صور الصداق وأحكام زكاته
قال المصنف رحمه الله: [ومن كان له دين أو حق من صداق أو غيره].
قوله: (من كان له دين أو حق من صداق أو غيره) الدين شيء والحق من الصداق يختلف، الصداق للمرأة، وقد يقع الصداق ديناً، فيشبه الدين ويأخذ حكم الدين إذا كانت المرأة قد طالبته بالسداد، مثلاً إذا قال: زوجتك بنتي بعشرة آلاف مثلاً، فقال: قبلت، ثم بُتّ النكاح على أن العشرة آلاف تكون حالّة، فيكون الزوج مطالباً بالعشرة آلاف حالة، فقال الزوج: هذه خمسة آلاف، وإذا يسّر الله الباقي أعطي الباقي، فالدين الذي عليه خمسة آلاف، فحينئذٍ في هذه الحالة، يكون الزوج مديوناً للزوجة مطالباً بالوفاء عند القدرة، متى؟ إذا كان قد بتّ.
وألزمه بالمهر بالعقد، فحينئذٍ قال: أنا عاجز الآن، ولكن إذا يسّر الله، هذا ثلث الصداق، هذا ربعه، هذا جزءٌ منه، هذا نصفه، فإن يسّر الله السداد أعطيتك، ففي هذه الحالة يكون في حكم الدين، إن كان الزوج قادراً على السداد والمرأة قادرة على مطالبته وقد تركت مالها لثقتها ببعلها وزوجها، فتزكيه لكل سنة؛ لأنه في حكم المال الذي في اليد، وكأنه مودع ومحفوظ عند الزوج، والودائع تزكّى، هذا إذا كان الزوج قادراً على السداد، والمرأة تستطيع أن تطالبه في أي وقت.
لكن لو أن الزوج بعد دخوله بالزوجة قد أعطى نصف المهر، ثم إنه افتقر ولم يستطع أن يسدد النصف الباقي، فحينئذٍ نقول: إن هذا النصف الذي بقي يأخذ حكم المديون المعسر، فلا يجب على المرأة أن تزكي هذا الدين الذي لها على زوجها حتى يسددها الزوج ولو بعد مائة سنة، فإذا سددها ولو بعد عشر سنوات أو عشرين سنة فإنها تزكي لسنة واحدة، على التفصيل الذي ذكرناه، لماذا؟ لأن الزوج لما عجز عن السداد كانت العشرة آلاف التي هي دين عليه كأنها مفقودة، فهي وإن كانت ديناً للزوجة على زوجها لكنها في حكم المفقود، فلا يجب عليها أن تزكي حتى يستطيع السداد، فإذا استطاع السداد وطالبته وأعطى وسدد ولو بعد عشر سنوات وجبت عليها زكاة سنة واحدة، على الأصل الذي قررناه، فلو أنها بعد عشر سنوات تمكن الزوج من السداد، فقالت له: اترك العشرة عندك مثلاً، فمن حين قولها: اتركها عندك حينئذٍ تستقبل الحول، كل حول يأتيها يجب عليها الزكاة؛ لأن المال أصبح وديعة أو شبه وديعة عند الزوج، ولما كان الزوج قادراً على السداد كان المال وإن لم يكن بيد الزوجة لكنه في حكم الذي بيدها، نظراً لوجود الغنى والقدرة على السداد هذه حالة أولى للمهر.
الحالة الثانية: أن لا يبتّ الزوج وإنما يعلق بقية الصداق على الطلاق والفراق، فيقول له: زوجتك بنتي بعشرين ألفاً، عشرٌ منها حالة ويجب عليك سدادها وإعطاؤها، وعشرٌ منها إذا طلقتها، فحينئذٍ تكون العشر الحالّة لا إشكال فيها، وحكمها حكم الأصل، حتى لو أنه عجز عنها يكون حكمها حكم ما ذكرناه من التفصيل السابق، لكن لو قال له: إذا طلقتها، فهذا فيه نظر، وهو: هل صداق المرأة مستحق بالعقد أو بالدخول؟ فإن قلنا: مستحق بالعقد أو بالدخول فقد وجب هذا الدين، وثبت على الزوج بمجرد دخوله بها أو بمجرد عقده عليها، ويسري فيه التفصيل الذي ذكرناه، ويكون الإنظار إلى الطلاق أشبه بالوديعة، كأنه تركه وديعة عنده، فتزكيه لكل سنة.
وإن قلنا: إن بقية الصداق في حكم الدين المؤجل، فلا يجب عليها أن تزكي إلا إذا وقع الطلاق، فإن وقع الطلاق استقبلناه، فإن كان قادراً على السداد وجب عليها أن تزكيه، وإن كان غير قادر على السداد فإنها لا تزكي، حكمه حكم الدين سواءً بسواء، هذا من التفصيل الذي سبقت الإشارة إليه.
إذاً: الصداق له حالتان: إما أن يبتّه ولي المرأة ويكون لازماً على الزوج بمجرد العقد، فحينئذٍ إذا بقي شيءٌ منه فهو دين وحكمه حكم الدين، إن كان الزوج قادراً على الإعطاء والوفاء، والزوجة تستحي أو لا تستطيع مطالبته بسبب الحياء، فحينئذٍ تجب عليها الزكاة؛ لأن الدين في حكم المال الذي بيدها، والمهر كأنه بيدها.
وأما إذا كان هذا المال واجباً على الزوج، والزوج لا يستطيع وفاءه؛ لعوز ودين وفاقة؛ فلا يجب على الزوجة أن تزكيه حتى يصير الزوج قادراً على السداد، وتستقبل فيه حكم ما ذكرناه وهو القادر على السداد.
وأما إذا كان المهر أو الباقي منه قد علّقه الولي على طلاق أو فسخ أو على أمد معين، فحكمه حكم الدين المؤجل على أحد الوجهين، وعلى الوجه الآخر يسري فيه ما يسري على الديون الحالة من جهة كونه غنياً قادراً على السداد أو غير قادر على السداد.(90/5)
كيفية إخراج زكاة المال المغصوب والمفقود
قال المصنف رحمه الله: [أو حق من صداق أو غيره].
قوله: (أو غيره) هناك مسائل أخرى تلتحق بمسائل الدين، منها: لو أن رجلاً جاء وغصبك مزرعتك، وهذه المزرعة فيها حبوب وثمار وزروع، فهي من جنس الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومن اغتصبها منك أو أخذها قهراً، فهو يدخل تحت قول المصنف: (حقٌ على غيره)، فيكون قوله: (كصداق) مثال، فيدخل في ذلك المال المغصوب.
فلو أن إنساناً اغتصب منك أرضاً زراعية فيها نخل أو حب، أو اغتصب منك ذهباً أو فضة، أو أخذ منك مائة ألف اغتصاباً، أو شخص سرق منك مالاً وعرفته، وتبين لك أنه سرق منك هذا المال، فلا يخلو من حالتين: إن كان هذا الغاصب تستطيع أن تنتزع حقك منه ببينة وشهود وقضاء، فحينئذٍ يجب عليك أن تزكي هذا المال.
وإن كنت لا تستطيع أن تأخذ حقك، أو تخشى ضرراً أعظم، وأنت في حكم المكره، وانطبقت عليك شروط الإكراه، سقطت عنك الزكاة، حتى إذا ملكت هذا المال، ورجع إليك، زكيته لسنة واحدة.
ويسري الحكم لبقية الأموال من ذهب أو فضة وحلي إذا غُصبت.
وقد ألحق بعض العلماء بهذه المسائل مسألة لطيفة، وهي: لو أن إنساناً كانت عنده مائة ألف، فأراد أن يخبئها في مكان، ثم نسي المكان الذي خبأ فيه المائة ألف، فهذا مال، وهو ملك له، ولكن هذا المال لا يستطيع أن يصل إليه، ولا يستطيع أن يهتدي إلى مكانه، فبعض العلماء يقول: إن نسي مكانه، أُلزم بزكاته، ووجبت عليه الزكاة كل سنة؛ لأنه فرّط على نفسه وقصر، وهذا التفريط لا يضيع حق الفقراء والمساكين، والأصل أنها واجبة عليه.
وقال بعض العلماء: لا؛ لأن هذا خلاف الشرع؛ لما فيه من الحرج والمشقة وتكليف الإنسان ما لا يطيق، فقد لا تكون عنده إلا هذه المائة ألف، والمال وإن كان ماله لكنه في حكم المفقود، ألا ترى من غُصب على ماله، ومن كان ماله على معسرٍ لا يستطيع سداده، قالوا: الناسي يستوي معه في الحكم، بل أشد منه ضرورة وأعظم منه بلية؛ لأنه إذا كان ماله على مدين فقير فإن يرجى له أن يجده، ولكن هذا ربما استغرق في النسيان إلى درجة لا يستطيع أن يتذكر موضع ماله، فقالوا: إنه لا تجب عليه الزكاة.
والنفس تميل إلى أنه لا تجب عليه الزكاة، فإن تذكر المكان ولو بعد سنوات زكّى لسنة واحدة.
وقوله: (على مليء أو غيره)، المصنف هنا اختار هذا القول.
وقوله: (أدى زكاته إذا قبضه لما مضى) وقد أُثر عن علي بعض الروايات يفهم منه هذا، أن الدين لا تجب عليك زكاته إلا عند قبضه، ولا يفصلون التفصيل الذي ذكرناه، ولا يفرقون بين المليء ولا غير المليء، ويقولون: إن هذا المال يعتبر كمال غيرك، فهو سيزكيه، فلا تزكيه أنت، حتى لا يزكى المال مرتين، وحينئذٍ قالوا: لا تزكيه إلا إذا قبضته، فإذا قبضته وجبت عليك زكاة سنة واحدة.
والصحيح: ما ذكرناه من التفصيل؛ لأن فقه المسألة يدور حول كون المال في يدك وفي حكم المال الذي في يدك، وبين كونه في يد الغير وفي حكم المال الذي للغير، وعلى هذا يكون التفصيل الذي اخترناه هو الأقرب والأولى بالصواب إن شاء الله تعالى.(90/6)
حكم من ملك نصاباً وعليه دين
قال المصنف رحمه الله: [ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب].
بعد أن بيّنا حكم دينك إذا كان لك على الغير دين، يرد السؤال في العكس، إذا كان للغير عليك دين فكنت مديوناً للغير؛ كشخص له تجارة وهذه التجارة فيها دين للغير، فلا يخلو إما أن يستغرق دين الغير جميع التجارة فتسقط عنه الزكاة؛ لأنه لا يملك شيئاً؛ لأنه مال للغير، هذا مذهب الجمهور أن الدين يسقطها، وأثر عن عثمان رضي الله عنه ما يدل على ذلك حينما كان يفرض للناس أعطياتهم إذا حلّ أجلها، وكان يقول: (هذا شهر زكاتكم لمن كان له دين) ويسقطه رضي الله عنه، وكان يعتبر الدين مسقطاً للزكاة عن المال، وهو مذهب الجمهور.
وقال بعض العلماء: الدين لا يسقط الزكاة؛ لأن هذا الرجل الذي له مال، وهذا المال ملك للغير يخيّر بين أمرين: إما أن يسدد الناس حقوقهم، وإما أن يزكّي، أما أن يبقي المال عنده لا هو زكّى وأعطى الفقراء حقوقهم من المال، ولا هو سدد أصحاب الأموال؛ فإنه حينئذٍ يكون ظالماً، وهذا الظلم يقع على الفقراء، والأصل وجوب الزكاة.
ولا شك أن الإنسان الذي عليه دين: إما أن يوفي الناس ديونهم، وإما أن يؤدي زكاته، فالنفس تميل إلى هذا القول الذي اختاره بعض العلماء رحمة الله عليهم من أن الدين لا يسقط الزكاة.(90/7)
تقسيم الأموال إلى ظاهرة وباطنة
قال المصنف رحمه الله: [ولو كان المال ظاهراً].
قوله: (ولو كان المال ظاهراً) العلماء والفقهاء رحمة الله عليهم يقسمون الأموال إلى قسمين: أموال ظاهرة، وأموال باطنة، الأموال الظاهرة عندهم كالزروع والدواب والمواشي والعقارات ونحوها من المنقولات الأخرى، وهي تكون في المثمونات، وأما الأموال الباطنة فهي في الذهب والفضة، يسمون الأول ظاهراً وهو الزروع والمواشي والعقارات والأرضين والدور، كل ذلك يسمونه أموالاً ظاهرة، وأما بالنسبة للأموال الباطنة فهي كالذهب والفضة، ولذلك هي خفية والناس يؤتمنون عليها، يعني: حينما يأتي الشخص يكون عنده مائة ألف، قد لا تستطيع أن تفرض عليها الزكاة؛ لأن ماله خفي، لكن إذا كانت له عقارات وبقالات ومحلات تجارية، فإن هذه أموال ظاهرة مكشوفة أمام الناس، ولكن الذهب والفضة يكون باطناً خفياً عن الناس، ولذلك قالوا: الأول ظاهر، وقالوا في الثاني: باطن.(90/8)
حكم من ملك نصاباً وعليه حق لله
قال المصنف رحمه الله: [وكفارة كدين].
هذا من التسلسل والترتيب المنطقي في الأفكار، فقد بيّن لنا رحمه الله الحكم في حقوق العباد -إذا كان للإنسان على الإنسان دين- وأنه يختار رحمة الله عليه ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الدين يسقط الزكاة هذا إذا كان الدين لمخلوق، فما الحكم إذا كان الدين للخالق؟ القول الذي اختاره المصنف رحمة الله عليه أن الرجل لو كانت عنده مائة ألف، وهي مال للغير ودين للغير يستحقه عليه لا تجب الزكاة، فيرد
السؤال
لو كان عنده ألف ريال، وعليك ديون لله عز وجل فيها، أو عندك خمسة آلاف ريال وعليك دين لله من عتق رقبة في كفارة قتل، أو كفارة جماع في نهار رمضان، أو في ظهار، الرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، وأنت تملك خمسة آلاف ريال، فعليك دين لله عز وجل.
فالمصنف رحمه الله بعد أن بين أن الديون تسقط الزكاة عن الأموال، قال رحمه الله: دين الله ودين المخلوقين سواء، فمن كان عليه دين للمخلوق يسقط به المال بحيث يستغرق المال كله أو ينزل به المال عن نصاب الزكاة فحينئذٍ يقولون: لا تجب عليه الزكاة، فلو كانت عنده خمسة آلاف وعليه عتق رقبة بخمسة آلاف ريال، فحينئذٍ يقول المصنف رحمه الله وجمهور العلماء: هذا المال وإن كان مما تجب فيه الزكاة، لكنه مستغرق لحق لله عز وجل، قالوا: نقيس حق الله على حق المخلوق، فكما أسقطنا الزكاة بحق المخلوق وهو الدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فدين الله أحق أن يقضى)، وفي الصحيح: (ودين الله أحق بالوفاء)، قالوا: فمن كانت عليه كفارات مجتمعة أو متفرقة تستغرق بحقها من المال والنقد النصاب، أو تستغرق أمواله كلها فلا زكاة عليه، مثل من عنده خمسة آلاف وعليه عتق رقبة، أو عنده خمسة آلاف والرقبة قيمتها مثلاً ألفان وخمسمائة وعليه رقبتان تسقط عنه الزكاة، أو مثلاً عليه عتق رقبة كفارة، وعليه فدية أو عليه شاة جبراناً لواجب في الحج فوّته أو ضيعه، فحينئذٍ إذا جمعنا هذه الشياه الواجبة عليه في واجبات الحج، وجمعنا ما للرقبة من مال استغرق سبعة آلاف ريال وعنده سبعة آلاف ريال، أو عنده خمسة آلاف ريال وهي دون المبلغ المستحق عليه فلا زكاة عليه، هذا على القول الذي ذكرناه من أن الديون تسقط الزكاة، وقد ذكرنا ما هو راجح في هذه المسألة.(90/9)
حكم زكاة من ملك نصاباً من صغار الغنم ونحوها
قال المصنف رحمه الله: [وإن ملك نصاباً صغاراً انعقد حوله حين ملكه].
قوله: (وإن ملك نصاباً صغاراً) الصغار كالسخلة من الغنم، فمعلوم أن الشرع إذا أوجب الشاة في الأضحية أو الهدي يشترط سناً معينة، الثني من الماعز والجذع من الضأن، فلو فرضنا أنك ملكت شياهاً دون القدر الذي يعتد به وهي الصغار، والشاة الصغيرة هي التي تسمى بالجفرة، لو أن إنسان عنده جفار مثلاً أربعين جفرة؛ فإنه تجب عليه الزكاة منذ أن ملكها، ولا يقال أن هذه الصغار دون الحد الواجب، ولا تجب عليه الزكاة؛ بل تجب عليه فيها الزكاة.(90/10)
صور انقطاع الحول
قال المصنف رحمه الله: [وإن نقص النصاب في بعض الحول أو باعه أو أبدله بغير جنسه لا فراراً من الزكاة انقطع الحول].
لو كان عندك نصاب من إبل أو بقر أو غنم أو ذهب أو فضة، وهذا النصاب في أثناء حولان الحول وقبل تمامه غيرّته أو بدلته أو أنفقت منه فنقص، فإن هذه مسألة يُحتاج إلى بحثها.
ما مناسبة هذه المسألة لما مضى؟ -حتى نعرف ترتيب العلماء للأفكار- الأصل في هذه المسائل التي نبحثها أنه تجب عليك الزكاة، وأسقطتها لحقوق الله عز وجل، فكأنه يبحث متى تجب وتسقط، فأنت في قاعدة وجوب الزكاة عليك وسقوطها لسبب؛ مثل ما ذكرنا؛ لديون أو حقوق، ففي حكم ذلك لو أن العوز والنقص اعتراك بحكم الشرع، فعندك نصاب وقبل تمام الحول نقص هذا النصاب، فلو فرضنا كانت عندك أربعون شاةً، وكان بداية ملكك لها في الأول من شهر المحرم، فأنت تستقبل بها حولاً كاملاً، جئت في ذي الحجة قبل تمام ذي الحجة ودخولك في المحرم حتى تجب عليك الزكاة ماتت من هذه الأربعين شاة، أو ذبحت لضيف منها شاة، أو بعت منها شاة أو شاتين أو ثلاثاً، فحينئذٍ نقصت عن النصاب، فتستقبل الحول من جديد، وإذا ملكت شاة أخرى فإنك تنتظر إلى أن يتم النصاب من جديد، ولو قبل حَوَلان الحول بيوم واحد.
