي في البطن لا تستطيع أن ترى الناقة من بعيد، وتقول: هذه حملها ذكر أو حملها أنثى، أو أن حملها حيٌّ الآن أو ميت، فإذاً: اختلف الرمان عن غيره؛ لأن الرمان له صفات وعلامات ظاهرة، حتى قال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: والبطيخ كذلك، فإن البطيخ يُعرف بكونه أملساً وسهلاً كالزجاج إذا كان من ظاهره، وما هو على خلاف ذلك، ثم بالضرب والقرع يعرف جيده من رديئه، فكأنه في هذه الحالة يُميز بالصفة كالبهيمة إذا جئت تلمس ظهرها عرفت منها اللحم من عدم اللحم، فتعرف الشاة السمينة من غيرها، وعلى هذا قالوا: إن وجود الصفات في ظاهر المبيع المغيب يؤذن ويبيح بيعه على هذا الوجه.
[والباقلاء ونحوه في قشره].
كالفول وغيره من الحبوب إذا كانت مغيبة في القشرة، لكن الحبوب بيعها على صفتين: الصفة الأولى: أن يبيع الحب داخل سنابله قبل أن يُحصد، فهذا استثناه الشرع وأذن به كأن تشتري المزرعة وفيها الحب قد اشتد قبل أن يكتمل نضجه، ويكون بيعه هنا بالخرص، وهو مما أذن به الشرع على خلاف الأصل لحديث مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد)، وفي رواية لـ أحمد في المسند: (والعنب حتى يسود)، وأنتم تعرفون أن الحبوب إذا كانت في سنابلها تكون أولاً خضراء طرية بحيث لو أمسكتها خرج الماء منها، ثم تبدأ تشتد وتبيّض، ولذلك نهى عن بيع الحب حتى يبيّض، ويبيض ويشتد بمعنى النضج، يبيض لأن القشرة تميل إلى لون الصفار، وهذه شبه علامة الاستواء المكتمل، ويبيض يتموه بالماء، ويشتد أي تبدو فيه علامة الصلاح -كما تقدم معنا في كتاب الزكاة -، فإذا باع الحب بداخل سنابله مشتداً صح للضرورة، وهذا لورود المستثنى من الشرع كبيع التمر على النخل بعد بدو صلاحه بالزهو؛ لكن لو أنه حصد وفيه القشرة لم يصح بيعه؛ لأن القشرة تزيد في الوزن، وتزيد في الكيل، ولا يُعلم القدر مع إمكان زوال هذه الجهالة، لكن وهو في حبه لا نستطيع، فخفف في حال كونه في سنابله، ومُنع في حال كونه على الأرض؛ لأن القاعدة تقول: (القدرة على اليقين تمنع من الشك)، فلما كان قادراً على فصده ودرسه وتنظيفه حرم بيعه، ولذلك ما كان مغيباً داخل وعائه إذا كان على زرعه أو على عموده -كما في الحبوب ونحوها- صح إذا بدا صلاحه، للحاجة وورود النص، وإن كان على الأرض لم يصح لوجود الجهالة.
قال: [والحب المشتد في سنبله].
(والحب المشتد) فخرج الحب الطري؛ لأن الحب إذا كان طرياً كان بيعه من بيع الغرر ومما حرم الشرع بيعه كبيع التمر قبل بدو صلاحه.(147/5)
الأسئلة(147/6)
حكم الإقالة في البيع
السؤال
لو اشترى رجل سلعة معينة ثم أراد ردها على البائع، فاشترط البائع لقبول إرجاعها ألا يرجع للمشتري حقه كاملاً، فما الحكم أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالواجب على المسلم إذا اشترى شيئاً أن يمضي البيع؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود} [المائدة:1]، فإذا اشتريت شيئاً ودفعت قيمته وتم العقد وانقطع الخيار لك لزمك البيع ووجب عليك أن تعطي الناس حقوقهم كاملة كما أخذت حقك كاملاً، فإن طرأ لك عذر يمنعك من إمضاء هذا البيع تستأذن البائع، فإن رضي أن يقيلك ويرد لك الثمن كاملاً فلا إشكال، وهذه تسمى (الإقالة) أما لو قال لك: أنا أشتري منك السلعة بثمن وحدد الثمن وكان أقل من الثمن الأول، فقال جمع من العلماء: إنها إقالة البيع، أي: تكون بيعاً جديداً، وحينئذٍ يجوز على هذا الوجه أي: أن تكون الإقالة بيعاً.
والله تعالى أعلم.(147/7)
حكم بيع ما لا يملك، والفرق بينه وبين الوكالة
السؤال
إذا طلب المشتري سيارة بمواصفات معينة، فقال له البائع: سأستوردها لك على أن تشتريها؛ لأني سأتكلف في إحضارها، فهل هذا من بيع المنابذة، أثابكم الله؟
الجواب
إذا جئت للمورِّد أو إلى أي شخص وقلت له: اشتر لي سيارة على صفة كذا وكذا في حدود عشرين ألفاً، قال: سأشتريها وآتي بها إليك، فهذا لا يصح إلاَّ إجارة، أي: أن تقول له: وكلتك أن تشتري لي سيارة بصفات معينة في حدود عشرة آلاف مثلاً وهذه يسمونها الوكالة الخاصة، فيذهب إلى البلد الذي فيه السيارة أو إلى الموضع الذي فيه السيارة، وتقول له: أعطيك عمولة وأجرة ألف ريال أو ألفين أو ثلاثة آلاف ريال على أن تحضرها لي إلى المدينة، ففي هذه الحالة هو وكيل عنك بالشراء، فإذا أحضرها لك وكانت على نفس الصفات ونفس الأشياء التي حددتها فالبيع لازم لك ويلزمك أن تعطيه أجرته التي اتفقتما عليها، أما لو قال لك: أنا أشتري لك سيارة بهذه الصفات وأبيعها عليك بعشرين ألفاً بثلاثين ألفاً فهذا حرام؛ لأنه باعك الشيء قبل ملكه، ولا يجوز بيع الشيء قبل أن يملكه، وفي الحديث عن حكيم بن حزام أنه قال: (يا رسول الله! إن الرجل يأتيني ويريد مني الشيء ليس عندي فأبيعه، ثم أذهب وأشتريه بأقل ثم أعطيه إياه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تبع ما ليس عندك)، فحرم عليه أن يعقد الصفقة في شيء لم يدخل في حوزته؛ ولأنه إذا باعك السيارة في هذه الحالة يقدر ربحاً له، وهذا الربح وقع على شيء لم يملكه، والقاعدة في باب البيوع -وستأتينا إن شاء الله-: (أن الربح لمن يضمن الخسارة)، فكأنه إذا اتفق معك على السيارة آخذاً ربحها فإنها في ضمان الغير، هو يأخذ الربح والغير يضمن الخسارة، ولا يصح البيع على هذا الوجه.
بناءً على هذا: من وكّل أحداً أن يشتري له سيارة فإنه لابد وأن يحدد له أجرة الشراء ويحدد له قيمة البيع، وعلى هذا تتفرع المسائل، إذا قلت له: اشتر لي سيارة من صفات كذا وكذا بعشرين ألفاً وأعطيته هذا الثمن أو أخرته إلى أن يشتريها، وذهب واشترى السيارة ثم ركب البحر وشاء الله عز وجل أن هاج البحر وغرقت الباخرة بما فيها من السيارات، فالسيارة تلزمك، وأنت الذي تضمنها؛ لأنه قد ثبتت يدك على السيارة منذ أن اشترى لك الوكيل، وهذه فائدة أن نقول: إنه وكيل.
وبناءً على ذلك: لو أن السيارة اشتراها لك بعشرين ألفاً، فلما أحضرها إلى المملكة وأنزلها -مثلاً- في الميناء إذا بهذا النوع قد أصبح بخمسين ألفاً فقال لك: أعطيك إياها الآن بخمسين ألفاً، تقول: ليس لك منها شيء؛ لأن السيارة ملكي منذ أن اشتريت، فانظر إلى عدل الشريعة، تضمن لك الخسارة والربح، لكن لو أنه باعك إياها قبل أن يملكها وأخذ الربح على هذا الوجه فإنه ربح لما لم يضمن وبيع لما لم يملك، فالبيع فاسد من الوجهين، ولا يصح إلا على الصورة التي ذكرناها.
تبقى مسألة موجودة في عصرنا الآن: وهي أن تأتي إلى الوكالة أو إلى المورِّد وتقول: أريد سيارة من النوع الفلاني من موديل السنة القادمة، يقول لك: هذه مواصفات السيارات للعام القادم أو الموديل القادم فيعطيك المواصفات كاملة؛ لكن يقول: السيارات لن تنزل إلا بعد شهرين أو ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر، فحينئذٍ يكون داخلاً في عقود الاستصناع، وعقد الاستصناع يدخله بعض العلماء تحت السلم في بعض الصور، فيكون شراؤك لما هو قادم بصفته أشبه بالسلم، ويصححون هذا البيع من هذا الوجه، لكن لو أعطاه مائة ألف على موديل قادم لا يعرف صفته ولم تخرج صفاته فإنه يكون من بيع المعدوم، وبيع المعدوم المجهول لا يصح، وعلى هذا يفرق بين ما كان معلوم الصفة وبين ما كان غير معلوم الصفة، ويفرق أيضاً بين الوكيل الذي يورِّد على ضمان من وكله للتوريد وبين من طُلب منه إحضار السلع بصفات معينة على سبيل الوكالة والإجارة.
والله تعالى أعلم.(147/8)
حكم التأجير المنتهي بالتمليك
السؤال
ما حكم التأجير المنتهي بالتمليك، أثابكم الله؟
الجواب
التأجير المنتهي بالتمليك من بيوع الغرر التي لا تجوز شرعاً؛ والسبب في هذا: أنه يقول لك: خذ هذه السيارة واستأجرها كل شهر بمائة أو بألف، فإذا استأجرتها عشرة شهور تدفع خمسة آلاف وتملكها؛ فأدخل عقدين في عقد واحد، أو صفقتين في صفقة واحدة، وهذا كالبيعتين في بيعة، وهذا منهي عنه لوجود الغرر في تداخل العقود، فلا هو بيع محض ولا هو إجارة محضة، فقد يشتري السلعة بقصد البيع فيكره على الإجارة، وقد يريدها إجارة ويكره على البيع بعدها، فتداخل العقود من هذا الوجه موجب للغرر، وهذا بسيط ويسير؛ لكن الأدهى والأمر أنه إذا استأجرها اختلف حالها حينما أخذها عن حالها بعد عشرة أشهر، ولا ندري بعد عشرة أشهر هل يتعطل فيها شيء؟ وهل تكون صفتها على الصفة الموجودة؟ ولا شك أن استنفاد الشيء خلال عشرة أشهر أو حتى شهر لا ندري كيف يكون حاله بعد ذلك، فيكون من بيع مجهول الحال، وعليه لا يصح البيع من كلا الوجهين ويعتبر من البيوع المحرمة، وهذه كلها بيوع دخيلة على المسلمين، والمسلمون إما أن يبيعوا وإما أن يؤجروا، والإجارة لها أحكامها والبيع له أحكامه، ولا يختل المشتري ترغيباً في عقد على عقد، ولذلك قالوا: من البيوع المحرمة: أن يقول له: أبيعك داري على أن تبيعني سيارتك، فكأنه يقول: أؤجرها لك على أن تشتريها، وكأن ذاك يقول: أشتريها منك على أن تؤجرها لي، وهذا من تداخل العقود، مع ما فيه مما قلناه من الغرر، وقد قلنا: لا يجوز بيع الجنين في بطن أمه، ولو ضمنا أن الجنين حي موجود الآن هل نضمن أن يخرج من بطن أمه حياً؟ لا نضمن، ولذلك تجد العلماء يقولون: تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيع الأجنة في حديث ابن عمر في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة) سببه الجهالة بالسلامة، والجهالة بالسلامة أي: أننا نجهل أن يسلم بعد خروجه من بطن أمه، كذلك السيارة مجهولة السلامة بعد إجارتها المدة المذكورة، فمثلاً: لو أنه خلال العشرة الأشهر حصل عليه حادث، أو تعطل جهازها الذي يتحكم في سرعتها ويتحكم في سيرها، ما الحكم؟ يقول لك: أعطيك جهازاً جديداً، فلا ترغب وتقول: أنا كنت آملاً أن تبقى على حالتها السابقة، وقد يأتي بعد عشرة أشهر وينظر إليها فإذا حالها مختلف، فيكون البيع حينئذٍ متردداً قد ينعقد وقد لا ينعقد، فأصبحت عقود مترددة، والبيع إذا وقع يتم ولا يصبح متردداً.
إذاً فيه جهالة الحال، وفيه الجمع بين العقود على وجه التردد، وكذلك أيضاً فيه أن البيع ماض وغير ماضٍ.
فمتى انعقد البيع؟ انعقد البيع أثناء الصفقة، ومع ذلك لا ندري هل المستأجر يتم الصفقة أو لا يتم؟ يقول: لا ألزمك بالبيع، إن شئت تشتريها، وإن شئت لا تشتريها فلا يلزمك، إذاً: البيع متردد أم لا؟ متردد، وعلى هذا لا يصح مثل هذه العقود؛ لمكان التداخل، ووجود الجهالة من الوجوه التي ذكرنا.
والله تعالى أعلم.(147/9)
حكم إسقاط خيار المجلس
السؤال
في مسألة المنابذة إذا قال البائع: لا أنزل لك هذا الثوب إلا بكذا، وكان عنده نوعية منها ورآها المشتري فرضي، فلما أنزل له الثوب قال: لا أريده.
فهل يُلغى في هذه الحالة خيار المجلس بسبب الشرط، أم ماذا، أثابكم الله؟
الجواب
قال بعض العلماء: إذا اتفق المتبايعان على إسقاط الخيار في المجلس سقط الخيار، وذلك أن يقول له: اختر، فإن اختار إمضاء البيع لزمه، ومنه حديث: (عمّرك الله بيعاً)، ولذلك قال: (إلا أن يخير أحدهما صاحبه)، فإذا قطع الخيار واتفقا على أنه يشتري ولا خيار له: صح؛ والسبب في هذا: أنه بعض الأحيان ربما أنك تشتري في نفس المجلس وتبيع في نفس المجلس، فتريد أن تبتّ البيع الأول حتى يصح لك البيع الثاني، مثل: صرف النقود، فأنت إذا صرفت النقود من شخص وتريد أن تصرفها إلى شخص آخر حتى تربح أو تكسب، تقول له: لا خيار لك، يقول: لا خيار، عمّرك الله بيعاً، فالبيع لازم، باتفاقكم على إسقاط خيار المجلس.
فمذهب طائفة من العلماء على قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا أن يخير أحدهما صاحبه) وفي حديث السنن: (عمرك الله بيعاً) أي: اخترت البيع، فحينئذٍ ينقطع خيار المجلس، فإذا كان على هذا الوجه فإنه لا بأس به، أما لو أدخل إسقاط الخيار على وجهٍ لا يتمكن المشتري من معرفة حقيقة السلعة فلا يصح، فمثلاً: لو أعطاك العينة ففتشتها ورأيتها وعرفت جيدها من رديئها، ثم قال لك: إذا أنزلت الذي في الكرتون يلزمك، واتفقتما على البيع فيلزمك البيع؛ لأن الجهالة مرتفعة، والسبب الذي من أجله حرم بيع المنابذة منتفٍ والغرر زائل، فحينئذٍ إذا قطع الخيار لك يقطعه لمصلحته في أخذ الثمن، فيجوز ذلك إذا رضيت به على وجه تام.
والله تعالى أعلم.(147/10)
حكم تذوق السلعة والورع في ذلك
السؤال
هل يحق للمشتري أن يطعم من السلعة ليعرف جودتها كالتمر والعسل مثلاً، أم تكفي الرؤية؟ وهل للبائع منعه من ذلك، أثابكم الله؟
الجواب
هذه مشكلة، فبذلك يستطيع أن يفطر ويتغدى ويتعشى بأموال الناس، وهذا فيه تفصيل فبعض العلماء يجيز الذوق فيجعل البائع عينة للذوق، ويكون هذا بمثابة الحكم على الشيء الذي يتفاوت في جودته ورداءته من جهة حلاوة الطعم.
وبعض العلماء يمنع من ذلك.
فالعسل في بعض الأحيان لا تستكشف جيده من رديئه ومغشوشه من صالحه وخالصه إلا إذا ذقته، فيقول العلماء: إنه يمكنه من الذوق حين يكون المشتري فعلاً يريد الشراء، أما إذا لم يرد الشراء وجاء يذوق واغتنم تمكين البائع له من الذوق، فهذا يعتبر من طعمة الحرام، نسأل الله السلامة والعافية.
وأذكر عن بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه كان يتورع في مثل هذه الأمور، وكان إذا ذاق شيئاً ولم يعجبه أعطى اليسير من المال ترضية لصاحبه، فإن أبى أخذه حينئذٍ يطيب نفسه، يقول: أنا الذي عليَّ فَعَلْتُه، بل أذكر من مشايخنا رحمة الله عليهم أنه كان يؤتى بالطيب والبخور من أجل أن يعرف جيده من رديئه، فإذا كان لا يريد الشراء امتنع من شمه، ويتورع عن هذا؛ لأنه لا يستبيح أموال الناس إلا وعنده رغبة صادقة، كما أنه لا يحب من أحدٍ أن يأكل من ماله أو ينتزع من ماله وهو لا رغبة له، فلو علم البائع أنك لا تشتري هل يعطيك؟ لو علم البائع أنك لن تشتري لما أعطاك، فهو راضٍ أن يعطيك لكي تشتري، ولذلك هذا هو الذي جعله رحمة الله عليه يقول: لابد أن أعطيه شيئاً من المال؛ لأنه أعطاني على رجاء أن آخذ، ولو علم أنني لا آخذ لا يعطيني، فلما ذقت الشيء الذي منه ولم أرغب فيه، فإني أعطيه المال الذي أطيب به خاطره أو أقدره شيئاً يسيراً بنفس الشيء الذي ذقته أو شممته، فالورع في هذا أفضل، فالشخص الذي لا يريد أن يطعم فإنه يتقي مثل هذا، خاصةً طلاب العلم وأهل العلم، وطعمة الحرام لها أثر على عبادة الإنسان، فإن العبد يقذف اللقمة لا يلقي لها بالاً يمنعه الله بها القبول في الصلاة وفي إجابة الدعاء ويقسو بها القلب، حتى لربما وقع في شبهة، ولربما وقع في فتنة -نسأل الله السلامة والعافية- وما طابت أقوال السلف إلا لما طابت أعمالهم وزكت نفوسهم وزكت أجسادهم عن الحرام، ومن زَكّى جسده وروحه عن الحرام زَكّى الله قوله وعمله، والله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، والزكاة الطهارة كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة:103] فسميت زكاة لما فيها من الطهارة، فالذي يطهر نفسه عن أموال الناس يطهره الله عز وجل من تبعات الأموال، وقلّ أن تجد إنساناً جريئاً على مثل هذا إلا وجدت أثر الطعمة الحرام في قوله وفي فعله وسلوكه، فإن أراد أن يقصرها على نفسه اقتصرت عليه، وإن توسع في ذلك حتى أدخلها -نسأل الله السلامة والعافية- على أهله وولده فهو بشرّ الحال في نفسه وأهله وماله وولده، فالعبد يتقي الله عز وجل، فإن كنت لا تريد أن تشتري لا تدخل جوفك الطعمة، وتكون ناصحاً لأخيك المسلم، تقول: أنا لا أريد أن أشتري، قال لك: خذ، وتعلم أنه يجاملك، تعرض عنه وتقول له: لا أريد، وهذا هو أفضل ما يكون من طالب العلم وممن هو قدوة.
وطالب العلم ينبغي دائماً أن يطبق العلم الذي يتعلمه على فعله، ومن هنا تجد العلماء رحمهم الله يقولون: العلم وبال على صاحبه فيما يضيّق عليه، ولكنه نعمة ورحمة فيما يئول إليه.
(فهو وبال عليك فيما يضيق)؛ لأنك تعلم أنه لا يجوز لك أن تطعم هذا الشيء وأنت لا تريد الشراء، ولو كنت جاهلاً لطعمت، لكن بالعلم ضُيّق عليك، وجعل الله لك حسن العاقبة بسلامتك من أموال الناس.
فالشاهد: أن العلم يضيق على صاحبه، ويتحمل به الأمانة والمسئولية فإذا كنت لا تريد أن تشتري فلا تأكل؛ لأن البائع لا يحب من أحد أن يطعم من ماله الذي يريد بيعه، والآخر لا يريد أن يشتري، فهذا أمر ينبغي للإنسان أن يتقيه.
وهنا أيضاً مسألة أحب أن أنبه عليها وهي من الورع: في بعض الأحيان يأتي الشخص للعامل الموجود في المحل، ويأكل من العنب أو يأكل من الشيء الموجود من الخبز أو غيره ويستأذن العامل، والعامل ليس مالكاً للسلعة، وهذا ينبغي أن يوضع في الحسبان، حتى كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه لا يقبل توصية العامل وزيادته ويتورع عنها، ويجعله يزيد فقط في قدر رجحان الميزان، وإذا جاء يزيد من عنده قال: المال مال غيره، وكما قيل في المثل: (الجلد جلد غيرك لا بأس إن جررت الشوك عليه)، فالعامل مأذون له أن يبيع ومأذون له أن يربح، وليس مأذوناً له أن يخُسِّر صاحب السلعة، فإذا كان الشيء فيه عرف وربّ المال قد أذن له فهذا شيء آخر، بل حتى والله أذكر منه -رحمة الله عليه- أنه كان يتورع عن الكيس من (النايلون)، يقول: هذا أذن له سيده وصاحب الدكان أن يعطيه لمن يشتري وأنا لم أشترِ، فيتورع عن كل شيء، وهذا يقتضي أن الإنسان ينتبه لحقوق الناس، سواءً كان عند ذوق الأشياء أو حين يأتي إلى شيء لا يريد شراءه فيقول للعامل: أعطني، والعامل إذا رآه استحى منه، أو ربما خاف منه؛ وهذا يعتبر من قلة الورع، لكن حينما تأخذ أموال الناس بحقها وتعطيها حقها رضيت وأرضيت، وحينئذٍ لا تقذف في جوفك مالاً حراماً، فهذا الذي ينبغي للمسلم أن يفعله، فإذا فعل ذلك زكت نفسه وزكت أقواله وأعماله، وما ضر كثيراً من الناس إلا التساهل في الطعمة، وكما قلنا: إن الطعمة من الحرام قد تؤدي بصاحبها إلى النار، خاصةً حقوق الناس، وأما فيما بينك وبين الله، كالزنا وشرب الخمر -والعياذ بالله- وغيرها من المحرمات فإنه يفعلها الفاعل ثم يتوب فيتوب الله عليه وإن كانت من كبائر الذنوب؛ ولكن لو أخذ طعمة من حرام، ولو كانت قدر أصبعه فلا يمكن أن تبرأ ذمته من هذه الطعمة أو هذا الحق لأخيه المسلم إلا إذا سامحه صاحب الحق.
ومما ذكروا من غرائب ما وقع للسلف: أن رجلاً حضرته الوفاة فبكى، وقال لأبنائه: سلوا جاري أن يحللني من حقه، قالوا: وما حقه عليك؟ قال: إني أصبت طعاماً كثر ودكه -أي كثر السمن فيه- فاحتجت إلى التراب فحككت جدار جاري! فاسألوه أن يعفو عني! فالمسلم دائماً يخاف من حقوق الناس، ودائماً الأشياء الكبيرة تنتج عن الأشياء الصغيرة، فيتساهل في طعمته من هذا ومن هذا ومن هذا حتى تجتمع عليه حقوق الناس فيهلك، وكان بعض العلماء يقول في قوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن معلقة بدينه) وفي رواية: (مرهونة) إن بعض الناس تجده مشتت الفكر بسبب كثرة الديون التي عليه، وبسبب كثرة مظالم الناس وحقوق الناس؛ لأنها أحاطت به خطيئته وأوبقته حقوق الناس وأصبح كالمرهون يريد الصلاة يريد الزكاة يريد النشاط للعبادة فإذا به مكبّل بحقوق الناس لم يتحلل أحداً من مظلمته، وهذا من أعظم ما يوجب الخسارة للإنسان.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسلمنا وأن يسلم منا.
اللهم سلمنا وسلم منا وتب علينا وتجاوز عنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيّه وآله وصحبه أجمعين.(147/11)
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [8]
دلت أصول الشريعة الإسلامية على أن معلومية الثمن عند البيع من شروط صحته، فإن كان مجهولاً -سواء كانت جهالة كلية أو جزئية- كالبيع بالرقم والتشريك في الثمن أو البيع بما ينقطع به السعر لم يصح؛ لأن هذه البيوع تفضي إلى الغرر المنهي عنه شرعاً.
ومن البيوع التي تحتمل الصحة وعدم الصحة: البيع المعلوم والمجهول على تفصيل فيه، أما بيع الحلال والحرام، وبيع ما يملك وما لا يملك، وبيع المشاع، فإن البيع يصح في جزء منه ولا يصح في الجزء الآخر.(148/1)
من شروط صحة البيع: أن يكون الثمن معلوماً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأن يكون الثمن معلوماً].
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الشرط الأخير من شروط البيع، وهو (أن يكون الثمن معلوماً)، وهذا الشرط دلت عليه أصول الشريعة الإسلامية، وذلك أن جهالة الثمن تُفضي إلى الغرر، وقد ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر)، فإذا كان الثمن مجهولاً فإمّا أن يكون مجهولاً عند البائع، وإمّا أن يكون مجهولاً عند المشتري، أو يكون مجهولاً عندهما، وفي جميع هذه الأحوال الثلاث لا يجوز البيع، ولا يصح؛ لأنه غرر نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وأن يكون الثمن معلوماً)، فيقول له: أشتري منك هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فيبين جنس الثمن، ويبين نوعه، ويبين قدره، ولا يجعله مجهولاً في أي حالةٍ من هذه الأحوال، فلا يجعله مجهولاً جهالة كليّة كأن يقول له: أشتري منك البيت، يقول له: بكم تشتريه؟ يقول: سأرضيك بما يرضيك نتفق لا يضرك سأعطيك ما تحب، ونحو ذلك من الألفاظ التي لا يبين فيها حقيقة الثمن، فإذا صار البيع بثمن مجهول فإنه لا يصح، وهكذا لو حدد له جنس الثمن ولكنه لم يحدد له القدر أو لم يحدد له النوع كقوله: أشتري منك هذه الدار بمالٍ، ولم يبين ما هو المال أشتري منك هذه الدار بذهب، ولم يحدد قدر هذا الذهب أشتري منك هذه الدار بفضة، ولم يحدد قدر هذه الفضة أشتري منك هذه الأرض بمئات الألوف، ولا يحدد أهي ثلاثمائة ألف أو أربعمائة ألف أو خمسمائة ألف، فقوله: (بمئات) وإن كان قد حدد النوع لكنه لا تبرأ به الذمة، ولا تزول به الجهالة، إذاً لابد وأن يكون الثمن معلوماً، ونحن قد ذكرنا أنه يُشترط أن يكون المثمن معلوماً، فكما أن الشيء الذي يباع ينبغي أن يكون معلوماً عند الطرفين؛ كذلك ينبغي أن يكون الشيء الذي يُدفع لقاء السلعة أو لقاء الصفقة معلوماً عند المتعاقدين، وحينئذٍ يكون كلا المتعاقدين على بينة من أمره، إن شاء أمضى البيع، وإن شاء رده.
وقوله رحمه الله: (أن يكون الثمن معلوماً) هذا -كما ذكرنا- مبنيٌّ على نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر، وبإجماع العلماء على أن هذا الشرط يشترط لصحة البيع، فلا يصحُّ البيع بالثمن المجهول.(148/2)
حكم البيع بالرقم
[فإن باعه برقْمه، أو بألف درهمٍ ذهباً وفضَّةً، أو بما ينقطع به السعر، أو بما باع به زيدٌ وجهلاه أو أحدهما: لم يصحّ].
قوله: (فإن باعه) أي: باع الشيء المعروض (برقمه)، بيع الرقم موجودٌ إلى الآن في زماننا، ويختلف من عصر إلى آخر، وأشبه ما يكون به في زماننا التسعيرة التي تكتب على الكتب، أو تكتب على الأقلام، أو على الساعات، فهذه التسعيرة رقم معين يذكر فيه المبلغ الذي يريده البائع في السلعة، فإذا كان الرقم معلوماً عند البائع غير معلوم عند المشتري لم يصحّ البيع، كأن يقول له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فيقول: برقمه الذي عليه، والمشتري لا يدري كم هو؟ فيقول المشتري: رضيت، فإنه قد رضي بمجهول؛ لأنه قد يظن أنه ثمن معقول فإذا به يطلب ثمناً غير معقول، وقد يظنه بعشرة فإذا به بعشرين، وهكذا.
فالمقصود: أنه إذا قال له: أبيعه برقمه، وكان الرقم مجهولاً عند المشتري، أو كان مجهولاً عند البائع، وهذا يقع في حالة ما إذا سعّروا الكتب، ثم مضت مدة من الزمان ونسي كم وضع على كتابه؟ فقال له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ قال له: برقمه، أي: التسعيرة التي عليه، فلربما أنه يرضى أن يعطيك الكتاب بتسعيرته، وإذا بها تسعيرة قد وضعها في زمان الكساد؛ لأن البيع يقع في حال الكساد والرخص وحال الزيادة، فلربما كان الثمن مكتوباً في حال الكساد، فيرضى به في حال الكساد، أما في حال الغلاء وحال الزيادة فلا يرضى البائع بهذا السعر، ومن هنا: لابد وأن يكون الرقم معلوماً عند البائع معلوماً عند المشتري، فإذا أخذت الكتاب، وقرأت تسعيرته وعلمت التسعيرة التي عليه، وجئت وقلت له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فقال: بعشرة التي هي مكتوبة عليه، صحَّ البيع إذا علماه، ولم يصحّ إذا جهلاه أو جهله واحدٌ منهما.
إذاً القاعدة: أن يكون الثمن معلوماً عند البائع معلوماً عند المشتري، فإن جَهل البائع بطل البيع، وإن جهل المشتري بطل البيع؛ لأن جهل البائع يفوت حقه في بذل السلعة بما يرضاه، وجهل المشتري كأنه أُخذ على غرة، ويكون من بيع المجهول؛ لأنه يُفضي إلى الغرر المنهي عنه شرعاً.(148/3)
حكم التشريك في الثمن
[أو بألف درهم ذهباً وفضَّة].
والذهب يخالف الفضة، فهو أغلى وأنفس منها، ولا يمكن في زمان أن تستوي قيمة الذهب والفضة، بل إن قيمة الذهب دائماً أغلى من الفضة، وعلى هذا فإنه إذا أعطاه رقماً، وجعله متردداً بين الذهب والفضة، أو جعله جامعاً بين الذهب والفضة بدون تحديد النسبة لم يصحّ، كأن يقول له: بمائة من الدراهم والدنانير، فهذه مائة مشتركة فيها دراهم وفيها دنانير، أو يقول له: بمائة درهم أو دينار، فإن قيمة المائة درهم ليست كقيمة المائة دينار، هذا مثال ما كان في القديم، ونمثل بالموجود الآن، مثلاً: عندنا الريالات وعندنا الدولارات، فلو أن الدولار أصله ذهب، والريال أصله فضة، فيأتي ويقول له: أبيعك هذه السيارة أو أبيعك هذه الأرض بمائة ألف ريال ودولار، فإن المائة ألف ريال لا تساوي مائة ألف دولار، فلربما أن المشتري اشترى ونيته مائة ألف ريال؛ لأنها أرخص، فيقول له البائع: لا، بل قلت لك: أو دولار، أي: ألزمك إمّا بمائة ألف ريال، أو ألزمك بمائة ألف دولار، وهذا هو الذي جعل بعض العلماء يجعله في حكم بيعتين في بيعة، فهو يجعل له ثمنين مختلفين ليسا متكافئين، إمّا أن يدخلهما مع بعضهما بالتشريك ولا يحدد نسبة كل واحد منهما، وإمّا أن يجعلهما على المقابلة فيدمجهما مع بعضهما، كأن يقول: (بمائة دراهم ودنانير) -كما ذكرنا في القديم- وفي العصر الحديث يقول: (بمائة ألف ريالات ودولارات)، فقد يصدق على (99%) منها أن تكون ريالات، و (1%) تكون دولارات والعكس، ويصدق أن تكون مستوية، ويصدق أن تكون متباينة، إذاً: كأنه ردده بين أسعار متعددة مختلفة، فإن جاء المشتري يعطي القليل قال له البائع: لا بل نويت الكثير، فيصبح البيع متردداً بين القليل والكثير، وإذا شئت أن تحصرها أيضاً بصورة المقابلة أن تقول: أبيعك هذه السيارة بمائة ألف ريال أو بعشرة آلاف دولار، وتكون المائة ألف ريال لا تساوي العشرة آلاف دولار، أمّا لو ساوتها وردده بين قيمتين متساويتين كأن تكون المائة ألف ريال تعادل عشرة آلاف دولار صحَّ البيع؛ لأنه خيره بين مائة ألف ريال، وبين صرفها عشرة آلاف دولار، وهكذا لو قال له: بمائة دينار أو ألف درهم، أي: إن شئت أن تدفعها دنانير، وإن شئت أن تدفعها دراهم.
الخلاصة: أن العلماء رحمهم الله لما قالوا: يشترط في البيع أن يكون الثمن معلوماً، يُفهم من هذا أنه لا يصحّ البيع بالمجهول، وإذا كان لا يصحّ بالمجهول فمعناه أنهم سيذكرون لك أمثلة، فإمّا أن تكون الجهالة كليّة أو جزئية، والكليّة مثلما قال: (برقمه)، فلا ندري كم الرقم؟ فأنت تجهل قدر هذا الثمن؟ أو جزئية مثلما يقول لك: بمائة ألف ريال أو عشرة آلاف دولار، وتكون المائة ألف ريال والدولارات ليستا بمتكافئتين، فحينئذٍ رددك، وصحيح أنه ذكر لك الثمن؛ لكنه جعلك على جهالة هل هو الثمن الغالي أو الثمن الرخيص؟ أو يُدخل سعراً من الثمن الغالي مع السعر الرخيص ويجعلهما معاً، ولا يحدد تمييز الغالي من الرخيص، فلو حدد الغالي والرخيص كأن يقول له: هذه السيارة أبيعها بعشرة آلاف دولار وألف ريال، معنى ذلك: أن قيمتها جامعة بين الأمرين، كما لو قال له: أبيعك بثلاثة دراهم ودينارين، فحينئذٍ يكون الثمن معلوماً، صارت خمسة، والخمسة منقسمة ما بين الدنانير والدراهم، وهكذا لو قال له: عشرة آلاف ريال وألف دولار، أو عشرة آلاف ريال وألف جنيه.
إذاً التشريك في الثمن إمّا أن يفضي إلى الجهالة، وإمّا ألاَّ يفضي إلى الجهالة، فإن أفضى إلى الجهالة حرُم البيع، فإن لم يُفض إلى الجهالة بأن ردده بين ثمنين على سبيل التخيير أو دمج الثمنين مع بعضهما بصورة واضحة دون أن يكون هناك فرق في السعر صح البيع، كأن يقول له: بعشرة آلاف دولار أو بمائة ألف ريال، ويكون صرف العشرة آلاف دولار هو مائة ألف ريال، فحينئذٍ ردده بين ثمنين معلومين كما لو قال له: أبيعك إياها بعشرة آلاف دولار أو قال له: أبيعك إياها بمائة ألف ريال.
أو أن يدخل القيمتين أو العُمْلَتين مع بعضهما، ويميز لكل عملة حظها، فيقول: أبيعها بعشرة آلاف ريال وألف دولار، ففهمنا أن الثمن يشتمل على نوعين من النقد: الذهب وهي الدولارات، والفضة وهي الريالات، فإذا جاء يشتري يدفع حظ الذهب الذي ذكره من الدولارات، وحظ الفضة الذي ذكره من الريالات فصح البيع.
إذاً: القاعدة كلها تدور حول شيء معلوم، أي: أن يشتري الإنسان بشيء معلوم، فإن أدخل عليه الجهالة على وجه لا يستطيع الإنسان أن يميز فيه قيمة الصفقة بطل البيع، سواءً كانت جهالة كليّة أو جهالة جزئية.(148/4)
حكم البيع بالمزاد العلني
قال رحمه الله: [أو بما ينقطع به السعر].
وهذا أكثر ما يقع فيما يسمى في زماننا (ببيع الحراج) وهو بيع المزادات، حيث يأتي الرجل بسيارة يريد أن يعرضها للبيع، أو -مثلاً- قطعة أرض مخططة، فيقول له: أبيعك قطعة الأرض بالمبلغ الذي يصل إليه السوم، الذي هو بما ينقطع به السعر، ففي القديم كانوا يقولون: (بما ينقطع به السعر)، وفي الحديث، يقولون: (قيمة السوم)، أي: القيمة التي وصل إليها السوم؛ والسبب في هذا: أنه إذا قال له: بالقيمة التي يصل إليها السوم ربما كان الحاضرون في السوم أناسٌ من الأغنياء، والأغنياء دائماً يتنافسون، وموجب تنافسهم ربما يجعلهم يدفعون في الصفقة أكثر من قيمتها على سبيل التنافس، وحينئذٍ تظن أن هذه السيارة لو أنها عرضت للبيع لا يمكن أن تجاوز عشرة آلاف ريال، فيتنافس فيها تاجران ربما يوصلانها إلى ثلاثين ألفاً؛ لأنك أنت تريدها كسيارة، وهما وقع بينهما السوم على سبيل التنافس والغيرة، والعكس: ربما أن البائع ظن أن سيارته تصل بالسوم إلى عشرة آلاف ريال؛ لأنه يعلم أن هذا الحراج أو هذا المزاد الذي يقام الآن من عادته أنه يصل في السيارة التي مثل هذه السيارة إلى عشرة آلاف ريال، ففوجئ في ذلك اليوم أنه ليس فيه إلا أناس لا يعرفون قيمة السلع ولا يعرفون السوم أو أناس فقراء، فساموا سوماً ضعيفاً، ووقف السوم ولم يزد أحد، فإذا بها قد سيمت بثمانية آلاف ريال.
إذاً: معنى ذلك: أنه إذا قال له: (بما ينقطع به السعر) صارت الجهالة على الاثنين: فالبائع لا يدري كم ينقطع به السعر! والمشتري لا يدري كم ينقطع به السعر! وخذها قاعدة: إذا صارت الجهالة في طرفي العقد البائع والمشتري فمعناه أن البائع يخاطر بنفسه والمشتري يخاطر بنفسه؛ لأن البائع يقول: بما ينقطع به السعر بما يقف به السوق بما يقف به الحراج بما يقف به المزاد، ويظن أنه يقف عند سعر معين، فإذا به يقف دونه، والمشتري يقول: بما ينقطع به السعر بما يقف به السوم، يظن أنه يقف عند سعر معين، فإذا به يقف عند أعلى منه، وهذا كله من رحمة الله عز وجل، فلا يريدك أن تدفع المال في شيء إلا وأنت تعلم ما الذي لك وما الذي عليك، والبيع على هذا الوجه بثمنٍ مجهول فيه خطر على البائع وفيه خطر على المشتري، وتوجب الشحناء والبغضاء؛ فالبائع يقول: لم أكن أظن أن الحراج يصل إلى هذا المستوى من الرخص، وعلى الجانب الآخر يتظلم المشتري ويقول: ما كنت أظن أن الحراج يصل إلى هذا المستوى من الغلاء والسعر الزائد، ومعنى هذا أنه سيفضي البيع إلى قطع أواصر الأخوة وحدوث النزاعات، وهذا غالباً ما يقع في بيوع الجهالات، ولذلك المجتمعات التي تنتشر فيها البيوع بالأثمان المجهولة غالباً ما يكون بينها الحقد وبينها الكراهية والبغضاء؛ لأنهم يرون أن هذا البيع قد أفسد ما بينهم، كلٌ يحرص على مصلحته، وكلٌ يظن أنه هو الفائز، فإذا به الخاسر، أو العكس فيظن أنه سيخسر وإذا به يربح، فيأتيه ما يخالف ظنه، وأيًّا ما كان لابد من الضرر على المتعاقدين، إمّا البائع وإمّا المشتري، وإمّا هما معاً.(148/5)
حكم تقييد قيمة السلعة بمثيلتها مع الجهالة
قال رحمه الله: [أو بما باع به زيدٌ وجهلاه أو أحدهما].
مثال ذلك: جئت إلى رجل وقلت له: بكم تبيعني سيارتك هذه؟ قال: سيارتي وسيارة فلان صفتها واحدة، وفلان باع سيارته، فالذي باع به سيارته أبيعك به سيارتي، فإذا كنت تعلم أنت القيمة وكان هو أيضاً يعلم صحَّ البيع، فمثلاً: لو كنتما معاً وذهبتما ورأيتما فلاناً باع سيارته بألف، أو كنتما معاً، وأخبركم فلان أنه باع سيارته بألف، فحينما يقول لك: أبيعك سيارتي هذه بمثل ما باع به زيد، كأنه قال: أبيعها بألف، وهذا -كما قلنا- إذا علم الاثنان القيمة، فهذه هي الحالة الأولى.
الحالة الثانية: أن يجهلا معاً، يقول له: زيدٌ باع سيارته بالأمس وهي مثل سيارتي، والقيمة التي باع بها أبيعك بها سيارتي، ولا يعلم البائع بكم بيعت، ولا يعلم المشتري أيضاً بكم باع زيد سيارته، فحينئذٍ جهل البائع وجهل المشتري، والجهالة مستحكمة، فيبطل البيع.
الحالة الثالثة: إذا جهل أحدهما، قال له: سيارتي هذه كسيارة زيد، وأبيعك سيارتي بمثل ما باع به زيدٌ سيارته، ويكون البائع يعلم أن زيداً قد باع سيارته بعشرة آلاف، والمشتري لا يعلم فلا يصح البيع والسبب في هذا: أنك قد تظن أن زيداً يبيع برخيص فإذا به عكس ذلك، فأنت إمّا مشترٍ وإمّا بائع، فتقول: أبيع بمثل ما باع فلان، أو تقول: أشتري بما باع به فلان أي: بنفس القيمة التي باع بها، فإن كنت بائعاً لعلك تظن أن القيمة تصل إلى حد، وإذا بها دون الحد الذي ظننته، وإن كنت مشترياً العكس، وذلك بأن تظن أن زيداً سيبيع سيارته بعشرة آلاف، وإذا به قد باعها بخمسة عشر، فهذه كلها أمثلة تنصب في غاية واحدة وهي الجهالة المفضية إلى النزاع وإلى الضرر، إمّا بالبائع وإمّا بالمشتري وإمّا بهما معاً، فهذا بالنسبة لمسألة (بما باع به زيد)، فاحتاط المصنف وقال: (بما ينقطع به السعر، أو بما باع به زيد وجهلاه أو أحدهما).
فجعل صورتين: انقطاع السعر، وبما باع به زيد، واشترط أن يكون ذلك مجهولاً عند الطرفين، أو عند واحد منهما، ومفهوم ذلك: أنه لو كان معلوماً عند الطرفين وعلم الطرفان أنه ينقطع السوم عند حدٍ معين، أو أن فلاناً باع سيارته بكذا وكذا، صحَّ البيع وجاز.
قال: [لم يصحّ].
أي: لم يصح البيع بهذه الصورة.(148/6)
حكم بيع ما لا جهالة فيه ولا غرر
قال رحمه الله: [وإن باع ثوباً أو صُبرة أو قطيعاً كلَ ذراع أو قفيز أو شاة بدرهم: صح].
قوله: [وإن باع ثوباً].
البيع وقع على الثوب بكامله (كل ذراع) ففي القديم كانوا يقولون: (ذراع)، فيأخذه ويُمتره بذراعه، أو (كلَّ متر) كما هو موجود في زماننا، فيقول له: كل متر بعشرة ريالات، أو باعه قطعة من القماش كل متر بعشرة، فالبيع وقع على القطعة بكاملها، ووقع على الثوب بكامله، وحينئذٍ أجزاء الثوب محددة، فالجهالة مرتفعة، فيصحّ البيع.
قال: [أو صُبرة].
وهي الكوم من الطعام، كما ترى الآن البعض يجعل الطعام جيده ورديئه مع بعضه ويخلطه في بعض، ويقول لك: هذه الصُبرة أبيعكها كلها كل صاع بمائة أو بعشرة، فمذهب طائفة من العلماء: أنه لو قال له: هذه الصُبرة من الطعام أبيعكها -أي: كلها- الكيلو بمائة أو الصاع بمائة صحَّ البيع، لماذا؟ لأنه وقع على الجيد والرديء معاً، ولكن ستأتي صورة ثانية يُمنع ويُحظر فيها البيع، وهي التي يحتمل أن يأخذ فيها الجيد، ويحتمل أن يأخذ فيها الرديء.
المقصود أنه إذا قال له: صبرة الطعام كلها، وانصب البيع على صبرة الطعام بكاملها وحدد جزءاً أو ما ينضبط به قدر الصُبرة صحَّ البيع.
قال: [أو قطيعاً].
قطيعاً من الغنم أو من الإبل أو من البقر، قال له: كل واحدة بكذا، وهذا القطيع معلوم، فمثلاً: قال له: أشتري منك هذا القطيع من الغنم، فبكم تبيعه؟ قال: أبيعكه كاملاً على أن تدفع لي في كل واحدة مائة أو مائتين، فاستوى الجيد والرديء في البيع، ووقع البيع على الكل، فحينئذٍ لا جهالة ولا غرر.
قال: [كل ذراع].
وهذا راجع إلى الثوب.
قال: [أو قفيز].
في الصُبرة كل قفيز، والقفيز: نوع من أنواع المكاييل مثل الصاع، وهو أقل منه، وكان مشهوراً في المشرق.
قال: [أو شاةٍ].
أي: كل شاةٍ من القطيع، فجعل ثلاثة أشياء: (الثوب، والصبرة، والقطيع)، ففي الثوب كل ذراع، وفي الصبرة كل قفيز، وفي القطيع كل شاة بكذا.
قال: [بدرهم صحّ].
أي: أن يحدد له.
فأولاً: أن يقع البيع على الكل لا على البعض، فيقول له: كل صُبرة الطعام، وكل قطيع الغنم، وكل الثوب، فوقع على الجيد والرديء معاً، فلا غرر ولا جهالة.
ثانياً: أن يحدد قيمة كل جزء من أجزائه، وحينئذٍ لا جهالة في القدر ولا في الثمن، فأصبح قد باعه شيئاً معيناً منضبطاً بقدر الذي ذكره: الذراع والقفيز والشاة، فمثلاً حدد له بدرهم، فحينما قال له: (بدرهم).
صحَّ البيع؛ لأنه ليس فيه جهالة لا في الثمن ولا في المثمن.
قال رحمه الله: [وإن باع من الصُّبرة كل قفيز بدرهم أو بمائة درهم إلا ديناراً، وعكسه، أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه، ولم يقل كل منهما: بكذا، لم يصح].
قوله: [وإن باع من الصبرة].
كما ذكرنا أولاً، هناك باع الصُبرة بكاملها -التي هي كوم الطعام- أمّا هنا يقول له: أبيعك القفيز أو الصاع أو الكيلو من هذه الصُبرة بمائة، ففي هذه الحالة سيكون في الصُبرة الجيد والرديء وفيها المتوسط، فلا ندري هل يقع البيع على الجيد أو يقع على الرديء أو يقع على المتوسط منه؟ وحينئذٍ يكون من باب الغرر؛ لأنه قد يظن البائع أنه سيأخذ الرديء فيأخذ الجيد فيغرر بالبائع في حقه، وقد يظن المشتري أنه يُمكَّن من الجيد فيصرفه إلى الرديء، وعلى هذا فإنه إذا قال له: أبيعك من الصُبرة، (من) للتبعيض، فمعناه: أن البيع انصب على جزء الصُبرة، وبعض الصُبرة ليس كلها، فهناك وقع البيع على الصُبرة كلها فأخذ غثها وسمينها، وجيدها ورديئها، وحسنها وقبيحها، فصحَّ البيع؛ لأنه لا غرر على البائع ولا غرر على المشتري؛ لكن حينما يقول له: أبيعك من هذه الصُبرة، فـ (من) للتبعيض، فلا ندري هل سيؤخذ الجيد أو الرديء أو الوسط؟ فبعض الأشياء التي تباع أكواماً أو أشياء متباينة، بعضها أفضل من بعض، فعندما تأتي لكي تأخذ الجيد ويدخل يختار معك، حتى لا يمكنك من اختيار الجيد، فإن قلت له: اتركني، قال: لا يمكن أن أتركك تأخذ الجيد وتترك لي الرديء، فحينئذٍ كأنه يريد أن يضر بك، وأنت أيضاً تريد أن تضر به؛ لأن كلاً منكما لا يريد أن يكون الضرر في حظه؛ والسبب في هذا (مِنْ) وهي للتبعيض؛ لأنه لما صارت أجزاء الصُبرة مختلفة وليست بمتساوية احتمل أن ينصرف إلى الجيد فضرَّ بالبائع، أو ينصرف إلى الرديء فضرَّ بالمشتري، وحينئذٍ لا يصح البيع على وهذا الوجه، هذا على ما اختاره طائفة من العلماء: وهو أن وجه الفساد التبعيض في أجزاء الصُبرة المختلفة.
قال: [وإن باع من الصُبرة كل قفيز بدرهم أو بمائة درهم إلا ديناراً].
هذا إذا كان من الصُبرة صارت الجهالة في نفس المبيع؛ لأنه جيد ورديء، (بمائة درهم إلا ديناراً) كما ذكرنا سابقاً: أن يدخل عُمْلَتين مع بعض، ومعلوم أن قيمة الدينار صرفها بالدراهم تختلف، فأنت إذا قلت: (بمائة درهم إلا ديناراً)، لا ندري بكم يصرف الدينار، فإذا كان الدينار يصرف بعشرة فمعناه أنك بعت بتسعين، وإذا كان يصرف بخمسة فمعناه أنك بعت بخمسة وتسعين، فإذاً: ردده بين قيم مختلفة، فيحتمل أن تظن أن الدينار هذا يبلغ قيمةً رخيصة فإذا به بقيمة غالية، والعكس.
وهذه كلها -كما ذكرنا- صور للتمثيل فقط، وغاية ما في الأمر أن المصنف يريد أن يقول لك: لا تبع ولا تشترِ إلا بثمن معلوم، ولا يجوز لك أن تبيع بالمجهول، سواءً كان مجهولاً جهالة كليّة أو كان مجهولاً جهالة جزئية، فهذا مراد المصنف رحمه الله.
قال: [وعكسه].
أي: (بمائة دينار إلا درهماً)؛ لأن صرف الدرهم مختلف.(148/7)
حكم بيع معلوم ومجهول بعقد واحد
قال رحمه الله: [أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه].
كأن يعطيك شيئاً معلوماً، ويعطيك شيئاً آخر مجهولاً، ويجعلهما في صفقة واحدة، أي: في بيعة واحدة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله مثالاً لهذا في مسائل تفريق الصفقة، كما ذكر صاحب المبدع وغيره أن يقول له: أبيعك هذه الناقة وما في بطن الناقة الثانية، فإن الناقة معلومة، ولكن الذي في بطن الناقة الثانية حمل مجهول فلا ندري أحيٌّ أو ميت؟ أكامل الخلقة أو ناقص؟ ثم هل يخرج حياً أو ميتاً؟ فهو مجهول، وقد وصفه المصنف رحمه الله بقوله: (يتعذر علمه) أي: لا نستطيع أن نكشف حقيقة أمره حال العقد؛ لأن هناك من المجهولات ما يمكن معرفة حقيقة أمره بعد العقد؛ لكن هذا النوع من المجهول لا يمكننا أن نكشف جليّة أمره ولا أن نكشف حقيقة أمره أثناء العقد.
والآن دخل المصنف في مسألة الجهالة، ونحن قد قررنا أن الثمن لابد وأن يكون معلوماً، وحينئذٍ ربما كان مجهولاً في ذات الثمن، كما ذكرنا: أن الدراهم والدنانير قد تكون مجهولة الجنس أو النوع أو القدر، وفي بعض الأحيان تكون الجهالة في المبيع ثمناً كان أو مثمناً من جهة إدخال مجهول على معلوم، وقد تقدم معنا في الشروط: أن يكون المبيع معلوماً، سواءً كان ثمناً أو مثمناً، ففي هذه الحالة إذا كان المبيع معلوماً وأدخل البائع معه مجهولاً فإن جهالة المجهول تُدخل الجهل على المعلوم، لكن لما أدخلت الجهل على المعلوم هل أدخلته في المبيع أم في الثمن؟ أدخلته في الثمن؛ لأنك إذا قلت له: أبيعك هذه السيارة وما في بطن هذه الناقة انصبّ البيع عليه وانصبّ البيع على مجهولٍ آخر، حينئذٍ قد يقول قائل: ما الذي أدخل مسألة جهالة المعلوم مع المجهول في جهالة الثمن؟ قالوا: لأنه إذا قال له: أبيعك هذه السيارة وما في بطن هذه الناقة بمائة ألف أصبح الثمن مجهولاً؛ لأن السيارة معلومة، لكن لا ندري كم قدر المجهول من الثمن؛ لأنه لما صار مجهولاً ولم يَفْصِل له قيمة معينة أصبح الثمن مجهولاً، وعلى هذا قالوا: إذا جمع له بين معلوم ومجهول، إمّا أن يجمع بقيمة واحدة فلا يجوز، وإمّا أن يفرق ويقول: المعلوم له ألف، والمجهول بمائتين، فصحَّ في الألف وبطل في المائتين، وعلى هذا: جهالة الثمن تدخل في صورة تفريق الصفقة، فإنه إذا قال له: أبيعك سيارتي وثمرة بستاني السنة القادمة، وهذا مجهول يتعذر علمه، أو ما في بطن هذه الناقة، وهو أيضاً مجهول يتعذر علمه، فإنه في هذه الحالة يكون الثمن مجهولاً، ولو بيّنه وحدد قدره وجنسه، فلو قال: بعشرة آلاف، فلا ندري كم نصيب المجهول من العشرة آلاف؟ فإن فرّق بينهما وقال: السيارة بعشرة آلاف، وما في بطن الناقة أو ثمرة بستاني بخمسة آلاف بطل البيع في الخمسة وصحّ البيع في العشرة، وهذا ما يسمى (بتفريق الصفقة).
قال: [أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه].
(مجهولاً يتعذر علمه) لكن لو كان مجهولاً يمكن علمه، فلو قال: أبيعك سيارتي هذه وسيارتي الثانية، ويمكن أن توصف ويمكن أن ترى، فهذا أمره يسير؛ لأنه -كما ذكرنا في بيع الغائب- يصفه له، ثم بعد ذلك يتمكن من العلم به، ويكون له خيار الرؤية.
قال: [ولم يقل كلٌ منهما بكذا لم يصحّ].
(ولم يقل -لاحظ هذا الشرط- كل منهما بكذا)، أمّا لو قال: المعلوم بكذا والمجهول بكذا، بطل في المجهول وصحَّ في المعلوم؛ والسبب في هذا: أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلما كان المعلوم مستوفي الشروط حكمنا بصحة البيع؛ لأن شرط الصحة موجود، ولما كان المجهول اختصت به الجهالة وكان ثمنه معلوماً أي: محدداً ومقدراً وواضحاً من المتعاقدين بطل فيه البيع؛ لأن العلة للتحريم والبطلان وهي مختصة بذلك المجهول.
قال: [فإن لم يتعذَّر: صحّ في المعلوم بِقسطه].
كما ذكرنا، فلو كان هناك شيء له أربعة أجزاء، ثلاثة منها معلومة والرابع لا يمكن علمه أو مما يتعذر علمه، فإننا نقول في هذه الحالة: يُجَزّأ الثمن أربعة أجزاء، ويكون لكل جزءٍ منها ربعاً، ثم نحكم بصحة الثلاثة الأرباع وإلغاء الربع الذي فيه الجهالة.(148/8)
حكم بيع المشاع
قال رحمه الله: [ولو باع مشاعاً بينه وبين غيره، كعبد أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء: صح في نصيبه بقسطه].
قوله: [ولو باع مشاعاً بينه وبين غيره].
المشاع: هو الشيء المشترك، ويكون هذا أحياناً بسبب الميراث، مثل: رجل يتوفى عن ابن وبنت، يكون المال بينهما مقسوماً على ثلاثة، الابن له سهمان والبنت لها سهمٌ واحد، فلو كان الذي تركه داراً فثلثا الدار للولد الذكر والثلث للأنثى، فلو أنه باع هذه الدار نصيبه ونصيب أخته، حينئذٍ يكون بيع نصيب الأخت من بيع الفضولي فإذا لم تأذن لأخيها يكون من بيع ما لا يملك، فالمصنف تدرج معك في الأسباب: تارة يدخل لك سبب الفساد من جهة مجهول ومعلوم، وتارة يدخل لك سبب الفساد من جهة ما يملك وما لا يملك، وهذه كلها يسمونها الصفقة المجتمعة، فيبيعه صفقة مجتمعة بين حلالٍ وحرام، مملوكٍ وغير مملوك، معلوم ومجهول في صفقة واحدة، فإن تجزّأت -مثلما ذكرنا- تصحح في المعلوم وتلغى في المجهول تصحح في الحلال وتلغى في الحرام تصحح في المملوك وتلغى في غير المملوك، فمثلاً لو قال له: يا فلان! بعني بيتك الذي لك ولأختك، قال: أمّا الذي لي أبيعك -مثلاً- بألفي ريال، وأما الذي لأختي فأبيعك بألف ريال إن رضيت، حينئذٍ جزأ ولا إشكال، فيصحّ في حقه، وننظر في حق الأخت، فإن قالت: أمضيت، مضى البيع وصحّ في الجميع، وإن قالت: ما أمضيت، حينئذٍ صحّ في الألفين، وبقي في الألف لاغياً، وبقيت الأخت على ملكها لنصيبها في الدار.
إذاً: المسألة مسألة حلال وحرام، فعندما تكون الصفقة واحدة، حينئذٍ إن جزَّأ الصفقة، وأعطى لكل من الحلال حظه والحرام حظه، تُصحح في الحلال بحظه، وفي الحرام تلغى بحظه وقسطه، وهذا بالنسبة لبيعه لما لا يملك، سواءً كان ذلك بسبب الإرث كرجل مع أخته، وَرِثا داراً، أو أنا وأنت اشتركنا في شراء سيارة، فأنت بعت نصيبك (النصف)، وبعت نصيبي (النصف) أيضاً دون أن تستأذنني، فحينئذٍ يكون بيعك من بيع الفضولي، وبيع لما لا تملك، والأصل يقتضي عدم صحة بيعك، فلو أنني لم أقبل البيع صحّ في نصيبك ولم يصح في نصيبي، وعلى هذا يُقسم المال الذي دفع بالنصف، فيكون لك نصفه، ثم يُلغى البيع في النصف الذي يتعلق بي، وأكون أنا وهذا الذي اشترى شريكين في هذه السيارة كما كنا سابقاً أنا وأنت شركاء.
قال: [كعبد، أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء: صحّ في نصيبه بقسطه].
قوله: (صحّ في نصيبه بقسطه)، أي: البيع، وأمّا نصيب الآخر فإنه يبقى؛ لأنه باع شيئاً لا يملكه، فالقيمة التي طلبها في هذا الشيء الذي ليس ملكاً له، والصفقة التي أتمها على هذا الشيء الذي لا يملكه لا تتم؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] فهذا ملكي ومالي، بع مالك كيف شئت، ولكن مالي ليس من حقك أن تبيعه إلا بإذن مني، فإذا كنت غير راضٍ فمعنى ذلك أنني باقٍ على ملكية نصف العبد أو ثلثه أو ربعه على حسب الشيوع الموجود بيني وبينك، فيصحّ بالأجزاء، فإذا كان المبيع له أجزاء كأن اشتركنا -مثلاً- في كتاب واشتريناه بمائة، وهذا الكتاب ستة أجزاء فثلاثة منها لك وثلاثة منها لي، فحينئذٍ إذا بعت الستة الأجزاء التي لي ولك وعقدت الصفقة عليها صح البيع في الثلاثة الأجزاء التي لك، فمثلاً: لو بعت الكتاب بستمائة، فحينئذٍ نقول للمشتري: ادفع ثلاثمائة، وخذ نصف الكتاب، أي: خذ ثلاثة أجزاء من الكتاب فهي التي كان يملكها فلان، إذاً: هذا بالنسبة لما يكون له أجزاء، فيُقسم المال الذي اشترى به المشتري على جميع الأجزاء، ونعرف قيمة كل جزء، ثم نصحح في حدود أجزائك، وضابط المسألة: أن يجمع له بين حلال وبين حرام، ويكون الشيء الذي باعه قابلاً للتقسيط، أو قابلاً للفصل، بحيث يكون نصيب هذا معلوماً ونصيب هذا معلوماً، فنصحح في نصيب هذا ونلغي في نصيب الآخر.(148/9)
حكم بيع الحلال والحرام وبيع ما يملك وما لا يملك صفقة واحدة
قال رحمه الله: [وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبداً وحراً، أو خلاً وخمراً، صفقةً واحدةً: صحَّ في عبده وفي الخلِّ بقسطه].
(وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه).
نلاحظ هنا دقة العلماء في الترتيب، ففي الصور الأولى يكون الاشتراك في نفس الشيء، أي: نفس العبد رقبة واحدة، ونشترك فيه، نصفه لك ونصفه لي، رقبة البقرة أو الشاة أو الناقة أو السيارة -كما هو موجود في زماننا- أو الأرض نصفها لك ونصفها لي، فالمبيع واحد؛ لكن هنا في هذا المثال المبيع يشتمل على شيئين: سيارتك وسيارة غيرك عبدك وعبد غيرك ناقتك وناقة غيرك، فحينئذٍ أصبح ليس من الشيوع، أي: ليس في الرقبة الواحدة؛ وإنما جعل الثمن على رقبتين، إحداهما ملكٌ له والثانية ليست ملكاً له، وضابط المسألة -كما قلنا- حلال وحرام، فقال: باع عبده وعبد غيره، باع خلاً وخمراً، والخل يجوز شربه مع أن أصله من الخمر، والخمر إذا تخللت وصارت خلاً جاز أن يشرب الخل وأن ينتفع به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (نعم الإدام الخل)، فالخلّ حلال لكن الخمر حرام، فالعلماء يذكرون هذا المثال (باع خلاً وخمراً)، فالخلّ يجوز بيعه والخمر لا يجوز بيعها، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر)، وقال صلى الله عليه وسلم في الخمر: (إن الذي حرم شربه حرم بيعه)، فلو باعه خلاً وخمراً فحينئذٍ تكون الصفقة جامعة بين الحلال وبين الحرام لا على سبيل الشيوع، لكن كلّ منهما منفصل عن الآخر، فنقدّر قيمة الخل ونقدر قيمة الخمر، ونقول: صحّ في الخل وحرم في الخمر، فلو كان -مثلاً- قسط الخمر النصف، فاشترى الخمر والخل معاً بألف ريال؛ وصفقة الخلّ تساوي خمسمائة ريال، فنقول: صح في الخل بخمسمائة وألغي في الخمسمائة الباقية التي هي قيمة للخمر؛ لأن الله حرم عينها، فلا يجوز بيعها ولا شراؤها.
قال: [أو عبداً وحراً].
كذلك العبد والحر، فلا إشكال في المثال، فالمهم أن تحفظ القاعدة: أن يجمع له بين عينين إحداهما حلال والثانية حرام، أو من جهة التصرف: إحداهما يملك التصرف فيها والثانية لا يملك التصرف فيها، فمثال الأولى التي هي حرام العين وحلال العين: (خلّ وخمر، خنزير وبرّ)، فإن الخنزير حرام والبرّ حلال، ولو باعه عسلاً ومخدراً فالمخدر حرام والعسل حلال، وقس على هذا، وأمّا بالنسبة للملكية فمثالها أن يبيع عبده وعبد غيره، وفي عصرنا الحاضر سيارته وسيارة غيره أرضه وأرض غيره، وقس على هذا.
قال: [صفقة واحدةً صحَّ في عبده، وفي الخلِّ بقسطه].
صح البيع في عبده، وصحّ في الخلّ بقسطه، وإن كان قسطه نصف القيمة صحّ بخمسمائة إذا كانت القيمة ألفاً، وكذلك أيضاً بالنسبة لبيعه لعبده وعبد غيره صحّ في عبده ولم يصحّ في عبد غيره.
قال: [ولمشترٍ الخيار إن جهل الحال].
(ولمشترٍ الخيار) الخيار: مأخوذ من قولهم خَيَّرَهُ، إذا جعل له النظر بخيري الأمرين، والمراد من هذا: أنه إذا باعه على هذا الوجه حراماً وحلالاً، ولم يعلم أنه محرم كأن يقول له: أبيعك هذا العبد وهذا العبد، وكان لا يملك العبد الثاني، والمشتري يظن أنه يملك العبدين، نقول له: أنت بالخيار، إن شئت أمضيت البيع وأمضيت الصفقة، وإن شئت ألغيت الصفقة فيهما، فالخيار له في ذلك، لماذا؟ لأنه ربما اشترى عبده لمكان العبد الثاني.
توضيح ذلك: الآن لو أن رجلاً جاء إلى رجل وقال له: أبيعك هذه السيارة -وسيارته رديئة- مع هذه السيارة بعشرة آلاف، فالمشتري قد يكون رغب في السيارة الجيدة وجعل السيارة الرديئة محمولة لوجود الجيدة، فلو جئنا نقول: صحّ في سيارته وبطل في سيارة غيره معنى ذلك أن المشتري سيتضرر، وهذا هو السبب الذي جعل المصنف يقول: (ولمشترٍ الخيار) أي: أن قولنا: يصحّ في قسطه وفي حقه، يُرد إلى خيار المشتري، ونقول لك: إن شئت أن تصحح العقد صححته في القسط الحلال فيما يملك، أمّا لو قلت: لا أريد، فإما أن آخذهما الاثنين أو أتركهما الاثنين فمن حقك وهذا يقع من المشتري، أنه يشتري الصفقتين من أجل أنه يحمل وكس هذه بكمال هذه والنقص في هذه بالجمال في هذه، فكأنه اشترى الاثنين معاً من أجل أن إحدى الصفقتين تحمل الأخرى، فإذا جئت تقول للمشتري: صحّ في قسطه فمعنى ذلك أنك تضر بالمشتري وتلزمه بشيء لا يريده، فهو يريد الصفقة كلها، فاحتياطاً للحقوق قال المصنف رحمه الله: (ولمشترٍ الخيار) أي: أننا حينما حكمنا بصحة العقد فإننا نجعل للمشتري الحق أن يمضي البيع أو يفسخه، وهذا من العدل؛ لأنه اشترى الاثنين معاً، فإن كان يريدهما معاً ولا يريد أحدهما دون الآخر كان من حقه ذلك، وليس من حقنا أن نلزمه بجزء مبيع أراده كله؛ لأنه اشترى الكل، ولم يشتر البعض، فهذا هو وجه إعطاء الخيار له، فنقول: إن شئت أمضيت الصفقة في حظ من باعك، وإن شئت اعتذرت عن البيع، فهذا من حقك، ولا تُلزم بذلك.(148/10)
الأسئلة(148/11)
بيع المرابحة صورته وحكمه
السؤال
ما حكم البيع إذا قال البائع للمشتري: أنا اشتريت السلعة بكذا فأربحني على ذلك ما شئت، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا قال البائع للمشتري: اشتريت السلعة بمائة ألف فأربحني فيها لأبيعها لك، هذا يسمى عند العلماء (ببيع المرابحة)، وبيع المرابحة له صورتان: الصورة الأولى: قديمة عمل بها العلماء والفقهاء.
الصورة الثانية: حديثة ألحقت بالقديمة وزُعم أنها منها، وهي من صور الربا ويقال لها: (المرابحة الإسلامية)، وهي ربوية، ولا يجيزها تسميتها بأنها إسلامية، فإنه لا يحكم للشيء بكونه شرعياً إلا إذا دل الدليل على كونه مشروعاً.
نبين الصورة المشروعة: وهي إلى الآن لا زالت موجودة، حتى إن كبار السن يتبايعون بها، وإذا جئت إلى رجل كبير السن تقول له: بكم هذه الشاة؟ يقول: رأس مالي ألف، أي: كم تربحني، فهذا معنى قوله: رأس مالي، فتقول له: أربحك العُشْر معناها أنك ستشتريها بكم؟ بألف ومائة؛ لأن عُشر الألف مائة، فهذا يسمى بيع المرابحة.
لكن لماذا العلماء جعلوا لهذا النوع اسماً خاصاً وهو بيع المرابحة؟ السبب في هذا: أنه ربما قال لك: رأس مالي مائة ألف، وتبين أنه اشتراها بثمانين ألفاً، أو بخمسين ألفاً، فحينئذٍ أنت مظلوم، فاحتاج العلماء أن يجعلوا لهذا النوع من البيوع مبحثاً مستقلاً وهو كيف يفصل في حال ما إذا تبين كذب البائع -وهذه حالة-، أو خطأ البائع؟ ففي بعض الأحيان يخطئ البائع ولا يقصد الكذب، فيقول لك: رأس مالي مائة ألف وقد اشترى أرضين: أرضاً بمائة ألف وأرضاً بخمسين، فظن أن هذه الأرض التي باعك إياها أنها هي التي بمائة ألف وتبين أنها هي التي اشتراها بخمسين، فحينئذٍ يكون له نصف القيمة الأصلية، وإن شاء الله سنتكلم على هذا النوع في الفصل الذي بعد هذا، في بيع المرابحة والمواضعة والتولية، وهذه ثلاثة أنواع من البيوع، فالبيع الأول المرابحة: كم تربحني؟ والمواضعة: أن يضع من البيع بقدر أي: اشتراها بمائة فيقول لك: أنا رضيت أن أخسر فيها العُشر، فيضع من السعر، فيتفقان على الضعة من رأس المال، والتولية: أن يولي لك، فيقول لك: بكم تعطيني أنا قبلت، فيجعل لك التولية، أي: أن تتولى تقييم سلعته.
أما المرابحة التي يسمونها اليوم مرابحة إسلامية: وهي أن تأتي إلى المؤسسة أو تأتي إلى الشركة تريد أن تشتري سيارةً أو أرضاً أو أثاثاً للبيت، فيقول لك: اذهب إلى أي شركة وخذ منها الفواتير، وحدد ما تريد أن تشتريه، وائتنا بالفواتير ونحن ننظر فيها، ثم بعد ذلك نشتريها ولا نلزمك بالبيع، وهذه يسمونها -كما قلنا- المرابحة الإسلامية، والواقع أنها من صور الربا؛ لأن حقيقة الأمر أن هذا المتاع الذي قيمته مائة ألف ريال بدل أن يعطيك المائة ألف ويقول: ردها أقساطاً مائة وعشرين أدخل السلعة حيلة في الصفقة، وهذا يحتاج إلى دقة في مسألة حقيقة العقد.
وتوضيح ذلك: أنه في ظاهره حلال؛ لكن في باطنه تذرّع به إلى الربا، وانظروا إلى بيع العينة حتى تكون الصورة واضحة فيما يسمى بالمرابحة الآن، أن يقول: أبيعك هذه الدار بمائة ألف ريال إلى نهاية السنة، فإذا جئت تنظر إلى مائة ألف لقاء الدار إلى نهاية السنة القيمة صحيحة والبيع صحيح، ثم أشتريها منك بخمسين ألفاً نقداً، فلا توجد أي شبهة، هل تلاحظون أي شيء على مائة ألف لقاء سلعة إلى أجل؟ أو خمسين ألفاً نقداً لقاء سلعة تستحق الخمسين؟ أبداً ليس فيه أي إشكال؛ لكن الشريعة ألغت البيعتين الاثنتين، ونظرت إلى أن حقيقة الأمر أنه أعطاه الخمسين الألف النقد في مقابل المائة ألف إلى أجل.
فالذي يقول بجواز بيع المرابحة، لا شك أنهم علماء ومنهم بعض الأجلاء، وهذا اجتهادهم، لكن الذي نحن نمنع منه قضية تسميته مرابحة إسلامية، وإدخال مصطلح له ضوابط معروفة عند العلماء على شيء لا يمتّ إليه بصلة، فالمرابحة مفاعلة من الربح وليس لها علاقة بمسألة اذهب واختر السلعة ثم بعد ذلك نشتريها نحن ونقسطها عليك، فهذا لا يسمى مرابحة، بل كأنه في هذه الحالة بدل أن يقول له: خذ المائة ألف وردها مائة وعشرين، قال له: أدفع لك المائة ألف إلى المؤسسة وتردها لي مائة وعشرين، فهذا حقيقة الأمر.
وقد يتعذرون بأن البنك لا يلزم المشتري بالسلعة، وهذا ليس بمؤثر؛ لأن البنك ما اشترى إلا من أجل المشتري، ولا عرف هذه السلعة إلا بتعيين المشتري، بل الأدهى والأمر أن المشتري هو الذي جاءه بالفواتير، بل وحدد له المكان الذي يشتري منه، فالأمر واضح جداً، فالبنك لا يريد أن يشتري السلعة ولا يرغب فيها، وأعجب من هذا أن البنك يتفق مع من يتعامل معه أنه إذا لم يوافق (الزبون) أو المشتري أننا سنردها عليك، ولذلك تجد بعض من يتعامل بهذه (المرابحة الإسلامية) لا يتعامل إلاَّ مع محلات معينة؛ لأنه اتفق معها أنه إذا نكص المشتري عن الشراء فله الرد، وهذا أمر موجود وذائع، ولا شك أنه من بيوع الربا، وأقلّ ما في هذا النوع من البيع أنه من المشتبهات، والمشتبه: هو الذي فيه شبهة من الحل وشبهة من الحرمة.
وعلى هذا: فإنه لا يصح البيع على هذا الوجه، أما إن كان البنك يشتري السيارة أو يشتري السلعة ثم يعرضها عليك مقسطة فلا بأس، لكن أن تأتي أنت وتحدد له سلعة معينة أو أثاثاً معين هذا لا شك أنه عين الربا؛ بل حينما يعطي البنك المائة ألف لشخص ويقول له: خذ المائة ألف وردها مائة وعشرين، فهذا -والله- أرحم من أن يلزمه بصفقة معينة؛ لأنه على الأقل أخذ المائة ألف وذهب يشتري ما يريد وربما يشتري شيئاً يربح فيه؛ لكن من ذكاء البنك أو المؤسسة أنه حين يتعامل معك بهذه الصورة يريد أن يضمن أنك قد أخذت بها شيئاً، ولذلك يجعلك تشتري السلعة ولا يدفع لك المال إلا إذا ضمن أنك تشتري بها سلعة، وأيّاً ما كان فهذا ليس من البيوع المباحة؛ إنما هو من بيوع الذرائع الربوية التي يتوصل بها إلى الحرام، فإن قالوا: إنها مرابحة؛ لأن البنك ربح أو قصد الربح من هذا النوع من البيوع، فلا إشكال في أنه ربح من جنس الفائدة الربوية.
والله تعالى أعلم.(148/12)
عدم القطع في الأجرة
السؤال
إذا قال صاحب سيارة الأجرة للراكب: أوصلك بعشرة، وإن ركب أحد معنا فبخمسة، فهل تصح هذه الإجارة، أثابكم الله؟
الجواب
إذا قال له: أوصلك إلى دارك بعشرة، فهذه إجارة صحيحة بثمن معلوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره)، فإن قال له: إن ركب معنا أحد أوصلك بخمسة وحدد المكان الذي فيه الركوب، فإن بعض العلماء يمنع من هذا؛ لأنها صفقتين في صفقة واحدة، فلا يُدرى هل يئول الأمر إلى الخمسة أو يئول إلى العشرة، فكان من باب البيعتين في بيعة، ومسائل الإجارة مفرعة على مسائل البيع.
وقال بعض العلماء: إنه إذا قال له: إن ركب معنا أحد فآخذ منك خمسة فإنه يجوز ذلك؛ لأنه معلّق على وجهٍ لا يقطع بت البيع الأول.
إذاً: إذا قال له: أوصلك بعشرة وإن ركب معنا راكب فبخمسة فهذا إذا حدَّد المكان أو عين المكان فلا إشكال كما ذكرنا، لكن هناك في بعض الأحوال يكون هذا النوع من الإجارة فيه جهالة وفيه غرر؛ وذلك أنك قد تركب من أجل أن تصل إلى مكانك المعين بعشرة وتريد أن تصل بسرعة فَيُدخل عليك راكباً ثانياً قد يتسبب في تأخيرك أو تعطيلك، وقد يضرك من يركب معه بدخان أو بكلام أو نحو ذلك مما فيه أذية وضرر، ففي مثل هذه الأحوال إذا كان السائق يريد أن يدخل على الراكب ما فيه غرر بمثل هذه الصور فلا إشكال في عدم الجواز، وأنه ينبغي على المستأجر أو الراكب أن يبتّ معه فإما أن يستأجره بعشرة وينهي الإجارة على عشرة ولا يركب معه أحد، وإما أن يعتذر عن أخذه إلى غيره، ومثال ما فيه الغرر كما لو جئت نازلاً من المطار فقال لك: أنزلك من المطار إلى وسط المدينة بخمسين إذا كنت لوحدك، وإن وجدت معك راكباً فسآخذ منك خمسةً وعشرين، لكن هذا الراكب الذي سيركب معك قد يقول: أنت تريد منتصف المدينة أو وسط المدينة وأنا أريد قبل منتصف المدينة.
فمعنى ذلك أنه سينحرف عن طريقك إلى طريقه، وقد يستغرق توصيله ربع ساعة أو ثلث ساعة وقد يستغرق نصف ساعة، ومن جرب ذلك يعلم، فهذا النوع من الإجارات فيه مصلحة لسائق السيارة لكن فيه ضرر على الراكب، حتى إننا نذكر من بعض المشايخ حفظهم الله الذين يخرجون للدعوة في الخارج يقولون: نقع في أشياء من أغرب ما تكون إذا جئنا ننزل من المطارات إلى الفنادق، فيقولون: يركب معك أحد ونأخذ منك كذا، فنستهين بالأجرة، فإذا بالذي يركب معنا يذهب ويدور به المدينة كلها ولا يصل بنا إلى مكاننا.
ومثل هذا يضر بمصالح المرء، خاصة إذا كان يريد أن يقضي حاجة أو يريد أن يدرك مريضاً أو أن يصل إلى غرض من معاملة أو نحو ذلك، فهذا يضر بمصالح الناس، ويوجب الشحناء والبغضاء بينهم، لأنه من بيوع الغرر.
والعلماء دائماً يقيسون الإجارة على البيع.
ومما ذكر بعض المشايخ حفظه الله يقول: ذات مرة نزلنا من المطار فوجدنا اثنتي عشرة رجلاً -أي: قائد سيارة- وكنا مستعجلين جداً -كانوا في مهمة دعوة- يقول: وقد كنا منهكين لبقائنا قرابة ساعة ونحن في السفر من منطقة إلى منطقة في الطائرة، الشاهد: أنه لما نزلنا قال لنا السائق: أوصلكم بكذا، فإذا بسعره مغر، قال: فقط أريد طلباً واحداً؟ قالوا: ما هو؟ فأشار إلى رجل وقال: هذا الرجل الذي ينزل والذي تلاحظوه معه دولارات -التي يسمونها العملة الصعبة- أريد أن أصطرف معه، وما أريد أن يسبقني إلى عقد الصفقة معه أحد، فكل الذي أريده منكم أنه إذا نزل نذهب وراءه حيث ينزل وأشتري منه وأعقد الصفقة ثم أوصلكم، يقول: فأصبحنا في داخل المدينة نذهب من مكان إلى مكان، بل ربما ما ترك مكاناً في المدينة إلا ذهب إليه؛ لأن هذا يريد أن يفرّ من هذا، وهذا وراءه، فجلسنا قرابة ساعة ونصف ونحن وراءه، حتى إنه من شدة حرصه كان يسرع حتى خفنا على أنفسنا، فصممنا وقلنا: أنزلنا واتبع صاحبك، قال: لا يمكن أن تضيع الأجرة التي بيني وبينكم، فقلنا: خذ الأجرة، قال: إذا أوقفتكم ذهب عني، أي: لم يقبل على الرغم من عرضنا عليه الأجرة كاملة على أن ينزلنا.
فهو يقول: إذا أوقفتكم ذهبت الدولارات، وإذا ركبتم معي فإن هذا يضر بكم، لكن ما لكم إلا الصبر، فأيَّاً ما كان فهذا النوع من العقود كونه يقول أوصلك ويعلق شيئاً آخر على الإيصال فهذا الذي نريد أن نصل إليه أنه يوجب الشحناء ويوجب البغضاء، ويعرّض مصالح الإنسان وحوائج الإنسان إلى الضرر، فالأفضل والأكمل أن تكون الإجارة على البتّ خالية من الغرر.
والله تعالى أعلم.(148/13)
حكم بيع الشيء ومعه جائزة
السؤال
لو قيل: اشتر سيارة -مثلاً- واحصل على سيارة ثانية من نفس النوع مجاناً، فهل يجوز هذا، أثابكم الله؟
الجواب
إذا قيل: اشتر سيارة من نوع كذا أو اشتر طعاماً أو شيئاً معيناً وتحصل على جائزة مجهولة، فهذا لا يجوز، وهو كما ذكرنا بيع معلوم ومجهول؛ لأنه اشترى السيارة ومعها شيء مجهول، واشترى وهو يريد الربح فإذا به لا يربح شيئاً، فإذا قال له: اشتر سيارة وتربح، حتى ولو سميت الجوائز: الأول له كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، فهذا كله يعتبر من بيع الغرر؛ لأنه أدخل المجهول على المعلوم، وفي هذه الحالة كأنه باعه السيارة وشيئاً ما لا يُدْرى أهو الجائزة الأولى إذا فاز بها أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو لا شيء، فإذا كان لم يخرج له شيء فحينئذٍ كأنه غَرّر به، مثل (اليانصيب) ادفع مالاً وتربح، وعلى هذا فإنه لا يصح بيع الجوائز إذا كانت مجهولة أو كانت معلومة مقرونة بالمبيع.
وتوجد حالة يصح فيها بيع الجائزة مقرونة بالمبيع، مثل: أن يعطيك (النيدو) -مثلاً- وعليه كأس، فالجائزة هنا معلومة ومعروفة، ويصبح كأنه باعك هذا الحليب مع الكأس، فهذا بيع معلوم وليس فيه أي إشكال؛ لكن إذا قال لك: تربح جائزة مجهولة، ووضع الجائزة داخل الحليب، فقد تكون ريالات، وقد تكون ذهباً، وقد تكون لعبة، أو لا يكون بداخلها إلا الحليب، فإذاً: معنى ذلك أنك تشتري على غرر، وهذا من بيع المجهول الذي لا يصح.
والله تعالى أعلم.(148/14)
مدة الإجارة وحكم إتمام عقدها
السؤال
وقع عقد إيجار بيني وبين المستأجر لخمس سنوات واستلمت إيجار السنة الأولى، وبعد خمسة أشهر أبدى عدم رغبته في مواصلة الإيجار، فما الحكم في ذلك، أثابكم الله؟
الجواب
إذا أجر الشخص داره أكثر من سنة فلا تخلو الإجارة من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون إلى زمانٍ لا غرر فيه كالسنة والسنتين، وتكون الدار متحملة، بحيث يغلب على الظن بقاؤها إلى سنة وسنتين ومنافعها باقية، فتصح الإجارة ولا بأس.
الحالة الثانية: أن تكون إلى مدة لا نضمن معها بقاء العين، وذكر العلماء من ذلك أمثلة، أن يقول له: أجرتك داري ثلاثين سنة، أو أجرتك أرضي للزراعة ثلاثين سنة أو خمسين سنة، فهذه العقود الطويلة لا يُدْرى فيها كيف يكون حال الأعيان فيكون من إجارة الغرر، فلا يصح في هذه الحالة.
إذاً: لو قلت له: أجرتك الشقة أو العمارة أو الأرض لخمس سنوات وكانت الشقة أو العمارة تتحمل خمس سنوات فالعقد صحيح والإجارة صحيحة، فإن جاءك بعد العقد وبعد أن افترقتما ولو بلحظة يقول لك: رد عليَّ أو لا أريد، فليس من حقه، وأنت بالخيار -صاحب العمارة- إن شئت ألزمته وتأخذ الأجرة كاملة، وإن شئت عفوت عنه وقلت له: خذ المدة التي تريد على قدر ما دفعت واترك لي داري يعوضني الله خيراً منك، وإن فعلت هذا فهو أفضل وأكمل؛ لأنه من الإقالة، وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم من طلب الأجر؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا رفقت بأخيك المسلم وأقلته وهو نادم أقال الله عثرتك، وكان سبباً لتفريج الكربة عنك؛ لأنك كما فرجت عن أخيك يفرّج الله عنك كربة من كرب يوم القيامة، فإذا جاءك أخوك وقال لك: لا أستطيع، أو جاءتني ظروف، أو أصبح حالي عسيراً، فإنه في هذه الحالة يكون الأفضل والأكمل أن تعفو عنه، فإن أصررت وقلت: لا أريد، وطالبت بحقك، فمن حقك وتلزمه بدفع الأجرة في السنوات القادمة، ويلزمه أن يتم العقد؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(148/15)
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [9]
جاء الشرع بالنهي عن بعض البيوع، فتارةً ينهى عنها من أجل الوقت والزمان، فقد يكون الوقت ليس بوقت بيع وشراء؛ كالبيع بعد الأذان الثاني يوم الجمعة؛ لما فيه من مناقضة لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من امتثال لأمر ربه والسعي إلى عبادته، وتارةً ينهى عنها للمفاسد المترتبة عليها واشتمالها على صورة توجب الضرر، وتارةً ينهى عنها لكونها ذريعة إلى ضرر أو مفسدة حرمها الشرع؛ كبيع العصير لمن يتخذه خمراً، وبيع السلاح في الفتنة.(149/1)
حكم البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: ولا يصحُّ البيع مِمَّن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني].
(فصل) هذا الفصل مبنيٌ على ما تقدم من الأحكام المتعلقة بالشروط؛ والسبب في هذا: أن ما نهى عنه الشرع من البيوعات كأنه ينبه المتعاقدين أثناء تعاقدهما على الاحتراز والتوقي من أسباب أو من موجبات النهي، فصارت كأنها علامات وأمارات توجب اتقاء هذا النوع من البيوع، فهنا ارتبط الفصل بالشروط الماضية، إلا أن الأحكام التي تقدمت معنا في الفصل الماضي تتعلق بالشروط التي إذا توفرت حكمنا بصحة البيع، وإذا لم تتوفر أو سقط بعضها أو فات بعضها حكمنا بفساده، فكأن المنهيات أو البيوع المنهي عنها متعلقة بالشروط من جهة كون الشرع نهى عنها، إلا أنها تخالف الشروط من جهة كونها لا تستلزم الفساد، فقد يكون الشيء منهياً عنه ويأثم فاعله إلا أن العقد صحيح.
وعلى هذا شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من البيوع التي حرمها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وبهذه المناسبة ينبغي أن يعلم أن ما أحلّ الله من البيوع أكثر مما حرمه سبحانه وتعالى؛ لأن الشريعة شريعة رحمة وشريعة تيسير، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال سبحانه وتعالى -وهو أصدق القائلين وأحكم الحاكمين تبارك رب العالمين-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، فجعل الله البيوع التي أباحها وأحلّها لعباده المؤمنين من الطيبات أكثر من التي حرم، ومن هنا يعتني المحدثون والفقهاء وأئمة الإسلام رحمهم الله برحمته الواسعة ببيان البيوع المنهي عنها، ويجعلون مباحثها ومسائلها وأبوابها مرتبة على مسائل الشروط وأبوابها.
والآن سيشرع المصنف في جملة من البيوعات المنهي عنها، وهذه البيوعات المنهي عنها تارةً يُنهى عنها من أجل الوقت والزمان، فيقول لك الشرع: لا تبعْ؛ لأن هذا الوقت ليس بوقت بيع، وتارةً يمنعك الشرع من البيع والشراء للمفاسد المترتبة على بيعك وشرائك لاشتماله على صورة توجب الضرر، وتارة ينهاك عن ذلك تعبداً منه سبحانه وتعالى لأمرٍ حرمه أو كونه ذريعة إلى ضرر أو مفسدة حرمها الشرع، فمثلاً في قوله رحمه الله: [ولا يصحُّ البيعُ ممَّن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني].
(لا يصح) هذا يدل على نفي صحة البيع، بمعنى: أن البيع لو وقع بعد الأذان الثاني من شخص تلزمه الجمعة فإنه يحكم بعدم صحته، وهذه المسألة مبنية على قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9 - 10]، هذه الآية الكريمة صدرها الله عز وجل بالنداء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... )، قال العلماء: لأن الذي يمتثل أمر الله عز وجل ويستقيم على ذلك الشرع الذي شرعه سبحانه إنما هم المؤمنون الكاملون في إيمانهم، الذين إذا أمروا من الله اِئتمروا وإذا نهوا من الله انكفوا وانزجروا فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ) وهو نداء التشريف الذي يحرك في النفوس العزيمة على الامتثال والعمل بما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قال: (إِذَا نُودِيَ) أي: إذا ابتدأ النداء للصلاة من يوم الجمعة، فالتحريم يبتدئ من قول المؤذن (الله)، فإذا ابتدأ بلفظ الجلالة من النداء الثاني بقوله: (الله أكبر) حرم البيع وحرم الشراء، (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قوله سبحانه: (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) تخصيص يدل على أن غيره لا يشاركه في هذا الحكم، ثم ليس كل يوم الجمعة وإنما فقط في هذا الظرف من ابتداء النداء الثاني: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) وهي الصلاة المفروضة أعني: صلاة الجمعة فـ (أل) في الصلاة للعهد الذهني، أي: أنها الصلاة المعهودة المعروفة في يوم الجمعة وهي صلاة يوم الجمعة: (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) أي: في يوم الجمعة أو أنها جزء أو تبعيض للظرف: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) أمر بالمضي إلى الصلاة، ثم قال: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) (ذروا) بمعنى: اتركوا، وعلماء الأصول يقولون: إن من صيغ التحريم أن تأتي الآية بقوله: (ذر) بمعنى اترك، كما قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] أي: اتركوه، وهذا يدل على تحريم ظاهر الإثم مثل القول الظاهر: كالسبّ والشتم، وباطنه مثل: الحسد ونحو ذلك، (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي: اتركوه، ومن هنا قال العلماء: يحرم البيع، ويتعلق التحريم بالطرفين: يتعلق بالبائع فلا يجوز له أن يبيع، ويتعلق بالمشتري فلا يجوز له أن يأخذ ويشتري، وقوله سبحانه: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) معناه: العقد، وهو صيغة البيع: بعت واشتريت.
وعلى هذا فلو قال له: بكم هذا الكتاب؟ قال: بعشرين، قال: قبلت.
فلما مدّ له العشرين وأراد الآخر أن يقبض أذن المؤذن، فإن العبرة بالصيغة، فلما وقعت الصيغة ووقع العقد قبل الأذان صحَّ؛ لأن قوله سبحانه: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي: عقد البيع، إذاً: إذا وقعت الصيغة التي هي الإيجاب والقبول قبل أن يبتدئ المؤذن بالأذان فقد أوجب البيع ولزمهما إمضاءه وإتمامه.
وقوله سبحانه وتعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) النداء في يوم الجمعة نداءان: أولاً: الأذان الذي هو الأصل في يوم الجمعة، والذي يقوم الخطيب ويخطب، وهذا النداء مجمع عليه، وقد ثبتت به النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنه كان يؤذن بين يديه، وهو الذي يسميه العلماء: الأذان بين يدي الخطيب، وهو الذي عليه المعوّل وهو نداء الفريضة.
ثانياً: الأذان الذي هو من السنن المعمول بها؛ لأنها سنة خليفة راشد وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فإن هذا النداء وضعه عثمان رضي الله عنه وأرضاه ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، ولم ينكره أحد من السلف، ومضى على ذلك إجماع الأمة سلفاً وخلفاً على أن هذا الأذان سنة؛ والسبب في هذا: أن عثمان رضي الله عنه نظر إلى حاجة الناس؛ لأنهم كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم قلّة، ثم لما كثر الناس أصبح يؤذن الأذان الثاني وهم في خِضم البيع والشراء؛ لأنهم يفاجئون بالأذان فجأة، فشرع أو أحدث هذا الأذان الذي هو الأذان الأول، ومضت السنة عليه، وهذه السنة لا يفرق العلماء فيها بين وجود السبب أو عدم وجوده، أي: لا نعرف أحداً من أهل العلم لا من السلف ولا من الخلف يقول: إنه إذا وجد سبب يشرع وإذا لم يوجد لم يشرع؛ لأنه مثل الرمل، كان له سبب فلما زال سببه بقي سنة إلى يوم القيامة، ولذلك هذه سنة راشدة باقية، ومما يدل على ذلك أن هذا الأذان كان يحكم به العلماء رحمهم الله ولا يفرقون بين القرى الصغيرة والقرى الكبيرة ولا يفرقون بين ما يحتاج فيه الأذان الثاني أو لا يحتاج، إنما قالوا: هذا سنة، ويتعبد لله سبحانه وتعالى به ويُعمل به؛ لأن سواد الأمة الأعظم مشى على هذا، ولا يستطيع إنسان أن يشذ عن جماعة المسلمين أو يغيّر شيئاً مضت عليه السنة، خاصة في الأمور التعبدية: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء:115]، فالإنسان إذا وجد سنة مضى عليها العمل لا يسعه إلا اتباع السلف والسير على منهجهم، فإن فصلوا فصلنا وإذا لم يفصلوا لا نفصل، فهو سنة باقية إلى قيام الساعة، كما أن الأذان الثاني باقٍ إلى قيام الساعة فإن هذا الأذان الذي أحدثه عثمان رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء سنة راشدة باقية.
على هذا: الأذان الأول لا يتعلق به حكم، ولا يمنع فيه من البيع؛ لأن الآية نزلت في الأذان الثاني ولم تنزل في الأذان الأول، ولأنها لما نزلت في الأذان الثاني كان الوقت الذي بين الأذان الأول والثاني يشرع فيه البيع بظاهر النص والقرآن، فلما أُحْدِث الأذان الأول أُحْدِث في وقت مأذون بالبيع فيه بنص الآية الكريمة، فبقي الحكم على ذلك أنه يجوز أن يقع البيع بين الأذان الأول وبين الأذان الثاني، إنما يحرم البيع بشرط، وهذا الشرط أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: (ممن تلزمه الجمعة).
(تلزمه) أي: تجب عليه، وعلى هذا كأنه في هذا الوقت مطالبٌ بما هو آكد وألزم، يقول العلماء: من الأسباب التي منع الشرع بها البيع: أن يكون وقت البيع مستحقاً لما هو أهم، ويمثلون له بالبيع بعد الأذان الثاني، وقالوا: لأن هذا الوقت مستحق لما هو أهم وهو صلاة الجمعة، فكأنه حينما أوجب البيع وقال له: بعتك وقال: اشتريت، هو في هذه اللحظة مطالبٌ أن ينصرف إلى الصلاة وذكر الله لا إلى البيع، فوقع بيعه وشراؤه على وجه عصى الله عز وجل فيه.
وقوله: (ممن تلزمه الجمعة) على هذا هناك صور يأثم فيها الطرفان، وصور لا يأثم فيها الطرفان، وصور يأثم فيها أحد الطرفين دون الآخر: فالصورة التي لا يأثم فيها الطرفان: كامرأة باعت لصبي، فإن الصبي لا تلزمه الجمعة والمرأة لا تلزمها الجمعة، أو امرأة باعت لامرأة فيصحّ البيع ولا إشكال في جوازه، فليس على النساء جمعة وليس عليهن جماعة، فلا يلزم الطرفين المضي إلى الجمعة، أو مسافر يبيع لمسافر، فإن المسافر لا تلزمه الجمعة.
إذاً الشرط: أن يكون الطرفان ملزمان بالجمعة، فإن تعلق الإلزام بأحدهما أثم ذلك الذي تعلق به الإلزام، وبالنسبة للطرف الثاني فإنه إذا باعه وهو يعلم أنه ممن تلزمه الجمعة يأثم؛ لأنه يعينه على الإثم والعدوان، كامرأة تبيع(149/2)
حكم النكاح وسائر العقود بعد أذان الجمعة الثاني
[ويصحُّ النِّكاح وسائر العقود].
لأن الله سبحانه نهى عن البيع وحده ولم يسمِّ شيئاً غيره إذ لم يقل سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لا تتعاقدوا أو ذروا العقود)، إنما قال: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فنهى سبحانه عن البيع وحده، وإذا خص النهي بشيء تعلق به وفُهم من ذلك أن ما عداه باقٍ على الأصل، فلو أن رجلاً قال لرجل وهما ماضيان للجمعة: زوجتك بنتي، قال: قبلت، وكان بحضور رجلين صحَّ العقد ولا يؤثر فيه كونه بعد النداء الثاني، وهكذا بقيّة العقود واختلف في الإجارة؛ لأن الإجارة تقاس على البيع في كثير من المسائل، والذي يقوى أن نفس المعنى الموجود في البيع موجود في الإجارة، فلو قال قائل بالتحريم لكان قوله من القوة بمكان.(149/3)
الوسائل تأخذ حكم المقاصد
[ولا يصحُّ بيع عصيرٍ ممن يتخذه خمراً].
العصير يكون من الفواكه ونحوها من الثمار التي تعصر ويستخلص المائع منها، وهذا يشمل ما إذا كان من الفواكه وغير الفواكه.
وهذه المسألة تعرف عند العلماء بسد الذرائع؛ والسبب في هذا: أن الله سبحانه وتعالى حرّم أموراً وحرّم الوسائل المفضية إليها، ومن هنا نجد العلماء يقولون بالقاعدة المعروفة: (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها) والوسائل جمع وسيلة، والوسيلة: هي ما يتوصل بها إلى الشيء، فالسيارة وسيلة إلى بلوغ المسجد، فإن كان ركوبه من أجل أن يفعل واجباً فإنها طاعة وقربة، وإن كان ركوبه من أجل أن يفعل محرماً فإنها إثمٌ ووزر -والعياذ بالله-، فهناك مقاصد وهناك وسائل، والمقاصد في المنهيات كالجرائم: كالزنا، وشرب الخمر، والقتل -والعياذ بالله- أي: أنها نفس الحدود التي تقصد وتراد، وهناك أشياء يتوصل بها إلى هذا الحرام، فهذه الأشياء التي يتوصل بها إلى الحرام من زنا وشرب خمر وقتل -والعياذ بالله- تأخذ حكم مقاصدها، وعلى هذا جاءت نصوص الشريعة، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، فلما صار ضرب المرأة برجلها حتى يسمع الصوت فتلتفت الأنظار إلى مصدر الصوت فكأنها تقصد النظر إليها، والنظر إلى المرأة يفضي إلى الحرام وهو الزنا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان وزناهما النظر)، فيحرم النظر إلى المرأة، والنظر ذاته ليس هو الجريمة، بل الجريمة هو الشيء الأعظم الذي هو الزنا، لكن النظر يهيئ ويهيج الشهوة والغريزة من أجل أن تقع في الحرام، فليس هو المقصود الأخير الذي من أجله حرّم الله سبحانه وتعالى النظر، وإنما هو وسيلة يتوصل بها إلى الحرام.
وكالخلوة بالمرأة الأجنبية والجلوس معها فإن نفس الخلوة والجلوس معها بذاته ليس هو الجريمة لكن الجريمة الزنا؛ فإذا جلس معها دون رقيب ودون نظر من الناس ودون محرم فمعنى ذلك: أن نفسه تحدثه بالحرام ونفسها تحدثها -والعياذ بالله- بالحرام، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وقال: (ألا لا يخلونّ رجلٌ بامرأة)، فنهى عن ذلك، والخلوة ليست هي الزنا بذاتها؛ لكنها وسيلة إلى الزنا، والسفر مع المرأة الأجنبية كذلك، فليس هو بذاته الزنا وليس بذاته فعل الحرام؛ لكنه إذا سافر معها تهيأت الأسباب مع وجود البواعث النفسية التي فُطر عليها الإنسان وجُبِل عليها من ميل الرجل للأنثى وميل الأنثى للرجل فحينئذٍ يقعان في المحظور، وكأننا إذا قلنا بالإذن لهما كأننا نهيئ السبب للوقوع في الحرام، فهذا كله يسمى في الشرع (الوسائل)، والوسائل تفضي إلى المحرمات، ثم هذه الوسائل كما قرر العلماء رحمهم الله تتفاوت درجاتها وآثامها على تفاوت مقاصدها في انتهاكها لحدود الله عز وجل، فالوسائل إلى الشرك أعظم من الوسائل إلى الزنا، والوسائل إلى الزنا أعظم من غيرها مما هو دونها من الجرائم.
فإذاً: عندنا مقاصد وعندنا وسائل، ومن ما كُتب في هذه المسألة ما كتبه الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، فقد تكلّم كلاماً نفيساً على الوسائل، وأنها تأخذ حكم مقاصدها، وأنها تتفاوت بحسب تفاوت الدرجات، ولذلك نجد فعل السلف على هذا، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قطع الشجرة التي بايع الصحابة تحتها بيعة الرضوان، وهي البيعة التي أثنى الله على أهلها وشهد من فوق سبع سموات أنه اطّلع على قلوب الصحابة فوجد فيها حبّ الله وحبّ رسوله صلى الله عليه وسلم والصدق في العهد: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:18]، علم الخير والإيمان والصبر والثبات ونصرة الإسلام، فهذا المكان له شرف وله فضل من حيث الوصف، فلما مرّ عليها عمر أمر بقطعها، وقيل: إنه بعث من يقطعها.
ما السبب؟ السبب في هذا أنه جاءت خلوف من بعد الصحابة رضوان الله عليهم خشي عمر أن يقول قائلهم: هذه الشجرة التي بايع تحتها الصحابة، فيصبحون يصلون عندها أو يتعلقون بها أو يتبركون بها أو يعتقدون الفضل في مكانها فقطعها، والقطع للشجرة إتلاف لها، وإتلاف الزروع والثمار والأشجار لا ينبغي إلا لوجود أمر هو أعظم من هذا الأمر، فنظر عمر رضي الله عنه إلى خوف الإفضاء إلى الشرك وخوف التعظيم الذي يفضي إلى العبادة فحينئذٍ سد الذريعة، وإذا أزيل هذا الأثر ليس هناك أمر مفروض سيزول؛ إنما هناك أمر عظيم وهو حق الله عز وجل الذي من أجله خلق الخلق سيستقيم وسيكون الناس في مأمن مما يلوثه ويدنسه من التعلق بغير الله عز وجل.
إذاً هذه قاعدة: أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فهنا العصير إذا كان الشخص يأخذ العنب فيعصره -والعياذ بالله- خمراً أو يأخذ التمر فينتبذه ويجعله نبيذاً إلى أن يصير خمراً، أو يأخذ أي شيء من الأشياء التي تعصر ويشتريها ثم يُصَنِّعْها خمراً، لا يجوز البيع له، وإن كان ذات البيع جائزاً من حيث الأصل، فالقضية ليست في البيع، إنما القضية أن البيع أصبح وسيلة إلى حرام، والوسيلة تأخذ حكم مقصدها، فلما كان مقصدها الحرام وكونك عندما تبيعه يعينه ذلك على الحرام أُمِرت أن تمتنع؛ لأنه من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فواجب عليك أن تمنعه من الحرام، فإذا امتنعت من البيع له لم يستطع أن يعصر، وإذا امتنع الناس من بيع العنب لمن يعصره خمراً تعذّر عليه أن يُحْدِث الخمر وتعذر عليه أن يصنع الخمر، وفي حكم الطعام المُصنَّع بالآلات، فالآلات إذا اتخذت للحرام وكانت وسيلة إلى الحرام فإنه ينبغي المنع من الإعانة عليها بإعطائها أو بيعها أو إجارتها، وعليه فالوسائل تأخذ حكم مقاصدها، وقد جاء في الأثر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب ممن يتخذه خمراً)، وقال: (إنه إذا باعه فقد تقحم نار الله على بصيرة) والعياذ بالله! فعلى هذا لا يجوز للمسلم أن يبيع العصير ممن يتخذه خمراً.
وفي حكم ذلك جميع الوسائل كما يقع في زماننا: فلو علم أنه يهرّب الحشيش، أو يهرّب المخدرات، أو يتخذ بيته للدعارة أو للفساد، فإنه يجب عليه في هذه الحالة أن يتعاطى أسباب الحفظ فيمتنع من إجارة البيت له، ويمتنع من إجارة السيارة له، ويمتنع من إعانته على هذا المحرم الذي يفضي إلى الإضرار بالناس والإضرار أيضاً بمن يأخذ ذلك المباح، فيتذرع به إلى الحرام.
فالمقصود: أن المصنف رحمه الله شرع في بيان النهي بالوسائل، وهو أن البيع قد يحرم لكونه وسيلة إلى الحرام.
قال رحمه الله: [ولا سلاح في فتنة].
أي: ولا يجوز بيع السلاح في الفتنة، وهذه نفس القضية، وهذا من باب التمثيل، فذكر أولاً العصير ممن يتخذه خمراً، ثم ثنى بالسلاح في الفتنة، فإذا وقعت فتنة بين المسلمين فتقاتلوا فحينئذٍ إذا بيع السلاح فإن معنى ذلك أنه سيستعين المسلم بهذا السلاح على قتل أخيه المسلم، فلو حدثت نعرة جاهلية بين طرفين -مثلاً- وتقاتلوا فجاء إنسان وباع السلاح لأحد الطرفين فإنه شريكٌ في الدم الذي يراق في هذه الفتنة جميعها، وكل ما ينشأ من سفكٍ لدم حرام بما باعه فإنه يكون شريكاً لصاحبه في الإثم والوزر -والعياذ بالله-، وهذا يدل على عمق الشريعة الإسلامية ومحافظتها على الناس، وأن القضية ليست قضية مادية، وأنه ينبغي أن ينظر إلى الدين أنه هو الأساس وأنه هو المعوّل، فلو قال قائل: نترك الناس يتبايعون، وأنا الذي يهمني أن أبيع، نقول: لا، الدين هو الأساس، فإذا أفضى الأمر إلى شيء فيه معصية لله ومعصية لرسوله صلى الله عليه وسلم وانتهاك لما حرّم الله فإنك شريكٌ في الإثم، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، فكأنه إذا باع السلاح لمن يقتل به إخوانه المسلمين فقد أعان على الإثم وهو سفك الدم الحرام، وأعان على العدوان؛ لأنه سفكٌ بدون حق، وهكذا بالنسبة لبقية الصور، فالعلماء يذكرون بيع العصير ممن يتخذه خمراً، والسلاح في الفتنة من باب التمثيل وقياس بقية الصور عليها، وانظروا إلى دقة المصنف رحمه الله في اختياره للمثالين، فقد يقول قائل: إن المثال الأول قد يغني عن المثال الآخر من جهة القاعدة، فنقول: في المثال الأول إذا نظرت إلى جريمة الخمر وجدتها اعتداء على العقل، فهي اعتداء من الإنسان على نفسه، ولكن السلاح في الفتنة اعتداء من الإنسان على غيره، وهذا يدل على فقه العلماء حتى في التمثيل، وقد كان العلماء يؤلفون في أزمنة أئمة فما يضعون مثالاً إلا بعد دراسة.
وصحيح أن من شرب الخمر قد يقتل غيره -والعياذ بالله-؛ لكن نحن نتكلم على الأصل، وهو أن شارب الخمر في الأصل جنايته على نفسه، ولذلك يسميها العلماء: الجناية على العقول، فهي متعلقة في الأصل بالإنسان نفسه، ثم بعدما يجني على عقله يجني على الغير.
فالمقصود: أن هذا التنويع في الأمثلة مقصودٌ من المصنف رحمه الله، ولم يأت من فراغ وعبث وإنما أراد أن يُنَظِّرَ به، فجعل الأول مثالاً للجناية القاصرة على الإنسان، والثاني مثالاً على الجناية المتعدية إلى الغير.(149/4)
حكم بيع العبد المسلم للكافر
قال رحمه الله: [ولا عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه].
ولا يجوز بيع العبد المسلم للكافر إذا لم يعتق عليه، فعندنا أصل وعندنا استثناء، فالأصل أنه لا يجوز بيع المسلم، وتعرفون أن الرقيق قد يكون مسلماً وقد يكون كافراً، فالرقيق الكافر ليس عندنا فيه إشكال؛ لأن أصل الرق الكفر، ولا يضرب الرق إلا بالكفر -كما قدمنا في الجهاد-، لكن إذا كان مسلماً كرجل أخذ في الأسر ثم بعد ذلك أسلم -وإذا أسلم فإنه يبقى رقيقاً؛ لأننا لو قلنا: إن كل من أسلم يزول عنه الرق ربما أسلموا لإزالة الرق عنهم- وأردت أن تبيعه فلا يجوز بيعه لكافر، ما السبب؟ أولاً: لأنه لا يجوز علو الكافر على المسلم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه)، فإذا بيع العبد المسلم لرجل كافر أو لامرأة كافرة فمعنى ذلك أنه أصبح عبداً لكافر فيعلو الكفر على الإسلام، ويصبح للكافر سلطان على المسلم يأمره فيأتمر وينهاه فينزجر.
ثانياً: لأنه إذا بيع المسلم للكافر ربما فتنه في دينه فأكرهه حتى يكفر -والعياذ بالله- كما فعل أمية بن خلف لعنه الله في تعذيبه لـ بلال رضي الله عنه وأرضاه.
فالمقصود: أن الرقيق إذا كان تحت الكافر فتنه في دينه، ومن هنا ندرك دقة الإسلام حينما أجاز زواج المسلم من الكافرة إذا كانت كتابية ولم يُجز أن ينكح الكافر المسلمة؛ لأنه إذا كانت الكافرة تحت المسلم كان الأمر للمسلم ولم يكن للكافرة، وحينئذٍ قد يكون قيامه عليها وتأثيره عليها سبباً في إسلامها، والعكس: فلو زُوِّجت المسلمة من كافر ولو كان كتابياً قد تغتر به وتحت ضغطه وقهره تصبح مفتونة في دينها فتكفر -والعياذ بالله! - فإذاً: مسألة بيع العبد المسلم للكافر هو خوف الذريعة وأن يفتنه في دينه، وأقل ما يكون وليس بقليل: أنه يعلو كعب الكافر على المسلم ويصبح الفضل للكافر على المسلم، ولا يجوز أن يُعلى كعب الكافر على المسلم ولا أن يُذلَّ المسلم للكافر.
(إلاّ) هذا استثناء، (أن يعتق عليه) أي: إذا كان هذا الكافر ذا رحم من المسلم الذي سيباع بحيث إذا ملكه أعتقه، كأن يكون العبد والداً مسلماً يُباع لابنه الكافر، فإنه إذا ملك الابن أباه أعتقه، وعلى هذا يجوز؛ لأنه ستزول المفسدة ولا يفضي إلى الضرر الذي حرم الشرع من أجله بيع المسلم للكافر.(149/5)
الحكم إذا أسلم العبد وهو عند كافر
قال رحمه الله: [وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه].
أي: إذا كنت تقرر أنه لا يجوز بيع المسلم للكافر، يرد
السؤال
لو أن كافراً ملك عبداً كافراً ثم أسلم هذا العبد الكافر، وفي القديم تعرفون أنه كان هناك أهل ذمة، وأهل الذمة يكونون تحت حكم المسلمين فكانوا يشترون العبيد ويملكونهم، فإذا اشترى عبداً كافراً ثم أسلم هذا العبد فمعنى ذلك: أنه سيبقى سلطان الكافر على المسلم.
فيرد السؤال: هل التحريم يختص بالابتداء والإنشاء، أم يشمل حتى الاستدامة؟ فالمصنف ذهب إلى أنه يشمل حتى الاستدامة، فإذا أسلم العبد الكافر عند الكافر، صار عبداً مسلماً، فحينئذٍ لا يستديم العقد ونلزم الكافر ببيعه، ولا نظلم الكافر، وهذا يدل على سماحة الإسلام، فالإسلام لا يأمره بأن يعتقه؛ لأنه إذا اعتقه ظُلم؛ فلو كانت قيمة هذا العبد -مثلاً- ألف درهم أو دينار فهذه الألف ستضيع من ماله وهو يملكه، والإسلام يعطيه هذه الملكية، وهذا العبد هو ملك له، وإذا كان الذميون تحت حكم المسلمين فأموالهم محترمة؛ لأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين -كما قدمنا في باب عقد الذمة وأحكامها-، فالإسلام جاء بالوسطية فلم يلزمه بالعتق خالياً عن العوض، ولم يبق المسلم تحت الكافر حتى لا يفتنه، وجاء بالوسط وقال له: يجب عليك بيعه، فيُلزم أن يبيعه، فإذا باعه بقيمته أنصفناه، فينتج أننا لم نجعل للكافر على المسلم ولاية، ورددنا للكافر حقه المالي، أمّا حقه الاعتباري أن يكون فوق المسلم فليس من حقه، فحرمناه من شيء ليس من حقه، وأعطينا العبد حقه حيث أزلنا الملكية مع رد القيمة إلى المالك الحقيقي وهو الكافر.
قال رحمه الله: [ولا تكفي مُكاتبته].
تعرفون أن الرقيق يزال الملكية عنه بالعتق أو بالبيع أو بالمكاتبة، أمّا بالنسبة للعتق فكأن تعتقه كفارةً لقتل أو كفارةً لظهار أو كفارةً لجماع في نهار رمضان أو كفارةً ليمين أو نحو ذلك من الكفارات، أو تعتقه لوجه الله عز وجل، فيزول ملكك عنه ويبقى الولاء، وتارة تبيعه فإذا بعته للغير فإنه تنتقل الملكية منك إلى الغير وتصبح يدك خلواً عن ملكيته.
كذلك هناك حالة ثالثة: وهي أن يشتري العبدُ نفسه.
فإذاً هذه ثلاثة أشياء: أولاً: أن تعتقه أداءً لفرض واجب أو التماساً لمرضاة الله عز وجل.
ثانياً: أن تبيعه.
ثالثاً: أن يشتري العبدُ نفسه منك.
فهذه ثلاثة أحوال لإزالة الملكية عن العبد، فإن قلنا: إن العبد إذا أسلم تحت كافر تجب إزالة الملكية ولا نستطيع أن نلزمه بالعتق؛ لأن هذا يضره، فيبقى الأمران: وقد قلنا: يلزم ببيعه ويقهر ويفرض عليه البيع؛ لكن يبيعه لمسلم ولا يجوز أن يبيعه لكافر.
يبقى النظر: لو أن هذا العبد المسلم أراد أن يشتري نفسه نقول: لا تكفي مكاتبته، لماذا؟ لأنه قد يعجز عن الكتابة فيعود الأمر إلى ما كان، وكذلك يبقى طيلة أوقات الكتابة وأنجم الكتابة تحت القهر والعبودية، لأنكم تعلمون أنه لو كاتبه -مثلاً- باثني عشر ألفاً وكل شهر يدفع له ألفاً، فمعنى ذلك أنه سيبقى رقيقاً سنة كاملة، فإذاً: لماذا قال: لا تكفي مكاتبته؟ لأنه طيلة فترة المكاتبة سيبقى عبداً، أو قد يعجز ولن نمكنه أن يكون ذليلاً تحت الكافر لحظة واحدة، فنقول له: الآن تبيعه إلى مسلم، وحينئذٍ يقوم مسلم بشرائه، أو يُشترى لبيت مال المسلمين، على حسب الأحوال والمقتضيات التي يمكن معها تحقيق مقصود الشرع من إزالة ملك هذا الكافر عنه.(149/6)
حكم الجمع بين البيع والكتابة وبين البيع والصرف في عقد واحد
قال رحمه الله: [وإن جمع بين بيعٍ وكتابةٍ، أو بيع وصرف، صح في غير الكتابة، ويُقسَّط العوض عليهما].
قوله: (وإن جمع بين بيع وكتابة).
هذا أيضاً من البيوع المنهي عنها، وهو الصفقتان في صفقة واحدة، وهي في حكم البيعتين في بيعة واحدة؛ والسبب في هذا: أن الصفقات إذا دمجت مع بعضها كأن بعضها قام على بعض، فإذا حصل العيب في البعض يرد الإشكال والخصومة بين الناس، فالعقود التي تقوم على التداخل مثل أن يقول: أؤجرك السيارة سنة وتشتريها بعد سنة، أو خذ السيارة هذه ثلاث سنوات تدفع أجرتها ثم أبيعكها بكذا، فهذا التداخل يوجب الفتنة ويوجب الشحناء إذا تغيرت المبيعات أو حصل عيب في أحد العقدين أو خلل في أحد العقدين، فيسري الفساد إلى العقد الآخر، وهذا يدل على دقة منهج الشريعة، كأننا حينما نقرر الشروط والصفات التي ينبغي على المتعاقدين أن يتنبها لها في العقد فنحن بهذا نمهد للقاضي فصله بين الخصومات، ولذلك لو أُذن بالبيوعات مطلقاً لكثرت الخصومات عند القاضي، لكن حينما يقال للناس: اجتنبوا كذا وافعلوا كذا، فهذا ييسر للقاضي مهمته وييسر للمفتي فتواه، ولذلك تكون عقود البيع واضحة والحقوق واضحة وتفصل الحقوق على وجه بيِّن، لكن لو أدخلت ثلاثة عقود في عقد واحد كيف يفصل القاضي بين المتخاصمين؟ وكيف ينصف الخصم من خصمه؟ فهذا العقد مركب على هذا العقد، فإن جئت تفسد هذا العقد لأنه فاسد فالفساد في الأول وليس في الثاني أو في الثاني وليس في الأول.
فهذا نوع من الدقة في المنهج، وينبني عليه حفظ وصيانة العقود الشرعية مما يفضي إلى الخصومات والنزاعات، فلا يجوز أن يجمع بين البيع والكتابة، كأن يقول لعبده: كاتبتك سنة باثني عشر ألف ريال وبعت عليك بيتي بخمسمائة ألف، فجمع بين البيع والكتابة، والمكاتب ملك لسيده حتى يعتق بالكتابة، فحينئذٍ كأنه يبيع لنفسه ويبيع لغيره، وهذا من تداخل العقود -كما ذكرنا-، وتداخل العقود قاعدته في المنع الغرر، ولذلك يعتبر من البيوع المحرمة التي نهُي عنها من باب الغرر، ولكونها تفضي إلى الخصومات والنزاعات، ومن هنا: لا يجوز الجمع بين البيع والكتابة؛ لأن البيع والكتابة بيعتان في بيعة، باعه نفسه واشتراها وباعه بيعة ثانية، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.
قوله: [أو بيعٍ وصرفٍ].
يجوز الجمع بين البيع والصرف، والبيع والصرف موجود إلى زماننا هذا، تأتي مثلاً إلى صاحب البقالة وتشتري من عنده بعشرة ريالات فتعطيه خمسين ريالاً، فإذا أعطيته الخمسين فمعنى ذلك أن هناك بيعاً: وهي العشرة في مقابل الطعام الذي اشتريته، والأربعون الباقية سيعطيك بدلاً عنها الصرف، وهي الأربعون المتبقية من رأس المال الذي هو الخمسون، فحينئذٍ جمعت بين البيع والصرف، والجمع بين البيع والصرف مرخص فيه بشرط: ألا تفارقه حتى تقبض؛ لأنك إذا صرفت الذهب بالذهب والفضة بالفضة فلابد أن يكون يداً بيد، فلو أنك اشتريت بعشرة وبقيت أربعون من الخمسين فقال لك: اترك الباقي عندي، أو قلت له: سآتيك بعد ساعة أو بعد نصف ساعة، أو أخذ الخمسين منك وذهب للصرف دون أن يستأذنك وقع ربا النسيئة، فينبغي أن يتنبه لهذا.
وسيأتينا في باب الربا ما يسمى بربا النسيئة وربا الفضل، وهناك أصناف تسمى الأصناف الربوية وهي: الذهب والفضة والبر والتمر والشعير والملح، وهي الستة المنصوص عليها، وهناك أصناف مقيسة عليها، فهذه الأصناف الربوية يجري فيها ربا الفضل وربا النسيئة، فربا النسيئة يقول لك الشرع: إذا أعطيت هذا في مقابل هذا تعطي بيد وتأخذ بالأخرى، فإن أعطيته وأخّر في الإعطاء وافترقتما ولم يعطك وقع ربا النسيئة وهو التأخير، فهناك أشياء حرم عليك الشرع أن تؤخر قبضها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر حينما قال له: (إنه يبيع الإبل بالدراهم ويقتضي بالدنانير، قال: لا يحلّ لك أن تفارقه وبينكما شيء)؛ لأنه صَرَفَ الدنانير بالدراهم، وعلى هذا إذا صرفت الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب أو الفضة بالذهب ينبغي أن يكون يداً بيد، فلو أعطيته خمسين ريالاً فإن أصلها فضة، فينبغي أن تُعطي وتأخذ في نفس مجلس العقد، فلو قال لك: ليس عندي صرف، فلو تأتيني بعد يوم، أو بعد ساعة، أو في أي وقت تأتيني أعطيك الباقي، فهذا يعتبر من الربا المحرم من جهة النسيئة وهو أشد نوعي الربا، وعلى هذا فلو أنه صرف المائة أو الخمسين ينبغي أن يعطيه بيد ويأخذ بأخرى، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء)، فاشترط عليه الصلاة والسلام أن يقبض بيد وأن يعطي بالأخرى، ويستثنى من هذا إذا قلت له: اذهب واصرف، أي: لو أن إنساناً جاء إلى محطة (البنزين) وعبأ بعشرة ريالات وأعطاه خمسين ريالاً وبقيت أربعون فقال لك: لا يوجد لدي صرف، تقول له: اذهب واصرف، فإذا قلت له: اذهب واصرف فقد وكلته بالصرف، فيذهب ويصرف ثم يعطيك ما تبقى لك، وهذا يعتبر وكالة منفصلة عن البيع الذي بينكما؛ لأنه لم يصرف من نفسه، وأما لو بقيت لك أربعون فقال لك: أعطيك الآن عشرين وأعطيك الباقي فيما بعد، تقول: لا، إمّا أن تعطيني الصرف كاملاً، أو يكون المبلغ الذي اشتريت به ديناً عليّ تسجله وأعطيك إياه في وقت ثانٍ.
وكان بعض العلماء يقول: إن الرجل قد يشيب عارضاه في الإسلام وهو يتبايع بالربا صباحَ مساءَ وهو لا يدري، وكثير من الناس يقع في هذه الأشياء وهو لا يدري، فينبغي التنبيه على مسألة ربا النسيئة فيجب أن يشترط في الذهب بالذهب والفضة بالفضة أن يكون الصرف يداً بيد، فإذا اشتريت سلعة وبقي الباقي صار عقد بيع وصرف، بيع لقيمة السلعة التي تشتريها، وصرف بالنسبة للباقي، فينبغي أن يعطيك الباقي كاملاً.
أما لماذا يشدّد الشرع في مسألة الصرف؟ فهذا سنتكلم عليه إن شاء الله في باب الربا، لكن من حكمة الله عز وجل أنك إذا جئت تصرف لابد أن يعطيك يداً بيد من أجل الحقوق، ولذلك يظهر لنا في مثل هذا سماحة الشريعة حينما تحفظ للناس حقوقهم من حيث لا يشعرون، فإذا جئت إلى بقالة أو جئت -مثلاً- إلى محل تريد أن تشتري من عنده بعشرة ودفعت له مائة ربما أخذ المائة منك ورماها في الصندوق فإذا قلت له: (أعطني الباقي)، قال: (أي باقي)، فينكر ويقول: لم آخذ منك شيئاً، وربما قال: هذه أربعون، تقول له: أعطيتك مائة والباقي تسعون، يقول: لا، أنت أعطيتني خمسين؛ لكن إذا كنت تعطي بيد وتأخذ بيد فحقك مضمون، والشريعة لا تريد أن يختل أحد أحداً أو يضر بأحد؛ لأنه ليس من العدل أن تدفع المائة ثم يظلمك ويقول: (ما أعطيتني) فهو بشر، وقد لا يقصد ذلك، وإذا رمى بخمسمائة ريال في الصندوق فكيف تثبت أنه أخذ منك خمسمائة، فالناس كلهم مشغولون عند الزحام، وهذا يقع، فالشريعة تحتاط للناس في حقوقهم، فإذا دفعت الخمسمائة وبقي لك الباقي تأخذ بيد وتعطي بأخرى، لماذا؟ لأنك تضمن حقك فلا تظلم ولا تُظلم، فإن أخذ منك ورماها ثم بعد ذلك قال: كم أعطيتني؟ حينئذٍ يقع الضرر فتذهب حقوق الناس ويختلون في حقوقهم المالية، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في حديث عمر في الصحيح: (الذهب بالذهب رباً -أي حرام- إلا هاء وهاء) (هاء وهاء) مثل قولك: (هه)، لما تعطي فيقول هو: (هه)، هذا هو معنى قوله: (هاء وهاء) أي: تعطي بيد وتأخذ باليد الأخرى، وعلى هذا فيجوز الجمع بين البيع والصرف إذا كان يداً بيد بالشرط المعتبر في الأصناف الربوية.
قال: [صحّ في غير الكتابة].
وهو البيع والصرف، ولكن الكتابة لا يصحُّ الجمع بينها وبين البيع كما ذكرنا.
قال: [ويُقسَّط العوض عليهما].
إذا حصل الفساد وقلنا: لا يصحُّ الجمع بين الكتابة والبيع يقسط العوض عليهما على حسب قيمة الكتابة من السلعة المبيعة، لو قال له: أبيعك داري وأكاتبك باثني عشر ألفاً، فدمجهما في صفقة واحدة صحّ في الكتابة بقسطها وبحقها، وهذا من باب التفريق بين الصفقتين كما ذكرنا في المجلس الماضي.(149/7)
حكم البيع على بيع المسلم والشراء على شرائه
قال رحمه الله: [ويحرم بيعه على بيعِ أخيه: كأن يقول لمن اشترى سلعةً بعشرةٍ: أنا أعطيك مثلها بتسعةٍ].
هذا نوع من البيوع التي حرمها الله عز وجل وهو بيع المسلم على بيع أخيه، وهذا النوع من البيوع الأصل في تحريمه قوله عليه الصلاة والسلام: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) فقوله: (ولا يبع) نهي، وفي رواية: (ولا يبع أحدكم على بيع أخيه) وهو: أن تعرض سلعة في مقابل سلعة عرضها أخوك، وحينئذٍ لابد من التفصيل: فإذا جاء أخوك ليشتري سلعة من جارك وعندك نفس السلعة، فلا تخلو المسألة من أحوال: الحالة الأولى: أن يتفق الطرفان على السلعة وعلى القيمة.
الحالة الثانية: ألا يتفقا ولا يرضى المشتري بالقيمة ولا يتراكنا ولا يوجبا البيع.
ففي الحالة الأولى وهي إذا تراكنا، فمثلاً قال له: بكم هذا الثوب؟ قال: بمائة، فرغبه المشتري وجلس يقلّبه قال: (لم لا تجعله بتسعين؟) قال: (لا بمائة)، قال: (بخمسة وتسعين)، قال: (بمائة)، قال هذا: (الثوب أعجبني)، فإذا جئت في هذه الحالة وقد تراكنا، أي: كاد أن يميل أحدهما للآخر، أو قال له: رضيت؛ لكن لم يفترقا حتى يتم البيع وقلت له: عندي ثوب مثله بتسعين أو بخمسة وتسعين، أو أنا أبيعك بأقلّ مما باعك جاري، فهذا مما حرّمه الله ورسوله؛ والسبب في هذا: أن البيع صار وسيلة لقطع أواصر الأخوة بين المسلمين، وهذا من الإضرار، ويجعل العلماء هذا الحديث وهذا الحكم مندرجاً تحت قاعدة: (الضرر يزال)، وليس من حقك أن تُضِرَّ بأخيك المسلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، فلا يرضى الإنسان لنفسه أن يُضَر من أخيه المسلم، وكذلك أيضاً لا يجوز له أن يضر بأخيه المسلم، وعلى هذا لا يجوز بيع المسلم على بيع أخيه لما ذكرناه.
وهذا بالنسبة لحالة التراكن.
لكن لو قال له: أبيعك هذا الثوب بمائة أو بعشرة -كما تقدم-، فقال المشتري: لا أريد، فقلت أنت: أبيعك ثوبي بتسعة أو بتسعة ونصف أو بثمانية صح؛ لأنه قال: لا أريد، فانصرف عن البيعة الأولى وانصرفت همته عن البائع الأول، فصرت أنت وإياه على حد سواء، ولا بأس في هذه الحالة أن تبيع وتعرض سلعتك؛ لأنه مأذون لك بالبيع إعمالاً للأصل.
قال رحمه الله: [وشراؤه على شرائه: كأن يقول لمن باعَ سلعةً بتسعةٍ: عندي فيها عشرةً].
كما لا يجوز بيع المسلم على بيع أخيه كذلك لا يجوز شراؤه على شراء أخيه، أي: يسوم على سوم أخيه المسلم فمثلاً: هناك عمارة أو أرض عرضها رجل للبيع، ولما عرضها جاء الناس يشترون ويسومون، فالسوم لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تعرض العمارة أو الأرض ويترك الخيار للجميع يسومون ويزيدون، مثل بيع المزايدة أو ما يقع في حراج السيارات من عرض السيارات للمزايدة، فيجوز لك في هذه الحالة أن تزيد الثمن على أخيك؛ لأنه بيع مزايدة، ولم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حرم بيع المزايدة.
وهناك حديث ضعيف: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزايدة)، لكنه حديث ردّه العلماء، وممن ضعفه الإمام البخاري رحمه الله، لكن يكون الإشكال إذا حصل البت بين البائع والشاري فيأتي آخر ويقطع بينهما، فلو عرضت السيارة مثلاً في الحراج وثبت السعر والمزاد، فلا يجوز لك أن تأتي وتقطع ما بين الطرفين، أي: إذا بتا ورضيا على أن السيارة تباع بعشرة آلاف فقد سام أخوك بعشرة آلاف ورضي البائع بيعها بعشرة آلاف، فلا يجوز في هذه الحالة أن تقول: أعطيك فيها خمسة عشر أعطيك فيها أحد عشر أعطيك فيها اثني عشر؛ لأنك سمت على سوم أخيك بعد التراكن، فبعد ركون البائع للمشتري وحصول الطمأنينة في الثمن لا يجوز أن تسوم على سوم أخيك، وعلى هذا حمل قوله: (ولا يَسِمُ المسلم على سوم أخيه)، (نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه)، أي: أخيه المسلم.
يبقى السؤال بالنسبة للذمي الكافر: فلو أن كافراً عرض سلعته بمائة وأنت سلعتك عرضتها بتسعين، وجاء رجل يريد أن يشتري من الكافر فقلت له: أنا عندي نفس السلعة بتسعين فظاهر الحديث تحريم بيع المسلم على بيع أخيه، وهذا مفهومه أنه إذا كان كافراً وليس من إخوانه -كما يقوله بعض العلماء- أنه يجوز أن يبيع على بيعه، وأن يسوم على سومه.
قال رحمه الله: [ليفسخَ ويعقد معه، ويبطل العقد فيهما].
أي: ليفسخ البائع الثاني بيع الأول ويعقد معه على سلعته وصفقته واللام للتعليل أي: من أجل أن يفسخ، ومراده بقوله (ليفسخ) أي: يفسخ البيعة الأولى لأخيه المسلم، أو من أجل أن يفسخ بالسوم الثاني السوم الأول، وهذا يدل على أن السوم الأول قد ثبت؛ لأنه قال: يفسخ، معناه: أنه إذا كان أثناء المزايدة وأثناء العرض أنه لا بأس به، فخِطْبة الرجل على خِطْبة أخيه المسلم، وبيعه على بيع أخيه المسلم، وشراؤه على شراء أخيه المسلم كله محرم، وشرطه إذا حصل التراكن، لكن لو أنهما امتنعا عن إتمام العقد فيجوز للثالث أن ينشئ عقداً جديداً، كما لو أن تقدم لها رجل فلم ترضه أو امتنعت فتجوز خطبة الثاني؛ لأنها لم ترض بالأول، وهكذا إذا لم ترغبه ولم تبت فيه ولم يحصل التراكن يجوز خطبة الثاني، لما ثبت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! إن معاوية بن أبي سفيان وأبا الجهم قد خطباني، فقال صلى الله عليه وسلم: أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فرجل لا يضع العصا عن عاتقه، انكحي أسامة)، فأمرها صلى الله عليه وسلم بنكاح الثالث، وهذا يفسر معنى قوله: (لا يبع على بيعه، ولا يخطب على خطبته) وهذا يكون في حالة التراكن والميل، أمّا إذا كان السوق سوق عرض، فقام أحدهم يصيح: بعشرة، والثاني يصيح: بتسعة، والثالث يصيح: بثمانية، فهذه أسواق المسلمين كلٌ يبيع سلعته ويعرض، ويصبح التنافس تنافساً شريفاً أو يكتب على محله السلعة بكذا، أو البضاعة الفلانية بكذا، فهذا تنافس شريف لا إشكال فيه.
فلما قال: (ليفسخ) دل على أن العقد الأول أوجب وتراكنا مع بعضهما، وأن الثاني دخل على الأول إمّا بيعاً وإمّا شراء ففي كلتا الحالتين يحرم، وهكذا بالنسبة للخطبة على الخطبة، كما سيأتي إن شاء الله في باب النكاح.
قال: [ويبطل العقد فيهما].
اختلف العلماء إذا باع على بيع أخيه أو سام على سوم أخيه فقال بعض العلماء: البيع الثاني باطل، كما هو مذهب الحنابلة والظاهرية وطائفة من أهل الحديث.
وقال جمهور العلماء: البيع الثاني صحيح، ولكنه يأثم ببيعه على بيع أخيه المسلم؛ لأن أركان البيع وشروطه تامة، وهذا ما يسمى بمسألة: هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه؟ والصحيح -كما ذكرنا غير مرة-: أن النهي إذا لم يرجع إلى ذات المنهي عنه فلا يقتضي الفساد، وأن هذا يعتبر من باب انفكاك الجهة، فنقول: البيع صحيح؛ لأنه اشترى بالقيمة من مالك حقيقي برضا الطرفين في شيء معلوم وتوفرت شروط صحة البيع، فالبيع صحيح ومأمور بإتمامه؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، لكن كونه أساء إلى أخيه المسلم وظلمه بالدخول عليه فهو آثم بهذا الفعل، وعلى هذا لا يحكم بفساد الصفقة الثانية، وهذا هو الصحيح.(149/8)
البيوع التي تفضي إلى الربا
قال رحمه الله: [ومن باع ربوياً بنسيئة واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة، أو اشترى شيئاً نقداً بدون ما باع به نسيئة لا بالعكس لم يجز].
قوله: [ومن باع ربوياً بنسيئة].
ذكر المصنف رحمه الله صورة من الصور التي يحرم فيها البيع لاشتماله على ما يفضي إلى الأمر المحرم وهو الربا، وصورة ذلك أن يبيع الطعام مثلاً بالنقد ثم يعتاض عنه بالطعام، والسبب في ذلك: أن الأصناف الربوية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يحرم فيه التفاضل والنَّساء.
القسم الثاني: ما يحرم فيه النَّساء ويجوز فيه التفاضل.
القسم الثالث: ما يجوز فيه الأمران.
والأصل في ذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مِثْلاً بمِثْل يداً بيد) فهذه الأشياء الستة التي اشتمل عليها حديث أبي الوليد عبادة بن الصامت رضي الله عنه تسمى عند العلماء بالأصناف الربوية الستة، وهي تنقسم إلى الثلاثة الأقسام: فهناك ما يجب فيه التماثل والتقابض، كبيع ذهب بذهب وفضة بفضة، كأن يباع واحد من هذه الأصناف الستة بمثله، كبيع ذهب بذهب أو فضة بفضة أو بر ببر.
إلى آخره، فيجب التماثل، فتبيع الكيلو الذهب بالكيلو الذهب، ويجب التقابض، يعطيك وتعطيه قبل أن تفترقا من المجلس، فهذا بالنسبة للنوع الأول.
النوع الثاني: ما يجوز فيه التفاضل ولا يجوز فيه النَّساء، وذلك بمقابلة واحد من هذه الأصناف بواحد من جنسه، مع اختلافٍ في الصنف، كبيع الذهب بالفضة، فإنك إذا بعت الذهب بالفضة يجوز التفاضل، فتبيع الكيلو من الفضة بنصف كيلو من الذهب، ويجوز أن تبيع المائة غرام من الذهب بثلاثمائة غرام من الفضة، فلا يشترط التماثل؛ لكن يجب أن تعطيه ويعطيك في نفس المجلس، فلو اشتريت الذهب بالريالات الموجودة الآن وافترقتما قبل أن يقبض منك فحينئذٍ يكون الربا المحرم، وهو ربا النسيئة، كذلك لو بعت براً بشعير أو بعت تمراً بملح، فإنه يجوز أن تبيع الصاع بالصاعين وتفاضل في الوزن والكيل؛ ولكن يجب أن يكون يداً بيد.
فلو باعه مائة صاع من التمر بألف ريال إلى أجل ما، فلما حضر الأجل قال له: ليست عندي المائة ريال؛ ولكن خذ بدل مائة صاع من تمر مائة صاع من شعير أو مائة صاع من بر، فإنَّ بيع الشعير بالتمر لا يجوز إلا يداً بيد، قالوا: فلو قَبِل منه الطعام عوضاً عن الذهب في هذه اللحظة لصار كأنه باع التمر الذي باعه أولاً بالمطعوم الثاني وهو البر؛ ولكن نسيئةً وهو أجل الدين الذي وقع بينهما.
توضيح ذلك: جاء رجل إلى أخيه فقال له: بعني هذه المائة صاع.
قال: بألف.
قال: أشتريها منك بألف إلى نهاية الشهر أو إلى نهاية الأسبوع، فتم البيع وأوجبه، فيجوز أن تدفع الذهب لقاء التمر مؤجلاً، فلا بأس فيه، وأن تشتري بالفضة مؤجلاً أو بالذهب مؤجلاً ما دام أنه طعام لقاء الثمن؛ لأن الجنسين مختلفان، ففي هذه الحالة إذا باعه التمر نسيئةً بنقد من ذهب أو فضة جاز، فلو جاء وقت السداد وأراد أن يحوله من الذهب أو الفضة إلى طعام، فقد حوَّله إلى صنفٍ ربوي لا يجوز أن يبيع التمر به نسيئة؛ لأن البيع الأول الذي وقع بينهما لم يقع يداً بيد وإنما وقع بنسيئة، فلو قبل منه الطعام في ذلك الوقت -أعني: في المراضاة الثانية- فقد صار الأمر كأنه قد باع الطعام بالشعير نسيئةً، وهذا معنى قوله: [واعتاض عن ثمنه بما لا يباع به نسيئة].
أما لو اشتريت بالذهب وقلت له: أعطني مائة صاع بنصف كيلو من الذهب، قال: قبلت، قلت: أعطيك النصف كيلو من الذهب في نهاية الشهر، فلما انتهى الشهر قلت: ليس عندي ذهب؛ لكن أصرف لك بمثله فضةً، جاز إذا كان يداً بيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكى له ابن عمر أنه يبيع الإبل بالذهب ويبيع بالدراهم ويأخذ الدنانير قال: (لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء) فأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم صرف الذهب بالفضة؛ لكن بشرط أن يكون ذلك في مجلس العقد، هذا معنى العبارة، وحينئذٍ يكون هذا النوع من البيع من بيوع الذرائع الربوية؛ لأن الربا ينقسم إلى قسمين: الربا المحض، والذي هو الأصل، سواءً كان من الأصناف المنصوص عليها أو المقيسة.
والربا الذي هو ذريعة، بمعنى: أن البيع يئول إلى الربا، وهذا كله إن شاء الله سنبسطه في باب الربا، نسأل الله التيسير، وأن يبلغنا ذلك.(149/9)
بيع العينة
قال رحمه الله: [أو اشترى شيئاً نقداً بدون ما باع به نسيئة] هذا بيع العينة (اشترى نقداً بدون ما باع به نسيئة)، فمثلاً باع رجل سيارةً إلى نهاية السنة بخمسين ألفاً وقيمتها نقداً بأربعين، فلما تم البيع إلى نهاية السنة جاء البائع وقال له: أنا أشتريها منك نقداً بأربعين، فأعطاه الأربعين فكأنه عاوضه عن الخمسين التي سيدفعها في نهاية السنة بأربعين نقداً وألغيت صورة البيع، وهذا ما يسمى ببيع العينة، وهو الذي ورد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع واتبعتم أذناب البقر سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) وهذا النوع من البيع جمهور العلماء على تحريمه، وهو يدل على أن الشريعة تنظر إلى حقيقة الأمر، فهنا عندنا صفقة وهي السيارة، فلو جئت واشتريت سيارة بخمسين ألفاً إلى نهاية السنة، فقد ثبت له عليَّ إلى نهاية السنة خمسون، فجاءني وقال: أعطيك أربعين ثمناً للسيارة، والسيارة فعلاً تستحق الخمسين إذا كانت إلى أجل وتستحق الأربعين إذا كانت نقداً، فأعطاني الأربعين، وأعطيته الخمسين وظاهر هذا ليس فيه ظلم، فهو لم يظلمني ولم أظلمه؛ لأن السيارة قيمتها حاضرة بأربعين وقيمتها إلى أجل بخمسين، لكن الأمر في الحقيقة آل إلى أني أخذت الأربعين لقاء الخمسين التي سأدفعها مقسطة أو أدفعها نقداً في نهاية السنة، وهذا عين الربا.
وعلى هذا فالربا منه ما هو ذريعة مثل الذي معنا، فإن صورة المسألة صحيحة؛ لأنك لو تأملت بيع العينة في الظاهر هو أنك تبيع السيارة بخمسين إلى نهاية السنة وتأخذ عنها أربعين نقداً فهذا ليس فيه إشكال؛ لكن الشريعة تنظر إلى ما آل إليه الأمر وهو أن اليد التي أخذت منها بخمسين وعاوضتك بالأربعين هي يد واحدة، فلو كانت مختلفة كأن تشتري من المعرض بخمسين ثم تذهب تبيعها نقداً بأربعين فلا بأس، وهذا سنبينه إن شاء الله.
وبناءً على ذلك: نفهم أن الشريعة قد تلغي صورة العقد إذا آل إلى الحرام، كما لو جئت مثلاً إلى مؤسسة وقلت له: أريد أن أشتري أثاث الزواج أو سيارة وذهبت وحددت السلعة وأتيت بفواتيرها أو كشوفها على أن يقوم الطرف الثاني بشرائها لك، فإن حقيقة الأمر في الظاهر حينما ترى أنه اشترى ثم حاز ثم باع إليك، ليس هناك شيء، لكن في الحقيقة كأنه دفع عنك المائة من أجل أن يقسطها عليك مائة وخمسين، فبدل أن يقول لك: خذ مائة ألف وردها مائة وخمسين، قال لك: أدفعها مائة ألف قيمة الأثاث أو غيره، وتدفعها أنت مائة وخمسين ألفاً، فآل الأمر في حقيقته إلى معاوضة على جهة الربا أعني: ربا التفاضل والنسيئة.
وعليه فإننا ننظر إلى حقيقة العقود؛ لأن المؤسسة حينما اشترت لم تشتر لنفسها، هذا أول شيء، ثانياً: أنها لم تشتر قبل أن يأتي هذا الرجل ويحدد لها السلعة ويأتيها بفواتيرها بل ويحدد لها المكان الذي تشتري منه، أو هي تحدد له المكان الذي يشتري منه، إذاً ليس هناك إطلاق لليد، ولو كان البيع على ثمنه وحقيقته لاشترته المؤسسة وأوجدت ذلك في مخازنها أو مستودعاتها ثم عاوضت مفاضلة وزيادة ولا بأس، لكن حينما يأتي المشتري ويقول: أريد السلعة الفلانية أو أريد السيارة الفلانية أو أريد المتاع الفلاني ويحدده ويحدد المكان الذي يشتري منه، ثم يقوم أو تقوم المؤسسة بالدفع عنه نقداً كانت حقيقة الأمر بدل أن يقول له: خذ المائة وردها بزيادة قال: سندفع المائة عنك على أن تردها بالزيادة، وعلى هذا فإننا لا ننظر إلى ظاهر الشيء دون أن ننظر إلى حقيقة ما فيه أو إلى ما يئول إليه أمره، وهو ما يسمى ببيوع الذرائع الربوية.
قال: (أو اشترى شيئاً نقداً بدون -أي: بأقل- ما باع منه نسيئة -الذي هو بيع العينة- لا بالعكس) فمثلاً: لو باعه نسيئة بخمسين وأخذ منه نقداً أربعين صار كأنها أربعين في مقابل خمسين؛ لكن لو أنه اشتراها نقداً بنفس الثمن الذي سيدفعها الآخر نسيئة فلا بأس، وهذا مذهب بعض العلماء، قالوا: لأن حقيقة الأمر لم يفاضله في النقد، أي: لو جئت تنظر لوجدت أن الخمسين في مقابل الخمسين فصارت كالدين، والدين يجوز إذا كان المبلغ الذي سيرده هو نفسه الذي أخذه فقالوا: في هذه الحالة تنتفي شبهة الربا فيجوز العقد ولا بأس بهذا النوع من البيع.
قال رحمه الله: [وإن اشتراه بغير جنسه أو بعد قبض ثمنه أو بعد تغير صفته أو من غير مشتريه أو اشتراه أبوه أو ابنه جاز].
وإن اشترى السلعة بغير جنسها، والأجناس عندنا جنسان: جنس أثمان، وجنس مطعومات، أو الأثمان والمثمونات، والمثمونات تشمل الأطعمة والعقارات والمنقولات الأخرى، فلو أنه باعه السيارة نسيئة إلى نهاية العام بمائة ألف ثم اشتراها منه ببيت أو بأرض فحينئذٍ لا توجد شبهة الربا؛ لأنه لا يئول الأمر إلى مبادلة أربعين بخمسين، وإنما آل الأمر إلى إدخال عين يجوز فيها التفاضل؛ لأن وجه التحريم وجود التفاضل بين الأربعين والخمسين؛ فإذا كان الذي اعتاض عنه وأدخله ثمناً مما يجوز فيه التفاضل حينئذٍ لا حرمة والأمر جائز.
توضيح ذلك: قلنا: لو باعه سيارة بخمسين إلى نهاية السنة فهذا بيع الأجل، واشتراها منه بأربعين نقداً، فآلت الحقيقة إلى أن الأربعين في مقابل الخمسين، وهذا لا يجوز؛ لأنه ربا الفضل، أما لو أنه اعتاض في البيع الثاني أي: جعل الثمن في البيع الثاني أرضاً أو سيارة فإن الثمن حينئذٍ خرج عن جنس الربويات التي يحرم فيها التفاضل، فيجوز حينئذٍ أن يقول له: هذه السيارة أشتريها منك بأرضية، أو أشتريها منك ببيتي، أو بمزرعتي؛ لأنه حينئذٍ يجوز التفاضل بين الثمن المدفوع وبين المثمن، وعلى هذا تنتفي شبهة الربا على الصورة التي أشار إليها المصنف رحمه الله بقوله: [وإن اشتراه بغير جنسه].
قال: [أو بعد قبض ثمنه].
لو أنك اشتريت السيارة بخمسين ألفاً إلى نهاية السنة ثم سددت المال وتم البيع وانتهى كل شيء فجاء البائع وهو صاحب المعرض واشتراها منك بأربعين جاز؛ لأنه قد أوجب البيع الأول ومضى، وحينئذٍ يجوز أن يشتري؛ لأنه بيع مستأنف، لكن لو اشترى منك قبل أن تسدد فمعنى ذلك أن يقع الربا في صورة المعاوضة كأنه دفع لك الناقص النقدي في مقابل الزائد إلى أجل.
قال: [أو بعد تغير صفته].
أي: تغيرت صفة المبيع، فمثلاً: باعه بيتاً بمائة ألف إلى نهاية العام وتغيرت صفة المبيع فأنقصت الثمن، فنقصان الثمن هنا ليس من أجل شبهة الربا وإنما من أجل نقصان المثمن فانتفت الشبهة، وبعض العلماء يمنع حتى ولو نقص عين المبيع لوجود عيب أو وجود ضرر فيه كتهدم الدار أو تغير السيارة أو حصل له حادث في السيارة فأنقص قيمتها فعاوضه عليها نقداً بقيمتها قالوا: إن النقص هنا ليس لقاء الأجل، وإنما من أجل ضعف السلعة أو قلة قيمة السلعة بما طرأ فيها من العيوب الموجبة للنقص.(149/10)
حكم بيع التورق
قال: [أو من غير مشتريه].
كأن تشتري من المعرض السيارة بمائة ألف إلى نهاية السنة أو بمائة ألف مقسطة ثم تذهب وتبيع لطرف آخر، وهذا ما يسمى ببيع (التورق) وهو أن تشتري السلعة لا لذات السلعة وإنما من أجل الورق، ومثاله: أن تطرأ عليك ظروف، كأن يكون الإنسان محتاجاً لزواج أو محتاجاً لسداد دين أو محتاجاً لعلاج فلا يستطيع أن يذهب إلى الناس ويطلب منهم الدين أو لا يجد من يدينه، فيذهب ويشتري سيارة ويقسطها ويأخذ هذه السيارة بمائة ألف مثلاً، ثم يبيعها نقداً إلى غير المعرض الذي اشترى منه أو إلى غير الشخص الذي اشترى منه، فيجوز حينئذٍ ولا بأس، سواءً باع بنفس القيمة أو بأقل أو بأكثر، والسبب في هذا أنه لا شبهة للربا في هذا النوع من البيوع؛ لأنك حينما تشتري السيارة بمائة ألف إلى نهاية السنة، فإنه يجوز زيادة المال لقاء الأجل في البيع، وبيع التقسيط جماهير السلف والخلف على جوازه؛ لأن هناك نصوصاً قوية تدل على جوازه، ومنها: مكاتبة العبيد في القديم، قال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] والكتابة كانت بالأقساط، وتكون قيمته مفاضلة لقاء الأجل، والدليل حديث بريرة مع عائشة رضي الله عنها وأرضاها في قصتها فإنه كاتبها أهلها بالأقساط وقالت لها عائشة: (إن شئت نقدت الثمن)، وهذا بيع إلى أجل بأقساط، وعلى هذا فإننا نقول: لا بأس أن تبيع حاضراً وأن تبيع إلى أجل بالتقسيط؛ لكن بشرط أن يفارقك بعد أن يبت البيع، وسنبين هذه المسألة في مسألة بيعتين في بيعة، والتي سيذكرها المصنف في الباب الذي يلي هذا الباب، إن شاء الله.
إذاً لو أن رجلاً باع السيارة إلى غير المعرض الذي اشترى منه، فإنه يجوز حينئذٍ؛ لأنه لا شبهة في هذا النوع من البيع، وقال بعض العلماء: بتحريم هذا النوع من البيع، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، قالوا: لأنه في هذه الحالة كأنه يأخذ المعجل الذي هو الأربعين ألفاً في مقابل المؤجل الخمسين، فيصبح كأنه يعاوض مع التفاضل؛ ولأنه لم يشتر السلعة لذاتها وإنما اشتراها من أجل المال، ولذلك سموها (مسألة التورق)، وجمهور العلماء على الجواز، وكان شيخ الإسلام رحمه الله يفتي بالتحريم، وروجع في هذه المسألة أكثر من مرة، والذي يظهر رجحان مذهب الجمهور لما يلي: أولاً: لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] وقد ذكرنا أن العلماء قالوا: إن هذه الآية عامة وهي حجة لكل من يقول: البيع صحيح وجائز حتى يقوم الدليل على التحريم.
ثانياً: أما التعليل عند من يحرمه بأنه إنما يريد الخمسين المعجلة لقاء المائة المؤجلة فنقول: إن شراء السلعة من أجل الثمن لا بأس به إذا كان طرفا العقد في البيع الأول والثاني مختلفين.
وتوضيح ذلك: أننا لو قلنا: إن العلة كونه يشتري من أجل المال لحرمت التجارات كلها؛ لأنه ما من تاجر يشتري السلعة إلا وهو يريد المال ولا يريد السلع، فهو حينما يشتري ألف كيس من الأرز مثلاًً، أو مائة كيس من البر فإنه لا يريد البر ولا الأرز؛ وإنما يريد أن يدفع الألف لقاء ألف وخمسمائة يكسبها، أو يشتري مثلاً سيارات بمليون وهو لا يريد السيارات ولا يريد أن يركبها كلها؛ وإنما يريد أن يبيع هذه التي اشتراها بالمليون بربح.
فلو قلنا: إن شراء السلعة من أجل المال سواء كان بالأقل ومعاوضة بالأكثر أو بالأكثر ومعاوضة بالأقل يقتضي التحريم لحرمت التجارات، وعلى هذا: ضعفت هذه الشبهة وهي قولهم: إنه اشترى من أجل المال وأخذ الكثير وعاوض بالقليل، وهذه صحيح في حال لو كان الشخص الذي تشتري منه وتبيع له واحداً، لكن إذا اختلف الشخصان فحينئذٍ انتفت شبهة الربا، وحل لك أن تشتري بالكثير وتبيع بالقليل، كما حل للتاجر أن يشتري بالقليل ويبيع بالكثير؛ لأنك إذا اشتريت السيارة مقسطة تشتريها بالكثير، ويكون سعرها مقسطاً أعلى من سعرها نقداً، فحينئذٍ تبيعها وتأخذ القليل، فكأنك اشتريت بالكثير ورضيت بالقليل، اشتريت بالكثير الذي هو إلى أجل، وبعت بالقليل الذي هو النقد، والتاجر عكسك.
والربا -كما تعلمون- إذا كان في النقد وهو الريالات يستوي أن يشتري بالقليل ويبيع بالكثير أو يشتري بالكثير ويبيع بالقليل؛ لأن الربا واقع في الاثنين وهو ربا الفضل، فلو قيل: إن هذا من الربا لاقتضى هذا تحريم التجارة؛ لأنه يشتري بالخمسين ويبيع بالستين، يشتري بالقليل ويبيع بالكثير، ولذلك ذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى جواز هذا النوع من البيع بشرط أن تكون الصفقة لشخصين مختلفين.
لكن لو أنه اشترى السيارة من المعرض بمائة ألف إلى نهاية السنة، وجاء رجل هو وكيل لصاحب المعرض يريد أن يشتريها منه نقداً بأقل حرم البيع، فيستوي أن يبيع على صاحب المعرض أو يبيع على وكيل يوكله صاحب المعرض؛ لأنه من جنس ما ذكرناه من الربويات.
قال: [أو اشتراه أبوه أو ابنه جاز] مثلاً: إذا جاء المحتاج واشترى سيارة من المعرض بمائة ألف إلى نهاية السنة، فإذا اشتراها منه صاحب المعرض قلنا: لا يجوز، يرد
السؤال
ما الحكم إذا اشتراها والد صاحب المعرض أو ابنه؟ والسبب في تخصيص الأب والابن أن الشرع جعل الأب والابن كالشيء الواحد، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) ولذلك لا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) فجعل الابن والأب كالشيء الواحد، فهل إذا باع إلى والد صاحب المعرض أو إلى والد الذي باعه نسيئة وأراد أن يشتري منه نقداً فهل يكون بمثابة بيعه على صاحب المعرض نفسه أم أن الأمر يختلف؟ قال بعض العلماء: إذا باع إلى والده أو باع إلى ابنه جاز، كما درج عليه المصنف رحمه الله.(149/11)
الأسئلة(149/12)
قياس البيع بعد النداء في الصلوات الخمس على يوم الجمعة
السؤال
هل يصح أن نقيس تحريم البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة على جميع الصلوات الخمس؟ وهل نقول بحرمة البيع بعد الأذان، أم بعد الإقامة، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأما إبطال البيع بعد الأذان للصلوات الخمس فلا يقول به أحد من العلماء رحمهم الله، والبيع صحيح في غير الجمعة، وهذا بإجماع العلماء.
وأما بالنسبة لمتى يمضي فهذا فيه تفصيل عند العلماء: أنه إذا نودي للصلاة عليه أن يتعاطى الأسباب لإجابة داعي الله عز وجل وإدراك الجماعة، وأنه إذا تعاطى الأسباب المؤدية لفوات الجماعة عليه كان كالمتخلف عن الجماعة وحكمه في الإثم كحكم من ترك الجماعة؛ لأنه تعاطى أسباب التقصير فيتحمل الإثم من هذا الوجه.
وأما مسألة هل يجيب بعد الأذان أو يجيب بعد الإقامة، أو يلزمه السعي بعد الأذان أو بعد الإقامة؟ فهذا يختلف باختلاف البعد والقرب إلى المسجد؛ لكن إذا نهُي الناس عن البيع بعد الأذان فمنعهم المحتسب أو ولي الأمر يأتمرون؛ لأن هذا يعتبر من المصالح المرسلة، ولولي الأمر ذلك في باب المصالح المرسلة تحقيقاً لفريضة؛ لأنه إذا كانت لأمر ضروري وفريضة واجبة صارت واجبة؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتساهل الناس، ولربما أُقيمت الصلاة وهم يتبايعون ويشترون، ولا شك أن المصلحة العظيمة في إصلاح أمور العباد أن يقيموا فريضة الله عز وجل، والله أمرهم بإجابة النداء، وعلى هذا فإنه إذا نهُي الناس بعد الأذان أو نهُوا بعد الإقامة، فهذا أمر يرجع إلى المحتسب؛ لأن الوقت الذي بين الأذان والإقامة -في الغالب- يستغل للطهارة وللوضوء، خاصة وأن المساجد تزدحم في دورات المياه في هذا الوقت، وهذا يحتاج إلى احتياط وقت كافٍ، فكونه يقدر هذا الوقت من باب المصالح هذا أمر لا شك أنه إن شاء الله يراد به مصالح الناس وصلاح أمور دينهم، وهو من الغيرة على فريضة الله التي فرض على عباده.
أما بالنسبة للبيع فالبيع صحيح بعد الأذان، وصحيح بين الأذان والإقامة.
والله تعالى أعلم.(149/13)
حكم البيع بأقل مما في السوق
السؤال
ما حكم قول بعض التجار للمشتري: اذهب وانظر في السوق ولك أقل من السوق أو أقل منه بكذا، فهل هذا من بيع المسلم على بيع أخيه، أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة لهذا النوع لا يعتبر من بيعه على بيع أخيه، كما لو قال له: أبيعك إياها بعشرة وإنها في السوق لبعشرين، أو أبيعك إياها بتسعة وإنها في السوق لبعشرة، فبدل أن يخبره قال له: اذهب بنفسك؛ لأنه لو أخبره ربما شك في صدقه، فأراد منه أن يذهب بنفسه ويتأكد، فهذا لا بأس به، والبيع صحيح، ولا يعتبر هذا من بيعه على بيع أخيه؛ لأنه لم يقع بيع للأطراف الثانية، فهو الأول والبيع الذي بينه وبين الطرف الذي يريد أن يشتري هو البيع الحقيقي، وما عداه تبع ووقع بعده وليس بمؤثر ولا يضر.
والله تعالى أعلم.(149/14)
حكم بيع البلح مع عراجينه
السؤال
ما حكم شراء البلح إذا وزن بعراجينه، أثابكم الله؟
الجواب
إذا بيع البلح وزناً لا يجوز أن يباع بالعراجين، ولا يباع في (الشماريخ) و (الشمروخ) الذي يكون من العرجون؛ والسبب في هذا أنه يزيد الوزن، وتصبح الثمار وهي حبات البلح مجهولة القدر؛ لأنه دخل عليها العذق ودخلت (الشماريخ) ووزنها مجهول، فلم نعلم كم وزن البلح؛ لأنك لا تريد (الشماريخ) ولا تريد العرجون وإنما تريد البلح نفسه وتريد التمر نفسه، فلا يجوز بيع البلح في (الشمروخ) وزناً، لكن لو قال له: هذا (الشمروخ) أبيعكه بمائة: صح؛ لأنه باعه عدداً ولم يبعه وزناً، فهناك فرق بين المسألتين: فإذا قال له: أبيعك إياه وزناً الكيلو منه بعشرة، ولا ندري كم وزن البلح من وزن (الشماريخ) والعرجون، فأصبح المبيع وهو البلح مجهول الوزن، كما لو قال له: أبيعك هذا الشيء الذي هو داخل العلبة أو داخل الكرتون الكيلو بكذا، فإن الكرتون لا ندري كم يزن، ولذلك تجدون في السلع دائماً يكتب -وهي من الأمور الطيبة المحمودة والموجودة هنا- الوزن الصافي كذا؛ لأنه لما يقول لك: الوزن الصافي أخرجك من الجهالة، لكن لو أعطاك وزن الماعون نفسه بالسمن الذي فيه، أو الماعون بالعسل الذي فيه صار جهالة للوزن، والجهالة للمبيع تقدم معنا أنها توجب الفساد.
وأما إذا قال له: أبيعك هذا (الشمروخ) بمائة، فمعنى ذلك أنه وقع البيع على الكل؛ لأنه قد يأخذ (الشمروخ) وينتفع به، كأن يعطى علفاً للغنم فالبيع وقع على الاثنين معاً، فأنت تريد (الشمروخ) وتريد أيضاً العرجون ولم يدخل شيء مجهول في الوزن ولا في الكيل، وحينئذٍ البيع خرج عن الوزن والكيل وأصبح بالعدد فيجوز، ومن هنا يفرق في بيع التمر والبلح في (الشماريخ) بين أن يقال له: خذ هذا (الشمروخ) بمائة، فيقع البيع على الكل، وبين أن يبيعه إياه وزناً.
والله تعالى أعلم.(149/15)
الجمع بين قوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) وحديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)
السؤال
كيف نجمع بين قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)، أثابكم الله؟
الجواب
السعي في لغة العرب يطلق على معنيين: سعى إذا مضى، وسعى إذا اشتد في مشيه، فسعى بمعنى مضى تقول: سعيت إلى زيد، أي: ذهبت إليه ومضيت إليه، ولذلك القراءة الثانية تفسر هذه القراءة وهي قراءة: (فامضوا إلى ذكر الله) (امضوا) بمعنى اذهبوا، فيكون قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] أي: امضوا إلى ذكر الله، وليس المراد به الإسراع، الذي هو الرمل أو المشي باشتداد.
وأما بالنسبة للمعنى الثاني: وهو السعي والجري والهرولة، فهذا منهي عنه كما في الصحيح من حديث أبي هريرة: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)، (إذا أقيمت الصلاة -هذا عام- فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، هنا قد يقول البعض: إن الحديث يقول: (إذا أقيمت الصلاة) في الآية قال: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) فيكون السعي إذا نودي للصلاة أي: صلاة الجمعة عند الأذان الأول، والمنع من السعي عند الإقامة، وهذا ضعيف؛ لأنه إذا مُنع من السعي عند الإقامة والحاجة أشد فمن باب أولى أن يمنع عند الأذان؛ لأن من فاتته الخطبة وأدرك الصلاة صحت جمعته وأجزأته، فهذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، فإذا كان يحرُم عليك السعي للصلاة وأنت عند الإقامة، فمن باب أولى أن يحرم عليك وأنت بين الأذان والإقامة ويحرم عليك أثناء الأذان، وهذا مبني على علة بينها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (فإن أحدكم إذا عمد إلى المسجد فهو في صلاة)، (فإن أحدكم) جملة تعليلية، فكأنك إذا خرجت إلى المسجد تريد أن تصلي فأنت في صلاة، والمصلي لا يعبث، وعليه أن يمشي وعليه السكينة ويمشي مشياً يليق بما هو قاصد إليه من الوقوف بين يدي الله وأداء الفريضة التي أوجب الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيّه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(149/16)
شرح زاد المستقنع - باب الشروط في البيع [1]
دلت الأدلة من الكتاب والسنة والآثار على مشروعية الشروط في البيع، والشروط في البيع منها ما هو صحيح وأذن الشرع به، فمنها ما يكون من مقتضيات العقد، أو مما يعين على إمضائه، أو مما اشتمل على منفعة لا دليل على تحريمها، سواء كانت منفعة للبائع أو منفعة للمشتري أو لهما معاً، أما الشروط غير الصحيحة فهي ما كانت مخالفة للشرع، وقد يترتب عليها أحياناً فساد البيع بالكلية.(150/1)
تعريف الشروط وأقسامها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشروط في البيع] الشروط: جمع شرط، وقد بينا تعريف الشرط لغة واصطلاحاً.
وقلنا: إنه في اللغة: العلامة، ومنه الشرطة وهي العلامة على الشيء.
وأما في الاصطلاح: فالشرط هو الذي يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود، ومثلنا لهذا بالطهارة في الصلاة، فإنه إذا انتفت الطهارة انتفت الصلاة ولا يجوز لك أن تصلي، وإذا وجدت الطهارة فلا يستلزم من وجودها وجود الصلاة فقد تتوضأ ولا تصلي.
وقوله: (باب الشروط في البيع) الشروط في البيع تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: شروط شرعية.
القسم الثاني: شروط جعلية.
أما الشروط الشرعية: فهي الأمارات والعلامات التي نصبها الشرع للحكم بصحة البيع، كما تقدم معنا ومنها: أن يكون البائع مالكاً للمبيع وأن يكون المشتري مالكاً للثمن أو مأذوناً له بالتصرف، فإذا تخلفت الملكية كما لو أن رجلاً باع شيئاً لا يملكه، فلا يصح البيع، وكذلك أيضاً إذا باع بدون رضاً كأن يكره أو غصب منه فلا يصح البيع.
إذاً: الشرط كأنه علامة على الصحة متى ما وجد حكمنا بالصحة، وهذا النوع من الشروط شروط شرعية؛ لأن الكتاب والسنة نصا على علامات وأمارات ينبغي توفرها في البيع، فمثلاً: قال سبحانه وتعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فقال: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فاشترط الرضا، فهذا يدل على أنه لا يصح البيع إلا بالرضا، كذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر فنقول: من شرط صحة البيع أن يكون الثمن والمثمن معلوماً لا غرر فيه ولا جهالة.
وهذه الشروط الشرعية سبق الكلام عليها، وتبقى الشروط الجعلية، والشروط الجعلية: هي الشروط التي يدخلها البائع أو المشتري أو هما معاً في صفقة البيع، فمثلاً يشترط المشتري ويقول: أشترط عليك أن توصل هذا الشيء إلى بيتي، كأن يشتري طعاماً ويقول لصاحب المطعم: أشترط أن تحضره إلى بيتي الساعة التاسعة مثلاً، فهذا بيع وفي هذه الحالة اشترط عليه أن يحضره إلى بيته، أو اشترى ثلاجة واشترط على البائع أن يحملها إلى بيته، أو اشترى سيارة واشترط على البائع أن يوصلها إلى مدينته، كأن يكون اشتراها في جدة وهو مقيم في مكة فيقول: أشترط أن توصلها إلى مكة.
أو يشترط البائع على المشتري ويقول له: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف بشرط أن تدفعها نقداً أو يقول له: أبيعك هذه السيارة أو هذه الثلاجات أو الغسالات أو الأثاث الذي تريد أن تشتريه بعشرة آلاف مقسطة، كل شهر تدفع ألفاً؛ ولكن بشرط أن تحضر كفيلاً مليئاً يكفلك، أو كفيلاً غارماً أو تحضر لي رهناً، بحيث لو تعذر السداد أبيعه وآخذ الذي لي عليك، فهذا شرط من البائع على المشتري.
فعندنا شروط من البائع على المشتري، وشروط من المشتري على البائع، وقد تقع مقابلة، فيشترط البائع، ويشترط المشتري، ويسمي العلماء هذا النوع من الشروط بالشروط الجعلية، أي: هي في الأصل ليست موجودة في العقد وإنما جعلت في العقد، اشترطها كل منهما إما لمصلحته أو لمصلحة البيع إمضاءً له، كأن يشترط لمصلحته ويقول: أشترط أن يكون البيت فيه كهرباء، فهذا لمصلحته حتى ينتفع بالبيت، أو أشترط في هذه الأرض أن يكون لها صك، فهذا لمصلحته حتى إذا نوزع في هذه الأرض يستطيع أن يثبت ملكيته عليها، وغيرها من الشروط التي يقصد بها مصلحته، وقد تشترط الشروط لإتمام البيع وتكون لمصلحته كالرهن، كما سيأتي إن شاء الله، وقد تكون الشروط من مقتضيات العقد.
فهذه الشروط لما كان الناس يتعاملون بها وتقع بين الناس احتاج العلماء عند بيانهم لأحكام البيع أن يبينوا أحكام هذه الشروط، فهناك شروط أذن الله بها ويجب على البائع والمشتري أن يمضياها، وهناك شروط حرمها الله عز وجل ولم يأذن بها، وهذا الذي حرمه الله عز وجل منه ما يوجب فساد البيع، أي: إذا وجد يفسد الشرط ويفسد البيع، ومنها ما يكون فاسداً في نفسه لكنه لا يفسد البيع، فنقول: البيع صحيح وعلى البائع أن يمضي الصفقة وعلى المشتري أن يمضي الصفقة؛ ولكن يسقط هذا الشرط فوجوده وعدمه على حد سواء.
هذه الشروط الجعلية مهمة جداً وطلاب العلم يحتاجون إلى معرفة أحكامها وبيان ما الذي يترتب على الشرط المشروع، وما الذي يترتب على الشرط الممنوع، وعلى هذا قال المصنف رحمه الله: [باب الشروط في البيع] وهناك فرق بين قولنا: (باب شروط البيع) وبين قولنا: (باب الشروط في البيع)، فشروط البيع هي الشروط الشرعية، والشروط في البيع هي التي يدخلها المتعاقدان أو أحدهما، أو تقول: يدخلها أحد المتعاقدين أو هما معاً، ولذلك لو سئلت: ما الفرق بين شرط الشيء والشرط في الشيء؟ تقول: شرط الشيء: هو ما نصبه الشرع من أمارة وعلامة لصحته أو وجوبه، ومن الأمثلة على ما يكون لوجوبه: أن الزوال شرط لوجوب صلاة الظهر، ومن الأمثلة على ما يكون لصحته: أن الطهارة شرط لصحة الصلاة وأما الشرط في الشيء فتقول: هو ما يدخله المتعاقدان أو أحدهما، سواء المتعاقدان في بيع، أو المتعاقدان في نكاح، فالآن لو تعاقد شخص مع ولي امرأة قال له: زوجتك بنتي بعشرة آلاف، تدفع خمسة آلاف نقداً، وخمسة آلاف إلى أجل، فهذا شرط في النكاح، ويسمى: (شرطاً في النكاح) ولا يسمى: (شرطاً للنكاح)، فهذا معنى قول المصنف: [باب الشروط في البيع] كأنه يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالشروط التي تكون بين المسلمين في بيوعاتهم.
والشروط الكلام فيها في مواضع: الموضع الأول: ما هو موقف الشرع من الشروط في البيع؟ نقول: دلت الأدلة على مشروعية الشروط في البيع، والدليل الأول: قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فإن هذه الآية الكريمة ألزم الله فيها المتعاقدين بالوفاء بالعقد، والعقد هنا مطلق يشمل العقد المشتمل على الشروط والعقد الذي لا شرط فيه، فإذا اشترط عليه فكأنه من العقد، وعلى هذا يكون قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] أي: أمضوها بشروطها إذا كانت مشروعة.
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) فهذا يدل دلالة واضحة على أنه ينبغي للمسلم أن يفي بشرطه، وأنه يلزمه أن يفي لأخيه المسلم بما اشترط على نفسه تجاهه، ولا يجوز له أن يختله ولا أن يخدعه ولا أن يغشه وعليه أن يمحضه النصيحة بالوفاء له.
وكذلك أيضاً دل دليل الأثر فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في كلمته المشهورة: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، أي: إذا أردت أن تقطع الحق فتعطي مال الناس للناس، وتأخذ مالك من هذه الحقوق فإنما يكون بالشروط، فإذا كان بينك وبين أخيك المسلم شرط ووفيت له الشرط على أتم الوجوه وأكملها فقد قطعت له حقه كاملاً، وعلى هذا (مقاطع الحقوق عند الشروط) معناه: أنه يلزم المسلم إذا أراد أن يؤدي حق أخيه المسلم أن ينظر ما الذي اشترطه على نفسه تجاهه فيؤدي له ذلك الشرط كاملاً تاماً.
وأداء الشروط والقيام بها من النصيحة، والله عز وجل أوجب على المسلم أن ينصح لأخيه المسلم.
ومن الغش أن يشترط عليه ويقول له: هل السيارة من نوع كذا؟ قال: من نوع كذا، فجاء فإذا السيارة ليست كما قال، فمعنى ذلك أنه غشه وأنه كذب عليه، والغش والكذب لا يأذن الله بهما، وإذا وفى له وأدى له الأمر كما اتفقا فقد صدق وبيَّن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما) فالله يبارك لك في المال الذي تأخذه ويبارك لك في الصفقة التي تأخذها إذا وفيت بشروطها، وعلى هذا أجمع المسلمون من حيث الجملة على جواز الشروط في البيع.
والشروط في البيع تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: ما هو صحيح وأذن الشرع به.
القسم الثاني: ما هو غير صحيح ولم يأذن الشرع به، بل هو يخالف الشرع ويضاده.
فأما الشروط الصحيحة: فهي التي تكون من مقتضيات العقد أو مما يعين على إمضاء العقد، أو مما يشتمل على منفعة لا دليل على تحريمها وأذن الله عز وجل بها، سواءً كانت منفعة للبائع أو منفعة للمشتري أو لهما معاً، فهذه ثلاثة أنواع للشروط الصحيحة، والشروط الصحيحة هي الأساس، والأساس أننا إذا قلنا: إن الشروط مشروعة فالمراد منها ما لم يعارض الشرع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) وذلك أن بريرة رضي الله عنها لما جاءت إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها وأخبرتها أن أولياءها قبلوا من عائشة أن تدفع الثمن -ثمن بريرة - ويكون ولاء بريرة لهم، وهذا خلاف الشرع؛ لأن الشرع أن من أعتق الأمة أو العبد فالولاء له؛ لقوله صلوات الله وسلامه عليه: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، إنما الولاء لمن أعتق) فالولاء لمن أعتق، فهم خالفوا الشرع وقالوا: الولاء لنا وهم لم يعتقوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) فدل هذا الحديث على أن من الشروط ما ليس من كتاب الله عز وجل، ومفهومه: أن ما كان منها موافقاً لكتاب الله وموافقاً لشرع الله فليس بباطل بل هو صحيح، ومن هنا: اصطلح العلماء على تقسيم الشروط إلى: شروط شرعية، وشروط غير شرعية، وهي الشروط المشروعة والشروط الممنوعة.(150/2)
الشروط الصحيحة في البيع
فقال المصنف رحمه الله: [منها صحيح كالرهن] [منها] أي: من الشروط ما هو صحيح، والصحيح ضد الفاسد والباطل، وهذا الصحيح لا يحكم بصحته إلا إذا وافق الشرع، ولا نحكم بصحة الشيء إلا إذا وافق الشرع ولم يشتمل على محذور يعارض كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والشروط الصحيحة تنقسم إلى الثلاثة الأقسام التي ذكرناها وهي:(150/3)
الشروط التي تكون من مقتضيات العقد
النوع الأول: ما يكون من مقتضيات العقد ومستلزماته، فالآن مثلاً: حينما تشتري السيارة من المعرض قال لك: أبيعك هذه السيارة بخمسين ألفاً نقداً، فقلت: قبلت، فالأصل يقتضي أنك إذا دفعت الخمسين تستلم السيارة، ويقتضي أيضاً أنك إذا استلمت السيارة تدفع الخمسين، فصاحب المعرض يطالبك بالخمسين وأنت تطالبه بالسيارة، فلو قال صاحب المعرض: أشترط أن تكون الخمسين نقداً وتكون يداً بيد، ولا أقبلها شيكاً، ولا أقبلها إلى أجل، ويشترط عليك في نفس المجلس، فحينئذٍ يجب عليك أن تحضر الخمسين وتعطيه إياها في نفس المجلس، فهذا شرط يقتضي تسليم الثمن، وتسليم الثمن من مستلزمات البيع، فإذا اشترط صاحب المعرض أن يأخذ حقه حالاً فقد اشترط شيئاً من مقتضيات العقد.
كذلك لو قلت له: أنا أشتري منك هذه السيارة بخمسين ألفاً؛ ولكن بشرط أن أخرجها الآن، فإنه إذا تم البيع من حقك أن تأخذ السلعة مباشرةً، فكأن هذا الشرط هو موجود في العقد؛ لكن كونك تشترطه وتلزم به المعرَض؛ لأنه قد يجري العرف بتأخيرها يوماً، وقد يجري العرف بتأخير السيارة ثلاثة أيام في المعرض، والمعروف عرفاً كالمشروط لفظاً، وبناءً على ذلك: تريد أن تخرج من هذا العرف فتقول: أشترط أن أستلمها حالاً، فيكون اشتراطك لاستلام السيارة حالاً، أو اشترطت أن العمارة تستلمها حالاً -يُخْرِج منها متاعَه، ويخرج منها أغراضه، وتستلمها- فهذا من حقك، أو تقول له: أشترط أن يكون الإفراغ فورياً، والإفراغ الفوري من مقتضيات العقد فهو يمكنك من بيعها، ويمكنك من حقك، وتحس أن حقك بيدك؛ لكن لو تأخر الإفراغ وطرأ أي شيء على الصفقة تتضرر أنت، وأيضاً لو جئت تعرضها للبيع وعلم المشتري أنها لم تفرغ لك بعد، فلا يمكن أن يقبل، وقد يتأخر في القبول.
إذاً: هذه الشروط التي تكون من مقتضيات العقد؛ كتسليم الثمن، والتعجيل به، أو تسليم المثمن، والتعجيل بالتسليم من الشروط المشروعة.(150/4)
الشروط التي تكون من مصلحة إمضاء العقد
النوع الثاني: الشروط التي يقصد منها مصلحة أو إمضاء العقد، أو تتضمن مصلحة العقد، فمثلاً: لو جاء رجل وقال لك: أريد أن أشتري منك هذه الأرض بمائة ألف إلى نهاية السنة، أو أعطيك خمسين ألفاً في منتصف السنة وخمسين ألفاً في نهاية السنة، فهذا بيع أجل، ومن مصلحة العقد حتى يتم ويستوثق صاحبُ الحق بحقه أن يقول له: قبلت؛ ولكن أشترط الرهن، أو أشترط أن ترهن لي شيئاً أستوثق به من حقي، فلو جاء الوقت المحدد ولم تسدد لي حقي أجد ما أسدد به الحق.
فكأن الرهن إذا وُجِد من مصلحة العقد؛ لأن بيع الرهن يتمم الصفقة؛ لكن لو أنك أعطيته ديناً بدون رهن وجاء في نهاية السنة وصار معسراً ألْزِمت بالانتظار {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، وعلى هذا يكون الشخص حينما يشترط الرهن كأنه يستوثق من حقه، ويكون هذا من مصلحة العقد؛ لأن وجود هذا الرهن يمكِّن من إمضاء الصفقة، فإذا لم يستطع دفع الثمن عند انتهاء الأجل بعتَ الرهن وأخذتَ حقك فمضى البيع؛ لكن لو أنه أُنْظِر وطرأ ما يوجب فساد البيع فهذا يختل به العقد، فكأن شرط وجود الرهن من مصلحة العقد، أي: مما يعين على إمضاء العقد لا إلغائه.
قال رحمه الله: [منها صحيح كالرهن] أي: منها شروط صحيحة كالرهن.
وهنا مسألة: ذكرنا من أن الشروط المشروعة ما كان من مقتضيات العقد وما كان من مصلحة العقد، فلماذا اقتصر المصنف على قوله: (منها صحيح كالرهن) وذكر الذي هو من مصلحة العقد ولم يذكر الذي هو من مقتضيات العقد؟
و
الجواب
أن الذي من مقتضيات العقد معلوم بداهةً؛ لأنه من مقتضيات العقد، فلو قال له: تسلم فوراً، أو أشترط أن تكون نقداً، أو قال المشتري: أشتري منك؛ لكن بشرط أن تمهلني شهراً أو شهرين أو ثلاثة، هذا يعتبر من الأمور المعلومة بداهةً إذا اشترط عليه النقد والفورية.
قال: [منها صحيح كالرهن وتأجيل الثمن].
فعندنا مثالان: المثال الأول: الرهن.
المثال الثاني: تأجيل الثمن.
وهذا إذا تأملته وجدت فيه دقة للمصنف وحسن ترتيب؛ لأن قوله: (منها صحيح كالرهن) هذا نوع يتعلق بالبائع، أي: أن يشترط البائع على المشتري الرهن، أما قوله: (وتأجيل الثمن) يشترطه المشتري على البائع، فذكر النوعين، فلو قال: (منها صحيح كالرهن) وسكت، لظن ظان أن الشرط الصحيح يكون من البائع على المشتري فقط ولا يكون من المشتري على البائع، فجاء بالاثنين؛ جاء بشرط صحيح من البائع على المشتري من مصلحة العقد وهو الرهن، وجاء بشرط صحيح من مصلحة المشتري وهو قوله: (تأجيل الثمن)، أي: يشترط أن يكون الثمن مؤجلاً، والشرطان كلاهما صحيح وجائز، فإن باعه إلى أجل أو برهن صح.
