وجوب الفدية على من وطئ في فرج
وقوله: [ويجب بوطء في فرج في الحج بدنة].
تقدمت هذه المسألة: أنه إذا جامع في الحج فعليه بدنة، وبينا هذا، وذكرنا قضاء الصحابة رضوان الله عليهم.
(بوطء في فرج) في قبل أو دبر من حلال أو حرام، وهذا قضاء من ذكرنا من الصحابة عن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعائشة رضي الله عن الجميع.
وقوله: [وفي العمرة شاة].
قالوا: لأن الأصل في الإخلال بالوطء أن يجبر بالشاة، ولذلك جعل الله الشاة في دم المتعة؛ لأنها تقع بين الحج والعمرة، فجعل الشاة ضماناً للتمتع الواقع بين الحج والعمرة، فلما جعلت الشاة ضماناً لهذا الإخلال قالوا: إنه إذا وطِئ في عمرته فإنه يجب عليه دم وهو الشاة.
وقوله: [وإن طاوعته زوجته لزمها].
يفصل في الزوجة: فإن أكرهت وغلبت فلا شيء عليها، كما هو الحال في كفارة الجماع في نهار رمضان، وأما إذا طاوعته ورضيت وأغرته فإنه يلزمها ما يلزمه.(118/13)
حكم من كرر محظوراً من جنس واحد
وقوله رحمه الله [فصل: ومن كرر محظوراً من جنس ولم يفد فدى مرة].
كأن يكون كرر التطيب، فتطيب بعد لبسه للإحرام في اليوم السابع، ثم تطيب في اليوم الثامن، ثم تطيب في اليوم التاسع، فحينئذٍ كرر التطيب ثلاث مرات وهو محظور، فإذا لم يفد عن المرة الأولى ولم يفد عن المرة الثانية فعليه فدية واحدة، ولا يلزمه إلا فدية واحدة، وهكذا لو غطى رأسه في اليوم السابع والثامن والتاسع والعاشر ولم يفد عن المرة الأولى فعليه فدية واحدة، وهكذا إذا لبس المخيط في اليوم الخامس والسادس والسابع والثامن -تكرر هذا- فعليه فدية واحدة إذا لم يفد عن المرة الأولى.
وقوله: [بخلاف صيد].
لو قتل بقر وحش، ثم صاد حمار وحش، ثم صاد يربوعاً أو ضبعاً فحينئذٍ يلزمه أن يفدي ثلاثاً، ويكون عليه جزاء الصيد مكرراً بتكرار الإخلاف؛ لأنه لا يتداخل، بخلاف الطيب، وبخلاف الترفه في البدن بحلق وتقصير وتغطية رأس ولبس مخيط ونحو ذلك.(118/14)
حكم من كرر محظورات من أجناس مختلفة
وقوله: [ومن فعل محظوراً من أجناس فدى لكل مرة رفض إحرامه أو لا].
هذا مبني -كما ذكرنا- إذا وقع المحظور بالطيب وغطاء رأسه ولبس المخيط، فنقول: لجنس المخيط فدية، وللمحظور بتغطية الرأس فدية، وللطيب فدية، فالطيب جنس، وتغطية الرأس جنس، ولبس المخيط جنس، فيلزمه ثلاث فديات، ولا تتداخل فدية إذا اختلفت أجناسها، وأما إذا تكررت من جنس واحد كطيب أو لبس مخيط، فتكرر الطيب أكثر من مرة، وتكرر لبس المخيط أكثر من مرة، ففدية واحدة لمكان التداخل.
وقوله: [فدى لكل مرة رفض إحرامه أو لا].
إذا نوى الشخص أن يخرج من عمرته أو نوى أن يخرج من حجه فلا تؤثر فيه هذه النية، فبعض العوام مثلاً: إذا جاء في رمضان وهو محرم بالعمرة فرأى الزحام لبس ثيابه ورجع إلى بلده، فلا يزال محرماً، ويكون طيلة هذه الأيام -وهو رافض لإحرامه لابس لثوبه- محرم عليه ما على المحرم سواء بسواء، فمعنى الرفض: أن يقول: لا أريد أن أكمل عمرتي.
ويلبس ثيابه، فتقول: هو محرم حتى وإن كرر المحظور مائة مرة، فإن فعل جميع المحظورات فيلزمه أن يفدي عن كل محظور بفديته، فالرفض لا يؤثر، والدليل على أن رفضه لا يؤثر، قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فإذا شرع بعمرة أو بحج فإن الله يخاطبه بالإتمام، فإذا قال: خرجت من عمرتي فخروجه وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأنه لا يخرج من عمرته ولا بحجه إلا بإتمام نسكه أو إذا كان محصراً فبهديه على الصفة الشرعية، وعلى هذا تقول: لو أنه لبس ثيابه فجامع امرأته فسد حجه وفسدت عمرته، فيمضي في فاسد الحج والعمرة، ثم يرجع إلى الإحرام مرة ثانية، ويمضي في فاسد الحج والعمرة، وتطالبه بضمان ما كان منه من إخلال.
لو أنه -مثلاً- في يوم من رمضان أحرم بالعمرة فجاء فوجد الزحام فلبس ثوبه وتطيب وغطى رأسه وقتل الصيد، تقول: هو لازال محرماً، ويلزمه جزاء الصيد، ويلزمه فدية لتغطية رأسه ولطيبه وللبس مخيطه.
فمعنى رفضه للإحرام: أن يلبس ثيابه ويقول: لا أريد العمرة، أو يلبس ثيابه ويقول: لا أريد أن أتم الحج.
فهو محرم بالحج والعمرة حتى يتمهما على الوجه الذي أمر الله عز وجل.(118/15)
حكم ارتكاب أحد محظورات الإحرام نسياناً
وقوله: [ويسقط بنسيان فدية لبس وطيب وتغطية رأس].
لأنه يمكن فيه التدارك، فلو أن إنساناً غطى رأسه وهو محرم ناسياً ثم تذكر وأزال الغطاء فلا شيء عليه، ولو تطيب ثم تذكر فغسل مباشرة فلا شيء عليه، ولو لبس ثوباً ثم تذكر فأزاله فلا شيء عليه؛ لأن محظور لبس المخيط وتغطية الرأس والطيب يمكن تدارك الخطأ فيه، ولكن لو قلم أظفاره وقص شعره وجامع امرأته ناسياً فإن الناسي والمتعمد سواء؛ لأن هذا القص للأظفار لا يمكن أن يعيد ظفره، وإذا قص شعره أو حلقه فلا يمكن أن يتدارك الإخلال، فالفرق بين ما يسقط بنسيان وما لا يسقط: أنه إذا كان مما يمكن التدارك فيه سقطت الفدية إذا تدارك، وأما إذا كان مما لا يمكن التدارك فيه لزمته الفدية متعمداً كان أو ناسياً.
وقوله: [ويسقط بنسيان الفدية لبس وطيب وتغطية رأس دون وطء].
ذكرنا أن الوطء لا يمكن تداركه، وهكذا لو قلم أظفاره أو قص شعره أو حلقه، فما لا يمكن التدارك فيه يستوي فيه العمد والنسيان ويلزم فيه بالضمان.
وقوله: [دون وطء وصيد وتقليم وحلق].
فالصيد إذا قتل لا يمكن أن تعاد الحياة له، وأما إذا غطى رأسه ولبس المخيط وتطيب فإنه يمكنه أن يزيل هذا الترفه، وحينئذٍ فرق بين الناسي في هذه الأشياء التي هي المحظورات التي يمكن التدارك فيها، وبين ما وقع فيه الإخلال فاستوى فيه عمده وخطؤه؛ لأن الله حينما أمر بضمان قتل الصيد قال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة:95] فخرج مخرج الغالب؛ لأن الصيد في الغالب إنما يقصد؛ لأنه يحتاج إلى تنبه واحتياط، فالغالب أن الإنسان يقتله قاصداً، وإذا خرج النص مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، فيستوي حينئذٍ أن يكون متعمداً أو يكون مخطئاً؛ لأن هذا الصيد حرم الله قتله كما حرم قتل الآدمي، ولذلك إذا قتل الآدمي بالخطأ لزمه أن يعتق الرقبة بدلاً عن هذا الذي قتله، فكما أن الآدمي إذا قتله لزمه أن يضمن حق الله -مع أن الحق لله عز وجل- فلزمه أن يعتق الرقبة، فإذا لم يجد صام شهرين متتابعين مع أنه مخطئ، قال العلماء: هذا أصل من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي.
وهناك فرق بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية، فالحكم الوضعي: هو الذي يلتفت فيه إلى الأسباب، فالشرع أوجب على المكلف أن يضمن هذا الصيد الذي قتله في حال إحرامه بغض النظر عن كونه قاصداً أو غير قاصد، كما أنه يضمن خطأه بقتل الآدمي بالخطأ مع أنه غير قاصد، فالقاتل للآدمي بالخطأ غير قاصد لقتله، ومع ذلك ترتب عليه حقان: حق لله عز وجل وحق للآدمي، فحق الآدمي بالدية، وحق الله عز وجل بعتق الرقبة، ثم إذا لم يجد صام شهرين متتابعين، قالوا: كما أنه ضمن هنا حق الله عز وجل من باب الأسباب، كأن الشرع أقامه سبباً وعلامة على الضمان بغض النظر عن القصد، فحينئذٍ يستوي أن يكون متعمداً لقتل الصيد أو غير متعمد له.
هذا وجه من قال من العلماء -رحمة الله عليهم- وهو مذهب الجمهور: أن قتل الصيد يستوي فيه المتعمد والناسي من باب الأحكام الوضعية، وباب الأحكام الوضعية لا يرد عليه أن يقال: إن الناسي غير مؤاخذ؛ لأن الله تعالى يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} [البقرة:286] فنحن نقول في قتل الصيد خطأ لا إثم عليه؛ لأن الله لا يؤاخذ الناسي، لكنه يضمن هذا الحق؟ كما لو نسي ففوت حق الله عز وجل بقصه لأظفاره وحلقه لشعره، فإنه حينئذٍ يلزمه أن يفتدي؛ لأنه مما لا يمكن التدارك فيه.
يقول بعض العلماء مما يقوي هذا المسلك، وهو ضمان حق الله عز وجل مع وجود العذر: أنك إذا تأملت حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه فإن كعب بن عجرة كان مريضاً ومحتاجاً إلى حلق شعر رأسه، ومع ذلك أُلزم بالفدية أداء الحق لله عز وجل، فأصبح كأن مسلك الشرع أن الإخلالات التي يفوت بها من قص الأظفار أو حلق الشعر أو قصه أو نتفه كأنه في هذه الحالة مطالب بضمان حق الله، بغض النظر عن كونه معذوراً أو غير معذور، فلما نص على وجوب الفدية للمعذور المريض مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ كعب: (ما كنت أظن أن يبلغ بك الجهد ما أرى) فلو سقط حق الله في هذا لسقط في المريض؛ لأن المريض يفعل هذا المحظور بدون اختياره، وكأنه مكره عليه، ومع ذلك ألزمه الشرع بالضمان، قالوا: في هذا دليل على أن الحق يضمن لله عز وجل التفاتاً إلى الأسباب، والأسباب لا يلتفت فيها إلى القصد من باب الحكم الوضعي.
الآن الرجل لو قال لامرأته وهو يمزح معها: أنت طالق.
فإنها تطلق عليه: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق) مع أنه لم يقصد الطلاق، قالوا: من باب الحكم الوضعي، كأن الشرع جعل التلفظ بالطلاق موجباً للطلاق بغض النظر عن كونه قاصداً أو غير قاصد.
وهذا المسلك يختاره الإمام الشاطبي -رحمه الله- ويقرره في كتابه النفيس "الموافقات" في باب المقاصد، تكلم على هذه المسألة، وهو: أن الشرع قد يلزم المكلف بإلزامات من باب الأحكام الوضعية.
ولذلك لما ورد الاعتراض في كتاب المقاصد على قاعدة (الأمور بمقاصدها) قيل لهم: إن الهازل إذا طلق غير قاصد، وأنتم تقولون: الأمور بمقاصدها.
فيقال له: هذا من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، فقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] هذا في التكليفات من جهة كونه يأثم أو لا يأثم، نقول: إذا أخطأ لا يأثم؛ لأن الله عز وجل أسقط عن المخطئ الإثم: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5] هذا الحكم التكليفي، لكن الحكم الوضعي: أنه إذا أخل بشيء من حق الله عز وجل لزمه ضمانه.
فالمجنون مرفوع عنه القلم تكليفاً، لكن لو أتلف مال الغير ألزمناه في ماله بالضمان، ونلزم وليه بالضمان من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، فهذا باب الضمانات، فلما كانت الفدية في باب الضمانات قالوا: لا يلتفت فيها إلى قاصد ولا غيره، فلو أنه قصر شعره أو حلقه أو نتفه فإنه قد أخل، والشرع ألزمه أن يبقي حالته وهيئته على ما هي عليه، فإذا أخل بهذا الشرعي فإننا نسقط عنه الإثم بالنسيان، ولكننا نطالبه في حق الله بالضمان، ولذلك نقول: حقوق الله تضمن، وكونها لله لا يقتضي إلغاؤها أو التساهل فيها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى) فجعل دين الله أحق من دين الآدمي، إلا أن حقوق الله في أبواب دلت النصوص على أنها أخف والمسامحة فيها أوسع، وهذا شأن الفقيه أن ينظر إلى ما وسع الشرع فيه فيوسع، وإلى ما ضيق الشرع فيه فيضيق فيه.(118/16)
تخصيص مساكين الحرم بالهدي والإطعام والفدية ونحوها
[وكل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم].
يلزمه في هدي التمتع، وإذا كان الهدي على الإنسان لازماً أن يكون لمساكين الحرم؛ لأن الله سبحانه وتعالى شرف أهل مكة وسكان الحرم بأن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، وجعله حرماً تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من الله عز وجل، فخص به أهل الحرم؛ ولذلك قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وجعل في شرع الله عز وجل مما يتقرب إليه، وهذه سنة أضاعها الناس إلا من رحم الله، وهي: سنة الإهداء للبيت، أن يهدي الإنسان إلى البيت الإبل أو البقر أو الغنم، فكان الناس إلى عهد قريب يهدون إلى البيت، فالإهداء إلى البيت أن تنحر بمكة وتكون طعمة للمساكين، وهذه هي التي عظم الله أمرها: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة:2] فجعلها مما لها حرمة، وهذا كله تشريف من الله عز وجل لأهل الحرم، فالمساكين -مساكين الحرم وفقراء الحرم- أحق بهذا الهدي، ولا يصرف إلى غيرهم إلا بعد سد حاجتهم، حتى على القول بجواز أن يطعم بها في الآفاق فإنه لا يجوز إخراجها من الحرم إلا بعد أن تُسد حاجة فقراء الحرم؛ وذلك لأن الله عز وجل أطعمهم بهذه الطعمة من فوق سبع سماوات فهم أحق وأولى، وإلا ما فائدة أن يبعث بالهدي إلى مكة، وقد كانوا في القديم يذبحونه بمكة ويكون فيه سد لعوز الفقراء والضعفاء والمساكين بالحرم، ولا يعقل أن يترك الفقراء والضعفاء بالحرم ويصرف لغيرهم، ولذلك ينبغي أن يكون طعمة للمساكين والفقراء وهم أولى بها؛ لأن الله عز وجل خصهم بهذا.
فيكون في حدود الحرم، وقال بعض العلماء: يجوز أن يخرج عن حدود الحرم كأن يأخذ -مثلاً- كتف الشاة ويشرقها ناوياً أن يعطيها لمسكين من جيرانه، قالوا: لا حرج أن يشرقها ويعطيها لمسكين من جيرانه، أو أناس ضعفاء يعرفهم خارج حدود الحرم، قالوا: لا حرج عليه في ذلك.
وقوله: [وكل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم وفدية الأذى واللبس ونحوهما].
قد ذكرنا هذه المسألة: الإطعام الذي يكون في مكة كإطعام الفدية يكون بمكة وغيرها، وأما بالنسبة لجزاء الصيد فإن عِدله -وهو الإطعام- للعلماء فيه وجهان: منهم من خصه بالحرم وهو أوجَه؛ لأنه بدل عن المثلي الذي يكون هدياً بالغ الكعبة، فيكون البدل آخذاً حكم مبدله، فلابد وأن يكون لفقراء الحرم كما ذكرنا.(118/17)
دم الإحصار حيث وجد سببه
وقوله: [ودم الإحصار حيث وجد سببه].
إن أحصر قبل مكة بأيام فيذبح في الموضع الذي أحصر فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحديبية، وتحلل صلوات الله وسلامه عليه وتحلل أصحابه، ولم يبعث به إلى الحرم، وهذا خلاف ما قاله بعض العلماء من أنه يلزمه أن يبعث به إلى الحرم.
وقوله: [ويجزئ الصوم بكل مكان].
ويجزئه أن يصوم في أي مكان ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أطلق، وما أطلقه الشرع يبقى على إطلاقه، فيقال في الصوم: إنه يجوز أن يكون في مكة وفي غيرها؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعله مختصاً بمكة دون غيرها.(118/18)
مقدار الدم الذي يجب في الفدية
وقوله: [والدم: شاة أو سبع بدنة، وتجزئ عنها بقرة].
(والدم) أي: ما وجب على المكلف فهو شاة، وهذه الشاة يشترط فيها أن تكون قد بلغت السن المعتبر للأضحية، فلا يجزي أقل من الثني، ويجزئ الجذع من الضأن وهو ما له أكثر الحول كستة أشهر فما فوق، وأما بالنسبة للإبل فإن سبع البدنة يجزئ عما تجزئ عنه الشاة، سواء كان الدم واجباً في تمتع، أو كان بسبب إحلال لواجب، وهو الذي يسميه العلماء رحمهم الله: بدم الجبران، كشخص أحرم دون الميقات فإذا قال العلماء رحمهم الله عليه: (دم) فالدم شاة.
فقول المصنف رحمه الله: (والدم شاة) أي: اعلم رحمك الله أنك لو سمعت العلماء يقولون: عليه دم، أو الواجب دم، فمرادهم بذلك الشاة التي بلغت السن المعتبر وسلمت من العيوب.
وقوله: (سبع بدنة) فالبدنة تجزئ عن سبع شياه، وقد ذكرنا حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حجة الوداع، وأن البدنة كانت تجزئ عن سبعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جماهير أهل العلم رحمهم الله: أن السبعة لو اشتركوا في بدنة فإنها تجزي عن الدماء الواجبة عليهم، فلو كان على كل واحد منهم إخلال؛ كأن يكون الجميع قد تركوا الإحرام من الميقات وأحرموا من دون الميقات ووجب عليهم الدم فاشتركوا في بدنة واحدة أجزأت عنهم جميعاً، فكل سبع يجزئ عن واحد، وهكذا الحال لو اشتركوا في أضحية فجمعوا أموالهم واشتروا بها بدنة فإنها تجزئ عن السبعة، وهكذا البقرة فإنها تجزئ عما تجزئ عنه البدنة.
وعلى ذلك وردت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ضحى عن نسائه بالبقر، وجمهور العلماء رحمهم الله: على أن البقرة تنزل منزلة البدنة، وعليه: فإنه يجوز الاشتراك في البقر كما يجوز الاشتراك في الإبل، وأما الشاة فإنها لا تجزئ إلا عن واحد، إلا في الأضحية فإن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته كما في الخبر الصحيح: (إن كانت الشاة لتجزئ عن الرجل وأهل بيته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(118/19)
شرح زاد المستقنع - باب جزاء الصيد
من قتل صيداً وهو محرمٌ وجب عليه مثله من النعم، يحكم به اثنان ذوا عدلٍ، وهناك أقضية في جزاء الصيد قضى بها الصحابة رضوان الله عليهم، واختلف العلماء في كون بعضها ماضية إلى قيام الساعة أم أنها خاصة بذلك الزمان.(119/1)
قضاء الصحابة في جزاء الصيد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب جزاء الصيد].
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالتحكيم في قتل الصيد، وقد ذكرنا أن الصيد حرام على المحرم، وأنه يجب عليه الجزاء إذا قتل الصيد، وبينا طريقة هذا الجزاء، وذكرنا ما بينه العلماء رحمهم الله من المسائل المتعلقة بجزاء الصيد من حيث الجملة، وهنا سيذكر المصنف رحمه الله جملة من المسائل التي تتعلق بالأحكام المنصوص عليها إما مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو موقوفة على الصحابة، وتوضيح ذلك: أن جزاء الصيد يفتقر إلى حكم عدلين كما ذكرنا، فلو أن المحرم قتل غزالاً أو قتل ظبياً أو قتل حمار وحش أو قتل بقرة وحش فيجب عليه أن يحتكم إلى عدلين ينظران في الشيء الذي قتله المحرم وعدله من بهيمة الأنعام، فمثلاً: إن كان الذي قتله نعامة فعدلها بدنة، وإن كان الذي قتله حمار وحش فعدله بقرة، وإن كان الذي قتله تيس جبل فعدله الشاة، لكن هذا العدل يفتقر إلى حكمين عدلين ينظران في الشيء الذي قتله والشيء الذي يماثله ويشابهه، فلما كان الحكم الشرعي المجمع عليه في الأصل ينص على هذا فإنه من المعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم وقعت لهم حوادث في قتل الصيد من المحرم فاحتكموا إلى غيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك أقضية عن عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عوف وهذه الأقضية وردت عن الصحابة، وقول الصحابي حجة عند طائفة من العلماء، فكأنهم رأوا أن ما قضى فيه الصحابة وما ورد فيه الخبر والأثر عنهم أنهم حكموا فيه فإن ذلك الحكم باق إلى قيام الساعة فلا يتغير، وهذه مسألة لها نظائر، فالمسائل: التي ورد فيها الحكم من الصحابة أو من النبي صلى الله عليه وسلم في الأقضية التي في أصلها تقبل الاجتهاد هل يبقى حكمها إلى قيام الساعة أم يتجدد؟ فمذهب طائفة من العلماء: أن ما قضى فيه الصحابة لا يتجدد، ولا يحتاج إلى عدلين، فمن قتل حمامة فإن الصحابة قضوا فيها شاة، فنقول له: عليك شاة، ولا نبحث عن مسألة الحكمين العدلين، كأنهم رأوا أن حكم الصحابة بعدل الشاة يعتبر حكماً باقياً إلى قيام الساعة، وهذا بالنسبة لقضاء الصحابة رضوان الله عليهم.
أما بالنسبة للذي لم يقض فيه الصحابة، أي: الذي لم يرد عن الصحابة رضوان الله عليهم فيه حكم، فهذا يرجع إلى العدلين إعمالاً للأصل.
وهناك أمثلة كما ذكرنا منها: الحِمى، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه حمى ما يسمى اليوم بالعطن في المدينة وهو بجوار مسجد السبق، هذا الموضع حماه، وحمى وادي الفرع، وحمى كذلك صلوات الله وسلامه عليه بالربذة، فهل هذا الحِمى يبقى إلى قيام الساعة حمىً، أم أنه حماه لأنه كان محتاجاً إليه في ذلك الزمان؟ فمن أهل العلم من يقول: تبقى مسبّلة إلى قيام الساعة حِمىً.
ومنهم من يقول: إنها تتغير بتغير الأزمنة والعصور.
فإذا كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها فإنه يتغير الحكم بالنسبة لما جدّ وطرأ من العصور بعدها.
هذا بالنسبة لمسألة قضاء الصحابة في صيد المحرم: هل يبقى إلى قيام الساعة، أم أنه قضاء اجتهادي يمكن أن يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص؟ والذي عليه جمهور العلماء: أنهم كانوا يعتدون بقضاء الصحابة، ويرون أن الصحابة رضوان الله عليهم حجة في هذا القضاء؛ والسبب في هذا واضح فإن الصحابي حينما نظر إلى بقر الوحش ونزله منزلة البقرة وقضى فيه بالبقرة، فلا شك أنه أعلم وأعرف بالنص الوارد وبدلالته، فكونه يأتي إلى هذا الشيء وينزله منزلة نظيره من بهيمة الأنعام فإن حكمه واضح في إصابة الحق وقربه من الصواب، ولذلك يقوى القول بأن ما قضت به الصحابة يرجح أن يترك إلى قيام الساعة حكماً باقياً.
وعلى هذا: فإن المصنف رحمه الله قرر لك الأصل في جزاء الصيد أنك تحتكم إلى عدلين، وأنهما يحكمان بالمثل إن وجد المثل ثم ينتقل إلى قيمته وعدله من الطعام بتلك القيمة ثم ينتقل إلى عدله من الصيام كما تقدم معنا شرحه في المجلس الماضي، بعد أن بيّن لك هذه القاعدة شرع الآن في بيان ما ورد فيه الأثر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قضائهم به.(119/2)
قضاؤهم في النعامة وحمار الوحش وبقرته
وقوله: [في النعامة بدنة].
يقول رحمه الله: (في النعامة بدنة) أي: يجب على المحرم إذا قتل صيد النعامة بدنة؛ وذلك لأنه قضاء عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر قضوا: بأن النعامة إذا قتلها المحرم أنه يجب عليه أن ينظر إلى عدلها وهو البدنة، وعلى هذا يبقى القضاء إلى قيام الساعة كما ذكرنا.
وقوله: [وحمار الوحش وبقرته].
(وحمار الوحش) وهو المعروف الذي له خطوط، بخلاف الحمار الأهلي سواء كان أبيض أو أسود فإنه لا يعتبر حلالاً ولا يعتبر صيداً، فلو أنه دهس حماراً من الحمر الأهلية فلا يعتبر صيداً، وهذا إن كان ملكاًَ لأحد وجبت قيمته، وإذا لم يكن ملكاً لأحد فإن دمه هدر لا يجب ضمانه؛ لكن لو أنه صار حمار وحش -وهو الحمار الذي يكون فيه الخطوط في الغالب- فعدله بقرة، وهذا قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وبهذا القضاء قال مجاهد بن جبر تلميذ عبد الله بن عباس، وقال به عروة بن الزبير من التابعين رحمهم الله، وقال به من الفقهاء الشافعية، وهو مذهب الحنابلة والشافعية: أن حمار الوحش إذا قتله المحرم يجب عليه ضمانه بالبقرة، فعدل حمار الوحش إذا نظرت من حيث الهيئة والجلد تعادله البقرة، فهو لا يرتقي إلى البدنة؛ لضعف حجمه عن ذلك، وكذلك أيضاً لا ينزل إلى الشاة، وإنما هو وسط بينهما، فكان عدله الوسط من بهيمة الأنعام، فتجب عليه بقرة مثلية لهذا الصيد إن قتله.
وقوله: [وحمار الوحش وبقرته].
بقرة الوحش كذلك أيضاً يكون جزاؤها البقرة، فيجب فيها بقرة، وهو قضاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وبهذا القضاء قال عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه ورحم الله عطاء؛ وهو فقيه مكة المشهور الذي كان يقال: لا يفتي الناس في الحج إلا عطاء.
وحسبك به علماً وفضلاً رحمه الله برحمته الواسعة، وقال بهذا القضاء عروة بن الزبير قال: إن بقر الوحش فيه بقرة فيكون عدلها أو مثلها البقرة.
وكذلك عمل به فقهاء الشافعية، فمذهب الحنفية والشافعية على أن بقرة الوحش عدلها البقرة من بهيمة الأنعام.(119/3)
قضاؤهم في الأيّل والثيتل والوعل
وقوله: [والأيّل].
(والأيّل) وهو نوع من الوعل.
وقوله: [والأيّل والثيتل والوعل بقرة].
قيل: بالنسبة للوعل هو تيس الجبل، فيقال: يسمى بالأيّل، وقيل: إن الأيّل نوع من بقر الوحش، والوعل هو مما أحل الله من صيد البر، وله قرنان معكوفان، والوعول معروفة، فهذا الوعل عدله بقرة، وبهذا قضى الصحابة: عبد الله بن عباس وقضى به أيضاً عبد الله بن عمر، ولذلك جعل في أنثى الوعول البقرة.
وأما قوله: (الثيتل) فهو الوعل المسنّ، نوع خاص من الوعول، والسبب في ذكره للثيتل بعد ذكره للأيّل ومع ذكره للوعل أن الثيتل يكبر حجمه، وقد يكون مسناً من الحطمة، ولذلك قالوا: فيه بقرة، وكأنه يقول: الوعول ما كان منها شديداً قوياً فإن فيه البقرة، وما كان منها في آخر سنه وقد طعن في السن ففيه البقرة، وما كان من إناثه فإن فيه البقرة كما هو قضاء عبد الله بن عمر.(119/4)
قضاؤهم في الضبع
وقوله: [والضبع كبش].
من العلماء من يقول: الضبح نوع واحد، وهو أشبه ما يكون بالذئب، وإن كان يختلف في الوجه، فوجه الذئب أقرب إلى أن يكون مثلثاً من وجهه المستطيل، وهو يعدو على القبور وينبشها، وكذلك أيضاً يأكل الجيف والنتن، حتى ربما عدى على الحمار ونحوه، فهو من السباع العادية، وبعض العلماء يقول: هو نوعان: نوع منه عاد، ونوع منه أكثر ما يكون اغتذاؤه بالنباتات، وهو الموجود بالحجاز، ويقولون: هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الضبع صيد وفيه كبش)، وهذا الحديث رواه أبو داود وابن ماجة بسند صحيح.
واختلف العلماء رحمة الله عليهم في قوله: (الضبع صيد): فقال بعض العلماء: لا يحل أكله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له حكم الصيد، يعني: في الأصل ليس بصيد ولكن نُزّل منزلة الصيد.
ومنهم من قال: يحل أكل لحمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الضبع صيد)، وهذا أقوى من جهة لفظ الحديث لما قال: (الضبع صيد) وأوجب فيه جزاء الصيد فدلّ على أنه يجوز أكل لحمه.
ومن ناحية القياس كما يقول العلماء: من جهة النظر لا يقوى حلّه، ولذلك هو من السباع العادية، وإذا خلى بالإنسان فتك به وأهلكه، والأشبه من ناحية الأصول عدم حلّ أكل لحمه، وكأن الذين يقولون بتحريم أكل لحمه يقولون: إنه من السباع العادية، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام عندهم: (الضبع صيد) يخرجونه على أنه مع كونه من السباع العادية أخذ حكم الصيد باستثناء من السنة، لا أنه صيد يؤكل، أي: أنه صيد يجب ضمانه، وقالوا: كونه ينص على الضبع ويوجب الفدية فيه على هذا الوجه يدل على أنه ليس بمأكول في الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على جزاء الصيد في غير الضبع، وإنما نص في جزاء الصيد في الضبع، وكأنه في هذه الحالة ينبه على أنه وإن كان الأصل عدم حل أكله لكن يجب الضمان فيه إن قتل.
ولكن من المذهب الأول قلنا: إن له وجهاً من السنة.
وعلى هذا لو قتله ففيه كبش، والكبش يكون من الضأن، فإن كان الضبع كبيراً ففيه كبش كبير، وإن كان وسطاً فوسط، وإن كان صغيراً فصغير، على حسب حالة الضبع، وهذا وجه التمثيل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة:95]، فينظر الحكمان في الشيء المقتول من الضباع، أو من الضبع المقتول من ناحية جِرمِه وحجمه ويوجبون فيه مثلياً في الحجم، مع كونه كبشاً لكن ينظرون إلى مثليته في الحجم، فإن كان الضبع كبير الحجم أوجبوا فيه كبشاً كبير الحجم والعكس بالعكس.(119/5)
قضاؤهم في الغزال والضب والوبر واليربوع
وقوله: [والغزال عنز].
وفي الغزال عنز؛ قالوا: لأنه أجرد لا شعر له وهو أشبه بالماعز، ولذلك هو مقطوع الذنب بخلاف الضبع ولذلك قالوا: ينزل الغزال منزلة الماعز فيجب فيه ما ذكر، وقضى به بعض الصحابة رضوان الله عليهم.
وقوله: [والوبر والضب جدي].
والوبر وهو ضرب من بنات عرس، وكذلك أيضاً الضب فيه جدي، والجدي له ستة أشهر قالوا: يقضى فيه بالجدي، والضب معروف ولكنهم شبهوه ونزلوه منزله الجدي قضاء لبعض الصحابة رضوان الله عليهم وقالوا: إنه يأخذ حكمه فيجب فيه الجدي، وإلا فالأصل من ناحية الحجم والجلد لا يستطيع أن يصل إلى درجة الجدي إلا إذا كان كبيراً، ولذلك بعض العلماء يقولون: ينظر في الضب نفسه، فلا يكون الجدي فيه محدداً مؤقتاً، فإن كان ضباً كبيراً فإنه حينئذٍ يصل للجدي وإن كان دون ذلك فإنه لا يقوى أن يأخذ حكم الجدي.(119/6)
قضاؤهم في الأرنب اليربوع والحمامة
وقوله: [واليربوع جفرة].
(واليربوع) ويقال له: الجربوع، وهي الجرابيع المعروفة، فيبدلون الياء جيماً وهي لغة معروفة في العرب، يقولون للرجل: ريل بإبدال الجيم ياءً، ومنه قوله الشاعر: إذا لم يكن منكن ظل ولا جني فأبعدكن الله من شيراتي أي: أبعدكن الله من شجراتي، فالعرب تبدل الجيم ياء، ويقولون: (ريّال) يعني: (رجال) ونحو ذلك، ويبدلون الياء جيماً، ومنه قوله: إن كنت قد قبلت حجتج لا زال بابل يأتيك بج وأصلها: إن كنت قد قبلت حجتي لا زال بابل يأتيك بي تقول: بج يعني: بي، هذا من إبدال الجيم ياء وإبدال الياء جيماً.
يقال: يربوع وجربوع، هذا معروف عند العامة أنهم يقولون: جربوع، لكن يقال له: اليربوع.
وفي اليربوع جفرة ويكون لها أربعة أشهر وهي من صغار الماعز.
وقوله: [والأرنب عناق].
قيل: إنها تقارب الستة الأشهر، وقيل: يسمى بها صغار الماعز منذ أن يولد إلى أن يبلغ الستة الأشهر، وهذا هو مراد المصنف، أنه ما كان دون الأربعة الأشهر، أي: دون ثلث السنة، هذا بالنسبة للعناق، وهي التي ورد فيها حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم في قصته مع أبي بردة رضي الله عنه وأرضاه: (حينما ذبح شاة قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد النحر فقال: ليس عندي إلا عناق، قال: تجزيك ولا تجزي غيرك).
وقوله: [والحمامة شاة].
وفي الحمامة شاة، قضى به جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وشبهوا الحمامة بالشاة، وهذا القضاء كما قلنا يعتبرونه قضاء باقياً إلى قيام الساعة، فإذا قتل حمامة فإنه يجب عليه أن يضمنها بالشاة لوجه الشبهية.(119/7)
الأسئلة(119/8)
حكم الاستغناء بقضاء الصحابة دون البحث عن عدلين
السؤال
بعد أن تقرر معنا العمل بأقضية الصحابة رضوان الله عليهم في جزاء الصيد، فهل من قتل نعامة -مثلاً- يخرج بدنة مباشرة، أم يأتي بعدلين ثم يخرجها؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: في الحقيقة هذا سؤال جيد! وفق السائل فيه، وأما الجواب: فأقول: نعم، يحتاج إلى وجود العدلين من ناحية تقدير جرم النعامة، فإن النعامة قد يكون جرمها عظيماً، فيطالبون ببدنة عظيمة الجرم، وقد يكون جرمها وسطاً فيطالبون ببدنة من أوساط البدن، وقد تكون دون ذلك فيطالبون بأصغر؛ لأنه لابد من المماثلة، وهذا لا شك أنه سؤال دقيق جداً؛ لأن ظاهر كلام العلماء أن قضاء الصحابة معمول به ويقتضي ألا يبحث عن العدلين، والواقع أنه يبحث عن العدلين من ناحية نوعية المثلية: هل هي من الخيار، أم من الأدنى، أم من الوسط؟ فأنت إذا قلت: عليك بدنة، هل تكون من خيار البدن، أو تكون من أوسطه، أو تكون من أدناه؟ فهذا يفتقر إلى وجود العدلين، ولذلك لابد من وجود العدلين لتحديد البدنة المطلوبة، ويعتبر قضاء الصحابة سارياً من وجه، وحكم الآية نافذاً من الوجه الآخر.
والله تعالى أعلم.(119/9)
حكم الفدية بالزيادة على الواجب
السؤال
هل يجوز أن يفدي في الصيد بأعلى من مثله كأن يفدي عن الغزالة بدنة، أو عن الضب كبشاً؟
الجواب
أما هذه المسألة فقد ختلف العلماء رحمة الله عليهم في الزيادة على القدر الواجب، وإذا قلنا بمشروعيتها: هل يوصف الكل بالوجوب، أو قدر الواجب؟ وقد أشار إلى هذه القاعدة الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه النفيس: القواعد الفقهية، ذكر لهذه المسألة فروعاً، فإذا أدى فوق الواجب هل يوصف الكل بالوجوب، أو قدر الواجب؟ لهذه المسألة أمثلة، قال: لو أخرج بدنة عن شاة، فهل كل البدنة يوصف بالوجوب، أو فقط سبع البدنة؟ وإذا أخرج عن زكاة الفطر مثلاً ثلاثة آصع، فهل الثلاثة كلها توصف بالوجوب، أو الصاع فقط؟ وهكذا، هنا فائدة الخلاف: أنك إذا قلت: الكل يوصف بالوجوب، فحينئذٍ إذا أخرج بدل الشاة بدنة فيصبح تقدير الصيام بقيمة البدنة كلها، أي: الآن إذا جاء يخرج البدنة عن شاة واجبة عليه، فقيمة البدنة فرضنا ألف ريال، لكن قيمة الشاة فرضنا ثلاثمائة ريال، فهو أخرج بدنة بألف ريال، فإذا قلت: يوصف الكل بالوجوب، حينئذٍ يكون العدل من الطعام بقيمة البدنة كاملة، ويكون عليه في الصيام إذا أراد أن يخرج العدل، قال: أنا أرضى أن تحكموا عليَّ ببدنة عدلاً، فحينئذٍ يكون تقدير الحكمين برضاه أن يخرج عدلها مما هو فوقها، فيكون التقدير بما هو معتبر للواجب كله، يعني: البدنة بكاملها، وصحح جمع من العلماء: أن الواجب فقط قدر الإجزاء.
ولها أمثلة أيضاً، منها: لو قلنا: إن المفترض لا يأتم بالمتنفل، كما هو قول بعض العلماء، فلو جاء في الركوع وسبّح الإمام فوق ثلاث فإن الواجب الثلاث وما فوق الثلاث نافلة، فإن قلت: الكل يوصف بالوجوب، حينئذٍ اقتدى مفترض بمفترض، وإن قلت: يوصف قدر الإجزاء فيكون اقتدى مفترض بمتنفل، وحينئذٍ يقولون: يسري عليه ما يسري على اقتداء المفترض بالمتنفل.
الشاهد: أن هذه المسألة للعلماء فيها وجهان مشهوران، لكن بعض العلماء يقول: إذا حدد الشرع قدراً واجباً يجوز إخراج الزيادة، لكن ليس من باب اعتقاد الفضل أو التعبد، وإنما يكون منه تنفلاً، أما لو اعتقد وقال: لا، أنا ما تبرأ ذمتي إلا بالبدنة بدل الشاة، فحينئذٍ لا يجوز له ذلك، ويعتبر من البدعة والحدث؛ لأنه اعتقد وجوب ما لم يوجبه الشرع، واعتقد لزوم ما لم يلزم به الشرع، وحينئذٍ يكون بدعة وحدثاً.
أما لو أنه أخرج الزائد على الواجب لجاز له ذلك، فكما كما لو تنفل بمطلق النافلة.
والله تعالى أعلم.(119/10)
الحكم في قتل الصيد خطأ
السؤال
وردت أسئلة كثيرة عن الحكم فيما لو ارتطمت بعض الحيوانات أو الطيور بالسيارة، سواء كان السائق محرماً أو كان بمكة؟
الجواب
هذه المسألة ترجع إلى قضية قتل الخطأ؛ لأنه لو كان في سفر وهو محرم بالعمرة أو محرم بالحج فارتطمت الطيور أو ارتطم الحمام أو نحوها بالسيارة فقتلت فعند ذلك يجب فيها جزاء الصيد، على القول بأن الخطأ والعمد سواء، وقد بيّنا هذا وذكرنا دليله في المجلس الماضي، وحينئذٍ يكون فيه ما يكون في جزاء الصيد العمد على أصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور.
والله تعالى أعلم.(119/11)
مفهوم القياس عند السلف الصالح
السؤال
هل مفهوم القياس عند السلف رحمهم الله هو مفهوم الموافقة وعدم الفارق، أو هو بالعلة المستنبطة؟
الجواب
القياس يعتبر بالعلة المستنبطة، أما مفهوم الموافقة والمخالفة فهذا له حكمه المستقل، ويسمى مفهوم الموافقة: دلالة اللفظ على ما وافقه، ويدعونها دلالة المطابقة، وهذه لها حكم خاص، أما القياس فلا يكون إلا بالعلة، وللعلة مسلك يفتقر إلى السبر والتقسيم، فتسبر الأوصاف التي يمكن أن تكون صالحة لتعليل الحكم، ثم بعد ذلك تبقي الصالح منها وتلغي غير الصالح.
وقد تكلم العلماء في ذلك ومن أنفس مباحث علم الأصول وأدقها والذي يعين على فهم النصوص وفهم خلافات العلماء في الأدلة وردوده ومناقشاته مبحث التعليل، وهو من أدق المباحث وأصعبها وأعقدها، وقد ألف فيه بعض العلماء تأليفاً مستقلاً، حتى كتب فيه الغزالي كتابه المشهور: شفاء الغليل، بيّن فيه أوجه ومسالك التعليل من النصوص الواردة في التنزيل، كيف تستنبط العلة، وكيف تستخرجها، وما هي الأوصاف المعتبرة للتعليل، فهذا مبحث مهم جداً من مباحث القياس، ولا يمكن للإنسان أن يقيس حتى يعرف كيفية استنباط العلة، والعلة المعتبرة والعلة غير المعتبرة، هذا أمر لابد منه، فمسألة القياس شيء ومسألة المفاهيم شيء آخر.
والمفهوم إما أن يكون مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة، على ما هو معروف في المفاهيم، وأما بالنسبة للقياس فإنه يفتقر للتعليل، فلابد من العلة، وتكون العلة منصوصاً عليها وتكون مستنبطة، فأقوى العلل ما كان منصوصاً عليها.
قال عليه الصلاة والسلام: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذاً)، فلما قال: (أينقص الرطب إذا يبس؟) دل على أن سبب التحريم هو عدم وجود المماثلة التي هي معتبرة لبيع الرطب بالتمر، فما دام الرطب والتمر من أصل الأصناف الربوية فلابد فيه من التماثل والتقارب اللذان هما الشرطان المعتبران، فلما قال: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذاً)، أي: لا يجوز بيع الرطب بالتمر التي هي المزابنة، ورخص في العرايا صلوات الله وسلامه عليه، لكن الأصل عدم جوازها، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (أينقص) ثم قال: (فلا) نبه وأشار إلى العلة.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) إن قوله: (فإن أحدكم) بمثابة التعليل، ولذلك من يرى أن العلة هي خوف النجاسة، قال: لو أنه حفظ يده ونام لم يجب عليه غسلها؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، وهذه علة مستنبطة من النص.
كذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه بثوبين، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فلما قال: (فإنه يبعث ملبياً)، كأنه يقول: أمرتكم بهذا الأمر لعلة وهي كونه يبعث يوم القيامة ملبياً، ففهم منه: أن المحرم لا يمس بطيب، وأن المحرم يجوز له أن يغتسل إلى غير ذلك من الأحكام التي استنبطت بناء على هذا التعليل.
والمقصود: أن طالب العلم إذا أراد أن يرى مسألة القياس أو طريقة القياس فلا بد له من أن يضبط العلة.
وللعلة ضوابط، ثم أيضاً العلة هذه لها مناقشات، فليست كل علة مسلمة، وهناك للعلماء رحمة الله عليهم ضوابط وأقيسة وهي الأركان المعروفة، ثم إن لهذه الأركان شروطاً، فهناك شروط للأصل، وشروط للفرع، وشروط للعلة.
فلابد أن يعلم طالب العلم هذه الشروط حتى يكون قياسه صحيحاً، وأي قياس يقع فإنه يرد عليه أربعة عشر استفساراً، يسميها العلماء: قوادح القياس، وهذه الأربعة عشر استفساراً كل استفسار يوجه على جزئية معينة في القياس، فإذا صحت وثبتت وسلّم بها المناظر بطل قياسه، وهذه يسمونها قوادح القياس، فليس كل إنسان يقيس تأتي وتعترض عليه وتقول: هذا قياس غير صحيح، لا.
هناك قياس من مسلك معين؛ لأنه دليل شرعي ومنضبط بضوابط، فلا يظن البعض أننا لما نقول: قياس.
أن هذا فقط مجرد رأي وهوى، لا.
بل هو أمر منضبط ومحدود بضوابط معينة؛ لأن هؤلاء العلماء وضعوا هذه الضوابط وهي ثمرة جهود قرون عديدة وأئمة على أزمنة مديدة وهم يدرسون هذا الأمر ويتفقهون في الشرع ويفهمون متى يصح هذا النوع من الأدلة ومتى لا يصح.
والله تعالى أعلم.(119/12)
نوع الإطعام في كفارة اليمين
السؤال
هل الإطعام الوارد في كفارة اليمين هو محدد بأنواع معينة من الطعام، خصوصاً وأن الآية قد عممت ذلك في قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89]؟
الجواب
لقد نص العلماء رحمة الله عليهم على أن هذا الإطعام يصرف إلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأطعمة الواجبة، فلو أطعم تمراً أو شعيراً، وكان التمر أوسط ما يطعم به أهله، أو أطعم الشعير وكان الشعير أوسط ما يطعم به، أو أطعم البر وكان البر أوسط ما يطعم أهله أجزأه، وحينئذٍ ينظر إلى حال الإنسان الذي يكفِّر، وهذا على أصح قولي العلماء.
وقال بعض العلماء: بل أوسط البيئة التي يعيش فيها، فيعتد فيها بالأوسط.
والصحيح: أن العبرة بالمكفِّر، أنه ينظر إلى أوسط ما يكون من طعامه.
والله تعالى أعلم.(119/13)
حكم التتابع في صيام من عدم الهدي
السؤال
هل يجب التتابع في صيام الثلاثة أيام إذا صامها في الحج وكذلك السبعة إذا رجع إلى أهله؟
الجواب
لا يجب التتابع في صيام الحج، ولكن الغالب لضيق الوقت أن يحصل التتابع، ويضطر الإنسان له، ولكن من حيث الوجوب فلا يجب، فلو فرقها فإنه يجزيه.
والله تعالى أعلم.(119/14)
حكم شراء فدية مذبوحة
السؤال
في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنسك نسيكة)، هل يجب على المفدي أن يتولى ذبحها بنفسه، أم لا حرج لو اشترى شاة مذبوحة؟
الجواب
لابد لهذه الشاة من أن تذبح، ويكون ذبحها فدية لهذا الشيء الذي كان منه في حجه أو عمرته، لكن لو اشترى مذبوحة لم تجزئ؛ لأنه عند ذبحها لم تقصد لجبر هذا المحظور الذي أخلّ به، ولذلك يذبحها على نية أنها فدية عما أتاه والنية وهي المعتبرة في ذلك، وعليه فإنه لا يجزئ أن يشتري شاة مذبوحة، وإنما يجب عليه أن يذبح، وتكون النية في الذبح عن هذا الدم الواجب، سواء كان في تمتع أو قران أو جبران لنقص أو كان فدية أذى.
والله تعالى أعلم.(119/15)
حكم القارن والمتمتع إذا لم يملكا الهدي
السؤال
على القول: بأن العبرة في عدم الهدي في دم المتعة والقران بصبيحة يوم النحر، وذلك إذا لم يملك الثمن، فكيف يصوم الثلاثة الأيام في الحج على هذا القول؟
الجواب
على هذا القول يقول العلماء: إنه إذا غلب على ظنه، مثلاً: كالشخص الذي عنده مال ويعلم أن ماله لا يكفيه لشراء الشاة وهو من بداية إهلاله للحج يعلم أن عنده مائة وخمسين ريالاً -مثلاً- وهذه لا تفي لشراء الشاة، فمثل هذا من بداية إهلاله للحج يعلم أن القيمة ليست عنده، فحينئذٍ يجوز له أن يصوم؛ لأن الغالب كالمحقق، وينزّل منزلة المحقق، وقالوا أيضاً: يجوز له أن يؤخر إذا أخر إحرامه ووقع إحرامه قبل يوم عرفة فأحرم يوم التروية ولم يتيسر له صيام يوم التروية ويوم عرفة صام أيام النحر؛ لما ذكرناه: من أنه يرخص فيها لمن لم يجد الهدي؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم صاموها.
والله تعالى أعلم.(119/16)
حكم جمع المساكين وإطعامهم من الآصع مجتمعة
السؤال
هل يجوز في الإطعام جمع المساكين وإطعامهم من الآصع وهي مجتمعة، أم لابد من نصف الصاع والتوزيع؟
الجواب
لابد لكل مسكين أن تعطيه حقه، ولا تبرأ ذمتك حتى تعطيه حقه في يده، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نص: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين)، وهذا يقتضي أنك تعطي المسكين حقه طعمة من الله عز وجل أطعمه إياها من فوق سبع سماوات، لا تتصرف في كيفيتها ولا طريقتها، وإنما تعطيه الطعام إن شاء أن يأكل اليوم أكل، وإن شاء أن يأكل الغد أكل، وإن شاء أن يعطيه لغيره فيؤثر به على نفسه فعل، أما أن تلزمه بأن يأكل عندك وتجعل طعامه عندك وتحاسبه على ما يطعم، وتكلفه مشقة الحضور إليك، والتعني بانتظار طعامك؛ فهذا ليس له أصل، وحينئذٍ عليك أن تعطيه الطعام بيدك؛ لأن الله ملك المسكين حقه فقال سبحانه: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19]، فنصه سبحانه على أن المال الواجب ملك للفقير: واللام هنا للتمليك، {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] أي: ملك للسائل وملك للمحروم، فدل على أن الأموال التي هي زكاة أو أموال واجبة أنها ملك للفقراء والضعفاء.
وقد توسع البعض باجتهاداته في هذه الأزمنة حتى بلغ ببعضهم أنه يشتري للفقير من الزكاة أكسية وأغذية ويذهب بها إلى المسكين، وهو قول ضعيف.
والصحيح: أن المال يعطى للمسكين بيده؛ حتى يشعر بطعمة الله التي أعطاه إياها، إن شاء أن يبذله في طعامه بذل، وإن شاء أن يبذله في كسائه بذل، وإن شاء أن يعطيه لغيره من أقاربه فهذا أمره إليه، أما أن يتدخل الإنسان ويصرف المال، ويتصرف فيه، أو يصرف الطعام ويتصرف فيه، أو يجعله على صفة أو على هيئة فيلزمه بوقت أو زمان أو هيئة من طعام، فهذا خلاف الأصل الشرعي، ولذلك عليك أن تعطي للمسكين ما أوجب الله عليك.
والله تعالى أعلم.(119/17)
حكم إلحاق الحمار الأهلي بالوحشي
السؤال
إذا استوحش الحمار الأهلي فهل يأخذ حكم الحمار الوحشي؟
الجواب
لا يحلّ أكل الحمار الأهلي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها رجس)، فهي رجس إلى يوم القيامة، استوحشت أو لم تستوحش وهذا السؤال يتركب على مسألة خلافية أخرى، تعرفون أن الإبل والبقر والغنم في الأصل تكون مستأنسة؛ لكن ربما شردت الشاة منك، وربما شرد البعير منك، وربما شردت البقرة، فحينئذٍ يقول العلماء: خرج المستأنس إلى المتوحش، فيجوز لك أن ترميه بالسلاح في أي موضع، فلو شردت الشاة فأخذت -مثلاً- السلاح ورميتها به في أي موضع -وأنت لا تستطيع إدراكها- فقتلتها، فيجوز لك أكلها، مع أن الأصل أنه لا يجوز؛ لأن الواجب أن تذكى ذكاة المستأنس؛ لكنها لما خرجت من صورة الاستئناس إلى الاستيحاش عوملت معاملة المستوحش؛ والدليل حديث رافع رضي الله عنه عندما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير -يعني: فر- فأهوى رجل بسهم فعقره، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إن لهذه الحيوانات -يعني: المستأنسة من الإبل والبقر والغنم والبهائم- أوابد كأوابد الوحش، فما ندّ منها فاصنعوا به هكذا)، فدل على أنه يجوز عقره.
ومن أمثلة ذلك: لو سقطت الشاة في البئر، فأنت لا تستطيع أن تمسكها، فحينئذٍ ترمي بالسلاح الذي يجرحها في أي موضع من جسدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلْ)، فترميها بالسلاح في أي موضع، فإذا رميتها في أي موضع وماتت قبل أن تصل الماء أو قبل أن تصل إلى قعر البئر إذا كان أرضاً فحينئذٍ يحل لك أكلها؛ لأنها ذكيت ذكاة الصيد.
فقياساً على هذه المسألة ظن أن الحمار -أكرمكم الله- إذا استوحش يجوز أن يعامل معاملة الصيد، وأنه يجوز رميه في أي مكان ويؤكل، ولكن نقول: إن المستأنس حلال اللحم في الأصل، ولكن الحمار -أكرمكم الله- في الأصل محرم لحمه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنها رجس) يعني: في لحوم الحمر الأهلية، وعلى هذا لو استوحش ما يؤثر، فالاستيحاش صفة عارضة لا توجب زوال الأصل بالحرمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله.(119/18)
شرح زاد المستقنع - باب صيد الحرم
لقد حرم الله ورسوله مكة والمدينة فلا يقتل الصيد فيهما، ولا يقطع شجر مكة ولا حشيشها إلا الإذخر، فمن قتل صيداً في مكة فعليه دم مثل ما قتله، ومن قتل صيداً في المدينة لزمه الإثم، وفي كلٍ تعرض لسخط الله وعقابه لمن أصر على هذا الفعل.(120/1)
حرمة مكة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب صيد الحرم].
لما فرغ من بيان حكم الصيد بالنسبة للمحرم شرع في بيان نوع خاص من الصيد، وهو الذي يشمل المحرم والحلال، وهو صيد مكة وكذلك صيد المدينة، وهذان الموضعان هما اللذان حرم الله ورسوله كما ثبتت بذلك النصوص في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (باب صيد الحرم) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة بحكم من قتل الصيد داخل مكة أو قتل الصيد داخل المدينة، فإذا كان مراده العموم يصبح حينئذٍ قوله: (الحرم) أي: باب حكم صيد حرم المدينة ومكة، وهذا هو الذي ذكره في الباب أنه اعتنى ببيان حكم صيد مكة والمدينة، أو يكون قوله: (الحرم) حرم مكة، فيكون ذكره لأحكام حرم المدينة من باب التبعية؛ وذلك لأن تحريم المدينة إنما وقع بعد تحريم مكة شرفها الله.(120/2)
حرمة صيد الحرم
وقوله: [يحرم صيده على المحرم والحلال].
يحرم صيد الحرم على المحرم والحلال بإجماع المسلمين؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (إن هذا البلد حرم آمن)، وقال في المدينة: (إنها حرم آمن).
وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس).
قال بعض العلماء: قوله: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) أي: أن حرمة مكة إنما كانت من الله تشريعاً ولم تكن شيئاً جبلياً في الناس، كأن يكون شيئاً كان الناس يألفونه ثم نشأ في الناشئة من بعد ذلك وهم على هذا التحريم، إنما هو تحريم من الله.
وقيل: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) أي: أن الله حرمها؛ ولكن الناس استهانوا بهذه الحرمة العظيمة، كأن النبي صلى الله عليه وسلم ينبه على عظيم ما للبيت والحرم من حرمة عند الله عز وجل، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة)، فهذا نص صريح يدل على أن مكة حرم، وأنه لا يجوز أن يعتدى فيها، وأن تصاب فيها حدود الله عز وجل، ومن ذلك ما نهى الله عز وجل عنه من الصيد.
ففسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحرمة وبين وجهها فقال: (لا ينفّر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا يقطع شوكها، ولا تلتقط لقطتها، إلا من معرّف وفي رواية: إلا لمنشد)، فلما قال: (لا ينفّر صيدها) فانظر إلى تعبيره عليه الصلاة والسلام الذي يفيد أن تنفير الصيد واستثارته حرام، فكيف بقتله؟! وهذا كما يسميه علماء الأصول من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، فإذا كان تنفير الصيد وهو تحريشه وتحريكه -كأن يرى حمامة فيهش عليها- حرام عليه، فكيف إذا قتلها؟! فإنه من باب أولى وأحرى يقع في حرمة أعظم.
فالمقصود: أن تحريم مكة وتحريم الصيد فيها خاصة وتحريمها من كل وجه من جهة العموم، حتى نص العلماء رحمة الله عليهم بتفصيلهم لهذه الحرمة حتى بلغ ببعضهم أن قال: إنه لو قتل ولجأ إلى الحرم لا يقتل، وإن كان الصحيح: أن من قتل عمداً ولجأ إلى الحرم أنه يقتل؛ لكن الشاهد: أن العلماء رحمة الله عليهم عظموا هذه الحرمة ونصوا عليها؛ وذلك لثبوت الأخبار المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعظيم حرمات الحرم.
وقوله: [وحكم صيده كصيد المحرم].
وحكم صيد الحرم بالنسبة لك كحكم صيد المحرم، أي: أن الصيد داخل حدود مكة حرام على المكلف سواء كان محرماً أو حلالاً، فكما أن المحرم لا يجوز له قتل الصيد، كذلك من دخل حدود مكة لا يجوز له قتل الصيد، وحدودها من جهة المدينة ثلاثة أميال وهي جهة التنعيم، وأما من جهة الطائف وجهة المشرق فهي سبعة أميال، ومثلها جهة اليمن، ومن جهة الجعرانة تسعة أميال، وأما من جهة جدة فعشرة أميال، هذا بالنسبة لحدود الحرم، وله أصل في حديث الحاكم في ذكر أثر ابن عباس رضي الله عنهما في نزول الحجر وانكسار شعبه -وقيل: إضاءته- فبلغت حدود الحرم، وأقيمت الأعلام عليها، وهي منصوبة معروفة ويعتبرها العلماء رحمة الله عليهم من نقل الكافة عن الكافة، فهذه المعالم والرسوم والأمارات التي بقيت وتوارثتها الأمة جيلاً بعد جيل ورعيلاً بعد رعيل تعتبر باقية ويعتبر وجودها ونقل الكافة عن الكافة دليلاً على ثبوتها، ولذلك نجزم بأن هذا هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا هو جبل أحد من باب نقل الكافة عن الكافة، وهذا ما يسمونه نقل التواتر الذي لا يقبل التكذيب، وعليه فهذه المعالم هي حدود الحرم، فإذا دخل الإنسان إلى هذا الحد من أي جهة كان فإنه يجب عليه أن يرعى هذه الحرمة، ويطالب بحفظ حدود الله عز وجل واتقاء محارمه، ومما حرم الله: قتل الصيد.
كذلك أيضاً: لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، فحشيشها لا يحش ولا يؤخذ منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يحتش حشيشها)، وفي رواية: (ولا يختلى خلاها) كل ذلك يدل على أنه حرم ينبغي اتقاؤه، وعدم التعرض لما فيه من الصيد والزرع.(120/3)
حرمة قطع شجر مكة وحشيشها إلا الإذخر
وقوله: [ويحرم قطع شجره].
ويحرم قطع الشجر، أي: بمكة وداخل حدودها، والشجر له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون نابتاً من الله عز وجل بدون أن يكون هناك فعل للآدمي، فهذا لا يجوز لأحد أن يقطعه، ولكن استثنى بعض العلماء وجود الضرورة، فإذا كانت ضرورة متعلقة بالكافة كمرور الناس في الطريق وهذه شجرة شوك ستسقط عليهم وتؤذيهم، قالوا: يجوز قطعها كما قطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدوحة بالمطاف.
وقال بعض العلماء: إذا قطعت مع وجود الحاجة والضرورة لزم الجزاء فيها، وهو قضاء ابن عباس رضي الله عنهما، كما سيأتي إن شاء الله بيانه.
وعلى هذا فإن الشجر الذي نبت وأنبته الله عز وجل وليس للآدمي فيه دخل فإنه لا يجوز قطعه، وأما إذا انكسر من نفسه وسقط فهذا شيء آخر، فإذا انكسر الغصن أو سقط، أو أن الشجرة يبست وسقطت من نفسها، أو اقتلعتها الريح ويبست، فحينئذٍ قالوا: يجوز أن يحتطب منها، ويجوز أن ينتفع منها، ولا حرج في ذلك، كالحشيش اليابس؛ لأن هذا ليس بعضد، فهو لم يعضدها، وحينئذٍ يجوز له أن ينتفع ويرتفق بها.
أما إذا كان الشجر قد أنبته الإنسان كأن يزرع في بيته زرعاً ثم يريد جزّه وقصه أو عضده فلا حرج عليه أن يفعل ذلك إذا كان مما أنبته أو يكون اشتراه من رجل زرعه فصار في ملكه، فإن يجوز له حينئذٍ أن يحش، ويجوز له أن يقص، ولا حرج عليه في ذلك.
وقوله: [وحشيشه الأخضرين].
والحشيش ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: إما أن يكون أخضر، كالمراعي النابتة، وذلك حين ينزل مطر أو تصيب السماء فينبت الرعي في مكة فهذا لا يحشّ، لكن لو كان عندك إبل أو بقر أو غنم ورعت فيه فلا حرج، فهناك فرق بين أن ترعاه البهيمة وبين أن تحش بنفسك، ولذلك كان للصحابة رضوان الله عليهم إبلهم ودوابهم حينما قدم عليه الصلاة والسلام مكة ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكمموا أفواهها، ولم يحرم عليهم أن ترعى هذه الإبل داخل مكة، وإنما جعل التحريم من فعل المكلف، فدل على أنه يجوز أن يرسل إبله أو بقره أو غنمه للرعي، ولا حرج عليه في ذلك، وهذا إذا كان الحشيش أخضر.
أما إذا كان الحشيش يابساً فيجوز لك أن تجزّه، وأن تأخذ الهشيم ونحوه، فإنه ليس بحشيش وإنما هو هشيم تذروه الرياح إن لم تأخذه أنت، وحينئذٍ يجوز للإنسان أن يأخذه.
وقوله: [إلا الإذخر].
لما خطب الناس كما في حديث أبي شريح رضي الله عنه وأرضاه في حديثه الذي سمعته أذناه، وأبصرت عيناه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تكلم به، ووعاه قلبه حينما قام عليه الصلاة والسلام خطيباً في يوم الفتح فذكر حرمة مكة، وفيه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن هذا البلد قد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة)، وفي الرواية الأخرى: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم رجعت حرمتها، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يقطع شوكها، ولا ينّفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف، قال العباس رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله! إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر) فدل هذا على أن الإذخر يستثنى، ويجوز أن يجزّ، ولا حرج في ذلك.(120/4)
حرمة المدينة والصيد فيها
وقوله: [ويحرم صيد المدينة].
لما فرغ رحمه الله من أحكام الصيد بمكة، حيث أثبت أنه لا يجوز أن يصاد الصيد بمكة، وعلى هذا إذا صاد الصيد بمكة كما ذكر لك حكمه حكم صيد المحرم، فلو قتل بمكة تيس جبل أو مثلاً صاد غزالاً أو صاد حمامة ففيه القضاء الذي ذكرناه كصيد المحرم سواء بسواء ولم يفصل؛ لأنه تقدم التفصيل، لكن هنا بالنسبة لصيد المدينة فإنه لا يجوز، فالمدينة أولاً: محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إن عبدك وخليلك قد حرم مكة ودعا لها، وإني أحرم المدينة وأدعو لها: اللهم بارك في صاعها ومدها) وفي رواية: (اللهم اجعل مع البركة بركتين! اللهم اجعل مع البركة بركتين)، فبالإجماع فإن البركة في المدينة ضعف البركة في مكة، وهذا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فالأرزاق مباركة في مكة، ويجد الإنسان أثر هذه البركة في طعامه ورزقه وقوته، ولكنها في المدينة على الضعف فما في مكة يعتبر في المدينة بالضعف، وهذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا قال بعض السلف بتفضيل المدينة على مكة؛ لأنه دعاء بالبركة عموماً، وقال: إن الله اختارها لنبيه صلى الله عليه وسلم، كما هو قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس.
وذهب جمهور العلماء: إلى أن مكة أفضل.
واحتج الإمام بتفضيل الموت بالمدينة؛ لأن الله عز وجل اختارها لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، وجعلوا لها من الفضائل، حتى كانت البركة فيها ضعف ما بمكة.
والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور، أن مكة أفضل من المدينة، وهذا أمر واضح جلي، فإن النصوص ظاهرة في تفضيل الله عز وجل لهذا الحرم، وثبت في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله إنك لخير أرض الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت)، فالشاهد في قوله: (والله إنك لخير أرض الله) يدل على أنها أفضل؛ لأن قوله: (خير أرض الله) كما تقول العرب: فلان خير، أي: أخير، وشر: أشر، فقوله: (خير أرض الله) يدل دلالة واضحة على أنها أفضل، ولذلك جعلت الصلاة بالمسجد الحرام بمائة ألف، وبمسجد المدينة بألف وهذا يدل على أن مكة أفضل.
وعليه فإن حرمة المدينة تشابه حرمة مكة، فلا يجوز قتل الصيد داخل حدود حرم المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح عن المدينة: (إنها حرم آمن)، وفي الصحيح من حديث علي رضي الله عنه: أنه لما سأله أبو جحيفة: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتابه، وما في هذه الصحيفة، فأخرجها فإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يوم القيامة) هذا ثابت في الصحيح، وقوله: (لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) قيل: لا يقبل الله منه فريضة ولا نافلة، وقيل: إن قوله: (صرفاً ولا عدلاً) أي: إشارة إلى أنه لا يقبل منه شيء، نسأل الله السلامة والعافية، وإذا لم يقبل العمل من العامل فهذا أمر عظيم؛ لأنه دليل على هلاكه، فهو مهما عمل فإن عمله لا يعود عليه بخير؛ لأن العبرة بالقبول.
فالمقصود: أنه لعظيم حرمة الحرم صرف العبد عن القبول بالإحداث في مدينة حرم النبي صلى الله عليه وسلم، فحرمة المدينة تقتضي عدم جواز قتل الصيد، وعدم جواز تنفيره، ولذلك لما رأى سعد رضي الله عنه الغلام من بني مخزوم يصيد في المدينة أخذ سلاحه الذي يصيد به، فجاء مواليه وقالوا: رد للغلام آلته، قال: لا والله، لا أرد سلباً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم في صحيحه، فهذا من باب العقوبة، ولذلك من وجد يصيد في حدود الحرم فإنه يجوز أخذ آلته التي يصيد بها وتملك، وهذا من باب العقوبة التعزيرية، أي: التعزير بالمال.
فالمقصود: أن حرم المدينة يقتضي عدم جواز الصيد فيه، وعدم جواز الحدث والبدعة داخل المدينة، وكذلك حرم مكة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْم} [الحج:25]، بل إن حرم مكة أشد؛ لأنه جعله لمجرد الإرادة وتوجه العزيمة للشيء.(120/5)
حدود حرم المدينة
حرم المدينة من عير إلى ثور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (المدينة حرم من عير إلى ثور)، وعير: هو الجبل الذي بحذاء الميقات، على يسار الذاهب إلى مكة مع طريق الهجرة الموجودة الآن، فطريق الهجرة الموجودة الآن إذا جئت إلى الميقات الذي يسمى بأبيار علي فإنك إذا كنت داخلاً المدينة يكون عير عن يمينك؛ وهو جبل طويل أزرق، وأما عن يسارك فيكون الميقات، فهذا الجبل الذي عن يمينك إذا كنت داخلاً المدينة أو عن يسارك وأنت خارج يسمى بعير، وهو حد المدينة من الجهة الغربية إلى الجنوب، وأما ثور فحدها من الجهة الشمالية إلى الشرق، وثور اختلف فيه على أقوال: فهناك قولان هما أشهر وأقوى وأصح الأقوال الواردة: إما أن يكون هو الجبل الصغير الأحمر المدور الذي خلف جبل أحد، وهو جبل معروف عند أهل المدينة، وأشار إليه الحافظ ابن حجر، وأشار إلى هذا السمهودي في كتابه النفيس: وفاء الوفاء.
وهناك قول ثان: أنه الجبل الذي يسمى بجبل الخزّان؛ وهو على طريق المطار القديم، إذا انتهى جبل أحد، فيكون جبل أحد عن يسارك وأنت خارج من المدينة إلى المطار ويكون هذا الجبل عن يمينك، وقد أخذ الطريق طرف هذا الجبل ويسمى بجبل خزان، وهذا الجبل هو الذي تنطبق عليه صفات جبل ثور.
هذا بالنسبة لحدّها من الجهتين اللتين ذكرنا.
أما من جهة الحرة الشرقية المحضة والغربية المحضة، فإن الحرتين تعتبران حداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أحرم ما بين لابتيها) ولابتا المدينة هما: الحرة الشرقية والحرة الغربية.
أما الحرة الشرقية فهي في الجهة الشرقية لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى هذه الحرة في القديم بحرة واقم، وهي التي وقعت فيها موقعة الحرة المشهورة التي كانت أيام يزيد بن معاوية، وفيها يقول قيس الرقيات: فإن تقتلونا يوم حرة واقم فإنا على الإسلام أول من قتل فهذه تسمى بحرة واقم.
أما الحرة الثانية وهي الحرة الغربية، فهي في غربي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى حرة الوبرة، وتسمى الآن بالحرة الغربية.
هاتان الحرتان ما بينهما حرام، وهل الحرتان داخلتان في الحرم، أو ليستا بداخلتين؟ قولان، والصحيح: أنهما داخلتان.
واختلف في وادي العقيق، ووادي العقيق من الجهة الغربية بعد الحرة، فبمجرد أن تقطع الحرة تنزل إلى وادي العقيق، والصحيح أن وادي العقيق من الحمى وليس من الحرم، فهناك أمران ينبغي التفريق بينهما وهما: الحرم، والحمى، أما الحمى فإنه يخرج خارج الحرم، والحمى لا يجوز فيه الصيد، وكان حمى -أيضاً- لإبل الصدقة لا يرعى فيه أحد، وحمى المدينة بريد في بريد، يعني: ثلاثة أميال في ثلاثة أميال، هذا بالنسبة لحمى المدينة من الجهات كلها، حماه النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ترعى فيه إبل الصدقة؛ والتي كانت تتبع بيت مال المسلمين، فلما كانت تحتاج إلى رعي تركت لها هذه المساحة من الأرض، وهذا يسمى حمى المدينة.
فهذا الحمى لا يجوز فيه الصيد، وأما بالنسبة لحدود الحرم فلا، فإن الحرم ينتهي عند الحرة، وهل الحرة داخلة، أو لا؟ على الوجهين اللذين ذكرنا.
وقوله: [ويحرم صيد المدينة ولا جزاء فيه].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة، وفهم الصحابة ذلك كما ذكرنا في حديث مسلم في عقوبة من صاد في المدينة، فدل على أنه لا يجوز الصيد داخل المدينة، ولكن يختلف صيد مكة عن صيد المدينة أن صيد مكة فيه جزاء وصيد المدينة لا جزاء فيه، والجزاء في الصيد داخل حدود حرم مكة فيه خلاف، ولكنه فتوى ابن عباس رضي الله عنهما.
وقوله: [ويباح الحشيش للعلف].
الدواب إذا جاءت ورعت فلا حرج في ذلك.
وقوله: [وآلة الحرث ونحوه].
وكذلك آلة الحرث ونحوه في المدينة، وفيه حديث أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله: أن الصحابة رضي الله عنهم اشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم المشقة في تحريم المدينة في عدم جواز قطع شجرها.
ولذلك انظر حينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصنع المنبر الذي كان يخطب عليه لما كثر الناس بعد عام الوفود احتاج للمنبر؛ لأنه كان يخطب على الجذع، فاحتاج إلى المنبر حتى يعلو فيستطيع أن يبلغ صوته إلى آخر المسجد، فقال -كما في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في الصحيحين- لامرأة من الأنصار: (انظري غلامك النجار فليصنع لي أعواداً أكلم عليها الناس)، يقول سهل رضي الله عنه: (فصنعت من طرفاء الغابة)، والغابة هي التي تسمى اليوم بالخُليل، وهي خارج حدود المدينة، وقد تجاوز الحمى، فلما احتيج لخشب المنبر لم يستطع أن يأخذ من شجر المدينة، وإنما خرج إلى خارج حدود الحرم، فبالرغم من أن النبي محتاج إلى المنبر، وأحب الأشياء إلى الله هو الدعوة إليه سبحانه وتعالى ومع ذلك صنع هذا المنبر من طرفاء الغابة، كما في الرواية في الصحيح، ولذلك يقولون: لا يعضد شجرها، ولا يؤخذ منها، على التفصيل الذي ذكرناه، فاستثنوا الآلة كأن تؤخذ خشبة للفأس ونحوه، حتى يقدّ به أو المعول حتى يحفر به ونحو ذلك، قالوا: رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وخشبة البئر كما جاء في حديث أحمد في مسنده؛ لأنهم اشتكوا له المشقة.
فالشخص إذا احتاج إلى هذه الخشبة لكي يصلح فأسه يخرج خارج المدينة ويجاوز الثلاثة الأميال ثم يقص الشجرة ويأخذ منها فهذا فيه مشقة، فلما شكوا للنبي صلى الله عليه وسلم هذا رخص لهم في ذلك، فهذا الذي جعل المصنف رحمه الله يقول: الآلات.
وقوله: [وحرمها ما بين عير إلى ثور].
وحرم المدينة ما بين عير إلى ثور؛ لقوله: (المدينة حرم من عير إلى ثور)، وحد بعض المعاصرين ثور بالجبل الذي هو خلف جبل أحد بجوار الوادي الذي يسمى بوادي النقمي، وتسميه العامة وادي النكمى، المعروف في القديم باسم النقماء، وهو الذي جاء عنه في غزوة الأحزاب: (أتيت بغطفان فأنزلتهم بمجمع الأسيال من ذنب نقماء)، هذا الوادي يأتي من الجهة الشرقية من جهة المطار ويسمى الآن بوادي الأوينه، هذا الوادي إذا التقى مع مجمع الأسيال فهناك جبل يقولون: إنه جبل ثور، وهذا خطأ، فإن هذا الجبل ليس بجبل ثور، ولو جئت تقف وتجعل عيراً وراء ظهرك وتسامت هذا الجبل ناظراً إليه لوجدت المدينة في أقصى اليمين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين عير إلى ثور)، وهذا يدل على خطأ هذا التحديد، ولذلك الصحيح: أن التحديد إما الجبل المدور الذي ذكرناه خلف أحد، وإما الجبل الذي يسمى بجمل الخزان، وهو الذي ذكره السمهودي في وفاء الوفاء، يقول: هو جبل صغير على يسار الذاهب إلى العراق.
فكان على يسار هذا الطريق؛ لأنه كان طريق المشرق وينفذ منه إلى المشرق، وهذا هو أرجح الأقوال، إما هذا الجبل أو هذا الجبل، فكان الوالد رحمه الله يختار الجبل الذي يسمى بجبل الخزان، ويذكر شواهد من الشعر تدل عليه، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس وهو أنه جبل ثور.
وتحديد جبل ثور مشكلة من المشكلات، حتى إن أبا عبيد القاسم بن سلام العالم الجليل والمحدث والمفسر رحمة الله عليه الفقيه المشهور كان يقول: أخطأ المحدثون.
فكان يخطئ رواة الحديث في هذا الحديث الثابت في الصحيحين ويقول: ليس في المدينة ثور، وإنما هو بمكة.
والصحيح: أن ثور بالمدينة، ولكن كان خافياً عن البعض، وخفاؤه لا يقتضي أنه ليس بموجود، بل موجود؛ لأن الرواية في الصحيحين، وقد رواه الثقاة العدول، وعلى التفصيل الذي ذكرناه.
وعليه: فإنه يعتبر حد المدينة ما بين عير إلى ثور من الجهة الشرقية إلى الشمال والغربية إلى الجنوب، وأما بالنسبة للحرتين فقد ذكرنا أنهما حد للحرم لظاهر الحديث في الصحيح: (فإني أحرم ما بين لابتيها).(120/6)
شرح زاد المستقنع - باب دخول مكة [1]
لقد شرف الله تعالى بعض الأمكنة وفضلها بما وهبها من خصائص تميزت بها عن غيرها، ومن هذه الأماكن: المسجد الحرام ومكة المكرمة، ومن تشريف الله تعالى لها أن جعل لدخولها آداباً وسنناً ينبغي لمن دخلها أن يلتزم بها، والأولى والأفضل لمن دخلها أن يدخلها محرماً، فإن كان في الحج فبحج، وإن كان في غير موسم الحج فيحرم بعمرة.(121/1)
كيفية دخول مكة(121/2)
السنة في جهة الدخول إلى مكة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [باب دخول مكة].
هذا الباب قصد المصنف رحمه الله أن يبين فيه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة دخوله في حجه وعمرته لمكة، وما هو الهدي الذي ينبغي على الحاج أن يحافظ عليه، وكذلك على المعتمر إذا دخل مكة -زادها الله شرفاً وكرامةً-، ونظراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه هذه السنة، فقد اعتنى العلماء رحمهم الله بتخصيص الدخول إلى مكة ببيان جملةٍ من أحكامه ومسائله، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
قوله: (باب دخول مكة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصفة الدخول إلى مكة، والدخول إلى البيت من أجل الطواف.
قال رحمه الله تعالى: [يسن من أعلاها].
أي: يسنّ الدخول إلى مكة من أعلاها، والمراد بأعلاها من جهة ثنية كداء، وهي الثنية التي عند قبور المعلاة، ومنها ينصب الداخل على البطحاء، ثم يستقبل باب البيت، وهذا المدخل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتت عنه الأحاديث الصحيحة أنه دخل مكة منه.
وللعلماء رحمهم الله في هذا الدخول وجوه: الوجه الأول: منهم من قال: هذا الدخول كما لا يخفى بالنسبة لأهل المدينة فيه رفقٌ بهم، فيأتي الحاج والمعتمر من جهة التنعيم، ثم إلى الحجون، ثم ينحرف ذات اليسار مع الحجون حتى ينصب إلى الثنية، ويدخل من جهة القبور، ولا يزال الطريق موجوداً إلى الآن، وهو الطريق الذي يفصل قبور المعلاة وينصب من بينها، فهذا هو مدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ثنية كداء.
قال هؤلاء العلماء: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من هذا الموضع، وهو أعلى مكة؛ لأنه خرج من مكة متخفياً بالليل، فدخلها من أعلاها إعزازاً للإسلام وإعلاءً لشأنه، فالتمس أرفع المواضع، وأعلى المواطن حتى تظهر شوكة الإسلام وعزته، وهذا يدل على أن الله تعالى تكفل بنصرة دينه، وإعلاء كلمته، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ليلاً، فأدخله الله إليها في وضح النهار، في يومٍ أعز الله فيه دينه، ونصر فيه عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
فأدخله الله عز وجل في وضح النهار معززاً مكرماً، بين أصحابه الذين يفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم وأرضاهم، خرج منها كالوحيد ليس معه إلا أبو بكر والدليل، وأدخله الله مع ثمانية آلاف يفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذا كله يدل على ما كان لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الدين عند الله عز وجل من شأنٍ.
الوجه الثاني: ومنهم من قال: إنه دخل من هذا الموضع لأن حسان رضي الله عنه قال: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء في قصيدته المشهورة: عفت ذات الأصابع فالدلاء إلى عذراء موضعها خلاء ديارٌ من بني حسحاس قصرٌ تعفيها الروامس والدلاء فلما ذكر هذا الموضع -أي: كداء- أصدق النبي صلى الله عليه وسلم وعده، وحافظ على الدخول من جهة ثنية المعلاء.
الوجه الثالث: التشريف، وهذا أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله بالشرح، وأشار إليه غيره، أن هذا الموضع إذا دخل منه الحاج والمعتمر يدخل على القبور، ومن جهة القبور على البطحاء، ثم على جهة الصفا والمروة، فيستقبل باب البيت، فكأنهم يرون وجه مكة من هذه الجهة، وحينئذٍ قالوا: إنه يستقبل باب البيت، ففي هذا تشريفٌ للبيت وتكريم، وكذلك أيضاً يستقبل وجه مكة، ولذلك لما خرج عليه الصلاة والسلام خرج من ثنية كداء، وهي بأسفل مكة، فكان مدخله من الأعلى ومخرجه من الأسفل، فلهذا يقولون: إنه تشريف للبيت، والملوك تُأتى من أبوابها، وهذا من باب التشريف لبيت الله عز وجل، فيؤتى من جهة بابه، ولذلك يُقصد الدخول من باب بني شيبة، كما ثبتت في ذلك الأحاديث الصحيحة في صفة دخوله عليه الصلاة والسلام.
وهناك وجهٌ رابع أنه دخل هكذا اتفاقاً، أي: أنه تيسر له أن يدخل من جهة المدينة، فكان دخوله من هذا الموضع، ولكن هذا القول يشكل عليه دخوله عليه الصلاة والسلام في عمرة الجعرانة، وسلوكه عليه الصلاة والسلام في مدخله في جميع دخوله إلى مكة هذا الموضع، فدل على أنه مقصود وليس بأمرٍ اتفاقي.
وفائدة الخلاف بين كونه مقصوداً أو اتفاقاً: أننا لو قلنا: إنه مقصود، فيشرع للحاج والمعتمر أن ينحرف إذا جاء من غير هذه الجهة، كأهل جدة -مثلاً- إذا أرادوا إصابة السُنَّة فإنهم ينحرفون إلى طريق المدينة، ويدخلون من جهة الحجون؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا غيرهم إذا قلنا: إنها سنةٌ مقصودة.
أما إذا قلنا: إنها سنةٌ اتفاقية، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن هذا أرفق وأيسر له، فالأمر يسير ولا إشكال فيه.
وقال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من موضعٍ وخرج من موضع؛ تكثيراً للخطى في طاعة الله عز وجل، ولكي تشهد الأرض للعبد بما يكون له من الخير، ولذلك ذهب إلى العيد من طريق ورجع من طريقٍ آخر، ومضى إلى عرفاتٍ من طريق ضب -وهو الطريق الأيمن- ودفع إلى مزدلفة من طريق المأزمين بين الجبال، فقالوا: هذا كله لتكثير الخطا، ولكي تشهد الأرض له بالخير.
فاستحبوا -على هذا الوجه الثاني- لمن دخل مكة من موضع أن يخرج منها من موضعٍ آخر، فتكون السنة إجمالياً من حيث تكثير الخطا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في نص الكتاب والسنة أن الأرض تشهد بما يُعمل عليها من خيرٍ وشر، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4 - 5].
قال العلماء: تتحدث بأخبارها، أي: بما عمل عليها من خيرٍ وشر، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12].
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يا بني سلمة! ديارَكم تُكتبْ آثارُكم)، وهذا يدل على أن الأفضل أن الإنسان يمضي في الطاعة من سبيل ويرجع من سبيلٍ آخر.
فالسنة أن يدخل مكة من أعلاها -كما نص عليه المصنف- ويكاد يتفق العلماء رحمة الله عليهم أن مدخل الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أعلى مكة، وهذا الدخول يستوي أن يكون بالليل ويكون بالنهار، فيدخل الحاج في الليل ويدخل في النهار، وأكثر دخوله -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه إلى مكة كان بالنهار، ودخلها ليلاً في عمرة الجِعرَّانة أو الجِعرَانة، لما فتح الطائف وقسم الغنائم -غنائم حنين-، ثم نزل واعتمر عمرته المشهورة، قالوا: وقعت ليلاً منه صلوات الله وسلامه عليه، ورجع إلى الجعرانة وبات بها، كما يقول أهل السير، فهذا هو مدخله بالليل.
وأما بقية عمره عليه الصلاة والسلام، وكذلك فتحه لمكة، وكذلك حجة الوداع فكل ذلك وقع منه صلوات الله وسلامه عليه بالنهار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه إذا كان الإنسان يقتدى به كالعالم ونحوه، فالأفضل أن يدخل في النهار، وهكذا طالب العلم؛ لأنه ربما وافق الجاهل الذي لا يعرف السنن فيعلمه، أو يراه يفعل السنة فيتأسى به، فاستحبوا له الدخول بالنهار؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشارت أم المؤمنين إلى هذا، قالوا: فنظراً إلى حاجة الناس إلى معرفة هديه عليه الصلاة والسلام وقع دخوله نهاراً، ولم يقع ليلاً إلا في العمرة التي ذكرنا، فاستحبوا لطالب العلم وللعالم أن يكون دخوله بالنهار، وأن يكون إيقاعه لطواف عمرته، وكذلك طواف القدوم في حجه، أو طواف التمتع -إذا كان متمتعاً في حجه- أن يكون بالنهار؛ لكي يُتأسى به.(121/3)
وقت الدخول وحالة الداخل
ولا حرج أن يقع الدخول ليلاً، ولكن السنة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بات بذي طوى، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قدم إلى مكة يبيت في ذي طوى كما ثبت عنه في صحيح البخاري، وموطأ مالك: أنه كان إذا دخل مكة قطع تلبيته عند الحرار، ثم بات بذي طوى، ثم أصبح واغتسل بذي طوى، ثم مضى إلى البيت، وكان يفعل ذلك وينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء: قد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عُمَرِه صلوات الله وسلامه عليه.
والسنة إذا دخل مكة -آفاقياً أو غيره- أن يستشعر حرمة هذا البلد الذي حرمه الله عز وجل، وشرفه وكرمه، وجعل فيه بيته، وجعل فيه المسجد الحرام الذي جعل الصلاة فيه مفضلةً على سائر بقاع الأرض، ولا شك أن تخصيص الله تعالى لهذا البلد بهذه الفضائل يوجب على المسلم إذا دخله أن يستشعر هذه الحرمة، ولذلك لما دخل صلوات الله وسلامه عليه يوم الفتح وقد أعزه الله عز وجل، وأجله وأكرمه ونصره، طأطأ رأسه تواضعاً لله سبحانه وتعالى.
وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كانت لحيته تكاد تمس قربوس سرجه، وهو يوم فتح ويوم عزة وتمكين، كل ذلك إكراماً لهذا البلد الآمن، وتشريفاً له، واستشعاراً لحرمته، ولذلك لما خطب الناس في اليوم الثاني أكد هذه الحرمة فقال: (ومن ترخص لكم بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أحلها لنبيه، إنها لا تحل لأحدٍ من بعدي، وإنما أحلت لي ساعةً من نهار)، وهذا يدل على عظيم حرمة هذا البلد، وأنه ينبغي لمن دخله زائراً أو كان من أهله أن يستشعر حرمته، وأن يرعى هذه الحرمة بفعل طاعة الله والبعد عن حرمات الله عز وجل، فيدخلها دخول المستشعر لحرمتها؛ حتى يكون ذلك أدعى لحفظ حدود الله، وأدعى أيضاً لمحافظته على طاعة الله عز وجل.
فإن من دخل مكة وفي قلبه تعظيمها وإجلالها وهيبتها وفقه الله عز وجل للطاعة والخير والبر، ومن دخلها مستهيناً بحُرمتها أهانه الله عز وجل، وقد يبتلى -والعياذ بالله- بتعدي حدود الله والوقوع في محارم الله في حرم الله، نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بوجهه العظيم من الخذلان.
قال رحمه الله تعالى: [يسن من أعلاها ودخول المسجد من باب بني شيبة].
أي: ويسن الدخول للمسجد من باب بني شيبة.
فالسنة لمن دخل مكة وأراد دخول الحرم أن يدخل من باب بني شيبة، وهذا -كما ذكرنا- أن من العلماء من يقول: إنه شيءٌ اتفاقي، ومنهم من يقول: إنه شيءٌ مقصود، ولو فعله الإنسان متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل من حيث دخل، وقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على خير، ومأجور على ذلك؛ لأنه ما فعل ذلك إلا تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وباب بني شيبة هو الباب الذي بحذاء الصفا -جهة الصفا- وهذا الدخول ليس بواجب، أي: أن دخوله من هذا الباب ليس بلازم، والسنة له إذا دخل أن يقول ما ورد في الدخول إلى المساجد عموماً، وورد في بعض الأحاديث -ولكنهم تكلموا في سنده- أنه يكبر عند رؤية البيت، كما سيذكر المصنف رحمه الله، وسيأتي الكلام على هذا.(121/4)
دخول البيت الحرام(121/5)
رؤية البيت ودخوله وما ورد في ذلك
[فإذا رأى البيت رفع يديه وقال ما ورد].
إذا دخل فالسنة أن يقدم رجله اليمنى ويؤخر اليسرى، كالدخول في سائر المساجد، ويسمي الله تعالى، ويسأل الله تعالى أن يفتح له أبواب رحمته، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، وذلك بعد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإذا قال الدعاء الوارد في الدخول فليبتدئ بالطواف.
والدعاء الوارد الذي يشير إليه المصنف جملتان: الأولى: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، حيَّنا ربنا بالسلام)، وقد أُثر هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مرفوع وفيه كلام.
الجملة الثانية: (اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيما ومهابةً وبراً، وزد من شَرَّفه وكَرَّمه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابةً وبراً)، وهذا الحديث رواه الطبراني، وكذلك الشافعي في مسنده، ولكن فيه كلام، وهو من رواية عاصم القوزي وهو كذاب، ولذلك فالعمل عند بعض العلماء أن يقول الدعاء المحفوظ في الدخول إلى المساجد عموماً، وما دام أن الحديث لم يثبت ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يتعبد بما هو من اختلاق الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يقول ما ورد في الدخول إلى المساجد عموماً.
وأما التكبير عند رؤية البيت فقد تسامح فيه بعض العلماء، ونقله شيخ الإسلام رحمه الله عن الإمام أحمد، وعن بعض السلف، ولكن ليس فيه شيءٌ صحيح، وكان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يضعفه، ويقول: لا أستحبه ولا أكرهه، فقوله: لا أستحبه؛ لأنه لم يثبت فيه شيءٌ صحيح، وقوله: لا أكرهه، كأنه خفف فيه؛ لأن فيه رواية مرسلة، ورواية عن سعيد بن المسيب، ويروى أيضاً عن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وإذا دخل البيت فإنه يمضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عند دخوله، وبعض الناس يقف للدعاء، ويرفع يديه مستقبلاً البيت، وهذا لم يثبت فيه شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت، وحفظت سنته، وحفظ هديه صلوات الله وسلامه عليه، فتكلف الوقوف ورفع اليدين بالدعاء لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام، والعلماء رحمة الله عليهم -خاصة السلف- يشددون في هذا فيرون أنه لا يشرع فعلُ أفعالٍ مخصوصة في المواضع المخصوصة، خاصةً في المناسك والمشاعر التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن الصحابي كان يحفظ لنا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا اختلف عن عادته.
كقول جابر رضي الله عنه لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب بين عرفات ومزدلفة: (فتوضأ وضوءاً خفيفاً) فانظر إلى دقة الصحابة وحفظهم لكل شيء في هديه صلى الله عليه وسلم، حتى لو رفع إصبعه، أو رفع بصره ذكروا رفعه لبصره وإصبعه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لحفظهم ودقتهم، فثبتت الأحاديث الصحيحة كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخوله في عمرته وحجه، ولم يذكر عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما دخل البيت وقف وقوفاً طويلاً، أو تكلف الدعاء، أو تكلف رفع اليد، أو تكلف فعلاً معيناً، وإنما دخل كما يدخل في سائر المساجد، وهذا يدل على أن السنة والهدي أن يُتأسى به عليه الصلاة والسلام في هذا، وألا يتعبد الإنسان ربه إلا بشيءٍ له أصل يعتمد عليه من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(121/6)
الطواف وأحكامه(121/7)
السنة في الطواف بعد الدخول وأحكام ما يزاحمه من الفرائض والواجبات
فإذا دخل البيت فالسنة أن يبتدئ بالطواف؛ لأن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالةً واضحة على أنه لما دخل مكة لم يشتغل بأي شيء، وإنما انصرف إلى البيت وطاف صلوات الله وسلامه عليه، وقد ثبت عنه ذلك في عُمَرِه، وثبت عنه في حجة الوداع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، وقد ذكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة لم يشتغل بشيء غير الطواف بالبيت)، ولذلك قال العلماء: لا يسن للإنسان أن ينصرف إلى أي شيء غير الطواف، حتى كان بعض العلماء يكره للإنسان إذا دخل مكة أن يبحث عن السكن، أو عن المنزل قبل أن يطوف بالبيت؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ابتدأ فحيا مكة وحيا البيت بالطواف، فقالوا: السنة في الحج والعمرة أنه إذا دخل أول ما يبدأ يبدأ بالطواف، وما أقدمه من البلاد البعيدة، وقد نأت داره، وابتعد عن أحبابه وأولاده وفارقهم إلا من أجل طاعة الله تعالى ومرضاة الله تعالى، ومن أجل هذه القربة التي من أعظمها وأجلها أن يطوف ببيت الله عز وجل.
فكان من هديه أن ابتدأ صلوات الله وسلامه عليه بالطواف بالبيت، فالسنة -كما نص العلماء- أن لا يشتغل بشيء بعد دخوله مكة غير الطواف بالبيت، فقد توضأ صلوات الله وسلامه عليه ثم دخل من باب بني شيبة، وابتدأ طوافه عليه الصلاة والسلام، هذه هي السنة.
إلا أنهم قالوا: إنه قد يرخص للإنسان في أحوال خاصة، كأن يكون معه الضعفة والحطمة، أو يكون معه كبار السن، أو معه الأطفال، أو معه النساء، فهؤلاء إذا احتاج الإنسان أن يرفق بهم في دخولهم فينزلهم أو يتفقد مواضع نزلهم، فهذا لا بأس به من باب الرفق، ولا حرج فيه، ولكن السنة إذا كان الإنسان قوياً جلداً ومعه الرفقة أن يبتدئ -كما ذكرنا- بتحية البيت.
فإذا ابتدأ يبتدئ بالطواف.
ولو أقيمت الصلاة المفروضة، أو تذكر فائتةً مفروضةً عليه، ولو طاف فات وقتها، فهل يبتدئ بالطواف أو بالصلاة المفروضة؟ ذهب جماهير العلماء إلى أنه يبتدئ بالصلاة المفروضة؛ لأن الصلاة المفروضة قد ضاق وقتها، وقد قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] وفي قراءة: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِلذِكْرَى) وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)، فلو كان ناسياً لصلاةٍ مفروضة وتذكرها عند دخوله للبيت، أو دخل في آخر وقت الظهر، أو دخل في آخر وقت أي صلاة مفروضةٍ وجبت عليه فإنه يبتدئ بالصلاة المفروضة، وأما النوافل فلا يبتدئ بشيءٍ منها.
ولكن اختلف العلماء: لو أنه دخل وعليه فريضة ولم تقم، بمعنى أنك صليت الفريضة في المسجد الحرام، ودخلت بعد صلاة العصر مثلاً، فهل الأفضل أن تبتدئ بصلاة العصر أو تبتدئ بالطواف؟ قالوا: يبتدئُ بالطواف؛ لأن وقت العصر موسع، فيصيب سنة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الابتداء بالطواف، ولأنه إذا طاف وركع ركعتي الطواف خرج من الخلاف، ثم بعد ذلك يصلي العصر، فيكون إيقاعه لركعتي الطواف قبل صلاة العصر، وإن كانت ركعتي الطواف قد استثنيت في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أي ساعةٍ شاء من ليل أو نهار).
فيبتدئ بالطواف بالبيت -كما ذكرنا- ويقدمه على سائر الطاعات، إلا إذا أقيمت المفروضة، أو كانت هناك خطبة جمعة، فإذا كانت هناك خطبة جمعة فقد قال بعض العلماء: إنه يتعين عليه أن يجلس لاستماع الخطبة، ولا يبتدئُ بالطواف، وقال بعض العلماء: إن له أن يطوف بالبيت، وينتظر إقامة الصلاة، وذلك لأن الطواف بالبيت ركن عمرته، فلذلك يبتدئُ بالركن، ويقدمه على واجب الاستماع إلى الخطبة.
قالوا: ثم بعد فراغه من طوافه يصلي، ثم يجلس وينصت لما بقي من الخطبة، ولا شك أن القول بأنه يجلس من أول الخطبة، فيصلي تحية المسجد، ثم يجلس يستمع الخطبة هو أولى وأحرى، ولكن لو طاف لمكان الركن، وانتظر إقامة الصلاة، فأتم طوافه وأشواطه ثم صلى الفرض فإنه لا حرج عليه؛ لأن الجمعة لم تجب عليه في الأصل، فإذا كان مسافراً فإنها لا تجب عليه، ولذلك لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم جمعة في سفره.(121/8)
الاضطباع كيفيته ومحله
[ثم يطوف مضطبعاً].
فإذا دخل البيت فإنه مباشرة يبتدئ بالطواف ويضطبع، والاضطباع: أن يجعل الرداء تحت إبطه الأيمن، ويلقي بطرفيه على عاتقه الأيسر.
والاضطباع مأخوذٌ من الضبع وهو العضد، وذلك لأنه ينكشف بحسر الرداء عن العاتق، فقالوا: إنه اضطباع.
والأصل في هذا الاضطباع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم في عمرة القضاء، أو القضية، قال كفار قريش: يقدم عليكم محمد وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب، فنزل جبريل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بما قالوه من الشماتة به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه رضوان الله عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرءاً أراهم من نفسه اليوم جلداً) فلما استفتح طوافه صلوات الله وسلامه عليه اضطبع، وذلك لمكان الرمل، ثم خَبَّ وَرَمل الأشواط الثلاثة الأول، فقالوا كما جاء في رواية السير: إنهم ينقزون نقز الظباء، أي: بقوتهم وجلدهم، والسبب في ذلك: أن المدينة كانت فيها الحمى، وكانت مشهورةً بذلك، حتى كان الكفار في الجاهلية إذا انتهوا من التجارة بالشام وأرادوا المرور بالمدينة يعشِّر الرجل منهم تعشير الحمار بخيبر، وذلك من عقائد الجاهلية التي كانوا عليها، كما أشار إلى ذلك الناظم بقوله: واختلقوا التعشير أن يعشر من النهيق بحذاء خيبر فكانوا يعشرون بخيبر خوفاً من حمى المدينة، ويظنون أن ذلك يحفظهم، وكانت المدينة معروفةً بالحمى، فلما قدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أصابت الحمى أصحابه، فدخل على أبي بكر وهو محموم، وعلى بلال رضي الله عنه وهو محموم، وكان أبو بكر يحن إلى مكة وكذلك بلال، فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد -أي: وأشد؛ لأن (أو) بمعنى (الواو) - وصححها، وانقل حماها إلى الجحفة)، فصححها الله عز وجل، ونُقلت الحمى منها بقدرة الله عز وجل إلى الجحفة، فاستجيبت دعوته صلى الله عليه وسلم، فلما أرادوا دخول مكة أراد الكفار الشماتة بهم فقالوا: (وهنتهم حمى يثرب).
أي أنهم سيقدمون ضعافاً هزيلين، ويريدون بذلك الشماتة بدين الله عز وجل، وإن كانت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فلما استفتح النبي صلى الله عليه وسلم الطواف كشف عن ضبعه أو عن عضده ثم رمل الأشواط الثلاثة الأول فأراهم الجلد، وكانوا جلوساً جهة الحُجْر، فإذا توارى صلوات الله وسلامه عن البيت بين الركنين مشى هو وأصحابه، فإذا طلع عليهم من جهة الحُجر رملَ صلوات الله وسلامه عليه، وكان يمشي بين الركنين، فهذا الأصل في الرمل، ثم نسخ ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه، أنه أصبح الرمل لجميع الثلاثة الأشواط من أولها إلى آخرها.
وهذا الاضطباع إنما يكون في طواف العمرة إذا كان الإنسان معتمراً، ويكون في طواف العمرة في الحج أيضاً، وهذا الطواف ركنٌ بالنسبة لعمرة الحج إذا كان متمتعاً.
وكذلك أيضاً طوافه إذا كان قارناً، أو كان مفرداً فإنه يبتدئُ طوافه بالرمل مع الاضطباع في الثلاثة الأشواط الأولى، وذلك في الطواف الأول، أما بقية الأطوفة كطواف الإفاضة ففيه تفصيل، فالذي جاء مفرداً إلى عرفاتٍ مباشرة، ولم يطف قبل فإن من العلماء من نص على أنه يشرع له الرمل في طوافه بالبيت يوم النحر؛ لأنه يكون متحللاً وليس عليه إحرامٌ، ولكنه يرمل في طواف الركن وهو طواف الإفاضة.
وأما بالنسبة للمتمتع والقارن، وكذلك المفرد الذي طاف طواف القدوم فلا يشرع لهم أن يرملوا في طواف الإفاضة والركن.
أما بالنسبة لهذا الاضطباع فمحله للرجال دون النساء، فهو مشروعٌ للرجل ولا يشرع للمرأة اضطباع، ولا يشرع للنساء رمل، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: (ليس على النساء رمل)؛ لأن المرأة إذا رملت تكشفت، ولذلك لا يجوز لها أن ترمل لا في الطواف ولا في السعي بين الصفا والمروة.(121/9)
النية في الطواف وكيفية ابتداء أشواطه
قال رحمه الله تعالى: [يبتدئ المعتمر بطواف العمرة، والقارن والمفرد للقدوم].
أي: يبتدئ فينوي طواف العمرة، إذا كان معتمراً، وهو طواف الركن، وكذلك بالنسبة للحاج ينوي طواف القدوم.
قال رحمه الله تعالى: [فيحاذي الحجر الأسود بكله ويستلمه ويقبله].
(فيحاذي الحجر الأسود بكله)، يفيد أنه لا يصح الطواف إلا بالمحاذاة للحجر بجميعه، وإذا تقدم ولو خطوةً واحدة، فحاذى ببعض بدنه، وبقي بعض بدنه في المكان الذي هو ابتداء الطواف لم يصح الشوط الأول، وعليه أن يعيد ذلك الشوط؛ لأنه لابد في الشوط أن يستتم الطواف بالبيت بأجزائه الكاملة، فلابد أن يسامت الحجر بجميع بدنه، فلو سامته ببعض بدنه ككتفه، أو شقه الأيسر، وبقي شقه الأيمن في الجهة التي هي دون الحجر فإنه لا يصح شوطه -كما ذكرنا- ويلزمه أن يعيد ذلك الشوط.
فعليه أن يبتدئ ويحاذي الحجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ أول ما ابتدأ فاستلم الحجر وقبله صلوات الله وسلامه عليه، وهذه هي السنة، فالأفضل والأكمل أن يبتدئ باستلام الحجر وتقبيله، والاستلام: أن يضع يده على الحجر كالمسّلم والمصافح.
أما بالنسبة للتقبيل فهو معروف، وهو أن يقبل الحجر إذا أمكنه وتيسر له، أما إذا لم يمكنه، وحاذى الحجر فإنه يجزيه.(121/10)
من عجز عن استلام الحجر وتقبيله، وما ينبغي أن يراعيه من يقبل الحجر
قال رحمه الله تعالى: [فإن شق قبل يده].
فإن شق عليه أن يستلم الحجر -كما ذكرنا- ويقبله استلمه بيده وقبل يده، والاستلام ثبتت به السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استلمه بيده، وثبت بالأحاديث الصحيحة أنه كان إذا عجز عن التقبيل استلمه بيده وقبل يده، فالسنة أنه إذا عجز الإنسان عن التقبيل بفمه وضع يده وقبل موضعه، وكذلك أيضاً لو كان معه محجنٌ أو عصا، فاستلم به قَبَّل المحجن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلم بالمحجن وقبله صلوات الله وسلامه عليه.
وأما لو أشار بيده فإنه لا يشرع له أن يقبلها كما يفعل العامة، وإنما يشرع تقبيل اليد إذا لمس واستلم، أما إذا لم يستلم فإنه لا يقبل، فالتقبيل لا يكون إلا للحجر أو لما استلم به الحجر؛ كيده، أو محجنٍ متصلٍ به، ونحو ذلك، فيقبله.
وهل يسجد على الحجر؟ السجود على الحجر أن يدخل رأسه بحيث تكون جبهته على الحجر، نقلها شيخ الإسلام رحمه الله، وثبت وصح عن جمعٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسجدون على الحجر، بمعنى: أنهم يضعون الجبهة على الحجر، وصح هذا عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعن عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله رضي الله عن الجميع، صحت عنهم بذلك الأخبار، ولذلك نص العلماء على أنه لا حرج على الإنسان أن يفعل ذلك، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاستلام والتقبيل، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحجر: (لولا أني رأيت رسول الله صلى عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) وهذا يدل على أن السنة والأفضل أن الإنسان يحرص على تقبيل الحجر، ويتعاطى الأسباب التي لا ضرر فيها على الناس، وهذا إنما يكون للرجال في الغالب، وأما النساء فالغالب فيهن أنهن إذا قبلن الحجر زاحمنَ الرجال وفتنّ العباد، فالأفضل لهنّ أن لا يقتربن من جهة الحجر، خاصةً وأنهنّ قد ينحرفنَ في طوافهن، فإنهنّ إذا انحرفنَ عن الطواف، وأصبح البيت عن يمين المرأة بطل ذلك، ولزمها أن تعيد من أول ذلك الشوط؛ لأنها إذا انحرفت بيدها وجاء البيت عن يمينها -كما سيأتي إن شاء الله- لم يصح ذلك منها، ولزمها أن تعود إلى أول شوطها؛ لأنه لابد وأن يكون البيت عن اليسار، وقد طاف عليه الصلاة والسلام وجعل البيت عن يساره.
ثم إذا أراد الإنسان أن يقبل، فلا يزاحم الناس ولا يؤذهم، أما لو زاحمه الغير، وصبر على أذيته فإنه أفضل؛ لما فيه من الصبر على طاعة الله، فلو كان هناك زحام فصبرت ولم تؤذ أحداً حتى تبلغ الحجر، فهذا لا شك أنه أفضل؛ لأن التعب والنصب في طاعة الله يعظم به الأجر للإنسان، وكون الإنسان يرى الزحام عليه ويتركه لغيره فلا إيثار في القُرب، فحرص الإنسان عليه لا شك أنه أفضل وأكمل، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يترك تقبيل الحجر منذُ أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله، ما ترك استلام الركن ولا تقبيل الحجر منذُ أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم ويقبل، ولذلك لما جاءه السائل وقال له: يا أبا عبد الرحمن! أرأيت إن كان عليه زحام؟ قال: (دع أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله).
وهذا يدل على حرصه رضي الله عنه وأرضاه وحبه لهذه السنة، ولكن الإنسان لا يؤذ الغير، فإذا استطاع أن يصل إلى الحجر من دون أذية، ومن دون إضرار فلا شك أنه أفضل وأكمل، وكان ابن عمر يقرأ في الشوط الواحد ما يقرب من خمسمائة آية، وذلك لأنه يصبر على الحجر وينتظر، وقد يكون في شدة الشمس والحر، وأثر عنه رضي الله عنه أنه كان الناس يزاحمونه حتى يدمون أنفه، فيصيبه الرعاف رضي الله عنه وأرضاه، وهو صابرٌ لا يفارق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بواجب، ولكن حبه للسنة، وحبه للتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل من الصعب عنده أن يجاوز الحجر وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل شيئاً فيه فيجاوزه دون أن يفعله، فهذا من باب الأفضل، ولكن إذا كان الأمر فيه مشقة، أو فيه إضرارٌ بالغير فلا؛ فإنه لا تلتمس السنن بما فيه محظورٌ شرعي، وخاصةً إذا كان على الإنسان فيه فتنة.
فالمقصود: أنه يحرص الإنسان على تقبيل الحجر، وإذا قبله فإنه يراعي الثبات في الموضع، يثبت في موضعه فيقبل، ثم بعد ذلك ينصرف حتى يستتم الطواف بالبيت في شوطه؛ لأنه في بعض الأحيان إذا قبل فإنه ربما ينحرف فيصرف بجذعه إلى ما بعد موضع الاعتداد ببداية الطواف، فحينئذٍ يلزمه أن يجعل البيت عن يساره، حتى يقع طوافه كاملاً.
ومن الأخطاء التي قد يقع فيها بعض الناس: أنه إذا جاء لتقبيل الحجر وهو في حج، أو طواف ركن عليه في عمرة، ونحو ذلك، فإنه يصعد على الحجر الذي على البيت، وهذا الحجر من البيت، فيبطل شوطه؛ لأن الحجر الذي هو الشاذروان -وهي الزيادة الموجودة في أسفل البيت من البيت- وهو مأمورٌ بالطواف بكل البيت، فصعوده على هذا الجزء من أجل التقبيل -خاصة إذا كان عليه طواف ركن- يفوّت هذا الموضع، وقد نص جماهير العلماء رحمة الله عليهم على أنه لو ترك خطوةً واحدة من الطواف لم يصح؛ لأنه عبادة كالصلاة ينبغي أن تؤدى بصفتها مثل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الجزء من البيت؛ فلابد وأن يجعله في طوافه، بحيث يطوف به كاملاً، أما لو رقى عليه، ومشى فإنه في هذه الحالة كأنه لم يطف بالبيت كاملاً لهذا النقصان.(121/11)
الإشارة باليد إلى الحجر وما يقوله، وأين يكون البيت منه؟
قال رحمه الله تعالى: [فإن شق اللمس أشار إليه ويقول ما ورد].
أي: إن شق عليه اللمس أشار إليه، فيشير إليه بكفه، ويقول ما ورد، والذي ورد هو ما في مستدرك الحاكم: (اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم)، فهذا الذي ورد في الحاكم، وسامح فيه العلماء رحمة الله عليهم أن يقوله في بداية طوافه.
ثم بعد ذلك يدعو بما تيسر له من خيري الدنيا والآخرة، فيسأل الله عز وجل صلاح دينه ودنياه وآخرته، ويدعو لمن له حقٌ عليه كوالديه وذرياته وأهله وزوجه، يدعو لهم بالصلاح والخير، فيسعى بالدعاء، وسؤال الله عز وجل خيري الدنيا والآخرة.
قال رحمه الله تعالى: [ويجعل البيت عن يساره].
أجمع العلماء على أنه لا يصح الطواف إذا جعل البيت عن يمينه، مع أن اليمين أشرف من اليسار، واعتبر بعض العلماء بأن اليسار فيه القلب، وأشرف ما في الإنسان قلبه؛ لما فيه من توحيد الله عز وجل، فهو أشرف ما في الإنسان، قالوا: لذلك يكون إلى جهة اليسار لمكان القلب، فهذا اعتبار لبعض العلماء، ولكن هذه أمور تعبدية، ولا يتكلف في بحث مثل هذه الأمور أو السؤال عنها، إنما يطوف على اليسار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف عن اليسار، والشرع أمره أن يطوف بهذه الصفة المخصوصة، فيتأسى بما ورد فيجعل البيت عن يساره.(121/12)
مسائل في الطواف ينبغي مراعاتها
وفي الطواف مسائل، أهمها: أن الطواف يختلف بحسب الأحوال، فتارةً يكون طواف ركن، وتارةً يكون طوافاً واجباً، وتارةً يكون طواف نافلة.
فطواف الركن: كأن يكون طواف عمرة، وكذلك طواف الركن في الحج، كطواف الإفاضة.
ويكون الطواف واجباً كطواف الوداع في الحج.
ويكون الطواف نافلةً كسائر الأطوفة التي يقصد بها التقرب إلى الله عز وجل في غير النذر.
المسألة الثانية: إذا طاف فإنه ينبغي أن يدور بالبيت كاملاً، أي: أن يدور بجسمه كاملاً بالبيت، ويشترط أن يكون هناك استقبالٌُ للبيت، قالوا: الطائف بالبيت قبلته أن يجعل البيت عن اليسار، وعلى هذا فلو انحرف أثناء طوافه فأصبح البيت عن يمينه، أو انحرف لتقبيله فأصبح البيت عن يمينه، فلابد وأن يرجع من الموضع الذي انحرف فيه، حتى يستتم طوافه بالبيت عن اليسار.
المسألة الثالثة: أن الطواف بالبيت لا يصح إلا داخل الحرم، فإذا طاف خارج الحرم -كأن يطوف خارج حدود الحرم- فإنه يبطل طوافه؛ لأن الله تعالى قال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] فهذا يدل على أن الطواف إنما يكون في المسجد، وعلى هذا إجماع العلماء رحمة الله عليهم: أن الطواف لا يصح إلا في المسجد، فلو طاف بسيارةٍ، أو طاف مثلاً بقدميه خارج بناء المسجد فإنه لا يصح طوافه بإجماع العلماء.
ولو طاف في الدور الثاني فإنه يجزيه؛ لأنه طائفٌ بالبيت، فالطواف في الدور الثاني كالطواف في الدور الأسفل؛ لأن أعلى المسجد آخذٌ حكم أسفله، ولذلك لو اعتكف إنسانٌ فصعد إلى سطح المسجد فإنه بالإجماع لم يبطل اعتكافه، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من اغتصب قيد شبرٍ من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)، فجعل المحاذي من أسفل له حكم الأعلى، وكأنه اغتصب الأرض بما سفُل، قالوا: كذلك أيضاً له حكم الأعلى، وعليه قالوا: إن الإنسان إذا طاف في سطح المسجد في الدور الثالث، أو طاف في الدور الثاني فإن طوافه صحيح؛ لأنه قد طاف بالبيت داخل البيت، وهو آخذٌ حكم من هو بداخل المسجد.(121/13)
عدد أشواط الطواف، وحكم النقص منها، أو الإضافة عليها
قال رحمه الله تعالى: [ويطوف سبعاً].
قوله: (ويطوف سبعاً).
أي: ويطوف سبعة أشواط كاملة، فلو انتقص منها خطوةً واحدة فإنه لم يصح طوافه حتى يتم هذه الخطوة، إذا كان في الداخل أمكنه التدارك، وإلا بطل طوافه، ولزمته الإعادة إذا خرج من المسجد.
فإذا انتقص من هذه السبعة شوطاً، أو نصف الشوط أو قدراً من شوط فإنه يقضيه ما دام في المسجد، ما لم يطل الفاصل المؤثر، وقال بعض العلماء: يجوز له القضاء ما دام في المسجد، وهذا قوي، ثم إذا لم يقضه وخرج من المسجد بطل طوافه، ولزمه أن يرجع ويعيد الطواف ويستأنف، وحينئذٍ يقولون: يتدارك ما دام في المسجد، فإذا خرج من المسجدٍ قطع التدارك ولزمه الاستئناف.
فيطوف سبعة أشواط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعة أشواط، وهذا في جميع الأطوفة، السنة فيها أن تكون سبعة أشواط.
أما في طواف الركن فلا إشكال، وكذلك الواجب، لكن لو أن إنساناً أراد أن يجمع السبع إلى سبعٍ أخرى في نافلة، كأن يطوف سبعاً؛ ومن بعدها سبعاً، ومن بعدها سبعاً، ثم يجمع ركعات الطواف سرداً وراء بعضهن، كأن يطوف السبع الأولى، ثم يتبعها بنية السبع الثانية، ثم يتبعها بالسبع الثالثة، ثم يصلي ست ركعات، فقد أُثر عن بعض السلف رحمهم الله أنه كان يرخص في ذلك، ويفتي بأنه لا حرج أن يجمع الأطوفة وراء بعضها، خاصةً حين يكون هناك عذر، كأن يكون بعد صلاة العصر أو عند طلوع الشمس أو عند غروبها في ساعة النهي المجمع عليها، ويكون طوافه نافلة، فلا يحب أن يصلي في هذا الوقت، فيطوف سبعاً ثم يطوف من بعدها سبعاً، حتى يستتم الغروب ويدخل وقت الإذن فيجمع الصلوات.
وكذلك أيضاً قالوا: قد يؤخر ركعتي المقام، كأن يطوف بعد الفجر، ويغلب على ظنه أنه إذا ارتفع النهار يفرغ الموضع الذي خلف المقام، فيريد -مثلاً- فضيلة الصلاة في هذا الموضع، فحينئذٍ قالوا: لا حرج أن يجمع السبع إلى السبع، ويضم السبع إلى السبع، ولو تكررت شفعاً أو وتراً.(121/14)
الرمل في الطواف، صفته ومحله
قال رحمه الله تعالى: [يرمل الآفاقي في هذا الطواف ثلاثاً ثم يمشي أربعاً].
أي: يرمل الآفاقي في هذا الطواف ثلاثاً، لما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم خبَّ الأشواط الثلاثة الأول، ومشى باقي الطواف)، وهذه -كما قلنا- سنة الرَّمَل، والرمل للعلماء فيه قولان: القول الأول: قال بعض العلماء: هو تقارب الخطى مع هز المناكب.
والقول الثاني: أن يباعد في الخطى ولا يصل إلى درجة السعي، ولا يهز منكبه.
وظاهر قولهم: (إنهم ينقزون نقز الظباء) -كما جاء في السير- أن هز المنكب فيه أوجَه، وهو أقوى وأدل على القوة والجلد، وكان المقصود من الرمل إظهار القوة والجلد، والسنة -كما ذكرنا- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمل الثلاثة الأشواط الأولى في عمرة القضاء أو القضية والتي كانت بعد عام من الحديبية، فلما فتح الله عليه مكة، وجاء بعد فتحها في عمرة الجعرانة منصرفه من غنائم الطائف، اعتمر من الجعرانه صلوات الله وسلامه عليه، فخبَّ الأشواط الثلاثة كاملة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأرضاهما، فقال العلماء: إنه لما شُرع الرمل في أول الأمر كان يمشي بين الركنين -بين الركن اليماني والحجر-، ولكن بعد أن زال السبب رمل الأشواط الثلاثة كاملة، ولذلك قال: (من الحجر إلى الحجر)، أي: أن رمله كان كاملاً صلوات الله وسلامه عليه.
فيرمل الثلاثة الأشواط الأولى متتابعة، ولا يمشي بين الركنين، وهذا هو أصح القولين، أن المشي بين الركنين منسوخ، وأن السنة إذا رمل أن يستتم الرمل للثلاثة الأشواط كاملة، فإذا فعل ذلك فهي السنة، وهذه الثلاثة الأشواط يصحبها الاضطباع كما ذكرناه.
قوله: [ثم يمشي أربعاً].
وهي الأربعة الأشواط المتبقية.(121/15)
ازدحام الفضائل في الطواف وما يقدم منها
إذا كان قربك من البيت يمنعك من الرمل للزحام، وبعدك عن البيت تتمكن معه من الرمل، فهل الأفضل القرب من البيت مع فوات الرمل؟ أو البعد عن البيت مع تحصيل الرمل؟ إن هذه المسألة تعرف عند العلماء بازدحام الفضائل، وقد تزدحم الفضائل وتزدحم السنن المؤكدة، وقد تزدحم الفرائض، فقال بعض العلماء -كما اختاره ابن عقيل -: الأفضل أن يبتعد عن البيت لكي يرمل؛ لأن فضيلة الرمل مؤكدة في الطواف، حتى أوجبها بعض العلماء، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم رمل وقال: (خذوا عني مناسككم)، فقالوا: إنها متصلة بالعبادة، وفضيلة القرب من البيت متصلة بالمكان لمكان العبادة، والمتصل بذات العبادة يقدم على المتصل بزمانها ومكانها، وتوضيح ذلك أنه إذا رمل فإن الرمل متصل بذات الطواف، ومن نفس أفعال الطواف، ولكن القرب من البيت متصلٌ بالمكان -بمكان العبادة- فاختار بعض العلماء أنه يبتعد من البيت للرمل، وهذا ما يميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وأشكل على هذا القول أنهم قالوا: لو قلنا بهذا -أي: تفضيل ما اتصل بالعبادة على ما اتصل بمكانها- لساغ للرجل -كما يقول ابن عقيل رحمه الله تعالى- أن يتأخر عن الصف الأول لفضيلة التورك! فإن الإنسان في الصف الأول في الرباعية لا يستطيع أن يتورك، فالتورك فضيلةٌ متصلةٌ بالعبادة ذاتها، والصف الأول فضيلةٌ متصلةٌ بالمكان، فقالوا: لو قلنا بهذا فإنه يلزم -بناءً عليه- أن يتأخر إلى الصف الثاني، ولم يقل أحد: إنه يشرع التأخر إلى الصف الثاني من أجل التورك.
وقد أجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن هذا بأجوبة نفيسة.
أولها: أن الصف الأول من اللازم على المكلف أن يتمه بخلاف القرب من البيت، ولم يرد النص بالقرب من البيت وتأكُّدِ القرب أو الدعوة إليه، وإنما هو فُضِّل بصورة العبادة، وفرقٌ بين ما ورد النص به، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يتمون الصف الأول فالأول)، ونص العلماء على أنه لو رأى في الصف الذي أمامه فرجة قبل إحرام الصلاة ولم يسدها أنه آثم؛ لأنه ترك المأمور، ولذلك قالوا: إنه يأثم بتأخره عن هذه الفرجة، بخلاف القرب من البيت.
الأمر الثاني: أن الصلاة متصلةٌ بالجماعة في المسجد، فلابد من إكمال الصفوف، فاتصل الناس بعضهم ببعض، ولكن الطواف ليست له صفةٌ معينة تعين على الناس أن يتصل بعضهم ببعض، فقال: إن هذه الفضيلة -أعني: فضيلة البعد عن البيت مع الرمل- آكد من فضيلة التورك في الصف الأول، فقالوا: يترك التورك في الصف الأول ولو أنه متصل، ويكتب له أجره بالنية.(121/16)
استلام الركن، وماذا يفعل من عجز عنه؟
قوله: [يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة].
يستلم الحجر والركن اليماني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني، وهل إذا عجز عن استلام الركن اليماني يشير إليه أو لا؟ جمهور العلماء على أنه لا يشير إذا عجز عن استلامه، وأنه يكفيه أن يقول الدعاء بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، وأنه لا يشير بيده وإنما تختص الإشارة بالحجر.
وقال بعض السلف -وهو أيضاً عن الإمام مالك إمام دار الهجرة- إنه لا بأس أن يشير بيده إذا عجز؛ لأن كلا الركنين من البيت، ولما عجز عليه الصلاة والسلام عن استلام الحجر أشار بيده صلوات الله وسلامه عليه، ولكن لم يثبت عنه أنه عجز عن استلام الركن اليماني، فقالوا: إنه يغتفر في هذا لو أشار بيده.
والأمر ما دام أن له وجهاً، وقال به بعض السلف فهو خفيف، فلو أنه أشار بيده لا ينكر عليه، ولكن قالوا: الأفضل والأكمل أنه لا يشير بيده، فإن أشار بيده فلا بأس، فيستلم الركن بيده، فإن لم يستطع لزحامٍ، ونحوه تركه كما ذكرنا.(121/17)
مما يبطل به الطواف فعلاً أو تركاً
قال رحمه الله تعالى: [ومن ترك شيئاً من الطواف، أو لم ينوه، أو نسكه، أو طاف على الشاذروان، أو جدار الحجر، أو عريان أو نجس لم يصح].
قوله: [ومن ترك شيئاً من الطواف].
في هذه الجمل يشير المصنف إلى أمورٍ لابد من توفرها للحكم بصحة الطواف.
أولها: أن الطواف لابد وأن يكون كاملاً، فإذا ترك شيئاً من الطواف -وشيئاً نكرةٌ- لم يصلح طوافه، فلو ترك -كما قالوا- خطوةً واحدة فإنه حينئذٍ لا يصح ذلك الشوط حتى يتم هذه الخطوة، فإذا لم يتمها بطل طوافه كله إن خرج من البيت، ولزمته الإعادة كما ذكرنا.
والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف السبعة الأشواط كاملةً، وعليه فإنه إذا انتقص شيئاً منها لم يطف كما أمره الله تعالى، ويلزمه حينئذٍ قضاء هذا الشوط، أو التدارك إذا أمكنه التدارك.
ويحصل التدارك لو كان الشخص -مثلاً- في آخر شوط، وبدل أن ينتهي مقابلاً للحجر انصرف قبل أن يستتم الطواف، فبقيت له خطوتان، أو ثلاث، أو أربع، فحينئذٍ يرجع من الموضع الذي انصرف منه ثم يتمه، فإذا فعل ذلك صح طوافه، وأما إذا لم يرجع، ولو كان القدر خطوة واحدة -كما ذكرنا- فإنه حينئذٍ يبطل الطواف إن خرج من البيت.
قوله: [أو لم ينوه].
من شروط صحة الطواف: النية، قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، والطواف بالبيت من العبادة والقربة، ولا يمكن له أن يتحقق إلا بالنية، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، أي: إنما اعتبار الأعمال وصحتها بالنية، فإذا لم ينو الطواف لم يصح طوافه، أي: لم يصح على الوجه الذي يريده، فلو دخل لطواف عمرة، أو دخل لطواف ركن في الحج ناسياً، فحينئذٍ لا يجزيه ذلك، وتلزمه الإعادة.
قوله: [أو نسكه].
كشخصٍ أحرم إحراماً مبهماً، ولم يعين إحرامه قبل الطواف بالبيت؛ لأنه يصح -على أحد أقوال العلماء كما اختاره المصنف وغيره- أن يحرم بالعمرة والحج إحراماً مبهماً، ثم يعين قبل أن يبتدئ الطواف، فإذا ابتدأ الطواف ولم يعين فحينئذٍ لا يقع طوافه عن الفرض، ويبطل فرضاً، ويلزمه أن يعيده بعد تعيينه.
قوله: [أو طاف على الشاذروان].
هي قمة قدرها ثلاثة أذرع ارتفاعاً من الأرض من البيت، وهي من البيت، ولابد لهذا القدر أن يطوف الإنسان عليه بجسمه، بحيث لو رقى عليه فإنه لم يستتم الطواف على الوجه الشرعي، فلا يصح طوافه من هذا الوجه.
قوله: [أو جدار الحِجْر].
طبعاً الحجر ليس كله من البيت، وإنما قيل: قدر ثلاثة أذرع، فلابد أن يكون طوافه من وراء الحجر، فلو دخل بين الحِجْر وبين الكعبة لم يصح طوافه.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه: يصح طوافه، والصحيح أنه لا يصح، كما هو مذهب الجمهور، والدليل على أنه لابد وأن يطوف من ورائه: قوله سبحانه وتعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فقال: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، أي: القديم، إشارةً إلى أن العبرة ببناء إبراهيم عليه السلام، فلما تركت قريش من البيت قدر هذا، وهو من البيت، فإن جاء الطائف وطاف فيما بين هذا القدر بين الحجر وبين البيت، فإنه لم يطف بالبيت العتيق الذي هو بناء إبراهيم عليه السلام، الذي وضع بناءه عليه، وإنما تقاصرت النفقة بقريش، فكان بناؤها ناقصاً.
فإذا طاف فإنما طاف بالبيت بالبناء، ولم يطف بالبيت العتيق، وعلى هذا قالوا: إن الله عز وجل نص على (العتيق)؛ تنبيهاً على استتمام الطواف بالبيت على ما كان عليه من بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
قوله: [أو عريانٌ].
أي: إن طاف بالبيت عريان، فإنه لا يصح طوافه، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه بعث مناديه ينادي -في سنة تسع-: ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عُريان.
فلا يصح الطواف بالبيت والإنسان عارٍ، بل لابد من أن يكون مستتراً، فإذا طاف عارياً لم يصح طوافه.
وعلى هذا فلو انكشفت عورته أثناء الطواف ففيه تفصيل: قال بعض العلماء: إن انكشفت وتدارك؛ لغلبة الناس والحطمة والزحام، كأن تكون حطمةٌ من الناس وغلب على أمره، أو كان ضعيفاً، أو مريضاً فغلب على أمره، فانكشفت عورته أثناء الطواف، وتدارك فستر مباشرةً بعد الانكشاف، صح طوافه ولم يؤثر.
وأما إذا ترك وتساهل، فإنه لا يصح طوافه كما ذكرنا، فلا يصح طوافه بالبيت إلا إذا استتر، فلابد وأن يكون ساتراً لعورته.
قوله: [أو نجس لم يصح].
هو في الحقيقة (متنجساً)؛ لأن المؤمن لا ينجس، أي: إن طاف بالبيت متنجساً؛ لأن المؤمن لا ينجس، ولكنهم يقولون: والحال أنه نجس، أو وهو نجس، لكن على العموم فلفظ (متنجس) أنسب؛ لأن المؤمن لا ينجس، وإنما يقال: متنجس.
والمتنجس: هو الذي عليه نجاسة في ثوبه، أو بدنه، فإذا كان في ثوبه نجاسة كرعافٍ، أي: إن رعفَ الدَمَ فنزل على ثوبه الذي هو إحرامه، أو نزل الدم على بدنه نفسه، فحينئذٍ لا يصح طوافه، إلا إذا كان معذوراً، كالشخص الذي معه الدم مسترسل، أو كان قدر الدم في حال العذر وهو ما دون الدرهم، أي: قدر الهللة القديمة فما دونها فهو معفوٌ عنه، فإذا كان الدم متفرقاً أو مجتمعاً بقدر الدرهم البغلي -وهو الدرهم الذي كان موجوداً في القديم، يقال له: البغلي، وهو يعادل الهللة القديمة الصفراء، وأقل من القرش الموجود في زماننا بقليل- فهو معفو عنه، فلو طاف وعليه هذا القدر فإنه بالإجماع يصح طوافه؛ لأن اليسير من الدم مستثنى إجماعاً.(121/18)
أحكام ركعتي الطواف
قال رحمه الله تعالى: [ثم يصلي ركعتين خلف المقام].
أي: إذا انتهى من طوافه صلى ركعتين خلف المقام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه، جاء إلى المقام، وصلى عليه الصلاة والسلام ركعتين، قال تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] فقوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) قيل: هو المقام، والسنة لكل من طاف بالبيت أن يصلي خلفه، ويجعله بينه وبين البيت، فقد كان المقام في القديم متصلاً ملتصقاً بالبيت، ثم نظراً لوجود الأذية بالطائفين في الزحام أُخِّر عن البيت، فإذا صلى وجعل المقام بينه وبين البيت، فهذه هي السنة، فلو كان هناك زحام حول المقام فإنه يتأخر، حتى ولو في أروقة المسجد، فيجعل المقام بينه وبين البيت.
وقال بعض العلماء: إذا تأخر بحيث لا يستطيع أن يصلي في جهة المقام إلا في الأروقة فالأفضل أن يصلي في صحن المسجد، ولا يتأخر إلى الأروقة، والسبب في ذلك أن قديم المسجد أفضل مما هو بعد؛ لقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، خاصةً وأن هناك قولاً يقول: إن المقام هو مكة كلها، فإذا كان مصلياً، أو صلى في أي موضع من مكة أجزأه، لذلك يقولون: إنه يصلي في أي مكان من صحن المسجد، والأفضل والسنة أن يجعل المقام بينه وبين البيت على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فيصلي هاتين الركعتين، يقرأُ في الأولى: (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية: (قل هو الله أحد)، وهما سورتا الإخلاص؛ لاشتمالهما على أعظم الأشياء وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، التي من أجلها أنزل كتبه، وأرسل رسله، وهو توحيد الله عز وجل، ولذلك قرأها عليه الصلاة والسلام في صلاته كما ثبت في الحديث الصحيح عنه، يقرأ في الركعة الأولى (قل يا أيها الكافرون)، وهي براءة من عبادة غير الله عز وجل، ومن كل دينٍ سوى دين الله، ويقرأ في الثانية بـ (قل هو الله أحد) التي جمعت مقاصد التوحيد، ففيها النفي والإثبات، فقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] هذا إثبات، وقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4] هو النفي، وهذا هو أصل شهادة التوحيد (لا إله إلا الله)؛ لأنها تشتمل على النفي، وعلى الإثبات، وهما أساس التوحيد.
ولا شك أن الحج والعمرة إنما شرعهما الله تعالى من أجل توحيده، فهذه المشاعر والمناسك ما أوجدها الله تعالى إلا من أجل الدلالة على التوحيد، ولذلك يقرأ الإنسان بهاتين السورتين، ويحرص على قراءتهما مستشعراً لمعانيهما العظيمة؛ لأن المقصود من حجه وعمرته أن يرجع بزاد التوحيد والإخلاص لله عز وجل، وينظر كيف أن هذه البنية أمر الله بالطواف بها، ولو طاف بغيرها فإنه لا يجوز، ومحرمٌ عليه، وقد يصل إلى الشرك والعياذ بالله، وهذا يدل على أنه عبدٌ مأمور تحت أمر الله عز وجل، وتحت حكمه، لا يقدم ولا يؤخر إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، فيقرأ بهاتين السورتين العظيمتين مستشعراً لما فيهما من معاني التوحيد، وإخلاص العبادة لله عز وجل.(121/19)
الأسئلة(121/20)
إدراج نية ركعتي الطواف مع نية السنة الراتبة
السؤال
هل تندرج ركعتي الطواف تحت السنن الرواتب؟
الجواب
لقد اختلف في ركعتي الطواف، فقال بعض العلماء: إنها واجبة إذا كانت في طوافٍ واجب، كأطوفة الركن، والأطوفة الواجبة في النذر، وطواف الوداع، ونحوها، وحينئذٍ لا تندرج؛ لأن الواجب لا يندرج تحت السنة كما لا يخفى.
وعلى القول بأنها ليست بواجبة، فحينئذٍ يسوغ أن يقال باندراجها من جهة كون المقصود أن يقع تنفله بين أذان الظهر وإقامته بالأربع، فإذا صلاها ناوياً الركعتين القبلية في الظهر من الأربع، أو الركعتين البعدية في الظهر من الأربع ساغ ذلك وأجزأه، والأولى ألا يفعل ذلك والله تعالى أعلم.(121/21)
حكم الإشارة باليد إلى الحجر عند الفراغ من الشوط السابع
السؤال
إذا انتهى الطائف من طوافه في الشوط السابع، فهل يسن له أن يرفع يده مشيراً إلى الحجر؟ أم يمضي ولا يشير؟
الجواب
هذه المسألة مبنية على مسألة المحاذاة للحجر: فهل الإشارة عند المحاذاة للحجر من أجل المحاذاة أو من أجل استفتاح الطواف؟ فقال بعض العلماء: المحاذاةُ عند ابتداء الحجر من أجل استفتاح الطواف، كرفع اليدين للتكبير استفتاحاً للصلاة، فكلما استفتح طوافاً يرفع يديه، وعلى هذا الوجه فإنه إذا أتم الطواف لا يرفع يديه.
وعلى هذا الوجه أيضاً أنه إذا رفع يديه عند مواجهة الحجر إنما ينوي بها أن يكون استفتاحاً لطوافه.
وأما الوجه الثاني فقالوا: إن رفع اليدين شرع من أجل أن يكون بدلاً عن استلام الحجر، فإذا كان الإنسان يستطيع استلام الحجر، أو تقبيله، فحينئذٍ لا يشير، وأما إذا لم يستطع تقبيله، ولا استلامه فإنه يشير بالمحاذاة، وعلى هذا الوجه ففي آخر الشوط السابع إن استلم فإنه لا يشير، وأما إذا لم يستلم فإنه يشير لمكان المحاذاة، وهذا يشهد له قوله: (كان يستلم الحجر، فإذا لم يستطع استلمه بمحجنٍ فقبله، فإذا لم يستطع أشار بيده)، فجعله مركباً على المحاذاة عند عدم الاستطاعة للتقبيل والله تعالى أعلم.(121/22)
حكم الطهارة في الطواف
السؤال
ما حكم الطهارة في الطواف؟
الجواب
تجب الطهارة للطواف على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين كما في الصحيحين، لما نفست وحاضت، وقال: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت).
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما والذي اختلف في رفعه ووقفه وصح موقوفاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف بالبيت الصلاة)، فقوله: (الطواف بالبيت الصلاة) يدل على أنه آخذ حكم الصلاة، ولذلك لا يطوف وهو متلبسٌ بنجاسة، وكذلك أيضاً يطوف وهو مستقبلٌ للبيت بالصفة التي ذكرناها، فقالوا: إنه يشترط له الطهارة، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قالوا فيه: قد صح موقوفاً، وإذا صح موقوفاً، فإن ابن عباس رضي الله عنهما -وناهيك به علماً وفقهاً في الدين- دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وهو قول صحابي جليل له مكانته في الفقه، مع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة في حديث عائشة وذلك يقوي القول القائل بوجوب الوضوء للطواف بالبيت.
ومما يؤكد هذا: أن الطواف بالبيت تتبعه أو يكون بعده صلاة الركعتين، ولا يمكن أن إنساناً يطوف بالبيت وهو محدث، ثم يذهب ويتوضأ من أجل أن يصلي الركعتين، فيفصل بين طوافه وسعيه بهذا الفعل الغريب، ولذلك قالوا: إنه إذا لم تدل الأدلة الصريحة فإن القرائن تقوي القول القائل بأنه لابد من الطهارة للطواف بالبيت والله تعالى أعلم.(121/23)
طواف حامل النجاسة
السؤال
من طاف بالبيت وهو يحمل النجاسة، كمن يحمل طفلاً صغيراً قد أحدث، فما حكم طوافه؟
الجواب
أما بالنسبة لحمل الطفل، فحمل النجاسة يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن تتصل بالندى، كأن يكون حاملاً لطفلٍ فبال الطفل فندى على لباس الإنسان، فحينئذٍ يتنجس مَنْ حَمَله، وعلى هذا يحمل حديث فاطمة رضي الله عنها لما أتت بابنٍ لها صغير وأجلسته في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فبال على الرسول صلى الله عليه وسلم فرشه بماء، فهذا يدل على أن النجاسة تسري بالندى والرطوبة.
وإذا كانت على هذا الوجه تكون النجاسة مؤثرة، ولا يصح له الطواف إذا حمله وبال وسرى البول إليه، ولابد له أن يتطهر، فينحرف عن الطواف، ويغسل ما به من علاقة النجاسة ويبني على ما مضى من طوافه، ولا حرج عليه في ذلك كما لو رعف في صلاته.
وأما الصورة الثانية فهي: أن تكون النجاسة منفصلة، كأن يحمل طفلاً وفيه نجاسةٌ كبولٍ، ولكنه في حفاظةٍ، أو نحو ذلك، فلا تسري من المحمول إلى من يحمله، فهذه فيها خلافٌ معروف: هل حمل النجاسة يؤثر أو لا؟ فقال بعض العلماء: من حمل النجاسة فإن صلاته صحيحةٌ، إذا لم يكن ندىً ولا رطوبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة، والغالب في الصبية ألا تسلم، فقالوا: نظراً للغالب أنها لا تسلم وقد حملها عليه الصلاة والسلام.
وقال بعض العلماء: حمل النجاسة يؤثر، فإذا لم تكن لها رطوبة، وحملها الإنسان واتصلت به وكانت على عاتقه، أو على رأسه، أو حملها بين يديه وصدره، فإنها تؤثر، والاحتياط ألا يفعل ذلك، إلا في حالة الاضطرار والحاجة، فلو حمل صبياً لا يستطيع أن يتركه، ويخاف عليه أن يؤذى، أو يخاف عليه أن يؤخذ، فحينئذٍ يصح له أن يطوف وهو حاملٌ له، مع وجود نجاسته لمكان الضرورة، كالمستحاضة إذا غلبها الدم، ولم تستطع أن تنفك عنه والله تعالى أعلم.(121/24)
مكان استئناف الشوط بعد قطعه لنحو أداء الصلاة
السؤال
إذا أوقف الطواف لأداء الصلاة، فهل يعيد الشوط من جديد؟ أم يبدأ من مكانه؟
الجواب
إذا قطع الطواف من أجل الصلاة فحينئذٍ يصلي ثم يعود، وللعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: يرجع إلى بداية الشوط، ويعيد هذا الشوط الذي قطعه ولو بقيت منه خطوة؛ لأنه ألغي بالفصل.
ومنهم من يقول: يرجع للموضع الذي قطع منه، وهذا هو الأصح والأقوى، والسبب في ذلك أن قول أصحاب القول الأول -الذين يقولون بإلغاء الشوط- ضعيف؛ لأنهم لو قالوا بهذا المعنى للزمه أن يعيد الطواف كله، فكونهم يقولون: يعود من أول الشوط، في حين يبقون بقية الأشواط، ويرون الفاصل غير مؤثر، يلزمهم ألا يلغوا ما مضى من الشوط، فكما أنهم لم يلغوا ما مضى من الأشواط يلزم منه ألا يُلغى ما مضى من الشوط نفسه؛ لأن الأجزاء تأخذ حكم ما تقدمها من الأشواط، فإذا قلت: إنه فاصلٌ مؤثر، أثر على الاثنين، أما أن تقول: فاصلٌ مؤثرٌ في الشوط، وغير مؤثر على بقية الأشواط، فهذا تفصيلٌ بدون دليل، وعلى هذا فإنه إذا قطع أثناء الشوط فإنه يعيد من الموضع الذي قطع منه، لكن الأفضل والأكمل أن يعيد من أول الشوط والله تعالى أعلم.(121/25)
الفصل بين الطواف والسعي
السؤال
ما حكم الفصل بين الطواف والسعي؛ لقضاء حاجةٍ من حوائجه؟
الجواب
هذه المسألة في الحقيقة كنت أتورع عنها ولا زلت، فالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما فصل بين طوافه وسعيه، صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان الإنسان يريد السنة إذا اعتمر، أو أدى عمرته، فإنه لا يفصل، هذا إذا كان الفاصل بالخروج من المسجد، أما إذا كان الفاصل في داخل المسجد كأمر احتاج إليه، واضطر إليه ولم يتباعد، فالأمر يسير، كشخصٍ -مثلاً- بعد الطواف تعب والده، أو تعبت والدته، أو تعب أولاده، وجلس معهم يرفق بهم، وييسر لهم، أو احتاجوا في داخل المسجد أن يسقيهم، أو نحو ذلك، فالأمر يسير، لكن أن إنساناً يطوف، ثم يذهب ليستريح في نزله، فيطوف في أول النهار، ويأتي في آخر النهار يسعى، أو يطوف في أول النهار، ويأتي من اليوم الثاني يسعى، فتقصده هذه المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوقف فيه، وكان بعض العلماء يرى أن الطواف يلغى، ولابد من صلة الطواف بالسعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى بعد طوافه، ولم يفصل بين طوافه وسعيه إلا بأمرين: أحدهما شربه لزمزم كما جاء في مسند الإمام أحمد.
والثاني: صلاته صلوات الله وسلامه عليه للركعتين مع تقبيله للحجر بعدها، هذا هو السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفاصل، ولكنه فاصل من جنس العبادات، وحتى شربه لزمزم إنما هو من العبادة؛ لأنه قصد به العبادة، وعلى هذا فإن الذي يظهر -والعلم عند الله- أنه يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يفصل والله تعالى أعلم.(121/26)
الدعاء على الصفا والمروة
السؤال
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو وهو على الصفا والمروة دعاءً طويلاً، ولكن هل يحصل تحقيق السنة بذلك القدر الطويل؟ أم يحصل بمجرد الدعاء، ولو لفترةٍ وجيزة، لاسيما عند الزحام؟
الجواب
في الحقيقة السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قرب من الصفا تلا الآية، ثم صعد وكبر، ثم هلل قائلاً: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
ثم دعا، ثم رجع ثانيةً وكبر ثلاثاً، وهلل ودعا، ثم رجع ثالثةً وكبر ثلاثاً، وهلل ودعا، فأصبح تكبيره تسعاً، وتهليله ستاً، ودعاؤه عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، هذه هي السنة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل على المروة مثل ما فعل على الصفا، وهذا الموضع كان بعض أهل العلم يقول: إنه من المواضع الفاضلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تحرى فيه الدعاء، وأكثر فيه الدعاء، وجعل فيه أفضل ما يتقرب به إلى الله عز وجل، بالثناء على الله عز وجل بتوحيده وتهليله سبحانه وتعالى.
وقد فرج الله عز وجل عن هاجر في هذا الموضع -الذي هو بين الصفا والمروة-، وهي تسعى وتسعى، فقال: يجتهد في هذا الموضع قدر استطاعته، ويطيل.
وكان بعض العلماء من مشايخنا -رحمة الله عليهم- ربما يجلس فوق نصف الساعة إلى قرابة الساعة على الصفا، وعلى المروة مثله، حتى نجلس الساعات الطويلة وهو في سعيه، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
فمن يعرف فضل وشرف الوقوف بين يدي الله، ويجد لذة مناجاته، وحلاوة سؤاله سبحانه وتعالى، والتذلل له جل وعلا، لا شك أنه لا يسأم ولا يمل، حتى يحس أن ألذ الساعات، وأشرفها عنده حين يقف بين يدي الله عز وجل.
فإذا استشعر الإنسان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرص على تطبيقه، وجد قيمة لذة عمرته، ووجد لها الأثر، ووجد أنه يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسير على نهجه، ويقتفي أثره؛ فتصيبه الرحمة، وكفى بذلك فضلاً وشرفاً، ولذلك من اتبع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبادته فإنه يُهدى، كما قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
فمن حرص على اتباع السنة، والتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، كملت هدايته على قدر كمال متابعته للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن الناس -إلا من رحم الله- أصبحوا ينظرون إلى هذه العبادة نظرة شكلية، فتجد الإنسان يحمل هم منزله ويحمل هم طعامه وشرابه، وساعة خروجه، وساعة دخوله، وتؤقت الأشياء توقيتاً، كأن الإنسان يريد أن يخرج من هذا، وكأنه في سجن أو نحوه، من الضيق والهم، وكأنه يريد أن ينتهي من عمرته، وهذا لا يليق، بل الذي ينبغي للإنسان إذا جاء أن يستشعر أنه ما تغرب عن أهله، ولا ولده، إلا من أجل ذكر الله عز وجل، وأن الله تعالى بلغه، والله أعلم كم من قلوبٍ احترقت بالشوق والحنين لرؤية البيت، فضلاً عن الطواف به، والسعي بين الصفا والمروة، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون، فالتقمتهم بحار، وذهبوا في الفيافي والقفار، وأدركتهم المنايا فيها قبل أن يصلوا إلى هذه الأمنية العزيزة، والله بلغك، ويسر لك وسهل، وأعطاك المال، وأعطاك الصحة والعافية والأمن والأمان، وأنت في نعم الله ترفل صباح مساء، فإذا جئت لذكره أحسست وكأنه ثقيل، وكأن فيه عناءً عليك، ولا شك أن هذا من الحرمان، نسأل الله السلامة والعافية.
فينبغي على الإنسان أن يجتهد قدر استطاعته وقوته في ذكر الله عز وجل على الصفا، وسؤال الله عز وجل.
وما يدريك؟! فلعلك أن تصيب باباً في السماء مفتوحاً فتستجاب دعوتك، وتفرج كربتك، وتكفى همك، وترجع وقد جبر الله كسرك، ورفع درجتك، وغفر ذنبك، فهذا لا شك أن الإنسان إذا استشعره هان عليه أن يطيل الوقوف، وأن يتلذذ بمناجاة الله عز وجل.
ويروى عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان له مطمعٌ أن يخطب إلى عبد الله بن عمر ابنته رمانة، فجاءه وهو يطوف بالبيت، فانتظر حتى دخل في شوطه فدخل معه، وحدثه بما يريد، فلم يجبه ابن عمر رضي الله عنهما بشيء، ولم يكلمه، وكأنه لم يسمع ما يقول، فلما انتهى عروة رضي الله عنه من كلامه، ورأى ما رأى من ابن عمر رضي الله عنهما، ظن أن ابن عمر لا يريد أن يزوجه، فمضى وهو منكسر الخاطر، حتى إذا رجع إلى المدينة مرض ابن عمر، فجاء عروة يزور ابن عمر، فقال له ابن عمر: إنك قد سألتني أن تنكح رمانة، أكما أنت -أي: أنيتك على ما هي-؟ قال: نعم.
فدعا بابني عمٍ له، وعقد له عليها، وقال: (إنك قد سألتنيها في مقامٍ يتراءى للعبد ربُه).
ومراده بذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، يعني: في هذا المقام وأنا مقبلٌ على الله في الطواف ليس المقام مقام زواج، ولا بحديث زواجٍ، ولا غيره، فكانوا إذا أقبلوا على الطواف، وعلى الذكر، وعلى العبادة يقبلون بقلوبٍ كاملة، وقوالب كاملة، تستشعر لذة مناجاة الله سبحانه وتعالى، وحلاوة ذكره، فإذا وجد الإنسان هذا الاستشعار أطال الدعاء، ولم يسأم ولم يمل.
وأيوب عليه السلام لما نزل إليه رجل جراد من ذهب، وهو يجمع، فقال الله تعالى: ألم أغنك من رحمتي؟ قال: (ربي! لا غنى لي عن بركاتك).
فأنت في موضع مبارك، في موضع تستجاب فيه الدعوة، وما يدريك أنك واقف في الموضع الذي وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما يدريك أنها ساعة تستجاب فيها الدعوة، أو تفتح لها أبواب السماء؟ فعندها إذا استشعر الإنسان مثل هذا انشرح صدره، واطمأن قلبه، وكمال اللذة والسرور، والبهجة والطمأنينة، وسعادة الدنيا، لحظة مناجاة الله عز وجل؛ لأن الله جل وعلا جعل العبد في كبد، وفي هم وغم، فلا يزول همه، ولا يذهب غمه إلا إذا أقبل على الله عز وجل، فإذا أقبل على الله أحس أن الهموم تتبدد عنه، وأن الغموم تزول عنه، وأنه في سعادة، وفي أنس، وفي بهجة.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يذيقنا حلاوة مناجاته، ولذة مناجاته، والأنس به سبحانه وتعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على نبينا محمد.(121/27)
شرح زاد المستقنع - باب دخول مكة [2]
إن الله تعالى شرع لنا أن نؤدي العبادة بكيفية معلومة لا يقبل العمل بغيرها، وذلك لحكمة أرادها الله تعالى، ولهذا يجب على المسلم أن يعرف هيئات العبادات وكيفياتها، ومن جملة ذلك معرفة كيفية القيام بالسعي بين الصفا والمروة مشياً وسعياً وذكراً ومسافة وابتداءً وانتهاءً، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالسعي.(122/1)
استلام الحجر بعد الركعتين، والسعي بين الصفا والمروة(122/2)
الشرب من زمزم، ثم استلام الحجر إذا تيسر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: ثم يستلم الحجر ويخرج إلى الصفا من بابه فيرقاه حتى يرى البيت ويكبر ثلاثاً، ويقول ما ورد].
ما زال المصنف رحمه الله يبين جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بنسك الحج والعمرة، فبين أن الهدي فيمن أتم طوافه بالبيت، وصلى الركعتين أن يستلم الحجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته ثبت عنه أنه شرب من زمزم، ثم استلم الحجر ومضى إلى الصفا، فبين رحمه الله أنه بعد انتهائه من الصلاة، وفراغه من طوافه، واستتمامه للركعتين يستلم الحجر، فإن تيسر له فالحمد لله وقد أصاب السنة، والأجر أعظم، وإن لم يتيسر له فليس ذلك بشيء واجب، فيمضي إلى الصفا.(122/3)
متى يكون السعي؟
والسنة أن يقع سعيه بين الصفا والمروة عقب طوافه بالبيت، ولا يكون هناك فاصل مؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع، وفي عُمَره أنه كان بعد فراغه من ركعتي الطواف يمضي إلى الصفا، ولم يثبت عنه أنه فصل بين طوافه صلوات الله وسلامه عليه وصلاته بعد الطواف وبين السعي بين الصفا والمروة، ولذلك نص العلماء على أنه ينبغي أن يصل سعيه بين الصفا والمروة بطوافه بالبيت.(122/4)
الخروج إلى الصفا والأفضلية في باب دخوله
قوله: [ويخرج إلى الصفا من بابه فيرقاه حتى يرى البيت].
أي: يخرج إلى الصفا، وهو الجبل الأيمن إذا استدبر الإنسان الكعبة، فالجبلان أيمنهما إذا استدبرت الكعبة هو الصفا، والأيسر هو المروة، والصفا: هو الحجر الأملس، فالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج إلى الصفا، وقول المصنف: (من بابه)، فهذا ليس بواجب، وإنما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقاً لا قصداً، وعليه فإنه لو خرج من أي الأبواب أجزأه، والآن أصبح مكان السعي بين الصفا والمروة ليس بينه وبين البيت جدار، وإنما هناك الفتحات المعروفة، فمن أيها دخل فإنه لا حرج عليه، ولكن السنة: أن يكون من آخرها حتى يستقبل البيت؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.(122/5)
الرقي على الصفا، حكمه والأذكار الواردة فيه
قوله: [فيرقاه حتى يرى البيت ويكبر ثلاثاً].
أي: يرقى على الصفا؛ لأنه لا يستتم السعي بين الصفا والمروة إلا إذا رقى على الصفا، ورقى على المروة، حتى يصدق عليه أنه قد سعى بينهما وتطوف بهما، وأما لو كان سعيه بين الصفا والمروة دون الجبل فإنه لا يجزيه إذا لم يرق طرف الجبل.
وقوله: (يرقاه)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رقى الصفا، يقال: (رقى الجبل) إذا صعد عليه، والسنة للرجال الصعود، وأما بالنسبة للنساء فيجتزئن بأقل الموضع، ولا يصعدن إلى الأعلى؛ لما فيه من التكشف والظهور أمام الناس، وكلما كُنَّ بين الناس كان أستر لهن، ولذلك نص العلماء على أن هذا الموضع من المواضع التي يختلف فيها الحكم بالنسبة للرجال والنساء، فالمرأة تجتزئ بأطراف الصفا وبأطراف المروة، والرجل يصعد إلى الصفا، ويصعد إلى المروة، وكذلك الرجل يرمل في طوافه وسعيه بين الصفا والمروة، والمرأة لا ترمل وإنما تمشي؛ لأنها إذا رملت تكشفت، وعلى هذا فإن الصعود سنة للرجال وليس بسنة للنساء، والهدي أن المرأة تختصر بأقل أطراف الجبل، ثم تمضي لوجهها.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة أنه قبل أن يصعد الصفا خرج من باب بني شيبة، ثم بعد ذلك قرأ الآية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، (وقال: أبدأ بما بدأ الله به)، ولذلك قال العلماء: فيه دليل على أن البداءة بالسعي لا تكون إلا بالصفا، فلو ابتدأ بالمروة لم يجزئه ذلك، ولم يحتسب شوطه الذي بين المروة والصفا، فلابد في البداية أن تكون من الصفا، فيقرأ الآية قبل صعود الصفا؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يبتدئ بما بدأ الله به وهو الصفا.
فقوله: [فيرقاه حتى يرى البيت ويكبر ثلاثاً ويقول ما ورد].
أي: يرقى على الصفا، وكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه: أنه إذا صعد النشز من الأرض، كالجبال والهضاب والأماكن العالية كبر الله، وإذا نزل إلى الوديان والوهاد سبح الله، وهذه هي السنة؛ لأن الله يذكر على كل شرف وعالٍ، فإذا علا ناسب أن يقول: (الله أكبر)، فهو سبحانه أكبر من كل شيء، وناسب أن يعظم الله، وأن يذكر الله عز وجل بالتعظيم والإجلال، وهذا من الذكر المناسب للحال.(122/6)
استقبال البيت على الصفا، وما يقوله من أذكار
فالنبي صلى الله عليه وسلم كبر على الصفا ثلاثاً.
والسنة أنه يستقبل البيت، قال العلماء: ثبتت الأحاديث الصحيحة كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في منسك النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رقى الصفا واستقبل البيت)، ولذلك أجمع العلماء على أن السنة أن يستقبل البيت حتى يراه، ويجعله قبل وجهه، وهذا كما ذكر بعض العلماء -تنبيه على التوحيد، وإخلاص العبادة لله عز وجل، قالوا: وكما أنه إذا صلى جعل البيت قبلته، وإذا طاف بالبيت جعل البيت قبلته من جهة كونه يجعل البيت عن يساره، كذلك إذا سعى بين الصفا والمروة فرقى جبل الصفا، أو رقى جبل المروة، فإنه يستقبل البيت بالدعاء والمسألة والتضرع والابتهال لله سبحانه وتعالى.
وقالوا: إنه تأكيد للتوحيد، فإنه يتوجه إلى البيت، ويوحد الله عز وجل، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه ابتدأ دعاءه بالتكبير ثلاث مرات: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، وهذه رواية الصحيح، وفي رواية للنسائي: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده).
يقول بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على الصفا، فدعا الناس إلى توحيد الله لما أمره الله عز وجل أن يبلغ رسالة الله، وأن يؤدي أمانته، فأُمر بالجهر بالدعوة، فنادى في قريش فعمم وخصص، ثم دعاهم إلى التوحيد فقال: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) فقال له أبو لهب: تباً لك! ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] الآيات.
قال العلماء: كُذِّب عليه الصلاة والسلام على الصفا والمروة، وعلى رءوس الأشهاد؛ لأنه وقف أمام قريش عامها وخاصها، وإذا به في حجة الوداع أمام مائة ألف من أمته وأصحابه، كلهم يقول: كيف يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما كان منه إلا أن أثنى على الله تعالى بما هو أهله، فقال: (لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، فأنجز الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ما وعده، ونصره وأعزه وأكرمه صلوات الله وسلامه عليه، ورفع ذِكْره، وأبقى له رفعة الذكر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بل رفع له ذكره، حتى في يوم يجمع فيه الأشهاد، فيكون عليه الصلاة والسلام فيه الشافع المشفع، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، فقال: (لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده).
ثم استفتح بالدعاء عليه الصلاة والسلام، فسأل الله عز وجل المسألة، ثم رجع وقال: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا، ثم رجع عليه الصلاة والسلام فكبر).(122/7)
عدد مرات التكبير والتهليل والدعاء عند العلماء والسنة في حمد الله تعالى
وللعلماء في الدعاء والاستفتاح وجهان: الوجه الأول: قال بعض العلماء: يستفتح بالتكبير مع التهليل ثم يدعو، ثم يرجع مرة ثانية يكبر ويهلل ويدعو، ثم يختم مرة ثالثة بالتكبير والتهليل ولا يدعو، فعلى هذا الوجه الأول: يكون التكبير تسع مرات، ثلاثاً في الأولى، والثانية ثلاثاً، والثالثة ثلاثاً، ثم التهليل ستاً؛ لأنه يكون في المرة الأولى التي استفتح فيها المسألة مرتين، وهما: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده.
إلخ)، فيكون التهليل ستاً، ويكون الدعاء مرتين، هذا هو أقوى الأوجه، وهو الذي يدل عليه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وأرضاهما، وهي السنة في الحج والعمرة، أن الإنسان إذا صعد على الصفا كبر الله ثلاثاً، ثم هلل بالمرتين اللتين ذكرناهما، ثم يدعوه، ثم يرجع فيكبر ويهلل، ثم يدعو، ثم يختم دعاءه بالتكبير والتهليل، فيكون دعاؤه مرتين، ويكون تكبيره تسعاً، وتهليله ست مرات، هذا هو أصح الأوجه عند العلماء.
الوجه الثاني: أن يبتدئ بالتكبير ثلاثاً مع التهليل مرتين ويدعو، ثم يكبر ويهلل ويدعو، ثم يكبر ويهلل ويدعو، فيكون التكبير تسعاً، والتهليل ستاً، والدعاء ثلاثاً، فالفرق بين هذه الصفة الثانية والصفة الأولى زيادة الدعاء، فكأنهم يرون أن هذا التكبير والتهليل والثناء على الله استفتاح للدعاء، وأصحاب القول الأول يرونه استفتاحاً وختماً للدعاء، وعلى هذا فإن الوجه الثاني يختاره جمع من العلماء -كما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- ومنهم القاضي أبو يعلى، وأصح الأوجه ما ذكرنا.
وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الصحيح ذكر الحمد إجمالاً، ففيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى على الصفا، فحمد الله بما هو أهله) وهذا -كما يقول العلماء- للعلماء فيه وجهان: فمنهم من يقول: هذا الحمد الذي اشتمل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه هو الذي اشتمل عليه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وبناء عليه فإنه يسن أن يقتصر الإنسان على هذه الصفة الواردة في حديث جابر رضي الله عنه، وهذا يختاره بعض العلماء المحققين، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيرى أن الحمد الوارد في حديث أبي هريرة محمول على التفصيل الوارد في حديث جابر.
وهناك وجه ثانٍ يقول: إنه يزيد الحمد لله إذا استفتح الدعاء؛ لأن السنة أن الداعي إذا استفتح دعاءه يستفتح بحمد الله.
ولكن الوجه الأول أقوى؛ لأن القاعدة في الأصول أن المجمل يحمل على المبين، فـ أبو هريرة رضي الله عنه أجمل، وأما جابر رضي الله عنه فإنه بين وفصل، فيحمل ما أجمله أبو هريرة على ما فصله جابر بن عبد الله رضي الله عن الجميع.
والسنة في هذا الدعاء -كما ذكرنا- أولاً: أن يستقبل البيت، وأن يكون واقفاً؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا كان كبير السن، أو عاجزاً، أو نحو ذلك ولا يستطيع الرقي، فلو أنه ركب ما يحمل فيه، فاستقبل البيت، أو اتجه إلى جهة البيت إذا لم يستطع رؤية البيت، فإنه حينئذٍ يمكنه أن يدعو وهو جالس، ولكن إذا أمكنه أن يقف فإنَّه يقف عند الدعاء تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.(122/8)
الدعاء على الصفا والمروة والاستكثار منه
ثم يرفع يديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وهي السنة، وأجمع العلماء على سنية رفع اليدين في الدعاء على الصفا والمروة؛ لأن الأحاديث صحيحة، ولذلك قال العلماء: من المواضع التي يشرع فيها رفع اليدين في النسك في الحج والعمرة على الصفا والمروة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه، وسأل الله عز وجل من فضله، والسنة أن يجتهد في الدعاء، وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -وهو الذي عرف بالتأسي، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم- يطيل الدعاء ويطيل المسألة، حتى جاءت الرواية الصحيحة عنه أنه كان أصحابهَ يَملُّون من طول قيامه رضي الله عنه وأرضاه، ولكن قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، فمن عرف الله، وأَجَلَّه بأسمائه وصفاته، وعظم شعائره، وأخلص في مواطن الدعاء، ومواطن الثناء على الله، وصبر واصطبر، فإنه يحس بلذة مناجاة الله سبحانه وتعالى، وحلاوة ذكره، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، فكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يثني على الله بما هو أهله، ويدعو، ويسأل الله عز وجل، ويلح في دعائه ومسألته.
قال بعض العلماء: من المواطن التي ترجى فيها الإجابة الدعاء على الصفا والمروة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تحرى الدعاء هناك، قالوا: فيشرع له أن يستكثر من سؤال الله تعالى من خيري الدنيا والآخرة، ويجعل مسألة الآخرة هي الأصل؛ لأن أمور الدنيا يسيرة، والإنسان يأخذ من دنياه ما يبلغ به آخرته، فيجعل المسألة لآخرته في صلاح دينه، واستقامته على طاعة ربه، ويسأل الله عز وجل حسن الطاعة، وكمال الاستقامة، والثبات على ذلك إلى لقاء الله عز وجل، فالسنة أن يجتهد في الدعاء.
فإذا فرغ من الدعاء نزل عن الصفا؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنصب قدماه في الوادي.(122/9)
كيفية النزول من الصفا والهرولة بين العلمين الأخضرين
قال رحمه الله تعالى: [ثم ينزل ماشياً إلى العلم الأول].
أي: ثم ينزل ماشياً؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، إلى العلم الأول، فإن كان كبير السن، أو امرأة اجتزأت بأطراف الصفا، أو أطراف المروة، فإنها حينئذٍ تمضي لوجهها، ويمضي الرجل لوجهه.
قال رحمه الله تعالى: [ثم يسعى شديداً إلى الآخر].
العلمان موجودان إلى الآن، والعلمان هما علامة على الوادي، أي: على طرفي الوادي؛ لأن جبل الصفا وجبل المروة كانت تمتد أجزاؤهما إلى أطراف الوادي، وكان الذي بينهما مجرى الوادي الذي ينصب على جهة البيت كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37]، فتفيض الجبال على الأبطح، ومن الأبطح تنصب على جهة الصفا، ومن جهة الصفا تنصب إلى البيت، فمكة أشبه بالمنكفئة، كالمدينة فيها أعلى وأسفل، فالمدينة عاليتها قباء والعوالي، وسافلتها جهة أحد، كذلك مكة، قالوا: عاليها جهة المقابر، جهة المعلاة، وأسفلها من جهة الجنوب، فمجرى الوادي بين الصفا والمروة، وكان في القديم واضح المعالم، لكنه لما وسع، وأُخذ من الصفا، وأخذ من أجزاء المروة أصبح هناك علمان ولا زالا موجودين إلى اليوم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي حتى يأتي العلمين، فإذا جاء إلى العلم هرول وسعى صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا السعي فيه مسائل منها: المسألة الأولى: أنه كان لـ هاجر حينما ابتليت بعطش ابنها إسماعيل، فإن الله سبحانه وتعالى ألهمها أن تسعى بين الصفا والمروة، فالسعي بين الصفا والمروة كان أصله منها، ويقول بعض العلماء: إن الله سبحانه وتعالى أبقاه من معالم الحنيفية، حتى يتذكر كل مكروب ومنكوب أن الله سبحانه وتعالى لكل كربة ونكبة، فإن هذه المرأة ضعيفة ومع طفلها الصغير، وكانت كما قال الله تعالى: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37]، لا أنيس ولا جليس، ولكن تركهم إبراهيم عليه السلام لله عز وجل، فقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟! قال: لله.
قالت: (إذاً لا يضيعنا الله)، واستقبل الوادي، ودعا بدعواته، فبقيت هي وصبيها، وما شأنك بامرأة ضعيفة مع صبيها، وهو يصرخ ويستنجد يسأل الماء من شدة الظمأ؟ فسعت بين الصفا والمروة، فمن سعى بين الصفا والمروة تذكر مثل هذا الموقف، وتذكر أن الله فرج عن هذه المرأة الضعيفة، فأزال همها، وبدد غمها، وكشف كربتها، وجعل تفريج كربتها من تحت قدم ولدها، ولم يأتِ أحد يسقيها فيمتن عليها بالسقية، ولم يجعل تفريج كربتها لمخلوق يأتي فيسعفها، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل تفريج كربتها من تحت قدم ابنها الذي تريد أن تسقيه، وهذا لا شك أنه من أعظم الآيات، ومن أعظم الدلائل على توحيد الله عز وجل وعظمته سبحانه، وأن من الخذلان أن يرفع العبد كفه لمخلوق كما قال تعالى: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13].
فإن من أعظم الحرمان، ومن أعظم الخسارة: أن ينصرف المخلوق عن الخالق إلى مخلوق مثله، أو إلى من لا يملك له ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] فلا شك أنه من أعظم الحرمان وأعظم الخسارة.
فالله تعالى جعل مثل هذه المواقف تحيي في القلوب، وتذكي في النفوس الالتجاء إلى الله تعالى والتوكل على الله تعالى والاستعانة بالله تعالى، التي هي مقاصد التوحيد، ومن أسس التوحيد الذي لا يمكن أن ينظر الله عز وجل إلى عمل العامل، وقول القائل إلا بعد تحقيقه، وما جعلت الصفا ولا جعلت المروة إلا من أجله.
المسألة الثانية: فإذا انصبت القدمان في الوادي سعى؛ لأن هاجر عليها السلام سعت، واختار جمع من العلماء أن يكون السعي شديداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه السنة أنه سعى سعياً شديداً، وجعل الإزار يدور على ركبتيه -صلوات الله وسلامه عليه- من شدة سعيه، وقال: (أيها الناس! إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)، وهذا -كما يقولون- سمي سعياً؛ لأنه في هذا الموضع يسعى ولا يمشي، أما المرأة فإنها تمشي؛ لأنها إذا سعت تكشفت، ولا يجوز رمل النساء لا في الطواف بالبيت، ولا في السعي بين الصفا والمروة، وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا اشتد سعيه قال: (رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم) كما رواه عنه الإمام أحمد بن حنبل في المسند.
وإذا انتهى إلى طرف العلم فحينئذٍ يمشي كما مشى حال انصبابه من الصفا إلى الوادي.(122/10)
أفعال المروة صعوداً أو نزولاً
قال رحمه الله تعالى: [ثم يمشي ويرقى المروة ويقول ما قال على الصفا].
بعد انتهائه من الوادي، وبلوغه إلى طرف العلم يمشي فيرقى المروة، وإذا رقى المروة استقبل البيت، فإذا كان لا يستطيع أن يراه -كما هو الحال الآن- فمن أهل العلم من قال: يجتهد في تحري جهة البيت، وهذا يختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه لما كانت الصفا لها جدار، وكانوا لا يستطيعون الرؤية قالوا: نص على أنه يحرص على استقبال جهة البيت كيفما كان، أي: يحاول قدر استطاعته أن يكون مستقبلاً لجهة البيت، فيرفع يديه، ثم يكبر ويهلل، ويدعو على الصفة التي ذكرناها على الصفا.
قال رحمه الله تعالى: [ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا].
أي: ثم ينزل ويمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، ويعتَبِرُ في رجوعه ما اعتبره في نزوله، فالحكم لا يختلف في الشوط الذي يئوب به من المروة، أو الذي يذهب به من الصفا، فالحكم واحد، ويجتهد في الدعاء والمسألة، فيسأل الله عز وجل من فضله في سعيه، ولو قرأ القرآن فلا حرج، ولو دعا أو أثنى على الله بما هو أهله، فسبح وكبر وحمد ونحو ذلك فلا حرج عليه.(122/11)
مسافة السعية، وحكم الابتداء بالمروة
[يفعل ذلك سبعاً، ذهابه سعيةٌ ورجوعه سعيةٌ].
أي: ذهابه من الصفا إلى المروة سعيةٌ، وإيابه من المروة إلى الصفا سعية، فيبتدئ بالصفا وينتهي بالمروة، ويقف على كلٍّ أربعاً على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، وهناك قول أنه إذا فرغ من الشوط الأخير لا يقف على المروة، والذي اختاره جمع من العلماء أنه يقف ويدعو؛ لأن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صنع على المروة مثل ما صنع على الصفا، حتى انتهى من سعيه، فاختار جمع من العلماء أن يكون وقوفه عليها أربعاً.
ويكون ذهابه شوطاً ورجوعه شوطاً، وكان بعض العلماء -وهو قول ضعيف- يرى: أن الذهاب والرجوع شوط واحد، فحينئذٍ يكون أربعة عشر مرة.
والقائل بهذا توفي ولم يحج ولم يعتمر، حتى كان بعض أهل العلم يقول: لو حج أو اعتمر ما قال بقوله هذا؛ لأنه لو حج واعتمر، ووجد المشقة التي تكون في أربعة عشر شوطاً لما قال بهذا القول.
قال رحمه الله تعالى: [فإن بدأ بالمروة سقط الشوط الأول].
السنة أن يبدأ بالصفا، فإن قال قائل: لو بدأ بالمروة قبل الصفا، فهل يحتسب تلك السعية أو لا يحتسبها؟ فالجواب أنه لا يحتسبها، ولا يجزيه أن يبتدئ بالمروة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ بالصفا، وقال: (أبدأ بما بدأ الله به)، وفي رواية للنسائي في السنن الكبرى: (ابدءوا بما بدأ الله به) بصيغة الأمر، وهذا هو الذي عليه المُعَوَّل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم)، فهذا هو منسكه، وهذا الذي فعله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، أنه ابتدأ بالصفا، فاجتمعت دلالة الكتاب، ودلالة السنة على أن البداءة تكون بالصفا، ولو ابتدأ بالمروة فإنه يلغي ذلك الشوط ولا يعتد به.(122/12)
أفعال مسنونة حال السعي
قال رحمه الله تعالى: [وتسن فيه الطهارة والستارة والموالاة].
قوله: (وتسن فيه الطهارة) يعني: في السعي بين الصفا والمروة، فيجوز للإنسان أن يسعى بين الصفا والمروة وهو محدث حتى ولو كان جنباً، ولو كانت المرأة حائضاً فإنه يصح سعيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها لما حاضت: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)، فلو كانت الطهارة شرطاً في صحة السعي لقال لها: اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت، ولا تسعي بين الصفا والمروة، ولكنه عليه الصلاة والسلام اقتصر على ذكر الطواف، فدل على أنه يصح أن يسعى الإنسان وعليه الحدث الأصغر أو الأكبر.
والسنة والأفضل الطهارة، كما قال المصنف: (وتسن له الطهارة) يعني: أن الأفضل والأكمل أن يكون الإنسان على وضوء، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً، وصلى ركعتي الطواف، ثم مضى لوجهه ولم يُذكر له حدثٌ، فطاف بين الصفا والمروة، وسعى بينهما وهو على طهارة، فقالوا: تسن الطهارة، فهي الأفضل والأكمل، ومما يؤكد هذا أنه بين الصفا والمروة سيذكر الله، والأفضل في ذكر الله أن يكون الإنسان على طهارة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله)، فدل على أن الأفضل في حق ذاكر الله عز وجل أن يكون على طهارة، وأن هذا أكمل وأعظم لأجر الإنسان.