أي: في يوم تسعة وعشرين من ذي الحجة جاءك ضيف ونزل بك وذبحت له الشاة، فحينئذٍ يعتبر هذا المال قد خرج عن حكم الزكاة، ولا تجب عليك فيه الزكاة وتستقبل حولاً جديداً ولو بعد عشرين سنة، فإذا ملكت شاة أخرى فأصبحت هذه الشياه أربعين شاة؛ تبتدئ الملكية وتستقبل حولاً جديداً بالملكية، وحينئذٍ لا إشكال، هذه حالة، أن ينقص المال عن الزكاة، لكن يشترط في هذا النقص ألا يكون حيلة على الشرع، والحيلة على الشرع: الفرار من الزكاة ومن حق السائل والمحروم الذي أوجبه الله عليك في مالك زكاة له، فلو أن إنساناً عنده -مثلاً- مائة وإحدى وعشرون شاةً، الواجب عليه شاتان، وقبل أن يأتيه المصدِّق بيوم احتال في إعطاء هذه الشاة لشخص، فحينئذٍ أعطى شخصاً مثلاً شاة صغيرة السن كالجفرة مثلاً، فهذا من الحيلة بدل أن يدفع للمتصدق شاتين بالسن المعتبرة وهو الثني من المعز والجذع من الضأن، فإن كانت ضأناً فلا إشكال، وإن كانت من الماعز فماعز، لكنه قال: بدلاً أن أعطي شاتين من الثني من الماعز، فإنني آخذ هذه الجفرة وأهديها لجاري، فأهداها لجاره قبل مجيء المصدِّق، فهذه حيلة لا تسقط حق الله عز وجل في ماله، ويجب عليه أن يؤدي شاتين ولو كان الغنم دون النصاب المعتبر في الشرع، ولو أعطى ثلاث جفرات -مثلاً- فانتقص عن قدر الشاتين وجبت عليه شاتان، لماذا؟ لأنه احتال على الشرع، فهو يعامل بنقيض قصده، كمن طلّق امرأته وهو في مرض الموت ظلماً لها حتى يحرمها من حق الله، فهذا ظالم للمساكين قاصد حرمانهم من حق الله، كيف تثبت عليه؟ تقول: الأصل وجوب الشاتين عليه، ولكنه فرّ عن هذا الأصل بغير عذر شرعي، فكونه أعطى أو لم يعط عندنا على حد سواء؛ لأن إعطاءه افتيات على الشرع وظلم للناس، ولا يمكن للشرع أن يأذن بهذا الظلم، لأنك لو قلت: سقطت عنه الزكاة فقد أذنت بالظلم، وأجزت له أن يضيع حق الفقراء، وحينئذٍ خالفت مقصود الشرع، ولذلك يقولون: يجب عليه أن يؤدي الشاتين، ولو احتال بهذه الحيلة فوجودها وعدمها على حد سواء، فيعامل بنقيض قصده.
فمن طلّق امرأته في مرض الموت، فإن هذا التطليق لا يؤثر، وتكون وارثة له؛ لأنه قصد حرمانها من حقها.
لكن ما الدليل على أن الشرع يعامل المحتال بنقيض قصده؟
الجواب
لو أن إنساناً رأى أباه يملك مالاً كثيراً يقدر بالملايين مثلاً، فحبه للدنيا أغراه أن يقتل أباه، بحيث ينال ما عند أبيه من التركة والمال أو كان ابناً له، عنده مثلاً أموال كثيرة، فأقدم الأب على قتل ابنه، فإن الأب إذا قتل ابناً لا يقتل به؛ بشبهة الأدب، وهذه مسألة ستأتي -إن شاء الله- في كتاب القصاص، حيث نعلم أنه يمتنع قتل الوالد بابنه، فحينئذٍ إذا قتله وهو يريد الميراث منه، فإن الشرع لا يورث القاتل كما هو نص السنة: (لا يرث القاتل المقتول)، فحينئذٍ عومل بنقيض قصده، إذ لو فتح للناس أن القاتل يرث، فإن الإنسان يقدم على قتل قريبه وهو يعلم أن ورثته لا يقتلونه، فإن الابن قد يقتل أباه، وهو يعلم أن بقية إخوانه سيتنازلون؛ لأنهم لا يرضون أن يفجعوا بأبيهم وأخيهم، فسيتنازلون عن القصاص، فإذا تنازلوا عن القصاص فإنه سيرث، ولذلك سدّ الشرع الذرائع المفضية إلى سفك الدماء والوصول إلى الأموال بهذه الحيل، ونهى عن توريث القاتل ممن قتل، وبناءً على ذلك فإنه لا يرث القاتل المقتول، وذلك معاملة له بنقيض القصد، قال العلماء: ففهم من هذا أن من قصد قصداً محرماً، فإنه يعامل بنقيض قصده، ولذلك قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده موافقاً لقصده لا مخالفاً له.
فإذا كان قد أعطاه الله مائة وإحدى وعشرين شاةً ويسرّها له، فقصد الشارع أن يعطي المسكين حقه من الشاتين، فإذا جاء يخالف قصد الشارع بنية منكرة، وجحود لنعمة الله عليه، وإضرار بالفقراء والضعفاء، عومل بنقيض قصده، فأوجبنا عليه الشاتين، مع أن ماله في الصورة ليس بمال تجب فيه الشاتان وإنما هو مال تجب فيه الشاة الواحدة.
هذا بالنسبة لما يتعلق بمسألة المعاملة بنقيض القصد.
قال المصنف رحمه الله: [أو أبدله بغير جنسه لا فراراً من الزكاة انقطع الحول وإن أبدله بجنسه بنى على حوله].
قوله: (أبدله) من بدّل ماله من غنم أو بقر أو إبل، أو ذهب أو فضة أو غير ذلك من أموال الزكاة، فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يبدّله بجنسه مع اتفاق النوع، مثلاً عنده إبل فأبدلها بإبل، كأن يكون -مثلاً- عنده عِراض فأبدلها ببختية؛ لأن الإبل العِراض هي التي لها سنام واحد، والبختية هي التي لها سنامان، فأبدل الإبل بالإبل، حينئذٍ لا إشكال؛ لأن الجنس واحد فيبقى الحكم واحداً، فكأن المال لم يختلف.
الحالة الثانية: أن يبدله بغير جنسه، كأن يكون عنده ذهب وفضة، فاشترى بهما -مثلاً- عقاراً لكي يتاجر به، فحينئذٍ نقول: يستأنف الحول من شراء هذا العقار؛ لأنه خرج عن كونه ذهباً وفضة إلى كونه عقاراً، وخرج عن زكاة الأثمان إلى زكاة عروض التجارة، فحينئذٍ يستأنف الحول من جديد، لكن بشرط: ألا يكون قاصداً الحيلة على الزكاة، مثلما ذكرنا؛ فإنْ قصد الاحتيال على الزكاة؛ كإنسان يكون عنده مليون، فاشترى بها بيتاً قبل تمام الحول حتى يفر من زكاتها ثم باع هذا البيت -مثلاً- واشترى به بيتاً وهو واثق أن البيت سيأتي بقيمته ولا يتغير الحال ولا يقصد الربح ولا النماء ثم يبيعه بنفس القيمة، أو يشتريه وهو يعرف أنه سيخسر، ولكنه يقارن بين خسارته بهذا الشراء وخسارته في الزكاة، فيرى أن خسارته بالزكاة أعظم من خسارته بالشراء، فيشتريه ويبيعه بعد يوم أو يومين، فحينئذٍ نقول: هذا الشراء لاغٍ، وهذا التبديل لاغٍ، وعليه أن يبقى على الحول الأصلي، وذلك معاملة له بنقيض قصده.
إذاً لا بد للفقيه والمفتي أن ينظر إلى قصده، وأن يعلم ما يريد من هذا التبديل، فإن كان تبديله بريئاً ليس خروجاً من الزكاة؛ فإنه حينئذٍ يؤثر إذا كان من غير جنسه، وإن كان من جنسه فإن المال مال واحد وتجب عليه الزكاة.
وقوله: (بنى على حوله) يعني على حول الأصل.(90/11)
تعلق الزكاة هل هو بعين المال أم بذمة مالكه
قال المصنف رحمه الله: [وتجب الزكاة في عين المال].
قوله: (وتجب الزكاة في عين المال) هذه مسألة خلافية الزكاة هل أوجبها الله في الأموال بعينها، أم أوجبها في ذمتك؟ إما أن تقول الزكاة واجبة في ذمم الناس متعلقة بالمكلفين، أو تقول: الزكاة واجبة في أموال الناس.
فللعلماء وجهان: اختار المصنف رحمه الله مذهب من يقول: الزكاة واجبة في عين المال؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (في كل أربعين شاةً شاةٌ) فإنه عبر بـ (في) جعل في الظرفية، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] (في أموالهم) فجعلها حقاً في عين المال.
ومنهم من قال: حق في الذمة.
ما الفرق بين قولك: في عين المال، وبين قولك: في الذمة؟ هذا تترتب عليه فوائد، من ألطفها: لو أن رجلاً امتنع من أداء الزكاة في الغنم، عنده أربعون شاةً، تجب عليه شاة واحدة، فامتنع السنة الأولى وامتنع السنة الثانية وامتنع السنة الثالثة، ثم تاب إلى الله وأراد أن يزكّي، فإن قلت: الزكاة في عين المال، حينئذٍ يكون الواجب عليه شاة واحدة، لماذا؟ لأنها لما كانت في عين المال، وجبت عليه شاة واحدة في السنة الأولى، فأصبح عين هذه الشاة محبّساً وديناً عليه، فأصبح الذي عنده تسع وثلاثون شاة، وإنما تجب الزكاة إذا كان الذي عنده أربعون شاة، والذي عنده تسع وثلاثون فتعلقت الزكاة بعين ماله، وأصبحت هذه الشاة ديناً عليه لا يملكها، فإذا جاءت السنة الثانية جاءت وعنده تسع وثلاثون، وليس عنده أربعون، فحينئذ يكون عليه زكاة سنة واحدة، ولو جلس على هذه الوتيرة عشر سنوات، فالواجب شاة واحدة.
أما لو قلت: متعلقة بذمته، فحينئذٍ تجب عليه ثلاث شياه، الشاة الأولى للسنة الأولى، وهي دين في ذمته، وقد ملك أربعين، فجاءت السنة الثانية وقد ملك الأربعين فعليه شاة ثانية، ثم جاءت السنة الثالثة وعليه شاة ثالثة، فأصبح الواجب عليه ثلاث شياه.
هذا يتفرع على مسألة الحلي، إذا قلنا: على المرأة في حليها زكاة، إذا كانت نصاباً فلو فرضنا أن عندها نصاباً، وحد النصاب تسعون غراماً على أحد الأقوال، التسعون غراماً وجب عليها ربع عشرها، فإن قلنا: يتعلق هذا بعين مالها وهو الحلي، فإنها إذا امتنعت السنة الأولى والثانية والثالثة والرابعة؛ فالواجب عليها زكاة سنة واحدة؛ لأنها لما وجب عليها ربع عشر التسعين جراماً انتقص النصاب عن الحد الواجب، وحينئذٍ تكون في السنة الثانية غير مطالبة بالزكاة وكذلك في الثالثة والرابعة، فإن تابت إلى الله وجبت عليها زكاة سنة واحدة، هذا إذا تعلق الحق بعين المال.
أما لو تعلق حق الزكاة بذمة مالك المال، فحينئذٍ تجب عليها الزكاة في السنوات مضاعفة مرتبة، ولا نظر إلى تأثيرها في النصاب وعدم تأثيرها، وهذا معنى قوله رحمة الله عليه: أن الزكاة متعلقة بعين المال.
قال المصنف رحمه الله: [ولها تعلق بالذمة].
قوله: (ولها تعلق بالذمة) هي المسألة التي ذكرناها آنفاً، وهذا ينبني على مسألة الدين، يقولون: لو قلت: إنها في عين المال سقطت عنه الزكاة، فإذا دخلت في ذمته يقولون: من جهة الاستحقاق بدليل إيجاب الزكاة على غير المكلف من الصبي واليتيم، فإنك أوجبتها في عين المال، وكذلك أيضاً تجب في الذمة من جهة الاستحقاق، وتفرّع على قول أنها متعلقة بالذمة أنها لا تصح بدون نية، ولا بد له من قصد العبادة، ولا بد له من التوكيل فيها وأن يقصد التوكيل، فلو أخرج إنسان زكاة عن رجل دون أن يأذن له ويوكله، فإنه لا تبرأ ذمته؛ لأنه لم ينو براءة الذمة، فهي عبادة متعلقة بذمته، فلو أن ابناً -مثلاً- تبرع عن أبيه بزكاة فإنها لا تصح؛ لأنها تعلقت بذمة الأب، وهذه الذمة لا بد وأن ينوي بها لإخراجه أصالة أو وكالة، فلما أوقعها الغير دون أن ينويها من تعلقت بذمته لم تجزه من هذا الوجه.(90/12)
بيان الأمور غير المسقطة لوجوب الزكاة
قال المصنف رحمه الله: [ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء ولا بقاء المال].
شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي لا تعد مسقطة لوجوب الزكاة، ومن ذلك عدم القدرة على الأداء، بعد استقرار وجوب الزكاة في ذمة الإنسان، ومثال ذلك: أن يحول الحول على المال، ويكون حوله مثلاً في أول محرم، ثم يُجنّ أو يغمى عليه، ولا يستطيع أن يقوم بأداء هذه الفريضة، فإن طريان الجنون والإغماء عليه يمنعه من القدرة على الأداء، فهذا الطريان لا يؤثر في استقرار الزكاة ووجوبها، كما نص رحمة الله عليه على ذلك، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)، كما في حديث السنن الصحيح، فهذا الحديث بيّن أن الزكاة واجبة في المال، وبناءً على ذلك كونه يغمى عليه ولا يقدر أن يتمكن من الأداء، لا يؤثر في استقرار الوجوب وثبوته، ولزوم مطالبته بهذا الحق، كما لو أنه أُغمي عليه، فإن الصلاة واجبة، فكما طولب بالصلاة يطالب بالزكاة وغيرها من الفرائض على الأصل، إلا ما قام الدليل على استثنائه بالإسقاط، وبناءً على ذلك نص رحمه الله على أنه لا يُسقط مثل هذا وجوب الزكاة عليه، فإن كان مجنوناً وأُقيم وليه مقامه، فإن هذا الولي يخرج الزكاة عنه نيابة؛ لأنه تعذر الأصيل، فأقيم عنه الوكيل، فيخرج عنه الزكاة كما هو الحال في مال اليتيم.
قوله: (ولا بقاء المال).
وصورة ذلك: لو أن إنساناً وجبت عليه الزكاة، ثم إن هذا المال استبدله بمال آخر بعد وجوب الزكاة عليه، أو حوّله إلى جنسٍ آخر، فلا تزال الزكاة واجبة عليه، ويعتبر مطالباً بهذه الزكاة؛ لأنه قد تعلّقت ذمته بهذه المطالبة، ولا دليل على إسقاطها، فلو أنه بادل هذا المال أو صرف عينه أو وهبه أو تصدق به بعد مضي الحول، فإنه يطالب بإخراج الزكاة.(90/13)
تعلق الزكاة الواجبة على الميت بتركته
قال المصنف رحمه الله: [والزكاة كالدين في التركة].
قوله: (والزكاة كالدين) أي: حكمها حكم الدين، وتثبت في تركة الإنسان بعد موته، وهذه مسألة اختلف فيها العلماء رحمة الله عليهم: فمن أهل العلم من يقول: إن من لم يؤد الزكاة تعتبر ديناً عليه، تُخرج من ماله بعد وفاته، وأخذ بعموم قوله سبحانه وتعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11]، والآية الثانية: {يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، والآية الثالثة: {تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، فقال: إن الزكاة دين لله عز وجل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)، قالوا: فقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم صيام النذر الذي تعلق بذمة الميتة وهي أم السائلة منزلة الدين، فإذا كان صوم النذر ديناً بوجوبه على المكلفة، فكذلك الزكاة صارت ديناً على المكلف بوجوبها؛ بتعلق ذمته بهذا الحق، وبناءً على ذلك، فلو مات ولم يؤد الزكاة، مقصِّراً في ذلك أو غير مقصر، فإنها تعتبر ديناً في ماله، ويُخرج هذا الدين من ماله، ولو تكرر لسنوات عديدة.
ومن أهل العلم من يقول: إن الزكاة لا تبقى متعلقة بذمة الميت، بمعنى: أنه لا يطالب الورثة بإخراجها من التركة، والتركة قد صارت إلى ملكية الورثة، فهم الذين ملكوها بمجرد مرضه للموت، ولذلك لا يتصرف إلا في حدود الثلث، وعلى هذا القول، قالوا: لو فتحنا هذا الباب لأصبح ذريعة للإضرار بالورثة، وهذا يقول به بعض أئمة السلف، ويختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة، فأصبح كل رجل يؤخر زكاة ماله إلى دنو أجله، فيصير ماله مستحقاً بكماله لسداد ديون الزكاة عليه، والأصل يقتضي رجحان قول الجمهور الذين يقولون: إنها متعلقة بالمال.