فلو قال البائع: بعتك هذه الأرض من هذا المخطط بمائة ألف، وقال له المشتري: أشترط أن تكون إلى نهاية السنة، فهذا شرط من المشتري على البائع، فقال له البائع: قبلت، بشرط أن تحضر لي كفيلاً غارماً، فصار الشرط من البائع اشتراط الكفيل الغارم، والشرط من المشتري اشتراط التأجيل، فاشترط البائع الكفيل الغارم استيثاقاً لحقه، واشترط المشتري تأجيل الثمن رفقاً بنفسه، وعلى هذا يكون كل منهما قد اشترط على الآخر شيئاً هو من مصلحته، ومما يعين أيضاً على إمضاء العقد والاستيثاق في العقد؛ لأنك عندما تشترط التأجيل فأنت تريد أن تدفع المال للبائع ولكن إلى أجل؛ لأنك تعلم أنك لا تستطيع أن تدفع، فحتى تخرج من الإحراج أو تخرج من المماطلة قلت له: إلى أجل وصارحته بحقيقة أنك لا تستطيع أن تدفعها نقداً وأنك تريد منه التأجيل، فيقول البائع: بشرط أن تحضر لي كفيلاً غارماً، وفي بعض الأحيان يقول: أشترط أن يكون الكفيل الذي يكفلك عنده سجل تجاري مثلاً، وهذا يجري كثيراً بين التجار، والسبب في هذا: أن التاجر الذي له سجل تجاري ليس كمن يكون دون ذلك، خاصة إذا كانت المبالغ كبيرة، وحينئذٍ كأن اشتراطه للسجل التجاري زيادة في الاستيثاق ويكون شرطاً شرعياً.(150/5)
الشروط في الصفات
قال رحمه الله: [وكون العبد كاتباً أو خصياً أو مسلماً] (كاتباً): كانوا في القديم إذا اشترى أحدهم أمة أو مملوكاً يحتاجه مثلاً للكتابة في دكانه أو تجارته فقال: أنا أريد مملوكاً يعرف الكتابة ولا أريده جاهلاً بالكتابة؛ لأن الذي يعرف الكتابة أحتاجه لكتابة ديون الناس فاشترط أن يكون كاتباً، وهذا من مصلحة المشتري، وبناءً على هذا الشرط: لو باعه على أنه كاتب ولم يكن كذلك كان من حقه أن يبطل البيعة ويفسدها؛ لأنه اشترط عليه وجود صفة وهي صفة كمال (كاتباً).
قال: [أو خصياً] كأن يخشاه على عرضه، ولا يجوز أن يختصي؛ لكن لو وقع أنه صار خصياً أو مجبوباً، فقال: أشترط أن يكون من هذا النوع خوفاً على العرض؛ لأنه يحتاجه لخدمة النساء أو يكون حول النساء أو أنه إنسان يتاجر فيتركه في بيته أو يتركه في مزرعته فيخاف على عرضه، أو لا يريد منه النسل ونحوه فاشترط أن يكون خصياً، فهذا الشرط من مصلحة المشتري، فإذا اشترى على هذه الصفة تم البيع.
وهذه أمثلة قديمة وسنمثل بأمثلة جديدة ومعاصرة، فلو قال له: أبيعك أرضاً في مخطط (20×20)، قال له: أشترط أن تكون على شارعين أشترط أن تكون على شارع أشترط أن تكون بجوار مسجد أشترط أن تكون -مثلاً- الكهرباء والماء قد وصلت إلى المكان، فهذه شروط كمالية، كما اشترط الكتابة في المملوك واشترط الإسلام فيه أو اشترى منه مزرعة قال: أشترط أن يكون لها صك شرعي حتى أستوثق بحقي، وأستطيع بيعها إن أردت ذلك، فلو أنه باعها بهذا الشرط وتبين أن الأرض لا صك لها أو أن المخطط الذي فيه الأرض لم يصله الماء والكهرباء كان من حقه أن يفسخ البيع؛ لأنه تم البيع بشرط ويلزم المسلمون أن يوفوا بالشروط، وهذا شرط شرعي وفيه مصلحة للمشتري ومن الظلم أن يدفع مائة ألف لقاء أرض على أن فيها هذه المصلحة ثم لا توجد فيها هذه المصلحة، وعلى هذا: إذا اشترط هذه الشروط الكمالية وجب على البائع أن يفي له، وإذا لم توجد كان من حقه أن يفسخ البيع ويبطله.
قال رحمه الله: [والأمة بكراً] كأن يريد أن يتسراها فيعف نفسه عن الحرام فقال: أشترط أن تكون بكراً، فلو أنها ظهرت ثيباً كان من حقه أن يردها، وكان من حقه فسخ البيع؛ لأن هذا بيع بشرط، ومن حق المشتري إذا لم يجد المبيع على الصفة التي اشترطها أن يرد البيع ويفسخه.(150/6)
الشروط التي فيها منافع
قال رحمه الله: [ونحو أن يشترط البائع سكنى الدار شهراً].
هناك شروط فيها منافع تتعلق بأحد المتعاقدين، كأن يبيعك البيت ويقول: اشترط أن أبقى في البيت سنة، حتى أجد أرضاً أبني عليها، أو حتى أتمكن من إتمام عمارتي التي أبنيها، المهم أنني سأسكن سنة كاملة، فاستثنى السكنى سنة كاملة، فهذا الاستثناء شرط من البائع وليس من المشتري، أما الشروط الأولى فكانت من المشتري، وهذا من البائع، والغالب أن شروط البائع تكون في المنافع.
فكونه يقول: أستثني سكنى الدار شهراً أو سنة أو نصف سنة من حال البيع أو من العقد فإنه من حقه، والدليل على ذلك حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وكان مع جابر بعير، وكان جابر رضي الله عنه قليل ذات اليد -أي: ليس من أثرياء الصحابة ولا من أغنيائهم- وكان على بعير قد أعياه السير، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج للغزو أو خرج معه الصحابة يمشي في آخر القوم حتى يحمل الكل ويعين الضعيف ويتفقد أصحابه وهذا من فضله وبره وحلمه وشفقته، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فكان أرحم بالناس من الوالد بولده، قال جابر: (فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار سيراً لم يسر مثله وقال لي: -وكان صلى الله عليه وسلم كريم المعشر، دمث الأخلاق، موطأ الكنف لأصحابه وكان ينظر إلى جابر نظرة خاصة؛ لأن أباه قتل معه في أحد، وكان يحب جابراً ويعطف عليه كثيراً -فقال: بعنيه -أي: هذا الجمل الذي أصبح بهذه الصفة وبهذه المثابة، وكأنه يشعره بالنعمة التي أنعم الله عليه فيه- قال: يا رسول الله! هو لك -فساومه واشترى منه الجمل- فاشترط جابر حملانه إلى المدينة -لأنه ليس له جمل آخر- فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: فلما قدمت المدينة أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري، وقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك.
فهو لك).
فالشاهد: أن جابراً اشترط حملان البعير إلى المدينة، وهذا شرط من البائع على المشتري، فاشتراط الحملان إلى المدينة يعني الظهر والركوب، كأن تشتري سيارة فيقول لك صاحب السيارة: أشترط عليك أن أصل بها إلى المنزل، ويتم البيع وتتم الصفقة ولكن توصله إلى منزله، فيركب السيارة ويصل بها إلى منزله ثم بعد ذلك شأنك والسيارة، فهذا شرط من البائع على المشتري وهو لا يخالف مقتضى العقد، ولا يتضمن الغرر، ولا يتضمن ضررك، فيصح هذا النوع من الشروط ويلزم.
قال رحمه الله: [وحملان البعير إلى موضع معين] الحملان مصدر من الحمل، والمراد بذلك: أن تشترط ظهر البعير الذي يحملك أو ما على البعير من متاع تريد أن توصله إلى بيتك، كرجل يلقاك وأنت في سيارتك ويقول لك: بكم تبيع هذه السيارة؟ تقول: بعشرة آلاف، وعلى السيارة أغراض لك وأمتعة، فقال لك: أنا أشتريها منك بعشرة آلاف، قلت له: إذاً بارك الله لك وبارك لي؛ ولكن أشترط أنني أذهب بالسيارة إلى جدة -وعليها متاع لك وتريد أن توصله إلى جدة- فحينئذٍ يتم البيع ويكون الاستثناء فقط لإيصال المتاع إلى جدة، وقوله: (إلى موضع معين) أخرج الموضع المجهول؛ لأنه لا تجوز الجهالة، فالجهالة فيها غرر، فلو قال لك البائع: أعطيك السيارة بعد أن أفرغ المتاع منها، فتقول: متى؟ يقول: حتى أفرغ المتاع، قد يبقي المتاع عليها سنة ويقول: اشترطت عليك أن أبقيها حتى أفرغ، قد لا نقول: سنة؛ لكن في بعض الأحيان قد يبقي المتاع عليها شهراً أو أسبوعاً وتتضرر.
فإذاً لما يقول لك: أشترط أن أبقي المتاع عليها فلا تصرح بالجواز ما لم يكن بشيء معلوم لا جهالة فيه ولا غرر، ولابد أن يكون الشرط واضحاً لا جهالة فيه ولا غرر، وبناءً على ذلك: إذا اشترط حملان السيارة أو ظهر السيارة فإنه يجوز له ذلك ويحدد الزمان أو يحدد المكان إلى موضع معين، ولو قال: بعد يوم أحضر لك السيارة -كما يقع الآن، يقول: أشترط أن تبقيها عندي يوماً أخرج منها أغراضي وبعد ذلك أسلمها لك- فلا بأس بذلك ما دام أنه لا يتضمن الضرر ولا الغرر.(150/7)
حكم الشروط التي يشترطها المشتري
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [أو شرط المشتري على البائع حمل الحطب أو تكسيره].
تقدم بيان مسائل الشروط في البيع، وأنها تنقسم إلى قسمين: منها ما هو مشروع ولا يؤثر في البيع، ومنها ما هو غير مشروع، وبَيَّنا أن الشروط المشروعة منها شروط تقتضيها العقود -أي: عقود البيع- كأن يشترط عليه تعجيل الثمن أو التمكين من الاستلام أو إفراغ الأرض أو العقار أو نحو ذلك من الشروط، وهناك شروط هي من مصلحة العقد، كأن يشترط الرهن والكفيل الغارم إذا كان البيع بالأجل ونحو ذلك من الشروط، ثم يتبع هذا ما كانت فيه منفعة لأحد المتعاقدين فيشترط البائع شرطاً لنفسه فيه مصلحة، ويشترط المشتري لنفسه شرطاً فيه مصلحة، وبَيَّنا أن هذا النوع من الشروط جائز ومشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع من جابر بعيره، واشترط جابر حملان البعير إلى المدينة، فهذه منفعة للبائع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيح: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، فهذا يدل على أنه يجوز أن تشترط مصلحة ومنفعة في العقد، خاصة إذا كانت متولدة من المبيع، مثل مال العبد ومثل النخل المؤبر، ويلتحق بالنخل المؤبر بقية الزروع، على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله في بيع الثمرة والأصول، لكن بالنسبة للصورة التي ذكرها المصنف أن يشتري منه حطباً ويشترط على البائع أن يكسره، ففي هذه الحالة المبيع هو الحطب يقول لك: أبيعك هذا الكوم من الحطب بمائة ريال.
تقول: اشتريت ولكن بشرط أن تكسره لي.
جرت العادة أن تكسير الحطب يكون بطريقة معيّنة وصفة معيّنة فيقوم البائع بتكسيره للمشتري، إذا قلت: اشتريت هذا الحطب وأشترط عليك تكسيره فهذا شرط واحد.
كذلك أيضاً لو قلت له: أشتري منك هذا الحطب ولكن بشرط أن توصله إلى منزلي، فحينئذٍ اشترطت منفعة لمصلحتك، فكأن المصنف حينما ذكر: (كأن يشترط حملان البعير)، فالمنفعة للبائع وليست للمشتري، يبيعك بعيراً ويقول: هذا البعير قيمته مائة؛ ولكن أشترط عليك أن أركب عليه إلى منزلي ثم تأخذه.
كما فعل جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد اشترط أن يركب البعير إلى المدينة وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم وأقرّه.
إذاً: هذا الشرط الذي اشترطه هو من البائع والمنفعة للبائع، فالمصنف رحمه الله من دقته ذكر لك مثالاً على المنافع التي يشترطها البائع، ثم أتبع بتكسير الحطب كمثال على المنافع التي يشترطها المشتري؛ لأن تكسير الحطب من مصلحة المشتري، فتقول: أشتري منك هذا الحطب وأشترط أن تكسره لي، ومن أمثلة ذلك في عصرنا: كأن تقول للجزّار: بكم هذا الكيلو من اللحم؟ يقول: بعشرين، تقول: أشتري منك الكيلو على أن تكسره أو تفصل اللحم عن العظم، فحينئذٍ اشترطت منفعة لمصلحتك أنت المشتري.
وفي حكم هذا -في زماننا- ما لو اشترى البضاعة من المحل واشترط توصيلها إلى منزله.
لكن هنا أمر لابد من التنبيه عليه وهو: أنّه إذا اشترط المشتري على البائع منفعة زائدة في البيع فينبغي أن يبين حدود هذه المنفعة، فإذا قال له: أشترط أن توصله إلى منزلي، فلابد أن يحدد مكان منزله؛ وذلك لأنها منفعة لها قيمة وثمن، وعلى هذا فلابد وأن تكون معلومة، فيحدد أين منزله، فإن كان باستطاعة البائع أن يوصله قال: رضيت.
وإن لم يكن باستطاعته قال: لا أرضى.
ويتفقان أو يتراضيان على حسب ما يكون بينهما بالمعروف.
قال رحمه الله: [أو خياطة الثوب أو تفصيله].
القماش الخام هو الذي يوجد في طاقة القماش ولم يفصل بعد، فعندما يشتري الإنسان هذا النوع من القماش فله أحوال: تارةً يشتري القماش خاماً ولا يطلب تفصيله ولا خياطته، فيشتري -مثلاً- طاقة من القماش، فيقول للبائع: بكم هذه الطاقة؟ يقول: بمائة، قال: اشتريت، حينئذٍ لا إشكال.
لكن هناك صورة أخرى وهي أن يقول له: بكم هذا القماش؟ يقول له: هذا القماش متره بستة ريالات مثلاً، يقول: كم يكفيني من الأمتار؟ قال: ثلاثة أمتار، قال: إذاً أشتري منك ثلاثة أمتار، وبكم تفصلها؟ قال: بعشرين، حينئذٍ يقول: أشتري منك الثلاثة الأمتار، على أن تفصلها لي ثوباً بعشرين، فهذه الصورة التي يَفْصِلُ فيها قيمة الخام من القماش عن قيمة التفصيل فهذه لا إشكال فيها؛ لأن المشتري اشترى ما هو مباح بيعه وهو القماش وحدد المبيع وثمنه، وليس هناك أي إشكال في جواز هذا النوع من البيع، فوقع البيع على ثلاثة أمتار من هذا القماش، فإذا كان المتر بستة ريالات فمعنى ذلك أنه اشترى بثمانية عشر، ثم تعاقد معه إجارةً على التفصيل وذلك بعشرين، فيكون مجموع القيمة ثمانية وثلاثين ريالاً، إذاً: هذان عقدان منفصلان، البيع على حدة والإجارة على حدة.
الحالة الثانية: أن يقول له: بكم هذا الثوب؟ والثوب قد فصل وهو جاهز -كما يوجد الآن عند بعض الخياطين، حيث يُجهَّز الثوب ويكون على المقاس الذي يريده المشتري- بمائة، قال: اشتريت، ولكن بشرط أن تكويه لي، أو يشترط أن يغسله، فيقوم الخيّاط بغسل الثوب وكيّه وإعطائه للمشتري وهذه كلها منافع تختلف أذواق الناس ومقاصد الناس فيها، حتى لو قال له: أشترط أن تضعه لي في ورق، هذا كله من شروط المنافع التي يقصد بها حفظ المبيع أو وجود المنفعة الناشئة عن المبيع، وهذا النوع من الشروط لا بأس به، لكن لو قال له: أشترط عليك أن تخيط الثوب وأن تغسله وتكويه فحينئذٍ أدخل أكثر من شرط في عقد البيع، وهذا سيأتي إن شاء الله في مسألة الشرطين في البيع.(150/8)
حكم الجمع بين شرطين في البيع
قال رحمه الله: [وإن جمع بين شرطين بطل البيعُ].
أي: وإن جمع المتعاقدان بين شرطين في بيع بطل البيع، وهذه المسألة دليلها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)، وهو حديث حسّنه غير واحد من أهل العلم، والعمل على ما تضمنه من دلالة.
والعلماء رحمهم الله في مسألة الشرطين في البيع عندهم تفصيل وكلام، بعض العلماء يقول: أيُّ بيع اشتمل على شرطين فأنا أبطله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا شرطان في بيع) فنهى عن الشرطين في البيع، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، وبعض العلماء فَصَّل: وتوضيح ذلك: أن الشرطين في البيع إما أن يكونا مفضيان إلى الربا، أو مفضيان إلى الغرر، أو يتضمنان محظوراً شرعياً، أو يكون الشرطان لا بأس بهما، ولو أردنا أن نختصر هذه الأحوال نختصرها بنوعين من الشروط نقول: إمّا أن يكون الشرطان متفقين مع الشرع، وإمّا أن يكونا مخالفين للشرع، أي يتضمنان محظوراً شرعياً.
فأما الشرطان اللذان يتفقان مع الشرع فكأن يقول لك: أبيعك هذه السيارة وأشترط عليك أن يكون بيعها مؤجلاً -أقساطاً-، وأشترط عليك كفيلاً غارماً، فاشترط عليك في العقد شرطين: البيع المؤجل وهو لا ينافي الشرع، والشرع أذن به كما أذن بالمعجل ما لم يتضمن غرراً، وكونه يشترط كفيلاً غارماً هذا من مصلحة العقد؛ لأنه إذا عجز المشتري قام الكفيل بالسداد فتمّ البيع، فهذان الشرطان دخلا في العقد على وجه يوافق الشرع وليس هناك أيّ معارضة للشرع، فإذا كانت الشروط موافقةً للشرع فتنقسم أيضاً إلى قسمين: تارةً تكون من مصلحة عقد البيع، كما ذكرنا في تأجيله وأيضاً اشتراطه للكفيل، وتارةً يكون الشرطان لا يخالفان الشرع لكن فيهما منفعة لأحد المتعاقدين، أي: أن يشترط شرطين لمصلحته هو بائعاً أو مشترياً.
ففي الصورة الأولى اشترط شرطين، وصحيح أن فيهما مصلحة للبائع؛ لكن فيهما إمضاء للعقد وحفاظ على إتمامه؛ لأن الكفيل سيسدّد ويمضي العقد، وهذا أضمن للحقوق، وهذا يسمونه من مصلحة العقد، لكن في الصورة الثانية من الشروط التي لا تعارض الشرع أن يكون فيه منفعة للمشتري أو منفعة للبائع -كما ذكرنا- يشتري منه القماش ويقول: أشتري منك هذا القماش بشرط أن تخيطه وتغسله، فحينئذٍ تضمن العقد شرطين مشروعين بأصلهما؛ ولكنهما لمنفعة أحد المتعاقدين.
إذاً: الصورة الأولى جائزة بالإجماع وهذا مثال آخر لها: أن يقول له: أبيعك هذه الأرض، فيقول المشتري: بشرط أن يكون لها صك، وأن يكون إفراغها فوراً، فإنّ الصك لاستيثاق البيع وضمان الحق، وإفراغها فوراً مما يمضي الحق ويمليه، فهذا لا إشكال فيه وهذه شروط مشروعة، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء: أنّه لا بأس بهذه الشروط؛ لأنها من مقتضيات العقد أو مما يعين على صحة العقد.
والصورة الثانية من الشروط المشروعة والتي تتضمن منفعة لأحد المتعاقدين -كما ذكرنا- أن يقول له: أشتري منك هذا الحطب بمائة على أن تكسره وتحمله إلى بيتي -هناك في المثال السابق قلنا: تكسره فقط؛ لكن هنا: تكسره، وتحمله إلى بيتي -فأصبح عندنا شرطان، وهذه الصورة وقع فيها الخلاف بين العلماء رحمهم الله.
فقال بعض أهل العلم: هذان الشرطان لا يعارضان الشرع، بل لو زاد شرطاً ثالثاً صح ولا بأس.
واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل) فمنطوق الحديث يدل على بطلان الشروط التي تخالف الشرع، ومفهوم الحديث: أن الشروط لو كانت توافق شرع الله فإنه لا بأس بها وليست بباطلة، وهذا دليلهم الأول.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم، أو عند شروطهم) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين ما تكررت فيه الشروط وبين ما كان شرطاً، وعلى هذا فإن الاشتراط جائز للشرطين كما هو جائز للشرط الواحد.
وأما الذين منعوا، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه ويقول به طائفة من أهل الحديث واستدلوا بظاهر السنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ولا شرطان في بيع) أي: لا يحلُّ الشرطان إذا وقعا في بيع، قالوا: فنأخذ بظاهر هذا الحديث، ثم قالوا: لو قلنا: إن الحديث المراد به: شرطان فاسدان -أي: يعارضان الشرع- لما كان للحديث معنى؛ لأن الشرط الواحد المعارض للشرع يبطل البيعن فمن باب أولى إذا كانا شرطين، فيكون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم للشرطين خالياً من الفائدة.
توضيح ذلك: أنه لو كان مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ولا شرطان في بيع) الشرطان المعارضان للشرع فإن الشرط الواحد منهما محرم فكيف يقول: (شرطان)، إنما يقول: شرط واحد وينّبه على ذلك، لكن كونه يقصد الشرطين يدل على أن الأصل فيهما الجواز ولكنهما حظرا لكونهما يوجبان شيئاً من الغرر أو الفتنة.
مثال ذلك: نذكر المثال الذي ذكره المصنف: إذا اشتريت الحطب على أن يكسره ويحمله إلى بيتك، فقد أصبحت ثلاثة عقود: عقد بيع، وعقدان للإجارة: الأول: التكسير، والثاني: الحمل إلى البيت.
فأصبح إجارةً بدلاً من كونه عقد بيع؛ لأن الحكم للأغلب فهو بيع وفي حقيقته تغلبه الإجارة، ولذلك قالوا: تداخلت العقود، وحينئذٍ لا نفرق بين كونه مشروعاً أو ممنوعاً، فإذا تضمن البيع شرطين لمنفعة أحد المتعاقدين فإنه لا يجوز، ولا شكّ أن هذا القول أشبه وأقوى من ناحية الدليل وظاهر الدليل أقوى.
وكون أحد المتعاقدين يشترط منفعتين في شرطين لا شك أنه لا يؤمن من دخول الغرر.
وأما الشرطان الممنوعان شرعاً: كأن يشترط شرطين محرمين موجبين للغرر، إذ لو انفرد شرط واحد محرم فإن هذا يقتضي فساد البيع، فكيف وقد اشتمل على شرطين محرمين؟! كأن يقول له مثلاً: أبيعك هذه الأرض على ألا تبيعها لأحد ولا تهبها لأحد، فإن قوله: هذا يعارض شرع الله عز وجل؛ لأن الذي يشتري الشيء من حقه أن يبيعه ويهبه، وقد حرم عليه ما أذن الله له به، فإن من ملك السلعة من حقه أن يبيعها ومن حقه أن يهبها وأن يتصرف فيها بالمعروف أو يقول له: أبيعك هذه السيارة على ألا تركبها، فإن السيارة تُشترى من أجل مصلحة الركوب.
أو يقول له: أبيعك هذه السيارة على ألا تحمل عليها أحداً، أو على ألا تسافر بها إلى جدة أو إلى مكة، فهذه كلها شروط تخالف الأصل الشرعي، فالأصل أنني إذا اشتريت الشيء فأنا حرٌّ فيه أتصرف فيه كيفما أشاء، فما دام أن هذا البائع قد باع ذات الشيء، فكأنه يعارض شرع الله عز وجل بكلا الشرطين، وعلى هذا فهذان الشرطان محرمان بالإجماع، على أنه لو اشترط شرطاً واحداً يخالف مقتضى العقد فهو فاسد، فكيف إذا جمع بين شرطين، فإنه من باب أولى وأحرى.(150/9)
الأسئلة(150/10)
الفرق بين الشروط التي تفسد البيع والتي لا تفسده
السؤال
متى يكون الشرط لاغياً والبيع صحيحاً؟ ومتى يكون الشرط لاغياً والبيع فاسداً، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالشرط الذي يفسد البيع هو الذي يتضمن غرراً يوجب بطلان البيع، وذلك كبيع الأشياء مشترطة بشروط تدخل الغرر عليها، مثلاً: لو قال: أنا أشتري منك البستان لكن بشرط أن تكون فيه ثمرة السنة القادمة، فأنا لا أضمن، ومسألة الثمرة ليست بيدي، أو اشترى منه الناقة أو الشاة واشترط أن تكون حاملاً السنة القادمة، فالحمل علمه عند الله سبحانه وتعالى، فهذه شروط يسمونها: شروط الغرر، وهي تستلزم فساد العقد كله؛ لأن العقد قام عليها وبني عليها، فكأنه اشترى من أجل هذه المنفعة المقصودة من المبيع، لكن هذه المنفعة المقصودة من البيع تارة تكون واضحة، فيشتري البعير بما فيه، أو الناقة بما فيها، أو البقرة بما فيها، أو الشاة بما فيها؛ لكن أن يشترط أن المزرعة تكون منها ثمرة السنة القادمة، فهذا ليس بوسع أحد، ولذلك ينص العلماء رحمهم الله على بطلان البيع وفساده؛ لأن هذا الشرط يوجب الغرر ولا يمكن أن تتم الصفقة إلا به؛ لأنه مركب عليه؛ لأن نفس الثمرة مقصودة، فلو قلت: نصحح البيع ونلغي الشرط ظلمت المشتري؛ لأن المشتري إنما أشترى من أجل الثمرة.
وأما الشرط الذي يصح معه البيع ويفسد الشرط، فهذا مثل الشرط الذي لا يكون في صلب العقد، أي: ليس بمؤثر في صلب العقد، فلا يتضمن غرراً ولا يتضمن رباً، ولا يئول إلى غرر ولا إلى ربا، فمثلاً: لو اشترط أن يكون الولاء له كما في حديث عائشة رضي الله عنها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قضاء الله أوثق، وشرط الله أحق، إنما الولاء لمن أعتق) فصحح البيع وألغى الشرط، مع أن أهل بريرة باعوها بشرط أن يكون الولاء لهم.
ولذلك لابد من معرفة طبيعة الشرط، فما كان منها مبنياً على الثمرة المقصودة من العقد، فمن الظلم أن نصحح العقد فنلزم المشتري بشيء لم يرده ولم يقصده، وفي هذه الحالة نبطل البيع فنرد الثمن للمشتري ونرد المثمن للبائع إنصافاً ورداً للحقوق إلى أصحابها، والله تعالى أعلم.(150/11)
حكم الشروط في النكاح
السؤال
تكلمتم عن الشروط في البيع فهل تجوز الشروط في النكاح، أثابكم الله؟
الجواب
النكاح تجوز فيه الشروط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) والشروط في النكاح تنقسم كما تنقسم الشروط في البيع، فتارةً تكون مشروعة وتارةً تكون ممنوعة، فالشروط المشروعة هي التي توافق مقتضى العقد، كأن يقول الولي للزوج: زوجتك بنتي بعشرة آلاف حاضرة، قال: قبلت، على أن يكون الزواج هذا الأسبوع، فإن استعجال الزواج يمضي العقد ويوافق مقصود الشرع من إمضاء العقد، أو اشترط أن يدخل على زوجته هذا الأسبوع، ويُمَكَّن منها، قال الولي: قبلت، فيلزم ولي المرأة أن يمكِّن الزوج من زوجته في الوقت الذي اتفقا عليه، فهذا الشرط يوافق مقصود العقد.
كذلك أيضاً لو قال: زوجتُك بنتي بعشرة آلاف.
قال: قبلت، بشرط أن تكون مطيعةً ولا تعصي لي أمراً إلا إذا عصيت الله عز وجل فلا طاعة لي، فإن كون الزوجة مطيعة لزوجها وتحت أمر زوجها هذا موافق لمقصود الشرع، أو أشترط ألاَّ تخرج من بيتها وألا تخرج من بيتي إلا بإذني؛ لأنها قد تخرج لبيع وشراء، وقد تخرج لمصلحة كالتعليم ونحوه؛ لكن قال: أنا أريدها أن تبقى في البيت، مصلحتي أن تبقى في البيت، كأن تكون في بيئة يخشى عليها الحرام أو يخشى عليها أن يؤذيها أحد، فقال: أشترط أن تبقى في البيت، في هذه الحالة هذا الشرط من حقه، وموافق لمقصود الشرع، فإذا نظر وليها أنه لا يُدْخِل الضرر على المرأة قبله، وإذا أدخل الضرر على المرأة قال له: ابحث عن زوجة، بنتي لا تصلح لك؛ لأني أرى أن بنتي لابد لها من الخروج.
هذه الشروط التي تقع في النكاح لمصلحة العقد ومما يوافق مقتضى العقد معتبرةٌ، كأن يقول له: أشترط عليك أن تدفع المهر معجلاً.
قال: قبلت.
فهذا شرطٌ في عقد النكاح، ويجب عليه أن يبر بالشرط ويوفي له.
وأما الشروط التي تخالف الشرع: كأن يدخل فساداً على العقد، كما لو قال: زوجتك بنتي بعشرة آلاف على أن تزوجني أختك بخمسة آلاف، فهذا نكاح شغار، وهذا يوجب بطلان العقد؛ لأنه ينبني عليه الشغار الذي حرمه الشرع وفي هذه الحالة يفسد العقد.
لكن في بعض الأحيان يفسد الشرط ويبقى العقد كما لو قال: زوجتك بنتي بخمر، أي: على أن يعطيه خمراً صداقاً لها، فالخمر محرم، فيُلْغَى المسمى ويجب لها مهر المثل ويمضي العقد؛ لكن الشافعية يخالفون في هذا، ويقولون: إذا فسد المهر فسد العقد.
الشاهد: أن الشروط في النكاح منها ما هو صحيح وشرعي ومنها ما هو غير شرعي، والغير الشرعي منه ما يوجب فساد العقد، ومنه ما لا يوجب فساد العقد، كالبيع سواءً بسواء، ويجب على المسلم أن يتقي الله، خاصةً إذا اشترطت عليه المرأة شروطاً وكان بوسعه أن يوفي بهذه الشروط؛ لأن الشرع أمر بالوفاء بالعقود.
وبعض الأزواج ينتهك حدود الله ويغشى محارم الله بالتلاعب بهذه الشروط، فإن الله سائله، قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء:34]، فإذا أخذ عليك العهد والميثاق وكتب بينك وبينه الكتاب على شرط، فإن الله سائلك عن هذا الشرط حفظت أو ضيعت، ولذلك قال الله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21].
وقد كان السلف إذا زوج الرجل ابنته يقول: أزوجكها على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أزوجها لك لتحملها أمانةً في عنقك على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الشرط والميثاق الذي وصفه الله بأنه غليظ يُسأل عنه الزوج، فكيف بالحقوق؟! إذا اشترطت عليه أن يعجل لها مهرها، أو اشترطت عليه أن يعطيها مؤخر الصداق، فتلاعب بمثل هذه الشروط فالله سائله، ومن خان وضيع فإن الله محاسبه، وقد يبتليه الله بنكبة في نفسه، من بلاء في جسده، وقد يبتليه الله بنكبة في دينه فيسلبه الخشوع في صلاته، وقد يحرمه إجابة الدعوة -والعياذ بالله- لأن الظلم ظلمات؛ ظلمات في الدنيا وظلمات في الآخرة، وقد تفسد على العبد دنياه وآخرته بسبب مظلمة، فإن المظلوم إذا اشتكى إلى الله فإن الله يقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنكِ ولو بعد حين) فدعوة المظلوم مستجابة، والظلم في الحقوق والشروط شنيع خاصة ظلم النساء؛ لأن المرأة ضعيفة وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عظم حق المرأة وقال -كما في الصحيح-: (إني أحرِّج حق الضعيفين).
وقد يغتنم الزوج ضعف المرأة وقد يرى أنها أصبحت الآن في بيته بعيدة عن والدها أو توفي والدها، فإن بعض الأزواج يفي بالشروط ما دام والدها حياً، ويخاف من والدها، فإذا توفي والدها لم يبالِ بأي شرط كان ويفعل ما شاء، ولا شك أنه إذا توفي والدها فإن ربها أعظم لها من والدها.
فالله سبحانه وتعالى عظم أمر المرأة، قال صلى الله عليه وسلم: (إني أحرِّج -أي: أعظم الحرج والإثم- حق الضعيفين: المرأة، واليتيم) فجعل المرأة قرينةً لليتيم، وإذا تأملت المرأة وجدتها يتيمة؛ لأنها إذا دخلت بيت الزوجية جاءتها الضغوط النفسية وجاءتها الضغوط من ناحية أولادها، ولا تستطيع أن تحاسب زوجها ولا تستطيع أن تعترض على زوجها، وإذا جاءت تعترض تخاف على حقوقها، وتخاف أن يؤذيها في فراش أو مبيت، ولا تستطيع أن تبوح بكلمة واحدة خوفاً على أولادها، فحالها أشد من اليتيم، فإن اليتيم على الأقل يصرخ ويبدي ما في نفسه من الألم والحزن؛ ولكن المرأة لا تستطيع أن تبوح بما في نفسها.
فإذا كان ولي المرأة قد أخذ العهد والشرط على الزوج أن يعطي شيئاً للمرأة أو يؤخر لها الصداق إلى وقت معين، أو يفي لها بأمور معينة في بيتها أو في أولادها فإن الواجب عليه أن يتقي الله وأن يعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه ومحاسب له، والمظالم إذا كانت بين العبد وربه قد تُغْفَر للعبد في طرفة عين، فهذه امرأةٌ بغي زانية -والعياذ بالله- مرت على كلب فسقته وهو في شدة الظمأ فغفر الله ذنوبها؛ ولكن إذا كان الحق لمخلوق، فلا.
حتى قال بعض العلماء في حديث القبرين: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، -قال في أحدهما-: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة) لأن النميمة إفساد ما بين الناس، فالحق للمخلوق، فلما شفع صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرْفع عنه العذاب، انتبهوا! ما رُفِعَ العذاب إلا بقدر أن تيبس الجريدة، ما ملك أن يشفع برفع العذاب بالكلية؛ لأنه حقٌ لمخلوق، وهذا أمر يُعَظِّم حقوق المخلوقين.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يتقي الله، خاصةً إذا كان المخلوق من ذوي القرابة؛ لأن ظلم القريب ذي الرحم يشتمل على مظلمتين: الظلم، وقطيعة الرحم، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1].
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا ويسلم منا، وأن يغفر لنا ويتوب علينا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(150/12)
شرح زاد المستقنع - باب الشروط في البيع [2]
الشروط في البيع منها ما هو صحيح ومشروع، ومنها ما هو غير مشروع، وعلى المتعاقدين عند إبرامهما لأي عقد أن ينظرا في هذه الشروط؛ لأن هذه الشروط إن كانت غير مشروعة فإما أن تفسد البيع بالكلية، وإما أن تلقى هذه الشروط ويبقى البيع على صحته.(151/1)
الشروط الفاسدة في البيع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها فاسدٌ يُبطل العقد: كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر: كسلف].
قوله: (ومنها فاسد يبطل العقد).
أي: ومن الشروط ما هو فاسد يبطل العقد، فبعد أن بيّن لنا رحمه الله الشروط الصحيحة شرع في بيان الشروط الفاسدة.
والدليل على أن الشروط تنقسم إلى صحيحة وفاسدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله)، فدلّ على أنه إذا وقع الشرط بين المتعاقدين أن الواجب عليهما أن ينظرا في كتاب الله عز وجل، فما كان في كتاب الله فهو مأذون به شرعاً على التفصيل الذي ذكرنا، وما كان معارضاً للشرع فإنه محرم وممنوع.
(ومنها) أي: من الشروط في البيع.
(ما هو فاسد) وهذا النوع من الشروط ينقسم إلى أقسام، منها: أن يتضمن عقدين في عقد، كأن يضم إلى البيع عقداً ثانياً كإجارة وسلف وسلم وقرض ونحو ذلك، ومنها: أن يشترط عليه شرطاً يخالف مقتضى البيع.(151/2)
الجمع بين عقدين في عقد واحد
أمّا بالنسبة للنوع الأول فقد أشار إليه رحمه الله بقوله: [كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر: كسلفٍ].
يقول له: أبيعك هذه الدار بمائة ألف على أن تسلمني أو تسلفني مائة صاع من بر من مزرعتك، فجمع بين البيع وبين عقد السلم -وسيأتينا إن شاء الله بيان عقد السلم- وهو: تعجيل الثمن وتأخير المثمن؛ والسبب فيه: أنه رفق بالمزارع؛ لأن المزارع يأتيه الموسم -موسم الزراعة- ولا يكون عنده نقد وسيولة فيحتاج إلى المال من أجل أن يشتري البذر فيزرع، والثمر في هذه الحال ليس بموجود، فحينئذٍ يشتري منه الرجل الحبَّ الذي سينتجه أو تنتجه أرضه أو مزرعته فيشتري منه مائة صاع: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم، ووزنٍ معلوم، إلى أجلٍ معلوم)، فيعطيه النقد معجّلاً على أن يعطيه الحبَّ مؤجلاً فهذا سلم، فيركب عقد البيع ويشترط معه سلماً، وهذا محرم؛ لأنه يدخل الصفقتين في الصفقة الواحدة، وإذا دخلت الصفقتان في الصفقة الواحدة فإن هذا مما يوجب الغرر ويوجب الفتنة والشحناء، وإذا حصل اللبس والفساد في أحد العقدين أدخل الفساد على العقد الآخر، ومن هنا حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين في بيعة وعلى هذا فإنّه إذا أدخل السلف على البيع على هذا الوجه فإنه يعتبر شرطاً فاسداً.
قال: [كسلفٍ وقرضٍ].
كأن يقول: بعتك على أن تسلفني، أو يقول له: بعتك على أن تقرضني، أو اشتريت منك على أن تقرضني، فمثلاً: عنده سيارة عرضها للبيع فقال له: هذه السيارة قيمتها مائةُ ألفٍ، قال: ليست عندي مائة ألف، دَيِّنيّ المال وأشتري منك السيارة، قال: إذاً أبيعكها بمائة وعشرة أعطيك إيّاها وتشتريها، فحينئذٍ كأنه ذريعة إلى الربا، وأصبحت حقيقة السلعة تكون بمائة فيزيد عليها العشرة، ولا يمكن أن يبيعه إلا وهو يقرضه من أجل أن ينتفع، ثم أيضاً لو خلا من الزيادة وكانت قيمة السيارة هي هي فإنه قد استفاد من إقراضه شراء السيارة.
توضيح ذلك: أنك إذا عرضت البيت أو عرضت السيارة للبيع فمن مصلحتك أن تبيع، ولا شك أنّك إذا بعت تقدر ربحاً معيناً في بيعك، فإذا جئت تعرض سيارتك للبيع ربما تعرضها بمائة ألف فأنت إذا بعتها بمائة ألف تقدّر خمسة آلاف ربحاً لك من البيع، فإذا جاءك وقلت له: أبيعك بمائة ألف، قال لك: أشتري منك بشرط أن تديّنني قيمتها، فحينئذٍ كأنه دفع له خمسةً وتسعين لقاء الخمسة التي هي الربح الناتج من البيع وهذا عين الربا، ولذلك يسمونه: الذرائع الربوية فليس ببيع ربوي محض؛ ولكنه تضمن شرطاً مفضياً إلى الربا، والفساد في عقود البيوع إمّا أن يكون بسبب تحريم عين المبيع، أو الغرر، أو الربا، أو شرط يئول إلى الغرر أو الربا.
فهذا شرط يئول إلى الربا.
قال: [وبيعٍ].
كأن يشترط عليه بيعاً، يقول له: أبيعك بيتي بعشرة آلاف على أن تبيعني سيارتك بخمسة آلاف، فإنه ربما بنى غبن هذه الصفقة على ربحه في تلك الصفقة، وإذا فسدت إحدى الصفقتين دخل الفساد إلى الصفقة الثانية، وحمل بعض العلماء نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول له: بعتك داري بمائة ألف على أن تبيعني أرضك بعشرة آلاف، قالوا: فإن هذا من البيعتين في بيعة، فهي بيعة واحدة ولكنها تتضمن عقدين، وإذا تضمن العقد الواحد عقدين فإنه يوجب التداخل ويوجب الغرر ويوجب الشحناء، فإذا حصل النقص في إحدى البيعتين تضررت في البيعة الثانية، وعلى هذا لا يجوز؛ لكن لو قال له: أبيعك داري بسيارتك جاز؛ لأنها بيعة واحدة، فجعل السيارة قيمة للدار أو البيت والآخر جعل البيت قيمة للسيارة، فكلاهما عوض عن الآخر، وليس هذا من العقدين في عقد.
فالشاهد: أن المحظور أن يدخل عقدين في عقد.
ومن هنا بطلت الإجارة المنتهية بالتمليك، فإذا قال له: خذ السيارة سنة استئجاراً ثم تملكها بعد السنة، فمعنى ذلك أنه قد جمع بين العقدين في العقد الواحد، ثمّ هو يبيع شيئاً لا يُدرى كيف حاله بعد حلول الأجل؛ لأن البيع مؤجل إلى ما بعد السنة، وبعد السنة لا ندري حقيقة السيارة هل تَسْلَم أو تخرب فتتغير؟ أو يأتيها حادث يذهب بها؟ فهذا كله مما يوجب الغرر، فلو أن السيارة تلفت أثناء السنة هل نعتبره مستأجراً، أو نعتبره مالكاً؟ إن قلت: أعتبره مستأجراً بناءً على أنه وقت إجارة، عارضك بأنه استأجر من أجل أن يملك ومن أجل أن تكون له الرقبة، فحينئذٍ هو مستأجر من وجه مالك من وجه، وهذا شيء من التداخل، ولذلك كأن الشريعة تريد عقود البيوع عقود بيوع، وتريد عقود الإجارة عقود إجارة، ولا تريد التداخل بينهما، ولا تريد أن يحدث شيء من الغرر، ومن هنا حُرّم بيع المجهول؛ لأنه يوجب الغرر في الثمن أو المثمن أو كليهما، فأيَّاً ما كان لا يجوز تداخل العقدين في عقد واحد، ولا يقول له: بعتك هذه السيارة بمائة ألف على أن تؤجرني أرضك سنة بألف، لأن فيه بيعاً وإجارة.
إذاً: لا يجوز أن يدخل العقدين في عقد واحد، خاصة إذا أوجب الغرر، أو كان فيه شيء من التلاعب وشيء من الغبن يُقصد به جبر كسر هذه الصفقة بالربح في الصفقة الثانية.
قال: [وإجارةٍ].
وهكذا إذا جمع بين البيع والإجارة كما ذكرنا في عقود الإجارة التي تنتهي بالتمليك، سواءً قدّم البيع وأخر الإجارة، أو قدم الإجارة وأخر البيع، وسواءً فصل بينهما فجعل للبيع عقداً وللإجارة عقداً، فإنّ هذا كله مما يوجب الغرر.
قال: [وصرفٍ].
كأن يأتي الشخص ومعه خمسمائة ريال إلى صاحب البقالة ويقول له: اصرفها، يقول: لا أصرفها لك حتى تشتري مني شيئاً، فهذا صرف بشرط البيع، فمثلاً إذا اشترى بخمسة ريالات فمعنى ذلك أنه صرف له ما بقي من الخمسمائة الذي هو أربُعمائةٍ وخمسةً وتسعون لقاء المنفعة الموجودة في الصفقة، فإنه إذا اشترى من البقالة لابد وأن يربح صاحب البقالة؛ لأنه ما من شيء معروض للبيع إلا وله فيه ربح معيّن، أو مثلاً وضع التمر كحيلة فيقول لك: اشترِ وأنا أصرف لك، فهذا التمر الذي قيمته خمسةُ ريالاتٍ في الحقيقة قيمته أربعة ريالات أو قيمته ثلاثة ريالات فهو سيربح ريالين أو ريالاً.
قد يظهر ببادي الرأي أنه حينما صرف لك الأربُعمائة وخمسة وتسعين، بادلك أربعمائه وخمسة وتسعين بأربعمائة وخمسة وتسعين فلا شيء فيه؛ لأنّ الصرف وقع فيما زاد عن الخمسة ريالاتٍ التي فيها صفقة البيع، لكن في الحقيقة أنه صرف لك أربعمائة وخمسة وتسعين بأربعمائة وخمسة وتسعين بزيادة منفعة البيع فصار صرفاً بمنفعة، ولم يكن مثلاً بمثل يداً بيد، بل قال لك: لا أمد لك الأربعمائة والخمسة والتسعين حتى تشتري مني، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: إنّ الإنسان قد يشيب عارضاه في الإسلام وهو يقع في الربا وهو لا يدري؛ لأن بيوع الربا الخفية التي تسمى الذرائع قلّ أن يفقهها أحد وقلّ أن ينتبه لها، والعلماء رحمهم الله نبّهوا عليها كثيراً في تداخل العقود، خاصة في الشروط التي تئول إلى الربا، كأن يقول له: أبيعك إيّاها مؤجلة بمائة ألف، فيقول: بشرط أن تقرضني على أن أشتريها منك معجلة بخمسة وتسعين، فهذا شرط يئول إلى الربا كأنه أعطاه خمسةً وتسعين معجلة في لقاء مائة ألف مؤجلة، وهكذا لو قال: أصرفها لك على أن تشتري مني بخمسة ريالات أو تشتري مني قلماً أو تشتري مني كتاباً أو تشتري مني تمراً، فالصرف المبني على شرط البيع موجب أو مفض إلى الربا بوجود المنفعة التي تضمنتها صفقة البيع.(151/3)
الشروط التي تخالف مقتضى العقد
قال رحمه الله: [وإن شرط ألا خسارة عليه، أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو لا يبيعه ولا يهبه ولا يعتقه، وإن أعتق فالولاء له، أو أن يفعل ذلك بطل الشرط وحده إلا إذا شرط العتق].
فائدة: الشروط الفاسدة في البيع تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يوجب فساد البيع، وهو الذي ذكرناه سابقاً، وصفته: أن يدخل العقدين في عقد واحد، كأن يشترط سلماً أو إجارةً أو صرفاً إلخ، فهذه يبطل فيها الشرط ويبطل فيها البيع، فتلغى الصفقة بكاملها، وهناك وجه عند بعض العلماء أنه يصحّح البيع ويُلغي الشرط الفاسد، والأول أقوى.
القسم الثاني: أن يدخل شرطاً لم يأذن به الشرع يخالف مقتضى العقد -كما ذكرنا- ومثاله أن أقول: أبيعك هذه الأرض بشرط ألا تبيعها لأحد أبيعك هذه الأرض على أن تجعلها دكاكين ولا تبنيها عمارة أبيعك هذه الأرض على أن تجعلها للزراعة ولا تجعلها للاستغلال التجاري أبيعك هذه الأرض على ألا تسكنها فيشترط البائع شروطاً تخالف مقتضيات عقود البيع، وعلى هذا إذا تضمّن البيع مثل هذا الشرط نصحّح البيع ونبطل الشرط.
لكن فيه تفصيل فأولاً: نريد أن نعرف الضابط في هذا النوع -وهو أن يشترط شرطاً يخالف مقتضى عقد البيع- وقد مثّل له المصنّف بقوله رحمه الله: (وإن شرط ألا خسارة عليه).
مقتضى عقد البيع أنك إذا اشتريت البيت وملكته ثم غلا أو رخص فلك غنمه وعليك غرمه، ويصبح البيت بيتك لا أتحمل أنا الخسارة بعد بيعه لك، وأيضاً إذا بعتك قماشاً أو بعتك تمراً أو بعتك أي شيء من المبيعات فأنت الذي تتحمل المسئولية، فيكون خراجه وضمانه عليك، فأنت الذي تأخذ نتاجه وأنت الذي تتحمّل خسارته، فمثلاً لو جاء الشاري وقال للبائع: أشتري منك هذه الأرض بشرط: أنها لو كسدت أو نزل سعرها في السوق أردها عليك، أو تدفع لي خسارة الوكس الذي يكون في القيمة، قال له: قبلت.
فهذا لا يجوز، لماذا؟ لأن الأصل الشرعي يقتضي أنه إذا اشترى السلعة يتحّمل مسئوليتها كاملة غنماً وغرماً، قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان)، والسبب في تحريم هذا النوع من الشروط أنني إذا بعتك السيارة وقلت لي: إذا خسرت رجعت عليك، فمعنى ذلك أنك إذا ربحت أخذت الربح، وإذا خسرت رجعت عليّ بالخسارة، وهذا ظلم، والشريعة شريعة عدل.
وتوضيح ذلك: أن الغنم بالغرم، وهي قاعدة من قواعد الشريعة دلّ عليها حديث عائشة رضي الله عنها في قوله عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود: (الخراج بالضمان)، أي: الربح لمن يضمن الخسارة، فليس من المعقول أن أتحمّل أنا البائع الخسارة وتأخذ أنت الربح، فهذا ظلم، ولو رضي البائع فقد رضي بما فيه سفه وظلم، كما لو رضي المدين أن يأخذ مائة ألف ويردها مائة وعشرة ويقول: أنا أرضى بهذا، نقول: إذا رضيت بالغبن على نفسك فالشريعة لا ترضاه، وعليه قال العلماء رحمهم الله: إنه إذا اشترط عليه الخسارة أي: قال المشتري: أشتريه، فإن ربحت فلي الربح، وإن خسرت فعليك الخسارة، فإنّه شرط باطل، لكن يبقى
السؤال
هل نبطل الشرط ونبقي العقد صحيحاً، أو نبطل الشرط والعقد؟ قال بعض العلماء: إذا اشترط مثل هذا الشرط فسد العقد وفسد الشرط، وعلى هذا: يبطل البيع من أساسه فترد القيمة ويأخذ هذا السلعة -أعني: البائع- ولكلٍ ماله وحقه.
وقال بعض العلماء: إذا اشترط شرطاً يخالف مقتضى عقد البيع صحّ البيع وبطل الشرط.
والذين قالوا: صح البيع وبطل الشرط استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها وهي قصة حاصلها: أن بريرة رضي الله عنها كانت مولاة، فكاتبت أهلها ومواليها وعجزت عن الكتابة -والكتابة هي أن يشتري العبد أو تشتري الأمة نفسها من أسيادها- فجاءت تشتكي إلى عائشة، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: إن شاء أهلك أن أنقدهم الثمن نقدتهم على أن يكون ولاؤك لي -أي: أن عائشة رضي الله عنها تريد أن تعتقها ويكون الولاء لها فأبى أهل بريرة إلا أن يكون الولاء لهم، مع أن الذي سيعتقها هي عائشة رضي الله عنها، فاشترطوا شرطاً ليس في كتاب الله عز وجل، وكان الأصل يقتضي أن من أعتق فله الولاء، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الولاء لمن أعتق)، فجاءت بريرة واشتكت لـ عائشة أنهم يصّرون على أنّ الولاء لهم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تشتريها وأن تشترط الولاء، ثم رقى المنبر وقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق؛ وإنما الولاء لمن أعتق)، (قضاء الله أحق) أي: هو الذي ينفذ وهو الثابت الذي لا يُبدل ولا يُغير (وشرط الله أوثق)؛ لأنه مبني على العدل والإنصاف، (وإنما الولاء لمن أعتق)، فجاءت من النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجُمل الثلاث فقرر بها العقد وهو عقد البيع وألغى بها شرط الولاء، فاستنبط بعض العلماء: أنَّ مَن اشترط شرطاً فاسداً أنه يبطل الشرط الفاسد ويصحّح العقد، وقالوا: على هذا إذا اشترط عليه وقال له: أبيعك هذه الدار بمائة ألف بشرط ألا تبيعها لأحد، نصحّح البيع ونلغي الشرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح بيع عائشة رضي الله عنها وألغى شرطها.
قال رحمه الله: [أو متى نفق المبيع وإلا رده].
(أو متى نفق) أي: في السوق، وهذا ما يسمى في عرفنا ببيع التصريف، والنوع الأول: الذي هو أن يشترط ألا خسارة موجود إلى الآن، فمثلاً بعض الثلاجات تباع ويقولون: خذها ونضمن لك ألا تخسر فيها، أو نعطيك هذه الثلاجة بشرط أن تؤجرها علينا، ففي هذا النوع قد تأتي الشركة وتقول: نبيعك هذه الثلاجة بخمسمائة ألف شرط أن تؤجرها علينا خمس سنوات، وفي بعض الأحيان يقولون: تؤجرها علينا خمس سنوات ونضمن لك أنك لا تخسر، وبعد خمس سنوات إن شئت رددنا لك نفس القيمة وإن شئت أخذت الثلاجة.
فهذه كلها شروط فاسدة، فإن قال له: بشرط أن تؤجرها علينا فقد بطل البيع من أساسه؛ لأنه جمع عقدين في عقد واحد وصفقتين في صفقة واحدة فكانت كبيعتين في بيعة.
وأمّا إذا قال له: نبيعك على ألا تخسر فهذه تكون صورة حاضرة لما جمع بيعاً بشرط عدم الخسارة.
ثم انتقل إلى نوع ثانٍ من الشروط الفاسدة وهو ما يسمى (ببيع التصريف)، يأتي ويشتري منه البضاعة ويقول له: ما نَفَقَ منها أعطيتك قيمته وما لم ينفق أرده عليك، وهذا يقع في المواد الغذائية يقع في السيارات يقع في الثلاجات يقع في الأقمشة، وهذا لا يجوز؛ لأن الأصل يقتضي أنه يشتري منك إن ربح كان له ربحه وإن خسر تحمّل الخسارة؛ لأن فيه ظلماً على البائع، والشرع لا يأذن بالظلم ولو رضي به صاحبه؛ لأنه نوع من السفه، والسفيه محجور عليه في تصرفه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى للمسلم أن يدخل الضرر على نفسه باسم عقد شرعي، وهذا ليس من العقود الشرعية، وعلى هذا فما الحل؟ نقول: أفضل شيء في هذا أن تقول الشركة في المواد الغذائية أو غيرها: خذ هذه السلع واعرضها للبيع وكل مادة غذائية تبيعها لك فيها كذا وعلى هذا يصبح العقد عقد إجارة، فما نفد منها أخذت الشركة الأصلية أصل المبلغ الذي تريده وأعطت التاجر قدر الإجارة المتفق عليه، فهذا مخرج شرعي وليس فيه إشكال، وهو مثل بيع التصريف، إلا أنه في بيع التصريف يعقدونه بيعاً، والشرع لا يأذن به، فليعقدوا إجارة لكي يخرجوا من الإشكال، يقول له مثلاً: خذ هذه الخمسين سيارة واعرضها في المعرض، فما مشى منها فالحمد لله ولك في كل سيارة خمسمائة ريال، أو النوع الفلاني من السيارات إن بعته فالسيارة الواحدة لك فيها أجرة بقيمة معينة لما تقوم به من العرض ولتكن خمسمائة ريال، وأمّا الثمن الأساسي فتأتي به إلى صاحب المؤسسة أو صاحب الشركة، فهذا عقد إجارة إذا استوفى شروط الإجارة في تحديد الأجل أو تحديد طريقة البيع، أمّا لو قال له: خذ هذه الكتب وبعها على التصريف، أبيعك الكتاب بعشرين، ويأخذ صاحب المكتبة الكتاب ويبيعه بثلاثين ثم يعطيه عشرين فيأخذ الربح، مع أن الذي ضمن الخسارة هو البائع الأول، فيكون صاحب المكتبة ظالماً لمالك السلعة الأساسية من هذا الوجه فقد أخذ ربح ما لم يضمن، وعلى هذا فلو أن المكتبة احترقت سيقول صاحب المكتبة: أنا لم أشتر منك فأنت الذي تتحمل هذه الخسارة، يقول له البائع: لا، إنمّا تحمّلت لك خسارة ألا يباع ولم أتحمل لك خسارة التلف، فتقع بينهما الخصومة، ويصير من باب تداخل العقود، فلا تستطيع أن تقول: إنه بيع على الحقيقة، ولا تستطيع أن تقول: إنه ليس ببيع، فالعقد بينهما بيع ولكنه ليس على الصورة الشرعية، فأوجب الغرر وصار من العقود المشبوهة التي لا يأذن الشرع بها لوجود هذا الغبن.
قال: [أو لا يبيعه].
أي: أن يبيعه الشيء على ألا يبيعه، كأن يقول: أبيعك هذه السيارة على ألا تبيعها لأحد، فالبيع صحيح والشرط باطل.
قال: [ولا يهبه ولا يعتقه].
كقوله: أبيعك السيارة على ألا تهبها لأحد أبيعك هذا القلم على ألا تعطيه لأحد، فهذا كله لا يجوز؛ لأنه يخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى عقد البيع أن صاحب السلعة حرٌّ فيها، إن شاء باعها وإن شاء وهبها أو تصرف فيها بالمعروف.
قال: [ولا يعتقه، أو إن أعتق فالولاء له].
كقوله: أبيعك هذا العبد على ألا تعتقه، فإن أعتقته فالولاء لي، فيكون قد ظلمه من وجهين: أولاً: قال له: أبيعك هذا العبد على ألا تعتقه، فرفع يده في شيء مَلَّكَه الشرع أن يتصرف فيه، فَحَرَّمَ عليه البيع مع أن الله أذن له أن يبيع ما اشترى.
ثانياً: منعه من الولاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله)، وعلى هذا فإنّه يعتبر شرطاً فاسداً، فيلغى الشرط ويصحح العقد -كما ذكرنا-.
قال رحمه الله: [أو أن يفعل ذلك: بطل الشرط وحده، إلا إذا شرط العتق].
قوله: (أو أن يفعل ذلك) أي أن يقول: أبيعك هذا العبد بشرط أن تعتقه، (أن يفعل ذلك) أي: يفعل العتق، فإذا قال له: أبيعك هذا العبد على أن تعتقه أبيعك هذه السيارة على أن تبيع(151/4)
حكم بيع الرهن والعربون
قال رحمه الله: [وبعتك إن جئتني بكذا أو رضي زيد.
أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك.
لا يصح البيع].
[وبعتك إن جئتني بكذا].
وهذا كما ذكرنا أدخل شرطاً زائداً على مقتضى العقد، فهذا يعتبر من موجبات الغرر، ويكون فساده من جهة كونه تَضَمَّن شرطاً يوجب الغرر، وقلنا: إنه إذا تضمن عقد البيع ما يوجب الربا أو يوجب الغرر فإنه يوجب الفساد.
قال: [أو رضي زيد].
وهكذا إن رضي زيد فلا ندري أيرضى أو لا يرضى؟ فأصبح مما فيه غرر.
قال: [أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك، لا يصح البيعُ].
يعطيه الرهن ويقول له: (إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك).
كأن يأتي شخص إلى بائع عنده سيارة أو عنده أرض.
إلخ، فيقول له: بكم هذه الأرض؟ قال: بمائة ألف، قال: أنا أريد أن أشتريها، قال له: أنا لا أضمن، قال: إذاً أعطيك رهناً على أنني أريد أن أشتريها، فسأذهب وأُحْضِر المال ثم تعطيني الرهن ونتم الصفقة، فإن لم أُحْضِر لك المال فالرهن لك، فهذا من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن الرهن لا يوضع إلا من أجل ضمان الحق في البيع المؤجل.
فإذا ملكت السلعة وعجزت عن السداد قام المالك الحقيقي ببيع الرهن وتسديد ماله، على ظاهر آية المداينة في آخر البقرة، فأصل الرهن للاستيثاق أن حقك يُضْمَن كبائع، فإذا جاء يقول لك: إنني أذهب وأُحْضِر المال فالبيع بيع معجل وليس بمؤجل، وليس على صورة الرهن الشرعي، فإن لم آتك بالنقد فالرهن لك، وأصبح الرهن يُعطى بدون مقابل، وبناءً على ذلك يكون من أكل المال بالباطل، قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في الصحيح: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله؟!!)، وبناءً على ذلك كأنه يأخذ هذا الرهن بدون مقابل.
فمثلاً: قال لك: هذا القلم قيمته عشرون، أو هذه الساعة قيمتها خمسون، تقول: أنا أرغب أن أشتريها، قال: أعطني الخمسين، قلت: ليست عندي الآن ولكن أذهب وأحضرها، قال: لا أضمن، فقلت: إذاً خذ هذا القلم رهناً حتى أحضر لك الخمسين، فإن لم أحضر الخمسين فالقلم لك، فأصبح يأخذ القلم بدون مقابل، وهذا شيء لا يجيزه الشرع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، هذا الرهن لقاء ماذا؟ ليس له مقابل، فأصبح يأكل مال أخيه بدون حق، والشرع لا يجيز هذا، ثم إنّ هذا يُربّي في نفوس المؤمنين الأنانية بالتعامل المادي.
فيصبح الشخص لا يتعامل إلا مادياً مع أخيه، فإذا قال لك أخوك: أحضر المال وجاءه ظرف أو جاءه شيء فإما أن تقيله أو تطالبه بأصل العقد الذي بينك وبينه، أمّا أن تأخذ منه شيئاً بدون حق فلا، ولك أن تقول له: أطالبك بإمضاء البيع فهذا من حقك؛ لأنه إذا اشترى منك وقال لك: سأحضر لك المال فقد أوجب البيع وافترقتما، فالبيع واجب والرهن ساقط تأثيره في حال العجز، فيبقى عقد الصفقة الأول -الذي هو البيع والشراء الذي تمّ بينك وبينه- ترفعه إلى القضاء وتطالبه بحقك، أمّا أن تأخذ الرهن بدون مقابل فهذا من أكل مال الناس بالباطل، ويدخل في هذا بيع العربون، وبيع العربون فيه قولان مشهوران للعلماء رحمهم الله، وربما يأتي إن شاء الله الكلام عليه.
والصحيح: أنه لا يجوز، وهو مذهب طائفة من السلف رحمهم الله؛ لأنه من أكل المال بالباطل، فإذا جئت تشتري سيارة ودفعت عربوناً ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف ثم عجزت عن دفع الباقي فالأصل الشرعي أن المالك البائع من حقّه أحد أمرين: إمّا أن يسامحك ويقبل العذر ويرّد لك ما قدّمت من العربون، وإمّا أن يطالبك بإمضاء البيع، يقول لك: البيع لازم، ومن حقه شرعاً أن يطالبك، فتأخذ الصفقة على ما أتممتها من بيع ثم تبيعها مرة ثانية، أمّا أن يأخذ البائع الخمسة آلاف أو العشرة آلاف والتي ربما لا يراها البعض شيئاً، ولكن تكون من كدّ الإنسان، فربما يكون المشتري قضى سنوات وعرق جبينه دهراً طويلاً ليحصل هذا المبلغ، ثم العربون إذا قلت بمشروعيته في مائة أو خمسين أو عشرين أو ألف فما تقول حين يكون بالملايين؟ لأنك إذا أجزت العربون تجيزه في جميع الصور؛ لأنه إذا أعطاه عربوناً بمليونين أو ثلاثة ملايين وأخذها البائع فبأي حق يأخذ هذه المبالغ الكبيرة التي لا موجب لها.
قد يقول قائل: فَوَّتَ السوق عليه، نقول: لم يفوته، إن شئت تقول له: خذ الصفقة وتلزمه بالدفع؛ لأن هذا من حقك شرعاً، فالبيع الأول تام ووجب.
أمّا أن تتّخذ العربون بديلاً فهذا من أكل المال بالباطل، ويصدق عليه بدون شك قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، والنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا في بيع الثمار: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك -مع أن الصفقة هنا لقاء شيء- فبم تستحل أكل ماله؟!!) فالعربون هذا -الخمسة آلاف والعشرة آلاف- لقاء أي شيء؟ إن قلت: فوّت عليّ السوق فحينئذٍ أمض الصفقة وطالبه أن يدفع لك المال كاملاً لا تَظْلِمه ولا تُظلم، ثم هو يتصرف؛ فلو جاءك وقال: أشتري منك هذه الدار بمائة ألف وأعطاك عربوناً عشرة آلاف فإنّه ملزم شرعاً أن يتم الصفقة؛ لكن لو جاءك وقال: عندي ظروف أو كذا تقول له: أنا أيضاً عندي ظروف، فإن كانت ظروفك أنت تسمح لك أن تساعده ساعدته، وإن لم تسمح فحينئذٍ ليس لك من شأن في ظروفه، وأنت شرعاً تدفع الضرر عن نفسك بعقد شرعي صحيح، وهو الذي غَرَّر بنفسه؛ لأنه لو ربحت الصفقة لأخذها، كذلك إذا خسرت، وعلى هذا: يلزم بدفع المبلغ كاملاً ويكون العربون ساقطاً ومحسوباً من أصل القيمة، أو يجب ردّه إلى صاحبه إن لم يوجبا البيع ولم يلزمه بإمضائه.(151/5)
شرط البراءة صورته وأنواعه وحكمه
قال رحمه الله: [وإن باعه وشرط البراءة من كل عيبٍ مجهولٍ: لم يبرأ].
ذكر المصنف رحمه الله جملةً من الشروط التي يتفق عليها البائع والمشتري، وقسَّم هذه الشروط إلى: ما اعتد به الشرع واعتبره وهي الشروط الجائزة الصحيحة، وإلى نوعٍ حرمه الشرع ومنعه وهي الشروط المحرمة.
وقد بيَّنَّا ما يترتب على الشرط الصحيح، وما يترتب على الشرط الفاسد.
وهناك نوع من الشروط يشترطه البائع على المشتري في بعض صور البيع، وهو الذي يسمى بشرط البراءة، والمراد بشرط البراءة: أن يتخلى البائع عن الالتزام بالعيوب الموجودة في السلعة، كأن يعرض أرضاً للبيع أو سيارةً أو طعاماً ويقول: أنا بريء من كل عيب فيها، وهذا النوع من الشروط موجودٌ في زماننا، حيث إن الناس يتعاملون به في بيوعاتهم، وكثيراً ما يقع في بيع المزاد العلني في السيارات -مثلاً- فإنه إذا بيعت السيارة صيح عليها أنها كومة حديد، أو نحو ذلك من العبارات التي يقصد منها أن يتخلى البائع عن المسئولية.
وقبل الدخول في شرعية هذا النوع من الشروط أو عدم شرعيته ينبغي أن نقرر القاعدة الشرعية التي عليها الحكم بجواز الشرط وعدم جوازه.
فالأصل أن المسلم إذا باع لأخيه المسلم أن ينصح له وألاَّ يغشه وأن يمحضه البيان الذي لا تدليس فيه.
والأصل في هذا قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فمن مقتضى أخوة الإيمان أن يرضى المسلم لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه، وأن يكره له ما يكرهه لنفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، قال بعض العلماء: وهذا يدل بالمفهوم على أنه لا يؤمن حتى يكره له ما يكرهه لنفسه، فالمسلم بطبيعته لا يرضى أن يغشه أحد في سلعة يشتريها أو عقار يشتريه، ولا يرضى أن يكتم عنه عيباً موجوداً في السلعة، بل ولا يحبه ويكره من يعامله بهذه المعاملة، وهذا هو الأصل؛ لأن النفوس جُبِلَت على حب النصح وكراهية ضده، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة -ثم قال في آخر الحديث-: ولأئمة المسلمين وعامتهم)، فمن النصح أن ينصح لعامة المسلمين، فإذا باع لهم شيئاً بيّن لهم ما في ذلك الشيء من العيوب.
وأكده عليه الصلاة والسلام حينما بيّن أن بركة البيع مقرونة ببيان العيوب.
والدليل على هذا: قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث حكيم بن حزم وغيره: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)، فالله يمحق البركة من المال ويمحق البركة من الخير الذي يجنيه البائع أو المشتري من السلعة التي يبيعها أو يدفع الثمن لقاءها إذا كتم عيباً في الثمن أو المثمن، فالنصوص واضحة في الدلالة على أنه ينبغي النصيحة، وثبت في حديث جرير رضي الله عنه وأرضاه: أنه اشترى فرساً فأعجبه، فلما ركبه وجده يستحق قيمةً أكثر من القيمة التي اشتراه بها، فرجع إلى البائع وزاده في الثمن، ثم ركب الفرس مرة ثانيةً فأعجبه فرجع ثانيةً وزاد في القيمة، ثم ركبه مرةً ثالثة فأعجبه فرجع إلى البائع مرةً ثالثة وزاده، فكأن البائع ظن أن بـ جرير بلاءً أو خبلاً أو خفة فقال له جرير: (بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، والنصح لكل مسلم)، فجعل هذا من النصيحة، وهو أنني لا أرضى أن أقتطع حقاً لأخي المسلم بدون وجه حق.
وتوضيح ذلك: أن السلعة إذا كان ظاهرها السلامة والبائع يعلم أن فيها عيباً لو علمه المشتري لما اشتراها، أو يكون ظاهرها السلامة وفيها عيب لو كان المشتري على علم به لأنقص الثمن، كأن تكون القيمة المتفق عليها عشرين ألفاً، وهذا العيب يُنقص ثمن السلعة إلى خمسة عشر ألفاً أو إلى عشرة آلاف، بل قد ينقصها ثلاثة أرباع القيمة فلا تستحق إلا خمسة آلاف، فكونه في هذه الحالة يعلم بهذا العيب ويكون على إلمام بوجوده وتأثيره بالسلعة ويسكت على ذلك، لا شك أنه خلاف النصيحة.
ثم المشكلة ليست هنا، بل إن سكوته يفضي إلى أكل المال بالباطل، وتوضيحه: أن السلعة بسبب هذا العيب تكون قيمتها عشرة آلاف، وبدون العيب تكون القيمة عشرين ألفاً، فمعنى ذلك أن العشرة آلاف الزائدة تؤكل بالباطل، وعلى هذا لا يجوز أن يعرض سلعةً يعلم فيها عيباً ويكتمه عن البائع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن قيام الدين على النصيحة، وأن من لوازم الإسلام أن ينصح المسلم لأخيه المسلم، فيحب له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه.
ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله فيما يسمى ببيع البراءة، واختلفت صور بيع البراءة على هذا الأصل، فإن كان البائع قد برئ من عيب سماه للمشتري، فلا إشكال، وإن كان قد برئ من عيب لم يسمِه للمشتري فهذا فيه الإشكال، فأصبح بيع البراءة على حالتين: الحالة الأولى: أن يبرأ البائع من عيب يسميه للمشتري.
الحالة الثانية: أن يبرأ البائع من العيوب مطلقاً ولا يسميها ولا يذكرها للمشتري.
فأمّا إذا برئ البائع من عيب يسميه للمشتري فلا يخلو المشتري من حالتين: الحالة الأولى: أن يعلم العيب ويراه بالاطلاع، كأن يقول له مثلاً: بعتك سيارتي الفلانية، وأنت تعلم أن بها العيب الفلاني، فهذه براءة من عيب معلوم من الطرفين، وهذا يقع خاصة مع الأصدقاء والإخوان والأقارب فإنهم يعلمون عيوب السلع؛ لأن المداخلة وقرب بعضهم من بعض يوجب اطلاع بعضهم على عيوب السلع الموجودة عند البعض، فإذا برئ له من عيب سمّاه وعلمه المشتري فبالإجماع يكون البيع جائزاً.
الحالة الثانية: أن يسمّي له العيب ولا يعلمه المشتري، ولا يعرف ما هو هذا العيب، كأن يقول له: بعتك هذه الساعة وفيها عيب كذا، ويكون المشتري جاهلاً بهذه العيوب وتخفى عليه، فالواجب على المشتري ألا يغرر بنفسه، وألا يقبل بالبراءة حتى يطلع أهل الخبرة ويرجع إليهم ويسألهم عن هذا العيب، فإن تقحم ورضي بذلك فقال بعض العلماء: إنه يلزم بالبراءة، فلو جاء يشتكي بعد ذلك وقال: هذا العيب أنا ما كنت أظن أنه بهذه الصفة، أو ما كنت أظن أنه بهذه المثابة؛ فإنه لا يقبل عذره؛ لأنه هو الذي فرّط وهو الذي قصر، والبائع قد برئت ذمته حينما سمّى له العيب وبيّنه له.
وقال بعض العلماء: بل يبقى له الخيار، على تفصيل سيأتي في خيار العيب.
وهذا بالنسبة إذا سمى له عيباً لا يعرفه المشتري.
أمّا الحالة الثانية وهي: أن يبرأ له من العيوب ولا يسميها، كأن يقول له: هذا البيت أنا بريء من أي عيب فيه، سواء كنت أعلمه أو لا أعلمه، أو يقول له: هذا البيت أبيعكه كأرض تراب -أي ليس فيها شيء- فلا تلزمني غداً بعيب في البناء ولا بعيب في المنافع الموجودة في البيت، فأنا بريء من كل هذه العيوب وكما يقال في السيارات: (كوم حديد)، أو يقال في الخشب: (كوم خشب) أو نحو ذلك، وكل هذا يقصد منه التخلص من المسئولية، فهذا النوع من البيوع اختلف العلماء فيه على قولين: قال بعض العلماء: إذا برئ براءة مطلقة من العيوب لا يجوز ولا يصح البيع؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل، فلا يجوز ولا يصح هذا الشرط ولا يلزم به؛ ولأنه يفضي إلى الغرر، فأمّا كونه أكلاً لأموال الناس بالباطل؛ فلأنه يشتري السلعة وهي تستحق القيمة، فلما ظهر فيها العيب نقصت قيمتها فأُكل الفرق بالباطل، كما لو كانت قيمة السلعة عشرين ألفاً بدون عيب، وبالعيب تصبح عشرة آلاف، فتؤكل عشرة آلاف زائدة بدون وجه حق.
وأما أنه غرر، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه: (نهى عن بيع الغرر)، فأنت حينما تشتري قلماً من أجل أن تكتب به فإذا به عيب يمنع من الكتابة، فبمجرد أن تطلع على هذا العيب لا تستطيع أن تنتفع بهذا القلم إلا إذا أصلحته، وقد يكون هذا العيب لا يمكن إصلاحه أو يكلف مالاً كثيراً لا تستطيع أن تقوم به فتعطلت منافعك، فأنت تغرر وتخاطر بنفسك، والبائع يغرر بالمشتري ويخاطر به، خاصة إذا نظر إلى المبيعات الغالية والمبيعات التي تتعلق بها مصالح الناس أو ترتبط بها أرواح الناس كأجهزة العلاج أو نحوها، فهذه أمور ليست بالسهلة حينما يبرأ البائع من كل عيب فيها ويخاطر المشتري بنفسه ويقبل بهذا الشرط ثم يلزم به شرعاً، ولا شك أن ما ذكروه صحيح، وبناءً على هذا: فإن هذا القول -أعني: المنع والتحريم- هو الصحيح؛ لأن الذي قال بالجواز استدل بقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون على شروطهم)، ولكن يرد هذا الاستدلال بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله)، وتوضيحه: أنه إذا اشترط البراءة فمعناه أنه سيسقط حق المشتري في الرجوع بالأرش (أرش العيب)، والثابت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن المشتري له حق في العيب كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، فهذا النوع من الشروط يسقط لتعارضه مع ما ثبتت به السنة وهو خيار الرد، وحينئذٍ يكون من الشروط التي تعارض كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى أنها تورث الأحقاد وتنزع الثقة بين المسلمين، فإن الإنسان إذا اشترى من أخيه شيئاً بهذه الصفة ثم وجد فيه عيباً يمنع من الانتفاع به لا شك أن هذا سيؤثر عليه فيكرهه أو يبغضه ويوجب ذلك القطيعة بين المسلمين، وقد حرم الله عز وجل بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأنه يفضي إلى القطيعة، فلا شك في أن هذا النوع من البيوع وهذا النوع من الشروط يفضي إلى هذه المفاسد الدينية والدنيوية، وبناءً عليه: فليس من حق البائع أن يبرأ إلا من عيب معلوم يسميه للمشتري ويكون منه على بصيرة من أمره، إن شاء أمضى الصفقة وإن شاء ألغاها.(151/6)
خيار العيب وحكمه
قال رحمه الله: [وإن باعه داراً على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر أو أقل: صح].
قوله: (وإن باعه داراً على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر) كأن تبين خمسة عشر أو عشرين أو ثلاثين، (أو أقل) أي: لو باعه إياها على أنها عشرة فأصبحت تسعة أو ثمانية فإن البيع صحيح في أصله، ونركب الخيار للمشتري.
فنقول له: أنت بالخيار إن شئت أن ترضى بهذه الدار بهذه الصفة وتأخذ أرش النقص -كما سيأتي إن شاء الله في خيار العيب- وإن شئت رددت الصفقة، وعلى هذا فهو بين أمرين: الأمر الأول: أن يمتنع لفوات غرضه.
الأمر الثاني: أن يمضي ويأخذ الأرش.
ففي الحالة الأولى: أن يمتنع لفوات الغرض.
مثال ذلك: لو اشتريت أرضاً في مخطط على أن مساحتها تساوي أربعمائة متر مربع مثلاً، فتبين أن المساحة أقلّ من ذلك، فتقول: لا أستطيع إمضاء البيع؛ لأن الشيء الذي من أجله اشتريت هذه الأرض لابد وأن يكون بهذه المساحة، فإذا قلّ عنها فات غرضي من البيع، فلو أننا ألزمنا المشتري في هذه الحالة لكان فيه ضرر وفيه إجحاف، فحينئذٍ نقول له: لك الخيار أن تأخذ الثمن ثم ترد الأرض وتشتري ما شئت مما يتفق أو يعين على تحقيق غرضك.
وأما في حالة العكس كأن تكون الأرض أكثر وأكبر من المساحة التي اتفق على شرائها.
فمثلاً: لو كانت الأرض المتفق عليها أربعمائة متر فتبين أنها خمسمائة متر، فالمائة الزائدة ترد إلى البائع، وإذا أراد المشتري أن يشتريها فيشتريها بعقد جديد، وتكون مضافة إلى الأصل، ولا تصبح تابعة للبيع الأول.
قال رحمه الله: [ولمن جهله وفات غرضه: الخيار].
قوله: (ولمن جهله وفات غرضه) أي: من جهل هذا العيب الموجود في السلعة -كما ذكرنا- في بيع البراءة أنه قال له: بعتك هذه السيارة على أنني بريء من عيب كذا وسماه، وهذا العيب يجهله المشتري فله الخيار.
أو (فات غرضه) كأن يكون اشترى الأرض -كما ذكرنا- بأربعمائة متر ليبني عليها شيئاً، ولابد من وجود هذه المساحة للبناء عليها فبان أقلّ، فمعنى ذلك أن الغرض سيفوت، مثلاً: لو اشترى الأرض من أجل أن يأخذ عليها قرضاً، والقروض تشترط مساحة معينة، فاشترى الأرض على أن مساحتها تعادل مائتي متر مربع، وتبين أن مساحتها دون المائتين، فحينئذٍ غرضه أن يقترض ويبني، فلما نقصت مساحة الأرض فات غرضه الذي من أجله اشترى، فمن حقه -وله الخيار- أن يقول له: أعطني مالي وخذ أرضك، ثم يشتري ما يحقق أو يعين على غرضه الذي من أجله يشتري السلعة.(151/7)
الأسئلة(151/8)
الفرق بين الشروط الصحيحة والفاسدة
السؤال
مر معنا سابقاً جواز اشتراط المشتري على البائع كون العبد مسلماً وكاتباً، أفليس هذان شرطان في البيع، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد قلنا: إنه يجوز أن يشترط أن يكون العبد مسلماً، أو كاتباً، أو يكون عنده صنعة كالحجام ونحوه من أجل أن يستفيد ربُّ أو سيد العبد بعد شرائه، وبيّنا علة ذلك، والمصنف رحمه الله ذكر هذا في الشروط الصحيحة، ومسألة أن العبد فيه صفتان أو ثلاث صفات فهذا ذكر العلماء رحمهم الله أنها قد تكون شرعية، مثل اشتراط الإسلام يُقصد منه معنىً شرعي، كما لو أنه اشترط أن تكون الأمة مسلمة من أجل أن يُسَهِّل نكاحها من الغير؛ لأنها لو كانت وثنية فإنه لا يستطيع أن يتزوجها عبد مسلم، فهذا يكون فيه معنىً شرعي، ويكون المقصود منه مقصوداً شرعياً، ليس بمتمحض المنفعة مثل مسائلنا التي ذكرناها في عقود الصفقات حينما يجمع بين منفعتين أو بين شرطين في عقد البيع، وعلى هذا يجوز أن يقول له: أشترط أن يكون العبد كاتباً، ثم إن هذا يرجع إلى الصفات وليس بشرط زائد عن العقد، فالشرطان في البيع -كما تعلمون حسب الشرح الذي شرحناه- أن يقول له: أبيعك هذا الحطب على أن تكسره وتوصله، فـ (الحطب) الذي هو العين موجود أو مفقود؟ موجود، والتكسير سيوجد، والحمل سيوجد، وللتكسير قيمته وللحمل قيمته؛ لكن إذا قال له: أشترط أن يكون العبد مسلماً، فهذا شرط البيع أصلاً، أي: قائم في صفة المبيع بذاته وليس بشرط زائد عن البيع كعقد إجارة مثل أن يكسره ويحمله، كما لو قال: أشترط أن يكون الكتاب لونه أخضر، وأن تكون صفحاته من لون كذا؛ لكن لماّ تعقد البيع وتأتي بشرط زائد عن البيع فلا ترضى بالحطب مثلاً كما هو وتقول: أريد أن يكون مكسراً، ولا ترضى باللحم كما هو وتقول: أريد أن يكون مكسراً أو مفصولاً عن العظم، فحينئذٍ أدخلت الصفات على المبيع؛ لكن صفة الكتابة موجودة في العبد منذ أن تشتريه، وصفة الإسلام موجودة في العبد منذ أن تشتريه، ويقصد منها المعنى الشرعي، فهو يقصد الإسلام لمعنى شرعي، ويقصد الكتابة من أجل الرفق في نفس المبيع الذي يريد أن يشتريه، وعلى هذا ليس هذا من هذا، والبابان مختلفان، ولذلك لا تعارض بين الصفقتين في هذا البيع ولا في هذا البيع، والله تعالى أعلم.(151/9)
الجوائح وتأثيرها في العقود
السؤال
في بيع السلم هل يجوز أن يشترط البائع على المشتري عدم رد المال إليه إن أصابت الثمار جائحة، أثابكم الله؟
الجواب
السلم -سيأتينا إن شاء الله-؛ لكن بالنسبة للذي يشترط ألا تكون هناك جائحة، الجوائح موضوعة، وحكم الجوائح لا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجائحة، وبناءً على ذلك إن أصابت الجائحة المال فللعلماء وجهان: فبعضهم يرى: أنه يلزمه إحضار عين كالعين المعقود عليها، فلو اتفق معه على مائة صاع وأصاب هذه الأرض التي زرعها إعصار يعطي له مائة صاع من غيره، ويكون هذا من باب الانتقال إلى المعاوضة لوجود العذر الحسي؛ لأن الأعذار الحسية تمنع من نفاذ العقود وحينئذٍ لا يلزم صاحب الأرض؛ لأن الأرض أخرجت شيئاً وهلك فليس بوسعه أن يخرجها مرة ثانية في نفس الوقت المتفق عليه؛ لأنه قال: (إلى أجل معلوم)، فعقد السلم إلى أجل معلوم، وحينئذٍ يلزمه إذا فات منه أن يأتيه بمثل المتفق عليه من غيره، مثل الإجارة فإنه إذا قال: أريدك أن توصلني إلى مكة وتعطلت سيارته، يلزمه أن يستأجر سيارة مثلها في نفس الصفات فإن كانت هذه مثلاً مكيفة تكون هذه مكيفة، وكانت هذه تحمل الأغراض هذه تحمل الأغراض، ويستأجرها له من الموضع الذي فسدت فيه سيارته من أجل أن توصله إلى المكان المتفق عليه، وهكذا لو استأجره فأصابه عذر أقام غيره مقامه، وهذا أصل ذكره العلماء، وسيأتي معنا في باب الإجارة، والبيع في حكم الإجارة كما لا يخفى.
والله تعالى أعلم.(151/10)
حكم اشتراط المرأة عدم الزواج عليها في عقد النكاح
السؤال
إذا اشترط الولي على الزوج ألا يتزوج على ابنته زوجة ثانية، فهل هذا الشرط معتبر، أثابكم الله؟
الجواب
قد تشترط المرأة أو يشترط وليها أنه لا سابقة ولا لاحقة، ولا بأس أن يشترطوا؛ لكن: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، وهذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله.
فبعض العلماء يرى أنه لو اشترطت ألا سابقة ولا لاحقة، أي: لا تكون له زوجة؛ لأنه في بعض الأحيان يخفي الزوج أمر زواجه، ويتزوج على زوجته القديمة فتشترط: (لا سابقة ولا لاحقة)، فهذا الشرط للعلماء فيه وجهان: فبعض العلماء: يقول: الشرط ماضٍ، فإذا وُجد عنده امرأة سابقة فإنه من حقها أن تفسخ النكاح، ويكون المهر لها، ويمضي العقد على الوجه الذي تمّ بينهما، وليس من حقه أن يبقيها، وتكون طلقة بائنة بينونة صغرى ولا تحل له إلا بعقد جديد.
وقال بعض العلماء: إن اشترطت: (لا سابقة ولا لاحقة) فإن الشرط باطل والعقد صحيح، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس -ونسأل الله أن يتمم بخير-، وإن كان هذا لا يرضي النساء؛ لكن هذا حكم الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل أخبرنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، والذي في كتاب الله: {فانكحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، فالله يندب ويحبب ويرغب؛ لأن هذا من الرفق بالنساء، فالمرأة قد تكون عانسة، أو مطلقة، أو مات عنها زوجها فتضم إلى بيت من البيوت تحت رجل يستر عرضها، ويقوم على شأنها ويرفق بها، فإذا جاءت هذه تقول له: لا سابقة ولا لاحقة، آذت المسلمين وأضرت بهم، ثم أيضاً أضرّت به هو فهو قد يقع في الحرام، وهذا موجود في بعض البيئات التي يرون نفاذ هذا الشرط فإنها تقع مصائب عظيمة، فالرجل يتزوج المرأة وتشترط عليه: لا سابقة ولا لاحقة ثم تنجب له عشرة أبناء، وقد يذهب جمالها فيخاف على نفسه الحرام وقد يصيبها شيء من العاهات والآفات فيخاف على نفسه الحرام، فلا يستطيع أن يطلقها ولا يستطيع أن يتزوج عليها؛ لأنه إذا تزوج عليها طلقت طلقة بائنة فذهب عليها أولادها، وإذا بقي ربما يقع في الحرام، فهذا الشرط لا شك أنه يضر بالزوج ويضر بالمرأة ويضر بالنساء، فمن باب الرفق بالجميع أنه لا يعتبر هذا الشرط ولا يعتد به، وهذا هو الذي تميل إليه النفس، وإن كان هناك من خالف، لكن الصحيح: أن هذا الشرط يخالف شرع الله.
وأما من قال: إن هذا الشرط مشروع لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج)، فنقول: نعم بشرط أن يكون موافقاً لشرع الله لا معارضاً له، فمثلاً: تشترط عليه أن يكون لها بيت داخل المدينة، فهذا شرط استحلّ به الفرج فلابد أن يفي لها، أو يشترط وليها فيقول: أشترط أن تؤثث بيتها من الفراش الفلاني، أو أن تكون لها شقة، فيشترط شروطاً في كتاب الله وفيها رفق بالمرأة، وفيها أيضاً رفق بالزوج، فإذا كان على هذا الوجه فهذا من كتاب الله وموافق لشرع الله؛ لكن إذا اشترطت عليه: لا سابقة ولا لاحقة ويبقى على امرأة واحدة؛ فقد لا يأمن على نفسه الحرام إن حاضت، أو إن حملت، أو إن نفست، فهذا لا شك أن فيه ضرراً، وهو يخالف شرع الله؛ لأنه يفضي إلى تحريم التعدد عليه، وعلى هذا: فالذي تطمئن إليه النفس أن الشرط لاغٍ والعقد صحيح وتام.
والله تعالى أعلم.(151/11)
حكم بيع التقسيط والزيادة فيه
السؤال
ما الدليل على جواز الزيادة في بيع التقسيط؟ وهل يجوز للبائع إذا أتى موعد السداد وعجز المشتري عن السداد أن يزيد عليه في القسط، أثابكم الله؟
الجواب
أما المسألة الأخيرة وهي أن يزيد عليه في القسط فهذا ربا، فلو قال له: إما أن تسدد في الوقت فإذا لم تسدد في الوقت فعليك زيادة (6%)، فهذا عين الربا بإجماع العلماء رحمهم الله؛ لكن لو أنه اشترى منه بالتقسيط أو إلى أجل وزاد في القيمة فهذا لا بأس به؛ وذلك أولاً: لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]، فإن بيع المؤجل قيمته ليست كالمعجل، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، فإنك إذا بعت السيارة حاضرة قيمتها مائة ألف؛ لكن إذا بعتها إلى أجل تضررت بتأخر القيمة فجعلت القيمة المؤجلة غير القيمة المعجلة وزدت فلا بأس.
وأما مسألة تقسيط الثمن فإن الشرع قد أذن بتقسيط الثمن كما في بيع المكاتب، فإن المكاتب يدفعها أقساطاً، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لـ بريرة: (إن شئت نقدتك إياها) أي: نقدتك الأقساط المؤجلة، وبيع التقسيط بإجماع العلماء ليس فيه حرج.
أما حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة) فإنه لا ينطبق على بيع التقسيط إلا في صورة واحدة وهي أن يقول له: أبيعك هذه السيارة بمائة ألف نقداً وبمائتي ألف إلى نهاية السنة، ويفترقا ولا يحددا، أما لو حدد أنه اشتراها حاضرة أو اشتراها إلى أجل فليست من بيعتين في بيعة، فإذا قال له: اشتريت بمائة بالتقسيط فقد تمت صفقة واحدة ولم تتم صفقتين، ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعي له بالفقه في الدين فسّر الحديث على هذا الوجه: أنه إذا أوجب إحدى الصفقتين فليس من بيعتين في بيعة، وروى عبد الرزاق في مصنفه، وابن أبي شيبة في مصنفه عن طاوس وعن جماعة من السلف وعن ابن سيرين أنه حكى عن جماعة من التابعين أنهم لا يشكُّون ولا يختلفون أنه إذا أوجب إحدى البيعتين فليس ببيعتين في بيعة؛ إنما المحرم أن يقول له: اشتريت.
ولا يحدد هل اشترى نقداً أو اشترى إلى أجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فله أوكسهما -أي: أوكس القيمتين- أو الربا)، فجعله حائزاً إما على القليل أو حائزاً على الربا، وهذا إذا لم يحدد إحدى البيعتين؛ لأنه إذا حدد إحدى البيعتين لم يقع في التخيير ولم يقع في الربا، وعليه: فإن هذا -أعني: بيع التقسيط- جائز ومشروع، وحكى بعض العلماء أنه لا خلاف بين أهل العلم في جواز بيع الأجل -أي: المقسط- الذي يوضع على الشهور أو يوضع على السنوات.
والله تعالى أعلم.(151/12)
حكم البراءة من العيوب التي يعلمها المشتري
السؤال
إذا اشترطت على من يشتري السيارة أن يأخذها لأهل الخبرة كمهندس ونحوه ثم أبرأ بذلك عند ذكر العيوب التي يعرفها، فهل هذا جائز، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا عرض السيارة للبيع وقال للمشتري: خذها إلى من له خبرة ينظر فيها ويبين لك عيوبها، فأخذها ومضى بها إلى مهندس ونحوه فاكتشف أن بها عيوباً، وجاء إلى البائع وقال: وجدت فيها العيب الفلاني وسمى العيوب، فقال له البائع: أنا بريء منها، فإن البراءة صحيحة والبيع صحيح إذا أنعما وأطلع البائع المشتري أو مكّن المشتري من الاطلاع عليه على هذا الوجه، وهكذا لو قال له: هذه الأرض، وهذه مواصفاتها وهذا ما فيها فاذهب إلى أهل الخبرة فإن وجدوا بها عيباً فأخبرني، ثم لما وجدوا فيها عيباً أو عيوباً ذكرها له فبرئ منها وأوجب الصفقة على ذلك صح هذا؛ لأن المشتري يكون على بينة من أمره وليس فيه غرر ولا غبن.
والله تعالى أعلم.(151/13)
مدى صحة قولهم: (البضاعة لا ترد ولا تستبدل)
السؤال
بعض المحلات تشترط ويُكتب في الفاتورة: البضاعة لا تردّ ولا تستبدل، هل هذا الشرط صحيح؟ وهل يؤثر في العقد، أثابكم الله؟
الجواب
هذا الشرط يقصد منه أحد أمرين: الأمر الأول: إما أن يقصد صاحب المتجر أن البضاعة إذا خرجت من المحل فإني لا أردها ولا أستبدلها إذا جاءت كاملة بنفس الصفة، كأن تكون تبيع أطعمة أو تبيع ملبوسات أو أقمشة فتقول: من خرج من دكاني لا أردّ شيئاً مما اشتراه، من حيث الأصل الشرعي: من فارقك وقد اشترى منك شيئاً يُلزم بالصفقة وليس من حقه أن يرجع، فإذا رجع وطابت نفسك أن ترد له فهذا لك، ففي هذه الحالة إذا قُصد من قوله: (البضاعة لا ترد ولا تستبدل) دفع إحراج الناس، كأن يشتري منك نوعاً من القماش ثم يرجع بعد ساعة فيقول: أريد النوع الفلاني الثاني أو الثالث، وهذا يُحْدِث عندك ربكة ويحدث عندك تعطيل العمال ويضر بعملك ولا تريد إلاَّ أن تكون أعمالك منظَّمة مرتبة، بحيث إذا أخذت المال تستطيع أن تنتفع به وتستطيع أن تشتري به، خاصة بالنسبة للأشياء التي لها قيم غالية، فإنه يأخذ بيد ويشتري بيدٍ أخرى ولربما النصف ساعة هذه التي يملك فيها العشرة آلاف والعشرين ألف قد يشتري بها صفقة ثانية فإذا جاءه هذا يريد أن يستبدل أو يرد فإنه يضر به، فهذا النوع من الاشتراط، وهو أنه إذا رد لك السلعة كاملة ولا تريد أن تردها، فعندها من حقك أن تقول: لا أُقيل، وهذا يسمى الامتناع من الإقالة، وهو من حقك؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فإذا أخذ الصفقة كاملة وليس فيها عيب يلزمه أن يمضي البيع.
الأمر الثاني: أن يُقصد من هذه العبارة أنه حتى لو وُجد عيب فليس من حقك أن ترد وليس من حقك أن تستبدل، فهذا باطل، وليس من حق البائع أيّاً كان أن يشترط على المشتري أنه إذا وجد العيب ليس من حقه أن يرد، وهذا ما سميناه ببيع البراءة المطلقة؛ لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين) (ابتاعها) أي: اشتراها.
ومعنى الحديث أنهم كانوا في القديم يأخذون الناقة ويحبسون اللبن في ضرعها يوماً أو يومين فينتفخ الضرع، فمن رأى ضرع الناقة ظن أنها حلوب وزاد في السعر ورغب في الشراء، فلا ينكشف هذا العيب إلا بعد ثلاثة أيام؛ لأنه يحلبها في اليوم الأول الحليب المخزّن فيها فإذا به كثير، ثم في اليوم الثاني ينقص، وفي اليوم الثالث تتجلى الأمور في الناقة وفي الشاة أنها ليست بحلوب، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغش فقال: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها) أي: اشترى هذا النوع من الصفقات المبنية على الغش (فهو بخير النظرين: إن رضيها أمسكها) إن أعجبته فأمسكها فلا إشكال، كأن تشتري الناقة وإذا بها مصراة وأنت تريدها للحم، فتقول: كونها حلوباً أو ليست بحلوب لا يهمني؛ لأنني أريدها أضحية أو غير ذلك فلا يضرك كونها ليست بحلوب، إذاً: فهذا العيب لا يضرك فتمسكها (إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) فقوله عليه الصلاة والسلام: (ردها) أثبت الرد بالعيب، فلما يكتب على الفاتورة: (لا ترد ولا تستبدل) ليس من حقه الامتناع مع وجود العيب، فإذا كان فيها عيب فمن حقك أن ترد ومن حقك أن تستبدل إلاَّ في بيع العين -كما سيأتي-، فمن قال: أي سلعة تخرج من المحل لا ترد ولو كانت معيبة، نقول له: هذا باطل.
وبناءً على ذلك: كلمة: (البضاعة لا ترد ولا تستبدل) فيها تفصيل: إن قُصد منها إسقاط الحقوق في العيوب، فباطلة وليست بشرط معتبر؛ لأنه ليس من الشروط التي في كتاب الله، وإن قُصد منها إمضاء البيوع مع تمام الصفقات وعدم وجود العيوب فيها فإنه شرط صحيح؛ لأنه يوافق مقتضى العقد، وهذا يندرج تحت القسم الثاني من الشروط وهو -كما ذكرنا- أن يوافق مقتضى العقد؛ لأن مقتضى العقد إتمام الصفقة، فإذا قال لك: لا ترد ولا تستبدل فمعناه أنه يريد أن يتم الصفقة، والأصل في البيع أن تتم صفقته ولا تنقض، وأن تمضي ولا ترد، وعلى هذا فهو شرط شرعي صحيح إذا كانت السلعة مستوفية لصفاتها التي بيعت عليها.
والله تعالى أعلم.(151/14)
الفرق بين (الفساد) و (البطلان)
السؤال
هل هناك فرق بين لفظ (الفساد) ولفظ (البطلان) وذلك في العقود، أثابكم الله؟
الجواب
يعبر العلماء رحمهم الله بفساد البيع ويعبرون ببطلانه ولا يفرقون بين الفساد والبطلان على مذهب الجمهور، لكن عند الحنفية رحمهم الله تفريق بين الباطل والفاسد، فيجعلون الباطل ما لم يشرع بأصله ولا وصفه، والفاسد ما بطل بوصفه دون أصله، فيكون البيع في أصله مشروعاً؛ ولكن صفة البيع والطريقة التي تم بها البيع هي التي أوجبت فساده؛ ولكنها لا توجب بطلانه من أصله، فمثلاً بيع الخمر والميتة والخنزير هذه يقولون: بيع باطل؛ لأن الشرع لم يجعل لقاء الخمر قيمة، ولم يجعل لقاء الخنزير قيمة، ولم يجعل لقاء الميتة قيمة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) فهم يفرقون بين الباطل والفاسد من هذا الوجه، والصحيح مذهب الجمهور، وهو أنه لا فرق، وعند طائفة من العلماء أن الخلاف لفظي؛ لأن النتيجة واحدة والثمرة واحدة، ولكنه خلاف مصطلحات، وأيّاً ما كان فمن ناحية الحكم فإن الحكم واحد عند المذهبين؛ لكن الجمهور لا يفرقون بين الباطل ولا الفاسد، فيرون أنهما بمعنى واحد.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(151/15)
شرح زاد المستقنع - باب الخيار [1]
من كمال الشريعة المطهرة أن شرع الله الخيار في بعض المعاملات التي قد يلحق العاقد منها ضرر لأي سبب من الأسباب، والعقود من جهة تعلق الخيار بها أقسام، والخيارات بحسب دواعيها أقسام أيضاً.
وفي هذه المادة عرف الشيخ الخيار وذكر فوائده، ووجه دلالته على كمال الشريعة، كما بين أقسامه، وأقسام العقود التي يتعلق بها.(152/1)
تعريف الخيار وأنواعه وحكمة مشروعيته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال رحمه الله: [باب الخيار].
يقول المصنف رحمه الله: (باب الخيار) الخيار مأخوذ من الخير.
يقال: استخار إذا طلب الخير وسأله من الله عز وجل فيما هو قادم أو يريد القدوم عليه من أمور دينه أو دنياه.
ومنه سميت الاستخارة استخارة؛ لأن المسلم يسأل الله عز وجل خير الأمرين من المضي أو عدم المضي.
وسمي الخيار خياراً؛ لأن هذا النوع يكون فيه المتعاقدان أو أحدهما له حق الفسخ خلال مدة معلومة، أو له حق الفسخ ورد البيع لسبب معين خلال مدة معلومة مثل خيار الشرط، كأن يقول: أنا أشتري منك هذا البيت ولي الخيار ثلاثة أيام، فله أن يرد خلال هذه المدة المعلومة.
وله أيضاً أن يرد لسبب معين كوجود عيب في الصفقة، وهذا يسمى خيار العيب.
وخيار الغبن إذا غبنه.
وخيار التدليس إذا دلّس عليه في السلعة.
وهذا الباب يعتبر من أهم الأبواب المتعلقة بالمعاملات.
والعلماء رحمهم الله يذكرون الخيار في البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا).
ومناسبة ذكر المصنف للخيار عقب الشروط: أن الشروط فيها خيار، فحينما أقول لك: اشتريت منك هذه الدار على أن يكون لها صكّ شرعي، فمعناه أن لي الخيار في الفسخ إذا لم يظهر لها صك.
أو: اشتريت منك هذه السيارة بعشرة آلاف على أن فيها صفة كذا وكذا، فمعناه أن لي الخيار إذا لم تظهر فيها الصفة، فكأن هناك صلة بين الخيار وبين الشروط.
ومباحث الخيار تنبني على مباحث الشروط، أو تتصل بمباحث الشروط.
فلذلك يعتني العلماء بذكر باب الخيار عقب باب الشروط.
والخيارات أنواع منها: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار التدليس، وخيار الغبن، وخيار العيب … إلى آخر ذلك من الخيارات التي سنبينها إن شاء الله ونوضحها في مواضعها.
وقد شرع الله عز وجل الخيار لما فيه من دفع الضرر عن المسلمين، فإن المسلم إذا تبايع مع أخيه، أو تبايع مع الغير ربما ندم وأصابته الحسرة على هذه الصفقة التي أوجبها، فجعل الله عز وجل حداً معيناً يدفع فيه المسلم عن نفسه الضرر.
فأنت مثلاً لو كنت جالساً مع أخيك المسلم فقال لك: هذه السيارة أبيعها بعشرة آلاف، ربما استعجلت وقلت له: وأنا اشتريت؛ لأنك ترى أن السلعة تستحق العشرة آلاف بل وأكثر من عشرة آلاف، فتتسرع في الإجابة؛ لكنك إذا أمعنت النظر وتدبرت وجدت أن دفعك للعشرة آلاف يجحف بحقوق واجبة عليك، ولربما يضر بأهلك ونفقة عيالك، ولربما لا تضمن دخلاً يعينك على سداد الأقساط إذا كان البيع مؤجلاً، فالمسلم بطبيعته بشر يعتريه ما يعتري البشر من التسرع في الأمور؛ فكأن الخيار يدفع هذا النوع من الضرر في حدود ضيقة: وهي أن يكون الإنسان مستعجلاً في بت البيع فأعطاه الشرع خيار المجلس.
فما دمت مع البائع في نفس المجلس الذي تم فيه البيع، وانعقدت فيه صفقة البيع فمن حقك أن تقول: رجعت، ومن حقك أن تقول: لا أريد، وهذا النوع شرعه الله عز وجل دفعاً للضرر عن البائع ودفعاً للضرر عن المشتري، فكل منهما يدفع عن نفسه الضرر؛ لأنه ربما قال لك رجل: بعني سيارتك بعشرة آلاف، فإذا بك تستعجل وتقول: قبلت، فلما فكّرت ما هو البديل وما الذي ستشتريه بدل هذه السيارة، فوجدت أنك ستتضرر أكثر، فحينئذٍ تقول: لا أريد، وترجع عما قلت، وكان الأصل أنك ملزم بما قلت، لكن الشرع أعطاك هذا النوع من المهلة، وهو ما يسمى بخيار المجلس.
كذلك من حكمة مشروعية خيار الشرط: أن المسلم يشترط على أخيه المسلم في صفقة البيع، وذلك من أجل أن يدفع الضرر الموجود في السلعة، أو يدفع الضرر الذي يتوقع حدوثه من المضي في البيع، أو نحو ذلك من الأسباب التي تدفعه إلى الشرط.
مثال ذلك: لو أن رجلاً عرض عليك أرضه بعشرة آلاف، هذه الأرض قال لك: إنها طيبة وجيدة ويحتمل أنها في المستقبل تكون قيمتها أغلى، وهذا المكان الذي فيه الأرض له مميزات، فجعل يشرح لك الأمور التي ترغبك في شراء هذه الأرض، فبطبيعة الحال قد يكون الإنسان ليس عنده إلمام بمثل هذه الأمور، ويكون جاهلاً بسوق العقار، ولا يعلم كيف البيع والشراء كطالب علم لا يشتغل بمثل هذه الأمور.
فالله عز وجل من حكمته جعل له خيار الشرط فيقول له: قبلت البيع؛ ولكن لي الخيار ثلاثة أيام أستشير فيها وأرجع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، فإن أنعموا البيع أنعمت وأمضيت، وإن أشاروا عليّ بغيره فإني على خياري.
فهو حينئذٍ يدفع عن نفسه ضرراً، خاصة أن البيع قد يكون بمبالغ كبيرة يتضرر الإنسان بدخوله في مثل هذه الصفقات، وقد تكون محتاجاً إلى هذه الأرض ولا بد لك من أرض أو لا بد لك من سيارة.
فهذا النوع الثاني من الخيارات، فكما أن الأول يدفع عنك ضرر الاستعجال في بتّ البيع، كذلك هذا يدفع عنك ضرر ما يقال في السلعة أو يقال في الصفقة من المرغبات التي لا حقيقة لها، فيكون خيار الشرط سبباً في حفظ المسلم من أن يخُتل أو يضر به.(152/2)
أقسام عقود المعاملات
ومن المعلوم أن عقود المعاملات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: يقوم على الغبن المحض.
القسم الثاني: يقوم على الرفق المحض.
القسم الثالث: يقوم على الغبن والرفق.
وهذا مدخل نريد أن نبين به حكمة مشروعية الخيار تأكيداً لما تقدم.
والبيع يعتبر من العقود التي تسمى بعقود المعاوضات، ونظراً لأننا ندرس المعاملات المالية فلا بد أن نعرف أنواع المعاملات حتى يستطيع الإنسان أن يدرك الأسرار والحكم التي يفرق من أجلها الشرع بين المعاملات، فيشدد في نوع ويخفف في نوع.
فإذا أدركت السبب الذي من أجله خفف الشرع في هذا النوع وشدد في هذا النوع أدركت أنه لا أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، وأن هذه الأحكام الموجودة في البيوع لا يقصد بها التضييق على الناس وإنما المقصود منها أولاً وأخيراً خير الناس في دينهم ودنياهم وآخرتهم، وهذا يزيدك قناعة بحكم الشريعة وبصلاحيتها للفصل بين الناس وتوجيه الناس ودلالتهم على ما فيه صلاح أمور دنياهم، كما جاءت بما فيه صلاح أمور دينهم.
وعقود المعاوضات: هي التي تدفع فيها شيئاً عوضاً عن شيء، وهذا يشمل البيع، فأنت تدفع -مثلاً- عشرة آلاف ريال عوضاً عن سيارة.
ويشمل الإجارة، تقول له: أجرني بيتك أسكنه سنة بألف أو بخمسة آلاف.
ويشمل أيضاً النكاح يقول له: زوجتك ابنتي بعشرة آلاف، فجعل الاستمتاع بالبنت لقاء العشرة آلاف وهي المهر: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24].
وكذلك يشمل الهبة إذا كانت هبة عوض، كأن يعطيه ساعة فيعطيه هدية في مقابلها أو هبة في مقابلها قلماً، فهذا أيضاً يعتبر من عقود المعاوضات.
وكذلك الشركات حينما تقول: تدفع خمسين ألفاً وأدفع أنا خمسين ألفاً، ونشترك برأس مال مائة ألف على أن نتاجر، فهذا أيضاً من عقود المعاوضة؛ لأنه عاوضك بالخمسين الألف لقاء الخمسين الأف التي معه على أن يكونا رأس مال واحد.
وكذلك المضاربة، وهي التي تسمى بالقراض؛ تقول للعامل: خذ هذه المائة ألف واضرب بها في الأرض وتاجر والربح بيني وبينك، فأصبح عمل العامل لقاء جزء من الربح.
إذاً: ما يقصد منه الغبن المحض مثل: البيع والإجارة، فإن الرجل إذا قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف ستقول: بل بتسعة، أو يقول: بعشرة، وتقول: بتسعة ونصف، أو هو يقول: بتسعة ونصف، فكأن هناك مبلغاً فيه غبن إما عليك وإما عليه، فإن قوي البائع صار الغبن في حق المشتري، وإن قوي المشتري صار الغبن في حق البائع، وقد يتكافآن لكن هذا النوع من العقود يقوم غالباً على الغبن.
والإجارة كذلك، فلو قال له: أجّرتك هذه الشقة بعشرة آلاف في السنة سيقول: بل أستأجرها بتسعة آلاف بثمانية آلاف، فيماكسه ويحاول أن يحدث نقصاً، ويكون الغبن فيها في طرف المؤجر لا في طرف المستأجر، وهكذا لو قلت لعامل: اعمل عندي في المزرعة كل شهر بألف، فيقول: بل أعمل في هذه المزرعة كل شهر بألف ومائة، فكأن هناك مائة بين الطرفين.
فهذا النوع من العقود الذي المقصود منها الغبن يشدد الشرع في شروطه كما قدمنا في شروط البيع، ويشدد أيضاً في فتح باب الضرر على أحد الطرفين، ومن هنا جعل خيار المجلس في عقد البيع، وجعل خيار المجلس في عقد الإجارة؛ لأن المسلم يحتاج إلى شيء من الروية قبل أن يبتّ البيع ويلزم به.
فالمقصود أن هذا النوع وهو ما يقصد به الغبن نجد الشرع يحيط البائع والمشتري بسياج متين يقصد منه حفظ الحقين: حق البائع، وحق المشتري، فحق البائع ألا يبذل سلعته إلا وهو مطمئن، وحق المشتري ألا يدفع القيمة إلا وهو مطمئن إلى الوصول إلى ما يريده أو يبتغيه من صفقته.(152/3)
العقود التي يدخلها الخيار والتي لا يدخلها
ثم إن العقود تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: ما لا يلزم الطرفين لا حالاً ولا مآلاً.
القسم الثاني: ما يلزم الطرفين حالاً ومآلاً.
القسم الثالث: ما يلزم الطرفين أو أحدهما مآلاً لا حالاً.
فهذه ثلاثة أقسام للعقود.
يتركب منها مسألة الخيار، فحتى نعرف أين محل الخيار في العقود والمعاملات المالية وما يتبعها، ينبغي أن نقسم بهذه التقسيمات: القسم الأول: ما كان من العقود غير لازم لا حالاً ولا مآلاً: وهذا يشمل الأنواع الآتية: أولها: عقد العارية.
ثانيها: عقد الوديعة.
ثالثها: عقد القراض أو ما يسمى بالمضاربة.
رابعها: عقد الشركة.
نبدأ بالعارية: وهي أن يأخذ يستعير منك شيئاً، كالسيارة مثلاً، فإنك لست بملزم بأن تدفع له السيارة، فلك أن تعطيه ولك ألَّا تعطيه.
فإذا أخذ السيارة وجئت في أي وقت تقول له: أعطني إياها، فإنه يلزمه أن يعطيك.
كذلك أيضاً إذا أخذها هو وأراد أن يردها لك في أي وقت فله ردها، فالأخذ في مقابله الرد لا يلزم لا حالاً ولا مآلاً، فهذا النوع يكون الخيار ثابتاً فيه للطرفين إلى الأبد، وليس من حق أحدهما أن يقطع الخيار على الآخر.
وكذلك الوديعة: لو أن شخصاً جاءك وقال: هذه عشرة آلاف ضعها وديعةً عندك.
فمن حقك أن تقول: لا أضعها، وتمتنع من ذلك، وإذا وضعتها فمن حقك بعد دقيقة واحدة أن تقول له: تعال يا فلان وخذ وديعتك، ولست ملزماً بأن تبقيها المدة التي اتفقتما عليها، وكذلك هو لو قال لك: ضعها وديعةً عندك شهراً، فجاءك بعد ساعة أو بعد يوم، فمن حقه أن يأخذها في أي وقت شاء.
فإذاً: لا تَلزمك ولا تَلزمه لا حالاً ولا مآلاً.
القسم الثاني من المعاوضات -وهو الذي يعنينا وهو المهم-: ما يلزم حالاً ومآلاً: وهو أن تتعاقد مع الطرف الثاني فتُلْزَم بالعقد حالاً، وتلزم به مآلاً، ويسمى هذا النوع من العقود: "العقود اللازمة"، ويعبر عنها بعض العلماء فيقول: تلزم في أول حال وثاني حال، مثل: البيع الإجارة النكاح الخلع.
فمثلاً في البيع: لو قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف.
فقلت: قبلت، فإذاً: "بعتك" إيجاب، و"قبلت" قبول، فتم العقد، فالأصل يقتضي أنك ملزَم بهذا البيع أن تدفع له العشرة آلاف ويدفع لك السيارة.
كذلك لو قال لك: زوجتك بنتي فلانة بعشرة آلاف.
فقلت: قبلت، فإنك ملزم بهذا النكاح، ويعتبر النكاح لازماً لولي المرأة ولازماً للمرأة ولازماً للزوج، أي: يعتبر لازماً لطرفي العقد أصالةً ووكالةً، فليس من حقك أن تقول: لا أريدها، فإذا قلت: لا أريدها فحينئذٍ هناك طريقة لفسخ هذا العقد، فالعقد لازمٌ وماضٍ، فإذا أردت أن تطلق طلقت، وهي إذا ظُلِمَت فلها أن تفسخ عن طريق القاضي؛ لكن العقد لازمٌ وماضٍ من حيث الأصل، فاللزوم ثابت فيه في أول العقد الذي هو الحال، ولازم في المآل، فهو باقٍ ولازمٌ إلى الأبد.
كذلك أيضاً في الخلع؛ قالت له: خالعني بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فإنه يُلزم بخلع المرأة منه ويلزمه قبول العشرة آلاف.
فهذا العقد الذي تمّ بينهما وهو خلع النكاح وفسخه على هذا الوجه بعشرة آلاف، يلزم المرأة أن تدفع العشرة آلاف ويلزم الرجل أن يخالعها، إذاً: يلزمهم في الحال ويلزمهم في المآل.
وهذا القسم الثاني من المعاملات الذي يلزم في الحال والمآل ينقسم إلى نوعين: النوع الأول: ما يدخله الخيار، وهذا هو الذي يعنينا هنا كالبيع والإجارة والسلم والصلح بعوض.
النوع الثاني: ما لا يدخله الخيار، كالنكاح والرجعة والخلع، فهذه لا يدخلها خيار ألبتة.
القسم الثالث: ما لا يلزم حالاً ويلزم مآلاً: فمن أمثلته: الجعالة، لو أن رجلاً قال: من وجد سيارتي الضائعة فله عليَّ عشرة آلاف ريال، فالناس غير ملزمين أن يذهبوا ليبحثوا عن سيارته، فإن شاءوا بحثوا وإن شاءوا لم يبحثوا، فليس بلازمٍ أن يقوموا بالعقد، فلو أن رجلاً ذهب وبحث ووجد السيارة لزم العقد، فهو ابتداء غير لازم، لكنه في المآل إذا وجد السيارة فإننا نفرض على صاحبها أن يدفع العشرة آلاف.
ففي الابتداء لك الخيار أن تدخل وأن تبحث، لكن لا يلزم الطرف الثاني أن يدفع لك شيئاً ولا أن يتم الصفقة إلا إذا وجدت ما ركّب الشرط عليه، فهذا عقد الجعالة.
كذلك عقد الاستهلاك بالضمان: فلو أن رجلاً معه شيء فيه ضرر، فقلت له: يا فلان! إن أتلفت هذا الشيء الذي فيه ضرر أعطيك عوضاً عنه مائة ريال، فعندئذ إن شاء هو اتلف وإن شاء لم يتلف، فهو بالخيار، وأنت لا تلزم بشيء في بداية العقد؛ لكن لو أنه أتلف ألزمت بدفع ما تكفلت به، فلو أنه أتلفه وتمت صفة الإتلاف في العين التي اشترطت إتلافها، لزمك أن تدفع المائة لقاءها، فهذا يسمونه الاستهلاك بالضمان.
كذلك أيضاً في العتق بعوض: فلو أنه قال له: إذا أعتقت عبدك فلك عليَّ عشرة أو مائة، فهو مخير إن شاء أعتق وإن شاء لم يعتق؛ لكنه لو أعتق فإنه يُلزم الطرف الثاني بإعطاء العشرة والمائة، وهذا ما يسمى بالعتق بالبدل.
فهذه العقود في ابتدائها ليست بلازمة في أول الحال؛ لكنها تئول إلى اللزوم في ثاني الحال.
و
السؤال
إذا كانت العقود على هذه الثلاثة الأقسام ما يلزم حالاً ومآلاً، وما لا يلزم حالاً ولا مآلاً، وما يلزم في ثاني الحال ولا يلزم في أول الحال.
فأين محل الخيار؟ أو في أي نوع من هذه العقود يدخل الخيار؟
و
الجواب
العقود التي لا تلزم حالاً ولا مآلاً الخيار فيها مؤبّد لكلا الطرفين، مثلاً الشركة لو جاءك رجل وقال: لو أنني اشتركت مع زيد بمائة ألف، فدفع هو مائة ألف وأنا مائة ألف واشتركنا وتمت التجارة والصفقة، ثم أردت أن أفسخ الآن، هل من حقي هذا؟ فتقول: من حقك أن تفسخ في أي وقت، فأنت بالخيار: إن شئت فلك أن تبقي الصفقة وتبقي عقد الشركة، وإن شئت أن تلغيه في أي وقت فلك ذلك أيضاً، إلا في حالات مستثناة مثل: وجود الضرر على الطرف الثاني، فهذه فيها تفصيل، وسيأتي إن شاء الله في باب الشركة والقراض.
والآن في بعض الشركات تشترك مع رجل ويقول لك: تدفع مائة ألف وأدفع أنا مائة ألف ونصير شركاء في هذه الشركة، ولا يجوز لك أن تنسحب من الشركة قبل سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، فما الحكم؟ نقول: هذا الشرط باطل؛ لأنه يسقط الخيار الأبدي المجعول من الشرع، وما أدى إلى باطل فهو باطل، فليس من حقه أن يلزمه في الشركة ولا في القراض ولا في نحوها من العقود التي لا تلزم حالاً ولا مآلاً؛ لأنه يسقط خيار الشرع، فالشرع جعلها على الخيار وهذا يريد أن يجعلها على اللزوم، ويضر بأخيه المسلم فيما وسع الله عليه.
فهذا النوع الأول يكون الخيار فيه أبدياً ولا إشكال فيه من حيث إن المتعاقدين أو أحدهما لو أراد أن يفسخ فله أن يفسخ، حتى ولو كان الطرف الثاني غير راضٍ.
وأما النوع الثاني: وهو الذي يلزم في الحال والمآل فقد ذكرنا أنه ينقسم إلى قسمين: منه ما يدخله الخيار كالبيع والإجارة والصرف والسلم والصلح بعوض ونحوه، ومنه ما لا يدخله خيار كالنكاح والرجعة والخلع بعوض ونحوه.
وأمّا النوع الثالث: وهو الذي لا يلزم في الابتداء ويلزم في المآل؛ فإن الخيار فيه في الابتداء للمتعاقدين، فإذا صار إلى اللزوم فإنه حينئذٍ يسقط الخيار بوجود اللزوم فيه؛ لأن الشرع ألزم المسلم بالعقد، فلما قال: سأعطيك عشرة آلاف إن أحضرت سيارتي أو أحضرت عبدي أو دابتي، فإنه يلزم بذلك بعد الوجود، ولا خيار له في الإسقاط.(152/4)
الأسئلة(152/5)
خيار المجلس في البيع عن طريق الهاتف
السؤال
بالنسبة للبيع عن طريق الهاتف، هل للمشتري في هذه الحالة خيار مجلس؟ وكيف يكون، أثابكم الله؟
الجواب
في خيار المجلس يكون المتعاقدان في مكان واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، فإذا تفرقا فإنه ينقطع الخيار بافتراق الأبدان؛ لكن إذا تعاقد معه عن طريق الهاتف وكان المكان مختلفاً يرد السؤال: هل العبرة بانقطاع المكالمة؟ هذا يقول به بعض العلماء المعاصرين؛ يقول: إن الخيار يكون لهما حتى يقطع الاتصال.
لكن المشكلة فيه أن القطع يكون من طرف أحدهما دون الآخر.
فقال: هذا لا يضر، وهو كما لو قام أحدهما دون الآخر.
وقال أيضاً: إنه يمكن للطرف الثاني أن يلقي بالسماعة ولو كان الخط ليس له، فإن إلقاءه للسماعة يمكنه من الدلالة على المضي وإتمام الصفقة.
وكنت أتوقف في هذه المسألة ولا أزال أجد في نفسي منها شيئاً، ومهما كان فالنظر فيها محتمل: يحتمل أن يكون فيها الخيار بقطع المكالمة -كما ذكرنا- وله وجهه وعلته التي ذكرناها، ويحتمل أن يكون من جنس ما ليس فيه الخيار حتى يتواجها ويبتا الصفقة، فهذا أمر محتمل.
والله تعالى أعلم.(152/6)
حكم بيع الدين بأقل منه
السؤال
لي دين عند آخر قدره عشرة آلاف، فقال لي شخص: خذ تسعة ودعني آخذ العشرة من المدين متى استطاع على دفعها، فما الحكم، أثابكم الله؟
الجواب
هذا هو الربا، فإذا قال لك: لك على فلان عشرة آلاف، خذ مني تسعة آلاف وأنا آخذ منه العشرة، فهو الربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه وكاتبه وشاهده، وهو الربا الذي حرمه الله ورسوله؛ لأنه دفع لك تسعة آلاف نقداً مقابل العشرة آلاف بالفاصل وهو فاصل المطالبة.
وهكذا لو كان لك راتب على جهة وقدره ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، وأحلت على جهة تصرف لك ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فجاءك شخص وقال: أصرف لك اليوم بثلاثة آلاف إلا ريالاً أو إلا خمسة أو إلا عشرة، فهو الربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه وكاتبه وشاهده.
إذا أردت أن تحال على دين فالدين أن تحال بنفس المبلغ، فهذا جائز ولا بأس به، ومن أحيل على مليء فليتبع، والأصل فيه الحوالة.
أما أن يزاد وينقص في الدين الموجود، ويكون الشخص له وجه على آخر بزيادة أو نقص فإنه الربا -كما ذكرنا- ولا يجوز فعله لا من الأفراد ولا من الجماعات.
والله تعالى أعلم.(152/7)
حكم إسقاط الخيار في المضاربة
السؤال
في المضاربة لو قال له: أعمل لك بمالك بشرط: ألا تطلب منه شيئاً قبل مرور سنة، هل هذا الشرط صحيح، أثابكم الله؟
الجواب
هذا الشرط لاغٍ، والمضاربة لا تتأقت، فعليه أن يقول له: خذ مائة ألف وتاجر فيها، فيذهب ويتاجر بالمائة ألف، وليس من حقه أن يقول: بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، فالقراض مفتوح الأجل، والعامل يقوم بالمضاربة بالمال مدة مضاربته، ثم يدفع المال ربحاً أو خسارة على حسب ما اتفقا عليه.
والله تعالى أعلم.(152/8)
الفرق بين الجعالة والإجارة
السؤال
في الجعالة: لو اجتهد شخص في البحث عن المفقود وطلبه ولم يجده، فهل له أن يطلب مقابل جهده، أثابكم الله؟
الجواب
هناك فرق بين الجعالة وبين الإجارة، وهذا الفرق يتلخص في أن الجعالة لا تستحق إلا إذا أتم الشرط كاملاً، فلو قال لك: إذا أحضرت سيارتي فلك كذا؛ فإنك لا تستحق الجعل إلا بعد أن تحضر السيارة، قال تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]، فإذا تحقق الشرط الذي من أجله وجدت الجعالة ألزم الشخص المالك بدفع ما اتفق عليه مع العامل.
أما في الإجارة: فإنها تتجزأ بأجزاء العمل، فلو أن عاملاً استأجرته شهراً، ثم في منتصف الشهر طرأ أمر لا يستطيع معه أن يتم الشهر، فحينئذٍ يستحق نصف القيمة المتفق عليها، وأما هل يقيم غيره مقامه؟ فهذه مسألة ستأتي إن شاء الله في الإجارة، وهو أنه إذا تم العقد، ولم يستطع طرف أن يمضي الإجارة لعذر شرعي أو عذر حسي، وسيأتي التفصيل في الأحوال التي لا يستطيع فيها أن يتم العقد -لكن أياً ما كان فالإجارة تتجزأ بأجزاء العمل.
ومن هنا: لو جئت تحفر بئراً فقلت لرجل: احفر لي كل متر بعشرة، فإنه إذا حفر لك مائة متر استحق ألف ريال؛ لكن لو قال لك: سأحفر لك بئر ماء هنا، فقلت له: إذا استخرجت لي بئر ماء هنا فلك عليَّ مائة ألف أو خمسون ألفاً، فحينئذٍ لو حفر مائة متر ولم يجد ماءً فإنه لا يستحق شيئاً، فهذا هو الفرق بين الجعالة وبين الإجارة.
فالإجارة تتجزأ بأجزاء العمل، والجعالة لا تتجزأ بأجزاء العمل ولا يستحق العامل فيها المال، أو لا يستحق الجعل إلا إذا أتم ما اشترط عليه، كإرجاع المسروق أو الشارد أو الإمساك بالعبد الآبق، ونحو ذلك مما تقع عليه الشروط في الجعالة.
والله تعالى أعلم.(152/9)
أحوال السقط وحكم الدم الذي يخرج بعده
السؤال
السقط إذا خرج قبل ثلاثة أشهر، هل يكون الدم دم نفاس، أم دم حيض؟ ومتى تصلي المرأة، أثابكم الله؟
الجواب
السقط لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون فيه صورة الخلقة، فالدم الذي يخرج من بعده يأخذ حكم دم النفاس، على أصح قولي العلماء.
الحالة الثانية: وإما أن تضع قطعة لحم وليست فيها صورة الخلقة، فحينئذٍ يكون الدم دم فساد وعلة، ويأخذ حكم الاستحاضة.
فإذاً يفرق في هذا السقط ما بين أن يكون فيه صورة الخلقة، وما بين أن يكون مضغة أو قطعة لحم أو علقة أو نحو ذلك، فهذا ليس دمه بدم نفاس ولا يأخذ حكم النفاس.
والله تعالى أعلم.(152/10)
حكم وضع الجوائز مع السلع المباعة
السؤال
ما حكم إعطاء جوائز عينيه مقابل الشراء بمبلغ معين؟ وكذلك ما حكم توزيع الهدايا ترغيباً في كسب الزبائن أثابكم الله؟
الجواب
نبه العلماء رحمهم الله في قاعدة: (الضرر يُزال) على أنه ينبغي في السوق ألَّا يتسبب البائع في أذية إخوانه، وألَّا يضر بمن ينافسه في السوق؛ والسبب في هذا: أنه إذا قُطع الباعة عن المغريات اتجه الناس لتفضيل التاجر من خلال أمانته وضبطه وصدقه، وأصبحت الشهرة من خلال المعاملة الشريفة النزيهة.
لكن إذا دخلت المغريات الدنيوية أصبحت الشهرة بالمال، ولربما يكون من أكذب الناس، ولربما يكون أكثر غشاً؛ لكنه لقاء المغريات يُقْبِل عليه الناس ويُعْرَف محله ويشتهر، مع أنه لا يستحق هذا كله.
فهذه القاعدة: (الضرر يُزال) تجعل أسواق المسلمين متكافئة، فلا يَفْضُل فيها إلا من عُرف بنزاهته، فالآن لو أنه لا توضع جوائز لأصبح كلٌ يبذل البيع لقاء معاملته مع الناس من حسن السمعة في الأمانة والثقة والدقة في المواعيد، والانضباط فيها، وعدم الغش، وسلامة المبيعات.
ولو نظرنا قَبْل ثلاثين سنةً حينما لم تكن الجوائز موجودة لوجدنا أن التاجر الذي يشتهر بين الناس والذي يعرف بين الناس؛ هو من كان أميناً، ولا يعرف إلا إذا كان صادقاً، ولا يعرف إلا إذا كان نظيف المعاملة نظيف اليد في أخذه وعطائه، ولا يمكن أن يتعامل معه الناس إلا إذا عُرف بالنزاهة؛ لأنه ليس هناك ثقل دعاية، وليس هناك ثقل إغراء، وإنما هناك المعاملة، فيدخل إلى السوق لينافس إخوانه منافسةً شريفة، ليس فيها مغريات ولا دعاية؛ ولكنها قائمة على حق، ويستحق أن يأخذ هذه السمعة وهذا الصيت لقاء النزاهة والأمانة التي تَخَلَّق بها.
ولا يمكن أن يشتهر هذا النوع من التجار إلا بعد خبرة وبعد طول زمان، فتصبح الأسواق قد أخذت حقها، والتجار أخذ كلٌّ حقَّهُ، ومن هنا منع العلماء أن يبيع الرجل ويُرْخِص في السلعة لكي يضر بالسوق؛ لأنه إذا جعل السعر عنده نازلاً جَذَب الناس دون إخوانه، فكأنه يريد الإضرار بالباعة الآخرين، وعليه حُمِل فِعْلُ عمر رضي الله عنه وأرضاه مع حاطب بن أبي بلتعة حينما مر عليه وقد أرخص في سلعته فقال له: (إما أن ترفع، وإما أن ترتفع عن سوقنا)، أي: إما أن ترفع السعر فتساوي إخوانك ولا تجذب الناس تحت إغراء مادي، وإما أن تقوم عن سوقنا.
الشاهد: أن هذا كله مبني على دفع الضرر.
فإذا فُتح باب الجائزة وباب المغريات اتجهت الناس للسمعة، وأصبح التاجر لو كان غير منضبط في تجارته يستطيع أن يصل إلى السمعة ويستطيع أن يبيع ويشتري لقاء المادة، وحينئذٍ لا يوجد فرق بين أسواق المسلمين وغيرهم.
إذاً: الأسواق الشريفة في الإسلام تقوم على كسب الثقة بالمعاملة، وليس تحت دعاية ولا إغراء مادي.
وأما بالنسبة لوضع الجوائز، فالعلماء رحمهم الله قالوا: إذا قُصد بها الإضرار، كأن يجذب الزبائن إلى محله أكثر من غيره فإنه آثم شرعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار)، ولأن الجوائز ليست ربحاً له، بل فيها ضرر عليه فقد تكلفه العشرة آلاف والعشرين، بل وقد تكلفه مئات الألوف، فهذا الضرر يرضى به على نفسه من أجل أن يجذب الناس إليه دون إخوانه، فلا إشكال في وجود الضرر من هذه الناحية، وهو آثم شرعاً، ولا يجوز له أن يفعل ذلك للإضرار بإخوانه.
أما لو أن ترخيص السلع أو وَضْعَ الحوافز مثل التخفيضات كانت مدروسة كما يقع الآن، حيث ترتب عن طريق الغرف التجارية ونحوها، ويعطى كل محل فترة من الزمان يخفض سلعته، ويكون كل محل له طريقته وله ضوابطه؛ فهذا أمر يندفع فيه الضرر؛ لأني سأصل إلى حقي كما وصل إليه غيري، وأخفض كما خفض غيري، فإذا حصل فيه التكافؤ بين المحلات على هذا الوجه، فهذا لا بأس به في التخفيض.
أما لو قال لك: اشترِ مني وأعطيك جائزة، فهذا يدخله الغرر؛ لأنه باعك معلوماً ومجهولاً، فأنت لا تدري هل تحصل على الجائزة أو لا تحصل، فباعك معلوماً وهو الذي تريد أن تشتريه -مثلاً- بألف ريال، ومجهولاً وهو ما يسمى بالجائزة.
وهكذا لو غيب الجائزة في المبيع، كأن يضعها في علبة، فلو قال لك: في داخل هذه العلبة حظ أو داخل هذه العلبة جائزة، فمعناه أنك اشتريت معلوماً وهو علبة الحليب مثلاً ومجهولاً وهو الذي بداخلها، ولا يُدْرَى ما هي هذه الجائزة، بل إن هذا النوع من الجوائز يفضي إلى مفاسد عظيمة، ومن أعظمها: إتلاف الأموال، فلقد رأينا بأعيننا ونقل لنا الثقات أنه إذا وضعت الجوائز على اللبن تجد الرجل يشتري علبة اللبن وهو لا يريدها ولا يشربها.
بل لقد رأيت بعيني من سكبها ونصحته قلت: يا أخي! اتقِ الله! هل فَسَدَتْ؟ هل انتهت صلاحيتها؟ قال: لا.
أنا أريد الجائزة الموجودة فيها؛ لأنه حينما توضع الجوائز بمئات الألوف فإنه لا يريد اللبن وإنما هو يبحث عن الجائزة، فمعنى ذلك أنها تؤدي إلى إفساد الأموال، وتؤدي إلى الإضرار بها، وتخرج عن المقصود شرعاً من وجود الرفق بالناس بوجود هذه المصالح.
نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يهدينا إلى سواء السبيل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد.(152/11)
شرح زاد المستقنع - باب الخيار [2]
الخيار تارة يكون من الشرع كخيار المجلس، فقد جعل الشرع للمتبايعين الحق بفسخ العقد أو إمضائه ما داما في مجلس العقد، فإذا افترقا أو قطع أحدهما الخيار انتهى خيار المجلس.
وتارةً يكون من المتعاقدين، وإن كان الشرع أذن به في الأصل؛ كخيار الشرط، فإنه يحق للمتبايعين أو أحدهما اشتراط مدة معلومة، فإذا انتهت ولم يفسخ لزمه العقد.
وقد ذكر الشيخ أحكاماً كثيرة نافعة تتعلق بخيار المجلس وخيار الشرط، وما يتعلق بهما من فروع وتفصيلات.(153/1)
الخيار وأهميته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الخيار: وهو أقسام: الأول: خيار المجلس]: تقدم معنا أن الخيار هو طلب خير الأمرين: والمراد بالأمرين عند أهل العلم رحمهم الله إمضاء البيع أو فسخه، ولذلك يقولون: الخيار أن يكون لأحد المتعاقدين أو لهما حق إمضاء العقد أو فسخه، فالمشتري يكون له الحق أن يمضي الصفقة أو يلغيها.
والبائع له الحق أن يمضي الصفقة أو يلغيها، وقد قدمنا أن الخيار يختلف بحسب اختلاف العقود، وأن الشرع إذا ترك العقد جائزاً للطرفين فإن من حقك أن تفسخ في أي لحظة، مثل الشركة والوكالة، فإن من حقك في أي لحظة أن تقول: أريد فسخ الشركة، أو أريد فسخ الوكالة، سواءً كان الموكل أو الوكيل أو كان الشريك أو شريكه المقابل له.
فالعقود التي تكون غير لازمة يكون الخيار فيها للطرفين، وقد يكون الخيار لأحد الطرفين دون الآخر، كما في الجعالة، وذكرنا أن من حق أحد الطرفين أن يفسخ دون الآخر، وهذا مبني على أنها في الابتداء يكون الخيار فيها للطرفين، حتى إذا شرع ووجد الشيء الضائع أو المفقود، وجاء به إلى صاحبه، فإنه يصير العقد حينئذ لازماً، ويجب على مالك الشيء الضائع أن يدفع الجعل لمن جاء به.
وقوله رحمه الله: (باب الخيار) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بتخيير المتبايعين، أو أحدهما في صفقة البيع، والسبب في هذا: أن الخيار تارة يكون من الشارع، وتارةً يكون من المتعاقدين أو من أحدهما.
فما كان من الشارع مثل خيار المجلس، فقد جعل الله عز وجل لكلا المتبايعين الحق بفسخ العقد أو إمضائه ما دام في المجلس.
وما كان من المتعاقدين مثل خيار الشرط، كأن تقول: أشتري منك هذه العمارة بشرط أن لي الخيار ثلاثة أيام، ويقول البائع: بشرط أن لي الخيار أربعة أيام، فأنت أدخلت الشرط على العقد، وأدخل البائع الشرط على العقد، فليس الخيار ناشئاً من حكم الشرع، ولكنه ناشئ من المتعاقدين وإن كان في الأصل أن الشرع أذن به وأجازه، كما سيأتي بيانه في دليل خيار الشرط.
وقد يثبت الخيار بسبب أمر يخل بالعقد، مثل التدليس والكذب والغش، فلو باعك عمارةً أو أرضاً أو سيارةً مغشوشةً، فإنه يكون لك خيار العيب، وهذا راجع إلى حقك في الصفقة، فإنك إذا اشتريت العمارة كاملة وتبين أنها ناقصة، فإنك قد دفعت المال الكامل للشيء الكامل، أو دفعت المال على أن السلعة بصفة معينة، فلما تبين أنها معيبة، فحينئذٍ يكون لك الخيار في أن تفسخ البيع، وأن تأخذ مالك وتنشئ العقد من جديد، أو ترضى بإمضاء الصفقة وتأخذ الأرش، كما سيأتي إن شاء الله في خيار العيب.(153/2)
خيار المجلس تعريفه ومشروعيته وأحكامه
قال رحمه الله: [وهو أقسام] أي: يختلف بحسب اختلاف الموجبات، وهذه الأقسام منها ما اتفق العلماء على اعتباره من الخيارات، ومنها ما اختلف العلماء رحمهم الله فيه، ودلت السنة على رجحان اعتباره، ومنها ما يكون فيه الحكم بالتفصيل، فتارة يعتبر وتارة لا يعتبر.
فقوله رحمه الله: [وهو أقسام] إجمال قبل البيان والتفصيل.
وقوله: [الأول: خيار المجلس] المجلس اسم مكان من الجلوس، وهو المكان الذي يجلس فيه المتعاقدان، وسمي خيار مجلس؛ لأن لكلا المتعاقدين الحق في إمضاء صفقة البيع أو إلغائها ما داما جالسين في المكان الذي تعاقدا فيه، وإذا تفرقا فخرج أحدهما من الغرفة مثلاً وبقي الآخر، لزم البيع.
وهذا النوع من الخيار، دلت عليه الأدلة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عمر، وحديث حكيم بن حزام، وحديث أبي برزة، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام:: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) ومعنى الحديث: أن البيعين لكل واحد منهما الخيار ما داما لم يفترقا، فلو جلست مع رجل، وقال لك: عندي سيارة نوعها كذا، وصفاتها كذا وكذا، فعرفت السيارة، أو تكون على علم بها مثلاً فقال لك: أبيعك السيارة الفلانية التي تعرفها، أو العمارة الفلانية أو الأرض الفلانية في المخطط الفلاني، فقلت: قبلت، أو قال: أبيعك هذا الشيء بعشرة آلاف، فقلت: رضيت، فتمت الصفقة فدفعت له العشرة آلاف وقبضها، وبعد ساعة أو بعد ساعتين قلت: لا أريد هذا البيع، أو أقلني من البيع، فإن من حقك أن ترجع عن صفقة البيع ما دمتما في مجلس واحد.
وهذا يسمى خيار المجلس ولو جلستما عشر ساعات متواصلة فإنكما بالخيار ما لم يفارق أحدكما الآخر، فإذا خرج أحدكما ولو بعد إيجاب البيع بلحظة واحدة، فقد أوجب الصفقة، وليس من حقك أن ترجع إلا إذا أذن الشرع لك بالرجوع بأسباب معينة سنبينها.
إذاً: خيار المجلس يكون لك فيه الحق ما دام أنكما في مكان واحد، ومن هنا ثبت في سنن أبي داود وغيره: أن رجلين من التابعين تبايعا فرساً، فقال أحدهما لصاحبه: بعني فرسك، فقال له: بكذا، فتبايعا وتمت الصفقة بينهما، وتم العقد، فناما في مكان واحد، فلما استيقظا قام صاحب الفرس وندم على البيع، ورجع عن بيعه، فقال له المشتري: لا يحل لك إني قد ابتعت وقد وجب بيعي، فاختصما إلى أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه، فقال: والله لأقضين بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا ورد الصفقة ورأى أنهما في مجلس واحد؛ لأنهما ناما في مكان واحد ولم يفارق أحدهما الآخر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) أي: يفارق أحدهما الآخر، فمضى قضاء هذا الصحابي رضي الله عنه بظاهر السنة.
ولذلك قال فقهاء الشافعية، والحنابلة، والظاهرية وأهل الحديث بمشروعية خيار المجلس، وأنه إذا تعاقد الرجلان في صفقة وهما في مجلس واحد فمن حق أحدهما أن يرجع وليس للآخر أن يلزمه، سواءً رجع بعذر أو بدون عذر، فهذا حق من حقوقه، فمن حقه أن يرجع ويقول: لا أريد البيع، وكنت أرغب فيه فأصبحت لا أرغب.
وهذا القول قضى به عبد الله بن عمر، وكذلك أبو برزة وحكيم بن حزام، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفقهاء التابعين رحمة الله على الجميع.
وخالف في هذا الخيار فقهاء الحنفية والمالكية، فعندهم أنه إذا قال: بعتك بكذا، وقال: اشتريت، وتمت الصفقة فليس من حقه أن يرجع، وأن البيع يتم بمجرد الإيجاب والقبول، وهو ما يسمى في الشرع: بالعقد.
واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى أمرنا معشر المؤمنين أن نفي بالعقد، والعقد: بعتك واشتريت، فإن قال له: بعتك سيارتي عمارتي أرضي داري، فقال: قبلت، وتم البيع، وجب على البائع أن يفي فيعطي السلعة، ويجب على المشتري أن يفي ويعطي الثمن الذي وعد في مقابل الصفقة.
واستدلوا أيضاً بأدلة أخرى، وأوّلوا حديث حكيم بن حزام، وقالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) المراد به: تفرق الأقوال، فأنت إذا قلت: أبيعك سيارتي بعشرة آلاف سيقول لك: بتسعة آلاف بتسعة آلاف وخمسمائة بتسعة آلاف وسبعمائة، فقالوا: هذا الخلاف هو معنى قوله: (ما لم يتفرقا) أي: حتى يثبتا على قيمة معينة، والمراد بالتفرق هنا تفرق الأقوال، وليس بتفرق الأبدان.
وهذا ضعيف، والصحيح المذهب الأول: أن خيار المجلس مشروع؛ وذلك أولاً: لصحة دلالة السنة على ذلك.
ثانياً: أن دليل الآية عام مخصص بالحديث، والقاعدة: (لا تعارض بين عام وخاص).
ثالثا: ً أن الأصل في التفرق أنه يشمل الأقوال والأفعال، لكنه المراد به هنا الأفعال، بدليل أن ابن عمر أحد رواة الحديث والراوي أدرى -بما روى- كان إذا اشترى صفقة فأعجبته مشى عن البائع، حتى يتم البيع.
فدل هذا على أنه تفرق الأبدان، وليس بتفرق الأقوال.
رابعاً: أننا لو حملنا قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) على التفرق بالأقوال لم يصح لأنهما لا يسميان بيعين؛ لأنه لا يقع البيع إلا بعد أن يفصل القول، أما قبل أن يفصل القول فليس هناك بيع؛ لأن البيع إيجاب وقبول، فقوله عليه الصلاة والسلام: (المتبايعان) وفي رواية: (البيّعان) أي: اللذان باعا وأوجبا وتمت الصفقة بينهما.
وعلى هذا فالصحيح مذهب من سمينا أن خيار المجلس مشروع.
وهذا النوع من الخيار شرعه الله عز وجل لطفاً بالعباد، وتيسيراً على الخلق، ورحمة بهذه الأمة.
وقد وصف الله هذه الشريعة بأنها شريعة رحمة، ووجه ذلك: أنك ربما تستعجل وتقول: أبيعك بيتي بعشرة آلاف، ثم تراجع نفسك وتتبين أنه ليس من مصلحتك أن تبيع، وقد تشتري فيقول لك: بعتك السيارة بعشرة آلاف فتستعجل وتقول: قبلت، ثم تفكر قليلاً، وإذا به ليس من مصلحتك أن تتم هذه الصفقة، فالله عز وجل خفف على العباد، ولذلك يقولون: خيار المجلس شرع من أجل التروي ومن أجل دفع الضرر بالعجلة في الإيجاب والقبول.
وعلى هذا: فإنه خيار مشروع، وفيه خير كثير للأمة؛ لأنه يدفع آفة الاستعجال، والآثار السيئة والنتائج السلبية، المترتبة على استعجال الإنسان.(153/3)
العقود التي يثبت فيها خيار المجلس
قال رحمه الله: [يثبت في البيع] أي: يثبت خيار المجلس في البيع، كما قلت له: بعتك سيارتي داري مزرعتي كتابي قلمي ساعتي ثوبي إلى آخره، فيثبت في جميع أنواع البيوع، سواء كان بيعاً مطلقاً أو كان بيع الصرف أو بيع المقايضة، فكله يثبت فيه الخيار.
وقوله: [والصلح بمعناه]: المراد به الصلح بعوض؛ لأن الصلح يكون أحياناً بعوض، وأحياناً يكون بدون عوض، والصلح بعوض يكون في حكم البيع.
مثال ذلك: لو أن رجلين اختصما إلى قاضٍ فقال أحدهما لصاحبه: تنازل عن حقك أعطك كذا، أو يقول: أرضيك عن الحق الذي لك بكذا، أو هذه ألف ريال وتنازل عن دعواك، أو عن حقك الذي ثبت لك، فلما اصطلحا على هذا المبلغ فالألف في مقابل الحق، فيقول حينئذ: قبلت، فهذا صلح بعوض وهو في كم البيع؛ لأن البيع تكون فيه الألف في مقابل سيارة أو مقابل أرض، والألف في الصلح وقعت في مقابل حق شخصي، فكما أن المال يكون في مقابل الحق العيني، يكون أيضاً في مقابل الحق الشخصي، فلو أنه قال له: تنازل عنه، فقال: رضيت، وطابت نفسه مقابل هذه المراضاة التي أعطاه إياها، ثم إنه قبل أن يفترق معه قال: رجعت، لا أريد أن أتنازل، بل أريد حقي الذي أقررت به، ولن أتنازل لقاء ألفين أو ثلاثة.
إلى آخره، فمن حقه أن يرجع ما لم يتفرقا، مثل البيع، فتبين أن الصلح بعوض كالبيع؛ لأن البيع معاوضة، والصلح معاوضة.
قال رحمه الله: [والإجارة] وهي بيع المنافع، فلو أن رجلاً جاء إلى صاحب عمارة، وقال له: أريد شقةً تؤجرنيها سنة، أو نظر فيها فأعجبته، فقال: بكم تؤجرها، فقال: أؤجرها بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فتم عقد الإجارة بينهما، فلو جلسا ثلاث ساعات أو أربع ساعات ثم قال: لا أريد، رجعت عن استئجار هذه الشقة، فهذا من حقه، ما دام أنهما في مجلس واحد، وليس لصاحب العمارة أن يلزمه.
وكذلك العكس فلو أن صاحب العمارة رضي بعشرة آلاف ثم تفكر ونظر، فقال: لا أريد ورجع عن إجارتها، فذلك من حقه ما دام أنهما لم يفترقا عن مجلس العقد.
قال رحمه الله: [والصرف] أي: لو كان عندك ألف دولار، وجئت إلى رجل وقلت له: اصرفها لي فقال: قبلت، وبينما أنتما جالسان في مجلس واحد، جئت تريد أن تخرج، فقال الصارف: رجعت، أو طالب الصرف، فإنه من حقه ما دام أنه قد رجع عن العقد قبل أن تفترقا، ويجب عليك أن ترد؛ لأن المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، والصرف يسمى بيعاً، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد).
فجعل صرف الذهب بالفضة بيعاً؛ لأنه قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة)، ثم قال (فإذا اختلفت هذه الأصناف)، أي: كذهب بفضة (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه -وهو في الصحيحين-: (ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) وهذا في صرف الذهب بالفضة (الدنانير بالدراهم)، فقال عليه الصلاة والسلام عن الصرف: (ولا تبيعوا) فدل على أن الصرف بيع، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار) والصرف بيع دخل في هذا العموم.
[والسلم]: وهو بيع، والسلم: تقديم الثمن وتأخير المثمن -وسيأتي إن شاء الله بيانه- كأن تأتي إلى صاحب المزرعة، وهو يحتاج إلى البذر، ولا تكون عنده سيولة لشراء البذر، فمن رحمة الله عز وجل بعباده أن رخص في أن تعطيه قيمة لشيء ستشتريه منه، تقول له: أشتري منك مائة صاع من الحب الفلاني -الذي سيزرعه في أرضه- إلى أجل فأعطيته المبلغ لقاء كيل معلوم أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم، فأوجبتما، فقال: إذاً: أنا سآخذ هذه الألف، وإن شاء الله عند حصاد الحب أعطيك مائة صاع، وقبل أن تفترقا قلت له: ما أريد، أو قال لك: لا أريد، فالرجوع من حقه ومن حقك ما دام أنكما في مجلس واحد، وهو مجلس العقد، ولم تفترقا.
وقوله رحمه الله: [دون سائر العقود]: أي: فلا يشمل العقود الأخرى التي لم يسمها المصنف رحمه الله، فإن خيار المجلس لا يثبت فيها؛ لأن بقية العقود اللازمة لا يصدق عليها وصف البيع، فالصلح يمكن أن يكون بيعاً؛ لأنه إذا كان بعوض فهو معاوضة، والإجارة في حكم البيع؛ لأنها بيع المنافع، وبالنسبة للسلم والصرف، فهما أصلاً بيع، فهذا وجه التخصيص، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيّعان) فخرجت بقية العقود.
فالخيار يختص بهذا النوع من العقود ولا يشمل العقود الأخرى، فلو اقترض منك مائة ألف، ثم قال: لقاء هذا المال رهنتك مزرعتي، أو داري، وقبل أن يفترقا، قال: رجعت عن الرهن، فلك أن تقول: ليس من حقك؛ فإن الرهن يعتبر لازماً، ويبقى إلى أن يسدد أو يباع ويسدد منه الحق الذي في ذمة المدين، وعلى هذا يختص الحكم بما سمى رحمه الله من العقود.(153/4)
لمن يثبت خيار المجلس ومتى ينتهي
قال رحمه الله: [ولكل من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا عرفاً بأبدانهما]: فللبائع الخيار، وللمشتري الخيار.
وذكر هذا لأن الخيار في بعض الأحيان يكون للمشتري، ولا يكون للبائع، فلو اشتريت سيارة وظهر بها عيب، فإن الخيار لك وليس للبائع؛ لأن خيار العيب يكون للمشتري ولا يكون للبائع.
وهناك خيارات للطرفين ومنها خيار المجلس، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان) وفي رواية: (المتبايعان) فهذا يشمل البائع ويشمل المشتري، فلو رجع البائع فذلك من حقه، ولو رجع المشتري فمن حقه أيضاً، ولا يختص خيار المجلس بأحدهما دون الآخر.
إذاً: المسألة الأولى في هذه الجملة، أن خيار المجلس يشمل الطرفين، فهو حق ثابت للبائع، وحق ثابت للمشتري، والدليل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان) فلم يقل: (المشتري بالخيار)، ولم يقل: (البائع بالخيار)، وإنما قال: (المتبايعان) وفي رواية: (البيّعان).
وقوله: (ما لم يتفرقا) هذه صريح قوله عليه الصلاة والسلام: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) والتفرق: تفرق أقوال، وتفرق أبدان، وتفرق الأقوال لا إشكال فيه، لكن الإشكال في تفرق الأبدان، فإذا كان لكلا المتعاقدين حق في إمضاء البيع وفسخه ما داما مجتمعين في مكان واحد، فمتى ينتهي خيار المجلس؟ ينتهي خيار المجلس بالافتراق أو بالقطع من أحدهما، أي: بأن يتفقا على أن يقطع أحدهما الصفقة، كما سنبين إن شاء الله، ففي حالة الافتراق، لا بد من ضابط وهو متى نحكم بكونهما افترقا؟ إن كانا في غرفة، وقع الافتراق بخروج أحدهما من الغرفة.
إن كانا في فضاء، كصحراء ونحوها وليس هناك حد معين، فيكون الافتراق أن يعطي أحدهما ظهره للآخر، فبمجرد أن ينصرف عنه ويعطيه ظهره كأنه ذاهب عنه، فقد فارقه؛ ولكن ما دام أنه مقابله ومعه، فإنه لم يفارقه.
إذا كانت الغرفة كبيرة جداً، ولا يمكنهما أن يخرجا منها، كسفينة أو نحوها، فالافتراق العرفي أن يذهب أحدهما إلى ركن والآخر إلى ركن، فلو أنهما تعاقدا في ركن، ثم قام أحدهما إلى أمر في آخر السفينة، فإننا نفهم أنه قد فارق أخاه، وبالعرف يصدق عليه أنه قد فارقه.
وبناء على هذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) ولم يجعل للتفرق ضابطاً معيناً لاختلاف الأعراف واختلاف الأماكن، ومن هنا يقول العلماء: تنطبق عليه قاعدة: (العادة مُحَكّمة)؛ لأن الشرع في بعض الأحيان يطلق، وما أطلقه الشرع يترك الخيار فيه إلى الناس فيرجعون فيه إلى ما تعارفوا عليه، وإلى ما انضبط عندهم بأعرافهم التي لا تخالف الشرع ولا تصادمه؛ لأن شرط اعتبار العادة والعرف ألا يكون مصادماً للشرع.
وعلى هذا فالافتراق يكون على حسب ما يسميه الناس في أعرافهم افتراقاً، فيقضي القاضي أن البيع وجب وتم بثبوت الافتراق، إذا كان العرف يشهد بأن هذا التصرف من البائع أو المشتري يسمى افتراقاً، وهذا ما يسميه العلماء بالرجوع إلى أهل الخبرة، فيسأل أهل الخبرة في السوق كيف يكون ضابط الافتراق في عرفهم.
وهكذا إذا اختلفت الأسواق، مثل: أهل السمك لهم عرف غير أهل القماش، وأهل الخشب لهم عرف غير أهل الحديد، فهذه أمور يرجع فيها إلى الأعراف الموجودة، فكل أهل صنعة يحتكم إليهم في صناعتهم، وهذا أصل قرره العلماء في مسائلهم، والله عز وجل إذا أطلق الشيء ورده إلى العرف رجع فيه إلى أعراف المسلمين، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] وقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فيرد الأمور إلى العرف؛ لأن الشرع يأتي بالقواعد الكلية والضوابط الإجمالية ويترك للمسلمين ما ألفوه واعتادوه.
والسبب في هذا: أنه لا يمكن أن تجتمع الكثرة في البيئة الواحدة، من عقلائها وحكمائها وكبار السن فيها على شيء غالباً إلا وفيه خير؛ لأن أهل الصناعات لهم ضوابط معينة درجوا عليها؛ لأن الغالب أن أهل العقول هم الذين يحكمون الأسواق، وهم الذين يتصرفون، والغالب في الناس أنها تجري معاملاتها بما يتفق مع العقول السوية، فهذه أعراف يحتكم إليها؛ لكن ينظر فيها إلى أهل الخبرة الذين لهم معرفة بها، فيرجع إليهم في ضوابط الافتراق على حسب ما تقرر في أعرافهم التجارية.(153/5)
إسقاط خيار المجلس
قال رحمه الله: [وإن نفياه أو أسقطاه سقط]: أي: وإن نفياه بأن قال: أبيعك ولا خيار لا لك ولا لي.
والسبب في هذا: أنه في بعض الأحيان يأتي شخص ويقول لك: أصرف لك هذه المائة ألف بعشرة آلاف دولار، وأنت تريد بعد أن تأخذها مباشرة أن تبيعها في نفس المجلس، وهذا كما يقع في الأسواق التجارية أو المحلات المتقابلة، أو الأماكن التي يجتمع فيها التجار مع بعضهم، فالتاجر يشتري من هذا مباشرة ويبيع على هذا، فإذا قلنا: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، لن يستطيع أن يبيع شيئاً؛ لأنه لم يتم بيعه.
فحينئذٍ لا بد وأن يبت الصفقة، فيقول له: أشتري منك هذه العمارة القلم الكتاب الساعة الثوب؛ لكن بشرط أننا ننفي الخيار، فبمجرد ما نعقد فإن البيع قد تم ووجب ولا خيار لك ولا لي، فيتفقان على إسقاطه أو نفيه، أو يقرّا عند القاضي أنه لا خيار لهما، فحينئذ يسقط الخيار؛ لأن لهما الحق في هذا الخيار، ولهما الحق في إسقاطه، فإن الشرع أعطاهم ذلك، والشرع إنما قصد الرفق بهما، فقد يكون الرفق أن يتم البيع بدون خيار، فأنا أعرف الصفقة وهو يعرف المال، وقد رضي بالصفقة، ويريد أن يبيعها لآخر، أو يريد أن يتصرف فيها مباشرة، فنقول له: إنه يتم العقد مباشرة ويسقط الخيار.
وعلى هذا: لو اشترى شخص طعاماً، فإنه ينبغي عليه أن يخرج عن الدكان قليلاً ولا يأكل أمام البائع؛ لأن السلعة لا يملكها إلا بالافتراق؛ لأنه ربما يرجع عن بيعه، فإذا أراد أن يتحلل فليخرج من الشبهة.
لكن يبقى الإشكال في المطاعم، فالمطعم لا تستطيع أن تخرج منه، فقالوا: إن هذا أشبه بإسقاط الخيار، فهو إذا وضع الطعام بين يديه، ولم يدركه قبل أن يأكله، فقد فوت على نفسه الخيار، ويكون الأكل من الأكل إسقاطاً لحقه في الخيار، وسكوت صاحب المطعم وسكوته إسقاط لحقه في الخيار، أي: أنه ما دام قد وضع الطعام ولم يرجع، ورآك تأكل، فكأنه قد رضي بإيجاب الصفقة.
وهكذا لو أنهما اتفقا من البداية على أنهما إذا أوجبا البيع أو تم الإيجاب والقبول في الصفقة، أنه لا خيار لواحد منهما، لي ولا لك، وعليه حمل حديث السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشترى قال للأعرابي: (عمّرك الله بيعاً) فرضي الأعرابي وأوجب البيع، أي: حمل الحديث على إسقاط الخيار، وهذا أصل عندهم: على أنهما إذا اتفقا على إسقاط الخيار، فهذا لهما حق لهما إذا تراضيا بالمعروف، ولا حرج عليهما فيه، ولا بأس في إسقاطه على هذا الوجه.
قال رحمه الله: [وإن أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر]: أي: بأن قال: أريد الصفقة ولا خيار لي، وسكت الآخر، فإنه يبقى حق الآخر، فليس إسقاطك يلزمني، كما أن إسقاطي لا يلزمك، فإسقاطي حق لي، فيسري الإسقاط على ما أملكه، ولا يسري على ما تملكه، إلا إذا قلت: وأنا كذلك لا أريد.
وعلى هذا لو قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قلت: قبلت، فقال لك: لا خيار لي فأنا أريد البيع، فسكت، ثم بعد ساعة قلت: أريد أن أرجع عن بيعي، كان من حقك أن ترجع؛ لأن إسقاطه لا يتعدى إلى حقك في الخيار فيسقطه؛ ولأنه لو فتح هذا الباب لأسقط كل منهما حق الآخر أضر به.
وعلى هذا: لا يملك الإسقاط إلا في حق نفسه دون حق الآخر.
قال رحمه الله: [وإذا مضت مدته لزم البيع]: أي: إذا مضت مدة الخيار، فإنه في هذه الحالة يلزم البائع، ويلزم المشتري، ولا خيار لهما، وهذا على التأقيت بالزمان، ويكون العقد حينئذٍ لازماً للطرفين.(153/6)
خيار الشرط ومدته
قال المصنف رحمه الله: [الثاني: أن يشترطاه في العقد مدة معلومة ولو طويلة]: أي: النوع الثاني من الخيار، ويسمى بخيار الشرط.
وهذا النوع من الخيار يخالف النوع الأول، فإن هذا النوع يمتد إلى ما بعد العقد وبعد الافتراق، ويكون معلقاً على شرط بعد العقد، ولكن خيار المجلس يكون أثناء مجلس العقد، فما دام أنهما في المجلس فهما بالخيار كما فصلنا.
والأصل في خيار الشرط حديث حبان بن منقذ رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: أنه كانت به لوثة، وفيه شيء أشبه بالارتجاج، والسبب في ذلك: أنه رضي الله عنه وأرضاه أصيب في يوم بدر بالمأمومة، وهي: نوع من الضربات تصل إلى أم الدماغ، وهذه أحياناً تحدث نوعاً من الارتجاج، فكانت عنده لوثة أثرت عليه في لسانه وأثرت عليه في عقله، فصار به نوع من الضعف في العقل، فهذا الصحابي اشتكاه أهله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يذهب إلى السوق ويشتري ويُغْبَن، وهذا فيه ضرر عليه، فرفع أمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنهم يسألونه أن يحجر عليه، أو يمنعه من البيع، ويمنع الناس من التعامل معه، فقال: (لا أصبر)، أي: أنه لا يصبر عن البيع.
فالنبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أن شكوى قرابته صحيحة، وأن استمراره على هذا الوجه فيه ضرر، ومن المعلوم أن من حكمة الشرع أنه في بعض الأحيان يمنع الشخص من التصرف في ماله لمصلحته هو، كالمجنون والصغير واليتيم، فاليتيم مثلاً: لو توفي أبوه وترك له مليوناً، فلو تركناه يتصرف فيها فإنه سيتضرر، والضرر يلحق نفسه، فنمنعه من التصرف في هذا المال مع أنه ملك له، خوفاً من الضرر عليه، وهذا ما يسميه العلماء: بالحجر لمصلحة المحجور.
فهؤلاء جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكي يحجر عليه لمصلحته، فذكر هو أنه لا يصبر عن البيع، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء بحل وسط، فقال له (إذا ابتعت فقل: لا خلابة، ولي الخيار ثلاثاً).
(إذا ابتعت) أي: اشتريت؛ لأن العرب تقول: ابتاع بمعنى اشترى؛ لأنه من الأضداد يقال: اشترى بمعنى باع، واشترى بمعنى أخذ، كما قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف:20] أي: (باعوه بثمن بخس)، ويطلق الشراء بمعنى الأخذ، تقول: اشتريت داراً بمعنى: أنك عاوضت عليها وملكتها.
(فقل: لا خلابة) أي: لا غبن ولا خديعة.
(ولي الخيار ثلاثاً) أي: أني بالخيار ثلاثة أيام، إن شئت أمضيت الصفقة، وإن شئت ألغيتها، فخلال هذه الثلاثة الأيام، سيطّلع قرابته على فعله، فإن وجدوا تصرفه سليماً أمضوه، وإن وجدوه خطأً ردوه.
فحقق صلى الله عليه وسلم المصلحة ودرأ المفسدة، وهذا من حكمته عليه الصلاة والسلام وسعة رحمته بالأمة، أن كان يوسع على الناس، فالرجل حينما يحجر عليه، فيه منقصة له وتضييق عليه، وإزراء عليه بين جماعته وقرابته، فجعله يبيع، لكن قال له: (إذا ابتعت فقل: لا خلابة، ولي الخيار ثلاثاً) فالذي اشتكاه قرابته دفعه بقوله: (ولي الخيار ثلاثاً).
وبسبب الثقل في لسانه كان يقول: (لا خيابة) بدلاً من (لا خلابة).
وقد كان الخلفاء يقضون بهذا القضاء، حتى زمن عثمان، لما كثر الناس لم يعرفوه؛ لأنه كثرت التجارة وجاء أناس غرباء عن المدينة لا يعرفون هذا الصحابي، ولا يعرفون قصته، وقد كانت المدينة صغيرة، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكان معروفاً مكشوفاً لا إشكال معه؛ لكن لما جاء عهد عثمان وجاء التجار الجدد الذين لا يعرفونه، فكانوا يختصمون معه، يقولون: ليس لك من خيار، فإذا رفعهم إلى عثمان قضى عليهم أن له الخيار ثلاثاً، بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا يسمى خيار الشرط، فإنه أوجب البيع ورضيه على أن له الحق أن يلغي الصفقة أو يتمها خلال ثلاثة أيام، فخلال هذه الثلاثة الأيام، يستطيع ورثته أن ينظروا في السلعة، فلهم أن يمضوها أو يلغوها، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لـ حبان رضي الله عنه وأرضاه أن يشترط، فصار أصلاً في اشتراط الخيار، فلو اشترط ثلاثة أيام كان له، وإن اشترط يوماً كان له، وإن اشترط يومين كان له، واختلف فيما زاد على الثلاثة أيام: فقال بعض العلماء: لا يزيد الخيار على ثلاثة أيام، والسبب في هذا: أن الأصل تمام الصفقة، وأن الحديث ورد بثلاث، فلا يزاد عليها.
وقال بعض العلماء: من حقه أن يزيد على ثلاث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطاه رضي الله عنه ثلاثة أيام دفعاً للضرر، والصفقات تختلف، والناس تختلف حوائجهم، فهناك الذي يحتاج إلى مشورة تستغرق نصف شهر، أو تستغرق شهراً كاملاً، أو تستغرق الشهرين، فأصحاب هذا القول يقولون: من جهة اللفظ ثلاثة، ولكن من جهة المعنى والعلة الثلاثة وغيرها سواء.
وهذا المذهب أقوى: فإننا إذا نظرنا إلى مقصود الشرع وهو دفع الضرر وجدنا أن البيوع تختلف، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لـ حبان الثلاثة؛ لأن من كان مثله وفي وضعه وحالته فإنها تكفيه؛ لكن في زمننا هذا، قد تشتري مصنعاً، وهذا المصنع يحتاج إلى نظر من أهل الخبرة، ويحتاج إلى مشاورة أناس لهم معرفة، وقيمة المصنع ليست بالسهلة، فمثل هذا في الحاجة أشد من حبان، والضرر الذي يأتيه أعظم من ضرر حبان، فقالوا: لا يمكن أن نجمد على الثلاثة، ونلغي معنى الشرع؛ لأن الشرع أعطى حباناً رضي الله عنه الثلاثة دفعاً للضرر، ودفعاً للمفسدة، فأنت إذا احتجت مثلاً إلى هذا المصنع أو هذه المزرعة أو هذا الشيء الذي يحتاج إلى كثير من النظر والمشورة، فمن حقك أن تشترط الشهر والشهرين والثلاثة؛ لكن لابد أن تكون المدة معلومة.
إذاً: خيار الشرط هو أن يشترط أحد المتعاقدين أو هما معاً، ويوجبا البيع بناء على تحقق هذا الشرط ويكون مدة معلومة.(153/7)
وقت خيار الشرط
قال رحمه الله: [أن يشترطاه في العقد] هذا من دقة المصنف رحمه الله؛ لأن العقود يجب الوفاء بها في ذات العقد، أما بعد العقد وبعد الافتراق فقد تم العقد، فلا يجوز أن يشترط بعد تمام العقد، فلذلك قال: (يشترطاه في العقد)، أي: حال الإيجاب والقبول.
فلو أن إنساناً بعد أن أوجبنا وقبلنا وانتهى خيار المجلس وافترقنا، جاء وقال: عندي شرط؛ فليس من حقه؛ لأنه قد تم البيع، ولو قلت له: لن أعطيك الشرط؛ فمن حقك.
فقول المصنف: [في العقد] أي: أن الذي يملكه المتعاقدان من الشروط ما كان حال العقد؛ وكونهما بعد العقد وبعد الإيجاب والقبول يتراضيان هذا أمر آخر، فلو تراضيا على إسقاط البيع سقط، فالمراد الشرط الإلزامي، فلا يستطيع أن يلزمك بشرط إلا إذا كان أثناء العقد، أما لو تم العقد وافترقتما فإن البيع قد وجب على ظاهر السنة وظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا) ولو فتح باب جواز الاشتراط بعد الافتراق لكان كل شخص يضر الآخر بذلك، وليس من حق المتعاقد مع أخيه أن يلزمه بشرط بعد تمام الصفقة وحصول التفرق، فإذا حصل التفرق ألزم بالعقد على صورته، وليس من حق أحدهما أن يدخل على الآخر شرطاً يلزمه به إلا إذا رضي، فإذا رضي فلا إشكال فيه؛ لأن هذا شيء يرجع إليهما، بل من حقهما إذا تراضيا على فسخ البيع أن يفسخاه، فهذا أمر آخر في التراضي لا نتكلم عنه، إنما نتكلم على الشرط الإلزامي وأنه لا يكون الشرط ملزماً إلا إذا كان في العقد أثناء الإيجاب والقبول.
وقوله: [مدة معلومة ولو طويلة]: أي: أن يشترطاه مدة معلومة، وهذا يرجع إلى الزمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خيار الشرط بالزمان.
(ولي الخيار ثلاثاً) أي ثلاثة أيام، فهو خيار يرجع إلى الزمان وهذا أصل، فإذا كان مدة فيشترط في المدة أن تكون معلومة، ومفهوم الصفة في قوله: (معلومة) أنه لو كانت المدة مجهولة لم يصح، فمثلاً لو قال: لي الخيار إلى الأبد لم يصح، أو قال: لي الخيار حتى أقطع لم يصح؛ لأنها مدة مجهولة، ولا يصح أن يشترط الخيار بمدة مجهولة؛ لأنه بهذا يفوت عليك مصلحة التصرف في المبيع، وقد يأتيك بعد مدة طويلة ويغرر بك، فلا بد وأن يحدد المدة.
ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الخيار محدداً، فوجب أن تكون صورة الشرط بهذه الصورة، أعني: أن يكون محدداً.
وقوله: (ولو طويلة)، إشارة إلى الخلاف وهو: هل يشترط أن تكون المدة محدودة قصيرة، أو أنه يجوز أن تكون طويلة؟ وقد صحح غير واحد من العلماء أنه يجوز أن يشترط مدة طويلة لوجود الحاجة، أما إذا لم توجد الحاجة، فإنه يتقيد بالسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج من الخلاف بين أهل العلم رحمهم الله.(153/8)
ابتداء وانتهاء خيار الشرط
قال رحمه الله: [وابتداؤها من العقد]: أي: لو قال: لي الخيار ثلاثاً، فإنهما إذا أطلقا كان ابتداء المدة من افتراقهما، وعلى هذا يكون الخيار من بعد وجوب العقد، ولو أنهما جلسا ولم يفترقا ليلةً كاملة وفي صباح اليوم الثاني افترقا، فإن المدة تبدأ من صبيحة اليوم الثاني.
وقد جعلوها تلي العقد مباشرة دفعاً للغرر والضرر؛ لأنه إذا كانت مبهمة، دون أن يحكم بكونها من بعد العقد مباشرة، ودون أن تليه، فإن هذا يدخل الغرر على العقد، ولذلك يقولون: يشترط أن تكون معلومة للطرفين، ومحددة بأمد معين، أي: أن يكون الشرط معلوماً محدداً للطرفين، وأن يكون تلو العقد مباشرة، وهذا هو ما يسمى بشرط الموالاة، وقد نص عليه الجمهور الذين يقولون باعتبار خيار الشرط.
وعليه: فإنه يتحدد من لزوم البيع ويحكم بلزومه للطرفين بعد الافتراق مباشرة.
قال رحمه الله: [وإذا مضت مدته أو قطعاه بطل]: خيار الشرط يأتي على ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يشترط البائع ولا يشترط المشتري.
الصورة الثانية: أن يشترط المشتري ولا يشترط البائع.
الصورة الثالثة: أن يشترط كل منهما.
فأما بالنسبة لما اشترطه البائع، فكأن يقول: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فيقول: قبلت، قال البائع: لكن أشترط أن يرضى أبي، أو أشاور أبي، ولي الخيار يوماً أو يومين أو ثلاثة، فهذا اشتراط من البائع.
والعكس من المشتري، كأن يقول: أشتري منك هذه العمارة بمائة ألف، قال: قبلت، قال: لكن لي الخيار يوماً، أو يومين أو شهراً أو شهرين، حينئذ يكون الخيار للمشتري.
وأما أن يكون للمتعاقدين، فذلك كأن يقول أحدهما: أشترط أن لي الخيار يوماً، يقول الآخر: وأنا أشترط أن يكون لي الخيار يومين.
وإذا حصل الشرط من الطرفين: فإما أن يتماثل الشرطان، أو يختلفا.
يتماثلان كأن يقول: أشتري منك هذه السيارة بعشرة آلاف؛ لكن لي الخيار ثلاثة أيام، ويقول البائع: وأنا لي الخيار ثلاثة أيام، فجعل كل منهما شرطاً مثل شرط صاحبه، فحينئذٍ تكون المدة متفقة من الطرفين.
أو يختلفا مثل أن يقول له: أشترط أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، وقال الآخر: أشترط أن يكون لي الخيار أسبوعاً، فاختلفت المدة، وسواء اشترط البائع أو اشترط المشتري أو اشترطا معاً، بما يتماثلا فيه أو يختلفا فيه، فإنه حينئذ يكون كل منهما على شرطه، وكل منهما له شرطه، فإذا اشترطت ثلاثة أيام فلك ثلاثة أيام تنظر فيها في صفقتك إن شئت أمضيت وإن شئت ألغيت، فلو أنك اشتريت مثلاً قطعة أرض في مخطط بمائة ألف، فقلت له: أنا أشترط أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، قال لك: قبلت، فصار الشرط من المشتري، فذهبت وشاورت أهل الخبرة في اليوم الأول، فأشاروا، وفي اليوم الثاني رزقك الله رجلاً يشتريها منك، فقال: أنا أشتريها منك بمائتي ألف، فأنت تريد أن تتم الصفقة الأولى حتى تعقد الصفقة الثانية، فتقول: أنا اشترطت ثلاثة أيام فأنا أقطع هذا الخيار، وأرضي بتمام البيع فيمكنك أن تتم البيع، فتتم البيع في اليوم الثاني أو تتمه في اليوم الأول، بل ولو بعد ساعة، فبعد أن ترجع عن شرط الخيار، وتوجب الصفقة الأولى يحق لك أن تبيع بالصفقة الثانية.
فالحاصل أنه من حقك ومن حقه هو أن يقطع الخيار قبل تمام مدته، فمراد المصنف رحمه الله أنه إذا أسقطه من اشترطه بائعاً كان أو مشترياً كان من حقه.
(وإذا مضت مدته) أي: المهلة، فلو قال: لي الخيار ثلاثة أيام، ومضت الثلاثة الأيام، لزمه البيع، ما دام أنه لم يرجع قبل تمامه، فلو جاء بعد ثلاثة أيام وقال: رجعت نقول: يلزمك البيع؛ لأن الخيار لك في ثلاثة أيام، ومفهوم الزمان وهو الثلاثة أيام، أنك بعدها قد رضيت البيع، سواءً جئت وقلت: رضيت أو ما جئت، فالبيع لازم وواجب عليك.
قال: [أو قطعاه بطل]؛ فإن قطع أحدهما أو قطع الاثنان معاً شرطيهما كان لهما ذلك؛ لأن من حقهما أن يسقطا الخيار، كما ذكرنا في خيار المجلس.(153/9)
العقود التي يثبت فيها خيار الشرط
قال رحمه الله: [ويثبت في البيع والصلح بمعناه]: (ويثبت في البيع)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ابتعت، فقل: لا خلابة).
(والصلح بمعناه)؛ لأن الصلح بمعنى البيع، وهو الصلح بعوض، كما بيناه.
قال: [والإجارة في الذمة]: مثلاً: اتفقت مع مقاول أن يبني لك عمارة على صفة معينة، فقال لك: سأبني هذا البناء بصفة كذا وكذا، أو بهذه المخططات الموجودة للبناء بعشرة آلاف ريال، فقلت له: قبلت؛ لكن أشترط أن لي الخيار ثلاثة أيام، فحينئذ تتوقف الإجارة حتى تمضي الثلاثة الأيام، فهذه إجارة في الذمة.
فمن حقك أن تعلق الإجارة في الذمة، مثل: بناء البيت، وحفر البئر، وخياطة القميص، فلو أن شخصاً جاء وقال: احفر لي في أرض بئراً، فقلت: أحفر لك مائة متر، كل متر بمائة ريال، فقال: قبلت، لكن لي الخيار ثلاثة أيام، يريد أن يسأل الناس ويسأل أهل الخبرة هل من مصلحته أن يمضي الإجارة أو لا، حق له ذلك كما ذكرنا في البيع.
قال رحمه الله: [أو على مدة لا تلي العقد] أي: كأن استأجر منه الدار شهراً، أو سنةً لا تلي العقد؛ لأنه لو قلنا: إن الإجارة يثبت فيها خيار الشرط بعد العقد مباشرة، وتكون المدة بعد العقد، تداخل الإلزام وعدم الإلزام.
توضيح ذلك: لو جئت إلى رجل، وقلت له: أجرني الشقة في العمارة بعشرة آلاف ريال لمدة سنة، فقال: قبلت، لكنك قلت: ولي الخيار ثلاثة أيام، فيشترط في السنة التي عقد عليها، ألا تجعلها بعد العقد مباشرة؛ لأنها لو كانت بعد العقد مباشرة لكان ابتداء العقد بعد الافتراق، وبالشرط يبتدئ العقد بعد ثلاثة أيام، فيصبح خلال الثلاثة الأيام، لا ندري هل عقد الإجارة لازم، بناء على ظاهر اتفاقكما أو غير لازم لوجود الشرط لاحتمال أن ترجع؟ وهذا بلا إشكال أنه غرر، ولا يصح، ولذلك احتاط المصنف رحمه الله، ونص العلماء على اشتراط ألا تكون المدة تالية العقد؛ لأنه سيحدث تداخل، إذ كيف يصح أن أقول: لك الخيار ثلاثة أيام، ثم تحسب الثلاثة الأيام من الإجارة، مع أن الإجارة ما لزمت خلال الثلاثة الأيام؛ لأن من المعلوم أنه لا يصح أن تقول: خلال مدة الشرط وهي الثلاثة أيام: إن العقد لازم.
أي أنك إذا قلت: الإجارة تلي العقد، فمعنى ذلك أنها لازمة بعد العقد، وإذا قلت: إن الشرط لازم بناء على ما ورد في السنة فمعناه أن الإجارة لازمة، وهنا الإجارة غير لازمة إلا بعد ثلاثة أيام، فيصبح هنا تناقض.
إذاً: عندنا أمران: الأمر الأول: عقد الإجارة.
الأمر الثاني: الشرط.
نوضح أكثر: لو أنك تريد أن تستأجر شقة ثلاثة أيام، فقلت له: أجرني هذه الشقة ثلاثة أيام، السبت والأحد والإثنين، فقال: أجرتك بثلاثمائة ريال، وهذا الاتفاق كان يوم الجمعة ليلة السبت، فقلت: قبلت على أن لي الخيار ثلاثة أيام، التي هي السبت والأحد والإثنين فهذه لا تصح إلا إذا كانت المدة التي اشترطتها غير مدة العقد، فحينئذ قال المصنف: (على مدة لا تلي العقد)؛ لأنك لو قلت: يضع الشرط بعد العقد مباشرة، صار تناقضاً خلال الثلاثة أيام، فالعقد لازم من وجه وغير لازم من وجه، والشرع لا يتناقض، ولذلك اشترطوا في المدة أن يكون فيها فسحة للنظر وإعطاء المهلة قبل لزوم العقد لكيلا يحدث تناقض، وهذا أمر لا إشكال فيه وهو أمر صحيح معتبر، خاصة إذا مثلنا بشيء يطابق الشرط المذكور، لكن لو قال له: أشترط رضا والدي، قد يتوهم البعض أنه لا فرق بين قوله: أشترط رضا والدي، وبين اشتراط مدة تلي العقد، فيتوهم أن هذا الشرط لا علاقة له بالمدة، لكن حينما تقول: إن خيار الشرط الأصل فيه مدد الزمان، والإجارة كذلك بمدد الزمان وهي المدة المعينة، فلا بد فيها وأن يكون العقد بعد نهاية مدة الشرط، فتكون الإجارة على مدة لا تلي العقد، أي: لا تكون بعد العقد مباشرة، حتى يصح خيار الشرط من هذا الوجه.
قال رحمه الله: [وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح]: أي: يجوز في خيار الشرط أن يشترطه أحدهما دون الآخر، وقد ذكرنا أن له ثلاث صور: - أن يشترط البائع دون المشتري.
- أن يشترط المشتري دون البائع.
- أن يشترطا معاً.
فيكون لهذا شرطه، ويكون لهذا شرطه.(153/10)
الغاية في خيار الشرط
قال رحمه الله: [وإلى الغد أو الليل يسقط بأوله]: بعد أن بين رحمه الله برحمته الواسعة، أن خيار الشرط يقع في المدد، كقولك: ثلاثة أيام، أربعة أيام، شرع في بيان مسائل فرعية وهي إذا قال: إلى الليل، أو إلى يوم كذا، فهل العبرة بالغاية؟ أم العبرة بما بعد الغاية؟ فالأصل يقتضي أن الغاية لا تدخل في المغيا، إلا إذا كانت من جنسه، وهذا الأصل فيه خلاف بين العلماء، فمثلاً: حينما ننظر إلى الشرع يحد الأشياء بغايات، كقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] وكقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187].
فقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] هل المراد أن نغسل إلى ما قبل المرفق ويعتبر المرفق غير داخل في الحد، أم أن الغاية تدخل في المغيا، فيجب غسل المرفق؟ فالذي عليه المحققون أن الغاية تنقسم إلى قسمين: أن تكون من جنس المغيا.
أو تكون من غير جنسه.
فإن كانت من جنسه دخلت، وإن كانت من غير جنسه لم تدخل، فلما كان المرفق من جنس اليد دخل، ولكن لما قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] وكان الليل ليس من جنس النهار، لم يدخل ولم يجب الصيام إلى الليل، وعلى هذا قالوا: إذا قال له: إلى الليل أو إلى الغد، انقطع الخيار بأول الليل وأول الغد.