ثانياً: ستر العورة: قوله: [وتسن فيه الطهارة والستارة].
المراد بالستارة: ستر العورة، أي: يسعى بين الصفا والمروة وقد ستر عورته.
فلو أنه سعى بين الصفا والمروة فانحل إزاره في زحام، أو نحو ذلك، فانكشفت عورته في شوط، أو نحو ذلك، فإنه تجزيه تلك السعية، ولا يعتبر ستر العورة شرطاً لصحة السعي بين الصفا والمروة.
ثالثاً: الموالاة: قوله: [والموالاة].
الموالاة تقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون سعيه عقب الطواف فيوالي بينهما، وهذه هي السنة كما ذكرنا.
والصورة الثانية للموالاة، أو الموضع الثاني للموالاة: أن يكون سعيه متوالياً، فلا يفصل بين السعية والسعية، فإذا فصل بينهما فللعلماء قولان: منهم من قال: لا يصح سعيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والى، وقال: (خذوا عني مناسككم).
وقال بعض العلماء: العبرة أن يَطَّوَّف بهما كيفما كان، فإن تَطَوَّف ثلاثة أشواط في ساعة، ثم تَطَوَّف أربعة أشواط في ساعة ثانية أجزأه، واختلفوا في الفاصل، والأقوى أنه لا يفصل بين السعي، وأنه يوقعه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.(122/13)
ماذا يفعل بعد السعي
قال رحمه الله تعالى: [ثم إن كان متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره وتحلل].
أي: إن كان متمتعاً لا هدي معه فإنه يقصر من شعره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (ندب أصحابه، وأمرهم أن يفسخوا حجهم بعمرة فتحللوا، أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وأن يجعلها عمرة، فقالوا: يا رسول الله! أيُّ الحل؟ قال: الحل كله، قالوا: يا رسول الله! أنذهب إلى منىً ومذاكرنا تقطر منياً -فأثبت عليه الصلاة والسلام هذا الحكم- قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة)، فرغب عليه الصلاة والسلام، وأكد في فسخ الحج بالعمرة، وجعله لازماً لأصحابه، وطيب خواطرهم بالقول فقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة)، وقال عليه الصلاة والسلام في اللفظ الثاني في الصحيح: (إني قلدت هديي ولبدت شعري، فلا أحل حتى أنحر)، فأمر أصحابه أن يتحللوا بعمرة.
فإذا كان الإنسان لم يسق الهدي، وأراد أن يتمتع، فإنه حينئذٍ يتحلل بعد انتهائه من السعي كما تحلل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويُقَصِّر شعره حتى يجعل فضيلة الحلق لحجه، هذا إذا كان الفاصل قصيراًَ، ولكن استحب جمع من العلماء أنه يحلق؛ لأنه بإمكانه أن ينبت له الشعر فيما بين عمرته وبين حجه، فيُصيب الدعاء بالرحمة في الموضعين، وهذا لا شك له وجه، وأما إذا قَصُر الوقت فإن التقصير أفضل، وكونه يجعل الدعاء بالرحمة للحج قالوا: إنه أفضل، فيقصر من شعره، ويترك الحلاقة لتحلله من حجه.
قال رحمه الله تعالى: [ثم إذا كان متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره وتحلل، وإلا حل إذا حج].
قوله: (وإلا حل إذا حج) يعني: أنه يتحلل بعد حجه.(122/14)
وقت قطع التلبية
[والمتمتع إذا شرع في الطواف قطع التلبية].
التلبية: فيها مسائل تقدمت معنا، وبينا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وأحكامها، ومن مسائلها: متى يقطع المحرم تلبيته؟ وجواب هذا السؤال أنه لا يخلو المحرم إما أن يكون بحج، وإما أن يكون بعمرة، فهناك موضعان: الموضع الأول: بالنسبة للحج، متى يقطع الحاج تلبيته؟ والموضع الثاني: بالنسبة للمعتمر متى يقطع تلبيته؟ قال بعض العلماء: المعتمر يقطع تلبيته عند دخوله للحرم، وقد جاء عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -والسند صحيح- أنه كان إذا قدم من جهة المدينة، واستقبل من جهة التنعيم قطع التلبية.
والقول الثاني: أنه يقطع تلبيته عند استلامه للحجر، أي: عند ابتدائه للطواف.
والقول الأول للمالكية، والقول الثاني اختاره الشافعية والحنابلة، أن المعتمر يقطع تلبيته عند استلام الحجر، وهذا القول احتجوا له بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في عمرة الجعرانة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر من الجعرانة بعد انصرافه من غزوة الطائف: (لم يزل يلبي حتى استلم الحجر)، قالوا: فيه دليل على أن التلبية تقطع عند استلام الحجر، ولأن أول الأركان يلي إحرامه ونيته إنما هو الطواف بالبيت، فشرع له أن يلبي حتى يبتدئ الطواف، وحينئذٍ يقطع التلبية، وهذا هو أصح أقوال العلماء؛ لأن السنة واضحة في دلالتها على صحته، أن المعتمر يقطع التلبية عند استلام الحجر.
وحينئذٍ نقول: من اعتمر يقطع التلبية عند ابتداء الطواف إن استلم الحجر، فيؤخر حتى يستلم الحجر، وأما إذا لم يستلم الحجر في طوافه فعند استفتاحه الطواف يقطع التلبية.
وعلى هذا لو حج، وكان قد نوى التمتع بعمرته، فحينئذٍ عند ابتدائه للطواف أو عند استلامه للحجر يقطع تلبيته لهذا الأصل.(122/15)
الأسئلة(122/16)
مكان استئناف السعي بعد قطعه للصلاة
السؤال
هل يأخذ السعي حكم الطواف، فيما إذا أقيمت الصلاة وهو يسعى، من حيث الاستئناف أو الرجوع إلى نفس المكان؟
الجواب
إذا أقيمت الصلاة وهو في السعي فإنه يقطع سعيه، ثم يمضي للصلاة ويصلي، ولا يقطع السعي إلا عند الفراغ من الإقامة إذا كان موضع صلاته قريباً؛ لأن ما شرع لحاجة يقدر بقدرها، فلا يقطع مباشرة، وإنما ينتظر حتى يفرغ من الإقامة، ثم بعد ذلك إذا كان الموضع قريباً قطع سعيه ودخل في الصفوف.
وعلى هذا فلو قطع السعي فهل يعيد الشوط، أي: يعيد السعية من أولها؟ أو يبتدئ من الموضع الذي قطع منه؟ أصح الأقوال أنه يبتدئ من الموضع الذي قطع منه، والأفضل والأكمل أنه يعيد السعية من أولها، والله تعالى أعلم.(122/17)
وقت رفع اليدين حال الدعاء على الصفا والمروة
السؤال
علمنا أنه يرفع يديه في الدعاء على الصفا والمروة، ولكن هل يكون الرفع مع بداية التكبير والتهليل؟ أم يرفع إذا أراد الدعاء؟
الجواب
هذه المسألة تنبني على قولنا: هل كان تكبيره عليه الصلاة والسلام وتهليله من أجل المسألة والدعاء؟ وهذا يرجحه غير واحد من العلماء، فقالوا: إنه استفتح التكبير والتهليل من أجل الدعاء والمسألة، ولذلك جعله أثناء الدعاء.
فقال بعض العلماء: على هذا الوجه يجعل رفعه لليدين من بداية التكبير.
والوجه الثاني يقول: إن التكبير من أجل الرقي على المكان النشز والعالي، فكبر صلوات الله وسلامه عليه وهلل، ثم بعد ذلك دعا، فيكون الرفع عند الدعاء، والأول أقوى، والله تعالى أعلم.(122/18)
محل قراءة قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)
السؤال
هل يقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] إذا دنى من الصفا فقط؟ أم كذلك إذا دنى من المروة؟
الجواب
المحفوظ أنه إذا دنا من الصفا، ولا يكرر ذلك في بقية الأشواط ولا يكرره عند المروة؛ لأن هذا الذكر قصد منه النبي صلى الله عليه وسلم الاستشهاد لقوله: (أبدأ بما بدأ الله به)، فلما جعله للبداءة اقتصر على محله، فقالوا: إنه ذكر مقصود من النبي صلى الله عليه وسلم، من باب التنبيه على مراعاة ترتيب الكتاب، والاهتداء بهدي القرآن في تقديم ما قدمه الله عز وجل وتأخير ما أخره، والله تعالى أعلم.(122/19)
حكم العجز عن استلام الحجر بعد ركعتي الطواف
السؤال
إذا لم يستطع المكلف أن يستلم الحجر الأسود بعد الركعتين التي بعد الطواف هل يشرع له أن يشير إليه، أم ينصرف إلى الصفا؟
الجواب
السنة أن يستلم، فإن عجز عن الاستلام انصرف، وأما الإشارة فلا يحفظ فيها دليل يدل عليها، وإنما ثبتت الإشارة عن النبي صلى الله عليه وسلم داخل الطواف، وأما خارج الطواف فتحتاج إلى دليل خاص، ولا دليل يدل عليها، والله تعالى أعلم.(122/20)
حكم اضطباع الآفاقي والمقيم بمكة
السؤال
هل هناك فرق بين أهل مكة وغيرهم في الاضطباع والرمل والسعي بين العلمين؟
الجواب
اختار جمع من العلماء أن الحكم يختص بالآفاقي، وأن المكي لا يكون عليه رمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعله هو وأصحابه وهم قادمون من المدينة، فخصوا الحكم بصورة السبب، وقالوا: إنه ليس على المكي أن يرمل، ومن هنا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين طوافه الأول وطوافه الثاني، فلم يرمل صلوات الله وسلامه عليه في طواف الإفاضة، وهذا يدل على أن من أقام بمكة ونزل بمكة أنه لا يأخذ حكم من كان خارجاً عنها، وعلى هذا قالوا: إن سنة الرمل إنما هي لمن قَدِم، وهكذا المكي إذا كان إحرامه من خارج مكة، كأن يكون أتى المدينة فاعتمر منها، فإنه يأخذ حكم أهل المدينة، وحينئذٍ يرمل في طوافه عند قدومه، والله تعالى أعلم.(122/21)
الحالة التي يشرع فيها التكبير عند الصعود، والتسبيح عند النزول
السؤال
هل التكبير عند صعود الجبال، أو التسبيح عند هبوط الوهاد خاص بالسفر أم هو مطلق في كل مكان؟
الجواب
السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم التكبير على النشز، والتسبيح إذا هبط وادياً، والمحفوظ عن أهل العلم رحمة الله عليهم أن الحكم عام، وأن هذا من دعاء المناسبات، كما أن قول دعاء الركوب: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) يستوي فيه أن أكون مسافراً أو مقيماً؛ لأن الله تعالى يقول: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف:13]، فجعله ذكراً مطلقاً، وقالوا: إنما أمروا بتسبيح الله عز وجل، وتوحيده عند الركوب على الدواب اعترافاً لله عز وجل بوحدانيته وفضله، وعظيم منته وإحسانه بعباده، وهذا أمر عام يستوي أن يكون في السفر وغير السفر، ولذلك يقولون: لا يختص بالسفر وإنما يكون دعاء مطلقاً.
وفي حكم هذا جميع ما يكون من وسائل النعم التي يسرها الله سبحانه وتعالى من السيارات، والطائرات، والقطارات ونحوها، إذا ركبها الإنسان قال: سبحان الذي سخر لنا هذا.
إلخ، فإذا كان الله عز وجل قد شرع لنا أن نذكر هذا الذكر عند الركوب على الدواب والبهائم من ذوات الأرواح، فإنه خليق بهذا الدعاء أن يكون في الجماد من بابٍ أولى وأحرى، فسبحان من حَرَّكه وصرفه ودبره، وجعله يجري بقدرته سبحانه وتعالى.
فيثني العبد على الله، وينزه الله سبحانه وتعالى، وهذا قليل قليل من كثير يستوجبه سبحانه علينا؛ لعظيم نعمته، وجليل فضله ومنته، تبارك الله وهو أحسن الخالقين، والله تعالى أعلم.(122/22)
كيفية تحلل محلوق الشعر والأصلع
السؤال
من كان بلا شعر، أو كان محلوق الشعر، فكيف يصنع عند التحلل؟
الجواب
من كان بلا شعر فقد قال بعض العلماء: لا تحلل له، فلا يلزمه حلق ولا تقصير؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وقد فات المحل، يعني: ليس بمحل حلق، ولا بمحل تقصير.
واختار جمع من العلماء -ومنهم جمع من الأئمة المتقدمين- أنه إذا كان أصلع لا شعر له أنه يُمر الموس على رأسه، وهذا من باب إبقاء الفعل مع فوات الصورة، وذلك أن الشرع طلب من المكلف التحلل، فيكون التحلل بالحلق أو التقصير، فإذا فات الحلق والتقصير بقيت صورة الفعل، كما قالوا: إن الإنسان إذا طلب منه الفعل وصورته، فإذا فات الفعل بقيت صورة الفعل التأسي والاقتداء، فالأفضل والأكمل أن يمر الموس، قالوا: لاحتمال أن يكون هناك شيء من الشعر موجوداً، خاصة إذا كان حديث عهد بحلاقة.
أما إذا كان محلوق الشعر فإنه يمر الموس؛ لأنه سينبت شيء من الشعر، وسيكون فيه فضلة الشعر، فيمر الموس، ويمضيه حتى يحصل به التحلل، والله تعالى أعلم.(122/23)
رفع المرأة صوتها بالتلبية
السؤال
ما حكم رفع المرأة صوتها بالتلبية؟
الجواب
المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية، وإنما تكون تلبيتها سراً، فالنساء لا أذان لهن ولا إقامة، ولا يشرع لهن الجهر؛ لما في أصواتهن من الفتنة، ولذلك قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] قال العلماء: القول المعروف على حالتين في المرأة: الحالة الأولى: ألا ترفع صوتها إلا من ضرورة وحاجة.
والحالة الثانية: ألا تتنغم وتتكسر في كلامها، وإنما يكون كلامها على الوجه المعروف الذي لا يطمع معه الذي في قلبه مرض، وعلى هذا فإن النساء لا يرفعن أصواتهن، ولم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ألزم نساءه برفع أصواتهن، بل كان أمهات المؤمنين يلزمن الستر في أمور حجهن وعمرتهن، حتى كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها -وهي أم المؤمنين الصالحة القانتة- تتستر حتى في طوافها، وكانت إذا أرادت أن تطوف بالبيت لا تطوف إلا بالليل، وإذا أرادت أن تطوف أوصت القائمين على البيت أن يطفئوا السُّرُجَ، ومضت في داخل طوافها حتى لا تُرى رضي الله عنها وأرضاها، وكل هذا من تحريها لمقصود الشرع، كما قالت فاطمة رضي الله عنها: (خير للمرأة ألا ترى الرجال ولا يراها الرجال) فسماع صوت المرأة ورؤية شخصها فتنة.
والذي يقول: إنه ليس بفتنة يكابر بالمحسوس، فالمرأة والرجل جبلهما الله عز وجل فطرة وغريزة بميل كلٍّ منهما إلى الآخر، سواءً تكلمت أم خرجت وابتدئ، فالفتنة كل الفتنة في النساء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، فمما نص عليه العلماء أنها لا ترفع صوتها إلا لحاجة وضرورة، ولذلك تجد العلماء يقولون: في الحديث دليل على مخاطبة الأجنبية للأجنبي عند الحاجة، ويقيدون ذلك بالحاجة، وهذا هو المحفوظ والمذكور في كتب العلماء رحمة الله عليهم.
والدليل القوي على أن المرأة لا تتكلم أنها في الصلاة لو أخطأ الإمام لا تفتح عليه مع وجود الحاجة، وإنما تصفق، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) فانظر -رحمك الله- لو كان صوت المرأة مأذوناً فيه لفتحت، مع أنه قد يُحتاج إلى أن تفتح للإمام بالكلام، فقالوا: أبداً، تقتصر على التصفيق حتى يعجز، وحينئذٍ يجوز لهن الفتح، وهذا كله يؤكد أن مقصود الشرع أن تحفظ المرأة لسانها، وأن تمتنع من مخاطبة الرجال، ولو قيل بجواز مخاطبة المرأة للأجنبي لاسترسل النساء في ذلك، ولرأيتها تجلس مع الرجل تسأله عن حاله، كما يسأل الرجل الرجل، وتقول لك: لا دليل على التحريم! بل تقول لك: إن العلماء أفتوا بأنه يجوز كلام الأجنبية للأجنبي.
ففي هذا فتح باب شر لا يخفى، فالمرأة لا تخاطب الرجال، ولا يسمع الرجال كلامها، ولا بيانها إلا عند الضرورة والحاجة؛ لأنه إذا كان في الصلاة التي هي من أعظم شعائر الإسلام، ويحتاج إلى كلامها، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، فعدل إليه عن ذكر الله الذي فيه القربة وفيه الطاعة، فأين التصفيق من ذكر الله؟! فالرجل يسبح، وذكر الله أفضل وأكمل، ومع ذلك هي تعدل إلى التصفيق.
وعلى هذا فإنها لا ترفع صوتها بالتلبية، والدليل على أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية أن الأوامر التي جاءت برفع الصوت بالتلبية، كما في الصحيح من حديث جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية)، وهذا خاص بالرجال لقوله: (أصحابي)، والأصحاب: جمع صاحب، والمراد به الرجل دون الأنثى، فلا يشرع للمرأة أن ترفع صوتها بالتلبية، وإنما تكون تلبيتها سراً، والله تعالى أعلم.(122/24)
التمتع والقران وخلاف العلماء في أفضلية أحدهما على الآخر
السؤال
أشكل عليَّ الجمع بين حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: (أتاني جبريل، وقال: يا محمد! أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)، فدل على أن الله أمره بالقران، وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)؟
الجواب
هذا الحديث يحتج به جمع من العلماء على أن القران أفضل؛ لأن الله تعالى اختاره لنبيه من فوق سبع سماوات، ولم يحج إلا حجةً واحدة، قالوا: فاختار الله له من فوق سبع سماوات أن يقرن.
واختلف العلماء: هل القران من أول حجه، أو طرأ عليه؟ وذلك على ثلاثة أقوال: منهم من قال: إنه كان مفرداً ثم قرن.
ومنهم من قال: كان مهلاً بعمرة ثم قرن.
ومنهم من قال: إنه كان قارناً ابتداء وانتهاءً.
وهذا هو أصح الأقوال؛ لأنه قد ثبت عن خمسةٍ وعشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قرانه عليه الصلاة والسلام، قال أنس رضي الله عنه، كما في الرواية الصحيحة: (ما تعدوننا إلا صبيانا، لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرةً وحجاً)، والسبب في ذلك أن أبا طلحة كان مع النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من دابته، وكانت دابته تسامت دابة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أنس رضي الله عنه -وهو ربيب أبي طلحة - من أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحيح أنه كان قارناً ابتداءً وانتهاءً.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت)، فللعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن لو كان متمتعاً، فدل على أن التمتع أفضل؛ لأنه كان على آخر الأمرين، فدل على أن التمتع يعتبر أفضل من القران.
ومنهم من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بفسخ الحج بعمرة، أشكل على الصحابة هذا؛ لأن الصحابة ألفوا أن العمرة لا تقع في الحج، وكانوا يرونها من أفجر الفجور، وكان من عادة أمهات المؤمنين أنه إذا شق الأمر على الصحابة دعونه صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ بنفسه، ولذلك لما دعاهم إلى الفطر تأخروا، فشرب عليه الصلاة والسلام من اللبن فشرب الصحابة وأفطروا، وفي يوم الحديبية لما دعاهم أن يتحللوا تلكئوا، ودخل مغضباً على أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها، قال: (ما لي آمر فلا أطاع، فقالت له: ادعُ الحلاق، فلما دعا الحلاق وحلق رأسه صلى الله عليه وسلم، قام بعضهم يحلق لبعض يكاد بعضهم يقتل بعضاً).
فأصبح الآن تطييب خواطرهم بالفعل مستحيلاً؛ لأنه قال: (إني قلدت هديي، ولبدت شعري فلا أحل حتى أنحر)، فقال تطييباً لخواطرهم بالقول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)، ولذلك قال الإمام أحمد رحمة الله عليه، وجمع من السلف: هذا يدل على اختياره صلوات الله وسلامه عليه وحبه للتمتع، وأنه لو استقبل من أمره ما استدبر لكان متمتعاً، فقالوا: هذا يدل على تفضيل التمتع، وأن أفضليته جاءت متأخرة، فحينئذٍ يدل على أفضلية التمتع.
وأما الأولون فقالوا: إن هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم لسبب، ولا يعقل أن الله تعالى يختار لنبيه إلا الأفضل والأكمل، والمسألة مشهورة والخلاف فيها مشهور، ومن رجح القران فله وجه من السنة، ومن رجح التمتع فله وجه من السنة، لا يُثَرَّبُ على هذا، ولا يُثَرَّب على هذا، ولكل وجه، ولكل سلفه من الأئمة والعلماء الأجلاء، ولكن الممنوع أن يعتقد الإنسان خطأ غيره، فتجد طالب العلم إذا رجح القران يحتقر من يرجح التمتع، وتجده يستهجنه، وربما يتقصده بالمناقشة، حتى إنه ربما يصبح الحج جدلاً، وأخذاً وعطاءً فيما هو الأفضل، وهذا لا ينبغي.
فالإنسان إذا ترجح له دليل، وعرف أن السنة فيه، واعتقد ذلك وله سلف، وله وجه من هذا الدليل من كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو على خير وعلى هدى.
وكذلك أيضاً إذا ترجح عند غيره غير قوله فلا يُثَرِّب عليه، ولا يعتقد ضلاله، ما دام أنه يقول بقول له وجهه من كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام رحمه الله، في معرض الكلام عن خلاف الصحابة: إنهم كانوا يختلفون، وتتباين أقوالهم في المسائل، فيصلي بعضهم وراء بعض، ويترضى بعضهم على بعض، ويترحم بعضهم على بعض، فلم يكن خلافهم مفضياً إلى حصول الفتنة بينهم، وإنما ينبغي على المسلم أن يلتزم هدي الكتاب والسنة، وألا يتعصب إذا تبين له الدليل، وتبينت له الحجة، ويرجع إلى كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن استبانت له السنة بترجيح شيء عمل به واعتقده، وأقنع الغير إن أمكن إقناعه، وإلا بقي على ما يرى أنه حق وصواب، وتعبد الله به، والله تعالى أعلم.(122/25)
تطيب المرأة قبل الإحرام
السؤال
التطيب الذي يسبق الإحرام، هل هو خاص بالرجال دون النساء، وذلك لمكان المشقة في التحرز من انتشار رائحة الطيب؟
الجواب
أما بالنسبة للمرأة فطيبها ما ظهر لونه وخفي ريحه، والرجال طيبهم ما ظهر ريحه وخفي لونه، ولذلك نهي الرجال عن الزعفران، وقالوا: إنه أكمل في خشونة الرجل، وأكمل في أنوثة المرأة.
وهذا هو المنصوص عليه عند أهل العلم رحمة الله عليهم، فإذا تطيبت المرأة بالأطياب التي لها رائحة خفية، أو كانت محافظة وخشيت من طول نسكها أنها تتغير عليها الرائحة، فوضعت بعض الطيب مع المحافظة، وعدم فتنة غيرها، فإنه لا بأس بذلك، ونص العلماء على أنه لا حرج في هذا.
لكن إذا كانت -مثل ما يقع الآن- تحرم في ساعة، وبعد ساعة، أو ساعتين، أو ثلاث، تدخل بين الرجال، وتخالط الرجال فلا شك أنهم سيشمون طيبها، ويكون حينئذٍ عدولها عن التطيب أبلغ وأكمل، والله تعالى أعلم.(122/26)
شعث المحرم والمقصود منه
السؤال
هل يفهم من الحديث: (إن عبادي أتوني شعثاً غبراً)، أنه لا يستحب للمحرم أن يغتسل عند شعثه؟ وماذا عن تبديل ملابسه؟
الجواب
الحديث القدسي (انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً) لا يستلزم عدم الغسل، فإن الشعث والغبرة تقع حتى ولو اغتسل الإنسان، والسبب في هذا: أن الشعث يكون من السفر، ويكون نسبياً، فإذا كان الإنسان اغتسل في حجه فإنه لا يؤثر هذا في وصفه بالشَّعِثِ، ولا يمنع أن يوصف بالغبرة؛ لأنه إذا انتفت الغبرة عن شعره وعن بدنه، لا شك أنه إذا خالط الناس ومشى في عرفات سيصيبه نوع من الشعث، ونوع من الغبرة، والدليل على ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم أُثِر عنهم أنهم كانوا يغتسلون قبل زوال يوم عرفة، ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما ينزل في نمرة، ثم يغتسل عند الزوال، ويمضي لصلاته، وقال بعض العلماء: إن الحديث (انظروا لعبادي أتوني شعثاً غبراً من كل فج) المراد به: الوصف الأعم، يعني: أنهم الغالب في حالهم أنهم يأتون شعثاً غبراً، ألا ترى أنه لو بلغ مكة، أو وصل إليها، يأتي وقد أنهكه السفر وتغيرت معالمه؟ فلا يشترط في يوم عرفة بخصوصه؛ لأن المراد به: مطلق الإتيان، وقوله: (أتوني شعثاً غبراً) لا يستلزم يوم عرفة بعينه، وإنما المراد به مطلق الإتيان، والشعث والغبرة مصاحبان للحاج حتى ولو اغتسل، ألا ترى أنه تصيبه الجنابة، وفي الحجاج من يجنب فيغتسل، فهذا كله لا ينفي وصفهم بالشعث والغبرة.
وعلى هذا فإن العلماء رحمهم الله استحب بعضهم أن الإنسان إذا أصابه الشَّعَثُ ألا يزيله، وكذلك إذا أصاب الشعث إحرامه أو إزاره أو رداءه أنه لا يغسله، حتى يكون أبلغ في الذلة لله عز وجل، وأبلغ في إظهار الفاقة لله سبحانه وتعالى والتواضع، وقالوا: إنه كلما كان على هذه الحالة كلما كان أرجى للإجابة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟).
يقول الإمام ابن رجب عليه رحمة الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أن يبين أبلغ حالات التضرع التي يُظن فيها الإجابة، فقال: (أشعث أغبر)، فقالوا: إن الإنسان كلما كان بعيداً عن الترفه والتكبر على الناس في ملبسه وزيه؛ كان أرجى للقبول عند الله عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).
وأما الأمر الثاني: إطالة السفر، وقد جاء أن المسافر له دعوة مستجابة كالمريض.
كذلك أيضاً قوله: (يمد يديه إلى السماء)، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله حييٌ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً)، فقالوا: إن الأفضل لموقفه في عرفة أن يكون على الشعث والغبرة، لكن ليس معناه: أن الإنسان يتكلف، ويبالغ في هذا، أو أن الإنسان يترك نعم الله عليه بلبس الثياب الطيبة، والارتفاق بنعم الله وطيباته التي أخرجها للعباد، إنما المراد أن العلماء قالوا: إن حصل هذا اتفاقاً للإنسان فإنه يترك شعثه وغبره، حتى يكون أبلغ في الذلة لله، وليس معنى ذلك -كما يفعله بعض الناس- أنك تجده على رائحة نتنة، وعلى حالة تؤذي الناس وتضر بهم، إذا صلى معهم شوش عليهم، وإذا جلس معهم آذاهم برائحته، فهذا ليس من الإسلام في شيء، إنما السنة أن يعتني الإنسان بنفسه، وللبدن على الإنسان حق، وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يتطيب، وقال: (إن الله جميل يحب الجمال) وقال: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).
فليس المراد بهذا التقصد، بأن يذهب الإنسان ويغبر نفسه ويؤذي نفسه حتى يأتي أشعث أغبر لا، إنما المراد أن الوصف الأعم للناس، أو الغالب للناس أنهم يأتون على هذه الصفة، حتى لو اغتسلت يوم عرفة، ومضيت إلى عرفة فإنك لا تأمن من الشعث بازدحام الناس، وبما يكون من خروج الإنسان للدعاء والمسألة بين يدي الله عز وجل، والله تعالى أعلم.(122/27)
رفع الصوت بالدعاء في السعي والطواف
السؤال
هل يرفع الحاج والمعتمر الصوتَ بالدعاء في السعي والطواف أم يسر به؟ وما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؟
الجواب
السنة في الدعاء أن يكون بين العبد وربه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً)، والله أقرب إلى العبد من حبل الوريد، فلا حاجة إلى رفع الصوت بالدعاء، وإشغال الناس والتشويش عليهم، خاصة في الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والأدهى من ذلك والأمرُّ أن يكون هناك شخص يدعو جهرةً، ثم الذين من ورائه يرفعون أصواتهم، فهذا يؤذي الناس ويشوش عليهم، حتى إن الإنسان لربما لو دخل من أطراف الحرم لسمع صياح هؤلاء وهذا كله ليس من السنة، فإذا كان ولابد فيدعو الرجل أمام الناس والبقية يدعون في سرهم، ولا حاجة أن يرفعوا أصواتهم، فإذا احتيج إلى رفع صوت الداعي بقي من بعده يدعو فيما بينه وبين الله إذا احتيج إلى هذا، أما أن يصيح ووراءه الثلاثون، والأربعون يصيحون يشوشون على المصلي والراكع والساجد، فهذا كله لا شك أن فيه أذيةً للناس، وأذيةُ الناس في هذا الموضع لا شك أنها لا تخلو من إثم، وعلى هذا فإنه لا يسن، ولا يشرع أن يرفع الإنسان صوته على هذه الصفة التي تشوش على الناس وتؤذيهم، إنما يدعو الإنسان فيما بينه وبين الله تعالى، والله عز وجل سميع قريب مجيب، ولا حاجة إلى رفع الصوت بالدعاء.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يدعو ربه ويسأله، ولم يحفظ عنه أنه رفع صوته بالمسألة، وهذا -كما يقال- إلا في بعض المواضع المخصوصة، ولذلك لو جئت تتأمل هديه عليه الصلاة والسلام لوجدته على هذا.
وتخصيص بعض الأطواف بأدعية مخصوصة، ويكون دعاؤها جهراً، كل ذلك مما لا أصل له، وقد كان عهده عليه الصلاة والسلام أنه دعا، وأطلق في الدعاء والمسألة، ولم يخص دعاءً معيناً لكل شوط، ولكل سعية بين الصفا والمروة، فكل ذلك مما لا أصل له، ونص الأئمة والعلماء على أنه لا يشرع تخصيص الأطواف والأشواط بأدعية مخصوصة، في الشوط الأول، والشوط الثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والسادس، والسابع، كل ذلك مما لا أصل له، وإنما يُقْتَصَر على الدعاء فيما بين العبد وبين ربه.
والسنة: أن يدعو الإنسان، ولا يحتاج إلى أحد من الناس ليدعو له، فإنه من أعظم المصائب أن لا يعرف الإنسان كيف يدعو ربه وكيف يسأله، فالإنسان يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، ولا حاجة أن يدعو أمامه الإنسان، أو يلقنه الدعاء إنسان، فأنت أعلم بحاجتك، وأعلم بشدة فقرك إلى ربك، فاسأله من خير دينك ودنياك وآخرتك، واسأله صلاح دينك، وصلاحاً لأهلك وذريتك، ورحمة لوالديك، ونحو ذلك من الأدعية التي هي من جوامع الدعاء، التي فيها خيري الدنيا والآخرة للعبد.
وأما كونه يدعو وراء إنسان لا يفقه ما يقول، ولا يعلم ماذا يدعو به فلا ينبغي ذلك، حتى إن بعض الناس يسمع الأدعية ويرددها، وهو لا يدري ماذا يقال، والذي ينبغي: أن الإنسان يدعو فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يشرع الدعاء جهرةً، ولا يشوش على الطائفين، ولا على المصلين، خاصة في صلاتهم عند المقام بعد فراغهم من الطواف، ولو رأيت ذلك لوجدته، فإنك إذا فرغت من الطواف، ومر عليك الجمع وهم يدعون ويسألون لا تستطيع أن تخشع، ولا تستطيع أن تعرف كيف تسأل الله عز وجل، وهذا لا شك أن فيه أذيةً للطائفين، ولا ينبغي للمسلم أن يكون سبباً في أذية إخوانه، والله تعالى أعلم.(122/28)
وصايا ونصائح لطلبة العلم عند الامتحانات
السؤال
كما تعلمون، فإن الامتحانات قد قرب موعدها، فهلا تفضلتم بوصية في ذلك؟
الجواب
نسأل الله أن يعيننا على كل حال في الدنيا والآخرة.
أما الوصية الأولى: فأوصي نفسي وإخواني بتقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله تعالى جعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وأصلح له أمور دينه ودنياه، وانتهت أموره إلى خير، وما خرج الإنسان بشيء أحب إلى الله تعالى، ولا أكرم عليه من تقواه سبحانه؛ لأنها قائمة على أساس الدين وهو إخلاص العمل لله عز وجل، قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
أما الوصية الثانية: فأوصي إخواني طلاب العلم أن ينتبهوا للحقوق والواجبات، ومن أعظم هذه الحقوق أن يكون همهم إرادة وجه الله عز وجل فيما يطلبون من العلم، فإن العلم لا يراد للدنيا، وإنما يراد لوجه الله تعالى، فيخلص الإنسان لوجه الله تعالى، وما يناله من فضل الدنيا يجعله تبعاً لا أساساً.
ومن الحقوق الواجبة: حقوق النفس، فبعض طلاب العلم يسهرون، ويحملون النفس ما لا تطيق، فتجده يسهر إلى ساعات متأخرة من الليل، لربما يفوِّت معها صلاة الفجر، وكذلك أيضاً ربما يصاب بالمرض، أو يضني جِسْمَه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن المْنبَتَّ لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع)، فكم من أناس حَمَّلوا أنفسهم ما لا تطيق فخرجت أجسامهم بالأسقام والآلام، ولم يظفروا بما يطلبون، فالذي ينبغي على الإنسان أن يتقي الله تعالى في نفسه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً) فطالب العلم الموفق يجعل وقتاً لنومه، ووقتاً لراحته، ووقتاً لاستجمامه، ووقتاً لمذاكرته ومراجعته، فإذا أعطى النفس حقوقها فإنها بإذن الله تستجيب له، وتعينه على الخير الذي يطلبه.
الأمر الثالث الذي أوصي به: حقوق إخوانك من طلاب العلم، فينبغي ألا تجعل الاختبار وسيلة للتنافس غير المحمود، بل ينبغي عليك أن تكون سمح النفس، منشرح الصدر، تحب لإخوانك مثلما تحب لنفسك، بل تحب لهم أكثر مما تحب لنفسك، فالاختبارات هذه كما أنها امتحان للدنيا هي امتحان للآخرة، فإياك إياك أن تدخل في قلبك كراهية خير لإخوانك، فإن جاءك أخوك يحتاج إلى إعانة، أو يحتاج إلى شرح، أو يحتاج إلى مساعدة، أو سألك عن مسألة، أو تعلم أن هذا شيء مهم يحتاج إلى التنبيه نبهته عليه، كل ذلك حتى تتعود الإيثار، وتتعود مكارم الأخلاق، وتحمل نفسك على محاسنها، وتبتعد عن الأمور التي تغضب الله عز وجل والتي منها الحسد، ومنها كراهية الخير للمسلمين، وكلما كان الإنسان مستجمعاً في نفسه حب الخير للعباد، كلما كان أقرب للفضل في الدنيا والآخرة.
ويدل على ذلك كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً مر على غصن شوك بالطريق فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فزحزحه فغفر الله له ذنوبه).
إن غصن الشوك إذا جئت تقارنه ببعض الحسنات، قد يكون يسيراً أمامها، لكن الرجل قال: (لأنحينه عن طريق المسلمين لا يؤذيهم)، فكانت حسنته ليست على رجل، ولا على رجلين، ولكن على أمة، فلما كان هدفه وباعثه أنه أشفق على المسلمين؛ لأنه لا يحب الأذية لهم، ولا يحب الإضرار بهم، كان هذا هو سبب المغفرة، إذ رحم المسلمين فرحمه الله، فلما كان في النفس هذا المعنى، وكان في النفس وفي القلب هذا الشعور، كان له من الله عز وجل من رحمته ما لم يخطر له على بال، في رواية: (فزحزحه عن الطريق؛ فزحزحه الله به عن نار جهنم).
فالإنسان كلما كان نقي السريرة، سليم الصدر نال الخير، وأظهر الله عز وجل سلامة صدره في فلتات لسانه، وتصرفاته، وأفعاله، وكلما تعود كراهية الخير للناس، وكراهية الفضل لهم، كلما حرمه الله من الفضل، ولذلك حُرِم الناس -نسأل الله السلامة- كثيراً من الخير بسبب ما في القلوب، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
فإذا وجدت الإنسان حريصاً على حب الخير للناس، حريصاً على نفعهم، سخي النفس، سمح النفس، يبذل ويعطي ويعين، تجده غداً أحرى بإمامة الناس، ودلالتهم على الخير، ونشر الخير بينهم؛ لأنه عود نفسه على ما فيه خير دينه ودنياه وآخرته، فيحرص طالب العلم على أنه يبذل الخير لإخوانه، وأنه يعينهم، وتكون هناك المعاني الإسلامية الكريمة من الإيثار والحب والتصافي والتواد.
وكذلك أيضاً مما يوصى به طلاب العلم في أيام الاختبارات: أن يحافظوا على ذكر الله عز وجل، فإن الله عز وجل جعل تفريج الهم والغم مقروناً بذكره، فقال سبحانه وتعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فوالله لا تزال القلوب في قلق وهم ونكد ونصب وتعب إلا إذا ذكرت ربها، والتجأت إلى الله خالقها، فأثنت عليه بما هو أهله فمجدته وعظمته وذكرته، ومن ذكر الله ذكره، ومن ذكره فلا تخشى عليه الضيعة، ولا تخشى عليه الفوات، وأمره إلى حسن العاقبة، وحسن المآل قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] * {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]، فأولياء الله الذين هم على طاعته وعلى استقامة على دينه يذكرونه، خاصة في مواطن الشدة، فإن الله يثبت قلوبهم، ويجعل أمورهم إلى خير.
فبعض من طلاب العلم إذا جاءت أيام الاختبارات يقصر في الصلاة، فيتأخر عن الصلاة مع الجماعة، ولا يأتيها إلا عن دبر، وربما إذا فرغ من الصلاة قام على عجالة، فلا يذكر الله تعالى، ولا يحافظ على السنة، وأشد ما تكون الحاجة إلى ذكر الله في مواطن الكرب، فعود نفسك كلما ضاقت عليك أمور الدنيا، وكلما عظمت عليك همومها وغمومها أن تتعود على ذكر الله تعالى، وتجعل صلاتك وذكرك وإنابتك لله عز وجل أكثر وأعظم في حال الشدة والبلاء قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، أي: فهلا إذا جاء البأس، وجاء الخطب كانت الضراعة، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال:45].
فالإنسان يحرص على أن يستديم ذكر الله عز وجل، وأيام الاختبارات ينبغي أن تكون أحرى بالمحافظة على الصلوات، وشهودها مع الجماعة، والمحافظة على ذكر الله عز وجل، والثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله، ولا تكون سبباً لما هو خلاف ذلك.
فإذا تعود طالب العلم أنه إذا ضاق عليه الأمر حافظ على صلواته، وحافظ على ذكر ربه؛ لاستقامت له أمور دينه ودنياه وآخرته، والعكس بالعكس: فمن كان قليل الذكر لله تعالى، قليل الالتجاء إلى الله تعالى، يضيع الصلوات، ويتهاون بها في مثل هذه المواقف، فإنه -والعياذ بالله- إذا أصابته نكبات الدنيا تشتت أمره، وضاع حاله -نسأل الله تعالى السلامة والعافية-؛ لأنه حُرِم أساس فلاحه وصلاحه في الدنيا والآخرة وهو ذكر الله تعالى، فينبغي على طلاب العلم أن يحرصوا على هذا.
وأذكر قصةً لأحد الفضلاء من الدعاة إلى الله تعالى، أنه دخل على رجل غني ثري في أمر ما من الأمور، وكانت عنده مصيبة في ماله، وهذا الرجل أوتي من المال شيئاً كثيراً، فقال: دخلت عليه، فلما حضرت الصلاة وهو يراجع معه القضية، وأذن المؤذن لصلاة المغرب قال: قلت له: نريد أن نصلي.
قال: أي صلاة؟ نسأل الله السلامة والعافية، قال: نريد أن نصلي.
وكان رجلاً موفقاً ديِّناً صالحاً -أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله تعالى- وهو من الدعاة، فقال للرجل: لا يمكن أن أقول لك كلمة واحدة حتى نصلي، فإذا صلينا يكون خيرٌ، فقال: أي صلاة؟ نريد أولاً أن تحل لنا هذا الأمر، ثم نرجع إلى الصلاة.
فقال له: أبداً، لن يكون شيءٌ حتى تصلي.
قال: والله قام معي وهو لا يعرف كيف يتوضأ -نسأل الله السلامة والعافية- مشغول في دنياه، مشغول في ماله، رجل منغمس في المال من أخمص قدميه إلى شعر رأسه.
قال: فنزل، فإذا به يتعلم كيف يتوضأ، وعمره فوق الخمسين سنة -نسأل الله السلامة والعافية- قال: فعلمته الوضوء، فذكر الله عز وجل، ونزل معي إلى المسجد فصلى، قال: فلما صلينا فإذا بالوجه غير الوجه، وإذا بالنفس غير النفس، قال: والله خرجت خارج المسجد أنتظره يخرج، وإذا بالرجل جالسٌ يذكر الله عز وجل، فعجبت من أمره، قال: انتظرت وانتظرت أن يخرج، حتى إنني استعجلت في أذكاري أنتظره أن يخرج فما خرج، وإذا بالرجل يجلس، حتى مللت.
يقول: فدخلت عليه فقلت: يا فلان! قال: لقد وجدت راحة ما وجدتها في عمري، لا يمكن أن أخرج من المسجد حتى أصلي العشاء.
قال: فيجلس وأجلس معه نذكر الله عز وجل، ونتذاكر ما فيه الخير، ومن كلمة إلى كلمة حتى أذن المؤذن لصلاة العشاء، وأقيمت صلاة العشاء فصلى معي العشاء، ورجع إلى بيته منشرحاً، وقال: غداً تأتيني إن شاء الله بعد العصر.
قال: فلما اتصلت عليه من الغد إذا بزوجته تقول: ماذا فعلتم بفلان؟! قضى الليل كله وهو يصلي، ويذكر الله عز وجل، ويقول: شعرت بسعادة، ويقول: ما عدت أريد حلاً لمشكلتي، فذكر الله عز وجل هو ما كنت أبحث عنه، يقول: شعرت بسعادة ما وجدتها في مالي، ما وجدتها في ثرائي، ما وجدتها فيما أنا فيه.
يقول هذا الداعية: سبحان الله العظيم، مضيت إليه بعد العصر، وإذا بفترة قليلة جلسنا فيها فحلت المشكلة، وانتهى الأمر الذي كان عائقاً له، وهو يحسب له الحسابات التي لا تنتهي، ولكن بذكر الله تعالى حلت مشكلته، ومن كان مع الله تعالى كان الله تعالى معه، ولو جلسنا نتذاكر في مثل هذا فإنه كثير من قليل مما يقع، فإن الله سبحانه وتعالى مع عبده، وإذا ذكر العبد ربه كان الله تعالى معه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ووجهه الكريم أن يذيقنا حلاوة ذكره، ولذة مناجاته والإنابة إلى وجهه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(122/29)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الحج والعمرة [1]
ما من عبادة إلا ولها صفة وكيفية، قد تكفل الله سبحانه ببيانها، أو بينها رسوله صلى الله عليه وسلم، والركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج له صفتان: صفة كمال، وصفة إجزاء.
ويشرع للحاج بعد وصوله إلى مكة المبيت بمنى يوم الثامن، وذلك استعداداً للوقوف بعرفة يوم التاسع، فالوقوف بعرفة هو أعظم ركن من أركان الحج، إذ تتوقف عليه صحة الحج من عدمه.(123/1)
بيان أقسام صفة الحج والعمرة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صفة الحج والعمرة] صفة الشيء حليته، وما يتميز به عن غيره، وتكون الأوصاف بالشيء حسية وتكون معنوية، وقد تقدم بيان ذلك في تعريف الطهارة.
قوله: (صفة الحج والعمرة) أي: بيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته، ومن عادة الفقهاء والعلماء رحمهم الله أنهم يبتدئون ببيان صفة العبادة على سبيل العموم، فيذكرون ما يلزم وما لا يلزم، ثم بعد ذلك يبينون ما هو لازم وواجب على المكلف، ولذلك تنقسم الصفات في العبادة إلى قسمين: القسم الأول: يصطلح العلماء على تسميته بصفة الإجزاء.
والقسم الثاني: يسمونه: صفة الكمال.
فإذا بيّن العلماء صفة الحج فإنهم يذكرون صفة الكمال ثم يتبعونها بصفة الإجزاء.
أما المراد بصفة الكمال فهي أن يذكر الهدي الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادة، وحينئذٍ يكون في هذه الصفة ما هو ركن وما هو واجب وما هو سنة، ثم بعد ذلك يذكرون صفة الإجزاء التي يقتصر فيها على بيان الواجب واللازم.
لماذا يقسمون الصفات إلى هذين القسمين؟ السبب في هذا: أنك إذا قرأت كتاباً في الفقه، أو أردت أن تتعلم الفقه؛ لكي تعمل به وتعلم غيرك، فإنك تحتاج إلى معرفة صفة العبادة من حيث هي، ثم بعد ذلك تعرف ما الذي يعد تركه إثماً وما الذي لا يعد تركه إثماً، فتعرف ما هو لازم وما هو غير لازم، فاللازم يعبرون عنه بالأركان والواجبات، وغير اللازم يعبرون عنه بالصفة العامة، فهو الآن يقول لك: باب صفة الحج، وسيأتيك بعدها: باب أركان الحج وواجباته.
و
السؤال
أليس الأولى أن نبدأ بصفة الإجزاء التي فيها الأركان والواجبات، أم أن الأولى أن نبدأ بصفة الكمال؟
الجواب
أن الأفضل أن تبدأ بصفة الكمال فتذكر صفة العبادة كاملة، ثم بعد ذلك تقول: هذا يجب وهذا لا يجب، أما لو ذكرت صفة الإجزاء أولاً، ثم جئت تذكر صفة الكمال فإنك تحتاج إلى تكرار، ولذلك منهج الفقهاء والعلماء أنهم يذكرون صفة الكمال أولاً ثم صفة الإجزاء بعدها، انظر إلى كتاب الوضوء فهم ذكروا: صفة الوضوء كاملة، ثم بعد أن انتهوا قالوا: والواجب كذا وكذا وكذا.
كذلك في باب الغسل ذكروا: صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم كاملة كما في حديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما، ثم قالوا: والواجب من ذلك النية، وتعميم بدنه بالماء، والمضمضة والاستنشاق.
كذلك أيضاً هنا في الحج يذكرون الصفة الكاملة للحج، فيذكرون ما يفعله الحاج وما يفعله المعتمر، وبعد أن ينتهوا من ذلك كله يقولون: والواجب كذا وكذا وكذا، ويبينون ما هو ركن وما هو واجب ما هو ركن بحيث لو تُرك بطلت العبادة وما هو واجب بحيث لو تُرك لا تبطل العبادة، ولكنه يجبر إذا كان من جنس العبادات التي تجبر فيها الواجبات، أو يحكم ببطلان العبادة في بعض العبادات، كالصلاة إذا تعمد الترك للواجب.
وعلى هذا سيذكر المصنف رحمه الله صفة الحج والعمرة الكاملة، ويبين في هذه الصفة الأفعال والأقوال التي يفعلها الحاج والمعتمر، ونحن بحاجة إلى هذه الصفة الكاملة؛ لأن من أوقع حجه وعمرته على أكمل الصفات وأتمها، مؤتسياً ومقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم كان أحرى أن يتقبل الله حجه، وأن يتقبل عمرته، وأن يشكر سعيه وما كان من عمله.(123/2)
صفة ومكان إحرام المتمتع وأهل مكة ووقت ابتدائه
[يسن للمحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية قبل الزوال منها ويجزئ من بقية الحرم].
أي: (يسن للمحلين الإحرام بالحج من مكة) من عادة العلماء رحمة الله عليهم أنهم إذا ابتدءوا صفة الحج أنهم يذكرون ابتداء النسك، أعني: نسك الحج بالنسبة للمتمتع؛ لأن القارن والمفرد كل منهما باق على إحرامه، ولكن الذي فصل عمرته عن حجه بالتمتع يحتاج إلى بيان ما الذي يلزمه، أما الذي هو حاج وباقٍ على إحرامه مفرداً أو قارناً فلا يزال في نسكه، ولا يزال في إحرامه، ولذلك يبتدئ صفة الحج بذكر متى ومن أين يحرم من كان متمتعاً؟ لأن الحاج على ثلاثة أنواع: إما أن يكون مفرداً، وإما أن يكون قارناً، وإما أن يكون متمتعاً، فأما المفرد والقارن فإنه إذا قدم إلى مكة وطاف وبقي بها إلى يوم عرفة فلا إشكال، أو إلى يوم التروية فلا إشكال، فإنه يمضي إلى منى مباشرة، وهكذا بالنسبة للقارن؛ لأنه لازال كل منهما متلبساً بالنسك، ولكن الإشكال في هذا المتمتع الذي أدى عمرته وبقي بمكة، فإنه محل فكيف يدخل في نسكه؟ فقال: إن السنة أن يحرم من مكة، جاء عن أصاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أحرموا من مكة حينما تحللوا وأرادوا أن يدخلوا في نسك حجهم، فلما كان اليوم الثامن أحرموا بالحج، وللعلماء في هذه المسألة وجهان: قال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: إنه يحرم من أي مكان من مكة.
وقال بعضهم: إنه يحرم من الحرم، أي: من داخل المسجد الحرام.
والصحيح: مذهب جمهور العلماء: أنه يحرم من منزله، أو من أي موضع من داخل مكة قبل أن يصل إلى منى.
ورخص بعض العلماء أن يؤخر إحرامه إلى منى، وفي النفس منه شيء، والذين رخصوا في تأخير الإحرام إلى منى، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه أن يحرموا قبل الخروج إلى منى.
وهذا لا يخلو من نظر، فإن الأصل يقتضي أن من أراد المضي والذهاب إلى نسك حجه يقتضي أن يكون من موضعه، وبناء على ذلك فإنه إذا ذهب إلى منى فإنه ذاهب وقاصد لحجه، وبين مكة ومنى مسافة، خاصة في القديم فإنه كان هناك مسافة تفصل مكة عن منى، ولذلك أشبه بالرجل الذي يريد الإحرام من موضع من البلد، فإن الأولى والأحرى له أن يحرم من مسكنه الذي نوى منه.
وقال بعض العلماء: البلد كله بمثابة الموضع الواحد.
فعلى هذا القول الثاني في أن البلد كله بمثابة الموضع الواحد، فإنهم يرون أن له أن يؤخر إلى منى.
ولكن الذي تطمئن إليه النفس أن يحرم من نفس مكة لإحرام الصحابة من الأبطح، وهذا هو الأولى والأحرى؛ لما فيه من زيادة العبادة، ولما فيه من الاحتياط لها، وكل منهما مندوب إليه ومطلوب شرعاً.
وقوله: (المحلين) يشمل من كان متمتعاً ويشمل أهل مكة، فأهل مكة إذا أرادوا الحج فإنهم يكونون محلين في داخل مكة، ولذلك يمضون من مكة، فالأفضل لهم أن يحرموا من بيوتهم إعمالاً للأصل كما ذكرنا.
قوله: (يوم التروية قبل الزوال منها) أي: أن السنة والأفضل والأكمل أن يقع إحرامهم قبل الزوال؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فرض الظهر والعصر من اليوم الثامن الذي هو يوم التروية بمنى، وصلى المغرب والعشاء والفجر وهما محسوبان من التاسع، أعني: يوم عرفة، وإن كان بعض العلماء يرى أن عشية عرفة لما بعد.
على العموم فالسنة أن يصلي الخمسة الفروض بمنى، وإذا كانت السنة أن يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر بمنى فالعبرة بوقت هذه العبادة، فلابد وأن يكون فعله للظهر بمنى.
يحرم للنسك قبل الزوال، حتى إذا زالت الشمس ودخل وقت الظهر وهو بمنى، أمكنه أن يصيب السنة فيصلي مع الإمام، وهذا هو الأفضل والأكمل؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسمي يوم التروية بهذا الاسم؛ لأنهم كانوا يحملون فيه الماء إلى عرفة من أجل ريِّ الحجاج؛ لأن الناس كانوا في القديم كثيرين، وكان الماء قليلاً، فيحتاجون إلى أن يحتاطوا للحجاج بتهيئة الماء قبل يوم عرفة، فاليوم الثامن يهيئون فيه الماء، ويسمى: يوم التروية من أجل هذا، فإذا أحرم يكون إحرامه منها، والضمير في (منها) عائد إلى مكة، فدل على أن السنن منها: زمانية، ومنها: مكانية.
أولاً: يكون الإحرام قبل الزوال على وجه يدرك به صلاة الظهر بمنى.
ثانياً: يكون الإحرام من مكة كما ذكرنا، فيخرج إلى منى وهو حاج؛ حتى يكون أدعى لإصابة السنة، ولما فيه من الاحتياط كما ذكرنا.
قوله: (ويجزئ من بقية الحرم) أي: يجزئ إحرامه من أي موضع من الحرم، وهذا فيه رد على من قال: إنه لا يحرم إلا من المسجد، أي: من مسجد مكة، والصحيح أنه يحرم من أي موضع من الحرم، ولكن يتحرى من بيته؛ لأن نيته أن لا يخرج من بيته إلا وهو محرم؛ لما فيه من الاحتياط.(123/3)
مشروعية المبيت بمنى في يوم التروية
قال المصنف رحمه الله: [ويبيت بمنى] قوله: (ويبيت بمنى)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم باتوا بمنى، فصلوا الفروض الخمسة التي ذكرنا، وهذه سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.
قال بعض العلماء: صلاة الظهر يوم التروية للحاج بمنى أفضل من صلاته في المسجد الحرام.
وهذا على القول بأن مضاعفة الصلاة تختص بالمسجد نفسه، فالجمهور خلافاً للشافعية يقولون: إن صلاة الظهر يوم التروية للحاج بمنى أفضل من صلاتها في المسجد الحرام، لماذا؟ قالوا: لأنه اتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا صلى الظهر بمنى تأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به عليه الصلاة والسلام أعظم الأجر والثواب.(123/4)
السير إلى عرفات بعد طلوع الشمس والدخول إليها بعد الزوال
[فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة] قوله: (فإذا طلعت الشمس) أي: في صبيحة يوم عرفة يذهب إلى عرفة، ولذلك قال أنس رضي الله عنه: (غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا المهل ومنا المكبر ومنا الملبي، فلم يعب أحد منا على الآخر)، فالسنة: أن يغدو بعد صلاة الفجر من منى إلى عرفات، والسنة: أن يسلك طريق ضب الذي يكون من أسفل الجمرات من عند جمرة العقبة، ثم إذا مضى منه إلى عرفات يأتي طريق المأزمين الذي هو طريق الجبال عن يساره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من منى بعد أن صلى الفجر بمسجد الخيف، ثم لما صلى الفجر مضى عليه الصلاة والسلام وغدا إلى عرفات، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يمضي إلى عرفات راكباً، فلما سلك هذا الطريق وهو طريق ضب نزل بنمرة، ونمرة: هو الموضع الذي بين حدود الحرم وبين وادي عُرَنَةَ، فأنت إذا قدمت من جهة منى تريد دخول عرفات، فإنه تقابلك أعلام الحرم التي هي نهاية حدود الحرم، بعد أعلام الحرم يقابلك منبسط من الأرض فسيح يقرب من نصف كيلو، ويتقاصر ويضيق على حسب الوادي، ثم بعد ذلك يقابلك وادي عُرَنَةَ، ثم أرض عرفة.
فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أن جاء فضربت له قبة بنمرة، وكانوا لا يشكُّون أنه سيبقى في حدود الحرم؛ لأن قريشاً في الجاهلية كانوا يقولون: نحن أهل الحرم ولا نخرج من الحرم، فكانوا يبقون في داخل حدود مكة، ويتميزون عن الناس، وهذا هو الذي وردت فيه الآية: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] فكانوا يقولون: إنهم الحمس وأهل الحرم، وهذا من مختلقات الجاهلية، وهي من مسائل الجاهلية التي خالفوا فيها دين الحنيفية، التي كانت عليها ملة إبراهيم عليه السلام، فنزل عليه الصلاة والسلام بنمرة، ولذلك قال العلماء: السنة أن لا يدخل إلى عرفات إلا بعد الزوال، لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمض إلى عرفات مباشرة، وإنما نزل في هذا المنبسط من الأرض وبقي فيه إلى قرب زوال الشمس، فلما زالت الشمس ركب ناقته القصواء صلوات ربي وسلامه عليه، وهذا يستفاد منه: أن الأفضل والأكمل أن ينزل الحاج قبل عرفة إن أمكنه ذلك وتيسر له، خاصة إذا كان من طلاب العلم وأهل العلم، فالأفضل له أن يتحرى هذه السنة، في أن يكون دخوله لعرفات بعد الزوال، فيبقى في هذا الموضع، ولا زال بعض طلاب العلم وبعض المشايخ يتحرون هذه السنة إلى يومنا هذا والحمد لله، فتراهم ينزلون في نمرة حتى إذا زالت الشمس مضوا إلى عرفات، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يفعله، وإذا زالت الشمس مضى إلى المسجد وصلى على الصفة التي سيذكرها المصنف رحمه الله، الشاهد: أنه يمضي بعد صلاة الفجر، ويكون نزوله دون عرفة، ويكون دخوله إلى عرفة بعد الزوال.(123/5)
حكم الوقوف بعرفة وحدودها
[وكلها موقف إلا بطن عرنة].
قوله: (وكلها موقف) أي: كل عرفة موقف (إلا بطن عرنة) وهو الوادي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ارتفعوا عن بطن عرنة) فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لما زالت الشمس مضى على ناقته القصواء، وخطب الناس من بطن الوادي، فخطب الناس بشعائر الإسلام خطبته المشهورة التي أحل فيها الحلال وحرم فيها الحرام، وبيّن فيها شرائع الإسلام، وأوضح الحقوق صلوات الله وسلامه عليه، ودعا إلى أدائها، وحرم المحارم وحذر منها صلوات الله وسلامه عليه، فكان من هديه أنه وقف ببطن عرنة للخطبة، ولذلك قال بعض العلماء: إن بطن عرنة من عرفة، ولكنه ليس بموضع للموقف، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الموقف يبتدئ من بعد الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب من بطن الوادي ثم نزل فصلى عليه الصلاة والسلام، ثم مضى إلى الموقف، ولذلك استفادوا من هذا أن السنة على النحو الآتي: أن ينزل دون عرفة -في نمرة- قبل الزوال، فإذا زالت الشمس مضى إلى المسجد وصلى مع الإمام، ثم بعد ذلك يبتدئ موقفه بعد انتهاء الصلاة، وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، فمن كان في بطن الوادي أو كان بنمرة ما بين الوادي وما بين حدود الحرم، فإنه لا يصح حجه إذا لم يدخل إلى حدود عرفة.(123/6)
مشروعية الجمع يوم عرفة بين الظهر والعصر وحكمته
[ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر] قوله: (ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر)، وهذا الجمع جمع تقديم؛ والجمع ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: جمع التقديم وضابطه: أن يصلي الثانية في وقت الأولى، سواء كان الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، فيصلي العصر في وقت الظهر، فيبدأ بالظهر أولاً ثم العصر ثانياً.
وكذلك المغرب والعشاء، فيصلي العشاء في وقت المغرب، فيبدأ بصلاة المغرب ثم يقيم ويصلي العشاء، فهذا يسمى: جمع تقديم.
القسم الثاني: جمع التأخير وضابطه: أن يصلي الأولى في وقت الثانية، فيؤخر الظهر إلى وقت العصر، ويؤخر المغرب إلى وقت العشاء، ولا يتأتى ذلك منه إلا بالنية، فيكون في خلال وقت الأولى وهي الظهر ووقت الأولى وهي المغرب بالنسبة للعشاءين ناوياً الجمع، فلو كان على سفر ونسي وسها عن صلاة المغرب، ولم ينو الجمع حتى مضى وقت صلاة المغرب، ثم دخل وقت العشاء فتذكر، فحينئذٍ يصلي المغرب أولاً لكن بنية القضاء لا بنية الجمع؛ لأنه قد فاته وقت المغرب وهو لم ينو الجمع.
ولذلك الجمع يكون جمع تقديم وجمع تأخير، وهنا الجمع في يوم عرفة جمع تقديم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم العصر إلى وقت الظهر، وهذا الجمع حكمته كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم: التفرغ لما هو أهم وأعظم وهو ذكر الله عز وجل والثناء عليه بتوحيده ومسألته من واسع فضله؛ وذلك لأن هذا الموقف وهو موقف عرفة موقف عظيم، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحج عرفة وقال: (الحج عرفة)؛ تعظيماً لهذا الموقف، فنظراً لهذا هيئت الأسباب ليفرغ وقته للذكر ويفرغه للعبادة، إلى درجة أن الصلاة التي هي من أعظم الأمور بعد الشهادتين وأجلها قدمت عن وقتها؛ حتى يتفرغ في وقت الثانية لذكر الله عز وجل وسؤاله من فضله.(123/7)
سنية الوقوف عند جبل الرحمة مستقبل الصخرات راكباً
[ويقف راكباً عند الصخرات وجبل الرحمة].
الشيخ: (ويقف راكباً)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على ناقته القصواء، يقف راكباً وإن وقف بدون دابة فهذا يسمى: وقوفاً اعتبارياً: قال بعض العلماء: إن من السنة أن يكون على دابته، وفي حكم الدابة السيارة الآن، ولا يشكل على هذا أنه في السيارة كالراكب والجالس؛ لأنه على الدابة كالراكب والجالس، ولذلك السنة أن يكون على دابته إذا تيسر له ذلك، وإذا لم يتيسر وأراد أن يقف في خيمته أو في منزله أو داخل المسجد في حدود عرفة، ويحتاط أن لا يقف بمقدمة المسجد فإنه يجزيه، وهذا من باب الكمال لا من باب اللزوم والوجوب، أي: أنه ليس بلازم وليس بواجب، المهم أنه يمضي عليه الوقت ولو لحظة وهو داخل حدود عرفة في وقت الموقف.
فإذا وقف قام عند جبل الرحمة مستقبل الصخرات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مضى إلى الموقف استقبل الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، وتضرع صلوات الله وسلامه عليه من بعد صلاته إلى غروب الشمس، وهذا الموقف ليس بلازم وإنما هو من باب الكمال إن تيسر للإنسان، وأما إذا لم يتيسر ففي أي موضع من عرفة يجزيه أن يقف فيه، وأن يسأل الله عز وجل من فضله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وعرفة كلها موقف)، فأجاز للأمة الوقوف في أي موضع من عرفة، ولكن هنا أمر يفعله بعض الناس وهو صعود الجبل، وصعود الجبل ليس له دليل يدل عليه، حتى قال بعض العلماء: إن تكلف الصعود.
يعتبر بدعة وحدثاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف ذلك، ولم يتكلفه الصحابة، والغالب أن العامي يفعل ذلك لاعتقاد الفضل ومزية الأجر، ولذلك كان أشبه بالمحدث، والخير كل الخير في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقتداء به والتأسي به صلوات الله وسلامه عليه، فلا يشرع الصعود إلى الجبل، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.
ويجتهد في الدعاء وسؤال الله عز وجل من فضله، ويقول بعض العلماء: إن المسلم إذا نظر إلى حكم الشرع بتقديم العبادة عن وقتها من أجل التفرغ للدعاء والمسألة؛ دعاه ذلك إلى أن يحفظ هذا الوقت، وأن يحفظ هذه الساعات فيجتهد في سؤال الله عز وجل من فضله العظيم، ولذلك كره بعض العلماء أن ينام؛ لأن النوم يدل على الاستخفاف بعظمة هذا الموقف، خاصة إذا كانت نفسه قوية وعنده القدرة على أن يصبر إلى الغروب، ولا شك أنه قد فاته خير كثير، فالذي ينام مع قدرته على المواصلة إلى المغرب لا شك أن فيه غفلة، وهذا من ضعف الإيمان -نسأل الله السلامة والعافية- أن يأتي إلى هذا الموضع الذي تقطعت قلوب المسلمين حرقة أن يبلغوه، وهلكت الأنفس من أجل بلوغه والتمتع به، وإذا به يضع رأسه لكي يستريح وينام، ولا شك أن كل ذلك يدل على غفلته وموت قلبه نسأل الله السلامة والعافية! بل قال بعض العلماء: الأدهى من ذلك والأمر أن يضيع وقته في فضول الأحاديث، أو فيما حرم الله من الغيبة والنميمة.
فينبغي على طالب العلم وعلى من كان قدوة كالعلماء ونحوهم، أنهم إذا فرغوا من الصلاة أن يروا الناس الاجتهاد في الدعاء، والإلحاح في المسألة والضراعة مع البكاء والخشوع، وسؤال الله عز وجل والثناء عليه سبحانه بما هو أهله، فهذا من شكر نعمة الله عز وجل على العبد، فالذي بلغ الإنسان لهذا المبلغ لا شك أنه يريد به الخير، ولو لم يرد الله بك خيراً لم يبلغك إلى هذا المكان، ولم يبلغك إلى هذا الموضع، فلذلك كان من الحري بالمسلم أن يشكر نعمة الله عليه؛ فيجتهد في سؤال الله والتضرع لله سبحانه وتعالى، وأفضل ما دعي به سبحانه وأثني عليه هو توحيده والإكثار من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله).
فالمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بهذا الحديث على أن الأفضل أن يثني على الله بتوحيده، الذي من أجله شرع الله عز وجل هذا الركن العظيم، فأفضل ما يثنى به على الله أن يوحد ويهلل ويكبر سبحانه، فيشتغل المسلم بالدعاء إلى غروب الشمس، ويجتهد في المسألة وسؤال الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة.(123/8)
استغلال يوم عرفة بكثرة الدعاء وتخير جوامع الدعاء
[ويكثر من الدعاء بما ورد] قوله: (ويكثر من الدعاء بما ورد) المراد هنا (بما ورد) يحتمل أمرين: إما بما ورد من دعائه يوم عرفة في حديث الطبراني وغيره، ولا تخلو هذه الأحاديث من كلام ومن ضعف.
وإما أن يدعو بما ورد، يعني: يتخير في دعائه جوامع أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، والتي منها: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمت أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر) ونحو ذلك من الأدعية، وكذلك يدعو بما ورد من توحيد الله عز وجل، أعني: التهليل كما ذكرنا، فالأفضل أن الداعي إذا دعا يدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا دعا بالدعاء الوارد كان له أجر الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر بعض العلماء: أن من آداب الدعاء تخيّر جوامعه، وإذا تخيّر جوامع الدعاء متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك أقرب لأن تجاب دعوته، وتجاب مسألته، فهو أحرى بالقبول من الله عز وجل؛ لأن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم والاتباع لسنته فيه خير وبركة، وجعل الله اتباع رسوله صلوات الله وسلامه عليه سبيل هدى وطريق رحمة، فقال سبحانه: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، قال بعض العلماء: ما تحرى أحد سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان هادياً مهدياً، أي: جعله الله مهتدياً في نفسه هادياً لغيره، ولذلك تجد طلاب العلم وأهل العلم الذين يتمسكون بالسنة ويحرصون عليها، تجدهم هداة مهتدين، وتجد ما يضع الله لهم من البركة والنفع عند المسلمين خيراً كثيراً، فلذلك يحرص الإنسان على أن يدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من رجاء القبول، ولما فيه من الاهتداء والرحمة والخير الذي جعله الله عز وجل لمن تأسى واقتدى به صلوات الله وسلامه عليه.(123/9)
مدة الوقوف بعرفات وابتداؤه وانتهاؤه
[ومن وقف ولو لحظة من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر].
قوله: (ومن وقف ولو لحظة من فجر يوم عرفة)، هنا مسألتان: المسألة الأولى: ما هو أقل الواجب في الوقوف؟ والمسألة الثانية: ابتداء الوقوف، متى يبتدئ الوقوف ومتى ينتهي؟ هاتان المسألتان متعلقتان بركن الوقوف بعرفة.
المسألة الأولى: ذكر المصنف رحمه الله المضي من منى إلى عرفات، وبعد أن بيّن لك هدي النبي صلى الله عليه وسلم والصفة الكاملة في الوقوف، ف
السؤال
ما هو المعتبر للوقوف بعرفة؟ فقال رحمه الله: (ومن وقف ولو لحظة)، أي: فمن دخل إلى حدود عرفة ولو ماراً بها ولو مر بجزءٍ منها مروراً، وهذا هو المعبر عنه بلحظة، فإنه يعتبر واقفاً إذا كان في الوقت المعتبر والمحدد شرعاً، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار) فقوله: (أي ساعة) أي: لحظة؛ لأن العرب تطلق الساعة على اللحظة كقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} [يونس:45] فالمراد به اللحظة اليسيرة، ومن هذا الحديث أخذ العلماء دليلاً على أن الوقوف بعرفة يجزئ ولو لحظة، إذا وقع في الوقت المعتبر، لكن لهذا الحكم ضوابط سيأتي إن شاء الله بيانها.
المسألة الثانية: متى يبتدئ الوقوف بعرفة؟ وهذه مسألة فيها إشكال، فأنت إذا جئت تنظر إلى يوم عرفة ممكن أن تقول: من طلوع فجر يوم عرفة على أن النهار يبدأ من طلوع الفجر إلى طلوع فجر يوم النحر هذا ابتداء وانتهاء.
من ناحية الانتهاء لا إشكال في أنه ينتهي بطلوع فجر يوم النحر، لكن الابتداء قال بعضهم: من طلوع الفجر، وقال بعضهم: من طلوع الشمس، وقال بعضهم: من زوال الشمس، وهذا القول الأخير من القوة بمكان، وفائدة الخلاف: أنه إذا وقف قبل الزوال ومضى إلى مزدلفة، أو وقف قبل الزوال ثم أغمي عليه، أو أصابه عذر وخرج من عرفة حتى فات زمان التدارك، فإنه على القول بأنه يبتدئ الوقوف من الزوال لم يصح حجه ويتحلل بعمرة؛ لأن الوقت المعتبر والحد المعتبر شرعاً يبتدئ من زوال الشمس، فإذا وقف قبل الزوال أشبه كما لو وقف قبل يوم عرفة، فلا يجزيه أن يقف قبل زوال الشمس، وهذا القول إذا نظرنا إلى ظاهر السنة في فعله عليه الصلاة والسلام، أنه لم يدخل عرفة إلا بعد الزوال فإنه يقوى، لكن من قال: بأنه يبتدئ من طلوع الشمس يقويه قوله عليه الصلاة والسلام من حديث عروة بن مضرس: (وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار) فإن ساعات النهار تبتدئ من طلوع الشمس، فحينئذٍ تستطيع القول: بأن السنة من الزوال، وما قبل الزوال دخل بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (من نهار) فإن نهاراً نكرة، والنهار يبتدئ من طلوع الشمس، فإن قيل: بأن النهار يبتدئ من طلوع الفجر، وهذا قول اختاره بعض العلماء.
تقول: لو وقف من بعد طلوع الفجر من يوم عرفة ولو لحظة أجزأه وصح حجه.
قوله: (من وقف) المراد أن يكون في الموضع المعتبر للوقوف، حتى ولو كان محمولاً، فلو حمل أو كان في سيارة فإنه يصدق عليه أنه واقف بعرفة، فليس المراد من الوقوف وقوف الصفة، يعني: أن يستتم قائماً، فإنه بالإجماع لو كان محمولاً كالمشلول ونحو ذلك فإنه يجزيه.
قوله: (من فجر يوم عرفة) هذا مبني على ما قلناه: إن الليل ينتهي بطلوع الفجر، قالوا: فالنهار يبتدئ من طلوع الفجر.
هناك قول ثانٍ: إنه يبتدئ من طلوع الشمس كما ذكرنا على أن النهار أصلاً تكون بدايته من طلوع الشمس، وهذا في الحقيقة أقوى.
وهناك فوائد تترتب على هذا، منها: مسألة تقسيم الليل، متى تحدد نصف الليل وثلث الليل في قيام الليل، ففي قيام الليل تحسب إلى طلوع الفجر حتى تحسب الثلث الأخير، أما نصف الليل ووقت انتهاء نصف الليل يكون الحساب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق.
وهناك قول آخر: وهو أن يحسب من غروب الشمس إلى طلوع الشمس، وهذا قول مرجوح، ونبه شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع إلى رجحان الأول.
قوله: (إلى فجر يوم النحر)، أي: إذا طلع فجر يوم النحر فإنه بالإجماع لا يصح وقوفه، إذا طلع الفجر الصادق، وعرفنا الآن أنه يبتدئ الوقوف إما بطلوع الفجر الصادق، وإما بطلوع الشمس، وإما بالزوال، فمن ناحية الجواز مثل ما ذكرنا في هذه الحدود الثلاثة والأقوال الثلاثة، من حيث السنة: يبتدئ الوقوف من الزوال، أي: من بعد صلاة الظهر والعصر، وأن يحضر وينصت للخطبة فإنه يبتدئ وقوفه بعد ذلك، وهو السنة والأفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إلى عرفات بعد صلاته وخطبته، فمن ناحية السنة الموقف يكون من بعد الزوال ومن بعد الصلاة، لكن عندما يقف بعد الزوال فمتى يدفع؟ هل يدفع بغروب الشمس، أو يدفع قبل الغروب؟
الجواب
أنه لا يدفع إلا بعد غروب الشمس، وهذا بإجماع العلماء، على أن الواجب عليه أن يبقى إلى غروب الشمس، وعليه فإن وقوف النهار يتقيد بغروب الشمس بخلاف وقوف الليل، فمن وقف نهاراً فإنه لا يستتم موقفه على الوجه المعتبر إلا إذا غربت عليه الشمس وهو بعرفة، فإذا كان الوقوف نهاراً فلابد وأن يمسك جزءاً من الليل، وسنبين السبب في ذلك ودليله من حديث جابر رضي الله عنه.
أما لو وقف ليلاً فيجزيه أي لحظة، فقوله هنا: ولو لحظة ليس على إطلاقه، إنما المراد به هنا بيان الركن، فالوقوف الذي يتحقق به ركن الحج يبتدئ من هذا الزمان وينتهي بهذا الزمان، هذا قصد الركنية، أما من جهة الوقوف الواجب واللازم الذي ينبغي عليه أن يتقيد به، وإذا ضيعه لزمه الدم وجبره فسيبينه رحمه الله.(123/10)
شروط أهلية صحة الوقوف بعرفات
[وهو أهل له صح حجه وإلا فلا].
قوله: (وهو أهل له) يشترط في وقوف الركن هذا أن يكون أهلاً، وللأهلية شروط: الأول: أن يكون مسلماً فلا يكون كافراً، ولو أن كافراً مثلاً كان بأرض عرفة قبل الزوال وأسلم بعد الزوال أو أسلم بعد غروب الشمس وقبل طلوع الفجر ولو بلحظة واحدة، وكان قد نوى حجاً فإنه يجزيه ويصح منه، إذاً لابد أن تكون الأهلية متوفرة وموجودة، فلو كان كافراً لم يصح وقوفه، فلو أسلم قبل طلوع الفجر كان واقفاً، كأن يكون رقيقاً يخدم سيده وهو كافر فحج مع سيده.
أما لو مضى إلى عرفات -هو لا يدخل مكة على القول بأن الكافر لا يدخل مكة- مع سيده فبقي بعرفة يخدمه ويقوم على حاله، ثم طلع الفجر فأسلم، فبطلوع الفجر لا يجزيه وقوفه ولا يعتد بوقوفه؛ لأنه وقف وهو ليس بأهل.
الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً، فلو كان مجنوناً فإنه لا يصح وقوفه، أو كان سكراناً وهو خلاف شرط العقل؛ لأن العقل يزول إما بالجنون أو بالسكر أو بالإغماء؛ لأنه في حكم زائل العقل، ففي هذه الأحوال الثلاثة لو كان مجنوناً ودخل إلى حدود عرفة فإنه لا يجزيه، وهكذا لو كان مغمىً عليه فحمل إلى حدود عرفة في وقت الإجزاء ثم إنه لم يفق إلا بعد انتهاء الوقت لم يجزه ذلك الوقوف، وهكذا لو كان سكراناً -والعياذ بالله- فإنه لا يجزيه الوقوف إلا إذا كان مسلماً عاقلاً، وهو أهل للوقوف.
الشرط الثالث: أن يكون داخلاً في النسك وهو الإحرام، فلو وقف وهو حلال، ثم نوى الإحرام بالحج بعد انتهاء وقت الوقوف لم يجزه، كما لو حج بعد الوقت.(123/11)
حكم من وقف نهاراً بعرفة ثم خرج منها قبل الغروب ولم يعد
[ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله فعليه دم] هذه صفة قدر الواجب، فبعد أن بيّن الصفة المعتبرة لتحقق ركن الوقوف شرع الآن فيما يجب: فقال رحمه الله: (ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب).
هذا شرط الوقوف النهاري الذي يجب على المكلف إذا وقف نهاراً أن يمسك جزءاً من الليل، فيقف إلى غروب الشمس، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر: (أنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في الدعاء وسأل الله من فضله حتى غابت الشمس وذهبت الصفرة)، فهناك أمران: الأمر الأول: الغروب، والأمر الثاني: ذهاب الصفرة، وذهاب الصفرة يأخذ ما لا يقل عن ثلاث دقائق وهي صفرة الشمس بعد مغيبها، يعني: يبقى بعد الغروب بهذا القدر، حتى قال بعض العلماء: إنه يعتبر داخلاً في الحد الواجب؛ لأن جابراً رضي الله عنه قال: (وذهبت الصفرة) أي: ذهبت صفرة الشمس بعد غروبها، بل كان بعض العلماء يرى أن صلاة المغرب لا تصح إلا بعد ذهاب هذه الصفرة، وإن كان الصحيح أنه لا يشترط؛ لأن حديث جابر رضي الله عنه في الصحيحين: (والمغرب إذا وجبت) وقد بيّنا هذا في مواقيت الصلاة.
فذهاب الصفرة هو السنة في الدفع من عرفات، والهدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف حتى غابت الشمس وذهبت الصفرة.
لو سألك سائل وقال: كيف أوجبت عليَّ أن أقف إلى غروب الشمس مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار)، هذا قد وقف بعرفات ساعة من نهار وصدق عليه الحديث، تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن قوله: (أي ساعة من ليل أو نهار) بفعله حيث وقف حتى دخل عليه الليل، فصار حداً لازماً واجباً على الحاج إذا وقف بعرفة نهاراً أن يظل بعرفة حتى تغيب الشمس وتذهب الصفرة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم)، قالوا: فدل فعله عليه الصلاة والسلام على وجوب إمساك جزء من الليل، فإذا أمسك الجزء من الليل حينئذٍ صح وقوف النهار، فلو وقف بعرفات نهاراً ثم دفع قبل غروب الشمس فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يمضي ولا يعود فعليه دم؛ لفوات الواجب عليه من إمساك جزء من الليل، وظاهر حديث جابر رضي الله عنه ووقوفه عليه الصلاة والسلام يدل على وجوب الدم عليه؛ لأن هذا الموقف كما ذكرنا على هذه الصفة وقع بياناً لواجب، وبيان الواجب واجب.
الحالة الثانية: أن يرجع قبل الفجر ولو بلحظة، مثلاً: ثم أتى عرفات الساعة الثانية ظهراً ووقف ثم دفع قبل أن تغرب الشمس فَنُبِّهَ فرجع، فإن كان قد رجع فلا يخلو رجوعه من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يرجع قبل أن تغرب الشمس، فإن رجع قبل غروب الشمس وبقي إلى أن غابت الشمس فلا إشكال، وسقط عنه الدم وهو قول جماهير العلماء.
الحالة الثانية: أن يرجع بعد غروب الشمس، فإذا رجع بعد غروب الشمس فبعض العلماء يقول: يسقط عنه الدم الواجب؛ لأن رجوعه إلغاء للموقف الأول في النهار، وقال بعض العلماء: قد وقع إخلاله ولم يمكنه التدارك بمغيب الشمس.
وهذا القول من جهة الأصول توضيحه: أنه لما وقف نهاراً تعيّن عليه إمساك جزءٍ من الليل، فإن رجع في النهار فقد ألغى موقفه الأول بالرجوع قبل غروب الشمس، وصارت العبرة بالموقف الثاني لا بالأول، فصح وأجزأه أن يقف إلى غروب الشمس، أما لو رجع بعد غروب الشمس، فإنه لم يتدارك ما يجب عليه في الأول، وإنما تدارك الوقوف؛ لأن الوقوف يقع في الليل ويقع في النهار فقالوا: حينئذٍ يلزمه دم، فهذه الحالة الثانية أشبه بالصحة وأقوى؛ وذلك لأن الإخلال قد وقع بمجرد المغيب، أما لو رجع قبل غروب الشمس فقد صار رجوعه ملغياً للموقف الأول واعتد بالموقف الثاني لا بالأول؛ لأن الزمان الذي فيه الوجوب قد وقع على الصفة المعتبرة.(123/12)
عدم لزوم الدم لمن وقف ليلاً بعرفة ولو للحظة
[ومن وقف ليلاً فقط فلا] قوله: (ومن وقف ليلاً فلا) أي: لا يلزمه دم؛ لأنه يجزيه حتى ولو وقف لحظة؛ لأن وقوف الليل لا يتقيد.(123/13)
ما يفعله الحاج بعد غروب شمس يوم عرفة
[ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة ويسرع في الفجوة ويجمع بها بين العشاءين] قوله: (ثم يدفع بعد غروب الشمس إلى مزدلفة)، قيل: سميت مزدلفة: من الازدلاف وهو التقرب، ومنه قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90]، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها موضع قربة وطاعة لله سبحانه وتعالى، وقيل: سميت بذلك؛ لأن الناس يأتونها زلفاً من الليل، وتسمى: المشعر الحرام، فبعد انتهاء موقفه بعرفة السنة أن يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة ووقار.(123/14)
العمل الأول: الدفع من عرفة إلى مزدلفة
وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا غابت عليه الشمس يوم عرفة دفع إلى مزدلفة وأخر صلاة المغرب إلى مزدلفة، وكان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص، أي: كان يسير سيراً خفيفاً فإذا وجد فرجة أرسل لناقته وأسرعت على قدر ما يجد من سعة، وكان يقول: (أيها الناس! السكينة السكينة) دفع صلوات الله وسلامه عليه حتى بلغ الشعب -وهو الشعب الذي دون المشعر- فدخل فيه وبال عليه الصلاة والسلام، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، والسنة: أن يكون مسيره من طريق المأزمين، وطريق المأزمين: هو الطريق الذي بين الجبلين حينما تخرج من عرفات، ويكون المسجد وراء ظهرك وتذهب إلى جهة مزدلفة.
وهناك طريقان: الطريق الذي ينصب من بين الجبال، والطريق الآخر -الأيسر- هو طريق ضب الذي يقبل به من منى، وهو مقدمه عليه الصلاة والسلام.
فطريق المأزمين هو الذي بين الجبلين، وهو مشهور وباقٍ إلى الآن، وهو طريق المشاة الآن، وفيه طريق للسيارات، لكن السيارات تتيامن فيه، وطريق المشاة الذي ينصب إلى داخل مزدلفة يسمى طريق المأزمين، وكلها من السنة، فحتى لو مضى من طريق السيارات الأيمن فإنه يصيب السنة؛ لأنه جزء من طريق المأزمين.(123/15)
العمل الثاني: الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة
فلما دفع عليه الصلاة والسلام إلى مزدلفة ولما قال له أسامة: (الصلاة يا رسول الله! قال: الصلاة أمامك) أخذ بعض العلماء من هذا دليلاً: أن السنة أن يؤخر صلاة المغرب ولا يصليها إلا بمزدلفة، حتى قال بعض العلماء: حتى ولو وصل إلى مزدلفة قرب الفجر، يعني: في أوقات الضرورة فإنه يؤخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة أمامك)، وهذا مذهب الحنفية، وكان بعض العلماء يشير به إلى تمسك الإمام أبي حنيفة بالسنة، ولذلك قالوا: إن الإمام أبا حنيفة رحمة الله عليه كان يجتهد كثيراً لقلة الأحاديث عنده، وكان يخاف الوضع على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان في المشرق، والأحاديث هناك قليلة، ولذلك قال الإمام الشافعي لصاحب أبي حنيفة محمد بن الحسن: أناشدك الله أصاحبنا أعلم بالسنة، أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم.
فكانت السنة قليلة عنده رحمة الله عليه فكان يجتهد كثيراً.
ولذلك لما جاء هذا الحديث وقال فيه أسامة: (الصلاة يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة أمامك) قال الإمام أبو حنيفة: لا تصلى إلا بالمزدلفة، وهذا يدل على أن الأئمة رحمة الله عليهم الظن بهم أنهم لا يتركون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تزكية لهذا الإمام الجليل رحمة الله عليه، وأن ما كان منه من اجتهادات إنما كان سببها عدم بلوغه النص، فالواجب على من تبعه ورأى اجتهاده يعارض النص أن يعدل إلى النص؛ لأن هذا من متابعته رحمة الله عليه.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلاة أمامك) قال العلماء: إنه يؤخر المغرب حتى ولو وصل في وقت العشاء، ولكن لو وصل إليها مبكراً -كما هو الحال الآن- في وقت المغرب، فإنه يجمع جمع تقديم، والمسافة بين المزدلفة وبين عرفات طويلة وتأخذ وقتاً، والغالب أنه لا يصل إلى بعد دخول وقت العشاء، ولذلك قالوا: إن السنة أن يجمع سواء كان جمعه جمع تقديم أو جمع تأخير.
قوله: (بسكينة) أي: بهدوء، وهي مأخوذة من سكن الشيء إذا استقر.
قوله: (ويجمع بها بين العشاءين) هذا من باب التغليب كالقمرين والعمرين من باب التغليب، وكما ذكرنا إما أن يجمع جمع تقديم أو جمع تأخير.(123/16)
العمل الثالث: المبيت بمزدلفة
[ويبيت بها].
قوله: (ويبيت بها) أي: فيها، فالباء للظرفية؛ لأن الباء لها أكثر من عشرة معان، منها: الظرفية.
تعدّ لصوقاً واستعن بتسببٍ وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلا وزد بعضهم يميناً تحز معانيها كلها فمن معانيها الظرفية: (يبيت بها) أي: داخل حدود مزدلفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، والسنة أنه يبادر بالمبيت ولا يشتغل بشيء آخر؛ حتى يستطيع الاستيقاظ للفجر في أول وقته، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، ووقع فعله بياناً للمجمل، ولذلك فإن مذهب جماهير العلماء أن المبيت بمزدلفة يعتبر من واجبات الحج، حتى قال بعض العلماء: إنه ركن من أركان الحج، وإن كان الصحيح أنه واجب من الواجبات.
وقوله: (ويبيت بها) كما قلنا، أي: في حدود مزدلفة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات فيها، سواء كان بجوار المشعر أو بعيداً عن المشعر، ما دام أنه داخل حدود مزدلفة.
والبيتوتة هنا مطلقة، يعني: لو أن إنساناً بقي بمزدلفة ولم ينم فإنه يعتبر قد بات بمزدلفة؛ لأن البيتوتة تتحقق حتى ولو لم ينم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64] فأخبر سبحانه وتعالى أنهم يبيتون مع أنهم قائمون الليل، فالمقصود: أن البيتوتة تتحقق حتى لو جلس في مزدلفة ولم ينم، ولكن السنة والأفضل أن ينام، قال العلماء: إنه إذا نام استيقظ مبكراً وهو قوي النفس مستجم الروح، فيكون أحضر لقلبه إذا دعا بالمشعر الحرام، وأخشع عند سؤاله لله عز وجل، وذلك من أسباب الإجابة.(123/17)
الأسئلة(123/18)
حكم التلبية يوم عرفة
السؤال
إذا تفرغ وانشغل يوم عرفة بما ورد من الدعاء، هل معنى ذلك أن يكف عن التلبية أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالسنة المحفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء، فيدعو الله عز وجل ويسأله من فضله، وليس هناك ما يدل على ذكر التلبية أو نفيها، إن قيل: يلبي أثناء دعائه فله وجه من جهة الاستصحاب، هذا يسمى: استصحاب الأصل.
وقول جماهير العلماء: على أن عرفة موضع للتلبية، خلافاً للمالكية وطائفة من فقهاء المدينة، حيث قالوا: إن التلبية تنقطع بالمضي إلى الصلاة في يوم عرفة؛ لأن الحج عرفة، فإذا كان يلبي من أجل الحج فإنه ينتهي بمضيه إلى عرفة، وهذا قول مرجوح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه لبى بعد عرفة، وعلى هذا فلو قال قائل: بأنه يلبي أثناء دعائه، فهذا من باب استصحاب الأصل، ولو قال قائل: يشتغل بالدعاء، فهذا هو الأصل في الأدعية أنه يشتغل فيها بدعاء الله عز وجل وسؤاله من فضله.
والله تعالى أعلم.(123/19)
معنى قوله عليه الصلاة والسلام (خذوا عني مناسككم)
السؤال
كيف نفرق بين المسنونات والواجبات في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، علماً بأن الكل مندرج تحت قوله عليه السلام: (خذوا عني مناسككم)، وضحوا ذلك أثابكم الله؟
الجواب
المنسك يكون بالأفعال التي فعلها عليه الصلاة والسلام، هذا في الأصل، ولذلك سميت: المناسك يقال: عرفة ومنى والصفا والمروة، هذه من مناسك الحج، تطلق المناسك على الأماكن، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67]، وتطلق على الأفعال ومنها: الذبح، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162].
وقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) وقع هذا على سبيل العموم، فهو يشمل الأقوال والأفعال من حيث الأصل، لكن المعتبر عند الجمهور رحمة الله عليهم، فيما ذكروه من الأركان والواجبات، إنما هو في الأفعال وهي الغالبة، فقد وقع منه عليه الصلاة والسلام بيان لما أجمل القرآن في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] من جهة الأفعال، وأما بالنسبة للأقوال: فتأتي أدلة تخصص أو تدل على أن هذا القول سنة وليس بواجب ولا لازم، أما كيفية التفريق فهذا يرجع إلى ضوابط قررها العلماء في علم الأصول، سنذكرها إن شاء الله في باب أركان الحج وواجباته، ما هو الركن؟ وما هو الواجب؟ وما هو السنة؟ ونبين لماذا صرفنا هذا الفعل من كونه لازماً إلى كونه مسنوناً، ودليل الصرف؟ وهذا إن شاء الله سيأتي بيانه في موضعه.
والله تعالى أعلم.
وأظن السائل فيما يظهر لي والله أعلم أن مراده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني مناسككم)، هذا أمر يدل على أن جميع ما فعله في الأصل واجب ولازم، فلماذا نقول: إن فِعْلُه هذا في الحج سنة، مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (خذوا عني مناسككم)؟! والواقع أن العلماء رحمة الله عليهم بينوا هذا، وأظن أن هذا هو الإشكال عنده فيما يظهر، وهو إشكال وارد من هذا الوجه، يعني: حينما تنظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) هذا أمر يدل على أن جميع ما فعله وما وقع منه عليه الصلاة والسلام يعتبر واجباً، لكن العلماء رحمة الله عليهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بالمنسك: أداء الشعيرة؛ والسبب في ذلك: أن الحنيفية بدلها المشركون من أهل مكة وغيرهم في الجاهلية، فزادوا ونقصوا وحرفوا وأحدثوا وابتدعوا، فجاء فعله عليه الصلاة والسلام لبيان أصول الدين في العبادة ذاتها، وبيان ما أمر الله عز وجل ببيانه من توحيده سبحانه، وحدود وضوابط العبادة التي هي الحج، فقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) المراد به بيان الهدي، بغضِّ النظر عن كونه في الأصل واجباً أو غير واجب، لكن العلماء يستأنسون بقوله: (خذوا عني مناسككم) على الوجوب؛ لأن الحديث يقول: (خذوا عني) ولم يقل: افعلوا فعلي، وفرق بين: (خذوا عني)، وبين قوله: افعلوا ما فعلت؛ لأن خذوا عني المراد به التعلم، والتعلم يشمل ما هو واجب وما ليس بواجب، فوقع بياناً للحنيفية وليس المراد به تعين الفعل منه عليه الصلاة والسلام، وأظن الأمر واضحاً؛ لأن اللفظ: (خذوا عني مناسككم) يدل على التعلم والتلقي، ولذلك قال: (فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، فكأن المراد به جهة التعلم للشعائر، وهذا أعم من أن يكون دليلاً على الأركان، أو دليلاً على الواجب، أو دليلاً على اللزوم، يشكل على هذا لو قلنا: إن المراد به التعليم، كيف يحتج العلماء به على سنته وهديه في الحج؟ نقول: نعم؛ لأنه لما ذكر هذا الشيء بقوله: (خذوا عني مناسككم) تنبيهاً على مشروعية هذا الفعل وإقراره للحنيفية وما فيه من الهدي، وليس المراد به مسألة الإلزام وكونه ركناً أو كونه واجباً، بل هو أعم من ذلك، وعلى هذا الذي يظهر أنه لا إشكال في الحديث.
وخلاصة الجواب أن يقال: إن لفظ الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) لا يساعد على تعيّن أو وجوب أو لزوم كل ما كان في حجة الوداع، بل إن الإجماع منعقد على أنه ليس كل ما وقع في حجة الوادع واجباً، إذاً لو قلت بذلك للزم كل من حج أن تكون أفعاله وأقواله كاملة مثلما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لو وقف على الصفا ولم يدع بطل وقوفه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الصفا، وحتى لو وقف ودعا ولم يدع مثل دعائه الوارد المتقيد لم يصح أيضاً؛ لأنك ترى أنه لازم كالركن وكالواجب، ولا يقول أحد بهذا، وحينئذٍ يكون قد حمل الحديث في المعنى ما لا يحتمل وفوق ما يدل عليه، ولا شك أن المراد به الأخذ بمعنى التلقي عنه عليه الصلاة والسلام، وقد علل هذا بقوله: (فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) أي: تعلموا هديي وسنتي، التي هي أعم من كون هذا الشي واجباً أو ليس بواجب، وليس المراد به الإلزام والدلالة على الركنية والوجوب كما لا يخفى.(123/20)
جواز الإحرام بالحج قبل يوم التروية
السؤال
هل يجوز الإحرام بالحج قبل يوم التروية مثل اليوم السادس أو السابع، أثابكم الله؟
الجواب
لا بأس ولا حرج في ذلك، ولكن السنة والأكمل أن يحرم يوم التروية إذا كان متمتعاً.
أما بالنسبة لأهل مكة فالجمهور: على أنه يجوز لهم أن يؤخروا الإحرام إلى يوم التروية، ويجوز لهم إلى يوم عرفة، قال عمر رضي الله عنه بإلزام أهل مكة بأن يحرموا لهلال عشر من ذي الحجة، وهذا من فقه الفاروق رضي الله عنه وأرضاه؛ والسبب في هذا: أنه قال -كما روى مالك في الموطأ-: مالي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين.
يعني: أن الناس الآفاقيين يأتون إلى عرفة وهم متغيّرة ألوانهم ومصفرة، وهم في شعث وغبرة؛ بسبب طول العهد بالإحرام، وأهل مكة يكون إحرامهم يوم التروية، فيأتون مدهنين ومختلفين عن الناس، فيقول: مالي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين، أهلوا لهلال عشر من ذي الحجة.
فأمرهم بإهلال عشر من ذي الحجة، لكن هذا عند جماهير العلماء ليس بلازم، وإنما قصد به رضي الله عنه وأرضاه الكمال؛ لما لهم فيه من زيادة الأجر والمثوبة، قالوا: في هذا دليل على أنه يجوز أن يحرم قبل يوم التروية ولا بأس، كما لو وجب عليه دم التمتع فأحرم لليوم الثالث؛ حتى يصوم الرابع والخامس والسادس، أو أحرم في اليوم الرابع؛ ليصوم الخامس والسادس والسابع، أو أحرم لليوم الخامس؛ ليصوم السادس والسابع والثامن في حجه، وهذا لا بأس به، وظاهر القرآن يدل عليه في هدي التمتع كما لا يخفى.
والله تعالى أعلم.(123/21)
الفرق بين النائم والمغمى عليه من حيث فقدان الوعي
السؤال
هل يقاس النائم على المغمى عليه، وذلك بجامع كون كلٍ منهما فاقداً للوعي، وذلك في الوقوف بعرفة، أثابكم الله؟
الجواب
هناك فرق بين النائم وبين المغمى عليه والمجنون، ولذلك النائم من حيث الأصل إذا نبهته ينتبه وإذا أيقظته يستيقظ، ولكن المغمى عليه لو نبهته لا ينتبه ولو أيقظته لا يستيقظ، فالإغماء خارج عن الإرادة، والنوم يمكن أن يرجع الإنسان فيه إلى حالته، أما الإغماء فلا يمكن أن يرجع الإنسان إلى حالته، ولذلك فُرِّقَ بين النائم والمغمى عليه من هذا الوجه، ولا يأخذ النائم حكم المغمى عليه.
والله تعالى أعلم.(123/22)
وصايا عامة لمن أدرك رمضان
السؤال
هلاَّ تفضلتم بكلمة عن قدوم شهر رمضان، وما ينبغي على المسلم في هذا الشهر المبارك، أثابكم الله؟
الجواب
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في شعبان وأن يبلغنا رمضان، وأن يكتب لنا فيه الرحمة والعفو والصفح والغفران، وأن يوفقنا فيه للهدى والبر والإحسان.
الوصية الأولى: لا شك أن من نعم الله عز وجل على العبد أن يطول عمره ويحسن عمله، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، فالمؤمن لا يرجو من بقائه في الحياة إلا زيادة الخير، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير)، وندب أمته في كل صلاة أن يستعيذوا بالله من فتنة المحيا والممات، فإذا وفق الله العبد ويسر له بلوغ رمضان، فليكن أول ما يكون منه أن يحمد الله عز وجل على نعمته وجميل فضله وجليل منته، ويسأله سبحانه أن يبارك له في هذه النعمة؛ لأنك إذا شكرت نعمة الله بارك الله لك فيها، ولما غفل الناس عن شكر الله سلب الله بركة النعم، فاحمد الله، إذا بلغت رمضان وانظر إلى مقدار نعمة الله عليك؛ حتى تحس بفضل هذا الشهر، ويمكنك بعد ذلك أن تقوم بحقه.
تذكر الشخص الذي كان يتمنى بلوغ رمضان فمات قبل بلوغه والله أعطاك الحياة وأمد لك في العمر، وتذكر المريض الذي يتأوه من الأسقام والآلام، والله أمدك بالصحة والعافية، فتحمد الله من كل قلبك وبملء لسانك، وتقول: الحمد لله الذي يسر لي وسهل لي، اللهم بارك لي في هذا الشهر، وأعني فيه على طاعتك، ونحو ذلك من سؤال الله الخير.
الوصية الثانية: أن تبدأ هذا الشهر بنية صادقة خالصة، وعزيمة قوية على الخير، فكم من عبد نوى الخير فبلغه الله أجره ولم يعمل به، وحيل بينه وبين العمل بالعذر، فقد يكون الإنسان في نيته أن يصوم ويقوم، فتأتي الحوائل أو تأتي آجال أو تأتي أقدار تحول بينه وبين ما يشتهي، فيكون في قلبه وقرارته فعل الخير، وأن يكون رمضان هذا صفحات بر وإقبال على الله وإنابة إليه، فإذا نويت ذلك وحال بينك وبين ذلك شيء من الأقدار أو الآجال، كتب الله لك الأجر والثواب، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قالك (حبسهم العذر).
الوصية الثالثة: فيا حبذا ويا طوبى لمن استقبل هذا الشهر بالتوبة إلى الله والإنابة إلى الله، فإن الله يحب التوابين، والله يفرح بتوبة عبده، فيبدأ شهر رمضان منكسر القلب منيباً إلى الله جل وعلا، يحس بعظيم الإساءة وعظيم التقصير والتفريط في جنب الله، ويقول بلسان حاله ومقاله: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56]، فإذا استقبلت رمضان وأنت منكسر القلب غيّرت ما بك فغيّر الله حالك: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
وعلى المسلم أن يستقبل رمضان بالتوبة والإنابة إلى الله؛ حتى ينال الرحمة من الله سبحانه؛ لأنه قد يحال بين العبد وبينها بسبب ذنب، فمن شؤم الذنوب والمعاصي أنها تحول بين العبد وبين رحمة الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة) أي: أن الله يفتح أبواب رحمته، فيرحم من يشاء بفضله ومنّه وكرمه، فإذا أريت الله من نفسك التوبة والإقلاع، وأنبت إلى الله سبحانه، فأنت أحرى برحمة الله، وأحرى بأن يلطف الله عز وجل بك، وأن يبلغك فوق ما ترجو وتأمل من إحسانه وبره.
الوصية الرابعة: حتى تكون محققاً لهذه التوبة لابد وأن تتحلل من المظالم فيما بينك وبين الله، وفيما بينك وبين عباد الله، ويا طوبى لمن دخل عليه هذا الشهر وليست بينه وبين الناس مظلمة، وليس على ظهره حقوق ولا آثام لإخوانه المسلمين، فنستهل شهر رمضان بالمحبة والإخاء والمودة والصفاء، والنفوس منشرحة والقلوب مطمئنة، ونستهله كما أمر الله إخوة في الإيمان أحبة في الطاعة والإسلام، فإنه إذا وقعت الشحناء حجبت العبد من المغفرة، قال صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: (أنظرا هذين حتى يصطلحا) أي: لا تغفرا لهما حتى يصطلحا، فتذكر ما بينك وبين أقاربك، خاصة إخوانك وقرابتك: الإخوان والأخوات والأعمام والعمات وكل الآل والقرابات، تتذكر ما لهم من حقوق وما لهم عندك من مظلمة، فتتحلل منها، وتسألهم الصفح والعفو، وتستقبل شهرك وأنت منيب إلى الله سبحانه وتعالى، ليس بينك وبين الناس مظالم تحول بينك وبين الخير، ومن أعظم ذلك كما ذكرنا القطيعة، والمحروم من حرم، فإن خير الناس من ابتدأ بالسلام بعد وجود القطيعة والخصام، قال صلى الله عليه وسلم: (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، فيفكر الإنسان حينما يقدم على رمضان كيف يصلح ما بينه وبين الله، وما بينه وبين الناس، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].
كذلك أيضاً: يستقبل الإنسان رمضان ويهيئ من نفسه بواعث الخير، والدوافع التي تحمله على الطاعة والبر، ومن أعظم ذلك أن يحس من قلبه كأن هذا الرمضان هو آخر رمضان يعيش فيه، وما يدريه فلعل مرضاً يحول بينه وبين الصيام، فيكون ذلك اليوم أو ذلك الشهر هو آخر ما يصوم، أو لعل المنية تخترمه، فكم من إخوان وأحباب وخلان وأصحاب وجيران كانوا معنا في العام الماضي؟! وقد مضوا إلى الله فأصبحوا رهناء الأجداث والبلى، غرباء مسافرين لا ينتظرون، فالسعيد من وعظ بغيره، فإذا استقبلت رمضان وأنت تستشعر كأن هذا الشهر هو آخر شهر تصومه، أو آخر شهر تقومه؛ قويت نفسك على الخير وهانت عليك الدنيا وزهدت فيها، وأقبلت على الآخرة وعظمتها.
ومن أعظم الأسباب التي تنكسر بها قسوة القلوب: الزهد في الدنيا والإعظام للآخرة، ولا زهد في الدنيا إلا بقصر الأمل، فحينما تحس أن رمضان هذا قد يكون آخر رمضان لك وآخر شهر تعيشه؛ دعاك ذلك إلى إحسان العمل وإتقانه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأن يصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، وأن يبلغنا رمضان مع صفح وعفو وبر وغفران.
ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى! أن يجعلنا أوفر عباده نصيباً في كل رحمة ينشرها وكل نعمة ينزلها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(123/23)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الحج والعمرة [2]
من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحج المبيت بمزدلفة، وعدم الدفع منها إلا بعد الفجر، ويجوز للضعفة والعجزة الدفع من مزدلفة بعد مغيب القمر ليلة العيد، ويكون الدفع لغير المعذورين بعد الإسفار وقبل طلوع الشمس، وفي ذلك مخالفة لأهل الجاهلية حيث كانوا لا يدفعون إلا بعد طلوع الشمس.
وبعد الدفع من مزدلفة إلى منى أول عمل يقوم به الحاج هو رمي جمرة العقبة، فرميها بمثابة التحية لمنى.
وهناك أعمال يقوم بها الحاج عند وصوله إلى منى، فعليه أن يتحرى عند قيامه بها هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك أرجى لقبول الله عز وجل لحجه ونسكه.(124/1)
حكم الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وله الدفع بعد نصف الليل].
قوله: (وله) أي: يجوز أن يدفع بعد نصف الليل، وهذه مسألة خلافية: فبعض العلماء يرى أنه يجب عليه المبيت إلى الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات إلى الفجر ولم يأذن إلا للضعفة، وأصحاب الأعذار، وقالوا أيضاً: إن المقصود من مزدلفة الوقوف بالمشعر الحرام، فإذا كان يريد أن يمضي قبل ذلك فلم يتحقق المقصود، وفي الحقيقة هذا القول هو أقوى الأقوال، وهو أن يبقى بمزدلفة إلى الفجر ويصلي الفجر ثم يدعو بالمشعر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص للضعفة.
والقاعدة في الأصول: أن الرخص لا يقاس عليها.
فلا يعتبر ترخيصه للضعفة موجباً للإذن لكل الناس أن يمضوا من مزدلفة، لكن العلماء الذين أجازوا المضي بعد نصف الليل اجتهدوا وقالوا: إنه إذا بات بعد نصف الليل أو أكثر الليل فقد تحقق المبيت، ولكن من نظر إلى مقصود الشرع، وإلى العلة التي من أجلها شرع المبيت بمزدلفة وهو الوقوف بالمشعر والدعاء وسؤال الله من فضله، تبيّن له بجلاء أنه لا يرخص إلا لمن كان معذوراً، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد وقف عليه الصلاة والسلام وجاءه عروة بن مضرس وذكر له أنه وقف بعرفات، فقال رضي الله عنه: (أقبلت من جبل طي أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه) فانظر إلى قوله: (صلى صلاتنا ووقف موقفنا) فكأن المقصود من المبيت بمزدلفة أن يصلي الفجر وأن يدعو، ولذلك أمر الله عز وجل بذكره عند المشعر الحرام.
وفي الحقيقة القول بالبقاء وعدم الإذن إلا للضعفة ومن يرخص لهم من القوة بمكان.(124/2)
حكم الدفع من مزدلفة قبل نصف الليل
[وقبله فيه دم كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله].
قوله: (وقبله) أي: قبل نصف الليل، (فيه دم) يعني: أن الحاج لو جاء إلى مزدلفة ودفع منها قبل نصف الليل لزمه دم، وهذا بناء على أن العبرة عندهم بأكثر الليل، ولم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم للضعفة إلا بعد نصف الليل، ففي الصحيحين من حديث أسماء رضي الله عنها أنها دفعت بعد مغيب القمر، وقالت لابنها عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: (هل غاب القمر؟ فقال: لا بعد، ثم قامت تصلي، ثم قالت: أي بنيّ أغاب القمر؟ قال: لا بعد، ثم قال لها في المرة الثالثة أو الرابعة: غاب القمر، فدفعت رضي الله عنها، ثم وصلت إلى مكانها بمنى بغلس، فقال لها رضي الله عنه: أي هنتاه ما أرانا إلا غلسنا، فقالت رضي الله عنها: يا بني! إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للظعن) أي: أذن للضعفة وأهل الأعذار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كنت فيمن قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله) فدل هذا على أنه إذا وجد العذر شرع التخفيف وأذن بالرخصة، وأن من عداهم من القادرين المستطيعين يلزمهم البقاء بمزدلفة.(124/3)
أحكام الدفع من مزدلفة
قوله: (كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله).
أي: من دفع من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه دم؛ كوصوله إلى مزدلفة بعد الفجر لا قبله، هذه المسألة فيها ثلاثة أحكام: أن من تعجل ودفع من مزدلفة قبل نصف الليل عليه دم؛ لأنه لم يبت، وأن من وصل إليها بعد الفجر عليه دم؛ لأنه لم يبت، وأنه من وصل إليها بعد نصف الليل وقبل الفجر لا شيء عليه.(124/4)
ما يفعله الحاج بعد صلاة الصبح بمزدلفة
[فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام فيرقاه أو يقف عنده ويحمد الله ويكبره ويقرأ: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) ويدعو حتى يسفر].
قوله: (فإذا صلى الصبح برغيبته أتى المشعر الحرام)، كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لما كانت صبيحة يوم النحر أُذّنَ للصلاة بغلس، ثم أقيم لها وصلى عليه الصلاة والسلام بالناس، ثم وقف بالمشعر ودعا الله عز وجل وسأله من فضله حتى أسفر، وقبل أن تطلع الشمس دفع عليه الصلاة والسلام من المزدلفة، وكانت قريش في الجاهلية ومن معها من المشركين يقفون بالمزدلفة، ولا يمكن أن ينصرفوا منها حتى تطلع الشمس، ولذلك كان يقول قائلهم: (أشرق ثبير كيما نغير) وثبير: هو الجبل الذي بحذاء منى؛ لأن منى بين ثبير والصانع يكتنفانها، وهما جبلان: أحدهما يسمى: ثبيراً، والثاني يسمى: الصانع.
فقولهم: (أشرق ثبير كيما نغير) يريدون بذلك أنهم لا يدفعون من مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس، فخالفهم صلوات الله وسلامه عليه، ودفع قبل أن تطلع الشمس.
قوله: (الحرام فيرقاه أو يقف عنده).
السنة أن يقف عند المشعر، ولو وقف في أي موضع من مزدلفة أجزأه.
قوله: (ويحمد الله ويكبره ويقرأ: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ)) لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] قال العلماء: قوله: (عند المشعر الحرام)، قيل: إن المراد به مزدلفة كلها، وقال بعض العلماء: إنه الجبل الذي بحذاء المصلى الذي وقف عنده عليه الصلاة والسلام، وأما تلاوة الآية فلم يثبت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص، ولا حاجة إلى التقيد بذكر آية أو دعاء مخصوص أو استحباب لذلك أو تعيينه إلا بدليل؛ لأن الشرع لم يرد فيه ما يدل على تلاوة ذكر معين، وإنما قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198]، والقاعدة: أن المطلق يبقى على إطلاقه.
فيقال للناس: اذكروا الله عز وجل، كما أطلق الله عز وجل، من حمد وتسبيح وتكبير وتهليل بل وتلبية، كل ذلك جائز ومشروع؛ لأن الله أطلق، وكل ما صدق عليه أنه ذكر يذكر به سبحانه، لكن أن يقال: تُتْلَى آية معينة، أو يُذْكَرُ دعاء مخصوص، فإن ذلك يعتبر بدعة وحدث، وتوضيح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه المأثور: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)، فلو قال رجل لرجل: إذا صليت في المسجد فقل: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة:201].
نقول: إن هذا الدعاء مسنون، لكن كونك تلزمه به، أو تدعوه أن يقوله في هذا الموضع والمكان المخصوص هذا لا أصل له، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) فقد يقول لك قائل: إن تلاوة قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة:201] من الدين والشرع، تقول له: نعم، من الدين والشرع، ولكن الذي ليس من الدين والشرع أن يأمر بها في الموضع المخصوص، كأن يقول: قلها في هذا الوقت، أو قلها في هذا المكان، أو قلها في هذه الساعة، فكل ذلك يعتبر بدعة، ولا يلزم الناس بتلاوة آية معينة أو بدعاء مخصوص إلا إذا عين الشرع وخصص ذلك.
لكن أن يقال للإنسان: اذكر الله عند المشعر الحرام، واحرص على أدعية النبي صلى الله عليه وسلم المأثورة، وجوامع كلمه التي ثبتت عنه، فذلك هو الهدي، وذلك هو الأفضل والأكمل، فيقال هنا: يقف بمزدلفة عند المشعر بعد صلاة الصبح ويضرع إلى الله، ويسأل الله من عظيم فضله، ويأخذ بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه؛ من استفتاحه بحمد لله والثناء عليه، وسؤال الله من خيري الدنيا والآخرة، مع اعتقاد عظيم الفقر إلى الله، والاستغناء بالله سبحانه وتعالى، وأنه هو الغني الذي لا تنفد خزائنه، وأن يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة.
وكان العلماء رحمهم الله يعظمون الدعاء بالمشعر الحرام، حتى أثر عن بعض السلف أنه قال: وقفت هاهنا أكثر من ثلاثين حجة أسأل الله العظيم أن لا يجعله آخر العهد ويردني إليه، وإني لأستحي من الله أن أسأله، فرجع ومات من سنته.
فالمقصود: أن هذا الموقف وهذا الموطن يعتبر ثاني المواطن تشريفاً وتكريماً بعد موقف عرفة، وكان العلماء يعظمونه؛ لأن الله عز وجل خصه وقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة:198]، فإذا وقف الحاج بهذا الموقف هيأ من نفسه أسباب الدعاء الخاشع الخاضع، الذي يكون سبباً لاستجابة دعائه، فيحس أن الله عز وجل أكرمه وتفضل عليه ببلوغ هذا المكان، وأنه ما كان ليبلغه لولا حول الله وقوته وتوفيقه له، ولذلك إذا استشعر ذلك خضع لله وخشع له ودعا من قلبه.
قوله: (ويدعو حتى يسفر) أسفر الصبح إذا بان، والمراد بذلك أنه يقارب طلوع الشمس، ويسفر جداً؛ لأن الرواية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بمزدلفة حتى أسفر جداً).
ثم يدفع بعد الإسفار، فلما قال: إن الموقف إلى أن يسفر، فمعنى ذلك: أنه يدفع بعد الإسفار، والسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من دعائه ركب ناقته القصواء وأردف معه الفضل بن عباس، وهو ثاني من أردف في الحج؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أردف معه أسامة من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى أردف معه الفضل بن العباس ابن عمه رضي الله عنه وعن أبيه، قال الفضل: (فلما مر في الطريق قال: القط لي سبع حصيات)، فالسنة أن يلتقط الحاج سبع حصيات من مزدلفة قبل أن يبلغ محسراً، وأثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، فدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتحرى السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يزيد في العبادات، وأن لا يتنطع ولا يبالغ فيها؛ لأنه لا خير إلا في اتباعه عليه الصلاة والسلام، والشر كل الشر في الزيادة على هديه ومجاوزته والغلو في الدين.(124/5)
الإسراع لمن مر من محسر لكونه موطن عذاب
[فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر].
قوله: (فإذا بلغ محسراً) أي: وادي محسر، وهو الوادي الذي حسر الله فيه الفيل، فأنزل فيه نقمته وعذابه على من حادّه وأراد هدم بيته، وذلك في القصة التي ذكرها الله في كتابه حيث قال: ((وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:3 - 5]، فهذا الوادي إذا بلغه يعتبر موطن عذاب، والسنة: أن مواطن العذاب والسخط -والعياذ بالله- إذا مر بها الإنسان فعليه أن يسرع في مروره منها؛ وذلك لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام، أنه لما مر بمدائن صالح -وهي المدائن التي أهلك الله فيها ثمود- أرخى على رأسه الثوب ثم ضرب دابته وأسرع، يقول بعض العلماء: كأنه يقول: إني مصدق ولو لم أر.
فلما مر عليه الصلاة والسلام بموطن العذاب ضرب دابته وقال: (لا تدخلوها إلا وأنتم باكون أو متباكون)، أي: لا تدخلوا هذه المواطن إلا وأنتم معتذرون مدكرون، يصحبكم الخوف من الله؛ حتى لا يصيبكم ما أصابهم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث الصحيح: (لا يصيبكم ما أصابهم)، ويعرف إلى الآن في بعض المواطن السخط والعذاب، وأن من دخلها قد يتغير عقله، وقد يصاب بمس، وقد يصاب بشيء من العذاب والعياذ بالله! خاصة إذا نزل فيها ضاحكاً لاهياً غافلاً عمّا أوجد الله فيها من العبرة والعظة، ولذلك قال: (لا يصيبكم ما أصابهم)، ولا زال يعرف إلى الآن مما يسمى عند العامة: لعنة الفراعنة، وقد تكون من عذاب الله، وليس للفراعنة لعنة، وإنما هي نقمة الله عز وجل التي يصيب بها من غفل عن آياته وعظاته، ولذلك فالمرور بهذه المواطن لا يجوز كما ذكر العلماء إلا وهو مصحوب بالخوف قال تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم:45]، فورد هذا مورد الذم، فكل من دخل أماكن العذاب أو مر بها، فينبغي عليه أن يستصحب الخوف من الله عز وجل، والاستشعار لعظيم نقمة الله عز وجل، وأنه الجبار المنتقم، فأخذه أخذ عزيز مقتدر، فعلى العموم هذا الموطن موطن عذاب لا يجوز النزول فيه ولا يجوز المبيت فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب دابته وأسرع لما مر به، وهو قدر رمية حجر، أي: أنه ليس بعريض.(124/6)
حكم أخذ حصى الرمي من مزدلفة وحجمها
[وأخذ الحصى وعدده سبعون بين الحمص والبندق] كان الأولى والأفضل أن يذكر أخذ الحصى قبل ذكر محسر؛ لأن السنة أن يؤخذ الحصى من مزدلفة، وهذا هو الوارد عنه عليه الصلاة والسلام حيث أمر الفضل أن يلتقط له سبع حصيات من مزدلفة، أما ما ذكره المصنف من سبعين حصاة فهذا لا أصل له، والسنة أن يلتقط سبعاً فقط، وهذا هو المحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه السبع هي لجمرة العقبة، وأما بقية الجمرات فالسنة أخذ حصاها من منى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الحصى من منى، ولذلك ما يفعله العامة من أخذ جميع حصيات الرمي أيام التشريق ويوم العيد من مزدلفة لا أصل له، كما نُبِّه على ذلك.
قوله: (بين الحمص والبندق)، أي: أنها ليست بكبيرة، فالحمص والبندق معروفان، ولا يبالغ فيها، فأخذ الحصى الكبير ليس من السنة، بل قال بعض العلماء: إنها إذا كانت كبيرة جداً ورمى بها لم يجزه؛ لأنها ليست من أصول الرمي المعتبر شرعاً، وعلى هذا قالوا: إنه يتقيد فيها بالوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أخذ الحصى الكبير فإنه لا يأمن أن تنحرف يده فيصيب مسلماً، ويريق بذلك الدم الحرام في المكان الحرام في الشهر الحرام، ولذلك ينبغي أن يتقيد بالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يزيد على ذلك ولا ينقص منه، فلا يكون الحصى كبيراً جداً ولا يكون صغيراً، بل لا يكون أكبر من الحصى الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: وحدُّه الذي تحمله باليد في الغالب ويمكن الرمي به، يعني: الخذف، بحيث يضعه بين أصبعيه ويخذف به، ولذلك قال: (بمثل حصى الخذف فارموا وإياكم والغلو) فهذا هو القدر الذي ينبغي أن يتقيد به، وينبغي أن يكون حجراً، أما إذا كانت من غير مادة الحجر كالطين الصلب أو كانت من الخشب أو كانت من الإسمنت أو الجص، فإنه لا يجزئ الرمي بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بالحصيات ولم يرم بغيرها.(124/7)
الأعمال التي يقوم بها الحاج عند وصوله إلى منى
[فإذا وصل إلى منى وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة رماها بسبع حصيات متعاقبات](124/8)
رمي جمرة العقبة
قوله: (فإذا وصل إلى منى) أي: بلغها، فالسنة أن يبتدئ برمي جمرة العقبة، ولذلك قال العلماء: رمي جمرة العقبة تحية منى، أي: أنه إذا دخل منى فالسنة أن لا يشتغل بأي شيء غير رمي جمرة العقبة، فإذا ابتدأ برمي جمرة العقبة بعد ذلك تفرغ لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنن، ثم نزل إذا أراد النزول، أو مضى إلى مكة وطاف طواف الإفاضة، أما أن يبدأ بشيء قبل الرمي فذلك خلاف السنة، فلا يذهب إلى منزله ولا يشتغل بأغراضه، بل عليه أن يتجه مباشرة إلى رمي جمرة العقبة، فإن رميها يعتبر تحية منى، قالوا: كما أنه إذا دخل المسجد صلى ركعتين تحية المسجد، كذلك أيضاً تحية منى يكون برمي جمرة العقبة.
وقوله: (وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة) أي: أن حد منى بداية ونهاية من وادي محسر إلى جمرة العقبة، ولذلك أثر عن عمر بن الخطاب: أنه أمر أن من وجدوه وراء جمرة العقبة أن يردوه إلى داخل منى؛ حتى لا يكون قد بات خارج منى، وكذلك بالنسبة لوادي محسر فهو الفاصل بين منى ومزدلفة، وأما بالنسبة للجانبين فيكتنف منى جبلان: أحدهما: ثبير، والثاني: الصانع، فما أقبل من الجبلين فإنه من منى، وما أدبر من الجبلين وهما الظهر يعتبر خارجاً عن منى، فمن بات في سفح الجبل من جهة منى فإنه يعتبر بائتاً داخل منى، ومن بات بالظهر فإنه لا يعتبر بائتاً بمنى.
وسميت منى؛ لكثرة ما يمنى فيها من الدماء، أي: ما يراق فيها من الدم؛ لأنها موضع يتقرب فيه إلى الله عز وجل بنحر الهدي والأضاحي في يوم النحر.
قوله: (رماها بسبع حصيات متعاقبات) فلا يفصل.(124/9)
انقطاع التلبية عند آخر حصاة يرمى بها جمرة العقبة
كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يكبر ويلبي مع كل حصاة، واختلف العلماء على وجهين: فقال جمهورهم: انقطعت تلبيته في حجه صلوات الله وسلامه عليه عندما أراد أن يرمي الجمرة، فعند بداية الرمي انقطعت التلبية.
وقال بعض أهل الحديث -وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول إسحاق بن راهويه -: يرمي ويلبي أثناء الرمي، فيقول: الله أكبر ويرمي الحصاة، ثم يقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، ثم يرمي.
فالمقصود أنه يواصل الرمي والتكبير والتلبية حتى ينتهي من آخر حصاة، وهذا هو الذي دل عليه حديث الفضل لما كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلم يزل يلبي حتى رمى آخر حصاة من جمرة العقبة) فقوله: (آخر حصاة من جمرة العقبة) يدل على أن انقطاع التلبية كان عند آخر حصاة رمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة.
وعندها تنقطع التلبية، وبالإجماع على أنه لا تشرع التلبية بعد الانتهاء من رمي جمرة العقبة.(124/10)
موضع رمي جمرة العقبة
كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، وهذه هي السنة، فليس لجمرة العقبة موضع ترمى منه إلا بطن الوادي، ولذلك من رماها من الجهة المعاكسة التي تقابل الوادي بحيث تكون منى وراء ظهره، فإنه لا يجزيه ذلك؛ لأنه في القديم كانت هذه الجمرة في حضن الجبل، فلم يكن فيها إلا نصف الحوض الموجود، هذا النصف من الحوض هو موضع الرمي، فلما أزيل كأن هذا الزائد من الحوض في غير الموضع المعتبر، ولذلك لو رمى فإنه لا يعتد برميه إلا من بطن الوادي، بحيث يكون في النصف أو الحوض القديم المعهود، وما زاد عن ذلك فإنه في الأصل جبل وليس بموضع للرمي، ومن هنا يقيد العلماء رمي هذه الجمرة بهذا التقييد الذي وردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(124/11)
صفة الرمي المجزئ
[يرفع يده حتى يرى بياض إبطه].
لم يحفظ في صفة الرمي رفعه عليه الصلاة والسلام ليده، لكن قد يكون المصنف أراد من هذا أن الرفع لليد عند الرمي أبعد من مزاحمة الناس؛ لأنه إذا زاحمه الناس ربما سقطت الحصى من يده، أو ارتدت يده، فهذا هو السبب الذي يجعل بعض العلماء يوصي بأن تكون يده مرفوعة؛ حتى يتيسر له أن يلتقط باليمنى من اليسرى دون أن يسقط الحصى من يده، وحيثما كان فالأمر في هذا واسع، سواءً رفع أولم يرفع، وبعض العلماء يعلل رفع اليد حتى يرى بياض إبطه؛ حتى يستطيع أن يتمكن من الرمي بقوة، ولكن ليس ذلك بشيء؛ لأنه لو كان قريباً من الحوض ورمى بخفة أجزأه.
والعبرة في الرمي أن تقع الحصاة في بطن الحوض، ولو لم تصب الشاخص، فالعبرة بوصولها إلى داخل الحوض، فلو ضربت الحصاة الشاخص وانحرفت فلم تسقط في الحوض لم يجزئ ولم يعتد بتلك الحصاة؛ لأن المراد بالرمي أن تقع في الحوض وهو محل الرمي وموضع الاعتداد.
إن الرمي لا يكون إلا بالحذف، فلو جاء ووضع الحصاة في الحوض لم يجزه؛ لأنه لم يرم حقيقة.
إذاً لابد من الأمرين: الأول: أن يحصل الرمي بالحذف فلا يجزئ الوضع.
الثاني: أن تنتهي الحصاة وتستقر في الحوض، فلو رمى وخرجت عن الحوض فإنه لا يجزيه.
والعبرة في وقوعها في الحوض بغالب الظن، فإن تيقن ورأى حصاته في الحوض فلا إشكال، وإن غلب على ظنه أجزأه؛ لأن الغالب كالمحقق كما هو معروف في القاعدة الشرعية.
[ويكبر مع كل حصاة] وهو كما ذكرنا.(124/12)
عدم إجزاء الرمي بغير الحصى أو بحصى قد رمى بها
[ولا يجزئ الرمي بغيرها ولا بها ثانياً].
قوله: (ولا يجزئ الرمي بغيرها) يعني: بغير الحصى، (ولا بها ثانياً) أي: لا يرمي بالحصى التي رمى بها أولاً مرة ثانية؛ لأنه قد تحقق بها المأمور.
[ولا يقف].
أي: ولا يقف عند جمرة العقبة، وإنما يقف بعد الجمرة الصغرى والوسطى، وأما الكبرى (العقبة) فلا يقف عندها، ولذلك يقول العلماء: لا يشرع الدعاء بعد الرمي إلا إذا كان بعده رمي، توضيح ذلك: أن الجمرة الصغرى إذا رميتها فإن وراءها الوسطى ترمى فتدعو، ولذلك يدعو بعد الجمرة الصغرى، ويدعو بعد الجمرة الوسطى؛ لأن وراءها الكبرى (العقبة)، لكن الكبرى (جمرة العقبة) إذا رماها ليس بعدها شيء، فلا يشرع الدعاء بعد جمرة لا رمي بعدها، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقولون: يدعو في كل جمرة بعدها رمي، وبعضهم يختصر ويقول: لا يدعُ عند جمرة العقبة، فيفهم من ذلك أنه يدعو عند غيرها.
[ويقطع التلبية قبلها] قوله: (ويقطع التلبية قبلها) يعني: قبل رمي جمرة العقبة، والصحيح: ما ذكرناه أنه يستمر في التلبية حتى يرمي آخر حصاة من جمرة العقبة.(124/13)
بيان وقت الكمال ووقت الإجزاء للرمي
قال المصنف رحمه الله: [ويرمي بعد طلوع الشمس، ويجزئ بعد نصف الليل].
قوله: (ويرمي بعد طلوع الشمس)؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأكمل والأفضل، خرج عليه الصلاة والسلام من مزدلفة إلى منى، فما وصل جمرة العقبة إلا وقد طلعت الشمس، فرماها عليه الصلاة والسلام وحيا برميه منى.
قوله: (ويجزئ بعد نصف الليل) وهي مسألة خلافية بين العلماء رحمة الله عليهم: فمن أهل العلم من يرى أنه يجوز الرمي بعد نصف الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة بعد نصف الليل، فدل على أن وقت الرمي يبتدئ من بعد منتصف الليل.
وقال بعض العلماء: إنه لا يجزئ الرمي بعد طلوع الفجر.
ومنهم من يقول: لا يجزئ الرمي إلا بعد طلوع الشمس، وإنما يرخص للحطمة والضعفة أن يرموا مبكرين، واحتجوا بما جاء في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لحق أصحابه وقال: (لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) وفي رواية: (حتى يطلع الفجر) وهذا القول، أعني: أن يتأخر فلا يرمي قبل طلوع الفجر هو أقوى الأقوال، وهو أحوطها؛ لأن مجرد الإذن بعد منتصف الليل لا يستلزم أن يكون هناك رمي في هذا الوقت؛ لأنه سيأخذ مسافة، خاصة الحطمة والضعفة، إذا قدر مضيهم من مزدلفة إلى منى مع الثقل وكبر السن، ويكون الضعفة وصغار الأطفال معهم، فالغالب أنهم لا يصلون إلى وقت الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن بعد مغيب القمر، وما بين مغيب القمر وطلوع الفجر في ليلة العيد وقت يتسع إلى أن يكون وصولهم قرب طلوع الفجر كما لا يخفى، خاصة إذا كانوا من الحطمة وضعفة السن فإنهم يتأخرون في مضيهم.(124/14)
جواز التوكيل في نحر الهدي
[ثم ينحر هديه إن كان معه].
النحر يكون للإبل والبقر، والذبح يكون للغنم، وفي البقر موضعين للذبح والنحر.
قوله: (ينحر هديه)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة، ثم نحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة صلوات الله وسلامه عليه، والأفضل والأكمل أن يلي الإنسان بنفسه ذبح هديه ونحره؛ لما في ذلك من بالغ القربة لله عز وجل، وذلك أفضل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، ولا بأس أن يوكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكل فيما بقي، وهي تتمة المائة بدنة التي أهداها عليه الصلاة والسلام، وإنما نحر ثلاثاً وستين بدنة، حتى قال بعض العلماء: عجبت من نحره لثلاث وستين وعمره ثلاث وستون سنة، لكن لا يعني هذا أن كل بدنة مقابل سنة، فهذا مما لا ينبغي البحث فيه ولا التكلف ولا الخوض فيه؛ لأنه أمر يحتمل أن يكون اتفاقاً، ويحتمل أن يكون قصداً، والله أعلم، فلا يبحث الإنسان في مثل هذه المسائل، ولذلك قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، فلا يتكلف الإنسان البحث في مثل هذه الأعداد.(124/15)
وجوب تعميم الحلق أو التقصير للتحلل من الإحرام
[ويحلق أو يقصر من جميع شعره] قوله: (ويحلق أو يقصر من جميع شعره) التحلل بالحلق أو التقصير لابد أن يعم جميع الرأس.
وقال بعض العلماء: يجزيه ثلاث شعرات.
وقيل: يجزيه ربع الرأس.
وقيل: يجزيه ثلث الرأس.
والصحيح: أنه لابد من تعميم الرأس كله؛ لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة:196] فشمل جميع الرأس، ولا يقتصر على بعض الرأس دون بعض؛ لأنه إذا اقتصر على بعض الرأس دون بعض فقد ظلم، ولذلك (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع)، والقزع: أن يحلق بعض الرأس ويترك بعضه، قال بعض العلماء: القزع أن يحلق نصف الرأس ويترك نصفه، فيكون النهي من أجل الظلم، كأنه إذا حلق نصف الرأس وترك النصف الثاني ظلم النصف الذي لم يحلق في الصيف، وظلم النصف الذي حلق في الشتاء؛ لأنه يعتبر نصف المكشوف في الشتاء مستضراً أكثر من الذي غطاه الشعر.
وقال بعض العلماء: إن القزع ليس حلق نصف الرأس، وإنما الحلق من أطرافه وهي القصة الموجودة الآن، وقد سرت -نسأل الله السلامة والعافية- إلى بعض أبناء المسلمين، وينبغي التنبيه عليها، ويُذكَّر الحلاق وهؤلاء بالله ويخوفون، وهي قضية حلق أطراف الشعر من الجانب الأيمن والأيسر ويبقى الشعر وفراً في منتصف الرأس، فهذه الحلقة أصلها حلقة اليهود، قالوا: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع) وهي هذه الحلقة؛ أن يحلق أطراف الشعر ويترك الوسط، وهي طريقة اليهود، ومن فعلها فإنه متشبه بهم نسأل الله السلامة والعافية! فينبه على من يفعلها ويذكر بالله ويوعظ؛ لأنه لا يجوز التشبه بالكفار، فالمقصود: أنه إذا حلق يعم جميع الرأس، وإذا قصر يعم جميع الرأس، ولا يقتصر على بعض الرأس دون بعض.(124/16)
قدر أخذ المرأة من شعرها للتحلل
[وتقصر المرأة من شعرها قدر أنملة] قوله: (وتقصر المرأة من شعرها قدر أنملة) فتجمع جميع شعرها في الأخير ثم تقص منه؛ لكن لا تقص لنفسها ولا يحلق الرجل لنفسه، وهذه من الأخطاء التي يقع فيها جميع النساء، حيث تقوم المرأة بجمع شعرها وتأخذ المقص وتقص لنفسها، فإن المتحلل لا يحلل لنفسه؛ لأنه محظور عليه أن يقص أو يتطيب حتى يخرج من نسكه، ولا يخرج إلا بحلق غيره، ولذلك كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يعطي الحلاق شقه الأيمن ثم الأيسر، فيحلق رأسه عليه الصلاة والسلام، والسنة أنه إذا أراد الإنسان أن يتحلل في الحج والعمرة أن يعطي الحلاق شقه الأيمن فيبدأ به، ثم ينتقل إلى شقه الأيسر، ولا يبتدئ بآخر الرأس أو بأعلى الرأس قبل الشق الأيمن؛ لأن السنة أن يبدأ بالشق الأيمن، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أعطى الحلاق شقه الأيمن).
واختلف العلماء: هل العبرة في التيمن بالحالق، أو المحلوق؟ وهذه المسألة تقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الحلاق وراء ظهرك فلا إشكال؛ لأن يمينه يمين لك.
الصورة الثاني: أن يكون الحلاق أمام وجهك، يعني: يستقبلك ويحلق أمامك، ففي الحالة يمينه يسار لك ويسارك يمين له، فحينئذٍ هل العبرة إذا وقف أمام وجهك وصار يحلق وهو مقابل لك بيمينك أو بيمينه؟ قال بعض العلماء: العبرة بيمين المحلوق.
وقال بعضهم: العبرة بيمين الحلاق؛ لأن الفعل من الحلاق فيأخذ بيمينه لا بيمين المحلوق؛ لأن العبرة بفعله.
والصحيح: أن العبرة بيمين المحلوق لا بيمين الحلاق؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية: (أعطى الحلاق شقه الأيمن) فدل على أن العبرة بيمين المحلوق لا بيمين الحالق.(124/17)
ما يباح للحاج بعد التحلل الأول
[ثم قد حل له كل شيء إلا النساء] قوله: (ثم قد حل له كل شيء إلا النساء) فله أن يتطيب، ويلبس المخيط، ويحلق شعره، ويزيل التفث، قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فإذا فعل ذلك فقد تحلل التحلل الأول، وهذا التحلل يباح فيه كل شيء كما ذكرنا إلا النساء، ولا يباح له جماع النساء إلا بعد أن يطوف طواف الركن وهو طواف الزيارة، أما الدليل على أنه قد تحلل التحلل الأول، فلما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل إحرامه، ولإحرامه قبل أن يطوف بالبيت) فقولها: (لإحرامه قبل أن يطوف بالبيت) يدل على جواز الطيب قبل أن يطوف طواف الإفاضة، فلذلك قال العلماء: إن هذا التحلل هو التحلل الأصغر أو التحلل الأول.(124/18)
حكم ترك الحلق والتقصير وتأخيره أو تقديمه على الرمي والنحر
[والحلق والتقصير نسك ولا يلزم بتأخيره دم ولا بتقديمه على الرمي والنحر] قوله: (والحلق والتقصير نسك) أي: إذا تركه فعليه دم.
قوله: (ولا يلزم بتأخيره دم) أي: أنه لو أخره عن يوم العيد لا دم عليه.
وقال بعض العلماء: إن أخره عن أيام التشريق لزمه دم؛ وذلك لفوات المحل، وعلى هذا فإنه ينبغي التأسي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، فمن أفضل ما يكون للإنسان في حجه وعمرته أن يفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرمي جمرة العقبة، ثم ينحر هديه، ثم يحلق رأسه، ثم بعد ذلك ينزل ويطوف بالبيت طواف الإفاضة متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن ذلك أرجى لقبول الله عز وجل لحجه.
قوله: (ولا بتقديمه على الرمي والنحر).
أما تقديم الحلق على الرمي والنحر ففيه وجهان للعلماء: فمن أهل العلم من قال: أما التقديم والتأخير فإنه قد جاء حديث النسائي في الرواية الصحيحة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: (ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم أو أخر مما يَنسى -وفي رواية: مما يُنسى- إلا قال: افعل ولا حرج) فقوله: (مما يُنسى) فهو يدل على أنه فعل لا شعوري، ولذلك جاء في الرواية الصحيحة الأخرى وهي ثابتة وصحيحة قال: (لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر، فقال: انحر ولا حرج؟ فقال: يا رسول الله! لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج) فالمقصود: أنه قال: (لم أشعر) واصطحبت بعلة مناسبة للحكم.
ولذلك قرر بعض المحققين -وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله عليه، ويقول بها جمع من العلماء-: أنه ينبغي الترتيب كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن حصل للإنسان عذر أو نسيان فإنه يعذر؛ لأن الأصل إيقاعها على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وأن يفعل هذه الأفعال كما وردت؛ حتى يكون ذلك أبلغ في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، أما لو قدم وأخر وهو معذور فإنه لا يلزمه بذلك التقديم والتأخير دم، ولا يلزمه شيء، وإنما هو معذور بوجود النسيان والخطأ.(124/19)
الأسئلة(124/20)
حكم من رمى الجمرة قبل الفجر بلا عذر ثم رمى بعده
السؤال
من رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر بلا عذر، فهل يمكنه أن يستدرك بأن يرمي بعد طلوع الشمس مرة ثانية، أم أن الإخلال وقع بالرمي الأول ولا عبرة بالرمي الثاني، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمذهب جمهور العلماء: أن الرمي يمكن فيه التدارك ما دام الوقت باقياً، فإذا رمى قبل الفجر فعلى القول بأنه لابد وأن يقع رميه بعد الفجر، فإنهم ينصون على أنه لو رمى قبل مغيب شمس يوم النحر، أو قبل طلوع الفجر من اليوم الحادي عشر، على الوجهين المعروفين في تأقيت الرمي أنه يجزيه ولا شيء عليه، وقد يقول قائل: ما الفرق بين مسألتنا ومسألة الإحرام دون الميقات أننا قلنا: إنه يلزمه دم حتى ولو رجع؟ والجواب: أنه هنا إذا رمى قبل الفجر فإن رميه الأول لاغٍ ولا يعتد ولا ينعقد؛ لأنه عند أصحاب هذا القول وقع قبل الوقت المعتد به، كما لو صلى الظهر قبل الزوال، فلا يعتد ولا ينعقد، وإنما يلزم لو أنه انعقد في وقت لا يختص إلا بمعذور وهو غير معذور، فيستقيم أن يلزمه الدم أو الضمان، ولكن نظراً لكونه رمى قبل الوقت فإن رميه وجوده وعدمه على حد سواء، ويلزمه حينئذٍ أن يعيد الرمي على القول بالتأقيت بالفجر أو بطلوع الشمس، ثم إذا رمى ما بين وقت طلوع الشمس، أو طلوع الفجر وغروب الشمس أو طلوع الفجر من اليوم الثاني فإنه يجزيه ولا شيء عليه؛ لأن الإخلال لم يتحقق، إنما يتحقق إخلاله لو أنه اكتفى بالرمي الأول ولم يعده حتى مضى وقت الرمي المعتد به شرعاً، فحينئذٍ يلزمه الضمان؛ لعدم وقوع الرمي المأمور به.
والله تعالى أعلم.(124/21)
عدم جواز رمي الجمرة قبل الفجر لمن كان مع الضعفة لحاجتهم
السؤال
من كان مع ضعفة وعجزة وتعجل بهم من مزدلفة بعد مغيب القمر، فهل له أن يرمي الجمرة معهم بعد منتصف الليل، وكذلك بالنسبة لطواف الإفاضة، أثابكم الله؟
الجواب
إذا رخص لغير المعذور أن يكون مع المعذورين فيرخص له بقدر الحاجة، فالقاعدة في الشرع: أن ما جاز للحاجة يقدر بقدرها.
فيجوز له أن يدفع ويصحبهم ويكون معهم إذا كانوا محتاجين له؛ لأن القاعدة: أن الإذن بالشيء إذن بلازمه.
فلما كان هؤلاء الضعفة مأذوناً لهم بالدفع، وتوقف حصول الرخصة لهم بوجود من يعينهم ومن يساعدهم، ومن يرفق بهم وييسر لهم هذه الرخصة، كان مأذوناً لهم من هذا الوجه، فإذا وجد غيرهم من المعذورين ممن يستطيع أن يقوم بذلك ولا يحتاج لهذا القادر فيبقى على الأصل من كونه لا يدفع، فإذا دفع مع هؤلاء المعذورين فلا يترخص بالرمي، إنما يبقى على القول بتأقيت الرمي بطلوع الفجر أو بطلوع الشمس؛ حتى يتبين وقت البداية فيرمي.
والله تعالى أعلم.(124/22)
حرمة النكاح ولوازمه بعد التحلل الأول
السؤال
هل يحرم كذلك عقد النكاح بعد التحلل الأول، أثابكم الله؟
الجواب
يحرم النكاح ولوازمه، فمحظور النكاح عقداً وخطبة ووطئاً كله مستصحب، ولذلك يعتبرون الجنس واحداً يحظر عليه أن يخطب وأن يعقد وأن يطأ، على التفصيل الذي ذكرناه في المحظورات، والله تعالى أعلم.(124/23)
التحاق واجبات العمرة بواجبات الحج في الحكم
السؤال
هل يقاس من ترك واجباً من واجبات العمرة على من ترك واجباً من واجبات الحج في إيجاب الدم عليه، أثابكم الله؟
الجواب
من ترك واجباً من واجبات العمرة يلتحق بواجبات الحج، ولذلك العمرة هي الحج الأصغر، والدليل على أنها حج أصغر قول الله عز وجل: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3] فقال: {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3] فوصف الحج بكونه أكبر، لذلك قال شيخ الإسلام: الحج حجان: حج أكبر، وحج أصغر؛ لدلالة هذه الآية الكريمة، فإذا وقع الإخلال في الحج الأصغر والأكبر فالحكم واحد، فالواجب الذي يجبر في الحج يجبر بما يجبر به في العمرة والعكس، والواجب الذي في العمرة يجبر بما يجبر به الواجب في الحج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج، وشبك بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه) وهذا يدل على أن حكمهما واحد، وعلى هذا فإنه يلزمه ما يلزم من أخل بواجب الحج، وانظر إلى الواجبات في العمرة ستجدها موافقة في كثير من المسائل لواجبات الحج؛ فإنك ترى الرجل إذا أحرم بالعمرة يلزمه أن يتقي المحظورات كما لو أحرم بالحج، سواء بسواء، وكذلك أيضاً بالنسبة لطوافه بالبيت وما يلزمه في الطواف الحكم فيهما واحد، وعلى هذا إذا أخلّ بواجب في العمرة يجبره بما يجبر به الواجب في الحج.
والله تعالى أعلم.(124/24)
دعاء الصائم عند تهيئه للفطر لا بعده
السؤال
أشكل عليَّ مسألة الدعاء عند الفطر لقوله عليه السلام: (للصائم عند فطره)، فهل يكون وقت الدعاء بعد الأذان أم قبله، أثابكم الله؟
الجواب
الدعاء عند الفطر، أي: عند تهيئه للفطر، بمعنى: أن يكون قبل أن يفطر، وهذا ذكر العلماء له نظائر: أن العبد إذا قام بحق الله عز وجل وأداه، كان من كرم الله عز وجل أن يجعل له الخير العاجل باستجابة دعوته، فتجده في الصلاة إذا صلى وانتهى من التشهد، وقضى أذكار الصلاة ولم يبق إلا أن يسلم، شرع له أن يدعو؛ لقوله عليه الصلاة والسلام عندما سئل: (أي الدعاء أسمع؟ قال: أدبار الصلوات المكتوبات)؛ وذلك لأنه قام بفريضة الله، وأدى حق الله، فيرجى أن يستجيب الله دعاءه، ولما وفى لله يوفي الله له.
وفي الزكاة إذا جاء ودفع ندب للإمام أن يدعو له؛ وذلك لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فكان عليه الصلاة والسلام إذا تصدق المتصدق دعا له.
وكذلك أيضاً في الصوم إذا فرغ من صومه وكاد أن يفطر، دعا وسأل الله في ختام يومه من خيري الدنيا والآخرة.
وكذلك في الحج، فإن الإنسان في حجه يدعو في عرفات وقالوا: ويدعو أيضاً في مزدلفة لقربه من التحلل، فهو يدعو في صبيحة مزدلفة؛ لأنه ليس بينه وبين التحلل إلا اليسير.
وهذا كله نبه عليه بعض العلماء، فإذا تأملت أركان الإسلام الأربعة هذه، وجدت أنه بمجرد ما يفرغ العبد من حق الله فإنه يرجى له إجابة الدعوة.
من هنا قال العلماء: لا يدعو بعد أن يفطر، وإنما يدعو عند تهيئه للفطر، فيسأل الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة.(124/25)
حكم الفطر لكبير السن ومن به مرض لا يرجى برؤه
السؤال
رجل كبير السن وهو مصاب بمرض ولا يستطيع أن يصوم، فماذا يفعل، خصوصاً وأن عليه صياماً من رمضان السابق، أثابكم الله؟
الجواب
أما بالنسبة لكبر السن والمرض فكل واحد منهم إذا انفرد، وكان المرض مما لا يرجى برؤه فإن له الفطر، وكذلك لو كان كبيراً وصحته وعافيته طيبة لكنه لا يستطيع أن يصوم، ويجحفه الصوم ويرهقه، فإن من حقه أن يفطر، قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] قال بعض السلف: (يطيقونه) يعني: يجدون المشقة، ولذلك في قراءة: (يَطْيَّقُونَهُ) وفي قراءة: (يَطَوَّقُونَهُ) أي: يجدون المشقة والعناء من صومهم، فهذا يفطر وعليه الإطعام، وهكذا إذا كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه، كمن به فشل في الكلى، أو أمراض في القلب مزمنة بحيث لا يستطيع أن يصبر، أو عنده أدوية لابد من أخذها في ساعات منتظمة، كمن كان حديث عهد بعملية جراحية أو نحو ذلك، واستدام المرض معه بحيث لا يمكنه القضاء، فهذا يفطر ويتحول إلى الإطعام مباشرة، أما لو كان مرض هذا الكبير مما يرجى برؤه، كأن تكون نزلة عارضة كزكام أو أمراض خفيفة عارضة، وهذه الأمراض ترهقه عن الصوم، ولكن بعدها قد يشفى ويمكنه القضاء، فإنه يفطر ثم يقضي متى ما تيسر له القضاء ولا إطعام عليه.
والله تعالى أعلم.(124/26)
حكم من أوتر مع الإمام وأراد أن يصلي من الليل
السؤال
من أوتر مع الإمام في القيام وأراد أن يصلي من الليل فكيف يوتر؟ وما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة)، أثابكم الله؟
الجواب
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) حديث الترمذي حسنه غير واحد من العلماء، ومعناه: أن الوتر ينقض الوتر؛ لأنه إذا أوتر في الليلة وترين أصبحت الصلاة شفعيه وأصبح العدد شفعاً، فهذا هو وجه النهي عن الوترين، والمقصود شرعاً أن يبقى عدد صلاتك بالليل وتراً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، فإذا صلى وتراً ثم أوتر بعده وتراً ثانياً فإن الوتر الثاني ينقض الوتر الأول، وعلى هذا فمن صلى مع الإمام وأوتر، أو صلى لوحده أول الليل وأوتر، ثم استيقظ آخر الليل وأحب أن يصلي فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يريد أن يصلي ركعتين كأن تكون ركعتي وضوء أو شيئاً خفيفاً فيصلي شفعاً ولا يوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعدما أوتر، وهذا ثابت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة.
الحالة الثانية: أن يريد أن يطول ويقوم، كما هو الحال لو أوتر في صلاة التراويح وأراد أن يتهجد، أو أوتر أول الليل وقام في آخر الليل وأراد أن يتهجد، ففي هذه الحالة يصلي ركعة ينقض بها الوتر الأول؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة) فنقض الوتر الثاني الوتر الأول، ثم يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر؛ السبب: أنه ينقض الوتر الأول؛ لكي يجعل آخر صلاته بالليل وتراً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، فشرع له أن ينقض الوتر الأول، حتى يكون وتره في آخر الليل، وهذا هو فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، واختاره جمع من الأئمة والسلف.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمنّ علينا بالقبول، وأن يتجاوز عنا الزلل والخلل إنه المرجو والأمل.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله وصحبه أجمعين.(124/27)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الحج والعمرة [3]
ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام بعد فراغه من رميه لجمرة العقبة يوم النحر أنه نحر، ثم حلق رأسه عليه الصلاة والسلام، ثم أفاض إلى مكة وطاف بالبيت طواف الإفاضة؛ فلابد من الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في ترتيب مناسك الحج الواجبة والمستحبة، ولقد بين عليه الصلاة والسلام وقت كل منسك، وقال: (خذوا عني مناسككم).(125/1)
بيان ما ينبغي على الحاج يوم النحر بعد فراغه من أعمال منى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ثم يفيض إلى مكة].
شرع رحمه الله في هذا الفصل ببيان ما ينبغي على الحاج يوم النحر بعد فراغه من رميه لجمرة العقبة، وقد كان من هديه صلوات الله وسلامه عليه: أنه لما فرغ من رمي جمرة العقبة نحر ثلاثة وستين بدنة؛ والسبب في ذلك: أنه كان قارناً الحج والعمرة، ثم إنه عليه الصلاة والسلام بعد أن نحر حلق رأسه، ثم نزل فطاف طواف الإفاضة.
قوله: (ثم يفيض) الإفاضة: أصلها الكثرة، وفاض الخبر إذا شاع وانتشر، وفاض الوادي إذا سال بالماء الكثير، ويسمى هذا الطواف: بطواف الإفاضة، ويسمى: طواف الزيارة، ويسمى: طواف الركن، ويسمى: الطواف الواجب، ويسمى: طواف الصَدَر، بفتح الصاد والدال، كلها أسماء لهذا الطواف، وهذا الطواف يعتبر ركناً من أركان الحج، والأصل في وجوب هذا الطواف وركنيته قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فأمر الله سبحانه وتعالى بهذا الطواف، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه ركن من أركان الحج، إلا أن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله يعبر عنه بالواجب، أما فرضيته ولزومه فهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله.
ومعنى قوله: (ثم يفيض) أي: يذهب إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة.(125/2)
حكم طواف الإفاضة بالنسبة للمفرد والقارن
[ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة].
قوله: (ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة) القارن والمفرد أفعالهما واحدة خلافاً للمتمتع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين عائشة: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) وكانت متمتعة في الحج، فمن أفراد الحج فإنه يطوف بنية الركنية، وكذلك من قرن حجه مع العمرة فإنه أيضاً يطوف بنية الركنية، وأما بالنسبة للمتمتع فإنه قد سبقه الطواف والسعي؛ لأنه يتحلل بالعمرة.
وطواف الإفاضة بالنسبة للمفرد والقارن يكون على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون المفرد قد قدم إلى مكة وطاف قبل يوم عرفة، وحينئذٍ يكون الطواف الذي يفعله يوم العيد طوافاً عن حجه، ولا يلزمه أن يرمل ولا أن يضطبع؛ وذلك لأنه قد حيا البيت ورمل واضطبع في طواف القدوم الأول.
الصورة الثانية: إن كان المفرد إنما قدم إلى عرفة مباشرة أو قدم إلى منى مباشرة ولم يكن قد طاف، فقال جمع من أهل العلم: إنه يرمل في طواف الإفاضة ويضطبع؛ لأن طوافه حينئذٍ يصبح عن الإفاضة وعن القدوم كأنه تحية للبيت.
والمفرد والقارن تقدم ضابطهما، فهما يطوفان طواف الإفاضة بنية الركن؛ والسبب في ذلك أن الطواف عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، ومن طاف بالبيت ولم ينو أنه طواف ركن عن إفاضته فإنه لا يجزيه عن الإفاضة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فدل هذا الحديث على أن من نوى الشيء كان له، ومن لم ينوه لم يكن له، فمن نوى الإفاضة كان إفاضة ومن لم ينوه لا يقع عن إفاضته.(125/3)
بيان وقت طواف الإفاضة من حيث الابتداء والانتهاء والأفضلية
[وأول وقته بعد نصف ليلة النحر] أي: أن أول وقت طواف الإفاضة بعد نصف ليلة النحر، هذا هو أحد قولي العلماء، واحتجوا بحديث أم سلمة رضي الله عنها: (أنها دفعت من مزدلفة بعد منتصف الليل، ثم رمت جمرة العقبة، ونزلت وطافت وزارت البيت)، ولكن هذا الحديث حديث ضعيف، والذين قالوا: إن طواف الإفاضة يبتدئ من منتصف الليل احتجوا بهذا الحديث، واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للضعفة أن يدفعوا بعد منتصف الليل، ففهموا أن الإذن بالدفع بعد منتصف الليل، يستلزم الإذن بالطواف بعد منتصف الليل، وهذا القول خالفه جمع من العلماء وقالوا: إن طواف الإفاضة مختص بيوم النحر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف الإفاضة يوم النحر، ووقع فعله بياناً لواجب، وبناء على ذلك قالوا: لا يجزي أن يوقعه ليلة النحر، وإنما يبتدئ بطلوع فجر يوم النحر، وهذا القول الثاني أقرب إلى السنة وأقوى من جهة الدليل، خاصة وأن حديث أم سلمة فيه ما ذكرنا من الضعف الذي لا يقوى معه على الاحتجاج.
بالنسبة لطواف الإفاضة هناك وقت أفضلية، وهناك وقت ابتداء، وهناك وقت انتهاء.
أما وقت طواف الإفاضة فالسنة والأفضل والأكمل أن توقعه بعد طلوع الشمس وقبل زوالها من يوم النحر؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فإن وقع طواف الإفاضة بعد الزوال فقد وافق وقت الجواز ولم يوافق وقت الأفضلية، هذا بالنسبة لوقت الأفضلية.
أما وقت الابتداء ففيه قولان مشهوران: القول الأول: أنه يبتدئ من منتصف الليل وفيه ما فيه.
القول الثاني: يبتدئ بطلوع الفجر من يوم النحر على ظاهر السنة الواردة عن رسول صلى الله عليه وسلم من طوافه يوم النحر.(125/4)
أقوال العلماء في تأخير طواف الإفاضة عن يوم النحر
يبقى
السؤال
ما هو الزمان الذي يجوز للحاج أن يؤخر طواف الإفاضة إليه؟ قال بعض العلماء: إنه لا يؤخر طواف الإفاضة عن أيام التشريق، وإن أخره عن أيام التشريق كره له ذلك.
ثم اختلفوا، قال بعض الذين يكرهون ذلك: إن أخره عن أيام التشريق لغير عذر فإنه يلزمه دم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر، وكانت أيام التشريق بمثابة الزمان المعتبر لإيقاع طواف الإفاضة، فإن تأخر عنها فإنه يلزمه دم؛ لأن أفعال الحج تتم بأيام التشريق.
وقال بعض العلماء: لا يلزمه دم حتى ينتهي شهر ذي الحجة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، وأشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كاملة، ففائدة التعبير بالجمع في قوله: (أشهر) يدل على أن آخر ما يقع فيه هذا الركن إنما هو شهر ذي الحجة، وهذا هو أقوى الأقوال، وأن ما وراء ذي الحجة فيه الدم؛ جبراناً للواجب الذي تركه وقصَّر فيه إذا لم يكن له عذر.
أما إذا كان عند الإنسان عذر في تأخير طواف الإفاضة، كأن تكون المرأة حائضاً أو نفساءَ فأخرت طواف الإفاضة عن يوم النحر إلى أيام التشريق، أو أخرته عن أيام التشريق إلى آخر ذي الحجة، أو أخرته عن ذي الحجة لعذر، فإنه لا يجب عليها شيء، ويلزمها أن تطوف طواف الإفاضة بمجرد طهرها.
ويبقى السؤال: لو أن الإنسان أدى مناسك الحج كاملة، ولكنه رجع إلى بلده ولم يطف طواف الإفاضة، فما الحكم؟
الجواب
أنه ليس لطواف الإفاضة من الزمان حد ينتهي إليه، بل قالوا: إن لم يطف طواف الإفاضة يبقى في ذمته ولو إلى آخر عمره، فلو عاد ولو بعد خمسين سنة فإنه يلزمه أن يطوف طواف الإفاضة، ويبقى في ذمته؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وأمر سبحانه بإتمام الحج، وهذا ركن من أركان الحج فيلزمه أن يوقع هذا الطواف وتبقى ذمته مشغولة بطواف الإفاضة ولو إلى سنوات، هذا بالنسبة لمن أخر طواف الإفاضة، وهذا هو الذي جعل العلماء يقولون: تبقى الذمة مشغولة به ولو إلى آخر العمر.
أي: أنه لا بد له من أن يوقعه وأن يأتي به على وجهه.(125/5)
أفضلية الطواف للإفاضة يوم النحر
[ويسن في يومه وله تأخيره] أي: ويسن له فعل الطواف يوم النحر؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والخير كل الخير في التأسي به صلوات الله وسلامه عليه، والخير في إيقاع أفعال الحج وأقواله على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحرص المسلم على أنه يوم النحر يوقع أفعال النحر مرتبة كما أوقعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل ويؤدي طواف الإفاضة على الهدي الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتت عنه الأحاديث الصحيحة به، فذلك هو الخير كله، فيسن للمسلم أن يحرص عليه، أما جواز التأخير ففيه ما فيه من التفصيل الذي ذكرناه.(125/6)
السعي بعد طواف الإفاضة للقارن والمفرد والمتمتع الذي لم يسع
[ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو غيره ولم يكن سعى مع طواف القدوم] قوله: (ثم يسعى بين الصفا والمروة)، وهذا السعي ركن إذا كان الإنسان مفرداً، فالمفرد كما لا يخفى عليه سعي، وهو سعي عن حجه، فإذا كان قد جاء إلى منى أو إلى عرفات مباشرة، فمعنى ذلك: أنه لم يؤد ركن السعي، فإذا طاف طواف الإفاضة أوقع السعي بعد الطواف؛ لأن السعي لا يصح إلا بعد الطواف، فيلزمه بعد فراغه من طواف الإفاضة أن يمضي إلى الصفا والمروة ويؤدي سعي الحج إن كان مفرداً، وإن كان قارناً ولم يكن سعى قبل فحينئذٍ يسعى سعيه، ويكون السعي للقارن على هذا الوجه عن حجه وعمرته، وهكذا إذا كان متمتعاً فإن المتمتع إذا قدم بعمرته وأدى العمرة وتحلل منها، فإنه يلزمه أن يسعى سعياً آخر لحجه، وهذا السعي الآخر للحج يوقعه بعد طواف الإفاضة، حتى يقع سعيه بعد الطواف معتبراً.(125/7)
حقيقة التحلل الأول والثاني وما يباح فيهما
[ثم قد حل له كل شيء].
قوله: (ثم قد حل له كل شيء) وهذا يسمى: بالتحلل الثاني، فالحج له تحللان: تحلل أول، وتحلل ثان، أما التحلل الأول فللعلماء فيه تفصيل: فمنهم من يقول: التحلل الأول يقع بمجرد رميه لجمرة العقبة، وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا رميتم جمرة العقبة فقد حللتم).
وقال بعض العلماء: إذا رمى أو حلق مع الرمي أو طاف فقد تحلل التحلل الأول.
والتحلل الثاني إن كان قد طاف.
فيقع تحلله بواحد من هذه الثلاث، وليس للنحر عند أصحاب هذا القول دخل، فلا يرون أن النحر مؤثر في التحلل، فإما أن يرمي ويحلق، وإما أن يرمي ويطوف، وعلى هذا قالوا: التحلل الأول يقع بالرمي مع الحلق، أو يقع بالرمي مع الطواف، وإذا رمى وطاف فقد تحلل التحلل الأول والثاني، هذا مذهب طائفة من العلماء، واختاره أئمة الشافعية والحنابلة رحمهم الله.
والفرق بين التحلل الأول والثاني فالعلماء متفقون كلهم ومجمعون على أنه إذا تحلل التحلل الأول أنه لا يحل له وطء النساء.
واختلفوا إذا تحلل التحلل الأول ما الذي يباح له بهذا التحلل؟ فقال جمع من العلماء: يحل له كل شيء إلا النساء، ثم اختلفوا على قولين: فقال بعضهم: يحل له كل شيء إلا وطء النساء، فيجوز له أن يقبل، ويجوز له أن يباشر، ويجوز له أن يعقد النكاح، ويجوز للمرأة أن تزوج -تنكح وتُنكح- ولكن لا يقع الوطء.
هذا الوجه الأول، واحتجوا بحديث صفية رضي الله عنها وهو ثابت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد منها يوم النحر ما يريد الرجل من امرأته، فقيل: يا رسول الله! إنها حائض؟ فقال: أحابستنا هي؟ ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذنْ) قالوا: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد منها ما يريد الرجل من امرأته، وهذا المراد به مقدمات الجماع وليس المراد به الجماع، ولكن الصحيح أنه يحل له كل شيء إلا النساء خاصة، وحديث السنن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رميتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء)، فإن هذا الحديث قد جود إسناده غير واحد من أهل العلم وهو يدل على أن مسألة النساء عامة، فتشمل مقدمات النكاح وتشمل كذلك الوطء.
هناك خلاف بالنسبة للقول الثاني في مسألة التحلل، قال بعض العلماء: يحل له كل شيء إلا النساء وقتل الصيد، فأضافوا إلى النساء الصيد كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، فإذا تحلل التحلل الثاني حل له الجميع، والصحيح المذهب الأول، خاصة وأن السنة قوية في دلالتها على حلّ كل شيء إلا النساء، هذا بالنسبة للتحلل الأول والتحلل الثاني، ومن الأدلة الصريحة على أن التحلل ينقسم إلى هذين القسمين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تطيب بعد رميه لجمرة العقبة وتحلله التحلل الأول، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه -يعني: في الميقات-، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت) فلما قالت: (لحرمه قبل أن يطوف بالبيت) دل على أن محظور الطيب يرتفع برميه عليه الصلاة والسلام لجمرة العقبة وتحلله التحلل الأول، وأنه لا يلزم في التحلل الأول أن يطوف بالبيت لظاهر هذه السنة الصحيحة.(125/8)
ماء زمزم لما شرب له
[ثم يشرب من ماء زمزم لما أحب، ويتضلع منه ويدعو بما ورد] قوله: (ثم يشرب من ماء زمزم)، وهذه سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما فرغ من طواف الإفاضة أتى سقاية العباس رضي الله عنه وأرضاه، وشرب منها بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
قال العلماء: في هذا دليل على أن من طاف طواف الإفاضة فالسنة له أن يشرب من ماء زمزم.
قوله: (لما أحب) أي: من خيري الدنيا والآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث -وصححه غير واحد من العلماء-: (ماء زمزم لما شرب له)، وقد اشتهر هذا الحديث عند العلماء رحمهم الله، حتى قال بعض أهل العلم: إن التجربة دلت على صحته فمن شربه للعلم آتاه الله العلم، وقال الإمام أبو بكر بن العربي المفسر المشهور: شربت زمزم وسألت الله العلم وندمت أني لم أسأله مع العلم العمل.
وقال بعض السلف: اللهم إنه قد جاء عن نبيك صلى الله عليه وسلم أن ماء زمزم لما شرب له اللهم إني أشربه لظمأ يوم الآخرة.
فزمزم ماء له فضل وشرف بثبوت الأخبار والأدلة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يحب هذا الماء، وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في الهدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث إلى واليه بمكة عتاب بن أسيد، ويأمره أن يوقر البعير بماء زمزم ويبعثه إليه بالمدينة صلوات الله وسلامه عليه.
وقال جمع من العلماء: إن لهذا الماء مزية وفضلاً، حتى إنه عرف بالتجربة أنه يقوي القلب، مع ما فيه من فضائل من كونه: (لما شرب له) ولذلك كان بعض الأطباء يوصي به لضعيف القلب أن يشرب منه؛ لما جعل الله فيه من الخير والبركة.
ومن الأدلة التي تدل على أنه: (لما شرب له) ما ثبت في الصحيح من حديث أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه أنه لما آذاه المشركون واختبأ تحت ستار الكعبة كان يشرب زمزم وكان يستطعم به من الجوع حتى سمن رضي الله عنه وأرضاه فكان له طعام طعم كما قال عليه الصلاة والسلام: (وما يدريك أنه طعام طعم)، فماء زمزم ماء مبارك، ويشربه الإنسان وينوي به الخير، ونص العلماء والأئمة رحمهم الله على ذلك، وبثبوت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له)، ويحرص الإنسان على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من طواف الإفاضة، بأن يأتي إلى ماء زمزم ويشرب منه، خاصة وأنه تيسر في هذا الزمان سهولة الشرب منه والارتواء منه، فيتضلع منه ويسأل الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة.(125/9)
الدعاء عند شرب ماء زمزم
(ويدعو بما ورد).
لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء مخصوص لزمزم، وكان ابن عباس يسأل الله فيقول: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء.
فكان يسأل الله عز وجل هذا، والأمر في هذا واسع أن يسأل الإنسان من خيري الدنيا والآخرة.(125/10)
وجوب المبيت بمنى
[ثم يرجع فيبيت بمنى ثلاث ليال] ثم بعد انتهائه من طوف الإفاضة وسعيه، يرجع إلى منى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى منى يوم النحر، واختلفت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل صلى الظهر بمكة، أو صلاها بمنى؟ وفي هذه المسألة خلاف مشهور، وأقوى ما ثبت حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى)، والرواية بصلاته بمنى أقوى، وعليه فيرجح القول بأنه صلى بمنى، وما ورد من الروايات بصلاته بمكة أجاب جمع من العلماء: بأن الرواية بكونه صلى بمنى اعتضدت بروايات أخر، حتى صارت الشهادة كاملة، بخلاف رواية جابر أنه صلى بمكة.
وثانياً: أن حديث الصلاة بمكة يحمل على الإذن، أي: استؤذن عليه الصلاة والسلام فأذن بالصلاة بمكة، ولذلك قالوا: الأفضل والأكمل أن يصلي الظهر بمنى.
وقال بعض السلف رحمهم الله: إذا كان يوم النحر موافقاً ليوم الجمعة، فإن الأفضل له أن يمضي إلى منى ويصلي الظهر بمنى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى، وهي أفضل من الجمعة؛ لمكان الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
[فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخيف بسبع حصيات].
يبيت بمنى ليلة الحادي عشر، والمبيت واجب، وهو مذهب جمهور العلماء، خلافاً لأصحاب الإمام أبي حنيفة حيث قالوا: إن المبيت ليس بواجب.
والصحيح: مذهب الجمهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية) وقوله: (رخص) يدل دلالة واضحة على أن الأصل عزيمة؛ لأن التعبير بالرخصة يدل على أنها استباحة للمحظور، فدل على أن المبيت بغير منى للحاج محظور عليه من حيث الأصل، فيجب عليه أن يبيت بمنى ليالي التشريق، ثم إذا وجد عنده العذر من اشتغاله بمصالح الحجاج العامة، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم السقي والرعي، فحينئذٍ يجوز له أن يترخص، وأما من عدا هؤلاء فإنه يجب عليهم المبيت بمنى؛ لأن السنة واردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بات بمنى، وقد وقع فعله بياناً للواجب، والقاعدة: أن الفعل إذا وقع بياناً لواجب فهو واجب.
فاجتمع هذان الدليلان القولي والفعلي، القولي: بالرخصة للعباس، والفعلي: بمبيته صلوات الله وسلامه عليه بمنى.(125/11)
بيان وقت رمي الجمار وضرورة ترتيبها وأحكامها
إذا أصبح اليوم الحادي عشر فالسنة أن ينتظر إلى الزوال، كما ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر حتى زالت الشمس، فابتدأ بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات مثل حصى الخذف)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (لما فرغ من رميها تياسر قليلاً واستبطن من جهة الوادي ودعا صلوات الله وسلامه عليه وسأل الله من فضله وقام قياماً طويلاً) حتى جاء في حديث ابن مسعود وغيره: (أنه يقارب سورة البقرة)، فوقف عليه الصلاة والسلام ودعا بعد رميه الصغرى، وأطال الدعاء وسؤال الله من فضله، ثم انطلق إلى الجمرة الوسطى ورماها بسبع حصيات أيضاً، ثم وقف ودعا ورفع يديه واستقبل القبلة عليه الصلاة والسلام، وأطال في دعائه أيضاً، ثم مضى إلى جمرة العقبة ورماها بسبع حصيات من بطن الوادي، ولم يقف بعدها وإنما انصرف صلوات الله وسلامه عليه، هذا بالنسبة لأفعال اليوم الحادي عشر: أولاً: بات ليلة الحادي عشر بمنى.
ثانياً: أنه انتظر إلى زوال الشمس من يوم الحادي عشر.
ثالثاً: أنه رمى الجمرات الثلاث.
رابعاً: أنه رتب هذا الرمي وابتدأ بالصغرى قبل الوسطى، وبالوسطى قبل الكبرى، وعلى هذا فإنه لا يجوز له أن يرمي قبل الزوال؛ وذلك لأنها عبادة مؤقتة، والعبادات المؤقتة لا تصح قبل زمانها إلا بدليل شرعي، كما في الجمع بين الصلاتين إذا قدمت الثانية في وقت الأولى، ومن هنا نجد العلماء والفقهاء رحمهم الله حينما ذكروا الرمي قبل الزوال قالوا: لا يصح الرمي قبل الزوال كما لا تصح صلاة الظهر قبل الزوال، بجامع كون كلٍ منهما عبادة مؤقتة، فالرمي عبادة مؤقتة، وصلاة الظهر عبادة مؤقتة، كما أنه لا يجوز للمسلم أن يعتدي على الشرع بمجاوزته لهذا التأقيت بالسبق، فيصلي الظهر قبل زوال الشمس، أو يصلي المغرب قبل غروب الشمس، فإنه لا يجوز له أيضاً أن يعتدي على الشرع فيرمي قبل هذا الوقت المحدد المعين، وعلى هذا فإنه لا يجزيه الرمي قبل الزوال.
وحكم الرمي قبل الزوال يطّرد في الثلاثة الأيام: اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر لمن لم يتعجل، وأما ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: (إذا انتفخ النهار من اليوم الثالث عشر فارم)، فيجاب عن هذا الحديث سنداً ومتناً: أولاً: من جهة السند: فإن الحديث الذي دل على وجود الرمي بعد الزوال من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح وأثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وثانياً: من جهة المتن: فإن قوله: (انتفخ) فإن النهار لا يوصف بكونه منتفخاً، والشيء لا تصفه بكونه قد أخذ حظه إلا إذا جاوز النصف بحيث يصدق عليه أنه دخل في الكمال، وعلى هذا فإنه لا يصدق على النهار أنه قد استتم على الوجه المعتبر إلا من بعد الزوال، فكأن ابن عباس يريد أن يؤكد السنة التي وردت في هديه عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فإن القول الأخير بالرخصة أنه يجوز الرمي قبل الزوال قول مرجوح، والسنة على خلافه.