ومن أهل العلم من فرّق فقال: إذا فرّط فإنه تجب الزكاة على ماله، وتؤخذ من تركته، وإذا لم يفرِّط فإنه لا تؤخذ من التركة ولا يُطالب بها الورثة، والأول أقوى.(90/14)
الأسئلة(90/15)
حكم زكاة الجواهر النفيسة من غير الذهب والفضة
السؤال
هل تجب الزكاة في المعادن الأخرى غير الذهب والفضة كالألماس والأحجار الكريمة؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن الحلي من الذهب والفضة تجب فيها الزكاة على أصح أقوال العلماء، فإن اشتمل حلي المرأة على ألماس وعلى جواهر أخرى، فإنه لا تجب عليها الزكاة فيه، وبناءً على ذلك يقولون: يختص الحلي بالذهب والفضة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها ... ).
وأما بالنسبة للألماس والياقوت والمرجان واللؤلؤ؛ فهذه إن عرضها للبيع وكانت من عروض التجارة وجبت الزكاة في قيمتها، أما لو تحلّت بها المرأة أو كان فص خاتمها عقيقاً أو نحو ذلك، فإنه لا تجب على من ملكه الزكاة إذا اتخذه للبس وحلي.
والله تعالى أعلم.(90/16)
حكم زكاة العقارات إذا عرضت للبيع
السؤال
من كانت عنده أرض يتربص بها السوق وينوي بيعها، فهل عليه فيها زكاة؟
الجواب
هذه المسألة وهي مسألة عروض التجارة إذا كانت من العقارات، عندك بيت أو أرض أو مزرعة عرضتها للبيع سنوات ولم تبعها إلا بعد عشر سنوات، فهل الواجب عليك أن تؤدي زكاتها في كل سنة، أم الواجب عليك أن تؤدي زكاة سنة واحدة؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فقال بعض العلماء: الواجب عليك أن تؤدي زكاة سنة واحدة عندما تبيعها، فإذا بعت الأرض أو بعت المزرعة أو بعت الدار وجبت عليك زكاة سنة واحدة، وبهذا قال سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وخارجة بن زيد وأبو بكر بن عبد الرحمن المخزومي والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فهو مذهب الأئمة السبعة -فقهاء المدينة السبعة- واختاره إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس، وهو إحدى الروايتين والوجه أيضاً عند الشافعية، يقولون: إنه تسقط الزكاة عنه وتجب عليه لسنة واحدة.
وهذا هو أصح أقوال العلماء: أن ما عرضته للبيع من بيوتٍ أو عقارات أرضين ومخططات وزراعات كل ذلك لا تجب عليك الزكاة إلا عند البيع، فتزكيها لسنة واحدة ولو مضت عليها سنوات وأنت عارضٌ لها للبيع.
والله تعالى أعلم.
يقولون: أنه ليس مالكاً للمال أصلاً، ولم يثبت ملكه للمال إلا بالبيع، فإنه ربما عرضت للبيع ثلاث سنوات، ثم عدلت عن البيع إلى الملكية والقنية، ولذلك قالوا: إنه لا تجب عليك الزكاة، ثم إنك ربما -كما هو موجود الآن- ربما يكون قيمة العقار الآن مائة ألف ثم في السنة الثانية مائة ألف والثالثة مائة ألف والرابعة إلى عشر سنوات وقيمته مائة ألف، ثم ينزل هذا العقار حتى يباع بخمسة آلاف وقد يباع بعشرة آلاف، فتزكي طيلة هذه السنوات ثم تبيع ولا يبلغ قيمة بيعك ما زكيت.
وهذا موجود، خاصة الآن ربما كان المكان مرغوباً لسبب، ثم يشاء الله عز وجل لأمر أو لآخر أن يصبح هذا المكان كأنه لا قيمة له، فبدلاً من أن تكون قيمته مئات الألوف ولربما تبلغ الملايين يصبح لا قيمة له، ولذلك قالوا: إنه لا يزكي إلا عند بيعه؛ لأنه لما باع تحققت ملكيته للأرض، وأصبح هذا المال أشبه بالديون وأشبه بالمال غير الموجود، حتى يتحقق من بيعه، ولأن نيته غير ثابتة؛ إذ لو طرأ عليه طارئ للسكنى والقنية ونحو ذلك، فإنه سيسكن ويقتني ويخرج عن كونه متاجراً.
والله تعالى أعلم.(90/17)
حكم زكاة الدين الذي لا أجل له
السؤال
ما حكم الدين الذي لم يسم له أجل، بل ترك أمره إلى المدين متى شاء سدده، هل تجب زكاته، أم لا؟
الجواب
إذا كان الدين لا أجل له، فإنه ينظر في صاحبه، فإن كان قادراً على السداد، فإنه يجب أن يحتسب وجوبه منذ قدرته على السداد، ويفصّل فيه كما فصّل في المليء، وأما إذا بقي عاجزاً عن السداد لسنوات طويلة فلا زكاة عليه حتى يسدده، وإذا سدده زكاه لسنة واحدة.
والله تعالى أعلم.(90/18)
زكاة الأنعام إذا تعدد الملاك ووقعت الخلطة
السؤال
والدي ووالدتي لهما غنم تبلغ بمجموعها النصاب، ولكن كل واحد يطعم غنمه على حدة، ومبيتهما في حظائر متجاورة، فهل عليهما زكاة كلٌ على حدة، أم بمجموعهما؟
الجواب
هذه المسألة هي مسألة الشركة في بهيمة الأنعام، فشرط اعتبار المالين مالاً واحداً أن يكون مراحهما واحداً ومرعاهما واحداً وفحلهما واحداً، فإذا كان الأمر كذلك فإنه تجب الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجمع بين مفترق، ولا يفرّق بين مجتمع خشية الزكاة).
فإذا كان المال على هذه الصفة فإنه تجب فيه زكاة المال الواحد؛ فلو ملك أحدهما عشرين شاة، وملك الآخر عشرين شاة، وجبت عليهما شاة واحدة، يدفعها أحدهما، ثم نقدر قيمة هذه الشاة، ويجب على الآخر أن يدفع نصف قيمتها، فلو أن هذه الشاة أُخذت من أحد الشريكين وقيمتها خمسمائة ريال، فإننا نوجب على الشريك الثاني أن يدفع له مائتين وخمسين ريالاً، وقس على هذا.
وأما إذا كان مراحهما مختلفاً، أو كان لكل واحد منهما حظيرة، ومرعاهما مختلف، أو كانت من المعلوفة كما ورد في السؤال، فإنه لا تجب زكاتهما، وليسا بمال واحد، وإنما هما مالان مختلفان.
والله تعالى أعلم.(90/19)
كيفية إخراج زكاة الدين المقسط
السؤال
لقد استدان مني أحد الناس مبلغاً وقدره عشرون ألفاً، وهو يدفع لي المبلغ أقساطاً؛ كل شهر مقدار تسعمائة، فهل في هذا المال زكاة؟
الجواب
إذا مضى على هذا الدين سنة كاملة وحلّ أجل مطالبته، فحينئذٍ تنظر إلى كل قسط وتزكيه على حدة، وتجب عليك زكاة كل قسط منفرداً، فتؤديه لسنة واحدة.
والله تعالى أعلم.(90/20)
حكم المطالبة بأداء الدين بعد إبراء المدين منه
السؤال
لو أن لي عند شخص مالاً، ثم أبرأته منه بسبب عجزه عن السداد في ذلك الوقت، ثم إن الله منَّ عليه بالمال وأصبح غنياً، فهل لي أن أطالبه به الآن؟ وما حكم ذلك؟ وهل له أن يرفض السداد؟
الجواب
إذا سامحت أحداً في الدين فقد وهبته المال، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس لنا مثل السوء: العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)، مضى أجرك على الله، واحتسب ثوابك عند الله، ولا تفسد عليك آخرتك بدنياك.
والله تعالى أعلم.(90/21)
عقوبة تارك الزكاة
السؤال
ما عقوبة تارك الزكاة يوم القيامة؟
الجواب
عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفِّحت له صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيد عليها، فأحميت؛ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار، وما من صاحب إبلٍ لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها فصيلاً، يجدها أوفر ما تكون، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأنيابها، كلما مرّ عليه أخراها أعيد عليه أولاها؛ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) ثم ذكر ذلك في الغنم.
فهذه هي عقوبته في الآخرة.
وأما عقوبته في الدنيا، فمحق البركة من الأموال، وسوء العاقبة والمآل، ومن ضيّع حق الله ضيعه الله كما ضيّع حقه، ولينتظر كل من ضيّع أمانة الله وحقّه في الزكاة عقوبة عاجلة في نفسه أو ماله أو أهله وولده.
والله تعالى أعلم.(90/22)
تعلق الأحكام بغلبة الظن
السؤال
ما معنى قولكم: (إن الله تعبدنا بغلبة الظن)؟
الجواب
معنى ذلك أن الشرع جعل غالب الظن محكوماً به، وقد قرر ذلك العلماء، ومن أنفس ما كُتب في ذلك كتاب الإمام العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام ومصالح الأنام، قال: إن الشريعة بنيت على غالب الظن في كثير من المسائل، والدليل على هذا أمور: أولاً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر واحد)، فالقاضي يقضي في الدماء ويقضي في الأعراض ويقضي في الفروج ويقضي في غيرها من حقوق الناس بشاهدين، مع أن هذين الشاهدين ربما نسيا، وربما أخطأا، وربما توهما، وربما كذبا وزورا والعياذ بالله، فقد يستباح دم الرجل إذا شهد شاهدان عدلان أنه قتل فلاناً، فإذا شهد الشاهدان أنه قتل فلاناً، فإنه حينئذٍ يستباح دم المشهود عليه، ويُحكم بالقصاص، وتثبت حقوق القتل سواءً بسواء، كمن أقر، مع أن هذين الشاهدين ربما أخطأا وربما دلّسا وكذبا، ومع ذلك نحكم بشهادتهما؛ لغلبة الظن في أنهما لمّا زُكّيا وعرفت أمانتهما وعدالتهما أنهما صادقان، فغلب على ظننا صدقهما وحكمنا بذلك، هذا بالنسبة لحقوق العباد مع العباد.
وتعبّدنا الله بغلبة الظن فيما بيننا وبينه سبحانه وتعالى، فنحن نحكم بدخول شهر رمضان وخروج شهر رمضان، فنبني عبادة وركناً من أركان الإسلام، وكذلك حج الناس بشهادة الشهود على الهلال، مع أنه ربما كذب الشهود وربما أخطئوا وربما توهّموا، وأنت تدين الله عز وجل، وتتعبد الله عز وجل بغالب ظنك، مع أنه يحتمل أنه أخطأ، تسمع المؤذن يؤذن لصلاة الفجر فتمسك عن صيامك، وتسمعه يؤذن لأذان المغرب فتفطر من صيامك، وتعتد بذلك في عبادة هي ركن من أركان دينك، مع أن المؤذن يحتمل أنه أخطأ، ويحتمل أنه لم يصب الحقيقة في كون الشمس غربت أو كون الفجر قد طلع، ومع هذا جعل الله ذلك عبادة في الصلاة، وجعله عبادة أيضاً في الزكاة، فإن الإنسان يبني على غالب ظنه في الزكوات، فإن الإنسان إذا غلب على ظنه ملكيته لمال، بنى على غلبة الظن في ملكية المال، وبنى على غلبة الظن في الحول، وكل ذلك مما يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى به في زكاته، كذلك أيضاً في صومه وحجه، وقس على ذلك مما لا يُحصى كثرة.
فلو تعبدنا الله باليقين لحصل على الناس من الحرج ما الله به عليم، فأنت حينما تخرج من بيتك لصلاتك وأنت على طهارة، فإنك ربما جلست ساعة فيما بين طهارتك وبين صلاتك، ولا تتحقق يقيناً أنك لم تحدث، فلربما خلال الساعة خرج منك شيء، لكن غالب الظن أنك على طهارة، وأن طهارتك باقية، فتحكم بكونك متطهراً، وتستبيح الوقوف بين يدي الله عز وجل بغالب ظنك، وقس على هذا سائر الأحكام.
فإن الإنسان مثلاً لو قال لامرأته كلمة من كلمات الطلاق، وهذه الكلمة اختلف العلماء فيها، فمنهم من يقول: إنها طالق، ومنهم من يقول: إنها غير طالق، فلو ذهبت إلى عالم وفقيه معتدّ بفتواه ومعتد باجتهاده، فأفتاك أنها امرأتك، فقد جعل الله السماحة على لسانه، فتتعبد الله عز وجل بغالب ظنك من إصابة هذا المجتهد، مع أنه يحتمل أن يكون أخطأ وأنها ليست بامرأة لك، وأنها قد حرمت عليك.
فقس على ذلك من المسائل ما لا يحصى كثرة، ولذلك يقول العز بن عبد السلام كلمة نفيسة، يقول رحمه الله: إن الشرع يبني على غلبة الظنون، ولا يبني على ضعيف الظن، وغالب الظنون كالمحقق، ولو ذهبنا نعتبر أن الظنون الغالبة فاسدة لفسدت أحوال العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فمن رحمة الله عز وجل أن تعبدنا بهذا الغالب على الظن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد.(90/23)
شرح زاد المستقنع - باب زكاة بهيمة الأنعام
من رحمة الله على عباده أن فرض عليهم زكاة في أموالهم من نقود وأنعام وغيرها، فهي طهرة للغني، وعون للفقير وبلاغ يتبلغ بها، وليعلم كل غني أن الزكاة حق للفقير، وأن المال مال الله سبحانه وتعالى، فلا يمن به على الفقير، وليعلم أن الله عز وجل استخلفه في هذا المال، فليؤد حق الله تعالى فيه.(91/1)
أصناف الأنعام التي تجب فيها الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة بهيمة الأنعام].
قوله: (بهيمة) فهي مأخوذة من أبهم الشيء، وإبهام الشيء استشكاله وعدم وضوحه، وقالوا: إن البهيمة سمِّيت بهيمة؛ لأنها لا تتمكن من النطق والكلام، ومن هنا يقال: كلامٌ مبهم، أي غير واضح، قالوا: لأن البهيمة لا تستطيع الكلام ولا الإبانة والإفصاح عما في نفسها، فسمِّيت بهيمة لذلك.
وقوله: (الأنعام) من النعم، والأنعام تشمل: الإبل، والبقر، والغنم، كما قاله أئمة اللغة ومنهم: الأزهري رحمه الله، تشمل كلمة الأنعام هذه الأصناف الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، فلا يدخل في ذلك الوعول ولا الظباء ولا الغزلان، ولا غير ذلك من بقية الحيوانات.
فقوله: (باب زكاة بهيمة الأنعام) أي: في هذا الموضع سأذكر جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالزكاة الواجبة في الإبل والبقر والغنم، وهذه هي التي أمر الله عز وجل بزكاتها، فالإبل تشمل الإبل العراض والبختية، والغنم تشمل الضأن والماعز، والبقر يشمل البقر المعروف والجواميس، فهذه كلها تعتبر من بهيمة الأنعام.(91/2)
حكم زكاة ما تولد من الأنعام ومن غيرها
ما تولَّد وكان أنثاه من بهيمة الأنعام، وذكره من غير بهيمة الأنعام أو العكس، ففيه تفصيل: قال بعض العلماء: ما تولد وكان أصله مما تجب فيه الزكاة، كأن تكون أمه بقرة، فإنه يأخذ حكم الزكاة، بمعنى أنه تجب فيه الزكاة، ويأخذ حكم أمه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، فأتبع المولود لأمه، فإذا كان الذكر (الفحل) لا تجب في جنسه الزكاة، والأنثى تجب فيها الزكاة، فإن المتولد منهما يتبع أمه، وتجب فيه الزكاة.(91/3)
أسباب ذكر زكاة الأنعام قبل غيرها
ابتدأ المصنف رحمه الله بزكاة بهيمة الأنعام لأسباب، من أهمها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ بزكاة بهيمة الأنعام قبل زكاة النقدين في كتابه المشهور الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، والذي يسميه العلماء: كتاب الصدقة، وهو أهم ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنصبة الزكاة، ابتدأ صلوات الله وسلامه عليه فيه ببيان الأنصبة المتعلقة بالإبل والبقر والغنم، ثم بعد ذلك ذكر نصاب الذهب والفضة وبينه صلوات الله وسلامه عليه.
كذلك أيضاً من الأسباب الداعية لتقديم زكاة بهيمة الأنعام: أنها أعز ما كانت العرب تملكه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمُر النعم)، فكانت أعز ما يملكه الإنسان، وتتفاخر به العرب، لأنها كانت تحب هذا النوع من المال، ومن هنا قال سبحانه وتعالى في أمارات يوم القيامة: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4]، وهي من أعز ما كانوا يملكونه، وهي الناقة العشراء، (عطلت) أي: لم يُحمل عليها، وقيل: (عطلت) بمعنى: أن الإنسان من شدة أهوال يوم القيامة لم يلتفت إلى أعز ماله وهي الناقة العشراء.
سيتكلم رحمه الله عن على الثلاثة الأنواع وهي: الإبل والبقر والغنم، ويبدأ بالإبل ثم يتبعها بالبقر ثم يتبعها بعد ذلك بأنصبة الغنم.(91/4)
شروط وجوب الزكاة في الأنعام
قال رحمه الله: [تجب في إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ إذا كانت سائمة الحول أو أكثره].
أي: تجب الزكاة في إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، لورود النص في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس في بهيمة الأنعام خلاف، قالوا: إن الزكاة فيها واجب.
وقوله: (سائمة) من السوم وهو الرعي، وقيل: إنه مأخوذ من السيماء وهي العلامة، كما في قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29]، فالسوم قالوا: توصف الغنمة به؛ لأنها تُعْلِمُ الأرض، والرعي الذي هو السوم يعتبر شرطاً لوجوب الزكاة في بهيمة الأنعام، فالبهائم: الإبل والبقر والغنم تنقسم إلى قسمين: إما سائمة ترعى، وإما معلوفة، ويتفرع على ذلك قسم ثالث ينبني عليهما وهو الجامع بين السوم والعلف، فما كان منها سائم، فإنه تجب فيه الزكاة بالإجماع، بمعنى: أن الإبل والبقر والغنم إذا كانت ترعى، فالعلماء متفقون على وجوب الزكاة فيها.