وبعض العلماء يرى أن إذا قال: إلى الليل أن يلزمه إلى صبيحة اليوم الذي يليه، فينتظر إلى انتهاء الليل لانتهاء الغاية، وإذا قال: إلى الغد، فإنه ينتظر إلى غروب الشمس، وليس إلى طلوع شمس الغد، والصحيح ما ذكرناه.
فالقاعدة: أن الغاية إذا كانت من جنس المغيا دخلت، وإذا لم تكن من جنسه لم تدخل؛ لأن الأصل في الغايات أن لها مفاهيم، ولذلك ما بعد الغاية يخالف ما قبله في الحكم، وهذا ألفناه من الشرع، فمثلاً في حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها)؛ فقوله: (حتى يبدو) غاية في النهي، أي: حرمنا عليكم بيع الثمرة إلى الغاية، وهي بدو الصلاح، ففهمنا أن الغاية لا تدخل في المغيا، وقد ذكر علماء الأصول: أن من أنواع المفاهيم مفهوم الغاية، فقالوا: إن تحديد الشرع شيئاً بغاية يدل على أن ما بعد الغاية يخالف ما قبلها في الحكم.
قال رحمه الله: [ولمن له الخيار الفسخ، ولو مع غيبة الآخر وسخطه]: أي: من اشترط وقال: لي الخيار ثلاثة أيام، فله الحق أن يفسخ في أي وقت، ما دام أنه في مدة الخيار، فإذا انتهت مدة الخيار فقد انقطع هذا الحق، فإذا جئت خلال ثلاثة أيام، وقلت: لا أريد، فذلك من حقك، حتى ولو لم تذكر سبباً ما دام أنك حددت بالزمان.
وقوله: (ولو مع غيبة الآخر وسخطه) أي: يستوي إذا كان الآخر حاضراً أو غائباً، فمثلاً: لو أني اشتريت منك سيارة بعشرة آلاف وقلت لك: لي الخيار ثلاثة أيام، مثلاً: السبت والأحد والإثنين، ففي يوم السبت اخترت أنني لا أريد الشراء، فلا يلزمني أن أبحث عنك، حتى أقول لك: لا أريد، بل يكفي أن أشهد عدلين على أني لا أريد الصفقة، فإذا قلت لي بعد ذلك: لا ألغيها لأنك ما جئتني، فحينئذ أرفعك إلى القاضي وأقيم البينة بالشاهدين العدلين على أني أسقطت هذا البيع ولم أوجبه، أو أني فسخته، فيحكم القاضي بذلك.
ثم قوله: (ولمن له الخيار الفسخ) أي: سواءً الطرفان أو أحدهما.
وقوله: (ولو مع غيبة الآخر) أي: لا يشترط في الفسخ أن يكون حاضراً.
وقوله: (وسخطه) أي: قلت له: خلال الثلاثة أيام لا أريد هذه الصفقة، فقال: بل تلزمك، فتقول: لكني قد اشترطت الخيار، فقال: لا أرضى.
فنقول له: يلزمك أن تفسخ العقد ولو كنت ساخطاً.
فلا يشترط رضا الآخر؛ لأن هذا هو المقصود من الشرط: أن يكون لي الخيار تاماً، فسواء رضي أو لم يرض وسواء حضر أو لم يحضر.(153/11)
الأسئلة(153/12)
الحالات التي يسقط فيها خيار المجلس
السؤال
ما معنى قول بعض العلماء رحمهم الله: (ويستثنى من خيار المجلس: تولي طرفي العقد، والكتابة، وشراء من يعتق عليه، وإذا اعترف بحريته قبل الشراء) أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: هناك صور للبيع الذي يتولى فيه طرفي العقد شخص واحد، مثل النكاح، فقد يكون الرجل في بعض الأحيان ولياً وزوجاً، وكذا إذا تولى البيع والشراء شخص واحد، كأن اشترى لنفسه وكان وكيلاً عن غيره في البيع.
فمثلاً: لو كان عنده أيتام لهم عمارة فأراد أن يبيعها لهم، ليشتري لهم ما هو أصلح، فعرضها للبيع فرأى أن من مصلحته أن يشتريها، فهو بائع من وجه: من جهة الولاية، ومشترٍ من وجه: من جهة الأصالة، فهو أصالة عن نفسه مشترٍ، وولاية عن الغير بائع، فكيف يكون خيار المجلس؟ لأن البائع والمشتري بالخيار، لكن هنا هو البائع وهو المشتري، فلا يستطيع أن يخرج من نفسه أو أن يفارق نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قيد الخيار بأن يفارق صاحبه إن كان بائعاً أو مشترياً.
فقالوا: إن هذه الصورة لا يكون فيها خيار، فبمجرد إيجابه للبيع يتم.
ثم ذكر بعد ذلك الكتابة بين السيد وعبده، ومعلوم أن العبد لا يملك المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ومن باع عبداً له مال فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع) أي: المشتري، فدل الحديث على أن يد العبد خلو لا تملك المال؛ لأنه إما للبائع وإما للمشتري، والسبب في هذا الكفر؛ لأنه لما كفر وضرب عليه الرق، كان عقوبة له أن لا يملك وأن يكون في حكم المملوكات؛ لأن الله جعل من كفر كالبهيمة وأسوأ {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الفرقان:44] فلما أشرك بالله وكفر بالله خرج عن مقام الإنسانية وأصبح في مقام المتاع الذي يباع ويشترى، وما ظلمه الله، بل هو الذي ظلم نفسه.
فالشاهد: أنه أخذ يد العبد عن الملكية.
لكن لو أن رجلاً عنده عبد فأسلم العبد وقال لسيده: أريد أن تكاتبني، والله تعالى يقول: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] فهذا العبد يريد أن يعتق نفسه والشرع يفتح أبواب العتق، فكونه رقيقاً يقتضي أن جميع ما يملك ملك لك، فهو إذا كاتبك لا يخرج عن ملكيتك إلا بعد أن يؤدي أنجم الكتابة، ولا يملك المال حقيقة إلا إذا صار حراً، فيصبح في هذه الحالة كأنك تعقد مع نفسك؛ لأن العبد وما ملك ملك لسيده، فعقد الكتابة لو جئت تتأمل لوجدت أنك في الأصل تملك العبد وماله، وهو لم يعتق الآن، فكأنك عندما تكاتبه تكاتب مع نفسك.
وقوله: (شراء من يعتق عليه)، أي: كوالده، فلو أن إنساناً اشترى ذا رحمٍ منه، كوالده ونحو ذلك، فإنه يكون في حكم الحر، وفي هذه الحالة يخلو العقد من حقيقته؛ لأن الصفقة ماضية ماضية، والمالك الذي هو الابن مع أبيه، من عظيم حق الوالد عليه فكأنه يشتري نفسه، ويصبح العقد كأنه في يد الوالد، كأن إيجابه وقبوله للوالد، ولذلك يعتق عليه سواء رضي أو لم يرض، فدل على أن يده خلو من الملكية، فكأن العقد بيد الوالد، فيصبح في هذه الحالة لا إيجاب ولا قبول من حيث الأصل، فلا خيار في هذا.
وقوله: (إذا اعترف بحريته قبل الشراء) كما لو اشترى من كان يقر بحريته، ثم اشتراه.(153/13)
التواضع وفضله
السؤال
إن التواضع مما يجب أن يتحلى به المسلم، وطالب العلم إلى التواضع أحوج، فهلاّ تفضلتم بتوجيهٍ حول هذا الأمر، أثابكم الله؟
الجواب
التواضع من أجلّ الأعمال التي يحبها الله جل جلاله، ومن تواضع لله رفعه، والتواضع لا يكون إلا بصلاح القلب؛ لأن الله سبحانه وتعالى من حكمته إذا اطلع على سريرة العبد ووجد فيها الخير، أن يظهر ذلك لعباده ويكشفه، وقلَّ أن يغيب عبد سريرة خير أظهرها الله في وجهه ولسانه وفلتات جوارحه وأركانه.
ومن تواضع لله طاب معدنه، وطاب قلبه، وزكت نفسه؛ لأنه يريد الله والدار الآخرة، ولا يتواضع إلا من عرف الله وعرف مقدار نعمة الله جل جلاله عليه، ولا يكون التواضع بالتشهي ولا بالتمني ولا بالتكلف ولا بالرياء، ولا محبة للثناء؛ ولكنه شعور صادق نابع من نفس مؤمنة صادقة موقنة، تريد ما عند الله سبحانه وتعالى.
وأحق من يتواضع العلماء وطلاب العلم، وأهل الفضل والصالحون، خاصة كبار السن، لقربهم من الآخرة، ودنوهم من الأجل، فهم أحق الناس بانكسار القلب لله، وتواضع القلوب لعباد الله، والعلماء يتواضعون لأن خشية الله سكنت قلوبهم، ومحبة الله والذلة له سبحانه وتعالى استقرت في نفوسهم، فأصبحوا لا يريدون في الأرض علواً ولا فساداً، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
التواضع خلق محمود؛ ولذلك تخلق به رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فكان أكمل الأمة تواضعاً، وأقربهم للناس، حتى إن الناس بين يديه كأنهم هم الملوك وهو بين أيديهم من تواضعه صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة والخلفاء على ذلك، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يمشي في الناس، ويجلس بين الناس ولا يشعر بفضله على عباد الله، وهو خير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأعظمها زلفى وقربى عند الله جل جلاله.
وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه مثالاً في التواضع، وكذلك عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وهكذا كان أئمة السلف ودواوين العلم.
فقد كان الإمام محمد بن سيرين سيداً من سادات التابعين، وكان إذا جلس بين الناس باسطهم وألفهم وألفوه، حتى كأنهم لا يشعرون أنه عالم، وإذا جن عليه الليل سمع البكاء من بيته، فكانوا يتواضعون لعلمهم بالله، وتعظيمهم لحدود الله، وأنه مما ينبغي عليهم أن يشكروا نعمة الله، فيتواضعوا لعباد الله.
وكان سفيان الثوري الإمام الجليل، والسيد العالم العابد رحمه الله برحمته الواسعة من تواضعه أنه يرفع قدر الفقراء في مجلسه، فكانوا يقولون واشتهر عنه ذلك: (ما كان أرفع الفقراء في مجلس سفيان)، فكان يقربهم إليه، ويباسطهم ويكون أليفاً ودوداً رحيماً بهم، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتخلق بخلق الكرماء، الفضلاء، الأتقياء، الحلماء، ومن رزق التواضع فهو خليق به أن يكون قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟! أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذي يألفون ويؤلفون).
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يعلو بنفسه على طبقات الجو وهو وضيع إن كريم الأصل كالغصن كلما يزداد من خير تواضع وانحنى فالرمان والأشجار اليانعة كلما ازدادت من الخير تدلت أغصانها وقربت من القاطفين، وهذا هو شأن أهل العلم والصلاح، وشأن الأخيار المتقين.
ومن الكبر العبوس في وجوه الناس، وعدم إلقاء السلام عليهم، واحتقارهم لألوانهم، أو أحسابهم، أو مناصبهم، أو مراتبهم، أو أشكالهم، أو عاهاتهم، الله الله أن تزدري عباد الله، فإنك إن تواضعت لخلق الله أحبك الله، فإن الله يحب منك أن تتواضع لعباد الله، ولذلك عاتب الله نبيه من فوق سبع سماوات حينما عبس وتولى على الأعمى، وكان جاءه يريد أن يتزكى، فقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] * {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:4].
فهذا الذي تراه ضعيفاً عظيم عند الله بإرادة الزكاة، وبإرادة الخير والهدى، ولما أراد وجه الله عظم عند الله، لا لعينه التي ذهب نورها، ولا لحاله وبؤسه وفقره، فانظر إلى الناس بقلوبهم ودينهم، فإذا رأيت أخاك المسلم في المسجد، محافظاً على الصلوات الخمس، ثيابه مرقعة رث الهيئة فأحبه لله وفي الله، وسلمِّ عليه ولو كنت من أغنى عباد الله، فإن الله يحب أن يسمع منك هذه الكلمة، التي تشعره فيها بأخوة الإسلام، وإذا صلى بجنبك فالله الله أن تشيح بوجهك أو تصعر بخدك، أو تشعره بالأنفة أو السآمة أن يجلس بجنبك، وإذا جلس بجوارك الفقير أو صلى بجوارك من هو أضعف منك حالاً فتعامل وكأنك بجوار أغنى الناس وأكثرهم مالاً، واجعل عندك الشعور أنك تصلي أمام أعز الناس إن شعرت أنه ذليل.
إذا فعلت ذلك فإن الله يحبك، فمن كان عنده هذا الشعور تواضع للناس، وأظهر الله من شمائله وآدابه وأخلاقه، قال عدي رضي الله عنه وأرضاه (حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم أتاه من الشام، وهو على دين النصرانية، وقد عاتبته أخته السفانة -؛ قال: أتيته فانطلقت معه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فاستوقفه صبي، فوقف له، حتى قضى حاجته، والله ما سئمه ولا مله -صلوات الله وسلامه عليه- فانطلقت معه، فاستوقفته امرأة، فوقف لها حتى قضت منه حاجتها، فقلت: والله! ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، فلما دخلت بيته، رمى لي بعرض وسادة، فقلت: ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله)، ملك صلى الله عليه وسلم العباد بالمحبة والتواضع، فلماذا يتكبر الإنسان؟ إن كان المال، فالله هو الذي أغناه، وإن كان القوة والعزة والصحة والعافية فالله هو عافاه، فمن شكر نعمة الله عز وجل أن يتواضع لعباد الله.
والذي ينبغي للمسلم أراد أن يتواضع أن يكون تواضعه لله، لا من أجل مدح الناس، وأن يستوي عنده مدح الناس وذمهم، ولا ينتظر إلا أن الله يرضى عنه، وأن يرى الله منه أنه اغتنى وما تكبر في غناه، وأنه طلب العلم، وما تكبر في طلبه للعلم.
وآخر ما أختم به هذه الكلمة: أن يتواضع الشباب الأخيار وطلاب العلم لإخوانهم ممن هم دونهم، فهذا أمر مؤكد أن تنتشر الألفة والمحبة بين طلاب العلم، وألا يقع بينهم تنافر أو تكبر، بل ينبغي عليهم أن يتواضعوا وأن يجعلوا هذا العلم رحمة بينهم.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يعيذنا من منكرات الأخلاق والأدواء، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها سواه.
اللهم إنا نسألك الإخلاص لوجهك الكريم، ورضوانك العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(153/14)
شرح زاد المستقنع - باب الخيار [3]
من المسائل المترتبة على خيار المجلس وخيار الشرط: مسألة من يملك المبيع أثناء مدة الخيار هل هو البائع أم المشتري؟ وكذلك مسألة النماء المنفصل والمتصل في المبيع لمن يكون؟ ومسألة تصرف أحد المتعاقدين في المبيع مدة الخيار، وغيرها من المسائل.
ومن أنواع الخيار: خيار الغبن، فينبغي معرفة متى يكون لك الحق في هذا الخيار؟ ومتى يثبت وكيف يثبت؟ وما هو الأثر المترتب على ثبوته؟(154/1)
ملكية المبيع في مدة الخيار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والملك مدة الخيارين للمشتري]: شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان بعض الأمور المترتبة على خيار المجلس، وخيار الشرط، ومن ذلك: مسألة ملكية المبيع، فإذا وقع خيار الشرط، أو وقع خيار المجلس، فهل هذا المبيع يكون في مدة الخيار ملكاً للبائع أو ملكاً للمشتري.
والسبب في هذا: أنه لو باع إنسان سيارة مثلاً لرجل آخر، وقال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فإن قوله: (بعتك بعشرة آلاف) إيجاب، وقول المشتري: (قبلت)، قبول، والعقد مركب من الإيجاب والقبول، فمعناه أن الأصل يقتضي أنه قد تم البيع، ولكن من رحمة الله سبحانه وتعالى وتيسيره على خلقه أن جعل الخيار للمتعاقدين مدة جلوسهما.
فكأن الأصل يقتضي أن البيع قد وجب، وأن الملكية قد انتقلت إلى المشتري، فكما أن البائع قد ملك الثمن كذلك المشتري قد ملك المثمن؛ لأنه قال: بعتك، وقال الآخر: اشتريت، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فالأصل يقتضي أن صدور الإيجاب والقبول من الأهل في المحل القابل يتم به العقد، ولكن الخيار جعل فسحة من الله جل وعلا للبائع والمشتري، ولا يتركب إلا على عقد صحيح، فإذا صح عقد البيع لحقه الخيار والمهلة، ومدة الخيار والنظرة لا تقتضي بطلان العقد، ولذلك يقول بعض العلماء: الملك في مدة الخيار للمشتري كما اختاره المصنف وطائفة.
والمُلك والمِلك والمَلك مثلث الميم، وكله صحيح.
وقوله: [مدة الخيارين] أي: ما داما في فسحة الخيارين والخياران هما خيار المجلس وخيار الشرط، فأنت إذا قلت لرجل: بعتك هذه العمارة بعشرة آلاف وأنتما في المجلس، فقال: قبلت، وقلنا: بخيار المجلس، فإن الملك مدة جلوسكما في المجلس للمشتري وليس للبائع.
كذلك في خيار الشرط لو قال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت، ثم اشترط وقال: قبلت على أنني بالخيار ثلاثة أيام، فإن الملك في هذه المدة للمشتري ومعنى ذلك أن العقد صحيح، فإنا لا نحكم بخيار على عقد فاسد؛ لأن الخيار إنما يكون في عقد صحيح ماض قد أوجبه المتعاقدان، ولذلك نبه المصنف رحمه الله بهذه الجملة على أن العقد قد تم، وأن نظرة الخيار لا تقتضي إلغاء العقد الأول بين المتعاقدين.(154/2)
ملكية النماء المنفصل والمتصل بالمبيع
قال رحمه الله: [وله نماؤه المنفصل وكسبه]: [وله] أي: للمشتري، [نماؤه] الضمير عائد إلى المبيع، [المنفصل] أي: دون المتصل.
أصل النماء الزيادة، يقال: نما الزرع إذا زاد وكثر، والنماء يكون في المحسوسات ويطلق في المعنويات، والعلماء رحمهم الله يقولون: نماء المبيع المتصل، ونماء المبيع المنفصل، وهي عبارة يذكرونها في كتاب البيع، وتختلف الأحكام بحسب اختلاف النوعين من النماء.
فالنماء المتصل: هو الذي لا ينفك عن المبيع، مثال ذلك: لو باعك رجل فرساً أو ناقة أو شاة، وكانت هذه الناقة كانت هزيلة حينما اشتريتها منه ثم اعتنيت بها وعلفتها، أو كانت سقيمة فسعيت في علاجها فشفيت بإذن الله عز وجل، فمعنى ذلك أن وضعها سيختلف، وأن حالها سيرتقي إلى الأحسن والأكمل، فلما أحسنت القيام على البعير، والقيام على الفرس، والقيام على الشاة، نمت وازداد حجمها، فحينئذ نقول: هذا نماء متصل؛ لأنه لا يمكنك أن تزيل السمن الذي في الدابة عنها، ولا يمكنك أن تزيل هذا الاستحسان الذي طرأ في بدنها عنها، فهو متصل بها، ولا يمكن فكاكه عنها.
والنماء المنفصل عن المبيع، كرجل يبيعك البستان وله ثمر، فإن هذا الثمر يجنى وينفصل عن المبيع، أو يبيعك ناقة عشراء، أو بقرة أو شاة حاملاً، فإنه بعد مدة قد تضع هذه الناقة أو البقرة أو الشاة حملها، فينفصل النماء عنها.
فيقسم العلماء رحمهم الله النماء في المبيعات إلى قسمين: النماء المتصل والنماء المنفصل.
والسبب في هذا اختلاف الحكم، وتعذر الاستيفاء في أحد النماءين دون الآخر، ولذلك يختلف الحكم في النماء بحسب اختلاف نوعية النماء.
أما سبب ذكر المصنف لهذه المسألة: فلأنك تقول: إن خيار الشرط جائز ومشروع، فلو أن رجلاً اشترى شاة وهي حامل على أن له الخيار شهراً، وفي أثناء الشهر ألقت هذه الشاة ما في بطنها فولدت، فهذا النماء كان متصلاً بالمبيع، ثم أصبح منفصلاً عنه، فحينئذ يرد
السؤال
ما حكم هذه الزيادة لو رد المبيع؟ هل يرد المشتري الشاة فقط؛ لأن العقد إنما كان على الشاة فقط، أم أنه يرد الشاة وولدها؛ لأنه باعه الشاة وفيها الولد؟ كذلك أيضاً ربما اشترى منه شاة وهي ضعيفة هزيلة، فقال له: بعتك هذه الشاة بخمسمائة، فأخذت الشاة، ثم قلت: لي الخيار شهراً أو لي الخيار أسبوعين، ففي مدة الخيار كنت تحلبها وتشرب من لبنها، ثم رجعت وقلت: لا أريد، فهو يقول لك: أنت استفدت من شاتي، واللبن الذي فيها تابع لعقد بيعنا، فما دمت لا تريد الشاة فأعطني قيمة اللبن الذي شربته، وأنت إذا جئت تتأمل تقول: من حقه أن يقول هذا الكلام مبدئيا، ً وله وجه؛ لأن الصفقة إنما كانت على المبيع، وهذا المبيع منه نتاج فينبغي أن يرد المبيع ونتاجه، أو يرد المبيع ويضمن النتاج، ففي هذه الحالة يكون الحق للبائع.
وقد يكون الحق للمشتري، كأن تشتري الناقة هزيلة، فتردها سمينة، وتقول له: يا أخي! قد بعتني هذه الناقة وهي هزيلة ضعيفة، وأوجبنا البيع على مبيع بهذه الصفة الناقصة، وقد اعلفتها وأحسنت القيام عليها، أو داويتها وعالجتها فأعطني حقي ما دمت لا تريد إمضاء البيع، وهذا مما تقع فيه الخصومات والنزاعات بين طرفي العقد (البائع والمشتري) إذا اختار أحدهما في خيار الشرط عدم إمضاء الصفقة.
ومن هنا يعتني العلماء رحمهم الله بهذه المسألة، ومن دقة الفقهاء أنهم إذا ذكروا الحكم ذكروا ما يترتب عليه من مسائل، واعتنوا بما يترتب عليه من مشاكل؛ لأن طالب العلم يحتاج الفقه للفتوى ويحتاجه للقضاء والفصل في الخصومات، فمن هنا يرد السؤال: إذا كان النماء متصلاً أو كان النماء منفصلاً فهو لمن؟ فقال المصنف رحمه الله: [وله] الضمير عائد إلى المشتري، [نماؤه] أي: نماء المبيع يكون للمشتري دون البائع.
[المنفصل] مفهوم ذلك أن المتصل يكون للبائع؛ لأنه يرده، يرد المبيع بحالة أكمل، فقوله رحمه الله: [وله نماؤه المنفصل] أي: للمشتري، وعند العلماء في المتون الفقهية شيء يسمى: مفهوم الصفات أو مفاهيم المتون الفقهية.
وهنا لما قال: [وله نماؤه المنفصل] مفهومه أن للبائع النماء المتصل؛ لأن السلعة تعاد إلى البائع، فقابل رحمه الله المنطوق بالمفهوم، فمنطوق العبارة: للمشتري نماء المبيع المنفصل، ومفهومها: وللبائع نماء المبيع المتصل، إذا ألغيا الصفقة، فأعيد المبيع للبائع؛ لأنه لا يمكن فكه عنه بحال، وكذلك العكس.
[وله نماؤه المنفصل وكسبه] أي: للمشتري في مدة الخيار أن ينتفع بالنماء والزيادة الموجودة في المبيع منفصلة عنه، فيشمل اللبن إذا كان يحلب الشاة، أو يحلب الناقة أو يحلب البقرة؛ لأن هذا الحليب يكون نماءً منفصلاً ملكاً للمشتري دون البائع.
وكذلك (كسبه)، وهو يكون من نتاج ينتفع به ويرتفق، ولو جز صوفها أو نحو ذلك مما ينتفع به كالثمرة الموجودة في البستان، فإنها تكون للمشتري، إذا استفاد منها أثناء مدة الخيار.
لكن لو أن المشتري لم يجز الثمرة، ولم يتصرف بها، وأعاد المبيع كما هو، ثم قال: سآخذ هذا النماء؟ فيقال له: إنما كان لك قبل أن يتبين أن البائع لا يريد البيع، أما وقد تبين أن البائع يريد البيع، فحينئذ ليس لك من النماء المنفصل شيئاً.(154/3)
حكم التصرف في مدة الخيار
قال رحمه الله: [ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع، وعوضه المعين فيها بغير إذن الآخر بغير تجربة المبيع إلا عتق المشتري]:(154/4)
حكم التصرف في المبيع مدة الخيار
قوله: (ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع) هذه مسألة ثانية تتركب على مدة الخيار، فالآن حينما يبيع البيت، أو يبيع العمارة أو يبيع الحيوان أو يبيع المزرعة، ويكون الخيار للمشتري شهراً، أو شهرين، أو ثلاثة، ففي هذه الحالة خاصة إذا كانت المدة طويلة كالشهر والشهرين، بل حتى الأسابيع، يكون المبيع -سواء كان من العقارات أو المنقولات- محبوساً على الصفقة، فلا يتصرف لا البائع ولا المشتري، لا يتصرف البائع لأنه قد أخرج المبيع عن ذمته بعقد البيع، ولا يتصرف المشتري في المبيع لأن هذا العقد معلق، فحينئذٍ اتفق الطرفان على شرط بينهما، والمسلمون على شروطهم، فينبغي أن يفي كل منهما للآخر، فلو أنه قال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال له المشتري: قبلت، على أن لي الخيار ثلاثة أيام، فإن الصفقة التي هي السيارة لا يجوز للبائع أن يبيعها لطرف ثانٍ؛ لأن الطرف الأول قد رضي بالصفقة، ولا يجوز للمشتري أن يتصرف ببيع هذه السيارة أو هبتها أو أي من التصرفات حتى تتم مدة الخيار، ويمضي الشرط على صورته، فإذا مضت مدة الخيار وتم الشرط بينهما على ما اتفقا عليه، فكل منهما وشأنه فإن كان تمت الصفقة فالمبيع ملك للمشتري، وإن لم تتم الصفقة فالمبيع ملك للبائع، أما أن يتصرف أحدهما مثلاً: لو أنه باعه عمارة، فقال له: بعتك هذه العمارة بمائة ألف أو بمليون، قال: قبلت، قال: ولي الخيار شهراً، فربما جاء قبل نهاية الشهر وقال: لا أريد، وربما جاء الشهر، ومضى وتم، والمشتري يريد الصفقة، فحينئذٍ لو جاء البائع يبيع، ربما باع والمشتري يرغب الصفقة، وكذلك لو جاء المشتري يبيع ويتصرف ربما تصرف والبائع لا يريد إمضاء الصفقة، فتصرف أحد الطرفين في المبيع ببيعٍ أو هبةٍ أو عتقٍ كما يقع في العبيد، أو ذبح الشاة أو نحر الناقة كل هذا مخالف للشرط الذي بين المتعاقدين، والله أمرنا بالوفاء بالشروط، وأمرنا أن يفي المسلم لأخيه المسلم، فليس من الذمة والعهد بين المسلمين أن يخفر المسلم أخاه، فيقول له: بعتك هذه السيارة على أن لي الخيار يوماً أو أسبوعاً، فيتصرف بالصفقة قبل تمام هذا الشرط الذي بينهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم، وهو يتعاقد مع المشركين بالشرط: (بل نفي لهم، ونستعين الله عليهم) فإذا كان هذا بين المسلم والكافر، فكيف بين المسلم والمسلم، فحينئذٍ ينبغي لكلا الطرفين أن يعظم الشروط، وعليهم أن يتقوا الله عز وجل، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، فنحن لم نبع المبيع بيعاً، فلم نبع البيت ولا السيارة، ولا الأرض ولا المزرعة إلا معلقة على شرط، فينبغي أن يفي البائع للمشتري بإعطائه المهلة والنظرة ويفي المشتري للبائع بإعطائه المهلة والمدة، فكل منهم عليه الوفاء، والله تعالى قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وهذه الآية الكريمة أصل عند أهل العلم، فقوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يلزم المسلم أن يفي لأخيه المسلم بما تضمنه العقد، فالعقد الذي بين البائع والمشتري إنما هو عقد معلق بشرط معين، ولا بد من وفاء كل منهم به للآخر، وعلى هذا: لا يجوز أن يتصرف البائع ببيع المبيع أو هبته، أو عتقه ولا يجوز للمشتري أيضاً أن يقول: أنا اشتريت وأعطيت المال، إذاً أبيع وأهب، وأعتق، نقول: لا، لا يجوز لك لأنك أنعمت بيعاً معلقاً، فوجب عليك أن تنتظر هل يئول هذا البيع إلى البت فتتصرف، أو يئول إلى القطع وعدم الإمضاء فترد الحقوق إلى أهلها؛ لأنه من الشرط، والعقد بينكما معلق على هذا الخيار، فيجب على كل واحد منكما أن يفي للآخر على هذا الوجه.
[وعوضه المعين فيها]: وهذه الجملة صدَّرها المصنف رحمه الله بقوله: [ويحرم ولا يصح].
أما (يحرم) فإن من يقدم على التصرف في المبيعات في مدة الخيار، بائعاً كان أو مشترياً فإنه معتد لحدود الله عز وجل؛ لأنه ظلم أخاه المسلم، فمثلاً: إذا كان البائع والمشتري في مجلس واحد، فقال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقبل وأعطاه العشرة آلاف، وتم العقد بينهما، فالله قد جعل لكل منهما أن ينظر ما داما جالسين، فلو قال المشتري: يا فلان -يخاطب غيره- اشترِ مني هذه السيارة بأحد عشر ألفاً، فلا يجوز؛ لأنه لم يفترق عن أخيه حتى يتم البيع الأول.
فالمعنى أنه يحرم ولا يصح في مدة الخيار تصرف أحد المتعاقدين بائعاً كان أو مشترياً؛ لأنه يخالف شرع الله عز وجل، فنص المصنف أولاً على الحرمة؛ لأنه ليس من شيمة المسلم أن يكذب على أخيه المسلم وليس من شيمته أن يغشه، ويختله أو يخدعه في بيعه فيقول له: بعتك، ويقول الآخر: اشتريت على أن لي الشرط ويتم البيع بينهما بشرط، فيتصرف قبل تمام الشرط بل على كل منهما أن يتم للآخر شرطه.
وجمع المصنف بين (يحرم ولا يصح)؛ لأنه في بعض الأحيان قد يحرم الشيء ويصح البيع، مثلاً: البيع بعد آذان الجمعة الثاني حرام ولكنه صحيح عند جمهور العلماء؛ لأن الأركان تامة والشروط تامة، وجاء النهي من جهة الوقت والزمان، فهو ليس براجع إلى ذات البيع وإلى ما هو متعلق بعين المبيع ثمناً كان أو مثمناً، فأوجب الصحة.
وعلى هذا يقولون: يأثم والبيع صحيح، فيأثم لأنه باع في وقت لا يأذن الشرع بالبيع فيه، والبيع صحيح لأنه تام الشروط تام الأركان.
فعلى قوله: (يحرم ولا يصح) فإنه إذا تصرف فباع العمارة قبل تمام الشرط فسخ البيع الثاني، ولو تصرف بالعمارة فوهبها لغيره، فسخت هبته ولم تصح، والحكم للبيع الأول، فإما أن يمضي، وإما أن يلغي على حسب ما اتفق عليه المتعاقدان.(154/5)
حكم التصرف في الثمن المعين مدة الخيار
قوله رحمه الله: [وعوضه المعين فيها بغير إذن الآخر]: (فيها) أي: في صفقة البيع.
سبق في أول كتاب البيع معنى المبيع المعين، والمبيع المعين: أن تقع الصفقة على عين المبيع، فمثلاً: بعتك هذا الكتاب، فإذا قال: بعتك هذا الكتاب، فقد تعين، فلا يصح أن يأتي بكتاب ولو كان مثله وشبيهه تماماً؛ لأن البيع وقع على معين، ولا بد أن يكون الإمضاء على هذا المعين الذي اتفقا عليه؛ لأنه خصص البيع به، فليس بيعاً على موصوف في الذمة، وإنما هو بيع على حاضر أو على معين، فحينئذٍ يلتزم الطرفان بهذا الشيء المعين، فلا يجوز أن يتصرف أحدهما فيه في مدة الخيار.
فمثلاً: لو قال له: بعتك هذا الكتاب بهذه العشرة، على أن لي الخيار يوماً، فيحفظ العشرة بعينها، فإن كانت برأسها -كما يقولون- حفظها برأسها، وإن كانت من فئة الخمسة يحفظ الخمستين بعينهما، ولا يتصرف في عين العشرة فيردها مصروفة مثلاً.
ولو قال لك: بعني هذا القلم بهذه العشرة، فلما قال لك: بعني هذا القلم بهذه العشرة، فالعشرة تعينت، فلو أنك أثناء المجلس، أخذت العشرة ووضعتها وأردت أن تشتري بها شيئاً آخر، فقال لك: يا أخي هذه العشرة عليها خيار، فقلت: سأرد مثلها، نقول: لا يجوز؛ لأن البيع وقع على عينها.
وهذا يدل على دقة الشريعة الإسلامية وحفظها حتى لألفاظ المتبايعين، وهذا يدل أيضاً على أن الشريعة تريد أن تنصف كلاًّ من البائع والمشتري في حقه، لماذا؟ لأني لو قلت: بعتك بهذه العشرة، فمعناه أنها بعينها، فإن كانت مصروفة فمصروفة، وإن كانت غير مصروفة وكانت كاملة برأسها فهي كاملة؛ لأنها إذا كانت كاملة برأسها فصرفها فيه مشقة، والعكس: فحينما يقع البيع على شيء معين، ينبغي أن يتقيد بذلك الشيء المعين، ولذلك لو جئت إلى (الصيدلية) مثلاً وقلت له: بكم تبيعني هذا الدواء، قال: أبيعك إياه بعشرة ريالات، فأعطيته العشرة ثم أخذت الدواء فوجدت فيه عيباً، فجئت ترده قال لك: أعطيك بدلاً عنه، ولا أرد لك المال، فليس من حقه؛ لأن البيع وقع على معين، ولم يقع على موصوف في الذمة، لكن لو أعطيته الورقة التي فيها وصفة الطبيب فالتزم أن يحضر لك ما تنطبق عليه صفات هذه الوصفة، فقد وقع البيع على موصوف في الذمة.
وبناءً على هذا: إذا وقعت الصفقة بين المتبايعين على شيء معين، ينبغي أن يرد العين، ولا يتصرف في عينه؛ لأن بعض الأشياء إذا عينت وحددت وجاء الشخص ببدل عنها، لم يرض الناس بالبدل، ولو كان مثله.
فهو مثلاً يريد هذا الشيء بعينه، ويريد هذا الكتاب بعينه، فليس من حقك أن تتصرف فتأتي له بمثله.
فلو باعك نسخة من صحيح البخاري بمائة ريال، فقلت: قبلت على أن لي الخيار ثلاثة أيام، وهو أيضاً له الخيار ثلاثة أيام، فتم البيع بخيار شرط، فالنسخة هذه من صحيح البخاري التي لونها أخضر، وبهذه الصفات المعينة المحددة، لو أنك جئت بمثلها قبل تمام الثلاثة أيام وقلت: لا أريد هذا البيع وهذه نسخة مثل نسختك؛ فليس من حقك، بل عليك أن ترد له عين النسخة؛ لأن الشريعة تعظم العقود، والعقد الذي وقع بينكما وقع على معين، فإما أن يمضي على هذا المعين، وتوجبا وتمضيا ويختار كل منكما إمضاء البيع، وإما أن يرد كل واحد منكما للآخر عين ما أخذ منه، وهذا معنى قوله: (المعين)، لكن لو كان في غير المعين، فالأمر فيه أيسر وأخف مما عينه وأوجب العقد عليه.
[بغير إذن الآخر]: أي: لا يجوز أن يتصرف في المبيع بدون إذن الآخر، فمثلاً عندما يبيعه العمارة، ويؤجرها، يقول له: بعتك هذه العمارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت بشرط أن لي الخيار شهراً، فتم البيع على أن كلاً منهما له الخيار، فالمشتري اشترط الخيار، والبائع قال: وأنا كذلك لي الخيار، فخلال الشهر لا يجوز أن يؤجر العمارة، ولا يجوز أن يتصرف بالعمارة، دون أن يستأذن المالك الحقيقي لها، ويحرم ولا يصح، فهذا التصرف لا يجوز بغير إذن الآخر، فإذا أذن له فلا إشكال؛ لأنه حق له إن شاء ألزمه بحفظه ورده وإن شاء أذن له أن يأخذه فالمال ماله.(154/6)
جواز تجربة المبيع في مدة الخيار
قال رحمه الله: [بغير تجربة المبيع]: تجربة المبيع المراد بها أن يأخذ العينة يجربها هل هي صالحة له أو لا، بل إن بعض الخيارات في الشرط يقصد منها تجربة المبيع، فأنت مثلاً إذا باعك رجل سيارةً فقلت له: اشتريتها بشرط أن لي الخيار ثلاثة أيام، فإنك تنوي خلال الثلاثة الأيام أن تذهب بها إلى خبير يكشفها ويفحصها، وتسأل من له علم ومعرفة بالسيارات هل هذه القيمة تصلح وتليق لقاء هذا المبيع أو لا، فأنت تريد أن تشاور.
بل حتى خيار الشرط حينما نظرنا في حديث حبان رضي الله عنه، وجدناه مبنياً على المشاورة، فكونك تأخذ المبيع وتجربه هذا من حقك؛ لأن أصل الخيار إنما هو من أجل أن تختار خير الأمرين، وتنكشف لك حقيقة المبيع، هل هو مما يرغب فيه، أو مما لا يرغب فيه؟! وعلى هذا يجوز لك أن تجرب المبيع، فلو ركبت السيارة وأسرعت بها من باب تجربتها ومن أجل أن تفحص فيها سرعتها وما فيها من آلات هل هي مريحة أو غير مريحة فلك ذلك؛ لأن رؤية الشيء ليس كتجربته وعلى هذا: فلو أخذ القلم وكتب به، فهذه تجربة، وهكذا لو ركب السيارة فهذه تجربة، لكن بشرط أن يكون التصرف من المشتري في المبيع على وجه المعروف، فلو كان لا يحسن قيادة السيارة، وقادها وهو لا يحسن القيادة فأتلف ما فيها، أو تسبب في تعطيل بعض المصالح الموجودة في المبيع، فإنه حينئذٍ يضمن لو تصرف على هذا الوجه، ويجب عليه أن يصرف ذلك إلى من له خبرة وله معرفة، ويقول: يا فلان! جرب لي هذه السيارة، أو يا فلان جرب لي هذا المبيع، ولا يقوم بنفسه؛ ضماناً لحقوق الناس، وصيانة لها من الضرر.(154/7)
حكم العتق في مدة الخيار
قال رحمه الله: [إلا عتق المشتري]: فلو أن رجلاً باع عبداً، فاشتراه الآخر على أن له الخيار، فهذا الخيار يقتضي أن العبد يبقى مدة الخيار خالياً من التصرف من المشتري، فإذا أقدم المشتري وتصرف فأعتق العبد، فيقول المصنف في أول العبارة: [ويحرم ولا يصح]، فقوله: (ولا يصح) معناه لا ينفذ؛ لأن الصحة ضابطها عند العلماء ترتب الأثر على الشيء، فإذا قلت: صحت الصلاة فأثر ذلك أنه لا يعيدها بحيث تبرأ ذمته منها، وكذلك أيضاً يترتب الأثر من حصول الثواب الأخروي، فإذا قلنا: (لا يصح) فمعناه أنه لا يترتب الأثر، فإذا وهب، قلنا: لا تصح الهبة، ولو باع لم يصح البيع.
فإذاً: معنى ذلك أنه لا يترتب الأثر على التصرف الذي يتصرفه أحد المتعاقدين في السلعة، إلا إذا كان التصرف عتقاً، فإن العتق لا يمكن تداركه، ولذلك لو هزل في العتق فقال لعبده: أنت حر، نفذ ومضى عليه: (ثلاث جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ)، ولذلك قال عمر: (أربع جائزات إذا تكلم بهن: النكاح، والطلاق، والعتاق، والنذر)، فلو كان يمزح مع عبده فقال له: أنت حر، فإن هذا مما لا يمكن تداركه.
ونحن أثبتنا أولاً قاعدة: وهي أن المبيع في مدة الخيار في ملك المشتري، فإذا جاء المشتري واجترأ على حدود الله، فأعتق العبد في مدة الخيار، فالحكم أنه يمضي العتق؛ لأنه ورد على ملكه، ولأنه لا يمكن تدارك العتق، وقال بعض العلماء: العتق لا ينفذ، والسبب في هذا: أنهم لا يرون أن المبيع في مدة الخيار ملك للمشتري، فكأنه أعتق مال غيره، ومن أعتق عبد غيره أو أمة غيره فلا ينفذ العتق إجماعاً، وهذا حكاه ابن هبيرة وغيره.
وكنت أقول: إن العتق لا ينفذ؛ ولكن بعد التأمل وبعد النظر ظهر لي رجحان ما قاله المصنف رحمه الله من أن العتق ماضٍ ولا يمكن تداركه، ويضمن له إما بالقيمة وإما بالمثل على الأصل المعروف في باب الضمانات، وعلى حسب ما يريد مالك الرقبة الأصلية.(154/8)
إسقاط الخيار وفسخه وبطلانه
قال رحمه الله: [وتصرف المشتري فسخ لخياره]: المصنف رحمه الله جاءنا بثلاث جمل بعضها مرتب على بعض: فقد بيّن مسألة ملكية المبيع أثناء مدة الخيار، وأنه لا يجوز أن يتصرف أحدهما في المبيع لا البائع ولا المشتري في مدة الخيار، ثم بين ما يترتب على التصرف لو وقع، فهذه ثلاثة أشياء بعضها مرتب على بعض، ثم ذكر رحمه الله هذه الجملة وهي أيضاً تابعة لما قبل فقال رحمه الله: [وتصرف المشتري فسخ لخياره]: والمعنى أن المشتري إذا تصرف فسخ خياره، وإذا تصرف في المبيع فقد أفسد الخيار ورفعه، فكأنه حينما تصرف أسقط حقه؛ لأن الإسقاط إما بالقول وإما بالفعل، وقد سبق وأن نبهنا وقلنا: إن الخيار يمكن لكلا الطرفين أن يسقطه أثناء المدة، فمثلاً: لو أنني اتفقت معك على أننا بالخيار ثلاثة أيام، ثم اتفقنا على إمضاء البيع وإسقاط الخيار بعد يوم، فإنه إذا مضى اليوم تم البيع، وحينئذٍ لا يلزمنا أن ننتظر إلى الثلاثة أيام، فإذاً: معنى ذلك أنه إذا اتفق الطرفان على إسقاط الخيار فإنه.
فلو قال: بعني هذه الأرض بمائة ألف قال: قبلت، على أن لي الخيار شهراً، قال المشتري: وأنا أيضاً لي الخيار شهراً، فالبيع بينهما معلق على خيار لمدة شهر، فقبل تمام الشهر، بل ولو بعد ساعة من العقد واتفقا على أنهما يمضيان البيع، ويرفعان ما اتفقا عليه من الخيار، كان لهما، لكن بشرط أن يتفق الطرفان، فكما أن لهما أن يثبتا ذلك الخيار، فمن حقهما رفع الخيار.
لكن لو أن أحدهما أسقط خيار نفسه فهل يسري الإسقاط إلى خيار الآخر؟
الجواب
لا، فأنا لو قلت لك: بعتك هذه العمارة بعشرة آلاف، فقلت: قبلت على أن لي الخيار شهراً، قلت: وأنا أيضاً لي الخيار شهراً، فجئت وقلت: يا فلان! إني قد أتممت الصفقة -والخيار قد عدلت عنه والذي اخترته إمضاء الصفقة وكان هذا في اليوم الثاني- حينئذٍ أسقطت الخيار الذي لي، وأصبح البيع لازماً لي؛ لكن تبقى أنت على خيارك شهراً كاملاً، ففي هذه المدة لو أنني مت، وبقيت أنت فإنك تبقى على خيارك شهراً إن شئت أمضيت وإن شئت ألغيت.
وقد تقدم أن إسقاط الخيار يكون بالقول ويكون بالفعل، فلو أن المشتري تصرف في المبيع، فإن دلالة الفعل تنزل منزلة القول، ولذلك ذكرنا في بيع المعاطاة أن الأفعال تقوم مقام الأقوال، وأنها دالة -إذا لم تكن محتملة- وكانت صريحة في الدلالة تدل كما تدل الأقوال على ما تتضمنه من دلائل، فمثلاً: لو أن رجلاً أخذ منك العمارة على أنه بالخيار ثلاثة أيام، وجاء خلال الثلاثة أيام وتصرف تصرفاً ما، بهبة أو نحوها فهذا يدل على أنه قد أمضى البيع، ورضي بإتمام البيع، فكأنه يقول: أسقطت خياري، أو لا خيار لي، وعلى هذا قال: [وتصرف المشتري فسخ لخياره].
قال رحمه الله: [ومن مات منهما بطل خياره]: أي: إذا باعه سلعة على أنهما بالخيار أسبوعاً أو ثلاثة أيام، ثم مات أحدهما خلال المدة، فإنه يبطل الخيار في حقه ويبقى الخيار في حق الآخر، فالمصنف رحمه الله قال: (بطل خياره) والضمير عائد إلى الميت، ومفهوم ذلك أنه لا يبطل خيار الطرف الثاني؛ كما ذكرنا في المسألة الأولى أنه إذا أسقط أحدهما خياره فليس من حقه أن يلزم الآخر بإسقاط الخيار.
وقد اختلف العلماء هل يرث الورثة الخيار، أو لا يرثون؟ فبعض العلماء يرى أن الورثة يرثون، وهذا القول قواه غير واحد، وقالوا: إن الملكية للأموال تنتقل إلى الورثة، ولذلك لا يتصرف المريض مرض الموت في ماله إلا في حدود الثلث، وكأن المال قد صار في حكم الملكية للورثة، وعلى هذا قالوا: كما أنهم يرثون العين يرثون الاستحقاقات، ومن الاستحقاقات الشفعة والخيار، ونحوها من الأمور التي يكون فيها حق للميت، فتنتقل إلى ورثته؛ لأنهم كما يستحقون المال بعينه يستحقونه بوصفه، ويستحقون العقد عليه إذا كان مرتباً على شرط بذلك الشرط الذي أوجبه مورثهم، فهم يملكون الخيار، فعلى هذا القول: يبقى الخيار للورثة إن شاءوا أمضوا الصفقة وإن شاءوا ألغوها.(154/9)
خيار الغبن ومشروعيته
قال رحمه الله: [الثالث: إذا غبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة]: النوع الثالث من الخيار: إذا غبن في المبيع.
فالمصنف رحمه الله قال في الخيار: وهو أقسام، وذكر خيار المجلس ثم خيار الشرط، وهذا القسم الثالث وهو خيار الغبن.
والغبن لا يكون إلا بخديعة وهو نوع من أنواع الإضرار التي تقع في البيوعات، ومن دقة هذه الشريعة وشموليتها أنها استدركت أخطاء الناس فيما يمكن فيه الاستدراك، فهناك أخطاء تقع في البيع توجب فساد البيع ولا يمكن استدراكها ويفسد البيع بوجودها، فهناك أخطاء لا توجب الفساد ويمكن استدراكها بإعطاء من له الحق أن يختار الإمضاء أو عدم الإمضاء.
ووجه إدخال الغبن في الخيار أنه لو باعه وغبنه فإن المشتري يشتري بحسن نية، وهو لا يدري بالخديعة، فإذا اشترى الدار على صفة يظنها من بيع المسلم للمسلم، أي: ليس فيها غبن ولا فيها غش ولا ختل؛ فإن معنى ذلك أنه سيعطي الحق على هذه البراءة، فإذا تبين أن هناك غشاً أو غبناً أو نجشاً قصد منه استثارته، فحينئذٍ يبقى الحق لهذا المسلم، إما أن يمضي الصفقة ويختار أجر الآخرة، والله سبحانه وتعالى يعوضه، وإما أن يطالب بحقه، فالشريعة تبين حكم الحق في مثل هذا، فكأنه يخير بين الأمرين، بين أن يمضي الصفقة وبين أن يطالب بحقه، أو يفسخ البيع، فهذه ثلاثة خيارات: تارة يقول: سامحه الله قد غفرت لأخي وهذا لا شك أنه أعظم أجراً وأعظم ثواباً للمسلم.
وتارةً يقول: أنا أريد هذه الصفقة؛ ولكن هذا النقص الذي غبنت به وهذا الظلم الذي ظلمني به أريد حقه وقسطه.
وتارةً يقول: لا أريد أن أشتري هذه الصفقة بهذا النقص، أو يرى أنه لما خدعه وختله أنه لا يتعامل معه، فيكره التعامل معه ويقول: لا أريد الصفقة، وأريد مالي.
مثال: باعه سيارة مغشوشة، فإذا اكتشف هذا الغش فمن حقه أن يمضي الصفقة ويختار أجر الآخرة، ومن حقه أن يلغي الصفقة كاملة ويطالب بحقه كاملاً، ومن حقه أن يطالب بالأرش ومقدار النقص الذي يستوجبه هذا العيب.
كذلك أيضاً إذا غبنه فأدخل رجلاً يزيد في ثمن هذه السلعة وهو يظن أن هذا منافس شريف وأنه يرغب في السلعة، فنظر إليه فإذا به رجل من أهل السوق وأهل المعرفة والخبرة، فقال: لا يمكن أن هذا الرجل الذي له خبرة ومعرفة يزيد في هذه السلعة إلا وهي تستحق، فزاد فيها، ثم تبين أن هذا الرجل قد غشه وكذبه وأن البائع قد أضر به بغبنه على هذا الوجه، فهنا نقول: أنت بالخيار في هذا البيع؛ لأنه ليس على ظاهره من بيع السلامة، وبيع المسلم لأخيه المسلم الذي لا غش فيه ولا خديعة ولا غبن، وإنما هو من البيوعات التي لا يحبها الله ولا يرضاها، فلا بد وأن يضمن حق المبيع.
فدخلت الشريعة بين البائع والمشتري للفصل في هذه المظلمة ورد الحق للمشتري، وهنا يكون الخيار للمشتري؛ ولكن في خيار الشرط قد يكون للمشتري وقد يكون للبائع وقد يكون لهما معاً كما بينا، وفي خيار المجلس يكون للطرفين، فالخيارات تختلف بحسب اختلاف أنواعها.
فقال رحمه الله: [الثالث: إذا غبن] أي: النوع الثالث أو القسم الثالث من أقسام الخيار: الغبن.(154/10)
الغبن الذي يثبت به الخيار
قال رحمه الله: [إذا غبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة]: كما إذا جئت إلى بائع الطعام فقال له: بكم هذا الحب بكم الكيلو بكم الصاع، قال: الصاع من هذا بثلاثين، فقلت: أريد صاعاً، فأنت حينما دفعت الثلاثين دفعتها على أن الصاع يباع في السوق على المعروف والعادة بثلاثين، فلم تكاسر ولم تساوم؛ لأنك تظن أن السوق مستقر على هذا الثمن.
فلما أخذت الصاع بثلاثين تبين أنه يباع بعشرة، فقد ظلمت بعشرين، فمن حقك في هذه الحالة أن تطالب بما ظلمك به ومن حقك أن ترد الصفقة، ولذلك يقول العلماء: إن الغبن يوجب الخيار بوجود الخديعة من البائع للمشتري، فسكوت المشتري عن المكاسرة والمساومة يدل دلالة واضحة على أنه ما رضي بهذه القيمة إلا لأن السوق مستقر عليها، فإذا تبين أن السوق مستقر على ما دونها كان من حقه أن يطالب.
يبقى النظر في مسألة: وهي أن هذا النوع من الخيار يفتقر إلى إثبات أن المشتري ظلم، وهذا يتوقف على أهل الخبرة، فإن باعه طعاماً رجعنا إلى سوق الطعام وسألنا اثنين من أهل الخبرة على أنها شهادة، وبعض العلماء يقول: واحد من أهل الخبرة يكفي ثم نسأل: هل هذه القيمة غبن فاحش أو غبن يسير، فإن قالوا: هذه القيمة غبن فاحش رد الحق إلى صاحبه، وإن قالوا: غبن يسير، مثلاً الصاع بعشرة، باعه الصاع بعشرة ونصف، أو باعه الصاع بأحد عشر، والريال شيء يسير، ولو كان في العرف الريال له قيمة، والنصف ريال له قيمة، فإنه يعتبر غبناً فاحشاً.
إذاً: الأمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فعندما يأتي عامل ضعيف، الريال عنده بمثابة المائة والألف عند الغني والثري، فنجد غبن العامل والضعيف الذي لا يملك المال إلا بجهد والفقير الذي لا يجد المال إلا بتعب ومشقة؛ ليس كغبن الغني والثري، فإذاً: يختلف الأمر باختلاف الأشخاص من هذا الوجه، ويختلف باختلاف الأزمنة، والأموال في الأزمنة تتفاوت.
وعلى هذا: يرجع إلى أهل الخبرة، ويسألون عن هذا الغبن.
فقيد المصنف الغبن بالفحش، وهو الذي يعظم فيه الضرر، أما لو كان الغبن يسيراًَ، فالبيوع تقوم على المنافسة وعلى الأخذ والعطاء، فالشيء اليسير مغتفر، مثل أن يبيعه البيت بعشرة آلاف ومثله يباع بتسعة آلاف وخمسمائة، أو يباع بتسعة آلاف، ويكون المقصر هو المشتري، وكان ينبغي أن يكاسر أو يساوم.
لكن إذا كان الغبن فاحشاً فإنه لا يغتفر، مثلاً: لو جاء إلى معرض سيارات، فوجد السيارة تباع بخمسة آلاف، فاشتراها بعشرين ألفاً، أو اشتراها بخمسة عشر ألفاً، أي بثلاثة أضعاف قيمتها، وأثبت للقاضي بشهادة أهل الخبرة أنها تباع بخمسة آلاف ريال، فالقاضي يحضر صاحب المعرض ويطالبه بضمان الحق لصاحبه.
فهذا خيار الغبن، ويتوقف على معرفة الظلم، وأن البائع قد اغتنم غفلة المشتري وأضر به ببيعه على غير سنن المسلمين، فيضمن البائع للمشتري حقه من هذا الوجه.
قال رحمه الله: [غبناً يخرج عن العادة]: يغبنه (غبناً) فعل مطلق [يخرج عن العادة]، العادة سميت عادة من العود والتكرار،، وكأنه إذا كانت الصفقة تباع بخمسة آلاف في السوق، فإن البيع يتكرر على هذا الثمن، فأصبحت عادة الناس أن يشتروها بهذا الثمن، والعادة يحتكم إليها، وهي العرف، لكن بعض العلماء يقول: العرف، وبعضهم يقول: العادة، والمعنى واحد، والقاعدة عند العلماء وهي إحدى القواعد الكلية الخمس (العادة محكّمة) أي: أنه يحتكم إلى عوائد المسلمين، ولها ضوابط وقيود ذكرها العلماء رحمهم الله في كتب قواعد الفقه: فأولاً: يشترط في العادة أن تنضبط.
وثانياً: ألا تكون مخالفة للشرع، ولا يكون هناك مصادمة للشرع، فلو اعتادوا أمراً محرماً لم تكن عادة يحتكم إليها.
وعلى هذا: فالغبن يحتكم إلى العادة أي: عادة السوق، وهذا كما قلنا يفتقر إلى شهادة أهل الخبرة.
مثلاً: لو أنه باعه السيارة بخمسة عشر ألف ريال، وهذه السيارة تباع بخمسة آلاف ريال، أو سبعة آلاف ريال، أو ثمانية آلاف ريال، لغالب الناس، وتباع بعشرة وخمسة عشر لأهل البذخ والإسراف، فحينئذ عندك عادتان: عادة مستقرة للعقلاء والذين يحتكم إلى مثلهم.
وعادة لمن لا يعبأ بأمثالهم، وهم أهل البذخ واليسار، الذين لا يبالون بالمال، فمثل هؤلاء لا تعتبر عادتهم، ولا يعتبر وجود مثل هذه الصفقات، وهكذا في الإجارة -كما سيأتينا- لو أجره داره، وكان مثلها يؤجر بألف، فأجره بخمسة آلاف كما يقع في بعض المواسم، فيظلم المستأجر بجهله بالسوق، ويأتي بمن يستأجر في المواسم ويغتنم جهله بالمكان وجهله بقيمة المكان ليزيد زيادة فاحشة عن المثل، فحينئذ يكون له خيار الغبن؛ لأن الإجارة تتفرع على البيع، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال رحمه الله: [بزيادة الناجش]: وهي الاستثارة، والنجش مأخوذ: من قولهم: أنجش الصيد إذا استثاره، ومعلوم أن الصيد إذا كانت الفريسة في مكان فأثيرت فإنه يسهل صيدها عند التحريك وعند إثارتها، كأن يكون مع الإنسان كلب للصيد، أو جارحة كالصقر ونحوه فيستثير هذا الحيوان حتى يتمكن منه، أو يكون في موضع لا يستطيع أن يصيده، فينجشه ويرميه بحجر حتى يخرج عن هذا الموضع إلى موضع يمكن أن يصيده فيه.
فالمقصود: أن أصل النجش الاستثارة والتحريك، ومعنى هذا أن يأتي رجل ويزيد في السلعة -كما ذكرنا- فيراه الغير ويظن أن السلعة لها قيمة، فلا يزال ينافسه ظاناً أنها تستوجب هذه القيمة، والأمر كله خدعة وغش وختل، فإذا ثبت عند القاضي أن الرجل زاد في السلعة من أجل أن يرغب الغير ويخدعه، كان من حق المشتري أن يطالب بالخيار.
قال رحمه الله: [والمسترسل]: المسترسل هو الشخص الذي يشتري الأشياء ولا يكاسر ولا يساوم فيها، فمثل هذا إذا زيد عليه زيادة فاحشة، فإنه يكون في حكم من غبن، ويكون من حقه أن يطالب بدفع الضرر عنه بهذه الزيادة، والضابط في هذا -كما ذكرنا- وجود الزيادة الفاحشة، أما الزيادة اليسيرة والشيء اليسير، فإن شأن البيوعات لا تخلو من وجود غبن إما في حق البائع، أو في حق المشتري، ولذلك لا يعتبر مثل هذا الغبن موجباً للخيار، إذا كانت الزيادة يسيرة.(154/11)
الأسئلة(154/12)
ملكية النماء المنفصل وتعارضه مع حديث المصراة
السؤال
أشكل عليَّ أن للمشتري النماء المنفصل، لتعارضه مع حديث (.
ردها وصاعاً من تمر) أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فحديث أبي هريرة في الصحيح: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر).
فالإشكال الذي ذكره هو إشكال في محله من حيث الظاهر، ونحن قلنا في الخيار: إذا قال له البائع: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فقال المشتري: قبلت، ثم اشترط الخيار يومين، فقال البائع: وأنا كذلك أشترطه يومين، فتم البيع بالإيجاب والقبول في المجلس، وبقي معلقاً بالخيار، وقد أثبتنا أن ملكية المبيع تكون للمشتري.
فإذاً: الاستحقاق للمشتري ثابت، والصفقة تمت، والشيء الذي بيع ليس فيه غبن ولا غش ولا تدليس، بل هو تام، وشروط الصحة موجودة، فالبيع من حيث إنه تام الأركان تام الشروط لا إشكال فيه، لكن إذا اشترى شاة مصرّاة، فالعقد إنما وقع على شاة من صفاتها أنها حلوب، فإذا به يجد أنها غير حلوب، فكأن العقد ورد على غير مورده، ولذلك فكأن البيع لم يقع ولم يتم إذا اختار الفسخ، ولذلك قال: (وإن سخطها ردها وصاعاًَ من تمر) وهذا وجه للجواب.
إذاً: يكون الفرق بين الأمرين، أن البيع في خيار الشرط والمجلس قد تم، وهو مستوفٍ لشروطه، وكأن في المسألة مهلة ونظرة فقط، فكان النماء للمشتري.
لكن في المبيع الناقص وقع البيع على مبيع كامل، فإذا به قد وقع على مبيع ناقص، وكأنه ليس بمحل للعقد، فلا وجه لأن نقول: إن البيع قد تم؛ لأنه لو تم لألزم به، ولكنه وقع على مبيع كامل والحقيقة أنه على مبيع ناقص.
والوجه الثاني: أن فيقال: إن صاع التمر في حديث المصرّاة ليس من باب الضمان من كل وجه، أي: ليس على قاعدة الضمان، والدليل أن الطعام ليس هو بمثلي ولا قيمي، والقاعدة في الضمانات أن تكون أولاً بالمثل إذا وجد، فإذا لم يوجد المثل ينتقل إلى القيمة، والتمر في لقاء الحليب ليس بمثلي ولا بقيمي.
لو أن رجلاً أتلف سيارة لك، وأخطأ في هذا الإفساد والإتلاف، فإنه من ناحية شرعية يضمن، فنذهب إلى باب الضمان وننظر إلى قواعد الضمان: وقواعد الضمان تستلزم أن يعطيك سيارة مثل سيارتك التي أتلفها، وهذا يسمى الضمان بالمثل، فإذا جاءك بسيارة مثل سيارتك لزمك أخذها؛ لكن لو أنه بحث ولم يجد سيارة مثل سيارتك فإنه حينئذ ينتقل إلى القيمة، فنقدر السيارة بقيمتها يوم الإتلاف لا يوم الرد، فلو أنه أتلفها قبل خمس سنوات وقيمتها مائة ألف، ولما جاء يردها بعد خمس سنوات وهي تباع بألف نقول: تضمنها بقيمة مائة ألف: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فالضمان الذي يلزم به هو عند الأخذ والإتلاف؛ لأنه لما أتلف استقر الحق في ذمته، وبناء على هذا يكون الضمان بالقيمة.
فعندنا ضمان مثلي وضمان قيمي، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ردّها) أي: يرد الشاة (وصاعاً من تمر) فالصاع ليس بمثل للحليب؛ لأن مادة الحليب من المشروبات، ومادة الصاع من الجامدات التي تؤكل، فهذا شراب وهذا أكل جامد، أو هذا مائع وهذا جامد، فليس بمثلي.
حتى ولو كان شراباً، بأن رد خلاً مثلاً، فليس الخل من جنس الحليب الذي يشرب، فهو ليس بمثلي ألبتة.
وليس بقيمي؛ لأن الصاع من التمر، ليس بنقود، والقيمة يقصد بها الذهب أو الفضة التي جعلها الله قيماً للأشياء.
فهذا الضمان خرج عن الأصل فهو مستثنى من الأصل، ولذلك لما اعترض الحنفية على الجمهور -كما سيأتي إن شاء الله في حديث المصرّاة- باعتراضات، أجاب الجمهور بأن حديث المصراة خالف الأصول، بمعنى: أنه استثني من الأصول لورود السنة به، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أكل أو شرب في نهار رمضان فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه).
وإذا جئت إلى القاعدة وجدت أن الشريعة توجب على من نسي الركن أن يأتي به، فلو أن رجلاً سلم من ثلاث ركعات في صلاة العشاء، فإنه يجب عليه أن يرجع ويأتي بركعة، فكونه نسي لا يسقط ضمان الحق لله عز وجل، فنسيان الأركان لا يجبر بسجود السهو، بل ينبغي أن يأتي بالفعل حقيقة.
إذاً: أنت الآن في الصلاة تلزم بضمان الركن والإتيان به، وركن الصوم الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، فلو نسي وأكل أو شرب فحينئذ فات الركن، ولذلك قال المالكية في هذا الحديث: قوله: (إنما أطعمه الله وسقاه) أي: فأسقط الإثم ولكن لا يسقط الضمان ولذلك لم يقل: فلا يقضي؛ لأن القاعدة عندهم أن النسيان للأركان لا يسقط الضمان.
ولكن قال الجمهور -وهذا موضع الشاهد- حديث رمضان في الأكل والشرب استثني من الأصل لورود السنة به، ويجوز الاستثناء من القواعد الكلية بآحاد الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فنحن نقول: القاعدة في الخيار أن النماء المنفصل يكون للمشتري، وجاء حديث المصراة مستثنى من الأصول، وانتهى الإشكال، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص، فهذا عام ودارج على القاعدة العامة، وهذا خاص، وبهذا يزول الإشكال، والله تعالى أعلم.(154/13)
يد المشتري في زمن الخيار
السؤال
هل يمكننا أن نقول: إن يد المشتري في زمن الخيار يد أمانة، أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة للمشتري، يده يد أمانة في حفظ المبيع، فيحفظ المبيع للبائع بالنسبة للرد؛ لكن بالنسبة للضمان يضمن، أي: يده يد ضمان، فهي أمانة من جهة أنه لا يبيع السلعة ولا يهبها؛ لكن من جهة الضمان يده يد ضمان، والفرق بينهما: لو فرضنا أن السيارة التي بيعت في مدة الخيار أهلكتها آفة سماوية، أو جاء سيل واجترفها، فالضمان على المشتري؛ لأنه لا يحسن أن يأخذ النماء وتكون الخسارة على غيره؛ لأن هذا ظلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد وضع (الخراج بالضمان) فإذا كان له النماء المنفصل فمعناه أنه مالك، ولذلك لا يصح أن تقول: يده يد أمانة؛ لأن يد الأمانة لا تضمن إذا لم تفرط، فإذا فرطت ضمنت، والواقع أنه لو تلفت هذه السيارة بآفة سماوية فإنه يضمن، ولذلك لا يصح أن نقول: إن يده يد أمانة من هذا الوجه، لكن نقول: يد أمانة بمعنى: أنه لا يجوز له أن يهب، ولا يجوز له أن يبيع، ولا يجوز له أن يتصرف في المبيع بالعتق ونحوه.
أما من ناحية اليد الحقيقية فهي يد ضمان، له في المبيع غنمه وعليه غرمه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(154/14)
شرح زاد المستقنع - باب الخيار [4]
من أقسام الخيار: خيار التدليس، وهذا الخيار فيه عدل من الله سبحانه وتعالى ولطف بعباده، ويقع هذا الخيار إذا دلس البائع على المشتري، فيظهر له الشيء كاملاً والحقيقة أنه خلاف ذلك.
ومن أقسام الخيار أيضاً: خيار العيب، وقد شرع هذا الخيار دفعاً للضرر عن المسلم، وفيه توبيخ وقرع لأهل الغش.
والعيوب منها ما هو مؤثر في المبيع ويستحق به الرد، ومنها ما هو يسير يتجاوز عنه أو لا يستحق إلا بالشرط، وقد تكون العيوب حسية وقد تكون معنوية.
وإذا ثبت العيب فله أحكام مترتبة على ثبوته.(155/1)
خيار التدليس تعريفه ومشرعيته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [الرابع: خيار التدليس]: شرع المصنف رحمه الله في النوع الرابع من أنواع الخيارات، وهذا النوع يتعلق بالتدليس، وأصله من الدلسة وهي الظلمة.
ويقع هذا الخيار إذا دلس البائع على المشتري، فأظهر له حسن الشيء المبيع وجماله وكماله، وكان الواقع والحقيقة أنه بخلاف ذلك، فإذا دلس عليه وأوقعه في لبس من أمره، فاشترى الشيء على أنه كاملٌ فبان ناقصاً، واشترى الشيء على أنه سالِمٌ فبان معيباً، فإنه حينئذ يكون للمشتري الخيار، فيقال له: إن شئت قبلت، وإن شئت رددت.
وخيار التدليس فيه عدل من الله سبحانه وتعالى، ولطف بعباده، وذلك أن المبيعات ربما اغتر المشتري بظاهرها، وظن أنها سالمة فدفع فيها القيمة على أنها تستحق ما دفع، ثم يتبين له أن الأمر بخلاف ذلك، وحينئذٍ لطف الله عز وجل به، فشرع له أن يرد المبيع؛ لأنه اشتراه كاملاً فبان ناقصاً، واشتراه سالماً فبان معيباً، ولم يقع البيع على شيء معيب، وإنما وقع البيع على شيء سالم من العيوب، فشُرِع له أن يرده.
وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب على المسلم أن ينصح لأخيه المسلم، وألَّا يغشه ولا يدلس عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من غشنا فليس منا) والسبب في ذلك: أنه دخل السوق، فوجد رجلاً يبيع الطعام، فأدخل يده صلى الله عليه وسلم في طعامه، فأصابت يدُه البلل، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: هلَّا وضعته فوق الطعام حتى يراه الناس؟! من غشنا فليس منا).
فدل هذا الحديث الشريف على حرمة التدليس على المسلم.
ويقع التدليس بوضع الشيء الطيب من أعلى ووضع الرديء من أسفل.
ويقع التدليس بتسوية الأشياء، فتُرى على أنها جميلة وكاملة وعلى أنها فاضلة، ثم يتبين أن الأمر بخلاف ذلك.
وقد ذكر المصنف رحمه الله لهذا أمثلة، تعتبر بمثابة التطبيق لما ذكر من نص.(155/2)
صور لخيار التدليس
قال رحمه الله: [كتسوية شعر الجارية وتجعيده]: وفي بعض النسخ: [كتسويد شعر الجارية] وقد كانوا في القديم يشترون الجواري والإماء، ويحصل التدليس في صفة الجواري فيسرح الشعر، فترغب الناس فما كان أسود الشعر، ويكون شعرها أشقر فيضرب بلون السواد، أو يكون شعر الجارية أحمر فيصبغ بلون السواد، كل ذلك ترغيباً للمشتري في الصفقة، فإذا فعل هذا وصبغ شعر الجارية على لون يحبه الناس، ثم تبين أن الأمر بخلاف ذلك، شرع حينئذٍ خيار التدليس.
وكذلك على النسخة الأخرى [كتسوية شعر الجارية] وهذه التسوية تكون بتسريحه على وجه يكون فيه التواء، وهذا النوع من الشعر إذا كان ملتوياً، كان فيه دليل على قوة البدن وصحته، بخلاف ما إذا كان الشعر رقيقاً فالغالب أنه يدل على ضعف البدن، فحينئذٍ إذا سواه بهذه الصفة، رغب المشتري في الجارية، وظنها قوية وظنها جميلة الشعر، ثم يتبين أن الأمر بخلاف ذلك.
هذه أمثلة قديمة، وفي عصرنا الحاضر ربما فعل البائع شيئاً في صفقته التي يعرضها للبيع، فجملها وحسن صورتها من الظاهر وهي في الباطن بخلاف ذلك، فيثبت خيار التدليس كما يثبت فيما ذكره المصنف رحمه الله من الأمثلة القديمة.
قوله: (وتجعيده) وهكذا التسوية والتجعيد، ومن التسوية تسوية الثياب، وقد ذكرها العلماء رحمهم الله، وهذا بالمبالغة في كيها وتنظيفها حتى تبدو كأنها جديدة، وهي قديمة، أما لو كانت قديمة، وكويت وعرضت للبيع فلا بأس، لكن أن تكون قديمة ثم يحسن ظاهرها فإذا رآها الإنسان ظنها جديدة، والواقع بخلاف ذلك، فهذا يعتبر من التدليس كما ذكر المصنف في تجعيد الشعر، فإن تجعيد الشعر إذا سرحه على وجه يبدو فيه ملتفاً، فإنه يرغب في الجارية أكثر، فهذا من التدليس والغش والكذب ويوجب للمشتري الخيار.
قال رحمه الله: [وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها]: وقد كانت المزارع في القديم يستقى لها، وإذا جمع الماء وأرسل أمام الزبون أو أمام المشتري رغب في البستان وظن أن الماء كثير، وهكذا في زماننا ما يوجد من (المكائن)، ففي بعض الأحيان تدار (المكينة) فيكون الماء قوياً عند إدارتها في الأول، ثم يبدأ يضعف فيضعف حتى يصل إلى مستواه المعتاد، بعد ساعة أو بعد ساعتين، أو بعد ثلاث، فإذا جاء المشتري يريد أن يشتري المزرعة، فإنه يدير (المكينة) أو نحوها، فينظر فإذا بالماء كثير؛ لأنه في بداية الصب، فيظن المشتري أن ماء المزرعة كثير، ويرغب فيها، ويعتقد أنها متوفرة الماء، فيشتريها وإذا بالماء قليل، فإذا فعل البائع هذا الشيء، فإنه يثبت للمشتري خيار التدليس، وقد كان الواجب على البائع أن يقول له: هذا الماء كثير، ولكنه بعد ساعة أو بعد ساعتين، يبقى مثلاً (بوصتين) أو يبقى (ثلاث بوصات)، أو يبقى (بوصة) أو (نصف بوصة) كما هو متعارف عليه في أعراف الناس اليوم، فإذا لم يبين له ذلك على هذا الوجه فقد ظلمه ودلس عليه، وحينئذ يثبت خيار التدليس.(155/3)
تعريف خيار العيب وصوره
قال المصنف رحمه الله: [الخامس: خيار العيب]: يذكر المصنف رحمه الله: القسم الخامس من أقسام الخيار، وهو خيار العيب.
والعيب في اللغة: النقص، يقال: عابه عيباً ومعيباً إذا انتقصه، والمراد بالعيب في البيع: نقصان المالية نقصاً مؤثراً.
(نقصان المالية): والمالية: تأتي على وجهين: فيراد بها القيمة، فمثلاً: أنت تشتري السيارة على أنها سالمة من العيب، فتكون قيمتها عشرة آلاف، وبهذا العيب تنقص قيمتها إلى تسعة آلاف، فمعنى ذلك: أنها انتقصت عشر قيمتها، وحينئذٍ يقولون: إن وجود هذا العيب أنقص المالية والقيمة، فالعيب هو الذي ينقص المالية أي: القيمة.
وقال بعض العلماء: المال هو كل شيء فيه منفعة.
وعلى هذا يكون نقصان المالية: إما نقص المنفعة الحسية أو نقص المنفعة المعنوية.
ونقص المنفعة الحسية كأن يشتري دابة مقطوعة القدم، تبدو شلاء أو بها عرج أو نحو ذلك.
أو نقصان النفع بحيث يكون العيب راجع إلى النفع، مثل الجنون في الأرقاء.
وهكذا بالنسبة للعيوب الخلقية الموجودة في الدواب، فقد كانت الدواب في القديم، لها عيوب خَلقية وخُلقية.
فمن العيوب الخُلقية: إذا أراد أن يركب على الدابة جمحت ونفرت، وفي بعض الأحيان ربما أسقطت الرجل من على ظهرها، والجنون أيضاً في البهيمة، فهذه عيوب كلها تؤثر في نفسية المبيع.
وتارةً يكون العيب راجعاً إلى الذات، فإذا رجع إلى ذات المبيع -كما ذكرنا- كالشلل، فباعه عبداً فبان مشلولاً أو باعه دابة فبانت مشلولة، أو بان بها عمى أو مرض في جسمها، أو نحو ذلك، فهذه العيوب الجسدية تنقص المنفعة، فأنت إذا أردت أن تنتفع من دابة جموح فإنها تضر بك، وتعطل مصالحك.
وإذا كانت الدابة مريضة واشتريتها على أنها سليمة، فإذا جئت تركبها فإنك تتعطل عن مصالحك وتتأخر عن منافعك ووجود المرض فيها قد يضر في لبنها وحليبها، وقد يضرك بلحمها إذا أكلتها.
فنقصت المالية من جهة نقص المنفعة، فالمنفعة إذا قلنا: نقصان المالية نقصان القيمة فلا إشكال، وإن قلنا: نقصان المالية نقصان المنفعة سيتم تأوليها على هذا الوجه.(155/4)
العيوب التي تؤثر في المبيع والعيوب التي تستحق بالشرط
والعيوب تارة تكون عيوباً في ذات المبيع، أو تكون عيوباً مستحقة بالشرط.
فالعيوب التي تكون في ذات المبيع هي التي تعطل منافع المبيع أو تنقص قيمته، وهي ترجع إلى ذات الشيء فيبدو ناقصاً بعد أن ظنه كاملاً، وهذا العيب ينقص المنفعة أيضاً فلا يستطيع أن يجد منه من المنافع والمصالح ما كان يرجوه ويأمله.
وكذلك أيضاً تكون العيوب عيوب كمال، والعيوب الكمالية: هي التي لا يستحق فيها المشتري الخيار، إلا إذا اشترطها على البائع، فمثلاً: إذا اشترى الإنسان سيارة، واشترط شيئاً في السيارة، والسيارة بذاتها كاملة، فمنفعة السير موجودة، ومنفعة الركوب عليها ممكنة، لكنه اشترط أن يكون فيها (مسجل)، فهذا شرط كمال، إذ يمكن أن تباع السيارة بدون مسجل.
فلو بيعت بدون مسجل وجاء المشتري يقول: هذه السيارة معيبة، قلنا: ما عيبها؟ قال: ليس بها مسجل، نقول: عدم وجود المسجل ليس بمؤثر في منافع السيارة، وليس بعيب في ذات السيارة، فالسيارة تراد للركوب غالباً ومنافع الركوب فيها ممكنة، وحينئذ نقول: هذا ليس بعيب.
لكن لو قال عند الشراء: أشترط أن يكون بها (مسجل)، فإن عدم وجوده عيب.
أو باع بيتاً.
فإذا قال لك: أبيعك بيتي، وصفته كذا وكذا، وصف لك طوله وعرضه، وصفاته الكاملة، لكنك قلت له: أشترط أن يكون فيه -مثلاً- الهاتف أو الماء أو الكهرباء، فهذه منافع، والبيت لذاته إنما يعد للسكنى.
فلو أن رجلاً اشترى بيتاً، ثم لم يجد فيه الهاتف، وقال: هذا عيب، قلنا: ليس بعيب؛ لأن البيت يراد للسكن، ولا يراد للاتصال فعدم وجود هذا الجهاز فيه لا يقتضي نقصانه ولا يقتضي كونه معيباً؛ لكن لو أنه اشترط عليه وجود هذا الجهاز فيه فإنه يعتبر عيباً، ويجوز له أن يرد إذا لم يجد هذه الصفة فيه.
لو اشترى أرضاً فقال للبائع: أشترط أن يكون لها صك شرعي، فقال البائع: وهو كذلك، أي: لها صك شرعي، وتم العقد بينهما على هذا الأساس، وتبين أن الأرض لا صك لها، أو أنه لا يملكها بصك، فحينئذ من حق المشتري أن يرد الأرض ويعتبر هذا العيب.
إذاً: العيوب الكمالية لا تكون عيوباً إلا إذا اشترطت.
وفي بعض الأحيان تكون الكمالات عيوباًَ إذا لم تشترط إذا جرى بذلك العرف، فمثلاً: لو قال لك: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف، فنظرت في السيارة وإذا بها على ما تريد وترغب، وجميع أوصافها وما تريده منها من الانتفاع ممكن ومتيسر، لكنك لما دفعت العشرة آلاف وركبتها، إذا بها لا يوجد بها المكيف -مثلاً- فجئت وقلت: هذا عيب.
ففي هذه الحالة ننظر: لو جرى العرف أن هذا النوع من السيارات الغالب أن يكون فيها مكيفاً، فحينئذٍ: (المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً).
فنقول: صحيح أنه لم يقل: أشترط أن يكون بها هذا الجهاز؛ ولكنه معروف بالعرف أن هذا النوع من السيارات يوجد به هذا الكمال فهو كالشرط، أي: جريان العرف به كالشرط، وإنما سكت المشتري لأنه سيشتري شيئاً معروفاً.
الخلاصة: هناك عندنا عيوب مؤثرة في ذات المبيع، وعندنا عيوب تستحق بالشرط، وهذا ما مثلناه في العصر الحديث وفي القديم كأن يقول لك: أشتري منك العبد بشرط أن يكون كاتباً، أي: يعرف الكتابة؛ لأنهم يحتاجونه في كتابة الرسائل ونحوها، حتى يستأجره الناس وينتفع من وراء ذلك.
أو أشترط أن تكون له صنعة إلى آخر ذلك من الشروط، فالرقيق بذاته منفعته موجودة؛ لكن اشتراط الكتابة فيه يستحق به الرد، متى ما وجد على خلاف الشرط.
وهكذا بالنسبة للدابة -كما مثلنا في الحديث- فقد كانوا في القديم يشترطون أن تكون الدابة هملاجة، أي: السريعة، أو أن يكون الفرس سريعاً، أو أن يكون البعير سريعاً؛ لأنه يريده للركوب ولأن الدواب في القديم تارةً تشترى للحم، ويسمونها: الشاة الأكولة، الناقة الأكولة، البقرة الأكولة، أي: أنها اشتريت من أجل لحمها لكي تؤكل.
وتارةً تشترى للركوب، فيقال: دابة ركوب، ناقة ركوب، أي: اشتراها من أجل أن يركب عليها.
وتارةً تشترى من أجل الحليب، فيقال: شاة حلوب، وبقرة حلوب، وناقة حلوب.
فهذه الكمالات: كونها حلوباً، وركوباً، أو سمينة طيبة اللحم؛ لا تعتبر عيوباً إلا إذا اشترطها المشتري.
وبهذا يتبين أن العيب في قول العلماء: هو نقصان المالية، وذلك إما أن يكون نقصاً في الذات، أو نقصاً في النفع، ثم هذان النوعان -نقص الذات ونقص النفع- يعتبر منها العيب المؤثر أي: الذي يعتبر نقصه قوياً.
وأما النوع الثاني من العيوب: وهي العيوب التي تستحق بالشروط، وهي التي يسميها العلماء رحمهم الله: عيوب الكمالات، فلا تستحق بالطلب والدعوى، ولكن إذا جرى العرف بوجودها ولم توجد في المبيع، كان من حق المشتري أن يرد المبيع، ويثبت له خيار العيب، وهذا من حيث الإجمال.
من حيث التفصيل: المبيعات تارة تكون عقارات.
وتارة تكون منقولات.
وتارة تكون من الأثمان.
فإذا باع الإنسان أو اشترى فإما أن يبيع ثمناً، ويشتري ثمناً، وإما أن يبيع مثمناً ويشتري مثمناً، أو يبيع ثمناً ويشتري مثمناً، كما ذكرنا في تقسيمات البيع الثلاثة: - مثمن بمثمن، وهو بيع المقايضة.
- ثمن بثمن، وهو بيع الصرف.
- ثمن بمثمن وهو البيع المطلق.
ففي الثمن يكون النقص في الورق النقدي والعيب في الورق النقدي، كأن يبيعه ورقاً أو يصرف له ورقاً مزوراً أو مزيفاً، وفي القديم كانوا يقولون: (دراهم زيوف ودنانير زيوف).
في عصرنا الحاضر يصرف له دولارات مزيفة، هذه الدولارات المزيفة إذا ثبت زيفها، كان من حقه أن يردها وأن يأخذ عين ما دفع.
وكذلك أيضاً بالنسبة لنقص القيمة الشرائية لها، فهذه ليس لها قيمة شرائية أصلا، ً ما دامت زيوفاً.
في بعض الأحيان يكون الورق الموجود دولارات، قال لك: أصرف لك هذه المائة دولار بألفين ريال مثلاً، فقلت له: قبلت، فأخذت المائة دولار فوجدتها مقطعة، وهذه المقطعة لا يمكن أن تسري في السوق، ولا تقبل ولا تروج، فمن حقك أن تردها؛ لأن هذا نقص يؤثر في الانتفاع من هذه الدولارات؛ لأنك حينما أخذتها إنما أخذتها من أجل أن تكتسب بها وتنتفع بها، فتتعطل منفعتك بهذا النقص، فحق لك أن تردها وتستبدلها أو تلغي العقد نهائياً.
الحالة الثانية: أن يكون البيع في المثمونات، والمثمونات إما عقارات وإما منقولات.
فالعقارات مثل البيوت، ومثل الأرضين، ففي البيوت يبيعه بيتاً فيه عيب، وعيوب البيوت تنقسم إلى قسمين: - إما عيوب في ذات البيوت ومنافعها والانتفاع بها من السكنى تحتها والاستظلال ونحو ذلك.
- وإما عيوب نفسية تؤثر في سكنك في البيت، فتزعجك وتقلقك ولا تريحك.
فإن كانت العيوب في ذات البيت، كانكسار سقفه، فإنه إذا باعك البيت ثم تبين أنه منكسر السقف، أو لا تأمن أن يسقط السقف عليك، فهذا نقص في المالية، من حقك أن ترد به البيع، أو باعك عمارة وتبين أن فيها دوراً كاملاً مشقق، أو جميع أدواره مشققاً، بحيث قال أهل الخبرة: هذا ضرر فادح أو فيه خطر على السكنى في مثل هذا، فمن حقك أن ترد.
كذلك أيضاً إذا باعك وكانت الغرف مقسمة على وجه لا يمكن معه الانتفاع، كأن تشتريها للسكنى، وقلت له: أريد عمارة فيها شقق من أجل أن أؤجرها، أو من أجل أن أسكنها، وتبين أن هذه العمارة كانت سكناً للعمال، ونظامها في التقسيم لا يصلح أن تصير به شققاً، فهذا مضر لمنفعتك ويمنعك من الارتفاق بها، فيحق لك الرد، فهذه كلها عيوب حسية في ذات المبيع.
وهناك عيوب في العقارات، فقد يكون العقار أيضاً فيه عيب حسي إذا كان من الأراضي والمزارع، مثل: أن يبيعه مزرعة في مجرى السيل، فإن المزرعة في مجرى السيل عرضة إلى أن يأتي السيل ويأخذ ما فيها من زرع وحرث وما فيها من ماشية، بل وما فيها من أنفس، فإذا تبين أن مكانها مهدد بالسيل، كان من حقه أن يرد؛ لأن هذا العيب يضر به، وقد يؤدي إلى هلاكه وذهاب أمواله.
وحينما ذكرنا عيوب العمائر، أو عيوب البيوت من انشقاق السقف، أو انكسار خشبه، أو وجود الأرضة التي كانت تأكل السقف في القيديم، فهذه كلها عيوب حسية.
لكن قد يكون العيب في البيت معنوياً، وذلك مثل سكن الجن في البيت، أي: إذا كان البيت مسكونا، ً وهذا معروف بالمشاهدة والتجربة، وقد نبه الإمام ابن قدامة رحمه الله والمتقدمون على مثل هذه العيوب، فلو كانت الدار مسكونة، وهذا له علامات، ففي بعض الأحيان ينفتح الباب بدون وجود شخص، وفي بعض الأحيان ينطفئ المصباح بدون أن يطفئه آدمي، وفي بعض الأحيان تسمع الأصوات، فلابد أن توجد دلائل بشهادة أهل الخبرة أن هذا البيت مسكون، ففي هذه الحالة من حقه أن يرد البيت.
كذلك أيضاً: الجار السوء، فجار السوء الذي يؤذي الإنسان، قال بعض العلماء: إنه عيب معنوي، فذات الدار كاملة، وصفاتها كاملة؛ لكن إذا تبين أن جارها جار سوء يؤذي الإنسان في عرضه، ويؤذيه في نفسه بالكلام عليه، ولا يأمنه إذا غاب على أهله، ففي هذه الحالة قال بعض العلماء: إن جار السوء يستحق به الرد، خاصة إذا كان شريراً ومضراً.
إذاً: العقارات يكون عيبها حسياً، ويكون عيبها معنوياً.
فإذا كانت البيوت فيها عيب السكن، وعيب جار السوء، فكيف يكون في المخططات والأرضين؟ يكون في المخطط بعدم القيمة للأرض، وذلك بعدم وجود الصك الشرعي لها، فلو باعه أرضاً وتبين أن صكها مزور، أو أن الصك ليس لها إنما هو لغيرها، ففي هذه الحالة من حقه أن يرد، فكل هذه الصفات وهذه العيوب مؤثرة في المبيع، إما أثرت في عين المبيع، أو أثرت في قيمة المبيع والانتفاع به.
وأما عيوب الدواب فكما ذكرنا، فيكون العيب في ذاتها، الذي هو العيب الحسي، مثل مقطوعة القدم، ومقطوعة الرجل، مقطوعة اليد والشلاء، ومقطوعة الأذن، مثلاً: لو اشتريت شاة للأضحية، وتبين أنها مقطوعة الأذن، فحينئذٍ من حقك الرد؛ لأن مثلها لا تستطيع أن تضحي بها، على قول من قال: في حديث عدي رضي الله عنه: إن مقطوعة الأذن لا يضحى بها.
في زمننا الحاضر مثلاً: لو اشتريت شاة وتبينت فيها الأورام والغدد، التي قد تضر بالإنسان إذا أكل من لحم هذه الشاة، فإذا تبين أن فيها هذا العيب وفيها هذا الضرر، كان من حقك أن ترد.
وعيوب الدواب المعنوية مثل: إذا جاء يركب على الفرس ينفر منه، إذا جاء يركب على الناقة نفرت منه(155/5)
مشروعية خيار العيب
ذكر المصنف رحمه الله خيار العيب،
و
السؤال
ما هو الدليل على كون المسلم يستحق عند وجود العيب رد المبيع؟ الدليل على ذلك: كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم.
أما كتاب الله: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] هذه الآية الكريمة وجه الدلالة منها في قوله: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29] و (الباطل) أكل المال بدون وجه حق.
وعلى هذا: لو باعك السيارة كاملة بعشرة آلاف، وظهر بها عيب ينقص قيمتها إلى ثمانية آلاف، فمعناه أنه قد أخذ منك الألفين بدون وجه حق.
ولذلك يقولون: بيع المعيبات وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنك تدفع القيمة كاملة في شيء كامل، والواقع أنه ناقص، فكأن ثمن المبيع على النقص يعتبر مأكولاً بالباطل، فهذا وجه الدلالة من الآية الكريمة.
وأما من السنة: فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المصرّاة أنه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين، إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) وهذا حديث عظيم، فقد فرع عليه العلماء رحمهم الله مسائل العيوب، وحاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى فيه المسلم عن أن يصر الإبل والغنم، وفي حكمهما بقية الدواب.
ومعنى (تصرية الإبل والغنم): أنهم كانوا في القديم يأخذون الناقة، ويمتنعون من حلبها ثلاثة أيام أو يومين أو أربعة، فينتفخ اللبن في ضرعها، فإذا رآها رجل ظنها كثيرة اللبن، فاشتراها على أنها حلوب، ثم تبين أن حليبها ليس بالصفة التي اشتراها إذاً: فالتصرية أن يمتنع من حلب الشاة أو الناقة مدة حتى يكثر أو يعظم اللبن في ضرعها، قال صلى الله عليه وسلم لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها أي: من اشترى شاة أو ناقة مصراة (فهو بخير النظرين) أي: هو بين أمرين وإن شاء أمسكها، أي: إن رضيها وقال: رضيتها، والله عز وجل يعوضني في الآخرة، وسكت عن العيب، فهذا حقه، كما لو سامح المسلم المسلم في حقه، وإما أن يسخطها ويردها على صاحبها، فقال صلى الله عليه وسلم: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) أي: رد الناقة أو الشاة ومعها صاع من تمر، جبراناً لذلك النقص الذي استفاده من حلبها في الأيام الماضية.
إذاً: حديث المصراة دليل على إثبات خيار العيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن ابتاعها -أي: اشتراها- فهو بخير النظرين)، فقوله: هذا يدل على أن من اشترى شيئاً معيباً، أنه بخير النظرين إما أن يمسك وإما أن يرد.
وفي هذا الحديث دليل أيضاً على حرمة التدليس والغش؛ لأنه قال: (لا تصروا) والنهي للتحريم؛ لأن القاعدة: (أن النهي يحمل على ظاهره الموجب للتحريم، حتى يدل الدليل على خلاف ذلك).
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على إثبات خيار العيب من حيث الجملة، فكلهم متفقون على أنه إذا باعه شيئاً معيباً واشتراه المشتري دون أن يعلم بالعيب، أن من حقه أن يرد، على تفصيل سنذكره إن شاء الله، يختلف بحسب اختلاف مذاهب العلماء رحمهم الله.
وفي خيار العيب حكم عظيمة منها: دفع الضرر عن المسلم.
فقد شرع الله خيار العيب دفعاً للضرر عن المسلم، ولذلك أمر من اشترى المعيب أن يرده إذا لم يرد، أو يبقيه إن رضيه، وأذن الله عز وجل له أن يرد المعيب، وهذا يدل على مشروعية أخذ المسلم بحقه إذا تبين له أنه مظلوم، فقد قال عليه الصلاة والسلام وإن سخطها ردها، فمن حقك أن ترد المعيب لأنك ظُلمت، وقد اشتريت الكامل ولم تشتر الناقص، ودفعت ثمن الكامل ولم تدفع ثمن الناقص فقط، وكأنك حينما اشتريت الشيء على أنه كامل وتبين أنه ناقص فكأنك عقدت العقد الذي بينك وبين البائع على شيء غير هذا الشيء، وبناء عليه تستحق الرد.
وفي خيار العيب -أيضاً- قرع وتوبيخ لأهل الغش وصيانة لأسواق المسلمين من الكذابين والغشاشين، ولو أنه كلما ظهر عيب ردت المبيعات لعُرف الغشاشون، ولم يستطيعوا أن يتسلطوا على المسلمين، ولكن إذا لم يعط المسلم خيار العيب، فإن معنى ذلك أن يتسلط الغشاشون ولا يجدون من يردعهم عن غش المسلمين، فتصبح الأسواق مليئة بالغش والكذب، حتى لا يأمن الإنسان في تجارته وبيعه وشرائه.(155/6)
العيوب الحسية والمعنوية وتأثيرها في المبيع
قوله رحمه الله: (خيار العيب) أي: من أقسام الخيار التي دل عليها دليل الشرع خيار العيب.
وقوله: [وهو ما ينقص قيمة المبيع كمرضه]: وبعض العلماء يقول: (نقصان المالية)، والمالية هي القيمة فلا إشكال.
فقوله: (ما ينقص قيمة المبيع): أي: الشيء المبيع، سواء كان ثمناً أو مثمناً.
(كمرضه): الكاف للتمثيل أي: مثل المرض، والمرض ينقص قيمة المبيع؛ لأن المبيع المريض منفعتُه أقل من المبيع الصحيح؛ ولأن المبيع المريض يكلف المشتري كلفةَ دوائه وعلاجه والقيام عليه؛ ولأن المبيع المريض قد يدخل الضرر على الإنسان، كما لو كان به مرض معدٍ، أو نحو ذلك، فذكر المرض في العيب يشمل المرض الذي هو حسي، والمرض المعنوي.
فالمرض الحسي: مثل الأمراض التي تُرى وتُشاهد كالجرب ونحو ذلك.
والأمراض المعنوية: مثل أن يكون به مرض نفسي مما يوجب أو يمنع الانتفاع به على الوجه المطلوب.
قال رحمه الله: [وفقد عضو أو سن أو زيادتهما]: (وفقد عضو): كاليد، كما إذا باعه رقيقاً، وتبين أنه مشلول اليد، وهكذا، هذا في القديم.
وفي الحديث: لو باعه سيارة ليس لها عجلات مثلاً، والسيارات تراد للركوب، فلو باعها بدون أن يكون لها فهذا في حكم فقد العضو؛ لأنها لا يمكن أن تسير ولا أن ينتفع بها إلا بوجود هذا الشيء الذي هو (إطارها) الذي تسير عليه.
(أو سن) فقد السن يؤثر في الدواب، ويؤثر أيضاً في الأرقاء، والسبب في هذا: أن السن يؤكل به، وفقده يضعف أكل الدابة فتضعف، وكذلك أيضاً فقد السن ربما يدل على مرض كما يقع في بعض الأمراض من تساقط الأسنان، وكذلك أيضاً فقد السن ينقص الجَمال في الأمة، إذا اشتراها من أجل أن يعف نفسه عن الحرام؛ لأن الله أحل له وطأها.
فالمقصود: أنه مثل رحمه الله من بيئته بما كان موجوداً في القديم.
(أو زيادتهما) أي: زيادة الأعضاء فإن هذه الزيادة تنقص المالية؛ لأن بعضها يؤثر في المبيع؛ لأن بعض الأسنان إذا زيدت تحدث الألم، وهذا يضر بالمبيع.
وبعض الأعضاء إذا زيدت يمتنع الارتفاق، ويمتنع الانتفاع بالرقيق بالوجه الكامل، أو بالوجه الأفضل والأكمل.
قال رحمه الله: [وزنا الرقيق]: هناك عيوب حسية، وعيوب معنوية إذا أردت أن تقسم العيوب.
العيوب الحسية: هي التي تكون النقص فيها في الخِلقة في الآدميين والدواب، أو النقص في أركان البيت، وفي منافعه.
لو باعه بيتاً بدون دورة مياه مثلاً، فهذا يعتبر نقصاً مؤثراً، فهذه عيوب حسية، وهي تشاهد وترى.
وهناك عيوب معنوية، والعيوب المعنوية لها ضابط عند العلماء: وهي ما كانت راجعة إلى الخلُق، والنفس، وهذه العيوب النفسية أو المعنوية منها ما هو ديني، ومنها ما هو دنيوي.
فالعيوب الدينية مثل زنا الرقيق، والسبب في هذا: أنه إذا كان الرقيق قد عرف بالزنا، فإنه لا يؤمن على العرض، وكان الأرقاء يحتاجون لقضاء مصالحهم، وربما دخل البيت لقضاء المصلحة، كحمل المتاع ونحو ذلك، وربما غاب السيد عنه وسافر، فوجود الزنا في الرقيق عيب، وهذا مذهب جمهور العلماء.
وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان عليه من الله الرحمة والرضوان، فقال: الزنا في الرقيق ليس عيباً، واحتج بما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يثرّب عليها، ثم إذا زنت الثانية فليجلدها الحد، ولا يثرّب عليها، ثم إذا زنت الثالثة فليجلدها الحد ولا يثرّب عليها، ثم ليبعها ولو بظلف شاة) قال: فإذا بيعت وهي زانية، فهذا يدل على أن الزنا ليس بعيب.
قال: ولأن الزنا قد يقع بسبب التساهل في البيئة، فتكون زانية عند زيد وليست بزانية عند عمرو، فزيد يتركها تتعاطى ذلك أو يتساهل في حفظها، وعمرو يحفظها، فهو يقول: ليس بعيب؛ لأن هذا الشيء يحتاج إلى تحفظ ويحتاج إلى صيانة، وهكذا بالنسبة للذكر.
وهي مسألة خلافية مشهورة، والأقوى أنه عيب كما ذهب جمهور العلماء، وحديثنا وهو قوله: (ثم ليبعها ولو بظلف شاة) لا يمنع أن تباع ويبين أنها زانية؛ لأن هذا من العيوب التي تبين، فإذا بين أنها زانية ارتفع الاستدلال بالحديث، ولم يستقم استدلاله رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار.
-ثم قال-: فإن صدقا وبينا) لأن من المعلوم أنها إذا كانت زانية وجاء يبيعها، فإنه يجب عليه أن يبين أنها ليست بمستقيمة وأنها تقع في الزنا، فإذا بين ذلك انتفى كونه عيباً، ومن هنا لا يقوى اعتبار هذا الحديث حجة على جمهور العلماء رحمهم الله، والصحيح أنه عيب.
قال رحمه الله: [وسرقته]: هذا من دقة المصنف، فقد ذكر رحمه الله العيوب التي هي نقصان في الخِلقة: (كمرضه، وفقد عضو، أو سن أو زيادتهما) وفقد الأعضاء من العيوب الحسية، ثم جاء بالعكس وهي زيادة الأعضاء، فإن زيادة الأعضاء تنبئنا أو تشير إلينا وتخبرنا أن الأمر لا يختص بالنقص، بل بعض الأحيان تكون الزيادة عيباً، فليس العيب فقط بالنقص، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، وهو أن العيب قد يكون بالزيادة، وعلى هذا انتهى رحمه الله من العيوب الحسية، وشرع في العيوب المعنوية فقال رحمه الله: [وزنا الرقيق] فهذا راجع إلى العيوب المعنوية.
فقوله: (وسرقته): السرقة خسة في الطبع، ولؤم في النفس أن يسرق من مال سيده، أو يسرق من أموال الناس، فهذا راجع إلى وازع نفسي، فالعبد إذا كان فيه هذه الصفة فإن معناه أنه سيء الخلق، وهذا من سوء الأخلاق الجامعة بين الدين والدنيا؛ لأن الدين لا يرضى مثل هذا، وأيضاً الناس بعقولهم وفطرهم السوية ينفرون ممن يسرق، فالسرقة تعتبر عيباً؛ لأن هذا يدخل الضرر على السيد.
وعلى هذا قالوا: إنه إذا تبين أن العبد سارق أو معروف بالسرقة، جاز له أن يرده، فلو اشترى منه عبداً بثمانمائة دينار، ثم تبين له أنه زانٍ، أو تبين له أنه سارق، أو شهد شهود أن هذا العبد معروف بالسرقة أو بالزنا، وأثبتوا ذلك عليه، حينئذٍ يأتي إلى القاضي ويثبت هذا العيب ويرد القاضي المبيع ويعطيه قيمة ما دفع فيه.
قال رحمه الله: [وإباقة]: الإباق كثرة الفرار، كأن يشتري عبداً كثير الهروب، فإن الهروب عيب، وهذا العيب يمنعه من الانتفاع به، ويضر بمصالحه؛ لأنه ربما وضعه على مصلحة فهرب عنها، فهذا فيه ضرر عليك، فإذا تبين أنه كثير الهروب، أو أنه يهرب عن سيده، فمن حقه أن ترد بهذا العيب.
قال رحمه الله: [وبوله في الفراش]: هذا من العيوب، وقد ذكروا عن أعرابي أنه اشترى عبداً، فقال له البائع: فيه عيب، قال: ما عيبه؟ قال: يبول في الفراش، وهذا في القديم يعتبر عيباً؛ لأن هذا يفسد المتاع، ووجود النجاسة أيضاً تضر بمصالح المشتري.(155/7)
الآثار المترتبة على وجود العيب
قال رحمه الله: [فإذا علم المشتري العيب بعد أمسكه بأرشه]: في هذه الجملة شرع المصنف في بيان الأحكام المترتبة على وجود العيب: فيشترط في العيب شروط لا بد من وجودها، فمتى نحكم بأن من حق المشتري أن يرد بالعيب؟ ومتى يثبت خيار العيب؟ نقول: الشرط الأول: أن يكون العيب مؤثراً، فخرجت العيوب غير المؤثرة، ومثال ذلك: لو أن رجلاً اشترى سيارة، فوجد خدشاً بسيطاً في مفارشها، فقال: هذا عيب، وأريد أن أرد السيارة، نقول: هذا عيب لكنه ليس بمؤثر.
أو وجد غباراً في فراشها، نقول: هذا ليس بمؤثر، فحينئذٍ نقول: إن وجود العيب لا يكفي بل يشترط أن يكون العيب مؤثراً.
الشرط الثاني: أن يكون المشتري غير عالم بالعيب، فلو اشترى سيارة وفيها عيب، فقال له البائع: هذه السيارة عيبها كذا وكذا، فقال المشتري: رضيت، ثم بعد أن ركب السيارة وتفرقا قال: فيها عيب لا أريدها، نقول: علمك بالعيب وإخباره لك، يسقط حقك في الرد.
والثالثة: أن يكون حدوث العيب قبل البيع، أو مقارناً للبيع، أي: قبل صفقة البيع، أو مقارناً لصفقة البيع، أما لو أن العيب طرأ وجدّ بعد انتهاء العقد وبعد التفرق فإنه لا يثبت على البائع، وإنما يثبت على المشتري؛ لأن المشتري إذا تفرق عن البائع وحدث في المبيع عيب بعد ذلك، فإنه يكون قد حدث في ملك المشتري، وليس في ملك البائع.
إذاً: يشترط أن يكون العيب موجوداً قبل العقد، أو أثناء العقد؛ لأنه قبل الافتراق لا تزال الصفقة في ذمة البائع ولم تنتقل بعد إلى ذمة المشتري.
وعلى هذا: فإنه لا يحكم بالعيب إلا بهذه الأمور التي ينبغي توفرها للحكم باعتبار العيب وتأثيره.
فقوله: (فإذا علم المشتري العيب بعد أمسكه بأرشه) أي: إذا علم المشتري العيب بعد تمام العقد والتفرق فلا يخلو من حالتين، فنقول له: إن شئت رددت المبيع، وإن شئت أبقيته، فإن قال: لا أريد أن أرد، بل أريد أن أبقي هذه السيارة، ولكن أريد حقي الذي هو أرش النقص، فله ذلك.
فالحالة الأولى: أن يرد ويقول: أريد مالي، وخذ سيارتك، فهذا من حقه.
الحالة الثانية: أن يكون المشتري راغباً في السلعة، ويريد أن يمسكها، ولكنه يريد حقه، الذي هو حصة العيب، فحينئذ يكون له الأرش، والأرش: أن تقدر السلعة كاملة، وتقدرها معيبة، وتنظر الفرق بينهما فتسقطه من قيمتها بنسبته من قيمتها معيبة.
مثال ذلك: لو باعه السيارة بعشرة آلاف ريال، وظهر فيها عيب يجعل قيمتها تسعة آلاف ريال، فمعنى ذلك: أن القيمة انتقص منها قدر ألف ريال، فتنظر الفرق بين قيمة السيارة كاملة وقيمتها معيبة، بأن تسأل أهل الخبرة عن قيمتها كاملة، وعن قيمتها معيبة، ثم تنظر قدر الفرق بين القيمتين، فإذا كانت قيمتها كاملة عشرة آلاف، وقيمتها معيبة تسعة آلاف، فالفرق ألف، فانظر نسبتها من القيمة كاملة، وهي أنها تعادل عُشر القيمة.
فإذا علمت أن نسبة النقص تعادل عشر القيمة، فعليك أن ترجع مرة ثانية وتقدرها بقيمتها وتنقص هذه القيمة من العشرة، وحينئذٍ يكون أرش السيارة أن يدفع له هذه القيمة -أعني: الألف ريال- التي انتقصها من مبيعه، وقد ذكر ذلك المصنف رحمه الله بقوله: [وهو قسط ما بين قيمة الصحة والعيب].
فقد يكون قيمة العيب العشر، وأحياناً يكون الربع، وأحياناً الثلث إلى آخره.
قال رحمه الله: [أو رده وأخذ الثمن].
أي: رد المبيع، وأخذ الثمن، فمثلاً: إذا اشترى سيارة وفيها عيب، ثم قال: لا أريد هذه السيارة، قلنا له: نعطيك الأرش، فإذا قال: لا أريد الأرش، وأريد قيمة سيارة كاملة والسيارة بهذا العيب لا أريدها، نقول: من حقك رده، أي: رد المبيع وأخذ الثمن كاملاً.
قال رحمه الله: [وإن تلف المبيع، أو عتق العبد، تعين الأرش] بعد أن بين لنا رحمه الله أن الخيار للمشتري يبقى
السؤال
هذا الخيار يثبت لو كانت السيارة موجودة، ويثبت لو كان المبيع كما هو، لكن في بعض الأحيان يكتشف العيب بعد أيام، أو بعد سنوات، أو شهور وقد تغير المبيع.
أو يكتشف العيب بطريقة فيها تغير للمبيع، كأن يكسر البيض أو يفتح البطيخ مثلاً، فحينئذٍ إذا فتح البطيخ أو كسر البيض، وأراد أن يرد فإنه لا يستطيع أن يرد المبيع.
وهكذا لو اشتريت رقيقاً ثم أعتقته، وبعد أن أعتقته وجدته ناقصا، ً أو وجدت فيه عيباً، فحينئذٍ لك حق، ولكن لا تستطيع أن ترده؛ لأنه قد عتق.
فقال: (وإن تلف المبيع) كأن اشترى سيارة، ثم وجد بها عيباً، وتلف المبيع على ضمان المشتري، فحينئذٍ إذا تلف المبيع استحق المشتري الأرش فقط، فلو جئته واشتريت طعاماً، وكان في هذا الطعام عيب، وأنت اشتريته بعشرة آلاف ريال، والعيب الموجود فيه تستحق به ألف ريال -الذي هو عشر القيمة- حينئذٍ إذا كنت تستحق عشر القيمة، يكون من حقك أن تأخذا الأرش إذا اكتشفت العيب بعد أن تصدقت به؛ لأنه تلف وأخذه الفقراء وأكلوا منه، فحينئذٍ يكون لك عند البائع حق وهو الألف، فتلف الطعام بالاستهلاك والأكل، لا يسقط حقك في الأرش.
فيبين لنا رحمه الله أن العيب يوجب ثبوت الحق لك في الأرش، وأنه لو تلف المبيع عندك وفي ضمانك بأن استنفذته وأكلته أو أعطيته الغير، وثبت بالبينة أنه كان ناقصاً معيبا، فإنك تستحق الرجوع عليه بالأرش، فمثلاً: لو اشتريت لدابة برسيماً، أو علفاً، فأكلت الدابة العلف أو البرسيم، وتبين أن فيه مرضاً، أو فيه عاهة، وأثبت الطبيب أن هذا العلف الذي أكلته من نوع معين فيه ضرر، وأنت اشتريت هذا العلف على أنه يكون سالماً من هذا العيب، فحينئذٍ يقدر لك هذا الأرش، ويكون من حقك أن ترجع عليه بهذا الأرش الذي تضمن به حقك عند البائع.(155/8)
الأسئلة(155/9)
الوجاء وعدّه من العيوب
السؤال
هل وجاء البهائم يعد من العيوب؟ علماً أن وجاءها يكون أنفع بلحمها، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوجاء يطيب اللحم، ولذلك ضحى عليه الصلاة والسلام بكبشين أملحين أقرنين موجوئين، والوجاء هو الخصاء وخصاء البهيمة يطيب لحمها.
والعلماء يذكرون الوجاء ويقولون: قد يكون النقص في المبيع كمالاً، والكمال ينقسم إلى قسمين: 1 - كمال طبيعي.
2 - كمال شرعي.
والكمال الطبيعي: مثل الوجاء، والكمال الشرعي: مثل الختان، فإن الختان كمال شرعي، ولذلك يعتبر هذا النقص -الذي هو الختان- نقصاً في الخلقة لكنه كمال في الشرع، فالمقصود: أن الوجاء بعض العلماء لا يعتبره عيباً؛ لأنه يطيب اللحم، ويكون نقصانه في الظاهر ولكنه كمال في الباطن، والله تعالى أعلم.(155/10)
حكم الامتناع من رد أرش العيب للمشتري
السؤال
هل يجوز للبائع أن يمتنع من رد الأرش، ويقول للمشتري: إما أن ترد السلعة أو تمضي البيع فيما حصل به الاتفاق؟
الجواب
ليس من حق البائع أن يمنع المشتري من حقه إذا ثبت أن السلعة معيبة، فإذا طالبه بالرد رد، وهكذا إذا طالبه بالأرش، على أصح قولي العلماء رحمهم الله، والسبب في هذا: أن العقد قد تم بينهما ويكون وجود النقص موجباً للضمان في الشرع فيبقى إمضاء العقد على ظاهره، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فيتم البيع على صورته، ويلزم بدفع الأرش؛ لأن الله سبحانه وتعالى نهى عن أكل المال بالباطل، والأرش حق للمشتري عند البائع يجب عليه أن يدفعه ولا يماطله فيه، والله تعالى أعلم.(155/11)
رد المبيع بالعيب بعد التصرف فيه
السؤال
من اشترى شاة، وتبين له بعد ذبحها وسلخها أن فيها عيباً في أكلها فكيف يرجعها، أو كيف يكون الحال في هذه المسألة؟
الجواب
إذا كان العيب الموجود في الشاة يمنع من أكلها، فحينئذٍ يرجع القيمة كاملة، ويجب على بائع الشاة أن يرد له القيمة كاملة؛ لأنه لا يمكنه الانتفاع بها، أما لو كان يمكن الانتفاع بها، بحيث كان العيب يمنع من شيء في اللحم، أو في مواضع من اللحم، ولا يمنع من بقيتها، فمذهب طائفة من العلماء أنه يرد له القيمة الأصلية ناقصاً منها قدر ذبحها الذي هو فرق ما بين كونها حية وكونها ميتة.
والسبب في هذا: أنه قد أتلف الشاة فأزهق روحها، ويبقى الانتفاع للبائع بقدر ما بقي للشاة من أعضاء، وحينئذٍ يكون العدل بين البائع والمشتري من هذا الوجه، كما في بيع الجوز، فجوز الهند إذا كسر، يرده مع ضمان أرش الكسر، كما سيأتي إن شاء الله.
لكن إذا كانت الشاة لا ينتفع بها أصلاً، أو تبين أن بها مرضاً لا يمكن بحال أن ينتفع بها فالمرض معدٍ، ولا يمكن أن تطعم، لا لآدمي ولا لسباع ونحوه، فحينئذ من حقه أن يرجع عليه بالقيمة كاملة كالبيض، بيض الدجاج إذا باعه ثم كسره فوجده فاسداً يرجع بالقيمة كاملة، وهنا يفرق بين ما يكسر وتزهق روحه؛ لأن الشاة إذا ذبحت لا يمكن أن يردها إلى حالتها الأولى، كما لا يمكن أن يرد البيض إلى حالته الأولى.
فحينئذٍ ينظر بنفس التفصيل الذي ذكرنا، إن كان اللحم فاسداً، بحيث لا يمكن الانتفاع بها كلياً، رجع عليه بالقيمة كاملة.
وإن كان يمكن الانتفاع بها في قدرها، فحينئذٍ يكون حصة الإزهاق والإتلاف؛ لأنها من كسب المشتري، وسيأتي إن شاء الله بيانه وكلام العلماء رحمهم الله فيه، والله تعالى أعلم.(155/12)
حكم بيع ما كان معيباً
السؤال
من أراد أن يبيع سيارة بها عيوب بسعر رخيص، مع أن هذه السيارة لو كانت سالمة من العيوب فستباع بضعف الثمن الذي يريد أن يبيعها به، فما حكم هذا البيع، أثابكم الله؟
الجواب
يجوز للبائع أن يبيع الشيء المعيب إذا بيّن العيوب الموجودة فيه، فإذا بيّن للمشتري أن هذه السيارة بها العيب الفلاني -ويسمي العيوب ويبرأ منها- فحينئذٍ يبارك له في صفقته، ولا يكون للمشتري عليه وجه حق، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما) فالبيع يبارك بالبيان وتمحق بركته بالكتمان، والله تعالى أعلم.(155/13)
حكم طلب الزيادة في المبيع وفضل الاستغناء بالله وعدم سؤال الناس
السؤال
إذا اشتريت من محل مثلاً فاكهة أو خضروات وطلبت قليلاً من الزيادة، وأخذتها برضا البائع، فهل يجوز لي هذه الزيادة، أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة لطلب الزيادة فيه تفصيل: فإن كان المالك الحقيقي للمحل تطلب منه الزيادة فهذا ماله، يعطيك منه ما شاء، ولكن لا خير في سؤال الناس، فسؤال الناس إذا لم توجد حاجة لا خير فيه؛ لأنه يريق ماء الحياء من الوجه، والأفضل والأكمل لعبد الله أن يجعل فقره إلى الله، وغناه بالله سبحانه وتعالى، ومن يستعفف يعفه الله، وما أعطي عبد عطاءً أفضل من الغنى بالله جل جلاله.
فمن استغنى بالله أغناه، ومن استكفى بالله كفاه، ومن استغنى بخلق الله لم يزده الله إلا فقراً، وجعل هم الدنيا بين عينيه، يلهث وراءها ويطلب ما فيها، فلا يشبع ولا يهنأ ولا يطيب حاله، ولو صبت أموال الدنيا بين يديه؛ لأن الله نزع البركة من قلبه، ونزع البركة من ماله، ونزع الرضا من قلبه.
فاعلم رحمك الله! أن الخير أن تستغني بالله عز وجل، ولذلك عتب النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابي حينما سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال: (ما يكون عندي من خير فلن أبخل به) وبين أن الإنسان لا يزال يسأل حتى يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم.
فلا ينبغي سؤال الناس خاصة لطالب العلم، فإن من حمل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في صدره، عليه أن يتورع، وأن يستغني بالله، وأن يحس أن هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه أنه أغنى الناس بها، ومن أعطي كتاب الله عز وجل وظن أن غيره قد أعطي خيراً مما أعطي فقد ازدرى ما عظم الله، فينبغي على طالب العلم، ومن هو قدوة كالعالم ألا يمد يده للناس، وألا يريق ماء وجهه لأحد غير الله جل جلاله.
وهذا أمر من الأهمية بمكان أن يعتني به طالب العلم، وليس في قضية الخضروات وغيرها، الأمر عام، فينبغي أن يجعل غناه بالله سبحانه وتعالى.
ومن قرأ أحوال السلف رحمهم الله، وكيف كان الاستغناء بالله جل جلاله شعاراً لهم ودثاراً، وكيف أن الله عز وجل أعطاهم خير الدين والدنيا والآخرة، وجمع لهم الفضائل، ويسر لهم المكارم، فعاشوا بأحسن عيشة، فكانت ثيابهم مرقعة، وفرشهم بالية، ولكن قلوبهم غنية زاكية بالله جل جلاله.
والعبد إذا استغنى بالله جل جلاله، لم يضره ما يلبس، ولذلك قال علي رضي الله عنه: (إنك إن اتقيت الله لم يضرك ما لبست)، لبست لباس الغني أو لبست لباس الفقير، فلا يضرك ما دمت تتقي الله في قلبك.
المقصود: أن الأفضل والأكمل ألا يسأل العبد غير الله جل جلاله، وكانوا يقولون: إن سؤال الناس وكثرة اللهث وراء الدنيا يمحق بركة العلم، وبركة الاستقامة، فلذلك تجد الشخص الذي يكثر من سؤال الناس ويلح فإذا دخل السوق سأل البائع، وإذا جاء في عمله ووظيفته سأل، حتى لربما سأل فوق حاجته وفوق ما يستحق، فلا يزال يسأل ويسأل حتى تذهب مكانته من قلوب الناس، فيرتفع وهو وضيع، ويكرم وهو مهان، مجاملة ينظر إليه في ظاهره؛ لكنه إذا استغنى بالله جل جلاله وكان على العكس، فيكون عند الناس عزيزاً كريماً، ولو كان في أضعف المراتب وأدنى المناصب، وذلك باستغنائه بالله سبحانه.
والشيء بالشيء يذكر! فقد ذكروا عن رجل أنه كان من أهل المدينة فأصابته والحاجة، فأراد أن يذهب إلى ابن عامر وكان أميراً على البصرة، وكان من أجواد العرب، ومن أهل السخاء والجود، المعروفين بالمكرمات، فجاء هذا الأعرابي إلى أحد أبناء جابر بن عبد الله رضي الله عنه وقال له: يا فلان! إني أريد منك أن تذهب معي إلى ابن عامر فقد أصابتنا الفاقة كما ترى، فلو ذهبت إلى ابن عامر معك رجوت أن يحسن إليّ، فخرجا من المدينة، حتى دخلا البصرة، فلما دخلا البصرة قال جابر لهذا الرجل: أولا أدلك على خير مما نحن فيه؟ قال: وما هو؟ قال: أن نصلي ركعتين ونستخير الله فإن كان الخير في دخولنا دخلنا، وإن كان الخير غير ذلك صرفنا الله إليه، فصلى هذا ركعتين، وصلى هذا ركعتين، فقال جابر: يا فلان! ماذا وجدت؟ فقال الرجل: وجدت أننا ندخل عليه، فقال ابن جابر: أما أنا فقد طابت نفسي أن أرجع إلى المدينة، فإن الذي أعطى ابن عامر هذا الخير الكثير هو الله، وكما أغناه يغنيني، وكما سد فقره يسد فقري -فقال كلاماً حسناً- ثم رجع إلى المدينة، ودخل الأعرابي على ابن عامر، فلما دخل عليه، وكان البريد يأتي من المدينة، فيه أخبار الناس الذين يسافرون، فبلغ ابن عامر أن فلاناً خرج مع فلان، فلما رآه قال له: أين جابر؟ فقال: رحمك الله! إنه كان من أمره كيت وكيت.
فقال ابن عامر: يا فلان! أعطِ فلاناً -أي: ابن جابر - مائتي درهم، وأعط فلاناً مائة درهم، فقال هذا الأعرابي أبياتاً من الشعر تدل على فضل الاستغناء بالله جل جلاله، والتوكل على الله سبحانه وتعالى، فقال وهو يخاطب زوجته وكان اسمها: أمامة أمامة ما سعي الحريص بزائدٍ فتيلاً ولا عجز الضعيف بضائر خرجنا جميعاً من مساقط روسنا على ثقة منا بجود ابن عامر فلما أنخنا الناعجات ببابه تأخر عني اليثربي ابن جابر وقال ستكفيني عطية قادر على ما أراد اليوم للخلق قاهر فإن الذي أعطى العراق ابن عامر لربي الذي أرجو لسد مفاقري فلما رآني قال أين ابن جابر ومن كما حنت طراب الأباعر فأضعف إذا غاب عبد الله حظه على حظ لهفان من الجوع فاغر فالله جل جلاله إذا صدقت معه صدق معك، وإذا كان في قلبك أنك تستغني بالله سبحانه وتنصرف من المخلوق إلى الخالق، فإن الله يسوقك إلى خير الدين والدنيا والآخرة، واقرأ في تراجم السلف والعلماء تجد الأمر جلياً واضحاً، وكون الإنسان يبلغ إلى أن يأتي عند الميزان ليحرج هذا في قبضة من طعام أو في حبة من فاكهة، فهذا أمر يزري بالإنسان كثيراً، فلا ينبغي للمسلم أن يوقف نفسه مثل هذه المواقف ويحرج الناس في أموالهم وبيعاتهم، فالأفضل له أن يعف نفسه فإن أعطاه ذلك بطيبة نفسه فالحمد لله، وإذا لم يعطه فإن الله سبحانه يغنيه من واسع فضله.
أما إذا كان الذي في المحل أو المتجر عاملاً، فالعامل لا يملك هذا المال، وليس من حقه أن يضر بمال سيده، فهذا لا يجوز، وحينئذٍ قال بعض العلماء: من الورع ألا تقبل من العامل الزيادة؛ لأنه كريم بمال غيره، وقد يضر بسيده، أي: يعلم أن سيده يؤذيه، فيؤذي سيده بمثل هذه التصرفات، فالورع والأكمل والأفضل للمسلم ألَّا يفعل هذا.
وكنت أرى بعض مشايخنا رحمة الله عليه يتورع عن الكيس الذي يعطيه البائع زائداً عن حاجته، يكون الكيس -مثلاً- صغيراً يمكن أن يكفي لحاجته فيعطيه كبيراً، فلا يقبل، ويقول: هذا ليس ماله ويقول: هذا من الورع.
وإذا تعود طالب العلم الورع، وتسربل بسربال التقوى، وأخذ يحمل نفسه في مثل هذه الأمور، خاصة في أمور الدنيا التي فيها فتنة، وفيها رغبة وشهوة، والنفوس جُبلت على حبها وطلبها؛ إذا صرف همته لله مع وجود هذه الرغبة وهذه الشهوة، فإن الله يغنيه من واسع فضله، والله ذو الفضل العظيم، فإنها والله لسعادة للمؤمن ألَّا يمسي ولا يصبح إلا وهو غني بالله جل جلاله.
وكم من أشياء يظن الإنسان أنها تأتي بخير، فيلهث وراءها، ويسعى وراءها، فلا تزيده إلا هماً وغماً ونكداً! وكم من إنسان سعى لتجارة من الدنيا، جعل الله حتفه فيها! وكم من إنسان سعى إلى رزق من الدنيا بالَغَ في طلبه، حتى فرَّط في صلاته وفي خشوعه، فمحق الله بركة تلك التجارة.
فالعبد دائماً يجعل الآخرة نصب عينيه، وليس معنى هذا أن نترك الدنيا؛ ولكن المراد ألَّا نغلو، وألَّا نبالغ في التمسك بالدنيا، حتى إنك قد تجد الرجل إذا لم يجد هذا الشيء ولم يصل إليه، كأنه يفوته كل شيء.
فعلى المسلم أن يحمد الله على فضله، ويعلم أن الله سبحانه خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وقسم أرزاقهم فلم ينسَ منهم أحداً، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6]، فالله جل جلاله متكفل بعباده.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يغنينا من واسع فضله العظيم.
اللهم إنا نسألك أن تغنينا من واسع فضلك العظيم، وأن تفتح لنا من بركاتك ورحماتك ما تغنينا به عن خلقك، وألَّا تجعل لنا إلى لئيم حاجة يا رب العالمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(155/14)
شرح زاد المستقنع - باب الخيار [5]
هناك مسائل متعلقة بخيار العيب، ومن هذه المسائل: إذا كان الشيء المبيع لا يمكن أن يطلع المشتري على العيب فيه إلا بعد كسره، ومن هذه الأشياء ما ينتفع به بعد الكسر ومنها ما لا ينتفع به، فيختلف الحكم في ذلك.
ومنها: مسألة التراخي والفورية في رد المبيع المعيب، ودلالة التراخي على الرضا بالعيب، ومنها: إذا اختلف المتعاقدان في وقت حدوث العيب.
فهذه مسائل تقع في معاملات الناس ومبايعاتهم، ومن واجب كل مسلم يتلبس بالبيع والشراء أن يتعلمها.(156/1)
العيوب التي لا تعرف إلا بكسر المبيع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره كجوز هند وبيض نعام، فكسره فوجده فاسداً فأمسكه فله أرشه]: قوله رحمه الله: [وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره]: في هذه الجملة شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يتعلق ببيع الشيء المعيب الذي لا يمكن أن يطّلع المشتري على عيبه إلا بعد كسره، وقد تقدم معنا بيان ما يتعلق بخيار العيب، وأن من وجد في المبيع عيباً استحق به الرد إذا لم يكن على علم به أثناء العقد.
وبناءً على هذا يرد
السؤال
لو اشترى شيئاً ولم يستطع أن يطلع على عيبه إلا بعد كسره، فما الحكم؟ هذه المسألة لها صورتان: الصورة الأولى: أن يمكن أن ينتفع به بعد الكسر.
الصورة الثانية: أن يكون المبيع فاسداً، بحيث لو كسره المشتري أو فكه أو فتحه لا ينتفع به بحال، إذا تبين أنه فاسد.
فمثال الأول: جوز الهند، فإنه إذا فتح يمكن أن ينتفع به بعد فتحه ولو كان ما بداخله معيباً.
ومثال الثاني: بيض الدجاج ونحوه، فإنه إذا كان فاسداً وكسر فإنه لا ينتفع به بعد الكسر.
فإن كان الشيء المعيب أو الشيء المبيع الذي فيه عيب يمكن أن ينتفع به بعد كسره، فحينئذٍ يكون البائع قد باع شيئاً فيه فساد، ولا يمكن أن ينتفع به أو ينتفع به على وجه النقص، إلا أن له حقاً في هذا الشيء؛ لأنه لا زالت فيه منفعة، فيجب على المشتري أن يرد ذلك الشيء وأن يضمن قيمة الكسر، فإذا قال: لا أريد بيض النعام، أو جوز الهند، فنقول له: رده ورد أرش الكسر، والدليل على ذلك: أن المشتري أخذ هذه الصفقة -أعني: جوز الهند وبيض النعام- وهي على صورة مغلفة كاملة القفل، فاعتدت يده بكسرها، فلما انكشف له الحال، قال: لا أرغب، فنضمّنه ما فعلته يده.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشاة الْمُصَرّاة: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) فالصاع هو ضمان ذلك الشيء الذي استهلكه المشتري، واعتدت يده عليه بالأخذ، فإذا اعتدت يد المشتري على السلعة بالتصرف بفتح المقفل وكسر البيض ونحو ذلك، فإن العدل أن نقول له: رد ذلك؛ لأن من حقك أن ترد إذا كان معيباً، ولكن رد أرش كسره، فيكون البائع قد ارتجع سلعته، وقد ضُمن حقه كاملاً، ويكون المشتري قد دفع الضرر عن نفسه.
وبناءً على هذا قرر العلماء أن الشيء الذي يكسر أو يفتح ويكون كسره مخلاً به، ويمكن الانتفاع به بعد الكسر، ووجد المشتري فيه العيب، فإننا نقول: من حقك أن ترده بالعيب، ومن حق البائع أن يضمنك ما أتت عليه يدك، فنلزمه بضمان ذلك الكسر.
أما لو كان المبيع كبيض الدجاج ونحوه مما لو كسر لم ينتفع به بعد الكسر، كما إذا كسر بيض الدجاج ووجده فاسداً، فحينئذٍ يكون غير منتفع به بوجه، فلا يبقى إلا ضمان القيمة كاملة، فيجب على البائع أن يرد للمشتري قيمة البيض كاملة؛ لأنه لا يمكن أن ينتفع بهذا المبيع بحال.
وقد يسأل سائل لماذا لا يضمن الكسر؟
و
الجواب
أنه إذا باعه بيض الدجاج، وتبين أنه فاسد، فإن الصفقة ليست محلاً للمال، أي: لا تستحق شيئاً من المال، فإذا أتلفها فإنه يتلف شيئاً فاسداً، ولو اعتدت يده عليه فإنه لا يرد بحيث ينتفع به بعد الاعتداء، بخلاف جوز الهند، وبخلاف بيض النعام، فإنه يمكن أن ينتفع به بعد الكسر.
وبناء على هذا، قالوا: إذا باع البيض وهو فاسد ثم تبين ذلك بعد كسره فإنه لا يمكن أن ينتفع بالبيض بعد كسره بحال، فلا يلزم المشتري أن يرد؛ لأنه فاسد لا قيمة له، ولو قيل: إنه كسره فقد كسر شيئاً فاسداً لا قيمة له، فالمعاوضة ودفع المال على هذا الشيء الفاسد، توجب رد المال كاملاً لصاحبه أعني: المشتري.
ومن هنا فرق أهل العلم رحمهم الله بين الشيء الذي يمكن أن ينتفع به بعد كسره وفتحه وفكه، وبين الشيء الذي لا يمكن أن ينتفع به بعد الفك والفتح، ويقاس على ذلك الأشياء الموجودة في عصرنا، فإذا كان الشيء مقفلاً في صندوق، أو موضوعاً في كرتون بطريقة معينة، يتكلف البائع وضعه في هذا الصندوق أو في هذا الكرتون، فإنه يجب ضمان ذلك الشيء الذي أتلفه المشتري، ويرد للبائع عين السلعة ويضمن ما أتلفه من ذلك الغلاف، كما قرر العلماء رحمهم الله، وأصل هذه المسألة في جوز الهند، وبيض النعام.
قوله: [كجوز هند وبيض نعام، فكسره فوجده فاسداً، فأمسكه فله أرشه، وإن رده رد أرش كسره]: [فأمسكه] أي: المشتري، بأن قال: هذا الجوز -جوز الهند- فاسد، وسأنتفع به وهو فاسد؛ ولكن أريد أن يضمن لي حقي من الأرش، فنقدر جوز الهند كاملاً، ونقدره ناقصاً ويدفع الأرش بالصفة التي سبق بيانها.
إذاًَ: إذا اشترى المشتري جوز هند أو بيض نعام، ووجده معيباً، فإنه يخير بين أمرين، بين أن يبقي الصفقة كما هي ويأخذ أرش النقص، وبين أن يرد الجوز ويدفع هو أرش الإتلاف لذلك الجوز وذلك البيض، فما ظُلم البائع ولا ظُلم المشتري.
والعلماء اختاروا جوز الهند بيض النعام؛ لأنهم يريدون أن يمثلوا لك بشيء كان في زمانهم يمكن أن ينتفع به بعد كسره، فقد كان ينتفع به ويرتفق به، وبناءً على ذلك: ليست القضية مختصة بالجوز إنما القضية كقاعدة فقد تجد في كتب الفقهاء أمثلة غريبة؛ وهي بمثابة الأصول التي يمكن أن يقاس عليها غيرها ويمكن أن يخرج عليها غيرها، ولذلك قالوا: (جوز الهند)؛ لأنهم وجدوا بالتجربة أنه إذا بان شرابه فاسداً، فإنه ينتفع بقحطه ووعائه، وكذلك أيضاً بالنسبة لبيض النعام، فاختلف الأمر: فاحتاجوا أن يأتوا بمثال لشيء يكسر ولا ينتفع به بحال، فذكروا بيض الدجاج.
ومثال ذلك اليوم الشيء الذي يباع داخل زجاجة، وإذا أردت أن تصل إلى هذا الشيء لا بد أن تكسر الزجاجة لكي تتوصل إلى هذا الشيء، وقد توجد أمثلة في أشياء مبيعة سواءً كانت كهربائية أو غيرها، تكون على صورة معينة بحيث لا تستطيع أن تصل إلى ما تريد إلا بالكسر، فتكسر الزجاج، فإذا كسرت الزجاج فإننا ننظر: إن كان فاسداً بحيث لا يمكن أن ينتفع به بحال، نقول: هذا ككسر بيض الدجاج، فكما أن العلماء رحمهم الله نصوا على أن من كسر بيض الدجاج ووجده فاسداً بحيث لا يمكنه أن يطبخه أو ينتفع به للبهائم فيجب على البائع أن يضمن القيمة كاملة، وترد إلى المشتري، فإن قال البائع للمشتري: أريدك أن ترد لي هذا الزجاج كما كان، نقول: هذا ليس من حقك؛ لأنه كسر شيئاً كان من حقه كسره بيد الملكية، فلما تبين أنه معيب، كان من حقه أن يرجع عليك بالمال، وليس من حقك أن تعجزه بما لا يمكنه من رد الزجاج كما كان، وعلى هذا لو قال له: أعد الزجاج كما كان، فهمنا أن المقصود الإضرار والتعجيز، حتى يأخذ ماله بالباطل.
قد يقول قائل: إن المشتري قد كسره، فلو طالبناه بالرد كان شيئاً صحيحاً، ولا دخل لنا هل يمكنه أو لا يمكنه، نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث أنس في الصحيحين في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، قال يخاطب البائع: (أرأيت أخيك فبم تستحل أكل ماله)، فنحن نقول: لو كان بيض الدجاج فاسداً، فمعنى ذلك أن قيمته -مثلاً- خمسة، فلو كسره ولم يجد به شيئاً صالحاً، فلو قلنا: إنه بكسره له غنمه وعليه غرمه، ظلمنا المشتري؛ لأنه دفع الخمسة في شيء لا يستحق قيمة، هذا إذا قلنا: إنه يضمن وله نفعه وعليه ضرره، وإن قلنا: يرده كما كان، فهذا تكليف شرطه الإمكان، وقد تبايع مع أخيه المسلم على شيء صالح، وهذا الشيء فاسد، فهذا ليس بمحل للعقد، ولا بمورد للعقد، ومطالبته برده إلى ما كان تعجيز، ويؤدي إلى باطل وهو استحلال المال بدون حق، فكان باطلاً؛ لأن ما أدى إلى باطل فهو باطل.
وبناءً على هذا: فليس من حق البائع أن يقول له: رد لي بيض الدجاج كما كان، أو رد لي الطبق كما كان، فلو أقام شاهدين عدلين أو شاهداً وحلف معه اليمين أن هذا الطبق فاسد، كان من حقه أن يرد له القيمة كاملة، ولا يطالبه بضمان عين البيض المنكسر.
[وإن رده رد أرش كسره]: وإن رد المشتري المبيع رد أرش كسره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) فأوجب عليه الصلاة والسلام أن يدفع ما أتلفت يده وهو اللبن، وذلك بالصاع من التمر، وهذا من ضمان الطعام بجنسه، وعلى هذا قالوا: إنه إذا أتلف المشتري شيئاً من المبيع، وكان مما يمكن أن ينتفع به بعد الإتلاف، رد المبيع مع ضمان النقص الذي أدخله بالتصرف، فحينئذٍ لم نظلم البائع، ولم نظلم المشتري.
أما البائع فقد رجع له المبيع وضمن له النقص.
وأما المشتري فقد رجع له ماله الذي دفعه، وأُخذ منه مقدار ما جنت يداه.
قال رحمه الله: [وإن كان كبيض دجاج رجع بكل الثمن]: هذه الحالة الثانية: أي: وإن كان المبيع مثل بيض الدجاج لا يمكن أن يطلع على عيبه إلا بإتلافه، وإذا اطلع على عيبه وكان فاسداً لم يمكن أن ينتفع به بعد ذلك، فيجب على البائع أن يرد القيمة كاملة.(156/2)
شروط خيار العيب
قال رحمه الله: [وخيار عيب متراخ ما لم يوجد دليل الرضا]: خيار العيب لا بد فيه من شروط: أولها: أن يكون العيب مؤثراً، بألا يكون العيب يسيراً ليس له بال، فلا تستحق الخيار إلا إذا كان العيب مؤثراً ينقص المالية، وكان يمنع الانتفاع كما تقدم معنا في ضوابط العيوب المؤثرة.
ثانياً: أن يكون العيب موجوداً حال العقد، فإذا وجد قبل العقد أو حال العقد فإنه يؤثر، أما لو طرأ بعد العقد فليس من حقك أن ترد؛ لأنه طرأ والمبيع في ملكك، فحينئذٍ لك غنمه وعليك غرمه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان).
فالشرط الثاني أن يكون العيب موجوداً حال العقد، وإذا قلنا: (حال العقد)، فإنه يشمل الصورتين، أن يطرأ حال العقد، أو يكون العيب وجد من قبل العقد، ففي كلتا الصورتين يعتبر عيباً مؤثراً.
الشرط الثالث: ألا تكون على علم بهذا العيب.
فإذاً: لا بد أن يكون العيب مؤثراً، وأن يكون سابقاً لتمام العقد ولو كان مصاحباً، وألا يكون عندك علم بهذا العيب، فلو أخبرك به ثم جئت لترد، قيل لك: قد أخبرك وبرأ ذمته بالإخبار، وليس من حقك أن ترده ما دام أنه قد أخبرك.
ولا يشترط أن يكون العيب معلوماً أو أن يكتشف العيب بعد العقد مباشرة، فالعيب لو اكتشف بعد سنة أو بعد سنتين، بل ولو بعد عشر سنوات كان من حقك أن ترد.
مثال ذلك: لو باعك رجل أرضاً على أنها بالصك، ثم بعد عشرين سنة تبين أن الصك مزور، أو أن الصك ليس على هذه الأرض وإنما هو على أرض أخرى، أو أن في الصك خطأً، وحينئذٍ إذا ثبت هذا كان من حقك أن ترد ولو بعد عشرين سنة، فالعيب لا يتأقت، أي: من حقك الرد في أي وقت تعلم به، فلا يشترط أن يكون قريباً من وقت البيع، ولا يشترط أن يكون في نفس السنة، أو في نفس الشهر أو في نفس الأسبوع أو نفس اليوم، فهذا حق ثابت لك ولو بعد حين.(156/3)
التراخي في خيار العيب ودلالته على الرضا
بناءً على هذا يرد السؤال بالنسبة للمطالبة بخيار العيب: إذا اشتريت سيارةً أو اشتريت أرضاً أو عمارةً، وتبين لك أن بها عيباً، فإنه من حقك أن تطالب برد المبيع الذي بان عيبه مباشرة، وهذا يسمى المطالبة بالفور، من حقك أن تطالبه فوراً، ومن حقك أن تتراخى بما تعذر به، فإن كان التراخي يشعر بالرضا، سقط حقك في المطالبة بأرش العيب ورد المبيع.
إذاً: يشترط أن يطالب الإنسان على وجه لا يسبقه ما يدل على الرضا، فإن سبقه ما يدل على الرضا من تراخٍ دالٍ على الرضا، أو صريح قول، أو دلالة فعل، فإنه يسقط حقه في رد المبيع، ويسقط حقه في المطالبة بالأرش.
فلو قال: قد رضيت، فهذا الرضا باللسان، ويعتبر إقراره بالرضا حجة عليه؛ لأن الإقرار أقوى الحجج، ولذلك يقول العلماء: إنه سيد الأدلة، والسبب في هذا: أنه لا أقوى من شهادة الإنسان على نفسه؛ لأنه لا يعقل أن يشهد العاقل على نفسه بما فيه الضرر إلا وهو صادق، ولذلك إذا قال: إني رضيت، أو حينما علمت بهذا العيب رضيت من نفسي، سقط حقه في المطالبة.
ومسألة التراخي والفورية، بعض العلماء يقول: خيار العيب على الفور، فلو أخره سقط حقه، فمثلاً: اطلع على العيب الساعة التاسعة، وكان بإمكانه أن يذهب إلى البائع، فتأخر إلى اليوم الثاني؛ سقط حقه؛ لأن تأخره إلى اليوم الثاني وسكوته في هذه المدة يدل على الرضا.
وبناءً على ذلك قالوا: لا بد وأن يطالبه فوراً، وهذا المذهب في الحقيقة أحوط المذاهب وفيه قوة، وأما التراخي فإن وجد عذر لتراخيه قبل، أما إذا لم يوجد عذر فإنه يقوى القول أن التراخي مشعر بالرضا؛ لأن الدلالة على الرضا تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: دلالة الأقوال.
القسم الثاني: دلالة الأفعال.
وأقوى القسمين: دلالة الأقوال، كأن يقول له ابنه: إن السيارة معيبة، أو وجدت في السيارة عيباً، أو جدت في الدار عيباً، فقال: لا بأس، رضيت، فهذا يدل على أنه رضي، أو اشترى من ابن عمه سيارة أو أرضا، ً فجاءه من يقول له: إن السيارة معيبة، أو هذه الأرض بها عيب، قال: هذا ابن عمي وقد رضيت، فهذا اللفظ: (قد رضيت) يدل دلالة صريحة على أنه لا يطالب بحقه، فيسقط حقه في المطالبة برد المبيع.
ودلالة الفعل، تقدم معنا في بيع المعاطاة أنها تنزل منزلة القول في الرضا، ولذلك قلنا: إن البيع ينعقد بالأفعال كما ينعقد بالأقوال.
والله اشترط في البيع الرضا، فقال سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فأوجب الله عز وجل أن يوجد الرضا في التجارة أعني: البيع، وبينا هناك أن دلالة الفعل تدل على الرضا كدلالة القول: ينعقد البيع بما يدل على الرضا وإن تعاطى الكل فما قالوا إن البيع ينعقد بالأفعال كما ينعقد بالأقوال؛ إلا لأنهم نزلوا دلالة الأفعال منزلة الأقوال.
ومن هنا قالوا: إذا وجد منه تصرف يدل على الرضا بعد العلم، سقط حقه في الرد، فإنه إذا قال له فلان: السيارة معيبة، فقال لغيره: بكم تشتري مني هذه السيارة المعيبة؟ فإنه لما باعها للغير دل على أنه راضٍ عن العيب الموجود فيها، وإذا رضي سقط حقه في المطالبة برد المبيع المعيب.
قال رحمه الله: [ولا يفتقر إلى حكم ولا رضا، ولا حضور صاحبه] أي: ولا يفتقر خيار العيب إلى حكم القاضي؛ لأن هناك أشياء تتوقف على حكم القاضي: فمثلاً الخلع، قالوا: يتوقف على حكم القاضي، فالأشياء التي تتوقف على حكم القاضي لا يثبت فيها الحق إلا بعد الرفع إلى القاضي، فيثبت القاضي الحق ثم يحكم به، لكن خيار العيب لا يفتقر إلى حكم القاضي، فأنت إذا علمت العيب في المبيع كان من حقك أن تأتيه، وتقول له: يا فلان! هذه السيارة بها عيب، وأنا لا أريدها ما دام هذا العيب موجوداً فيها، فحينئذٍ مطالبتك برد المبيع لا تتوقف على أن ترفعه إلى القاضي، لكن لو أصر وقال: بعتها لك بدون عيب، وأنت تقول: يا فلان! ما كذبتك، ولا غششتك، وهذا المبيع معي، فقال لك: لا أرد، فاختصمتما إلى القاضي، فحينئذٍ يفتقر الأمر إلى حكم القاضي؛ لأنه لم يصدق، فلو أقمت البينة والشهود على وجود العيب، كان من حقك أن تلزمه بالرد ويجب عليه شرعاً أن يرد، وأما إذا لم تقم البينة ففيها تفصيل، وهو الذي سنذكره إن شاء الله في مسألة اختلاف البائع والمشتري.
وقوله: (رضا) أي: ولا يفتقر إلى رضا الطرف الثاني، فلا يتوقف خيار العيب على رضا البائع، فلو جئت إلى البائع وقلت له: هذه السيارة التي بعتنيها فيها عيب كذا وكذا، وأنا لا أريدها، فإنه يجب عليه شرعاً أن يرد، ولا يشترط رضاه بالرد، بل يلزم شرعاً بالرد.
فإذا وجد العيب فإنه يلزم شرعاً بإعطاء الناس حقوقهم ورد أموالهم إليهم، وإذا شاء المشتري أن يأخذ الأرش ويقبل المبيع على التفصيل الذي تقدم بيانه، فإنه لا حرج عليه في ذلك.
وقوله: (ولا حضور صاحبه) أي: ولا يشترط أيضاً حضور صاحب المشتري وهو البائع، فيمكن أن يرده إلى وكيله أو العكس، فلو أنك وجدت في السيارة عيباً، فأرسلت رجلاً فقال: يا فلان! فلان يقرأ عليك السلام ويقول: سيارتك التي بعته إياها معيبة، ويقول لك: رد هذه السيارة فهو لا يريدها، فقال: لن أرد حتى يحضر لم يكن له ذلك، فلا يشترط حضور الطرف الثاني.
وهكذا عند القاضي لو أنك لا تستطيع الحضور عند القاضي فنصّبت وكيلاً، أو محامياً يدافع عن حقك في العمارة التي ظهر بها العيب، أو الأرض التي ظهر فيها العيب، كان من حقك، فلا يقول خصمك: أريد خصمي أن يحضر فليس من حقه هذا، إنما يقضى عن الشخص أصالة عن نفسه وكذلك وكالة عن غيره، ولا يشترط حضور خصمه بعينه.(156/4)
اختلاف المتبايعين في وقت حدوث العيب
قال رحمه الله: [وإن اختلفا عند من حدث العيب فقول مشترٍ مع يمينه]: العيوب منها ما يدل الدليل على أنه سابق للعقد.
ومنها ما يحتمل أن يكون سابقاً، ويحتمل أن يكون طارئاً.
وعلى هذا فما كان قبل العقد أو ظهرت الأمارات على أنه لا يكون إلا قبل العقد، كزوائد الخلقة، وهكذا بالنسبة للعاهات الخلقية التي حتى ولو كانت مغيبة فإنها تكتشف في ذلك المبيع، فإنه يعتبر دليل الظاهر دالاً على صدق المشتري، ولا يحتاج أن يحلف ويلزم البائع بالرد؛ لأن الدليل قام على أنها موجودة حال العقد، فإن نبات الأصبع الزائد، ووجوده ليس مثله يحدث في الزمن اليسير، وغالباً ما يكون مع الخلقة في الإنسان، وهكذا لو باع بهيمة فيها خلقة زائدة ونحو ذلك من العيوب التي يوجد الدليل أو تقوم الأمارة على أنها موجودة في المبيع من الأصل.(156/5)
أهمية معرفة المدعي والمدعى عليه
هذه العيوب ليس بوسع البائع أن ينكر وجودها قبل العقد، فحينئذٍ إذا ادعى المشتري وقال: هذا العيب موجود، وقال البائع: لم يكن موجوداً، فإن دليل الظاهر دالٌ على كذب البائع، فيقبل قول المشتري ويلغى قول البائع، وهذا يسمونه: دليل الظاهر.
إذا اختصم الرجلان في أمر، فأحدهما مدعٍ والثاني مدعى عليه، ولا بد لك إذا جئت تفصل بين اثنين في خصومة أن تعلم من المدعي ومن المدعى عليه، وإذا اختصم الرجلان ولا يُعرف من منهما المدعي ومن المدعى عليه، فإنه لا يمكن أن تحل هذه المشكلة.
حتى طلاب العلم إذا تناظروا مع بعضهم واختلفوا في المسائل لا بد وأن يضعوا أصلاً يعرف به من المدعي ومن المدعى عليه؛ لأنه إذا علمنا من المدعي طالبناه بالدليل، وإذا علمنا من المدعى عليه بقينا على قوله، حتى يأتينا هذا المدعي بما يدل على خلاف ما ذكر المدعى عليه، ولذلك قال الله عز وجل: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] وقال صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم، لادّعى أناس أموال قوم ودماؤهم؛ ولكن اليمين على من أنكر) فإذاًَ: عندنا مدعٍ ومدعى عليه، المدعى عليه يكون عنده حجة تسند قوله، وضابطه أن يكون عنده دليل من أصل أو ظاهر.
مثلاً: تجد طلاب العلم، يقول أحدهما للآخر: أعطني دليلاً على قولك، والآخر يقول: أعطني دليلاً على قولك، فكل منهما يطالب الآخر بالدليل، لكن لو علمنا من المدعى عليه، طالبنا المدعي بدليل يدل على صدق قوله؛ لأن هذا ظاهر القرآن وظاهر السنة، وبناءً على هذا: نستبين الحق في مسائل الاعتقاد وفي مسائل الفروع كلها.
فمثلاً: نصوص القرآن أثبتت لله صفات، فأثبت لله: صفة اليد صفة السمع صفة البصر.
إلى غير ذلك من الصفات، فنقول: هذه الصفات على الحقيقة، فأنت الذي تؤول العين وتخرجها عن ظاهرها، وتؤول: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] وتؤول النزول: (ينزل ربنا) وهذا خلاف الأصل، الأصل أنها على ظاهرها، فأعطني دليلاً على أن قوله: (ينزل ربنا) نزول رحمة؟ ولا يوجد دليل لا من الكتاب ولا من السنة، فأصبحت الحجة لمذهب أهل السنة والجماعة، فإذا جاء شخص يصرف هذا الظاهر عن ظاهره، علمنا أنه مدعٍ ولا نقبل قوله إلا بدليل من الكتاب والسنة، ولا دليل، فهذا بالنسبة لمسألة الاعتقاد.
كذلك مسائل الفروع، لو جاء شخص وقال: هذا حرام، وقال الآخر: هذا حلال، فالأصل حل الأشياء حتى يدل الدليل على حرمتها، أو قال: هذا البيع لا يجوز، وقال الآخر: بل يجوز فأعطني دليلاً على التحريم، فقال المحرَّم: بل أنت أعطني دليلاً على أنه حلال، فإذاً: نقول: من قال: إنه حلال فهو على الأصل، ومن قال: إنه حرام فقوله خلاف الأصل فيطالب بالدليل.
وهذه قاعدة.(156/6)
كيف نعرف المدعى عليه والمدعي
إذاً: فالحق مع المدعى عليه دائماً حتى يقوم الدليل على خلافه، لكن متى تحكم بكونه مدعىً عليه؟ هناك خلاف بين العلماء، بعض العلماء يقول: المدعي: هو من تجرد قوله عن الأصل والظاهر، والمدعى عليه من اعتضد قوله بالأصل أو الظاهر.
أما الأصل: فمثاله: لو أن شخصاً اتهم شخصاً بتهمة، فنقول: المدعى عليه هو المتهم، والمدعي هو القاذف، فحينئذٍ نطالب القاذف بالدليل؛ لأن الأصل البراءة، والأصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
إذاً: حكمت بكون فلان مدعى عليه؛ لأن الأصل معه، إذ الأصل أنه لم يفعل هذا الحرام، فإذا جاء شخص وقال له: بل فعلت هذا الحرام، نقول: عليك الدليل، ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فجعل الأصل خلاف من قال بالتهمة.
وبناءً على ذلك نقول: المدعى عليه، من عضّد قوله الأصل كما ذكرنا؛ لكن ما هو الأصل؟ قالوا: الأصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فإذا قال شخص: أنت فعلت هذا، فالأصل أنه لم يفعل حتى يثبت أنه فعل.
وكذا لو قالوا: أنت الذي ضربته، فقال: ما ضربته، فقوله: (أنت الذي ضربته) خلاف الأصل، حتى يثبت أنه ضرب، وقس على هذا.
أما دليل الظاهر، فكرجلين اختصما في سيارة أو في بعير أو في بيت، فجاء شخص لشخص وقال: هذا البيت بيتي، وقال الآخر: بل بيتي، فنظرنا فوجدنا أحدهما ساكناً في البيت والآخر خارج البيت، فدلالة الظاهر تدل على أن الذي في البيت مدعىً عليه، وأن الذي خارج البيت مدعٍ؛ لأن الأصل أن يسكن الإنسان في ملكه، ولو أن رجلين على بعير، أحدهما في المقدمة والآخر في المؤخرة، وكلاهما يدعي البعير فنقول: إنه للذي في المقدمة؛ لأن الذي في المقدمة هو صاحب الدابة على الظاهر، وقس على هذا.
ولذلك يقولون: تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا فالمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه يدعى من يقول: حدث كذا فهو المدعي، ومن يقول: لم يحدث فهو مدعىً عليه، وعلى هذا نطبق في مسألتنا: لو أن رجلاً اشترى عمارة فوجد فيها عيباً أو اشترى سيارة فوجد فيها عيباً، فقال المشتري: كان العيب موجوداً في السيارة، وقال البائع: هذا العيب طرأ وحدث عندك بعد أن اشتريت السيارة، ولم يحدث في ملكي، فأنا لا علاقة لي بهذا العيب، وإنما بعتك بيع المسلم لأخيه سالماً من العيب؛ فحينئذٍ من المدعي ومن المدعى عليه، وعليه فإذا قال العلماء: القول قول فلان، فمعناه أنه مدعى عليه، ومعنى ذلك أننا نطالب من خالفه بالبينة.(156/7)
دليل القائلين بأن القول قول المشتري
بناءً على هذا ننظر: فإذا قال المشتري: إن العيب كان موجوداً في الصفقة قبل البيع، أو أثناء عقد البيع، فبعض العلماء يقول: القول قوله، فإذا قلنا: القول قول المشتري فمعناه أن المشتري مدعىً عليه، ومعناه أن البائع مدعٍ.
والسبب في هذا: أن الأصل أن هذا المبيع حينما دفع المشتري فيه القيمة كاملة ينبغي أن نعلم أن المبيع كامل، فإذا ثبت أنه ناقص ورأينا نقصانه، فالمال الذي دفعه لا يستحقه البائع، فمثلاً: اشترى عمارة بخمسمائة ألف، وظهر بها عيب يسقطها إلى أربعمائة ألف، فإذاً لا نستطيع أن نقول بحل الخمسمائة ألف للبائع، إلا إذا تبين أن الصفقة كاملة، فإذا قال المشتري: بها عيب، وقال البائع: لم يكن بها عيب، فالثابت أمامنا أنها معيبة، وأن المال المدفوع الذي هو خمسمائة ألف ليس مدفوعاً في شيء يستحقه على هذا الوجه، فنطالب البائع بدليلٍ وبينةٍ على أن العمارة أثناء البيع لم يكن بها هذا العيب الذي يدعى عليه.
فهذا وجه من يقول: إن القول قول المشتري.
لأن الأصل عدم الخمسمائة ألف أو المال المدفوع حتى يكون المبيع سالماً من العيب، فلما شككنا فرأينا المبيع أمامنا معيباً، فإن الأصل ألا يعطيه إلا شيئاً كاملاً كما أنه أخذ الثمن كاملاً، فينبغي أن نتحقق أن المبيع كاملاً فنطالب البائع بما يثبت أن المبيع كان كاملاً أثناء البيع، فهذا وجه من قال: إن القول قول المشتري.(156/8)
دليل القائلين بأن القول قول البائع
وهناك من يرى أن القول قول البائع؛ لأنه لما بيع المبيع وأخذ المشتري الصفقة فإن المشتري يقول: قد كان، والبائع يقول: لم يكن، وقد قلنا: إن من ضوابط المدعي والمدعى عليه.
وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه يدعى فيقولون: المشتري يقول: قد كان، والبائع يقول: لم يكن، فالبائع ينفي والمشتري يثبت، وحينئذٍ يطالب المشتري بالدليل على قدم العيب؛ لأن الأصل عدم وجود العيب، بدليل أن الصفقة تمت بينهما، ولا تتم في الغالب إلا وهي كاملة، فقالوا: الظاهر أن المبيع لم يكن به عيب.
وأياً ما كان فقول من قال: القول قول المشتري أقوى، لما ذكرنا؛ لأن أموال الناس لا تستباح إلا بوجه معتبر، والصفقة على هذا الوجه لم يثبت أنها كاملة، فيطالب البائع بدليل يدل على أن المبيع لم يكن معيباً أثناء العقد.
فقوله: (وإن اختلفا عند من حدث العيب فقول مشترٍ مع يمينه) هذه اليمين يسمونها (يمين التهم)، وتكون في المواطن التي تحصل فيها الريب كالشهادة على الوصية في السفر وفيها الأيمان، وهي أصل عند العلماء رحمهم الله في أيمان التهم، وبها يقول فقهاء المالكية، وكذلك الحنابلة والشافعية في مواضع يحكمون بها، وأيضاً فقهاء الحنفية رحمهم الله في بعض الصور ويسمونها يمين التهمة، فيقولون: يعتضد قول المشتري بيمينه، يقال للمشتري: احلف أن هذا العيب كان موجوداً أثناء العقد.(156/9)
يقبل قول من لا يحتمل إلا قوله
قال رحمه الله: [وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما قبل بلا يمين] وذلك كما ذكرنا في الأصبع الزائد، والعيوب التي يشهد أهل الخبرة أنها لا يمكن أن تحدث وتطرأ في زمن قريب، ويوجد الآن في بعض الآلات أن يدعي صاحب المؤسسة أو صاحب الشركة التي باع الآلة أن هذا العيب ما كان موجوداً، فيأتي خبير ويقول: بل هذا النوع من العيوب لا يمكن أن يحدث إلا من سنة، إذا أثبت أهل الخبرة أن هذا العيب لا يمكن أن يحدث إلا من سنة أو أنه موجود مثل الأصبع الزائد أو عيوب الخلقة، فحينئذٍ يطالب بالرد وليس على المشتري يمين، لدلالة الظاهر على صدقه.(156/10)
خيار التخبير بالثمن
قال رحمه الله: [السادس: خيار في البيع بتخبير الثمن]: مذهب الحنابلة رحمهم الله من أوسع المذاهب في باب الخيار، ولم يتكلم الفقهاء رحمهم الله في مسائل الخيار بالتفصيل والاستيعاب كفقهاء الحنابلة رحمهم الله، فقد توسعوا في الخيار وذكروا صوره، خاصة وأنهم يقولون بأنواع لا يقول بها غيرهم كفقهاء الحنفية والمالكية رحمة الله على الجميع، وهنا نوع من الخيارات وهو خيار التخبير بالثمن.
وهو أن يأتي الإنسان إلى البائع يريد أن يشتري سلعة، فحينئذ لا يخلو البائع من حالتين: الحالة الأولى: أن يقول لك مثلاً: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف، أو أبيعك هذه العمارة بمائة ألف، ولا يذكر لك رأس المال الذي اشترى به، فحينئذٍ لا إشكال.
الحالة الثانية: أن يقول لك: هذه السيارة رأس مالي فيها مائة ألف، أو هذه العمارة رأس مالي فيها مليون ريال، فهذا الإخبار بالثمن فيه عهد من المسلم إلى المسلم ألا يكذب وألا يغش وألا يزور؛ لأنه إذا قال لك: رأس مالي في هذه العمارة مليون فمعنى ذلك: أنه إما أن يبيعك برأس المال وقد صدقته أنه اشترى بمليون، وإما أن يقول لك: كم تربحني؟ فتربحه العشر مثلاً، فيبيع بمليون ومائة، أو يقول لك: رأس مالي مليون، أسقط عنك عشر رأس المال، أو يقول لك: رأس مالي مليون، أدخلك شريكاً معي بالنصف.
فإذا أخبرك برأس المال، فإقدامك على السلعة مركب من علمك بهذا القدر وهذه القيمة، فلا يخلو: إما أن يكون صادقاً فلا إشكال، وإما أن يكون كاذباً، أو يكون مخطئاً، هذه ثلاثة أحوال: إما أن يكون صادقاً، فلا إشكال، على حسب ما اتفقتما عليه.
وإما أن يكون كاذباً فيقول: هذه العمارة اشتريتها بمليون، كم تربحني فيها؟ فتقول له: أربحك النصف، فمعناه أنك ستشتريها بمليون ونصف.
فإذا شاء الله عز وجل أن دفعت له المليون والنصف، ثم تبين أنه اشتراها بنصف مليون، وأنه كذب عليك حينما أخبرك أنه اشتراها بالضعف، فيكون حكم الشرع بإعطائه قيمة ما أخذ من المغشوش بالنسبة، وسنبين هذا.
كذلك أيضاً لو قال لك: رأس مالي فيها مليون ريال، ادخل معي شريكاً بالنصف، فأعطيته نصف مليون وتبين أنه اشترى بنصف مليون، فحينئذٍ كان من حقك أن ترجع عليه بربع مليون؛ لأنك دخلت بالخمسمائة ألف على أن رأس المال مليون ريال، وتبين أن رأس المال خمسمائة ألف، فمعناه أنك تدخل معه شريكاً بمائتين وخمسين ألفاً، ومن حقك أن تسترد منه المائتين والخمسين ألفاً المتبقية.
لقد أبدع فقهاء الحنابلة رحمهم الله باعتبار هذا النوع من الخيارات وتكلموا عليه وفصلوا في أحكامه، وهذه ميزة من ميزات الفقه الحنبلي، وإن كان غيرهم نبه على هذه المسائل؛ لكن لماذا دخلت هذه المسألة في الخيار؟ قالوا: لأنه إذا ظهر كذبه، فقد صار للمشتري الحق في أن يطالب بضمان ما خدع به، ومن حقه أن تغفر.
إذاً: كأنك مخير مثل العيب، فلما ظهر العيب الحسي في المبيعات واستحققت به الرد، والعيب المعنوي الموجود في المبيع واستحققت به الرد، كذلك العيب في الثمن حينما يظهر أن البائع كذب عليك فإن من حقك أن ترد وأن يضمن لك فضل ما بين القيمتين.
قد ذكرنا صورة الصدق وصورة الكذب، ولكن في بعض الأحيان قد يكذب البائع تورية، ويقول لك: رأس مالي في هذه السيارة عشرة آلاف تشاركني فيها؟ قلت: أشاركك بالنصف، دفعت خمسة آلاف، وتبين أنه اشتراها بعشرة آلاف ولكن بالتقسيط، وليس بالنقد، ولم يخبرك أنها مقسطة، فحينئذٍ يكون قد غشك وورى عليك، فهو اشتراها بعشرة آلاف ولكنه إلى أجل، والأجل تقع فيه زيادة الثمن على المشتري، فلك أيضاً حق المطالبة إن تبين أنه قد خدعك أو ختلك من هذا الوجه.
هناك صورة ثالثة وهي الخطأ، فمثلاً: قلت له: بكم اشتريت هذا القماش؟ وهذا كثيراً ما يقع في تجار الجملة، وكثيراً ما تقع مسألة البيع برأس المال، والمرابحة برأس المال بين التجار في الصفقات التي تقع بينهم في الجملة، وفي بعض الأحيان قد تشتري شاة -ولا يزال كبار السن يتعاملون بهذا النوع من البيوع- ويقول لك: رأس مالي بكذا، وتصدقه وتشتري إما برأس المال، أو تزيد على رأس المال، سواءً وقع هذا في بيع الجملة أو بيع المقطع.
الذي يعنينا الآن أنه أخطأ في القيمة، قلت له: بكم اشتريت هذه الثياب؟ قال: انتظر حتى أنظر: فواتيرها أو مستنداتها، فنظر في الفواتير وقال: بعشرة آلاف، فقلت له: أنا أربحك العشر، بأحد عشر ألفاً، فدفعت المبلغ، ثم تبين أن هذه الفواتير ليست لهذه الثياب وإنما لثياب أخرى، فالرجل ما كذب ولكنه أخطأ.
أو قال لك: هذه العمارة رأس مالي فيها مليون ريال، وتبين أنه كان يظن أنها عمارة أخرى اشتراها بالمليون، ولكن هذه اشتراها بثمانمائة ألف، فإذاً: من حكمة الله عز وجل أنه أعطى كل ذي حق حقه، والحكيم من يضع الأشياء في موضعها، فما دام أن المسلم قد أمن أخاه المسلم حين أخبره برأس المال، فمعناه أن له عليه حقاً أن يصدقه ولا يكذبه، وأن ينصح ولا يغش، ولذلك يقولون: بيع المسلم للمسلم لا كذب فيه ولا خيانة ولا غش ولا تدليس، فإذا ظهر أنه كاذب فله يضمن الحق، والقاضي يعزره، إذا ثبت عنده أنه كذب على فلان في رأس المال، فيعزره بما يناسبه ويناسب من كذب عليه.
وكذلك أيضاً إذا ثبت أنه أخطأ فإنه يعذر، وحينئذٍ يبقى استحقاق صاحب الحق برده بما فضل.
فإذاً: نحتاج أن نبحث مسائل في خيار التخبير: أولها: بيع المرابحة.
ثانيها: بيع المواضعة.
ثالثها: بيع التورية.
رابعها: بيع الشركة.
فهذه أربعة أنواع من البيوع.
فبيع المرابحة: اصطلح العلماء رحمهم الله على أن بيع المرابحة أن تشتري الشيء ويأتي من يرغب فيه ويقول لك: كم رأس ماله؟ تقول: رأس مالي مائة، يقول: أو أربحك العشر، أو الربع، أو النصف، أو المثل، فلو اشتريته بعشرة، وقال لك: أربحك المثل، فمعناه أنه سيشتريه بعشرين، ولذلك يسمونه بيع المرابحة، ومنه القصة المشهورة ل عثمان رضي الله عنه وأرضاه في عام الرمادة، حين جاءت إبله من الشام محملة بالزيت والطعام إلى المدينة، فجاءه التجار وقالوا له: بع يا عثمان، قال: كم تعطونني؟ قالوا: نعطيك بالدرهم درهمين، أي: نربحك الضعف، قال: أعطيت أكثر، قالوا: نعطيك ثلاثة، أي: ثلاثة أضعاف، قال: أعطيت أكثر، قالوا: نربحك أربعة إلى خمسة، قال: أعطيت أكثر، قالوا: من أعطاك وليس بالمدينة تجار غيرنا؟ قال: أعطاني الله بالدرهم عشرة إلى سبعمائة ضعف، هل عندكم هذا؟ قالوا: لا قال: أشهدكم أنها للفقراء، وتصدق بها رضي الله عنه وأرضاه.
فكان معروفاً عند التجار أن التاجر يأتي لأخيه ويقول له: صفقتك -مثلاً- من الزيت سأربحك الضعف، فيعرفون أنه سيدفع ضعف رأس مالها.
لكن هنا سؤال وهو: هل في بيع المرابحة تحتسب رأس المال الأصلي، أو تحتسب الكلفة؟ هذا أمر يحتاج إلى نظر، فمثلاً: لو اشتريت طعاماً وقيمة الطعام مائة ألف، لكنك نقلته من جدة إلى مكة، وكلفك النقل عشرة آلاف، فهل نقول: رأس المال المائة ألف أو نقول: رأس المال مائة وعشرة آلاف؟ الصحيح أنها مائة وعشرة، وأن عليه أن يبين ويقول: رأس مالي بكلفته مائة وعشرة، أي: كلفتني هذه الصفقة مائة وعشرة.
إذاًَ: بيع المرابحة يشترط فيه أن تملك السلعة وأن تكون في حوزتك حتى تبيعها؛ لأنك لو بعتها قبل أن تملكها فقد بعت ما لم تملك، ومن هنا يتبين خطأ من يقول: يدخل في بيع المرابحة أن تذهب وتختار السيارة ثم تأتي إلى المؤسسة لكي تشتريها لك، ثم تأخذها منها بالتقسيط بعد أن تدفع المؤسسة ثمنها نقداً، وهذا عين الربا، وليس من المرابحة في شيء، فبيع المرابحة صورته معروفة ومعهودة ومشهورة عند العلماء: وهي أن تشتري الصفقة بقيمتها، دون أن يدلك عليها أو يخبرك أحد أنه سيشتريها منك مستقبلاً سواء كانت عقاراً أو منقولاً، وبعد أن نشتريها يأتيك من يساومك بعد أن حزتها وتبين رأس مالك فيها لكي يخبرك بما سيدفعه لك ربحا، ً ولذلك قال: ولا تكون المرابحة إلا بعد الملكية؛ لأنك ترابح في شيء قد ملكته، ولا ترابح في شيء ليس في ملكك.(156/11)
الأسئلة(156/12)
ضمان التصرف في المبيع المعيب بعد رده
السؤال
في حديث المُصَرّاة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد المشتري المبيع وصاعاً من تمر، وذلك لمنفعته في الحليب؛ ولكن في كسر الجوز لم ينتفع المشتري فيه بشيء، فلماذا يرد أرش ما انكسر؟ أثابكم الله.
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإنك حينما تلزم الإنسان بضمان شيء إنما هو مركب من الاعتداء ومركب من التصرف، بغض النظر عن كونه انتفع أو لم ينتفع، فلو أن إنساناً جاء وكسر زجاجاً للغير، ولم ينتفع بهذا الكسر، قلنا له: يدك كسرت فعليك أن تضمن لصاحب الحق حقه، ولو أنه أتلف طعاماً ولم يأكله، فإنه يجب عليه الضمان، وكأن الأمر مركب على كسر اليد، فلما اعتدت اليد، بغض النظر عن كونها ارتفقت أو لم ترتفق، أو قصدت الارتفاق أو لم تقصد، فقاعدة الضمان مطردة.
وعليه فإننا نقول: يجب عليه الضمان ويلزمه أن يرد من هذا الوجه، وحديث الْمُصَرّاة مركب من هذا، فإنه احتلب الشاة وهذا الحدث كان من يده، سواء احتلب وشربه هو أو شربه غيره، أو حلب الحليب ثم أراقه فإن الحكم يلزمه، فكأن القضية مركبة من وجود الإتلاف ووجود التصرف، فعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي.
فلما أخذت شيئاً كاملاً وجب أن ترده كاملاً إن أمكن، وإن لم يمكن ردت ضمان ذلك الكامل، وهذا من عدل الله بين عباده، وقد بينا وجه ذلك، والله تعالى أعلم.(156/13)
التراخي في رد المعيب وحق الأرش
السؤال
بعد أن تقرر أن التراخي قد يسقط حق المشتري في الرد، فماذا عن حقه في الأرش، أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة لوجود العيب فمن حقه أن يطالب بالأرش، لكن الرد أهون من الأرش، فإبطال العقد الأول وفسخ العقد الأول ليس كاستدامة العقد وضمان النقص، وسكوته إن كان لا يدل على الرضا بالعيب على وجه الإسقاط للأرش والرد، فلا شك أن من حقه أن يطالب؛ لأن الأصل أن الشرع أثبت له حق المطالبة بصاع الْمُصَرّاة، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة، فحينئذٍ نقول: من حقه أن يطالب بالأرش وضمان ما انتقص من قيمته، ويكون تراخيه إذا لم يفهم منه الرضا عن إسقاط الأرش غير موجب لإسقاط الحق الثابت بأصل الشرع، والله تعالى أعلم.(156/14)
الضمان في التصرف في المبيع لأجل معرفته
السؤال
بعض تجار العسل يبيعون العسل بداخل ما يسمى بـ (القدر)، ولا يظهر منه إلا واجهته، ولا يدرى ما بداخله، فما الحكم، أثابكم الله؟
الجواب
ليس العسل وحده، بل العسل والفواكه كلها تباع على هذا الوجه، فلو اشتريت من الفواكه الرمان، مع أنه كبير الحب كبير الجذر فإنك لا تستطيع إلا أن تنظر إلى واجهته، أو اشتريت الرطب فإنك لا تستطيع إلا أن تنظر إلى ظاهر الصندوق، فمن حقك من ناحية شرعية أن تقلب أعلاه وأسفله، لكنه لا يمكّنك من هذا.
فلو أخذته وقلبته أمامه ووجدت فيه عيباً فمن حقك أن ترده، ولو أخذت الصندوق وقلبته فوجدت باطنه غير ظاهره فمن حقك أن ترده.
فالعسل لو قال لك: لا تفتشه أو قال لك: هذا عسل جيد وممتاز ومن نوع كذا، فلما أخذته إلى البيت وفتحت قرطاسه أو وعاءه إذا به ليس من النوع الذي ذكر، فمن حقك أن ترده، ثم هذا الفتح إن كان مثله يضمن ضمن، وإن كان مثله لا يضمن لم يضمن.
فمثلاً: القدر إذا فتح ليس فيه إخلال ولا ضرر، لكن لو كان العسل له وعاء معين لا يمكن فتحه إلا بالإتلاف، فحينئذٍ يضمن هذا الإتلاف الذي ذكرناه في جوز الهند، وهكذا بالنسبة لبيض النعام، لأنه أصل عند العلماء.
فالمقصود: أن من حقك الرد، إن تبين أنه غير النوع الذي اشتريته، فمثلاً: قال لك: هذا عسل السدر، وتبين أنه ليس من عسل السدر، وإنما هو نوع آخر، أو قال لك: هذا الرمان من نوع كذا، وتبين أنه من نوع آخر، فمن حقك أن ترد متى اتضح وجود العيب ومخالفة الصفقة لما تم بين البائع والمشتري.
وحينئذٍ فمسائل الضمان يفرع فيها على نفس التفريع الذي ذكرنا، فإن كان العسل في غلاف بحيث إذا فتح تضرر البائع بفتحه، كان من حقه أن يطالبه بأرشه، وإن كان لا يتضرر فإنه ليس من حقه أن يطالب بالأرش، لكن مسألة العسل من حقك أن تقلبه وتذوقه من باب العلم بما فيه، وذلك حتى ترتفع الجهالة ويطمئن إلى حقه، وليس من حق البائع أن يمنعه من ذلك، إنما من حقه أن يمنعه من وسيلة تضر بالعسل، أو تضر به هو.
فمثلاً: لو أدخل يده، فيده قد تكون ملوثة تؤذي العسل، ولو جاء بملعقة كبيرة يريد أن يذوق العسل، فهذا يضر، فحق المشتري أن يفعل ما تستبين به حقيقة الصفقة، فلو باعه إليك مغلفاً، وقال لك: أضمن أنه من النوع الفلاني أو الصنف الفلاني، أو باعك الورد الطيب والمشهور مثلاً في أوعية من النحاس مغلفة مختومة لا تستطيع أن تعرف حقيقة هذا الورد إلا بفك الختم، فحينئذٍ تفك الختم، وإذا فككت الختم وشممت الورد، وتبين أنه فاسد أو تالف فلك أن ترده، فإذا كان هذا الختم ليس فكه ينقص العلبة نفسها أو يؤثر فيها، فليس من حقه أن يطالبك بالأرش، فعلبة الورد معروفة، وهذا الختم ليس له أي قيمة إنما هو من باب الاستيثاق أنه من المؤسسة ومن الشركة، لكنه لا يؤثر في ذات العلبة، فذات العلبة تقفل وتحكم الإقفال، كالقدر إذا رفع ثم غطي، فلا يعتبر هذا مما يوجب الضمان، لكن الذي يوجب الضمان الأشياء التي تستهلك وتستنفذ وتكون اليد متصرفة بالإضرار فيها، فتضمن بحقها وهو قدر الأرش، والله تعالى أعلم.(156/15)
حق الفسخ في الإجارة
السؤال
استأجرت داراً لمدة سنة، ودفعت الإيجار مقدماً، وبعد بضعة أشهر أحببت الخروج من الدار، فهل لي أن أطالب المالك بإرجاع ما تبقى لي من قيمة أشهر السنة، أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة مفرعة على مسألة وهي العقود اللازمة والعقود الجائزة.
فالعقود اللازمة مثل البيع والإجارة ليس من حق أحد الطرفين أن يفسخ دون رضا الآخر، فالبيع عقد لازم، فليس من حق المشتري بعد أن تفترقا أن يأتيك ويقول: لا أريد؛ لأنك تقول له: هذا عقد يلزمك، وليس من حقك أن تفسخ هذا البيع إلا بإذني ورضاي، كذلك إذا استأجرت سيارة لتذهب بها إلى الحرم بعشرة ريالات، فركبت معه فإذا ركبت معه، وشرع يمشي فبمجرد مشيه لزمتك الإجارة، وحينئذٍ تمضي معه، فإن أتم لك المشوار استحق الأجرة، وإن امتنع أن يتم لك المشوار أو تعطلت سيارته فعليه أن يقيم غيره مقامه، ولو لم يجد الغير الذي يقوم مقامه، فعليه أن يقدر المسافة من الموضع الذي أخذك منه إلى الموضع الذي تعطلت فيه السيارة، فإن كان نصف المشوار استحق خمسة ريالات، أي: يقدر بقدر ما عمل.
لكن لو جئت تقول له: أريد أن توصلني إلى المدينة، ثم لما مضى بك كيلو أو كيلوين أو نصف كيلو قلت: لا أريد، فذلك ليس من حقك فقد مضت الإجارة ولزمت.
هذا بالنسبة لإجارة الركوب.
وكذلك إجارة السكنى: فلو استأجرت داراً سنة بعشرة آلاف ريال، ثم بعد شهر أو شهرين، أو بعد أن افترقتما مباشرة جئت وقلت: لا أريد، يلزمك أن تدفع الأجرة كاملة إذا لم يقبل منك الإقالة، فإذا كنت لا تستطيع أن تستأجرها فيمكن أن تقيم غيرك مقامك.
وهكذا الطبيب: فلو تعاقدت معه على أن يأتيك للكشف أو الفحص، فجاء الطبيب ومكنك من نفسه، وجلس ولم يكشف شيئاً ولم تأمره بالكشف حتى مضت المدة، يجب عليك أن تدفع الأجرة كاملة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] والإجارة عقد، والمسلم إذا اتفق مع أخيه المسلم على إجارة فليس من حقه أن يفسخها إلا برضا الطرف الثاني، فإذا لم يرض الطرف الثاني، فإن العقد لازم وعليه أن تتمه.
وهناك أحوال مستثناة للفسخ منها: - العجز الشرعي.
- العجز الحكمي.
فالعجز الشرعي مثلاً: لو استأجرت من مؤسسة سيارةً تذهب بك للحج، ولما تحركت السيارة تعطلت، وكان خروجك من المدينة في يوم عرفة، بحيث لا يمكنك أن تدرك الحج، فهذا التعطل يفسخ الإجارة؛ لأن المقصود منها الحج، فهذا يعتبر عجزاً شرعياً، وكأن المنفعة الشرعية التي تريدها ليست بموجودة وليست بمحصلة، وحينئذٍ من حقك أن تفسخ الإجارة، وتطالبه بدفع القيمة أو رد الأجرة كاملة إليك.
وهكذا بالنسبة للعجز الحكمي، فمثلاً: ما يقع في المستشفيات بأن يقع العقد بين المريض وبين المستشفى على إجراء عملية، فقبل أن يدخل المريض للعملية توفي، فالإجارة تمت والعقد تم، والأطباء مهيئون، لكن قبل الشروع توفي المريض، فحينئذٍ ليس من حق المستشفى أن يطالب الورثة بدفع القيمة؛ لأن هذا عجز، ولا يمكن للمستأجر بحال أن يتم العقد، كما أنه في العجز الشرعي لا يمكن أن يتم العقد بحال، كذلك أيضاً في العجز الصوري أو الحكمي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(156/16)
شرح زاد المستقنع - باب الخيار [6]
مذهب الحنابلة رحمهم الله من أوسع المذاهب في باب الخيار، ولم يتكلم الفقهاء في مسائل الخيار بالتفصيل والاستيعاب كفقهاء الحنابلة، خاصة وأنهم يقولون بأنواع لا يقول بها غيرهم.
ومن هذه الأنواع: خيار التخبير بالثمن، فما هو هذا الخيار؟ وما هي أحواله وصوره؟ ومتى يقع؟ وما هي البيوع التي يثبت فيها وكيف يثبت؟ هذا ما وضحه الشيخ في هذه المادة.(157/1)
تعريف خيار التخبير بالثمن وصوره
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [السادس: خيار في البيع بتخبير الثمن متى بان أقل أو أكثر]: ذكر المصنف رحمه الله هذا النوع من الخيار وهو الذي يسمى بخيار التخبير.
والتخبير: تفعيل من الخبر، والخبر لذاته يحتمل الصدق والكذب.
والمراد بهذا الخيار: أن يخبرك البائع بقيمة الشيء المبيع أنه اشتراه بكذا، ثم بعد ذلك يتبين أنه أخطأ أو كذب عليك، فإن تبين صدقه فلا إشكال، وهذا النوع من البيوع في الأصل إنما يقع عند الإخبار بالقيمة.
وبناءً على ذلك: فإن من أراد أن يشتري سلعة ما، فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يقع البيع بالسوم، دون النظر إلى أصل المال الذي اشترى به أو قدر القيمة التي اشترى بها البائع، فلو قال له: بكم تبيعني هذه السيارة؟ قال: بعشرة آلاف، فقال: اشتريت، فحينئذٍ لا إشكال، ولا يبحث في هذا النوع من الخيار؛ لأنه لم يتركب ثمن الصفقة الثانية على الإخبار بالصفقة الأولى.
الحالة الثانية: أن يخبر البائع المشتري بالقيمة التي اشترى بها السلعة، والأصل أن المسلم يجب عليه أن يصدق فيما يقول مطلقاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] فأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتقيه وجعل من التقوى أن نكون من الصادقين، فإذا أخبر المسلم بشيء أياً كان فالواجب عليه من حيث الأصل أن يبين الأمر على حقيقته دون زيادة أو نقص.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا في البيع؛ لأنه يترتب عليه حقوق، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي بين فيه أن بركة البيع مقرونة بوجود هذا الأمر العظيم وهو الصدق فقال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) فبين صلى الله عليه وسلم أن البركة في البيع مقرونة بالصدق، وأن الواجب أن يكون المسلم صادقاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق) أي: الزموه، ومن هنا فالأصل الشرعي أن يصدق البائع.