وهنا ننبه على مسألة مهمة وهي: أننا إذا قلنا للناس: اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وارموا بعد الزوال في اليوم الأخير، وهو يوم النفر الأخير، تجدهم يقولون: إن الزمان قد تغيّر، وإن الناس يحطم بعضهم بعضاً، وكذا وكذا، وحينئذٍ يكون
الجواب
إن هذه عبادات توقيفية، وأن مقصود الشرع من الحج هذا الزحام الذي تراه، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة: (يا رسول الله! هل على النساء جهاد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة)، فكأن الشرع قصد أن يقف الناس على هذا الوجه، وأن يجتهد المسلم، وأن يجد العناء والمشقة، حتى يأتي الغني والفقير، والرفيع والوضيع، والجليل والحقير، فيجد الزحام، ويحتك بإخوانه، فتجد الذي لا يعاشر الناس ولا يخالط الناس كالغني والثري يدخل في زحمة الناس وحطمة الناس، وهذا يدفعه وهذا يهينه، فيحس بلذة العبادة، ويشعر بقيمة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
فالمقصود من هذه العبادة: وجود المشقة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليهن جهاد)، والجهاد بذل الجهد والوسع والطاقة، فالحج بمثابة الجهاد، وليس المراد من ذلك أن نكلف الناس ما لا يطيقون، بل إن هذا الزحام وهذه المشقة إذا تأملتها فهي مقدور عليها، وليست بمشقة -والحمد لله- لا يقدر عليها، إنما الخطأ ليس في التشريع، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له، فكثير من الذين يحبون التوسعة على الناس، ولو على حساب النصوص تجدهم يقولون: إن هذا فيه أذية للناس وفيه ضرر وفيه وفيه، نقول لهم: ليس الخطأ في التشريع، وينبغي أن يفرق بين حكم الله وبين أعمال الناس، وطريقة أداء الناس للشعائر، وقيامهم بالمناسك، فإنك لو تأملت هذه العبادة، ولو أن كل مسلم حافظ على حرمة أخيه المسلم، ودخل لرميه أو طوافه أو سعيه متأدباً بآداب الإسلام، محافظاً على حقوق المسلمين، فإنك لا ترى إلا الخير، ولا ترى ما يسوء المسلم أو يؤذيه، ولكن الخطأ في أفعال الناس، وإذا أخطأ الناس في أفعالهم فإن هذا لا يدعونا إلى إلغاء شرع الله، أو التقديم لما حقه التأخير، أو التأخير لما حقه التقديم.
فمسائل الفتوى في العبادات توقيفية، إلا فيما فتح الشرع فيه الاجتهاد، فمواقيت الرمي مواقيت تعبدية، وينبغي للمسلم أن يعلم أنه إذا قيل له: إن الاجتهاد يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، أن تقول في جواب هذا: إن الاجتهاد يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة فيما هو محل للاجتهاد، أما العبادات التوقيفية والتي ورد الشرع فيها بالإلزام بزمان معين، أو مكان معين فإنه لا يجوز للمسلم أن يقدم على تغيير هذه الصورة المعينة إلا بدليل توقيفي، فكما أنها ثبتت بالدليل التوقيفي لا يجوز تغييرها إلا بدليل توقيفي، وعلى هذا فإننا نقول: لا نستدرك على الله في شرعه، والله أمرنا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والتأسي به، وقد ثبتت السنة عنه عليه الصلاة والسلام أنه رمى بعد الزوال في اليوم الثالث وهو يوم التعجل، فإننا لا نرخص للناس ولا نرى وجهاً للترخيص بجواز الرمي قبل الزوال؛ لأن السنة صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت بياناً لهذه العبادة الواجبة، والقاعدة في الأصول: أن بيان الواجب يعتبر واجباً.
وعلى هذا نخلص إلى أن الرمي يعتبر من واجبات الحج، وهذا الرمي يدخل فيه يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وينبغي على المسلم أن يراعي الزمان، وأن يراعي الترتيب، فلا يرمي الوسطى قبل الصغرى، ولا يرمي الكبرى قبل الوسطى والصغرى، ولو أن إنساناً رمى الجمرة الكبرى ثم الوسطى ثم الصغرى فإنه يقع رميه عن الصغرى ويلزمه أن يعيد الوسطى ثم يرمي بعدها الكبرى؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع الرمي مرتباً، قال جمهور العلماء: ومعنى ذلك: أنه لا يصح رميه للثانية إلا بعد فراغ ذمته من الأولى، ولا يصح رميه للثالثة وهي الكبرى إلى بعد فراغ ذمته من الوسطى وهي الثانية، فينبغي الترتيب وإيقاع الرمي على هذه الصفة المرتبة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك لو ابتدأ بالوسطى ثم رمى الكبرى ثم رجع للصغرى، فإن الحكم نفسه؛ يصح رميه للصغرى، ولا يصح رميه للوسطى ولا للكبرى، وعلى ذلك فإنه يلزمه أن يرتب على هذه الصفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجزي رمي الجمرة إذا كانت مرتبة عن ما قبلها إلا بعد إبراء الذمة برمي التي قبلها؛ لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع الرمي على هذه الصفة.(125/12)
جعل الجمرتين الصغرى والوسطى عن يساره بعد رميهما عند الدعاء
[ويجعلها عن يساره، ويتأخر قليلاً ويدعو طويلاً ثم الوسطى مثلها] قوله: (ويجعلها عن يساره) يجعل الجمرة عن يساره، أي: إذا أراد الدعاء ينحرف ذات اليسار، ثم قال بعض العلماء: يسهل، يعني: يكون إلى جهة السهل، وهذا قِبَلَ البناء وقِبَلَ البيوت، فيكون السهل ومجرى الوادي متياسراً عنك، فالسنة بعد فراغك من رميك للصغرى أن تمشي كأنك ماض إلى الوسطى وتأخذ ذات اليسار قليلاً، هذا هو الذي يعبر عنه العلماء: بالإسهال، ويعبر العلماء عنه أيضاً: بأخذ ذات اليسار بعد الرمي.(125/13)
عدم الوقوف عند جمرة العقبة بعد رميها من بطن الوادي
[ثم جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه، ويستبطن الوادي، ولا يقف عندها] جمرة العقبة سبق وأن ذكرنا أن لها موضعاً مخصوصاً من الرمي وهو بطن الوادي؛ والسبب في ذلك أن جمرة العقبة كانت في حضن الجبل، وعلى هذا لم يكن لها موضع للرمي إلا جهة واحدة، وهذه الجهة المعينة وهي نصف الحوض هي التي يقع فيها الرمي، فلو رماها من غير هذه الجهة قالوا: إنه إذا وقع حصاه خارجاً عن هذا النصف لم يجزه، ولابد من التقيد بهذا القدر الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محل الرمي؛ لأن العبرة في الرمي بالحوض، فإذا كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف الحوض بهذه الصفة فمعناه: أن البقية من الحوض والباقي من جهة الجبل ليس بمحل للرمي، فلو وقعت فيه الحصاة فقد وقعت خارجاً عن محل الرمي، ولذلك لا يجزي أن يرميها إلا من هذا الموضع، لكن قال بعض العلماء في القديم -قبل أن يزال الجبل-: إنه لو رقى الجبل ورماها من الجبل ووقعت حصاته بالجبل فإنه يجزيه، وهو قول طائفة من العلماء؛ لأن الرمي قد وقع، والعبرة بالرمي، وعلى هذا تبرأ ذمته بالإيقاع داخل الحوض، سواء كان من بطن الوادي وهو أفضل، أو كان من على الجبل وهو خلاف السنة، ولكن الأحوط والأفضل أن الإنسان يتحرى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم برميها من بطن الوادي ويكون مستقبل القبلة على الصفة التي ذكرها المصنف رحمه الله؛ لثبوت الخبر عنه عليه الصلاة والسلام في رميه يوم العيد وبقية أيام التشريق على هذا الوجه المعين.
قوله: (ولا يقف عندها).
أي: ولا يقف عند جمرة العقبة بإجماع العلماء، ولذلك بعض العلماء يقول: إنما يشرع الوقوف بعد الرمي إذا كان بعده رمي، وعلى هذا فالجمرة الصغرى إذا رماها فإنه يقف عندها؛ لأن بعدها رمياً وهو رمي الوسطى فيشرع له الوقوف، والجمرة الوسطى إذا رماها فإنه يقف عندها؛ لأن بعدها رمياً وهو رمي جمرة العقبة فيشرع الوقوف، وجمرة العقبة ليس بعدها رمي وإنما يكون بعدها فراغ من نسك الرمي، سواء في يوم العيد أو أيام التشريق، فلا يشرع الوقوف بعد رميها.(125/14)
مشروعية استقبال القبلة عند رمي الجمار
[يفعل هذا في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال مستقبل القبلة مرتباً] قوله: (يفعل هذا) أي: يفعل هذا الفعل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، مرتباً إياه على الصفة التي ذكرناها؛ لأن السنة وقعت بياناً لواجب، وبيان الواجب واجب.(125/15)
حكم جمع الرمي إلى اليوم الثاني أو الثالث
[وإن رماه كله في الثالث أجزأه] وإن رمى الجمرات كلها في الثالث أجزأه، استدلوا برخصته عليه الصلاة والسلام للرعاة والسقاة أن يجمعوا رمي اليومين في اليوم الثاني، وكذلك أن يجمعوا رمي اليومين الأخيرين في اليوم الأخير، قالوا: فلما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالجمع دل على أن الوقت يتداخل، وأنه يجوز أن يجمع، ولكن هذا على سبيل العذر دون غير المعذور كما يقول جمهور العلماء، وعلى هذا فلا يجوز للمسلم أن يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بترك الرمي ليوم الحادي عشر أو اليوم الثاني عشر، ويجمع الرمي دفعة واحدة، وإنما عليه أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوقع الرمي في الأيام الثلاثة، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.(125/16)
وجوب النية في الرمي مع الترتيب وجواز التوكيل فيه
[ويرتبه بنيته].
ويرتب الرمي بالنية؛ لأن الرمي عبادة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)؛ والرمي عمل تعبدي ولا يصح إلا بنية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، فلابد وأن ينويه، وإذا كان وكيلاً عن الغير في الرمي كأن يكون مريضاً، ويكون الإنسان مثلاً عاجزاً كالمشلول، أو يكون مريض القلب الذي لا يمكنه أن يدخل في زحام ليرمي، أو مجروح اليد على وجهٍ لا يمكنه الرمي، فإن هؤلاء يوكلون، وهكذا الحطمة من الناس، الذين يغلب على الظن أنهم لو دخلوا في الزحام لماتوا، أو لتضرروا ضرراً لا يمكن الصبر عليه، أو تلحق بهم مشقة فادحة بحيث لا يكلفون بمثلها، فهؤلاء إذا وكلوا الغير فإنه يشترط في الوكيل أن يكون حاجاً، فلا يصح الرمي وكالة ممن لم يحج، فلو أخذ الحصى وقال لرجل: ارم عني، وكان هذا الرجل غير حاج فإنه لا يجزيه؛ لأن هذه العبادات لا تصح إلا من الحاج، بل لابد وأن يكون متلبساً بالنسك، فإذا كان متلبساً بالنسك وأراد أن يرمي يبدأ رمي الثلاث الجمرات عن نفسه أولاً؛ حتى تبرأ ذمته عن الرمي كاملاً، ثم يرجع ويرمي عن موكله الجمرات الثلاث، سواء كان واحداً أو أكثر من واحد، فلا بأس أن يتوكل عن واحد فأكثر، ولا بأس أن يتوكل الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل، على الأصل الذي ذكرناه في باب الوكالة في الحج.(125/17)
حكم تأخير الرمي وعدم المبيت بمنى
[فإن أخره عنه أو لم يبت بها فعليه دم] أي: إن أخر الرمي عن اليوم الثالث الأخير، أو لم يبت بمنى، الباء للظرفية، بمعنى: في منى؛ لأن من معاني الباء الظرفية، فتقول: محمد بالبيت، أي: في البيت، أي: في داخله.
والمبيت بمنى ذكرنا أنه واجب، وحينئذٍ ينبغي أن يكون مبيته داخل حدود منى، ومنى حدها كما لا يخفى من جمرة العقبة إلى وادي محسر، وجمرة العقبة على أصح الأقوال لا تدخل في حدود منى؛ وذلك لأن عمر رضي الله عنه كان يأمر بطرد الناس وإدخالهم إلى منى، فمن وجدوه عند جمرة العقبة وبعدها أمروه أن يدخل إلى منى.
أما وادي محسر ففيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله: - فمن يقول باتصال المشعرين مزدلفة ومنى يرى أن وادي محسر من منى.
- ومن لا يرى الاتصال يراه فاصلاً، وأنه مكان غضب وسخط، ولذلك حرك عليه الصلاة والسلام دابته -كما ثبت في الحديث الصحيح- حينما دفع من مزدلفة إلى منى عندما مر بهذا الوادي.
وأما بالنسبة للجهة الشرقية إلى الجنوب، والغربية إلى الشمال فيكتنف منى جبلان: أحدهما يسمى: جبل ثبير، والثاني يسمى جبل الصانع، وهذان الجبلان قد أجمع العلماء على أن ما أقبل منهما من منى وما أدبر منهما ليس من منى، والحد بالقمم، فقمم الجبال هي الفاصل، فإذا كان على القمة فهو على الشبهة، وإنما يكون دون القمة، يعني: دون منتصف الجبل من قمته، فما كان من هذا فما دون فإنه من منى، وما كان من القمة وما وراءها فإنه يعتبر خارجاً عن منى، ولا بد أن يتحقق المبيت بكل الليل أو بأكثر الليل، وأما إذا كان جزءاً من الليل فللعلماء فيه خلاف مشهور: قال بعض العلماء: من اضطجع ونام بمنى ولو سويعات فقد بات بها.
وقال بعض العلماء: إن المبيت يتحقق بالثلث فأكثر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير).
وإذا قلنا: أكثر الليل، فللعلماء وجهان في ضابط الليل: قال بعض أهل العلم: تحسب من غروب الشمس إلى طلوعها، ثم تقسم على اثنين، وتضيف الناتج إلى ساعة الغروب، فلو كان غروب الشمس في السابعة وطلوع الشمس في السادسة، فهذه إحدى عشرة ساعة، تقسمها على اثنين فتصير خمس ساعات ونصفاً، تضيفها إلى سبع، فيكون منتصف الليل حينئذٍ عند الساعة الثانية عشرة والنصف، هذا بالنسبة لنصف الليل الأول، ثم ما بعد ذلك إذا كان قد دخل إلى حدود منى قبل الساعة الثانية عشرة والنصف، فإنه يكون قد بات بمنى أكثر الليل، وأما إذا كان بعد الثانية عشر والنصف أو في الثانية عشرة والنصف فإنه لم يتحقق المبيت أكثر الليل.
وقال بعض العلماء: يحسب أكثر الليل من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، وهو أذان الفجر، فيرون أنه من مغيب الشمس، فإذا كان المغيب على السابعة وأذان الفجر على الخامسة مثلاً، فحينئذٍ تحسب ما بين السابعة وبين الخامسة وهي عشر ساعات تقريباً، وحينئذٍ تقسمها على اثنين وهي خمس ساعات، فتقول: إذا دخل قبل الثانية عشرة فإنه يعتبر قد أدرك أكثر الليل وسقط عنه الدم وإلا فلا، هذا بالنسبة لمسألة المبيت.
ويتحقق المبيت بمضي أكثر الليل والإنسان في منى، سواء مضى عليه وهو نائم، أو مضى عليه وهو مستيقظ، فإن من كان في حدود منى فقد بات بها، سواء نام أو لم ينم، ولكن السنة أن ينام تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.(125/18)
حقيقة التعجل ووجوب المبيت والرمي لغير المتعجل
[ومن تعجل في يومين خرج قبل الغروب وإلا لزمه المبيت والرمي من الغد].
قوله: (ومن تعجل في يومين) المراد بذلك: أن يتعجل في اليوم الثاني عشر فيخرج من حدود منى قبل مغيب الشمس، فإذا غابت عليه الشمس وهو خارج حدود منى فقد تعجل، والعجلة تستلزم من المسلم أن يأخذ بأسباب التعجل، وذلك بالاحتياط والتحفظ؛ لأن التعجل ورد في صيغة القرآن، في قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، هذا اللفظ الذي نص عليه القرآن يدل على شيء من التكلف، وأخذ الحيطة والحزم في الأمر، أما لو أنه قصر وغابت عليه الشمس ولو كان مرتحلاً وعجل فللعلماء فيه وجهان: جمهور العلماء -والمنصوص عليه عند الأئمة-: على أنه يعتبر ملزماً بالمبيت؛ لأنه لم يتعجل حقيقة، وفرق بين تعجل الصورة وتعجل الحقيقة؛ لأن الله يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة:203] وفي للظرفية، ومعنى ذلك: أنه قد حصلت العجلة والخروج من حدود منى في اليومين، واليومان المراد بهما: الحادي عشر والثاني عشر، بمعنى: أنه قد خرج من حدود منى قبل أن تغيب عليه شمس اليوم الثاني عشر، واشترط بعض العلماء: أن يكون تعجله وخروجه من منى على التقوى؛ وذلك لقوله تعالى: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] والمراد بالتقوى كما يقول بعض السلف: أن لا يخرج سآمة من الحج وفراراً من كلفة الحج، كما يفعله بعض العامة، فإنه يريد أن يتعجل لا من باب التقوى وإنما يتعجل سآمة وفراراً من تكاليف الحج، وحينئذ ٍقالوا: لم يتحقق فيه الشرط، ولا يجوز للمسلم أن يسأم العبادة والخير والطاعة والقربة، ولذلك ينبغي لمن تعجل أن ينتبه لهذا الأمر، وهو أن لا يخرج من مشعر منى كارهاً العبادة -والعياذ بالله-، أو سائماً منها أو فاراً من كلفتها وتبعتها، وإنما يخرج على سبيل التقوى والاسترخاص برخص الله كما قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم برخص الله التي رخص لكم).
قوله رحمه الله: (خرج) هذا يدل دلالة واضحة على أنه لابد وأن يتحقق الخروج، فإذا لم يحصل الخروج فإنه لم يتعجل، وهذا كما ينص عليه جماهير أهل العلم من السلف رحمهم الله ومن بعدهم: أنه لابد من حقيقة التعجل وذلك إعمالاً لنص القرآن على ظاهره: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، وحقيقة التعجل أن يخرج من حدود منى، فإذا خرج من حدود منى بمتاعه ورحله، وأدركه المغيب وهو خارج حدود منى ولو بخطوة واحدة فقد تعجل حقيقة، وحينئذٍ يسقط عنه مبيت اليوم الأخير والرمي عن اليوم الأخير، أما لو خرج عن حدود منى قبل المغيب ثم رجع بعد المغيب وأخذ متاعه فليس بمتعجل، وإنما هو محتال على الشرع ويلزمه المبيت الليلة الأخيرة ويلزمه الرمي لذلك اليوم؛ لأنه لم يتعجل حقيقة، وعبر المصنف بالخروج لكي يدل على أنه إذا لم يقع منه الخروج الحقيقي فليس بمتعجل، ويلزمه ما يلزم من لم يتعجل من مبيت الليلة الأخيرة والرمي إعمالاً للأصل الذي ذكرناه.(125/19)
وجوب طواف الوداع وأن يكون آخر العهد بالبيت هذا الطواف
[فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يطوف للوداع] قوله: (فإذا أراد الخروج) بمعنى: أنه تهيأ للخروج، لم يخرج من مكة حتى يطوف طواف الوداع، ويسمى: طواف الصَدَر أيضاً، وسمي طواف الوداع؛ لأن الحاج يودع به البيت، والأصل في هذا الطواف: أن الناس كانوا يصدرون من فجاج منى وعرفات إلى بلدانهم، قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت الطواف)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت الطواف)، هذا الطواف يسمى: طواف الوداع؛ لأنه آخر ما يكون من الحاج كأنه يودع البيت بالطواف عليه.(125/20)
لزوم إعادة طواف الوداع لمن اتجر بعده
[فإن أقام أو اتجر بعده أعاده] قوله: (فإن أقام) بمكة (أو اتجر) أي: إذا باع واشترى فإن عليه أن يعيد طواف الوداع؛ لأن طواف الوداع يشترط فيه أن يخرج مباشرة وقوله: (أو اتجر) فيه تفصيل: التجارة تقع بالبيع والشراء، ومن باع أو اشترى بعد طواف الوداع فله حالتان: الحالة الأولى: أن يقع بيعه وشراؤه على وجه يستعين به على الخروج، كأن يشتري زاداً لراحلته أو يشتري طعاماً لدابته، وفي زماننا لو توقف لوقود السيارة أو تغيير زيت السيارة مثلاً، فهذا التأخر في حكم الخروج؛ لأن المراد به الاستعانة به على الخروج، واغتفر العلماء مثل هذا في الرواحل في القديم، وهو مغتفر في زماننا في السيارات الموجودة ووسائل النقل الموجودة، ولو أراد أن يحجز وحجز لسفر في مركوب أو نحوه وتهيأ للركوب وأخذ يتهيأ له فظل ساعة أو ساعة ونصفاً وهو يتهيأ للسفر والذهاب إلى محطة السفر أو نحو ذلك، فهذا التأخر كله مغتفر إذا كان يسيراً، أما إذا تفاحش فإنه يلزمه الرجوع وإعادة طواف الوداع.
الحالة الثانية: أن يتجر على وجه لا يقصد به الاستعانة على الخروج فإنه يُلْزَمُ بالرجوع لإعادة طواف الوداع، فلو خرج واشترى هدية لأولاده أو لزوجه أو لأقاربه، فإنه يلزمه أن يرجع بعد شرائه ويطوف طواف الوداع مرة ثانية؛ حتى يكون آخر عهده بالبيت الطواف، فإذا كان آخر عهده بالحج التجارة، فإنه يلزمه أن يرجع ويكون آخر عهده بالبيت الطواف، على الصفة الشرعية لمكان التعبد، ولذلك قال المصنف: (فإن أقام أو اتجر أعاده) أي: أعاد طواف الوداع بعد ذلك الفعل، الذي لا يعد من جنس الطواف ولا من جنس الخروج.(125/21)
ترك طواف الوداع للحائض والنفساء
[وإن تركه غير حائض رجع إليه].
هذا الطواف للعلماء فيه وجهان: أصحهما الوجوب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت الطواف)؛ ولقول أم المؤمنين عائشة: (فأمروا) والأمر يدل على الوجوب، لكن يرخص للمرأة الحائض والنفساء، فالمرأة الحائض والنفساء تنفر وتصدر مباشرة دون أن تلزم بطواف الوداع؛ لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إلا أنه خفف عن المرأة الحائض والنفساء)، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه لما ذكر له أن صفية قد حاضت، قال: عقرى حلقى أحابستنا هي؟! ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر -يعني: طواف الإفاضة- قالوا: نعم، قال: فلا إذن -وفي رواية: انفري-)، فأمرها بالنفر مع أنها لم تكن قد طافت طواف الوداع، وهذا يدل على الرخصة في طواف الوداع بالنسبة للمرأة الحائض والنفساء.(125/22)
لزوم الدم على من ترك طواف الوداع وشق عليه الرجوع
[وإن تركه غير حائض رجع إليه] وإذا خرج الإنسان من مكة وترك طواف الوداع أو نسيه، ثم تذكره فلا يخلو من حالتين: إما أن يتذكره قبل مسافة القصر فحينئذٍ إذا رجع سقط عنه الدم، وأما إذا تذكره بعد مسافة القصر فإنه يلزمه الدم، سواء رجع أو لم يرجع.
[فإن شق أو لم يرجع فعليه دم] لأنه واجب، والواجب يجبر بالدم كما قررناه وذكرنا دليله غير مرة.(125/23)
دخول طواف الوداع تحت طواف الإفاضة إن أخر
[وإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأ عن الوداع] قوله: (وإذا أخر طواف الزيارة) وهو الإفاضة، قوله: (طواف الزيارة) كره بعض السلف تسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة، وقد أُثر عن الإمام مالك رحمه الله أنه كره هذه التسمية، ولكن جمهور العلماء على جواز التسمية بطواف الزيارة؛ لأن مسلماً أورد في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفية: ألم تكن زارت يوم النحر؟ قالوا: نعم، قال: فلا إِذَنْ) فسمى طواف الإفاضة: زيارة، فدل على جواز هذه التسمية، وأنه لا مانع منها ولا كراهة.
فإذا أخر طواف الزيارة، كالمرأة الحائض تؤخر طواف الزيارة عن يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، ثم تطوف طواف الزيارة وتسافر مباشرة، فحينئذٍ يدخل طواف الوداع تحت طواف الإفاضة؛ لأن القاعدة في الشرع: أنه إذا اندرج الأصغر تحت الأكبر وتحقق المقصود فإنه يجزيه الفعل الواحد.
ووجه ذلك: أن المقصود من طواف الوداع أن يكون آخر عهد الإنسان بالبيت الطواف، فإذا طاف طواف الإفاضة فإنه سيكون آخر عهده بالبيت الطواف، وحينئذٍ يجزيه طواف الإفاضة عن طواف الوداع، ويسقط عنه طواف الوداع ولا حرج عليه في ذلك، وعلى هذا قال العلماء إذا أخره مع العذر، أما إذا لم يوجد العذر فخلاف السنة، فالسنة أن يطوف الإنسان يوم النحر وأن يحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.(125/24)
أقوال العلماء في وقوف غير الحائض بين الركن والباب
[ويقف غير الحائض بين الركن والباب داعياً بما ورد].
هذا يسمى: الملتزم، وخفف العلماء فيه وقالوا: لا بأس أن يلتزمه الإنسان بأن يلصق صدره به ويدعو ويسأل الله عز وجل من فضله، وينبغي أن يكون خالياً من المحظور، كالتمسح بجدران الكعبة والاعتقاد في هذا الموضع، يعني: لا يجوز للمسلم أن يحدث في مثل هذه الأمور التعبدية زائدة عن الوارد، وإنما قالوا: أثر عن بعض السلف رحمهم الله وفيه حديث مرفوع لكنه تكلم في سنده، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن بعض الصحابة أيضاً، وأشار المحب الطبري في كتابه: القرى لقاصد أم القرى، إلى آثار في ذلك، فالوارد عند الملتزم قالوا: يلتزم ويدعو ويسأل الله من فضله، ولا بأس بذلك ولا ينكر على الإنسان إذا فعله، إما إذا كان هناك زحام وتأذى الطائفون بوقوف الإنسان في هذا فإنه يتقي هذا؛ لأنه لا يجوز أذية الطائف، والطواف في البيت هو المقصود، وهي عبادة مقصودة أكثر من الالتزام، ولا ينبغي للإنسان أن يحرص على شيء لم تثبت فيه سنة قوية ثابتة، ومع ذلك قد يؤذي فيه الطائفين، أو يقع في محظور، كمزاحمة النساء ونحو ذلك، فعلى الإنسان أن يتقي مثل هذا، وليس هناك دعاء مخصوص وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا.(125/25)
عدم مشروعية الوقوف بباب المسجد الحرام للمرأة الحائض
يقول رحمه الله: [وتقف الحائض ببابه وتدعو بالدعاء].
قوله: (وتقف الحائض بابه) يعني: باب المسجد الحرام؛ لأن الحائض لا تدخل المسجد، وتدعو بما ورد، ووقوف المرأة هذا الوقوف فيه تكلف ولم يثبت به نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك حاضت صفية ولم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقف هذا الموقف، ولذلك لا وجه لهذا ولا أصل له، بل إن المرأة الحائض تصدر من مكانها، وليس لهذا الوقوف داعٍ، وتكلف المجيء إلى المسجد على هذا الوجه ليس له داع، فلا وجه للأمر به والتعبد به على هذه الصفة إلا إذا ثبت نص صحيح، وليس ثم دليل يدل على ذلك، وعليه فإنه لا يشرع للمرأة الحائض أن تقف على هذا الوجه، أو تتكلف المجيء إلى المسجد لهذا الدعاء وهذه المسألة.(125/26)
عدم مشروعية شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره
[وتستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه] قوله: (وتستحب) الاستحباب حكم شرعي، وقولهم: (تستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الاستحباب لم يرد دليل عليه، بل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)، فدل على أنه لا يجوز شد الرحال في السفر لزيارة القبور، سواء كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر صاحبيه أو قبر غيرهم من الصالحين أو أي قبر، فلا يجوز للمسلم أن يشد الرحال لزيارة القبور، ولا للدعاء عندها، ولا للذبح ولا للنذر، ومن نذر شيئاً من ذلك فلا يلزمه الوفاء به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شد الرحال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، فدل على أن النذر إذا لم يكن على الصفة الشرعية أنه لا يلزم الوفاء به، وعلى هذا فإن قوله: (يستحب شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه) خلاف السنة، وخلاف الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا تشد الرحال)، وإنما المسنون أن يسافر وينوي من أجل زيارة المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فينوي زيارة المسجد.
وقد فضل الله مسجد نبيه وحبيبه صلوات الله وسلامه عليه على غيره من المساجد، عدا المسجد الحرام، فينوي زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وينوي الصلاة في المسجد ولا ينوي زيارة القبر، وإنما ينوي هذه الزيارة الشرعية ويشد الرحال من أجل المسجد، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث رغب في ذلك بقوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وإذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغي له إذا دخل المسجد أن يبدأ بتحية المسجد قبل أن يبدأ بأي شيء، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح في قصة المسيء صلاته: (فإن المسيء صلاته لما دخل المسجد جاء وركع ركعتين ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ارجع فصلِّ) قال العلماء: في هذا دليل على أن من دخل المسجد ينبغي أن يبدأ أول ما يبدأ بتحية المسجد؛ لأن الرجل ابتدأ بتحية المسجد ثم سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن السنة أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من التحية مضى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام الشرعي، ثم يسلم على أبي بكر، ثم يسلم على عمر وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وسأل الله لنبيه عليه الصلاة والسلام الوسيلة، ثم بعد ذلك ينصرف، ولا يستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستغاثة والاستجارة والدعاء كلها أمور لا يجوز صرفها لغير الله جل جلاله، فإن الله لا يأذن لعبده أن يدعو سواه، أو يستغيث بأحد عداه، أو يستجير به، فإنه لا يملك النفع أو الضر إلا الله جل جلاله، الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، فلا يجوز أن يقول: يا رسول الله! اشفني، أو يا رسول الله! عافني، أو يا رسول الله! أغثني، أو يا رسول الله! مدد، فإنه لا يشفي ولا يكفي ولا يجير ولا يدفع السوء إلا الله، ولا يقول: يا رسول الله! حقق لي سؤلي، أو اشفع لي عند ربي، أو نحو ذلك من الأمور التي لا يجوز صرفها إلا لله عز وجل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى بالشرك في مكان آخر، فضلاً عن يأتي الإنسان لزيارته والسلام عليه صلوات الله وسلامه عليه ويشرك عند قبره، فالحرمة أعظم، وعلى من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراعي الأدب، فلا يرفع صوته عند قبره وإنما يغض من صوته ويسلم السلام الشرعي، ولا يتكلف بطول القيام وهو يمطط العبارات وينمق الكلمات، أو يغلو في وصفه عليه الصلاة والسلام، وإنما يسلم سلاماً شرعياً كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيونه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو الوارد، وهذه هي الزيارة الشرعية.
وأما أن يقف الإنسان الوقفات الطويلة، وهو يمطط العبارات ويترنم بالكلمات، ولربما تكون -والعياذ بالله- مشتملة على صرف حق الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل أن يقول: يا مغيث الملهوفين! ويا ملاذ الهاربين! ويا أمان الخائفين! هذا كله ليس إلا لله جل جلاله، فلا أمان إلا من الله، فهو الذي يؤمِّن الخائف، وهو الملاذ للهارب والمعين للمستعين، والغوث للمستغيث، والمجير للمستجير: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] سبحانه لا إله إلا هو، فالله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل هذا الأصل وهو: أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يفرده بالعبادة، وأن يصرف حق الله لله خالصاً، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يستهين بمثل هذه الأمور، فبين الإسلام والشرك كلمة واحدة، فلو قال: يا رسول الله! اشفني، فإنه شرك أكبر -نسأل الله السلامة والعافية-، أو قال: أغثني، أو أدركني، أو المدد؛ كل ذلك من الشرك الأكبر، الدعاء والاستغاثة والاستجارة بغير الله كائناً ما كان ذلك المغاث به، سواءً كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، من الشرك الأكبر، قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، فالله عز وجل ذكر عن هؤلاء الصالحين الذين يُعْبَدُون من دون الله، قيل: إنها نزلت في عيسى بن مريم حين عبدته النصارى واتخذته إلهاً من دون الله، فقال الله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57]، فهؤلاء الصالحون يدعون الله ويلتجئون إلى الله، فحري بالمسلم أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلم أن لله حقاً ولرسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، ولا يجوز صرف حق الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام ما بعث ولا أرسل إلا من أجل هذا الأصل، وهو: إفراد الله بالعبادة، وصرف ما لله خالصاً لوجهه الكريم، والله يخاطب رسوله عليه الصلاة والسلام ويقول له: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، أي: كن من الموحدين المخلصين له سبحانه وتعالى.
فينبغي على المسلم أن يفرد الله بالعبادة، وأن يصرف حق الله خالصاً لوجهه، مثل: الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من الحقوق التي لا ينبغي صرفها إلا لله سبحانه وتعالى لا شريك له، وخاصة إذا كان المسلم قد جاء إلى الحج، فبينه وبين الله عهد وهو يقول: لبيك لا شريك لك لبيك، فمعنى ذلك: أنه سيفرد الله بالعبادة ولا يصرف حق الله عز وجل لغيره كائناً ما كان ذلك الغير.(125/27)
الأسئلة(125/28)
مشروعية صلاة ركعتي الطواف
السؤال
لم يذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن بعد طواف الإفاضة صلاة ركعتين، فهل تشرع الصلاة بعده، أم لا، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فلكل طواف بالبيت ركعتان، ويلزم بهاتين الركعتين في طواف الإفاضة وغيره بإجماع العلماء.
والله تعالى أعلم.(125/29)
وصايا عامة لمن وفقه الله للحج وما يكون عليه بعد الحج
السؤال
هل من كلمة أو وصية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان بعد حجه، أثابكم الله؟
الجواب
من وفقه الله للحج إلى بيت الله الحرام، فأول وصية له: أنه ينبغي عليه أن يحمد الله جل جلاله، وأن يشكره على فضله، يشكر نعمة الله التي أنعم بها عليه، ومنته التي أسدى إليه، ويقول: اللهم! لك الحمد ولك الشكر اخترتني من بين الملايين من الأمم، وحملتني على ما يسرت لي، وهديتني وأعنتني، وسلمت لي بدني وصحتي، ووفقتني إلى أداء هذه المناسك والشعائر لا أحصي ثناء عليك، ومن شكر الله زاده، ومن حمد الله فإن الله يحب أن يحمد ويحب أن يثنى عليه ويحب أن يمجد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أهل الثناء والمجد) فيحمد الله عز وجل أولاً.
الوصية الثانية: من حج إلى بيت الله الحرام فإن الله عز وجل أكرمه ويسر له بالوقوف في هذه المشاعر والمناسك، فحط الآثام ومحيت عنه الخطايا، وتقرب إلى الله عز وجل بإراقة دمعة الندم، وأحس بالألم لما كان مما سلف من الذنوب والعصيان، فهجر هذه الذنوب وقلاها، وبكى بكاء الندم بين يدي الله مستغيثاً مستقيلاً تائباً راجياً رحمة الله جل جلاله، الله أعلم كم في هذه الرحاب من ذنوب غفرت، وخطايا محيت، وسيئات أقيل أصحابها، وعثرات أقال الله من تلبس بها، فهي منازل الكرم ومنازل الجود من الله جل جلاله سبحانه، له الحمد وله الفضل لا نحصي ثناء عليه، فإذا أحس المسلم أن الله أنعم عليه بهذه النعمة، فليكن أيضاً من شكره أن يحسن فيما بقي من عمره، وأن يكسر قلبه لله، وأن يسأل الله أن يحسن له الخاتمة، وأن يحسن له فيما بقي من الأجل، ويقول: يا رب! أسألك فيما بقي من عمري عملاً صالحاً يقربني إليك، فيرجع بقلب جديد وقالب جديد وعمل صالح رشيد.
الوصية الثالثة: عليه أن لا يفتخر وأن لا يرائي، وأن لا يدلي على الله بنعمته، بل عليه أن يقول: اللهم! إني أسألك القبول.
الوصية الخامسة: من دلائل قبول الحج أن يكون حال الإنسان بعد الحج أفضل من حاله قبل الحج، ولن يكون ذلك إلا بفعل فرائض الله، وترك حدود الله ومحارم الله، والخوف من عذاب الله ولقاء الله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل، وعلى المسلم إذا رجع إلى أهله ورجع إلى وطنه وإلى بلده أن يرجع بعمل صالح جديد، وأن يحاول أن يغير من أخلاقه، فإن الإسلام أدبه وهذبه بهذه العبادة، فالذي حج إلى بيت الله الحرام، وامتنع من وطء ومباشرة زوجته -وهي حلال عليه- أيام الحج، حري به أن يتقي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والذي حج إلى بيت الله الحرام وعف عن الرفث والفسوق والجدال في الحج، حري به أن يرجع عفيفاً عن أعراض المسلمين، فلا يغتاب ولا يقع في النميمة ولا يؤذي المسلمين، يرجع بحال جديد ويصلح ما بينه وبين الله، وما بينه وبين عباد الله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل حجنا مبروراً، وسعينا مشكوراً، وذنبنا مغفوراً، وعملنا صالحاً متقبلاً مبروراً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(125/30)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الحج والعمرة [4]
ما من عبادة إلا ولها صفة شرعية، بينها الله عز وجل أو بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هذه العبادات: العمرة، والعمرة من أجل الطاعات وأحب القربات إلى الله عز وجل، وهي تقع على سبيل اللزوم وعلى سبيل النفل.
ويستحب للمسلم أن يكثر من العمرة إلى بيت الله الحرام، وذلك لما فيها من الأجر والثواب، كما جاءت بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.(126/1)
بيان صفة العمرة وأحكامها وفضائلها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالمصنف رحمه الله تعالى يقول: [وصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات أو من أدنى الحل] لقد شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة العمرة، والعمرة من أجلّ الطاعات وأحب القربات إلى الله عز وجل، وكتاب المناسك يعتني فيه فقهاء الإسلام رحمهم الله ببيان أحكام الحج والعمرة، فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان مناسك الحج وصفة الحج إلى بيت الله الحرام، شرع في بيان مناسك العمرة وصفتها، وهذا يعتبره أهل العلم رحمهم الله من باب التدرج من الأعلى للأدنى، فقد بيّن رحمه الله الحج الأكبر وبيّن صفاته وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، ثم شرع في بيان الحج الأصغر وهو العمرة.
قوله: (وصفة العمرة) صفة الشيء حليته وما يتميز به عن غيره، والعبادات توقيفية، حيث أن المكلف فيها يتوقف على نص الشرع من الكتاب والسنة في كيفية أدائها والقيام بها على وجهها.
فهو رحمه الله سيبين ما ينبغي على المعتمر أن يقوم به إذا أراد أن يؤدي هذا النسك، والعمرة أصلها في لغة العرب: الزيارة، وتطلق أيضاً بمعنى: القصد، ومن إطلاقها بمعنى الزيارة، قول العرب: جاءنا معتمراً، أي: جاءنا زائراً، وكذلك يقولون: اعتمر بمعنى قصد، ومن هنا قال أهل العلم رحمهم الله: إن العمرة في اصطلاح الشرع: القصد إلى بيت الله الحرام على الوجه المخصوص، والمراد بهذا الوجه المخصوص: أن يؤدي مناسك العمرة بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة.(126/2)
وقوع العمرة على سبيل اللزوم والنفل وصور الوجوب
وهذه العبادة -أعني العمرة- تقع على سبيل اللزوم وعلى سبيل النفل، فتكون واجبة على المكلف وتكون نفلاً تطوعاً من المسلم غير واجبة عليه، فأما وجوبها فيأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يلزمه بها الشرع، وهذا إن توفرت الشروط المعتبرة ووجدت عند المكلف، وهذا القول -أعني: القول بوجوب العمرة- إنما هو على أحد قولي العلماء رحمهم الله، وقد ذكرنا نصوص الكتاب والسنة التي تدل على رجحان هذا القول، وأن الله فرض على المسلم أن يعتمر إلى بيته الحرام، كما فرض عليه الحج إلى بيته الحرام، وذكرنا هذا الخلاف، وذكرنا أدلة القولين وحجج الطائفتين، وأن الأقوى والأرجح هو القول: بوجوب العمرة، ولذلك وصفت بكونها حجاً أصغر؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3]، فجعل الحج منقسماً إلى حج أكبر وحج أصغر، وهي واجبة على المكلف بإيجاب الشرع مرة في العمر، كوجوب الحج، لكن هذا الوجوب يتقيد بشرائط، وقد تكلمنا على هذه الشرائط في مقدمة مناسك الحج، وذكرنا ما الذي ينبغي توفره من الشروط للحكم بوجوب الحج والعمرة.
الصورة الثانية: أن يقوم المكلف بإلزام نفسه بها، وذلك إذا نذر بالعمرة إلى بيت الله الحرام فقال: لله عليَّ أن أعتمر في رمضان، أو لله عليَّ أن أعتمر هذا الأسبوع، فإنها تكون واجبة ولازمة عليه، ولكن هذا الإيجاب والإلزام إنما هو من نفسه وليس من الشرع.
أما وقوعها على سبيل النفل ففي كل وقت، في أشهر الحج وغيرها، وكونها نافلة فهي طاعة وقربة من أجل الطاعات والقرب وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لاشتمالها على توحيد الله سبحانه، ونية التقرب له سبحانه وتعالى والإهلال بالتوحيد والتلبية، ثم الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، مع اشتمالها على ذكر الله عز وجل وإقامة شعائره، ولذلك وردت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في استحباب العمرة وفضلها، حتى صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات ما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فجعل العمرة إلى العمرة مكفرة ما بينهما بشرط اجتناب الكبائر، ومعنى ذلك أنها لا تبقي صغائر الذنوب، وهذه نعمة ورحمة من الله سبحانه وتعالى، فإن الصغائر وإن كانت ذنوباً يسيرة إلا أنها إذا اجتمعت ربما أهلكت العبد والعياذ بالله! والله عز وجل يتدارك عبده بلطفه حينما جعلها مكفرة لذنبه، فإن هذا التكفير وإن كان من صغائر الذنوب رحمة من الله سبحانه، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، وصححه غير واحد من العلماء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى المتابعة بين الحج والعمرة فقال: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والفضة)، فبيّن هذا الحديث فضل الاعتمار إلى بيت الله الحرام، واستحب السلف رحمهم الله هذه الطاعة وفضلوها.(126/3)
تحقيق العمرة وحصول أجرها وفضلها على وجهين
يكون الإنسان معتمراً على وجهين: الوجه الأول: أن يعتمر اعتماراً حقيقياً فينال هذا الفضل.
والوجه الثاني: أن يكون في حكم المعتمر من جهة الثواب وحصول الفضيلة، فيكون معتمراً فضلاً لا حقيقة، بمعنى: أن الله يعطيه ثواب العمرة، وذلك بطاعات ورد الشرع بفضلها والترغيب فيها، ومن ذلك التطهر في البيت وإتيان مسجد قباء والصلاة فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء وصلى فيه كان له كأجر عمرة)، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم جلس في مجلسه -وفي رواية: في مقعده- يذكر الله حتى تطلع عليه الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة)، فهذا الفضل من جهة التنزيل، أي: أنه ينال فضل الاعتمار والحج إلى بيت الله الحرام.(126/4)
مشروعية تكرار العمرة في عام واحد على الصحيح
هنا مسألة فقهية اختلف العلماء رحمهم الله فيها وهي: إذا كانت النصوص قد دلت على فضيلة الاعتمار إلى بيت الله الحرام وزيارته، فهل الأفضل أن يكرر المسلم ذلك الاعتمار، أو لا يكرره؟ فقال جمهور العلماء: يستحب للمسلم أن يكثر ويكرر من الاعتمار بالبيت، وبهذا القول قال فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الظاهر والحديث، فقالوا: يستحب للمسلم أن يكثر من العمرة، وأنه لا بأس أن يعتمر أكثر من عمرة في عام واحد.
وذهب بعض السلف، وهو قول الإمام مالك رحمه الله: إلى أنه لا يكرر العمرة في السنة أكثر من مرة، أي: أنه لا يشرع تكرار العمرة.
واحتج الجمهور على مشروعية تكرار العمرة بقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات ما بينهن) قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص في هذا الحديث على أن ما بين العمرتين يغفر بشرط ترك الكبيرة، ويفهم من الحديث الترغيب والندب للإكثار منها، فدل على الاستحباب ولم يرد ما يقيد ذلك بعام ولا غيره.
أما الدليل الثاني الذي دل على مشروعية تكرار العمرة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة) قالوا: إن هذا يدل على مشروعية التكرار، فإن المتابعة بين الحج قد يكون الإنسان في حجه متمتعاً، وقد يكون في حجه قارناً، وعلى هذا يتابع بين عمرة حجه وعمرة مستقلة.
وكذلك أيضاً من أنسب الأدلة وألطفها، والتي استدل بها على مشروعية تكرار العمرة، ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يأتي قباءً كل سبت)، فكونه عليه الصلاة والسلام كان يأتي مسجد قباء كل سبت، إنما هو لفضيلة العمرة، فلما تكرر ذلك منه دل على ندب واستحباب تكرار العمرة.
وقد جاء عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كرروا العمرة في العام الواحد، أثر ذلك عن أبي بكر الصديق، وكذلك أثر عن بنته الصديقة عائشة رضي الله عن الجميع، وأثر عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عن الجميع، أنهم كانوا يعتمرون أكثر من عمرة في العام الواحد، وهذا هو القول الصحيح والأولى، خاصة وأن الأصل يدل على مشروعية ذلك.
وقوى بعض العلماء هذا القول: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حجت معه أم المؤمنين عائشة كما في الصحيحين، وكان حجها تمتعاً، فلما أصابها الحيض قبل أن تتحلل من العمرة أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنقلب قارنة، فانقلبت قارنة لقوله عليه الصلاة والسلام في ختام حجها: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) فحكم عليه الصلاة والسلام بأنها قد جمعت بين الحج والعمرة وذلك بالقران، ومع كونها قد جاءت بحج وعمرة قراناً فإنها أصرت على أن تعتمر، فأذن لها أن تعتمر من الحل فاعتمرت من التنعيم رضي الله عنها وأرضاها، وهذا بلا إشكال تكرار للعمرة بعد العمرة، فدلت هذه النصوص على مشروعية التكرار، خاصة وأن الشرع لم يقيد ذلك بحد كما لا يخفى.(126/5)
أقسام صفة العمرة وحكم كل قسم
صفة العمرة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: صفة الإجزاء: وهذه الصفة هي التي يبين فيها أركان العمرة وواجباتها، بمعنى: أنه يجب على المكلف أن يوقع عمرته على هذه الصفة، ولا تجزيه عمرته إلا إذا وقعت على هذا الوجه المخصوص، الذي دلت النصوص الشرعية على لزومها.
القسم الثاني من صفات العمرة: صفة الكمال: وهي الصفة التي يعتنى فيها ببيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الكامل، فتذكر فيها الأركان والواجبات والسنن والمستحبات، فهذه الصفة الثانية فيها ما هو لازم على المكلف أن يأتي به: كالطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، الذي هو التحلل، وابتداء النسك بالإحرام، ومنها ما ليس بلازم ولا واجب عليه، وإنما هو على سبيل الندب والاستحباب: كالأذكار المستحبة، وكيفما كان فأهل العلم رحمهم الله برحمته الواسعة يعتنون في كتبهم ببيان الصفتين.(126/6)
حكم الإحرام للعمرة الواجبة والمستحبة ومكان الإحرام
قوله: (أن يحرم بها) أي: بالعمرة، فإن كانت واجبة عليه أحرم ناوياً إبراء ذمته من الفرض، وإن كانت نذراً نواها نذراً، وإن كانت نافلة نواها نافلة، وإن كانت عن غيره أحرم بها عن ذلك الشخص.
قوله: (من الميقات) أي: ميقاته الذي أوجب الله عليه أن يحرم منه، وقد تقدم معنا في أول كتاب المناسك بيان المواقيت التي وردت في حديثي الصحابيين الجليلين عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع وأرضاهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حدود المواقيت، فهو بقوله: (أن يحرم بها من ميقاته) أي: أن العمرة كالحج، فكما أنه في الحج يلزم بالإحرام من الميقات، كذلك في العمرة يحرم من ميقاته، فإن كان دون الميقات فإنه يحرم بها من حيث أنشأ، حتى وإن كان قريباً من حدود الحرم وليس بينه وبين الحرم إلا اليسير، فإنه يحرم من موضعه، وهكذا لو دخل دون المواقيت ثم طرأت عليه العمرة، فإنه من حيث طرأت عليه وأنشأ العمرة يحرم وذلك ميقاته.(126/7)
أقسام الناس في المواقيت والإحرام
قوله: (أو من أدنى الحل) الناس ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: أن يكونوا خارجين عن المواقيت، فهؤلاء يتقيدون بالمواقيت إن دخلوا مارين بها ناوين العمرة، فيحرمون منها كما تقدم.
القسم الثاني: أن يكونوا دون المواقيت، وهؤلاء ينقسمون أيضاً إلى قسمين: القسم الأول: منهم من هو دون الميقات خارج حدود الحرم، فهؤلاء يحرمون من مواضعهم كأهل عسفان وقديد، وهكذا أهل اليتمة فإنهم دون ميقات المدينة فيحرمون من اليتمة، وهكذا أهل المهد يحرمون من المهد؛ لأنهم دون ميقات المدينة ولا يؤخرون لمحاذاة ميقات الجحفة؛ لأن ميقات الجحفة للساحل، وهكذا بالنسبة لمن كان بعسفان وقديد يحرمون من عسفان وقديد؛ لأنهم دون ميقات المدينة، فإذا بلغوا إلى قديد، فإن من جاوز قديد يكون قد تداخل الميقاتان في حقه، فيصبح دون ميقات المدينة ودون ميقات الجحفة فيحرم من موضعه.
القسم الثاني: هم أهل مكة ومن كان قد طرأت عليه العمرة وهو داخل حدود الحرم، فهؤلاء ميقاتهم أن يخرجوا إلى أدنى الحل؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تكن من أهل المواقيت حينما طرأت عليها العمرة؛ لأن العمرة -كما ورد النص- إنما طرأت عليها بمكة، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج؟! فقال عليه الصلاة والسلام: طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك، فأبت)، فحينئذٍ تأمل قولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيرجع الناس بحج وعمرة) معناه: أنها تريد العمرة وخاطبته داخل حدود الحرم، فلما وقع خطابها لرسول الله صلى الله عليه وسلم داخل حدود الحرم، فإنها حينئذٍ تكون في حكم أهل مكة، فلما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى أدنى الحل، دل على أن المكي ينشئ العمرة من أدنى الحل، وهذا واضح وظاهر، وعلى هذا قالوا: إن المكي إذا أنشأ العمرة فإنه ينشئها من أدنى الحل؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها لما أنشأت عمرتها داخل مكة أخذت حكم أهل مكة بالإجماع، فدل على أن ميقات المكي أن يحرم من أدنى الحل لكي يجمع بين الحل والحرم.
قوله: [من مكي ونحوه لا من الحرم].
هذا من باب التنويع، فقال: من ميقاته، أو من موضعه، أو من أدنى الحل، فجمع الأحوال الثلاثة للطوائف الثلاث: من كان آفاقياً، ومن كان بين المواقيت والحرم، ومن كان داخل الحرم وطرأت له عمرته داخل الحرم.(126/8)
إجزاء الإحرام لمن بمكة من التنعيم وغيره
وليس الحكم متوقفاً على التنعيم، قالت أم المؤمنين: (والله ما ذكر التنعيم ولا غيره)، فلو أن إنساناً من أهل مكة أراد أن يحرم بالعمرة -أو آفاقياً جاء إلى مكة وأنشأ العمرة- فإنه يجزيه أن يصيب أدنى الحل، فلو خرج إلى عرفات أو أدنى الحل من جهة اليمن أو من جهة جدة التي هي الحديبية، فحينئذٍ لو خرج إلى أدنى الحل ولو خطوة واحدة وأحرم منه، وجمع بين الحل والحرم لصح وأجزأ، قال العلماء: لله الحكمة البالغة، فإن الناس إذا حجوا والمكي معهم، فإن المكي في حجه يجمع بين الحل والحرم، وذلك أنه يخرج إلى عرفات، ولا يصح حجه إلا بالخروج إلى عرفات، وعرفات خارج حدود الحرم، فهو في حجه يجمع بين الحل والحرم، ولكنه في عمرته لا يبقى داخل الحرم وإنما يؤمر بالخروج؛ لأن العمرة كالحج، ومن هنا قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3]، وقال عليه الصلاة والسلام: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)، فهناك تداخل بين العبادتين، فقالوا: إنه يجمع بين الحل والحرم كما جمع في حجه بين الحل والحرم.
فقد كانت قريش وأهل الشرك في الجاهلية يرون أن أهل مكة لا يخرجون عن حدود الحرم، فكان فعله عليه الصلاة والسلام يوم حجة الوداع إلغاء لهذا الأمر، الذي أحدثته قريش وأحدثه الحمس، حينما كانوا يقولون: نحن أهل الحرم، ولا يخرجون من حدود الحرم، وهو الذي عناه الله بقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]، وعلى هذا قالوا: إنه في العمرة يجمع بين الحل والحرم كما يجمع في حجه بين الحل والحرم.(126/9)
الأعمال التي يأتيها المعتمر قبل التحلل
[فإذا طاف وسعى وحلق أو قصر: حل] أي: إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة عن عمرته، وحلق أو قصر فقد حل من عمرته.
وهناك أمور لازمة بالنسبة للعمرة: الأمر الأول: يحرم للعمرة، ولذلك عده جمع من العلماء ركناً من أركان العمرة، وقال بعض العلماء: الإحرام من الواجبات وليس من الأركان، وقد تقدم معنا هذا الخلاف.
الأمر الثاني: أن يطوف بالبيت؛ لأن المقصود من العمرة زيارة البيت، ومن هنا كره بعض السلف لأهل مكة أن يعتمروا؛ لأن الأفضل لهم بدل أن يخرجوا إلى الحل أن يطوفوا بالبيت، والزيارة إنما هي للآفاقي، ولمن هو خارج حدود مكة، بخلاف المكي فإنه يتمكن من الطواف، ومن هنا شدد ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه في هذا، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله.
وعليه فإن العمرة يلزم لها الطواف، وهذا الطواف يعتبر بقصد الزيارة إلى البيت وبه تتحقق زيارة البيت.
الأمر الثالث: أن يسعى بين الصفا والمروة، وهو ركن من أركان العمرة كما سيأتي إن شاء الله.
الأمر الرابع: أن يحلق أو يقصر، فإذا حلق أو قصر فقد تحلل من عمرته.
هذه الأمور كلها لازمة، ولم يفصل رحمه الله في صفة الطواف ولا في صفة السعي، ولم يبين ذلك؛ لأنه سبق وأن بيّن صفة الطواف الكاملة في الحج، وعلى هذا اكتفى في العمرة بالإجمال فقال: يطوف، ثم يسعى، ثم يحلق أو يقصر، وقد بسط ذلك وبينه وبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطواف، وفي السعي بين الصفا والمروة، وكذلك في بيان أحكام الحلق والتقصير.(126/10)
جواز العمرة في كل وقت عدا أيام التشريق للحاج
[وتباح كل وقت وتجزئ عن الفرض] وتباح العمرة كل وقت؛ وذلك لأن الأصل الشرعي أن ما ورد مطلقاً في الشرع يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده، ولم يرد في الكتاب والسنة تقييد العمرة بزمان معين، لكن وردت النصوص بتفضيل بعض الأزمنة على بعض، فالعمرة في رمضان تعدل حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عمرة في رمضان كحجة معي)، فأفضل أوقات العمرة رمضان، قال بعض العلماء: ويلتحق برمضان عشر ذي الحجة، فإن الاعتمار بها فيه فضيلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من هذه العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء من ذلك) قالوا: فهذا نص صحيح صريح يدل دلالة واضحة على فضيلة العمل الصالح، والعمرة من الأعمال الصالحة.
وقال بعض العلماء: إن العمرة في أشهر الحج لها فضيلة، حتى لو لم يحج؛ والسبب في ذلك أن أكثر عُمَرِ النبي صلى الله عليه وسلم وقعت في أشهر الحج، وقد تكلم الإمام ابن القيم كعادته كلاماً نفيساً في الهدي النبوي، وذكر أن غالب عمره عليه الصلاة والسلام كانت في ذي القعدة وفي أشهر الحج، وأن ذلك من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فإيقاع العمرة في أشهر الحج له فضيلة أيضاً، ومن هنا قال بعض العلماء بتفضيل التمتع لوجود هذه العمرة فيه؛ لأن المتمتع يأتي بعمرة في أشهر الحج، وقد كان من هديه صلوات الله وسلامه عليه إيقاع عمره في أشهر الحج في غالب أحواله.
وكره بعض العلماء إيقاع العمرة في أيام التشريق، وهذا بالنسبة للحاج، وهو وجيه؛ والسبب في ذلك أنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا ينبغي عليه البقاء في نسك الحج حتى يتمه، فإذا أتم حجه فحينئذٍ يتفرغ لغيره من المناسك، أما أن يأتي بعمرة قبل أن يتم حجه في أيام التشريق، فهذا شدد فيه طائفة من العلماء، ونصوا على كراهيته؛ وذلك لمخالفته لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإدخاله العبادة على العبادة، وهذا الوقت مما استثناه أهل العلم رحمهم الله من الأزمنة التي تؤدي فيها العمرة، وأما سائر أوقات العام فإنه يجوز إيقاع العمرة فيها، سواء وقعت بالليل أو وقعت بالنهار، وكانوا يستحبون إيقاع العمرة للنساء في الليل؛ لمكان الستر، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها إذا أرادت أن تطوف بالبيت انتظرت إلى الليل، ثم أمرت القائمين على المسجد أن يخفضوا من أنوار المسجد وشموعه، ثم تطوف رضي الله عنها وأرضاها طلباً للستر، لذلك قال بعض العلماء: الاعتمار والطواف للنساء في الليل إذا كان أستر لهن فهو أفضل وأكمل؛ لما فيه من البعد عن فتنتهن، وكذلك افتتان غيرهن بالنظر إليهن.(126/11)
تأدية العمرة في أي وقت تجزئ عن الواجب
قوله: (وتجزئ عن الفرض).
أي: أنه لو أوقع عمرته في أي وقت من العام، فقد برئت ذمته إذا كان لم يعتمر، وتجزئ تلك العمرة عن عمرته الواجبة، وتسقط عنه فريضة العمرة.(126/12)
الأسئلة(126/13)
حكم من اعتمر ولم ينو بعمرته الفريضة
السؤال
ذكرتم حفظكم الله! في كلامكم: أن المريد للعمرة ينوي في عمرته فرضاً أو نفلاً، وقد اعتمرت كثيراً إلا أنني لا أذكر أنني نويت بعمرة الفريضة، فهل عليَّ أن أقوم بعمرة غيرها، أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمن نوى العمرة ولم يكن قد اعتمر من قبل فإنها تنقلب عمرته إلى الفريضة، هذا إذا توفرت فيه شروط الوجوب، وهكذا لو نوى عن غيره مع أنه لم يعتمر عن نفسه وتوفرت فيه شرائط الوجوب، انقلبت عمرته إلى نفسه، وهكذا لو كان عليه نذر ثم نوى النافلة فإنهم يقولون بانقلاب النافلة إلى النذر، على أحد قولي العلماء، وفيه نظر لا يخفى.
فالمقصود: أنك حينما اعتمرت أول ما اعتمرت، فحينئذٍ تكون العمرة الأولى منصرفة إلى الفرض، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة)، فأوقع الفعل من ذلك المكلف عن الفرض اللازم له في حق نفسه، وعلى هذا قالوا: إنه تنقلب عمرته إلى الفرض، ويصبح في هذه الحالة قد أدى فريضته بأول عمرة.
والله تعالى أعلم.(126/14)
أقوال العلماء في المتابعة بين العمرة والعمرة
السؤال
هل هناك وقت محدد يكون فيه المتابعة بين العمرة والعمرة، أم أنه لا تحديد لذلك؟
الجواب
ليس هناك نص يحدد ما بين العمرة إلى العمرة، وقال بعض العلماء: الفصل بينهما نبات الشعر، فإذا كان الإنسان ينبت شعره في زمان يفصل به بين عمرته الأولى والثانية فإنه يأتي بالعمرة بعد، وكان بعض العلماء يقول: أن يكون له في كل شهر عمرة إذا تيسر له ذلك، وقد جاء ذلك عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لمن كان قريباً من البيت ولا يشق عليه إن فعل ذلك، وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: أستحب له أن يعتمر في كل شهر مرة؛ لأن الشعر غالباً ينبت خلال الشهر.
وأثر عن علي رضي الله عنه قريب من هذا، واعتمر الصحابة رضوان الله عليهم، وورد عن بعضهم أنهم كانوا يعتمرون في السنة مرتين كأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكذلك عبد الله بن عمر أثر عنه أنه كان يعتمر في السنة مرتين، وهذا الأمر ليس فيه تقييد معين، لكن ضبطه بنبات الشعر له وجهه، وهذا الضابط له علته التي لا تخفى لمكان التحلل.(126/15)
مشروعية طواف الوداع لمن حج من أهل مكة ثم أراد الخروج منها
السؤال
المكي إذا أراد السفر بعد الحج مباشرة، هل يجب عليه أن يودع البيت، أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟
الجواب
قال جمع من العلماء: إن المكي إذا أراد أن يصدر وكانت له حاجة بعد الحج، فإنه لا ينفر حتى يطوف بالبيت؛ لأنه يكون في حكم الآفاقي، خاصة إذا كانت له تجارة أو كان له موضع ثانٍ، كأن تكون له تجارة بالمدينة أو تكون له مزرعة أو وظيفة في بلد غير مكة، فإنه يطوف عند صدوره بعد الحج مباشرة، فإذا صدر بعد الحج مباشرة أو بعد الحج بشهر أو شهرين أو ثلاثة، فعليه أن يطوف بالبيت لوداعه.
والله تعالى أعلم.(126/16)
جواز التحلل من الحج أو العمرة بالحلق قبل ذبح الأضحية
السؤال
إذا أخّر الإنسان الأضحية في اليوم الثالث عشر، فهل يحلق رأسه بعد رمي العقبة، أفيدونا أثابكم الله؟
الجواب
الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسن شيئاً من شعره)، فدل هذا على أنه يمتنع من مس الشعر حتى يذبح أو ينحر أضحيته، لكنه إذا أراد أن يتحلل من حجه وحلق أو قصر فإنه مستثنىً من هذا الأصل، وكذلك لو اعتمر في داخل العشر، فاعتمر في اليوم الأول من العشر أو اعتمر في اليوم الثاني أو اعتمر في اليوم الثالث فهذا متعلق بالنسك، والتحلل من النسك من واجباته الحلق أو التقصير، فأنت إذا أتيت بالعمرة في خلال العشر أو أردت أن تتحلل من حجك في العشر أو في اليوم الحادي عشر ولم تضح فإن هذا يعتبر مستثنىً ولا تعارض بين الأمرين؛ لأنك هنا تؤدي نسكاً لموضع مخصوص بعبادة مخصوصة، فيجوز لك أن تقوم حينئذٍ بالتحلل من العمرة والتحلل من الحج؛ لأنه واجب عليك وفرض، وحينئذٍ لا يعتبر منهياً إذا تحلل في اليوم العاشر من حجه أو الحادي عشر وأخر أضحيته إلى الثالث عشر.
والله تعالى أعلم.(126/17)
وجوب الفدية على من حلق بصابون فيه طيب وهو راضٍ
السؤال
المحرم لا يمس الطيب، فإذا أراد أن يحلق شعره فكثير من الحلاقين يضع على الشعر صابوناً معطراً أو نحو ذلك، فما رأيكم، أثابكم الله؟
الجواب
إذا كان الحلاق يعلم بهذا ووضعه فإن على الحلاق الفدية، وإن سكت المحلوق ورضي فإنها تكون على المحلوق، وإن أمره أن ينزعها مباشرة، يعني: ينزع الصابون فإنه حينئذٍ لا فدية عليه، ولا يجوز له إذا أراد أن يحلق شعر رأسه أن يضع الصابون المطيب، وإنما يضع صابون الزيت أو نحوه، أو يضع الماء مجرداً من الصابون ثم يحلق، أما لو وجد في مادة الحلاقة بما يبل به الشعر ويندى به جلد الرأس أي طيب كان، فإنه متلبس بالنسك حتى يحلق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إني لبدت شعري وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر)، قال الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، فلا يكون الإنسان متحللاً من النسك إلا إذا كان قد حلق وفرغ، فعلى هذا لو وقع الطيب في رأسه قبل أن يحلق أو أثناء الحلاقة أو تمهيداً للحلاقة، فما دام أنه لم يقع منه التحلل المعتبر فإنه يلزمه الفدية.
والعلماء رحمهم الله يقولون: إذا وضع المحظور من شخص على المحرم، والواضع يعلم أنه محرم فتكون الفدية والكفارة على من وضع، وأما إذا أذن المحرم فإنها تكون على المحرم؛ لأن الأصل وجوبها على المحرم، ولكنها صارت على غيره بالاعتداء، ولذلك قالوا: لو حلق إنسان لمحرم قبل التحلل دون أن يعلم المحرم، لزم الحلاق أن يفتدي فدية الحلق، وأما إذا أذن له المحرم فإنه حينئذٍ تكون الفدية على الآذن؛ لأن الإذن بالشيء فعل له، وعلى هذا فإن المحرم إذا علم بأن الصابون مطيب ومكنه من ذلك وأذن له أو سكت فعليه الفدية، وأما إذا لم يعلم إلا بعد الحلق، فحينئذٍ تكون الفدية على الحلاق ولا شيء على المحلوق.
والله تعالى أعلم.(126/18)
جواز التوكيل بالرمي لمن عجز عنه
السؤال
العاجز والشيخ الكبير هل الأفضل في حقه أن يؤجل الرمي، أو يجمع الرمي إلى اليوم الثالث عشر إلى أن يخف الزحام فيرمي بنفسه، أفيدونا أثابكم الله؟
الجواب
من كان عاجزاً ويغلب على الظن أنه يهلك بدخوله للرمي، كمن كان مريضاً بالقلب، أو كبير سن من الحطمة، أو كانت به عملية جراحية في مواضع حساسة، في ظهره أو في قدمه أو في صدره، ويغلب على ظنه أنه لو دخل في الزحام سيتضرر، أو أنه يعاق، وربما يقتل بسبب ركوب الناس بعضهم لبعض، فهذه الأعذار وشبهها توجب له أن يترخص بتوكيل غيره ليرمي عنه، ويشترط في هذا الوكيل أن يكون من الحجاج، فلو وكل حلالاً لم يصح الرمي، وإنما يوكل حاجاً، وعلى هذا يرمي الوكيل عن نفسه أولاً، ثم إذا أتم الرمي رمى عن غيره؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة)، فإذا وقع التوكيل على هذا الوجه فإنه يجزيه.
والله تعالى أعلم.(126/19)
وجوب طواف الوداع لمن طاف للإفاضة بغير نية الوداع
السؤال
إذا أخرت طواف الإفاضة ثم سعيت بعده، فهل يلزمني أن أودع البيت بعد ذلك، أم أكتفي بطواف الإفاضة، أثابكم الله؟
الجواب
إذا طفت طواف الإفاضة فلا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون قد نويت طواف الإفاضة مجرداً فيلزمك بعد السعي أن ترجع لطواف الوداع؛ لأنك لم تنو الوداع، والواجب لا يقع إبراءً للذمة إلا بنية، فيلزمك أن ترجع إذا لم تنو؛ لأنك قلت: إذا طفت للإفاضة ولم تقل: إذا طفت للإفاضة بنية الوداع.
الحالة الثانية: أن تطوف للإفاضة بنية الوداع، فإن طفت للإفاضة بنية الوداع، فبعض العلماء يرى: أن السعي بعد الطواف مغتفر، ولذلك قال من قال بوجوب طوف الوداع في العمرة: إنه إذا طاف وسعى ومضى مباشرة لا يجب عليه طواف الوداع.
والذي يظهر والله أعلم أنه يحتاط بإعادة الطواف؛ لأنه أسلم؛ ولأن النص نص على إيقاع الطواف في آخر العبادة، ولذلك لو طاف ثم رجع ورمى ثم صدر لزمه أن يرجع ثانية؛ لأن أصل مشروعية طواف الوداع أن يكون آخر العبادات، قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات) قال بعض العلماء: يصدرون من المناسك، أي: بعد أن يفرغوا من المناسك يمضون إلى ديارهم، فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت الطواف، فهذا لا إشكال في أن المراد به أن يوقع طواف الوداع آخر العبادة، والذي تطمئن إليه النفس: أن من سعى بعد طواف الإفاضة الأحوط له والأكمل أن يرجع إلى البيت ويعيد طوافه، والله عز وجل معظم له الأجر، والحج جهاد ومشقة، وهذا من مشقة الحج وجهاده، والأصل اللزوم.
والله تعالى أعلم.(126/20)
اختصاص الإطعام والهدي من الحاج بمساكين الحرم
السؤال
قال المصنف رحمه الله: (وكل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم) فلو ذبح المتمتع هديه وتركه مكانه، فهل يجزيه؟
الجواب
نعم، كل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم؛ وذلك لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، فالهدي الواجب على المكلف كما في حال قتل الصيد، فإنه يجب ذبحه بمكة وإطعامه لمساكين الحرم، وأن يكون مثلياً، أي: يقدر مثل بهيمة الأنعام، ولا يكون إلا بمكة، وإذا ذبح بمكة كان لمساكين الحرم، فحينئذٍ يلزم في الهدي أمران: الأول: أن يكون الذبح بمكة.
الثاني: أن يكون مختصاً بمساكين الحرم؛ لأن الله عز وجل فضل مكة وفضل أهلها بالأمن وكذلك الإطعام، فقال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57] فجعل الله لهذا البيت حرمة، ولأهله وسكانه مزية وفضلاً على غيرهم، ففيهم العاكف وفيهم العابد وفيهم من يرجو رحمة الله في هذا الجوار الطيب، فكأن ذلك من الإعانة له على الخير والطاعة والبر، حيث فرغ نفسه من أمور دنياه، فجعل الهدي والإطعام لمساكين الحرم طعمة خاصة.
فلو ذبحه ومكن غيره ليوصله برئت ذمته، أما أن يذبح الهدي ويتركه حتى يضيع كما يفعل بعض الناس فيقوم ويذبح ولا يبالي بذبيحته ويتركها لكي تطأها الأقدام وتعفن وترمى، فهذا لا شك أنه ليس من شرع الله عز وجل في شيء، فإن الله لا يرضى بالإسراف ولا يرضى بإضاعة المال، وقد كره لعباده القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، فهذا من إضاعة المال، فإذا كنت تعلم أنك إذا نحرت أو ذبحت هذا الهدي أنه يفتقر إلى حمل وإلى توزيع للفقراء والضعفاء، فإنك تحمله وتوزعه للضعفاء والفقراء، أو تستعين بعد الله عز وجل بمن يعينك على إبراء الذمة على هذا الوجه المعتبر.
والله تعالى أعلم.(126/21)
عدم جواز الخروج من المسجد بعد الأذان
السؤال
ما الحكم إذا ذهبت إلى مسجد قباء وصليت فيه ركعتين بعد الأذان ثم خرجت لأدرك الفرض في الحرم النبوي أيجوز ذلك، أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟
الجواب
إذا أذن المؤذن فإنه لا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان، وإنما يحتاط الإنسان للخروج قبل الأذان، أما إذا أذن المؤذن فلا يجوز الخروج، ولو كان الإنسان يلتمس ما هو أفضل كمسجد مكة أو مسجد المدينة فإنه لا يجوز له أن يخرج، قال أبو هريرة رضي الله عنه لما رأى الرجل يخرج بعد الأذان: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم).
وإنما يجوز الخروج بعد الأذان في حالة واحدة، وهي أن يكون الإنسان معذوراً بانتقاض وضوئه، فإذا خرج بعد الأذان فإنه يضع كفه على أنفه كمن أصابه الرعاف حتى يدفع عن نفسه التهمة والشبهة، وقال العلماء رحمهم الله: إن هذا مقصود من الشرع وهو حصول جماعة المسلمين؛ لأن المساجد إذا أذن فيها فإنه يدعى الناس إلى إقامة فريضة الله وأداء هذه الصلاة، فإذا كان الإنسان على هذا الوجه قد أذن عليه المؤذن وخرج، فإنه يوقع نفسه في الشبهة، وليس كل الناس يعلم عذره.
فالمسلم إذا أذن عليه المؤذن في مسجد قباء أو غيره من المساجد، وأراد أن يخرج بعد الأذان فإنه لا يجوز له هذا الخروج.
وجماهير العلماء رحمهم الله قد نصوا على ذلك؛ لصحة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج بعد الأذان.
وعلى هذا فإنه ينبغي للمسلم أن يحتاط، ولو كان الإنسان مرتبطاً بإمامة، فإنه إذا أذن عليه المؤذن لا يخرج من المسجد؛ لأن هذا يعتبر لازماً عليه وفرضاً عليه ولو ازدحم الفرضان، كونه يصلي بالناس وكونه مرتبطاً بالصلاة في هذا الموضع، فإن صلاته بالناس يقوم غيره مقامه، وأما هذا الموضع فقد تعين عليه أن يصلي مع جماعته ولا يقوم غيره مقامه، فلزمه أن يبقى لمقصود الشرع درءاً لفتنة الخروج من المسجد، وحتى لا يفتح باب التفرق عن الجماعة، وهو أصل قررته السنة في أكثر من مسألة من هذا الباب كنهيه عليه الصلاة والسلام من صلى فرضه أن يجلس في المسجد الثاني ولا يعيد الفرض إذا حضرت الفريضة مع الجماعة الثانية فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة)، وعلى هذا فإنه لا يجوز الخروج لا لمساجد أفضل ولا غيره، وإنما يجوز الخروج في حالة واحدة وهي وجود العذر لانتقاض الطهارة.
والله تعالى أعلم.(126/22)
عدم سقوط طواف الوداع عن غير أهل مكة
السؤال
على قول من يقول: إن حاضري المسجد الحرام هم من كانوا دون مسافة القصر، ولم يكونوا داخل حدود الحرم فهل يلزمهم طواف الوداع أم لا، أفيدونا أثابكم الله؟
الجواب
طواف الوداع لا يتقيد بحاضري المسجد الحرام، وإنما يسقط عن أهل مكة فقط، وهم الذين داخل حدود الحرم، وأما من كان خارج حدود الحرم فإنه يدخل في عموم قول أم المؤمنين عائشة: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات -فهؤلاء يصدرون إلى أماكنهم التي هي خارج الحرم- فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت الطواف)، وعليه فإنه يطوف بالبيت سواء كان دون مسافة القصر أو فوقها؛ لعموم الخبر في ذلك، والله تعالى أعلم.(126/23)
حكم استعمال حبوب منع الحمل خوف النفقة
السؤال
ما حكم استعمال حبوب منع الحمل إذا تضرر الزوج من كثرة الإنفاق على الأولاد ونحوه، أفيدونا بارك الله فيكم؟
الجواب
لا حول ولا قوه إلا بالله، سبحان الله! الله المستعان! إذا تضرر من كثرة الإنفاق، الله سبحانه وتعالى تكفل بأرزاق عباده: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6]، والله سبحانه وتعالى أمرك أن تأخذ بالأسباب، وأن تحسن الظن بالله عز وجل، وما يدريك أن هذا الولد قد يكون سبباً في سعادتك في الدنيا والآخرة، وقد يفتح الله لك به أبواب الرزق، فإن حليمة لما أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى الله عليها من الخير ما الله به عليم، فإن الإنسان قد يرى المولود ولا يعبأ به ويجعله الله له خيراً في الدنيا والآخرة، فعلى هذا لا يجوز للإنسان أن يسيء الظن بالله عز وجل في كثرة الولد، والله عز وجل أمرنا بأخذ الأسباب بأن ننفق على أولادنا وذرياتنا غاية ما نستطيع.
أما أن نتعاطى الأسباب لمنع الحمل خوفاً من كثرة الولد، وضيعتهم، وخوفاً من كثرة الإنفاق، فهذا بإجماع العلماء مقصد محرم، ويعتبر الإنسان مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب، وهي عقيدة أهل الجاهلية لما قتلوا الولد: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]، فالله عز وجل عتب عليهم أنهم قتلوا أولادهم خشية الإملاق والفقر.
فينبغي للمسلم أن يحسن الظن بالله، وأجمع أهل العلم رحمهم الله: على أنه لا يجوز له أن يعزل عن زوجته إذا جامعها خشية من كثرة الولد من جهة النفقة، فإن فعل ذلك فإنه آثم شرعاً، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب.
أما أن يقول: إن كثرة الولد ترهق الأم، فهذا فيه الخلاف المشهور، والصحيح: أنه لا يجوز تعاطي حبوب منع الحمل بسبب كثرة الولد خوفاً من الإنفاق عليهم، ولا كثرة الولد بسبب تعب رعايتهم؛ لأن الله عز وجل جعل الولد كرهاً على أمه؛ لكي يرفع من درجاتها، ويكفر من خطيئاتها، ويعظم لها الأجر، وسبحان الله العظيم! كانت المرأة وهي ترعى غنمها في البرية حاملة لولدها في بطنها لا تأخذ حبوب منع للحمل، وإنما تحمل السنة تلو السنة وهي في عافية ومعونة وتيسير من الله، لا تشتكي، وقد تأتي بالعشرة من الأولاد، وقد تأتي بالعشرين ويبارك الله فيها، ومع ذلك لا تجد إلا الخير؛ لأن عقيدتها بالله حسنة، ولكن ما أن تسيء المرأة ظنها بالله إلا أساءها الله بسوء ظنها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فحين تغيّر الناس عظم البلاء واشتد البأس؛ وذلك بسبب سوء الظن بالله جل جلاله.
كان الناس إلى عهد قريب يحبون كثرة الولد ويفرحون بذلك، وهم في أشد ما يكونون من الفقر، وكان الرجل يصبح فيطعم الطعام ويمسي ولا يجد طعاماً، وكان يمسي ويطعم فيصبح على غير طعام، والله تكفل بالأرزاق وعاش الناس في شدة الفقر، وإذا سألت عن القرابة وعن الأهل فتجد الرجل منهم عنده ومن الذرية من الأولاد والبنات الكثير، وما ضاقت الأرض بأهلها ولا ساءت ظنونهم بربهم جل جلاله، ولكن ما إن تغيّرت القلوب، وضعف الاعتقاد بالله جل جلاله، إلا أخذ الله الناس بنياتهم وحاسبهم بمقاصدهم، فإن هذه المقاصد شك في عظمة الله جل جلاله، وشك في قدرته سبحانه وتعالى، ولا يجوز للمسلم أن يسيء ظنه بالله، فالله عند حسن ظن عبده به.
يا هذا! إن الله هو الذي أطعمك، وهو الذي كساك، وهو الذي رزقك، ولئن كنت تعلم أنك بهذا الفعل ترحم ولدك، فالله أرحم بك من رحمتك لنفسك، وبولدك من رحمتك به، فالله أرحم الراحمين.
فلا يجوز للمسلم أن يتعاطى مثل هذه الأمور؛ لأنها من سوء الظن بالله، وهي مساس بعقيدته وإيمانه بالله، فلا خير له لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بسلامة إيمانه وصلاح معتقده، فهذه أمور عظيمة والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] فهو خير من رزق، وخير من أعطى، وخير من كسا، وخير من أطعم وهو يُطعِم ولا يُطعَم، وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم -اللهم اهدنا- يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم -اللهم أطعمنا- يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم -اللهم اكسنا-) نسأل الله من واسع فضله وواسع رحمته، والله تعالى بعزته وجلاله أصدق قيلاً وأصدق حديثاً، وما وعد سبحانه وأخلف، فقال لك وهو أصدق القائلين: (كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم)، فإذا كان الله جل جلاله يقول ذلك وهو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، ويعد سبحانه ولا يخلف، وهو أوفى من وفى بعهده سبحانه وتعالى يقول: (استطعموني أطعمكم) فمن أي شيء تخاف؟!! ومن أنت أيها الضعيف؟! فلو صُبَّت في حجرك الألوف والمئات والله لا تستطيع أن تطعم نفسك، فضلاً عن أن تطعم غيرك، إذا لم يطعمك الله.
ولقد حدثني من أثق به من أهل العلم والفضل قال: دخلت على ثري من الأثرياء وعظيم من العظماء، والله أعظم من كل شيء، قال: دخلت عليه عشية ذات يوم في شفاعة، وما كان معي إلا رجل من أهل الفضل، فلما جلسنا على العشاء مد طعاماً يكفي عشرين رجلاً، وليس على المائدة إلا أنا وهو وهذا الرجل، قال: فلما وُضِعَ الطعام ورأيت هذا السماط وما عليه من الأطعمة عجبت، فما من نوع من الطعام إلا وهو موجود فيه، قال: فلما أراد أن يجلس معنا إذا به يؤتى له بكرسي فجلس على ذلك الكرسي، ويؤتى له بصحن صغير يحمله على كفه، قال: فنظرت فإذا به لا يطعم إلا من هذا النوع من الطعام، فقلت: لا إله إلا الله! غني ثري والله عز وجل أعطاه من المال إلا أنه لم يستطع أن يمد يده إلى هذا الطعام المختلف الأنواع والمختلف الأشكال؛ لأن الله لا يريد أن يطعمه.
الله سبحانه وتعالى هو الذي يطعم، فلماذا يخاف الإنسان على أهله وولده؟!! توكل على الله، وأحسن الظن بالله، وفوض الأمور إلى الله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]، فالله جل جلاله بصير بك وبصير بأهلك وولدك.
فلا يجوز للرجل أن يعين امرأته على قطع الذرية أو منع الذرية أو تأخر الذرية؛ خوفاً من كثرة الإنفاق، أو يقول: إن راتبه لا يكفي، أو أن نفقته ستكون كبيرة، كل ذلك لا يجوز للمسلم، أحسن الظن بالله وتوكل على الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، والله عز وجل عند حسن ظن عبده به.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يملأ قلوبنا من حبه، وحسن الظن به، وصدق اللجوء إليه.
اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً ويقيناً صادقاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(126/24)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الحج والعمرة [5]
إن مما يحتاجه الفقهاء والعلماء وطلاب العلم خاصة والمسلمون عامة معرفة ما هو لازم وما ليس بلازم في العبادات، ولا يتأتى ذلك إلا بمعرفة الأركان والواجبات والسنن والمستحبات لكل عبادة من العبادات، وبما أن الحج ركن من أركان الإسلام فإن له أركاناً وواجبات وسنناً ومستحبات لا يسوغ الجهل بها بحال، فيلزم المسلم لأداء هذه الفريضة أن يحيط بما يتعلق بها من أحكام حتى يؤديها بصورة مقبولة عند الله عز وجل.(127/1)
أركان الحج: بيانها وأهمية معرفتها والأحكام المتعلقة بها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وأركان الحج] قوله: (وأركان الحج)، الأركان: جمع ركن، وقد تقدم معنا غير مرة تعريفه وبيان ضابطه، ومناسبة ذكره رحمه الله للأركان هنا: أنه فرغ من بيان صفة الحج وصفة العمرة، فورد
السؤال
ما هو اللازم وما هو الواجب من هذه الأفعال والأقوال؟ وهل المكلف مطالب بجميع هذه الأقوال والأفعال وملزم بها، أم أن جميعها مستحبة ومسنونة، أم أنها واجبة عليه، أم أن بعضها واجب وبعضها مستحب ومندوب؟ فشرع رحمه الله في بيان الأركان والواجبات والسنن والمستحبات، وطلاب العلم والفقهاء والعلماء يحتاجون في العبادات إلى معرفة ما هو لازم وما ليس بلازم؛ والسبب في ذلك واضح وهو أنك إذا عرفت ما هو واجب في العبادة وما ليس بواجب فإنه حينئذٍ يمكنك أن تعرف ما الذي تبطل به العبادة إذا تركه، وما الذي يأثم صاحبه ولا تبطل به عبادته إن تركه، ثم هذا الذي لا تبطل به العبادة إن تركه ويأثم ما الذي يجب فيه الضمان، وما الذي لا ضمان فيه، كذلك أيضاً ما هو الذي لا شيء فيه على الإنسان إذا تركه، ولو كان الترك اختياراً، فهذه أمور يفصلها العلماء: الأركان، والواجبات، والمستحبات، حتى تتيسر الفتوى ويتيسر توجيه الناس، فلو أتاك سائل وقال: تركت الوقوف بعرفة، فإنه ليس كقوله: تركت الرمل بالبيت، وقوله: تركت السعي بين الصفا والمروة، ليس كقوله: تركت التلبية، وقوله: تركت الإحرام من الميقات، ليس كقوله: تركت المبيت بمنى.
فالمقصود أن هذه الأمور منها ما يكون تركه إخلالاً بالنسك، ومنها ما يكون تركه إثماً، ولكن يمكن جبر هذا الترك ولا يخل بالنسك، ومنها ما يكون تركه لا يوجب الإخلال ولا يوجب الإثم، فإذاً لابد من التفصيل.
وليست هذه الأحكام كما قد يظن البعض أن الفقهاء جاءوا بها من محض آرائهم، حاشا وكلا، فأئمة السلف وأهل العلم رحمهم الله حينما يجعلون الأركان والواجبات فهم إنما فرقوا بتفريق الشرع، والله تعالى قد جعل لكل شيء قدراً، وجاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات: أن ترك البعض مما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم يبطل العبادة، وترك البعض الآخر مما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم لا يبطل العبادة، وإنما يكون فيها الجبر والتلافي.
وعلى هذا علمنا أن هناك من الأمور ما يمكن تلافيها ومنها ما لا يمكن تلافيها، فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس ركعتين في رباعية الظهر أو العصر، فلما سلم من ركعتين وأخبر أن الصلاة ناقصة رجع عليه الصلاة والسلام وكمل النقص وسجد.
وصلى بأصحابه فقام عن التشهد الأول، فسبح له فأشار إليهم أن قوموا، ثم سجد ولم يقض هذا الذي تركه من فعل الصلاة، ففهم من هذا أن من الأمور ما هو لازم محتم لابد من الإتيان به، ولا تبرأ الذمة إلا بفعله، ومن الأمور ما ليس بلازم، ثم هناك أمور لازمة يمكن جبرها كما في الواجبات، تجبر في الصلاة بسجود السهو، وتجبر في الحج بالدماء إذا تركها الإنسان، ثم هذه الواجبات التي تترك وتجبر قد يتركها الإنسان ويغتفر له الترك لمكان العذر، وقد يتركها معذوراً ولا يغتفر له ذلك الترك، وهذا من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، كما هو مقرر في مباحث الأصول.
فلابد حينئذٍ من الاشتغال والعناية بمسألة الأركان والواجبات والمستحبات، حتى تعلم الهدي والسنة في هذه الأفعال والأقوال، وحتى تعلم ما هو الذي يلزمك وما ليس بلازم عليك.
فقوله: (وأركان الحج) بدأ بالأكبر -كما ذكرنا- لأهميته.(127/2)
الركن الأول: الإحرام حكمه وأهميته
قال المصنف: [الإحرام] الركن الأول: وهو: نية الدخول في النسك، فلا يمكن أن نصف إنساناً بكونه حاجاً إلا إذا نوى، فلو لم ينو الحج فليس هناك حج، كما أنه لو لم يقف بعرفة فليس هناك حج، فالإحرام على أصح قولي العلماء يعتبر ركناً من أركان الحج، فالحج لا يتحقق إلا إذا نوى الدخول في النسك، وعلى هذا نص العلماء رحمهم الله بأصح القولين: على أن نية الدخول في النسك في الحج تعتبر ركناً من أركان الحج، هذا هو الركن الأول، وقد بيّنا دليل النية حينما تكلمنا على الإحرام، وبيّنا ما ورد في نصوص الكتاب والسنة بالإلزام في العبادات بالنية، ومن أشهر ذلك قوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] فأمرنا سبحانه بإخلاص العبادة، والإخلاص لا يتحقق إلا بالقصد وصدق التوجه، والقصد وصدق التوجه يفتقر إلى نية، فأصبحت النية لازمة، وقد أمر الله بها وألزم العباد بها، كذلك أيضاً قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) والتقدير في قول جمهور العلماء: إنما صحة الأعمال واعتبارها بالنيات، فدل على أن الحج لا يصح ولا يعتبر إلا بنية.(127/3)
الركن الثاني: الوقوف بعرفة حكمه وأهميته
قال المصنف: [والوقوف] الركن الثاني: الوقوف بعرفة، الوقوف المراد به أن يمكث الإنسان بجسمه في عرفة، وليس المراد به صورة الوقوف، فلو كان الإنسان مشلولاً، أو كان صبياً محمولاً، وأدخل إلى حدود عرفة، ولو لحظة من ليل أو نهار، في يومه المعتبر وليلته المعتبرة، فإنه يحكم بكونه قد وقف بعرفة، أما دليل ركنية الوقوف بعرفة فقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)، وقوله في الحديث الصحيح من حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه) فجعل اعتبار الحج والاعتداد به موقوفاً على الوقوف بعرفة، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم أنهم أفتوا وقضوا: بأن من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج، قضى في ذلك أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين: عمر بن الخطاب، فقد جاء هبار بن الأسود رحمه الله إلى عمر بعد يوم عرفة وقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أظن اليوم -أي: يوم العيد الذي هو يوم النحر- يوم عرفة فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ابق كما أنت، ثم انطلق إلى البيت وطف به واسع وتحلل به بعمرة، ثم إذا كان من العام القادم فاقض حجك وأهد للبيت.
فأمره أن يتحلل بالعمرة ولم يأمره أن يتم مناسك الحج، وهذا هو قضاؤه رضي الله عنه.
وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) قالوا: إنه الركن الأعظم الذي يفوت الحج بفواته، فمن لم يدرك الوقوف بعرفة فإنه لم يدرك حجه؛ وذلك لصراحة النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.(127/4)
الركن الثالث: طواف الإفاضة حكمه وأهميته
قال المصنف: [وطواف الزيارة] قوله: (وطواف الزيارة) وهو طواف الإفاضة، وطواف الصدر، وطواف الركن، وكلها أسماء لهذا النوع من الطواف، والدليل على كونه فريضة قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فقال سبحانه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] فأمر به وألزم، قال بعض العلماء رحمهم الله: أجمع المسلمون على أن المراد بالطواف في قوله سبحانه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]: طواف الإفاضة، وأن المكلف لا تبرأ ذمته إذا حج إلا بطواف الإفاضة، فلو رجع إلى بلده قبل أن يطوف طواف الإفاضة، فإنه يلزمه أن يرجع لكي يطوفه، ولو بعد عشرين عاماً، فهو ركن لابد من الإتيان به، ولا تبرأ ذمته إلا بفعله، والإجماع قائم على أن هذا الطواف يعتبر ركناً من أركان الحج، وأنه لابد للمكلف من أن يأتي به، وقد سبق وأن بيّنا وقت الفضيلة ووقت الإجزاء، ومتى يلزم المكلف إذا أخر هذا الطواف أن يأتي به مع الدم.(127/5)
الركن الرابع: السعي حكمه وأهميته
قال المصنف: [والسعي] والسعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إن الله لا يتم حج من لم يسع بين الصفا والمروة.
وقد ذهب جماهير السلف رحمهم الله إلى القول بلزوم السعي، وأنه لا يصح الحج بدون سعي بين الصفا والمروة؛ لأنه ركن من أركان الحج إلى بيت الله الحرام، وقال بعض العلماء: السعي يعتبر من الواجبات، وقوله هذا مرجوح، والصحيح: أن السعي يعتبر ركناً من أركان الحج إلى بيت الله الحرام.(127/6)
واجبات الحج وما يتعلق بها من أحكام
قال المصنف: [وواجباته: الإحرام من الميقات المعتبر له] شرع المصنف في بيان واجبات الحج، وهي التي لا يفوت الحج بفواتها، بخلاف الأركان على التفصيل الذي تقدم بيانه.
قوله: (وواجباته) الضمير عائد إلى الحج، وقد تقدم بيان معنى الواجب في اللغة وفي الاصطلاح.(127/7)
الواجب الأول: الإحرام للحج والعمرة من الميقات
قوله: (الإحرام من الميقات) أي: أنه يجب على من أراد الحج والعمرة أن يحرم من ميقاته، فإن كان آفاقياً نظر إلى ميقات موضعه الذي أنشأ فيه نية الحج، فإن كان في المدينة مثلاً فإنه يجب عليه الإحرام من ذي الحليفة، وكذلك إذا جاء من جهة المغرب فإنه يحرم من الجحفة، وإذا جاء من جهة المشرق فإنه يجب عليه أن يحرم من ميقات المشرق وهكذا، أي: على التفصيل الذي تقدم بيانه في باب المواقيت، وعلى هذا فإنه يعتبر الإحرام من الميقات من واجبات الحج، وهذا الواجب إذا لم يقم الحاج به على وجهه وأخلّ به، فإنه يلزمه الدم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قوله: (المعتبر له) فلو كان في موضع غير موضعه الأصلي، وطرأ له الإحرام بالحج من ذلك الموضع، أخذ حكم أهله، وهذا معنى قوله: (المعتبر له) أي: على حسب التفصيل الذي تقدم فكلٌ يلتزم بميقاته، وإذا لم يلتزم به فقد أخلّ بواجب من واجبات الحج.
أما الدليل على هذا الواجب الأول فقوله عليه الصلاة والسلام في المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن) فقوله: (هن لهن) أي: يلزمهم الإحرام من هذه المواقيت، فدل على وجوبها ولزوم التقيد بها من أهلها، وأنه يجب على من مر بها من غير أهلها أن يحرم منها، هذا هو الدليل الذي اعتبره جماهير أهل العلم رحمهم الله، وقد نص العلماء رحمهم الله في المذاهب الأربعة: على أن الإحرام من الميقات يعتبر واجباً من واجبات الحج.(127/8)
الواجب الثاني: الوقوف بعرفة حتى يتحقق مغيب الشمس
قال المصنف: [والوقوف بعرفة إلى الغروب] أي: ومما يجب على الحاج إذا وقف في النهار أن يمسك جزءاً من الليل، والمراد بذلك أن يبقى إلى أن تغيب الشمس ويمسك جزءاً من الليل، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى أمسك جزءاً من الليل، وذلك بتحقق مغيب الشمس، وقد وقع فعله عليه الصلاة والسلام بياناً لواجب.
والقاعدة: أن بيان الواجب واجب، وعلى هذا لما بقي عليه الصلاة والسلام وتكلف البقاء إلى المغيب، دل على أنه إذا وقف بالنهار لابد وأن ينتظر إلى مغيب الشمس، وأنه إذا دفع قبل مغيب الشمس وجب عليه أن يرجع، فإذا رجع قبل طلوع الفجر من صبيحة يوم النحر سقط عنه الدم؛ لأنه رجع رجوعاً يجزئه عما أوجب الله عليه، وأما إذا لم يرجع حتى طلع الفجر فإنه يلزمه الدم؛ لأنه أخلّ بواجب من واجبات الحج.(127/9)
الواجب الثالث: المبيت بمنى ومزدلفة ودليل وجوبهما
قال المصنف: [والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى ومزدلفة إلى بعد نصف الليل] المبيت ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: المبيت بمزدلفة، والأصل في وجوبه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بالمزدلفة ورخص للضعفة من أهله ومن الناس، والقاعدة: أن الرخص لا تكون إلا في الواجبات؛ لأنها استباحة لمحظور، وعلى هذا قالوا: لما أذن صلوات الله وسلامه عليه للضعفة من أهله، وأذن للضعفة من الناس، دل على أن الأصل أن المسلم ملزم بالمبيت بمزدلفة، والجمهور على وجوبه، وعلى هذا فإنه إذا أخلّ بهذا المبيت ولم يبت بمزدلفة، فإنه يجب عليه الدم كسائر الواجبات.
القسم الثاني: المبيت بمنى، والمبيت بمنى يكون ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر لمن لم يتعجل، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رخص للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن يبيت بمكة ليالي التشريق من أجل السقاية)، قال العلماء: لما رخص عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب، دل على أن الأصل أنه يجب على من حج البيت أن يبيت بمنى، والمبيت بمنى واجب وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله، والقاعدة: أن الرخصة لا تكون إلا على وجه يستباح به المحظور، فدل على أن الأصل وجوب المبيت، وأن مبيته بغير منى محظور، لكنه جاز للعباس بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حكم العباس بن عبد المطلب كل من تعلقت به مصالح الحج ومصالح الحجاج، فمن يكون قائماً على شئون الحجاج وتتعلق به مصالح ومنافع للحجاج عامة، كمصالح علاجهم أو مصالح سقايتهم أو نحو ذلك من المصالح العامة، فإنه يجوز له أن يترخص بالمبيت خارج منى، إن كانت هذه المصلحة التي يقوم بها لعموم الحجاج تستلزم منه ذلك، ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاة، والرعاة كما لا يخفى تتعلق بهم مصلحة عامة للحجاج؛ وذلك أنهم يحتاجون إلى البهائم؛ وذلك لأداء الواجب والفرض على الحاج من الإهداء للبيت، خاصة في نسك التمتع والقران، فقال العلماء رحمهم الله: كل من تعلقت به مصلحة عامة للحجاج، فإنه يرخص له بالمبيت خارج منى، هذا إذا توقفت المصلحة والقيام بها على ذلك الترخيص.
قوله: (إلى بعد نصف الليل) قد تقدم بيانه والكلام عليه، وذكرنا أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه عليه الصلاة والسلام أنه بات بالمزدلفة، وإنما رخص للناس الذين هم بحاجة للرخصة -من النساء وكبار السن والأطفال- أن يدفعوا بعد منتصف الليل لوجود ضرورة وحاجة، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: (كنت فيمن قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعفة أهله) فظاهر السنة أنه يبيت بمزدلفة، ولو قلنا للناس: إن المبيت يتأقت إلى منتصف الليل، فمعنى ذلك: أنه سيخرج القوي الجلد لكي يؤذي ضعفة المسلمين، ولذلك قلنا: إن السنة على أنه يبقى، ولا يترخص إلا من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفع، أما قياس غير المضطر وغير المحتاج وغير الضعيف على الضعفة والمحتاجين، فإن هذا يؤدي إلى مضايقة المحتاجين والضعفة، ويؤدي إلى مخالفة مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن يمضي الحطمة والضعفة ويسبقوا الناس، ويتمكنوا من الرمي في وقته، قبل أن يدهمهم الناس، وعلى هذا فلو قيل: إنما يجب أن يبقى إلى منتصف الليل وللقوي الجلد أن يمضي، فإن هذا يؤدي إلى مزاحمتهم وأذيتهم للضعفة الذين قصد الشرع التخفيف عليهم، واستنباط كل معنىً يؤدي أو يعود إلى إلغاء المقصود الشرعي من أصل الرخصة يعتبر لاغياً؛ لأننا إذا قلنا: إن إذنه عليه الصلاة والسلام للضعفة أن يدفعوا بعد منتصف الليل، يدل على أن الواجب أن يمسك ولو جزءاً بعد منتصف الليل ثم يدفع، فإن هذا يؤدي إلى إلغاء معنى الرخصة؛ لأن معنى الرخصة التخفيف على الضعفة، ولو أننا ألزمنا الناس بالأصل والسنة في وجوب المبيت عليهم بمزدلفة، فإن هذا يمكن الضعفة من أن يتمتعوا برخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرخصة التي رخص الله لهم.(127/10)
الواجب الرابع: رمي الجمار
قال المصنف: [والرمي] قوله: (والرمي) أي: رمي الجمار، وقد تقدم بيان الرمي وما يرمى به وضابط الرمي، والمراد بهذا أن الرمي يعتبر واجباً من واجبات الحج؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى، وقد وقع رميه بياناً لواجب فأصبح واجباً.
وقال جمهور العلماء: إن الرمي يعتبر واجباً من واجبات الحج، والرمي رمي جمرة العقبة يوم النحر، ورمي الثلاث الجمار يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر لمن لم يتعجل.(127/11)
الواجب الخامس: الحلق أو التقصير
قال المصنف: [والحلاق] قوله: (والحلاق) أي: أن الحلق أو التقصير يعتبر نسكاً من نسك الحج وواجباً من واجباته، ولذلك فرضوا هذا حتى في مسألة المحصر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.(127/12)
الواجب السادس: طواف الوداع
قال المصنف: [والوداع] قوله: (والوداع) أي: أنه يجب على من حج أن يطوف طواف الوداع، والدليل على وجوب طواف الوداع قوله عليه الصلاة والسلام -فيما ثبت في الصحيح عنه- (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت الطواف)، وجه الدلالة من هذا الحديث: أن قوله: (اجعلوا) أمر، والقاعدة في الأصول: أن الأمر للوجوب حتى يدل الدليل على خلافه، وليس ثمّ دليل يصرف هذا الأمر عن ظاهره الدال على الوجوب، ولذلك قال جمهور العلماء: إن طواف الوداع يعتبر واجباً من واجبات الحج، إلا أن هذا الواجب يسقط عن المرأة الحائض والنفساء، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إلا أنه خفف عن المرأة الحائض والنفساء)، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم من صفية ما يريد الرجل من امرأته، قالوا: يا رسول الله! إنها حائض فقال: عقرى حلقى أحابستنا هي، ثم قال: ألم تكن طافت يوم النحر؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذن -وفي رواية: فانفري-) فأسقط عنها طواف الوداع؛ وذلك لوجود العذر الموجب للإسقاط، وهو كونها قد أتاها الحيض، ومن هنا قال العلماء: يسقط الوجوب عن المرأة الحائض والمرأة النفساء، ويجب على سائر من حج أن لا ينفر ولا يصدر إلا بعد أن يطوف طواف الوداع، وقد بينا ضابط الوداع وما يتحقق أو تتحقق به موادعة البيت.(127/13)
سنن الحج وضرورة العمل بها إلا من عذر
قال المصنف: [والباقي سنن] قوله: (والباقي سنن) أي: أن ما وصفته لك من صفة الحج غير الأركان والواجبات التي ذكرتها لك يعتبر سنة، والسنة: ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فهي من هدي رسول الله صلى عليه وسلم، جعل الله الخير والهدى والرحمة لمن التزم بها، وعمل بها واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتدى به فيها، وأما إذا تركها المسلم فإنه لا ملامة عليه، ولا حرج عليه فهي على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب، والإنسان في السنة مخير بين أن يفعل وبين أن يترك، وهذه السنة من تركها لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يترك هذه السنة وهو يحب فعلها، ولكن طرأ عليه العذر وطرأ عليه ما لا يستطيع معه القيام بهذه السنة، فلو فرضنا مثلاً أن الإنسان سعى بين الصفا والمروة -وكان من هديه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه أن يدعو على الصفا والمروة- فلما رأى الناس وشدة الزحام ذهب بسبب شدة الزحام ولم يستطع أن يقف، وهو في نيته ونفسه أنه لو تمكن لوقف، أو كان وقوفه يخشى معه الفتنة، ويخشى معه أذية الضعفة ونحو ذلك، وتحقق من وجود هذا الضرر، فانصرف عن الدعاء وفي نفسه أنه يحبه، وأنه لولا هذا العذر لوقف ودعا، فإن الله يبلغه أجر هذه السنة، ويبلغه ثواب من عمل بها لمكان العذر.
الحالة الثانية: أن يتركها وهو قادر على الفعل، فإنه حينئذٍ لا يخلو من ضربين: الضرب الأول: أن يتركها ترخصاً برخصة الشرع، ورأى أنها سنة وتركها وهو يعتقد فضلها ويعتقد ما لها من مزية فلا إشكال، فهذا قد فاته الأفضل ولكن لا يلام ولا يذم.
الضرب الثاني: أن يتركها -والعياذ بالله- زهداً فيها، فهذا هو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فالزهد في السنن لا خير فيه، ولذلك ينبغي على طالب العلم أن لا يجعل من علمه بالسنة طريقاً للزهد فيها، فإنك ترى بعض الناس -أصلحهم الله- إذا طُلِبَ منهم أن يفعلوا أمراً من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلوا عليه، قالوا: هذا سنة، ولا يقصدون من ذلك أنه لا يجب فعله، وإنما هو على سبيل التهكم أو على سبيل الرغبة عنها، نسأل الله السلامة والعافية! فمثل هذا نبه العلماء رحمهم الله على أنه لا خير فيه للإنسان.
وقال بعض أهل العلم في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63]: إنه عموم هديه، وإن المراد هنا بالمخالفة إما في الواجبات وإما على سبيل الرغبة عما ليس بواجب، وكل ذلك لا خير فيه؛ لأن الله توعد صاحبه بالفتنة نسأل الله السلامة والعافية! وكان بعض السلف يكرهون ترك السنن، خاصة لطلاب العلم ولمن هم قدوة وأهل فضل، فإن طلاب العلم وأهل العلم إنما فضلهم الله بالعلم وشرفهم به إذا عملوا به، ومن عمل بالعلم رفع الله قدره بهذا العلم، وطيبه وطيب العلم منه إذا عمل به وحرص عليه، فإن من عمل بعلمه ورَّثه الله علماً لم يكن يعلمه، قال بعض السلف: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم.
فمن عمل بالسنن وطبقها فإن الله يورثه بركة هذه السنن، وذلك بالانتفاع بعلمه، أما إذا كان طالب العلم تستوي عنده فعل السنن وتركها فهذا لا يخلو من نظر، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن رجل يترك الوتر؟ قال: لا خير فيه.
وذلك على سبيل عدم الحرص على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعض العلماء: إذا ترك طالب العلم السنن الراتبة لا أقبل شهادته.
أي: أن هذا يدل على أنه ليس على الحال الأمثل؛ لأن لطلاب العلم مزية على العوام وعلى سائر الناس، فالناس تقتدي بهم وتهتدي بهديهم، فعلى الإنسان أن يحرص خاصة إذا كان من طلاب العلم على السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله العظيم أن يجعلنا من أهلها وأن يحشرنا في زمرتهم.(127/14)
أركان العمرة وما يتعلق بها من أحكام
قال المصنف: [وأركان العمرة: إحرام](127/15)
الركن الأول: الإحرام للعمرة بنية الدخول في النسك
قوله: (وأركان العمرة: إحرام) تقدم هذا في أركان الحج، وأن مذهب طائفة من أهل العلم: أن الإحرام ونية الدخول في النسك يعتبر ركناً من أركان الحج والعمرة، فلا يحكم بدخول الإنسان في النسك إلا بها، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) وهي ركن من أركان الحج وركن من أركان العمرة، وقد تقدم بيان ضابط الإحرام، وبيان ما ينبغي للإنسان أن يلتزمه إذا نوى الدخول في نسك الحج ونسك العمرة.(127/16)
الركن الثاني: الطواف
قال المصنف: [وطواف] قوله: (وطواف)، فالطواف في العمرة يعتبر ركناً من أركانها، فلا يحكم للإنسان بكونه معتمراً إلا إذا طاف بالبيت، فلو جاء وأحرم من الميقات وسعى بين الصفا والمروة ورجع إلى بلده فإن عمرته لم تكتمل، ويلزمه أن يرجع ويطوف بالبيت، ثم يعيد السعي؛ لأن السعي لا يصح إلا إذا تقدمه طواف كما تقدم تفصيله في موضعه.(127/17)
الركن الثالث: السعي بين الصفا والمروة
قال: [وسعي] أي: السعي بين الصفا والمروة، فإن السعي يعتبر ركناً من أركان العمرة، وهذا على مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.(127/18)
واجبات العمرة وما يتعلق بها من أحكام
قال المصنف: [وواجباتها: الحلاق](127/19)
الواجب الأول: الحلق أو التقصير للمعتمر
أي: أن من واجبات العمرة الحلاق، والمراد بالحلاق هنا: أن يحلق أو يقصر، وسواء أخذ بالرخصة وهي التقصير، أو أخذ بالأفضل وهو الحلق، فالمراد بذلك أن يتحلل من عمرته.(127/20)
الواجب الثاني: الإحرام من الميقات
قال المصنف: [والإحرام من ميقاتها، فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه].
أي: أن من واجبات العمرة: الإحرام من الميقات، فإن الإحرام من الميقات لازم في العمرة كما هو لازم في الحج كما لا يخفى.
فمن ترك نية الدخول في العمرة وهو الذي عبر عنه بالإحرام لم ينعقد نسكه، فلو أن سائلاً سألك فقال: مررت بالميقات ولكنني لم أنو، ومضيت إلى مكة وطفت وسعيت؟ تقول: لست بمعتمر، وطوافك وسعيك نافلة ولا يعتد به، وإنما العمرة أن تنوي الدخول في النسك، وعلى هذا فإنه لا ينعقد الإحرام بدون وجود هذه النية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، وقد تقدم بيان الأدلة على اعتبار النية بالدخول في العبادة حينما تكلمنا على مسائل الإحرام.(127/21)
حكم من ترك ركناً من أركان العمرة غير الإحرام
قال المصنف: [ومن ترك ركناً غيره] أي: ومن ترك ركناً غير الإحرام لم ينعقد نسكه إلا به، فنحن نقول: إن المعتمر إذا ترك الطواف بالبيت أو ترك السعي بين الصفا والمروة فإنه ليس بمعتمر، ولو جامع أهله قبل أن يطوف الطواف المعتبر، أو قبل أن يسعى السعي المعتبر حكم بفساد عمرته، وعليه المضي في هذه العمرة الفاسدة إتماماً لها على ظاهر نص آية البقرة، ثم يلزم بقضاء عمرته الفاسدة بعد انتهائه منها كما سبق بيانه.(127/22)
حكم من ترك النية في ركن من أركان الحج والعمرة
قال المصنف: [أو نيته لم يتم نسكه إلا به] أي: أنه إذا لم ينو قبل أداء الركن، كأن يطوف بالبيت دون أن ينوي أنه عن طواف عمرته، أو لم ينو عن طواف الإفاضة فإنه لا يجزيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهذا مبني على قول طائفة من أهل العلم في أن الأركان تحتاج إلى نية، فأركان الحج ينبغي أن يستحضر الحاج النية عند الابتداء بها، ومن أهل العلم من اختار أن الحج له نية واحدة تجزي عن سائر أفعاله، ولا يرى أن النية تتجدد بتجدد الأركان أو الواجبات، والأول أقوى وأجزم للأصل، ولا شك أن المسلم إذا التزم به أنه أبرأ لذمته وأورع له في عبادته، وبناء على هذا القول فلابد إذا أراد أن يطوف طواف الإفاضة أن ينوي، فلو لم ينو عند طوافه بالإفاضة لم يجزه ذلك الطواف عن الإفاضة، ولم يقع ركناً على الوجه المعتبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل اعتبار العبادة موقوفاً على وجود النية المعتبرة، فإذا لم ينوها فإننا لا نحكم باعتبار طوافه ولا باعتبار سعيه، ونحوها من الأركان اللازمة.(127/23)
حكم من ترك واجباً من واجبات الحج والعمرة
قال المصنف: [ومن ترك واجباً فعليه دم] أي: أن من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة فعليه دم، والأصل في ذلك فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال بعض أهل العلم: الأصل في ذلك حديث كعب بن عجرة، وهذا الحديث حاصله: أن كعب بن عجرة يوم الحديبية رضي الله عنه وأرضاه لما حُمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من على وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أُرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى، أتجد شاة؟ قال: قلت: لا، ثم نزلت آية الفدية)، قالوا: فأمره بالدم أولاً، وكان هذا بمثابة الأصل، وهو أن الإخلالات أو الخروج من الواجبات أو الوقوع في المحظورات إنما يفتدى فيه بالدم، فنزلت آية الفدية استثناء من الأصل وبقي ما عداها من الواجبات اللازمة على الأصل الموجب لضمانها بالدم.
ثم إن حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه، انتزع من آية التمتع وجوب الدم على من ترك الواجب، وتوجيه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أوجب على من جاء بالعمرة في أشهر الحج -وبقي بمكة ثم أحرم بالحج من مكة- إن كان آفاقياً أن يريق دماً، وبالإجماع على أن المتمتع يلزمه الدم بشروط التمتع المعروفة، على ظاهر آية البقرة في التمتع، قالوا: فوجب على الآفاقي إذا تمتع أن يريق دم التمتع، وهذا الدم إنما وجب عليه؛ لأنه كان الفرض عليه بعد انتهائه من عمرته أن يرجع ويحرم بالحج من ميقاته، فلما ترك هذا الواجب ألزمه الشرع بالدم ضماناً له، ويدل على هذا أن أهل مكة حينما يتمتعون من مكة يتمتعون بالحج والعمرة، فيوقعون العمرة في أشهر الحج ويهلون بالحج بعدها ولا يجب عليهم الدم؛ لأنهم أحرموا بالنسكين من الموضع المعتد به، وأما الآفاقي فإنه يلزم بالدم، فدل تفريق الشرع بين الآفاقي وبين المكي في الإلزام بالدم، أن ذلك مبني على وجود السفر من الآفاقي؛ والسبب في هذا السفر إنما هو الواجب عليه من كونه يحرم من الميقات، قالوا: وعلى هذا كانت فتواه المشهورة، ويروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح: (من ترك شيئاً من نسكه فليهرق دماً).
ثم قالوا أيضاً: إن الشرع أوجب على من كان به الأذى في رأسه، فهذا كعب بن عجرة يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض معذور من الشرع، قد دلت الأدلة على أن مثله يستحق أن يخفف عنه، ومع ذلك ألزمه الشرع بالفدية، قالوا: فإذا كان هذا المعذور عند تركه لهذا المحذور وحلق رأسه، أو أخل بالمحذور الذي ينبغي أن يلتزم تركه في إحرامه، ألزمه الشرع بالفدية التي فيها الدم، فمن باب أولى من يتعمد الإخلال، إذ لا يعقل أن تقول لإنسان يترك الواجب من دون عذر: لا شيء عليك، وتقول لمن هو معذور: يجب عليك واحد من ثلاثة: أن تطعم ستة مساكين، أو تصوم ثلاثة أيام، أو تذبح شاة، مع أن الله عذره وقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة:196] قالوا: فأصول الشرع تقوي فتوى ابن عباس.
ثم إننا وجدنا جماهير السلف رحمهم الله، ومنهم الأئمة الأربعة، وأتباع الأئمة الأربعة كلهم يفتون: أن من ترك الواجب فعليه دم، ولا شك أن مخالفة هذا السواد الأعظم من الأمة مع فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وعدم وجود من خالفه من الصحابة رضوان الله عليهم أمر لا يخلو من نظر، وعلى هذا درج جماهير السلف والخلف رحمهم الله على إلزام من ترك الواجب بالدم، وعليهم انعقدت فتاوى أئمة الإسلام، فقل أن تجد من أسقط الدم عمن ترك الواجب، وهو الذي اشتهر وذاعت الفتوى به، خاصة وأن له منتزعه من دليل الكتاب وظاهر حديث كعب بن عجرة الذي ذكرنا.
فقوله: (ومن ترك واجباً فعليه دم) أي: يلزمه دم، والدم هنا نكرة، وليس المراد به كل دم، وإنما المراد الواجب عليه شاة، وهذه الشاة تذبح بمكة ولا تذبح بغيرها؛ لأنه دم واجب، كما أوجب الله في قتل الصيد الذي هو إخلال في النسك، أن يكون هدياً بالغ الكعبة، فيجب عليه أن يكون بمكة، وهذا الدم يسمونه: دم الجبران في الواجبات، والأصل في إيجابه أنه منتزع من آية التمتع، والمتمتع لا يصح منه أن يريق دمه خارج مكة، قال صلى الله عليه وسلم: (نحرت هاهنا وفجاج مكة وشعابها كلها منحر)، فدل هذا على أنه ينبغي أن يتقيد بهذا الدم بمكة، ويكون طعمة للمساكين فهو دم واجب عليه كالهدي الواجب في قتل الصيد.(127/24)
حكم من ترك سنة من مسنونات الحج والعمرة
قال المصنف: [أو سنة فلا شيء عليه] أي: من ترك السنة فلا شيء عليه؛ ولكن بشرط: أن لا يتركها رغبة عنها، فإذا تركها -والعياذ بالله- زهداً فيها وانتقاصاً لها ورغبة عنها فإنه يستغفر ويتوب إلى الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل هذه الرغبة عن السنة مذمومة فقال: (من رغب عن سنتي فليس مني) والقاعدة في الأصول: أن الذم لا يستحق إلا على ترك واجب أو فعل محرم.
فلما كانت الرغبة عن السنة محرمة قال صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي) أي: زهد فيها (فليس مني) أي: ليس على هديي الكامل).(127/25)
الأسئلة(127/26)
حكم من تجاوز الميقات
السؤال
من تجاوز الميقات ناسياً أو جاهلاً، فوصل إلى مكة في وقت ضيق لا يمكنه معه العودة إلى الميقات، فهل يسقط عنه الدم؟ وإذا كان ليس لديه قدرة مالية على ذبح الدم فماذا عليه؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: ظاهر السؤال أنه تجاوز الميقات ناسياً، وعلى هذا ظاهره أنه لم يحرم، فإذا كان قد نسي ومضى وبلغ البيت وطاف وسعى فإنه ليس بمحرم أصلاً، وحينئذٍ لا تنعقد عمرته ولا ينعقد حجه.
فإذا كان على هذا الوجه فإنه لم يحرم من الميقات؛ فالسؤال: ماذا يفعل إذا غلب على ظنه أنه لو رجع إلى الميقات يفوته الوقوف بعرفة؟ مثال: لو أن إنساناً خرج من المدينة ومرَّ بالميقات ولم يلبِّ -نسي أن يحرم- ثم وصل إلى مكة فتذكر، وكانت بينه انتهاء وبين وقت الوقوف ساعة أو ساعتين، فلو قلنا له: ارجع إلى المدينة، فاته الوقوف بعرفة.
فالحل في هذه الحالة: أن ينوي ويلبي ويعقد النية من موضعه، ثم يلزمه الدم؛ لفوات الواجب الذي ذكرناه.
وعلى هذا فإن الإحرام من الميقات الإلزام به من جهة الحكم الوضعي، ويستوي فيه الناسي والمتعمد، فإن أمكنه أن يتدارك تدارك، وإن لم يمكنه التدارك فإنه يجبره بالدم، وفوات الواجب أهون من فوات الركن، وعليه فإنه يحرم من موضعه ثم يدرك الحج وعليه دم الجبران، وإلا صام عنه على الأصل الذي ذكرناه في ضمان دم الجبران بالصيام.
وأما إذا كان جاهلاً وعلم فإنه يلزمه الرجوع ثم يحرم من الميقات أيضاً، ويعقد نيته المعتبرة من الميقات، فإن رجع على هذا الوجه ولم يحرم دون الميقات سقط عنه الدم؛ لأن من مرَّ بالميقات ثم ذكِّر أو علِّم ورجع إلى الميقات وأحرم منه سقط عنه الدم.
وهذا على قول جماهير أهل العلم رحمهم الله؛ فإن كان جاهلاً وتعلم ورجع إلى الميقات وأحرم منه سقط عنه الدم، وإن كان جاهلاً وتعلم وأحرم من دون الميقات فحكمه حكم الناسي إذا أحرم من دون الميقات سواء بسواء، إلا أنه في حال الجهل والنسيان يسقط عنه الإثم؛ لوجود العذر -على الظاهر- وإن كان في الجاهل نظر؛ لأنه في هذا العصر يتيسر سؤال العلماء والرجوع إليهم، وأهل العلم ينصون على أن من تلبس بالعبادة يجب عليه سؤال أهل العلم عن كيفية تطبيقها، فإذا قصر في السؤال لم يخل من نظر موجب للتبعية من جهة هذا التقصير.
والله تعالى أعلم.(127/27)
سبب اختيار ركنية الإحرام
السؤال
لماذا جعل المصنف رحمه الله الإحرام ركناً للحج والعمرة، مع أن الإحرام هو نية، ومن المعلوم أن النية شرط وليست بركن؟
الجواب
هذا إشكال معروف ذكره العلماء رحمهم الله، ويتناظرون فيه بين القولين المشهورين: من يرى أن النية من الواجبات، ومن يرى أنها ركن، ولكن لما توقف اعتبار العبادة عليها كانت أشبه بالركنية من هذا الوجه، خاصة وأن من يقول: إنها ليست بركن يقول: الركن ما تتوقف عليه ماهية الشيء، فالركن لا تتوقف عليه الماهية من حيث الوجوب كأركان البيع كما هو واضح ولا يخفى، فقالوا: إن النية من هذا الوجه أشبه بالواجبات والشروط منها بالأركان، والقول بكونها ركناً مبني على أن فواتها فوات للعبادة، والعبادة لا تقع أصلاً بدونها، وكانت شبهيتها بالركن من هذا الوجه، وكأنهم نزلوا الصورة الحكمية في الشرع منزلة الصورة الوجودية في النظر، وقولهم قوي من هذا الوجه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف، وإلا فهناك من أهل العلم من يرى أنها من الواجبات أو الشروط، لكن القول بالركنية له حظه من النظر الذي ذكرناه، وعليه فإنها تكون من الأركان لوجود الشبهية من جهة حكم الشرع بعدم الاعتداد بدونها، فنزل منزلة الفقد للاعتبار منزلة الفقد للوجود؛ فكانت أشبه بالركن، وتوقف الماهية عليها من هذا الوجه.
والله تعالى أعلم.(127/28)
وصية لطالب العلم
السؤال
تألمنا كثيراً لغيابك عنا، فنرجو أن لا تقطع تواصلك بنا.
وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الله يعلم إنا نحبكم كما تحبونا، ويعلم الله كم يحصل في النفس من شوق وحب للقائكم، ووالله إني لآتي في مشقة السفر وعنائه والله يعلم أنه يزول جميع ما بي حين أراكم، وأسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى كما جمعنا في هذا البيت الطيب الطاهر المبارك أن يجمعنا في دار كرامته، وأن يجعل كل لقاء من هذه اللقاءات اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا ولا منا ولا معنا أبداً شقياً ولا محروماً، ووالله إنه ليصيب الإنسان الهم والغم، ويجد من لأواء الفتن والمحن ما الله به عليم، ولم يبق سلوة إلا بذكر الله، والجلوس مع الأحبة والإخوان في الله، وأسأل الله العظيم أن يديم هذا التواصل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.
وخير ما أوصي به: إرادة وجه الله العظيم، فإن الدنيا فانية، وكم من أحبة اجتمعوا وآلَ اجتماعهم إلى افتراق، وكم من أحبة تواصلوا وآلت صلتهم إلى فرقة وشتات؛ لأنها لم تقم على ذكر الله، والمحبة فيه، والتواصل في ذاته، ولقد وجبت محبة الله للمتزاورين والمتحابين والمتجالسين فيه، وتأذن الله لمن جلس مجلس ذكر لله وفي الله أن تغشاه السكينة، وأن تتنزل على هذه المجالس الرحمة، وأن يذكرها الله فيمن عنده.
ومما ينبغي أن نتواصى به: شكر الله على نعمه، فإن الله عز وجل اختار الدنيا لمن أحب وكره، ومن أراد الدنيا صرفه الله إليها وفتح له من أبوابها وخيراتها وفتنها حتى لا يبالي به في أي أوديتها هلك -نسأل الله السلامة والعافية- ولكن الله لا يعطي الدين إلا لمن أحب، ومن أعظم الدين وأجله وأزكاه وأنفعه: العلم النافع، والجلوس في حلق الذكر، وغشيان حلق العلماء، وحبهم والتواصل معهم، وتكثير سواد مجالس الذكر لله وفي الله لا رياء ولا سمعة، ولكن لمرضاة الله عز وجل.
ومما يوصى به طلاب العلم: شكر الله على نعمه وحمده سبحانه، فكل مجلس يمر عليك احمد الله على فضله، وقل: الحمد لله أنه لم يمر عليك هذا المجلس وأنت في صخب الدنيا ولغطها ولهوها وفتنها، الحمد لله أن اصطفاك واجتباك، وما يدريك فلعلك تقوم من هذا المجلس وقد بدلت سيئاتك حسنات، وما يدريك أنك بإخلاصك وإرادتك لوجه الله أن الله يقبل منك هذه النية الخالصة، فيغفر لك ما تقدم من ذنبك، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله غفر لعبد خطاء الكثير من الذنوب؛ لما مر على مجلس ذكر للصالحين فجلس معهم)، فنسأل الله العظيم أن يعيننا على هذا الخير، ويوفقنا لشكر نعمه، فإن من شكر الله زاده، وإذا زاد الله العبد في نعمته بارك له فيها.
ومما يوصى به الأحبة في مثل هذه المجالس: إتباع العلم العمل، والحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تتعلم شيئاً إلا وعملت به ودللت الناس عليه.
ومما نتواصى به حب الخير للمسلمين لنشر هذا العلم، وأن تكون قلوبنا مليئة بحب الخير لإخواننا المسلمين، فنتعلم هذا العلم، ونشهد الله من الآن أننا لا نريد به علواً في الأرض ولا فساداً، وإنما نريد به وجه الله وما عند الله من نفع المسلمين بدلالتهم على الخير، ومن نوى الخير فإن الله عز وجل تأذن له بأحد أمرين: الأول: إما أن يمتع عينه ويقرها في الدنيا قبل الآخرة برؤية الخير الذي نواه؛ فإذا نويت من الآن أن تحمل هذا العلم للأمة فتهدي ويهدى بك، وتدل الناس على الخير؛ ليأتين يوم يقر الله عينك لما نويت من الخير، وهذا مشهد لله -ولا نزكي أنفسنا في طلبنا للعلم- فما وجدنا الله إلا وفياً لعباده: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]، والله تعالى يقول: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة:12] فالله مع عباده عامة، وخاصتهم من أهل العلم وطلاب العلم.
فيحرص الإنسان أن تكون نيته فيها نفع أبناء المسلمين، وأن لا يبخل على الناس بهذا العلم، فإما أن يريك الله بأم عينك أثر هذه النية الصالحة، ويأتي اليوم الذي تنعم فيه عينك بحمل العلم عنك، فتأمر فتجد الناس حين تفتيهم يأتمرون بأمرك وينتهون بنهيك؛ لأن الله هو الذي يقلب القلوب ويثبتها، فإذا علم الله منك النية الصالحة قلب القلوب على حبك والثقة بما تقول، والناس تشتري السمعة بالأموال، والله تعالى زكى أهل العلم ووضع لهم من الحب والود في قلوب عباده ما لو بذلوا له أموال الدنيا ما استطاعوا أن يصلوا إليه، وهذا كله بفضل الله.
الثاني: أن يبلغك الله الأجر بنيتك، ويصرف عنك البلاء بالعلم؛ لحكمته وعلمه سبحانه، فيبلغك أجر هذا العلم وأجر ما نويت من نشر العلم بنيتك.
فعلى الإنسان أن يجعل من هذه لمجالس عوناً له على طاعة الله، ومحبته؛ فالدنيا فانية.
وكم جلسنا مع علماء قرت عيوننا برؤيتهم فأمسينا وأصبحنا كأن لم يكن شيء، وسيأتي يوم لا يرى الإنسان فيه من يراه: كأن شيئاً لم يكن إذا انقضى وما مضى مما مضى فقد مضى ومما يوصى به أيضاً: الحرص على اغتنام العلم، واغتنام وجود العلماء وحلق الذكر، والحرص على الجد والاجتهاد، لا أن يأتي الإنسان إلى مجلس الذكر لكي يشغل وقت فراغه؛ إنما يأتي لكي يعلَم ويعمل ويعلِّم، ويحس أنها أمانة ثقيلة، وأن الله معينه ومسدده.
ووالله ثم والله ما صدقت مع الله إلا صدق الله معك، وليفتحن الله لك من أبواب الخير والرحمة ما لم يخطر لك على بال، فإن أساس هذا الدين وأساس هذه الملة قائم على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الدين والوحي الذي أوحى الله إلى نبيه، فإذا تجرد طلاب العلم لحمله وصدقوا مع الله صدق الله معهم، وجعل فيهم الخير للأمة، ونفع بهم الإسلام والمسلمين، ووالله ما حملت علماً صادقاً تريد به وجه الله إلا بلغه الله عنك، والله عز وجل على كل شيء قدير.
المهم أن هذه القلوب -التي تتقلب على العبد آناء الليل وأطراف النهار- تستشعر قيمة هذا العلم.
وقد كان السلف لا يشتكون من شيء مثل قلوبهم، وقال سفيان رحمه الله: ما رأيت مثل قلبي -وفي رواية: ما رأيت مثل نيتي- إنها تتقلب عليَّ.
والله عز وجل لا ينظر إلى عبده على كمال وجلال مثلما ينظر إليه وهو عالم عامل قائم بحجة الله عز وجل على خلقه، فهؤلاء هم ورثة الرسل والأنبياء (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم)، فيشهد الله أن هذا التواصل نريد به وجه الله، ولا نزكي أنفسنا على الله، ولكن نتمنى من طلاب العلم ونحب لهم ما نحب لأنفسنا من الإحساس بهذه النعمة، والحرص على ضبط هذا العلم، وكل طالب علم شعر أن هذا العلم عزيز، وأعطاه ما ينبغي أن يُعطاه من الإجلال والمحبة فسوف ينفعه الله عز وجل به عاجلاً أم آجلاً.
فإن الرجل إذا رأيته يعطي الشيء العزيز وهو يشعر بعزته فيحتضنه ويكتنفه، كانت العقبى بعزته ورفعته، فكم من أنفس زهقت في دفاع عن الأموال لما عزت على أصحابها، وكم من أنفس ذهبت في دفاع عن الأعراض لما عزت الأعراض على أهلها، فإذا عز العلم على أهله وعز العلم عند أصحابه بذلوا له ما ينبغي أن يبذل.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وأن يسددنا، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العلم حجة لنا لا علينا، وأن يغفر لنا ولكم ما يكون فيه من الزلل والخطأ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(127/29)
حكم طواف الوداع لمن أصابه مرض ويخشى فوات رفقته
السؤال
رجل انتهى من جميع أعمال الحج عدا طواف الوداع، ثم أصيب بمرض لا يستطيع معه الطواف إلا بمشقة كبيرة، ومعه رفقة ولا يستطيع أن يتأخر عنهم، فهل يسقط عنه الطواف؟
الجواب
طواف الوداع واجب من واجبات الحج، أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة الحائض والنفساء، ولا يُجري كثير من أهل العلم القياس في هذا ولا يطرده، ويقولون: إن أمكنه أن يأتي به ولو ببعض المشقة أتى به، وإن كان لا يستطيع أثناء المرض ينتظر حتى يذهب ما به من المرض ثم يطوف إذا أمكنه التأخير، وأما إذا لم يمكنه وصدر مباشرة فإنه يلزمه الدم وإلا صام عنه عشرة أيام.
والله تعالى أعلم.(127/30)
حكم التنفل بالسعي بين الصفا والمروة
السؤال
هل يشرع التنفل بالسعي بين الصفا والمروة كما يشرع التنفل بالطواف؟
الجواب
قال بعض العلماء: إنه لا يشرع السعي بين الصفا والمروة إلا في الفرض، أي: في الحج والعمرة.
وقال بعض العلماء: إنه يجوز أن يتنفل في سعيه بين الصفا والمروة؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158]، وحكى بعض العلماء الإجماع عليه، لكنه لا يخلو من نظر في حكايته الإجماع، وقيل: إن مراده التنفل بالسعي أثناء الحج: أنه لا يتنفل كما أنه لا يتنفل بالطواف تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد.(127/31)
شرح زاد المستقنع - باب الفوات والإحصار [1]
لقد شرع الله عز وجل أحكاماً تخص من فاته الحج أو أحصر عنه بعدو أو مرض أو نحوه، وتشريع هذا دليل على رحمة الله عز وجل وتيسيره، والتي منها: قضاء الحج أو العمرة من قابل، وغيرها من الأحكام التي ذكرها الشيخ وفصل فيها، وهي أحكام تشمل الحج والعمرة جميعاً.(128/1)
الفوات والإحصار في الحج والعمرة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الفوات والإحصار] هذا الباب فيه مناسبة لطيفة؛ فبعد أن بَيَّن المصنف رحمه الله صفة الحج والعمرة الكاملة، ذكر أن الفقيه محتاج إلى بيان مسألة مهمة، وهي: هب أن إنساناً نوى الحج، وتلبس بنسكه، وأحرم به، ثم فاته الحج، أو نوى به العمرة، ثم صد عن البيت، ولم يتمكن من الوصول إليه؛ فما حكم الأول، وما حكم الثاني؟ وهذا ما يعبر عنه بالفوات والإحصار؛ فما موقف الشرع ممن فاته الحج، وما موقفه ممن أحصر عن حجه أو عمرته؟ من هنا كان العلماء رحمهم الله يعتنون بعد بيان صفة العبادات ببيان فواتها؛ فيتكلمون عن أحكام قضاء العبادة بعد أن يتكلموا عن أحكام العبادة في مواقيتها، والحج يكون الكلام عنه في باب الفوات والإحصار.(128/2)
معنى الفوات والإحصار
الفوات مأخوذ من قولهم: فات الشيء، إذا ذهب ولم يستطع الإنسان أن يدركه.
والإحصار مأخوذ من الحصر، وأصل الحصر: المنع، يقال: حصر عن الشيء، إذا منع منه، والحصر والقصر كلٌّ منهما فيه معنى الحبس عن الشيء والمنع منه.
ومعلوم أن المكلف مطالب -في الأصل- بإتمام عبادة الحج والعمرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بذلك فقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، ثم قال سبحانه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، فقسم الله عز وجل العباد إلى قسمين: قسم يتم عبادة الحج والعمرة، وقسم يحصر عن حجه وعمرته، ومن هنا لزم بيان أحكام الفوات والإحصار.
أما الفوات فمسائله متعلقة بالحج فقط، وأما العمرة فلا يقال: فيها فوات، إلا في حق من حج قارناً، فقرن حجه مع عمرته؛ لأن العمرة في حق القارن تكون داخلة في حجه، وحينئذٍ يقال: فاتته العمرة.
فالفوات في الأصل يكون في الحج؛ والسبب في تعلق الفوات بالحج: أن العمرة يجوز إيقاعها في سائر أيام العام ولياليه، بخلاف الحج فله ميقات معين وزمان محدد، كما أخبر الله جل وعلا عنه بقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، ومعلوم أن كل معين محدد أو مؤقت بزمان لا يتمكن كل المكلفين من إيقاعه في الزمان المعتبر له؛ كالصلاة، فإن الله جعل لصلاة الفجر مثلاً ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وليس كل الناس يتمكن من إيقاعها في هذا الزمان، فلربما نام عنها شخص ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، وحينئذٍ يرد
السؤال
ما حكم من فاتته عبادة الصلاة على هذا الوجه؟ وكذلك يرد السؤال: ما حكم من أحرم بالحج ولم يستطع الوصول إلى عرفة قبل فجر يوم النحر، وإنما وصلها بعد طلوع الفجر؟ وحينئذٍ يحكم بفوات حجه.
يقول المصنف رحمه الله: (باب الفوات والإحصار).
وكأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل الشرعية والأحكام المتعلقة بمن فاته الحج أو أحصر عن الحج والعمرة.(128/3)
أحكام ومسائل تتعلق بالفوات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الفوات والإحصار] هذا الباب فيه مناسبة لطيفة؛ فبعد أن بَيَّن المصنف رحمه الله صفة الحج والعمرة الكاملة، ذكر أن الفقيه محتاج إلى بيان مسألة مهمة، وهي: هب أن إنساناً نوى الحج، وتلبس بنسكه، وأحرم به، ثم فاته الحج، أو نوى به العمرة، ثم صد عن البيت، ولم يتمكن من الوصول إليه؛ فما حكم الأول، وما حكم الثاني؟ وهذا ما يعبر عنه بالفوات والإحصار؛ فما موقف الشرع ممن فاته الحج، وما موقفه ممن أحصر عن حجه أو عمرته؟ من هنا كان العلماء رحمهم الله يعتنون بعد بيان صفة العبادات ببيان فواتها؛ فيتكلمون عن أحكام قضاء العبادة بعد أن يتكلموا عن أحكام العبادة في مواقيتها، والحج يكون الكلام عنه في باب الفوات والإحصار.(128/4)
حكم من فاته الوقوف بعرفة
قال رحمه الله: [من فاته الوقوف فاته الحج وتحلل بعمرة].
قوله: (من فاته الوقوف) أي: الوقوف بعرفة، و (أل) هنا للعهد، والمراد به العهد الذهني، أي: الوقوف المعروف الذي هو ركن الحج؛ فقد فاته الحج.
والوقوف ينتهي بطلوع الفجر الصادق من صبيحة يوم النحر، وعلى هذا يكون مراد المصنف بقوله: (من فاته الوقوف) أي: أن الشخص إذا لم يدرك الوقوف بعرفة ولو لحظة يسيرة قبل طلوع الفجر الصادق يوم النحر؛ فحينئذٍ يكون قد فاته الحج، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)، وعلى هذا أفتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه أمر أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه لما فاته الوقوف بعرفة أن يتحلل بعمرة، وقال له: (إن كنت قد سقت الهدي فانحره، ثم تحلل بعمرة)، وجاءه هبار بن الأسود في صبيحة يوم النحر فقال: يا أمير المؤمنين! ظننت أن هذا اليوم يوم عرفة، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ابق كما أنت، وائت البيت وطف واسع، ثم حج من قابل، واهد إلى البيت).
فهذا يدل على أن من فاته الوقوف بعرفة أنه يحكم بفوات حجه، ويؤمر بالانصراف إلى العمرة، وأن يتحلل من الحج بالعمرة، وهذا بإجماع العلماء؛ فمن طلع عليه الفجر الصادق من صبيحة يوم العيد -يوم النحر- ولم يدرك ولو لحظة من الوقوف بعرفة، فإنه يتحلل بالعمرة وقد فاته الحج.(128/5)
ما يجب على من فاته الحج
قال رحمه الله: [ويقضي].
فلو كان حجه نافلة ألزم بالقضاء، وكذا إن كان فريضة من باب أولى.
وقوله: (ويقضي) أي: يلزمه أن يقضي هذا الحج؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فلما أحرم بالحج -ولو كان نافلة- لزمه الإتمام، وحيث لم يحج ولم يؤد الحج كما فرض الله عليه؛ لزمه أن يقضيه من عامه القادم إذا تيسر له الحج من العام القادم، وأما إذا لم يتيسر له أن يحج في العام الذي يلي العام الذي فاته فيه الحج وحبس عن البيت لمرض أو عذر، ثم حج بعد عام ثانٍ أو ثالث أو رابع؛ فإنها تجزيه حجته عن تلك التي حبس عنها؛ فيستوي أن يحج في العام الذي يليه أو في العام الذي بعده على الفور، ولا يجوز له أن يؤخر إلا أن يكون عنده عذر.
قال المصنف رحمه الله: [ويهدي؛ إن لم يكن اشترط].
قوله: (ويهدي) أي: إلى البيت؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر هباراً أن يهدي.
وقوله: (إن لم يكن اشترط) أي: إذا كان اشترط عند إحرامه أن محله حيث حبسه الحابس؛ فإنه يسقط عنه القضاء والدم، وهذا قول لبعض العلماء رحمهم الله: أن الاشتراط يسري على مثل هذه الحالة.
والقول الآخر: بأن الاشتراط يتقيد بالصورة الواردة في حديث ضباعة رضي الله عنها، وهي المرض؛ فإن كان الإنسان مريضاً واشترط ذلك صح اشتراطه، وما عداها فإنه يبقى على الأصل، وقد بيّنا هذا القول، وبيّنا من خالفه، ودليل كلٍّ منهما، وبيّنا الراجح في مسألة الاشتراط، وأن الظاهر هو الاكتفاء بالوارد في صورة حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها.(128/6)
الإحصار وما يتعلق به من مسائل
قال المصنف رحمه الله: [ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حلَّ].
قوله: (ومن صده عدو عن البيت) هذا يسمى بالإحصار، وصورته: أن يريد شخص الحج ثم يحصر ويمنع من الوصول إلى البيت بعدو، كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية؛ فإنه عليه الصلاة والسلام حصره المشركون عن عمرته، ومنعوه من الوصول إلى البيت، واشترطوا عليه أن يرجع من هذا العام وأن يأتي من العام القادم؛ فتحلل عليه الصلاة والسلام، ثم نحر هديه ورجع إلى المدينة.
وللعلماء في تحديد صور الحصر أقوال: فمنهم من يقول: الحصر يتقيد بالعدو ذي القوة والغلبة والقهر، بحيث لا يستطيع الشخص الوصول إلى البيت؛ كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية.
ومنهم من يقول: يلتحق بحصر العدو كل ما في معناه، ثم قاسوا على ذلك مسائل: منها: أن يحصر بمرض؛ كأن يكسر، أو يصيبه عرج، أو يكون مريضاً ويفوته الوقوف بعرفة بسبب هذا المرض الذي لم يستطع أن يدرك معه هذا الركن، فيأخذ حكم المحصر.
فلو أن إنساناً نوى الحج ثم خرج، فلما صار في الطريق أصابته الحمى، أو كسرت يده أو رجله، واحتاج للعلاج، وقيل له: لا يمكن لك أن تبرح هذا المكان قبل يومين أو ثلاثة، وليس بينه وبين عرفة إلا يوم واحد، ويلزمه الطبيب العدل أو أهل الخبرة من الأطباء بالبقاء، وأنه لا يمكنه العلاج إلا في هذا الموضع؛ فحينئذٍ يكون محصراً عند هؤلاء.
ويدخل في حكم المحصر من أصابه المرض المعدي -كالكوليرا ونحوها- بحيث لو مشى بين الحجاج أهلك الناس وأضر بهم؛ فإن من حق ولي الأمر أن يحجر عليه، وقد ذكر العلماء رحمهم الله هذه المسألة تحت القاعدة المشهورة: إذا تعارضت مفسدتان روعي ارتكاب أخفهما دفعاً لأعظمهما.
واستدلوا لذلك بالأدلة الصحيحة الكثيرة: منها: كسر السفينة من الخضر عليه الصلاة والسلام دفعاً لضرر أعظم.
قالوا: فيجوز الحجر على هذا الحاج ومنعه من إتمام نسكه.
وقد ذكر العلماء -من أئمة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة- جواز الحجر على من عنده مرض معدٍ، ومنعه من الخروج للقاء الناس، واعتبروها من مسائل الحجر على المريض، وذلك أن العدوى بقول الأطباء تقبل فيها شهادتهم، وينظر إلى الغالب، فمثل هذا يعتبر في حكم الحصر.
ثم قالوا: يقاس على المحصور بالعدو من كان عنده عذر يحول بينه وبين بلوغ البيت؛ كذهاب النفقة، أو سرقة ماله وهو في الطريق، ولم يستطع أن يكتري ولا أن يستأجر أو أن يمشي على قدميه حتى يصل إلى عرفات ليدرك الحج، فهو في حكم المحصر، ويتحلل.
ومثله أيضاً العاجز حسياً، وهو مثل العذر الشرعي، فيكون أيضاً في حكم الإحصار، ومثلوا لذلك بالمرأة التي مات محرمها في طريقها للحج، أو مرض أو انكسر ولا يستطيع أن يتم معها مناسك الحج، وهي على مسافة قصر بينها وبين مكة، فإذا بقيت مع محرمها فإن الحج يفوتها، فقالوا: إن هذا عذر شرعي؛ لأن المرأة لا يجوز لها أن تسافر بدون محرم، فينزّل العجز الشرعي منزلة العجز الحسي.
ومن العجز الشرعي أيضاً: إذا توفي زوج المرأة؛ فإنه يلزمها الإحداد، وللعلماء في المرأة التي تبلغها وفاة زوجها أثناء الحج أو أثناء العمرة وجهان: الأول: منهم من يرى أنها إذا أحرمت بالحج أو بالعمرة ودخلت في النسك، ثم جاءها الخبر، فإنها تتم الحج والعمرة ولا ترجع، وقد قضى بهذا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفتي به، وهو الصحيح؛ فإن المرأة إذا أحرمت بالحج أو العمرة وبلغتها وفاة زوجها؛ لزمها إتمام الحج والعمرة، ولا يعتبر هذا بمثابة الإحصار، وإنما تبقى في نسكها؛ لتعارض الواجبين، الأول: ما يمكن تداركه، والثاني: ما لا يمكن تداركه، فيقدم ما لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه عند ازدحام الفرضين والواجبين، فنقول لها: امضي وأتمي النسك، ثم ارجعي واعتدي عن بعلك عدة الوفاة.
وقد اختلف في المرض، والقول باعتباره عذراً في الحج من القوة بمكان، ويقول به جمع من أهل العلم، كما هو موجود في مذهب الحنفية والحنابلة وغيرهم رحمة الله على الجميع.
وقد جعل الله تعالى الإحصار رحمة للعباد، فإن الإنسان إذا حيل بينه وبين البيت وفاته الحج، فإنه لا يمكنه أن يتداركه، فلو أن الشرع ألزمك إذا أحصرت عن البيت أن تبقى بإحرامك حتى تحج من السنة القادمة، فيبقى الإنسان محرماً سنة كاملة محرمة عليه محظورات الإحرام، فلا شك أن هذا من العسر بمكان، فمن رحمة الله تعالى أن شرع هذا الأمر وهو الإحصار، فهو من دلائل يسر الشريعة، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
إذا ثبت أن الحصر بالعدو يعتبر موجباً للرخصة، فهنا مسألة، وهي: أن من شرط هذا الحصر: ألَّا يتمكن الإنسان من طريق بديل، فلو كان لمكة أكثر من طريق، وحصر من طريق، وأمكنه أن يذهب من طريق ثانٍ ففيه تفصيل: قال بعض العلماء: إذا كان الطريق الثاني فيه مشقة، أو أنه يحتاج إلى نفقة أكثر من النفقة التي معه، أو فيه ضرر عليه؛ فإنه يكون في حكم المحصر.
وقال بعض العلماء: إذا وجد طريقاً بديلاً يلزمه أن يسلكه ولو كانت نفقته لا تكفي، ولو كانت فيه مشقة عليه؛ لأنه من باب ارتكاب أخف الضررين، فإن فوات هذه العبادة أعظم من المشقة الطارئة على هذا الوجه، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الحج بكونه جهاداً، فلا يرون وجود المشقة على هذا الوجه موجبة للرخصة.
وقولهم ألزم للأصل كما لا يخفى.(128/7)
أحكام ذبح الهدي للمحصر
قال رحمه الله: [ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حلّ] قوله رحمه الله: (أهدى ثم حلّ) أي: يهدي ويذبح ما معه من الهدي، كما قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، والأصل في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية نحر هديه وتحلل حينما صد عن عمرته، فأوجب الله عز وجل الهدي بظاهر القرآن، وكذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف العلماء: هل يلزمك أن تبعث بالهدي إلى مكة ليذبح فيها إذا تيسر لك ذلك، أم أنك تذبحه في الموضع الذي أحصرت فيه؟ على وجهين مشهورين، أصحهما: أنه يذبح الهدي وينحره في الموضع الذي أحصر فيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحصر عن البيت ولم يكن بينه وبين حدود الحرم إلا خطوات، وذلك في الحديبية -وهي التي تسمى اليوم بالشميسي- وكان يمكنه أن يدخل ويصلي داخل حدود الحرم، ومع ذلك لم يتكلف أن ينحر هديه داخل حدود مكة، والله تعالى يقول: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25]، فقال: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي: عن بلوغ محله، ومحله هو البيت العتيق -أعني: حدود الحرم- فدل على أنه لا يلزم المحصر بأن يبعث هديه إلى الحرم، وإذا تيسر له بعثه فإنه يبعثه، خروجاً من خلاف العلماء رحمهم الله.
ثم قال رحمه الله: [فإن فقده صام عشرة أيام ثم حلّ] أي: إن فقد هديه فإنه يصوم عشرة أيام بدلاً عن هذا الدم.
وقد طرد العلماء هذا الأصل في الدماء الواجبة، فقالوا: من وجب عليه دم التمتع ودم القران، أوجب الله عليه -إذا لم يجده- أن يصوم عشرة أيام، فكل دم واجب إذا لم يستطعه الإنسان صام بدلاً عنه عشرة أيام، وعلى هذا قالوا في المحصر: إذا لم يستطع ولم يتيسر له الهدي فإنه يصوم العشرة الأيام؛ على ظاهر آية البقرة؛ لشمولها للمتمتع والمحصر.(128/8)
حكم المحصور عن عرفة
قال رحمه الله: [وإن صد عن عرفة تحلل بعمرة].
أي أنه إذا كان قد بلغ البيت، ولكنه صد عن عرفة؛ فإنه يتحلل بعمرة بعد ذهاب وقت الوقوف، فلو صد ورجا أن يتمكن من الوقوف؛ فإنه ينتظر إلى آخر الأمد الذي يتمكن معه من الوقوف، ثم إذا خالف ظنه وتبين أنه لا يتمكن وطلع الفجر؛ مضى إلى مكة وتحلل بالعمرة، وذلك أشبه بفسخ الحج بعمرة، مثلما فسخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حجهم بعمرة، ولذلك لا يرى بعض العلماء أن هذه الصورة من صور الإحصار؛ لأنه يراه فسخاً للحج بعمرة، كما هو القول عند الحنابلة رحمهم الله وطائفة من السلف؛ فإنهم يرون أن من منع من الوقوف بعرفة فإنه يمكنه أن يفسخ حجه بعمرة، ويتحلل بالعمرة على هذا الوجه الذي أشار إليه المصنف رحمه الله.
وقوله: (تحلل)، ولم يوجب عليه الدم، فدل على أنه ليس بمحصر، كما اختاره المصنف.
وهناك من أهل العلم من يقول: يتحلل بعمرة وعليه دم.
فالفرق بين القولين: أن المصنف لا يراه محصراً، فإن قلت: لا أراه محصراً، فحينئذٍ لا يلزمه دم، وإن قلت: إنه يعتبر في حكم المحصر؛ أخذ حكم المحصر، وكان تحلله بالعمرة موجباً للدم؛ كما هو قول بعض العلماء رحمهم الله.(128/9)
شرح زاد المستقنع - باب الفوات والإحصار [2]
استكمل الشيخ حفظه الله ما بقي من أحكام الفوات والإحصار، فذكر أحكام المحصر بمرض أو ما في حكمه من المسائل المعاصرة، ثم ذكر أحكام المحصر بذهاب نفقته، وختم حديثه ببيان مسألة الاشتراط في النسك.(129/1)
حكم المحصر عن الحج والعمرة بمرض وما في حكمه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن أحصره مرض].
ذكر المصنف رحمه الله مسائل الفوات والإحصار؛ فبين حكم من فاته الحج، وحكم من أحصر عن الوصول إلى البيت؛ سواء كان الإحصار في الحج أو العمرة، ولما فرغ رحمه الله من بيان أحكام المحصر شرع في بيان من أصابه المرض، وكان عليه شديداً؛ بحيث لا يستطيع أن يصل إلى البيت فيدرك الحج أو يأتي بالعمرة أثناء المرض، فهل يجوز له أن يتحلل مباشرة، فيكون حكمه حكم المحصر -كما تقدم- أم أنه ينتظر حتى يبرأ من مرضه أو يقوى على المسير إلى البيت فيؤدي نسك الحج إن أدركه وإلا تحلل بعمرة؟ وقد كثر في هذا الزمان وجود الحوادث التي تقع في الطريق، وهي في حكم المرض؛ فلو أن إنساناً أراد الحج ثم حصل له حادث في الطريق، فأصابه كسر أو مرض في جسده، فلم يستطع أن يخرج، أو كان تحت عناية في علاجه، بحيث يقرر الأطباء أنه لا يخرج قبل الحج، أو أنه لا يمكنه أن يقوم بمناسك الحج حتى فات وقت الحج، فما حكمه؟ قال رحمه الله: [يبقى محرماً] أي: أن من أصابه المرض فلا يحكم بكونه محصراً، وإنما يبقى بإحرامه حتى يبرأ من المرض؛ فإذا برئ من المرض فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون شفاؤه وبرؤه قبل الوقوف بعرفة؛ بحيث يمكنه أن يذهب ويتم مناسك حجه، فالحكم حينئذٍ: أن يمضي ويتم مناسك الحج.
الحالة الثانية: إذا كان برؤه وشفاؤه بعد فوات الوقوف بعرفة؛ فإنه يتحلل بعمرة، ثم يلزمه الهدي، ويكون هذا الهدي بسبب فوات الحج، ثم يأتي بحجة من العام القادم؛ سواء كانت حجته لفرض أو لنافلة.
والعمرة التي يأتي بها يقصد منها أن يتحلل من نسك الحج؛ وذلك لأن الحج قد فاته، فيتحلل منه بعمرة، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر من فاته الحج أن يتحلل منه بعمرة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يفسخوا حجهم بعمرة.
ثم عليه أن يهدي لفوات الحج، وعليه كذلك الحج من قابل؛ فهو في حكم من كان معذوراً بالمرض وفاته الحج لعذر آخر.
وكان من الأعذار المشهورة قديماً: أن يظن الحاج أن الوقوف بعرفة يوم السبت، ويكون الوقوف يوم الجمعة، فيأتي إلى عرفة يوم السبت وقد فرغ الناس من الوقوف، ولا يمكنه أن يدرك الوقوف، فحينئذٍ يكون في حكم المريض، فيمضي إلى البيت ويطوف ويسعى ويتحلل بعمرة، ثم عليه الهدي والحج من قابل.
وفي حكمه أيضاً: من نام عن الوقوف بعرفة؛ كرجل مشى إلى عرفات، ثم قبل أن يصل إليها وبسبب الإجهاد والتعب أراد أن ينام، فنام حتى ذهب وقت الوقوف، ولم يمكنه إدراكه، فحينئذٍ يكون حكمه حكم المريض أيضاً، فيبقى محرماً، ثم يمضي إلى البيت ويأتي بعمرة كاملة يتحلل بها من الحج؛ لأن الحج قد فاته، وقد قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك لما جاءه هبار بن الأسود فقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أظن أن اليوم يوم عرفة -وكان اليوم الذي جاء فيه يوم النحر- فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ابق كما أنت -أي: بإحرامك- ثم ائت البيت وطف واسع، وتحلل بعمرة، ثم اهد وعليك الحج من قابل).
قال العلماء: في هذا دليل على أنه لما أحرم بالحج فإنه يفسخ هذا الحج بالعمرة؛ لأنه لا يمكنه أن يصبر إلى السنة القادمة وهو محرم، فلو أن إنساناً أحرم بحج، ومرض أو أصابه عذر ولم يمكنه أن يدرك عرفة، فقلنا له: ابق بإحرامك إلى العام القادم؛ فإن هذا فيه حرج ومشقة عظيمة؛ لأنه سيبقى مجتنباً لمحظورات الإحرام وممتنعاً عنها شأنه شأن المحرم، فلذلك خفف الله عز وجل عن عباده.
ومضت الفتوى عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بأنه يتحلل بعمرة، وهذه الفتوى لها أصل شرعي؛ فمن فقه أمير المؤمنين -الذي أمرنا باتباع سنته- أنه انتزع هذه الفتوى من فسخ النبي صلى الله عليه وسلم حج أصحابه بعمرة، فأمر من لم يسق الهدي أن يتحلل بعمرة، ولذلك قالوا: ينصرف من حجه إلى عمرته؛ كأنه فسخ، لا أنه حقيقة قد فسخ حجه بعمرة، بدليل لزوم القضاء عليه من قابل.
وقوله رحمه الله: (ومن أحصر بمرض)، هذا القول الذي اختاره المصنف هو مذهب جمهور العلماء، وهذا المذهب يقوم على أن المرض لا يعتبر الإنسان فيه محصراً، ولذلك قال رحمه الله: (بقي محرماً)، ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله قال: إن من أحصر بالمرض فحكمه حكم المحصر.
وحينئذٍ فحكم المحصر بالمرض: أن يتحلل في مكانه، ويهدي إن كان معه الهدي، وإذا لم يكن معه الهدي صام، ثم يكون حكمه حكم من أحصر بالعدو ونحوه كما تقدم تفصيله.
وقال الجمهور: إن الإحصار يتقيد بالحصر بالعدو -كما تقدم- لقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، فجعل الله سبحانه وتعالى الأمن مرتباً على الحصر؛ فدل على أن الإحصار ليس مطلقاً، وإنما هو مختص بالحصر بالعدو، على التفصيل الذي تقدم بيانه.
وقوله: (بقي محرماً) فإذا كان الشخص قد أصيب بمرض، ثم انتهى به هذا المرض إلى الموت؛ فإنه يكون محرماً عند الجمهور، وحكمه حكم المحرم عندهم، كما يحدث -نسأل الله السلامة والعافية لنا ولكم ولجميع المسلمين- في مسألة موت الدماغ، كأن ينقلب مثلاً في حادث، أو تأتيه ضربة في رأسه، ويصبح في عداد الموتى، ثم ينتهي به الأمر إلى الموت، أو يصاب بمرض يؤدي به إلى الوفاة، فللعلماء رحمهم الله تفصيل في هذا: فمنهم من قال: إن المريض يعتبر في حكم المحصر، فحينئذٍ لا إشكال في أنه يأخذ حكم المحصر ويتحلل، أما إذا قلنا: إن المريض لا يأخذ حكم المحصر، وإنما يبقى بإحرامه، ونحكم بكونه محرماً، فإنه إذا مات يعامل معاملة الميت الذي وقصته دابته، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس، فيغسل ويكفن ولا يطيب، ويأخذ حكم المحرم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، فيأخذ حكم المحرم.
ومنهم من قال: إذا أصيب بمرض ينتهي به إلى الوفاة، وتوفي بعد الوقوف بعرفة؛ فحينئذٍ إذا تأملت حاله، وجدت أن الحج قد فاته، فبعض العلماء يرى أن عليه دم الفوات في هذه الحالة.
وقال بعض العلماء: لا يجب عليه شيء، وإنما يغسل ويكفن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه)، ثم لم يأمر أهله بإتمام الحج عنه ولا بقضائه، وإنما أعطاه حكماً خاصاً، فمن هنا استثنوه من الأصل الذي ذكرناه.(129/2)
حكم المحصر بذهاب نفقته
قال رحمه الله: [أو ذهاب نفقة].
هذا نوع آخر من أنواع الحصر، وذهاب النفقة يأتي على صور: منها: أن يسرق ماله، أو تذهب نفقته، بمعنى: أن يكون ظنه أن الحج يكفي له ألف ريال، ثم طرأت له أمور تستلزم منه النفقة، فأنفق حتى ذهبت نفقته قبل أن يصل إلى مكة وقبل أن يقف بعرفة.
مثال ذلك: لو أن إنساناً عادته أن يكفيه لحجه ألف ريال، فلما مضى في طريقه تعطلت سيارته واحتاج أن ينفق عليها، فأنفق ثلاثة أرباع النفقة أو جلها لإصلاح سيارته من أجل أن يصل عليها، ولكنه لم يتيسر له ذلك، فهذا الذي ذهبت نفقته فيه تفصيل: إن كان قادراً مليئاً في بلده وأمكنه أن يستدين ويتم حجه، لزمه ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن الله قد أوجب عليه إتمام الحج، فقال سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فلما ألزمه الله بإتمام الحج وأمكنه أن يتم الحج دون حرج عليه وذلك بالاستدانة؛ فإنه يتم حجه ويستدين، قال بعض العلماء: بشرط أن لا يقع في حرج ومهانة ومذلة لا تليق بمثله.
وأما إذا كان هذا الشخص لا يجد المال، وأمكنه أن يمشي على قدميه حتى يبلغ مكة، فقال بعض العلماء: إن الراجل يجب عليه الحج كما يجب على الراكب، بشرط أن يطيق المشي؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27]، فذكر الراجل فيمن يأتي بالحج، وقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] على سبيل الوجوب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا)، فهذا الذي فرضه الله من إتيان بيته والحج إليه قال الله فيه: (رجالاً)، فقدم الراجل على الراكب، قالوا: فإن أطاق المشي، ولم يكن فيه حرج؛ فإنه يلزمه أن يمضي ويتم الحج، أما لو لم يستطع المشي، ولم يمكنه أن يستدين؛ فإنه يبقى بإحرامه، فإذا تيسر له من ينجده ويتفضل عليه، وأمكنه أن يذهب ويدرك الحج، فلا إشكال في ذلك، وأما إذا حبس ولم يمكنه أن يدرك الحج حتى ذهب يوم عرفة، فحينئذٍ يبقى بإحرامه حتى لو رجع إلى بلده ليأخذ النفقة ثم يأتي بعمرة يتحلل بها من حجه، وحكمه حكم من فاته الحج.
إذاً: من ذهبت عنه النفقة يفصل فيه بهذا التفصيل: إما أن يمكنه أن يستدين ولا يقع في حرج، وذلك بأن يستطيع سداد ذلك الدين دون حصول الحرج عليه فيلزمه ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإما أن لا يمكنه أن يستدين، ويمكنه أن يمشي ويطيق المشي ويدرك بمشيه الحج؛ فيلزمه المشي إلى مكة وإتيان المشاعر، وإما أن لا يمكنه المشي ولا يمكنه الاستدانة، ولا يتيسر له أحد يأخذه معه حتى فاته الحج؛ فإنه يبقى محرماً، حتى ولو عاد إلى بلده لكي يأخذ النفقة التي يبلغ بها، ثم يتحلل بعمرة، وعليه الدم والحج من قابل.(129/3)
الاشتراط في الحج والعمرة
قال رحمه الله: [بقي محرماً إن لم يكن اشترط].
الاشتراط في الحج سبق بيانه، وأنه قد ثبت به الدليل في حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها حين قالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية -أي: مريضة؛ لأن المريض يشتكي ما به؛ أي: يغالبه- فقال صلى الله عليه وسلم: أهلي -أي: ادخلي في النسك- واشترطي: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن لك على ربك ما اشترطت)، قال العلماء: في هذا دليل على مسائل: المسألة الأولى: أنه يشرع الاشتراط في الحج إذا كان الإنسان مريضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها به.
المسألة الثانية: أن العمرة تأخذ حكم الحج؛ لأن العمرة هي الحج الأصغر، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها بذلك، ومن المعلوم أن الحج قد يكون تمتعاً وقد يكون قراناً، فدل على استواء الحكم في الحج والعمرة، وليس هذا من خصوصيات الحج.
المسألة الثالثة: أن المرأة -وهي ضباعة - كانت مريضة، فقال بعض العلماء: يختص الحكم بمن كان مريضاً قبل الحج، كأنْ لما أصيب بالمرض وألزم نفسه بالحج، تحمل المشقة؛ فخفف عنه الشرع؛ لأنه التزم بما لا يلزمه، ولذلك قالوا: خفف عنه من هذا الوجه.
وقال بعض العلماء: الحكم عام، سواء كان به المرض، أو خاف المرض، أو لم يكن به مرض لكن اشترط هكذا وهو صحيح، وهذا لا يخلو من نظر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتى ضباعة بهذا وهي بالمدينة قبل أن تهلّ، ثم لما بلغ الميقات لم يأمر الصحابة أن يشترطوا ولم يشترط في إحرامه، فدل ذلك على أن هذا الحكم يكون في حق من كان في حكم ضباعة وصورته صورة ضباعة؛ لأن القاعدة في الأصول: أن ما خرج عن الأصل يتقيد بصورة النص.
وعلى هذا فلو اشترط أن محله حيث حبس، فإنه لا يخلو من أحوال ذكرها العلماء رحمهم الله: فتارة يشترط إن حبسه الحابس أن يهدي ويتحلل، فيلزم نفسه الإهداء، ويكون في حكم المحصر؛ فإن كان قد ألزم نفسه أن تحلله يكون بالهدي؛ فحينئذٍ يتحلل بهديه، كما اختاره جمع من العلماء، وهو مذهب الشافعية وبعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لك على ربك ما اشترطت)، وقد اشترط على نفسه أن يتحلل بالدم كالمحصر؛ وذلك لطلب الفضيلة والأجر، وتشبهاً بالمحصر، فقالوا: لا بأس، وحينئذٍ يكون تحلله بالخروج من النسك مباشرة، ويلزمه أن يهدي؛ لأنه التزم ذلك، فكان في حكم من نذر.
أما لو أنه قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، دون أن يقيد؛ فإنه يتحلل بمجرد أن يصعب عليه المرض ويشق عليه الذهاب، وليس له التحلل بمجرد المرض، وذلك أنه قيد نفسه فقال: إن حسبني حابس، فقال العلماء: يتقيد هذا بأن يكون المرض شديداً بحيث لا يمكنه أن يتم، أما لو كان المرض خفيفاً ويمكنه الإتمام، فإنه ليس بحابس ذي بال؛ لأن ضباعة رضي الله عنها أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط إذا ضاق عليها الأمر، وهذا يفهم منه: أنها لا تحتبس إلا إذا اشتد عليها المرض وضاق بها الحال.
والاشتراط لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يشترط قبل أن يهل، وإما أن يشترط مقارناً لإهلاله، وإما أن يشترط بعد إهلاله.
الحالة الأولى: إن وقع الشرط قبل الإهلال، وكان الفاصل مؤثراً، سقط اعتباره.
مثال ذلك: لو أنه خرج من المدينة إلى ميقات ذي الحليفة، وبين المدينة وبين الميقات ما لا يقل عن عشرة كيلو مترات، فقال في المدينة: أشترط إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني الحابس -وهو مريض- ثم مضى وانقطع بوجود الفاصل المؤثر من المسافة والزمن، ثم بعد ذلك لبى بحجه أو بعمرته، فإن هذا الفاصل مؤثر، ويسقط الاشتراط الأول ما لم يكن قد اشترط أثناء الإحرام، فلا بد في الاشتراط أن يكون مصاحباً للإحرام أو قريباً منه.
الحالة الثانية: أن يصحب الاشتراط الإحرام، وذلك بأن يقول: لبيك حجاً أو لبيك عمرة، ثم يشترط، فحينئذٍ لا إشكال فيه، وهو صورة النص، كما جاء في رواية أبي داود وغيره من أصحاب السنن، وفيه ذكر التلبية مع الاشتراط، وهذا بالإجماع عند من يقول باعتبار الاشتراط، وهم الشافعية والحنابلة، يقولون: إنه مؤثر.
الحالة الثالثة: أن يهل ويدخل في النسك، وبعد تمام الإهلال يشترط، فحينئذٍ يلغى اشتراطه، ويلزم بما يلزم به من أهلّ بدون اشتراط.
وقوله: (إلا أن يكون قد اشتراط)، فالمشترط يتحلل مباشرة ولا يلزمه دم، وليس عليه شيء إذا ضاق به المرض وأضرّ به.(129/4)
الأسئلة(129/5)
حكم المغمى عليه إذا أحضر إلى عرفة ولم يفق إلا بعد الوقوف
السؤال
امرأة أغمي عليها إلى ما بعد الوقوف بعرفة، إلا أن أهلها حملوها وهي مغمىً عليها إلى عرفة، وبعدما أفاقت أكملت شعائر حجها، فهل حجها صحيح، أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة تنبني على مسألة: هل المغمى عليه مكلف، أو غير مكلف؟ فبعض العلماء يرى أن المغمى عليه كالنائم، وفي هذه الحالة لا يسقط عنه التكليف إلا في ضمانات النائم ووجود الإخلالات بالتروكات، أما مسألة صحة العبادة واعتبار العبادة فيرون أنها تأخذ حكم المكلف ولا تأخذ حكم المجنون.
وقال بعض العلماء: الإغماء كالجنون؛ والسبب في هذا: أن المغمى عليه فيه شبه من الجنون، وشبه من النوم.
فإذا شبه بالمجنون فإن هذا يوجب فساد الحج عند من يقول: إن المجنون لا يصح حجه.
وأما إذا شبه بالنائم فإنه يصح حجه خاصة على القول الذي لا يرى النية للوقوف، وإنما يرى أن الركن يتحقق بوجود الجسد حتى ولو كان الإنسان نائماً، فقالوا: لو حمل وهو نائم أو مغمى عليه، فهي مسألة فيها الخلاف على هذا الوجه، وأنا كثيراً ما أتوقف في مسائل الإغماء؛ سواء من جهة العبادة وقضاء الصلوات إذا أغمي عليه شهوراً أو سنوات، ولكنني أقول: إن القول بالإجزاء من القوة بمكان، وأتوقف عن الترجيح.
والله تعالى أعلم.(129/6)
الحكم فيما إذا حاضت المرأة قبل التحلل من العمرة
السؤال
قمت بأداء عمرة عن أبي رحمه الله، وبعد الانتهاء منها نسيت أن أتحلل من إحرامي، وبعد عدة ساعات جاءني الحيض، وفي خلال هذه الساعات حدث مني بعض المحظورات، كل هذا وأنا ناسية أني محرمة، ولم أتذكر إلا بعد مجيء الحيض، فهل عليَّ دم، أم ماذا أفعل، أثابكم الله؟
الجواب
أما بالنسبة لاعتمارك وأدائك النسك عن والدك فأسأل الله أن يثيبك عليه؛ لأن هذا من البر، وإذا توفي الوالد أو الوالدة ولم يحجا ولم يعتمرا وحج عنهما الولد، فهذا من أبلغ البر وأحسنه، فأسأل الله أن يحسن إليك كما أحسنت إلى والدك بهذا البر.
أما المسألة الثانية: وهي وقوع الدم بعد انتهاء العمرة وقبل التحلل؛ فإن العمرة صحيحة، ولا يضر ورود الدم بعد الطواف، فإذا ورد الدم على المرأة بعد تمام طوافها فإنه لا يؤثر، حتى ولو كان أثناء السعي؛ لأن السعي لا تشترط له الطهارة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين لما حاضت: (اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت)، فحظر عليها الطواف بالبيت، ومن هنا إذا وقع حيضها بعد تمام الطواف بالبيت صحت عمرتها وأجزأتها.
وأما بالنسبة لوقوع المحظورات نسياناً؛ فلا تخلو المحظورات من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون محظورات يمكن التدارك فيها؛ كالطيب، فإنه يمكن غسله، وتغطيه الوجه في غير وجود الأجانب، فإنه يمكن إزالته -إزالة الغطاء- فهذه المحظورات التي يمكن تلافيها لا شيء عليك بالنسيان إذا أزلتِ المحظور عند الذكر.
الحالة الثانية: إذا كان المحظور مما لا يمكن التدارك فيه؛ كتقليم الأظفار، وقص الشعر؛ فإنه تلزم فيه الفدية، فالعمد فيه والنسيان سواء، إلا أن النسيان يسقط الإثم دون العمد، فتلزمك فيه الكفارة أو الفدية، وعليه فينظر في هذا المحظور الذي وقع منك قبل التحلل.
وأما بالنسبة لتحللك بعد فهو تحلل صحيح؛ لكن من أهل العلم من يشترط في التحلل وقوعه في الحرم، فإذا حصل التحلل خارجاً عن حرم مكة فإنه يرى فيه الدم؛ لفوات التوقيت المعتبر من الشرع، كما هو قول طائفة من أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
والله تعالى أعلم.(129/7)
شرح زاد المستقنع - باب الهدي والأضحية والعقيقة [1]
الهدي والأضحية والعقيقة دماء مشروعة، تختلف في بعض أحكامها عن بعض وتتفق في البعض الآخر، وكلها جاءت به الأدلة الشرعية الدالة على وجوبها أو على استحبابها، وهناك عيوب إذا وجدت في الذبيحة منعت من إجزائها، وكلها مبينة واضحة فيما ذكره الشيخ.(130/1)
أحكام الهدي والأضحية والعقيقة
قال المصنف رحمه الله: [باب الهدي والأضحية والعقيقة].(130/2)
تعريف الهدي
قوله رحمه الله: (باب الهدي) الهدي: مأخوذ من الهدية، وهو ما يهدى إلى البيت الحرام، والله سبحانه وتعالى وصف ما يساق إلى البيت بأنه هدياً، فقال سبحانه وتعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95].(130/3)
أقسام الهدي
الهدي يكون واجباً ويكون مندوباً؛ فأما الواجب: فإنه يكون في جزاء ما قتل من النعم وهو محرم، كأن يقتل بقر الوحش فيهدي إلى البيت بقرة من بهيمة الأنعام، أو يقتل نعامة فيهدي إلى البيت ناقة، ونحو ذلك.
وأما غير الواجب، فهو في حكم الهدي الواجب؛ كأن ينذر ويقول: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت، فإذا نذر فلا يخلو نذره من أحوال: الحالة الأولى: أن يقيد الهدي ويبين نوعه، وحينئذٍ يكون الهدي مقيداً بما ذكر، كأن يقول: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت شاة، أو جذعاً من الضأن، أو ثنياً من المعز، أو تبيعاً، أو مسنة، أو نحو ذلك، فإذا عين وحدد فإنه يلزمه ما التزم به من التحديد.
الحالة الثانية: أن يطلق فيقول: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت.
فإذا أطلق فقد بعض العلماء: من أطلق في هديه وقال: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت؛ فإنه لا يجزيه إلا ما يجزي أقل دم واجب، وذلك هو الثني من المعز، أو الجذع من الضأن، فإذا أرسل جذعاً من الضأن أو ثنياً من المعز أجزأه، ولا يجزي ما كان دون ذلك.