أما المعلوفة: فهي التي يشتري الإنسان لها العلف، أو يأخذه من مزرعته، أو يذهب بنفسه يجنيه ويحشُّه من الأرض ثم يعطيه للبهيمة، ولا يخرجها من حظيرتها، فهذه معلوفة، سواءً اشترى أو ذهب وجمع لها ثم أطعمها، فإذا كانت البهيمة معلوفة، فللعلماء فيها قولان: منهم من يقول: البهيمة المعلوفة تجب فيها الزكاة كما تجب في السائمة؛ لأن الأصل يقتضي وجوب الزكاة في جميعها.
والقول الثاني: أن الزكاة لا تجب في المعلوفة.
فأصحاب القول الثاني وهم الجمهور، يقولون: إن المعلوفة لا تجب فيها الزكاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من الإبل السائمة)، وقوله في كتاب الصدقة وفي السنن: (وأما الغنم ففي سائمتها في كل أربعين)، فقوله في سائمة الإبل، أو الغنم: في سائمتها، يدل بمفهومه على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة، وهذا المفهوم هو الذي يسميه الأصوليون: مفهوم الصفة، فإن السوم صفة، والمفهوم له عشرة أنواع، ومنها: النوع الذي هو الصفة، فقوله عليه الصلاة والسلام: (في سائمتها) مفهومه: أن المعلوفة التي لا ترعى لا تجب فيها الزكاة، وهذا كما قلنا: مذهب جمهور العلماء، وهو الصحيح: أن البقر والإبل والغنم إذا لم ترع لا تجب فيها الزكاة.
إذا ثبت أنه لا بد من السوم، يبقى النظر في النوع الثاني وهو الذي جمع بين السوم والعلف، فالذين قالوا باشتراط أن تكون سائمة؛ منهم من يقول: العبرة في السوم بأكثر الحول، وبناءً على ذلك فلو جمعت بين السوم والعلَف ننظر، فإن كانت أشهر السوم أكثر من أشهر العلف، فإنه تجب فيها الزكاة، وإن كانت أشهر العلف أكثر من أشهر السوم فلا تجب فيها الزكاة، مثال ذلك: لو كانت عنده أربعون من الغنم، وهذه الأربعون ترعى ثمانية أشهر وأربعة أشهر تكون في حظائرها ويعلفها، فإن الأكثر للسوم والرعي، فتجب فيها الزكاة، وأما إذا كان العكس وهو أنها ترعى أربعة أشهر وتُعلف ثمانية أشهر، فإنه لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها معلوفة، هذا حسب ما قيل في اشتراط السوم، فإذاً العبرة في السوم بأكثر الحول.
وقال بعض العلماء رحمة الله عليهم: إذا سامت ورعت ولو بعض الحول تجب فيه الزكاة، ولا يفرِّق بين كونه أكثر الحول أو أغلب الحول.
والصحيح: أن الزكاة فيها إذا جمعت بين السوم والعلف تابع للغالب عليها، فإن كان الغالب عليها أن تعلف فلا زكاة إلا إذا كانت من عروض التجارة، فالزكاة في قيمتها، وأما إذا كانت تسوم وترعى أكثر الحول، فإن الزكاة تجب فيها؛ لأن الحكم للغالب منهما.
إذاً: بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فيها مسألتان بالنسبة لوجوب الزكاة فيها: المسألة الأولى: أنه لا تجب فيها الزكاة إلا إذا رعت، وكانت تسوم.
المسألة الثانية: أن يكون السوم في أكثر الحول، فإذا كان أكثر الحول للسوم وجبت فيها الزكاة.
وأما إذا كانت معلوفة؛ يُعلفها صاحبها ويطعمها أكثر الحول، أو كل الحول، فلا تخلو نيته من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قصده منها أن يأخذ غلتها، وأن يستفيد من ألبانها وأصوافها وأوبارها وأشعارها، فإذا كان قصده نماء المنفصل منها، فإنه حينئذٍ لا تجب عليه الزكاة؛ كما إذا قصد منها أن يشرب من ألبانها، فيكون عنده أربعون من الغنم من أجل أن يشرب حليبها، وأن ينتفع من صوفها، وكذلك أيضاً يجعلها للضيف وللقرى ونحو ذلك، فهذا لا تجب عليه الزكاة.
الحالة الثانية: أن يقصد منها التجارة، كأن تكون عنده أربعون من الغنم ويقصد منها أن يبيع ويشتري، فيأخذ منها مجموعة لكي يطعمها ويقيم عليها حتى إذا غلت أسعارها أو كبرت أسنانها ذهب بها إلى السوق وباعها، فهذا زكاته زكاة عروض التجارة.
فخلاصة ما سبق: أن بهيمة الأنعام لها حالتان: إما أن تكون سائمة سواء كانت سائمة كل الحول أو أكثر الحول ففيها الزكاة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وإما أن تكون معلوفة، فإن كانت معلوفة: فإما أن تكون بقصد النماء لما يكون منها؛ من حليبها وأصوافها، وتكون طعمة للضيف وطعمة للبيت، فهذه لا زكاة فيها، وإما أن يقصد منها أن يبيعها ويستفيد بالمال الذي يبيعها به، فهذا حكمه حكم عروض التجارة، تقدّر عند كل حول وتكون الزكاة في قيمتها، فالفرق بين كونها تجب فيها الزكاة كسائمة وتجب فيها الزكاة كعروض التجارة: أننا إذا أوجبنا فيها الزكاة كسائمة، يُعتبر فيها النصاب وهو أربعون، وأما إذا أوجبنا الزكاة فيها كعروض تجارة فتكون العبرة بالقيمة، فلربما يكون عنده أربع شياه وتجب عليه الزكاة؛ لأن قيمتها تصل إلى نصاب زكاة عروض التجارة.(91/5)
نصاب زكاة الإبل
قوله: [فيجب في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض].
ابتدأ رحمه الله بالأعلى وهي الإبل، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما كتب كتابه الذي رواه عبد الله بن أنس عن أبيه أنس بن مالك رضي الله عنه أنه ابتدأ بالإبل، فبين عليه الصلاة والسلام أنصبتها والأسنان الواجبة فيها، فيكون ابتداء المصنف رحمه الله بها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والإبل فيها حقان: الحق الأول ليس من الإبل نفسها وهو الحق الواجب، وإنما هو من الغنم، والحق الثاني يكون من الإبل نفسها، فأما الحق الذي يجب من الغنم فإنه يبتدئ بالخمس من الإبل، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)، فإذا كان عند الإنسان خمس من الإبل فإنه تبتدئ فرضية الزكاة بهذا العدد، وما دونه كأن يكون عنده أربع من الإبل أو ثلاث أوناقتان أو ناقة فلا زكاة، إلا إذا كانت لغرض التجارة.
فإن كانت عنده خمس من الإبل وجب عليها شاة، فإن بلغت عشراً ففيها شاتان، فإن بلغت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه، فإن بلغت العشرين ففيها أربع شياه، فإن بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، فإذاً تبتدئ بالغنم في كل خمس منها شاة، هذه الشاة يشترط فيها ما يشترط في الأضحية من سلامتها من العيوب، وبلوغها للسن المعتبرة، فلا يجزئ إلا الثني من الماعز والجذع من الضأن، فلا يُخرج أي شاة، بل يشترط في الشاة التي تدفع زكاة عن هذه الخمس أن تكون قد بلغت السن المعتبرة؛ ففي الماعز يشترط أن تتم سنة كاملة، وتدخل في الثانية وهو الثني من الماعز، وفي الضأن تبلغ أكثر الحول؛ لأنه يكون جذعاً إذا فاق الستة الأشهر، خاصة إذا كان مرعاه طيباً.
فالمقصود: أن زكاة الإبل تبتدئ في الشاة الواحدة في كل خمس، وما دون الخمس لا زكاة فيه، إلا إذا قصد بهذه النوق البيع والشراء، فتقول له: زكاتك زكاة عروض التجارة خارجة عن مسألتنا؛ لأننا نتكلم على زكاة الإبل من حيث هي بوجوب النصاب فيها، فإذا بلغت خمساً وعشرين يقول عليه الصلاة والسلام: (ففيها بنت مخاض)، والماخض: الحامل، وبنت مخاض أي: بنت ناقة حامل، ومعنى ذلك: أنه تمت لها سنة واحدة، ودخلت في الثانية، ويقولون لها: ماخض؛ لأن أمها قد حملت من بعدها فتكون ماخضاً، هذه تجب في كل خمس وعشرين إلى أن تبلغ ستاً وثلاثين، فمن خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض، فإن بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، وبنت اللبون: هي التي تمت سنتين ودخلت في الثالثة، واللبون: هي أم المرضعة ذات اللبن، فقد أنجبت ما في بطنها، وأخرجت ما في بطنها، فأصبحت ترضعه، فهي لبون، فبنت لبون أي: بنت ناقة لبون، فمعنى ذلك: أنه تمت لها السنتان.
هذا إذا جاوزت الخمسة والثلاثين إلى ست وثلاثين، فمن ست وثلاثين إلى خمسٍ وأربعين فيها بنت لبون، ومن ست وأربعين إلى ستين فيها حقة؛ وهي طروقة الفحل، وصفت بذلك؛ لأنها استحقت أن يطرقها الفحل، وقيل: استحقت أن تُركب وأن يحمل عليها، الحقة تمت لها ثلاث سنوات ودخلت في الرابعة، فإن بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، والجذعة تمت لها أربع سنوات ودخلت في الخامسة؛ لأنها تجذع أسنانها، بمعنى أنها تسقط، إلى أن تبلغ خمساً وسبعين، فإذا جاوزت الخمس والسبعين إلى ست وسبعين، فمن ست وسبعين إلى تسعين فيها بنتا لبون، فيكون الواجب فيها بنتا لبون من ست وسبعين إلى تسعين، فإن جاوزت التسعين إلى إحدى وتسعين، فمن إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين فيها حقتان طروقتا الفحل، هذا هو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة لأنصبة الإبل التي بيّنها عليه الصلاة والسلام وفصلها، كما في حديث أنس.
من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين فيها بنت مخاض، ومن ست وثلاثين إلى خمس وأربعين فيها بنت لبون، ومن ست وأربعين إلى ستين فيها حقة، ومن إحدى وستين إلى خمس وسبعين فيها جذعة، ومن ست وسبعين إلى تسعين فيها بنتا لبون، ومن إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين فيها حقتان طروقتا الفحل.
هذا يحتاج إلى أن يحفظه طالب العلم ويضبطه على نفس الوصف الذي ذكرناه، ثم بعد ذلك يكون الحكم مختلفاً، إذا بلغت مائة وعشرين، من بعد مائة وعشرين إن زادت عليها، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
بعد المائة والعشرين إذا جاوزتها بالعشرات فإنه للعلماء فيها قولان: منهم من يقول: تُستأنف الفريضة، واستئناف الفريضة يرى أنه بعد المائة والعشرين تنظر خمسة وعشرين ففيها شاة، ثم ثلاثين فيها شاتان، مائة وخمسة وثلاثين ثلاثة شياه، مائة وأربعين أربعة شياه، مائة وخمسة وأربعين، حينئذ تبدأ تضيف عليها أي: يستأنف الفريضة، وهذا قول مرجوح.
والصحيح مذهب الجمهور: أنها إذا بلغت مائة وعشرين وجاوزت المائة والعشرين، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، والمسألة حسابية، فالمائة والثلاثون: إذا جئنا ننظر إلى مائة وعشرين قبلها ففيها حقتان حسب حكم الشرع الصريح، ولو اعتبرنا القاعدة الحسابية التي تنص أن كل أربعين فيها بنت لبون، لكان فيها ثلاث بنات لبون، فإذا كان لديك نصاب زكاته من بنات اللبون، ثم زدت فوق ذلك النصاب عشراً من الإبل، فأسقط واحدة من بنات اللبون وأدخل حقة، ثم إن زادت عشراً أخرى فأسقط بنت لبون أخرى وأدخل حقة، توضيح ذلك بالتطبيق: فمائة وثلاثون فيها بنتا لبون وحقة، فبنتا اللبون عن الثمانين والحقة عن الخمسين، فإن جاوزت إلى مائة وأربعين ففيها حقتان عن مائة وبنت لبون عن أربعين، فإذا جاوزت إلى مائة وخمسين فأسقط بنت اللبون، وضع مكانها حقة، فيكون فيها ثلاث حقائق عن مائة وخمسين، فإن وصلت إلى مائة وستين ففيها أربع بنات لبون؛ لأن مائة وستين إذا قسمت على أربعين كان الناتج أربعة، ففيها أربع بنات لبون، فإن وصلت مائة وسبعين فأسقط واحدة منهن وضع مكانها حقة، فيكون فيها ثلاث بنات لبون وحقة، أما مائة وثمانين ففيها بنتا لبون وحقتان، حقتان عن مائة وبنتا لبون عن ثمانين، وسر على هذا، حتى تجتمع في بعض الأحيان الفريضتان، وكلما زادت عشراً سقطت واحدة من بنات اللبون ودخلت بدلها حقة؛ لأن الفرق بين الحقة وبنت اللبون إنما هو العشر، وبناءً على ذلك تستقيم الفريضة بعد هذا بهذا التفصيل، في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
[وفيما دونها في كل خمس شاة].
يعني: فيما دون الخمس والعشرين في كل خمس شاة، فالخمسة فيها شاة والعشرة شاتان، والخمسة عشر ثلاث شياه، والعشرون أربع شياه، وهذا أعلى ما يجب من جهة الغنم، فإن بلغت خمسة وعشرين فإنها تبتدئ بالواجب من الإبل نفسها، تبدأ ببنت المخاض، ثم تليها بنت اللبون، ثم تليها الحقة، ثم تليها الجذعة، ثم تجمع بين بنتي اللبون، ثم بين الحقتين على التفصيل الذي بيناه.
[وفي ست وثلاثين بنت لبون].
دون الستة والثلاثين فيها بنت مخاض، ولاحظ أنه قال: بنت لبون وبنت مخاض، فلا يقبل إلا الإناث -إلا في بنت المخاض يمكن أن يقبل بدلها ابن اللبون الذكر- والسبب في هذا: أن وجوب بنت اللبون وبنت المخاض والحقة والجذعة، إنما هو لكون الأنثى تنجب ويكون منها النسل، ويكون منها الحليب فنماؤها خير لبيت المال، فجعلها الله عز وجل واجبة من الإناث وهي أحق، لكن لو كانت الإبل ليس فيها إلا ذكور، فللعلماء فيها وجهان: منهم من قال: ألزمه بالبحث عن أنثى وليخرجها.
ومنهم من قال: إذا لم يكن عنده إلا الذكور يخرج ابن مخاض وابن لبون ونحو ذلك فيما ذكروه رحمة الله عليهم على نفس الترتيب الذي يكون في الإناث.
القول الثاني هو الأقوى، وسيأتي أنه اختاره جمع من العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن كل مال تجب الزكاة فيه من نوعه.
[وفي ست وأربعين حقة].
وهي كما ورد في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها حقة طروقة الفحل)، قالوا: سميت حقة؛ لأنها استحقت أن تطرق بالفحل، واستحقت أن يُحمل عليها ويركب.
[وفي إحدى وستين جذعة].
لأنها جذعت أسنانها.
[وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان، فإذا زادت على مائة وعشرين واحدة فثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة].
اختلف العلماء فيما بين المائة والعشرين وما بين المائة والثلاثين، فقد ذكرنا بعض العلماء يدخل الشياه في كل خمس فيجعل الخمس فيها شاة والعشر فيها شاتان، وقلنا: إن هذا مذهب مرجوح.
والصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن زادت ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة)، فبعض العلماء يقول: إذا كانت مائة وعشرين، وزادت واحدة فإنني أوجب ثلاث بنات لبون بدل أن كانت على المائة والعشرين مستقرة بحقتين، وبناءً على ذلك يرى أن بنات اللبون تكون بزيادة الأفراد فيما بين مائة وعشرين ومائة وثلاثين، وقال بعض العلماء: لا يجب فيما بين ذلك، وهذا الوقص الذي يكون بين الفريضتين لا يجب فيه شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في كل أربعين) و (في كل خمسين) فكأنه يشير إلى ما يقبل القسمة على الأربعين والخمسين، ويجمع ما بين الأربعين والخمسين، فمائة وإحدى وعشرين لا تعتبر جامعة بين الخمسين والأربعين، وبناءً على هذا فإن المائة والعشرين المائة والإحدى والعشرين والاثنتين والعشرين، والثلاث والعشرين، والأربع والعشرين، حتى تبلغ مائة وثلاثين، فما دون المائة والثلاثين يرى أن فيه حقتين على الأصل الذي نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث.(91/6)
نصاب زكاة البقر
يقول رحمه الله: [فصل: ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة].
هذه زكاة البقر، وسمي البقر بقراً من البقْر وهو شق الشيء، قيل: سمِّي البقر بذلك؛ لأنه يشق الأرض بالحراثة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، واتبعتم أذناب البقر)، أي: بالحراثة والزرع، وزكاة البقر واجبة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليها كما في حديث معاذ حينما بعثه إلى اليمن.