فهذه الحالة الثانية، وهي أن يقول البائع.
هذه السيارة رأس مالي فيها عشرة آلاف ريال مثلاً، فإذا أخبرك برأس المال، فإن الإخبار برأس المال تترتب عليه أمور مهمة منها: أن المشتري ربما يتفق مع البائع على ربح مبنيا ًعلى رأس المال كما في بيع المرابحة، فيقول له: بكم اشتريت؟ فيقول: بعشرة آلاف، فيقول: أربحك العشر، أي: أنني اشتريها منك بأحد عشر، أو أربحك الخمس، وهذا لا شك أنها زيادة مبنية على الإخبار برأس المال، فيشتريها باثني عشر، ولربما أنقص من رأس المال فقال له: رأس مالي في هذه السيارة عشرة آلاف أسامحك في خُمسها، فأبيعها بثمانية آلاف، فزادت رغبة المشتري في السلعة؛ لأنه يرى أن البائع قد ضحى بكثير وأن السلعة فيها تستحق أكثر مما دفع، فاشترى.
أو قال له: هذه السيارة رأس مالي فيها عشرة آلاف هل تدخل معي شريكاً بالنصف؟ أو هذه الأرض اشتريتها بمائتي ألف هل تدخل معي شريكاً بالنصف؟ فيقول: قبلت، فيدفع له مائة ألف، أو هذه العمارة اشتريتها بمليون، هل تدخل معي شريكاً بالنصف أو الربع؟ وهكذا.
والعلماء يبحثون هذا النوع من الخيار؛ لأن المشتري اشترى بناءً على خبر معين من البائع، وركب على هذا الخبر قيمة الصفقة، وترتب على هذا الخبر الرغبة في الصفقة، فهناك حقوق للمشتري من الإنصاف والعدل أن ترد له إذا ظلم فيها.
وبناءً على هذا: فإنه إذا أخبر البائع المشتري بالقيمة الأولى، فلا يخلو من ضربين: إما أن يخبرك وتبين أنه صادق.
وإما أن يخبرك ويتبين أنه أخطأ: إما عمداً وهو الكاذب والغشاش.
وإما خطأً على سبيل يعذر فيه، بأن كان يظن شيئاً وتبين خلافه، أو كان يظن أنها الصفقة الأخيرة وتبين أنها الصفقة قبل الأخيرة.
إلى آخره.
ففي الضرب الأول من الحالة الثانية: وهو أن يتبين صدق البائع فيما أخبر فلا إشكال، فلو قال لك: اشتريت هذه العمارة بعشرة آلاف، فقلت: أربحك نصفها فأشتريها بخمسة عشر، فلا إشكال إذا تبين أنه اشتراها بعشرة آلاف.
وهكذا لو أنه لم يتبين شيء، فالعلماء لا يبحثون في هذا، وإنما يبحثون فيما إذا تبين الخطأ، فأنت -مثلاً- اشتريت منه العمارة بعشرة آلاف، أو اشتريت منه السيارة بخمسة آلاف، ثم وجدت البائع الأول فقال لك: قد بعتها بأقل مما أخبرك به، فحينئذٍ يكون المشتري قد ظلم في ترغيبه في السلعة، وظلم في القيمة نفسها حيث رتب عليها ربحاً أو نسبة معينة بناءً على القيمة، فإذا ثبت أنه قد كذب أو أخطأ فحينئذٍ يكون للمشتري الخيار.
فاصطلح العلماء على تسمية هذا النوع من الخيار خيار تخبير الثمن.(157/2)
متى يقع خيار التخبير بالثمن
ثم قال المصنف: [متى بان] أي: اتضح أنه اشترى [بأقل أو أكثر]، وتبين أن هذا الثمن ليس بصحيح.
فإذاً: لو سأل سائل متى يقع الخيار؟ ف
الجواب
يقع الخيار إذا تبين الخطأ سواء كان مقصوداً كما في حالة الكذب -والعياذ بالله- أو غير مقصود كما في حالة الخطأ، ففي هذه الحالة يبحث العلماء هذا النوع من الخيار.
وهناك مسألة تتبع هذه المسألة وهي: متى يكون من حقك أن تضيف على رأس المال الأصلي أو تسقط منه؟ فأنت قد تشتري الصفقة بمائة ألف، ثم تبين أن هذه الصفقة بها عيب، فأسقط القاضي لك بسبب هذا العيب كأرش عشرين ألفاً، فأنت في الحقيقة اشتريت بمائة، ولكنك برد هذا الأرش إنما دفعت ثمانين، فهل تخبر بالمائة أو تخبر بالثمانين؟ إذاً: هذه مسائل شرعية يبحثها الفقهاء، ومن عادتهم أنهم يرتبون المسائل المتجانسة والمتقاربة والتي تندرج تحت أصل واحد أو يجمعها قاسم مشترك.
فكل هذه المباحث والمسائل التي ستأتينا، إنما هي حول الإخبار بالثمن، وما هو الواجب على المسلم إذا أراد أن ينصف المشتري في إخباره بالثمن، وما الذي تحسبه وما الذي تسقطه؟ فالسيارة -مثلاً- إذا اشتريتها ربما حملتها إليك، أو الطعام إذا اشتريته تحملت تكاليف نقله إليك، فهل تحسب هذه التكاليف مع رأس المال أو لا تحسب؟ فهذه كلها مسائل تحتاج إلى نظر وبحث.
فشروط خيار التخبير: أولاً: أن يخبر البائع المشتري برأس المال: فلا يقع هذا الخيار إذا بت لك البيع وقال لك: هذه العمارة أبيعها لك بمائة ألف، وحينئذٍ فإذا تبين أنه اشتراها بعشرة أو بخمسة أو بمائة، فليس من حقك أن تعترض عليه؛ لأنه لم يخبرك برأس المال، ولم يرتب أرباحه أو استحقاقه على رأس المال، إنما باعك بيع المسلم لأخيه على البت دون ذكر لرأس المال، فإذا اشتريت السلعة بقيمة ورضيت هذه القيمة لقاء السلعة ودفعتها برضاك واختيارك فإنه تلزمك هذه القيمة.
قول المصنف: (متى بان) أي: إذا ثبت أنه قد اشترى بأقل، والإثبات إما بإقرار البائع، كأن يأتي ويقول للقاضي: نعم أنا اشتريتها بثمانين وأخطأت حينما قلت له: بمائة، والإقرار سيد الأدلة كما يقول العلماء؛ لأنه شهادة من الإنسان على نفسه، والأصل أن الإنسان لا يشهد على نفسه بالضرر.
وإما أن يثبت بشاهدين عدلين، كما إذا باعك رجل عمارة بمائة ألف، وقال لك: إنه اشتراها بثمانين ألفاً، فأربحته فيها عشرين، ثم تبين أنه اشتراها بخمسين ألفاً، فأقمت شاهدين عدلين على أنه اشتراها بخمسين ألفاً، فحينئذٍ يثبت القاضي الخيار لك.
فتبين أن الإثبات إما إقرار وإما بشاهدين عدلين، وقد يتوفر شاهد واحد فتتم البينة بيمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين في الحقوق المالية.
مثال ذلك: لو اشتريت من رجل عمارة أخبرك أنه اشتراها بمائة ألف، فأربحته العشر، ودفعت له مائة وعشرة، ثم تبين لك أنه اشتراها بثمانين، فجئت عند القاضي وقلت: إن فلاناً أخبرني أنه اشتراها بمائة ألف، فسأله القاضي قال: نعم أخبرته أنها بمائة ألف، قال: وما الذي تدعي؟ قال المشتري: بل اشتراها بثمانين، فسأله القاضي: هل اشتريتها بثمانين؟ فأنكر وقال: بل اشتريتها بمائة، فقال لك القاضي: أثبت، فأتيت بالبائع الأول الذي باعه وشهد أنه قد باع إليه بثمانين، حينئذٍ تستحق إذا حلفت مع هذا الشاهد يميناً فإن الحقوق المالية تثبت بالشاهد مع اليمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين.
إذاً: قضية (متى بان) تحتاج إلى إثبات إما بإقرار البائع وهذا في حالة الورع، كشخص يبيعك شيئاً، ثم يتبين أنه أخطأ فجاء وقال لك: نعم.
أنا أعترف أنني قد أخطأت في القيمة التي ذكرتها لك.
أو بشاهدين عدلين، أو بشاهد ويمين، أو امرأتان تشهدان بأنه باع بهذه القيمة ويمين، أو أربع نسوة يشهدن بهذه القيمة التي ذكرت.
بناءً على هذا: فمتى بان أنه اشترى بأقل أو أكثر: بأقل كما ذكرنا في المائة والثمانين، أو أكثر، كأن يكون في حال الخطأ، إذا أخطأ البائع وقال: إنه اشتراها بثمانين، فلما رجع إلى حسابه وجد أنه اشتراها بمائة، كما إذا قال لك: هذه العمارة أبيعها لك بمائة ألف، رأس مالي فيها ثمانون، قلت له: اشتريتها منك على أني أربحك عشرين، وهي ربع الثمانين، ثم تبين أنه أخطأ في تقديره وحسابه، وهذا أيضاً على وجه يعذر فيه، وهذا مما يثبت الخيار له.(157/3)
البيوع التي يثبت فيها خيار التخبير بالثمن
يقول رحمه الله: [ويثبت في التولية]: أي: هذا النوع من الخيار يثبت في التولية.
والتولية: يقال: ولاه الشيء إذا أسند إليه أمره، والمراد بالتولية، أن يقول له: هذه العمارة أو هذه السيارة اشتريتها بكذا والأمر إليك، والعامة اليوم يقولون: رأس مالي كذا والنظر لك، أي: أنت الذي تبت في الأمر، فولى البائع المشتري النظر، فإذا أخبره برأس المال وولاه النظر، فحينئذٍ يكون هذا البيع تولية.
قال رحمه الله: [والشركة]: المصنف هنا يريد أن يثبت محل الخيار، وهذا النوع من الخيار في الأصل لا يقع إلا إذا أخبرك برأس المال، ورأس المال يخبر به في بيع التولية، وفي بيع الشركة، وبيع الشركة: كأن يقول لك: اشتريت أرضاً بمائة ألف، هل تدخل معي شريكاً بالنصف؟ أو اشتريتها بمائتين شاركني في النصف شاركني في الربع وقس على هذا، فيذكر لك رأس المال، ويدخلك شريكاً فيه.
قال رحمه الله: [والمرابحة]: المرابحة مفاعلة من الربح، والربح أصله النماء والزيادة، وقوله: (المرابحة) هذا النوع من البيوع حقيقته أن تشتري الصفقة وبعد أن تثبت ملكيتك على الصفة تعرضها للبيع، فتقول: رأس مالي فيها مائة، كم تربحني؟ فهذا بيع المرابحة الذي تكلم عليه العلماء وسموه بهذا الاسم وبينوا أحكامه وفصلوا ما يتعلق به من المسائل.
أما ما يسمى اليوم ببيع المرابحة في المعاملة الموجودة والشائعة في بعض المؤسسات، من كونه يأتي إلى الشركة أو إلى المؤسسة أو إلى المصرف ويقول له: اشتر لي سيارة من نوع كذا، أو السيارة من فلان، وقسطها عليَّ، وفي بعض الأحيان يذهب العميل ويحضر فواتير السلعة التي يرغب في شرائها، ثم يدفعها إلى البنك، فيقوم البنك بدراستها ثم يشتريها ويبيعها بالأجل على الذي يرغبها من العملاء، فهذا النوع من البيوع لا يعتبر مرابحة وليس في حكم المرابحة أصلاً؛ لأن المرابحة التي تكلم العلماء عليها، تكون في سلعة مملوكة وتحت يد البائع من حيث الأصل، أما هذا النوع من البيوع في العصر الحديث أو الموجود في زماننا هذا، لم يشتر البنك أو المصرف إلا بعد دلالة العميل، فالبنك لا يريد لنفسه، وإنما يريد أن يأخذ زيادة على غرم المال الذي دفعه، فبدل أن يعطي العميل مائة ألف على أن يردها مائة وعشرين، أدخل السلعة حيلة على الزيادة والنماء، ولذلك يعتبر من الربا.
وجه ذلك: أن الشريعة لا تلتفت إلى صورة العقد المفضي إلى الربا، ودليل ذلك بيع العينة، فإنك لو جئت إلى بيع العينة: وهي أن تشتري سيارة بمائة ألف، وهذه السيارة التي اشتريتها بمائة ألف اشتريتها مقسطة على عشرة أشهر -مثلاً- كل شهر تدفع فيه عشرة آلاف، فإذا اشتريت السيارة بمائة ألف، وقال الذي باعك: أنا أشتريها منك نقداً بثمانين، آل الأمر إلى أنه أعطاك الثمانين نقداً بالمائة إلى أجل.
فلو جئت تتأمل بيع العينة الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت صورة البيعين صحيحة، أعني أنه حينما تكون السيارة إلى نهاية السنة تجد أن قيمتها في السوق مائة ألف، فحينما تنظر إلى قيمتها في السوق مائة ألف، فالشريعة لا إشكال أنها تصحح عقداً إلى نهاية السنة على هذه الصورة بمائة ألف.
وأيضاً لو جئت تسأل عن هذه السيارة بالنقد وجدتها بثمانين، فكلا البيعين ليس فيه شبهة من حيث الصورة والشكل، ولذلك فالعلماء لا يعتبرون هذا النوع من البيوع -الذي هو بيع العينة- رباً محضا، ً وإنما يعتبرونه ذريعة إلى الربا، وبيع الذريعة صورته شرعية ولكن حقيقته ومآله إلى المحرم، فأنت إذا تأملت تعيين المشتري للصفقة واختياره لها، بل وأخذه حتى لفواتيرها وذهابه إلى المصرف كأنه يقول للمصرف: أرد لك هذه المائة ألف بزيادة، غير أن المصرف حتى يضمن أن المال ذهب في مكانه أعطاه لصاحب السلعة، بدل أن يعطيه بيده أعطاه إلى صاحب السلعة.
وأعجب من هذا وأغرب أن يكون هناك اتفاق بين المصرف والمؤسسة أنه إذا رجع الزبون أنه ترد له سلعته، فإذا رجع وغير رأيه ردوا السلعة إليه.
فإذاً: لا إشكال أن هذا النوع أولاً ليس بمرابحة حقيقة؛ لأن المرابحة يملك فيها السلعة ويحوزها وحينئذٍ تكون يده يد ملكية، فإذا جاء يشتري إلى أجل فالبيع إلى أجل متمحض وليس فيه أي شبهة؛ لكن في بيع الصورة المحرمة التي ذكرناها لم يشتر البنك ولم يشتر المصرف إلا بإيعاز من العميل، وبدل أن يأخذ العميل المال الذي هو المائة ألف نقداً ويردها مائة وعشرة، لأنه الربا المحض، أدخلا الصفقة احتيالاً على هذا المحرم.
ومن هنا كان ابن عباس رضي الله عنه يرى أن تحريم بيع الطعام قبل قبضه بشبهة الربا؛ لأنه إذا اشترى الطعام بمائة ألف حاضرة، ودفع المائة ألف، ولم يقبضه ولم يأخذه ثم باعه في نفس المكان إلى شخص آخر، كأنه يدفع المائة ويأخذ مائة وعشرة، وهذا كله من العلماء إلغاء للصورة ورجوع إلى الحقيقة؛ فلما كانت الصورة صورة بيع، ولكن في الحقيقة أن البنك لم يأخذ السلعة له ولم يردها له، وإنما أخذها بإيعاز من المشتري وطلب منه، ولا إشكال أن هذا من باب دفع المال بالزيادة، إلا أنه بدل أن يعطيه للمشتري وللعميل، قام بإعطاء الطرف الثاني وهو صاحب السلعة المرغوب في شرائها.
قال رحمه الله: [والمواضعة]: المواضعة مفاعلة من الوضع، والوضع الطرح، ولذلك يسمى هذا النوع من البيع (بيع الحطيطة)، يقال: حط من الثمن إذا انتقص منه، والمواضعة عكس المرابحة كأن يقول لك: اشتريتها بمائة ألف أضع عنك الربع، بمعنى أنني أبيعها لك بخمسة وسبعين، أو اشتريتها بمائة أضع عنك خمسها، أي: أبيعها لك بثمانين، وقس على هذا.
قال رحمه الله: [ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال]: أي: من اللازم في هذه البيوعات كلها معرفة المشتري لرأس المال؛ لأنه لا يستطيع أن يطالب بحقه الذي ظلم فيه في هذا البيع إلا إذا علم أن البائع قد اشترى بأقل، فإذا ثبت عنده أو أثبت عند القاضي أن البائع اشترى بأقل، حق له الخيار، وحينئذٍ يثبت له أن يطالب بالصفة التي سيبينها المصنف رحمه الله.(157/4)
صور يثبت فيها خيار التخبير بالثمن
قال رحمه الله: [وإن اشترى بثمن مؤجل، أو ممن لا تقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنه حيلة، أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن، ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن، فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد]: قوله رحمه الله: [وإن اشترى بثمن مؤجل]: أي: بأن اشترى البائع السلعة بثمن إلى أجل، وجئت تشتري منه فأخبرك بالثمن، ولم يقل لك: مؤجلاً.
وذلك لأن القيمة المعجلة ليست كالقيمة المؤجلة، فمثلاً: أنت جئت تريد أن تشتري منه العمارة، قال لك: هذه العمارة اشتريتها بمائتي ألف، وقيمتها في الحقيقة مائة ألف، لكنه اشتراها بمائتي ألف مقسطة، ومن المعلوم أن بيع التقسيط أغلى من بيع النقد، فلما قال: اشتريتها بمائتي ألف وسكت فإن سكوته يقتضي أنه اشترى بالنقد؛ لأن الأصل في البيوعات أن تكون نقداً، فإذا قال لك: اشتريتها بمائتي ألف، وأبيعها بمائة ألف، الذي هو بيع المواضعة، أضع لك نصف القيمة، فحينئذٍ يكون قد ظلمك، وذلك يوهمك أنه قد حط عنك مائة ألف، وهو في الحقيقة لم يحط عنك هذا المبلغ وإنما حط عنك نصفه، وهو خمسون ألفاً، وعلى هذا فإذا قال لك: اشتريتها بمائتي ألف أو بأربعمائة ألف وهو اشتراها بثمنٍ مؤجل فإنه يكون من حقك الخيار؛ لأنه ختلك بذكر القيمة مطلقة، وهي منصرفة إلى النقد، وحقيقة البيع الذي ابتاع به أنه إلى أجل.
وقوله: [أو ممن لا تقبل شهادته له]: كأن اشترى العمارة ممن لا تصح شهادته له؛ لأن هناك مستثنيات من الشهادة لا يقبل فيها الشاهد ولو كان عدلاً، وهذا مبني على التهمة، ومن هذه الشهادات شهادة الأصل للفرع والفرع للأصل، فلو قال لك: اشتريتها بمائة ألف، وكان قد اشتراها من أبيه، أو اشتراها من ابنه، فحينئذٍ لا يوثق بهذا الخبر ولا يوثق بشهادة الابن لأبيه ولا بشهادة الأب لابنه.
والسبب في هذا: أن شهادة الابن لأبيه وشهادة الأب لابنه فيها إجماع على عدم القبول عند المتأخرين من العلماء رحمهم الله، لكنَّ أهل العلم لما أجمعوا على عدم قبول شهادة الابن لأبيه والأب لابنه اختلفوا في سبب منع هذه الشهادة، فبعض أهل العلم يقول: هذه الشهادة في أصل الشرع غير مقبولة، وعلل ذلك ودلل له بدليل من السنة ودليل من النظر، أما دليله من السنة فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين-: (إنما فاطمة بضعة مني) فقوله: (بضعة) أي: قطعة وبضعة الشيء قطعة منه، وإذا كانت فاطمة رضي الله عنها قطعة من أبيها، فمعناه أن الابن والولد قطعة من والده، فإذا كان الولد قطعة من والده، فإذا شهد له فكأنما يشهد لنفسه، والعكس إذا شهد الوالد لولده كأنه يشهد لنفسه، ومن هنا لم تقبل شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده.
ثم أيضاً هناك دليل ثانٍ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) وهو حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله: (وإن أولادكم من كسبكم) جعل فيه الولد من كسب والده وكأنه راجع إليه، فإذا شهد له كان بمثابة الشاهد لنفسه.
أيضاً هناك دليل من النظر: وهو أن الولد والوالد كل منهما تغلبه عاطفة القرابة، والشهادة إنما قبلت من صاحبها لغلبة الظن بالصدق، وإذا غلب على الظن خلاف الصدق، واتهم الشاهد، كان موجباً للرد، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وصححه غير واحد من العلماء: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين)، و (الضنين): المتهم، كقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] أي: متهم.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين) دل على أن الشهادة في الرد مبناة على التهم، فإذا شهد الوالد لولده والولد لوالده، فإنه هنا تهمة قوية، ولذلك قالوا: إن هذه الشهادة من حيث الأصل لا تقبل.
وبعض العلماء يقول: شهادة الوالد لولده والولد لوالده في الأصل كانت مقبولة، ولكن نظراً لاختلاف الزمان وتغير الزمان تغيرت الفتوى، فكان السلف يقبلونها ثم ردت، وهذا يروى عن الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، إمام السنة في زمانه رحمه الله، يقول: إن السلف كانوا يقبلون شهادة الولد لوالده، والوالد لولده، وقصة علي رضي الله عنه كانت أصلاً عندهم، وهي ترد هذا الذي ذكره الإمام الزهري رحمه الله، وتقوي القول الأول، خاصة وأن السنة تقوي أن الولد من والده.
وسواء قلنا: إنها مردودة بالشرع وهو الصحيح، أو قلنا: إنها مردودة بالإجماع وهو المرجوح، فالمهم أنها لا تقبل لا شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده.
لكن لو شهد الولد على والده، أو شهد الوالد على ولده، فحينئذٍ تكون الشهادة مقبولة؛ لأن هذا لا يكون إلا عن حمية للدين وصدق، خاصة إذا عرف الولد بالصدق والأمانة والعدالة، وكذلك الوالد، فإن المسلم الصادق لا تأخذه في الله لومة لائم، ومن كمال الإيمان أن يكون الإنسان قائماً بالقسط، فيشهد ولو على أقرب الناس إليه.
فبناءً على هذا: شهادة الولد لوالده، والوالد لولده فيها تهمة، فلو أنه أخبرك بالثمن واشترى ممن لا تقبل شهادته له، فحينئذٍ يكون لك الخيار.
والسبب أننا لا نستطيع أن نتوصل إلى حقيقة القيمة، لوجود الشبهة في صدقه فيما قال وفيما أخبر به، ولذلك يعتبر من موجبات الخيار على الوجه الذي ذكره المصنف رحمه الله.
قال رحمه الله: [أو بأكثر من ثمنه حيلة]: أي: أو اشترى بأكثر من ثمنه حيلة.
رحمة الله على العلماء، إن من لذة الفقه أنك قد تقرأ المسائل هكذا فتشعر بالسآمة والملل، لكن إذا أردت أن تبحث عن العلل والأسباب وجدت أنهم يرتبون هذه العلل ترتيباً دقيقاً، فهم يبحثون عن شيء يوجب الخيار، وتحصل به التهمة، ويبحثون عن إنصاف المشتري من البائع، وأيضاً إنصاف البائع من المشتري؛ لأن البائع ما جاءك إلا للعدل، ولا بنيت هذه الشريعة إلا على العدل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] فالله عز وجل حكم بهذه الشريعة للعدل.
فالمسألة عندنا هنا يكون فيها صدق في الظاهر وحيلة في الباطن، ولما ذكر المصنف رحمه الله القاعدة: (أن يشتري بأكثر حيلة)، ذكر ضابطاً، وهذا له صور وله أمثلة، لكن من أشهرها أن يأتي رجل إلى شخص يحبه كأخيه وقريبه، أو ابن عمه، أو ابن خاله، ويقول له: أشتري منك عمارتك هذه بمائة ألف، والعمارة في الحقيقة تستحق ثمانين ألفاً، وهو يضع في ذهنه أنه سيبيعها مرابحة ولكنه يحتال على المرابحة فيخبر بصدقٍ حقيقتهُ الخداع والغش، فيأتي إلى هذا القريب ويقول له: ما رأيك يا فلان! لو تبيعني عمارتك بمائة ألف، والعمارة قيمتها ثمانون ألفاً، وبطبيعة الحال قد يعلم أن القريب يريد أن يبيع أو لا يريد أن يبيع، لكن القريب بمجرد أن يعلم هذا السعر المغري سيوافق، فاشترى منه العمارة بمائة ألف، هذه العمارة وضعها في الحسبان أنه سيبيعها مرابحة، فجاءه المشتري وقال له: بكم اشتريت هذه العمارة؟ قال: رأس مالي فيها مائة ألف، فهو صادق ولم يكذب؛ لكنه في الحقيقة ختل المشتري وخدعه، وفي الحقيقة كان يبني على ما يرجوه من الزيادة والنماء على طريقة كسب مودة القريب، وأيضاً كسب الربح من الغريب، فهو ينفع القريب بالزيادة التي سيعطيها، وأيضاً ينتفع من الغريب بما يخبره وهو صادق في الظاهر، ولكنه غشاش أو كذاب في الحقيقة؛ لأنه لا يريد أن يخبره أن قيمة السلعة ثمانون ألفاً، ولكنه زاد العشرين من أجل أن يكسب نماء المرابحة، ويثبت هذا عند القاضي بالقرائن.
وهذه الصورة مشكلة، فإذا أقر على نفسه فلا إشكال؛ لأن هذا يوجب الخيار، فلو جاء عند القاضي وتاب إلى الله عز وجل، وقال: نعم أنا اشتريت من أخي هذه العمارة، أو اشتريتها من ابن عمي وأعطيته مائة ألف، وأنا أريد أن أبيعها على فلان مرابحة بمائة وخمسين، حينئذٍ إذا ثبت عند القاضي هذا أثبت به الخيار، لكن لو أنه أنكر، وامتنع أن يثبت أنه قصد ختل المشتري فحينئذٍ يصعب على المشتري أن يثبت ذلك؛ لكن يثبت بالقرائن، فيسأل أهل الخبرة، فإذا سأل أهل الخبرة ووجد أن قيمة هذه العمارة في الحقيقة خمسون ألفاً، ووجد أنه اشتراها من قريبه بسبعين ألفاً، أو بثمانين أو بمائة، عند ذلك نعلم أن هناك محاباة وأن هناك قصداً بإدخال النفع إلى القريب، فمن حق القاضي أن يثبت الخيار بشهادة أهل الخبرة في مثل هذا.
قال رحمه الله: [أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن]: وهذه كلها صور عجيبة جداً تبين كيف كان العلماء رحمهم الله يعيشون حال الناس ويدخلون إلى أسواقهم، بحيث يدققون في كيفية خداع البائع للمشتري، فهذه الصورة تستغرب كيف استطاع البائع أن يختل المشتري ويخدعه بذكر قسط الثمن الذي فيه غرر في بيع المرابحة.
صورة المسألة: أن يشتري ثلاثة أشياء والمسألة هذه لا تقع إلا في أشياء متعددة، كأن يشتري سيارتين، أو عمارتين، أو قطعتين من الأرض، ويبيع إحدى القطعتين ويخبر المشتري على أنها نسبة من أصل البيع، فيجعل المرابحة على أصل الثمن.
فمثلاً: اشترى ثلاث سيارات: السيارة الأولى قيمتها أربعون، والسيارة الثانية قيمتها عشرون، والسيارة الثالثة قيمتها ثلاثون، أصبحت القيمة تسعين ألفاً، فيقول: رأس مالي في هذه السيارات الثلاث تسعون ألفاً، ويبيع إحدى السيارات التي هي -مثلاً- بعشرين، بربح، فإذا جاء المشتري وضع في حسبانه أن الباقي يعادل الثلثين، وأن السيارة التي بيعت بيعت على أنها بثلاثين، وحظها من أصل القيمة ثلاثون، فباعها بالربح ثم أخذ أيضاً فضل الربح فيما بقي.
صورة ثانية: اشترى ثلاث قطع من الأراضي، فلو فرضنا أنه اشتراها بستين ألفاً، وكانت قيمة القطعة الأولى: أربعين ألفاً، والقطعة الثانية: عشرة، والقطعة الثالثة: عشرة ثم يبيع الأغلى والأنفس والتي قيمتها أربعون، وتبقى له قطعتان قيمتهما عشرون ألفاً، فيأتي ويقول: هذه الصفقة قيمتها ستون ألفاً بعت منها قطعة، كم تربحني في القطعتين؟ فيتوهم المشتري أن القطعتين الباقيتين قيمتهما الأساسية أربعون ألفاً نمثل بال(157/5)
ما يلحق برأس المال ويخبر به وما لا يلحق
قال رحمه الله: [وما يزاد في ثمن، أو يحط منه في مدة خيار، أو يؤخذ أرشاً لعيب، أو جناية عليه، يلحق برأس ماله ويخبر به]: قوله: رحمه الله: [وما يزاد في ثمن]: أي: في مدة الخيار، وهذا يقع في خيار المجلس، وقد يقع في خيار الشرط، لكنه يقع في خيار المجلس وجهاً واحداً من جهة أن من حق المشتري أن يرجع، وذلك أنه إذا اتفق معه على أن القيمة الأولى لا تكفي فرضي أن يزيد فلا إشكال.
صورة المسألة: كنت مع رجل فقال لك: عندي عمارة أبيعها لك بمائة ألف، فوصف لك العمارة وصفاً كاملاً، أو قال لك: عمارتي التي تعرفها في المكان الفلاني أو في الشارع الفلاني، أبيعها بمائة ألف، فقلت له: قبلت -وقد بينّا فيما مضى أنه ما دام البائع والمشتري في مجلس واحد، فهما بالخيار -ففي أثناء المجلس قال لك: رجعت عن المائة ألف أريد عشرين زيادة، فإما أن تعطيني عشرين أو فسخت، فقلت له: هذه عشرون، أو من باب حثه على أن يمضي البيع، قلت له: رضيت أن أزيدك عشرين ألفاً.
فهذه الزيادة التي طرأت على أصل العقد، قد يخبر البائع الثاني المشتري بالقيمة المحصلة فيقول: هذه العمارة اشتريتها بمائة وعشرين، وهو في الحقيقة اشتراها بمائة، والعشرون قد زادها في مجلس العقد، وهذه العشرون التي زادها فيها شبهة، فربما زادها بسبب ضغط البائع لعلمه بجهل هذا المشتري، فحينئذٍ ينبغي أن يخبر بحقيقة هذه العشرين، فيقول: أنا اشتريت بمائة، وكنا في مجلس العقد فألزمني بعشرين، فرضيت بها، فهذا الرضا يحتمل أني أنا رضيت من باب أنني أرغب في هذه العمارة لمصلحتي الخاصة، وربما أنني أرغبها لشيء في ذلك الزمن، فزدت العشرين لا لمصلحة البيع، وليس من أجل البيع.
وذلك حتى يكون من حق المشتري الثاني النظر فإن شاء اعتبر القيمة على وجهها، وإن شاء نكص وامتنع من الشراء.
إذاً: إذا زاده وهو في حال الخيار في القيمة أو انتقص منها، كان من حق المشتري أن يعلم بذلك ويجب على البائع أن يعلمه بذلك.
قوله رحمه الله: [أو يحط منه في مدة خيار، أو يؤخذ أرشاًَ لعيب]: [أو يؤخذ أرشاً لعيب]: لو أنه اشترى العمارة بمائة ألف، وجاء وقال لك: هذه العمارة رأس مالي فيها مائة ألف، وهو صادق أن العمارة بيعت بمائة ألف؛ ولكنه في الحقيقة وجد في العمارة عيباً، وهذا العيب يحط من المائة عشرين، فلو قال لك: أنا اشتريتها بمائة ألف فهو صادق أنه اشتراها بمائة ألف، ولكن العيب الذي وجد في العمارة حط الثمن إلى ثمانين، فيجب أن يخبرك أن هناك عيباً أخذ به أرشاً وهي العشرون، لكي تصبح الحقيقة أنه اشترى بثمانين، فلو قال لك: اشتريت بمائة وسكت عن الأرش، وثبت ذلك عند القاضي، فإن هذا يثبت الخيار للمشتري.
قال رحمه الله: [أو جناية عليه]: أي: جناية على المبيع، فإن المبيع إذا جني عليه خاصة إذا كان في مدة الخيار فإنه ينقص من القيمة، فمثلاً: اشترى سيارة بمائة ألف، فصدمها شخص وهي واقفة، ولما صدمها ضمن التلف الذي أحدثه فيها، فأعطى صاحبها أرشاً، فأخذها وأصلحها ثم قال: هذه السيارة رأس مالي فيها كذا، أو جاء بها بوضعها الراهن، وهي مصدومة، وقال لك: هذه السيارة اشتريتها بمائة ألف، فهو صادق أنه اشتراها بمائة ألف، لكن هذا العيب الموجود فيها، والذي طرأ فأنقص القيمة وكان فيها الأرش، فكأن السيارة اشتريت بمائة ألف، والأرش قيمته عشرون ألفاً، فمعناه أنه تكلف في السيارة ثمانون ألفاً، وأن القيمة الحقيقية لهذه السيارة بعد الأرش إنما هي الثمانون.
وبناءً على ذلك: فكأن أحكام هذا النوع من الخيارات تدور حول مسألة الحقيقة، وأنه لا يجوز أن يستفضل البائع عن طريق المرابحة أو طريق التولية أو طريق المواضعة شيئاً زائداً عن حقه، وكل المراد أن يصل هذا إلى حقه، وكما قررنا في الأول، أنها قائمة على العدل، بحيث يأخذ البائع حقه والمشتري حقه.
قال رحمه الله: [يلحق برأس ماله ويخبر به]: أي: يلحق برأس ماله ويقول: نعم أنا اشتريت هذه السيارة بمائة ألف، ووجدت فيها عيباً فرد لي القاضي أرشاً لقاء هذا العيب عشرين ألفاً، أو رد لي أرشاً لقاء هذا العيب عشرة آلاف، وقس على هذا.
قال رحمه الله: [وإن كان بعد لزوم البيع لم يلحق به]: لأنه بعد لزوم البيع من ضمان المشتري إنما يكون في مدة الخيار، ويقع هذا كما ذكرنا في خيار الشرط على أصح الأوجه فإذا قال: إذا قال: لي الخيار ثلاثة أيام، ثم وقع حادث سيارة بالنقص خلال الثلاثة أيام، فلا بد من العلم بالنقص، وفي ظاهر هذه العبارة أنه لو طرأ النقص بعد العقد أو بعد تمام العقد أنه لا يخبر، مع أن هناك صوراً ينبغي فيها الإخبار والتي تسمى بصور الزيادة وصور النقص، ففي بعض هذه الصور يجب عليه أن يخبر.
من أمثلة ذلك: لو اشترى دابة وهي سمينة بمائة، ثم أخذها فاعتلت وتغيرت وجاءها النقص من جهة مرض أو من جهة سوء تدبير، أما الأصل أن قيمتها مائة، فإذا جاء وقال: رأس مالي فيها مائة، فرأس ماله فيها بمائة حينما كانت كاملة صحيحة، لكن هذا النقص ولو كان طارئاً بعد لزوم البيع، فينبغي أن يخبر به، وأن يقول: هذا النقص طرأ عنده.
وأشار في الشرح أنه ليس هناك خلاف بين أهل العلم رحمهم الله أنه ينبغي أن يخبر في هذه الحالة، كنقص الأمراض ونقص العيوب التي تطرأ بعد لزوم البيع، ولا يجوز له في هذه الحالة أن يسند الثمن الأصلي إلى الأول دون أن يكشف حقيقة الأمر؛ لأنه بعد وجود هذا العيب، الصفقة في حقيقتها تستحق ما دون رأس المال المذكور، فلو قال له: أنا اشتريت هذه الدابة بمائة، فقد ظلمه؛ لأنه اشتراها كاملة وهي في حالها حين البيع الثاني ناقصة، فيكون فيه ختل للمشتري الثاني، فيجب عليه أن يخبره.
كذلك مما يلتحق بهذا ما ذكره بعض العلماء: وهي الزيادة المنفصلة، كأن يشتري ناقة عشراء، بمائة، وتلد بعد ذلك، فيأتي المشتري ويقول: كم رأس مالك؟ فيقول: مائة، وهو صادق أنه اشتراها بمائة؛ لكنه اشتراها بمائة وهي حامل، فمثل هذا يشدد فيه طائفة من العلماء ويقولون: يجب عليه أن يبينه على حقيقته، حتى لا يختل المشتري بثمن زائد عن استحقاق السلعة.
قال رحمه الله: [وإن أخبر بالحال فحسن]: هذا بالنسبة لمسألة الزيادة التي تطرأ بعد لزوم البيع؛ ومن أمثلة الاستحقاقات التي تكون بعد لزوم البيع: أن تكون الزيادة لقاء كلفة ومشقة، مثل أن يقول: بكم هذه السلعة من الطعام؟ قال: بمائة، قال: أريد أن تصل إلى بيتي، فيقول: فلان يحملها لك بعشرة، فتم البيع على مائة، ويكون عقد الإجارة بعد لزوم البيع، فهو ليس راجعاً إلى البيع وليس بأساس البيع، فحينئذٍ يخبر ويقول: هذه السلعة اشتريتها بمائة، ولكنها كلفتني مائة وعشرة، فإني جلبتها إلى مخازني أو حفظتها في مخازني فكلفني هذا عشرة آلاف، فأصبح رأس مالي فيها من القيمة ورأس مالي فيها من التعب والعناء مائة وعشرة.(157/6)
الأسئلة(157/7)
يمين القضاء ومستندها
السؤال
مر معنا أن المشتري إذا ادعى عند القاضي أن البائع اشترى السلعة بأقل مما ذكر له، فأقام المشتري شاهداً واحداً وهو البائع الأول مع يمينه أنه يستحق الخيار، والسؤال: ما هو المستند الذي يستند إليه المشتري حتى يحلف على ذلك؟ أثابكم الله.
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: هذه المسألة وهذا السؤال يرجع إلى قضية الحلف بيمين القضاء، ويمين القضاء هي من أعظم الأيمان التي شدد الشرع فيها، والسبب في هذا: أنها تقتطع بها الحقوق، وهي أيمان عظيمة، ومن حلف يميناً في القضاء كاذباً، لقي الله وهو عليه غضبان، ومن حلف يميناً ليقتطع بها مال امرئ مسلم لم يزده الله بها إلا فقراً وضيعاً، فهي يمين غموس تغمس صاحبها في النار، وهي اليمين التي تسمى بيمين الصبر، وقد جاء في قصة الكندي والحضرمي لما اختصما في البئر وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس لك إلا يمينه قال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه، فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، قال: من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو كاذب لقي الله وهو عليه غضبان) نسأل الله السلامة والعافية! ومن لقي الله وهو عليه غضبان فقد هوى، قال تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] فمن أعظم ما يكون أن يجرؤ على أن يحلف بالله في القضاء على أن هذا حقيقته كذا، وعلى أن هذا الأمر صورته كذا، والواقع أنه كاذب، أو يحلف إذا قيل له: احلف على أنك ما فعلت، فحلف.
وكانوا يقولون: إن من السنن التي وجدوها بالاستقراء والتتبع، أن من حلف يمين القضاء لا يمر عليه الحول وهو بخير، نسأل الله السلامة والعافية!! فإن كان صاحب التجارة فإن الله يمحق البركة من تجارته، وقد يبتليه الله في عافيته، وقد يبتليه الله سبحانه وتعالى في ماله، ومما كان يحدث به كبار السن أن من أغضب الله عز وجل في شيء ظهرت السنن والدلائل على أن الله يؤاخذه ببلاء، وهذا مما يزجر الناس ويمنع الناس؛ لأن السيئة تسيء إلى صاحبها في الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية! فكانوا يقولون: من يحلف اليمين الفاجرة متعمداً، أي: وهو يعلم أنه كاذب فيها، فالغالب أنه لا يسلم.
ومن أشدها أيمان القسامة التي تكون على الدم، وأصل الأيمان في القسامة أنهم لما حلفوا في الجاهلية في قصة الرجل الذي قتل بمكة، فجاء أولياؤه إلى عبد المطلب وطالبوه، فقسم الأيمان على خمسين من أقرباء المدعى عليه أنه قاتل، فكان منها يمين يتعلق بيتيم، فجاء وليه ودفع حظه من الدية، ثم حلف التسعة والأربعون أيمانهم، وكان الرجل هو القاتل، وكانوا يعلمون أنه قاتل، فحلفوا اليمين الفاجرة، فما مر عليهم الحول وفيهم عين تطرف، وهذا ذكره العلماء رحمهم الله في سبب مشروعية القسامة، وهي من قضاء الجاهلية الذي أبقاه الإسلام، لما فيه من تعظيم الحرمات وزجر الناس عن الدماء والاعتداء على الحقوق.
الشاهد: يبقى الإشكال الآن إذا كنا في مسألة المرابحة نقول: إنه يحلف المشتري مع شاهده الذي يقيمه، أي: على أي شيء يستند في حلفه؟ فإن كان قد اطلع بنفسه ورأى الصفقة وتذكرها أو تذكر أنه حضر وأن هذه الصفقة التي كانت في المجلس الفلاني بين فلان وفلان هي على عمارته التي اشتراها الآن، فتذكر ذلك، فهذا يسمونه الحلف على العلم واليقين، أن تحلف على علم ويقين، وبالإجماع يجوز لك هذا الحلف.
النوع الثاني: الحلف على غالب الظن، والحلف على غالب الظن، للعلماء فيه قولان: والمذهب الصحيح أنه يجوز لك أن تحلف على غالب ظنك، فإذا وجدت قرائن ودلائل أو وجدت وثائق كتابية لم يقتنع بها القاضي، وأنت على غالب الظن مقتنع بها، وتعرف خط الرجل أو أخذتها من خزينة الرجل، أو أخذتها من يد الرجل، أو اطلعت على ذلك عن طريق قرائن ممن يعلم معه، ولا يستطيعون أن يشهدوا مخافة منه، وشهدوا عندك وأنت تعلم أنهم صادقون، هذه كلها قرائن تقوي غلبة ظنك بصدقهم، فإذا غلب على ظنك هذا كان من حقك أن تحلف، والحلف على غالب الظن ليس بيمين غموس، ولذلك قال العلماء: لو أن رجلاً أعطاك ألف ريال ديناً ثم غلب على ظنك أنك رددتها، فقال لك: لم تردها، وأنت لا تستطيع أن تجزم، لكن غلب على ظنك أنك رددتها، فيجوز لك أن تحلف بالله إذا أنكر ذلك.
وهكذا لو أنك ادعيت على رجل مالاً، أعطيته هذا المال ثم طالبته فادعى الرد، وأنت على غالب ظنك أنه لم يرد، فيجوز لك أن تحلف على أنك لم تستلم ولم تأخذ، إذا غلب على ظنك ذلك.
الشاهد: أن اليمين التي يسأل عنها، يمكن أن يحلفها الخصم بناء على غالب الظن، وهذا على أصح قولي العلماء رحمهم الله، وينسب بعض العلماء إلى جمهور أهل العلم أن الحلف على غالب الظن لا بأس به وليس فيه حرج، ولكن الورع ألا يحلف إلا على مثل الشمس، فإذا أراد أن يسلم له دينه وأن يحفظ دينه وأن يبارك الله له في ماله، فلا يحلف إلا على شيء كالشمس، وإلا ترك وعوضه الله عز وجل خيراً مما فقد، والله تعالى أعلم.(157/8)
حكم الإجارة بجزء من العمل
السؤال
من أراد أن يبيع أرضاً بمائة فقال له آخر: أبيعها لك بمائة وعشرين، وسأخبر المشتري أن صاحب الأرض يريد مائة وعشرين، وتم البيع فأعطى البائع مائة، وأخذ هو العشرين إلى جانب نسبته من المشتري، فهل هذا يصح، أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة فيها أكثر من سؤال: أولاً: بالنسبة للمالك الحقيقي للأرض إذا قال لك: بعها بمائة، فإنك تراعي حقوق إخوانك المسلمين، خاصة إذا وجدت أنهم يحتاجون إلى هذه الأراضي، أو أن الأشخاص الذين سيشترون منك أشخاص يعوزهم المال، فعليك أن تتقي الله، فهذا من النصيحة لعامة المسلمين.
ولا ينبغي للإنسان أن يكون كثير الجشع كثير الطمع دون أن ينظر إلى حقوق إخوانه وحوائجهم، ولو فعل غيره به ذلك لما رضي بهذا، والمسلم يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، ويكره لإخوانه ما يكره لنفسه، فلا ينبغي له أن يبالغ بالأرباح مع إمكان البيع بالأقل.
ثانياً: إذا قال له: أنا أبيع لك هذه الأرض بمائة وعشرين، وآخذ عشرين من المائة، فهذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة (قفيز الطحان) وضابطها الاستئجار بجزء من العمل، فإن العشرين سيأخذها من عمله، والإجارة يمنع بعض العلماء أن يستأجر الأجير بجزء من عمله؛ لكن الصحيح أن فيها تفصيلاً، فإن قوي وكثر الغرر حرم هذا النوع من الإيجارات، وإن قل الغرر وكان يسيراً، فإنه يجوز.
من أمثلة ما كان فيها غرر كثير أن يقول له: اذبح لي هذه الشاة وخذ جلدها، فإن هذا الغرر فيه كبير، لأننا لا ندري هل الجلد ثخين، أو رقيق؟ ولا ندري هل يخرج سالماً أو معيباً؟ لأنه ربما قده أثناء سلخ الشاة، فإذا استأجره بجزء من عمله مع جهالة أو غرر أكبر فلا يجوز، لكن لو كان مثل أن يحدد له قيمة، يقول له: بعها بمائة وعشرين ولك عشرون جاز.
إذا قلنا بجوازها صح له حينئذٍ أن يبيعها بمائة وعشرين، والأفضل أن يتقي الله في إخوانه، وألا يجعل أرباحه الخاصة على وجه الإضرار بالسوق.
تبقى مسألة نسبة السمسرة، ونسبة السمسرة أن يقول له: أبيع لك هذه العمارة أو أبيع لك هذه الأرض، وآخذ (6%)، أو (7%)، أو (2%)، أو (2.
5%) أو (5%) وهذه المسألة لها صور، ففي بعض الأحيان لا يصح أن يقول له: أبيعها وآخذ نسبة كذا منها، لأننا لا ندري بكم يبيع، فتصبح النسبة فيها جهالة، فلو قال له: بع هذه العمارة وخذ ثمن دلالتك (السمسرة) (10%)، فلا ندري هل يبيعها بمائة ألف، أو بمائتين، فإذا باعها بمائة كانت الـ (10%) عشرة آلاف، وإذا باعها بمائتين، تكون الـ (10%) عشرين، فأصبحت الإجارة مجهولة والأجرة مجهولة، ولا تصح الإجارة بمجهول بالإجماع.
الحالة الثانية: أن يحدد له القيمة ويقول له: بعها بمائة ألف، ولك (5%) و (10%) فهذا جائز؛ لأن النسبة معلومة والقدر معلوم، والغرر مندفع بما ذكرناه، من أنه آيل إلى العلم، ولا إشكال في جواز هذه الصورة إن شاء الله.
المسألة الثالثة: أن تصبح السمسرة فريضة على كل من جاء إلى المكتب، بحيث يكون ملزماً بدفع هذا المبلغ سمسرة ودلالة بناءً على الورق الذي يدفعه، فهذا لا يجوز، وهذا من أكل المال بالباطل؛ لأن السمسرة دلالة المشتري وهي من باب الجعل، وليس من حقه أن يطالبه بالسمسرة ولم يقم بشيء، كأن تأتي بالزبون الذي يريد أن يشتري فيقول لك: ما دمت أنك وضعته عندي في المكتب فعليك تدفع كذا وكذا، فهذا ليس من حقه؛ لأنك إنما وضعته في المكتب حتى يأتي بالمشتري، لكن إذا جئت بالمشتري بنفسك فإنه ليس من حقه أن يأخذ من المشتري ولا من حقه أن يأخذ من البائع؛ لأن هذا مالي، أبيعه إلى من شئت بما شئت، وكيف شئت، فإذا جاء وقال في هذه الحالة: يجب عليك أن تدفع هذه النسبة أو تدفع هذا القدر، فإنه يكون من أكل أموال الناس بالباطل.
وآخر دعوانا أَن الحَمد لله رب العالمينَ.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(157/9)
شرح زاد المستقنع - باب الخيار [7]
من أنواع الخيار: خيار لاختلاف المتبايعين.
والخلاف إما أن يقع في قدر الثمن، أو في صفة المبيع، أو في صفة عقد البيع، وإذا وقع الخلاف فإما أن يعتبر قول البائع وإما أن يعتبر قول المشتري أو يسقط القولان أو يتحالفا، وإذا تحالفا فحينئذٍ يكون الفسخ.
ولهذا الخيار مسائل مهمة، وله أحوال وصور ينبغي معرفتها والاطلاع عليها.(158/1)
الخيار لأجل اختلاف المتبايعين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [السابع: خيار لاختلاف المتبايعين] أي: النوع السابع من أنواع الخيار خيار يقع لعلة اختلاف المتبايعين.
والسبب في ذلك: أن المتبايعين إذا وقع بينهما خلاف إما في قدر الثمن، أو في صفة المبيع، أو في صفة عقد البيع، فإنه في هذه الحالة لا بد من الفصل بينهما، فإما أن يعتبر قول البائع وإما أن يعتبر قول المشتري، وإما أن يسقط القولان، أو يتحالفا فيكون لكل واحد منهما فسخ البيع.
ونظراً لوجود التخيير في حال الحلف أو في حال سقوط القولين، فإنه من المناسب أن يذكر هذا في باب الخيار، ومن المعلوم أن البيع يفتقر للإلزام به إلى رضا الطرفين، فإذا تراضى الطرفان على بيع السلعة وشرائها بثمن معين، فقد لزم البيع للباذل وهو البائع، ولزم البيع للمشتري وهو الآخذ.
وعلى ذلك لا يكون لأحدهما خيار بناءً على الأصل، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فالأصل أنه إذا بيعت السلعة فأوجب البائع وقبل المشتري، أننا نلزم البائع بالبيع ونلزم المشتري بدفع الثمن، لكن إذا حصل الخلاف بينهما فإن الخلاف يمنع الرضا الذي على أساسه حكم بصحة البيع، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فأحل الله لنا البيع والتجارة بشرط وجود الرضا، فإذا اختلفا انعدم الرضا، فهذا يقول: بعت السلعة بعشرة، والثاني يقول: اشتريتها بثمانية، وهذا يقول: بعت العمارة بعشرة آلاف، والآخر يقول: بل اشتريتها بتسعة آلاف، فمعناه: أن البائع قد بذل هذه الصفقة -العمارة مثلاً- بعشرة آلاف، ورضي أن يأخذ العشرة في مقابل سلعته، فإذا قال المشتري: بل بثمانية، فمعنى ذلك أن الذي حصل الرضا عليه ليس بموجود، ومن هنا يكون الخيار في البيع على تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله.
وإذا وقع الخلاف بين المتعاقدين فهناك أحوال: الحالة الأولى: أن يوجد الدليل الذي يرجح قول البائع أو قول المشتري، بأن قال البائع مثلاً: بعتك سيارتي هذه بعشرة آلاف، وقال المشتري: اشتريتها بثمانية آلاف، فوقع الخلاف بينهما، فقال المشتري: عندي شاهدان عدلان يشهدان أنك بعتها لي بثمانية آلاف، فأقام البينة بالشاهدين العدلين، فحينئذٍ الحكم سيكون لقول المشتري، والبيع تام بثمانية آلاف ويلزم البائع بدفع السلعة بثمانية آلاف، ولا خيار؛ لأنه قد قام الدليل على ترجيح قول المشتري، والحق حقه.
والعكس: فلو أن البائع قال: بعتها بعشرة آلاف، فقال المشتري: بل بثمانية آلاف، قال البائع: عندي شهود يشهدون أنك قد رضيت شراءها بعشرة آلاف، فأقام شاهدين عدلين، على أنه اشترى منه بعشرة آلاف، فحينئذٍ يكون القول قول البائع، ويلزم المشتري بدفع عشرة آلاف، وهكذا لو أقام أحدهما شاهداً وحلف اليمين معه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين.
فهذه الحالة الأولى: أن توجد البينة التي ترجح أحد القولين على الآخر.
الحالة الثانية: أن يحصل الصلح والتراضي فيرضى البائع بقول المشتري، أو يرضى المشتري بقول البائع، فمثلاً: قال البائع: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال المشتري: بل اشتريتها بثمانية آلاف، قال البائع: أنا متأكد أنني بعتها بعشرة آلاف، فقال المشتري: أنت ثقة عندي وقد رجعت إلى قولك بعشرة آلاف.
فرضي المشتري بقول البائع.
أو العكس: قال البائع: بعتك السيارة بعشرة آلاف، فقال المشتري: بل اشتريتها بثمانية آلاف، فقال البائع للمشتري: أنت عندي ثقة وقد رضيت بثمانية آلاف، فإذا رضي أحد الطرفين بقول الآخر، نقول: يحكم بالبيع بما تراضيا عليه؛ لأن حقيقة البيع قائمة على الرضا، فإذا تراضيا واصطلحا بعد الخلاف فلا إشكال؛ لكن الإشكال إذا وقع الخلاف بينهما ولم توجد بينة، ولم يوجد الصلح والتراضي بينهما.
وفي بعض الأحيان قد توجد البينة من الطرفين، هذا عنده بينة، وهذا عنده بينة وإذا تعارضت البينتان سقطتا على تفصيل سيأتي إن شاء الله في باب القضاء والبينات، لكن الذي يهم هنا أنه يقع الخلاف بينهما على وجه لا يمكن الترجيح، أي: أن نرجح أحد القولين على الآخر.
فقال رحمه الله: [خيار لاختلاف المتبايعين] أي: النوع السابع من أنواع الخيار أن يقع الخلاف بين البائع والمشتري، في قدر الثمن أو جنس أو نوع الثمن، أو صفة البيع أو صفقة المبيع، هل هو عاجل أو آجل، بالتقسيط أو بالنقد إلخ.
فيقع الخيار على تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله.(158/2)
اختلاف المتبايعين في قدر الثمن
قال رحمه الله: [فإذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا، فيحلف البائع أولاً: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا، ولكلٍ الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر]: قوله رحمه الله: [فإذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا]: هذا النوع الأول من الخلاف، وهو أن يقع الخلاف في قدر الثمن، فأنت تقول: اشتريت هذه العمارة بعشرة آلاف ريال، والبائع يقول: بعتها لك باثني عشر ألفاً، أو بعتها لك بعشرين ألفاً، والغالب إذا وقع الخلاف بين البائع والمشتري بقدر الثمن أن يدعي البائع الأكثر، والمشتري الأقل؛ لأن الأحظ للبائع الأكثر، والأحظ للمشتري الأقل، وتقع الكثرة والقلة إما من جهة القدر، وإما من جهة النوع، فمن جهة القدر أن يقول البائع: بعتها بعشرين، يقول المشتري: اشتريت بعشرة.
ومن جهة نوع الثمن، مثلاً: لو كان هناك عملتان: الريالات، والدولارات، فلو قال له: بعتك بعشرة آلاف فيتفقان على القدر، ويختلفان في النوع، يقول: بعتنيها بعشرة آلاف، قال: نعم بعتك بعشرة آلاف، لكن دولارات، قال الآخر: بل ريالات، فالذي يدعي الأكثر: وهي الدولارات هو البائع، والذي يدعي الأقل هو المشتري.
ففي هذا النوع وهو خلاف الثمن، يتحالفان، والأصل في ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اختلف المتبايعان تحالفا) وهذا الحديث اختلف العلماء في سنده، ورجح غير واحد من مجموع الطرق أنه حسن قابل للاحتجاج والعمل به عند أهل العلم رحمهم الله، وقد فعل ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كما روى سعيد بن منصور: أن عبد الله بن مسعود باع إلى الأشعث بن قيس رضي الله عنهما رقيقاً، فقال الأشعث: بعتني بعشرة، قال عبد الله بن مسعود: بل بعتك بعشرين، فلما اختصما ولم يفصلا رده عبد الله رضي الله عنه إلى هذه السنة، فالسنة إذا اختلفا في قدر الثمن أن يرجعا إلى التحالف، وإن أمكن الفصل عن طريق البينة فذاك، لكن الإشكال ألا توجد بينة لأحدهما، أو توجد بينتان متعارضتان، ولا يمكن ترجيح إحداهما على الأخرى، فحينئذٍ يتحالفان، يحلف البائع ويحلف المشتري، ثم بعد ذلك يفسخ البيع بينهما، وإذا أحبا أن يعقدا عقداً جديداً، أو صفقة جديدة فذلك لهما.
قوله: [فيحلف البائع أولاً: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا] الحلف واليمين حجة في القضاء، وهذه الحجة تستعمل في مواضع، ولذلك جعلت أولاً لجانب المنكر، وفي الحديث: (فإن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)، فلو ادعى رجل على رجل مالاً، ولم يكن للمدعي بينة، فإنه يطالب المدعى عليه بالحلف.
والمدعي مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين فالمدعى عليه مطالب باليمين إذا عجز المدعي عن البينة، فاليمين حجة في حال الإنكار.
وكذلك أيضاً حجة في بعض المواضع التي خصها الشرع، مثل تقوية الشاهد، كقضائه صلى الله عليه وسلم بالشاهد مع اليمين، وهي حجة في دفع الحد عن الزوج والزوجة كما في اللعان فشهادة الرجل تكون أربعة أيمان بالله إنه لمن الصادقين، {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7 - 8] ثم تشهد الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، هذا كله رجوع إلى اليمين، كذلك القسامة حينما يوجد اللوث والعداوة بين المقتول وبين جماعة، ثم يدعي أولياء المقتول أنه قتله فلان من أعدائه فيحددون الشخص الذي يتهمونه بالقتل، ثم يحلفون خمسين يميناً، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية خيبر، حينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحلف خمسين يميناً لإثبات دعوى قتل يهود للصحابي رضي الله عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (تحلفون خمسين يميناً، فتستحقون دم صاحبكم) فإذا كانت حجة في الدماء وحجة في الإنكارات وحجة في الحقوق المالية فإنها كذلك حجة هنا، فيحلف البائع أولاً أنه ما باع بكذا، أي: الذي ادعاه المشتري، وإنما باع بكذا، وهو الذي يدعي أنه أمضى البيع أو أوجب البيع عليه.
فمثلاً: إذا اختلفا في عمارة قال البائع: بعتها بعشرين، وقال المشتري: بل اشتريتها بعشرة، فيحلف البائع أنه والله ما باعها بعشرة -إذا قال المشتري: إنها عشرة- وإنما باعها بعشرين، هذا بالنسبة ليمين البائع.
قوله رحمه الله: [ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا]: أي: فإذا انتهى البائع من الحلف، طولب المشتري بالحلف، فلا يخلو المشتري من حالتين: إما أن يتورع فيقول: ما دام أنه حلف اليمين فأنا أقبل اليمين، فحينئذٍ يلزمه ما حلف عليه البائع.
ويسمى هذا (نكولاً)، أي: إذا نكل وامتنع من الحلف، أو رضي اليمين من البائع، ثم أمضى البيع وحينئذٍ يلزمه الثمن الذي حدده البائع.
مثال ذلك: قال البائع: والله ما بعتها بعشرة، وإنما بعتها بعشرين، قيل للمشتري: احلف أنك اشتريت بعشرة، ولم تشتر بعشرين، فقال: لا أحلف.
فهذا نكول، فيقضي عليه القاضي بالنكول.
أو يقول: ما دام أن فلاناً قد حلف فقد رضيت يمينه، وهذه اليمين أنا أقبلها وأصدق بها، فحينئذ تلزمه العشرون.
وجملة: [ثم يحلف المشتري] دلت على أن حلف البائع يسبق حلف المشتري، فيبدأ أولاً البائع ثم يتبعه المشتري.
واليمين في البائع والمشتري تتضمن جملتين، جملة للنفي، وجملة للإثبات، فالبائع يثبت ما يدعي وينفي ما يدعيه المشتري، والمشتري بعكسه، فإذا كان الخلاف بين العشرة والعشرين، فالبائع يحلف أنه ما باع بعشرة أولاً، وإنما باع بعشرين، والمشتري يحلف أنه ما اشترى بعشرين، وإنما اشترى بعشرة، فإذاً: كلا اليمينين قائمة على نفي وإثبات، وإنما يجعل الإثبات بعد النفي؛ لأنه ينفي أولاً، حتى يثبت بعد ذلك ما يدعي، فيكون نفيه لما يدعيه خصمه موجباً لإثباته لما يدعيه بعد ذلك.
قال رحمه الله: [ولكلٍ الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر]: أي: لكل من البائع والمشتري حق فسخ البيع، إذا لم يرض بقول الآخر، فإذا حلف الاثنان ثم لما تحالفا لم يرض البائع بقول المشتري ولا المشتري بقول البائع، حينئذ يفسخان البيع.(158/3)
اختلاف المتبايعين بعد تلف السلعة
قال رحمه الله: [فإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها]: قوله: [فإن كانت السلعة تالفة] الفاء هنا للتفريع، إذا قلنا: إنهما يتحالفان فلا يخلو الحال أيضاً من صورتين: إما أن تكون السلعة موجودة.
مثال ذلك: لو أن رجلاً باع عمارة ثم اختلف مع المشتري في القيمة، والعمارة موجودة، فيحلف البائع ويحلف المشتري ونرد العمارة للبائع، والثمن المدفوع للمشتري.
لكن لو أن الخلاف وقع بعد التلف، وهذا كثيراً ما يقع في بيع الأطعمة، كأن يبيعه طعاماً ويكون الثمن إلى أجل، كأن يقول مثلاً: تدفع في نهاية الشهر أو بعد أسبوع أو أسبوعين، قال: رضيت، فذهب المشتري فأكل الطعام، أو تصرف فيه فتلف أو نفذ، ثم جاء يدفع العشرة التي في ظنه أن الاتفاق كان قائماً عليها، فلما أراد أن يدفع العشرة قال: ما بعتك بعشرة، وإنما بعتك بعشرين، فيختلفان، والسلعة مفقودة، وهو الذي عبر عنها المصنف بقوله: (تالفة) أي: إما استهلكت بالأكل، وإما تلفت حقيقة، وإما أنها لم تعد موجودة بأي وسيلة كانت.
فحينئذٍ يرد الإشكال: إذا حصل التحالف بين البائع والمشتري، والطعام قد أكل، كأن يكون علفاً للدواب أو طعاماً للناس، فهو لا يستطيع أن يرد الطعام ولا يستطيع أن يعيد العلف إلى حالته فيرده؛ والبيع قد فسخ، وإذا فسخ البيع وجب رد المبيع، والطعام لا يمكن رده في هذه الحالة، فحينئذٍ إن كانت السلعة تالفة، وجب ضمان قيمة السلعة، كما قال: [رجعا إلى قيمة مثلها] أي: لأن الضمان في المتلفات إما أن يكون بالعين إذا كانت موجودة، أو يكون بالمثل إذا كانت العين مفقودة، ثم بعد ذلك النظر إلى قيمة مثلها، فالطعام الذي استنفذ وأكلته البهائم أو أكله المشتري، ننظر إلى أوصافه، ثم نسأل في السوق عن قيمة المثل؛ لأن قيمة المثل يرجع فيها إلى السوق وأهل الخبرة، فيسأل أهل الخبرة هذا الطعام الذي صفته كذا وكذا، كم قيمته؟ فحينئذٍ يلزم بدفع قيمة المثل.
وعلى هذا: يكون المشتري مطالباً بدفع القيمة التي هي مثل الشيء المستهلك، سواء كان من الطعام أو من العلف أو غيره؛ لأنه إذا تلفت العين وجب ضمان قيمتها على الأصل الذي سبقت الإشارة إليه.(158/4)
حكم الاختلاف في صفة السلعة
قال رحمه الله: [فإن اختلفا في صفتها فقول مشترٍ]: انظر كيف يرتب المصنف الأفكار: فعندما تكون السلعة قائمة يجب الرد، وإذا تلفت السلعة وجبت القيمة، لكن إذا اتفقا على صفات الطعام، ثم من عادة الفقهاء رحمهم الله أنهم إذا أعطوا حكماً ذكروا ما يترتب عليه، وهذا من فضل الله عز وجل عليهم، وهذه الكتب ألفها علماء، وهؤلاء العلماء منهم من يؤلف بعد أن يتعلم ويعلم ويقضي ويفتي ويدرس، فهي حصيلة خبرة ومعرفة طويلة، وفي الأزمنة القديمة كان التأليف حجراً على العلماء الذين هم أهل التأليف؛ لأنه لو ألف من ليس بأهل كشف عواره، فكان لا يستطيع أحد أن يكتب متناً، أو يؤلف إلا بعد أن يكون أهلاً لذلك، فهو يذكر لك الأمور مرتبة؛ لأن خبرة القضاء والفتوى تكسب المرء مهارة في الترتيب.
والقسمة العقلية للترتيب هنا: إما أن يكون المبيع موجوداً، أو غير موجود.
فإن كان موجوداً ترادا.
وإن كان غير موجود ينظر إلى القيمة، لكن لو نظرنا إلى القيمة فقال البائع: الطعام من النوع الجيد، وقال المشتري: هو من النوع الرديء، فما الحكم؟ لأنهما إذا اتفقا على صفة فلا إشكال فلو قال: اشتريت منه حليباً من نوع كذا، وهذا الحليب الذي اشتراه منه قيمته في السوق عشرون ريالاً، فيلزمه أن يدفع العشرين، لكن لو ادعى البائع حليباً جيداً والمشتري حليباً أردأ منه أو أقل جودة، فما الحكم؟ فقال رحمه الله: [فإن اختلفا في صفتها فقول مشترٍ].
أي: إذا اختلفا في صفة السلعة، فقول مشترٍ، فالخلاف بين البائع والمشتري، فإن كان المشتري هو المدعي طولب بالبينة، ويكون القول قول البائع، وإن كان البائع هو المدعي فالقول قول المشتري، ويطالب البائع بالبينة.
فالآن مثلاً: إذا جاء اثنان واختلفا في صفة السلعة، فقال البائع: بعتك سيارة جيدة من نوع كذا وكذا، وقال المشتري: بل رديئة من نوع كذا وكذا، فالقول قول المشتري؛ لأنهم متفقون على أن ذمة المشتري ملزمة بقيمة الرديئة.
فمثلاً: السيارة الرديئة قيمتها عشرة آلاف، والسيارة الجيدة قيمتها خمسة عشر آلفاً، فإذا قال له: بعتك سيارةً بقيمة خمسة عشر ألفاً، وقال المشتري: اشتريت سيارة بقيمة عشرة آلاف، فعندنا يقين أن المشتري في ذمته عشرة آلاف؛ لأن الخمسة عشر ألفاً تتضمن العشرة آلاف، فنحن على يقين من العشرة آلاف، لكننا نشك في الزائد على العشرة آلاف وهي الخمسة الزائدة المختلف عليها.
فالقول قول المشتري؛ لأن البائع يدعي عليه أمراً زائداً، فنحن على يقين بالعشرة آلاف، وهو القدر الأقل، فيطالب البائع بالبينة على الزائد، وإلا فالقول قول المشتري؛ لأن اليقين في الأقل، والشك في الزائد، فيكون القول قول من يدعي الأقل، ومن يدعي الأكثر والزائد يطالب بالبينة والدليل على أن الأمر زائد على ما اتفقا عليه.
وهذا ما اختاره المصنف رحمه الله؛ وهناك من يقول: القول قول البائع، وهناك من يسقط القولين، ويرجع إلى قيمة المثل.
وبعض العلماء يختار الرجوع إلى السوق، فيقول: إذا قال المشتري: بعشرة آلاف، وقال البائع: بخمسة عشر، وجئنا نبحث في السوق ووجدنا أن السلعة تباع بعشرة آلاف، يقول: فإننا نجد السوق يشهد بصدق قول المشتري، وهذه يسمى (شهادة العرف)، فإذا كان السوق يشهد بقول المشتري، فحينئذٍ يصبح البائع مدعياً.
وإن كان العرف يشهد بقول البائع يكون المشتري مدعياً، ولذلك يقولون: شهادة العرف تجعل من شهدت له مدعىً عليه، ولذلك قال: فالمدعي من قوله مجرد من أصل او عرف بصدق يشهد فقوله: (من أصل او عرف بصدق يشهد) أي: أنه إذا جرى العرف ببيع مثل هذه السلعة بعشرة آلاف والبائع قال: بعتك بعشرة، فإنه حينئذٍ يكون العرف شاهداً لقول البائع، لكن هذا الضابط الذي ذكروه قد يقوى في مسائل القضاء، وقد يضعف هنا؛ لأنه غالباً ما يكون التبايع بين الطرفين فيه شيء من الرضا، فمع المكاسرة يخرجان عن العرف، وكثيراً ما يخرج البائع والمشتري عن العرف بسبب المزايدة والمكاسرة، فقد يشهد العرف بخمسة عشر، لكن المشتري كاسر إلى عشرة، فحينئذٍ لو اعتبرنا العرف شاهداً على هذا الوجه لكان مشكلاً.
وإنما قالوا: القول قول المشتري؛ لأن البائع يدعي عليه غرماً، والغارم دائماً يكون مدعىً عليه؛ لأنه متهم، فإن شئت أن تخرجها على أن اليقين عشرة آلاف والزائد محل شك، فهذا وجه لكي تجعل المشتري مدعى عليه.
وإن شئت فخرجها على أن المشتري غارم؛ لأنه مطالب بالزيادة، والقول قول الغارم؛ لأن الأصل براءته من المطالبة.
وإن شئت أن تجعلها من جهة كون الأصل واليقين بالعشرة والزائد فيه شك فيلغى الشك ويبقى على اليقين، فإنه وجه صحيح.(158/5)
معنى انفساخ العقد ظاهراً وباطناً
قال رحمه الله: [وإذا فسخ العقد انفسخ ظاهراً وباطناً]: أي: لو تحالفا وانفسخ العقد، هل ينفسخ ظاهراً وباطناً، أو ينفسخ ظاهراً لا باطناً؟ نحتاج إلى مقدمة لكي نفهم به قول العلماء رحمهم الله (الظاهر والباطن).
الخلاف الذي وقع بين البائع والمشتري يقع أمام القضاء، أو يقع في الفصل في الخصومة، وإذا وقعت الخصومة بين البائع والمشتري، فإنه إذا قضي بينهما فإنه يقضى على حسب الظاهر، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعةً من النار) أي: أن حكمي على الظاهر لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً.
وبناءً على ذلك: فإن الشهود إذا شهدوا عند القاضي أن هذه الأرض لفلان، وكانت شهادتهم شهادة زور، وقضى القاضي أن الأرض لفلان بهذه الشهادة المزورة التي لم يعلم القاضي بتزويرها، فإنه يحكم في الظاهر أنها لفلان، ولكن في الباطن ليست له.
وهكذا لو أن رجلاً قال لامرأته: أنتِ طالق، كان جالساً معها وكانت مقيدة، ثم قال لها: أنت طالق، يقصد أنها طالق من الحبل، هذا الذي في قرارة قلبه ونيته، فقالت له: أنت قلت: أنا طالق، فإذاً أطلق عليك، فرفعته إلى القضاء، فقال القاضي: هل قلت: أنت طالق؟ قال: نعم أنا قلت: أنت طالق وقصدت من حبل، فإن القاضي يقضي عليه بأنها طالق؛ لأنه لو فتح الباب لكل شخص يطلق امرأته يقول: أنا أقصد أنها طالق من حبل لوقع الفساد، فعلينا الظاهر والله يتولى السرائر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس).
لكن لو أن المرأة صدقته فيما بينهما وهما جالسان أنه قال: أنت طالق أي: من حبل، فلها أن تصدق على أنها طالق من حبل، لكن لو رفع إلى القضاء فالقاضي لا يحكم إلا على الظاهر: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكِلَ سرائرهم إلى الله).
وهكذا المدهوش، لو أن رجلاً من شدة الفرح جاءته امرأته بخبر فقال لها: أنت طالق، ثم قال: والله ما قصدت ولم أكن أعلم من شدة الفرح؛ لأنه في بعض الأحيان قد يسبق لسانه بشيء من قوة الصدمة فأراد أن يقول لها: أنت مباركة، أنت فيك خير، فقال لها: أنت طالق، فقال بعض العلماء: إن المدهوش لا ينفذ طلاقه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة: (لله أشد فرحاً بتوبة أحدكم من رجل ضلت ناقته وعليها طعامه وشرابه، فلما يئس منها استظل بشجرة فنام تحتها، ثم استيقظ فإذا هي قائمة على رأسه، فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) فقوله: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) هذه كلمة كفر لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخطأ من شدة الفرح) أي: بسببه فلو أن المدهوش أراد -مثلاً- أن يقول لامرأته: أنت طالعة، فقال: أنت طالقة، سبق لسانه، فكل هذه أمور ترجع إلى الظواهر، وهناك تفصيل: فالمرأة لو صدقت الرجل ووثقت به، فحينئذٍ لا إشكال، لكن لو رفعته إلى القضاء وسأله القاضي: هل قلت: أنت طالق؟ قال: نعم قلت: أنت طالق، لكني لم أقصد الطلاق، فالقاضي يمضي عليه الطلاق على الظاهر، ثم تبقى في حقيقة الأمر زوجته فيما بينه وبين الله، ولذلك يقولون: ينفذ الطلاق قضاءً ولا ينفذ ديانةً، أي: هي زوجته فيما بينه وبين الله، ولكنها في الظاهر مطلقة عليه، وسيأتينا إن شاء الله مزيد بيان في هذا في كتاب الطلاق، ونفصل في بعض هذه المسائل.
الشاهد: قضية الظاهر والباطن، فإذا حكم القاضي بحكم بناء على أدلة صحيحة، لا خطأ فيها ولا تزوير، فحينئذٍ ينفذ القضاء ظاهراً وباطناً، كرجل ملك داراً عن أبيه، ثم جاء رجل يخاصمه، فشهدت الشهود وهم عدول ثقات بأن الدار داره، وأثبت القاضي ذلك وحكم به، فإننا نقول: ينفذ قضاؤه ظاهراً وباطناً؛ لأن هذا الحكم موافق للحقيقة، وإذا كان الحكم موافقاً للحقيقة فإنه ينفذ ظاهراً وباطناً.
لكن المسألة التي معنا هنا: البائع والمشتري اختلفا، فإذا وقع الخلاف بين البائع والمشتري، فتارة يكونان بريئين من التهمة، فالبائع نسي بكم باع، لكن في غالب ظنه أنها عشرون، والمشتري في غالب ظنه أنها عشرة، فكل منهما لم يزور ولم يكذب، وهو في حقيقة نفسه مطمئن إلى أنه قال الحقيقة، ويجوز للمسلم أن يحلف على غالب ظنه، ولا يقال: كيف يحلف وهو لم يتحقق أنه باع بعشرين؟ نقول: يجوز إذا غلب على ظنك الشيء أن تحلف على غالب الظن، وهذا أصح أقوال العلماء.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للأنصار أن يحلفوا أيمان القسامة بناء على غلبة الظن فقال: (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟) وهذا لا يكون إلا بغلبة الظن أن فلاناً هو الذي فعل، فالحلف على غالب الظن مشروع، فإذا حلف البائع على غالب ظنه أنها بعشرين وحلف المشتري على غالب ظنه أنها بعشرة فلا إشكال.
لكن لو أن البائع علم أنه قد باع بعشرة، وكذب وفجر فحلف اليمين، وإذا كانت في القضاء فهي يمين غموس، وسميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في النار، ولو كان الشيء الذي يحلف عليه شيئاً يسيراً، -كما في الحديث- قال: (يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، قال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه، من حلف على يمين هو فيها كاذب ليقتطع مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان، قالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً، قال: وإن كان قضيباً من أراك) أي: ولو كان مسواكاً، نسأل الله السلامة والعافية! فهذه اليمين التي تسمى يمين الصبر، ويمين عند مقطع الخصوم فإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب فيرد الإشكال: لو حلف أنه باع بعشرين ثم حلف خصمه بأنه سيفسخ البيع، فسيأخذ السلعة ويبيعها مرة ثانية، فهل ينفسخ البيع في حقه ظاهراً وباطناً، أو ينفسخ ظاهراً لا باطناً؟ بالنسبة للمظلوم ينفسخ ظاهراً وباطناً، وبالنسبة للظالم ينفسخ له ظاهراً ولا ينفسخ له باطناً وهو آثم، هذا وجه إدخال قوله: (انفسخ ظاهراً وباطناً).
فمثلاً إذا باعه عمارة بعشرين ألفاً، فتم البيع وانتقلت العمارة إلى ملك المشتري، فحكم الشرع حينئذٍ أن العمارة لزيد الذي اشترى، فلو جاء بعد مدة البائع وادعى أنه باع بثلاثين، وحلف عند القاضي أنه باع بثلاثين وحلف المشتري أنه اشترى بعشرين، فالحلف والأيمان من البائع وقعت على ملك الغير، وحينئذٍ إذا فسخ البيع فكأنه يسترد مالاً ليس من حقه، فحينئذٍ بالنسبة للظالم ينفسخ له ظاهراً ولا ينفسخ باطناً، ويبقى في ذمته، ويبقى آثماً غاصباً لا تبرأ ذمته إلا بتحلله من صاحب الحق.
فإذاً بالنسبة للمظلوم ينفسخ له ظاهراً وباطناً، وإذا طلب المشتري وقال: لا أريد وفسخ، فهذا لا إشكال، وحينئذٍ ينفسخ ظاهراً وباطناً، لكن إذا وقع بينهما التحالف ووقع الاحتيال فالذي اختاره جمع من العلماء، كما في "الشرح الكبير" أنه ينفسخ للظالم ظاهراً ولا ينفسخ له باطناً، وهو الصحيح.(158/6)
حكم الاختلاف في الأجل والشرط
قال رحمه الله: [وإن اختلفا في أجل أو شرط فقول من ينفيه]: هذه الحالة الثانية من الخلاف: وهي أن يقع الخلاف في صفة العقد، يقول البائع: بعتك بعشرين ألفاً نقداً، ويقول المشتري: اشتريت منك بعشرين ألفاً ولكن إلى نهاية السنة، فيدعي المشتري أنها مؤجلة، والبائع يقول: نقداً، فاختلفا في تعجيل الثمن وتأجيله.
فهذا اختلاف في إثبات الأجل ونفيه.
وتارة يكون الاختلاف بطول الأجل وقصره، فيقول البائع: بعتك بعشرين ألفاً إلى نهاية هذه السنة، فيقول المشتري: بل اشتريت بعشرين ألفاً إلى نهاية السنة القادمة أو السنة التي بعدها، فحينئذ إما أن يقع الخلاف في التعجيل والتأجيل من حيث الأصل إثباتاً ونفياً، أو يتفقا على التأجيل ولكن يختلفان في أمد التأجيل، فحينئذٍ كيف يفصل بينهما؟ هل نقول: القول قول البائع؛ لأنه هو الذي باع السلعة وبذلها وهو أدرى بما بذل، ولا بد أن نجد الرضا منه حتى يصح البيع؟ أم نقول: القول قول المشتري؟ أم نفصل؟
و
الجواب
التفصيل: فإذا اختلفا في التعجيل والتأجيل فالقول قول من ينفي التأجيل؛ لأن الأصل في البيع التعجيل، والتأجيل خلاف الأصل فالقول قول من ينفيه.
ومعنى قول العلماء: القول قول فلان بمعنى أنه مدعىً عليه، فإذا عرفت أن هناك مدعياً ومدعى عليه، فالقول قول المدعى عليه، ويُطالب المدعي بالبينة.
فالعلماء حينما يذكرون الخلاف بين البائع والمشتري لا بد أن يقرروا أولاً من المظلوم فهو المدعى عليه، فيقولون: القول قول المشتري، أو قول البائع، أو قول من ينفيه، فإذا قال له: بعتك معجلاً، فقال: بل مؤجلاً، فالبائع ينفي الأجل، والمشتري يثبته، فنقول: القول قول البائع أنها معجلة، حتى يثبت المشتري أنها مؤجلة، وهذا بالنسبة للتأجيل والتعجيل.
كذلك أيضاً حينما يختلفان في شرط، فقال له: بعتك هذه العمارة بعشرين ألفاً، فقال: اشتريتها منك بعشرين ألفاً بشرط أن يكون فيها -مثلاً- الماء، أو بشرط أن يكون فيها الكهرباء، أو أن يكون فيها منافع معينة اشترطها، فقال البائع: لم تشترط عليّ هذا الشيء.
فالشرط يدعيه المشتري وينفيه البائع، فالقول قول البائع حتى يثبت المشتري بالبينة أنه قد اشترى على وجه متضمناً الشرط، هذا معنى قوله: (فالقول قول من ينفيه).
والقاعدة عندنا: وقيل من يقول قد كان ادعى ومن يكن لمن عليه يدعى فالذي يقول: حدث كذا، فإنه المعني بقول الناظم: (قد كان ادعى) فهو (مدعٍ)، والذي يقول: لم يكن (مدعى عليه) هذا الأصل.
لكن في هذه الحالة اختلفت صورة الأصل، فإنه في مسألتنا حينما يقول: بعتك مؤجلاً، فالأصل المعجل، وقبلنا قول من يقول بالتعجيل؛ لأن الأصل يشهد به، والأصل أن يبيع البائع نقداً، ودعوى الأجل خلاف الأصل، فحينئذٍ نطالب من يدعي الأجل بالدليل والبينة.
فمن يقول -مثلاً-: هذا العبد اشترطت أن يكون كاتباً، نقول: هذه صفة زائدة فائت بالبينة؛ لأن الأصل أن البيع وقع على هذه الحالة الموجودة عليها الصفقة، فإذا ادعيت أمراً زائداً فعليك البينة وعليك الدليل(158/7)
الأسئلة(158/8)
الكفارة في الحلف على غالب الظن
السؤال
من حلف على غالب ظنه ثم تبين له خطؤه، فهل عليه كفارة، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: من حلف على غالب ظنه ثم تبين له خلاف ما حلف عليه، فإنه ينبغي عليه أن يرد الحق إلى صاحبه.
وأما لتكفير هذه اليمين فمذهب طائفة من العلماء أن الحلف على غالب الظن لا يوجب الكفارة وأنه يكون في حكم لغو اليمين، ومن أمثلة ذلك قالوا: أن يرى رجلاً من بعيد، يظنه فلاناً من الناس، فيقول: والله إنه لفلان، ثم يتبين أنه ليس بفلان قالوا: لا كفارة عليه، ويعتبر هذا من لغو اليمين، والله تعالى أعلم.(158/9)
حكم رد السلعة بعد بيعها إذا انتهت صلاحيتها
السؤال
أنا صاحب متجر ويأتيني تجار بعض السلع، فإذا انتهت صلاحيتها استبدلوها بغيرها، فهل هذا من بيع التصريف، أثابكم الله؟
الجواب
إذا اشترى أحد منك سلعة، وتم البيع وانقطع خيار المجلس، فإن البيع يلزمه ويلزمك، بعد هذا لو رد إليك السلعة بعد انتهاء الصلاحية ولم يكن هذا بشرط بينكما، فجاء وقال: انتهت صلاحية السلعة، فأرجوك أن تردها لي، والتمس منك أن تردها له، فإن رضيت وكان بطيب نفس منك أن توسع عليه، وأن تقيله من البيع، فإنك تؤجر، وهذا جائز ويعتبر في حكم الإقالة، وهي مستحبة عند العلماء رحمهم الله، ويثاب البائع إذا أقال المشتري لما فيه من تنفيس كربة المسلم.
وأما لو رفضت وقلت له: لا أردها فإنه من حقك.
والسبب في هذا: أن الله عز وجل عدل بين البائع والمشتري، فإذا اشترى منك السلعة فإنه يتحمل المسئولية، فلو أن هذه السلعة بعد أن اشتراها منك أصبحت قيمتها ثلاثة أضعاف لم يأتِ إليك ولم يردها، ومن حقه أن يتمتع بهذه المنفعة وبهذا الربح والزيادة، فكما أنه يغنم فإنه يغرم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) فكما أنه يأخذ الربح ولا تستطيع أن تنتزع منه الربح بعد مضي العقد، كذلك ليس من حقه أن يسقط عليك الكسر، إلا إذا رضيت؛ لأنه لا يعقل أن يأخذ الربح ويجعل الخسارة على البائع فهذا ظلم، لكن لو طابت نفس البائع بذلك فإنه لا بأس به، وهو من إقالة النادم.
لكن لو وقع ذلك بالشرط فإنه من بيع التصريف المحرم، والله تعالى أعلم.(158/10)
النكول في اليمين وما يترتب عليه
السؤال
ما هو النكول؟ وماذا يترتب عليه، أثابكم الله؟
الجواب
النكول: الرجوع، نكل عن اليمين إذا رجع عنها أو امتنع منها، فمثلاً: لو جاء رجل وقال: فلان استدان مني ألف ريال، فقال القاضي للخصم: هل استدنت منه ألف ريال؟ أو ماذا تقول فيما يدعيه عليك؟ قال: لم أستدن منه ألف ريال، فحينئذٍ يقول القاضي للمدعي: هل لك بينة؟ هل لك دليل على أنك أعطيته الألف؟ عندك شهود قال: ليس عندي شهود، وليس عندي بينة، يقول القاضي: ليس لك إلا يمينه، فإذا قال: ليس لك إلا يمينه، يحلف الخصم، أنه والله ما أخذ ألفاً، فإذا قيل له: احلف أنك ما أخذت ألفاً، فإما أن يحلف فيبرأ ولا إشكال، وإما أن يمتنع، ويقول: لا، لا أحلف.
فإذا قال: لا أحلف فحينئذٍ يكون قد نكل، ويقع النكول في الأيمان المخصوصة كأيمان اللعان، فلو أن رجلاً أدعى أنه رأى امرأته تزني وليس عنده شهود فإنه يرفعها إلى القاضي، بناءً على مسألة اللعان، كما حدث لـ عويمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: (يا رسول الله! إني أتيت أهلي عشاء فوجدت رجلاً) وفي حديث أيضاً هلال بن أمية حينما قذف امرأته بـ شريك بن سحماء، قال: (يا رسول الله! إني أتيت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلاً والله لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه قد أنزل فيك وفي صاحبتك القرآن فاذهب فأتِ بها، فجاء بها، فأمر بالحلف، فحلف الأيمان، ثم حلفت هي أيضاً الأيمان)، والسنة في اللعان أن يبدأ الرجل، فيحلف أربع شهادات بالله، فإما أن يحلف أنها زانية -والعياذ بالله- أو يحلف على أن هذا الولد ليس بولده، يقولون: نفي الحمل، ويشير إليه أن هذا الولد الذي في بطنها ليس بولده، أو ليس مني، أو يحلف على مجموع الأمرين: أنها زانية، وأن هذا الولد ليس مني، فإذا حلف وبلغ عند الخامسة يوقفه القاضي.
إذاً يحلف أربع أيمان، يقول: والله أنها زنت، فإذا حلف أربع أيمان وجاء عند الخامسة، يوقفه القاضي، ويقول له: اتق الله، إنها الموجبة، ومعنى الموجبة أي: أنها توجب لعنة الله عليه؛ لأن الله يقول: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] فإذا وصل إلى الخامسة هدده القاضي وذكره بالله، وخوفه فإذا نكل حينئذٍ يجلد حد القذف.
فالنكول -أي: أثره- ينبني عليه جلد حد القذف في اللعان، ولو أن الرجل حلف الأيمان وأتمها ثم ثني بالمرأة قيل لها: احلفي، قالت: ما أحلف، فحينئذٍ ترجم؛ لأنها نكلت عن اليمين وكأن كل يمين من الرجل مقام شاهد،: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:8] حتى تدفع الأربع التي شهد، فإذا نكلت عن اليمين وامتنعت فحينئذٍ يقضى برجمها، فإذا جاءت عند الخامسة التي هي -نسأل الله العافية- الموجبة، يوقفها القاضي ويقول لها: اتقي الله إنها الموجبة، أي: أنها توجب غضب الله عليكِ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة) أي: أن تنال الحد في الدنيا أهون من عذاب الآخرة -نسأل الله السلامة والعافية- وأن تفضحي في الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، (فكادت تعترف المرأة -كما في حديث هلال بن أمية - ثم قالت -نسأل الله السلامة والعافية-: لا أفضح قومي سائر اليوم، فحلفت)، الذي هي الخامسة والأخيرة).
فالنكول عن اليمين يوجب الحكم، والقضاء على ذلك، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالنكول، وسيأتي إن شاء الله مزيد بيان في هذه المسألة، وذكر خلاف العلماء فيها في كتاب القضاء، والله تعالى أعلم.(158/11)
قبول أيمان الكفار وكيفيتها
السؤال
عند التبايع مع الكفار، هل يطلب منهم الحلف وذلك عند الخلاف، أثابكم الله؟
الجواب
اليمين من الكافر تقبل؛ لكن الكفار يكون لهم ضوابط في يمينهم، لذلك تعتبر اليمين من حيث الأصل مقبولة من المسلم والكافر، والكفار يعظمون الله عز وجل بالنسبة لمن لهم دين سماوي، فيحلفون كما في قضية شهادة الوصية على السفر، فإنها تقبل شهادتهم فيها، والشهادة أعظم من اليمين، ولذلك يُحَلّف إذا كان ممن له دين سماوي يعظم الله عز وجل، ولا يحلف بغير الله عز وجل، فلا يجوز تحليف النصراني بعيسى، ولا يجوز تحليف اليهودي بموسى، إنما يحلَّف بالله، وقد قضى بذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، في القصة المشهورة حينما كان بالشام، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(158/12)
شرح زاد المستقنع - باب الخيار [8]
شرع الله عز وجل الخيار لما فيه من دفع الضرر عن المسلمين، ومن ذلك أنه إذا اختلف العاقدان في عين المبيع، فإنهما يتحالفان ويترادان، ولكن قد يأبى كل من الخصمين أن يرد ما بيده، أو يكون الثمن غير حاضر في المجلس، أو يكون غائماً عن البلد، وغير ذلك.
والفقهاء رحمهم الله قد فصلوا أحكام ذلك، وافترضوا خصومات وخلافات بين المتعاقدين، فاستخرجوا لها أحكاماً شرعية تحفظ الحقوق، وتنصف المظلوم.
وهذه الأحكام ينبغي على المسلم أن يتعلمها حتى يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات، وكيف يتعامل المعاملة الصحيحة المطابقة للشرع.(159/1)
الاختلاف في المبيع وصوره
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(159/2)
الاختلاف في عين المبيع
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن اختلفا في عين المبيع تحالفا وبطل البيع]: كان حديثنا في المجالس الماضية عن الأحكام المتعلقة بالخيار، وهذه الجملة التي بين فيها المصنف رحمه الله اختلافَ كل من البائع والمشتري، في عين المبيع، تعتبر من مسائل الخيار.
ووجه دخولها في الخيار: أنك إذا قلت: اشتريتُ منك سلعة كذا، وقال البائع: بل اشتريتَ مني سلعة كذا؛ فإنه إذا اختلف المتبايعان في عين المبيع، فلا وجه لأن نُلْزِم البائع بأن يبذل شيئاً لم يقصده، ولا وجه أن نُلْزِم المشتري بأخذ شيءٍ لم يقصده.
وحينئذٍ يكون الحكم كالآتي: أولاً: عندنا اختلاف في عين المبيع.
ثانيا: ً عندنا التحالف.
ثالثاً: عندنا الحكم بالفسخ، والتراد.
فأما مسألة الاختلاف في عين المبيع كأن يقول البائع: بعتُك شيئاً وتقول: بل اشتريتُ شيئاً آخر، فلا تخلو هذه المسألة من صور: الصورة الأولى: أن يتفقا على الجنس ويختلفا في النوع.
الصورة الثانية: أن يتفقا على النوع ويختلفا في العين.
الصورة الثالثة: أن يختلفا في الجنس.
مثال الصورة التي يختلف فيها الجنس: أن يقول البائع: بعتك سيارة، فهذا من المنقولات والمعدودات، ويقول المشتري: بل اشتريت طعاماً.
ومن المعلوم أن جنس السيارات غير جنس الطعام، فاختلفا في جنسين غير متفقين.
كذلك أيضاً ربما قال: بعتك عقاراً، وتقول: بل بعتني منقولاً، كأن يقول: بعتك أرضاً، وتقول: بل اشتريت سيارة، فهذا من الاختلاف في جنس المبيع.
مثال الصورة التي يتفقا على الجنس ويختلفا في النوع، يكون -مثلاً- جنس البهائم، يختلفا في نوعه، فالبهيمة عندنا الإبل والبقر والغنم، فيقول: بعتني ناقة، ويقول: بل بعتك شاة، أو يقول: بعتني بقرة، فيقول: بل بعتك شاة، فيختلفا في نوع الجنس.
وتارةً يتفقا على الجنس والنوع، فالجنس بهيمة، والنوع من الشياه، ويختلفا في تعيين الفرد من أفراد هذا النوع، فيقول: بعتني هذه الشاة، فيقول: بل بعتك تلك الشاة، فالجنس واحد، والنوع واحد، ولكن الخلاف في تحديد المراد أو عين المبيع.
وربما يقع في العقار، فيتفقان في جنس العقارات يقول: بعتني الأرض التي رقمها مائة، ويقول: بل بعتك الأرض التي رقمها مائتان أو رقمها مائة وعشرة في المخطط، فهذا كله من الأمثلة القديمة والحديثة في ألا يتفقا على عين المبيع.
وصورة المسألة تعود على أنهما لا يتفقان على شيء معين أنهما تبايعا عليه.
أيضاً: إذا اختلفا إما أن يختلفا في ثمن المنقود المدفوع، فيستلم مثلاً البائع المال، ثم يأتي بالسلعة فيقول المشتري: هذه السلعة لم أتفق عليها معك.
فقد حصل القبض بالثمن، وتعين الثمن.
وتارة يقول له: هذه أرض في المخطط الفلاني في المكان الفلاني بمائة ألف، قال: قبلت، وتم البيع وأوجبا، ثم اختلفا، هل هي الرقم هذا، أو الرقم ذاك؟ فإذاً: عندنا اختلاف في عين المبيع مع اتحاد الأجناس، وعندنا اختلاف الأنواع مع اختلاف الأجناس وعندنا اتحاد الأجناس والأنواع مع الاختلاف في تحديد العين والذات.
هذه كلها تدخل في مسألة اختلاف المتبايعين، فإذا عرفنا صورة الخلاف، فنقول: ثانياً: ما الحكم؟
الجواب
إن رضي أحدهما بقول الآخر، فلا إشكال، مثل: قال له: بعتك أرضاً، قال: بل بعتني سيارة، أو قال: بعتك مزرعتي قال: بل دفعت لك مائة ألف لقاء سيارتك هذه، قال: إذاً خذ السيارة بمائة ألف، أي: فما دمت لا تريد الأرض فخذ السيارة بمائة ألف، إذاً: فلا خلاف، وإذا اتفقا وارتفع الخلاف، فالحكم أنه يثبت البيع على ما اتفقا عليه.
وأما إذا لم يتفقا، فيقول: اشتريت منك السيارة، فيقول: بل بعتك المزرعة، قال: إما أن تعطيني سيارتك على ما اتفقنا عليه، وأدين الله أنك تبايعت معي عليه، وإلا فأعطني مالي.
فيصر المشتري على قوله، ويصر البائع على قوله، فحينئذٍ يلجأ إلى القاضي، ويلجأ إلى المفتي الفقيه، ويلجأ إلى الحكم الذي ينصب بين الطرفين لحل الاختلافات.(159/3)
الحكم المترتب على الاختلاف في عين المبيع
قال رحمه الله: (تحالفا) أي: حلف البائع: والله ما بعتك أرضي أو مزرعتي الفلانية، وإنما بعتك سيارتي الفلانية، فيحلف على النفي والإثبات؛ لأن الطرفين متفقان على وجود بيع، ولكن الخلاف في تحديد المبيع.
فإذاً: لا بد أن يحلف على إثبات شيء ونفي ما أثبته خصمه، والخصم يحلف على نفي ما أثبته البائع، وإثبات ما يدعيه هو.
فيبدأ البائع ثم المشتري، على خلاف بين العلماء رحمهم الله.
وبعد التحالف يقع عندنا الآتي: إذا حلف البائع وحلف المشتري، كل منهما حلف على النفي والإثبات تعارضت البينتان، فلا تستطيع أن تلزمني أنا المشتري، بما حلفت عليه، ولا أستطيع أن ألزمك بما حلفت، فإذاً يمينك تسقط يميني، ويميني تسقط يمينك، ودعواك تسقط دعواي، وكلا القولين يسقط، فنرجع إلى الأصل فنرد لكل ذي حق حقه، هذا بالنسبة لصورة المسألة.
إذاً: حينما حصل عندنا ثلاثة أمور: أولاً: أن يقع الخلاف بين الطرفين فلا يتفقان، بجميع الصور التي ذكرناها.
ثانياً: الحكم أنهما يتحالفان بالنفي والإثبات على الترتيب الذي ذكرناه، يحلف البائع لأنه يلزم المشتري، ثم بعد ذلك المشتري يحلف بالنفي والإثبات.
فإذا حلف البائع والمشتري جاءت المرحلة الثالثة وهي الحكم بفسخ البيع، ثم يترتب على ذلك الأمر الرابع، وهو رد المبيع ثمناً ومثمناً.
إذاً: عندنا الشيء الأول: وقوع الخلاف وهو أن يختلفا في عين المبيع، وقد يختلفا في قدر الثمن وصنفه، فهذا نوع ذكرناه وبيناه؛ لكن الخلاف هنا في عين المبيع، فكأن المسألة هنا أصعب؛ لأنك تثبت بيعاً، لا يسلم خصمك به، فأولاً: يقع الخلاف.
ثانياً: يتحالفان.
ثالثاً: إذا حلف البائع أو حلف المشتري حكمنا بانفساخ البيع، فلا يثبت بيع هذا، ولا يثبت بيع هذا.
رابعاً: يترادان، فهذه أربعة أمور لا بد من ضبطها.
فإذاً: وقوع الاختلاف بصوره التي ذكرناها، ثم يتحالفان إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، وهذا الحلف -كما سبق وأن بيناه- يسمى يمين التهم، ثم يحكم بفسخ البيع، ثم يترادان.
وهذا من عدل الله بين عباده، فإن فسخ البيع بينهما عدل بين قول البائع والمشتري، ثم لماذا نحكم بفسخ البيع؟ لأنك إذا قلت: إن البيع منفسخ يترتب عليه آثار، فالسلعة بنتاجها وما عليها تعود إلى البائع، والثمن يعود بكامله إلى المشتري، فلا يثبت بيع على هذا لقول هذا، ولا العكس.
قال رحمه الله: [تحالفا، وبطل البيع]: أي: تحالف الطرفان، وهذا سبق وسماه العلماء يمين التهم، ويمين التهم لها أصل في آية الشهادة على الوصية في السفر.
[وبطل البيع]: هذا هو الحكم الثالث.(159/4)
إذا اختلفا في عين المبيع ورفضا تسليم ما في أيديهما والثمن عين
قال رحمه الله: [وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض، والثمن عين، نصب عدل يقبض منهما ويسلم المبيع ثم الثمن]: قوله: (وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده) أي: إذا اختلفا في عين المبيع تحالفا، وحكمنا بفسخ البيع، وبقي وجوب رد الثمن والمثمن، وإذا حكمت بوجوب رد الثمن والمثمن، لا يخلو المتعاقدان من حالتين: الحالة الأولى: أن يتفقا وتكون مسألة رد الثمن والمثمن سهلة ويسيرة ويتراضيان ويرد كل منهما للآخر، بأن يثق كل منهما بالآخر، يقول: يا فلان أعطني مالي، وقال الآخر: إذاً أعطني ساعتي أو قلمي.
إلخ، فيترادان، فلا إشكال في هذا.
لكن المشكلة في بعض الأشياء المبيعة التي يقع عليها التنازع، ولا يثق أحد الطرفين بالآخر، وقد يثق لكن يخشى جريان الحكم بالفلس، فلا يتصور الطالب أن مسائل الفقه تقف عند الريال والريالين، بل قد تصل إلى ملايين، فالشريعة كما أنها تحتاط للملايين تحتاط للريال الواحد.
فهي تريد أن تعطي كل ذي حق حقه، فلو جئنا إلى مسألة رد الثمن والمثمن، فالثمن قد يكون مبالغ طائلة، قد يتفقان على بيع أرض في مخطط، قيمتها مليون ريال، فيستلم البائع المليون، ثم ينقله إلى أرض أخرى، ويدعي أنه باعه أرضاً أخرى، فإذاً المبلغ ليس باليسير.
ففي هذه الحالة، لو تأخرت يوماً واحداً ربما حكم بالحجر على صاحبك الذي تتعامل معه، فتكون أسوة الغرماء.
فالأمر ليس بالسهل، في مسألة رد الحقوق، وخاصة في القديم لما كان الناس يتشددون في الأحكام، وكانوا يسألون عن كل مسألة صغيرة وكبيرة في المعاملات، يقف الأمر على رد الحقوق لأصحابها في الأعيان، وفي الذمم.
ونحن سبق وأن ذكرنا أن المبيعات إما أن تكون عيناً، وإما أن تكون في الذمة، وقلنا: العين أن تقول: بعتك هذا القلم، بهذه المائة، فهذا باع عيناً بعين.
فإذا قلت: بعتك هذا القلم بمائة، صار البيع عيناً بذمة.
وإذا قال له: بقلم من نوع كذا، فمعناه أنه موصوف في الذمة، والتزم في ذمته أن يدفع قلماً موصوفاً بهذه الصفات.
وهكذا لو قال: بعتك هذا القلم بعشرة، فإذا قال: بعشرة، فهو موصوف في الذمة، لكن إذا قال: بهذه العشرة صارت معينة.
أي أنه إذا قال لك: بعتك هذا القلم بهذه العشرة، فمعناه أن الحق تعلق بالعشرة بعينها.
وانظر إلى عدل الشريعة، ودقة الفقهاء رحمهم الله، حتى في الثمن الذي دفعه، إذا كان عيناً لا بد أن ترد نفس العشرة، إن كانت برأسها برأسها وإن كانت كما يقول العلماء: (تفاريق) رد (التفاريق) وإن كانت جملة ردها جملة، فهنا -مثلاً- لو أنه قال له: بعتك، واختلفا في عين المبيع، فأردنا أن نعطي البائع المثمن، ونعطي المشتري الثمن، فلا يخلو المتعاقدان من حالتين: الحالة الأولى: أن يتفقا ويرد كل منهما للآخر وقلنا: لا إشكال في هذه المسألة وهي أن يرد لكل منهما حقه.
الحالة الثانية: أن يصر أحدهم فيقول: ادفع أولاً، فيقول الآخر: بل أنت ادفع لي أولاً، أو قال: أنا لا أعطيه ولا أثق في فلان بعد أن دلس عليّ في بيعي، فيتهمه بالخيانة، والآخر أيضاً يتهم المشتري بالخيانة فلا يثق كل منهما بالآخر.
فمن دقة الفقهاء أن ذكروا هذه المسألة، فقالوا: ينصب عدل، وتنصيب العدل أن يختار القاضي أو يختاران رجلاً عدلاً؛ فهذا الرجل يقف بينهما وينصف كلاً منهما من الآخر، فيأخذ من البائع ويأخذ من المشتري.
لكن هنا مسألة مهمة وهي مسألة الثمن، قال المصنف: [والثمن عين] أي: فهناك فرق بين كون الثمن عيناً وبين كون الثمن موصوفاً في الذمة.
فمثال كون الثمن عيناً: قوله: بهذه المائة، بهذه العشرة، بهذه الألف، بهذه الخمسمائة، فالثمن عيناً هنا عين، فيجب رده بعينه.
فحينئذٍ عندنا مسألة دقيقة وهي مسألة الاستحقاق في العين والذمة، وهي مسألة تحتاج إلى مدخل لكي يتصور طالب العلم، لماذا نص المصنف على مسألة (عين)؛ لأن هذه الكلمة من ورائها مغزى فقهي، وهو أن الحقوق التي في الذمة أخف من الحقوق المعينة، بدليل أنك لو جئت بمثال للقلم أو ببديل عن القلم في الحقوق المعينة، لم يجز حتى تعلم القلم بعينه، لو قال: أبيعك هذا القلم، وتفاسختما وجب عليك أن ترد عين القلم، ولا ترد مثله.
ولو باعك كتاباً بعينه وجب رد عين الكتاب.
وقد ذكرنا هذه المسألة حينما ذكرنا صور البيع: العين بالعين، والذمة بالذمة، والعين بالذمة.
لكن الذي نحب أن ننبه عليه هنا مسألة الاستحقاق في العين والذمة، وعندنا حديث يحتاج أن نتأمله وننظر إلى معانيه والأحكام والمسائل الموجودة فيه، والحديث ثابت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره) نريد أن نصور هذا الحديث حتى نعرف لماذا استنبط العلماء هذا الحكم الدقيق، وهو أن الحقوق العينية مقدمة على الحقوق في الذمم.
الحديث يقول: (من وجد متاعه بعينه) مثاله: عندنا رجل تاجر دخل في تجارته بمليون، ثم انتكست تجارته، وخسر، فأصبحت التجارة الموجودة عنده بنصف مليون، فمعناه أن ديونه أكثر من رأس ماله، وإذا زادت الديون على رأس مال التاجر واشتكاه غرماؤه وهم أصحاب الحقوق، حكم القاضي بالحجر عليه، وهذا ما يسمى بالحجر على المفلس.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قضى بالحجر على المفلس كما في حديث معاذ رضي الله عنه، الذي أصله من حيث الإجمال متفق عليه.
فلو فرضنا أن النصف المليون الموجودة عنده تقوم على شيئين اثنين: عمارة قيمتها مائتان وخمسون ألفاً، وسيولة أو تجارات أخرى قيمتها مائتان وخمسون ألفاً، لكن العمارة أخذها منك، والعمارة اشتراها منك، فهذا المفلس إذا كان دينه مليوناً، والذين يسألون الدين أربعة أشخاص لكل شخص ربع مليون، فالأربعة الأشخاص يستحقون النصف مليون الموجودة، فمن حيث القسمة الشرعية تقسم النصف مليون الموجودة على أربعة أقسام، ويعطى كل غريم قدر حصته من الدين الأساسي، فالذي له نصف الدين يأخذ ربع المليون، والذي له الثمن يأخذ الثمن، والذي له الثمن الآخر يأخذ الثمن الباقي.
إذاً: إذا عرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالحجر على المفلس، وأنه يجب عليه رد الحقوق إلى الغرماء، وبين أن من كان له عين المتاع، كصاحب العمارة فإنه يأخذ العمارة بعينها، ويلاحظ أنه إذا أخذ العمارة كان أفضل له من أن يدخل شريكاً للغرماء الباقين، فانظر كيف فضل النبي صلى الله عليه وسلم من كان له حق عيني على من له حق في الذمة.
ومن هنا نص العلماء على هذا، وذكروا أن مسألة الحقوق العينية مقدمة على الحقوق في الذمة، فعرفنا لماذا قال المصنف: [والثمن عين]؛ لأنه إذا كان الثمن عيناً، قابل المعين من المبيعات، وحينئذٍ لا بد أن يقبض العيني حتى يقبض ما يقابله من المبيع ويدفع لكل حقه.
وبهذا تقرر أن الحقوق العينية مستحقة ومقدمة على التي في الذمة، فإذا كان الثمن عيناً، والمثمن المبيع مختصاً فيه ولم يتعين، هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا.
فإذا حكمنا بالرد؛ فإنه يرد
السؤال
أننا لو نصبنا رجلاً عدلاً يأخذ من الطرفين، فكيف يكون العدل بين الخصمين؟ بحث العلماء مسألة كيف يأخذ العدل؟ قالوا: يأخذ من الطرفين معاً؛ لأن الحقوق متساوية، وهذا اختاره غير واحد من أصحاب الإمام أحمد كـ ابن حمدان، كما أشار إليه البعلي رحمه الله في المبدع، أنه يأخذ منهما معاً من باب العدل بين الطرفين.
قوله: [نصب عدل يقبض منهما، ويسلم المبيع ثم الثمن]: فالعدل ينصبه القاضي؛ لأنهما إذا اختلفا في عين المبيع، وأردنا أن نحكم بالفسخ، فلا بد أن نرد لكل ذي حق حقه، فإذا اختلفا، فقال كل منهما: لا أرد فلا بد للقاضي أن يفصل، والقاضي لو جاء بنفسه يستلم من هذا ويعطي هذا، نكون قد أشغلنا القاضي عن قضاياه وأشغلناه عما هو أهم، وأشغلناه عن أمر يمكن للغير أن يقوم به، فينصب القاضي العدل؛ لأن هناك أشياء لا يمكن إحضارها إلى مجلس القضاء، فإنهم إذا اختلفوا في ثمن في بيوع المقايظة فدفع أحدهما للآخر -مثلاً- طناً من نحاس والآخر دفع له طناً من حديد، فيصعب أن يحضرونها إلى مجلس القاضي، أو يذهب القاضي ويخرج معهما لكي يسلم لهذا حقه وهذا حقه.
فلذلك قال العلماء: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فالواجب العدل بين الخصمين، ولا يتأتى للقاضي أن يخرج بنفسه في غالب الأحوال لانشغاله بما هو أهم، فحينئذٍ ينصب العدل، فهذا وجه ما نص عليه العلماء رحمهم الله من تنصيب العدل، فهو من القاعدة المعروفة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما وجب العدل بينهما، بالقبض منهما معا، ً وتسليمهما إبراءً للذمة، وجب تنصيب العدل من هذا الوجه.(159/5)
إذا اختلف المتبايعان والثمن موجود في المجلس
قال رحمه الله: [وإن كان ديناً حالاً أجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس]: [وإن كان ديناً حالاً، أجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس] في بعض الأحيان يتعامل الطرفان بالدين الحال الذي هو الموصوف في الذمة، يقول: أشتريها منك بمائة ألف، فهذا بيع ذمة.
فإذا كان الثمن موصوفاً في الذمة، فهل تساوى الطرفان من حيث الحق والعين أو تفاوتا؟
الجواب
تفاوتا، فبعض العلماء يرى أن الدنانير والدراهم والنقود تتعين بالتعيين، وهذه مسألة قد تأتي في الصرف إن شاء الله.
فعلى هذا الوجه لو قلنا إن الدين حال، بمعنى أنه أعطاه في المجلس، فهو موجود عند البائع في المجلس [أجبر بائع ثم أجبر مشترٍ] أي: على التسليم، بخلاف الصورة الأولى، لتفاوت الحقين؛ لأنه هنا حق عيني وذمي، وفي الصورة الأولى تساويا معاً.(159/6)
إذا اختلفا والثمن غائب
قال رحمه الله: [وإن كان غائباً في البلد حجر عليه في المبيع، وبقية ماله حتى يحضره] هذه المسألة كثيراً ما تقع في حال ما إذا أعطاه مثلاً مليون ريال.
لو فرضنا أنه باعه بمائة ألف ريال، فقال له: بعتك سيارة من نوع كذا وكذا بمائة ألف، أو سيارتي هذه بمائة ألف، فقال: قبلت، فهذا الثمن في الذمة، فإذا أعطاه إياه، فأخذ البائع المائة ألف، ثم بعد ذلك اختلفا، هل هذه هي السيارة التي تعاقدا عليها أو غيرها، وحكمنا بالفسخ بين الطرفين، يصبح الثمن في هذه الحالة موصوفاً في الذمة، فيحتاج البائع الذي باع السيارة إلى أن يحضر الثمن من خارج البلد؛ لأن الثمن ليس موجوداً عنده حتى يتم فسخ البيع بصورته الكاملة، فيحتاج أن يسافر، ونحن لا نضمن أنه سيعود، أو لربما يحجر عليه أثناء السفر أو يأتيه عارض، أو يسرق منه المال، فإنه يحجر عليه أولاً في المبيع، فلا يتصرف فيه؛ لأنه هو المالك الحقيقي؛ فلا يتصرف في المبيع.
فيحجر عليه في المبيع ويحجر عليه في أمواله، والسبب في هذا ما ذكرناه: أنه يخشى أن يدخل عليه الحكم بالفلس، والحجر بالفلس سيتضرر به صاحب الحق لتأخر حقه عنه، فهذا وجه ما نص عليه العلماء رحمهم الله من مسألة الحجر؛ ليتبين أنه ليس من باب الظلم، إنما من باب رد الحقوق لأهلها، فإن هذا الرجل لو سافر ربما غاب عنك غيبة طويلة، وهذا يضر بك، فنقول: كما أضر بك في حقوقك فجزاؤه أن يتضرر فيحجر عليه في ماله.
والتلاعب قد يوجد بين التجار، فحينما تحجر عليه في جميع ماله، فإنه في اليوم الثاني سيضع المال عند القاضي، وقد حدث في بعض القضايا أنه امتنع رجل غني ثري من إعطاء عامل حقه، وجلس عنده ثلاث سنوات يكدح بعرق جبينه حتى أصبح ماله ثلاثين ألفاً، فادعى أنه مفلس، فأصبح يشتغل بثمانمائة ريال كذباً من باب الغش، ورفعت القضية إلى أحد القضاة الموفقين وهو الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمة الله عليه، وتبين له الأمر جلياً، وأن الرجل كذاب ومخادع.
وكان هذا الرجل الضعيف العامل الذي تضرر ليس عنده بينة ولا شهود، فقال له القاضي: إن شئت أن تحلف اليمين فإني أقبلها منك، ولكن ليس لك في ذلك خير، قال: أحلف اليمين، قال: إذاً: لا تحلف اليمين، وكتب إلى المسئول: أن هذا الرجل كذاب مماطل، وثبت عندي بالتحري أنه كذاب مماطل، والذي أرى أن يحجر عليه في جميع ماله، حتى يؤدي لهذا الرجل حقه، فقد عمل عنده ثلاث سنوات وهو غريب عن أهله، وهو الآن في أشد ما يكون من العناء.
وذكر الشيخ عنه أنه كان يغمس كسرة الخبز اليابسة في (الشاهي) حتى لا ينفق من ماله الذي يكتنزه عند الرجل مؤتمناً عليه.
فشاء الله أنه حجر عليه في يوم الأربعاء، ثم كتب إلى المسئول أن هذا الرجل يمنع حتى من زيارة الغير له، فكما آذى الناس يؤذى، فما جاء يوم السبت إلا والثلاثون ألفاً موضوعة على طاولة الشيخ كاملة، فمثل هذه الأمور لابد من الحجر فيها، والقضاء ما نصب إلا من أجل الفصل بين الناس.
فحينما ينص الفقهاء رحمهم الله على الحجر فهو مما رأوا من خلال تجاربهم في القضاء والفتاوى، فهذه المتون خرجت من تجربة وخرجت من معاناة؛ لأنه ممكن أن يأتي شخص ويتعامل معك في قطعة أرض يبيعها لك بمليونين، ثم بعد أن يستلم منك المبلغ، يقول: ما بعتك هذه الأرض وإنما بعتك أرضاً أخرى، فتختصما إلى القاضي، فيقوم القاضي بطلب كل منكما أن يدفع، فيماطلك ويؤخرك ويستفيد منها شهوراً وربما دهوراً ثم يدفعها لك بعد ذلك، فأنت تستضر بهذا، لكن حينما يحجر عليه في ماله، ويحجر عليه في مبيعه، كما أضر بغيره أو أراد الإضرار بغيره، فإنه يسلم الحق ويندفع الضرر عن غيره.
ولذلك لم يكن نص العلماء على الحجر من فراغ، وإنما نصوا عليه لوجود الاستحقاق، وهو استحقاق الأذى بالتضرر بالتأخر، وعلى هذا يشرع أن يحجر عليه كما يحجر على غيره.
والحجر في اللغة: المنع، يقال: حجر عليه إذا منعه، ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22] حينما كانوا يجعلون بينهم وبين القرآن مانعاً من أن يستجيبوا له، وكذلك قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53] أي: حائلاً يحول بينهما، ويمنع من دخول أحدهما على الآخر، فالمقصود أن الحجر المنع.
وأما في الاصطلاح: فهو منع نفوذ تصرف قولي لا فعلي في المال، وبعض العلماء يعرفه بتعريف أدق، ويقول: الحجر في الاصطلاح: المنع من التصرفات المالية، وهذا أنسب.
قال رحمه الله: [وإن كان غائباً بعيداً عنها، والمشتري معسر، فللبائع الفسخ]: هذه كما ذكرنا يقال له: لك الفسخ، أي: أنت بالخيار إن شئت انتظرت وإن شئت فسخت البيع، فإن قال: أريد الفسخ، فحينئذٍ يفسخ، وإن قال: أنتظره فذلك به.
فوجه إدخال هذه المسألة في باب الخيار، أنه يترك له الخيار إن شاء أن يمضي الصفقة وإن شاء ألغاها، والأمر إليه.(159/7)
خيار الصفة
قال رحمه الله: [ويثبت الخيار للخلف في الصفة، ولتغير ما تقدمت رؤيته]: هذه المسألة يقصد منها إثبات خيار الصفة، فيثبت الخيار لاختلاف الصفة، وهذا النوع الأخير يسمى خيار الاختلاف في الصفة، وبعض العلماء يسميه خيار الصفة، وهو أنسب.
وخيار الصفة يقع في نوع خاص من البيوع، وهو الذي يسمى ببيع الغائب.
وبيع الغائب: كأن تأتي إلى رجل ويقول لك: عندي أرض، أو عندي سيارة، أو عندي طعام، وهذه الأشياء غير موجودة في مجلس العقد، ومعنى ذلك أن البيع سيقوم بينك وبينه على الصفة، وأصح أقوال العلماء: أنه يصح بيع الغائب، وهو مذهب الجمهور من حيث الجملة.
فإنه قد وقع بين عثمان وطلحة رضي الله عن الجميع، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة.
فإذا باعك رجل شيئاً غائباً -كما يقع الآن في بيع المخططات- ووصفه لك بوصف معين، فيكون لك الخيار عند الرؤية فتنظر في هذا المبيع، فإن طابقت الصفة المبيع، لزمك البيع وإن اختلفت فأنت بالخيار بين الإمضاء وبين الإلغاء.
إذاً: صورة المسألة تقع في بيع الغائب عند من يقول بصحة بيع الغائب، ولذلك فالذين لا يرون صحة بيع الغائب لا يقع عندهم خيار بيع الصفة، وهم الشافعية رحمهم الله ومن وافقهم.
ويخالف الحنفية فيقولون: لك الخيار مطلقاً سواء اتفقت الصفة أو لم تتفق، وهذا ضعيف، والصحيح مذهب المالكية والحنابلة، أنه يلزمك البيع إن طابقت الصفة المبيع، ولا خيار لك.
لكن لو جئت فوجدت الصفة مختلفة، فلك الخيار، إن شئت رضيت بالموجود، وإن شئت أبطلت البيع ورددت الثمن.(159/8)
شرح زاد المستقنع - باب الخيار [9]
ضبطت الشريعة العقود التي تقع بين الناس بضوابط دقيقة، تضمن دفع الضرر عن المتعاقدين، وتتلاءم مع مصلحة الطرفين.
ومن ذلك ما حددته الشريعة من كون الضمان في عهدة البائع أو المشتري في عقد البيع، وذلك يختلف بحسب اختلاف المبيع واختلاف الحال، وفيه تفصيلات ذكرها غفر الله له موضحة ميسرة، كما ذكر حكم الإقالة وفضلها.(160/1)
الأشياء التي يحرم التصرف فيها قبل قبضها ومتى يحكم بصحة البيع ولزومه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: ومن اشترى مكيلاً ونحوه صح ولزم بالعقد] والأصل في هذا حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، وهذا النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل القبض، مبني على علل وأسباب دعت إليه، فإنك إذا اشتريت الأرز على أنه مائة صاع، وأخذته قبل أن تكتاله، ربما بان ناقصاً، فبعته للغير على أنه مائة وإذا به دون المائة، هذا وجه.
وعند ابن عباس رضي الله عنهما: أن بيع الطعام قبل القبض فيه ذريعة إلى الربا؛ لأنه إذا لم يقبض الطعام فمعناه أنه قد باع ثمناً بثمن متفاضل، فمثلاً: لو أن رجلاً اشترى الطعام بألف ريال، على أنه مائة صاع، ولم يكتل ولم يقبضه، ثم بعد ذلك باعه إلى رجل آخر، فمعناه أنه يبيع النقد الألف بألف ومائتين، أو يبيع الذي اشترى به وهو مائة ريال بمائة وخمسين، فيصير كأنه يبيع النقد بالنقد، فأصبحت عندنا علتان، العلة الأولى: ربما باعه فاختلفت صفته عن حقيقته.
الثانية: أنه ذريعة إلى الربا، ثم هناك وجه ثان مبني على أصل شرعي، وهي قاعدة الضمان، حيث إن الضمان يفتقر إلى القبض، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج بالضمان) فجعل الربح على من يضمن الخسارة، ولا يمكن أن يضمن الإنسان إلا إذا دخل الشيء في حوزته وملكه، ومن هنا سنبحث في هذا الفصل مسألة: متى يجوز لك أن تبيع السلعة وتتصرف فيها؟ والمسألة التي معنا الآن: مسألة بيع الطعام قبل القبض، يقول رحمه الله: [ومن اشترى مكيلاً ونحوه صح ولزم بالعقد].
فعندنا أولاً: مسألة صحة البيع.
ثانياً: لزوم البيع.
ثالثاً: التصرف في المبيع.
فهي ثلاث مسائل: فلو باع رجل داراً، أو باع طعاما، ً فإننا نحكم أولاً: أن البيع صحيح، ثم إذا حكمنا بصحته، نقول: يلزمك أن تدفع الطعام إلى الرجل أو تدفع الدار إلى الرجل، ونقول للمشتري: يلزمك أن تدفع الثمن للبائع، هذا بالنسبة للزوم.
ثالثاً: متى يتصرف البائع في الثمن ومتى يتصرف المشتري متى يتصرف في المثمن؟ هذه هي المسألة التي يريد المصنف أن يقررها هنا.
فأول ما تبحث في المسائل الفقهية إذا جاءك عقد بيوع، في القضاء أو في الفتوى أن تنظر أول ما تنظر هل البيع صحيح أم لا؟ وهذا يفتقر إلى أن تدرس شروط البيع، وقد بينا هذه الشروط وهي شروط الصحة.
ثم إذا صح البيع، فهناك شيء يسمى اللزوم، واللازم: هو الذي لا ينفك عن الشيء، وقد يطلق لمعانٍ أخرى، مثل (لزاماً) بمعنى العذاب، وقيل: إنه عذاباً ملازماً: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77] أي: عذاباً لا يفارقكم ولا ينقطع عنكم، فأصل الملازمة عدم المفارقة، وملازمة الشيء بالشيء، مصاحبته له على وجه لا يفارقه.
وأنت تجد العلماء يقولون في العقود المالية، كالبيوع والإجارات والشركات: عقود صحيحة، وعقود لازمة، وعقود نافذة، وعقود موقوفة، وعقود باطلة.
فإذا قالوا: عقد صحيح، فضده الفاسد والباطل، على تفصيل بين الجمهور والحنفية، فالصحيح هو الذي تترتب عليه الآثار المعتبرة شرعاً، فإن قلت: بيع صحيح فمعناه أنه تترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على كل بيع صحيح.
وإن قلت: إجارة صحيحة، فمعناه أنها تترتب عليها جميع الآثار المترتبة على الإجارات الصحيحة، والصحيح لا يمكن أن تصححه إلا إذا وافق الشرع.
وضد الصحيح: الباطل والفاسد، فيقال: هذا باطل أو فاسد، أي: لا يترتب عليه أثر، ويحكم بانفساخه، بمعنى أنك لا تملك العوض، فلو بعت سيارة بيعاً فاسداً بعشرة آلاف ريال، وقبضت العشرة آلاف ريال، فليس من حقك أن تتصرف في العشرة آلاف، وليس من حق المشتري الذي أخذ السيارة أن يتصرف في السيارة، بل يجب رد الثمن والمثمن، فلا تترتب الآثار الشرعية، إذا كان فاسداً.
وهناك ما يسمى باللزوم، والإلزام، والعقد اللازم: هو الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه دون الآخر، والبيع عقد لازم.
والدليل على أن البيع عقد لازم: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] دلت هذه الآية الكريمة على أنه إذا وقع العقد وهو الإيجاب والقبول، يجب الوفاء به، والبيع عقد.
فـ (من باع مكيلاً ونحوه صح) أي: من باع شيئاً مكيلاً من الحلال الذي يباح بيعه كأرز وبر ودخن، وعدس.
ونحو ذلك مما يكال.
ونحو المكيل: الموزون والمعدود والمذروع.
والموزون هو الذي يكون بالجرامات، أو بالأطنان، مثل البرتقال والتفاح والموز، فهذا موزون بالجرام، فلو باع مثل هذه الموزونات صح.
والمعدود مثل القطع التي تباع بأعدادها، كقطع (الأبلكاش)، والدواب، والسيارات، فهذه كلها معدودات تباع بالعدد، فتقول: أعطني سيارة سيارتين بعيراً بعيرين شاة شاتين، فهذه كلها مبيعات بالعدد، ولا تباع الشاة بالوزن، ولا يصح بيع الشياه بالوزن.
وكذلك أيضاً إذا باعه بطيخاً فيمكن أن يباع عدداً، وممكن أن يباع وزنا، ً فيجتمع فيه الوصفان، وكذلك أيضاً: يكون البيع بالذرع، مثل القماش، فالقماش يباع بالعدد ويباع بالذرع، وإن كان الأصل فيه الذرع، فيقول: أبيعك متراً مترين يارداً ياردتي، ن أو مائة ياردة، فهذا كله بالذرع.
وكذلك المخططات من الأراضي والعقارات، بالذرع، تقول: أبيعك (20×20) (30×30) ونحو ذلك، فهذا كله يباع بالذرع.
إذاً: عندنا مبيع بكيل ووزن وذرع وعدد.
فقال رحمه الله: [من باع مكيلاً ونحوه صح] لأن الشرع أذن بهذا كله، فقال الله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] ولم يفرق بين بيع المكيل والموزون والمعدود والمذروع، فيصح بيع الكل؛ ولأنه ثبتت الأدلة بجوازها دون تفصيل وتفريق بينها.
وقوله: (صح) هذا الحكم الأول، أي: إذا كان مستوفياً لشروط الصحة، بأن يكون عين المبيع مباحاً، ولا يكون عين المبيع محرماً كميتة وخنزير ودم ونحو ذلك.
(ولزم بالعقد) أي: لزم الطرفين، واللازم -كما قلنا- هو الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه دون الآخر.
فعندنا إلزام، وعندنا تصرف.
فإلزام الطرف يكون بالعقد، وهو الإيجاب والقبول، فلو قلت لك: بعتك بيتي الفلاني في المكان الفلاني بعشرة آلاف، فقلت: قبلت، فالإيجاب والقبول وقع، لكن الصيغة التي هي الإيجاب والقبول لا تكفي وحدها في البيع كما ذكرنا، بل يتوقف الأمر على الافتراق عن المجلس، فإذاً: صح العقد بشرطه، وهو الافتراق عن المجلس.
فإذا قلت لك: بعتك بيتي بعشرة آلاف، وقلت: قبلت، فحينئذٍ يلزمك أن تدفع العشرة آلاف، ويلزمني أن أدفع البيت.
وعلى هذا: (صح ولزم بالعقد)، فـ (الباء) سببية، أي: بسبب العقد، أو مصاحبة أي: لزم بمجرد انتهاء العقد، وهو الإيجاب والقبول.
فإن الباء لها معانٍ منها: المصاحبة.
ومنها السببية.
فتقول: أتيت بمحمد، بمعنى: مصاحب له.
تعدّ لصوقاً واستعن بتسبب وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلا وزد بعضهم ظرفاً يميناً تحز معانيها كلها للباء اثنا عشر معنى، منها المصاحبة، فهنا لما قال: (صح ولزم بالعقد)، فالباء هنا للمصاحبة، أي: أن الإلزام مصاحب للعقد الصحيح في البيع فإذا صح عقد البيع، فإننا نقول: بالإلزام للطرفين.
والالتزام هو المبني من الصيغة، فهناك فرق بين الإلزام والالتزام، فالإلزام يكون أثراً عن الإيجاب والقبول، والالتزام ينشأ أثناء الإيجاب والقبول.
فالالتزام ينشأ من الطرفين، تقول: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، أي: التزمت لك إن دفعت العشرة أن أعطيك السيارة، وأنت أيضاً تقول: قبلت، أي: التزمت أن أعطيك العشرة آلاف إن أعطيتني السيارة، فهذا يسمى التزاماً.
وفرق بين الإلزام وبين الالتزام، فالإلزام يكون من الشرع، والالتزام يكون من الطرفين المكلفين، فهذه جهة المكلف وهذه جهة المشرع سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله: [ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه]: عرفنا أن العقد صحيح، وبعد أن تثبت أن العقد صحيح تبني عليه أنه لزم الطرفين، فإذا لزم الطرفين، فهل حق المشتري أن يتصرف؟ فمثلاً: جاءني رجل وقال: عندي عمارة في موقع كذا وكذا، ووصفها لي وصفاً تاماً، وأعطيته الثمن، وذهبت ورأيت العمارة فأعجبتني، لكنه لم يعطني مفتاحها، ولم يسلمها لي تسليماً كاملاً، فحينئذٍ تم الإيجاب والقبول، واستلم مني المائة ألف أو المليون، ولكني لم أقبض العمارة إلى الآن، فهنا شيء يسمى القبض والاستيفاء، فالشريعة لا بد أن تبت في مسألة انتقال الملكية ومتى يحكم بانتقال الشيء إلى ذمتك وملكيتك؟ صحيح أنه بالعقد التزمت والتزم، وصار بينكما الإلزام، فقد يتوهم متوهم إنه بمجرد العقد يحصل التملك وتترتب على ذلك آثاره.
وهذا غير صحيح.
فلو أن رجلاً دخل البقالة، فرأى علبة من طعام (مربى) أو غيرها، فقال: بكم هذه؟ قال: بخمسة، قال: اشتريت، فأعطاه الخمسة، فلما أراد الرجل أن يأتي بالعلبة، وضع السُّلم فتحرك الرف فسقطت الزجاجة وانكسرت، فقال له: خذ زجاجتك المكسورة، قال: يا أخي! أنا لم أستلم، قال: لكنك قد اشتريت ودفعت الخمسة، والإيجاب والقبول يقتضي الملكية لك، فأنت الذي تملكها وأنا لا أملكها.
فهنا مسألة وهي مسألة الاستيفاء ومتى نحكم بانتقال الشيء إلى ذمتك وعهدك، بحيث تتحمل المسئولية عنه، سواء كان في الأطعمة أو كان في العقارات أو المنقولات أو غيرها، وذلك ما يسمى بالقبض.
فلا يحكم بتحملك للمسئولية في الشيء إلا بعد قبضه، كما أنه لا يجوز لك بيعه والتصرف فيه إلا بعد القبض، فهذه العمارة إذا أردت أن تبيعها لا بد أن تقبضها أولاً، لماذا؟ لأنك إذا قبضتها فقد صارت إلى ذمتك، فلك غنمها وعليك غرمها، أما أن تدع العمارة عند غيرك، بحيث لو جاء عليها ضرر كان هو الذي يتحمل ذلك، ثم تبيعها أنت بأرباح، فهذا فيه ظلم.
ففي بعض الأحيان، تبيع الشيء ويتركه المشتري عندك، كأن يبقى في مستودع عندك، فيحملك أعباء حفظه، والقيام عليه، ورعايته، فيحتاج إلى حراسة، وتخشى عليه السرقة والآفات، فحي(160/2)
أحكام المبيعات التي تلفت قبل قبضها
قال رحمه الله: [وإن تلف قبل قبضه، فمن ضمان البائع]: أي: وإن تلف الطعام أو الكساء والقماش ونحوه قبل قبضه، فمن ضمان البائع.
فمثلاً: أنت اشتريت من تاجر مائة طاقة قماش من نوع معين، وقال لك: هذه المائة بألف ريال، أو بألفين، أو بثلاثة، فقلت له: هذه الألف أو الألفان، فمتى أقبضها؟ قال: ائت غداً، فتلفت في الليل، أو عَدَتْ عليها أرضة فأتلفت شيئاً منها، أو تضررت، فجئت في الصباح فإذا بهذا المال الذي اشتريته بالأمس قد ذهب ثلثه، أو ذهب نصفه، أو ثلاثة أرباعه، فعلى من الضمان؟ سيقول البائع: بعتك، وهذا المال باسمك وليس باسمي، فتقول: صحيح أنني قد تعاقدت معك والعقد صحيح؛ لكن لا يدخل في ضماني حتى أقبض، وأنا لم أقبض.
إذاً: مسألة الضمان متوقفة على القبض.
فعلى هذا لا نحكم بانتقال الضمان من البائع إلى المشتري إلا بعد القبض.
فهذه الزجاجة التي انكسرت سواءً انكسرت من الرف، أو سقطت بآفة سماوية مثل الرعد، أو بفعل المكلف، كعامل دفع الرف فسقطت هذه الزجاجة، فنقول: هذه الزجاجة من ضمان البائع، حتى يمكَّن المشتري من أخذها واستيفائها.
لكن إذا قال له: هذا القماش جاهز، تعال فخذه، ومكَّنه من قبضه واستيفائه، فماطل المشتري وتأخر حتى جاءت الآفة السماوية وأتلفته، فإنه يكون مِن ضمان المشتري؛ لأنه قصَّر، فيُلزم بعاقبة تقصيره.
ومن هنا: المرأة إذا مكَّنت الرجل من الدخول، ومكَّنه أولياؤها من الدخول، وجبت عليه النفقة؛ لأنها في حكم المدخول بها، والتقصير واقع مِن الزوج.
فهذا أصل شرعي، وهو أنه متى مُكِّن ولكنه قصر فإنه يلزم بعاقبة تقصيره، ومن هنا حكموا بوجوب القضاء على من أكل يظن أن الفجر لم يطلع، ثم تبين أنه طلع، أو أن الشمس قد ظهرت؛ لأنه قصر ومن قصر يلزم بعاقبة تقصيره؛ لأنه لو احتاط لنفسه، لما وقع الذي وقع.
قال رحمه الله: [وإن تلف بآفة سماوية بطل البيع]: معناه أنه لا يضمن المشتري، ومعنى (بطل البيع)، أي: صار في ضمان البائع، سواء قلت: بطل البيع، أو قلت: في ضمان البائع، فالمعنى واحد.
قال رحمه الله: [وإن أتلفه آدمي خُيِّر مشتر بين فسخ وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله]: قوله (وإن أتلفه آدمي) أي: قصداً أو بدون قصد.
أتلفه آدمي قصداً، كإنسان اعتدى على بقالة فكسر ما فيها، أو اختصم صاحب البقالة مع رجل فكسر له ما ببقالته، وكان من ضمنها المبيع، فتلف بفعل آدمي.
وأتلفه بغير قصد مثلاً: العامل يريد أن ينزل الزجاجة فتنزلق من يده فتنكسر، أو يأتي ليضع السلم فتسقط الأشياء الموجودة على الرف ومنها المبيع، فهذا بغير قصد، فسواء أتلفه الآدمي بقصد أو بغير قصد، فالقصد وعدمه واحد في باب الضمانات.
لأن باب الضمان لا يلتفت فيه إلى القصد، فمثلاً: شخص جاء وصدم سيارتك وقال: لم أقصد، نقول: الحقوق لا يلتفت فيها إلى مسألة قصدت أو لم تقصد، فهذا في الإثم وهو بينك وبين الله، فتأثم إن قصدتني، ولا تأثم إن لم تقصد، لكن حقي في السيارة تضمنه كاملاً.
ولذلك لو رأى أي فريسة وأطلق عليها فأصابت الرمية آدمياً فقتلته وجب عليه أن يدفع الدية، ولا يقول: إني أخطأت، قال تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء:92].
فتحرير رقبة هنا: ليس من باب المؤاخذة بالإثم، وإنما من باب أنه قصر، ولذلك ما من مخطئ إلا وهو مقصر، ومن هنا قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] قيل في قوله: (إِلَّا خَطَأً): ولا خطأ، بمعنى: ألا يتعاطى أسباب التقصير.
فالشاهد: أنه إذا أتلف الآدمي السلعة بقصد أو بدون قصد، وقد عقد عليها، فالمشتري مخير، إما أن يقول: أريد مالي، ويفسخ البيع، أو يقول: أنا أطالب هذا الرجل الذي أتلف، ويكون توجهه على المتلف دون البائع، وهذا يختلف باختلاف الأحوال.
ففي بعض الأحيان يكون بين تاجر مع تاجر، ولا يريد أن يحرج التاجر، فيتوجه على الذي أساء وأضر، فهذه أمور تختلف باختلاف الأشخاص، إن شاء أخذ حقه من هذا أو من ذاك، فالكل يراد به إيصال الحق إلى صاحبه.
فإذاً يرد التقرير: إن قلنا: إنه يفسخ البيع، فلفوات المبيع، فإنه إذا فات المبيع على وجه لا يمكن تداركه، فحينئذٍ ينفسخ البيع.
وإن قلنا: إنه قال: أريد أن أطالب الذي أتلف، فهذا مبني على أن البائع قد مكن من القبض، أو يكون في حكم التمكين من القبض، ولم يكن عنده مانع ويكون حينئذٍ خارجاً عن يده، وإذا أراد أن يطالب هذا الذي أتلف فإنه يطالبه.
فقوله: (خير مشتر بين فسخ) أي: فلا يطالب المتلف، وإنما يطالب البائع، (وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله) وهذه المسألة لها مغزى -كما ذكرنا- لأنه في بعض الأحيان يكون الأفضل له أن يطالب بالفسخ، وفي بعض الأحيان يكون الأفضل له أن يطالب بالبدل، مثلاً: لو أن هذا الشيء الذي اشتراه أتلفه متلف، وفي آخر النهار أصبحت قيمته غالية جداً، فيريد البدل، فوجود البدل أحظ له؛ لكن إذا فسخ البيع رد له البائع ثمناً أقل، فينظر الأحظ لأن له الحق في هذا، وله أن يأخذ حقه كاملا، ً كما ذكرنا فيمن وجد العيب في السلعة، إن شاء تنازل عن حقه، وإن شاء أخذ أرش النقص في المبيع، وإن شاء رد السلعة وأخذ الثمن.(160/3)
ما يجوز التصرف فيه قبل قبضه وضمان تلفه
قال رحمه الله: [وما عداه يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه]: (وما عداه) أي: ما عدا المكيل ونحوه، (يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه).
أولاً: إذا كان المبيع مكيلاً، أو موزوناً، أو مذروعاً، أو معدودا، ً فلا يجوز التصرف فيه، وتحريم الأول بالنص، والباقي بالقياس والإلحاق؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، على تفصيل عند العلماء، وقد تكلمت على هذه المسألة وبينتها، وفصلت فيها كلام العلماء في شرح البلوغ.
لكن نقول: على ما درج عليه المصنف رحمه الله: الكيل والوزن والعدد والذرع، إذا باع المكيل، فلا يجوز للمشتري أن يتصرف فيه قبل قبضه، فلا يبيعه ولا يحيل عليه، حتى يقبضه، وذلك بأن يكتاله أو يستوفيه، إذا كان كيلاً فالكيل، وإذا كان وزناً فبالوزن، وإن كان عدداً فبالعدد، وإن كان ذرعاً فبالذرع، وإن كان على طريقة الموزون ينتقل إلى الكيل.
فالأصح أنه فإذا كان يجمع بين الوزن والكيل، فإنه ينظر إلى أصله، أو غالب عرف البلد، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله فيه.
بناءً على هذا: لو كان المبيع مكيلاً، وأردت أن تتصرف فيه فلا تتصرف إلا بعد القبض والحيازة، ولو باعه قبل أن يكتاله، فالبيع باطل، ولو وهبه فلا تصح هبته، ولو أحال عليه لم لا تصح حوالته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، فدل على أنه لا يصح أن يبيعه حتى يقبضه ويستوفيه، فأخلى يد المشتري عن التصرف في المبيع إلا بعد القبض، فدل على أنه فرق معتبر لصحة التصرف وأنه لا بد من القبض.
ثم يرد
السؤال
إذا كان من الأشياء الأخرى التي تباع جزافا، ً ولا يجري فيها كيل ولا عد، ولا ذرع ولا وزن؟ فهذه في قول جماهير العلماء رحمهم الله -خلافاً لـ ابن عباس رضي الله عنهما- أنه يجوز بيعها قبل قبضها؛ لكن الاستيفاء يختلف عن المعدودات والمذروعات والمكيلات والموزونات، على حسب عرف القبض فيها.
فمثلاً: عندنا الغنم والإبل والبقر، هذه معدودات، فلا يجوز لك إذا اشتريت شاة أن تبيعها إلا إذا قبضتها، ولكن: كيف يكون قبض هذا النوع وهو المعدود؟ لأنه قد يسألك تجار الغنم، ويقولون: نحن نشتري مائة رأس من الغنم من التاجر الفلاني، ونتركها عنده ثم نبيعها إلى تجار آخرين أو إلى أفراد مقطعة ونحيل عليه، هل يجوز هذا؟ تقول: لا يجوز حتى تقبضوها، فكيف القبض؟ الجاري في العرف أنه يخرجها من زريبة هذا إلى زريبته، وقد نص العلماء رحمهم الله، في بيع الغنم وبهيمة الأنعام، أن الزريبة معتبرة، وهكذا لو كانوا في البادية، والبادية معروف عندهم (المراح)، ومراح الإبل المكان الذي تمرح فيه الإبل، فيخرجها عن مراحها؛ لأنه بمجرد ما أخرجها من المراح يكون قد قبض، فيجوز له وهو يسوقها بعد أن أخرجها من مراحها أن يتصرف فيها، لكن ما دامت في الزريبة، فلا يجوز له أن يبيعها، وكذلك ما دامت في مراحها لا يجوز أن يبيعها.
إذاً: في المعدودات من بهيمة الأنعام لا بد من القبض بهذه الصفة.
كذلك أيضاً في أعرافنا اليوم، مثلاً: بيع الأشياء المغلفة، كالثلاجات والغسالات، فإذا جاء يبيعها فينبغي على المشتري أن يقبضها.
أما كيف دخلت الثلاجة والغسالة في مسألتنا فقد جاءت من باب العدد، على أن المعدود حكمه حكم المكيل، ويدخل في النهي، على القياس الصحيح والنظر الصحيح، من باب إلحاق الشيء بمثله، ففي هذه الحالة لو اشترى ثلاجة لم يبعها حتى يقبضها، والقبض يكون بالحيازة، وعلى هذا لو غلفها له، وأخرجها من مستودع البائع، فقد قبض، لكن لو تلفت وهي في المستودع، أو تلفت قبل إخراجها من المستودع، أو أن العمال أرادوا حملها، فتلفت بأيديهم، أو سقطت فحصل لها ضرر، أو سقط منها شيء وتلفت، فما الحكم؟ الحكم أنها تكون في ضمان البائع.
وكذلك أيضاً في بعض الأجهزة الموجودة، مثل: بعض الأشياء التي تباع في المختبرات وهي حساسة جداً، فلو أنها حركت أقل حركة ربما تسقط، وربما يحصل ضرر، فإذا جاء وأراد أن يقبضها وحصل هذا الشيء الذي أضر بها قبل إخراجها من المستودعات فالحكم أنها في ضمان البائع، إلا بعد خروجها من أماكنها على الصورة التي ذكرناها.
فمثلاً: السيارة جرى العرف في المعارض أنه إذا دخل إلى السيارة وحركها وأدار السيارة، ثم مشى بها قليلاً على قول بعض العلماء من مشايخنا رحمة الله عليهم، أنه قد قبض، ويجوز له أن يبيع ولو لم يخرج من المعرض، ويقول بعضهم: بل لا بد أن يخرج من المعرض، ثم له بيعها سواء رجع إلى نفس المعرض أو باعها في معرض آخر، وذلك حتى تتحقق الحيازة الكاملة.
ولكن أقوى أنه إذا ركب فيها وأدارها، ثم مشى ولو خطوة صح له البيع؛ لأنه في هذه الحالة قد قبض قبضاً كاملاً، ومسألة المعرض وعدمه غير مؤثر؛ لأن المعرض تكون فيه سيارات الأجانب، أي: ليس البائع الذي باعه السيارة هو الذي يملك المعرض.
فإذاً: مسألة المحل بالمعرض لا يحتكم إليها خاصة في المزاد، فيقوى أنه إذا أدارها ومشى وقفل بابها قد قبض.
قال رحمه الله: [وإن تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه، فمن ضمانه ما لم يمنعه بائع من قبضه]: أي: إن تلف ما عدا المكيل ونحوه، فمن ضمان المشتري؛ لأنه لا يشترط فيه قبض.
بناءً على هذا لو سألك سائل: إلى كم تنقسم المبيعات من حيث الضمان بالقبض؟ فعليك أن تقول: تنقسم إلى قسمين: - إما أن تكون مكيلة وما في حكمها، فهذه لا ينتقل ضمانها من البائع إلى المشتري إلا بعد القبض بضابطه، على حسب أنواع المبيعات.
- وإما أن تكون من غير المكيل، وما في حكمه، مما لا يشترط فيه القبض، فهذا النوع ينتقل فيه الضمان إلى المشتري بمجرد العقد الصحيح، وعلى هذا لا يشترط في مثلها القبض.
قال رحمه الله: [ويحصل قبض ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك] أي: بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً وبالعد عداً، وبالذرع ذرعاً فمثلاً: الآن في المحل: باعك طاقة القماش، فأخذتها وذرعتها، أو ذرعها أمامك، ثم قلت: طبقها لي وضعها في الكيس، فوضعها في الكيس،، ثم أعطاك إياها، فحينئذٍ قد قبضتها، وعندما ذرعها أمامك فقد برئت ذمته، وإذا ذرعها أمامك جاز لك أن تبيعها، ويبقى القبض والاستيفاء الذي هو الصوري.
قال رحمه الله: [وفي صبرة، وما ينقل بنقله، وما يتناول بتناوله، وغيره بتخليته]: أي: يحصل القبض في صبرة بالتخلية، بأن يخلي بينها وبينك، وما كان بالنقل ينقل، مثل الدواب -كما ذكرنا- تنقل من زريبة إلى زريبة، وهكذا إذا تعامل التجار في بيع الثلاجات والغسالات أنها تنقل لا بد من نقلها حتى يتم القبض كاملاً، هذه صورة الاستيفاء.(160/4)
الإقالة وأحكامها
قال رحمه الله: [والإقالة فسخ تجوز قبل قبض المبيع بمثل الثمن]: (والإقالة) الإقالة أصلها الفسخ، أقال عثرة النادم، إذا لم يؤاخذه، بما جنى بعد ندمه.
وأما في الاصطلاح فهي: فسخ العقد بين الطرفين برضاهما.
وبعضهم يزيد: مع عدم ترتب الآثار، وهذا متكلف لأنه إذا فسخ لا تترتب عليه الآثار، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى التنبيه عليه.
وقلنا: "برضا الطرفين" لأن الإقالة تكون برضا الطرفين، ولا يمكن أن نقيل أحدهما حتى يرضى الآخر؛ لأن البيع عقد لازم، والعقود اللازمة كما أنها تلزم الطرفين، فلا بد أن يكون فسخها من الطرفين، أي: كما أنها لا تثبت إلا من الطرفين فينبغي ألا يكون فسخها إلا من الطرفين، وهذا من العدل الذي حكم الله عز وجل به وجعله بين عباده.
قوله: (تجوز) أي: تشرع، وعليه جماهير السلف والخلف.
والمراد بالإقالة أن يشتري منك شيئاً ثم يأتيك ويقول: لا أريد هذا الشيء، أو طرأت علي أمور، أو أرجوك أقلني، ويلتمس منك الإقالة، فأنت بالخيار بين أمرين: إما أن تلزمه، وتقول له: لا أقيلك وهذا من حقك؛ لأنه قد يكون فيه ضرر عليك، أو قد لا تقتنع بالكلام الذي يقوله، أو ترى من المصلحة أن تمضي البيع له، فإذا رأيت ذلك فهو لك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فإذا كان هذا الأمر يدخل عليك ضرراً عظيماً، أو كنت متحملاً للمسئولية تجاه أناس، أو هذه الصفقة قد تترتب عليها حقوق لأناس، فتقول: لا أستطيع، فهذا لك: أن تلزمه بالعقد.
وإن شئت قبلت إقالته، وهذا أفضل بإجماع العلماء، لما فيه من الترغيب الشرعي، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أقال نادماً، أقال الله عثرته، يوم القيامة) وهو حديث صححه الحاكم وأقره الذهبي وفيه كلام، لكن متنه صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى ثبت عنه في الحديث القدسي: (أن رجلاً كان يدين الناس ويقول لعامله: إذا وجدت معسراً فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال صلى الله عليه وسلم: فلقي الله عز وجل فقال الله: يا ملائكتي نحن أحق بالتجاوز عن عبدي، تجاوزوا عن عبدي) فهذا يدل على أن الجزاء من جنس العمل، ولذلك يقول العلماء: من شدد على الناس شدد الله عليه، ومن خفف عنهم خفف الله عنه.
فمن كان يعامل الناس بالتيسير يسر الله عليه، وانظر إلى التاجر تجد أنه إن كان سمحاً ميسراً وجدت أموره على السماحة واليسر، حتى أن الله يلطف به في النكبات والفجائع، وتجد من لطف الله عز وجل به ما لم يخطر على بال.
والعكس بالعكس، حتى ولو كان أميناً، لكنه يأخذ حقه كاملاً ويعطيه كاملاً، والرجل يريد أن يضع كل شيء في نصابه، لكن ترى الله سبحانه وتعالى يأخذه فكما يشدد على الناس يشدد الله عليه، فما يأتي الناس يأتيه.
فالذي يعامل الناس بالسماحة واليسر يدفع الله عنه، وهذا أمر جرت عليه الشواهد والأدلة، وسنن الله عز وجل ظاهرة عليه.
وعليه: قالوا: إنه يستحب أن يقيل النادم، لما فيه من تفريج كربة المسلم، وخاصة إذا كانت عنده ظروف وكان فيه مشقة عظيمة عليه، فالإيثار محمود، خذ حتى ولو كان فيه ضرر عليك، فإن هذا البلاء الذي دخل عليك بهذا المسلم، لعل الله أن يدفع عنك به أبواب البلاء؛ لأنه ربما دفع الإنسان عن أخيه المسلم بلاء فيدفع الله عن ماله البلايا، فأجمع العلماء على استحباب الإقالة.
قوله: (تجوز قبل قبض المبيع) أي: تجوز الإقالة قبل قبض المبيع وبعد قبض المبيع، بمثل الثمن، فإذا اشترى منه داراً بمائة ألف، ثم جاءه وقال: أقلني بيعتي، فقال: أقلتك؛ رد له المائة ألف، ورد المشتري الدار إلى البائع، فهذا جائز ومشروع.
وهكذا بالنسبة لغير العقارات، كأن يشتري منه طعاماً بمائة ثم يأتي ويقول له: أقلني، فيقيله، فهذا جائز ومشروع.
وقوله: (بمثل الثمن) أي: فلا يجوز أن يستقيله بما هو أكثر، على أصح قولي العلماء وهو أن الإقالة فسخ.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الإقالة على قولين.
وهناك قول ثالث وهو التفصيل، لكن المشهور قولان: القول الأول: أن الإقالة فسخ.
القول الثاني: أن الإقالة بيع جديد.
نمثل بمثال واحد حتى تتضح الصورة: لو اشتريت سيارة من رجل بعشرة آلاف ريال، ثم بدا لك أن ظروفك لا تساعدك في شراء هذه السيارة، وأن المصلحة أن ترد هذه السيارة، فجئت إليه، وقلت له: يا فلان! خذ سيارتك وأعطني العشرة آلاف، فإذا رددتها بنفس الثمن فحينئذٍ لا إشكال أنه فسخ بالمثل، وهذا إذا قلنا: إنها فسخ، فحينئذٍ تكون رددت له نفس المال الذي له.
وإن قلنا إنها بيع، فمعناه أنكما أنشأتما بيعاً جديدا، ً فيشترط فيه ما يشترط في البيع، من الافتراق عن المجلس فلو قال له: أقلتك، ثم قبل أن يفارقه قال: لا أريد أن أقيلك ورجع عن إقالته كان ذلك من حقه.
وأما إذا كانت فسخاً فإنه لا يجوز له ذلك.
وكذلك أيضاً لو قلنا: إن الإقالة بيع، فجاء وقال: أقلني هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: بل أقيلك بتسعة آلاف ريال، فمعناه أنه بيع جديد، فيجوز أن تقيل بالثمن، وبأقل من الثمن، ولا بأس بذلك ولا حرج على القول بأنها بيع.
والصحيح أنها فسخ، وإذا كانت فسخاً فلا تجوز إلا بنفس الثمن، وحينئذٍ يخير البائع بين أن يمضي الصفقة وبين أن يرد نفس الثمن إلى صاحبه؛ لأن الحق الذي عنده إما أن يمضي فيه الصفقة على ما هو مقرر بالنص الشرعي في العقد من الإيجاب والقبول المركب منهما، وإما أن يرد عليه المال كاملا، ً ولا ينقص منه شيئاً.
قال رحمه الله: [ولا خيار فيها ولا شفعة]: أي: أنها ليست ببيع وإنما هي فسخ.
وإن كانت بيعاً ففيها شفعة، فمثلاً: بعت أرضاً في مخطط، وهذه الأرض لك فيها النصف، حيث كنت أنت وصديق لك قد اشتركتما في الأرض له نصفها ولك نصفها، فباع صديقك الأرض على طرف ثان بمال، فهذا الطرف اشترى منه، فأصبح حينئذٍ شريكاً لك، فإذا استقال من صديقك فأقاله لم يصح لك أن تشفع؛ لأنها ليست بيعاً وإنما هي فسخ، وحينئذٍ يرجع الأمر إلى ما كان، وليس من حقك أن تقول: هذا بيع وأنا شريك، ومن حقي أن أشفع؛ وإذا قلنا: إنها بيع، كان من حقك أن تشفع، وحينئذٍ بدل أن تكون شريكاً بالنصف، فإنك تدخل شفيعاً بمثل المبلغ الذي باعه إياه وتخرج صديقك من الأرض كلية.
مثال: الأرض قيمتها مائة ألف، فعرضت للبيع، فاشترى محمد من شريكك بخمسين، فأصبح محمد شريكاً لك وأنت ساكت، ورضيت من محمد أن يكون شريكك، فاستقال محمد من البائع الذي هو الشريك الأول، فإن قلنا: إنها بيع، فمعنى ذلك أن محمداً الشريك الجديد سيبيع بيعة ثانية، والشريك من حقه أن يشفع في كل بيعة جديدة، حينما وقع البيع الأول ربما كان المشتري قريباً له فسكت، أو لم يكن آنذاك مال، لكن لما وقعت الإقالة كان عنده سيولة ومال، فقال: ما دام أنك أقلته، فهذا بيع وأريد أن آخذ حصة شريكي بثمنه وعليك تخرج من الأرض، فتبين أن فيها ضرراً، ومن هنا نقول: إن الإقالة في بعض الأحيان تدخل الضرر على الإنسان فلا يرضى بها.
وعليه يقول العلماء: إنه يجوز للشريك أن يشفع إن قلنا: إنها بيع، ولا يجوز له أن يشفع إن قلنا: إنها فسخ، والصحيح أنها فسخ.(160/5)
شرح زاد المستقنع - باب الربا والصرف [1]
الربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع العلماء، وقليله وكثيره في التحريم سواء، إلا أن هناك من لبس عليهم الشيطان فاستجازوا لأنفسهم بعض صور الربا بشبه واهية ضعيفة رادين بذلك نصوص الكتاب والسنة الواضحة.
والربا يجري في الأصناف التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وهي: الذهب والفضة والبر والتمر والشعير والملح، ويقاس غيرها عليها بجامع الثمنية في الذهب والفضة، والطعم مع الكيل أو الوزن في المطعومات.(161/1)
تعريف الربا وأدلة تحريمه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الربا والصرف].
الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل:92] أي: أزيد وأكثر عدداً.
وأما في الاصطلاح فهو: زيادة مخصوصة في أشياء مخصوصة.
والربا ينقسم إلى قسمين: 1 - ربا النسيئة.
2 - ربا الفضل.
فأما ربا الفضل: فإنه يكون في الأصناف المنصوص عليها، والملحقة بالمنصوص عليها.
وأما ربا النسيئة: فإنه يكون بزيادة الأجل فيما يجب فيه التقابض.
وهذا الباب عظيم؛ لأنه يشتمل على محظور شرعي عظم الله أمره ونهى عباده عنه، وزجرهم عنه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279]، فنهى سبحانه وتعالى عن الربا وحرمه، وتوعد صاحبه بالحرب، ومن حاربه الله عز وجل فلا يسأل عن حاله، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا من ذلك، وأن يعيذنا منه؛ لأن الله إذا حارب العبد ابتلاه في نفسه وعذبه في دنياه، فأشقاه في نفسه وماله وأهله وولده، فلم تقر له عين في دنياه، ثم ما ينتظره في الآخرة أشد وأعظم.
لقد توعد الله تعالى على هذا الأمر بهذا الوعيد الشديد، ولذلك أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى حينما جعله من كبائر الذنوب، وكما نهى الله عز وجل في هذه الآيات من سورة البقرة.(161/2)
شبهة وجوابها
كذلك نهى الله عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، وهذه الآية فيها شبهة يحتاج طالب العلم إلى أن ينتبه لها K وهذه الشبهة هي: أن الله تعالى حرم الربا إذا كان أضعافاً مضاعفة، أما إذا كان يسيراً فلا بأس، وهذا هو المدخل الذي أجاز به بعض المعاصرين في فتواه حل شهادات الاستثمار من فئة (ج)، وهي الدرجة الثالثة من استحقاق الربوي، يقولون: لأن نسبتها ضعيفة، ولأن مالها يسير، وليس من الأضعاف المضاعفة، ويتذرعون بهذه الشبهة؛ بل تذرع بعضهم إلى أن الربا المحرم: أن يأخذ أجلين، أما لو أخذ زيادة على أجل واحد فلا بأس، وزين لهم الشيطان هذا كله، نسأل الله السلامة والعافية: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].
فإذا انطمست البصيرة ينقاد صاحبها إلى الهوى، وإذا انقاد إلى الهوى أحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله، واستحل حدود الله بأدنى الحيل، ولذلك لعن الله بني إسرائيل وطبع على قلوبهم، حينما استحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل.
وشهادات الاستثمار من فئة (ج) يدور عليها الكلام في بعض الأحيان كثيراً، وحاصلها: أن يتقدم المستثمر فتحدد أولاً النسبة المدفوعة للاستثمار في هذه الفئة، مثلا: ً من ريال إلى مائة ريال، أو من مائة ريال إلى خمسمائة، وغالباً في هذا النوع من الربا تكون المبالغ بسيطة جداً، لأجل أن تجلب العوام ويكون الاستثمار منها أكبر، والمشاركون فيها أكثر، فتجعل المبلغ الذي يدفع زهيدا، ً على فترة ثلاثة أشهر، أو ستة أشهر، فيقولون له: ادفع كل شهر مائة، ثم إذا تمت ثلاثة أشهر ودفعت مائة مائة، فأدخل اسم هذا المستثمر في القرعة، ثم إذا خرج اسمه فإنه حينئذٍ يعطى جوائز معينة لعدد معين، فهم يقولون: هذا ليس بربا؛ لأنه ليس ربحاً محضاً، مثل الاستثمار الذي يكون بالفوائد والعوائد الربوية المعروفة، فيقولون: هذا أشبه ما يكون بالمضاربة.
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه: الوجه الأول: أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فللآية منطوق ومفهوم، فمنطوق الآية: تحريم أكل الربا أضعافاً مضاعفة، والاستدلال الذي ذكروه من باب المفهوم وليس من باب المنطوق، ففهموا منه أنه يحل أكل الربا إذا كان بغير أضعاف، فنقول: هذا من المنطوق الذي لا مفهوم له، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون:117]، فإنه ليس معناه أن هناك من يدعو مع الله إلهاً آخر له برهان، وفي القرآن آيات لها منطوق ومفهوم، وآيات لها منطوق وليس لها مفهوم، وهذه الآية من ذلك؛ بدليل تصريحه سبحانه وتعالى بتحريم الربا عموماً.
الوجه الثاني: لو سلمنا فرضاً أن الآية الكريمة لها منطوق ومفهوم، وأنه يحتج بالمفهوم على الجواز، فنقول: إن هذا المفهوم قد عارضه المنطوق من العموم في آية البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278]، ولم يفرق بين الأضعاف وغير الأضعاف، فإذا تعارض المنطوق والمفهوم، قدم المنطوق على المفهوم.
الوجه الثالث: نقول: آية البقرة حاظرة، وآية آل عمران مبيحة، وهذا على قولهم بالمفهوم، والقاعدة: أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح.
وبناءً على ذلك نقول: إنه لا يحل الاستدلال بهذه الآية على هذا الوجه، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الربا، حتى عده من السبع الموبقات، فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات -وذكر منها-: أكل الربا)، والعياذ بالله! وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الربا، وأنه من كبائر الذنوب، وأن صاحبه موعود بالنار إذا لم يتب، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]، قال طائفة من المفسرين: إنهم يقومون يوم القيامة ولهم بطون كالبيوت الضخمة، كلما وقف صاحبهم تكفأ على وجهه، والله على كل شيء قدير، فإن الله لا يعجزه شيء، إن شاء خلقهم على هذه الصورة، وإن شاء خلقهم على غيرها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (الذي خلقه يمشي على رجليه يخلقه يوم القيامة يمشي على وجهه)، فالله على كل شيء قدير، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [الإسراء:97]، فالله على كل شيء قدير، والمقصود: أنه محرم بهذا.(161/3)
الفرق بين القراض المشروع والربا الممنوع
وهنا مسألة: إذا كان الربا محرماً فنريد أن نتعرض لمسألة شبهات جواز الربا، وهي مسألة مهمة، حيث إن هناك شبهة تعتبر من أدق الشبهات التي يحتاج طالب الفقه إلى دراستها، ومعرفة جوابها، وهي باختصار أنهم قالوا: فوائد الربا كفوائد القراض، فتجوز فائدة الربا كما تجوز فائدة القراض وهذا يحتاج إلى شرح وتوضيح.
وحاصله: أنهم يقولون: هناك عقد شرعي وهو المضاربة أو القراض، وهو جائز شرعاً، والفوائد المصرفية والبنكية والعوائد الربوية بمنزلة العوائد من المضاربة.
وهذا يحتاج أولاً إلى أن نعرف ما هي المضاربة، ثم كيف قيست الأسهم والفوائد والعوائد الربوية على المضاربة.
قالوا في المضاربة: حقيقتها أن يدفع رب المال مائة ألف مثلاً لعامل، ويقول له: اذهب واضرب بها، فإن ربحت فالربح بيني وبينك مناصفة، فإذا ربح خمسين ألفاً، فيأخذ خمسة وعشرين ألفاً، ويعطي صاحب المال مائة وخمسة وعشرين ألفاً، قالوا: فكما أن رب المال أخذ مائة وخمسة وعشرين ألفاً، فإنه يجوز لمن أودع مائة ألف أن يأخذ فائدة عليها عشرة آلاف، أو عشرين ألفاً، على حسب المتفق، فالبنك والمصرف بمثابة العامل الذي عمل بالمضاربة، والعميل بمثابة رب المال في المضاربة.
وما الفرق بين الاثنين؟! واعجب فما تنفك من عجائب! حينما يأتي بعض من لا يحسن النظر في الفقه، ويتسمى بأنه فقيه، أو عنده إلمام بالفقه، ويقول: إن المضاربة عقد ليس فيه نص من الكتاب ولا من السنة، فيختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة! وحينئذٍ نقول: هذه العوائد البنكية هي مضاربة عصرية؛ لأننا اجتهدنا فيها باجتهاد العصر الملائم، وهذا كما قال تعالى: {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال:48]، انظر كيف يزين الشيطان لهم، وحينئذٍ نحتاج إلى أن ندرس هذه الشبهة باختصار.
وحاصل ذلك أن نقول: إن المضاربة ثبتت بدليل السنة، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة، فقال: إن بعض الفقهاء يقول: المضاربة ليس فيها نص من الكتاب والسنة، وقد أخطأ في ذلك، فإن المضاربة كانت معروفة في الجاهلية، وأقرها الإسلام، فبسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عليها كانت مشروعة بدليل أنه ضارب بمال خديجة، وهذا ثابت ولا إشكال فيه، وكان في القديم رحلة الشتاء والصيف، قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1 - 2]، فكانوا يتاجرون بالمضاربة، ويعطون من يقوم على هذه التجارة والعير، من وجهاء قريش كـ أبي سفيان ونحوه، فقد يخرج بها ويضارب ثم يأخذ نسبة من الأرباح على التجارة، وعلى هذا قال: إنها ثابتة بالسنة، فمن قال: إنه لا نص فيها بالكتاب والسنة، فهذا جاهل، هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية: أن فيها إجماع الصحابة، وحاصلها قصة عمر المشهورة مع ابنيه عبد الله وعبيد الله، فإن عبد الله وعبيد الله خرجا إلى أبي موسى الأشعري في الكوفة، وكان أبو موسى والياً عليها، فقال لهما: ليس عندي من شيء، ولكن خذا هذه الإبل، واضربا بها، وأديا إلى أمير المؤمنين رأس المال، وخذا الربح، فمضيا وتاجرا في الطريق حتى قدما على عمر، فلما قدما على عمر، قال عمر رضي الله عنه: ما هذا؟ قالا: يا أمير المؤمنين! هذا لك وهذا لنا، فقال: سبحان الله! وكيف ذلك؟ قالا: إن أبا موسى فعل كذا وكذا، فقال: وهل أعطى كل المسلمين مثلما أعطاكما؟ قالا: لا، فقال: أديا المال إن كنتما ابني أمير المؤمنين، أما عبد الله فاستحى منه، وسكت ولم يعترض، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت هذا المال لو أنه تلف أكنت تغرمنا إياه؟ قال: إي ورب الكعبة، قال: إذن ليس من حقك؛ لأن الخراج بالضمان، فما دمنا نحن الذين نضمن، فالسنة ثابتة عن أن من يخسر يضمن، فقال الصحابة: اجعله يا أمير المؤمنين قراضاً، فقسم الربح بينهما وبين بيت مال المسلمين.
فهذا قراض، وهو إجماع من الصحابة.
إذا عرفنا مشروعية المضاربة، فإنه يرد
السؤال
هل أخذ الفائدة والعائدة منزل منزلة القراض؟ أولاً: لماذا شرع الله المضاربة؟
الجواب
شرع الله المضاربة؛ لأن عندك مثلاً مائة ألف، وأنت مشغول بطلب علم، أو مشغول بعمل آخر، وغير متفرغ لضربه، أو ليست عندك خبرة في التجارة، وهناك عامل عنده خبرة، فالشريعة رفقت بالمجتمع من هذا الباب، فهذا العاطل الذي ليس عنده عمل اتفق مع هذا الغني، فأخذ المال، فاستفاد الناس من عمله، وخبرته، وتجارته، واستفاد هو من النماء، واستفاد رب المال من الربح، فحصل الرفق للمجتمع بوجود التجارة، والرفق لرب المال بوجود جزء الربح، والرفق للعامل بوجود الكسب الذي يكون من جزء الربح، فشرعت من أجل هذه المقاصد العظيمة، واليسر والرحمة والتخفيف على الأمة.
أما بالنسبة للمال الذي يدفع للبنك والمصرف إذا وردت عليك شبهة، وقيست على شيء، فقرر الأصل وادرسه من كل جوانبه، ثم انظر فيما قيس عليه، هل الشبه كامل أو ناقص؟ فنقول: أولا: ً بالنسبة للمضاربة يقول العلماء: أن يدفع رب المال للعامل المال على أن يتجر به، والربح بينهما على ما شرطا، فعندما يدفع العميل للبنك أو المصرف هل يقوم البنك بالعمل والتجارة؟ الجواب: لا.
وليس هناك أي مادة تخول لهم أن يدخلوا إلى الساحة ويتعاملوا مع الناس؛ لأن أصل تجارة البنك تقوم على حفظ الأمانة، وإنما رخص لهم بالحفظ، ولا يؤذن لهم بأن يقوموا أنفسهم بالتجارة أو منافسة التجار، هذا معلوم وثابت، نتاجهم إنما يكون بأن يأخذوا منك مليوناً، ومن الثاني مليونين، ومن الثالث مائة ألف، ثم تؤخذ هذه وتعطى لأشخاص ديناً على أن يردوها بعوائدها، فأصبح لا حقيقة للعمل، أما المضاربة ففيها ضرب، وتجارة، ولكن الإيداع ليس فيه ضرب ولا تجارة، فأصبح قياساً مع الفارق.
ثانيا: ً في المضاربة الشرعية يدفع رب المال للعامل المال على أن يتجر به، والذي يضمن الخسارة هو رب المال، لكن البنك إذا تاجر بمال العميل، فإنه يلتزم برده كاملاً، ولذلك فإن جميع المواد تنص على أن الوديعة المصرفية دين على البنك وليست بمجال للاستثمار، حتى في القانون ينصون على أنها تأخذ حكم القرض، وهذا موجود، ومن رجع إلى المواد يجد هذا جلياً واضحاً.
إذاً: ليست بيد تجارة، وإنما هي يد ضمان، ويد العامل في المضاربة يد أمانة، وبالإجماع: لا يضمن العامل إلا إذا فرط، فلو أعطيت عاملاً مائة ألف وذهب وتاجر، ثم احترق المال بدون تفريط منه، فلا يضمن، كأن كسد السوق بدون تفريط منه، ونحو ذلك.
لكن لو قصر، كما لو اشترى التجارة من أرض بعيدة، وبإمكانه أن يحضرها عن طريق البر وعن طريق البحر، وفي طريق البحر الموج هائج، وفي زمان شديد البرد، وكثير الرياح، فجاء وخاطر وأدخل السفينة في البحر فغرقت، فإنه يضمن؛ لأنه قصر.
إذاً: العامل لا يضمن في المضاربة؛ لكن إذا دفع العميل المال للمصرف، فإن المصرف يلتزم برد المبلغ كاملاً إن خسر، إذاً: هناك شبه وفارق مؤثر.
ثالثاً: حينما يعطي رب المال للعامل مائة ألف على أن يتجر بها، فإنه يدخل والربح محتمل؛ لكن بالنسبة للعقود المصرفية يلتزم المصرف بإعطاء هذا الاستحقاق الذي هو (5 %) أو (10 %)؛ حتى إن العميل إذا لم يأخذ الاستحقاق قاضاهم قضاءً وقانوناً في قانونهم، وطالبهم بهذا الذي تم الاتفاق عليه.
إذاً: هناك اختلاف بين هذا وذاك.
رابعاً: المضاربة يكون نتاجها من معاملة شرعية، فلو ضارب بحرام لحرمت الأرباح، وأما بالنسبة للمصرف فإنه يأخذ هذه العوائد من الديونات بالفوائد المركبة، فلو كانت مضاربةً فإنها ناشئة من معاملة محرمة، كما لو أخذ المضارب المال وتاجر به في الميتات، أو في المحرمات؛ لحرمت تجارة المضاربة.
كذلك أيضاً لو سلمنا فرضاً أنها مضاربة، أو في حكم المضاربة كما يقولون: إن المضاربة تختلف باختلاف الحال؛ فلو قال: إن هذه الأحكام كلها اجتهادية، وليس فيها نص، فنقول: إذا كانت اجتهادية فأنت بالخيار بين أمرين: - إما أن تبقى على الأصل المجمع عليه بالمضاربة.
- وإما أن تلغي المضاربة من أصلها.
فإن بقيت على المُجْمَع عليه فلا يتفق مع ما ذكرت، وإن ألغيتها من أصلها فهو عقد تقيس عليه، وما قيس على باطل فهو باطل حقيقةً.
وعلى هذا: فإن هذه الشبهة غير واردة؛ لأنه لا يصح لا من جهة تركيب أركان المضاربة وشروطها الشرعية، ولا من جهة النتاج، وما يؤخذ أو يركب على العوائد.(161/4)
الأصناف التي يجري فيها الربا
لقد قامت مسائل الربا على أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك أحاديث يعتبرها العلماء رحمهم الله أصولاً لهذا الباب، من ضبطها وألم بمسائلها فإنه يستجمع كثيراً من الأحكام المتعلقة بالربا.
ومن أشهر هذه الأحاديث؛ بل هو أشهرها وأوسعها، ويعتبره العلماء رحمهم الله قاعدة هذا الباب، حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، والتمر بالتمر، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد).
وفي رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن زاد أو استزاد فقد أربى)، وهذا الحديث يعتبر قاعدة لباب الربا.
ونحتاج إلى مقدمة لابد من ضبطها حتى تسهل المسائل التي سنتكلم عليها إن شاء الله فنقول: هناك أصناف حرم الله عز وجل على المسلم أن يبيعها إلا إذا تماثلت، فإذا بعت هذا الصنف بمثله فلابد أن يكونا متماثلين، إما بالوزن إن كانا موزونين، وإما بالكيل إن كانا مكيلين، وهذه الأصناف يسميها العلماء بالأصناف الربوية.
وهناك أصناف وسع الله على عباده، فيجوز أن تأخذ الشيء بأكثر منه، فتأخذ الواحد بالاثنين، وتأخذ الشيء بأضعافه، ولا بأس في ذلك ولا حرج.
فإذا حرم الله عليك أن تبيع هذا الصنف بأكثر منه وزناً أو كيلاً فهذا يسمى بالصنف الربوي، وإذا أباح الله لك أن تأخذ هذا الشيء بأكثر منه وزناً أو كيلاً فهذا صنف غير ربوي، فانقسمت الأشياء التي يتبايع بها الناس إلى قسمين: 1 - أصناف ربوية.
2 - أصناف غير ربوية.
والأصناف الربوية: هي التي لابد فيها من أمرين: 1 - التماثل.
2 - التقابض.
فإذا بعت هذا الشيء بهذا الشيء من الأصناف الربوية فإن الشرع يوجب عليك أن تستلمه يداً بيد، فتأخذ بيد وتعطي بأخرى، وهذا ما يسمى بالتقابض.
إذاً: كل ما يشترط فيه التماثل والتقابض يوصف بكونه صنفاً ربوياً، فإن أسقط الشرع المؤاخذة وأجاز لك أن تبيع الشيء بأكثر منه، وأجاز لك أن تؤخر أحد المبيعين، فهذا صنف غير ربوي.
إذا عرفنا أن الأصناف منها الربوي ومنها غير الربوي، فإن الأصناف الربوية التي سنبينها لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون أصنافاً منصوصاً عليها.
الحالة الثانية: أن تكون أصنافاً مقيساً عليها، أو ملحقة بالمنصوص عليه.
وتوضيح ذلك: أن الأصناف التي يحكم العالِم بعدم جواز بيع بعضها ببعض متفاضلة: إما أن يكون فيها نص عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سمى ذلك الشيء بعينه، فحينئذٍ يسميه العلماء صنف منصوص، أي: أنه من الأصناف الربوية المنصوص عليها.
وهناك صنف ثانٍ ربوي لكنه قيس على هذا ولم ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ألحق به.
أما الأصناف المنصوص عليها فإنها قد جاءت مجتمعة في حديث عبادة السابق، ولذلك يسميه العلماء: حديث الأصناف الربوية، أو حديث الأصناف الستة، وهذا الحديث قاعدة باب الربا، فتفرعت عليه مسائل ربا النسيئة والفضل.
وهذه الأصناف الستة هي كالآتي: الذهب، والفضة، والبر، والتمر، والشعير، والملح، وإذا جئنا نبحث مسائلها سنبحثها على مرحلتين: المرحلة الأولى: أن تباع مع اتحاد الجنس والصنف؛ كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح.
المرحلة الثانية: نبحث في بيعها مختلفة الجنس أو مختلفة الصنف.
وهذه الأصناف الستة سنقسمها إلى قسمين: القسم الأول: غير المطعوم، وهو جنس الأثمان الذهب والفضة.
القسم الثاني: جنس المطعوم، وهو الأربعة الباقية.(161/5)
الذهب والفضة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب)، والذهب: هو المعدن المعروف، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعله قيماً وثمناً للأشياء، وهذا المعدن إذا بيع بمثله -كذهب بذهب- فلابد فيه من التماثل والتقابض، والذهب كما هو معلوم له حالات: الحالة الأولى: أن يكون على أصل خلقته، ويسمونه: الخام، وهو الذي استخرج من معدنه، والخام سواء صفي، وهو الذي يسمى بالسبائك، أو بقي فيه الشوب تابع لأصل خلقته.
الحالة الثانية: أن يصنع فيضرب دنانير، فيعتبر نقداً مثلما هو موجود في الدنانير، أو يضرب جنيهات من الذهب، فتكون عملة.
الحالة الثالثة: أن يكون حلياً، كالأسورة والقلائد ونحوها مما تتحلى به النساء، وفي جميع هذه الأحوال بيّن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يجوز بيع الذهب إلا مثلاً بمثل، يداً بيد.
إذاً: هذا الصنف الأول من الأصناف الستة الربوية إذا بيع بمثله فلابد فيه من أمرين: الأمر الأول: التماثل.
الأمر الثاني: التقابض.
فإذا بعت الذهب بالذهب، سواءً كان خاماً أو مضروباً كالدنانير، أو كان حلياً، أو مصنعاً من حلي أو غيره؛ فلابد من التماثل والتقابض، فمثلاً: امرأة جاءت بحلي قديم وتريد أن تستبدله بحلي جديد، فنقول: لابد أن يكون مثلاً بمثل، ويداً بيد، فلا يجوز أن يبيعها غرامات أقل بغرامات أكثر، فيقول لها مثلاً: هذا الذي عندك قديم فأشتري المائة غرام منك بتسعين من الجديد الذي عندي، فلو استفضل غراماً واحداً آخذاً أو معطياً فهو ربا الفضل.
كذلك لابد من التقابض، فلو قلت: سوف أعطيك الذهب الآن، فقال: وأنا سوف أحضر الذهب الذي عندي بعد ساعة، أو بعد خمس دقائق سأذهب وأحضره، فإنه ربا، ويسمى: ربا النسيئة.
إذاً: لابد من الأمرين: الأمر الأول: التماثل: وهو يتحقق بالوزن، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (مثلاً بمثل)، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (وزناً بوزن (، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض).
الأمر الثاني: التقابض: وذلك بأن تعطيه وتأخذ، فلا يفترقا عن بعض إلا وقد أخذ كل منهما السلعة من الآخر، أو المدفوع من الآخر.
لكن هنا مسألة: وهي أن الذهب من حيث هو هناك عيار ثمانية عشر، وهناك عيار واحد وعشرون، وهناك عيار أربعة وعشرون، ففيه الأجود، وفيه الجيد، وفيه الرديء، وقد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب)، وهذا اللفظ عام يشمل جميع أنواع الذهب إذا بودلت، فينبغي فيها التماثل.
فلو قال قائل: إن هذا الذهب من عيار ثمانية عشر، وهذا الذهب من عيار أربعة وعشرين، فأنا سأدفع الفرق بين عيار أربعة وعشرين وعيار ثمانية عشر، فنقول: لا يجوز بيع الذهب بالذهب ولو اختلفا في الجودة إلا مثلاً بمثل، بدليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه عامله على خيبر ومعه تمر، فلما وضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه، فقال صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: أوه -وهي كلمة التوجع- عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً).
ووجه الدلالة: أن التمر صنف ربوي، فنظر إلى التفاضل في الجودة والرداءة في التمر، فباع الرجل الجيد بالرديء متفاضلاً لقاء الجودة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (عين الربا، لا تفعل)، ثم ذكر له الحيل الشرعية؛ لأن الحيل منها ما هو شرعي جائز، ومنها ما هو محرم، فأعطاه البديل، وقال له: (بع الجمع -أي: الرديء- بالدراهم، ثم اتبع بالدراهم جنيباً) أي: الجيد والصنف المطلوب.
فهذا يدل على أنه إذا أراد أن يبادل صنفاً من الأصناف الربوية مطعوماً أو مثموناً، فلابد أن يكون مثلاً بمثل، ولو اختلفا في الجودة أو الصنعة أو العيار، فلابد من التماثل والتقابض؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عتب على عامله أن فاضل من أجل الجودة، فدل على أنه لابد من التماثل بين الطرفين.
والقول في الفضة كالقول في الذهب، فالفضة صنف من الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث، فإذا باعها بفضة مثلها فلابد من التماثل والتقابض، سواءً كانت الفضة خاماً، أو مضروبة دراهم، أو كانت مصنّعة حلياً أو غيره، فلابد من التماثل في جميع ذلك، ولا يجوز أن يستفضل فيبادل بعضها ببعض متفاضلاً.
فيستوي في ذلك أن تكون الفضة معدناً، أو حلياً، أو نقداً يتعامل به كالدراهم، وفي زماننا الريال، فإن ريال الفضة القديم وجد بدله الريال الورق، فينزل منزلة أصله، ولذلك سمي باسمه، وأعطي مستنداً لأصله؛ بغض النظر عن المنتزع الذي يذكر من كونه يتوصل إلى رصيده أو لا يتوصل، فالعبرة بالأصل، فأصله دين، فيرد النظر عن القدرة على استيفائه أو عدم القدرة على ذلك.