وقال بعض العلماء: يجزيه أقل شيء، ولو أهدى إلى البيت بيضة، أو صاعاً من تمر أو بر؛ والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من راح في الساعة الأولى فكأنما أهدى بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما أهدى بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما أهدى كبشاً) إلى آخر الحديث، وفيه: (كأنما أهدى بيضة)، والرواية في الصحيح: (كأنما قرب)، قالوا: وعلى هذا فإنه يجزيه أقل ما يصدق عليه أنه هدية، حتى ولو كان يسيراً من الطعام فإنه يجزيه ولا شيء عليه.
وإن كان القول الأول أقوى وأرجح إن شاء الله تعالى؛ لأن الله تعالى قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، وخصص ذلك بقوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95]، فخص الهدي ببهيمة الأنعام، وعلى هذا فإنه لا يجزيه إلا ما يجزي في الدماء الواجبة على التفصيل الذي ذكرناه.(130/4)
حكم الهدي
وكان الهدي سنة قديمة، وكانوا في الجاهلية يهدون إلى البيت الحرام.
والمراد بهدية البيت: أن يبعث الإنسان بإبله أو بقره أو غنمه؛ فتذبح في مكة وتكون طعمة للفقراء، وكانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء إذا رأوا هذا النوع من بهيمة الأنعام لا يتعرضون له؛ تعظيماً لحرمة هذا البيت، ولذلك قال الله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة:2]، فوصف الله عز وجل ما يهدى إلى البيت بأنه من شعائر الله، وشعائر الله كل ما أشعر الله بتعظيمه، ومن ذلك ما يهدى إلى بيت الله عز وجل، وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على مشروعية الهدي للبيت، وهذه السنة أضاعها كثير من الناس إلا من رحم الله، حتى إنها تكاد تكون غريبة في هذا الزمن، ويسن للإنسان ويشرع له أن يبعث إلى البيت ويهدي إليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة وأهدى إلى البيت في حجته التي تخلف عنها حينما بعث أبا بكر رضي الله عنه وعلياً لينادي في الناس.(130/5)
تعريف الأضحية
قال رحمه الله: (والأضحية).
الأضحية واحدة الأضاحي، وهي مأخوذة من الضحى؛ والسبب في ذلك: أنها تذبح في ضحى يوم النحر، وهذا من باب تسمية الشيء بزمانه؛ لأن الشيء يسمى بزمانه ويسمى بسببه وبوقته، فيقال مثلاً بالزمان: أضحية، ويقال بالسبب: صلاة الاستسقاء، من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ لأن صلاة الاستسقاء سببها القحط وطلب السقيا، وصلاة الكسوف سببها كسوف الشمس وخسوف القمر.
والأضحية سنة من سنن المرسلين، ولذلك ندب النبي صلى الله عليه وسلم إليها بقوله وبفعله، وأجمع المسلمون على شرعيتها، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في خطبته يوم النحر: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله).(130/6)
حكم الأضحية
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكمها: هل هي واجبة، أو ليست بواجبة؟ وذلك على قولين مشهورين: القول الأول: قال بعض العلماء: الأضحية واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فألزمه بالقضاء، فدل على وجوبها ولزومها.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا)، وهو حديث مختلف في إسناده، وإن كان العمل عند جمع من المحدثين على ضعفه.
وكذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى، وضحى من بعده الخلفاء الراشدون، ولم يؤثر عن واحد منهم أنه ترك الأضحية، ولذلك حُكم بوجوبها.
ولما سئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: هل الأضحية واجبة؟ قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى المسلمون، فقال له السائل: يا أبا عبد الرحمن! إنما أسألك أهي واجبة؟ فرد عليه بقوله: أتعقل! ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى المسلمون)، أي: كيف تتركها وهي بهذه المثابة؟ ولم يرخص للرجل في تركها، وهذا يؤكد القول بوجوبها ولزومها.
القول الثاني: قال جمهور العلماء بعدم وجوب الأضحية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحى بكبشين أملحين، وقال في أحدهما: اللهم هذا عمن لم يضح من أمة محمد)، وأجيب: بأن هذا الحديث يحتمل: (عمن لم يضح من أمة محمد) جبراً لنقصه، ويحتمل أن يكون المراد به: عمن لم يضح وهو مختار، ولذلك قالوا: إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال.
وأيناً ما كان فلا ينبغي للمسلم أن يفرط في هذا الخير العظيم والثواب الكبير؛ فيترك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده القدرة على الأضحية.
وإنما تكون الأضحية على من قدر عليها ووجد السعة لكي يضحي، وينبغي للمسلم أن يحرص على وجود هذه السنة في بيته يوم النحر، وليس بالمستحب أن يترك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخلو بيته من هذه الشعيرة، ولذلك ما زال المسلمون يجدون هذه الأضحية في بيوتهم يوم النحر، حتى كان بعض العلماء يقول: أستحب للحاج أن يترك أضحيته في بيته، ولما سئل عن ذلك قال: لأن صغار المسلمين إذا ألفوا هذه السنة في بيوتهم اعتادوها ونشئوا عليها، ولكنه إذا اعتاد الحج وضحى في حجه؛ خلا بيته عن هذه السنة.
وقد استحب بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أن من أراد أن يتفضل بالأضحية ويتصدق بها في غير بلده، فإنه يضحي عن نفسه في بيته، ثم إذا أراد أن يتصدق في خارج بلاده أو خارج مدينته، فإنه يجعل ذلك فضلاً عن أضحيته في بيته، ولا يجعل أضحية بيته صدقة خارجة عن بيته وبلده؛ والسبب في هذا كله: أن ينشأ أبناء المسلمين وبناتهم على هذه السنة وعلى هذه الشعيرة، فلا تخلو منها بيوت المسلمين، خاصة في هذا اليوم، ولذلك فإن عيد الأضحى يتميز بالأضحية، وقد سمي اليوم يوم النحر وعيد الأضحى لوجود هذه الشعيرة العظيمة التي لا ينبغي التفريط فيها.
والأضحية لها سنن وآداب وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، واعتنى العلماء والفقهاء رحمهم الله ببيانها؛ فناسب أن يذكرها المصنف بعد الهدي؛ والسبب في هذا واضح: وهو أن الهدي يكون في الغالب في يوم النحر، ومتصل بالحج، فلما فرغ رحمه الله من أحكام الحج وأحكام الفوات والإحصار -وفي الفوات والإحصار الدم الواجب- ناسب أن يتكلم عن أحكام الهدي، وأن يبين ما الذي يجزي وما الذي لا يجزي في الهدي، ثم أتبع ذلك بالأضحية؛ لاشتراك الكل في الزمان، وأتبعه بالعقيقة؛ لوجود المناسبة من جهة تفصيل أحكام الدم في كلٍ.(130/7)
أحكام العقيقة
قال رحمه الله: [والعقيقة].
وهي ما يعق به عن المولود، ووصفت بذلك؛ لأن المولود يحلق شعره وتذبح عقيقته، والعقيقة: شعر المولود، فلما وجد الحلق لهذا الشعر وصفت بذلك وقيل لها: عقيقة، والعقيقة تعتبر أيضاً من سنن النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، فقد عق عن الحسن والحسين، وعق عن ولده صلوات الله وسلامه عليه، تشريعاً للأمة، وفيها نوع شكر لله عز وجل على نعمة الولد، وأن الله سبحانه وتعالى لم يقطع عن الإنسان الذرية، وفيها تضمن إثبات أنساب الناس، فإن الناس يعرفون الأنساب عن طريق العقيقة؛ إذ تذبح العقيقة ويدعى لها الناس، فيسألون: ما هذا المولد: أذكر أم أنثى؟ فيثبت للإنسان نسبه، ولكن إذا خلا هذا الاجتماع فإن الناس يتكاثرون ويتوالدون ولا تعرف أنسابهم، ولا تحفظ الذرية.
كما أن فيها هذا المعنى العظيم الذي يشعر بالتفرقة بين السفاح والنكاح، فإن السفاح والزنا -والعياذ بالله- تكون ولادته خفية، وهي عار على من بلي به -نسأل الله السلامة والعافية- ولكن النكاح يشهر في ابتدائه، كما قال صلى الله عليه وسلم: لـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه: (أولم ولو بشاة)، وكذلك جعل العقيقة عند وجود أثر النكاح من الولد، كل ذلك ليفرق بين ما شرع الله من النكاح وبين ما حرمه من الزنا والسفاح.
وقول رحمه الله: (باب الهدي والأضحية والعقيقة)، كأنه يقول: سأذكر لك في هذا الموضع جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالهدي والأضحية والعقيقة.(130/8)
أفضل الذبائح
قال المصنف رحمه الله: [أفضلها إبل، ثم بقر، ثم غنم].
الأفضل: هو الأعظم ثواباً والأكثر أجراً، والتفضيل إنما يكون بدليل الشرع، فلا تَفْضُل عبادة على عبادة ولا طاعة على طاعة إلا بدليل من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة، وليس التفضيل بمحض الهوى واختيار الإنسان وحبه، وإنما هو من شرع الله عز وجل، ولذلك يتوقف في الفضائل، ولا يحكم بها إلا بدليل، وليس لأحد أن يحكم ويجزم بتفضيل طاعة على طاعة وقربة على أخرى إلا بدليل من الشرع، وعلى هذا ابتدأ المصنف رحمه الله ببيان أفضل الهدي وأفضل الأضحية وأفضل ما يعق به، فقال رحمه الله: (أفضلها) والضمير عائد إلى هذه الثلاث.
قال: (أفضلها إبل) والدليل على تفضيل الإبل: أن الله سبحانه وتعالى امتنَّ بها على عباده، فقال سبحانه: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36]، فأخبر سبحانه أنها من شعائره، وهذا بسبب ما يكون فيها من الخير، كما قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36]، والخير الموجود في الإبل يدل على فضلها؛ لأنها أعظم جسماً وأكثر لحماً، وهي عند الناس أعز وأشرف، ولذلك لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر فضل الدنيا وفضل ما يكون منها اختار منها حمر النعم؛ وهي الإبل الحمراء؛ لأنها عزيزة، ولما أراد الله سبحانه وتعالى أن يصف أهوال الآخرة وشدائد ما يكون في الرجفة بين يدي الساعة قال سبحانه: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4]، فالناقة العشراء الولود من أعز ما يكون على الإنسان، وعلى أهله.
فالإبل هي أفضل بهيمة الأنعام من عدة وجوه: من جهة ما يكون منها من الخير في ركوبها، والوبر الذي يكون منها، وحمل الأثقال عليها: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7]، وهي السيارة التي يسيرون عليها، وجعل الله فيها من الخصائص والمميزات -بقدرته وعظمته جل جلاله- ما تحار فيه العقول من جهة صبرها على السفر، وتحملها لمشقة الظمأ والعطش أياماً عديدة، فيجد الناس فيها من قضاء المصالح ما الله به عليم، وأعجب ما يكون أنك تراها مع عظم جثتها وضخامتها يقودها الولد الصغير! فهو يأخذ بخطامها فتسير معه حيث سار، وكل ذلك بفضل الله سبحانه وتعالى، فلولا تسخير الله عز وجل لها لم يستطع هذا الغلام أن يقود هذه الدابة، ولربما فتكت به في طرفة عين، فإن البعير إذا هاج ربما يذعر القرية بكاملها؛ لأنه يفتك بالإنسان ويقتله، ولربما قتل صاحبه إذا كان به غل عليه، ينتظر نومه أو غفلته فيبرك عليه فيقتله، ولربما يعضه حتى يقضي ما بيده، ولربما ينزف حتى يموت، ويفعل الأفاعيل التي قد يعجز عنها العدد الكثير من الناس، ففيه قوة وبطش وحنق وغيظ، ولكن الله سبحانه وتعالى يلطف بلطفه.
فهذا النوع من بهيمة الأنعام لا إشكال في أنه الأفضل؛ لما جعل الله فيه من الخصائص والمميزات، ولأنه أعز ما يملكه الناس، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن: (أعظم الرقاب أجراً أنفسها وأغلاها عند أهلها)، ثم إن الإبل أكثر ثمناً، والأغلى ثمناً أعظم أجراً؛ لأن فيه مشقة البذل ومشقة الصدق، ولذلك سميت الصدقة صدقة؛ لأن المسلم يصدق فيها، أو تدل على صدق محبته لله عز وجل، وإيثاره للآخرة على الدنيا.
وأما الدليل الذي دل على تفضيل الإبل على البقر فصريح قوله عليه الصلاة والسلام: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في السعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً)، فجعل الساعة الأولى للإبل، والثانية للبقر، والثالثة للغنم، ومعلوم أن مشقة الساعة الأولى أعظم، ومن هنا دل هذا الحديث على تفضيل الإبل على البقر والغنم.
وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن الأفضل في الأضحية الجذع من الضأن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى به، ولا يختار الله لنبيه إلا الأفضل، ولحديث: (إن الجذع أفضل من الإبل)، وفيه أن الله تعالى اختاره فداء لنبيه إسحاق عليه السلام.
فقالت المالكية: إن الضأن أفضل من الإبل في الأضحية فقط، وأما في الهدي فالإبل أفضل؛ فكأنهم رأوا خصوص ورود النص في الأضحية في الضأن.
وهذا القول مرجوح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإبل أفضل من البقر والغنم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك الأفضل وهو يحبه -كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- شفقة على الأمة، ولذلك قال الجمهور: لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بالكبش لأنه أيسر على الناس، ولذلك ففيه الجذع، والجذع أقل سناً من الثني من الماعز ومن الثني من البقر ومن الثني من الإبل، فكأنه يريد الرفق بالأمة، ومن هنا قالوا: إن هذا لا يستلزم أنه أفضل.
وأما تفضيل الضأن على الإبل بحديث الفداء، فحديث الفداء ضعيف سنداً ومتناً، أما سنداً: فلأنه من رواية إسحاق الحنيني، وهو ضعيف.
وأما بالنسبة للمتن: فلأن فيه: (أن الله اختاره فداء لإسحاق)، والذبيح إنما هو إسماعيل وليس إسحاق عليهما السلام، على أصح قولي العلماء كما لا يخفى؛ والسبب في ذلك: أن التي كانت بمكة إنما هي هاجر، والولد ولدها، ولو كان الذبيح إسحاق لكان النص يعتني بإيراده من الشام إلى مكة، وهذا واضح وظاهر، ومن الأدلة التي تقوي أن الذبيح إسماعيل: أن الله تعالى يقول في نفس الآية: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]، فكيف يبشره بأن إسحاق سيلي يعقوب، ثم يأمره بذبحه؟!! ولذلك قالوا: إن الذبيح إنما هو إسماعيل؛ لأن الله ذكر البشارة بإسحاق بعد إسماعيل، وهذا يدل على أن الذبيح إسماعيل، فذكر قصة الذبح لإسماعيل، ثم بعد ذلك أتبعها بالبشارة: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112]، ويدل عليه أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (أنا ابن الذبيحين)، وذلك واضح من جهة أبيه عبد الله وجده إسماعيل عليه الصلاة والسلام.
وعلى هذا فالذي يظهر أن الأفضل في بهيمة الأنعام -سواء كانت هدياً أو أضحية- أن نقدم الإبل ثم البقر ثم الغنم؛ لثبوت السنة بالتفضيل.
قال رحمه الله: (ثم بقر)؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للصحابة أن يشترك السبعة في البعير والبقرة، وضحى عليه الصلاة والسلام عن نسائه ببقرة، فجعل البقرة منزلة البعير من جهة الاشتراك، لكن البقرة دون البعير في الفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الساعة الأولى للإبل، والثانية للبقر، ولأن الإبل أوفر لحماً من البقر -كما لا يخفى- وأطيب عند الناس، وأفضل من لحم البقر، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن لحم البقر داء ولبنه شفاء)، وهذا صحيح، فإن لحم البقر خاصة في البلاد الحارة يضر بالبدن، وأما بالنسبة للحم الإبل فإنه أطيب، وليس فيه ما في لحم البقر.
وقد ذكر الأطباء القدماء والمعاصرون هذا الكلام، فمما ذكره الأطباء القدماء: أن لحم البقر يثير السوداء، والسوداء: هي إحدى الخصائص الأربع الموجودة في البدن، فإذا هاجت في الإنسان فإنها تورث الوسوسة، وتؤثر في عقله، وفيها ضرر، فالأطباء لا يحمدون لحمه كما يحمد لحم الإبل، وفي لحم الإبل زهومة وقوة، ولذلك أمر بالوضوء منه؛ أو لما فيها من الشياطين، كما تقدم معنا في مباحث الوضوء ونواقضه.
وقوله: (ثم غنم) يشمل الزوجين من الغنم: الماعز والضأن، والضأن هو الذي يسميه العامة (الطلي)، وقد اختلف العلماء هل الأفضل الضأن أو الماعز؟ والصحيح: أن الضأن أفضل؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاره من بين الغنم، ولأن لحم الضأن أطيب من لحم الماعز، ولذلك قالوا: إنه في الغنم يفضل الضأن على الماعز، مع أن سن الضأن دون سن الماعز؛ ولكنه فضل من جهة حب الناس له، وطيب لحمه، وقد يكون في كثير من الأحوال أوفر لحماً من الماعز.(130/9)
ما يجزئ ذبحه
قال رحمه الله: [ولا يجزئ فيها إلا جذع ضأن وثني سواه].
الجذع: هو الذي أتم ستة أشهر، ويختلف بحسب اختلاف المرعى، فبعضه يجذع بعد الستة الأشهر؛ لقوة المرعى، وبعضه لا يكون جذعاً إلا بعد ثلاثة أرباع الحول إلى ثمانية أشهر، وبعضه يكون جذعاً قريباً من السنة، وهذا يختلف -كما ذكر أهل الخبرة- باختلاف المرعى، ولكن الغالب أن الجذع إذا أتم ستة أشهر ودخل في أكثر السنة فإنه يكون جذعاً من الضأن، وأما بالنسبة للثني فهو ثني ما سوى الجذع من الضأن، فالمراد به: ما أتم سنة من الماعز ودخل في الثانية، وما أتم الثانية ودخل في الثالثة بالنسبة للبقر، وأما بالنسبة للإبل فهو ما أتم الرابعة وطعن في الخامسة، هذا هو الثني من الماعز والثني من البقر والثني من الإبل، ويسمى بالمسن، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تذبحوا إلا مسنة) يدل على أن الاعتبار بالمسنة إنما هو في الإبل والبقر والغنم، وكذلك أيضاً قوله: (إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) قالوا: إن الجذع من الضأن يوفي ما يوفي منه المسن فيما سواه.
ثم يقول رحمه الله: [فالإبل خمس، والبقر سنتان، والمعز سنة، والضأن نصفها].
على ما ذكرناه، فستة أشهر فأكثر بالنسبة للضأن، وسنة كاملة بالنسبة للماعز، وسنتان بالنسبة للبقر، واستتمام الرابعة والدخول في الخامسة بالنسبة للإبل.
قال رحمه الله: [وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة].
قوله: (تجزئ الشاة عن واحد)، هذا فيه تفصيل: أما الأصل فإنها تجزئ عن الرجل وعن المرأة، ولكن تجزئ عن الرجل وأهل بيته أيضاً؛ لأن أبا أيوب رضي الله عنه ذكر أن الشاة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تجزئ عن الرجل وأهل بيته، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد)، فأدخل عليه الصلاة والسلام آله، ولذلك قالوا: تجزئ عن الرجل وأهل بيته، والمراد بأهل البيت: الزوجة والأولاد، وفي الأولاد تفصيل: فمن استقل من الأولاد بنفقته فلا يدخل، وتكون له أضحيته، فيضحي عن نفسه، وأما إذا كان تبعاً في البيت وكأنه واحد من أهل البيت، فحينئذٍ لا إشكال في دخوله، وإذا ملك القدرة فإنه يضحي عن نفسه، خروجاً من الخلاف.
وقوله: (والبدنة والبقرة عن سبعة)؛ لحديث جابر رضي الله عنه كما روى مسلم في صحيحه، وقد وقع هذا في صلح الحديبية، فكانوا يشتركون السبعة في البعير، والسبعة في البقرة، وعلى هذا فإن البقرة تجزئ عن سبعة، والبدنة تجزئ عن سبعة، فلو اشترك السبعة في بقرة واحدة أو بعير واحد أجزأهم ذلك.(130/10)
أحكام عيوب الأضحية
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا تجزئ العوراء].
شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالأضحية والهدي ونحوهما من الدماء الواجبة؛ حيث ابتدأ بهذه الجملة في بيان ما ينبغي أن تكون عليه البهيمة من السلامة من العيوب، فإذا أوجب الله على المكلف ذبحها؛ فينبغي أن تكون سالمة من العيوب.
وقد نص رحمه الله على هذه الأحكام، وهي التي تسمى: أحكام عيوب الأضحية، ونص عليها بالأضحية لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على بيان العيوب التي تؤثر في الأضحية؛ ففي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عروها، والعرجاء البين ضلعها، والمريضة البين مرضها، والكسيرة -وفي رواية: الكبيرة- التي لا تنقي)، فبيّن عليه الصلاة والسلام ما ينبغي أن تكون عليه البهيمة من السلامة من العيوب، سواء كانت من الغنم أو البقر أو الإبل، فلا بد من أن تكون سالمة من هذه العيوب الأربعة.
ولما نص عليه الصلاة والسلام على هذه الأربع نبه على ما هو أولى منها وأشد، وذلك أنه حينما بين أن العوراء لا يجوز أن يضحى بها فمن باب أولى العمياء، ولما نص على أن العرجاء لا يضحى بها فمن باب أولى المشلولة.(130/11)
أقسام عيوب الأضحية
وقد تكلم العلماء رحمهم الله عن هذه العيوب وفصلوا فيها؛ فقسمت إلى قسمين: القسم الأول: عيوب منصوص عليها، وهي العيوب التي بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء المذكور.
القسم الثاني: مقيسة وملحقة بالمنصوص عليها، وهذا النوع المقيس والملحق إما أن يكون قياسه من باب أولى؛ كالعمياء والشلاء، وإما أن يكون قياسه عند تساوي العلة فيه، بمعنى: أن يكون العيب متحداً من جهة تأثيره في اللحم أو القيمة؛ على اختلاف بين العلماء في بيان تحقيق المناط في هذا القسم.(130/12)
العوراء
قوله رحمه الله: (ولا تجزئ العوراء): المراد بالعور: ذهاب نور البصر في إحدى العينين، وأصل العور في لغة العرب: النقص، ولما نقص بصر البهيمة نقصت قيمتها.
وأما كونه لا يجزئ أن يضحى بالأضحية إذا كانت عوراء، فذلك هو نص قوله عليه الصلاة والسلام: (العوراء البين عورها)، والشاهد: أنها إذا كانت عوراء فإما أن يذهب نور العين بالكلية، وإما أن يكون نور العين موجوداً ولكن بشكل ضعيف، فإن ذهب نور العين بالكلية بحيث لا تبصر ألبتة، ويعرف ذلك بطريقة ما، كأن تربط عينها المبصرة وتترك لتسير، فإن لم تسر كما كانت تسير، أو خبطت في مشيها، أو امتنعت وتوقفت؛ دل ذلك على أنها لا تبصر بعينها، فإذا كان بصرها قد ذهب في إحدى العينين فلا يجزئ أن يضحى بها.
لكن العلماء رحمهم الله قسموا العوراء إلى قسمين: القسم الأول: ما كانت فيه العين قائمة.
والقسم الثاني: ما كان تلف العين ظاهراً عليها.
أما الذي تكون فيه العين قائمة؛ فإنك ترى البهيمة وكأنها مبصرة -وهي العين التي تسمى بالقائمة- ولا تستطيع أن تقول: إنها عوراء، أو أن بصرها قد ذهب.
فهذا النوع يقول فيه بعض العلماء: إذا كانت العين قائمة فإنه يجوز أن يضحى بها؛ لأن قيام العين لا يمنع من الانتفاع من أكل العين، وكأن المنع من التضحية بالعوراء أنه لا ينتفع بالعين، وذلك عند طبخها وأكلها، فإنه يكون نقصاناً في خلقتها ونقصاناً في الانتفاع بها.
وقال بعض العلماء: إنما أثر هذا العيب لكونها إذا كانت عوراء لم تستطع أن ترعى كأخواتها، فأضر ذلك برعيها وطعامها، ومن ثم تتضرر في لحمها، وينبني على ذلك مسائل: المسألة الأولى: الحكم في قوله عليه الصلاة والسلام: (العوراء البين عورها) يدل دلالة واضحة على أن البهيمة إذا كانت لا تبصر بإحدى العينين فإنه لا يجزئ أن يضحى بها، سواء كانت عينها موجودة أو غير موجودة، فإن قوله: (البين عورها) البين: من البيان، يقال: بان الشيء إذا اتضح، ومنه قولهم: بان الصبح، إذا اتضح وبدا ضوؤه، فقوله: (البين عورها) أي: التي يكون العور فيها مؤثراً، والمراد بذلك وجوده حقيقة، ومفهوم قوله: (البين عورها) أنها إذا كانت تبصر نوع إبصار ولو كان ضعيفاً، فإنه يجوز أن يضحى بها؛ لأن المراد بالعور ذهاب البصر، وهذا هو المقصود من قوله: (البين عورها)، سواء كانت العين موجودة أو غير موجودة.
المسألة الثانية: إذا قلنا: إن العوراء لا يجوز أن يضحى بها، فما حكم العمياء؟ جمهور أهل العلم رحمهم الله على أن العمياء لا يجوز أن يضحى بها؛ وذلك لأن العين مما يستطاب ويؤكل، فهي ناقصة لعضو من أعضائها، ولذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العوراء لذهاب جزء هذا العضو، فمن باب أولى إذا ذهب بالكلية.
وقالت الظاهرية: الحكم يختص بالعوراء، والعمياء يجوز أن يضحى بها.
وهو قول مرجوح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالأدنى على الأعلى، فلما قال لنا: إن العوراء لا يجوز أن يضحى بها -وهو صريح قوله في الحديث الصحيح- فإن هذا يدل دلالة واضحة على أن ذهاب البصر بالكلية يعتبر عيباً موجباً لعدم جواز التضحية.
المسألة الثالثة: إذا كان بها بياض، أي: أن العينين قائمة وموجودة، ولكن فيها بياض يشينها، وتارة يضعف بصرها، فهل يجوز أن يضحى بهذا النوع من البهائم أم لا؟ للعلماء تفصيل في ذلك: قالوا: إذا كان البياض قد غطى البصر حتى أذهبه؛ لم يجز أن يضحى بها، وإن كان البصر باقياً ولو كان ضعيفاً؛ جاز أن يضحى بها.
المسألة الرابعة: إذا كانت الشاة لا تبصر بالليل ولكنها تبصر بالنهار -وهو العشي- فإذا كانت على هذا الوجه هل يجوز أن يضحى بها أم لا؟ الصحيح: أنه إذا كانت تبصر بالنهار ولا تبصر بالليل فإنه يجوز أن يضحى بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على العوراء بقيد، وهو قوله: (البين عورها)، فإذا كان نقص البصر ليس ببين، بمعنى: أنه موجود في النهار وليس بموجود في الليل؛ فلا يؤثر.
ومما يدل على أنها إذا كانت تبصر بالنهار ولا تبصر بالليل فإنه يجوز أن يضحى بها: أن الناظر في العلة في حال حياتها إنما هو لضعف أكلها ومرعاها، ومعلوم أن الرعي يكون بالنهار ولا يكون بالليل، فأصبحت العلة ضعيفة عن التأثير، وعلى هذا فإنه يجوز أن يضحى بالشاة إذا كانت تبصر بالنهار ولا تبصر بالليل؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد المنع بالبيان، وإذا كانت الشاة تبصر بالنهار فإن عورها وذهاب بصرها ليس ببين وواضح؛ فافتقد القيد المعتبر للحكم بالمنع.
قال بعض العلماء في العوراء: إن العين مما يستطاب في اللحم، وربما أُكرم الضيف بإعطائه العين إكراماً له وإجلالاً، وربما خصوه باللسان، على عادات تختلف بحسب اختلاف أحوال الناس وأزمنتهم، فقالوا: إن العور يذهب هذا المقصود بعد ذبح الشاة وبعد نحر الإبل ونحو ذلك، فقالوا: إنه يعتبر عيباً مؤثراً؛ لأنه نقص في اللحم، ونقص في الانتفاع، وبهذا كان مؤثراً وموجباً لعدم جواز التضحية بهذا النوع من البهائم.(130/13)
الهزيلة العجفاء
قال رحمه الله: [والعجفاء].
المراد بالعجفاء: الهزيلة، وهي كبيرة السن، وقد جاء تقييدها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (والكسيرة التي لا تنقي) والمراد بذلك أمور: أولاً: أنها كبر سنها ووهن عظمها حتى ذهب المخ الذي في عظامها، والمخ الذي في العظم مما يستطاب، وله فوائد، وقد كانوا يستحبونه في الأكل؛ فذهابه ذهاب لمادة العضو، ولذلك قالوا: إن هذا يعتبر نقصاناً في الخلقة ونقصاناً في المادة؛ لأن المقصود من ذبح الأضحية أن تؤكل، فإذا ذهب مخها -وهو من أفضل ما يستطاب فيها ومما فيه المنفعة- فإن ذلك يؤثر في إجزائها.
ثانياً: أنها إذا كانت كبيرة ولا مخ فيها فإن لحمها لا يستطاب؛ وذلك لأن الكبيرة يتغير لحمها مع الكبر، وحينئذٍ تكون في هذه الحالة قد ذهب المقصود من ذبحها من استطابة أكلها، وانتفاع الناس بها بعد الذبح.
ثالثاً: قوله: (والكبيرة -وفي رواية: والكسيرة- التي لا تنقي) فإن الشاة أو البقرة أو الناقة تكون هزيلة لأسباب: الأول: أن يكون هزالها بالكبر؛ فحينئذٍ لا إشكال في ذلك، وقد ورد النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونها لا تجزئ.
الثاني: أن تكون هزيلة بسبب المرض؛ كأن تصاب بمرض ثم تضعف وتصير هزيلة لا مخ فيها، وهذه لا إشكال فيها أيضاً؛ لأنه قد اجتمعت فيها علتان: العلة الأولى: المرض، والعلة الثانية: ذهاب مخها ونقي عظامها.
الثالث: أن تكون هزيلة الخلقة، فإذا كان هزالها من أجل أنها منذ أن وجدت وهي في الخلقة ضعيفة الجسم هزيلة ولكنها طيبة اللحم، بمعنى: أنها تطعم وتأكل المرعى، ولكنها لا تُقبل على الأكل كثيراً؛ فهي هزيلة في خلقتها، فمذهب طائفة من العلماء: أن هذا الهزال لا يؤثر، ويجوز أن يضحى بمثلها.
الرابع: أن يكون الهزال بسبب الجوع وبسبب قلة الأكل والمرعى، كما يقع ذلك في السنين التي تكون شديدة على الناس، فقال بعض العلماء: إذا كانت هزيلة بسبب الجوع فإنه يجوز أن تذبح ويضحى بها؛ وذلك لأن هذا الهزال لا يؤثر في نقي عظامها صحيح أنه في بعض الأحيان يضعفه وقد ينقصه، ولكنه ليس ناشئاً عن داء ولا كبر؛ فيعتبر غير مؤثر ولا موجب لعدم الإجزاء.(130/14)
العرجاء غير المجزئة في النسك
قال رحمه الله: [والعرجاء].
وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (أربع لا تجوز في الأضاحي -وذكر منها-: العرجاء البين ضلعها) -يعني: عرجها-، والعرج ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون خفيفاً، ولا يستطيع الإنسان تمييزه إلا بدقة النظر؛ فهذا لا يؤثر، وجهاً واحداً عند العلماء.
القسم الثاني: أن يكون عرجها قوياً ومؤثراً وواضحاً بيناً، فحينئذٍ لا يخلو من أحوال: فتارة يكون ملازماً لها؛ كأن يكون خلقة، أو كسرت منها يد فأصبحت تعرج بعد كسرها، أو رجل فأصبحت تعرج بعد كسرها، ونحو ذلك، فإن أصبح ملازماً لها فإنه يؤثر، وأما إذا كان عارضاً يزول بزوال علته؛ فإنه لا يؤثر، ولا يوجب مثله المنع، لكن قال بعض العلماء: لا يضحى بها حال العرج؛ لأنها ناقصة وقت الأضحية.
والعرج منع منه لعلتين: الأولى: أنه يمنع الشاة من اللحوق بصويحباتها عند الرعي، فيفوتها الرعي، وتأتي على آخره ولا تصيب منه إلا القليل؛ فيؤثر في طيب لحمها، وهي مقصودة من أجل أكلها.
الثانية: لأن العضو قد انتقص، وهو اليد أو الرجل؛ فيكون تنبيهاً من الشرع على أن كل نقص في الخلقة يوجب المنع.
وفي قوله: (العرجاء) تنبيه على أنها إذا كانت معاقة -كأن تكون مثلاً مشلولة اليدين أو مشلولة اليد- فمن باب أولى وأحرى أن لا تجزئ؛ لأنه إذا كان العرج لا يجزئ، وهو نقصان العضو وليس بذهاب له كله؛ فإنه من باب أولى إذا كانت مشلولة اليد كاملة أو كانت مشلولة الرجل أنها لا تجزئ، ولا يصح أن يضحى بها.(130/15)
معنى الهتماء وعدم جواز النسك بها
قال رحمه الله: [والهتماء].
الهتماء: هي التي ذهبت ثناياها، وفيها وجهان للعلماء: الأول: إن ذهبت ثناياها ولم تستطع أن تأكل كصويحباتها، وأثر ذلك أيضاً في لحمها، فهو عيب ونقص أيضاً في عضو؛ لأن الأسنان من أعضاء البهيمة وأجزائها، فذهابها يعتبر مؤثراً وموجباً للمنع.
الثاني: أن ذهاب ثناياها لا يمنع من رعيها وانتفاعها بالطعام، ثم إن هذا النقص للعضو لا يؤكل، وقالوا: إنه لا يؤثر؛ لأنه ليس بنقصان، وليس له تأثير على طيب اللحم كغيره من العيوب التي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها.
وصحح غير واحد من أهل العلم رحمهم الله أنه يجوز أن يضحى بها، وفي النفس من هذا القول شيء، فالأولى والأحوط أن لا يفعل ذلك إلا إذا اضطر إليه.(130/16)
صفة الجداء التي لا يجوز النسك بها
قال رحمه الله: [والجداء].
الجداء: هي التي جف ضرعها ويبس عن اللبن، فإن التي لا تحلب وجف ضرعها ويبس قد انتقص من عضوها، قالوا: فلما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من التضحية بالعرجاء والعمياء وذلك كله نقصان في الخلقة، نفهم من هذا أن كل نقص لعضو من أعضاء البهيمة يوجب المنع من التضحية والإجزاء.(130/17)
المريضة
قال رحمه الله: [والمريضة].
كان الأولى به أن يقدم المريضة على الجداء والهتماء؛ لأنه منصوص عليها، فإن الإجماع قائم على أن المريضة البين مرضها لا تجزئ، والمرض يكون على أحوال: فتارة يكون على ظاهر البهيمة، وتارة يكون في باطن البهيمة، وما كان من المرض على ظاهر البهيمة فتارة يكون بعلامة بينة لا مجال للشك فيها كالجرباء، فإذا كانت الشاة أو الناقة أو البقرة جرباء لم يجز أن يضحى بها؛ لأنها مريضة بينة المرض، وأنت إذا رأيتها استبان لك مرضها، ولأنه لا يؤمن من الضرر عند أكل لحمها، ولذلك قالوا: إنه لا يجزئ أن يضحى بمثل هذه؛ لأن مرضها بين واضح.
وتارة يكون بيان مرضها في داخلها.
وتارة يكون مرضها بحصول أمارات تدل على وجود فساد في صحة البهيمة، وذلك بقول أهل الخبرة الذين لهم معرفة بالبهائم، فإذا قالوا: إن بها مرضاً، وهذا المرض مؤثر؛ فإنه حينئذٍ لا يضحى بها، أما لو قالوا: هذا شيء عارض وبسيط ولا يؤثر، كما لو أصيبت باستطلاق بطن، وهذا الاستطلاق يقول أهل الخبرة: لأنها أكلت نوعاً من الطعام، وسرعان ما تعود إلى طبيعتها ولا يؤثر؛ فهذا ليس مثله بموجب للمنع من الإجزاء.
وعليه: فإن المرض إذا كان ظاهراً بيناً كالجرب ونحوه من الغدد المفسدة للحم، التي إذا ذكيت البهيمة ظهر فيها الخراج والغدد الواضحة التي تؤثر في لحمها، أو يرى الأطباء أنها مؤثرة في اللحم؛ فإنه لا يجزئ مثلها، وفي بعض الأحيان يكون مرض البهيمة سارياً إلى من يأكل لحمها، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالمريضة البين مرضها؛ لما في ذلك من أذية الناس في صحتهم، وهذا يدل على عناية الإسلام بمبدأ الوقاية ورعايته بالصحة، وهذا مما يعين المسلم على طاعة الله عز وجل، ويقويه على مرضاته؛ لأنه إذا سقم ومرض فلن يستطيع أن يذكر الله سبحانه وتعالى، حتى ربما منع ولم يستطع القيام بفريضة الله في الصلاة ونحوها من الطاعات، ولذلك منع من التضحية بالمريضة البيّن مرضها؛ لما فيها من أذية البدن بأكل لحمها، ومقصود الشرع إنما هو الإحسان إلى الناس لا الإساءة إليهم.
والمرض ينقسم عند بعض العلماء إلى قسمين: القسم الأول: المرض الملازم المصاحب.
والقسم الثاني: المرض العارض الذي يمكن أن تشفى منه البهيمة إذا مضت فترة يحددها أهل الخبرة جرت العادة بقدرة الله جل جلاله أنها تشفى في مثلها.
فأما إذا كان المرض ملازماً فلا يجزئ أن يضحى بمثل هذا النوع، وأما إذا كان المرض عارضاً فقال بعض العلماء: ينتظر إلى أن تشفى، ولا يجوز أن يضحى بها أثناء مرضها.
وقال بعض العلماء: يجوز أن يضحى بها أثناء المرض وبعد المرض؛ لأن هذا المرض ليس ببين، بمعنى: أنه ليس مؤثراً تأثيراً بيناً في البهيمة.
والصحيح: أنه ينتظر إلى شفائها وطيبها.(130/18)
حكم العضباء في النسك
قال رحمه الله: [والعضباء].
قال طائفة من أهل العلم: إذا ذهب قرن البهيمة فإنه لا يضحى بها؛ لوجود نقص في عضو من أعضائها.
وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يضحى بمقطوعة القرن، ومنهم من حَدَّه بالثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير)، ومنهم من حَدَّه بأكثر القرن إذا ذهب، وأما ما دون ذلك فإنه لا يؤثر، وورد عنه عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه أمره الصحابة أن يستشرفوا العين والأذن والقرن، قالوا: فهذا أصل يدل على أنه إذا ذهب القرن أو أكثره فلا يجوز أن يضحى بمثله.(130/19)
البتراء من النعم وحكمها في النسك
قال رحمه الله: [بل البتراء خلقة].
البتراء: هي مقطوعة الذنب، والأبتر: هو المقطوع، ولذلك كان الكفار في الجاهلية يذمونه عليه الصلاة والسلام بذلك، وقالت إحدى نسائهم للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه أبتر، قالوا: عنت أنه مقطوع لا ذرية له، وقيل: مقطوع عن دين قومه، فكأنهم بتروه وخرج عنهم، كما يقال: الصابئ، من قولهم: صبأ إذا خرج، فلما قالت ذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3]، فرد الله عز وجل ما ذكروه من النقص والعيب، والبتر: القطع في الشيء.
وقد قال بعض العلماء: لا تجزئ مقطوعة الذنب أن يضحى بها، وكذلك إذا كان الكبش مقطوع الإلية فلا يجوز أن يضحى به؛ وذلك لأنه نُقص عضو من أعضائه، والإلية تؤكل، ويستطاب أكلها، وينتفع بها، وقد تكون شفاء ودواء، ويحصل فيها من المنافع ما لا يخفى، قالوا: فإذا قطعت الإلية أو قطع أكثرها فإن هذا يعتبر عيباً مؤثراً وموجباً للحكم بعدم الإجزاء، ولأن هذا القطع يؤثر في البهيمة إذا أخرجت وأفضلت.
وقال بعض العلماء -كما درج عليه المصنف-: إن البتراء تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إن كانت بتراء خلقة، فإن هذا لا يؤثر.
القسم الثاني: إن كان قطع منها بالقصد بعد وجود ذلك في خلقتها، فإنه يعتبر عيباً مؤثراً.
وهذا التفصيل على أنها تجزئ هو الأقوى والأصح.(130/20)
أحكام الجماء والصمعاء في النسك
قال رحمه الله: [والجماء].
الجماء: هي التي لا قرون لها، والبهيمة أو الشاة الجماء يجوز أن يضحى بها؛ لأنها خلقة قد ذهب قرنها، فليست كالتي يقطع أو يقص منها بعد وجوده، ففرق العلماء رحمهم الله بين كونها وجدت خلقة بهذه الطريقة، وبين كونها قطع منها ذلك.
ثم قيس على هذه المسألة إذا ما ولدت الشاة لا أذن لها، فقال بعض العلماء: إذا كانت بدون أذن جاز أن يضحى بها، وهي الصمعاء، فقالوا: يجوز أن يضحى بها كالجماء، فإن ذهاب أكثر القرن لم يجزئ عندهم، وأما إذا كان خلقة غير موجود فإنه يجزئ، قالوا: فكذلك الأذن إذا قطع أكثرها أو كلها أثر، وأما إذا وجدت خلقة صمعاء لا أذن لها فإنه يجزئ أن يضحى بها.(130/21)
أحكام الخصي في النسك
قال رحمه الله: [وخصي غير مجبوب].
وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوءين، وقال العلماء: إن الوجاء يطيب اللحم، فإذا كان خصياً فإن هذا مما يزيد اللحم طيباً، ومن هنا قال العلماء: نقصان الخلقة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون نقصاناً مؤثراً في الخلقة، كما ذكرنا في العوراء والعرجاء ونحوهما.
فهذا يعتبر عيباً في أبواب الفقه، ويشمل ذلك باب الأضحية والبيوع، فلو باعه دابة ولم يخبره أنها عرجاء، فلما ركبها تبين عرجها؛ جاز له أن يردها، ويعتبر هذا عيباً مؤثراً.
القسم الثاني: أن يكون النقص والعيب كمالاً؛ فهو في ظاهره نقص من الخلقة لكنه كمال فيها، كالخصى والوجاء، فإنه يعتبر مطيباً للحم؛ فحينئذٍ هو نقص من وجه وكمال من وجه آخر، فلا يعتبر موجباً للفساد والمنع في باب الأضحية، ولكنه قد يمنع ويوجب المنع في بيع الأرقاء في باب البيوع؛ وذلك لأنه قد يستفاد من إنجابه ونسله، وكذلك أيضاً يعتبر عيباً بالنسبة للبهيمة إذا بيعت من أجل الانتفاع بالفحل بالضراب، ثم تبين أنه موجوء؛ فإنه حينئذٍ يجوز له أن يرد المبيع ويبطل البيع ويفسخه.(130/22)
أحكام ما بأذنه أو قرنه قطع
قال رحمه الله: [وما بأذنه أو قرنه قطع أقل من النصف].
هذا حد لبعض العلماء، وبعضهم يحده بالثلث، وأثر عن الإمام أحمد رحمه الله قوله بالثلث أيضاً؛ لأنه إذا جاوز النصف فكأن الشيء قد ذهب؛ لأن أكثر الشيء غالباً ينزل منزلة الكل، فقالوا: إذا قطع أكثر القرن أو أكثر الأذن فإن ذلك كقطع الأذن كلها.(130/23)
الأسئلة(130/24)
حكم التضحية عن الميت
السؤال
عندنا في عيد الأضحى نضحي عن الميت، فهل هذا له أصل من السنة، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالتضحية عن الميت فيها قولان مشهوران: قول جمهور العلماء، وهم على جواز التضحية عن الأموات، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحى بالكبشين قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد)، قالوا: وفي آله الأحياء والأموات، وكذلك قال: (عمن لم يضح من أمة محمد)، فشمل أحياءهم وأمواتهم، وقد تكلم عن هذه المسألة شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر أن هذا جائز ولا حرج فيه، ولا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وهذه السنة تدل على مشروعية التضحية عن الميت، خاصة إذا وصى بذلك، فقال: ثلث مالي يضحى عني منه، فحينئذٍ تكون الأضحية واجبة؛ لأنها وصية، وإذا كان ثلثه يسع ذلك فإنه يلزم إنفاذ هذه الوصية.
وخالف في هذه المسألة بعض فقهاء المالكية، واحتجوا بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث).
أما الاستدلال الأول فقد أجاب عنه شيخ الإسلام رحمه الله بأجوبة عديدة، وذكر أن قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] من جهة كونه يستحق الثواب على عمله، أي: أن عمله يتوقف عند موته من جهة كونه يحصل الثواب، أما لو أنه بعد وفاته تفضل عليه الغير بالاستغفار والترحم له، أو الصدقة عنه؛ فإن هذا لا يمتنع؛ بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وغيره لما قيل له: (يا رسول الله! إن أمي ماتت فجأة أفأتصدق عنها؟ قال: نعم)، ويدل له أيضاً حديث سعد رضي الله عنه في صحيح البخاري: أنه شكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم موت أمه فجأة، فقال: (يا رسول الله! أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قال: فجعل لها حائطاً بالمخراف) أي: تصدق عنها بمزرعة، فدل على أن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] لا يعارض الصدقة عن الميت.
وبناءً عليه فإن هذا لا يعتبر محظوراً شرعاً، بل هو جائز، خاصة وقد وردت السنة بجوازه.
وأما بالنسبة لقوله عليه الصلاة والسلام: (صدقه جارية)، فقد قال فيه العلماء: إذا وصى بالتضحية عنه فإنها صدقة جارية؛ لأنه هو الذي تسبب فيها، وهذا من سعيه.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: لولا أن الإنسان مؤمن، ولولا أنه مسلم، لما تصدق عنه أحد ولما ضحى عنه أحد.
فكأن سبب الأضحية هو الإيمان، والإيمان من سعي الإنسان، فلا يكون قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] مآله من هذا الوجه، فيرى أن هذا من سعيه؛ إذ لولا الإيمان لما ترحم عليه المسلمون ولما دعوا له، وقد تكلم عن هذه المسألة بكلام طويل في مجموع الفتاوى، فحبذا لو يرجع إليه للاستفادة والاستزادة.
والله تعالى أعلم.(130/25)
جواز تضحية المرأة عن نفسها
السؤال
المرأة التي ليس لها قيّم هل تلزمها الأضحية؟ وهل تمسك عن شعرها وأظفارها، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا كان عند المرأة سعة فإنها تضحي، فالأضحية مشروعة للنساء كما هي مشروعة للرجال، وإذا وجدت المرأة القدرة فإنها تتقرب إلى الله عز وجل وتضحي كما يضحي الرجل، وتمسك عن قص شعرها وتقليم أظفارها كالرجل سواء بسواء.
والله تعالى أعلم.(130/26)
عقيقة الخنثى المشكل
السؤال
ما هي عقيقة الخنثى المشكل؟
الجواب
أما بالنسبة للخنثى المشكل فهو مشكل، قال بعض العلماء: الأصل في الخنثى المشكل أنه امرأة، وهذا مبني على القاعدة الشرعية: اليقين لا يزول بالشك.
فاليقين أنه في حكم النساء حتى يرتقي إلى درجة الذكورة والفحولة التي هي فوق الأنوثة، ولذلك قال تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، ومن هنا قالوا: إن الخنثى ينزل منزلة النساء، وعليه فإنه يأخذ حكم الأنثى سواء بسواء من جهة العقيقة، ومن جهة معاملته.
والله تعالى أعلم.(130/27)
حكم العقيقة بالبدنة عن سبعة
السؤال
ما حكم العقيقة بالبدنة؟ وهل تجزئ عن سبع من البنات، أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة مبنية على التداخل، والتداخل في الدماء الواجبة يقع في الهدي والأضاحي، وأما بالنسبة للعقيقة فإن مقصود الشرع أن يراق الدم عن المولود، وعلى هذا فإنه لا تداخل في العقيقة، بخلاف غيرها من الدماء، ولابد في العقيقة من وجود الدم المنفصل عن كل نفس بحسبها.
والله تعالى أعلم.(130/28)
حكم أخذ الأحكام من الكتب دون الرجوع للعلماء
السؤال
شخص حدثت له مسألة في الليل، ولا يستطيع سؤال أهل العلم، ثم فتح كتاباً من كتب المذاهب وأخذ بما فيه، فهل عليه شيء، أفتونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما بالنسبة للسؤال فينبغي أن يكون واقعياً، ويكون السؤال له حقيقة، فبالنسبة لمسائل الحج أنت ترى ونرى جميعاً توافر العلماء والدعاة والمشايخ، والكتب التي فيها توجيه للناس قد لا يحتاج إليها من كثرة ما يسمع من التوجيه والبيان، ولذلك فإن مسألة أن لا يتوافر عالم وهو يحج بين المسلمين هذا أشبه بقولهم: إذا لم تغب الشمس فينبغي أن يكون السؤال واقعياً، يعني أن هذه الأمة، والسواد الأعظم من أهل العلم، وما يسفر من وجود العلماء -وهي نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى- ووجود مراكب لتوجيه الحجاج، وبيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، ومع كل هذا يقال: أنه لا يوجد عالم! هذا لا يخلو من نظر، ولذلك فإن هذا السؤال فيه بعد، لكن لو طرأت مسائل على الإنسان قبل أن يأتي إلى الحج، أو أحرم بالحج، ثم وهو في الطريق طرأت عليه؛ فإن العامي والجاهل لا يفتي نفسه، وعلى هذا فإنه لا بد له من الرجوع إلى العلماء، والله تعالى يقول في كتابه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فأمرنا بالرجوع إلى العلماء وسؤالهم.
قال بعض العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء) قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل قبض العلم بموت العلماء، ولم يذكر الكتب، ولذلك استنبط بعض العلماء أن العلم لا يؤخذ من الكتب وإنما يؤخذ من العلماء؛ لأن الكتب لا يؤمن فيها التصحيف ولا التحريف -تحريف الكاتب والمطبعة- ولا الفهم السقيم؛ فيكون الكلام له معنىً غير المعنى الذي فهمه، ولذلك لا تبرأ ذمته بصورة صحيحة إلا بسؤال أهل العلم والرجوع إليهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(130/29)
شرح زاد المستقنع - باب الهدي والأضحية والعقيقة [2]
شرع الله سبحانه وتعالى أحكاماً للذبح والنحر وهي ما يسمى بأحكام التذكية، فللتذكية طرق وشروط وسنن ينبغي على المذكي العلم والإحاطة بها، وللأضحية أيضاً وقت لا تجزئ إلا إذا ذبحت فيه، فلا يجوز تأخير ذبحها عن وقتها المحدد شرعاً.(131/1)
أحكام التذكية
يقول المصنف رحمه الله: [والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى].
لما فرغ رحمه الله من بيان الأحكام المتعلقة بالعيوب، كأنه قد هيأ لك البهيمة التي يجوز أن يضحى بها، وكأن سائلاً يسأل: إذا تمكنت من الأضحية، وكانت سليمة من هذه العيوب التي ذكرت، فما هي السنة وما هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذبح والنحر؟(131/2)
طرق التذكية الشرعية
هناك طريقتان للتذكية الشرعية، والحيوان ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مستأنساً، وإما أن يكون متوحشاً.
أما الحيوان المستأنس فكالإبل والبقر والغنم والطيور إذا أمسكتها، والدجاج الداجن، فهذه الحيوانات لها تذكية معينة، وهناك نوع ثان من التذكية الشرعية للحيوان الذي لا تقدر على إمساكه وأحلّ الله لك أكل لحمه، كالطير في الهواء، والوعل والظبي والغزال والريم ونحوها من صيد البر، فهذا النوع من الحيوانات له تذكية ثانية، ومن ثم اصطلح أهل العلم على تسمية الأول: بالمستأنس؛ لأنه يأنس بك وتأنس به، ولذلك فإن الشاة إذا جئت لتذبحها تكون في متناول يدك، وأما الحيوان الذي لا تستطيع إمساكه إلا بالغلبة وبالحيلة والقهر -وهو الصيد- فله تذكية خاصة؛ وذلك بأن ترميه بالسلاح في أي موضع من بدنه وتعقره، فإذا عقرته وأهلكته بهذه الرمية أو الطلقة من سلاحك فإنه حينئذٍ يكون حلالاً لك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، وقال له عدي: (يا رسول الله! إني أصيد بكلبي المعلم وبكلبي غير المعلم، وبهذه الباز، فما يحل لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، فجعل للصيد رخصة، وسنتكلم -إن شاء الله- عن مباحث ومسائل الصيد، وكيفية التذكية في هذا النوع الذي رخص الشرع فيه في باب أحكام الصيد، لكننا سنتكلم هنا عن كيفية هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحيوان المستأنس الذي يضحي به الإنسان من الإبل والبقر والغنم.
فالحيوان المستأنس من الإبل والبقر والغنم تنقسم تذكيته الشرعية إلى قسمين: فإما أن تذكيه بالنحر، وإما أن تذكيه بالذبح.
فأما النحر: فهو أن تطعن البعير في الوهدة التي في أسفل عنقه عند التقائه بالصدر -تسمى في اللغة الوهدة- فتطعن بالسكين أو الخنجر أو نحوه من السلاح الذي ينهر الدم، وهذا يسمى: نحر.
وأما الذبح فإنه يكون بإضجاع البهيمة على جنبها ثم ذبحها، وذلك بإنهار دمها من جهة عنقها، ويكون ذلك بقطع المريء والحلقوم وأحد الودجين، وهما العرقان اللذان في الرقبة.(131/3)
السنة في تذكية الإبل
والسنة في الإبل أن تنحر ولا تذبح، ولكن إن فعله أجزأه؛ وذلك لأنه إنهار للدم مع ذكر اسم الله عز وجل، وأما الشاة فإنها تذبح ولا تنحر؛ إذ ليس فيها موضع للنحر، وإنما هي من جنس ما يذبح وليس من جنس ما ينحر، وأما البقر ففيه الموضعان، فيمكن أن ينحر أو أن يذبح، وبكلٍ قال جمع من العلماء رحمهم الله، وكلٌ جائز إن ذبح أو نحر، وأياً ما كان فقال رحمه الله: (والسنة أن تنحر الإبل قائمة).
فإذا قلنا: إن الإبل تنحر، فالنحر يكون على حالتين: الحالة الأولى: أن تكون قائمة.
الحالة الثانية: أن تكون باركة.
فأما إذا كان الإنسان يريد تذكيتها ذكاة شرعية على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته الكريمة؛ فإنه يبعثها قائمة، ويعقل يدها اليسرى، ثم بعد ذلك يطعن في وهدتها وينحرها حتى تسقط، ولذلك قال الله تعالى في الإبل: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]، أي: سقطت واستقرت على الأرض، يقال: وجب الشيء إذا سقط، ويقال: وجب الحائط إذا سقط، ومنه قول أبي بردة رضي الله عنه في الحديث: (والمغرب إذا وجبت)، أي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا سقط قرص الشمس وغاب ضوؤها.
فالمقصود: أن الله عز وجل جعل البدن -وهي الإبل- من جنس ما ينحر وهو قائم، ولذا قال المصنف: (والسنة) أي: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تذكية الإبل نحرها قائمة.
وقد مر عبد الله بن عمر رضي الله عنه على رجل يريد أن ينحر بعيره باركاً، فقال له: (ابعثها قائمة سنة نبيك صلى الله عليه وسلم).
فقوله: (ابعثها قائمة)، أي: انحرها وهي قائمة، فإن ذلك هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (معقولة يدها اليسرى) أي: تربط يدها اليسرى ولا تترك كما هي، ويذكر بعض الأطباء أن في هذا حكمة: وهي أن شرايين القلب في الجهة اليسرى تكون أقوى، وعندما تعقل اليد اليسرى يكون ضخ الدم عند النحر أقوى، فهو إخراج للدم الفاسد بصورة أبلغ، ولذلك حرم الله الميتة؛ لأن الدم ينحبس فيها فيكون فيها من الأضرار والمفاسد ما الله به عليم، ولذا كان إنهار الدم فيه حكمة عظيمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم)، أي: أجراه.
قال رحمه الله: [فيطعنها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر].
وهذا كما ذكرنا سابقاً؛ لأن هذا يسمى بالنحر، فيقول عند النحر: باسم الله، ويكبر، ثم يطعن في الوهدة، وينوي ما هو فيه من نسكه، كأن يكون دماً واجباً عليه في النسك، أو غير ذلك من الدماء الواجبة عليه، وقوله: (فيطعنها بالحربة)، ليس هذا الحكم خاصاً بالحربة، وإنما هو يشمل كل شفرة، حتى لو أخذ حجراً مدبباً مسنماً كالسكين وطعن به فإنه يجزيه، وهكذا لو أخذ حديدة وشحذها فإنها تجزيه؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها بحجر)، والمراد بذلك السكين، فسواء طعن بسكين، أو خنجر، أو حتى بحجر؛ لأنه ثبت في الحديث الصحيح: (أن امرأة كانت ترعى غنمها جهة سلع -وهو جبل غربي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة- فعدى الذئب على غنمها، فصاحت بالناس، فأدركوه قد بقر بطن الشاة، فقامت إلى حجر فكسرته وذكت الشاة)، وقد أخذ العلماء رحمهم الله من الحديث عدة فوائد: الفائدة الأولى: أنه يجزئ أن يضحى بكل شيء له نفوذ وتأثير بالقطع من كل محدّد، ولا يختص ذلك بالحديد، فلا نقول: إنه لا تصح التذكية إلا بالسكاكين، بل يصح أن تكون التذكية بالحجر المسنن، لكن لا يجوز أن يذكى بالعظم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناه وقال: (إلا السن فإنه مدى الحبشة)، وقوله: (مدى الحبشة) كأنه من باب المخالفة لأهل الكتاب، وعلى هذا فإن الحديث دل على جواز التذكية بكل ما يقطع ويفري.
الفائدة الثانية: جواز تذكية المرأة، على خلاف ما يعتقده بعض الجهال اليوم من أن المرأة لا تذبح ولا تنحر، وأن البهيمة إذا ذبحتها المرأة فإنها ميتة، وهذا كله -والعياذ بالله- من بقايا الجاهلية، ومن فعل ذلك أو اعتقده ففيه بقايا الجاهلية -نسأل الله السلامة والعافية- فالمرأة كالرجل في هذا في حكم الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يأكلوا الشاة، وأحلها لهم.
الفائدة الثالثة: وهي ما يسمى بالحياة المستعارة، وهي أن تكون البهيمة في آخر رمق، كأن تصدمها سيارة، أو تسقط من مكان عال، فتدركها قبل أن تموت، وهي في آخر رمق ترفس، ثم تنهر دمها، فقال بعض العلماء: إذا كانت في آخر رمق، فإن هذه التذكية لا تجزئ؛ لأن القاعدة عندهم في الحياة المستعارة أنها كالعدم، والسبب في هذا: أن نفسها فلتت بسبب الضربة الموجبة لتحريم أكلها؛ لأنها إذا ضربت بسيارة فهي في حكم المتردية، وإذا سقطت من على جبل فأدركتها وهي ترفس فقالوا: إنها متردية، وعلى هذا قالوا: لا يجوز تذكيتها.
ولكن هذا الحديث قد يقوي القول بأنه يجزئ أن يؤكل مثل هذا؛ لأن الذئب بقر بطن الشاة، وإذا بقر بطنها فالغالب أنها لا تعيش، وإن قال بعض العلماء: يمكن أن ترد لها أمعاؤها وتعيش، وهذا يقع في الآدميين وفي البهائم، وأياً ما كان فالمسألة محتملة.
وقد تفرعت عن هذه المسألة مسألة معاصرة في زماننا، وهي التي تسمى: بموت الدماغ، فإنها حياة مستعارة، فنظراً لوجود الحركة اللإإرادية جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحياة المستعارة عند إنفاذ المقاتل ووجود الدلائل على إقدام النفس على الموت جعلها تأخذ حكم الحياة المستقرة، وتوضيح ذلك: أن الشاة لما بقر الذئب بطنها فإنها ستموت قطعاً فلما جاءت تذكية المرأة جاءت وكأن الشاة نفسها مختلفة، فهذا الذي فيها من الحركة إما أن تقول: نفس مستقرة.
فتنزل المعدوم منزلة الموجود.
وإما أن تقول: نفس غير مستقرة، فالذكاة لاغية، فلما أعمل الذكاة ورآها مهمة ومعتبرة أعمل الحركة، وأبقى الحياة المستعارة مؤثرة، وعلى هذا فإنه يقوي قول من قال من العلماء المعاصرين: إن موت الدماغ ليس بموت، وهذا هو الصحيح، كما بيناه غير مرة، وذكرنا أنه هو الأصل، والأدلة تقوي هذا، وعليه فإن الحياة غير المستقرة تكون حياة ثابتة.
إذاً: فالتذكية تكون بكل محدد ينهر الدم على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.(131/4)
السنة في تذكية البقر والغنم
قال رحمه الله: [ويذبح غيرها، ويجوز عكسها].
قوله: (ويذبح غيرها) يعني: غير الإبل، من البقر والغنم، فكأنه يرى أن السنة أن لا تنحر البقر، ويرى أن السنة في البقر الذبح، وهذا يختاره جمع من العلماء.
وقال بعض العلماء: السنة في البقر النحر، ويجوز فيه الذبح.
والصحيح: أنه يجوز فيه الأمران: الذبح، وفيه النحر.
أما قوله: (ويجوز عكسها)، فلو أنه نحر البقر بدلاً من أن يذبحها، فإن هذا العكس يجزئ، ولو ذبح البعير بدلاً من أن ينحره؛ فإن هذا يجزئ.(131/5)
ما يقوله المذكي حال التذكية
قال المصنف رحمه الله: [ويقول: باسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك ولك].
قوله: (ويقول: باسم الله) وجوباً؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الحج:36]، فأمر الله سبحانه وتعالى بذكر اسمه عليها، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، هذا شرط، ومفهوم الشرط معتبر، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه)، وهذا شرط، ومفهوم الشرط معتبر، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، فقوله: (فكلْ) يدل ويؤكد على أن التسمية واجبة، وأنه إذا نسي التسمية أو تركها عمداً فأصح الأقوال: أنه لا تجزئ ذبيحته، ولا يجوز أكلها.
وقوله: (اللهم هذا منك ولك)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم هذا منك، أنت الذي رزقتنا، وأنت الذي سخرته لنا)، ولا شك أن هذا من توحيد الله جل جلاله؛ أن يعترف المخلوق بنعمة الخالق عليه، والله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يثني عليه بنعمه الظاهرة والباطنة والدينية والدنيوية، فإذا تمكن من الشاة أو البقرة أو الناقة يريد أن يذكيها وقال: (اللهم هذا منك، أنت الذي رزقتنيه -فكم من فقير لا يجد السبيل إلى مثل هذا- وأنت الذي سخرته لي)، فلولا أن الله سخر له هذه البهيمة يذبحها وينحرها لما استطاع أن يذبح ولا أن ينحر، وقوله: (اللهم هذا منك ولك) أي: أن هذا الشيء تملكه، فاللام للملكية، (لك) أي: ملك لله سبحانه، فالله عز وجل مالك الملك وبيده ملكوت كل شيء، يطعم ولا يُطعم، ويرزق غيره ولا يرزق، سبحانه ذو القوة المتين.
وما ألذ النعمة إذا كان الإنسان في ظاهره وباطنه يعتقد فيها الفضل لله جل جلاله، ولذلك يقول العلماء: شكر النعم يكون بالجنان واللسان والجوارح والأركان، فمن شكر النعمة بالجنان: أن تعتقد أن هذا من الله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا منك ولك) فيه توحيد وإيمان وتسليم لله جل جلاله، فليس هذا بحولنا ولا قوتنا، ولذلك لما رأى سليمان عليه السلام عرش بلقيس بين يديه قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل:40] أي: ليس بشيء أستوجبه على الله، فهذا هو حال أهل الكمال والفضل والإيمان والتوحيد؛ أنهم يسلمون لله جل وعلا؛ فيعتقدون أن الفضل كله لله سبحانه وتعالى في نعمه الظاهرة والباطنة، وقد أشار الله إلى هذا المعنى بقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] أي: اعتقدوا أن الفضل فيها لله.
ثم نطق عليه الصلاة والسلام بما اعتقد فقال: (اللهم هذا منك) أي: يا الله هذا الذي بين يدي من بهيمة الأنعام أتقرب به إليك.
وقيل: (لك) أي: أذبحه لك، وهذا من توحيد العبادة، فلا يجوز أن يذبح إلا لله عز وجل، ولا يستغيث ولا يستجير ولا يستعيذ إلا بالله سبحانه وتعالى؛ لأن من توحيد الألوهية أن لا يذبح إلا لله، ولذلك لعن الله من ذبح لغير الله، قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من لعن والديه، لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من غيّر منار الأرض)، فهذه الأمور ورد فيها الوعيد الشديد؛ لعظم كفر العبد فيها، فإنه إذا ذبح لغير الله فقد كفر نعمة الله عز وجل وصرف ما لله لغير الله.
فقوله: (ولك) أي: توحيداً لله عز وجل، فالذبح لا يكون إلا الله، فلا يكون لنبي مرسل، ولا لملك مقرب، ولا لعبد ولو كان من أصلح عباد الله، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 - 163] أي: أمر فرضه الله عز وجل عليَّ، وقال الله عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، فلا يجوز الذبح ولا النحر إلا لله سبحانه وتعالى، ومن هنا قال العلماء: من ذبح لغير الله فقد أشرك؛ لأنه إذا ذبح لغير الله عبده، ولا يذبح لغير الله إلا رغبة أو رهبة أو هما معاً، فتجده يذبح للجن رهبة منهم وخوفاً، وإما أن يذبح رغبة في شيء يكون له؛ كذبحه على قبر ولي أو صالح أو نبي، وهذا لا شك أنه من الشرك؛ أن يذبح للنبي أو للولي من أجل أن تقضى حاجته أو تفرج -والعياذ بالله- كربته، ولا يقضي الحاجات ولا يفرج الكربات إلا فاطر الأرض والسماوات جل جلاله وتقدست أسماؤه، وصدق الله إذ يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
وإذا كان له آل بيت يقول: اللهم هذا عني وعن أهل بيتي، أو يبين إذا كان ذبحه هذا عن فريضة واجبة عليه أو عن دم في نسك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلفظ بنيته وقال: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد).(131/6)
استحباب تولي الذبح
قال رحمه الله: [ويتولاها صاحبها، أو يوكل مسلماً ويشهدها].
قوله: (ويتولاها) أي: يقوم على ذبحها ونحرها (صاحبها)، وهذا الأفضل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر إبله بيده الشريفة بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ووكل علياً رضي الله عنه أن ينحر بقية المائة؛ لأنه نحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة ثم ترك سبعاً وثلاثين لـ علي رضي الله عنه، لأنه أهدى إلى البيت في حجة الوداع مائة من الإبل صلوات الله وسلامه عليه، فجمع بين الأمرين: بين الأصالة والوكالة، فدل على جواز التضحية وقيام الإنسان بالتذكية أصالة بنفسه، وعلى جواز توليته وتوكيله لغيره، فإذا قام بها بنفسه فهذا أفضل وأكمل وأعظم أجراً؛ لما فيه من الذلة لله سبحانه وتعالى، ولما فيه من التأسي برسول الأمة صلى الله عليه وسلم، والأكثر تعباً أعظم أجراً.
فالأفضل له أن يليها بنفسه، ويجوز أن يوكل غيره؛ لكن يشترط إذا وكل غيره بالذبح أن يكون عالماً بطريقة الذبح المجزئة، فلا يوكل أي شخص، وإنما يوكل من له علم وإلمام بكيفية الذبح، ولا تبرأ ذمته إلا بمثل هذا، أي: من يعرف التذكية الشرعية، وإذا وكله فإنه يعهد إليه بما يلزم في أضحيته.
ومعنى قوله: (ويشهدها) أي: يحضر ذبحها على الكمال، وإذا لم يحضر فلا بأس، فلو أراد الحج وترك أضحيته في البيت، وقال لأحد أبنائه: اذبح هذه الأضحية يوم النحر، ووكله أن يقوم بذبحها، فلا إشكال، فلا يستطيع أن يترك حجه ليحضر ذبحها.
والشهادة تعني الحضور، كما قال الله تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44] أي: من الحاضرين، يقال: شهد الشيء إذا حضره.
وقوله: (يشهدها) أي: يحضرها -على الأفضل- لأنه إذا حضرها فإنه أبلغ أن تبرأ الذمة، وأن يكون محتاطاً في توزيعها والقيام عليها على أتم الوجوه.
وكذلك الوكيل يشهدها؛ لأن من تمام الوكالة أن يقوم عليها، ولذلك وكل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً بذبح ما بقي من هديه وأمره أن يقوم عليها، وأن يتصدق بجلودها وأجلّتها، وأن لا يعطي الجزار منها شيئاً، فدل على أن الوكيل لا يعهد لغيره يذبحها، إنما يتابعها ويقوم بها؛ لأنه مؤتمن، ولا تبرأ ذمته إلا إذا أدى الأمانة على وجهها ونصح لصاحبها.(131/7)
وقت ذبح الأضحية
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ووقت الذبح بعد صلاة العيد أو قدره إلى يومين بعده].
بيّن المصنف رحمه الله جملة من الأحكام المتعلقة بالأضحية، ثم شرع في بيان تأقيت الأضحية؛ والسبب في ذلك: أن النصوص التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بينت أن للأضحية ميقاتاً خاصاً ينبغي مراعاته عند ذبحها، فلا يقع الذبح قبل هذا الوقت المحدد من الشرع ولا بعده، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حينما خطب يوم النحر فقال صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من ذبح قبل الصلاة) المراد بالصلاة صلاة عيد الأضحى، والتي يسن إيقاعها بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، فالسنة في صلاة عيد الأضحى أن يخفف الإمام ويعجل؛ لأن الناس سيشتغلون بالأضحية، وهذا يحتاج إلى وقت لكي يصيبوا فضيلة إيقاع الذبح في ضحى يوم النحر، وما سميت الأضحية أضحية إلا لأنها تقع ضحى يوم النحر، ففضيلتها في هذا الوقت، والسنة أن يصلي بهم والشمس قيد رمح، أما في صلاة عيد الفطر فيوقعها والشمس قيد رمحين؛ لأن الناس يحتاجون إلى وقت أكثر قبل الصلاة من أجل إخراج زكاة الفطر، فاختلف الحكم بالنسبة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الأضحى وصلاة الفطر.
وقد قالوا: إنه يوقع ذبح الأضحية بعد صلاة الإمام، والمراد بذلك الإمام الذي يصلي بالناس عيد الأضحى، فإذا تعددت المساجد ووجد أكثر من إمام؛ فبعض أهل العلم يرى تأقيت كل جماعة بإمامهم، فإذا كان في المدينة مصليان للعيد، فصلى مع الإمام بالناحية الشرقية أو الغربية فإنه -عند هؤلاء- يتقيد بالإمام، فإذا صلى مع إمامه انصرف وذبح أضحيته، وإذا كان مريضاً لم يتمكن من الخروج فإنه ينتظر فراغ إمامه من صلاة عيد الأضحى ثم يضحي.
وقال بعض العلماء: يعتد بالأسبق منهما، حتى ولو كان غير إمامه؛ فلو كان هناك حيان، حي تقام فيه صلاة الأضحى في الشرق وحي في الغرب، والذي في الشرق من عادته أن يطول أو يتأخر، والذي في الغرب يبكر، فيعتد بصلاة المبكر منهما.
فعلى هذا نخرج بحكم شرعي وهو: أن ذبح الأضحية ينبغي أن يكون بعد الصلاة لا قبلها.
ولا يشترط انتظار فراغ الإمام من خطبة يوم النحر، بل العبرة بالصلاة وحدها، فإذا انتهت الصلاة وخرجت وذبحت أجزأك ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم)، أي: أن شاته لا تقع أضحية على السنة، وإنما تنقلب شاة لحم، إن شاء تصدق بها، وإن شاء أكلها، فليست بأضحية، وقال بعد ذلك: (ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فأذن بالذبح بعد الصلاة؛ لأن هذا الكلام وقع في خطبته وهي من بعد صلاة الأضحى إجماعاً، فبيّن رحمه الله أن وقت الأضحية يبتدئ بما بعد الصلاة.(131/8)
وقت انتهاء الذبح
وللأضحية وقت انتهاء، فبعد هذا الوقت لا تقع شاته أضحية، وقد اختلف العلماء في وقت الانتهاء على قولين مشهورين: القول الأول: أن وقت الأضحية ينتهي بثالث أيام التشريق؛ فإذا غابت شمس يوم الثالث عشر فلا تقع أضحية وإنما تقع صدقة من الصدقات، أو شاة لحم، كما قال صلى الله عليه وسلم فيمن سبق الوقت المعتبر.
وهذا هو مذهب الشافعية ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليهم، وكان يقول به أكثر من سبعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يقولون: إنه يجوز أن ينحر الإنسان ويذبح في اليوم الثالث عشر، وهو اليوم الأخير من أيام التشريق.
القول الثاني: وهو أشبه بمذهب الجمهور، وهو أن وقت الذبح يوم العيد ويومان من بعده، فآخر وقت الذبح عندهم بمغيب شمس اليوم الثاني عشر.
والخلاف فقط في اليوم الثالث عشر الذي هو آخر أيام التشريق؛ لأن أيام التشريق ثلاثة كما لا يخفى، فقال بعض العلماء: إن اليوم الثالث يعتبر من أيام الذبح، وقال بعضهم: إنه ليس من أيام الذبح، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (أيام منى أيام أكل ونحر) يدل على أنه يجزئ الذبح فيها، وهذا على ظاهر القرآن: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، فهذا نص عند العلماء في أن الذبح يتأقت بثلاثة أيام يدخل فيها اليوم الثالث عشر.
وإخراج اليوم الثالث عشر لا يخلو من نظر؛ فإن جلّ الأحكام التي وقعت في أيام التشريق استوت فيها الأيام الثلاثة كلها، ولذلك فإن من ذبح هدي التمتع أو هدي القران فإنه يجزيه في أيام التشريق على القول بالتأقيت، وكذلك بالنسبة لمسائل الحاج، فإن الله جعل للحاج اليوم الثالث عشر كاليوم الثاني عشر، لكنه خفف بالتعجل في اليوم الثاني عشر، وهذا لا يسقط اعتباره إن تأخر.
وعلى هذا فالذي يترجح: أن يوم العيد وثلاثة أيام من بعده هي أيام النحر والذبح.
وإذا أراد الإنسان أن يذبح في الليل، فهل ليالي هذه الأيام كنهارها؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: قال جمهور أهل العلم: يجوز للإنسان أن يذبح أضحيته بالليل والنهار، ولا فرق بينهما، وإن كان الأفضل أن يذبح نهاراً، حتى يخرج من خلاف أهل العلم رحمة الله عليهم.
القول الثاني: أن الذبح يختص بالنهار دون الليل، وأنه لا يذبح ليلاً، واليوم إذا أطلق في لغة العرب فالمراد به النهار دون الليل، ويحمل قوله عليه الصلاة والسلام: (أيام منى) على النهار دون الليل، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7]، ففرق الله تعالى بين النهار وبين الليل.
واحتج من قال: إن الليل والنهار سواء -كما هو مذهب الجمهور- بأن قوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة:7] من باب عطف الخاص على العام، والعرب تعطف الخاص على العام والعام على الخاص، فتقول: يدخل محمد والناس، ومرادك بذلك تشريف محمد وتكريمه، أو أن النهار كان أشد عذاباً من الليل، أو أن الليل أشد إيقاعاً وأشد ألماً وعذاباً، فلذلك خص بالذكر.
وظاهر الدليل: أن الليل والنهار سواء، وأنه يذبح بالليل والنهار؛ لقوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود:65]، وقوله: (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) بالإجماع أن هذا التربص شامل لليل والنهار، ولذلك قالوا: الأصل في اليوم أنه يشمل الليل والنهار، إلا إذا خصه الدليل بالنهار دون الليل، ولا دليل يخص هاهنا.
وعليه: فإنه يجوز أن يذبح في الليل كما يجوز أن يذبح في النهار، ولكن الأفضل والأكمل أن يذبح في النهار، لكن لو أراد أن يصل رحمه، أو أن يكرم الضعفاء؛ فرأى أن ظروفه لا تساعده إلا بالذبح ليلاً، أو كما يقع بين القرابة أنهم يترقبون مجيء بعضهم، فتقع قرعة الإنسان وحصته بالليل، فحينها لا بأس أن يذبح ليلاً، ولا حرج عليه في ذلك، وإن ذبح قبل غروب الشمس ثم بعد ذلك يطبخها ويقدمها لضيوفه ولو بعد العشاء، فهو الأفضل؛ خروجاً من الخلاف.(131/9)
حكم من فاته وقت الذبح
قال رحمه الله: [ويكره في ليلتيهما، فإن فات قضى واجبه].
بيّن رحمه الله بداية وقت ذبح الأضحية ونهاية وقت ذبحها، وما تخلل هذا الميقات الزماني من الذبح ليلاً، وعليه فإنه يرد
السؤال
لو أن إنساناً فاتته أيام التشريق وأراد أن يذبح بعد أيام التشريق، فما الحكم؟ إذا ذبح بعد اليوم الثالث عشر فشاته شاة لحم، ولكن يفصّل في هذا: فإن كان عينها فإنه يذبحها وتكون شاته شاة لحم، ولكنها تلزمه من جهة الإلزام، ولذلك قالوا: لو نذر وقال: لله عليَّ أن أذبح أضحية هذا العام، فإنه يذبح ولو بعد انتهاء أيام التشريق، ويأثم إذا قصر وتراخى فيها حتى خرج الوقت المعتبر.(131/10)
الأسئلة(131/11)
ضابط المرض الذي لا تجزئ به الأضحية
السؤال
نرجو توضيح القول في المرض الذي يكون في باطن البهيمة من حيث المنع والإجزاء، أحسن الله إليكم؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد حَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المرض البيّن، والأطباء يقولون: المرض: هو خروج الجسد عن حَدِّ الاعتدال، ففي كل جسد طبائع، وهذه الطبائع إذا استوت ولم يغلب بعضها على بعض فإن الصحة تكون مستقرة بإذن الله عز وجل ولطفه، فإذا بغت إحدى الطبائع على البقية أو على غيرها اعتلت الصحة، فيخرج البدن عن حَدِّ الاعتدال إلى المرض والسقم.
وعلى هذا فإنه لا يحكم بكونها مريضة مرضاً بيّناً موجباً لعدم الإجزاء إلا بالرجوع لأهل الخبرة الذين لهم معرفة؛ سواء كان عن طريق تربية البهائم، أو كانت الخبرة عن طريق معالجة البهائم، فالأطباء البيطريون الموجودون الآن قولهم حجة في هذا، وكذلك أيضاً أهل البادية الذين يرعون ولهم معرفة وخبرة قولهم حجة ومعتد به، فلو قال أحدهم: إن هذا مرض مؤثر، فإنه يعتبر مؤثراً، وإذا قال: إن هذا شيء عارض، فيؤخذ بقوله وهو حجة؛ فإن التجارب جعلها الله عز وجل سنناً في الكون، وقد يكون الرجل الذي له خبرة ومعرفة شخصية أفضل من الطبيب في بعض الأحيان؛ لأنه تمر عليه أحوال قد لا يتيسر للطبيب أن يراها؛ لأنه قد لا يأتيه إلا بعض الحالات، لكن هذا يعايش ويجد، وقد يربي فيرى ويصاحب الألم في البهيمة ويعرف ما بها.
فالمقصود: إذا قال أهل الخبرة من الأطباء وأهل المعرفة في السوق وتربية البهائم: إن هذا المرض يعتبر مرضاً مؤثراً، فإن هذه البهيمة لا تجزئ، ولا يضحى بها، وأما إذا قالوا: إنه شيء عارض سهل وبسيط؛ فإنه يجوز أن يضحى بمثلها.
وهناك ضابط عند العلماء في الفتوى، فإنهم يقولون: لابد على الفقيه أن يبين القاعدة، فمثلاً حينما نقول: إنه يجوز للمريض أن يفطر.
فهذا شيء يرجع إلى ضابط الأطباء للمرض المؤثر، وليس الكلام لنا نحن؛ لأن هذا ليس بعلمنا ولا بمعرفتنا، وإذا كنا نقول: إن هذا الشيء مؤثر، ويرجع في معرفة تأثيره إلى إنسان له خبرة؛ فينبغي أن نرجع إلى ذي الخبرة.
ومما يدل على فقه العلماء الأولين رحمهم الله: أن الإمام النووي لما جاء إلى مسألة: إذا نام الإنسان وسال اللعاب من فمه، قال: قال بعض العلماء: إن اللعاب نجس، وعليه أن يغسل ما أصاب الوسادة التي نام عليها؛ لأن اللعاب يخرج من المعدة، وحكمه حكم القيء، وقال بعض العلماء: اللعاب طاهر؛ لأنه مستحلب من الفم، ثم قال هذا العالم الجليل الفقيه في هذه المسألة: يسأل عن هذا أهل الخبرة، وقد سألت الأطباء فقالوا: إنه مستحلب من الفم، وعليه فإنه طاهر، والآن الطب الحديث يقوي كلامه، وأن هناك غدة للعاب مختصة به، وأنها في الفم وليس لها صلة بالمعدة أصلاً.
فالرجوع إلى أهل الخبرة وأهل المعرفة في المسائل التي لها ضوابط وقواعد هذا هو المعوّل عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (المريضة البيّن مرضها)، فنرجع إلى أهل الخبرة من الأطباء ونحوهم ممن لهم معرفة بالدواب والبهائم، فإذا قالوا: إن هذا مرض مؤثر ومؤذٍ ومضر؛ فإنه يعتبر حينئذٍ موجباً لعدم الإجزاء وإلا فلا.
والله تعالى أعلم.(131/12)
حكم جِلد الأضحية والدماء الواجبة
السؤال
عند القيام بسلخ الأضحية في المطبخ يأخذ السلاخ الجلد، فهل يجوز ذلك؟ وهل يعتبر من الأجرة أم لا، أفيدونا بارك الله فيكم؟
الجواب
جلد الأضحية والدماء الواجبة يجب أن يتصدق به، ولا يجوز أن يعطى ضمن الأجرة، ولا يعطى للسلاخ، ولكن إذا كان السلاخ فقيراً أو محتاجاً وطلب هذا الجلد، فلا بأس بإعطائه، أما إذا كان قوياً أو قادراً، أو كان ليس بحاجة لهذا الجلد؛ فإنه لا يجوز إعطاؤه، وهو حرام عليه، ويكون أخذه من السحت، وينبغي عليه أن يصرفه للفقراء، فإذا أُخذ من الإنسان قهراً ثم بيع لمن يصنّع الجلد، فإن هذا من الظلم، ولا يجوز له، وماله حرام، وهو سحت -نسأل الله السلامة والعافية- لأنه إذا كانت البهيمة قد نذرها لله، فجميع أجزائها التي يسعه أن يتصدق بها صدقة، وجلدها مما ينتفع به، فينبغي أن يمكَّن من التصدق به على من يحتاجه.
أما إذا كان هناك شركة تشتري الجلد في نفس المسلخ، وأعطيته الفقير، ثم ذهب الفقير وباعه لهذه الشركة أو لهذه المؤسسة، فلا بأس، أما أن يؤخذ من الإنسان في دم واجب فإنه لا يجوز ذلك، وماله حرام؛ لأنه لا يجوز صرف ما كان وقفاً أو صدقة إلا في جهته التي سُبّل عليها وأوقف عليها وتصدق به عليها، وهذا أصل مذكور ومقرر عند العلماء.
هذا بالنسبة للجلود التي تكون في الدماء الواجبة؛ كدم الجبران ونحوها من الدماء الواجبة، فإنه لا يجوز أن تجعل في الأجرة، ولا يجوز للسلاخ أن يأخذها.
بل قال العلماء رحمهم الله: لو كانت عند الإنسان شاة -ليست بأضحية ولا هدي- وأراد أن يذبحها للبيت، فقال للجزار: اذبحها ولك الجلد، فهذه المسألة تعرف بمسألة استئجار السلاخ بالجلد، وهي المشهورة عند الفقهاء في باب الإجارة بمسألة: قفيز الطحان، والمراد بها: أن تستأجر العامل بجزء من عمله، وهو نوع من الغرر؛ والسبب في هذا: أنك حينما تتعاقد معه قبل الذبح والسلخ فلا يُعلم هل الجلد جيد أو رديء؟ وهل هو خفيف أو ثخين؟ وهل يخرج سالماً دون أن يقدّه ويؤذيه أم لا؟ ثم إنه قد يحيف على الجلد خوفاً من قدّه فيضر الشاة أكثر، ولذلك قالوا: إنه لا يجوز أن يستأجر بالجلد، وفيها حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان)، ولكنه حديث ضعيف، وقد تكلم العلماء عليه سنداً ومتناً، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى: أن هذا الحديث في متنه ما يدل على ضعفه؛ لأن القفيز لم يكن موجوداً في المدينة، ولا يعقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب أهل المدينة ومكة بما لم يعرفوه ولم يعهدوه مما هو في غير بلدهم، ولذلك لم يصح هذا الحديث لا سنداً ولا متناً.
لكن بالنسبة لحكم المسألة: أن تستأجر السلاخ أو الجزار على أن يأخذ الجلد؛ فالصحيح أنه لا يجوز ذلك، وهو من باب الإجارة بجزء من العمل، ولا يحل للمسلم أن يتعاقد معه؛ لأنه من عقود الغرر، والشريعة تحرم عقود الغرر.
والله تعالى أعلم.(131/13)
الفرق بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي
السؤال
أشكل عليَّ قول الفقهاء رحمهم الله: إن الأحكام الوضعية يستوي فيها العامد والناسي، أرجو إيضاح ذلك، أثابكم الله؟
الجواب
الحكم الشرعي ينقسم إلى: حكم تكليفي وحكم وضعي.
فالحكم التكليفي يشمل: الواجب، والمندوب، والمباح، والمحرم، والمكروه، فهذه الخمسة الأحكام تكليفية، ويكلف بها الإنسان وهي في وسعه؛ لأن الشرع لا يرد بالتكليف إلا بما هو في وسع المكلف ومقدوره.
أما الحكم الوضعي: فهي العلامات والأمارات التي نصبها الشرع وليس لك فيها دخل، فإن الشيء الذي أوجبه الشرع عليك يكون في وسعك، لكن الأمارات والعلامات، كزوال الشمس فإنه سبب في وجوب صلاة الظهر عليك، فهذا حكم وضعه الشرع، ومغيب الشمس جعله الشارع علامة على وجوب صلاة المغرب، ومغيب الشفق الأحمر علامة على وجوب صلاة العشاء.
فهذا يسمى حكماً وضعياً ولا دخل للمكلف فيه، ولا يلتفت فيه إلى قدرة المكلف وعدمها.
ففي بعض الأحيان يفرق العلماء في باب النسيان بين ما يكون من باب الأحكام التكليفية وبين ما يكون من باب الأحكام الوضعية، فمثلاً: لو أن إنساناً نسي أو أخطأ أو جهل، فتارة يجب عليه الضمان، مع أنه لم يقصد ولم يتعمد، وتارة تسقط عنه المؤاخذة، وتارة يجمع له بين الإسقاط والمؤاخذة، فمثلاً: لو أن إنساناً يريد أن يقول لامرأته: أنت طالعة، فقال: أنت طالقة، فأخطأ في اللفظ، فهذا لا يؤثر، ويسقط عنه، وإذا ظهرت قرائن المجلس وآماراته على أنه لا يريد الطلاق فليست بطالق.
وأما كونه يجمع بين الإسقاط والمؤاخذة فمن أمثلته: إذا رأى صيداً وأطلق النار عليه فأصاب إنساناً وقتله، فإن هذا من باب قتل الخطأ، فنقول: إن خطأه يوجب سقوط الإثم عنه، فلا نؤاخذه، ولا نقول: إنه آثم، ولا نوجب القصاص عليه؛ لأنه لم يتعمد قتل أخيه، ولكن نوجب عليه الدية ضماناً لهذه النفس، ونوجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يخطئ فيقتل بالخطأ إلا وهو مقصر بعض التقصير، ومن هنا لو تحرى وتعاطى أسباب الحفظ لما وقع في الإخلال، فحينئذٍ أسقط عنه الشرع المؤاخذة فلم يقتص منه، وأوجب عليه المؤاخذة بوجوب الدية ووجود الضمان، ومباحث هذا مشهورة في كتب أصول الفقه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد.(131/14)
شرح زاد المستقنع - باب الهدي والأضحية والعقيقة [3]
من أحكام الهدي والأضحية: أنهما إذا تعينا لزمت فيهما أحكام، منها: عدم جواز بيعهما أو هبتهما، وعدم جز صوفهما إلا إذا كان أنفع لهما، وإن تعيبت المعينة فلها أحكام ينبغي معرفتها، وهناك أحكام متعلقة بحكم الأضحية وحكم التصدق بثمنها، والسنة في تقسيمها وتوزيعهما، وما يحرم على المضحي فعله إذا دخلت أيام العشر ونحوها.(132/1)
أحكام تعيين الأضحية
قال المصنف رحمه الله: [فصل: ويتعينان بقوله: هذا هدي أو أضحية، لا بالنية].
قوله: (يتعينان) تعين الشيء مأخوذ من العين، والعين في لغة العرب تطلق عدة معانٍ، منها: العين الجارية، ومنها: كقولك رأيت محمداً بعينه، أي: بذاته.
والذي يشتري الأضحية له حالتان: الحالة الأولى: أن يشتري الأضحية وفي نيته أنها أضحية، وسوف يدعها في بيته أو حظيرته أو عند رجل، ثم بعد ذلك يذبحها، دون أن يقول: هذه أضحية، بل ينوي فقط، ولكنه لا يعينها، فقد تتغير نيته إلى ما هو أفضل منها، أو إلى ما هو دونها مما هو مجزئ، ففي هذه الحال إذا جاء وقت التضحية إن شاء ذبحها وإن شاء ذبح غيرها، أي: ليس بملزم بها بعينها؛ لأنه لم يلزم نفسه بذلك إلزاماً شرعياً، وهو التعيين.
الحالة الثانية: قال بعض العلماء: إن اشتراها وفي نيته أنها أضحية تعينت.
وهناك أحكام تترتب على قولنا: إنها تتعين، وقولنا: إنها لا تتعين.
أولاً: إذا تعينت الأضحية، فحينئذٍ لو حدث بها عيب أو صار عليها عارض يمنع من إجزائها، فحينئذٍ يجوز أن يضحي بها مع كونها معيبة؛ وذلك لأنها تعينت ولزم ذبحها بعينها، بشرط: أن لا يكون ذلك بالتفريط، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
ثانياً: لو حدث بها عيب، ويده يد أمانة وليست بيد ضمان، فإنه لا يلزمه البديل عنها، وهكذا لو ماتت، أو حصل لها عارض وماتت قدراً؛ فإنه لا يلزم بضمانها.
وقوله رحمه الله: (ويتعينان) أي: الهدي والأضحية، فلو أن إنساناً قال: هذا هدي وهذه أضحية، واشترى شاة وقال لأبنائه: هذه أضحية، أو هذا هدي، فإنه قد تعيّن، بمعنى: أنه يلزم بذبحه هدياً، أو أضحية، وحينئذٍ اجتمع ظاهر الإنسان وباطنه؛ لأن التكاليف الشرعية يكون النظر فيها إما إلى باطن الإنسان ونيته، وإما أن ينظر إلى ظاهره الذي يتكلم به ويفعله، وإما أن يجمع بين الظاهر والباطن، فمثلاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، فلو قال رجل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فنقول: إنه قد دخل في الإسلام، ولو كان يقصد من ذلك الكذب والخداع، وقد يكون منافقاً، لكن نحن نقبل منه الظاهر، لكن لو أن إنساناً حمل المصحف، ثم فعل به فعلاً فيه إهانة للمصحف ولكتاب الله، ولكنه لم ينو ذلك ولم يقصده، فحينئذٍ نقول: إذا لم ينو لا يحكم بكفره، وإن كان ظاهر الفعل يوجب التكفير، لكن لما كان فعله متردداً بين قصده وعدم قصده فينظر إلى القصد؛ لأن الأصل عدم استباحة الدم إلا بيقين أو غالب ظن، ولما صار متردداً بين القصد المخلّ وغير المخلّ نظر إلى نيته.
فلو كان رجل يتكلم مع زوجته في سياق مودة ومحبة، وكان قد ربطها، فقالت له: هل انفك الحبل أم لا؟ فقال: أنت طالق، فحينئذٍ دلالة المجلس تدل على أنه لا يريد الطلاق، فهذا اللفظ الظاهر نلغيه وننظر إلى نيته، وأنه لم يقصد الطلاق، وبعض الأحيان ننظر إلى لفظه ولا ننظر إلى نيته، فلو هزل معها وضحك وقال لها: أنت طالق، فإننا نؤاخذه بالظاهر، لحديث: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد)، فالشرع تارة ينظر إلى الظاهر، وتارة ينظر إلى الباطن، وتارة ينظر إليهما معاً.
فلما اشترى الأضحية احتمل أن يكون اشتراها هدياً أو أضحية، ولو اشتراها أضحية احتمل أن يبدلها بغيرها، واحتمل أن يصرفها إلى نوع آخر، كأن يشتري إبلاً فيستبدلها بغنم، أو يشتري غنماً فيستبدلها بإبل، كأن يكون له مال قليل، وفي نيته لو وسع الله عليه قبل الذبح فسيشتري بعيراً وينحره، فهذا نقول له: إنها لا تتعين إلا بقولك: هذه أضحية، وهكذا الحال بالنسبة للهدي؛ فلابد من النية واللفظ.
وقال بعض العلماء: تجزئ النية دون اللفظ، فلو اشتراها وفي نيته ذبحها فإن ذلك يجزيه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).(132/2)
حكم بيع الأضحية وهبتها بعد التعيين
قال رحمه الله: [وإذا تعينت لم يجز بيعها ولا هبتها].
هذه المسألة فيها قولان: القول الأول: إذا قال: هذه أضحيتي، أو هذا هديي، لم يجز بيعها، والبيع أصله: مبادلة المال بالمال بالتراضي، سواء كان بنقد أو بغير نقد، فلو أتاه شخص وقال له: أبدل لي هذه الشاة بأخرى، والتي عنده ماعز وسيعطيه كبشاً بدلاً عنها، فحينئذٍ لا يجوز؛ لأنها تعيّنت أضحية، ولو قال له رجل: بكم اشتريت هذه الأضحية؟ فقال: بسبعمائة، فقال: سأشتريها منك بثمانمائة واذهب واشتر غيرها، فلا يجوز له أن يبيعها؛ لأن يده خلت عن ملكيتها وأصبحت لله عز وجل، وهذا كما لو أوقف وقفاً، فكأنه سبّلها لله عز وجل حينما قال: هذه أضحية.
فمن فوائد التعيين: أنه لا يجوز بيعها، ولا هبتها؛ لأن يد الملكية خلت منه، كما لو أوقف المسجد فإن يده ترتفع عنه ولا يملكه.
فلا يجوز أن يأخذ العوض عليها، ولا أن يصرفها في غير ما خصصها له، إلا في حالة واحدة، وهي: أن يبدلها بأفضل منها، وهذا على قولين: القول الأول: أنه إذا عيّنها وجب عليه أن يذبحها بعينها، فإذا أبدلها بما هو أفضل منها فإن الشرع في الأشياء التي ألزم الإنسان نفسه فيها صرفه إلى ما هو أفضل، ولذلك فمن نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز له أن يذهب إلى مكة ويعتكف بها؛ لأن مكة أفضل، وفضيلة الألف التي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يجدها في مكة أضعافاً، فلو أنه حددها وعينها أضحية صرفت إلى ما هو أفضل منها.
القول الثاني: أنها إذا تعينت لم يجز أن تصرف إلى ما هو أفضل منها، وهذا القول من القوة بمكان، ولذلك يحتاط الإنسان إذا عينها فإنه لا يصرفها، ولو أراد أن يتصدق بما هو زائد فإنه يضحي بغيرها معها.(132/3)
حكم جز صوف الأضحية المعينة ونحوه
قال رحمه الله: [ويجز صوفها ونحوه إن كان أنفع لها ويتصدق به].
إذا تعينت الشاة فإن فيها بعض المسائل المشكلة، فإن اشتراها في وقت الذبح أو قبل وقت الذبح بيوم أو يومين فليست هناك مشكلة في الغالب، ولكن المشكلة فيما لو اشتراها في شوال مثلاً، وحينئذٍ يبقى السؤال في فوائدها وما ينشأ منها، وهي المنفعة التي تكون فيها، مثل الصوف واللبن، فإذا كان عليها صوف فإن كان بقاؤه فيه ضرر عليها فإنه يجز ويتصدق به، كما هو الحال في وجود الصوف على البهيمة زائداً على الحد المعروف، وبذلك يؤذيها ويضر بها من وجود الحشرات أو نحو ذلك، فحينئذٍ هذا شيء يختلف باختلاف الأحوال، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة، فإذا قالوا: إنه لو بقي بها هذا الصوف أضر بها، ولا تستطيع أن تصبر شهراً بهذا الحال؛ لأن المكان يصبح موبوءاً بالدود والجراثيم؛ فجز الصوف فيه مصلحة للبهيمة، وإذا جز فإنه يتصدق به.
وقال بعض العلماء: إذا كان النفع في النقود باع الصوف وتصدق بثمنه.
أما بالنسبة للبن؛ فإن كانت هذه الناقة أو البقرة حملت وقد نواها هدياً، فلما وضعت صار فيها لبن فإنه يكون لولدها، ولذلك قال علي رضي الله عنه وأرضاه: (اسقه ولدها، وما فضل فهو لك).
فجعل الفضل الزائد له، وهذا مبني على مسألة لطيفة: وهي أن اللبن يختلف عن الصوف، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الرهن محلوب ومركوب بنفقته)؛ لأن الناقة ستكلفك طعامها وعلفها، فبما تقوم به من إعلافها والقيام عليها كان لك فضل في الانتفاع بلبنها، هكذا يخرّجه بعض العلماء، فكأنها مرهونة عندك حتى تخرج لله عز وجل هدياً أو أضحية.(132/4)
أجرة الجزار للأضحية
قال رحمه الله: [ولا يعطي جازرها أجرته منها].
فإذا استأجر المضحي إنساناً لذبح الأضحية، فالسنة أن لا يعطيه منها شيئاً.
وأما الذي توكله وتقول له: اذبح هذه الشاة عني، أو انحر هذه الناقة عني -كابنك مثلاً- فإنه حينئذٍ وكيل بدون أجرة، ولا إشكال في هذه المسألة.
أما إذا استأجرت من يقوم بالذبح أو النحر، فلا تعطيه شيئاً من الأضحية، ولذلك قال علي رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدنه، وأن أتصدق بجلودها وأجلّتها، وأن لا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا) أي: نعطيه نقوداً، وهذا يدل على أنه لا يجوز أن تصرف شيئاً من الأضحية للجزار، مع أن الجزار يقوم بتمام الطاعة والقربة من كونه ينحر ويذبح، والأفضل والأكمل أن تتولاها بنفسك؛ لما فيه من المشقة والتعب والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم.(132/5)
حكم بيع شيء من الأضحية
ثم قال رحمه الله: [ولا يبيع جلدها ولا شيئاً منها؛ بل ينتفع به].
فلا يبيع جلد الأضحية، ولا حتى لحمها ولا عظمها، ولا حرج عليه في أن ينتفع به، أو أن يتصدق به، أو أن يهديه، أما أن يبيعه فلا يجوز، ولا يصح البيع؛ والسبب في ذلك: أنه لا يملك الأضحية؛ لأنه لما ذبحها لله عز وجل تصدق بها، وحينئذٍ فلا يجوز بيع جلدها ولا شيء من لحمها، وإنما يتصدق به أو يهديه أو يأكله، لكن لو أعطيت المسكين من الأضحية، فذهب أمامك وباعها لشخص وأنت ترى، فهل يصح هذا البيع؟
الجواب
نعم؛ لأن هذا الفقير قد ملكها بالقبض، واختلفت اليد، فحرم عليك البيع وجاز له، ولذلك لما دخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين والقدر يغلي بلحم وهو يريد أن يطعمه، فقالت له أم المؤمنين: يا رسول الله! إنه لـ بريرة أي: صدقة تصدق بها على بريرة، وبريرة كانت أمة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقات، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو لها صدقة، ولنا هدية)؛ لأنه يأكل الهدية عليه الصلاة والسلام.
وهذا هو ما يسمونه: اختلاف اليد، ولذلك أخبر عليه الصلاة والسلام: أن المال الواحد يهلك به جامعه وينجو به آخذه، فتجد الرجل يجمع الأموال من الحلال والحرام، ويكون أكثرها من الحرام ثم يموت عنها، فيخلّفه الله ذرية صالحة ويأخذ ولده المال ثم يتصدق به؛ فيدخل به ذاك النار ويدخل به هذا الجنة.
فاليد هنا قد اختلفت، ولو أردت أن تبيعه لم يجز لك؛ لكن إذا أعطيت المسكين وأخذه بيده فقد ملك، وجاز له أن يبيع وأن يعاوض.
وهكذا بالنسبة لزكاة الفطر، فإذا أعطيته زكاة الفطر وباعها فلا حرج؛ لأنه قد ملكها بالقبض، ثم بعد ذلك إن شاء أكلها وإن شاء باعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أغنوهم عن السؤال)، فكونه يأخذها ليطعم غناء له عن السؤال، وكونه يبيعها أيضاً غناء له عن السؤال، فلا حرج في ذلك.(132/6)
أحكام الأضحية المعينة إن تعيبت
قال رحمه الله: [وإن تعيبت ذبحها وأجزأته].
أي: إن تعيبت الناقة أو البقرة أو الشاة التي عينها أضحية أو هدياً، صح وجاز له أن يضحي بها.
قال: [إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين].
فلو قال: لله عليَّ أن أضحي هذه السنة بشاة، فاشترى شاة، وقال: هذه أضحية -أي: عن النذر- فتعيبت، فحينئذٍ كونه يعينها للأضحية لا يسقط لزوم ذمته؛ لأن هذه الشاة التي يريد أن يضحي بها أو يريد أن يبرئ ذمته قد تعينت، فإنه ينصرف إلى غيرها؛ لأن ذمته مشغولة بالحق، أما لو اشتراها وقصدها وعينها بإذن الشرع وبإيجابه، فإنه في هذه الحالة إن عينها فلا إشكال أنها لو تعيبت لا يلزمه بديل عنها، أما لو كانت واجبة عليه من قبل، فإن عينها أو لم يعينها فذلك لا يؤثر في الأصل؛ لأن ذمته لا تبرأ إلا بكاملها، فليست مثل الأضحية التي كانت ذمته بريئة منها قبل التعيين، وحينئذٍ يقولون: يفرق بين كونها معينة فيما لا نذر ولا إلزام فيه، وبين كونها معينة بالنذر والإلزام.
لكن بالنسبة لمسألة الضمان؛ فإن اليد في الشرع تنقسم إلى قسمين: فهناك يد تسمى في الشرع: يد الأمانة، وهناك يد تسمى: يد الضمان.
فإذا أخذت شيئاً وهو للغير؛ فإما أن تكون يدك يد أمانة، فلا تلزم بضمان ذلك الشيء إن تلف، وإما أن تكون يدك يد ضمان فتلزم بكل حال، مثال ذلك: إذا قلت لشخص: أريد منك مائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، فإذا قبضتها فيدك يد ضمان، بمعنى: أن هذه المائة ألف إن تلفت أو ربحت فأنت المسئول عنها، فلو أخذت المائة ألف ثم خرجت من عنده فسرقت، أو سقطت في نهر وغرقت المائة ألف وذهبت، فلا يضمن هو بل أنت الذي تضمن، ولو أنك اشتريت بها عمارة، ثم أصبحت قيمتها مليوناً، فأنت الذي تأخذ المليون، فكما أنك تربح فإنك كذلك تضمن الخسارة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان)، ويقول العلماء في هذه القاعدة المعروفة: الغنم بالغرم.
أي: أنه يأخذ الربح والنتاج من الشيء من يضمنه، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، فإن الذي يتحمل مسئولية الشيء هو الذي ينبغي أن يأخذ مصلحته وثمرته ومنفعته، فصاحب البستان يبيع الثمرة بمائة ألف وبمائتي ألف، ولو احترق البستان لضمن هذا المال، فكما أنه يتحمل الخسارة يأخذ الربح.
إذاً: هذا النوع من اليد يسمى يد الضمان، وسواء وقع التلف والضرر بيدك وبما هو في وسعك، أو وقع خارجاً عن إرادتك بالأقدار، ففي الجميع تضمن.
النوع الثاني يسمى: يد الأمانة، أي: أن تأخذ الشيء ولا تلزم بضمانه إلا إذا فرّطت فيه أو قصرت، مثاله: جاءك رجل وقال: خذ هذه السيارة وضعها أمانة عندك، فوضعتها في مكان وحفظتها، ثم شاء الله أن تنزل عليها صاعقة تحرقها، أو تعطلت مكينتها دون أن يحركها أحد، فأنت هنا لا تضمن شيئاً؛ لأن يدك يد أمانة ويد حفظ، فلا تضمن إلا إذا قصّرت، أما لو أخذت هذه السيارة وقال لك: ضعها عندك، فأخذتها وقضيت بها حوائجك، فأي تلف يقع في السيارة فإنك تضمنه، ولو كان بآفة سماوية؛ لأن اليد أصبحت يد أمانة عندما قصر؛ ولذا ألزم بعاقبة التقصير.
فهناك يدان: يد الأمانة، وهي لا تضمن، كما هو الحال في الودائع، كما لو جاءك شخص وقال لك: ضع هذه الشنطة وديعة عندك، فأخذتها ووضعتها في الخزانة، وعملت كل الأسباب لحفظها، ثم جاء سارق وسرقها بطريقة ذكية، فإنك لا تضمن؛ لأن يدك يد أمانة، وأما لو أخذت هذه الشنطة وفتحتها؛ ضمنت، بل قالوا: لو حل الرباط الذي على الكيس في الودائع فإنه يضمن؛ لأن يده خرجت عن الأمانة والحفظ وأصبحت يد ضمان.
فالفرق بين يد الضمانة ويد الأمانة: أن يد الأمانة لا تضمن إلا إذا فرطت، ويد الضمان تضمن بكل حال، ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة واستعار من صفوان رضي الله عنه وأرضاه أدرعه وما يريده عليه الصلاة والسلام لجهاده، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (عارية مضمونة)؛ لأنه سيستخدمها عليه الصلاة والسلام في الجهاد، فدل هذا على أن يد الأمانة لا تضمن إلا إذا فرطت.
فهذه الشاة الأضحية قد أخرجها الشرع عن ملكه، وأصبحت كأنها منذورة لله عز وجل وتعينت، فلا يضمن إن تعيبت؛ لكن لو أنه فرط فيها فعرّضها للخطر حتى كسرت يدها، أو أصابها مرض، أو حصل بها ضرر؛ فأصبحت عرجاء بيّناً عرجها، أو مريضة بيّناً مرضها، أو أصبح فيها شيء من العيوب الأربعة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور -فإذا وقع بها واحد من العيوب المؤثرة فإنه يضمن؛ لأنه تعاطى أسباب الإضرار.
فقوله عليه رحمة الله: (وإن تعيبت ذبحها وأجزأه) شرطه: أن لا يكون مقصراً، وأن لا يتعاطى أسباب الإضرار، فإن فعل ذلك فإنه يلزم وتكون مضمونة.(132/7)
مسائل متفرقة في الأضحية(132/8)
حكم الأضحية
قال رحمه الله: [والأضحية سنة].
الأضحية سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، على ما اختاره المصنف.
وقال بعض العلماء: الأضحية واجبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فأمر عليه الصلاة والسلام بالذبح، ولحديث: (من وجد سعة فليضح ومن لم يضح فلا يقربن مصلانا)، واختلف في إسناده، وحسنه بعض العلماء.
وقال المؤلف رحمه الله: إنها سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في إحدى الكبشين: (اللهم هذا عن محمد وعمن لم يضح من أمة محمد)، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عمن لم يضح، فلا يلزم الإنسان أن يضحي، وفعل الأضحية إنما هو سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.(132/9)
حكم التصدق بثمن الأضحية
قال رحمه الله: [وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها].
الأضحية فيها أمران: الأمر الأول: قيمتها، والأمر الثاني: عينها وذاتها، وعليه: فهل الأفضل أن يذبحها ويتصدق بجزء منها، أو يقدر قيمتها ثم يتصدق به؟ جماهير العلماء على أن الأفضل أن يشتريها ويذبحها، ولذلك بيّن المصنف رحمه الله أن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها.
وقال بعض العلماء: إذا كان الفقراء يحتاجون إلى المال أكثر، فإن هذا أفضل من التضحية بها، وهذا كله على القول بأنها سنة، أما لو قلنا: إنها واجبة؛ فلن نبحث عن الأفضل؛ لأنها واجبة عليه.
والصحيح: أن الأفضل ذبحها، وهذا ما يقول عنه العلماء: إن التعيين للشيء الوارد في الشرع أفضل من المبهم غير الوارد في الشرع، فمثلاً: تلاوة القرآن في يوم الجمعة من حيث الأصل أفضل، لكن كون النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثروا عليَّ من الصلاة فيها) -صلى الله عليه وسلم- يدل على أن الأفضل يوم الجمعة أن يكثر الإنسان من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال بعض العلماء: الذكر الخاص في الزمان الخاص المندوب إليه أفضل من سائر الأفعال التي تأتي مطلقة، ومن هنا قال بعض العلماء: إن صلاة الظهر يوم التروية -الذي هو اليوم الثامن- بمنى أفضل من صلاتها في المسجد الحرام -على القول بأن المضاعفة تختص بالمسجد الحرام- لأنه إذا صلى الظهر بمنى أصاب السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونه في اليوم الثامن صلى الظهر بمنى ولم يصل بالمسجد الحرام دل على أنه أفضل؛ فكونه عليه الصلاة والسلام في يوم النحر يذبح ولا يتصدق بالثمن يدل على أن الذبح أفضل من التصدق بالقيمة، ولو كانت قيمتها باهضة؛ لأنك لو ذبحت الشاة فقد تتصدق بشيء يسير منها ويجزيك ذلك، لكن لو أخذت القيمة كلها وتصدقت بها فإن هذا من ناحية الرأي والاجتهاد قد يكون أن الأفضل القيمة، لكن كونك تأتسي برسول الأمة صلى الله عليه وسلم، وكون أولادك وأطفالك يوم النحر يفيقون على هذه السنة، ويرون أن هذا اليوم من بين أيام السنة كلها هو الذي يذبح فيه، فيشعرون بحلاوة هذا اليوم ولذته، ويشعرون بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فإذن هناك أمور كثيرة ترجح -حتى ولو قلنا بالسنية- أن الذبح أفضل؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(132/10)
السنة في تقسيم الأضحية بعد الذبح
قال رحمه الله: [ويسن أن يأكل، ويهدي، ويتصدق أثلاثاً].
اختلف العلماء في تقسيم الأضحية: فبعض العلماء يقول: الأفضل أن تقسمها نصفين، نصف لك ونصف تتصدق به؛ لأن الله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، فجعلها نصفين تقسم بينه وبين الفقراء.
وقال بعض العلماء: الأفضل أن تقسم ثلاثة أثلاث: ثلث لك ولأهل بيتك تفعل به ما تشاء، وثلث للفقراء، وثلث تهديه وتعطيه للأغنياء على سبيل المودة والمحبة، مثل أرحامك ومن ليسوا بحاجة، ولكنهم يأتون إليك يوم النحر من أجل أن يأكلوا عندك، أو تصل رحمك بها؛ لأن الله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، فالقانع هو الغني، والمعتر هو السائل الذي يأتيك من أجل فقره وقلة ذات يده، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير).
وقال بعض العلماء: تقسمها أربعة أقسام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا وتصدقوا وأهدوا وادخروا)، فجعلها أربعة أقسام: ربع لك، وربع تتصدق به، وربع تدخره، وربع تهديه وتعطيه للغير.
والأمر في هذا واسع؛ لأنه ليس هناك تأقيت معين، لكن المهم أن تجعل منها قسماً للفقراء ولو كان شيئاً يسيراً، ولو جمعت الأرحام والقرابة وفيهم فقير أو ضعيف، ونويت أنه يصيب من أضحيتك لفقره، فلا بأس، وهكذا لو أخرجت منها قطعة من اللحم وأعطيتها لجار فقير أو مسكين فلا بأس.
والأفضل إذا تصدق الإنسان بالأضحية أن يبتدئ بقرابته، وهم أحق من تصرف إليهم الصدقات، وهم أحق من ذكروا خاصة في هذا اليوم؛ لأن الناس إذا رأوا قريبك الفقير ربما امتنعوا من إعطائه لكونك غنياً، ولذلك ينبغي أن يتنبه الإنسان إذا فتح الله عليه بالغنى أن يصرف صدقاته ونوافله -حتى الزكاة- لقرابته الذين يجوز صرف الزكاة لهم؛ كالأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأعمام وأبناء الأعمام، وبنات الأخوال وأبناء الأخوال، فهؤلاء يقدمهم الإنسان في الزكاة والصدقات والبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ملكت حفصة رضي الله عنها رقبة، فأعتقتها -كما في الصحيحين- دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنها أعتقت هذه الرقبة تقرباً إلى الله، كما قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:11 - 13]، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (لو أنك أعطيتيها لأخوالك -يعني: قرابتك- لكان أعظم في أجرك)، فهذا يدل على أن القريب أفضل، وينبغي أن تصرف إليه الزكوات والصدقات؛ لأن الناس إذا رأوك ثرياً فإنهم لا ينظرون إلى قرابتك إذا كانوا فقراء أو محتاجين؛ لأن الكل يقول: إنك ستعطيهم، فحينئذٍ يبقى هذا القريب بين نارين؛ فقريبه لا يعطيه، والناس لا يعطونه.
وعلى هذا فإنه يتصدق بها على قرابته، ففي يوم العيد لو دعا قرابته على اختلاف طبقاتهم ونوى بذلك الصدقة والهدية فإنه مأجور في صدقته بصلة الرحم وأجر الصدقة.
قال رحمه الله: [وإن أكلها إلا أوقية تصدق بها جاز وإلا ضمنها].
هذا قدر يستثنيه بعض العلماء: وهو أن يخرج منها ولو قدر الأوقية، فيخرجها ويتصدق بها والباقي يأكله، لكن إذا كان قد عينها ثم أكلها ضمن كلها؛ لأنه في هذه الحالة أخرجها عن الصدقات، ومما يقصد في ذبحها ونحرها أن يتصدق بجزء منها.
وقوله رحمه الله: (ضمنها) يحتمل أمرين: يحتمل ضمان الأضحية، ويحتمل ضمان الأوقية، أي: أخرج قدراً كقدر الأوقية للفقراء؛ لأنه حق واجب عليه.(132/11)
ما يحرم على المضحي فعله
قال رحمه الله: [ويحرم على من يضحي أن يأخذ في العشر من شعره أو بشرته شيئاً].
قوله رحمه الله: (ويحرم على من يضحي)، أي: يحرم على الشخص الذي يريد أن يضحي أن يقص شعره، أو يقلم أظفاره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسن شيئاً من شعره ولا ظفره)، فنهى عليه الصلاة والسلام عن مس الشعر ومس الظفر، وفي هذا الحديث مسائل: المسألة الأولى: أن هذا النهي للتحريم.
وقال بعض العلماء: بل هو للكراهة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحرم على نفسه شيئاً إذا فتل قلائد هديه).
والصحيح: أن هناك فرقاً بين الأضحية والهدي، فمن أراد أن يضحي فلا يجوز له أن يمس شيئاً من الشعر ولا الأظفار حتى يضحي.
المسألة الثانية: أن هذا الحكم يختص بالشخص نفسه، ولا يشمل الذين يراد أن يضحى عنهم، فأبناؤه وبناته وزوجته ونحوهم لا يمتنع عليهم أن يقصوا ويقلموا أظفارهم؛ والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي)، ولم يقل: أو يضحى عنه، وإنما خص الحكم بمن يضحي بعينه، فيختص الحكم بمن يضحي ولا يشمل قرابته وأهل بيته.
المسألة الثالثة: يشمل هذا الحكم شعر البدن كله: شعر الرأس، واللحية، والإبطين، وشعر اليدين، والساعدين.
المسألة الرابعة: يشمل هذا الحكم الرجل والمرأة، فالمرأة إذا أرادت أن تضحي فلا تمس شيئاً من شعرها ولا ظفرها؛ وللعلماء رحمهم الله في ذلك علل، قال بعض العلماء: لأنه إذا ذبح الأضحية كاملة أعتقه الله من النار كاملاً، وهو أمر غيبي يحتاج إلى نص، ولا أعرف فيه نصاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالعشر: عشر من ذي الحجة، فإذا أهلّ هلال عشر ذي الحجة فإنه يمتنع عما ذكر.
وقال بعض العلماء: لا يمتنع من قص الشعر والظفر إلا إذا اشترى الأضحية، بمعنى: أنه عندما يشتري الأضحية ولو في اليوم السادس أو السابع فإنه يمتنع عليه قص الشعر والظفر من حين شراء الأضحية؛ لأنه لا يكون فعلاً مريداً للأضحية إلا إذا كان هناك أضحية حقيقية، وهذا قول مرجوح.
والصحيح: أنه يمتنع من كل شيء ببداية ذي الحجة إذا نوى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم)، فقال: (أراد)، والإرادة معروفة، وهي: توجه قصد الإنسان للشيء، فإذا كانت عند الإنسان إرادة فإنه يمتنع، لكن لو كان فقيراً ودخل عليه هلال ذي الحجة وهو فقير أو مديون وليس عنده ما يشتري به الأضحية، فقال: لا أستطيع أن أضحي هذه السنة، فدخل اليوم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، ثم في اليوم السادس يسر الله له بمال يمكنه أن يشتري به الأضحية، فيمسك من اليوم السادس؛ لأنه لم يُرد الأضحية إلا حينما تيسرت له في ذلك اليوم.(132/12)
الأسئلة(132/13)
الراجح في حكم الأضحية
السؤال
ذكرتم حفظكم الله خلاف العلماء رحمهم الله في الأضحية: هل هي واجبة، أم سنة؟ لكن ما هو القول الراجح، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد سبق بيان هذه المسألة، وبيّنا أن أصح قولي العلماء القول بوجوبها؛ وذلك لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (فليذبح أخرى مكانها) إلزام، ولذلك لما قيل له: (يا رسول الله! ليس عندي إلا عناق، فقال صلى الله عليه وسلم: تجزيك ولا تجزي غيرك)، فجعل الأمر فيه شيء من الإلزام، وقد كان بالإمكان أن يقول له: إن الأضحية ليست واجبة عليك، إن فعلتها فقد أحسنت، وإن تركتها فلا بأس، ولكنه قال: (تجزيك)، فكأن الأصل أنه ملزم بها، وقوله: (ولا تجزي غيرك) أي: أن غيرك إذا أراد أن يضحي فإنه ينبغي أن يتقيد بالسن المعتبر.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم هذا عمن لم يضح من أمة محمد)، وكونه عليه الصلاة والسلام يضحي عمن لم يضح، فهذا يحتمل أن يراد به حصول الفضل والأجر لمن لم يضح من أمته صلوات الله وسلامه عليه، ولا يقوى لصرف الأمر عن ظاهره الذي يدل على اللزوم والإيجاب.
والله تعالى أعلم.(132/14)
حكم ولد الأضحية المعينة
السؤال
إذا عيّنت الأضحية وولدت، فما حكم المولود، أثابكم الله؟
الجواب
قال بعض العلماء: إن الفرع تابع لأصله، فإذا كان قد عيّنها وهي حامل، فإن الجنين يكون تابعاً لأصله، وحينئذٍ فإنه يذبح، ولكن يبقى الإشكال: هل يذبح في عامه، أو ينتظر بلوغه إلى السن المعتبر؟ قال بعض العلماء: إنه ينتظر ولا يذبح، فيكون متعيناً بنفسه أضحية إلى أن يصل إلى السن المعتبر ويذبح.
وقال بعض العلماء: إنه لا يكون أضحية إلا الشاة نفسها، وأما فرعها فلا يتبعها.
وأصول الشريعة تقتضي أن الفروع تابعة لأصولها، ولكن هناك مسألة مشهورة في الضمانات والمعاوضات، وهي: النماء المنفصل والمتصل.
فيقولون: الفرع تابع لأصله ما لم يكن منفصلاً، فالجنين من الفرع المنفصل لا من الفرع المتصل، ولذلك قالوا: إن الأضحية إذا كانت بحال عند الشراء، ثم أحسن طعامها وعلفها والقيام عليها، فبدنت وكملت، فحالها من النماء المتصل بها تابع لها، لكن حينما تلد، ويخرج منها الشيء كاللبن ونحوه، فإن هذا النماء يعتبر نماء منفصلاً، ولا يلزم بذبحه أو نحره أضحية.
وهذه المسألة مترددة بين كونه يتبع أو لا يتبع، وإن كان قد صحح غير واحد من العلماء رحمهم الله أنه لا يتبع، وأذكر من بعض مشايخنا رحمهم الله من قال: يفرق بين أن يقع التعيين قبل الحمل، وبين أن يقع التعيين بعد الحمل، فإذا عيّنها وهي حامل، فمعنى ذلك أن التعيين على الشاة وعلى ما في بطنها، كما لو قال له: أبيعك هذه الجارية وهي حامل، فإن البيع يكون للجارية وللجنين الذي في بطنها، وأما إذا كان قد عينها قبل أن تحمل ثم حملت، فإنه يكون نماءً منفصلاً.
وأنا متوقف في الترجيح بين القولين، وكل منهما له حظه من النظر.
والله تعالى أعلم.(132/15)
حكم من كان له أضحيتان
السؤال
إذا كان عند الإنسان بيتان، كل بيت في حي من الأحياء، ويريد أن يضحي لكل بيت أضحية، فمتى يجوز له أن يأخذ من شعره وأظفاره: هل بعد ذبح الأضحية الأولى، أم لا بد أن ينتظر حتى يذبح الأضحية الثانية، علماً بأنه سوف يضحي لكل بيت في يوم غير اليوم الذي ضحى فيه للبيت الأول؟ أثابكم الله.
الجواب
الذي ألزم به الشرع أضحية واحدة، وهذا الذي يلزم الإنسان في أضحيته، ولذلك يتقيد المنع بالأضحية الأولى، فإذا ضحى الأضحية الأولى فإنه حينئذٍ يجوز له أن يقصر وأن يحلق ويقلم.
وقال بعض العلماء: إذا نذر أن يضحي مائة، فإنه لا يفتك من ذلك إلا بتمام أضحيته.
والقول الأول أقوى.
والله تعالى أعلم.(132/16)
حكم شراء لحم الهدي من الجزارين
السؤال
في يوم النحر يقوم بعض الجزارين وغيرهم ببيع لحوم الهدي وغيره، فهل يجوز شراء تلك اللحوم؟ أفيدونا بارك الله فيكم.
الجواب
ذكرنا أن الفقراء إذا أخذوا اللحوم وباعوها للجزار ثم باعها الجزار فلا بأس؛ لأن الفقير يملكها بأخذها منك، ثم إذا ملكها إن شاء أكلها وإن شاء أخذ ثمنها؛ لأن الله جعلها طعمة له، فإذا نظر أن مصلحته في الأكل أكل، وإذا نظر أن مصلحته في البيع باع؛ لكن لا ينبغي على الفقراء أن يتوسعوا أكثر من اللازم، فإنهم إذا توسعوا وأخذوا الأمر أكثر مما هو عليه، فوصل الواحد منهم إلى حد الغنى وزاد، فلا يخلو أن يكون ماله سحتاً من هذا الوجه -نسأل الله السلامة والعافية- لأنه لا يستحق الطعمة، أما لو كان فقيراً، وعنده ذرية وعيال، وأراد أن يأخذ هذا اللحم ويبيعه ويستفيد من ثمنه، فقد رخص جماعة من أهل العلم رحمهم الله في ذلك؛ لحديث بريرة السابق ذكره، وقد ذكرنا أن اليد تختلف، وأنه أخذ بيد وباع بيد أخرى، أخذ باستحقاقه كفقير فملك، فلما ملك جاز له أن يصرفها بدلاً ومعاوضة، وجاز له أن يصرفها على نفسه كأن يطبخها ويأكلها.
ولكن في هذه المسألة شيء يسمى: العمل بالظاهر، فالجزار إذا اشترى من الفقراء وأعطاهم حقوقهم، ورضوا ببيعها له، فظاهر ذلك الحل، ولا داعي أن يوسوس الإنسان ويتشدد ويتنطع في هذه المسائل، فإن التشدد والتنطع لا خير فيه، فكونه يدقق ويجلس يفحص ويمحص، هذا لا ينبغي، بل إن الإنسان يعمل على الظاهر، فإذا كان ظاهر الحال أن الذين جاءوه فقراء، واشتهر ذلك، وعرف أنه لا يأتيه إلا المستحق الضعيف ويبيعه للجزار، واشترى منه الجزار وأعطاه حقه، وكل انصرف بحقه؛ فالظاهر أنها مملوكة للجزار.
والله تعالى أعلم.(132/17)
متى يترخص المسافر برخص السفر
السؤال
فضيلة الشيخ أثابكم الله! القاعدة الشرعية التي تقول: الغالب كالمحقق.
هل يمكن أن نطبقها على من بداخل المطار وهو يريد السفر بحيث يستبيح رخص السفر من الجمع والقصر وغيره؛ لأن الغالب أنه مسافر، نرجو الإفادة، أثابكم الله؟
الجواب
أولاً: المسائل تختلف، فالشخص الذي يريد أن يسافر بالطائرة، فإذا كان المطار خارج المدينة فإنه يقصر الصلاة بمجرد خروجه من المدينة، فإذا وصل إلى المطار فإنه يجوز أن يصلي الأربع ركعات ركعتين؛ وذلك لأنه مسافر، وقد تحقق سفره بخروجه من المدينة؛ لأنه قد أسفر، وهكذا لو أراد أن يركب الباخرة، فإذا وصل إلى الميناء في طرف المدينة أو بعيداً عن المدينة، فإنه قد انقطع، وهكذا لو كانت البواخر على الرصيف، فإن الرصيف يبعد عن عمران المدينة؛ وحينئذٍ بركوبه الباخرة يصلي الرباعية ركعتين، ويستبيح رخص السفر، ويفعل ما يفعل المسافر؛ لأنه قد سافر، وكونه قد تلغى الرحلة أو تتأخر، هذا لا يؤثر؛ لأن الغالب والذي يقع على الظاهر أنه مسافر، كما لو خرج بسيارته فإنه يحتمل أن تتعطل السيارة، ويحتمل أن يحصل للإنسان عائق يمنعه من السفر، وقد تتعطل السيارة بالكلية فلا يسافر، فإذاً هذه ظنون، والظنون ليست بمعتبرة ولا مؤثرة في الغالب، ولهذا يمكن تطبيق هذه القاعدة؛ لأن الغالب كالمحقق، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله كلام نفيس في كتابه (قواعد الأحكام ومصالح الأنام)، بين فيه رحمه الله أن العمل على الغالب، وأن الظنون الضعيفة لا يلتفت إليها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(132/18)
شرح زاد المستقنع - باب الهدي والأضحية والعقيقة [4]
نعم الله على عباده لا تحصى، والواجب هو شكر المنعم سبحانه، ومن تلك النعم: نعمة الأولاد، ومن شكر الله على هذه النعمة: ذبح العقيقة بعد الولادة، عن الذكر شاتان متكافئتان، وعن الأنثى شاة واحدة، تذبح عن المولود يوم سابعه، وبها يفك رهن المولود، وهي سنة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عق عليه الصلاة والسلام عن الحسن والحسين رضي الله عنهما، وهناك أمور مستحبة ينبغي فعلها عند ذبح العقيقة.(133/1)
أحكام العقيقة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: تسن العقيقة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة].
شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام المتعلقة بالعقيقة، ومناسبة هذا الفصل لما قبله: أن الهدي والأضحية تعتبر دماء مشروعة؛ شرعها الله سبحانه في مناسبات معينة وحالات مؤقتة، والعقيقة -وهي الشاة التي تذبح عن المولود ذكراً كان أم أنثى- إنما شرعت بسبب وجود الولد، فكأنها دم واجب بسبب معين، فأشبهت الهدي والأضحية، فكأن الهدي والأضحية والعقيقة تشترك في صفة معينة، وهي: كونها دماء شرعها الله سبحانه وتعالى في كتابه وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في مناسبات معينة.
- فالهدي يكون في زمان معين، ويكون في حال مطلق، وحال مقيد.
- والأضحية تكون في زمان معين.
- والعقيقة تكون بسبب معين؛ فكلها دماء شرعت لأسباب مخصوصة.(133/2)
معنى العقيقة
يقول رحمه الله: (تسن العقيقة)، أي: من هدي النبي صلى الله عليه وسلم العقيقة.
والعقيقة أصلها: الشعر الذي يكون على المولود.
ومنه قول الشاعر: أيا هند لا تنكحي بوهةً كأن عقيقته عليه أحسبا والمراد بذلك: الشعر الذي يولد به المولود، ولذلك ذهب بعض أئمة اللغة -وهم حجة في ذلك؛ خاصةً وأن البيت مشهور- إلى أن العقيقة مأخوذة من شعر المولود؛ لأنه يحلق في سابعه، وفي ذلك حكمة عظيمة، وقد قرر الأطباء في عصرنا الحاضر: أن حلق رأس المولود فيه نفع عظيم لخصائص الشعر، فإذا مُرَّ بالموسى على جلدة الشعر فإن ذلك ينشط الشعر ويقويه، إضافة إلى أنه يقتل كثيراً من الجراثيم التي قد توجد على جلدة الرأس أو بين الشعر، ومن هنا قالوا: وصفت بكونها عقيقة لوجود هذا المعنى، فشعر الرجل وشعر المرأة يقوى إذا حُلِق في حال الصغر بعد الولادة.(133/3)
حكم العقيقة
وقوله رحمه الله: (تسن العقيقة) هذا الحكم بكونها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن ذبح العقيقة من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في حديث الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته؛ تذبح عنه يوم سابعه ويسمى)، فهذا يدل على مشروعية العقيقة.
وقد اختلف العلماء هل هذه السنة واجبة أو مستحبة؟ فذهب طائفة من العلماء إلى أنها سنة مستحبة، وبه يقول الأئمة الأربعة رحمهم الله برحمته الواسعة، وقال بعض فقهاء الظاهر وينسب القول لـ داود إمام الظاهرية: إنها واجبة، ويلزم الإنسان الذبح عن مولوده؛ لحديث الحسن عن سمرة الذي رواه أصحاب السنن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته)، فقوله: (مرتهن)، المراد به: أنه مرهون، والمرهون هو المحبوس، ولذلك قالوا في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: مرهونة، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، ورهينة بمعنى: محبوسة بما اكتسبت من الخير أو الشر، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل غلام مرتهن بعقيقته)، دلَّ هذا على أنها واجبة.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن هذا الحديث من باب الإخبار لا الإنشاء، والأصل براءة الذمة عن الوجوب حتى يدل الدليل على وجوبها، والأفضل والأكمل أن تذبح العقيقة.(133/4)
الحكمة من مشروعية العقيقة
ذهب بعض العلماء إلى أن العقيقة شرعها الله لحكمة عظيمة، ففي قوله عليه الصلاة والسلام: (كل غلام مرتهن بعقيقته) أنه محبوس بها، ومن ثم اختلفوا في هذا الحبس؛ فبعضهم يحمله على حبس الشيطان، وقيل عنه: حبس عن الخير ومكارم الأمور وفضائلها؛ فلا تتم له مكارم الأخلاق وفضائلها في الغالب إلا إذا عق عنه، وظاهر الحديث: أنه أخبر عن أنه مرتهن، وأمر ذلك إلى الله، حيث لم يأت ما يفسره، والأمر محتمل، ولذلك قال بعض العلماء: إن العقيقة يرتهن بها المولود، والله أعلم بكيفية هذا الرهن.
وهناك حكمة أخرى: فهذه الشاة أو الشاتان اللتان تذبحان في اليوم السابع للمولود فيها حكم من الناحية الاجتماعية، فإن ذبح هذه الشاة وجمع الناس عليها، خاصة إذا طبخت وأصاب القرابة وغيرهم منها، أو فرق لحمها على الناس -هذا الأمر يثبت الأنساب، ويعرف الناس بعضهم ببعض، ولذلك فإن أنساب الناس تثبت عن طريق العقيقة، فتحفظ أنسابهم ولا تضيع، ومن هنا كان النكاح أمره مشتهراً ولم يكن بالسر، والسفاح على عكسه، فلما كان الولد ناشئاً عن النكاح الشرعي؛ شرع إظهار هذا الخير وهذه النعمة، والفرح والسرور بها، وكذلك يصل الناس بعضهم بعضاً بهذه العقيقة، فيهنأ والده وأمه وقرابته، وفي هذا لا شك مزيد بِرٍّ من الخير والصلة، فيتواصل الأرحام، ويشعر الناس بالمحبة والألفة، وزيادة الأخوة، وقوة الروابط الأسرية والاجتماعية، وفي ذلك خير كثير.(133/5)
انشغال ذمة الوالد بذبح العقيقة
والمراد بقوله: (العقيقة) أي: جنس العقيقة، ولذلك فصل وقال: (عن الذكر شاتان وعن الأنثى شاة)، أي: يذبح عن الولد الذكر شاتان، وذلك أن الأصل في التكاليف الشرعية أنها توجه إلى الوالد حتى يدل الدليل على شغل ذمة الوالدة، والأصل أن الوالد هو القائم على البيت والمسئول عنه، والغنم بالغرم، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، ومن هنا وجب عليه الحق في تعلق الأمور التي تكون للأولاد به سلباً وإيجاباً، نعمة ونقمة، غرماً وغنماً.(133/6)
كراهة بعض العلماء تسمية العقيقة بهذا الاسم
وقد كره بعض العلماء تسمية ما يذبح في السابع بالعقيقة، والصحيح جوازه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (كل غلام مرتهن بعقيقته)، بل ذهب بعض العلماء إلى تحريمه؛ لأن العقوق لا خير فيه، فكرهوا هذا الاسم.
والصحيح أنه ما دام قد ثبت به النص فلا بأس بالتسمية ولا حرج فيها، وقال بعض العلماء: يقال لها: نسيكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انسك نسيكة)
و
الجواب
أن هذا ورد في دم الفدية وليس في العقيقة، كما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة، والتسمية بالنسيكة -وهي فعيلة بمعنى مفعولة، أي: منسوكة- إنما هو من باب الذبح، أي: أنها شاة مذبوحة، وهذا الاسم مطلق وليس بمقيد.
فالصحيح أنه يجوز تسميتها عقيقة، ويقول الرجل: عققت عن ولدي، وهل عققت عن ولدك؟ ونحو ذلك؛ وذلك لثبوت الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(133/7)
ما يذبح من العقيقة عن الغلام والجارية
وقوله: (عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة؛ تذبح يوم سابعه).
هذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، فالنعمة بالذكر ليست كالأنثى، وهذا من تفضيل الشرع، ولا يستطيع الإنسان أن يقدم في ذلك أو يؤخر، وما عليه إلا أن يسلم، وإن كان في النساء خير كما أن في الرجال خيراً، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (إنما هن شقائق الرجال)، وقد فضل الله بين أنبيائه، ولم يكن لهذا التفضيل بين الأنبياء منقصة لمن هو مفضول، فكذلك تفضيل الرجل على الأنثى ليس فيه غضاضة أو حط لقدر النساء، كما يتذرع به بعض الجهلاء لذم الإسلام وأهله، إنما هو حكم الله الذي لا يسع المؤمن ولا المؤمنة إلا أن يسلم به ويرضى، وقد حمل الله عز وجل الرجال أحمالاً وأعباءً ثقيلة لم يحملها النساء، والله يحكم ولا معقب لحكمه.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأحمال والأعباء متناسبة مع خلقته، ثم جعل للنساء ما جعل من اللين واللطف وحسن الرعاية والحلم والرقة ما جبر به كسر الرجل حينما يصيبه ما يصيبه بسبب ما هو فيه من قوة الشكيمة والبأس، فالله تعالى بحكمته جعل الخلق على هذا التفاوت لكي يكمل هذا نقص هذا، ويجبر هذا بإذن الله كسر هذا.
وأياً ما كان فإن الأنثى يعق عنها بشاة، وأما الذكر فيعق عنه بشاتين؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها -وقد حسنه غير واحد من أهل العلم- في التفريق بين الذكر والأنثى.
وقال بعض العلماء: يعق عن الاثنين بشاة شاة، واستدلوا بحديث الحسن عن سمرة المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته).
و
الجواب
أن قوله: (بعقيتقه) إنما المراد به الجنس، أي: جنس العقيقة، بغض النظر عن العدد، وحينئذٍ فلا يقوى على الدلالة على أن الرجل يعق عنه بشاة واحدة، فالنعمة بالذكر ليست كالنعمة بالأنثى، ولذلك قال تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، وقد ذكر هذا في سياق الامتنان بعد الولادة، فدل دلالة ظاهرة على أنهما ليسا بمتساويين، ولذلك فرق بينهما من هذا الوجه، كما هو الأصل في تفريق الشرع في كثير من الأحكام والمسائل.
فيسن أن يعق عن الذكر بشاتين وعن الأنثى بشاة، ولا يدخل فيها التشريك، بل لابد أن تكون شاتين منفصلتين، وعلى هذا فلا يعق مثلاً عن ثلاثة من الذكور ببعير، وينوى أن يكون عن ست شياه؛ وذلك لأن العقيقة يقصد منها إراقة الدم، وذلك بالذبح، وعلى هذا فلابد فيها من خصوص الشاة دون الاشتراك.(133/8)
وقت ذبح العقيقة وتسمية المولود
قوله رحمه الله: (تذبح يوم سابعه)، أي: تذبح هذه العقيقة في اليوم السابع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (تذبح عنه يوم سابعه)، وللعلماء في سابع الولادة وجهان: فمنهم من يقول: لا يحسب يوم الولادة، فإذا ولد في يوم الأحد فإنك تعتد بيوم الإثنين وما بعده، وحينئذٍ فيكون بعد تمام الثامن إذا حُسب يوم الولادة؛ لأنه هو يوم السابع حقيقة، فإذا جئت من حيث تمام السبع فتمام السابع بإلغاء يوم الولادة.
وقال بعض العلماء: بل يوم الولادة محسوب فيها؛ لقوله: (يوم سابعه)، والإضافة تقتضي تقييد الحكم بالمضاف إليه، والمعنى: أن هذا اليوم وهو السابع مضاف إلى يوم الولادة، وعلى هذا فيكون يوم الولادة هو السابع.
وفصلوا في هذا وقالوا: إذا كان مولوداً بالليل فإنه يحتسب من اليوم الذي بعده؛ حتى يتم السبع، وإن كان مولوداً بالنهار فكذلك، ولو كانت ولادته في آخر النهار فإنهم يعتدونه يوماً كاملاً على هذا المذهب، وكلا القولين له وجه، وإن كان القول الثاني أقوى، ومن عمل بأحدهما فإنه لا بأس ولا حرج عليه في ذلك.
ثم قال رحمه الله: (فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين).
فالعقيقة تذبح عن المولود في يوم سابعه، وتكون التسمية في اليوم السابع، ويحلق شعره في اليوم السابع، ويجوز أن يسميه في يوم ولادته، كما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى إبراهيم وقال: (لقد ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم)، فهذا يدل على مشروعية التسمية في يوم الولادة، ولا بأس أن تسمي قبل الولادة، كما يقع في الكنية، فيقال للرجل: يا أبا عبد الله، ولم يولد له بعد، ثم إذا ولد سماه عبد الله.
والتسمية من حق الأب، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى؛ وفيه أسوة حسنة، وتسمي المرأة إذا كان لها مولود أو مولودة وأرادت أن تسميه.
وكان من عادتهم في الجاهلية أن يغلظوا أسماء الرجال ويخففوا أسماء النساء والموالي، فقال رجل يتعصب من صنيعهم في الجاهلية: إنكم تسمون مواليكم بأسماء رقيقة، وتسمون بها النساء، وتمسون أنفسكم بالأسماء الغليظة، فقد كان الرجل يسمى: كلب، وصخر، وذئب، ونحو ذلك من الأسماء الخشنة، فقيل للعرب: لماذا تسمون أنفسكم بالأسماء الخشنة، وتسمون الموالي بالأسماء الرقيقة كيسار ونجاح ونحوهما؟ فقال يجيبه: أسماؤنا لأعدائنا، وأسماء موالينا لنا.
أي: إننا نتسمى بالأسماء الغليظة حتى تكون هيبة لأعدائنا، فإذا قيل: هذا ذئب، هابه العدو، وإذا قيل له: أسامة، هابه كذلك، ومثله: صخر وكلب ونحو ذلك.
ثم إن الإسلام جاء بالهدي الأكمل والأفضل في التسمية، فخير الأسماء وأفضلها ما اشتمل على تمجيد الله عز وجل وتعظيمه وحمده سبحانه، كأن يسمي ابنه: عبد الله، أو عبد الرحمن أو عبد العزيز، ونحو ذلك من الأسماء الطيبة التي فيها تعبيد لله سبحانه وتعالى، ولا شك أن أفضلها عبد الله، ثم بعد ذلك التسمية بأسماء الأنبياء، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم)، فسماه باسم نبي، فاستحب العلماء التسمية بأسماء الأنبياء؛ كموسى وعيسى وزكريا ونحوهم من الأنبياء.
ويستحب أيضاً التسمية بأسماء الصالحين، كما ثبت من حديث المغيرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانوا يسمون -أي: الذين من قبلكم- بأسماء أنبيائهم وصالحيهم)، والحكمة من ذلك: قالوا: لأنه إذا سمى بأسماء الأنبياء والصالحين؛ فإن المولود إذا شب وكبر وقرأ سيرة هذا النبي، أو هذا الإمام الصالح، أو العالم الفاضل؛ فإنه يتأثر به ويتخذه قدوة، وهذا شيء جبلي، وأفضل من يسمى به بعد أنبياء الله ورسله أسماء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فإنه إذا قرأ سيرة الصحابي أحب أن يكون مثله، وأن يقتدي به، فتكون في النفوس نوازع إلى الخير، وتكون الأسماء مدخلاً للخير.
والعكس بالعكس، فإن التسمية بأسماء الأشرار والفسقة والفجار تحمل على الفساد.
وأما التسمية بأسماء الكفار فإنها محرمة؛ لما فيها من التشبه بهم، وخاصة إذا لم يعرفها المسلمون، سواء كانت في الرجال أو النساء، فإن بعض النساء لا يحرصن على التسمية بأسماء أمهات المؤمنين، ولا شك أنها مصيبة عظيمة حينما عزف بعض النساء عن التسمية بأسماء أمهات المؤمنين، فتجد المرأة المسلمة التي تؤمن بالله واليوم الآخر يقول لها زوجها: نسميها بـ فاطمة، وهي من أفضل نساء الجنة، وأحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقول لها: نسميها بـ خديجة وعائشة، فإذا بها تتمعر ويتغير وجهها، وتحس أنها منقصة إذا سمت بهذا الاسم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مع أن هذه البنت لو أنها تسمت باسم من أسماء أمهات المؤمنين لرجت أن تكون مثلهن في الاقتداء بالخير، والاتساء بهن في الطاعة والبر، ولذلك ينبغي على المسلمة والمؤمنة أن تحرص على الأسماء الصالحة الطيبة؛ كمريم، وأسماء أمهات المؤمنين، ونحوها من الأسماء الفاضلة التي تشحذ الهمم، لعل الله أن يجعل فيها قدوة وأسوة بمن سبقها من الصالحات.
ويحرم التسمية بالأسماء المحرمة التي فيها تعدٍ لحدود الله عز وجل، كالأسماء التي فيها تعالي وعظمة على الله تعالى، حتى إن البعض قد يسمى -والعياذ بالله- باسم الله عز وجل، وهذا لا يجوز، ومن هنا قالوا في تفسير قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، قيل: إنه هو اسم الله الذي لم يتسم به أحد، و (هل) هنا بمعنى: لا، فالمراد بقوله: (هل تعلم له سمياً) أي: لا تعلم له سمياً، والمراد بالسمي من الاسم قيل: من المساماة، وهي المشاكلة والمضاهاة.
وأيهما كان فإنه ينبغي البعد عن هذا.
كذلك الأسماء التي تشتمل على أمور محرمة من الخنا ونحو ذلك من الفحش، فإنه لا يجوز التسمي بها، ولا لمز الناس بها، فإن هذا محرم.
إذاً: تكون التسمية في اليوم السابع، وإن سمى في اليوم الأول فلا حرج، وفي كل سنة، وإن كان الذي استحبه بعض العلماء أن تكون التسمية في أول يوم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عجل في تسمية ولده.
وعند الخلاف في التسمية فإن مرد الخلاف إلى الأب، وينبغي على المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأن تحسن إكرام بعلها، وتحسن الأدب معه؛ لأن هذا مطلوب من النساء مع الرجال؛ فلا تسترجل المرأة، ولا تحاول البغي على زوجها أو الاستهتار باسمه الذي يختاره أو ينتقيه لولدها، إلا إذا تضمن أمراً محظوراً، أو تضمن أمراً فيه إساءة إلى الولد؛ كالأسماء المستبشعة، أو التي تحمل نوعاً من المنقصة؛ كأن يسميه باسم يطابق الحالة التي جاء عليها؛ لأن البعض يستعجل في التسمية فيسمي ابنه بأسماء بشعة، وقد يقصد منها أنه جاء على حالته، فهذا كله لا ينبغي؛ لأنه يؤذي الولد ويضره، حتى قال بعض العلماء: إذا سمى الوالد ولده باسم مستبشع، فجميع ما يترتب عليه من الأذية والإساءة عليه وزره؛ لأنه أعان على ذلك، وهو السبب فيه، فمن حق الولد على والده أن يحسن اختيار ما يناسب لتسميته، كما يحب ذلك لنفسه.
والله تعالى جبل الآباء على رحمة الأبناء، وجبل الأمهات على رحمة البنات، فالواجب الإحسان إليهم بهذه الأسماء الطيبة، خاصة أسماء الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين.
وقوله رحمه الله: (تذبح يوم سابعه، فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين).
أي: تذبح العقيقة في سابع المولود، فإن فات السابع ففي رابع عشر، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وقد تكلم العلماء في سنده وإن كان قد حسنه بعض أهل العلم، وهم يقولون: إنه تبع للإيتار، فيجعل السبع الأول، فإن لم يتيسر ففي السبع الثانية، أي: الرابع عشر، فإن لم يتيسر ففي إحدى وعشرين، وهذا قد استحبه بعض العلماء، ولا ينبغي للإنسان أن يفوت السنة عن السابع، وخاصة إذا لم يوجد موجب النسيان في ذلك، فالبعض ربما يؤخر عن السابع لموافقته لوسط الأسبوع؛ فيختار أن يكون يوم الخميس أو الجمعة، فيؤخر عن السابع ويفوت على نفسه السنة، بل ينبغي أن يحرص على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون ذبحها في اليوم السابع.(133/9)
صفة ذبح العقيقة
قال رحمه الله: [وتنزع جدولاً].
المراد بقوله: (وتنزع جدولاً) أن يكون قطعها من المفاصل، فإذا أراد أن يقطع اليد ابتدأ بمفصل الكتف، ثم ينتقل بعد ذلك إلى مفصل الساق، وهكذا، ولا يكسر العظم.
وهذا مبني على حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها، والعلماء رحمهم الله يستحبون هذا من باب الفأل؛ لأن هناك ما هو فأل، وهناك ما هو تطير وتشاؤم، والفأل مشروع، والتشاؤم محرم، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطيرة وقال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)، فهو إذا نزعها جدولاً كأنه يتفاءل بسلامة الولد، والفأل كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يحبه الله، والسبب في ذلك الفأل: أن تحسن الظن بالله عز وجل، فربما تكون في هم أو غم أو كرب، فإذا بك تسمع إنساناً يقرأ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]، أو تسمع قارئاً يقرأ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26] فتتفاءل أن الأمر سيكون إلى خير.
فإن كنت تخشى على شيء أن يصيبه ضرر فتسمع رجلاً ينادي رجلاً ويقول: يا صالح، فتتفاءل أن الله سيصلح لك ذلك الأمر، أو تكون في حالة تسمع رجلاً يقول كلمة تتناسب مع حالك مما هو خير، فهذا أمر مشروع؛ لأنه من حسن الظن بالله عز وجل، وقد جاء في الحديث كما في مسند أحمد وغيره -وأصله في الصحيحين- أن الله تعالى يقول: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، لكن هناك زيادة في المسند: (فمن ظن بي خيراً كان له، ومن ظن بي شراً كان له)، فقوله: (فمن ظن بي خيراً)، أي: تفاءل الخير، فإذا كنت تريد أن تخرج في سفر وسمعت رجلاً ينادي رجلاً بيسر أو سهل، فتحس بالسهالة، ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الحديبية لما أرسلت قريش من يتفاوض معه وكان ثالثهم سهيل بن عمرو قال: من؟ قالوا: سهيل بن عمرو، قال: (قد سهل أمركم) فتفاءل عليه الصلاة والسلام، وكان ما كان.
وقد ذكر الإمام ابن القيم قصة عجيبة في هذا: وذلك أنه فقد أحد أولاده في موسم الحج، قال: فما زلت أسأل الله أن أدركه -ومعلوم كثرة الناس في الحج- قال: فإذا بي أطوف في البيت طواف الإفاضة -يوم النحر- وأنا أدعو الله أن يبلغني رؤية ولدي؛ فسمعت رجلاً يصيح بكلمة من الفأل فتفاءلت، فلم أدر أيهما أسرع صوت الولد وهو يصيح أم انتهاؤه من كلمته؟! فقد تفاءل بها خيراً، وأحسن الظن بالله، فإذا بولده يصيح، ولا شك أن هذا يزيد الإيمان؛ لأنه يحسن العقيدة في الله، بخلاف التشاؤم، فإنه -والعياذ بالله- يصرف العبد عن الله عز وجل، فتجده إذا أراد أن يخرج لعمل فرأى مشلولاً، أو ذا عاهة؛ تشاءم من ذلك اليوم وتطير منه، وإذا فتح باب دكانه للتجارة فجاءه إنسان مريض أو به عاهة؛ تشاءم وتطير، وقال: هذا يوم نحس، أو نحو ذلك، وهذا لا يجوز، وهو أمر محرم، وفيه شرك أصغر إذا اعتقد تأثير هذه الأشياء، وربما يصل به إلى الشرك الأكبر -والعياذ بالله- كما في حال ظن الغيب بزجر الطيور ونحوها، نسأل الله السلامة والعافية.
إذاً: فنزع الكتف والمفاصل من الشاة من باب الفأل، ولا بأس به؛ لأن المقصود من العباد أن يخلصوا العبادة لله جل جلاله، ويوحِّدوا الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى إن أحسنت به الظن كان لك حسن الظن وفوقه مما لم يخطر لك على بال، فإذا أحسنت الظن بالله عز وجل فإن الله يلقيك من رحمته وفضله وإحسانه فوق ما ترجو وتأمل، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتفاءل بالخير، وأن يحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فإن هذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال رحمه الله: [ولا يكسر عظمها، وحكمها كالأضحية].
قوله: (وحكمها كالأضحية)، أي: من حيث السن، فإنه يختارها بالسن المعروف في الأضحية، فلا يجزئ ما كان دون الثني، ويجوز أن يعق بالجذع من الضأن، وقد فصلنا هذه المسائل وبيناها في باب الأضحية، فإذا أراد أن يعق عن ابنه أو ابنته فإنه ينبغي أن يكون في الشاة التي تذبح شروط: أولاً: أن تكون بالسن المعتبرة.
ثانياً: أن تكون سالمة من العيوب، فلا يذبحها إذا كانت معيبة، ولا تجزئ المعيبة، وذلك على التفصيل الذي ذكرناه في الأضحية.
ثالثاً: أن لا تسبق العقيقةُ السبب، فالسبب هو الولادة، فلو ذبح العقيقة قبل الولادة لم يجزئ، كما لو ذبح الأضحية قبل صلاة يوم النحر فإنها لا تجزئ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فتتأقت العقيقة بالسبب، فلا يُذبح قبلها، كما لو قال له الأطباء: سيأتيك ذكر، فذبح قبل ولادته شاتين، أو قال: سأذبح هاتين الشاتين، فإن كان ذكراً فهما عنه، وإن كانت أنثى فالثانية صدقة؛ فإن ذلك لا يجزئه، فلابد أن يكون الذبح بعد الولادة.(133/10)
حكم التشريك في دم العقيقة
قال رحمه الله: [إلا أنه لا يجزئ فيها شرك في دم].
قوله: (إلا أنه) استثناء، والقاعدة: أن الاستثناء إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فلما بين أن حكمها كحكم الأضحية، فإن الأضحية يشرع فيها التشريك، والتشريك مأخوذ من الشركة، يقال: شَرْكة وشُرْكة وشِرْكة، مثلث الشيء، والتشريك من الشركة وهي: الخلطة والاجتماع وضم الشيء إلى الشيء، والمراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لأصحابه يوم الحديبية أن يذبحوا البعير عن السبعة، فاشترك في الجزور سبعة، كما في حديث جابر رضي الله عنه وغيره، ومن هنا قالوا: يجزئ في الأضحية أن يشتركوا، وهذا قد وقع في الإحصار، فهو يجزئ في الهدي والإحصار والدم الواجب، ولو أن إنساناً في الحج كانت عليه سبع واجبات في حج وعمرة؛ جاز له أن يذبح بعيراً ويجزيه عن الجميع، لكن في العقيقة لا يجزئه إلا أن يذبح شاتين متكافئتين، وينبغي له أن يراعي تساويهما على ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها، ولا تكون إحداهما أفضل من الأخرى.(133/11)
حكم الفرعة والعتيرة
قال رحمه الله: [ولا تسن الفرعة، ولا العتيرة].
الفرعة من عادات الجاهلية، فقد كانوا يعتقدون في المولود الأول من البهائم عقائد خاطئة، ولذلك كانوا يذبحونه، ولهم فيه أحكام، فلا يحملون عليه، ويخدمونه، وكل ذلك من أمور الجاهلية التي نهانا الله عز وجل عنها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لا فرع ولا عتيرة)، وهذا من باب رد أمور الجاهلية وإنكارها، فإن فعلهم هذا هو من تحريم ما أحل الله، فقد كانوا يحرمون أول النتاج مما أنتجته البهيمة، ولذلك عتب الله عليهم الافتراء عليه وتحريمهم لما أحل الله، واختلاقهم ذلك على الحنيفية ودين إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقد كانوا يفعلون العتيرة في رجب.(133/12)
الأسئلة(133/13)
من ينوب عن الأب في ذبح العقيقة
السؤال
إذا كانت العقيقة واجبة في حق الأب، فهل إذا كان ميتاً أو غائباً ينتقل الحق إلى الأم؟
الجواب
اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا مات الأب: هل الأم هي التي تعق أو العصبة؟ والذي يظهر والله أعلم من ظاهر أحكام الشرع: أن العصبة ينزلون منزلة الأب والجد، فيقدم في هذا الجد، فإنه يعق عن ولد ولده، ولذلك عق عليه الصلاة والسلام عن الحسن والحسين، ثم يأتي في الترتيب أبو الجد ثم أبوه وإن علا، ثم بعد ذلك الإخوة الأشقاء، والإخوة لأب، وأبناء كلٍ، وينظر بعد ذلك إلى الأعمام وأبناء الأعمام كل على حسب قرابته، فيقدم بالجهات ثم بالقرب، فالعصبات أولى بالعقيقة، ولذلك نجد في أحكام الشريعة أن الغرم المالي متعلق بالعصبات، ومن هنا قال الله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233]، فجعل الأمر راجعاً إلى العصبة، والعقيقة فيها شيء من الغرم، ومن هنا عندما تقع الجناية والقتل الخطأ فإن القرابة والعصبة من بني العم ونحوهم على حسب الرتب هم الذين يعقلون، كما هو قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتينا إن شاء الله في باب الديات.
إذاً: هذا الأمر ليس مما تدخل فيه الأم، ولا يدخل فيه القرابة من جهة النساء والأرحام، وإنما هو مختص بالعصبة، كما هو الأصل في المواريث، ويكون من باب الغنم بالغرم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان)، والله تعالى أعلم.(133/14)
حكم التصدق بوزن شعر المولود ورقاً أو ذهباً
السؤال
هل يجوز التصدق بوزن شعر المولود ورقاً أو ذهباً؟
الجواب
نعم، لا بأس أن يتصدق بزنته ذهباً أو فضة، وقد نص عليه جماهير العلماء؛ وذلك لظاهر الخبر عنه عليه الصلاة والسلام، وقد تكلم العلماء في سند الحديث، ولكن استحب العلماء هذا الفعل، وجرى عليه فعل طائفة من السلف رحمهم الله، والله تعالى أعلم.(133/15)
الأفضل من ذبح العقيقة وطبخها أو التصدق بثمنها
السؤال
هل الأفضل أن تذبح العقيقة ويفرق لحمها، أم تذبح وتطبخ ويدعى لها، وهل يجوز التصدق بثمنها؟
الجواب
هذه المسألة يصعب فيها البت وأن يقال: الأفضل كذا، ولكن يقال: كل جائز، إن شاء ذبحها وقسمها على الفقراء والضعفاء، وهو على خير، وإن شاء طبخها وأطعمها ودعا إليها المسكين والمحتاج والقرابة وجمع بين الجميع.
وبعض العلماء يفصل فيقول: إذا كان المسكين ينتفع بأخذ اللحم أكثر من حضوره فالأفضل أن تعطيه اللحم؛ لأنه يبقى عنده اليوم واليومين والثلاثة والأربعة، فهو أرفق بحاله وأصلح، ومن هنا يكون ذلك أعظم في الأجر، ومنهم من يقول: إن كان الأفضل العكس؛ كأن يصعب عليه طبخ الطعام، ويجد الكلفة والمؤنة؛ فالأفضل أن تدعوه إلى ذلك، ولكن هذا فيه صعوبة، فإن الإنسان لو نظر إلى طبخ العقيقة وإحسان الضيافة إليها، ودعوة القرابة، وجمع الشمل، وصلة الرحم، وأنسهم في البيت، وكونهم ضيوفاً على الإنسان، وما يحصل باجتماعهم من المحبة، بخلاف ما إذا بعث لكل إنسان بلحم؛ فإننا نجد أن دعوتهم إلى البيت أعظم وأكثر عناء، وأبلغ في الإكرام، وأدعى إلى المحبة والألفة، ومن هنا يقوى أن يقال: إن طبخها وتهيئتها للضيوف أعظم أجراً؛ لما فيه من المصالح خاصة القرابة.
وبالنسبة للمساكين فالأمر قد لا يبعد أن يكون فيه تفصيل، والبت في هذه المسألة وأن يقال: الأفضل؛ أمر يحتاج إلى ضوابط معينة، وقد تكلم العلماء على ضوابط الأفضلية، ولكنها متداخلة هنا، فبالنسبة للفقراء الله أعلم بالأفضل، فقد يكون اختلاف الأحوال يدل على الأفضلية، بحيث يرغب المسكين أن يأخذها وأن يطعمها أولاده في الوقت الذي يشاء وبالطريقة التي يريد، فهذا قد يكون موجباً للقول بأن الأفضل أن تعطى للمسكين.
والعكس بالعكس فمثلاً: لو كان من أناس لا يتيسر لهم أن يطبخوا ويكون عليهم في الطبخ مشقة وكلفة وعناء، فالحكم بالعكس، والله تعالى أعلم.(133/16)
حكم الزيادة عن الشاتين في العقيقة
السؤال
هل له أن يزيد أكثر من شاتين، وهل له أن يعق ببقرة أو بدنة، أم أن الأمر لا يجزئ إلا بما ورد؟
الجواب
بالنسبة لأكثر من شاتين فليس من السنة، ولا ينوي الإنسان العقيقة بأكثر من شاتين، ولكن لو دعوت القرابة فإنك تنوي الشاتين عقيقة، وتنوي البقية صلة رحم، وأجرك في صلة الرحم أعظم، فإذا نويت بها صلة الرحم فإن أجر صلة الرحم أعظم، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين لما كانت عندها جارية وأعتقتها: (لو أنك جعلتيها في أخوالك لكان أعظم لأجرك)، فلا شك أنه في هذه الحال يكون أعظم أجراً.
فتختص العقيقة بشاتين، والزائد ينويه صدقة، أو ينويه صلة للرحم على حسب ما يتيسر له.
أما إذا أراد أن ينحر جزوراً أو بقرة فإنه لا يدخل التشريك في العقيقة، إلا إذا كانت أنثى وأراد أن يذبح عنها بقرة، فقد رأى بعض العلماء التخفيف في ذلك، ورأوا أن هذا زيادة على الواجب، كما لو تصدق بصدقة أعظم من الصدقة الواجبة عليه، ولذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ففي الحديث الصحيح: (أنه بعث رجلاً على الصدقات ليأخذ الزكاة، فانطلق إلى رجل من الأنصار بجوار المدينة، فسأله الصدقة، فقال له: ليس عندي إلا ما هو أفضل، فقال: لا آخذه منك، إنما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ كذا وكذا -يعني: لم يأمرني أن آخذ هذا ولو أنه أفضل، فامتنع من أخذها- فانطلق الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى إليه، فأمر الساعي أن يأخذها)، قالوا: فهذا مال واجب، ومع ذلك تصدق بما زاد عن الواجب في الزكاة التي هي من الفرائض والأصول المعينة، والدماء والبهائم عينت وحددت أسنانها، أعني: الواجب منها، ومع ذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الزائد، فدل هذا على جواز ذبح ما زاد في العقيقة ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.(133/17)
ضعف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن نفسه
السؤال
هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن نفسه وهو كبير؟
الجواب
لا أحفظ في هذا نصاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هناك أخبار ضعيفة لم يصح سندها، فلا أحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنداً صحيحاً أنه فعل ذلك أو أخبر عنه، وقد ذكر بعض أهل السير هذا الأمر، والسير فيها تسامح، وفيها أشياء لم توثق أخبارها، لكن لم يثبت شيئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا.(133/18)
عقيقة الخنثى
السؤال
إذا كان المولود خنثى فهل يعق عنه بشاة أم بشاتين؟
الجواب
الخنثى له حالتان: الحالة الأولى: أن يتميز حاله؛ فحينئذٍ يكون له حكم ما تميز، فإن تميز ذكراً فهو ذكر، وإن تميز أنثى فهو أنثى.
الحالة الثانية: ألا يتميز؛ فإنه يحكم بكونه أنثى، وهذا أصل نص عليه جماهير العلماء رحمهم الله، فقد نصوا على أن الخنثى حكمه حكم الأنثى؛ لأن الأصل واليقين أنه أنثى حتى يستيقن ما هو أعلى، وهذا مبني على القاعدة الشرعية: اليقين لا يزول بالشك، ولذلك يقولون: يعطى الأقل؛ لأنه يقين، حتى يثبت ما هو أعلى، وهو أصل مطرد في كثير من المسائل، والله تعالى أعلم.(133/19)
حكم الاستدانة للعقيقة
السؤال
هل للأب أن يستدين من أجل العقيقة؟
الجواب
الاستدانة من أجل الأضحية والعقيقة لا بأس بها، لكن كونه واجباً عليه فهو ليس بواجب، أما إذا أراد أن يستدين ويتحمل الدين ثم بعد ذلك يقضيه، خاصة إذا وثق بوجود راتب أو صفقة، أو رجا مالاً يقضيه من دين له على إنسان ونحو ذلك، فإنه لا بأس، وأحب أن يصيب الخير والبر ويصل رحمه؛ فلا بأس في ذلك، والله تعالى أعلم.(133/20)
حكم ذبح الأضحية بعد اليوم الحادي والعشرين
السؤال
إذا فات الذبح في السابع فإنه يذبح في رابع عشر، وإن فات ففي واحد وعشرين، فهل له أن يبني على ذلك سبعاً سبعاً أم في أي يوم بعد واحد وعشرين؟
الجواب
اجتهد العلماء في هذه المسألة وليس فيها نص معين، وأنا لا أرى فيما بعد الواحد والعشرين حداً معيناً، أي: لا أحفظ فيه شيئاً مبنياً على أصل شرعي، ولذلك أتوقف في الحكم فيه حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، والله تعالى أعلم.(133/21)
حق تسمية المولود
السؤال
هل تسمية المولود حق للأب أم للأم أم للكل؟
الجواب
أما لو كان للكل فهذه مشكلة ومصيبة، ففي بعض الأحيان قد يسمى المولود باسمين، اسم داخل البيت واسم خارجه، فإن اشتجروا فيجعلون اسم الأم في البيت، واسم الأب خارج البيت، وهذا يقع في بعض الأعراف، فيجعلون اسم اللطف في داخل البيت خاص بالابن، ثم يكون له اسم في الخارج أمام الناس، هذا إذا كان قد حصل شيء من سوء التفاهم بين الزوج والزوجة.
لكن الأصل أن المرأة تتأدب مع زوجها، وقد كان النساء يحسن الأدب مع الأزواج، وكان الرجل يشعر بقيوميته، والمرأة بلينها وحنانها وعطفها تشمل الرجل، ولم يعرف الاسترجال في النساء إلا من قريب حينما لقن بنات المسلمين أن تقف المرأة في وجه أبيها، فتراجعه في نكاحها، وتستطيل عليه في رأيها، وقد يسمون هذا من حقوق المرأة، وهذا فيه جر ويلات عظيمة، ولربما حصل الطلاق وتشتت الأسر بتعليم البنات الاسترجال، وحقوق المرأة المرأة لها حق لكن في داخل الإطار الشرعي، لذلك تقول المرأة الحكيمة لبنتها: كوني له أمة يكن لك عبداً.
أي: أنك إذا أحسنت اللطف مع زوجك، وأصبحت كما أنت بفطرتك وجبلتك من اللين والرقة والأنوثة الكاملة الفاضلة المبنية على الحياء والخجل والاحتواء للرجل؛ فإن الرجل يشعر بكونه رجلاً، ويشعر أنه قائم على البيت، ولذلك فإن المرأة التي تسترجل على زوجها وتغالطه في الأمور، وتكثر التعنت عليه في المسائل، تأتي في زمان وتعض على أصابع الندم حين لا ينفعها الندم، وتتألم حين لا ينفعها الألم؛ ولذلك فإن المرأة لا يصلحها إلا كمال الحياء والخجل.
وقد كانت النساء يوم كانت البيئات المسلمة محافظة بعيدة عن هذا الدخَل كانت المرأة ربما بلغت سن الخامسة عشرة فتتزوج ولا تعترض أبداً، ولا تفتح لها فماً على أبيها، وتزوج الرجل ابن أربعين سنة ولا تعترض على أبيها، ويجعل الله لها من الخير والبركة وحسن الذرية، وحسن العاقبة، فيجد ذلك الرجل كبير السن فيها خيراً عظيماً، وهذا -طبعاً- إذا أعطاها حقها، وأقام ببيته كما ينبغي، ونحن لا نقول هذا الكلام ويفهم منه ظلم النساء، وإنما نقول: في الحدود الشرعية، ونحكي شيئاً وقع وجرى، وكنا نألفه إلى عهد قريب؛ فما كانت المرأة تراجع أباها ولا تقف في وجهه، أما اليوم فإنها قد تقول له: أنت تتدخل في مستقبلي، وتدمر حياتي، وأنت وأنت.
فتضيق عليه، وتؤذيه وتعنته، حتى ينزع الله البركة منها في أي زواج بعد ذلك، ولذلك تتدمر البيوت، وتتشتت الأسر باسترجال النساء، والمرأة الحكيمة العاقلة الفاضلة عندما تشعر بأنوثتها وبقوة الرجل، تحاول بحكمتها وعقلها وبما وضع الله فيها من البصيرة أن تكون المرأة الحكيمة التي تحسن التدخل في الأمور حيث يصلح التدخل، فتستقيم أمور البيوت، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المسترجلات، قال بعض العلماء: ومن الاسترجال كون المرأة تعنت الرجل وتقف معه في كل صغير وكبير، حتى إن بعض النساء يسألن أزواجهن عن كل دقيقة خارج البيت؛ بل بعضهن يتدخلن حتى في الأمور الخاصة التي تكون بين الرجال بعضهم مع بعض، وتبدي رأيها في هذه الأمور، وهذا كله استرجال وخروج بالمرأة عن المنهج السوي الكامل.
إذاً: متى يختلف الرجل والمرأة؟ يختلفون حينما لا تدري المرأة أين تضع لسانها، فتتدخل في الأمور، وتحاول أن تكون هي سيدة البيت، والقائمة عليه، وكذلك إذا أساء الرجل إلى المرأة، فأصبح يتدخل في أمورها، ويؤذيها ويضطهدها ويظلمها، فإن هذا ينشأ عنه أذية لها، فينبغي العدل والقسط الذي أمر الله عز وجل به.
فإذا أراد الرجل أن يسمي ابنته رجع إلى زوجته وشاورها، وأدخل السرور عليها؛ وإذا كان الخلاف على شيء يسير تافه فيحتمل طيب خاطر زوجته، ويجعلها هي التي تسمي ابنته ويكرمها ويتم لها فرحتها، ويقدر منها أنها الوعاء الذي حمل، والثدي الذي سقى، والحجر الذي حوى، وأن منها العناء والمشقة، وبذلك يكون قد احتواها بحنانه ولطفه، وكان خير بعل لزوجته، وتذكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله)، فالأمور لا تستقيم إلا بالعدل الذي أمر الله به، فالرجل يبذل الحنان واللطف، والمرأة أيضاً تبدي من جانبها الضعف والانكسار أمام الرجل، أما أن تتعنت وتصبح واقفة في وجه زوجها حتى في الأسماء، فلا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فسميته باسم أبي إبراهيم)، فلم يشاور نساءه، ولم يأت إلى مارية ويقول لها: ماذا نسميه؟ مع أنها أمه.
فهذا يدل على أن للرجال حقاً، وأن المرأة ينبغي أن تعرف أين مكانها، وإذا استقامت النساء على هذا الأساس واستقام الرجال على العطف والإحسان والإكرام للنساء والقيام بحقوقهن؛ فستستقيم بيوت المسلمين، أما إذا أصبحت المرأة تسترجل، وتدعي أن لها الحق في كل صغير وكبير حتى في الأسماء، وربما عيرت الرجل أمام أولاده وقرابته، فإن هذا لا ينبغي.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح أحوالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(133/22)
حكم ذبح الرجل العقيقة عن نفسه بعد الكبر
السؤال
لم يعق والدي عني، فهل لي أن أعق عن نفسي بعد الكبر؟
الجواب
يقول بعض العلماء: إن العقيقة تفوت إذا فات وقت ذبحها، وكما ذكرنا أنهم لا يرون ذلك بعد الواحد والعشرين، وبعض العلماء يرى أن للكبير أن يعق عن نفسه إذا علم أن والده لم يعق عنه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون بعقيقته) قالوا: فيشرع له أن يفك رهنه، ولكلا القولين وجهه، والله تعالى أعلم.(133/23)
حكم من عق بشاة ثم ألحق بها أخرى
السؤال
إذا لم تتوفر إلا شاة عن الذكر فإنه يؤديها، ولكن إذا توفرت فيما بعد أخرى فهل له أن يلحقها بالأولى؟
الجواب
هذا فيه التفصيل الذي تقدم، فإن تيسر له الوجدان قبل استتمام العدد -عند من يحد بالزمان- فإنه يشرع له أن يذبحها؛ لأن المراد أن يحصل الذبح وإراقة الدم قربة لله عز وجل، فالمقصود يتحقق إذا كان داخل الزمان المعتبر، وأما إن جاوز الزمان المعتبر، فعند من يمنع بعد استمام الأمد فإنه تجزيه الشاة الأولى، وأما الثانية فهي صدقة من الصدقات، والله تعالى أعلم.(133/24)
حكم العق عن السقط
السؤال
هل يعق عن السقط سواء نفخ فيه الروح أم لا؟
الجواب
السقط إذا لم ينفخ فيه الروح فإنه لا يعامل معاملة الكامل، وأما إذا نفخت فيه الروح واستتم المدة، فقال بعض العلماء: يعق عنه، وقال بعضهم: لا يعق عنه إلا إذا ولد واستهل صارخاً؛ لأن الأصل أنه متعلق بالولادة، والقول الثاني هو الأقوى؛ لأن العبرة بولادته حياً، وأما إذا لم يولد حياً فإنه لا وجه للعق عنه، والله تعالى أعلم.(133/25)
صحة حديث (أعلنوا النكاح ... )
السؤال
جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف، واجعلوه في المساجد)، فهل هذا حديث صحيح؟
الجواب
الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بإعلان النكاح وإشهاره في أكثر من خبر، ففي رواية: (واضربوا عليه بالدفوف)، وفي رواية: (واضربوا عليه بالغربال)، والمراد بذلك: الدف المعروف الذي يكون من جلد البهيمة، ولا يكون بآلات العزف التي فيها الفتنة، ويتقيد بهذا النوع المعروف المشهور من (الطِّيران) ونحوها التي تكون من جلد البهيمة، وليس فيها فتنة بالضرب عليها كالزير ونحوه.