والجزيرة العربية يقل فيها وجود البقر، وإنما كان المشهور فيها الإبل والغنم، وأما البقر فكان قليل الوجود في جزيرة العرب، وذلك لكونه يطلب المرعى الأكثر، ولا يرتفق في الصحراء، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حكم زكاته حينما بعث عامله معاذاً على اليمن، وكان البقر موجوداً هناك، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر من النصاب، في كل ثلاثين تبيع، وهو الذي تمت له سنة ودخل في الثانية، وُصِف بذلك؛ لأنه يتبع أمه، ويكون وراءها، هذا التبيع يجب في كل ثلاثين، واختلف العلماء فيما دون الثلاثين من البقر كخمس من البقر وعشر وخمس عشرة وعشرين، قال بعض العلماء: نقيسها على الإبل، ففي كل خمس من البقر شاة، وفي كل عشر شاتان، وفي كل خمس عشرة ثلاث شياه قياساً على الإبل، وهذا القول يقول به سعيد بن المسيب، والإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمة الله عليهم، لكن جماهير السلف يقولون: لا يجب فيما دون الثلاثين من البقر زكاة، وهذا هو الصحيح؛ لأن معاذاً رضي الله عنه -كما في حديث الدارقطني والبيهقي وغيرهما، رحمة الله عليهم- قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ في البقر من كل ثلاثين تبيعاً)، فدل على أن ما دون الثلاثين لا تجب فيه الزكاة؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها ووجوب الحق فيها.
قوله: تبيع، التبيع ذكر، أو تبيعة، وهي الأنثى، ولذلك يقولون: لا يؤخذ الذكر إلا ابن لبون، بدل بنت المخاض في الإبل، والتبيع أو التبيعة يخيّر بينهما في البقر، هذا بالنسبة لبهيمة الأنعام، وإلا فالأصل أنها تؤخذ من الإناث، فلا يؤخذ إلا الأنثى؛ لأنه أحب لبيت المال، وأحب للفقراء، وهو منصوص الشرع، فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على الأنثى، ولذلك لا يخرج الذكر بدلها إلا في هذا الموضع، أو ما ذكرناه من كون ماله كله من الذكور.
[وفي أربعين مسنة].
وهي التي تمت لها سنتان ودخلت في الثالثة، والمسنة من الإناث، ثم بعد ذلك في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان، وإذا بلغت السبعين ففيها تبيع ومسنة، وإذا بلغت الثمانين ففيها مسنتان، وإذا بلغت التسعين ففيها ثلاثة أتبعة، وإذا بلغت المائة أسقط تبيعاً منها وأدخل مسنة، فتقول: فيها تبيعان ومسنة، وقس على هذا، التبيعان بالستين والمسنة بأربعين، أصبح المجموع مائة، وقس على هذا حتى تجتمع الفريضتان في مائة وعشرين، في مائة وعشرين من البقر يخيّر، نقول له: إن شئت أخرج أربعة أتبعة أو ثلاث مسنات، إن شئت أن تخرج هذه أو تخرج هذه، فالثلاث المسنات تعادل مائة وعشرين، والأربعة الأتبعة تعادل مائة وعشرين، يسمونه: اجتماع الفريضتين، حينئذٍ يخيّر، كمائتين في الإبل، يجتمع فيها بنات اللبون مع الحقاق، إن شاء أخرج في المائتين خمس بنات لبون أو أربع حقاق، ولا يلزم بواحدة منه إن شاء هذا أو ذاك.
[وفي ستين تبيعان، ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، ويجزئ الذكر هنا، وابن لبون مكان بنت مخاض، وإذا كان النصاب كله ذكوراً].
هذا كله بيّناه، يعني: ابن لبون بدل بنت المخاض إذا لم يجد رب الإبل بنت مخاض فإنه يقول له الساعي: أخرج بدلاً منها ابن لبون ذكر؛ لأنه قد يستفاد منه فيكون فحلاً لهذه الإبل، وهذا منصوص الشرع، ولذلك لا يجتهد ولا يقال بالصيرورة إلى الذكور، إلا في حالة ما إذا كان المال كله ذكوراً، ويستوي البقر والجواميس في الزكاة.(91/7)
نصاب زكاة الغنم
قال رحمه الله: [فصل: ويجب في أربعين من الغنم شاة].
هذه هي زكاة الغنم وهو النوع الثالث، والغنم هي الماعز والضأن، فالضأن ذكره وأنثاه والماعز ذكره وأنثاه يستوي فيه الزكاة، وكما قلنا في الإبل العراض والبختية، العراض: التي لها سنام واحد، والبختية: التي لها سنامان، هذه الأنواع كلها تعتبر داخلة في عموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج الزكاة من هذه البهائم، حيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الغنم، ولم يفرق بين الماعز والضأن، والعرب تسمي الماعز والضأن (الغنم) بهذا الاسم، فدل على دخولها في هذا العموم، ومن هنا قال العلماء: تجب الزكاة على من ملك ضأناً أو ملك ماعزاً أو جمع بينهما، ففي كل أربعين شاةً شاةٌ، فتجب على من ملك أربعين شاةً شاةٌ واحدة، وما كان دون ذلك فلا زكاة فيه إلا إذا كان عرض تجارة، كأن يملك ثلاثين شاة بقصد النماء للبيع والشراء، فهذا منفصل، وزكاته زكاة عروض التجارة، مثل ما يفعله تجار الغنم، فهؤلاء إذا حال الحول على أحدهم يجمع ما عنده من الغنم ويقدر قيمته ويزكيه، ولا يلتفت إلى أنصبة الغنم كما ذكرنا.
[وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، ثم في كل مائة شاة].
يستمر الفريضة من الأربعين إلى مائة وعشرين، فإن بلغت مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان، حتى تبلغ مائتين وواحدة، ففيها ثلاث شياه، ثم بعد ذلك تستقيم الفريضة في كل مائة شاة، هذا منصوص كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك الذي ذكرناه، والإجماع على هذا.(91/8)
خلطة الأنعام وأثرها في أحكام الزكاة
قال رحمه الله: [والخلطة تصيِّر المالين كالواحد].
بعد أن بين لنا الأنصبة، شرع في بيان الأحكام المتعلقة ببهيمة الأنعام، فقال: (والخلطة تصيِّر المالين واحداً) الخلطة: من الاختلاط، واختلط الشيء بالشيء إذا دخل فيه، تقول: اختلط الليل بالنهار إذا قارب طلوع النهار، وكذلك إذا قارب دخول الليل، فالخلطة أصلها دخول الشيء في الشيء، والعرب والناس عادةً إذا كانت عندهم البهائم لا يخلون من حالتين: إما أن ينفرد كلٌ منهم بغنمه وإبله وبقره، بالمرعى والمراح، فحينئذٍ لا إشكال، والمال للرجل والزكاة على التفصيل الذي ذكرناه، لكن هناك إشكال، وهو أن يكون عندي من الشياه والغنم ما لا يبلغ النصاب، وعندك مثله، فلو جُمع المالان بلغا قدر النصاب، وكان بين مالي ومالك خلطة؛ شراكة شيوع؛ كأن نملك ستين من الغنم لك نصفها ولي نصفها؛ كرجل توفي عن ابنين وله ستون من الغنم، تقسم بين الابنين الذكرين هذا له ثلاثون وهذا له ثلاثون، فالمال بينهم مشاع؛ فهذه خلطة، إن جئنا ننظر إلى الابن الأول فله ثلاثون، وإن جئنا ننظر إلى الثاني فله ثلاثون، وكل من الثلاثين عند كل واحد منهما دون النصاب، لكن الذي أمامنا من المال هو ستون شاة، وقد بلغت النصاب، فالخلطة سواءٌ كانت بالشركة لإرثٍ أو شراكة بينهما في المال لعلاقة من قرابة ونحو ذلك، أو كانت في المراح كما يقع في القبائل وأبناء العم، وأحياناً تكون القبيلة مرعاها واحد، ويجتمع الثلاثة والأربعة والخمسة في مرعى واحد، تذهب إبلهم مع بعضها، وترجع مع بعضها، ويكون مراحها ومكان ظعنها وبقائها واحداً، فهذه تأخذ حكم المال الواحد، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)، فأعطى المالين المجتمعين حكم المال الواحد، فيشترط أن يكون المرعى واحداً، والسوم واحداً، والفحل واحداً، والمراح الذي تمرح فيه الإبل وتكون فيه واحداً فلا يختلف، والمحلب وهو المكان الذي تحلب فيه على أحد القولين عند العلماء رحمة الله عليهم واحداً، فهذا غالباً ما يكون في البادية، في البادية يتيسر فيه أكثر لسعة المكان، فتجد المالين كالمال الواحد، مرعاهما واحداً، والمكان الذي تسوم فيه الإبل واحداً، والفحل الذي يضرب واحداً، والمراح الذي تمرح فيه الإبل واحداً، والمكان الذي تحلب فيه واحداً، فإذا جمعت هذه الأوصاف فهي مال واحد، فإن كانت الغنم ستين شاة لكل واحد منهما ثلاثون، ففيها شاة واحدة، ولو نظرنا إلى ملكية كل واحد منهما لم تجب الزكاة فيه، هذا ثلاثون وهذا ثلاثون، لكن لأنهما بهذه الصفة وبهذه الحالة، فقد جعلا بمثابة المال الواحد، فتجب الزكاة عليهما، نقول لهما: أخرجا شاةً واحدة، لكن يرد
السؤال
هل يخرجها هذا أو ذاك؟ نقول: يخرجها أي واحد منهما، فإن أخرجها أحدهما طالب الآخر بنصف قيمتها، فإن كانت هذه الشاة قيمتها خمسمائة ريال، فعلى الآخر أن يدفع لمن دفع مائتين وخمسين ريالاً.
فإذا اتحد المال بالأوصاف التي ذكرناها، فإنه يأخذ حكم المال الواحد، وتجب الزكاة عليه.
ولا يفرق بين هذا المجتمع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفرَّق خشية الزكاة)، فدل على أنه لا يجوز أن يقال: هذا مال وهذا مال، ويفرَّق بينهما حتى لا تجب الزكاة عليه، أو قبل تمام العام وقبل مجيء الساعي يحرص الاثنان على التفريق بين الغنم وبين الإبل وبين البقر حتى لا يطالبهم الساعي بزكاة، فإن اطلع الساعي على ذلك ألزمهما بزكاة المال الواحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزّل المالين المختلطين منزلة المال الواحد، فتجب عليهما الزكاة على التفصيل الذي ذكرناه.(91/9)
الأسئلة(91/10)
حكم زكاة الإبل التي تحتاج إلى العلف أحياناً
السؤال
أثابكم الله فضيلة الشيخ، وجزاكم الله خير الجزاء: إذا كانت الإبل سائمة أكثر الحول؛ وذلك لأن الرعي لا يكفي، فهو يطعمها مع الرعي، فهل يجب فيها زكاة؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسألة ذكرها بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، إذا كان المرعى لا يكفي، وقد جعل الإنسان مع هذا المرعى علفاً يعلف به دوابّه، فهل نقول: إنها سائمة بناءً على أنها رعت، أو نقول: إنها معلوفة بناءً على أنه يعلفها ويقوم عليها؟ والجواب: أننا نقول: إنها سائمة؛ لأن العلف كان فضلاً وتقوية للطعام، ولم يكن أصل قوتها، فأصل قوتها كان على السوم، وبناءً على ذلك تجب فيها الزكاة وهي سائمة لثبوت الوصف.
والله تعالى أعلم.(91/11)
حكم إخراج القيمة في الزكاة
السؤال
أثابكم الله فضيلة الشيخ، إذا بلغ النصاب أربعين شاة، فهل يصح أن أخرج قيمة الشاة نقداً بدلاً من الشاة؟
الجواب
هذه المسألة للعلماء فيها قولان: هل يجوز إخراج النقد بدل هذه التي سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسنان؟ الجمهور على أنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدّد هذه الأسنان وعيّن من نفس الإبل والبقر والغنم، وقال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه: يجوز؛ لأن معاذاً رضي الله عنه قال لأهل اليمن: (ائتوني بخميص أو لبيس فإنه أرفق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قالوا: فأخذ العِدل أو أخذ المِثل من الثياب بدل العين الواجب في الزكاة، وهذا أصل للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، يطرِدُه، بمعنى يجعله مطّرِداً، فيقول -مثلاً- في زكاة الفطر: يجوز أن تخرج بدلها النقود ونحوها من الكفارات.
والصحيح: مذهب الجمهور أنه لا يجوز الإخراج إلا مما سمّى النبي صلى الله عليه وسلم وعيّن، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حدّد هذا وأقّته، وما حدّده الشرع لا يجزي إلا بعينه، ولأن المال النقد يأخذه المحتاج وغير المحتاج، وأما الطعام فلا يأخذه إلا المحتاج ولا يأخذه إلا الفقير، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده كان الذهب والفضة موجوداً في زمانهم، ومع ذلك ما أخرجوا زكاة الفطر من ذهب ولا فضة، وبناءً عليه فلا يجوز إخراج القيم؛ لا في الأعيان التي ذكرت في الزكوات، ولا في غيرها من الزكوات كزكاة الفطر ونحوها، وإنما يجب الإخراج على النحو الذي سماه الشرع، إن كان طعاماً فطعام، وإن كان إبلاً فإبل، وإن كان بقراً فبقر، وإن كان غنماً فغنم، وأما ما استدل به رحمه الله من حديث معاذ، فيجاب عنه بأن الحديث ورد في الجزية، والجزية يجوز الانتقال فيها إلى المثل والبدل، بخلاف الزكوات، فإن الزكاة سمّيت وحُددت، فوجب عين المسمى والمحدد.
والله تعالى أعلم.(91/12)
إذا وجبت الشياه على صاحب الإبل ولم يكن لديه غنم
السؤال
فضيلة الشيخ لو كان عند شخص عشر من الإبل ولا يملك غنماً، فكيف يزكي بشاتين، أثابكم الله؟
الجواب
إذا وجبت الشياه على مالك الإبل فإنه يطالب بها، أما الطريقة والكيفية فذلك مردّه إليه، والشرع لا يتدخل في كيفية حصول الناس على القدر الواجب، وإنما يلزمهم بالأصل.
والله تعالى أعلم.(91/13)
حكم زكاة ذوات العاهات من الأنعام
السؤال
أثابكم الله فضيلة الشيخ، هل في بهيمة الأنعام ذوات العاهات زكاة؟
الجواب
إذا كانت البهائم فيها عاهات، أو كانت مريضة، فملك أربعين من الغنم كلها مِراض، أو ملك خمساً وعشرين من الإبل كلها سقيمة ومريضة، فإنه يُخرج مريضة، وتعادل هذا المال الذي يملكه، ولا يجب عليه أن يخرج صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، هذا حديث معاذ في الصحيحين، فلا شك أن الصحيحة في المريضة كريمة المال، ولذلك لا يطالب بإخراج الصحيحة إذا كان عنده مِراض، وإنما يطالب بإخراج ما هو مماثل لماله، فلو كانت الغنم هرمة وكبيرة السن فإنه يخرج واحدة هرمة، وهكذا بالنسبة للإبل إذا كان بها عاهات، أو بها جرب أو غير ذلك، فإنه يطالب بالإخراج بمثل ما هو من ماله.
والله تعالى أعلم.(91/14)
تلف المال بعد وجوب الزكاة فيه
السؤال
أثابكم الله فضيلة الشيخ، إذا احترق المال بعد وجوب الزكاة، هل يلزم صاحب المال دفع الزكاة؟
الجواب
يجب عليه أن يزكي، إذا احترق المال أو تلف فإنه يجب عليه أن يزكي، ولكن لا يُلزم بإخراج الزكاة من السعاة ونحوهم إلا إذا ملك، ففرق بين وجوب الشيء وبين الإلزام به، فتقول: يجب عليَّ أن أدفع لك الدين، ولكن لا يلزمني أن أدفع لك الآن؛ وذلك لأني معسر، فهذا الرجل يعتبر معسراً، فإذا أعسر، فإنه تسقط المطالبة إلى أن يكون قادراً على السداد، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فإذا تلف المال أو احترق المال وليس عنده ما يسدد به الزكاة، تركناه حتى يملك المال ولو بعد عشر سنوات، ولو بعد عشرين سنة، حتى يملك هذا القدر الذي وجب عليه، وإلا صار ديناً عليه يؤديه متى أطاق القدرة عليه.
والله تعالى أعلم.(91/15)
زكاة الأنعام إذا كان بعضها سائماً وبعضها معلوفاً
السؤال
أثابكم الله فضيلة الشيخ، إذا كانت بهيمة الأنعام بعضها سائمة، وبعضها معلوفة، وذلك كأن تكون صغارها التي لا تستطيع المشي معلوفة، والبقية سائمة، هل تجب الزكاة في جميعها، إذا كانت أكثرها السائمة، أم في سائمتها فقط؟
الجواب
بالنسبة لصغار الغنم كالسخلة ونحوها، فإنها تعد وتحسب، وجاء في الأثر: (عد عليهم السخلة ولا تأخذها منهم)، كما أثر عن عمر رضي الله عنه وأرضاه، وبناءً على ذلك فإن كونها صغيرة لا يمنع وجوب الزكاة، ولا يمنع المطالبة بها، وهكذا إذا كان أكثرها يسوم والباقي تبع لهذا الذي يسوم، لكنه لا يرعى معه ولا يسوم معه، فإن الحكم للأكثر، ويكون الأقل تبعاً لهذا الأكثر، كما أن السخلة تبعت أصلها.
والله تعالى أعلم.
بعض العلماء يرى أنه يمتنع الحكم إذا لم يبلغ الأكثر الذي يسوم قدر النصاب، فلو كانت عنده أربعون شاة، وكان الذي يسوم ثلاثين، وكان الباقي لا يسوم لا تجب عليه الزكاة حتى يسوم الأربعون، لكن الذي ذكرناه من كونها تجب فيه إذا كان بالتبع، بمعنى أن تكون صغاراً وراء أمها ترضع، فهذه حينئذٍ تعتبر تبعاً، وتجب عليه الزكاة، ولا يؤثر وجود هذا العدد من الصغار، ويعتبر السوم للأمهات؛ لأن هذه الصغار في حكم التبع، فهي إذا رأت الأم شربت لبنها، فكأنها انتفعت من السوم الذي رعته، وهذا مذهب صحيح يرى أن حصول الارتضاع لهذه الصغار والانتفاع لها، إنما كان عن طريق السوم، وبناءً على ذلك يعتبر كأنه تابع للأصل، وتجب فيه الزكاة كما لو سام كله.