وبناءً على هذا: لو سأل سائل عن مبادلة الفضة بعضها ببعض؛ كامرأة عندها حلي من الفضة قديم، وتريد أن تستبدله بحلي من الفضة جديد، فنقول: لابد أن يكون مثلاً بمثل، يداً بيد.
هذا بالنسبة للذهب والفضة، وبناءً على ذلك نكون قد انتهينا من جنس الأثمان.(161/6)
المطعومات
أما جنس المطعومات، فهناك أربعة أصناف نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: البر، والتمر، والشعير، والملح.
- فالبر والشعير جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً للحبوب.
- والتمر جعله أصلاً للحلويات؛ كالعسل والزبيب ونحوه.
- والملح جعله أصلاً لما يستصلح به الطعام؛ كما يقع في الأدقة ونحوها.
فهذه الأصناف تسمى بالأصناف المطعومة، فلو أخذنا البر، بأن يبيع البر بالبر، فينبغي أن يكون مثلاً بمثل، يداً بيد، سواءً كان كلا البرين جيداً، أو كان أحدهما جيداً والآخر رديئاً، أو كان أحدهما جيداً والآخر أجود منه، فلابد أن يبيع مثلاً بمثل.
ولو قيل: كيف أبيع الجيد بما هو أردأ منه مثلاً بمثل؟ فيقال: إذاً بعه بالنقد، ثم اشتر بذلك النقد بديله وما تريد مقامه.
فإذا قيل: هذا تعب وتكليف للناس، فيقال: هكذا جاءت السنة، ولا يسعك إلا أن تسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً)، فدل على أنه يعدل إلى الحيلة الشرعية التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما قلنا في الذهب والفضة: يستوي الجيد والرديء، ولابد من التماثل والتقابض، فلو قال له: خذ البر الآن وأنا آخذ منك غداً، أو آتيك بعد ساعة، فإنه يعتبر ربا نسيئة، ولا يجوز إلا إذا كان يداً بيد مثلاً بمثل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثلاً بمثل، يداً بيد).
وكذلك التمر: فإذا بادل التمر بالتمر فلابد أن يكون مثلاً بمثل بالكيل.
والفرق بين التمر والذهب والفضة: أن الذهب والفضة تتحقق المماثلة فيهما بالوزن، وأما بالنسبة للتمر والبر والشعير والملح، ففي الأعراف المشهورة في العهد القريب تتحقق المماثلة فيها بالكيل، فلابد إذا باع طعاماً من تمر أن يماثله بصاعٍ مثله، فلو باعه الصاع بالصاعين أو الصاع بالصاع والنصف، فهذا هو الربا الذي حرم الله، وهو ربا الفضل.(161/7)
اشتراط التماثل والتقابض في بيع الربوي بمثله
إذا علمنا هذا، وهو أن الأصناف الستة إذا بيع الصنف بمثله اشترط التماثل في الكيل كيلاً كصاع بر بصاع بر، أو صاع تمر بصاع تمر، وفي الوزن وزناً، كأن تقول: مائة غرام من الذهب بمائة غرام من الذهب، ولا يفاضل بينهما، سواءً اتفقت الصنعة أو الجودة أو اختلفت، فالحكم في الجميع واحد، فنقول: إن هذه الأصناف يشترط فيها التماثل والتقابض، ودليل ذلك ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (مثلاً بمثل، يداً بيد)؛ لأنه قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح) أي: بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح.
فجعلها مقابلة لبعضها، فقال: (مثلاًَ بمثل) أي: بيعوها مثلاً بمثل، فدل على أنه لا يجوز بيعها عند فقد التماثل، كذلك أيضاً قال: (يداً بيد)، فلما قال صلى الله عليه وسلم: (مثلاً بمثل)، وقال: (يداً بيد)، أشار إلى نوعين من الربا: النوع الأول: ربا الفضل.
النوع الثاني: ربا النسيئة.(161/8)
وقوع ربا الفضل والنسيئة في الأصناف الربوية
فأما ربا الفضل: فالفضل أصله الزيادة، وإذا قلت: فلان له فضل، أي: فيه زيادة من خير وطاعة وبر، فربا الفضل ربا زيادة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: (مثلاً بمثل)، وقوله في معنى العكس: (ولا تشفوا بعضها على بعض)، أي: لا تزيدوا بعضها على بعض.
وعلى هذا يتحقق ربا الفضل إذا كان الصنف واحداً من الأصناف الستة، سواءً بودل بمثله، أو بيع بمثله مع الزيادة في وزن أو كيل؛ كصاع بصاعين، وصاع بصاع ونصف، ومُدان بمُد، ونحو ذلك، والوزن مثل: مائة غرام بخمسين غراماً، أو مائة غرام بخمسة وسبعين، أو مائة بتسع وتسعين غراماً، كل هذا يعتبر من الربا، فلو نقص غرام واحد فإنه ربا.
أما ربا النسيئة: فالنسيئة من النسأ، وأصله التأخير، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]؛ لأنهم كانوا ينسئون ويؤخرون الأشهر الحرم عن مواقيتها، وسمي هذا النوع من الربا بربا النسيئة؛ لأنه يقوم على التأخير، فانظر إلى حكمة الشريعة وما جاءت به من العدل بين المتعاملين، فإنك إذا بعت الذهب بالذهب، فمن العدل إذا أعطاك مائة غرام أن تعطيه مائة غرام في مقابلها، ولا تؤخره كما لم يؤخرك، فالعدل يقتضي أن تنجز له وينجز لك.
وبناءً على ذلك: لو بذل أحد الطرفين فقدم وأخر الثاني فإنه يقع ربا النسيئة، لكن بضوابط، فلو تأخر في الدفع فيقع ربا النسيئة بافتراق أحدهما عن الآخر قبل التقابض، فلو أنه قال له في مجلس العقد: عندي مائة غرام من السبائك، وأريدك أن تبادلني أو تبيعني بها مائة غرام من القلائد، فقال: قبلت، فهو لم يعطه شيئاً بعد، وتم الإيجاب والقبول، فمد له الحلي فتأخر الرجل يخرجها من بيته، أو يخرجها من شنطته، أو من كيسه، فلا يؤثر ما داما في مجلس العقد، على أصح قولي العلماء.
وهناك قول آخر: وهو أنه لابد أن يعطي بيده ويستلم بالأخرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر في الصحيح: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء)، أي: عندما تعطيه تقول: هه، وهو أيضاً يقول لك: هه، فمعناه: أنك تعطيه ويعطيك منابذة وحالاً، قالوا: فلو تأخر حتى ليدخل يده في جيبه لإخراج السلعة فإنه لم يتحقق قوله: (هاء وهاء)، فلابد أن يمد بيد ويعطيه بأخرى، وهذه المسألة يسمونها: مسألة صندوق التاجر، حيث كانوا في القديم يأتي ويكلم التاجر ومعه الحلي، فينزل التاجر إلى الصندوق ويخرج منه، كما هو موجود الآن في (البترينة) أو نحوها حين يقفلها ويفتحها حتى يستخرج منها المبيع، فقالوا: لا يجوز له أن يتعاقد معه إلا إذا نجز، وهذا المذهب فيه تشدد، لكن فيه رحمة.(161/9)
الحكمة من تحريم الربا
والناس قد ينظرون للحكم هكذا ويظنون أن فيه شدة وعسراً، لكن للشريعة حكم عظيمة؛ فإن هذا الاشتراط للتقابض يدفع عن الناس من الشر ما الله به عليم.
وكثير من المظالم تقع بسبب عدم التقابض، حتى إن أحد خبراء الاقتصاد من الكفار المعاصرين لما قرأ شرط الشريعة في التقابض، قال: لو أن العالم طبق شرط الشريعة الإسلامية في التقابض في النقدين، فإن ثلاثة أرباع مشاكل الاقتصاد سوف تنتهي؛ لأن التعامل كله بالكلام، والنكسات التي تقع حينما يحدث السحب بالسيولة غير موجودة، فتحدث بسبب ذلك الديونات والإحراجات، ويحصل بسبب ذلك الظلم.
ومن هنا اشترطت الشريعة التقابض؛ لأنه يدفع باب الاحتيال، فلو قال لك: أبيعك مائة دولار مثلاً من الذهب، وأعطيته النقد ولم يعطك إياها، فربما قال لك: أبيعها لك، وسجلها دون أن تكون موجودة في رصيده، بزعمه أنك إذا جئت تطلبها في أي وقت فإنه سوف ينجزها لك، فربما جئت تطلبها في أحرج الأوقات، فتصيبه النكسة، فيضر بنفسه.
وأيضاً أضر بغيره؛ لأنه ربما وقف العاجز الذي لا يستطيع أن يسدد ديونه لقاء السحوبات، كما يقع في بعض المصارف نكسات بسبب عدم وجود السيولة، فالشريعة لم تشترط هذا من فراغ، ولنمثل لذلك بمثال في مسألة دفع الضرر على هذا النطاق العام وهو ضرر أخف، فمثلاً: إذا جئت إلى رجل وأعطيته خمسمائة ريال وأنت تريد صرفها، أو اشتريت مثلاً بعشرة ريالات وأعطيته خمسمائة ريال، فإنه يأخذها مباشرة ويرميها في الصندوق ثم يقول: كم أعطيتني؟ فتقول: خمسمائة، فيقول: لا، بل أعطيتني مائة.
فتقول: أعطيتك مائة.
فيقول: لا، بل أعطيتني خمسين.
فتقول: خمسين.
فيقول: بل عشرة، هذا إذا لم يقل لك: لم تعطني شيئاً؛ لأنه ينسى.
فالشريعة تريد العدل، فإذا أخذ منك الذهب أعطاك مقابله باليد الأخرى؛ لأنك رضيت أن تبذل ذهبك لأجل العوض، فهذا كله مبني على حكمٍ عظيمة، فإن اشتراط التقابض وتحريم النسأ فيه دفع للضرر عن العامة والخاصة.(161/10)
التفصيل في بيع الربويات بعضها ببعض
وبناءً على ذلك فالأصناف الستة يشترط فيها التماثل والتقابض، وهذا كله إذا وقع التبايع بالصنف بمثله، كذهب بذهب، وفضة بفضة، وبر ببر، وتمر بتمر، وشعير بشعير، وملح بملح، لكن لو وقع التعامل مع الاختلاف، فإن الحكم يختلف، فإذا حصل الاختلاف اليسير اختلف الحكم يسيراً، وإذا وقع الاختلاف الكلي اختلف الحكم كلياً، وحكم بجواز التفاضل وجواز النسأ والتأخير.
وتوضيح ذلك: أن الأصناف الستة إذا بعتها مختلفة، فإما أن تبيعها مع اتحاد الجنس واختلاف النوع، وإما مع اختلاف الجنسين، فنقسم الستة إلى أثمانٍ ومطعومات، فالأثمان الذهب والفضة، والمطعومات الأربعة الباقية، فالذهب والفضة إذا بيعا مختلفين فإن جنسهما واحد، أي: جنس أثمان، فإذا بعت مع اتحاد الجنس واختلاف الصنف فيشترط التقابض فقط، فيجوز أن تبيع الكيلو من الذهب بالكيلوين من الفضة، لكن بشرط أن يكون يداً بيد، ولا يجوز أن يؤخر أحد المتعاقدين، فإذا اتفق جنس الثمن واختلف الصنف، كذهب بفضة، قلنا: يجوز التفاضل ولا يشترط التماثل، ويجب التقابض، فلا يفترقان عن مجلس العقد إلا وقد أعطى كل منهما للآخر ما له عليه.
مثال ذلك: لو جئت تشتري بالريالات الموجودة -ورصيدها فضة- ذهباً، وقال لك: الجرام بأربعين ريالاً، فاشتريت عشرة جرامات بأربعمائة ريال، أو مائة جرام بأربعة آلاف ريال، فيجب عليك أن تعطيه الثمن ويعطي لك الجرامات يداً بيد، فلا تفترقا عن مجلس العقد إلا وقد قبض كل منكما سلعة الآخر، أو ما عند الآخر.
فلو أن أحدكما أخر وافترقتما، فقد وقع ربا النسيئة من وجه واحد، وعند الانسحاب من الوجهين يجري الربا من وجهين، وعند اتحادهما من وجه واحد يجري الربا من وجه واحد، فيجري النسأ فقط ويجوز التفاضل.
أما لو اختلف الجنسان؛ كذهب بواحد من الأصناف الأربعة المطعومة، أو فضة بواحد من الأصناف الأربعة المطعومة، فيجوز التفاضل ويجوز النسأ، فيجوز أن تبيع الكيلو من الذهب بألف كيلو من التمر؛ لأنه لا يشترط التماثل، كذلك أيضاً يجوز أن تعطيه النقد الآن وتستلم منه التمر بعد يوم، أو بعد شهر، أو بعد سنة، ولا بأس بذلك؛ لأنه لا يوجد الربا لا من جهة التفاضل ولا من جهة التقابض.
وعليه قال العلماء: إن الأصناف الستة يجري فيها الربا من وجهين بشرط اتحاد الجنس والصنف، كذهب بذهب، وفضة بفضة، وبقية الأصناف الأربعة على ذلك، ويجري الربا من وجه واحد وهو ربا النسيئة، إن باع مع اختلاف الصنف واتحاد الجنس، كأن يتحد جنسهما كالأثمان، فيبادل الذهب بالفضة، فيجوز التفاضل بأن يبيعه الكيلو بالكيلوين، ولا يجوز النسأ وهو التأخير.
وكذلك لو باع البر بالتمر، فيجوز الصاع بالصاعين وبالثلاثة، ولكن يجب أن يكون يداً بيد، أما لو اختلف الجنسان كذهب ببر، أو تمر أو شعير أو ملح أو فضة بتمر أو شعير أو ملح، فإنه يجوز التفاضل ويجوز النسأ، ولا ربا في هذا النوع من البيع.(161/11)
الربا في غير الأصناف الستة المنصوص عليها
أما الأصناف التي سكت عنها الشرع، فجماهير السلف رحمة الله عليهم ومنهم الأئمة الأربعة على أنه يجري فيها الربا ولكن بشروط، وخالف في ذلك الظاهرية رحمهم الله، فقالوا: لا يجري الربا إلا في الأصناف الستة.
ومذهب الجمهور هو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر هذه الأشياء ذكرها أصولاً لغيرها، فذكر البر والشعير أصلاً للحبوب، فتقيس الأرز الموجود في زماننا والدخن والعدس والفاصوليا واللوبيا وغيرها من الحبوب ونحوها على البر والشعير.
كذلك أيضاً ذكر التمر لكي يقاس عليه الزبيب، والعسل، والحلوى، مما يباع كيلاً أو وزناً من جنس المطعومات، فجعلها أصلاً لغيرها.
وجعل ذكر الملح لكي يقاس عليه ما يستصلح به الطعام؛ كالأدقة ونحوها مما يوجد من البهارات الموجودة في زماننا.
إذاً: ليس من فراغ جاء قوله عليه الصلاة والسلام: البر والتمر والشعير والملح، إنما جاء تنبيهاً على المثل، ولذلك صح عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: (وكذلك ما يكال ويوزن)، وهو صحابي جليل فجعل ما يكال ملحقاً بالأصناف الأربعة المنصوص عليها كيلاً، وجعل ما يوزن ملحقاً بالمنصوص عليه من الذهب والفضة؛ لأنه كان يباع وزناً.
إذا علمنا أن الأصح أن الربا يجري في غير هذه الأصناف الستة، فلو سأل رجل عن الأرز الموجود في زماننا، أو سأل عن البرتقال أو التفاح أو الموز، وهذا من جنس المطعومات، أو سأل عن غير الطعام كالحديد أو النحاس أو الألمنيوم أو غيرها من المعادن، هل يجري فيها الربا أم لا؟ بمعنى: لو باع الرجل حديداً متفاضلاً؛ كطن من الحديد الصلب -وهو أجود أنواع الحديد- بنصف طن من الحديد الزهر، وهو رديء، فقال: أردت أن أبادل الحديد بالحديد متفاضلاً، فهل يجوز أم لا يجوز؟ كذلك يسأل الناس في زماننا هذا -ونحب أن نمثل بأمثلة موجودة الآن حتى يكون التطبيق واضحاً- فلو سأل عن ثلاجة بثلاجتين، أو سيارة بسيارتين، هل هذا من الربا؟ والسؤال عن الربا إنما يكون عند الزيادة؛ بل ربما يسأل: القلم بقلمين أو الدفتر بدفترين هل يجري فيه الربا أم لا؟ فكل واحد يسأل عما أشكل عليه أو وقع فيه، ومن هنا تسأل عن كل صغيرة وكبيرة موجودة في زمانك، فإن الموجود في زماننا أكثره غير منصوص عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الذي لم ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كان من جنس المطعومات.
القسم الثاني: ما كان من غير جنس المطعومات.
مثال ذلك: لو أخذنا الحلوى الموجودة في زماننا وبعناها من جنس غير المطعومات، مثل الثلاجات أو الحديد أو النحاس، فهل يجوز بيع هذه الأشياء إذا اتحدت أصنافها متفاضلة؟ هذا يحتاج إلى تفصيل.
وتوضيح ذلك أن يقال: نأخذ أولاً غير المطعومات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بها، فقال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة)، فذكر لنا الأصل في غير المطعوم، وهو الذهب والفضة، فإن الله حرم بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل؛ لمكان العدل، فإنه إذا باع الذهب بالذهب متفاضلاً، فهنا يوجد ظلم.
ومن هنا قال طائفة من العلماء رحمهم الله، وهو رواية عن الإمام أحمد، وذكر المرداوي رحمه الله صاحب الإنصاف أن المذهب عليها، وهو مذهب الحنفية أيضاً: أن العلة في الذهب والفضة الوزن، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب وزناً بوزن، والفضة بالفضة وزناً بوزن)، فكأن مقصود الشرع حصول التماثل بالوزن، فما كان يوزن من غير المطعومات فلابد فيه من التعادل والتكافؤ في الوزن.
ومن هنا إذا باع الموزون بالموزون مع اتحاد الصنف وقع الظلم، وقالوا: إن الموزونات من غير الذهب والفضة تقاس على الذهب والفضة، فلا يجوز بيعها متفاضلة مع اتحاد الصنف، فلو سأل رجل وقال: عندي عمارة وأريد أن أبنيها، فأخذ لها قطعة حديد من الرديء، وجاءه رجل وقال: هذا الطن الذي هو ألف كيلو عندك أريد أن أبادله بنصف طن من الصلب الذي هو أجود عندي، فهل يجوز أم لا يجوز؟ نقول: لا يجوز بيع هذا الحديد بمثله متفاضلاً؛ لأنه موزون، قياساً على الذهب والفضة.
كذلك لو سأل عن النحاس -وقد جرى العرف ببيعه وزناً- عن طن منه بنصف طن، أو طن بطن ونصف، فنقول: لا يجوز؛ لأنه موزون؛ كما لا يجوز بيع الذهب بالذهب متفاضلاً.
لكن لو أن غير المنصوص عليه -الذي قسناه على الذهب والفضة الذي هو الحديد والنحاس ونحوها من المعادن- لو دخلت فيه الصنعة فأخرجته عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مذروعاً فما الحكم؟ من باب المناسبة حتى يكون الحكم واضحاً: الوزن مثل الغرامات، ومثل الكيلو والطن، ونحو ذلك، والكيل كالصاع واللتر، فإن اللترات تسمى كيلاً، فلا يفهم البعض أن الكيل هو الكيلو غرام؛ بل الكيل مثل الصاع والمد والرطل، ونحوها كاللترات الموجودة في زماننا.
فهناك ما يباع عدداً كالسيارة، فإن السيارة لا تباع وزناً ولا كيلاً ولا بالذرع، وإنما تباع بالعدد، فتقول: أريد سيارة بسيارتين، والإبل والبقر والغنم كلها تباع بالعدد، فعندنا أشياء تباع بالوزن، وأشياء تباع بالكيل، وأشياء تباع بالعدد، وأشياء تباع بالذرع.
والذرع مثل القماش فإنه يباع بالمتر، وكذلك المخططات في الأراضي تباع بالذرع، فالشيء الذي يباع بالوزن من غير المطعوم لابد أن يكون مثلاً بمثل، لكن لو دخلت فيه الصنعة فأخرجته عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مزروعاً، مثال ذلك: لو أن رجلاً عنده طن من الحديد، ثم أخذ هذا الطن فقطعه قطعاً وأوصالاً بالأمتار، وأصبح يبيع مثلاً المتر بكذا، وحينئذٍ خرج عن كونه مباعاً بالوزن إلى كونه مباعاً بالذرع.
كذلك أيضاً قد يباع بالعدد، كأن يبيع بالواحدة أو بالاثنتين أو بالثلاث، وكما لو أخذ الحديد فصنعه سيارة، أو أخذ الحديد فصنعه ثلاجة أو غسالة أو نحو ذلك، فأخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مذروعاً، فما الحكم؟ قالوا: إذا أخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مذروعاً جاز التفاضل وحرم النسأ، فيجوز أن يبيع القطعة بالقطعتين، والسيارة بالسيارتين وبالثلاث وبالأربع؛ لأن المعدودات قد يحصل العدل فيها مع اختلاف العدد، فالبعير الواحد قد يعادل ثلاثة أبعرة، ومن هنا قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين والفرس بالأفراس إلى إبل الصدقة)، وهي معدودات، فأجاز في المعدود التفاضل، وبناءً على ذلك قالوا: إذا أخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً فإنه يجوز فيه التفاضل.
ولو سأل سائل فقال: هل يجوز بيع السيارة بالسيارتين؟ فنقول: نعم؛ لأنها ليست من جنس الربويات فتأخذ حكم الربوي، أعني: أن التفاضل فيها مغتفر، كالغسالة بالغسالتين، أو الثلاجة بالثلاجتين، فأي شيء من غير المطعوم إذا كان غير موزون جاز فيه التفاضل.
كذلك في الخشب: وهذا يقع حينما يشتري الخشب مثلاً بالوزن وهو خام لم يقطع ولم يفصل، فأراد أن يبادله بمثله، فهذا لا يجوز إلا مثلاً بمثل، لكن لو أن هذا الخشب يباع بالعدد، مثل ألواح الأبلكاش فإنها تباع بالأذرعة: المتر والمتر والنصف، وتباع بالعدد فيقول: اللوح واللوحان والثلاثة، وكل عشرة بكذا.
فخرجت عن كونها موزونة، فعندما تأتي وتشتري ألواح الخشب فلا تسأل: كم وزنها؟ إنما تقول: أريد لوحاً أو لوحين من صنف كذا وكذا، فإنه صار من جنس المبيعات بالعدد، فإذا أخرجت الصنعة الموزون إلى كونه معدوداً أو مذروعاً، جاز التفاضل، وحينئذٍ فلا يكون من جنس الربوي المنصوص عليه من كل وجه.
وهناك قول ثانٍ في ثبوت العلة في الذهب والفضة وهو أن العلة هي الثمنية، أي: كونهما رءوساً للأثمان، وقيماً للأشياء، والثمنية يسميها علماء الأصول: علة قاصرة، ولا يقاس عليها غيرها؛ لأن الله جعل في الذهب والفضة خصيصة، كما نبه على ذلك الإمام المقدسي رحمه الله في مختصر منهاج القاصدين.
وهذه العلة يقول بها الجمهور من المالكية والشافعية، وهي رواية عن الإمام أحمد: أن الذهب والفضة جرى فيهما الربا لكونهما ثمناً للأشياء وقيماً لها، وهذه العلة القاصرة مختلف فيها عند علماء الأصول، فبعضهم لا يرى التعليل بها، ولذلك يقول صاحب المراقي: وعللوا بما خلت عن تعدية ليعلم امتناعه والتقوية ومذهب الجمهور على أنه يجوز التعليل بالعلة القاصرة، لكن إذا قلنا: العلة في الذهب والفضة هي الثمنية، بناءً على القول الثاني، فإن الربا عندهم لا يجري في غير الطعام أياً كان ذلك، ولو كان موزوناً، إلا في الذهب والفضة.
فعلى مذهب الجمهور فبيع الطن بالطنين من الحديد يجوز، وبيع الطن بالطنين من النحاس يجوز؛ لأنهم لا يرون جريان الربا في غير المطعوم إلا في الذهب والفضة فقط.
وأما بالنسبة للمطعومات فقد اختلف العلماء رحمهم الله في علتها على أقوال: - فقيل: الكيل، كما هو مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد.
- وقيل: الطعم، كما هو مذهب الشافعية، ورواية أيضاً عن الإمام أحمد.
- وقيل: القوت والادخار، كما هو مذهب المالكية.
- وقيل: الطعم مع الكيل أو الوزن، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال بها بعض السلف، كما هو قول سعيد بن المسيب وطائفة، وهو أرجح الأقوال.
أما الطُعم فلنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل، فهذا حديث معمر بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه يدل على قوة قول القائل: إن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن.
وبناءً على هذا القول -أن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن- فكل طعام ينظر فيه: إن كان يباع كيلاً أو وزناً جرى فيه الربا من الوجهين عند اتحاد الصنف، وإن كان يباع عدداً لم يجر فيه الربا.
فمثلاً: الطعام مثل الأرز الموجود في زماننا، يباع وزناً وكيلاً بأن تضعه في الصاع، فتقول: صاع من الأرز أو صاعان، ونحو ذلك.
أيضاً يباع الطعام عدداً كالبطيخ، فتقول: أعطن(161/12)
مسائل في الربا
ابتدأ المصنف رحمه الله بالقاعدة العامة، ثم ذكر تطبيقات لما يحرم فيه الربا من وجهين، ولما يحرم فيه الربا من وجه واحد، ثم بعد أن قرر أصول الربا انتقل إلى بيوع ذرائع الربا؛ لأن المحرمات الربوية تنقسم إلى: منصوص عليها، وملحقة بالمنصوص عليها، وهناك أشياء من البيوع في ظاهرها أو صورتها ليس فيها الربا، لكنها تئول إلى الربا، ويسمونها: بيوع الذرائع الربوية، كبيع ربوي مع الربوي وغير الربوي، وبيع العينة، ونحو ذلك مما سيبينه رحمه الله.(161/13)
تحريم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يحرم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه] إذا باع براً ببر، فيحرم ربا الفضل، وإذا حرم ربا الفضل فاعلم أن ربا النسيئة حرام، وإذا قلت: يحرم النسأ فقد يجوز التفاضل وقد يحرم، إذاً: تحريم النسأ لا يستلزم وجود ربا الفضل، وتحريم الفضل يستلزم وجود ربا النسيئة، وهذا هو الذي جعل ربا النسيئة أقوى من ربا الفضل.
وعليه حمل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أسامة: (لا ربا إلا في النسيئة)؛ وذلك لأنه أغلب وأكثر نوعي الربا انتشاراً، فيكون قوله: (لا ربا إلا في النسيئة) ليس المراد به الحصر، وإنما المراد به التعظيم، كقوله: (الحج عرفة)، فلما كانت أكثر مقاصد الحج في عرفة جعل الحج كأنه الوقوف بعرفة، وكذلك لما كان أكثر الربا في النسيئة، كان هذا خارجاً مخرج التعظيم، وليس المراد به حصر الربا في النسيئة.
وقوله: (وموزون) الموزون سواءً كان مطعوماً أو غير مطعوم، إذا بيع بجنسه فلابد أولاً أن يكون من الأصناف الربوية، فإن كان من جنس المطعومات، قلنا: العلة الطعم مع الكيل أو الوزن، وإن كان من غير المطعومات فإن العلة فقط هي الوزن.
فجاء بالأصل العام الذي هو الكيل والوزن؛ لأن المصنف رحمه الله رجح أن المطعومات العلة فيها الكيل فقط، وهي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وقد بينّا أن الأقوى والأرجح أن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن.
وقوله: (بيع بجنسه) بناءً على ذلك فإن البر مع البر والتمر مع التمر والملح بالملح كله يجري فيه الربا من الوجهين، لكن لو خرجت عن المنصوص عليه فسُئلت عن الأرز أو الحلوى، أو غير ذلك من المكسرات الموجودة في زماننا؟ فتقول: فيها تفصيل: فإن كانت مكيلة أو موزونة فلا يجوز بيع الجنس الواحد بمثله إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، وإن كانت تباع بالعدد جاز التفاضل، ولكن يجب أن يكون يداً بيد.(161/14)
اشتراط الحلول والتقابض عند بيع الربوي بالربوي
قال رحمه الله: [ويجب فيه الحلول والقبض]: أي: أن يكون البيع حالاً، وأن يتقابضا في المجلس، وعلى هذا فلا يجوز بيع الربوي بالربوي مؤجلاً، كأن يقول له: تعطيني غداً، وأعطيك غداً، أو أعطيك بعد شهر، أو تعطيني بعد شهر، فإن هذا بيع الدين بالدين، والربا فيه من الوجهين ولا إشكال.
وكذلك أيضاً: لو أخر أحدهما، فقبض أحدهما ولم يقبض الآخر، فإنه لا يجوز، بل لابد من التقابض بأن يكون ذلك حالاً، فيعطي هذا ويعطي ذاك.
أما الدليل على هذا فقوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء)، فنبه على لزوم التقابض في قوله: (هاء وهاء)، وهذا يستلزم أن يكون البيع على البت فيه دون أن يكون مؤجلاً من الطرفين أو أحدهما.(161/15)
بيع المكيل والموزون بجنسه كيلاً أو وزناً
قال رحمه الله: [ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلاً].
هنا مسألة التماثل، وقد ذكرنا أنه لابد من التماثل في بيع الأصناف الأربعة المطعومة إذا كانت مكيلة، فإذا قلنا: إن العلة في المطعوم هي الكيل، فلا يجوز بيع المكيل من المطعومات كلها بمثله إلا أن يتساويا في الكيل، ولا يعدل إلى الميزان.
مثلاً: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يباع التمر مثلاً كيلاً، فتبيع الصاع بالصاع، لكن لو قال لك قائل: أريد أن أبادلك مائة كيلو من التمر، فنقول: هذا ليس كيلاً إنما هو وزن، ولا يجوز في المكيل أن يباع بالوزن لمثله؛ لأن التماثل في الكيل يختلف عن التماثل في الوزن، ولذلك قالوا: لا يجوز بيع الربوي إذا كان مكيلاً بمثله إلا كيلاً.
وهذا كله من باب تحقيق التماثل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فالتمر من حيث هو فيه الأقماع، والقمع الموجود في التمر يزيد من وزنه، وإن كان شيئاً يسيراً، لكنه في الغرامات تظهر زيادته، فلوكان هناك صاع من التمر بأقماع، فإنه يزيد في الوزن، ولو كان التمر مجرداً مفصلاً من القمع، فمعنى ذلك أن الغرامات تستوي ولا يتحقق التماثل.
والتمر فيه الطويل وفيه القصير، ففي الكيل يكون التماثل بالجنس، ولكن في الوزن يكون التماثل بالثقل، والتماثل في الشريعة عندما جاء بالكيل يتحقق في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً.
وقوله: [ولا موزون بجنسه إلا وزناً]: كما ذكرنا على أنه في الكيل لا ينضبط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب وزناً بوزن)، وعلى هذا فلا يجوز بيع المكيل بالوزن ولا الموزون بالكيل، تحقيقاً للتماثل، وخوفاً من وقوع التفاضل في الوزن، وحينئذٍ لا يتحقق مقصود الشرع من التكافؤ بين المدفوعين من الطرفين: البائع والمشتري.(161/16)
بيع الجزاف
قال رحمه الله: [ولا بعضه ببعض جزافاً].
وهذا التطبيق الذي ذكره المصنف رحمه الله هو في الحقيقة تطبيق لقاعدة: (بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً)، وما دام أن الشريعة أمرت بالتماثل في المكيلات وفي الموزونات، فمعنى ذلك: أن يتحقق التماثل في الكيل كيلاً وفي الوزن وزناً؛ لأننا ذكرنا أن المكيلات قد تختلف في الوزن.
وبناءً على هذا يختلف مقصود الشرع ببيع المكيل وزناً والموزون كيلاً، وكذلك ببيع بعضها ببعض جزافاً، فالمخالفة تتحقق بإحدى: - إما أن تجعل هناك وحدة تخالف الكيل، إن كان يباع بالكيل، أو تخالف الوزن إن كان يباع بالوزن.
- وإما أن يقع الجهل بالتماثل، ولذلك يذكرون قاعدة: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل)، وهذه القاعدة تنطبق على مسألة بيع بعضه ببعض جزافاً.
والجزاف: كأن يأخذ منه كوماً، أو يقول: هذا الكوم بهذا الكوم، فقد يكون أحدهما أكثر من الآخر كيلاً إن كان من جنس المكيلات، أو وزناً إن كان من جنس الموزونات، كما يقع في خامات بعض المعادن، فلو أنه خالف في الموزون أو المكيل فخرج عن ضبطه بالكيل والوزن -سواءً مع المخالفة بالمقادير المعروفة أو بالجزاف- فإن بيع المكيل بالوزن فات التماثل وخشي أن يكون ذريعة لفوات التماثل، وكذلك أيضاً إذا لم يوجد العيار الذي هو الكيل والوزن فباع جزافاً، ككوم من الطعام بكوم من الطعام، بل حتى لو قال: أبيعك هذا الكوم من الذهب بهذا الكوم، ولا نعرف كم مقدار هذا الكوم وزناً ولا هذا الكوم وزناً؛ فإن هذا يوجب الوقوع في المحرم.
ولذلك قالوا في القاعدة: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل) أي: إذا باعه جزافاً فقد جهلنا التماثل وما تحققنا أن الوزن واحد، قالوا: فإذا جهل التماثل في بيع الربوي بالربوي فكأنه تُحقق من بيعه متفاضلاً.(161/17)
شرح زاد المستقنع - باب الربا والصرف [2]
مسائل الربا كثيرة ومتشعبة، وقد تخفى على الكثير من الناس، ومن تلك المسائل: بيع الربوي مع اتحاد الجنس أو اختلافه، وبيع لحم الحيوان بجنسه وبغير جنسه، وبيع الحب بدقيقه أو سويقه، وبيع الأصل بعصيره، وبيع الحب الخالص بالمشوب، وبيع الرطب باليابس، وبيع الربوي بجنسه إذا استويا وغيرها من المسائل المتعلقة بالربا.(162/1)
تابع مسائل في الربا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(162/2)
حكم بيع الربوي مع اتحاد الجنس أو اختلافه
قال رحمه الله: [فإن اختلف الجنس جازت الثلاثة] هناك ثلاث صور: - الصورة الأولى: أن يكون البيع مع اتحاد الجنس والصنف، فيجري فيه الربا من وجهين.
- الصورة الثانية: أن يتحد الجنس ويختلف النوع، فيجري فيه الربا من وجه واحد.
- الصورة الثالثة: أن يختلف الجنسان، فلا يجري فيه ربا التفاضل ولا النسيئة.
فإذا اتفق الجنسان والصنفان حرم التفاضل والنسأ، وإذا اختلف الجنسان جاز أن يباع كيلاً، ووزناً، وجزافاً، فلا بأس بذلك ولا حرج فيه؛ لأنه لا يشترط فيه التماثل.
وقوله: [والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعاً]: هذا الجنس الأخص.
وقوله: [كبر ونحوه]: البر منه الشامي والحجازي، وغيرهما من الأنواع الأخرى، فهو جنس واحد ولكنه يشمل أنواعاً، وهناك بعض المطعومات يكون جنسها واحداً، وهناك الأجود والجيد والأوسط والرديء، فهو يشمل أنواعاً متعددة.
فعندما نقول: البر يشمل عدة أنواع، والذهب يشمل جيده ورديئه، فيشمل: السبائك والخام والحلي والمضروب؛ فالجميع لابد فيه من التماثل والتقابض إذا اتحد صنفه وجنسه.
وقوله: [وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان].
الدقيق يكون من البر ومن الشعير، فدقيق الشعير لا يباع بدقيق الشعير ولا يباع بشعير، ولو اختلف الدقيق؛ كدقيق من شعير مشرقي مثلاً بدقيق من شعير مغربي، فنقول: إن اختلاف نوعيهما لا يمنع من الحكم الأصلي من وجوب التماثل فيهما، فلابد من بيعها متماثلة، ويكون ذلك يداً بيد.
وهكذا الأرز، فإن الأرز عدة أنواع، فلو أراد رجل أن يبادل كيساً من الأرز بكيس من نوع آخر، فنقول: فروع هذه الأجناس كل فرع منها إذا كان له اسم خاص وبيع بمثله فإنه يجب أن يباع يداً بيد، مثلاً بمثل، فالأرز أياً كان نوعه لابد فيه من التماثل، وهو جنس ويشمل أنواعاً عديدة، لكن يجب فيها التماثل جميعاً جيدها ورديئها وأوسطها.
وقوله: [واللحم أجناس باختلاف أصوله].
فهناك لحم إبل، ولحم بقر، ولحم غنم، ثم هذه الأنواع تحتها أنواع، فالإبل مثلاً هناك لحم لصغار الإبل، ولحم لكبار الإبل، أو لحم من إبل عرابية ولحم من إبل بختية، فالجميع يجب فيه التماثل، لكن لو بيع لحم إبل بلحم غنم، فنقول: إن فروع الأجناس أجناس، فلحم الإبل جنس ولحم الغنم جنس، فيجوز أن تبيع لحم الإبل بلحم الغنم متفاضلاً في الوزن، ولكن يداً بيد؛ لأنه مطعوم موزون.
فإذا سأل سائل عن بيع اللحم باللحم؟ فنقول: فيه تفصيل: فإن اتفقا فكانا من نوع واحد: كلحم إبل بلحم إبل، فيجب التماثل والتقابض، فهو صنف واحد، وأما إذا اختلف كلحم إبل بلحم بقر، أو لحم إبل بلحم غنم، فإن هذا جنس وهذا جنس، فيجوز التفاضل ويجب التقابض.
وقوله: [وكذا اللبن].
فهناك لبن البقر، ولبن الغنم، ولبن الإبل، فمثلاً: اللبن الذي يباع يوجد منه في السوق بالألتار، ويكتب على العلبة: نصف لتر، أو لتر، وهذا اللتر يكون من جنس المكيلات، فلو سأل سائل عن مبادلة كرتون من هذا النوع من الحليب بكرتونين من نوع آخر من نفس الحليب، لكن هذا حليب مراعٍ والآخر نوع آخر فنقول: ما دام أنه لبن بقر فيجب فيه التماثل والتقابض، الكرتون بالكرتون مع التماثل في الكيل، كمائة لتر بمائة لتر، ويكون يداً بيد.
لكن لو كان أحد الكرتونين من لبن البقر، والكرتون الآخر من لبن الإبل، فنقول: يجوز بيع الكرتون بالكرتونين والثلاثة؛ لأن الجنس واحد، ولكن النوع مختلف، فلا يشترط التماثل.
وقوله: [والشحم].
الشحم المأخوذ من بهيمة الأنعام يختلف، فهناك الشحم الذي يؤخذ من الإبل أو البقر أو الغنم، فإذا باع شحوم الإبل فيجب التماثل والتقابض، إذا كان بعضها ببعض، وكذلك البقر والغنم.
لكن لو أراد أن يبادل شحم الإبل بشحم الغنم، جاز التفاضل ووجب التقابض، إذاً: إذا ضبطت القاعدة فهذه كلها أمثلة تطبيقية على ما يشترط فيه التماثل والتقابض.
وقوله: [والكبد أجناس].
فالكُبود التي تكون من الإبل لها حكم، والكُبود التي تكون من البقر لها حكم، والكُبود التي تكون من الغنم لها حكم، فإذا باع كبود الإبل فتقول: إذا كان بعضها ببعض وجب التقابض والتماثل، وإن كانت كبود إبل بكبود بقر جاز التفاضل ولم يجز النسأ.(162/3)
حكم بيع لحم بحيوان من جنسه وبغير جنسه
قال رحمه الله: [ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه].
فلو ذبح الجزار شاة، وأتى رجل وعنده شاة حية، فرغب في هذه الشاة المذبوحة، وأراد أن يعطيه الشاة الحية ويأخذ المذبوحة، ومعلوم أن الشاة وهي حية من المعدودات، واللحم بعد ذبحه موزون.
وبالمناسبة: فإن بيع الحيوانات بالوزن لا يجوز، وهذا نص عليه العلماء؛ وذلك لأنه من بيع الغرر؛ لأن الشاة قد تشرب الماء فيثقل وزنها، وقد يعطيها طعاماً فتثقل في الميزان، وهذا من الغرر، ومن ثم حرم العلماء بيع الحيوانات موزونة، لكن لو ذبحت فإنه يجوز بيعها موزونة.
والشاة والبقرة والناقة لهن أحوال، فهناك ما تسمى بالشاة الحلوب، والناقة الحلوب، وهناك الناقة الركوب، وهناك شاة يراد منها الحليب، وهناك ناقة يراد منها الحليب، ويقال لها: ناقة حلوب، وهناك ناقة تراد للركوب، ويقال لها: ناقة ركوب، وهناك ناقة أكولة فيها لحم طيب، وهذا يرجع إلى أهل الخبرة، فإنهم يرون فيها أوصافاً معينة ويبنون عليها أنها صالحة للأكل.
فهناك ما يطلب للأكل، وهناك ما يطلب للركوب، وهناك ما يطلب للحليب، ولذلك قال: (من جنسه).
وبعض العلماء يقول: الأصل في تحريم بيع الحيوان باللحم نسيئة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الحيوان باللحم نسيئة)، وهو مرسل من مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله، وقد أجاز بعض العلماء بيع الحيوان باللحم، وقالوا: يجوز أن يبيعه متفاضلاً لا نسيئة؛ لأنه من جنس المطعوم، أما إذا باع الشاة المذبوحة بشاة أكولة، فإن المراد من الشاتين واحد، فحينئذٍ يمتنع، وأما إذا باع الشاة الأكولة بالشاة الحلوبة فإنه يجوز؛ لأن المقصود مختلف، وهذا وجه خرجه بعض العلماء، خاصة وأنهم يرون ضعف الحديث المرسل عن سعيد بن المسيب رحمه الله.
وقوله: [ويصح بغير جنسه]: أي: إذا باع الحيوان بغير جنسه، فلو أن جزاراً قال لك: أعطني مائة رأس مذبوحة من الغنم وأعطيك بدلاً عنها خمسين رأساً من البقر، فنقول: يجوز؛ لأن جنس البقر غير جنس الغنم، فيجوز التفاضل، ولكن يجب أن يكون ذلك يداً بيد؛ لأن كلاً منهما من جنس المطعوم.(162/4)
حكم بيع الحب بدقيقه أو سويقه
قال رحمه الله: [ولا يجوز بيع حب بدقيقه].
عرفنا الضابط وهو اشتراط التماثل، وهنا صور يقع فيها التفاضل لعدم القدرة على التماثل والتكافؤ بين الصنفين في الصنف الواحد إذا بيع بعضه ببعض، فمثلاً: الحب بالدقيق، فإن الحب ليس كالدقيق، فالدقيق يقع بعضه على بعض فيكون مسدوداً بأجرام الدقيق أكثر من الذي يسد بالحبوب، ومن هنا لا يحصل التكافؤ بين الحب والدقيق.
ولو سأل سائل وقال: أنتم تقولون: يشترط التماثل، والصاع بالصاع يجوز، فلو أنني أخذت حباً وطحنته، وأردت أن أبادله بحب غير مطحون صاع بصاع، فهل يجوز؟ فنقول: لا يجوز؛ لأنه لما طحن اختلف عن غير المطحون، وموقعهما في الصاع وفي الكيل ليس بمتكافئ.
ومن هنا لا تتحقق المماثلة المشروطة شرعاً، فإنه إذا قال: صاع بصاع، أو مد بمد، فهذا لا يكفي وحده؛ بل لابد من التماثل على الصفة التي ذكرناها، فلو سأل عن بيع الدقيق بالحب؟ فنقول: لا يجوز، ولو اتفقا كيلاً؛ كصاع بصاع ومد بمد؛ بل لابد من التماثل بينهما.
وقوله: [ولا سويقه، ولا نيئه بمطبوخه].
إذا لت السويق بالنار وحبس عليها فسوف يذهب جزء من الدقيق، حتى لو أخذ السويق وبودل بالدقيق فليس بينهما تكافئ، ومن هنا قالوا: لا يجوز بيعه بالحب، ولا بيعه أيضاً بالدقيق؛ لأنه يختلف؛ فإنه المحموس ليس كغير المحموس؛ لأن النار تستنفذ وتستهلك منه، وهذا وهو الذي جعله يقول: (ولا نيئه بمطبوخه)، فلو سأل سائل عن بيع اللحم وقال: هل نبيع اللحم المطبوخ باللحم الني؟ فنقول: لا يجوز؛ لأنهما وإن تماثلا في الوزن فإن اللحم المطبوخ قد استنفذ وأهلكته النار، فلا يصل إلى قدر الني إلا بأضعافه في بعض الأحيان، كالحب مع المطحون.(162/5)
حكم بيع الأصل بعصيره
قال رحمه الله: [وأصله بعصيره].
فلو قال قائل: أريد أن أبادل عصير البرتقال بحبوبه، فنقول: لا يجوز؛ لأن العصير خالص البرتقال، والحبوب فيها الخالص وفيها غير الخالص، فحينئذٍ الألياف الموجودة في البرتقال زائدة على العصير، فلا يقع التكافؤ في الوزن، حتى لو وزن العصير مع البرتقال موزوناً، وقال: نأخذ القشر ونضاعف البرتقال في الوزن، فنقول: لايجوز.
وكذلك الجزر إذا كان يباع وزناً فهو مطعوم موزون يجري فيه الربا، فلو أراد أن يأخذ الجزر ويعصره ثم يبادله بغير المعصور، فإنه لا يجوز؛ لأن التماثل لا يتحقق.(162/6)
حكم بيع الحب الخالص بالمشوب
قال رحمه الله: [وخالصه بمشوبه].
فلا يجوز بيع الحب الخالص بالحب المشوب، وهكذا إذا لم يدس حصاد الحب، فإن الحب إذا حصد يجعل في (البيدر) وبعد ذلك يداس وينقح، فمثلاً: قبل أن يخلص من الشوائب جاء رجل وقال: أنا أشتري منك هذا الحب الموجود المدوس الذي لم يصف بعد بهذا الحب الموجود، نكيل هذا ونكيل هذا، ألستم تقولون: إن الشرط (الكيل والتماثل)؟ فنعطي مائة كيلة بمائة كيلة، فنقول: لا.
إنهما وإن اتفقا كيلاً لكن وجود الشوب يمنع من التماثل.
إذاً: وجود الشوب، ووجود النار كما في المطبوخ، وعدم التصفية، والعصر، كل ذلك لا يتحقق به التماثل، فقالوا: لا يباع إلا بمثله.
لكن لو قال أنه يريد أن يبيع عصير البرتقال بعصيره، فهل يجوز أم لا؟ نقول: يجوز إذا تماثلا، فإذا كان العصير يباع مثلاً بالكاسات، والكاسات أشبه باللتر، وتحقق التماثل في الكاسات، فلا بأس.
والبرتقال أنواع، فهذا حلو، وهذا وسط بين الحلو والحامض، فإذا بادل به فيجوز إذا كان يداً بيد؛ لأنه تحقق بيع هذا العصير بهذا العصير، لكن إذا كان بأليافه مع عصيره فإنه لا يتحقق التماثل.(162/7)
حكم بيع الرطب باليابس
قال رحمه الله: [ورطبه بيابسه].
وهكذا الرطب واليابس؛ لأن الضابط هو عدم وجود التكافؤ؛ لأن اليابس تستهلكه الشمس، فالتمر إذا كان في بداية الاستواء قبل أن ينشف يكون رطباً، أو يكون على نصف استواء الرطب، لم يكتمل استواؤه بعد، فإذا أراد أن يبادل الرطب باليابس فلا يجوز؛ لأن اليابس تستنفذ الحرارة منه وتستخلصه، بخلاف الرطب، فإن الماء الموجود فيه أكثر من اليابس.
والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بيع الرطب بالتمر؟ قال عليه الصلاة والسلام: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم.
قال: فلا إذاً) وهذا الحديث هو قاعدة هذه المسألة؛ فهكذا مسألة الني والمطبوخ، فإن المطبوخ إذا طبخ نقص، وفي بعض الأحيان يزداد المطبوخ إذا كان مخلوطاً بغيره، وإذا استنفد ذلك الغير فإنه يثقل، والعدل أن يكون على صفة يؤمن فيها التفاضل، فإذا كان نياً بني معاً مطبوخ بمطبوخ معاً، وهكذا بالنسبة لبقية الأشياء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أينقص الرطب إذا يبس؟) نبه على العلة التي من أجلها حرم بيع الرطب بالتمر، وهو عدم وجود التماثل المطلوب.(162/8)
حكم بيع الربوي بجنسه إذا استويا
قال رحمه الله: [ويجوز بيع دقيقه بدقيقه] أي: دقيق الحب بدقيق الحب [إذا استويا في النعومة]، إذاً: مدار المسألة كلها في التماثل فقط، فإذا طحن الدقيق فإنه يطحن الطحنة الأولى والطحنة الثانية، فإذا طحن الطحنة الثانية فإنه يكون أخف بكثير، وأكثر نعومة من الطحنة الأولى، وربما طحن بآلات يكون الطحن فيها أكثر نعومة من غيرها، فالآلات القديمة ليست كالآلات الحديثة.
إذاً: الدقيق بالدقيق يجوز بيع بعضه ببعض إذا كان مثلاً بمثل، يداً بيد، أما إذا اختلفا في النعومة، وكان أحد الدقيقين أكثر نعومة من الآخر، فإنه يقع فيه ما يقع في بيع الحب بالدقيق، فمثلاً: الجريش يطحن بعض الطحن وليس كل الطحن، وتبقى أجرام الحبوب فيه، فهذا الجريش لا يجوز بيعه بالدقيق، ولا يجوز بيعه بالحب، لكن إذا بيع بجريش طحن طحنة في مستواه جاز، وهكذا بالنسبة للدقيق الذي هو أكثر نعومة إذا طحن طحنة كاملة يفصل فيه: فإن طحن مرتين أو ثلاثاً وكانت نعومته أكثر، فلا يباع إلا بما هو ناعم أكثر؛ حتى يتحقق التماثل المطلوب شرعاً والمأمور به كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [ومطبوخه بمطبوخه] أي: إذا تساويا في الطبخ [وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف] وذلك حتى يتحقق العدل، أما إذا اختلفا في الطبخ واختلفا في النشاف فإنه لا يجوز؛ لأنه يفضي إلى التفاضل المنهي عنه شرعاً.
وقوله: [وعصيره بعصيره ورطبه برطبه]، أي: يجوز بيع العصير بالعصير إذا استويا في العصر، ويجوز بيع الرطب بالرطب إذا استويا رطوبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه في حديث المزابنة على تحريم المزابنة لعدم وجود التماثل، ومفهوم ذلك: أنه إذا وجد التماثل جاز، والعلة التي من أجلها حرم بيع المطبوخ بالني، وبيع العصير بغيره، وبيع الدقيق بالحب، إنما هي خوف التفاضل، لكن إذا زالت هذه العلة لاستوائهما نعومة أو طبخاً أو عصراً؛ جاز البيع وصح.(162/9)
الأصناف التي يجري فيها الربا
الأصناف الستة المنصوص عليها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالأثمان، وهي الذهب والفضة.
القسم الثاني: يتعلق بالمطعومات، وهي: البر والتمر والشعير والملح.
أما حكم التعامل بهذه الستة عند اتحاد الجنس والصنف، كأن يبادل الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو واحداً من الأربعة بمثله، فقد قلنا: لا بد من التماثل والتقابض، وإذا قلت بوجوب التماثل فمعناه: أنه يجري ربا الفضل، وإن قلت بوجوب التقابض فمعناه أنه يجري ربا النسيئة.(162/10)
العلة في الأصناف الربوية
أما العلة في الأصناف التي يمكن إلحاقها بهذه الستة فهناك علتان: العلة الأولى: تتعلق بالذهب والفضة.
العلة الثانية: تتعلق بالمطعومات.
أما علة الذهب والفضة فعلى أصح قولي العلماء أنها الوزن، فكل شيء من غير المطعومات إذا كان موزوناً فإنه يجري فيه الربا؛ كالحديد والنحاس والرصاص ونحو ذلك، وكل شيء من غير المطعومات إذا كان يباع عدداً أو جزافاً، فإنه لا يجري فيه الربا.
وأما بالنسبة للمطعومات فأصح أقوال العلماء رحمهم الله أن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن، على ظاهر حديث معمر بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل).
أما كيفية القياس والإلحاق، فإن كل مطعوم يباع بالكيل أو يباع بالوزن فإنه يقاس على الأربعة، فإذا بيع بمثله وجب التماثل والتقابض، وهذا يجري في سائر المطعومات بهذا الضابط، فإن اختل الضابط لم يجر ربا الفضل.(162/11)
أحكام اتفاق الأجناس الربوية واختلافها
أما مسألة الأجناس فما كان جنساً واحداً متفق النوع؛ كالذهب -واتفاق نوعه كأن يكون عيار أربعة وعشرين بعيار أربعة وعشرين، واختلافه كعيار أربعة وعشرين بعيار واحد وعشرين- فهذا يجري فيه الربا على العموم، سواءً اتفق نوع الذهب أو اختلف.
فهذا الضابط يكون فيه الجنس واحداً والنوع مختلفاً، فإذا كان من الأثمان، كالذهب والفضة، فقد يكون الذهب من عيارات مختلفة، وقد يكون حلياً بجنيهات، أو يكون هذا نقداً وهذا حلياً، فالنوعية لا تؤثر، بل ما دام أنه من جنس الذهب فإنه يجري فيه الربا عموماً.
والدليل على أنه إذا كان من جنس الذهب فإنه يجري فيه الربا: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب)، ولذلك نجد العلماء رحمهم الله يقولون: (تبرها ومصوغها)، أي: أن الذهب يجري فيه الربا سواءً كان تبراً بتبر، أو مصوغاً بمصوغ، أو كان تبراً بمصوغ.
والفضة كذلك، ويدخل في حكمها ريال الورق؛ لأنه سند عن أصل من الفضة، فإذا بودلت الفضة بفضة وجب التماثل والتقابض، سواءً كانت ريالات أو حلياً، فتخات أو خواتيم أو أسورة من فضة، فإنه يجب التماثل والتقابض.
إذاً: هنا جنس واحد مشتمل على أنواع يجري فيها الربا، وهي من المنصوص عليها، وهذا بالنسبة للذهب والفضة.
أما بالنسبة للطعام فنفس الحكم، فمثلاً: التمر، منه العجوة والسكري والحلوى الربيعة والند، وأنواع كثيرة، فهل نقول: الحلوى الربيعة بالربيعة يجري فيها الربا، وإن اختلف النوع لا يجري؟ نقول: لا.
بل جميع التمر يجري فيه الربا، سواءً اتفق النوع كبرحي ببرحي، أو سكري بسكري، أو ربيعة بربيعة، أو عجوة بعجوة، أو صفاوي بصفاوي، أو صيحاني بصيحاني فكله يجري فيه الربا سواءً اتحد النوع أو اختلف.
وبناءً على ذلك: لو باع تمر السكري بالند وجب أن يكونا متماثلين؛ كصاع بصاع ومد بمد، ولم يجز التفاضل، بأن يكون أحدهما أكثر من الآخر، وهذا بالنسبة لما اتحد جنسه واختلف نوعه.
أما إذا كان الجنس واحداً ولكن الأصل مختلف، فمثلاً: في النوع الأول الجنس تمر، والاختلاف في النوع، فعاد إلى أصل واحد، فإن التمور تعود إلى أصل واحد، فيجري فيها الربا؛ سواءً اتفقت أنواعها أو اختلفت، لكن لو كانت الأصول مختلفة والجنس واحد، مثل الأدقة والأجبان، فإن الدقيق عندنا مستخلص من البر، يقال: دقيق البر، دقيق الشعير، دقيق الدخن، فهو جنس دقيق، أي: يقال له: دقيق؛ لكنه في الأصل مختلف، بخلاف الأول، فإن التمر في الأصل واحد، ولكنه لما عاد إلى أصل واحد أخذ حكم العين الواحدة، لكن هنا إذا كان دقيق بر بدقيق شعير، فالجنس مختلف، فيجوز فيه التفاضل، لكن يجب أن يكون يداً بيد.
ومن هنا بين المصنف قاعدة وهي: (وفروع الأجناس أجناس)، فبعد أن بيّن مسألة اتحاد الجنس واختلاف النوع، واتحاد الجنس والنوع؛ شرع في اتحاد الجنس واختلاف الأصل، وعلى هذا فلو صنع خبزاً من شعير، وخبزاً من بر، فتقول: الجنس واحد وهو الخبز، ولكن الأصل مختلف، فأصل البر ليس كالشعير على أصح قولي العلماء وهم الجمهور، خلافاً للمالكية، فيجوز أن يبيعها متفاضلة، ولكن يداً بيد، لكن لو أن الخبز كان أصله واحداً كخبز الشعير، فحينئذٍ لابد من التماثل والتقابض.
إذاً.
الجنس متحد النوع يجري فيه الربا إذا كان من الأعيان المنصوص عليها أو المقيس عليها، أما ما كان جنساً واحداً ومختلف النوع كالتمر بأنواعه، فإننا نقول: يجري فيه الربا ويعتبر كالأصل الواحد، فلا يجوز بيع بعضه ببعض، حتى قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً في هذا، أي: فيما إذا بادلت تمراً من نوع بتمر من نوع أنه يجري فيه الربا؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب)، فإن قال قائل: أثبت لي أن هذا الدليل عام؟ فنقول: نثبت ذلك من أوجه: الوجه الأول: اللفظ؛ لأنه قال: (الذهب بالذهب)، ولم يفرق بين الذهب النقدي الذي هو جنيهات ودنانير في القديم، ولا بين الذهب الذي لم يضرب كالتبر أو الخام، ولم يفرق بين الحليّ، إنما قال: (الذهب) فشمل الذهب بالذهب مطلقاً، سواءً كان متماثلاً كحلي بحلي، أو كان مختلفاً كدنانير بحلي، بل لابد من التماثل.
وهنا مسألة تتفرع على هذا الأصل وهي: لو أن تاجراً يتعامل في الذهب جاء وقال: إني أبيع الذهب المصوغ، والذهب إذا صنع حلياً فإنه يكلف ويحتاج إلى إجارة وعمالة، وهذا يستلزم أن يكون أغلى وأكثر مئونة وعناءً من الخام الذي لم يصنع.
ومن باب الفائدة: فإن الذهب يحتاج إلى شيء يقويه؛ لأن مادته ضعيفة ومعدنه ضعيف، ولذلك فإن السبيكة إذا قيل: إنها ألف غرام، فمعناه: أن تسعمائة وتسعة وتسعين وكسراً من الذهب، لكنّ فيها شوباً يقويها وهو النحاس، ولذلك اغتفر وجود النحاس، وقد حكى ابن رشد في بداية المجتهد الإجماع على اغتفاره.
لكن لو أن رجلاً عنده ذهب من السبائك، وأراد أن يبادلها بذهب مصوغ كالحلي والقلائد، فقال التاجر: أعطيك هذا الذهب الذي صنعته وتعبت عليه بهذا الذهب غير المصنوع، وأقدّر التعب الذي تعبته، فإن كان الذهب المصوغ مائة غرام، فإن تعبي يكلف عشرة غرامات، فأشتري منك مائة وعشرة من السبائك بمائة مصوغة، وأستفضل بقدر التعب.
هذا من ناحية عقلية نجد له مبرراً، وذلك مثل التمر الجيد بالتمر الرديء، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى ذلك؛ لعموم قوله: (الذهب بالذهب).
الوجه الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فهموا نفس هذا الفهم، فقد روى الإمام مالك رحمه الله في الموطأ عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه كان في المسجد وجاءه رجل صائغ، فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني أصنع الذهب وأشتري به ذهباً وأستفضل قدر الصنعة -يعني: قدر تعبي- فهل يحل لي؟ قال: لا.
إلا مثلاً بمثل.
فأعاد عليه الرجل مرة ثانية؛ لأنه من ناحية عقلية قد لا يتصور ذلك، فقال: لا.
فما زال مع عبد الله بن عمر حتى خرج من المسجد، وأخذ ابن عمر بخطام دابته وركب عليها، فأعاد له الرجل مرة ثالثة، فقال له: (عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا الذهب بالذهب، مثلاً بمثل)، فاستدل ابن عمر بالعموم.
ولما كان معاوية رضي الله عنه في غزوة فغنم غنيمة، فأجاز للناس أن يبيعوا الأواني المتفاضلة لقاء الصنعة، فقام له أبو أسيد، وقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب) وذكر الحديث، وقام أبو الدرداء وأنكر عليه، ولما بلغ عمر فعله كتب إلى معاوية ينهاه ويأمره بالرجوع إلى قول أبي أسيد وأبي الدرداء رضي الله عنهما.
إذاً: فهم الصحابة على أن الذهب بالذهب عموماً لا يكون إلا مثلاً بمثل، فما هي الحيلة لو قال لك التاجر: أنا لا يمكن أن أبيع الذهب بالذهب مثلاً بمثل؛ لأنني أتعب على هذا المصوغ؟ فقل له: بعه بالريالات التي هي الفضة، وبعد ذلك ساوم معه بما شئت من الفضة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (بع الجمع بالدراهم ثم اشتر به جنيباً).
إذاً: من حيث الأصل بينّا مسألة اتحاد الجنس مع اتحاد النوع، وأيضاً اتحاد الجنس مع اختلاف النوع، وأيضاً اتحاد الجنس مع اختلاف الأصل، ومن أمثلتها: الأدقة والأجبان.
فإن الجبن إذا كان هناك جبن يتخذ من حليب الغنم، وجبن يتخذ من حليب البقر، فإن الجنس واحد وهي أجبان، لكن نقول: أصل الجبن الذي من الغنم غير أصل الجبن الذي من البقر، وكذلك اللحم، فلحم الغنم ليس كلحم الإبل وليس كلحم البقر، فيجوز أن تبيع لحم الإبل بلحم الغنم متفاضلاً على أصح قولي العلماء، كما درج عليه المصنف.
أما المالكية فيقولون: تنقسم اللحوم إلى ثلاثة أقسام: لحوم بهيمة الأنعام، ولحوم الطير، ولحوم الأسماك، فيجعلون بهيمة الأنعام -الإبل والبقر والغنم- كلها واحدة، فلا يجوز أن تبيع لحم الإبل بلحم الغنم إلا مثلاً بمثل، يداً بيد.
ولكن الصحيح أنها متفاوتة، وأنه يجوز أن تبيع لحم الغنم بلحم الإبل متفاضلاً، ولحم الغنم بلحم البقر متفاضلاً، لكن بشرط أن يكون يداً بيد.
ومن يتأمل كلام العلماء يعجب من إعانة الله لهم وتوفيقه لهم على الفهم، فإنك إذا نظرت كلام المصنف وترتيبه للمسائل تجد أولاً أنه قرر القاعدة المستفادة من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وهي: النهي عن بيع الربوي بالربوي متفاضلاً إذا اتحد الصنف، ثم بعد ذلك قرر العلة في مسألة التمر بالتمر مع اختلاف النوع لما بيّن مسألة الجنس وقال: (الجنس ما له اسم خاص)، فقررها من الحديث وانتزعها من عموم الحديث، ثم بعد ذلك شرع في مسألة متفرعة على مسألتين.
ولو قال قائل: إن الحديث أمرنا أن نعطي الصاع بالصاع من البر، وأن نعطي الصاع بالصاع من التمر، فسأعطي صاعاً بصاع من البر، ولكن أحدهما دقيق والثاني حب، فانظروا كيف أن العلماء رحمهم الله يضعون الأفكار مرتبة بعضها على بعض؛ لأن الحديث أمر بالصاع تجاه الصاع.
فعندنا منصوص، وعندنا مفهوم من النص، فلما كان منطوق النص التماثل، وهو بيع الصاع بالصاع، فينبغي أن يكون المعنى موجوداً، فلا يكفي أن تقف عند كلمة الصاع بالصاع، فإذا أعطاه حباً بدقيق فهو صاع بصاع، لكن في الحقيقة الدقيق أكثر من الحب، وإذا جئت تنظر إلى أجرام الحب مع أجرامها تحدث الفراغ في الصاع، لكن الدقيق مع الدقيق يملأ الفراغ.
ومن هنا فرّع العلماء رحمهم الله هذه المسألة على معنى الحديث، وجعلوا هذا تابعاً للأصل، وهو أن الصاع بالصاع يأتي باللفظ ويأتي بالمعنى، فاللفظ أن يتماثلا كصاع بصاع، لكن تكون الحقيقة والمعنى موجوداً، وهو مقصود الشرع أن يكون هناك عدل.
فإذا كان أحدهما مطحوناً والآخر غير مطحون، أو كان أحدهما مطبوخاً والآخر غير مطبوخ لم يجر التماثل المقصود وإن قال لك: هذا صاع بصاع.
وهكذا لو باع التمر بلا نوى بتمر فيه نوى، أو التمر الذي فيه لوز بتمر لا لوز فيه، فهذا كله في الظاهر أن الصاع بصاع، لكن ف(162/12)
الأسئلة(162/13)
حكم بيع الذهب المرصع بغير المرصع
السؤال
هل يجوز بيع الذهب المرصع بفص أو بيع الماس بمثله متفاضلاً؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أما بالنسبة للمسألة المذكورة وهي بيع الذهب المرصع بغير المرصع، أو بيع الذهب المرصع بالمرصع، فإذا كان الذهب أو الفضة مع جواهر أو ماس أو أشياء أخرى من الحلي فإنه لا يجوز بيعه إلا مفصلاً؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه أنه: (نهى عن بيع القلادة حتى تفصل)، وهذا يدل على أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب إذا كان فيه حلي من غيره إلا بعد تفصيله.
وأصل هذه المسألة أن فضالة رضي الله عنه وأرضاه اشترى قلادة بعشرين ديناراً في يوم خيبر، ثم لما فصلها وجدها أكثر من عشرين ديناراً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى عن بيع القلادة حتى تفصل، وهذا من بيوع الذرائع الربوية؛ لأن دخول غير الربوي مع الربوي يفاوت في التماثل.
وبناءً على ذلك: فلابد إذا بادل الذهب بالذهب أن يفصل الحلي، أو يعرف كم وزن الغريب الذي مع الذهب، فمثلاً: لو قال لك: هذا الذهب وزنه مائة جرام، والحلي الذي معه عشرة جرامات، فحينئذٍ يجوز أن يبادله بذهب مثله في نفس الوزن ونفس الحلي.
أما لو جهل مقدار الحلي الموجود مع الذهب سواءً في الاثنين أو في واحد منهما، فالقاعدة: (أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل)، وهي مستنبطة من هذا الحديث كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن الملقن رحمه الله.
فأنت إذا بعت القلادة مرصعة بالحلي وجهلت كم نسبة هذا الحلي الموجود، بمثلها مرصعة بحلي مجهولة أو بمثلها معلومة، فإن الجهل في أحدهما أو فيهما معاً كالعلم بالتفاضل، وهذا يوجب المنع والتحريم.
لكن لو أنه عرض عليك قلادة من ذهب وهي مرصعة بالحلي والجواهر، وقال لك: تشتريها بالنقد الذي هو الريالات، فيجوز ولا بأس أن تشتريها بالنقد، إنما المحرم إذا بادلت الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب مع وجود حليّ آخر، أما لو كنت تريد أن تشتري ذهباً بفضة، كالريالات تشتري بها قلائد الذهب أو تشتري بها أسورة الذهب المرصعة بالحلي، فلا بأس بذلك ولا حرج فيه؛ شريطة أن لا يكون على وجه الجهالة الموجبة للغرض، والله تعالى أعلم.(162/14)
حكم بيع الحديد بالتقسيط
السؤال
هل يعتبر بيع أطنان الحديد بالتقسيط داخلاً في ربا النسيئة؟
الجواب
بالنسبة لبيع الحديد بالحديد يجب أن يكون مثلاً بمثل، يداً بيد، فيبيع الطن بالطن، أما الطن بالطن إلا ربع أو بزيادة فإنه يوجب الحكم بالربا، أعني ربا الفضل، لكن لو باع الطن من الحديد بالطن من الحديد وتأخر أحد المتعاقدين في الدفع، فإنه يقع ربا النسيئة، فلا يجوز إلا إذا كان في مجلس العقد، ولا يؤخر أحدهما عن الآخر، بل يتقابضان، وإذا حصل التقابض والتماثل فإنه لا بأس بذلك، والله تعالى أعلم.(162/15)
حكم بيع المطعومات جزافاً
السؤال
إذا اختلف الجنس جازت الثلاثة -أي: المكيل والوزن والجزاف- فأشكل عليّ جواز الجزاف، فمن باع صاعاً من بر بتمر جزافاً أليس فيه جهالة وغرر؟ بارك الله فيكم.
الجواب
بالنسبة لمسألة بيع المطعومات أو غيرها لابد من العلم بقدر المبيع، لكن إذا جرى العرف في بيع بعض الأطعمة جزافاً، بأن كانت من جنس المعدود لكنها تباع بالأكوام وتباع جزافاً، وذلك مثلما يجري الآن في البطيخ فيقول: هذه السيارة بكذا، ويجري العرف بذلك، ويريد أن يبادل، مع أن البطيخ يباع بالعدد، لكن إذا جرى العرف ببيعه وزناً فلا يجوز، ويجري فيه الربا، لكن لو بيع بالعدد؛ فحينئذٍ لو بيع جزافاً مثلما يقع أحواض السيارات، فإن حوض السيارة يخرص ويقدر.
ففي هذه الحالة يقولون: يجوز إذا كان يداً بيد؛ لأننا قلنا: جنس المطعوم لا يجوز إلا يداً بيد، وأما إذا كان من جنس ما يكال ويوزن فلابد فيه من التماثل في الكيل كيلاً، وفي الوزن وزناً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(162/16)
شرح زاد المستقنع - باب الربا والصرف [3]
من مسائل الربا: حكم بيع الربوي بجنسه ومعه من غير جنسه، وحكم بيع التمر إذا كان فيه نوى بالتمر الذي لا نوى فيه والعكس، وحكم بيع اللبن والصوف بشاة فيها لبن وصوف وغيرها من المسائل التي يدخل فيها ربا النسيئة الذي أجمع العلماء على تحريمه، أو ربا الفضل، وقد اختلف فيه الصحابة إلا أن الراجح تحريمه.(163/1)
حكم بيع الربوي بجنسه ومعه من غير جنسه
شرع المصنف رحمه الله في مسألة جديدة فقال: [ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما].
وصورة هذه المسألة أن يقول قائل: أبيع البر بالبر صاعاً بصاع، وأستفضل لشيء آخر غير ربوي معهما، فهل يجوز ذلك أم لا؟ ومن هذا المقطع نبدأ في حديث ثانٍ من أحاديث الربا، وهذا الحديث يقوم على حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه وأرضاه.
وأول الباب قام على حديث عبادة بن الصامت في الأصناف الستة، ثم بعد ذلك لما جئنا إلى الخالص والمشوب والني والمطبوخ فإن هذا قائم على حديث: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم.
قال: فلا إذن)، ثم دخلنا في حديث ثالث وهو حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه.
وحديث فضالة: أنه في يوم خيبر اشترى قلادة، والقلادة عادة ما تكون مرصعة بالخرز؛ بالجواهر وبالأحجار الكريمة والمرجان واللؤلؤ والعقيق.
إلخ، وتارة تكون من ذهب خالص، فاشترى قلادة وفيها خرز، فلما عرضت القلادة اشتراها باثني عشر ديناراً، وفي بعض الروايات أنه حضر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُسأل عن قلادة اشتريت بتسعة دنانير، وفي رواية: بسبعة دنانير.
وهذا ليس بالاضطراب المؤثر، كما قرره الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ لأن المعنى المستفاد من الحديث متفق عليه، وهو نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعها حتى تفصل وتميز، وهذا قد اتفقت عليه كل الروايات، وهذا من حيث الحكم، لكن كم كانت قيمة القلادة؟ حمل على أنها وقائع مختلفة، فهو رضي الله عنه ربما كانت له وقعة، وغيره ممن حضر سؤاله كانت له وقعة أخرى، فيكون الاختلاف باختلاف المسائل، وليس الاختلاف من باب الاضطراب في التحديد والحكم.
حتى ولو كان اختلافاً من باب الاضطراب في التحديد، فكما ذكر الحافظ ابن حجر أن الرواة وإن كانوا ثقات فإنه ينظر إلى أوثقهم، وتكون رواية غيره بالنسبة له شاذة، ويبقى موضع الشاهد من الحديث -وهو الحكم- معمولاً به.
إذاً: هذا الحديث وقع في أنه اشتراها باثني عشر ديناراً، فلما اشتراها رضي الله عنه فصلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، والدنانير مضروبة من الذهب، فأصبح ذهباً بذهب مع وجود الزيادة، والسبب في هذا أنه لم يعلم قدر الذهب الموجود فيها من غير الذهب.
ومن هنا صار من بيع الربوي بجنسه، ومع أحدهما ما ليس منهما، أي: من الربوي ما ليس بربوي، ومع أحدهما ما ليس بربوي، فأصبح هذا الحديث أصلاً في هذه المسألة.
ولذلك نجد التوافق بين الفقهاء والمحدثين، فالمحدثون إذا ذكروا أحاديث الربا يبتدئون بحديث عبادة، ثم يذكرون ما يقرر معناه كحديث عمر رضي الله عنه في التقابض، وكذلك حديث أبي موسى الأشعري في التماثل والتقابض، ثم بعدما ينتهون من هذا يذكرون أحاديث الربا، كحديث فضالة بن عُبيد، وحديث النهي عن المزابنة.
وهذا كله تقرير للأصول، فلما جاء هذا الحديث جاءنا في مسألة الربوي بالربوي ومعه غير الربوي؛ لأن حديث عبادة ذكر الربوي بالربوي، وهنا ربوي بربوي ومعهما ما ليس منهما، ويلتحق بهذه المسألة أن يكون ربوياً بربوي ومعهما ما ليس بربوي.
وهذه المسألة على صور: الصورة الأولى: أن يعطي الربوي بالربوي ومع أحدهما ما ليس منهما من نفس النوع، ويحتمل أن يكون ربوياً، ويحتمل أن يكون غير ربوي، مثال ذلك: الأثمان والمطعومات.
ففي الأثمان يصرف الدرهمين بدرهم وتمر، فيقول له: عندي درهم اصرفه لي، فيقول: سأعطيك درهماً لقاء الدرهم، وليس عندي درهم آخر، فأعطيك بدلاً عنه تمراً، وفي بعض الأحيان درهم بدرهم وتمر، فيقول له: هذا الدرهم عندي من النوع الجيد بكم سوف تصرفه لي؟ فيقول: أصرفه لك بدرهم.
وذاك يقول: لا أرضى.
فيقول: سأعطيك درهماً وتمراً.
ففي هذه الحالة يكون الدرهم لقاء الدرهم تماثلاً، لكن وجود الزيادة هو من غير الفضة، فكأنه يقرر بهذا أن الزيادة سواءً كانت من الفضة أو من غير الفضة فإنها محرمة، فباعه إياها كذهب بذهب مع زيادة طعام، أو فضة بفضة مع زيادة طعام مشتركة في البيع، وهذا لا يجوز؛ لأن فضالة باع الاثني عشر درهماً بأكثر من اثني عشر درهماً، وجاء في الرواية الأخرى ما هو أقل مع وجود الخرز، فصار فضل الخرز زيادة على الأصل.
فلو قال قائل: أصرف الدرهم بالدرهم وأعطي تمراً؛ لأن التمر ليس بفضة؟ فنقول: مقصود الشرع المعنى وهو التعادل.
وانظروا إلى التجانس بين مسألتنا والتي قبلها، فإنه لما باع الخبز المطبوخ بالني، والدقيق بالحب؛ ففي الظاهر هناك تماثل، لكن صارت الزيادة في الصنعة، وهنا الزيادة من غير الربوي، أما الأول فإن الزيادة من الربوي؛ لقوله: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم.
قال: فلا إذن)، فهي زيادة من مادة الربوي، وهنا زيادة من أجنبي دخل عليهما.
فدرهم بدرهم وتمر، الدرهم بالدرهم تماثل، فلو قيل: إن ذلك جائز؛ لأنني أعطيت درهماً بدرهم، والتمر هذا من عندي، وأنا أريد أن أبيع الدرهم بدرهم وتمر، أليس الدرهم بالدرهم يكافئه ويعادله؟ فنقول: بلى، فيقول: إذاً التمر لا يضر؛ لأنه ليس بفضلة، ولا من نفس الربوي.
فنقول: سواءً كان من الربوي أو من غير الربوي فالحكم واحد، وهذا هو الذي دعا المصنف ليقول: (ولا يباع ربوي بربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما).
وعلى هذا يقال: لابد من التماثل، لكن هناك حالة تستثنى وهي: حالة الفصل، فلو قال له: عندي درهمان.
فقال: سأشتري منك درهماً بدرهم صرفاً، وأشتري منك الدرهم الثاني بصاع من تمر.
فيجوز؛ لأنه باع هذا على حدة، وباع هذا على حدة، واغتفر اجتماعهما في الصفقة الواحدة.
إذاً: يفرق بين كونهما مجتمعين وبين كونهما منفصلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث فضالة نهى عن بيع القلادة حتى تفصل، فدل ذلك على أنها إذا فصلت جاز البيع، وذلك بأن يقول له: اثنا عشر ديناراً في مقابل وزنها، فمثلاً: لو جئنا إلى قلادة وزنها مائة غرام، ودنانير عشرة وزنها مائة غرام، فقال: سأشتري منك هذه القلادة عشرة غرامات بعشرة غرامات، فيصح البيع، ولا إشكال.
لكن لو كان مع القلادة خرز، فقال له: كم وزن الذهب الخالص؟ فقال: مائة غرام.
فقال: والخرز الموجود؟ فقال: عشرة غرامات.
فأصبح المجموع مائة وعشرة، فقال له: إذاً أشتري منك المائة غرام من الذهب بهذه المائة من الذهب، دنانير أو غيرها، وأشتري منك العشرة غرامات الخرز بجنيه، أو مثلاً بريالات موجودة، فلا بأس؛ لأنه فصل هذه البيعة عن هذه البيعة.
وخفف في ذلك جمع من العلماء رحمهم الله، سواءً كان من جنس الربوي أو كان من غيره، قالوا: لأن البيعتين إذا فصلهما عن بعض جاز، فلا يجوز بيع الربوي بربوي ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما كدرهمين بدرهم وتمر.
وفي عصرنا الحاضر نمثل بأمثلة على مسألة الربوي بربوي: عندما تأتي إلى الرجل وتريد أن تصرف عنده، فيقول لك: لا أصرف لك حتى تشتري، فقال بعض العلماء: تدخل في مسألة بيع الربوي بالربوي؛ لأنه إذا ألزمك أن تشتري -مثلاً- كيلو تمر وقيمته ريال، وقال لك: سأصرف لك الخمسمائة ريال بشرط أن تشتري هذا التمر، فإن قيمة الكيلو التمر في الأصل نصف ريال، وهو سيربح نصف ريال؛ فكأنه إذا صرف لك عشرة ريالات بتسعة ريالات -كأنه صرف لك تسعة ونصف ريال -التي هي حقيقة قيمة التمر- بعشرة كاملة، لكن لو جئت باختيارك وطلبت ذلك وابتغيته فقالوا: إن الأمر في ذلك أيسر.
ومن هنا إذا جاء يعرض على الإنسان مناديل تتمة لصرفه أو كذا، قالوا: يتورع، حتى لا يكون فيه شبهة الفضل الذي سيربحه من قيمة المناديل، فيكون قد صرف العد بالعد مع فضل وزيادة.
وهذه المسألة حتى تكون الصورة أقرب ليست من جلية الربا، إنما هي مما يسمونه: بيوع الذرائع، وهي في ظاهرها صحيحة؛ لكنها في الحقيقة تئول إلى الربا؛ كبيع العينة ونحوه.
ولذلك يقولون: هذا من بيوع الذرائع الربوية، فهناك الربا المحض، وهناك ما هو وسيلة وذريعة إلى الربا، والشريعة تحرم المقاصد المحرمة ووسائلها المفضية إليها، ولذلك قُررت القاعدة أن (الوسائل لها أحكام مقاصدها)، فإن كانت الوسيلة إلى حرام فهي حرام، ثم تتفاضل الوسائل في الحرمة وفي الجواز بتفاضل مقاصدها، فما كان وسيلة إلى حرام أعظم فإنها محرمة بحرمة الحرام الأعظم؛ وعليه فما كان وسيلة إلى الربا فإنه محرم، ولا يجوز أن يتعاطاه، كما لا يجوز أن يتعاطى الربا.
وقوله رحمه الله: (ولا يباع ربوي) سواءً كان من الأثمان، أو كان من المطعومات، وسواءً كان من المنصوص عليه، أو كان من الملحق بالمنصوص عليه، وقوله: (بجنسه) أي: من جنسه مع اتحاد النوع، لكن لو كان الربوي بربوي مع اختلاف الجنس، فيجوز التفاضل ولا إشكال فيه.
وقوله: (ومعه) كمد ودرهمين بمدين ودرهم، (أو معهما) مع هذا وهذا من غير جنسهما كدرهمين في مقابل مد ودرهم، فإن الدرهم في مقابل الدرهم، والمد في مقابل الدرهم.(163/2)
التفصيل في بيع التمر بلا نوى بما فيه نوى
قال رحمه الله: [ولا تمر بلا نوى بما فيه نوى] أي: ولا يجوز بيع تمر بلا نوى بتمر فيه نوى، وفي هذه المسألة صور: 1 - أن يبيع تمراً ونوى بتمر ونوى.
2 - أن يبيع تمراً بلا نوى بتمر بلا نوى.
3 - أن يبيع النوى بالنوى.
4 - أن يبيع تمراً ونوى بنوى.
5 - أن يبيع تمراً ونوى بتمر.
6 - أن يبيع تمراً ونوى بلا نوى.
والتمر في أصل الخلقة يكون في داخله نوى، والنوى يستخلص من أجل أن يباع للبهائم لتطعمه وتسمن به كما هو معروف.
فإذا كان التمر باقياً على أصل خلقته فهو تمر بنوى، وإذا نزع منه النوى وبقي التمر وحده، فهو تمر بلا نوى.
إذاً: الصور هي كالآتي: 1 - تمر ونوى بتمر ونوى.
2 - تمر بلا نوى بتمر بلا نوى.
3 - نوى وحده.
فهذه ثلاث صور إذا اتحد المثمونان.
أما المقابلات فنقول: 1 - تمر ونوى بنوى.
2 - تمر ونوى بلا نوى.
3 - تمر ونوى بتمر.
4 - تمر ونوى بنوى.
فأصبحت خمس صور، ثم خذ الاثنين منفردين: تمر بلا نوى بنوى وحده.
فهذه ست صور.
ثم مرة ثانية: 1 - تمر ونوى بتمر ونوى.
2 - تمر بلا نوى بتمر بلا نوى.
3 - نوى خالص بنوى خالص.
فهذه ثلاث صور متكافئة، أي: يكون المثمونان متقابلين تماماً.
ونقول: 1 - تمر ونوى بنوى.
2 - تمر بنوى بتمر بلا نوى.
أصبحت خمس صور، ثم تأتي كل منها على انفراد: - تمر بلا نوى بنوى وحده.
فهذه ست صور، ونريد أن نفصل في هذه الست: الصورة الأولى: إذا باع التمر مع النوى بتمر مع نوى، كرجل جاء بصاع من السكري مثلاً، وقال: أريد أن تبادلني به سواءً من السكري أو من غير السكري.
فنقول: لابد من التماثل والتقابض، فلا يجوز التفاضل إذا كان تمراً بنوى بتمر فيه نوى، فيجب التماثل والتقابض.
الصورة الثانية: أن يكون تمراً بلا نوى بتمر بلا نوى، الذي هو صورة التماثل، أي: تمر منزوع النوى بتمر منزوع النوى، سواءً اتحد نوعه أو اختلف، فنفس الحكم؛ لأنه لما نص عليه الصلاة والسلام: (التمر بالتمر)، وقال في آخر الحديث: (مثلاً بمثل، يداً بيد)، فهذا تمر بتمر، والتمر الموجود مطعوم، وغاية ما فيه أنه استخرج منه النوى الذي لا يأكله الآدمي.
وبناءً على ذلك في الحالتين: التمر على أصل خلقته بالنوى بتمر على أصل خلقته بالنوى، أو تمر منزوع النوى بتمر منزوع النوى، يجب فيه التماثل والتقابض.
الصورة الثانية: أن يكون النوى وحده بنوى، فنقول: النوى من غير المطعومات؛ لأنه تأكله البهائم، وإذا كانت تأكله البهائم فليس من جنس مطعومات بني آدم، وإذا كان من جنس غير المطعومات فالقاعدة فيه أن ننظر إلى الوزن، فأي شيء من غير المطعومات إذا سئلت: هل يجري فيه الربا أو لا؟ فانظر هل يوزن أم لا؟ فمثلاً: إذا سُئلت عن الكتب، أو الأوراق، أو الأقلام، أو الحديد، أو النحاس الأصفر، أو الرصاص، أو أي نوع من غير المطعومات، فإن كان لا يباع وزناً لم يجر فيه الربا.
فهنا النوى من جنس ما لا يؤكل، فهل يباع وزناً أم كيلاً؟ نقول: فيه تفصيل: فإن كان العرف -أي عرف البلد- والناس الذين يسألون عن هذه المسألة يبيعونه وزناً، وجب التماثل فيه؛ لأنه موزون، فلا يجوز بيع صاع النوى بصاع النوى مطحوناً أو على أصله إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، إن كان يباع وزناً بالكيلو جرامات مثلاً، وأما إذا كان يباع كيلاً بالصاع، فإنه لا يجري فيه الربا؛ لأنه غير موزون، فلا يلتحق بالذهب والفضة.
هذا بالنسبة إذا باع النوى بالنوى خالصاً، أما إذا كان النوى يباع وزناً، فلابد من التماثل، فلو باعه صاعاً من النوى مطحوناً بصاع من النوى غير مطحون، فالحكم على ما درج عليه المصنف أنه لا يجوز؛ لأنه لا يجوز بيع الحب بالدقيق، فإذا كان النوى مطحوناً فلابد أن يكون الآخر مطحوناً، وهكذا إذا كانت طحونته ناعمة أو أخف، فلابد من التماثل من كل وجه.
والخلاصة: أن بيع التماثل يقع في ثلاث صور: 1 - تمر بتمر في كل منهما النوى، فيجب التماثل والتقابض.
2 - تمر بتمر منزوع النوى منهما، فيجب التماثل والتقابض.
3 - نوى بنوى، وفيه تفصيل: - فإن كان يباع وزناً جرى فيه الربا.
- وإن لم يبع وزناً لم يجرِ فيه الربا.
الصورة الرابعة: بيع تمر فيه نوى بتمر ليس فيه نوى، فهل تتحقق المماثلة؟ نقول: أولاً: هل يجري فيه الربا أم لا؟
الجواب
يجري فيه الربا؛ لأن التمر الأول منصوص عليه، والتمر الثاني منصوص عليه، فكل منهما ربوي، فرجع إلى مسألتنا الأولى وهي أن يبيعه الربوي بالربوي ومع أحدهما من غير الربوي، قالوا: فلا يجوز؛ لأنه سيستفضل لو باع الصاع، فإن التمر الذي لا نوى فيه سيكون أدق، ولذلك لا تتحقق فيه المماثلة.
وخفف بعض العلماء في هذا، فقال: إذا باعه تمراً فيه نوى بتمر لا نوى فيه لم يؤثر؛ لأن النوى غير مقصود، وقد جاء تبعاً ولم يجئ قصداً، لكن هذا يقول ضعيف، وسنبين مسألة التبعية والقصد، وأن الربا فيه قوية، فلابد في بيع التمر مع النوى بالتمر الذي لا نوى فيه من التماثل.
الصورة الخامسة: بيع تمراً ونوى بنوى، وفيها تفصيل: فإن كان النوى مما يوزن فيجري فيه الربا؛ لأن الربا صار حينئذٍ من جنس ما يقابله، موزوناً بموزون، ومعهما من غيرهما بنفس الصورة، فقد صارت مثل صورة تمر بنوى بتمر، وذلك إذا كان النوى مما يوزن، أما إذا كان مما يباع كيلاً، وهذا هو الذي كان موجوداً في زمن المصنف رحمه الله وكان مشهوراً وإلى عهدنا الآن، فإن الأغلب في النوى أن يباع كيلاً.
فحينئذٍ إذا كان يباع كيلاً فإنه يجوز، إذا باعه تمراً ونوى بنوى، فإن التمر الذي هو ربوي لم يعادله ربوي، وإنما تعادل غير الربوي بغير الربوي، فجاز التفاضل، وعلى هذا يفصل في مسألة التمر والنوى إذا كان ذلك مع التماثل أو مع الاختلاف.
وقوله: (ويباع النوى بتمر فيه نوى) وقد ذكرنا ذلك؛ لأنه ليس من جنس الربويات.(163/3)
حكم بيع لبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف
قال رحمه الله: [ولبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف] المسألة من باب ترويض الذهن، وضبط القواعد والأصول، وقبل أن نبحث أي مسألة لابد أن نعرف جنس المبيع، هل هو ربوي أم غير ربوي؟ فاللبن أولاً: هل هو مطعوم أم غير مطعوم؟ هو مطعوم، وثانياً: هل يباع اللبن كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً أو جزافاً؟
الجواب
بالكيل، فيقال: لتر، أو نصف لتر، حتى الكراتين التي تباع في زماننا يكتب عليها: لتر، أو نصف لتر، وحتى الحليب كذلك، إذاً: اللبن يباع كيلاً، ولا يباع وزناً، والحليب يباع كيلاً وتارة يباع عدداً، كما هو موجود في علب النيدو.
وحتى نقرر المسائل ونفهم مراد المصنف هنا: لو كان عندك حليب من الإبل وعندي حليب من الإبل، وأردنا التبادل، فلابد أن يكون مثلاً بمثل، يداً بيد حليب من الغنم بحليب من الغنم، مثلاً بمثل، يداً بيد حليب من البقر بحليب من البقر، مثلاً بمثل، يداً بيد.
وإن اختلفا كحليب بقر بحليب غنم، فما الحكم؟ الجنس واحد وهو أنه حليب، لكن الأصل مختلف كاللحم، فحينئذٍ يجب التقابض، ويجوز التفاضل، ويحرم النسيئة.
وبناءً على هذا فالحليب واللبن مكيل.
كذلك الصوف يباع وزناً، وقد يباع جزافاً في بعض الأحيان، لكنه يباع بالوزن، فالصوف يعتبر من جنس الربويات؛ لأنه غير مطعوم، وعلته الوزن، فإذا كان يوزن، أو جرى العرف في وزنه، فحينئذٍ يصبح من الربويات.
ولو باع اللبن والصوف بلبن وصوف، فما الحكم؟ نقول: فيه تفصيل: فإن كان اللبن متماثل الأصل؛ كلبن الشاة بلبن الشاة، فيجب التماثل والتقابض، وهكذا الصوف، لكن لو اختلفا؛ كلبن بقر بلبن غنم، جاز التفاضل ووجب التقابض.
وبناءً على هذا: فلو اشترى اللبن باللبن والصوف بالصوف، فإنه يجري فيه الربا، لكن لو اشترى اللبن والصوف بشاة ذات لبن وصوف، ومعلوم أن اللبن والصوف في الشاة من جنس الربويات، فإن الصوف يجز من الشاة ثم يوزن، واللبن الموجود يحلب ثم يكال، فمن دقة المصنف رحمه الله حينما ذكر الأصل وهو بيع الربوي بالربوي، ومعهما أو مع أحدهما من غيرهما، قال: لا يجوز، فأراد أن يستثني مسألة التبعية، وهي أن يكون الربوي غير مقصود، وإنما جاء تبعاً، فقصد بشراء الشاة الشاة، ولم يقصد لا لبنها ولا صوفها، فحينئذٍ عاوض الشاة بقيمة اللبن والصوف.
فالتبادل لم يقع بين لبن وصوف، مثل أن يبيع الربوي درهماً بدرهم، أو مداً بمد، وهذا المد مقصود بالمد، لكن هنا جاء الربوي تبعاً.
وقد يقول قائل: ما هذا التنظير؟ وما هذه الأشياء التي يقولها العلماء تبعاً وقصداً؟ فنقول: الشريعة تفرق بين التبع وبين القصد، وقد يكون الشيء مقصوداً محرماً لكنه تابع زائد، والدليل على ذلك: أنه لا يجوز بيع النخل والثمر قبل بدو صلاحه، لكن لو اشتريت بستاناً وفيه النخل الذي لم يبدُ صلاحه، وقلت: أشترط أن تكون لي الثمرة، فإنه يصح؛ لأن الثمرة جاءت تبعاً لا قصداً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع).
فإذا اشترطها المبتاع كانت له بالعقد والبيع، فجازت تبعاً ولم تجز استقلالاً؛ لأنه ثبت في الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها) إذاً: الشريعة تفرّق بين التبع والاستقلال.
فمثلاً: رجل توفي والده، وقال: أريد أن أصلي عن والدي العبادات البدنية كالصلاة، فبالإجماع أنه لا يجوز أن يصلي الحي عن الميت، ولا الحي عن الحي؛ بل لا تجوز الصلاة عن أحد إلا في أقوال شاذة وردت، لكن إذا حججت عن الوالد، أو عن قريب توفي ولم يحج، أو اعتمرت عنه، فستضطر لصلاة ركعتي الطواف، لكن هل ركعتا الطواف جاءت أصلاً أم تبعاً؟ الجواب: جاءت تبعاً.
فهنا نقول: إذا باع الصوف واللبن بشاة ذات صوف ولبن، فإن مقصوده الشاة؛ بدليل أنه يقدر قيمة الصوف واللبن الذي معه ويكافئه بقيمة الشاة، ولا يكافئه بقيمة الصوف واللبن الموجود في الشاة.
وعلى هذا فيجوز بيع الربوي بالربوي ومعهما ما ليس من جنسهما إذا كان الربوي تبعاً ولم يكن أصلاً.(163/4)
العبرة في الكيل والوزن
قال رحمه الله: [ومرد الكيل لعرف المدينة].
هذه مسألة مهمة، خاصة وأننا قد قررنا في باب الربا أنه لابد أن نعرف الموزونات والمكيلات حتى نقول: يجري الربا أو لا يجري.
فأي شيء تسأل عنه من الطعام أو من غير الطعام فتنظر: هل يكال، أو يوزن، أو يباع بالعدد والجزاف والذرع إلى آخره؟ إذاً: أنت محتاج إلى مسألة الكيل والوزن.
فهب أن رجلاً جاءك وقال: أريد أن أبيع العدس بالعدس جزافاً كوماً بكوم، فهل يجوز؟ وحينها ستضطر أن تسأل: هل العدس من جنس الربويات أم لا؟ وهذا يستلزم أن تعرف هل هو يكال ويوزن أم لا يكال ولا يوزن؟ فإذا كان طعاماً يكال أو يوزن جرى فيه الربا، كما قررنا ذلك على أصح أقوال العلماء؛ لكن لو كان الطعام يباع بالعدد، مثل الحلوى الآن، فإن منها ما يباع بالعدد؛ كحلوى العود.
وكذلك المكرونة: هل هي من جنس ما يكال أو يعد أو يوزن أو يذرع؟
الجواب
مما يوزن، ولذلك تجد مكتوباً عليها مثلاً: مائتين وخمسين جراماً، وفي بعض الأحيان الأنواع الصغيرة قد تباع كيلاً بالصاع، لكن الموجود والشائع في أسواقنا أنها تباع بالوزن.
كذلك الفستق: لو سألك رجل يبيع الفستق والمكسرات، وقال: أريد أن أبادل كيساً من الفستق بكيسين، وهذا الكيس من نوع، وهذان الكيسان من نوع آخر، فهل يجوز أم لا؟ فتقول: هل الفستق يباع بالكيل أو الوزن؟ الجواب: بالوزن، وبناءً على ذلك يعتبر من جنس الربويات، وقس على ذلك بقية الأمثلة.
إذاً: لابد من الكيل أو الوزن في الطعام، ولنفرض أن شيئاً كان يباع بالكيل، فأصبح في زماننا يباع جزافاً بدون كيل ولا وزن، أو أن شيئاً كان يباع بالوزن، فأصبح في زماننا يباع جزافاً بدون كيل ولا وزن، أو أن شيئاً كان يباع قديماً بالجزاف فأصبح يباع في زماننا بالكيل، أو بالوزن، وهذه المسألة تحتاج إلى ضبط؛ لأنك تقول: لا أحكم بالربا إلا إذا كان مكيلاً أو موزوناً من الطعام، فمعناه: أنه لابد أن يكون السوق يتبايع بالوزن أو يتبايع بالكيل.
إذاً: الربويات تنقسم إلى قسمين: الأول: ربويات منصوص عليها.
الثاني: ما كان في حكم المنصوص عليها مما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك أشياء كانت موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتباع بالكيل في زمانه أو تباع بالوزن، فهذه الأشياء لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فيكون إما مطعوماً أو غير مطعوم.
الحالة الثانية: أن يكون غير موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الموجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما يباع وزناً في زمانه كالذهب والفضة، فلو أنه في زماننا هذا بيع الذهب مثلاً بالذرع، فنقول: العبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولو اختلف الزمان، وهذا بالنسبة لغير المطعومات.
أما بالنسبة للمطعومات، فنفس الحكم، فما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم واختلف حال بيعه في زماننا، فالعبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم لا بزماننا.
فالتمر كان يباع كيلاً، لكن لو أنه في زماننا أصبح يباع بغير الكيل والوزن، فحينئذٍ نعتبر زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول: إنه منصوص عليه، ويجري فيه الربا، حتى ولو بيع بغير الكيل والوزن.
أما غير التمر، فلو كان هناك شيء موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، مثل الزبيب، فقد كان موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يباع كيلاً؛ فحينئذٍ لو أصبح الزبيب يباع في زماننا وزناً فإن العبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ويجري فيه الربا.
إذاً: مسألة الكيل والوزن لابد لها من هذا الضابط، فإذا كانت موجودة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام أو غير الطعام، فالعبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم على حسب الحال، وهذا هو مذهب الجمهور.
وهناك من العلماء من قال: العبرة بالعرف الذي طرأ بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أن البطيخ كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يباع مثلاً بالكوم، ولا ينظرون إلى وزنه، لكن في زماننا يباع البطيخ بالوزن، فإذا كان بالكوم فإنه لا يجري فيه الربا؛ لأنه مطعوم غير مكيل ولا موزون؛ لأنه بيع جزافاً، والجزاف يكون بالحصر والتخمين، وبناءً على ذلك نقول: ما كان من جنس الطعام وغير الطعام يوجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بزمانه كيلاً ووزناً، وما كان مما لم يوجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بعرف السائل، هذا وجه، أو العبرة بمكة إن كان موزوناً، وبالمدينة إن كان مكيلاً، وهذا وجه آخر.
وقال بعض العلماء: أي شيء جرى فيه العرف ببيعه كيلاً أو وزناً تقيد بذلك العرف، فإن لم يكن له عرف رجعوا إلى مكة والمدينة بالكيل والوزن، وأما لو كان له عرف فالعبرة بعرف بلده، هذا هو الوجه الأول.
وهناك وجه ثانٍ يقول: العبرة في المكيلات والمطعومات بكيل المدينة.
فمثلاً: الطعام من جنس المكيلات، فأهل مكة يبيعونه بالوزن، وأهل المدينة يبيعونه بالكيل، فعند الحنفية الذين يرون الكيل، يقولون: يجري الربا؛ لأن العبرة في الكيل بكيل المدينة، والعبرة في الوزن بوزن مكة.
فالوزن من غير المطعومات هوما يقاس على الذهب والفضة، فمثلاً: الحديد والنحاس والنيكل والرصاص والخشب، لو بيع وزناً في مكة وبيع ذرعاً في المدينة جرى فيه الربا؛ لأنه من جنس الموزونات، والعبرة بمكة في الوزن، ولا عبرة بالمدينة في الوزن.
وعلى هذا يقولون: نعتبر في الوزن وزن مكة، ونعتبر في الكيل كيل المدينة، إذاً: عندنا ضابطان لا نص فيهما: العرف، والرجوع إلى مكيال مكة والمدينة.
فإذا قلنا بالعرف الذي هو عرف البلد، فالأصل في الرجوع إليه القاعدة الشرعية المشهورة: (العادة محكمة)، فإن الله ردنا إلى العرف فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، والأدلة على اعتبار العرف من الكتاب والسنة كثيرة.
ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم المرأة إلى مهر مثلها لا وكس ولا شطط، إن كانت بكراً، فالبكر من مثلها سواءً كانت من أوساط الناس أو علية الناس أو الدون، وهذا كله من الرجوع إلى العرف {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] إلى غير ذلك من النصوص التي وردت في اعتبار العرف.
لكن لو فرضنا أننا في المدينة، وقلنا بالرجوع إلى العرف، فمعناه أننا نرجع إلى السوق، فجئنا إلى الكمثرى، وهي مطعوم، لكن هل تباع كيلاً في سوقنا؟ أو وزناً؟ أو عدداً؟ لو أن عرفنا جرى على بيعها عدداً -بالحبة- لم يجر فيها الربا؛ لأنها مطعومة غير مكيلة ولا موزونة، وشرط جريان الربا أن يكون مطعوماً مكيلاً أو موزوناً.
لكن لو كان في المدينة سوقان: سوق يبيعها بالعدد، وسوق يبيعها بالوزن، فإذا جئنا ننظر إلى الذين يبيعونها بالوزن حكمنا بالربا، وإذا جئنا ننظر إلى الذين يبيعونها بالعدد لم نحكم بالربا، فهل نقول: نغلب المحرمين؛ لأنه إذا اجتمع حاظر ومبيح قدم الحاظر، أو نقول: نغلب المجوزين؛ لأن الأصل الحل، والشريعة شريعة رحمة، وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، أو أن الأمر في تفصيل؟ قالوا: فيه تفصيل: فإن كان السوق الذي يبيع بالوزن ويجري على وجهه الربا أكثر وأشهر وأغلب في المدينة، وأكثر ارتياداً من الناس، فالعبرة به والآخر لاغٍ، وإن كان الآخر هو الأكثر، فالعبرة به ولا ربا مثلما ذكرت.
لكن إذا كان السوقان متماثلين: هذا السوق سعته مثل ذلك السوق، والمدينة منقسمة إلى قسمين: النصف منها يقضي في هذا السوق، والنصف الآخر يقضي في ذلك السوق، فما الحكم؟ قالوا: إذا اختلفا فإنه يجري الربا في السوق الذي يباع بالوزن، ولا يجري في السوق الذي لا يباع بالوزن، وهذا ليس بغريب؛ لأنك ربما تأتي الآن إلى حدود الحرم، فلو أن رجلاً في التنعيم دخل خطوة، فصلاته فيها بمائة ألف صلاة، ولو خرج لم تكن له هذه الفضيلة، ولو دخل وأراد فيه الإلحاد بظلم أذاقه الله من عذابٍ أليم، ولو تقهقر وخرج خطوة لم يكن له هذا العذاب.
إذاً: مسألة التحديد لأن هناك وصفاً شرعياً مستنبطاً من النص، إذا وجد حكمنا به، وإذا فقد لم نحكم به، إذاً: هذه هي مسألة العرف.
ولذلك قال المصنف رحمه الله: (ومرد الكيل لعرف المدينة)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العبرة بالكيل بكيل المدينة، والعبرة بالوزن بوزن مكة).
وهذا الحديث صححه غير واحد من العلماء رحمهم الله، والعمل عند أهل العلم على هذا الحديث؛ لأن مكة والمدينة نزل فيهما الوحي، وكان التشريع ونزول الوحي في هذا المكان، فيقولون: يرجع إلى هذا العرف عند اختلاف أعراف الناس، فيحتكم إليهما في الكيل كيلاً بالمدينة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا)، فكان الأشبه بهم كيلاً، والوزن يكون مرده إلى مكة، وعلى هذا يفصل بهذا التفصيل.
وقوله: (زمن النبي صلى الله عليه وسلم)، فقد رجح المصنف رحمه الله هنا أن المكيلات والموزونات نرجع فيها إلى عرف المدينة ومكة، إذا كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مثل الزبيب، فقد كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في المدينة، وكان يباع كيلاً، فنقول: إنه يأخذ حكم المكيل ويجري فيه الربا؛ لأنه مطعوم مكيل.
قال رحمه الله: (وما لا عرف له هناك اعتبر عرفه في موضعه) أي: ما لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجع فيه إلى العرف في بلده، كما ذكرنا أنهم يقولون: إن المطعومات التي لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يرجع فيها إلى عرف بلادها، ويلغون عرف مكة والمدينة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم.(163/5)
تحريم ربا النسيئة والفضل
قال رحمه الله: [ويحرم ربا النسيئة].(163/6)
معنى ربا النسيئة
النسيئة: مأخوذ من النسأ، كقولك: أنسأ الشيء إذا أخره، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة:37]، حيث كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن مواقيتها؛ فلأجل هذا التأخير وصف بكونه نسيئاً.
فالنسيئة إما أن تكون من الطرفين، وهذا أشد ما يكون، وإما أن تكون من أحد الطرفين دون الآخر؛ كأن يعجل أحدهما ويؤجل الآخر، فيعطيه درهمين بدرهم، ينقد أحدهما وينسأ الآخر.(163/7)
الأدلة على تحريم ربا النسيئة
وقول المصنف: (يحرم ربا النسيئة) الدليل على التحريم قوله عليه الصلاة والسلام فيما ثبت في الصحيح من حديث عبادة رضي الله عنه وأرضاه: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد).
فقوله عليه الصلاة والسلام: (يداً بيد) يدل على أنه لا يجوز بيع الربوي بالربوي مع اتحاد الصنف أو اختلافه إلا يداً بيد، وقوله عليه الصلاة والسلام في تتمة الحديث: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، منطوق النص واللفظ: أي: جاز لكم أن تبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، كيلو بكيلوين أو بثلاثة، إذا كان يداً بيد، هذا هو المنطوق.
ومفهومه: لا تبيعوا الذهب بالفضة بالنسأ والتأخير إذا لم يكن يداً بيد.
فالمنطوق: جواز بيع الذهب بالفضة، وبيع البر بالتمر، والشعير بالملح، الذي هو واحد من الأربعة بواحد آخر من الأربعة، بشرط أن يكون يداً بيد، ومفهوم الشرع: إذا كان يداً بيد؛ لأن المفاهيم عشرة، منها: مفهوم الشرع.
فلما قال: (يداً بيد)؛ فهمنا أنه إذا لم يكن يداً بيد فإنه لا يحل، وقد ذكرنا حديث عبادة لأنه أصل، وإلا فهناك أحاديث أقوى وأصرح في تحريم ربا النسيئة.
ومنها -الحديث الثاني- حديث عمر في الصحيح، وهو من أشد الأحاديث في تحريم ربا النسيئة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء)، فقوله: (هاء وهاء) أي: هه هه، فتعطي وتأخذ، وهذا يدل على التنجيز والتعجيل والنقد والإعطاء حالاً.
إذاً: فقوله: (هاء وهاء) معناه: أنه يقع في الربا إذا أخر ولا يقع فيه إذا عجل؛ لقوله: (إلا هاء وهاء)، فنص على كونه ربا إذا أخر، وهذا من المنطوق.
الحديث الثالث: من أدلة المنطوق وهي أقوى: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أسامة: (لا ربا إلا في النسيئة)، فإنه من أقوى الأحاديث التي دلت على حرمة النسيئة، بل عظمت أمره حتى قيل: لا يجري الربا إلا في النسيئة.
وهذا من باب التعظيم.
الحديث الرابع: حديث أبي موسى رضي الله عنه وهو في الصحيح أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا -أي: لا تزيدوا، من الإشفاء- بعضها على بعض، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض)، ثم قال -وهذا منطوق النص-: (ولا تبيعوا غائباً منها بناجز).
فهذا نص على تحريم النسيئة وهو قوله: (ولا تبيعوا غائباً منها بناجز)، ومعناه: أنها وقت النسيئة من طرف، قالوا: فحرم النسيئة من طرف، فمن باب أولى أن تحرم إذا كانت من الطرفين، أي: لا يجوز بيع الغائبين: عين بعين مؤجلين، أو ذمة بذمة مؤجلين، نسيئة من الطرفين في ثلاث صور.
إذاً: ربا النسيئة مجمع على تحريمه، ووقع الخلاف في ربا الفضل بين الصحابة، وخالف فيه بعض التابعين، وهنا نتعرض لمسألة هل ربا الفضل مجمع على تحريمه أم لا؟(163/8)
الخلاف في حكم ربا الفضل
أولاً: ربا النسيئة مجمع على تحريمه، لكن نظراً لورود الحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) نحتاج إلى بيان مسألة ربا الفضل، وهل هو مجمع على تحريمه أم مختلف فيه؟ وهل حديث: (لا ربا إلا في النسيئة) يدل على جواز ربا الفضل وانحصار الربا في هذا النوع وهو النسيئة، أم أنه لا يدل على ذلك؟ وهذه المسألة قد اختلف فيها الصدر الأول من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أواخر القرن الثالث تقريباً، ثم انقرض الخلاف وأصبح قولاً واحداً بتحريم ربا الفضل، لكن لابد أن نتعرض لهذا الخلاف ثم نفند الشبه في جواز ربا الفضل.
وحاصل هذا: أنه روي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن أرقم، وأسامة، عبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان، والبراء بن عازب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
أما عبد الله بن عباس فالرواية عنه في الصحيحين أنه كان يقول: (درهم بدرهمين لا بأس إذا كان يداً بيد)، فكان يجيز ربا الفضل ويحرم ربا النسيئة.
وأما عبد الله بن عمر فصح عنه؛ لكن صح عنه أنه رجع.
وكذلك عبد الله بن مسعود صح عنه، ولكن صح عنه أنه رجع.
والبراء بن عازب كذلك صح عنه أنه قال بقوله في قصة أبي المنهال مع شريكه لما سأل البراء، ولكنه رجع؛ لأن هذا الحكم -وهو جواز ربا الفضل- كان جائزاً في العصر المدني في أول التشريع، فحفظ بعض الصحابة الجواز، ثم اطلع على أدلة التحريم فرجع.
وأما معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعن أبيه، فقد جاء عنه الخلاف في قصته مع أبي الدرداء وأبي أسيد الساعدي المشهورة، وأن أبا أسيد الساعدي عتب على معاوية ورد عليه أمام الناس، وقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب ... )، وذكر الحديث، وهكذا أبو الدرداء راجع معاوية، فلما راجعه امتنع معاوية من قول أبي الدرداء، ثم رجع أبو الدرداء إلى عمر فسأله: ما الذي أقدمك من ثغرك؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنه كان كذا وكذا وأخبره الخبر، فقال له: ارجع إلى ثغرك، والله لا خير في قوم لست فيهم، ثم كتب إلى معاوية ينهاه؛ فالظن بأمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه معاوية إذا بلغه نهي عمر أن ينتهي؛ لأن بعض الصحابة كان يقول بالجواز على ما كان يعلمه من التشريع الأول، ثم نسخ ذلك التشريع.
ثم عبد الله بن الزبير يُحكى عنه، ولكن لم يأتِ في رواية صحيحة عنه أنه قال بجواز ربا الفضل.
وهكذا أسامة حكي عنه، ولكن لم تأتِ رواية صحيحة عنه.
هذا مجمل الصحابة الذين حكي عنهم الخلاف، وقد رجعوا كلهم، وبقي ابن عباس وحده، هل رجع أو لم يرجع؟ اُختلف فيه على ثلاثة أقوال: فمنهم من يقول: إن ابن عباس رضي الله عنهما رجع عن فتواه بحل ربا الفضل، وهذا يرويه زياد أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما قبل وفاته بسبعين ليلة فأفتى بالتحريم.
ومنهم من يقول: إنه توفي وهو يقول بهذا القول، واحتجوا بما روى سعيد بن جبير رحمه الله وهو من أقرب الناس إلى ابن عباس وأعلمهم بفتواه، أنه قال: (سألت ابن عباس قبل أن يموت بشهرين، فوالله ما رجع عن قوله بربا الفضل) وهذا ثابت في الصحيح.
- وهناك قول ثالث بالتوقف.
والصحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يرجع عن فتواه بجواز ربا الفضل، بل توفي وهو يقول بذلك؛ وكان يتأول حديث أسامة ويفتي به ويعمل به.
ولذلك عتب عليه الصحابة حتى قال له أبو موسى الأشعري كما في صحيح مسلم: (اتق الله يا ابن عباس! أيأكل الناس الربا بقولك؟ فقال: أستغفر الله، فقال له: هل وجدت ذلك في كتاب الله؟ أو شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) فقال له ابن عباس: أما كتاب الله فلا)، أي: لم يجد في كتاب الله هذا الذي يقول به من الفتوى، قال: (وأما السنة فأنتم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لا يعرف الفضل إلا أهله.
فقد كان الصحابة يحفظ الصغير حق الكبير، وكان يحفظ من كان عنده علم من هو أعلم منه، كان يقدر بعضهم بعضاً، فمع كونها مسألة خلافية وفقهية لكنها ما أذهبت الحقوق، ولا أذهبت قدر الناس، ولا جعلت الإنسان عند مخالفته لغيره يحط أو ينزله من قدره، بل قال له أمام الناس: (أما السنة فأنتم أعلم بحديث رسول الله)؛ لأنهم أعلم وأكبر سناً وأكثر شهوداً لمشاهدة التنزيل.
فهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، وهكذا كان التابعون والتابعون لهم بإحسان، ولا زال أهل الفضل على هذا النهج الصالح الذي يدل على صفاء القلوب والإنصاف والعدل والتقوى لله سبحانه وتعالى.
ثم قال: ولكن أخبرني أسامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ربا إلا في النسيئة)، فاحتج بالسنة، وفهم ابن عباس أنه لا يقع الربا في الفضل، وأنه يجوز أن تصرف الريال بالريالين، والدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين؛ لكن بشرط أن يكون يداً بيد، والواقع أن هذا الحديث يجاب عنه من مسالك: المسلك الأول: من ناحية النسخ.
المسلك الثاني: الجمع.
المسلك الثالث: الترجيح.
فهذه ثلاثة مسالك أصولية في الجواب عن هذا الحديث ومناقشته، وتوهين الاستدلال به.
المسلك الأول: دعوى النسخ، وهذا المسلك يميل إليه طائفة من العلماء وبعض أئمة الحديث، كالإمام الحميدي وغيره، ويقوون النسخ؛ لأن البراء قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وتجارتنا هكذا) أي: كنا نعطي الدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين، أي: كنا نتعامل بالفضل، فلما قدم عليهم وتجارتهم هكذا وأقرهم عليها قال: (ثم جاءتنا أحاديث التحريم ففهمنا أن الأمر قد نسخ)، وهذا المسلك من أقوى المسالك.
المسلك الثاني: الجمع، لكن يقول العلماء: لا يصار إلى الجمع متى كان أحدهما منسوخاً؛ لأنه لا يجمع إلا بين نصين محكمين، لأن النصين أحدهما منسوخ، ولا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع.
فأما مسلك الجمع بين النصين، فيجمع بينهما من وجوه: أولاً: قوله: (لا ربا إلا في النسيئة) يحمل على أن المراد به: لا ربا أكمل وأكثر وأشنع وأشد من ربا النسيئة، وهو من باب التهويل والتشديد، فلما كان ربا النسيئة هو ربا الجاهلية، وهو الذي يظلم فيه الفقراء من قبل الأغنياء قال: (لا ربا إلا في النسيئة)، وهو كقوله: (الحج عرفة) فإنه لا يسقط أركان الحج الباقية، فخرج من باب التعظيم والتهويل والتشديد في أمره.
ثانياً: من مسالك الجمع ما اختاره الإمام الشافعي رحمه الله: أن الصحابي حضر الجواب ولم يحضر السؤال، فسُئل عليه الصلاة والسلام عن مسألة فيها ربا نسيئة، فقال له: (لا ربا إلا في النسيئة) أي: هذا الذي تسأل عنه هو عين الربا، فحضر الجواب ولم يحضر السؤال، وهذا يقع في بعض النصوص، فيعمم فيما هو مخصص، أو يطلق فيما هو مقيد، وقد ذكر هذا العلماء والأئمة.
المسلك الثالث: الترجيح، والترجيح هنا من جهة السند ومن جهة المتن: فأما الترجيح من جهة السند: فأولاً: إن أحاديث التحريم، كحديث عبادة بن الصامت، وأبي موسى الأشعري، وعمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع، وغيرها من الأحاديث التي أثبتت تحريم ربا الفضل، هي من رواية أكابر الصحابة، وحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) من رواية أصاغر الصحابة؛ لأن أسامة بن زيد وعبد الله بن عباس من أصاغر الصحابة.
والقاعدة تقول: (إذا تعارضت رواية الأكابر مع رواية الأصاغر؛ قدمت أحاديث الأكابر على أحاديث الأصاغر)، وهذا نفسه ابن عباس يسلم بذلك ويقول: (أنتم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني).
والسبب في هذا: أن الصغار ربما كانوا متأخرين، وقد تخفى عليهم بعض السنن، ويحكون البعض ويغفلون عن البعض، وهذا هو ما قرره العلماء، إلا في بعض المواطن التي تكون فيها رواية الأصاغر موثقة بدلالة الحال أو السياق، على حسب ألفاظ الأحاديث، كما قال أنس: (ما تعدوننا إلا صبياناً، لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه يقول: لبيك عمرة وحجاً).
فهذا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً برواية الأصاغر، لكنه جاء بمقطع واضح على أنه سمع بأذنه وعقل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: نقول: إن أحاديث النهي من رواية الأكابر، وأحاديث الجواز من رواية الأصاغر، فترجح أحاديث النهي على أحاديث الجواز.
ثانياً: إن أحاديث النهي متصلة؛ لأن عبادة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس يروي بواسطة، ويحتمل أن يكون أسامة روى بواسطة ولم يرو مباشرة، ولذلك قالوا: تقدم الرواية المباشرة على الرواية بواسطة.
أما الترجيح من جهة المتن، فمن وجوه: الوجه الأول: أن الاستدلال بحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) من باب المفهوم لا من باب المنطوق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ربا إلا في النسيئة)، ونحن نرى أن الربا يجري في النسيئة، ومفهومه: أنه سكت عن ربا الفضل، فجاء منطوقاً به في أحاديث أخرى، فيقدم المنطوق على المفهوم.
ومن المعلوم أن حديث: (لا ربا إلا في النسيئة) لا يصح دليلاً لـ(163/9)
شرح زاد المستقنع - باب الربا والصرف [4]
ربا النسيئة محرم بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة؛ لما فيه من الغرر والظلم، ويلحق به ربا الفضل؛ لأنه ذريعة إلى النسيئة، وكل بيع فيه جهل أو غرر أو ظلم فإنه محرم، وفي هذه المادة أنواع متفرقة ومسائل مختلفة من البيوع الربوية المحرمة، أو التي تكون وسيلة إلى الربا.(164/1)
مسائل في ربا النسيئة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويحرم ربا النسيئة].(164/2)
الأدلة على تحريم ربا النسيئة
قصد المصنف رحمه الله بهذه الجملة أن يبيّن الأحكام المتعلقة بالنوع الثاني من أنواع الربا، وهو ربا النسيئة، وقد جاءت النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على تحريمه، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الأصناف الستة: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد)، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (مثلاً بمثل)؛ دل على وجوب التماثل وتحريم التفاضل، ولما قال: (يداً بيد)؛ دل على وجوب التقابض وتحريم الافتراق قبل القبض من المتعاقدين أو من أحدهما.
وقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائباً منها بناجز)، فقوله: (لا تبيعوا غائباً منها بناجز) يدل على تحريم تأخير التقابض، وإذا حصل التأخير في القبض فقد وقع ربا النسيئة.
وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز تأخير أحد الربويين إذا بيع بالآخر، وأنه يجب على المتعاقدين أن يتقابضا في المجلس.(164/3)
الربا في بيع الذهب بالذهب
لو صرفت الذهب بالذهب، كرجل عنده جنيهات من الذهب فأراد أن يبادلها بجنيهات من الذهب، فقال أحدهما: هذه العشرة جنيهات من السعودي بالعشرين من الجنيهات الفرنسية، فيجب أن يتقابضا، وأن يكون ذلك يداً بيد، وشرطه محل العقد، فلو دفع أحدهما جنيهاته وتأخر الآخر، وخرجا وافترقا فقد وقع ربا النسيئة.
وهكذا لو قال له: أعطيك الآن وتعطيني غداً فهو ربا.
وكذلك لو باع الحلي بالجنيهات، فأعطى صاحب الحلي وأخر صاحب الجنيهات، وهكذا لو أن امرأة جاءت بحليها القديم، وأرادت أن تشتري به حلياً جديداً فتبايعت، ثم قال: لا أعطيك الآن ولكن غداً، فهذا كله من ربا النسيئة في الذهب.(164/4)
الربا في بيع الفضة بالفضة
وكذلك إذا صرف الفضة بالفضة، فمثلاً: لو أنه بادل الريالات بالريالات، كخمسمائة يصرفها إلى مئات، أو المئات يصرفها إلى ريالات أو عشرات أو نحو ذلك، فلابد أن يكون ذلك مثلاً بمثل، يداً بيد، فلو أعطاه الخمسمائة الآن، وقال: بعد ساعة سأعطيك صرفها، أو أعطاه الخمسمائة حالاً بيد، فقال: إن شاء الله غداً سأعطيك صرفها، فكل ذلك من ربا النسيئة.(164/5)
الربا في المطعومات
ويدخل في هذا الطعام، فكما أن الربا يجري في الذهب والفضة فكذلك يجري في الطعام، فلو بادل طعاماً ربوياً بطعام ربوي مع الاتفاق، كما يقع في الذهب والفضة؛ كبر ببر، فلو جئت ببر أو تمر أو شعير أو ملح أو غيرها من الأصناف المنصوص عليها، أو جئت بشيء ملحق بالأصناف المنصوص عليها، ففي المنصوص عليه لو كان عندك مائة صاع من السكري، وأردت أن تبادله بمائة صاع من السكري أيضاً، فيجب أن يكون يداً بيد، وأن لا تفترقا وقد أخر أحدكما أو أخرتما معاً، فلو أعطاه المائة من السكري الآن، وقال الآخر: تأتيني بعد ساعة أو غداً، أو ترسل لي أحداً يحمل عنك، فافترقا قبل التقابض، فقد وقع ربا النسيئة.
هذا مع اتحاد المبادلة كالذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح.
ونحو ذلك.(164/6)
الربا مع اختلاف الربويات
كذلك مع اختلاف الربويات؛ كأن يبادل الذهب بالفضة، فلو صرف الذهب بالفضة، كرجل عنده جنيهات وأراد أن يصرفها بريالات، فقال له: كل جنيه أبيعه منك بمائة ريال، فالريالات أصلها فضة، والجنيهات أصلها ذهب، فتبادلا، فقال له: أعطيك الجنيهات الآن وتعطيني غداً الريالات، أو العكس، فكل ذلك محرم؛ بل حتى لو قال له: بعد ساعة أحضرها لك، ثم افترقا قبل أن يحصل القبض، فيعتبر هذا محظوراً.(164/7)
الربا عند تحويل العملات
وكذلك لو جئت إلى رجل ومعك ريالات وتريد صرفها بدولارات، كرجل معه مائة ريال يريد أن يحولها إلى دولارات، فينبغي أن يكون الصرف يداً بيد، فتعطيه الريالات ويعطيك الدولارات، فلو تأخر التقابض، وقال: أعطني الريالات الآن وأعطيك غداً الدولارات، أو يقول: ليس عندي الآن صرف، لكن مر عليّ بعد ساعة، ثم أخذ منك ولم تعطه، فقد وقع ربا النسيئة.
ويدخل في هذا لو جاء بألف ريال وأراد أن يحولها إلى قريب له إلى دولارات مثلاً، فهنا حالتان: الحالة الأولى: أن يحولها مع اتحاد العملة، كأن يحول ريالات من المدينة إلى جدة أو مكة، فهذه العملة متحدة ولا إشكال فيها، فيصبح عندنا عقد واحد وهو عقد الحوالة.
الحالة الثانية: أن يحولها مع اختلاف العملة، كأن يحول مثلاً من ريالات إلى دولارات، أو من ريالات إلى جنيهات، فإن الريالات فضة والجنيهات ذهب، فيجب عند تحويلك للريالات إلى جنيهات أن تنتبه لعقدين: العقد الأول: صرفك للريالات بالدولارات.
العقد الثاني: تحويلك للمصروف من الموضع الذي أنت فيه إلى الموضع الآخر.
فيجب أولاً: أن تقبض المحول، فتعطي المائة ريال التي معك وتستلم عدلها من الدولارات، أو من الجنيهات، أو من أي عملة أخرى، وبعد أن تقبض ويتم عقد الصرف تحول ما شئت.
إذاً: لابد من القبض؛ لأنه إذا صرف الفضة بالذهب، أو الذهب بالذهب؛ كجنيهات بدولارات، دون أن يحصل التقابض، فإنه حينئذٍ يكون ربا النسيئة، فلابد أولاً: من التقابض، ثم بعد ذلك يكون عقد الحوالة.(164/8)
علة الربا في الأصناف الربوية
يحرم ربا النسيئة في الربويات، والربويات المنصوص عليها هي: الذهب والفضة، وعلتها الوزن، والمنصوص عليها في المطعومات علتها الطعم مع الكيل أو الوزن.
وبناءً على ذلك: إذا بادل غير الطعام؛ كأن يبادل حديداً بحديد، أو نحاساً بنحاس، أو خشباً بخشب، فهذه الأشياء من غير الطعام، فإن كانت توزن ولو اختلفت، كأن يبادل طناً من حديد بطنين من نحاس، فإن النحاس والحديد كل منهما يوزن، فنقول: يجوز، ولكن لا بد أن يكون التقابض فورياً، فلا يتأخر أحد المتعاقدين؛ لأنه موزون ربوي، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الموزون الربوي والمكيل الربوي: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
فبيّن صلى الله عليه وسلم أن الموزون والمكيل الربوي إذا اختلف وكل منهما يكال أو يوزن، فلابد أن يكون يداً بيد، وإذا تأملنا حديث عبادة بن الصامت (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة) فقد ذكر جنس غير المطعومات، ثم لما قال: (الذهب بالذهب) جعل كلاً منهما مثل الآخر: الذهب بالذهب والفضة بالفضة، فلما جاء في آخر الحديث قال: (فإذا اختلفت هذه الأصناف)، كذهب بفضة، وبر بتمر، وتمر بملح، وبر بشعير، وشعير بملح (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
فهذه الأصناف تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الذهب والفضة.
القسم الثاني: الأربعة الباقية.
فالذهب والفضة العلة فيهما الوزن، فكأنه صلى الله عليه وسلم حينما قال: (فإذا اختلفت هذه الأصناف) أي: الذهب بالفضة: (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فإذا تأملنا الذهب والفضة وجدنا أن العلة فيهما هي الوزن، فكأنه قال: كل موزون من غير الطعام بيع بموزون الذي هو الربوي، -إذا قلت: إن العلة الوزن فمعناه أنه ربوي- فكل ربوي بربوي كموزون، بموزون لا يباع إلا يداً بيد، إن اتفق وجب التماثل والتقابض، وإن اختلف وجب التقابض وسقط التماثل.
وبناءً على ذلك: لو سئلت عن بيع الموزون بالموزون من غير الطعام؟ فيكون
الجواب
يجوز التفاضل إذا اختلفا؛ ولكن بشرط أن يكون البيع يداً بيد، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد).
ولما بينا أن العلة هي الوزن فهمنا ذلك من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أجاز لـ عبد الله بن عمرو بن العاص أن يبيع الإبل بعضها ببعض متفاضلة وإلى أجل، فهمنا أن المعدودات لا ربا فيها، قال عبد الله رضي الله عنهما: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين، والفرس بالأفراس إلى إبل الصدقة).
فجمع بينه وبين النسيئة، والبعير بالبعيرين جائز، لكن الصاع بالصاعين غير جائز، وفهمنا أن الصاع مكيل وأن البعير معدود.
والسبب في هذا: أن المعدودات تتكافأ بالعدد، فلربما يكون الواحد يعادل العشرة، فسقط الربا فيها، ولكن المكيلات تتكافأ في الكيل، فوجب التماثل فيها.
ومن هنا أخذ العلماء هذه العلة المستنبطة من النص، فقالوا: العلة عندنا الموزونات فهماً من هذه السنة، فإذا قلت: إن العلة الوزن؛ وجب التماثل والتقابض إن اتحد الموزون، مثل: حديد بحديد، سواءً كان جيداً أو رديئاً إلخ.
ويجب التقابض إن اختلف الموزون، وهذا الذي جعله رحمه الله من كل ربويٍ بيع بجنسه، فمعناه: أنه لو بيع الموزون بالموزون اتفقا أو اختلفا وجب التقابض، هذا هو معنى قوله رحمه الله: (ويحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل).(164/9)
ربا النسيئة في بيع الجنسين
قال رحمه الله: [في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل]: ذكرنا أنه إذا بيع موزون بموزون، سواءً كان من جنس الخشب أو من جنس الحديد أو النحاس أو الرصاص أو النيكل أو غير ذلك؛ فإنه ينبغي أن يكون يداً بيد.
وقوله: (اتفقا في علة ربا الفضل) هنا يلاحظ مسألة الاختلاف، فقوله: (اتفقا في علة ربا الفضل) أي: الوزن في الموزون، وبالنسبة للطعام الكيل أو الوزن، فالمطعوم المكيل مع المطعوم المكيل، سواءً اتفقا أو اختلفا، يداً بيد، والمطعوم الموزون مع المطعوم الموزون، سواءً اتفقا أو اختلفا، يداً بيد.
فإكان مطعوماً موزوناً متفقاً، مثل البرتقال فإنه يباع بالوزن إذا اتفقا، فبرتقال ببرتقال لابد أن يكونا مثلاً بمثل، فإذا باع الكيلو فيكون بكيلو، أو كيلوين بكيلوين، وأن يكون يداً بيد، وهكذا التفاح إذا بيع وزناً مع الاتفاق وجب التماثل والتقابض.
أما مع الاختلاف؛ كتفاح ببرتقال، فإن التفاح يوزن والبرتقال يوزن، وكلاهما مطعوم، فيباع الموزون بالموزون من المطعوم، ويجب التقابض ولم يجب التماثل؛ لأنهما مختلفان، فلو قال قائل: أريد أن أبادل الصندوق من البرتقال بالصندوقين من التفاح؟ فنقول: التفاضل جائز؛ لأنهما ليسا بمتحدين في ربا الفضل، ولكن يجب أن يبادله التفاح بالبرتقال يداً بيد؛ لأن التفاح والبرتقال يعتبر كلاً منهما موزوناً مطعوماً.
إذاً: في الطعام ننظر إذا كان مكيلاً أو موزوناً فلابد من التماثل والتقابض إذا اتحدا، ويجوز التفاضل ويجب التقابض إذا اختلفا، هذا بالنسبة للضابط على الأصل الذي بيناه.(164/10)
حكم بيع الربويين المختلفين ببعضهما إذا كان أحدهما نقداً
قال رحمه الله: [ليس أحدهما نقداً كالمكيلين والموزونين]: للحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد)، فلو أنه باع من الأربعة المطعومة: براً بتمر، أو شعيراً بتمر، أو شعيراً بملح؛ فإنه يجب التقابض على ظاهر السنة، وهكذا لو باع الفضة بالذهب؛ لكن لو باع الذهب بصنف من الأصناف الأربعة، أو باع الفضة بصنف من الأصناف الأربعة، فصار أحدهما نقداً فعندنا ستة أصناف كلها ربوية إن كان موزوناً بموزون، أو مكيلاً بمكيل من المطعومات أو من غير المطعومات، فإذا كان موزوناً فإنه يجب التقابض، لكن إذا بيع الذهب أو الفضة بواحد من الأصناف الأربعة، فهناك ربوي بربوي، ولكن إذا كان أحدهما نقداً فإنه لا يشترط التقابض ولا التماثل، كأن يشتري مائة صاع من بر بمائة ريال، وهكذا لو اشترى بالنقد ما هو موزون من برتقال أو موز أو تفاح أو نحو ذلك، فإنه لا يشترط التقابض.
والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)، والسلف: تقديم الثمن وتأخير المثمن، بأن يعطيه الدراهم والدنانير معجلة على أن يأخذ منه الطعام مؤجلاً، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم تأخير المطعوم مع النقد.
فدل على أنه إذا بيع المؤجل وكان أحدهما نقداً، جاز ولا بأس به، فلو جاء إلى صاحب البقالة، وقال له: سيأتي ولدي كل يوم ويأخذ من عندك أغراضاً فأعطه، وفي آخر الشهر سأعطيك دينك، فقد صار مطعوماً مما يشترى بنقد نسيئة، فالمطعوم الذي هو الطعام الموجود في البقالة، أو الأغراض التي سيشتريها من الطعام، بنقد نسيئة، فصار ولو كان من جنس الربويات، كأن يأتي إلى بائع تمر، ويقول له: ابني كل يوم سيأتي ويأخذ منك صاعاً أو نصف صاع فأعطه، وفي آخر الشهر سوف أحاسبك.
فحينئذٍ أخذ الرجل الطعام الذي هو التمر، وقال: إلى آخر الشهر، فصارا ربويين؛ لأن الريالات أصلها فضة، والفرع آخذ حكم أصله، وبالنسبة للطعام الذي يدفع لقاء النقد الموعود به من جنس الربويات، فربوي بربوي، لكن أحدهما نقد، فإذا كان أحدهما نقداً فإنه يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أسلف الطعام بالنقد إلى أجل وأباح ذلك.
ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله من السلف والخلف على جواز تأخير أحد الربويين إذا كان أحدهما نقداً والآخر الذي هو الثمن والمثمن نسيئة، لكن لو كانا نقدين فلا يجوز، وهكذا لو كان نقداً بجنسه أو من جنس الأثمان، كأن يشتري مثلاً كيلو من الذهب بالنقد الذي هو الريالات، فلم يجز، لكن لو اشترى كيلو الذهب بألف صاع من تمر؛ جاز وصح؛ لأنه ثمن لمثمن، وأحدهما الذي هو الأول نقد ولا حرج في تأخيره على ظاهر حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وجماهير العلماء على أنه يجوز التأخير، ولا بأس بذلك.(164/11)
إذا تفرق المتبايعان قبل القبض بطل البيع
قال رحمه الله: [وإن تفرقا قبل القبض بطل]، وينبني على هذا أننا قلنا: إنه يحرم ربا النسيئة في الموزونين، والمكيل موزون بموزون ومكيل بمكيل، سواءً اتفقا أو اختلفا، فيرد
السؤال
لو أنهما تفرقا قبل القبض؟ قال رحمه الله: (بطل)، والباطل والفاسد عند جمهور العلماء هو الذي لا يترتب عليه أثر البيع الصحيح، فلا يملك البائع الثمن، ولا يملك المشتري المثمن، إذا كان بيعاً مطلقاً.
فالبيع إذا حكمنا بفساده وجب رد الثمن والمثمن إلى البائع والمشتري، ويبطل البيع ويفسخ.
وقوله: (بطل) هذا البطلان فيه تفصيل، وسيأتي التفصيل بين أن يبطل في الجميع أو أن يبطل في البعض؛ لأن التأخير في بعض الأحيان يكون من الطرف بجميع النقد، وتارة يكون بجزء النقد، وتارة يكون التأخير من الطرفين، وتارة يكون من أحد الطرفين.(164/12)
حكم بيع المكيل بالموزون
قال رحمه الله: [وإن باع مكيلاً بموزون جاز التفرق قبل القبض والنسأ]، أي: جاز نسيئة وجاز قبل أن يتقابضا، والمصنف رحمه الله يرجح في علة الذهب والفضة الوزن، وفي علة الطعام الكيل، كما هي إحدى الروايات عن الإمام أحمد، والصحيح أن العلة في الطعام هي الكيل والوزن مع كونه مطعوماً، على ما اختاره شيخ الإسلام، وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد، ويقول بها طائفة من السلف، وقد بينّا دليلنا من حديث معمر بن عبيد الله رضي الله عن الجميع.
وقوله: (وإن باع مكيلاً بموزون جاز)؛ لأنه يرى أن الطعام فيه علة واحدة وهي الكيل، فقال: (مكيلاً بموزون)، ومعناه: أنه سيبادل ما هو من جنس الربا -الذي هو المكيل إذا كان طعاماً- بما ليس من جنس الربا من مطعوم موزون على ما رجحه؛ لأنه يرجح أن الطعام إذا كان موزوناً لا يجري فيه الربا.
وحتى تتضح الصورة هنا أمران نريد بيانهما: الأول: اختار المصنف أن الطعام يجري فيه الربا إذا كان مكيلاً، ومفهوم هذا أنه إذا كان موزوناً أو معدوداً فإنه لا يجري فيه الربا، والموزون مثل: البرتقال والتفاح، فإذا قلت: إن العلة هي الكيل، فمعناه أنه لا يجري إلا في المكيلات، كالتمر، والرز يباع بالصاع، فهو مكيل، ويجري فيه الربا.
لكن البرتقال يوزن ويباع أيضاً عدداً بالحبة، أو يباع بالصندوق، فإذا بيع بالعدد أو الوزن لم يجر فيه الربا على قول من يقول: بالكيل، وهذا هو مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
فبناءً على القول بأن العلة هي الكيل: لو بادل المكيل بالموزون فمعناه: أنه بادل الربوي من المطعوم بالربوي من غير المطعوم، ومعناه: أنه بادل النقد بالمطعوم مثلاً، كذهب ببر، أو ذهب بشعير، أو فضة بتمر، فإن الأول -على ما اختاره المصنف- موزون والثاني مكيل.
فحينئذٍ في هذه الحالة إذا باع المكيل بالموزون فإنه يجوز التفاضل، ويجوز النسأ والتأخير، ولا يشترط التقابض، وقد بينّا دليل ذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه لا يرى أن هذا من جنس الربوي، وهذا بناءً على أن المصنف يرى أن الطعام يختص بعلة الكيل، فإذا قال لك: مكيل بموزون، فمعناه: مطعوم بغير المطعوم والمطعوم، بغير المطعوم سواءً كان من جنس الربويات أو غير الربويات فإنه يجوز ولا بأس به.
لكن على ما رجحناه في المطعومات، فإن الإشكال هو في المطعومات، فلو بادل الموزون منها بالمكيل، أو ما يباع وزناً بما يباع كيلاً على أن كلاً منهما -أي: الطعام الذي هو من جنس الربويات- علته الطعم مع الكيل أو الوزن، فحينئذٍ يجري الربا، فلو بادل البرتقال موزوناً بالتمر المكيل، وجب التقابض فيه؛ لأن جنس المطعوم المكيل، وجنس المطعوم الموزون كل منهما يحرص الشرع على إعطائه يداً بيد؛ بدليل تحريمه إذا تمحض كيلاً أو تمحض وزناً.
ولذلك قالوا: إن كل مطعوم من كيل أو موزون يجب فيه التقابض، سواءً اتفقا: كبرتقال ببرتقال، وتفاح بتفاح، وتمر بتمر، وشعير بشعير، وأرز بأرز، ودخن بدخن، أو اختلفا: كتمر ببر، أو اختلفا كيلاً ووزناً، كتمر بتفاح، وقس على هذا.
وعلى هذا يقال: إن العلة في النسأ الكيل مع الوزن، وبعض العلماء يقول: العلة وجوب الطعم، فلا يجوز بيع الطعام بالطعام نسيئة مطلقاً، سواءً كانا مكيلين أو موزونين أو غير ذلك، وعلى هذا يختلف إذا باعه من جنس المعدودات.(164/13)
حكم النسأ فيما لا كيل فيه ولا وزن
قال رحمه الله: [وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النسأ].
الثياب تباع بالعدد، فتقول: أعطني ثوباً أو ثوبين أو ثلاثة أثواب، فلو بادل ثوباً بثوبين، أو ثوباً بثلاثة، أو ثوباً بأثواب، أو ثوبين بثلاثة، أو غير ذلك؛ صح ولا بأس به، ولا يشترط التماثل ولا التقابض.
فلو أعطاه الثوب الآن، وقال: غداً سأستلم منك الثياب، فلا بأس به؛ لأن هذا معدود، وكذلك لو كان طاقات القماش؛ لأنها تباع بالذرع، فليست بمكيلة ولا موزونة، وإنما هي مذروعة، فطاقات القماش إذا بيعت بالأمتار، فإنه يجوز أن يبيع الطاقة بالطاقتين، والطاقة بالثلاث؛ لأنها من جنس المعدودات، وليست من جنس المكيلات والموزونات.
وكذلك أيضاً: لو بادله الكتاب بالكتابين؛ لأن الكتاب لا يباع كيلاً ولا وزناً، وإنما يباع عدداً، فتقول: أعطني كتاباً أو كتابين أو ثلاثة مجلدات أو أربعة مجلدات، فأنت تشتري الكتاب ولا تكيله ولا تزنه، ولو اشترى مثلاً الغترة بالغترتين، أو الطاقية بالطاقيتين أو الطواقي؛ جاز وصح البيع، سواءً اختلف أو اتفق قماشها، فكل ذلك جائز ولا بأس به.
وهكذا لو بادله القلم بالقلمين، أو الدفتر بالدفترين، وغير ذلك مما هو موجود في زماننا، فكل ذلك جائز؛ لأنه من جنس المعدودات التي ليست مكيلة ولا موزونة.
والدليل على أن المعدود يجوز فيه التفاضل والنسأ: قول عبد الله رضي الله عنهما: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين)، والبعير معدود وليس بمكيل ولا موزون، فقوله: (آخذ البعير بالبعيرين) هذا تفاضل، ثم قال: (إلى إبل الصدقة) أي: آخذ البعير الآن وأعطي البعيرين، فإذا جاء الناس ليدفعوا الزكاة أخذ من أبعرتهم ما يسد به الدين على بيت المال.
فدل على جواز بيع المعدود بالمعدود سلفاً وديناً ونسيئة وتفاضلاً؛ لأنه أجاز البعير بالبعيرين تفاضلاً، وأجاز البعير بالبعيرين إلى أجل، فحصل النسأ والتأخير، ومن هنا قالوا: ما كان من غير الموزون والمكيل فإنه لا يجري فيه الربا، فيجوز التفاضل ويجوز النسيئة.
وبعض العلماء يعلل ذلك ويقول: إن المكيلات العدل فيها أن تتساوى، فالصاع بالصاع يتساوى، لكن الصاع بالصاع إلا ربع أو بنصف صاع ظلم لصاحب الصاع الكامل، وقالوا: لو جاز في المكيلات تضرر الناس في أقواتهم، كما يقرر ذلك الإمام ابن القيم في الأعلام والزاد.
لكن جنس المعدودات غالباً ما يكون العدل فيها بالتفاضل، فإذا جئت لتبيع الفرس بأفراس، فإنك تنظر إلى قيمة الفرس، ثم إذا قدرت الفرس بمائة أو بألف ريال مثلاً فتنظر إلى فرس صاحبك، فإذا كانت قيمته خمسين ريالاً فتقول: أقبل فرسي بفرسين من مثل هذا، لكن التمر حينما تأتي بكيلة متكاملة منضبطة مع كيلة متكاملة منضبطة، فلا تدخل حساباً بينهما.
ولذلك انضبطت بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً، لكن في العدد انضبطت بالتفاضل، فسقط الربا في المعدود وبقي في المكيل والموزون، وهذه خلاصة من يقول بهذه العلة، وقد أشار إليها القاضي ابن رشد في بداية المجتهد، وتكلم على هذا بكلام دقيق جداً في مسألة إسقاط الربا في المعدودات؛ لأنها إذا جاءت تتكافأ فإنها تتكافأ بالتفاضل، فأنت إذا بعت الثوب بالأثواب، فإنك تنظر إلى أشياء موجودة في الثوب من صفاته، وتحاول أن تقدر قيمته، ثم تنظر إلى عدله من الأثواب وتقدر قيمتها، فإن تكافأت رضيت، وإن تفاوتت طلبت الزيادة عدلاً للنقص الذي بينهما.
ومن هنا تفاوت المعدود عن المكيل والموزون؛ لما فيه من الجبر حين التفاضل، بخلاف المكيل والموزون، فإنهما إذا تفاضلا انعدم المعنى المقصود من الشرع من حصول التساوي بين المبيعين.(164/14)
حكم بيع الدين بالدين
قال رحمه الله: [ولا يجوز بيع الدين بالدين].
قوله: (ولا يجوز) هذه من صيغ التحريم، (لا يحل -لا يجوز- يحرم) كلها من صيغ التحريم، ومن أقوى الصيغ: (لا يحل) فهي تدل على التحريم، كما قال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:52]، فنفي الحل عن الشيء يدل على تحريمه، وقوله: (لا يجوز) كذلك يدل على تحريمه.
وقوله: (بيع الدين بالدين)، الدين المؤجل يقابل النقد المعجل، والمراد بهذا أن تبيع ديناً في مقابل دين، ولا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: حكم هذه المسألة مستفاد من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ).
وهذا الحديث رواه الدارقطني والحاكم وصححه، وقال: هو على شرط مسلم، ولكن تعقب بأن فيه من تكلم في سنده، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله عن بعض رواته: إنه لا تحل روايته.
والعمل عند طائفة من العلماء على تضعيفه، لكن متنه صحيح، حتى إن الإمام أحمد لما ضعفه قال: إجماع الناس عليه، أي: الإجماع قائم على عدم جواز بيع الدين بالدين؛ لأن متن هذا الحديث يوافق الأحاديث الصحيحة؛ لأن بيع الدين بالدين يفضي إلى الربا والغرر والمخاطرة، فيدخل ضمن أصول عامة دلت الشريعة على اعتبارها، وقد أجمع العلماء والسلف رحمهم الله على العمل بهذا الحديث.
وممن حكى الإجماع على عدم جواز بيع الدين بالدين الإمام أحمد رحمه الله، وابن قدامة، وابن المنذر، وابن رشد وغيرهم.
ويبقى النظر: ما هي صور بيع الدين بالدين؟ نقول: لبيع الدين بالدين صور: فتارة بأن تبيع ديناً بدين على الشخص المدين نفسه، فيحصل بيع الدين بالدين بين المتعاقدين بأن يكررا البيع، فيكون من باب بيع الدين بالدين مع الشخص نفسه.
وتارة يكون بيع الدين بالدين مع شخص غير الشخص المدين الأول.
فأما بيع الدين بالدين مع الشخص نفسه فلا يخلو: إما مع اتفاق جنس الدين الأول، أو اختلافه.
مثال ذلك: جاء رجل واستدان منك ألف ريال، ثم لما حضر التقاضي قال لك: هذه الألف ريال أعطيك في مقابلها مائة صاع من بر إلى نهاية العام، فالأول دين، والثاني دين، وقد باع الألف ريال في مقابل المائة صاع، فهو دين بدين.
مثال آخر: كأن يقول: هذه المائة صاع أشتريها منك بألف ريال، أو بألف ومائتين، فحينئذٍ باع الثمن (الدين) الذي كان في الثمن الأول ببيع ثانٍ جديد، فالذي خاطب وتبايع معك هو نفس الذي وقع عليه الدين الأول، فوقعت صورة بيع الدين بالدين مع اتحاد المتعاقدين، فالعقد الثاني والبيع الثاني هو نفسه الذي وقع فيه الدين في البيع الأول.
فهذه الصورة -وهي اتحاد المتعاقدين- تارة تكون بالثمن في مقابل الثمن، وتارة تكون بالمثمن في مقابل المثمن، وتارة تكون بالمثمن في مقابل الثمن، فهذه ثلاث صور.
الصورة الأولى: أن تكون من بيع الثمن بالثمن: وهذا أشهر ما يقع فيه ربا الجاهلية، زد وتأجل، فيكون للشخص على الشخص عشرة آلاف ريال، فإذا حضر وقت المطالبة قال له صاحب الدين: أأخرك عن هذا الدين باثني عشر ألفاً، أي: بزيادة ألفين، فكأنه باعه العشرة آلاف الأولى باثني عشر ألفاً الثانية.
أو يقول الذي عليه الدين لصاحب الدين: أنا أشتري منك هذه العشرة آلاف بمائة دولار أو بمائتين إلى بعد نصف سنة أو سنة أو شهر أو شهرين، فبادله النقد بالنقد نسيئة من الطرفين، وحينئذٍ يكون من بيع الدين بالدين المفضي إلى الربا.
كذلك أيضاً -وخاصة إذا كان في الأثمان والنقود-: غالباً ما تقع الصورة ربوية مع اتحاد المتعاقدين، فتكون العلة فيها من أقوى ما تكون مفضية إلى الربا.
إذاً: بيع الدين بالدين (ثمن بثمن) يقع بصورة الربا غالباً، إلا أنه يستثنى من هذا لو قال له: هذه العشرة آلاف لا أستطيع أن أسددها، فقال: أسقط عنك مائة منها وأعطيك أجلاً زائداً، فحينئذٍ هذا دينه، فالأمر خفيف، لم يقع فيه؛ لأن العشرة هي العشرة، ولم يقع بيعاً ثانياً.
فهناك فرق بين مسألة الإسقاط والمسامحة وبين مسألة المعاوضة، فإن المدين في الصورة الأولى يقول: هذه العشرة آلاف أعطيك بدلاً عنها عشرة آلاف وخمسمائة، أو أعطيك بدلاً عنها عشرة آلاف ومائة، بشرط أن تصبر عليّ شهراً وأعطيك مائة فوق العشرة آلاف، فأصبحت عشرة آلاف ومائة، فصار ديناً بدين.
هذه هي الصورة الأولى، وهي أن يكون ثمناً بثمن.
الصورة الثانية: أن يكون مثمناً بمثمن، ويقع هذا في صور عديدة، منها: بيع السلم، كأن يأخذ منك ألف ريال معجلة مقابل مائة صاع مؤجلة، مع ملاحظة أن المائة صاع مثمن، فلما حضر أجل السلم قال: ليس عندي مائة صاع، فسأعطيك بدلاً عنها مائة وعشرة، فهو مثمن بمثمن، وهو عين الربا، وهذا مع الاتحاد.
وقد يختلفان إلى ربوي، فيقول له: أعطيك عن المائة صاع البر مائة وعشرين من التمر، أو أعطيك مائة من التمر، فصار ربوياً بربوي بدون قصد، فتدخل شبهة الربا، فحرم بيع الدين بالدين لوجود شبهة الربا، مع ما فيها من المخاطرة في الديون.
الصورة الثالثة: الثمن بالمثمن، قالوا: يقع بيع الدين بالدين (الثمن بالمثمن) إذا كان قد أعطاه ديناً عشرة آلاف ريال إلى نهاية السنة، فلما حضر الأجل، قال: أعطني العشرة آلاف، فقال: سأعطيك بدلاً عنها مائة صاع، من البر إلى نهاية الشهر أو إلى نهاية السنة، فعاوضة عن الثمن -الذي هو العشرة آلاف- بمثمن إلى نهاية السنة، أو هذه العشرة آلاف التي لك عليّ أعطيك بدلاً عنها سيارة في نهاية السنة من نوع كذا وصفة كذا، فعاوضه بالمثمن لقاء الثمن، فصارت البيعة الثانية ديناً في مقابل دينه الأول، فصار من بيع الدين بالدين.
وعلى هذا وقع بيع الدين بالدين مع اتحاد المتعاقدين، كما في الصور التي ذكرناها في الثمن مقابل ثمن، ومثمن مقابل مثمن، وثمن مقابل مثمن.
وقد يقع بيع الدين بالدين مع اختلاف المتعاقدين، وهنا قد تقع علة الربا، وقد يقع بيع الغرر، فيكون فيها نوع من المخاطرة، ومن هنا قال بعض العلماء: الأشبه بأن بيع الدين بالدين يدخل فيه علل كثيرة، فتارة يكون من ربح ما لم يضمن، وتارة يكون من بيع الغرر، وتارة يكون من الربا.
فأصبح مشتملاً على المفاسد الموجبة لتحريم البيع؛ لأن قواعد تحريم البيع كما ذكرها ابن رشد وغيره والتي من أجلها حرم البيع: إما تحريم عين المبيع، وإما الربا، وإما الغرر، وإما الشروط التي تئول إلى الربا أو إلى الغرر أو هما معاً.
وبناءً على ذلك قالوا: إذا باع الدين بالدين مع اختلاف المتعاقدين: فتارة يكون من الربا، وتارة يكون من الغرر، وتارة يكون من ربح ما لم يضمن، فإذا قال زيد من الناس: لي على عمرو عشرة آلاف، فقال له: يا فلان، دينك الذي على زيد -وهو عشرة آلاف- سأعطيك بدلاً عنه اثني عشر ألفاً إلى نهاية السنة، وأنا آخذ من زيد وفاء الدين.
فحينئذٍ عاوضه ديناً بدين، فالاثنا عشر التي سيدفعها له سيدفعها بعقد دين؛ لأنه قال له: إلى نهاية السنة في مقابل العشرة آلاف التي يريد أن يأخذها من زيد، وهذه دين، فصار من بيع الدين بالدين رباً؛ لأنه اشتمل على التفاضل والنسيئة، فالعشرة آلاف باثني عشر ألفاً تفاضل، والعشرة آلاف ريال باثني عشر ألف ريال ربوي من جنسه نسيئة، فاجتمعت فيه علة الربا من جهتين.
وتارة يكون من باب الربا الموجب للنسيئة، كأن يشتري رجل من رجل مائة صاع -كما في الثمن- إلى نهاية السنة، وقبل نهاية السنة يبيع المائة صاع بمائة من البر، فيقول المشتري الجديد: أنا أشتري منك المائة صاع سلماً لفلان من التمر، وأعطيك بدلاً عنها مائة صاع من البر، فالتمر مع البر كل منهما ربوي، ولكن وقع البيع نسيئة من الطرفين: نسيئة من هذا، ونسيئة من هذا، فصار من بيع الدين بالدين الذي حرمه الله ورسوله، ولا يجوز، وهذا يكون من المثمن بالمثمن.
وكذلك قالوا: إنه يقع في الثمن بالمثمن، فلو قال له: هذه المائة ألف التي لك دين على فلان أعطيك بدلاً عنها سيارة من نوع كذا وكذا إلى نهاية هذا الشهر، ويكون الدين الأول حالاً في منتصف الشهر، فصار بيع الدين الأول -الذي هو العشرة آلاف والمائة ألف- بالسيارة الثانية، فالأول دين والثاني دين، وكلها من بيوع الغرر، أو المخاطرة، أو الآيلة إلى الربا، أو الجامعة بين الربا وبين الغرر.
الخلاصة: أن بيع الدين بالدين لا يجوز، ومن هنا اختار العلماء وجوب التقابض فيما يشترط فيه التقابض، فإن دخل في بيع الدين بالدين؛ انضافت علة الربا إلى بيع الدين بالدين مع علة الغرر والمخاطرة.(164/15)
شرح زاد المستقنع - باب الربا والصرف [5]
إذا صرف شخص عند آخر نقداً، فلا يجوز لهما أن يفترقا إلا وقد أعطى كل واحد منهما ما للآخر عليه، فإن افترقا قبل أن يقبض أحدهما حقه أو بعض حقه، فإن العقد يبطل فيما لم يقبض؛ وذلك لأن هذا يعتبر من ربا النسيئة المحرم، ويحصل الافتراق في كل مكان بحسبه، ولابد من التقابض قبل الافتراق.(165/1)
افتراق المتصارفين قبل قبض الكل أو البعض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض]: فإذا صرف الريالات بالدنانير أو بالدولارات أو بالجنيهات، فإنهما متصارفان، كل منهما يريد أن يصرف ما عنده بالذي عند الآخر، فقال رحمه الله: (متى افترق المتصارفان) ولم يقبضا (بطل العقد) فيهما، سواء في الريالات أو الدولارات، لكن لو لم يقبض أحدهما جزء الثمن المدفوع في مقابل نقده، أو لم يقبض الآخر معه، فإنه يبطل في الجزء الذي لم يقبض دون الذي قبض.
وبالمثال يتضح الحال: أولاً: إذا أراد أن يصرف فإما أن يصرف مع اتحاد العملة كما ذكروا، فمثلاً: معك خمسمائة ريال تريد أن تصرفها مئات أو خمسينات، فجئت إلى رجل وقلت له: اصرف لي هذه الخمسمائة، فقال: أصرفها لك بخمسمائة، لكن ليس عندي الآن، وسوف أعطيك بعد ساعة، فافترقتما ولم تتقابضا، فحينئذٍ بطل الصرف، ووجب عليه أن يرد لك الخمسمائة، فإن قبضت الخمسمائة في اليوم الثاني مصروفة وقع الربا الذي حرم الله ورسوله، فلُعن الآخذ والمأخوذ، نسأل الله السلامة والعافية.
إذاً: ينبغي للناس أن يتنبهوا لمسائل الربا؛ لأن الربا لا يتوقف على ريال بريالين أو تسعة بعشرة، التي هي الزيادة والفضل، بل يشمل حتى ربا النسيئة الذي يخفى على الكثير، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الرجل قد يشيب عارضاه في الإسلام وهو يأخذ الربا، فيلعن صباح مساء؛ لأنه قصر في العلم والفهم.
فمسألة التقابض لابد منها، وللعلماء الوجهان المشهوران: الوجه الأول: لو صرفت الخمسمائة تأخذ بيد وتعطي بأخرى، وهذا أكمل ما يكون في الصرف، وهو العدل الذي لا يظلم فيه الصارف، ولا من أخذ منه، وهذا هو عين العقل والحكمة؛ لأنه ربما رمى الخمسمائة في صندوقه وقال: ما أعطيتني شيئاً، وأنكر؛ لأنه نسي؛ فقد تكون جئته أثناء شغله وأعطيته الخمسمائة فرماها في الصندوق، وقال: ما أعطيتني شيئاً.
وفي بعض الأحيان يقول: كم أعطيتني؟ فتقول: خمسمائة، فيقول: لا؛ بل أعطيتني مائة أو أعطيتني خمسين أو أعطيتني عشرة أو خمسة.
إذاً: العدل أن تعطي بيد وتقبض بأخرى، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء).
فأنت إذا أعطيت الخمسمائة بيد وقبضت الخمسمائة التي بيدك ضمنت حقك، ومن العدل مادمتما تتبايعان وتتعاوضان أنك كما أعطيته الخمسمائة يعطيك الخمسمائة؛ لأنك أعطيته حقه كاملاً، فوجب أن يعطيك حقك كاملاً.
فلو قال لك: أنا آخذ الخمسمائة الآن وتأخذ مني غداً، أو آخر النهار، أو ليس عندي الآن صرف، فحينئذٍ يقع الربا ولو افترقا لحظة واحدة، فبمجرد أن يتفارقا يحصل المحظور الذي بيناه، فلابد إذاً من التقابض.
وهذه الحالة بالنسبة لمسألة الافتراق، وهي أن يعطي بيد ويقبض بالأخرى.
الوجه الثاني: أن يعطيك في مجلس العقد، ولم يؤخر -أي: لم يؤخر إلى ما بعد المجلس- فأنتما في الدكان أو في الغرفة، وقلت له: يا فلان! معي خمسمائة ريال اصرفها لي، فأخرج المئات وجلس يعدها، أو أخرج مثلاً صندوقه أو كيسه أو نحو ذلك فتأخر، وأنت قد أعطيته الخمسمائة، فربما قبضها، وربما وضعها في حجره، وربما وضعها في جيبه، ثم جلس يعد، أو يبحث عن نقده الذي معه، أو يفك خزنته أو صندوقه، ثم أخرج لك الخمسمائة، فلم يحصل التقابض لكنهما لم يفترقا، فمن العلماء من قال: يجب أن يعطي بيد ويأخذ بأخرى، وهذا مذهب من شدد، وهناك من خفف وهو الصحيح، فقالوا: ما داما في مجلس العقد فالأمر يسير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله ابن عمر أن يبيع بالدنانير ويقتضي بالدراهم، ويبيع بالدراهم ويقتضي بالدنانير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، إذا كان بسعر يومه، ولا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)، فجعل التحريم المنبني على عدم التقابض مركباً على الافتراق، فدل على أنهما إذا افترقا وليس بينهما شيء فلا بأس به.
ومن هنا قال الجمهور: العبرة بمجلس العقد، فإذا أخذ منك الخمسمائة ثم تأخر قليلاً، ولكنه أعطاك الصرف قبل أن تفارقه وقبل أن تقوم من مجلس العقد، فالأمر يسير والحمد لله، وهذا هو الصحيح.(165/2)
بماذا يحصل الافتراق بين المتصارفين؟
وقول المصنف رحمه الله: (متى افترق) الافتراق: إذا كانا في غرفة واحدة فالافتراق أن يخرج أحدهما من الغرفة، وإذا كانا في مكان منحصر كصالة أو موضع معين، فخرج أحدهما من هذا الموضع المعين، كما لو كانا داخل سيارة فخرج أحدهما من السيارة، مع أنها ليست بغرفة لكنها في حكم الغرفة، فبمجرد أن يخرج من بابها فقد افترقا.
إذاً: الافتراق يختلف باختلاف الأمكنة والأحوال، وإذا لم يكن هناك محل منحصر كالصحراء، فيكون الافتراق بأن يعطي أحدهما ظهره للآخر، فلو أعطاك ظهره فقد تمت الصفقة الأولى في جميع المسائل، ولو تعاقد مباشرة مع آخر فقد أوجب البيع الأول وحل له أن يدخل في البيع الثاني.
إذاً: افتراق المتصارفين في الموضع الواحد يكون بأن يغادره أحدهما، أو هما معاً، وفي المصارف الآن إذا فتح باب المصرف وخرج، لكن لو كانت المصارف لها مواضع معينة وكل صراف له غرفة مختصة به، فيكون الافتراق بالخروج من غرفة الصراف، حتى ولو كان داخل المحل فإنه قد فارق، وحل له أن يأخذ من الصراف ويخرج إلى صراف آخر، ويعقد معه عقداً ثانياً ولا بأس بذلك.
إذاً: الافتراق يختلف باختلاف الأمكنة والأحوال، فقوله: (متى افترق المتصارفان) سواءً كان ذلك في النقد الواحد، أو في نقدين مختلفين.
ومن الأخطاء التي تقع عند بعض الناس، مثلاً: إذا اشتريت الكتاب بعشرة ريال وأعطيته قيمته مائة ريال صار عندك عقدان، والشريعة أعطت كل شيء حقه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، فكل صغيرة وكبيرة لها حكمها في الشرع، فإذا أعطيته المائة ريال ليأخذ منها العشرة، فمعناه: أنك اشتريت بعشرة كتاباً، وأنه سيصرف لك التسعين بتسعين، فهناك عقد بيع كتاب بعشرة، وهناك عقد صرف تسعين بتسعين، فمسألة الكتاب ليس فيها إشكال، لكن الإشكال في التسعين، فينطبق عليها ما ينطبق على قواعد الصرف، فيجب حينئذٍ أن يعطيك تسعين بتسعين دون زيادة أو نقص.
وأيضاً: ينبغي أن يكون التقابض قبل أن تفارقه، فلو خرجت من الدكان أو خرج هو من الدكان فقد وقع ربا النسيئة، فقوله: (ومتى افترق المتصارفان) أي: إذا افترقتما وبينكما شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)، أي: في الصرف، فإذا أعطيته مائة فأخذها، وقال لك: والله ليس عندي الآن تسعون ولكن تعال غداً أو آخر النهار أو بعد ساعة وأعطيك التسعين.
فستخرج من الدكان وتفارقه وبينكما شيء، وهذا الشيء في الصرف؛ لأنك لم تبع له إنما هو صرف، بادل الثمن بثمن، ويريد أن يعطيك تسعين في مقابل تسعين، أما مسألة بيع الكتاب فذاك بيع قد انتهى، فقل له إذاً: لابد أن تعطيني الآن، فإذا قال: ما عندي، فحينئذٍ أنت بالخيار، فلك أن تسحب المائة وتعطيه رهناً كساعة، وتقول له: ضع الساعة عندك رهناً للعشرة حتى أحضرها لك، أو هذا القلم، وهو جائز في الشريعة، فتعطيه الرهن ثم تذهب وتصرف المائة وتعطيه العشرة قيمة الكتاب.
لكن لو قال لك: سأذهب إلى جاري وأصرفها منه، فالأصل يقتضي أنه لا يجوز أن يفارقك وبينكما شيء، فتقول له: اذهب واصرفها من جارك، فتأخذ المائة وتعطيه إياها، وتقول له: خذها واصرفها، فحينئذٍ صار وكيلاً بالصرف، وليس بمالك للمائة إلى الآن، ولا يملك حتى العشرة التي فيها إلى الآن.
ونريد أن نمثل بأشياء موجودة حتى يكون الإنسان على علم بالقواعد، مثل ذلك: لو ملأ لك البنزين بعشرة، ثم أعطيته المائة فقال: لا يوجد عندي الآن، فتقول له: اذهب واصرفها، فإذا قلت له: اذهب واصرفها، فقد وكلته.
والفرق بين كونه هو بنفسه يخرج وبين كونك توكله: أنك إن وكلته صار أميناً، فلو تلفت بدون تفريط تلفت على ضمانك ولا تطالبه، وفي هذه الحالة يكون وكيلاً عنك وحكمه حكم الوكيل، فإذا جاء بالمائة وأعطاك ثم بعد ذلك تعطيه العشرة وتخرج، فليس هناك ضيق على الناس أو حرج أبداً، بل أي شيء فقد بينته الشريعة، وقد تحرم الشيء لكن هناك بديل عنه أفضل منه وأزكى.
وبناءً على هذا فلابد من الصرف يداً بيد، فمتى افترق المتصارفان، سواء الاثنان أو أحدهما، وولى ظهره للآخر فقد تحقق الافتراق بينهما، وإن كان بينهما شيء فإنه يقع ربا النسيئة.(165/3)
صور افتراق المتصارفين قبل القبض
وقوله: (ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض).
مثال ما لم يقع القبض في الكل: إذا قال لك رجل: عندي مائة ألف ريال وأريد أن أبادلها بدولارات، فقلت له: إذاً أشتري منك هذه المائة ألف بعشرة آلاف دولار، فقال: إذاً أنا أعطيك غداً، فقلت: وأنا أعطيك غداً، فهو نسيئة بنسيئة، فافترق المتصارفان، ولم يحصل القبض من الكل، فلا هذا أعطى ولا هذا أعطى، فوقع فوات الشرط منهما معاً بالريالات، وكذلك صاحب الدولارات.
ومثال ما إذا وقع القبض من أحدهما دون الآخر: لو قال رجل: عندي مائة ألف ريال وأريد أن أبادلك بها بعشرة آلاف دولار، فخذ المائة ألف وائتني بالعشرة آلاف، ففارقه ولم يعطه، بل أعطى أحدهما وأجل الآخر، فصار عيناً بذمة، إذاً: يقع الربا، سواءً حصل التأخير منهما أو من أحدهما.
إذاً: التأخير إما أن يقع على الكل أو على البعض، أما التأخير للكل، فكما قلنا: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا تأخير للكل، وأما تأخير البعض: فكأن يقول له: عندي مائة ألف ريال، فاشترها مني بعشرة آلاف دولار، فيقول: سأعطيك الآن خمسة آلاف دولار، وأنت أعطني خمسين ألف ريال، وغداً أعطيك الخمسة آلاف الدولار الباقية، وتعطيني الخمسين ألفاً الباقية عندك، فصار هذا التأخير للبعض وليس للكل.
فإذا وقع التأخير للبعض دون الكل فللعلماء وجهان: فقيل: يبطل العقد فيهما؛ لأن الصفقة واحدة.
وقيل: يصح في المعجل ويبطل في المؤجل.
أي: يصح في الخمسة آلاف المعجلة، وحينئذٍ فكل منهما ملك ما أخذ، فإن جاءوا في اليوم الثاني ليأتوا بالباقي فنقول: أنشئا عقداً جديداً، فقد بطل العقد الأول ولا يجوز.
وفائدة هذا: إذا اختلف السعر، فإذا اشترى منه مثلاً عشرة آلاف دولار بمائة ألف ريال، فأعطاه الخمسة آلاف دولار بخمسين ألفاً وتقابضا، ثم قال: غداً سأعطيك الباقي، فارتفع سعر الدولار، أو ارتفع سعر الريال، فحينئذٍ نقول: العقد عقد جديد، وأنشئا عقداً جديداً، فلو باعه في اليوم الثاني بضعف بيعه في الأول، أو نزل السعر فباعه بأقل، فهذا عقد جديد.
هذا بالنسبة للمقبوض، وقد مثلنا بالريالات؛ لأنها أنشط وتعين الناس أكثر، أما في الطعام، فلو قال لك: عندي مائة صاع تمر من السكري، وأنت قلت: وأنا عندي مائة صاع من البرحي، فيجب أن يكون يداً بيد، فإذا قال: ليس عندي الآن إلا خمسة وسبعون صاعاً، وقلت أنت: وأنا ليس عندي إلا خمسة وسبعون صاعاً.
فأعطيته ثلاثة أرباع الصفقة، وأعطاك هو ثلاثة أرباع الصفقة، وبقي الجزء المتبقي، فيقال: يصح البيع بثلاثة أرباع الصفقة، ويلغى في الربع الذي وقع الربا فيه.
وهذا معنى قوله: (بطل العقد فيما لم يقبض) فإن لم يحصل التقابض بالكل بطل بالكل، وإن حصل التقابض في البعض صح في البعض، وبطل فيما لم يحصل التقابض فيه.
وبناءً على هذا: لو صرف لك المائة دولار بعشرة آلاف ريال، فأعطاك نصفها، ثم ارتفع السعر أو نزل، فقد تحمل كل منكما المسئولية بعد تصحيح العقد الأول، وصح في جزء ما حصل القبض فيه، وأما ما عداه فإنه يحكم ببطلانه.(165/4)
حالات المبيع
قال رحمه الله: [والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد فلا تبدل].
المبيع لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون عيناً.
الحالة الثانية: أن يكون ذمة.
وبناءً على ذلك فالبيوع لا تخلو: 1 - إما أن تكون عيناً بعين.
2 - أو ذمة بذمة.
3 - أو عيناً بذمة.
وكل من هذه الثلاث لا يخلو كل واحد منها إما أن يكون: 1 - نسيئة من الطرفين.
2 - أو ناجزاً من الطرفين.
3 - أو نسيئة من أحدهما ناجزاً من الآخر.
فأصبحت البيوع تسعة، ولذلك يقول بعض العلماء: لن تجد بيعاً على وجه الأرض يخرج عن هذه البيوع التسعة ألبتة.
إما عيناً بعين، وإما ذمة بذمة، وإما عيناً بذمة.
والعين بالعين إما أن يكون: 1 - ناجزاً من الطرفين.
2 - نسيئة من الطرفين.
3 - ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
والذمة بالذمة إما أن يكون: 1 - ناجزاً من الطرفين.
2 - نسيئة منهما.
3 - ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
والعين بالذمة إما أن يكون: 1 - ناجزاً من الطرفين.
2 - نسيئة منهما.
3 - ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
فالعين بالعين: مثل أن يبيعك هذا الكتاب بهذا الكتاب، فإذا قال: أعطني الآن، وأعطيك الآن.
فأعطى كل منهما عيناً بعين، ناجزاً من الطرفين.
ولو قال: نتعاقد على أن أسلمك بعد شهر وتسلم لي بعد شهر، فهذا نسيئة من الطرفين.
ولو قال: خذ الكتاب الآن وأعطيك غداً، فصار عيناً بعين، ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
أما ذمة بذمة: فكأن يبيعك كتاباً من صحيح البخاري من طبعة كذا وعدد أجزائه كذا وكذا، بكتاب من صحيح مسلم عدد أجزائه كذا، من طبعة كذا، فأصبح ذمة؛ لأنه موصوف، فالتزم في ذمته أن يعطيك هذا الموصوف المقدر بهذه الأوصاف المعينة، فصار ذمة بذمة.
وقد يكون ناجزاً من الطرفين، كأن يقول: الآن أنزله لك وأعطيك، وتقول أنت أيضاً: وأنا أنزله لك الآن وأعطيك، وأنتما في مجلس واحد، فصار ناجزاً من الطرفين، وهو ذمة بذمة.
أما إذا قال: أعطيك غداً وتعطيني غداً، أو أعطيك بعد شهر وتعطيني بعد شهر، فهذا نسيئة من الطرفين.
وإذا قال: سأعطيك الآن، فقلت: لا أستطيع أن أعطيك الآن، وإنما سأعطيك بعد غدٍ أو بعد شهر، فصار هذا ناجزاً من أحدهما ونسيئة من الآخر.
أما عين بذمة: فكأن تأخذ واحد من الأول في مقابل واحد من الثاني، فتقول: أبيعك هذا الكتاب بنسخة من صحيح البخاري، فهذا الكتاب عين، والنسخة من صحيح البخاري موصوف في الذمة، أي: التزم في ذمته بهذه النسخة.
وما فائدة قولهم: عين وذمة؟ فائدتها العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، حتى نعلم أن الشريعة أعطت البيوع دقة لن تجدها في أي قانون على وجه الأرض من هذه الدقة المتناهية، حتى في المبيع، حينما تقول: بعتك هذا الكتاب، معناه: أن الإيجاب والقبول منصب على معين يفوت بفواته.
فلو أن هذا الكتاب ظهر به عيب، أو وجد فيه صفحات مطموسة وجئت للبائع، وقلت له: رد لي هذا الكتاب؛ لأن هذا الكتاب فيه عيب، فقال لك: أعطيك بدلاً عنه، ولن أرجع لك الفلوس.
فقلت: لا.
أنا أرغب في هذا الكتاب بعينه، واشتريت منك هذا الكتاب بعينه فرد لي الثمن؛ لأن البيع يفوت بفواته.
من تجده يفصل هذا التفصيل {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة:50] لكن لمن؟ {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، فالله تعالى أعطى كل ذي حق حقه في معاملات الناس في أمورهم الشخصية في أمورهم المالية في جميع الشئون والأحكام.
ومنها ما ذكرنا في المبيعات، فقد دخل الفقهاء حتى في كيفية البيع، فقالوا: إذا انصب على معين فات بفواته، فلو باعك كتاباً واشتريته منه بعينه، ثم ظهر الكتاب مغصوباً، فإنه قد وقع على عين ليست ملكاً للبائع، فبطل البيع، ووجب رد العين إلى صاحبها، ولا يبدل هذا البيع ببيع آخر.
لكن لو جئت إلى صاحب المكتبة وقلت له: أعطني نسخة من صحيح البخاري.
فقال: بعشرة، فقد التزم في ذمته أن يعطيك نسخة من صحيح البخاري بعشرة، فإن وجدت النسخة الأولى التي أعطاك إياها معيبة، كان من حقه أن يقول: أنا التزمت لك، فإذا فاتتك الأولى أعطيك بدلاً عنها.
ومن هنا نجد بعض الناس إذا وجد عيباً في السلعة يغضب، خاصة إذا وجد فيها شيئاً من التلاعب والغش، فإنه يقول: لا أريد أن أتعامل مع هذا الرجل، ولا أريد أن أعطيه ربح مالي، فإذا أصر المشتري على موقفه، وقال: أعطني مالي.
وقال البائع: بل تأخذ بدلاً عنه؛ فلابد أن يرجع إليه ماله.
ولو لم نضع هذه القواعد لما استطعنا أن نعدل بين اثنين، فالشريعة قد تجد فيها نوعاً من التشدد، لكنها في الحقيقة فيصل بين الناس.
فهذا من تفصيل الأحكام أن كل إنسان يأخذ حقه، فإذا جاء القاضي وهو يريد أن يفصل في الخصومة، وقد وضعت الشريعة ضوابط المبيعات والعقود، لا يوجد أي عائق يعوقها عن إيصال الحق لكل ذي حق، فيوصل لكل ذي حق حقه.
فهنا إذا وقع البيع على معين فات بفواته، فإذا صرف الدراهم والدنانير وقلنا: إن الدراهم والدنانير تتعين بالعقد، فحينئذٍ إذا ظهرت معيبة أو مغشوشة مزيفة فات العقد بفواتها.(165/5)
حكم بيع المغصوب والمغشوش
قال رحمه الله: [وإن وجدها مغصوبة بطل] ولا يستطيع أن يأتي ببديل عنها، لأنها تعينت ففات البيع بفواتها؛ لأنها ملك هذا المعين.
وقوله: [ومعيبة من جنسها أمسك أو رد].
كأن يستبدل دنانير أو دراهم ويكون فيها عيب في نفس ذات الدينار والدرهم، فإذا وجد فيها عيباً فإن العيب ينقص المالية، وينقص قيمتها، كأن وجد فيها غشاً، ففي القديم كان الذهب فيه الخالص وفيه المغشوش، فكانوا ربما زيفوا الدنانير والدراهم، فأدخلوا فيها غشاً وشوباً، وهذا يؤثر في قيمتها؛ لأن المالية والثمنية الموجودة فيها من الذهب ناقصة فتنقص بنقصانها، فهذا عيب ينقص قيمتها، فلو كان هناك نوع من الدنانير المغشوش الناقص، فباعه كاملاً على أنه من النوع الجيد، فظهر أنها معيبة، فالمشتري يخيّر بين الأمرين: الأمر الأول: أن يمسكها ولا أرش.
الأمر الثاني: أن يردها ويبطل العقد ويفسخه.(165/6)
حكم التعامل بالربا بين المسلمين والكفار
قال رحمه الله: [ويحرم الربا بين المسلم والحربي وبين المسلمين مطلقاً بدار إسلام أو حرب].
التعامل بالمحرم يختص بالمسلم مع المسلم؟ أم أن التحريم يشمل المسلم وغير المسلم؟ فبعض العلماء يقول: إذا بعت الحرام من كافر، وكان مال الكافر ملكاً لنا، فإنه يصح ويكون ذلك جائزاً لنا؛ لأن أموالهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، فجعل حرمة المال مقيدة بالإسلام، فإذا كان غير مسلم فإنه يمكن أن يأخذ الريال بالريالين؛ لأن أصل ماله ليس له حرمة، فهذا وجه إدخال مسألة غير المسلم.
وغير المسلم إن كان ذمياً فإن الذمة تجعل ماله ودمه حراماً؛ لأن عقد الذمة يعطيهم حق الحفظ، والشريعة تحترم هذه المواثيق التي بين المسلمين والكفار، وأن الكافر إذا دخل بلاد المسلمين بأمان فله أمان الله ورسوله.
ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة)، حتى قال بعض العلماء: لو أن امرأة أجارت رجلاً فهو في ذمة المسلمين كلهم، كما في الصحيح أن أم هانئ لما دخل ابن عمها عليها في يوم الفتح واستجار بها، وأراد علي أن يقتله، فمضت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ)، فجعل حرمة الدم بالأمان.
فإذا دخل الكافر بلاد المسلمين كان له أمان في دمه وعرضه وماله، وهذا بأصل عقد الذمة التي بينه وبين المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)، فلو أن أصغر المسلمين أمَّن كافراً؛ بل حتى لو أمَّن أهل قرية بكاملها فإنها أمان من المسلمين كلهم، لا تخفر هذه الذمة ولا تنقض، ولا يجوز أن يعتدى عليها؛ لأنهم ما داموا قد دخلوا في أمان المسلم فينبغي حفظ هذا الأمان؛ لأن المسلمين لا يغشون ولا يخونون ولا ينكثون، حتى إن الإسلام إذا أراد أن يحارب من بينه وبينه عهد ينبذ إليه {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]، فالإسلام لا توجد فيه الخديعة؛ بل أمره واضح أشد من وضوح الشمس.
فمن هنا إذا كان الكافر له ذمة في ماله فإنه يحرم التعامل مع الذمي بالربا؛ لأن الذمي له حرمة في ماله، وقد يحتال في غير الذمي ممن ليس له أمان كالحربي؛ فالحربي ماله حلال، فقال بعض العلماء: الحربي ماله حلال، ويجوز أن تأخذ ماله بالعقد وبغير العقد، فهنا لو تعاقد مع حربي وأعطاه مائة على أن يردها مائة وخمسين، حلت له الخمسون على أن ماله لا حرمة له.
لكن الإشكال أن العقد حرمه الله على المسلمين، فلو قلنا بجواز هذا لأجزنا بيع الخمر لأهل الذمة، ومذهب جماهير العلماء على حرمة هذا العقد، أي: تحريم أخذ الربا من المسلم والكافر على حد سواء، وهذا مبني على عموم الأدلة؛ لأن الله عز وجل أنزل من فوق سبع سماوات على رسوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، فكل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر ويتلو كتابه، ويُلزم بهذا الكتاب، فإنه يلزم بتحريم الربا مطلقاً، ما فرق الله بين مسلم وبين كافر، وما فرق الله بين ذمي وغير ذمي، فالحكم عام.
ومن الفوائد التي قد تستفاد من هذا: أنه إذا حرم الربا مع الذمي كان أبلغ في إحياء سنة الإسلام وإبطال ما خالفه؛ لأن الذمي إذا أخذ منك الدين مائة ورده لك مائة؛ أحب الإسلام، ونظر إلى الفرق بين معاملة المسلم ومعاملة غير المسلم.
ومن هنا لو وضع ماله في مصرف كافر وأعطاه عليه فائدة فلا يأخذها؛ لأن الله أوجب عليه أن يأخذ رأس ماله فقط: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279]، ولو قيل بأخذ هذه الزيادة حتى لا يستفيد منها الكافر، لنظر الكفار إلى المسلمين على أنهم يتعاملون بالربا كما يتعاملون هم، ولم يحسوا بسماحة الإسلام وبمزيته، فنحن نصلح جهة ونخرب جهات، ونجد أن من يقول بأخذها يحتار ويقول: لا تصرف في بناء المساجد ولا في الأطعمة ونحوها، وإنما تصرف في أشياء بعيدة عن أجساد الناس، فمعناه أنه يحس أن هذا المال فيه شبهة.