وقصد الشرع من هذا: أن يفرق بين الحلال والحرام، والسفاح والنكاح، ومن هنا لم يجز أن يستكتم الشهود الخبر، فلا يجوز لأحد أن يقول لشهود النكاح: لا تخبروا أحداً، فإنه لو عقد على هذا الوجه فإنه يسمى: نكاح السر، وكان عمر رضي الله عنه إذا رفع له نكاح السر جلد الولي والشهود على ذلك؛ لأنهم يخالفون شرع الله من إعلان النكاح، والسنة في إعلان النكاح هو إشهاره وإظهاره حتى تثبت الأنساب، وتحفظ الحقوق، ويكون في ذلك جمع شمل الناس لحصول الوليمة، كما قال صلى الله عليه وسلم لـ عبد الرحمن بن عوف: (أولم ولو بشاة)، والله تعالى أعلم.(133/26)
صيام الورثة عن الميت
السؤال
إذا كان على الميت صيام شهرين، وذلك لقتله مسلماً خطأً، فهل يُلزَم الورثة بصيام هذين الشهرين؟ أثابكم الله.
الجواب
اختلف العلماء رحمهم الله في الصوم عن الميت: فقال بعض العلماء: لا يصوم الحي عن الميت مطلقاً.
وقال جمهور العلماء: يصوم الحي عن الميت من حيث الجملة.
وهو الصحيح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس في الصحيح لما سألت المرأةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمٍّ لها ماتت وعليها صوم نذر، فقالت: (يا رسول الله! أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دَين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم.
قال: فدَين الله أحق أن يُقضى)، فأمرها عليه الصلاة والسلام بالقضاء، والصوم صوم نذر.
واختلف العلماء الذين يقولون بالمشروعية: فمنهم من يقول: يختص القضاء بالنذر، ولا يقاس عليه غيره؛ لأنها عبادة بدنية، والأصل في العبادات البدنية ألا يقوم مكلف عن مكلف، وأنها تجب عيناً؛ كالصلاة، فإنه لا يصلي أحد عن أحد، ولو مات وعليه صلاة فلا تقبل عنه الصلوات؛ لأنها عبادة بدنية والصوم مثلها.
وقال بعض العلماء: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء لهذه المرأة رُكِّب على علة، وهي قوله: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟)، فدل على أن العلة كون ذمة الميت شغلت بهذا الحق.
وهذا هو الصحيح، وهو أن الصيام الواجب يُشرع قضاؤه من الورثة.
والله تعالى أعلم.(133/27)
الحكم إذا نسي الإمام سجدة
السؤال
إذا نسي الإمام السجدة الثانية ثم تشهد وسلم، ثم أُخبر بالنقص، فماذا يصنع الإمام في هذه الحالة؟ وماذا يصنع المسبوق؟
الجواب
أما بالنسبة للإمام فإن فاتته السجدة الثانية من الركعة الأخيرة وتشهد ثم سلم ناسياً، وسبح له الناس أو نبهوه على الخطأ، وعلم أنه قد انتقص من الركعة الأخيرة سجدتها الأخيرة، فالحكم أنه يستقبل القبلة ويسجد السجدة الأخيرة، ثم يتشهد ثم يسلم ثم يسجد بعد السلام سجدتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر أنه سلم من اثنتين في الرباعية الظهر أو العصر، استقبل القبلة عليه الصلاة والسلام وأتم الركعتين ثم سلم ثم سجد بعد السلام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(133/28)
شرح زاد المستقنع - أسئلة وأجوبة في الحج(134/1)
حكم من حج وهو صبي ثم بلغ
السؤال
شخص حج وهو صغير، لكنه بعد البلوغ شك في حجه، هل هو صحيح أم لا، فهل يسقط عنه الحج بهذه الحجة أم يعيدها، أرجو التوضيح أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن حج الصغير لا يجزيه عن حجة الإسلام، فإذا حج قبل أن يحتلم فإن حجه نافلة، ولا يجزئ عن حج الفريضة، ولذلك يطالب بإعادته بعد البلوغ.
والله تعالى أعلم.(134/2)
جواز قراءة القرآن حال السعي والطواف
السؤال
هل يجوز قراءة القرآن حال السعي بين الصفا والمروة والطواف بالكعبة، أثابكم الله؟
الجواب
لا حرج في قراءة القرآن في الطواف والسعي، والسنة أن يدعو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا، فإن قرأ القرآن فلا حرج، ولكنه إذا دعا وسأل الله من فضله تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فذلك أبلغ في الاقتداء والائتساء.
والله تعالى أعلم.(134/3)
جواز الحج عن الغير مع نية التجارة
السؤال
إذا حججت عن امرأة متوفاة، وذلك مقابل مبلغٍ من المال، فما هي صيغة الدعاء لها؟ وهل يجوز لي أن أعمل بسيارتي بالإضافة للحج عنها، أثابكم الله؟
الجواب
ليست هناك صيغة معينة للدعاء، فيدعو الإنسان للميت دعاءً مطلقاً، ويدخل في هذا الدعاء ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من سؤال الله العفو والمغفرة له (قال: يا رسول الله! هل بقي عليَّ من بري لوالدي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما).
فالدعاء مطلق، وأما ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من دعائه أبي سلمة حينما دخل فسمع أهله يصيحون لما قضى، فقال: (لا تدعوا على أنفسكم فإن الملائكة يؤمنون، ثم قال: اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم أفسح له في قبره ونور له فيه)، فإذا دعا الإنسان لوالديه أو دعا للميت، فيقول: اللهم اغفر لفلان، اللهم اغفر لفلانة، اللهم ارفع درجتها في المهديين، اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفها في عقبها في الغابرين، واغفر لنا ولها يا رب العالمين، وأفسح لها في قبرها ونور لها فيه.
فهذا الدعاء يثاب صاحبه؛ لأنه تأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أرجى للإجابة؛ لما فيه من الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والائتساء به، وهكذا الدعاء له بالمغفرة العامة لذنوبه صغيرها وكبيرها، والتجاوز عنه ورفع درجته، إلى غير ذلك من الأدعية المطلقة، فلا حرج فيه، فإذا حج الإنسان عن ميت دعا له واستغفر له وترحم عليه، وخاصة في مواطن ومظان الإجابة.
أما إذا حججت عن إنسان وأردت أن تعمل بسيارتك في الحج، فالصحيح أن الحج لا يمنع التجارة، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، فإنها نزلت فيمن يريد الحج والتجارة، وهذا يدل على أنه إذا كانت نية العبادة هي الأصل، ونية الدنيا تبعاً، فإن ذلك لا يؤثر، ومن أمثلتها: إذا درس الطالب على أساس أن يكون موظفاً وينتفع بدراسته، فإنه إذا نوى أن يطلب العلم لنفسه ثم بعد ذلك ينتفع بمصلحة الدنيا فلا حرج؛ لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، فجعل نية الدنيا تبعاً لنية الآخرة، ولم يؤثر في الحج أن يكون قصد من ورائه التجارة، وعلى هذا فإنه لو سأل الله الرزق بسيارته أو دابته أو بنفسه، أو اشتغل في حمل متاع أو نحو ذلك، فلا حرج عليه، وهكذا إذا صنع طعاماً، ولكن لا يشغله عن المقصود الأهم من ذكر الله عز وجل وإقامة شعائره في حجه.
والله تعالى أعلم.(134/4)
معنى حديث: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)
السؤال
نرجو توضيح قول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تقبل الله حجه: (رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) أثابكم الله؟
الجواب
هذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن من حج ولم يرفث ولم يفسق، وكانت نيته خالصة لوجه الله عز وجل، وأعطى لهذه العبادة حقها، وأقام لها حقوقها، فإنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، بلا ذنب لا صغير ولا كبير، وهذا حديث عام، وقال بعض العلماء بالتخصيص، ولكنه ضعيف، والصحيح: أنه لا يبقى له ذنب لا صغير ولا كبير على ظاهر النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، قال العلماء: وهذا أمر عزيز، ولا شك أنه لا يمكن أن يكون إلا بجهد جهيد، وتوفيق من الله عظيم، والسبب في ذلك واضح، ولذلك قال تعالى: {فَلا رَفَثَ} [البقرة:197]، وفي الحديث: (من حج هذا البيت فلم يرفث)، وفي الحج تكون هناك من المناظر التي لا يستطيع الإنسان أن يحفظ بصره ويغضه إلا بخوف من الله شديد، ومراقبة لله سبحانه وتعالى، ويحفظ جوارحه؛ لأن الرفث يشمل كل ما يكون من دواعي الشهوة، فيشمل ذلك حركاته وسكناته وكلماته، وما يكون منه من أفعال، خاصة إذا كان معه أهله وزوجه، فإن هذا يحتاج إلى نوع من المجاهدة.
والفسق هنا يشمل صغائر الذنوب وكبائرها، بمعنى: أنه لم تحدث منه أي زلة ولا خطيئة، إلا ما كان من اللمم الذي يغفره الله عز وجل بالصلوات الخمس، فإذا حفظ الإنسان نفسه، فحينئذٍ قالوا: إذا حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فهو نصٌ صحيح صريح لم يستثن شيئاً، ولذلك القول: بأنه تغفر له جميع الذنوب صغيرها وكبيرها قول صحيح.
لكن بعض العلماء يقول: إن الحقوق التي للناس لا تغفر، والسبب في هذا أنه يشترط في التوبة رد المظالم، والجواب: أنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فهو ويمكن أن يجاب: بأن الله يتحمّل عنه حقوق عباده، إذا كان لم يستطع القيام بها، وهذا اختاره بعض العلماء والأئمة إعمالاً للنص على ظاهره، أي: أنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وما كان من حقوق للعباد خاصة إذا عجز عن وفائها وأدائها فالله عز وجل يتحملها عنه، وكان بعض العلماء يقول: قلّ أن يحج إنسان ويوفق للحج المبرور إلا وظهرت عليه دلائل التوبة النصوح، ووفقه الله عز وجل حتى للخروج من المظالم، وهذه من رحمة الله، فإن الله إذا أراد أن يعفو عن عبده ويغفر له هيأ له أسباب العفو والمغفرة، حتى إنه ربما تكون بينه وبين إنسان مظلمة، ولم ير هذا الإنسان منذ زمن بعيد، فيشاء الله أن يراه في ساعة لا يتوقع رؤيته فيها، كل ذلك من حبه سبحانه للعبد، فإذا أحب الله العبد ورأى منه صدق التوبة والإنابة هيأ له كل أسباب القبول، ووضع له أسباب الزيادة من البر والإحسان والخير والطاعة، كما قال سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين يعد عباده المهتدين: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].
فالذي يصدق مع الله، ويقوم بالفرائض، ويؤديها على أتم الوجوه، يهيئ الله له من عنده بتيسيره وفضله ومنّه وكرمه ما يكون معونة له على القبول، وعلى حصول الخير المرجو من طاعته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولذلك يقول العلماء: لهذا القبول أثر وله حلاوة يعرفها من عرفها، ويجدها من وجدها.
نسأل الله بأسمائه وصفاته أن لا يجعلنا من المحرومين، وأن يجعلنا من عباده المرحومين.
والله تعالى أعلم.(134/5)
حكم من كان سريع النسيان فيقصر أو يترك من العبادات
السؤال
من كان سريع النسيان وبه خلل عقلي، فهل يأثم على ما يتركه أو يقصر فيه، أثابكم الله؟
الجواب
من كان سريع النسيان أو به خلل في عقله، فهذا بلاء، والله عز وجل يبتلي من يشاء، وقد يحب الله عبداً من عباده فيختار له منزلة ودرجة في الجنة لا يبلغها بكثير صلاة ولا صيام، وإنما يبلغها بالبلاء، فيبتليه، فيصبح أصماً أو يصبح أخرس، فلا يتكلم في أعراض الناس، ولا يقع في غيبة ولا نميمة، ويسلمه الله من هذه الشرور والآفات لرحمة يريدها له في الآخرة.
وهكذا إذا كان سريع النسيان، فإنه سبحانه وتعالى قد يبتليه بهذا الابتلاء لرحمة يريدها به، فما عليه إلا أن يحمد الله على بلائه، وكما في الحديث الصحيح: (فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط).
وكان السلف الصالح رحمة الله عليهم يحبون البلاء، فإذا نزل بهم البلاء رضوا عن الله، وهذا هو مقام الرضا؛ وهو من أشرف المقامات وأحبها؛ لأن من كمال التوحيد لله عز وجل أن ترضى بقضائه وقدره، وأن تسلم الأمر له سبحانه وتعالى، فلا تصيبك مصيبة في نفسك ولا أهلك ولا مالك ولا ولدك إلا تلقيتها منشرح الصدر مطمئن القلب، راضياً عن الله سبحانه وتعالى؛ لعلمك اليقيني أن الذي كتبها وقدرها وأوجدها -وهو الله سبحانه وتعالى- أنه قدّرها جل جلاله لطفاً بك، فإن رضيت فلك الرضا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا حب قوماً ابتلاهم)، وكان السلف الصالح يكرهون زوال البلاء، بمعنى: أنهم يتحسرون على فوات الأجر إذا زال عنهم البلاء، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله إذا أحب قوماً)، فتأمل قوله: (إذا أحب قوماً ابتلاهم)، فيبتلي الإنسان بالضيق والنسيان، ويبتليه بالهموم والغموم في نفسه، فانظر إلى رجل أصابه الهم في نفسه، أو جاءه كدر في نفسه فقال: الحمد لله، ورضي عن الله عز وجل، وأحسّ أن هذا ابتلاء، وكما أنه يتقرب إلى الله عز وجل بركوعه وسجوده، فينبغي أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالحمد والطمأنينة، وانشراح الصدر بما ابتلاه الله به، ويقول: الحمد لله، ذنوبي كثيرة، ولو عاقبني الله بما أنا أهله لما أبقاني على وجه الأرض، ثم يقول: الحمد لله الذي صرف عني ما هو أشد وأعظم، ثم قال: الحمد لله الذي أعلمني أن هذا بلاؤه وقدره، ثم يقول: الحمد لله الذي أنزل بي هذا البلاء، ولم يجعلني من الغافلين، إذاً: الذي يبتلى يصبر ويذكر ويشكر، ويحتسب عند الله عز وجل، والذي يعطى ولا يبتلى ربما يصيبه النسيان، وتصيبه الغفلة، فيكون في زلة قدم والعياذ بالله، وأمن من مكر الله عز وجل به.
فالمقصود: إذا تلقى الإنسان هذه الأمور بالرضا؛ وجدته في أحسن الأحوال وأتمها، ولربما وجدت الرجل مشلولاً لا يستطيع أن يتحرك، ولربما تجده كفيف البصر، فتقول له كيف حالك؟ فيقول: الحمد لله، وإذا بصدره أوسع من الدنيا بما فيها؛ وذلك مما أفرغ الله في قلبه من الرضا (فمن رضي فله الرضا)، وانظر إلى كل بلاء ينزل بك، فمجرد ما تنزل المصيبة تتلقاها بنفس مطمئنة، وخاطر راضٍ غير منكسر لحق الله جل جلاله، وتتلقاها بمحبة وإقبال على الله عز وجل، فتجد كل يوم يمر بك وكل ساعة، بل كل لحظة تمر بك وأنت في أنس ولذة، وقد كان بعض العلماء يحب مثل هذه المقامات التي فيها قرب من الله عز وجل، ولذلك تجد في أيام المرض من حلاوة ذكر الله ما لا تجده أيام العافية، وتجد أيام الضر والنكبات من الأنس بالله ما لا تجده في أيام الصحة والعافية.
فلذلك إذا تلقى الإنسان هذه البلايا بقلب مطمئن وصدر منشرح وسّع الله عليه الضيق، وأُثِر عن بعض العلماء أنه كان مهموماً في يومه، وكان الطلاب عنده، فلما كان المساء جاء أحد عبيده ومواليه فكلمه بكلام، فسرِّي عنه وانبسط وانشرح، فقال أحد طلابه: رأيت منك اليوم أمراً عجباً، رأيتك مهموماً مغموماً مكروباً، فما هو إلا أن أتاك عبدك وأخبرك فانشرحت نفسك، وتغيّر وجهك، فقال: إني أصبحت ولم أر في نفسي ولا أهلي ولا مالي مصيبة، فقلت: ما ذلك إلا لأن قدري عند الله نزل، ولو كان لي عند الله قدر لابتلاني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم)، فلما أمسيت جاءني العبد وزعم أن عبدي فلاناً قد مات، فحمدت الله عز وجل أنه لا يبتلي إلا من يحب.
ولذلك تجد أن أحب الناس إلى الله عز وجل هم أقلهم مالاً، وهم الفقراء والضعفاء، وتجدهم أكثر ذكراً لله، وأكثر طاعة وقرباً من الله سبحانه وتعالى، وأكثر إقبالاً على الله، وخوفاً منه سبحانه، وتجد الغني الثري أكفر الناس لنعمة الله وأغفلهم عن الله، وأكثرهم إعراضاً عن الله عز وجل، ولذلك من نعم الله عز وجل أن يبتلي العبد، فإذا تلقى الإنسان الابتلاء وكان سريع النسيان فعليه أن يقول: الحمد لله، واعلم أن الله لا يبتليك بابتلاء إلا وفيه نعمة من جهة أخرى، فإن الذي ينسى تذهب عنه الهموم؛ لأنه إذا نزلت به المصائب ينساها بسرعة، فالله يبتلي في شيء ويرحم في شيء، والذي يحفظ تجده يحفظ الأذية، ولربما تبقى في قلبه سنوات، ويتحسر ويتألم بها، ويكون من الصعب اجتثاثها واقتلاعها من قلبه، نسأل الله السلامة والعافية.
إذاً: من رحمة الله عز وجل أن الإنسان يحمد الله، فإن سلبك الله الحفظ فقد يعوضك العبادة، وقد يعوضك خيراً من ذلك؛ كالخشوع والذكر والدعاء.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا ما يكون عوناً على طاعته ومرضاته ومحبته، ونسأله أن يلطف بنا فيما ابتلانا به، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(134/6)
شرح زاد المستقنع - مسائل في محظورات الإحرام
من أحرم بالحج أو العمرة فقد حرمت عليه عدة محظورات، فلا يجوز له أن يفعل شيئاً منها، ومن ارتكب شيئاً منها فهناك أحكام وكفارات مترتبة على فعله ذلك.(135/1)
محظورات الإحرام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد نظرت في مسائل الحج ومباحثها فوجدت فيها مسائل تعم بها البلوى، وكان البعض يقترح أن نتحدث عن صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنعم بها وأكرم من صفة! ولا شك أن الأجر بها أعظم، خاصة وأننا نتعرض لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها الأجر والمثوبة، وهي الخير كله.
لكن لما نظرت وجدت أن صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم لا تخفى على كثير من طلاب العلم، ولكن هناك مسائل تعم بها البلوى، ويكثر السؤال عنها، وقد تجد طالب العلم يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتيه السائل ويقول له: تطيبت ناسياً تطيبت جاهلاً لبست ثوبي ناسياً لبست ثوبي جاهلاً بالحكم قتلت الصيد قتلت ذئباً قتلتُ حيةً فما الحكم؟ فمسائل محظورات الإحرام مسائل تعم بها البلوى، ولذلك آثرت أن يكون حديثنا -إن شاء الله- عن مسائل من محظورات الإحرام.
وخاصةً أن محظورات الإحرام نحتاجها لأنفسنا لكي ننقذ أنفسنا من الضلال، ونبتعد عن الأمور المحرمة إذا تلبسنا بمناسك الحج والعمرة، وكذلك فيها النفع الكثير للناس.(135/2)
معنى محظورات الإحرام
وسنتكلم عن محظورات الإحرام في أمور ومسائل: أولها: ما معنى قول العلماء: محظورات الإحرام؟ المحظورات: جمع محظور، يقال: حظرت الشيء عليك إذا منعتك منه، ولذلك سميّت الحظيرة حظيرة؛ لأنها تمنع الدواب من الخروج، فالحظر: التحريم والمنع، والمحظورات جمعها العلماء؛ لأنها ليست بواحدة وإنما هي متعددة، فجمعت لاختلاف أنواعها.
والإحرام: نية أحد النسكين أو هما معاً، فإذا قال العلماء: الإحرام، أو قالوا: لا يجوز لمن أحرم، أو قالوا: يجب على من أحرم، فمرادهم من نوى النسكين: الحج والعمرة كالقارن، أو أحدهما كالحج مفرداً، أو العمرة وحدها، فإذا نوى الإنسان العمرة، أو نوى الحج، أو هما معاً؛ فقد دخل في الإحرام، ويقال: أحرم، ولا يلزم الإنسان بترك محظورات الإحرام بمجرد لبسه للإحرام كما يفهم العوام، إنما تحرم محظورات الإحرام بعد نيتك للنسك، فلو لبست الإحرام ولم تلب بالنسك ولم تنو، جاز لك أن تصيب هذه المحظورات، وإنما تحرم عليك بعد الدخول في النسك بالنية.(135/3)
لبس المخيط
المسألة الثانية: ما هي محظورات الإحرام؟ المحظورات تسع: أولها: لبس المخيط، وثانيها: الطيب، وثالثها: تغطية الوجه، ورابعها: تغطية الرأس، ومنه الأذنان، وخامسها: حلق الشعر أو قصه أو نتفه، وسادسها: تقليم الأظفار، وسابعها: عقد النكاح، وثامنها: الجماع ومقدماته، وتاسعها: قتل الصيد.
ومنهم من يقول: الصيد، ومنهم من يقول: إتلاف الصيد، والمعنى واحد، وإن كانت بعض التعبيرات أدق من بعض.
أولاً: لبس المخيط، يقال: لبس الثوب إذا دخل فيه، والمخيط: يشمل المخيط المعتاد المفصل على الجسم، وما في حكمه؛ كالمحيط بالعضو كما سيأتي، قال بعض العلماء: يخرج من هذا الارتداء؛ كالقباء ونحوه، فاللبس: أن تدخل يديك، والارتداء: أن تضع الشيء على عاتقك دون إدخال، مثال ذلك: لو أخذت هذا البشت أو هذه العباءة ووضعتها على كتفيك وأنت محرم من شدة البرد، فإنه لا يصدق عليك أنك قد لبست، هذا إذا قلنا: إن اللبس لا بد فيه من الإدخال، أما إذا قيل بمطلق اللبس، فإنه يشمل من وضعه على كتفه سواءً أدخله أو لم يدخله، وهذا هو الفرق بين قولهم: الارتداء، واللبس.
وهنا مسائل: أولاً: ماهو الدليل على أنه يحرم على الحاج والمعتمر أن يلبس المخيط؟ وثانياً: ما هي مسائل لبس المخيط؟ أما الدليل على تحريم لبس المخيط على المحرم سواءً كان بحجٍ أو عمرة، فقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عمر -وهو في الصحيحين-: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحدٌ لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين)، فالمخيط إما أن يستر أعلى البدن كالقميص، وفي حكمه ما يسمى الآن -وأنا أحب دائماً أن نمثل بالأشياء العصرية؛ لأن بعض طلاب العلم يسمع أسماء قديمة ثم ترد عليه مسائل عصرية فلا يحسن الجواب فيها؛ لأنه عرف القديم ولم يعرف تطبيقه على الجديد- فبعرفنا اليوم الفنيلة الموجودة الآن هذه سترٌ لأعلى البدن، والكوت سترٌ لأعلى البدن، فاللباس إما أن يكون ساتراً لأعلى البدن، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص)، أو يكون ساتراً لأسفل البدن: (ولا السراويلات)، ومثله البنطلون الموجود الآن، وسواءً كانت طويلة أو قصيرة، ثم قد يكون اللباس جامعاً بينهما كالثوب، قال عليه الصلاة والسلام: (ولا البرانس)، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أن الفقه أن تنظر إلى معاني الأحاديث، وأن لا تقتصر على ظاهر اللفظ فقط؛ فلو كان ظاهر اللفظ هو المراد فقط لكان عليه الصلاة والسلام ذكر لبساً معيناً وقال: لا تلبسه، ولكن كونه يحدد المواضع ويأتي بأمثله -لكل موضعٍ بما يجانسه- فإن هذا يدل على اعتبار الرأي، وفقه معاني النصوص.
والبرنس يغطي أعلى البدن وأسفله، وبناءً على ذلك نقول: نص النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم ستر أعلى البدن بالقميص، وستر أسفله بالسروال، وستر جميعه بالبرنس، فلو سألك سائل عن الثوب الموجود الآن، فنقول: يحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على تحريم البرنس والقميص والسروال، والثوب أشد من القميص والسروال، وهو في حكم البرنس، وإن كان لا يغطي الرأس.
الدليل الثاني على تحريم لبس المخيط: حديث الأعرابي، وهو في الجعرّانة أو الجعرَانة، لغتان، وذلك لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم الطائف اعتمر من الجعرّانة، فجاءه أعرابي عليه جبة، فقال: (يا رسول الله! ما ترى في رجلٍ أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فقال عليه الصلاة والسلام: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)، فحرم عليه لبس المخيط، وبهذه النصوص الصحيحة الصريحة نص العلماء على تحريم لبس المخيط، ويستوي في ذلك كما قلنا: أن يكون لأعلى البدن، أو لأسفله أو لجميعه.(135/4)
ما يحرم على الرجال والنساء من المخيط
المسألة الثالثة: إنما يحرم لبس المخيط على الرجل، أما المرأة فإنها تلبس المخيط، ويكون إحرامها في وجهها وكفيها، ويكون المحظور عليها من اللباس أن تنتقب أو تلبس القفازين؛ لما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)، فثبت في هذا النص أن إحرام المرأة في الوجه والكفين، ولكن إن مرّ عليها أجانب أو اشتد عليها برد أو لفحتها ريح فسدلت خمارها -والسدل أن يكون غطاء للوجه دون أن يمس بشرة الوجه- فلا حرج ولا فدية عليها؛ بشرط عدم مماسة الغطاء لبشرة الوجه، وذلك لحديث أسماء، ويروى عن عائشة وقد تُكلم في سنده، ولكن الصحيح عن أسماء أنها قالت: (كنا إذا مر بنا الركب سدلت إحدانا خمارها، حتى إذا جاوزنا كشفت)، وهذا يدل على مشروعية السدل عند رؤية الرجال الأجانب.
أما بالنسبة للرجال، فكما يحرم عليهم لبس المخيط في أعالي البدن، كذلك أيضاً يحرم عليهم ستر القدمين، ولذلك لا يلبس المحرم الخف ولا البلغة ولا نحوها من الأحذية التي تغطي أغلب القدم، أو تغطي الأصابع، والأصل في ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين: (ولا الخفاف -أي: لا تلبس الخفاف- إلا أحدٌ لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين)، فدل هذا الحديث الصحيح على أنه لا يجوز للمحرم أن يلبس حذاءً يغطي قدمه أو أغلب قدمه، بل يلبس الحذاء الذي لا يغطي أغلب القدم، وإذا كان الحذاء يغطي جزءاً من القدم فإنه ينبغي أن تكون أصابعه مكشوفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليقطعهما أسفل من الكعبين)، وبناءً على ذلك تكون الأصابع مكشوفة، وعلى هذا فلو كان الحذاء يغطي رءوس أصابع القدمين فإنه لا يجوز لبسه، كالبلغة التي تكون مستورةً أول القدم، فهذه لا تلبس، وهكذا الشراريب لا تلبس، قالوا: وعلى هذا لو نام المحرم فلا يغطي قدميه؛ لأنه أُمِرَ بكشفهما، فنهيه عليه الصلاة والسلام عن لبس الخفين يدل على أن مقصود الشرع إظهار القدمين، وعلى هذا الفتوى عند الجماهير رحمة الله عليهم.(135/5)
حكم من لم يجد ثياب الإحرام
بقيت مسألة: وهي لو لم يجد الإنسان الإحرام أو الرداء والإزار، واحتاج إلى لبس السروال، أو لم يجد نعلين واحتاج إلى لبس الخفين، فكما قال صلى الله عليه وسلم: (السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين)، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: (إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين).
وبناءً على ذلك: لو أن إنساناً في طائرة -كحالنا اليوم- مر بالميقات وعليه ثيابه، ولكن ليس عنده إحرام يأتزر به، أو ليس عنده حتى شال يأتزر به، فحينئذٍ إذا لم يجد من الثياب ما يأتزر به فإنه يجوز له لبس السروال والبنطال، لكن لا يجوز له أن يلبس تحت السروال والبنطال لباساً، وإن لبس لزمت عليه الفدية، ثم أعالي البدن يستره بأي ساتر ويعتبر محرماً، فإن نزل إلى المطار وأمكنه أن يشتري اللباس جاز له أن يترخص بقدر الحاجة، فإن تأخر عن الشراء مع القدرة عليه لزمته الفدية.(135/6)
تشبيك لباس الإحرام بالشوك أو الأزرار
وهناك مسألة: وهي تحليق العضو، وهي ما يسمى: حكم المخيط، فقالوا: لو لبس الرداء فلا يشبكه؛ لأنه إذا شبك الرداء كان بمثابة الملبوس، وأصبح لابساً له وداخلاً فيه، وعلى هذا قالوا: لا يضع المشبك في ردائه، وهذا أمر يقع فيه كثير من العوام، فقد كانوا في القديم يشبكون بشوك الشجر، فكانوا يضعونها حتى لا ينكشف الإزار، فنهى عنه العلماء رحمة الله عليهم، وفي زماننا هذا وضع المشابك البيضاء الصغيرة أو ما يماثلها، كل ذلك مما ينهى عنه.
كذلك أيضاً: من المصائب العظيمة الآن تفصيل بعض الإحرامات ولها ما يسمى في عرف العامة: (الطقطق)، هذا الذي يكون فيه بمثابة الأزرار، فمجرد ما يضعها على كتفه يزررها بهذه الأزرار، وهذا عينُ الملبوس، وتلزمه الفدية، ومن رأى منكم حاجاً أو معتمراً بهذا فلينصحه، وليبين له أن هذا لم يأذن به الله عز وجل، ولذلك لما سئل ابن عمر رضي الله عنه عن عقد الرداء نهى عنه.
وعلى هذا: فلا يجوز لبس مثل هذه الإحرامات، بل لا يجوز بيعها؛ لأنه معونة على ارتكاب المحظور، فكثير من الناس يجهل الحكم، فإذا باعها الإنسان أوقع الناس في المحظور، فعلى هذا ينبه الناس عليها.
كذلك أيضاً: المحيط بالعضو كالسيور، فقد قالوا: السيور لا توضع في الإحرام، واختلف فيها: فبعضهم أجازها، وهو قول بعض الصحابة، فقد أجازوا أن يلبس الكمر وهو الهميان، فقد كان يسمى في القديم بالهميان، وهو الذي يضع يضع فيه الحاج نقوده، فقالوا: لا حرج فيه لمكان الحاجة، لكن لو كان يريده لشد الإحرام فلا يجوز؛ لأنه يكون كعقد الإحرام، ولذلك فإن مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم: أنه لا يشد السير، وقد فرقوا بين الهميان وبين السيور، قالوا: لأن السيور يقصد بها العقد، فكانت في ضمن ما نهى عنه السلف رحمة الله عليهم، ومنهم ابن عمر، أما لو كانت لوضع النقود، أو وضع الحوائج الشخصية من بطاقةٍ ونحو ذلك مما يحتاجه الإنسان للتنقل ونحوه فلا حرج، وقالوا أيضاً: ما يكون في حكم السوار للرجل يمنع منه، فلو شد على يده خرقة لزمت عليه الفدية، وهذا يكاد يكون وجهاً واحداً أنه لو شد الخرقة على يده فغطى جزءاً منها كالجبائر ونحوها لزمته الفدية، قالوا: وكذلك الأسورة، وفي حكمها الساعة الآن، فإنها تحيط بالعضو، ولذلك لا يضعها.
وعلى هذا قالوا: إن المحرم يتجرد؛ لأن مقصود الشرع خروج المحرم متجرداً من دنياه، وقد أمر بأن ينزع ثيابه حتى يتذكر الآخرة، ويكون أبلغ في الذلة لله سبحانه وتعالى، واستشعار سفره للآخرة، ولهذا قالوا: إن الحج فيه معانٍ تذكر بالآخرة، ومنها: التجرد عن المخيط، وفيه أيضاً حكم، منها: أن الإنسان يقوى على نفسه، حيث إن سر الإنسان في قوته أن يجعل نفسه طائعةً له ولا يكون طائعاً لها، فإذا أصبح الإنسان تطيعه نفسه ولا يطيع نفسه؛ سلِم من كثير من المعاصي والذنوب بسبب كونه قاهراً للنفس، وليست النفس له قاهرة، وهذا واضح جلي، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، فمعنى ذلك: أن نفسه تحته، يأمرها وينهاها، يأمرها بطاعة الله وينهاها عن معصية الله، ولذلك نجد أن أوامر الشرع دائماً تجعل النفس طوعاً للعبد، فلذة النوم، ولذة الطعام والشراب، ولذة النكاح، ولذة اللباس، ولذة الوطن والأهل، كلها جاء في مقابلها عبادات، فلذة اللباس يقال لك في مقابلها في الحج: انزع عنك هذا المخيط، ولذة الطعام والشراب والنكاح، يقال لك في مقابلها: لا تأكل ولا تشرب ولا تنكح أهلك شهراً كاملاً، فإذا امتنعت من الطعام والشراب المباح كان ذلك أدعى إذا قيل لك بعدها: إن هذا الكسب حرام، أن تمتنع، وإذا قيل لك: إن هذا المنكح محرم، أن تمتنع؛ لأنك قد امتنعت عن الحلال فمن باب أولى أن تمتنع عن الحرام وتصبح نفسك طائعةً لك، وأما لذة الأوطان، فتجد أن الحج يخرج الرجل من بلده وأهله متغرباً لله عز وجل، ضاحياً لله في حجٍ أو عمرة، ولذلك قالوا: إن الحج جهاد من هذا الوجه، وكذا لذة الطيب، تجد الرجل يمتنع في حجه عن الطيب، وكذلك يمتنع عن اللباس المألوف، ويخرج بهذا اللباس على صورة معينة، مع ما في هذا الأمر -أي عدم لبس المخيط- من حكم أخرى، ككون الناس يجتمعون على وتيرة واحدة، لا يميز بين غنيهم وفقيرهم، وسوقتهم وجليلهم، وذليلهم وحقيرهم، فالمقصود: أن هذا الأمر فيه حكم عظيمة.(135/7)
الطيب
المحظور الثاني: الطيب.
يقال: طاب الشيء إذا لذّ، وأطيب كل شيء أفضله، وسمي الطيب طيباً؛ لأنه أطيب ما يشم، ولذلك يقولون: المال الحلال طيب؛ لأنه أطيب الكسب، والطيب معروف، ويكون منه الجامد والسائل والمبخر الذي يكون دخاناً وبخوراً، وكل ذلك داخل في اسم الطيب.
وأما كون الطيب محظوراً فلما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فقوله: (الزعفران ولا الورس) نهي عن الطيب.
وحديث الأعرابي الذي ذكرناه: أنه اعتمر وعليه جبة فيها أثر الصفرة -وهو حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه عند مسلم في صحيحه- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب)، فقوله: (اغسل عنك أثر الطيب) يدل على أن الطيب محظور من محظورات الإحرام.
ومن الأدلة على أن الطيب محظور: قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماء وسدر، ولا تمسوه بطيب، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فنهى عن مسه بالطيب، وهذا يدل على أن الطيب محظور من محظورات الإحرام.(135/8)
أقسام الطيب المحرم على المحرم ووقت تحريمه عليه
والطيب يشمل أن يكون مائعاً، كأن يجعله في يده أو في جسمه أو في صدره أو في أي موضع من مواضع بدنه، أو يكون مشموماً ودخاناً يتبخر به، وفرق الإمام أبو حنيفة بين المبخر وبين غيره، والصحيح: أن البخور وغيره كله محظور على مذهب جماهير العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تمسوه بطيب)، والطيب عام، وقد كانوا يجمّرون أكفان الميت، فقوله: (ولا تمسوه بطيب)، يدل على أن البخور داخل في هذا، وأنه لا فرق بين السائل والجامد والبخور الذي يكون هواءً وله رائحة.
المسألة الأولى: بعد أن عرفنا أن الطيب محظور، فليعلم أن هذا المحظور يشمل الرجال والنساء.
المسألة الثانية: أن هذا الحظر يكون بعد الإحرام، بعد نية النسك، فلو اغتسلت للإحرام وقبل أن تنوي أردت أن تتطيب، فهل يجوز ذلك، أو لا يجوز؟ وجهان: قال بعض العلماء: من اغتسل للإحرام فإنه لا يضع الطيب إلى أن يتحلل، وهذا مذهب الحنفية والمالكية.
وقال بعض العلماء: إذا اغتسل فإنه يجوز له أن يتطيب في بدنه، وأن يشم الطيب، ما لم يحرم.
واستدل الذين قالوا بجواز ذلك بحديث أم المؤمنين عائشة في صحيح مسلم: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت)، وهذا الحديث صحيح، وقولها: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه) أي: بعد اغتساله وقبل إحرامه، (ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت) أي: بعد رميه وتحلله عليه الصلاة والسلام، وقبل أن يطوف طواف الإفاضة: وهذا أصح القولين.
ولكن هنا إشكال: وهو أن الطيب يمنع عن الإنسان سواءً كان في البدن أو في الثياب، ولذلك لو أن الإنسان أخذ إحرامه ووضعه على البخور وبخره ثم لبس هذا الإحرام؛ لزمته الفدية؛ لأنه قد مسه بالطيب، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي كان على ثيابه أثر الطيب: (اغسل عنك أثر الطيب)، فدل على أن الأثر مؤثر، وأن وجود الأثر يؤثر؛ لكن الإشكال: أننا لو أجزنا لك أن تتطيب بعد الغسل وقبل الإحرام، فإنك إذا لبست الإحرام ستعلق الرائحة في الإحرام، وبناءً على ذلك: إذا وضع الإنسان في إبطيه وصدره العود، ثم لبس الإحرام فعلقت به الرائحة، فإن ذهبت مادة العود بحيث تبقى الرائحة فقط وتعلق، فهذا حالة، والحالة الثانية: أن تعلق مادة العود، بحيث ترى حمرة وصفرة الطيب في الإحرام، فحينئذٍ يلزمك غسلها؛ لأنه إنما رخص لك فيما قبل الإحرام أن يكون في بدنك، وهذا في ثيابك، كما لو طيبت الإحرام بنفسه، فيستوي أن تكون مطيباً بالوضع، وأن تكون مطيباً بالقصد، وعلى هذا فبعض الإخوة أصلحهم الله عن حسن نية يتطيب ثم يضع الإحرام مباشرة، فتعلق مادة الطيب في الإحرام، حتى إنك لو نظرت إلى إحرامه لوجدت أثر الطيب ولونه ورائحته، وهذا يؤثر؛ بل ينبغي عليه غسل الطيب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فهذا نص يدل على أن الإحرام لو مسه الطيب حرم استعماله.
لكن لو علقت به الرائحة فبقيت رائحة العود أو الورد مثلاً، فقالوا: إذا كان لابساً للإحرام حتى انتهى من عمرته وحجه فلا إشكال، لكن لو نزع إحرامه وأراد أن يلبسه ثانيةً لزمته الفدية، ففرقوا بين الاستدامة وبين الابتداء، فقالوا: إذا لبسه على حاله وعلقت به الرائحة كانت بإذن الشرع؛ لأنه تطيب عليه الصلاة والسلام بعد اغتساله، لكن لو أراد أن ينام فنزع الرداء وأخذ البطانية -مثلاً- والتحف بها، ثم لما قام أراد أن يلبس الرداء فقد لبس مطيباً، وبناءً على ذلك قالوا: إنه يفرق بين الاستدامة وبين الابتداء.
إذاً: هذا حاصل ما يقال في الطيب، لكن هنا مسائل متفرعة منها:(135/9)
حكم الطيب الموجود في الطعام والأدهان ونحوها
لو كان الطيب مما يؤكل، أو كان دهناً يدهن به الشعر وهنا ننبه على أن الصابون والشامبو كله يعتبر من محظورات الإحرام، وقد ذكرت أننا ننبه بأشياء موجودة حتى يكون طالب العلم أوعى، فالصابون مقيد: فإذا كان من الصابون الذي له رائحة وطيب، حرم على المحرم بالحج والعمرة أن يغتسل به؛ لأنه مطيب، والطيب محظور عليه أن يترفه به، والنص فيه واضح، وهذا بالإجماع، لكن لو كان من الصابون الزيتي الذي لا رائحة له، فيجوز له أن يغسل به يديه ولا حرج، أما الشامبو فلو أراد أن يغسل به بدنه فإنه لا يجوز إذا كان مطيباً، والغالب أن فيه الطيب، وبناء على ذلك: فلا يغتسل بشيء فيه الطيب، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تطيب المحرم فقال: (لا تمسوه بطيب، اغسلوه بماء وسدر).
لكن السؤال الآن: لو كان الطيب في الطعام؟ فإن الزعفران يمكن أن يوضع في القهوة، ويمكن أن يوضع في الطعام بعض البهارات التي فيها شيء من الطيب، فإذا كان يوضع شيء من الأدهان المطيبة في الطعام، فما حكم الطعام الذي فيه طيب؟ نقول: الطعام الذي فيه طيب على قسمين: إما أن يكون الطعام قد استنفذ رائحة الطيب حتى امتزج وذهبت رائحته في الطعام، فهذا يجوز أكله، ويكاد أن يكون قول الجماهير، فلو طبخت الزعفران في طعام وذهبت رائحة الزعفران، بحيث لو أكلت الطعام لم تجدها، فيكاد أن يكون القول بالجواز قولاً واحداً؛ لأنه خرج عن كونه زعفران وعن كونه طيباً إلى مادة مستهلكة، ولذلك يعتبر تابعاً لغيره، ويجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل.
الحالة الثانية: أن تكون رائحة الزعفران أو أثر الزعفران موجوداً، فللعلماء قولان: الحنفية والمالكية: على أنك إذا طبخت الطيب جاز لك أكله.
والشافعية والحنابلة: على أنه لا يجوز، وهذا هو الصحيح؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وهذا طيب، ولأنه إذا أراد أن يأكل فقد مس الطيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يمس المحرم بالطيب، وبناء على ذلك لا إشكال في كونه مؤثراً، فلو وضع في القهوة فإنه لا يشربه؛ لأنه في حكم الارتفاق والترفه بالطيب الذي نهي عنه.
بقيت مسألة ثانية: وهي الدهان.
من المعلوم أن الأدهنة والزيوت تنقسم إلى قسمين: زيوت فيها طيب، وزيوت لا طيب فيها، والزيوت التي فيها الطيب، كالتي تكون فيها رائحة الورد، أو رائحة أي طيب آخر من الأطيبة، فهل يجوز لك أن تدهن بهذا الزيت، سواءً تدهن به الرأس أو تدهن به الجسد؟
الجواب
إذا كان في الدهن طيب فقول جماهير العلماء: أنه لا يجوز لك أن تدهن به، لا في الرأس، ولا في أي عضو من أعضاء البدن؛ لأنه مس للطيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم أن يمس بالطيب، وعلى هذا جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، فإن داود الظاهري رحمة الله عليه يرى أن الدهن الذي فيه الطيب كالطيب بنفسه.
أما لو كان هذا الدهن لا طيب فيه كزيت الزيتون والسمن، فالزيت غير المطيب يقع في موضعين: إما أن يقع في شعر الرأس، وإما أن يقع في بقية الجسد، فإن وقع في بقية الجسد، فيكاد أن يكون قول الجماهير، وحكى بعض العلماء كـ ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لو دهن غير الرأس بالدهن غير المطيب أنه لا حرج عليه، كزيت الخردل المعروف أو زيت الزيتون، فلو أخذه ودهن به رجليه وساقيه، فقالوا: لا حرج عليه، لكن عند المالكية تفصيل يستثنى من هذا الإجماع، فقد فصلوا بين الأعضاء الظاهرة والأعضاء الباطنة، وكأنهم يرون أن دهن الأعضاء الظاهرة فيه زينة وترفه، فيخرج عن مقصود الحج، والأعضاء الباطنة الخفية التي تستر كالصدر والظهر فقالوا: لا حرج عليه في ذلك.
أما بالنسبة لو كان الدهن في شعر الرأس، فللعلماء قولان: فبعض العلماء يقول: لا يجوز للمحرم أن يدهن رأسه.
وبعضهم يقول بالجواز.
ويكاد أن يكون قول الجمهور: أنه لا يجوز له أن يدهن شعر رأسه؛ لما فيه من الترفه، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يأمر أهل مكة أن يهلوا بالحج لهلال ذي الحجة؛ والسبب في ذلك: أنه قال: (ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين، أهلوا لهلال ذي الحجة)، فكان يأمر أهل مكة أن يحرموا لأول ذي الحجة، وقد أحسن وأصاب، ومراده رضي الله عنه: كيف يأتي الناس شعثاً غبراً في الحج ويأتي أهل مكة مدهنين؟! لأنهم لا يحرمون إلا في اليوم الثامن، فتكون شعورهم نظيفة وتكون هيئتهم ظاهرة بارزة، فقال رضي الله عنه: (ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين، أهلوا لهلال ذي الحجة)، وهذا ليس بواجب، وإنما هو رأي عمر رضي الله عنه واجتهاد منه، والجماهير على أنهم يهلون من اليوم الثامن.(135/10)
تغطية الوجه
المحظور الثالث: تغطية الوجه.
والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام في الذي وقصته دابته: (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه)، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر أنه قال: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)، فلا يجوز للمحرم أن يغطي وجهه، وهل يجوز له إذا وجد رائحةً منتنة أو مؤذية أن يضع على أنفه الغطاء فيتقيها؟ وجهان: مذهب طائفة من العلماء: أنه لا يضع كالنقاب؛ لأن المرأة أمرت بكشف وجهها، فلما قال: (ولا تنتقب)، دل على أن النقاب مؤثر، وبناءً على ذلك فتغطية بعض الوجه كتغطية كله، والذي يظهر أن الإنسان لا يغطي، ولو وجد الرائحة المنتنة فإنه يضع يده، وإذا أضرته غطى وافتدى، وعلى هذا فالكمام الموجود الآن الذي يضعونه لاتقاء بعض الروائح يجري فيه ما ذكرناه؛ ولأنه في حكم المحيط بالعضو، كما لو وضع لصقة ثم أدارها على رأسه، ولذلك يضعونه ثم يشدونه، وعلى هذا يكون في حكم الإحاطة بالعضو، فيتقى ويمنع منه الحاج وأيضاً المعتمر.(135/11)
تغطية الرأس
المحظور الرابع: تغطية الرأس.
ودليل تحريم تغطية الرأس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم)، فإن العمامة غطاءٌ للرأس، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم المحرم أن يغطي رأسه، وقوله: (ولا البرانس)؛ لأن البرنس فيه غطاء الرأس كما هو معلوم، والبرانس إلى الآن موجودة، تلبس في أيام، ويلبسها بعض أهل المغرب، وهو الثوب الذي فيه غطاء الرأس، وقد كان موجوداً في القديم، فلذلك حظر عليهم لبس البرانس ولبس العمامة، وعلى هذا فلا يجوز للمحرم أن يضع الغطاء سواءً كان عمامة أو كان طاقية ونحوها، فإنه يحرم عليه أن يغطي رأسه، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته دابته: (ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً).
وهنا مسألة: لو أن الإنسان جلس تحت مظلة أو ركب محملاً؛ فإنهم في القديم كانوا يركبون المحامل، وفي العصر الحديث السيارات، فاختلف في المحمل في القديم وفي حكم السيارة الآن، هل يعتبر غطاءً أم لا؟ فمذهب جماهير العلماء: أنه لا حرج في ركوب السيارة وكذلك الأماكن التي لها أغطية، فلو أصابك حر الشمس فلا بأس أن تأتي تحت مظلة، واستدلوا بما ثبت في الحديث قال الراوي: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة ومعه بلال والفضل أحدهما يستره بثوب)، وهذا الحديث في الحقيقة محل إشكال، وقد اعترض عليه، فالذين يقولون -وهو قول لبعض السلف-: لا يجوز الدخول في المحامل، ولا هودج المرأة بالنسبة للرجل، ولا الجلوس تحت شجرة، حتى لو وضعت على الشجرة رداءً فلا يجوز أن تأتي تحتها، وفي حكمها -مثل ما ذكرنا- السيارات، يقولون: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يغطي الحاج رأسه يوم الأضحى، ويقولون عن هذا الحديث: (إن حديث بلال والفضل كان في اليوم الثاني، وليس في اليوم الأول وهو يوم العيد، فهذا ضعيف؛ لأن الحديث: (يرمي جمرة العقبة)، قالوا: وجمرة العقبة رميت صباحاً، فالشمس ليست بشديدة، ولذلك لا حاجة إلى الغطاء.
وهذا قول مردود، وقد ذكر المحققون ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: أن جمرة العقبة رماها النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد وقد ارتفعت الشمس؛ لأنه دفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس، وما بين المزدلفة إلى أن يصل جمرة العقبة مسافة طويلة، فلا شك أنه ما بلغها إلا وقد صار للشمس وهيجٌ وحر، ولذلك لا إشكال في مشروعية أن يأتي الحاج تحت غطاء كسيارة ونحو ذلك.(135/12)
حلق الشعر أو قصه أو نتفه
المحظور الخامس: حلق الشعر أو قصه أو نتفه.
والأصل فيه قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، وقد عبّر القرآن بحلق الرأس؛ لأنه الغالب، وهو من باب التنبيه على النتف والقص، ودليلنا على أن القص محظور: أن الله عز وجل جعله موجباً للتحلل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم المحلقين، ثم قال في الثالثة أو الرابعة: والمقصرين)، فدل على أن التقصير يعتبر من المحظورات.
فيحرم على المحرم أن يحلق رأسه أو يقص شعره.
وفي حكم حلق الرأس حلق شعر بقية الأعضاء، فلا يجوز له أن يحلق الشعر من الإبطين ولا من العانة ولا من غيرهما من مواضع البدن، وعلى هذا فلو قص أو حلق فالحكم واحد، وهو أنه تلزمه الفدية؛ والسبب في هذا: أن الحلق والتقصير كلاهما يعتبر خروجاً من النسك، ولذلك قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، ولذلك لا يكون تقصير الشعر ولا حلقه إلا في هذا الأمد بالنسبة للحاج وفي حكمه المعتمر، وعلى هذا فالأصل أن تحلق، فلو أنه -مثلاً- احتاج لحجامته أن يحلق قفا شعر رأسه، فحينئذٍ يحلق ويفتدي، لكن لو أنه أصيب بعاهة أو جرح، فاحتاج إلى إزالة جلد من يده أو من ساقه، وفي الجلد شعر، فإنه لا تلزمه الفدية، إنما تلزمه الفدية بالحلق أو التقصير أو النتف، لكن لو أزال الجلد وفي الجلد شعر، فإنه لا تلزمه الفدية؛ لأنه لم يحلق ولم ينتف ولم يقصر.
وهذه المسألة يسميها العلماء: حكم التابع، فهناك فرق بين الشيء أصالة وبين كونه تبعاً، وهذا يقع في العبادات والمعاملات، ففي العبادات مثلاً: الصلاة عن الميت لا تجوز قصداً، لكنها تجوز تبعاً، ألا ترى أنك لو حججت عن ميت أو اعتمرت عن ميت وطفت فإنك تصلي ركعتين، وهذه واقعة عن ميت، لكنها وقعت تبعاً لا أصلاً، وكذلك لو أن إنساناً -والعياذ بالله- اعتدى على غيره، فقلع الشعر الأسفل من العين، وهي الرموش السفلى؛ وجب فيها ربع دية، ثم لو قلع العليا وجبت عليه نصف الدية في الاثنتين، لكن لو أنه أزال الجفن وفيه الشعر فإنه يلزم بربع دية، مع أن أصل التقدير يقتضي أن الجفن له ربع وللشعر أيضاً ربع، لكن قالوا: الشعر وقع تبعاً له ولم يقع أصلاً، وهكذا بالنسبة للمسائل الأخرى المتفرعة على مسألة التابع، ولها نظائر؛ ولذلك قالوا: إنه هنا إذا قلع الجلد وفيه شعر لم تلزم عليه الفدية؛ لأنه لم يحلق ولم يقصر ولم ينتف، وهذا صحيح، ولذلك لا شيء عليه في هذا، إنما عليه الفدية إذا حلق أو قصر أو نتف.(135/13)
تقليم الأظافر
المحظور السادس: تقليم الأظفار.
وتقليم الأظفار محظور في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأنه إزالة للتفث، ويحظر عليه أن يقص الظفر بكماله أو بعضه، ولكن لو كان في أصابعه ألمٌ من الظفر، كأن يكون انكسر ظفره -سواءً كان ظفر رجل أو يد- فأصبح يؤلمه، جاز له أن يقصه، ولا فدية عليه؛ لأن الأذى في نفس الظفر، بخلاف ما إذا كان الأذى في غير الظفر، ويكون الظفر محلاً للأذى، أو يكون الأذى في غير الشعر ويكون الشعر محلاً للأذى كالقمل؛ ولذلك فإن كعب بن عجرة لم يكن أذاه في الشعر، وإنما في شيءٍ في الشعر، فأزال الشعر لإزالة الأذى الموجود تحته، وليس لعين الشعر، ولهذا قالوا: إذا نبت في عينه شعر، أو نزل شعر حاجبه حتى آذاه في عينه، جاز له أن يقصه؛ وهذا لوجود الضرر، ولا يعتبر هذا من الإزالة التي يقصد بها الترفه، ولا شيء عليه فيها.(135/14)
الجماع ومقدماته
المحظور السابع: الجماع ومقدماته.
قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فحرم الله عز وجل على المحرم الرفث، والرفث يكون بالكلام وهو تهييج النساء، ولو كانت محرماً له، ولو كانت حلالاً له كزوجه، فتهييج المرأة بالكلام أو بالفعل أو بالجماع نفسه كل ذلك محظور بالإجماع، فلا يجوز للمحرم بالحج والعمرة أن يقع في شيء من هذا، فإن جامع حينئذٍ وقع في المحظور، ولو نظر إلى امرأة سواء كانت محرماً أو غير محرم، كأن ينظر بشهوة إلى زوجته فينزل، فحينئذ وقع في المحظور، وكل منها له حكم، ونحن لم ندخل في مسائل الفدية حتى لا نشوش على طلاب العلم، إنما نتكلم عن المحظور فقط، أما باب الفدية، وما الذي يلزم على من أخلّ بهذه الأشياء؟ فهذا له باب آخر، ولكن أحببنا أن يكون الضبط للمحظور حتى يسهل بعد ذلك ضبط مسائل الفدية وما يتبعها.
وعلى هذا: فإنه لا يجوز له النظر إلى ما يثير شهوته، ولا اللمس بما يثير الشهوة له أو لزوجه، وهكذا الجماع، سواءً وقع لحية أو ميتة، لحلال أو حرام، كل ذلك محظور على الحاج.(135/15)
عقد النكاح
المحظور الثامن: عقد النكاح.
وعقد النكاح محظور في قول جماهير العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، يقولون: لا يجوز للمحرم أن يَنكح أو يُنكح أو يَخطب، أن يَنكح إذا كان رجلاً، أو يُنكح إذا كان امرأة، أو يَخطب أي: خطبة النكاح؛ وذلك لما ثبت في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم أن ينَكح أو يُنكح أو يَخطِب)، قالوا: فهذا نصٌ صحيح يدل على التحريم.
وذهب الحنفية إلى أنه يجوز للمحرم أن يعقد النكاح ولا يدخل، ويجوز له أن يخطب المرأة وأن يعقد عليها، ولكن لا يدخل بها، ويعتبر الإحرام مانعاً كالحيض والنفاس، فإنه يجوز له أن يعقد على الحائض والنفساء، ولكن لا يجوز له أن يطأها، واحتجوا بحديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بمكة وهو محرم)، وهذا الحديث فيه إشكال كبير عند العلماء، والصحيح: مذهب الجمهور، ويقدم حديث الجمهور من وجوه: الوجه الأول: أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح قُدّم الحاظر على المبيح، فحديث الجمهور حاظر، وحديث أبي حنيفة مبيح، فيقدم حديث الجمهور.
الوجه الثاني: أنه إذا تعارض القول والفعل، قدم القول على الفعل؛ لأنه تشريعٌ للأمة، والفعل يحتمل الخصوص.
الوجه الثالث: أن قول ابن عباس: (وهو محرم) أي: في حرم مكة؛ لأن العرب تسمي من كان في الحرم مُحرِماً، ومنه قول حسان بن ثابت: قتلوا الخليفة ابن عفان بالمدينة محرماً.
ومعلوم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن محرماً لا بحج ولا بعمرة، وإنما قتل في حرم المدينة، وفي الأشهر الحرم، وبناءً على ذلك وصفه بكونه محرماً، فالعرب تسمي من دخل في الحرمات الزمانية والمكانية محرماً، فكأن ابن عباس يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على ميمونة في حرم مكة، وهذا من فقه ابن عباس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك مكة مهاجراً، والمهاجر لا يجوز له أن يرجع إلى البلد الذي تركه هجرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكن البائس سعد بن خولة)، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، فإذا ترك مكة هجرةً فكيف يعقد النكاح فيها؛ لأن عقد النكاح فيها بمثابة الإقامة؟!! فكأن ابن عباس أراد أن ينفي هذا المعنى، فقال: (تزوجها وهو محرم)، يعني: في داخل حرم مكة، وإن كان البناء قد وقع في سرف وهي المعروفة بالنوارية.
فالمقصود: أن هذا الحديث يحمل على أن قوله: (وهو محرم) يعني: في الأشهر الحرم، أو في حرم مكة، والقاعدة: أنه إذا تعارض المحتمل والصريح قدم الصريح على المحتمل.
الوجه الرابع: أنه إذا كان حديث ميمونة فيه معارضة لحديث ابن عباس، فقد روى أبو رافع وميمونة نفسها: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وهو حلال، وابن عباس يقول: (تزوجها وهو محرم)، فـ ميمونة صاحبة القصة، وأبو رافع هو السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة، فأيهم يقدم؟ لا شك أن صاحب البيت أدرى بما فيه، فـ ميمونة هي التي عقد عليها، ويروى عنها أنه كان حلالاً، وكذلك أبو رافع يروي أنه كان حلالاً، وعلى هذا: فإنه يقدم مذهب الجمهور.
أضف إلى ذلك أنه إذا قيل بالتعارض هنا فقد تعارضت رواية أصاغر الصحابة وأكابر الصحابة، والقاعدة: أنه إذا تعارض المروي عن أكابر الصحابة وأصاغرهم قدم المروي عن الأكابر على المروي عن الأصاغر؛ لاحتمال أن يكون ابن عباس رواه بواسطة، خاصة وأنه في ذلك الزمان لم يبلغ الحلم رضي الله عنه وأرضاه.(135/16)
قتل الصيد
المحظور الأخير: قتل الصيد.
والصيد: هو الحيوان المتوحش المأكول اللحم، والصيد نوعان: صيد بر، وصيد بحر، أما صيد البحر فبالإجماع أنه يجوز للمحرم أن يصيد السمك والحوت ونحوها من صيد البحر، ولكن المحرم عليه هو صيد البر؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96].
والدليل الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2]، فمفهوم ذلك: إذا لم تحلوا فلا تصطادوا.
وكذلك أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95].
فهذه الأدلة تدل على أن المحرم لا يجوز له قتل الصيد، ولا أن يعين على الصيد، لا بالإشارة ولا بالدلالة، فلو كان معه إنسان حلال ولم ير الصيد، فلا يقول له: اذهب وصد كذا، أو انتبه هذه فريسة، أو هذا صيد.
إذاً: لا يجوز له أن يصيد، ولا أن يشير للصيد، ولا أن ينبه الحلال على الصيد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي قتادة: (هل أحد منكم أشار إليه أو أعانه؟ قالوا: لا، قال: فكلوا)، فدل على أن المحرم لا يصيد، ولا يأمر بالصيد، ولا يشير، ولا يعين على الصيد، فلو كنت محرماً وعندك حلال يصيد وسقط سلاحه، فلا يجوز أن تناوله، حتى لو قال لك: ناولني، ولا يجوز لك قتل الصيد، ولا كسر جناحه، ولا كسر بيضه، ولا التعرض، له بالإثارة، إنما تمتنع عن ذلك كله؛ وهذا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل أحد منكم أشار إليه؟ هل أحد منكم أعانه؟)، ولا تأكل الصيد إذا صدته، أو صيد من أجلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أهدى له الصعب بن جثامة رضي الله عنه حمار وحش فرده، فلما رده تغير وجه الصعب، فلما تغير وجهه قال له النبي صلى الله عليه وسلم يطيب خاطره: إنا لم نرده عليك إلا أنّا حُرم)، فدل على أنه إذا كان الإنسان محرماً وصيد الصيد من أجله أنه لا يأكل ذلك الصيد.(135/17)
أقسام الصيد بالنسبة للمحرم
المسألة الأخيرة في الصيد، وهي: ما هو الشيء الذي يحرم على الإنسان أن يصيده؟ وللإجابة نقول: الحيوانات على قسمين: مستأنسة ومتوحشة، فالمستأنس: كالإبل والبقر والغنم والدجاج ونحوها، فهذا يجوز للمحرم أن يقتله، فلو ذبحت شاة أو نحرت بعيراً أو بقرة جاز بالإجماع، لكن المحظور هو صيد المتوحش، والمتوحش: هو الذي ينفر منك، سواءً كان من صيد الطيور، أو من صيد البراري الزاحفة أو الدابة، وهذا الصيد الذي في البر ينقسم إلى قسمين: فإما أن يكون مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم، فمأكول اللحم: كالظباء والريم والغزال وبقر الوحش وحمار الوحش وتيس الجبل، فهذه كلها متوحشة، والطيور: كالحمام والحباري والقماري ونحوها، وهذا كله يحرم صيده، هذا إذا كان مأكول اللحم.
أما الدواب المتوحشة التي لا يؤكل لحمها فهل يجوز قتلها؟ نقول: إن الدواب المتوحشة تنقسم إلى ثلاثة أقسام في القتل: فمنها: ما يضر وينفع.
ومنها: ما يضر ولا ينفع.
ومنها: ما لا ينفع ولا يضر.
فما يضر وينفع مثل الأسد، فإنه يضرك بالعدو عليك، وينفعك لو اتخذته وسيلة للصيد، والصقر يضرك، فيمكن أن يهجم على لحمك، أو يهجم على طفل صغير يؤذيه، وقد يهجم على الدواب أحياناً، وكذلك النسر والشاهين والباشق، فهذه تضر وتنفع، وقد قال العلماء فيها: لا يستحب قتلها ولا يكره، فلو قتلتها فلا حرج عليك.
النوع الثاني: الذي يضر ولا ينفع؛ كالذئب والدب، فيجوز لك أن تقتله، بل قد يستحب إذا كان يضر ولا ينفع.
النوع الثالث: الذي لا يضر ولا ينفع، مثل النمل فإنه لا يضرك ولا ينفعك، إلا أنه قد يضر أحياناً بالقرص، وكذلك مثل الهدهد فإنه لا يضر ولا ينفع ونحوها، فهل تقتل؟ قال بعض العلماء: لا تقتل، إلا من حاجة، فالنمل لا يقتل إلا إذا آذى، وهكذا الذباب والبعوض، قالوا: إذا آذت قتلت، فالحيوانات التي لا يؤكل لحمها يفصل في قتلها على هذه الصورة.
فإذا تقرر أن الحيوان إذا كان بحرياً يجوز صيده، وإذا كان برياً يحرم صيده، فما حكم البرمائي، الذي يعيش في البر والبحر، مثل: الضفادع والتمساح، هل يجوز قتله للمحرم؟
الجواب
الذي يكون برمائياً ينقسم إلى قسمين: فإن كان غالب عيشه في البر فهو بري، ولو كان يأوي إلى البحر، وإن كان غالب عيشه في البحر فهو بحري، بمعنى: إذا كان تكاثره ووجوده في البحر فهو بحري، وإذا كان تكاثره ووجوده في البر فهو بري، وبهذا يحكم على البرمائيات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(135/18)
شرح زاد المستقنع - كتاب الجهاد [1]
شرع الله الجهاد لتبقى كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وهذا يكون الجهاد في بعض الأحيان فرضاً عاماً دون تعيين، وتارة يتعين على بعض الأشخاص، بحسب الحاجة والمصلحة، وهذا كله مبين في النصوص الشرعية بضوابطه وقيوده.(136/1)
تعريف الجهاد وأهميته ومشروعيته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجهاد] الجهاد في اللغة: مأخوذ من مادة جَهَد، وأصل الجَهْد: بذل الوسع والطاقة في تحصيل الأمر، ولا يقال ذلك إلا لأمرٍ عظيم، فيقال: اجتَهَدَ في حمل الصخرة، ولا يقال: اجتهد في رفع الخردلة، فلا يكون الجهاد إلا في الأمر العظيم الذي يحتاج إلى مشقة وعناء.
وأما في الاصطلاح: فهو بذل الوسع واستفراغه في قتال أعداء الله؛ لإعلاء كلمة الله عز وجل.
وهذه الشعيرة من أعظم شعائر الإسلام، وهي ذروة سنام الإسلام كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الآيات والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين فضل هذه الشعيرة، وما أعد الله لأهلها من ثواب في الدنيا والآخرة.
وقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجهاد] أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بشعيرة الجهاد.(136/2)
مناسبة وقوع كتاب الجهاد بين كتابي الحج والبيوع
لعل سائلاً يسأل: ما هي مناسبة كتاب الجهاد لكتاب الحج؟
و
الجواب
أنك إذا تأملت كتاب الحج وجدته كتاباً متعلقاً بالعبادة فيما بين الإنسان وربه.
وأما بالنسبة للجهاد فإنه عبادة؛ ولكنه يشتمل على شيء من المعاملة.
ولذلك يرد
السؤال
ما وجه ذكر المصنف لكتاب الجهاد بعد الحج؟ والجواب: أن المناسبة في ذلك منتزعة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سألته أم المؤمنين عائشة، فقالت: (يا رسول الله، هل على النساء من جهاد؟ قال: نعم.
عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة).
فلما فرغ من الحج -وهو العبادة التي تشتمل على المعاني العظيمة من الجهاد- ناسب أن يتبعه بالجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لاشتمال هاتين العبادتين على بذل الوسع واستفراغه في طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى، فهما عبادتان بالنفس وبالمال؛ ولكن الجهاد من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله، وهو أفضل من الحج، ولذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إيمان بالله، ثم جهاد في سبيله، ثم حج مبرور) فجعل منزلة الحج بعد منزلة الجهاد في سبيل الله عز وجل.
فلما فرغ -رحمه الله- من بيان مسائل الحج ناسب أن يعتني ببيان مسائل الجهاد.
ثم انظر -رحمك الله! - إلى دقة هذا العالم الجليل، وفقهه، وحسن ترتيبه للأبواب، فإنه ذكر كتاب البيع بعد كتاب الجهاد، ومن تأمل كتاب البيع وجده مشتملاً على المعاملة المحضة؛ لأنه يتعلق ببذل السلع، سواءً كانت من المثمونات، أو من الأثمان بعضها ببعض، فهو معاملة محضة، والحج عبادة محضة، فلو أنه ذكر كتاب البيع بعد كتاب الحج، لكان البون شاسعاً بين البابين، فمن الصعوبة بمكان أن تنتقل من باب يتعلق بالعبادة المحضة إلى باب يتعلق بالمعاملة المحضة -لأن أمور البيع تتعلق بالدنيا كما لا يخفى، ولذلك لا يكون البيع قُربة إلا إذا قصد الإنسان الطاعة فيه والامتثال- فناسب أن يدخل بين الحج وبين البيع باباً متوسطاً، وهو باب الجهاد حيث إن فيه وجهاً من التعبد وفيه وجهاً من المعاملة، فينتقل الفقيه من العبادة المحضة إلى المعاملة المحضة بوسيط بينهما، وبعض العلماء يدخل باب النكاح لكي يكون رابطاً بين أبواب العبادات وأبواب المعاملات، ولكلٍ وجهة؛ ولكن إدخال كتاب الجهاد أنسب وأفضل، خاصة وأن السنة قد أشارت للترابط بين الحج وبين الجهاد.(136/3)
فرضية الجهاد
يقول رحمه الله: [كتاب الجهاد] هذه الشعيرة شَرَعَها الله سبحانه وتعالى لحكمٍ عظيمة، وأسرارٍ جليلةٍ كريمة، وبيَّن سبحانه وتعالى هذه الشعيرة ودعا إليها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على أن الجهاد يعتبر شعيرةً من أعظم شعائر الإسلام، وأحبِّها إلى الله سبحانه وتعالى، وشَرَعَ الله عز وجل الجهاد في المدينة، أما عندما كان المسلمون بمكة فلم يُفرض الجهاد عليهم، ولكنهم لما انتقلوا إلى المدينة فرض الله عليهم الجهاد، وإنما لم يوجب الله عزَّ وجلَّ عليهم الجهاد بمكة لضعفهم وعدم تمكُّنهم من ذلك، وإنما يكلف الله عز وجل العباد ما في وسعهم، والشريعة شريعة رحمة، وتيسير، وليست بشريعة عنت ولا تعسير، ولذلك لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة -دار الهجرة- وآزره ونصره الأنصار، واستقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة، أذن الله له بالجهاد في سبيله، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فكتب الله عز وجل الجهاد والقتال، فقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وهي آية من سورة البقرة المدنية، والسبب في ذلك أن الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ممتنع عن الإسلام للشُّبَه والعوارض المتعلقة بفكره، فهذا يحتاج إلى قوة الحجة، وبيان السبيل والمحجة، فتكفل الله عز وجل ببيان ذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وجهاد أمثال هؤلاء -غالباً- يتعلق بالعلماء وطلاب العلم؛ فعليهم أن يبينوا لهم سبيل الله عز وجل، ويبينوا لهم ما في الإسلام مِن سماحة ومِن يسر، وأن يزيلوا عنهم الشبه، حتى تطمئن قلوبهم لدين الله، وتنشرح صدورهم لكلمة الله، فينالوا سعادة الدنيا والآخرة.
وأما القسم الثاني من الممتنعين عن الإسلام: فهم أقوام تغريهم المادة، يحتاجون إلى الدنيا ويطمعون فيها، فإذا أُغْرُوا بالمال أحبوا الإسلام وأقبلوا عليه، فبعدها إذا رأوا قوته وصدقه اطمأنت قلوبهم بدون الدنيا، وهؤلاء هم المؤلفة قلوبهم، وقد أعطاهم الله عز وجل حظاً في الزكاة، وجعل لهم سهماً من سهامها، وفعل ذلك نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه -بأبي هو وأمي- يوم حنين، فأعطى عطاءَ مَن لا يخشى الفقر، فاطمأنت قلوب المؤلفة قلوبهم حتى وثقوا بدين الله، واستسلموا لشرع الله عز وجل.
وأما القسم الثالث: فهم الذين يعاندون ولهم منعة وقوة، فيحتاجون إلى كسر الشوكة، وإرغام الأنوف، فإذا أرغمت أنوفهم على الإسلام ورأوا قوة الإسلام، أذعنوا وذلوا لله واستسلموا، فهذا القسم يحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى قوة وتضحية، وبيع للأنفس في سبيل الله عز وجل، وهي التجارة التي لا يبور أصحابها، وقد تكفَّل الله لمن خرج لها: إما أن ينال الشهادة فتقر عينه بجنة عرضُها كعرض السماء والأرض، وبما تكفَّل الله له به من رضوان مقيم، وهو أكبر من ذلك النعيم، وتكفَّل الله له بالفضائل في برزخه، وفي حشره ونشره، فينال بذلك البيع سعادةَ الدنيا والآخرة.
وإما أن يرجع إلى أهله سالماً، نائلاً ما نال من الغنيمة وسهم الدنيا العادل، مع ما ينتظره عند الله سبحانه وتعالى من الأجر.
وقد جاهد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، وجاهد الخلفاء الراشدون، وجاهد السلف الصالح من هذه الأمة، ولم تزل هذه الشعيرة باقية، ولا تزال إلى يوم القيامة، ليجاهدوا مَن كفر بالله ورسوله، حتى يدين بدين الحق، و {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39].
والإسلام دين سماحة ويسر؛ ولكن السماحة واليسر إذا وضعت في غير موضعها كانت جُبناً وخَوَراً، ولذلك هو دين رحمة ويسر وسماحة لمن يستحق الرحمة ولمن هو أهل أن يُرْأَف به، وأما من كفر بالله ورسوله وعادى الله ورسوله، وأعلن البراءة من دين الله، فقد كفر نعمة الله عز وجل عليه، واعتدى على حدود الله، وخرج عن الأصل الشرعي الذي من أجله أوجده الله في هذا الوجود، وهو توحيدُ الله وإفرادُه بالعبادة، فاستحق أن يُزال من هذا الوجود، لتبقى كلمة الله هي العليا.
وفي هذا الجهاد حِكَمٌ عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فإن المسلمين إذا لم يغزوا أعداء الله غزاهم أعداء الله، فإن القلوب فيها حنق وغيظ على هذا الدين، وأصحاب الحق على مر الزمان وتعاقبه وتتابع الدهور لا يمكن أن يسلَموا من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك جعل الله عزة هذه الأمة في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وجعل كرامتها في إقامة هذه الشعيرة العظيمة، ومَن تأمل حال المسلمين وجد أنهم إذا قاموا بهذا الأمر العظيم قام لهم أمر الدين والدنيا والآخرة، ونالوا سعادة الدنيا والآخرة، وأعزهم الله وقذف الرعب في قلوب أعدائهم، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر -وفي رواية-: مسيرة شهرين) قال العلماء: إن هذا الرعب الذي يقذفه الله في قلوب أعداء الإسلام، هو للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، فمن استقام على دين الله واستسلم لله ظاهراً وباطناً، فإن الله يُعِزُّه ويَرْفَعُ شأنَه، ويُعْظِمُ شأوَه، ويجعل له كرامةَ الدنيا والآخرة.(136/4)
أقسام الجهاد
والجهاد منقسم إلى أقسام: الأول: يكون بالجَنان.
الثاني: ويكون باللسان.
الثالث: ويكون بالجوارح والأركان.
فأما جهاد الجَنان: فهو بغضهم في الله، وعداوتهم في الله عز وجل، فمَن أحب في الله وعادى في الله فقد ذاق طعم الإيمان وحلاوته، ولا يمكن أن ينال العبد ولاية الله سبحانه حتى يحب بحب الله، ويبغص ببغض الله، فإذا فعل ذلك فإنه ينال حلاوة الإيمان، ويجد طعم الإسلام الذي أسلم به لله عز وجل ظاهراً وباطناً.
وأما الأمر الثاني: فهو جهاد اللسان، وهذا أعظم ما يكون وأكمل ما يكون من العلماء العاملين والأئمة الصديقين، الذين هم هداةٌ مهتدون، يقولون {بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159] {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} [الأحزاب:39]، فأعداء الله يحتاجون إلى جهاد الكلمة، ومما يدخل في جهاد الكلمة جهادُ الشعراء وقولُ الشعر، وتأليفُه ونَظْمُه لنصرة دين الله وإعزازه، ورفع كلمة الله عز وجل، وشحذ الهمم إلى مرضاة الله، وتقوية الإيمان في القلوب، وقد أثنى الله عز وجل على هذا الصنف، كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (لما نزل قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] جاء كعب بن مالك وحسان بن ثابت رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد علمتَ ما أنزل الله في الشعراء، فأنزل الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227]) فاستثنى الله عز وجل هؤلاء؛ لأن هذا من جهاد الكلمة.
وأما النوع الثالث: فهو جهاد الجوارح والأركان، وهذا هو المقصود هنا بقول الفقهاء: (كتاب الجهاد)، فإنهم يبينون الأحكام التي ينبغي للمسلم أن يلم بها إذا أراد القيام بهذه الشعيرة.
فالجهاد في سبيل الله عز وجل له ترتيبه، وله ضوابطه، وله أحكامه ومسائله، وقد بيَّن الله عز وجل هذه المسائل والأحكام في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيَّن السلف الصالح ومَن بعدهم أحكامَ الجهاد، وفصَّلوها في كتبهم.(136/5)
حكم الجهاد
يقول رحمه الله: [كتاب الجهاد]: أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بشعيرة الجهاد.(136/6)
الجهاد فرض كفاية
[وهو فرض كفاية] (وهو) الضمير عائد على الجهاد، وأما حكمه (فرض كفاية).
أما كونه فرضاً: فلأن الله أمر به، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9]، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اغزوا في سبيل الله)، والعلماء -رحمهم الله- مجمعون على فرضية الجهاد من حيث الجملة، وجماهيرهم على أنه فرض كفاية؛ ولكن ذهب بعض السلف إلى أنه فرض عين، وهذا القول احتج أصحابه بعموم الآيات التي فيها الأمر بالجهاد في سبيل الله عز وجل، والتي فيها الأمر بالنفير، وقتال أعداء الله عز وجل؛ ولكن هذا القول يعتبر مرجوحاً؛ لأن النصوص دالة على أن الجهاد ليس بفرض عين، وإنما هو فرضٌ على الكفاية، والدليل على ذلك ما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن- أنه ذكر آيات النفير التي في سورة التوبة -وهي أقوى الحجج لمَن قال بفرضية العين، ويقول به أفراد من العلماء وبعضُ السلف، وهم قلة جداً- وقال: نسخها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122] فإن هذه الآية الكريمة التي هي في آخر سورة التوبة قد بيَّن الله سبحانه وتعالى فيها أن الجهاد ليس بفرض عين، حيث قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122]، ولو قلنا بظاهر قوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] ونحو ذلك من الآيات الموجبة للجهاد، فإن معنى ذلك أن ينفر المسلمون كافة، ولذلك قال ابن عباس: نسخها قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] فجعل النفير مختصاً بالبعض دون البعض، ولذلك ذهب جماهير الأمة من السلف والخلف إلى أن الجهاد يعتبر فرضاً على الكفاية، بمعنى: أنه لو قام به البعض سقط الإثم عن الباقين.
وعلى هذا: فإن المعتبر به قيام مَن تنسد به الحاجة، وإنما يتعين الجهاد في أحوال ثلاث، وهذه الأحوال وردت النصوص في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيِّن فرضية الجهاد فيها على العين، وأن مَن كان مِن أهلها تعين عليه أن يجاهد، وسيأتي بيانها ويذكرها المصنف رحمه الله.
قوله رحمه الله: (وهو فرض كفاية)، ابتدأ ببيان حكم الجهاد وأنه واجب على الكفاية أي: إذا وجد مَن يسد الثغر ويقوم به، سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثم الكل.
قوله: [ويجب إذا حضره، أو حصر بلده عدوٌّ، أو استنفره الإمام] قال رحمه الله: (ويجب إذا حضره) قوله: (ويجب) أي: يتعين.
قبل أن ندخل في تفصيلات المسائل، يحسن بنا أن نبين على مَن يجب الجهاد؟(136/7)
الشروط التي يجب بها الجهاد
يجب الجهاد ويفرض على من توفرت فيه الشروط التالية: أولها: الإسلام: لأن الله عز وجل خاطب به المسلمين دون غيرهم.
وثانيها: البلوغ: فإن الصبيان لا يجب عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله عز وجل، ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر عن الغزو لصغر سنه، ففي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: (عُرِضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فلم يجزني -وفي رواية للبيهقي: ولم يرني قد بلغت- وعُرِضت عليه يوم الخندق، فأجازني.
وفي رواية: ورآني قد بلغتُ) ولقد أخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الجهاد لا يجب على الصبيان؛ ولأن الأحكام والتكاليف إنما تجب على من بلغ الحلم، قال عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة.
-وذكر منهم- وعن الصبي حتى يحتلم) فدل على أن الصبي لا يتعين عليه فعل الواجبات ولا يجب عليه الجهاد، ولكن لو تطوع الصبي ودخل إلى المعركة، أو احتيج إليه فدخل فيها، فهذا لا بأس به؛ لكن أن يؤمر بذلك أو يُحمل عليه، فهذا تحميل له لما لا يطيقه، وهو من المستضعفين الذين استثناهم الله عز وجل وعذرهم في كتابه.
الشرط الثالث: العقل: فلا يجب الجهاد على مجنون، فإن المجنون لا يستطيع أن يحصل مصلحة نفسه، فكيف بالقيام بالجهاد في سبيل الله، وإذا سقط التكليف عن المجنون بالإجماع وبقوله عليه الصلاة والسلام في الثلاثة الذين رفع عنهم القلم كما في الحديث الصحيح: (وعن المجنون حتى يفيق)، فبالإجماع لا يجب الجهاد على مجنون.
الشرط الرابع: أن يكون ذكراً: وأما النساء فلا يجب عليهن الجهاد، ولا يقاتلن؛ ولكن إذا خرجن لنفع المجاهدين، بسقي العطشى، ومداواة الجرحى والمرضى بالضوابط الشرعية فلا بأس، ففي الحديث الصحيح عن أم عطية رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نداوي الجرحى، ونسقي المرضى) ولذلك قال العلماء: إن المرأة تداوي الرجل في مثل هذه الحالة؛ لأنه من شدة الألم ووجود الجرح، يعزب عنه رشده، ويذهب عنه إدراكه، فيكون منشغلاً بالألم عن الفتنة، ومن هنا كان من مرونة الشريعة إباحة ذلك لوجود الحاجة، وتعلق ما يقصده الشرع من جلب المصلحة ودرء المفسدة بوجودها، كذلك أيضاً: ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما جُرِح، وشُجَّ -بأبي هو وأمي- يوم أحد، وجَعَل الدم ينزف، جاءت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فكانت تصب من الدرقة عليه صلوات الله وسلامه عليه والجرح ينزف، حتى أخذت حصيراً فأحرقته ثم سدت به الجرح فاندمل ووقف الدم، فهذا يدل على أنه لا بأس بشهود النساء الغزو لمصلحة، مع أمن الفتنة والمحافظة على الضوابط الشرعية.
الشرط الخامس: الحرية: فالعبيد والإماء لا يجب عليهم الجهاد لانشغالهم بخدمة أسيادهم.
الشرط السادس والأخير: القدرة على الجهاد في سبيل الله عز وجل:- فأما مَن كان مريضاً أو كان شيخاً كبيراً في السن، فأمثال هؤلاء لا يجب عليهم الجهاد، وهكذا إذا احتيج في الجهاد إلى مركب، وليس عنده مركب، ولا يستطيع أن يمشي على رجليه، {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]، فكان الصحابة -رضوان الله عليهم- فقراء الأيدي؛ ولكنهم أغنياء في قلوبهم بالله عز وجل، وكان الرجل منهم قد لا يجد إلا لباسه الذي يواري به سوأته وعورته، وقد يمر عليه اليوم واليومان ولا يجد طعاماً، ولا يجد إلا قدر كفايته، فكان الرجل منهم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله أن يخرج إلى الجهاد، فيعتذر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يجد مركباً يُرْكِبُه عليه، فمن قوة إيمانه وحبه لله ورسوله وحبه لهذا الدين وحبه للشهادة في سبيل الله عز وجل يبكي بكاءً شديداً {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} [التوبة:92]، فجمع الله لهم في هذه الآية بين أمرين: بين حزن القلب.
وحزن القالب.
فحزن القلب في قوله: (حَزَناً)، وحزن القالب في إفاضة العين من الدمع، يقال: فاض الوادي إذا كثر ماؤه، فقال الله عز وجل: (تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ) ولم يقل: تدمع، وإنما قال: (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)، فهذا يدل على كمال حبهم لله عز وجل، وإيثارهم لمرضاة الله سبحانه وتعالى على حظوظ النفس.
فإذا كان الرجل لا يجد الطاقة والقوة على أن يغزو راجلاً، ولم يجد ما يركبه، فإنه حينئذٍ يعتبر معذوراً، فإن خرج من لا يجب عليه الغزو، كشيخ كبير أو مريض، أو خرج مَن لا يجد المركب، فمشى على قدميه، فهذا فضل منه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
فهذه الشروط ينبغي توفرها للحكم بفرضية الجهاد، فلا يجب الجهاد إلا إذا توفرت هذه الشروط، ولا يصير على الإنسان فرضاً إلا إذا استجمع هذه الشروط المعتبرة لفرضيته.(136/8)
الحالات التي يصير الجهاد فيها فرض عين
وقوله رحمه الله: (ويجب إذا حضره) يقال: حضر الشيء إذا شهده، وهناك أحوال للجهاد في سبيل الله: منها حالة الخروج للجهاد.
ومنها حالة شهود الوقعة.(136/9)
إذا التقى الصفان وتقابل الزحفان
فأما الحالات التي يصير الجهاد فيها فرض عين: أولها: أن يشهد الوقعة، ويكون حاضراً فيها، وهذا يعبر عنه العلماء رحمهم الله بجمل مختلفة: فمنهم مَن يقول: (يجب إذا حضره)، أي: حضر الوقعة، كما عبر به المصنف رحمه الله.
ومنهم مَن يقول: (إذا التقى الصفان).
ومنهم مَن يقول: (إذا تقابل الزحفان).
والمعنى واحد، وهو: أن يحضر الوقعة، ويقابل العدو، فإذا لقي العدو فإنه لا يجوز له أن يتولى، وهذا من التولي يوم الزحف، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16]، فحرم الله عز وجل على مَن لقي العدو أن ينكص على عقبيه، فإذا نكص على عقبيه فقد خسر الدنيا والآخرة، إلا فيما استثناه الله عز وجل.
قال العلماء: إن هذه الآية الكريمة نصٌّ في وجوب الجهاد ووجوب القتال على من قابل العدو ولقيه، فما عليه إلا أن يصبر، وأن يتوكل على الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45]، فأمر الله بأمرين: الأمر الأول: يتعلق بالقلوب: وهو ما عناه سبحانه بقوله: (فَاثْبُتُوا).
وأما الأمر الثاني: فما يجمع بين القلب والقالب (وَاذْكُرُوا اللَّهَ) فإن رأيتم عظَمةً من عدو الله فاعلموا أن الله أعظم، وإن كبُر في أعينكم فالله أكبر وأجل سبحانه وتعالى، يَغلِب ولا يُغلَب وهو القوي العزيز.
فإذا تقابل الزحفان، فإنه يتعين الجهاد بإجماع العلماء، وفي هذه الحالة إذا فر الإنسان أو عَدَل عن الجهاد، أو انخذل -والعياذ بالله- إلا فيما استثنى الله عز وجل -المتحرف للقتال، أو المتحيز إلى فئة- فإنه يبوء بغضب من الله، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجتنبوا السبع الموبقات -أي: المهلكات، نسأل الله السلامة والعافية! فإنها تهلك صاحبها- وذكر منها: والتولي يوم الزحف)، فالتولي يوم الزحف فيه غضب الله وسخطه، قال العلماء: لأنه يدل على الخوف من أعداء الله، وخذلان دين الله؛ لأن العدو ينظر للإسلام بمن حظر الوقعة، فإذا كان أهل الإسلام على ثبات وقوة كان ذلك أرضى لله سبحانه وتعالى، وأعلى لدينه، وأقوى شكيمةً في وجه العدو، وأقوى بأساً في طاعة الله عز وجل ومرضاته، والله يحب الذين يجاهدون ويُظْهِرون القوة والجَلَدة في جهادهم، فإذا أظهر الخذلان، ونكص على عقبيه، فإن هذا -نسأل الله السلامة والعافية- خذلان لدين الله وخذلان لعباد الله، فإنه إذا تولى خذَّل غيره، وإذا جبُن فإنه يُضعِف غيره، بخلاف ما إذا ثبت، وذكر الله سبحانه وتعالى وقويت عزيمته على الخير وطاعة الله ومرضاته، فإنها تقوى عزائم مَن معه، وإذا تولى وكان قدوة للغير فالأمر أعظم وأشد: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] نسأل الله السلامة والعافية! والعكس بالعكس، فإذا ثبت وثبت الناس بثباته، وقووا بقوته وصبره وجَلَده، فإنه ينال أجره وأجر من كان معه.
فهذه هي الحالة الأولى التي يتعين الجهاد: إذا تقابل الزحفان والتقى الصفان، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.
وفي هذه الحالة لا يجوز له أن ينسحب أو يترك اللقاء إلا بإذن خاص من الإمام، فإذا كانت للإمام أو القائد مصلحة في أن يبعثه في طلب غوثٍ، أو نجدةٍِ، أو يبعثه في أمر يتعلق بمصلحة الجيش أو نحو ذلك، فإنه لا بأس أن يتخلف عن شهود هذه الوقعة والله يكتب له أجرها؛ لأنه تخلف لعذر، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العسرة التي هي من أشد الغزوات على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت في شدة الحر، وابتلى الله عز وجل فيها المسلمين بلاءً شديداً، فلما قطعوا المسافات الشاسعة وابتعدوا عن المدينة، ووصلوا إلى تخوم الشام، إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بالمدينة رجالاً، ما سلكتم شِعباً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم وشاركوكم الأجر، قالوا: يا رسول الله! كيف وهم في المدينة؟ قال: حبسهم العذر) فمن حُبِس عن وقعةٍ لعذر فأجره كامل.(136/10)
إذا دهم العدو بلاد المسلمين
قوله: [أو حصر بلده عدوٌّ] وهذه هي الحالة التي يسميها بعض العلماء: (حالة الهجوم) أن يهجم العدو على بلد أو على قرية أو على مدينة، فكل من في هذه المدينة يجب عليه أن يقاتل، وأن يدافع عن نفسه، فيقاتل الرجال وتقاتل النساء، ولا بأس عليهن في ذلك -إذا كن يحسنَّ القتال والنكاية بالعدو- أن يقاتلن، ويحمين حوزة الإسلام ويحفظن ثغره.
وهذه الحالة هي حالة دهم العدو على البلد.
ففي الحالة الأولى والثانية، وفي الحالة الثالثة التي سيذكرها المصنف، لا يستأذن الإنسان والديه، ولا المدين من دائنه، ولا العبد من سيده، ولا المرأة من زوجها، بل يدفع كلٌّ على قدر وسعه، وطاقته، وتكون هذه الحالة حالة ابتلاء، وهي من الأحوال المستثناة كما ذكرنا، ويكون الجهاد والقتال فرض عين كالصلاة، فكما أن الصلاة تجب على المسلم بعينه، فيجب عليه أن يقاتل كيفما استطاع وهذا كله من حكمة الشرع، فإن الأحوال تختلف، ولكل حالة حكمها.
فلو قلنا في هذه الحالة: يستأذن والديه، لانعدمت ثغورٌ، وهلكت أنفسٌ، وفنيت الأرواحُ والأجسادُ، وكان ذلك أعظم ما يكون بلاءً على المسلمين، ولذلك يسقط الاستئذان في هذه الحالة، حتى أن الله سبحانه وتعالى أسقط عن المكلفين أركان الصلاة كالركوع والسجود في هذه الحالة، وهي حالة احتدام القتال وحالات الهجوم، فقال العلماء: إذا حاصر العدوُّ بلداً -سواءً حاصر، أو هجم على البلد وقاتل- ففي هذه الأحوال كلها يتعين على مَن في تلك البلدة أن يقاتل، وأن يدفع على قدر استطاعته، وعلى قدر وسعه: و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
فإذا قال العلماء: (يتعين ويجب) فإنه يسقط -كما ذكرنا- استئذان الوالدين، واستئذان المدين من دائنه.
والأصل في هذه الحالة، -إذا هجم العدو على البلد، أو حاصر مدينة- أنها في حكم تقابل الصفين، والتقاء الزحفين، فكما نصت الآيات على أن تقابُلَ الزحفين والتقاء الصفين يتعين فيه الجهاد على مَن شهد، كذلك إذا حاصر العدو بلداً، فإن الحصار مقابلةٌ من العدو للمسلمين، وهي بلا إشكال في حكم التقاء الصفين، وتقابل الزحفين.(136/11)
من استنفره الإمام للخروج للجهاد في سبيل الله
قال رحمه الله: [أو استنفره الإمام] السين، والتاء: للطلب، والنفير: طلب الخروج، والمراد هنا: طلب الخروج الخاص وهو الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل.
وهذه هي الحالة الثالثة التي يصير الجهاد فيها فرض عين، وهي: أن يطلب ولي الأمر من المسلمين الخروج للجهاد، فيجب عليهم أن يخرجوا، ويتعين على كل من أطاق القتال أن يخرج، فيخرج بدون إذن والديه، ويخرج أيضاً بدون إذن دائنه ومَن له حقٌّ عليه، ويخرج كل من أطاق القتال على الصورة التي ذكرناها في الحالتين السابقتين.
ولا يستنفر الإمام إلا في أحوال مستثناة، وهي الأحوال التي يكون الخطر على الأمة، أو الخطر على جماعة، ولذلك لا يستنفر، إلا لمصالح عظيمة، أو درء مفاسد أعظم، ولذلك تكون هذه الحالة من الأحوال التي يتعين فيها الجهاد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] وهذا الاستفهام استفهام إنكاري، ولذلك يقول العلماء: إنه من القرائن والدلائل التي تدل على حرمة الفعل، فمن استُنْفِر للجهاد في سبيل الله وامتنع فإنه يعتبر مخالفاً لأمر الله عز وجل، مرتكباً لما حرم الله، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (لا هجرة بعد الفتح؛ ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا).
وفي حكم الاستنفار مَن رُتِّب للقتال، فجاء الأمر بخروجه، فإنه يتعين على جميع الأفراد أن يقاتلوا، ولا يجوز لهم أن يتخلفوا، ولا أن يحتالوا بالامتناع عن الخروج، ويأثمون إن فعلوا ذلك.
فيصير الجهاد في هذه الأحوال فرض عين، يأثَم الإنسانُ بتركه، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.(136/12)
الرباط ومدته وفضائله
قال رحمه الله: [وتمام الرباط أربعون يوماً] الرباط في سبيل الله هو: حراسة الثغور، والثغور هي التي تكون بين المسلمين وبين أعداء الإسلام وتحتاج إلى حفظ؛ لأن العدو لا يؤمَن غدرُه، ولا يؤمَن ضررُه، ولذلك لا بد من السهر في حماية الثغور، وهذا العمل من أجلِّ الأعمال وأحبِّها إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه)، أي: فيما سوى الثغر؛ لأن المرابط في سبيل الله عينه تحرس المسلمين، وتحرس عوراتهم وأعراضهم وأموالهم ودماءهم، فهو قائم على ثغر عظيم من ثغور الإسلام، فإذا سَهِرَت عينُه على هذا الثغر، فإن الله يحرِّمها على النار؛ فإن العين التي تسهر في حراسة الثغور، تُعْتَبر ساهرةً في مرضاة الله عز وجل، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل العيون باكية -أو دامعة- يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضَّت عن محارم الله)، قال العلماء: (كل العيون باكية، أو دامعة): إشارةٌ إلى بلائها وحزنها، (إلا ثلاثة أعين): إشارة إلى نجاتها وعظيم ما أعد الله لها من الثواب، فلا تبكي يوم القيامة ولا تحزن، وهذا يدل على أنه ينتظرها من الله مِن عظيم الثواب وعظيم الجزاء الخير الكثير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها).
وإنما يكون هذا الفضل الذي أعده الله للمرابط -وكذلك الفضائل التي وردت في الشهادة في سبيل الله عز وجل- لمن أراد وجه الله عز وجل، فلم يخرج من بيته للجهاد رياءً ولا سمعةً ولا تفاخراً، ولا حميةً عن نفسه، ولا عن أهله، ولا عن داره وبلده، وإنما خرج لله وفي الله، (قالوا: يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليُرَى مكانَه، والرجل يقاتل للمغنم، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ -أي: أيُّهم يكون له الفضل الذي ذكرته للمجاهد في سبيل الله؟ - فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فخص قوله: (في سبيل الله) بقصد وجه الله سبحانه وتعالى.
فإذا ذكر الرباط وفضله، وما فيه من الخير والأجر والثواب، فإنما هو لمن أخلص، وأراد وجه الله سبحانه وتعالى، وأما مَن فعل ذلك حميةً، أو من أجل أن يُرَى مكانَه، أو ليثني عليه الناس، فإنه يتعجل حظَّه في الدنيا، فإذا وافى الله عز وجل، لم يوافِه بشيء، وفي الحديث: (أن العبد إذا أتى يوم القيامة بحسناته، قال الله عز وجل له: اذهب وخذ أجرك ممن عملت له) فالله سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، وفي الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي غيري، تركته وشركه)، وقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].
فالرباط له هذا الفضل العظيم، إذا أخلص الإنسان فيه النية.
وإذا تأمل المسلمُ الرباطَ، وجد فيه حفظ الثغور، ولذلك قال بعض العلماء فتفاضل أنواع الجهاد، حتى إن بعضهم يقول: إن حراسة الأنفس وتأمين السبل، قد يفضُل على جهاد الطلب؛ لأن الجهاد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: جهاد الطلب.
والقسم الثاني: جهاد الدفع.
فأما جهاد الطلب: فهو الذي يُطْلَب فيه العدو في أرضه، ويغزو المسلمون فيه الكفارَ في أرضهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعَلَ الصحابة مِن بعده، والسلف الصالح مِن بعدهم.
وأما جهاد الدفع: فهو أن يدهم العدو بلاد المسلمين فيدفعونه، وهذا يسمى جهاد الدفع.
فالرباط يعين على جهاد الدفع، وقد وردت فيه الفضائل، حتى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن المرابط إذا مات في رباطه أجرى الله عز وجل عليه الأجر إلى أن تقوم الساعة) فله أجره وثوابه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وهذا لعظيم بلائه، ومن هنا قال العلماء: من سعى في حراسة المسلمين أثناء نومهم وحرس أعراضهم أو كان يعس في الليل، فإنه لا يبعُد أن ينال من الأجر ما هو قريب من الرباط؛ لأن مثل هذه الثغرات التي يخاف الناس فيها على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم بلاؤها عظيم، ومن هنا كان بعض السلف ويُروَى عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه كان يرى أن تأمين السبل للحجاج والمسافرين خوفاً ممن يقطع الطريق عليهم أفضل من جهاد الطلب وذلك لعظيم البلاء فيه.
وقوله: (وتمام الرباط) الرباط ينقسم إلى قسمين: الرباط الكامل والتام: وهو أربعون يوماً، وقد جاء فيه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تمام الرباط أربعون يوماً) فمن رابط أربعين يوماً فقد تم رباطه، وينال فضائل الرباط التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حسنه بعض العلماء رحمهم الله.
و (تمام الرباط أربعون يوماً)، أي: أنه إذا رابط في الثغور أربعين يوماً، فإنه ينال هذه الفضيلة -أعني: فضيلة الرباط- فإذا زاد فوق ذلك فإنه يكون فضلاً وزيادةً له في الأجر، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من مات مرابطاً في سبيل الله عز وجل، فإن الله يؤمِّنه من الفتان، أي: أنه يؤمَّن من فتنة القبر، وهذا من أعظم ما أعد الله عز وجل له حيث يحفظ من فتنة القبر، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الشهيد: (هل يفتن في قبره؟ فقال -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه: كفى ببارقة السيوف فتنة له) أي: كفى أنه قتل في ذات الله جل جلاله، فإن هذا من أعظم الشهادة له بأنه مؤمن بالله عز وجل واليوم الآخر؛ لأنه باع نفسه لله وآثر ما عند الله على الدنيا.(136/13)
استئذان الوالدين في الجهاد إذا كان فرض كفاية
قال رحمه الله: [وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما] شرع -رحمه الله- في بيان المسائل التي يجب فيها الاستئذان قبل الخروج إلى الجهاد، وهذه المسائل وردت بها النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز للمسلم أن يخرج للجهاد إذا كان أبواه موجودين إلا بإذنهما، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أتيت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحيٌّ والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد) فدل هذا الحديث الصحيح على أن جهاد مَن له والدان، أو أحدهما هو البر به، وذلك هو جهاده، والسبب في ذلك أن للوالدين حقاً عظيماً على الولد، وأن الله وصى الولد بوالديه إحساناً، وأن الخروج للجهاد في سبيل الله فجيعةٌ لهما، وتعرضٌ للهلاك، فقد يهلك الوالدان بسببه إذا أصابهما الجزع والسخط على قضاء الله وقدره، فينجوَ الولد ويهلك الوالدان.
والسبب في هذا أن الله قذف في الوالدين رحمة -وهي في قلب الوالد والوالدة- لا يستطيع أحدهما أن يملك نفسَه معها، أما الوالد فقد قص الله علينا في كتابه وبيَّن لنا ما يجده في نفسه لولده، وذلك في قصة يعقوب مع ابنه يوسف عليهما السلام، فإن هذه القصة لما ذكرها الله سبحانه وتعالى وبيَّنها في كتابه قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] فأخبر أنها عبرة، فتحتاج إلى شيء من التأمل.
فانظر -رحمك الله- إلى نبي من أنبياء الله، لما فقد ابنه يوسف -وهو يعلم أنه سيعود إليه- حزن حزناً شديداً وابيضت عيناه من الحزن وفقد بصره، حتى قالوا له: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:85 - 86] أي: أنه يجد لوعة الفراق وألم الفراق، ومع أنه يعلم أن يوسف سيعود إليه، ومع أنه نبي ومِن أولي العزم، ومِن أهل الصبر والقوة، ومع ذلك لم يتحمل فراقه مع ثقته بعودته إليه، وقال {إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:96].
فهذا يدل على أن في قلب الوالد لولده من الحنان والشفقة ما لا يملكه الولد، ومن هنا كان مِن الخطأ أن يظن الشاب أن قضية استئذان الوالدين لحاجة الوالدين، وأنه إذا وُجِد من يقوم مقامه أن ذلك يكفي، وهذا من الرأي في مقابل النص، ومن عدم التأمل والفقه عن الله ورسوله؛ لأن الأمر راجع إلى الرحمة، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن في قلب الوالد لولده رحمة، فعندما دمعت عيناه لفراق ابنه إبراهيم: (قالوا: يا رسول الله! ما هذا؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده)، فهذه رحمة أسكنها الله في قلب الوالد لولده، فمنهم مَن يتجلد ويقوى إيمانه ويصبر فيأذن لابنه، فإذا أذن لابنه فلا إشكال، فهو أدعى أن يصبر إذا فُجِع به؛ ولكن إذا خرج الابن من دون إذنه، فُجِع الأب به، وتعذَّب بفراقه، وتألم لذلك الفراق، فكأن الابن يتسبب في أذيته والإضرار به، شعر أو لم يشعر، فهذا راجع إلى ما أسكنه الله في قلب الوالد لولده.
أما الأم فأمرها أشد، وحنانها أعظم، ورحمتها أكبر، ولذلك لما أراد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أن يضرب المثل في رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، ويبين عظيم ما أعد الله لعباده من الرحمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا.
قال: لَلَّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها!).
ففي الأم من الحنان والشفقة والرحمة ما الله به عليم، فإذا كان الأب وهو رجل، تفيض عيناه من الدمع، وقد يصاب بالعمى كيعقوب عليه السلام حين فقد بصره، فما بالك بالأم.
ومن هنا يُعلم أن الأمر راجع إلى الرحمة، وكان فقه السلف على هذا، ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان هلال بن أمية -أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة العسرة وتاب الله عليه، وهو هلال بن أمية رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -كان له ابن اسمه: أمية، وكان أمية من أبر الناس بأبيه، وأكثرهم عطفاً عليه، فلما جاءت الفتوحات أيام عمر خرج للجهاد في سبيل الله، فبكى عليه هلال رضي الله عنه، حتى كُفَّ بصرُه من كثرة البكاء، واشتاق وحنَّ إليه حنيناً عظيماً، وبلغ الخبر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فكتب إلى أبي عبيدة: (إذا بلغك كتابي هذا فابعث إليَّ بـ أمية بن هلال، فما هو إلا أن جاءه أمية رحمه الله، ووقف عليه، ولم يعلم بخبره إلا عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا أمية! ما حالك مع أبيك؟) فذكر له من البر شيئاً عظيماً، فقال: (اجلس ولا يعلم أحد بمكانك)، ثم دعا أباه، -وهو هلال رضي الله عنه- فجاء وهو شيخ حُطَمَة، قد كُفَّ بصرُه وخارت قواه، ثم جلس فقال: (يا هلال! ما بلغ بر ابنك بك؟) فذكر له بره، ثم أمر ابنه أمية أن يحلب له الناقة، فلما جيء له بالشراب، وأدنى الإناء إلى فمه، قال رضي الله عنه: (والله يا أمير المؤمنين، إني لأجد ريح أمية في الإناء)، وهذا كما أخبر الله عز وجل عن نبيه يعقوب: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94].
فهذه رحمة سكنت في القلوب، فليس الأمر باجتهاد، ولا برأي، ولا بمقابلة النصوص، ولا بعاطفة؛ ولكنه أمر يرجع إلى حكم الله، فالذي أمر بالجهاد هو الذي أمر ببر الوالدين، والذي نهى عن التخلف عن الجهاد في سبيل الله ينهى عن عقوق الوالدين، وعن التسبب في أذيتهم، والإضرار بهم.
فيجب على المسلم أن يستأذن والديه في غير الأحوال التي يتعين فيها الجهاد في سبيل الله عز وجل، ويشمل ذلك الوالد والوالدة، وإذا أذِنَ أحدهما وامتنع الآخر، فإنه لا يكفي ذلك، ويجب عليه أن يبقى، وأمرُ الأم أشد من أمر الأب.
وقد بينا أن هذا الأمر دلت عليه النصوص، ونص الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية -رحم الله الجميع- على أنه يجب على الولد أن يستأذن والديه قبل الجهاد في سبيل الله عز وجل ما لم يتعين عليه الجهاد.(136/14)
اسئذان الوالدين الكافرين
وظاهر العبارة التي ذكرها المصنف: (وإذا كان أبواه مسلمين)، مفهومها أنهما إذا كانا كافرين لا يستأذنهما.
والواقع أن هذا الحكم فيه تفصيل: فالوالدان يجب استئذانهما، سواءً كانا كافرَين أو مسلمَين، وهذا مبني على حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه لما جاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! إني أقبلت من اليمن، أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد) أخذ جمهور العلماء من هذا الحديث دليلاً على أن الكافر والمسلم من الوالدَين يستأذن؛ لأن القاعدة في الأصول: (أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال)، فإنه قد أقبل من اليمن، وكانت اليمن لم تفتح بعد، ومن هنا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل هل كان أبواه مسلمين أو كافرين؟ بل ترك الاستفصال، ثم إن سر المسألة مبني على البر، والبر يستوي فيه الكافر مع المسلم، ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15].
لكن استثنى العلماء منعَ الوالدين الكافرين لابنهما إذا كان ذلك على سبيل الكراهية للإسلام، والحنق على الإسلام، فإنه لا يعتد بمنعهما، فهذا هو الذي استثناه العلماء من استئذان الأبوَين الكافرَين، وإلا فالحكم أنه يجب استئذان الكافر والمسلم، وأجمع العلماء على أنه إذا كان أبواه كافرين شيخين كبيرين في السن، وهما بحاجة إليه أنه يجب عليه البقاء معهما، والإحسان إليهما، وذلك لعموم النصوص التي نصت على وجوب البر، فإنها نصوص قطعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يقوى تخصيصها بالرأي والاجتهاد، ولذلك قال العلماء: إنه في هذه الحالة يجب عليه ويتعين أن يبدأ بالبر، وقد بينت النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البر أفضل من الجهاد، وذلك فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال -والحديث في الصحيحين-: (قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال عبد الله: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني) فدل على أن بر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل، والسبب في ذلك: أنه ما من قربة أعظم ولا أجل عند الله سبحانه وتعالى بعد توحيد الله والقيام بحقه من بر الوالدين، ولذلك قرنه الله مع التوحيد، فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36]، وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] فقرن الله سبحانه وتعالى حق الوالدين بحقه، ونبه على فضل البر وما فيه من عظيم العاقبة الحسنة في الدين والدنيا والآخرة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة.
فالمقصود: أنه يجب عليه الاستئذان.(136/15)
كيفية استئذان الوالدين
تبقى المسألة الأخيرة: وهي كيفية الاستئذان؟ الاستئذان ضابطه عند العلماء أن يكون عن طواعية ورغبة، ولا يكون بكُره وتعنيف وأذية وإصرار، فإن الولد إذا أصر على والده، أو أصر على والدته، لم يمتنع الوالد والوالدة عن الإذن؛ لأنهما يحرصان على إدخال السرور على الولد ولو على حسابهما، ولو رأيت المرأة وهي في الطَّلْق تنازع الموت، لو قيل لها: تبقين أو يبقى الولد؟ لقالت: يبقى الولد وأهلك، وهذا من عظيم ما جعل الله في قلب الأم من الحنان، فإذا خُيِّرت بين حياتها وحياة ابنها لاختارت حياة ابنها على حياتها، وكذلك الوالد في كثير من الأحوال، فإنه يؤثر ابنه ويحب ابنه ويحب له الخير، ولذلك جعل الله عز وجل أمر الاستئذان فريضة.
فلا بد في الإذن من مراعاة مشاعر الوالدين، فلا يصر الولد على والديه، أو يضغط عليهما، أو يضيق عليهما، أو يريهما الكره والتسخط إذا لم يأذنا له، ويعنفهما، ويوبخهما، ويتهمهما بعدم الحب للإسلام، وعدم الغيرة على أهله، كل ذلك مما يخالف شرع الله، وليس من الإذن المعتبر في شيء، ونص على ذلك العلماء: أنه إذا أكره الوالدين -وهم يعلمون حنان الوالدين، وشفقتهما على الولد- وضغط عليهما للإذن، فهذا الإذن وجوده وعدمه على حد سواء.
ومن غرائب ما وقع أنه اتفق لبعضهم أنه سألني عن بر الوالدين، وهو يريد الخروج للجهاد، فقلت له: يا أخي! تريَّث، ولا تعجل على والديك، وعليك أن تتقي الله في برهما حينما تطلب الإذن، فما كان منه إلا أن استأذن والده، فأذن له والده، وجاءني فسألته عن كيفية الإذن، فإذا فيها دلائل واضحة على أنه شبه مستكرِه لوالده، فلما كان اليوم الذي يريد الخروج فيه جاء لأبيه وقال: عن رضا، قال له الأب: عن رضا، فخرج فبعد أن جاوز المدينة بما لا يقل عن خمسين كيلو، تذكر شيئاً احتاجه، قال: فرجعتُ إلى البيت فوجدتُ أبي في حالة يرثى لها من البكاء والحزن وشدة التوجع والألم، فقلت له: يا أبت! ألم تأذن لي؟ قال: يا بني! رأيتك تحب هذا الشيء وترغب فيه، وليس لي أن أمنعك مما ترغب، فإن جلستَ عندي جلستَ وأنت كاره للجلوس، فرأيت أن أؤثرك بالخروج، وإلا فعن نفسي فوالله ما طابت نفسي بذلك، فعلم أن والده لم يأذن بذلك طيبة به نفسه.
فمثل هذه الأحوال يتقي الإنسان فيها ربه، فلعل الله له حكمة في أن يؤخره لشهادة أفضل، وما اتقى الله عبدٌ إلا جعل له فرجاً ومخرجاً.
وهناك فرقٌ بين مَن يحب الجهاد للجهاد، وبين مَن يحب الجهاد ليبيع نفسه لله ليشتري مرضاة الله، فإن الإنسان إذا هوي شيئاً وأحبه كأن يهوى أن يجاهد ويهوى أن يستشهد -وهذا هوى تبعٌ لما جاء به رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، وهو هوى في الخير- لكن إذا عارضه إلزام شرعي حينئذ يأتي الامتحان والابتلاء، ويكون في علم الله عز وجل أنه سيتعرض لفتنة في هذا الخروج، وقد يؤخره لخيرٍ وطاعةٍ وبرٍّ وأجرٍ عظيم، فيبتليه بعدم إذن الوالدين، فإذا سلَّم وأخذ الأمر عن طواعية لله ورسوله اطمأن قلبه، وعلم أن الذي تشترى مرضاته في الجهاد هو الذي تشترى مرضاته في بر الوالدين، وأن بقاءه للبر رفعةٌ في الدرجة، وعظمة في الأجر، وغنيمةٌ له عند الله سبحانه وتعالى.
فينبغي على المسلم أن يأخذ هذا الأمر بالنصوص الشرعية، ولا يأخذه بالهوى والعاطفة، وإذا كان الإنسان يسير بهواه على وفق الشرع، فإن الله عز وجل يسدده، ويوفقه، ويجعل له من أمره رشداً.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وعلى آله وصحبه.(136/16)
شرح زاد المستقنع - كتاب الجهاد [2]
الجهاد عمل جماعي تقوم به جماعة المسلمين، ومثل هذه الأعمال الجماعية لابد فيها من وجود مرجعية تنظم هذا العمل وترتبه حتى لا يحصل الخلل والاضطراب، ولهذا كان من الواجب طاعة الإمام والصبر معه، وكان من واجبه إزالة جميع أسباب الخلل والاضطراب في هذا العمل العظيم.(137/1)
آداب المسير إلى الجهاد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويتفقد الإمامُ جيشَه عند المسير] شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بآداب المسير للجهاد في سبيل الله عز وجل.(137/2)
تفقد الإمام لجيشه
فقال رحمه الله: (ويتفقد الإمام) أي: يتفقد الجيش عند الغزو، وهذا التفقد المراد به النظر في مصلحتهم، فما كان من نقص كمله، وما كان من خلل سده، فإن الله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين أن يعدوا العدة للجهاد في سبيل الله عز وجل، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فأمر سبحانه وتعالى بالإعداد، ومِن الإعداد: تفقد الجيش قبل الغزو في سبيل الله عز وجل.
وكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فكان يتفقد أصحابه قبل الخروج.
وكانت هذه سنة للخلفاء الراشدين من بعده، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما بعث جيش أسامة رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج أبو بكر يشيع أسامة وهو على فرسه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّره على ذلك الجيش، فقال أسامة: (يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم اركب، فقال: إني أريد أن أغبر قدمي في سبيل الله عز وجل)، فكانت سنة لمن بَعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفقد المجاهدين في سبيل الله، وهذا التفقد -كما ذكرنا- تشحذ به الهمم لطاعة الله ومرضاته، فيوصي الإمام بالوصايا الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، حتى يخرج المجاهدون وهم على بصيرة من طاعة الله عز وجل ومرضاته، وما ينبغي أن يُتَّقى من سخطه وغضبه.
وكان عليه الصلاة والسلام يوصي أمير الجيش في خاصته بتقوى الله عز وجل، التي هي جماع كل خير، وأساس كل فلاح وصلاح في الدنيا والآخرة، ويأمر أفراد الجيش أن يغزوا باسم الله ليقاتلوا مَن عادى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الوصايا تقوي من همم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشحذ عزائمهم على الخير.
فيتفقد الإمام الجيش قبل المسير، فإذا رأى أخطاءً أو رأى نقصاً فإنه يقوم بسد ذلك النقص، وتصويب ذلك الخطأ، ومن هذا أنه إذا رأى مَن لا يصلح للخروج منعه، كصغار السن الذين لا حاجة إلى خروجهم، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعرض الصحابة يوم الخندق، ويوم أحد، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعن أبيه: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) فقوله: (عرضت) يدل على أن المجاهدين يُعرَضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأى من لا يصلح للغزو؛ لضعفٍ، أو لصغر سنٍّ، أو جنونٍ، أو نحو ذلك من الآفات والموانع، فإنه يمنعه، ويجب على ذلك الرجل أن يمتنع طاعةً لله وطاعةً لرسوله صلى الله عليه وسلم وطاعةً لأولي الأمر، فإنه لا صلاح للأمور إلا بذلك؛ لأنه إذا كُسِر أمام العدو قوَّى من عزمهم على المسلمين، فيمنع أمثال هؤلاء الضعاف، وإذا وجد إنساناً ضعيفاً في زاده، أو غير مستعد، أمره بأخذ العدة، وأوصاه كذلك بما فيه الخير له في دينه ودنياه وآخرته.(137/3)
منع المخذلين والمرجفين من الخروج إلى الجهاد
قال رحمه الله: [ويَمْنَع المخذِّل والمرجف] [ويمنع المخذِّل] التخذيل: من أعظم الآفات في الجهاد في سبيل الله عز وجل، والتخذيل هو شأن أهل النفاق -نسأل الله السلامة والعافية- فتجدهم يُضْعِفون عزائم المسلمين لجهاد أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيهوِّنون الأمر، ويجعلونه أمراً يسيراً لا يحتاج إلى قوة وإعداد، فأمثال هؤلاء يُمْنَعون؛ لأن المصلحة في عدم خروجهم، والمفسدة في خروجهم، والشرع جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47] والإيضاع: ضرب من السير، وهذا يدل على أنهم يريدون الشر والبلاء بالمسلمين، فمن عرف أنه يخذل عن الجهاد في سبيل الله، فهذا مريض القلب ضعيف الإيمان، لم يتشرب الإيمان في قلبه، فمثل هذا لا مصلحة في خروجه، وقد منع الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يأذن لأمثال هؤلاء، {قُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوَّاً} [التوبة:83].
وأما النوع الثاني فهم المرجفون: وهم الذين إذا سمعوا الأخبار أرجفوا بها، فإذا سمعوا قوة العدو، أخذوا ينشرون بين المسلمين تلك الأخبار، فيجعلون المسلمين في قلق وخوف وفزع، فيفقدون الإعداد المعنوي؛ لأن الجهاد في سبيل الله عز وجل -كما ذكر العلماء- يحتاج إلى نوعين من الإعداد: النوع الأول: الإعداد الروحي.
والنوع الثاني: الإعداد الحسي.
فأما الإعداد الروحي فهو: قوة الإيمان، وقوة الشكيمة والعزيمة، وحب الشهادة في سبيل الله عز وجل، وجعل الآخرة أحب إليه من الدنيا، ولذلك كان أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم يخرجون وقلوبُهم متلهفة للشهادة، وكان يقول قائلهم: (إنها لحياةٌ طويلةٌ إن عشتُ حتى آكل هذه التمرات)، فيرمي بها حتى يقتل في سبيل الله عز وجل، فإذا خرج الإنسان بهذه الروح المعنوية، فإنه تقوى عزيمته للجهاد في سبيل الله، ويقوى كَلَبه على أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، وحق لمثله أن يشهد ساحة الوغى، فللوغى رجاله، وللقتال في سبيل الله أهله، وليس كل إنسان يستطيع أن يصبر ويصابر ويرابط على طاعة الله ومرضاته في مثل هذه المواقف العظيمة، ولذلك وصف الله يوم الخندق فقال: {وإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11].
فلا بد من الإعداد المعنوي، والإعداد المعنوي -كما قلنا- يحتاج إلى شيء من العلم والبصيرة بما أعد الله من الثواب، وحسن العاقبة والمآب إذا فاز الإنسان بالشهادة في سبيل الله عز وجل، وقد سطر التاريخ الإسلامي للسلف الصالح لهذه الأمة مواقف عظيمة تدل على كمال إعدادهم روحياً، وبذلك كسروا أعداء الله وانتصروا عليهم بقوة النفس وقوة الإيمان بالله عز وجل، وكان الرجل إذا رجع من الغزو ولم يقتل بكى، فكان يُفْجَع بعدم القتل أكثر من فجيعته بأن يُقْتَل أو يؤذَى في سبيل الله عز وجل.
فالإعداد المعنوي هو الذي أشار الله إليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45]، فأمر الله بالثبات، ولا يمكن للمسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله عز وجل وقلوبهم خاوية، ونفوسهم ضعيفة، فهذا الإعداد المعنوي يفسده المخذِّل والمرجف، فكل منهما يحطم معنوية المجاهد، ويخذِّله عن لقاء العدو، ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله أنه يجب على الأئمة ونحوهم إذا أرادوا الغزو في سبيل الله عز وجل أن يمنعوا هذين الصنفين من الناس، فلا خير في خروجهم، ولا مصلحة في شهودهم للغزو في سبيل الله عز وجل.
وأما الإعداد الحسي فهذا ما يتعلق بأخذ القوة من الرمي ومعرفة أساليب القتال والجهاد في سبيل الله عز وجل.
فلا بد من الأمرين، وقد أشار القرآن إلى أساس الإعداد المعنوي فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45]، وقال سبحانه أيضاً: {وحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84]، فالتحريض إعداد معنوي؛ ويفسده ما يشتت القلوب، وهو النزاع والخلاف في الرأي، فهذا يفسد الإعداد المعنوي؛ لأن اتحاد وجهة الناس واتحاد هدفهم ومقصودهم يقوي شكيمتهم على الأعداء، وتكسر به شوكة الأعداء أيضاً، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، فقوله سبحانه: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46] يدل على أن الأصل أن يكون الناس على وجهة واحدة، فإذا جاء المخذِّل والمرجف فإنهم يجعلون الناس أشتاتاً، فقسم منهم يقول: العدو أقوى منا، ولا نستطيع قتاله، وقسم منهم يقول: العدو ضعيف، ونحن بإذن الله غالبون، و: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] كما قص الله علينا ذلك في كتابه.
فهؤلاء المرجفون يفسدون ولا يصلحون للجهاد في سبيل الله، فيُمنَعون، والمصلحة في عدم شهودهم للغزو، ولذلك قال المصنف: (ويمنَع المخذِّل والمرجف)، وكلا الوصفين -التخذيل والإرجاف- لا خير فيه حتى في حال السِّلم، لما يُحدِث من الفتنة، وشتات القلوب، وتفريق الصفوف.
وهذا الإرجاف غالباً ما يكون في المصالح العامة للمسلمين، وقد يقع في النيل من أئمة المسلمين وولاتهم والطعن فيهم، وكذلك الطعن فيمن يلي أمرهم، وتتبع العثرات والعورات، كل ذلك بقصد تشتيت شمل المسلمين وزعزعة الثقة بينهم، وقد يفعل البعض ذلك عن جهل وعدم قصد؛ ولكنه يفضي إلى ما لا تحمد عقباه.
ولذلك لا خير في المرجف والمخذِّل، وإنما على المسلم أن يتوكل على الله، وأن يحسن الظن بعباد الله، وأن تقوى عزيمته على الخير، ولذلك كان سفيان الثوري رحمه الله يقول: (إذا سمعتم بالعائبة أو الفضيحة التي تكون فلا تنشروها؛ فإنها ثلمة في الإسلام)، فنشر مثل هذه الأمور يجعل الناس في شيء من الشتات والضيعة.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف أمام الأحزاب، وهم فوق العشرة آلاف -على خلاف بين أهل السيَر في عددهم يوم الخندق- وكانت غزوة الأحزاب من أشد الغزوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فلما رأى عليه الصلاة والسلام، ورأى المسلمون ما عليه أعداء الله من العدد والعدة، واجتماع كلمتهم على رمي الإسلام بقوس واحدة، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني قريظة قد خانوا العهد ونكثوه، فازداد البلاء على المسلمين، حيث إنهم لم يصابوا بمواجهة العدو بقوة فقط، بل إنهم أيضاً يُطعنون من الخلف من يهود بني قريظة، عَظُم الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل نعيم بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، لكي يتتبع الخبر، فكان من وصيته له، أنه أمره إذا وجد الخبر صحيحاً ألاَّ يصرِّح بما أقدم عليه يهود بني قريظة من نكث العهد، فقال له: (إن كان القوم كما زعموا، فالحن لي لحناً، ولا تفت في عَضُدنا)، فقوله: (فالحن لي لحناً) أي: قل لي كلاماً أفهم منه أنهم قد غدروا ونكثوا، (ولا تفت في عضدنا).
فإذا كان الإنسان في جماعة المسلمين في سلم أو حرب فعليه أن يتقي الله عز وجل فيهم، فبعضُ الأمورِ نشرُها والإرجافُ بها وحملُها والتحدثُ بها يُحدِث شتات الشمل، وفرقة الصفوف، وهذا من أعظم ما يكسبه أعداء الإسلام من المسلمين.
وكان علماء الإسلام يوصون الناس بعدم تفرق كلمتهم فيما بينهم، خوفاً من طمع العدو فيهم، فكلما كان المجاهدون في سبيل الله على قلب واحد، وعلى رأي واحد، كلما استقامت الأمور، وهذا هو هدي السلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم ورحمهم أجمعين من الصحابة ومن تَبِعهم، فإن عمر رضي الله عنه لما اختلف مع أبي بكر في قتال مانعي الزكاة وكان عنده نص وعند أبي بكر نص، فما كان منه إلا أن سمع وأطاع لـ أبي بكر، فجعل الله الخير في رأي أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، مع أن لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه دليله وحجته، ولكن استقامة الكلمة واتحاد الصفوف في وجه أعداء الله أمرٌ مطلوب.
والإرجاف كما يكون بالأقوال يكون بالأفعال.
فإرجاف الأقوال: كنقل الأخبار، وأعظمَ ما يكون الإرجاف -كما ذكر العلماء وهو أشد ما يكون ذنباً على الإنسان- أن لا يكون على بينة من نقلها فينقلها، دون تَرَوٍّ فيها ولا تثبُّت.
وإرجاف الفعل: كالاضطراب والخوف والقلق وظهور علامات الفزع، فهذا من إرجاف الفعل.
ولذا يُمنَع هذا الصنف من الناس لمصلحة الجهاد في سبيل الله عز وجل.(137/4)
النفل أحكامه وأنواعه
قال رحمه الله: [وله أن ينفِّل في بدايته الربع بعد الخمس] (وله) أي: للإمام.
(أن ينفِّل) شرع رحمه الله بهذه الجملة في بيان الأحكام المتعلقة بالغنيمة.
فإن الجهاد في سبيل الله عز وجل وعد الله أهله بإحدى الحسنيين: - إما الشهادة في سبيل الله عز وجل.
- وإما الغنيمة ونيل ما نالوا من أجر الدنيا.
وقد ثبت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (ما مِن سرية تغزوا في سبيل الله ويغنموا، إلا كان هذا فيه نقص لأجرهم) أي: أن أجر الدنيا يُنقِص عظيم ثواب الآخرة؛ لأن الأعظم والأكمل لهم ثواباً أن يُقتَلوا ويستشهدوا في سبيل الله عز وجل، فإذا خرج المجاهدون وأصابوا العدو فإنه يَرِد السؤال عن حكم الغنائم التي تُكْتَسب من الجهاد في سبيل الله عز وجل.
وهذا من ترتيب الأفكار، فبعد أن بيَّن رحمه الله على مَن يجب الجهاد، وما الذي ينبغي من الإعداد المعنوي للجهاد في سبيل الله عز وجل، كأن سائلاً سأل: لو وقع الجهاد في سبيل الله وغنم المسلمون فماذا يُفعَل بما غنموه؟(137/5)
أقسام الغنائم
والجواب أن الغنائم تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: المنقولات.
والقسم الثاني: العقارات.
فما يناله المسلمون من الأعداء: - إما أن يكون أرضاً ودوراً ونحوها، فهذه تسمى: العقارات.
- وإما أن يكون من الأموال كالذهب، والفضة، والدواب، والسلاح، والكراع، ونحو ذلك، فهذا يسمى بالمنقول.
فأما العقارات كالأراضي والدور، والمزارع، وغيرها، -كما لو دخلوا بلاد العدو وغنموها، وفتحوها- فلها حكم بينته السنة، وكان له هدي عليه الصلاة والسلام في ذلك، وكذلك عن الخلفاء الراشدين مِن بعده.
وأما النوع الثاني: وهو المنقولات من الذهب، والفضة، والسلاح، والكراع، والدواب ونحوها مما يُغْنَم، فشرع المصنف رحمه الله في بيانه.(137/6)
أقسام التنفيل
فيُعطى الإمامُ أو القائد أو مَن له النظر في مصلحة الغنائم، والمنهج المعتبر في تقسيمها أنها تكون على أحوال: - قسم منها يكون سَلَباً، ويُستَحق لمن قتل قتيلاً ومعه بينة على ذلك.
- وقسم منها يكون رضخاً وعطاءً، ويعطيه القائد على حسب المصلحة التي يقصدها من وراء العطاء.
- وقسم منها يستحق بالشرط، كأن يشترط القائد ويقول: مَن فعل كذا وكذا فأعطيه كذا وكذا مَن فتح الباب، ومَن كسر كذا أو مَن أحدث الثغرة الفلانية، فإن له كذا وكذا، فهذا يسمى الاستحقاق بالشرط.
وبطبيعة الحال أنه إذا غزا المجاهدون في سبيل الله، فالأحوال تختلف: فتارة يغزو الجيش بكامله، ويدخل بلاد العدو، أو يواجه العدو بقوته الكاملة، فحينئذ يواجه المسلمون الأعداء بيدٍ واحدة، وتكون الغنيمة لا نَفَلَ فيها للسرايا، أي: ليست هناك سرايا تُبعَث، وإنما يقابل الجيشُ الأعداء مرةً واحدةً.
وتارة يبعث الإمامُ بعوثاً ويرسل سرايا، أو يرسل العيون لأخذ الأخبار، ثم يرسل بعدها السرايا، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يبعث السرايا للجهاد في سبيل الله عز وجل.(137/7)
كيفية تنفيل السرايا
والسرايا تنقسم إلى قسمين: السرية القبلية: أي: ما يكون قبل القتال، والجهاد، وقبل إتيان العدو، وهذا النوع من السرايا يمهد الطريق للجيش، ويستطلع حال الأعداء، ويستكشف أمرهم.
السرية البعدية: وهي التي تكون بعد خروج الجيش، وانتهاء المعركة.
فما كان مِن السرايا قَبْلُ فهذا بلاؤه أعظم، والضرر الذي يتعرض له والخطر أشد؛ لأنه يذهب في قوة العدو، فحينئذ قد يواجه جيش العدو، ولذلك يكون حظه من النَّفَل أكثر من حظ الذي يُبعَث بعد خروج المسلمين أو رجوعهم.
أما السرية البَعْدية فهي التي يبعثها الإمام للاطمئنان من أن العدو قد كُسِرت شوكته، وأنه ليس له ظهير، وأنه قد انقطع أمرُه بانتهاء القتال؛ لأنه لا يأمن في بعض الأحيان أن يكون هناك كمين، يفاجئ المسلمين من حيث لا يشعرون.
فلذلك فُرِّق بين السرية القَبْلية والسرية البَعْدية، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاًّ من الأمرين، فكان يبعث السرايا القَبْلية ويبعث السرايا البَعْدية، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث حبيب بن مسلمة: (أنه كان ينفِّل الربع والثلث) فيعطي ربع الغنيمة أو ثلثها للسرية القَبْلية، لعظيم بلائها كما ذكرنا، والعلماء رحمهم الله يقولون: إعطاء الثلث والربع يرجع إلى نظر الإمام واجتهاده وعلى حسب بلاء السرية، فإذا -بفضل الله عز وجل ثم بهذه السرية- فعلت فعلاً تمكن به المسلمون من كسر العدو ربما زادهم، حتى أوصلهم إلى الثلث، وإذا كانت مهمة السرية يسيرة، فله أن يعطيهم الربع، وهذا أمر يرجع إلى اجتهاد الإمام.
وقد جاء في حديث حبيب بن مسلمة رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه عند أحمد وأبي داود في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نفَّل الثلث والخمس، فكان إذا أرسل السرية قَبْلُ نفَّلها الثلث -يعني: قبل القتال- وإذا أرسل بَعْدُ نفَّلها الخمس) وهذا كله -كما ذكرنا- راجع إلى نظر الإمام ومعرفته بعظيم بلاء هذه السرايا.(137/8)
تنفيل القاتل سلب قتيله
وقوله: (أن ينفِّل) النَّفَل في اللغة: الزيادة، فإذا زاد الشيء على الأصل فإنه يقال: هذا نافلة، أي: شيء زائد، ومنه سميت نافلة الصلوات؛ لأنها زائدة على الفريضة التي أوجب الله، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سأله الأعرابي: (هل عليَّ غيرها -أي: غير الخمس- قال: لا.
إلا أن تطَّوَّع) أي: تتنفل، ولذلك يسمى الحفيد بالنافلة، كما قال سبحانه وتعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72] فالنافلة تقال لولد الولد؛ والأصل أن الوَلَدَ للإنسان، وأما وَلَدُ وَلَدِه فزيادة.
فالنَّفَل هو: زيادة على حظ الإنسان في الغنيمة، فإذا غزا المجاهدون في سبيل الله عز وجل، فلهم سهم من الغنيمة، وهذا القسم قد بينته السنة: للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، والأصل في الغنائم أن الإمام يفعل بها ما يلي: إذا انتهت المعركة واستقر الأمر، يقوم الإمام بأخذ الأسلاب، وإعطائها لأصحابها.
وهذا النوع الأول مما يؤخذ من الغنيمة، وهو وأول ما يُفْعَل فيها، أي: أن يعطي سَلَب المقتول لقاتله، ومسألة سَلَب المقتول صورتها أو حقيقتها: أن كل مَن قتل رجلاً بعينه فإنه يستحق سَلَبه، والسَّلَب: هو ما هو عليه من سلاح -سلاحه الشخصي- وكذلك ثيابه ودابته، وكل ما عليه، فهذا الشيء يستحقه، وله أخذه، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه)؛ لكن بعض العلماء -رحمهم الله- يقولون: سَلَب المقتول يُستَحق إذا أعطاه الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل الغزوة: (مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه) فإن لم يقل ذلك فإنه لا يستحقه، وبعضهم يقول: يُستَحق السَّلَب مطلقاً؛ لكن يُفَرَّق بين الجيش الذي له عطاء -وهو الذي يُسمَّى بالراتب- والجيش الذي لا عطاء له، فالجيش الذي له عطاء قالوا: لا سَلَب له، وليس له شيء لا من السلب ولا من الغنيمة؛ لأن عطاءه يرجع للإمام، وأما الجيش الذي لا عطاء له، وهم المتطوعون، فهؤلاء هم الذين فيهم الخلاف بين العلماء رحمهم الله، وللعلماء فيهم الوجهان اللذان ذكرناهما.
فإذا قتل قتيلاً وله عليه علامة أي: بينة، فإن من حقه أن يأخذ سلبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفَّل السَّلَب.(137/9)
إخراج كلفة النقل من الغنيمة
أما النوع الثاني من النَّفَل: فيكون لنوع خاص فبعد أن ينتهي الإمام من إعطاء السَّلَب للقاتل، يقوم بعد ذلك بسحب أموال الغنائم من أرض المعركة، فيأمر الحمَّالين ونحوهم أن يقوموا بجمع الغنائم وحيازتها وحفظها ورعايتها، فإذا قام بذلك يقوم قبل قسمتها وقبل الرضخ منها بإعطاء أجرة أو تكاليف هذه الحيازة، وهذا نص عليه العلماء وذكروه: أنها لا تقسم الغنائم حتى يؤخذ منها كُلفَةُ حيازتها.(137/10)
تنفيل أهل البلاء في القتال
بعد حيازة الغنيمة يقوم الإمام بالنظر فيمن له بلاء أثناء المعركة، وهم الأقوام الذي أبلوا إما بالشرط، وإما بدون شرط.
فالنوع الأول: الذين أبلوا بشرط: كأن يقول الإمام -كما مَثَّل العلماء في القديم- فيما لو أن العدو تحصَّن من وراء كثبان رمل، أو من وراء سور فقال: مَن نَقَب هذا السور أو فَجَّر هذا السور فله كذا وكذا، فهذا يسمى العطاء المستحق بالشرط، فحينئذ يعطي مَن وعده عطاءً معيناً ذلك العطاء الذي وعده، سواءً تعين ذلك العطاء أو كان العطاء مبهماً بالنسبة، كأن يقول: لك الربع، لك الثمن،.
إلخ، ومِن هذا: إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم سواري كسرى لـ أبي معبد رضي الله عنه وأرضاه.
فإذا أبلى إنسان معين فمن حق القائد أو الولي أن يخصه بعطاء معين، وهذا هو النوع الثالث من النَّفَل.
فأصبح عندنا ثلاثة أشياء: - أولاً: سَلَب المقتول وهو لقاتله.
- ثانياً: مَن كان مستحقاً بالشرط، وهو الذي اشترط له الإمام فعلاً فقام به.
- والثالث: مَن له بلاء أثناء المعركة، كإنسان أثناء المعركة فَعَل فعلاً دمر به العدو، أو كسر به شوكته، أو فتح به ثغرة كانت سبباً في نصر المسلمين، فهذا يُعْظِم له الجزاء ويخصه بعطية معينة.(137/11)
الأدلة على تقسيم الأنفال وكيفية توزيعها
وهذه الثلاثة لها أصول: فالنوع الأول الأصل فيه: قوله عليه الصلاة والسلام: (مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه).
وأما النوع الثاني -وهو الاستحقاق لعظيم البلاء- فالأصل فيه: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه -وكان من أرمى الصحابة- فإنه في يوم ذي قَرَد -كما ثبت في الصحيحين- أبلى بلاءً عظيماً، فنفَّله النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أبلى بلاءً حسناً في جهاده، فنفَّله أبو بكر رضي الله عنه أمةً من الإماء، وأعطاه إياها لعظيم بلائه، فهذا يُستحق بدون شرط.
فهذه ثلاثة أنواع.
النوع الرابع مما يؤخذ من الغنيمة أو يقوم الإمام بأخذه: كلفة وأجرة حمل الغنيمة، وهذا ذكرناه في الأول.
بعد هذا يقوم بقسم الغنائم بالصورة التي سيذكرها المصنف رحمه الله: (للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم).
وأما مكان قسمة الغنائم للعلماء فيها قولان: - بعض العلماء يقول: تقسم في أرض المعركة، ولا بأس أن تقسم في أرض العدو.
- وقال بعض العلماء: إنما تقسم بعد الحيازة -أي: بعد أخذها- ولا تقسم في دار الحرب، والسبب في هذا هو خشية أن يهجم الأعداء على المسلمين، وكأنهم يرون أنها لا تُستَحق ولا تُملَك إلا بعد رجوعهم إلى ديار المسلمين.
والصحيح مذهب الجمهور: أنه يجوز للإمام أن يقسم الغنيمة في أرض المعركة، ولا بأس أن يقسمها حتى في أرض العدو؛ لأن النصوص دالة على ذلك، كما ثبت من هدية صلى الله عليه وسلم.
قول: (وله أن ينفِّل في بدايته الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده) كان الحكم بالنسبة لأهل الكتاب ومَن قبلنا أنهم لا يأخذون الغنيمة، وإنما كانوا يجمعون غنائم الحرب، ثم يرسل الله عليها ناراً من السماء، فإن كانت مقبولة حُرِقت، وإن كانت غير مقبولة لا تُحرق، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (غزا نبي من أنبياء الله.
وفيه: ثم جمعوا الغنيمة فأتت النار ولم تحرقها فقال: فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعه من كل قبيلة رجل، فلصقت يد أحدهم بيده، فقال: فيكم الغلول، ليبايعني من كل بطن منكم رجل، فلصقت يده بيد رجلين منهما، فأمر بهما فأحرق رحلهما)، فصارت سنة في إحراق الرحل، وقالوا: إن الغلول لما وقع، كان من العقوبة لهم حرق الغنيمة.
والثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خص هذه الأمة بالغنائم، فقال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، وهذا من رحمة الله بهذه الأمة، ومن تيسيره لها، ومن عظيم فضله وإحسانه إليها، فإن الله سبحانه اختصها بالخصائص التي منها: وضع الآصار عنهم.
فالغنائم كانت لا تقسم، وإنما كانت تحرق، كما كان في بني إسرائيل وغيرهم من أهل الكتاب ممن مضوا.(137/12)
لزوم طاعة ولي الأمر
قال رحمه الله: [ويلزم الجيش طاعته والصبر معه] أي: يلزمهم أن يطيعوا إمامهم، والسمع والطاعة لولاة الأمور أصل وقاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة، فلا بد للمسلم أن يكون مع جماعة المسلمين وإمامهم، وألا يشذ عنهم، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وعظ الصحابة وذكرهم بالله عز وجل قال: (عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي) فأمرهم وألزمهم بالسمع والطاعة؛ لأن الله أوجب ذلك على عباده المؤمنين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] يقول العلماء: إن الله ناداهم باسم الإيمان؛ لأن الذي يطيع الله ورسوله إنما هم المؤمنون، والذين يستجيبون لأمر الله ورسوله إنما هم المؤمنون السعداء الموفقون، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فقرن سبحانه وتعالى طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل طاعة ولاة الأمر تابعة لطاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام.
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني -وفي رواية-: من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني).
والسبب في ذلك: أن مصالح المسلمين تفتقر لمن يقوم بالنظر فيها، وهذا هو الذي جعل الحكمة في الشرع أن يكون لهم من ينظر في مصالحهم، فيرعى تلك المصالح، ويدرأ عنهم المفاسد، فإذا اجتمعت الكلمة عليه، فإنه يجب على المسلم أن يسمع ويطيع لولي أمره، في غزوٍ أو غير غزو؛ لأن الله أوجب عليه ذلك، وفرضه عليه، وإنما تكون السمع والطاعة في المعروف أي: فيما وأمر الله به أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا سمع ولا طاعة إذا أُمِر عبدٌ بمعصية الله عز وجل.
فنبه المصنف رحمه الله على لزوم طاعة أمير الجيش، فإنه لا يستقيم أمر الجهاد في سبيل الله إلا بطاعته، فإذا أصبح الجند يتفرقون عنه، وكل له رأيه، وكل له قوله، فإن أمرهم إلى ضياع وإلى خذلان، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أن السنة قضت بلزوم الجماعة خوفاً من المفاسد والشرور، فقد يرى بعض الناس رأياً يختلف به مع جماعته، فإذا خالفهم وانفرد برأيه، وأصر عليه، فإنه مظنة أن يشتت الأمر، ويفرق الجماعة؛ لكنه إذا دخل في جماعة المسلمين وسمع وأطاع، فإن الله يثيبه على رأيه إن كان صواباً، وإن كان خطأً دفع عن المسلمين شر رأيه، وإلا جمع بين السوأتين: الخروج عن الجماعة، وفساد الرأي.
ولذلك عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمر السمع والطاعة، وأخبر أن صلاح الأمة في السمع والطاعة؛ خوفاً مما يترتب على الخروج والفرقة من البلاء العظيم.
ولذلك لما قال الصحابة: (أفلا نناجزهم) وذلك عندما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفساد الأئمة، قال عليه الصلاة والسلام: (لا.
ما أقاموا فيكم الصلاة، لا.
ما أقاموا فيكم الصلاة) فهذا نص صحيح صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم الخروج عن الأئمة، حتى ولو كان الإنسان في سفر مع رفقة وفيهم أمير، فلا يخرج إذ من السنة أن كل ثلاثة في سفر ينصبون أميراً عليهم، وهذا يدل على حرص الإسلام على الكلمة الواحدة، وعلى الجماعة الواحدة، وما دخلت الشرور على الأمة إلا بتفرق الكلمة ووجود الحزبيات وتفرق الآراء والجماعات.
وكلما فُتِح باب النقد فُتِحَت أبواب الأهواء على الناس، وذهبت مكانة أئمتهم، ومكانة علمائهم، ومكانة ذوي الرأي والوجاهة فيهم، فإذا وجدت الناس على كلمة واحدة يحترمون أهل العلم، ومن له الأمر، وجدتهم على خير، وعلى استقامة وبر؛ ولكن إذا دخلت الدواخل، تَشَتَّتَ الشملُ وعظُمت الفتنة، حتى يصبح الإنسان حائراً لا يدري ما الذي يفعل.
فالمقصود: أنهم إذا خرجوا للجهاد في سبيل الله في جماعتهم فلا يجوز أن يخرجوا عن القائد، أو يعصوا أمره؛ لأن هذا يُذْهِب هيبته، ويذهب قوة المسلمين على عدوهم.
وتنبيهه رحمه الله على لزوم الطاعة يعتبرونه من آداب الجهاد في سبيل الله، وهذا من الأدب الواجب، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة للأمير وإن جلد الظهر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام (اسمع وأطع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقد ورد عن الصحابة أنهم قالوا: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأثرة علينا) فبين الصحابة رضوان الله عليهم أن بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت على المنشط والمكره، أي: على ما يحبون وما يكرهون، ولذلك أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على من هذا حاله، فقال: (طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه، إن قيل: في المقدمة ففي المقدمة، وإن قيل: في الساقة ففي الساقة) وهذا الحديث فيه حكمة عظيمة، توضيحها: أن هذا الرجل استحق الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومه للسمع والطاعة، فقال عليه الصلاة والسلام: (طوبى) قيل: هي الجنة، وقيل: شجرة في الجنة لو سار الراكب تحتها مائة سنة ما قطعها، (طوبى لعبد آخذٍِ بعنان فرسه) هذا في الجهاد في سبيل الله، (إن قيل: في المقدمة) المقدمة: مظنة الخوف، ومظنة الهلاك، فلو قال له الإمام: تقدم، وقال له: كن في المقدمة، فإنها أماكن القتل، وأماكن الهلاك، فيتقدم ولا يتأخر، (وإن قيل: في الساقة ففي الساقة) فقد يكون شجاعاً، فلو قيل له: في الساقة، يتألم؛ لأنه يريد الشهادة، ويريد أن ينكي بالعدو، ومع ذلك لا يقول: أنت لا تفقه أو لا تعلم أو كان ينبغي أن يضعني في الأمام، أو يجلس مع أصحابه لكي يخذِّل في رأي القائد، ويكون بذلك نزع الثقة من قلوبهم، وأفسد ما في نفوسهم، وحينئذ يتشتت شملُهم، وتذهب قوتهم.
فالمقصود أنه لا بد من السمع والطاعة إذا كانت بالمعروف، لما فيها من صلاح أمور الناس في دينهم ودنياهم.(137/13)
لزوم الصبر مع القائد والصبر عليه
(ويلزم الجيش طاعته) طاعة القائد والوالي وولي أمره.
(والصبر معه) لأن الجهاد في سبيل الله يقع فيه امتحان وابتلاء للناس، ولذلك وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء، فإن الصحابة يوم حنين ابتلوا ابتلاءً عظيماً، ومن ذلك ما ابتلي به الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، فإن من تأمل غزوة حنين، وجد كيف أن الله ابتلى أنصار رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على حكم الشرع، فعندما انتهت غزوة حنين قسم عليه الصلاة والسلام الغنائم، فأعطى أبا سفيان مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة كذلك، فقال بعض الأنصار: (أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم) أي: نحن الذين قاتلنا، ونحن الذين أبلينا، ثم يذهب ويعطي هؤلاء؟! فـ أبو سفيان حديث عهد بالإسلام، وكذلك الأقرع بن حابس، فكأنهم وجدوا في أنفسهم شيئاً، فانتشرت الأخبار حتى بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل بلغ ببعضهم -والعياذ بالله- وهو رأس الخوارج أن قال: (إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله).
نسأل الله السلامة والعافية! أي: إن هذه القسمة حابى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاشاه! فلما قال هذه الكلمة، وبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فلما كثر كلامهم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وقال له: (ما مقالة بلغتني عنكم؟ -أي: عن الأنصار، وكانوا لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! أما أهل الحلم والعلم منا فلم يقولوا إلا خيراً، وأما سفهاؤنا -أي: الشباب أحداث السن- فقالوا: يعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم -أي: نحن الذين أبلينا وكان ينبغي أن يكون العطاء لنا-، فقال عليه الصلاة والسلام: أين أنت يا سعد؟ -هنا الابتلاء، إذا كان قومك قالوا هذا القول، فأين أنت؟ فما كان ليكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: المرء مع قومه) وهذا من كمال الأدب، فلم يقل: ضدك، أو لست معك، وإنما قال: (المرء مع قومه)، وجاء بقاعدة عامة، يحتمل أن يكون قائلاً بها، أو ليس بقائل؛ لكن السياق دال على أنه يجد في نفسه، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن جمعهم في القصة المشهورة.
إلى آخرها.
فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وصحابته كيف ابتلوا! ففي الجهاد تقع أشياء من الابتلاءات والتمحيص، ليهلك مَن هلك عن بينة، ويحيا مَن حَيَّ عن بينة، ويظهر مَن أراد الله والدار الآخرة، ويظهر مَن يريد الدنيا، يقول الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، والله سبحانه وتعالى يبتلي في مثل هذه المواقف، فالمجاهد في سبيل الله عز وجل ينبغي عليه أن يصبر على مَن ولاه الله أمره، وإذا صبر عظم أجره، وحسن بلاؤه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: (إنكم ستجدون بعدي أثرة، قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: اصبروا وإني فرطكم على الحوض) لأن الإمام ربما اجتهد في شيء، فحمَّلك أن تقوم به، فلا تقل: كان ينبغي أن يأمر غيري وكان ينبغي أن يقوم به غيري.
أو يعطي غيرك ويمنعك، فلا تقل: لماذا أعطى غيري ومنعني؟ إنما عليك أن تصبر؛ لأنك تريد الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فلا بد من الصبر.
ومراده بـ (الصبر معه) أي: في حال الابتلاء، وقد يأمر الأمير بأمر ثقيل، فتصبر وتتحمل؛ لأن هذا من كمال الإيمان، وهذا من قوة إيمان الإنسان، أنه يصبر على أميره، ويسمع له ويطيع، وإذا طلب منه أمراً قام به على أتم الوجوه وأكملها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الحق الذي لكم).
فلابد من الصبر مع الأمير على الجهاد في سبيل الله عز وجل، وما يكون منه من النظر والاجتهاد، قال صلى الله عليه وسلم: (يصلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم).
قال رحمه الله: [ولا يجوز الغزو إلا بإذنه] أي: بإذن الأمير، فلا بد من السمع والطاعة لولي الأمر وللأمير، فإذا قال له: اغزُ، غزا، وإذا قال له: لا تخرج، يسمع ويطيع، فلا يخرج بدون إذنه، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله: أن الغزو لا يكون لكل من هب ودب، بل ينبغي أن يكون تحت راية الإمام وبإذنه.
قال رحمه الله: [إلا أن يفجأهم عدوٌ يخافون كَلَبَه] (إلا) أداة استثناء، والاستثناء: إخراجٌ لبعض ما يتناوله اللفظ، فلما بيَّن رحمه الله أن السمع والطاعة لازمان شرع في بيان الأحوال المستثناة، التي يجوز للإنسان أن يجاهد فيها ولا ينتظر الإذن، وهذه الأحوال ذكر العلماء منها: أن يفجأ عدوُّ يخافون كَلَبَه، فلو أن العدو هجم بغتة، فلا ينتظر حتى يأمره الإمام بالجهاد؛ وإنما يجاهدهم ويقاتلهم مباشرة، وهذه الأحوال المستثناة سبق الكلام عليها، وهي إحدى الحالات الثلاث التي يصير فيها الجهاد فرض عين، فيقاتل الرجلُ وتقاتل المرأةُ ويقاتل الصغيرُ، ويقاتل الكبيرُ.
(يخافون كَلَبَه) الكَلَب بالفتح: هو الشر والضر.
ومراده بـ (يخافون كَلَبه) أي: شرَّه وضرَّه، بمعنى: أن يكون قوياً ويغلب على ظنهم أنهم إذا لم يقاتلوه الآن، فإنه سيحصل بلاء وأن العدو سيفتك بهم، فحينئذ يجوز لهم أن يقاتلوه مباشرة ولا ينتظروا الإذن من الإمام.(137/14)
الأسئلة(137/15)
معنى قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
السؤال
إذا مر قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فهل المقصود به الجهاد؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أما بعد: فـ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إذا أطلق في الكتاب والسنة، فيراد به أحد معنيين: - إما أن يراد به المعنى الخاص، وهو الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا هو الشائع والأكثر.
- وإما أن يراد به عموم الخير والطاعة والبر، فتقول للإنسان: أنفق مالك في سبيل الله، أي: في طاعته ومرضاته؛ لأن السبيل المراد به: طريق الله، فالذي ينفق ماله في تفريج كربات المسلمين وستر عورات المعسرين والمحتاجين، فإن هذا السبيل الذي طرقه في إنفاق ماله هو سبيل الله؛ لأن الله يحبه، ودعا إليه، وهدى إليه، ورغَّب فيه، فتقول: هذا أنفق ماله في سبيل الله، ومن أمثلة ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (مَن أنفق زوجين في سبيل الله، نودي يوم القيامة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من باب الصلاة نودي من باب الصلاة) إلى آخر الحديث.
والأكثر والأشهر أن يُطلق سبيل الله ويراد به الجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى أن العلماء رحمهم الله يقولون: من فوائد الجهاد: أن الله سبحانه وتعالى سَمَّى الجهاد سبيلاً له، لما فيه من عظيم المكرُمات، وجزيل الفضائل والحسنات، فجعله بهذه المثابة، ولذلك وصف القرآن بأنه طريقه فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، قال جمعٌ مِن السلف مِن الصحابة ومَن بعدَهم: إن قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} [الأنعام:153] يعني: القرآن، ووصف القرآن بأنه هو صراطه، وأنه هو الصراط المستقيم، تعظيماً للقرآن، ووصف الجهاد بكونه سبيلاً لله عز وجل؛ لأنه الطريق الذي ينتهي بصاحبه إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا: إذا أطلق (سبيل الله) فالمراد به: الجهاد في سبيل الله، وهذا هو السبب الذي اختلف من أجله العلماء في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] فإن قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة وعلى أن المراد بهذا الصنف السابع إنما هم المجاهدون في سبيل الله، أي: أن الزكاة تصرف في الجهاد في سبيل الله.
وقال طائفة من العلماء: إن المراد بقوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ): أوجه الخير والبر، وهذا ضعيف من وجهين: الوجه الأول: أن العرب لا تعطف العام على الخاص، ويليه بعد ذلك الخاص، وإنما تعطف العام على الخاص أو الخاص على العام، أي: تأتي بالعام أولاً ثم تخصص، لمزية في هذا الخاص، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر:4]، فإن الروح -وهو جبريل- يعتبر خاصاً، فحينئذ ذكره على الخصوصية تفضيلاً له وتشريفاً.
وإما أن تذكر الخاص أولاً، فتقول: ليأتني محمد والناس، فحينئذ يكون ذكرك لمحمد من باب التفضيل له، أو تقول لابنك: اعزم خالك وعمك وسائر القرابة، فلما ذكرت الخال والعم بينت أن لهما مزيةً وفضلاً، أو تقول: اعزم الناس وخالك وعمك، كأنك تؤكد عليه أن الخال والعم له حق آكد من الناس، فالعرب إما أن تقدم العام وتعطف الخاص عليه، أو تقدم الخاص وتعطف العام عليه؛ ولكن لا تدخل عاماً بين خاصين، فلو كان المراد بقوله: (في سبيل الله)، العموم لقال الله تعالى: (إنما الصدقات في سبيل الله للفقراء والمساكين ... ) إلى آخره، فيعطف الخاص على العام، وإما أن يقول: إنما الصدقات للفقراء والمساكين.
إلى قوله:.
وابن السبيل وفي سبيل الله)، هذا هو المعروف من سياق القرآن ومن لغة العرب؛ لكن أن تدخل العام بين خاصين، فهذا خلاف الأصل، ولا فائدة من هذا؛ لأنه يكون فيه شيء من اللغو الذي ينزه عنه القرآن، ففيه ركاكة في التعبير، كأن تقول: ليأتي محمد وعلي والناس وزيد وعمرو، وهذا لا يستقيم، إذاً: لا بد من ذكر الخاص قبل العام، أو العام قبل الخاص.
الوجه الثاني: أنه لو كان المراد بقوله تعالى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60] العموم، لكان قال الله عز وجل: (إنما الصدقات في سبيل الله)، وما الفائدة أن يخص الأصناف الثمانية؟ قالوا: إنما خصت لأنها تنفرد من المعنى العام لسبيل الله، أي: تنفرد من سبل الخير، حتى تتميز الصدقة الواجبة عن الصدقة النافلة، فالصدقة النافلة تكون في أوجه البر والطاعة عموماً؛ ولكن الصدقة الواجبة تكون لأقوام مخصوصين، ولذلك لم يكل الله قسمة الزكاة لِمَلَك مقرب ولا لنبي مرسل، إنما قسمها من فوق سبع سماوات سبحانه وتعالى: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57].
فالمقصود أن (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) المراد به: - إما الجهاد.
- وإما عموم الخير والطاعة والبر.
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (مَن صام يوماً في سبيل الله).
قال بعض العلماء: (يوماً في سبيل الله) المراد به: في الجهاد.
وقال بعض العلماء: (يوماً في سبيل الله): أي: أنه يصومه في غير فرض، تنفلاً وبراً، ولهذا يختلف العلماء في المسائل التي ذكرناها؛ لأن معنى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يتردد بين هذين المعنيين، والأصل حمله على الجهاد كما ذكرنا؛ لأن الله شرف هذه العبادة وفضلها.
والله تعالى أعلم.(137/16)
التعزير بالمال
السؤال
هل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحراق رحل من غل دليل على جواز التعزير بإتلاف مال المعزَّر المذنب؟
الجواب
استدل به من قال بجواز التعزير بأخذ المال، وقال: يجوز أن توضع الغرامة والعقوبة المالية من باب التعزير، واستدلوا على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) وتحريق البيوت إتلاف لها، وهذا تعزير بإتلاف المال.
كذلك أيضاً استدلوا بما جاء عنه عليه الصلاة والسلام فيمن منع الزكاة، قال عليه الصلاة والسلام: (إنا آخِذوها وشطرَ مالِه) فعزره بالمال، وذلك لتضييعه الحق الواجب.
وكذلك حرَّق عليه الصلاة والسلام على سبيل التعزير وذكر التحريق فيمَن قبلَنا وأقر، وشرع مَن قبلَنا شرعٌ لنا على سبيل التعزير.
فقالوا: إن هذا يعتبر أصلاً في جواز التعزير بإتلاف المال.
والله تعالى أعلم.(137/17)
أنواع الرباط
السؤال
ذُكِر النوع الأول من الرباط فما النوع الثاني؟
الجواب
هناك نوعان من الرباط: - الأكمل: أن يكون أربعين يوماً.
- ودون الأكمل: أن يكون دون الأربعين.
لكن الذي دون الأربعين: - إما أن يكون لحاجة، فانتهت الحاجة دون الأربعين، فصاحبه على فضل.
- وإما أن يكون من الشخص نفسه، فإذا كان من الشخص نفسه فإنه يحرم الأجر.
وأما تقسيم الرباط من حيث الضدين: - فهناك رباط في الثغر.
- ورباط في غير الثغر، الذي هو في داخل المدن.
فالرباط الذي يكون في الثغر: هو الذي يكون على الحد بين المسلمين والكفار.
والرباط الذي يكون داخل المدن، أو على أسوار المدن كما كان في القديم، يدخل في هذا الفضل.
وكل ذلك يعتبر من الرباط في سبيل الله، ويتفاوت أجره على حسب تفاوت البلاء؛ لأن الأكثر تعباً أعظم أجراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثوابُكِ على قَدْر نَصَبُكِ).(137/18)
معرفة حال العدو في الجهاد والمصلحة في ذلك
السؤال
هل معرفة أعداد العدو وعتاده يعتبر من الإرجاف، فقد أشكل علي كون النبي صلى الله عليه وسلم سأل غلمان المشركين عن عددهم يوم بدر؟
الجواب
أما بالنسبة لمعرفة حال العدو فهذا أمر يرجع إلى ولي الأمر، ومن يلي قيادة الجيش في الجهاد في سبيل الله عز وجل، فإن كان من المصلحة أن يُطْلع الناس على ذلك لكي تقوى عزائمهم أن العدو ضعيف، وأنه لا عداد له ولا عدة، أخبرهم بذلك، وأما إذا كان عددهم كبيراً، أو أن لهم قوة وشكيمة، وأن إخبارهم بذلك سيضر بمصلحة الجهاد، فإنه لا يخبرهم، ويمنع من نقل هذه الأخبار، تحقيقاً للمصلحة أو درءاً للمفسدة.
والله تعالى أعلم.(137/19)
معنى قوله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ)
السؤال
في قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] هل قوله: (فَعَلَيْكُمُ) يدل على الوجوب العيني؟
الجواب
( فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ): عليك كذا، أي: يلزمك، ومنه قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وفي قراءة بعض العلماء يقف عند قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام:151] ويقولون: إن (عَلَيْكُمْ) تدل على الإلزام، عليك كذا، بمعنى: أنه يلزمك.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] أي: يلزمكم النصر، وهذا في حال وجود حاجة إلى المسلمين، وتكون النصرة واجبة على المسلمين عموماً، وليست عينية، وإنما ذكر العلماء الواجب العيني في النصرة في حال الاستنفار، أي: إذا توقف إنقاذ إنسان على نصرتك له، بحيث لا يحتمل التأخير، فيلزمك أن تنصره دون أن تحتاج إلى إذن، وهناك أحوال مستثناة ذكرها العلماء، وإلا فالأصل أن مواجهة الأعداء إنما تكون راجعة إلى نظر الإمام فيما يراه من المصلحة، إذ لو فتح هذا الباب فإنه ربما أقدم إنسان على عدو فأضر بفرد منهم، فحمل العدو على جماعة المسلمين وأضروا بهم، ولذلك ينظر الإمام إلى ما فيه المصلحة، فإن كانت المصلحة لجماعة المسلمين أن يسكتوا عن العدو أمَدَهم، فإنه يسكتهم، حتى يرى الفرصة سانحةً للقيام بأمر الله وأداء الواجب الذي فرض الله، فيقوم بذلك على وجهه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(137/20)
شرح زاد المستقنع - كتاب الجهاد [3]
الغنائم ثمرة من ثمار الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهي خصيصة من خصائص هذه الأمة، فإنها لم تحل لأحد قبلها.
وقد جاء الشرع ببيان هذه الغنائم من حيث كيفية تقسيمها، ومن هم الذين يستحقونها، وما هي مصارفها، وما هي المخالفات التي ينبغي اجتنابها فيها، والعقوبات المترتبة على هذه المخالفات، وهكذا الحال في الأموال التي تؤخذ من المشركين كالجزية والعشر والفيء.(138/1)
أحكام الغنيمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال فيُخِرج الخمس] من عادة العلماء -رحمهم الله- أنهم إذا تكلموا على مسائل الجهاد، بينوا الأحكام المترتبة على الجهاد في سبيل الله عز وجل، ومن ذلك: ما يتعلق بالغنيمة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الغنيمة حقاً للغازين في سبيله، وللغنيمة جملة من الأحكام والمسائل، ولذلك يعتني العلماء بذكرها في باب الجهاد، وبينا فيما تقدم من هم الذين يستحقون أن يقسم لهم من الغنيمة، وهم: الذين شهدوا الوقعة من المقاتلين الذين أبلوا، ويستوي في هذه الغنيمة الشجاع والجبان، على حد سواء ثم بين -رحمه الله- أن الغنيمة يخرج منها الخمس.
فالحكم الشرعي أنه إذا انتهت الوقعة يقوم الإمام بجمع الغنائم، فيأمر المكلفين بجمعها وحيازتها، فإذا حيزت وضمت وجمعت قام أولاً بدفع تكاليف حمل الغنيمة وجمعها وما يلزم من حفظها وحراستها ورعايتها، إلى غير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها لحفظ هذه الغنائم.
الأمر الثاني: أن يقوم بعد ذلك بإعطاء الأسلاب والأنفال، وقد بينا أحكام الأنفال وقلنا: تعطي الأسلاب لمن قتل قتيلاً وله علامته، ثم بعد ذلك يقوم الإمام بإعطاء الأنفال، فيعطي بالشرط، كأن يقول: من فعل كذا أعطيه كذا، ويعطي أيضاً من باب التشجيع، ويعطي أيضاً تنفيل السرايا.(138/2)
متى تملك الغنيمة
قال رحمه الله: [وتُمْلَك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب] (وتُمْلك الغنيمة): بالجهاد في سبيل الله.
(بالاستيلاء عليها في دار الحرب) وهذه مسألة خلافية: إذا غنم المسلمون في الجهاد في سبيل الله، فهل يشترط في قسمة الغنيمة حيازتها، أم أن الغنيمة تقسم في أرض العدو؟ وجهان للعلماء: فالجمهور على جواز قسمتها بأرض العدو، والحنفية على أنه لا بد من حيازتها، والصحيح مذهب الجمهور لثبوت السنة به.(138/3)
المستحقون للغنيمة
قال رحمه الله: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال] (وهي) أي: الغنيمة.
(لمن شهد): (اللام) للاختصاص، أو للمِلْك؛ ولكن الظاهر أنها للاختصاص، أي: وهي مختصة بمن شهد الوقعة.
(لمن شهد الوقعة): أي: شَهِد القتال، وهذا له أصل في السنة، حيث دلت عليه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تُكُلِّم في بعضها.
وعلى هذا: فإنه لا يستحق من الغنيمة المريض الذي تخلَّف ولم يشهد الوقعة، حتى ولو كان تخلفُه لمرضٍ أو كِبَر سن، مع أن نيته أنه لو كان صحيحاً لغزا؛ ولكنه مرض فامتنع من الغزو، فإنه لا يستحق، ووجود عُذْر لا يوجب أخذه للغنيمة، ولذلك يقول العلماء: مِن المواطن التي يفترق فيها أجر الآخرة والدنيا -أي: غنيمة الدنيا وأجر الآخرة- في الجهاد في سبيل الله: هذا الموطن، فإن المريض أجره في الآخرة كامل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً، ما سلكتم شِعباً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم، وشاركوكم الأجر) فهم في أجر الآخرة يشاركون الغازين؛ ولكنهم في أجر الدنيا -وهو الغنيمة- لا يأخذون منه، فالغنيمة مختصة بمن شهد الوقعة، إلا إذا كان هذا المريض له بلاء، كأن يكون خطط للمعركة، أو خطط للجهاد في سبيل الله، أو استعان به القائد، فأشار عليه برأي، فللإمام أن يكافئه وأن يدخله في الغنيمة؛ لأنه كالمجاهد، إذ برأيه وبمشورته كان له هذا البلاء.
وكذلك النساء لا يأخذن من الغنيمة، فلا حق لهن فيها؛ وإنما يرضخ لهن، والرضخ: أن يأخذ الإمام شيئاً من الغنيمة ويعطيه لهن، إذا داوين الجرحى، وعالجن المرضى.
كذلك أيضاً: المجنون والصبي، فإنهما لا يستحقان من الغنيمة، ولو شهدا الوقعة.
فالمرأة، والصبي، والمجنون، هؤلاء الثلاثة لو شهدوا الوقعة فإنهم لا يأخذون سهماً من الغنيمة.
وأما من تخلف عنها لعذر كما لو قال القائد لرجل: اذهب وانظر لي كذا وكذا، فأرسله لمهمة، وبسببها تعطل عن شهود المعركة أو شهود الوقعة، فإنه يأخذ من الغنيمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب سهماً لـ عثمان رضي الله عنه في بدر؛ لأنه تغيب لعذر وثبت عنه عليه الصلاة والسلام إعطاؤه الحق للغائب بعذر، فقال العلماء: إن مَن تخلف بعذر من الإمام، كأن يرسله عيناً يتحسس الأخبار، أو يرسله لكي يحضر زاداً، أو يحضر عتاداً، أو يحضر الذخيرة، أو نحو ذلك مما يستعان به على الجهاد في سبيل الله، فهؤلاء في حكم من شهد الوقعة، ويأخذون من الغنيمة، فيعتبرون مستثنَون من الاختصاص في قوله: (لمن شهد الوقعة).
اختصاراً: لا يعطى من الغنيمة: - النساء على أن لهن سهماً معيناً، وإنما يُعْطَين رضخاً.
- ولا يعطى منها الصبيان.
- ولا يعطى منها المجانين.
- ولا يعطى منها كذلك المرضى، إلا مَن أرسل في حاجة لمصلحة الجهاد والقتال، أو في مصلحة الجيش، أو كان مريضاً وكان هناك نفعٌ من رأيه ومشورته، فهؤلاء لهم حق بالصفة التي ذكرنا.(138/4)
الخمس ومن يستحقه
ثم بعد أن ينتهي من هذه الأمور، يقسم الغنيمة إلى خمسة أقسام، أو خمسة أجزاء متساوية، وهذا ما يسمى (بالتخميس) والخمس هو الواحد من الخمسة، وأول ما يبدأ به هو أن يحوز الخمس الذي لله ولرسوله ولليتامى والمساكين وابن السبيل ولذي القربى، فلو فرضنا أن الغنيمة بلغت مليوناً، فإن خمسها يساوي مائتي ألف، وتبقى ثمانمائة ألف، وهذه هي حظ المجاهدين، وهذا في المنقولات، أي: الحق المنقول؛ لأن الغنيمة في الغزو تنقسم إلى قسمين: إما عقار، وإما منقول، فالمنقول هو الذي نتكلم فيه الآن، أما العقار فسيأتي حكمه، فيقوم بضم الخمس ويقسمه كالآتي: 1 - الخمس الذي لله وللرسول: والمراد بالخمس الذي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: أن يوضع في مصالح المسلمين، وتهيئة المجاهدين في سبيل الله عز وجل، ويصرف في مصالحهم في الطرقات والأطعمة والمستشفيات، ونحوها مما يحتاج إليه من مصالح المسلمين العامة.
2 - ثم الخمس الثاني: لذي القربى، وهم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فيشمل ذلك بني هاشم وبني المطلب على التفصيل الذي بيناه في كتاب الزكاة، وقد بينا فروعهم وأصولهم ومَن الذين يستحقون الخمس، وهم الذين لا يأخذون من الزكاة، وفصلنا هذه الأحكام في موضعها، وذكرنا نصوص الكتاب والسنة التي تدل على هذه المسائل.
3 - وخمس لليتامى.
4 - وخمسٌ للمساكين.
5 - وخمسٌ لابن السبيل.
وقد بينا هذه الأصناف كلها في كتاب الزكاة، فبينا مَن هم الفقراء؟ ومَن هم المساكين، ومَن هو ابن السبيل، وبيَّنَّا ضوابط كلٍّ، فيعطى هذا الخمس للأصناف التي نص الكتاب على قسمتها عليهم.
وفي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]: اختلف العلماء في قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]: قيل: إن قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، المراد به: الاستفتاح، فالله عز وجل مالك كل شيء، وإنما استفتح الله عز وجل بنفسه تشريفاً وتكريماً.
وقيل: إن المراد بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]: هو السهم الواحد، الذي هو خمس الخمس.
(وَلِذِي الْقُرْبَى) وهم آل البيت.
(وَالْيَتَامَى) اليتيم هو: الذي فقد أباه وهو دون سن البلوغ، أما إذا فَقَدَ أباه بعد البلوغ فلا يسمى يتيماً، ويُعطى هؤلاء اليتامى على تفصيلٍِ عند العلماء: بعض العلماء يقول: يستوي في ذلك غنيهم وفقيرهم.
ومنهم من يقول: يختص بفقراء اليتامى، فيشترط في اليتيم: - أن يكون دون البلوغ حين يفقد أباه.
- وأن يكون محتاجاً، أي: فقيراً أو مسكيناً.
(وَالْمَسَاكِينِ) وقد بينا أن المسكين هو الذي لا يجد تمام كفايته، وأن الفقير أشد منه حالاً، وعلى هذا يمكن صرف هذا السهم للفقراء؛ لأنه إذا أعطي المسكين فمن باب أولى الفقير؛ لأن الفقير فيه وصف المسكنة، ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يحييه مسكيناً، واستعاذ بالله من الفقر؛ لأن الفقر أشد من المسكنة، فيمكن أن تصف الإنسان بكونه مسكيناً مع أنه يملك، كما قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79].
(وَابْنِ السَّبِيلِ) ابن السبيل: هو المسافر المنقطع، واختلف العلماء في ضابطه -كما بيناه في باب الزكاة- هل يشترط أن يكون معدِماً في سفره وفي بلده، أم أنه يُعطى ولو كان غنياً في بلده؟ ذكرنا هذين الوجهين.(138/5)
كيفية توزيع الغنائم على المقاتلين
بعد هذا يقوم الإمام بصرف الأربعة الأخماس وتوزيعها على المجاهدين أو المقاتلين، وهذا ينبني على ما ذكره المصنف: [للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم].
والفارس: هو الذي يقاتل على الفرس، ويكون له ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح من حديث ابن عمر وغيره (أنه أعطى الفارس ثلاثة أسهم، وأعطى الراجل سهماً واحداً) وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وقضى به عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وكذلك قال به من أئمة التابعين: محمد بن سيرين والحسن البصري، وقضى به الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، والصاحبَين، وأهل الحديث، أن للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، وأن للراجل سهماً واحداً؛ ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: إنه يكون له سهمان: سهم له، وسهم لفرسه، واحتج بحديث ضعيف.