والله تعالى أعلم.(91/16)
حكم الأنعام السائمة المعدة للبيع
السؤال
أثابكم الله فضيلة الشيخ، ما الحكم إذا كانت الأنعام سائمة، وجعلها من عروض التجارة، فأي الزكاتين فيها: زكاة بهيمة الأنعام، أم زكاة عروض التجارة؟
الجواب
إذا كان الشخص يملك الأنعام لنفسه، ثم طرأ له أن يتاجر فيها بالبيع والشراء، فيشتري الإبل بالبقر ويبادل، فمنذ أن نوى وغيّر نيته إلى التجارة يستأنف الحول، فإذا كان قد بقي على أصله إلى شهر محرم وحَوْلُه في صفر، فحينئذٍ نقول: منذ بداية محرم التي ابتدأ فيها نية التجارة يستقبل نية عروض التجارة، ويزكي زكاة عروض التجارة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.(91/17)
شرح زاد المستقنع - باب زكاة الحبوب والثمار [1]
الحبوب والثمار من الأصناف التي أوجب الله تعالى فيها الزكاة، ولها نصاب معلوم، وتجب عند الحصاد، وهناك أحكام ومسائل متعلقة بهذا الباب ذكرها الشيخ في هذه المادة.(92/1)
وجوب زكاة الحبوب والثمار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب: زكاة الحبوب والثمار] هذا الباب عقده المصنف رحمه الله لبيان الأحكام المتعلقة بزكاة الحبوب والثمار.
والحبوب والثمار من الأنواع التي أوجب الله عز وجل زكاتها، كما في قوله سبحانه وتعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فأمر سبحانه وتعالى بإعطاء الحق وهو الزكاة يوم الحصاد، أي: حصاد الزروع والثمار، ويكون ذلك بضوابط بينتها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصّل العلماء رحمهم الله أحكامها.
وزكاة الزروع والثمار أجمع العلماء رحمهم الله عليها، فهي من الأنواع المتفق عليها؛ لدلالة الكتاب والسنة في قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) فبيّن صلى الله عليه وسلم أن الزروع والثمار من جنس ما يزكّى.
وقوله رحمه الله: (باب زكاة الزروع والثمار) أي: في هذا الموضع، سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بهذا النوع من أنواع الزكاة.
والحبوب: تشمل البر والشعير والأرز والدخن والفاصوليا واللوبيا والعدس ونحوها من الحبوب، والثمار مثل التمر من النخل ونحو ذلك مما يخرج من الأصول الثابتة.
والعلماء رحمهم الله يعبِّرون بهذا التعبير مراعاة لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، في قوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وإنما تكال الحبوب وكذلك تكال الثمار، فخرج بقية المزروعات كالخضروات والفواكه التي لا تكال، فإنها لا تدخل في هذا الباب، وسيبين المصنف رحمه الله هذه المسألة عند بيانه للأنواع التي تجب زكاتها من الزروع والثمار.(92/2)
الحبوب التي تجب فيها الزكاة
يقول المصنف رحمه الله: [تجب في الحبوب كلها ولو لم تكن قوتاً].
(تجب في الحبوب كلها)؛ لأنها من جنس ما يكال، ولأنها تكون أقواتاً على التعليل بالقوت والكيل، والتعليل بالكيل أقوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وهو حديث في الصحيحين، فكأنه بيّن لنا في هذا الحديث أن الزكوات في الحبوب إنما تجب فيما يُكال، وأما ما لا يكال فإنه لا تجب فيه الزكاة.
وبالنسبة لقوله رحمه الله: (في الحبوب كلها) تشمل البر والشعير، وما عرف في زماننا كالأرز وغيره؛ فالحبوب كلها تجب زكاتها إذا بلغت النصاب المعتبر وهو خمسة أوسق.
(ولو لم تكن قوتاً) اختلف العلماء رحمهم الله، هل يشترط في الحبوب أن تكون قوتاً أو لا يشترط؟ فيقع الخلاف إذا كانت الحبوب من جنس البهارات التي لا يقتات بها، وإنما يستصلح بها القوت، وكذلك ما يُتداوى به، فالذين يقولون أنه يشترط فيها أن تكون قوتاً كالأرز والبر والشعير فإنهم يوجبون الزكاة فيها دون ما لا يقتات كالحبة الخضراء -وسيذكر المصنف رحمه الله أنواعاً مما لا يعتبر من الأقوات- فبعض العلماء يمثِّل له بالحبة الخضراء وبذر القطن ونحو ذلك من الحبوب التي لا يقتات بها الناس، ولو كانت من جنس ما يستصلح به القوت كحبوب البهارات ونحوها، فهذه كلها لا تجب فيها الزكاة، وإنما تجب الزكاة فيما يُقتات على القول الذي ذكرناه باشتراط القوت، والمصنِّف هنا لم يشترط القوت التفاتاً إلى الحديث الصحيح: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الكيل ولم يعتبر الاقتيات.(92/3)
الثمار التي تجب فيها الزكاة
[وفي كل ثمر يُكال ويدّخر].
مثل التمر، فإن تمر النخيل يكال ويدَّخر، ولذلك يرتفق الناس به الحول كله، فهو من جنس ما يُكال ويُدخر، فاشترط رحمه الله فيه الكيل مع الادخار، ومن أهل العلم من قيّد العلة بالكيل ولم يلتفت إلى الادخار، وهو أقوى على ظاهر الحديث الذي ذكرناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الكيل ولم يعتبر الاقتيات، ولا الادخار.
[كتمر وزبيب].
فالتمر يكون من النخيل، والزبيب يكون من العنب من الزروع، فمثّل بهذين المثالين لأنهما من جنس ما يُقتات ويُدَّخر، وعلى هذا فإن ظاهر كلام المصنف أنه إذا لم يكن مدّخراً، فإنه لا تجب فيه الزكاة.
أما ما لا يُكال -مثل البرتقال والتفاح والموز والبطيخ- فلا تجب فيه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أوجب الزكاة في الزروع والثمار قيّدها بالخمسة أوسق، فكأنه يقيدها بما يُكال، والبرتقال لا يكال، وينبغي أن يُنبّه على مسألة مهمة: وهو أنه اشتُهر في زماننا هذا الكيلو غرام، فيفهم البعض أننا إذا قلنا: لا يكال أي: لا يوزن، الكيلو غرام من جنس ما يوزن، وتوضيحاً لذلك نقول: إن الشيء إذا بِيع إما أن يباع بالكيل أو يباع بالوزن أو يباع بالعدد أو يباع بالذرع، وقد يباع جزافاً، وهذه الأشياء كلها: الكيل، والوزن، والذرع، والعدد، تقديرات للمبيعات؛ فما يباع كيلاً مثل بيع التمر بالصاع وبالمد، فهذا من جنس ما يُكال، وفي حكم المكيلات ما يوجد في زماننا من بيع الحليب باللتر، فهذا يكال، فيعتبر من جنس المكيلات، والكيل يرجع إلى حجم الشيء والوزن يرجع إلى ثقله.
والضبط بالوزن أدق من الضبط بالكيل، أي: من جهة تحرير الشيء، فالوزن من أمثلته الكيلو غرامات الموجودة الآن.
فالشيء إما أن يباع كيلاً أو يباع وزناً أو يباع عدداً كالبطيخ، تقول: بكم هذه الحبة؟ وكذلك السيارات فإنك لا تكيلها ولا تزنها، وإنما تنظر إلى أعدادها.
ونمثل بالأشياء الموجودة حتى يكون الضبط أبلغ، وإلا ففي القديم يقولون: كالإبل والبقر والغنم، هذه معدودات، فإن الإبل لا تباع وزناً ولا تباع كيلاً وإنما تباع بالعدد، فتقول: بكم هذه الناقة؟ أريد ناقة ناقتين ثلاثاً أربعاً فيرجع في بيعها إلى الأعداد، كذلك في زماننا هذا السيارات تعتبر معدودة.
وأما المذروع فيشمل الأقمشة، وأيضاً يكون في العقارات مثل بيع الأرض، كل ذلك يعتبر من المذروعات، والذرع يكون لتقدير الأطوال والمساحات.
فإذا باع الإنسان إما أن يبيع كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً، فالشيء إذا كان من جنس ما يكال وجبت فيه الزكاة إذا كان من الزروع والثمار، وأما إذا كان يباع بالعدد أو بالوزن مثل البرتقال، فإنه يباع بالعدد فتبيعه بالحبة، وتبيعه بالوزن، تقول: أعطني كيلو غراماً، فلا تبيعه كيلاً، وإنما تبيعه إما وزناً وإما عدداً، فهذا ليس من جنس ما تجب فيه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد للزروع والثمار نصابها بخمسة أوسق، فكأنه نبه حينما قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق) أنه إذا لم يكن مكيلاً أنه لا زكاة فيه، فلو سألك سائل وقال: عندي أرض أزرعها بكراث أو فجل أو نحو ذلك من البقول والخضروات؟ فلتقل: هذه لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها ليست من جنس المكيلات، وإنما هي إما من جنس المعدودات أو من جنس الموزونات، وعلى هذا لا تجب فيها الزكاة، ومثلها ما كان من هذا النوع من الزروع.
وكذلك ما كان يباع بالوزن كالبرتقال والتفاح والموز، فهذا لا تجب فيه زكاة، فلو سألك إنسان عن أرض يزرع فيها التفاح والبرتقال أو الليمون أو نحو ذلك مما لا يكال، فلتقل: هذا لا تجب زكاته؛ لأن الزكاة مخصوصة بما يكال.(92/4)
نصاب زكاة الزروع والثمار
قال رحمه الله: [ويعتبر بلوغ نصاب قدره ألف وستمائة رطلٍ عراقي].
أجمع العلماء رحمة الله عليهم أن للحبوب والثمار نصاباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن ذلك في الحديث الصحيح عنه بقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) فهو صلوات الله وسلامه عليه يبيّن أن الخمسة الأوسق هي نصاب الزروع والثمار، فما بلغ الخمسة وزاد عليها تجب فيه الزكاة، وما كان دون ذلك فإنه لا زكاة فيه، وعلى هذا فقد رتب المصنف الأفكار، فابتدأ رحمه الله ببيان النوع الذي تجب زكاته من الزروع والثمار، وهو ما يكال، على التفصيل الذي ذكره من جهة الاقتيات والادخار واشتراط كلٍّ أو عدمه، وبعد أن بيّن لك أنه من جنس ما يكال شرع في بيان الحد الآن عرفت النوع الذي تجب زكاته، فورد
السؤال
ما هو الحد الشرعي الذي يطالب المكلف بالزكاة إن بلغ ما يملكه من الحبوب والزروع والثمار مبلغه؟ تقول: هو خمسة أوسق، فإن زكاة الحبوب والثمار محدودة بهذا الحد، فلا نقول لكل من ملك حبوباً وثماراً: زك ما عندك، وإنما ننظر في الذي يخرج من زرعه، فإن بلغ الخمسة الأوسق أوجبنا عليه الزكاة، ولو نقص عنها ولو يسيراً لم تجب عليه الزكاة، فلو كان عنده أربعة أوسق فقط، لم تجب عليه الزكاة.
والوسق: ستون صاعاً، والصاع أربعة أمداد، والمد هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، فعندنا صاع، وعندنا مد، فالصاع النبوي الذي كان في زمانه عليه الصلاة والسلام يسع أربعة أمداد، والمد هو ملء الكفين المتوسطتين -يعني: ليستا بكبيرة ولا صغيرة، وإنما الكف المتوسطة- لا مقبوضتين لأنه يقل المحمول، ولا مبسوطتين لأنه ينتشر، وإنما يكون بالوسط، فهذا القدر إذا وضعته يعادل المد، فإذا عادل المد فإن أربعة منه تعادل الصاع.
وهذا القدر الذي ذكرنا أنه المد هو الذي كان يتوضأ عليه الصلاة والسلام بقدره كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع) الصاع: أربعة أمداد، فيصبح المد هو ربع الصاع، فإذا قيل لك: ربع صاع أو قيل لك: مد نبوي فالمعنى واحد، ولا يزال الصاع موجوداً إلى زماننا هذا في المدينة يتوارثه الأصاغر عن الأكابر ويعتبر حجّة، ويحرّر فتأخذ الصاع من الصناع ثم تذهب إلى إنسان أخذ صاعه عن إنسان حرّره عن طريق أهل الخبرة، وبهذا تعلم القدر الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكال به من هذا الجنس من المكيلات.
فستون صاعاً من هذا الصاع النبوي تعادل الوسق، فالخمسة أوسق تساوي ثلاثمائة صاع، فقدر ثلاثمائة صاع هو الذي أوجب الله فيه الزكاة؛ فلو كان يملك مائتين وتسعين صاعاً أو مائتين وتسعة وتسعين صاعاً لم تجب عليه الزكاة حتى يبلغ هذا القدر بعد تصفيته وحصاده كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والأصل في هذا التحديد السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وبناءً على ذلك قال العلماء: إنه يرجع فيه إلى الكيل، وقد كان الوزن موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعتبر الوزن، وننبه على أن المكيلات لا تضبط بالوزن، فالتمر لا يمكن أن تضبطه بالوزن، توضيح ذلك: لو أخذت صاعاً من تمر العجوة مثلاً وأخذت صاعاً من تمر الصفا -وهو نوع آخر- أو تمر الحلوة أو الربيعة، فإنك لا يمكن أن تجدهما في وزن واحد، فإن العجوة أثقل من الحلوة، والحلوة أخف، ولو أخذت نوعاً ثالثاً كالعنبر، فإنك تجده أخف من الحلوة؛ فلو جئنا نقول: الصاع يعادل أربعة كيلو غرام، فهل يعادل من العجوة، أو يعادل من العنبر، أو يعادل من الحلوة؟ ولذلك قالوا: إنه لا يجوز بيع المكيل بالوزن؛ لأنه إذا بيع بالوزن لم تتحقق المماثلة التي اشترطها النبي صلى الله عليه وسلم في الربويات كما سيأتينا إن شاء الله في كتاب البيوع، وقد نبّه على هذه المسألة الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني وغيره من الأئمة أن المكيلات لا تضبط بالوزن؛ لأن المكيلات العبرة فيها بالحجم، فقد يكون حجمها كبيراً وتسع فراغاً من الصاع بحيث لو وزنتها يكون وزنها خفيفاً، وقد تجد منها ما هو صغير الحجم ثقيل الوزن، فالعجوة صغيرة الحجم ثقيلة الوزن، والعنبر كبير الحجم خفيف الوزن، ولذلك لا ينضبط فيها الوزن.
ثم إذا جئت تضبط الحبوب بالوزن تجد أنها يختلف بعضها مع بعض من حيث الجودة والرداءة، ولذلك تجدهم إذا ضبطوها بالوزن قالوا: كذا كذا (كيلو غرام) من البر الجيد أو من الشعير الجيد، والجودة أمير غير مستقر؛ فقد يكون جيداً في نظرك وليس جيداً في نظري، وقد يكون جيداً في عرف بلد ولكنه ليس بجيد في عرف بلد آخر، فالمكيلات لا تضبط بالوزن، ولذلك يحرِّر العلماء المكيلات بالكيل؛ لأن الشرع قصد الكيل فيها، وأما الموزونات فإنها تضبط بالوزن، وبناءً على ذلك لا تضبط الزكوات بالكيلو غرام، وإنما تضبط بالصاع، وإذا قلنا بلزوم ضبطها بالآصُع، وأكدنا على ضرورة ذلك ينبغي على طالب العلم أن يعلم، فإن هذا فيه إحياء للسنة؛ لأن الناس أصبحت تجهل الآصُع، ففقه الفتوى وفقه الفقه أننا نبقي الناس على هذا الأمر المسنون، فإن الناس قد نسوا الصاع، حتى أنك لو قلت لرجل في فدية الحج: عليك -مثلاً- ثلاثة آصُع تطعمها ستة مساكين، لم يدر ما الصاع، فإذا قلت له بالكيلو غرامات يدري، فعلى هذا تفوت السنة وتضيع، ومن هنا لزم رد الناس إلى الأصل وإحياء السنة، وهكذا في زكاة الفطر، فلو رد الناس إلى الكيلو غرامات فإنه يأتي زمان لا يضبطون الصاع، وقد يقرأ الرجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرضية زكاة الفطر صاعاً فيقول: أي شيءٍ هذا الصاع؟! ولذلك ينبغي إحياء هذه السنة، وكان العلماء رحمة الله عليهم يقولون في حديث الصحيحين لقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم بارك لنا في مُدِّنا وصاعنا) فلا ينبغي ترك المد والصاع لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فيهما بالبركة.
فإذاً لا بد من فقه الفقه أن تبقى هذه المكيلات، وأن تُحيا حتى يربط الناس بها، ويعرف الناس بها السنة، والكفارات ونحوها مما أوجب الله عز وجل لا يمكن ضبطها إلا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُصار إلى الكيلو غرامات ما أمكن، ومن ضبطها بالوزن فله ضبطه واجتهاده، ولكن الأصل من جهة إحياء السنة وبقائها بين الناس والمعروف في نصوص العلماء أنه ينبغي التأكيد على الكيل، ولذلك إذا قيل: إنها تعادل ثلاثة كيلو غرامات ونصفاً أو أربعة على اضطراب في هذا التقدير، فإذا قيل: إنها تعادل ذلك من الحب فحينئذٍ يرد السؤال: كم تقديرها من التمر؟ لو أراد أن يخرج الزكاة من التمر، وحينئذٍ لا يمكن للناس أن يصلوا إلى حد معيّن بالوزن.