إذاً: لماذا لا نتمسك بالنص: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ونترك هذا المال، ولو تركناه فعلاً فإن الكافر يشعر أن المسلم له مزية على غيره، ووالله لقد فعلها بعض أهل العلم من مشايخنا، قال: فوجدت لها أثراً بليغاً في نفسي؛ لأنه كان في سفر، واحتاج أن يجلس فترة في بلد كافر؛ فأعطوه فوائد زائدة عن المبلغ الذي معه، وكان مضطراً إلى حفظه عندهم، فلما قال: لا آخذ إلا رأس مالي، فحاولوا معه فما استطاعوا، ثم ذهبوا إلى مدير المصرف، فقال له: لماذا لا تأخذ الربح؟ قال: إن ديني لا يسمح لي أن آخذ إلا مالي، فظل مدهوشاً، ثم قال: ما هي ديانتك؟ فقلت: الإسلام.
قال: الإسلام يفعل هذا! وتعجب! قال: ثم صرت أشرح له الإسلام، وأقول: إن العدل إذا أعطيتك عشرة آلاف ريال أن آخذ عشرة آلاف ريال فقط، فأصبحت أقنعه، فتعجب كيف أنه يأخذ من الناس العشرة بزيادة؟ وكيف يأخذ من الناس الزيادة؟ فأصبح هذا درساً له، وكما أن الدروس تكون قولية تكون أيضاً عملية، والدروس العملية قد تكون أبلغ؛ لأنك تترك له الفائدة فيحس بعزتك واحتفاظك بدينك، وأن الدنيا تحت قدميك إن عارضت دينك.
فهناك عبر يمكن أن تستفاد، لكن عندما يلتزم بالأصل الذي قال الله: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] مع أن هذه الآية نزلت في بقايا ربا الجاهلية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279]، فدل على أنه يسحب رأس المال، {لا تَظْلِمُونَ} [البقرة:279] لو سحب الرصيد ناقصاً {وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، فكما أنك لا ترضى أن ينقص رصيدك، فينبغي لك أن لا تطالب بالزيادة.
إذاً: لم يفرق الله بين مسلم وبين كافر في هذه المسألة، ولو قلنا بهذه العلة في أخذ مال الكافر لدخلنا حتى للمسلم غير الملتزم وقلنا أيضاً: هذا غير الملتزم ربما يستعين بالفائدة، ثم نخوض في الرأي إلى ما لا نهاية، فالنص إذاًَ أحمد وأسلم وأدق، وإذا وجد الشخص في الرأي علة وفائدة، فإنه سيجد في النص والتزام الأثر والمنقول حكماً أعظم من علله التي يستنبطها، وصدق الله {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
فالخلاصة: أن الربا لا يجوز بين المسلم والمسلم، وبين المسلم وغير المسلم أياً كان ذلك؛ للأمور والأدلة التي دلت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للصحابة أن يتعاملوا مع اليهود الذين كانوا في المدينة بالفضل والزيادة، وكان ذلك أربح لهم وأكثر تجارة لهم، ولكنه لم يبح لهم ذلك، ونزل النص عام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجب العمل بعمومه وعلى ظاهر ما ورد.(165/7)
الأسئلة(165/8)
بذل المجهود في دراسة الفقه
السؤال
يجد بعض طلاب العلم في أبواب المعاملات عامة وفي مسائل البيوع كصفة خاصة بعض الصعوبة وعدم الفهم لهذه المسائل والأبواب، فما هو الطريق الصحيح الذي يسلكه طالب العلم لكي يستطيع أن يفهم ويدرك ذلك؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أولاً: ينبغي أن يعلم أن الله تعالى فضل العلم وشرفه وأعلى مقامه ومقام أهله، وأثنى عليهم في كتابه، وإذا كان العلم صعباً ويحتاج إلى عناء فاعلم أن الرحمة فيه أكثر، وأن الأجر فيه أعظم، وأن البلاء فيه يعلي درجة العبد أكثر من غيره.
فإتقان المسائل المستعصية والصعبة يعلي الله عز وجل به قدر صاحبه، وهذه هي سنة الله، فإن الله تعالى إذا علم الإنسان وفتح عليه وتعب في تحصيل العلم، سيأتي اليوم الذي يجد فيه ثمرة ما تعلم، فيجد بلاءه في هذه المسائل المستعصية الدقيقة أعظم من المسائل السهلة، ويجد من نفع الناس وعظيم الخير الذي يترتب على هذه المسائل التي ضبطها ما لم يجده في واضح المسائل.
نعم، إن مسائل المعاملات صعبة، وأصعب من ذلك أن يتركها طلاب العلم، حتى تصبح منسية ولا تدرى أحكامها، فيقع الناس في الحرام وهم لا يعلمون، فهذا من الجهاد في طاعة الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
فمن جهاد طالب العلم صبره على المسائل الصعبة، ومن سنن الله تعالى أن يبتلي طالب العلم في بعض الأحيان بالسآمة والملل مما يجد من صعوبة المسائل، لكن إذا فتح الله عليه بطمأنينة الصدر، وأحس بفضل هذا العلم وحاجة الناس إليه، وقال: أصبر وأحتسب والله يعين، فتح الله له من أبواب رحمته ما لم يخطر له على بال.
وإني والله أقولها وأشهد أن من تعب في هذا العلم فإنه سيجد من أثره وبركته ما لم يخطر له على بال، ولكل زمان رجال، وقد تأتي في بلدة أو قرية أو منطقة بل وفي مدينة لا يتقن هذا الباب غيرك، فتصبح الوحيد الذي تقام به حجة الله على عباده في ذلك المكان.
وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، أن يأتي طالب العلم فيقرأ باب الفرائض، ومسائل المواريث، ويأتي إلى القرية فيصبح هو الوحيد الذي يرجع إليه، فينال من دعوات الناس، وصالح ذكره، وجميل ذكرهم، ما يكون له به عاجل الخير في الدنيا، وما ينتظره عند الله أعظم وأجل.
لا تسأم من العلم ولا تمله، بل أحب كل كلمة وجملة فيه، تحبها لله وفي الله، وابتغاء مرضات الله، وتحس أنك قد غفلت وفاتك، فإن التاجر الآن إذا جاء موسم التجارة عمل وكدح وتعب، ثم جاءه تاجر مثله وقد ربح أكثر من ربحه، وقال له: أين أنت عن التجارة الفلانية؟ تقطع قلبه حسرة على متاع الدنيا الزائلة الفانية، ولربما مرض لما يجد من الغبن والحرقة في نفسه أنها فاتته هذه الصفقة، فلا إله إلا الله ما أعظم صفقة الآخرة! وما أعظم ثوابها عند الله سبحانه وتعالى! ولذلك وصف الله يوم الآخرة بيوم التغابن، حتى أصحاب الخير يغبنون بما فاتهم من الخير، فمن كان ملتزماً مسجده وعبادته غُبن أنه لم يكن من أهل العلم، الذين تعدى خيرهم إلى الغير، وانتفعت بهم الأمة، مما يرى من مثاقيل الحسنات وعظيم الدرجات التي أعدها الله لصالح المؤمنين والمؤمنات الذين تعبوا في تحصيل هذا العلم.
فأقول هذا الكلمة شحذاً للهمم، فالإنسان يشحذ همته للخير، واعلموا أنكم تعاملون الله، لا تتعلم هذا العلم لكي يقال: فلان عالم، أو فلان يضبط، أو فلان فقيه، ولكن لكي تعذر إلى الله أولاً بتعلمك وضبط هذا العلم، فتتقي ما حرم الله، وتفعل ما أحل الله لك، ثم تعلم غيرك، إن فعلت ذلك عظم أجرك.
قال بعض العلماء: عجبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الرجل الذي جر غصن الشوكة عن طريق المسلمين: (مر على غصن الشوك، فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فزحزحه عن الطريق، فزحزحه الله به عن نار جهنم)، وفي رواية: (فغفر الله له ذنوبه).
قال بعض العلماء: إذا نظرنا إلى الجهد في سحب غصن الشوك وجدناه جهداً يسيراً، قالوا: لكنه لما انطوى على نية الخير للمسلمين، فقال: أزحزح هذا الغصن عن طريق الناس لا يؤذيهم بالشوك، فكيف بمن تعلم مسائل الربا لكي يزحزح الناس عن نار جهنم؟ فهذا أجر من يزحزح غصن شوك من طريق المسلمين، فكيف بمن يتعلم هذه المسائل لكي ينقذ الأمة الحائرة الجاهلة ويعلمها ويوجهها؟ أرجو من الله أن يكون له الخير، بل حتى لو نوى بقلبه ولم يتم هذه المسائل، فإن المعامل كريم، الله الله أن يحتسب طالب العلم ويصبر، كم سهرنا من الليالي مع الأصحاب والأحباب! وكم لقينا من المشقات ونحن ننتظر تجارة من الدنيا، وننتظر أمراً من مباحات الدنيا، أو نبني منزلاً! كم سهرنا من الليالي في بناء المنازل! وكم وكم! ولا نسهر ولا نتعب على قال الله وقال رسوله، هذا العلم الذي قل من يطلبه ويبحث عنه.
فلا تمل ولا وتسأم ولا تضجر، وإن وجدتها صعبة فقل: أصعب منها أن أولي ظهري لهذا العلم، وأصعب منها أن أتقاعس؛ لا بل تتعب، فإن كنت ضعيفاً في الحفظ فإن الله يفتح لك من أبواب رحمته، وكرر فربما كان طالب العلم ضعيف الحفظ، لأن الله يريد منه أن يكرر المرة تلو المرة، تلو المرة فيسطر في صحيفة عمله من الحسنات ما لم يخطر له على بال.
قد يحفظ الحافظ في مرة واحدة، لكن أنت تجلس عشرين مرة أو ثلاثين مرة لكي تكتب لك ألوف الحسنات ومثاقيل الحسنات، ورب ضارة نافعة، لكن متى؟ إذا تعبت وجديت وكدحت، فإياك أن تجعل بينك وبين الخير حاجزاً، وصاحب الهمة الصادقة لا يبالي بالتعب؛ لأن هذا في مرضات الله تعالى ورضوانه.(165/9)
شرح زاد المستقنع - باب بيع الأصول والثمار [1]
من رحمة الله تعالى بخلقه، ومن تيسيره لأسباب العيش في الحياة بالدنيا أن جعل حاجات بعضهم عند بعضهم الآخر، لتدور المنافع بينهم، وليستمر كل أحد لمنافع الآخرين، وليتم تبادل هذه المنافع على صور مختلفة منها البيع والشراء، ومما تكثر الحاجة إليه في البيع والشراء: بيع الأصول والثمار، وعندها ينبغي على المسلم معرفة أحكام بيع الأصول والثمار من صحة وفساد، وما يتعلق بها من شروط واستثناءات إلى غير ذلك، من الأحكام المتعلقة بهذا الباب.(166/1)
تعريف الأصول والثمار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيع الأصول والثمار]: الأصول: جمع أصل، والأصل ما انبنى عليه غيره، كأساس الدار يسمى أصلاً؛ لأن الدار تبنى عليه.
والثمار جمع ثمرة، وثمرة الشيء: نتاجه، وما يكون منه.
فقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيع الأصول والثمار]؛ لأن مما جرت به العادة أن البائع إذا باع شيئاً، أو اشترى شيئاً، فتارةً يقصد عين الشيء، وتارةً يكون مقصوده الشيء ونتاجه الموجود، ومن هنا قد يقع الخلاف بين البائع والمشتري، كرجل باع بستاناً وفيه ثمرة، فاشتراه المشتري بمائة ألف، ثم قال له البائع: بعتك البستان، ولم أبعك الثمرة، فالثمرة لي.
وقال المشتري: بل اشتريت الأصل والثمرة؛ فالثمرة لي.
فإنهما يختصمان فيرد
السؤال
هل الفرع يتبع الأصل، أو لا يتبعه؟ ومن هنا بينت الشريعة مسائل الفروع والثمار، ففي أحوال يحكم بكونها للبائع، وفي أحوال يحكم بكونها للمشتري، والأصل في هذا الباب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين، أنه قال: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، ومن باع عبداً وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع) ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأصل والنتاج الظاهر الذي لا يُسْتَصحَب مع العين، ومن هنا لا بد من بحث مسألة الفروع، ومسألة ما يتبع الشيء، وما لا يتبعه.
ومن سعة الفقه الإسلامي أنه بيَّن مسائل التوابع في البيع، وفصل الفقهاء رحمهم الله تعالى هذه المسائل، وبيَّنوا ما يتبع المبيع، وما لا يتبعه، سواء كان المبيع من العقارات أم كان من المنقولات، فإنك قد تشتري داراً، فإذا تم البيع بينك وبين البائع فهناك أشياء من حق البائع أن يأخذها من الدار، وهناك أشياء ليس من حقه أن يأخذها، ومن هنا فصل العلماء ما الذي يتبع البيع، وما الذي لا يتبعه؟ فلربما لو ابتعت داراً، وجاء البائع وقال لك: أريد أن آخذ متاعي الذي في الدار، فإن من حقه أن يأخذ متاعاً معيناً وضع العلماء رحمهم الله تعالى له الضوابط، وكذلك لو باع منقولاً كالسيارة مثلاً، فتارة يكون من حقه أن يأخذ المتاع الموجود، كالفرش غير الملتصق بالسيارة، وهو الفرش الخاص به، وهكذا ما يكون من المتاع المتعلق به، كأن يضع أشرطة له يستمعها، فإن الأشرطة ليست تابعة للرقبة؛ لأنه باعك السيارة، ولم يبعك ما فيها من الأشرطة، وهكذا لو كان له في داخلها لباس، أو حوائج تختص به، فإنك لا تقول: قد اشتريت منك السيارة بما فيها؛ لأن البيع وقع على السيارة، فيتبع البيع ما قد انصب العقد عليه، وما لم ينصب العقد عليه فإنه لا يتبع والعكس، فلو أنه باعك السيارة، ثم أراد أن يأخذ عدتها اللازمة الموجودة فيها، كالآلات الموجودة لاستصلاح السيارة ونحوها، فإنه يقال له: ليس من حقك إلا الأدوات الخاصة التي تستصلح بها السيارة من أجهزة وعدد لا تكون موجودة في الأصل في السيارة، وإنما اشتراها لنفسه، فإن من حقه أن يأخذها.
أما الآلات التي توجد في طبيعة السيارة، كالآلة التي ترفعها عند استصلاح ما يكون فيها من عطل، فإنه ليس من حقه أن يأخذها؛ لأنها موجودة في المبيع أصلاً، وتابعة له من أجل الارتفاق.
لكن لو أنه اشترى آلات معينة، وأجهزة معينة، لاستصلاح السيارة عند العطل زائدةً عن المعروف والمألوف الذي يتبع عين السيارة، فإن من حقه أن يأخذها عند البيع.
إذاً هذه المسألة مسألة مهمة يُحتاج فيها لعلمك، فتعلم ما الذي لك وما الذي عليك بائعاً ومشترياً، وللناس أيضاً، فإنهم يختلفون ويختصمون ويحتكمون إلى العلماء، للفصل بينهم، فيدعي البائع أنه باع الرقبة ولم يبع ما فيها، والمشتري يدعي أنه اشترى الرقبة وما فيها، فتارة يكون البائع ظالماً، وتارة يكون المشتري ظالماً، ومن هنا وجب أن يعرف الحد الفاصل بين ملك البائع وملك المشتري، وهذا هو الذي يجعله العلماء في باب بيع الأصول والثمار.(166/2)
علاقة باب بيع الأصول والثمار بباب الربا
لعل سائلاً يسأل: ما علاقة هذا الباب بباب الربا؟
و
الجواب
الربا فيه زيادة ظلم؛ لأنه إذا باع الدينار بالدينارين، فقد ظلم صاحب الدينارين، فأخذ زائداً عن حقه؛ لأن الذي من حقه الدينار، فإذا أخذ الزائد فهو الربا الذي حرم الله تعالى، فإذا باع الأصل والثمر وجب عليه أن يعرف ما الذي له، حتى لا يأخذ الزائد المحرم، فاتفق هذا الباب وتناسب أن يذكر بعد باب الربا؛ لأنه إذا بُيِّنَ ما الذي يتبع المبيع، وما الذي لا يتبعه، أمكن أن ينصف الناس بعضهم بعضاً بحكم الله عز وجل، وبما استخرجه العلماء من مقاصد الشريعة وأدلتها وقواعدها العامة، مما يدل على الحقوق في البيع والشراء، وهذا ما قصد المصنف بيانه في هذا الموضع.
كأنه يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة ببيع الأصول والثمار.(166/3)
بيع الدور والبنيان وما يتبعها(166/4)
ما يتبع الدور والبنيان عند بيعها
قال رحمه الله تعالى: [إذا باع داراً شمل أرضها]: أي: إذا قال له: بعتك هذا البيت، أو هذه العمارة، أو هذه الغرفة، فإن البيع قد انصب على رقبة الدار، فذات الدار مملوكة بالبيع، ثم يشمل ذلك أصل الدار، وهي الأرض التي بنيت عليها، ويشمل سقفها وهواءها، أما ملكيتك لأرض الدار وما سفل منها فلظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من ظلم قيد شبرٍ من الأرض طُوِّقَه يوم القيامة من سبع أرضين)، فجعل الظلم في أخذ الأعلى ظلماً في أخذ الأسفل، وجعل الأسفل تابعاً للأعلى، ومن هنا قال جماهير العلماء: من ملك داراً ملك أسفلها، وعليه قالوا: إنه لو كانت له دار، فأراد أحدٌ أن يستحدث من تحتها معبراً لم يكن من حقه حتى يستأذنه؛ لأنه ملكٌ له، ومن حقه أن يأذن له، ومن حقه أن يمتنع، لما يرى من رفقه أو ضرره.
فمن ملك داراً ملك أرضها، فالدار التي بيعت، والصيغة التي وقعت بين البائع والمشتري على هذا المكان المعين ملكه بالعقد فإن قال له: بعتك هذه الدار وعيّنها، وكان طول الدار عشرين متراً أو ذراعاً، وعرضها عشرة، فإن هذه الدار بهذا الطول المتفق عليه ملك للمشتري إذا أوجب البيع، وتمت الصفقة بينهم، وحينئذ يملك الدار، ويملك أسفلها، فإذا باع داراً، شمل أرضها وما سفل منها.
ومن هنا خَرَّجَ بعض العلماء مسألة: أنه لو كان معتكفاً في مسجد فنزل في أسفله لم يبطل اعتكافه؛ لأنه لم يخرج عن المسجد، وجعلوا حرمة الأسفل والأعلى بمنزلة.
ومن هنا -أيضاً- خرج بعض العلماء المسألة المعروفة: وهي عدم جواز بناء المسجد فوق المتاجر؛ لأن الأرض إذا كانت موقوفة ومسبلة للمسجد، كانت غير مملوكة، وغير مستصلحة للمعاوضات بالبيع والشراء، وليست محلاًّ للبيع والشراء؛ لأن حرمة الأعلى والأسفل واحدة.
ومن هنا أيضاً: إذا قلنا ملك الأسفل والأعلى، صح أن يملك أعلاها، فإذا صعد إلى أعلى المسجد لم يكن اعتكافه باطلاً، ولو حلف أنه لا يخرج من المسجد، فصعد إلى سطحه فإنه غير خارج؛ لأنه ما زال في حدود المسجد.
وعليه كأنه لما قال له: بعتك هذه الدار، فإن هذا هو حد الدار، وحد البناء الذي وقع عليه العقد.
وقول العلماء: من ملك داراً ملك أرضها، من باب بيان الاستحقاق، فحقك بهذا العقد الدار وأرضها وأساسها وأسفلها ملك لك.
قال رحمه الله تعالى: [شمل أرضها وبناءها] قوله: [وبناءها]، أي: البناء الذي عليها، فلو كانت الأرض فيها غرفٌ، فإنك تملك هذه الغرف، ولو كانت عليها عمارة ملكتها، أو كان عليها أي بناء، كرجل باع قطعة في مخطط عليها سور، فإن هذا السور ملك لك إذا اشتريته، فلو أنه باعك هذه الأرض في المخطط بضابطها وعينها، وأخذتها وضبطتها، وعلمت أن هذه الأرض الفلانية ذات الرقم الفلاني ملك لك فأعطيته مئة ألف وهي قيمة الأرض واتفقتما، وإذا بالأرض عليها سور، فجاء لكي يخلع السور الموجودة فيها، فإنك تقول له: ليس من حقك؛ لأنني أملك الأرض وبناءها، فليس من حقك أن تخلع هذا السور، أو تهدم هذا السور؛ لأنه صار إلى ملكي، ولا يستطيع أحد أن يحدث شيئاً في هذه السور، أو ينتفع بهذا السور إلا بأذني، ولذلك قال المصنف: [شمل أرضها وبناءها].
وهكذا بناء الدار، أي: البناء الموجود في الدار؛ فإنه يشمله البيع.
وهنا مسألة عصرية -ونحن نحب دائماً أن نربط الموضوع بالوقائع الموجودة الآن- وهي أنه في بعض الأحيان يبيع الشخص داراً وهو لا يملك الأرض، وذلك في البيوت الجاهزة، والبيوت المتنقلة، فإذا قال له: عندي غرفة متنقلة، فإن هذا لا يستلزم أنه يبيعه الغرفة بما هي عليه من الأرض، فلو اتفقا على غرفة متنقلة -مثلاً- بطول معين وعرض معين من نوع معين، فاشتراها، ثم قال له: خذ غرفتك قال: لا، من ملك أرضاً ملك بناءها وأرضها، وهذه الأرض في حكم الدار، فأملك الأرض التي تحتها، نقول: لا، ليس لك هذا؛ لأنه باعك إياها على وصف التنقل، فأنت تملكها متنقلة، ولا تملكها ثابتة على الأرض.
قال رحمه الله تعالى: [وسقفها]: سقف الدار كذلك، فإن السقف يملك، وعلى هذا قالوا: إنه إذا طاف في السطح الأعلى من المسجد، كان كمن طاف في أسفله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26]، وجماهير العلماء على أن الطواف لا يصح خارج البيت، فإذا طاف في داخل البيت صح طوافه.
ولو صعد إلى الدور الثاني، أو صعد إلى الدور الثالث، قالوا: يصح طوافه؛ لأنه طاف في داخل البيت، ولم يخرج عن حرم البيت، ولو كان معتكفا وصعد من داخل المسجد إلى أعلى المسجد في الدور الأول والثاني فإنه لا يبطل اعتكافه؛ لأنه ما زال في حرم المسجد.
فمعنى قوله: [وسقفها] أن السقف تابع للأسفل، وفرِّع على هذا مسألة السعي بين الصفا والمروة في الدور الثاني، فإنه مفرَّع على مسألة من ملك أرضاً ملك سماءها وبناءها.
قال رحمه الله تعالى: [والباب الملصوق]: بعد أن بيّن لنا رحمه الله تعالى أنه يملك الأرض، ويملك البناء، يأتي السؤال الآن عن الأشياء الموجودة في جدران الأرض، كرجل باعك غرفة، وهذه الغرفة بطول معين، وعرض معين، وسمك معين، فاتفقتما، وتم البيع، ثم لما تم البيع ودفعت المال، جاء يريد أن يأخذ الباب والنافذة، ويقول: أنا بعتك الغرفة للجرم والذات، وما بعتك نوافذها، وأبوابها، ويقول: ما بعت لك إلا عين الرقبة، فهل من حقه أن يقول ذلك؟ نقول: لا، بل فيه تفصيل: فما كان من الأبواب مُسَمَّراً، في نفس الغرفة، فإنه يملك وينصب البيع عليه، وما كان منها منفصلاً، ولم يسمر، فإنه ليس من الرقبة، ولا يعتبر تابعاً للرقبة، وعلى هذا ليس من حقه أن يخلع الباب المسمر، ولا النافذة المسمرة، وعليه تكون تابعة للأصل وتابعة للدار.
لكن لو كان الباب مخلوعاً، كما لو باعه الغرفة ونظر إليها وبابها مخلوع، فمعناه أنه اشترى حاضراً ناظراً بهذه الصفة، وحينئذ يتم البيع على أنها غرفة بدون باب.
ولو كان عنده غرفة لها باب، وفي هذه الغرفة ثلاثة أبواب وضعها البائع في الغرفة، أي: استخدم الغرفة كمخزن، فجاء المشتري وقال: أنا أملك الغرفة والأبواب الموجودة، نقول: لا، فالأبواب فيها تفصيل، فما كان منها مسمراً يملك ويتبع العقد، وما كان منها غير مسمر فإنه لا يتبع العقد.
قال رحمه الله تعالى: [والسلم والرف المسمرين]: السلم هو الذي يصعد عليه، وأما الرف فهو مثل الذي يوضع في دورات المياه، على المغاسل لتوضع عليه أشياء، ففي القديم كانوا يجعلونها في الغرف لأجل أن توضع عليها الأشياء، أو تكون في الصالات فإن المسمر منها في الغرفة لا يخرج، وليس من حقه أن يأخذه، لكن لو كان الرف مخلوعاً وموضوعاً في مخزن البيت، أو موضوعا في غرفة من غرف البيت كمخزن، فمن حقه عند البيع أن يأخذه؛ لأنه غير مسمر، وقد اشترى العين بصفاتها الموجودة، وحينئذ يجب عليه أن يترك المسمر، وأن يأخذ غير المسمر.
والسلم ينقسم إلى قسمين -خاصة في القديم-: قسم من السلالم ثابت، كأن يبيعه داراً لها دوران، الدور الأرضي، والأول الذي فوق الأرضي، فالذي فوق الأرضي يحتاج إلى الصعود إليه بسلم، وهذا السلم ثابت موجود في نفس الدار، وهو -طبعاً- مسمر، ومحفور ومرتكز، فإنه إذا باعه يتبع المبيع، فلو جاء لكي يخلعه، نقول له: ليس من حقك خلعه، هذا مسمر وتابع للرقبة، وتابع للمبيع، وهناك قسم من السلام ليس بمسمر، مثل السلم الذي تضعه في المكتبة من أجل أن ترقاه من أجل أن تجد كتاباً في الأعلى، أو سلم تستصلح به -مثلاً- مصابيح الكهرباء ونحو ذلك، أو تتناول به الأشياء العالية، وهذا النوع من السلالم غير مسمر، فهذا من حقه إذا باعك الدار أن يستخرجه ويأخذه معه، فهو غير مسمر، ولا يتبع الرقبة، ولا يكون البيع منصباً عليه مع ذاته.
وبناء على ذلك يفصل في السلالم، فما كان منها مسمراً فإنه يتبع العين والرقبة، ولا يجوز فكه، ولا يجوز أن يأخذه البائع معه، وإنما يبقى مع المبيع ويتبعه، وما كان منها منفكاً ومتنقلاً غير مسمر، فمن حقه أن يأخذه معه.
هذا بالنسبة للسلالم، فما الحكم في المصاعد؟ كما لو باعه عمارة فيها مصعد كهربائي، واشتراها منه بنصف مليون مثلاً، ثم فوجئ بالبائع يريد أن يأخذ المصعد معه، فقال له: بعتني العمارة والمصعد تابع للعمارة، قال: لا، أنا بعتك العمارة، وما بعتك المصعد، فننظر: إن كان المصعد مسمرا، بمعنى أنه في نفس العمارة ويعمل فحينئذ يصبح تابعاً للعمارة، حتى ولو كان عاطلا، ً ما دام أنه مهيأ للعمل، ومثبت في العمارة، فإنه تابع للرقبة، فيكون الخطأ من البائع، فإذا أراد أن يستثني فليقل: أبيعك العمارة إلا المصعد، إذا أراد أن لا يبيع المصعد، فإذا لم يستثنِ ودخل المشتري ورأى المصعد، ورأى العمارة بمصعدها فكأنه يقول له: أبيعك العمارة بمصعدها، وعلى هذا تكون المصاعد في حكم السلالم المسمّرة، ونحوها.
لكن لو أنه باعه عمارةً وفي حوشها مصعد معطل، أو جاهز للعمل لكنه غير مركب، فهل يكون المصعد تابعاً للعمارة؟ نقول: لا؛ لأنه غير مسمر، وغير موجود في العمارة، والبيع وقع على العمارة، وهذا ليس متصلاً بها ولا في حكم المتصل بها.
قال رحمه الله تعالى: [والخابية المدفونة]: أي: وكذلك الخابية المدفونة تتبعها، ويشترط الدفن؛ لأنه كالتسمير في الأرفف.(166/5)
ما لا يتبع الدور عند بيعها
قال رحمه الله تعالى: [دون ما هو مودع فيها من كنزٍ وحجر] قوله رحمه الله تعالى: [دون] استثناء، أي: لا يشمل البيع ما كان مودعاً في المبيع، أي: محفوظاً فيه، فإذا كانت لك عمارة فيها غرفة لك أشبه بالمخزن، فما وضع في هذه الغرفة مما هو من حوائجك الخاصة والأشياء التي لمصالحك تريد أن ترتفق بها، فإنها ملك لك، إذا كنت البائع، وليس من حقه أن يقول: اشتريت العمارة كلها بما فيها.
فما أودع في المبيع، فليس بتابع للمبيع، وإنما يكون البيع على ظاهره، والمودع يكون ملكاً لصاحبه الذي أودعه دون المودع فيها.
والودع: أصله الترك، ومنه قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى:3] أي ما تركك، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات -يعني تركهم صلاة الجمعة- أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)، نسأل الله السلامة والعافية، فالودع الترك، وسميت الوديعة وديعة؛ لأن صاحبها يتركها عند من استودعه إياها.
و [مِنْ] في قوله: [دون ما هو مودع فيها من كنز وحجر] بيانية، كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة:1]، فـ (من) هنا بيانية.
وقوله: [دون ما هو مودع فيها من كنز]، أي: من أمثلة ما يودع فيها الكنز، كمثل رجل أخذ دنانير ذهب -وفي القديم كان الناس يخافون على أموالهم، وليس هناك أماكن يحفظون فيها الأموال- فربما وضع الذهب في صرة أو نحوها وحفر لها في الدار، ثم دفنها، كأنه يكتنزها لنفسه للحاجة، فهذا كنزٌ أو في حكم الكنز.
كذلك في زماننا اختلفت الصورة، فلو أن رجلاً عنده خزنة، وفي هذه الخزنة -مثلاً- مائة ألف، أو فيها حلي، أو فيها ذهب، أو فيها جواهر، فهو يضع في هذه الخزنة أموالاً، فباع العمارة ثم جاء إلى الخزانة يريد أن يفتحها، فقال له المشتري: لا، هذه العمارة بعتني إياها بما فيها، فالكنز لي.
فليس من حقه، فالبائع يقول: بعتك العمارة ولم أبعك كنوزها؛ لأن هذا الكنز ملك لي، فهذا معنى قوله: [من كنز]، أي: ما كان مكتنزاً في العمارة، محفوظاً ومودعا فيها، فإنه ملك لبائعها، ليس من حق المشتري أن يطالبه به.
قال رحمه الله تعالى: [ومنفصل منها كحبلٍ ودلوٍ]: أي: كحبل الدلو، فقد كانوا في القديم يحفرون الآبار في البيوت حتى يستقون منها ويرتفقون بها، فالحبل يحتاجه من أجل أن يستقي الماء، وربما كان الحبل موجوداً في المخزن، فالحبل إذا كان موجوداً في الدار، للاستسقاء بالدلو، فهذا لا يعتبر تابعاً للبيع، وإنما باعه البئر، والبئر تابعة للرقبة، وهذا الحبل ليس بمسمر ولا بمتصل، وهكذا الدلو الذي يغرف به لا يعتبر تابعاً للمبيع.
قال رحمه الله تعالى: [وبكرة]: وهكذا البكرة التي يجري عليها الحبل.
قال رحمه الله تعالى: [وقفل]: القفل: واحد الأقفال، وكانوا في القديم يضعون الأقفال على الأبواب، يقفلون بها، فالباب له قفل يضعه البائع على داره، ثم لما باع الدار جاء وأخذ أقفالها، فهل من حقه ذلك؟ نقول: نعم؛ لأن القفل ليس متصلاً بالمبيع، فمن حقه أن يأخذ الأقفال، لكن في زماننا هذا تستخدم الأقفال المتصلة، فإذا كانت الأقفال متصلة فليس من حقه أن يأخذها، لكن الأقفال المنفصلة، ونحوها الضباب التي تعلق تعتبر ملكاً للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، وهكذا السلاسل التي توضع على الأبواب تسفل بها لتقفل، فإنها تعتبر تابعة للبيع، فالمشتري إذا اشترى يشتري القفل الذي يناسبه، وهو يملك المتصل دون المنفصل، وهذا هو ضابطها كما قال رحمه الله: [دون ما هو مودع فيها.
ومنفصل منها].
قال رحمه الله: [وفرش].
إذا باع عمارة أو غرفة فمن حقه أن يأخذ جميع الفرش الموجودة فيها، وحينئذ يقوم المشتري بفرشها من جديد، أو الاستغناء عن فرشها إذا كان يريدها لغير الجلوس، فالمهم أن الفراش يكون ملكاً للبائع، فإن الفراش ليس متصلاً بالرقبة، ولا يأخذ حكم المتصل، لكن في بعض الأحيان إذا كان الشيء المبيع مهيأً لكي ينتفع به المنتفع، كأن يبيعه شيئاً يقُصد به نفعٌ معين ولهذا المبيع تهيئة خاصة تتعلق به، مثل ما يوجد في المحلات الآن كما لو باعه -مثلاً- مطبخا، أو باعه على أنه مطبخ، فإن جميع ما يتعلق بهذا المطبخ من عُدَدِه وآلاته ووسائله إذا كان مهيأ مجهزاً بذلك يكون تابعاً للمبيع.
لكن إذا باعه العمارة السكنية، أو باعه الغرفة، فإن هذا كله لا يعتبر فيه الفراش تابعاً، ويعتبر منفصلا عن المبيع فمن حقه أن يخلع الفراش ويقوم المشتري بفرشها بما يشاء.
قال رحمه الله تعالى: [ومفتاح]: أي: والمفاتيح كذلك، وهذا في الأقفال، فإذا كان القفل ملكاً للبائع فمعنى ذلك أن المفتاح سيكون ملكاً للبائع، لكن الكوالين الموجودة الآن، تعطى بالمفاتيح للمشتري؛ لأنها متصلة بالمبيع، وهذا الذي ذكره المصنف رحمه الله كائنٌ في المبيعات القديمة، لكن نمثل بأشياء موجودة اليوم، فمثلاً: في زماننا لو باع سيارة،، وكانت رقبتها ليس فيها أشياء تخص المشتري فلا إشكال، فحينئذ يتبع السيارة ما هو فيها من آلاتها وعددها المعروفة بالعرف، لكن لو أنه -طالب أي البائع- بشيء موجود فيها بالعرف، كأن يكون باعه سيارة فأراد أن يستخرج مسجلها مثلاً، أو المكيف الموجود فيها، فهل من حقه ذلك؟
الجواب
ليس من حقه ذلك؛ لأنه متصلٌ بالمبيع ومسمرٌ في المبيع، ووقع البيع أثناء العقد على هذا الشيء بعينه، فإن أراد أن يستثني فعليه أن ينص على ذلك ويقول: دون مسجلها أو: أبيعك هذه السيارة وأشترط أن آخذ مسجلها، أو مكيفها، أو راديها، أو نحو ذلك من الأشياء الموجودة فيها مما هو متصل بها.
كذلك أيضاً لو باع داراً وقام على أجهزتها الكهربائية واستخرجها وخلعها، وقال: هذه الدار المسلمة هي التي بعتك إياها، أما بالنسبة لما فيها من الأدوات الكهربائية فأنا ما بعتك إياها، فهل من حقه أن يستخرج هذه الأجهزة الكهربائية أو لا؟ فيه تفصيل: فما كان منها متصلاً مثل المصابيح الكهربائية، فهذه تبقى، وليس من حقه أن يستخرجها، أما ما كان منفصلاً، كالثلاجات والغسالات، فهذه تعتبر منفصلة، وفي حكم المنفصل، فمن حقه أن يأخذها؛ لأن ليست تابعة للرقبة.
فلو باعه داراً فيها تلفون، فهل من حقه أن يأخذ التلفون معه؟ أو يترك له خط التلفون؟ نقول: إن التلفون ملكٌ لصاحبه؛ لأن التلفون في الأصل صفة كمال في المبيع، ولذلك الدور منها ما هو موجود فيها، ومنها ما هو غير موجود، لكن الكهرباء موجودة في المبيعات، وحينئذ نقول: هذا التلفون من حقه أن يستخرجه، لكن لو اشترط المشتري، وقال: أشتري الدار بما فيها من التلفونات، كان من حقه ذلك.
وبناء على ذلك، يُفرق بين ما يكون متصلاً، خاصة بالعرف، وبين ما يكون منفصلاً عن الدار، فيتبع المتصل ولا يتبع المنفصل، وكذلك أيضاً من الفراش، فما يوجد من فرش الدار الموجود في عصرنا، فيحكم بكونه ملكاً للبائع، كما قرر العلماء رحمهم الله تعالى أن فرش الدار يكون ملكاً للبائع، ولا يحكم بكونه تابعاً للرقبة.(166/6)
بيع الأرض وما عليها(166/7)
بيع الأرض مطلقاً يشمل الغرس والبناء
قال رحمه الله تعالى: [وإن باع أرضاً ولو لم يقل بحقوقها شمل غرسها وبناءها]: لو أن رجلاً قال لك: أبيعك مزرعةً طولها كذا، وعرضها كذا، في مكان كذا، فإنه حينئذ أوجب الصفق على هذا المبيع الموصوف في الذمة، أو المعين، كأن يقول: مزرعتي هذه، والمزرعة فيها زرع، فلما أوجب البيع وتمت الصفقة، قال لك: بعتك الأرض، فأنت تأخذ المزرعة، أي: الأرض الصالحة للزراعة، فمن حقي أن أخلع النخل، وأُخرج النخل، ومن حقي أن أخرج الزروع إلا أن تعوضني عنها، فيقال: من باع أرضاً شمل غرسها وزرعها، وليس من حق البائع أن يأخذ ذلك، إلا إذا اشترط على المشتري، فقال له: أبيعك هذه المزرعة على أن آخذ جميع ما فيها، فحينئذ لا إشكال، إما أن يخلع النخل أو يتراضى مع البائع على حسب ما يتفقا.(166/8)
حكم الزرع الموجود في الأرض المبيعة
قال رحمه الله تعالى: [وإن كان فيها زرع كبُر وشعير، فلبائع مبقي]: الحبوب إذا زرعها البائع فإن هذه الحبوب لا تبقى ولا تستديم، ولا تعتبر تابعةً للمبيع، وتكون للبائع، لكن يستبقيها إلى الحصاد، فيكون من حقه إذا باع الأرض أن يبقيها، ويطالب المشتري ببقائها وسقيها حتى يحصدها، فإن هذا الزرع مبقيٌ للبائع إلى الحصاد، فإذا جاء الحصاد وجب عليه أن يحصد، وتكون مئونة الحصاد، وكلفة الحصاد على المشتري، ثم بعد ذلك تبقى الأرض والرقبة للبائع.
ثانياً: ما كان نتاجه مراراً: قال رحمه الله تعالى: [وإن كان يجز أو يلقط مراراً، فحقوله للمشتري، والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع]: الآن بيّن لنا أن الذي يبتاع الرقبة يملكها وما فيها مما هو متصلٌ بها، والزرع في الأصل متصلٌ بالأرض، وكان ينبغي أن يكون تابعاً للبيع، لكن العلماء رحمهم الله فصلوا في هذا؛ لأن السنة نبهت على ملكية البائع لزرعه إذا كان له ثمرة في ذلك الزرع، فتخرج في ملكه ولا تخرج في ملك المشتري.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (من باع نخلاً قد أبرت)، فالأصل النخل، وقوله صلى الله عليه وسلم: (قد أبرت)، أي: الثمرة، فإذا أبرت النخلة فمعناه أن الثمرة حدثت في ملكي أنا البائع، فليس من حق المشتري أن يطالبني بها، إلا إذا اشترط، فإذا أبرت النخلة فمعناه أن هذه الثمرة التي أبرت حدثت في ملكي وضماني، فأنا أستحقها ويتم البيع على الأصل دون الثمرة.
وبناءً على هذا تكون لي الثمرة في تلك السنة، لكن في السنة القادمة إذا أطلعَ النخلُ تكون الثمرة للمشتري؛ لأنها وقعت في ملك المشتري، أكد هذا النبي صلى الله عليه وسلم بالمفهوم، فلما قال بمنطوق النص،: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع)، فهمنا أن من باع نخلاً لم تؤبر فثمرتها للمشتري.
وعلى هذا كأن الثمرة إن وقعت في ملك البائع فللبائع، وإن وقعت في ملك المشتري فللمشتري.
وبناء عليه يُفَصَّل في الثمار، فلو أنه باعه نخلاً قد أبرت، وقلنا: إنها تابعةٌ للبائع، فإن الموجود عندنا أصل وثمرة، فالذي دلت عليه السنة أن المشتري يملك الثمرة لذلك العام وحده، ففرع عليهما ما كان يُجز ويُلقط مراراً، فما يجز مراراً مثل الكرّاث، ومثل البرسيم، فالبرسيم إذا جززته نبت مرة ثانية، والكرّاث إذا جززته نبت مرة ثانية، أو يلقط كالعنب فإنه يؤخذ ويلقط، والرطب والبلح ونحو ذلك، هذا كله يلقط، وقد يلقط ويتجدد، وقد يلقط على بطن ظاهر وبطن متخلف، كالقثاء، والباذنجان، ونحو ذلك.
إذاً لا بد من التفصيل في هذه الأنواع كلها، فما كان له جزة واحدة كالحبوب، فإنه إذا باع أرضاً فيها زرع، كالحب، فإنه يكون قد حدث في ملك البائع، فليس من حق المشتري أن يطالبه بهذا الزرع الموجود، ويجزه البائع عند حصاده، ويكون ملكاً له، إلا إذا اشترط المشتري، وقال: أشترط أن آخذ الأرض بهذا الزرع الموجود فيها فهي ملكٌ له.
الحالة الثانية: أن يكون مما يجز، ولاحظ أن الأول يجز فلا يعود، فجزَّته واحدة، أما الذي يجز ويعود، إن كان يجز مرة بعد مرة، كالبرسيم، فإنه ربما يبقى في الأرض خمس سنوات، وربما إلى عشر سنوات، على حسب أنواعه، وحسب جودة الأرض، فإذا كان هذا البرسيم يجز مرة بعد مرة فباعه والبرسيم فيه جزة ظاهرة فإنها قد حدثت في ملك البائع، فنقول: أصل البرسيم للمشتري والجزة الظاهرة للبائع، ولكن الأصل للمشتري، فإذا جز البائع الجزة الظاهرة أصبح الكل ملكاً للمشتري.
قال رحمه الله تعالى: [وإن اشترط المشتري ذلك صح]: أي: إن اشترط المشتري ذلك، فقال: الجزة الظاهرة لي، أو قال فيما يلقط: هذا الملتقط لي، أو قال في ثمرة البستان هذا لي، فإنه يكون له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع نخلاً قد أبرت، فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع)، أي: أنها ملك للمبتاع إن اشترطها.(166/9)
أحكام بيع النخل مع ثمره
قال رحمه الله تعالى: [فصل: ومن باع نخلاً تشقق طلعه فلبائع مَبقيٌ إلى الجذاذ، إلا أن يشترطه مشترٍ]: هذا الفصل ينبني على ما قبله، وانظروا إلى سعة هذه الشريعة ودقتها، وكيف أن الحديث الواحد يمكن أن تفرع عليه أبواب، وتبنى عليه فصول، وتبنى عليه قواعد وأصول؛ لأنها شريعة كاملة، نبهت بالقواعد العامة وبالأصول العامة، فهذا الحديث حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، ومن باع عبدا له مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) أصل عظيم في مسألة ما الذي يتبع المبيع وما الذي لا يتبعه، وكل المسائل تفرعت على هذا الأصل، وانبنت عليه.
فالزروع تكون ملحقة بالمعنى، والمنقولات تكون ملحقة بالأصل، وهذا لا شك يدل على عظم هذه الشريعة، وأنها شملت، فما تركت صغيراً ولا كبيراً إلا بينته، ويدل أيضاً على أن القواعد الكلية في الشريعة أصل معتبر؛ لكي يحكم بشموليتها، وعلى هذا فما ذكرناه في الفصل السابق مفرع على هذا الحديث.
يقول رحمه الله تعالى: [ومن باع نخلاً تشقق طلعه]: النخل: معروف طبعاً، وهذا النخل من حكمة الله سبحانه وتعالى، يراد لثمره وما يكون منه، وهو ينقسم إلى زوجين: الذكور والإناث، فذكور النخل هي الفحول التي يؤخذ منها اللقاح لكي يلقح به الأنثى، وهناك الإناث التي فيها الثمار المختلفة، اختلفت ألوانها، واختلفت أشكالها واختلف طعمها، والكل يُسقى بماء واحد، وهذا من أعظم الدلائل على وحدانية الله جل جلاله، فهو دليل على وحدانيته تعالى، ومن شواهد التوحيد أنك إذا تأملته وجدته مختلفاً أُكُله، ومختلفاً أشكاله، ومختلفاً حتى في مواسم خروجه.
وثمره بعضه يؤكل بلحاً، ولا تستطيبه وتجده ألذ ما يكون إلا بلحاً، وبعضه لا تستعذبه ولا تجده لذيذاً إلا وهو رطب، وبعضه لا تستلذه إلا تمراً كامل اليبس، وأيضاً تجده مختلف الألوان، فإذا بدا اللون الأخضر فيه، الذي هو الأصل، ينقلب إلى أحمر، وينقلب إلى أصفر، وينقلب إلى أبيض أشهب، وقد يبقى على خضرته، وهذا كله يدل على وجود الله جل جلاله ووحدانيته؛ لأن هذه الأشياء لو حدثت بنفسها كانت حدثت بلون واحد، وحدثت بشكل واحد، وبطعم واحد، وتجدها تختلف باختلاف المؤثرات؛ لكن الله سبحانه وتعالى جعلها على حالة مختلفة مع أنها تسقى بماء واحد وفي أرض واحدة، كما قال تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4] فليست آيةً، بل آيات، لكن لمن يتأمل، فأعظم به سبحانه وتعالى! وهذا النخل من حكمة الله سبحانه وتعالى أن تطلع ثمرته من الأنثى، وتخرج ثمرته في وعاء كيزان تكون حافظةً للثمرة بإذن الله عز وجل، وتتخلق الثمرة فيما لا يقل عن شهرين، تستتم وتتخلق في داخل النخلة، ثم تخرج من بين الجريد وبين الجذع، وتستتم خروجها حتى تكتمل إلى القدر الذي تكتمل إليه، ثم ينشق هذا الوعاء بقدرة الله عز وجل، وقد يكون طلعه في زمان بارد، فيوافق عند التشقق حرارة تعتريه، وقد يكون الناس في شدة البرد، لكن يرسل الله عز وجل عليه من الحرارة ما يكتمه حتى يتشقق؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا قال للشيء: كن، فيكون، ولو كان في شدة البرد، فإن الله سبحانه وتعالى يخرجه، ولو كنت في شدة الحر، وأنت تتألم يفجر لك الأنهار من الجبال عذبة باردة، سبحانه! سبحانه! وأعظم به.
فالشاهد أنه يخرج ذاك الكوز مكتملاً، فإذا اكتمل تشقق، ويتشقق بعد يوم، أو يومين، أو ثلاثة أو أسبوع على حسب المناطق، وعلى حسب النوعية، ثم إذا بدأ يتشقق يأتي الفلاح إلى الذكر، والذكر يطلع في الوقت الذي تطلع فيه الإناث، فتخرج كيزانه مغلفة، فتقص وهي مغلفة، ثم يزال الغلاف الخارجي، وبعض الناس يلقح به وهو طري، وبعضهم ينشره في الشمس؛ لأن الشمس تقوي اللقاح وتغذيه وتجعل فائدته أكثر، فيتركونه ينشر في الشمس ليستوي.
وفيه غبار، ورائحته كمني الرجل الآدمي، سبحان الله! ولذلك تجد العلماء يقولون عن المني: رائحته كطلع النخل، سبحان الله تعالى! ويقولون: إن النخل تشبه الإنسان كثيراً، حتى إن فيها الكريم وفيها البخيل -سبحان الله تعالى! - أي: في الصفات، فيقولون: إنها من أشبه ما تكون بالإنسان، فمن هنا إذا وضع اللقاح خرجت وتشققت، ولا يمكن أن تصلح هذه الثمرة إلا إذا لقحت ووضع هذا الغبار.
ثم انظر إلى أنواعه، فبعض الأنواع بمجرد ما تنشق تلقح، وبعضها الأفضل أن تبرد، وتنتظر يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام، وإذا برزت ولقحتها بعد البروز كانت ثمرتها فاخرة، فإذا بادرتها باللقاح في أول شيء جاءت ثمرتها صغيرة، فلربما حشفت وجاء الشيط الذي لا نوى فيه، فتجد بعضها ليس فيه نوى؛ لأنه لم يلقح، أو بادره باللقاح قبل وقته.
ثم منه العكس، فبعضه ما لم يبادر مباشرة بلقاحه صار إلى الشيص وتغير، يخالف بين الأحوال حتى يدل على وجود الله سبحانه وتعالى، وأن هذه الأمور وراءها أمر من الله جل جلاله، ومدبر يدبرها سبحانه وتعالى.
فالشاهد إذا جاء الفلاح وغبر النخل، قالوا أبرها، فهذا هو التأبير.
إذاً عندنا مراحل للنخلة: الكن الذي يكون قبل تخلق الثمرة، ثم بعد ذلك الطلع بداية الطلع، ثم بعد ذلك التشقق، ثم بعد ذلك التأبير، فإذا أبرت وغُبرت، فهنا جعل الشرع هذا الحد فاصلاً بين ملك البائع وملك المشتري، فقال صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً قد أبرت، فثمرتها للبائع)؛ لأنها إذا أطلعت وتشققت ففي ملك من ظهرت الثمرة؟
الجواب
في ملك البائع، فإن حدثت الثمرة في ملكي، فإذا بعت فقد بعت الأصل، والثمرةُ لا زالت ملكاً لي! فإذا لم ينصب العقد عليها بالتبعية لم يحكم بتبعيتها.
لكن لو أنه باع البستان، أو باع النخلة وهي لم تؤبر، أو بمجرد بدو الكيزان أو خروجها ولم تتشقق، فقالوا: إذا باعه قبل مرحلة التشقق والتأبير فإنها تتبع المبيع، وتصبح الثمرة حينئذ تشققت وتأبرت في ملك المشتري، وتصير ملكه، فهذا الفاصل بين مال البائع والمشتري.
قال صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع).
قوله رحمه الله تعالى: [إلا أن يشترطها مشترٍ]: إلا أن يشترطها المبتاع هو اللفظ الصحيح، أو المشتري بمعنى: المبتاع الذي اشترى، فلو قال له: بعتك بستاناً فيه نخلٌ مؤبر، فقال المشتري: أشترط أن تكون الثمرة تابعة للنخل، فقال له البائع: لك ذلك، فحينئذ يملكها بالشرط ولا يملكها بالأصل، وعلى هذا يتم البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، أي: أنه إذا اشترط عليك فمن حقه أن تفي له بشرطه.(166/10)
بيع العنب والتوت والرمان ونحوه مع ثمره
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره]: هناك نوع من الثمار يظهر من نَوْرِه، ومنها ما يتشقق من أكمامه، ومنها ما يظهر من الأرض، فهذا الشيء الذي تتفتح أكمامه تكون العبرة بتفتحه؛ لأنها تفتحت الثمرة على ملك البائع، وهذا الشيء الذي يكون في داخل النَّور كالتفاح ونحوه، إذا تساقط عنه نَوره، فإنه حينئذ تظهر الثمرة بعد تساقط الأنوار الذي فيه، وهكذا الليمون إذا تساقط زهره، فحينئذ تجعل لكل ثمرة ظهورها، وهذا يختلف باختلاف أنواع الثمار، فما كان منها له أكمام ويتفتح فإنه عند تفتحه عن كُمِّه يكون تابعاً للأصل، فإن وقع البيع قبله فإنه يكون ملكاً للمشتري؛ لأنه ظهرت الثمرة بعد البيع، وإذا ظهرت الثمرة قبل البيع يكون للبائع سواءً أظهرت بتفتح الكم أم بغيره؛ لأن الثمرات تخرج من أكمامها، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} [فصلت:47]، فهناك نوع من الثمرات يخرج من أكمامه، وبعضها يتشقق كذلك عن قشره، وبعضها يكون داخل وعائه مثل اللوز، والجوز، ونحوه، فهذا يرجع فيه إلى أهل الخبرة في ظهوره، إن ظهرت علامات وجوده فإنه يحكم بكونه ملكاً للبائع إن كان ظهوره قبل العقد، ويحكم بكونه ملكاً للمشتري إن كان ظهوره بعد العقد.
قال رحمه الله تعالى: [وما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح]: هذه كلها يحكم بكونها ملكاً للبائع إذا ظهرت من نَوْرها قبل العقد، وتكون ملكاً للمشتري إن ظهرت من نَوْرها بعد العقد.
قال رحمه الله تعالى: [وما خرج من أكمامه كالورد والقطن]: الورد يظهر وهو مستغلق الأكمام، ثم بعد ذلك يخرج قلب الوردة من كمها، فتظهر ثمرة الورد، ومن المعلوم أن المزرعة قد تباع وتكون مزرعة ورد، والورد يباع وينتفع به، وله ثمن وله قيمة، فتشتري منه هذه المزرعة التي فيها ورود، أو فيها الفل والياسمين ونحوها من الزهور التي لها روائح وينتفع بها، فإذا كانت هذه المبيعات تفتحت وظهرت ثمارها من أكمامها أو من قشورها، فتقشرت أو ظهرت، أو خرجت من كيزانها -كما في النخل-، فإنه يحكم بكونها للبائع إن كان الظهور وهي في ملك البائع أي قبل العقد، ويحكم بكونها للمشتري إن كان جميع ذلك بعد العقد.
قال رحمه الله تعالى: [وما قبل ذلك والورق فلمشترٍ]: قوله: [وما قبل ذلك] أي: ما كان قبل ذلك، يعن: ي قبل ظهور الثمرة، إما بتشقق الكيزان كما في النخل، إن قيل: العبرة بالتشقق، أو قيل العبرة بالتأبير؛ لأن الأول يختاره الجمهور والثاني يختاره الإمام أحمد رحمة الله عليه، أو كان بظهوره من نَوْره كالتفاح والمشمش ونحوه، أو كان بتفتح أكمامه كالورد ونحوه من الزهور، فهذا كله إن وقع فيه الظهور للثمرة قبل العقد كان في ملك البائع، وإن كان بعده كان في ملك المشتري وما كان قبل ذلك، أي: ما كان مبيعاً وحدث فيه ذلك، (قبل العقد) أي: قبل البيع، فإنه يكون ملكا ً للبائع؛ لأنه حدث في ملكه.
قوله: [والورق] في بعض الأحيان يكون ملكاً للبائع مطلقاً، إذا كان الورق الظاهر مثل الحنا، فالحناء إذا بيعت يراد منها الورق، فالورق الظاهر للبائع، فينتف ورقها ثم تعيد ورقها مرة ثانية لملك المشتري؛ لأن الورق الأول كان في ملك البائع، فإذا باعه الحنا كان من حقه أن يقطف ورقها؛ لأن الورق مقصود.
لكن هناك ورق غير مقصود، كورق الأغصان الذي ليس هو بذاته يباع مثل ما يقع في النباتات، فهذا من حيث الأصل أنه إذا بيع يكون تبعاً للمبيع، مثل الجريد، فالجريد يكون تابعاً للنخلة، فلو باعه نخلته ثم قام المشتري يريد أن يقص جميع جريدها، ويقول: الورق للبائع، نقول له: لا؛ لأن هذا الورق في الأصل للمبيع، لكن لو باعه شيئاً يراد منه الورق، فالورق الظاهر للبائع، والورق الذي هو البطن الذي بعده للمشتري، وذلك في الذي يتجدد ورقه.
وكذلك ورق العنب يقطف في موسمه، ويكون ملكاً للبائع في هذه الحالة، ثم ما تجدد منه يكون ملكاً للمشتري.
إذاً الورق فيه تفصيل على ما ذكرناه، وإطلاق المصنف يحتاج إلى نظر، وقد نبه بعض العلماء رحمهم الله تعالى على ذلك كالإمام الماوردي وغيره، فنبهوا على أن الورق منه ما يكون مقصوداً؛ لأن المبيعات منها ما يقصد منها ورقها، ومنها ما يقصد منها ثمرتها، ومنها ما يقصد منه الأمران: الورق والثمرة، أي: كون المنفعة في الورق والثمرة، وعلى هذا فإنه إذا باعه مبيعاً له ورق، والورق حدث في ملك البائع، ثم لما باعه قال: أريد أن آخذ هذا البطن من الورق الذي حدث في ملكي، كان من حقه ذلك، فلا يكون الورق للمشتري، وإنما يكون للبائع.(166/11)
الأسئلة(166/12)
الدار المشتركة وحكم أرضها
السؤال
إذا اشترك جماعة في بناء دار وأصبح لكلٍّ شقة من الدار، فلمن تكون الأرض؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا اشترك جماعة في أرض، وكانت مشاعة بينهم مناصفة، كرجلين يملك كل منهما نصف الأرض، أو أثلاثاً، أو أرباعاً، أو أخماساً على حسب الشراكة، وبنوها بنفس السهم الذي لهم، فبنوها -مثلاً- بنصف مليون، كلٌّ دفع مائة ألف وهم خمسة، فحينئذ تكون الأرض وبناؤها وما عليها بينهم أخماساً، كل يملك خمس الأرض، فإن أمكن قسمتها كأن تكون فيها خمس شقق، فلكلٍّ شقة ينتفع بها، فإن تنازعوا فقال أحدهم: آخذ الشقة السفلى؛ لأنها أخف مؤنة وأقل عناءً، وقال البقية: بل نحن نأخذها، فتشاحوا فيها، فإنهم يقترعون وتجري بينهم القرعة، ثم بعد ذلك تكون بينهم إذا أرادوا أن يسكنوها، أما لو أرادوا أن يؤجروها فإنها تؤجر، ويكون لكلٍّ خمس أجرتها.
هذا بالنسبة للملكية، وبالنسبة لبيع الشقة بعد وجود العمارة فله حكم خاص، فإذا كانت العمارة فيها ثلاثُ شقق، وأراد صاحبها أن يبيعها على ثلاثة أشخاص، وقال: أبيع هذه العمارة بينكم الثلاثة.
صح البيع، وحينئذ تكون الأرض بذاتها، وشققها مشاعة بينهم، لكن لو قال لأحد: أبيعك شقة من هذه العمارة، وباع للثاني شقة، وباع للثالث شقة، فهنا لا يصح البيع على أصح أقوال العلماء رحمهم الله تعالى.
والسبب في هذا أننا لو قلنا: إن الشقة تملك وحدها، يكون ملك صاحب الدور الأول الشقة الأولى، وملك صاحب الدور الثاني الشقة الثانية، وملك صاحب الدور الثالث الشقة الثالثة، فيبقى السطوح لا شقة فيه، فيأتي ويحدث شقة رابعة، ويبيعها على رابع، ثم يأتي ويحدث شقة خامسة ويبيعها على خامس، ويصبح السطح ليس ملكاً لأحد، بل ملك له متى ما شاء بنى فيه؛ لأنه إنما باع الشقق، وهو يملك الأرض ويملك سماءها، فإذا قلنا بصحة البيع للشقة بذاتها، فمعناه أنه يملك بدرومها وأساسها وما فيها، ويملك أيضاً عاليها، فيتصرف في العالي كما شاء، وهذا لا شك يدخل فيه الغرر؛ لأنه يخاطر بأصحاب الشقق، فأنت إذا بنيت العمارة على أنها -مثلاً- ثلاث شقق، أو على أنها ثلاثة أدوار، ليس كما لو أحدثت أدواراً فوقها.
ثم إن هذه الشقة لو قلنا: إنه قد باع الشقة ويملك المشتري الشقة فقط، فهذه الشقة كم ستبقى؛ لأنه سيملك الشقة وحدها، فلا ندري أيطول أجل العمارة وهي باقية فيطول أجل الشقة؟ أم يقصر أجل العمارة؟ وقد تكون العمارة محكوماً عليها أنها خلال عشرين سنة، أو ثلاثين سنة ستنتهي، فإذا تهدمت فلمن تكون الأرض؛ لأنه باعه الشقة وما باعه الأرض.
فالعقود لا بد أن تحدد، فإن كان يريد أن يبيعه فيبيعه بالمشاع، كأن يقول له: هذه عمارة لك ربعها، فكل يعرف حقه، وكل يعرف نصيبه، لكن أن يقول له: أبيعك شقة من عمارة، ولا يدرى كم تبقى، فكيف يصح هذا؟ وصحيح لو أننا اشترينا العمارة كذلك، لا ندري كم تبقى؟ لكن حتى لو فنيت في أقرب أجل، فإني أملك أرضها، أما أني أملك شقة فقط! ويزول ملكي بزوال الشقة! ولا أدري أقريب أم بعيد، ولا أدري كم بقاؤها، ويخاطر البائع ويغرر بالمشتري فلا، لكن لو ملكت الأرض، أو جزءاً من الأرض، ويكون لي ربع الأرض، فإني أنتفع بشقة، كأنها ربع قسمة، كما لو مات ميت عن دار وقسمت بين الورثة فلا إشكال، لكن أن يقال: أبيعك الشقة بعينها فهذا غرر، وهذا على أصح قولي العلماء، واختيار طائفة من مشايخنا رحمة الله عليهم، أنه لا يصح بيع الشقة لما فيه من الغرر؛ لأن الملكية تنصب على الشقة، ولا يكون لذات الأرض فيها ملك.
وإذا قيل بملكيتها كأن يقال: بيع الشقق المراد به أن يملك الشقة، فتقسم العمارة بحسب الشقق، فإن الدور الرابع ليس ملكاً لأحد، فلو كان هناك ثلاث شقق، فباع للأول شقة وللثاني شقة، وللثالث شقة، فإن قالوا: نحكم بأن لكلٍّ شقة، فتصبح الأرض أثلاثاً، نقول: السطح ليس بمبيع، بل السطح ملك للبائع، فإن قلت: أقسمها أثلاثاً، قلنا: كيف جعلت من لا شقة له يقاسم الذي له شقة؟ وكيف جعلت قيمة السطح الذي لا شقة فيه بقيمة الشقة؟ إن قلت: أدخل صاحب العمارة شريكاً فتكون أرباعاً؟ فحينئذٍ ليس هناك تكافؤٌ؛ لأن السطح ليس فيه بناء كما في الشقة! وإن قلت: أدخله بجزء، فكم هذا الجزء؟ وإن قلت: لا أدخله، فإن الأرض في الأصل ملك له بكاملها، وقد باع شقة ولم يبع سطحها، ولم يبع ما فيها، فإن قلت: إن سطح العمارة يكون تابعاً للشقق، نقول: حينئذ من باع شقة فإنه يكون ما فوق الشقق تابعاً لهذه الشقة، وهذا لا يستقيم من ناحية فقهية، فلا يستقيم أن نقول: إنه يجوز أن تجزأ العمارة، ولذلك تقع مشاكل كثيرة في بيع الشقق، وبيع أجزاء العمائر من الشقق المملكة.
وهناك قول ثانٍ، ولهذا القول وجهته، ومن اشترى شقة يتأول على هذا القول الثاني فلا بأس، وهذا حكمٌ مثل ما يختلف العلماء على قولين، لكن نحن نبين ما ظهر لنا بالدليل؛ فإننا لا نعرف في زمن السلف رحمهم الله تعالى أنهم كانوا يبيعون دوراً من العمارة، أو دوراً من الأرض، أو غرفة من الدار، إنما تباع إما بنسبة مشاعة، كنصف العمارة، أو ربعها، أو ثمنها، فيقول له: أدخل معك شريكاً، فبكم تبيع هذه العمارة؟ فإن قال: بمليون، قال: أنا أدفع نصف مليون، ونصبح شركاء فيها، وحينئذ لا تجد أي شبهة أو لبس، حيث يدخلون سوياً في الغرم والغنم، وإذا جئنا نقسم الأرباح نعرف كيف نقسمها، فلهذا نصف ولهذا نصف، وإذا قسمنا الأضرار نقسمها بالنصف، لكن لو أن هذه العمائر التي لم تبع بنسبة مشاعة حدث ضرر في مائها، أو حدث عطل فيها، فلن تستطيع أن تقسم، لا الغرم ولا الربح، ويحدث إشكال، ولو أنه قال: أريد أن أبني على العمارة، فأنا بعتكم الشقق وشققكم موجودة، وأريد أن أبني على العمارة، وقرر المهندسون أن العمارة تتحمل عشرة أدوار، فتكون قد اشتريت الشقة من العمارة وفيها -مثلاً- ساكنان، الذي فوقك والذي تحتك، فإذا بك بعمارة فيها عشرة أدوار، وأدخل عليك عشرة ساكنين، فأنت إنما رضيت بالواحد ورضيت بالاثنين، لكن لن ترضى بالعشرة، وتستضر بكثرة الجيران، وتحدث أضرارٌ، فلا تتأتى ملكية الجزء على وجهٍ ليس بمحدد الملكية؛ لأنهم قالوا: من ملك أرضاً ملك سماءها مثل ما قرر العلماء، وحينئذ نقول: من ملك شقة، فحينئذ ملك الشقة بدون أرضها، وبدون سمائها، وما الدليل على أنه يملك الشيء بدون أرضه ولا سمائه، فهذا الذي نريد له الدليل، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من اغتصب قيد شبر من الأرض طُوّقه يوم القيامة من سبع أرضين)، فجعل الأسفل تابعاً للأعلى! فهاتوا دليلاً يستثني هذا النوع من البيع، وأن من ملك الأعلى لا يملك الأسفل! هذا أمر يحتاج إلى تقرير أصل شرعي يمكن أن يبنى عليه جواز تجزئة العمارة بشققها؛ لأنه إذا قيل بصحة تجزئة العمارة بشققها، يقال بصحة تجزئة البيوت بغرفها.
وعلى هذا فالذي يظهر، والذي يتبين أنه لا يصح بيع الشقق، ولكن نقول: هناك قول مخالف، ولهذا القول حجته ودليله لكنه لم يظهر لي؛ لأنهم يقولون، باعه جزءاً من العمارة، ويغتفرون هذا الجزء، وأقول: لا زال الإشكال قائماً، فإذا كانت العمارة من ثلاثة شقق كما ذكرنا، وقلت: تقسم أثلاثاً، عارضك صاحب الملك، فقال: السطح لي، وإن قلت: إن السطح ليس له، وإنما لصاحب الشقة الثالثة، فحينئذ صاحب الشقة الأولى يملك سطح شقته فلا يصح بيع الشقة الثانية، وصاحب الشقة الثانية يملك سطح شقته، كما ذكرت، وأظن هذا من ناحية فقهية لا يستقيم، فإذا قال: نقسم هذه العمارة أثلاثا بين الثلاث الشقق، عارض صاحب العمارة بأن له السطح، وإن قلت: ندخل صاحب العمارة شريكاً، قلنا: سبحان الله، شقة كاملة مبنية مدفوع فيها مئات الألوف، بسطح عارٍ لا بناء فيه ولا شيء، كيف تدخل؟ وما وجه الإدخال؟ وإن قلت: أدخله على أنه باع الأصل ولم يبع ما فوقه، نقول حينئذ: هذا الذي دفع قيمة الشقة ليست قيمتها كقيمة السطح؛ لأن الله تعالى جعل لكل شيء قدرا وحقا.
فالذي يظهر أنه لا بد من وضع حلٍّ، والشريعة ما تركت شيئاً وليس في هذا ضيق؛ لأن المراد من هذا حفظ حقوق الناس، فالذي يشتري يعرف ما الذي يأخذه، وما الذي يعطيه.
فنقول: الحل أن العمارة إذا كانت من أربع شقق يعرضها، ويقول: هذه العمارة معروضة للبيع، إن شاء شخص أن يشتريها بأربعمائة ألف وتكون ملكاً له فبها ونعمت، وإن جاء أربعة يشترونها فلهم ذلك، وبدلاً من أن تجزئ شققها، بِع بيعاً شرعياً لا إشكال فيه ولا شبهة، فلماذا نُحدث هذه البيوعات التي ما كنا نعرفها ولم تكن موجودة بيننا؟ والبيع الشرعي أن نجعل البيع كما هو، ونقول: يعرضها في أربع شقق على أربعة شركاء، كلٌّ له ربع الأرض، ثم إذا ملك هؤلاء الأربعةُ الشركاء كان لهم التصرف في العمارة كما يتصرف الشركاء في أموالهم، فهو بيع شرعي ومخرج شرعي لا شبهة فيه ولا إشكال، هذا ما ظهر، والله تعالى أعلم.
أما لو باع الشقة قبل أن تبنى فهذا أمر أشد؛ لأنه باع المعدوم وباع الشيء قبل أن يخلق ويوجد، فحين يقول: سنبني العمارة، أو سنبني الشقة، فالشقة لم توجد، فإن قالوا: يصح هذا البيع قياساً على السَّلَم، نقول: السلم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فهو في الموزونات والمكيلات، واختلف في المعدودات.
وأما الدُّور فإنها تباع بالذرع، فهي مذروعة، والبناء مذروع، ولذلك يقال: طوله كذا وعرضه كذا، ويحدد أجرامه سُمكاً وطولاً وعرضاً، فهذا لا يدخل في السلم.
وعلى هذا فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه من بيع الغرر، وبيع ما لم يوجد، ثم قد يقال: إننا سنبني هذه العمارة فيها مائة شقة، أو فيها مثلاً خمسون شقة، ثم تؤخذ الأموال، وبعد فترة إذا به قد قرر البيع على أنها كل شقة بمائة ألف، فلما أراد المنفذ أن ينفذ إذا بالأسعار قد غلت، وارتفعت قيمة المؤنة، فأصبحت بأضعاف القيمة التي رسمت، فهو بيع غرر؛ لأنك تدفع في زمان، وتنفذ في زمان، وإذا بالحقيقة تخالف الواقع، فيغرر الإنسان بنفسه، ولو قال المقاول أو المالك: أنا راضٍ، فالشريعة لا ترضى؛ لأن الرضا الذي يأتي على خلاف الشرع كبيع المخاطر(166/13)
شرح زاد المستقنع - باب بيع الأصول والثمار [2]
من الأحكام المتعلقة بباب بيع الأصول والثمار: أنه لا يباع ثمر قبل بدو صلاحه، على تفصيل في بدو الصلاح وعلاماته واختلافه باختلاف أنواع الثمار والزروع، وإن باع قبل بدو الصلاح فلابد من شرط القطع، على تفصيل في اختلاف أنواع الثمار والزروع وما يجز منها وما يلقط.(167/1)
بيع الثمار والزروع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(167/2)
اشتراط بدو الصلاح في بيع الثمار وعلة ذلك
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه]: أي: ولا يجوز أن يباع ثمر قبل بدو صلاحه، والدليل على هذا ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري)، أي: نهى البائع أن يبذل الثمرة على هذا الوجه، ونهى المشتري أن يدفع الثمن في هذا النوع من الثمار.
وثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي، قالوا: يا رسول الله! وما تزهي؟ قال: تحمارُّ أو تصفارُّ)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه في السنن أن الناس كانوا يتبايعون الثمار، ثم إذا حضر تقاضيهم قال المشتري: أصاب الثمارَ الدمانُ -وهو نوع من الأمراض التي تصيب الثمرة فتتلفها- والدمان مثل ما يصيب البلحة حين يأتيها شيء مثل الحمار، أشبه بلون الدم إلى اللون البني، فتصبح يابسة لا طعم لها، وربما أفسد الثمرة بالكلية، فيقول المشتري: أصاب الثمرة الدمانُ، أصاب الثمرةَ القشامُ، لأمراض وعاهات يذكرونها، فلما كثرت خصوماتهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.(167/3)
علامات بدو الصلاح في النخل
علمنا الحكم وعلمنا الدليل فنحتاج إلى شرح هذه المسألة، فنقول وبالله التوفيق: النخلة كما ذكرنا تُطلع، وإذا أطلعت وتشققت وأبّرها الفلاح، تبقى ما لا يقل عن شهرين، فأول ما يخرج الكوز فيه الثمرة، وتنظر إلى العرجون الذي تراه حاملاً للثمرة بعد استوائها ونضجها، وإذا أخرجها الفلاح وغبرها، فقبل ما يخرجها تنظر إليها وإذا بها حبات مرتبة منسقة بنظام عجيب بديع غريب، وتتعجب من بديع صنع الله عز وجل، فإذا حضر موسم التأبير والتغبير فاذهب إلى المزرعة وانظر؛ لأن هذا مما يزيد العبد إيماناً بالله جل جلاله، وتحار العقول في بديع صنعه، قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ} [السجدة:7]، حتى تحس بمعاني الآيات التي في كتاب الله جل جلاله، تنظر إليها وإذا بها في ذلك الكوز، وتنظر إلى الكوز نفسه فترى مادته الخشبية العجيبة في سماكتها وثخنها من الخارج، ولطفها ونعومتها من الداخل، وكيف أنه يحفظ الثمرة، وإذا بالثمرة تخرج بيضاء ناصع لونها نقية ليس فيها أي شائبة، أو أي خلل، أو أي ارتباك، بل متناسقة مرتبة منظمةٌ، الثمرة بجوار الثمرة بطريقة عجيبة بديعة، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء! سبحانه لا إله إلا هو! ووالله إن هذا يزيد من إيمان الإنسان، وينبغي لطلاب العلم أن ينظروا؛ لأن الله تعالى يقول: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام:99] فالله تعالى ندبنا إلى هذا.
فإذا نظرت إلى ذلك وجدته بهذه الطريقة، فيأتي الفلاح فيزيلها عن بعضها؛ لأنها مرتبة متناسقة، ويبعدها عن بعضها حتى يدخل الغبار فيما بينها، ويدخل لقاح الذكر فيما بينها، ثم يزيل هذا الوعاء، وتبقى مفتحة، وتبقى على مر الأيام بحساب دقيق عجيب غريب لا يمكن أن يتقدم أو يتأخر، فإذا به مدة زمنية معينة يكتمل كبر هذه الثمرة، ونضجها واستواؤها، لا يسبق زمانه ولا يتعداه أبداً.
ومن أغرب ما يكون أن يكون لها موسم معين، يكتمل فيه جرمها وحجمها، وبعض النخل يكون طويلاً كالعنبرة -نوع من أنواع التمر طويل- وبعضها صغير الحجم كالعجوة، خاصة المسماة العجوة الثانية، وهي التي تنطبق عليها السنة، وهي الصغيرة، وهناك عجوة طويلة، وهي عجوة مستحدثة وقعت شبيهة بالعجوة، لكن العجوة التي ينطبق عليها السنة أكثر هي العجوة الصغيرة.
فالشاهد أنك تجد هذه صغيرة الحجم، وتلك طويلة الحجم، ثم تجد الوسط بينهما، كالصفاوي، ثم تجد هذا حلواً شديد الحلاوة، بحيث إنك إذا أكلته لا تستطيع أن تتمالك نفسك من قوة الحلاوة، وكذلك العكس، فتجد منها ما عذوبته في حموضته، شيء من الحموضة فيه، وتجد ما هو وسط بين الاثنين.
فهذا الاكتمال إذا مرت الأيام تبدأ هذه الثمرة تكبر شيئاً فشيئاً، وإذا رأيت الحبوب تجدها بقدر حبة الذرة على أطراف الشماريخ، وتمر الفترة الزمانية فتبدأ تكبر شيئاً فشيئاً، حتى يتناهى كبرها في الزمان المعين، فلا تتقدم ولا تتأخر، وفي مثل ذلك يقول تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40]، وكل شيء مقدر، والله تعالى قدر له لا يزيد ولا ينقص، فإذا جاء وقت اكتمال جرمه -وهذا أول شيء- فبعد أن يكتمل الجذر يأتي اللون، فيضربها الحمار ويضربها الصفار، فتنظر إليها في الأول وإذا بها خضراء في حالة الخضرة، وهذا يسمى في عرف الناس الصربان، أي: وهي في الخضار قبل أن يضربها اللون، فهذا الأخضر الغالب في الثمار لا يؤكل؛ لأنك إذا أكلته وهو في خضرته، كأن سقماً يضر الإنسان، ويعطى علفاً للدواب، ولكن مع كونه هكذا في الغالب فقد جعل الله تعالى منه شاباً، فمنه الأخضر الذي إذا جنيته أخضر يكون من ألذ ما يكون، وهو الذي يكون في صنف الحلوة المشهورة أخضرها عذب ويؤكل، وله نكهة ولذة كما تجد اللذة فيها وهي بسرٌ أو ربط أو تمر؛ لكي يختلف الشيء فيدل على أن الله سبحانه وتعالى خالقها، كما قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49] فلو الأخضر لا يؤكل لكن الله تعالى جعل بعض الأخضر يؤكل، حتى ينبه على أن الله تعالى هو الذي جعله لا يؤكل؛ وقادر أن يجعله يؤكل.
فالشاهد: أن هذا الأخضر لا يؤكل، وليس بزمان يصلح فيه الأكل، ففي هذه المرحلة تكون مرحلة قبل بدو الصلاح، فإذا صار أخضر ضربه اللون، وضربة اللون تكون عند بداية الصلاح، فإذا ضربه اللون الحمار أو الصفار فإن الغالب أن يأمن العاهة بقدرة الله عز وجل ويسلم، وأكثر الخطر يقع ما بين التأبير والاحمرار والاصفرار، أما إذا احْمَرَّ أو اصْفَرَّ فالغالب أن يسلم ويحفظ، إلا أن تأتيه آفة سماوية كإعصار، أو يأتيه سيل.
إلخ.
فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهذا يشمل مرحلة الطلع، ومرحلة التأبير، ومرحلة ما قبل الإزهاء، ولذلك لما سئل صلى الله عليه وسلم وما تزهي؟ قال: (تحمار أو تصفار)، فجعل بدوَّ الصلاح بالاحمرار، أو الاصفرار.
ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله تعالى أن بداية الجواز لبيع الثمرة بعد بدو الصلاح بالاحمرار أو الاصفرار.
هذا بالنسبة للنخلة تحمر أو تصفر، فإذا احمرت أو اصفرت أمنت العاهة غالباً، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو -يعني يظهر، من بدا الشيء: إذا ظهر- يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري.(167/4)
علامات بدو الصلاح غير الحمرة والصفرة
قد يقال: فإذا كان بدو الصلاح باللون، ففي بعض الأحيان تكون النخلة خضراء، كالخضري الآن، فالخضري لا يحمر ولا يصفر؟ قلنا: اللون علامة بدو الصلاح الأولى، وقد أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (حتى تزهي؟ قالوا: يا رسول الله! وما تزهي؟ قال: تحمار أو تصفار)، فإذا كان لونها واحداً قبل بدو الصلاح وبعد بدو الصلاح كالخضري، وهو نوع من التمر ونوع من النخل أخضرُ لا يحمار ولا يصفار، فمتى يحكم ببدو صلاحه؟
الجواب
يحكم ببدو صلاحه بطيب أكله، فإذا أصبح حلواً وطاب أكله، فحينئذ يكون قد بدا صلاحه، أما قبل الإزهاء فلا يمكن أن يكون حلوا، وفي بعض الأحيان يكون الفرق يوماً واحداً، بالأمس تمر على النخل فلا تجد فيها حبة صفراء، وتصبح في اليوم الثاني وإذا بها قد اصفرت أو احمرت، قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] سبحانه لا إله إلا هو! وفي بعض الأحيان عندنا في المدينة إذا طلع سهيل تكون الثمرة موجودةً ويكون البلح موجوداً، فتأكل البلح بالأمس له طعم، وإذا طلع النجم أكلتها في اليوم الثاني كأنها لم تكن مرّةً، وهذا شيء جربته بنفسي؛ لأن الله تعالى قدر كل شيء بوقته وزمانه.
فالشاهد أنه ربما يكون الفرق يوماً واحداً في بدو الصلاح، فما كان بلونه فبلونه، وما لم يكن باللون يكون بالطعم، والدليل على ذلك الحديث أيضاً، وهو صحيح وثابت أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تؤكل، فقوله: (حتى تؤكل)، وفي رواية: (حتى تُطعم)، وذلك بأن يكون طعمها صالحاً للأكل، وبناء على ذلك جاءت العلامة الثانية: أن يكون بدو الصلاح بالطعم.
فهناك علامة بالطعم، وهناك علامة باللون، وهناك علامة ثالثة في النخل بالزمان، وهي طلوع الثريا؛ لحديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى يطلع النجم، وتؤمن العاهة)، أي: أن الله تعالى جعل طلوع النجم بداية لموسم صلاح الثمار، وهذا -كما ذكر بعض العلماء رحمه الله تعالى- من الاهتداء بالنجم الذي ليس بمحرم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، والمراد بطلوع النجم: طلوع الثريا، وهذا في بعض الأماكن مثل المدينة والحجاز، فإذا طلعت الثريا، يبدأ الصلاح، وفي المدينة غالباً إذا طلعت الجوزاء فإنه يبدو الصلاح، ويبدأ الإزهاء في النخل فيحمر ويصفر، وهذا كما ذكرنا علامة زمان، فسبحان الله الذي بيده ملكوت كل شيء!(167/5)
استباق العلامات وما الذي يعتبر به منها
إذا علمنا أن عندنا علامة باللون، وعلامة بالطعم، وعلامة بالزمان، فبالنسبة للطعم واللون والزمان فلا إشكال إذا اتفق الكل، بمعنى طلع النجم وجاء الزمان وبدا الصلاح فأزهت النخلة فاحمرت واصفرت، أو طاب طعم ما كان أخضر منها، لكن الإشكال لو سبقت علامة الزمان الاحمرار والاصفرار، أو سبقت علامةُ الاحمرار والاصفرار طلوع النجم، فهل العبرة بالزمان الذي وضعه الله تعالى سنة كونية؛ للسلامة من العاهة في الغالب؟ أم العبرة بالحال والصورة؟ قال بعض العلماء: العبرة بأي واحدة منهما؛ لأن السنة دلت على هذا كما دلت على هذا، فأيُّ العلامتين ظهرت أو سبقت فالعبرة بها، والغالب أنه لا يسبق إلا باليوم أو اليومين والشيء اليسير، وهذا بقول أهل الخبرة: إنه لا يسبق إلا بالشيء اليسير.
فنخرج من هذا بالخلاصة: أن بيع الثمر إذا بدا صلاحه في النخل، سواء كان باللون أم بالطعم، أم بالزمان، فإنه يحكم بجواز بيعه، سواء اتفقت هذه العلامات أم سبق بعضها، فإنه يعتبر موجباً للحكم بالجواز.
هذا بالنسبة للنخل، ويبقى غير النخل، وفي الحقيقة من المستحب والأفضل لطالب العلم دائماً أن يكون على إلمام بمثل هذه الأشياء إذا كانت المسألة تتصل بالزروع والثمار؛ لأنك تُسأل وتُستَفَتى، وقد تكون في المدينة لا ترى شيئاً من هذا، لكن افرض أنك يوماً سافرت إلى قرية، فجاءك الفلاحون يسألونك: ما حكم الشرع في بيع النخيل والزروع والثمار؟ فينبغي لطالب العلم أن يكون عنده إلمام بمثل هذه الأشياء، فإذا جاء فصل التأبير ذهب ونظر وعرف التأبير، وكان الشيخ ابن إبراهيم رحمه الله تعالى برحمته الواسعة يخرج مع طلابه، لكي يمتثل أمر الله عز وجل بقوله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] وكان رحمه الله تعالى يمسك بالبعير، ويجسه رحمه الله تعالى برحمته الواسعة، فيُعَوّد الإنسان نفسه على أنه يعرف الأشياء على حقيقتها، فإن كانت المسألة متصلة بالزروع والثمار سأل أهل الخبرة بالزروع والثمار.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، إذا ذكر المسألة أسهب فيها، كأنه يحسن هذا الفن والعلم، وقد ذكر مسألة الأهلة، فجاء يتكلم على منازل الهلال واختلاف المطالع حتى تكاد تقول: إنه فلكي، وفعلاً هو قد درس علم الفلك؛ لأنه لا يمكن أن يحكم بهذه الأشياء من كون المطالع تتفق أو تختلف، إلا إذا كان متقناً لعلمها، فإتقان العلوم وضبطها مهم، وعليه أن يرجع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، ليصبح طالب العلم على بصيرة من أمره وعلى علم، حتى يمكنه ذلك من الترجيح في المسائل، فهذا أمر مهم جداً.(167/6)
علامات بدو الصلاح في العنب وغيره
إذا عرفنا المسألة بالنسبة للنخل، فتنتقل إلى العنب، فالعنب أول ما يخرج إذا خرج في عناقيده يكون صغير الحجم، وهذا الحجم الصغير لو أخذت منه حبة تكاد تكتوي من حموضتها، ثم يستتم يكبر شيئاً فشيئاً، حتى يبلغ قدره الذي قدره الله تعالى له، فيبقى على خضرته الغامقة، وإذا أكلته أكلته حامضاً، فإذا جاء وقت صلاحه تفتحت خضرته، وضربه الماء فإذا بلونه اليوم ليس كلونه بالأمس، وإذا بطعمه الساعة ليس كطعمه قبل أن يأذن الله تعالى بحلاوته، فيتموه، وهذا التموه هو بداية الصلاح.
وإذاً يكون صلاح العنب بالطعم، وفي حديث عند أحمد رحمه الله تعالى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسودّ)، وهذا في نوع خاص من العنب، يكون باللون، لكن بالنسبة لضابطه يكون بالطعم؛ لأنه أخضر، فينظر الطعم بالنسبة للعنب إلا في بعض أنواعه، كالأحمر الذي يكون غامقاً؛ فإن بداية صلاحه تكون بالحمرة الغامقة.
ومما يبدو صلاحه بالطعم -أن يصبح حلواً بعد مرارته ويكون سكرياً- قصب السكر، فقصب السكر إذا أُكل قبل بدو صلاحه لا يكون له طعم، ولا يوجد له طعم العذوبة السكرية الموجودة فيه، فإذ بدا صلاحه كان طعمه مستعذباً، فقالوا: بدو صلاحه أن يحلو بعد مرارته.
وفي بعض الأحيان يكون بدو الصلاح بلينه بعد يبسه، ومن أمثلته التين، فإن التين يبدأ يابساً، وتكون حياته صلبة شديدة، ثم بعد ذلك يبدو صلاحها فتلين شيئاً فشيئاً، حتى البطيخ، إذا كانت صلبة شديدة فاتَّقها، لكن إذا كانت رخوة فمعنى ذلك أنها قد بدا صلاحها، ولذلك تجدهم يضربون عليها حتى يستكشفون ما فيها، فقالوا: كالتين والبطيخ، يلين بعد شدته.
وهناك ما هو عكس -وانظر إلى قدرة الله تعالى- فهناك ما يطيب بشدته بعد لينه، وهي العلامة الرابعة، مثل الحبوب، في السنابل، كالبر والشعير، فإنه أول ما يبدأ يكون ليناً، ولو أخذتها وعصرتها لخرج مادته، ثم تبدأ تشتدّ شيئا فشيئاً حتى تيبس، كما في الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتدّ)، فهذا الاشتداد، قالوا: اشتداده بعد لينه عكس الأول.
وهناك ما يبدو صلاحه بانتهائه في الكبر، أو الطول، كالقثاء (الخيار) وكالبطيخ والخربز ونحوه، فإنه لا يمكن أبداً أن يباع وهو صغير، فهذا يتعاظم حتى يبلغ غاية عظمه، فمنه ما يكون بالطول مثل القثاء، ومنه ما يكون بالحجم كالدباء، فالدباء تكون بكبر الحجم وهو الذي يسمى بالقرع.
كذلك أيضاً يكون من بدو الصلاح أن يتفتح عن أكمامه، كالورد، فالورد إذا تفتح من كمه بدا صلاحه، لكن قبل أن يتفتح وهو مصكوك كثيراً ما تهجم عليه الحشرات، أو تأتيه الآفات ولا يتفتح، ولا يغلب على الظن سلامته إذا لم يتفتح، إنما يغلب على الظن سلامته إذا بدأ يتفتح، فهذا يكون بتفتحه من أكمامه.
فهذه من أشهر علامات بدو الصلاح.
قال رحمه الله تعالى: [ولا زرع قبل اشتداد حبه]: أي: ولا يجوز بيع الزرع قبل اشتداد حبه، كالشعير ونحوه؛ لحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد).
وكذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الحب حتى يبيض، وإذا اشتدّ يبدأ ييبس غلافه الخارجي، وهذا هو البياض، أي: يشتدّ ويشتدّ حتى يتساقط ما عليه ويكتمل استواؤه.(167/7)
البيع قبل بدو الصلاح(167/8)
بيع الثمر وما يجز ويلقط من الزرع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا رطبة وبقل ولا قثاء ونحوه كباذنجان، دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال، أو جزة جزة، أو لقطة لقطة]: ذكرنا أن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على تحريم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، ويشهد لذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، نهى البائع والمشتري.
وذكرنا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أيضاً بمعناه.
ومعناه أن الشريعة لا تجيز بيع الثمار، ولا بيع محاصيل المزروعات إذا كان بيعها على وجه فيه غرر وتغرير ومخاطرة على المشتري.
وبناء عليه قلنا: لا بد من بدو الصلاح في الثمار، سواء أكانت من النخيل أم كانت من غيره من المزروعات، وبينا هذا كله.
لكن السؤال يتعلق ببعض المزروعات التي تجز محاصيلها، وبعضها تلتقط، كالرطبة، فإن أصلها ثابت، ويجز ظاهرها، فتجز الجزة، ثم تنبت مرة ثانية، ثم تجز، وهكذا بعض أنوع الجزر الذي يؤخذ ورقه علفاً للدواب، يجز ظاهره ويبقى أصله، وكذلك أيضاً البرسيم يجز ظاهره ويبقى أصله في الأرض، فإذا باع رجل برسيماً، كأن يأتي رجل يريد حوض برسيم من صاحب مزرعة، فيقول له: بعني هذا الحوض من البرسيم، فقال له: أبيعك بمائة، قال: قبلت، فإنه في هذه الحالة قد اشترى البرسيم بالجزة الظاهرة، فلا يجوز أن يشتري البرسيم بأصله، وذلك لأنه لا يعلم، ولا ندري كم جزة ستكون فيه، ولا ندري كم سيكون بقاؤه في الأرض، فبعض البرسيم قد يبقى سنة، وبعضه قد يبقى ثلاث سنوات، وقد يبقى إلى فوق خمس سنوات، كما في البرسيم الحجازي، فإنه يجلس إلى أكثر من خمس سنوات، وربما إلى عشر سنوات، فلو أنه باعه البرسيم الظاهر شيئاً موجوداً، لأنه يكون في الظاهر في شيء موجود، لكن بالنسبة لما هو باطن في السنوات والشهور والأيام الآتية فإنه مجهول كبيع الثمرة في النخل سنين وأعواماً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه نهى عن بيع السنين والمعاومة، وبيع السنين والمعاومة كما فسره العلماء رحمهم الله تعالى: هو بيع الثمرة -أعني ثمرة النخل- سنوات، فيقول له: أشتري منك محصول مزرعتك من التمور ثلاث سنوات، فلا يجوز هذا؛ لأنه وإن كان في السنة الأولى قد باع ثمرة قد بدا صلاحها، ففي السنة الثانية مجهولة وفي السنة الثالثة مجهولة، فكذلك لو باعه البرسيم الذي يجز على مراتب، فلو كانت الجزة الأولى ظاهرة فإن ما سيأتي مجهول.
وعلى هذا فإنه لا يباع من الشيء الذي يجز مرات مع بقاء أصله إلا الجزة الظاهرة، فتقول له: أبيعك هذا الحوض الموجود الآن بمائة، أو أبيعك هذه الخمسة الأحواض بخمسمائة، فاشتراها بخمسمائة ثم قام بجزها علفاً لدوابه، فلا حرج وهو جائز، لكن لو قال له: أشتري منك هذا البرسيم مدة بقائه في الحوض، لم يجز؛ لأنه بيع مجهول، ويغرر به، فربما ظن أن هذا البرسيم يبقى في الحوض سنة، فإذا به يبقى أقل، وربما ظن البائع أنه سيبقى سنة ثم سيبيع حوضاً ثانياً، فإذا به يبقى خمس سنوات، فهو من بيع المخاطرة، ثم هو بيع للمجهول، لا يدرى أيوجد أو لا يوجد، وهل يخرج جيداً أو يخرج رديئاً.
والخلاصة: أن المصنف هنا يريد أن يطبق القاعدة في بيع الأصول والثمار، وهي أنه لا يجوز بيع الغرر.
وبيع الغرر في بيع الأصول والثمار.
فالبرسيم له أصل، وله ثمرة هي نتاجه الظاهر، والجزة الظاهرة، وكذلك الرطبة لها أصل، وهو الذي يسمى بالجزر، وهو غير الجزر المعروف الذي يعصر، وإنما الجزر السميك المتين هذا الذي يباع وله ورق يزحف على الأرض يقطع علفاً للدواب، هذا النوع من الجزر، وهذا النوع من العلف الذي هو البرسيم لا يباع إلا جزة ظاهرة، ولا يباع أصله مع ثمرته؛ لأننا لا ندري كم ينتج الأصل.
لكن لو باع المزرعة وكان فيها صح تبعاً، ولم يصح أصلاً، وقد بينا القاعدة: أنه يجوز في التبع ما لا يجوز في الأصل، وبينا ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما.
قوله رحمه الله تعالى: [ولا رطبة].
أي: ولا يجوز بيع الرطبة، وفي حكمها كل شيء مما يكون مستتر الأصل، ظاهر الثمرة فلا يباع إلا الثمرة، ولا يباع النتاج إلا على الظاهر، أن يأخذ ظاهره جزة جزة، أو لقطة لقطة، كما سيأتي في لفه ونشره رحمه الله.
قوله: [وبقل]: البقول كما لا يخفى تستتر في الأرض، ولما قلنا: أنه لا يجوز بيع الظاهر من البرسيم إلا جزة جزة، لا يجوز أيضاً بيع البقول إلا لقطة لقطة، ومن هنا فلا يجوز بيع الفجل، ولا يجوز أيضاً بيع الكرّاث، إلا إذا كان قد استخرج الفجل من الأرض، وهكذا بالنسبة للكرّاث، تكون الجزة الظاهرة هي التي تباع؛ لأن الكرّاث كالبرسيم، إذا استتم طوله جزه، ثم ينبت مرة ثانية، ثم يجز فينبت مرة ثالثة، فلا يبيع أصل الكرّاث وفرعه، وإنما يبيع الجزة الظاهرة، وهذا على القاعدة التي ذكرناها: أنه لا يصح البيع إلا لشيء معلوم لا يغرر فيه بالمشتري، وإنما يكون المشتري على علم وبينة، حتى يعلم أن المال الذي يدفعه هل يُستحق لهذا الشيء، ويعلم ما الذي له وما الذي عليه، فلا يجوز إلا لقطة لقطة بالنسبة لما يلتقط، وجزة جزة بالنسبة لما يجز، وهذا كله دفعاً للضرر الذي اشتمل عليه هذا النوع من بيوع الغرر.
قوله: [ولا قثاء]: القثاء معروفة، والقثاء إذا أثمرت يكون بعض الحبوب مستتم الخلقة، وبعضها صغيراً، وبعضها متوسطاً، فمنها ما استتم خلقه، ومنها ما لم يستتم، وبناء على ذلك يقولون: لا يبيع إلا الذي استتم خلقه، ومن هنا كما قلنا: لا يجوز بيع المجزوز إلا جزة ظاهرة، جزة جزة، كذلك الملتقط لا يجوز بيعه إلا ما كان متأهلاً صالحاً للالتقاط، أما الذي لم يصلح للالتقاط، فإن بيعه كبيع الحب قبل اشتداده، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، والقاعدة واحدة، والشريعة جاءت بقاعدة، وهي أن بدو الصلاح تؤمن معه العاهة غالباً.
فإذاًَ بعد أن قررت القاعدة فوردت في النخل، ووردت في الحبوب، فأصبح النخل أصلاً لما ظهر، والحبوب أصلاً لما يحصد، هذا أصل، وهذا أصل، والمعنى في كل منهما أن لا يغرر بالمشتري، ومن هنا كانت الشريعة الإسلامية حافظة لحق البائع، حافظة لحق المشتري، فكل يشتري الشيء بيناً واضحاً دون أن يغرر البائع بأخيه المسلم، ودون أن يشتري المسلم شيئاً يجهله، فيغرر بماله ويخاطر بحقه.
قوله: [ونحوه كباذنجان]: ذلك؛ لأن فيه الصغير والكبير، وما بدا صلاحه وما لم يبدُ، فلو قال له: أبيعك محصول الباذنجان هذا، فإنه لا يجوز.
وقال بعض العلماء في القثاء والباذنجان، كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى وطائفة: يجوز بيع كله إذا بدا الصلاح في بعضه، قياساً على النخيل، ولا شك أن الغرر في الباذنجان والقثاء أعظم من الغرر في النخيل، فإن النخيل، إذا بدا الصلاح في بعضها فغالباً تؤمن العاهة فيها كلها، ولكن المحاصيل تختلف عن ذلك، وهذا معلوم بالتجربة، ورجح بعض العلماء قول من قال بالجواز، وقال: إن الذي هو صغير، أو لم يظهر في حكم الظاهر، ولكن هذا ضعيف، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علل النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بخوف الآفة والعاهة، وهذا المعنى موجود في المحاصيل التي لم يستتم خلقها.(167/9)
البيع قبل بدو الصلاح بشرط القطع
قوله: [دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال]: بعد أن ذكر لنا الرطبة، وذكر لنا البقلة، وقال: لا يجوز بيع ما لم يبدُ صلاحه، وكذلك الباذنجان وما في حكمه، ذكر أن هذه الأشياء كلها، لا يجوز بيعها إلا بشرط القطع في الحال.
وهنا مسائل سندخل فيها تتعلق ببيع الشيء الذي لم يبدُ صلاحه.
قد قررنا أن الشيء الذي لم يبد صلاحه من التمور ومن المزروعات ومن الحبوب، لا يجوز بيعه، والشريعة دالة على هذا، والنصوص واضحة في هذا الحكم.
لكن بيع الشيء الذي لم يبد صلاحه، له حالات: الحالة الأولى: أن يشتري ثمرة لم يبدُ صلاحها بشرط أن يقطعها في الحال، كأن يعطيها علفاً للدواب.
الحالة الثانية: أن يشتريها من أجل أن يستبقيها لكي تصلح.
فإن اشترى ثمرة بستان، لم يبدُ صلاحها، واشترط أن يقطعها فوراً، أو اشترط البائع على المشتري أن يجز ويقطع العراجين التي هي للثمرة فوراً فالبيع صحيح في قول جماهير العلماء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة (الأئمة الأربعة)، وهو مذهب جماهير السلف والخلف: أن من اشترى ثمرة بستان قبل بدو الصلاح بشرط أن يقطعها فوراً، صح البيع؛ لأن السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح بينت العلة، وهي أنه لا يؤمن على الثمرة أن تفسد، فإذا كان يريدها في الحال، ويقطعها في الحال علفاً للدواب، فقد زالت العلة.
وإليك توضيح هذه المسألة: نحن ذكرنا أن النخل يطلع وبعد الطلع يتشقق ثم يؤبر، ثم يجلس فترة ما بين التأبير وما بين بدو الصلاح، فهذه الفترة التي ما بين التأبير وبدو الصلاح، هل يجوز فيها بيع الثمرة أو لا؟ الواقع أن هذه الفترة إذا وقع فيها البيع لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يبيع بشرط القطع.
الحالة الثانية: أن يبيعها بشرط التبقية.
الحالة الثالثة: أن يبيع بيعاً مطلقاً، أي: خالياً من شرط القطع والتبقية.
فإذا بدت الثمرة فأبرها صاحبها، ولم يبدُ صلاحها، ثم باعها قبل بدو الصلاح، فإما أن يبيع بشرط القطع أو يبيع بشرط التبقية، أو يبيع بيعاً مطلقاً.
أما الحالة الأولى: فهي أن يبيع بشرط القطع، كأن يكون عندك بستان فيه مائة نخلة أطلعت، ولكن لم يبدُ الصلاح في الثمرة، فالأصل الشرعي يقتضي عدم جواز البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، هذا الأصل الشرعي، لكن لو جاءك رجل، وقال لك: هذه الثمرة التي في البستان ثمرة مائة نخلة أريد أن أشتريها وأقطعها فوراً علفاً للدواب، وفي بعض الأحيان إذا أطلع النخل لأول مرة فبعض أهل الخبرة يقطعون الثمر، ويقولون: إن هذا يفيد النخلة كثيراً ويقوي النخلة، وفي بعض الأحيان حتى لو أطلعت وكان طلعها كثيراً، وفيها عراجين كثيرة، يقطعون بعض العراجين، ولو كانت في السنة الثانية أو الثالثة أو بعد سنوات، فيقطعون بعض العراجين؛ لأنه إذا قطع بعض العراجين قوي المحصول في الآخر، وبقاؤه قد يؤثر على النخلة؛ لأن كثرة المحاصيل تؤثر عليها، فربما أجهلت في السنة الثانية، أي: لا تطلع، فيقطعون المحصول عنها، حتى يخف العبء على النخلة الأم؛ لأنه مثل الحمل في الآدمية، فيخففون عنها، فهذا العرجون إذا قطعت ثمرته قبل بدو الصلاح هل يجوز بيعه أو لا؟ نقول: يحرم بيعه على النخلة بشرط التبقية، أو بيعاً مطلقاً، أما لو قطعه وباعه بعد قطعه، أو اشتراه رجل واشترط أن يقطعه، فإنه يصح البيع.
والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، قال عليه الصلاة والسلام: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك، فبم تستحل أكل ماله).
وتأمل الحديث فإنه نهى عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين العلة، قال: (أرأيت أي: أخبرني، لو منع الله الثمرة عن أخيك)، يعني: لو بعت بستانك لرجل ولم يبدُ الصلاح -وقبل بدو الصلاح لا تؤمن الآفة- كما ذكرنا فقال صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك)، أي: جاءت الآفة فعلاً، وتلفت الثمرة، فبم تستحل أكل ماله، فالثمرة تلفت؛ لأنه قبل بدو الصلاح لا يؤمن التلف، فإذا تلفت الثمرة صار المال لقاء لا شيء، وأصبح حينئذ البائع يأخذ مالاً بدون ثمرة في مقابله، فقال صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله)، فأخذ الجمهور من هذا الحديث دليلاً على أن العلة في تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها هو خوف فسادها، فإن كان يريدها حاضرة ناضرة بحالها هذا، لكي ينتفع بها علفاً للدواب، لا للآدميين الذين بسببهم منع البيع خوفاً من فسادها قبل أن ينتفعوا بها، جاز البيع، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن السنة واضحة الدلالة عليه، وهو مذهب صحيح؛ لأن القاعدة أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والعلة هنا جاءت منصوصاً عليها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا ثبت هذا فمن باع ثمرة من بستان قبل بدو صلاحها، فإنه يجوز إذا كان بشرط القطع، أو قطعها وعرضها للبيع فإنه جائز؛ لأن العلة في هذا التي من أجلها حرم البيع قبل بدو الصلاح غير موجودة، والأصل حل البيع، وهذا يريدها علفاً للدواب، ولا يريدها للآدميين.
الحالة الثانية: أن يبيعها بشرط التبقية، كأن يكون عندك مائة نخلة ولم يبدُ صلاحها، فأطلعت وأبرتها، وبعد التأبير وقبل بدو الصلاح جاءك رجل، وقال: أريد أن أشتري منك صيف البستان في هذه السنة، قلت له: صيف هذا البستان في هذه السنة بمائة ألف، قال: إذاً أشترط عليك أن تبقيها لي حتى يبدو صلاحها، فهذا يسميه العلماء: شرط التبقية، عكس الأول، إذ الأول يشترط القطع والثاني يشترط التبقية، والتبقية تفعلة من البقاء، أي: يقول المشتري للبائع: أنا أشتريها، والآن لم يبدُ صلاحها، ولكن شرطي عليك أن تبقيها لي حتى آكلها بلحاً، أو آكلها رطباً، وآكلها تمراً، فهذا يسمونه شرط التبقية.
ففي الحالة الأولى حالة اشتراط القطع فإن البائع هو الذي يشترط غالباً؛ لأن من مصلحته أن تقطع الثمرة حتى يرتفق النخل وينتفع بذلك.
وفي الحالة الثانية حالة اشتراط التبقية فإن الغالب أن يشترط المشتري.
ففي الحالة الثانية إذا اشترى قبل بدو صلاحها، واشترط في العقد أن تبقى إلى بدو الصلاح، فالإجماع على تحريم هذا البيع؛ لمخالفته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي حرم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها)، فإذا باعها قبل بدو صلاحها، واشترط بقاءها فالعلة موجودة بخلاف الحالة الأولى التي فيها العلة مفقودة.
لكن هناك وجه عند المالكية خرجه اللخمي من أصحاب الإمام مالك رحمه الله تعالى، يقتضي الجواز، ولكنه شاذ وضعيف.
وشذوذه لمخالفته الإجماع، ومخالفته لنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً في الحالة الأولى إذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فالصحيح قول الجماهير ومنهم الأئمة الأربعة بصحة البيع، لظاهر السنة، وأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والحالة الثانية: أن يبيع بشرط التبقية، فالإجماع على عدم الجواز، وهناك وجه شاذ عند المالكية يقتضي الجواز، وهو باطل لمخالفته السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحالة الثالثة: أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها ويكون البيع مطلقاً.
والبيع المطلق هنا: هو الذي لا يشترط فيه القطع ولا تشترط فيه، كأن يقول: عندي مائة نخلة، وهذه المائة نخلة لم يبدُ صلاحها، قال: أنا أشتريها منك بمائة ألف، وسكت البائع، وسكت المشتري، فلم يشترط هذا ولم يشترط هذا، هذا يسمى عند العلماء بالبيع المطلق؛ لأنه عري عن الشرط.
فإذا باعه الثمرة قبل بدو صلاحها بيعاً مطلقاً، فما الحكم؟ جماهير العلماء على عدم صحة البيع؛ لأن السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم حرمت بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وقال الحنفية: يصح البيع، ولكن يجب على المشتري أن يقطع، فقالوا: نصحح البيع، ونلزم المشتري بالقطع فوراً، وهذا ضعيف؛ لأنه مصادم للسنة الصريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي نهى فيها عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، ولم يفرق بين الذي فيه شرط التبقية، وبين الذي فيه شرط القطع، وبين الذي هو بيع مطلق، وجاء الاستثناء لشرط القطع بالعلة، فبقي ما عداه على الأصل الموجب للتحريم؛ لأن السنة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها)، فجاءت السنة بالعلة وقيدت حال القطع، فبقي ما عداه على التحريم.
إذاً الخلاصة: أن بيع ثمرات النخيل قبل بدو الصلاح، -وهو ما بين التأبير، وما بين بدو الصلاح الذي هو الإزهاء- له ثلاث صور: إما أن يبيعه بشرط القطع، فيصح في قول الجماهير، لظاهر حديث أنس رضي الله عنه: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك).
أو يبيعه بشرط التبقية، فلا يصح بإجماع، وفيه شذوذ لا يعول عليه.
أو يبيع بيعاً مطلقاً، فالجمهور على عدم الجواز لظاهر السنة، والحنفية مخالفون، والصحيح مذهب الجمهور.(167/10)
تابع بيع ما يجز ويلقط
بعد هذا نرجع إلى مسألة بيع الرطبة والقثاء ونفرِّعها على بيع الثمرة، وانظر إلى دقة المصنف رحمه الله تعالى، حيث جعل بيع النخل بشرط القطع أصلاً، فألحقت به الزروع والثمار والمحاصيل التي تكون في نفس المعنى، فإذا كان الزرع مما يحصد مثل الكرّاث، أو الجُزر الذي يراد ورقه، أو البرسيم، الذي يراد علفاً، فلا يجوز بيع أصله وفرعه، لكن لو باعه بشرط القطع على الجزة الظاهرة صح له ذلك وجاز؛ لأن العلة من خوف الغرر غير موجودة، ويلحق بهذا ما يلتقط، فكما أن الذي يجز يباع فيه الجزة الظاهرة، كذلك الذي يلتقط كالقثاء والباذنجان، والقثاء يختلف؛ لأنه لا يبدو صلاحه إلا إذا تناهى في الطول، والباذنجان لا يبدو صلاحه إلا إذا تناهى في الجرم والحجم، ولذلك قد تبيع الباذنجان وهو أخضر، ثم يصير أحمر، فاللون ليس لذاته مؤثراً، ولكن المؤثر تناهي الحجم، والحجم إما في الطول كما في القثاء، وإما في العرض كما في الباذنجان، وانظر كيف اختار المصنف رحمه الله تعالى، حتى نعلم أن الفقهاء حين يأتون بالتمثيل والتقريب يراعون الأحوال المختلفة، فإن سئلت عن ثمرة طويلة كالقرع المديني تقول: تلتحق بالقثاء، فإن الفقهاء نصوا على عدم جواز بيع القثاء إلا ما تناهى كبره للَّقطة الظاهرة، فلا يباع القرع المديني إلا بعد تناهي طوله فيما تم طوله وتناهى.
وأما ما كان من عرضه ممتلئاً فتقول: لا يصح بيعه إلا بعد تناهي كبره لبدو صلاحه في اللقطة الظاهرة، كالقرع غير المديني، وهو القرع الذي يكون مدوراً، فهذا يكون صلاحه بعد تناهي كبره، ويكون للقطة الظاهرة، فيبيع ما صلح للقط، وأما ما لم يصلح فإن البيع فيه بيع غرر، فينتظر إلى صلاحه.
[أو جزة جزة]: ذلك كالكرّاث، وكذلك أيضاً البرسيم وأنواع العلف، والقصب.
قوله: [أو لقطة لقطة]: وذلك كما ذكرنا في الأشياء التي تلتقط ويكون بعضها لم يصلح، ولم يستتم صلاحه، أو لم يتناه كبره، فإنه حينئذ يباع لَقطة لَقطة.
ولاحظ عبارة المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه ولا زرع قبل اشتداد حبه، ولا رطبة وبقل، ولا قثاء ونحوه كباذنجان دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال أو جزة جزة أو لقطة لقطة].
فأول شيء ذكر لنا بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وأعاد عليها قوله: [دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال] فلا يباع ثمر قبل بدو صلاحه، وحينئذ تعيد إليها [إلا بشرط القطع]، أي: لا يباع ثمر قبل بدو صلاحه إلا بشرط القطع.
ثم قال: [ولا زرع قبل اشتداد حبه ولا رطبة وبقل، ولا قثاء ونحوه كباذنجان] وأعاد عليها قوله: [أو جزة جزة أو لقطة لقطة]، فجعل القطع عائداً إلى النخل، فيقطع ما عليها من العراجين والشماريخ، والجز عائداً إلى الحب وإلى الرطبة، والحب يجز ويحصد ويقص من الأرض، سواء بالآلات أم بالوسائل الموجودة الآن، فالمهم أنه يحصد.
وأيضاً كذلك الرطبة، قلنا أصلها باطن وفرعها مقصود، كالبرسيم يجز ظاهره، والكراث يجز، فلا يباع إلا جزة جزة، وبعد الجزة قال: [أو لقطة لقطة]، كقثاء وباذنجان ونحوه؛ لأنه يلتقط فأعاد اللقطة إلى الباذنجان والقثاء ونحوهما.
وهذه أمور كانت من أوضح ما تكون، أي: الزروعات، وكان الناس عمال أنفسهم كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم)، وهذه الأمور أصبحت تخفى.
فيكون كلامه على هذا فيه لف ونشر، فتعيد القطع إلى النخل، والجز إلى الحب وإلى الرطبة، والالتقاط إلى القثاء والباذنجان.
إذاً: هذه الأمور كلها مرتبة على حسب إيراد المصنف رحمه الله من الأنواع الأول.(167/11)
شرح زاد المستقنع - باب بيع الأصول والثمار [3]
تبادل المنافع بالبيع والشراء حاجة من حاجات الناس، ولما كانت النفوس مجبولة على استيفاء حظوظها والنظر في مصالحها دون مصالح الآخرين، فإن هذا قد يؤدي إلى النزاع في البيع والشراء فيما يستحقه كل منهما بالبيع، أو وقوع الغبن على أحدهما، فاقتضت تعاليم الشريعة المحكمة أن تضع شروطاً وضوابط وموانع لما يباع، وبيان حقوق البائع والمشتري في البيع، وبيان بطلان البيع إلى غير ذلك مما يجب على المسلم علمه حال البيع، وفي هذه المادة بيان لبعض هذه التعاليم الغراء في بيع الأصول والثمار خاصة.(168/1)
أحكام تتعلق بالبائع والمشتري
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلف الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والحصاد والجذاذ واللقاط على المشتري]:(168/2)
من يلزمه الحصاد والجذاذ واللقاط
ونبدأ بالنخيل، فإن اشترى ثمرة مائة نخلة في هذا الصيف بعد بدو الصلاح والشروط متوفرة، وبعد أن تم البيع، وحان وقت جني المحصول، قال المشتري للبائع: النخل نخلك، والثمرة اشتريتها منك، فاحصده لي، فأنت الذي تجذ النخل، وعليك الجذاذ.
وكما هو معلوم النخل تارة يؤخذ بثراً، وهذا يحتاج إلى التقاط، ورطباً يحتاج إلى التقاط، وتمراً يحتاج إلى جذ، فيجذ العرجون كله ثم يحصد ما فيه، فقال: أنا اشتريت منك ثمرة بستانك فالذي عليك، أن تجذ لي النخل، وتلتقط لي الرطب، وتلتقط لي البثر، قلت له: يا أخي أنا بعتك الثمرة، والحصاد والجذاذ عليك أنت! وهذا النخل موجود فادخل وخذ ثمرتك، أما أنا فكيف أتكلف هذا؟ لأن الحصاد يكلف بعض الأحيان عشرات الألوف، خاصة إذا كان النخل كثيراً وفيه مؤنة ومشقة، وفي مثل مواسم الحصاد.
فيأتي
السؤال
هل الحصاد والجذاذ على البائع، أو على المشتري؟ يقول رحمه الله تعالى: [والحصاد والجذاذ واللقاط على المشتري]، أي: أنت أيها المشتري عليك مؤونة جني الثمرة، فالثمرة ثمرتك وهو يمكنك من دخول البستان لجني المحصول، ويكون هذا بالمعروف، فإذا مكنك من ذلك فهذه ثمرتك، إن شئت تأخذها بلحاً وإن شئت تأخذها رطباً، وإن شئت تأخذها تمراً، فيخلي بينك وبين المبيع، أما أن تلزمه بالجذاذ، فهذا ليس من حقك.
وقوله: [والحصاد]، الحصاد في الزروع، كحصد محصول الحب، والشعير، ونحو ذلك، فيقول البائع للمشتري: أنت الذي تحصد، فتأتي بمن يحصد لك هذا الحب الذي اشتريت مني.
فتكون مؤونة الحصاد على المشتري لا على البائع.
قوله: [والجذاذ]: كذلك جذ النخل، فإذا أراد أن يجذ نخله والثمرة التي اشتراها، تكون المؤونة والأجرة على المشتري لا على البائع.
قوله: [واللقاط على المشتري] كذلك اللقاط، وهو الجني، مثل القثاء يلتقطها، ومثل الباذنجان والكوسة والباميا، ونحو ذلك من الأشياء التي تحتاج إلى التقاط، فإن مؤونة الالتقاط على المشتري، لا على البائع.(168/3)
حالات يبطل بها البيع
قال رحمه الله تعالى: [وإن باعه مطلقاً، أو بشرط البقاء، أو اشترى تمرا ً قبل بدو صلاحه بشرط القطع، وتركه حتى بدا، أو جزة أو لقطة فنمتا، أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها، أو عرية فأثمرت، بطل والكل للبائع] قوله: [وإن باعه مطلقاً]: تقدم أن البيع المطلق هو الذي ليس فيه شرط التبقية ولا شرط القطع، أي: يبيعه بيعاً خالياً من الشرط، وينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى أن سياق الكلام هنا في الثمرة التي لم يبدُ صلاحها؛ لأن الكلام متصل بقوله: [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه].
فيرد
السؤال
الحكم أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فلو حصل وباعه قبل بدو الصلاح؟ قال رحمه الله تعالى: [وإن باعه]، أي: قبل بدو الصلاح، [بيعاً مطلقاً.
بطل]، فالأصل يقتضي عدم جواز البيع، خلافاً للحنفية، إذ يرون أنه لو باعه بيعاً مطلقاً فإنه يجوز، ويجب على المشتري أن يقطع فوراً.
فلو باعه بيعاً مطلقاً وتم البيع بينهما مخالفا للسنة التي ذكرنا، ومضى الحال سواءٌ علم الحكم أم جُهل، ثم بعد أربعة أشهر لما بدا الصلاح سأل أهل العلم، فقالوا: هذا البيع لا يجوز، فماذا يكون حكمه؟ الثمرة الآن صالحة، فهل تكون الثمرة ملكاً للبائع، بناء على أن البيع فاسد، والأصل أنها ملك له ولم تخرج من يده؟ أم أنها ملك للمشتري بناء على أنه لم يتدارك الفساد؟ بين رحمه الله تعالى أنها ملك للبائع، وهذا هو الصحيح؛ لأن هذا البيع فاسد من أصله، فلما تبايع معه بيعاً غير شرعي، فمعناه أن الثمرة ما زالت باقية في ملك البائع، وأن المشتري لا يملك هذه الثمرة؛ لأن الإيجاب والقبول والصيغة وقعت على وجه غير معتبر، فوجودها وعدمها على حد سواء، لكن ما الحكم حينئذ؟
الجواب
يُلزم البائع برد الثمن، ويقال: هذا البيع منفسخ، ثم يقال للمشتري: الآن بدا الصلاح فإذا أردت أن تشتري فلتشتر من جديد؛ لأن البيع الأول فاسد، فإن أحببت أن تنصرف بمالك فلا إشكال، وإن أردت هذه الثمرة فادفع حقها الآن؛ لأن الإيجاب والقبول في بيعكما باطل لا قيمة له، فالثمرة ما زالت في ملك صاحبها، ولكن ما الفائدة في هذا؟ الجواب: في بعض الأحيان يبيعه الثمرة قبل بدو صلاحها، على أن السوق غالٍ، فتكون قيمتها -مثلاً- مائة ألف، ثم لما بدا الصلاح أصبح السوق كاسداً، فتنزل القيمة، فلربما اشتراها بخمسين ألفاً، فيكون أخف وأرفق بالمشتري، وربما يكون العكس؛ لأن فيها مخاطرة، فتكون القيمة أقل.
فإذا بدا الصلاح قلنا: إذا أردتما أن تنشئا العقد فأنشئا من الآن، ولو أرادا أن لا ينشئا عقداً، أو قال البائع: لا أريد أن أبيع، أو رجعت عن بيعي وأريد أن آخذ الثمرة بنفسي كان له ذلك؛ لأن الثمرة ما زالت في ملكه وهو أحق بها، ويجب عليه أن يرد للمشتري ماله كاملاً.
قوله: [أو بشرط البقاء]: هي الحالة الثانية، اشترى قبل بدو الصلاح، وقال له: أشترط أن تبقي لي الثمرة حتى يبدو الصلاح، فسواء علم الحكم أم جهله فالبيع فاسد، وحينئذ إذا رفع الأمر إلى القاضي فإنه يحكم بانفساخ البيع ووجوب رد المال إلى المشتري، ورد الثمرة إلى البائع.
قوله: [أو اشترى ثمراً قبل بدو صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا]: أي: لو جاءك رجل وأنت عندك مائة نخلة، لم يبدُ صلاح ثمرها، فقال: أشتريها منك، قلت له: أنا لا أبيعها إلا بشرط أن تقطعها، قال: قبلت، واشتراها منك بعشرة آلاف ريال على أنه يقطعها، ثم جاءته ظروف فلم يستطع القطع، أو تهرب وماطل، حتى بدا صلاح ثمرها، فما الحكم؟ الحكم حينئذ أن نقول: إن هذا العقد الذي وقع بينكما وقع بشرط القطع مصححا، وإلا الأصل عدم صحته، فلما فات الوصف الشرعي المعتبر للتصحيح فإنه يرجع إلى حكم الأصل ببطلانه، فترد له المال، ولا حق له بالمطالبة بالثمرة، وتنشئان بيعاً جديداً إذا أردت البيع.
قوله: [أو جزة أو لقطة فنمتا]: أي: إذا جاء واشترى منه برسيماً وهو على طول شبر، فالبرسيم على شبر له قيمة، والبرسيم على شبرين له قيمة، ففي بعض الأحيان يأتي المشتري، وتأتيه ظروف فيقول: أريد البرسيم الآن، فتقول له: ليس عندي إلا هذا البرسيم الذي هو في نصف الاكتمال، فيقول: بكم أشتريه منك؟ فيقول البائع مثلاً: عشرة أحواض بمائة، قال: قبلت، وأعطاه المائة، ثم إذا به يماطل ويتأخر، أو جاءه ظرف، حتى أصبح البرسيم فوق ذلك بكثير، فيصبح المبيع الحاضر غير الذي أوجبا البيع عليه من قبل، وقد تكلف البائع مؤونة سقيه والقيام عليه، فحينئذ ينفسخ البيع الأول؛ لأن الجزة التي تعاقدتما عليها ليست بموجودة، ففاتت بتفويت المشتري، وحينئذ يتحمل مسئولية فوات البيع وترد له القيمة، وينُشئان بيعاً جديداً، وغالباً ما يكون البرسيم بضعفي قيمته؛ لأنه لما نما كان غير الذي اتفقا عليه.
إذاً: الثمرة إذا صلحت وبدا صلاحها، فقيمتها غير قيمتها قبل بدو الصلاح، ولا شك أن المشتري إذا أراد أن يتلاعب، وفعل ذلك عن تلاعب لا شك أن هذا من خديعة المسلم، ولذلك يمثل بعض العلماء بأن الغش كما يكون من البائع للمشتري يكون كذلك من المشتري للبائع، ومن غِشِّ المشتري للبائع أن يشتري بشرط القطع، فإذا به يؤخر ويماطل حتى تكتمل الثمرة، فيأتي ويأخذها، ولا شك أن هذا إذا فعله على قصد التلاعب، فإنه معصية لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى حرّم أن يفعل المسلم بأخيه هذا، فيشتري منه الشيء بنصف قيمته على أن يأخذه فوراً، وهو يضمر ويريد منه ما هو أكمل، مما يستحق قيمة أكثر، وليس هذا من النصح للمسلمين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، فمما ينبغي للمسلم أن ينصح لأخيه، وهذا ليس من النصح.
فقوله: [أو جزة]، أي: من كراث، أو برسيم ونحوه، [أو لقطة]، أي: من قثاء وباذنجان ونحوه، كالقرع والباميا، ونحو هذه الأشياء التي تلتقط، فاشتراها على هيئة ثم تركها حتى زادت، فالذي أوجب البيع عليه غير الذي صار إلى هذه الحالة، فوجب أن ينشأ العقد على الذي صار إليه الحال، ويلغى البيع في الأول.
قوله: [أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها]: أي: إذا اشترى ما بدا صلاحه، وحصل آخر، أي: زيادة على الذي اتفقا عليه، واختلطت الزيادة بالأصل، و [اشتبها]، فما استطاعا أن يميزا الذي اتفقا عليه من الذي لم يتفقا عليه، فحينئذ يصير المال ما بين حلال وحرام، والقاعدة أنه إذا اشتبه الحلال بالحرام، حرم الكل، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، في كلب الصيد إذا أُرسل للصيد، وأكل الكلب من الفريسة، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه)؛ لأنه إذا أكل من الفريسة فيحتمل أنه أمسك لك فصيده حلال، ويحتمل أنه أمسك لنفسه، فصيده حرام، فقال: (إن أكل فلا تأكل).
فإذا أكل وجلس على الفريسة يأكل منها فهذا لا إشكال فيه؛ لأنه أمسك لنفسه، لكن إذا أكل منها، ثم جاءك بفضلته فحينئذ يحتمل أن يكون صاد لنفسه، ثم من باب الوفاء جاء لسيده بالباقي، أو أنه صاد لسيده، فلما ذاق حلاوة اللحم ولذة الفريسة نهش منها، كأنه يرى أن سيده لا يضربه ولا يؤذيه، فيحتمل أنه صاد لسيده فعلاً، لكن الكلب -أكرمكم الله تعالى- لا ينطق ولا يتكلم، وإنما يباح صيده إذا صاد لك، ويحرم إذا صاد لنفسه؛ لأن الله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] فدل على أنه إذا لم يمسك لك لا يجوز لك الأكل؛ لأن كلاب الصيد والجوارح، كالصقور، والبوازي، والشواهين والنسور ونحوها، يصح صيدها إذا لم تأكل، أما لو أكلت فلا، فالصقر -مثلاً- إذا أرسلته وأكل من الفريسة فحينئذ لا يؤكل منها؛ لأنه اختلط الحلال بالحرام، فهناك موجب يقتضي الحل، وهو كونك أنت الذي أرسلت، وذكرت اسم الله تعالى، وأنت الذي حددت الفريسة، وهناك موجب يقتضي الحرمة؛ لأن شرط حل صيدها أن لا يأكل، فلما أكل اشتبه أن يكون أمسك لنفسه ولم يمسك لك، فإذا اشتبه الحلال بالحرام، حرم الكل.
ولذلك نقول: القاعدة أنه إذا اجتمع حاظرٌ ومبيح، قدم الحاظر على المبيح، والسبب في هذا أن الحاظر والحرام أمرك الله تعالى باجتنابه، والحلال لم يأمرك الله تعالى بأخذه، فحينئذ تعارض الأمر مع ما هو دونه، فقال العلماء: إذا تعارض الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح.
ومن هنا قالوا: إذا اشتبهت ميتة بمذكاة حرمتا، وإذا اشتبهت زوجة بأجنبية حرمتا، فلو كان هناك امرأتان متشابهتان تماماً وكانت إحداهما زوجة لإنسان، فجاء ودخل فوجد امرأتين كلتيهما شبه لزوجته، لا يدري هذه زوجته أو هذه، وقد يقع هذا في بعض الأحيان كما كان يقع في القديم في سفر القوافل، فقد كان يقع بعض اللبس، فإذا لم يتحرَّ ولم يتأكد أنها زوجته لم يجز له أن يقدم على غرة؛ لأنه ربما وطئ في حرام، والله تعالى أمره باجتناب الحرام.
إذاً: اجتمع الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح.
وهنا إذا اشتبه ماله الذي اشتراه، وهو ملك للمشتري والمال الذي حدث في ملك المشتري وجب ترك الكل، وتصحيح العقد ما أمكن.
قوله: [أو عرية فأثمرت]: العرية: من العرايا، سميت بذلك لأنها تعرى من البستان.
والعرايا: أن يباع الرطب على رءوس النخل بخرصه تمراً، وليس الرطب بمجني؛ إذ المجني لا يباع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر، لكن يباع على رءوس النخل.
فلو فرضنا أن رجلاً عنده تمر سكري، لكنه أحب أن يأكل بدلاً منه رطباً، ففي الأصل لا يجوز بيع الرطب بالتمر؛ لعدم وجود التماثل، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع العرايا بخرصها تمراً، في قدر خمسة أوسق، كما في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فإذا كانت العرية في خمسة أوسق فما دون صح، أي: أن يؤخذ منه ثلاثمائة صاع؛ لأن الوسق ستون صاعاً، فيبيع نخلاً عرايا في حدود ثلاثمائة صاع، فإذا نقص عن ذلك جاز، ولو زاد لم يجز.
فلو فرضنا أن النخلة فيها عشرون صاعاً، فخرصها الخارص وقال: هذا الرطب إذا صار تمراً يصير عشرين صاعاً، فقلت له: إذاً أعطيك عشرين صاعاً من التمر الذي في الأرض بهذه العريا التي فيها عشرون صاعاً، واتفقتما ع(168/4)
ما يلزم البائع والمشتري عند بطلان البيع
قوله: [بطل والكل للبائع] أي: بطل البيع، وقوله: [والكل للبائع] ذكرنا أن المشتري إذا أخذ الثمرة بشرط القطع فإن أبقى الكل فالكل للبائع، ويرد له الثمن، لكن لو أنه أخذ بعض التمرة وترك بعضها حتى صار تمراً، أو ترك بعضها حتى بدا صلاحه، فقال رحمه الله تعالى: [والكل للبائع]، أي: أنه يُلغى البيع كله، ويرد الثمن كاملاً، ويصبح المثمن كاملاً للبائع، فيقدر الذي أخذه بقيمته، ويلزم المشتري بدفع قيمة ما أخذ.
وعلى هذا في العرايا لو اشتراها صفقة واحدة ثم أكل النصف رطباً وأبقى النصف تمراً، فمن العلماء من قال: تتجزأ الصفقة، فتصحح في النصف وتبقى في النصف، ومنهم من يقول: يبطل الكل؛ لأنها بيعت بصفقة واحدة.
وعلى هذا الوجه يلزم البائع أن يرد الثمن كاملاً، ويضمن المشتري للبائع قيمة ما أخذه بحقه.(168/5)
حكم البيع المطلق وبشرط التبقية
قال رحمه الله تعالى: [وإذا بدا ما له صلاح في الثمرة، واشتدّ الحب جاز بيعه مطلقاً وبشرط التبقية]: أي: إذا بدا ما له صلاح في الثمر جاز بيع الكل بيعاً مطلقاً وبشرط التبقية، فإذا بدا الصلاح في النخيل فأزهت، فاحمَّرت واصفرت، فحينئذ يجوز بيعها بيعاً بشرط التبقية، وبيعاً مطلقاً.
كرجل عنده مائة نخلة وبدا صلاحها، فقلت: يا فلان بكم تبيعني هذه المائة نخلة؟ فقال لك: أبيعكها بألف ريال، فقلت له: قبلتُ، فمن حقك أن تشترط عليه أن يبقيها، فتقول: قبلت بشرط أن تبقيها لي حتى تصير تمراً، وإذا بدا الصلاح تكون حبات التمر بلحاً؛ والنخيل منه ما لا يؤكل إلا بلحاً، ومنه لا يؤكل إلا رطباً، ومنه ما لا يؤكل إلا تمراً، وهناك ما يجمع الثلاثة الأحوال، كالتي تسمى أم جرذان، قيل: إنها التي ورد في السير أنه حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة -وكانت بقباء- أكل منها، وهذه من أبكر أنواع النخيل الموجودة في المدينة وتؤكل بسراً وبلحاً ورطباً وتمراً.
فهذا النوع يؤكل بجميع الأحوال، لكن هناك نوع إذا اشتراه المشتري يشترط بقاءه إلى التمر، وهناك ما يؤكل بلحاً ورطباً وتمراً، لكن من مصلحة بيعها أن تؤخر حتى تصير تمراً، فقيمتها تمراً أغلى من قيمتها رطباً، وبعضها قيمتها رطباً أغلى من قيمتها تمراً، فالذي يحتاج إلى تأجيل من أجل ربح السوق، فحينئذ يشترط بقاءه إلى الحصاد والجذاذ.
ومن هنا قال رحمه الله تعالى: إذا اشترى بعد بدو الصلاح يجوز أن يتم البيع بيعاً مطلقاً، دون أن يوجد شرط، ويكون من حق المشتري أن يبقيها إلى القطع، ويجوز أن يشتريها ويقول: أشترط عليك أن تبقيها لي إلى الجذاذ.
وفائدة هذه المسألة: لو أن رجلاً اشترى منك مائة نخلة بعد بدو الصلاح، فقلت له: أنت اشتريت الحاضر الناضج، فألزمك بقطعها، لم يكن من حقك ذلك، بل تبقى إلى جذاذها، ولا يجوز لك أن تلزمه بالقطع قبل الجذاذ، فله حقٌّ أن يقطعها فوراً، أو أن يؤخرها إلى منتصف الموسم، أو إلى آخر الموسم، ولا يلزمه أن يقطعها فوراً.
لكن الحنفية يخالفون الجمهور في هذه المسألة، فيرون أنه إذا اشترى الثمرة بعد بدو صلاحها يجب عليه القطع مطلقاً، سواء اشترط أم لم يشترط، وهذا مذهب مرجوح، والسبب في هذا أنهم يرون أن بيع الثمرة على أن تبقى إلى بدو الصلاح من بيوع الغرر، وبيوع الآجال، ولا يصححون هذا النوع من البيع بشرط التبقية، ولا يجيزون في البيع المطلق إلا أن يقطع فوراً، ويلزمون المشتري بقطعها فوراً، ولا شك أن مذهب الجمهور أصح.(168/6)
حالات بدو الصلاح وآراء الفقهاء فيها وفي حق المشتري
بناءً على ما سبق عندنا الأحوال التالية: الحالة الأولى: إذا بدا الصلاح بسراً فاحمَّرت الثمرة، أو اصفرت.
الحالية الثانية: أن ترطب، فيكون النضج في نصفها، أو في ربعها، أو في أكثرها.
الحالة الثالثة: أن يتم استواؤها ويكتمل، فتتهيأ للصرام والقطع.
هذه ثلاثة أحوال بعد بدو الصلاح ينتبه لها.
الحالة الأولى: أن تكون بلحاً، وبسراً.
الحالة الثانية: أن تكون رطباً.
الحالة الثالثة: أن تكون تمراً.
فإن بيعت النخلة في هذه الثلاث الأحوال، إما أن تباع عند نهاية الاستواء، فإذا بيعت بعد اكتمال استوائها واكتمال نضجها، فبالإجماع يصح البيع ويقطعها فوراً، كرجل عنده مائة نخلة سكرية، وتركها وحفظها حتى صارت تمراً، ثم جاءه رجل وقال: أشتري منك هذه المائة نخلة بمائة ألف، فقال: خذها.
فإنه يتم البيع بالإجماع ويصح.
الحالة الثانية: أن تباع قبل أن تثمر، وقبل أن يكتمل استواؤها، فجماهير أهل العلم على جواز البيع وصحته، وخالف في هذه المسألة.
رجلان عالمان، وكلاهما من التابعين، أولهما: عكرمة بن عبد الله، صاحب ابن عباس رضي الله عنهما، والثاني: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، الفقيه المشهور، فقالا: لا يجوز البيع، فلم يصححا بيع ثمرة النخيل قبل الاستواء الكامل، ولكن الصحيح مذهب الجماهير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها).
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النهي توقف عند بدو الصلاح فدل على أنه بعد بدو الصلاح يحل البيع، وهذا على القاعدة الأصولية المشهورة أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم، فلما قال: حتى يبدو صلاحها، فالغاية بدو الصلاح، فمعناه أن الحكم بعد بدو الصلاح يخالف الحكم قبل بدو الصلاح، وقبل بدو الصلاح قال: (نهى)، فمعناه أنه بعد بدو الصلاح، يجوز ولا بأس به.
وإذا قلنا بقول الجمهور: إنَّه يجوز بيعها قبل أن تثمر، فهم على طائفتين: فالمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، رحمة الله تعالى على الجميع، على أنك إذا اشتريت ثمرة بعد بدو صلاحها يجوز لك أن تبقيها، ولا يجب عليك القطع.
وقال الحنفية: يصح بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، ونلزم المشتري بقطعها فوراً، فإن بيعت بُسراً وجب عليه أن يقطعها بسراً، وإن بيعت رطباً يجب عليه أن يقطعها حال كونها رطباً.
والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشترط في حل ما كان بعد الغاية مفهوم القطع.
وعلى هذا يكون الحكم أنه يجوز بيعها بعد بدو صلاحها بيعاً مطلقاً، وبيعاً بشرط التبقية، وبشرط القطع، لا بأس بذلك كله، على ظاهر السنة.(168/7)
يلزم في بيع الحب ما يلزم في بيع ثمر النخل عند صحتها
قوله: [واشتدّ الحب جاز بيعه مطلقاً وبشرط التبقية]: الحب أول ما يظهر.
يكون طرياً، حيث يكون فيه ماء السنبلة، ثم يبدأ ييبس قليلاً قليلاً، حتى يشتدّ ويكتمل استواؤه، فإذا اكتمل استواؤه جاز بيعه، وبيع الحب على حالتين: الحالة الأولى: أن يأتي المشتري يشتري منك الحب، كأن تكون زرعت مزرعة كلها حبوب، فيأتي فينظر إليها ويقدرها، وتتوافر شروط البيع من العلم بقدر المبيع ونوعه، وبعد ذلك قال: أنا أشتري منك هذا الحب الموجود في مزرعتك بخمسين ألفاً، فقلت له: قبلت، فإن كان الحب طرياً لم يشتدّ لم يجز، إلا بشرط قطعه فوراً، كالنخل، كأن يقول: أريده علفاً الآن، ولا أريد بقاءه حتى يُحصد، فلو اشتراه قبل بدو صلاحه واشتداده بشرط أن يقطعه فوراً، صح البيع.
ولو أخذه منك في هذه الحالة بشرط أن يقطعه فأخره حتى اشتدّ، فما الحكم؟
الجواب
يبطل البيع على القاعدة التي ذكرناها، فإذا اشترى الحب قبل بدو صلاحه، بشرط القطع صح، وإن اشتراه بشرط أن لا يقطعه، بطل البيع، فإن بدا صلاحه، واشتدّ فحينئذ فيه تفصيل: فإن اشترى منك الحب وهو في سنابله وفي أرضه صح البيع، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله تعالى، لكن لو أن هذا الحب حصدته، فأدخلته في البيدر، ومعه الشوك، ولم يصف الحب بعد، فهل يجوز أن يشتريه منك بالخرص قبل أن يكال؟ أو هل يجوز أن يشتريه بالكيل؟ أو يجوز أن يشتريه غير خالص؟ الجواب: لا؛ لأنه إذا حصد ووضع في البيدر، وأراد أن يأخذه بصفته فإنه يكون من بيع الغرر؛ لأننا لا ندري كم يصفى من هذا الحب، فلو قال قائل: هذا الحب يجوز بيعه، وهو في سنابله! قلنا: بالخرص، لكنه إذا خلط وأصبح محصوداً لا ينفع فيه الخرص، ولا يستطيع الخارص أن يحدد بدقة، أو بغلبة ظن ما هو أقرب للحقيقة، بخلاف ما إذا كان على رءوس زرع مشتدّ في سوقه، فإنه يمكنه أن يخرص، لكنه إذا دخل في البيدر، تكون السيقان الطويلة، والصغيرة، ويختلط الحب بغلافه، وبعد ذلك لا يمكن معرفته على الحقيقة أو قريب من الحقيقة إلا إذا صفي، فلا يجوز بيعه بعد الحصد إلا بتصفيته؛ لأنه يفضي إلى الغرر؛ فإنه حينما تشتري الصاع فإنك تشتري الحب مع الشوك، ولا يجوز بيع الشوائب لما فيها من الغرر، إلا بعد تصفيتها، ما دام أنه يمكن تصفيتها.
قال رحمه الله تعالى: [وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ]: هذه هي الحالة الثانية: فإذا اشترى الحب بعد اشتداده، فإنه لا يجوز لك أن تقول له: احصد الآن، بل من حقه أن يؤخر إلى اكتمال الحصاد، حتى ينشف نشافاً كاملاً، ثم بعد ذلك يحصد، فإن اكتمل استواؤه، فقال: أريد أن أتأخر، فليس من حقه ذلك، أي: إذا تمت المدة وجاء موسم الحصاد يلزم المشتري بالحصاد؛ لأن هذا قد يضر بالبائع، ولذلك يلزم بحصده فوراً.(168/8)
ما يلزم البائع بعد بيع الثمرة
قال رحمه الله تعالى: [ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل]: بعد أن بين لنا رحمه الله تعالى مسائل البيع، شرع في مسائل الحقوق التي تتبع البيع، ولذلك الكلام على الفرع، وبيان الفرع بعد بيان الأصل والكلام عليه، وهذا كما ذكرنا أكثر من مرة من دقة العلماء، إذ قد تصح البيوع ويأتي الناس يتقاضون في الحقوق، فتختلف الأحوال فتارة يبيعه النخل بيعاً صحيحاً، ويبيعه الحب بيعاً صحيحاً، ولكن يفرط البائع في حق المشتري، أو يمنع البائع حقاً من حقوق المشتري، فيرد
السؤال
ماذا يكون من حق المشتري إذا اشترى الثمرة بعد كمال استوائها، أو بعد صلاحها؟
الجواب
يجب على البائع أن يحافظ على الثمرة، ويحافظ على الأسباب التي تحافظ على الثمرة، وأهم تلك الأسباب مسألة السقي، كسقي النخل، فإن الثمرة تتأثر بالماء، فإذا اشترى منه نخلاً، وجب عليه أن يقوم على سقيه، وبناء على ذلك لو أن المزارع الذي اشتريت منه تعطلت آلة الماء عنده وجب عليه أن يصلحها، فإن لم يمكنه أن يسقي بآلته، وجب عليه أن يستسقي لك ماء يبقي لك الثمرة، إلى أن يتم حصادها، فإذا قصر فإنه يتحمل مسئولية التقصير، فإذا قلت: إنه يجب على البائع أن يسقي الثمرة بالمعروف، معناه أنه لو قصر كأ، يكون النخل يسقى، النخل يسقى إلى ثلاثة أيام، أو إلى يومين، إذا كان سقيه بالري الكامل وبأحواض كبيرة، فأصبح يسقي كل أربعة أيام، أو كل خمسة أيام، أو كل أسبوع مرة؛ لكونه فيه كلفة على الآلة، وهذه أمور، كانت تكلف الناس، ولا زالت تكلف الناس، فيخفف على نفسه؛ لأن الثمرة لم تعد ثمرةً له، وإنما صارت ثمرة لغيره، فحينئذ لا يتضرر، ولا يضره شيءٌ، فيقوم بالتساهل في سقيها، فقال المصنف رحمه الله تعالى: يجب على البائع السقي، أي: أنه مسئول عن سقي النخل، ويلزم بالماء الذي يستبقى به النخل إبقاءً للفرع المشترى، وهو الثمرة، فلو أنه تساهل في السقي، ولم يستتبع النخل في السقي، أو تساهل عماله، فحينئذ يلزمه الضمان، فلو أن الثمرة تضررت حتى ذهب العشر بسبب ضعف السقي، يُلزم بضمان عشر القيمة.
وهكذا لو أنه تساهل في السقي، وتلاعب في ذلك حتى ذهب نصف الثمرة، يلزم بضمان نصف الثمرة، فإذا ألزمناه بالسقي ألزمناه بما يتبع التفريق للتساهل إذا كان ذلك بتساهل منه.
قوله: [وإن تضرر الأصل]: في بعض الأحيان يكون السقي مضرّاً بالأصل، فهل نقول: نقدم حق المشتري ويجب عليه السقي؟ أو نقول نقدم حق البائع؛ لأن الأصل الضررُ به أعظم من الفرع؛ لأن ضرر النخل ليس كضرر ثمرته، ففي بعض الأحيان يقول أهل الخبرة مثلاً: من المصلحة أن لا تسقي النخلة، وتحتاج أن تمسك الماء عنها أسبوعاً علاجاً لها من بعض الأمراض، والنخلة تمرض كما يمرض الآدمي؛ لأن لها أمراضاً تخصها، فإن قيل له مثلاً: الأرض مختمرة، ولا بد أن تمسك الماء عنها أسبوعاً، فحينئذ إذا أمسك الماء تضررت الثمرة، فنقول: إنه يلزم بالسقي بالمعروف ولو تضررت النخلة، لكن تضرر النخلة غالباً في مثل هذه المسائل ليس تضرراً سارياً إلى الثمرة، إنما هو في التضرر المستقل.(168/9)
الآفات وأقسامها وعلى من ضمانها
[وإن تلفت بآفة سماوية رجع على البائع] أي: إن تلفت بآفة سماوية، كما لو اشترى بستاناً بمائة ألف، ثم أصابته جائحة، والجوائح هي من حيث الأصل: الآفات والأضرار التي تصيب المحاصيل، وتصيب الزروع والثمار، وتنقسم إلى قسمين: الأول: آفات سماوية، وهي التي لا دخل للمكلف فيها.
الثاني: وآفات غير سماوية، ويكون فيها للمكلفين دخل.
أما الآفات السماوية: فمثل الأعاصير، كأن يأتي إعصار فيه نار فيحرق محصول الحب، ومزارع الحب في بعض الأحيان إذا كان هناك إعصار تشتعل ناراً، خاصة إذا كانت متأهلة للحصاد، فإذا اشتعلت ناراً بالإعصار، أو الصواعق، أو جاء سيل فغمر المحصول كله وأتلفه، فما الحكم؟ إذا كانت الآفة سماويةً، ولا دخل للمكلف فيها، فالسنة مضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح، فأخوك المسلم إذا اشترى منك ثمرة البستان، أو اشترى منك محصول الزرع، ثم أصاب ذلك المحصول، أو تلك الثمرة جائحةٌ سماوية ليس بيده ولا بيدك دفعها، فإنه يجب عليك أن تضع الجائحة عنه، بمعنى أنك ترد له المال، ويكون الضمان على حسب الجوائح، والدليل على وضع الجائحة حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم وغيره، قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح)، فالسنة على أن الجوائح توضع.
ومثل الحب النخل، فبعض المواسم يكون فيها: غبار كثير، والغبار يتلف ثمرة النخيل خاصة إذا كان عند التغبير، أو قبل بدو الصلاح، فتجد الثمرة منتفخة ليست بمليئة، وتصاب بأمراض بسبب الغبار، وتصاب بأمراض بسبب الأعاصير وسبب الرياح.
وفي بعض الأحيان تهب رياح عاتية قوية، فإذا تحرك النخل تساقط التمر على الماء، ويفسد التمر؛ لأن التمر يصيبه الخمج إذا وقع في الماء، فتتحرك الرياح اليوم واليومين، وتلعب بجريد النخل فربما لا تبقي منه إلا ربعه، وربما لا تبقي منه إلا نصفه، وربما لا تبقي منه إلا ثلثه، فحينئذ إذا جاءت الجائحة فأتلفت الثمرة كاملة وضعت القيمة كاملة، وإن أتلفت نصفها وضع نصف القيمة، وإن أتلفت الربع وضع ربع القيمة.
وكيف نعرف أنها أتلفت نصف المحصول، أو ربعه، أو ثلثه؟
الجواب
يرجع إلى أهل الخبرة، فينظر أهل الخبرة في البستان، ويقولون: هذا البستان تلف من محصوله الربع، فإذا اشترى منك بأربعمائة ألف.
ترد له مائة ألف، وإن قالوا: تلف النصف، فحينئذ ترد له نصف القيمة، أي: أن الجائحة بالآفة السماوية تضمن وترد القيمة إذا تلف المحصول كاملاً، أو تلفت الثمرة بكاملها، وإن تلف الجزء فيرد بحسابه.
هذا بالنسبة للآفات السماوية، أما الآفات غير السماوية وهي ما يكون بفعل المكلف، مثل أن تحصل بين الناس خصومة، فيتلف بعضهم محاصيل بعض، يكون فقد كان في القديم تقع الفتن والحروب فتتلف المحاصيل، فإذا جاء رجل واشترى منك محصول حب، ثم جاء الغزاة وأحرقوا هذا المحصول، فإن العلماء يقولون: آفات الآدمي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يكون بالغلبة والمغاصبة والقهر، مثل أن تأتي الجماعة التي لا تغلب، فتعيث في القرية أو في المدينة فساداً وتتلف محاصيلها، فهذا بالغلبة والمغاصبة.
القسم الثاني: ما يؤخذ بالخلسة، كأن يكون محصولك جاهزاً، وإذا بسارق سرق ربعه أو نصفه أو ثلثه.
فأما النوع الذي يكون من فعل الآدمي فجمهور العلماء على أنه لا توضع الجائحة فيه؛ لأنه يكون من تقصير من نفس الشخص غالباً، وإذا غُلب بالقهر فيكون هذا من باب الغنم بالغرم، وبعض أصحاب الإمام مالك رحمهم الله تعالى، يقولون: توضح الجائحة فيه، والأول أقوى، والثاني من ناحية العلة أظهر.
أما لو أنك بعت ثمرة بستانك، فجاء السارق بالليل وسرق ممن اشترى منك، فالأفضل أن تخفف على أخيك، لكن لا يجب عليك ذلك، فهو الذي يلزم بالحفظ، ويلزم بالرعاية، وأنت لست بمسئول عن ضمان حقه.
قال رحمه الله تعالى: [وإن أتلفه آدمي خير مشترٍ بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف]: قوله: [وإن أتلفه آدمي]: هذا في حالة خاصة غير ما ذكرنا أولاً، وهو أن يأتي شخص بعينه، كأن يكون صاحب المزرعة بينه وبين رجل خصومة، فجاء هذا الرجل وأتلف محصول المزرعة، ولم يبق فيها شيئاً، أو أتلف نصف المحصول، أو ثلاثة أرباعه، فما الحكم؟ الجواب: نقول للمشتري: أنت بالخيار، إن شئت فسخت البيع ورجعت بالمال كله على البائع إذا تلف المحصول كله، وهذا يعتبر كالعيب الذي طرأ في المبيع، وإن شئت طالبت المتلف بضمان حقك.
وفي الأمرين فرقٌ: ففي بعض الأحيان، الأفضل له أن يسترد القيمة الأصلية، كأن يكون اشترى بقيمة غالية، فلما تم المحصول، ونزل إلى السوق وإذا بالقيمة رخيصة، فجاء المتلف في رخص السوق، فالأفضل له أن يفسخ البيع، وتارة يكون الأفضل له أن يطالب المتلف، فإنه قد يشتريها بعد بدو صلاحها بمائة ألف، فلما أتلفها المتلف كانت قيمتها مائة وخمسين، فإذا كانت قيمتها مائة وخمسين، فالأحظ له أن يطالب المتلف بالضمان، فالمقصود أنه إن شاء أخذ هذا، وإن شاء أخذ هذا.(168/10)
استباق الثمار في بدو الصلاح وأحكامه(168/11)
صلاح بعض الثمرة دون بعضها
قال رحمه الله تعالى: [وصلاح بعض الشجرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان]: مما ينبغي علمه أن النخل إذا بدا صلاحه فيه لا يبدو دفعة واحدة، فأنت إذا نظرت إلى النخلة تجد أن فيها أكثر من عرجون، وإذا نظرت إلى البستان ففيه أكثر من نوع، وإذا نظرت إلى المدينة والقرية ففيها مئات البساتين، فحينئذ سنبحث مسائل جديدة: أولاً: بدو الصلاح في عرجون واحد، كأن تظهر فيه حبةٌ واحدة فقط حمراء أو صفراء، فإذا بدا الصلاح في حبة واحدة من عرجون واحد، فهل معناه أن العرجون كله يباع؟ فهذه مسألة.
ثم إذا قلنا بجواز بيع هذا العرجون، فهل معناه جواز بيع النخلة كلها؟ وهذه مسألة ثانية.
وإذا قلت: تباع النخلة، فهل يباع أمثالها من نفس النوع في البستان؟ وهذه مسألة ثالثة.
وإذا قلت: إنه يباع هذا النوع في هذا البستان، فهل يجوز أن يباع في البساتين الأخرى هذا النوع نفسه؟ وهذه مسألة رابعة.
وإذا قلت بجواز بيع هذا النوع في هذا البستان، فهل يقاس عليه بقية الأنواع؟ وهذه مسألة خامسة.
هذه مسائل كلها تابعة لمسألة بدو الصلاح.
وحتى تكون الصورة واضحة، فالنخل -كما سبق- إذا بدا الصلاح فيه يتفاوت، فهناك ما يبكر صلاحه، وهناك ما يتأخر ويصبح في آخر النخل، وهناك ما هو وسط بين المبكر والمتأخر.
فمن أمثلة المتقدم في بدو الصلاح: اللونة والحليا، وهما من أبكر ما يظهر صلاحه من تمور المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
ويتأخر عنهما الربيع والروثان؛ لأن ثمرة الربيع والروثان صفراء، فلا تصفر إلا بعد وقت، وبقريب منها الحلوة، فلا تحمر إلا بعد وقت، وهي من الأنصاف، أي: المتوسط، وهناك ما يتأخر كالعجوة والصفاوي، ونحو ذلك، فعندنا نوع يبكر، وعندنا نوع يتأخر، وعندنا نوع وسط بينهما.
فإذا بدا صلاح في حبة في عرجون، أو حبتين، وكان الزمان زمان صلاح فإنه يحكم ببدو الصلاح في النخلة كلها، وعلى هذا يجوز بيع ذلك العرجون وبيع سائر العراجين في النخلة، ويجوز بيع هذا النوع في البستان كله، فلو ظهر صلاحه في نخلة واحدة، فهو كبدو الصلاح في بقية النخل.
وبالتجربة أنه إذا بدا الصلاح في أول النهار في نخلة، فغالباً لا يأتي آخر النهار إلا وقد بدا في نخلة أو نخلتين، أو ثلاث، ثم لا تأتي من الغد أو بعد الغد إلا وقد انتشر في البستان كله من هذا النوع، فتأخره قليل جداً، وعلى هذا يجوز بيع جميع النوع في البستان.
لكن هل يجوز بيع بقية البساتين؟ أي: لو ظهر الصلاح عندك في بستانك، ولكن في بستان جارك لم يبدُ، فهل يجوز لجارك أن يبيع؟
الجواب
نعم؛ بزمان بدو الصلاح نفسه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما: (حتى تطلع الثريا وتؤمن العاهة)، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى في هذا الزمان، أنه إذا بدا الصلاح في واحدة أن يكون للجميع، فهو زمان الصلاح وأَمْنِ العاهة غالباً، ومن هنا قال الجمهور: إنَّ بدو الصلاح في نخلة بدوٌّ في جميعها، وبدو الصلاح في ذلك النوع يوجب جواز بيع ذلك النوع في البستان كله، وكما جاز بيع ذلك النوع في البستان، يجوز بيعه في بقية البساتين؛ لأنه ربما كان جارك ليس بينك وبينه إلا الحائط، وقد تكون مزرعتك مائة متر، ومزرعته مائة متر، فلو قلنا: لا يجوز أن يبيع جارك، فكيف بالذي عنده مزرعة فيها مائتي مترٍ، وبدا الصلاح في نخلة واحدة؟ إذً العبرة بالزمان، والعبرة بغلبة الظن في السلامة وهي موجودة، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فيجوز أن تبيع النخلة، وأن تبيع نوعها في البستان، وأن يباع نوعها في بقية البساتين.(168/12)
صلاح نوع دون نوع
هناك يقال: هل يجوز بيع المتأخر إذا بدا الصلاح في المبكر؟
الجواب
لا، والعبرة في كل نوع بحسبه، فلا نبيع تمر الحلوة، إلا إذا بدا الصلاح ولو في واحدة منه، لكن إذا بدا الصلاح في الحليا، لا نبيع في ذلك الحلوة، ولو بدا في تمر اللونة، لا نبيع العجوة، وإذا بدا في السكري لا يباع الصفاوي وقس على هذا.
فكل نوع بحسبه، فإن من جرب النخيل، وجرب الزراعة يعلم أنها تتفاوت في طلعها، وتتفاوت في تأبيرها، وتتفاوت في بدو صلاحها.
وعلى هذا فإنه لا يحكم بجواز بيع النوع إذا ظهر الصلاح في نوع غيره، وإنما يتقيد بالنوع نفسه، الذي بدا الصلاح فيه.
قال رحمه الله تعالى: [وبدو الصلاح في زمن النخل أن تحمر أو تصفر]: هذه علامة بدو الصلاح، والأصل في ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه،: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي، قالوا: يا رسول الله! وما تزهي؟ قال: تحمار أو تصفار)، فهذا يدل على أن الحمرة والصفرة توجب الحكم ببدو الصلاح.
قال رحمه الله تعالى: [وفي العنب أن يتموه حلواً]: العنب يبدو صغيراً، وبعد ذلك يبدأ يكبر شيئاً فشيئاً، حتى تكتمل حبة العنب في الحجم، وهي خضراء شديدة الخضرة، ثم يضربها الماء، فإذا تموهت وصار الماء عليه تفككت خضرتها، فبمجرد ما ينظر إليها صاحب الخبرة يعلم أنها قد نضجت، فإذا كانت شديدة الخضرة، فهي حامضة، وطعمها حامض، ويبدو صلاحها بذلك، وإذا بدا الصلاح في عنبة جاز بيع بقية العنب في ذلك البستان.
لكن لو كان العنب أنواعاً، كالعنب الطائفي والحجازي والمشرقي، فهذه الأنواع يفصل فيها: فإذا تموه العنب من نوعٍ، فلا يحكم بجواز بيع غيره من نوع آخر إذا تفاوت في النضج.
قال رحمه الله تعالى: [وفي بقية الثمار أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله]: قد بينا فيما سبق علامات بدو الصلاح، فمن الأشياء ما يكون بدو صلاحه بلينه بعد اشتداده، كالتين والبطيخ.
ومنها ما يكون باشتداده بعد لينه كالحب.
ومنها ما يكون بحلاوته بعد مرارته كقصب السكر، والرمان ونحو ذلك.
ومنها ما يكون بتفتح أكمامه، كما ذكرنا في الورد، ويقاس على ذلك بقية الأنواع.(168/13)
بيع العبد وما يتبعه
قال رحمه الله تعالى: [ومن باع عبداً له مال، فماله لبائعه إلا أن يشترطه المشتري]: هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع عبداً وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)، فإن البيع ينصب على الرقبة، فيبقى المال ملكاً للبائع؛ لأن الأصل أنه مَلَكَ العبد والمال، فإذا وقع البيع على العبد، فإن المال ليس بمتصل به، فيحكم بكون المشتري مالكاً للعبد دون ماله، فإن أراد أن يأخذ ماله اشترط، وقال: أشترط أن يكون لي ماله، فإذا لم يشترط لم يكن له ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [فإن كان قصده المال، اشترط علمه، وسائر شروط البيع، وإلا فلا]: والمراد من هذا، أنه لو اشترى عبداً وله مال، وكان لدى العبد عمارة وقال للبائع: أشترط أن يكون ماله تابعاً له.
فينبغي أن توصف هذه العمارة؛ لأنه اشترى الرقبة وما يقصد منها من الانتفاع بمالها، فينبغي أن يكون المال الذي قصده بالبيع معلوماً، والأموال إذا بيعت يشترط فيها العلم، فنعلم نوع المال وجنسه وقدره، وغيرها من الشروط المعتبرة في البيع.
فيشترط فيه ما يشترط في البيع.
قال رحمه الله تعالى: [وثياب الجَمال للبائع والعادة للمشتري]: إذا بيع العبد وعليه ثياب، فالثياب التي يلبسها في العادة تكون تابعةً للرقبة، وقد تكلمنا عند هذا في بيع المبيع وما يتبعه وما لا يتبعه، وبينا القواعد فيه والضوابط، لكن لو كان الثوب الذي عليه ثوبَ جمال، أي: ثوباً زائداً عن المعتاد، فحينئذ لا يكون المشتري مالكاً له بالبيع ولا يتبع؛ لأن المتصل بالعبد يتبعه، فإن كان المتصل له خصوصية، وهو ثياب الجمال، فإنه لا يتبع.
فإذا باع عبداً وعليه ثياب فإنها تتبع الرقبة؛ لأن هذا هو الأصل في العادة، إذا كان ملبوسها بالعادة.
وأما إذا كانت ثياباً فارهةً، وثياباً خاصة، كما كان في القديم، إذا كان الرجل له ملك يمين من الأرقاء، ويحتاجهم في معونته إذا ذهب إلى عمله أو نحوه، فكان يلبسهم لباساً معيناً لما يحتاجهم إليه، وهذه ثياب جمال يتجملون بها أثناء ذهابهم معه لعمله، أو لزيارة أناس، أو نحو ذلك، فهذه لا تتبع الرقبة في البيع، وأما بالنسبة لثياب العادة فإنها تكون تابعة للعبد؛ لأنها متصلة به.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل علمنا خالصاً لوجهه الكريم، وموجباً لرضوانه العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(168/14)
شرح زاد المستقنع - باب بيع السلم [1]
من العقود التي أحلها الشرع عقد السلم، الذي هو بيع معجل بمؤجل، وهو مما فيه توسعة على البائع والمشتري، ولابد فيه من انضباط صفات المسلم فيه من جهة قدره، ومن جهة جنسه ونوعه، ومن جهة أجله، وكذلك من جهة إمكان وجوده وقت التسليم، وهذا كله حتى لا يدخل الغرر والجهالة في هذا العقد.(169/1)
عقد السلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [باب السلم: وهو عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجلٍ بثمن مقبوض بمجلس العقد، ويصح بألفاظ البيع والسلم والسلف بشروط سبعة، أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع وأما المعدود المختلف كالفواكه والبقول والجلود والرءوس والأواني المختلفة الرءوس والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرءوس، والجواهر والحامل من الحيوان، وكل مغشوش، وما يجمع أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين: فلا يصح السلم فيه، ويصح في الحيوان والثياب المنسوجة من نوعين، وما خلطه غير مقصود كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها.
الثاني: ذكر الجنس والنوع وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً وحداثته وقدمه، ولا يصح شرط الأردأ أو الأجود بل جيد ورديء، فإن جاء بما شرط أو أجود منه من نوعه ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه: لزمه أخذه.
الثالث: ذِكرُ قدره بكيل أو وزن أو ذرع يُعلم، وإن أسلم في المكيل وزنا أو في الموزون كيلاً: لم يصح.
الرابع: ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن، فلا يصح حالاً ولا إلى الحصاد والجذاذ ولا إلى يوم، إلا في شيء يأخذه منه كل يوم: كخبز ولحم ونحوهما.
الخامس: أن يوجد غالباً في محله ومكان الوفاء لا وقت العقد، فإن تعذر أو بعضه: فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه].(169/2)
أموال البيع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب السلم] فيقول رحمه الله: (باب السلم)، هذا الباب يعتبر أحد أنواع البيوع المهمة والتي رخص الله عز وجل لعباده فوسع عليهم فيها، وقد بين العلماء رحمهم الله وجه التوسعة في هذا النوع من البيع وذلك أن الإنسان إذا باع السلعة لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يدفع المشتري الثمن نقداً، ويدفع البائع المثمن معجلاً.
والحالة الثانية: أن يؤخر المشتري الثمن، ويقدم البائع المثمن.
والحالة الثالثة: أن يقدم المشتري الثمن ويؤخر البائع المثمن.
هذه ثلاثة أحوال للبيع، إذا دفعت المال حاضراً ودفع البائع لك السلعة حاضرة فإن هذا النوع من البيع يكون الثمن فيه مكافئاً للمثمن، فلو أردت أن تشتري سيارةً مثلاً أو داراً فقال لك: أبيعها لك بعشرة آلاف حاضرة، أي: نقداً، فإنك تراعي قيمة السيارة ويكون الثمن -غالباً- مكافئاً للمثمن، أي: أن السيارة تستحق هذا المبلغ دون زيادة أو نقص، الحالة الثانية: أن يكون المثمن مقدماً والثمن متأخراً كرجل أراد أن يستلم سيارةً، وطلب من البائع أن يؤخره سنةً كاملة فمعنى ذلك: أن المثمن معجل والثمن مؤجل، فإذا عجل البائع لك السلعة وقلت: لا أستطيع أن أعطيك المال حاضراً انتظرني سنة أو انتظرني سنتين، فالغالب أنه يثقل عليك في الثمن وتصبح القيمة قد زادت لقاء الأجل.
وعليه: تكون التوسعة على البائع في زيادة الثمن توسعة على المشتري في إنظاره وتأخيره، فيأخذ السيارة عاجلاً ويخف عليه دفع القيمة آجلاً، ولا يعتبر هذا كالربا؛ لأن الربا جاءت الزيادة فيه لقاء الأجل المحض، ولكن هنا: جاءت الزيادة لقاء السلعة، وقيمتها حاضرة ليست كقيمتها مؤجلة وقد جعل الله لكل شيءٍ قدراً.(169/3)
التوسعة في بيع السلم
تبقى الصورة الثالثة: وهي أن تدفع الثمن معجلاً ويؤخر البائع المثمن مؤجلاً، وهذا هو الذي يقع في بيع السلم، مثلاً: رجل عنده مزرعة، وهذه المزرعة يزرعها براً أو يزرع فيها شعيراً، أو فاكهةً أو غير ذلك، هذا المزارع ليست عنده سيولة وليس عنده مال، وجاء الموسم للزراعة، وليس عنده ما يشتري به البذر، وقد لا يوجد من يدينه، فيأتي الرجل ويقول: أنا أسلفك ألف ريال، وتعطيني مائة صاعٍ في نهاية رجب أو في نهاية شعبان، فيقدم الثمن ويؤخر المثمن، في هذه الحالة سيكون الرفق بهذا المزارع، وسيكون التيسير على هذا المزارع حيث إنه انتفع بأرضه وقام بزرعها واشترى ما احتاج من بذره، ثم انتفع المشتري؛ لأنه يحتاج إلى المائة الصاع، إلا أن هذه المائة صاع لو أنه جاء لهذا الفلاح بعينه ولم يستلف منه وجاءه في نهاية رجب يريد أن يشتريها بقيمتها لكان قيمتها ألفاً وخمسمائة، ولكنه لقاء التعجيل سيشتريها بألف فقط، فأصبح السلم أن يقدم المشتري لك الثمن وتعده بالمثمن بكيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم، ويقع هذا في المكيلات وفي الموزونات، وتقدم معنا ضبط المكيلات وضبط الموزونات، فلو جاءه وقال: هذه عشرة آلاف ريال لقاء مائة صاع -مثلاً- من التمر السكري في نهاية شهر شوال، فإن هذا البيع تعجل فيه الثمن وتأخر فيه المثمن، ولو جئت في نهاية شوال تبحث عن تمرٍ بهذه الصفات لوجدته بأحد عشر ألفاً أو باثني عشر ألفاً، ولكن الله وسع على المشتري وخفف عليه المئونة؛ لأنك ستشتري والموسم ليس بحاضر، وأنت لا تريد السلعة الآن إنما تريدها إلى أجل، وكثيراً ما يقع هذا البيع عند التجار، ويقع كثيراً ما بين التاجر والمورد، فيقول التاجر للمورد: أريد -مثلاً في المكيلات- مائة صندوق من التمر بوزن كذا وكذا أو مائة صندوق من العسل أريدها لصيف كذا وكذا، فيحدد الشهر ويحدد الأجل الذي يريد أن يدفع له هذا الملتزم هذه السلعة فيه، فيقول البائع: قد التزمت لك هذه المائة صندوق من العسل أو من التمر أن أحضرها لك في نهاية شهر شوال، وقيمتها عشرة آلاف ريال أو قيمتها ثمانية آلاف ريال، فتعجل الثمن وتؤجل المثمن، وذلك في موزونٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم، وكذلك إذا وقع في الكيل فتقول له: أريد مائة صاعٍ من شعير أو أريد مائة صاع من بر، أريدها في نهاية شهر شوال بكم؟ قال له: بألفين أو بثلاثة آلاف ريال، فقال: خذ هذه الثلاثة آلاف ريال وهذه المائة صاع أكتبها ديناً عليك تحضرها لي في نهاية شهر شوال، فأسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم بثمنٍ معلوم، ويعطيه الثمن نقداً، هذا بالنسبة للمكيلات والموزونات، والمعدودات مثل ما يقع في بيع السيارات الموجودة الآن، يأتي ويقول لك مثلاً: السنة القادمة هناك نوع من السيارة سواءً كانت من هذا الصنف أو من هذا الصنف قيمتها عشرة آلاف ريال، أو قيمتها مائة ألف ريال فتدفع المائة ألف ريال مقدماً، قبل أن يأتي ما يسمى بالموديل أو بأي اسم يعبر عن الصنف الذي يهيأ للسنة القادمة تدفع المعجل مائة ألف أو مائتي ألف تدفع القيمة ثم يعطيك أوصاف السيارة كاملة، هذا إذا قيل بجواز السلم في المعدودات؛ لأن السيارة من المعدودات؛ ولأن من العلماء من يرى أن السلم لا يقع إلا في مكيل أو موزون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)، وهناك من يرى أن المعدود كالمكيل والموزون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالمثل على مثله، ولم يرد استثناء المعدود كما ورد في بيع الربا، ولذلك قالوا: يبقى المعدود منبهاً عليه بالنظير على نظيره، فإذا قلنا بأن المعدود يقع فيه بيع السلم، فحينئذٍ يمكن أن يعطيه -مثلاً- مائة ألف لقاء السيارة أو لقاء السيارتين أو الثلاث أو اشترى منه دفعةً من السيارات من نوعٍ معين أو من صنف معين قال: هذا النوع إذا حضر فأنا: أشتريه منك بمليون أو بنصف مليون، كذلك أيضاً ربما يقع في المعدودات من أدوات الكهرباء فيقول له: أريد منك مائة غسالة أو مائة ثلاجة -مثل ما يقع بين التجار بعضهم مع بعض- هذه المائة غسالة أو المائة ثلاجة أريدها إلى أجل معلوم وهذا ثمنها، فإذاً هذا البيع فيه توسعةٌ على البائع من جهة كونه استفاد بثمنٍ معجل أو استفاد بزرع أرضه وأخذ ثمنٍ معجل، وتوسعةٌ على المشتري بتخفيف القيمة عليه.(169/4)
مشروعية السلم
والسلم والسلف لغتان، يقال: السلم ويقال: السلف، والسلف لغة أهل المشرق، والسلم لغة أهل الحجاز، والأصل في مشروعيته دليل الكتاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]، كان ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن يقول: (أشهد أن الله قد أحل السلم) ويتلو هذه الآية، وكأنه يرى أن هذه الآية نزلت في السلم؛ وذلك لأنها نصت على الدين، وبيع السلم يكون على إسلام الثمن وتعجيله والسلف في الْمُسلَّم وتأجيله، وأما دليل السنة فما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أسلف فليسف في كيل معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)، فهذا الحديث -كما يقول العلماء- أصلٌ في مشروعية السلم، وكذلك حديث الأنباط من الشام أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسلفونهم في الحنطة ويعطونهم من الغنائم إذا غنموها إلى أجلٍ معلوم، وسئلوا: هل كان لهم زرع أو لم يكن لهم زرع؟ قال الراوي: ما كنا نسألهم عن شيء من ذلك.
فاتفقت هذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشروعية السلم وجوازه، ومن هنا أجمع العلماء على جواز بيع السلم.
ومناسبة ذكر بيع السلم بعد باب النسيئة أن باب النسيئة ثبت فيه التحريم لبيع الدين بالدين، وبينا فيه أنه لا يجوز بيع الدين بالدين ثم ذكرنا الصرف وبينا في الصرف حرمة النسيئة من الطرفين أو من أحدهما، فلما كان الكلام متعلقاً بالصفقات المشتملة على البيوع المؤجلة، وكان بيع السلم بيعاً مؤجلاً مرخصاً فيه ناسب أن يذكر المباح المستثنى من المحرم فيما سبق، ومحل بيع السلم إذا لم يكن في الربويات، فإذا كان في الصنف الربوي كأن يقول له: أعطيك مائة صاع من البر بمائة صاع من البر مع اتحاد الصنف لا يجوز، أو أعطيك مائة صاع بر الآن وتعطيني مائة صاع شعير، أو أعطيك مائة صاع بر الآن وتعطيني مائة صاع من التمر السكري، فهذا لا يجوز؛ لأنه لا بد في البر مع التمر أن يكون يداً بيد، سواءً اتحد الربوي أو اختلف، هذا حاصل ما يقال في مقدمة باب السلم.(169/5)
تعريف السلم
قال رحمه الله تعالى: [وهو عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجلٍ بثمن مقبوضٍ بمجلس العقد].
يقول رحمه الله برحمته الواسعة وأنار قبره بأنواره الساطعة: (وهو) أي: البيع السلم (عقدٌ)، العقد في لغة العرب: التوثيق والإبرام، يقال: عقد الحبل إذا أدخل بعضه في بعض، وعقدة الحبل معروفة، فيكون في المحسوسات كعقد الحبل وعقد العقال، ويكون في المعنويات، كعقدة النكاح وعقدة البيع فيقولون: عقد بيعٍ أو عقد نكاح قال تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة:235]، فالعقد يستعمل في المحسوسات ويستعمل في المعنويات، وأما في الاصطلاح فالعلماء إذا وجدتهم يقولون: هذا عقد، فاعلم أنه إيجاب وقبول، إيجاب من البائع وقبول من المشتري، إن كان الإيجاب والقبول على بيعٍ قلت: عقد بيع، وإن كان الإيجاب والقبول على إجارة قلت: عقد إجارة، وإن كان الإيجاب والقبول على رهن، قلت: عقد رهن.
فقال رحمه الله عن بيع السلم: (هو عقدٌ) أي: إيجاب وقبول على السلف، أو إيجاب وقبول على السلم، وعلى هذا إذا قال: أسلمتك هذه العشرة آلاف بمائة صاعٍ من بر، قال: قبلت، فقول المشتري: أسلمتك هذه العشرة آلاف بالمائة صاع من البر إلى نهاية السنة، وقوله: قبلت، إيجاب وقبول، وهذا عقدٌ، والعقد يستلزم وجود الطرفين: الموجب والقابل، والعقد يتضمن الصيغة، والصيغة تستلزم وجود الطرفين: الموجب والقابل.
وقوله رحمه الله: (عقدٌ على موصوفٍ في الذمة) الموصوف المراد به: محل العقد، وصفة الشيء: حليته وما يتميز به، سواء كانت من الأوصاف الحسية أو الأوصاف المعنوية، فقوله: (على موصوفٍ في الذمة) أي: أن الإيجاب والقبول ينصب على شيء موصوف في الذمة، فمثلاً: قوله: مائة صاع، يقول أولاً: مائة فيذكر القدر، ثم يقول: صاع، فيحددها ويميزها، سواءً من برٍ أو من تمر أو من شعيرٍ أو من زبيب.
إلخ.
فإذاً السلم يكون على موصوفٍ، وهذا الموصوف يكون في الذمة، فخرج العقد على المعين، كأن يقول له: هذه العشرة آلاف بهذا البر هذا ليس بسلم وليس بسلف؛ لأنه حاضر وهو بيع معجل، ولا يكون السلم إلا في البيوع المؤجلة، لذلك بعض العلماء يقول في تعريفه: بيع العاجل بالآجل وبيع المعجل بالمؤجل، وقوله رحمه الله: (على موصوفٍ في الذمة) هذا ينبني على ما ذكرنا في السابق أن المبيع إما أن يكون بالعين وإما أن يكون بالذمة، فالمعين أن تقول: هذا، وتحدده وتبينه، أو تقول: سيارتي، وهو يعلم أنه ليس لك سيارة غيرها، هذا معين، أما الموصوف في الذمة فهو أن يصف الشيء ويحدده والذمة محل في الإنسان قابل للالتزام والإلزام، أي أن هذا المحل قابل أن يلتزم، فيقول لك: في ذمتي عشرة آلاف، فالذمة ليست بشيء مشاهد كالرأس واليد، بل الذمة وصف اعتباري، فقوله: (موصوفٌ في الذمة): أي أنه في ذمته، أي: أدخل في ذمته وتعلقت ذمته بذلك الشيء أنه يحضره لك، وأنه يقوم بإنجاز ما وعدك به عند حلول الأجل.
قال: (عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجل بثمنٍ).
الباء للمقابلة والبدلية، تقول: هذا بهذا، وعقود السلم تقوم على الثمن المعجل لقاء المثمن المؤجل، فقال: (بثمن) والثمن هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أسلف فليسلف، -يعني: فليعطِ، وهو الثمن المعجل-، في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجلٍ معلوم) إلخ.
وهذا الثمن يكون حاضراً في مجلس العقد، وسيذكر المصنف رحمه الله له شروطاً لابد من توفرها لكي يحكم بصحة العقد واعتباره، فابتدأ رحمه الله بتعريف السلف وبيانه، وهذا مبنيٌ على أن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ومن عادة العلماء أنهم يبدءون أولاً بتعريف الأشياء ثم يبينون أحكامها.(169/6)
ألفاظ السلم
قال رحمه الله: [ويصح بألفاظ البيع والسلم والسلف بشروط سبعة].
يقول رحمه الله: هذا النوع من البيع -وهو بيع السلم- يصح بألفاظ: البيع والسلم والسلف، فإذا سألك سائل وقال لك: قد علمتُ أن بيع السلم عقد وعلمتُ أن العقد يقوم على الإيجاب والقبول، فهذا الإيجاب وهو قوله: أسلفت، هل له ألفاظٌ مخصوصة؟ والإيجاب يكون تارةً من البائع وتارةً يكون من المشتري -فالجواب أنه إذا أوجب بالسلم وابتدأ به عرضاً وقال: أسلفتك، أو قال: أسلفني، أو قال: أسلمتك، أو قال: أسلمني عشرة آلاف الآن أعطيك بها مائة صاع إلى نهاية السنة، قال: قبلت فالإيجاب يقع بلفظ السلم، ويقع بلفظ السلف، ويقع بلفظ البيع، هذه ثلاثة ألفاظ اختار المصنف رحمه الله أن عقد السلم يقوم عليها: السلم والسلف والبيع، وغير ذلك لا يصح به؛ لأن السلم رخصة وبيوع الرخص تتقيد بألفاظها.(169/7)
شروط عقد السلم
قال رحمه الله: [بشروط سبعة].
أي: لابد من توفر هذه الشروط لكي نحكم بصحة السلم، فهي شروط صحة، فإذا وجدت هذه الشروط صح العقد، فإذا سألك تاجر عن بيعٍ تتأمل البيع، فإن كان الثمن مدفوعاً لقاء مثمن معجل خرج عن كونه سلماً، لكن لو كان الثمن معجلاً والمثمن مؤجلاً فانظر رحمك الله هل هذا النوع من المعجل والمؤجل من جنس السلم المأذون به شرعاً أو لا، فإذا جئت تحكم بأنه سلم شرعي أو غير شرعي تحتاج إلى سبع علامات، وهي التي سماها العلماء بالشروط، وهذه العلامات إن وجدت حكمتَ بصحة السلم، وإن فقدت أو فقد أحدها حكمت بعدم صحته، فقال رحمه الله: (ويصح)، إذا قال: يصح بشروط، فمعنى هذا أنها شروط صحة، وإذا قال: يجب بشروط فمعنى هذا شروط وجوب، فهذا نوع من الشروط وهو: شروط الوجوب، وهذا نوع من الشروط يسمى: شروط الصحة، وشروط الصحة علامات وأمارات وضعها الشرع، إن وجدت حكمنا بصحة العبادة والمعاملة وإن فقدت حكمنا بعدم صحتها ولو فقد شرطٌ واحد، على تفصيل في العبادات والمعاملات، وهذه الشروط يأخذها العلماء من نص الكتاب والسنة، فالشروط علامات وأمارات نصبها الشرع، فإما أن تؤخذ من نص الكتاب أو من نص السنة أو يقع عليها إجماع أو كان ثم نظر صحيح، نبه الله سبحانه وتعالى في دليل كتابه أو سنة رسوله على اعتبار هذا الشرط بالمعنى.(169/8)
الشرط الأول: انضباط الصفات
قال رحمه الله: [أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع].
يقول رحمه الله: (أحدها) وهو الشرط الأول (انضباط صفاته)، أي: صفات الشيء المسلم فيه، (انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع)، أن يكون من جنس ما ينضبط بالصفات، والسبب في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلومٍ أو وزنٍ معلوم)، فقيد الشيء المسلم فيه بكونه منضبطاً فقال: (في كيلٍ) ثم قال: (معلوم)، ثم قال: (في وزنٍ معلوم)، ومعنى هذا: أنه لا بد وأن يكون منضبطاً بطريقةٍ يندفع بها التنازع والاختلاف، مثلاً: لو جاء رجلٌ تاجر إلى رجل عنده مصنع أو -مثلاً- يقوم بتجارة الأواني -إذا كانت الأواني منضبطة وقلنا بالسلم في المعدودات- فقال له: أريد مائة وعاء أو كأس، أو مائة صندوق من الكأس من النوع الفلاني، إن كان هذا الكأس مثل ما هو في القديم يصنعونه ولا ينضبط، فإذا جاء الصانع يصنعه ربما كان واسعاً وربما كان ضيقاً وربما كان طويلاً وربما كان قصيراً، فما ينضبط بصفةٍ معينة، فإذا قلنا: يجوز، فمعنى هذا أنه سيعطيه العشرة آلاف مثلاً في شيءٍ قد يختاره المشتري حينما أعطاه العشرة آلاف على أنه متوسط أو جيد فإذا به يأتي بالأفواه الضيقة، أو يأتي بأكواب بعضها كبير وبعضها صغير، فيحصل الاختلاف ويقع التنازع وتقع الشحناء فيقول: لا.