والصحيح: مذهب الجمهور؛ لدلالة السنة عليه.
فإذا قلنا: للراجل سهم، ولكل فارس ثلاثة أسهم، فمن ناحيةٍ عقلية لا يخلو الجيش من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون جميعهم فرساناً، فحينئذ تكون القسمة قسمة الفرسان، بمعنى أن تحسب عدد رءوس المقاتلين، فلو فرضنا أنهم ألف، فتضربهم في ثلاثة، فحينئذ يكون المجموع ثلاثة آلاف، فلو أن الغنيمة تسعمائة ألف، فمعنى ذلك أنك تقسمها على ثلاثة آلاف، فيكون كل سهم تسعمائة ريال، فتعطي كل واحد منهم ثلاثة أضعافها، فتضرب التسعمائة في ثلاثة، فيصير المجموع (3×900=2700)، فتصبح ألفين وسبعمائة لكل واحد منهم.
وهذا القسم ثابت دلت عليه السنة.
الحالة الثانية: العكس؛ أن يكون جميعهم من الرجَّالة، وهذه غالباً ما تقع في الدفاع عن الحصون، فإذا كانوا رجَّالةً وقاتلوا فإن الغنيمة تقسم على عدد الرءوس، فلو فرضنا أن الغنيمة بلغت مليوناً، وهم ألف مقاتل، فمعنى ذلك أن سهم كل واحد منهم يكون ألفاً.
الحالة الثالثة: أن يكون فيهم من يقاتل على فرسه وفيهم من يقاتل راجلاً، ففي هذه الحالة يحسب عدد الرجالة ويُحسب عدد الفرسان، ثم تضرب عدد الفرسان في ثلاثة، فلو كانوا ألفاً نصفهم رجَّالة ونصفهم فرسان، فمعنى ذلك أن الفرسان خمسمائة، فتضرب الخمسمائة في ثلاثة؛ فيصبح المجموع ألفاً وخمسمائة، ثم تضيف عدد الرجَّالة فيصبح المجموع ألفين، فتقسم الغنيمة على ألفين، والناتج من ذلك تعطي الفارس ثلاثة أضعافه، وتعطي الراجل عين الناتج، فلو فرضنا أنهم غنموا مليوناً، فالمليون تقسمها على ألفين، فيكون الناتج خمسمائة، يكون منها للفارس ألفاً وخمسمائة، ويكون للراجل خمسمائة.
وقد ذكر العلماء هذه المسائل وبينوها في كتاب الجهاد في الكتب المطولة، والمصنف -رحمه الله- بيَّن تراكيب قسمة الغنائم لتعلقها بكتاب الجهاد كما ذكرنا.
فالمجاهد على فرسه، إن كان الفرس له، فقال بعض العلماء: يستحق للفرس.
فلو كان معه فرساً ثانياً؟ فبعض العلماء يرى أنه لا يعطى لأكثر من فرس.
ومنهم من يرى أن الحد فَرَسان، فإن زاد عليهما لا يعطى، والسبب في هذا: أنه يقاتل على فرس، ويحمل متاعه وسلاحه على فرس آخر، فقالوا: إنه يعطى في حدود الفرسين، وفي هذا حديث تكلم العلماء رحمهم الله فيه، وعلى القول بثبوته فإنه يُعطى لكل إنسان في حدود الفرسَين، فإن كان عنده ثلاثة أو أربعة أفراس أو أكثر فلا يعطى عليها.
وقوله:) ثم يقسم باقي الغنيمة؛ للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه) هذا يستوي فيه الشجاع والجبان، ما دام أنه حضر القتال وقاتل، وفي زماننا إذا أعطي المجاهد راتبه فإنه لا يكون له حظ من الغنيمة؛ لأن هذا يسمونه (المرتب)، فإذا رُتِّب له عطاء فهو أشبه بالإجارة، وحينئذ لا يُستَحق، وتكون الغنيمة لبيت مال المسلمين إلا ما يكون منها رضخاً أو نَفَلاً، ولذلك يقولون: يشترط ألاَّ يكون الأجناد مرتبين، فإذا كانوا مرتبين فحينئذ لا إشكال، فتكون غنيمته لبيت مال المسلمين، وتصرف في مصالحهم.
قال رحمه الله تعالى: [ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت، ويشاركونه فيما غنم] هذا من السنة، وهو مذهب الجمهور، فجماهير العلماء رحمهم الله يقولون: إن الجيش إذا بعثت منه سرية لأمر، كأن يبعث السرية لطلب أو لنجدة من يحتاجون إلى من ينجدهم ويسعفهم، أو يجعلونها كميناً للعدو، ثم فوجئوا بالعدو أمامهم، فلم تشهد السرية الوقعة -والأصل في الغنيمة أن تكون لمن شهد الوقعة- فحينئذ تشارك السريةُ الجيشَ في الغنيمة، فكأنهم حضروا؛ لأنهم غابوا فيما يعين على الوقعة، وفيما يقصد به حماية الجيش، والعكس، فلو أن هذه السرية ذهبت وقاتلت وغنمت، فإن الغنائم توزع على الجيش جميعاً، فيشارك الجيشُ سراياه، والسرايا تشارك الجيش فيما غنم.(138/6)
الغلول وأحكامه
قال رحمه الله: [والغال من الغنيمة يُحرق رحلُه كلُّه، إلا السلاح والمصحف وما فيه روح] الغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، وهو أشبه بالسرقة والعياذ بالله! فبعد أن بيَّن رحمه الله أحكام الغنائم؛ لأنها مترتبة على الجهاد، شرع في بيان الأخطاء التي تقع فيها، ومن ذلك الغلول، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] والغلول من كبائر الذنوب، فإنه -والعياذ بالله- ما غل عبدٌ شيئاً إلا اشتعل عليه ناراً في قبره -نسأل الله السلامة والعافية- وعذبه الله به في برزخه، وفضحه به على رءوس الأشهاد، ويأتي يوم القيامة يحمل على ظهره ما غل، ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره بعيرٌ له رغاء، فيقول: يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً)، (يا محمد!) أي: كن لي، واشفع لي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أملك لك من الله شيئاً) أي: إنني أعذرت وبينت أن هذا لا يجوز، وأن هذا خيانة لله ولرسوله ولعامة المسلمين ولأئمتهم، ولذلك يُعَد الغلول من كبائر الذنوب، ونص العلماء رحمهم الله على فسق صاحبه، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قُتِل رجل يوم خيبر، هنأه بعض الصحابة بالشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم (كلا والله! والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلَّها يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً) فهذا يدل على فظاعة أمر الغلول، نسأل الله السلامة والعافية! واستَشْكل العلماء رحمهم الله مسألةَ أن الشهيد يغفر له كل شيء، ومع ذلك تشتعل عليه الشملة؟ قيل: إنه ترجم بهذا الأخذ عن قصده للدنيا، فتكون شهادته ناقصة وفيها شبهة؛ لأنه إنسان مريض القلب، وحظه الدنيا دون الآخرة، وقال بعض العلماء: لا تعارض بين عام وخاص، فالغلول له عقوبة خاصة، ولذلك يعتبر مستثنىً من الأصل، أنه يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدين.(138/7)
إحراق رحل الغال إلا ما استثني
قوله: (يُحرَق رحلُه كلُّه إلا السلاح والمصحف وما فيه روح) هذا الفعل يسمى بالتعزير، والغال -والعياذ بالله- له حالتان: الحالة الأولى: أن ينكشف غلوله في الدنيا، فحينئذ يعاقب بالعقوبات التالية: أولاً: يجب عليه ضمان ما غل.
ثانياً: أنه يُحرق رحلُه.
ثالثاً: يعزره الإمام بما يردعه ويردع غيره عن فعله.
أما العقوبة الثانية: وهي حرق الرحل، فقد جاءت به السنة، واختُلِف في رفعِ الحديث ووقفِه، ولكن ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما أحرقا متاع الغال، وهذا يسميه العلماء: العقوبة بالمال، أو التعزير بالمال، ومن الغرامات المالية ما ورد في السنة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تحريق بيوت المتخلفين عن الصلاة، وأخذه عليه الصلاة والسلام لضعفي الزكاة ممن منعها، فهذا كله يسمى بالعقوبات المالية، وهي تفعل لمن خالف، أو فعل أمراً فيه معصية، أو فيه تعريض لنفسه أو لغيره للخطر، وهذا يراه ويختاره جمع من الأئمة، ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله، والإمام ابن القيم في الطرق الحكمية، وغيرهم من العلماء، ذكروا أن السنة ثابتة بجواز التعزير بالمال، ومنه: إحراق رحل الغال من الغنيمة؛ وهذا الإحراق من باب الترهيب والمنع للغير أن يسلك سبيله، أو يرتكب جريمته.
(إلا السلاح والمصحف، وما فيه روح) (إلا السلاح) للحاجة إليه في الجهاد في سبيل الله، فلا يُحرق.
(والمصحف) لأن له حرمة، فلا يحرق كتاب الله عز وجل، وبعض العلماء يجعل في حكم المصحف كتب العلم فلا تحرق؛ لأن إحراقها فيه ضرر؛ لأنه يفوت العلم الذي فيها.
(وما فيه روح) فلا تُحرق دوابُّه، أي: ما كان في رحله من الدواب، ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان، فلا يجوز قتل الحيوان بالحرق.(138/8)
أحكام الخراج
قال رحمه الله: (وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف، خُيِّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين) قال رحمه الله: (وإذا غنموا أرضاً).
هذه الجملة قَصَد المصنف منها أن يبين أحكام الخراج، أي: الأراضي التي تُمْلَك بعد الجهاد في سبيل الله، وقد قلنا: إن الغنيمة تنقسم إلى قسمين: الأول: إما أن تكون منقولات، كالذهب، والفضة، والدواب، والأسلحة، والأطعمة ونحوها مما يكون في الجهاد في سبيل الله.
النوع الثاني: العقارات، فإذا دخل المسلمون بلاد الكفار، فإنهم يغنمون أموالهم وديارهم، ولذلك أورث الله الصحابة وامتنَّ عليهم في كتابه بأنه أورثهم أموال بني قريظة وديارهم.
فهذه الغنيمة التي غنموها وهي أراضي الكفار، تحتاج إلى نظر، فإن المسلمين قد قاتلوا العدو فاستحقوا هذه الأرض، فيرد
السؤال
هل نقسم هذه الأرض بين المجاهدين في سبيل الله الذين شهدوا الوقعة فقط، مثلما نقسم الأموال العينية؟ أم أن هذه الأرض تبقى وتُسْتَصْلح ويقام عليها العدو من أجل أن يعمرها ويقوم عليها من باب الإجارة، فهل يجوز أن نبقيها في يده، ثم نأخذ مصالحها، ونضعها في بيت مال المسلمين؟ هذا هو الذي يبحثه العلماء في مسائل الخراج، والأرض الخراجية.(138/9)
أقسام الخراج
قال رحمه الله: [وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف، خُيِّر الإمام] قوله: (خُيِّر الإمام) التخيير: النظر في خيري الأمرين، أن ينظر الإنسان في الشيء طلباً لخيري الأمرين فيه، والتخيير للإمام، أي: أن الإمام والقائد ينظر المصلحة، فإن كانت المصلحة أن يبقي الكفار في هذه الأرض لكي يستصلحوها ويزرعوها، ويكون نتاجها للمسلمين، ويعطيهم أجرتهم، فعل ذلك، وحينئذ تكون الأرض خراجية بالمقاسمة؛ لأن الخراج ينقسم إلى قسمين: النوع الأول: خراج المقاسمة وهو أن يقول لهم: ابقوا في هذه الأرض، وازرعوها، وقوموا عليها؛ لأنهم قد يكونون أعلم بمصلحة هذه الأرض، فيزرعونها ويقومون عليها، على أن لهم النصف وللمسلمين النصف، والأصل في هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر بشطر مما يخرج من أرضها) وهو أشبه بالمساقاة، ولذلك بعض العلماء يعتبره أصلاً في المساقاة، ويُعْتَبر أيضاً إجارةً، ويعتبر خراجاً بالمقاسمة، فتُقسم الأرض أي: نتاج الأرض، أما الأرض بذاتها فتصبح ملكاً للمسلمين، فحينئذ ما ينتج منها يقسم نصفين، نصفها لهم ونصفها للمسلمين، وهذا هو الذي كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر، وقد أخبرهم كما في كتاب العقد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يبقيهم فيها ما شاء الله، فلما جاء عمر أجلاهم عنها رضي الله عنه وأرضاه، فدل على أن الأرض ملك لبيت مال المسلمين، ففي هذه الحالة تكون الأرض ملكاً لبيت مال المسلمين، ويُبقي الإمامُ الكفارَ يعملون فيها لمصلحة بيت مال المسلمين، ويأخذون أجرة ما يقومون به من عمل، وهذا يحتاج إلى الرجوع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم في كل سنة يبعث إليهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، من أجل أن يخرص نخل خيبر، وينظر كم فيه، ثم يفرض عليهم النصف، فيأخذه إلى بيت مال المسلمين، وهذا هو الذي يسميه العلماء رحمهم الله: خراج المقاسمة.
النوع الثاني: خراج الوظيفة: وهو أن يقال له: تبقى الأرضُ بيدِك وكلُّ جريد منها، أو كل هكتار، أو فدان، أو كل مساحة معينة عليك فيها -مثلاً- ألف درهم، أو ألف ريال، أو عشرة آلاف ريال كل سنة، فهذا يسمى الخراج الوظيفي، وله ضوابط، وأصول، وله مباحث طويلة، تكلم العلماء رحمة الله عليهم عنها في كتب المطولات، وقد ألف الإمام القاضي أبو يوسف رحمه الله كتابه المشهور: الخراج، وتكلم عليه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه النفيس: الأموال، وكذلك ابن زنجويه في كتابه النفيس أيضاً: الأموال.
وهذه ضوابط ترجع إلى تراكيب مالية تُعرَف في بيت مال المسلمين، فيُعطى فيها قدر معين يُرجع فيه إلى أهل الخبرة، فهم الذين يحددون هذا القدر، ويكون القدر سنوياً.
لكن الخراج الوظيفي وخراج المقاسمة مرتب على مسألة بقاء الأرض دون قسمة.(138/10)
تخيير الإمام في الأصلح في شأن الخراج
فإذاً: يقول المصنف رحمه الله: [خُيِّر الإمام] أي: ينظر الإمامُ الأصلحَ، هل المصلحة أن تبقى خراجية، ويؤخذ منها الخراج لبيت مال المسلمين، كما حدث مِن فعل عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك عثمان رضي الله عنه في الفتوحات، فكان هناك ما يسمى بالأرض الخراجية؛ والسبب في هذا الخراج أو الأصل فيه: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما فتح المشرق، ودخل المسلمون بلاد فارس وتوغلوا فيها، كان رأي عمر رضي الله عنه وأرضاه أن يُبقي الأرضَ لكي ينتفع بها المسلمون في عصرهم ومن يأتي بعدهم، فترك أراضي الحيرة في العراق، وكذلك أراضي فارس، فأبقاها لأجل مصلحة بيت مال المسلمين، حتى يبقى لبيت مال المسلمين خراج، يُدَرُّ عليه سنوياً، فيستقر بيت مال المسلمين، فهذا قضاء عمر بن الخطاب، وقد اختلف هو وبلال وعبد الرحمن بن عوف، وكان رضي الله عنه يقول: (اللهم أعني على بلال)، والسبب في هذا أنه كان بعيد النظر، فقد تأوَّل آية الحشر في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] فإن هذه الآية جاءت بعد آية الفيء: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر:7] فهذه الآية: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] يقول: إن الخَلَف الذين يأتون من بعدُ يترحمون على مَن قبلهم بما تركوا لهم من الخير في الجهاد في سبيل الله، فكان هذا من فقهه رضي الله عنه، فقضى بذلك، واستقر عليه العمل، ووافقه الصحابة بعد، ورجع بلال وعبد الرحمن إلى قوله.
لأن بلالاً وعبد الرحمن لما فُتِحت العراق، وفارس، كانا يقولان: (اقسم على الجند أرضهم)، فامتنع عمر رضي الله عنه وأرضاه وأبقاها خراجية، فبقي حكم الخراج سنة عمرية، ومضت على ذلك جماعة المسلمين، فأصبح أصلاً عند العلماء رحمهم الله: أن الأرض يُرجَع فيها إلى نظر الإمام، فإن نظر أن من المصلحة أن تقسم قسمها، وإن رأى أن من المصلحة أن تبقى خراجية، أبقاها خراجية.
وقد فعل عمر رضي الله عنه كلا الأمرين في فتحه بالمشرق، فإنه اختط الكوفة، وقسمها بين المجاهدين، والسبب في هذا: أنه ما كان يريد مخالطة المجاهدين للناس الذين كانوا بالعراق خشية أن تفسد أخلاقهم، فهذا يسمى بالإقطاع، وله أصل في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قسمها وأخذ كل مجاهد -مثلاً- قطعة من الأرض فباعها أو تصرف بها فهي ملك له، كما أنه إذا ملك الماء إن شاء انتفع به لنفسه، وإن شاء باعه على الغير.
(خُيِّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين) (بين قسمها) أي: على الجند وعلى مَن شهد الوقعة، بالطريقة التي ذكرناها.
وبين (وقفها على المسلمين) أي: تبقى وقفاً لمصلحة بيت مال المسلمين، فتبقى خراجية إلى الأبد.
(ويضْرب عليها خراجاً مستمراً، يؤخذ ممن هي بيده) هذا على ما ذكرناه، ولذلك ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنَعَت الشام مُدَّها، ومَنَعَت العراق قفيزَها) وهذا يعتبره العلماء أصلاً في الخراج الذي يؤخذ على الأرض؛ لأن المراد بالمُدِّ والقفيز، الإشارة إلى الفتوحات، وما يكون منها من خراج، فلما قال: (وعدتم مِن حيث بدأتم، وعدتم مِن حيث بدأتم) أي: أنه في آخر الزمان ينقطع هذا الأمر، وقد كان ما كان، وهو من معجزاته -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
قال رحمه الله: [والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام] أي: كم يكون مقدار الخراج والجزية؟ وهذه مباحث ومسائل وأحكام تكلم العلماء عليها في كتب الخراج، وكتب الأموال، وهي تتعلق بمصلحة بيت مال المسلمين، ولا يمكن للإمام أن يقدم على مثل هذه الأمور إلا بالرجوع إلى أهل الخبرة، فإن كانت الأرض زراعية سأل عنها أهل الزراعة، وإن كانت الأرض تعمَّر أو يستفاد من عمرانها رجع إلى أهل المعرفة بذلك وهكذا.
وكذلك الجزية: وهي الفريضة التي تفرض على أهل الكتاب إذا أبقاهم المسلمون في ديارهم، وسيأتي إن شاء الله بيان عقد الجزية وأحكامه ومسائله، والجزية تفرض بضوابط معينة على أشخاص معينين، من أهل الكتاب ومن في حكمهم، ويكون مقدار هذه الجزية راجعاً إلى نظر الإمام، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وهناك حد أعلى، وحد أوسط، وحد أدنى للجزية، مثلاً: لو فرضنا أن الحد الأعلى: ثمانية وأربعون ريالاً، فيكون الحد الأوسط: أربعةً وعشرين، ويكون الحد الأدنى: اثني عشر، فعلى هذا التقدير ينظر الإمام في حال الإنسان، فإن كان من أعلى الناس فرض عليه: ثمانية وأربعين، وإن كان من أوسطهم فرض عليه أربعة وعشرين، وإن كان من أدناهم فرض عليه اثني عشر، على تفصيل سيأتي إن شاء الله بيانه في كتاب الجزية.(138/11)
حكم من عجز عن عمارة أرضه الخراجية
قال رحمه الله: [ومن عجز عن عمارة أرضه أُجْبِر على إجارتها، أو رفع يده عنها] قال رحمه الله: (ومن عجز عن عمارة أرضه): إذا كانت الأرض خراجية فمعنى ذلك أن المطلوب تحصيل المصلحة منها لبيت مال المسلمين، وهذا يسميه العلماء: موارد بيت مال المسلمين، فلا بد أن تبقى موارد بيت مال المسلمين ثابتة، حتى يمكن الصرف من هذه الأموال على مصالح المسلمين، فهذه الموارد ينبغي أن يحافظ على بقائها، فإذا كان الذي أخذ الأرض الخراجية لا يستطيع أن يقوم عليها، لعجز، أو لكِبَر سن، أو لمرض، أو نحو ذلك، فيُجبَر على إجارتها لمن يعمرها، أو تنقل وتؤخذ منه إلى غيره ممن يقوم على استصلاحها ونفع المسلمين منها.
(أُجْبِر على إجارتها) الإجارة: عقد على منفعة بعوض.
والعقود المالية تكون أحياناً على الذات وأحياناً على المنافع.
فأنت إذا جئت إلى رجل وقلت له: بعني هذه الدار أو هذه العمارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فإذا أخذ العشرة آلاف، فمعنى ذلك أنك تملك عين الدار التي هي العمارة، وعين الأرض، وتستطيع أن تسكن فيها، فالدار ومنافعها ملك لك، فإن شئت أن تنتفع بها في السكنى سكنت، وإن شئت أن تنتفع بأجرتها أجَّرتها على الغير وأخذت الأجرة، وإن شئت أن تهدمها فلا أحد يمنعك؛ لأنها ملكك، فقد ملكتَ العين والمنفعة.
في الحالة الثانية: أن تقول: أجرني هذه الدار شهراً بألف، فمعنى ذلك أنك تملك المنفعة فقط وهي: السكنى فيها، فلا تستطيع أن تهدم هذه الدار، ولا أن تبيعها للغير، ولا أن تهبها، ولا أن تتصدق بها؛ لأن الذي تملكه هو السكنى فيها فقط.
فالإجارة هي المنفعة، فمعنى ذلك: أن الأرض الخراجية ملك لبيت مال المسلمين، لكن منفعتها من زراعتها وحراثتها والقيام عليها وما يكون منها من نتاج هذا هو الذي يستأجر، وإجارة الأرض للزرع فيها خلاف بين العلماء، وجماهير العلماء على جواز ذلك خلافاً للظاهرية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأن ما كان بشيء معلوم فلا بأس) أي: في إجارة الأرض، فدل هذا على مشروعية إجارتها للزراعة مثل مسألتنا، لكن يشترط في إجارة الأرض للزراعة أن يكون فيها ماء؛ لأنه إذا استأجرها للزراعة ولا ماء فيها، فهذا من إجارة الغرر، وحينئذ لا يصح، إلا إذا كان يجلب الماء إليها، كأن يحمل الماء إليها، أو يجريه بقنطرة، أو غير ذلك.
فالمقصود: أن الإجارة تكون على الأرض الخراجية، أي: أن يترك الغير ينتفع بها لأجل مصلحة بيت مال المسلمين كما ذكرنا.
(أُجْبِر على إجارتها أو رفع يده عنها) (أو رفع يده عنها) حتى تعطى للغير ويقوم باستصلاحها ونفع المسلمين منها.
(ويجري فيها الميراث) فإذا كانت هذه الأرض خراجية، وقام عليها إنسان ثم توفي، وجاء ورثته وقالوا: نريد هذه الأرض لنقوم عليها مثلما كان أبونا يقوم عليها، وندفع ما كان يدفع، فإنهم يرثونها وينزلون منزلة أبيهم؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله.(138/12)
الأموال التي تؤخذ من المشركين لبيت مال المسلمين
قال رحمه الله: [وما أخذ من مال مشركٍ كجزيةٍ وخراجٍ وعُشْرٍ وما تركوه فزعاً وخمس خمس الغنيمة ففيء يصرف في مصالح المسلمين] قال رحمه الله: (وما أخذ من مال مشركٍ) يريد المصنف أن يبين حكم الأموال التي تؤخذ في الجزية، وفي العشور والضرائب، وتؤخذ من الحربي ونحوهم، فهذه الأموال لمن تكون؟ فبعد أن بين أحكام الغنيمة وأحكام الخراج -وهذا مسلك الفقهاء رحمهم الله، أنهم يذكرون المسائل المشابهة في أماكن المناسبة- وأن الغنيمة فيها الخمس يرد إلى بيت مال المسلمين، وكذلك الفيء، إذا لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فإنه يرد إلى بيت مال المسلمين، فيرد
السؤال
كيف يكون حكم هذا المال؟ فقال: (وما أخذ من مال مشركٍ) بعض العلماء يقول: يُمْلَك مالُ الحربي بمجرد أخذه، وهذا يميل إليه طائفة من العلماء من أصحاب الإمام أبي حنيفة وغيرهم، وقال بعض العلماء: بل إنه يكون لبيت مال المسلمين، وبيت مال المسلمين تكون مصارفه مصارف الفيء، بمعنى: أنه يصرف في مصالح المسلمين، وهذا هو الذي عبر عنه المؤلف بقوله: (يصرف في مصالح المسلمين): المصالح: جمع مصلحة، مثل: بناء المساجد، وبناء القناطر للشرب، وإجراء المياه، وبناء المستشفيات للعلاج، ونحو ذلك من المصالح العامة بحسب ما يراه ولي الأمر مصلحة المسلمين.
فهذه الأموال التي لا يعرف أصحابها، كأموال الغُيَّب، تُدْخَل إلى بيت مال المسلمين وتُصْرَف في عموم مصالح المسلمين، وهذا يعتبره العلماء رحمهم الله حينما يكون المال لغائب مسلم لا يعرف، فإنه يدخل إلى بيت المال، فكأن المسلمين كلهم لهم حق في ماله؛ لأن أخوة الإسلام نُزِّلت منزلة أخوة النسب، لأننا لا نعرف من صاحب هذا المال حتى نعطيه لقرابته، فحينئذ يشترك المسلمون في هذا المال، ويصرف في مصالحهم العامة.
ففي بيت مال المسلمين ما يسمى بالموارد، وفيه ما يسمى بالمصارف، ويذكر العلماء في كتاب الجهاد، في باب الغنائم المسألتين: موارد بيت المال.
ومصارف بيت المال.
فهذا من باب ذكر الشيء عند مناسبته.
فيبين رحمه الله مصارف الخمس (خمس الخمس الذي ذكرناه)، ومصارف العشور -العشور سيأتي بيانها- ومصارف الجزية، ومصارف أموال الغُيَّب التي لا يعرف مَن أصحابها، وبين أن كل هذا يصرف في مصالح المسلمين العامة.
(وما أخذ من مال مشركٍ كجزية وخراج)(138/13)
الجزية
(كجزية) الجزية: هي المال المقدر المفروض على الكافر إذا أقر في بلده على دينه من أجل حمايته، بقدر معين يحدده ولي الأمر، شريطة أن يكون من أهل الكتاب، وتكون مفروضة عليه في السنة، أي: الحول، ومن العلماء من يقول: تؤخذ منه مسبقاً، أي: في بداية الحول، ومنهم من يقول: تؤخذ عند تمام السنة، وهذا مذهب الجمهور: أنها تؤخذ بعد استكمال السنة، وهو أقوم.
والجزية تفرض إذا دخل المسلمون إلى بلاد الكفار أو أرادوا غزو الكفار فيخيرون بين: أولاً: الإسلام، أي: أن يسلموا، فيكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
ثانياً: أن يعطوا الجزية، فإذا قالوا: نعطي الجزية، فهذا له شروط وضوابط منها: أن يكونوا من أهل الكتاب؛ لأن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الدين السماوي، فلو كانوا مشركين أو وثنيين لا دين لهم، فلا تفرض عليهم الجزية؛ لأنه أشبه بإقرار الشرك؛ بخلاف أهل الكتاب فإن فيهم شبهة من وجود الدين، وهذا من رفق الله سبحانه وتعالى بعباده ولطفه بهم، ففرَّق بين أهل الكتاب وبين المشركين والوثنيين.
فإذا أخذت الجزية إلى بيت مال المسلمين، فقد بين المصنف أنها تصرف في مصارف المسلمين العامة، كما ذكرنا.(138/14)
الخراج والعشر وما تُرك فزعاً
(وخراج) الخراج قد ذكرناه، سواء كان خراج مقاسمة أو كان خراج وظيفة، فإذا أخذ هذا الخراج فإنه يقسم أو يصرف في مصارف المسلمين العامة.
(وعشر) العشر هو الواحد من العشرة، والعشر يؤخذ من الكفار إذا تاجروا في بلاد المسلمين، إذا كانوا حربيين، فإن الكفار ينقسمون إلى أقسام: النوع الأول: الحربيون، أي: بيننا وبينهم حرب، فهؤلاء يسمون عند العلماء بالكفار الحربيين، حتى ولو كانوا في هدنة مع المسلمين، فحكمهم حكم الحربيين على تفصيل في مسائلهم.
النوع الثاني: الذميون، وهم الذين لهم ذمة من أهل الكتاب ممن تؤخذ عليهم الجزية، فهؤلاء لهم حكم خاص.
النوع الثالث: المستأمَن، وهو الكافر الحربي الذي يدخل بلاد المسلمين بالأمان، من أجل أن يتاجر أو من أجل إبرام عقد أو لمصلحة معينة، عامة أو خاصة، فيؤمِّنه ولي الأمر أو يؤمِّنه أي مسلم، فالأمان يكون من أي مسلم ممن هو أهل كما سيأتي، ويأخذ حكم أمان المسلمين كلهم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) ولذلك لما جاءت أم هانئ في فتح مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره بثوب، وذلك حين أراد علي أن يقتل رجلاً من بني عمها، وكان من عادة العرب أنه إذا دخل المستجير إلى بيت إنسان فإنه يؤمِّنه كما يؤمِّن نفسه، وهذا من شيم الكرام، ومن علامة كمال الإنسان وفضله، أنه لا تُخْفَر له ذمة، ولكن بشرط ألا يكون مرتكباً لحدود الله عز وجل، ومرتكباً للحرمات؛ فمثل هذا -والعياذ بالله- لا يؤمَّن؛ لأن الشرع له حق عليه، فإذا أُمِّن أعين على الإثم والعدوان، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وكانوا في الجاهلية إذا دخل الرجل على الرجل ووطئ بساطه أو دخل بيته وقال: إني مستجير بك، أو مستعيذ، أو يطلب منه الأمان، فإنه لا يخفره؛ لأنه لما دخل بيته صار بمثابة الضيف، والضيف يُكرَم ولا يهان، ويعطى ولا يمنع، فكان يؤمِّنه ويكون دونه في خير أو شر، فجاء الإسلام بتهذيب هذه الأمور، إن كان في خير فخير، وإن كان في شر فشر، فإذا كان في شر كان شريكاً له في الإثم والعياذ بالله! فالمقصود: أن المستأمِن إذا دخل إلى بلاد المسلمين واستجار بمسلم فأجاره، فإنه في جوار المسلمين كلهم.
وقد روي أنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه من الشام: أن الروم إذا دخلوا بلاد المسلمين لم يأخذوا عليهم شيئاً، وإذا دخل المسلمون بلادهم متاجرين أخذوا عليهم العشر، فأمره عمر أن يأخذ منهم العشر إذا دخلوا، وهذا ما يسمى (بالتعشير)، فهي ضريبة تؤخذ للمتاجرة في بلاد المسلمين، معاملة بالمثل، ومثل ما يسمى في زماننا: (بالجمرك) فهذا يُعتبر كالضريبة على الكافر، كما يعامَل المسلمون إذا تاجروا في بلادهم، فتكون مقابلة بالمثل، ففعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفعله بعده الخلفاء الراشدون، وأصبحت سنةً مُجْمَعاً عليها: أن الكفار إذا تاجروا في بلاد المسلمين أو كان لهم وكيل مسلم يورِّد سلعهم جاز أن يؤخذ عليهم كما يأخذون على المسلمين إذا ورَّدوا السلع إليهم، وهذا يسمى (بالتعشير) وله ضوابط معينة، وينظر فيه الإمام بضوابط المصلحة، فيفرض العشر على الحربي، ونصف العشر على الذمي، وربع العشر على المسلم إذا تاجر من بلادهم.
(وما تركوه فزعاً): وهو الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فهذا يعتبر فيئاً، ويؤخذ إلى بيت مال المسلمين، ويصرف في مصارف المصالح العامة.(138/15)
حكم خمس خمس الغنيمة والصفي
(وخمس خمس الغنيمة) نحن قلنا: إن الغنيمة تقسم إلى خمسة أقسام، والخمس منها يقسم أيضاً إلى خمسة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] قيل: هذا للاستفتاح، {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] هذا تقسيم، فلما قال: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] كأنه يُحال من الغنيمة، وهذا يسميه العلماء: خمس الغنيمة، وهذا يصرف في مصالح المسلمين العامة، وهو الذي عناه الله بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] فللرسول عليه الصلاة والسلام خمسه، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في الغنائم شيء يسمى (الصفي)، وكان من عادة الناس في الجاهلية أنهم إذا قاتلوا وكان لهم من يقودهم للقتال من شجعانهم، أنه يصطفي له ما شاء، ويأخذ من الأموال والنساء ما شاء عند الغنيمة، فهذا يسمى الصفي، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفي، والاصطفاء أن يأخذ من الأموال ما شاء، صلوات الله وسلامه عليه، ويضعه حيث شاء، ولذلك في غزوة بدر اختصم المسلمون في هذه الأنفال فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].
قيل: إن سببها أنه لما انتهت وقعة بدر اختصم كبار السن وصغارهم، فالصغار قالوا: نحن الذين أبلينا، وقال الكبار نحن الذين كانت لنا حمايتكم، فهؤلاء حموا وهؤلاء قاتلوا، فكان الشباب يقولون: الغنيمة لنا، والكبار يقولون: بل لنا، نحن الذين أعناكم؛ لأن حماية الظهر في بعض الأحيان تكون أعظم من غيرها، فوقعت بينهم الخصومة فنزلت الآية.
وقيل: إنهم انقسموا إلى قسمين: قسم منهم كان يحرس النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم منهم كان يقاتل، فكان الذين يقاتلون يقولون: الغنيمة لنا، والذين يحرسون الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون: الغنيمة لنا؛ لأن حراسة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم، فوقع بينهم الخلاف فنزلت الآية.
وقد اختصم سعد رضي الله عنه مع رجل من الأنصار في سيف، فقال سعد: لي، وقال الأنصاري: بل لي، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ليس لك ولا له، إنما هو لله والرسول) فلما أخذه نادى سعداً، وأعطاه إياه، وقال: (هو لي وهو لك) فأعطاه إياه، وكان سعد رضي الله عنه عظيم البلاء.
ومن الصفي: صفية بنت حيي رضي الله عنها وأرضاها، فقد اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، وأعتقها وتزوجها.
ومن الصفي أيضاً: أمواله في فَدَك بجوار خيبر، وهي من الحصون التي اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، قال بعض العلماء: هذه الأموال التي نُصَّ على أنها للرسول ترجع إلى بيت مال المسلمين.
فأصبح لبيت مال المسلمين الخمس {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]، وقال بعض العلماء في قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال:41]: إن المراد به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرنا- وهو الصحيح، فالله حجب عنهم الزكاة وأعطاهم حظهم من خمس الخمس، وقال بعض العلماء: بل الخمس لقرابة الإمام، ويشكل على هذا فعل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإنهم لم يصطفوا هذا الخمس لقرابتهم.
ومنهم من قال -وهذا القول الثالث وهو الذي نريده- الخمس الذي للقربى يرد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت مال المسلمين، فيصبح لبيت مال المسلمين كم؟ خُمُسان، فيكون في بيت مال المسلمين العشر، وهذان الخمسان يصرفان في مصالح المسلمين العامة.
يقول رحمه الله: (ففيء يصرف في مصالح المسلمين) جواب الشرط، أي: حكمه حكم الفيء، يصرف في مصالح المسلمين كبناء المساجد، وعمارة الطرق، وغير ذلك من المصالح العامة، التي ينتفع بها المسلمون.(138/16)
الأسئلة(138/17)
سهم الفرس إذا تعاقب عليه أكثر من واحد
السؤال
إذا كان الجند يتعاقبون على ركوب الفرس فكيف تقسم الغنيمة؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أما بعد: فالحكم في ذلك أن العبرة بالوقعة، فإذا كانت الوقعة شهدها آخر رجل منهم، فيكون سهم الفرس له، مثال ذلك: تعاقب على الفرس ثلاثة، والثالث منهم هو الذي قاتل عليه، فيكون السهم له، هذه صورة.
الصورة الثانية: أن يتعاقبوا أثناء القتال، فهذه المسألة اجتهد بعض العلماء فقال: يعطى للفرس السهمان، ثم تقسم بينهم على حسب البلاء، والله تعالى أعلم.(138/18)
قياس البغال والجمال وغيرها على الفرس في سهم الغنيمة
السؤال
هل تقاس البغال والجمال أو غيرها من الدواب على الأفراس، وذلك بأن تعطى سهمان؟
الجواب
لا يُعطى إلا للفرس، ولا يشمل هذا ما ذكر من الحمير والبغال، والسبب في هذا: أن للفرس والخيل معنى يخصُّها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) فالقتال عليها بركة، ولذلك خُصَّت، مع أنه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كانت الإبل والبغال موجودة، ولكن الفرس فيه شيء ليس في غيره من الدواب، وكأنه مهيأ للقتال، بخلاف البغال والحمير والإبل، فالفرس يكر ويفر ويتعرض صاحبه للخطر أكثر، ولذلك عَظُم بلاؤه أكثر من غيره، ومن هنا قال: (وللفارس) فخصه بالفرس، ولا يركب الخيل ويقاتل عليه إلا الشجاع القوي الذي يحسن الكر والفر، ومن هنا اشترطوا أن تكون من الخيول العربية الأصيلة التي يكون بلاؤها أعظم، حتى يكون أقرب للسنة، وإن كان بعض العلماء خفف في هذا الشرط، وأخذ بعموم قوله: (وللفارس ثلاثة أسهم).(138/19)
الفرق بين الغنيمة والفيء
السؤال
هل الغنيمة والفيء بمعنى واحد؟
الجواب
الغنيمة والفيء بينهما عموم وخصوص، فالفيء أحياناً يدخل تحت الغنيمة وأحياناً ينفرد عنها، فالفيء يكون من غير قتال، كأن يأتي المسلمون إلى موضع فيه كفار فيسمع الكفار بالمسلمين فيفرون، ويتركون أموالهم وديارهم، فهذا يعتبر من الفيء، كما وقع في جلاء بني النضير وغيرهم، بخلاف الغنيمة، فإنها لا تكون إلا من وقعة، والغالب أنها تكون بالجهاد ومقابلة العدو وقتاله، فالغنيمة هي نتاج الغزوة، وبعض العلماء يقولون: الغنيمة تشمل الفيء، فكأن الغنيمة أعم من الفيء، فإن أصل الغنيمة من الغُنْم، والغُنْم: هو أخذ الشيء بلا بدل، والغنيمة: أخذ الشيء بلا عوض، فقالوا: يشمل بهذا المعنى ما كان بقتال، وما كان بدون قتال، فهو غنيمة؛ لأنه بغير بدل.
وعلى هذا ينفرد الفيء بحكم خاص وهو: مصارفه وأحكامه الخاصة، وتبقى الغنيمة على الأصل العام.
لكن أيَّاً ما كان فالمعروف في كتب الفقهاء رحمهم الله أنهم يجعلون الغنيمة أصلاً عاماً لهذا كله، والفيء فرع من الغنيمة، وعلى هذا دَرَج مصطلح الجمهور رحمهم الله.
لكن الفيء له أحكام خاصة غير أحكام الغنيمة، منها أن له مصارف الخمس التي ذكرناها، بخلاف الغنيمة فإنها تخمَّس، فللمجاهدين أربعة أخماس، والخمس الأخير هو الذي يصرف في مصارف الفيء فقط، فمن هنا يقول بعض العلماء: إن بينهما عموماً وخصوصاً من هذا الوجه.(138/20)
المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم في انتظار الصلاة: (خذلكم الرباط)
السؤال
ما المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر بعض الأعمال الفاضلة فقال: (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) وهل يعادل أجر الرباط في الجهاد؟
الجواب
مادة: ربط، دائماً تكون للملازَمة، ولذلك إذا ربطت الشيء وعقدته، فإن هذه العقدة يُلزَم بها الشيء ويبقى، ومنه تقول: ربطت الفرس، وربطت الدابة، فإنها تلزم هذا المكان ولا تنفك عنه.
والرباط له معنيان: رباط عام: وهو الرباط على الطاعة.
ورباط خاص: وهو رباط الثغر في الجهاد في سبيل الله عز وجل.
فأما الرباط العام على طاعة الله فهو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] أي: يا من آمنتم بي وصدقتم بكتابي ورسولي صلى الله عليه وسلم (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) والمصابرة: غاية الصبر، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، غاية الصبر، (وَرَابِطُوا) أي: إذا صبرتم فابقوا على هذه الطاعة ورابطوا عليها، واجعلوا هذا دأباً لكم، فإن من صبر ظفر، وقد قرن الله عز وجل الخير بالصبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما أعطي عبد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) أي: ما أعطي عبد عطاء خيراً وأفضل من الصبر، وهذا يدل على أن الرباط على الطاعة من أعظم الأعمال، ولهذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر).
فالصبر على الطاعة والثبات عليها لا يكون إلا لأهل الكمال ولأهل الفضل، وهذا هو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أحب الأعمال إلى الله قال: (ما كان ديمة، وإن قل) أي: ما دام عليه الإنسان، وإن كان شيئاً قليلاً.
فالمرابطة على الطاعة من أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.
ولما كانت الصلاة هي أعظم الطاعات، وأجل القربات بعد توحيد الله عز وجل، فلا يحافظ عليها إلا مؤمن، ولا يتم ركوعها وسجودها وخشوعها إلا سعيد موفق في الدنيا والآخرة؛ لأن الله قرن بها الفلاح في الدنيا والآخرة، وصلاح حال العبد في دينه ودنياه وآخرته، وهي كذلك عماد الدين، والركن الثاني من أركان الإسلام، وكانت ولا زالت من أعظم ما يتمسك به الإنسان في دينه، فمن حفظها حفظه الله، فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فاعلم أن أكمل المؤمنين إيماناً من أحبها ورابط عليها، وتتفاوت مراتب الناس في صلاتهم: فمنهم من لا يصلي مع الجماعة وإنما يصلي لوحده، فهذا من أحرم الناس لأجرها.
ومنهم من يصلي مع الجماعة؛ لكنه يأتي قبل التشهد بقليل.
ومنهم من يصلي مع الجماعة فيدرك الركعة أو الركعتين أو الثلاث، فيدرك نصف الصلاة أو ربعها أو ثلثها، ولَمَا فاته منها خير من الدنيا وما فيها.
ومنهم من لا يؤذن إلا وهو في المسجد.
فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فالحفاظ عليها والصبر عليها من أعظم الرباط، فإذا ملأ الله القلب الزكي التقي النقي، وأحب صاحبه وأراد أن يوفقه في الدنيا والآخرة، جعل الآخرة أكبر همه، ومبلغ علمه، وغاية سؤله ومطلبه، فأصبح لا يفكر إلا في هذه الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يا بلال أرحنا بالصلاة) فإذا صلى -مثلاً- صلاة العصر، قال: إلى أين أخرج؟! إلى دنيا فانية، مليئة بالأمور اللاغية، فالخير لي أن أجلس، فنظر في دنياه ونظر في آخرته، فإن خرج ربما خرج إلى أمر يفوت به دينُه، وقد يخرج إلى فتنة، فقال: سأنتظر صلاة المغرب، فجلس بعد صلاة العصر ذاكراً لله، ومثنياً عليه، محباً ومؤثراً لمرضاة الله عز وجل، فإذا به قد رابط على خيرٍ مِن أحَبِّ الخيرِ وأعظمِه أجراً عند الله سبحانه وتعالى.
فلما كان هذا النوع من الصبر على الطاعة، دخل في مسمى الرباط، فقال صلى الله عليه وسلم: (فذلكم الرباط) ثم انظر فإنه لم يقل: (ذلك) وإنما جاء بصيغة الجمع، ولم يقل: (هذا) أو: (هو الرباط) بضمير الغائب، لا.
وإنما قال: (فذلكم) فأولاً: استخدام (ذلكم)، و (ذا) إشارةٌ إلى البعيد، وإذا أدخلت عليها الكاف، قلت: (ذاك) للبعيد، فعبر بصيغة البعيد؛ لعلو المرتبة والشرف، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] إشارة إلى علو مكانته وعظيم منزلته عند الله جل جلاله.
فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلكم)، ثم قال: (الرباط) ما قال: (ذلكم رباط)، أو: (مِن الرباط)، إنما قال: (الرباط) و (ال) هنا تدل على الكمال، أي: أنه أكمل الرباط وأعظمه؛ لأنه في أكمل الطاعات، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وهي الصلاة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يلهمنا فعل الخيرات، وترك الفواحش والمنكرات.
ونسأل الله العظيم أن يَمْنُنَ بالعافية غدوَّنا وآصالَنا، وأن يختم بالسعادة آجالَنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(138/21)
شرح زاد المستقنع - باب عقد الذمة وأحكامها [1]
ميَّز الله سبحانه الأديان السماوية حتى بعد وقوع التحريف فيها، فكان من هذا أن أجاز عقد الذمة مع أهل الكتاب ومن أخذ حكمهم، وهذا فيه أسرار وحكم عظيمة، وهذا العقد لابد فيه من التزامات بين المسلمين وأهل الكتاب، ولابد له من أركان لا يصح إلا بها.(139/1)
أحكام عقد الذمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتَمَّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب عقد الذمة وأحكامها] هذه الترجمة قصد المصنف -رحمه الله- بها أن يبين جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الذمة، والأصل في ذلك أن المسلمين إذا غزوا العدو، فإنهم يخيرونهم بين ثلاث خصال: الخصلة الأولى: أن يسلموا، ويقومون بدعوتهم إلى الإسلام.
الخصلة الثانية: أن يدفعوا الجزية، وهو الخيار الثاني، وهذا الخيار -وهو الجزية- يختص بنوع خاص من الكفار، وهم أهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس، وأما غيرهم من الوثنيين والمشركين والملحدين، فإنه لا تؤخذ منهم الجزية، وإنما يخيَّرون بخيارين: - إما الإسلام.
- وإما القتال.
الثالثة: إن أبوا فإنه ينتقل معهم بعد ذلك إلى الخيار الثالث وهو القتال، وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الخيارات الثلاث، وثبت ذلك أيضاً من هدي الصحابة رضوان الله عليهم، وهو ما كان يفتي به الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم وأرضاهم- أمراء الأجناد حينما بعثوهم للجهاد في سبيل الله عز وجل، وجاءت السنة مطلقة في حديث بريدة؛ ولكن قيدها القرآن في الجزية كما سيأتي.
فلما كان الجهاد في سبيل الله عز وجل يحتاج إلى بيان الجانبين: الجانب الأول: كيف يجاهَد الكفار؟ وما هي الأمور والمسائل والأحكام المترتبة على شرعية الجهاد؟ والجانب الثاني: وهو الذي يتعلق بقبول الجزية، فإذا قبلوا دَفْع الجزية، فحينئذ تحقن دماؤهم، ويكونون أهل ذمة، على التفصيل الذي سنبينه.
فكأن هذا الباب مرتب على الباب الذي قبله؛ لأن مَن يجاهد في سبيل الله، فإنه يحتاج إلى معرفة نوع خاص من الكفار، وهم أهل الذمة، فقال رحمه الله: [باب عقد الذمة وأحكامها]، كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بالذمة وما يترتب عليها.(139/2)
تعريف عقد الذمة
قوله رحمه الله: (باب عقد) العقد في لغة العرب: التوثيق والإبرام، ومنه: عقد الحبل، ويطلق العقد على المحسوسات، كما تقول: عقدتُ الحبل إذا جمعتَ بين طرفيه وعقدتَه وأوثقتَه، وقد يطلق على المعنويات، فتقول: هذا عقد بيع، وينبني على الإيجاب والقبول، وقد ورد في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] والمراد به المعنوي.
وإذا قال العلماء: عقد النكاح، عقد الإيجار، عقد الرهن، عقد الشركة، عقد المضاربة، فمرادهم بهذا اللفظ: الإيجاب والقبول على هذه الأمور، فإذا كان الإيجاب: بعتك، والقبول: قبلت واشتريت، فهو عقد بيع، وإن كان الإيجاب: أجرتك، وقال الآخر: قبلت واستأجرت، فهو عقد إجارة، وإن كان على نكاح فعقد نكاح، وهلمَّ جرَّاً.
لكن لما قال المصنف هنا: (باب عقد الذمة) خصص عموم هذا اللفظ وبيَّن أن المراد به نوع خاص من العقود وهو عقد الذمة.
والذمة في اللغة: الأمان والعهد، وأما في الاصطلاح: فهو أمان مخصوص، لطائفة مخصوصة، على هيئة مخصوصة، وهذا الأمان المخصوص المراد به: أن يؤمَّن من أعطي هذا العهد على نفسه وماله وأهله وعرضه، فالكافر إذا جرى بينه وبين المسلمين عقد الذمة فله ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما ثبتت بذلك الأخبار، فلا يسفك دمه، ولا ينتهك عرضه، ولا يؤخذ ماله، ويكون له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين.
وأما قولهم: (لطائفة مخصوصة) فالمراد به: أهل الكتاب، ومن في حكمهم وهم المجوس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نسن بهم سنة أهل الكتاب، وذلك في الجزية، كما قرره الأئمة رحمهم الله.
و (على هيئة مخصوصة) المراد بها: ضوابط عقد الذمة، وذلك بالصورة التالية: فالعقد في الأصل يستلزم جانبين: الجانب الأول: المسلمون.
الجانب الثاني: الكفار.(139/3)
أنواع الذمة
أما بالنسبة للمسلمين فيلي العقد عنهم إمامهم، كما سيبين لنا المصنف رحمه الله، وهذا أصل في قول جماهير العلماء: أن عقد الذمة لا يبرمه إلا الإمام؛ لأنه تتعلق به مصالح الأمة، وحينئذٍ لا يتأتى أن يقام على وجهه إلا عن طريق الإمام، أو من ينيبه؛ لكن هناك نوعان من الأمان، أو من الذمة: النوع الأول: الذمة الخاصة، وهي التي تكون لأفراد الناس، كأن يستجير مشرك أو كافر بمسلم، فيقول له: أنا في جوارك، وفي أمانك، وفي ذمتك، فإن قال له: أنت في ذمتي، فحينئذ يكون هذا الجوار والأمان خاصاً، فعلى المسلم أن يؤمنه حتى يسمع كلام الله، فإذا قبل الإسلام فالحمد لله، وإذا لم يقبل أبلغه مأمنه، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، فهذا يسمى بالذمة الخاصة، أو العهد الخاص، أو الأمان الخاص، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الكافر إذا دخل في جوار مسلم واحد فإنه في جوار المسلمين كلهم، ولا يجوز لأحد أن يتعرض له بسوء حتى يسمع كلام الله، أو يُبْلَغ مأمنه، ولذلك ثبت في الصحيح أنه لما دخل المشرك على أم هانئ وهي امرأة واستجار بها، وأراد علي قتله، انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، فقال: (من؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ، فقالت: يا رسول الله! زعم فلان أنه قاتل فلاناً، وقد أجرته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)، فدل هذا على أن ذمة المسلمين واحدة، وأن العهد إذا أخذ من مسلم لكافر، فهو عهد على جميع المسلمين لا يجوز لأحد أن ينقضه، أو ينكثه، حتى يكون الكافر على بينة.
النوع الثاني من الذمة: الذمة العامة التي تكون مؤبدة، والفرق بينهما: أن الذمة الأولى خاصة مؤقته، أما الذمة التي نبحثها هنا فهي الذمة العامة المؤبدة، أي: التي تبقى إلى الأبد، فإذا أراد المسلمون فتح مدينة، وقالوا لأهلها: أسلموا فقالوا: لا نريد الإسلام، فقيل لهم: ادفعوا الجزية، فقالوا: ندفع الجزية وكانوا من أهل الكتاب ومن في حكمهم، فإنهم يبقون ما أبقاهم الله عز وجل، ويكون هذا العهد ذمة لهم إلى الأبد، ما لم يحدث النكث أو النقض، بالصورة التي سيبينها المصنف رحمه الله.
فإذاً: عندنا ذمة عامة، وذمة خاصة.
فالذمة الخاصة ينبغي حفظها ورعايتها، ولا يجوز لمسلم أن يقدم على قتل كافر في بلاد المسلمين، إذا كان قد دخل بأمان من واحد منهم، حتى قال بعض العلماء: حتى ولو دخل في أمان صبي، أو دخل في أمان امرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ).
وعقد الذمة يكون بين المسلمين والكفار، فأما المسلمون فيعقد عنهم وليهم، أو من ينيبه، وأما الكفار فإنه يعقد عنهم أهل الحل والعقد، ومن يتولى أمورهم، فإذا جرى العقد بينهما فإن الأركان في العقد تستلزم: أولاً: العاقدان، فإذا قيل: عقد، فمعنى ذلك أن هناك عاقدين.
ثانياً: المحل، وهو مورد العقد الذي يتعاقدان عليه، فمثلاً: البيع أركانه: البائع، والمشتري، ومحل يَرِد عليه البيع وهو السيارة مثلاً.(139/4)
ما يلتزم به المسلمون في عقد الذمة
فعندنا محل ورد عليه عقد الذمة، وهو التزامات من الطرفين، من المسلمين التزامات، ومن الكفار التزامات، فيرد عقد الذمة على هذين الجانبين.
فيلتزم المسلمون: أولاً: بحقن دمه، فلا يُقتَل بدون حق.
ثانياً: بحفظ عرضه، فلا يؤذى في عرضه.
ثالثاً: بحفظ ماله.
رابعاً: بحفظ أهله وعياله.
فيدخل الأولاد والذراري بالتبع لآبائهم؛ لأنهم تابعون لآبائهم في هذا الحكم، كما ثبت من فعل الصحابة رضوان الله عليهم، فإن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما كتب في الكتاب جعل الذراري تابعة للأصول، آباء وأمهات.
ثم أيضاً يلتزم المسلمون بالدفاع عنهم، فإذا فتحت بلاد الكفار فنزلوا على حكم المسلمين بالذمة، فيجب على المسلمين نصرتهم وحفظهم، ولذلك لما نزل الروم بالشام -وكان أبو عبيدة رضي الله عنه قد فتح مع خالد أطراف الشام، وأخذ الجزية على بعضها- في معركة اليرموك، كتب أبو عبيدة إلى أمراء الأجناد، أن يردوا الجزية إلى أهلها حتى يقع النصر، فكانوا لا يلتزمون بالجزية إلا مع الالتزام بالنصرة، فيكون هذا الذمي له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، فهو يلتزم بأمور، والمسلم يلتزم بأمور، فمن هذه الأمور التي يلتزم له بها المسلم: حفظ دمه -كما قلنا- وماله، وعرضه، وأهله، وولده، وكذلك أيضاً يكون له حق النصرة، فإذا اعتدى عليه الكفار، وجب على المسلمين نصرته ومنع الكفار من أذيته، كذلك أيضاً لا يعتدي عليهم المسلمون، فهم كالمسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وهذا فيه حكم وأسرار عظيمة، ذلك أن الذمة لا يصح إعطاؤها إلا لأهل الكتاب؛ لأن لهم ديناً سماوياً، فيكون حسابهم في الآخرة، فإذا رضوا بإعطاء الجزية يكونون مستثنين؛ لأن الله نص على ذلك، فأمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب؛ لأن لهم ديناً سماوياً، فإذا بقوا بين المسلمين ورأوا تعاملهم، ورأوا دين الإسلام وسماحته، وما عليه المسلمون من التواصل والتراحم والتعاطف، أحبوا دينهم، ولربما نشأت ذراريهم وقد رأوا عزة الإسلام فيتأثرون به، حتى حفظ في البلدان التي فتحت على هذا الوجه أنه لم تمض ثلاثة أجيال إلى أربعة أجيال بالكثير إلا وقد أسلم منهم الكثير، فهذا نوع من الاستدراج للدخول في الإسلام ولو بعد حين.
فالمقصود: أن يلتزم المسلمون بهذا، فإذا رأى الذمي أن له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، وإذا وقف في المواقف المحرجة ورأى نصرة الإسلام له أحب هذا الإسلام، فإن النفوس جُبِلت على حب من أحسن إليها، وهذا الإحسان من المسلم فيه نوع من الاستمالة لقلبه والتأليف له للإسلام، وكل هذه أسرار عظيمة، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] فهو نوع من الحكمة البالغة في إقناع الناس بهذا الإسلام؛ فهم إذا لم يسلموا عن طريق مواجهتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ربما أثر فيهم تعامل المسلمين ووقوف المسلمين معهم ونصرتهم لهم، فيكون سبباً في دخولهم في دين الإسلام، ورضاهم به.(139/5)
ما يلتزم به أهل الذمة
الأمر الثاني: الذي يلتزم به أهل الذمة: يلتزمون بأمور كثيرة يجمعها أصلان: الأصل الأول: دفع الجزية.
الأصل الثاني: التزام أحكام الإسلام، وعدم التعرض للإسلام أو أهله بضرر أو سوء.
فهنا جانبان: الجانب الأول: دفع الجزية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
وأما الجانب الثاني: فهو تعظيمهم للإسلام، فيحفظون حرمة الإسلام، ويحفظون حق الإسلام، فلا يتعرضون لسب الله، ولا لسب رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا سب الإسلام، ولا يطعنون في القرآن، ولا في السنة، ولا يستهزئون بشيء من الإسلام، ولا بالمسلمين، مع أمور أُخر هي من لوازم عقد الذمة، حتى يستقيم عيشهم تحت الإسلام في ذلة وصغار، لا في عزة وقوة واستكبار، حتى لا تكون لهم شوكة على المسلمين، فيكون الأمر محقِّقاً لخلاف ما قصده الشرع أو عناه من هذا الحكم التشريعي.(139/6)
أركان عقد الذمة
إذاً: أركان العقد: أولاً: عاقدان.
ثانياً: محل العقد.
ثالثاً: ولا بد من توفره: الصيغة، أو ما يدل أو يقوم مقامها.
فهناك صيغة اللفظ: كأن يقول ولي الأمر للكفار أو من ينوب عنهم: (عاهدناكم على كذا وكذا)، فيقول الكافر: (قبلنا)، فإذا قال: عاهدناكم، وقال الطرف الثاني: قبلنا، فقد تمت الصيغة؛ الإيجاب والقبول.
أيضاً: قد تكون هناك أمور أخرى تدل على الرضا، مثلاً: لو أن كافراً من أهل الكتاب دخل مع أهل الذمة الذين هم تحت حكم المسلمين، فإن هذا الدخول يعتبره العلماء دلالة ضمنية على الرضا بدفع الجزية للمسلمين، فيكون عقداً ضمنياً، كذلك إذا شب الصغار، وبلغوا سن الرشد والتمييز، فحينئذٍ لا يحتاجون إلى تجديد العقد؛ لأن سكوتهم ينزَّل منزلة تجديد العقد، وهذا أصح قولي العلماء: أن من نشأ من صغارهم، وسكت على العهد الذي كان عليه كبارهم، فإن هذا يعتبر إقراراً، وينزَّل منزلة الصيغة، ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين بالصيغة التي اتُّفِق عليها بين آبائهم وبين ولي أمر المسلمين، حينما كانوا صغاراً.(139/7)
الجزية وأحكامها
يقول رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم] في هذا الباب يحتاج المصنف عند بيانه لأحكام الذمة لجملة من المسائل منها: المسألة الأولى: أن يبين من الذين يجوز لك أن تعقد معهم عقد الذمة؟ والسبب في ذلك: أن الكفار ينقسمون إلى أقسام -سنبينها إن شاء الله- فهل كلهم يجوز أن تأخذ منهم الجزية، أم من بعضهم دون بعض؟ المسألة الثانية: من الذي له حق عقد الذمة، وهل يمكن أن يقع من أفراد المسلمين، أم أنه خاص بولي الأمر ومن ينيبه؟ المسألة الثالثة: ما هي الشروط التي ينبغي توفرها لضرب الجزية على الفرد من أفراد الكفار؟ وإذا وقع عقد الذمة العام، فهناك أمور فرعية خاصة تتعلق بهذا العام، وهي: هل نضرب الجزية على صغارهم، وكبارهم، وذراريهم، ونسائهم، وشيوخهم، وضَعَفَتهم، والمسلمين منهم، ورهبانهم، وأحبارهم، أم أن الحكم يختص ببعضهم دون بعض؟ كذلك أيضاً ما الذي يترتب على قضية أخذ الجزية منهم، من وجوب النصرة، وحقن دمائهم؟ فهذه كلها مسائل تتعلق بالعقد من حيث هو.(139/8)
شرعية أخذ الجزية
أولاً: ما هو الدليل على شرعية عقد الذمة وأخذ الجزية؟ دل دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ذلك.
أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فدلت هذه الآية الكريمة على مسائل: الأولى: الأمر بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وذلك لإعلاء دين الله، وكف أعداء الله، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
الثانية: أن الله سبحانه وتعالى خص هذا بأهل الكفر، فقال: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29]، والذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر هو كافر، حتى ولو قال شخص: أنا أؤمن بالله، وأؤمن بالرسول وأؤمن بكل شيء إلا اليوم الآخر -والعياذ بالله- فلا أعتقد أن هناك يوماً آخراً، كما تقول الفلاسفة -والعياذ بالله- من ضلالاتهم: إنها أمور خيالية وليس لها حقيقة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وهذا يعتبر كفراً بإجماع المسلمين، فمن لا يؤمن باليوم الآخر فهو كافر، فخص الله ذكر اليوم الآخر زيادة في بيان كفرهم والتغليظ عليهم، ثم قال: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة:29] ثم خصص العموم فقال: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] وهذا يدل على أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، وأنها ليست بعامة لجميع الكفار، وهذا له حكمة؛ لأن أهل الكتاب لهم دين سماوي، فهم في الأصل يتفقون مع المسلمين من حيث تعظيم الله عز وجل، ووجود الله عز وجل، فبيننا وبينهم قواسم مشتركة، ولذلك قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:136] وقال: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:84]، فهناك قواسم مشتركة، والدين الذي له أصل، ليس كالدين الذي لا أصل له.
وقول الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] قال بعض العلماء: (مِن): للتبعيض، فدل على أن المراد أن الجزية لا تؤخذ إلا من قوم خاصين، وهم أهل الكتاب، ثم قال الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] فدل على أن الجزية تُحقن بها دماؤهم؛ لأنه قال في أول الآية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] ثم قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] فدل على أنهم إذا أعطوا الجزية فلا يجوز استباحة دمائهم إلا بحق، ثم قال الله عز وجل: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وسنبين معنى الصَّغار، وما هو المقصود منه، كما سيبينه المصنف -رحمه الله- في آخر هذا الباب.
إذاً: فهذه الآية دلت على مشروعية أخذ الجزية.
ثانياً: السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في حديث بريدة أنه بعثه في سرية وأمره صلى الله عليه وسلم عندما ينزل بدار الكفر أن يدعوهم بدعاية الإسلام: شهادة أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله، وأمره أن يخيرهم بين الإسلام، ثم أخذ الجزية، ثم قتالهم، فدل هذا على مشروعية أخذ الجزية، والحديث في الصحيحين، ومطلقه مقيد بالقرآن، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: الإجماع وقد ثبت إجماع السلف رحمهم الله، وهو فعل الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم، أخذوا الجزية من أهل الكتاب، وذلك في فتوحات الشام وغيرها، ولم ينكر عليهم أحد، وفرضها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عن الجميع، ثم ما زال ذلك في عصور الإسلام كلها، ومن هنا أجمع المسلمون على شرعيتها من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل، فهناك خلاف في بعض المسائل، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.(139/9)
حِكم وفوائد الجزية
أما الحِكَم التي تستفاد من شرعية الجزية، فهناك حِكَم عظيمة: أولها: التفريق بين الكفار، وبيان حرمة الأديان السماوية دون غيرها، فإن الأديان السماوية لها أصول، ولذلك تفضل على غيرها، كما أن الله سبحانه وتعالى بيَّن ذلك في سورة الروم، فقال سبحانه وتعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:1 - 5] قال العلماء رحمهم الله: إن الله عز وجل قسم الناس في هذه الآيات الكريمات إلى حزبين، وطائفتين: طائفة لهم دين سماوي وهم الروم، قال: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2] ومعهم المسلمون في قوله آخر الآية: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] فجعل نصرة الروم من نصرة الله عز وجل لهم.
وطائفة في ضدهم وهم طائفة المجوس، والوثنيين الذين يعبدون النار.
فكان كفار قريش يفرحون بغلبة المجوس على أهل الكتاب وهم الروم؛ لأنهم يعبدون الأوثان، فكانوا مشتركين معهم في الوثنية، وكان المسلمون يفرحون بغلبة الروم على المجوس؛ لأنه دين سماوي، فكان هذا من باب التمييز بين الأديان.
فجُعِل للدين الذي له أصل سماوي فرق عن الدين الذي ليس له أصل، فهناك الدهري الذي ليس له دين، وهناك الملحد الذي لا يعترف بالأديان أصلاً، وهناك الوثني الذي يقر بالله عز وجل؛ ولكن يعبد معه غيره، فيعبد وثنا أو صنماً، أو غير ذلك.
المقصود: أن هذه النحل والملل والطوائف المشركة الوثنية ليست كالأديان التي لها أصل سماوي، فَفُرِّق بينهما.
ثانياً: من حكم الجزية وفوائدها: أنها سبب في دخول الإسلام، فإن الكفار إذا نزل بهم المسلمون قد يكونون على جهل بشرائع الإسلام، ولا يعلمون حقيقة الإسلام، فينقسمون إلى طوائف: فمنهم من إذا ناقشته وناظرته اقتنع بالإسلام وأحبه وأسلم، فهذا تقنعه بالحجة والبرهان.
ومنهم من لا يقتنع بالإسلام إلا إذا عاشر أهله -أهل الإسلام- ورأى الإسلام على طبيعته، وتطبيقه وواقعه، فلما يراه ويرى المسلمين على حقيقتهم يتأثر.
وهناك من لا يرضى بالإسلام أصلاً، فحكمه أن يُجاهَد.
فجعل الله لكل شيء قدراً، فإذا جاء المسلمون إلى أرضٍ فيها أهل كتاب، وأرادوا غزوهم، وقالوا لهم: اقبلوا بالإسلام، فقالوا: لا نقبل، فقالوا: ادفعوا الجزية، فقالوا: قبلنا، فإنهم سيعاشِرون المسلمين وسيَرَون محاسن الإسلام ومآثره وأحكامه وكيف أن الإسلام ينصفهم، فيكون هذا سبباً لإسلامهم.
ولذلك أُثِر عن علي رضي الله عنه في القصة المشهورة التي ذكرها غير واحد من العلماء، وتروَى مسنَدَة، أنه لما أخذ اليهودي منه درعاً وقيل في بعض الروايات: أنه أخذ منه فرساً واستعاره، وكان من أهل الذمة، ثم جاء يطلبه الفرس فامتنع، وقال: بيني وبينك قاضيك الذي نصَّبته على الناس.
فانطلق معه إلى قاضيه شريح، فقال له: هذه فرسي.
فأنكره اليهودي.
فقال له القاضي: بيِّنَتُك يا أمير المؤمنين.
فعجب اليهودي، وقال: أمير المؤمنين ولا يستطيع أن يأخذ حقه مني إلا ببَيِّنة؟! فوجد سماحة الإسلام، وأن شرعه على الكبير والصغير، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فمن خلال التعامل يقع هؤلاء الذميون في معاملات مالية مع المسلمين، فيحتكمون إلى قضاء الإسلام، فيجدون سماحته ويجدون حسنه وما فيه، مع ما للمسلمين عليهم من فضل النصرة، فيكون سبباً في قبولهم للإسلام، ورضاهم به.
ثالثاً: من حكم الجزية: أنها مورد من موارد بيت مال المسلمين، وهذا المورد يُصرف في مصالح المسلمين العامة، ويكون فيه نفعٌ للمسلمين عامِّهم وخاصِّهم، على ما ذكرناه في أحكام قسمة الفيء.(139/10)
عقد الذمة للمجوس
وقوله رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس] (لا تُعْقَد) أي: لا يصح ولا يجوز أن تكون الذمة وعقد الذمة إلا للمجوس.
والمجوس: هم طائفة من أهل الأديان يعبدون النار، ويعتقدون أن للكون إلهين -تعالى الله عما يقولون- إله الظلمة وإله النور، ويرون أن الخير منسوب إلى إله النور، وأن الشر منسوب إلى إله الظلمة، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]! وهذه النحلة، بعض العلماء يقولون: إنهم كان لهم أصل من دين سماوي، ثم رُفع كتابهم؛ ولكن هذا لم يصح، والصحيح أنهم وثنيون؛ ولكنهم أُلحقوا بأهل الكتاب، لورود السنة المخصِّصة لذلك.
أما الدليل على جواز عقد الذمة مع المجوس: فما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أخذ الجزية من مجوس هجر)، وكذلك أيضاً ما ثبت في حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم)، فدل على أن المجوس يعامَلون معاملة أهل الكتاب، في أخذ الجزية منهم، وعلى هذا قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولم ينكره عليه أحد من الصحابة، فكان بمثابة الإجماع.
ولذلك تؤخذ الجزية من المجوس بإجماع العلماء رحمهم الله.(139/11)
عقد الذمة لأهل الكتاب
قال رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم].
أهل الكتابين المراد بهم: اليهود والنصارى، ووصفوا بذلك لأن لهم كتاباً سماوياً في الأصل، قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156]، وعندما قال بعض العلماء: إن المجوس أهل كتاب، رُدَّ عليهم بهذه الآية؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ} [الأنعام:156] فدَلَّ على أن (أهل الكتاب) يختص حكمهم باليهود والنصارى، واختُلف في الصابئة، فقيل: إنه كان لهم كتاب، وهو الزبور.
وقيل: إن شريعة يحيى كانت لهم، ويختلف العلماء فيهم، وهم على طوائف سنبينها.
أما بالنسبة لليهود والنصارى، فهم أهل كتاب بالإجماع، ويدخل فيهم من تبعهم، (فالسامرة) يتبعون اليهود ويأخذون حكمهم، وهم يعبدون الكواكب، وللعلماء فيهم بعض التفصيل، وإن كان الصحيح أنهم يتبعون اليهود، وهو قضاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤكده أنهم يسبتون ويعظمون السبت كما تعظمه اليهود.
كذلك أيضاً النصارى بجميع طوائفهم ومللهم، كما يوجد في زماننا: (الكاثوليك)، و (البروتستانت)، و (الأرثوذكس)، فهؤلاء كلهم يعتبرون في حكم أهل الكتاب، ويسري عليهم ما يسري على أهل الكتاب، كما نص على ذلك العلماء رحمهم الله؛ لأنهم في الأصل لهم كتابهم، سواءً كان: (إنجيل يوحنا)، أو (إنجيل برنابا)، أو (إنجيل لوقا)، أو غيرها من الأناجيل الأخرى، فكلها تعتبر من حيث الأصل على دين سماوي، ولذلك لم يفرق الصحابة رضوان الله عليهم بين طوائفهم، وإنما عاملوهم معاملة أهل الكتاب على الأصل العام الذي ذكرناه.(139/12)
حكم عقد الذمة للصابئة
وأما بالنسبة للصابئة فقد اختلف فيهم، والصابئة ينقسمون إلى طوائف: فطائفة منهم توجد بحران، في أقصى بلاد الشام، من جهة جزيرة العرب، وهؤلاء اختلف فيهم، فبعض العلماء يقول: إنهم أهل دين سماوي حرفوا دينهم وغيروه، كاليهود والنصارى، ورُفِع كتابهم، وهذا القول هو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه؛ ولكنه لم يصح.
وقال بعض العلماء: إنهم تابعون لليهود والنصارى، وقد روي عن ابن عباس القول: بأنهم يتبعون النصارى، وهذا القول اختاره الإمام أحمد في رواية عنه، ومنهم من قال: إنهم يعتبرون في حكم اليهود؛ لأنهم يسبتون، فقد كانت بعض طوائفهم تعظم السبت كما يعظمه اليهود، فأعطوا حكم اليهود.
والصحيح أن الصابئة ينقسمون إلى قسمين: فقسم منهم يتبعون اليهود والنصارى -خاصة الذين هم في جهة حران- وعليه يُحمل أثر ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما القسم الذي يعبد الكواكب، ويعتقد في الكواكب منهم، فهذا على قسمين: قسمٌ منهم يعبد الكواكب في أزمة مخصوصة معتقداً أن المؤثر هو الله، فهذا قيل: إن استقباله للكوكب واعتقاده فيه لا يوجب كونه آخذاً حكم الوثنية؛ لأن لهم أصلاً من الدين السماوي، فقال طائفة من العلماء: إنهم يأخذون حكم أهل الكتاب من هذا الوجه؛ ولكن الصحيح أن عبدة الكواكب منهم كلهم يعتبرون في حكم الوثنيين، ولا يجوز عقد الذمة معهم.
وهذا القسم الذي يعبد الكواكب يوجد في أطراف العراق، وهذا القسم هو الذي توعده المأمون، وكان قد نذر على نفسه إذا لم يدخلوا الإسلام أن يرجع فيقتلهم، وذلك حينما ذهب إلى الغزو، ولكنه مات قبل أن يدركهم، وهذا القسم هو الذي يعنيه طائفة من العلماء بأنهم يأخذون حكم الوثنيين.
أما بالنسبة لبقية الطوائف فهناك الكفار الذين هم مشركون وعلى الوثنية كمن يعبد الأشجار والأحجار والنيران، وهناك من لا دين له، وهم الملحدون، الذين ليس لهم دين ولا يعبدون إلهاً، وإنما يعتقدون أن الحياة نشأت من الطبيعة ووجدت صدفة، وأن الكون هذا أوجد نفسه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وهكذا بالنسبة للمرتدين الذي ارتدوا عن الإسلام، فهؤلاء كلهم لا يجوز عقد الذمة معهم.(139/13)
الدليل على عقد الذمة لأهل الكتاب والمجوس فقط
أما الدليل على تخصيص الحكم بما ذكره المصنف من أهل الكتاب والمجوس؛ فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فخصص حكم الجزية بنص الكتاب بأهل الكتاب، ثم إننا وجدنا في السنة أن: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما احتك بالمجوس ونزلوا على حكم الإسلام، قال: (ما أدري ما أصنع بهم).
فاحتار رضي الله عنه في أمرهم، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، فـ عمر رضي الله عنه على فقهه وعلمه بالكتاب، فهم من آية القرآن تخصيص الحكم بأهل الكتاب، ولذلك لما جاء المجوس توقف فيهم واحتار فقال: (ما أدري ماذا أصنع بهم)، وكان معه الصحابة، فلم يُحْتَجَّ له بنص، وإنما قيل له: إن هؤلاء مستثنون من الأصل العام في الكفار، فدل على أن الجزية لا تؤخذ إلا من خصوص أهل الكتاب، ثم إننا إذا نظرنا إلى حكمة التشريع، فإن الله شرع الجهاد لكي يبقى التوحيد، فقال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] قال جمع من السلف: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] أي: لا يكون شرك، وأكد ذلك بقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] أي: تكون العبودية خالصة لله عز وجل، فدل على أن أصل الجهاد إنما المراد به أن يبقى دين التوحيد، فلما اصطدمت الأديان والنحل والملل في الجهاد فُرِّق بينها، فما كان أصله ديناً سماوياً، فإن أهله عندهم قابلية لقبول الدين السماوي الآخر، والتنازل عن دينهم، عندما يجدون دين الإسلام لا يجرح عيسى بن مريم، ولا يجرح كذلك موسى بن عمران، وأن المسلمين يؤمنون بعيسى بن مريم، وموسى بن عمران عليهما السلام، فهم أدعى أن يقبلوا هذا الدين؛ لكن إذا جئت إلى المشرك الوثني الذي لا يدين بدين، أو الملحد الذي لا يدين بدين، فإنه لا يقبل الإسلام، وليس عنده أصلٌ أو قاسم مشترك بينه وبين المسلمين، فكان من الحكمة أن يفرق بين هذا وهذا، وأن يعطى كل ذي حقٍ حقه، فكأننا لو قبلنا من المشرك الوثني ذلك فقد أقررناه على شركه ووثنيته؛ لكننا إذا أقررنا أهل الكتاب فإننا نقر بأصل دينهم، وهو الدين السماوي، ففُرِّق بينهم لهذه الحكمة، ولذلك لو قيل بأخذ الجزية من الوثنيين فإن هذا يعين على بقاء الوثنية، ومقصود الإسلام أن لا تبقى الوثنية.
لكن يبقى الإشكال في أهل الكتاب وقد صار منهم مشركون؟ قيل في هذا: إن الحكم على قسمين في الكفار: حكم الدنيا.
وحكم الآخرة.
فحكم الدنيا بالنسبة للوثنيين: أنهم يُقْتَلون أو يُسْلِمون، {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16]، وهذا هو الذي دلت عليه آيات الجهاد.
وأما من عداهم ممن له دين سماوي، فإنه يكون حكمه في الآخرة، وأما في الدنيا فيبقى على دينه في الإسلام؛ لأن دينه له أصل سماوي، وهو أحرى إذا عاشر المسلمين أن يرى سماحة الإسلام فيقبل بدينهم، كما شهدت التجربة بذلك في عصور المسلمين، حينما عاهدوا أهل الذمة.
فالذي يظهر: تخصيص الحكم في أهل الكتاب والمجوس؛ لأن النص خصَّهم فقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم)، قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: هذا في الجزية خاصة، أي: سنوا بهم سنة أهل الكتاب في الجزية فقط، ولذلك منع من أكل ذبائحهم، ونكاح نسائهم، ولم يبح مخالطتهم للوثنية التي فيهم، فدل على أن مقصود الإسلام أن يُفَرَّق بين الوثنية وما له أصل سماوي.
إذاً: الذي يترجح -والعلم عند الله- أنه لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى ليس بعد نصه شيء حينما قال عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] بعد تعميمه لقتال المشركين، وأما حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه، حينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخير أثناء الجهاد، فهذا -كما لا يخفى عند الجميع- يعتبر من المطلق المحمول على المقيد، فإن آية القرآن وردت في قضية الجزية بعينها، واشترطت أن يكونوا أهل كتاب، وأما بالنسبة لحديث بريدة، فإنه مطلق، ولذلك يقيد إطلاقه بالكتاب، وكم من أحاديث مطلقة قيدها الكتاب! وكم من أحاديث عامة خصصها الكتاب! وحمل المطلق على المقيد مذهب معتبر في الأصول، ولذلك مما نرى من مقاصد الإسلام العامة أنه لا يقر المشرك على شركه، ولا يقر الوثني على وثنيته، فيُنْصَر ويُعان على ذلك، بل إنه حينما كُتِب كتاب عمر في الشروط العمرية بينه وبين أهل الكتاب، مُنعوا من ضرب الناقوس، ومن إظهار شعائر دينهم، كل ذلك حتى يكون أبلغ في قبولهم للإسلام، فكيف بالوثني الذي ليس له أصل من دين سماوي، فإنه بعيد منه أن يقبل بدين الإسلام أو يرضاه.
[ولا يعقدها إلا إمام أو نائبه] هذه هي الجزئية الثانية: مَن له حق عقد الذمة؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه.
وهناك قول عند الحنفية: أنه يجوز أن تعقد الذمة بالأفراد، فلو أن مسلماً تعاقد مع ذميين، وأمَّنهم بأمانهم العام، فإنه يمضي عقده.
والصحيح مذهب الجمهور أنه لا يعقدها إلا ولي الأمر أو من يقوم مقامه.(139/14)
شروط وجوب الجزية
قال رحمه الله: [ولا جزية على صبي، ولا امرأة، ولا عبد، ولا فقير يعجز عنها].
قوله: (ولا جزية على صبي) بعد أن عرفنا من الذي تعقد له الذمة، ومن الذي يلي عقدها يَرِد السؤال الثالث: من الذي تجب عليه الجزية؟ إذا نزل المسلمون بالكفار من أهل الكتاب، وعقدوا بينهم عقد الصلح وعقد الذمة، فإنهم يكتبون أسماءهم ويعد بذلك سجل، حتى تؤخذ الجزية منهم، بنص الكتاب: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] ويحتاج هذا إلى كتابة أسمائهم، وهذا له تراتيب إدارية معروفة في كتب التراتيب الإدارية، وكذلك أيضاً في كتب الاحتساب، وذكرها العلماء -رحمهم الله- في المطولات في الفقه، كالإمام ابن قدامة في المغني، فتسجل أسماؤهم، وحليتهم، وما يتميزون به، وأنسابهم، حتى تضبط بالكيفية، وحرفهم، وأعمالهم، حتى يُعْرَف من الذي تُضْرَب عليه الجزية ومن الذي لا تُضْرَب عليه الجزية، فحينئذٍ نقسمهم إلى قسمين: قسم منهم: توضع عليه الجزية.
وقسم منهم: توضع عنه الجزية.
فقسم يطالَب بها، وقسم لا يطالَب.
فأما الذين يطالبون بالجزية فتشترط فيهم شروط: الشرط الأول: البلوغ.
الشرط الثاني: العقل.
الشرط الثالث: الذكورة.
الشرط الرابع: الحرية.
الشرط الخامس: القدرة المالية.
الشرط السادس: ألا يكون من الرهبان، على خلاف فيه، وإن كان الصحيح أنه تجب الجزية حتى على الرهبان، وسنبين هذا.
هذا بالنسبة لمجمل الشروط التي ذكرها العلماء في إيجاب الجزية على الذمي.
الشرط الأول: البلوغ: فلا تضرب الجزية على الصغار والصبيان، ويدل على هذا حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه، حينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الجزية من نصارى نجران: (أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً) فقوله: (من كل حالم) الحالم: اسم فاعل من المحتلِم، وهو الذي بلغ الحلم، ومفهوم الصفة، أنه إذا لم يكن بالغاً -وهو الصبي- فلا تجب عليه الجزية، وهذا بإجماع العلماء، أن الصبيان لا تضرب عليهم الجزية، وقد كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه، كتاب الذمة لأهل الحيرة، فأسقط الجزية عن الصبيان، وكتب إلى أبي بكر رضي الله عنه بذلك، فأقره على هذا، وهذا يدل على سماحة الإسلام.
كذلك مما يدل على أن الصبيان لا تؤخذ منهم الجزية: أن الله تعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] والصبي لا يقاتِل، والجزية إنما جعلت عوضاً عن قتالهم، فدل على أنه ليس من جنس من تجب عليه الجزية.
الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً: فالمجنون لا تجب عليه الجزية، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، أن مجانين أهل الكتاب لا تجب عليهم الجزية، وهم غير مكلفين، فلا يكلفون بها.
الشرط الثالث: الذكورة: فلا تجب على النساء، فالنساء لا تفرض عليهن الجزية، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، فإن المرأة لا تقاتل، والجزية عوض عن القتال، وهذا ما كتبه خالد رضي الله عنه في كتابه، وفي الشروط العمرية أيضاً: (أن النساء لا تؤخذ منهن الجزية)، فالمرأة لا تكتسب غالباً، وهذا يدل على سماحة الإسلام ورفقه بالمرأة، فإنه أسقط الجزية عن نساء أهل الذمة.
الشرط الرابع: القدرة المالية: بمعنى أن يكون قادراً على أداء الجزية، وهذا من ناحية المادة والمال، والأصل أن أهل الذمة تجب عليهم الجزية، ثم يصنفون: هناك الغني، وهناك الوسط، وهناك ضَعَفَة الحال، وينقسمون إلى قسمين: الضعيف الذي لا يجد شيئاً، كالمسكين والفقير.
والضعيف الذي يجد قوام عيشه، وشيئاً زائداً على فضل قوته.
فهذه ثلاث طبقات، فتفرض الجزية على الطبقة العليا بما يتناسب مع حالها، ويرجع هذا إلى اجتهاد الإمام وتقديره، وكان عمر رضي الله عنه له في ذلك ضوابط، فكان يفرض (48) ديناراً على الغني، و (24) ديناراً على المتوسط، و (12) ديناراً على الضعيف أي: على من كان دون المتوسط في معيشته.
وهذه الثلاث المراتب قد فصلها العلماء في كتب الأموال، ككتاب الأموال لـ ابن زنجويه، وكتاب الأموال لـ أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله، وكذلك ذكرها الإمام ابن قدامة في المغني.
فهذه الثلاث المراتب للقادر.
ويبقى غير القادر.
وغير القادر ينقسم إلى أقسام، منها: من لا يقدر لكبر السن، والخور، كالشيخ الكبير الفاني، الذي لا يستطيع أن يعمل، وليس عنده مال، وقد يكون شيخاً كبيراً وعنده أموال وتجارات، فإذا كان كذلك فرضت عليه، كأغنيائهم، أما بالنسبة للشيخ الهرم، الذي لا مال عنده ولا تجارة، فإنه تسقط عنه الجزية، وقد فعل ذلك خالد بن الوليد وكتبه في كتاب الصلح لأهل الحيرة: أنه ما من كبير سن يفتقر، ويتصدق عليه أهلُه -أي: وصل إلى حد الحاجة والعوز حتى تُصُدِّق عليه- إلا أدخله في عيال بيت مال المسلمين -أي: يدخله حتى مع ضَعَفَة المسلمين- وينفق عليه من بيت مال المسلمين.
وهذا من سماحة الإسلام أيضاً، وهو يدل على سمو منهج الشريعة الإسلامية، وكيف أنها عاملتهم بنوع من المرونة، فالرفق في موضعه والشدة في موضعها؛ لأنه لا يصلح للكافر أن يرفق به مطلقاً، ولا يصح أن يشد عليه مطلقاً، وإنما الأمور تكون بالوسط الذي جاء به شرع الله، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أي: عدولاً، والعدل هو المستقيم، الذي بين الإفراط والتفريط.
فتُسْقَط الجزية عن الشيخ الهرم الذي لا مال له ولا تجارة.
ويبقى النظر في الفقير: فلو كان هناك فقير؛ ولكنه يستطيع أن يعمل وأن يتكسب، لكنه جلس في بيته وافتقر، فهل تسقط عنه الجزية؟ الفقير ينقسم إلى قسمين: الأول: من كان منهم يستطيع العمل لكنه قعد وتقاعس، فهذا يُلزم بدفع الجزية، ويعتبر تقصيره لنفسه؛ لأنه هو الذي قصر، ويُلزَم بعاقبة تقصيره.
الثاني: من كان منهم فقيراً، لا يجد الكسب فللعلماء فيه وجهان: جمهور أهل العلم على أن الجزية تسقط عنه مطلقاً، أداءً وقضاءً، بمعنى: أن هذا الفقير لا نطالبه بالجزية حال فقره، ولا نطالبه بالقضاء بعد يسره وغناه.
وذهب بعض الفقهاء -كما هو عند الشافعية رحمهم الله- إلى أن هذا النوع من الفقراء نتركه، ولا نطالبه في الحال، فإن اغتنى بعد ذلك طالبناه بقضاء السنين التي مضت.
والصحيح مذهب من ذكرنا، وهم الجمهور: أنه إذا سقطت عنه في الأداء سقطت عنه في القضاء، ولا يطالب بقضائها، وأن العبرة بحال أدائه.
هذا بالنسبة للشروط العامة.(139/15)
حكم أخذ الجزية من الرهبان
وأما الرهبان ففيهم قولان مشهوران للعلماء، فمن أهل العلم من قال: لا تؤخذ من الرهبان والقساوسة، ونحوهم، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه حينما بعث يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه لفتح الشام، قال له: (وستجد أقواماً قد حبسوا أنفسهم في صوامعهم، فدَعْهم وشأنهم، حتى يميتهم الله على ضلالتهم) أي: لا تتعرض لهم بشيء، فأخذ منه بعض العلماء سنةً عن أبي بكر رضي الله عنه أن هؤلاء لا يُتَعرض لهم بشيء، والواقع أن الرهبان ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: يقاتل، ويشارك في مواجهة المسلمين برأي أو مكيدة، أو يكون قائداً لهم، أو يحرضهم على جهاد المسلمين وقتالهم، فهذا يُقتل، وكذلك أيضاً تُضْرب عليه الجزية.
والقسم الثاني: الذين انحصروا في صوامعهم، وأماكن عبادتهم، فللعلماء فيهم وجهان -كما ذكرنا- فمنهم من يقول بضرب الجزية عليهم، وهذا هو الصحيح؛ لعموم الأدلة؛ ولأن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، -وهو وإن لم يكن من الصحابة، لكنه خليفة راشد- ضرب الجزية على الرهبان، وعمل بعموم الآيات، وهذا هو الصحيح.
(ولا عبد) العبد لا تجب عليه الجزية؛ لأنه لا يملك المال، والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ومن أهل العلم من قال: تجب الجزية على سيده إن كان كافراً، كما في حديث ضعيف رواه البيهقي في سننه، والصحيح أن العبد لا تؤخذ منه الجزية لما ذكرناه.(139/16)
زوال موانع الجزية بعد انقضاء وقتها
قال رحمه الله: [ومن صار أهلاً لها، أخذت منه في آخر الحول] (ومن صار أهلاً لها) تقدم من الذي تُضْرب عليه الجزية، ويبقى
السؤال
لو أن هؤلاء الصبيان والمجانين والفقراء زال عنهم الوصف أثناء الحول، وكما تقدم: الجزية تؤخذ كل سنة، ومن أهل العلم من يرى تقسيطها، والأقوى أنها تؤخذ كل سنة، وللعلماء وجهان في وقت أخذها: بعضهم يقول: تؤخذ معجَّلة، أي: يبرم معهم العقد، ثم تؤخذ قبل استتمام السنة، وهذا أقوى، ويدل عليه كتاب أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، حينما صالح في بداية الفتوحات في الشام.
ومن أهل العلم من يقول: تؤخذ في آخر السنة.
والأقوى هو القول الأول، لكن لو أننا أخذناها في بداية السنة، ثم بلغ الصبي واغتنى الفقير أثناء السنة، أو أفاق المجنون أثناء السنة، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: زوال الموانع فيه تفصيل: فمثلاً: المجنون إذا كان يجن تارة ويفيق تارة: فمنهم من يقول: العبرة بأكثر الحول، فإن أفاق أكثر الحول أخذنا منه الجزية كلها، وإن كان يجن أكثر الحول، لا تؤخذ منه الجزية.
ومنهم من يقول: تقسط على حسب إفاقته.
وهذا هو الأقوى والصحيح، أنه ينظر إلى مدة إفاقته، وتقسط، وكذلك بالنسبة للصبي، فإذا بلغ -مثلاً- في الشهرين الأخيرين من السنة، فإنه يدفع قدر الشهرين، وإذا بلغ في منتصف السنة، أخذ منه نصف الجزية، وقِسْ على هذا.
إذاً: مسألة زوال الموانع يفصل فيها على حسب المدة التي يدركها بالأهلية، فالمدة التي يدركها بالأهلية يجب أخذ الجزية بحسابها وقدرها.
قال رحمه الله: [ومتى بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله وحرم قتالهم] الجزية تتعلق بالآثار المترتبة على عقد الذمة، فمتى أعطوا الجزية لزم قبولها، أي: يجب على الإمام أن يقبل الجزية، وهناك قول شاذ يقول: إن للإمام أن يمتنع من أخذ الجزية، والصحيح الأول لحديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أعطوها فاقبلها منهم)، فأمره بقبول الجزية، فدل على وجوب قبولها حقناً لدماء من يُحقن دمه من أهل الكتاب.
فإذا أعطوها ما الذي يترتب عليه؟ قال رحمه الله: (ومتى بذلوا الواجب عليهم لَزِم قبولُه وحَرُم قتالُهم) (لَزِم قبولُه) هذا للوجوب.
(وحَرُم قتالُهم) حَرُم أن يقاتلوهم، وهذا في بداية الأمر.
تبقى الآثار المترتبة بعد ذلك، وهذه لها تفصيلات سيذكرها المصنف -رحمه الله- فيما بعد.
فتقرر أن الجزية يلزم الإمام قبولها إذا عُرِضت عليه من أهل الذمة، ولا يجوز أن يقاتلهم وقد أدوا الجزية؛ لثبوت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.(139/17)
امتهان أهل الذمة عند أخذ الجزية ومقاصده الشرعية
قال رحمه الله: [ويُمْتَهنون عند أخذها، ويُطال وقوفُهم، وتُجَرُّ أيديهم] (ويُمْتَهنون عند أخذها) المهانة ضد الكرامة، والله تعالى أهان أهل الكفر، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، وهذا نصٌّ في كتاب الله عز وجل، خبرٌ بمعنى الإنشاء، أي: من أهانه الله فلا تكرموه، ولذلك حرم إكرام الكفار وتبجيلهم وتعظيمهم، على الأصول المقررة في التعامل مع الكفار؛ لأن الله أهانهم بالكفر، وهذه الإهانة موضوعة موضعها، فلا كرامة للإنسان إلا بالإسلام.
فقوله: (يُمْتَهنون عند أخذها) لأن الله سبحانه وتعالى قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وينبغي أن يُعلم أن الإسلام دين الله عز وجل الذي ينبغي أن تُعْلَى كلمتُه، ويُرْفَع منارُه، ويُعَزَّ شأنُه، ولا يجوز أن يُقْرَن به غيرُه، كائناً ما كان ذلك الدين، بل كل ما عداه دونه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه).
فمن مقاصد الإسلام أنه إذا قُبِلت الجزية من أهل الكتاب، فينبغي أن يشعروا في بلاد المسلمين بالذلة والحقارة، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا ينبغي أن يسوَّوا بالمسلمين ولا أن يفضَّلوا عليهم، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله.
فقوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] هذا نص، وهذا النص ورد في كتاب الله مطلقاً كما يقول الفقهاء والعلماء، وينبغي على طالب العلم أن يتأمل ذلك، فإن الله عز وجل قال: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فجملة: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) حالية أي: والحال أنهم في صغار، فنصَّ كتابُ الله على أن إعطاءهم يكون بهيئة تدل على ذلهم وصغارهم، فإذا كان صغارهم بإطالة الوقوف، فهو من شرع الله؛ لأن هذا منصوص عليه على وجه العموم، وترك الله الخيار لولي الأمر أن يمتهنهم بالصيغة التي يراها؛ لكن بطريقة لا تفضي إلى استباحة دمائهم ولا أعراضهم، فإذا أوقفناهم عند إعطاء الجزية، أو جاء يعطي الجزية فتشاغلت عنه، فهذا له مقاصد، ذكرها العلماء رحمهم الله وأشاروا إليها، وهو أنه إذا جاء يدفع المال لك، فإنك تشعره أنه لا يشتريك بهذا المال، وأنك لا تريد هذا المال منه، وأنه أعز من المال الذي يبذله، فلما جاء نص القرآن: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] دل على أنه ينبغي أن تكون الحالة والهيئة، دالة أن هذا ليس لطمع أو رغبة في ماله، حتى يعطي المال كما يعطيه المستأجر لمن يؤجر له؛ لأنه لو لم يكن بذلةٍ وصغار لصار كأنه يشتري المسلم، وكأنه يتعاقد مع المسلم على إجارة، أي: أنك تحميني وتصونني بهذا المال، لكن الله قال: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، أي: الحال أنهم في صغار وذلة، ثم ترك الله الصغار بالخيار، ولذلك يقول العلماء: إن هذا من المطلق المقصود، أي: أنه ترك إلى اجتهاد الحاكم، فعندما نجد الفقهاء -رحمهم الله- ينصون في كتبهم على ألوان من الصغار لهم، فإن هذا كله راجع إلى الاجتهاد والتقدير، وليس لأحد أن يتعقَّد في ذلك، كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين فيقولون: إن هذا من الاجتهادات القديمة أو كذا، فهذا لا ينبغي؛ لأن هذا له أصل في كتاب الله عز وجل، وله مقصد شرعي، وكان العلماء في القديم يقصدون من هذا تحقيق النص المطلق في قوله سبحانه وتعالى: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
فقال رحمه الله: (يُمْتَهنون عند أخذها) أي: لا تؤخذ منهم بكرامة.
يقول بعض أهل العلم: ومن الامتهان عند أخذها: أنه إذا جاء يدفعها إلى المسلم فلا ترتفع يده، أي: لا يعطيها بيدٍ عالية؛ لأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وإنما يعطيها بطريقة لا تُشْعِر بالكرامة، ومن هنا نص المصنف على كلمة: (وتُجَرُّ أيديهم) فما معنى (تُجَرُّ أيديهم)؟ فَهِم البعض أن معنى تُجَرَّ أيديهم أي: حتى تُخْلَع.
ولا يقول أحد من أهل العلم أنها تُخْلَع أبداً.
وإنما (تُجَرُّ أيديهم) لها معنى ومغزى دقيق، وهو أنك إذا جاء الكافر ليعطي الجزية بيده، فأخذت يده أثناء الإعطاء أشعرته بأنه ملك لك، وأن هذا الذي في يده مستحق تحت القهر والذلة، وهذا نوع من الإشعار بأنه لا منة له على المسلمين، وليس المراد بـ (تُجَرُّ أيديهم) أنهم يجرون كما تُجَر الدواب، لا.
بل تُجَرُّ أيديهم -كما ذكر العلماء- لمعنى مقصود، وهو أنه قد يأتي يستفضل على المسلمين بإعطاء المال، فإذا جاء يرفع يده أرخيت يدُه، ثم إذا جاء يعطيها تمسك يده، كأنك تقول له: مالُك وما في يدك ملك لي، ثم لا يأخذها مباشرة، وإنما يمسكها بما يشعر بالذلة والصغار حين تؤخذ.
إذاً: معنى: (تُجَرُّ أيديهم)، أي: أنهم يُشْعَرون بأنهم بهذا لا فضل لهم على الإسلام والمسلمين، وإنما المنة والفضل لله ولرسوله وللمؤمنين.
والله تعالى أعلم.(139/18)
الأسئلة(139/19)
أحكام أهل البلاد المفتوحة عنوة
السؤال
إذا فتح المسلمون بلداً بها أهل كتاب ومشركون، فكيف يكون العمل؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالديار لها حكمان: الحكم الأول: ما يسمى بالفتح عنوة.
الحكم الثاني: ما يكون صلحاً.
فأما ما فتح عنوة -كما ورد في السؤال- فإنه يجوز أن يصالِح الإمام أو نائبه من في هذه الديار على دفع الجزية، وهذا يكون أشمل بالمؤقت، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فقد فتحها عنوة، ثم صالح أهلها على أن يساقوا الزرع ويكون لهم شطر ما يخرج منها، أما بالنسبة للوثنيين في هذه الحالة، فيخيرون بين أمرين: إما أن يسلموا.
وإما أن تضرب رقابهم.
وللإمام أن يضرب عليهم الرق على حسب ما يرى المصلحة فيه؛ لأنهم يكونون في حكم الأسرى، فيجتهد، فإن رأى مصلحة المسلمين في الفداء فادى، وإن رأى مصلحة المسلمين في استرقاقهم استرقهم، وإن شاء ضرب رقابهم فعل، حتى يخوف أعداء الإسلام {فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] إذاً: يخير الإمام وينظر فيهم إذا كان الفتح عنوة، ويكون هذا راجعاً إلى اجتهاد الإمام بما يرى فيه مصلحة المسلمين.
والله تعالى أعلم.(139/20)
أقسام الشهداء وأحكامهم
السؤال
ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الغريق شهيد، وأن المطعون والمبطون شهيد) ولكن هل يأخذ حكم الشهيد في تغسيله وتكفينه؟ أم ما المقصود بالحديث؟
الجواب
الشهادة تنقسم إلى قسمين: الشهادة الخاصة بشهيد المعركة.
والشهادة بالمعنى العام الذي وردت به النصوص، كالمبطون، والغرقى، والهدمى، والنفساء، وصاحب الطاعون، وصاحب ذات الجنب، ونحوهم ممن ورد الخبر فيهم.
وشهيد المعركة ينقسم أيضاً إلى قسمين والأفضل منهما شهيد البحر فهو أفضل من شهيد البر، في قول طائفة من العلماء لحديث أم حرام بنت ملحان في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها وفيه: قالت: فاستيقظ وهو يتبسم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! ما بك؟ فقال: أناس من أمتي ملوك على الأسرَّة أو كالملوك على الأسرة، يغزون ثبج هذا البحر، فقلت: يا رسول الله! ما أضحكك؟ فذكر لها ذلك، فقالت: يا رسول الله! ادعُ الله أن أكون منهم، فقال: أنت منهم) ثم إنها ركبت البحر رضي الله عنها وأرضاها في خلافة عثمان، ولما نزلت إلى شاطئ البحر، وَقَصَتْها دابتُها، فصدقت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما بالنسبة للشهادة بالمعنى العام: الغرقى، والهدمى، والحرقى، والمبطون، والنفساء، فهؤلاء لهم منزلة الشهيد، والشهداء لهم منازل، وأعلى منزلة للشهيد: الفردوس، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، وذلك يوم أحد، حين استشهد عبد الله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا رسول الله! أخبرني عن أبي، إن كان في الجنة صبرت، وإن كان في غيرها كان لي شأن، فقال صلى الله عليه وسلم: يا جابر إنها جنان، وإن أباك قد أصاب الفردوس الأعلى منها)، وهذا يدل على أن من الشهادة ما يصيب الإنسان بها الفردوس الأعلى من الجنة.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبلغنا إياه بفضله وكرمه، وهو أرحم الراحمين.
فهذا أعلى مراتب الشهادة، إذا كان شهيد المعركة.
أما بالنسبة للشهداء: المبطون، والغرقى، والحرقى، فهؤلاء لا يعاملون معاملة الشهيد من حيث التغسيل والتكفين؛ إلا الحرقى، فالمحروق لا يغسَّل؛ لأن التغسيل يضرُّه ويؤثر على لحمه وما تبقى من حرقه، ولذلك يُجمع بحالته، ويرى بعض العلماء أنه يُيَمَّم، ويأخذ حكم من عجز عن استعمال الماء، حيث إنه لما كان الواجب تغسيله وعُجِز عن تغسيله فإنه يُيَمَّم، ومثله مَن به مرض مُعْدٍ كالجدري ونحوه، فإنه إذا جاء يغسله الغير تضرر، فحينئذ هؤلاء لا يغسلون إذا قال أهل الخبرة: إن تغسيلهم فيه ضرر، أو أن مَن به جدري، إذا جاء يغسل فإنه ينتفخ، أو مَن به حساسية شديدة بحيث لو غُسِّل ينتفخ جلده، فهؤلاء كلهم لا يغسَّلون.
فالشاهد أن الحرقى لا يغسلون لعلةٍ أخرى، وليست لعلة الشهادة.
وأما بالنسبة للهدمى والغرقى وغيرهم ممن ذكرنا، فهؤلاء حكمهم حكم الشهداء من حيث الفضل؛ لكن من حيث الأحكام الشرعية من عدم تغسيلهم وتلفيفهم في ثيابهم فهذا يختص بشهيد المعركة، حتى لو أن إنساناً دخل في معركة وقاتل وجرح، ثم خرج من المعركة، ثم مات بعد ذلك، فإنه يغسَّل ويكفَّن، ولذلك اختص الحكم بمن قتل على أرض المعركة، وأما من لم يقتل على أرض المعركة، فإنه يفعل به كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بـ سعد رضي الله عنه وأرضاه، حينما رمي في أكحله فانفجر عرقه ومات رضي الله عنه، وهذا يدل على أن أحكام الشهيد تختص بشهيد المعركة.
والله تعالى أعلم.(139/21)
فضل العين التي تغض عن محارم الله
السؤال
في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكية يوم القيامة، واستثنى منها عيناً غضت عن محارم الله) فمن قارف ذنباً ثم تاب إلى الله فهل يحصل له هذا الفضل؟ وهلا تفضلتم بوصية حول هذا الأمر؟
الجواب
هذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكية -أو دامعة- يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله)، والعين إذا غضت عن محارم الله، فإنما غضت بتوفيق الله عز وجل، وبقوة الإيمان في القلب، فلا يغض عما حرم الله عز وجل إلا المؤمن، وغَضُّ البصر عن محارم الله كمال في الإيمان ودليل على خشية الله سبحانه وتعالى، خاصةً إذا كان الإنسان لا يراه أحد، ويستطيع أن يرى إلى الحرام، ويستمتع به، فيخاف الله عز وجل، ويغض، فإن الله سبحانه وتعالى يُنِيْلُه هذا الفضل.
واختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (كل العيون باكية أو دامعة) قيل: المراد بذلك أن هذه العين لا يمكن أن يصيبها سوءٌ حتى تدخل الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل العيون باكية أو دامعة يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين) فمعناه: أنها لا تحزن، وإذا كانت لا تحزن فمعنى ذلك: أنها لا يصيبها سبب الحزن وسبب البكاء، وهو العذاب، فدل هذا على أنها تُؤمَّن إلى دخول الجنة، وهذا فضل عظيم، وكأنه يشير بهذا إلى قوة الإيمان في القلب، فإن الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة، أي: غَض البصر عن محارم الله، بحيث لا تقع عينه عليها، فإن هذا لا يكون إلا بقوةٍ إيمانه، والغالب أن من بلغ هذه الدرجة أنه يكون من السعداء الذين يدخلون الجنة.
وقال بعض العلماء: (كل العيون باكية) إن عرصات يوم القيامة مختلفة، فهناك عرصات تأتي فيها أنواع من العذاب والبلايا، كما في طول الموقف، وانتظار الحساب، وكثرة العرق، وذهابه في الأرض سبعين ذراعاً من طول موقف الناس يوم القيامة في عرصاتها، ومن هذه المواقف موقف البكاء، وهذا الموقف يحفظ الله عز وجل صاحب هذه العين من البكاء فيه، فلا تحزن عينه ولا تبكي في هذه العرصة من عرصات يوم القيامة، وفي هذا الحديث دليل على فضل الطاعة بالعين.
فإن الإنسان كما يطيع الله عز وجل بيده: - فينفق بها في سبيل الله.
- ويضرب بها في الجهاد في سبيل الله.
- ويكتب بها في طاعة الله.
ويطيع الله عز وجل بقدمه: - بخروجه إلى المساجد.
- وصلة الأرحام.
- وعيادة المريض.
- وتشييع الجنائز.
ويتعبد الله عز وجل بقلبه: - بوجود الإيمان.
- ومحبة الله.
- وخشيته.
- والخوف منه.
- واعتقاد ما يجب اعتقاده.
- والإيمان به.
كذلك يتقرب إلى الله بعينه.
فالعين لها طاعة، ومن طاعتها: - أنها تبكي من خشية الله.
- وأنها تغض عن محارم الله.
- وأنها تسهر في طاعة الله عز وجل، وفي سبيله.
فدل هذا الحديث على طاعة العين، وأنها: - تكون بالبكاء.
- وتكون كذلك بالسهر على طاعة الله.
- وقيل: على الجهاد في سبيل الله، كسهر عين المرابط وهو يحرس الثغر.
ومن أهل العلم من يرى في قوله عليه الصلاة والسلام: (وعين سهرت في سبيل الله) أنها شاملة لكل عين، فمن سهر وهو يتلو كتاب الله، أو سهر على طلب العلم وكتابته والجد والاجتهاد فيه، فإنه ينال هذا الفضل.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يلهمنا طاعته، وأن يوفقنا لمرضاته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.(139/22)
شرح زاد المستقنع - باب عقد الذمة وأحكامها [2]
من الحكم والأسرار في عقد الذمة: أن يتأثر أهل الكتاب بالمسلمين، فيكون هذا سبباً في إسلامهم، وتحقيقاً لهذه الغاية فلا ينبغي أن يشعروا أنهم فوق المسلمين؛ بل ينبغي أن يشعروا أنهم أدنى منهم وأقل شأناً، سواء في لباسهم، أو مراكبهم، أو مساكنهم، حتى في عباداتهم وطقوسهم الدينية، ولا يسوى بينهم وبين المسلمين أبداً.(140/1)
كيفية تعامل الإمام مع أهل الذمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام؛ في النفس والمال والعرض] شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تترتب على عقد الذمة بين المسلمين وأهل الكتاب ومن في حكمهم، وذلك أنه إذا وقع عقد الذمة بين المسلمين وأهل الكتاب، فهناك أمور يلتزم بها المسلمون، وهناك أمور يلتزم بها أهل الذمة، وقد بينا فيما تقدم جملة من تلك المسائل والأحكام، وشرع المصنف هنا في بيان ما الذي ينبغي على الإمام تجاه أهل الذمة في تصرفاتهم حينما يكونون في بلاد المسلمين؟ فقال رحمه الله: (ويلزم الإمام) أي: يجب عليه، وهذا من فرض الله الذي أوجبه أن يأخذهم بحكم الإسلام؛ لأن الحكم لله عز وجل، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فالحكم لله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يكون هؤلاء ملزَمون بحكم الإسلام في أمور وضوابط معينة، وعليهم أن يتقيدوا بها، وهي قد تتعارض مع شريعتهم وملتهم؛ لكن كونهم داخل بلاد المسلمين فهم ملزمون بشرعة الإسلام، وبما عليه المسلمون، ولهذا في عقد الذمة يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، والمسلمون يقومون بالدفاع عنهم وحفظ عوراتهم وأعراضهم ودمائهم، كأنهم في منزلة المسلمين، فيجب عليهم أن يلتزموا بما يلزم المسلمين.
ولو أننا فتحنا لهم أن يفعلوا ما شاءوا وأن يتصرفوا كيفما أرادوا -ولو كان ذلك في دينهم ونحلتهم- لانتشر الفساد بين المسلمين، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إنهم لو مُكَِّنوا من فعل بعض الأمور المحرَّمة -وإن كانت جائزة في دينهم- وإظهارها فإن هذا قد يدفع بالفَسَقَة لمجاراتهم والعمل بدينهم والميل إلى ما هم عليه، ولذلك وجب حفظ بلاد المسلمين وأهل الإسلام من منكراتهم ومحرماتهم التي يرتكبونها.(140/2)
كيفية الحكم بين أهل الذمة
(ويلزم الإمام أخذهم) ويلزم الإمام أن يأخذهم.
(بحكم الإسلام) وإذا وقع الإخلال من الذمي، فإما أن يقع بشيء يوافق دينه، أو بشيء يخالف دينه، فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يفعل شيئاً نحن نعتقد حرمته، ولكن دينه وشريعته تقره على ذلك.
الحالة الثانية: أن يفعل فعلاً نتفق نحن وهم على تحريمه وعدم جوازه.
فأما ما كان من الأمور التي نتفق على تحريمها، فمن أمثلتها: - قتل النفس المحرمة.
- الاعتداء على أموال الناس بالسرقة، أو الغصب، أو قطع الطريق.
- الاعتداء على الأعراض بالزِّنا.
فهذه اتفقت الشرائع على تحريمها وأنه لا يجوز ارتكابها، فهي محرَّمة عند أهل الكتاب وعندنا.
وحينئذ لا تأويل له، فهو حينما يقدم على هذا الفعل فإنه يفعل فعلاً يعتقد حرمته، ونعتقد نحن حرمته، فإذا وقع منه -مثلاً- القتل، فلا يخلو قتلُه من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قتلاً لمسلم.
الحالة الثانية: أن يكون قتلاً لغير مسلم.
فإن قتل مسلماً فإنه يُقتل به، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، أن الكافر يقتل بالمسلم إذا قتله، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأنصارية التي قتلها يهودي على أوضاح لها كان يريد أن يسرقها منها، فأبت وأصرت فاختلسها منها، فلما دافعت رض رأسها بين حجرين، فوُجدت في آخر رمق وهي مشرفة على الموت، فقيل لها: (مَن فعل بكِ هذا؟ فلان؟ فلان؟ فلان؟) حتى ذكروا اسم اليهودي، فأشارت برأسها: أن نعم، كما ثبت في الصحيح، فأُخذ اليهودي فأقر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضع رأسه بين حجرين، وأن يُرَضَّ كما رُضَّ رأسُها، وهذا يدل على عدة مسائل: المسألة الأولى: أن أهل الذمة وأهل العهد ومن يعطَون الأمان إذا سفكوا دم مسلم فإنه ينتقض عهدهم ويستباح دمهم، ويؤخذون به.
المسألة الثانية: مسألة التدمية البيضاء، وهي من فوائد هذا الحديث، والتدمية البيضاء يقول بها بعض أئمة السلف، كإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فإنه يقول: إن من وجد في آخر رمق من الحياة، وهو مُشْفٍ على الموت، وقيل له: مَن قتلك؟ فقال: فلان، يقول: إن هذا لوث، ويوجب القسامة، ويوجب أخذ هذا المتهم، فإن أقر قُتِل به، وفقه مالك رحمه الله في هذا: أن من يُشْفِي على الموت يكون أقرب إلى الآخرة وأبعد عن الدنيا، فهو أقرب إلى الصدق وأبعد عن الكذب، فشهادته على أن فلاناً قتله تكون قوية، وقرينة قد تقارب البينة بقتله.
وذهب الجمهور إلى أن هذا يوجب التهمة فقط، وهذا هو الصحيح؛ لأن اليهودي حينما أُخِذ أقر، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره لا بمجرد قول المرأة، فينبغي أن يفرق بينهما.
وأياً ما كان: ففي الحديث دليل على أن الذمِّي والمعاهَد والمستأمَن إذا غدر وقتل وسفك دم المسلم، فإنه يقتل القاتل بمن قتله؛ لكن
السؤال
لو أن كافراً قتل مسلماً، ثم قام الذميون ومنعوه، أو قاموا بحفظه والتلبيس وحفظه، والتمويه على جريمته بحيث لا يعرف، فكانوا معينين له على الجريمة أو مساعدين له، فإنه ينتقض عهدهم جميعاً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في قصة عبد الله بن سهيل رضي الله عنه حينما قتلته يهود بخيبر: (أو تؤذنكم يهود بحرب، فإما أن يدفعوا رجلاً منهم، وإما أن تؤذن يهود بحرب) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل سفك دم المسلم على هذا الوجه، الذي فيه التواطؤ أو يشعر بالتواطؤ مؤذناً بزوال العهد والذمة لهم.
إذاً: يُفرَّق في مسألة القتل: فإذا قتل القاتل منهم فإنه يُقتَل، إذا كانت جريمة منفردة.
أما إذا كانت جريمة عن تواطؤ، وكانوا ينظمون لذلك، أو يهيئون له، فإنهم حينئذ يتحملون جميعهم مسئولية ما أتى من جرم، ويكون هذا نقضاً للعهد، لما فيه من الخيانة والغدر بالمسلمين، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حينما غدر به اليهود وأرادوا أن يرموا الحجر عليه، حينما أمروه أن ينتظر، فعد ذلك ناقضاً للعهد بينه وبينهم.
وأما إذا قتل الذمي كافراً، فإن أصل العقد حينئذ أننا نقرهم على دينهم، فإذا وقع القتل فيما بينهم فلا يخلو أمرهم من أحوال: الحالة الأولى: أن يترافعوا إلينا، فيأتون عن طواعية ويقولون: هذا قتل فلاناً، فيرفعون أمره إلى القضاء، بحيث يُحكم فيه بحكم الإسلام.
الحالة الثانية: ألاَّ يترافعوا إلينا، بل يترافعون إلى حكامهم وقضاتهم.
الحالة الثالثة التي تقتضيها القسمة العقلية: أن يترافع بعضهم ويمتنع البعض.
فأما إذا رضي الجميع وترافعوا إلينا وجاءونا عن طواعية منهم، وقالوا: هذا قَتَل رجلاً أو قتل امرأةً منا، فنريدكم أن تحكموا بحكم الإسلام، فللعلماء في هذه المسألة خلاف مشهور: القول الأول: قال بعض أهل العلم: إن ترافع إلينا أهل الذمة، وجب علينا أن نطبق عليهم حكم الشرع، ولا نميل إلى دينهم، وإنما نحكِّم فيهم حكم الله عز وجل في عباده المسلمين.
القول الثاني: أنه يخير القاضي، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم.
القول الثالث: التفصيل في هذه المسألة.
أما بالنسبة للقول الذي يقول: إنه يجب عليه أن يحكم بينهم بحكم الإسلام فهو أصح الأقوال، فإذا ترافعوا إلينا وجب على القاضي أن يحكم بينهم بحكم شريعة الإسلام وذلك بدليل الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل قال في كتابه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] فهذه الآية الكريمة محكمة ناسخة للتخيير الذي في قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} [المائدة:42] فخيره الله عز وجل بين الحكم بينهم والإعراض عنهم، ثم نسخها قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] وقد قال مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح، وطائفة من أئمة السلف وأئمة التفسير رحمهم الله: إن التخيير في آية المائدة منسوخ، ومن هنا قال بعض العلماء: إن هذه السورة الكريمة -أعني: سورة المائدة- كلها مُحْكَمة إلا آيتين: الآية الأولى: قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42].
والآية الثانية: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة:2].
فالمقصود أن أصح الأقوال: أنه يجب عليه أن ينفذ فيهم حكم الشرع؛ لكن المشكلة أنهم حينما يحتكمون إلينا في جرائمهم فإنه سيكون الشهود منهم؛ لأن المعاملات والحوادث التي تقع بينهم غالباً لا يشهدها إلا كفار منهم ومن نحلتهم، فهل تقبل شهادة بعضهم على بعض؟ هذا فيه تفصيل: فإما أن تكون شهادة بعضهم على بعض مع اتحاد الملة، كشهادة يهودي على يهودي، ونصراني على نصراني، ومجوسي على مجوسي، فلا إشكال، والصحيح أنه تقبل شهادتهم لوجود الضرورة، ومن هنا قَبِل الله عز وجل شهادة أهل الكتاب على وصية المسلم إذا حضره الموت لوجود الضرورة، وهذا يختاره جمع من الأئمة والسلف رحمهم الله.
الحالة الثانية: شهادة بعضهم على بعض مع اختلاف الملة، كشهادة اليهودي على النصراني، والنصراني على اليهودي، أو يشهد بعض أهل المذاهب المختلفة عندهم والتي بينها عداوة، فإذا شهد أهل ملة على أخرى، فإن هنا شبهةً، وذلك لوجود العداوة بين المذهبين وبين الملتين، وسيأتي الكلام عليها -إن شاء الله- في باب الشهادات.
الحاصل: أنه يجب على الحاكم أن يحكم بينهم بحكم الإسلام.
ودليل السنة: حديث البراء بن عازب في قصة اليهوديين اللذَين زَنَيا وهما محصنان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما فرُجِما، فحكم بينهم بحكم الإسلام، ولم يجعل ذلك على التخيير ولم يُعرِض عنهم عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه تلزمهم أحكام الإسلام، وأنه يجب على الحاكم أن يقضي بينهم بشريعة الله فقط، دون غيرها من الشرائع والملل.
أما إذا لم يترافعوا إلينا، فإننا نتركهم على دينهم وملتهم، وقد قرر العلماء والأئمة ذلك، فإننا حينما عقدنا معهم عقد الجزية وعقد الذمة، فإن هذا يستلزم ترك قضاتهم وأحكامهم، ولذلك تركوا على شرب الخمر، وأكل الخنزير، والصلاة في كنائسهم، وهي من أمور دينهم وملتهم، فلما كانوا يتعبدون ويتقربون إلى ربهم، ويعتقدون أن قضاتهم هم الذي يحكمون بينهم في شريعتهم، فإن المرد إلى حكامهم وقضاتهم؛ لأننا لو تدخلنا فيهم في هذه الحالة، فمعنى ذلك أننا جعلناهم كالمسلمين سواءً بسواء من كل وجه، وليس المراد أن يكونوا كالمسلمين من كل وجه، بدليل أنهم أقروا على دينهم، والله تعالى أمر بأخذ الجزية منهم من أجل أنهم تُرِكوا على دينهم يفعلون ما يعتقدونه في شريعتهم.
وعلى هذا: إن ترافعوا إلينا حكمنا فيهم بحكم الإسلام على الصحيح.
وإن لم يترافعوا تركناهم ودينهم.
وإن رضي بعضهم بالترافع وامتنع البعض، فقال بعض العلماء رحمهم الله: إنه في هذه الحالة يُرْجع إلى الأصل من عدم التدخل في شئونهم، حتى تتفق كلمتهم على نقل الحكم إلى الإسلام.
هذا إذا حصل القتل، فقد اتفق بين الشرائع على أنه لا يجوز سفك الدم الحرام، وكذلك أيضاً الاعتداء على الأنفس بالضرب والجرح، كأن يعتدي يهودي على آخر، فيقطع يده، أو يجرحه أو يطعنه، ولا يموت، فهذا اعتداء على الأنفس، فحينئذ يقتص منهم ويلزم الإمام أن يأخذهم بحكم الإسلام في هذا.
فقوله رحمه الله: (ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام) أي: يلزمه أن يطبق وينفذ فيهم شريعة الإسلام.(140/3)
الحالات التي يعاقب فيها أهل الذمة
قوله: [ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض] (في النفس والمال): النفس تطلق على معانٍ: - النفس بمعنى الروح.
- وتطلق على الجسد والروح معاً.
- تطلق ويراد بها: الدم، ومنه سمي النفاس نفاساً لوجود الدم فيه.
- وتطلق النفس بمعنى: العين، تقول: رأيت محمداً بنفسه، أي: بعينه وذاته.
فالمقصود أن قوله: (في النفس) يشمل هذا نوعين من الجرائم: النوع الأول: ما فيه إزهاق للأرواح.
النوع الثاني: ما فيه إتلاف للأعضاء، كأن يطعن، أو يقطع اليد، أو يقطع الرجل، أو يفقأ العين، أو يفعل فعلاً يعيق مصالح البدن، فهذا من الاعتداء على الأبدان، وحينئذ يُقْتَصُّ منهم، وينفذ فيهم حكم الله عز وجل على التفصيل الذي ذكرناه.
هذا بالنسبة للاعتداء على الأنفس.
(والمال) الاعتداء على الأموال، كأن يسرق الذمي أو يغتصب المال، فإذا سرق مال مسلم، فحينئذ ينفذ فيه حكم الإسلام، وإن اغتصب حق مسلم نُفِّذ فيه حكم الإسلام، وإن فعل الحرابة وقطع الطريق وأخاف السبل، طلباً للأموال، فإنه حينئذ ينقض عهده ويباح دمه، ويصبح حكمه حكم الحربي، من وجده قتله، وهذا بالنسبة لحال نقضه للعهد في جمعه بين أخذ المال، وإخافة السبل.
(والعرض) الاعتداء على الأعراض، كأن يعتدي على العرض بالزِّنا، فإن الزِّنا مجمع على تحريمه بين الشرائع، وحينئذ لا شبهة للذمي ولا تأويل له إذا فعل الزِّنا، سواء كان بمحرم أو بغير محرم، فالزِّنا متفق على تحريمه، فيؤاخَذ به، والدليل على ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم حينما رجم اليهوديين الزانيين.
إذاً: الخلاصة: إن وقع الذمي في محرم من المحرمات أو فعل جريمة من الجرائم، فإما أن تكون متفقاً على تحريمها بين المسلمين والذميين، فنفصِّل، ونقول: إن كانت على مسلم أقمنا حكم الإسلام عليه، وإن كانت بين بعضهم البعض فننظر: إن ترافعوا إلينا، حكمنا عليهم بحكم الإسلام، وإن لم يترافعوا إلينا تركناهم وشريعتهم، وما رضوا بحكمه فيما بينهم.
هذا بالنسبة للذي اتُّفق على تحريمه.
النوع الثاني: الذي فيه شبهة في دينهم، كأن يفعلوا من المحرمات ما فيه شبهة في دينهم، كشرب الخمر، فشرب الخمر محرم في ديننا، ومباح في دينهم، وحينئذ يَرِد
السؤال
هل نؤاخذهم بديننا أم نؤاخذهم بدينهم؟ فيه تفصيل: فما يفعله الذمي متأولاً لدينه ينقسم إلى قسمين: الأول: ما يكون بأصل سماوي، كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، فهذه فيها أصل سماوي بإباحتها، فحينئذ يفعلها اليهود والنصارى، ونقول فيمن فعل ذلك من أهل الذمة: - إن فعلها في بيته مستتراً فلا إشكال، فقد تدين بما يعتقد حله ولا يؤاخَذ.
- وإن ظهر أمام الناس ففعلها في السوق -مثلاً- أو شرب الخمر وخرج إلى الخارج، فحينئذ يطبق عليه حكم الإسلام، ويؤاخذ بذلك على تفصيل: فبعض العلماء يرى أنه يعزَّر، وبعض العلماء يرى أنه يُجْلد، كالمسلم إذا شرب الخمر.
هذا بالنسبة للحالة الأولى، وهي: أن يفعل ما هو جريمة في ديننا دون دينه.
الثاني: ما ليس له أصل سماوي، كمجوسي يطأ مَحْرَمه، فعند المجوس -والعياذ بالله- أنه يجوز نكاح المحارم، فيتزوج الرجل منهم بِنْتَه، وأمَّه، وأختَه والعياذ بالله! وهذا الفعل ليس لهم فيه أصل سماوي، ومن هنا فإن هذا الفعل -مع أنهم يعتقدون جوازه- لا نقرهم عليه، ولو كان في بيوتهم أو في أنكحتهم، ويدل على ذلك: أنه جاء في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد في الأمصار: أن يفرقوا بين كل مجوسي ومجوسية من ذوات المحارم فلا يقر المجوسي على نكاح ذات المحرم.
فالخلاصة فيما يفعله أهل الذمة مما يتأولون فيه: أولاً: إما أن يتأولوا بما له أصل من دين سماوي، كشرب خمر، وأكل لحم خنزير، ونحو ذلك، فهذا نفرق بين أن يكون ظاهراً ومستتراً: - فإن كان مستتراً عذرناهم.
- وإن كان ظاهراً آخذناهم.
لكن هل نؤاخذهم بالحد كما يحد المسلم، أم أننا نؤاخذهم بالتعزير ويرجع الأمر إلى اجتهاد القاضي والحاكم؟ قولان للعلماء.
ثانياً: إذا فعلوا ما يعتقدون حله مما ليس له أصل في دين سماوي، كوطء المجوسي لذوات المحارم، فإنه ليس له أصل سماوي، والسبب في هذا عندهم: أنه كان لهم عظيم من عظمائهم شرب الخمر، ووطئ ابنته أو أخته -والعياذ بالله- وهو سكران، فلما وطئها، انكشف أمره بعد أن صحا، فأرادوا قتله، فلما أرادوا قتله، قال الخبيث: ألا هل تعلمون شريعةً أفضل من شريعة آدم؟ قالوا: لا، قال: إن آدم كان ينكح الأخت من أخيها، فلما قال لهم ذلك، انقسموا إلى طائفتين: - طائفة أقرته.
- وطائفة أنكرت، وبقيت على الإصرار على قتله، فاقتتلوا.
وقد ورد في هذا أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكنه مُتَكَلَّمٌ في سنده.
لكن أياً ما كان، فقد بقي هذا في دينهم، وبقي عندهم أن وطء المحارم جائز، وإذا فعل مسلم ذلك، واعتقد حله، وقال: إن وطء المحارم أو الزواج بهن مباح، فإنه يكفر بإجماع العلماء رحمهم الله.
قال رحمه الله: [وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه، دون ما يعتقدون حله].
أي: يلزمه أن يقيم الحدود عليهم، فيما يعتقدون تحريمه، لا ما يعتقدون حله، فيقام عليهم حد الزِّنا؛ لأنهم يعتقدون أنه حرام، ولا يقام عليهم حد الخمر؛ لأنهم يعتقدون أن الخمر حلال.
هذا الذي جعل المصنف -رحمه الله- يفرق بين ما يعتقدون حله، وبين ما يعتقدون حرمته.(140/4)
لزوم تميز أهل الذمة عن المسلمين
قال رحمه الله: [ويلزمهم التَّميُّز عن المسلمين] أي: يلزم أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين، وهذه الأمور شرع المصنف في بيانها، ووردت في كتاب أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين المهديين -رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين- عمر بن الخطاب، وهذا الكتاب وقع في عدة حوادث في عصره رضي الله عنه وأرضاه، فقد كتب عبد الرحمن بن غنم كتابه في الصلح بينه وبين أهل الذمة، وكذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه مع أهل الحيرة، وغيرهم من أمراء الأجناد، كتبوا كتباً أقرهم عليها عمر رضي الله عنه وأرضاه، فصارت أصلاً في معاملة أهل الذمة.
وهذه الكتب فيها شروط بين المسلمين وبين أهل الذمة.
والقاعدة التي ينبغي وضعها في الحسبان: أنه يتفق أهل العقول المستقيمة على أنه لا يمكن أن يُقَر من يخالفك إذا أعطيته أماناً وعهداً لكي يفعل ما يشاء؛ لأنه لم يحدث بينك وبينه ما حدث من عداوة وشحناء إلا بسبب ما بينك وبينه من الخلاف، فإذا رضي العدو لعدوه أن يبقى عنده، فهذا خلاف الأصل، فإن أراد أن يبقيه عنده على هواه، وعلى فكره وعلى عداوته، كان ذلك أشبه بالخَرَق والجنون، إذ ليس هناك إنسان له عقل وحكمة يأتي بمن يخالفه ويعاديه، ويتركه في حضنه وحجره، يدفع عنه ويقوم بحقوقه، مع أنه يدعو إلى خلافه وإلى أذيته والإضرار بكرامته ودينه.
ومن هنا فإن أهل الكتاب في الأصل أعداء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يمكن أن يقرهم الإسلام على ما فيه ضرر بالإسلام أو بالمسلمين، والعقد الذي بينهم وبين المسلمين إنما يقوم على أن يحفظوا لنا حقوقاً، ونحفظ لهم حقوقاً، وتكون هذه بمثابة الذمة بيننا وبينهم، فإن أخلوا بها، فهناك ما يوجب انتقاض عهدهم، وهناك ما فيه تفصيل وخلاف بين أهل العلم رحمهم الله.
وهذا الأمر واقع إلى الآن، فإن الأمم والشرائع والدول كلها ترى أن من حقها أن من وطئ أرضها أو نزل على محلها، أن تلزمه بما ترى، وأن تقيده بما تحس أن مصالحها مرتبطة به، وأن درء المفسدة عنها متوقف عليه، فتلزم كل من أتى إليها بذلك، فليس من الغريب أن نقول هذا الكلام، حتى نرد شبهة من يطعن في المسلمين حين ترد هذه الكتب، فيقال: انظروا كيف يتشدد المسلمون؟! حتى نجد بعض كتاب المسلمين يتسامح في هذه الشروط، بل تجد بعض كتب الشروط العمرية يعلق عليها مَن يشكِّك في صحة هذه الكتب، ويقول: إنها لا تتفق مع سماحة الإسلام، وكأنه يريد أن يجلس أهل الذمة مع المسلمين، لا فرق بينهم وبين المسلمين، فنصير بين أمرين: - إفراط.
- وتفريط والقسط والعدل لا بد منه، فأهل الذمة نحفظ حقوقهم، ونحس أن لهم علينا حقاً علينا أن نحفظه، وذمة بيننا وبينهم لا ينبغي أن تُخفَر؛ لكن كذلك ينبغي أن يشعروا ما هو الإسلام، وأن يشعروا من هم المسلمون، وأن يكونوا على ذلة وصغار، وهذا هو الذي عناه الله بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فلم يقل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] وسكت، فليس الإسلام بجائع حتى يُطْعَم، ولا بفقير حتى يستَغْنِي بهذا المال، فهو في عزة من الله وكرامة من الله وغنى منه سبحانه وتعالى، وإنما فُرِضت هذه الأمور حتى يكونوا تحت طواعية الإسلام وتحت قهره.
فإذاً: لا بد من الوسطية، فنلزمهم بحفظ حقوقٍ يشعرون معها بذلتهم وعزة المسلمين، ويشعرون معها بمهانتهم وكرامة الإسلام، ترغيباً لهم في دين الله، وإشعاراً لهم بكلمة الله، فيصير أهل الأرض حينئذٍ يدينون لله، وتحت كلمة الله من هذا الوجه، أما أن يبقى الذمي في بلاد المسلمين يفعل ما يشاء، ويفعل ما يريد، فهذا أبداً لا يمكن أن يكون، فأهل العقول في حياتهم وفي ظروفهم وفي معايشهم لا يمكن أن يتركوا لإنسان يعادي دينهم أو نحلتهم أو فكرتهم أن يفعل ما يشاء.
ومن هنا: إذا بقي الكفار تحت سطوة المسلمين، فينبغي أن يُحفظ الإسلام من كيدهم ومكرهم وأذيتهم، وهذا يستلزم أمناً فكرياً وأمناً ذاتياً، والأمن الفكري يستلزم أن توضع شروط وضوابط يُمنع فيها أهل الكتاب من فتنة المسلمين عن دينهم، ويُمنع فيها أهل الكتاب من إحداث أمور تدعو المسلمين إلى متابعتهم أو الرضا بشريعتهم، هذا بالنسبة لما يكون من جهة الفكر.
أما من جهة التصرفات والأفعال فهناك أمور سُنَّتْ سُنَّةً، وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبقيت في عهود الإسلام والمسلمين أُشْعِر فيها أهل الذمة بما ينبغي أن يُشْعَروا به، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأصل في قوله: (لا تبدءوا أهل الكتاب بالسلام) فنهى عليه الصلاة والسلام عن بداءتهم بالسلام، إشعاراً لهم بالصغار والذلة بين المسلمين، وحتى يتميز الفريقان، إذا لو نشأ الكفار بين المسلمين دون هذه الضوابط فستنشأ أجيال المسلمين ترى أنهم مع المسلمين كالشيء الواحد، وحينئذ لا يؤمَن أن يختلطوا، ولا يؤمَن -نسأل الله السلامة والعافية- أن ينجرف بعض المسلمين إلى دينهم، ويحصل خلاف مقصود الشرع، إذ أن مقصود الشرع من عيشهم بين المسلمين أن يأتي اليوم الذي يرون فيه سماحةَ الإسلام ومِنَّتَه وفضلَه ويدَه، فيدخلون فيه، ويكون سبباً في نجاتهم في الآخرة.
يقول رحمه الله: (ويلزمهم التميز عن المسلمين) هناك أمور فكرية سينبه عليها المصنف مثل: ألا يظهروا كتبهم، سواءً بالقراءة أو بغيرها، فلا يقرءون كتبهم جهرةً، وتُسمع قراءتهم بين المسلمين، ولا يقرءون بها في مجامع المسلمين، إنما يقرءون بها في كنائسهم وفي بِيَعهم وفي صلواتهم، ولذلك في قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40]، قال بعض المفسرين: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} [الحج:40] لولا دفع الله بالمؤمنين، ومن هنا أقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن بعده من الخلفاء الراشدين كنائس أهل الذمة في بلاد المسلمين بضوابط معينة، وأصول معينة؛ لكي يقرءوا فيها، ويقوموا فيها بأذكارهم وصلواتهم، داخل هذه الصلوات والبِيَع والكنائس، ولا يظهرون شيئاً من دينهم، فهذا من جهة الفكر؛ لئلا يتأثر المسلمون.
- كذلك أيضاً لا يُظهِرون شيئاً من عقائدهم، فلا يظهرون شركياتهم كقولهم: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ، وقولهم: إن المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! فلا يُظهِرون شيئاً من شركهم، حتى يأمَن المسلمون في عقيدتهم، فإنه لا بد من الأمن في العقيدة.
- كذلك أيضاً لا يُظهِرون شيئاً من منكراتهم -كما ذكرنا- من شرب الخمر، وأكل الخنزير وإظهار الصليب، ونحو ذلك من الأمور التي فيها دلائل يتميزون بها بدينهم.
- كذلك أيضاً لا تكون لهم صولة وعزة في بلاد المسلمين؛ لأن الله نفى ذلك، فقال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة:29] ثم وصفهم بحالة واحدة، فقال: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فمعناه: أن عيشهم ووجودهم بين المسلمين موصوف بالصغار، وهذا يستلزم ألاَّ يعلو بناؤهم على بناء المسلمين، وألاَّ تكون لهم صدارة المجالس، وغير ذلك من الأمور التي وردت في الشروط العمرية، وكذلك في كتاب خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لأهل الحيرة، وفي غيرها من العهود التي عقدت بين المسلمين وبين أهل الذمة.
وقوله: (ويلزمهم التميز عن المسلمين) أولاً: في أبدانهم.
ثانياً: في ثيابهم.
ثالثاً: في بيوتهم، ومساكنهم.
رابعاً: في مراكبهم.(140/5)
تميز أهل الذمة في شعورهم وذواتهم
أما تميزهم في شعورهم وذواتهم: فإنه مما ورد في كتاب عمر رضي الله عنه وأرضاه، وجرى عليه العمل، فتُجَزَّ نواصيهم، أي: مقدمة رءوسهم، لأجل إذا رآهم المسلم لا يظنهم من المسلمين، فيُعرَفون ويتميزون، فتُجَز لهم النواصي، ولا يُفْرَق شعرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سَدَل وفَرَق، وكان الفَرْق آخر ما كان من عهده عليه الصلاة والسلام وسنته، وفَرْقُ الشعر: أن يَفْرِق الشَّعَرَ من نصفه فيقسمه إلى فرقتين، خاصةً إذا طال الشعر، وقد كانوا في القديم لا يحلقون شعورهم غالباً، فأهل الكتاب لا يَفْرِقُون كالمسلمين، حتى يكون هذا تمييزاً لهم، ولا يجوز للمسلم أن يوافقهم في هيئاتهم في الشعر، ومن الأمور التي تميزهم: حلق أطراف الشعر، وكان هذا من شعار اليهود، فالحلق الموجود الآن الذي يُحْلق فيه طرف الشعر من جهة اليمين، وطرفه من جهة اليسار، وهو الذي يسمى بالقَزَع، أو تخفيف الشعر من الطرفين وإسداله من وسطه، هذا مما كان لأهل الذمة بين المسلمين، ويفعله اليهود، فيتميزون في شعورهم.(140/6)
تميز أهل الذمة في مراكبهم
ويتميزون في مراكبهم: فلا يركبون الخيل؛ لأن ركوب الخيل عزةٍ وكرامة، لذلك قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] وقد جاء في بعض كتب الشروط العمرية، منعهم من ركوب الخيل، فيركبون الحمير وغيرها من المراكب الأُخَر تميزاً لهم؛ لأنهم إذا ركبوا الخيل كانت لهم عزة وكرامة، والله يقول: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فهم بين المسلمين لا بد أن يصْغُروا، فإن قال قائل: إن عندهم مصالح وحوائج، نقول: إن البغال والحمير وغيرها من الدواب تقضي هذه المصالح، والخيل إنما تكون غالباً للجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد جعلها الله عز وجل من متاع الدنيا ومن زينتها، فإذا تزيَّنوا تميَّزوا وعزُّوا وبزُّوا، وكان لهم شيء من الصولة على المسلمين.(140/7)
تميز أهل الذمة في بيوتهم
يتميزون في بيوتهم: فلا تكون بيوتُهم عالية على بيوت المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يَعْلُو ولا يُعْلَى عليه) وسنبين التفصيل في هذه المسألة بين أن يكون بناؤهم بين المسلمين وبين أن يكونوا منفردين ومنعزلين عن المسلمين.(140/8)
تميز أهل الذمة في مجالسهم
ويتميزون في مجالسهم: فلا يكون لهم حق الصدارة في المجلس، ولا يجلسون في صدر المجلس؛ لأنه موضع إكرام، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وجُعِل الصغار على من خالفني) فثبت في السنة الصحيحة أن مَن خالف ملة الإسلام، فينبغي أن يكون في صغار، فإذا جلس في صدر المجلس فإن هذا إكرام له، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) والتكرمة: هي صدر المجلس، فإذا كان المسلم لا يجوز له أن يجلس في صدر المجلس إلا بإذن صاحب المجلس، فكذلك أيضاً لا يجوز إجلاس أهل الذمة من باب أولى وأحرى.
لكن لو أن صاحب الدار أجلسه في صدر المجلس! لا يُجْلَس، ولو أذِنَ صاحب الدار؛ لأن الحق للإسلام وليس له هو، فليست قضية الجلوس في صدر المجلس قضية شخصية، وحتى لو أنه أراد أن يعلي بناءه وأذِنَ له جارُه المسلم، فليس من حقه؛ لأن هذا من حق الإسلام وليس من حق الشخص، فالحقوق تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون شخصياً، فإذا تنازل عنه صاحبه فلا إشكال.
ومنها ما يكون حقاً عاماً.
ولذلك فإنهم إذا قطعوا الطريق، وأخافوا السبل بالحرابة، فقال أولياء المقتولين: سامَحْناهم، وقال الإمام: يقتلون، فإن من حقه أن يقتلهم؛ لأنه انتقل من الحق الخاص إلى الحق العام.
ففي هذه المسائل التي ذكرناها الحق فيها للإسلام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وجُعِل الصَّغار على من خالفني) فكأن هذا الصَّغار مرتبط بمخالفة الإسلام، وليس بمرتبط بحق شخصي حتى يُبْحَث عن كونه يؤذَن له أو لا يؤذَن له، أو يتنازل شخص فيجلسه في مكانه في صدر المجلس أو نحو ذلك، إنما هو حق عام يرجع إلى الإسلام، فلا يُنْظَر فيه إلى التنازل.(140/9)
عدم ركوب أهل الذمة الخيل المسرجة
قال رحمه الله: [ولهم ركوب غير خيل بغير سرج بإكاف].
(بغير سرج بإكاف) وهو البرذعة، والمقصود من هذا: أن يكون لهم تميز، بحيث إذا رأيته في مركبه تعرفه، وكل هذا -كما ذكرنا- جاء في سنة عمر رضي الله عنه، وجرى عليه عمل أئمة الإسلام مع أهل الذمة، أنه لا بد من تميزهم في مشيهم؛ لأنهم إذا مشوا على مراكبهم كالمسلمين لم يتميزوا، فلا بد أن يتميزوا في دورهم، ولا بد أن يتميزوا في سيرهم على دوابهم، ولا بد أن يتميزوا حتى إذا دخلوا حمامات المسلمين للاغتسال، وقد ذكر هذا غير واحد من الأئمة، كالإمام ابن قدامة رحمه الله، والإمام الشيرازي رحمه الله من الشافعية، وغيرهم من الأئمة؛ لأن المراد أنهم إذا خالطوا المسلمين لم يشعر المسلمون أنهم منهم.
وتطبق السنة عليهم؛ من عدم السلام عليهم، واضطرارهم إلى أضيق الطريق، وكل ذلك لا يكون إلا بعلامة مميزة، وهذا هو الذي جعل العلماء يجتهدون في تطبيق السنة بالتميز؛ لأن الأمر بالشيء أمرٌ بلازمِه، فإذا كنت لا تستطيع أن تطبق السنة في الذمي إلا بمعرفته، فلا بد من وجود علامة يتميز بها، ومن هنا قيل بلبس الغيار، وشدِّ الزِّنَّار، والمراد بلبس الغيار: أن يكون لهم لبس خاص غير لبس المسلمين، فيتميزون به، ويُعرفون، وهذا دَرَجَ عليه المسلمون رحمهم الله في القرون الأُوَل، فكانوا يلزمونهم بلباس معين، حتى لا ينخدع المسلم إذا رآهم فيظنهم من المسلمين.(140/10)
تصدير أهل الذمة في المجالس والقيام لهم
قال رحمه الله: [ولا يجوز تصديرهم في المجالس].
[ولا يجوز تصديرهم] تصديرهم: من الصدر، وصدر المجلس يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون في وجه عورة البيت، وهو مدخل المضيف من داخل بيته، فيستقبله ذلك الصدر، وهذا يسمى بالتكرمة والصدر، وهذا لا يجوز أن يجلس فيه الإنسان إلا بإذن صاحب الدار، ولا يجوز أن يجلس فيه الذمي.
الصورة الثانية: أن يكون متميزاً بالفضل في الهيئة كالفراش ونحوه، أو في الحال، فصدر المجلس مثلاً: إذا كان الموضع هو أبرد وأفضل موضع في المجلس والفراش فيه وفير، فهذا هو صدر المجلس، ولا يجوز أن يُجلس فيه إلا بإذن صاحب الدار، ولا يجوز أن يُجلس فيه الكافر.
فصدر المجلس فيه مسألتان: المسألة الأولى: أنه لا يَجلس فيه المسلم إلا بإذن صاحب الدار.
المسألة الثانية: أنه لا يجوز إجلاس الذمي فيه.
قال رحمه الله: [ولا القيام لهم] أي: للكفار؛ لأن القيام إجلال، والقيام للمسلم مشروع، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة مشروعية القيام عند السلام، وأما كراهيته عليه الصلاة والسلام للقيام، فهذا ثابت به النص الصحيح، ولكنه القيام المخصوص الذي يقوم فيه الغير دون أن يسلِّم، كما يفعله بعض الناس إذا دخل إلى المجلس حيث يقومون له دون سلام، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال عنه: (لقد كدتم تفعلون فعل الأعاجم) فقد كانوا يفعلونه من باب التعظيم، ونُهي عن ذلك لما فيه من الغلو، وسداً لذريعة الغلو.
وعلى هذا: فإن النهي الوارد منه عليه الصلاة والسلام إنما هو عن القيام المجرد عن السلام، أما القيام للسلام أو القيام للضيف، وللعالم، أو لذي الحق، فإنه من شيم الكرماء، ومن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة: أنه كان إذا دخل على فاطمة قامت له فقبلت يده، وأجلسته مجلسها، وإذا دخلت عليه قام لها عليه الصلاة والسلام وأجلسها مجلسه، إكراماً لها، فقد قام عليه الصلاة والسلام لبنته، وهذا قيام الرحمة، وقامت البنت لأبيها، وهذا قيام الإجلال والإكرام، فشمل النوعين: - أن يكون القيام بسبب الرحمة، كقيام الوالد لولده، وقيام الكبير للصغير.
- والقيام بسبب الإكرام والإجلال، كقيام الابن لأبيه، وقيام صغير المسلمين لكبيرهم؛ لأن هذا من إجلال ذي الشيبة المسلم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله: إجلال ذي الشيبة المسلم) وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر طلحة رضي الله عنه حينما قام لـ كعب بن مالك -كما في صحيح البخاري- حينما نزلت توبة الله على كعب، قال: (فقام لي يَجُرُّ رداءه، فحفظتها له) ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على طلحة قيامه.
وكذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال للأوس عندما جاء سعد: (قوموا إلى سيدكم) وقوله: (فأنزلوه) لا يقتضي التخصيص، كما لا يخفى في الأصول، فإن قوله: (فأنزلوه) إنما هو علة التشريك، وليس المراد به محض الحكم؛ لأن قوله: (قوموا إلى سيدكم) إشعار بالحق وإشعار بالفضل، فلما قال: (فأنزلوه) إشعار بالحاجة، فجمع بين الحاجة وبين الحق.
وكذلك أيضاً يُقام لحَفَظَة كتاب الله عز وجل، ويقام للضيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).
والنفوس تستهجن أن يدخل ذو الشيبة المسلم على صغير من صغار المسلمين فيسلم عليه، وإذا به جالس والآخر قائم على رأسه، فهذا لا يمكن أن ترتاح له النفوس، بل إن الطباع تنفر من هذا الفعل، وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم -فيما يظهر- أنه إذا دخل ذو الحق كالعالم، وحافظ كتاب الله، وكبير السن، ومن له فضل أن يصافحه الإنسان وهو جالس، فهذا من الصعوبة بمكان، خاصة وأن النص حينما ورد بالنهي عن القيام جاء ما يخصصه، وجاء عندنا في الشرع الأمر بإكرام الضيف مطلقاً، يقول العلماء: إن ما ورد من الشرع مطلقاً كإكرام الضيف ونحوه، فإنه يؤذَن به بما جرى به العرف والعادة واستقر الناس عليه، أو جرى تعامل الناس عليه، فهذا يعتبر من إطلاقات الشرع، ولا بأس على الناس في فعلهم وقيامهم به.
وعلى هذا: فإنه لا يجوز القيام للذمي، ومن هنا كان سلامك على الذمي وأنت جالس احتقاراً له، وانتقاصاً له، وصغاراً له، ولا يجوز فعل الصغار بالمسلم؛ لأنه ليس من العدل، يقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] فأمر الله عند التحية بأحد أمرين: - إما أن نكافئ من حيانا بمثل ما حيانا به وزيادة.
- وإما أن نرد بالمثل.
فإذا جاءك يسلم عليك وهو قائم، فقد حياك قائماً، فتحييه قائماً كما حياك قائماً، فإن حييته جالساً فحينئذ لم ترد له تحيته كما حياك، وعلى هذا: إذا جاء الذمي حييته بما يشعره بالصَّغار، وإذا جاء المسلم حييته بما أمرك الله عز وجل وهو رد تحيته بالمثل، أو ردها بما هو أفضل، لعظم الأجر في ذلك.(140/11)
حكم السلام على الذمي
قال رحمه الله: [ولا بداءتهم بالسلام].
ولا يجوز أن نبدأهم بالسلام، والنص في ذلك صريح: (لا تبدءوهم بالسلام) والسبب في ذلك: أنه إعزاز لهم وإكرام لهم، واستُثْنِي من هذا، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سلام على من اتبع الهدى) في كتبه عليه الصلاة والسلام للملوك؛ لأن المراد بها الاستعطاف، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سلام على من اتبع الهدى) وهم لم يتبعوا الهدى، وإنما قال العلماء: هذا خاص ولا تعارض بين عام وخاص.
بالنسبة للسلام: قيل للإمام أحمد رحمه الله: يقولون للذمي: كيف حالك؟ كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ قال: هو أشد عندي من السلام؛ لأنه نوع من الاعتناء والاحتفاء، وأن حاله يوجب أن يشفق عليه حتى يسأل عن حاله وكيف أصبح وكيف أمسى، وكل هذا سداً لذريعة الموالاة لمن عادى الله ورسوله؛ لأنه لا بد أن يتميز المسلم عن الكافر.(140/12)
منع أهل الذمة من بناء الكنائس وترميمها
قال رحمه الله: [ويُمنعون من إحداث كنائس وبِيَع، وبناء ما انهدم منها ولو ظلماً].
(ويُمنعون من إحدث كنائس وبيع).
ويُمنع أهل الذمة من إحداث الكنائس في بلاد المسلمين، وهذا نص عليه كتاب الشروط العمرية، الذي شرحه الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه المفيد (أحكام أهل الذمة)، وبين أنه لا يجوز لهم أن يحدثوا الكنائس في بلاد المسلمين، ولا أن يعيدوا بناء ما انهدم منها، وهذا يدل على أن المراد من عقد الذمة بيننا وبينهم أن يألفوا الإسلام، فلا تمضي فترة من الزمن إلا وقد دخلوا فيه، وهذا هو الذي قُصِد من إيجاد العقد بيننا وبينهم: أنهم يرضون بالإسلام؛ لأن بيننا وبينهم قواسم مشتركة، فدينهم أصله دين سماوي، ومن كان ذا دين سماوي فإنه إذا رأى سماحة الإسلام ويُسره وشريعته، فإنه أحرى أن يتبع ذلك وأن يلتزم به.
(وبناء ما انهدم منها) أي: لا يجوز لهم بناء ما انهدم من الكنيسة.
وهنا مسألة: إذا انهدمت الكنيسة، فلا تُجَدَّد، ولا يجوز إحداث كنيسة في داخل بلاد المسلمين، وقال أئمة الشافعية: إنهم إذا بنوها في الخراب، أي: بعيداً عن المساكن، وبعيداً عن المدن، فلا بأس وقد سكت عنه بعض العلماء، وقال: إنما يكون المنع إذا كان في داخل بلاد المسلمين، فيُمنعون من إحداثها ومن تجميلها وتزويقها، فلا يكون لهم بها شعار يتميزون بها في الظاهر، ولا تُجَدَّد ولا ترمم في الظاهر، حتى تكون جاذبةً للغير إليها، أو يكون لهم بها عزة، وقد أمر الله عز وجل أن يكونوا في صغار، فلا بد أن يكون الصغار شاملاً حتى لأمور طقوسهم وأمورهم التي يتعبدون بها.
وهنا مسألة وهي: إذا آل الجدار إلى السقوط، وأرادوا أن يحفظوا كنيستهم فماذا يفعلون؟ قالوا: يبنى الجدار من داخل الكنيسة؛ لأن هذا ليس بتجديد، ولا يعتبر تجديداً لما انهدم، فيهدم الجدار الأول، ثم يبنى الثاني من داخله، ثم ينهدم الذي بعده، فيبنى من داخله، وهذا ذكره غير واحد من العلماء رحمهم الله، كل ذلك منعاً للإحداث، فيتقاصر أمرهم حتى يضيق عليهم، وكل هذا -كما ذكرنا- إعمالاً لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فيكون الصَّغار في دينهم كما كان الصَّغار في أمور دنياهم.
(ولو ظلماً) إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: ولو هدمت ظلماً، فبعض العلماء يرى أنها إذا هدمت ظلماً فإنه يُسمح لهم أن يعيدوها، وهذا القول في الحقيقة له وجه من النظر والقوة، يقول بعض العلماء رحمهم الله: لأن بيننا وبينهم عقد عهد وذمة، وينبغي أن ننصفهم، فهم التزموا بأداء جزيتهم، وقاموا بالحق الذي يجب عليهم، فينبغي علينا أن نحفظ كنائسهم، فنترك لهم كنائسهم، ونترك بِيَعهم وصلواتهم، وهذا هو الوسط، فلا نقدم على هدمها بدون حق، فإذا هُدِمت بدون حق، فهذا يقوى فيه أنها تعاد لهم، وهو قول بعض العلماء، وأشار المصنف إلى هذا الخلاف بقوله: (ولو ظلماً).(140/13)
منع أهل الذمة من رفع بنيانهم على المسلمين
قال رحمه الله: [ومن تعلية بنيانٍ على مسلم، لا من مساواته له].
(ومن تعلية بنيانٍ على مسلم) لا يجوز أن يكون بناء الكافر الذمي فوق بناء المسلم، وإنما يكون بناؤه مساوياً له أو دونه، وهذا إذا كان جاره مسلماً، أما لو كانوا في حي للكفار أنفسهم أو لأهل الذمة، فتطاول بعضهم على بعض في البنيان، فهذا لا بأس به، ولا حرج فيه، ويُتركون على هذا؛ لأنه لا تنكشف به عورة المسلم، ولا يكون لهم به فضل على المسلمين، ومن هنا فُرِّق بين أن يكون بنيانهم بين المسلمين، وبين أن يكون بنيانهم لهم في داخل أحيائهم، أو مدنهم أو قراهم، فإنه حينئذ لا يكون فيه مخالفة للنص في قوله عليه الصلاة والسلام: (الإسلام يَعْلُو ولا يُعْلَى عليه) فإن فيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون المسلم أعلى من الكافر.
(لا من مساواته له) في حكم مساواة الكافر للمسلم في البنيان قولان: قال بعض العلماء: ينبغي أن يكون أدنى من بناء المسلم.
وقال بعض العلماء: يجوز أن يساويه، وهذا هو الذي صححه غير واحد من العلماء، واختاره المصنف رحمه الله.(140/14)
منع أهل الذمة من إظهار المحرمات والجهر بدينهم
قال رحمه الله: [ومن إظهار خمرٍ وخنزيرٍ وناقوسٍ وجهرٍ بكتابهم] قوله رحمه الله: (ومن إظهار خمر) التقدير: ويُمنعون من إظهار خمر، كما ذكرنا، والخمر مأخوذ من خمَّر الشيء إذا ستره، وسميت الخمر خمراً لأنها تسكر العقل وتغيِّبه، والعياذ بالله! (ومن إظهار خمر): أي: أنهم إذا شربوا الخمر فيشربونها في بيوتهم، ولا يشربونها بين المسلمين، فإذا فعلوا ذلك فإنه حينئذ يكون الحكم فيهم ما سبق بيانه، من أنه يطبق عليهم ما يطبق على المسلمين على تفصيل؛ هل يقام عليهم الحد أو يعزرون؟ (وخنزير) فلا يظهرون الخنزير، وكذلك أيضاً لا يتظاهرون بأكله، وإذا كان لهم مطاعم يدخلها المسلمون فلا يجوز أن يكون فيها لحم الخنزير، فإن فعلوا ذلك أوخذوا عليه، وإن أظهروا الخنزير بين المسلمين وأظهروه علانيةً فإنه تسقط حرمة الخنزير، فلا ضمان عليه.
(وناقوس) وهو الذي يضرب به لصلواتهم؛ فيضرب بالناقوس داخل بِيَعهم وكنائسهم فقط، وهذا هو الذي تضمنه كتاب الشروط العمرية، وكذلك غيره من الكتب الأخرى، فقد أُذِن لهم أن يضربوا بالناقوس داخل الكنائس لا خارجاً عنها.
(وجهرٍ بكتابهم) التوراة والإنجيل، فكونهم يقرءونها، أو يجهرون بأفكارهم بين المسلمين كل هذا من الممنوع والمحظور عليهم، وإذا فعلوا ذلك فتنةً للمسلمين فإنه ينتقض عهدهم، كما سيأتي.
قال رحمه الله: [وإن تهوَّد نصراني، أو عكسه لم يُقَر، ولم يُقْبَل منه إلا الإسلام أو دينه] أي: انتقل النصراني إلى اليهودية، أو اليهودي إلى النصرانية، تهوَّد نصراني، أو تنصَّر يهودي، فالحكم واحد أنه لا يُقَر، فإما أن يبقى على دينه، وإما أن يرجع إلى الإسلام، وإلا انتقض عهده.(140/15)
ما ينقض عهد أهل الذمة
قال رحمه الله: [فصل: وإن أبى الذمي بذل الجزيةَ، أو التزامَ أحكامِ الإسلام، أو تعدَّى على مسلم بقتلٍ، أو زِناً، أو قطعِِ طريقٍ، أو تَجَسَّسَ، أو آوى جاسوساً، أو ذَكَرَ الله أو رسوله أو كتابه بسوء، انتقض عهدُه دون نسائه وأولاده، وحل دمُه ومالُه](140/16)
عدم التزام الذمي بالجزية أو أحكام الإسلام ينقض عهده
يقول المصنف رحمه الله: (وإن أبى الذمي بذل الجزيةَ) أي: أبى أن يدفع الجزية، فهناك أمران لا بد من وجودهما في عقد الذمة، وهما: - دفع الجزية.
- والالتزام بأحكام الإسلام.
فإذا امتنع الذمي من هذين الأمرين لم يصح أن تُعْقَد معه الذمة، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله؛ لأن عقد الذمة يقوم على هذين الأساسين: أولهما: دفع الجزية، وهذا بنص كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: الالتزام بأحكام الإسلام، فلا يأتي بما يعارض الإسلام أو يتسبب في الأذية والإضرار بالمسلمين، من حيث الأصل والجملة، فبيَّن رحمه الله في هذا الفصل الأمور العظيمة التي إذا فعلها الذمي انتقض بها عهده، وصار حكمه حكم الأصل.
فقال رحمه الله: (وإن أبى الذمي بذل الجزيةَ) أي: وَقَع العقد بيننا وبين أهل الذمة، ثم فوجئنا بهم أنهم قالوا: لا نريد أن ندفع الجزية، فإذا قالوا ذلك فقد انتقض عهدهم؛ لأن بيننا وبينهم التزامات، فهم ملزمون بدفع الجزية، والعقد أصلاً قائم على الجزية، فإذا منعوها فحينئذ ينتقض ما بيننا وبينهم من عقد الذمة.
وإن أبى أحدهم وقال: لا أدفع الجزية، أو ماطل فيها على وجهٍ يريد به إضاعتها على المسلمين، يكون حكمه كذلك، فيطلبهم الحاكم، ثم يستوثق منهم، فإما أن يدفعوا، وإما أن يبقى في حل من ذمتهم.
(أو التزام أحكام الإسلام) إذا قال: أدفع الجزية؛ ولكني أقول ما أشاء، وأفعل ما أشاء، وليس لأحد أن يتعرض لي -ويقع هذا أحياناً حينما يؤخذ ويقال له: كيف تجهر بكتابك؟ فيقول: أنا أفعل ما أشاء- فحينئذ كأنه خرج عن الالتزام بحكم الإسلام، وكأنه نقض ما بينه وبين المسلمين من الالتزام بالإسلام، إذ من الالتزام بالإسلام أن يتقيد بالحرمات والضوابط، وألاَّ يخل بها.
وهذا يقع عند الشروط، فإن المسلمين إذا أرادوا أن يعقدوا بينهم وبين أهل الذمة عقداً، فقال أهل الذمة: نعقد ما بيننا وبينكم ونلتزم بحكم الإسلام؛ ولكن لا ندفع لكم الجزية، فلا يصح عقد الذمة، وهذا في قول جماهير العلماء، أنهم إذا قالوا: لا ندفع الجزية، فلا يجوز لأحد أن يعقد معهم الذمة.
أما حديث أم هانئ فهذا أمان خاص، فقوله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) هذا يسمى بالجوار، والجوار غير الذمة، فينبغي أن يفرق؛ لأن جوار أم هانئ لا عوض فيه ولا جزية، فلا يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أقر على الأمان بدون عوض؛ لأننا نقول: هذا شيء وذاك شيء، فهناك الذمة وهناك العهد والأمان، وكل منهما له حكمه الخاص.
ولذلك العهد والأمان يبقى مقيداً إلى سماع القرآن، فإذا سمع القرآن فإنه يُبْلَغ إلى مأمنه إذا لم يسلم، أما بالنسبة للذمي إذا سمع القرآن فلا يلزم به، ولذلك قال الله تعالى في الأمان والعهد: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فجعل الأمان مقيداً بالسماع، ثم قال بعد ذلك: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] أي: إذا أصر على كفره فليس له أمان عندنا، وإنما ينبغي أن يرد إلى مأمنه.
وأما بالنسبة للذمة فإنه يبقى، ولا بد أن يلتزم بالأمرين.
فإن قالوا: ندفع الجزية، ولكن نسميها: ضريبة، أو تسمى باسم آخر، فهذا لهم؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعل ذلك مع المجوس حينما امتنعوا وقالوا: لا تسمِّها جزية، قال: (سموها ما شئتم)، ثم فرضها عليهم رضي الله عنه وأرضاه، وهذا من باب المصلحة، وفيه بُعْد نظر منه رضي الله عنه، طلباً لما هو أعظم، ودفعاً لما هو أبلى.(140/17)
اعتداء الذمي على المسلم ينقض عهده
قال رحمه الله: [أو تعدى على مسلم بقتلٍ أو زِناً] (أو تعدى على مسلم بقتلٍ): فإذا قتل الذمي مسلماً، فحينئذ يخفر دَمُه، يصبح دمُه هدراً، ويقتل بالمسلم الذي قتله، كما لو قتل المسلم مسلماً عمداً وعدواناً.
أما لو قتل مسلماً خطأً، فإنه لا يعتبر موجباً لانتقاض عهده، فهناك فرق بين قتل الخطأ وقتل العمد؛ لأن قتل الخطأ جاء بدون اختياره، ولا يوجب هذا نقض العهد له.
(أو زِناً): إذا زَنا الذمي بمسلمة، وفَجَر بها، سواءً عن طواعية -والعياذ بالله- أو عن غصب، ففي كلتا الحالتين يُخْفَر دمُه، وينتقض عهدُه، وهذا قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه إذا فَجَرَ الذمي بالمسلمة، فإنه حينئذ ينتقض عهده، ويُقتل، وبعض العلماء يرى أنه يقام عليه الحد، كالمسلم سواءً بسواء، ولا يرجم وإنما يُجلد، ولكن الصحيح ما ذكرناه؛ لأنها سنة راشدة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليس له مخالف من الصحابة، وقد كتب بذلك رضي الله عنه وأرضاه في كتبه.
(أو قطعِ طريقٍ): إذا قطع الطريق على المسلمين فإنه في هذه الحالة ينتقض عهده، ويرجع إلى حاله الأصلي، ويصبح مهدر الدم.(140/18)
تجسس الذمي أو إيواؤه الجواسيس ينقض عهده
قال رحمه الله: [أو تجسَّسَ أو آوى جاسوساً] (تجسَّسَ) أي: تتبَّعَ أخبار المسلمين، فكان عيناً للكفار على المسلمين، وهذا فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي داود وغيره، أنه لما جلس مع أصحابه، فجاء عين من المشركين، فجلس يسترق الحديث، ثم قام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطلبوه واقتلوه) فأمرهم بطلبه وقتله، فإذا ثبت عليه ذلك، يصبح ضرراً على الإسلام والمسلمين، ويكون قد أراد بعهده وذمته خديعة الإسلام والمسلمين، فيؤاخذ بذلك.
وهكذا إذا آوى العين أو الجاسوس؛ فإنه يؤاخذ على ذلك، ويكون حكمه كحكم الأول.
(أو ذكر الله أو رسوله أو كتابه بسوء) كأن يسب الله -والعياذ بالله- أو يسب الإسلام، أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه كلها ينتقض بها عهدُه، على أصح قولي العلماء، وهما: الأول: قول الجمهور: يرون أنه إذا سب الله وسب الإسلام وسب المسلمين، أي: سب دينهم وقصد بذلك المساس بالدين وعقيدة المسلمين، فإن هذا يوجب انتقاض العهد بينه وبين المسلمين.
الثاني: وقول الإمام أبو حنيفة: لا ينتقض عهده؛ لأنه كافر، وليس بعد الكفر ذنب، فإذا كان من حيث الأصل يعتقد التثليث ويعتقد أن عيسى ابن لله، فإن هذا لا يمنع أن يُتْرَك على ما يعتقده من الكفر.
والصحيح: مذهب جمهور العلماء، أنه إذا فعل هذه الأمور فإنه ينتقض عهده؛ لأن هناك فرقاً بين دينه الذي ورد الشرع باستثنائه، وبين غيره الباقي على أصل العموم؛ مع أن الأصل أنه يؤاخذ على الكل؛ لكن جاء الاستثناء في دينه وما يعتقده مما فيه شبهة الكتاب، لوجود التحريف في كتبهم، ويبقى ما عداه على الأصل من المؤاخذة.
(انتقض عهدُه دون نسائه وأولاده): (انتقض عهدُه) أي: أصبح لا ذمة له.
(دون نسائه وأولاده): وهذا من عدل الإسلام، والإسلام دين عدل ودين رحمة، فلم يؤاخذ أولاده وذريته ونساءه بما فعل من جريمة: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] فلذلك يقولون: ينتقض عهده، وأما أولاده وذريته فإن بقوا بين المسلمين ورضوا أن يبقوا بينهم فبها وأنعِمْ، وإن لم يبقوا بين المسلمين فحينئذ يُخرَجون إلى ديار الكفر ولا تبقى لهم ذمة ولا يبقى لهم عهد.
فكونه يُقْدِم على هذه الأمور التي فيها إضرار بالإسلام والمسلمين، هذا موجب لزوال العهد وانتقاضه فيما بينه وبين المسلمين.
(وحَلَّ دمُه) أي: أن الإمام يقتله؛ لأنه أصبح كافراً حربياً، إعمالاً للأصل، وإنما أُمِّن لوجود الذمة، فإذا تسبب في إزالة الذمة عن نفسه فقد خُفِر دمُه، وعاد إلى الأصل الموجب لحل سفك دمه، فيفعل به الإمام ما يرى فيه النكال به وبمن على شاكلته من أهل الكفر.(140/19)
خلاصة أحكام أهل الذمة ودلائلها
بهذا نكون قد انتهينا من أحكام أهل الذمة، وهي في مجملها تدل على أمور مهمة: أولها: لطف الله عز وجل ورحمته بعباده في هذا الدين الذي جعله الله رحمة للعالمين، حتى إن الكفار يعيشون بين المسلمين لهم أمان ولهم عهد، ولا يجوز للمسلم أن يقدم على خيانتهم وخَتْلهم وأذيتهم.
ولا يجوز لهم أيضاً أن يقدموا على المساس بحرمة الإسلام وحرمة المسلمين.
الأمر الثاني: أن هذا العهد الذي بينهم وبين المسلمين مقيد بأهل الذمة من أهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس، فلا يشمل المشركين وعبَّاد الوثن، ولذلك يقول الله في كتابه: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة:7] فاستثنى الله الذين عاهدهم الرسول عند المسجد الحرام، وأما غيرهم من أهل الشرك والأوثان فلا، فإن الله ساق هذا السياق للذم والاستبعاد، وعلى هذا فليس للمشركين من عباد الوثن هذا العهد الخاص والذمة الخاصة، وإنما هي خاصة بأهل الكتاب كما ذكرنا.
الأمر الثالث: إن هذا العهد، وهذا العقد، وهذه الذمة مبنية على أصول وضوابط شرعية تدل على حكمة الله، وعلمه بخلقه، وهي أن أهل الذمة يعيشون بين المسلمين ويلتزمون بأمور وبحقوق وواجبات تفرض عليهم.
وكذلك يلتزم لهم المسلمون بحقوق وواجبات يؤدونها إليهم، فلا يُظْلَم كلُّ ذي حق في حقه، فعلى المسلمين أن يقوموا بحفظهم، وحقن دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، فلا يُقتلون، ولا تغتصب أموالُهم، ولا تسرق، وكذلك أيضاً لا تستباح بدون وجه حق، ويكون لأعراضهم ما لأعراض المسلمين من الحرمة، فلا يجوز لأحد أن يعتدي عليها، ولا أن يؤذيهم فيها.
وهم يلتزمون بدفع الجزية التي تفرض عليهم في زمانها بالقدر المفروض على الصفة التي ذكرناها، والتفصيل الذي ذكرناه.
فإذا التزموا بها، والتزم المسلمون بما عليهم على الصورة التي ذكرناها، يكون الإسلام قد حقق الأمرين: الرحمة.
ووضعُها في موضعها.
فهي رحمة؛ ولكنها وُضِعت في موضعها، وليس من الحكمة أن يأتي الإنسان بالرحمة ويضعها في غير موضعها؛ لأن هذا هو شأن الضعيف المتخاذل، وإنما توضع الرحمة لمن يستحقها، ويكون ذلك في الحدود والضوابط الشرعية التي ذكرناها.
ومن الخطأ ما يفهمه البعض ممن يكتب عن حال المسلمين أو في تاريخ المسلمين، عما كانوا عليه مع أهل الذمة، فيحاول أن يجعل الأمور كلها نوعاً من المسامحة ونوعاً من التقارب ونوعاً من الرضا، وهذا ليس بصحيح، فإن الله سبحانه وتعالى حكم من فوق سبع سماوات بأنه لا بد من تميز المسلم عن الكافر، وأنه ينبغي للمسلم أن يحفظ حق دينِه، وأن يراعي هذا التميز الذي فرضه الله عليهم من فوق سبع سماوات، وليست هذه العقود التي بين المسلمين وأهل الذمة مشعرةً باتحاد الأديان، من جهة أنها كالشيء الواحد، فهي وإن كانت في أصلها من أصل واحد؛ لكنها متفاوتة ومتباينة، حتى في العقائد والأصول، فتجد عقيدة التثليث لا يمكن أن تجتمع مع عقيدة التوحيد، فيأبى الله ويأبى رسوله صلى الله عليه وسلم ويأبى المؤمنون أن يجتمع من يقول: (هو الله أحد)، ومن يقول: (إنه ثالث ثلاثة)، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة:73] فالله عز وجل حكم بتباين هذه العقائد، وعدم اتفاقها.
فينبغي للمسلم ألاَّ يفهم من هذه الأمور أن معناها أنه وهو والكافر كالشيء الواحد، بل إنها أمور مقيَّدة، ومقنَّنة، ومحدَّدة، وقُصِد منها مصالح الإسلام أولاً وأخيراً، وقُصِد مِن عيش هؤلاء بين المسلمين أن يرضوا بالإسلام، وأن يألفوا الإسلام، لعل الله أن يهديهم من ضلالتهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه.(140/20)
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [1]
البيع معاملة من المعاملات التي بين الله حكهما، وفصل في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم جملة من قواعدها، فهي معاملة مهمة، وقلّ أن يمر على الإنسان يوم إلا وهو بائع أو مشتر، أو جامع بين البيع والشراء، ولهذا يعتبر البيع مما تعم به البلوى، وعلى ذلك فيلزم المسلم أن يعرف ما أحل الله له من البيوع فيتعامل بها، وما حرمه الله عليه منها فيجتنبها.(141/1)
أهمية كتاب البيع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب البيع].
هذا الكتاب يعتبر من أهم الكتب المتعلقة بالمعاملات، ومن عادة أهل العلم رحمهم الله في كتب الفقه والحديث أن يبدءوا بما ورد في أحكام العبادات، ثم بعد ذلك يذكرون أحكام المعاملات.