ثم انظر إلى الكيل فإن الكيل إذا جئت تضع الحب فإنه ينتشر ولا يثبت على الصاع؛ لأن الصاع يملأ حتى ينتشر ويتساقط، وهذا الانتشار يختلف؛ وذلك يؤثر في الوزن قطعاً، والذين يضبطونه بالوزن يغتفرون هذا التأثير، ويقولون: هو يسير مغتفر، ولكنه قد يكون مغتفراً لو اضطررنا إليه، وليس هناك ضرورة إلى الصيرورة إلى الوزن ما دام أن الشرع قصد الكيل.
وخلاصة الأمر: ما دام أن الشرع حد الكيل فيما يكال مع وجود الوزن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغي البقاء إحياءً لهذه السنة، وعلى هذا فلا يُلتفت إلى التقدير بالكيلو غرام، وإنما يقال كما قال العلماء والأئمة رحمة الله عليهم: إن الزكاة تجب في قدر ثلاثمائة صاع نبوي، وهذا هو الحد الذي تضبط به الزكاة وهو المعتبر.(92/5)
وجوب ضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض لتكميل النصاب
قال رحمه الله: [وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب لا جنس إلى آخر].
(وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض) فلو زرع في نصف العام حباً، ثم زرع في نصفه الثاني حباً وجئنا ننظر إلى النصف الأول وإذا به قد بلغ مائتين صاع، والنصف الثاني قد بلغ مائة صاع، فإذا نظرت إلى زرعه الأول أسقطت عنه الزكاة، وإذا نظرت إلى زرعه الثاني مجرداً أسقطت عنه الزكاة، لكن ينبغي ضمهما إلى بعضهما؛ لأنهما في حكم الزكاة الواحدة في العام الواحد، وعلى هذا فالمعتبر أن يزرع في نفس العام، لكن لو زرع مثلاً في أواخر حزيران من العام الماضي، لأن الشهور الشمسية ينضبط بها الزراعة، ولذلك يقول الفقهاء: إذا زرع في حزيران، فلو زرع حباًَ في حزيران وحصد، ثم لما كان من العام القادم زرع في حزيران حباً بحيث لو نظرنا إلى زرعه العام الماضي وزرعه السنة، كل زرع مستقل لا تجب فيه الزكاة ولو ضممناهما وجبت، نقول: لا يضم؛ لأن زرع العام منفصل عن زرع السنة، ولكل سنة زرعها، فيشترط في ضم الثمرة أن تكون في نفس العام، كذلك أيضاً في النخيل، النخل يُطلِع مرة واحدة في السنة، ولكن إذا وضع الله فيه البركة، فإنه يطلِع مرتين، وفي بعض المناطق قد يطلِع مرتين إما لرِيِّه أو لحسن جوِّه، وهذا أمر يقع في بعض المناطق، كما ذكر عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك له في ماله وولده)، وفي رواية (أكثر ماله وولده) فأُعطي كثرة الولد وكثرة المال، فمما ذكروا في ماله أنه كان له نخل يطلِع مرتين في العام، وهذا من غرائب ما يكون، فإن النخل يطلِع مرة واحدة في السنة كما هو معلوم.
فإذا أطلع النخل مرتين ضم طلعه الأول إلى طلعه الثاني، ثم إن النخل نفسه يختلف، فالنخل بحكمة الله عز وجل إذا جاء فصله وزمانه الذي يكون فيه نضج ثمره، فإنه يختلف في النضج فشيءٌ منه ينضج في أول الصيف، وشيءٌ منه ينضج في منتصف الصيف، وشيءٌ منه ينضج في آخر الصيف، ثم الذي ينضج في أول الصيف يأكله الناس بسراً أو يأكلونه رُطباً، وأوساط الصيف غالباً يكون رطباً، وآخر الصيف يكون تمراً، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى حتى يبين لعباده عظيم فضله عليهم وعظيم منته عليهم، فتجد الذي يؤكل في أول الصيف لا تستسيغ طعامه في منتصف الصيف، والذي يؤكل في منتصف الصيف لا تستسيغ طعامه في آخر الصيف، بل ربما يكون الإنسان قد أكل الثمرة أمس، فإذا طلع سهيل ثم جاء يأكلها اليوم يجد طعمها مختلفاً تماماً، حتى لا يجد لها النكهة التي وجدها أمس، وهذا دليل واضح على عظمة الله عز وجل، وأن لهذا الكون خالقاً سبحانه وتعالى، فمن حكمة الله عز وجل أن ثمر النخيل لا ينضج مرة واحدة وإنما ينضج متتابعاً على الترتيب، فشيءٌ في أول الزمان، وشيءٌ في أوسطه، وشيءٌ في آخره.
فبالنسبة للثمرة فإن الإنسان قد يجذ الذي يكون في أول الصيف بعد تمامه ولم ينته الصيف بعد، ثم يجذه أوسطه، ثم يجذه آخره، فيُضم كل هذه الأنواع بعضها إلى بعض، ولا تقل: إنني أعتبر كل نوع على حدة، وأعتبر النصاب ثلاثمائة صاع لكل نوع على حدة، فلو نظرت إلى نوع منه يؤكل بُسراً في أول الصيف، ونوع منه يؤكل رطباً، ونوع منه يؤكل تمراً، فلا تفصل بعضه عن بعض، وإنما تضمها لأنها ثمرة عام واحد، فترى زكاتها العام الواحد، وترى أن بعضها يُضم إلى بعض حتى يصير الجميع نصاباً فتجب فيه الزكاة أو يكون دون النصاب فلا تجب فيه الزكاة.(92/6)
أصناف الحبوب والثمار لا يضم بعضها إلى بعض في الزكاة
قوله: [لا جنس إلى آخر].
لو كان عنده حبوب جنس البر والشعير مثلاً، فإنه لا يضم البر إلى الشعير، ولا يضم الأرز إلى البر، وإنما ينظر لكل جنسٍ على حدة، واختلف في البر والشعير، وأصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم أنهما نوعان منفصلان، ودلت السنة على ذلك، ففي الحديث الصحيح عن عبادة الصامت رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، وموضع الشاهد في قوله: (إذا اختلفت هذه الأصناف) فأجاز لنا بيع البر بالشعير متفاضلاً، بشرط أن يكون يداً بيد، وذهب بعض السلف كما هو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وكان يقول به معمر بن عبد الله الصحابي، يقول: إن البر والشعير بمثابة النوع الواحد؛ لحديث معمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل) وفسّره الراوي وهو معمر بالشعير بالبر، وجعلهما نوعاً واحداً، ولكن الصحيح أن معمر رضي الله عنه جعل البر والشعير بمثابة النوع الواحد التفاتاً للعموم في قوله: (الطعام بالطعام) وهذا الالتفات جاء ما يفسره ويبينه في قوله في حديث عبادة الذي ذكرناه: (البر بالبر والشعير بالشعير) وهو آكد وأبين في فصل كل منهما عن الآخر.
يستفاد من هذا أنه لو كان عنده مائة صاع من البر ومائتان من الشعير، فإن قلت: هما نوع واحد؛ وجبت عليه الزكاة؛ لأنهما يُضمان إلى بعضهما، وإن قلت: إنهما نوعان مختلفان، لم تجب عليه الزكاة؛ لأن البر نوع والشعير نوع، ولم يكتمل النصاب في كل نوع على حدة، هذه فائدة هل نعتبر البر والشعير نوعاً واحداً، أو نوعاً مختلفاً؟ ولا يُضم جنس إلى جنس، فلا تقل: إذا كان عنده مائة صاع من الحب أُضيفها إلى مائتي صاع من التمر، وإنما ينظر إلى التمر على حدة وإلى الحب على حدة، والتمر نفسه أنواع بمثابة الجنس الواحد، فلو كان عنده الحلوة والعجوة والصفاوي كل واحد منها مائة صاع، فإنك تقول: أعتبرها نوعاً واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والتمر بالتمر) ولم يفصِّل، فدل على أن التمور كلها بأنواعها بمثابة النوع الواحد، بناءً على ذلك لو كان عنده مائة صاع تمراً من نوعٍ من أنواع التمور وعنده نوع ثان مائة صاع، ومن نوع ثالث مائة صاع، وجبت عليه فيها الزكاة، لأنها بمثابة النوع الواحد.(92/7)
اشتراط ملكية النصاب وقت وجوب الزكاة
قال رحمه الله: [ويعتبر أن يكون النصاب مملوكاً له وقت وجوب الزكاة].
هذا أمرٌ لا بد منه للحكم بلزوم الزكاة عليه، ووقت الوجوب هو وقت بدو الصلاح.
وتوضيح ذلك: أن نقدم بمقدمة يتصور الإنسان بها حقيقة بعض الثمار والزروع.
النخل -مثلاً- يمر بمراحل، فمن حكمة الله عز وجل أن النخل أول ما يكون منه في ثماره الطلع، والطلع: كيزان تحمل ثمرة النخلة، هذا الطلع يكون أول ما يبدو في زمان معين من السنة، يخرج ذلك الكيس الخشبي الذي بداخله الثمرة المخلوقة بقدرة الله عز وجل، مرتبة منظمة حتى أنك لو فتشت هذا الكيس تعجب من بديع صنع الله عز وجل في ترتيبها ودقتها وتناسقها، فإذا كنت تعجب من كيس واحد، فكيف بهذه البساتين التي تحمل البلايين بل بلايين من هذه الأكيسة بنظام بديع غريب يدل على عظمة الله جل جلاله؟! فإذا خرج هذا الطلع يكون تقريباً في الغالب في حجم الذراع، على هذه الصورة، يخرج شيئاً فشيئاً في جذع النخلة، من أعلاها بين الجريد الذي لم ييبس، وهو قلب النخلة كما يسميه العامة، وفي ذلك حكمة، فلو خرج في جذع النخلة من أسفل لانكسر؛ لأنه لا يجد ما يحمله، وإنما يكون في قلبها في أعلاه حتى يكون على الجريد، ويحمله الجريد بقدرة الله عز وجل، فإذا عبثت به الرياح أو ثقل وزنه مع الزمان لم ينكسر، وهذه من حكمة الله جل جلاله، فإذا خرج هذا الكيس يتشقق وذلك في زمان مناسب حتى أنك في زمان البرد تجد أسابيع معينة يكون فيها شيء من سكون الهواء وحرارة الجو حتى تخرج هذه الكيزان، مع أنك في فصل من الفصول الباردة، فإذا خرجت هذه الكيسان تشققت، فبداخلها الثمرة، يأتي الفلاح ويأخذ طرفي الكيس الخشبي ويقطعهما وتخرج الثمرة التي هي العرجون بشماريخه، فهذا العرجون بشماريخه تجد فيه حبات التمر، الواحدة تلو الأخرى منظمة مرتبة على أحسن ما أنت راءٍ من تنظيم وترتيب، وتبارك الله أحسن الخالقين، فيأتي الفلاح ويأخذ من الذكور؛ لأن النخل فيه الذكر وفيه الأنثى، فالذكور تطلع كيزان مثل كيزان الإناث، ولكن فيها اللقاح، وهذا اللقاح يؤخذ ثم يغبَّر به تلك الثمرة الخارجة في الكيس الذي ذكرناه، فيلقح الفلاح، فتأتي مرحلة ثانية وهي التي تسمى بالتأبير، وفيها أحاديث ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها؛ كحديث عبد الله بن عمر: (من باع نخلاً قد أُبِّرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، فهذه مرحلة التأبير، وتترتب عليها أحكام شرعية، ومرحلة التأبير هي التي ورد فيها حديث المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم على أهل المدينة وجدهم يؤبِّرون النخل، فأمرهم أن يتوكلوا على الله، فتركوا الثمرة ولم يؤبروها ففسدت، فقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) فهذه مرحلة التأبير.
بعد التأبير تكون هناك فوق الشهرين مرحلة تسمى مرحلة العقد، مثل أيامنا هذه، فتبدأ الحبة تكبر؛ لأنها في بدايتها تكون قريبة من حبة الذرة، فهذه الثمرة التي تأكلها في نهاية العام والتي قد تبلغ في حجمها الإصبع الكامل، تكون بعد التأبير بقدر أصغر من حبة الذرة، فهذه الحبة الصغيرة تكبر شيئاً فشيئاً مع مرور الزمان بما يزيد على الشهرين، حتى يكتمل حجمها المعتاد وهي خضراء، فإذا اكتمل حجمها المعتاد، ضربها اللون بقدرة الله عز وجل، فاصفرّت أو احمرّت على حسب ما جعلها الله عز وجل من ذلك النوع، هل هو أحمر أو أصفر، {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [النحل:13]؛ لأن اختلاف الألوان يدل على وجود الخالق، لأنه لو كانت الأمور طبيعية كما يقول أهل الطبيعة: أن الحياة وجدت صدفة، لكان كله أحمر أو كله أصفر، ولكن هذا أحمر، وهذا أخضر، وهذا أصفر، يدل على وجود من غيّر هذه الألوان، وهو سبحانه {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14].
وهذه المرحلة -مرحلة اللون- تسمى في الشرع بالإزهاء، وهي التي ورد فيها حديث أنس في الصحيحين: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تزهو، قالوا: يا رسول الله! وما تزهو؟ قال: تحمارُّ أو تصفار) وهي مرحلة الإشقاح، ومرحلة بدو الصلاح، كما ورد في الأحاديث: (نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها)، (نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو)، (نهى عن بيع الثمرة حتى تشقح) فهي مرحلة اللون، ويكون اللون أحمر أو أصفر.
بقي إشكال وهو: إذا كانت الثمرة لونها أخضر مثل النوع الذي يسمى بالخضري، يبقى أخضر، كيف يعرف صلاحه؟ قالوا: بالطعم؛ فإنه إذا جاء وقت بدو صلاحه صار حلو الطعم بعد أن كان مر الطعم، وهذا هو الذي عناه حديث ابن عباس في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى تؤكل أو يؤكل منها) فردّ إلى الطعم، فهذه مرحلة بدو الصلاح، ولها ضوابط عند العلماء رحمة الله عليهم، فتكون باللون، وتكون بالزمان وهو طلوع الثريا، وفيه حديث أبي هريرة عند الطبراني وغيره وابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يطلُع النجم، وتؤمن العاهة) وهو الثريا كما فسّره ابن عمر، وهذا التفسير أشار إليه الطبراني في معجمه الأوسط والصغير، وقال: إنه طلوع الثريا، وذلك لاثنتي عشرة خلت من مايو أيار.
الشاهد: هذه المرحلة تسمى مرحلة بدو الصلاح، وهي المرحلة التي يحكم فيها بوجوب الزكاة، فلو أن الإنسان في هذه المرحلة كان غير مالك للثمرة، فإنه لا تجب عليه الزكاة، وينظر في تقدير فائدة هذا الحكم الذي ذكره المصنف رحمة الله عليه ما يترتب عليه من الحكم بإيجاب الزكاة.
بعد هذه المرحلة وهي مرحلة بدو الصلاح تأتي مرحلة البُسر والبلح، فإذا ضربه اللون صار بُسَراً كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما جاء إلى الصحابي وجز له عرجون نخل، قال: هلا أتيتنا من ثمره! قال: إنما أردت أن تتخير من بُسره ورُطَبه وتمره).
فهذه مرحلة البُسر، يؤكل بعض الثمر الذي يكون من النخل، بعضه يؤكل بلحاً، ولا تستسيغه إلا بلحاً، وبعضه يؤكل رطباً.
وبعد أن يصير بلحاً تمر عليه فترة الشهر والنصف وزيادة؛ يبدأ يذبل آخر الثمرة، ثم يذبل قليلاً قليلاً؛ ربع الثمرة ثم نصفها ثم ثلاثة أرباعها حتى يكتمل ترطيبها، فهذه المرحلة تسمى بمرحلة الرُّطَب، ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التمر، ويسميها العلماء بمرحلة الصرام؛ لأنه يصير كالصريم وعندها يستوي كمال الاستواء.
هذه مراحل ثمرة النخل والذي يهمنا منها مرحلة بدو الصلاح، فلو أن هذه المرحلة وهي مرحلة بدو الصلاح كان النخل في ملك غيرك، ثم صار إلى ملكك بإرث ونحوه لم تجب عليك الزكاة، وإنما وجبت في ملك الغير.
أوضح هذه المسائل: لو أن رجلاً كان له بستان فيه نخل، فلما بدا الصلاح توفي الرجل، وترك ابنين، الابنان يقسم البستان بينهما مناصفة، لهذا نصفه ولهذا نصفه، فلو فرضنا أن هذا البستان فيه ثلاثمائة صاع التي هي النصاب، فإذا قلنا: إن البستان في ملك الميت وجبت الزكاة؛ لأن النصاب كامل، وإذا جئنا ننظر إلى ملكية الابنين فقد ملك كل منهما مائة وخمسين صاعاً دون النصاب، فحينئذٍ يقولون: العبرة بوقت بدو الصلاح، إن جاء وقت بدو الصلاح والرجل لم يمت، فحينئذٍ الزكاة واجبة عليه، وتخرج من ماله وتركته قبل قسمة البستان، وإن جاء وقت بدو الصلاح كأن يكون أبّر النخل ثم توفِّي قبل بدو صلاحه، فحينئذٍ البستان في ملك الابنين، ولا تجب فيه زكاة؛ لأنه قد جاء وقت الوجوب ولم يملك كل منهما النصاب، هذه فائدة وقت بدو الصلاح.
بالنسبة للحبوب والزروع الأخرى، ما هي علامة بدو الصلاح؟ لبدو صلاح الحب علامات: منها الاشتداد كالحب، فالحب علامة بدو الصلاح فيه أن يشتد، وفي حديث مسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد) وذلك: أن الحب أول ما يكون في خلقه يكون ليناً، وتكون خلقته لينة حتى إنك لو ضغطت بإصبعك على الحبة لخرج ماؤها، ثم تبدأ تشتد شيئاً فشيئاً حتى يكتمل اشتدادها، فإذا اشتدت واكتمل اشتدادها فتلك مرحلة بدو الصلاح، فمن باع النخلة قبل الإزهاء الذي هو اللون، أو باع الحب قبل أن يشتد فبيعه باطل ولا يجوز، فهذا الوقت وهو وقت اشتداد الحب، ولون ثمرة النخيل هو الحد الذي يفصل فيه لجواز البيع وعدمه، وهو الحد الذي يفصل فيه في ملكية الثمرة ووجوب الزكاة وعدم وجوبها.