أنا ما قصدت هذا، فيقول هذا الآخر: أنت لم تقل إلا هذا، فهذا قد يحصل؛ لأنه شيءٌ غير منضبط، فالبيوع والمعاملات من قواعد الشريعة، ومن الأصول الشرعية أن المعاملات إذا أفضت إلى التنازع أو كانت على وجهٍ يفضي إلى الشحناء والبغضاء حرمت، لأنها تقطع أواصر الأخوة بين المؤمنين، والدنيا أحقر من أن تفسد الدين، ومن هنا حرم الله بيع المسلم على بيع أخيه، وحرم النجش، وحرم الغش؛ لأنه متى ما دخلت المعاملة المالية لإفساد الدين منع الشرع منها وحرمها، فإذاً لو أجزنا السلم وأجزنا للرجل أن يدفع مبلغ العشرة آلاف في شيء لا ينضبط فقد يظن أن التاجر سيعطيه شيئاً كاملاً فيأتيه به ناقصاً، فيقول له: يا أخي! هذا ناقص، فيقول: أليس هذا كأساً؟ فيقول: بلى، فيقول: أليس هذا يسمى طبقاً؟ فيقول: بلى، فيقول: أنت طلبت مني مائة طبق وهذه مائة طبق، فإذاً إذا لم يكن هناك انضباط بالكيل أو بالوزن ولا كان هناك وصف ينضبط به الشيء فإنه لا يندفع التنازع وتقع الشحناء وتقع البغضاء فحرم الشرع هذا النوع من المعاملات، فلا يصح السلم إلا إذا كان منضبطاً، وهذا شرطٌ أجمع عليه جماهير العلماء رحمهم الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه عليه بقوله: (في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم)، فجعل المسلَّم فيه مما ينضبط، فلو سألك سائل: ما الدليل على اشتراط هذا الشرط؟ تقول: لأن الأصل حرمة السلف وجاء الشرع باستثنائه، ولكن فيما ينضبط، فوجب تخصيص الرخصة فيه بمحلها.(169/9)
حكم السلم في الأطعمة غير المنضبطة
قال رحمه الله: [وأما المعدود المختلف كالفواكه والبقول والجلود والرءوس والأواني المختلفة الرءوس والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرءوس والجواهر والحامل من الحيوان وكل مغشوش وما يجمع أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين: فلا يصح السلم فيه].
قرر المؤلف الشرط في صحة السلم أن يكون بما ينضبط، ومفهوم هذا الشرط أن الشيء الذي لا ينضبط لا يصح السلم فيه، فقال رحمه الله: (كالفواكه)، وتعرفون أن مفاهيم الشرط في المتون معتبرة، فلما قال: (كالفواكه) يعني: إذا باعه سلماً في فواكه فقال له: أسلمتك -مثلاً- في الموز، والموز من المعلوم أن فيه الصغير وفيه الكبير، خاصةً في القديم حين كان يباع بالعدد، وفي البرتقال أو في التفاح أو في الكمثرى أو نحو ذلك من الفواكه فقد كانت تباع عدداً وإن كانت في زماننا تباع وزناً، لكن هذا المسلم فيه وهو الفواكه لا ينضبط؛ لأن فيه الكبير وفيه الوسط وفيه الصغير، فهو مختلف الأحجام مختلف الرءوس، ولذلك قالوا: إذا كان من جنس الأطعمة ولا ينضبط كالفواكه: لم يصح.
قال رحمه الله: [والبقول].
إذا نظرنا إلى المعدود من البقوليات والكراث ونحوها فإنها لا تنضبط؛ لأنها من ناحية الحجم فيها الكبير وفيها الصغير، وحينئذٍ يقع الاختلاف بين البائع والمشتري مثلما ذكرنا فيما لو أسلمه في معدود لا ينضبط، وهذا من جنس الأطعمة، وقد مثل المصنف بالفواكه والبقول، والأمر يشمل الأطعمة الأخرى فلا ينحصر الأمر في الفواكه أو في البقول، مثلاً: لو أسلمه في شيء من أنواع الأطعمة الأخرى التي لا تنضبط، مثلاً: الكمثرى أو الخيار أو القثاء أو الطماطم أو البطاطا أو البطيخ فإنه لا ينضبط فلو قال له: أسلفتك هذه الألف ريال في مائة من البطيخ، ويكون موسم البطيخ في أول رجب فإنه لا يصح؛ لأن البطيخ لا ينضبط، ولو أسلمها في قرع فالقرع لا ينضبط كذلك، إذاً لو سألك تاجرٌ خضروات عن بيع السلم على هذا الوجه تقول: لا يصح؛ لأنه لا ينضبط، والسنة قد دلت على لزوم الانضباط دفعاً للشحناء والتنازع كما يفهم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يسلم في كيلٍ معلوم أو وزن معلوم إلى أجلٍ معلوم)، وهكذا لو سأل بائع البقول تقول: إن البقول لا تنضبط، أما لو انضبطت وكانت من الطعام المنضبط لأجزناه مثلما تقدم معنا، ومثلاً الآن نجد بعض شركات الأطعمة تتكفل بالطعام ويكون وزنه معلوماً وكيله منضبطاً، وتوضع في أغلفة معينة لأحجام معينة، فهم يعطون المشتري عينة قبل أن يعطوه الشيء المسلم فيقولون: هذه عينة هذا النوع ونعطيك من هذا النوع والصنف، وفعلاً إذا جاء الأجل يسلمونه بذلك النوع المعين أياً كان المطعوم، حتى ولو كان من الحلويات، فلو أنه أسلمه من الحلويات الموزونة وقال له: هذه ألف ريال في حلوى من النوع الفلاني مقابل عشرة صناديق منها -مثلاً- خمسة صناديق من النوع الفلاني والصنف الفلاني فيأتي التاجر إلى تاجر الجملة ويعطيه هذا المبلغ، في بعض الأحيان يعطيه إلى شهر ويقول: هذه البضاعة ليست موجودةً عندي، ولاحظوا أن أكثر ما يقع هذا النوع من البيع بين التجار في بيع الجملة؛ لأن هذا التاجر يحتاج إلى توريد هذا الشيء من أجل أن يعرضه على الأفراد، وقليلاً ما يقع في بيع الأفراد، فأكثر ما يقع بيع السلم في بيع الجملة وأكثر من يسأل عنه التجار إذا اشتروا صفقات كبيرة؛ لأنه غالباً ما يشتريها إلى أجل معلوم وتكون منضبطة بصفاتها ومنضبطة أيضاً بمواعيدها، فإذا كانت طعاماً فقد ذكرنا أن الطعام إذا كان من الفواكه أو البقول التي لا تنضبط لم يصح السلم.(169/10)
حكم السلم في الجلود والرءوس
قال: [والجلود]، الجلد منه ما هو رقيق ومنه ما هو ثخين، ومنه ما يسلم من القد وما لا يسلم من القد، وبناءً على ذلك لا يصح السلم في الجلود؛ لأن الجلود لا تنضبط، ثم لا تنضبط أحجام الحيوانات نفسها، أي: أنه لو أن رجلاً في المسلخ يأتي -وكثيراً ما يقع هذا في تجارة الأحذية أكرمكم الله فالتجار يحتاجون إلى الجلود ليصنعوا منها حقائب وأوعيةً أو غير ذلك -يأتي إلى جزار ويقول لصاحب المجزرة: احفظ لي مثلاً مائة جلد من الغنم وهذه ألف ريال، أو مثلاً: أريد عدداً معيناً من جلد البقر وهذه ألف ريال، ويحدد له العدد، هل يصح؟ نقول: لا يصح؛ لأن الجلد من الشاة المذبوحة أو البقرة أو الناقة المنحورة لا نعلم أهو من النوع الكبير أم الصغير، فما تستطيع أن تضبط أحجام الحيوانات لكن بسنها قد تنضبط إذا كان المبيع داخلاً في البيع، لكن أنت تريد الجلد، ولا تريد المبيع حياً ولا تريد لحمه موزوناً، إنما تريد الجلد، والجلد فيه الصغيرة والكبير فلا ينضبط بوزنه؛ لأنه ليس من جنس ما يوزن إنما يراد به الحجم والجلد، ولذلك يمتنع السلم في الجلود، فلو سألك من يشتري الجلود: إذا طلبت من المسلخ -مثلاً- مائة جلد غنم، وأعطيته ألفاً حاضرة على أنه سلم فهل هذا جائز؟ تقول له: لا يجوز، قال: يا أخي! هذه تجارة، فما الحل؟ قل له: الحل يسير، وكل وكالة، وقل له: اشترِ لي الجلود في موسمها ثم لك عن كل جلدٍ تحضره خمسة ريالات أو ريالان أو ثلاثة ريالات، فتعطيه حقه وتكون إجارة؛ فحينئذٍ الناس لا تتعطل مصالحهم، ويكون هناك البديل الشرعي الذي يضمن فيه السلاخ حقه والجزار حقه ويضمن أيضاً فيه التاجر حقه.
قال: [والرءوس].
مثلاً: الذين يبيعون الرءوس المشوية مثل المندي -وهذا يقع في الحاضر كما كان يقع في القديم، فكانوا يبيعونه بهذه الصفة وكانت هذه التجارة موجودة ومشهورة- يأتي الرجل صاحب الحفرة الذي يشوي الرءوس، فلا يستطيع أن يذهب ويحضر هذه الرءوس، فيقول للجزار: أريد مائة رأس من الغنم من أجل أن أطبخها وهذه ألف أسلمتكها في مائة من رءوس الغنم، فنقول: لا يصح؛ لأن الرءوس لا تنضبط وليست من جنس ما ينضبط، والحل أن يعدل إلى الإجارة؛ لأن الرأس ولو كان من الغنم وعلم جنسه وعلم نوعه لكن لا ينضبط فهناك رأس كبير وهناك رأس صغير فالرءوس لا تنضبط، وأحجامها ليست بمنضبطة فلا يصح السلمُ فيها دفعاً للتنازع.(169/11)
حكم السلم في الأواني
قال: [والأواني المختلفة الرءوس].
بعد أن بين رحمه الله السلم بالمطعومات وبالجلود شرع رحمه الله في غيرها كالأواني، والأواني تنقسم إلى قمسين: منها ما ينضبط ومنها ما لا ينضبط.
أما ما ينضبط من الأواني فغالب ما في زماننا الآن، حيث وجدت المصانع وانضبطت الأواني سواءً كانت زجاجية أو نحاسية أو حديدية انضبطت بالصفات، حتى إنك تجد كل صنف من الأواني له رقم معين، وله وصف معين والتجارة به معلومة، والمصانع التي تقوم بصنعه ودقه ونقشه ونحو ذلك معلومة، فإذا كانت الأواني منضبطة جاز السلم فيها، فلو جاء تاجر الأواني وقال لصاحب المصنع: هذه عشرة آلاف ريال أعطيكها وأسلفها لك لقاء مائة صندوق من صنف كذا من الأواني الزجاجية أو النحاسية أو غيرها فيقول: قبلت.
فإذا كانت الأواني معلومة النوع والصنف ولها أرقامها ولها صفاتها المنضبطة فيها صح السلم أجلاً؛ لأن المقصود أن يكون المسلم منضبطاً معلوم الصفات وهذا متحقق في السلم على هذا الوجه.
أما لو كانت الأواني غير منضبطة ومختلفة الرءوس، مثل ما ذكر: القماقم من النحاس، ففي القديم كان النحاس إذا صنع صنعاً يدوياً يختلف بالصنعة، فتارةً يوسع فوهة الصاع وتارةً يضيقها، وتارةً يصنع المد فيضيق فوهته وتارةً يوسعها، فلا تنضبط في هذه الحالة، فمثل العلماء بالأواني المختلفة الرءوس، فهناك أوانٍ رءوسها ضيقة وأوانٍ رءوسها واسعة، ثم الأوساط، فبعضها أوساطها واسعة وبعضها أوساطها ضيقة، ومثل ذلك ما يسمى في عرفنا (الزير) المصنوع من الفخار وأواني الفخار ونحوها هذه مختلفة الرءوس مختلفة الأوصاف لا يمكن ضبطها أما لو صنعت على وجهٍ تنضبط به وأمكن ضبطها جاز السلم فيها على القول بجواز السلم في المعدود.
قال: [والأوساط]، كذلك [كالقماقم والأسطال الضيقة الرءوس].
الأسطال: جمع سطل، والسطل من المعلوم أنه تكون له العروة، ويكون واسعاً ويكون ضيقاً، ومثلها: الطشت، فالأسطال تضيق وتتسع، ورءوسها تختلف، والقماقم أوساطها تتسع وتضيق، فهذه وأمثالها لا يصح السلم فيها، فالقاعدة كلها تدور حول الشيء المنضبط، ومثّل العلماء رحمهم الله بهذه الأمثلة وطالب العلم لا يحس بفجوة بينه وبين المسألة؛ لأن المسألة تقوم على التمثيل والتنظير وهم تارةً يحكون مثالاً من الطعام ومثالاً من الأواني؛ لأنه لو مثّل بالطعام ربما أعجزك سؤال في الأواني، لكن حينما يجعل لك مثالاً من الطعام ومثالاً من الأواني، والطعام نفسه يعطيك مثالاً على ما اختلف في خلقته، ومثالاً على ما يحصد مثل البقول بعد أن يحصدها ويحزمها، فحزمة واسعة وحزمة ضيقة فيعطيك أمثلة للتنظير حتى تستطيع أن تطبق هذه النظرية على أفرادها، وتضع القاعدة وتطبقها على فروعها، فالقاعدة كلها تدور حول الانضباط، فإن كان المبيع منضبطاً صح السلم فيه مكيلاً كان أو موزوناً أو معدوداً على القول بجواز السلم في المعدود، وإن كان غير ذلك فلا يجوز.(169/12)
حكم السلم في الجواهر
قال: [والجواهر].
الجواهر لا تنضبط لأنها مختلفة الرءوس، ومختلفة الأحجام في القديم، لكن في زماننا اليوم أمكن تصنيعها ووضع ضوابط معينة، فتجار الجواهر يضعون مثلاً للألماس أحجاماً معينة بأرقام معينة، بل حتى إن الآلات التي تصنعها لها أرقام محفوظة ودقيقة، والتجار الذين يتعاملون بالجواهر يعلمون ذلك، فيأتي طالب العلم ويقول: الذي أدركنا عليه العلماء أن الجواهر لا يجوز فيها السلم، والسبب أننا قرأنا في الفقه أن الجواهر لا يسلم فيها، لكن حينما يعلم أن العلة هي الانضباط يعلم أن مدار الأمر على وجود هذا الوصف وهو الانضباط، فإن انضبطت الجواهر كما هو موجود وكان تجار الجواهر لهم فيها أرقام معينة يضبطونها بها صح السلم، وإن كانت الآلات التي تصنع بها يديوية لا تنضبط بها لم يصح السلم.
وكذلك الأحجار الكريمة، حيث توجد الآن بعض الآلات التي تقص الأحجار الكريمة قصاً معيناً بأحجام معينة، فإذا انضبطت هذه الأحجام صح السلم وإذا لم تنضبط لم يصح.
قال: [والحامل من الحيوان].
والحامل من الحيوان كذلك، فهو مجهول ولا يدرى قدره ولا يعلم ما فيه، فلو أسلم: في مائة شاة حامل في بطونها أولادها ما يصح، وهكذا الإبل وهكذا البقر؛ لأنها مجهولة لا يعلم ما فيها.(169/13)
حكم السلم في المغشوش والمخلوط غير المتميز
قال: [وكل مغشوش].
من دقة المصنف ذكر لك ما اختلف في حجمه، فإذا قلت: إن مختلف الحجم لا ينضبط تأتي أمورٌ ملحقة بهذا المعنى ليست من جنس الأحجام كالسوائل، فالسوائل ممكن ضبطها بالوزن وممكن ضبطها بالكيل، مثلاً: عندنا العلبة التي يوضع فيها العود، لو قال له: أسلم في مائة علبة من العود، فهذا في حكم المكيل، وتكون معدودة بالعدد على القول بجواز السلم في العدد فلا إشكال، وهناك أنواع من العود: كالكمبودي أو الهندي، فالنوع المخصوص الذي يريده، إذا وضع له ضابطاً في هذا النوع من العود لا إشكال، لكن لو أن السلم وقع على نوع من الطيب مخلوط، فإنه لا ينضبط إذا كان مخلوطاً، فإن طيب الأخلاط كما سيأتي مثل مختلف الرءوس ومختلف القماقم من حيث المعنى، فالأمر لا يختص بالجوامد بل يشمل حتى السوائل.
قال رحمه الله: [وما يجمع أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين].
جاء المصنف رحمةُ الله عليه بأمثلة من الجوامد، فأعطى مثالاً على الطعام، وأعطى مثالاً على غير الطعام، ثم بعد ذلك ذكر السوائل، قال: (وما يجمع أخلاطاً)، يعني: يجمع أكثر من نوع فلا ينضبط به، ولا يمكن أن تحدد كم نسبة هذا من نسبة هذا فلا يصح، ما السبب؟ لأنه يوجب الشحناء والنزاع، ولا يمكن به حفظ الحقوق، لا حفظ حق البائع ولا حفظ حق المشتري؛ لأن الأخلاط يقع فيها الخطأ في التقدير والضبط فيها يكون متعذراً أو متعسراً.
قال: [أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين].
أما إذا تميزت جاز، فمثلاً لو عندنا صنف من الطيب كصنف يخلط من العودة والورد، وكان للعودة نسبة معينة في العلبة، وهي نصف العلبة، فيخلط بطريقة معينة يتميز بها، كأن يكون نصف التولة من العود ونصف التولة من الورد، ويخلط، وأهل الخبرة يضبطونه بذلك: صح؛ لأن مدار المسألة على الانضباط فإذا لم ينضبط: لم يصح.
قوله: (كالغالية والمعاجين فلا يصح السلم فيه).
فلا يصح السلم فيه للعلة التي ذكرناها.(169/14)
حكم السلم في الحيوان والثياب المنسوجة من أنواع
قال رحمه الله: [ويصح في الحيوان والثياب المنسوجة من نوعين].
أي: ويصح السلم في الحيوان وذلك بذكر جنسه ونوعه وسنه، فيقول مثلاً: أسلم في مائة من الإبل في سن البكر أو مائةٍ خياراً رباعياً، أو مائة جذعة قالوا: يصح، وهذا مبني على الخلاف المشهور، وهو هل المعدود يدخل في جنس السلم أو لا؟ وللعلماء في هذه المسألة وجهان، قال جمهور العلماء: يصح السلم في المعدودات؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الكيل والوزن تنبيهاً على العدد.
قال: [والثياب المنسوجة من نوعين].
الثياب المنسوجة -أي: المخيطة- معدودة؛ لأن الثياب إذا لم تكن مخيطة فإنها مذروعة وليست بمعدودة، وحينئذٍ أدخل الثياب في جنس المسلم في باب العدد، والثوب لا يخلو من حالتين: إن كان من قماشٍ واحد فلا إشكال، مثل الموجود الآن عند تجار القماش، يأتي إلى تاجر ويقول له: هذه مائة ألف، أريد -مثلاً- بيعة من الثياب المفصلة من نوع -مثلاً- (الأصيل) الموجود الآن عندنا، لو طلب مائة ثوب من (الأصيل)، قال: أريدها -مثلاً- في موسم رمضان في نهاية شهر شعبان، صحت على القول بالعدد، فيصفه بأوصافه ويحدد الأوصاف الموجودة فيه، أو كما يوجد -مثلاً- الذي يسمى في عرفنا: (الفنائل) ونحن نمثل بأشياء موجودة الآن، فيكون التطبيق أوضح -قال له: أريد أن أشتري منك -مثلاً- بيعة الفنائل أو الشماغ أو الغتر ونحوها، فحدد نوعها وصنفها وعددها، وحدد الأجل الذي يستلم فيه وأعطاه -مثلاً- مائة ألف أو أعطاه مائتي ألف لهذه البيعة صح وجاز؛ لأن الثوب منضبط إذا كان من مادة واحدة وخام واحد ولا إشكال فيه، يقول: أريد ألوانها بيضاء أو ألوانها مختلفة أو أريد الألوان الآتية: الأبيض، الأخضر، الأصفر.
إلخ، يكون هناك نوع من الانضباط التام ببيان الجنس والنوع والصنف والمقاسات والأطوال إلخ، هذا يصح، ولا إشكال عندنا فيه على القول بصحة السلم بالمعدود، والمصنف بعد أن انتهى من الأشياء التي تكون في الأطعمة وتكون في السوائل والجوامد شرع في الثياب، فإن كانت الثياب منسوجة من أكثر من نوع ونسجها لا يمكن أن ينضبط لا يصح السلم، كما ذكرنا فيما تقدم إذا كان لا يمكن أن ينضبط، لكن إذا كان نسجها ينضبط وكان تحديد كل خام وقدره معلوماً عند أهل الخبرة صح السلم فيه وجاز.(169/15)
حكم السلم فيما خلطه غير مقصود
قال رحمه الله: [وما خلطه غير مقصودٍ كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها].
أي ويصح السلم في الشيء الذي خلطه غير مقصود، ولو كان الشيء جمع أكثر من مادة، كالجبن، فمادته من اللبن مع الأنفحة، لكن هذا الخلط غير مقصود، فأنت عندما تشتري الجبن ما تريد الأنفحة ولا تريد اللبن منفصلاً، فالخلط فيه غير مقصود، فتشتري المادة من أجل الشيء الموجود دون النظر إلى الخلط الذي فيه، وهكذا خل التمر وهكذا الدبس، أو نحوه مما يكون فيه أكثر من مادة ولا يكون المخلوط مقصوداً بنسبه؛ لأنه إذا قصد بنسبه فمعناه أنه ينبغي أن نعطي كل نسبة حظها وحقها، لكن إذا كان الخلط فيه غير مقصود، أو كانت طبيعة صنعه تقوم على ذلك فإنه لا يؤثر ولا يضر؛ لأن خل التمر هو خل تمر، فلا تأتي تقول: خل التمر فيه مادة كذا ومادة كذا، فأريد خل تمر فيه نسبة (80%) من المادة الفلانية، وفيه: (20%) من المادة الفلانية، أي: أنه تختلف نسبه، فخل التمر صفةٌ واحدة وإن كان بعضه جيداً وبعضه أجود، لكن المادة واحدة، والخلط الموجود يراد بمادته ولا يراد بأجزائه وأفراده، لكن إذا اشتريت القماش مركباً من نوعين من الخام فإنه يراد لذلك، ولذلك تجد هناك ما فيه صوف وغير الصوف، وتجد الصوف له قيمة وغير الصوف له قيمة، كذلك الصوف له نسبته وغير الصوف له نسبته، فالمقصود أنه إذا كان الخلط غير مقصود جاز وصح.
قال: [والسكنجبين ونحوها].
والسكنجبين: نوع من الدواء، لو سألك صيدلي -مثلاً- أنه يريد أن يسلم إلى تاجر في الأدوية يقول له: هذه مائة ألف أريد -مثلاً- من الدواء الفلاني عدد كذا، فيحدد العدد ويحدد صنف الدواء والأشياء الموجودة فيه، فإذا تميز صح وجاز، وإن كانت الأدوية في تركيبها أخلاطاً، مثلاً: لو طلب منه شراباً لعلاج السعال، أو حبوباً لعلاج القرحة فهذه الأدوية مخلوطة، لكن هذا الخلط غير مقصود، إنما انصب السلم على مادةٍ مكتملة هي التي تسمى بالأسبرين أو هي التي تسمى -كما ذكر العلماء- بالسكنجبين وغيرها من الأدوية الأخرى فهي أكثر من مادة، لكنها بالخلط صارت مادة واحدة وأريدت مخلوطة، فلا تقل: القاعدة عندنا أن المخلوط لا يجوز السلم فيه، والخلط في الأدوية غير متميز فلا يصح، لا، فقد ذكر رحمه الله السكنجبين أصلاً للأدوية التي تنضبط بأعدادها أو بأوزانها أو تنضبط مكيلةً، ففي هذه الحالة إذا انضبطت جاز وصح السلم فيها، فلو سألك صيدلي أنه يريد بيعة من دواءٍ معين من شراب، أو يريد بيعة من حبوب لعلاج، وهذه البيعة بمائة ألف، وذكر لك الشيء الذي أسلم فيه من الأدوية وتميز بصفاته، فذكره منضبطاً بكيله إن كان مكيلاً أو بوزنه إذا كان موزوناً أو عدده الذي لا يختلف بأشكاله إن كان معدوداً صح وجاز، والعكس بالعكس، إن كان الخلط يراد فيه المواد منفصلةً لم يصح ذلك ولم يجز إلا بعد الانضباط.(169/16)
الشرط الثاني: ذكر الجنس والنوع
قال رحمه الله تعالى: [الثاني: ذكر الجنس والنوع].
يقول رحمه الله: (الشرط الثاني: ذكر الجنس) أي: جنس المسلم فيه (ونوعه)، فجنسه -مثلاً-: بهيمة الأنعام، ونوعه: من إبل أو بقر أو غنم، فلو قال له: هذه مائة ألف أسلمتكها في مائة رأس من الحيوان، لم يصح حتى يبين نوع جنس هذا الحيوان، فإذا قال: من بهيمة الأنعام قيل: لابد أن تذكر نوع بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم، فإذا قال: من الغنم، فإنه يُحدد: هل هي من الضأن أو من الماعز، وإذا قال: من الإبل، قيل: هل هي عرابي أو بختية، وكذلك البقر، هل هي من البقر أو من الجواميس، ففي بعض الأعراف يكون البقر والجواميس كالشيء الواحد، فإذاً لابد أن يحدد الجنس ويحدد النوع.
قال رحمه الله: [ذكر الجنس والنوع وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً وحداثته وقدمه].
إذا الفرق بين هذا الشرط والشرط الأول: أن الشرط الأول يحدد لك مكان السلم، ويخرج ما ليس بمحلٍ للسلم، فإذا قلنا: مكان السلم المنضبط -فقد يسلم في منضبط فيقول: هذه في مائة رأس من الغنم- لكن لو لم يحدد كم عددها وما هو نوعها ومن أي أنواع الغنم، من الماعز أو من الضأن، أو يقول: من الإبل ولا يحدد نوعها عرابي أو بختية ولا يحدد سنها، إذاً لابد للشيء أن يكون من جنس ما ينضبط ثم يضبط، إذاً: الشرط الأول شيء والشرط الثاني شيءٌ آخر، والشرط الثاني مركب على الشرط الأول، فإنه إذا وجد الشرط الأول وهو كامل منضبط يرد
السؤال
هل يطلقه بدون أن يذكر ما ينضبط به أم لابد من ضبطه بالمكيل كيلاً والموزون وزناً؟(169/17)
اشتراط ذكر الأوصاف التي يحصل بها الاختلاف في السلم
قال: [وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً وحداثته وقدمه].
أي يشترط أن يذكر هذه الأمور والأوصاف التي يختلف فيها المبيع ثمناً وكذلك رغبةً فيقول -مثلاً-: العودة الكمبودي أو الهندي هناك نوعان منه: نوعٌ قديم ونوعٌ جديد، كذلك التمر السكري: يكون للعام الماضي وللسنة الحالية، فلابد أن يبين هل هو قديم أو حديث؟ ولابد أن يذكر هذه الأشياء؛ لأن القديم له قيمة والحديث له قيمة، وقد يكون القديم أغلى من الجديد، مثلاً دهن العود القديم منه أفضل من الجديد.
أربعةٌ قديمهن أجود خِلٌ وخَلٌ دُهن عود عسجد الخِل: هو الصديق، فالقديم من الأصدقاء أجود من الجديد، وخَلٌ: الخَل القديم أفضل من الجديد، دُهن عودٍ: العود القديم أفضل من الجديد، عسجد: الذهب، الذهب القديم أفضل من الجديد، فهذه الأشياء تختلف في جودتها قدماً وحداثة، فإذا كان جديداً فإنه يكون أقل وأردأ، والعكس وارد فهناك أشياء جديدها أفضل من قديمها، كالتمور مثلاً، فإن التمور قديمها ليس كالجديد، فالجديد أفضل وأطيب، فحينئذٍ لابد أن يذكر: هل هو من القديم أو من الجديد دفعاً للتنازع، والقاعدة هي القاعدة، وخذ هذا أصلاً لا بد أن يسير عليه طالب العلم في المعاملات خاصةً بيوعات المعاوضات: أن كل شيء يختلف، سواءً قدماً وحداثة، كبراً وصغراً ونحو ذلك يختلف باختلافه الثمن، فلابد وأن يضبط البيع، ولا يمكن أن يصح البيع إلا إذا ضبط وحدد، أما لو أطلق فإن هذا مظنة التنازع ومظنة الاختلاف ومظنة لأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنك تشتري وأنت تريد الجديد وتقصد لنفسك الجديد فيعطيك القديم، تقول له: اشتريت أواني جديدة، قال: وأنا بعت أواني قديم؛ لأنك لم تشترط عليه الجديدة، فإذاً لابد من بيان ما تنضبط به صفاته وما يختلف به الثمن ظاهراً بقدم وحداثة ونحو ذلك.(169/18)
حكم اشتراط أجود أو أردأ شيء في السلم
قال رحمه الله: [لا يصح شرط الأردأ أو الأجود بل جيد ورديء].
إذا قلنا: إنه لابد أن تستوي الصفات فقال: هذه عشرة آلاف لقاء ألف صندوق -مثلاً- من التمر السكري من تمر هذه السنة، قال: وأشترط أن يكون أجود التمر السكري، لم يصح؛ لأن أجود أفعل، والأجود ما ينضبط، فأصبح المنضبط يئول بالشرط إلى ما لا ينضبط، فإن الأجود عندي ليس كالأجود عندك، والأجود عند البائع ليس كالأجود عند المشتري، وبناءً على ذلك إذا أدخل شرطاً يوجب الغرر فإنه لا يصح، فإذا قال: من الجيد، فالجيد وصف في السوق، وعندما يحصل التنازع بينهما نسأل أهل الخبرة ونقول: هل هذا جيد؟ فلو قال أهل الخبرة: نعم، هذا جيد، لزم المشتري أن يأخذه، لكن لو قال: أريد الأجود، فالأجود لا ينضبط؛ لأن الأجود عند المشتري ليس كالأجود عند غيره ومن هنا قالوا: يفرق بين الأجود والجيد؛ لأن الرديء وصف، وفي بعض الأحيان لا يقال: طيب ورديء وإنما يقال: رقم واحد، أو اثنين أو ثلاثة، أو درجة أولى، أو درجة ثانية، أو بالأماكن فيقال -مثلاً-: مشرقي أو مغربي أو جنوبي أو شمالي، فينضبط بالجهات ويضبط بالأوصاف، كل هذا يكفي إذا كان من جنس ما ينضبط، لكن إذا كان من جنس ما لا ينضبط ومما يوجب الغرر فإنه يئول إلى الأصل الذي ذكرنا أنه يوجب التنازع الذي يحكم بسببه بعدم صحة السلم.(169/19)
حكم إتيان البائع بما هو أفضل من المتفق عليه أو قبل الوقت
قال رحمه الله: [فإن جاء بما شرط أو أجود منه من نوعه ولو قبل محله ولا ضرر قي قبضه لزمه أخذه].
قوله: [فإن جاء بما شرط].
عرفنا أنه يشترط في المسلم فيه أن يكون مما ينضبط وأن تذكر صفات ضبطه، لو قال له: أريد من التمر السكري الجيد، يقولون: فاخر، وهذا في عرف الناس أن منه الفاخر، والفاخر يمتاز بكبر حجمه، وأيضاً: الري، فتكون الحبة من التمر ظاهرٌ فيها الريّ، وفي بعض الأحيان تراها كبيرة بسبب الكيماوي أو نحوه، لكن ما فيها ما يدل على الغذاء والري، فإذا جاءه به -مثلاً- من التمر الفاخر، وقال: هذا من جيد السكري، فإنه يكون قد جاءه بأفضل من الجيد وهو الأجود، فإذا قال المشتري: أنا اشتريت فاشترطت أن يكون من الجيد، فقال له البائع: جئتك بالجيد وزيادة، قال له: لا.
ما أريد إلا الجيد، فما الحكم؟ يلزم بأخذه؛ لأنه أعطاه صفته وزيادة إلا إذا وجد الضرر في أخذه، مثلاً: لو أن رجلاً اشترى نوعاً من الطيب من العودة وقال له: أريد الصنف الرديء الذي هو الدرجة الثانية، فقال له: قبلت أعطيك مثلاً مائة علبة منه في نهاية شوال بألف ريال أو بألفين، قال: اتفقنا، ففي نهاية شوال جاءه بجيد أفضل من الرديء قال له: ما أريد؛ لأن هذا أجود من الرديء الذي طلبت وأنا أريد الرديء؛ لأنه هو المرغوب؛ لأنني أبيع بين أناس فقراء لا يعرفون كلمة الجيد ولا يرغبون الجيد وأنا أتضرر، فمع كونه جيداً، لكنه يتضرر، فنقول: إذاً يلزم البائع بإحضار النوع الرديء؛ لأنه وإن كان قد أعطاه الجيد إلا أنه يفوت عليه مقصوده من تصريف البضاعة من محله، فيلزم بإحضار المثل.
إذاً ليست المسألة أنه إذا جاء بدل الجيد بأجود منه أنه ملزم بأخذه مطلقاً، وانظروا إلى العدل وكيف أن الفقهاء رحمهم الله يضعون الضوابط لرد الحقوق إلى أصحابها، فما دام أنه يريدها للتصريف والتجارة، ومثل هذا إذا كان أجود لا يتصرف فلا يلزم به، كذلك أيضاً ربما لو قال له: من تمرٍ رديء، والتمر الرديء يريد أن يبيعه علفاً للدواب فجاءه بتمرٍ جيد، فقال له: أنا لا أقبل هذا التمر؛ لأني أريده علفاً للدواب، ولا يمكن أن آخذ شيئاً طيباً يأكله الآدمي وأعطيه علفاً للدواب؛ لأن هذا لا أراه يرضي الله عز وجل، فالآدمي أحق به، فامتنع، كان هذا من حقه، وحينئذٍ يلزم البائع بإحضار الرديء الذي اتفق معه عليه.
قال: [ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه] (ولو قبل محله) لو أنه قال له: أريد هذا في نهاية شوال فجاءه به في نهاية رمضان، إذاً البائع لم يقصر مع المشتري، المشتري قال: أريد مائة غسالة أو مائة ثلاجة في نهاية شوال فجاءه بها في رمضان، فهو أحسن إليه، فبدل أن يتأخر عجّل، فقال له: لا أريدها الآن ولا أقبضها إلا في نهاية شوال، قلنا: يا أخي! هذه تجارة قد جاءت معجلة لماذا لا تقبضها؟ قال: لا، ليست هناك مصلحة، هذه المائة ثلاجة أريدها للحج والموسم، وأريد أن أبيعها، ولو أنني قبضتها الآن سأحتاج لمستودع أضعها فيه شهراً، وهذا يكلفني ويحملني عبئاً، فمع كون الأجل سبق، ومن المصلحة التعجيل، إلا أن هذا التعجيل يؤدي إلى ضررٍ للمشتري، فنقول: لا يلزم المشتري، وينبغي أن يبقى البائع إلى الأجل المحدد فيدفع له ما اتفقا عليه؛ لأنه يستضر بهذا، وقد يكون البائع في بعض الأحيان يريد أن يتخلص من ضرر وجود السلعة عنده وحينئذٍ يصرفها حتى يأتي بغيرها، ويكون هذا أخف مئونةً عليه؛ ولكنه يثقل على المشتري وحينئذٍ قالوا: إنه لا يلزم المشتري بالأخذ إلا في المحل، أي: في الوقت الذي اتفقا عليه والمكان الذي اتفقا عليه.
قال: [ولا ضرر في قبضه لزمه أخذه].
انظر دقة الفقهاء رحمهم الله، والله تعجب كيف خرجت هذه القيود وهذه الاستثناءات؛ لأن بعض المتون الفقهية عصارة فهم العلماء من خلال مخاصمات الناس ومن خلال فتاويهم ومن خلال الأقضية، وهذا الجهد الموجود في المتون الفقهية حصيلة تعب وعناء لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولذلك تجد الترتيب في الأفكار والدقة في التصريف وحسن الترتيب في التنظير، وكل ذلك من فضل الله عز وجل عليهم، ولا شك أن هذا توفيق من الله عز وجل، وهذا كله يدل على دقة العلماء وحسن احترازهم بالقيود ونحوها من خلال ما عالجوه من مشاكل الناس، فقال رحمه الله: (ولا ضرر في أخذه لزمه) معنى هذا: أن القاضي لا يلزم المشتري بالأخذ حتى ينظر، هل هناك ضرر في قبضه أو لا، فيقول: يا فلان! هل هذه سلعتك؟ قال: نعم، قال: واتفقتما على هذه السلعة؟ قال: نعم، فإذا ثبت عند القاضي أن السلعة هي السلعة انتقل إلى المسألة الثانية: يقول للبائع: ما دعواك؟ قال: دعواي أني أريده أن يقبض السلعة، ما دام أنه اعترف أنها سلعته فليقبضها؛ فيسأل القاضي المشتري: هل أنت اشتريتها واتفقت مع فلان على كذا وكذا؟ وكان الوعد بينكما كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: إذاً معنى ذلك أنه قدم بشهر، قال له: رحمك الله لماذا لم تأخذ؟ قال: إذا أخذتها ففيها ضرر عليّ، فالموسم لم يحضر بعد، ومعنى ذلك أنني سأتكلف حفظها، وإذا كانت دواباً سأتكلف علفها وسأتكلف مئونتها وحراستها والقيام عليها، فأنا لا أريد هذا الضرر، قال: هذا الضرر يقع عليك؟ قال: نعم، فسأل أهل الخبرة، فقالوا: نعم، الموسم لم يحل بعد، فوجد أن كلام المدعى عليه صحيح، قال: ثبت عندي أن المشتري يستضر وعليه تصرف الدعوى بإلزام القبض فوراً لوجود الضرر على المشتري.
والقاعدة في الشريعة: لا ضرر ولا ضرار، وما ظلم البائع أبداً؛ لأن الاتفاق أن تسلم البضاعة في عشرين أو ثلاثين من شوال، هذا الاتفاق الذي بينهما وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فإن خرج عن الاتفاق بقي النظر للمشتري، ويقول القاضي للمشتري: أنت بالخيار، إن شئت أن تقبض فاقبض وإن شئت ألا تقبض فلا تقبض، ويقول للبائع: ليس لك أن تلزمه بالقبول.(169/20)
الشرط الثالث: تحديد قدر المسلم فيه يعلم كيلاً ووزناً وذرعاً
قال رحمه الله تعالى: [الثالث: ذِكرُ قدره بكيل أو وزن أو ذرع].
قال رحمه الله: الشرط الثالث: ذكر قدر المسلم فيه بكيل إن كان مكيلاً أو وزنٍ إن كان موزوناً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فبين أن المكيل يكون معلوماً، وأن الموزون يكون معلوماً، وقد تقدم معنا ضوابط العلم في شرط العلم بالمبيع، وبينا كيفية ضبطه من ناحية الجنس ومن ناحية النوع ومن ناحية القدر والصفات المعتبرة التي يندفع بها موجب الغرر، وقد شرحنا هذا في أول شروط البيع.
قال: [أو ذرعٍ يُعلم].
إذا قلنا: إن السلم يقع في المذروع أيضاً، فالقماش مذروع -وطاقة القماش فيها -مثلاً- عشرون ياردة، أو مثلاً فيها تسعة عشر متراً- فإذا أراد تاجر قماش أن يشتري بالجملة، فأسلف له مائة طاقة من القماش إلى أجلٍ معلوم واتفقا على ذلك فلابد من تحديد جنسها ونوعها وقدرها والصفات التي فيها، مثلاً: لو بين أنها من نوع السلك مثلاً، هذا النوع السلكي، إذا كان نوعاً واحداً لا إشكال، وإذا كان درجات فيذكر هل هو من الدرجة الأولى أو الثانية أو الثالثة، ثم اللون هل يريد لوناً واحداً، أو ألواناً، فإذا كان يريد لوناً واحداً فليحدد اللون، وإذا كان يريد ألواناً يحدد الألوان ويحدد عددها فيقول: هي خمسون طاقة: عشرةٌ منها من لون كذا، وعشرة منها من لون كذا، إذاً لابد وأن يكون المسلَم فيه معلوماً منضبطاً بهذا الانضباط الكامل، في الكيل كيلاً -كما ذكرنا- وفي الوزن وزناً وفي العدد عدداً وفي الذرع ذرعاً.(169/21)
حكم السلم في المكيل وزناً أو العكس
قال رحمه الله: [وإن أسلم في المكيل وزناً أو في الموزون كيلاً: لم يصح] تقدم معنا أن المكيل لا ينضبط بالوزن، وأن الموزون لا ينضبط بالكيل غالباً، فمن هنا تجدون العلماء في القديم لا يحررون الآصع في الفدية والكفارات بالوزن؛ لأن التمر يختلف وزنه، والحبوب يختلف وزنها، ومن هنا جعلوا الضبط في المكيل بالكيل، وأبقوا السنة كما هي؛ لأن الانضباط فيها بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً، وهذا هو الأصل، أن يبقى الكيل كيلاً حتى من باب فقه الفتوى وفقه السنة حتى لا يميت الناس السنة فيأتي زمان لا يعرف فيه الصاع، فلو جاءك شخص عليه فدية في الحج، كم صاعاً يجب عليه؟ نقول: ثلاثة آصع يقسمها بين ستة مساكين، الناس اليوم لو جئنا نقول لأحدهم: عليك ثلاثة آصع، يقول: ما هو الصاع؟ نقول له يا أخي! الذي تخرجه في آخر رمضان تقسمه بين اثنين، يفهم، لكن لو أصبحنا نضبط الفديات بالوزن لجاء زمان لا يعلم الناس فيه ما هو الصاع، حتى ولو جاز ضبطه بالوزن لما كان هذا من فقه الفتوى، حتى لا يأتي زمان لا يعلم الناس ما هو الصاع، وتموت هذه السنة؛ ولذلك ينبغي أن يبقى المكيل مكيلاً والموزون موزوناً؛ لأن الانضباط في الكيل لا يكون بالوزن، والموزون غالباً لا ينضبط بالكيل، ومن هنا تجد العلماء المتقدمين يحررون الفديات والكفارات وصدقة الفطر ونحوها بما وردت به السنة، ويضبطون ذلك بالسنة، إن كانت صاعاً فصاعاً، وإن كانت نصف صاع فنصف صاع فيضبطونها بالمكيل كيلاً ويحددون ذلك، وعلى هذا قال: لا يسلم في المكيل وزناً ولا في الموزون كيلاً، ورخص بعض العلماء في الإسلام في المكيل وزناً وفي الموزون كيلاً، والأولى ما ذكرناه؛ لأننا ذكرنا أن بيع السلم رخصة، والذين يجيزون بيع المكيل وزناً والموزون كيلاً يرون أن بيع السلم ليس برخصة وإنما يرونه بيعاً قائماً برأسه، وجماهير العلماء رحمهم الله وعليه الفتوى في المذاهب الأربعة أن السلم جاء على خلاف الأصل، وهو رخصة واردة ثبت بها النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعتبر مستثناةً من الأصل؛ لأن فيها نوعًا من الغرر، وكذلك فيها نوع من الجهالة وبناءً على ذلك قالوا: إنها استثنيت لورود النص، وعليه يقدر المكيل كيلاً والموزون وزناً.(169/22)
الشرط الرابع: تحديد الأجل
قال رحمه الله تعالى: [الرابع: ذِكر أجل معلوم له وقع في الثمن].
أن يكون السلم إلى أجلٍ معلوم، فلابد أن يحدد هذا الأجل، فيبين السنة ويبين الشهر ويبين اليوم؛ فهناك سلم لا ينضبط إلا باليوم فيحدد الأجل، وهناك بعض البيوعات يكون التحديد فيها بالساعات، وقد يكون التحديد بأول النهار وآخر النهار، فكل شيء فيه غرر أو فيه ضرر في المواقيت والمواعيد وجب تحديده إن كان مما يلزم الدقة فيه لزم التدقيق، وإن كان مما يتسع فإن الأمر يبقى فيه على السعة، لكن لابد من ذكر الأجل، أما الدليل على اشتراط الأجل فقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عنه قال: (فليسلف في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)، فلابد وأن يكون السلم إلى أجلٍ معلوم، فلو قال له: أسلمتك هذه المائة ألف لقاء ألف صاعٍ من تمر متى ما جئتني بها: لم يصح، ولم يجز ذلك، بل لابد أن يحدد الأجل الذي يكون إليه السلم.
قال: [له وقعٌ في الثمن].
أي: له أثر في الثمن، ولا يصح أن يقول له: أسلمتك هذه الألف ريال لقاء مائة صاع في آخر النهار، فإن آخر النهار أجل، لكنه أجل ليس له وقعٌ في الثمن، والسبب في قولهم: له وقعٌ في الثمن، حتى تتحقق الرخصة التي من أجلها جاء السلم؛ لأنه إذا كان له وقع في الثمن معناه حصلت الرخصة من الاتفاق بتعجيل الثمن فحينئذٍ يرخص المبيع، فصار هذا من رحمةِ الله عز وجل بالأسواق مما يؤدي إلى رخصها والرفق بالمشتري إذا اشترى على هذا الوجه.
قال رحمه الله: [فلا يصح حالاً ولا إلى الحصاد والجذاذ].
(لا يصح حالاً) إذا كان مثل ما ذكرنا، لو قال: إلى نهاية اليوم أو بعد ساعتين أو بعد ثلاث فهذا بيع معجل وأما إذا قال: إلى نهاية الحصاد فإن الحصاد لا ينضبط، هناك حصاد معجل وهناك حصاد وسط وهناك حصاد مؤجل، فمثلاً إذا قال له: إلى حصاد النخل، فالنخل منه ما يجد مبكراً عند بداية استوائه تمراً، ومنه ما يتأخر إلى نشاف العرجون وقد يأخذ العرجون في النشاف ما يقرب من شهر كامل، فلو قال له: إلى الحصاد فيبس الثمر، فإنه يقول: أنا قصدت أول اليُبس، فيقول الآخر: لا.
بل قصدت قطعه من على النخل، أو قصدت تمام اليبس، فيقع بينهما التنازع، فكما يقع النزاع الصفات وغير المنضبطة كذلك يقع في الآجال غير المنضبطة.
قال رحمه الله: [ولا إلى يوم إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم ونحوهما].
(ولا إلى يومٍ) يقول: في غدٍ مثلاً، إلا في مثل خبزٍ يأخذه يومياً، مثلاً لو قال له: هذه خمسمائة ريال، كل يومٍ يأتيك فلان ويأخذ منك عشرة آصع من تمر كذا، ويكون شخصاً يتصدق على غيره، فيقول لوكيله: سأجعل لك عند بائع التمور الفلاني عشرة آصع لمدة عشرة أيام، هذه المائة صاع أريدك كل يوم تأخذ منها عشرة آصع وتفرقها على مساكين بني فلان، فهذا الوكيل الذي سيقبض، سيقبضها مقسطة.
كذلك أيضاً في المكيلات، فالحليب -مثلاً- يباع باللتر، فقال له: يأتيك ابني كل يوم ويأخذ كيلو حليب، لمدة ثلاثين يوماً في الشهر، وهذه مائة وخمسون ريالاً لقاء الحليب، كل يوم تعطيه كذا وكذا، ويقع أيضاً في البقالات، مثلاً يجد شخص أيتاماً أو أرملة يحتاجون إلى طعام يوم، وهذا الطعام من جنس ما ينضبط، فيقول لصاحب البقالة -إذا رخص بمعدود كالخبز- هؤلاء الأيتام سيأتونك كل يوم فأعطهم مثلاً بعشرة ريالات، ثلاثة ريالات مثلاً لخبز من نوع كذا وكذا، وثلاثة ريالات للجبن من نوع كذا وكذا، فيحدد المعدود والموزون والمكيل، فيأتي كل يوم ويأخذ قسطاً، فهذا سلم مقسط في الأيام فحينئذٍ يجوز ولا حرج.(169/23)
الشرط الخامس: وجود المسلم فيه وقت التسليم
قال رحمه الله تعالى: [الخامس: أن يوجد غالباً في محله ومكان الوفاء لا وقت العقد].
يشترط في صحة السلم أن يكون المبيع موجوداً في محله في غالب الظن مثلاً: عندنا التمر، فالتمر يكون رطباً ثم يتمر، والرطب لا يوجد إلا في زمان معين وفي موسمٍ معين، لكن التمر يمكن أن يوجد في زمان الصيف، ويمكن أن يوجد في زمان الشتاء إلا أنه في زماننا -بفضل الله عز وجل- لوجود الثلاجات والبرادات أمكن إيجاد الرطب في زمان غير زمانه، لكن في القديم الرطب غير موجود في حال إكنان النخل، وهو عدم وجود الطلع، وكذلك في بداية الطلع، فالرطب لا يوجد إلا في زمانه ووقته، فلو أنه أسلم له في شيء لا يوجد في زمان فحدده إلى نهاية شوال، وفي نهاية شوال لا يوجد هذا الشيء سواءً كان من جنس الأطعمة أو من جنس الأقمشة أو من جنس المبيعات الأخرى، لم يصح السلم، والسبب في هذا أنه على هذا الوجه يكون قد دخل في الغرر، وأصبح السلم غير غالب على الظن وجوده، فمن هنا لا يصح على هذا الوجه.(169/24)
الحكم إذا تعذر الوفاء بالمتفق عليه في السلم
قال رحمه الله: [فإن تعذر أو بعضه فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض].
إذا كان الشيء يوجد في زمن الأجل، ثم لما جاء زمانه أصابت الناس جائحة -والعياذ بالله- فتلف التمر، وكان قد أسلمه تمراً إلى نهاية شهر معين يوجد فيه تمر، فجاء الشهر والتمر غير موجود، فإذا وقعت هذه الحادثة واختصم البائع والمشتري فقال البائع: إنني قد قبلت منك هذا المبلغ وأنا أظن أنه يوجد، فإذا به لم يوجد، أو جاءت جائحة وأخذت التمور وأتلفتها.
فحينئذٍ يخير المشتري بين أمرين: إن شاء طالب البائع أن يأتي له بمثل ما اتفقا عليه فيدبر أمره فيقال للبائع: أنت اتفقت معه، فحينئذٍ تأتي بمثل هذا الشيء، فيذهب ويبحث حتى يجد مثل ما اتفقا عليه؛ لأنه حق من الحقوق، وإن شاء قال له: أصبر عليك هذه السنة، وإن شاء الله السنة القادمة تعطيني ما اتفقنا عليه، وأمهله وأنظره، وهذا هو الأفضل والأكمل له: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فإن هذا من العسر.
[فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض].
(فله الصبر)، أي: للمشتري (أو فسخ الكل أو البعض) فسخ الكل إذا لم يوجد، (أو البعض) مثلاً: إذا قال له: أسلمتك بمائة صاع، فأعطاه خمسين ولم يستطع أن يوجد الخمسين الباقية فحينئذٍ نقول له: أنت بالخيار إن شئت أمضيت الصفقة في نصف المبلغ المتفق عليه، وتأخذ ما بقي أو تؤجله إلى سنة قادمة، وإن شئت ألغيت الكل فأنت بالخيار؛ لأنه في بعض الأحيان يتضرر إذا قلنا له: أمضِ البعض، فحينئذٍ نترك الخيار له، فهذا الخيار يختلف باختلاف الحال، ونظراً لاختلاف الحال والصفقة، والعقد ليس على هذا الوجه، فهو بالخيار بين أن يمضي ويعذر أخاه ويصبر عليه وبين أن يلغي العقد كليةً.
قال رحمه الله: [ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه].
إذا كان الثمن ليس بموجود ويوجد عوض عنه فإنه يأخذ العوض عنه، حتى ولو كان بالصرف، لكن بشرط أن يكون حالاً، كأن يكون أسلم له بريالات ولم يتيسر إلا وجود الدولارات عند فساد العقد والرد، فحينئذٍ يردها دولارات فيصرفها في ساعتها مثلاً بمثله.(169/25)
الأسئلة(169/26)
حكم بيع المسلم فيه قبل قبضه
السؤال
ما الحكم إذا باع المشتري المسلَم فيه إلى رجل آخر قبل أن يقبضه؟
الجواب
إذا اتفق البائع والمشتري على مسلَمٍ فيه لم يجز للمشتري أن يتصرف في الشيء المسلم فيه إلا بعد القبض، فلا يجوز له بيعه ولا يجوز له هبته ولا يجوز له أن يرهنه ولا يجوز له أن يحيل عليه، إلا بعد قبضه، مثال ذلك: لو أنك اشتريت -مثلاً- مائة صندوق من التمر السكري وبعد أن اشتريت هذه المائة صندوق بعشرة آلاف ريال جاءك رجل وقال: هذه الصناديق التي اشتريتها من فلان أنا أشتريها منك بعشرين، لم يصح حتى تقبضه، وبعد أن تقبضه يجوز لك البيع، أما قبل القبض فإنه لا يجوز، وهو من بيع الإنسان ما ليس عنده، وفي حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تبع ما ليس عندك)، ولأن هذا الشيء المسلم فيه لم يؤل إلى ضمانك، وقد بينا أنه لا يصح بيع الطعام قبل ضمانه وقبضه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، والله تعالى أعلم.(169/27)
الفرق بين عقد الاستصناع وعقد السلم
السؤال
ما الفرق بين عقد الاستصناع وعقد السلم؟ عقد الاستصناع أكثر من تكلم عليه وفصل فيه فقهاء الحنفية رحمهم الله، والفرق بينه وبين عقد السلم أن عقد الاستصناع يقارب الإجارة كثيراً، ويكون في بعض الأحيان الخام من البائع والعمل من البائع، ويقع مثلاً في صنع الخفاف، يقول له مثلاً: أريد مائة خف على أن تصنعها لي، قالوا: إنه يجوز أن يكون هذا من عقد الاستصناع، وهو أقرب إلى الإجارة منه إلى السلم، ولكنه دخل في بيع السلم وقارب بيع السلم لانصبابه على الذوات، وقارب الإجارة لانضباطه على المنفعة، فهو يجمع بين المنفعة وبين البيع للذات، فهو من ناحية الطلب يقول: أريد أن تصنع لي -مثلاً- مائة خف، فهذا إجارة، ومن جهة كون الخام من البائع ويلتزم به فهو أشبه بعقد السلم، ومن هنا شرك بين البيع وبين الإجارة، فأفردوه بقولهم: عقد الاستصناع، والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(169/28)
شرح زاد المستقنع - باب بيع السلم [2]
عقد السلم من العقود المؤجلة التي رخَّص الشرع فيها على خلاف الأصل، ولهذا اشترط له شروط خاصة، منها: أن يقبض الثمن وأن يكون معلوماً، وألا يكون السلم في معين، وتحديد مكان الوفاء إذا لم يمكن الوفاء في مكان العقد، كل هذا تقيداً بمحل الرخصة في عقد السلم، ودفعاً للنزاع، ولهذا لا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه ولا الحوالة به أو عليه لنفس العلة.(170/1)
تابع شروط عقد السلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(170/2)
الشرط السادس: قبض الثمن تاماً قبل التفرق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [السادس: أن يقبض الثمن تاماً معلوما قدره ووصفه قبل التفرق].
فلا زال المصنف رحمه الله يبين الشروط المعتبرة لصحة السلم، ومن هذه الشروط الشرط السادس: وهو قبض الثمن، فيشترط في صحة السلم، إذا اشترى التاجر الصفقة، وتم العقد بينه وبين من يبيعه تلك الصفقة ووقعت سلماً فإنه يشترط أن يعجل له الثمن، أما الدليل على ذلك فهو ما ثبت في قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (فليسلف) بمعنى فليعطِ.
وعلى هذا استنبط العلماء رحمهم الله من هذا الحديث أنه يشترط في صحة السلم أن يقدم الثمن، وأن يعطيه في مجلس العقد، وهناك صورتان للإعطاء: الصورة الأولى: أن يكون الإعطاء عقب الإيجاب والقبول مباشرةً، والصورة الثانية: أن يتأخر الإعطاء عن العقد، أعني: عن الإيجاب والقبول، مثال الصورة الأولى: قال له: أسلفتك مائة ألفٍ لقاء سيارتين إلى نهاية رمضان من نوع كذا وصنف كذا، قال: قبلت، فأعطاه بمجرد القبول المائة ألف، فوقع الإسلام والإعطاء عقب العقد مباشرةً، أو يقول له أيضاً في هذه الصورة: هذه عشرة آلاف أسلمتكها لقاء مائة صندوق مثلاً من التمر البرحي أو من تمر العجوة أو من التمر السكري إلى نهاية رمضان، قال: قبلت وقبض، فحينئذٍ لا إشكال إذا وقع القبض والإسلام والإعطاء موافقاً للعقد ومصاحباً له.
الصورة الثانية: أن يتراخى عن الإيجاب والقبول ويتحقق القبض قبل افتراقهما عن مجلس السلم كأن يقول التاجر للتاجر: أعطيك مائة ألفٍ لقاء ألف صندوق من تمر العجوة أو مائة صاع من التمر البرحي أو الشعير، فقال له: قبلت، فيتأخر في إعطائه ويحصل الإعطاء قبل أن يفترقا، فالإيجاب والقبول تم في الساعة الثانية، والإعطاء تم في الساعة الثالثة، لكنهما لم يفترقا إلا بعد أن أعطاه، صح ذلك وجاز.
إذاً عندنا صورتان، الصورة الأولى: أن يقع الإعطاء مصاحباً للعقد أو بعد العقد مباشرةً وهذه بالإجماع جائزة، والصورة الثانية: أن يتراخى عن الإيجاب والقبول ويتأخر عنه ولكن لا يفترقان إلا بالقبض، وهي صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح العقد ما دام أنهما لم يفترقا إلا بعد وجود القبض فيما يشترط له القبض.
قال: [أن يقبض الثمن تاماً معلوما قدره].
ومفهوم هذا: أنه لو قال له: أسلفتك عشرة آلاف ريال لقاء مائة صاعٍ من التمر السكري، أو من التمر البرحي أو من تمر العجوة قال: قبلت، ولم يعطه العشرة آلاف، قال: أعطيكها غداً، أو أعطيكها الأسبوع القادم، أو أعطيكها بعد ثلاثة أيام: لم يصح؛ لأنه يصير من باب الدين بالدين، فلا يجوز أن يفترقا إلا بعد أن يعطيه الثمن، سواءً أعطاه إياه بعد الإيجاب والقبول مباشرةً أو أعطاه إياه متراخياً عنه قبل أن يفترقا عن العقد.
قال رحمه الله: (يقبض الثمن)، الثمن يشترط فيه ما يشترط في الأثمان في البيوع، وأن يكون القبض تاماً، فإذا قال: عشرة آلاف، يعطيه العشرة آلاف كاملة، ولا يفترقان حتى يقبض منه العشرة آلاف تامة، وكذلك أيضاً أن يكون معلوماً، فإذا قال له: بعشرة آلاف، يبين نوعها؛ لأنه ربما مثلاً قال له: بعشرة آلاف، فيحتمل أن تكون دولارات وريالات إذا كان هناك أكثر من نوع من النقد، فلابد أن يبين نوع النقد وأن يبين جنسه وقدره.
وعلى هذا: لو قال له أعطيك ريالات في مقابل مائة صندوق من العجوة أو أعطيك دنانير أو أعطيك دراهم لم يصح؛ لأنه لم يبين قدرها، فلابد من بيان القدر فيما ينضبط قدره، وكذلك يبين نوعها إذا كان هناك نوعان من النقد، كأن يذكر الجنيهات فيقول له: أعطيك مائة جنيه لقاء مائة صاع، أو ألف صاع من التمر السكري، فيحتمل أن تكون جنيهات سعودية وقيمتها غالية، ويحتمل أن تكون غير سعودية وقيمتها رخيصة، فيكون هناك جهالة، فلابد وأن يحدد نوعها وقدرها من حيث العدد كما ذكرنا في شرط العلم بالثمن والمثمن، وبينا دليل ذلك من أن الشرع لا يصحح بيع المجهول؛ لأنه يفضي إلى التنازع والتلاعب بحقوق الناس، ومن هنا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر لاشتماله على الجهالة المفضية إلى التنازع بين الطرفين.
قال: [ووصفه قبل التفرق].
يصف هذا الشيء الذي أسلم فيه وصفاً منضبطاً، وقد بينا هذا كله في شرط العلم به؛ لأن السلم بيع، ويشترط فيه ما يشترط في البيع وزيادة، فللسلم شروط تسمى: الشروط العامة، وهي شروط البيع، وشروطٌ خاصة بالسلم، وهي التي بيناها في المجلس الماضي، ولا زال المصنف يذكر بعضها، فهنا: مسألة أن يكون الثمن معلوماً، فهذا من شروط البيع ويعتبر من الشروط العامة.(170/3)
حكم السلم إذا تم قبض بعض الثمن
قال رحمه الله: [وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما عداه].
هذا الشرط يتركب من أمرين، الأمر الأول: أن يكون الثمن معلوماً، وحدود العلم كما ذكرنا أن يكون بالجنس والنوع والقدر، فلا يكون مجهولاً جهالةً مفضية إلى النزاع، فلو قال له: أسلمتك مائة ألف لقاء مائة صندوق، قال: قبلت، وقد قدمنا في البيوع أنه إذا حدد الثمن على هذا الوجه ما الحكم؟ فيه تفصيل: إن كان ليس هناك إلا نقدٌ واحد كالريالات، فنعرف أن قوله: خذ مائة ألف أو أسلمتك مائة ألف أنه منصب إلى الريالات فيصح، لكن لو كان هناك ثلاث عملات، الريالات والدولارات والجنيهات -مثلاً- لم يصح، فلابد أولاً من العلم بالثمن في جنسه ونوعه وقدره على ما ذكرناه، ثانياً: أن يحصل القبض للثمن حتى لا يكون من باب الدين بالدين؛ لأنهما متى افترقا عن مجلس العقد بدون أن يحصل القبض فقد باع الثمن ديناً بمثمنٍ ديناً، وقد: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ)، وبينا أنه على ظاهر هذا الحديث لا يجوز بيع الدين بالدين.
وعلى هذا إذا قررت أنه يشترط في السلم القبض فتقول للتاجر: إذا عقدت صفقة سلم فيجب أن تعجل الثمن، ولا يجوز أن تعقد الصفقة سلماً في سيارات أو أطعمة أو أكسية أو نحو ذلك إلا إذا قدمت رأس المال ودفعته قبل أن تفارق مجلس العقد، فعندنا حالات: إما أن يدفع البعض ويؤخر البعض، وإما أن يؤخر الكل، أو يعجل الكل، فإذا عجل الكل صحّ، وإذا أخر الكل لم يصح ويلغى العقد، وإذا أخر البعض وقدم البعض ففيه تفصيل، مثال الأول -وهو أن يعجل الكل- قال له: خذ هذه عشرة آلاف، فحينئذٍ لا إشكال، حيث تم الشرط الذي اعتبره الشرع لصحة العقد، وإما أن يؤخر ويقول: أعطيك غداً أو أعطيك بعد أسبوع، أو أعطيك شيكاً على أنه سيصرف فيفترقان قبل القبض فلا يصح، بل لابد وأن يكون الثمن حاضراً في مجلس العقد ويسلمه إياه، ولو كان المبلغ كبيراً فإنه يمكن أن يذهب معه إلى البنك ويعطيه إياه، ولو كان بالنقلة.
وعلى هذا لابد من القبض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط، وقال: (من أسلف فليسلف)، ولأن بيع السلم خارجٌ عن الأصل، وما خرج عن الأصل يقيد الحكم بجوازه بمثل الصورة التي وردت بالنص، والذي ورد في النص الإعطاء والإسلام الفوري، وذلك في رأس المال فلا يجوز مؤخراً، ويكون أيضاً ذلك الشيء الذي أسلم فيه معلوماً، فلو قال له: خذ هذه الصرة من الذهب أو خذ هذه الصرة من الفضة وما فيها لقاء مائة صندوق من العجوة أو مائة صاع من بر، أو لقاء سيارةٍ إلى نهاية شعبان أو نحو ذلك لم يصح؛ لأنه لا يدرك كم بداخلها، فلا يصح الإسلام بمجهول سواءً كان من الذهب أو الفضة ولو عُلِم نوعه ذهباً أو فضة إذا لم يعلم قدر ذلك الثمن المسلم.
فتبين أنه إذا عجل الثمن كله صح، وإذا أجله كله لم يصح، لكن لو قال له: أسلفتك مائة ألفٍ لقاء ألف صندوق من العجوة، فأعطاه خمسين ألفاً معجلة، وقال له: الخمسين الألف الباقية أعطيكها غداً، أو بعد أسبوع أو بعد شهر، فقدم البعض وأخر البعض فما الحكم؟ للعلماء وجهان: فقال بعض العلماء: يبطل السلم؛ لأن العقد واحد والصحة لا تجزأ، وقال بعضهم: يصح في الخمسين المعجلة ويبطل في الخمسين المؤجلة؛ لأن الأصل إعمال العقود ما أمكن، فلما كان التأخير في بعض الصفقة فإنه يقيد الحكم بالبطلان بالمؤجل، ويحكم بالصحة على المعجل سواءٌ كان ذلك أنصافاً أو أثلاثاً أو أرباعاً، فأنصافاً كأن يقول له: أسلمتك مائة ألفٍ لقاء ألف صندوق -مثلاً- من تمر قال: قبلت، فأعطاه خمسين ألفاً وأخر عنه الخمسين الباقية، فيصح في النصف ويبطل في النصف، وأما أرباعاً فكأن يقول له: أسلمتك مائة ألف لقاء سيارة من نوع كذا وكذا إلى نهاية شعبان، وهذه خمسة وعشرون ألفاً وأعطيك الخمسة والسبعين الباقية بعد يوم أو بعد شهر، فحينئذٍ إذا كانت السيارات أربع سيارات ولكل سيارة خمسة وعشرون ألفاً حكمنا بصحة السلم في الربع وهو الخمسة والعشرون التي دفعها، وألغينا صفقة الخمسة والسبعين الباقية، متى ما فصل لكل سيارةٍ قيمتها، لكن لو كانت السيارة واحدة، وقال له أسلمتك المائة ألف في سيارة من نوع كذا وكذا، أو كانت الصفقة على سيارتين وأعطاه خمسة وعشرين وكل سيارة لها خمسون ألفاً، فحينئذٍ لا تقبل الصفقة التجزئة فيبطل في الكل.
إذاً إذا جزأ وقال له: أسلمتك مائة ألفٍ لقاء مائة صاعٍ أو مائة صندوق وأمكنت التجزئة صححنا في الأجزاء، فإن كان قد دفع له خمسين ألفاً صححنا في نصف الصفقة وأبطلنا النصف الباقي، وإن كانت الصفقة لا تقبل التجزئة كما لو اشترى سيارة وأعطاه خمسة وعشرين ألفاً من قيمتها أو خمسين ألفاً من قيمتها أو خمسة وسبعين ألفاً من قيمتها أو حتى تسعين ألفاً من قيمتها فهي لا تقبل التجزئة ويبطل العقد، إذاً لابد وأن يكون معجلاً، فلو قدم البعض وأخر البعض وأمكنت التجزئة وتصحيح جزء العقد صح، وإن لم يمكن لم يصح.(170/4)
حكم السلم في أجناس وآجال مختلفة أو متوافقة
قال رحمه الله: [وإن أسلم في جنس إلى أجلين أو عكسه: صح إن بيَّن كل جنسٍ وثمنه وقسط كل أجل].
(إن أسلم في جنس إلى أجلين) بين رحمه الله صحة السلم والشروط المعتبرة له، فإذا كان مالاً في جنس واحد فلا إشكال، لكن لو أن المال في جنسين، أو كان لكل جنسٍ مثلاً حظه وقيمته، أو أعطاه في ثلاثة أجناس مختلفة الأجل، أو أعطاه في أكثر من جنس متفقة الأجل، هذه كلها صور، فتارةً يقول له: هذه مائة ألف أعطيكها، منها خمسون ألفاً في سيارة من نوع كذا، وخمسون ألفاً في تمرٍ من نوع كذا، فحينئذٍ أسلم بمالٍ واحد في جنسين مختلفين، وهذا كثيراً ما يقع من التجّار حينما يشترون البضائع، مثلاً: إذا جئنا إلى تجار السيارات، يأتي التاجر في بعض الأحيان فيشتري من نوعٍ واحد، ويقول: هذه مائة ألف لقاء عشر سيارات أو خمس سيارات من نوع كذا، فحينئذٍ يكون المال واحداً والجنس واحداً ولكن الأنواع مختلفة، فإذا كان النوع مختلفاً وحدد لكل نوعٍ قيمته، فتارةً يكون الأجل واحداً، وتارةً يكون الأجل مختلفاً فيقول: أريد خمس سيارات، السيارة الأولى في شهر محرم، والثانية في صفر، والثالثة في ربيع الأول، والرابعة في ربيع الثاني، والخامسة في جماد، فأسلم في نوعٍ واحد وفي أنواع متعددة، ولكن الآجال أيضاً متعددة، وتارةً يقول: خمس سيارات من نوع كذا ونوع كذا ونوع كذا ولكن إلى نهاية محرم، فالأجل واحد، فإما أن يسلم في أنواعٍ متعددة بآجال متعددة لكل سيارةٍ قيمتها فيصح، وله أن يسلم في أنواع بأجل واحد، فيستوي أن يكون في أنواع إلى أجل واحد أو آجال.
والشرط يتوقف على صحة التجزئة، فإن أعطى كل نوعٍ حظه وحقه فلا إشكال، وهكذا إذا حدد الأجل لكل واحدٍ صح.
قال رحمه الله: [صح إن بيَّن كل جنسٍ وثمنه وقسط كل أجل].
إن بيَّن كل نوع أو كل جنس وثمنه وأجله صح مثلما ذكرنا، وفي بيع الطعام يقول له: هذه عشرة آلاف ريال، خمسة آلاف منها لقاء مائة صاع من التمر في نهاية رمضان هذا، وخمسة آلاف لقاء مائة صاع من الشعير إلى ذي القعدة فيصح؛ لأنه بين لكل أجل قيمته، وحينئذٍ لا إشكال سواء اتحد الجنس واختلف الأجل أو اختلف الجنس واتحد الأجل، فكله جائز ما دام أنه قد جعل لكل مبيع حظه وحقه، فقد صححنا السلم إذا قال له: هذه مائة ألف لقاء سيارة إلى نهاية محرم، فلو أنه قال له: وهذه خمسمائة ألف في خمس سيارات، السيارة الأولى في محرم، والثانية في صفر، والثالثة في ربيع الأول، والرابعة في ربيع الثاني، والخامسة في جماد، فتأخذ نفس الحكم؛ لأن المسألة مسألة تفصيل، يعني سواء اتفق النوع واختلف الأجل، أو اختلف النوع واتحد الأجل، أو اختلف النوع والأجل، أو اتحد النوع والأجل، فاتحد النوع والأجل مثل أن يقول له: هذه عشرة آلاف ريال في مائة صاع من التمر إلى نهاية محرم، فاتحد النوع واتحد الأجل، وهذه واضحة.
وأما مثال اختلاف الجنس مع اتحاد الأجل، تقول مثلاً: أريد تمراً وبراً وشعيراً وملحاً، إلى نهاية رمضان، فاختلفت الأجناس ولكن الأجل واحد، فإذا اختلفت الأجناس الأربعة أعط لكل صنف حظه وحقه، حتى يُعلم المائة صاع من البر كم لها وكذا التمر والشعير والملح، فاختلفت الأجناس واتحد الأجل.
وأما مثال اختلاف الأجل مع اتحاد الجنس: لو وجد تاجر يبيع التمر السكري بالجملة، وأنت تريد أن تشتري منه من أجل أن تبيع بالتجزئة كما في البقالات ونحوها، فتقول له: يا أخي! أنا عندي موسمان، الموسم الأول: رمضان، والموسم الثاني: في ذي الحجة، موسم الحج، فأعطيك هذه المائة ألف في التمر، فأشتري منك بخمسين ألفاً مائة صاع أو مائة صندوق إلى نهاية شعبان، هذا الأجل الأول، والخمسين الألف الثانية إلى نهاية ذي القعدة أي: إلى موسم الحج، فعندنا الجنس واحد، والأجل مختلف.
الصورة الرابعة: اختلف الجنس واختلف الأجل مثاله: كتمرٍ وبرٍ، فتقول: أسلمك في مائة صاع من التمر، ومائة صاع من البر أو من الملح، على أن تعطيني مائة صاع تمر في رمضان ومائة صاع بر أو ملح في ذي القعدة، فحينئذٍ اختلف الجنس واختلف الأجل، فهذه الصور الأربع: أن يتحد الجنس ويختلف الأجل، وأن يختلف الجنس ويتحد الأجل، أو يتحدا أو يختلفا، فإذا جزأ لكل واحد منهما حظه وحقه فلا إشكال.(170/5)
الشرط السابع: أن يكون السلم في الذمة لا في معين
قال رحمه الله تعالى: [السابع: أن يسلم في الذمة فلا يصح في عين].
يقول رحمه الله: الشرط السابع من شروط السلم، والسلف (أن يسلم في الذمة)، ولذلك قالوا: لا يصح أن يسلم في المعين، وتقدم معنى بيان العين والذمة، فلو قال له: هذه مائة ألف لقاء هاتين السيارتين إلى نهاية رمضان: لم يصح؛ لأن بيع هذه السيارة بيع عين وليس بيع ذمة وإذا قال له: هذه مائة ألف لقاء هذه المائة كتاب إلى نهاية رمضان: لم يصح، والحل أن يقول: خذ هذه المائة الألف لقاء هذه الكتب وسآتي وآخذها إن شاء الله منك إلى نهاية رمضان أو نهاية شعبان، فيحدد الأجل للقبض، أما أن يجعله سلماً فلا، والسبب في ذلك: أنه لو باعه المعين سلماً لم يأمن أن يتلف المعين، وحينئذٍ قالوا: لا يصح السلم بالعين إنما يصح وصفاً في الذمة فيقول له: أريد مائة كتاب من نوع كذا وكذا ويصفها وصفاً منضبطاً كما تقدم معنا في المعدودات إن كان من المعدودات، والكيل إن كان من المكيلات، وبالوزن إن كان من الموزونات، وبالذرع إن كان من المذروعات على القول بصحته في المعدودات والمذروعات.(170/6)
أحكام متعلقة بالسلم(170/7)
محل الوفاء في عقد السلم
قال رحمه الله: [ويجب الوفاء موضع العقد].
بعد أن بين رحمه الله المسائل المتعلقة بالشروط شرع في بيان ما يترتب على قضية العين والذمة، إذا كان السلم ينبني على بيع الموصوف في الذمة بالثمن المعجل فمعنى ذلك أنه سيكون من بيع الدين (بيع الآجال) وإذا كان من بيوع الآجال فترد مشكلة مترتبة على الحكم بجواز بيع الأجل وهي قضية القبض، فإذا اتفقت معك على صفقة وكان البيع بيع السلم وحل الأجل، فهل يجب علي أنا البائع أن أوصل المبيع إليك أم يجب عليك أن تحضر إلي لقبض المسلم فيه، أم أن الأمر يتوقف على مكان العقد ومحله؟
الجواب
أنه يجب الوفاء في مكان العقد، وقال: (الوفاء)؛ لأن بيع السلم يقوم على شيء من الدين، كأنني التزمت في ذمتي أن أعطيك التمر أو أعطيك السيارات المبيعة فلما التزمت هذا لقاء هذا المبلغ المعين لزمني الوفاء بهذا العقد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وانظر كيف أن العلماء يتأدبون مع الشرع، فيختارون في المتون الفقهية المصطلحات القريبة من الشرع، فالعلماء رحمهم الله في فقههم -خاصةً فقه العلماء الذي يسير على منهج السلف- يتأدبون حتى في ألفاظهم، قالوا: يجب الوفاء؛ لأنه إذا صار العقد بالإيجاب والقبول ترتب عليه الوفاء، فالوفاء ينبغي أن يكون في مكان العقد، فإذا اختصم التاجران، فإن كانا من مدينةٍ واحدة فغالباً لا يقع إشكال، أي: إذا كنتما قد اتفقتما في مكة أو في المدينة أو في جدة فحينئذٍ الغالب ألا يقع إشكال، لكن يقع الإشكال في المبيعات التي تحتاج إلى مئونة وكلفة في حملها ويكون المتعاقدان من موضعين مختلفين، فيقول التاجر الذي اشترى: تحضر لي السلعة إلى بلدي، ويقول البائع: إنما التزمت إذا حل الأجل أن أعطيك، ومعنى ذلك أنك تحضر عندي وتأخذ السلعة، فحينئذٍ يقع التنازع بينهما، مثلاً: لو أعطيت رجلاً عشرة آلاف لقاء مائة صندوق من التمر السكري، وكان التبايع مثلاً في المدينة ومزرعته في المدينة وأنت من مكة، فلو وجب عليه الوفاء بحيث إنه يجب عليه أن يوفر لك السلعة فمعناه: أنه سيستأجر من يحملها من المدينة إلى مكة، ويتحمل أعباء هذه الإجارة، فقال: (يجب الوفاء في موضع العقد)، يعني: أنه ينظر إلى المكان الذي وقع فيه العقد إن كان في المدينة، فالوفاء في المدينة، وإن كان في مكة فالوفاء في مكة، وإن كان في القصيم فالوفاء في القصيم، وإن كان في الرياض فالوفاء في الرياض، فيجب عليه أن يفي في المكان الذي تمت فيه الصفقة، أي: الإيجاب والقبول.
فإذا كان هذا واجباً في مكان العقد، فهل يشترط أن يكتباه في نفس العقد؟ الجواب: سواء كتبا أو لم يكتبا فإنهما يلزمان بمكان العقد، وهذا أصل في البيوع، إذا وقع البيع بين اثنين، فإن الوفاء يكون في مكان العقد؛ لو أنهما تعاقدا في طرف المدينة الشرقي وأحدهما -مثلاً- من جنوب المدينة والثاني من شمالها، فنقول: يكون الوفاء في مكان العقد الذي هو شرقها.(170/8)
حكم اشتراط الوفاء في غير محل السلم
قال رحمه الله: [ويصح شرطه في غيره].
أي: يصح ويجوز لكلا المتعاقدين إذا تعاقدا بالسلم أن يتفقا على أن التسليم يكون في غير مكان العقد، مثلاً الآن: لو أن رجلاً اشترى من رجلٍ مزارعٍ فقال له: أسلمتك عشرة آلاف ريال لقاء مائة صندوق من التمر السكري، وكان هذا الاتفاق -مثلاً- في مكة، وكلاهما من غير مكة، فصاحب المزرعة مزرعته في القصيم، -السكري لا يوجد إلا في القصيم غالباً، ولذلك نجعل التمثيل بالسكري؛ لأنه معروف ومشهور، ولا نمثل بالعدوي والبرحي، وإن كان البرحي مشهورا ًأيضاً- فقال: السكري موجود في مزرعتي، يعني: إذا حان الحصاد فإني غالباً أهيئه في مزرعتي في القصيم، فألزمك أو أشترط عليك أن تأتي وتأخذه مني قال له: قبلت، فيلزم بالذهاب وأخذ الصفقة من مكانها الذي اتفقا عليه، أو قال له -مثلاً-: هذه عشرة آلاف ريال لقاء سيارة من نوع كذا وكذا قال: قبلت، ولكن أشترط عليك أن أعطيك السيارة في جدة قال: قبلت، حينئذٍ الاتفاق وقع في مكة سواءً في التمر أو في السيارة، لكنهما اتفقا بالتراضي من الطرفين أن يكون الوفاء في موضع غير موضع العقد فيصح ذلك، وكأن المصنف يريد أن يقرر لك أن وجوب الوفاء في مكان العقد محله ما لم يتفقا على غيره، فإن اتفقا على غيره جاز، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون على شروطهم)، فهما قد اشترطا أن يكون ذلك في موضعٍ غير موضع العقد برضاهما واختيارهما، وعلى هذا: يلزم الطرفان بما اتفقا عليه وحصل الشرط عليه.(170/9)
محل الوفاء إذا كان العقد قد تم في مكان لا يضبط
قال رحمه الله: [وإن عقدا ببرٍ أو بحرٍ: شرطاه].
هذا من دقة العلماء، إذا كنت تقرر أن العقد إذا وقع في مكانٍ وجب الوفاء فيه، فافترض أن العقد وقع في مكان لا يمكن ضبطه، كالبر: الصحراء التي ليست فيها معالم، فلا يمكن ضبط المكان، لكن في الصحراء لو أنهما اتفقا في موضعٍ معين ومعلمٍ معين مثل القرى التي تكون في الطريق، أو اتفقا في استراحة معينة في مكانٍ معين، وجب الوفاء في مكان الاتفاق، ما لم يتفقا على غيره، هذا إذا كان ببر، ومثل البر أيضاً: البحر، فلو كان في سفينة أو مركب وقال له: هذه عشرة آلاف لقاء مائة صاع من البر أو من التمر، قال: قبلت، وكان الاتفاق في البحر، فإنه في هذه الحالة لا بد وأن يحددا مكاناً غير المكان الذي اتفقا فيه؛ لأن المكان الذي اتفقا فيه لا ينضبط، وهكذا لو كان في الجو كما في زماننا، فلو أن تاجرين كانا في طائرة، وقال أحدهما للآخر: هذه عشرة آلاف ريال لقاء -مثلاً- نوع من القماش أو من المزروعات، أو نوع من الطعام من المكيلات أو من الموزونات، وتمت صفقة السلم كاملة وهما في الجو فهذا المكان لا ينضبط، إذاً لابد في العقد أن يتفقا على موضع للوفاء، فيقول له: نحن الآن مسافران فيكون وفاؤنا في المدينة، أو وفاؤنا في مكة أو في موضع كذا، فيحددان المكان ويتفقان عليه.(170/10)
حكم بيع المسلم فيه قبل قبضه
قال رحمه الله: [ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه] إذا تمت هذه الشروط المعتبرة للسلم، فاعلم رحمك الله أنه يترتب عليها أحكام، ومن أحكام السلم أنه لا يجوز لمن عَقَد عَقْد السلم أن يبيع الشيء الذي اتفق عليه وأسلم من أجله قبل أن يقبضه، فلو أن رجلاً اشترى سيارةً سلماً بمائة ألف من الوكالة، ثم قال له رجل: هذه السيارة أرغبها هل تبيعها لي؟ فنقول: لا يجوز أن يبيعها قبل قبضها، وهكذا لو اشترى تمراً أو براً أو غير ذلك من المبيعات، لكن ما الدليل على أنه لا يصح أن يبيع؟ نقول: إن كان السلم وقع على طعام فإننا نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أرى غير الطعام كالطعام)، وإن كان غير طعام، وقلت: النص خاص بالطعام، نقول: إنه قد ربح ما لم يضمن، فإذا اشتريت سيارةً من وكالة بعشرة آلاف إلى نهاية رمضان هذه السنة، وبعتها بأحد عشر ألفاً أو بعتها باثني عشر ألفاً أو بعتها بثلاثة عشر ألفاً، فمعنى ذلك أنك قد بعت شيئاً وربحت فيه قبل أن يكون في ضمانك، وهذا بيناه في مسألة: ربح ما لم يضمن، فتعلمون أن السيارة الآن لو تلفت فإنها تتلف على ضمان البائع الذي هو الوكالة، فلا يصح في الشريعة أن يتحمل غيرك مسئولية السلعة وأنت تأخذ الربح والنتاج، فانظروا إلى عدل الله عز وجل بين عباده، فلا يصح أن تتحمل الوكالة مسئولية هذه السيارة وحفظها وصيانتها والقيام عليها وتكون مسئولةً عنها، وأنت الذي تربح وتغنم، هذا شيء من الأنانية، ولذلك لا تجيز الشريعة أن تأخذ ربح شيء لم تضمنه، لكن تتحمل مسئوليته وضمانه وتأخذ ربحه ونتاجه، وعلى هذا: لا يصح أن تبيع السيارة قبل قبضها، ولا يصح أيضاً أن تبيع الطعام قبل قبضه، ولا يصح أن تبيع القماش إذا أسلمت فيه قبل قبضه، وهكذا الحديد والنحاس والرصاص وغيرها من سائر المبيعات لابد أن تقبض أولاً، ثم بعد قبضه بع وتصرف، ولأنه لا ينتقل إلى ملكيتك إلا بالقبض فاشترط القبض لصحة التصرف فيه.(170/11)
حكم هبة المسلم فيه قبل قبضه
قال: [ولا هبته].
إذا كان لا يجوز لي أن أبيع حتى لا يحصل الربح قبل الضمان، فافرض أن شخصاً قال لك: هذا المسلم فيه أريد أن أعطيه بدون عوض، كأن أهبه لأخي، فأقول لأخي: يا فلان! هذه السيارة التي اشتريتها من الوكالة هبةٌ مني لك، لم يصح؛ لأن الهبة لا تصح شرعاً إلا بعد الملكية، والملكية تتوقف على القبض، ولا يصح التصرف في شيء بهبته إلا بعد قبضه وملكه، ومن هنا: هبة الأعضاء والتبرع بالأعضاء على القول بعدم جوازها، بني هذا القول على أن الإنسان لا يملك أعضاءه؛ لأن الهبة شرطها: أن تكون مالكاً للشيء الذي تهبه، والإنسان ليس مالكاً لجسده، فهو ممكن أن يهب ماله، وممكن أن يهب سيارته، لكن يده ليست ملكاً له، وكذلك كليته وأعضاؤه، وقرنية العين ونحو ذلك لا يملكها، فقالوا: يشترط في الهبة الملكية، ومن هنا قالوا: صحيح أنه قد تعاقد، ولكنه لم يصل إلى ملكيته الحقيقية التي تبيح له التصرف فيه، فاشترط القبض لهبته، فلا يصح أن يهب السيارة ولا أن يهب الطعام ولا أن يهب القماش ولا أن يهب أي شيءٍ وقع عليه السلم إلا بعد قبضه.(170/12)
حكم الحوالة بالمسلم فيه أو عليه قبل قبضه
قال: [ولا الحوالة به ولا عليه].
أي: أن يحيل بهذا الشيء الذي وقع عليه السلم، فلا يصح أن يحيل به، ولا أن يحيل عليه، لا يصح في كلتا الحالتين، فحينما تدفع مائة ألف لقاء سيارة، فإن المائة ألف هذه لا يصح للوكالة التي اتفقت معها على أن تعطيك سيارة أن تحيلك إلى مكانٍ آخر؛ لأنه لا يصح للشخص الذي تعاقدت معه سلماً أن يحيلك إلى شخصٍ آخر، وأنت أيضاً لا يصح أن تحيل غيرك إلى ذلك الشيء الذي يقع السلم عليه؛ لأن الحوالة تكون على دين مستقر، والسلم لا يستقر ديناً إلا بعد حلول أجله وقبضه، فأنت إذا دفعت مائة ألف لقاء سيارة وجئت تحيل شخصاً له عليك مائة ألف وقلت له: خذ هذا الدين الذي لي على الوكالة، لا يصح إذ الوكالة ليست بمدينة؛ لأن الأجل لم يحل أصلاً، وهذا بيع وصفقة خارجة عن الديون، والحوالة شرطها أن تكون على ديون كما سيأتي (من أحيل على مليء فليتبع) كما قال صلى الله عليه وسلم، فالحوالة تكون في الديون المستقرة، وأنت تحيل على شيء لا يستقر ديناً، وصحيح أن الصفقة أوجبته، لكنه لم يستقر ديناً، فلا يصح للوكالة أن تحيلك على وكالة ثانية، ولا يصح لتاجر الحبوب أن يحيلك على تاجر آخر، ولا يصح لتاجر التمر أن يحيلك على تاجر آخر، كذلك أيضاً لا يصح لك أنت أيضاً أن تحيل على هذا التاجر، فكما أنه لا يصح لهذا أن يحيل على هذا، فكذلك الطرف الثاني لا يصح أن يحيل غيره عليه.
قال: [ولا أخذ عوضه].
أي: العوض عن هذا المسلم فيه، مثلاً: رجل تعاقدت معه على مائة صندوق من التمر في نهاية رمضان، فلما حضر الأجل قال لك: والله ما عندي مائة صندوق من التمر السكري الذي اتفقنا عليه، فأريد أن أعطيك عوضاً عنها تمراً برحياً، لم يصح، وإنما يجب عليه أن يحضر هذا الذي اتفقتما عليه وهو السكري، فإن كان ليس عنده يذهب ويحضره من الغير، ولكن بعض العلماء يقول: إذا عجز، كأن يكون هناك جائحة اجتاحت التمور وأصبح هذا الموسم ليس فيه تمر من هذا الصنف الذي اتفقا عليه، فينفسخ العقد، ويحكم بانفساخ عقد السلم، وفي هذه الحالة يطالب برد المال، ولا يطالب بالعوض؛ لأنه غير موجود، فلو قال له: أعطيك عوضاً من نوعٍ ثانٍ، أو أعطيك بدل السيارة طعاماً لم يجز، ولابد أن يعطيه نفس الشيء الذي أسلم فيه، وهذا كله -كما ذكرنا- مبني على أن السلم رخصة خارجة عن الأصل، والخارج عن الأصل يتقيد بالصورة الواردة والتي اتفقا عليها وأوجدا العقد عليها، ولا يجوز التصرف في هذه العقود لإخراجها عن حقيقتها؛ لأنه لو قلنا بجواز ذلك خرج عن كونه سلماً إلى بيع آخر، وأصبح بيع السلم ذريعة إلى بيوع أُخر، ومن هنا: الرخص لا يتجاوز بها محالها، فما جاء على سبيل الرخصة يقيد بصورته ولا يصح إلا بعقده.(170/13)
حكم الرهن والكفالة بالسلم
قال رحمه الله: [ولا يصح الرهن والكفيل به].
الرهن للاستيثاق، فإذا أخذ منك شخص ديناً مائة ألف ريال، تقول له: أعطني رهناً، فيعطيك رهناً مثلاً: أرضه أو عمارته، فيقول: هذه العمارة رهن حتى أعطيك المائة ألف، أو هذا كفيلي يكفلني في الديون، فلا يجوز أن يجعل السلم رهناً، وكذلك أيضاً قالوا: لا يجوز أن يجعل في السلم رهناً، وهذا فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: يجوز أخذ الرهن في السلم، وبعضهم يمنع من أخذ الرهن في السلم، مثلاً: رجل تعاقد مع غيره سلماً في تمر، فقال له: هذه عشرة آلاف لقاء مائة صندوق من التمر السكري آخذها منك في نهاية رمضان، قال: قبلت، قال: أعطني رهناً لقاء هذه المائة ألف التي سأعطيك إياها، فمعناه أنه سيأخذ الرهن لقاء الوفاء بالسلم، فقيل: لا يجوز، وهذا مذهب بعض العلماء، وقال بعض العلماء بصحة الرهن فيه وهو أقوى، وذلك لظاهر آية الدين لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فإذا كان الشخص لا يأمن ولا يستوثق قالوا: يجوز له أن يأخذ رهناً لقاءه، إلا أنه ضُعف، والحنابلة ومن وافقهم يجيبون بأنه إذا لم يمكنه الوفاء فإنه يلزم بالمثل، وإذا لم يكن المثل فإنه يلزم برد المال الذي هو الثمن الذي أسلمه إليه، فلا داعي لأخذ الرهن به، والصحيح والأقوى ما ذكرنا؛ لظاهر الآية الكريمة؛ لأنها نزلت في السلم، وكان ابن عباس رضي الله عنه يحلف أن آية الدين في السلم، وفي آية الدين ذكر الرهن؛ ولأنه قد يعجز عن الوفاء بالسلم، أو يتعذر وجود الشيء الذي اتفقا عليه ووقع عليه عقد السلم، وتصبح المائة ألف ديناً، فيكون حينئذٍ من حقه أن يستوثق للمال الذي دفعه إليه.
قال: [والكفيل به].
كذلك لو قال له: أحضر لي كفيلاً ليكفل قالوا: لا يصح، والصحيح أنه يصح كالرهن.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(170/14)
الأسئلة(170/15)
الفرق بين عقد السلم وبيع الثمر قبل بدو صلاحها
السؤال
أشكل عليّ بيع السلَم مع بيع الثمرات قبل بدو صلاحها وبين بيع الرجل ما لا يملك؟
الجواب
هذا إشكال جيد، فقد تقدم معكم أن من باع ثمرةً قبل بدو صلاحها، فإنه لا يصح البيع؛ لأنه لا يأمن فساد الثمر، وبناءً على ذلك يقولون كأنه باع شيئاً غير موجود؛ لأنه اشترى الثمرة، والثمرة أثناء العقد صلاحها مفقود، فكيف صححنا السلم مع أن المبيع مفقود وغير موجود؟ والجواب: أن بيع الثمرة ينصب على معين، وبيع السلم انصب على غير المعين، وهذا الذي ذكرناه: أنه يشترط في السلم أن يكون موصوفاً في الذمة، ومعنى ذلك: أنه لما باع الثمر انصب على معينٍ يفوت بفواته، ولكن في بيع السلم ينصب على غير معين، فهذا الفرق، وبناءً على ذلك إنما يرد الاعتراض أن لو اتفقا في الحكم، بحيث قلنا: يجوز هذا ويجوز هذا وهما متفقان أيضاً في الوصف، والواقع أن هذا شيء وهذا شيء، فلما كان الغرر في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها موجباً للتحريم حرمنا، ولما كان الغرر غير موجب في بيع السلم، أو كان موجوداً ولكنه يسير، وأجاز الشرع أجزناه، والفرق بينهما من هذا الوجه ظاهر، والله تعالى أعلم.(170/16)
الفرق بين السلم وبيع الرجل ما لا يملك
السؤال
ما الفرق بين بيع السلم وبيع الرجل ما لا يملك؟
الجواب
بيع السلم: بيع من الرجل لما لم يملك، ولكن هذا كما قال العلماء: عام وخاص، والقاعدة: لا تعارض بين عامٍ وخاص، فنقول القاعدة: عدم جواز بيع الرجل لما لا يملك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث حكيم بن حزام كما في حديث السنن: (لا تبع ما ليس عندك)، فلما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده جاء حديث ابن عباس فقال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فنقول: صح السلم؛ لأنه فردٌ من أفراد العام المنهي عنه، والقاعدة: لا تعارض بين عام وخاص، فبيع ما ليس عند الإنسان محرم إلا في السلم؛ لورود الرخصة فيه، وقال بعض العلماء: ليس بيع السلم من بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأنه من بيع الذمة، ولكن مذهب الجمهور على أنه من بيع الإنسان ما ليس عنده، والحق أن مذهب الجمهور أرجح والرخصة فيه واضحة، ولذلك قال: ورخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في السلم، والسلم مرخصٌ فيه من هذا الوجه.(170/17)
حكم الكتابة والإشهاد في عقد السلم
السؤال
هل تجب الكتابة والإشهاد في السلم؟
الجواب
السلم من الديون، والديون يفصل فيها: فإذا كان الدين موثقاً والحق ممكن توثيقه لصاحبه بكتابةٍ، وثابت لصاحب الحق حقه فلا إشكال بأنه يجوز أن يتعاقد باللفظ دون حاجة إلى إشهاد.
وأما إذا كان الحق لا يمكن الوصول إليه إلا بالاستيثاق فيجب الإشهاد، وإن كان الاستيثاق بالكتابة وجبت الكتابة، ومن هنا يفصل فيه، فإذا كنت قد اشترى منك رجل سلماً سلعة وكتبت في وصيتك: إن لفلان وفلان كذا وكذا سلماً وثبت حقه؛ فحينئذٍ لا إشكال، أما إن كان عدم الكتابة سيؤدي إلى ضياع الحق فإن الكتابة واجبة، والإشهاد عليه واجب، والكتابة استيثاق إن حصل بدونها فبها ونعمت؛ كالشهادة المجردة باللفظ، وإن كان قد حصل الاستيثاق بالكتابة مع الإشهاد فهذا أكمل وأفضل على ظاهر آية البقرة، وقد رخص بعض العلماء في ترك الإشهاد لحديث اليهودي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهون عند يهودي في صاعين من شعير)، قالوا: ولم يكتب في وصيته حقه، وإنما ترك ذلك لمكان الاستيثاق، ولكنه لا يخلو من النظر لما ذكرنا، والله تعالى أعلم.(170/18)
حكم الاتفاق مع الخياط على خياطة ثوب
السؤال
هل العقد الذي يتم مع خياط الثياب يعتبر من عقود السلم؟
الجواب
إذا قال له: أريد ثوباً من هذا القماش، بكم؟ قال: الثوب من هذا القماش بمائةٍ أو مائة وعشرين، فإنه حينئذٍ يكون عقد بيع وإجارة، فلو قال له: أريد ثوباً من هذا القماش، فكم متراً يكفيني؟ قال: ثلاثة أمتار، قال: وتفصلها؟ قال: وأفصل، قال: إذاً أشتري منك بمائة، لم يصح؛ لأنه جمع بين الإجارة والبيع مع الجهالة، فلم يعلم قسط الإجارة من قسط البيع، كيف؟ لما قال له: كم متراً يكفيني من هذا الثوب؟ قال: ثلاثة أمتار، فحينئذٍ رغب أن يعطيه من هذا الثوب ثلاثة أمتار، ثم قال له: وتفصل؟ قال: وأفصل، قال: كم تأخذ عليه؟ -يعني: على البيع وعلى التفصيل- فقال: مائة، فجمع بين الثلاثة الأمتار المبيعة أولاً وبين إجارة الخياطة ثانياً على وجهٍ لا يدرى فيه حق الإجارة من حق البيع، وهذا هو الذي دعا بعض العلماء أن يمنع منه؛ لأنه جمعٌ بين عقدين في عقد واحد على وجهٍ موجب للجهالة والغرر، أما لو قال له: بكم المتر من هذا؟ قال: المتر بستة ريالاً، قال: إذاً أعطني ثلاثة أمتار بثمانية عشر ريالاً، وبكم تفصل؟ قال: بثلاثين، قال: إذاً هذه ثمانية وأربعون، اقطع لي ثلاثة أمتار وفصلها لي، صح ذلك وأجازه العلماء وألحقوه بعقد الاستصناع.(170/19)
شرح زاد المستقنع - باب القرض [1]
يعتبر القرض من المعاملات المالية التي يراد بها الإرفاق، وقد ثبت القرض بأدلة الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، فيستحب لمن وسع الله عليه أن يوسع على إخوانه المسلمين بالقرض، فيوسع به على المكروب، ويفك به الغارم والمديون، ومن جانب آخر على المقرض أن يحذر من إقراض من يستعين بالقرض على حرام أو مكروه؛ لأنه حينئذٍ يكون شريكاً له في وزره.(171/1)
مشروعية القرض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [باب القرض].
القَرض والقِرض، والأشهر: بالفتح، لكن يصح الكسر، وأصل قرض الشيء الاقتطاع منه، ومنه قولهم: قرضه فأر، إذا اقتطع منه، وسمي القرض قرضاً: لأن الشخص يقتطع من ماله جزءاً للمديون، فيعطيه إياه ديناً، وأصل القَرض: دفع المال للغير إرفاقاً ليرده عند حلول أجله المتفق عليه، وهذا النوع يسميه العلماء: إرفاقاً، وقد اعتبروه من عقود الرفق؛ لأن الشخص يعطي ماله يحتسب الثواب عند الله عز وجل ويريد الرفق بما أخذ منه، فيكون حينئذٍ عبادة، وقد يدفع المال له من باب العاطفة، فيكون عادة، كشخصٍ -مثلاً- جاءك وقال: أريد مائة ألفٍ قرضاً إلى نهاية السنة، فإنك قد تنظر إلى ظروفه وما ألمّ به من الحوائج فتعطيه المائة ألف، لكن لما أعطيته المائة ألف أعطيتها من باب الرفق، وقد تقدم في أول كتاب البيوع أن عقود المعاوضات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - ما يقصد منه الرفق المحض.
2 - ما يقصد منه القبض المحض.
3 - ما يقصد منه مجموع الأمرين القبض والرفق.
أما ما يقصد منه القبض المحض فمثل البيع، فإذا جئت تشتري من المعرض أو جئت تشتري من التاجر إذا عرض عليك السلعة فأنت تريد أن تغبنه وهو يريد أن يغبنك؛ فإن قال لك: هذه السلعة بمائة تقول له: بل بتسعين، وإذا قال بثمانين، قلت: بل بسبعين، هو يريد أن يكون الغبن عندك وأنت تريد أن يكون الغبن عنده، فهذه يسمونها عقود الغبن في البيع وكذلك في الإجارة، إذا قال: أجرتك داري هذا بعشرة آلاف سنةً كاملة، فقلت: بل بتسعة آلاف، فهو يريد أن يغبنك في الألف، وأنت تريد أيضاً أن تغبنه في الألف، فهذا يسمى عقد الغبن، كذلك لو اكتريت أحدهم من أجل أن يوصلك إلى الحرم فقال لك: من هنا أذهب بك إلى الحرم بعشرين، تقول: لا.
بل بعشرة، فالغبن إما أن يكون في حق المستأجر أو الأجير، فهذا النوع من العقود يسمونها عقود الغبن والشرع يشدد في شروط هذا النوع، ولذلك تجد شروط البيع أشد من شروط غيره؛ لأنه ما دام أن هناك غبناً فالشرع يريد أن يحتاط للبائع وللمشتري، وبعبارة أخرى: يحتاط للمتعاقدين في حقيهما، فلا يصحح بيع المجهولات ولا يصحح بيوع الغرر بأحوالها، كل هذا احتياطاً لحق البائع، وحق المشتري.
النوع الثاني: عقود الرفق، ومنها: الهبة، كما لو أن شخصاً جاءك وقال لك: يا فلان! إني أحبك في الله، وأهدى لك هدية، أو قال: هذا القلم هبةٌ مني لك، أو هديةٌ مني لك؛ فإنه يعطيك القلم ولا يريد الثواب إلا من الله عز وجل، أو يريد أن يكون ثوابه المحبة والمودة، فهذا يسمى عقد الرفق المحض، لا يريد أن يغبنك ولا تريد أن تغبنه، فليس هناك غبن من الطرفين أو أحدهما، إنما يراد الرفق، فيشمل هذا الصدقات والهبات بعوض.
النوع الثالث من العقود: ما جمع الغبن والرفق، ومن أمثلة ذلك: الشركات، فلو أن رجلاً قال لك: ندفع مائة ألف، أنت تدفع خمسين وأنا أدفع خمسين، ويكون ثلاثة أرباع الربح لي، وربع الربح لك، تقول له: لا.
بل ثلاثة أرباع الربح لي، وربعه لك، فهناك غبن في الربح، وهناك رفق في التقوي بكلا المالين؛ فإن المتاجرة بمائة ألف ليست كالمتاجرة بالخمسين، فأنت تريد أن تقوي ماله وهو يريد أن يقوي مالك، فترى رفقاً منك به وهو أيضاً يرى رفقاً منه بك، فصار رفقاً من الطرفين، ولكنه غبن من الطرفين، فإذاً: عقد الشركة جامع بين الغبن وبين الرفق (المضاربة والقراض)، كرجلٍ قال: خذ هذه العشرة آلاف واضرب بها في الأرض، ويكون لي ثلثا الربح ولك ثلث الربح، فتجد في المضاربة رفقاً من الطرفين؛ لأن العامل يأخذ المائة الألف المجمدة والتي لا تستطيع أن تعمل بها فيرفق بك بالمتاجرة، فأنت ارتفقت من هذه الناحية، والعامل ارتفق من جهة اكتساب صنعته وتنمية خبرته، واستفاد من جهة الربح الذي سيجده من المائة ألف، فإذاً: صار عقد المضاربة عقد رفق من هذا الوجه وهو عقد غبنٍ؛ لأنك ستقول: لي ثلثا الربح، وهو سيقول: بل لي ثلثا الربح ولك ثلثه، وكل منكما يريد أن يغبن الآخر في حضه من الربح، فصار عقد المضاربة والقراض جامع بين الغبن والربح.
القرض والدين من العقود التي يقصد بها الرفق المحض، فإنه يعطيه القرض على سبيل أن يرفق به، جاءك رجل وعنده كربة أو نكبة لا قدر الله، وقال لك: يا فلان! إني في ضائقة وحاجة، كرجل يريد إيجاراً لشقته أو يريد علاجاً لمريضه أو علاجاً لمرضه؛ فإن هذا كله يقصد به الرفق من دفع الشدة والحاجة عن المحتاج، ولذلك قالوا: دفع المال للغير إرفاقاً -بقصد الرفق- على أن يرده، فلما قالوا: على أن يرده خرجت الهبة والصدقة، فصار القرض من عقود الهبات، والهبة من عقود الرفق.(171/2)
أدلة مشروعية القرض
القرض مشروع بالكتاب والسنة وبإجماع الأمة، إذا أعطيت الناس أموالك قرضاً، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:282]، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] فجعل معاملة المخلوق للخالق مركبة على القرض، وشبهها بالقرض، فشبهها بالمعروف والمعهود فدل على السنن.
كذلك دلت السنة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً على جواز القرض، أما القول: فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، فهذا يدل على أن من أخذ القرض وفي نيته أن يرده -لا أن يتلاعب بحقوق الناس- فإن الله يعينه، قال بعض العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: (أدى الله عنه)، يحتمل أمرين: الأمر الأول: يحتمل أن يوفقه في الدنيا فيسدده، وقل أن تجد رجلاً يأخذ أموال الناس وفي نيته أن يردها إلا ويوفق للرد.
الأمر الثاني: يحتمل أن يكون في الآخرة، أي: إذا مات ولم يسدد الدين، فإن الله لما علم من حسن نيته يتكفل بإرضاء خصمه والأداء عنه فضلاً من الله عز وجل وتكرماً لحسن نيته؛ لأن نيته كانت صالحة، والله هو المطلع على الضمائر والسرائر، أما لو كانت نيته سيئة، كرجل يُكثر الذنوب ولا يستطيع أن يسدد ويأتي إلى أخيه المسلم ويخدعه بالعبارات وبالكلمات الحسنة والوعود المكذوبة، والله يطلع على ضميره وسريرته أنه كذاب، سيأتي إلى الرجل، ويقول له: أعطني مائة ألف، وفي نهاية السنة تأتيني أموال ويعده وعوداً كاذبة ويمنيه والله يعلم أنه في قرارة قلبه ليس بصادق، وأنه ليس عنده ما يستطيع أن يسدد به، وليس صادقاً فيما يقول من أنه سيعطيه، بل بعض الأحيان يعلم أنه ستأتيه الأموال ولكن يبيت في قرارة قلبه أن يأخذ الدين ولا يرده، فمثل هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)، ولذلك لا يوفق للسداد، فتتراكم عليه الديون حتى يشتكى ويطالب، فيلبس لباس الذلة في الدنيا، وما ينتظره من عذاب الآخرة أشد وأبقى، نسأل الله السلامة والعافية.
فالدين جائزٌ ومشروع لظاهر هذا الحديث، وكانت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها تكثر من الدين فيلومونها، وهي لم تكن تكثر من الدين من أجل أن تتاجر وتبيع إنما كانت تفرج به الكربات، فكانوا يقولون لها: ما هذا الذي تفعلينه؟ لماذا تتدينين؟ فقالت: لا أدع هذا الدين منذُ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)، فهي تستدين للحاجة وتفريج الكربة.
وأما دليل الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية القرض وجوازه وأنه من الأمور المستحبة والمندوبة، فيستحب لمن وسع الله عليه أن يوسع على إخوانه المسلمين بالقرض.(171/3)
مراتب القرض من حيث الجواز والمنع
والقرض يكون واجباً، ويكون حراماً، ويكون مندوباً، ويكون مكروهاً، ويكون مباحاً.
أما أنه يكون واجباً: كرجلٍ تاجر عنده قدرة ومال، ويأتيه المكروب -خاصةً من الأقرباء- ويطلبه مالاً يسيراً، وهذا المديون الذي يريد الدَّين عنده كربة مثلاً فيه مرض خطير، وقد يهلك إذا بقي فيه هذا المرض، ويريد منه الدين من أجل أن ينقذ نفسه، أو يريد هذا القرض من أجل أن يشتري طعاماً، أو يشتري شراباً لابد منه لحياة نفسه، فإنه في هذه الحالة يجب على هذا الذي وسع الله عليه أن يفرج كربة أخيه المسلم، خاصةً إذا غلب على ظنه أنه إذا لم يفعل ذلك أنه سيهلك، والله عز وجل أمر المسلم أن ينقذ أخاه المسلم، ولا يجوز له أن يقتله، فإذا لم يعطه المال فكأنه قتله؛ لأنه تعاطى السبب لهلاكه ولحوق الضرر به، ومثل ذلك لو جاءك المديون يسألك العون، وعلمت أنك إذا لم تسدد دينه فإنه يتضرر، فيكون مثلاً احتاج إلى عشرة آلاف ريال؛ لأن رجلاً اشتكاه في عشرة آلاف ريال، وإذا لم يسدد العشرة آلاف سيسجن، ثم إذا سجن في هذه العشرة آلاف كحق واجب عليه فإن ذلك يعرض أسرته وأولاده للضرر، وقد تتعرض زوجته للزنا والحرام، فلابد أن يضع المسلم الأمر في حسبانه، فإذا كان المدين قريباً لك إما ابن عمٍ لك أو ابن خالٍ لك -بينك وبينه نسب- وأنت تستطيع تفريج كربته فإنه يجب عليك أن تقوم بسداد هذا الدين وتتحمل عنه، خاصةً إذا غلب على ظنك أنه سيسدد، قالوا: قد يكون واجباً عليك أن تدفع له القرض، فإن لم تدفع فإنك تأثم، وتتحمل وزر هذا المسلم، وهذا من كفر نعمة الله عز وجل؛ ولذلك لما جاء الملك للأقرع، قال له: ابن سبيلٍ منقطع، قال له: الحقوق كثيرة، سبحان الله! وهذا هو قول الناس اليوم: عندما تأتي لشخص يقول لك: الالتزامات كثيرة، رجل يكون عنده عشرات الألوف، بل مئات الألوف، بل قد يكون عنده ملايين، وتأتيه في حاجة يسيرة فيقول لك: الحقوق كثيرة، وعليَّ التزامات كثيرة، يعني: هذه الملايين وعشرات الألوف ومئات الألوف لا تفي لسداد هذا الدين الذي لا يعادل شعرةً في مقابل ما عنده، هذه النعمة التي أنعم الله عز وجل بها عليه والمحروم من حرم الخير، وهذا من كفر النعم نسأل الله السلامة والعافية، ولا يأمن من نقمة الله العاجلة والآجلة، فإن من كفر نعمة الله عز وجل فإن الله يلبسه ثوب الذلة، ويسلبه النعمة ويذيقه سوء العذاب الذي ذاقه غيره ما دام أنه يرى قريبه ويرى المحتاجين على تلك الحال ولا يعينهم، هذه كلها أمور ينبغي وضعها في الحسبان عند الحكم بالقرض.
من جاء يطلب قرضاً وأنت تعلم أنه يريده لسكنه أو لطعامه ورزقه ورزق أولاده وأنت قادرٌ عليه ينبغي عليك أن تفرج كربته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
كذلك يمكن أن يكون القرض حراماً، كما لو جاء يطلب القرض من أجل أن يفعل الحرام كأن يشتري به خمراً أو يسافر به لارتكاب الحرام، والمسئول الذي طلب منه القرض يعلم ويغلب على ظنه أن هذا المال سيصرف في هذا الحرام فلا يجوز له أن يعطيه، وإذا أعطاه كان شريكاً له في وزره وإثمه نسأل الله السلامة والعافية.
ويكون القرض مندوباً، كأن يكون المقترض مسلماً وجاءك في حاجة ولا يجب عليك أن تنقذه كطالب علمٍ أو رجلٍ يريد أن يسافر إلى أهله ليعف نفسه أو نحو ذلك من المستحبات والمندوبات فأعنته على ذلك فهذا قرضٌ مندوب، وهذا هو الذي نبه عليه المصنف، وهذا عند انتفاء الموانع التي توجب حرمته وانتفاء الدوافع التي ترفعه إلى مرتبة الوجوب، مثلاً: لو جاءك مديون يستطيع أن يأخذ منك الدين ويأخذ من غيرك، وقال لك: يا فلان! أقرضني، وتعلم أنك إذا لم تقرضه سيذهب إلى غيرك فلا يتعين عليك في هذه الحال ولم يجب عليك، ولكن من الأفضل والأكمل أن تبذل له الدين، ففي هذه الحالة يكون القرض مندوباً.
ويكون مكروهاً إذا كان لشيءٍ مكروه لا يصل إلى درجة الحرام، كأشياء تشغله عن ذكر الله ولا تصل إلى درجة الحرام ويقضي به وطره فيكون المعونة عليه معونة على المكروه.
ويكون مباحاً، كرجلٍ جاءك يريد أن يأخذ المال من أجل أن يشتري صفقة وتجارة، فهو في الأصل ليس مضطراً حتى يصل إلى درجة الوجوب، كتفريج الكربات، إنما يريد أن يربح ويزيد ماله، فأنت استحيت منه وأعطيته، كما يقع بين التجار بعضهم مع بعض، يأتي ويأخذ منه السلعة ديناً وهو قادر أن يسدده، هذا يكون مباحاً؛ لأنه لا دوافع تجعله مندوباً أو واجباً ولا موانع تجعله محرماً أو مكروهاً فصار مباحاً، أو كرجلٍ غني ثري يأخذ منك ديناً فتستحي منه وتعطيه، فهنا لا تستطيع إن تقول: إن هذا تفريج، أي: ليس هو بمكروه، ولا تستطيع أن تقول: إن هذا محرم؛ لأنه ليس بحرام، فليس في مقام المطلوبات ولا في مقام المحرمات، فيكون مباحاً.(171/4)
الجمع بين مشروعية القرض وذم المسألة
إذا طلب إنسان القرض هل يدخل هذا في ذم المسألة؟ لقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة ورغب في ترك سؤال الناس، وبين فضيلة ترك المسألة، وأن من ضمن أن لا يسأل الناس شيئاً ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، قال: (من يضمن لي أن لا يسأل الناس شيئاً أضمن له الجنة) والسبب في هذا الاستغناء بالله جل وعلا وصدق اللجأ إلى الله سبحانه وتعالى وكمال اليقين به، والمؤمن إذا صان ماء وجهه عن أن يريقه للناس كان هذا أكمل في إيمانه ومروءته، وهذا كله يقصده الشرع ويطلبه.
فهل إذا استدان يدخل في المسألة المكروهة؟
الجواب
إن طلب الدين لا يعتبر من المسألة المكروهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلب الدين، وتوفي كما في الصحيحين ودرعه مرهونة في صاعين من شعير عند يهودي، وهذا يدل على أن طلب الدين ليس من المسألة المكروهة، وما زال على ذلك عمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين رحمهم الله، حتى إن محمد بن سيرين وهو من أجلاء أئمة التابعين رحمه الله برحمته الواسعة، أصابته الديون وعظمت عليه حتى سجن في الدين، وأصبح مرهوناً، ولما توفي أنس بن مالك رضي الله عنه أوصى أن يغسله محمد بن سيرين وكان مسجوناً في دينه، وهذا يدل على أن مسألة الدين ليست من المسألة المحرمة، ولا من المسألة المكروهة؛ لأنه يأخذ الدين ويرده، وليس بآخذ شيئاً بدون عوض.(171/5)
أركان القرض المشروع
القرض يقوم على ثلاثة أركان، وهي: العاقدان، ومحل العقد، والصيغة، فأما العاقدان: فهما المقرض والمستقرض، فالمقرض هو الذي يدفع القرض، والمستقرض هو الشخص الذي يأخذ القرض، ويشترط فيهما: الأهلية، وهذه الأهلية تستلزم العقل، فلا يصح أن يستقرض من مجنون، أو صبي غير مأذون له بالتصرف في المال، ولو أقرض لم يصح القرض وجاز لوليه أن يأخذه مباشرة.
كذلك يشترط في المقرض أن يكون مالكاً للمال الذي يقرضه، فإذا كان غير مالكٍ له لم يصح أن يقرضه للغير، والمال الذي يدفعه للغير قرضاً إذا لم يكن مالكاً له فقد تصرف في ملك غيره، ومن المعلوم أن القرض يصير المال المقتَرَض ملكاً للمقتَرِض، وعلى هذا لابد أن يكون الذي بذل مالكاً.
ويتفرع على هذا المسألة المشهورة: لو أن رجلاً أُعطي مالاً لكي يزكيه لا يصح أن يعطيه قرضاً؛ لأنه أُعطي المال وكالة، والإذن له بالتصرف في المال وكالة في الزكاة، وعلى هذا فلا يجوز له أن يقرضه، وكذلك أيضاً لا يجوز أن يتصرف في مال اليتيم فيقرضه للغير؛ لأن نصب الولي على اليتيم من أجل أن ينظر مصلحة المال في تنميته والقيام عليه، فإذا أعطاه قرضاً فإنه قد خاطر بالمال؛ لاحتمال أن يعجز الشخص الذي أخذ القرض عن السداد، وإنما أُذن للولي أن يتصرف في مال موليه وهو اليتيم إذا كان على وجه الإحسان والحفظ والصيانة، فإذا أعطاه قرضاً كان ذلك مخالفاً للأصل، فلم يصح ولا يجوز له.
أما الصيغة فإنها تقوم على الإيجاب والقبول، فتقول: أقرضتك، أو أسلفتك، فإنه يصح أن يعبر بالقرض ويصح أن يعبر بالسلف، لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي رافع رضي الله عنه قال: (استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً)، فقوله: (استسلف) تدل على جواز أن يقول: أسلفتك هذه الدراهم، أو أسلفتك هذه الريالات، ومن هنا قالوا: يصح أن تتركب الصيغة بلفظ القرض وبلفظ السلف.(171/6)
الحكمة من مشروعية القرض
القرض في مشروعيته حِكم عظيمة، فهو يفرج كربات المكروبين، ويدفع ويقضي حوائج المحتاجين، حتى قال بعض العلماء: إنه من أفضل القربات وأجلها وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن المديون لا يأتيك إلا من حاجة، فإذا ضاقت عليه السبل وأراد أن يطلب منك أن تعينه بالقرض وهو موثوق لا يعرف بالتلاعب ولا بالكذب ولا بالغش ولا بالخديعة للناس، وخاصة إذا كان غريباً لا يعرف غيرك، أو بينك وبينه قرابة، فإنك إن فرجت كربته كان هذا من أبلغ ما يكون من الأثر والإحسان إلى الناس، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم مبيناً فضل الإحسان إلى الناس في القروض والتوسعة عليهم فيها: (من يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) وعلى هذا استحب العلماء القرض، واستحبوا التيسير على المقترض، ومن التيسير على المقترض عدة أمور: أولاً: أن تيسر له إذا جاء يسأل، فلا تعنفه، ولا توبخه، ولا تهينه، ولا تشعره بشيء من الحرج، كان السلف يملكون الأموال ولكن كأنها ليست ملكاً لهم، بل ملكاً لمن سأل، حتى قال ابن عباس: (ثلاثة لهم عليَّ فضل: رجل احتاج حاجة فجاء يسألنيها) ووجه فضله قالوا: إنه اختارك من بين الناس كلهم، فكان الناس يوم كانوا يحسون أن من جاء للحاجة والفاقة وقصدني فإنه اختارني من بين الناس.
وهذا أمر يعظم وقعه على الكريم الذي له نفس حية وقلب حي، فيرد هذا، حتى إنه يتحرج أن تأتي، وتقول له: يا فلان! قد نزلت بي حاجة، فيقول لك: ماذا تريد؟ ماذا تأمر؟ ولا يسمح لك أن تقص حاجتك، وتريق ماء وجهك، يحس بأخوة الإسلام وأن ما أصابك كأنه أصابه، ويحس أن الذي نزل بك كأنه نزل به، فيستشعر حينما جئت إليه وفي وجهك ولسانك ما يدل على الشدة والحاجة والفاقة كأنك هو، فهو يحس بهذه الآلام والأشجان ويتألم كما تتألم بها أنت، فلا يريدها أن تستمر، فيقول لك: أرجوك قل ما تريد، ولا يسمح لك أن تذكر سبباً للسؤال وللحاجة، فهذا من التيسير على المعسرين، وهو يدل على كمال الإيمان وشكر نعمة الله عز وجل المنعم المتفضل على العبد، فإن الله إذا أعطاك نعمة وبارك لك فيها شكرتها، وإذا شكرتها وجاءك المكروب أحسست كأنك هو.
وعلى هذا قالوا: هذا من التيسير عند ابتداء القرض، ثم إذا جئت تعطيه القرض لا تشعره بالأسلوب القوي العنيف، فهذا من التعسير عليه والتضييق؛ لأنه لم يشعر بآلامه ولم يحسها فيوسع عليه، يقول له: المال مالك، وأسأل الله أن يبارك لك فيه، خذه مباركاً خذه بطيبة نفس، أسأل الله أن يفرج عنا وعنك، فيخرج المكروب والمنكوب ميسراً عليه وقد كان جاءك بهموم الدنيا وقد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فيخرج من عندك مجبور القلب والخاطر، فلا يملك إلا أن يدعو لك بظهر الغيب ويذكرك بالخير، وهذه هي التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح)، فإن المال الصالح الذي جاء من طريق الحلال والكسب الطيب إذا جاء للرجل الصالح فستر به العورات وفرج به الكربات، أنعم الله عليه بهذا المال، فيصبح الناس يدعون له بظهر الغيب، كذلك من التيسير على المعسر ما لو قال لك مثلاً: أعدك بالسداد في نهاية رجب، وأنت تعلم أنه قد ضيق على نفسه، فتقول له: لا يا أخي! بل إن شاء الله إلى أن ييسر الله عليك، فهذا أيضاً من التيسير على المعسر في الأجل.
فعلى العموم من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله هذا القرض، وفي مشروعيته حكم عظيمة، منها: أن الله عز وجل يعظم الأجر والمثوبة لمن أعطاه الله المال، فشكره بمثل هذا.
ومن حكمه العظيمة أنه يحقق الألفة والمحبة والأخوة بين الناس، فإن الناس لا زالوا بخير ما رحم بعضهم بعضاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
فهذه من الأمور التي تستفاد من القرض أنه يجعل الناس متراحمين، وانظر إلى الرجل حينما يأتيك، ويقول لك: أصابتني ضائقة فذهبت إلى فلان وسألته عشرة آلاف فأعطانيها ويسر لي، فعل الله به وفعل، فتحس أن الناس يشعرون أن الخير لا يزال موجوداً، ولكن نسأل الله السلامة والعافية، إذا احتاج المحتاج ونزلت الكربة بالمكروب وضاقت على المسلم الأرض فأصبح يفكر، وينظر ذات اليمين وذات الشمال يبحث عمّن يعينه فلا يجد، بل يذهب ويريق ماء وجهه عند الرجل ويشكو له حاجته وكربته وفاقته، فإذا به يقول له: والله الحقوق كثيرة، والذين يتدينون كثير وقل من يقضي، وكأنه يقول له: أنت مثلهم، هذه من الأمور التي لا تحمد عقباها، وهو من كفر نعمة الله عز وجل، إما أن تعطيه، وإما أن ترده بالتي هي أحسن.
وعلى هذا فالقرض فيه خير كثير، وفيه حكم عظيمة وتوسعة على الناس وتفريج لكرباتهم، وربما جاءك المكروب وهو يحتاج المال لسداد دين مسكنه، فإذا لم تسدد عنه كيف يكون حال الناس؟! يخرجون من مساكنهم إذا ضاقت عليهم الدنيا؟ كذلك أيضاً ربما جاءك وقد ابتُلي بغريم لا يحسن، ومن هنا كانوا يوصون ويقولون: إذا رجوت فلا ترج إلا الحيي الذي يستحي، حتى قيل: (لا ترج من ليس له حياء)؛ لأن الحيي إذا جئته فإنه يستحي منك وأقل شيء أنه إذا ردك ردك بالتي هي أحسن، فإذا نظرنا إلى هذه الحكم المستفادة من قضاء الديون، فإننا ندرك حكمة الشرع في تجويزه للقرض، وأنه من الخير والرحمة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فمن رحمة الله ويسر هذه الشريعة أن يسرت على الناس في هذا النوع من المعاملات.
وقوله: [وهو مندوب].
بعد أن عرفنا أن القرض يقوم على عاقدين: المستقرض والمقرض، وعلى محل وهو: المال المدفوع وبدله، وعلى صيغة وهي الإيجاب والقبول، (أقرضتك) و (قبلت)، انتقل بعدها رحمه الله إلى الحكم العام، فقال: [وهو مندوب] أي: القرض وذلك بالنسبة للشخص الذي يدفع ويعطي وهو المقرض.
ولكن هنا مسألة عارضة، وهي: من المعلوم أن الواجبات أعظم أجراً من المندوبات والمستحبات، فمرتبة الواجب أعلى وأعظم، فإذا نُظر إلى الدين فإنه مندوب، وإذا فرج عن أخيه ويسر وسهل عليه كان من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن التيسير ليس بواجب، فقالوا: إنه فُضِّل هذا المندوب على الأصل من المطالبة، وهو إلزام الغريم بمطالبته، وعلى الصدقة، قالوا: لأن هذا فيه معنى الوفاء وفيه زيادة، فكأنه اشتمل على الأصل الواجب والزيادة عليه، فكان أفضل من هذا الوجه.(171/7)
الأشياء التي يجري فيها القرض
وقوله: [وما يصح بيعه يصح قرضه] أي: يصح قرض كل شيء يصح بيعه، وعلى هذا تشمل الأموال: الأثمان والمثمنات، وعند العلماء خلاف في هذه المسألة، فبعض العلماء يقول: لا يصح القرض إلا إذا كان من المثليات، المكيلات والموزونات والمعدودات المنضبطة، أما لو استقرض شيئاً لا ينضبط مثله لم يصح القرض، والسبب في هذا أن القرض يلزم المديون برد المثل، فإذا أخذ شيئاً لا ينضبط فمعنى ذلك أنه يفضي إلى الغرر والاختلاف والتنازع، وعلى هذا قالوا: لابد وأن يكون منضبطاً، واختلفوا في المنضبط على وجهين: الوجه الأول: منهم من يخصه بالمكيل والموزون ولا يجيز في المعدود كالحنفية.
الوجه الثاني: منهم من يجيز في الكل كالجمهور، ودرج المصنف على مذهب الجمهور -وهو الصحيح- أنه يجوز حتى في العدد، قالوا: والدليل على مشروعيته ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً فردها خياراً رباعياً) والبكر من الإبل معدود وليس بمكيل ولا موزون ورده خيارًا رباعيًا، وقال: (إن خير الناس أحسنهم قضاءً) فدل على جواز السلف والدين والقرض في المعدودات، وأنه لا ينحصر بالمكيلات والموزونات.
وبناءً على مذهب الحنفية لا يجوز أن يقترض إلا ما كان منضبطاً بالوزن أو بالكيل، وأما ما عداه فلا يجوز، وإذا قررنا الإجماع فكلهم متفقون على أن الذي لا ينضبط لا يجوز قرضه، فمثلاً قال له: هذه الحفنة من الطعام أُعطيكها قرضاً، فإنه إذا جاء يسدد لا يستطيع أن يعطي مثل الحفنة، وهكذا لو قال له: هذا كيس لا يُعلم كم بداخله أعطيكه قرضاً، فإنه لا يُعلم كم بداخله، ولو أعطاه جواهر؛ لأن المشكلة أنه إذا أخذ هذا الكيس سيستنفده، ولا يدري كم هو، فلابد وأن يكون الذي يأخذه منضبطاً، ولو أخذ الجواهر وكانت مما لا ينضبط ولم يكن لها وصف تتميز به، فإنه لا يصح قرضها على هذا الوجه؛ لأنه يفضي إلى الاختلاف والتنازع.
وقوله: [إلا بني آدم] فمثلاً: قال شخص لآخر: أقرضني هذه الأمة، وعندنا أن كل ما صح بيعه فإنه يصح قرضه، والمملوك يجوز بيعه، وبناءً على ذلك يجوز قرضه، ومن حيث الأصل أنه إذا استقرض بعيراً مثلاً، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استقرض البعير ورد مثله وأفضل منه، وعلى ذلك فإذا استقرض المملوك فإنه يرد مثله في صفاته، فالسبب في منع قرض بني آدم، قالوا: خشية إعارة الفروج، والسبب في هذا أن القرض يراد منه الانتفاع والارتفاق، فإذا أخذه المقترض فإنه يملكه، ولا يكون مالكاً له إلا بالقبض أو بالتصرف، فإذا تصرف فيه ملكه، وحينئذٍ ربما أخذه واقترضه ووطئ المرأة قبل أن يتصرف فيها أو وطئها بعد قرضها، وحينئذٍ يكون قد وطئ فيما يملك الغير، قالوا: إنه وطئ في ملك الغير، فلو صححنا أنه وطئ في شيء ملكه بالقبض قالوا: يصير كأنه أعار الفرج بالفرج؛ لأنه أخذها للوطء، ثم جاء ببدل عنها مكان الذي ارتفق به، قالوا: وبناءً على هذه العلة وهي عدم جواز إقراض بني آدم يصبح الحكم الأشبه فيه أن يختص بالتي يمكن أن يطأها.
والشافعية دققوا في هذه المسألة، فقالوا: قرض بني آدم إن كان مما لا يوطأ كصغيرة لم تبلغ سن الوطء، أو ذات محرم كأن يقرضه أخته تكون مملوكة، فقال له: أقرضني أختي ديناً، فأخذها قرضاً وديناً فحينئذٍ قالوا: يصح؛ لأنه لو أعطاه بدلاً عنها فلا تتحقق المفسدة؛ لأنه إذا أخذ أخته قرضاً عتقت عليه، ثم إذا عتقت عليه جاء بالبدل عنها، وحينئذٍ قالوا: إن المفسدة المرادة من إعارة الفروج ليست موجودة، بخلاف ما إذا أعاره أمة فأخذها وملكها فوطئها ثم رد مثلها، فكأنه رد الفرج بالفرج، وعلى هذا قالوا: يفرق بين ذات المحرم وغير ذات المحرم، ويفرق بين ما يمكن وطؤه وما لا يمكن.
أيضاً قالوا: يجوز أن تستقرض المرأة المملوكة، فيجوز قرض بني آدم للنساء بعضهن مع بعض؛ لأن مفسدة إعارة الفروج ليست بموجودة؛ لأن المرأة لا تطأ المرأة، ومن هنا قالوا: ينبغي تقييد المنع بما وجدت فيه العلة، وهذا هو وجه المنع من استقراضه، وإلا فلو نظرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف المعدود ورد المعدود فإن هذا يدل على جواز قرض بني آدم ورد المثل إذا لم يكن هناك مثل، أو رد العين إن كانت العين موجودة.(171/8)
ما يملك به الإنسان القرض
وقوله: [ويملك بقبضه فلا يلزم رد عينه] ويملك القرض بقبضه، هناك ثلاث مراحل وسبق وأن نبهنا عليها، وهي: العقد، وهو الإيجاب والقبول، وهناك القبض والحيازة والتسليم ونحو ذلك، وهناك التصرف سواءً بالبيع، أو بالإجارة، أو بالهبة، أو بالعتق، وهذا كله تصرف في المبيع، فأما بالنسبة للعقد، فمثلاً: قال له: أقرضني عشرة آلاف ريال إلى نهاية رمضان، قال: قبلت، فقال بعض العلماء: إذا قال له: أقرضني عشرة آلاف، أو أقرضني هذا الكتاب، أو أقرضني هذه السيارة، أو أقرضني هذه الدابة، وقال الآخر: قبلت، فإنه بمجرد الإيجاب والقبول تصير إلى ملك المستقرض، وحينئذٍ من حق المستقرض أن يعطي البدل عن القرض، وفائدة المسألة سنبينها في البدلية، قال بعض العلماء: لا يقع الملك إلا بعد القبض.
فمثلاً: لو فرضنا مالاً كمائة ألف ريال من فئة الخمسمائة، إذا قال له: أقرضني مائة ألف إلى نهاية رمضان، قال له: هذه مائة ألف إلى نهاية رمضان ولم يقبضها، فعلى القول الأول: تصير إلى ملك المستقرض بمجرد الإيجاب والقبول، والقول الثاني: أنها لا تصير إلى ملك المستقرض إلا بالقبض، فإذا قبضها فحينئذٍ لو طالبه صاحب الدين؛ لأنه في بعض الأحيان يقول صاحب الدين: خذ المائة ألف إلى نهاية رمضان، ثم يقول: لا.
قد رجعت عن ديني، أعطني إياه الآن، فيريد أن يفسخ، وسنبين هل يلزمه أن يبقى أم لا يلزمه، لكن نقول على ما اختاره المصنف رحمه الله وجماعة: إن من حقه أن يرجع ولو كان بعد العقد مباشرة، فلو أنها من فئات الخمسمائة ريال، فقلنا: إنها تملك بالقبض على القول الثاني الذي اختاره المصنف، فإذا قبض المستقرض القرض حينئذٍ ملكه، فجاز له إذا طالبه برده أن يرد المثل بدلاً عنه؛ لأنه قد ملك وحينئذٍ يصل إلى ملكيته إن شاء أعطى نفس الشيء وإن شاء أعطى مثله؛ لأنه صار إلى ملكيته بمجرد القبض.
القول الثالث: لا يصير إلى ملكية المستقرض إلا بالتصرف، فإن تصرف في الدين فحينئذٍ ملكه ولم يلزم رد عينه، فالمسألة هنا في رد العين، لو أن هذا الشيء في بعض الأحيان يكون خمسمائة والسوق الأفضل أن تكون مفرقة فاستقرضها مفرقة، فأراد أن يعطيه بدلاً عنها جملة وبرأسها كما يقولون كان له ذلك؛ لأنه ملكها بالقبض وصح له أن يصرفه إلى المثل، هذا إذا قلنا: إنها بمجرد العقد.
إذاً: يملك القرض بالعقد، ويملك بالقبض، ويملك بالتصرف، فإن اقترض منه قمحاً ولم يتصرف فيه وطالبه صاحب القمح برده قبل التصرف لزمه أن يرد عين القمح ولا يصرفه إلى مثله؛ لأنه لم يملكه إذا لم يتصرف فيه، وهكذا أيضاً لو قلنا: لو قبضه وبعد القبض طالبه لم يصح أن يطالبه بعينه، والعكس لو طالبه قبل القبض وبعد العقد لزمه أن يدفع له عين الطعام الذي أخذ، وهكذا لو أنه اقترض منه سيارة أو دابة على أن يرد مثلها، فإنه إذا اقترض منه السيارة قرضاً بعينها ورقبتها فإنه يصير مالكاً لها بمجرد العقد على القول الأول، وبالقبض إذا ركبها وقبضها وساقها على القول الثاني، وإذا تصرف فيها وبذلها على القول الثالث، فإذا تصرف فيها فباعها أو أجرها للغير صارت ملكاً له، فحينئذٍ يجوز أن يعطيه بدلها ويجوز أن يعطيه عينها، فالخيار له إذ لا يكون ملزماً بالعين، هذا بالنسبة لمسألة ما يملك بقبضه.
إذاً: عندنا ثلاثة أوجه للعلماء: فالجمهور يرجحون القبض، وغيرهم يرجح التصرف، والجمهور كلهم على القبض والتصرف، وقال المالكية: إنه يملك بمجرد العقد، لكن الجمهور منقسمون على القبض وعلى التصرف، واختار المصنف رحمه الله قول من قال: إنه يملك بالقبض.
وهذه المسائل بناها العلماء على أصول في الشريعة، فأنت حينما تعطي شخصاً ديناً فإن هذا الدين بأصل الشرع إذا أخذه كان من حقه أن يتصرف فيه، فمن أقرض قرضاً فإن الإجماع قائم على أن المقترض يملك القرض، بدليل أنه يذهب يأخذ منك المائة ألف فيشتري بها عمارة أو سيارة وليس من حقك أن تطالبه بهذه العمارة أو السيارة إنما تطالبه بالمائة ألف، إذاً: الإجماع والأصل الشرعي يدل على أنه يملكها.
يبقى
السؤال
هذه المائة ألف في الأصل هي ملك لي وأعطيتها لك وحصل بيني وبينك إيجاب وقبول، فهل ملكيتك لها تكون بمجرد الإيجاب والقبول؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ودل على أنه يلزم بمجرد العقد، أم أنه لابد من القبض وهذا أصل مفرع على المعاوضات؛ لأن الديون في البداية فيها شبه بالعارية وفي النهاية فيها شبه بالبيع؛ لأنه إذا تصرف فيها لزمه البدل، فإذا قلت: إنه ملكها ودخلت إلى ملكيته وتصرف فيها فحينئذٍ يضمن البدل، فهذا يقتضي أنها معاوضة وفيها شبه من البيوع والمعاوضات؛ لكن في الابتداء ومن حيث الأصل الدين لي والمال مالي، خاصة على قول من يقول: إنه من حقي أن أطالبك في أي وقت ولو قبل الأجل.
فإذاً: لابد أن نحدد متى ينتقل المال من عندي إليك، وهذا يترتب عليه الأحكام الشرعية حتى ننصف صاحب المال وننصف المديون أيضاً، وحتى نعلم أن هذه الشريعة كاملة، وأنها فاقت جميع القوانين والتشريعات التي هي من صنع البشر والتي لا تسمن ولا تغني من جوع، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف:52] قواعد صحيحة وأصول متينة، فالعلماء يدرسون كل شيء يترتب عليه ذمم الناس والحقوق والمسئوليات، فيفرعون ويفصلون حتى يُعرف ما لكل ذي حقٍ من حق، فيعطى كل ذي حقٍ حقه.
فالفقه ميزته أنه سبب ليعطى كل ذي حقٍ حقه، وهذه المسائل وإن كانت في البداية غريبة لكنها تنبني عليها حقوق، فقد يأخذ المقترض الطعام فيطحنه، وقد يأخذ الدقيق فيطحنه أو يتصرف فيه ثم يطالب الرجل بعين ماله، فهل من حقه أن يطالب أو ليس من حقه؟ وإذا قلت: من حقه، لماذا؟ وإذا قلت: ليس من حقه، لماذا؟ هذه كلها أمور محسومة ومفصلة في كلام العلماء رحمهم الله حتى يتيسر القضاء إن حصلت الخصومة، وتتيسر الفتوى إن حصل السؤال، ويتيسر العلم إذا حصل الطلب، فالمراد أننا ندرس هذه المسائل حتى نعرف بيان ضوابط القرض، وكذلك الأموال حتى نعلم متى تنتقل من ملكية المالك الأصلي إلى ملكية غيره.(171/9)
حكم تسديد الدين قبل حلول الأجل
وقوله: [بل يثبت بدله في ذمته حالاً ولو أجله] (بل يثبت) أي: يثبت الدين والضمير في (بدله) عائد إلى الدين، وقوله: (في ذمته) أي: ذمة المديون والذي استقرض، والذمة وصف يقوم بالأشخاص قيام الأوصاف الحسية بمحسوساتها، وهو وصف يقبل الالتزام، فقوله: [في ذمته] أي: أنه لابد وأن يكون الشخص الذي يقترض عنده ذمة قابلة بأن يلتزم بها.
وقوله: [بل يثبت بدله في ذمته حالاً] هذا فيه خلاف.
وقوله: [ولو أجله] ولو: إشارة إلى خلاف مذهبي.
وهذه المسألة نريد أن نبحثها، فمثلاً: لو أن رجلاً أعطاك مائة ألف ديناً، فهذه المائة ألف قلت له: أخذت منك هذه المائة ألف أو آخذ منك هذه المائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، فقال لك: قبلت خذها ديناً إلى نهاية السنة، نحن الآن في رمضان، فإذا قبضتها على القول بأن الملكية بمجرد قبضك لها يثبت في ذمتك لصاحب الدين مائة ألف حالة، أي: تدفع فوراً، لو طالبك بها في أي وقت ولو قبل نهاية السنة تدفع، ولو اتفقتما على التأجيل لماذا؟ لأنهم يقولون: القرض كالعارية بدليل أنك لا تملكه إلى الأبد، صحيح أنك لما أخذت المائة ألف تصرفت فيها لكن لا تملكها إلى الأبد، بل تلزم برد مثلها، فإذاًَ: هذا المثلي مملوك لك أم غير مملوك، وبالإجماع إذا قلنا بثبوته على المديون ليس ملكاً له، فمعنى ذلك: أنك إذا أخذت مائة ألف فهي ليست ملكاً لك، إنما ملكت الانتفاع والارتفاق بها إلى الأجل، هذا من حيث الأصل.
فإن قلنا: إنها كالعارية، فلو أن شخصاً أخذ منك السيارة يريد أن يصل بها إلى الحرم المكي ويرجع، فمعنى ذلك: أنه أخذها وردها، وهو ليس مالكاً لها، فإذاً: يقول أصحاب هذا القول من الحنابلة والحنفية رحمهم الله: الدين يثبت في ذمة المديون حالاً ولو أجله صاحب الدين فأعطاه مهلة إلى أجل، ولو قال له: أشترط عليك أن يكون إلى أجل، قالوا: يفسد الشرط ويلغى ويكون وجوده وعدمه على حدٍ سواء، ويلزم لو طالبه في أي وقت أن يعطيه دينه؛ لما يلي: أولاً: أن الدين كالعارية، ومن حقه في أي وقت أن يرجع ويأخذ العارية، فلو أنك أخذت السيارة عارية إلى الحرم فمشيت بها مثلاً مائة متر فلحقك، وقال: أعطني سيارتي، قالوا: من حقه أن يستردها؛ لأنها كالعارية.
ثانياً: أنه إذا قال لك: خذها إلى نهاية السنة فوعد، والوعد ليس بملزم، وإن كان المسلم مطالب أن يفي بوعده، وإلا فإنه يأثم، لكن ما فيه إلزامات مترتبة على هذا الوعد؛ لأنه إحسان وتبرع محض، فقد يعطيك الدين على أنه موسع ثم يرجع عن ذلك فيتذكر حقوقه، والله تعالى يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] والذي بذل الدين محسن، فلو أعطاك قرضاً إلى نهاية السنة وقال: أنا أريد الأجر والثواب ثم جاءه ظرف بعد شهر أو شهرين أو يوم أو ساعة، وقال لك: أعطني الآن فعليك أن تعطيه، وقالوا: يثبت في ذمتك حالاً.
أي: لو أنك تصرفت فيها وطالبك بالدفع فوراً فأصبحت بعد التصرف مباشرة معسراً يثبت في ذمتك حالاً، فليست القضية أن تدفع فوراً إذا كان فيه إمكان، لكن شاهدنا: أن الدين لا يُلزم بإبقائه إلى الأجل، هذا هو الذي درج عليه المصنف واختاره، وهو مذهب الحنفية والحنابلة والشافعية رحمهم الله.
وهناك قول للمالكية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمة الله على الجميع، أنه إذا أجله فإنه يلزم بالأجل، وأنه إذا اشترط عليه أن يسدد في رمضان لم يكن من حقه أن يطالبه قبل رمضان، ويلزم بالبقاء إلى نهاية رمضان، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) وهذا قد أخذ ديناً، فلو سلمنا أن الدين كالعارية في شبهه، فإننا نقول: يمكن أن نسلم بهذا، لكن لما اشترط عليه ألزم بشرطه، والفرق بين ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والإمام ابن القيم وبين مذهب المالكية: أن شيخ الإسلام يجعله عند الشرط إذا اشترط، والمالكية يقولون: اشترط أو ذكر الأجل فإنه يلزم بالتأخير إلى الأجل، والصحيح أنه إذا اشترط عليه أن يؤجل فليس من حقه أن يطالبه قبل الأجل.
وقوله: [ويثبت في ذمته حالاً ولو أجله] أي: أنه إذا قبض المديون الدين فإنه يملكه، فيجوز له بيعه وهبته وإتلافه؛ لأنه ملكه، فلو أخذ منك دقيقاً وطحنه وعجنه وخبزه فإنه يملكه بقبضه، فعلى هذا يثبت في ذمته مثل الذي أخذ إن تصرف فيه، وإذا لم يتصرف فيه ووجد عين المبيع فمن حقه أن يطالبه بدفع العين، وقيل: يثبت مثله أو بدله، وهذا هو الذي نص عليه المصنف بقوله: [ويثبت].
وقوله: [بل يثبت بدله] البدلية: تستلزم اتحاد الجنس واتحاد النوع واتحاد الصفة واتحاد القدر، وهنا تستلزم المثلية، والمثلية تقوم على اتحاد الجنس: طعام بطعام، واتحاد النوع: بر ببر، واتحاد الصفة: إبل عرابية بعرابية أو بختية ببختية، وبختية ما لها سنامان، والعرابية ما لها سنام واحد، إذاً: يعطيه بصفتها، واتحاد العدد والقدر كأن يأخذ منه مائة ويرد مائة.
فقوله: [يثبت بدله] أي: بدل الدين، ولا يلزم برد العين إن طالبه صاحب الدين، ففي بعض الأحيان يستسلف دنانير ذهب جديدة ويقضيها قديمة، والجديدة أفضل من القديمة، وقد يستسلف خمسمائة دينار كل عشرة دنانير على حدة، مثلاً: بوزنها، والجملة أثقل من الصرف؛ لأن المصروف أفضل، وفي بعض الأحيان الجملة أفضل، فلو أنه أخذها منك خمسمائة فجئت وطالبته بها كان من حقه أن يعطيك بدلاً عنها تفاريق، ولا تقل له: أعطني هذه الخمسمائة.
إذاً: لما قال المصنف: [يثبت بدله] قرر المسألة عند الخلاف إذا تنازعا، فمثلاً: لو استدان رجل منك أي مال من الأموال، ثم تبين أن هذا الرجل في ماله شبهة، فجئت وقلت له: أعطني ديني، وأنت تريد عين ما أخذ منك تورعاً، فحينئذٍ على قوله: [يثبت بدله] ليس من حقك أن تطالب بالعين، وعلى القول: بأنه إذا طالبه بالعين ولو عند نهاية الأجل يثبت عينه إن كان موجود العين، فحينئذٍ يلزم بدفع عينه، ولا يجوز له أن يصرفه إلى المثل والبدل، فلو كان عندك بعير تحبة فجاءك من يطلبه منك، فأعطيته إياه فبقي عنده، ثم بعد ذلك جئت تطالبه وإذا بالبعير عنده، فقال لك: خذ بعيراً مثله، فقلت له: أُريد نفس بعيري.
وعلى هذا أثبت الحق لك بالبدل، إن شاء أعطاك عينه، وإن شاء أعطاك بدله، هذه مسألة البدلية، فقد يكون من الأفضل أن يأخذ الإنسان عيناً وفي بعض الأحيان العكس.
وقوله: [فإن رده المقترض: لزم قبوله] [فإن رده المقترض] إن رد المقترض القرض [لزم] أي: لزم المقرض [قبوله] أي: أخذ المال ولا يجوز له أن يمتنع والضمير في [رده] عائد إلى البدل، فإذا رد البدل لزم المقرض قبول البدل، ولا يقول: أطالب بعين ما دفعت، ولا يطالبه بعين ما دفع، وعلى هذا يقرر المصنف أنه بمجرد قبضه ينتقل الأمر إلى الذمة، وإذا انتقل إلى الذمة سقطت العين، فإذا قلت: ذمة فإنه يصبح مثلياً، وإذا قلت: عيناً فإنه يصبح منحصراً في نفس الدين.
فمثلاً: إذا أقرضت هذا الكتاب فمعناه أننا إذا قلنا: إنه يثبت عين الكتاب إن وجد أو بدله إذا لم يوجد يصبح ليس من حق المقترض أن يلزمك بمثله إن وجد عينه، فينصرف المعين إلى الذمة، أما لو قلنا: إن الواجب عليك المثل، فمعناه أنه في ذمتك، ولذلك قال: [ويثبت بدله في ذمته] ولم يقل: يثبت عينه، فإن لم يثبت عينه فبدله، لا.
إنما يثبت البدل والمثل، والبدلية تستلزم المثلية في الجنس والنوع والعدد والقدر والصفة.(171/10)
قضاء الديون إن اختلفت العملة
وقوله: [وإن كانت مكسرة أو فلوساً فمنع السلطان المعاملة بها: فله قيمتها وقت القرض] هذه المسألة كانت في القديم حيث كانوا يضربون الدنانير والدراهم في بيت المال ثم يتعامل الناس بها، وهذه الدنانير والدراهم يصاحبها نوع ثالث من النقود وهي الفلوس، وكثيراً ما تكون من النحاس، ويكون لها رواج، ثم تلغى هذه الفلوس التي من النحاس ويؤتى بفلوس أخرى، ويسمونها السِّكَّة بحيث تضرب من جديد، فيضرب نوع جديد غير النوع القديم، وفي زماننا يضرب ورق نقدي جديد غير الورق النقدي القديم.
فحينئذٍ إذا منع السلطان التعامل بالورق القديم وأحدث ورقاً جديدة، فحينئذٍ يلزم بمثلها، أي: إذا كانت الريالات هي نفس الريالات فلا إشكال، فكما أنه ينتقل إلى المثلي في أصل الدين من نفس العملة ينقل إلى العملة نفسها إن صارت مثلية، فمثلاً إذا أخذ منك مائة ريال على أن يردها بعد شهر، فجاء بعد شهر وأعطاك المائة ريال، من نفس النقد، فكما جاز له أن يرد المثل من نفس النقد ومن نفس الريالات جاز أن يرد ريالات أيضاً عليها شكل آخر أو ضرب آخر أو بصفة أخرى مادام أنها هي نفسها.
وعلى هذا لو أنه اقترض ريالات قديمة ثم أُلغيت واستبدلت بريالات جديدة فإنه يقضيه بالريالات الجديدة، فإن أُعدمت الريالات نهائياً وجاءت عملة أخرى بدلاً عنها باسم جديد فحينئذٍ يقدر قيمة القديم بالجديد إذا كانت حالة.
فعندنا هنا حالتان: الدنانير القديمة تكون مثلاً بغلية، ثم يؤتى بدراهم إسلامية، فلو أنه اقترض بالدرهم البغلي ثم أُلغي حتى لا يتعامل به الناس -فسواءً توقف الناس عن التعامل به أو أُلغي من السلطان- فحينئذٍ لو أُلغي هذا الدينار فإنه ينزل الدينار الذي ضرب مكانه منزلته، إن كان بوزنه وبقدره وبحجمه، كريال الفضة القديم مع ريال الورق الموجود الآن، فإن ريال الفضة القديم حينما سحب أعطي بدله المستند، ومن هنا قالوا: إن المستند منزل منزلة رصيده فوجبت فيه الزكاة، وهذا هو وجه من يقول: إن النصاب ثلاثة وخمسون ريالاً؛ لأن ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة القديمة تعادل السَّكَّة الجديدة، فالفضة القديمة ألغيت لكن أُقيم المستند مقامها فنزل منزلتها، والعجز عن الرصيد يعتبر عذراً فنزلت منزلتها حكماً.
وعلى هذا نوجب فيها الزكاة، مع أن الورق لا تجب فيه الزكاة، فلو قلنا: لا رصيد لها فمعناه أن الزكاة لا تجب فيها، وعلى هذا وجبت الزكاة فيها؛ لأن رصيدها من الفضة، ويقوم رصيدها بمائتي درهم الذي هو أصل الفضة، فلما كان عدل المائتين درهم ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة القديمة بوزنها يعادل الخمسة أواقٍ من الفضة التي هي النصاب، قالوا: نزلت الثلاثة والخمسون ورقاً منزلة ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة، ولو جئت تبادل ريال الورق بريال الفضة القديم فإنك تبادله مثلاً بمثل، يداً بيد، فلو جئت تبادل ريال الفضة القديمة بثلاثة ريالات جديدة فهو عين الربا، كأنك بادلت رصيده من الفضة القديمة ثلاثاً بريال وهو عين الربا، ومن هنا إذا ألغي القديم وجاء الجديد مكانه اسماً وصفة وحكماً واعتباراً وجب أن يبقى على هذا الأصل.
فلو قال قائل: ألغي رصيده في التعامل العام الذي يكون بين الجماعات والجماعات، والدول والدول، هذا إلغاء رصيد، فأصبحت القيمة للمشتريات والصادرات والواردات بالريال الجديد، لكن قيمة الريال في ذاته وأصله وحقيقته مستند، ولو وضعت عندي كيلو من الذهب أمانة وأعطيتك مستنداً عليه، ثم قلت لك: ألغيت الرصيد وهذا المستند لا قيمة له لم يصح في حكم الشرع، فدل على أن إلغاء الرصيد لا يلغي قيمة الريال، وإذا كان لا يلغي قيمة الريال، فوجب أن يصرف الريال بالريال مثلاً بمثل، يداً بيد، وأنه لو صرف تسعة ريالات بعشرة ريالات فهو كصرف تسعة ريالات فضة قديمة بعشرة ريالات فضة قديمة، لأنه إذا أُلغي القديم ونزل الجديد منزلته اسماً وصفة فإنه يأخذ حكمه، سواءً بسواء، فلو قلت: إنه ورق، نقول: إن الورق لا قيمة له، ولا تجب الزكاة فيه.
فإن قيل: إنه ورق له قيمة فنزل منزلة الذهب والفضة نقول: إن ورق كتب العلم له قيمة، والدفاتر لها قيمة، وغيرها من الأوراق لها قيمة؛ لأنها كلها لها قيمة شرائية، فلو كانت مسألة القيمة توجب الزكاة لوجبت في الأوراق؛ لأن العبرة بالرصيد.
وبناءً على ذلك: إذا ألغي القديم ينظر في الجديد، فإن نزل منزلته من كل وجه صار آخذاً حكمه من كل وجه، فلو استدان منه مائة ريال فضة قديمة قضاها مائة من الفضة القديمة إن وجدت، فإن لم توجد قضاها بالورق، ونزل الموجود من الورق منزلتها.(171/11)
تسديد القروض المثلية بالمثل
وقوله: [ويرد المثل في المثليات] مثلما ذكرنا أن المثلية تستلزم الجنس والنوع والقدر والصفة، فمثلاً: لو استلف بعيراً بكراً أو خياراً فإنه يرد الجنس بالجنس، والنوع بالنوع، والسن بالسن الذي هو القدر، فقدره في السن بكر ببكر رباعي برباعي جذعة بجذعة وابن لبون بابن لبون، مثِلاً بمثل، ذكر بذكر، أنثى بأنثى، فإذاً: يرد المثل في المثليات، وعلى هذا يكون العدل، وكما قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] (وإن تبتم) أي: في مسألة الديون، (تَظْلِمُونَ) أي: الناس، حينما أخذتم رأس المال لم تأخذوا زائداً عن حقكم، (وَلا تُظْلَمُونَ) لأنكم لم تبخسوا حقوقهم، فأخذتم رأس مالكم وحقيقة ما دفعتموه، وعلى هذا لابد من التماثل، هذا في القديم، ونفس الشيء في الجديد، فلو اقترض منه سيارته أو أدوات أو فراشاً، فإنه ينظر إلى جنسه ونوعه وصفاته ويرد مثله في الصفات وفي الجنس وفي النوع.(171/12)
تسديد القيمة عند عدم وجود المثل
وقوله: [والقيمة في غيرها] المثليات قالوا: في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً، وفي المعدود عدداً، أما إذا تعذر أن يصير إلى المثل حينئذٍ صار إلى القيمة، فالدراهم والدنانير إذا أُلغيت وجيء بعملة غير العملة القديمة بأن كانت القديمة من الذهب فصارت من الفضة، فإنه ينظر إلى القيمة، عِدل الذهب من الفضة في ذلك الزمان يوم القرض، إن قالوا: يعادل خمس جنيهات، فحينئذٍ هذه الخمس جنيهات الموجودة الآن تقضى له خمس جنيهات، فينظر إلى المثلي يوم القرض؛ لأنه فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: يعتبر يوم القرض، وبعضهم يعتبر بيوم القبض، وهذا هو الصحيح، وهو أننا إذا كنا نقول: إنه يملك بالقبض فمعناه أن ذمته شغلت بالقبض، وعلى هذا ينبغي أن يتقيد بالقبض.
فلو أنه اقترض سيارة في شهر رجب وهذه السيارة قبضها منه في شعبان، وكانت قيمتها في رجب خمسة آلاف، وفي شعبان قيمتها أربعة آلاف، فحصل القبض في شعبان، ثم تصرف في السيارة حتى تلفت ولا يوجد لها مثلي، فحينئذ نصير إلى القيمة، فإن نظرنا إلى العقد يوم القرض فهو في شعبان وهو قبضها في رمضان، فإذا جئنا يوم الاتفاق والعقد في شعبان وكانت قيمتها خمسة آلاف، ويوم القبض والتصرف في رمضان كانت قيمتها أربعة آلاف اختلفت القيمة، قالوا: العبرة بيوم القبض وهذا هو الصحيح، أنه إذا استلفها منه نظر إلى يوم القبض؛ لأن الملكية تصير إليه وتتعلق بذمته عند القبض، فصار مشغول الذمة وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، ونص الإمام أحمد رحمه الله على هذا كما ذكر ذلك الإمام ابن قدامة في المغني.
وقوله: [فإن أعوز المثل: فالقيمة إذاً] مثل السيارات التي ينقطع موديلها ولا يوجد لها مثيل فينظر إلى قيمتها، ولا يصار إلى القيمة إلا إذا أعوز المثل، ومن هنا تتفرع المسألة في اختلاف القيمة الشرائية للعُمل، فإن استسلف شخص عملة بالدولارات، والدولار قيمته عشرة ريالات في عام ألف وأربعمائة، ثم أصبحت قيمته في عام ألف وأربعمائة وثمانية عشر -عند القضاء- عشرين، فحينئذٍ هل نقول: إنه يجب أن يقضيه نصف القيمة؛ لأنه قد زاد عن الأصل الذي أخذ به، أم نقول: يجب أن يعطي المثل بغض النظر عن قيمته؟ نقول: يجب أن يعطي المثل بغض النظر عن قيمته غالياً أو رخيصاً، والسبب في هذا قاعدة سبق وأن بيناها: أن الغنم بالغرم.
وبناءً على ذلك: في العملة؛ إذا استدان منك مائة دولار إلى السنة القادمة فمعناه أنه قد رضي بخسارتها ورضيت أنت بخسارتها، ورضي بما يكون من ربحها وارتفاع سعرها، ورضيت بربحها وارتفاع سعرها، فلا يصح إذا نقصت قيمتها أن يأتي يطالبك؛ لأنه لو زادت قيمتها لطالبك بالمثل، ومن هنا قالوا: يتحمل المسئولية، فأي شيء استدانه وجاء ليحل ويفي رد مثله، بغض النظر عن كونه غالياً أو رخيصاً، يطالب بالمثل؛ وعلى هذا أصل شرعي، وهو أنه إذا أخذ الشيء رده، فإن قلنا: إن الشيء ملكه يرد مثله، فإن وجد المثل وجب أن ينصرف إليه.
لكن لو أنه قبل خمسين سنة أخذ منه ثلاثة ريالات فضة، ويمكن أن تصل قيمتها اليوم ثلاثة ملايين.
نقول: يقضيه ثلاثة ريالات الآن، لكن من باب الوفاء وحسن القضاء لا بأس أن يزيده لكن لا يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خيركم أحسنكم قضاءً)، وقال: (رحم الله امرء سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى) فإذا أردت أن تقضي فتحسن وتتذكر فضله، وهذا من خلق الكرام، فإن الكريم إذا أكرمته رد الكرامة بمثلها وزيادة، وعلى هذا لا يليق وليس من المحاسن أن يرد نفس المال، وإنما يرد ويحاول أن يجبر خاطر من دينه، خاصة وأن هذا فيه رد للجميل.(171/13)
حكم القروض التي تجر منافع
وقوله: [ويحرم كل شرط جر نفعاً] الشروط في القروض تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: شروط مشروعة.
والقسم الثاني: شروط ممنوعة.
والقسم الثالث: شروط مختلف فيها.
وهذا القرض له نوعان من الشروط: شروط شرعية وشروط جعلية، والفرق بين الشروط الشرعية والجعلية: أن الشرعية لا يصح أن يكون القرض من مجنون أو ممن لا يملك المال، وليس له حق التصرف فيه، أما الجعلية، أي: جعلها المتعاقدان أو اشترطها أحدهما ورضي بها الآخر.
وهذه الشروط الجعلية من المتعاقدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن تكون مشروعة، وإما أن تكون ممنوعة، وإما أن تكون مختلفاً فيها.
فالشروط المشروعة المتفق عليها أن يقول له: أعطني قرضاً مائة ألف، قال: أعطيك ولكن بشرط أن تحضر كفيلاً غارماً يغرم، هذا شرط اشترطه رب الدين على المدين، وكما لو قال له: أقرضني مائة ألف إلى نهاية رمضان، قال: أقرضك ولكن بشرط أن ترهن دارك أو ترهن عندي رهناً، فهذا شرط، أو يقول له: أقرضني مائة ألف، قال: بشرط أن نسجل هذا الدين وأثبته عليك بكتابة وشهود، قال: قبلت، فإذاً: هذا دين بشرط، وهذا الشرط جعلي من المكلفين، ولكنه مشروع غير ممنوع، وضابط المشروع: أن لا يخالف مقتضى القرض وأن لا يفضي إلى محرم، فمثلاً لو اقترضت من شخص فقال لي: أقرضك هذه المائة ألف بشرط أن لا تشتري بها شيئاً، ومقتضى القرض في الأصل أن أنتفع به وأرتفق، فإذا أخذت المائة ألف على هذا الشرط فماذا أفعل بها؟ فإذاً: هذا يخالف مقتضى العقد، وقالوا: يشترط الرهن ويشترط الكفيل الغارم؛ لأن هذا يحقق مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن يفي المديون للدائن، وأن ترد الحقوق إلى أصحابها، فإذا اشترط عليه الكفيل الضمان للاستيثاق بالرهن، فإن هذا مما يوافق الشرع ولا يخالفه.
النوع الثاني: الشروط المحرمة وهي الممنوعة التي تخالف مقتضى عقد القرض، فإن عقد القرض يقصد منه الارتفاق، فيقول: أقرضك على أن لا تتصرف في الدابة، بأن لا تركبها ولا تبيعها ولا تحلبها، فهذا كله يخالف مقصود عقد القرض، فهذا نوع من الشروط المحرمة.
النوع الثالث: أن يكون الشرط متضمناً للربا مفضياً إليه، كأن يقول له: أشترط عليك فائدة في كل مائة (6%) أو كل شهر (5%) فهذا من شرط الربا، ولا يجوز.
فالمقصود: أن كل قرض اشتمل على شرط يجر نفعاً فإنه لا يجوز وهناك شروط اختلف فيها العلماء فمثلاً: يقول له: آخذ منك هذه المائة ألف بشرط أن أسددها في نهاية السنة، فهذا اشتراط التأجيل، فبعضهم يراه جائزاً كالمالكية ومن وافقهم، وبعضهم لا يراه جائزاً كالجمهور، وهناك مثلاً بعض الشروط لا بأس بها وهي مشروعة، وفي بعض الأحيان تكون ممنوعة بنص الشرع، كأن يقول له: أقرضني مائة ألف، قال له: أقرضك مائة ألف بشرط أن تبيعني بيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف)، فهذا قرض خالف الشرع لورود النص فيه بعينه، قالوا: لأنه إذا اشترط عليه البيع، فالبيع غالباً فيه ربح، فكأنه يعطيه الدين بالدين مع زيادة الربح في صفقة البيع، وهذا ينبه على أن الشريعة حرمت الربا، وحرمت ذرائع الربا، ولا يشترط في الربا أن يقول له: الواحد باثنين أو الواحد بثلاثة.
ومن هنا كان الفقه في مسائل المعاملات والمعاوضات مهم، فهي في بعض الأحيان تتضمن المحذور بطريقة الذريعة والوسيلة.
إذاً: كل قرض اشتمل على شرط جر نفعاً فهو ربا، أما لو أنه اشترط عليه ما فيه رفق به، فهذا فيه تفصيل عند العلماء، ومن أمثلته مثلاً، لو قال له: أسلفني مائة ألف، قال له: أسلفك مائة ألف، قال له: والله أنا لا أستطيع أن أسدد المائة ألف لكن أسدد لك ثلاثة أرباعها، قال له: إذاً: أسلفتك وخذ خمسة وعشرين منها وردّ خمسة وسبعين، فإذاً: أسلفه بشرط أن يحله من ربع الدين، ويرد له ثلاثة أرباع الدين، قالوا: هذا لا بأس به ولا حرج فيه.(171/14)
الأسئلة(171/15)
اعتبار المقاصد في عقود البيع
السؤال
هل هناك فرق في الصورة بين القرض وبين صرف الأثمان مع النسيئة دون التفاضل؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن المقاصد معتبرة في العقود، ولذلك تقوم العبرة في العقود بمقاصدها، فإذا قال له: بعني كان بيعاً، وإذا قال له: صارفني كان صرفاً، وإذا قال له: أسلمتك صار سلماً، وإذا قال: أسلفتك صار سلفاً، فلما كان العقد عقد سلف قالوا: هذا مستثنى، ومن هنا استثني أن يأخذ الدراهم ويردها بعد مدة؛ لأنه لم يقصد المصارفة وإنما قصد الدين، ومن هنا قالوا: هذا مستثنىً كاستثناء العارية من المزابنة، ورخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فإنه يعتبر المقصد، فإن كان المقصد الدين جاز، وإن كان المقصد الصرف والبيع لم يجز، والله تعالى أعلم.(171/16)
حكم إنقاص المشتري من الثمن المتفق عليه
السؤال
رجل اشترى سلعة فاتفق مع البائع على ألف ريال، لكنه لما أعطاه المال أعطاه تسعمائة وخمسين ريالاً فقط فوافق البائع، فهل يجوز هذا؟
الجواب
إذا اشتريت بألف ريال ثم جئت، وقلت له: أعطيك تسعمائة وخمسين ريالاً ورضي البائع جاز، والرضا ينقسم إلى أقسام: 1 - الرضا بطيب نفس ورضا خاطر، كأن تأتي تريد أن تعطي المال، فلما وصلت إلى تسعمائة وخمسين وأردت أن تخرج الخمسين، فقال لك: لا.
هذه تكفي، وهذا يقع بين الأحبة والإخوان، وتعلم من دلائل الحال وبساط المجلس ما يدل على أنه يريد ذلك.
2 - الرضا الممكن الذي يكون على حد سواء، مثل: شخص تأتي وتبيع عليه بألف، فإذا جاء أعطاك تسعمائة وخمسين، فقلت له: يا أخي! أعطني خمسين، فقال: سامحني، فنقول: يا أخي! أعطني حقي! قال: سامحني، فتطالبه، وإذا بك ترى أنك تزري بنفسك، وربما يكون بين أُناسٍ تستحيي أن تطالبه أمامهم، فتضطر أن تقول له: اذهب، فكأنك اضطررت غلى مسامحته، فتقول بلسان الحال: وما حيلة المضطر إلا ركوبها! فهذا المأخوذ بسيف الحياء لا خير فيه ولا بركة فيه، ومثل هذا ينزع الله البركة له من الصفقة؛ لأنه لم يأخذ بالسماحة، وإنما أخذ بالأذية وإحراج الناس، ومثل هذا ما يقع في فضول أموال الناس، كأن يأتي لبائع يبيع الطعام، فيقول له: بكم هذا؟ ويلتقط منه ويأكل دون أن يستأذن، وربما أنه أكل الشيء، فلا يستطيع البائع أن يقول له: يا أخي! لا تأكل.
فمثل هذه الأشياء ينبغي اتقاؤها، وهي إلى التحريم أقرب إن عُلم أو غلب على الظن أن البائع لا يرضى، ولابد أن يتحرى في رضاه، وأن يعلم منه طيبة النفس ورضا الخاطر، فإذا غلب على ظنك أنه بطيبة نفسه ورضا خاطره فلا بأس، وإن كان الأفضل والأكمل العفة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن يستعفف يعفه الله وما أعطي عبد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) فالقناعة بما أعطى الله عز وجل خير للعبد، فإذا جاء أحد يستفضل عليك، قلت له: لا، هذا حقك خذه كاملاً، وبارك الله لك في مالك، فهذا هو الأفضل والأكمل للمسلم، أن يعامل الناس ويؤدي حقوقهم إليهم كاملة.
وأما إذا كان بسيف الحياء أو يكون البائع غريباً أو عاملاً مستضعفاً، فيأتي ويقف يصيح عليه بقوة ويرعبه ويزعجه، فإذا جاء وقت المطالبة أعطاه المال ناقصاً ثم زجر بقوة فاضطر العامل أن يسكت، فإن هذا من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا الرضا وجوده وعدمه على حد سواء، فينبغي أن يُتقى في مثل هذا، وأن يفصل فيه، فما كان من الرضا مستوفياً بالصفات المعتبرة حكم به وإلا فلا، والله تعالى أعلم.(171/17)
حكم بيع الدابة نسيئة
السؤال
أيجوز بيع دابة بدابة ويدفع المشتري أو البائع لصاحبه زيادة من المال أو من أي شيء آخر؟
الجواب
الدابة بالدابة معدود بمعدود يجوز متفاضلاً ونسيئة، والدليل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) فهذا ليس بمحذور؛ لأنه جمع بين البيع والدين، فهو بيع لأنه بعير ببعيرين -ولو كان ديناً لكان بعيراً ببعير- ودين من جهة الأجل؛ لأنه قال: (البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) وعلى هذا يجوز لك أن تشتري السيارة بالسيارتين، والسيارة بالسيارة من نوعها مع الزيادة، والسيارة بالسيارة من نوعها مع زيادة من نوعها أو صفاتها أو بزيادة في المال، كأن يقول: أعطيك سيارتي وتعطيني سيارتك وأزيدك خمسة آلاف أو عشرة آلاف فلا بأس، وهكذا بقية المعدودات، فلو بادل ثلاجة بثلاجتين، أو غسالة بغسالتين، أو مصباحاً بمصباحين، وقس على هذا، فإن الكل جائز، والله تعالى أعلم.(171/18)
كلمة توجيهية حول طلب العلم
السؤال
الدعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى علم شرعي مبني على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج سلف الأمة رحمهم الله تعالى، فهل من كلمة توجيهية تحث فيها كل داعية إلى الله عز وجل على الاهتمام بالعلم الشرعي، وفقكم الله؟
الجواب
الدعوة إلى الله من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، ويشهد لذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً) ومن حمل هموم الدعوة إلى الله وحمل أمانة الدعوة وتبليغ رسالة الله إلى عباد الله فقد حمل أشرف الأشياء، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، بل إنه الشيء الذي خلق الله من أجله خلقه وهو عبادته ولا عبادة إلا بالعلم وبالبصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108].
فلابد للداعي أن يستشعر أولاً: ما هي الدعوة؟ وما هي الرسالة التي يحملها، والأمانة التي في عنقه لأهلها؟ فإذا عرف عظم هذه المسئولية؛ علم أنه يتكلم لله وفي الله، وابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى، وأنه يعقد الصفقة فيما بينه وبين الله بأن يكون أجره على الله لا على أحد سواه: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] وقال عن أنبيائه نوح وهود وصالح وشعيب ولوط: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] أجرك على من بيده خزائن السماوات والأرض ويده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، أجرك على من يكتب لك الكلمة والجملة والحرف على من يكتب لك الخطوة والتعب والنصب والسهر، ويكتب لك كل صغيرة وكبيرة سبحانه وتعالى، يحصيها لك فيكتب لك أجرها وثوابها فتوافيه يوم توافيه بمثاقيل الحسنات إن قبل عملك، وأجرك على من لا يضيع أجر من أحسن عملاً وهو الله جل جلاله.
وعلى الداعية أن يستشعر أن هذا المقام أحب المقامات إلى الله عز وجل وهو مقام الأنبياء والرسل، فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإنما يكون الداعية العالم ولا تكون دعوة إلا بعلم، فمن أراد أن ينال فضل الدعوة على أتم وجوهه وأن يكون في أكمل صوره فليتم العلم، وليأخذ من العلم، وينتهي من العلم ويحرص على مجالس العلم، ويكون من أهل هذه الرياض التي تنشر فيها رحمة الله، ويبتغى فيها ما عند الله، ويصبر ويصابر ويجد ويجتهد ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى في جميع ذلك، حتى يبلغ من العلم أعلى مراتبه، فإذا بلغ ذلك قام بالدعوة على أتم وجوهها وأكملها.
وأول ما ينبغي على الداعية طلب العلم، وإذا طلبت العلم تطلبه بقوة وبعزيمة وهمة صادقة لا يثنيك عنها شيء، فلا تثنيك عنها الدنيا وزينتها وغرورها وما فيها من متاع زائل وغرور حائل، إنما تجد وتجتهد وأنت تحس أنك أنت الرابح، ولا يكون طلبك للعلم بضعف، فتشعر أن الدنيا ستفوتك، وأن أهل الدنيا يتاجرون ويربحون وأنت لا تتاجر ولا تربح، لا.
بل تدخل في العلم وتحس أنك أربح صفقة وأكثر ربحاً في تجارتك مع الله سبحانه وتعالى، فقد طلب أقوام العلم فكفاهم الله هم الدنيا والآخرة، واقرأ في سير العلماء، والله إن منهم من كان لا يجد إلا طعمة يومه مرقع الثياب حافي القدم، ولكنه أغنى الناس بالله جل جلاله، وأسعد الناس، وأشرحهم صدراً، وأثبتهم جناناً، وأصدقهم لساناً، وأوضحهم بياناً، أغنى الناس بالعلم الذي وضعه الله في قلبه وفي لسانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] لما صبروا في طلب العلم وتحصيله، فلا يشتكي من السهر والتعب في طلب العلم، إنما يبحث عن هذا العلم بكل همة وصدق وعزيمة.
فإذا جد طالب العلم في طلبه عليه أن يعلم أن منزلته عند الله على قدر ما يحصل من العلم، فإن الله يرفع بهذا العلم درجات، وقد تجلس في المجلس الواحد وتدرس فيه مسائل قل من يضبطها ويحصلها فتكفي الأمة همها وتسد ثغرها، فيكون أجرك عند الله بمكان، فترفع درجتك على نفاسة هذا العلم، وبقدر ما يكون علمك نفيساً عظيماً محتاجاً إليه عظيم البلاء بقدر ما تكون درجتك عند الله أعلى وأسمى.
كما ينبغي أن تعلم أن هذا العلم يحتاج منك إلى أمانة، فإذا جلست في مجالس العلم ضبطت وتقيدت بما سمعت، فلا تزيد من عندك شيئاً، ولا تحدث في دين الله برأيك ما لم يكن عندك حجة أو برهان، وتحرص في مجالس العلم على أن تسمع وتحفظ، ثم بعد ذلك تعمل بضوء ما علمت وتبلغ ما سمعت، وهذا أكمل ما يكون في العلم، أن يكون قلبك واعياً بكل ما يقال، وتتقيد بالكلمة لا تزيد ولا تنقص، وإن استطعت ألا تأتي بالمعنى إنما تأتي باللفظ نفسه، فإذا بلغت ذلك كملت نظارة وجهك، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فحفظها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع)، فهذا أكمل ما يكون في طلب العلم فإذا أردت أن تدعو إلى الله على أكمل المراتب وأفضلها، فعليك أن تضبط العلم ضبطاً تاماً، وتحرص في مجالس العلم على أن تتقيد بما سمعت، ثم بعد ذلك إذا تعودت على هذا الضبط وضع الله لك القبول، وثق ثقة تامة أن الله مطلع على سريرتك وما في قلبك، وإن نظر الله إليك في كل مجلس ودرس تحاول أن تفهم وترجع مهموماً محزوناً تريد أن تضبط هذا العلم وتضبط كل كلمة وعبارة وجملة، أثابك على ذلك.
العلم تسلو به الأرواح والأنفس، فهذا أبو عبيد القاسم بن سلام إمام من أئمة السلف وديوان من دواوين العلم والعمل، كان آية في القراءات آية في علم اللغة آية في لسان القرآن آية في الحديث والرواية بالأسانيد آية في الفقه وهو صاحب كتاب الأموال وصاحب الغريبين، هذا الإمام العظيم استوقفه رجل بعد صلاة العشاء، وكان قدم عليه من خراسان، فسأله عن مسائل في الفقه، يقول: إنه وقف معه في شدة البرد، فقام معه رحمه الله يذاكره ويسأله وهو يراوح بين قدميه فلم يشعر إلا وقد أذن الفجر، وهذا ليس من ضرب الخيال، والله إنك إذا ذقت لذة العلم فإنك تسمو عن كل شيء، إذا ذهبت في هذه المعاني المستنبطة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الكنز العظيم الذي خلف، تحس بالغبن أن سلفك الصالح سهرت عيونهم وتعبت أجسادهم من أجل أن يخرجوا لك هذا العلم، فقد كان الرجل منهم إذا لم يجد إلا صخرة لنقش العلم عليها حتى لا يفوت على من بعده.
إن همم كان النصيحة لله ولأمة الإسلام رضي الله عنهم ورحمهم برحمته الواسعة، فإذا كانت هذه الهمة الصادقة بذلها السلف لنا من أجل أن نحفظ علومهم فمن الغبن والله، أن ننظر إلى كتبهم وبيننا وبينها حواجز لا نعلمها؛ لأن علمنا علم سطحي لم نتعمق ونضبط ونجد ونجتهد، فطالب العلم اليوم يقف فقط عند الحكم دون أن يبحث عن الدليل ووجه الدلالة، هل هو صحيح أو غير صحيح؟ وإذا كان ليس بصحيح فلماذا؟ تغوص في أعماق العلم، فإذا أصبحت بهذه المثابة بوأك الله من العلم أعلى المكانة، إذا تعبت اليوم وأصبحت تبحث عن كل صغيرة وكبيرة وتجد وتجتهد لا تشتكي من سهر ليل ولا ظمأ الهواجر، ولا تشتكي من غربة ولا من تعب ولا نصب وإنما تحس أنك أنت الرابح.
لا إله إلا الله! لو ذهبت إلى الأسواق في رمضان وفي ذي الحجة تجد التجار يسهرون ويتعبون ويحسون بالنشاط والرجولة، والرجل تجده أمام أولاده، يقول لهم: هذا موسمي، هذا رزقي من الله عز وجل لا أفرط فيه، ويعتبر أنه وضع الشيء في موضعه وهو يبحث عن الدنيا، فكيف بمن يخوض في رحمة الله جل جلاله؟ فمنزلتك عند الله على قدر العلم الذي عندك، فابحث عن العلم المستنبط من الكتاب والسنة، فعلى المرأ رجلاً كان أو امرأة أن يطلب العلم ويجد ويجتهد، ولا يقف عند الحدود بل يحاول أن يغوص في أعماق العلم.
فإذا تعبت في طلب العلم طالباً أراحك الله مطلوباً، وإذا تعبت في طلب العلم طالباً وذللت فيه أعزك الله مطلوباً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ذللت طالباً وعززت مطلوباً)، فكان رضي الله عنه يقف في يوم عرفة يفسر القرآن، يقول بعض أصحابه: لقد شهدت من ابن عباس مشهداً في يوم عرفة لو رأته الروم لأسلمت، وقف يفسر سورة النور آية آية وكأنه يغرف من بحور، كان إذا تكلم في اللغة خاض فيها وفي لسانها وبيانها وأسرارها ونكتها وبلاغتها وفصاحتها، وإذا ذهب في علوم القرآن رأيت منه العجب وهو يستنبط، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وإذا ذهب إلى السنة فناهيك به علماً وورعاً وعملاً مصاحباً للعلم رضي الله عنه وأرضاه.
فهذا هو الذي يبحث عنه الإنسان، وما دمت قد عرفت شرف هذا العلم فعليك أن تضحي بكل ما تجد من أجل بلوغه، فإذا نظر الله إليك أثناء الطلب وأنت تتعب وتحصل، فاعلم أنه لا أكرم ولا أوفى من الله، والله إذا تعبت اليوم فإن الله سبحانه وتعالى سيريك ثمرة تعبك، ولن تموت حتى يقر عينك بما ترى، إن كنت تعبت في الطلب وكنت تحرص على أخذ العلم كاملاً سخر الله لك طلاب علم يتعبون كما تعبت، ويحبون العلم كما أحببت، ويأخذونه من فمك طيباً مطيباً كما أخذته من علمائك طيباً مطيباً، وكما أقررت عين العالم الذي أخذت عنه وهو يراك مجداً محصلاً فلابد وأن يقر الله عينك في طلابك، وهذه سنة الله عز وجل، وانظر في حال السلف فلا تجد طالباً لزم عالماً وأخذ عنه وضحى معه إلا ونبغ بعد وفاته، وأصبح مكانه يحاكيه ويماثله، فلما توفي ابن عباس فإذا طلابه هم سعيد بن جبير وطاوس بن كيسان ومجاهد بن جبر، فإذا نظرت إلى تلامذة ابن عباس كدت لا تفرق بينه وبينهم عِلماً وعملاً، لابد وأن يقر الله عينك، وكله على قدر تعبك في طلب العلم.
الآن انظر إلى الذين يأخذون الكتب ويقرءون من الكتب ولو كا(171/19)
شرح زاد المستقنع - باب القرض [2]
مشروعية القرض معلومة، وشروطه منها ما هو مشروع، ومنها ما هو ممنوع، ومنها ما هو مختلف فيه، كما أن القروض التي توضع في البنوك منها ما هي ودائع مشروعة، ومنها ما فيه احتيال وغرر، ومنها ما هو استثمار، وكل هذا له ضوابط وحدود معروفة عند علماء المسلمين، وأما الجمعيات المعروفة فهي في حكم المشتبه الذي لا يقطع فيها بالحرمة ولا بالجواز؛ لأن من نظر إلى ظاهر شروطها يجدها ربوية، ومن نظر إلى مضمون شروطها يجدها جائزة ليس فيها زيادة.(172/1)
أنواع الشروط التي يجعلها صاحب الدين على المدين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الشروط التي يجعلها صاحب الدين على المدين، أو يجعلها المدين على صاحب الدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: مشروعة، والثاني: ممنوعة، والثالث: مختلف فيها، والأصل أنه لا يجوز أن يأخذ صاحب الدين على المدين زيادة على دينه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] فإذا سُئلت عن قضاء الدين؟ تقول: الأصل أن يرد له دينه دون زيادة أو نقص؛ لأنه إذا زاد فقد ظلم المدين، وإذا انتقص من الدين فقد ظلم صاحب الدين، فأنصف الشرع وعدل بين الطرفين، فأوجب أن يكون الرد مثل المأخوذ دون زيادة أو نقصان، وإذا سُئلت عن دليله؟ قلت: قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279].