والمصنف رحمه الله ابتدأ بكتب العبادات، فبين أحكام الطهارة والصلاة وأحكام الزكاة والصوم والحج، ثم بعد ذلك ذكر كتاب الجهاد، ثم قال رحمه الله: [كتاب البيع]، فكأن المصنف أراد أن يربط بين المعاملات المالية وبين العبادات؛ والسبب في ذلك أنه من الصعوبة بمكان أن ينتقل الإنسان من العبادة المحضة إلى المعاملة المحضة؛ لأن كتاب البيع فيه جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالأموال وبالدنيا، من بيع وشراء وأخذ وعطاء، ولكن كتب العبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحج تتعلق بما بين العبد وربه في غالب صورها، ولهذا احتاج المصنف رحمه الله أن يربط بين العبادات والمعاملات، فلا ينقلك من الصلاة والزكاة والصيام والحج إلى البيع مباشرة، فمن فقهه وعلمه أدخل كتاب الجهاد؛ لأن كتاب الجهاد معاملة بين الخالق والمخلوق ومعاملة كذلك بين المخلوق والمخلوق، فجعل كتاب الجهاد وسطاً بين العبادة المحضة والمعاملة المحضة؛ لأن الفقيه وطالب العلم لو أنه بعد انتهائه من العبادات دخل في المعاملات لكان هناك شيء من التضاد، بعد أن كان في باب مليء بالنصوص إلى باب مليء بالاجتهادات والقياس على النصوص؛ ولذلك ربط رحمه الله بينهما بكتاب الجهاد.
البيع معاملة من المعاملات التي بين الله حكمها، وفصل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم جملةً من قواعدها، فهي معاملة مهمة، وقلَّ أن يمر على الإنسان يوم من الأيام إلا وهو بائع أو مشترٍ أو جامع بين البيع والشراء، ولهذا يعتبر مما تعم به البلوى، أي: أن الناس قلَّ أن يسلموا من هذا التعامل، والله تعالى أمرنا وشرع لنا نوعاً معيناً من البيع نتعامل به، وحرَّم علينا نوعاً آخر، فينبغي للمسلم أن يعلم ما الذي أحل الله فيفعله، وما الذي حرم الله عليه فيجتنبه.
ومن هنا كان لزاماً أن تقرأ أحكام البيع، فهي من العلوم التي ينبغي لطلاب العلم أن يتعلموها إذا لم يوجد من يقوم بالكفاية، خاصةً في هذا الزمان الذي قلَّ أن تجد من يتقن مسائل المعاملات، وبالأخص مسائل المعاملات المالية، فقد تجده يتقن أحكام الصلاة وأحكام الصيام وأحكام الحج، وقد يبتلى بطعمة الحرام والتعامل بالبيع المحرم وهو لا يدري، فقد يكون من خيار عباد الله؛ ولكن الجهل يوقعه في الحرام؛ ولهذا ينبغي للمسلم أن يحتاط لدينه، ولطالب العلم أن يسد الثغر لأمته؛ فيرعى هذا الأمر العظيم، ويتعلم هذا الباب، حتى يحسن إلى الناس ببيان الأحكام الشرعية.
والله جل وعلا جبل الناس على حب المال والافتتان به وزين لهم ذلك، فإذا كان الناس لا يجدون من يبين لهم الأحكام انهمكوا في الحرام، وأصبح الحلال ما حل بأيديهم، والحرام ما بعد؛ وعندها لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً إلا ما أشربوا من هواهم، فتنتشر بينهم المعاملات التي يظنون جوازها؛ لأنها سائدة ومعروفة والناس ألفتها، وقد تكون فيها أرباح تغر الناس حتى يألفوها، فيظنون أنه الحلال، وما هو إلا الحرام الذي يعذَّب الإنسان بطعمته، خاصة إذا فرَّط بمعرفة حكمه.
يقول أهل العلم: يتعين على الإنسان تعلم مسائل البيع إذا كان يتعاطى التجارة ويبيع ويشتري، فيجب عليه أن يتعلم ما الذي أحلَّ الله له بيعه فيبيعه، وما الذي حرم الله عليه بيعه فيجتنبه ويتقيه، ومن هنا كان لزاماً على طلاب العلم أن ينتبهوا لهذه المسائل، فهو باب مهم جداً، وكان العلماء رحمهم الله إذا أرادوا أن يعرفوا فقه الرجل نظروا إليه في باب المعاملات، وإن كان باب العبادات له شأنه ومنزلته، ولكنهم يتميزون ويظهر الفرق فيما بينهم في باب المعاملات؛ لأنه يحتاج إلى شيء من الدقة وشيء من التركيز، يبرز فيه فقه الفقيه، وفضل الله عز وجل على عباده، والله فضل بين العلماء، ورفع بعضهم على بعض درجات، فإذا أحب طالب العلم أن يعظم أجره في هذا العلم فليتقن مثل هذه المسائل ومثل هذه الأبواب، وليتعب وليجتهد وليصبر على عنائها؛ لأنها قد تمل وقد تحدث عنده شيئاً من السآمة، لكنه يصبر ويصابر، ويعلم ما أعد الله من الثواب لمن أحسن وجد في طاعته ومرضاته، خاصة فيما يعظم فيه النفع للمسلمين.
والعلماء رحمهم الله ذكروا أن البيع مما يحتاج المسلم إلى معرفته، ويتعين عليه ولو في آحاد الصور، فإذا كنت تتعامل بنوع من أنواع البيع، فيجب عليك أن تسأل عن هذا النوع، فهذا أقل ما يجب عليك، فلو فرضنا أن الإنسان يتبايع بالذهب والفضة، فعليه أن يسأل ما هي أحكام صرف الذهب والفضة، وما هي أحكام بيع الذهب والفضة، وكيف يمكنه أن يتقن تلك الأحكام، أو على الأقل عليه أن يلم بأصولها التي ينبني عليها بابها.(141/2)
تعريف (كتاب البيع) لغةً واصطلاحاً
يقول المصنف رحمه الله: [كتاب البيع]، عبَّر (بالكتاب) لسعة هذا الباب وعظيم ما فيه من المسائل الكثيرة والفروع المشتهرة.
وقوله: (البيع) مصدر مأخوذ من قولهم: باع الشيء يبيعه بيعاً ومبيعاً فهو بائع، وهو مأخوذ من الباع؛ لأن كلاًّ من البائع والمشتري يمد باعه، فأنت -مثلاً- لو مررت على إنسان تريد أن تشتري منه كتاباً فقلت له: بعني هذا الكتاب بعشرة ريالات، فقال: بعتكه بعشرة، أو قبلت، فقدَّم لك الكتاب وأعطيته العشرة، فإنك تمد الباع بالعشرة وهو يمد الباع بالكتاب، فقالوا: سمي البيع بيعاً من هذا.
أما في اصطلاح أهل العلم رحمهم الله، فهناك تعاريف كثيرة للبيع.
وبالمناسبة: تجد العلماء يعتنون دائماً بمسألة التعريف الاصطلاحي، أو التعريف الشرعي، أو الحقيقة الشرعية، وقلَّ أن تجد باباً من الفقه إلا وله تعريف اصطلاحي، فالصلاة تعَرّف لغة واصطلاحاً وكذلك الزكاة الرهن الإجارة الشركة المضاربة، إلى غير ذلك من الأبواب والكتب، فما السبب في ذكر هذه التعاريف؟ السبب: حتى تتميز المعاملات بعضها عن بعض، فربما يأتيك شخص فتقول له: بعتك هذه السيارة بكذا فيقول: قبلت، فيقول شخص آخر: هذه إجارة، فتقول له: لا؛ لأن البيع حقيقته مبادلة المال بالمال تمليكاً بالتراضي، ولكن الإجارة مبادلة المال بالمنفعة، فتستطيع أن تعرف ما هو المراد بكلمة (بيع) فأنت تنتقل في كتب العلماء بأفكار مرتبة وعلوم متقنة، فإذا عرفت ما هو البيع يرد
السؤال
ما موقف الشرع من هذا البيع؟ ثم يرد السؤال: إلى كم قسم ينقسم؟ بيع حلال وبيع حرام.
فما هي أوصاف الحلال، وما هي أوصاف الحرام؟ ثم يرد سؤال آخر: ما الذي يترتب على البيع الحلال؟ وما الذي يترتب على البيع الحرام؟ وعندها تكتمل الصورة في هذا الباب من أبواب المعاملات.
فنحن نحتاج أولاً إلى معرفة مقدمات البيع، ومقدمات البيع تستلزم منك أن تعرف حقيقته لغة، وقد بيناها، وحقيقته اصطلاحاً، وثانياً: أن تعرف موقف الشرع من هذه المعاملة هل هي جائزة أم محرمة؟ ثم إذا كانت جائزة فهل هي جائزة على سبيل اللزوم أو على سبيل التخيير، أو على سبيل الفضيلة؟ ثم بعد ذلك تعرف ما هي أركان هذه المعاملة، وتعرف المقدمات التي يمكن أن تتصور من خلالها المعاملة، ثم تدخل بعد ذلك في التفصيلات والأحكام.
وأكرر الوصية لطلاب العلم ألا يملوا ولا يسأموا؛ لأننا سندخل من هذا الكتاب إلى مباحث دقيقة ومسائل قد تكون بعض الشيء عويصة، وإن كنا لا زلنا في المقدمات، لكن ينبغي على طالب العلم أن يصبر وأن يأخذ من مجلس العلم ما استطاع أن يتوصل إليه من الفائدة.
البيع في الاصطلاح: مبادلة المال بالمال تملكاً وتمليكاً، وبعض العلماء يقول: بالتراضي، وسنشرح هذا التعريف عند ذكر المصنف رحمه الله للجملة الأولى في كتاب البيع.(141/3)
مشروعية البيع
أما بالنسبة لمشروعية البيع وما موقف الشريعة من هذا النوع من المعاملات، هل هو حرام، أو هو جائز؟
و
الجواب
أن البيع جائز ومشروع، وأن الله عز وجل أذن بالبيع، وأقوى الأدلة على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فإن كلمة: (أحلَّ) كما يقول علماء الأصول: تعتبر من صيغ الإباحة، فإذا قال الله (أحلَّ) بصيغة البناء للمعلوم أو بصيغة البناء للمجهول كقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة:96] فهذه الصيغ تدل على الجواز والإباحة.
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] نسب سبحانه التحليل له؛ لأنه هو الذي يحلل وهو الذي يحرم، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] {يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41].
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] هذه الآية يقول العلماء: إنها أصل في جواز البيع، فما معنى قولهم أصل؟ يقول بعض العلماء إن هذه الآية عامة، بمعنى أن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] الأصل أن كل بيع جائز، حتى يدل الدليل على حرمته وعدم جوازه، فأنت إذا جئت إلى أي بيع فإن من حقك أن تقول: لي الحق أن أتعامل بهذا البيع حتى أسمع دليلاً من الكتاب أو دليلاً من السنة يقول: إن هذا البيع حرام.
هذا معنى قولهم: إنها أصل في البيوع، أو أصل في حلِّ البيع وجوازه.
ثانياً: وبعض العلماء يقول: إن الآية مجملة.
ومعنى قولهم: (مجملة): أنه يتوقف في الاستدلال بها حتى يرد البيان، وهذا الإجمال فيه خلاف بين العلماء، وهي مسألة أصولية، والصحيح أنها آية عامة، وأنها مبينة وليست بمجملة، والذين يقولون إنها مجملة -من باب الفائدة لطلاب العلم- اختلفوا في سبب الإجمال: فبعضهم يقول: أجملت لقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فلما قال: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] الربا: أصله الزيادة، فأحل شيئاً وحرم شيئاً، فكانت الآية دالة على جواز البيع، لكن لما قال: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] لم ندر أي الربا المحرم، وأي الزيادات المحرمة، فأصبحت الآية فيها شيء من الإجمال، وتحتاج إلى تفصيل وبيان من السنة.
هذا الوجه الأول.
الوجه الثاني: إن الإجمال لم يأت من الآية، وإنما جاء من شيء خارج عن الآية، وهو دليل السنة، والسبب في ذلك: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (أنه نهى عن بيع الغرر)، فلما ثبت عنه ذلك احتجنا أن نعرف ما هو الغرر؛ لأن الغرر أصله المخاطرة، بمعنى: أنه لا يجوز لك أن تتعامل مع أخيك المسلم ببيع فيه تغرير له، كأن تقول له: (اسحب هذا الرقم وادفع خمسين ريالاً)، وقد يخرج لك ما قيمته ألف ريال، وقد يخرج ما قيمته عشرة ريالات، فأنت تغرر به، فلا يجوز هذا النوع من البيع، والغرر بابه واسع، ومن هنا أصبح قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] مستثنىً منه نهيه عن الغرر، فاحتجنا أن نعرف ما هو الغرر المحرم، وما هو الغرر المعفو عنه؟ فمثلاً: حين تبيع البيت ينبغي أن يكون المبيع معلوماً، ولكنك لا تدري ما هو أساس البيت وهل قواعده سليمة، أم بها عطل؟ فأنت تبيع شيئاً مجهولاً، نقول: هذا غرر معفو عنه؛ لأن الشرع لو جاء يدقق في هذا لأحرج الناس، والشرع لا حرج فيه، فيغتفر مثل هذا الغرر.
إذاً: عندنا غرر معفو عنه، وعندنا غرر محرم، فتصبح الآية محل إجمال من هذا الوجه.
الخلاصة: أن الآية الكريمة: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] أصل في حل البيع وجوازه.
الدليل الثاني: قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء:29] فإن هذه الآية الكريمة دلت على جواز البيع؛ لأن الله حرم أكل المال وأخذه، واستثنى وقال: أي: إلا أن يكون الأكل للمال بالتجارة فلا حرج، فدل على جواز التجارة، ومن هنا قال بعض العلماء: (أفضل المكاسب مكاسب التجارة)؛ والسبب في ذلك: أن التجارة فيها منفعة لكثير من الناس؛ فالتجار يجلبون الأرزاق للناس، ولولا الله ثم التجار لهلك الناس، فيجلبون أرزاق الناس وأقواتهم، ويجلبون ما فيه صلاح لأبدانهم، وقد يجلبون تجارة فيها معونة لطلاب العلم، كالكتب ونحوها من الأوراق والأقلام، فمن هنا فقالوا: التجارة أفضل.
وقال بعض العلماء: الزراعة أفضل.
المهم: أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء:29] يعتبرونه أصلاً في جواز البيع وحلِّه.
الدليل الثالث: قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:9 - 10] فحرم الله البيع عند أذان الجمعة؛ وتحريم الله للبيع قد يكون لأسباب عديدة، منها: ظلم المسلم، كبيع الغش وبيع النجش.
ومنها: ما يسبب قطع أواصر الأخوة، كبيع المسلم على بيع أخيه المسلم وسومه على سومه.
ومنها: البيع في الوقت المستحق لما هو أهم، فهناك أوقات مستحقة لما هو أهم، كأوقات الصلوات المفروضة، فلما كان الوقت في يوم الجمعة مستحقاً لما هو أهم وآكد، وهو فريضة الله عز وجل بصلاة الجمعة حرَّم الله البيع، فقال: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ثم قال بعدها: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] (وَابْتَغُوا) أي: اطلبوا، و (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)؛ لأن البيع والتجارة والأرزاق كلها من فضل الله سبحانه وتعالى، والأمر للإباحة، وقد كان بعض العلماء وبعض السلف يحب للمسلم أن يؤخر حوائجه ويشتريها بعد صلاة الجمعة؛ امتثالاً لقوله تعالى: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ).
إذاً فقوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) دال على حلِّ البيع؛ لأنه نهى ثم أمر، والأمر بعد النهي يرجع إلى ما كان عليه، فإذا كان الشيء واجباً ثم نهي عنه، ثم أمر به رجع واجباً، وإذا كان الشيء مباحاً ثم نهي عنه ثم أمر به رجع حلالاً مباحاً مثلاً: حرَّم الله الصيد على المحرم: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ثم قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] فعلمنا أن هذا الأمر ليس للوجوب، وإنما هو دال على الإذن السابق للنهي، وعلى هذا قوله: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] لا يدل على وجوب البيع والشراء بعد صلاة الجمعة، وإنما المراد به حل البيع والشراء.
الدليل الرابع: قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] والآية نزلت فيمن يريد الحج والتجارة، فأذن الله ورخص لهم في ذلك.
والسنة دلت أيضاً على حلِّ البيع وجوازه: وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) وهذا من دلالة السنة القولية.
أما السنة الفعلية: فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم تعامل بالبيع، فاشترى من اليتيمين الحائط الذي بنى فيه مسجده وحجراته صلوات الله وسلامه عليه.
وكذلك أيضاً: اشترى من جابر بعيره، وشرط جابر حملانه إلى المدينة.
إذاً: تعامل النبي صلى الله عليه وسلم بالبيع، بقي عندنا السنة التقريرية، وهي النوع الثالث من السنة: فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم جاء والسوق قائم في المدينة، وهي مكان التشريع، ومع ذلك سكت، وأقر الناس على البيع والشراء، ولم يحرم عليهم إلا ما حرم الله، فدل على حلِّ البيع وحلِّ التجارة وجوازها.
إذاً دلَّ دليل السنة بالقول وبالفعل وبالتقرير.
وأما الإجماع فقد أجمع العلماء على أن البيع جائز ومشروع، وأنه مما أذن الله به ووسع به على عباده.(141/4)
أنواع البيع
البيع ينقسم إلى نوعين: بيع مأذون به شرعاً.
وبيع غير مأذون به شرعاً.
فأما البيوع التي أذن الله بها فهي لا تنحصر، وأما البيوع التي حرمها الله فهي منحصرة ومعدودة، والدليل على ذلك من الكتاب قول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فما قال سبحانه: (وأحل الله بيع السلم، وأحل الله بيع الخيار، وأحل الله بيع المرابحة)، وإنما عمم وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]، ثم لما جاء إلى التحريم قال: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] وما قال: (وحرم البيع)، فلما جاء إلى الحلِّ عمم، ولما جاء إلى التحريم خصص وعين، فأصبح الذي أحلَّه أكثر مما حرمه، ومن هنا جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يؤكد هذا المعنى، فأنت إذا تأملت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجدها في النهي، ولذلك تجد المحدثين -وهذا من فقه علماء الحديث- يقولون: (باب البيوع المنهي عنها شرعاً)، ولم يقولوا: (باب البيوع المأذون بها شرعاً)؛ لأنها لا تنحصر، والذي ينحصر المحرم، ولذلك قالوا: باب البيوع المنهي عنها شرعاً، باب البيوع المحرمة: بيع الملامسة المنابذة الحصى حبل الحبلة بيع الغرر بيعتين في بيعة.
إلخ.
فهذه البيوع معدودة محدودة، وأما البيوع الجائزة التي لا تنحصر فمنها بيع السلم، والخيار، والمرابحة، والصرف، وبيع المقايضة من حيث الأصل، فهذه من حيث الجملة بيوع مأذون بها شرعاً، وسنبينها إن شاء الله ونتكلم عليها.
وهناك ضوابط وضعها العلماء للبيوع المحرمة قلَّ أن تخرج عنها: الضابط الأول: أن يكون المبيع محرماً عيناً؛ كبيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، والنجاسات، ونحوها مما حرم الله عز وجل بيعه.
الضابط الثاني: أن يكون من باب الربا؛ كأن يبيع الريال بالريالين، أو يصرف الريال بالريالين ورقاً كان أو حديداً، فهذا يعتبر من الربا، وسنبينه إن شاء الله ونذكر وجه تحريمه من اشتماله على الظلم وأكل أموال الناس بالباطل.
الضابط الثالث: أن يكون من باب بيع الغرر، وبيع الغرر أن يعطيه الشيء وهو في الظاهر يحتمل السلامة ويحتمل عدم السلامة، كبيع السمك في الماء، والطير في الهواء، وبيع المجهولات، كبيع الأرقام والنصيب، ونحوها، فهذه بيوع تدفع فيها مالك ولا تضمن ما الذي تأخذه أو لا تدري ما هو، فقد يكون شيئاً غالياً وقد يكون شيئاً بخيساً لا يستحق المال الذي دفعته، فهو من أكل المال بالباطل، وسنبين جميع هذه الضوابط أو جلَّها، إن شاء الله تعالى.
إذاً: عندنا بيع مأذون به شرعاً، وعندنا بيع محرم شرعاً.
كذلك هناك مسألة مهمة: إذا كنا قد عرفنا أن الذي أحل الله أكثر مما حرم، ندرك سماحة الشرع ويسر الشريعة، وأنه إذا جاءك من يطعن في هذه الشريعة ويقول: أنتم تحرمون على الناس، فقل له: يا أخي! أخطأت، إن الذي حرم هو الله والذي أحل هو الله، والذي حرمه الله شيء مخصوص، والذي أذن الله لك أن تتعامل به وأن تأكله وأن تأخذه لا ينحصر، ولكننا نقول: هذا الشيء المعين حرمه الله فاتركه.
فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى حينما حرم لنا فخصص، وأباح لنا فعمم، دل هذا على سماحة الشريعة ويسرها، وأن الله يريد التوسعة على عباده.
ثم إن الله ما حرم شيئاً إلا لعلة، فقد يكون البيع سبباً في إفساد الأخوة بينك وبين أخيك المسلم، فقد يبيع المسلم أخاه شيئاً مغشوشاً، فإذا باعه شيئاً مغشوشاً لم يسكت المشتري، فيطالب بحقه فيصر البائع فتحدث بينهما الخصومة، ثم يدخل الإنسان إلى السوق منتزع الثقة، ولذلك تجد في البلاد غير الإسلامية عندما تدخل السوق لا تضمن شيئاً؛ لأنك تدخل على شيء لا تعرف ما هو، بيوع مختلفة، وكلها وسائل لأكل المال بطرق ملتوية، لكن في الإسلام تجد الشريعة توقفك على مبيع معين، وتشدد في الشروط وتضيق عليه من أجل الرحمة بك وبمن يعاملك؛ لأن الله يريد العدل بينك وبين المشتري، فلم يظلم الله البائع ولم يظلم الله المشتري، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وإنما أعطى لكل ذي حق حقه، فإذا مد لك أخوك المال، فينبغي أن تعطيه حقه وترضيه، {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فلا يؤخذ المال باللعب ولا بالغش ولا بالتزوير، ولكن يؤخذ بحقه، فتبقى مطمئن النفس للمال الذي أخذته والكسب الذي اكتسبته، ويبقى أخوك مطمئن النفس مرتاح البال للسلعة التي أخذها، وكل منكم يُبارك له في سلعته كما في الحديث: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما).
وإن من الحكم المستفادة من شرعية البيع: أن الله سبحانه وتعالى جعل فيه جلب المصالح ودرء المفاسد عن العباد، فأنت إذا احتجت إلى شيء، وهذا الشيء موجود بيد أخيك وأنت لم تستطع أن تطلبه ذلك الشيء وهو لا يستطيع أن يعطيكه إلا بعوض، فشرع الله البيع حتى تحصِّل المصالح لنفسك وتدرأ المفاسد عن نفسك، ويحصل أخوك المصالح لنفسه ويدرأ المفاسد عن نفسه، ولذلك مما يعتبر دليلاً عقلياً ما ذكره الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني حيث يقول: إن المسلم أو الإنسان تتعلق نفسه بحاجة عند أخيه -كأن تحتاج إلى سيارة مثلاً؛ لقضاء حوائجك والقيام على مصالحك- وأخوك لا يعطيك هذا الشيء من عنده، ولا يمكنك أن تأخذه بالغصب والقهر، فانظروا إلى حكمة التشريع، فالمشرع سبحانه شرع البيع عدلاً بين العباد، وهذا يدل على الحكمة، وأن البيع موضوع في موضعه؛ لأنه إذا تعلقت نفسه بهذا الشيء كالطعام مثلاً: قد يتعرض للموت إذا لم تعطه الطعام، أو قد يضطر إلى القتل حتى يصل إليه، وحينئذٍ شرع الله البيع لكي يدرأ عن الناس المفاسد، فإذا شرع الله البيع فقد رحم البائع بأخذه لحقه ورحم المشتري لتحقيق مصلحته، وعلى هذا انتظم البيع في تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
وقوله رحمه الله: [كتاب البيع] بعض العلماء يقول: (كتاب البيوع)، وكلاهما له وجه، فمن يقول: (كتاب البيوع) ينبه على الشمولية لأنواع البيوع المحرمة والجائزة، وأما من يقول: (كتاب البيع) فقد عبر بالمصدر.(141/5)
بعض أحكام ومسائل كتاب البيع
المصنف رحمه الله حين قال لنا: [كتاب البيع]، كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بمعاملة البيع.
ويستلزم هذا: أن يعرف البيع كما ذكرنا، وأن يذكر شروط البيع، وأن يذكر بعد ذلك أنواع البيوع الجائزة والمحرمة.
فهناك أمور ينبغي أن نضعها في الحسبان: الأمر الأول ما يسمى (بالمقدمات)، وهذا ما يتعلق بالتصور، والجزئية الثانية (بالأحكام) والقاعدة عندنا: (أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، فلابد أن تتصور الشيء ثم تحكم عليه، فإذا تصورت الشيء وعرفته حكمت عليه، سلباً أو إيجاباً.
فأولاً: تعرف ما هو البيع، ثم بعد ذلك ما هي أحكام البيع، وإذا أردت أن تعرف البيع فعليك أن تعرّفه لغة وتعرفه اصطلاحاً، وتتعرف على موقف الشرع منه، وهذا كله انتهينا منه، وهذه جزئية التصور.
والبيع نوعان: بيع مأذون به شرعاً، وبيع محرم شرعاً، وقد عرفنا هذا في المقدمة، فمعنى ذلك أن الكلام ينصب على جانبين: الجانب الأول تعرف فيه البيع الحلال، والجانب الثاني تعرف فيه البيع الحرام.
ثم إذا عرفت البيع الحلال والحرام تسأل: ما الذي يترتب على هذا الحلال؟ وما الذي يترتب على هذا الحرام؟ بناءً على ذلك: تجدهم يتكلمون على أنواع البيوع المحرمة والجائزة، وإذا فرغوا منها يتكلمون على شروط الجواز وشروط التحريم، أو علامات الجواز وعلامات التحريم، فكأن الجزئية عندنا الآن أن يفرقوا بين البيع الحلال والبيع الحرام، حتى يتم بحث ما الذي يترتب على البيع الحلال وما الذي يترتب على البيع الحرام.
فهذا ما يسمى بالشروط.
والبيع من حيث هو يقوم على عاقد، ومعقود عليه، ومعقود به، فأما العاقد: فهما طرفا العقد البائع والمشتري، وأما المعقود عليه: فهو المحل الذي ورد عليه البيع، سيارة كتاب عمارة مزرعة إلخ، كأن تقول: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فيقول: قبلت، نقول: وقع البيع، ومحل البيع (سيارة) في مقابل عشرة آلاف ريال، وهذا يسمى محل العقد، وسمي محلاً؛ لأن الصيغة وردت عليه، فعندنا العاقدان، وعندنا المعقود عليه، وعندنا المعقود به، والمعقود به: هي الصيغة التي تم بها عقد البيع، (بعتك) بعشرة آلاف، (قبلت) (رضيت) ونحو ذلك مما يدل على الرضا.
بناءً على هذا: يضع العلماء شروطاً للبيع، وشروط البيع معناها العلامات والأمارات التي نصبها الشرع للحكم بجواز البيع، فإذا قالوا: شروط صحة البيع فمعنى ذلك: أنهم يضعون لك كطالب علم علامات وأمارات إذا سئلت عن هذا البيع هل هو جائز أم لا؟ فمثلاً: سألك رجل فقال: بعت هذا الصندوق بعشرة ريالات، فهل يصح البيع أم لا؟ تقول: عندي علامات وأمارات لصحة البيع، فتستذكر: الشرط الأول -مثلاً-: أن يكون المبيع معلوماً، فتنظر في محل العقد، فإذا به يقول: صندوق مقفل، تقول: ما الذي بداخله؟ يقول: لا أدري، تقول: إذاً المبيع مجهول، فالبيع في الشرع غير جائز حتى يعلم المشتري ما الذي بداخل الصندوق؛ لأن هذا من بيع المجهول، وبيع المجهول غرر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، ولذلك حرم بيع الجنين في بطن أمه؛ لأننا لا ندري أحي هو أو ميت؟ وإذا كان حياً هل هو كامل الصفات أو ناقص الصفات؟ ثم إذا كان حياً لا ندري أيخرج حياً أو ميتاً؟ فإذاً عندي علامة لأحكم بصحة البيع ينبغي أن تتوفر، فإذا كانت ليست بموجودة في هذا البيع فالبيع غير صحيح.
وهناك شروط تتعلق بالعاقد، فلو جاءك رجل وقال: بعت سيارة بعشرة آلاف، تسأله: هل تملك السيارة؟ قال: لا، السيارة لأخي، ولكنني أعلم أن أخي سيرضى، تقول: هل وكلك أخوك؟ قال: لا، إذاً تصير فضولياً، ثم تنتقل إلى أخيه وتقول: هل أذنت له؟ قال: لا، هل ترضى بالبيع؟ قال: لا، تقول: البيع فاسد؛ لأن عندي قاعدة في العاقد: وهي أن يكون مالكاً للذي في يده.
وكذلك لو أنك في القضاء واختصم إليك رجل، وقال: اشتريت من هذا الصغير بيته بعشرة آلاف، وهذا الصغير ورث البيت عن أبيه، فجاء أولياء الصغير وقالوا: لا نريد البيع، ولا نوافق عليه، تقول: من البائع؟ قالوا: الصغير، الصغير هذا هل يملك؟ نعم يملك، لكن هل هذا الصبي أهلاً للتصرف؟ ليس أهلاً للتصرف، إذاً: هل شرط الصحة توفر، أو لم يتوفر؟ لم يتوفر، فترجع إلى ولي الصغير وتقول له: هل تقر هذا البيع؟ وهل هو من مصلحة هذا اليتيم؟ فإن قال: لا، ليس من مصلحته، بل من مصلحته أن يؤخر البيع إلى سنة أو في شهر الموسم رجاء ارتفاع السعر، فتقول: البيع فاسد؛ لأن العاقد ليس أهلاً للتصرف.
هذا بالنسبة للشرط الذي يتعلق بالعاقد.
بقي المعقود به أي: الصيغة، أيضاً لها شروط ولها ضوابط، فلو قال له: أتبيعني؟ قال: نعم، فالاستفهام عند بعض العلماء لا ينعقد به البيع، وسنبين هذا في الصيغة.
إذاً تحتاج أولاً إلى معرفة علامات الصحة وعلامات الفساد، وهذا هو الذي سيذكره المصنف في الباب الأول، فأنا أحب من طالب العلم أنه عندما يقرأ هذه الكتب أن يكون عنده إلمام، فينبغي ألا نقرأ كتاب البيع هذا حتى نعرف ما الذي يراد من العبارات وما الذي يراد من الجمل؛ لأن أبواب المعاملات صعبة، وتحتاج إلى شيء من التركيز، فلابد أن تعلم إذا جاءك الشرط هل هو يتعلق بالعاقد أو المعقود عليه أو المعقود به، فتصنف الشروط ثم تحفظها، ثم بعد ذلك لن تسأل عن بيع إلا وجدته له علامات للصحة وعلامات للفساد، فتحكم بالصحة بالدليل وتحكم بالفساد بالدليل.
لكن لو أننا عرفنا حقيقة البيع، وتصورنا ما هو البيع، ثم عرفنا ما هي علامات الصحة وعلامات الفساد، وعرفنا البيع الصحيح والبيع الفاسد، بعد هذا هل ينتهي كتاب البيع، أم أن هناك أموراً مهمة؟ نقول: هناك أمور مهمة، فكونك تعرف أن هذا البيع صحيح أو هذا البيع فاسد لا يكفي، بل لابد أن تعرف ما يسمى بالأثر المترتب على البيع الصحيح والبيع الفاسد، مثلاً: إذا باع رجل سيارة بعشرة آلاف، فأنت لو قضيت بأن هذا البيع صحيح، فما الذي يترتب على حكم الشرع بالصحة لهذا البيع؟ تقول: يجب على البائع أن يسلم المبيع، ويجب على المشتري أن يدفع الثمن، فمعنى ذلك: أنه لابد من وجود أثر يترتب على حكمك بالصحة وحكمك بالفساد، كذلك لو كان البيع فاسداً، فمثلاً: اشترى رجل مزرعة بمليون ريال، ثم بعد عشر سنوات تبين أن المزرعة مزور صكها، أو أن هذه المزرعة مغتصبة، أو تبين أن فلاناً يملكها، أو أن ورثة فلان يملكونها من مائة سنة، وظهر أن هذا البيع الذي وقع بيع لما لا يُملك، وأنت حكمت من الشرط أن يكون مالكاً للمبيع، والرجل أخذ هذه الأرض قبل عشر سنين وهي ميتة فزرعها وبنى فيها، أو أخذها مزروعة فهدمها، أو غير فيها فزاد أو نقص، فما الذي يترتب؟ لا يكفي كونك تقول: هذا البيع صحيح، أو هذا البيع فاسد، فلابد أن تعرف آثار الصحة وآثار الفساد.
وبهذا: إذا عرفت ما هي البيوع الصحيحة وما هي البيوع الفاسدة، وذلك بمعرفة علامات الصحة وعلامات الفساد، بعد ذلك تتكلم على القواعد العامة المترتبة على صحة البيع وفساده.
تبقى جزئية أخيرة وهي التي يسمونها البيوع الخاصة، مثلاً: بيع السلم، وبيع الصرف، وبيع الخيار، وبيع المرابحة، وبيع المواضعة؛ هذه كلها بيوع جائزة وخاصة، وهذه البيوع لها شروط خاصة، فبيع السلم -مثلاً- له شروط غير بيع الخيار، وبيع الخيار له شروط غير بيع المرابحة، فهناك شروط عامة للبيع، وهناك شروط خاصة للبيع، قال صلى الله عليه وسلم: (من أسلم -وفي رواية: من أسلف- فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) هذا بيع السلم، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه بشروط: (فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)، لكن هذه الشروط تتعلق بماذا؟ بنوع خاص فقال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم) إلخ.
وهذا ليس بشرط متعلق بالبيوع العامة وإنما هو متعلق بالبيوع الخاصة.
كذلك أيضاً عندنا مسألة بيع الثمرة فقد: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، قالوا: يا رسول الله! متى يبدو صلاحها؟ قال: حتى تحمار أو تصفار).
إذاً: عندنا بيع خاص وهو بيع الثمار، وبيع ثمرة النخيل لا يصح إلا إذا بدا الصلاح فيه، فما هو بدو الصلاح؟ ما هي الشروط المعتبرة لحكمنا بهذا النوع؟ إذاً: عندنا شيء عام وعندنا شيء خاص.
فإذا انتهيت من البيوع الخاصة، سواء كانت مباحة أو محرمة تكون قد انتهيت من مادة البيوع.
وهذا إن شاء الله سنتكلم عليه، ونسأل الله العظيم أن يرزقنا فيه السداد، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم موجباً لرضوانه.(141/6)
تعريف البيع اصطلاحاً وشرحه
يقول المصنف رحمه الله: [وهو مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة].
(وهو): الضمير عائد إلى البيع، وهذا -كما ذكرنا الجزئية الأولى في البيع- هو تعريف البيع، كأنه يقول: البيع عندنا معشر الفقهاء: مبادلة المال.
فما معنى مبادلة؟ المبادلة: مفاعلة من البدل، ووزن مفاعلة في لغة العرب يطلق على الشيء الذي يستلزم شخصين فأكثر، مثلاً تقول: مقاتلة، مخاصمة، مشاتمة، فكم يوجد؟ رجلان يتشاتمان، أو يتضاربان، أو يشتركان في شركة مضاربة، فهذا كله يسمى بالمفاعلة؛ لأن الشخص لا يقاتل نفسه ولا يخاصم نفسه.
وحينما قال رحمه الله: (المبادلة) معنى ذلك أن عندنا بائع ومشترٍ (مبادلة) مفاعلة من البدل، والبدل أصله العوض، تقول: هذا بدل عن هذا، أي: عوض عنه وقائم مقامه، فهذه هي المبادلة.
وبعض العلماء يقول: البيع معاوضة، والمعاوضة والمبادلة معناهما واحد.
والمبادلة تكون على صور: قد أبادلك سيارة بسيارة، فهذا له معنى.
وقد أبادلك شيئاً على سبيل الهدية، فأعطيك ساعة فتعطيني بدلاً منها قلماً، فأكون أهديتك ساعة وأهديتني قلماً، فصار مبادلة.
كذلك أيضاً: لو أن رجلاً جاء لرجل وقال له: زوجني بنتك، قال: قبلت، والمهر عشرة آلاف ريال، إذاً: تزوج لقاء عشرة آلاف {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فالنكاح فيه معاوضة.
كذلك: لو جئت وقلت: يا فلان! أجّرني بيتك سنة بعشرة آلاف، فدفعت عشرة آلاف لأجل السكنى سنة، فهذا فيه مبادلة.
فقال المصنف: (البيع مبادلة) والمبادلة هنا أهي عامة، أو خاصة؟ إذا تأملتها وجدتها عامة.
فقال المصنف: [وهو مبادلة مال]، بعض العلماء يقول: (مال بمال)، فنريد أن نعرف ما معنى مال؟ وكيف تتم مبادلة المال بالمال في البيع؟ المال أصله من الميل، وسمي المال مالاً لأن النفوس تميل إليه وتهواه، قال الشاعر: رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال لأنه زين للناس حب الشهوات، فهم يميلون إلى المال، ولذلك قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ولذلك شحت بالمال، بل وسفكت الدماء من أجل المال، فالمال له مكانة في النفوس.
وفي اصطلاح الشريعة إذا قيل: (مال) فهو كل شيء له قيمة، لكن في عُرف الناس وما يسمى بالاصطلاح الوضعي إذا قيل: مال، فهو يختص بالذهب والفضة وبالنقود، فتقول: هذا مال، وتعني النقود، لكن في اصطلاح الشريعة المال يشمل كل شيء له قيمة، سواء كان نقوداً أو غيرها، والدليل على أن الشريعة تسمي كل شيء له قيمة مالاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الإبل والغنم والبقر مالاً، فهل الإبل والغنم ذهب وفضة؟ ليست من الذهب ولا من الفضة، فقال كما في الصحيح من حديث أبي هريرة: (ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته) ثم ذكر الإبل والبقر والغنم.
فقوله: (ما من صاحب مال) وأطلقه على الإبل، ثم ذكر البقر، ثم ذكر الغنم، ثم ذكر الذهب، ثم ذكر الفضة، فدل على أن المال هنا عام.
ثانياً: جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأقرع والأعمى والأبرص الذين ابتلاهم الله عز وجل وأُعطوا المال، قال صلى الله عليه وسلم في الأعمى لما جاءه الملك وقال: (ابن سبيل، منقطع، قال: كنتُ فقيراً فأغناني الله، وكنت أعمى فرد الله عليَّ بصري، فدونك الوادي فخذ منه ما شئت، فوالله لا أرزؤك منه شيئاً -أي: لا أمنعك منه شيئاً، فماذا قال له الملك؟ -قال: أمسك عليك مالك قد نجوت وهلك صاحباك) فسمى الغنم مالاً، فهذا يدل على أن المال لا يختص بالذهب وبالفضة.
فقول المصنف: (مبادلة مال) بناءً على هذا، فلو أن رجلاً عنده شاة وآخر عنده قلم، فقال: بعني هذه الشاة بالقلم، نقول: هذا بيع؛ لأنه بادل المال بالمال، كذلك أيضاً لو أنه بادله مزرعة بمزرعة، أو بادله عمارة بعمارة، أو سيارة بسيارة، أو قلماً بقلم، أو كتاباً بكتاب، كل هذا نعتبره بيعاً؛ لأنه بادله المال بالمال.
فلما قال المصنف رحمه الله: (مبادلة مال)، قصد أن المال إما أن يكون ذهباً وفضة، وإما أن يكون غير الذهب والفضة.
وهذا اصطلاح ينبغي أن تحفظوه من الآن؛ لأننا سندخل في تفصيلات البيوع والمعاملات وكلها قلَّ أن تخلو من هذه المسألة.
وغير الذهب والفضة ينقسم إلى قسمين: إما عقار، وإما منقول، فالذي يبيع الأرز تقول: هذا يبيع المنقولات، وكذلك الذي يتاجر في السكر أو الأودية أو السيارات، هذه كلها تسمى منقولات، والعقار: وهو كل ما يتعلق بالأراضي تقول: هذا عقار، وسمي العقار عقاراً من العقر؛ لأنه معقور في مكان لا تستطيع أن تنقله إلى مكان آخر، كالمزرعة والبيت، إلا البيوت الجاهزة الموجودة الآن، فهذا شيء آخر، وتعتبر منقولاً؛ لكنه يسمى عقاراً تجوزاً، لكن الأصل والغالب والشائع في العقار أنه يكون ثابتاً، فمن دقة العلماء رحمهم الله أنهم يقولون: يجوز هذا في بيع العقارات، فتفهم من هذا أنه في بيع الأراضي والدور والمزارع، وإذا قال لك: لا يجوز هذا في المنقولات، أي: في غير العقارات وغير الذهب والفضة، وهذه كلها مداخل نريد أن نتصور بها البيع.
لما قال المصنف رحمه الله: (وهو مبادلة مال) والبعض قالوا: (مبادلة مال بمال)، إذا بادلت المال بالمال فمعنى ذلك أنك ستبادل كالآتي: الذهب، الفضة، المنقولات، العقارات.
فأما الذهب والفضة فلهما اسم خاص وهو: الثمن أو الأثمان، وأما العقارات والمنقولات فاسمهما: المثمن، فعندما يقول العلماء رحمهم الله: باب زكاة الأثمان، نفهم أن هذا خاص بالذهب والفضة فقط، فلا يتكلمون على زكاة الخارج من الأرض، ولا يتكلمون على زكاة السائمة او غيرها من المنقولات، وعلى هذا عندنا الثمن وعندنا المثمن، فلو سألك سائل: المبيعات -أي: الأشياء التي يقع عليها البيع- إلى كم تنقسم؟ أو الأموال التي يقع عليها البيع إلى كم تنقسم؟ تقول: تنقسم إلى قسمين: ثمن، ومثمن، أما الأثمان: فهي إما ذهب وإما فضة، والمثمونات: إما عقارات وإما منقولات.
فلما قال المصنف رحمه الله: (وهو مبادلة مال)، يقول أهل العلم رحمهم الله: تنقسم هذه المبادلة إلى ثلاثة أنواع: فإما أن يبادل ثمناً بثمن.
أو مثمناً بمثمن.
أو ثمناً بمثمن.
النوع الأول: الثمن بالثمن: كبيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة، أو الذهب بالفضة، مثال على ذلك رجل عنده طقم ذهب يريد أن يبادله بطقم ذهب، فهذا يسمى بيع ثمن بثمن، أو عنده جنيهات ذهب فأراد أن يبادل مثلاً الجنيه الإنجليزي بجنيه مصري، أو يبادل الفضة بالفضة، سواء كانت من النقد، كأن تكون دراهم بدراهم، أو ريالات بريالات؛ لأن أصل الرصيد الريالات ورقاً كانت أو حديداً -وسوف نتكلم على هذه المسألة في باب الصرف- فحينما يصرف الريال بالريال ورقاً أو حديداً فإنما يصرف الفضة بالفضة في الأصل، ولذلك وجبت الزكاة فيها، والله لم يوجب زكاة الورق ولا زكاة الحديد (النيكل)، وإنما وجبت فيها الزكاة لأن رصيدها من الفضة، فإذا بادل الريال بالريال أو صرف الريال بالريال مثلاً بمثل يداً بيد، فيكون هذا بيع فضة بفضة، أو كان عنده طقم فضة وأراد أن يبادله بطقم فضة آخر، فهذا أيضاً يسمى بيع الفضة بالفضة، أما بيع ذهب بفضة فكأن تذهب الآن إلى بائع الذهب وتقول له: بكم هذا الطقم من الذهب؟ يقول لك: بعشرة آلاف، تقول: خذ، فأصبح الذهب في مقابل الفضة وهي العشرة آلاف ريال، وعلى هذا يكون من حقه أن يسمي بيع الثمن بالثمن: بيع الصرف، وهو يشمل جميع الصور الثلاث: الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو الذهب بالفضة، فإذا قال العلماء: لا يجوز هذا في بيع الصرف، فمرادهم مبادلة ماذا؟ الثمن بالثمن، أي: مبادلة الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو الذهب بالفضة.
النوع الثاني: مبادلة المثمن بالمثمن، والمثمن ينقسم إلى قسمين: منقولات، وعقارات، فإذا بادل المثمن بالمثمن تكون عندنا ثلاث صور: عقار بعقار، منقول بمنقول، عقار بمنقول.
الصورة الأولى: عقار بعقار: كأن تقول: أبيعك بيتي ببيتك بيتي بأرضك أرضي التي في المخطط الفلاني بأرضك مزرعتي بمزرعتك.
الصورة الثانية: منقول بمنقول: مثل: سيارة بسيارة كتاب بكتاب قلم بقلم ساعة بساعة إلخ.
الصورة الثالثة: العقار بالمنقول: مثل أبيعك مزرعتي بسيارتك أبيعك أرضي التي في المخطط الفلاني بسيارتك.
إذا بعت العقار بالعقار، والمنقول بالمنقول، والعقار بالمنقول، فيسميه العلماء: بيع المقايضة، فإذا قال العلماء: ويجوز هذا في بيع المقايضة، نفهم أنه يشمل ثلاث صور: إما بيع عقارات بعقارات، أو منقولات بمنقولات، أو عقارات بمنقولات.
النوع الثالث: وهو مبادلة الثمن بالمثمن، وهذا هو البيع الغالب السائد بين الناس، وهو أن يقع بثمن (ذهب أو فضة) في مقابل مثمن (عقار أو منقول) فمثلاً: إذا اشترى الأرض من المخطط بمائة ألف ريال، تقول: المائة ألف تعتبر الثمن والأرض المثمن، فهذا من بيع الثمن بالمثمن، وهذا يسمى بيعاً مطلقاً، فإذا قال العلماء: يجوز هذا في البيع المطلق، فاعرف أنه في الثمن بالمثمن، ولماذا سموه مطلقاً؟ لأن البيع إذا أطلق انصرف عليه، فهو الغالب والأكثر والأشهر في بيوعات الناس.
إذاً: عندنا ثلاثة أنواع من البيوع: بيع الصرف: وهو الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والذهب بالفضة.
وبيع المقايضة: وهو العقار بالعقار، والمنقول بالمنقول، والعقار بالمنقول.
والبيع المطلق: وهو إما عقار بذهب، أو عقار بفضة، أو منقول بذهب، أو منقول بفضة، فأصبحت أربع صور في هذا النوع.
فهذه ثلاثة أنواع ذكرها العلماء في مسألة مبادلة المال بالمال.(141/7)
الأسئلة(141/8)
الفرق بين قولهم: (تملكاً) و (تمليكاً) في تعريف البيع
السؤال
هل هناك فرق بين قولكم في تعريف البيع: (تملكاً) و (تمليكاً)، أم أن معناهما واحد؟ أثابكم الله.
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهناك من العلماء -كما نص عليه بعض فقهاء الشافعية رحمهم الله في تعريف البيع- من قالوا: معاوضة المال بالمال تمليكاً، فلما قالوا: (تمليكاً) خرج من هذا المعاوضة على سبيل العارية، وكذلك أيضاً قصد من هذا بيان ثبوت اليد على المبيع من الثمن مع المثمن، أو المثمن مع المثمن، أو الثمن مع الثمن، قالوا: ملك الشيء يملكه مَلكاً ومِلكاً ومُلكاً مثلث الميم، المراد به: ثبوت اليد؛ لأن البيع إفادته أنه يفيد ثبوت اليد له، فمثلاً: لو قال لك: بعتك أرضي هذه بعشرة آلاف، لو اشتريتها بعشرة آلاف من حقك أن تحفرها، ولا يقول لك أحد: لا تحفرها، إلا إذا كان حفرها فيه ضرر على الغير، ومن حقك أيضاً أن تبني فيها، وأن تزرعها، ومن حقك أن تفعل فيها ما تشاء؛ -كأن تهديها أو تتصدق بها- إذاً: معنى ذلك أن يد التصرف ثابتة لك على هذه الأرض، فهو يراد به إثبات الملكية بالمعاوضة.
ولما قالوا: (تمليكاً) أُخرج عقد النكاح؛ لأن المعاوضة فيه والمبادلة لا يقصد بها التمليك، وإنما يملك فقط المنفعة ولا يملك الذات، فيملك منفعة الاستمتاع بالمهر؛ لأن الله قال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فجعل المعاوضة على المنافع ولم يجعلها على الذات، لكن إذا اشترى رقيقاً فإنه يملك ذواتهم، فله أن يبيعهم، وله أن يهبهم، وله أن يعتقهم إلخ.
فالمقصود: أن التمليك يقصد منه إثبات اليد، وليس بخالٍ عن معنى، وبعض فقهاء الحنابلة -كما في كشاف القناع وغيره- يقولون: (تملكاً) و (تمليكاً)، وهذا من باب التقسيم، تمليكاً بالنسبة لك لما تعطيه، فأنت إذا قلت للشخص: بعتك هذا بعشرة آلاف، فأنت تتملك العشرة آلاف وتملك الشيء الذي تبيعه، فيكون تملكاً بالنسبة لما تأخذ وتمليكاً بالنسبة لما تعطي، بائعاً كنت أو مشترياً.
فهذا معنى قولهم: (تملكاً) و (تمليكاً).
والله تعالى أعلم.(141/9)
حقيقة الاختلاف في تعاريف البيوع
السؤال
ما صحة هذا التعريف للبيع، وهو: أنه مبادلة دين أو عين أو منفعة بمثل أحدهما على سبيل التأبيد غير رباً وقرض، هل هو سالم من النقص؟ أثابكم الله.
الجواب
حقيقة تعاريف البيوع مختلفة، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، والتعريفات لها ضوابط، وقد تكلم العلماء على الطريقة التي تعرَّف بها الأشياء، وتعبت أذهان أهل العلم في سبيل ذلك، ومن قرأ كتب السلف وكتب الأئمة يعرف مقدار ما بذله هؤلاء العلماء الذين لا يستطيع أحد أن يكافئهم إلا الله جل جلاله، ويعلم علم اليقين أنه لا أعظم من هذه الشريعة، ولن يستطيع أن يبين للناس ما فيه مصالح دينهم ودنياهم وآخرتهم إلا هذا الشرع الحكيم المتقن؛ لأنه إذا كان الأصل صحيحاً فما انبنى على صحيح فهو صحيح، {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} [التوبة:109]، فالعلم مؤسس على تقوى من الله ورضوان، تلك القلوب التي صقلتها روحانية الكتاب والسنة، وسهرت عيونهم وكلّت أجسادهم ونحلت في طاعة الله ومرضاته، وكانوا يتعبون للتمحيص والتدقيق، حتى ذكر عن بعضهم أنه ربما أراد النوم من شدة العناء والتعب، فيتذكر الحكمة ويتذكر الفائدة فيضيء مصباحه لأجل أن يكتبها لمن بعده، حتى يكتب الله له ثوابها ويعظم الله له أجرها، فهذه التعاريف لم تأت من فراغ، ننظر إلى تعريف يذكره عالم له قدم راسخة في العلم، ثم يبقى القرن والقرنين والثلاثة والأربعة، بل قد تستمر أحد عشر قرناً ككتب المتقدمين، وخاصة القرون المفضلة، وهي تمر على أجيال تلو أجيال وهي تشرح وتنقح وتوضح، ولذلك لما قادت هذه الشريعة الأمة وقادت العالم من المحيط إلى المحيط لم يعجز الفقه الإسلامي يوماً من الأيام عن قضية أو نازلة، فتتقلب جميع النظم وما يستقر على وجه الأرض من التشريعات إلا تشريع الإسلام، وكلمة الله سبحانه وتعالى تامة {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] فهي صدق وهي عدل {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].
فهذه التعاريف لا يستهان بها، فينبغي لطالب العلم ألا يحقّر من هذه الأشياء؛ لأن هذ االفقه موزون وبدقة، فمثلاً: لما تأتي إلى علم السيارات تجدهم يبحثون أدق شيء في السيارة ويفتخرون بهذا، وقد تجد أبناء الإسلام يشيدون بهذه المعارف الدنيوية ويتحدثون بها، ويقولون: وجدنا من يدرس الهندسة والكيمياء ويفعل ويفعل، ويدقق وينقح ويفصل، ولو نظروا إلى تراث السلف وعلموا ما في بطون هذه الكتب وهذه الكنوز مما فيه سعادة الدنيا بأسرها وليست الأمة وحدها، لعجبوا وما انتهوا من العجب، واعجب فما تنفك من عجائب.
فلا يستهان بهذه العلوم وهذه الأمور التي يذكرها العلماء، والفقه إذا أردت أن تشعر بقيمته فادخل إلى عمقه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، ومعنى ذلك: أنه دقة في الفهم وغوص في الأعماق، ولذلك تجد النص ينتزع منه أكثر من دليل وأكثر من حكم وأكثر من مسألة، ففي آية المائدة يقول الإمام ابن العربي رحمه الله: (اجتمع لها علماء من فاس -وكانت زاخرة بأهل العلم- فاستخرجوا منها ثمانمائة مسألة) هذه آية واحدة، لكنها من كلام الله الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي غرائبه وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر الخلق، وتراث السلف هذا ينبغي أن يعتنى به، وأن يحاول الإنسان أن يعتني به بعيداً عن الغلو، فلا يعتقد أن هذه النصوص وحي، وإنما يمحص ويدقق ويرجع إلى الأصول والأدلة، حتى يجد لذة هذا الفقه وحلاوته ويعرف ما الذي قدمه له هؤلاء العلماء والأئمة، ومن ذلك مسائل التعاريف.
فتعاريف البيوع كما ذكر الإمام الزركشي رحمه الله في شرحه: إن جميع التعاريف لم تخل من نظر ومن اعتراضات، ولذلك تجد الحنفية يقولون: البيع مبادلة المال بالمال بالتراضي.
والمالكية يقولون: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة، بمكايسة أحد عوضين، غير ذهب ولا فضة معين غير العين فيه.
هذا بالنسبة لتعريف ابن عرفة رحمه الله في الحدود.
وتجد الشافعية يقولون: معاوضة المال بالمال تمليكاً.
وتجد الحنابلة يقولون: تملكاً وتمليكاً.
كتعريف الشافعية.
وكل هذه التعاريف شبه متقاربة، لما قال: مبادلة المال بالمال، أولاً قال: مبادلة المال، فمعنى ذلك: أنه يدخل عقد النكاح وعقد الإجارة وعقد البيع وعقد الشركات؛ لأنك تدفع نصف الشركة وغيره يدفع نصف الشركة، وعقد المضاربة، والهدية، فعندما يعطيك ترد عليه بهدية أحسن منها، وهذه تسمى هبة العوض، التي كانت محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أتى العلماء بقيد: فقالوا: مبادلة المال بالمال.
فلما قالوا (بالمال)، خرج مبادلة المال بالبُضع، الذي هو النكاح، وخرج مبادلة المال بالمنفعة وهي السكنى أو ركوب الدابة أو الإجارة، وخرج مبادلة المال بالمال لا للتمليك كالشركات، هذا بالنسبة للشافعية والحنفية والحنابلة.
لكن المالكية قالوا: (عقد معاوضة على غير منافع) والمعاوضة عام، فأرادوا أن يخرجوا الإجارة، فقالوا: (على غير منافع) ثم أرادوا أن يخرجوا النكاح فقالوا: (ولا متعة لذة) كذلك أرادوا أن يخرجوا الشركة والمضاربة فقالوا: (ذو مكايسة)، أي: بالمخاطرة؛ لأن العقود منها ما فيه خطر، ومنها ما فيه الرفق، ومنها ما يجمع ما بين الرفق والخطر، أي: أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ما كان ضرراً محضاً أو غبناً محضاً.
ما كان رفقاً محضاً.
ما كان جمعاً للأمرين.
فالغبن المحض: مثل البيع والإجارة، كأن يقول لك: أبيعك السيارة بعشرة آلاف، فتقول: لا، بتسعة آلاف بثمانية آلاف، كأن هناك ألفاً تريد أن تضع غبنها عليه، وهو يريد أن يضع غبنها عليك، أو تقول: أجرني دارك بألف، يقول: لا، بألف ومائتين، أو تقول: بعني هذه الشاة بستمائة، يقول: لا، بستمائة وخمسين بسبعمائة.
إذاً فيه شيء من الغبن المحض، فكل منهم يريد أن يغبن صاحبه بالنسبة لعقد البيع وعقد الإجارة.
أما الرفق المحض: كما لو جاءك وأعطاك ساعة هدية، فتذكرت أن من صنع إليك معروفاً تكافئه، فاشتريت له قلماً، هذه معاوضة، والهدية نوعان: - هدية يعطيها من أجل أن تعطيه أكثر، كأن يأتيك إنسان فقير ويقول لك: هذا القلم هدية مني لك، فهذا معناه أنه إنسان فقير يريد أن يلفت نظرك إليه، فتعطيه أكثر من هذه الهدية، فهذه يسمونها: هبة الثواب، وكانت محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تنقص من مكانة صاحبها، وفيها نوع من السؤال، فجعل الله فقر نبيه صلى الله عليه وسلم إليه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6]، أي: لا تفعل المنة لكي تأخذ ما هو أكثر، وتمتن على الناس بالهدية تريد ما هو أكثر.
فالشاهد أن هذا معاوضة، يعطيك وتعطيه، ولكنه يراد به الرفق المحض، ولا يراد به الغبن.
- هناك عقود جامعة بينهما، كالشركات: كأن تعطي عشرة آلاف ويعطي عشرة آلاف، فتجتمعون في شركة وتكونونها، فأنت تريد أن تربح ماله وهو يريد أن يربح مالك، لكن تقول له: الربح بيننا بالأثلاث، ثلثان لي وثلث لك، يقول: لا، الثلثان لي والثلث لك، وقد يقول: ثلاثة أرباع لي وربع لك، إذاً فيه غبن وفيه رفق.
كذلك عقد المضاربة الذي يسمى (الضراب): كأن تعطي العامل عشرة آلاف وتقول له: اضرب بها في الأرض والربح بيني وبينك، يقول: لا، لي الثلثان ولك الثلث، أو تقول أنت: لي الثلثان ولك الثلث لي ثلاثة أرباع ولك الربع، وقس على هذا.
فلما يقول المالكي: (ذو مكايسة)، فمعنى ذلك ذو غبن وضرر، أو يحتاج إلى حذر، فأخرج عقد الشركة والمضاربة والهبة إلخ.
إذاً تجد في تعاريف العلماء الألفاظ مختلفة لكن المضامين شبه متفقة؛ لأن الكل يريد نتيجة واحدة ويريد مضموناً واحداً، فهي وإن اختلفت عباراتها ولكنها غالباً تدور حول معنى متقارب.
والله تعالى أعلم.(141/10)
وصايا لطلاب العلم
السؤال
نظراً لأهمية كتاب البيوع، هلا تفضلتم بذكر السبل المعينة على ضبطه؟ أثابكم الله.
الجواب
أولاً: أوصي طلاب العلم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله فتح الله عليه، وإذا كان الإنسان مليء القلب من خشية الله سبحانه وتعالى، ومعمور القلب بحب الله وإرادة وجهه، دله الله على سبيله وهداه إلى طريقه، ومن تولى الله هدايته سلم من الضلالة وأمن من الغواية، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62]، فأهم شيء أن تتقي الله عز وجل، ولا تخرج من بيتك إلى مجلس العلم إلا نقي القلب تريد ما عند الله عز وجل، فإذا أردت وجه الله فتح الله عليك، فإنه لا شيء أعظم ولا أجلَّ من إخلاص العمل لله، بل ما خلق الله الخلق إلا من أجل هذا وهو التوحيد، فهو أساس الدين، فهذا خير ما يوصى به طالب العلم.
ولو أننا في كل مجلس نتواصى بهذه الوصية، والله! لا تملها أذن مؤمن ولا يسأم منها قلب؛ لأنها تحيي في القلوب حب الله وإرادة ما عنده سبحانه وتعالى، فلا تقصد بها الرياء والسمعة.
واعلم أن الله معك إذا اتقيته، وأن الله يفتح عليك إذا أردته، ومن أراد الله كان الله له، فكن مع الله عز وجل يكن الله معك، قال الله تعالى: {إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة:12] فالله معك ما أقمت حقه، وأعظم حق لله الإخلاص.
ثانياً: الذي أوصيك به أخي الكريم: أن تحاول قدر المستطاع أن تركز وأن تضبط؛ لأن العلم ثقيل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، فالعلم لا يأتي بالتشهي ولا بالتمني ولكنه يحتاج إلى تعب وعناء وشيء من الكدح، ولذلك أخذ جبريل رسول الأمة صلى الله عليه وسلم فغطه حتى رأى الموت: (فقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ)؛ لأنه ابتدأ تعليمه وتفهيمه، وعلمه الله ما لم يكن يعلم؟ قال بعض العلماء: فيه دليل على أن العلم لا ينال إلا بشق الأنفس، والعلم لا ينال بالتمني والتشهي، وموسى بن عمران عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما أراد العلم قال الله له: (إن في مجمع البحرين عبداً علمناه من لدنا علماً) هل قال له: سيأتيك؟ وهو موسى عليه الصلاة والسلام، الذي كلمه الله، وقربه نجياً، وفضله وكرمه وشرفه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وأكون أول من أفيق، فإذا بموسى واقف عند ساق العرش، فلا أدري أكان أول من أفاق، أم جوزي بصعقة الطور) صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، فرغم هذا الفضل وهذه المكانة التي شرفه الله عز وجل بها إلا أنه جعله يذهب على قدميه ليبحث عمن يعلمه، وهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي أن يجتهد ويحرص على طلب العلم، فما اغتر موسى عليه السلام أنه نبي يوحى إليه، بل لما أخبره الله وأعلمه أن هناك من له علم أو عنده علم سعى إليه، وتعب من أجله.
ثالثاً: بعد الجد والاجتهاد يحتاج العلم منك إلى كثرة مراجعة، وكثرة متابعة، وإلى أن تتواضع له، وما الذي عندنا حتى نتواضع للعلم! ولكن العلم هو الذي له الفضل، وهو فضل الله عز وجل، والله يفضل العبد بالعلم، فليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب، فمقام العلماء بعد مقام الأنبياء، فإذا أردت أن تكون من طلاب العلم متقناً لهذا الباب أو غيره فعليك أن تجد وتجتهد وتتعب، وتقدم الثمن الغالي، فتحضر إذا غاب الناس، وتشهد إذا ذهبوا، وتسمع إذا لم يسمعوا، وتجلّ وتعظم العلم إذا احتقروه، وهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي ما أسلم إلا في يوم خيبر، وحاز من العلم حتى قيل له: حافظ الصحابة، فما هو السبب؟ السبب أنه لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، حتى كان يصرع رضي الله عنه وأرضاه عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجوع، قال: (فيأتي الرجل ويضع قدمه على صفحة عنقي، يظن أن بي الجنون، وما بي الجنون، ما بي إلا الجوع)، فترك الدنيا وأقبل على الآخرة وجدّ واجتهد، حتى كان عنده من السنن ما لم يكن عند غيره، وحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يقل عن أربعة آلاف حديث، وقلّ أن تجد باباً من العلم إلا له فيه حديث، وهو الآن في قبره يتنعم بهذه الأحاديث وبهذه السنة، نسأل الله العظيم أن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يجعله في الفردوس الأعلى من الجنة بما كان له من الخير على الأمة، مما حفظ وشهد.
يذهب الناس يمنة ويسرة وأنت تذهب إلى مجالس العلم، وتحرص على حفظها ولزومها، والله يبتليك فتجد التجارة وتجد مشاغل الدنيا، لكن تضحي للعلم، ووالله لن تقدم القليل إلا كافأك الله بالكثير، وما أعرض أحد عن العلم فأفلح، خاصة إذا كان الإنسان بحاجة إلى هذا العلم ويعرض عنه ولا يبالي فإن الله لا يبالي بمن لا يبالي بهذا العلم، فليس بيننا وبين الله إلا هذا الوحي، ومن علم فإن الله يفضله.
رابعاً: التركيز على الأصول والضوابط، فكل درس تلخصه، وتحاول أن تلتقي بمجموعة من الشباب وطلاب العلم أسبوعياً لتراجع معهم الدروس، ثم تجعل أسئلة على كل باب وتجيب عنها، حينئذٍ يصبح كل درس عندك مهذب منقح بأسئلته وأجوبته متى ما رجعت إليه وجدته.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(141/11)
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [2]
لا يخلو يوم من أيام العباد من المعاملات المالية، سواء كانت تجارية أو غير تجارية، ومن ثم فقد يبتلى العبد بطعمة الحرام والخوض في البيوع المحرمة، وما ذاك إلا بسبب جهله بأحكام هذه البيوع، ومن هذا المنطلق لزم على الإنسان معرفة أحكام هذه البيوع وصيغ إبرامها ونقضها، ليكون على بصيرة من أمره فيما يدخل على أهله وعياله من هذا المال.(142/1)
حقيقة البيع شرعاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهو مبادلة مال ولو في الذمة].
لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا حقيقة البيع في اصطلاح الشرع، وقد تكلمنا عن أهمية معاملة البيوع، وأن المسلم محتاج إلى معرفة مسائل البيع؛ لأنها مما تعمّ بها البلوى، وقلّ أن يمر يوم على الإنسان إلا وهو بائع أو مشترٍ أو جامع بين البيع والشراء، ومن عرف أحكام البيع وعرف ما يترتب على البيع من مسائل؛ فإنه حريٌ به أن يتقي الله عز وجل فيفعل ما أذن الله به ويترك ما نهى الله عنه، ومن كان على جهل بهذه المسائل فإنه لا يؤمَن عليه أن يقع في المحظور وهو لا يدري، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إنه قد يشيب عارض الإنسان في الإسلام وهو يلعن صباح مساء بأكله للربا والحرام؛ وذلك لأنه قد يفعل ذلك عن جهل منه، ويصحب الجهل التقصير في سؤال العلماء ومعرفة ما أحلّ الله وحرّم.
وباب البيوع من الأبواب التي تحتاج إلى شيء من العناء، كما ذكرنا ونبهنا على أنه ينبغي على طالب العلم أن يصبر ويصابر لضبط هذه المسائل؛ لأنها تحتاج إلى شيء من التركيز، وقد يحدث معها شيء من السآمة والملل، ولكن إذا صحت النية وصدقت العزيمة وصحب ذلك كله توفيق من الله فإن الله يعين العبد، ومن وراء ذلك خير كثير لمن احتسبه.
المقصود: أن المصنف بيّن لنا حقيقة البيع، وقد ذكرنا أن هناك تعاريف مختلفة، ومن أنسبها قول الإمام ابن قدامة رحمه الله وكذلك غيره من الأئمة، قالوا في تعريف البيع: (البيع مبادلة المال بالمال تملكاً وتمليكاً).
وقلنا: إن هذا التعريف يعتبر من أخصر التعاريف ومن أجمعها.
والمصنف رحمه الله عرّف البيع ولم يخرج في تعريفه عن هذا التعريف، ولكنه أدخل بعض الأنواع للبيع ونبّه عليها، وهي مما اختلف العلماء في اعتبارها بيعاً.
فقال رحمه الله: [وهو مبادلة مال ولو في الذمة].
(مبادلة مال) قلنا: المال هو الشيء الذي له قيمة، فكل شيء له قيمة فإنه مال، وبعض العلماء يقول: المال كل شيء فيه منفعة.
وقوله: (مبادلة مال ولو في الذمة) (لو) إشارة إلى خلاف مذهبي، فبعض العلماء لا ينبه على هذا، ويقول: مبادلة المال بالمال، فشملت مبادلة المال بالمال تسع صور: مبادلة العين بالعين، أو مبادلة الذمة بالذمة، أو مبادلة العين بالذمة.
وكل واحد من هذه الثلاث: إما ناجزاً من الطرفين، أو نسيئة منهما، أو ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
وسنشرح هذه الصور بإذن الله.(142/2)
صور البيع
فعندنا في البيع شيئان: إما أن تبيع الشيء وتعيّنه فتقول: بعتك هذا الكتاب، وسنمثل بأمثلة معاصرة حتى يكون الضبط أكثر؛ لأن البعض من طلاب العلم إذا مثّل لهم بالدنانير والدراهم والدواب والجمال والعبيد ونحوها لا يركز إذا أراد أن يطبق ذلك على ما يعيشه ويجده، فالأفضل أن نختار أمثلة معاصرة، مثلاً: لو أردت أن تبيع الكتاب -عندك كتاب ليكن صحيح البخاري، وهذه النسخة من صحيح البخاري إما أن تكون موجودة أمامك فتقول للمشتري- فأنت على حالتين: إما أن تقول له: أبيعك هذه النسخة من صحيح البخاري بمائة، فقولك: (أبيعك هذه النسخة)، معنى ذلك أنك عينت، فهذا يسمونه بيع العين؛ لأنك بعت وورد البيع على محل معيّن لا ينصرف إلى غيره، لكنك لو قلت له -وهذه هي الحالة الثانية-: أبيعك نسخة من صحيح البخاري من طبع كذا في تاريخ كذا، أو من نوع كذا من الطباعة، فهذا القول الذي قلته يصدق على هذه النسخة وعلى كل نسخة تشاركها في الصفة، فيعتبر بيع ذمة؛ لأنك التزمت في ذمتك أن تدفع نسخة من هذا الكتاب موصوفة بهذا الوصف.
إذاً: عندنا حالتان: إما أن تعين البيع ويرد البيع على العين فيكون بيع عين.
وإما أن يرد البيع على موصوف في الذمة، فكأن ذمتك وأمانتك وعهدتك شغلت بشيء تلتزم بأدائه، فصار في ذمتك وأمانة عليك، وهذا معنى قولهم: (في الذمة) فإذا بعت شيئاً في ذمتك وصفته.
لكن لماذا نحن نفصل هذه التفصيلات؟ من فوائد هذه التفصيلات، وهذا مما تمتاز به الشريعة الإسلامية في باب المعاملات: أنها تريد أن تعطي كل ذي حق حقه.
فمثلاً: لو جئت وقلت له: أشتري منك هذا الدواء بمائة، ثم أخذت الدواء فوجدت فيه عيباً وقلت له: رد لي المائة، فهذا من حقك؛ لأنك اشتريت هذا الشيء المعين وظهر به عيب، فمن حقك أن ترده وأن تطالب بالثمن، فلو قال: أعطيك بدلاً عنه، ولا أردّ لك القيمة، فيلزمه شرعاً إعطاء القيمة؛ لأن البيع ورد على معين بطل ببطلان العقد عليه، فهذا بيع العين.
لكن حينما تقول له: أعطني الدواء الفلاني، فأعطاك الدواء بصفته التي طلبتها، فلو وجدت به عيباً -انتهت مدة صلاحيته مثلاً- فجئت وقلت له: هذا لا أريده، أريد المال، من حقه أن يلزمك بالبدل؛ لأنك اشتريت موصوفاً في الذمة، وإذا لم يصدق الوصف على هذه فمن حقه أن يلزمك بما يصدق عليه من بدل.
فالشريعة تقدر في البيع والمعاملات كل كلمة تخرج من المتعاقدين، ولا تريد أن الكلام والعقد الذي يتم بينك وبينه يذهب هدراً، وهذا التدقيق من العلماء من باب العدل بين الناس، وإعطاء كل ذي حق حقه، فأنت إذا قلت: (أشتري هذا)، فالبيع على هذا، ولا يقع البيع على غيره، وليس من حقه أن يلزمك بغيره، وإن قلت (أشتري كذا)، فإنه يصدق على كل ما وافق وصفك الذي طلبته في المبيع.
إذاً: عندنا عين وعندنا ذمة، وبيع الأعيان إذا قلت له: أبيعك هذا الكتاب، فأنت إما أن تقول له: أبيعك هذا الكتاب بمائة حاضرة الآن، تعطيني وأعطيك، فيسمى بيع النجاز، نجز ونجزت، وهو ما يسمى في عرفنا ببيع النقد.
وإما أن تقول له: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا نسيئة بنسيئة.
وإما أن تقول له: أعطيك الكتاب الآن، ويقول: ليس عندي فلوس، أعطيك غداً، أو بعد شهر، أو بعد أسبوع، فهذا نسيئة من طرف ناجز من الآخر.
إذاً: أصبح عندنا ثلاثة أشياء: عين بعين، وذمة بذمة، وعين بذمة.
وقد قلنا: إن البيع إما بيع ثمن بثمن، أو مثمن بمثمن، أو ثمن بمثمن، فنريد هنا مثالاً على بيع العين بالعين في الثمن بالثمن، والمثمن بالمثمن، والثمن بالمثمن.
نبدأ ببيع العين بالعين في الثمن بالثمن، مثل: صرف ريالات بدولارات، قال له: أصرف لك عشرة دولارات بمائتي ريال، قال: قبلت.
إذا قال له ذلك صار عيناً بعين في ثمن بثمن؛ لأن الدولارات ثمن والريالات ثمن، أو قال: أبيعك هذه المائة جنيه بهذه العشرة آلاف ريال، فهذا بيع عين بعين في الثمن بالثمن.
أما بيع العين بالعين في المثمن بالمثمن فمثاله أن يقول: أبيعك هذا الكتاب بهذا الكتاب أبيعك هذه (الفيلة) بهذه (الفيلة) فصار بيع عين بعين في مثمن بمثمن، أو هذه السيارة بهذه السيارة، فهذا أيضاً بيع مثمن بمثمن، وهو ما يعرف ببيع المقايضة.
أما بيع العين بالعين في الثمن بالمثمن فمثاله أن يقول: أبيعك هذا الكتاب بهذه العشرة، فالمثمن الكتاب والعشرة هي الثمن.
فهذا يسميه العلماء في جميع الصور الثلاث: بيع عين بعين.
وإذا حددت وعينت، إما أن تقول: أعطيك الآن وتعطيني الآن، فهذا يسمونه ناجزاً من الطرفين، فالبائع نجز والمشتري نجز، وصار التقابض بينهما في نفس مجلس العقد، إذاً: هو ناجز وبيع نقدي كما يسمى في عرفنا اليوم.
الصورة الثانية: أن يكون نسيئة من الطرفين، باعه عيناً بعين، لكن قال له: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهو نسيئة من الطرفين، من البائع ومن المشتري، وهي عكس الصورة الأولى.
الصورة الثالثة: أن يكون ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، كأن أقول لك: هذا الكتاب بهذه العشرة، لكن تقول لي: لا أعطيك الكتاب الآن، وإنما أعطيك إياه غداً، أقول: خذ العشرة الآن وأنا آتي غداً وآخذ الكتاب، فهذا ناجز من أحدهما نسيئة من الآخر.
لاحظوا يا إخوان! نحن لا نتكلم الآن على الحلال والحرام في صور البيع، إنما هذه المرحلة تسمى مرحلة التصور، وهي أن تأتي بجميع البيوع الموجودة على وجه الأرض ويضعها الفقيه بين يديك، ثم بعد ذلك يقال: هذا حلال، وهذا حرام، نحن الآن فقط نريد أن نعرف ما الذي نتكلم عنه وهو البيع، وما هي صوره، حتى تستطيع بعد ذلك أن تحكم على كل صورة على حدة.
ننتقل بعد ذلك إلى بيع الذمة بالذمة، وقد قلنا: الذمة هي وصف في الإنسان، كما يقول العلماء، يقبل الإلزام والالتزام، أي: تلتزم به في ذمتك، تقول: لك عليَّ عشرة، لك عليَّ مائة، لك عليَّ كتاب مثلاً: (نسخة من صحيح البخاري)، لك عليَّ نسخة من شرح العمدة وهكذا، ومعناه أنك التزمت في ذمتك، وهذا يسمى عند العلماء الذمة، وغالباً ما يقع في بيوع الآجال.
وفي بيع الذمة بالذمة، نحتاج أول شيء إلى ضرب الأمثلة على بيع الثمن بالثمن، وبيع المثمن بالمثمن، وبيع الثمن بالمثمن.
فأنت الآن قررت أن يكون البيع ذمة بذمة، ومعناه أنك لا تعين، فتأتي إلى بائع الكتب، ويقول لك: أبيعك نسخة من صحيح البخاري، من طبع -مثلاً- بيروت، بمائة ريال، فيها عشرة أجزاء خمسة أجزاء أربعة أجزاء، فلاحظ هل المائة معينة أم موصوفة؟ هذه مائة موصوفة؛ لأن أي مائة تدفعها يصدق عليها أنها محل للعقد، فممكن أن تأتي بالمائة برأسها، وممكن أن تأتي بالمائة، في صورة ورقتين من فئة الخمسين وممكن أن تأتي بالمائة من فئة العشرات أو الخمسات أو الريالات، ومن حقك أن تلزمه بالبيع، فلو جئت بالمائة وهي قطع معدنية وقال: لا أريد، يلزمه البيع شرعاً؛ لأن البيع على موصوف في الذمة، ويصدق على هذه القطع المعدنية أنها مائة، هذا فرق المسألة، أي: حينما يقول لك: أبيعك بهذه المائة، لو أراد أن يبدلها بمائة أخرى لا يجوز، وليس من حقه إلا أن ترضى، ويعتبر إنشاءً جديداً للعقد، لكن إذا قال لك: بمائة، يكون قد صدق الوصف على أي مائة: ريالات حديد (نيكل) أو أن تكون جامعة بين النيكل والريالات، وليس بوارد على شيء معين، ولذلك قالوا: ذمة، التزم في ذمته بمائة.
والتزمت أنت له في ذمتك بمائة، فإذا قال لك: أبيعك نسخة من صحيح البخاري، وعنده مائة نسخة، فأي نسخة منها مما ينطبق عليها الشرط ممكن أن تكون محلاً للعقد، فلو أخذت هذه النسخة وبعد أن ذهبت إلى بيتك وجدت فيها صفحة مطموسة، فجئت إليه وقلت: لا أريد هذه النسخة، قال: أعطيك بدلاً عنها، فقلت له: ما دام بعتني شيئاً بهذه الصفة فلا أريد، من حقه أن يلزمك بالبدل؛ لأن البيع وقع على موصوف في الذمة، ولم يقع على معين يفوت بفواته.
إذاً: بيع الذمة بالذمة يقع في العين بالعين، ويقع: ناجزاً من الطرفين، ونسيئة من الطرفين، ويقع ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
وأيضاً: بيع الذمة بالذمة يقع في الثمن بالثمن، والمثمن بالمثمن، والثمن بالمثمن: ففي المثمن بالمثمن، كتاب بكتاب، تقول: أبيعك أو أعطيك نسخة من صحيح البخاري بنسخة من صحيح مسلم، التي عندي -مثلاً- من طبع كذا، والتي عندك من طبع كذا، فهذا بيع موصوف في الذمة بموصوف في الذمة في المثمن بالمثمن.
وبيع الموصوف بالذمة في الثمن بالثمن، كقولك: أبيعك عشرة دولارات بمائة ريال، فهو صادق على كل عشرة دولارات وعلى كل مائة ريال.
وقد يقع في الثمن بالمثمن، كقولك: أبيعك نسخة من صحيح البخاري بعشرة ريالات، فأصبح بيع ثمن بمثمن موصف في الذمة.
فإذاً: عندنا ثلاث حالات في الذمة بالذمة: إما ثمناً بثمن كدولارات بريالات دون تحديد لها أو تعيين.
أو مثمن بمثمن ككتاب بكتاب موصوفين في الذمة.
أو ثمن بمثمن ككتاب بريالات، دون أن يحددا ويعينا المبيع في كل هذه الصور.
بقي عندنا في بيع الذمة بالذمة: إما أن يكون ناجزاً من الطرفين.
أو نسيئة من الطرفين.
أو ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
- فأما أن يكون ناجزاً من الطرفين، كأن تقول له: أبيعك نسخة من صحيح البخاري بنسخة من صحيح مسلم ناجزاً منا، تعطيني الآن وأعطيك الآن، فتعطيه في المجلس ويعطيك في المجلس، فهذا يسمى: ذمة بذمة ناجزاً من الطرفين.
- وأما ذمة بذمة نسيئة من الطرفين، كأن يقول لك: أعطيك الكتاب غداً وتعطيني الكتاب أيضاً غداً، فهذا يسمى: بيع الذمة بالذمة نسيئة من الطرفين، هو أخّر وأنت أخّرت، فهذا معنى قولهم: نسيئة.
وأما ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، كأن تقول: خذ هذه النسخة الآن، فيقول: ليست عندي نسختي سأعطيك غداً، فهذا يعتبر ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
إذاً: الآن فرغنا من ست صور: عين بعين، ذمة بذمة، وفي كلتا الحالتين: ناجزاً منهما، نسيئة منهما، ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.
بقي عندنا ثلاث صور: وهي بيع الذمة بالعين، فتبيع شيئاً معيناً بموصوف في الذمة، كقولك: أبيعك هذا الكتاب بمائة، فقولك: (أبيعك هذا الكتاب) عين، وقولك: (بمائة) موصوف في الذمة، ففي هذه الحالة إما أن يكون بيع الذمة بالعين في ثمن بثمن، أو مثمن بمثمن، أو ثمن ب(142/3)
حكم بيع المنافع
قال رحمه الله: [أو منفعة مباحة].
النفع ضد الضر، والشيء الذي فيه منفعة المراد أن يكون فيه شيء يرتفق به الإنسان، مثلاً: السيارة منفعتها الركوب وحمل المتاع عليها، كما قال تعالى عن الدواب: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] فهذه منافع: الركوب منفعة السكنى منفعة الحمل منفعة إلخ.
والمنفعة المباحة مثّل لها بعض العلماء: أن يقول له: أبيعك طريقاً في أرضي، أي: تشتري فقط المشي في هذا الموضع من أرضي، كما كان يقع في القديم عندما تبنى الأحوشة للبيوت، فيحتاج الجيران إلى منفذ، فيفتح لهم منفذاً ويكون مثلاً من تحت الدار، أو يبني داره ويترك منفذاً وطريقاً.
هذا الطريق اختلف العلماء فيه: فبعض العلماء يقول: لا يصح بيع المنافذ على هذا الوجه؛ لأنه ليس بمالك للأرض وإنما هو مالك لمنفعتها، فتكون الأرض عند شخص ومنفعة الأرض عند شخص آخر، وهذا لا يمكن، أي: أن هذه الأرض لا أستطيع أن أبنيها ولا أستطيع أن أنتفع بها من كل وجه، ولذلك بعض العلماء يمنع من مثل هذا البيع، ويعتبره من العقود غير الجائزة؛ لوجود الغرر فيه والغبن؛ لأنك قد تشتريه لمنفعة، وصحيح أن المنفعة موجودة، لكن لو أن الإنسان تأمل هذا البيع بضوابطه الشرعية، كأن يكون من اشترى الشيء من حقه أن يفعل فيه ما شاء كما لو شاء أن يهدمه، أو يحفر فيه، أو أن يحدث فيه مصلحة غير المصلحة التي اشتراها عليه، فإذا اشتريت أرضاً فالأصل أن من حقك أن تحرثها وتزرعها، ومن حقك أن تبنيها، ومن حقك أن تتركها مواتاً؛ لأنك ملكتها وملكت رقبتها، لكن لو اشتريتها على وجه منفعة المشي فقط، فلست بمالك لها من كل وجه ولست بخلوٍ من كل وجه، والمالك الحقيقي ليس بمالك من كل وجه وليس بخلوٍ من كل وجه، ولذلك يحدث فيها شيء من التعارض والتضاد على وجه يصعب معه التمييز، مع أن المشتري سيستفيد بالمرور في هذه الأرض، ولذلك يمنع بعض العلماء من مثل هذا البيع؛ لوجود الشبهة فيه، لكن المصنف قصد بيع المنافع على هذا الوجه.
فقوله: (منفعة مباحة) يخرج بها المنافع المحرمة، فلو -مثلاً- اشترى آلة محرمة كآلة لهوٍ محرم فإنه لا يصح البيع ولا ينعقد؛ لأنه يشترط في المنافع أن تكون مباحة، فكأن المنفعة التي حرّمها الشرع سلبها الشرع القيمة، فلما أصبحت محرمة صار وجودها وعدمها على حد سواء، فإذا دُفع الثمن لقاءها كأنه يدفع لشيء لا قيمة له، ومن هنا كان من أكل أموال الناس بالباطل، وكان من البيع الممتنع شرعاً.
والمنفعة المباحة تخرج غير الحاجة، ولذلك بعض العلماء يضيف قيداً، وهو قوله: (لغير الحاجة)؛ لأنها قد تكون مباحة لحاجة، ومع ذلك لا يجوز بيعها؛ لأن ما أبيح لحاجة يتقيد بها، فالكلب -أكرمكم الله- أبيح للصيد والحرث والماشية، فتصيد به وتجعله لحراسة الحرث ولحراسة الماشية، فإذا جاء شخص يبيع كلباً معلماً للصيد أو معلماً لحراسة الزراعة أو الماشية فإنه لا يصح البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه المنفعة مباحة للحاجة، فكأنه إذا باع الكلب انتفع منفعة زائدة على المنافع المأذون بها شرعاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من اتخذ كلباً إلا كلب صيد أو حرثٍ أو ماشية) فرخص في ثلاثة أشياء، فمن ملك الكلب لغير هذه الثلاثة الأشياء فإنه يأثم، فكأننا لو قلنا: يبيعه في هذه الأحوال كونه كلب صيد أو حرث أو ماشية، لأصبح هناك منفعة رابعة وهي اتخاذه للبيع والشراء، فيستفيد البائع له منفعة رابعة وهي منفعة الثمن، فصار محلاً للعقد، فتصبح منفعة زائدة على الرخصة، ولذلك لا يصح بيعه، وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر وجابر بن عبد الله وابن مسعود رضي الله عنهم وأرضاهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وقال: ثمن الكلب سحت)، وقال كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود: (إن جاءك يريد ماله -أي: ثمن الكلب- فاملأ كفه تراباً) أي: ليس له شيء، فهذا يدل على أن المنفعة يشترط أن تكون لغير حاجة، فمنفعة الصيد مباحة، ومنفعة الحرث مباحة، ومنفعة حراسة الماشية مباحة، لكنها أبيحت لحاجة، فلا يجوز أن تبيعه لهذه المنفعة الزائدة عن الإذن الشرعي.
قال رحمه الله: [كممر في دار].
كما ذكرنا.
قال: [بمثل أحدهما على التأبيد].
(بمثل) هذا لقوله (مبادلة مال)، أي: تبادل المال، والباء هنا للبدلية والعوض، أي: عوضاً عن مثل.
والمثل المراد هنا من جهة المالية، أي: مبادلة مال بمال، ولذلك بعض العلماء يقول: البيع مبادلة مال بمال، ويختصر هذه العبارات كلها.
فقوله: (بمثل) المراد بذلك أن يكون مالاً، لنفس الشروط وهي: أن يكون فيما أذن به شرعاً، وألا تكون منفعته مباحة للضرورة والحاجة.(142/4)
التأبيد في البيع
قال رحمه الله: [على التأبيد غير رباً وقرض].
قوله: (على التأبيد)؛ لأن البيع ليس على التعقيب، فخرجت الإجارة؛ لأنها على التعقيب، فمثلاً: إذا جاءك رجل وقال: أجرني بيتك، فإنه يقول: شهراً أو سنة، ولا أحد يقول: أجرني بيتك مدى العمر؛ لأننا لا ندري كم العمر، ولا ندري كم المدة، بل منع بعض العلماء من إجارة البيوت -وسيأتي هذا إن شاء الله في باب الإجارة- والمساكن المدد الطويلة، التي لا يؤمن معها بقاء العين، ولا يؤمن معها تغير العين وتغير منافع العين؛ لأن هذا من الغرر، وقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر -وفي رواية-: نهى عن الغرر) كما في الصحيح، فهذا من الغرر، فإذا أراد أن يبيع فإن البيع إلى الأبد، وبناءً على هذا: لو قال له: أبيعك هذه الدار عشر سنين، أو أبيعك هذه السيارة خمس سنوات، أو أبيعك هذه التجارة سنة؛ لم يصح، وليس هذا ببيع، ولا بجارٍ على عقود المسلمين في البيع؛ لأن البيع يكون إلى الأبد ولا يكون مؤقتاً.
وعلى هذا: فإنه لابد في البيع أن يكون على التأبيد، فلو قال قائل: نريد أن نحدث نوعاً من البيع، وهو أن نقول له: بعتك سيارتي أو بعتك داري عشر سنوات أو خمس سنوات، وحدد المدة، تقول: هذا ليس ببيع شرعي؛ لأن حقيقة البيع مبادلة المال بالمال على التأبيد وليس على التعقيب، وهذا ليس من البيع الشرعي، فلا يعتبر ولا يحكم بصحته.(142/5)
الفرق بين البيع والربا والقرض
قال رحمه الله: [غير رباً وقرض].
فقوله: (غير رباً)، الربا أصله الزيادة، وهو في الشرع: زيادة مخصوصة في أشياء مخصوصة على صفة مخصوصة، ويشمل هذا زيادة ربا الفضل وزيادة النسيئة بالأجل، وسيأتي إن شاء الله بيانه وذكر ضوابطه.
فلو سكت المصنف وقال: مبادلة مال لشمل الربا؛ لأن الربا يكون مبادلة، فلو قال له: اصرف لي هذه العشرة ريالات بتسعة، فهو رباً؛ لأنه زاد، ولذلك نقول: هذا في الأصل مبادلة فيدخل في البيع، بادله التسعة بالعشرة، وأكل المال بالباطل وهو الريال الزائد، ولذلك لن تجد أحداً يصرف العشرة بتسعة إلا وهو مضطر، والله يقول: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] والله لولا أنه محتاج لهذه التسعة لأجل ظرف نزل به ما صرف العشرة بالتسعة، وليس هناك عاقل حكيم يبذل العشرة مقابل التسعة؛ لأن هذا لا يمكن أن يكون، فهو زيادة، وهذه الزيادة تؤخذ على غير وجهها، فلو لم تحرم من جهة الربا لحرمت من باب أكل المال بالباطل؛ لأن الإنسان ليس فيه شرط الرضا، وقد قال الله عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فهو يعطي العشرة بشيء من الاضطرار والحاجة، فتجده يعطي وهو كاره، وإذا أعطى لا يرضى، ولو أنه ترك على رضاه واختياره ما بادل.
فالربا من حيث هو مبادلة المال بالمال، فيدخل في مسمى البيع من هذا الوجه، فلما دخل في مسمى البيع احتاج المصنف أن يخرجه فاستثناه بقوله: (غير رباً)، والحنفية استثنوه بالتراضي، فإن الربا غالباً لا يقع فيه التراضي؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فوصف بيع الحلال بأنه عن تراضٍ، ولذلك تجد الإنسان يعطي السلعة ويأخذ الثمن، ويعطي الثمن ويأخذ السلعة بالرضا، وغالباً ما يقع الربا في بيوع الصرف، ولذلك احترز المصنف رحمه الله بقوله: (غير رباً).
وقوله: (وقرض) والقرض مبادلة، لكنها مبادلة على سبيل الرفق، وليس على وجه البيع؛ لأنه أخذه لا على سبيل المبادلة التي يراد بها البيع، وإنما المراد أن يرتفق بالمال لحاجته وما نزل به.(142/6)
الإيجاب والقبول في البيع
قال رحمه الله: [وينعقد بإيجاب وقبول بعده وقبله متراخياً عنه في مجلسه].
قوله: (وينعقد بإيجاب).
فبعد أن عرفنا حقيقة البيع، نحتاج الآن أن نعرف كيف يتم عقد البيع في الشرع، أي: ما هي الضوابط التي يحكم عن طريقها بوجود عقد البيع؟ وهذا يستلزم -كما سبقت الإشارة إليه في المجلس الماضي- وجود الصيغة، فإن عقود المعاملات تقوم على الصيغ، وهذه الصيغ هي الإيجاب والقبول، فإن كان الإيجاب وارداً على بيع والقبول وارداً عليه يقال: (عقد بيع)، وإن كان على إجارة فإجارة، وإن كان على نكاح فنكاح إلخ، والإيجاب هو أن يقول -مثلاً-: بعتك، أجرتك، زوجتك، والقبول: هو أن يقول الآخر: قبلت النكاح، قبلت البيع، قبلت الإجارة إلخ، والإيجاب غالباً ما يكون من الباذل وهو البائع، والقبول يكون من المشتري، فقول: (بعتك سيارتي بعشرة) هذا إيجاب من البائع، وقول: (قبلتها، اشتريتها)، هذا قبول من المشتري، أو قول: (رضيت، بارك الله لك) ونحو ذلك من الصيغ التي يعبر بها عن قبول البيع، والإيجاب والقبول يكون على الصيغة، وهي التي عبّر المصنف عنها بقوله: (وينعقد بإيجاب وقبول)، فالعقد عند العلماء يشتمل على الإيجاب والقبول، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فكأن الله سبحانه وتعالى ينبه عباده أن هذا الكلام الذي جرى في مجلس العقد من قوله: (بعتك، زوجتك، أجرتك)، هذه كلها كلمات رضيها المسلمون، وتواطئوا واتفقوا عليها، فينبغي أن تكون عند المسلم ذمة وأن يكون عنده عهد ويفي بهذه الصيغ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يا أهل الإيمان! يا من آمنتم بي وصدقتم برسلي وكتبي! (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، فهو هنا عظم الصيغة وأعطى لها منزلة في الإسلام، فهذا الكلام ليس هدراً، يقول شخص لآخر: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال: قبلت، فلما افترقا عن المجلس قال: ما بعتك.
فهذا لا ينفع أبداً، فالمسلم له ذمة وله عهد ومنه الوفاء، ولذلك يلزم بالصيغة التي جرت بينه وبين الطرف الآخر، وإذا قضى القاضي أو أفتى المفتي فأول ما يلتفت إليه في البيع الصيغة، وإذا أراد الإنسان أن يفصل بين متخاصمين في معاملة فليبدأ أول ما يبدأ بالعقد، وليبدأ أول ما يبدأ بالاتفاق الذي جرى بينهما، ويأخذ الاتفاق من أول حرف فيه إلى آخره، ثم بعد ذلك يلزم كلا الطرفين بما التزم به، لا يظِلم ولا يُظلم، ولا يحمل كلامه فوق ما يحتمل، قال له -مثلاً-: بعتك سيارتي، فيقول: أنا قصدت السيارة وما عليها، فهذا لا ينفع؛ لأنه قال: بعتك سيارتي، ولم يقل: سيارتي وما عليها، فهذه الصيغ هذه والألفاظ محترمة، ومن هنا أمر بكتابة البيع إذا كان إلى أجل حفظاً وضماناً لمثل هذا؛ لأنه إذا كانت تجارة حاضرة فأمرها أهون والخصومة فيها أضعف؛ لكنها إذا كانت إلى أجل فيدخلها شيء من النسيان، وشيء من الزيادة والنقص، فالشريعة تريد معرفة ما الذي جرى بينك وبين الطرف الآخر، وما الذي قلته وما الذي قاله، وما الذي تم عليه العقد، فإن قال البائع: بعتك داري، ينصب البيع على داره، وإن قال: بعتك أرضي، ينصب على الأرض إلخ.
قوله: (ينعقد بإيجاب وقبول) فإذا قال البائع: بعتك سيارتي بعشرة آلاف فهذا إيجاب، وإذا قال المشتري: قبلت حينئذٍ يتم البيع بهذه الصيغة، وهي صيغة الإيجاب والقبول.
وعقد البيع إما أن يتم بالقول وإما أن يتم بالفعل، فإذا تم بالأقوال فهذه الصيغة -وهي: الإيجاب والقبول- تنقسم إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن تكون بصيغة الماضي.
النوع الثاني: أن تكون بصيغة الأمر.
النوع الثالث: أن تكون بصيغة المضارع.
أولاً: صيغة الماضي: قال له: بعتك سيارتي هذه بعشرة آلاف، يقول المشتري: اشتريتها، فقول (بعت)، و (اشتريت) كل منهما للماضي، والصيغة بالإجماع على أنها إذا وقعت بلفظ الماضي أنها أقوى أنواع الصيغ، (كبعت اشتريت رضيت) فهذه كلها ألفاظ معتبرة.
ثانياً: صيغة الأمر، كقولك: بعني سيارتك بعشرة آلاف، فيقول البائع: خذها بعشرة آلاف، فـ (بعني) صيغة أمر.
ثالثاً: صيغة المضارع، كقولك: أتبيعني سيارتك بعشرة آلاف؟ أو أبيع سيارتي بعشرة آلاف يقول البائع -مثلاً-: أبيعك سيارتي بعشرة آلاف، فقوله: (أبيعك) هذا تعبير للمستقبل، فيقول: أشتريها بعشرة آلاف، فقوله: (أشتريها) هذا تعبير للمستقبل.
ففي الحالتين الأخيرتين: الأمر والمضارع، جماهير العلماء على أن الصيغة معتبرة، لكن يختلفون في مسألة هل يلزم إعادة الإيجاب مرة ثانية وإعادة القبول؟ ولكن العبرة بما دل عليه بساط المجلس وتعارف عليه الناس.
والصيغ تنقسم إلى: صريحة، وظنية، فالصريحة: أن يصرح بالبيع، فيقول: بعتك، فتقول: اشتريت، فلما تتأمل كلمة (بعت) و (اشتريت) تجد أن لفظة (بعت) صريحة بالبيع ولفظة (اشتريت) صريحة بالشراء، وهناك ألفاظ غير صريحة، لكنها تدل بالعرف على أنه قد رضي البيع أو الشراء، قال له مثلاً: ملكتك سيارتي بعشرة آلاف، فقال: رضيت، ولم يقل: اشتريت، فهذا ضمناً كأنه قال: اشتريت، وفي بعض الأحيان، يقول له: خذ سيارتي بعشرة آلاف، قال: بارك الله لك، فـ (بارك الله لك) تدل على أنه رضي، والغالب عندنا في العرف أن هذا القول يدل على أنه رضي الكلام الذي قد قاله له.
إذاً: إن كان اللفظ صريحاً أو بالنية فإنه يدل على انعقاد البيع، ونرجع إلى كل عرف بحسبه، فلا يتقيد الأمر بـ (بعت) و (اشتريت) وإنما يشمل كل لفظ دال على الرضا من الطرفين؛ لأن الله اشترط الرضا، والرضا أمر في القلب يدل عليه الظاهر، إما قولاً وإما فعلاً.
ننتقل بعد ذلك إلى صيغة الفعل، أو دلالة الفعل على البيع، ودلالة الفعل مشكلة، أي: أن يقع فعل من البائع وفعل من المشتري يدلان على أنهما تراضيا على البيع، مثال ذلك: ما يجري الآن حينما تدخل بقالة وتجد فيها نوعاً من الطعام قد كتب عليه عشرة ريالات مثلاً، أو كتب عليه مائة ريال، فتأخذ هذا النوع وتأتي عند المحاسب أو صاحب البقالة أو العامل الذي هو وكيل عن مالك البقالة وتدفع نفس القيمة المكتوبة على السلعة، فيأخذ القيمة ولا تتكلم ولا يتكلم، فهذا بيع بالفعل، فما قال: (بعت) ولا قلت: (اشتريت)؛ لكنكما تفاهمتما عن طريق الفعل، وهذا البيع لا يمكن أن يمر يوم دون أن تفعله، خاصة في الخبز، والأشياء الحقيرة أي: التي قيمتها يسيرة سماها العلماء (المحقرات) -وستأتينا إن شاء الله- والمحقرات: هي الأشياء التي قيمتها زهيدة.
فتأتي إلى الخبز وأنت تعلم أن الرغيف مثلاً بنصف ريال فتعطيه نصف ريال وتأخذ الخبز، فلم يقل: بعت ولم تقل: اشتريت، وليست هناك صيغة أبداً، إنما جرى العرف على أنك إذا وضعت نفس هذا المبلغ، وسحبت نفس الرغيف أنك راضٍ بهذا البيع.
إذاً: الرضا بالبيع: إما أن يكون باللفظ: (بعت) و (اشتريت) أو يكون بالفعل، وهذا النوع من البيوع هو الذي يسمى ببيع المعاطاة، وسنتكلم عليه إن شاء الله ونذكر خلاف أهل العلم رحمهم الله فيه.
أما إذا وقعت الصيغة باللفظ فلا إشكال، ولكن من حقك في الصيغة أن تتدخل وتلغيها، ومن حقه هو أن يتدخل ويلغيها، بشرط ألا تفترقا عن المجلس، فمثلاً: لو قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف ريال، فقلت له: قبلت، وأعطاك العشرة آلاف، وأعطيته مفاتيح السيارة، وجلستما خمس ساعات متواصلة، ثم في آخرها قال: لا أريد، فمن حقه أن يرجع في البيع، فالصيغة وحدها لا تلزم ما لم يكن بعدها الافتراق، وهذا ما سنتكلم عليه في خيار المجلس إن شاء الله تعالى.
إذاً: انعقاد البيع يكون بالصيغة: الإيجاب والقبول، ولكن يتوقف لزوم العقد ولزوم الصيغة على الافتراق من المجلس، فلا يعتبر هذا اللفظ ملزماً إلا إذا افترقا من المجلس أو خيّر أحدهما الآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، فجعل الخيار لهما ما لم يقع الافتراق.(142/7)
الفاصل بين الإيجاب والقبول وحكمه
قال: [وينعقد بإيجاب وقبول بعده] (بإيجاب) هذا أول شيء، (وقبول بعده)، أي: بعد الإيجاب، فقوله: (بعده) أي: ألا يكون هناك فاصل بين الإيجاب والقبول، مثال ذلك: أن يقول له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال: قبلت، فلما قال: قبلت وقع القبول بعد الإيجاب مباشرة، فالبيع صحيح وتام؛ لكن لو فصل فاصل، نقول: الفاصل ينقسم إلى قسمين: الفاصل المتضمن للعقد.
والفاصل الخارج عن العقد، ويسمى: بالفاصل المؤثر.
أما الفاصل الذي هو داخل العقد كأن يقول له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، ثم قام إلى السيارة فقلبها ونظر فيها وفحصها ثم قال: قبلت، فإننا نعلم أن هذا الفاصل من الأفعال؛ لأن الفاصل يكون بالأقوال ويكون بالأفعال، فهذا الفاصل الفعلي ولو أنه طال لكنه يعتبر داخلاً ضمن مجلس العقد، وكأنه من متممات العقد، أي: كأنه انبنى عليه تمام العقد، فهذا لا يؤثر، ولا يحتاج أن يعود مرة ثانية ويقول: بعتك؛ لأنه فصل بفاصل مركب على قوله: بعتك، وكذلك أيضاً الفاصل الزمني، قال له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فجلس يتفحص ثم قال: عشرة آلاف، عندي كذا وعندي كذا، فجلس يحسب نفقته ويحسب ما الذي يترتب على قبوله البيع، ثم قال: قبلت، فهنا صح البيع، وهذا الفاصل يعتبر مما يعين على تحقيق البيع وتمامه.
أما الفاصل المؤثر أن يأتي بقول أو فعل أجنبي، مثلاً: قال له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال: كيف حال فلان؟ فهذا الكلام خارج عن عقد البيع، وكلام أجنبي، ثم قال: هل خرج من المستشفى أم لا؟ قال: لم يخرج، قال: لعل الله أن يشفيه، فدخلوا في كلام خارج عن مسألة البيع، ثم قال له: قبلت، فهذا لا يصح، ولا يتركب القبول على الإيجاب الماضي؛ لأن دخول الفاصل الأجنبي كأنه يقول: لا أريد البيع، فهو بمثابة الإعراض عن البيع، ولذلك يحتاجان إلى أن يعيدا مرة ثانية ويقول: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، حتى يقع القبول بدون وجود هذا الفاصل الأجنبي المؤثر في اعتبار الإيجاب وما يتركب عليه من قبول.
قال رحمه الله: [وقبله متراخياً عنه في مجلسه].
(وقبله) أي: أن يقع القبول قبل الإيجاب، فيصح أن يقع القبول بعد الإيجاب وقبل الإيجاب، سواء سبق البائع أو سبق المشتري؛ لأن هذا كله يدل على الرضا، إلا أن الشافعية رحمهم الله يشددون ويشترطون سبق الإيجاب للقبول، ولذلك إذا قال له: أشتري منك سيارتك بعشرة آلاف ريال، فقال: بعتكها بعشرة آلاف ريال، فلابد أن يرجع المشتري مرة ثانية ويقول: قبلت، فيرون أنه لابد أن يتأخر القبول على الإيجاب، والجمهور من حيث الجملة لا يفرقون؛ لأن الله سبحانه وتعالى اعتبر الرضا، وهذا يدل على الرضا، سواء سبق أو تأخر، فكل منهما معتبر.
قال رحمه الله: [فإن اشتغلا بما يقطعه بطل].
(فإن اشتغلا بما يقطعه) أي: من القول أو الفعل، (بطل) أي: بطل الإيجاب، ولم يتركب القبول بعده على الإيجاب.
[وهي الصيغة القولية].
أي: هذا الذي قدمته لك وذكرته لك صيغة البيع القولية: (بعت) و (اشتريت)، كما ذكرنا، وبعد ذلك سينتقل إلى الصيغة الفعلية.(142/8)
بيع المعاطاة وحكمه
قال رحمه الله: [وبمعاطاة وهي الفعلية] أي: وينعقد -وهذا أصل التقدير فالواو للعطف- البيع بالمعاطاة، والمعاطاة مأخوذة من قولهم: أعطى الشيء يعطيه إعطاءً، فهذا النوع من البيع -كما قلنا- يقوم على الأفعال، كأن تأتي إلى البقالة وتعطي المال ثم تأخذ السلعة، دون أن يحصل بينكما إيجاب أو قبول، وهذا النوع من البيع اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال: القول الأول: ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة وبعض أصحاب الشافعي كـ البغوي وغيره رحمهم الله إلى أن بيع المعاطاة يصح مطلقاً.
ما معنى قولهم: يصح مطلقاً؟ معناه: يصح في الأشياء الحقيرة والأشياء الغالية، فلو أنك جئت ورأيت بائع الخبز يبيع الرغيف بنصف ريال ووضعت النصف ريال وأخذت الرغيف، صح البيع عندهم، ولو أنك مررت على صاحب ذهب ورأيت عقد الذهب بعشرة آلاف ريال فجئت وسحبت العقد دون أن يقول لك: بعت، ودون أن تقول: اشتريت، ودفعت العشرة آلاف وأخذت العقد صح البيع، وهذا في الغالي والكثير، والأول في اليسير والحقير، والبيع عندهم صحيح، المهم عندهم أن يحصل شيء يدل على الرضا، ولا يقيدونه بالقول، فأي فعل يدل على الرضا فالبيع عندهم صحيح، وهذا مذهب الجمهور.
- وذهب الشافعية رحمهم الله إلى عدم صحة بيع المعاطاة مطلقاً، وأنك إذا اشتريت خبزاً بنصف ريال أو بربع ريال فلا يصح، حتى يقول لك: بعت، وتقول: اشتريت، أي: حتى يقع الإيجاب والقبول، فلا يصح هنا البيع بالأفعال، بل لا بد من القول.
- وذهب الحنفية في رواية، والإمام أحمد أيضاً في رواية، وهو قول عند الشافعية إلى التفريق، فقالوا: يصح بيع المعاطاة في اليسير والحقير، ولا يصح في الكثير والجليل أي: الشيء الذي له قيمة لا يصح بيع المعاطاة فيه، والشيء اليسير الذي قيمته يسيرة يصح البيع فيه، ففرقوا بين القليل والكثير.
أما الذين صححوا البيع وهم جمهور العلماء رحمهم الله فاحتجوا بدليل الكتاب والسنة والإجماع: أما دليلهم من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فالله عز وجل بيّن في هذه الآية صحة البيع دون أن يفرق بين بيع قائم على القول أو قائم على الفعل، فما فرق بين بيع وآخر.
ثانياً: قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الرضا أمر متعلق بالقلب يدل عليه الظاهر بالفعل كما يدل عليه بالقول، فأنت الآن حينما تأتي وترى على السلعة قيمة عشرة ريالات وتأتي وتدفعها له وتأخذ السلعة، ما معناه؟ معناه أنك راضٍ ببذل هذه العشرة مقابل هذه السلعة، كما أنك تقول له: بعت ويقول: اشتريت، فحينما دفعت المال لا فرق بينهما، هذا بالنسبة لدليل الكتاب.
أما دليل السنة: فحديث ابن حبان في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض) قالوا: إن الرضا -كما في دليل الكتاب- يدل عليه الفعل كما يدل عليه القول.
والدليل من الإجماع: هذا الإجماع نقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وله بحث نفيس حبذا لو يرجع إليه في كتابه النفيس (القواعد النورانية) فقد تكلم على هذه المسألة كلاماً نفيساً، وقرر أن الشرع لا يقيدنا بالألفاظ وأن العبرة بالرضا، سواء كان بالقول أو بالفعل، ونقل كلاماً نفيساً عن السلف، وأنهم كانوا ينزلون دلالة الأفعال منزلة دلالة الأقوال، فيقول في معرض كلامه: ألا ترى الرجل يبني المسجد ثم يفتح أبواب المسجد، ولا يصيح للناس: أيها الناس! قد أوقفت هذا المسجد لله أو كذا، فنفهم أنه حينما فتح باب المسجد أنه يقصد وجه الله عز وجل، أو يريد وقفه للطاعة والصلاة فيه، فلا يحتاج الداخل ولا يحتاج المصلي إلى استئذان، كذلك لو مررت على سبيل ماء وتجد صاحبه -كما ذكر رحمه الله- يشرع للناس الماء، ويضع كئوس الماء، تفهم من هذا أنه سبيل ووقف يراد به الخير، فتشرب ولا تنتظر من صاحبه أن يقول: أذنت لك أن تشرب، فجعل إخراجه (لصنبور) الماء خارج داره وإبرازه منزلاً منزلة الإذن باللفظ، وذكر على هذا أشياء كثيرة، وأن السلف رحمهم الله كانوا على هذا، وعليه قال: إننا نعرف من إجماع السلف وهديهم رحمهم الله أنه لا فرق بين دلالة الفعل ودلالة القول.
وأما الذين منعوا بيع المعاطاة فيحتجون بقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] قالوا: إن الرضا أمر غيبي ولا نستطيع أن نعلمه إلا إذا صرح بدليل لفظه أنه راضٍ.
واستدلوا أيضاً بالقياس، فقالوا: لا يصح البيع بالأفعال كما لا يصح النكاح بالأفعال، أي: كما أن النكاح يجب فيه الصيغة باللفظ، كذلك البيع تجب فيه الصيغة باللفظ.
وأما الذين فرقوا بين القليل والكثير، فعندهم دليل الاستحسان، فيستدلون بدليل الشافعية على المنع ويستثنون اليسير من باب الاستحسان، والاستحسان: هو الاستثناء من الأصل العام بدليل ينقدح في نفس المجتهد.
والذي يترجح -ختاماً- في هذه المسألة هو القول بصحة بيع المعاطاة في القليل والكثير أولاً: بدلالة الكتاب والسنة.
ثانياً: أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاض} [النساء:29] دليل لنا؛ لأن الله لم يفرق بين رضاً وآخر، وأن الرضا كما يستفاد بالأقوال يستفاد كذلك بالأفعال.
وأما القياس فإننا نقول: إن هناك فرقاً بين النكاح والبيع، ففي النكاح شدد الشرع أكثر من البيع؛ لأن النكاح يحتاط فيه للفروج، ولذلك ليس في النكاح خيار مجلس، ولكن البيع فيه خيار المجلس، فرخص الشرع في البيع أكثر من ترخيصه في النكاح، وشدد في النكاح واعتبرت الصيغة، ولأن الفرق بين النكاح والسفاح -الحلال والحرام- يحتاج إلى صيغة، فتقيد بالصيغة، وهذا بخلاف البيع، ومن هنا يترجح القول بصحة بيع المعاطاة، وهناك بعض العلماء يحتج بدليل عزيز غريب، وهو في الحقيقة أنفس ما استدل به في هذا الباب، وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] قال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [التوبة:111] وقال بعد ذلك: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111] فسماه بيعاً، مع أنه لا يقول: بعت ولا يقول: اشتريت، ولكن نزلت الأفعال -من خوضه في سبيل الله مقبلاً غير مدبر يحتسب الأجر عند الله- منزلة صريح القول، فقالوا: وهذا يدل على صحة بيع المعاطاة.(142/9)
الأسئلة(142/10)
صور البيع
السؤال
ذكرتم -حفظكم الله- أن هناك ثلاث صور من صور البيع التسع محرمة عند العلماء، فما هي الثانية والثالثة؟ أثابكم الله.
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فنحن قلنا: عندنا بيع العين بالعين، والذمة بالذمة، والعين بالذمة، هذه ثلاث، وكل واحدة من هذه الثلاث تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ناجزاً من الطرفين، ونسيئة من الطرفين، وناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، فأصبح المجموع (3×3) تسع صور، ففي كل واحدة من هذه الثلاث نسيئة من الطرفين: عين بعين نسيئة من الطرفين، وذمة بذمة نسيئة من الطرفين، وعين بذمة نسيئة من الطرفين، فإذا جئت تحصرها تقسم البيع، وتجعله ثلاثة أقسام: عين بعين، وذمة بذمة، وعين بذمة، هذه الثلاثة الأقسام الرئيسية، ثم كل واحدة من هذه الثلاث تجعل تحتها ثلاثة أقسام: ناجزاً من الطرفين، ونسيئة منهما، وناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، فجميع الصور التسع فيها ثلاث صور كقولك: العين بالعين نسيئة من الطرفين، والذمة بالذمة نسيئة من الطرفين، والعين بالذمة نسيئة من الطرفين، وصيغة العين بالعين نسيئة من الطرفين أن تقول: بعتك هذا الكتاب بهذا الكتاب أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا نسيئة من الطرفين ولا يجوز.
وصيغة الذمة بالذمة نسيئة من الطرفين أن تقول: أبيعك ساعة من نوع كذا وكذا بساعة من نوع كذا وكذا أو بمائة ريال أو بمائتين، فهذا يعتبر ذمة بذمة، وتقول: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا نسيئة من الطرفين، ذمة بذمة.
وصيغة العين بالذمة نسيئة من الطرفين أن تأتي بواحد من الأول وواحد من الثاني فتقول: أبيعك هذه الساعة بمائة ريال، على أن أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهي نسيئة من الطرفين في صورة عين بذمة، فهذا بالنسبة لمسألة الثلاث الصور.
إذاً: أصبحت هناك ست صور: عين بعين، وذمة بذمة، وعين بذمة، فهذه ثلاث تضربها في القسمين الباقيين: ناجزاً منهما، ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر، فهذه الست فيها بحث وفيها تفصيل وفيها أحكام، وأما الثلاث الأولى فللعلماء كلمة واحدة أنها لا تصح، وأنها من بيع الدين بالدين المنهي عنه شرعاً، وأجمع العلماء على عدم صحته واعتباره.
والله تعالى أعلم.(142/11)
تعريف الثمن
السؤال
هل يمكننا أن نعرف الثمن بأنه: كل ما دخلت عليه الباء فهو ثمن؟ أثابكم الله.
الجواب
بعتك هذا الكتاب بهذا الكتاب، فـ (بعتك هذا الكتاب) مثمن، (بهذا الكتاب) مثمن، و (بعتك هذه الأرض) كذلك (بهذه الأرض) مثمن، فليس كل شيء دخلت عليه الباء ثمن؛ لأن الباء تدخل على الثمن وتدخل على المثمن، فلا ينضبط ولا يتأكد ولا يستقيم أن تقول: كل شيء دخلت عليه الباء فهو ثمن، لكن لو قيل: إنه في البيع المطلق: أبيعك السيارة بعشرة آلاف؛ لأن البيع المطلق هو بيع الثمن بالمثمن، وهو أحد الأنواع التي ذكرناها فهذا ممكن.
فالمقصود: أن وضع الباء هذا لا أعرف أنه ضابط مطرد؛ لأنه يشترط في الضوابط أن تكون مطردة، والباء تدخل على الثمن وتدخل على المثمن بلا إشكال.
والله تعالى أعلم.(142/12)
حكم اقتطاع مال نقدي عند بائع واستهلاكه بعد ذلك
السؤال
أنا إنسان أعطي صاحب البقالة مبلغاً وقدره مائة ريال في بداية الشهر، وأنا على مرور أيام هذا الشهر آخذ ما أريد من البقالة، وصاحب البقالة يخصم المبلغ من المائة التي عنده في بداية الشهر، فهل هذا الفعل جائز، أم أن فيه نوعاً من أنواع الربا؟ أثابكم الله.
الجواب
هذه المسألة تورع بعض العلماء فيها، واعتبرها من باب بيع الدين بالدين، والسبب في هذا: أنه لما أعطاه المائة أصبح صاحب البقالة مديناً لك بالمائة، وهذه المائة أعطيت في لقاء دين آخر وهو السلع التي تريد أن يعطيكها؛ لكن رخص فيها بعض العلماء قياساً على السلم، ففي بيع السلم يعطي الثمن عاجلاً والمثمن مؤجلاً، لكن رد هذا القياس؛ لأن السلم رخصة، وما ثبت على الرخص لا يقاس عليها، والشبهة في هذا موجودة.
لكن إذا كان من جنس المكيلات والموزونات والمعدودات فمرخص فيه؛ لأن فيه شبهة السلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، مثال ذلك: أن تأتي إلى بائع الحليب وتقول له: هذه مائة لعشرة أيام كل يوم آخذ منك (كيلو)، فهذا في كيل معلوم إلى أجل معلوم، وكذلك إذا كان موزوناً فإنه ينضبط، فهذا بعض العلماء يدخله في باب السلم من هذا الوجه.
والله تعالى أعلم.(142/13)
حكم البيع مع الضمان
السؤال
اشتريت سلعة واشترط البائع ضمانها لسنة، فهل يصح ضمانه؟ أثابكم الله.
الجواب
مسألة الضمان هذه ترجع إلى أصل شرعي وهو الذي يسمى: بيع العهدة، والعهدة قضى بها الصحابة رضوان الله عليهم، وأثر عن بعض الخلفاء الراشدين أنه قضى بالعهدة، فقد كانوا يبيعون الدواب وغير الدواب أيضاً ويجعلون العهدة ثلاثة أيام، وخلال الثلاثة الأيام هذه ينكشف فيها حقيقة المبيع، ويكون المبيع من جنس المبيعات التي لا تعرف إلا بالتجربة، ولا تعرف إلا بالاستهلاك، فهذا يسمونه بيع العهدة، والضمان في الحقيقة هو تفضل من البائع للمشتري، فهو يقول له: أنا أضمن لك بقاءها خلال سنة؛ لأن هناك عيوباً لا تنكشف ولا تعرف إلا بالاستهلاك، فكونه يلتزم الضمان فيه وجه شرعي، أي: من ناحية شرعية له أصل.
وسنتكلم على هذا إن شاء الله في خيار العيب، فربما نعرج ونبين فيه بشيء من التفصيل، وبيع الضمان له وجه من العهدة، ومن أمثلة ذلك: أنهم كانوا يبيعون الرقيق به آفة وعاهة، ولا تنكشف إلا بعد شهر أو شهرين، وقد لا تنكشف إلا خلال سنة، فهذا كله يعتبره العلماء من باب ضمان حق المشتري.
والأصل فيه أيضاً حديث المصراة كما في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين: إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، لاحظ النهي عن الغش: (لا تصروا الإبل والغنم)؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا بيعها وهي أنثى وفيها حليب حبسوها يومين أو ثلاثة لا يحلبونها، فينتفخ ضرعها، وعندها فلن تستطيع أن تكتشف هذا العيب إلا إذا جلست عندك، ولذلك ثبت في الرواية الأخرى: (فأمسكها ثلاثاً) أي: يمسكها ثلاثة أيام حتى ينكشف حقيقة الحليب الموجود فيها، فهذا نوع من إعطاء الضمان ثلاثة أيام، حتى ينكشف حقيقة الحليب الموجود، فأنت لا تستطيع أن تكتشف هذا العيب إلا إذا جلست ثلاثة أيام، ففي اليوم الأول تراها كثيرة الحليب، وفي اليوم الثاني ينقص وفي اليوم الثالث يرجع إلى طبيعته أو عادته أو قريباً من الطبيعة أو العادة، فحينئذٍ إن شئت أمسكت وإن شئت رددتها وصاعاً من تمر ضماناً للعيب الموجود فيها.
وعلى هذا: فإنه قد يقوى اعتبار الضمان من حيث الأصل، أما من حيث التفصيل فهذا يحتاج إلى نظر.
والله تعالى أعلم.(142/14)
حكم التفاضل في الأشياء التي لا يجري فيها الربا
السؤال
أريد أن أبيع ثلاجة قديمة بأخرى جديدة، مع دفع الفارق، دون قبض ثمن الأولى، فهل يصح هذا البيع؟ أثابكم الله.
الجواب
بالنسبة لمبادلة الثلاجات والغسالات والثياب والسيارات، كأن يكون عندك سيارة قديمة تبادلها بسيارة جديدة، أو أجهزة كهربائية مستعملة بأجهزة جديدة أو بأجهزة مستعملة أخرى، سواء بادلت بدون فرق أو بادلت بالفرق، فكله جائز؛ لأن الأجهزة الكهربائية كأن تبادل غسالة بغسالة فإن الغسالات ليست من جنس الأموال التي يحرم فيها التفاضل؛ لأنها ليست من الموزونات، وشرط جريان الربا في غير المطعوم أن يكون موزوناً، والغسالة لا تباع بالوزن بل تباع بالعدد، وهكذا بالنسبة للآلات الأخرى كالسيارات فإنها تباع بالعدد لا بالوزن، ولذلك كل شيء من غير الطعام إذا لم يكن موزوناً فيجوز فيه التفاضل، فيجوز أن تبيع الثلاجة بالثلاجتين، أو تبيع الثلاجة بالثلاجة وتدفع الفرق ولو كان نقوداً؛ لأنه ليس من جنس ما يمنع فيه التفاضل أو يجري فيه الربا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(142/15)
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [3]
للبيع شروط شرعية لا يحكم بصحة البيع ونفوذه إلا إذا توافرت فيه هذه الشروط، ومن أهم هذه الشروط: تراضي الطرفين -البائع والمشتري- وأهليتهما في التصرف، وأن تكون العين مباحة المنفعة لغير حاجة، فإذا فقد البيع أحد هذه الشروط فقد فُقدت شرعيته، وحينئذٍ يحكم ببطلانه، وعدم جوازه.(143/1)
شروط صحة البيع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويشترط التراضي منهما، فلا يصح من مكره بلا حق].
شرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توفرها لكي يحكم بصحة البيع، ولا يمكن أن يحكم بجواز البيع ونفوذه إلا إذا توفرت هذه الشروط الشرعية، وذلك لأن الأصل في مال المسلم أنه محرم إلا أن يدل الدليل على استباحته، وعقد البيع عقد مبادلة ومعاوضة، وهذه المبادلة والمعاوضة لها أمارات معينة في الشرع يحكم بوجودها في صحة البيع واعتباره، ويسمي العلماء رحمهم الله هذه الأمارات والعلامات: شروط صحة البيع، فشرع المصنف رحمه الله في بيان الشروط التي ينبغي توافرها لكي يُحكم بكون البيع صحيحاً.(143/2)
التراضي
قال رحمه الله: (ويشترط التراضي) أي: يشترط لصحة عقد البيع أن يكون البائع راضياً، وأن يكون المشتري راضياً، فلابد أن يكون كل منهما راضياً على عقد المبادلة والمعاوضة، فلو قال رجل لرجل: بعتك بيتي بمائة ألف، فيشترط أن يكون هناك الرضا من البائع وهو صاحب البيت، بحيث يرضى بالمائة ألف عوضاً عن بيته، ويشترط الرضا في المشتري، بحيث يرضى بدفع المائة ألف في مقابل هذه العين، أعني: البيت.
والأصل في اشتراط هذا الشرط قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فبيّن سبحانه وتعالى حرمة أكل مال المسلم بالباطل، والباطل هو الذي ليس فيه وجه حق، وعلى هذا فإنه يستحق مال المسلم في التجارة إذا وجد الرضا، ومفهوم ذلك: أنه لا يستحق مال المسلم إذا فقد الرضا، والله تعالى يقول: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فاشتملت هذه الآية على اشتراط الرضا في الطرفين: في البائع وفي المشتري، ومفهوم ذلك: أنه لا يصح البيع إذا فقد الرضا.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من شروط صحة البيع وجود الرضا من حيث الجملة؛ لنص الله عز وجل عليه، ولذلك نجد فقهاء الحنفية رحمهم الله لما وصفوا البيع الشرعي قالوا: مبادلة المال بالمال بالتراضي، وقولهم: (بالتراضي)، الباء للمصاحبة، أي: مصحوباً بالتراضي من الطرفين، أعني: البائع والمشتري.
وعلى هذا: فلو أن إنساناً هدد غيره أن يبيع فباع تحت هذا التهديد، أو أضر به أو قهره على البيع، فإذا توفرت شروط الإكراه لم يصح البيع؛ وذلك لأن الله عز وجل اشترط للحكم بجواز البيع وصحته أن يوجد الرضا، ومفهوم ذلك: أنه لا يحكم بصحة البيع واعتباره إذا لم يوجد الرضا، وقد جاء في حديث ابن عمر عند ابن حبان وغيره وحسن بعض العلماء إسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض)، فقوله: (إنما البيع) أسلوب حصر وقصر، كأنه يقول: البيع الشرعي هو البيع الذي وجد فيه التراضي، ومفهوم ذلك -وهو مفهوم الحصر كما يسميه الأصوليون-: أنه إذا لم يوجد الرضا فليس ثمّ بيع شرعي.
وقوله: (فلا يصح من مكره بلا حق) الفاء في قوله: (فلا يصح) للتفريع، فرّع على اشتراط الرضا في البائع والمشتري أنه لا يحكم بصحة البيع إذا أكره البائع على البيع أو أكره المشتري على الشراء، فإذا أكره أحدهما أو أكرها معاً لم يصح البيع.
وقوله: (من مكره) المكره: مأخوذ من الكره، وأصل الكره الشيء الذي انتفى فيه الرضا، والأصل في كون الإكراه مسقطاً للأحكام الشرعية قول الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فهذه الآية الكريمة قال علماء التفسير فيها: إنها أصل في إسقاط حكم الإكراه، ووجه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى بيّن أن المسلم إذا قال ما يوجب الردة -وهي كلمة الكفر- بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن هذا القول لا عبرة به، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار عندما أكره: (وإن عادوا فعد)، فأسقط بالإكراه الحكم بالمؤاخذة.
وعلى هذا: فلو قال المكره: بعت، وقال المكره: اشتريت، فإن هذا اللفظ من البائع والمشتري وجوده وعدمه على حد سواء؛ لكن يبقى النظر: متى نحكم بكون الإنسان مكرهاً؟ هذه المسألة تكلم عنها العلماء رحمهم الله، ولكن فيها تفصيل وكلام طويل، وسيكون الحديث عنها إن شاء الله في طلاق المكره، وسنتكلم عن الشروط المعتبرة للحكم بكون الإنسان مكرهاً، فمثلاً: لو قال رجل لرجل: بع بستانك هذا بمليون وإلا ضربتك على يدك، فإن الضرب على اليد أهون من بيع البستان بهذا المبلغ، فلا نقول: إنه مكره بهذا القول، وإنما يحكم بكونه مكرهاً، إذا هُدِّد بأمر هو أعظم من الأمر الذي طلب منه.
وهناك موازين وأمور معينة لا بد من وجودها للحكم بالإكراه.
فالشاهد: أن من باع مكرهاً على بيعه لم يصح بيعه، ومن اشترى مكرها على الشراء لم يصح شراؤه، ولكن يبقى النظر إذا أكره بحق، ومثال ذلك: المفلس، فلو أن رجلاً استدان من الناس حتى أفلس، ووجدت أمتعة الناس عنده -ومعلوم أنه لا يحكم بكون الإنسان مفلساً إلا إذا كانت ديونه أكثر من تجارته، وغلب على الظن عدم نمائها، وعدم استطاعته أو قدرته على رد الحقوق إلى أهلها -فإذا كان الإنسان مفلساً، وعليه دين مثلاً مليون، وهناك أرض أخذها من شخص بمائة ألف، وهناك أرض ثانية بمائتين، وهناك سيارة بمائة، فإن أصحاب الأرض وصاحب السيارة إذا وجدوا عين السيارة وعين الأرض فمن حقهم أن يأخذوها، فيقول صاحب الأرض: أنا آخذ أرضي وأسقط حقي في الدين، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (من وجد متاعه عند من أفلس فهو أحق به)، قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبناءً على هذا: لو أن المفلس -مثلاً- كان عنده من السيارات والعقارات ما يساوي المائة ألف، والديون التي عليه ثلاثمائة ألف، فقرر القاضي بيع ما عنده من الأملاك وتسديد الديون، فإنه ستخرج منه هذه الأملاك دون طواعية ودون رضاً، وسيبيع بدون اختياره وبدون رضاه، ولكنه إكراه بحق، ولذلك يصح البيع وينفذ.
فاحتاط المصنف رحمه الله وقال: (بلا حق)، فمن أكره بالحق فإن إكراهه شرعي، وهكذا لو احتيج إلى توسعة مسجد، أو توسعة طريق تضرر الناس بضيقه، وقيل لرجل: بع دارك لتوسعة الأرض أو توسعة المسجد، فأبى، فمن حق ولي الأمر أن يأخذه منه بالكره ويعوضه عليه بقدر ما للعين من قيمة، والأصل في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هدم دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وذلك حينما ضاق المطاف واحتاج أن يوسعه، فهدم دوراً، ومنها دار العباس رضي الله عنه وأرضاه، وكانت قريبة تطل على المسجد، فأكرهه على بيعها، وأكرهه على المناقلة فيها، فدل على مشروعية هذا النوع من البيع لوجود الحق، والقاعدة الشرعية تقول: (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)، ومن فروعها هذه المسألة، وكذلك الحجر على المريض بمرض معْدٍ ونحوها، كلها أضرار خاصة قصد منها دفع الضرر العام.
فالبيع في مثل هذا بيع معتبر عند العلماء رحمهم الله.(143/3)
أهلية التصرف
قال رحمه الله: [وأن يكون العاقد جائز التصرف].
وهذا هو الشرط الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف، والجائز التصرف: هو الذي ينفذ تصرفه، فهنا بيع وشراء، فيشترط لصحة البيع وصحة الشراء أن يكون تصرف البائع تصرفاً صحيحاً ونافذاً، أي: عنده أهلية التصرف -كما يقول الفقهاء- وهذه الأهلية تستلزم ألاَّ يكون صبياً، ولا محجوراً عليه؛ والسبب في ذلك: أن الصبي والمجنون والسفيه يحجر عليهم، فإذا تصرفوا في أموالهم فإن تصرفهم غير صحيح.
إذاً: يسمي العلماء هذا الشرط بشرط نفاذ التصرف، أو يصفونه: بأهلية التصرف، بمعنى: أن يكون البائع والمشتري عنده أهلية تبيح له أن يأخذ وأن يعطي، فإذا فقد هذه الأهلية لوجود مانع يمنع من نفوذ تصرفه، فإننا لا نصحح البيع، فلو أن صبياً توفي عنه أبوه وترك له عمارة إرثاً، فجاء رجل إلى الصبي وقال له: بعني عمارتك التي ورثتها عن أبيك بمائة ألف، فقال: قبلت، فإنه مالك للعمارة وراض ببيعها، ولكنه غير أهل للتصرف في ماله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وأمر سبحانه وتعالى بالحجر على الأيتام؛ والسبب في هذا: أن الصبي والسفيه والمجنون كل منهم لا يحسن النظر لحظ نفسه، وهذا يسميه العلماء: بالحجر على الإنسان لمصلحة نفسه، وإذا أردت أن تضبط هذا الشرط فتقول: نافذ التصرف هو غير المحجور عليه، والحجر إنما شرعه الله لأمرين: إما لمصلحة الإنسان نفسه، أو لمصلحة تتعلق بالغير.
فأما الحجر على الإنسان لمصلحة نفسه فكالمجنون، فإن المجنون لو أعطيناه ماله فيوشك أن يتلف المال، ولا يحسن التصرف فيه، وهكذا الصبي لو أعطيناه المال فإنه يوشك أن يتلفه، ولا يحسن النظر فيه، ومن هنا يحجر على كل من الصبي والمجنون والسفيه ونحوهم لمكان المصلحة، أو لحظوظ أنفسهم.
وأما النوع الثاني من الحجر: فهو أن تحجر على الإنسان وتمنعه من التصرف في ماله لمصلحة الغير لا لمصلحته هو، ومن أمثلة ذلك: المفلس، فإننا ذكرنا أن المديون يحجر عليه، فالذي عليه ديون -مثلاً- تعادل المائتي ألف، وأمواله تعادل خمسين ألفاً، فإن هذا يمنع من التصرف في أمواله وتباع سداداً للدين.
ومن أمثلة من يحجر عليه لمصلحة الغير: المريض مرض الموت، فإن المريض مرض الموت يتصدق بأمواله؛ ولكن في حدود الثلث، أي: لا يستطيع أن يهب، ولا أن يتصدق، ولا أن يتنازل عن شيء من ماله إلا في حدود الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير)، وقال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، فدل هذا على أن الثلثين ليس من حقه أن يتصرف فيهما، ومن هنا قالوا: إن الحجر على المريض في حدود الثلث يعتبر من باب مصلحة الغير؛ والسبب في هذا: أنه إذا مرض مرض الموت صار المال في حكم الإرث، وحينئذٍ كأن يده قد نقلت عن هذا المال، وأصبح له حظ النظر لمصلحة نفسه بالصدقات والهبات ونحوها من المجاملات التي يريد بها الإحسان إلى الناس.
وقد قال بعض العلماء في هذه المسألة: وَزَوْجَةٌ فِيْ غَيْرِ ثُلْثٍ تُعْتَرَضْ كَذَاَ مَرِيْضٌ مَاْتَ فِيْ ذَاْكَ الْمَرَضْ فالمريض يحجر عليه فيما فوق الثلث، وقوله: (وزوجة في غير ثلث تعترض) هذا على مذهب المالكية رحمهم الله، فإنهم يرون أنها تتصرف في حدود الثلث، وسيأتي بيان هذه المسألة في باب الحجر.
الشاهد: أن البيع لا يصح إذا كان البائع أو المشتري محجوراً عليه، فلو أن صبياً اشترى من رجل داره بمائة ألف، فإننا لا نصحح البيع؛ وإنما نقول: ليس للصبي أن يبيع ويشتري؛ وإنما النظر لوليه، فيأتي وليه وينظر في شراء الصبي؛ فإن كان شراء حكيماً، ومن المصلحة إمضاؤه أمضاه، وإن كان غير ذلك أبطله ورده.
إذاً: معناه: أن البيع لا يصح إلا إذا كان الشخص الذي يبيع ويشتري أهلاً لأن يتصرف في ماله، ومن هنا قال بعض العلماء في تعريف الحجر: هو منع نفوذ تصرف قولي لا فعلي في المال.
ومن هنا اشترط المصنف في العاقد: أن يكون جائز التصرف.
وقوله: (العاقد) يشمل الاثنين: (البائع والمشتري)؛ لأن كلاً منهما عاقد، لكن لو جئت إلى دكان فوجدت صبياً يبيع في الدكان، وهذا الصبي هو الذي يتولى الأخذ منك والإعطاء لك، فهل يصح بيعه؟ وهل تعتبر مالكاً للسلعة بالإيجاب والقبول الذي بينك وبينه؟ نقول: إذا كان الصبي مميزاً ومأذوناً له بالتصرف؛ فإنه حينئذ يصح بيعه، أما الصبي غير المميز؛ فإنه لا يصح بيعه، وعلى هذا قال العلماء: إذا وكّل الصبي ببيع السلع ووجدته في دكان ونحوه، فإنه يصح أن تشتري منه، ولا بأس بذلك.
يبقى
السؤال
إذا كان الصبي والمجنون والسفيه لا يصح بيعهم ولا شراؤهم إلا بإذن أوليائهم، فما هي الحكمة؟
الجواب
الحكمة أن الشرع منع من إعطاء هؤلاء الأموال رحمة بهم -كما ذكرنا- وحفاظاً على الأموال؛ لأنه لو أذن لهؤلاء أن يتصرفوا فإنه سيتضرر الناس بتصرفاتهم؛ لأنهم لا يحسنون النظر، لا للأخذ ولا للإعطاء، فلا يحسنون الأخذ لأنفسهم، فلربما اشتروا ما قيمته المائة بألف، وهذا لا شك أن فيه ظلماً، والشريعة جاءت بقفل أبواب الظلم والإضرار، كذلك أيضاً قد يبذلون للغير ما قيمته غالية بقيمة رخيصة؛ لأنهم لا يحسنون النظر في مصالح أنفسهم.(143/4)
عدم صحة تصرف الصبي والسفيه
قال رحمه الله: [فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن ولي].
قوله: (فلا يصح تصرف صبي) أي: في بيع وشراء، ولذلك قال: (تصرف) حتى يشمل البيع والشراء، فلو أن رجلاً جاء واشترى من صبي أرضه، والصبي مالك لها، فجاء وليه وقال: البيع باطل، فقال المشتري: قد اشتريت، وهذا هو المالك، فنقول: لا يصح البيع إلا بإذن الولي.
وقوله: (وسفيه) أصل السفه: الخفة، والثوب السفساف: الخفيف الذي يشف ما وراءه، ويطلق السفساف على الريح ونحوها، وهي تحمل الرذاذ والشيء الخفيف، فالسفيه: خفيف العقل؛ والسبب في هذا: أن الله جعل العقل في الإنسان لكي يعقله ويحجره عما لا يليق من التصرفات، فإذا جاء الإنسان يتصرف في ماله تصرفاً غير حميد، فمعنى ذلك أن عقله غير رشيد، ولا يحسن النظر، ومن هنا يقولون: إنه سفيه، أي: أن في عقله خفة.
والسفيه له عدة ضوابط: الضابط الأول: هو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا يحسن الإعطاء لغيره، ومعنى قولهم: (لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا يحسن الإعطاء لغيره): أنه إذا أراد أن يشتري غُبِن في الشراء، وإذا أراد أن يبيع غُبِن في البيع، مثال ذلك: إذا كانت عنده سيارة قيمتها عشرة آلاف ريال، وأراد أن يبيعها فربما ماكسه المشتري، أو تلطف معه في العبارات، فيشتريها منه بستة أو بسبعة أو بثمانية آلاف ولا يبالي، ويقول له: أنت رجل طيب، وفيك خير، فهل تبيع هذه السيارة بثمانية آلاف أو بسبعة آلاف؟ فيقول: خذها، فمعنى ذلك أنه ليس عنده عقل، ولا عنده من الرشد ما يحجره ويمنعه لكي ينظر لمصلحة نفسه، فإذا نزل الإنسان إلى هذا المستوى ولم يكن قصده الآخرة، أما لو كان قصده الآخرة، وقصده أن يكون بينه وبين أخيه تآلف، فآثر ما عند الله عز وجل، وفضّل أخوة الإسلام على أن يكسب أخاه، فإن الله يجمع له بين ثواب الدنيا والآخرة؛ لكن نحن نتكلم على رجل أَخْرَق لا يحسن النظر لنفسه.
وبناءً على هذا: لو أن رجلاً عنده أموال (عمائر) أو سيارات فاشترى (العمائر) بقيمة، ثم باعها بقيمة رخيصة جداً، مع إمكان بيعها بقيمة غالية، فطالب أولياؤه بالحجر عليه، وثبت عند القاضي أنه باعها بهذه القيمة الرخيصة، فإنه يحجر عليه ويمنعه؛ لأنه ثبت عند القاضي أنه لا يحسن الإعطاء للغير، فإذا وجد أحد الأمرين: إما أنه لا يحسن الإعطاء للغير، أو لا يحسن الأخذ لنفسه، فيحجر عليه، فلو اشترى داراً قيمتها مائة ألف، فاشتراها بثلاثمائة ألف، أو بمائتي ألف، أو بأربعمائة ألف، فتعلم حينئذٍ أنه أَخْرَق، وأنه يُضحك عليه، فلا بد من الحجر عليه صيانة لماله لحظ نفسه، كما حجرنا على المجنون وعلى الصبي.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وقد جاء عن عثمان في قصة عبد الله بن جعفر وعلي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع، في مسألة شراء أرض في الغابة بالمدينة، فإن عثمان رضي الله عنه لما بلغه شراء عبد الله لها أراد أن يحجر عليه، فقال علي رضي الله عنه: أنا شريكه.
وعلى هذا: فالمقصود أننا نحجر على الإنسان إذا ثبت أنه لا يحسن الإعطاء للغير، أو لا يحسن الأخذ لنفسه.
الضابط الثاني للسفيه: أن يكون مسرفاً في الشهوات، والمراد بهذا: أن يشتري الأشياء المباحة، ويبالغ في الكماليات، مع أنه مكفي الحاجة بما دونها.
ومن أمثلة ذلك: أن يكون بحاجة إلى سيارة مثلاً، فيمكنه أن يشتري سيارة بخمسين ألفاً، فيذهب ويشتري سيارة بمائتي ألف، أو أن يكون بحاجة إلى ثوب، والثوب لمثله ومتوسط مثله من كان في قدره ومكانته يشتري الثوب بمائة، فيذهب ويشتري الأثواب بالمائتين والثلاثمائة والأربعمائة، فينقل نفسه إلى منزلة ليست له، ويتشبع بما لم يعط، فإذا أغرق في هذه المباحات، وأصبح يشتري الأشياء العالية الغالية، ويسرف فيها، مع أن مثله لا يليق به ذلك الشيء؛ فإنه يحجر عليه، ويوصف بالسفه، وهذا الضابط هو الذي أشار إليه بعض العلماء بقوله رحمه الله: وَالسَّفَهُ التَّبْذِيْرُ لِلأَمْوَالِ فِيْ لَذَّةٍ وَشَهْوَةٍ حَلاَلِ حتى قال بعض العلماء: إذا أسرف وأكثر من الزواج، فيكون رجلاً كثير الطلاق للنساء، ورجلاً لا يحسن العشرة الزوجية، وكلما طلّق هذه ذهب ونكح غيرها، فمثل هذا يحجر عليه إذا بلغ به الأمر إلى الدَّين أو الضرر في ماله؛ لأنه في هذه الحالة قد أسرف في اللذة -وهي لذة حلال- وجاوز الحد المعتبر، فحينئذٍ يحجر عليه ويمنع، وقد روي عن علي رضي الله عنه -وهذا يروى عنه أثراً- أنه لما أكثر الحسن الزواج قام على المنبر وقال: (إنه كثير الطلاق أو مطلاق للنساء)، وكأنه يريد أن يمنع الناس من تزوجيه، فقالوا: لَنُزَوِّجَنَّه وإن كان مطلاقاً.
وذلك لشرفه رضي الله عنه وأرضاه، فهو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم تعاظموا أنه قام في الكوفة وقال: (إن ابني هذا كثير الطلاق للنساء، فلا تزوجوه)، وكأنه يريد أن يؤدب الحسن، وقد قيل: إنه أحصن أكثر من مائة امرأة.
الشاهد: أنه إذا أكثر الإنسان في المباح ولو كان في الزواج، وحفظ عنه أنه يفعل ذلك على سبيل الخرق، ولم يكن هناك موجب لفعله، فإنه يحكم بسفهه؛ لأنه أسرف في اللذة المباحة مع إمكانه أن يجتزئ بما هو أقل من ذلك.(143/5)
أن تكون العين مباحة المنفعة
قال رحمه الله: [وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة].
هذا هو الشرط الثالث، وهو: أن تكون العين مباحة النفع لغير حاجة، وبيان ذلك: أن البيع وقع على محل، وهذا المحل يشمل الثمن، والمثمن، أي: صور البيع الثلاث، سواءً وقع بيع صرفٍ أو بيع مقايضةٍ أو بيعاً مطلقاً، فينبغي أن يكون مباح المنفعة، وهذا أكثر ما يقع في المثمونات، فالذهب والفضة مباحا النفع، فلا إشكال فيهما بالنسبة للثمن، فيبقى الإشكال دائماً في المثمونات، فإذا باع شيئاً محرم المنفعة فإنه حينئذٍ لا يُحكم بصحة البيع.
والمراد من هذا الشرط: أن الله عز وجل حينما أباح البيع أباحه لأمرين: الأمر الأول: جلب المصالح للعباد.
الأمر الثاني: درء المفاسد عنهم.
فأما جلب المصالح فإن الإنسان إذا احتاج للشيء وأراد أن يشتريه فإنه يجد مصلحة بحصوله على ذلك الشيء، فأنت إذا كنت محتاجاً إلى بيتٍ تسكنه وترتفق به، فإنك إذا اشتريته حصلت هذه المصلحة، كذلك إذا كنت محتاجاً إلى سيارة تركبها ونحو ذلك، فإنك تجلب المصلحة بهذا البيع، كذلك تدرأ عن نفسك المفسدة؛ لأنك إن بقيت بدون بيتٍ فستكون في العراء، وإذا بقيت بدون ثوبٍ أو بدون طعامٍ فأنت على ضرر، فإذاً: البيع فيه جلب مصلحة ودرء مفسدة، فهذه المصلحة التي يطلبها الإنسان أو المفسدة التي يدفعها لابد أن يشهد الشرع باعتبارها، والإذن بجلبها إن كانت مصلحة، والإذن بدرئها إن كانت مفسدة، فإذا اشتمل البيع على ما يضاد الشرع؛ فإنه حينئذٍ لا يمكن أن يحكم بكونه بيعاً شرعياً، فيقول الشرع حينئذٍ: لا يجوز هذا البيع، وعندي فيه أمارة أو علامة تقتضي الحكم بعدم جوازه، وذلك أن المنفعة التي قُصدت من هذا البيع منفعة محرمة.
ومن أمثلة هذا: أن يبيع الخمر، فإن الخمر منفعتها محرمة، وعلى الأصل أن الله عز وجل سلب المنافع من الخمر بعد أن حرمها، لكن لو قال قائل: إنه -والعياذ بالله- يشربها لما يكون فيها مما يظنه من منافع، أو يشتري أو يبيع المخدرات لاستعمالاتٍ محرمة، فإننا نقول: الخمر والمخدرات منافعهما محرمة، وما يقصد منها محرم.
إذاً: لا بد لصحة البيع أن تكون العين مباحة المنفعة، فإذا كانت منفعتها مضرّة فلا يجوز بيعها، ومن هنا قالوا باشتراط هذا الشرط؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأذن لعباده بالضرر، ولا يُبيح سبحانه وتعالى لهم ما فيه ضرر عليهم، لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج:78]، فهذا حكم الشرع، ولو أن الشرع أجاز هذا النوع من البيع فإنه حرجٌ ومشقة.
وفي هذا الشرط عدة فوائد وهي: الفائدة الأولى: لا يصحُّ بيع شيءٍ لا منفعة فيه، ومن أمثلة ذلك مما يذكره العلماء: لو قال له: أبيعك هذه التفاحة لشمِّها، أي: المنفعة الشم فقط، وبعض العلماء يدخل هذا في باب الإجارة، وهو صحيح؛ لأنه من باب المنافع أقرب منه للأعيان، لكن منهم من يذكره مثالاً على البيع، فلو قال له: أبيعك هذه التفاحة للنظر إليها، أو لشمِّها، فإن هذه ليست بمنفعة مقصودة، وليست بتلك المنفعة التي يشتغل بها، ومن هنا قال العلماء: لا يصحُّ بيع الحشرات؛ لأنهم في القديم كانوا لا يجدون فيها منفعة، فأبطلوا بيعها.
الفائدة الثانية -وهي فائدة عكسية-: أنه لا يجوز بيع ما فيه ضرر؛ كالسمومات، فإنه لا يجوز بيعها ولا شراؤها؛ لأن السمَّ لا منفعة فيه بل فيه ضرر؛ لكن لو احتيح إلى السمِّ للعلاج أو لمنفعة، وكانت منفعة مقصودة، فإننا نقول بجواز البيع وصحته؛ لكن من حيث الأصل فإن السمومات ليست من جنس ما أحلَّ الله؛ لأنها مشتملة على الضرر، والله عز وجل لا يأذن لعباده بقتل أنفسهم، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وتحريم الشيء يقتضي تحريم وسائله، فحينما قال العلماء: يُشترط أن تكون هناك منفعة، خرج ثلاثة أمور: ما لا منفعة فيه كالحشرات، الأمر الثاني: العكس، وهو -مفهوم الشرط- ما فيه مضرة، فلو قال قائل: وُجدت المنفعة لكن هذه المنفعة محرمة، كالخمر فإن فيها منفعة الإسكار، والإسكار محرم، والمخدرات فيها منفعة التخدير، وهي محرمة، فعلى هذا نقول: لا يصحُّ البيع، ولا يجوز، وكذلك الميتة: وهي كلُّ حيوان مات حتف أنفه أو بغير ذكاةٍ شرعية، فإنه إذا قتل، أو كان يذكى بالصعق الكهربائي أو نحو ذلك، وبِيع، فإنه لا يصحُّ بيعه ولا يصحُّ شراؤه؛ وذلك لأن هذه الميتة منفعة الأكل منها محرمة شرعاً، إذاً: لا بد أن تكون المنفعة مباحة.
الأمر الثالث: خرج أيضاً المنفعة المباحة لحاجة، فأنت إذا قلت: هناك شيءٌ له منفعة، وهذه المنفعة مباحة؛ ولكن أبيحت للضرورة، أو أبيحت للحاجة، مثل: الكلب، ففي الأصل أنه لا يجوز اتخاذه، ولا يجوز أن يكون عند الإنسان كلب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من اتخذ كلباً إلاّ كلب صيدٍ أو حرث أو ماشية نقص من أجره كلَّ يوم قيراطان)، فهذا يدل على حرمة اتخاذ الكلب، فإذا كان اتخاذه محرماً فإنه أذن للضرورة للصيد والحرث والماشية، وهذه ثلاث منافع، فلو قيل لك: هل أشتري الكلب للصيد أو للحراسة -حراسة الماشية والزرع-؟ فنقول: نعم، فهذه ثلاث منافع، وينطبق عليها الشرط بأنها منفعة، ثم هي منفعة مباحة؛ لأن حفظ الأموال مقصود شرعاً؛ لكنها مباحة للضرورة، فإذاً: لم ينطبق عليها الشرط، فاحتاط المصنف رحمه الله وقال: (من غير حاجة) أي: يشترط أن تكون المنفعة منفعة مباحة مطلقاً، وليست بمنفعة مقيدة بالضرورة والحاجة، فإن المنافع المباحة للضرورة والحاجة لا يجوز بيعها، ومن هنا يتفرع عدم جواز بيع المادة المخدرة للاستعمال المضطر إليه؛ وإنما يُعطى المال عوضاً كإجارة، ولا يعطى عوضاً عن العين، وفرقٌ بين المعاوضة على المادة المخدرة إذا كانت لعلاجٍ كبيع، أو تعطى كإجارة، فهناك فرق بين المسألتين؛ لأنها إذا كانت بيعاً فإنَّ معنى ذلك أنها منفعة مباحة لحاجة، ولا يجوز بيع المنافع المباحة لحاجة؛ لأنه ثبت في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب)، وثبت في مسلم من حديث جابر رضي الله عنهما: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، أي: عن ثمن الكلب، وقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود بسند صحيح: (إن جاءك يريد ماله فاملأ كفه تراباً)، فهذا كله يدل على حرمة بيع الكلب وشرائه، وقال: (ثمن الكلب خبيث) كما في الصحيحين، وقال: (ثمن الكلب سحت)، ولم يفرِّق بين كلب وآخر، فدلَّ على أن الكلب المأذون به لمنفعة مضطر إليها لا يجوز بيعه لهذه المنفعة، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة وخلاف العلماء رحمهم الله فيها.
الشاهد: أن عندنا شرطاً يقول: ينبغي أن تكون العين لها منفعة مباحة، فخرجت العين التي لا منفعة فيها كالحشرات، وخرجت العين التي فيها مضرة كالسموم، ثم أضاف رحمه الله قيد الحاجة، ففهمنا من ذلك أنه إذا كانت مباحة للحاجة فإنه لا يجوز بيعها؛ والسبب في هذا من ناحية فقهيّة: أن الشرع إذا أذن لك باتخاذ الكلب للصيد والحرث والماشية، فمعنى ذلك أنه مباحٌ لضرورة الصيد، وضرورة الحرث، وضرورة الماشية، فإذا أُبيح لهذه الحوائج وجاء الإنسان يبيعه، فمعنى ذلك أنه قد زاد عن الحاجة، والقاعدة: (ما أبيح للحاجة فإنه يقدَّر بقدرها)، فلو أُبيح أخذ ثمن الكلب الذي للصيد مثلاً وقيل: يجوز بيعه؛ لأن منفعة الصيد مباحة فنريد أن نبيعه؛ فمعنى ذلك أنه يستفيد منه في الصيد ويستفيد منه في البيع بأكل ثمنه، وحينئذٍ خرج عن مقام الحاجة إلى مقام التوسع، والأصل أنه لا يباح منه إلاّ ما اضطر إليه، أو إلاَّ ما نصّ الشرع عليه: وهو الإذن باتخاذه للصيد وحراسة الحرث والماشية.(143/6)
ذكر بعض الحيوانات المباحة المنفعة
قال رحمه الله: [كالبغل، والحمار، ودود القزِّ وبزره والفيل].
قوله: (كالبغل)، فإن البغل فيه منفعة وهي منفعة الركوب، قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8]، فنقول: هذه الأشياء ذكرها الله سبحانه وتعالى امتناناً على عباده، فذكر أنَّ الخيل والبغال والحمير تركب، وهذا الركوب منفعة مقصودة؛ لأن الإنسان يحتاج إلى الركوب للسفر، ويحتاج إلى الركوب للتجارة، وإلى غير ذلك من المصالح؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُس} [النحل:7]، والسياق سياق منَّة، وقد جعل الله سورة النحل التي وردت فيها آية الخيل والبغال سورة (النعم)، كما يسميها بعض العلماء رحمهم الله؛ لكثرة ما فيها من النعم التي امتنَّ الله بها على عباده، فالسياق سياق امتنان، فلمَّا امتن الله بركوب البغال دلَّ على أنَّ منافعها مباحةٌ مأذونٌ بها شرعاً، فإذا باع البغل فمعنى ذلك أنه يريد أن يشتريه لمصلحة الركوب، وهكذا لو باع الخيل، أو باع الحمار، فكلُّ هذه الأشياء يُقصدُ منها المنافع المباحة.
وقوله: (ودود القزِّ وبزره)؛ لأنه يستخرج منه الحرير، وهي منفعة مباحة؛ لأن الحرير أحلَّه الله عز وجل لنساء الأمة، وهذا الحرير يُكْتسى ويُنْتفع به، وكذلك ينتفع به للمرض، فقد أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم لمن به حِكّة، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، فهذه المنافع كلها مقصودة، فلو باع دودة القز فإن من يشتريها إنما يقصد من ورائها الانتفاع بما يكون منها من النسيج الذي يستخلص منه الحرير، كما لو اشترى بقرةً حلوباً؛ لأن البقر تباع للحليب، أو ناقةً حلوباً؛ لأن الناقة تباع للحليب، وتباع كذلك للحمها، وتباع لظهرها، وقد تباع لهذه الثلاثة الأشياء، فكلها منافع مباحة، فإذا باع بغلاً فإن معنى ذلك أنه يريد أن يركبه، وإذا باع دودة قز فمعنى ذلك أنه يريد ما يكون منها من نتاج القز الذي يستخرج منه الحرير، كما لو اشترى البهائم من أجل أن يجزَّ أصوافها أو أوبارها وأشعارها لكي يتخذ منها الأثاث واللباس.
وقوله: (والفيل)، كذلك لو اشترى الفيل، فإن فيه مصالح، منها: الناب، حيث يتخذ من ناب الفيل أشياء، منها: الأمشاط التي تكون من العاج، ومنها: الأسورة التي تكون من العاج، وهو ناب الفيل، وكذلك أيضاً الركاب والرحال التي تحطُّ على الدواب يستفاد منها من عظم الناب، فهذه منافع يقصد منها، وكذلك الفيل يُركب في البلاد التي يركبون عليه كما يركب على البغال والحمير، وهذا في الأماكن التي توجد فيها الفيلة، وهذا من عظيم رحمة الله عز وجل وتفضيله لبني آدم، فإنك ترى الصبي الحدث يمتطي ظهر الفيل ويقوده حيث شاء، ولا يمكن للإنسان أن يتصور بعقله وإدراكه أن من كان في مثل هذا الحجم أن يقود هذا الحجم الكبير، ولكن الله عز وجل أذن، وإذا لم يأذن الله فلن يستطيع، فإن البعير يقوده الطفل الصغير ممسكاً بزمامه؛ ولكن إذا هاج البعير فقد يفتك بالقرية بكاملها، وقد ترى القرية بكاملها في ذعرٍ منه، وهذا يدلُّ على عظيم رحمة الله عز وجل وتفضيله لبني آدم، فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك؛ ولكن من الذي يعي ذلك؟! ومن الذي يقدر الله حقَّ قدره؟! وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، فمن يتأمل في مثل هذه الأمور يدرك عظمة الله سبحانه وتعالى، ويدرك أن الله تعالى قد أحسن إلى العبد إحساناً غاية الإحسان، وليس بعد إحسان الله على عبده إحسان، ومن هنا كان الشكر لله وحده، فينبغي أن يكون على أتمِّ الوجوه وأكملها.
فالمقصود: أن الفيلة تباع من أجل الركوب عليها، ومن أجل القتال عليها، كما كان في القديم، ومن أجل حمل الأمتعة عليها.
قال رحمه الله: [وسباع البهائم التي تصلح للصيد].
قوله: (وسباع البهائم) أي: يجوز أن تباع سباع البهائم، والبهيمة مأخوذة من الإبهام، وأصل الإبهام الشيء غير الواضح، وقد قيل: سميت البهيمة بهيمة؛ لأنك لا تستطيع أن تفهم كلامها، وكلامها مبهمٌ عليك، ولا تستطيع هي أن تعبر لك بلغة تفهمها.
والبهائم تنقسم إلى أقسام: فمن البهائم ما خلقه الله للأكل.
ومنها ما خلقه الله للركوب.
ومنها ما خلقه الله لأشياء عديدة، ومن أراد أن يتقصى ما في البهائم من الحكم والأسرار لحار عقله، وللإمام ابن القيم رحمه الله كلام جميل في (بدائع الفوائد)، فقد ذكر فيه نكتاً عظيمة في مسألة خلق البهائم للمقاصد، كأن يجعل هناك بهائم للأكل، وبهائم للشرب، وبهائم للركوب، وبهائم للقتال عليها، ولمصالح عديدة، وتجد أن هذه البهيمة لو جيء بغيرها مما هو أقوى منها لكي يقوم مقامها فلا يمكن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، فالله سبحانه وتعالى هداها لهذا الشيء المعين، ولا تستطيع أن تصرفها عن غير هذا الشيء، كأنها ما خلقت إلاّ لهذا الأمر.
فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى جعل في كل بهيمة مقاصدها، فالسباع تعدو، والسباع العادية كالأسد والنمر واللبوة -وهي أنثى الأسد- ونحوها من هذه السباع، هذه تعلّم الصيد، فالأسد مثلاً يمكن تعليمه الصيد، وهناك طريقة اعتنت كتب الأدب بها، ومن أفضل الكتب التي تكلمت على هذه الفوائد كتاب (نهاية الأرب)، و (صبح الأعشى) للقلقشندي، فقد ذكر فيها طرق تعليم الحيوانات للصيد.
وتنقسم هذه الحيوانات إلى قسمين: القسم الأول: الحيوانات التي على وجه الأرض، مثل السباع.
القسم الثاني: الحيوانات الطائرة؛ كالصقر والباز والباشق والشاهين والعقاب، ونحوها من الطيور العادية.
فسباع الطير وسباع البهائم يمكن أن يُسخر ويُذلَّل للصيد، فإذا باعه الإنسان أو اشتراه من أجل مصلحة الصيد به جاز؛ لأن الصيد مباح، ومنفعته مأذون بها شرعاً، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، وكذلك قال عدي رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح: (يا رسول الله! إني أصيد بكلبي المعلم، وبكلبي غير المعلم، وأصيد بهذه البزاة -وهي الباز- فماذا يحلُّ لي؟ فأنزل الله عز وجل آية الصيد: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4])، فدلَّت هذه الآية الكريمة على جواز تعليم السباع العادية الصيد؛ ولذلك قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، و (مُكلِّبين) مأخوذة من الكَلَب، وأصل الكَلَب القوة؛ لأن هذه البهائم فيها قوة وفتك بالفريسة، وسواء كانت من ذوات الطير أو كانت من ذوات السباع العادية من البهائم، فلو أنه اشترى أسداً من أجل أن يُعِّلمه الصيد صحَّ البيع وصحَّ الشراء، وكذلك لو اشترى لبوةً متعلمة للصيد صح كذلك، وهكذا النمر لو اشتراه معلماً الصيد وأراد أن ينتفع به للصيد فإنه يجوز له ذلك، وهذا هو الذي عناه المصنف رحمه الله بقوله: (وسباع البهائم).
قال رحمه الله: [إلاّ الكلب والحشرات].
(إلاّ): استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فقوله: (إلاّ الكلب) أي: لا يجوز بيع الكلب، مع أن فيه منفعة الصيد، وسنتكلم إن شاء الله على مسألة بيع الكلب؛ لأنها مسألة خلافية، وفيها ما يقارب خمسة أقوال للعلماء رحمهم الله، وفيها أدلة وردود ومناقشات.
والله تعالى أعلم.(143/7)
الأسئلة(143/8)
حكم بيع المساومة والمزايدة
السؤال
ما حكم المساومة؟ وهل تقدح في شرط التراضي بين البائع والمشتري، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وأفضل رسله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالمساومة: هي مفاعلة من السوم، والسوم: إعطاء القيمة في السلعة، كأن يعرض سلعة -كسيارة أو بهيمة- للبيع فتقول: أشتريها بعشرة، فإن قلت بعشرة فمعناها أنك سُمتها بعشرة، أو عرض أرضه أو عمارته للبيع، فقلت: أشتريها بمائة ألف، فسمتها بالمائة، فجاء غيرك وقال: بمائتين، إذاً: حصلت هنا منافسة وقد قيل لها: مساومة؛ لأنها مفاعلة من السوم، والمفاعلة في لغة العرب تستلزم وجود شخصين فأكثر، فلا يقال: مساومة، من شخص واحد؛ وإنما يقال: مساومة، إذا عرضت للمزاد، والمزاد: هو طلب الزيادة، بمعنى: أن يتنافس اثنان أو أكثر في سلعة ما، فيقول الأول: بعشرة، ويقول الثاني: بعشرين، ويقول الثالث: بخمسة وعشرين، ويقول الرابع: بثلاثين وهكذا، فهذا هو السوم.
والسوم له أحوال: أما من حيث الأصل والمعروف والشائع أن السلعة توضع بين الناس، ثم يتساومون عليها أو يزيدون فيها، فهذا جماهير العلماء رحمهم الله وحكى غير واحد الإجماع على أنه جائز؛ لكن حُكي عن البعض أنه لا يجوز، واستدلوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المزايدة، وهذا الحديث ضعيف، فقد ضعفه الإمام البخاري وغيره، ولا يصح ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المساومة، والمساومة التي حرمها عليه الصلاة والسلام إنما هي سوم المسلم على أخيه، والسوم الذي حرمه الله عليك على أخيك المسلم شرطه: أن يتراكن الطرفان، أما لو عرض سيارته للبيع في المعرض أو أمام بيته أو في السوق، فقال رجل: بعشرة آلاف، فقلت أنت: بعشرة آلاف وخمسمائة، فإن قولك هذا ليس من سوم المسلم على أخيه المسلم؛ وإنما هو مزايدة، وفرق بين السوم وبين المزايدة، وأما السوم على أخيك المسلم الذي حرمه الله، فهو أن يأتي رجل ويقول: اشتريتها بعشرة آلاف، فيقول البائع: قبلت، ورضي بهذه العشرة، وقبل أن يفترقا ويتم البيع قلت أنت: أعطيك عشرة وخمسمائة، فإذا تراكنا ورضيا فلا يجوز لأحد أن يدخل بينهما؛ لأنه يُقَطِّع أواصر الأُخوة، ومن هنا كأن الله يبيح لنا البيع؛ لكن بشرط ألا يهدم الدين، وألا تكون الدنيا سبباً لإفساد الدين، فحرم على المسلم أن يبيع على بيع أخيه المسلم، أو يسوم على سومه، وبيعه على بيع أخيه أن يتراكنا فيقول: أبيعك السيارة بعشرة آلاف، فيقول المشتري: رضيتها بهذا الثمن، وإذا بالآخر يقول: عندي سيارة مثلها أبيعها لك بتسعة آلاف، أو بتسعة وخمسمائة، فإن هذا من البيع على بيع المسلم، فيحرم على المسلم أن يسوم على أخيه المسلم وأن يبيع على بيعه.
فإذا تراكنا فإنه تنقطع المساومة، والذي ينقطع به السوم إذا وقفا وكأنهما رضيا بذلك، فجاء الآخر يسوم في غير المزاد، فهذا محظور.
وعلى هذا فإنه يجوز للإنسان أن يسوم ولا بأس به.
وقد يقول القائل: لكن الإشكال في مسألة سوم المسلم على أخيه أن الرضا ليس موجوداً، فنقول: بالنسبة للبيع الرضا موجود، وليس في هذا إشكال، أي: بيع المساومة والمزايدة لا يمنع وصف الرضا؛ لأن الذي أتى بالسلعة إلى المعرض أتى بها باختياره وبرغبته ثم هو يضعها أمام الناس يسوموها، فإن أراد أن يبيع وإلاَّ امتنع، فليس هناك إكراه له على أن يبيع، وكذلك الذي يسوم ليس هناك أحد حَدّه وألزمه.
وأما الإثارة التي تقع من كونك تقول: عشرة، والآخر يقول: خمسة عشر، فرزق ساقه الله إليك، فكونك أنت ترى أنها تستاهل العشرة فقلت: عشرة، فجاء غيرك وقال: اثنا عشر، وكأن السائل يقصد أنه لم يقلها برضا؛ وإنما قالها منافسة للغير من أجل أن يأخذ المال وكأنه مكره، فمثل هذا ليس بمؤثر، وأصل الرضا المعتبر لصحة البيع موجود وغير مفقود، وليس هناك أحد يلزمه أن يشتري هذه السلعة بقليل ولا بكثير، ومن هنا لا اعتراض.
والله تعالى أعلم.(143/9)
كيفية الحجر
السؤال
كيف يكون الحجر؟ هل بسلب المال من يديه؟ أم بحبسه وعدم تمكينه من البيع والشراء؟ أثابكم الله.
الجواب
هناك جانبان لمن يحجر عليه: الجانب الأول: أن يمنع من التعاقد على هذه السلعة، أي: لا يملك أن يقول لك: بعتك، ولا يملك أن يقول لك: اشتريت منك، فالمحجور عليه لا يبيع ولا يشتري إلا بإذن وليه، فإذا أذن وليه بالبيع والشراء صح ولزم ولا إشكال، والولي ينظر في بيعه وشرائه، فإن كان من المصلحة أن يمضيه أمضاه، وإن كان فيه ضرر ألغاه.
وأما بالنسبة لقضية الحَجر بالفعل فلا يمنع المحجور عليه من الخروج من بيته، ومن هنا تجد دقة الفقهاء حينما قالوا: منع نفوذ تصرف قولي لا فعلي، فهناك فرق بين الاثنين؛ لأن العقود تقع بالأقوال وإن كانت الأفعال تابعة، كما قلنا في بيع المعاطاة: ينعقد البيع بما يدل على الرضا وإن تعاطى الكل فنحن نقول: إن الأفعال تابعة وليست بأصل في هذا، وأيَّاً ما كان فإن المحجور عليه يمنع من التصرف في قوله لا في فعله.
أما بالنسبة للفعل المبني على القول كأن يهدي السيارة، أو جاءه مسكين فأعطاه، فإنه لا يصح هذا الإعطاء، ولا تصح هبته ولا تصح صدقته كذلك، فلا يُتَصَدَّق بمال اليتيم، وهناك خطأ تقع فيه بعض الأمهات -أصلحهن الله- أنه إذا توفي زوجها وترك إرثاً لأولادها وكانوا أيتاماً، وأرادت أن تتصدق عن الزوج بحكم العاطفة والمحبة، وهي مأجورة على هذا الشعور؛ لكن تأتي إلى مال اليتيم وتتصدق منه وتقول: هذا لأبيهم؛ وهذا خطأ؛ لأنها جُعِلَت ناظرة على مالهم وحاضنة لهم وقائمة على المال لمصلحة المال لا لضرره، وكذلك الولي لو قال: أريد أن أتصدق على نية اليتيم، فلا ينفذ ذلك التصدق ولا يصح، وعليه أن يضمن جميع المال، وإذا بلغ اليتيم يلزمه القاضي بإحضار المال كله.
فينبغي أن يُفهم أن التصرف يمنع لمصلحة المحجور عليه، وتحقيقاً لمقصود الشرع من الرفق بالناس، حتى لا يسترسل من لا يحسن النظر في ماله في الإضرار بنفسه.(143/10)
حكم بيع الحيوانات المحنطة
السؤال
ما حكم بيع الحيوانات المحنطة، أثابكم الله؟
الجواب
الحيوان المحنط له حالتان: الحالة الأولى: أن يذكى ذكاة شرعية ثم يحنط، فإذا ذكي الذكاة الشرعية ثم حنط وبيع، وكان في بيعه منفعة؛ كالتعليم، أو شيء يحتاج إليه، فحينئذٍ لا إشكال، وله وجه من الجواز، ومن قال بالجواز فقوله له أساس من النظر.
الحالة الثانية: إذا كان الحيوان لم يذك، أو كان من جنس ما لا يذكى، فإنه إذا حنط فلا يجوز بيعه ولا شراؤه؛ لأنه ميتة، وقد جاء في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة، والخنزير، والأصنام)، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الميتة، والحيوان المحنط غير المذكى ميتة.
ثم إننا لو تأملنا لوجدنا أن هذا الحيوان المحنط والذي يُشترى بمائة أو بمائتين أو بخمسمائة، وبعض الحيوانات النادرة إذا حنطت بطريقة ما فإن قيمتها قد تصل إلى الألف، وهذه الألف الريال قد تغني عشرة بيوت من فقراء المسلمين اليوم واليومين؛ بل إنه قد تكون عليهم فضلة في الأسبوع لو أنهم أحسنوا النظر، فكيف تذهب هدراً في لقاء حيوان محنط وميتة؟! وهذا كله ينبغي أن ينظر فيه المسلم، وأن يعلم أن الله سائله، وأنه -كما في الحديث-: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: وذكر منها: وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه).
فالحيوان المحنط الذي فيه منفعة؛ كمصلحة تعليم الطب، أو تعليم الأشياء التي يحتاج إلى تعلمها، وتوجد مصالح للعامة في تعلمها، فإن بيعها وشراءها بعد تحقق الشروط التي ذكرناها جائز شرعاً إذا ذكيت الذكاة المعتبرة شرعاً، وأما بغير ذلك فإنها تعتبر ميتة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(143/11)
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [4]
الأصل في العين الطاهرة المباحة جواز بيعها، إلا ما استثناه الشرع فحرم بيعه، لنجاسته أو انتفاء المنفعة المقصودة منه، أو غير ذلك.
وفي هذه المستثنيات أحكام وتفاصيل وتفريعات وخلافات ينبغي معرفتها لمن يريد أن يستبرئ لدينه ومعاملاته.(144/1)
ما يحرم بيعه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة، كالبغل والحمار ودود القزِّ وبزره، والفيل، وسباع البهائم التي تصلح للصيد]، ثم استثنى فقال: [إلاّ الكلب، والحشرات، والمصحف، والميتة].
فشرع المصنف رحمه الله في بيان ما يستثنى من المبيعات، وهذه المبيعات التي تستثنى حُكم بحرمة بيعها، وقد بيّن لنا ما فيه منافع مباحة، وذكر الأمثلة على ذلك، وقد ذكر أمثلتها من الحيوانات والحشرات، فلما فرغ من بيان المباح شرع في بيان غير المباح.
وإذا حكم بعدم جواز البيع للعين، فذلك إمّا أن يكون السبب نجاسة العين، وإمّا أن يكون السبب استثناء من الشرع لهذه العين، فحكم بعدم جواز بيعها، وإمّا أن يكون استنباطاً فهمه الفقيه من خلال نصوص الشرع، أو كان فيه أثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم باستثنائه.
ولا بد أن نقعِّد قاعدة وهي: (أن الأصل في الأعيان الطاهرة أنه يجوز بيعها)، فلو سُئلت عن بيع القماش ف
الجواب
هذه عين طاهرة فالأصل جواز بيعها، وإذا سُئلت عن بيع الخشب قلت: هذه عين طاهرة الأصل جواز بيعها، وإذا سُئلت عن جواز بيع الحديد والنحاس والنيكل والألمنيوم وغيرها من سائر المبيعات والأعيان الطاهرة فقل: هذه أعيان طاهرة يجوز بيعها.
فالمصنف رحمه الله بعد أن بيّن لنا ما فيه منفعة مباحة شرع في الاستثناء، وإذا استثنيت الأعيان التي فيها منافع مباحة، فإنها: إمّا أن تستثني لورود نص من الشرع، فتقول: الشرع قال هذه العين لا تباع.