ثم إن العلماء تكلموا على الفوائد والأمور التي تكون زائدة عن الدين، وفصلوا فيها؛ لأن الشريعة منعت وأجازت، فمنعت من الزيادة في قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] وأجازت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قضى الدين وزاد، والشرط في الدين أن يقول صاحب الدين للشخص المدين: أعطيك مائة ألف بشرط كذا وكذا، وهذا الذي يشترطه تارة يكون مالاً من جنس الذي دفع إلى المدين، كأن يقول: أعطيك مائة ألف بشرط أن تردها لي مائة وعشرة، فهذا شرط بزيادة.
وتارة يقول له: أعطيك مائة ألف ولكن بشرط أن تؤجرني دكانك أو تبيعني سيارتك أو عمارتك أو أرضك أو مخططك أو طعامك إلى آخره، فصار قرضاً وبيعاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع.
وبناءً على هذا يقول العلماء: إن الفوائد المستفادة فيها تفصيل: فإن كان صاحب الدين اشترط منفعة زائدة على المدين أياً كانت المنفعة إما بالمال والنقد أو ما يكون مقدراً له قيمة فإنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف) فالزيادة لا تجوز ولو كانت ضمن عقد آخر، فإنه لما نهى عن بيع وسلف، عندما يقول لك: هذه عشرة آلاف بشرط أن تبيعني سيارتك بثمانية آلاف تكون السيارة قيمتها عشرة آلاف، فتتنازل عن الألفين لقاء القرض، وعلى هذا قالوا: لا يجوز الشرط بالمنفعة.
هنا مسألة: وهي وجود المنافع كأن يقول لك: أعطيك مائة ألف مثلاً من الذهب، في القديم الدنانير تحتاج إلى حمل؛ لأنها من الذهب، والذهب يوضع في الأكياس، والأكياس لابد من حفظها، وإذا أعطاه في مكة، وقال: بشرط أن تعطيني المائة ألف في نهاية رمضان في المدينة، فإن حمل الذهب من المدينة إلى مكة فيه مخاطرة ومئونة؛ لأنه يحتاج إلى حمله والاستئجار للدواب لوضعه بها ثم نقله إلى المدينة، فإذا قال: أعطيك مائة ألف في مكة بشرط أن تقضيني إياها في المدينة أو الطائف، فهمنا أنه يريد منفعة السلامة من الخطر، والنجاة من ضمان الحمل.
فإن كان الحمل يكلف خمسمائة ريال مثلاً، فكأنه أعطاه مائة ألف ليردها مائة ألف وخمسمائة.
إذاً: الفوائد تكون ظاهرة وتكون خفية عن طريق المنافع، ومن هنا نهي عن قرض وشرط، فالقرض الذي يكون معه شرط فيه فائدة فهو محرم، فمثلاً: الودائع المصرفية كأن يودِع في المصرف عشرة آلاف على أنها وديعة، فيأخذ عشرة آلاف وخمسمائة بعد أجل مسند، فيشترط عليه المصرف شرطين: الشرط الأول: أن لا يسحب هذه الوديعة قبل سنة؛ لأن الودائع المصرفية التي عليها فوائد لابد أن تمكث مدة معينة، وكل سنة فيها مثلاً (6%)، فمعناه أنه اشترط عليه بقاءها إلى أجل على أن لا يطالبه قبلها.
وثانياً: أن يعطيه زيادة عليها، فشرط الأجل من المصرف وشرط الزيادة من العميل؛ لأن العميل هو الذي يطالب بالزيادة.
وبناءً على ذلك: إذا كانت القروض تأتي بفوائد عينية كمائة بمائة وخمسة، أو مائة بمائة وعشرة فهذا واضح لا إشكال فيه، وهذا يدعونا إلى دراسة ما يسمى بالوديعة المصرفية؛ لأن الباب باب قرض، وفيه قديم وجديد، وطالب العلم قد يدخل إلى المصرف ويرى كلمة (حساب جاري) ولا يعرف ما معنى ذلك، ويرى مثلاً: الودائع بفوائد، وهو لا يدري عنها، فلابد أنه يعلم الحكم والموقف الشرعي من هذا النوع من القرض، فنحتاج إلى مسائل:(172/2)
الفرق بين الوديعة الشرعية والوديعة المصرفية
المسألة الأولى: هل الوديعة المصرفية قرض أو وديعة حقيقية؟ فإن كانت وديعة سنبحثها في باب الودائع، وإن كانت قرضاً فسنبحثها هنا؛ لأننا في باب القرض.
فما هي أنواع الودائع المصرفية، وما هي أحوالها وأمثلتها، وما موقف الشريعة الإسلامية من كل مثال وحالة؟ أما بالنسبة للوديعة المصرفية فصورتها أن يأتي العميل بمبلغ معين قليلاً كان أو كثيراً ويدفعه إلى المصرف، ونحن نعبر بالمصرف؛ لأنها أفصح من عبارة (بنك) وهي أوضح في الدلالة، وإن كان في المصطلح الاقتصادي الموجود اليوم يوجد فرق بين مصطلح البنك وبين مصطلح المصرف، لكن إذا قلنا: مصرفية تشمل المصرف بمعناه أو البنك بمعناه.
الوديعة المصرفية يقوم العميل فيها بوضع مبلغ معين، وهذا المبلغ المعين يكون فيه اتفاق بين المصرف وبين العميل، ففيه طرفان: موُدِع: الذي هو العميل، وموُدَع عنده: الذي هو المصرف، على أن يلتزم المصرف بحفظ هذا المبلغ ويلتزم بأدائه للعميل متى طلبه، لكن في بعض الأحوال يتفقان على مدة معينة كما ذكرنا،
و
السؤال
هل وضع مائة ألف مثلاً في المصرف نعتبره وديعة أم قرضاً؟ إن أي مسألة عصرية إذا جئت تبحثها بحثاً فقهياً منهجياً أول ما يجب عليك أن تأخذ الألفاظ وتدرس معانيها، ثم هذه المعاني الموجودة في واقعك ومعيشتك وعُرفك وبيئتك على حسب ما يفهمها الناس أو يتعاملون بها، هل تتفق مع المصطلحات الشرعية أو تختلف؟ فإن قالوا: وديعة، فالعلماء وضعوا للوديعة تعريفاً ومصطلحاً معيناًَ، فطبق المصطلح على الحقيقة والواقع، فإن اتفق أعطيتها حكم الوديعة، وإن اختلف بحثت ما هي حقيقته ولم تغتر بالاسم الظاهر، إذاً: لو جاءوا وسموا معاملة ما بيعاً، فنقول: ما هي حقيقة البيع؟ مبادلة المال بالمال، فهل هذا مال مبادل بمال؟ إذاً: فهو بيع، لكن لو كان منفعة بمال فهو إجارة، فالناس قد يخطئون في التعبير بقصد أو غير قصد.
فالوديعة في الشريعة تقوم على حفظ المال وأدائه بعينه دون تصرف فيه، فإذا جاءك بكيس ووضعه عندك وديعة، فمعناه أنه ينبغي أن تحفظ نفس الكيس وما فيه؛ لأنك أمرت بحفظ هذا الشيء بعينه دون أن تتصرف فيه، قالوا: فلو فتح الكيس انتقلت الوديعة من كونها وديعة إلى كونها قرضاً ويضمن؛ لأن الوديعة تستلزم أن تحفظ المودع بعينه وترده بعينه، فإن أخذ المال بأن أعطاك إياه خمسمائة ريال فأخذت الخمسمائة بعينها ووضعتها في الدرج وقفلت عليها: وكتبت عليها هذه وديعة فلان بن فلان، فجاءك بعد عشر سنين وأعطيته العين نفسها، فهذه وديعة، ولو أنك وضعتها فاحترق الصندوق والبيت واحترقت هذه الفلوس بهذه الطريقة التي لم تتصرف فيها لم تضمن؛ لأن يدك يد أمانة.
إذاً: كل شيء له في الشرع ضوابط، فلا يسير الإنسان على تعبيرات الناس وأهواء الناس، وهذا الفقه عُصارة أذهان أكثر من عشرة قرون، والعلماء يتعبون ويسهرون ويكدحون من أجل إعطاء كل ذي حقٍ حقه، فإذاً: عندما نقول: وديعة فعندنا ضابط معين، وهو أن يستلزم منك ذلك حفظ عين الشيء وأداءه بعينه متى ما طلبه دون مماطلة أو تأخير، فلو أن الإنسان جاء بالعشرة آلاف ووضعها في المصرف فهل يلتزم المصرف بحفظ عين المال ورد العين أم بحفظه ورد مثله؟
الجواب
رد المثل، ولا يوجد مصرف يأخذ منك عين المال ويرد لك عين المال، وإنما يأخذ ويعطي بدلاً عنه.
ولذلك ينبغي أن نتنبه إلى أن التسمية بالوديعة ليست صحيحة من ناحية شرعية، بل حتى في القوانين الوضعية، وفي العرف الاقتصادي الموجود المعاصر يسمون الودائع المصرفية قروضاً، وإنما سميت وديعة على حسب ما يقصد من هذا، سواءً كانت تسمية ظاهرة أو غير ظاهرة، حتى يقول: إن الوديعة مشروعة، وإذا كانت الوديعة مشروعة في الأصل؛ فإنه يترتب عليها نوع من إضفاء الشرعية على هذا الشيء.
وبناءً على ذلك: لا يمكن أن نحكم بكون الوديعة المصرفية وديعة بمعناها الشرعي الصحيح، حتى نفس العرف الاقتصادي يسلم بأن الودائع قروض، وإذا احترقت المصارف وصار عليها عارض ليس بيدها، فإنها تضمن المال الذي أودع فيها؛ لأنها لا تأخذ حكم الودائع.
إذا ثبت أن الوديعة المصرفية دين فهي قرض، وتكون معنا في الباقي على نفس الدراسة التي درسناها، فأصبحت المعاملة في الحقيقة على أن يدفع له المال ويرد له مثله، هذا من حيث الشكل العام والمضمون العام في الودائع، وإذا ثبت هذا فمعناه أنك تبني عليه جميع الأحكام الشرعية المبنية على القروض، وهذا يستلزم أن نقسم الودائع المصرفية إلى أقسام.(172/3)
أقسام الودائع المصرفية
القسم الأول: الوديعة المستندية.
القسم الثاني: الحساب الجاري.
القسم الثالث: الودائع بالفوائد.
القسم الرابع: شهادات الاستثمار.(172/4)
الوديعة المستندية
أما بالنسبة للوديعة المستندية فمن الممكن أن نسميها وديعة شرعية، وهذه الوديعة حقيقتها: أن يقوم العميل باستئجار صندوق معين في المصرف أو البنك، ويمكنه البنك من مفتاحه، على أن يضع فيه وثائقه ومستنداته، ويتكفل البنك بحفظ هذه الودائع والمستندات، ويمكن العميل من أخذها في أي وقتٍ شاء، على أن يدفع أجرة معينة على حسب المتفق عليه، وهذا النوع موجود الآن في بعض المصارف الكبيرة، ويسمونها مستندية؛ لأن الغالب أنها تستأجر من أجل المستندات، يكون التاجر عنده صكوك يخشى عليها السرقة أو الاحتراق أو التلف، أو عنده وثائق معينة لأعماله فيخشى أن يطلع إنسان عليها فتفسد تجارته، فيأتي ويستأجر هذا الصندوق ويحفظ فيه وثائقه ويقفله ويأخذ المفتاح، ومتى ما جاء التزم المصرف بتمكينه من أخذ ما شاء من هذا المكان.
إذاً: لو سألت هذا الصندوق الذي يضع فيه العميل حوائجه، هل يأخذ عين المودع أم مثله؟
الجواب
يأخذ العين، وهل أحد يتصرف في هذه العين غيره؟ لا.
إذاً: هي وديعة وتأخذ حكم الوديعة الشرعية، لكن
السؤال
اتفاق المصرف مع العميل على أن يدفع مبلغاً معيناً شهرياً أو سنوياً هل هو جائز أم ممنوع؟ يمكننا أن نقول: إنها إجارة؛ لأنه استأجر المصرف لحفظ هذا المبلغ خلال المدة المتفق عليها، وبناءً على ذلك يسري عليه ما يسري على الإجارة الشرعية؛ لأنك قد تستأجر شخصاً من أجل أن يحفظ لك مزرعتك أو يحفظ لك دوابك.
فالإجارة من أجل الحفظ مشروعة بالإجماع؛ لأن القاعدة أن الإجارة تجوز على كل منفعة مباحة، كذلك حفظ الصكوك والمستندات مباح فإذا استأجره لحفظها كان مباحاً، وبعض الناس يأخذ هذه الصناديق ويضع فيها مجوهرات وحلياً ونفائس موجودة عنده ويخشى عليها السرقة فيضعها ويقفل عليها، ويأتي ويأخذ عين المجوهر وعين الشيء الذي له، وهذا يأخذ نفس الحكم، سواء استأجرها للوثائق وللمستندات أو للجواهر أو للحلي، بل حتى لو جاء ووضع ماله في هذا الصندوق وأخذه بعينه فإنه جائز ومشروع؛ لأنها وديعة شرعية دون أن يختلط ماله بمال الغير، ودون أن يسري عليه أي شبهة أو أي محصول.
إذاًَ: الوديعة المستندية جائزة ومشروعة؛ لأنها عقد إجارة على منفعة مباحة، وشروط الإجارة مستوفية، فهي إجارة على منفعة مباحة، في مدة معلومة، وبثمن معلوم، واستوفت جميع الصفات المعتبرة شرعاً.(172/5)
الحساب الجاري والودائع بالفوائد
القسم الثاني: الحساب الجاري، وحقيقته أن يقوم العميل بدفع مبلغٍ معينٍ للمصرف، ثم يلتزم المصرف تجاه هذا المبلغ المعين أن يمكن العميل من سحبه كله أو بعضه أي وقتٍ شاء، سواءً سحبه أصالة أو وكالة، والحساب الجاري في الحقيقة له ثلاث صور.
الصورة الأولى: أن يدفع المبلغ، فيسحب على قدر مبلغه دون أن يزيد أو ينقص.
الصورة الثانية: أن يدفع المبلغ ويعطيه المصرف زيادة إذا بقي المبلغ دون أن يطلبها هو، لكن إذا مضت فترة معينة حتى لو لم يقصد، فمثلاً: وضع مائة ألف على أساس أن يسحبها بعد شهر ثم تأخر سحبه إلى ثلاثة أشهر، وبعض المصارف تعطي فائدة على مدة بقائها ثلاثة أشهر، ولو لم يكن هناك اتفاق مسبق من باب المكافأة على وضعها هذه المدة، ففي هذه الحالة يكون المستفيد هو العميل، والاستفادة وقعت بدون شرط، إنما أعطاه المصرف من باب المكافأة على بقاء المبلغ هذه المدة، وهذا يقع في الخارج خاصة في أوروبا، فبعض البنوك تكافئ من يودع عندها مدة معينة ويكون المبلغ كبيراً فتجعل له الزيادة (6%) على بقائها ثلاثة أشهر دون أن يسحب أو ينزل رصيده عن حدٍ معين؛ لأنهم يستغلون هذه الأموال، ويحسون أن هذا الاستغلال لابد أن يرد فائدة، وهذا في نظرتهم.
الصورة الثالثة من الحساب الجاري: وهو العكس وهذا يقع في الدول الفقيرة، بخلاف النوع الثاني فهو يقع في الدول الغنية التي فيها ثراء والسيولة فيها كثيرة.
أما النوع الثالث فمثلاً: إذا دفع مبلغاً وبقي في المصرف أو البنك مدة وضعوا عليه ضريبة، فإذا جئت تسحب المال، ودفعت مائة ألف ومكثت سنة، فإنهم يأخذون ألفاً، فتأخذ تسعة وتسعين ألفاً.
إذاً الحالة الأولى: إذا دفع المبلغ ثم سحب مثله والتزم أن يعطى قدر مبلغه دون زيادة أو نقصان، فهذا قرض ليس فيه فائدة، وليس هناك شرط فائدة ولا زيادة ولا ربا، ومن حيث الأصل العام إذا أعطى شخص شخصاً مائة ألف وجاء وسحب كل المال، أو التزم الطرف الثاني وقال له: يا فلان! خذ المائة ألف هذه قرضاً، قد أبعث لك شخصاً في أي ساعة يسحبها كلها أو بعضها فأعطه، فهذا جائز، والأصل يقتضي الجواز، لكن الإشكال من كونه ذريعة معينة على الحرام، فإنه إذا كان يعطي المال للمصرف فهذا يفصل فيه، فإن كان تعامل المصرف يكون بشيء محرم كان وضعه على هذا الوجه معونة على الحرام، فلا يجوز، وإن كان لا يتعامل بالحرام كان جائزاً؛ لأنه يدفع المبلغ ثم يأخذه دون زيادة أو نقصان.
أما الحالة الثانية: إذا كان المصرف يعطيه الزيادة بدون موعد ولا عِدة، فهل يجوز ذلك؛ لأن: (خير الناس أحسنهم قضاءً)؟
الجواب
إذا جئنا ننظر إلى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً ورده خياراً رباعياً) نقول: يجوز، لكن المشكلة أن هذه العوائد تركبت من ديون بالآجال عليها فوائد، فهو يعطي لأشخاصٍ ديناً، ويأخذ عوائد هذا الدين باقتراضهم منه لكي يصرفها في الفوائد، وبناءً على ذلك صار أصله من حرام، فنقول: إن هذا الوجه يقتضي التحريم.
الوجه الثاني: لو قال قائل: يجوز في الحساب الجاري، لو سافر إلى بلد غني ووضع مليوناً، ثم سحب الحساب الجاري المليون وأعطي مليوناً وعشرة، نقول: لو قيل: إن هذا من باب مكافأة الدين لم يصح، أولاً: لأنه عائد من حرام والفرع تابع لأصله، وثانياً: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فلما جرت عادة المصرف بأنه يكافئ على الوضع فيه، فكأنه حينما أودع فيه اشترط مسبقاً على المصرف أن يكافئه، وهذا عين المحرم؛ لأن كل شرطٍ جر نفعاً فهو ربا، والإجماع منعقد كما حكاه ابن المنذر والإمام ابن قدامة وغيرهم على تحريم ذلك.
إذاً: مسألة وضع المال وإعطاء الفائدة بدون شرط مسبق، يصح تحريمها من وجهين: الوجه الأول: أن عائده من حرام والفرع تابع لأصله.
الوجه الثاني: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ولفظاً كما يقول بعض العلماء، فكأنه حينما جرت عادة المصرف بذلك فإنه يكون عند وضعه للمال كأنه قد رضي بذلك وطلبه فينزل منزلته.
وهنا
السؤال
لو أن شخصاً جاء ووضع المال في هذا النوع من المصارف، فدفع مائة ألف فأعطي أرباحاً (مائة وخمسة)، فهل يتركها أو يأخذها؟ الجواب: عندنا نصوص في الكتاب والسنة نرجع إليها إذا جئنا نحكم في المسائل ونركب بعضها على بعض، وقد أثبتنا أن الوديعة والحساب الجاري يعتبر قرضاً، والله تعالى يقول في القرض: {فَلَكُمْ} [البقرة:279] أي: هذا الذي تتملكونه وهو من حقكم: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] فهو إذا سحب رصيده حينئذٍ يكون قد حقق المأمور به شرعاً، لم يظلم ولم يُظلم، وهذا بالنسبة للأصل العام، أنه إذا سحب رصيده وأصل ماله فإنه لا يظلم ولا يُظلم والنص آمر بذلك وملزم به، ودال على أنه إذا أخذ الزائد عنه فقد أخذ الحرام.
وقد يقول قائل: لو أخذ الزيادة واستفاد منها بإنفاقها في مشروع خير أو نحو ذلك، لكان أفضل من بقائها، خاصة وأنها إذا بقيت ربما أخذت لأمور تضر بالمسلمين، فهل يأخذها ولا يتركها؟ نقول: هذا اجتهاد في مقابل النص، والنص يقول: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ثم لما اجتهدوا هذا الاجتهاد، وقالوا بجواز أخذ المال مع زيادة عادوا فقالوا: لكن لا تصرفها في بناء مسجد أو طبع كتاب، ولا تفعل بها أموراً فيها طعام أو شراب لمسكين، فيشتبه هو في هذا المال بعد حكمه بأخذه كيف يتصرف فيه؟ ودائماً إذا خالف الإنسان النص يقع في حيرة؛ لأنه إذا التزم بالنص ما عنده إشكال، ثم نقول: لو أنك أخذت رأس المال لم يقع الربا، فإذا قيل: له أن يأخذ الزيادة حتى لا تبقى عند الغير، عندئذٍ تحقق الربا، ولذلك احتار! إذاً: ما دام أن هذه الزيادة محرمة فلماذا نفتي بجواز أخذها؟ ثانياً: لو أننا أخذنا هذه الزيادة حتى لا يستضر المسلم بها، فإننا نقول: تركها أكثر منفعة للمسلمين؛ بل إنه أبلغ في دعوة الكافر وتنبيهه على فضل الإسلام، فأنت إذا جئت لكافر يتعامل بالربا في مصرفه وأخذت رأس المال، وقلت له: ديني يأمرني أن لا آخذ إلا رأس المال، يقول لك: كيف تترك ربحاً قدره عشرة آلاف، فهم يكادون يعبدون المال من شدة تعظيمهم له، ولا يتعاملون إلا بالدينار والدرهم، ولا يعرفون إلا المال، فإذا وجد أنك لا تأخذ المال الربوي وأحس بعزتك؛ لأن الكافر يغتاظ إذا رأى المسلم معتزاً بدينه، قوي الشكيمة في الحق، لا يريد إلا دينه وما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: هو بنفسه يشعر بفضل هذا الأمر الشرعي؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين فإذا وجد أنك لا تأخذ إلا رأس مالك، وقلت له: ديننا يأمرنا أن نأخذ رأس المال، فإنه يتأثر ويحس أن هذا الذي تقوله هو عين العدل، فقد يكون سبباً في التأثير عليه، وقد يكون سبباً في شعوره بفضل الإسلام، فالدعوة كما تكون باللسان تكون أيضاً بالجوارح والأركان، لأنك بتعاملك معه تعرفه حقيقة الإسلام، وأن الإسلام دين عدل، فاليوم يأتي شخص لا يأخذ الفائدة، وآخر يأتي بموقف اجتماعي يقول: الإسلام يأمر بكذا، فلا تزال تجتمع عنده محاسن الإسلام حتى تكون سبباً في هدايته، وقد حكى بعض طلاب العلم أنه وقع في ذلك يقول: ولم أرض أن آخذ هذه الزيادة، فطلبني المسئول، وسألني: لماذا لا تأخذ الزيادة؟ فقلت له: ديني يأمرني أن آخذ رأس المال فقط، قال لي: لماذا؟ فقلت له: لأني أنا أعطيتك عشرة آلاف فآخذ عشرة آلاف فقط، فلا أظلمك بأخذ الزيادة، قال الأخ: فجعل يتعجب؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين، فالشاهد أننا إذا اجتهدنا لهذا فإن محاسن الشريعة بأخذ رأس المال أجل وأكمل، ولا نستطيع أن نجتهد في مقابل النص؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، فهذه الحالة الثانية: وهي أن يدفع المال ثم يعطى الزيادة عليه بدون عدة.
الحالة الثالثة: أن يدفع المال فيؤخذ من المال على قدر الحفظ، فإذا قال له: ضع المال عندي لمدة شهر وآخذ منه مقابل حفظه، فهذه المسألة تتفرع على مسألتين: المسألة الأولى: رخص بعض العلماء رحمهم الله إذا أعطاه قرضاً، وقال له: خذ هذه المائة ألف قرضاً وردها لي تسعين، أو ثمانين، قالوا: يجوز؛ لأنه أبرأه وأسقط عنه ذلك، لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة أن هذا النقص إنما أخذ بدعاية الحفظ وهي غير موجودة، فصار من أكل المال بالباطل، فالصورة الأولى: محض تبرع، وهناك فرق بين الصورة الأولى والثانية، وقد ذكرت هذا حتى لا يلتبس على بعض طلاب العلم، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني أنه إذا أعطاه القرض وأسقط عنه شيئاً منه جاز له ذلك، وقد رخص في هذا أئمة من السلف رحمة الله عليهم، وروي عن ابن عباس نحو هذا، لكن هذا غير ما نحن فيه؛ لأن الذي نحن فيه أن الآخذ يدعي استحقاقه للمال لقاء الحفظ، والحفظ غير موجود، فصار من أكل المال بالباطل، فالذي يأخذه يأخذه ظلماً، ولذلك قال الله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ولو ساغ للمدين أن يأخذ من الدين شيئاً لما جعل الله الأخذ ظلماً، ولو ساغ للمدين أن يأخذ لقاء الاستدانة شيئاً لبين الله سبحانه وتعالى ذلك ولما جعله ظلماً، فكما أنه لا يجوز لرب المال أن يسقط عنه في الحفظ شيئاً، لا يجوز أن يسقط عنه فيما يدعيه حفظاً على هذا الوجه شيئاً.
إذاً: الصحيح في هذه الحالة الثالثة أنها لما كانت على سبيل التعاقد والإلزام كانت من أكل المال بالباطل، والدليل على تحريمها قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29] ولأن النص أثبت أنه لا يجوز للمديون أن يأخذ لقاء وجود المال عنده على الدائن؛ لقوله: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] فأمر الله المديون والدائن أن يكون الوفاء برأس المال، فدل على أنه إذا اقتطع منه شيئاً فقد ظلمه ولا يجوز ذلك.(172/6)
شهادات الاستثمار
هناك مسألة الوديعة بزيادة مشترطة، وهي ما يسمى بالاستثمار، فمثلاً يحدد المصرف مبلغاً ما ويقول للعميل: ادفع ما لا يقل عن ستة آلاف ولا يزيد عن عشرة آلاف قسطاً شهرياً لمدة ثلاث سنوات، فإذا مضت الثلاث السنوات أعطيناك زيادة (6%) على المبلغ كله.
أولاً: لابد أن يحدد المصرف الحد الأقل للمبلغ المدفوع والحد الأقصى، أي: ما بين ألف إلى عشرة آلاف، كأن لا تزيد على عشرة آلاف ولا تنقص عن ألف، إن شاء يدفع ألفاً شهرياً قُُبل منه، وإن شاء يدفع ألفين أو ثلاثة آلاف إلى أن يصل إلى عشرة آلاف، فلو قال: سأدفع شهرياً أحد عشر ألفاً يقولون: لا، ادفع فقط ما بين ألف إلى عشرة آلاف.
وهذه هي الفئة الممتازة، فعندما تكون فئة (أ) يكون فيها المبلغ أكبر والمدة محددة، فبعد أن يحدد المصرف أقل مبلغ يدفع يحدد له أكثر المبلغ، ثم تحدد المدة، يقال لك: تدفع لمدة سنتين شهرياً، فلو دفع ألفي ريال شهرياً، والسنة فيها اثنا عشر شهراً، فمعناه أنه سيدفع أربعة وعشرين ألف ريال، والأربعة والعشرون ألف ريال خلال ثلاث سنوات يكون مجموعها اثنين وسبعين ألف ريال، وهذا المبلغ يحسب منه فوائد (10%) أي: سبعة آلاف ومائتين، معناه أنه سيعطيه تسعة وسبعين ألفاً ومائتين، فكانت المعاملة على النحو الآتي: يحدد المبلغ الأقلي والأكثري على أن يكون الدفع بينهما، ويلتزم العميل بالدفع شهرياً ولا يتخلف أي شهر حتى تتم المدة، ثم يلتزم بعدم السحب من الرصيد لمدة ثلاث سنوات؛ لأن المصرف سيأخذها ويقرضها للناس، وهذه الالتزامات على العميل مكونه من: التزام في المبلغ أن لا ينقص عن كذا ولا يزيد عن كذا، والتزام في المدة: ثلاث سنوات أو سنتين أو سنة ونصف، والتزام بعدم السحب، هذه ثلاثة أشياء، وبعد أن يتم الاتفاق على هذا الوجه يلتزم البنك والمصرف بإعطائه فائدة بنسبة معينة.
إذاً: هناك استثمار من فئة (أ) واستثمار من فئة (ب)، لماذا تتفاوت فئة (أ) عن فئة (ب)، فئة (أ) يكون المبلغ كبيراً ويحدد بمدة لأصحاب الأموال الكثيرة؛ لأنهم يعرفون طبقات المجتمع، ويريدون أن يستفيدوا من طبقات المجتمع، فيجعلون لمن كان راتبه أكثر مبلغاً أكثر، فيحددون مثلاً: من خمسة آلاف إلى عشرة آلاف، طبعاً: لا يستطيع أن يدخل في هذا الاستثمار لمدة ثلاث سنين بهذا المبلغ الكبير إلا إنسان مقتدر، النوع الثاني: يضعونه، فئة (ب)، وهذه الفئة تتراوح المبالغ فيها من ثلاثة آلاف ريال أو من ألفين شهرياً إلى ستة آلاف، فيكون التحديد أقل والمبلغ أقل وأيضاً الفائدة أقل، أي: هناك تجد الفائدة (10%) وهنا الفائدة (5%) مثلاً، فالتفاوت والتفاضل بين الفئة (أ) والفئة (ب) من حيث المضمون والجوهر، لكن من ناحية شرعية الحكم فيهما واحد، فلا تضرك المسميات؛ لأن هذا شيء يرجع إلى طريقة حساب الفوائد، فهي تختلف من طبقة إلى طبقة.
أعطوا في الفئتين السابقتين الاستثمار للطبقة العالية والطبقة المتوسطة وبقي الطبقة الضعيفة، فتعطى استثماراً من فئة (ج)، وفئة (ج) من مائة ريال، أو مائتي ريال، أو ثلاثمائة ريال، يقولون: تدفع من خمسين ريالاً مثلاً؛ لأنهم يعرفون أنه سيشارك في هذه الفئة عدد أكبر، فيدفعون مثلاً: من خمسين ريالاً إلى ستمائة ريال لمدة ثلاثة شهور، وفي بعض الأحيان يحددون ويقولون: تدفع مائتي ريال شهرياً، فإذا دفع مائتي ريال شهرياً لمدة ثلاثة شهور هذه ستمائة ريال، والستمائة ريال يقولون: يلتزم المصرف بردها، ولكن يجمعون أسماء المشاركين كلهم، ثم توضع القرعة، ومن خرجت له القرعة أخذ الفائدة أو الجائزة الموجودة، وتقسم أرباح هذه الفئة كلها على عشرة أشخاص، يكون للأول ألف، وللثاني ألفان، وللثالث أربعة آلاف.
إلخ.
فنلاحظ أن عندنا فئة (أ) وفئة (ب) وفئة (ج)، هذه ثلاث دركات -نسأل الله السلامة والعافية- فئة (أ) وفئة (ب) لها دراسة مستقلة، أما فئة (ج) فسنركز عليها أكثر؛ لأن البعض أفتى بجوازها، وأدخل بعض الشبهات في الحكم بجوازها، فسندرس فئة (أ) و (ب) على حدة، ثم بعد ذلك ندرس فئة (ج).
فئة (أ) و (ب) حينما يقال: تدفع ما بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف، وتلتزم ببقاء المبلغ ثلاث سنوات، وتلتزم أيضاً بعدم السحب منه وتعطى فائدة كذا، ما حقيقة هذا العقد؟ أولاً: هو قرض، وثانياً: اشترط فيه وجود المنفعة والزيادة، وهذا بإجماع العلماء ربا محرم؛ وهو مخالف لقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، فإذا أعطاه بزيادة -سواءً حدد المدة أو لم يحدد المدة مادام أنه يقول: آخذ منك هذا الدين وأرده بزيادة كذا وكذا سواء قلت الزيادة أو كثرت- فإنه الربا الذي حرم الله ولو ريالاً واحداً، فإن اشتراط هذه الزيادة قليلة كانت أو كثيرة هو عين الربا.
الأمر في (أ) و (ب) واضح جداً ولا إشكال فيه، لكن الإشكال في فئة (ج)، فما هي الشبهة وكيف جوابها؟ قالوا: أولاً: في فئة (ج) المصرف أو البنك لم يلتزم أن يعطيك فائدتك إنما هو قال: تدخل في القرعة، فيحتمل أن تربح ويحتمل ألا تربح، فإذاً: حينما دخل العميل في الاستثمار لم يشترط على المصرف أن يربح ولم يشترط المصرف له أن يعطيه الزيادة، فإذاً: خلا عن قرض شرط فيه النفع, وأصبحت الزيادة بدون اشتراط، فهي جائزة، وغاية ما فيه أن المصرف تفضل بإعطاء هذه الزيادة وهذا الربح من باب المكافأة، والمكافأة على الدين جائزة، هذا بالنسبة للشبهة التي تثار في فئة (ج)، أنه لم يلتزم بإعطاء الفائدة وإنما وقع ذلك على سبيل الاحتمال، وإنما تحرم الزيادة إذا كانت على البت، كما لو أقرض الشخص شخصاً يحتمل أن فيه مكافأة ويحتمل أن لا يعطيه مكافأة، فتردد بين الزيادة وعدمها، قالوا: فيجوز.
والجواب عن هذه الشبهة: أن يقال من وجوه: الوجه الأول: أن دخول العميل في هذا النوع من شهادات الاستثمار إنما قصد منه الربح والنماء، لم يدخل أحد في هذا الاستثمار لمجرد أن يحفظ ماله إنما دخل من أجل أن يربح، والمقاصد معتبرة في العقود، وعلى هذا كأنه يدين من أجل أن يربح.
الوجه الثاني: أن هذا الربح لو كان مكافأة فإنه مبني على أصل محرم، والمكافأة من المحرم فرع راجع إلى أصله، وما بني على حرام فهو حرام، وبناءً على ذلك: لو سُلم جدلاً أنه مكافأة، فإننا نقول: إنه يعتبر من مال محرم، والمكافأة من المحرم محرمة؛ لأنها مأخوذة من فوائد من الإيداع ومكافأ بها العميل، وعلى هذا فلا يمكن التسليم بأنها من المكافأة؛ لأن العميل دخل وقد علم المكافأة، وحددت له، وبينت له، ووضع المال قاصدها، وشرط المكافآت أن لا يكون هناك علم أو تواطؤ أو إخبار، فلو قال له: ادفع لي عشرة آلاف يمكن أن أعطيك عليها ربحاً أو لا أعطيك لحرمت بالإجماع، قال له: إذاً: أشترط عليك أنه إذا يسر الله تعطيني وإذا لم ييسر فلا تعطيني، فهنا يقول: أشترط عليك إن ظهر اسمي أعطيتني، وإن لم يظهر اسمي فلا تعطيني، فلا يوجد فرق بين الحالتين.
فإذاً: التذرع بأن خير الناس أحسنهم قضاءً، هذا ليس بوارد، إنما يكون ذلك لو خلا عن المقصد، وجاء بدون قصد ولا عدة، وهنا جاء بقصد؛ لأنه دخل وهو يريد، وجاء بعدة محتملة، أي: إن ظهر اسمك كان لك وإن لم يظهر فلا، فالتذرع بمثل هذا لا يصح ولا يستقيم.
الآن عرفنا الشبهة وجوابها، وعندنا شبهة سبق وأن نبهنا عليها، وهي: أنه يتذرع في شهادات الاستثمار بأنها من باب القراض، ولو فرضنا أن وجائز، كأن يدفع رب المال إلى العامل ماله على أن يتجر به والربح بينهما على ما شرطاه، القراض يكون عندك مائة ألف وأنت طالب علم لست بمهيأ للمرابحة بهذه المائة ألف أو المتاجرة فيها، وهي موجودة عندك كرصيد مجمد، فمن رحمة الله عز وجل وتيسيره أن أباح لك أن تعطيها رجلاً عنده خبرة، يضرب بها في الأرض ويتاجر فيستفيد بخبرته، وينمي هذا المال، فإن ظهر ربح كان بينكما على ما اشترطتما إما أن يقول: الربح بيني وبينك مناصفة، أي: إذا ربح خمسة آلاف فإن لك ألفين وخمسمائة وله ألفين وخمسمائة، فيذهب ويتاجر بالمائة ألف في السيارات، أو الأقمشة، أو الأغذية، أو الأدوية أو غيرها.
وبعد مضي المدة المتفق عليها تقول له: يا فلان! احسب لي المضاربة، فيذهب ويبيع الأشياء الموجودة بمائتي ألف، ثم يدفع أجرة الدكاكين وأجرة الأعباء وأجور العمال، فاستقر المبلغ على مائة وخمسين ألفاً؛ لأن الربح لا يكون إلا بعد رد الحقوق، فأنت دفعت مائة واتفقتما على أن الربح بينكما مناصفة وكان الربح خمسين ألفاً، فيأخذ خمسةً وعشرين ويرد لك مائة وخمسة وعشرين، هذه هي المضاربة الشرعية.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: من قال: إن القراض الذي هو المضاربة، ويسمى قراضاً ويسمى مضاربة، وسمي مضاربة؛ لأنه من الضرب في الأرض: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:20] الذي هي التجارة، وسمي قراضاً؛ لأنه اقتطع من ماله قرضاً فسمي بهذا.
يقول: إن من قال: إنها ثابتة بالإجماع فقد وهم، إنما هي ثابتة بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضارب بمال خديجة، وجاء الإسلام والقراض موجود ومعروف، ورحلة الشتاء والصيف تدل على أنهم كانوا يسافرون في الصيف إلى الشام وفي الشتاء إلى اليمن للتجارة، ثم ترد الأرباح وتقسم على حسب ما يتفقون عليه، فأجازت الشريعة هذا النوع من العقود.
يقولون: إن الفوائد والأرباح تعتبر قراضاً، وأعجب فما تنفك من عجائب! حينما يأتي من يقول: إن عقد القراض ليس فيه نص من الكتاب والسنة بشروط معينة، وإذا كان ليس فيه نص معين لا من الكتاب ولا من السنة وليس فيه إجماع على شروط معينة، فإنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فيصبح قراض الأمس له حالة، وقراض اليوم له حالة، هذا هو الفقه الجديد الذي -نسأل الله السلامة والعافية- زين لصاحبه حتى يحل ما حرم الله، فيضل ويضل ومن ثم يهلك ويُهلك غيره.
والقراض في الأصل يقوم على أركان وهي: رب المال، والعامل الذي يضرب بالمال ويتاجر، وهو الطرف الثاني، والمحل الذي هو المتاجرة، والصيغة التي هي الإيجاب والقبول، كأن يقول له: قارضتك على أن يكون الربح بيننا.
يقولون: إذا جاء العميل للمصرف ودفع مائة ألف فإنن(172/7)
حكم اشتراط المنافع على القرض
يقول المصنف رحمه الله: [ويحرم كل شرط] أي: في الدين إذا اشترط المنفعة فلا يجوز؛ لأن اشتراط المنافع تارة يكون من المكر، كأن يقول: العشرة آلاف تردها لي عشرة آلاف وخمسمائة، وبعض الأحيان يكون اشتراط المنفعة بالمعنى سواءً كانت منفعة اعتبارية أو منفعة من غير النقد، كأن يقول له: أعطيك عشرة آلاف على أن تعمل عندي يوماً، أو توصل هذا لفلان، أو تفعل كذا وكذا، فصار قرضاً جر نفعاً، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أجمع العلماء على أن كل قرض جر نفعاً من حيث الجملة إذا وقع على سبيل الشرط والمشارطة أنه لا يجوز، وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر، ونقله الإمام ابن قدامة رحم الله الجميع برحمته الواسعة، فمن حيث الأصل لا يجوز القرض الذي يجر نفعاً، ولكن إذا ثبت هذا فهو يحتاج إلى شيء من التفصيل وفي عصرنا الحاضر عندنا مسألتان نحتاج إلى ذكرهما: المسألة الأولى: قديمة وموجودة في زماننا.
والمسألة الثانية: موجودة أو طرأت وكثر الكلام فيها الآن.(172/8)
مسألة السفتجة
أما المسألة الأولى: فهي السفتجة وهي تنبني على الحوالات.
المسألة الثانية: فهي جمعيات المال.
أما السفتجة ففي القديم كانوا يخافون الخروج بالأموال في السفر، فيأخذ الرجل مائة دينار في مكة ويعطيه ورقة لوكيل له في المدينة، أنه إذا جاءك فلان فأعطه مائة دينار، وإذا جئنا إلى صورة المسألة نجد أنه دفع مائة دينار وأخذ مائة دينار، لكن الشخص الذي هو رب المال دفع المال في مكة بشرط أن يأخذه في المدينة، فاشترط أخذه في المدينة حتى يحيله إلى وكيله، وهذا الشرط في الحقيقة قصد منه منفعة الأمن من خطر حمل المال معه، ومن هنا اختلف السلف رحمهم الله في هذا النوع، وكان موجوداً في زمان الصحابة رضوان الله عليهم، فمنهم من رخص، ومنهم من منع.
فإذا دفعت لأحد مالاً على أن تأخذه في مكان آخر، فلا يخلو المال من حالتين: السفتجات، وهي فارسية معربة، ويبحثها الفقهاء تحت هذا المسمى السفتجة، والسفتجة من حيث الأصل لها صورتان: الصورة الأولى: أن يكون المال المديون يحتاج إلى مئونة حمل إلى المدينة، فمثلاًً: يأخذ المدين من صاحب المال مائة صاع في مكة ويقول له صاحب المال: بشرط أن تحيلني على وكيلك في المدينة وأستلمها منه، فإن كان نقل مائة صاع من المدينة إلى مكة يكلف ديناراً أو عشرة دنانير فصار كأنه أقرضه مائة صاع معها عشرة دنانير، فصار قرضاً جر نفعاً، وهنا نقول: لابد من دراسة؛ لأن المشكلة أن بعض العقود ترى في ظاهرها أن لا شيء فيها، لكن حينما تنظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فتجد أنه لابد من التأمل والنظر بعمق.
لذلك فلابد من دراسة المسألة حتى تفهم نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف، فالسلف يعطي نفس المال، لكن لما أدخل البيع معه ربما وجدت الزيادة في البيع؛ لأنه لا يبيع أحد شيئاً إلا وفيه ربح، ففهمنا من هنا أن الشرع لا يقتصر على كون هذا أخذ رأس مالٍ ما لم يحقق في اشتراطه عليه، فلما اشترط شرطاً فيه الزيادة والمصلحة له فهمنا أنه قرض جر نفعاً واختلف فيه الصحابة رحمهم الله.
أما لو كان المال المدفوع طعاماً يحتاج إلى نقل ومئونة، فجماهير العلماء سلفاً وخلفاً على تحريمه؛ لأنه استفاد النقل، وسلم مئونة النقل، والمال صحيح أنه ما نقل لكنه اشترط شرطاً على وكيله هناك ولم يقل له: أدها لي هنا، فدل على أنه قصد الهروب من مئونة الحمل، ودلالة الحال قد تدل على المقاصد في المآل.
ثانياً: أن يكون المال ليس فيه مئونة، فمثلاً: يعطيه مائة دينار في مكة، ويقول له: هذه المائة دينار أحلني على وكيلك في المدينة يعطيني المائة دينار وهذه المائة دينار، ليس في حملها مئونة، فلا تحتاج إلى أكياس وإجارة، بل يضعها الإنسان في جيبه، أو في خرجه.
إلخ، فلو كانت أكثر، مثلاً: عشرة آلاف دينار من الذهب -كما في القديم-، فتحتاج إلى صرر ويستأجر لحملها وكرائها، فهذا يدل على أنه يريد أن يخرج من مئونة الحمل ومئونة الخطر في الطريق؛ لأنه ربما ركب بحراً فغرق، وربما أخذت منه في الطريق، فالمقصود أنه يريد أن يتهرب من هذا كله، فيشترط أن يأخذها على وكيله حوالة، فصارت حوالة بمنفعة.
فإن كانت لا مئونة فيها فقد شدد فيها بعض السلف ورخص فيها البعض الآخر، وممن رخص فيها علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، فقد كان ابن الزبير كما روى عطاء يأخذ المال من الرجل في مكة ويكتب لأخيه مصعب في البصرة أن يقضيه، وهذا على سبيل الترخص؛ لأنه نفس عين المال وما فيه مئونة، وبناءً على ذلك رخص فيها هؤلاء الصحابة، وكذلك قال بهذا القول جمع من التابعين رحمهم الله، وهو رواية عن الإمام أحمد.
ومنعها بعض السلف على خلاف بينهم، فمنهم من يفهم من كلامه التحريم، ومنهم من يفهم من كلامه الكراهية، وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية وطائفة من الحنفية رحم الله الجميع، فيقولون بالمنع، إما على سبيل التحريم، وإما على سبيل الكراهة، وروي الجواز مع الكراهة عن مالك من وجه يثبت عنه.
وبناءً على ذلك يرد السؤال الآن في الحوالة في الأصل بنفس العملة وبغير العملة، كأن تريد مثلاً تحويل عشرة آلاف ريال من مكة إلى المدينة، فالعملة واحدة، وتريد تحويل عشرة آلاف ريال إلى دولارات في غير مكة خارج البلاد مثلاً.
والحوالة في الأصل هل هي حوالة أم قرض؟ هذا يحتاج إلى نظر، الحوالات الموجودة الآن هي قرض، وهي آخذة حكم السفتجات؛ لأنك تأتي إلى المصرف وتعطيه عشرة آلاف، وحين يأخذ المبلغ فإنه لا يحيلك بنفس المبلغ، وإنما حقيقته أنه أخذ هذا القرض في ذمته وأحال إلى وكيله أن يعطيك إياه، وأنت لا تحيل إلا لمصلحة، فكأنك أقرضته لمصلحتك، وهذا وجه دخولها في السفتجات؛ لأنه يريد توصيلها وفي توصيلها مئونة، فإن جاء يسافر هو بنفسه فمئونة السفر مكلفة، وإذا استأجر الغير فإنه يدفع قيمة استئجار الغير، فهي داخلة في حكم السفتجة.
فعلى قول من قال من الصحابة بالترخيص في السفتجات، وهذا مع اتحاد العملة فلا إشكال في الجواز، يكون في حكم السفتجة جائزة على قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، والنفس تطمئن إلى هذا القول، خاصة كما قال الإمام مالك: إن الناس يحتاجون إلى ذلك، فخفف فيه لوجود المصلحة، وصار فيه نوع من الإرفاق وهو متفق مع مقصود الدين.
ويبقى النظر في الحوالة مع اختلاف العملة، إذا دفعت عشرة آلاف فإنها في الأصل تكون ريالات وتريد تحويلها إلى البلد الثاني بعملته، فهنا عقدان: العقد الأول: الصرف، وهو كونك تبدل العشرة آلاف من ريالات إلى دولارات، والعقد الثاني: عقد الحوالة، فيجب أولاً: أن تصرف وتبدل العملة إلى عملة أخرى، وتقبض يداً بيد، فإذا حصل الصرف بصفته الشرعية المعتبرة، ودخلت النقود في شيك أو حوالة وأحيلت فلا إشكال في جوازها على قول من ذكرنا من السلف رحمهم الله، لكن لو أعطاه عشرة آلاف ريال، وقال: حولها إلى فلان دولارات، فحينئذٍ وقعت النسيئة والتأخير في الصرف، ولا خلاف في أن وجود التأخير يوجب التحريم، إذاً: المخرج والمباح أن يصرف أولاً وبعد القبض يحيل ما شاء من المال.(172/9)
مسألة الدين في الجمعيات
أما مسألة الدين في الجمعيات، فإن الجمعية -إذا جئت تنظر إليها- في الواقع هي قرض جر نفعاً، فلو دخلنا الجمعية بخمسة آلاف ريال، فكل شخص يدفع الخمسة آلاف على شرط أن يدينه الثاني أو يدين من يدينه، فأنت إذا دفعت الخمسة آلاف وكل شخص دفع خمسة آلاف، فمعناه أن محمداً الأول هو الذي سيأخذ مجموع المال، فكأنك دفعت الخمسة آلاف لمحمد من أجل أن يقضك ويقرض الباقين أيضاً، ودفعتها لأولئك الأربعة الباقين بنفس الشرط، فصار قرضاً جرَّ نفعاً، ولو علمت أنهم لا يعطونك لامتنعت، فإذاً: أنت لم تدفع المال إلا من أجل أن تستفيد من قوة المبلغ، والدين إنما يدفع من أجل الرفق بالمديون، وقد أجمع العلماء على أن الدين عقد رفق.
ومن هنا حرم أن يستفيد المدين، فأنت إذا دفعت الخمسة آلاف مع زيد وعمرو وخالد لمحمد، كأنك تقول: يا محمد! خذ مني الخمسة آلاف الآن بشرط أن تعطي الشهر القادم خمسة آلاف لزيد، والذي بعده لعمرو، والذي بعده لبكر، فلو علمت أنه يمتنع لما دفعت ولما أعطيته، وهذا يقتضي المنع، فصار قرضاً جر نفعاً، وإن قلنا: إنه دفع خمسة آلاف وأخذ خمسة آلاف {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] يقولون: دفع ديناً وأخذ عين الدين، فإن وجدت من يجيز ويفتي بالجواز فإنه يرى أنه دفع خمسة آلاف وأخذ الخمسين ألفاً ورد لكلٍ دينه بدون زيادة، وإن وجدت من يحرم وجدته يرى شبهة زائدة على الارتفاق وهي كونه يدين بشرط، وهذا سلف وشرط، فصار قرضاً بشرط فيه منفعة، إما له حقيقة أو تبعاً، فحقيقة من جهة أنه سيستفيد الخمسين ألفاً، وتبعاً كأنه يقول: يا محمد! أقرض من أقرضني، وأعط لمن أعطاني كما أنني أعطيتك.
وعلى هذا أقول: إنها من جنس المشتبه، فلا أقوى على الجزم بالتحريم؛ لأن فيها شبهة من الحلال، وفيها شبهة من الحرام، فإذا جئنا ننظر إلى وجود الشرط فهذا شبه من الحرام، وإذا جئنا لمضمون الشرط مع أنه لا يأخذ إلا رأس ماله لقلنا بالجواز، فأنا أقوال: إنه من المشتبه، وأنا ما أفتيت بحلها يوماً ولا بحرمتها، ولكن أرى أنها -أي: الجمعيات- من المشتبه الذي لا يفتى بحله ولا يفتى بحرمته، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(172/10)
شرح زاد المستقنع - باب القرض [3]
الغاية من القرض هي الإرفاق بالمقترض والتيسير عليه، وهو من قبيل الدين والله سبحانه وتعالى عدل بين صاحب الدين والمدين فألزم كلاً منهما بإلزامات تمنع الضرر عن الآخر، ومن ذلك أنه أوجب على المديون أن يرد الدين لصاحبه دون أن يزيد عليه إلزاماً، لكن أن يزيد تكرماً فلا بأس، كما يحرم على الدائن أن يشترط زيادة على دينه عند السداد.(173/1)
مسائل في القرض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويحرم كل شرط جر نفعاً] تقدم الكلام على هذه الجملة، وبينا أنه متى اشترط صاحب الدين على المدين شرطاً يتضمن منفعة له فهذا ذريعة إلى الربا، وهو: - إما أن يكون رباً محضاً، كقوله: أشترط عليك أن ترد العشرة خمسة عشر؛ فإنه شرط تمحض بالزيادة المحرمة وهي الربا.
- وإما أن يشترط عليه شرطاً فيه منفعة تكون حينئذٍ الحرمة من جهة وجود الزيادة.
والأصل في ذلك أن الله سبحانه وتعالى عدل بين صاحب الدين والمدين، وأن الواجب على المديون أن يرد الدين والحق لصاحبه دون أن يزيد عليه إلزاماً، لكن أن يزيد تكرماً فلا بأس، وكذلك لا يجوز له أن ينتقص من حقه.
إذاً: فقوله: [ويحرم] أي: يأثم بهذا الفعل إذا اشترط الزيادة، ولا يجوز دفع هذه الزيادة، فلو ترافعا إلى القاضي فإن القاضي لا يحكم على المديون أن يدفع هذه الزيادة، فلو قال: أشترط عليك أن ترد العشرة خمسة عشر، فإن القاضي يحكم عليه بأن يرد العشرة فقط.(173/2)
مكافأة صاحب الدين بدون شرط
وقوله: [وإن بدأ به] إذا بدأ المديون بمكافأة صاحب الدين بدون شرط ولا مواطأة جاز له ذلك، والدليل على هذا حديث أبي رافع رضي الله عنه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرة، فقال: لا أجد إلا خياراً، قال: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً) ومعنى هذا: أن المنفعة والزيادة جائزة إذا لم تكن بمواطأة أو بشرط.
والمنفعة كرجل استدان منك عشرة آلاف، فجاء وأعطاك العشرة آلاف، وقال لك: إنك أحسنت إليّ، وإني قد وهبتك داري شهراً، فهذه منفعة، وهذا القرض جر نفعاً لكنه ليس على وجه محرم؛ لأنه جاء على سبيل الإكرام بعد انتهاء الدين وقضائه، وقوله: [وإن بدأ به] أي: المديون، ومعناه أنه لم يكن النفع مشترطاً من سابق، فيبدأ به المديون لكن بعد القضاء والوفاء، فابتدأ من عند نفسه دون أن يلزمه صاحب الدين أو يكون هناك شرط بينهما، وإن بدأ به على هذا الوجه فإنه جائز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فمن السماحة في القضاء أن يزيد ويستفضل، سواءً كانت الزيادة بالأعيان أو بالمنافع، فيرد له عيناً أفضل من عينه، أو يرد له حقه من المال ويزيده منفعة أو مالاً، هذا كله دلت السنة على جوازه، ولكن بشرطين: الشرط الأول: أن يكون بعد تمام الوفاء، فلا يكون قبل الوفاء، فإن كان قبل الوفاء ففيه كلام.
الشرط الثاني: أن يكون دون شرط أو مواطأة، بل تعطى الزيادة بطيبة نفس ورضا خاطر، فهذه جائزة ولا بأس بها.
وقوله: [بلا شرط] أي: من محض اختياره ومن عند نفسه، لكن فصل بعض العلماء في الشخص الذي تكون من عادته الزيادة، مثل: الكرماء وأهل السخاء والجود، فإن أمثال هؤلاء الغالب أنهم إذا استدانوا أن يكافئوا من استدانوا منه؛ لأن الله جبلهم على الكرم، والكرم نعمة من الله عز وجل، والكريم يشعر أنه لا يملك مالاً، وفي هذه الحالة تجده يعطي الضعيف والمحتاج ومن يسأل، فكيف إذا كان الذي أمامه قد أحسن إليه، فإن الكريم لا يرضى أن يعطي نفس الذي أعطيته، وغالباً ما يرد بأفضل؛ لأن الله جبله على ذلك، فالكرم من مظنته الزيادة، فيرد
السؤال
إذا أعطى الدين لكريم فإنه سيشعر أنه سيكافئه.
إذاً: فهل هذا المعروف من الكريم ينزل منزلة الشرط؟
الجواب
فيه تفصيل، إن كان الذي أعطاه الدين في نيته ورغبته وقرارة نفسه يقصد أنه إن أعطاه سيكافئه وأحب أن يعطيه حتى يكافئه فحينئذٍ تكون الشبهة، فمن العلماء من حرم ومنهم من كره، وعلى هذا تنزل القاعدة: المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً وشرطاً، فحينما علم أنه كريم وجواد وأنه سيرد الشيء بأفضل فكأنه أعطاه على أن يزاد في عطائه.
وقال بعض العلماء: بالكراهة، كما أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة، واختاره بعض أهل العلم، ووجه الكراهة أنه تردد بين الحرام وبين الحلال، فإنه إذا أعطاه الدين على أن يرده بنفسه اقتضى ذلك الحل، وإن أعطاه الدين بشرط الزيادة اقتضى التحريم، فإن سكت وعُلم ذلك من طبيعة الشخص ورغبة من أعطى كان متردداً بين الحلال والحرام، وهذا ضابط عند بعض علماء الأصول أنهم يجعلون المكروه ما تردد بين الحرام والحلال، فيصفون بعض المعاملات وبعض الأفعال بكونها مكروهة؛ لأنها في مرتبة بين الحلال والحرام، فيها شبه من الحل يقتضي جوازها وشبه من الحرام يقتضي منعها.
فإن نظرنا إلى أنه ليس هناك شرط ولا مواطأة ولا وعد قلنا: بالحلال، وإن نظرنا إلى الداخل والنية والقصد قلنا: إنه حرام، ومن هنا يقولون: يصير مكروهاً، مثل ما ذكروا في الثوب، إن كان فوق الكعبين فهو حلال بالنسبة للرجل، وإن كان أسفل من الكعبين فإنه حرام، وإن كان على الكعبين فهو مكروه، لأنه ليس بالحرام المحض؛ لأنه لم يرد نص بتحريمه، إنما ورد النص بما أسفل الكعبين، ومفهوم (أسفل) أنه يشترط في الحكم بكونه حراماً أن يكون أسفل.
فالشاهد أننا عندما قلنا: يشترط أن يكون حراماً إذا اشترط، فإذا لم يشترط اقتضى هذا الحل، وإذا جرت العادة نزلت منزلة الشرط، فإذا قصد هذا المعتاد منه قالوا: يكون مكروهاً.(173/3)
حكم رد القرض بأفضل منه
وقوله: [أو أعطاه أجود] كأن يستدين منه نوعاً من الإبل فقضاه بنوع أجود منه، أو استدان منه نوعاً من الطعام فقضاه أجود منه، أو استدان منه نوعاً من الثياب والألبسة والأكسية فرد أفضل وأجود منه.
إذا أخذ الجيد ورد بأجود، أو أخذ الحسن ورد بأحسن، أو أخذ الفاضل فرد بالأفضل، فإنه يجوز إذا لم يكن بشرط ولم يكن بعدة ولا بمواطأة، أما الدليل على جواز ذلك، فإن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحت بفضيلة القضاء بالأحسن، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعطه -أي: سددوا دينه واقضوا دينه- فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) وكونه أحسن: يدل على أنه يكون أفضل، إما في الجودة والرداءة وفي الصفات الموجودة في المذروع وفي المعدود.
وإما أن تكون الجودة والأحسن في القدر، وذلك كأن يستلف منه خمسة ريالات فيرد ستة ريالات أو يستلف منه مائة ريال فيردها مائة وعشرة بدون شرط وبدون عدة.(173/4)
الهدية بعد وفاء الدين
وقوله: [أو هدية بعد الوفاء جاز] أي: أو أهدى إليه هدية بعد وفاء الدين جاز، كأن يستدين منك مائة ألف ريال، ثم جاءك وأعطاك المائة ألف بعد حلول الأجل وأعطاك معها ساعة أو كتاباً أو قلماً؛ لأنه يرى أن لك معروفاً عليه، وأحب أن يكافئك على المعروف؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه) قالوا: هذه الهدية لما جاءت بدون شرط وجاءت بعد تمام الوفاء ولم يكن ذلك جارٍ على عرفٍ يقتضي الاشتباه جاز بدون حرمة ولا كراهة.
وقد اختلف العلماء في مسألة المكافأة على الدين والرد بأفضل، وبعض العلماء يقول: إنه يجوز أن ترد بالأفضل في الصفات ولا ترد في العدد، فمثلاً: لو أخذ مائة ريال لا يجوز أن يردها مائة وعشرة، وهذا هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، يرى أن تكافئ في الصفات لكن لا تكافئ في العدد؛ لأن المكافئة في العدد صورة الربا، فإذا أخذ مائة ريال وردها مائة وواحداً أو مائة واثنين أو مائة وعشرة فهو ربا، فهو على صورة: أن يأخذ الواحد ويرده اثنين أو ثلاثاً، واستدل بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، فهذه المسألة فيها خلاف، وإن كان بعض الحنفية يميل مع المالكية في بعض التفصيلات، لكن المشهور الخلاف بين المالكية، وعن الإمام أحمد أيضاً رواية في رد المكافأة مطلقاً لكن الصحيح ما ذكرناه.
وعندنا دليلان: الدليل الأول: في سداد الديون: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] وهذا الأصل يقتضي أن سداد الدين يكون مماثلاً، إن كان عين الدين فلا إشكال، وإذا لم يكن عيناً كان مماثلاً في العدد والصفة؛ لأنه رأس المال، وإن لم يكن رأس المال حقيقة يكون حكماً، وظاهر هذه الآية الكريمة يمكن أن تجزم بأنه لا يجوز لأحد أن يدفع مكافأة على الدين؛ لأن الأصل يقتضي أنه كما أخذ العشرة أن يرد العشرة، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما استسلف البكر وهو نوع من الإبل، وجاء عند القضاء، فقال: (يا رسول الله! لا أجد إلا خياراً رباعياً، قال: أعطه إياه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) فمن أهل العلم من قال: إن هذا الحديث ورد في الصفة، فإن الخيار الرباعي أفضل من البكر، فيجيز في المعدودات بأوصافها والمذروعات بأوصافها ويمنع في الربويات من الذهب والفضة والأطعمة، فلا يجوز أن تعطي الصاعين مقابل صاع، ولا يجوز أن تعطي الدرهمين مقابل درهم.
لأنه يرى أن حديث أبي رافع في المعدودات والزيادة عنده جاءت في الصفة، فلا يجوز أن نتوسع ونجيز القضاء في المعدودات الربوية، في المكيل كيلاً بزيادة الكيل، وفي الموزون وزناً بزيادة الوزن، فعلى هذا القول لا يجوز لك إذا استدنت كيلو من الذهب أن ترده كيلو ونصفاً، أو ترده كيلو وربعاً مثلاً، أي بزيادة ربع عليه؛ لأنه يرى أن الأصل التحريم، والحديث جاء في المعدودات وهي الإبل وما في حكمها، فعلى هذا القول فإن الحكم يختص بالجواز بصورة هذا الحديث، والجمهور قالوا: يجوز أن يزيد سواءً كان في الذهب والفضة التي هي الأثمان أو في المطعومات، سواء المكيلات أو الموزونات، ويجوز أن يزيد في المعدودات صفة وعدداً، وعلى الوجه الأول عندهم أنك لو أخذت بعيراً فلا يجوز أن تقضي بعيرين؛ لأن الحكم عندهم يختص بالصفة، والزيادة بالصفة مع وجود الاتحاد في العدد، فلا يجيزون أن تقضي البعير بالبعيرين، ولا يجيزون أن تقضي الشاة بالشاتين وبالثلاث؛ لأنهم يرون أن الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختص بالصفة، فقال (يا رسول الله! إني لا أجد إلا خياراً رباعياً)، فمن هنا يقولون: لا يجوز أن تدفع بزيادة عدد لقاء عدد أقل، هذا بالنسبة للقول الأول الذي ذكرناه.
وأما الجمهور لما أجازوا هذا قالوا: الحديث ورد فيما ذكرتموه، لكن في الحديث عبارة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) فجعل الأمر بالزيادة في الصفة والجودة مركب من قوله: (فإن خير الناس أحسنهم قضاءً)، فالتعليل يفيد العموم، فلما كان منشأ الحكم الإحسان في القضاء، وأكد هذا بقوله: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فهمنا أن مقصود الشرع المكافأة على الدين، ما دام أنه بدون وعد ولا تواطؤ ولا شرط، وبناءً على هذا نخرج ما ذكره المصنف رحمه الله.
ويمكننا أن نقول: إنه يجوز أن يقضي الشيء بأحسن منه وأجود في الصفات، ويجوز أن يقضي الشيء بضعفه في العدد، فيقضي البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين، ويقضي أيضاً الثوب -بصفاته المنضبطة- بثوبين إذا كان قد اقترضه منه، والطاقة من القماش بالطاقتين إذا استدان مذروعاً، وقس على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن خير الناس أحسنهم قضاءً).
أما إذا كان كريماً، ومن عادته أن يكافئ على الدين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكرم الخلق، ومع ذلك استدان واستدان منه الناس وهم يعلمون كرمه وفضله عليه الصلاة والسلام وجوده وسخاءه، قال رجل: يا قوم! أسلموا فقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر، ما سُئل عن شيء إلا أعطاه، صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين، فالمقصود: أنه ولو كان كريماً سخياً يجوز أن تتعامل معه، لكن ينبغي أن لا تجعل في نيتك أن يكافئك بالأفضل، وإنما يكون ذلك على سبيل المسامحة والارتفاق.(173/5)
حكم الهدية لصاحب القرض قبل سداد الدين
وقوله: [وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به لم يجز].
عرفنا أنه يجوز أن تزيد عند القضاء بأفضل؛ لحديث أبي رافع بشرط أن تكون الزيادة بعد انتهاء الأجل وبعد الوفاء، حتى قال بعض العلماء: لو جئت تسدد الدين لا تقدم الهدية، بل سدد الدين أولاً وبعد أن يقبض دينه أعطه الهدية، ولا تجعل العطاء للهدية سابقاً لوفاء الدين، إنما تعطيه بعد تمام الوفاء، فحينئذٍ يرد
السؤال
لو اقرضت شخصاً فجاء وأعطاك شيئاً قبل السداد فهل يجوز لك أن تأخذ من المديون شيئاً، سواءً كان من الأثمان أو الأطعمة أو الأكسية أو المنافع.
كرجل استدان منك عشرة آلاف ريال، وكان الدين إلى نهاية السنة، وجاءك في رمضان، وقال: يا فلان! هذه خمسة آلاف ريال مني لك أو هذه ألف ريال، أو هذه مائة ريال، فأعطاك هدية من غير جنس الدين، كأن يكون استدان منك عشرة آلاف ريال ففوجئت به قبل تمام الأجل وقد جاءك بشيء من غير الأثمان كطعام أو كساء أو ساعة أو قلم أو كتاب، وقال: يا فلان! إني أحبك في الله وهذه هدية مني لك، لكن بينك وبينه دين ولم يسدد الدين بعد.
فحينئذٍ إذا أعطاك شيئاً قبل الدين فإنك تتقيه، وعلى هذا وردت نصوص الصحابة والنقول عنهم متظافرة، وقد جاء عند ابن ماجة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قبول هذه الهدية، لكن هذا الحديث متكلم في سنده، وذكر بعض العلماء أن له شواهد من حيث المضمون العام للمتن، وأما عن الصحابة فلا إشكال، فإن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري لما جاء إلى عبد الله بن سلام الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، قال له: إنك بأرض أرى الربا فيها فاشياً، فإذا استدان منك رجل ديناً فأعطاك هدية أو حملاً أو فإياك أن تقبله.
فمنعه من قبول الهدية قبل تمام الدين، وأُثر هذا عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، فإن ابن عباس سئل عن رجل استدان من آخر عشرين درهماً، ثم صار المديون يهدي للدائن السمك، فأهداه في المرة الأولى سمكاً، ثم مرة ثانية أهداه سمكاً، ثم المرة الثالثة أهداه سمكاً، حتى وصلت قيمة السمك ثلاثة عشر درهماً، فأخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن الرجل استدان منه عشرين درهماً، وأهداه هدية تبلغ ثلاثة عشر درهماً فقال: خذ منه سبعة دراهم.
فاحتسب جميع ما أهداه إليه، وعدّ ذلك محرماً عليه إلا أن تعطى قيمته.
والسبب في هذا واضح، فكأنه قبل وفاء الدين تارة تتخذ الهدايا لإطالة الأجل، فإذا جاء السداد تنكسر عين صاحب الدين بالهدايا، ولا يستطيع أن يطالب المديون، ويؤخره ويؤجله، وكذلك أيضاً فيها ذريعة إلى الربا أن يمحض له الأجل من نفس المبلغ، ومن هنا تظافرت النقول عن الصحابة رضوان الله عليهم كـ عبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وغيرهما، ومن أئمة التابعين كـ سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي رحمة الله على الجميع، كلهم منعوا قبول الهدية قبل الوفاء.
وقد ضيق السلف في هذا حتى إن بعضهم كان يتورع عما هو أخف من هذا بكثير، فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله استدان منه رجل ديناً، ثم جاء الإمام أبو حنيفة يطالبه بالدين، فوقف على بابه في شدة الظهر في الهاجرة، وكان مع الإمام أبي حنيفة أصحابه، فكان الرجل في داخل الدار وقُرع عليه الباب، فوقف الإمام أبو حنيفة في الشمس وجاء أصحابه إلى مظلة الباب (الروزنة)، ودخلوا تحتها، وقالوا: هلم يا إمام إلى الظل، قال: لا والله، أخشى أن يكون فضل منه عليَّ، فلم يرض أن يأتي إلى ظل داره قبل وفاء دينه.
والفقه في بعض الأحيان يضيق على الإنسان، لكنه يثاب على هذا، إذا تورع بمثل هذا الورع الذي كان عليه سلف الأمة، واحتاط إلى هذه الدرجة، بأن يدع ما لا بأس به خشية من الوقوع فيما فيه بأس، وهذا الورع أكمل ما يكون من الورع، شريطة أن لا يفضي ذلك إلى الوسوسة وتحريم ما أحل الله عز وجل من الطيبات.
فالشاهد أنه خشي أن يكون مرتفقاً بهذا الظل، وبناءً عليه لا تقبل الهدية من الشخص الذي لك عليه دين قبل سداد الدين إلا في حالات: الحالة الأولى: أن تحتسب الهدية من الدين، فلو كان رجل عنده لك عشرة آلاف ريال، فأهداك ساعة بخمسمائة، فاقبلها على أن الذي بقي لك عليه تسعة آلاف وخمسمائة، ولو أهداك هدية بألف، فاقبلها على أن الدين تسعة آلاف، فإذا كنت تقبل الهدية على أنها من الدين فلا بأس به.
الحالة الثانية: أن يكون الرجل الذي أهداك الهدية من عادته أن يهديك، أو يكرمك، كرجل استدان منك ديناً ومن عادته أنه يهدي لك هدية في كل رمضان، فاستدان منك الدين إلى نهاية السنة فجاءك بالهدية في رمضان وأعطاكها، فإنها خارجة كلية عن الدين، والأورع والأفضل أن لا تقبلها في ذلك العام، لكن التهمة هنا منتفية، ولذلك أجازوا للقاضي أن يستضيفه من كان من عادته أن يستضيفه قبل القضاء، فإذا دعاه إلى وليمة خاصة أجابه؛ لأننا نعلم أن بينهما وداً قديماً، وأنه لم يستضفه مبتلىً بهذه الأمانة وهذه الحقوق.
فالمقصود أنه إذا كان من عادته أن يهديك وأهداك على عادته صحت هديته، لكن إن كان من عادته أن يهديك وزاد في هديته في ذلك العام حرمت الزيادة؛ لأنها خرجت عن المألوف والمعروف، ومن هنا لو استدان رجل منك ديناً ودعاك إلى وليمة، فإما أن يكون الطعام عاماً، كأن يكون زاوج ابنه أو ابنته فإن هذه الدعوة لا يخصك بها، وإنما أنت والناس فيها على حد سواء، ويبعد أن تكون مكافأة عن الدين؛ لأن هذا أمر عام يقصد منه إشهار النكاح ولا علاقة له بالدين، ومن هنا أجازوا للقاضي أن يجيب الولائم العامة.
لكن قال بعض العلماء: يجوز أن تتخلف عنها تورعاً، إذا خشيت أن يكسر عينك بالزيادة في الإكرام في الحفلات العامة والولائم العامة، فيحابيك محاباة خاصة، ويميزك بها، فإنها في الظاهر دعوة عامة لكن فيها شيء تتورع عنه إذا علمت ذلك، وهذا أصل عام يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأعراف والأزمنة، وعلى المؤمن أن يتقي الله، ويتورع عن مثل هذه الدعوات، وهذا هو الذي فيه طمأنينة القلب، ففي مثل هذه المسائل يصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، فإنه في بعض الأحيان يكون الشيء في ظاهره حلالاً لكن تجد أموراً وقرائن تدل على وجود الشبهة، فمثل هذا تتقي فيه وتمتنع منه، صحيح أنه يدعوك دعوة عامة، إلا أنه يميزك على من هو أفضل منك، فتفهم من هذا أن القدر المباح والمشترك زدت على حقك فيه، كما لو أهداك هدية وكان من عادته أن يهديك وزاد في الهدية، فإن الزيادة تحرم، فالمقصود أنهم لما قالوا: من عادته أن يهديك، محل ذلك أن لا يكون فيه شبهة أو ذريعة إلى الحرام، كأن يزيد عن هديته، أو يفعل معك فعلاً يميزك به في وليمة عامة أو نحوها، ولو دعاك إلى دعوة خاصة لم يجز أن تجيبه؛ لأنها أشبه بالمكافأة على الدين قبل وفائه وأدائه.
وقوله: [لم يجز] أي: لم يجز لك أن تأخذ الهدية منه قبل وفائه للدين إلا أن تنوي مكافأته على الهدية، كرجل استدان منك عشرة آلاف وذلك إلى نهاية السنة، ثم جاءك بهدية (ساعة) لم يجز لك أن تقبلها، إلا أن تنوي مكافأته على الساعة، فتنوي في قلبك أنك ستقبل منه الساعة الآن على أن ترد عليه هدية مثل هديته أو أفضل من هديته، فتكون حينئذٍ قطعت الهدية بمثلها أو أفضل منها.
وقوله: [إلا أن ينوي مكافأته] وهذا ما يسمى بهبة الثواب، وهي الهبة بعوض، وهذا النوع محرم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعله الإنسان من أجل أن يكافئه الغير، وهو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] (ولا تمنن) أي: تفعل الهدية وتعطي الهدية وما فيه منة، (تستكثر) أي: تستدعي الكثرة بطلبك لما هو أكثر، وهذا يفعله الضعفاء، فيأتون للأغنياء ويعطونهم هدية، ومن المعلوم أن الفقير إذا أهدى للغني فمعنى ذلك أن يكافئه، وعلى هذا قالوا: إنه إذا أهداه ونوى في قلبه أن يرد هديته وأن يكافئه عليها جاز له ذلك.
وقوله: [أو احتسابه من دينه] كرجل يأتي ويعطيك هدية، فتقدر هذه الهدية بقيمتها، وتنوي في قرارة قلبك أنه إذا جاء يسدد الدين فإنك تسقط الهدية من قيمة الدين، فيجوز لك أن تقبلها.(173/6)
حكم اشتراط تسليم الدين في غير مكان القبض
وقوله: [وإن أقرضه أثماناً فطالبه بها ببلد آخر لزمته، وفيما لحمله مئونة قيمته] [وإن أقرضه أثماناً] كذهب وفضة، دنانير ودراهم، أو أقرضه ريالات وطالبه بها في غير البلد، كأن يستدين منك عشرة آلاف في مكة، فقلت له: أنا جالس في مكة في رمضان، ولكنني أطالبك بردها لي مثلاً في الرياض في ذي القعدة، أو في جدة أو المدينة لزمه ذلك، أي: لزم المدين أن يسدد الدين في الموضع الذي اتفقا عليه، فهذا من الشرط، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم).
وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه إذا أعطاه الأثمان في بلد وطالبه بقضائها في بلد آخر، أنه لا بأس بذلك ولزمه أن يسددها في البلد الآخر، لكنهم فرقوا بين الأثمان وغير الأثمان، كالطعام والكساء وغيرها مما يحمل وفيه مئونة؛ لأنه إذا اشترط عليه أن يوفيه في بلد غير بلده استضر المديون، وصارت منفعة زائدة للدائن على المديون، فلا يجوز ولا يلزم بهذا.
أما الأثمان كالذهب والفضة، في القديم إذا قال لك: أعطيك مائة دينار في المدينة وتقضيها في مكة جاز ولزمه أن يسدد الدين في مكة؛ لأنه لم يكن في حمله مئونة، لكن في زماننا فيه مئونة، خاصة إذا كان من بلد إلى بلد تختلف العُمل فيه، فإن العُملة إذا كانت صعبة كأن يستدين مثلاً: دولارات، فيقول له وهو في مكة: هذه العشرة آلاف دولار أشترط أن تسددها لي في المشرق أو في المغرب، والدولارات في المشرق أو المغرب غالية وعزيزة الوجود، وحملها إلى هناك فيه مئونة ومشقة، فكأن الدائن صاحب الدين اشترط منفعة وصار أخذ الدين مع المنفعة الزائدة، وعليه قالوا: إنه لا يلزمه هذا الشرط، إذا كان على وجهٍ فيه ذريعة إلى الربا.
كذلك الذي في حمله مئونة، كما لو استدان منه طعام بر أو استدان منه طن حديد أو طن نحاس وهو في مكة، وقال له: السداد يكون في المدينة، وهذا الدين قد لا يوجد مثلاً في المدينة، كما في القديم، إذا كانت البلدان مختلفة والأطعمة والمنافع كانت المثمونات مختلفة في الأماكن، فيلزمه ببلد غير بلده، فيتحمل مشقة الحمل إليه، قالوا: عندها يُنتقل إلى القيمة، ولا يلزمه دفع العين ولا دفع المثل إذا كان المثل لا يتيسر في ذلك البلد وكان حمله إلى ذلك البلد فيه مئونة، فأنت إذا تأملت أن حمل هذا الشيء إلى جدة يكلفه خمسمائة، فصار كأنه استدان منه مائة صاع فقضاها مائة صاع وخمسمائة، وصار يستفضل على دينه، وصار شرطاً جر منفعة، والشروط التي تجر المنافع تعتبر محرمة.
لكن إذا اشترط عليه في المثمونات التي في حملها مئونة أن يسدده في بلد غير بلده وفي حمله إلى ذلك البلد مئونة، فحين نقول: ينتقل إلى القيمة، يرد
السؤال
إذا قال له: هذا الطن من الحديد تأخذه مني في مكة وتقضيه لي في المدينة، وقلنا: إنه يلزمه أن يدفع قيمته بدلاً عن مثله، فالطن الحديد مثلاً في المدينة قيمته أكثر من قيمته في مكة، فهل العبرة بمكة أو بالمدينة؟
الجواب
من حيث الأصل لا يلزم من استدان منك أن يعطيك ما في حمله مئونة في البلد الذي اشترطته، وإن ألزمته بذلك يُنتَقَل إلى القيمة؛ لأننا إذا ألزمناه بالعين صار الحمل مئونة، وإذا ألزمناه بالمثل سيتضرر بحمل المثل إلى بلد القضاء، وغالباً ما تقع هذه المسألة، إذا كان البلد الذي اشترط عليه القضاء فيه ليس فيه نفس الشيء، أما لو كان فيه نفس الشيء فلا إشكال، يأخذ هذا الشيء ثم يذهب إلى البلد ويقضيه نفس الشيء، لكن حين لا يكون في البلد نفس ذلك سواءً كان من طعام أو غيره، فقال له: اقضني في مكة وقد استدان منه في المدينة، أو اقضني في المدينة وقد استدان منه في مكة، فمعناه: أنه سيتحمل مئونة الحمل إلى مكة، فصار فضل زيادة مشترطة في الدين وهذا محرم، وفي هذه الحالة يعدل إلى القيمة، ويلزمك أن تدفع قيمة الدين.
إذاً: الأمر إما أن تكون قيمة الدين في مكة هي قيمته في المدينة فلا إشكال، فلو أن الطن الحديد الذي أخذه منك قيمته في مكة عشرة آلاف ريال، وقيمته في المدينة عشرة آلاف ريال، فيلزمه أن يدفع عشرة آلاف ريال ولا إشكال، أي: لم يقع ظُلِم على المدين، ولم يطالب بأن يعطيك عين السلعة؛ لأنها غير موجودة؛ لأنه استنفدها، ولا يلزمه أن يعطيك المثل؛ لأنه لو جاء يعطيك المثل في البلد المتفق عليه فإنه حينئذٍ يستضر بالحمل وصار قرضاً جر نفعاً، ولكن يلزمه أن يدفع لك القيمة، وإذا لزمه أن يدفع لك القيمة فحينئذٍ يرد السؤال هل العبرة ببلد القرض أم العبرة ببلد الوفاء؟ إن اتفقت القيمة لا يرد هذا السؤال، بمعنى: إن كانت قيمته في مكة هي قيمته في المدينة لا إشكال، لكن إن اختلفت القيمة فحينئذٍ هل العبرة ببلد الدين الذي أعطاه فيه الدين أم العبرة ببلد الوفاء؟ الجواب: العبرة ببلد الدين.
وقوله: [إن لم تكن ببلد القرض أنقص] إذا كان الدين في بلد القرض أنقص فحينئذٍ تلزمه القيمة، فقلنا: يدفعها ببلد القرض الذي هو مكة، فإن كانت أنقص في مكة بأن كانت قيمتها عشرة آلاف، وفي المدينة قيمة القرض عشرون ألفاً، فحينئذٍ يدفع بقيمة بلد القرض، وقول بعض العلماء: [إن لم تكن ببلد القرض أنقص] خطأ، والصواب: أكثر، إن لم تكن ببلد القرض أكثر، وفي هذه الحالة عكس المسألة وجعل البلاء على المقرض وأعتد ببلاء المقرض على حساب المقترض، والأول له وجهه والثاني له وجهه، وإن قيل: إن العبرة ببلد القرض لا إشكال في صحته واعتباره زائداً أو ناقصاً؛ لأن الحق ثبت في بلد القرض، وبعض العلماء يرى أن العبرة ببلد الوفاء، ويلزمه بقيمته في بلد الوفاء، سواءً كانت أكثر أو أنقص.(173/7)
الأسئلة(173/8)
حكم تأخير الدين
السؤال
ما حكم تأخير الدين؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالواجب على المسلم إذا استدان من أخيه المسلم ديناً ألا يؤخره، وأن يبادر بالسداد عند حلول الأجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى)، ومن السماحة أن ترُد الدين في أجله، وأن لا تزيد على هذا الأجل فتماطل وتؤخر، فتأخير الدين عن وقته للقادر الذي يستطيع السداد محرم، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (مطل الغني ظلم يحل لومه وعرضه) قال العلماء: في هذا دليل على أن الرجل إذا استدان منك ديناً، وحل الأجل وهو قادر على السداد وامتنع أن يسدد، فهو آثم بهذا، ويحل لك أن تغتابه وتقول: فلان ظالم، فيجوز إذا اشتكاه أن يقول: فلان ظلمني، أو يذهب إلى أبيه أو قريبه أو من له عليه قوة، ويقول: اردع فلاناً وأمره أن يفي فإنه ظالم، فقوله: إنه ظالم، فيه أذية ولكنها تجوز لمكان الظلم، وفيه سوء، والله تعالى يقول: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148].
فتأخير الناس في حقوقهم والمطل في ذلك محرم، كما أجمع العلماء على ذلك، وقال بعض أهل العلم: من امتنع من سداد ديون الناس وهو قادر على السداد عند حلول آجالها محق الله البركة من ماله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) فتوعد من ظلم الناس في أموالهم وحقوقهم، ولا شك أن من الظلم أن يمتنع الإنسان من السداد.
الأمر الثاني: أن تأخير الدين والمماطلة به والتلوم فيه مع القدرة على السداد يضر الإنسان، فلربما كان صاحب الدين يحتاج إلى هذا المال لعلاج أو طعام أو مصالح يريد قضاءها فيعطله عن هذه المصالح ويؤذيه فيها، وهذا لا شك أنه ضرر عظيم.
الأمر الثالث: أن كل من استدان ديناً فإن نفسه تتعلق بذلك الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) ولذلك لا ينفك هذا الرهن إلا بسداد الدين، ومن هنا قال العلماء: من مات حلت ديونه، فالميت إذا مات وجب أن تسدد ديونه فوراً وتحل ديونه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في أول الإسلام كان لا يصلي على ميت عليه دين لم يترك وفاءً، فقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل عليه ديناران لم يترك وفاءً، فقال: ما دينه؟ قالوا: ديناران، قال: صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة: يا رسول الله! هما عليَّ، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقاني في سكك المدينة ويقول لي: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد حتى لقيني ذات يوم، وقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته) وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين أخبرني به جبريل آنفاً)، فهذا أمر عظيم.
وقد اختلف العلماء في قوله: (نفس المؤمن مرهونة بدينة) قالوا: إنه ينحبس عن النعم حتى يسدد دينه، وهذا أمر عظيم، فالرهن أصله الحبس: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: مرهونة، فعلى هذا لا يجوز أن يؤخر ويماطل، ومن السنن العجيبة أن الشخص إذا يسر الله له القضاء فماطل وأخر فإن الله لا يوفقه للقضاء إلا فيما ندر، ولذلك قل أن تجد صاحب تجارة يأخذ الأموال من الناس ولا يبادر بسدادها إلا وجدته يدخل من دين إلى دين ومن دين إلى دين حتى تستنفد تجارته ويصبح رأس ماله في التجارة أقل بكثير من الدين، فعلى الإنسان أن يتقي مثل هذه الأمور، وإذا قدر على السداد أن يبادر بسداد أموال الناس ورد حقوقهم إليهم كاملة حتى يكون ذلك من باب الوفاء وأداء الحقوق إلى أهلها، والله تعالى أعلم.(173/9)
حكم بيع التمر وهو في رءوس النخل
السؤال
في بيع التمر وهو في رءوس النخل أليس في هذا جهالة في المقدار؟
الجواب
في بيع الثمار يباع الثمر على رءوس النخل خرصاً، يأتي الرجل الخبير ويخرص، وكل فلاح يعلم هذا، أنه إذا جاء أحد يريد أن يشتري ثمرة بستانه، لا يأتي وحده إلا إذا كان عنده خبرة ومعرفة، أما إذا لم تكن عنده خبرة فيأتي برجل له خبرة بالثمرة وبالسوق، فينظر في النخل ويقول: هذا النخل يخرج منه مثلاً: ثلاثة آلاف صاع، وهذه الثلاثة آلاف صاع غالباً تكون قيمتها إن كان السوق طيباً مثلاً: ثلاثين ألفاً، وإن كان السوق وسطاً تكون القيمة مثلاً عشرين ألفاً، وإن كان السوق رديئاً تكون القيمة عشرة آلاف، فيعطيك سعراً تقريبياً، إذاً: إنما جاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه على سبيل الاستثناء، ولذلك لا يرد عليه ما يرد على الأصل.
ومن هنا قال العلماء رحمهم الله: بيع الثمرة على رءوس النخل مستثنىً من بيع الغرر؛ لأن الأصل أن يُعلم قدر المبيع، وأن يكون المشتري على علم بما يكون من الثمرة رطباً كانت أم تمراً، ولكن أُبيح ذلك من باب التوسعة على الناس وهو مستثنىً من الأصل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.(173/10)
استغلال شهر رمضان
السؤال
نطلب كلمة توجيهية حول استغلال ما تبقى من شهر رمضان المبارك في طاعة الله سبحانه وتعالى وغير ذلك من الأعمال الصالحات؟
الجواب
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما بقي من هذا الشهر الكريم، كما نسأله تعالى ألا يختم لنا هذا الشهر إلا بعتق من النار، وفوز بالرحمة والمغفرة والعفو عمّا سلف وكان، ومما أوصي به إخواني ونفسي تقوى الله عز وجل، ومن غيب النية الصالحة في الخير أعانه الله على الخير، ومن كانت نيته على الطاعة والبر قوى الله عزيمته وسدده ووفقه وأرشده، قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً} [الأنفال:70] فالله تعالى اختار القلوب للنظر، فأول ما أوصي به أن تغيب في سريرتك لما بقي من هذا الشهر خيراً، وأن تعزم في قرارة قلبك أن تعمر هذه الأوقات والساعات واللحظات في طاعة الله ومرضات الله.
أما الأمر الثاني: فالحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم لعمارة ما بقي من هذا الشهر في الطاعات والتي من أحبها كثرة تلاوة القرآن، فطوبى ثم طوبى لمن وفقه الله لحب القرآن، وإذا أردت أن يبارك الله لك فيما بقي من شهرك، بل ويبارك لك فيما بقي من عمرك، فالزم كتاب الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، طوبى ثم طوبى لمن جعل الله القرآن ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه وغمه، وسائقه وقائده إلى رضوانه والجنة، طوبى لعبد عكف على كتاب الله يتلوه قائماً وقاعداً، يتلوه آناء الليل، يتقرب به إلى الله ويرجو به رحمة الله، يقف عند آياته ويخشع لعظاته، ويتدبره ويتلوه حق تلاوته.
فخير ما يُوصى به أن يكثر العبد من تلاوة القرآن، فإن أكثرت من تلاوة القرآن أصلح الله قلبك، فإن الله تعالى يقول: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] وإذا شُفي ما في صدرك، وجعل الله القرآن أنيساً لك وجليساً، فعندها انشرح صدرك للخيرات، واطمأن قلبك بذكر الله والطاعات، وأصبحت مشمراً عن ساعدك في مرضات الله جل جلاله، وما فاز السلف رحمهم الله إلا بتوفيق الله أولاً وآخراً، ثم بتلاوة القرآن، وانظر إلى أفضل الناس طاعة وبراً تجده ملازماً لكتاب الله ليلاً ونهاراً.
القرآن مفتاح كل خير، ومفتاح كل بر؛ لأن الإنسان صلاحه كله في قلبه: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ولن يصلح هذا القلب إلا بكتاب الله جل جلاله وبكلام الله جل جلاله.
فخير ما يوصى به من أراد أن يبارك الله له في رمضان وفيما بقي من أيامه ولياليه أن يكثر من تلاوة القرآن، وأن يحاول ألا تمر عليه ثلاث ليالٍ إلا وقد ختم كتاب الله عز وجل، مع التفكر والتدبر والتأمل، ومع الإشفاق على النفس والإزراء والإحساس بما بينه وبين كتاب الله من النقص حتى يكمله، ومن العيب حتى يستره، ومن الثلمة حتى يسدها، فإذا تلوت كتاب الله فسوف تستشعر أن الله يأمرك ويعظك، فإذا كان حال الإنسان مع القرآن في ليله ونهاره بورك له في شهره، بل بورك له في عمره، ولذلك نجد بعض الناس إذا خرج من رمضان خرج بحفظ القرآن، وكم من سعيد وفق للسعادة باغتنام رمضان في القرآن حتى أصبح القرآن أنيسه وجليسه، لا يفتر عن تلاوة كتاب الله وسماعه وتدبره، فيحس أن سعادته كلها في كتاب الله جل جلاله، كان شيخ الإسلام رحمه الله في آخر حياته يبكي ويتحسر على كل لحظة فاتت في غير كتاب الله جل جلاله.
القرآن خير كثير، ولن تبحث في سيرة أحد من السلف الصالح إلا وجدتها مقرونة بالقرآن في قيام الليل أو تلاوته في النهار، قال بعض السلف: صحبت عبد الرحمن بن القاسم العتقي رحمه الله -صاحب الإمام مالك - من مكة إلى المدينة والله ما فتر عن تلاوة القرآن، كان السلف يتلون القرآن، وقد أدركت والله أقواماً وهم ذاهبون إلى السوق تسمعهم يتلون كتاب الله عز وجل، وإذا جن عليهم الليل سمعت كتاب الله من بيوتهم ومن حجراتهم، وأعرف أقواماً في ضيق وشظف من العيش ومع ذلك تجدهم أسعد الناس بكتاب الله جل جلاله، أغناهم من الفقر، وأمنهم بفضل الله من الخوف، وألبسهم لباس العافية، فتجدهم أبعد الناس عن الشهوات والشبهات والمذلات بكتاب الله جل جلاله.
الوصية الجامعة لخيري الدين والدنيا والآخرة: لزوم هذا القرآن: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فالاعتصام بكتاب الله جل جلاله والقرب من هذا القرآن والحب لهذا القرآن واستشعار أنه كلام الله الذي ما نزل أحب إلى الله ولا أكرم على الله في كلامه مثل هذا الكلام وهو القرآن، وقد أجمع السلف رحمهم الله على تفضيل القرآن على سائر الكتب السماوية المنزلة، لفضله وعلو شرفه ومكانته، وأُنزلت آيات منه من كنوز تحت العرش، وهذا فضل عظيم وخير كثير اختص الله به هذه الأمة.
فالإنسان السعيد الموفق الذي يريد أن يبارك الله له حتى في حياته وعمره يلزم كتاب الله، وانظر إلى أي ملتزم وشابٍ صالح يستقيم على طاعة الله لن تجده أقوى الناس التزاماً وهداية إلا إذا وجدته ملازماً لكتاب الله يتلوه ويتفكر فيه ويتدبره ويخشع له ويحب سماعه، فلا يفتر عن تلاوة كتاب الله وسماعه وتدبره حتى ينال السعادة ويجدها في نفسه، وهذا هو حال أهل القرآن.
فينبغي الإكثار من تلاوة القرآن والإحساس بفضل هذا الكتاب، والإحساس بعظيم ما أنعم الله به على هذه الأمة بهذا الكتاب الذي: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1].
أما الوصية الأخرى: فالحرص على أن يكون للإنسان في هذا الشهر حسنة وصدقة بينه وبين الله خفية، من إطعام الجائع، وكسوة العاري، وتفريج كربة المكروب، قال بعض العلماء: إن الله جعل رمضان ليتذكر الغني الفقير، ويتذكر القوي الضعيف، ويتذكر الصحيح المريض، فيتفقد بعضنا بعضاً، ويحسن بعضنا إلى بعض، فتجعل لك في هذا الشهر الكريم بعض الصدقات الخفية، وتجعل صيامك حينما جاعت أمعاؤك وظمئت أحشاؤك يذكرك بالمكروب والمنكوب والجائع، ويذكرك بالأرملة واليتيم، فتكفكف دموع اليتامى، وتجبر قلوب الأرامل والثكالى، وتحتسب الثواب عند الله جل جلاله: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) فإن المعروف لا يبلى، والخير لا يُنسى، مات أقوام وما ماتت مآثرهم، مات أقوام وهم في الناس أحياء، بالذكر الجميل والعمل الصالح الجليل.
تجعل لك من هذا الشهر زاداً للإحسان، فكما أنك تصلح في نفسك بالقرآن، تصلح لغيرك بحسنة أو بصدقة، فإن لم تستطع من نفسك وأمكنك أن تشفع عند من يقبل الشفاعة منك وتزكي نعمة الجاه التي أنعم الله بها عليك فتدخل السرور على بيت مسلم في هذا الشهر المبارك فنعم ما صنعت، فإن (الساعي على الأرملة كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر) ما دمت قد ذقت حر الصيام وألم الصيام ولذة عبادة الصيام، فإن تفريج كربة المكروب وإدخال السرور على الأرملة يعادل ذلك الفضل، كالصائم الذي لا يفطر، فأنت الآن عرفت قيمة الصيام، ووجدت لذة هذه العبادة فاعلم أنه من الخير لك بمكان أن تفرج عن أرملة أو يتيم، ولو بكلمة تشفع بها عند من يمكنه ذلك.
كذلك مما يدخل في هذا قضاء الديون وتفريج كربات المكروبين، فإذا علمت أن قريباً أو جاراً لك مديون وتستطيع أن تذهب إلى غني خاصة في هذا الشهر والنفوس مقبلة على الخير وباغي الخير مقبل، فتحتسب عند الله جل جلاله قضاء دين المديون، فإذا علمت أن أخاك مديون أو عنده كربة أو عنده حاجة أو عوز وضيق: (فاشفعوا تؤجروا) فالشفاعة في مثل هذا عظيمة خاصة في هذا الشهر الكريم؛ لأنك تدخل على بيت من بيوت المسلمين الفرحة والسرور بقضاء دين عليهم أو تفريج كربة أو التوسعة عليهم، وهذا مما يحتسب عند الله جل جلاله، وقد كان بعض السلف يفضل السعي على الناس وتفريج كرباتهم على الاعتكاف في العشر الأواخر، فكان يخرج من معتكفه لتفريج كربة المكروب، وتنفيس نكبة المنكوب، فهذا من أحب وأفضل ما يثقل به ميزان العبد عند الله.
فكم من أرملة إذا دخلت عليها وقد ضاقت عليها الأرض بما رحبت، ليس عندها من قريب ولا صديق ولا حبيب يلتفت إلى حالها أو يفرج ما يكون بها من بلائها بإذن ربها، فإذا دخلت عليها في ظلمة ليل أو في ضياء نهار، فأدخلت السرور عليها بإعطاء مال أو إعطاء طعام ووليت ظهرك وهي تشيعك بصالح الدعوات وما تسأل الله لك من جميل المكرمات فإن الله لا يضيع تلك الدعوات؛ لأنها تخرج من القلب الصادق، الكلب -أكرمكم الله- لما مرت عليه بغي من بغايا بني إسرائيل فاستقى، ومن شدة الظمأ كان يلهث الثرى، فنزلت البغي إلى البئر واستقت له بخفها، وفي رواية: (فشكر الله لها) أي: أن الكلب لم يستطع أن يشكرها، عظم جميلها حتى عند الكلب -أكرمكم الله- (فغفر الله لها ذنوبها)، فكيف بالمسلمة وقد تكون أمة صالحة، وقد تكون أمة متعرضة للحرام يعفها الله عز وجل بشفاعة حسنة: (اشفعوا تؤجروا) وكان الناس فيهم خير كثير عندما كانوا متراحمين، وكان القوي لا يغفل عن الضعيف.
وأنبه على مسألة تفريج الكربات؛ ففي غالب الأحيان تكون صدقاتنا للفقراء المعروفين، ولكن هناك من يغفل عنهم كثير من الناس ألا وهو الفقراء الأخفياء الذين لا يسألون الناس إلحافاً، ركبتهم ديون وحاجات يفضلون أن يتعرضوا للموت على أن يمدوا كفاً لأحد، قد جعلوا فقرهم إلى الله وغناهم بالله، وقد يكون معك زميل لك وترى من حاله البؤس والفقر وأنت غني ثري وسع الله عليك، وقد تأتيه على طعامه وتطعم من ذلك الطعام الضيق ولا تتحرك في نفسك معاني الرحمة، هذا أمر يشتكى منه، فينبغي أن يحس بعضنا ببعض.
ومسألة الشفاعة عند الأغنياء أيضاً أجرها عظيم خاصة في هذا الشهر الكريم؛ لأن نفوسهم مهيأة للخير، ولا يزال الخير موجوداً في الناس إلى قيام الساعة، لكن إذا كان طالب العلم يدخل على أناس(173/11)
شرح زاد المستقنع - باب الرهن [1]
باب الرهن يعتبر من الأبواب المهمة المتعلقة بأحكام الديون، وهو مشروع وجائز بالكتاب والسنة والإجماع، وله حكم عظيمة، منها: حفظ حقوق الناس، وقلة الخصومات والمنازعات، وتسهيل المداينات، وإشاعة روح التكافل والتراحم والتعاطف بين الناس وله أحكام يذكرها العلماء في بابها.(174/1)
الرهن حقيقته ومعناه وأحكامه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الرهن].
هذا الباب يعتبر من الأبواب المهمة المتعلقة بأحكام الديون، وذلك أن المداينات إذا وقعت بين الناس، قد يحتاج فيها صاحب الدين إلى شيءٍ يستوثق به من حقه، وهذا هو الذي يقوم عليه الرهن، فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله أحكام بيع السلم، وأتبعها بأحكام القرض، بين بعد ذلك أحكام الرهن.
والرهون توضع غالباً عند أصحاب الديون، أو من يقوم مقامهم من الوكلاء والأمناء، الذين يتفق عليهم الطرفان، وهذه الرهون يُقصد منها أن يستوثق صاحب الحق من حقه، فلما فرغ رحمه الله من بيان أحكام الدين، شرع في بيان أحكام الرهن، لتعلقه بباب الدين.
والرهن له معنيان: لغوي واصطلاحي، أما المعنى اللغوي: فإنه يدور حول الدوام والثبات والاستقرار، ومنه قولهم: نعمة راهنة، أي: محبوسة، وماء راهن، أي: راكد دائم ومستقر.
ومن معانيه: المنع والحبس، ومنه قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، أي: مرهونة ومحبوسة بما فعلت من خيرٍ أو شر.
وأما المعنى الاصطلاحي: فقد عرّفه بعض العلماء بقولهم: استيثاق الدين بالعين، ليُستوفى منها عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه.
فقولهم: (ليُستوفى منها)، أي: من العين أو من ثمنها.
وقولهم: (عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه)، هذا قيدٌ مهم، ولذلك ذكره طائفة من الفقهاء رحمهم الله.
وقولهم: (استيثاق الدين بالعين)، معنى هذا: لو أن رجلاً جاءك وقال: أريد منك مائة ألف ريال ديناً، وأنت قد تخاف أن يعجز عن سداد هذا المبلغ، وقد تخشى من مماطلته، أو من عُسره مستقبلاً، وأنت محتاج إلى هذا المال، ولا تستطيع رده، ومن هنا جاز أن تستوثق من دينك بعينٍ تطالبه برهنها، فتقول له: أعطني رهناً، فإذا قلت: أعطني رهناً، فكأنك تريد شيئاً تستوثق به من حقك، فأنت مستعدٌ للدين، وعندك الرغبة أن تدينه وتعطيه المال الذي طلب؛ ولكنك تخشى من عجزه عن السداد أو امتناعه منه، وحينئذٍ تطالب بهذه العين، حتى إذا عجز أو امتنع من السداد، أمكنك أن تبيع هذه العين التي رُهنت لقاء الدين، وتصل إلى حقك، من ثمنها، إما كل حقك، أو بعض حقك على حسب الرهن الذي رضيت به كاملاً أو ناقصاً.
إذا: هذا هو استيثاق الدين بالعين، فعندنا دين وهو المائة ألف ريال، وعندنا عين مرهونة، وهي العمارة -مثلاً- فاستوثق صاحب الدين بالعين وهي العمارة، والأصل بينهما أنه إذا عجز عن السداد وحضر الأجل، فإنه يحق لصاحب الدين أن يبيع العمارة، أو يكون ذلك عن طريق القضاء، فيرفع أمره إلى القاضي، أو بدون قضاء، كأن يقول المديون له: إذا لم أسددك في محرّم فبع العمارة وخذ حقك، فيقول: قبلت، فحينئذٍ استوثق من دينه بالعين، لكي يستوفي من العين في حال عجزه عن السداد.
ولذلك عندما يُقال: ليُستوفى منها، هكذا بإطلاق، هذا خطأ؛ لأنه قد يسدد المديون الدين، وحينئذٍ لا نحتاج إلى بيع العمارة، إذاً القيد الذي ذكروه في التعريف: عند العجز عن السداد أو الامتناع منه، قيد مهم؛ لأنه لا يتدخل صاحب الدين في هذه العمارة فيبيعها ويتصرف فيها، إلا إذا عجز المدين أو امتنع من سداده حقه.(174/2)
مشروعية الرهن
الرهن مشروع وجائز، وقد دل على جوازه دليل الكتاب، ودليل السنة، وإجماع الأمة، فإن هذا النوع من المعاملات المالية شرعه الله في كتابه، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فقوله سبحانه: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، يدل دلالة واضحة على أنه إذا أراد صاحب الدين أن يستوثق بدينه بالعين وبالرهن فإن ذلك مشروع وجائز.
كما دل دليل السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كما في الصحيح من حديث أنس: (أنه عليه الصلاة والسلام توفي ودرعه مرهونة في آصُعٍ من شعير، استدانها عليه الصلاة والسلام من يهودي)، فقد استدان من اليهودي هذا القدر من الطعام، ورهن عنده درعه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (الرهن محلوبٌ ومركوبٌ بنفقته)، فبيَّن أحكامه وآثاره، فدلّت هذه السنة على مشروعية الرهن، وقد كان الناس في الجاهلية يرهنون، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقرّهم على ذلك، فاجتمع دليل الكتاب ودليل السنة القولية والفعلية والتقريرية.
أما دليل الإجماع: فإن العلماء رحمهم الله قد أجمعوا على أن الرهن مشروع، لكنهم اختلفوا في جواز الرهن في الحضر، فمنهم من يقول: هو مشروعٌ مطلقاً، سواءً كنت في سفر أو كنت في حضر، أي: أنه يجوز للمسافرين أن يرهنوا، ويجوز للمقيمين أن يرهنوا، فلو أن اثنين في داخل المدينة استدان أحدهم من الآخر مالاً، فطلب منه رهناً، شُرع ذلك.
وقال بعض السلف -كما هو قول مجاهد وغيره-: إن الرهن لا يجوز إلا في السفر، وهو قول ضعيف؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدان، ورهن في الحضَر، فدلّ على مشروعية الرهن في داخل المدن، وأنه لا يختص جوازه بالسفر على ظاهر القرآن، والجواب عن آية البقرة، وهي آية الدين: أنها جاءت بالوصف الغالب، والقاعدة في الأصول: أن النص إذا خرج مخرج الغالب، فإنه لا يعتبر مفهومه، بمعنى: أن الآية بيّنت حكم الرهن في السفر؛ لأن الغالب أن الرهن يُحتاج إليه في الأسفار، وأما بالنسبة للحضر، فغالباً ما يكون التعامل بين الأشخاص الذين يأمن بعضهم ببعض ويثق بعضهم بعضاً، وتكون التجارات بينهم حاضرة في الغالب، والنص -كما سبق- إذا خرج مخرج الغالب لم يُعتبر مفهومه.
أو نقول: دل الكتاب على مشروعية الرهن في السفر، ودلّت السنة على مشروعية الرهن في الحضر، فهذا نوع من الرهن، وهذا نوع من الرهن، فلا بأس أن يرهن في الحضر، كما لا بأس أن يرهن في السفر.(174/3)
الحكمة من مشروعية الرهن
المسألة الثانية: إذا عرفنا أن الرهن مشروع وجائز بإجماع المسلمين، وبهذه الأدلة الشرعية، فقد شرع الله عز وجل الرهن للناس لحكم وفوائد عظيمة، منها: أن صاحب الدين يستوثق بدينه، وهذا يجعله في طمأنينة، ومن هنا لما وُجِد الرهن في الشريعة الإسلامية، وأمكن للمسلم أن يجد شيئاً يحفظ به ماله، أو يحفظ به حقه عند العجز عن السداد، فإن هذا يشجع الناس على الدين، ويجعل الثقة بينهم قوية، ومن هنا يكون صاحب الدين في مأمن من ضياع حقه.
ومن حكم هذا النوع من المعاملات: تسهيل المداينات، وإذا سهُلَت المداينات انتفع أفراد المجتمع، وهذا فيه نوع من التكافل، ونوع من التراحم والتعاطف؛ لأن المسلم إذا وجد من يعطيه المال في ساعة الحاجة، فإنه يشكره ويحبه ويذكره بالخير، وهذا يجعل القلوب يعطف بعضها على بعض، ويحب المسلمون بعضهم بعضاً.
فمن هنا استوثق صاحب الحق من حقه، وانتفع أفراد المجتمع، فانتشر بينهم الدين، وهي مصلحة دنيوية؛ حيث يقضون مصالحهم الدنيوية، ومصلحة دينية؛ لأنها تُحدث شيئاً من المحبة والألفة والأخوَّة، والشعور بالرحمة والمودة والتعاطف بين أفراد المجتمع، خاصة المعسر والضعيف إذا انتابته النوائب، ووجد من يفرج كربته بعد الله عز وجل بإعطائه المال.
ومن الحكم: أن المدين إذا كان لديه رهن، فإنه يحفظ ماء وجهه، ويمكنه أن يستدين ممن شاء، فيقول له: أعطني المال وهذا رهن لقاء مالك، ولقاء دينك، وحينئذٍ يتمكن من الوصول إلى بغيته وحاجته بالدين، أي: أن الشرع يمكِّنه من حاجته، ويمكِّنه من سد عوزه وفاقته عند النوائب، وذلك عن طريق استيثاق الدين بالعين، فإنه إذا شعر أنه يخاطب الناس بما يضمن حقوقهم، أمكَنه أن يسألهم حاجته، ولا شك أن الرهن محقق لهذه الفائدة العظيمة.
ومن الحكم: أن في الرهن عدلاً وقطعاً للتلاعب بالحقوق، فإن المديون إذا دفع العين، سواءً كانت سيارةً أو أرضاً أو طعاماً، وجعلها رهناً؛ فإنه ربما كان متلاعباً بحقوق الناس، ويريد أن يأكل أموال الناس، فإذا وضع الرهن انقطع السبيل عنه، ومُنِع من التلاعب بحقوق الناس، فإذا جاء من يتلاعب بحقوق الناس ليستدين؛ قيل له: ادفع الرهن، فإذا دفع الرهن؛ فإن معنى ذلك أنه لا يستطيع أن يضيع حق صاحب الحق.
ومن هنا فإن شرعية الرهن تقطع وتمنع من التلاعب، ومتى ما قيل لك: إن فلاناً لا يسدد، أو إن فلاناً يتلاعب بالحقوق، أو إن فلاناً مماطل أو نحو ذلك، فإنه إذا جاء يطلبك ربما أحرجك، وربما جاءك بشخص لا تستطيع رد شفاعته، فحينئذٍ أعطاك الشرع شيئاً تضمن به حقك، فتقول له: أعطني رهناً، لا مانع عندي أن أعطيه الدين، ولكن بشرط أن يعطيني رهناً لقاء حقي، فإذا قلتَ: أريد الرهن؛ لم يعاتبك أحد، ولم يستطع أحد أن يصفك بالظلم؛ لأنك لا تطالب أكثر من حقك، وعلى هذا: فلا شك أن في الرهن الخير الكثير.
ومن الحكم: أن في الرهن منعاً للأذية والإضرار؛ لأن المديون إذا عجز عن السداد مع عدم الرهن، فإن الخصومة، والأذية تقع بين الناس؛ لكن إذا وُجِد الرهن، فسيقول له: بِع الرهن وخذ حقك، فالرهن يقطع أسباب الخصومة وأسباب النزاع.
وأياً ما كان فإن الله عز وجل شرع الرهن، وتمت كلمته صدقاً وعدلاً، فهو يعلم ولا نعلم، ويحكم ولا معقِّب لحكمه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].
والحكم من مشروعية الرهن كثيرة والأسرار لا شك أنها موجودة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.(174/4)
أهمية معرفة أحكام الرهن
يقول المصنف رحمه الله: (باب الرهن) أي: كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالرهون، وأنت كطالب علم تحتاج أن تبحث هذا الباب، وكدارسٍ في الفقه تحتاج أن تلِمّ بهذه المسائل والأحكام، فإنه يأتيك الرجل ويريد أن يستدين من الناس فتنصحه بالرهن، أو يأتيك الرجل ويريد أن يدين الناس فتنصحه بالرهن، وكذلك أيضاً إذا أراد الرهن سألك: ما الذي يجوز رهنه؟ وما الذي لا يجوز رهنه؟ ثم إذا رُهن هذا الشيء، فهل من حقي أنا صاحب الدين أن أنتفع برهني، أو ليس ذلك من حقي؟ كذلك أيضاً صاحب الدين الذي له الدين على المدين، هل من حقه أن ينتفع بالشيء المرهون عنده، أو ليس ذلك من حقه؟ كذلك أيضاً يسألك لو أن هذا الرهن نما وزاد وكثُر، فهل تكون الزيادة المتصلة أو المنفصلة للدائن والمدين أو تكون لأحدهما؟ هذا كله من المسائل التي يُحتاج إلى بحثها، ومن هنا نجد العلماء رحمهم الله يقولون: باب الرهن.(174/5)
حكم الرهن وحالات الدائن مع المدين
وحكم الرهن الجواز، فليس بواجب، ولا فريضة، بمعنى إذا أراد الشخص أن يعطي الناس الدين، فإنه لا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الذي يطلب الدين موثوقاً به، فحينئذٍ لا تحتاج إلى رهن، فتقول له: خذ مائة ألف، ومتى ما يسّر الله لك سدادها فسدِّد، وهذا جائز بإجماع العلماء رحمهم الله.
الحالة الثانية: أن يكون الشخص الذي يأخذ منك المال لا تعرفه، أو شخص تعرفه بالمماطلة، وتخاف على المبلغ الذي طلبه منك، فحينئذٍ أنت بالخيار، إن شئت طلبت الرهن، وإن شئت لا تطلب الرهن، والأفضل إذا كنت تعلم أنه محتاج وأنه مكروب، وأن هذا المال الذي يطلبه منك ليس فيه ضرر لو تأخر في سداده، فالأفضل أن تعطيه إياه بدون رهن؛ لأن الرهن يحمِّله المشقة والعناء، وقد يكون الشيء الذي يريد رهنه غير موجود عنده، ومن هنا يُفرَّق في الرهن، فإن كان الذي يريد منك الدين رجلاً عاجزاً، ولا يستطيع أن يعطيك رهناً؛ لأنه ليس عنده شيءٌ له قيمة حتى يضعه رهناً عندك؛ فالأفضل والأكمل أن تديِّنه ولا تطالبه بالرهن، وكفى بالله عز وجل وكيلاً، فإن الله يتكفل بحفظ حقك، وما دمت تعرفه بالصلاح والخير، فإنه إن شاء الله لن يُقصِّر ولن يمتنع في إبراء ذمته.
أما إن وجدته مماطلاً، ووجدته رجلاً متلاعباً بحقوق الناس، وأحرجك بالدين، أو جاءك بإنسان لا تستطيع أن ترد شفاعته، فالأفضل في مثل هذا أن توقفه عند حده فتطالبه بالرهن، حتى يكون ذلك مانعاً له من تلاعبه بحقوق الناس، وأدعى لسد الباب من أن يُضر بك في ادعائه الحاجة إلى الدين؛ لأن بعض الناس قد يدعي الحاجة إلى الدين، وهو ليس بحاجة إليه، وقد يطلب الدين وهو لا يريد السداد.
فحينئذٍ يقول العلماء: حكم الرهن جائز، ولكن في بعض الأحيان الأفضل أن لا تطالب بالرهن من الفقير المعدم، ونحو ذلك ممن له فضل عليك، كخاصة القرابة: كالأعمام، والأخوال، ومن لهم حق كبير، فإن طلب الرهن من هؤلاء فيه إجحاف، وأما إذا كان من الصنف الذي ذكرنا؛ فإن الأفضل أن يطالب الإنسان بالرهن، وذلك راجع إليه على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض.(174/6)
أركان الرهن وشروطه
للرهن أركان: أولاً: هناك راهن، وهو الشخص المديون.
ثانياً: هناك مُرتَهَن، وهو الشخص الذي يوضع عنده الرهن، وقد يكون صاحب الدين، أو من يقوم مقامه.
ثالثاً: هناك شيءٌ مرتَهن، وهي العين التي توضع كرهينة.
رابعاً: هناك صيغة.
فهذه أربعة أركان: الراهن، والمرتَهَن، والشيء المرتَهَن، والصيغة التي يقوم عليها الرهن.
أما الراهن فيشترط أن يكون ممن له أهلية التصرُّف في المال، فلو جاءك طفل صغير، وقال لك: أعطني عشرة ريالات، وهذا القلم رهن عندك، فالطفل ليس من أهل التصرُّف، وليس ممن يصح رهنه، فإذا كان الطفل لم يبلغ، فإنه لا يحق له التصرف في المال إلا إذا قارب البلوغ، كما سيأتي -إن شاء الله- في الكلام على الصبي المأذون له بالتجارة.
إذاً: الرهن لا يصح إلا من شخصٍ هو أهل للتصرف.
وبناءً على ذلك فلا بد أن يكون بالغاً عاقلاً، فلو أن مجنوناً جاء بسيارةٍ -ولو كان يملكها- أو رجلاً في حال سكره، أو حال تعاطيه لمخدِّر أو نحوه مما يزيل العقل -والعياذ بالله! - جاء ورهن عمارته في دين، أو نحو ذلك، فإن الرهن لا يصح ممن هو ليس بأهلٍ للتصرف.
كذلك يشترط أن يكون له أهلية التصرُّف في الشيء الذي يريد رهنه، فلا يرهن مال غيره، كأن يقول: أعطني سيارتك لأذهب بها إلى مكان ما، فأخذ سيارتك ثم ذهب واستدان عشرة آلاف ريال، ووضع سيارتك رهناً، وحينئذٍ لو ثبت عند القاضي أن السيارة سيارتك، فإنه يُسحب هذا الرهن ويُلغى، ويطالب بالبديل على تفصيلٍ سيأتي إن شاء الله في مسألة فوات الشيء المرتهن.
إذاً لا بد في الشخص الراهن أن يكون أهلاً للتصرُّف.
كذلك بالنسبة للمرتَهَن، وهو الشخص الذي يوضع عنده الرهن، يشترط أيضاً أن يكون أهلاً للتصرف.
أما بالنسبة للصيغة، فهي الإيجاب والقبول، وهي التي يقوم عليها عقد الرهن، كأن يقول له: أعطني مائة ألفٍ وسيارتي هذه رهنٌ عندك، فيقول: قبلت.
فقول الراهن: سيارتي هذه رهن، هذا هو الإيجاب، وقول صاحب الدين: قبِلت، هذا هو القبول.
والشيء المرتهن يشترط فيه أن يكون مما يجوز بيعه، فإذا كان مما يجوز بيعه، فإنه يجوز رهنه، حتى لو قال: خذ كتابي، وقلمي، وساعتي، بل حتى النظارة، كأن يأتي ويشتري من البقالة، ولا يجد شيئاً كبيراً يرهنه، فيضع مثلاً شيئاً له قيمة، كالنظارة ونحوها.
إذاً: لدينا العاقدان، والصيغة التي هي الإيجاب والقبول، والشيء المرتَهَن الذي هو محلٌ للرهن.
وبالنسبة للصيغة يقول بعض العلماء: يمكن أن يقع الرهن بالتعاطي بدل الإيجاب والقبول، فكما أن البيع يقع بالتعاطي، فإنه ينعقد الرهن بالتعاطي دون إيجابٍ ولا قبول.
وقد قدمنا أن البيع يجوز بالتعاطي: ينعقد البيع بما يدل على الرضا وإن تعاطى الكل ومثال التعاطي في الرهن: لو جاء شخص وقال لآخر: أعطني عشرة دراهم ديناً إلى غد، وخذ هذه الساعة، فصاحب الدين أخذ الساعة ولم يقل: قبلت، أو رضيت، بل أعطاه العشرة مباشرة، فبإعطائه العشرة كأنه قال: قبلت أن أديِّنك العشرة، وقبلت الساعة رهناً إلى السداد.
إذاً: يقع الرهن بالأفعال، كما يقع بالأقوال هذا بالنسبة لمجمل أركان الرهن.(174/7)
صحة الرهن في كل ما يجوز بيعه
قال رحمه الله: [يصح في كل عين يجوز بيعها].
قوله: (يصح) أي: أن الرهن يمكن أن يكون في أي شيءٍ يمكن بيعه، ويشمل هذا: العقارات، والمنقولات، والمثمونات، فلو قال له مثلاً في العقارات: أرضي رهنٌ، كأن يستدين مائة ألف ويجعل الأرض -مبنية أو غير مبنية، أو مزرعة- رهناً إلى السداد، فإنه يصح وينعقد؛ لأن الأرض يجوز بيعها، وكذلك أيضاً الطعام، فلو قال له: أعطني ألف ريال إلى نهاية هذا الشهر، وهذا الكيس من الأرز رهن عندك، فقال: قبلت، فحينئذٍ كان الرهن من جنس المطعومات، وهكذا بالنسبة للمنقولات: كالسيارات، والدواب، فلو قال له: أعطني عشرة آلاف ريال، وسيارتي هذه رهنٌ عندك، فقال: قبلت، فإن السيارة يجوز بيعها، فيجوز رهنها، وقس على هذا غيره، سواءً كان الشيء المرهون له قيمة مرتفعة أو دون ذلك، فما دام أنه يجوز بيعه فإنه يجوز رهنه.
أما لو كانت العين لا يجوز بيعها؛ كالميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، فإنه بالإجماع لا يجوز رهنها، مثاله: لو قال له: أعطني ألفاً وهذا الحيوان المحنَّط الميت رهن حتى أسددك، لم يصح؛ لأنه لا يصح بيع الميتات، فلا يصح رهنها.
إذاً: الميتات، الخمر، الخنزير، والأصنام، ونحوها، كل هذه الأشياء لا يجوز بيعها، فلا يجوز رهنها.
كذلك أيضاً لو قال له: أعطني عشرة آلاف وأرهن عندك بعيري الشارد، أو عبدي الآبق، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يجوز بيع البعير الشارد ولا العبد الآبق، ولو قال له: أعطني ألفاً والسمك الذي في هذا الماء رهنٌ عندك، لم يصح؛ لأنه غير مقدورٍ على تسلُّمه، فكل هذه الأشياء التي لا يجوز بيعها لا يجوز رهنها.(174/8)
جواز رهن المكاتب
قال رحمه الله: [حتى المكاتَب].
أي: حتى المكاتَب يجوز رهنه، فإن الشخص المكاتَب الذي كاتبَه سيده، وكانت قيمته مثلاً عشرة آلاف ريال، فقال لسيده: أنا أشتري نفسي منك بعشرة آلاف ريال، أدفع لك كل شهر ألف ريال، فقال له السيد: قبلت، ثم إن هذا السيد احتاج إلى دين مقداره عشرة آلاف ريال، فقال السيد لصاحب الدين: قد رهنت عبدي فلاناً، مع أن العبد مكاتب، قالوا: يجوز ذلك؛ لأن المكاتَب عبد حتى يتخلَّص من الرق بدفع آخر أنجم الكتابة، أما إذا لم يدفعها فإنه يسري عليه حكم المملوك؛ لأنه وما ملك ملكٌ لسيده حتى يتم السداد على ما اتفقا عليه، فعقد الكتابة في أوله جائز، ولكنه يئول إلى اللزوم عند تمام السداد.(174/9)
صور الرهن
قال رحمه الله: [مع الحق وبعده بدينٍ ثابت].
قوله: (مع الحق وبعده) أي: يصح رهن كل شيءٍ يجوز بيعه مع الحق الذي هو الدين، أو بعده.
والعلماء رحمهم الله يذكرون صوراً للرهن: فهناك صورة للرهن قبل الدين، وصورة للرهن مع الدين، وصورة للرهن بعد الدين، هذه ثلاث صور، والقسمة العقلية تقتضيها: فإما أن يعطيه الرهن قبل الدين، وإما أن يعطيه الرهن أثناء الدين، وإما أن يعطيه الرهن بعد أن يستدين منه.
فأما الصورة الأولى -نبدأ بها لأنها هي الأصل والمشهورة-: فهي أن يكون الرهن مصاحباً للدين، كأن تقول لرجل: إني بحاجة إلى مائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، وأعطيك سيارتي رهناً إلى أن أسددك.
فإن رهنك للسيارة وقع مصاحباً لطلبك للدين، فحينئذٍ إذا أعطاك الدين أعطيته السيارة، فالرهن وقع مصاحباً للحق، وهذا بالإجماع جائز ومشروع.
أما الصورة الثانية: فهي أن يكون الرهن بعد الدين، كما لو تأخر وتراخى، فقال له مثلاً: هذه مائة ألف، فقال: بعد يوم أو يومين: لقد أعطيتني مائة ألف، وهذه مفاتيح سيارتي أو عمارتي وهي رهن لسداد دينك عند العجز، وقد صح ذلك.
أما الصورة الثالثة: وهي أن يكون الرهن قبل الدين، فمن أمثلتها قالوا: إذا كانت لك سيارة عند محمد، وقلت: يا محمد! خذ هذه السيارة أمانة عندك، فأخذها محمد أمانة عنده، ثم احتجت إلى مالٍ من محمد، فجئته وقلت له: ديّنِّي مائة ألف، فأعطاك المائة ألف وقال: بماذا تضمن لي حقي؟ فتقول له: السيارة التي عندك، أجعلها رهناً واستيثاقاً للدين.
قال بعض العلماء: إن هذا جائز، وتنتقل اليد من يد الإيداع إلى يد الرهن، وذلك بمجرد الإيجاب والقبول، فتصبح رهناً بعد أن كانت وديعة، ولا يشترط التقابض مرة ثانية لإلغاء اليد الأولى.
وسيأتي هذا في باب الضمان، وهو الانتقال من يد الأمانة إلى يد الضمان، وفيه تفصيل عند بعض العلماء رحمهم الله، لكن قالوا: إن هذا يجوز، وشدّد فيه بعض العلماء، كما درج عليه المصنف رحمه الله وقالوا: إنه لا يجوز سبق الرهن للدين، وفي بعض الصور يقوى مذهب المصنف، وخاصة في الصور التي فيها غرر أو فيها جهالة، ولكن إذا كان الأمر أقل غرراً، أو كان الغرر يسيراً، فإنه يصح أن يُقدِّم الرهن على الدين.(174/10)
عدم صحة الرهن إلا بدين ثابت مستقر
وقوله: (بدين ثابت) أي: مستقر، ومثال الدين الثابت: كأن يأتي ويأخذ منك مائة ألف، أما الدين غير الثابت، فهو كالحقوق التي تتوجه ولا تثبت إلا بعد شرط أو بعد صفة، فقبل ثبوت الشروط وهذه الصفة لا يجوز الرهن على مثل هذا الدين.
مثال ذلك: لو أن شخصاً ضرب إنساناً مثلاً خطأً، أو صدم بسيارته رجلاً خطأً، فأتلف عليه أحد الأعضاء المثناة، أتلفها إتلافاً كلياً فحينئذٍ تستحق نصف الدية، كما سيأتي -إن شاء الله- في باب الديات، فإذا لزمت الجاني نصف الدية، فإن على العاقلة أن تتحمل فوق الثلث، كما هو قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والعاقلة: هم عصبة الجاني، فهؤلاء العصبة لا يثبت الدين والاستحقاق عليهم إلا بعد ثبوت الجناية، أما قبل ثبوت المطالبة على العاقلة، فإنه حينئذٍ لا يستقر الدين، ولا يثبت الحق، فلو أن شخصاً يعلم أنه إذا ثبتت هذه الجناية في المستقبل، أنه سيصير غارماً بعشرٍ من الإبل، أو خمسٍ من الإبل، فذهب إلى المجني عليه، وجعل الرهن لقاء هذا الدين، لم يصح للشخص المجني عليه أخذ الرهن لقاء حقه؛ لأن المجني عليه لم يثبُت حقه بعد، وحينئذٍ ليس من حقه أن يطالبك بالرهن إلا بعد ثبوت دينه، فإن العلماء يقولون: لا يكون الرهن إلا في دين ثابت مستقر، وعليه فإذا كان الدين غير ثابت وغير مستقر فإنه لا يصح الرهن؛ لأنه إيقاع للشيء قبل سببه، والأشياء لا تقع إلا بأسبابها، وذلك كما لو أدى الزكاة قبل الحول، وذلك فيما لو كان في غير التعجيل، فمثلاً: لو أن شخصاً قبل أن يحول الحول الأول الذي تثبُت به الزكاة قدَّم زكاته، لم يصح؛ لأن السبب لم توجد، وكذلك لو أخرج زكاة الفطر قبل غروب يوم السابع والعشرين من رمضان، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يصح إخراجها إلا قبل العيد بيوم أو يومين، فإذا أخرجها قبل وقتها الموجب فإنه لا يصح؛ لأنه إنما يعتبر الإخراج مجزئاً إذا تم الشرط المعتبر لصحة الإخراج.
فهنا بالنسبة للرهن لا نحكم بصحّته إلا بعد صحة الدين وثبوته، فإذا كان الدين لم يثبت فإن الرهن يتركب من الدين، وعليه قالوا: إنه لا بد من وجود دينٍ مستقر، وإذا لم يكن هناك دين مستقر، وأعطاه رهناً فليس برهن، وإنما هو دينٌ آخر.
فلو أن شخصاً ارتَهَن قبل ثبوت الدين واستقراره؛ فإنه في هذه الحالة يصير ديناً لا رهناً، ولا يجري عليه حكم الرهن.(174/11)
لزوم بقاء الرهن في حق الراهن دون المرتهن
قال رحمه الله: [ويلزم في حق الراهن فقط] ذكرنا فيما سبق مسألة العقد اللازم، والعقد الجائز، وبيّنا العقود اللازمة من أول الحال، والعقود الجائزة في أول الحال اللازمة في آخر الحال، والعقود الجائزة في الحالين بيّنا هذا في أول الكتاب عند بياننا لأحكام الخيارات.
فقوله رحمه الله: (ويلزم في حق الراهن) هذا هو العقد اللازم، وقد قلنا: هو الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه دون رضا الآخر، وأما العقد الجائز: فإنه يملك كلٌ من الطرفين فسخه ولو لم يرض الآخر، كالشركة مثلاً، فلو جئت في أي يوم من الأيام وقلت: يا فلان! افسخ الشركة التي بيني وبينك، فهذا من حقِّك، بخلاف البيع، فإنه لو باعك رجل داراً بعشرة آلاف وافترقتما دون خيارٍ بينكما، ثم جاءك وقال: لا أريد هذا البيع، فنقول: ليس من حقه أن يفسخ ما تم الاتفاق عليه بينكما؛ لأن الله تعالى أمر بالوفاء بالعقود، فهذا عقد لازم.
فإذا دفع الشخص إليك الرهن وقبضته فإنه يلزمه، وحينئذٍ ليس من حقه أن يسترد هذا الرهن.
فمثلاً: لو أن رجلاً قال لك: أعطني مائة ألف دَيناً إلى نهاية السنة، فقلت له: ماذا تعطيني رهناً؟ فقال: أعطيك سيارتي هذه، فقلت له: قبلت.
وتم بينكما الاتفاق على هذا، فأعطاك مفاتيح السيارة وقبض منك المائة ألف، وبعد أن خرج وافترق إذا به يأتيك في اليوم الثاني ويقول لك: قد رهنتك سيارتي الفلانية، وهذه سيارة مثلها، أو أريد سيارتي وسأعطيك بدل السيارة العمارة، سواءً كانت مثلها أو كانت أكثر أو أفضل منها، فإنه ليس من حقه أن يسحب هذه العين، أو أن يُخليها من اتفاق الرهن الذي بينكما إلا برضاً من صاحب الدين.
إذاً: معنى قوله: (يلزم) أي: أنه ليس له خيار، حتى يرضى الطرف الثاني، فلو أبيت وقلت له: لا أريد رهناً إلا هذه السيارة التي جئتني بها، ولا أقبل بدلاً عنها، فهذا من حقك، وليس من حقه أن يسحب هذه السيارة أو أن يأتي بعوض عنها، وتبقى مرهونة إلى أن يتم السداد.(174/12)
صحة رهن المشاع
قال رحمه الله: [ويصح رهن المشاع].
الأشياء المملوكة كالأراضي والسيارات والأطعمة والأكيسة ونحو ذلك، لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون ملكاً لشخص واحد، كأرضٍ يملكها زيد، أو عمارة يملكها عمرو، فحينئذٍ لا إشكال، فاليد واحدة وهي ملك لصاحبها.
الحالة الثانية: أن يشترك فيها اثنان أو أكثر، فإذا اشترك فيها اثنان أو أكثر، فهذا يسمى: المشاع، وفي بعض الأحيان هذا المشاع أو المشترك، يكون سبب الشيوع والاشتراك فيه: إما أن يكون من الطرفين؛ كأن يدفعا مبلغاً ويشتريا أرضاً، فلو أنهما اشتريا أرضاً بمائة ألف، هذا دفع خمسين وهذا دفع خمسين، فالاشتراك والمشاع جاء من جهة الطرفين، فقد دفعا المبلغ واشتركا.
وإما أن تكون هذه الشراكة بدون اختيارك؛ كالإرث، مثاله: شخص توفي عنه والده وترك له ولأخٍ ذكر معه داراً، ولا وارث له غيرهما، فحينئذٍ تكون الدار بينهما، وهذا المشاع وقع الاشتراك فيه بدون اختيار من الطرفين، إنما هو بحكم شرعي، فالله عز وجل جعل هذه الدار ملكاً لهما، فلو أن ابنين اشتركا في دار والدهما، حيث انتقلت ملكية الدار إليهما بعد موت أبيهما، فاحتاج أحد الابنين إلى مبلغ ما، كمائة ألف، فقال له صاحب الدين: أعطني رهناً، فقال: ليس عندي إلا إرث والدي، وهو نصف المزرعة، أو نصف العمارة، أو نصف هذه السيارة، أو نحو ذلك، فقال له: قبلت، فحينئذٍ هذا رهن المشاع، فكما يصح رهن غير المشاع، يصح رهن المشاع؛ لأن الحكمة والعلة تدور حول إمكانية رد الحق عن طريق الرهن، فهذا النصف الذي تركه الوالد للولد يمكن بيعه وسداد الحق منه، كما لو ترك له مالاً منفرداً.
وكما أنك إذا ملكت الشيء لوحدك يمكن بيعه والسداد منه، فكذلك إذا كانت الأرض مشاعة بينك وبين إخوانك، فإنه يجوز الرهن؛ لأنه يمكن سداد الحقوق منها، كما يمكن سدادها من المملوكات التي لا اشتراك فيها ولا شيوع.(174/13)
الأسئلة(174/14)
مشروعية كتابة الدين وعدم وجوبها
السؤال
هل كتابة الدين حالاتها مثل الرهن، وذلك أن من يؤمن السداد منه لا ينبغي له أن يطالبه بالكتابة، ومن خشي عدم سداده فإنه يطالبه بالكتابة، أم أن كتابة الدين مسنونة، وتُشرع مطلقاً أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع كتابة الديون؛ لأن هذا أمكن لأهل الحقوق، وأبعد عن الجحد والكذب، وكذلك النسيان، وقد يكون الرجل الذي تعامله أميناً ديناً صالحاً، ولكنه ينسى، وحينئذٍ قال العلماء: إنها تشرع، والأصل أنها مشروعة، ولا شك أنها سنة، فالسنة أن يكتب المديون الدين الذي عليه للناس، ويوثق هذا الدين بشاهدين عدلين ممن ترضى شهادته، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن يُرضى للشهادة.
وأما بالنسبة لأحوال الناس من حيث الإنكار وعدمه، فكتابة الدين من حيث الأصل هي للاستيثاق، فإذا أمكن أن يستوثق لدَينه بكتابة المديون في وصيته ونحو ذلك فالأمر أخف، ولذلك قال بعض العلماء: تجب الوصية، ويجب أن يكتب وصيّته إذا كانت عليه ديون لم يستوثق أهله فيها.
مثال ذلك: لو جئت إلى صاحب بقالة، وأخذت منه بريال، فإنه لا يجوز لك أن تبيت تلك الليلة إلا وقد كتبت أن لفلان عليك ريالاً؛ لأنك لا تأمن الأجل، وهذا الريال الذي يتساهل فيه الإنسان تتعلق نفسه به، كما ورد في الحديث: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)، وقال أبو قتادة رضي الله عنه في قصة الدينارين، حيث أُتي عليه الصلاة والسلام برجلٍ وعليه ديناران، أي: ديناً عليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هل ترك وفاءً؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة رضي الله عنه: يا رسول الله! هما عليَّ، فصلَّى عليه عليه الصلاة والسلام، فلمّا مضت الأيام قال أبو قتادة: فلم يزل يلقني عليه الصلاة والسلام ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل أديت عنه؟ حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته).
فهذا أمرٌ عظيم، حتى إن قوله: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) اختلف فيه بعض العلماء، فبعضهم يقولون: إنه يُرهن عن النعيم، بمعنى: أنه لا يُنعم، بل يُوقف عنه النعيم حتى يُسدد عنه، لأن قوله: (مرهونة) أي: محبوسة؛ لأن الرهن أصله الحبس والمنع، فإذا عبّر بالرهن فمعناه أنها محبوسة عن شيء، ونفس المؤمن لا تُحبس إلا عن خير، ولا تُحبس إلا عن فضل؛ لأن السياق سياق تخويف وتهويل، ولذلك قالوا: إنه يُمنع عن النعيم أو عن شيءٍ من النعيم.
لكن ظاهر النص أنها مرهونة، أي: محبوسة في هذا الدَّين، بل قال بعض العلماء: جرّبت الدين فوجدت فيه البلاء وحبس النفس حتى في الدنيا، فإن الرجل يكون عليه الديون وعليه حقوق الناس، فلربما تأخر في السداد فدعا المظلوم عليه، ولربما سها في السداد، أو جاءته النفس الأمارة بالسوء، فأخَّر السداد وهو قادر، فدعا عليه صاحب الدين دعوة، وهو مظلوم؛ لأن مطل الغني ظلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم)، فإذا امتنع من السداد وهو قادر، فقد ظلم، والمظلوم مستجاب الدعوة، قال: فيدعو عليه دعوة قد تكون سبباً في حرمانه من كثير من الخير.
وكان بعض يقول العلماء: وجدت في نفسي وجرّبت هذا أنني ما استدنت إلا وجدت غم الدين على قلبي، حتى أؤدي حقوق الناس، ويقول: إنني في بعض الأحيان لا أجد نشاطاً لطلب العلم، ولا أجد راحة في العبادة، لما تتعلق نفسي بحقوق الناس، ولكن ما إن أنفك منها وأسدد للناس حقوقهم، إلا وجدت الانشراح، ووجدت أنني في نعمة؛ فلا أحد يطالبني، وليس لأحد علي من حق.
فالبعد عن حقوق الناس ما أمكن هذا أفضل وأكمل.
وهذا لا يعني أن الدين مذموم أو محرّم، بمعنى: مذمومٌ ذماً يصل إلى التحريم، لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدان، وهو خير الأمة، واستدان أصحابه والصالحون من بعده، وقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (والله لا أدع الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، لكن إذا كان للغير عليك حق، وتعلم أنه لا سبيل لإثبات حقه إلا بالكتابة، فعليك أن تكتب في وصيتك، وهكذا إذا تعاملت مع إخوانك وأصحابك، فعليك أن تكتب ما لهم عليك من الحقوق، أو تستعير كتاباً من أخيك، أو تستعير شيئاً من أخيك، فتكتب أن لأخيك كذا وكذا، وإلا ضاعت حقوق الناس.
وانظر إلى رجل يأخذ أموال الناس دَيْناً ولا يكتب دينه، حتى إذا توفاه الله عز وجل جاء أصحاب الدين يسألون حقوقهم، فقال لهم الورثة: لا نعرف شيئاً، ما ترك مورِّثنا وصيّة نعلم بها حقوقكم، فماذا سيقول أصحاب الديون؟ سيشتكون إلى الله عز وجل، وربما دعوا على الميت، نسأل الله السلامة والعافية! وهذا لا شك أنه خطرٌ عظيم على العبد، فالواجب على المسلم أنه يحتاط لدينه ويستدرك، فإذا علم أن حقوق الناس لا سبيل لإثباتها إلا بالكتابة كتب، وإذا علم أن ورثته ربما أنكروا، أو ربما زيفوا الكتابة، أو امتنعوا من إعطاء الحقوق، كتب لكل صاحب دينٍِ كتاباً يستوثق به حقه إن جاء يطلبه يوماً من الأيام، والله تعالى أعلم.(174/15)
توضيح صورة الرهن بعد الدين وحكمها
السؤال
ذكرتم -حفظكم الله- أن هناك ثلاثَ صور للرهن مع الدين، وذكرتم صورتين، وبقيت صورة: وهي الرهن بعد الدين، فما توضيح هذه الصورة أثابكم الله؟
الجواب
الرهن بعد الدين كما ذكرنا: أن يتفق معه مثلاً على دين عشرة آلاف ريال، ثم من الغد يعطيه رهناً، فهو في أثناء الدين لم يأخذ منه شيئاً، وبعدها بيوم أو يومين أعطاه الرهن، فإن هذا جائز ومشروع، سواءً وقع أثناء العقد أو بعد العقد، وأما قبل العقد ففيه التفصيل الذي ذكرناه، وإن كان الأصح والأقوى في غالب الصور مشروعية ذلك وجوازه، والله تعالى أعلم.(174/16)
حكم التصرف في الرهن عند استيفاء أجل الدين
السؤال
من الذي يتصرَّف في الرهن عند استيفاء أجل الدين، هل هو الدائن أم المدين؟ وإذا كان الدائن هو الذي يتصرف، فربما لا يُحسن التصرُّف في الرهن كأن يبيعه مثلاً بأبخس الأثمان، فهل هناك من قيد لهذا التصرُّف أثابكم الله؟
الجواب
الأصل أنه إذا أعطاه الرهن فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يقول له: هذه الدار رهنٌ عندك، فإذا لم أسددك فبعها، وخذ حقك منها.
فهذا إذنٌ مسبق، وحينئذٍ من حقه إذا انتهى الوقت ولم يعطه حقه أن يبيعها مباشرة، وأن يأخذ حقه.
الحالة الثانية: أن لا يأذن له، أو يسكت عن الإذن، فحينئذٍ يُنتظر إلى تمام المدة، ثم يُرفع الأمر إلى القاضي، والقاضي ينظر إلى من لهم معرفة وخبرة، ومن بعد ذلك يحكم، أو يأذن لنفس الشخص إذا كان عنده خبرة ومعرفة أن يبيع، وليست الأمور هكذا مفلوتة، فمثلاً: لو أنه عرض الأمر على القاضي، فإن القاضي يسأل أهل الخبرة: بكم تُباع هذه الدار؟ فإن قالوا: بمائة ألف، فيقول له: اذهب وبعها بمائة ألف، فيذهب ويبيعها، فإذا وجد أنها لا تباع إلا بثمانين، ألزمه بالمائة؛ لأن هذا قول أهل الخبرة، ويُعطى كل ذي حق حقه، فلا يُظلم المديون، ولا يُظلم صاحب الدين، وهذا هو شرع الله عز وجل، أنه يُعطى كل ذي حق حقه، لا يُظلم الإنسان في حقه إذا كان له على الغير، وليس من حقنا أيضاً أن نظلم أصحاب الديون المعسرين في ممتلكاتهم، فتُباع عليهم بالبخس، والله تعالى أعلم.(174/17)
جواز اشتراط الرهن أثناء عقد الدين أو بعده
السؤال
هل اشتراط الرهن ينبغي أن يكون أثناء بذل الدين، أي: في نفس المجلس، أم للدائن أن يضيف شرط الرهن بعد ذلك، خاصة إذا خشي عدم السداد أثابكم الله؟
الجواب
إذا اتفق الطرفان على الرهن في عقد الدين، فإنه لا بأس بذلك، وهو جائزٌ ومشروعٌ بالإجماع، وهكذا إذا سأله الرهن بعد أخذ الدين، وأراد أن يستوثق، فإن له ذلك، ولا بأس به؛ لأن الناس تختلف أحوالهم، فلربما أعطيت الرجل وأنت تظنه أميناً، ثم جاءك الثقة وأخبرك أنه مماطل، وأنه جحود، أو أنه متلاعب بالحق، فأردت أن تستوثق لحقك، فمن حقك أن تستوثق وتطالبه بالرهن.
واشتراط وجود الرهن في الدين، سواءً كان في البيع أو كان في القرض، هذا كله من المصالح، ويُعتبر شرطاً شرعياً، فمثلاً: إذا نظرنا إلى ما يترتب على وجود الرهن من المصالح لصاحب الدين وللمديون، فإننا نرى مشروعية ذلك؛ سواءً كان أثناء عقد الدين، أو بعد عقد الدين، فالحكم واحد، والنتيجة واحدة، ولا شك أن الإنسان ربما وثق في أناس على ظاهرهم، ثم تبين له خلاف ذلك، فيريد أن يستوثق من بعد فيشترط الرهن، فهذا من حقه.
أما لو وقع اشتراط الرهن أثناء عقد الدين، فإنه يعتبر ملزماً بالدَّين، والله تعالى أعلم.(174/18)
حكم بيع ما زاد عن حاجة المديون لقضاء دينه
السؤال
أشكل عليَّ كلام لأهل العلم رحمهم الله بعدم جواز مطالبة المدين بالدين عند حلول الأجل إذا عُلِم عُسره، فهل تباع داره أو دابته، أم أنها من الضروريات فيُنتظر إلى ميسرته أثابكم الله؟
الجواب
الأصل الشرعي أن الله تعالى وسَّع على المعسر في عسره، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، والمؤمنون رحماء بينهم، ولو أن المسلم نزّل نفسه منزلة أخيه المديون، الذي أصابته النوائب، وكثرت عليه البلايا والمستلزمات والحاجيات ونحوها، لو أنه أنزل نفسه منزلته لما رضي أن تُباع داره، ولما رضي أن يؤذى في ماله الذي لا بد له منه، إلا إذا كانت داره أكثر من حاجته، فلو أنه سكن في دارٍ قيمتها مائة ألف، والدين الذي عليه عشرة آلاف، ويمكننا بيع هذه الدار وأن يسكن في دارٍ بخمسين ألفاً، فإنها تُباع داره؛ لأنه زاد عن حقه المحتاج إليه بالمعروف بهذا القدر، فتُباع داره ويترك له ما يسكنه بالمعروف، وهذا مما يقضى فيه بالقاعدة المشهورة: (العادة محكّمة)، فإن كان الذي مثله يعيش في بيت بعشرين أو ثلاثين ألفاً، وذهب هو وسكن في بيت قيمته مائتا ألف أو مائة وخمسون ألفاً، أو حتى بستين ألفاً الذي هو الضعف، وجاء واستدان، ثم قال: أنا مُعسِر، وهو يسكن في هذا المسكن الفاره، أو عنده سيارة يحتاجها لنقل أولاده وعوائله، ولكن هذه السيارة يستطيع أن يستبدلها بما هو أرخص؛ فإنه لا يُعتبر معسراً، ولا يجوز دفع الزكاة إلى مثل هذا الذي يزيد في ماله ما يمكنه أن يُحسن التصرف به، ويسد به عجزه وعوزه، أما لو وجدت الحاجة والضرورة، وأصبح في عوز وشدة، فالحكم لا يخفى أنه يُنظر إلى الميسرة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، والله تعالى أعلم.(174/19)
معنى قوله عليه الصلاة والسلام: فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما.
السؤال
قال صلى الله عليه وآله وسلم: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورِك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما)، شمل الحديث البيِّعان في بركة البيع ومحق بركته، فإن كذب أحدهما، فهل يشملهما أثابكم الله؟
الجواب
المحفوظ عند أهل العلم رحمهم الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبَّر بالمتعاقدين على أن يأتي الخير منهما، أو الشر منهما، ومفهوم ذلك أنه لا يكون هذا من جهة، بحيث لو أن أحدهما كذب فإنه -والعياذ بالله- تُمحق البركة في جانبه وحده دون الجانب الآخر، ولو أنه غش فإنه تُمحق البركة في جانبه وحده دون الجانب الآخر، ومن هنا لو باع داراً مغشوشة، ودفع له مائة ألف، وسكنها المشتري، وهو لا يعلم بهذا الغِش؛ بارك الله للمشتري إن كان رضي بهذا الشيء؛ لأنه أعطى المال دون أن يغش البائع، ولكن تُمحق البركة من مال البائع، نسأل الله السلامة والعافية! فالذي يظلم هو الذي يتعلق به محق البركة، وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما)، هناك من أهل العلم من يقول كلاماً غريباً في هذا الحديث، يقول: إنه إذا كذب البائع، أو كذب المشتري، فمعنى ذلك أنه سيحدث العيب في البيع، والعيب يُستحق به الرد، وحينئذٍ تعلق البلاء بالطرفين، وبناءً على ذلك يكون الحديث على ظاهره، أي: يشمل الطرفين، لكن هذا الجواب لا يخلو أيضاً من نظر؛ لأنه في بعض الأحيان يُغش الإنسان ويُدلّس عليه، فيرضى بهذا الغش ويرضى بهذا التدليس، ويبارك الله له في هذه الصفقة؛ بل إن الرجل يشتري الشيء الغالي، ويرى من غشّه وكذبه وبإمكانه أن يؤذيه ويضر به، فيترك أمره لله، فيبارك الله له في هذه الصفقة التي غُبِن فيها بأضعاف، والله عز وجل على كل شيءٍ قدير.
ومن طلب العِوض من الله سبحانه وتعالى فيما ينزل به من المصائب أو يحل به من النكبات؛ فإن الله يعوِّضه، وفي الله عِوض عن كل فائت، والله يجبر الكسير، ويجعل له من الخلف ما لم يخطر له على بال، فمن مستقل ومن مستكثر، والناس في الرضا ببلاء الله على مراتب، فمن كمُل رضاه كمّل الله له الجبر، وكمّل الله له الخير والبركة.
فالمقصود: أنه لا يمتنع أن تكون هناك بركة في البيع إذا كان أحدهما مظلوماً، وفوّض أمره إلى الله عز وجل، ورضي بما كان، والله سبحانه وتعالى يخلُف عليه بخير، والله تعالى أعلم.(174/20)
حكم تأخير توزيع الميراث على الورثة
السؤال
ما حكم تأخير توزيع الورث على الورثة مع الاستطاعة على التعجيل، أثابكم الله؟
الجواب
لا يجوز لمن يقوم على أموال الموتى وإرثهم، كالإخوان الكبار والأعمام ونحوهم -ممن يلي الأموال والتركات- لا يجوز له أن يؤخر قسمة الأموال دون وجود عذرٍ شرعي، أو رضاً من الورثة، فإذا رضي الورثة، وقالوا: رضينا بأن نبقى شركاء في هذه العمارة، أو رضينا أن نبقى شركاء في هذه المزرعة، فهم ورضاهم، ولا بأس بإبقاء المال، ولو إلى سنوات، بل حتى ولو إلى أجيال، مادام أنهم رضوا بذلك فالمال مالهم، فكما يجوز لهم أن يشتركوا بالطلب، يجوز لهم أن يشتركوا بحكم الشراكة.
أما لو أن أحد الورثة طالب بحقِّه، أو عُلِم أنه محتاج، أو بقي محتاجاً مديوناً، ويبقى إخوانه يكتسبون ذلك منه مستغلين حياءه وخجله، فيمتنعون من قسمة المواريث، ورد الحق إلى صاحبه، وإعطاء كل وارثٍ ما تركه له مورِّثه، فهذا من الظلم، خاصة النساء، فإن النساء يُظلمن في هذه الحقوق كثيراً، وتغفل حقوقهن، ولربما أُكلت بالباطل، فلا يجوز مثل هذا، وعلى الأولياء والإخوان أن لا يجاملوا في هذا، ومن علم أن أخاه يريد حقّه، أو أن ظروف أخيه تحتاج إلى مساعدة، وتحتاج إلى مال، وأن من المصلحة بيع المال؛ فإنه يُباع، لكن هناك أحوال يؤخَّر فيها البيع، كأن يكون هناك ضرر على الورثة، كأن يكون السوق كاسداً، والمبلغ يسيراً، وفيه ضرر لو بِيع، ويُرجَّى بعد شهر أو شهرين -دون أن يكون هناك ضرر- أن يتحسن السوق، وأن يُباع بما هو قيمته، فحينئذٍ يجوز التأخير في حدودٍ وفي أحوالٍ معينة، فلا يجوز أن يُمنع الورثة من مال مورِّثهم، بل لقد رأيت من الناس من ترك له مورِّثه مالاً كثيراً، وهو والله يعيش كعيشة الفقير المسكين من تضييق إخوانه الكبار وأذيتهم له، ومحاولتهم احتوائهم للأموال، فإذا كان الرجل بالغاً رشيداً فهو أحق بماله، ومن منعه فقد ظلم، وظلم ذوي القربى أعظم من ظلم غيرهم، وعلى هذا ينبغي على أولياء الأموال أن يتقوا الله في إخوانهم، وأن يتقوا الله في قرابتهم، وأن يقسموا بقسمة الله عز وجل التي قسمها من فوق سبع سماوات.(174/21)
حكم رهن الموصوف في الذمة
السؤال
أشكل عليَّ معرفة المقصود من قول المصنف رحمه الله: (يصح في كل عين)، هل الموصوف في الذمة لا يصح الرهن فيه أثابكم الله؟
الجواب
تقدّم معنا مسألة العين، ومسألة الذمة، وبيّنا أن المعيّن يكون العقد عليه ويفوت بفواته، وأن الموصوف في الذمة يصدُق على كل شيءٍ ينطبق عليه ذلك الوصف.
ومسألة قبض الرهن نص الله عز وجل عليها بقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، ولذلك فإن الأصل في الرهن غالباً أن لا يكون إلا بالحاضر، كأن يقول: أرهنك سيارتي هذه، أو أرهنك ساعتي هذه، فهذا رهن الأعيان.
وأما إذا سبق قبض الرهن على الدين، فإنه يستقيم أن يكون في الموصوف، وحينئذٍ يكون الاستقبال والاستحقاق مستقبلاً لأخذ الدين وإعطاء العين من الرهن، وعلى هذا يكون في الذمة ابتداءً، ولكنه يئول إلى العين انتهاءً عند التعاقد، وحينئذٍ لا بأس، خاصة على مذهب من قال: إنه يجوز أن يتقدم الرهن على الدين، وقد سبق أن أشرنا إلى هذه المسألة في المجلس الماضي، والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(174/22)
شرح زاد المستقنع - باب الرهن [2]
من المسائل المتعلقة بباب الرهن: جواز رهن المكيل والموزون والمعدود بشرط أن يقبض، وما لا يشترط فيه القبض في بيعه، فلا يشترط القبض في رهنه، ومن تلك المسائل: عدم جواز رهن ما لا يجوز بيعه، فلا يرهن إلا ما يجوز بيعه، ومنها: عدم لزوم الرهن إلا بالقبض، ومنها: أنه لا يجوز للراهن ولا للمرتهن أن يتصرف في الرهن إلا بإذن صاحبه، ومنها: مسألة نماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ومئونته.(175/1)
جواز رهن المكيل والموزون بشرط التقابض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه وغيره].
تقدم معنا بيان مشروعية الرهن، وبيان الأركان التي يقوم عليها عقد الرهن، وبيّنا جملة من المسائل والأحكام التي صدّر بها المصنف رحمه الله باب الرهن، وشرع المصنِّف رحمه الله في هذه الجملة ببيان مسألة قبض الرهن، وعدم قبضه، فأول ما يقع بين المتعاقدين أن يقول الراهن: رهنتك كذا وكذا، فيُسمِّي الشيء الذي يريد رهنه، فإذا رضي من له الدين، قال: قبلت، فيقول -مثلاً-: رهنتك سيارتي، أو رهنتك داري، أو رهنتك أرضي، أو نحو ذلك مما يُقال بياناً للمرهون، فإذا بيّن لك الشيء الذي يريد أن يرهنه عندك حتى يُسدد الدين، فإن هذا الشيء ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مما يُكال أو يُوزن أو يُذرع أو يُعد، وإما أن يكون من غير ذلك.
فإن كان مما يُكال أو يُوزن أو يُعد أو يُذرع، فإن الرهن لا يتم ولا يكون إلا بالقبض، وبناءً على ذلك فلا بد أن يعطيك المكيل ويمكِّنك من قبضه، وهكذا الموزون، والمعدود، والمذروع قياساً، فإن كان المرهون مما لا يُكال، فإنه حينئذٍ يصح رهنه قبل قبضه، والأصل في اشتراط القبض أننا نوجب على من يريد أن يرتهن، أن يقبِض الرهن عنده، فإن الأصل في ذلك قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، والأصل في هذه الأشياء التي تُجعل في الرهن، إنما جُعلت من أجل أن يبيعها، وعلى هذا فلا بد أن تُقبض إن كانت من جنس ما يُشترط له القبض، وأما إذا كانت من جنس ما لا يُشترط فيه القبض، فيصح أن يَرهَنها قبل قبضها، وعلى هذا فرّق العلماء رحمهم الله -على ضوء ما تقدم معنا-: بين ما يُشترط فيه القبض، وما لا يُشترط فيه القبض، فما اشتُرط فيه القبض في المبيعات، بحيث لا يصح بيعه منك إذا اشتريته حتى تقبضه كالطعام المكيل والموزون، فلا يصح أن ترهنه قبل القبض، والعكس بالعكس، فالشيء الذي لا يُشترط فيه القبض يصح أن ترهنه قبل قبضه.(175/2)
جواز بيع المرهون عند العجز عن سداد الدين
قوله: (على ثمنه)، فإن هذا المرهون حينما يوضع عند الشخص، إنما وُضِع من أجل أن يُسدَّد به الدين عند العجز، وتعذُّر السداد في الأجل، فلو استدان منك مائة ألف، وعجز عن سدادها، فإنه عن طريق هذا الرهن تقوم بأخذ حقك منه، وبناءً على ذلك يرهن على الثمن، ومن هنا فرّع العلماء مسائل الرهن على البيع؛ لأنه إذا عجز الشخص المدين عن سداد الدين، كان من حقك أن تأخذ حقّك من هذا الرهن؛ لأن المقصود من الرهن الوفاء وسداد الدين عند التعذُّر، أو الامتناع من السداد.(175/3)
حكم رهن ما لا يجوز بيعه
قال رحمه الله: [وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه].
أي: أن كل شيءٍ يجوز بيعه في الأصل؛ فإنه يجوز رهنه، وكل شيءٍ لا يجوز بيعه؛ فإنه لا يجوز رهنه.
والسبب في كون العلماء يجعلون المرهون مبنياً على المبيع: أن المقصود من الرهن عند العجز أن تقوم ببيع الرهن وأخذ حقك منه، أو يقوم القاضي إذا اشتكيت إليه ببيع الرهن وسداد الدين منه، أو يقوم العدل الذي نُصِّب من الطرفين ببيع الرهن وسداد الدين منه.
وبناءً على هذا لو كان الشيء الذي وضعه عندك رهناً لا يمكن بيعه؛ أو لا يجوز بيعه، فإنه لا يمكن أن تتحقق الحكمة التي من أجلها شُرع الرهن، حيث أنك إذا عجزت عن السداد لم يستطع صاحب الحق أن يصل إلى حقه؛ لأن هذا الشيء الذي وضعته عنده لا يمكن بيعه، فمعنى ذلك: أنك وضعت شيئاً وجوده وعدمه على حدٍ سواء.
وعليه فلا بد أن يكون الشيء الذي تضعه رهناً قابلاً للبيع، بمعنى أنه يجوز بيعه، ويصح بيعه، فلا يجوز رهن ما يحرُم بيعه، وذلك كالأعيان المحرّمة، وهي التي وردت في حديث جابر بن عبد الله: (إنالله ورسوله حرّم بيع الميتة، والخمر والخنزير والأصنام) فلو أعطاه ميتة رهناً، كحيوان محنَّط من جنس ما لا يذكى، وقال له: إذا عجزت عن سداد دينك فبع هذا الحيوان وخذ حقك، فإن هذا الحيوان إذا كان ميتةً لا يجوز بيعه، فلا يصح أن يكون رهناً.
وهكذا إذا كان من الأعيان المباحة، ولكن يحرِّم الشرع بيعها لوجود الاستحقاق، كحق الله عز وجل في الوقف، فلو كان الشيء الذي يريد رهنه وقفاً، لم يصح أن يُرهن؛ لأن الأوقاف لا يجوز بيعها من حيث الأصل.
وعليه قالوا: يُشترط أن يكون المرهون من جنس ما يجوز بيعه، وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه؛ لأنه يفوِّت المقصود من الرهن.
وهكذا لو رهنه أم الولد -على القول بعدم جواز بيع أمهات الأولاد- وكذلك بالنسبة للخنزير، والأصنام، ونحوها مما لا يجوز بيعه، قال بعض العلماء: ولو رهنه مجهولاً، كما لو قال له: أرهن عندك ما في داخل هذا الكيس، والذي في داخل الكيس مجهول، فإنه لا يصح رهنه، لكن لو كان الذي بداخل الكيس معلوماً، جاز الرهن وصح، ولو قال له: أرهنك الكيس نفسه، كأن يكون الكيس من جلد وقيمته مثلاً مائة ريال، فقال له: أعطني سلفاً مائة، وأرهن عندك هذا الكيس، صحّ.
إذاً: لا يصح رهن المجهولات، ولا يصح رهن محرَّمات الأعيان: كالميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، وكل ما حرُم بيعه لا يجوز رهنه.(175/4)
جواز رهن الثمر قبل بدو صلاحه بدون شرط القطع
قال رحمه الله: [إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع].
تقدّم معنا في باب بيع الأصول والثمار، وبيّنا هناك حكم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، وبعد بدو الصلاح، وقلنا: إن الثمرة إذا بِيعت قبل بدو الصلاح لا يخلو البيع من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون بشرط القطع، والحالة الثانية: أن يكون بشرط البقاء، والحالة الثالثة: أن يكون بيعاً مطلقاً.
فلو كان عندك بستان وفيه نخل، وهذا النخل فيه ثمرة، وأردت أن تبيع الثمرة كما يسميه الناس: الصيف، أردت أن تبيع الصيف، وهذا الصيف لم يبدُ صلاحه، فإن قلتَ: خذ الثمرة بمائة ألفٍ، واشترط عليك أن تبقيها له حتى يبدو الصلاح، لم يجُز، وقلنا: إن ذلك بالإجماع.
ولو قال له: بعني ثمرة بستانك هذه التي لم يبدُ صلاحها، ولكني سأقطعها، بمعنى أنني أريدها علفاً للدواب، فقلنا: يجوز في قول جماهير العلماء، خلافاً لبعض السلف، كما هو قول سفيان الثوري، وابن أبي ليلى، كما تقدَّم معنا وبيّنا أن الراجح مذهب الجمهور، وهو أنه لو باعه الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط القطع صحّ البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرّم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح خوفاً من الآفة، لحديث أنس الذي في الصحيح: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟)، فإذا كان يريد أن يقطعها مباشرة، ويأخذها وهي خضراء علفاً للدواب، انتفت العلة.
فهنا لو قال: أعطني مائة ألف ديناً، فقال له: أعطني رهناً كي أعطيك هذا القرض، فقال: أرهن عندك ثمرة بستاني إلى شهر -وثمرة البستان لم يبدُ صلاحها- وإذا انتهى الشهر ولم أسددك، فاقطع الثمرة وبعها، صحّ الرهن؛ لأنه يصح بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع.
فإن اتفق معه على أن يقطع الثمرة، ورضي له بذلك، فلا إشكال، لكن يبقى الإشكال أن القاعدة: أن ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه.
فلو أنه قال له: أعطني مائة ألفٍ، وهذه الثمرة التي لم يبدُ صلاحها رهنٌ عندك، على أنني إذا لم أسدِّد انتظرت إلى صلاحها فبِعت وأخذت حقّك، فحينئذٍ لم يشترط القطع، فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: لا يصح أن يرهن الثمرة قبل بدو الصلاح بغير شرط القطع، وهذا على الأصل الذي ذكرناه، وهو أنه إذا كانت الثمرة قبل بدو الصلاح وباعها بغير شرط القطع؛ لم يصح البيع إجماعاً، وهو البيع المطلق، وإذا كان لم يصح البيع فمعنى ذلك: أن الرهن غير صحيح.
وقال بعض العلماء: يجوز أن يرهن الثمرة قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع، كما درج عليه المصنِّف، وهو الوجه الثاني عند أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، وانتصر له غير واحد، وقالوا: إنه إذا لم يسدد المال فإنه يأخذ حقه من الثمرة، فإن فسدت الثمرة، فإنه لا ضرر على الإنسان؛ لأنه ليس البيع منصباً على الثمرة نفسها، فقالوا: إذا رضي صاحب الدين، وقال: إن يسَّر الله وصلحت الثمرة، فإنه حينئذٍ يكون حقي ببيعها، كان له ذلك، وهذا القول الذي درج عليه المصنِّف واختاره غير واحد؛ لأن العلة التي من أجلها مُنِع البيع ضعيفة في هذه الصورة، ولأن البيع لم يتم أثناء الدين، وأنت تعلم أنك إذا أخذت من صاحب المال مائة ألف، فإنه لا يستحق بيع بستانك إلا إذا عجَزت، وربما كان عجزُك بعد بدو الصلاح، ولذلك لا يُنظر إلى الحال، وإنما يُنظر إلى المآل.
ثم لو أن هذه الثمرة تلفت، فإن حقّه لا يلغى؛ لأنه مُطَالِب بحقِّه كدينٍ، بخلاف ما إذا دفع النقد لقاء الثمرة، فالفرق بينهما واضح، وهذا القول الذي اختاره المصنِّف واختاره جمعٌ من العلماء، أوجه وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى.(175/5)
اشتراط القبض في لزوم الرهن
قال رحمه الله: [ولا يلزم الرهن إلا بالقبض].
العقد ينقسم إلى قسمين: عقدٌ لازم، وعقدٌ جائز.
والعقد اللازم: هو الذي ليس من حق أحد المتعاقدين أو أحد الطرفين أن يفسخه إلا برضا الآخر، فإذا حصل من الطرفين الإيجاب والقبول لزِمهُما الإيجاب والقبول، والأصل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فأنت إذا بِعت بيتك، وقال المشتري: قبلت، وافترقتما؛ لزمه أن يدفع الثمن، ولزمك أن تمكِّنه من البيت.
إذا ثبت هذا فإنه يرد
السؤال
لو أن رجلاً قال لك: أعطني مائة ألف، وخذ داري رهناً عندك، أو اجعل عمارتي رهناً عندك، أو اجعل سيارتي هذه رهناً عندك، فإننا إذا نظرنا إلى هذا العقد، فننظر: فإن قلتَ: قبلت ورضيت، وخذ هذه المائة ألف، واترك السيارة رهناً عندي، فللعلماء قولان: من العلماء فمن قال: إذا قلت له: أعطني مائة ألف، وهذه السيارة رهنٌ عندك؛ فإنه يلزمك أن تمكِّنه من السيارة فوراً، بمجرد العقد، وهذا هو مذهب طائفة من العلماء، منهم المالكية، فهم يرون أن الرهن لازم بمجرّد الصيغة، وهي الإيجاب والقبول، فلو أنك مباشرةً بعد أن قلت له: خذ السيارة، وقال: قبلت، ثم قلت: لا، خذ -مثلاً- البيت بدل السيارة، أو خذ -مثلاً- الأرض الفلانية بدل السيارة، لم يكن من حقك ذلك على هذا القول.
فأصحاب هذا القول يرون أنك ملزم بالرهن بمجرد الإيجاب والقبول، وليس من حقك أن ترجع عنه مادام أنكما اتفقتما على تلك العين، فإن أردت أن تبدِّل فليس من حقك، كما إذا أردت أن تسحب السيارة فليس من حقك، وتسري عليه أحكام الرهن بمجرد الإيجاب والقبول، هذا القول الأول.
القول الثاني: لا يلزم الرهن إلا بالقبض، وبناءً على ذلك فإنك إذا قلت له: أرهنك هذه السيارة، وقال: قبلت.
فالإيجاب والقبول لا يكفي حتى يَقبِض السيارة، فإن قَبَضَها فإنه حينئذٍ يصير الرهن لازماً، ولو أنك قبل القبض عَدَلت عن الرهن، أو جئت ببدلٍ عنه، كان من حقك ذلك، وبناءً على هذا القول -وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة، كما اختاره المصنِّف ودرج عليه- فإن الرهن يكون بالقبض، ولذلك قال الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فدل على أن صفة القبض مؤثرة في الرهن، وأن الرهن لا يكفي وحده ما لم يكن مصحوباً بالقبض، فلزومه متوقفٌ على القبض.
وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله، في كون الرهن لا يلزم إلا بالقبض، فإذا قال لك: أعطني مائة ألفٍ وسيارتي رهنٌ عندك، أو هذه مائة صاع من الطعام رهنٌ عندك، أو هذا الكيس من الطعام رهنٌ عندك، فإنه من حقه أن يَعْدِل ويُبدِّل مادام أنك لم تقبض، فإن قبضت لزمه الرهن.
إذاً: القبض شرط، ولا يمكن أن يتحقق اللزوم بالرهن إلا بالقبض، فهل يكون القبض منك أو من الراهن؟ قالوا: ينبغي أن تستأذن الراهن، فلو أن السيارة كانت موجودة، ولم يعطك مفتاحها، ولم يمكِّنك منها؛ فإنك لم تقبض، أما إذا أذن لك وقال: خذها، فحينئذٍ تم الرهن بقبضك لمفتاحها أو ركوبك فيها، أو نحو ذلك مما يتحقق به القبض.
هذه صورة ومثال للقبض.
مثال آخر: لو قال له: أعطني مائة ألف دَيْناً إلى نهاية السنة، فقال: أعطني رهناً، فقال: هذه عمارتي رهنٌ عندك، فالعمارة لا تكون رهناً لازماً إلا إذا قبض صاحب الدين العمارة، والقبض في العمائر يكون بالتخلية، فإذا خلَّى بينه وبينها وأعطاه مفاتيحها فقد قبض، فلو عَدَلَ قبل ذلك لم يقع اللُّزوم، ولا يلزم الرهن حينئذ.
وبناءً على ما سبق هناك فوائد: الفائدة الأولى: أن الرهن لا يكون لازماً إلا بالقبض، ومن حق الراهن الرجوع والتبديل، ومن حقه أن يرجع ويُبدِّل مادام أنه لم يَلزمه الرهن.
الفائدة الثانية: أن هذا القبض إذا كان لازماً، يتوقف عليه لزوم الرهن على ظاهر القرآن: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]؛ فإنه يُشترط أن يمكِّنَك أو يأذن لك صاحب الرهن بأخذه وقبضه.
قالوا: فلو أنك أنت من عند نفسك أخذت الرهن بالقوة أو بالحيلة أو بالغفلة، دون إذنٍ منه، لم يَلزمه ذلك.
إذاً: لا بد أن يكون القبض بتمكينٍ وإذنٍ من صاحب الرهن، فلو أنك من نفسك جئت وأخذت الرهن، كان وجود الأخذ وعدمه على حدٍ سواء؛ لأن الرهن عقد رفق، وعقود الرِّفق لا تلزم إلا بالقبض كالقرض ونحوه، وقد بيّنا أن هناك عقوداً يُقصد منها الغبن المحض، وعقوداً يُقصد منها الرِّفق المحض، وعقوداً يُقصد منها مجموع الأمرين.
فالرهن من العقود التي يقصد بها الرِّفق؛ لأن المدين رفق بك فأعطاك الرهن لكي تستوثق من حقك، فليس من حقك أن تعتدي على ماله بأخذه دون إذنه، فهو من عنده أعطاك إياه رهناً، وإلا فالأصل أن تطالبه عند حلول الأجل بدفع المال، لكن هذا المال غير المال الذي أخذه منك.
ومن المعلوم أنه إذا استدنتُ منه مائة ألف فإن الذي له عليَّ مائة ألف، وليس سيارتي ولا داري ولا مزرعتي ولا أرضي، وبناءً على ذلك يقول العلماء: ليس من حقه أن يعتدي على هذه الأملاك إلا بإذن من صاحبها، وعليه فإن لم يمكنك من القبض، كان قبضك لها بالاعتداء وجوده وعدمه على حدٍ سواء.
إذاً: الفائدة الأولى: أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض لظاهر القرآن، والفائدة الثانية: أن القبض يُشترط فيه إذن المدين، أي: الذي عليه الدين.(175/6)
كيفية قبض الرهن
وهنا مسائل: المسألة الأولى: لو قال لك: اقبض، وذهبت لتقبض، وقبل أن تقبض رجع عن إذنه، فإنه لا يصح قبضك، كما لو اعتديت مباشرة؛ لأن الإذن قبل تحقق الفعل والرجوع عنه يوجب بطلانه.
المسألة الثانية: إذا ثبت أن القبض معتبر فكيف يتحقق القبض؟ سبق أن بيّنا هذه المسألة، وقلنا: إن المبيعات منها ما يتحقق فيها القبض بالكيل إن كانت مكيلة، وبالوزن إن كانت موزونة، وبالعد إن كانت معدودة، وبالذرع إن كانت مذروعة، وبالمناولة إن كانت مما يُتناول، فلو قال لك: أعطني عشرة آلاف ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أُعطيك هذه الجواهر؛ فإن هذه الجواهر التي هي رهن يكون قبضها بالمناولة، أي: تُناوَل باليد، فإذا ناوَلك إياها، ووقعت في يدك تم قبضها، ولو كانت في كيسها ووعائها فأعطاها لك تم قبضها، لكن المكيل لا يكون إلا بكيله، والمعدود بعدِّه، والمذروع بذرعه، على التفصيل الذي ذكرنا.
وبناءً على ذلك يفرَّق في الأشياء بين ما كان من جنس المكيلات والموزونات، والمعدودات والمذروعات، وما يُتناول بالطريقة التي ذكرنا.
والمعدودات: مثل الإبل، كأن يقول: أعطيك عشرة من الإبل رهناً، أو هذه الناقة رهنٌ عندك، فإنه حينئذٍ يُمَكَِّنك من قبضها، فإذا قبضتها أو قبضها وكيلك فحينئذٍ لزم الرهن.
ولو كانت عمارة، فَقَبْضُ العمارةِ يكون بالتخلية، بأن يخلِّي بينك وبينها بإعطاء المفاتيح، فإذا أعطاك مفتاحها، أو خلَّى بينك وبينها للدخول والاستيثاق منها، كان هذا بمثابة القبض لها.
وقس على هذا بقية الأمور، وهناك أشياء يكون قبضها بالعرف، فنرجِع إلى أعراف التجار في كيفية قبضها، وقد سبقت الإشارة إلى هذه المسألة في مسألة القبض في أوائل كتاب البيع.(175/7)
استدامة قبض الرهن شرط في لزومه
قال رحمه الله: [واستدامته شرط].
استدامة القبض شرط، أي: أن يبقى الرهن عندك، ويكون تحت يدك وفي حوزتك، فلو أنه أعطاك السيارة ثم جاء في يوم من الأيام وأخذ مفتاحها وقادها من بيتك أو من مزرعتك، وأخرجها من المكان الذي وضعتها فيه، فحينئذٍ يزول لزوم الرهن، فإن ردّها بعد ذلك رجعت لازمة بعد الرجوع.
إذاً: استدامة القبض شرط في لزوم الرهن؛ لأن الله قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، وهذا الوصف لازم وباقي؛ لأن الرهن ليس بيعاً بحيث نقول: ننظر إلى ابتدائه؛ لأن بعض العقود ننظر إلى ابتدائها، وبعض العقود ننظر إلى مآلها، فالرهن ننظر إلى مآله؛ لأن الرهن لا يُراد لذاته، أنت حينما تعطي العمارة رهناً لقاء (مليون)؛ فإنك لم تقصد بيع العمارة (بالمليون)، وإنما قلتَ له: إن عجزت عن سداد (المليون) كان من حقك بيعها، ثم بعد ذلك تأخذ حقك، وعلى هذا فالعمارة في الأصل ملك للمدين، وعليه فليست في حكم المبيع من كل وجه، إنما هي بمثابة الاستيثاق، فلا بد أن تبقى تحت يد المرتهن؛ لقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، فإن خرجت عنه خرجت عن وصف الرهن؛ لأنها لم تصل إلى المآل، بحيث بِيعت أو تُصُرِّف بها، وإنما هي باقيةٌ وأمانةٌ، وإذا سُحِبت منه زال اللزوم؛ لأن وصف القبض المستصحب في الرهن قد زال.(175/8)
خروج الرهن بالاختيار يزيل لزومه فإن رد عاد لزومه
قال رحمه الله: [فإن أخرجه إلى الراهن باختياره زال لزومه، فإن رده إليه عاد لزومه إليه].
قوله: (فإن أخرجه) أي: المرتهن صاحب الدين، أي: أخرج الرهن، فمثلاً: عندك سيارة، وجئت إلى رجل وقلت له: أقرضني عشرة آلاف ريال، فقال: أعطني سيارتك رهناً، فقلت له: هذه السيارة وهذه مفاتيحها رهن عندك وأعطني العشرة آلاف، فأعطاك العشرة آلاف.
ثم بعد ذلك جِئتَ في يوم من الأيام فقلت له: يا فلان! عندي ظرف، وأريد أن أسافر إلى المدينة بأهلي، فهل تأذن لي أن آخذ السيارة؟ فقلت: خذها، فإذا أخرجتها فقد أخرجتها باختيارٍ منك ورضا منك، فيزول اللزوم، وأنت مأجور ومثاب على هذا الفعل، حيث قدرت ظرفه وأعطيته.
لكن لو جاءك وقال: أريد السيارة لأسافر بها أو أذهب بها، فقلت له: لا أُعطيك؛ كأن تعرف أنه مماطل، أو رجل مخادع، ولم تأمن، فقلت له: لا أعطيك، فذهب، ولما نمت جاء إلى مكانها وأخذ المفتاح الذي عنده فقاد السيارة واستخرجها، فهل نقول: قد زال اللزوم؟ هنا خرجت بغير اختيارك، وفي هذه الحالة يكون قبضه لها غير لاغٍ لصفة القبض الأصلية، ويبقى الرهن كما هو؛ لأن الإخراج من اليد كان على سبيل القهر، والختل، والخلسة، وهكذا لو هددك فأخذها بالقوة والقهر، فإنه لا يزول وصف القبض، ولا تزول الأحكام، بل تبقى؛ لأن خروجه بغير اختيارك، والشرط أن يكون الخروج بالاختيار لا بالاضطرار.
فإن كان الخروج بالإكراه أو بالغصب أو بالخلسة والخديعة، فوجوده وعدمه على حدٍ سواء.
فقد اشترط رحمه الله وجود الاختيار الذي ينبني عليه اعتبار الإخراج، وعدم لزوم الرهن.
وقوله: (فإن ردَّه إليه عاد لزومه إليه، أي: إن رد الرهن -كالسيارة- بعد أن قضى منه حاجته؛ رجع اللزوم إليه، أي: رجع الرهن إلى حكم اللزوم.(175/9)
عدم نفاذ التصرف في الرهن من أحد الطرفين من غير إذن الآخر
قال رحمه الله: [ولا ينفذ تصرف واحدٍ منهما فيه بغير إذن الآخر].
قوله: (ولا ينفذ) النفاذ: السَّرَيَان، وهناك شيء يسميه العلماء: النفاذ والوقف، أي: هناك عقد نافذ، وعقد موقوف، والعقد النافذ: هو الذي تتوفر فيه الأركان والشروط المعتبرة، فيُحكَم بنفاذه وسَرَيانه، والعقد الموقوف: هو الذي تعترضه عوارض تمنع من سريانه، كما ذكرنا في بيع وشراء الفضولي، على القول بصحته، لكنه يبقى موقوفاً على إجازة المالك الحقيقي.
ومعنى كلامه رحمه الله: أنه لا ينفذ تصرُّف أحدهما في الرهن، فلو أنك أخذت الرهن وقبضته، ودفعت للرجل عشرة آلاف ريال، ثم إن الراهن أخذ وثيقة الرهن -كصك البيت مثلاً- وباعه، أو أخذ استمارة السيارة وباعها، فإن هذا التصرُّفُ من الراهن في الرهن وعليه يد القبض تصرُّفٌ لاغٍ؛ لأن الرهن الآن لازمٌ وثابتٌ ومحتكرٌ لحق الأول، وهو صاحب الدين، فإذا تصرَّف صاحب الرهن في الرهن بالبيع مثلاً، فإنه حينئذٍ قد عَطَّل هذا العقد الشرعي، ولو كان بيع الرهن يصح، وهو مقبوض عند المرتهن؛ لانعدمت المصلحة من الرهن، ولأمكن لكل شخصٍ أن يحتال على غيره، فتراه يرهن أرضه، وسيارته، وعمارته، ثم يبيعها ولا يبالي.
إذاً: لا ينفُذ التصرف في الرهن، فلو أن شخصاً أعطاك بيته أو عمارته أو مزرعته أو أرضه رهناً، وتم القبض المعتبر شرعاً؛ فَلَزِم الرهن، وفوجئت بعد شهر وقبل السداد وإذا بالراهن قد باع هذه العمارة، أو الأرض، أو المزرعة، فترفع قضيتك إلى القاضي، فتُقيم الشاهدين العدلين على أنها مرهونة، فينقض القاضي بيعه ويُلغيه، وحينئذٍ يُبقي العين مرهونة إلى تمام ما بين الراهن والمرتهن، فإن تمت مدة الدين وسدّد فالحمد لله، وحينئذٍ إن شاء باع وأتم صفقة البيع فلا إشكال، فالمال ماله، وأما إذا لم يسدد كان من حق القاضي أن يبيع العين سداداً للدين، كما ذكرنا.
وعلى هذا فلو تصرَّف بالبيع، أو تصرَّف مثلاً في المنافع؛ فإنها تُحبَس، كما سيأتي، فلو أجَّر العمارة، أو أجّر المزرعة، فكل هذه المكاسب تُحبس في الرهن حتى يُسدَّد الدين؛ لأنه موقوف ومرهونٌ لحق، ومستوثق لدين، فلا يمكن أن يُتصرَّف فيه إلا بعد تمامه، هذا كله إذا تصرَّف الشخص المدين الذي هو الراهن.
أما لو تصرَّف صاحب الدين، كما أعطيته سيارتك في عشرة آلاف ديناً، وفوجئت أنه قد باع هذه السيارة، ادعى أنها له وباعها، فإنه لا يصح البيع، وليس من حقه أن يُقدم على بيع الرهن إلا إذا تمت المدة ولم تسدد، فحينها من حقه أن يقوم بالبيع إن أذنت له، وإلا رفع إلى القاضي وباع.
وقوله: (بغير إذن الآخر)، أي: إذا أذن الآخر له أن يبيع، كأن جاءه وقال: يا فلان! قد رهنت عندك سيارتي أو أرضي أو عمارتي أو مزرعتي، وأنا محتاج لهذه الأرض أن أبيعها وأتصرف فيها، وقال له: بعها، فحينئذٍ يكون برضا الطرف الآخر، ويصح البيع، ويزول الرهن؛ لأن البيع يفوِّتها من ملكية الراهن.
وفي بعض الأحيان يبقى الرهن في جزئها، كأن يقول: يا فلان! لك عليّ مائة ألف، والعمارة التي رهنتها عندك قيمتها مائتا ألف، سأبيع نصفها وأبقي نصفها رهناً عندك، فقال: قبلت، فحينئذٍ يلتغي النصف المباع، ويبقى النصف غير المباع على الرهن، وقس على هذا من المسائل في المشاعات، كما تقدم معنا في رهن المشاع.(175/10)