وإما أن تستثني نظراً إلى المنفعة الموجودة في هذه العين لا يلتفت إليها الشرع، أي: لا يقيم لها وزناً لأنها غير مقصودة، فإذا لم يقم الشرع لهذه المنفعة قيمة، فمعنى ذلك أنه لا يجوز دفع المال في مقابلها؛ لأنك إذا دفعت المال لقاء الشيء الذي لا قيمة له فهو من السرف الذي نهى الشرع عنه، ومن السفه الذي لا يليق بالمسلم أن يتعاطاه ويفعله؛ لأنه من إضاعة المال.
وإمّا أن تكون العين نجسة، فإذا كانت العين نجسة، وهي قسمان: النجاسة في الحيوانات، والنجاسة في غير الحيوانات، فلنأخذ هذه الأربعة الأقسام: - فأمّا ما استثني من الشرع، أي: ما كان أصله مباحاً ثم استثني، فإنه يشمل نوعين: الكلب والحشرات، فإن الأصل في الحيوانات جواز البيع؛ لأن الله سخرها لمنافع يُحصّلها الآدمي، وخلقها الله من أجل أن ينتفع بها الآدمي، فالأصل في منافعها الموجودة فيها أن الآدمي يرتفق بها، فلو دفع المال لقاءها فقد حصّل مقصود الشرع.
فالإبل -مثلاً- جعل الله فيها منفعة الركوب، وجعل الله فيها منفعة الأكل من لحمها، وجعل الله فيها منفعة الصوف وما يكون عليها من الوبر، وجعل فيها منفعة حمل الأثقال، فإذا جئت تشتري الإبل لقاء هذه المنافع فأنت تدفع المال لقاء منفعة مقصودة معتبرةٍ شرعاً.
إذاً: الحيوانات في الأصل سخرّها الله لمنافع للآدمي؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، سخرَّه كلَّه لابن آدم؛ تكريماً وتشريفاً لهذا الآدمي حتى يحمده سبحانه ويشكره على ما أسدى، وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13].
فالله عز وجل جعل لنا هذه الأعيان لننتفع بما فيها ونرتفق بتلك المنافع.
فإذاً نضع قاعدة وهي: أن الحيوانات الأصل أنه يجوز بيعها لمنافعها، فتقول: استثني من الحيوانات الأحياء نوعان؛ لأن الحيوان: إمّا حيّ، وإمّا ميت، فاستثني الحيوان الذي ورد النص بتحريم بيعه وهو الكلب، كما جاء في الأحاديث الثابتة في الصحيحين وفي غيرهما عن عقبة بن عامر البدري وعن جابر بن عبد الله ورافع بن خديج وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، وكلها أحاديث صحيحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الكلب، وحرم بيعه.
إذاً نقول: الأصل في الحيوانات جواز بيعها؛ لكن يستثنى الكلب فلا يجوز بيعه.
وفيه خلاف سنذكره، وهذا النوع الأول.
والنوع الثاني: يُستثنى الحشرات؛ لأن الحشرات ليست فيها منفعة مقصودة، فهي لا تؤكل، ولا يُنتفع بها انتفاعاً مقصوداً، وهذا في الزمن القديم؛ لكن لو احتيج إلى نوع خاص، وهي الحشرات التي كانوا يستخدمونها عُلقاً للدم، أي: كان الأطباء يستخدمون نوعاً من الحشرات في الجروح الملوثة، يُدخلون فيها هذا النوع فيسحب الجراثيم الموجودة، ثم تُرفع هذه العلق الموجودة وعليها الجراثيم الموجودة فيتنظف الجرح، وهذا مما علمه الله عز وجل ابن آدم دفعاً لمفسدة الجرح وضرره على البدن.
فهذا النوع من العلق لو بيع جاز بيعه؛ لأن درء مفسدة المرض مقصودة شرعاً.
كذلك أيضاً: لو أنك اشتريت حشرات تريدها غذاءً للطيور فإنه يجوز؛ لأن حياة الطير مقصودة، ومنفعتك من بقاء الطير مقصودة.
أو اشتريت حشرات طعاماً للأسماك فيجوز.
المقصود: أن الحشرات من حيث النظرة الغالبة فيها أنه ليس فيها منفعة؛ لكن كونها في بعض الأحيان تستثنى فإنه يستثنى منها بقدر، فالعلماء يقولون: (والحشرات)، فجمعوا لنا بين صنفين: الكلب والحشرات.
وهنا
السؤال
لماذا قدّم المصنف الكلب وأخّر الحشرات؟ الجواب: لأن النص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحريم في الكلب أقوى منه في الحشرات، فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الحشرات؛ لكن العلة في تحريم بيع الحشرات أن تقول: أحرمها لأنه لا منفعة فيها، ودفع المال لقاءها سفه، وقد نهى الله عز وجل عن السفه وقال: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5]، فجعل السفه صفةً موجبةً للحجر، وذلك يدلُّ على حرمة إضاعة المال.
إذاً عندنا نوعان: النوع الأول: الكلاب.
والنوع الثاني: الحشرات.
بعد هذا عندنا شيء يستثنى لمعنى قريب من معنى الحشرات: وهو أن تكون المنفعة التي تقصد قد منع الشرع من بيعها مع أن المنفعة موجودة في العين، كالمصحف؛ فإنه لا يجوز للمسلم أن يبيع كلام الله على أنه يأخذ الثمن لقاء هذا، أي: كمكافأة على كتاب الله عز وجل وكلامه، حتى قالوا في العلم والتدريس ونحو ذلك: إذا قصد أن تكون قيمةً لكلامه، فلا يجوز.
لكن من حيث الأصل؛ حينما تنظر إلى ورق الكتاب الذي فيه المصحف وفيه كلام الله تجد أنه مما يجوز بيعه، فالكتاب بذاته يجوز بيعه؛ لكن لما كان المقصود من الكتاب قراءة ما فيه من الآيات، وكأن أمرها مغلظاً وحرمتها عظيمة، وليست من الأعراض التي تباع، بحيث يجعلها الإنسان ممتهنة مبتذلةً للبيع، فلذلك تقول: أمنعها لهذا المعنى.
وهذا المعنى يلتفت فيه إلى المنفعة؛ لأن المقصود من المصحف -الأوراق- كلام الله عز وجل، والمقصود من كلام الله الاهتداء، والاهتداء لا يؤخذ عليه أجر: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57].
وقال الله عز وجل عن أنبيائه نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب ولوط عليهم السلام؛ كلهم قالوا كما في سورة الشعراء: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109].
فنفى سبحانه أن تكون الرسالة لقاء مال أو لقاء عرضٍ من الدنيا، والقرآن هو رسالة الله عز وجل إلى خلقه، فهو كلام الله عز وجل الذي تكلم به سبحانه وأوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الكلام لا يجوز لأحد أن يبيع نفس الكلام قاصداً بيع الكلام نفسه؛ لأن مثله أعظم وأجل من أن يباع.
فإذا ثبت هذا فإننا إنما نظرنا إلى جهة المنفعة، وهذا من الناحية الفقهية ومن ناحية الاصطلاح الذي رتبناه وذكرناه.
فذكر المصنف رحمه الله بيع المصاحف بعد الحشرات من جهة المنفعة، فإن الحشرات منفعتها غير مقصودة، والمصاحف المنفعة منها أن يهتدي الخلق بكلام الله عز وجل، وهذه الهداية لا تباع ولا تُشترى، وليست محلاً للبيع والشراء.
بقي النوع الأخير وهو الميتة والنجاسات: فالميتة والنجاسات ورد فيها النص، ولها أصول معينة سنتكلم عليها، فاستثنى المصنف رحمه الله هذه التي نصّ عليها: (إلاّ الكلب، والحشرات، والمصحف، والميتة).
فقدم الكلب؛ لأن النصّ في تحريمه صحيح صريح، وهو حديث الصحيحين.
ثم أتبع الكلب بجنسه وهي الحشرات لأنها لا منفعة فيها، ثم أتبع بالمصاحف؛ والسبب في هذا أن دليل تحريم المصاحف أضعف من دليل تحريم بيع الكلاب، وكذلك بيع الحشرات؛ لأنه إنما أُثر عن بعض الصحابة وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وأتبع بالميتة؛ لأن لها تفصيلات في أنواع النجس والمتنجس، وسنذكرها إن شاء الله.(144/2)
حكم بيع الكلب وذكر أنواعه(144/3)
شروط الكلب المعلم
أولاً: الكلب، وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما فيه منفعة مأذون بها شرعاً، وهو كلب الصيد والحرث والماشية، فجعل الله الكلب للصيد رفقاً بالناس، ولا يكون الكلب كلب صيد إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يشليه فينشلي.
الشرط الثاني: أن يدعوه فيجيب.
الشرط الثالث: أن يزجره فينزجر.
ومعنى (أن يشليه فينشلي) أي: يحرشه على الفريسة، فيكون بينه وبين الكلب صوت معين، فإذا صاح به انطلق الكلب على الفريسة، بحيث يكون الكلب جالساً، حتى لو مرت الفريسة من أمامه لا يتحرك من طاعته وتعلمه، ولا يمكن أن يرتسل إلى الفريسة إلاّ بإذن سيده، فإذا أشار سيده إلى الفريسة ذهب ليأتي بها، وإذا أشار له إلى قطعة قماش ذهب ليأتي بها.
والإشلاء في لغة العرب يطلق بمعنى: التحريش، ويطلق بمعنى الدعوة، أي أنه من الأضداد؛ فمعناه: أن تدفع الشيء وأن تدعو الشيء، ومن هنا ورد استخدامه بمعنى التحريش، ومنه قول الشاعر: أَتَيْنَا أَبا عَمْرٍو فَأَشْلَى كِلاَبَهُ عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ فهذا رجل بخيل جاءه أصحابه للزيارة، فإذا به خاف من كلفة الضيافة، فأشلى عليهم الكلاب، فقال قائلهم: أَتَيْنَا أَبا عَمْرٍو فَأَشْلَى كِلاَبَهُ عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ (فأشلى) أي: حرّش الكلاب علينا.
ويستعمل الإشلاء بمعنى الدعوة، ومنه قول الشاعر: أَشْلَيْتُ عَنْزِيْ وَمَسَحْتُ قعبي ثُمَّ انْثَنَيْتُ وَشَرِبْتُ قَأْبِيْ (أشليت عنزي) أي: دعوتها، يناديها حتى تأتي، (ومسحت قعبي) القعب: هو القدر الذي يريد أن يحلب فيه الإناء؛ لأنه يريد أن يحلب.
(ثم انثنيت) أي: بعد ما حلبتها، (وشربت قأبي)، يقال: (قبّه) إذا لم يُبْقِ فيه شيئاً، هذا معنى البيت.
الشاهد: استخدام الإشلاء بمعنى الدعوة.
إذاً الإشلاء إذا ذكره العلماء فيقصدون به التحريش، ويقصدون به الدعوة، وهذان شرطان لا بد وأن يوجدا في الكلب.
لكن متى يكون الكلب كلب صيد حتى يجوز لك بيعه -إذا قيل: بجواز بيعه عند من يستثنيه - ويجوز لك أكل صيده؟ يشترط أن تشليه ثلاث مرات ويطيعك، وتزجره ثلاث مرات ويطيعك، وتدعوه ثلاث مرات ويطيعك، فمثلاً: رميت شيئاً فحرشته عليه فذهب وجاء به، ثم رميت شيئاً آخر فذهب وجاء به، ثم رميت قطعة لحم مثلاً فذهب وجاء بها، فهذه ثلاث مرات، إذاً: تم الشرط الأول وهو الإشلاء أو التحريش.
بعد ذلك تنتقل للشرط الثاني: وهو أن يكون في مكان ثم تدعوه فيأتيك، ثم تتركه ساعة أو نصف ساعة أو قدراً من الزمن ثم تدعوه بالصوت نفسه فيأتيك، ثم المرة الثالثة فيأتيك، فإذا جاءك ثلاث مرات انطبق الشرط الثاني: وهو أن تدعوه فيجيب.
ثم بعد ذلك تنتقل للشرط الثالث وهو: أن تزجره فينزجر، كأن تضع أمامه قطعة لحم، فيأكل منها، فتصيح عليه صيحة معينة فيكف ويقف، فإذا فعلها المرة الأولى والمرة الثانية والمرة الثالثة تحقق الشرط الثالث.
فلو سنح لك ظبي فأرسلته وذكرت اسم الله، فصاده، وجاء به ميتاً من صيده حلَّ لك أكله؛ لأنه قد انطبقت الشروط الثلاثة بالتعليم ثلاث مرات.
وبعض الأحيان قد لا يأخذ تعليم الكلب إلا نصف ساعة، أو ساعة إلا ربع، وهذا يختلف بحسب نوعية الكلب المعلّم، وطريقة التعليم، وطبيعته في استجابته للإنسان، وحبّه أن يكون تحت يده وتحت سلطانه.
وكذلك في كلب الحرث، وكلب الماشية، هذه الثلاثة أذن الشرع بها.
القسم الثاني: الكلاب المطلقة.(144/4)
أقوال العلماء في بيع الكلاب وأدلتهم
اختلف العلماء هل يجوز بيع الكلب، أو لا يجوز؟ وذلك على أقوال: القول الأول: لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، وهذا القول هو مذهب التحريم المطلق، وبهذا القول قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مرويٌّ عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وقال به بعض التابعين: كـ الحسن البصري وحماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك قال به ربيعة الرأي والأوزاعي فقيه الشام، وهو مذهب المالكية في المشهور، والشافعية والحنابلة وأهل الحديث والظاهرية.
وتستطيع أن تقول: مذهب الجمهور أنه لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، سواء كان كلب صيدٍ، أو حرثٍ، أو ماشيةٍ، أو كلباً مطلقاً، سواءً كان كلباً صغيراً، أو كلباً كبيراً، ولا يجوز دفع المال لقاء الكلب.
القول الثاني: أنه يجوز بيع الكلب مطلقاً، أي: عكس القول الأول تماماً، وهذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجوز بيع الكلب مطلقاً سواءً كان كلب صيدٍ، أو ماشية، أو حرثٍ، وسواء كان كلباً صغيراً، أو كبيراً، فيجوز أن تبيعه لما فيه من المنافع.
القول الثالث: يجوز بيع الكلب إلاّ الكلب العقور، فيوافق القول الثاني؛ لكن يستثنى الكلب العقور، وهو الذي يهجم على الناس ويؤذيهم ويقطع عليهم طرقهم، فكلما أرادوا قضاء مصالحهم آذاهم وتحرّش بهم، وهذا النوع من الكلاب استثناه القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله.
القول الرابع: لا يجوز بيع الكلب إلاّ كلب الصيد والماشية والزرع التي هي الكلاب المرخص بها، وهذا القول مأثور عن بعض الصحابة، قال به جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك قال به إبراهيم النخعي، وزيد بن علي بن الحسين الفقيه المشهور.
القول الخامس: وهو في مذهب الإمام مالك رحمه الله: يجوز بيع الكلب لمن يأكله؛ أي: لمن يريد أن يأكله، لأن هناك قولاً في مذهب الإمام مالك أنه يجوز أكل الكلب؛ لأنه طاهر.
والمالكية يرون أن الكلب طاهر، ويستدلون على طهارته بجواز أكل صيده، قالوا: ولو كان غير طاهر لما حلَّ أكل صيده؛ لأنه ينهش بفمه، فلو كان نجساً لما حلَّ أكله.
قالوا: وأمّا الأمر بغسل الإناء سبعاً منه فهذا أمرٌ تعبدي، ولو كان للنجاسة لكان ثلاثاً، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطهارة، وبيّنا أن الصحيح أن الكلب نجس العين.
فالحاصل أنه على الرواية التي تقول إن الكلب يجوز أكله، يجوز بيعه لمن يأكله؛ لأنه إذا اشتراه من أجل الأكل فإنها منفعة مقصودة، وليس مراده أن يبقيه، وهذا عند أصحاب الإمام مالك رحمه الله، وهي من مفردات مذهب المالكية، ولذلك يقول الزمخشري -عامله الله بما يستحق-: وإن مالكي قلت قالوا بأنني أبيح لهم لحم الكلاب وهمْ همُ إذاً: عندنا خمسة أقوال: قولٌ بالتحريم، وقولٌ بالجواز، وقولٌ باستثناء الكلب العقور من الجواز، وقولٌ بالتحريم باستثناء كلب الصيد والحرث والماشية من التحريم، وقول بجواز البيع لمن يريد أن يأكله.
فأما الذين قالوا بالتحريم المطلق فاحتجوا بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولها: حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب سحت)، وهذا حديث متفق عليه، ووجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ثمن الكلب سحتاً، والسحت حرام، فلا يجوز بيع الكلاب، وأثمانها محرمة.
الدليل الثاني: حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه، وهو في الصحيح أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب خبيث)، فهذا الحديث الصحيح نصَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ثمن الكلب خبيث، ومعنى ذلك أن ثمن الكلب محرم؛ لأن الله حرم على هذه الأمة الخبائث، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الثمن بكونه خبيثاً، إذاً فالبيع محرم، وهذا هو مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من وصفه بالخبث.
الدليل الثالث: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم: أنه لما سُئل عن بيع الكلب والسِّنَور قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه) والسنور: هو القط، ويطلق على القط البرَّي والقط الأهلي المستأنس.
فأمّا القط البرّي المتوحش فهذا يفسد الزرع، ويعدو على الدجاج وعلى الطيور، ويؤذي بني آدم، وإذا خلا بالإنسان فإنه يؤذيه، وقد يتغذى بالخبائث، ويؤذي الطريق كثيراً، فهذا النوع هو الذي قصده جابر عندما قيل له: (والسنور).
أمّا القط الأهلي فقد نقل الإجماع على جواز بيعه، وجماهير العلماء على جواز بيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات).
الشاهد: أنه قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، أي: الكلب، وهي صيغة من صيغ التحريم عند الأصوليين، والزجر عن الشيء الطرد والإبعاد عنه، فمعنى ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن هذا الشيء، ولا يزجر إلاّ عن حرام.
الدليل الرابع: حديث عبد الله بن عباس في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لما نهى عن ثمن الكلب: (فإن جاءك يريد ماله فاملأ كفه تراباً) أي: إذا جاء يريد أخذ قيمة الكلب فاملأ كفه تراباً، وهذا يدل على حرمة ثمن الكلب، وأنه لا قيمة له، وعلى هذا قال الجمهور: لا يجوز بيع الكلاب مطلقاً.
وقالوا: هذه الأحاديث حينما تأملناها ونظرنا فيها وجدناها لم تفرق بين كلبٍ وآخر، ولم تفرق بين حالةٍ وأخرى، فهي عامة في الكلاب ومطلقة في الأحوال.
عامة في الكلاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الكلب الصغير (الجرو) ولا الكبير، ولم يفرق أيضاً بين كلب الماشية والحرث والصيد وغيرها، وإنما عمم: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم)، (نهى النبي صلى الله عليه وسلم)، (ثمن الكلب خبيث)، (ثمن الكلب سحت)، وهذا كله عام.
وكذلك في الأحوال: لأنك إذا قلت: أريده لحالة معينة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في حالة دون أخرى.
أدلة القول الثاني: الذين قالوا بجواز البيع مطلقاً وهم الحنفية فقد استدلوا: بأن الكلب مال، والقاعدة عندهم: أنه يجوز بيع المال، والأصل جواز بيع الأموال.
والمال عندهم كل شيء فيه منفعة، فيقولون: الكلب كسائر الأموال، ففيه منفعة الصيد، ومنفعة حراسة الحرث والماشية، فلما كانت هذه المنفعة موجودة فيه وهي مقصودة شرعاً، فإنه يجوز أن تبيعه وتأخذ القيمة لقاء هذا الشيء الذي هو فيه من المنافع، وهذا دليل عقلي.
القول الثالث: الذين يوافقون القول الثاني لكنهم يستثنون الكلب العقور؛ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله كما في الصحيحين: (خمسٌ يقتلنَّ في الحلَّ والحرم، وذكر منها: الكلب العقور).
القول الرابع: الذي استثنى كلب الصيد والماشية والزرع، وهو قول جابر بن عبد الله وإبراهيم النخعي وزيد بن علي رحم الله الجميع.
يقولون: دليلنا ما جاء في حديث أبي داود والنسائي والترمذي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب إلاّ الضَّارِيَ سحتٌ) وفي رواية: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب إلاّ كلب الصيد) قالوا: هذا الحديث يدلُّ على استثناء الكلب الضَّارِيَ وكلب الصيد، وإنما خرجا لمنفعة مخصوصة أُذن بها وهي منفعة الصيد، فنقيس عليها منفعة حراسة الحرث وحراسة الماشية.
القول الخامس والأخير: وهو مذهب الذين قالوا بجواز البيع لمن يأكله، وهم يقولون: إنه طاهر العين مباح المنافع، فيجوز بيعه لهذه المنفعة المباحة وهي أكله.
قيل لهم: الشرع نهى عن اتخاذ الكلاب، قالوا: هذا لا يتخذه؛ لأنه يريد أن يأكله، فحينئذٍ يأخذه ويذبحه مباشرة، فليس هناك اتخاذ محرم.(144/5)
القول الراجح في حكم بيع الكلاب
والذي يترجح في نظري من هذه الأقوال: القول بالتحريم مطلقاً، لعدة أسباب: أولاً: لصحة دلالة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم، ودلالتها واضحة وصريحة، ولم تفرق بين نوع وآخر.
ثانياً: أمّا قول الحنفية بأن الكلب مال، فنجيب عنه من وجهين: الوجه الأول: لا نسلم صحة هذا الدليل العقلي؛ لأن الكلب ليس بمالٍ من كل وجه، وإنما هو مال في أشياء معينة مخصوصة جاءت على سبيل الرخصة، فلا يجوز التوسع فيها، لأنك إذا قلت: إنه جاز للصيد وجاز للحرث والماشية، وقلت: يجوز بيعه لأن فيه هذه المنافع؛ فمعنى ذلك أنه جاز للصيد والحرث والماشية والبيع، فتزيد على استثناء الشرع، والشرع إنما استثنى ثلاثة أحوال: أن تجعله لحراسة حرث، أو ماشية، أو تصيد به.
فإذا جاء يبيعه فمعنى ذلك أنه أصبح هناك منفعة رابعة وهي منفعة البيع، فهذا دليل عقلي يعارض الأصل الشرعي، فنقول: إن قولكم: إن فيه منفعة، لا نسلم لكم أن فيه منفعة من كل وجه، ففيه منفعة مخصوصة مرخص فيها ينبغي التقيد بها؛ لأن ما جاء على خلاف الأصل ينبغي أن يتقيد به بالنص الوارد: فالأصل عدم جواز اتخاذ الكلب، وتقيد بهذه الثلاثة الأحوال، فيجوز لمن يريد اتخاذه أن يتخذه على هذه الثلاثة الأحوال المعينة.
أمّا الوجه الثاني فنقول: سلمنا جدلاً أن هذا الدليل العقلي صحيح، وهو أن الكلب مال وفيه منفعة؛ لكننا نقول: هذا اجتهاد مع النصّ، والقاعدة: (لا اجتهاد مع النص).
أي: هذا وجه من القياس نسلم به ونقول: هو من ناحية الشكل صحيح لكنه معارضٌ للنص، والقاعدة: أن القياس يقدح فيه من أربعة عشر وجهاً يسمونها قوادح القياس.
وقد ذكرها العلماء رحمهم الله في مبحث العلة في الأصول، وبينوا أوجه نقض القياس، ومنها: فساد الاعتبار، وهو أن يأتي المجتهد ويقيس شيئاً على شيء، فيحكم بالجواز في شيء ورد النص بتحريمه، فتقول: الكلب مال يجوز بيعه كسائر الأموال بجامع وجود المنفعة في كلٍ، وهذا قياس صحيح من ناحية الشكل وأركانه موجودة؛ ولكنه قياس مصادم للنص، والقاعدة: أنه لا اجتهاد مع النص، وهذا القادح يسمونه (قادح فساد الاعتبار)، أي: فسد اعتبار هذا القياس، وليس له قيمة ما دام أنه صادم النص من الكتاب والسنة.
أمّا القول الثالث: الذي استثنى كلب الصيد، فاستثنوا للحديث الذي ذكرناه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في استثناء الكلب الضاري.
وهذا الحديث نجيب عنه من وجهين: الوجه الأول: من جهة السند.
الوجه الثاني: من جهة المتن.
أمّا من جهة السند فهو حديث ضعيف، قال النسائي: إنه منكر، وكذلك ضعفه الإمام أحمد والإمام الترمذي رحمهم الله وهم أئمة الشأن، فقالوا: إنه حديث ضعيف؛ لأنه من رواية الحسين بن أبي جعفر الكرابيسي، وهو ضعيف الرواية، بل جزم النسائي رحمه الله بأنه منكر الرواية.
ولو سلمنا صحة هذا الحديث من ناحية كونه حسناً لغيره بالطرق، أو أن السند قابل للتحسين فإننا نقول: عارضه ما هو أصح فيقدم؛ لأن الحسن لا يحتج به إذا عارض ما هو صحيح، ولذلك يقولون في الحسن: وَهوَ فِي الْحُجَّةِ كَالصَّحِيْحِ وَدُوْنَهِ إِنْ صِيْرَ للتَّرْجِيْح أي: لا يمكن أن تصادم حديثاً صحيحاً بحديث حسن، وفائدة تقسيم العلماء الحديث إلى صحيح وحسن هو: أنها إذا تعارضت قدم الصحيح على الحسن.
ثم إن الصحيح قسموه إلى صحيح لذاته وصحيح لغيره؛ لكي يقدم الصحيح لذاته على الصحيح لغيره، وكذلك الحسن لذاته على الحسن لغيره إلى آخر مما هو مقرر في علم مصطلح الحديث.
وأما الجواب على المتن: فلو سلمنا فرضاً أن الحديث صحيح من جهة السند؛ لكن من جهة المتن نقول: قوله: (نهى عن ثمن الكلب إلاّ الكلب الضَّارِيَ) (إلاّ) هنا بمعنى العطف (الواو)، وهذه لغة من لغات العرب وهو أنهم يستعملون حرف الاستثناء (إلاّ) بمعنى العطف، وحملوا عليها قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] فقوله: (إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) أي: ولا ما قد سلف، ويكون المعنى: أي: لا تبقوهن ولا تستديموا نكاحهن.
ومنه أيضاً قوله سبحانه وتعالى، وهو وجه ذكره ابن العربي في أحكام القرآن في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} [النساء:92] أي: (ولا خطأ) بمعنى: أنه لا يتعاطى أسباب التفريط، فمثلاً: لو جاء إلى موضع يريد أن يصيد فيه، وهو يعلم أنه هذا الموضع فيه أناسٌ يرعون، أو فيه خيام لأناس نازلين بهذا المكان، وبمجرد أن يرى فريسة يرميها، فلا يجوز، بل ينبغي أن يتحفظ؛ لأن القتل الخطأ هو أن يقتل بدون أن يقصد القتل كأن يرمي صيداً فيصيب آدمياً، فالله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} [النساء:92] أي: (ولا خطأً)، بمعنى: ألا يتساهل، حتى ولو كان الخطأ معفواً عنه، فلا ينبغي عليه أن يتعاطى أسباب الخطأ، ومنه قول الشاعر: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوْهُ لَعَمْرُ أَبِيْكَ إِلاّ الْفَرْقَدَاْنِ أي: والفرقدان.
وعلى هذا يكون قوله: (نهى عن ثمن الكلب إلاّ الكلب الضاري) أي: والكلب الضاري، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الكلاب، ولو كانت كلاب صيد) تأكيداً في التحريم، ويكون هذا من باب قلب الدليل؛ لأنه إذا كان في الدليل معنيان: معنىً يعارض، ومعنىً يوافق، فينبغي صرف الحديث إلى المعنى الذي يوافق الأحاديث الأخرى، وحينئذٍ نقول: إن الأصحّ من هذه الأقوال هو القول بعدم جواز بيع الكلب مطلقاً.(144/6)
بيع الحشرات
وقوله: [إلا الكلب والحشرات].
(الحشرات) جمع حشرة، وهي الدويبات المعروفة على اختلاف أنواعها، وغالباً ما تكون صغيرة الحجم، سواءً كانت مما يرى أو كانت مما لا يُرى، فهذا النوع لا يجوز بيعه؛ والسبب في هذا -كما قلنا- أنه ليس في الحشرات منفعة مقصودة.
وعليه: فإنه لو جمع حشرات وأراد أن يبيعها فإن البيع غير صحيح؛ لأنه من باب إضاعة المال، ولا قيمة للحشرات.
لكن كيف تقرر التحريم بالدليل؟ تقول: الأصل أنه لا يجوز أكل المال بالباطل؛ لقوله سبحانه: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29].
ومعنى أكل المال بالباطل أن تأخذ المال بدون وجه حق، أي: بدون استحقاق، فإذا كانت الحشرات لا قيمة لها، وليس فيها منفعة مقصودة، ودفع لشرائها ألف ريال أو مائة ريال أو عشرة ريالات، فإنها أعطيت لغير شيء، وأعطيت لشيء لا قيمة له، فحينئذٍ تكون من أكل المال بالباطل.
لكن إن وجدت فيها منفعة مقصودة كالطعم ونحو ذلك، فحينئذٍ يكون دفع المال لقاء منفعة مقصودة، وأُخذ المال لقاء شيء له قيمة.
إذاً: وجه تحريم بيع الحشرات: أنها إذا كانت خلواً من المنافع وليس فيها منافع مقصودة، فقد خلت وعريت عن القيمة، فدفع المال لقاءها إنما هو من أكل المال بالباطل.(144/7)
حكم بيع المصحف
قال: [والمصحف].
المصحف اختلف في بيعه، فمذهب الحنابلة على التحريم، وهذا من مفردات مذهب الحنابلة، والجمهور على جوازه، وإن كان الشافعية يكرهون بيعه؛ لذلك يعتبرون هذه المسألة من الفوارق بين الحديث القدسي والقرآن، فبعضهم أوصلها إلى عشرة، ويدخلون فيها منع البيع، وأشار إلى ذلك صاحب الطلعة في قوله: وَمَنْعُ بَيْعِهِ لَدَى ابن حنبل وَكُرْهُهُ لَدَى ابن شافع جَلِيْ (ومنع بيعه) أي: المصحف، (لدى ابن حنبل) أي: عند الإمام أحمد رحمه الله.
(وكرهه) أي: كره البيع، فيصحّ البيع لكن مع الكراهة، (لدى ابن شافع جلي) أي: عند الإمام الشافعي رحمه الله؛ لأنه ابن شافع من بني المطلب بن عبد مناف، فيجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.
فالتحريم يعتبر من مفردات المذهب الحنبلي؛ لأن الجمهور في هذا النوع الثالث من المستثنيات على جوازه.
واستدل الجمهور بالأصل والأدلة الدالة على جواز البيع، وأمّا ما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف)، فإن ابن عمر رضي الله عنهما كان شديد الورع، ولذلك كان يشدد في المسائل، حتى قال أبو جعفر المنصور مما يُحكى في موطأ مالك أنه قال له: (اجتنب رخص ابن عباس وتشديدات ابن عمر).
فكان ابن عمر رضي الله عنه يشدد على نفسه وكذلك في فتواه؛ لأنه كان يأخذ بالعزائم، وهذا من ورعه وصلاحه وتقواه، وهناك مسائل معينة انفرد بها، ومنها هذه المسألة، وهي مسألة تحريم بيع المصحف.
لكن الجمهور خرّجوا ذلك فقالوا: يحتمل أن ابن عمر قصد من هذا من يقصد بيع الآيات، ولا يكون قصده انتشار المصحف لنفع المسلمين، ولا قصده بيعه لرواجه، وأخذ الأجر في الآخرة، إنما مطمعه أو مراده أو مقصوده هو المال، ولا شك أن في هذا خوفاً على الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة.
وفي حكم المصحف بقية كتب العلم والأشرطة إذا باعها الإنسان وكان قصده تجارة الدنيا فقط، ولا يرضى أن يبذلها إلاّ للدنيا.
ويظهر ذلك حينما يأتيه الإنسان المحتاج أو طالب العلم المحتاج يريد أن يشتري الكتاب -مثلاً- بعشرة والكتاب بعشرين أو بخمسة عشر، ويعلم أنه ضعيف اليد، وليس عنده طَوْل، فيصر على أنه لا يبيعه إلا بهذه القيمة مع أنه يجد أرباحاً ويجد عوضاً بالثمن المبذول، فكأنه -والعياذ بالله- يحبس الانتفاع من العلم والانتفاع بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لقاء هذا المال، وهذا شيء خطير.
فينبغي لمن يبيع كتب العلم أو يبيع الأشرطة أن يجعل في حسبانه أن يكون همه الآخرة، وأن يجعل نية الدنيا تبعاً، ولا يجعلها أساساً، وإذا أراد وجه الله عز وجل والدار الآخرة وجعل الدنيا تبعاً فإن الله يأجره ويبارك له في صفقة يمينه، فيحوز خيري الدنيا والآخرة.
فالمقصود: لعل ابن عمر رضي الله عنهما قصد: من يفعل ذلك لا للآخرة وإنما للدنيا.(144/8)
الميتة وأنواعها وحكم بيعها
قال رحمه الله: [والميتة].
الميتة: هي كل حيوان مات حتف أنفه، أي: بغير ذكاة شرعية.
والميتة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون ميتة الآدمي.
القسم الثاني: أن تكون ميتة غير الآدمي.(144/9)
ميتة الآدمي
أمّا ميتة الآدمي فإنه لا يجوز بيع الآدمي لا حيَّاً ولا ميتاً، وهذا بالنسبة لبيعه بدون ملك اليمين؛ لأنه قد استثناه الشرع؛ لكن أن يباع الحر، فهذا مما ورد فيه الوعيد الشديد؛ ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجلٌ أُعطي بي ثم غدر، ورجلٌ باع حراً ثم أكل ثمنه.
الحديث)، فهذا يدل على الوعيد الشديد في بيع الآدمي الحر.
فالأصل أنه لا يجوز بيع الآدمي لا حيّاً ولا ميتاً إلاّ ما استثناه الشرع من بيع الرقيق، والرق سببه الكفر، وله ضوابط سنذكرها إن شاء الله في الأبواب الآتية في المعاملات.
إذا ثبت أنه لا يجوز بيع الآدمي فكذلك لا يجوز بيع أعضائه، فلا يجوز بيع اليد، ولا بيع الكلية، ولا بيع القرنية، ولا بيع الأجزاء ولو قصد نقلها إلى شخص آخر؛ لأن البيع مفرع على الملكية، والآدمي لا يملك نفسه؛ لأننا إذا قلنا: إن البيع شرعي فمعناه أن تكون مالكاً لما تبيع، والآدمي لا يملك نفسه، قال الإمام ابن حزم رحمه الله: أجمع العلماء على أن الآدمي لا يملك نفسه.
وإنما هي ملكٌ لله عز وجل، أذن الله للمرء أن يحفظ هذه النفس، وأن يسعى في صلاحها، فيفلح من زكاها، ويخيب من دسَّاها.
فإذا كتب الله للإنسان هذه النفس وكتب له الحياة فعليه أن يحافظ عليها، وينتفع بما جعل الله فيها من المصالح، فلا يتصرف فيها بشيء إلا بما أذن له الشرع، حتى لو أتلف جزءاً من نفسه لمصلحة البدن كله، فإنه على خطأ إلا فيما يستثنى، ومن ذلك حديث الطفيل بن عمرو لما هاجر ابن عمه معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى الغزو، فجرح فاستعجل الموت، وضاقت عليه نفسه فقطع براجمه، فنزف ومات، فلما توفي رآه الطفيل فقال: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: وما في يدك؟ وإذا به كأن على يده شيئاً، قال: قال الله لي: لن نصلح منك ما أفسدت من نفسك، قال: فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - والحديث في مسلم - فقصصت له ما كان منه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم وليده فاغفر، اللهم وليده فاغفر، اللهم وليده فاغفر)، الشاهد: أن الله قال له: (لن نصلح منك ما أفسدت من نفسك)، فإنه قطع براجمه من أجل أن يرفق بنفسه، فكيف بمن يقطعها رفقاً بالغير.
إذاً: لا يملك الآدمي التصرف في نفسه، فهذا الجسد وضعه الله أمانة عند الإنسان، لا يجوز أن يقدم على شيء إلا في أحوال مخصوصة كأن تأتيه (غرغرينة)، أو يأتيه تسممُّ في يدٍ ويقطعها، فهذا مستثنى؛ لأنه استصلاح للجسد كله، وليس استعجالاً للموت كما جاء في حديث الطفيل؛ وإنما هو قطع لإبقاء، كما يكسر من السفينة لوح لنجاة كل السفينة.
فهذا أصل: وهو إتلاف البعض لاستبقاء الكل، وقد قرره العلماء في المذاهب كلها: المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة، وذكروا: أنه يجوز قطع الجزء لاستبقاء الكل، وذكروا هذا في أموال اليتامى وغيرها، فحينئذٍ إذا أراد أن يقطع جزءاً منه لخوف التسمم أو نحو ذلك فلا بأس، لكن لو أتى مثلاً يخرج (اللوز) خوفاً أن تلتهب فليس من حقه؛ لأن الله لم يخلق هذه (اللوز) في الجسد عبثاً؛ لكن لو أنها تسممت وخيف على البدن جاز إخراجها، أمّا أن يكون إجراءً احتياطياً ونقول: نخشى أن يقع أو يحدث فلا يجوز؛ لأن الأصل عدم جواز التصرف في بدن الإنسان، فتتفرع جميع المسائل في الهبات والتبرعات ونحوها على هذا الأصل.
إذا ثبت هذا فإننا نقول: لا يجوز بيع الآدمي حيّاً ولا ميتاً، ولا يجوز بيع أعضائه سواءً كان حيّاً أو ميتاً.(144/10)
ميتة غير الآدمي
يبقى النظر في ميتة غير الآدمي، فنقول: ميتة غير الآدمي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما كان برّياً.
القسم الثاني: ما كان بحرياً.
القسم الثالث: ما كان برمائياً أي: برّياً بحرياً.(144/11)
ميتة البر
فأما ما كان برياً: فكشاة ماتت بدون ذكاة، فهذه ميتة بر، ويستوي في ميتة البر ما يكون من الزواحف أو يكون من الطيور كالعصفور الذي يموت حتف أنفه، فإن هذا كله من ميتة البر، فلا يجوز بيع ميتة البر بالإجماع.
والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الغد من فتح مكة -هي خطبته في اليوم الثاني من فتح مكة- وقال: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام).
فذكر أربعة أعيان محرمة، ومنها: (الميتة) فدل على عدم جواز بيع الميتة، لكن يستثنى منها نوع خاص، وهذا النوع هو الطاهر من ميتة البر التي هي الجراد، فإن الجراد طاهر يجوز أكله، ويجوز بيعه؛ لأن أصل تحريم الميتة -وهذا في قول جماهير العلماء- مركب على النجاسة، ومن هنا قالوا: يجوز أن يبيع الجراد؛ لأن الجراد يجوز صيده ويجوز قتله وتؤكل ميتته، قال صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان: أمّا الميتتان فالحوت والجراد) فذكر الجراد من الميتة، فلما قال: (أحلت لنا ميتتان) جعلها من حلال الميتة المحرمة؛ لأن الأصل في الميتة أنها محرمة، فيكون قوله: (حرم بيع الميتة) أي: الميتة التي هي في الأصل محرمة، وبقي ما أحلَّ من الميتة كميتة الجراد فيجوز بيعه.
فلو أخذ كيساً من الجراد وعرضه للبيع فقال قائل: لا يجوز لأنه ميتة، نقول: نعم، هذه ميتة لكنها حلال، ويجوز بيعها.
وفي حكمها الحشرات التي لا نفس لها سائلة، أي: التي ليس لها دم، مثل السوس الذي يوجد في الدقيق والتمر، فهذا النوع من الحشرات لا نفس له سائلة، ولو أكلته فهو طاهر كالجراد، وليس فيه بأس.
والجراد مما لا نفس له سائلة، وأجمع العلماء على أن الجراد طاهر، بناءً على نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وسنفصل هذا في كتاب الأطعمة إن شاء الله، وسيكون التفصيل أوسع؛ لكن الشاهد: أنه لو جمع الدود أو السوس الطاهر وعرض للبيع صحَّ ولا بأس في ذلك.(144/12)
ميتة البحر
أما ميتة البحر، فتشمل السمك والحوت وسائر حيوانات البحر التي لا تعيش إلا فيه، فإذا كانت من النوع الذي لا يعيش إلا في البحر، ومنه ما يُسمى (بالجمبري) الموجود الآن، فجمهور العلماء على جواز أكله، وأنه لا بأس في أكل ميتة البحر، وأنها طاهرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته) وهو حديث أبي هريرة في السنن.
فوصف ميتته بأنها حلال، فيجوز أن يبيع السمك، والحوت، أو ما يُسمى (الجمبري)، أو غيره، وأنواع الأسماك كلها.
ثم ميتة البحر إمّا أن تخرجها من البحر فتكون ميتة؛ لأنك لم تذكها، فمثلاً: الشاة تذكى، وكذلك الدجاجة، والطير؛ لكن بالنسبة للسمك والحوت لا يذكى؛ لأنه ليس له موضع ذكاة، فإذا أخرجت من البحر خرجت بغير ذكاة فتكون ميتة، فحينئذٍ يجوز لك أن تأكلها؛ لكن لو أنها ماتت حتف أنفها في البحر فهل نقول: إنها تؤكل بغير ذكاة كالذي صيد، أم نقول: إنها ماتت حتف أنفها فلا يجوز أكلها؟ للعلماء وجهان: جمهور العلماء على أن السمك إذا مات وطفا على البحر يجوز أكله وبيعه ولا بأس في ذلك، ويسمونه السمك الطافي، وكذلك ما جزر عنه البحر؛ لأن البحر له مدُّ وجزر، فإذا مدَّ قذف بعض السمك خاصة الصغار منه، فإذا جزر يكون على أطراف الشواطئ، وهذا النوع من السمك سواء كان طافياً أو كان مما جزر عنه البحر، فالصحيح جواز أكله، وهو مذهب الجمهور، وفيه حديث أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه في سريتهم بسيف البحر، حينما أصابتهم المجاعة وجزر البحر عن الحوت، فأكلوه، وأتوا ببعضه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه، فدلَّ على جواز أكل الطافي، وأكل ما مات حتف نفسه؛ لكن إذا كان هذا النوع فيه ضرر أو خمج أو أنتن بحيث لو أكله الإنسان تضرر فلا يجوز بيعه ولا يجوز أخذ المال لقاءه؛ لأنه من الميتة المتنجسة في هذه الحالة.(144/13)
ميتة البرمائيات
النوع الثالث: وهو البرمائي، وقد اختلف فيه العلماء: فبعض العلماء يقول: الحيوان الذي يعيش في البر والماء ينظر فيه، فإن كان أكثر عيشه في الماء فميتته حلال، وإن كان أكثر عيشه في البر فميتته حرام؛ لأن الشيء يأخذ حكم غالبه.
ومنهم من يقول: بل ننظر أين يكون توالده وتكاثره وإيواؤه، فإن كان أكثر توالدها وتكاثرها بداخل الماء، فحكمها حكم حيوان الماء، وإن كان غالب تكاثرها وعيشها وجريانها في البر، فتأخذ حكم ميتة البر، مثل السلحفاة، وهذا القول قوي، والنفس تطمئن إليه.
[والميتة].
الميتة إذا بيعت بذاتها لا يجوز بيعها، ويشمل هذا ما كان محنطاً ولم يذك، إلا إذا كان من جنس ما يستثنى كالحوت والجراد، فهذا يجوز بيعه محنطاً.
فلو أن شاة دهست ثم ماتت قبل أن تذكى وعرضت، وجاء شخص يريد أن يشتريها نقول: لا يجوز هذا البيع ولا يجوز شراؤها، ولو أُخذ ثعبان وحنّط قلنا: لا يجوز بيعه ولا شراؤه، وماله غير جائز، كذلك لو أُخذ ثعلب وحنط ثم عرض للبيع فله نفس الحكم؛ لأن الثعلب ليس من جنس ما يذكى، ولا تعمل فيه الذكاة.(144/14)
ما قطع من حي
وما قطع من الحيوان في حال حياته أخذ حكم ميتته، مثلاً: لو أن الشاة قطعت منها رجلها أو قطعت إليتها، ثم جاء يريد أن يبيعها نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبين من حيٍّ فهو ميتته) وفي رواية: (فهو كميتته)، فالشاة لو ماتت لا يجوز بيعها، إذاً هذا الجزء المقطوع من الشاة حال حياتها يأخذ حكم الجزء المقطوع حال موتها، فتكون الإلية نجسة، ولا يجوز بيعها، وحكمها حكم الميتة بأجزائها التي تقبل الحياة، لكن هناك أجزاء لا تحلها الحياة.
فالحيوانات تنقسم أجزاؤها إلى قسمين: القسم الأول: ما فيه حياة الروح.
القسم الثاني: ما فيه حياة النمو.
حتى الآدمي فيه أجزاء حياتها حياة روح، وأجزاء حياتها حياة نمو، فمثلاً: اليد لو أنها لُسعت بنار تأذى الإنسان؛ لأن الحياة الموجودة فيها حياة روح وإحساس؛ لكن لو أنك أحرق طرف الشعر لم يحسُّ الإنسان؛ لأن الحياة التي في الشعر حياة نمو.
فعندنا أعضاء تقبل حياة الحسِّ، وأعضاء تقبل حياة النمو.
فما كان من الأعضاء يقبل حياة الروح فيعتبر نجساً إذا قطع في الحياة، كيدها ورجلها وإليتها وأذنها، وما كان لا يقبلها فلا، فمثلاً لو قُصَّ الشعر فإن الشعر من جنس ما لا تحله الحياة، فلو أنه قام على الناقة وجزَّ ما عليها من شعر وباع الوبر فإنه يجوز، قال تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل:80].
والشاة يحلق ما عليها من الشعر، وكذلك الناقة يحلق ما عليها ويباع ويتخذ في الثياب ويغزل منه، هذا الذي أخذ من الصوف والوبر والشعر يجوز بيعه، مع أنه قطع في حال الحياة؛ لكن هذا الذي قطع ليس من جنس ما تحله حياة الروح، وإنما هو من جنس ما تحله حياة النمو.
أما جلد الميتة إذا دبغ ثم بيع، فإنه يجوز.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، وإذا كان طاهراً فإنه مستثنىً من الحرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلت لنا ميتتان)، فجعل من الميتة ما يَحلّ، فهذا الجلد إذا دبغ خرج عنه وصف الميتة بالنجاسة.(144/15)
الأسئلة(144/16)
علم القواعد الفقهية
السؤال
هل يمكننا أن نقول: كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: الأفضل أن الإنسان لا يتدخل في القواعد ويتركها للعلماء الأجلاء الذين ألموا بنصوص الشرع في الكتاب والسنة وألموا بضوابط القواعد، فقد تأتي وتقعّد القاعدة لأنك تراها صحيحة، لكنها تصادم أصولاً أخرى.
فمثلاً هذه القاعدة تقول: كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، أولاً: البيع ينصب على الذات والمنفعة، فأنت عندما تبيع البيت تبيع ذاتها ومنفعتها، ولو بعت عمارة فقام المشتري بهدم العمارة، فليس لك أن تمنعه لأنه سيقول: بعتني الدار ذاتها ومنفعتها التي هي السكنى، فالبيع يقع على الذات والمنفعة، فقاعدة: كل ما جازت منفعته جاز بيعه، تختص بالمنافع، والبيع يقوم على الذات وعلى المنفعة.
ثانياً: إذا كانت المنفعة جائزة لكن الذات محرمة، فقد تقدم الخلاف في الحكم، إذاً: فالتقعيد من الصعوبة بمكان.
وهناك كتب متخصصة في القواعد، منها: الأشباه والنظائر للسيوطي، والأشباه والنظائر لـ ابن نجيم، وقد جعلوا قواعدهم في حدود مذهب معين، وما استطاعوا أن يجعلوا قواعد عامة، فتجد -مثلاً- الأشباه والنظائر في قواعد الشافعية، والأشباه والنظائر في قواعد الحنفية، وتجد أيضاً الفوائد لـ ابن مفلح الحنبلي رحمه الله، كذلك أيضاً القواعد لـ ابن رجب في مذهب الحنابلة، وتجد إيصال السالك إلى قواعد مذهب مالك للونشريسي المالكي، فتجدهم قعدوا من خلال مذهب معين؛ لأنه ليس من السهولة بمكان أن تضع قاعدة عامة متفق عليها.
فمسألة التقعيد أولاً: تحتاج إلى سبر الأدلة الواردة في الباب؛ لأنه لا أحد يتكلم في القواعد الشرعية إلا من خلال النصوص، والفقيه مَنْ فقه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أن يضع قاعدة عامة تتفرع عليها مسائل كثيرة حتى يجمع النصوص الواردة في هذا الباب.
ثانياً: بعد جمع النصوص ينظر هل هي قاعدة ثابتة، أو لها مستثنيات؟ حتى يأتي بالمستثنى منها، فيضع القاعدة وما يستثنى منها، فلا ينقض المستثنى القاعدة ولا يعترض به عليها، فينظر هل هي قاعدة مسلمة أو قاعدة فيها استثناءات ومحترزات.
ثالثاً: ما هو اللفظ الذي تختاره للقاعدة، فهناك علم ألفاظ القواعد، ولذلك ليس كل فقيه يستطيع أن يقعّد، وليس كل محصّل للأدلة يستطيع أن يقعد؛ لأن التقعيد مخاطبة، والمخاطبة بالقاعدة يحتاج إلى ضابط ويحتاج إلى أسلوب فقهي معين، وقد يجلس العالم فترة طويلة حتى يقعد هذه القاعدة، أي: ما كان العلماء بمجرد أنه يقرأ أحدهم الباب يضع القاعدة.
فاختيار الألفاظ في التقعيد لابد منه، وهذا ما يسمونه (ملكة التقعيد)، ولذلك عندما تبحث في كتب القواعد تجدها معدودة، والسبب في هذا ثقل هذا الباب وصعوبته.
ولذلك نقول: ليس من السهولة أن نضع قاعدة عامة، إنما نقول: اقرأ الباب وانظر إلى نصوص الكتاب والسُّنة، فإذا وعيت رحمك الله ما ورد في الكتاب والسُّنة فخير وبركة، وإذا أردت أن تدرس علم القواعد فقد كفاك العلماء المئونة، فاذهب إلى كتب القواعد واقرأ فيها واضبطها وحصلها.
وهناك قضية مهمة جداً كفائدة لطلاب العلم وهي: ما هي الحاجة إلى القاعدة؟ القاعدة لا توضع إلا إذا جاءت لها أدلة قوية متكاثرة في الكتاب والسُّنة، وقد يكون لها إجماع؛ لأن القاعدة قضية كلية تتفرع عليها المسائل الجزئية، فمعنى ذلك أنك لا تقعد قاعدة في مسألة معينة، وإنما تقعد قاعدة لكي تجمع مسائل، وبعض الأحيان القاعدة الواحدة تفرع عليها ثمانمائة مسألة والعلماء يسمونها (أمهات القواعد)، وقد تكون قاعدة تتفرع عليها قواعد، وكل قاعدة تحتها مسائل.
فمثلاً: قاعدة (الأمور بمقاصدها) تتفرع عليها قواعد في إعمال الأصل، واستصحاب الأصل، وكذلك البراءة الأصلية وكذلك قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) تفرع عليها: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) وغيرها.
الشاهد: لماذا وضع العلماء القاعدة؟ وضعوها لأن الطالب بعد أن يقرأ الفقه بكامله، تكثر عليك المسائل، فتحتاج إلى ضوابط وقواعد.
وهناك شيء يسمى قاعدة وهناك شيء يسمى ضابط، فالقاعدة لا تختص بباب، فمثلاً قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) ممكن أن تجري في العبادات وفي المعاملات، ففي العبادات تستخدمها -مثلاً- في الطهارة " فيجوز لمن لم يجد الماء أن يتيمم، أو شقّ عليه الماء جاز له أن يتيمم، ويجوز لمن كان عليه جروح على ظاهر بدنه أن يعدل إلى التيمم، ويجوز لمن خاف على نفسه إذا طلب الماء أن يعدل إلى التيمم.
وتستخدمها في الصلاة فتقول: من شق عليه أن يصلي قائماً صلى قاعداً، ومن شق عليه أن يصلي قائماً وقاعداً صلى على جنبه، ومن شق عليه أن يقرأ الفاتحة وكان حديث عهد بإسلام فلا يستطيع أن يتعلمها ولا يستطيع أن ينطق بها فيمكث قدر الفاتحة أو يمكث قدر الوقوف، على تفصيل عند العلماء فيمن تعذرت عليه الفاتحة.
وتستخدمها بعد ذلك في الزكاة وفي الحج في الطواف وفي السعي ولما أذن للضعفة في الحج التوكيل في الرمي، فكلها تفرعها على قاعدة: (المشقة تجلب التيسير)، فوَسِعَت مسائل عديدة ولم تختص بباب ولم تختص بباب معين.
إذاً: تستطيع أن تأتي بالقاعدة فتنثر من تحتها المسائل المتعددة؛ لكن الضابط يكون في باب واحد أو كتاب واحد، تقول مثلاً: في باب الكفارات كفارة الجماع في نهار رمضان، الضابط عند الحنابلة: أنه لا تجب الكفارة إلا بجماع في نهار رمضان، فأنت ألممت بمسائل لكن في مذهب الحنابلة، بحيث لو جاءك سائل وقال لك: لو أن رجلاً قضى يوماً من رمضان في شوال، فجامع أهله في هذا اليوم فهل تجب عليه الكفارة في قول الإمام أحمد؟ تقول: لا؛ لأن الأصل عند الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يوجب الكفارة في الجماع إلا في نهار رمضان، ولا يُنزِّل القضاء منزلة الأداء، فهذا يسمى ضابط؛ لأنه متعلق بمسألة أو باب معين.
فيفرقون بين الضابط والقاعدة من هذا الوجه، فتارة يقولون: ضابط، وتارة يقولون: قاعدة.
المقصود أن العلماء احتاجوا إلى وضع علم القواعد؛ لأنك عندما تقرأ الفقه تتناثر عندك الأدلة وتكثر عليك المسائل، فوضعوا قواعد معينة تجمع كثيراً من المسائل، بحيث يمكن أن يفتى في أكثر من مسألة وأكثر من باب، وإذا جاءتك المسألة تستطيع أن تعرف ضابطها أو تعرف قاعدتها؛ فوضعوها تيسيراً للفتوى وتيسيراً للقضاء وتيسيراً للتعليم.
فهذا أصل مسألة التقعيد، ولا يقدم عليه إلا من كان عنده إلمام بالأدلة من الكتاب والسُّنة، وعنده إلمام بأسلوب القواعد؛ لأن بعض الأحيان توضع القاعدة فيعترض عليها في اللفظ وفي العبارة التي تخُتار، وتجد بعض العلماء يقول: هذه عبارة مكررة، فحينما قالوا: قاعدة: (أن الشريعة قامت على جلب المصلحة ودرء المفسدة) قال بعض العلماء: هذه القاعدة فيها تكرار، قيل: لماذا؟ قال: لأن جلب المصلحة يتضمن درء المفاسد؛ لأن كل مفسدة تدرؤها تُحَصَّل بها مصلحة.
وهذا فن وضع القواعد، فيحتاج إلى الألفاظ إلى العبارات إلى الجمل؛ لأنه لا بد أن يكون عارفاً بالمصطلحات، والمصطلحات هي كلمات وعبارات معينة يستخدمها العلماء للدلالة على أشياء مخصوصة في فن الفقه.
فمثلاً: قوله: كل ما كانت له منفعة مباحة جاز بيعه، فحينئذٍ انصب الكلام على المنفعة وأهمل العين التي تولدت منها المنفعة، فهذه قاعدة قاصرة؛ لأنه ليس في الشريعة أن يبني جواز بيع الأعيان بناءً على المنافع، فهذا لا يطرد، فقد يكون الشيء مما تجوز منافعه ولا يجوز بيعه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(144/17)
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [5]
من شروط صحة البيع: أن تكون العين مباحة المنفعة، فلا يجوز بيع الأعيان النجسة؛ لأنها محرمة الانتفاع، ومن الأعيان النجسة: السرجين أو ما يسمى بالسماد النجس، فقد ذهب جمهور العلماء إلى حرمة بيعه، ومنها: الأدهان والزيوت النجسة، فإنه يحرم كذلك بيعها وشراؤها.
ومن شروط صحة البيع: أن يكون البيع من مالك أو من يقوم مقامه، فمن باع أو اشترى شيئاً ليس في ملكه، فلا يصح منه ذلك ولا يتم حتى يجيزه المالك الحقيقي.(145/1)
الأشياء التي لا يجوز بيعها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى في معرض بيانه للأعيان المحرمة البيع: [إلاّ الكلب والحشرات والمصحف والميتة والسرجين النجس].
ما زال المصنف رحمه الله في معرض بيانه لما لا يحلُّ بيعه، وهي الأعيان التي حكم الشرع بعدم جواز بيعها، فلا ثمن لها، فيكون إعطاء المال في مقابلها في البيع من باب أكل المال بالباطل؛ لأن الأصل في البيع أن يُدفع الثمن لقاء شيء له قيمة، فإذا كانت العين مما لا قيمة له في الشرع، فإنه حينئذٍ يكون دفع المال في مقابلها من الباطل.(145/2)
الأعيان النجسة
ذكر العلماء رحمهم الله أن الأصل في الأعيان النجسة عدم جواز بيعها، فلا يجوز بيع البول، ولا يجوز بيع العذرة -عذرة الإنسان النجسة- وهكذا في فضلات الحيوان النجسة.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن النجاسات، كما في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم)، والدم نجس لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]، وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام)، قال العلماء رحمهم الله: إن هذا الحديث اشتمل على أربعة أعيان نجسة: إمّا نجاسة حسية، وإمّا نجاسة معنوية، وإمّا نجاسة الحس والمعنى معاً، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النجس من الحيوانات الحية: الخنزير، والنجس من الحيوانات الميتة وهي الميتة، حتى تقاس النجاسات من الحيوانات الحية على الخنزير، والنجس من الحيوانات الميتة تتبعه لأصل الميتة، ويقاس الجماد النجس المعنوي على الأصنام، ويقاس المائع من النجاسات على الخمر، وعلى هذا قال غير واحد من العلماء: حديث جابر هذا أصل في تحريم بيع الأعيان النجسة، والنجس حرمه الله على العباد، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله إذا حرم على قوم شيئاً حرم عليهم ثمنه)، وقد حرم الله النجاسات؛ فيحرم أخذ المال لقاءها.
والمبيع من حيث الأصل العام -حتى تكون الصورة واضحة- إما أن يكون طاهراً، وإما أن يكون نجساً، فالمبيعات الطاهرة من حيث الأصل جواز بيعها، والمبيعات النجسة من حيث الأصل عدم جواز بيعها، ويبقى شيء يُسمى: المتنجس.
فالنجس هو أن يكون نجس العين، مثل: الشحم المستخلص من الميتة، فإنه نجس العين، ونجس العين لا تستطيع تطهيره، فأصل عينه نجسة، فالخنزير لو غسلته مائة مرة فإنه سيبقى نجساً، فحينئذٍ يقال: نجس العين؛ لكن المتنجس تكون عينه في الأصل طاهرة ودخلت النجاسة عليه عارضة، بحيث يمكنك أن تزيلها، كثوب وقع عليه بول أو وقع عليه دم نجس فإنه حينئذ ثوب متنجس، انتقل عن أصله لعارضٍ وهو التنجس.
فأمّا بالنسبة للزيوت والشحوم والأدهان فمنها ما هو طاهر كالإلية، فإنك إذا ذبحت كبشاً وذكيته فإنّ جميع ما فيه طاهر؛ لأن التذكية تجعله حلالاً وطاهراً، فحينئذٍ لو أخذت الإلية وأذبت شحمها فنقول: هذا دُهنٌ طاهر، أما لو مات الكبش أو الضأن وأُخذت إليته وأُذيبت فنقول: هذا شحم نجس أو دهن نجس.
إذاً: هناك ما هو نجس العين، وهناك ما هو متنجس، والمتنجس يمكن تطهيره.(145/3)
السرجين وأنواعه
يقول المصنف رحمه الله: (والسرجين)، وهو السماد، والسماد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: السماد الطاهر، وهو فضلة ما يؤكل لحمه، على أصحِّ قولي العلماء، كما هو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة من حيث الجملة؛ لأن فضلة ما يؤكل لحمه -كالإبل، والبقر، والغنم، والطيور غير الجارحة- طاهرة، فلو أن إنساناً جمع زريبة من روث أو فضلة الإبل أو البقر أو الغنم فإنها طاهرة من حيث الأصل، فنقول: هذا سماد طاهر، والدليل على طهارته عدة أدلة: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العُرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل، وهي فضلة الإبل، فلو كان البول نجساً لما أمرهم أن يشربوه؛ لأن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حَرَّمَ عليها.
ثانياً: الإذن بالصلاة في مرابض الغنم، وهذا ثابت وصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت فضلة الغنم نجسة لما أذن بالصلاة فيها، وأما المنع من الصلاة في معاطن الإبل فهو لحكمة أخرى -كما نبهنا عليه في باب الصلاة- وذلك لأنها مواضع الشياطين.
وقد وصلى على بعيره، ومن المعلوم أن البعير ربما بال فلطخ ببوله فخذه وساقه، ومع ذلك صلى عليه، وطاف عليه، فدلَّ ذلك على طهارة فضلة ما يؤكل لحمه، وإنما خُصَّ البعير لأن البعير من حيث الأصل مما يؤكل لحمه، فقالوا: ما يؤكل لحمه فضلته طاهرة، وهذا يشمل الطيور كالعصافير والحمام وغيرها.
والسماد الذي يؤخذ من الحمام تستصلح به الحمضيات كأشجار الليمون، فإنه إذا وضع لها (ذرق) الحمام تنفع وتصلح بإذن الله عز وجل، فهذا سمادٌ طاهر.
وكذلك يؤخذ روث البقر لاستصلاح النخل، وهو من أفضل ما يكون لاستصلاح النخل.
والسماد الطاهر يجوز بيعه، فلو أن رجلاً عنده زريبة غنم وجاءه من يريد شراء ما فيها من الروث سماداً، فما حكم هذا البيع؟ نقول: السماد طاهر مقصود لمنفعة مباحة، وهي استصلاح الزرع، ومأذون بها شرعاً؛ بل ومقصودة شرعاً، فيجوز البيع إذا كان مستوفياً للشروط الأخرى المعتبرة في البيع.
وعلى هذا: فبيع السماد الطاهر جائز ولا بأس به؛ لأنه عينٌ مباحة، ومنفعتها مباحة ومقصودة شرعاً.(145/4)
حكم بيع السماد النجس
القسم الثاني: السماد النجس، وهو يشمل فضلة الآدمي من بوله وعذرته، وكذلك يشمل فضلة الحيوان غير مأكول اللحم؛ كالحمر الأهلية ونحوها، ولذلك لما أتى عبد الله بن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم بالروثة -قيل: إنها من الحمر- قال: (إنها ركس)، وعلى هذا يقول العلماء رحمهم الله: إذا كانت الفضلة من غير مأكول اللحم فهي نجسة، لكن هل يجوز أن يباع السماد النجس، أم لا يجوز؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: القول الأول: لا يجوز بيع السماد النجس أو الزبل النجس أو الرجيع النجس، والمعنى واحد، وهذا القول هو مذهب المالكية في المشهور، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور، وهو قول عند الحنفية رحمهم الله؛ لكن المذهب عندهم على الجواز.
القول الثاني: يجوز بيع الزبل النجس والسماد النجس، وهذا هو مذهب الحنفية، وقال به بعض أصحاب الإمام مالك كـ ابن الماجشون.
فالذين قالوا بالتحريم -وهم الجمهور- استدلوا بأدلة: أولاً: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، قالوا: إن الله حرم علينا أكل المال بالباطل، والباطل هو الذي لا وجه له ولا حقَّ فيه، فإذا كان السماد نجساً فإن النجس لا قيمة له -النجاسة لا قيمة لها- فدفع المال في مقابله يكون من أكل أموال الناس بالباطل.
ثانياً: استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا حرم على قوم شيئاً حرم عليهم ثمنه)، والسماد نجس حرام فيحرم أكل ثمنه.
ثالثاً: قالوا: إن الأصل عدم جواز بيع النجاسة، والزبل النجس من النجاسات، والأصل في هذا حديث جابر بن عبد الله كما قدمنا.
واستدل الذين قالوا بالجواز بدليلين: الدليل الأول: الإجماع.
الدليل الثاني: العقل.
أما دليلهم بالإجماع فقالوا: إن الناس من العصور القديمة يتبايعون ويبيعون السماد والزبل النجس، ولم ينكر عليهم أحد، فيكون هذا بمثابة الإجماع.
والدليل الثاني: قالوا: إن الحاجة داعية إلى بيع الزبل النجس، ولو لم نقل بجواز بيعه لكان في ذلك حرجٌ ومشقة، والشريعة لا حرج فيها ولا مشقة، وبناءً على ذلك يجوز بيع الزبل النجس، ومعنى هذا الدليل الذي قرروه بالنظر: أن الزبل النجس يستصلح النبات، وهذا يحتاجه الفلاح، ويحتاجه الناس، أمّا الفلاح فلأنّ إنتاجه ومحصوله لا يصلح إلا بهذا النوع من السماد، وأمّا الناس فإنه إذا تضرر الفلاح وكان نتاج الفلاحة قليلاً؛ فإن هذا سيضر بالسوق وسيضر بالناس، فحينئذٍ يكون في تحريمه حرجٌ ومشقة، والشريعة لا توقع الناس في الحرج.
إذاً القول بعدم الجواز فيه حرج، فيجوز البيع دفعاً للحرج والمشقة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
والذي يترجح هو القول بعدم جواز بيع الزبل النجس، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة ما ذكره أصحاب هذا القول، فإن الأصل عدم جواز بيع النجاسات، وهذا الأصل قرره حديث جابر رضي الله عنه، ولذلك سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شحوم الميتة -وهي متفرعة من الميتة-: (أنه يُطلى بها السفن ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام، قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه)، وفي رواية: (فاستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل)، فدلَّ الحديث على أن الشيء النجس لا يجوز بيعه في الأصل.
ثانياً: أما بالنسبة لاستدلالهم بالإجماع، فهذا الإجماع قد رده غير واحد من العلماء، حتى قال الماوردي في كتابه النفيس (الحاوي)، وهو من كتب الخلافيات، بل ومن أوسعها، قال فيه: إن هذا الإجماع إجماع العوام، إنما وقع بفعل الناس وليس بإجماع من يُعتدُّ بقوله ويُعتدُّ بإجماعه؛ لأن الإجماع إنما يكون من المجتهدين وليس من العوام، فالذي يبيعه ويأخذه هم العوام وليس العلماء الذين يُحكم بإجماعهم واجتهادهم.
ثالثاً: استدلالهم بأن فيه حرجاً ومشقة، فيقولون: لو قلنا: لا يجوز بيع السماد النجس لكان فيه حرج ومشقة، هذا يحتاج إلى نظر؛ والسبب في هذا: أن الحرج والمشقة إنما يقعان في حالة عدم وجود البديل؛ لكن عند وجود البديل -وهو الزبل الطاهر وكونه يقوم بسدِّ الحاجة- فإنه حينئذٍ ينتفي قولهم: بأننا مضطرون إليه؛ لأننا نتكلم عن أصل عام؛ والأصل العام هو وجود الزبل النجس والطاهر: فالإبل، والبقر، والغنم، والطيور وغيرها موجودة فضلتها، وهي طاهرة ومباحة، وينتفع بها النبات كما ينتفع بالنجس؛ بل إن الطاهر آمنُ من النجس -كما سنبين إن شاء الله - فإذا وجد البديل -والبديل موجود وهو الزبل الطاهر- فإننا نقول بعدم صحة ما ذكروه من وجود الحاجة؛ لأن الحاجة شرطها: عدم وجود البديل، فالمرأة -مثلاً- إذا وجدت امرأة تقوم بعلاجها وتطبيبها فلا نقول: إنها مضطرة إلى الرجل؛ لأنه مع وجود البديل لا يحكم بالضرورة، ومع وجود البديل لا يحكم بالحاجة إذا سدَّ مسده.
رابعاً: أن الحاجة هنا حاجة كمال، فإن الزبل النجس والرجيع النجس والسماد النجس فيه مضرة أعظم من منفعته، وهذا ثابت، فقد ثبت الآن طبيّاً وجود الأمراض والأضرار من اغتذاء النبات به؛ بل إن المذهب الصحيح من أقوال العلماء: عدم جواز أكل النبات المستصلح من النجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه نهى عن أكل الجلالة)، والآدمي قوته على دفع الضرر أكثر من قوة النبات، ومن المعلوم أنه لو وضع الزبل النجس سماداً للكراث والفجل، فإنه يغتذي منه مباشرة، وكذلك نحوه من المزروعات، فهذه من أعظم ما يكون، حتى ثبت طبيّاً الآن أنها من أعظم ما تكون ضرراً على صحة الناس، وأكثر ما ينشأ فيها من الأمراض مظنة العدوى -والعياذ بالله-، فحينئذٍ نقول: إنه لو لم يحرم بوجود الدليل لحرم لوجود الضرر، والمصلحة والحاجة التي تطلب إنما هي مصلحة كمال وحاجة كمال، وقولنا: (مصلحة الكمال) أي أن هذا النبات يكون بصورة أو بشكل أفضل، لكنه من حيث المضمون -لوجود الضرر فيه- أسوأ وأردأ من الطاهر، وعلى هذا نقول: إنها ليست بحاجة ضرورة، ولكنها حاجة كمال، وفرقٌ بين حاجة الضرورة الموجبة للترخيص، وبين حاجة الكمال التي لا توجب رخصة، خاصة مع وجود البديل.
فالذي يترجح هو: عدم جواز بيع الزبل النجس.
ومسألة الجلالة يقول بعض العلماء -حينما جاءت مسألة بيع النباتات أو اغتذاء النباتات بالنجاسات-: إنّ الجلالة -كالبقرة أو الشاة أو الدجاجة- تتغذى بالنجاسات وتأكل النجاسات، فحينئذٍ تتضرر وتتأثر بهذه النجاسات، ومع أنّ في جسم الإنسان من القوة على دفع الضرر أكثر من النبات -وهذا ثابتٌ طبياً: أن قوة جسم الآدمي على دفع السموم أقوى من غيره؛ وذلك لما خلق الله فيه وفضَّله على كثير ممن خلق، فجعل فيه خاصية أقوى من غيره- فمع هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة حتى تحبس ويطيب لحمها بالمباح، فهذا يدل على التأثر بالاغتذاء بالنجس، وإذا كان هذا في البهيمة مع أنها أقدر على الدفع وقلة التأثر أكثر من الزروع التي تكون على وجه الأرض؛ فمن باب أولى ما هو دونها، وعليه: فإنه لا يجوز بيع الزبل النجس ولا شراؤه؛ وذلك لأن الأصل الموجب للتحريم يقتضي منع هذا النوع من البيع، وليس ثمَّ دليلٌ يوجب الترخيص.(145/5)
أنواع الأدهان والزيوت وأحكام بيعها
قال رحمه الله: [والأدهان النجسة والمتنجسة].
الأدهان: جمع دهن، وهو يشمل الزيوت والطيب وغيرها، فمثلاً: السمن نقول: هو دهن؛ لأنه يمكن أن يكون طعاماً، ويمكن أن يدهن به الإنسان، وكذلك زيت الزيتون، وزيت الذرة، وزيت السمسم، فكل هذه تسمى بالأدهان.
والأدهان تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أدهان طاهرة.
القسم الثاني: أدهان غير طاهرة.
فالأدهان الطاهرة: كزيت الزيتون، وزيت السمسم، وزيت الذرة، وغيرها من الزيوت الطاهرة.
والزيت غير الطاهر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: زيتٌ نجس.
القسم الثاني: زيتٌ متنجس.
أمّا الزيت النجس فهو الذي يستخلص من عين نجسة، مثل: الزيت الذي يؤخذ من شحوم الميتة؛ فإنه زيتٌ نجس، أي: عينه نجسة، فمهما غسلته ومهما فعلت به فلا يمكن أن يطهر.
وأما الزيت المتنجس، فأصله طاهر، كزيت الزيتون مثلاً؛ ولكن وقعت فيه نجاسة كقطرات بولٍ، فحينئذٍ يتنجس، ومن هنا حكمنا بتنجسه.
أمّا بالنسبة للزيت الطاهر فلا إشكال في جواز بيعه، والزيت النجس لا إشكال في حرمة بيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن شحوم الميتة وذكروا له: (أنه يُطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، قال: لا، هو حرام)، أي: بيعها؛ لأن أصل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الله ورسوله حرم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، قالوا: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟! قال: لا، هو حرام).
وقد اختلف العلماء في قوله: (لا، هو حرام) هل الضمير عائد على طلي السفن ودهن الجلود والاستصباح بها -لأن السفن تمشي على البحار والأنهار، فوجود الزيت يدفع عنها الماء، ولذلك لا يتشرب الخشب للماء- فحينئذٍ يحرم أن يُطلى بها، ويحرم أن يدهن بها، ويحرم أن يستصبح بها، أم أن الضمير في قوله: (لا هو حرام) عائد على البيع؛ لأن أصل الحديث: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة)، فسألوه عن شحوم الميتة وقالوا: إن فيها منفعة، فهل يجوز بيعها؟ والقاعدة: (أن السياق والسباق محكم)، وسياق الحديث وسباقه كان في الكلام على البيع، فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن شحوم الميتة من جهة بيعها من أجل الطلاء والدهن والاستصباح فقال: (لا، هو حرام)، وهذا أقوى، وهو أنه عائدٌ على البيع، ومن هنا يعتبر الحديث أصلاً في تحريم بيع الزيت النجس، وأما الزيت المتنجس ففيه تفصيل سنذكره.(145/6)
حكم الزيوت المشتقة من البترول
إذاً: الزيوت المستخلصة من الميتة نجسة، لكن يبقى الكلام عن مسألة عارضة الآن يكثر الكلام حولها، وهي: مسألة الزيوت البترولية، وما يشتق من البترول، والسبب الذي جعل بعض طلاب العلم تلتبس عليه هذه المسألة: أنهم كانوا يقولون: إن أصل البترول من الحيوانات القديمة التي ماتت ثم ضغطت بين أطباق الأرض، ثم مع فعل الحرارة وسخونة الأرض تحولت إلى بترول، وهذا القول أنبه على أنه قول أهل الطبيعة الذين لا يؤمنون بوجود الله جل جلاله، كما أخبر الله عز وجل أن الإنسان كفور مبين، وكفره من أكفر ما يكون -نسأل الله السلامة والعافية- فالله تعالى يغدق عليه ويسكن له كنوز الأرض في الأرض، ويعطيها له سهلةً ميسرة ليقول: لا إله إلاّ الله، وليقول: الحمد لله، لكنه يقول: لا، منذ ألف مليون سنة كان يوجد حيوان اسمه (الديناصور)! ألف مليون سنة متى كانت؟! لا يوجد أكذب من الكافر إذا كذب على ربه؛ لأنه كفر بالله فطمس الله على قلبه وعلى بصيرته، ثم هذا (الديناصور) ما لقي أن يتوفى وأن يموت إلاَّ داخل المحيط! وممكن أن تقبل أنه توفي على وجه الأرض؛ لكن ما الذي ذهب به إلى أعماق المحيطات حتى يوجد البترول في أعماق المحيطات -تكذيباً لهم -؟ فهم لا يريدون أن يقولوا: إن الله هو الذي أوجده، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن في الأرض كنوزاً، وأن الله قدر في الأرض أقواتها منذ أن خلقها، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من علامات الساعة أن تخرج الأرض كنوزها)، وهذا يدل على أن الله أوجدها فيها، فنحن لا نقول بما يقوله الكفار، ولكن نقول: إن الذي أوجده هو الله، وهو نعمة من الله سبحانه وتعالى، والله على كل شيء قدير، ولو كان الأمر كما ذكروا وكما زعموا، فإن هذه المقابر الموجودة منذ سنوات عديدة مديدة ما وجدنا تحتها البترول، ولا وجدنا أنها تتحول إلى زيوت ولا إلى طبقات معينة من الأرض، لكن -كما ذكرنا- هو كفرٌ بالله وعدم تسليم بوحدانيته عز وجل، فيردون كل شيء إلى الطبيعة: وهو أن الأشياء وجدت صدفة! وأن الإنسان ينظر إلى هذه الأشياء على أنها أشياء طبيعية.
ومن أجل ذلك نشأ عند البعض شعور بأنه ما دام أن (الديناصور) قد مات فيعتبر ميتة، وشحم الميتة نجس، فمعنى ذلك: أن البترول نجس، وأن كل ما يتولد من البترول نجس، وهذا خطأ، فإن البترول طاهر، وجميع ما يُشتق منه طاهر، سواءٌ كان زيتاً أو كان بنزيناً أو غير ذلك من المشتقات، فهي كلها طاهرة؛ لأن الأصل أنها طاهرة، وليس هناك دليل يدل على نجاستها.
وبناءً على هذا: فلا يدخل في مسألة الزيوت النجسة والمتنجسة ما يشتق من البترول، فهو ليس بنجس ولا متنجس، وبيعه جائز وحلال، وهو مما سخره الله لابن آدم لينتفع ويرتفق به، والحمد لله على فضله، وله الشكر على نعمه، لا نحصي ثناءً عليه، جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه، وتعالى الله عما يقول الكافرون علواً عظيماً.(145/7)
أحكام الزيت المتنجس
يبقى النظر في الزيت المتنجس، وفيه مسائل: المسألة الأولى: نحتاج أن نبحث في مسألة: كيف يتنجس الزيت؟ المسألة الثانية: ما هو نوع النجاسة إذا حكمنا بكون الزيت يتنجس؟ المسألة الثالثة: هل يمكن للزيت أن يطهر إذا حكمنا بنجاسته؟ المسألة الأولى: كيف يتنجس الزيت؟ الذي يجعلنا نبحث هذه المسألة أن في الزيت خاصية تختلف عن غيره، فمن الملاحظ أن الزيت إذا وقعت فيه قطرة ماء فإنها لا تدخل في الزيت وتتحلل فيه، بل لو صببت الماء على الزيت لانفصل الماء عن الزيت، وهذا أمر ملموس، فنجد أن للزيت خاصية تدفع ولا تمكّن غيره من الامتزاج به، ومن هنا قسّم العلماء وقوع النجاسة في الأشياء إلى قسمين: القسم الأول: أن تقع النجاسة فتتحلل في الشيء، كنجاسة الماء والخل والمرقة ونحوها من المائعات، فإن الماء إذا وقعت فيه قطرة البول انتشرت فيه وتحللت، فحينئذٍ يقولون: إن نجاسته نجاسة ممازجة، أي: امتزج الماء مع البول، وهذا أقوى صور التنجيس، ويتأثر الشيء الطاهر بوقوع النجاسة فيه على هذا الوجه.
القسم الثاني: نجاسة المجاورة، وتكون هذه النجاسة بجوار الطاهر، وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إمّا أن تلتصق به.
القسم الثاني: وإمّا أن تكون بجواره فقط، وتأتي الريح فتنقل رائحة النجاسة، فمثلاً: غدير الماء حينما يكون بجواره ميتة؛ كبعير أو بقرة أو شاة، فيأتي الهواء فينقل رائحة النجاسة إلى الغدير، فحينئذٍ يتنجس الغدير بالرائحة، أو ينقل أجزاءها فتقع في الغدير، إذاً: المجاور ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: مجاور ملتصق.
القسم الثاني: مجاور غير ملتصق.
فالمجاور الذي لا يلتصق بالماء لا يضر مطلقاً، لكن إذا التصق به ولم يكن متحللاً، وغير اللون أو الطعم، فإنه يؤثر وجهاً واحداً، وأما إذا غير الرائحة ففيه خلاف؛ لكن الصحيح عند طائفة من العلماء أنه يؤثر، وإلى ذلك أشار بعض العلماء بقوله: ليْسَ المجاَوِرُ إِذَا لَمْ يِلْتَصِقْ يَضَرُّ مُطْلَقَاً وَضَرَّ إِنْ لَصِقْ فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ بِالاتِّفَاقِ كَالرِّيْحِ فِيْ مُعْتَمَدِ الشِّقَاقِ نرجع إلى مسألة الزيت إذا وقعت فيه نجاسة: فيقولون: إنها نجاسة مجاورة ملاصقة؛ لأنها وقعت في داخل الزيت، لكنها لا تتحلل ولا تنتشر، فاختلف العلماء رحمهم الله في هذا النوع من النجاسة، وقد قلنا: إن الزيت تنجس، وحكمنا بأن نجاسته نجاسة مجاورة، وليست بنجاسة ممازجة ومخالطة.
يبقى السؤال الثالث والأخير وهو الذي عليه مدار المسألة التي سنذكرها في البيع وهي: إذا تنجس الزيت فهل يمكن تطهيره، أو لا يمكن تطهيره؟ قال بعض العلماء: إذا تنجس الزيت فلا يمكن تطهيره، وعند هؤلاء تنتقل المسألة إلى المسألة الأولى وهي بيع الزيت النجس، فعندهم أن النجس والمتنجس حكمه واحد؛ لأنهم يرون أن الزيت إذا تنجس فلا يمكن تطهيره، وهذا هو القول الأول.
القول الثاني: أن الزيت إذا تنجس فإنه يمكن تطهيره، ولتطهيره طريقتان: الطريقة الأولى: يسموها: طريقة الطبخ.
الطريقة الثانية: يسمونها: طريقة الغسل.
فأمّا طريقة الطبخ فهي أن توقد النار تحت الزيت فيغلي، وإذا غلى فإنه تتبخر النجاسة ويبقى الزيت، فإذا وقع فيه البول وغلي غلياناً شديداً فإنه يتبخر البول لخاصية في الزيت، ولو ترسب شيء قليل لكنه لا يؤثر، خاصة إذا كان الزيت كثيراً، فيقولون: إنه يحكم بطهارته في هذه الحالة.
الحالة الثانية: أن يغسل الزيت،
و
السؤال
كيف يغسل الزيت؟ أو كيف يمكن غسل الزيت؟ هل يعصر، أم يوضع في خلاطة؟ وهذا يحتاج إلى نظر، فقد قال بعض العلماء: غسل الزيت المراد به طهارة المكاثرة، فمثلاً: إذا وقعت قطرة من البول في الزيت، فتصب عليه ماءً طهوراً أضعاف أضعاف القطرة من البول، بحيث لو خالط ذلك الماء البول فإنه يذهب عنه وصفه بالنجاسة، وتطهر النجاسة بهذا الماء؛ لأنها ستختلط مع الماء، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم صبّ على بول الأعرابي ذنوباً من ماء، وقد كان البول قليلاً والماء كثيراً، فلما ورد الكثير من الماء على القليل من النجاسة طهرت النجاسة، فحينئذٍ قالوا: إذا كان في الوعاء قطرة من البول، فيأخذ (فنجاناً) مثلاً من الماء الطهور ويصبه، فيختلط مع النجاسة، فتصبح النجاسة منعدمة التأثير، ثم بعد ذلك تسحب بطريقة عند المختصين، فيسحبون الماء بالنجاسة، وحينئذٍ يبقى الزيت طاهراً على أصله.
لكن لماذا ذكرنا هذه المسألة هنا مع أنها من مسائل الطهارة؟ ذكرنا هذه المسألة؛ لأن الصحيح أن الزيت إذا وقعت فيه النجاسة، وكانت نجاسته ليست عينية مثل زيت الميتات؛ فإنه يمكننا أن نطهره، فحينئذٍ لو باع رجلٌ زيتاً متنجساً فإنه يمكنه أن يزيل هذه النجاسة، فيصبح في حكم من باع ثوباً متنجساً، والمتنجس ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يمكن تطهيره.
القسم الثاني: ألاَّ يمكن تطهيره.
والذي يمكن تطهيره مثل الثوب، فلو جاء شخص وفي ثوبه دم نجس أو قطرة من البول، وقال: سأبيع هذا الثوب بعشرة ولكن فيه نجاسة، فنقول: بالإجماع أن البيع صحيح؛ لأن هذه النجاسة يمكن إزالتها، فليست مؤثرة في بيع الثوب، وليس هذا من باب بيع النجاسات؛ لأن العين طاهرة، ومن هنا فإذا قلنا: إن الزيت لا يتطهر، فلا يدخل في هذا؛ لأنه من باب بيع الأعيان النجسة؛ لكن إذا كان الزيت يمكن تطهيره بالطبخ وبالغسل، فحينئذٍ من باع زيتاً متنجساً، فإنه كمن باع ثوباً متنجساً، فكما أنه يأخذ الثوب ويغسله، كذلك يأخذ الزيت ويغسله، ومن هنا يقوى القول بأنه يجوز بيع الزيت المتنجس.
والذي لا يمكن تطهيره ببقاء عينه مثل السكر، فلو أن السكر وقع عليه بول وتنجس، فإنه لا يمكن تطهيره؛ لأنه إذا صُبَّ عليه الماء ذاب، فلا يمكن تطهيره ببقاء عين السكر؛ لكن لو أنه أخذ ماءً كثيراً وصبه على السكر حتى تحلل، بحيث صار الماء أضعاف النجاسة الموجودة في السكر؛ فإنه يكون طاهراً، لكن أن تبقى عين السكر فلا يمكن.
إذاً: هناك شيء يمكن تطهيره مع بقاء عينه، وهناك شيء لا يمكن تطهيره إلاّ بذهاب عينه، فبالنسبة للزيت يمكن تطهيره مع بقاء عينه مثل الثوب، وعليه فإنه يجوز بيع الزيت المتنجس؛ لكن بشرط: أن يُبين أنه متنجس، ولذلك نقل ابن رشد عن القائلين بجواز بيع الزيت المتنجس في البداية فقال: وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه -أي: الزيت المتنجس- إذا بيّن، أي: قال للمشتري: إنه نجس؛ والسبب في هذا: أن الزيت يؤكل ويدّهن به، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنه من شجرة مباركة)، فلو أخذه وهو متنجس، فإنه مظنة أن يدهن به فيتنجس، ومظنة أن يأكله وهو متنجس، ولا يجوز أكل المتنجس، ومن هنا قال العلماء: شرط جواز بيعه إذا بيّن البائع للمشتري أنه متنجس.(145/8)
حكم الاستصباح بالزيوت النجسة في المسجد وفي غيره
قال رحمه الله: [ويجوز الاستصباح بها في غير مسجدٍ].
الاستصباح: وضع الزيت في المصباح؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل في الزيت خاصية ومنافع، ومنها: أنه يستضاء به، ولذلك ضرب الله المثل بالمشكاة فيها مصباح فقال: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُور} [النور:35]، وهذه من أغرب الآيات في الأمثال في كتاب الله عز وجل، حيث جعل الله عز وجل نور الوحي مع نور العقل: (نُورٌ عَلَى نُور)، ولا يمكن لأحد أن يبصر بأحد النورين دون الآخر، فمثلاً: لو أن إنساناً كفيف البصر جيء به أمام الشمس، فإنه لا يمكن أن يبصر؛ لأنه فقد النور الداخلي، ولو أنه جيء بمبصرٍ ووضع في كهف مظلم، فلا يمكن أن يبصر مع وجود النور الداخلي، لكن النور الخارجي غير موجود، فاحتاج المبصر إلى نور داخلي ونور خارجي، وكذلك الإنسان يحتاج إلى نور العقل -وهو داخلٌ فيه- ونور الوحي، ولذلك قال سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُور} [النور:35]، فمن كان عاقلاً ولا يهتدي بالوحي فإنه لا يمكن أن يهتدي؛ لأنه يحتاج إلى وحي الرسل، ولو كان مجنوناً وجيء بالوحي فلا يمكن أن يقبل، ولا يمكن أن يفقه، ولا يمكن أن يعلم، ولا يمكن أن يهتدي؛ لأنه يحتاج إلى النورين.
والله سبحانه وتعالى جعل الزيت نوراً، وجعله مما يستصبح به ويستضاء، فقال: (زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ)، قيل: إن البستان الشرقي يتعرض للشمس أكثر، والغربي يضعف تأثير الشمس عليه؛ لأنه لا تأتيه الشمس إلا عند الغروب وقد ضعف شعاعها؛ لكنه حينما يكون في الوسط فإنه يكون من أنفع وأصلح ما يكون، وقيل: إنها (لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ) إشارة إلى طور سيناء؛ لأنه أفضل منابت الزيتون، فهو ليس بشرق الأرض ولا بغربها، وإنما في وسط الأرض.
الشاهد: أن الله سبحانه وتعالى جعل في الزيت منافع منها: الاستصباح، فذكر المصنف أنه يجوز الاستصباح بالزيت النجس في غير المسجد، ونحن الآن نبحث في مسألة البيع، فما الذي أدخل مسألة الاستصباح؟
الجواب
أنه كما ذكرنا غير مرة أن العلماء يذكرون المسائل بالمناسبات، فهنا يتكلم على الزيت النجس، فأدخل أو ألحق مسألة الاستصباح بالزيت النجس، وبعض العلماء يغتفر إدخال مسألة الاستصباح؛ لأنه قد يباع من أجل أن يوضع في المصباح وهو متنجس، فيرد
السؤال
هل يجوز هذا الزيت، أم لا؟ أما بالنسبة للاستصباح بالزيت النجس فإن كان في غير المساجد فإنه يجوز عند من قال بجواز الاستصباح به، وأمّا في المساجد فقد اختلف العلماء: فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من أجازه؛ لأنه لا يرى أن دخان النجاسة نجس، ويرى أنه حكم متحلل إلى مادة غير المادة الأصلية، ومن هنا أجاز أصحاب هذا القول الطبخ بالنجاسات، فلو جمع نجاسة وأوقد النار فيها وطبخ عليها طعاماً فقد أجازوه؛ لأنهم يرون أنه إذا طبخ انتقل وتحول إلى مادة غير المادة التي منع الشرع الانتفاع بها.
ومنهم من فصّل: فأجاز بشرط ألا يتحول الدخان إلى داخل المسجد، كأن يوضع في كُوّة من وراء زجاجة، فإن الكُوّة إذا هبَّ الهواء أخرج الدخان إلى الخارج، ويكون الفضل فضل الزجاج لوجود الضياء على داخل المسجد، والكوّة من الخارج لا من داخل المسجد، فهذا معنى الاستصباح به من خارج المسجد لا من داخله، وعلى هذا يقول المصنف: (ويجوز الاستصباح بها)، أي: وضع الزيت المتنجس في المصباح من أجل أن يوقد عليه.(145/9)
من شروط صحة البيع: ملكية البائع والمشتري أو من في مقامهما
قال رحمه الله: [وأن يكون من مالك أو من يقوم مقامه].
هذا هو الشرط الرابع لصحة البيع: فقوله: (وأن يكون من مالك)، أي: أن يصدر البيع والشراء من مالك، وهذا يشمل الثمن والمثمن البائع والمشتري، فلابد أن يقع البيع والإيجاب والقبول من شخص مالك، بمعنى: أن الشيء الذي يبيعه ملكٌ له أو مأذونٌ له بالتصرف فيه الإذن الشرعي، والإذن الشرعي يشمل: الولاية العامة، والولاية الخاصة، فالولاية الخاصة من الشخص نفسه؛ كالوكيل والوصي، والولاية العامة كالقاضي إذا باع مال السفيه ومال اليتيم ونحو ذلك.
إذاً: يُشترط في صحة البيع أن يكون من يبيع مالكاً، فيشترط أن يكون مالكاً للمال الذي يدفعه لك، أو أُذن له بدفعه والتصرف فيه، ويشترط إذا أعطاك سيارة أو أعطاك داراً أو أعطاك أرضاً أن يكون مالكاً للسيارة والدار والأرض؛ لأنه إذا باعك شيئاً لا يملكه فإنه يكون حينئذٍ قد تصرف في شيء ليس من حقه أن يتصرف فيه، فيكون إيجابه وقبوله وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، وقوله: (بِالْبَاطِلِ) أي: بدون وجه حق، والذي يبيع مال أخيه المسلم بدون إذنه وبدون إذن من الشرع، فإنه قد باع المال بالباطل، وإذا أخذ في مقابله مالاً فقد أخذه بالباطل؛ لأنه بغير وجه حق.
وقال الله عز وجل: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فاعتبر رضا المالك الحقيقي، فدلَّ على أنه إذا لم يرض ولم يكن البيع منه أو بإذنه فإنه لا يصحُّ البيع، ووجوده وعدمه على حد سواء، وترجع السلعة إلى مالكها الحقيقي، فلو أن شخصاً أخذ سيارتك ليذهب بها إلى مكان فباعها، أو أجرته دارك فباع الدار، أو بعته ثمرة المزرعة فباع المزرعة، فالبيع في جميع هذه الصور باطل، وهكذا لو اغتصب مال أخيه المسلم ثم باعه فإن المال سحت، وإذا اطلع القاضي على هذا فإنه ينقض البيع ويرد المال إلى صاحبه، ويرد الأرض أو غيرها إلى مالكها الحقيقي.
وقوله: [أو من يقوم مقامه]، أي: مقام المالك، ويشمل هذا من يقوم مقامه بالوكالة، فمثلاً: إذا أذنت لشخص أن يبيع سيارتك فهو وكيل.
والوكيل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: وكيل مطلق.
القسم الثاني: وكيل مقيد.
فالقسم الأول -وهو الوكيل المطلق- يكون مطلقاً إمّا في الثمن، وإما المثمن، وإما فيهما معاً، فمثلاً: إذا قلت لشخص: بع السيارة بمعرفتك أو بخبرتك، فقد جعلته وكيلاً مطلقاً يبيعها على حسب خبرته ونظره ومعرفته، فيكون مطلق التصرف لكن في حدود معرفته وخبرته، أو أن تقول له: بعها كيفما شئت، وبعها بما شئت، فقولك له: (بما شئت) هذا إطلاق في الثمن، أي: بأي ثمن شئت غالياً كان أو رخيصاً، وهذا يسمونه: الإذن بالثمن المطلق، أو الإذن بالبيع المطلق، وقولك له: بِعْ من مالي ما شئت، فلو باع السيارات لصحَّ البيع، ولو باع الأرض لصحَّ البيع، ولو باع الأقلام أو الكتب أو الملابس إلخ لصحَّ البيع؛ لأنك أطلقت له الإذن في المبيع، وأطلقت أيضاً في الصورة الأولى الإذن في الثمن، فإمّا أن تكون الوكالة مطلقة في الثمن، أو مطلقة في المثمن، أو فيهما معاً من البائع والمشتري.
القسم الثاني: أن تكون الوكالة مقيدة، فتقيد الثمن، كأن تقول له: بِعْ هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فإمّا أن تقيد بمبلغ معين، أو تقيد بعرف معين، كأن تقول: بعها بسعر اليوم، فإذا قلت: بعها بسعر اليوم، فإنه لو باعها دون سعر اليوم بطل البيع، وليس من حقه أن يبيعها دون سعر اليوم، وهكذا لو قلت له: بعها بالمعروف، أي: على حسب العرف، فباعها بأقل مما يباع به مثلها، فإنه لا يصحَّ البيع.
إذاً: هذا هو الوكيل المطلق والوكيل المقيد.
كذلك أيضاً الولي يكون وصياً على يتيم، فمثلاً: رجل مات وترك ليتيمه مائة ألف، فإن اليتيم ليس له حق التصرف في ماله؛ لكن القاضي يقيم شخصاً ينظر في مصلحة هذا اليتيم، ويسمى: الولي، أو: ولي اليتيم، أو أن يكون والده قبل موته كتب وصيته أو وصى أشخاصاً وقال: فلان وصي على أيتامي، فحينئذٍ له حق النظر في أموال هؤلاء اليتامى، فيبيع ويشتري في حدود المصلحة.
هذا بالنسبة للمأذون له بالتصرف في المال، ويدخل في هذا إذا أذن السيد لعبده، فإن العبد لا يملك، وكذلك إذا أذن الولي للصبي أن يبيع بمالٍ معين أو بطريقة معينة، المهم: أن يكون البائع والمشتري مالكاً، أو يكون مأذوناً له بالتصرف بولاية عامة كالقاضي، أو بولاية خاصة كولي الأيتام ومن يقوم عليهم، أو الوصي عليهم.(145/10)
حكم التصرف في ملك الغير بالبيع أو الشراء
قال رحمه الله: [فإن باع ملك غيره، أو اشترى بعين ماله بلا إذنه لم يصحّ].
قوله: (فإن باع) الفاء للتفريع، فإذا تقرر أنه يشترط أن يكون مالكاً فإنه يتفرع عليه إن باع ملك غيره لم يصحَّ البيع؛ لأن هذا المال لا يملكه، ومن هنا يكون قوله: (بعتك) لشيء لا يملكه، ولا يجوز بيع مال المسلم ولا استباحة مال المسلم بدون حق، ولذلك أجمع العلماء على أن من باع مال غيره بدون إذنه ولا رضاه ولم يرض المالك الحقيقي، فإن البيع لا يصح، وينتزع المال ويرد إلى صاحبه الأصلي، وهكذا من اغتصب أرضاً وباعها، أو اغتصب سيارة وباعها، فإن البيع فاسد، إلاّ إذا أجازه المالك الحقيقي -كما سيأتي-.
وقوله: (أو اشترى بعين ماله) ذكرنا أن البيع والشراء إمّا أن يقع على معين، أو على موصوف في الذمة.
فالمعين كأن يقول له: خذ هذه العشرة آلاف أمانة عندك إلى نهاية محرم، أو خذ هذه العشرة آلاف وأعطها إلى محمد، فحينئذٍ تكون العشرة آلاف معينة، وقد تكون في الذمة، فمثلاً: يقول له: خذ من الصندوق عشرة آلاف وأعطها محمداً، فحينئذٍ تكون موصوفة، فأي عشرة آلاف يصدق عليها؟ نقول: إذا قال له: خذ هذه العشرة، وحددها وعينها، فإن عين المال أمانة ووديعة عندك فلا يجوز أن تتصرف بعين المال هذا، بل تؤدي عين المال كما أمرت إلى صاحبه، فلو أنك تصرفت في عين هذا المال، فإنه يجب عليك أن ترجع عين المال، فلو طالبك بعين العشرة آلاف فإنك تذهب وتأخذ عين العشرة آلاف من البائع وتردها إليه، أو تعقد معه عقداً جديداً، على تفصيل عند العلماء في بيع الأعيان، ثم ترد عين المال؛ لأن عين المال لا تستحقه، وليس من حقك التصرف فيه إلاّ بإذن مالكه الحقيقي، ويدك يد أمانة فينبغي أن تحفظ المال كما هو، فلما تصرفت فيه ضمنت، وعليك أن ترد عين المضمون، ومن المعروف في قاعدة الضمان: أن من أتلف شيئاً وجب عليه ضمانه، فيضمن العين، فإذا تعذر عليه ضمان العين ذهب إلى المثل، فإذا تعذر المثل انتقل إلى القيمة، هذا هو الأصل في الضمانات، وسنتكلم عليه -إن شاء الله- في باب الضمان.
وهذا هو الذي جعل المصنف يقول: (بعين ماله).(145/11)
بيع وشراء الفضولي صورته وحكمه
قال رحمه الله: [وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمِّه في العقد صحَّ له بالإجازة، ولزم المشتري بعدهما ملكاً].
هذه مسألة بيع وشراء الفضولي، وهذا من دقة العلماء رحمهم الله أنهم ذكروا شرط الملكية، فهنا مسألة وهي: أن يأتي شخص ويتصرف في ملكك بدون إذنك، ثم تنظر في تصرفه فإذا به تصرف حميد وتصرف رشيد، فترضاه، فهذا يسمى بمسألة بيع الفضولي وشراء الفضولي، فمثلاً: قال لك رجل: أعطني سيارتك لأذهب بها إلى الجامعة، فلما خرج جاءه رجل وقال: بعني هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: بعتكها بعشرة آلاف، وتم البيع بينهما بعشرة آلاف، ولما رجع قال لك: هذه عشرة آلاف قيمة السيارة، فقلت: قد رضيت، فهذا هو بيع الفضولي.
مثال آخر: أعطيته عشرة آلاف وقلت له: ضعها في البنك، أو احفظها لي، فأخذ العشرة آلاف واشترى لك بها سيارة، وعلم أن السيارة تستحق ذلك، ورأى أن من المصلحة أن تستثمرها في السيارة، فاشتراها لك وجاءك وقال: العشرة آلاف التي أعطيتنيها قد اشتريت لك بها سيارة، فهذا هو شراء الفضولي، إذاً: فما الحكم في هذه المسألة؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله، وهي بيع الفضولي وشراؤه، والفضولي: هو الذي يبيع ويشتري بدون إذن شرعي، وهذا تعريف لبعض العلماء، فخرج بقولهم: (بدون إذن شرعي) من وكّل وكالة شرعية، أو كان وصياً شرعياً، أو كان وليّاً، فإن هؤلاء لهم إذنٌ شرعي، ويدخل في الفضولي بقولهم: (بدون إذن شرعي) بيع الغاصب، وعلى هذا فإنه إذا باع الفضولي أو اشترى فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: صحة البيع وجوازه إذا رضيه المالك الحقيقي، أي: يتوقف الأمر على المالك الحقيقي، فإذا رضي بالبيع وأقره صحَّ البيع ونفذ، وهذا هو مذهب المالكية، والشافعية في القول القديم، وهو مذهب الحنابلة في رواية قيل: إنها هي المشهورة في المذهب، وعليه فيجعلونه مذهباً للجمهور.
القول الثاني: صحة البيع دون الشراء، أي: يصحُّ بيع الفضولي دون شرائه، وهو مذهب الحنفية.
القول الثالث: عدم صحة بيع وشراء الفضولي مطلقاً، وهذا هو مذهب الشافعية.
إذاً: في هذه المسألة ثلاثة أقوال فأين محل الخلاف؟ نقول: العلماء متفقون على عدم صحة البيع إذا لم يجزه المالك الحقيقي، وكلهم متفقون على أن البيع فاسد، ويبقى الخلاف فيما إذا أجازه المالك الحقيقي فهل يصحُّ، أم لا يصح؟ ثم ينحصر الخلاف بين قول التفصيل والقول بعدم الجواز وبالجواز مطلقاً في حدود الحالات التي ذكروا جوازها، أعني: صحة البيع دون الشراء.
أما الذين قالوا: إن بيع الفضولي وشراءه صحيح إذا أجازه المالك الحقيقي، فقد استدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أعطى عروة بن أبي الجعد البارقي ديناراً يوماً من الأيام وقال له: (اشتر لنا من هذا الجلب شاة، فذهب عروة فاشترى شاتين بدينار، ثم باع إحدى الشاتين بدينار، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، فقال: يا رسول الله! هذه شاتكم وهذا ديناركم، فدعا له عليه الصلاة والسلام بالبركة، وقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه)، وهذا من باب المكافأة على المعروف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكافئ من أحسن إليه، فعندما قال له: (هذه شاتكم وهذا ديناركم)، عرف ماذا قصد، فرضي البيع وقال: (اللهم بارك له في صفقة يمينه)، فكان هذا الصحابي لو اشترى تراباً لربح فيه، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالبركة في صفقة يمينه.
وموضع الشاهد: أن عروة رضي الله عنه باع بدون إذن واشترى بدون إذن، فاشترى الشاة الثانية بنصف الدينار، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يشتري شاة واحدة، فحينئذٍ وقع شراء فضولي، وباع الشاة الثانية التي هي بنصف دينار بدينار، فوقع بيع فضولي، فصار بيعاً وشراءً من فضولي، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم كلتا الصورتين، فدّل على صحة بيع الفضولي وشرائه إذا أقره المالك الحقيقي.
وأيضاً جاء في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه عندما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتري أضحية، فاشترى للنبي صلى الله عليه وسلم أضحية وباعها بضعف قيمتها، ثم اشترى بنصف القيمة أضحية أخرى مكان التي باعها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأضحية مع المال، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا حديث رواه الترمذي، وحسنه غير واحدٍ من العلماء.
والذين قالوا بعدم صحة بيع الفضولي مطلقاً يستدلون أولاً: بالآية الكريمة: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، قالوا: الأصل عدم جواز بيع وشراء الإنسان لما لا يملك، وبيع الفضولي وشراؤه لما لا يملكه.
ثانياً: حديث حكيم بن حزام أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الرجل يسألني المتاع أو الشيء ليس عندي، فأبتاعه له ثم أبيعه، فقال صلى الله عليه وسلم له: لا تبع ما ليس عندك)، فنهاه أن يبيع ما ليس عنده، قالوا: والفضولي يبيع ما ليس له وما ليس عنده، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان لما لا يملك بهذا الحديث.
وأما الذين فرقوا وقالوا: يصحّ أن يبيع لك الفضولي إذا أقررته وأجزته، ولا يصحّ شراؤه مطلقاً، فاستدلوا بنفس حديث عروة البارقي.
وباختصار: حديث عروة البارقي يقول الإمام أبو حنيفة: لقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اشتر لنا)، فأذن له بالشراء، وكونه يشتري شاة أو شاتين فعنده إذن مسبق، لكن أين وقع الفضول؟ وقع في بيعه للشاة بعد شرائه، فصار الحديث حجة على جواز بيع الفضولي دون شراء الفضولي، إذاً يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اشتر لنا من هذه الجلب شاة)، فعند عروة إذن مسبق بالشراء كقاعدة عامة، ولكن ليس عنده إذن مطلق بالبيع، بل حتى إذن خاص بالبيع، فتصرفه الفضولي الذي لا أذن فيه وقع في البيع ولم يقع في الشراء؛ لأن الشراء له إذن مسبق، وقد صح بيعه فضولاً.
وعلى هذا قالوا: يصحّ بيع الفضولي دون شرائه، ثم قالوا: من جهة العقد حينما يبيع لك الشيء أفضل مما يشتري لك؛ لأنه إذا باع لك الشيء جاءك بالقيمة، والقيمة تستطيع أن تشتري بها نفس الشيء، وتستطيع أن تعوض بما هو أفضل منه، لكن حينما يشتري لك فإنه يأتي لك -مثلاً- بالسيارة وأنت لا تريدها، أو يأتي لك بأرض لا تريدها؛ إذاً حينما يبيع لك ويعطيك النقد فإن النقد يصلح لشراء الكل.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- من هذه الأقوال: القول بصحة بيع الفضولي وشرائه؛ لأن حديث عروة البارقي صحيح في هذا، وقول الإمام أبي حنيفة: أنه أذن له بالشراء، محل نظر؛ لأننا نقول: إنما أذن له بالشراء مقيداً، ووقع تصرف عروة البارقي خارج المقيد، فكان فضولاً من هذا الوجه.
ومن هنا يستقيم مذهب الجمهور: أن بيع الفضولي وشراءه موقوف على إجازة المالك الحقيقي، وأنه متى أجازه حكم بصحة البيع ونفوذه.
والله تعالى أعلم.(145/12)
الأسئلة(145/13)
كيفية تطهير النجاسة الجامدة
السؤال
ذكرتم طريقة تطهير الزيت من النجاسة المائعة، فكيف يطهر من النجاسة الجامدة، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالنجاسة الجامدة أهون من المائعة؛ وذلك لأن تحللها وذوبانها أيسر بكثير من المائع، والتصاقها بالغير أخف، والمائعات تنقسم إلى قسمين: فمنها ما يتجمد كالسمن، فإن السمن إذا وقعت فيه نجاسة جامدة تلقى النجاسة وما حولها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في السمن إذا وقعت فيه الفأرة وهو جامد أن تلقى وما حولها، فتأخذ ما لامس الفأرة أو ما لامس الجرم النجس الجامد وتحتاط ثم تلقيه، وبذلك يحصل التطهير؛ لأنها مستقرة في المكان ولا تتجاوزه، خاصة في حالة كون السمن جامداً.
وفي هذه الحالة يكون الجامد من الزيت ما جاور النجاسة الجامدة، فتنتزع ويصب الماء في موضعها، أو يصب في حال وجود النجاسة المائعة حتى يحاذي ما حولها، والأمر أخف بكثير من النجاسة المائعة؛ لأن الجامد يمكن نقله؛ ولكن المائع يصعب نقله إلاَّ في أحوال مخصوصة.
والله تعالى أعلم.(145/14)
حكم بيع وأكل النبات المسقى بماء نجس
السؤال
ما حكم شراء وأكل النباتات التي تسقى بماء نجس، أثابكم الله؟
الجواب
ذكرنا أن النبات المتغذي بالنجس سواءً كان سماداً أو كان ماءً نجساً يسقى به، فهذا الأصل عدم جوازه، ولا يجوز أكله؛ لأنه متنجس على أصح قولي العلماء، والأطباء يذكرون أن هذا يضر بالصحة كثيراً، وينقل العدوى في كثير من الأمراض، فلو لم يحرم من جهة النجاسات لحرم من جهة الضرر؛ لأن شرط صحة البيع ألا يكون مشتملاً على الضرر، ولذلك نص العلماء على أن السم لا يجوز بيعه؛ لأنه لا منفعة فيه؛ بل فيه ضرر، فإذا كان المبيع فيه ضرر على الصحة وقرر الأطباء ذلك فإنه لا يحوز بيعه.
والله تعالى أعلم.(145/15)
فضل طاعة الوالدين
السؤال
هل يجوز للوالد بيع سيارة ابنه من غير إذنه، أثابكم الله؟
الجواب
لو باع والدي لباركت بيعه ورضيته، ولا يستطيع الإنسان البار الموفق أن يقف في وجه والده، وأن يبلغ بالابن أن يسأل والده عن بيعه لسيارته، فالإنسان ينبغي عليه أن يتعاطى البر، وأن يعلم أن الخير كله بعد توحيد الله في بر الوالدين، وأنه إذا رضي الوالد ورضيت الوالدة فقد نعم عيشه وطابت حياته، وأنه يبلغ بالإنسان الخسة واللوم والدناءة ونسيان الفضل ونكران الجميل إذا أصبح يقف في وجه والده لعرض من الدنيا، والله تعالى قد يبتلى الإنسان بوالد يضيق عليه في الدنيا؛ ولكن الله يوسع عليه بهذا الضيق في الآخرة، والإنسان العاقل الحكيم يحفظ العهد، قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان)، ومن تذكر كم أنفق عليه والده، وكم تحمل من أجله، وكم أسدى إليه من الخير والمعروف؛ فإنه يحس أنه كالمملوك لوالده، وأنه لا يستطيع أن يجزي والده إلا بالدعاء، وأمور الدنيا أحقر وأهون من أن تقف بين الإنسان وبين رضوان الله عز وجل، وَمَنْ هذا الذي يستطيع أن يرفع وجهه في وجه أبيه ويقول له: لم بعت سيارتي؟! وقد ذكروا عن رجل أنه كان من أبر الناس بوالده، وفتح الله له من أموال الدنيا ما الله به عليم، وكان لا يشتري الصفقة بعض الأحيان بمئات الألوف إلا بإذنه، وقد يأتيه والده ويقول له: اكتب لي مزرعتك الفلانية، فلا يمكن أن يراجعه، بل يكتب له جميع ما يملك، وأصبح في رغد من العيش ونعمة ضافية، وخير كثير، مع ما حازه من رضا والده.
ومما ذكروا أن رجلاً جمع مالاً قرابة الاثني عشر ألفاً، وكان هذا المال يحتاجه لزواجه، وكان والده منهمكاً في بناء عمارة، فدخل على والده يوماً فإذا به حزيناً، فقال: ما بك يا والدي؟ فقال: فلان -الذي هو المقاول- يطالب بماله، فما كان منه إلا أن ساورته نفسه أن يعطي والده ما عنده مما يريد أن يعف به نفسه عن الحرام ويرتفق به في حياته، فتردد وتلكأ، قال: حتى وفق الله سبحانه وتعالى وشرح صدري، فقمت إلى المال وقلت: هو أهون من أن يحول بيني وبين رضوان الله عز وجل، فجاء بالمال فوضعه بين يدي والده، فحلف الوالد أن لا يأخذه، وحلف هو أن يأخذه، حتى أصر على والده وهو بنفس طيبة، فلما رأى الوالد منه ذلك بكى وسأل الله عز وجل أن يرضى عنه، وأن يفتح له أبواب الخير، قال: فقمت من عند والدي وأنا أشعر بسعادة عظيمة، ومكث قرابة أسبوع، فإذا برجل ثري في المدينة يدعو صديقه، يقول: فحضرت معه، قال: فلما جلسنا بعد أكل الطعام، اشتكى هذا الثري لصديقه وقال -وكانت عنده أموال كثيرة-: أحتاج إلى وكيل، أي: شخص أمين يتوكل عن ماله، فقال له: لا أعرف لك أكثر أمانة من هذا الرجل -الذي هو البار- فما كان منه إلا أن عينه وكيلاً على أراضيه، وكانت أيامه في بيع الأراضي والعقارات، يقول: فأول صفقة جاءتني ربحت فيها مائة وعشرين ألفاً!! فانظر (اثنا عشر ألفاً) أعطاها لوالده فردها الله عليه عشرة أضعاف! مع ما له من الرضا من الله سبحانه وتعالى، ومع ما ينتظره من حسن العاقبة؛ لأن البار يفتح الله له أبواب الخير، ومن رضوان الله على العبد أن يفتح له أبواب البر، ولا يعطى البر إلا من رضي الله عنه؛ لأن من رضي الله عنه فله الرضا، نسأل الله العظيم أن يرزقنا هذا الرضا للوالدين أحياءً وأمواتاً، فإن كمال البر لا يقتصر على الحياة، بل أصدق ما يكون البر بعد الموت؛ لأن بعض العلماء يقول: إن أصدق البر بعد الموت؛ لأنه لا أحد يعلم أنك تقدم لوالدك هذا الشيء إلا الله جل جلاله.
وقد جاء رجل إلى ابن عباس وهو يبكي فقال: لقد كنت أعق أبي عقوقاً كثيراً، فقال له: أكثر من الاستغفار له بعد موته والترحم عليه؛ فإن الله يبلغك بره بعد موته كما فاتك بره في حياته.
فالإنسان الذي يريد الخير عليه أن يبر والديه، وقد تأذن الله بالرضا لمن رضي عنه والداه، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رضي الله على من أرضى والديه)، فهو في سعادة وفي حسن عاقبة.
ولقد شهدت من العلماء والعقلاء والحكماء وأجد كلمتهم متفقة على أنهم ما وجدوا البار إلا في خير عيش، ولو كان فقيراً مرقع الثياب، فإنه يعيش في سعادة البر، وقال أحد من أثق به من العلماء رحمهم الله -وقد سمعتها من أحد كبار السن-: (والله ما رأيت باراً ساءت خاتمته).
وذلك إن كان عن إيمان وإخلاص لله جل جلاله، وإلا فالكافر قد يبر، لكن قصدنا المؤمن الذي يبر لوجه الله ومرضاته، وطاعةً لله سبحانه وتعالى.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرضى عن والدينا، وأن يرحمهم كما ربونا صغاراً، ونسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسبغ شآبيب الرحمات على أمواتهم.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم اجعلهم في روضة من رياض جناتك، وأحسن الخاتمة لأحيائهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(145/16)
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [6]
للبيع علامات تدل على صحته، منها: أن يكون للبائع والمشتري يدٌ على المبيع، أو يكون لهما إذن بالتصرف فيه بالبيع والشراء، ومنها: القدرة على تسليم المبيع، ومنها: بيع ما كان معلوماً سواء بالرؤية أو بالصفة، فإن لم تتحقق هذه الأمور في البيع صار بيع غرر، وبيع الغرر هو بيع الشيء المستور العاقبة، وهو مما نهى الشرع عنه، وما ذاك إلا لأنه طريق لأكل أموال الناس بالباطل، ويفضي كذلك إلى النزاع والخصومات، وبه تنعدم الثقة بين المسلمين.(146/1)
الأرض الخراجية وحكم بيعها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة: كأرض الشام ومصر والعراق بل تؤجر].
لا زال المصنف في معرض حديثه عن الشرط الرابع من شروط صحة البيع وهو شرط الملكية، وقد بيّنا أن البيع لا يصحُّ إلاّ إذا كان البائع والمشتري لهما يدٌ على المبيع، سواءً كان ثمناً أو مثمناً، أو يكون لهما إذن بالتصرف في البيع أو الشراء، وبيّنا دليل ذلك من الشرع، وموقف العلماء رحمهم الله من مسألة بيع الفضولي، ثم ختم المصنف رحمه الله بمسألة بيع المساكن في الأراضي التي تفتح في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد بيّنا هذه المسألة، وهي أن الأراضي التي تفتح في الجهاد في سبيل الله عز وجل يخيّر الإمام في أمرها، وهي إمّا أن تفتح صلحاً، وإمّا أن تفتح بالقوة، فإن كانت صلحاً فتارةً يبقيها ويكون الصلح بينه وبين أهلها على إبقائها بأيديهم على أن يدفعوا الجزية والخراج للمسلمين، وكذلك في حالة العكس فإنها تكون ملكاً للمسلمين، ويكون خراجها أيضاً للمسلمين، وإذا فتحت الأرض عنوة فإن النظر فيها يكون للإمام إن شاء أبقاها خراجية بمعنى: أن يضرب عليها الخراج، وهو فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فإنه لما فتح الأمصار ضرب على الأرض الخراج، وأبقاها ينتفع بها أهلها، وينفعون المسلمين، وهذا الفعل من السنن العمرية التي أجمع المسلمون على اعتبارها والعمل بها على مرِّ القرون والعصور، وفي هذه الحالة إذا كانت الأرض خراجية فمعناها أنها وقفٌ على المسلمين، ولا يكون من يتصرف فيها مالكاً لعين الأرض، فله أن يبني، وله أن يزرع، وله أن ينتفع؛ لكنه ليس بمالك للرقبة الأصلية، فالرقبة الأصلية ملكٌ لعموم المسلمين، وكذلك يؤخذ الخراج إلى بيت مال المسلمين، وقد بيّنا وجه تقسيمه ووجه صرفه في كتاب الجهاد.
فالمصنف رحمه الله يشير هنا إلى مسألة الملكية، فإذا كنت قد علمت أنه لا يصحُّ البيع ولا الشراء إلا بشيء يملك من البائع والمشتري، فيتفرع على ذلك
السؤال
ما الحكم إذا باع إنسان أرضاً خراجية؟ فتقول: الأرض الخراجية لا يقع البيع عليها؛ لأنها وقف، والوقف لا يباع ولا يوهب، وإنما يبقى إلى الأبد مسبلاً محبوساً؛ لكن لو أنه أراد أن يبيع المساكن التي على الأرض، أو يبيع الزرع الذي على الأرض ويخلي بين الغير وبينه لكي ينتفع به فلا بأس.
فمعنى العبارة: أنه إذا خلت يد البائع عن ملكية الأرض وكانت له يد يملك بها ما على الأرض من بناء أو زرع وأراد أن يبيع في الأراضي المحبسة والموقوفة على المسلمين عامة، فإن البيع يكون على رقاب المحدثات على الأرض لا على الأرض نفسها.
وبناءً على ذلك: كان من المناسب أن تذكر هذه المسألة في شرط الملكية، فالأرض الخراجية لا تملك، وإنما هي وقفٌ مسبّل على المسلمين، وحينئذٍ يباع ما عليها مما فيه المنافع ولا تباع العين.
ويتفرع على مسألة الأرض الخراجية أن المسجد لا يباع؛ لأن المسجد أيضاً مسبّلٌ وموقوف على عموم المسلمين؛ لكن لو أن مسجداً ضاق على المصلين، أو انتقل الناس من حوله فأصبح مكانه خراباً ليس فيه أحد، ونظر القاضي فوجد الناس قد انتقلوا إلى منطقة أخرى وهم بحاجة إلى مسجد في المكان الذي انتقلوا إليه، والمكان الذي خلي من الناس وتركوه ليس فيه مصلون، أو ليسوا بحاجة إلى هذا المسجد، فرأى القاضي أن يبيعه فحينئذٍ لا يباع إلاّ بحكم القاضي؛ لأن الوقفية والتسبيل لا يمكن أن يجري عليها البيع ولا الهبة؛ لأنها ملك لله عز وجل، وشرط البيع والهبة أن يكون البائع والواهب مالكاً لما يبيع ويهب، وقد قررنا هذا، وبناءً على ذلك فإنه لا يصحُّ بيعه للمسجد ولا هبته؛ ولكن -كما قلنا- إذا نظر القاضي أن من المصلحة استبدال هذا المسجد بمسجد آخر فإنه من حقه أن يحكم ببيعه على تفصيل عند العلماء سيأتي بيانه إن شاء الله في كتاب الوقف.(146/2)
حكم بيع آبار المياه وما ينبت على الأرض من الكلأ
[ولا يصحُّ بيع نقع البئر].
ليس المهم هنا أن تحفظ المثال أو تحفظ الصورة التي يذكرها المصنف، إنما المهم أن تطبق المثال على القاعدة، ولذلك في كتب الفقه حينما تطبق الأمثلة على القاعدة فإنك تفهم، حتى ولو جاءتك مسألة عصرية تستطيع أن تخرجها على هذا الأصل ولا تتقيد بالأمثلة الجامدة؛ لأن البعض قد يقرأ الفقه جامداً فيحفظ (نقع البئر)، ويحفظ (الأرض الخراجية)، دون أن يفقه السر أو العلة أو السبب الباعث على الحكم، وحينئذٍ لا يستفيد؛ لأنه إذا طرأت عليه مسألة عصرية لم يستطع تخريج ما جدَّ ونزل على ما ذكره العلماء والسلف، وعلى هذا فإن مسألة نقع البئر كمسألة الأرض الخراجية؛ والسبب في ذلك: أننا قررنا أن اليد خالية من الملكية، فمثّل رحمه الله بالأرض الخراجية؛ لأنها موقوفة على المسلمين.
فنقع البئر، والكلأ، والنار، هذه ثلاثة أشياء المسلمون فيها شركاء، للحديث الوارد في السنن: (المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء، والكلأ، والنار)، فجعلهم يشتركون في هذه الثلاثة أشياء، فإذا كانوا شركاء في الماء وهو (نقع البئر) وما في حكمه، فمعنى ذلك أن من أراد بيع نقع البئر فقد باع ملك غيره، كما أن من أراد أن يبيع الأرض الخراجية فقد باع ملك غيره، ووقع البيع ووقعت المعاوضة على شيء لا يملكه.
وهذا وجه إدخال مسألة نقع البئر هنا، وأصل الآبار تأتي على صورتين: فتارةً تكون على عيون جارية في الأرض تنفجر ثم تنبع من هذه العيون التي تجري في الأرض، سواءً كانت عيوناً مالحة فآبار مالحة، أو عيوناً حلوة فآبار حلوة، أو جامعة بين الاثنين فيختلط فيها العذب بالمالح لكنهما يختلطان فوق ولا يختلطان في الأسفل، كما أخبر الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53].
فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى جعل العيون الجارية تتفجر فتكون في الآبار.
وتارة يكون البئر بالجنة وهي جنة البئر، بمعنى: أن يحفر البئر بالطريقة القديمة، ويكون الماء الموجود فيه عن طريق التسرب الذي يكون في جنبات البئر لا عن طريق عين في ذات البئر، فيستوي الحكم في كلتا الحالتين، سواءً كان نقع البئر من عينٍ من الأرض فارت وصعدت، أو كان نقع البئر جنة مجموعة من أطراف البئر خاصةً في الأماكن الخصبة التي فيها ماء كثير، فإنه لا يحفر الإنسان إلى أمدٍ قريب إلاّ ويجد الماء بغزارة في الذي حفر، فسواء كانت البئر عادية منفجرة عن عين، أو كانت البئر مجتمعة من الجنة، وعلى هذا ففي كلتا الحالتين لا يصحُّ بيع نقع البئر.
ونقع البئر يكون فضلاً من الماء، فإذا كان عندك بستان وأردت أن تستقي من بئر أحدثته فأنت أحق وأولى؛ لكن لو زاد من هذا الماء زائد وفضل وجاء إنسان يريد أن يشرب منه أو يسقي دوابه أو يريد أن يأخذ منه للسفر كما يقع في الآبار التي تكون على السبل والطرق فالأمر أشد، فمنع هذا الفضل فيه وعيدٌ شديد، ولذلك أخليت الملكية عن هذا، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن بيع نقع البئر، وفي الحديث الصحيح: أن من فعل ذلك -بمعنى أنه منع فضل مائه- فإن الله لا يكلمه يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ويقول الله له -كما في الحديث القدسي الصحيح-: (كما منعت فضل مائك اليوم أمنعك من فضلي)، ومن منعه الله من فضله فهو على هلاك، ولذلك قال العلماء: منع فضل الماء عن المحتاج إليه وعن الناس كبيرة من كبائر الذنوب، ينبغي للمسلم أن يتقيها، وأن يمكن أخاه المسلم إن احتاج إلى هذا الماء، وهكذا العشب الذي ينبت في أرضه، إذا جاء إنسان يريد أن يحتش من هذا العشب لغنمه أو لدوابه فإنه يمكنه من ذلك، وهكذا لو كانت له أرض أو كان له حوش فنبت في هذا الحوش نبت ومرعى وأراد إنسان أن يأخذ منه لبهائمه فقال له: لا تدخل الحوش، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا النبت مما يشترك فيه المسلمون، والله أنبته في أرضه وليس بيده ولا بوسعه أن ينبته، وكم من إنسان يلقي بذره ولا يجد منه شيئاً؛ لأن الله إن شاء أن تنبت الأرض أنبتت، وإن شاء ألا تنبت فإنها لا تنبت، فهي لا تنبت إلا بأمر الله وقدرته، فالله أخرج الماء وأخرج الكلأ، وكذلك الذي يحتطب من شجر الحطب فإنه يُمّكِّن الغير منه، ولو كان عند الإنسان أرض فنبت فيها السمر أو نبت فيها الشجر الذي تأكله الإبل ولو كان مما له شوك فإنه لا يجوز له أن يمنع من له إبل أن يرعى بإبله في هذا؛ لكن لو كان في هذا المكان عورة كأهله ونسائه ويخشى من دخول هذا الرجل عليه، ولا يمكنه التحفظ، فمن حقه أن يمنع مدة وجود العورة، لكن إذا وجد البديل بأن يُمَكنَه من أن يحتش بنفسه ويراقبه ويحفظ عورته فإنه يمكنه من ذلك.
والشاهد من هذا كله: أنه لا يصح بيع الإنسان لشيء لا يملكه، أو لشيء يشترك فيه معه غيره، ويأتي الغير لكي يأخذ حقه فيمنعه أو يأبى إلا أن يبيعه عليه أو يأخذ المعاوضة، فإنه لا يجوز له ذلك.
قال رحمه الله: [ولا ما ينبت في أرضه من كلأٍ وشوك].
من باب أولى إذا نبت في أرض الله الواسعة فالأمر أعظم، فإذا نبت في أرض الله الواسعة وجاء إنسان يريد أن يرعاه لغنمه أو يرعاه لإبله ودوابه أو يريد أن يحتش منه لبهائمه فإنه لا يجوز لأحد أن يمنعه؛ لأن هذا الحشيش مما يشترك فيه المسلمون بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [ويملكه آخذه].
ويملك هذا الحشيش من احتشه، ويملك هذا النقع من الماء من استخرجه، فلو أنك استخرجت من البئر ماءً ثم أخذت هذا الماء وبعته، فلا حرج كما يجري الآن من بعض أصحاب السيارات الذين ينقلون المياه، فإنهم يتكبدون المشقة بالذهاب إلى الآبار، وكذلك استخراج المياه ودفع القيمة لمؤنة رفع هذا الماء ووضعه في خزاناتهم التي معهم، فحينئذٍ يجوز لهم البيع؛ لأنهم لما أخذوه وحازوه ملكوه، ولو أتيت إلى أرض فضاء ثم أخذت منها العشب فإنك تملكه بالحيازة، وهذا ما يسميه العلماء بملكية الحيازة، فهم مشتركون فيه، بمعنى: أن لكلٍ أن يأخذه، فإذا سبقت إليه وأخذته وحزته فإنك تملكه، لكن لو أن إنساناً سبق إليه ثم وضع سياجاً عليه وقال: أنا سبقت، وهذا لي، نقول: هذا ليس لك، إنما يكون لك إن حصلت الحيازة، فشرط الملكية الحيازة التي تكون بالحش في الحشيش، وكذلك أشجار الحطب إذا قطعها، وكذلك الماء إذا استنبطه واستخرجه، بأن أخذ الدلو فنزحه، فإذا نزحه واستنبطه واستخرجه من البئر فإنه يكون ملكاً له، فحينئذٍ يجوز له بيعه، لكن إن كان على سابلة وجاءه المحتاج الذي لا يستطيع أن يستخرج كما استخرج، والماء زائدٌ عنه فلا يجوز أن يبيعه؛ لأنه من فضل الماء في هذه الحالة، وعلى هذا فإنه يجوز للإنسان أن يبيع الماء إذا حازه، وتتخرج على هذا مسألة ماء زمزم إذا أُخذ وحازه الإنسان ملكه وجاز له أن يشربه لنفسه، وجاز أن يهبه للغير؛ لكن هل تجوز فيه المعاوضة وبيعه على الغير؟ هذا فيه تفصيل: الورع أن يبيعه بكلفة الإحضار بمعنى: أن يكون بمثابة الأجير، يقول: هذا الماء أحضره لك بعشرة ريالات على كلفة الإحضار، لا أن يبيع نفس الماء، وهذا من باب الورع؛ لأن لماء زمزم خصوصية دون غيره.
ولكن من أهل العلم من قال: إنه إذا حازه الإنسان، وكان الذين يبيعونه لا يضرون بالغير، بمعنى: أنه يمكن للغير أن يذهب بنفسه ويأخذ، وليس فيه مشاحة ولا أذية، فإنه يجوز البيع، وهذا له وجه؛ لأنهم قد ملكوه وحازوه، وتكبدوا مشقة استخراجه، ثم إن الغير يمكنه بنفسه أن يأخذ هذا الماء، فإن اختار أن يأخذه منهم فإنه له وجه أن يقال بجوازه، والورع ما ذكرناه.(146/3)
تعريف بيع الغرر وأدلة تحريمه
قال رحمه الله: [وأن يكون مقدوراً على تسليمه].
الآن سيشرع المصنف في الشرط الخامس والسادس، وقبل الدخول في الشرط الخامس والسادس لصحة البيع ننبه على أن كلاً من الشرط الخامس: وهو القدرة على التسليم، والشرط السادس: وهو العلم بالمبيع بالصفة أو الرؤية أو غير ذلك مما يعرف به المبيع، كلا الشرطين يتخرج على قاعدة في الشريعة، وهي نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وكل الذي سنتكلم عليه في الشرط الخامس والسادس مفرّع على قاعدة الغرر، وبناءً على ذلك نحتاج إلى معرفة: أولاً: ما هو الغرر لغة واصطلاحاً؟ ثانياً: ما هو الدليل على تحريم بيوع الغرر، أو ما هي الأحاديث والنصوص التي وردت في تحريم هذا النوع من البيوع؟ ثالثاً: ما هي الحكمة التي يمكن أن نستفيدها من تحريم هذا النوع من البيع، أو ما هي المقاصد والمصالح التي قصد الشرع تحقيقها من تحريم هذا النوع من البيع؟ ثم بعد ذلك نشرع في شرح ما ذكره المصنف رحمه الله في هذين الشرطين.
أمّا الغرر: فأصله مأخوذ من غرَّ فلانٌ فلاناً إذا خدعه أو خاطر به.
فالغرر فيه مخاطرة، ويوصف الإنسان بكونه غرّ غيره إذا لم يمحضه النصيحة، وعلى هذا فإن هذا البيع ليس فيه نصيحة، بمعنى: أن صور البيع في الشرط الخامس والسادس عند مخالفة الشرط كلها خداعٌ وختلٌ من البائع للمشتري، أو من المشتري للبائع، أو من كل منهما للآخر.
وأمّا في الاصطلاح فإن بيع الغرر اختلفت فيه تعاريف العلماء، ومن أنسبها قول بعضهم: بيع الغرر هو بيع مستور العاقبة.
أو هو بيع الشيء المستور العاقبة، بمعنى: أن يبيعك شيئاً لا تدري أيكون، أو لا يكون، كأن يقول لك: أبيعك ثمرة بستاني السنة القادمة، فإننا لا ندري هل يخرج البستان ثمرة في العام القادم، أو لا يخرج، فهو مستور العاقبة، ثم إذا أخرج فلا ندري أيخرج سالماً أم يخرج به مرض وآفة، ثم إذا خرج به المرض والآفة فلا ندري الآفة غالبة أو السلامة غالبة، وحينئذٍ كأن البيع في هذه الأحوال فيه مخاطرة، فكأن البائع يخاطر بالمشتري.
ومثل أن يقول له: أبيعك ما تحمله هذه الناقة السنة القادمة، أو أبيعك حمل هذه الشاة الآتي، كل هذا من بيع الغرر مستور العاقبة، وفي العصر الحديث يقع بيع المستور العاقبة مثل بيع الرقم (واليانصيب): وذلك بأن يعطيه عشرة ريالات لقاء رقم لا يدري أيجد فيه شيئاً أو لا يجد ثم إذا وجد شيئاً لا يدري أيجد شيئاً غالي الثمن، أو يجد شيئاً عكس ذلك، أو يجد شيئاً مساوياً للثمن الذي دفعه، فالعاقبة مستورة، فيحتمل أن يربح ويحتمل أن يخسر، فيجعل البائع المشتري متردداً بين الأمرين، وربما أيضاً يخدع المشتري البائع فيقول له: أشتري منك هذا الكتاب بما في يدي، فلا ندري ما الذي في يده، أهو مثل قيمة الكتاب، أو هو دون، أو هو أكثر؟ فيقع التغرير من المشتري للبائع، وقد يقع منهما الاثنين، كأن يقول له: بعني شيئاً بما في يدي، فقال له: أبيعك شيئاً من أشيائي أو شيئاً من ممتلكاتي، أو أبيعك كتاباً من كتبي، فلا ندري أهذا الكتاب هو الكتاب النفيس، أو هو الكتاب الرخيص؟ فهذا كله من بيع الغرر.
ومن حكمة الله سبحانه ولطفه بعباده أنه رحمهم بهذه الشريعة، وهي شريعة الإسلام، ومن أمثلة الرحمة في شريعة الإسلام أنها لم تقتصر على العبادة بل تناولت حتى المعاملة، فأنت إذا دخلت السوق تريد أن تشتري أو تريد أن تبيع فإن الشرع يريد أن يوقفك على ثمن معلوم وعلى مثمن معلوم، ويريدك إذا دفعت المال أن تدفعه لقاء شيء أنت مطمئن وراضٍ في نفسك أن تبذل مالك لقاءه، وكذلك العكس، تبذل سلعتك لقاء هذا المال الذي يدفع لك، ويكون المال معلوماً غير مجهول، منضبطاً بما يتحقق به الأصل الشرعي في الثمن أو شروط الثمن من العلم بجنسه وقدره وعدده -على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله-.
فالمقصود: أن تحريم بيع الغرر إنما هو مبني على الجهالة.
كذلك أيضاً في حكم الغرر أن يقول لك: أبيعك السمك الذي في الماء، أو أبيعك الحمام الذي في الهواء، فيقول: أرأيت هذه الثلاث الحمام؟ قال: نعم، قال: هذه كانت لي وفرّت عني، وأنا أبيعك كل واحدة بعشرة، فإن أمسكتها فهي لك، أو بعير شرد من عنده أو شاة شردت فقال له: أبيعك هذه الشاة أو هذا البعير بعشرة، فهذا كله من بيع الغرر؛ لأنه يحتمل أن يمسكه فيسلم، ويحتمل أن لا يمسكه فيخسر، ففي جميع هذه الصور يكون البيع مستور العاقبة، ولا يدري العاقد أهو يسلم أو يخسر؟ وقد حرّم الله عز وجل هذا النوع من البيوع، وثبتت النصوص والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمه.
فأول هذه النصوص ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)، هذا الحديث يدلُّ دلالةً واضحةً على أنه لا يجوز بيع الغرر، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (وإذا نهيتكم فانتهوا)، فقد نهانا عن بيع الغرر، فدلَّ على أنه لا يجوز للمسلم أن يتبايع ببيع الغرر، لا آخذاً ولا معطياً.
كذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (نهى عن بيع حَبَل الحَبَلَة)، وبيع حبل الحبلة يأتي على صور، منها: أن يبيعه ما في بطن الناقة، أي: حمل الناقة أو حمل الشاة؛ والسبب في هذا: أننا لا ندري هذا الانتفاخ أهو جنين، أو مرض؟ ولو كان جنيناً لا ندري أهو حيٌّ، أو ميت؟ ولو كنا نعلم عن طريق أجهزة وأمكن الآن أن يستطلع أو يستكشف أنه حي أو ميت فلا ندري أيبقى حياً إلى الولادة، أو يموت؟ ثم إنه لو بقي حياً إلى الولادة وخرج أيخرج كامل الخلقة، أو ناقص الخلقة؟ فإذاً: هذا النوع من البيوع حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حَبَل الَحَبَلَة).
كذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه: (نهى عن بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري)، وأنت إذا تأملت نهيه -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ما هو إلاّ خوف الغرر؛ لأن الثمرة قبل بدو الصلاح يحتمل أن تسلم فتغنم وتكون رابحاً، ويحتمل أن تتلف ولا تخرج فحينئذٍ تغرم وتكون خسراناً، وبناءً على ذلك حرّم النبي صلى الله عليه وسلم بيعها قبل بدو الصلاح، وأكد هذا بالعلة في حديث أنس الثابت في الصحيح: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله؟!) انظر إلى هذه الجملة: (أرأيت) أي: أخبرني، (لو منع الله الثمرة عن أخيك) أي: لو بعت أخاك المسلم الثمرة قبل بدو الصلاح، فمنع الله الثمرة ولم تخرج (فبِمَ تستحل أكل ماله؟) فمعناه: أن المال سيدفع لقاء شيء غير مضمون، أو لقاء شيء لا تُعْلم عاقبته.
وثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين والمعاومة)، وبيع السنين هو الموجود عند بعض الناس اليوم، وهو أن يبيعه ثمرة البستان ثلاث سنوات أو سنتين، والمعاومة: أن يبيعه ثمرة البستان عاماً أو عامين، وبيع السنين والمعاومة بيع للمجهول، وبيع لمستور العاقبة، فدخل في بيع الغرر.
كذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه نهى عن بيع ما في الضرع)، وهذا النهي عن بيع ما في الضرع مبني على الجهالة بما فيه، فلا ندري أهو سالم أو ليس بسالم؟ ثم لو خرج اللبن لا ندري أهو قليل أو كثير؟ فهو مجهول.
وقد يقول لك قائل: هذا الضرع ما دام منتفخاً فالغالب السلامة، والغالب أن فيه لبناً، تقول له: لو سلّمت لك أنه سالم وأنه لبن فهل سيخرج لبناً صحيحاً، وكم قدره هل هو كثير أو قليل؟ فلو كان كثيراً فإنه قد غبن البائع، ولو كان قليلاً فقد غبن المشتري، فإمّا أن يغبن هذا وإمّا أن يغبن هذا، وبناءً على ذلك عدل الله عز وجل بينهما -بين العاقدين- والشريعة بتفصيلاتها وأحكامها المتعلقة بالمعاملات أنصفت البائع وأنصفت المشتري، فلم تظلم هذا ولا هذا، وهكذا الشأن في المعاملات المالية وغيرها، ولذلك قال الله عز وجل: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة:279].
وكما دلّت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم هذا النوع من البيع، سواء كان مجهول العاقبة فلا ندري أيسلم أو لا يسلم؟ أو كان مجهول القدر والصفة فلا ندري أهو كامل أو ناقص؟ جاء كذلك دليل الإجماع يؤكد هذا المعنى، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن بيوع الغرر لا تجوز.(146/4)
الحكم المستفادة من تحريم بيع الغرر
فإذا عرفنا أن دليل السنة والإجماع على تحريم هذا البيع.
يبقى السؤال الأخير: ماذا نستفيد من تحريم هذا البيع؟ أو ما هي الحكم التي يمكن أن نستفيدها من تحريم الشريعة لهذا النوع من البيوع؟
و
الجواب
إن الله عز وجل إذا أمر أو نهى فإنه الحكيم العليم الذي هو أعلم وأحكم بشرعه وأعلم بعباده، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] جل جلاله وتقدست أسماؤه وهو أحكم الحاكمين، فالله جلَّ وعلا قد ينهى عن الشيء في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وقد لا نُدرك الحِكَم؛ ولكن لا شك ولا ريب أن فيه حكمة، سواءً علم المسلم أو لم يعلم.
ومما ذكره العلماء من الحكم في سبب تحريم هذا البيع: أن بيع الغرر طريق لأكل أموال الناس بالباطل، والشريعة لا تأذن بأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنه لو أذن للناس أن يبيعوا الأشياء المجهولة، فإن معنى ذلك أن الشريعة بإجازتها لهذا النوع من البيع تفتح الباب لأكل أموال الناس بالباطل، ولو كان الريال لا قيمة له عندي فله قيمة عند الغير، فالشريعة لا تفرق بين الغني والفقير، ووضعت هذه القاعدة أنه لابد من الإنصاف في الحقوق والأموال المدفوعة وأن تكون لقاء ما دفعت دون ظلم للمشتري، وكذلك أيضاً دون ظلم للبائع إذا ظهر الشيء أكثر مما يظن به.
ومن الحِكم: أن هذا النوع من البيوع مفضٍ إلى الخصومات والنزاعات، خاصة إذا كان المال له قيمة كبيرة، فإن الله عز وجل قال: {وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فالنفوس مجبولة على شحها بالمال، وقال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37]، فالأموال تعلقت بها النفوس، حتى إن الدماء سالت والأرحام قطعت والأعراض انتهكت بسبب الأموال -والعياذ بالله-، ففيها فتنة عظيمة، فإذا رأى الشخص أنه يدفع الألف والألفين والثلاثة والأربعة ثم لا يجد شيئاً فإنه ليس من السهولة أن يسكت، فلن يسكت عن هذا الذي أخذ منه، وسيقول مباشرة: قد أخذت مالي بدون حق، يقول له: بعتك، يقول: نعم اشتريت منك أظن أنه سيسلم، وتبين أنه لم يسلم، فحينئذٍ تقع بينهما الخصومة والنزاع، وإذا لم تقع الخصومة فإنه سيتربص لكي ينتقم منه كما أخذ ماله، ويبحث عن حيلة وعن طريقة لذلك، خاصة إذا كانوا تجاراً مع بعضهم فإنه ينتقم بعضهم من بعض، وتصبح أسواق المسلمين محلاً للشحناء والبغضاء، وكأن باب البيع أصبح هادماً لأصول الشريعة ومقاصدها العظيمة.
وانظر إلى حكمة الشريعة فإنها تبيح لنا الدنيا؛ ولكن بشرط ألا تفسد الدين، ومن هنا تجد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض)؛ لأنه إذا باع المسلم على بيع أخيه المسلم حصلت المنفعة الدنيوية، على حساب المفسدة الدينية، وهذا من أدق ما يكون في المنهج، وأحكم وأعدل ما يكون في حكم الله عز وجل وشرعه في المعاملات المالية، فإن هذا النوع من المعاملات يفضي إلى الخصومات، ويفضي إلى أكل الأموال بالباطل، ويفضي أيضاً إلى إضرار المسلمين بعضهم ببعض.
ومن الحِكم أيضاً: أنه لو فتح هذا النوع من المعاملات المالية وهو بيع الغرر فإن هذا يفضي إلى انعدام الثقة وسلبها من النفوس، فتدخل إلى السوق وأنت لا تأمن على مالك، وكذلك لو مكّن التجار أو مكّن بعض التجار من بعض هذه المعاملات المحرمة فرأى غيرهم أنهم يربحون يتجه التجار كلهم إلى هذا النوع من المعاملات، فتدخل إلى السوق وأنت تريد شيئاً فلا تستطيع أن تصل إليه إلا بالمخاطرة، فتنعدم الثقة في التاجر، وهذا ضرر اقتصادي، فهو من نظرة اقتصادية مفسدة تضر بمعاملات الناس والتجارة نفسها، فحرص الإسلام على وجود الثقة، فالإنسان إذا جاء يريد أن يشتري الشيء يشتريه وهو على ثقة وعلى أمانة ونصيحة من أخيه المسلم، وحينئذٍ يكون هذا أدعى إلى طمأنينة الناس، وكذلك ثقتهم بالتجار، ولذلك تجد في أسواق المسلمين من الثقة والمحبة والخير ما لا تجده في أسواق غيرهم، وإذا نظرت إلى الأسواق التي تنبني على المعاملات الواضحة الخالية من الغرر تجدها أسواقاً رابحة رائجة، والناس فيها في طمأنينة وفي سعادة وفي خير كثير؛ لأن الله تكفل بهذا الخير لمن اتبع دينه وشرعه، وجعل الخير لمن عمل بهذه الأحكام التي شرعها لعباده سبحانه وتعالى، فالحمد لله على فضله ورحمته، لا نحصي ثناءً عليه سبحانه وتعالى.(146/5)
من شروط صحة البيع: القدرة على تسليم المبيع
قال رحمه الله: [وأن يكون مقدوراً على تسليمه].
وهذا هو الشرط الخامس، أي: يشترط في صحة البيع أن تبيع الشيء المقدور على تسليمه، وهذا مبني على نفس الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)، فإذا باعه شيئاً لا يقدر على تسليمه، فإنه قد يعجز عن الإمساك به أو عن وجوده، فيكون أخذ المال حينئذٍ من أكل المال بالباطل، وقد قال الله عز وجل: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]، وأيضاً: لو أنه باعه شيئاً غير مقدور على تسليمه فقد فوت مصلحة البيع؛ لأن مقصودك من شراء هذا الشيء أن تستفيد منه، فإذا باعك على وجه لا تتمكن من أخذه واستلامه فمعنى ذلك أنه فوت مقصودك من البيع بالكلية.
ويحرم بيع الشيء الذي لا يقدر على تسليمه بإجماع العلماء رحمهم الله، ولهذا أمثلة: فقال رحمه الله: [فلا يصحّ بيع آبقٍ وشارد].
الفاء للتفريع، وهذا مفرع على الشرط، فإذا ثبت أنه لا يصحُّ البيع لشيء لا يقدر على تسليمه، فلا يصح بيع الآبق، وهذا في العبيد والإماء فإذا شرد العبد أو شردت الأمة فإنه لا يصح بيعه وبيعها إلاّ لمن يقدر على إمساكه وإمساكها، فإذا كان قادراً على إمساكه أو الإمساك بها فإنه حينئذٍ تفوت علة التحريم، وأصبح كأنه مقدورٌ على تسليمه، لكن إذا كان الشيء لا يقدر على تسليمه فإنه لا يصح البيع ولا يجوز؛ لأنه من الغرر.
وأمّا (الشارد) فإنه يكون في الحيوانات مثل: أن يشرد البعير، أو الشاة، فإنه لا يصح بيعه؛ لأنه قد يعجز عن الإمساك به واللحوق به، وحينئذٍ يكون البائع قد أكل المال بالباطل، وهذا كمثال على الأشياء القديمة، وفي عصرنا الحاضر لو أن إنساناً باعك شيئاً لا تتمكن من إمساكه ولا تتمكن من أخذه والانتفاع به فإنه يعتبر في حكم بيع الآبق، وفي حكم بيع الشارد، ويكون أخذه للمال من باب أكل المال بالباطل، فمثلاً: لو كانت السيارة ضائعة، فقال له: يا فلان! سيارتك الضائعة أنا أشتريها منك بعشرة آلاف ريال، فإن وجدتها فأعطنيها، وإن لم تجدها فالعشرة آلاف ملك لك، فهذا لا يجوز.
وقد يقول قائل: المشتري رضي بذلك وقال: العشرة آلاف ملك لك، نقول: رضا المشتري لا عبرة به، ولذلك لو أن شخصاً استدان من شخص مائة ألف ريال وقال: أردها مائة وعشرة، وأنا راضٍ أن أدفع العشرة آلاف فوق المائة، نقول: رضاك وجوده وعدمه سواء؛ لأن هذا النوع حرمه الله عز وجل، فلو قال: أنا راضٍ بالسيارة وجدتها أو لم أجدها، نقول: هذا سفه، وإنما لم يقبل رضاه لأنه يخاطر، وإذا خاطر كأنه يتصرف في ماله تصرف غير الرشيد وهو السفيه، فيحجر عليه الشرع ويقول له: رضاك وجوده وعدمه سواء فلا عبرة به، ولا يوجب الحكم بِحلِّ هذا النوع من المعاملات المحرمة.
قال رحمه الله: [وطيرٍ في هواء].
كما قلنا أنه يقع في الحمام الذي يطير ويفر من الإنسان، فإنه لا يصح بيعه إذا كان طائراً في الهواء؛ لكن لو أمكنه أن يمسكه فإنه يصح البيع.
قال: [وسمكٍ في ماء].
فلو قال له: هذا السمك الذي في البحيرة ملكٌ لي، أبيعك منه سمكة بعشرة، لا يصح لأمرين: الأمر الأول: الجهالة.
الأمر الثاني: عدم القدرة على الإمساك به.
لكن لو كان السمك في بركة، أو مستنقع محدود، أو كان في مكان يمكن الإمساك به وأخذه فلا بأس، فمثلاً: الآن بعض باعة السمك يجعل السمك في أحواض، حتى يكون طازجاً في متناول الإنسان، فيكون حديث العهد بحياته فيكون لحمه ألذ وأطيب، ويقول: إذا أردت -مثلاً- من نوع كذا فبعشرة أو من نوع كذا فبعشرين، فهذا جائز؛ لأنه يمكنك أن تمسك به، وإن لم تستطع إمساكه فبإمكانه هو أن يمسك به، فيجوز، لماذا؟ لأن العلة القدرة على التسليم، فلما كان الذي في الحوض مقدوراً على تسليمه واستلامه جاز بيعه وصح، ولما كان أصل العلة هي عدم القدرة فإنه لا يؤثر كونه في حوض مقدور على تسليمه أو مقدور على الإمساك به.
قال رحمه الله: [ولا مغصوب من غير غاصبه أو قادرٍ على أخذه].
المغصوب مثل الشيء الضائع، فإنه لو جاء شخص وأخذ سيارتك بالقوة وغصبها منك، أو أخذ أرضك بالقوة واغتصبها منك، أو أخذ كتابك أو قلمك أو شيئاً لك بالقوة، وأنت لا تستطيع أن تأخذ هذا الشيء منه ولا أن تسترده، فلا يحلُّ لك أن تبيعه؛ لأن الخسارة والبلاء نزل بك، فلا يجوز أن تكون أنانياً شحيحاً تلقي بالبلاء على غيرك، فحينئذٍ تصبر، كما لو نزل بالإنسان مرض أو سقم فإنه يصبر على هذا البلاء، فكما أنه يُبلى في نفسه يُبلى في ماله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:186] فيسعك الصبر، أمّا أن تحمل هذا البلاء على أخيك المسلم، ولو كان راضياً بسفهه، فإنه لا يصحُّ هذا، إلاّ إذا كان الشيء المغصوب يريد أن يشتريه مَنْ غَصبه، فلو قال الغاصب: هذه مائة ألف لقاء أرضك، فيصحّ البيع بشرط: أن تكون راضياً به، أمّا لو كنت غير راضٍ فحينئذٍ يعتبر من أكل المال بالباطل، ويعتبر ظالماً لك في أخذه وانتزاعه منك بالقوة، وأما إذا وجد شخص يقدر على أخذه من الغاصب فمثلاً: أخذ رجلٌ منك سيارة وأنت لا تستطيع أن تأخذها، وهناك رجلٌ قادر على أخذها منه، فقال لك: بعنيها وخلِّ بيني وبينه، فقلت له: أبيعكها بعشرة آلاف، صحَّ البيع وجاز؛ لأن العلة في المنع هي عدم القدرة وقد زالت، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.(146/6)
من شروط صحة البيع: أن يكون المبيع معلوماً بالرؤية أو الصفة
قال رحمه الله: [وأن يكون معلوماً برؤية أو صفة].
وهذا هو الشرط السادس: أن يكون المبيع معلوماً برؤية أو صفة، فإذا بعت شيئاً أو اشتريت شيئاً فلابد وأن يكون الثمن والمثمن معلوماً إمّا برؤية أو صفة، وبعبارة أوضح: ألا يكون المبيع مجهولاً جهالةً مؤثرة، فبعض الأحيان يقول لك: أبيعك شيئاً بعشرة آلاف أو بمائة، وهذه جهالةٌ كلية، فلا تدري ما هو هذا الشيء؟ أهو من الأحياء أم من الجمادات؟ أهو غالٍ أم رخيص؟ فهذه جهالة مستحكمة من جميع الوجوه، فلا تدري بجنسه، ولا نوعه، ولا صفته، ولا قدره، ولا عدده، ولا تدري ما هو هذا الشيء، فالبيع باطل ولا يجوز.
وفي حكم هذا البيع ما يوجد الآن من شراء الأرقام، فإنك تشتري رقماً لا تدري ما الذي فيه، ولربما دفعت العشرة أو المائة في رقم لا يخرج منه شيء، ففي هذه الحالة تكون الجهالة مستحكمة، وفي بعض الأحيان يكون المبيع معلوم الجنس لكن غير معلوم النوع، أو معلوم الجنس والنوع لكنه غير معلوم الصفة أو غير معلوم القدر أو غير معلوم العدد.
ومثال ما كان معلوم الجنس مجهول النوع، كأن يقول له: أبيعك بهيمة بألفٍ، فإن بهيمة الأنعام: إبل وبقر وغنم، فلا ندري أهي من الإبل أم من البقر أم من الغنم، فجهل النوع، والجهالة بعد ذلك مستتبعة، فلا ندري من أي الأنواع، ونفس النوع لا ندري أجيّدٌ هو أم رديء؟ فإذا قال له: أبيعك حيواناً، فهذه جهالة، ولو: حددّ النوع، فقال: أبيعك إبلاً بمائةٍ أو بألفٍ، لم يصح؛ لأنه وإن حددّ النوع فإن الصفة غير معلومة، والعدد غير معلوم، فهذه جهالة للصفة والعدد، ولو حدّد العدد فقال: أبيعك بعيراً واحداً، فقد علمنا الجنس وأنه من بهيمة الأنعام، وعلمنا النوع أنه إبل، وعلمنا العدد أنه بعير واحد؛ لكن جهلنا الصفة، فلا ندري ما هي صفاته؟ أهو كبير السن أم صغير السن؟ ثم أهو متصف بالصفات الجيدة أو الرديئة أو وسط بينهما؟ كذلك أيضاً قد تعلم الجنس وتعلم النوع؛ لكن لا تعلم العدد والقدر، فلو قال لك: أشتري منك بيتك بذهبٍ، فأنت هنا علمت جنس المال ونوعه الذي هو الذهب، لكنك لا تدري كم قدره؟ فلا ندري أهو مائة جنيه أو مائتين أو جنيهاً واحداً؟ فحينئذٍ لا تدري كم قدره وعدده، فهذه جهالة مؤثرة، وأياً ما كان فالجهالة مؤثرة وموجبة لفساد البيع بشرط: أن تكون جهالة موجبة للغرر؛ لأن هناك أنواعاً من الجهالات لا توجب الغرر، وقد تغتفر للضرورة، فمثلاً: حينما يقول لك: بعتك هذا البيت بعشرة آلاف ريال، وأنت تعرف كم عدد غرفه، وتعلم ما هي أوصافه، والحي الذي هو فيه، أو تكون قد دخلت البيت ورأيته؛ لكن هناك جهالة، وهي أنك لا تعلم هل أساس البيت جيد أم رديء؟ لأنه مغيب عنك، فيحتمل أن يكون الأساس منهاراً أو غير منهار، ثم إذا كان غير منهار قد يكون جيداً وقد يكون رديئاً لا يعيش ولا يبقى إلى سنوات عديدة، أو أنه يتلف بكثرة الأمطار أو بالسيول، فهذه جهالة مغتفرة للضرورة، لكن المشتري لو اكتشف أو تبيّن له أن الأساس فيه عيب، واطلع على هذا العيب فإن من حقه أن يرده، فهي تغتفر لإعمال العقد، ولكن إذا تبيّن وجود ما فيه ضرر فمن حقه أن يطالبه بضمان الأرش، أو يطالبه برد البيع وأخذ الثمن الذي دفعه.
قال رحمه الله: [فإن اشترى ما لم يره، أو رآه وجهله، أو وُصِف له بما لا يكفي سلماً لم يصح].
الجهالة ترتفع بالعلم بالشيء المبيع، وعليه فالأصل أن يكون المبيع معلوماً، ولذلك بعض العلماء يعبر عن هذا بعبارة أدق ويقول: أن يكون المبيع معلوماً، فلما يقول (معلوماً)، يحدد العلم الذي يشترط وجوده بالجنس والنوع والقدر أي: معلوم الصفات، وقصد المصنف رحمه الله أن يبين أن بيع المجهول لا يصح، فإذا اشترى ما يجهل فيه جهالة مؤثرة -ما لم يره ولم يعلم صفته- فإنه لا يصحُّ البيع، قال له مثلاً: أبيعك أرضاً في مخطط (20×20)، فإنّا لا ندري أهي في مخطط غالٍ أو رخيص؟ لا ندري أتكون في مكانٍ محمود ومرغوب أو في مكان غير محمود ولا مرغوب أو في مكان وسط بين ذلك؟ فحينئذٍ يبيعه شيئاً لم يره، ولم يوصف وصفاً تزول به الجهالة، فإذا باعه شيئاً رآه أو شيئاً وصفه له صفة تزول بها الجهالة صحَّ البيع، قال له: أبيعك أرضاً طولها كذا وعرضها كذا، في شارع كذا، تطل على كذا وكذا، حددّ أطوالها وجهاتها وصفاتها التي تزول بها الجهالة، فحينئذٍ يكون قد أزال الجهالة بالوصف، وكذلك إذا كنت تعرف أرضه أو بستانه ومزرعته، ولم يطل عهدك على وجه يتغير به البستان وقال لك: أبيعك بستاني الذي تعرفه بمائة ألف فقلت: قبلت، وأنت قد رأيت البستان من قبل صحَّ البيع؛ لأن الجهالة ارتفعت بالرؤية، وترتفع بالصفات -كما ذكرنا- فمثلاً: نمثل بأشياء موجودة الآن: كأن يقول له: أبيعك سيارة، فلا يصحُّ البيع؛ لأننا لا ندري ما نوع هذه السيارة، وكذلك لو حددّ نوعها فقال: من نوع كذا، هذا النوع من السيارات لابد أن يحدد -مثلاً- موديله والصفات التي عليه؛ لأن هذا شيء جرى العرف أن الجهالة ترتفع به، ولكنه قال: من نوع كذا، ولم يحدد صفاتها أو موديلها، فإنه لا يصحُّ البيع، ويعتبر هذا من الجهالة المفضية إلى الغرر؛ لأنك ربما ظننت أنها جديدة، فإذا به يبيعك ما كان قديماً، ولربما ظننت أنها من صنع هذه السنة، فإذا بها مصنوعة في العام الماضي أو الذي قبله، وكل ذلك من الجهالة المفضية للغرر، فلا يصح البيع، ولا يجوز على هذا الوجه الموجب للإضرار.
قال رحمه الله: [أو رآه وجهله].
(أو رآه وجهله) فإنه لا يصحُّ البيع؛ فمثلاً لو قلت له: أبيعك هذه السيارة، فرأى السيارة ولكنه لا يعلم ما بداخلها، وما هي صفاتها؟ وحتى لو يعرف نوعها فالنوع هذا ينقسم إلى أنواع فهناك الجيد وهناك الرديء، والذي له صفات عالية وصفات دون ذلك، فحينئذٍ إذا باعه على هذا الوجه لا يصحُّ؛ لكن لو باعه شيئاً يجهل المشتري حقيقته، ولم يستفصل عن حقيقته، واشترى هذا الشيء، كمن يدخل بقالة ويرى كيساً فيقول: بكم هذا الكيس؟ قال: بعشرة، قال: خذ العشرة، فإنه يلزم ويجب على المشتري إمضاء البيع؛ لأنه هو الذي قصّر وهو الذي غرّر بنفسه، فإذا كان ذلك المبيع في العرف يستحق العشرة صحَّ البيع ولزمه، لكن لو كان في العرف يستحق الخمسة وباعه عليه بعشرة حينئذٍ يكون خيار الغبن في الثمن -وسيأتي الكلام عليه-.
المقصود: أن من اشترى شيئاً يجهله، إذا كان هذا الشيء من باب التغرير -كما ذكرنا- كأن يبيعه الشيء في كيس أو يبيعه شيئاً ملفوفاً ولا يدري ما هو، فهذا قد رأى ولكنه جهل حقيقة المبيع، أو مثل (الكراتين) الموجودة الآن دون أن يكتب عليها الصفات ودون أن يبيّن ما هي نوعية هذا الصنف أو نوعية هذا المبيع، فإن البيع لا يصحُّ؛ لأن القاعدة عندنا الجهالة، وقد اشترى ما يجهله ولو أنه رآه، فكأن المصنف هنا يريد أن يقرر لك قاعدة: أن مجرد الرؤية ليس بكاف، وأن العبرة بزوال الغرر عنه، فلو قال له: أبيعك هذه السيارة وهو لا يعلم صفاتها الداخلية لم يصحّ البيع؛ لأنه وإن كان قد رأى المبيع لكنه لم يعلم حقيقته على وجه يزول به الغرر، فصار من البيوع المحرمة، لكن لو أنه باعه الشيء في كرتون أو كيس أو وعاء ومكتوب على الغلاف الصفات، أو أخرج عَيِّنَة من هذه الأشياء الموجودة في (القرطاس) أو في (الكرتون) وقال لك: من هذا النوع، ومن هذا الصنف، وهذه الصفات صحَّ البيع؛ لأنه وإن كان لم يكشف ما بداخل الكيس لكن الصفة الموجودة أمامه تتضمن ما فيه، فلو أخذه واختلف ما في الوعاء عما رآه كان له خيار الغبن؛ لأن هذا يعتبر خلاف المتفق عليه، وخلاف العقد المبرم بين الطرفين، ويعتبر من الغش إذا قصد البائع أن يغشه، وعلى هذا فإن بيع المجهول إذا أخرج له مثالاً أو أخرج صنفاً منه أو عينة -كما تسميه العامة- وقال: هذه عينته، صحَّ البيع وجاز.
قال رحمه الله: [أو وُصِف له بما لا يكفي سلماً لم يصح].
أي: إذا كان من جنس المعدودات يبين عدده، وأن يبين وزنه إن كان من جنس الموزونات، وأن يبين الكيل إذا كان من جنس المكيلات بعد بيان جنسه ونوعه وصفاته، فإذا ذكر المبيع ووصفه وصفاً معتبراً شرعاً ببيانه حتى يزول الغرر عن المشتري صحَّ البيع، وحينئذٍ يكون لك الخيار الذي يسمى بخيار الرؤية، إذاً: إذا اشتريت السلعة وقد رأيتها أمامك فلا إشكال؛ لكن لو باعك شيئاً موصوفاً في الذمة فقد التزم في ذمته أن تنطبق الصفات على الشيء الذي يعرضه عليك، فلو اختلفت الصفات عن الشيء الذي عرضه أو وصفه لك فحينئذٍ يكون من حقك أن ترد المبيع، وهذا يسميه العلماء: (خيار الرؤية)، وخيار الرؤية يقع في بيع يسمى بـ (بيع الغائب).
فقوله رحمه الله: [بما لا يكفي سلماً] هذا في بيع الأشياء الغائبة، والأشياء الغائبة هي التي ليست موجودة في مكان العقد، أو تكون موجودة في مكان العقد لكن لا يستطيع المشتري أن يعلم حقيقتها، فهذا كله من الغائب، حتى ولو كان حاضراً في مجلس العقد قد يكون غائباً؛ وذلك إذا كان مجهولاً، فعندنا مبيعٌ غائبٌ حقيقة، وعندنا مبيعٌ غائبٌ حكماً، فهو موجود لكنه في حكم الغائب، وهو الذي يكون مغلفاً أو محفوظاً في أوعية ولا تستطيع كشف ما بداخل هذه الأوعية، فحينئذٍ يكون غائباً حكماً، وحكمه أنه لا يصحُّ بيعه إلاّ أن يصفه وصفاً تزول به الجهالة وينتفي به الغرر.(146/7)
حكم بيع الحمل في البطن واللبن في الضرع منفردين
قال رحمه الله: [ولا يباع حملٌ في بطن].
هذا تطبيق للشرط الذي ذكرناه، وفيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع حبل الحبلة)، وفي السنن: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح)، و (المضامين): ما في بطون النوق، و (الملاقيح) قيل: إنها ما في أصلاب الفحول، وهذه السنة تدل على عدم جواز بيع الأجنة في البطون، سواء كانت في الإبل أو البقر أو الغنم، فلو قال له: أبيعك ما في بطن هذه الناقة، أو ما في بطن هذه البقرة أو ما في بطن هذه الشاة، أو أبيعك ما في بطن هذه الأمة فهذا كله من بيع المجهول، ولا يجوز، ويعتبر من بيع الغرر، ويجب في هذه الحالة رد الثمن إلى صاحبه، وإلغاء البيع، ويتوقف حتى ينتهي أمد الحمل، ثم تضع الناقة، وينظر في صفة الموضوع الذي تضعه، ويجرى العقد بعد وجوده وخروجه.
قال رحمه الله: [ولبن في ضرع، منفردين].
(ولبن في ضرع) أي: ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، وقد جاء فيه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع الصوف على الظهر، واللبن في الضرع)، وهذا الحديث رواه البيهقي في سننه وقد حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وفيه عمرو القتّاب وثقه غير واحد من العلماء، حتى قال بعض أهل العلم: حديثه مما يقبل التحسين؛ لأن البخاري ذكره وسكت عليه، ولم يضعفه، ولم يذكره بجرح، وبقية رجال الحديث ثقات.
وفي الحديث النهي عن بيع ما في الضرع؛ والسبب في هذا: أن الذي في ضرع الناقة أو الشاة أو البقرة أو حتى في ضرع الآدمية مجهول لكن المرأة يجوز أن تدفع لها المال أجرة من أجل أن ترضع الولد، فلو قالت: أنا أبيع ما في ثديي من الحليب بمائة، فلا يجوز؛ لأنه لا يُدرى أقليلٌ هو أو كثير؟ ثم لا يُدرى أيخرج جيداً أم رديئاً؟ ولذلك يقول العلماء: بيع ما في الضرع من بيع المجهول.
وندرك هنا دقة المصنف رحمه الله لما يأتي بأمثلة: تارةً الضرع، وتارةً الحمل، وهذا كله من باب تطبيق القاعدة التي ذكرها في الشرط وهي: وجود الجهالة، فإن الذي في الضرع مغيب وعلمه إلى الله عز وجل ولا ندري أقليل هو أو كثير؟ لكن لو أنه حلب ما في ضرع الناقة، أو ما في ضرع البقرة أو الشاة في إناء وعرضه للبيع جاز، إذا كان معلوم القدر؛ لأنه قد زالت الجهالة وانتفى الغرر، فالعلة الجهالة.
وأما مسألة بيع لبن الآدمية إذا حلب، ففيه خلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله، وهو هل يجوز بيع لبن الآدمية، أو لا يجوز؟ والصحيح جوازه؛ وذلك لأن الأصل جواز البيع حتى يدلَّ الدليل على منعه، وليس هنا دليل؛ ولأنه جازت الإجارة عليه فجاز البيع؛ ولأن الذين قالوا بتحريمه قاسوه على لبن الأتان -أنثى الحمار أكرمكم الله- فقالوا: الأتان محرمة الأكل، والآدمية محرمة الأكل، فيحرم بيع لبن هذه كهذه، وهذا قياسٌ مع الفارق؛ لأنه معلوم أن الحُمر لما حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحومها قال: (إنها رجس)، ثم إن لحوم الأتن مذهب طائفة من العلماء نجاستها، حتى إنهم قالوا: لا يجوز شرب لبن الأتان إلاّ عند الضرورة، وقد نظم بعض العلماء هذه المسألة بقوله في الضرورات المباحة لوجود الحاجة: وَلَبنُ الأُتنِ لِلسُّعَالِ وَالجلْدُ لِلرِئْمَانِ فِيْهِ جالي (ولبنُ الأتن للِسَّعالِ) أي: لعلاج من به سعال ديكي، إذا لم يوجد له دواء غيره فيجوز.
الشاهد: أن لبن الأتن محرم، لكن لبن الآدمية مباح، فحرم بيع لبن الأتان؛ لأنه محرم، وجاز بيع لبن الآدمية؛ لأنه مباح، فنقول: قياسه على لبن بهيمة الأنعام من الإبل والبقر أولى من قياسه على لبن الأتان.
وقد قاسوا قياساً آخر فقالوا: ما دمتم تقولون: إن لبن الأتان محرم نعطيكم قياساً من الآدمية نفسها، ونقول: يحرم بيع لبن المرأة كما يحرم بيع أعضائها، فكما أنه لا يجوز بيع يدها ورجلها فكذلك لا يجوز أن تبيع حليبها؛ لأن الكل من البدن.
ورُدَّ عليهم هذا القياس وقيل لهم: إن قطع الأعضاء مضرة وخروج اللبن مصلحة، فجاز بيع اللبن؛ لأن فيه المصلحة، وحرم بيع الأعضاء؛ لأن فيه مضرة، قالوا: نعطيكم شيئاً آخر، ونعطيكم سائلاً كاللبن، فإنه يحرم بيع لبن الآدمية كما يحرم بيع دموعها ورُدَّ عليهم: بأن الدموع لا منفعة فيها، واللبن فيه منفعة، فحرم بذل المال لما لا منفعة فيه؛ لأنه من أكل المال بالباطل، وجاز بيع اللبن؛ لأنه مما فيه منفعة ومصلحة للبدن.
فمن ناحية الأقيسة التي يذكرونها لم يستقم لهم قياس على تحريم بيع لبن الآدمية.
إذاً: الصحيح: أنه يجوز بيع لبن الآدمية كما تجوز الإجارة عليه، بل إن الحنفية أنفسهم الذين حرموا بيع لبن الآدمية يقيسون مسائل البيع على الإجارة، ويقيسون الإجارة على البيع؛ لأن كلاً منهما عقد معاوضة، والله تعالى يقول: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] فأمر الله عز وجل بكسوة المرضعة والإنفاق عليها وبذل المال لقاء الحليب الذي أخذ، فكما أنه تجوز الإجارة عليه كذلك أيضاً يجوز بيعه، وعلى هذا فإننا نفرق في مسألة اللبن التي ذكرها المصنف: وأنه إذا خرج من الضرع وعلم قدره جاز بيعه، ولا حرج ولا بأس بذلك.
وقوله: (منفردين).
أي: أن يبيعهما منفردين، وبشرط: ألاَّ يكونا قد خرجا وانفصلا عن البدن، أمّا لو خرجا وانفصلا وعلم قدرهما جاز، إذاً: عندنا شرطان: الشرط الأول: أن يبيع اللبن في ضرع الناقة أو الشاة أو البقرة منفصلاً عن الذات، أي: غير تابع للأم التي هي صاحبة اللبن.
الشرط الثاني: ألاَّ يكون قد علم قدره إذا بان وانفصل.
ففي كلتا الحالتين لا يجوز البيع.
يبقى
السؤال
لو أنه بيع اللبن مع الأم؟ فإنه يجوز؛ لأنه هنا تابع، ويجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل، ولذلك قالوا: التابع تابع، ألا ترى ثمرة البستان إذا لم يبدو صلاحها لو بعت الرقبة والذوات -وهي النخل- جاز لك أن تبيع الثمرة تابعةً للأصل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً قد أبِّرت فثمرتها للبائع، إلاّ أن يشترطها المبتاع)، فأجاز البيع ورخص فيه قبل بدو الصلاح؛ لأن مرحلة التأبير -كما سيأتي إن شاء الله في مسائل النخيل- إنما هي قبل بدو الصلاح، فدلَّ هذا على جواز بيع الشيء تبعاً.
وكذلك الحمل في البطن، فلو بعت ناقة وهي عشَراء جاز البيع، لكن أن تبيع الجنين منفصلاً لا يجوز؛ لأنك إذا بعت الرقبة بما فيها فهو تابع لها، فهذا نماءٌ متصلٌ بالمبيع كما لو بعته سميناً بلحم وافر ونعمة سابغة جاز البيع، كذلك إذا بعت الناقة وولدها في بطنها؛ لكن أن تبيع ولدها منفصلاً عنها لا يجوز؛ لأنك إذا بعته كذلك تحققت الجهالة، والأصل عندنا: أن بيوع الغرر لا تجوز، وهذا يؤكد سماحة الشرع، وأن الإسلام كما أنه رحمة في تخفيف التشريع، كذلك هو رحمة في الاحتياط للمشتري في حقه، فلا يجوز للمسلم أن يأخذ مال أخيه المسلم على شيء مجهول، وكذلك لا يجوز للمسلم أن يدفع ماله على وجه لا يضمن فيه حقه.(146/8)