يقول العلماء: هناك علامات كثيرة لبدو الصلاح: أولها: اللون كما في النخل يحمار ويصفار.
ثانياً: أن يكون شديداً بعد لينه، كالبر والشعير فيشتد بعد اللين.
العلامة الثالثة: أن يلين بعد الشدة كالتين، فإن التين يكون شديداً أول ما يكون فإذا بدأ يلين بدا صلاحه، فهو عكس النوع الذي قبله، وألحق بعض العلماء بهذا النوع الثالث البطيخ عند بيعه، طبعاً ليس في البطيخ زكاة؛ لأنه ليس من جنس ما يكال، لكن في البيع يشترطون أن يلين؛ لأن البطيخ إذا بدا صلاحه لان، أما إذا كان شديداً فإنه لم يطب ولم يكن صالحاً لأكله.
العلامة الرابعة: أن يكتمل حجمه بعد صغره، أي: يبدأ يكبر حجمه حتى يكتمل كالطماطم والباذنجان ونحوها، هذه علامة صلاحها.
العلامة الخامسة: أن يكتمل طوله بعد قصره كالقثّاء والخيار ونحوها، فتحكم بجواز البيع إذا اكتمل حجمه.
والعلامة السادسة: أن يحلو بعد مرارته كقصب السكر، فإن علامة بدو الصلاح فيه أن يكون حلواً بعد أن كان مراً.
والعلامة السابعة: أن يتفتح من أكمامه فبعض الزروع يكون، بدو صلاحها عند بداية تفتحها كبذر القطن إذا ابتدأ تفتحه فهو علامة صلاحه، أو يكتمل التفتح كما في الورد إذا بيع بقصد الانتفاع به في مطعم ونحوه.
هذه علامات بدو الصلاح؛ يترتب عليها أحكام في الزكاة، وتترتب عليها أحكام في البيوع، كما سيأتينا إن شاء الله في بيع الأصول والثمار، ولا بد لطالب العلم أن يلم بمثل هذه الأمور.
ونحن ننبه إلى مسألة مهمة، وهي: أن من عادة فقهاء الإسلام رحمة الله عليهم والأ(92/8)
لا تجب الزكاة فيما يكتسبه اللقاط أو يؤخذ كأجرة على الحصاد
قال رحمه الله: [فلا تجب فيما يكتسبه اللقاط أو يأخذه بحصاده].
اللقاط: هو الشخص الذي يلتقط الثمار من تحت النخيل، من عادة الناس في القديم أنهم يتركون للضعفاء والمحتاجين إذا دخلوا البساتين أن يلتقطوا ما يتساقط من الثمر؛ لأن النخل إذا حمل تمره أو رطبه تتحرك به الرياح، فبتحرك الرياح يسقط شيء من هذا الثمر والرطب رزقاً قد ساقه الله عز وجل لهؤلاء الضعفاء، وكان من سنة الخلفاء الراشدين وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه إذا دخل أحد إلى بستانك أو كنت في طريق في سفر، فمررت ببستان، جاز لك أن تأكل ما تساقط من ثمره بدون إذن صاحبه، لكن بشرط: أن لا تتمول، ولذلك قالوا: إنه لا يجوز له أن يرقى فيجني ولكن يأخذ ما تساقط، ففي هذه الحالة لا يُتعرّض للإنسان غالباً إذا أخذ هذا الشيء، فلو أن إنساناً يمر على البساتين، ويلتقط ما تساقط فبلغ الذي التقطه حد النصاب ثلاثمائة صاع، فهل تجب عليه الزكاة؟
الجواب
لا؛ لأنه بدا صلاح هذا الملتقط وليس في ملكه، وإنما في ملك غيره، فلا تجب عليه الزكاة.
[أو يأخذه بحصَاده].
هذه مسألة فيها خلاف، عندك ثمر من النخيل مثلاً أو حبوب، فمن عادة المزارعين أنهم يستأجرون أناساً للحصاد وللجَذاذ، فعندك مائة نخلة وقال لك رجل: أنا أجُذُّ لك هذه المائة نخلة وآخذ منك مائة صاع، أو آخذ منك خمسين صاعاً، فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وهي من مسائل الإيجار.
بعض العلماء يقول: لا يجوز أن تستأجر الأجير بجزءٍ من عمله؛ لأنه غرر، وتوضيح ذلك: أنه إذا قال له: جذ لي النخل وخذ منه مائة صاع، فإن المائة صاع متوقفة على الجذاذ، ويكون أخذه من عمله، ولذلك قالوا: إنه لا يجوز له ذلك، واحتجوا بحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل وقفيز الطحّان) وهذا الحديث ضعيف، ووجه قفيز الطحان قالوا: نهَى عنه؛ لأن الطحان سيطحن، سيقول له: اطحن لي هذا الحب وخذ منه نصف صاع أو خذ منه نصفه، فقفيز الطحان بمعنى: اطحن وخذ من طحنك، قالوا: لا يجوز، ومن أمثلتها: أن يقول له: اذبح الشاة وخذ جلدها، قالوا: لأننا لا ندري هل يخرج الجلد ثخيناً أو رقيقاً، وهل يسلم الجلد أثناء سلخه من الكشط والقد أو لا يسلم، ولذلك قالوا: هي إجارة غرر، فلو كان الحديث ضعيفاً فإن الأصول تقتضي منعها لوجود الغرر، وبناءً على ذلك قالوا: لا يستأجر الأجير بجزءٍ مما يقوم به، وإنما يُستأجر بمنفصلٍ عنه، وعلى هذا لا يصح هذا النوع من الإجارة.
هناك قول آخر يقول: يجوز أن يستأجر الأجير بجزءٍ من عمله، وعلى هذا يقولون: يصح أن يقول له مثلاً: خذ السيارة واعمل بها يوماً وخذ مما تخرجه مائة ريالاً، ونحو ذلك من المسائل التي ذكرناها مثل مسألة قفيز الطحان، ومثل مسألة إجارة السلاخ بالجلد، وكذلك مسألتان، فإنه يقول له: جذ لي النخل وخذ ربع الجذاذ، واحصد لي الحب وخذ مائة صاع، فهذه إجارة بجزء من العمل.
فقالوا: على القول بالجواز يصبح في هذه الحالة لو جذَّ النخل أو الحب وكان جذذه بثلاثمائة صاع، فمع أنها بلغت النصاب، لا تجب عليه الزكاة؛ لأن هذه الثلاثمائة وإن كانت قد بلغت النصاب قد جاء وقت وجوب الزكاة فيها وقد خوطب بها الغير، فلا تزكى مرتين، وإنما تزكى مرة واحدة، وذلك من المالك الحقيقي لها.
[ولا فيما يجتنيه من المباح كالبرطم والزعبل وبزر قطونا ولو نبت في أرضه].
أي: حبوب المزروعات التي تنبت بنفسها، والمباحات التي تنبت بنفسها (الناس شركاء في الماء والكلأ والنار) ما ينبت من المباحات كالأعشاب ونحوها، هذه الناس فيها سواء، لذلك يقال لها إنها من المباحات، فإذا نبتت بنفسها في مزرعة، مثلاً: لو أن إنساناً كانت له أرض ثم هذه الأرض أرسل الله عليها المطر، فأنبتت عشباً، ولهذا العشب منه ما هو حب مثلما ذكر الزعبل والبرطم؛ وهي الحبة الخضراء، أنبتت نوعاً من الزروع التي لها حبوب وبلغت النصاب ثلاثمائة صاع، فهل نوجب فيها الزكاة؟ قالوا: هذا من جنس المباحات، ليس مما للمكلف فيه سعي، وإنما هو من جنس المباحات التي يملكها سائر الناس، فلا تجب في مثلها الزكاة، والسبب في هذا أنهم قالوا: إنه يبدو صلاحها وهي ليست ملكاً لأحد، وإنما يملكها بالجذ، فإذا جذها ملكها؛ لأن العشب والماء والنار مباحات لا تملك إلا بالقبض؛ مثلاً: لو أن الله عز وجل أنبت العشب في مكان، فليس من حق أحد أن يقول: هذا العشب لي، إلا إذا نبت في أرضه، أما لو نبت في مكان فملكيته تكون بعد الجني، ولأنه بدا صلاحه وليس ملكاً لأحد، فلا زكاة فيه، كما ذكرنا عن الأصل الذي قررناه.
وقال بعض العلماء: إن نبتت في أرضه فهو ملكٌ له، ولذلك لا ينازعه أحد، فتجب فيه زكاة، وإن نبتت في غير أرضه فلا تجب عليه الزكاة؛ لأن الله أنبتها ولا مالك لها.(92/9)
الأسئلة(92/10)
خرص الثمار والحبوب
السؤال
في زكاة الحبوب والثمار هل في تحديد الخمسة أوسق لا بد من كيلها صاعاً تلو صاع، أم يكفي خرص أهل الخبرة، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا كان عندك نخل أو كانت عندك حبوب مزروعة، فالسنة أن يرسل الإمام الخارص على أصحاب البساتين عند بدو الصلاح في النخل.
والخارص: هو الذي يخرص؛ من الخرص، والخرص: الظن والحدس والتخمين، والأصل في اعتبار الخرص ما ثبت في حديث عبد الله بن رواحة كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثه إلى نخل خيبر يخرصُه؛ لأن نخل خيبر كان مناصفة بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود، نصفه لليهود ونصفه للمسلمين، فيحتاج أن يُخرص قبل أن يُجذ حتى يعرف كم للمسلمين وكم للعاملين والأجراء وهم الذين كانوا بخيبر.
فالشاهد: أن هذا الخارص رجلٌ عنده خبرة، يذهب إلى النخيل وينظر في النخلة فيقول: هذه النخلة إذا جذت فسيكون بإذن الله فيها -مثلاً- ثلاثون صاعاً عشرون صاعاً عشرة آصع، بخبرته؛ لأنه مع الزمان والدربة والتجربة يستطيع أن ينظر في النخلة فيخرصها، وهذا شيءٌ أقرّه الشرع، فإذا نظر إلى النخلة حدد ما فيها، ثم ينطلق إلى الثانية والثالثة حتى يجمع ما للإنسان في نخله، وبعد أن يمر على البستان بكامله يقدِّر أن في هذا البستان تسعمائة صاع مثلاً، أو ألف صاع، فإذا قدّر ألف صاع يُسقِط منها الربع، والربع هذا سبب إسقاطه أن هناك ما يسقط بسبب الريح، وهناك ما يسقط بسبب الرقي على النخل، وهناك ما يأكله الطير، الذي هو نقر الطير، وهناك الهبة والعطية يهبها صاحب النخل، وهذه هي السنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الخرّاص أن يتجاوزوا في حدود الربع، فهذا الربع يُترك لصاحب المال، فيقدر بما دون ذلك، فيقول: هذا النخل فيه سبعمائة وخمسون صاعاً، لا يقول: ألف، مع أنها ألف صاع لكن يُسقط منها الربع إعمالاً لما ذكرناه من السنة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه وصّى الخرّاص أن يُسقطوا هذا القدر؛ لأن في المال طعمة الطير، وفيه الساقط، وفيه الهبة والعطية ونحو ذلك، فهذا يعتبر في الخرص، أما أن ننتظر حتى يجذ ثم يكيل كل ما جذه فلا، وإنما يقدر قبل الجذاذ، وهكذا الحبوب تقدر وهي في سنابلها، ثم بعد ذلك إن جذ يطالب بإخراج القدر الواجب عشراً أو نصف عشر على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله تعالى.
والله تعالى أعلم.(92/11)
كيفية إخراج زكاة عروض التجارة
السؤال
بالنسبة للموزونات كالبرتقال والتفاح إذا كانت من عروض التجارة، هل تجب فيها الزكاة رغم أنها لا يحول عليها الحول، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا أدخل الإنسان مالاً لكي يتاجر به في الفواكه أو غيرها، فالعبرة بهذا المال، وتعتبر الأعيان المنتقلة من عروض التجارة، ولا يؤثر فيها كونها لا تبقى، فالعبرة بدخوله للمتاجرة بهذا المال، ويعتد بحول رأس المال الذي دخل فيه للتجارة، فلو كان عنده مائة ألف وأراد أن يدخل في بيع الفواكه، فإننا نقول: متى دخلت في بيعها؟ فإن قال: في أول محرم، نقول: حينئذٍ كلما جاء محرمٌ من كل عام، فانظر إلى ما عندك من عروض التجارة من الفواكه وغيرها وقدرة يساويه من القيمة، وزكه على الأصل المنضبط في عروض التجارة.
وسيأتي إن شاء الله تفصيله وبيانه في موضعه، والله تعالى أعلم.(92/12)
معنى التمول
السؤال
قلتم: من مر ببستان فله أن يأخذ ما تساقط من الثمر، إلا أن يتمول، فما معنى قولكم: يتمول؟
الجواب
يقول بعض العلماء: يتمول أي: يأخذ معه، واغتفر بعض أهل العلم التموُّل وقال: إنه يجوز له أن يأخذ ما تساقط متمولاً أو آكلاًُ، يعني: يستوي أن يكون للأكل أو للتمول، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه -كما في الصحيح- كان له مالٌ في خيبر، فقال: يا رسول الله! إنها أحب مالي، فما تأمرني؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقفها وأن يحبس الأُصول وأن يتصدق بالثمرة، فتصدق بها على ابن السبيل غير متمول، يعني: أن لا يتمول منها، بمعنى: أن يأخذ بلغته وكفايته في طريقه ولا يأخذ ذلك على سبيل الارتفاق معه زائداً عن حاجته التي يأكلها أثناء الأخذ من تحت النخل، والله تعالى أعلم.(92/13)
حكم الالتقاط من بساتين مكة
السؤال
هل يختلف الحكم في مسألة الالتقاط في مكة، أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة لمكة لا يختلف الحكم، من كان عنده بستان في داخل مكة ودخله إنسان يجوز له أن يأخذ؛ لأن هذا ليس باللقطة؛ لأنها في ملك الغير وصاحبها معروف، وهذا حكم شرعي أشبه بهبة شرعية في مال الإنسان، ليس لها علاقة باللقطة، اللقطة تكون مالاً ضائعاً لا يُعرف صاحبها، وأما هذا فهو مالٌ معروف وصاحبه معروف، وإنما هو حق واجب على الإنسان لأخيه المسلم عند وجود حاجته، والله تعالى أعلم.(92/14)
حكم من مات وعليه زكاة ودين لا يكفي ماله لسدادهما معاً
السؤال
إذا توفي رجل وعليه زكاة ودين، فأيهما يقدم إذا كانت التركة لا تكفي لسدادهما معاً، أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة تُعرف بمسألة ازدحام الحقوق، فإذا ازدحم حق لله وحق للعباد، قدم حق المخلوق على حق الله عز وجل، وهذا من جهة أن الله عز وجل حقوقه مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة والمقاصة، وذلك أن الشريعة قدّمت حقوق الأنفس والآدميين على حق الله عز وجل، ولذلك إذا أصابت الإنسان المخمصة وهو في سفر أو في غربة أو في مكان ما، أصابته المخمصة فإن حق الله أن لا يأكل من الميتة، وقد حرم الله الميتة، فإذا خاف على نفسه جاز له أن يأكل منها إنقاذاً لنفسه، وأخذ العلماء من هذا وأمثاله من أحكام الشريعة أصلاً؛ وهو أنه إذا ازدحم حق الله وحق المخلوق قدِّم حق المخلوق؛ لأن المخلوق يطالب بحقه، والله عز وجل كريم يرحم عبده إذا ضاقت يده، أو فاته الوقت عن الأداء أو وُجد عنده العذر، ولذلك قالوا: إذا ازدحمت الزكاة والدين يقدَّم حق الدين على الزكاة، ويخرج من المال الديون، فإذا فضل فضل أخرج في زكاته، وهكذا إذا كانت عليه كفارات وحقوقٌ أخرى، فإنه يُخرج منها بعد أداء ديون العباد، والله تعالى أعلم.(92/15)
حكم دفع المرأة زكاة حليها إلى زوجها
السؤال
أريد أن أخرج زكاة الذهب والحلي الذي يلبسه أهلي، وأنا رجل عليَّ ديون، هل يجوز لي أن أسدد ديوني من مبلغ الزكاة، أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة لدفع الزكاة إلى الزوج فيها وجهان مشهوران لأهل العلم رحمة الله عليهم: فمن أهل العلم من يقول: يجوز دفع الزكاة من الزوجة لزوجها، لحديث زينب رضي الله عنها وأرضاها لما: استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيُّ الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله بن مسعود، ثم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتته أنها تريد أن تتصدق، وأن أبناء عبد الله بن مسعود في ضيعة وحاجة، فأمرها أن تتصدق عليه، وأن الصدقة عليه لها فيها أجران: صلة الرحم، والصدقة.
قالوا: إذا كان هذا أصلاً يدل على أنها إذا بذلت لزوجها أنها متصدقة، ولو كانت في النفل، فإنه يدل على أنه يجوز صرف الزكاة إلى الزوج، وبناءً على ذلك قالوا: يجوز أن تدفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهذا القول أقوى القولين.
وقال بعض العلماء: لا يجوز للزوجة أن تدفع زكاتها لزوجها؛ لأنها ستستفيد من الزكاة؛ لأنه سينفق عليها.
والذي يظهر كما ورد في السؤال أنه إذا كان الزوج مديوناً ومحتاجاً، ولم تحابه المرأة يجوز أن تدفع زكاة حليها إليه.
والله تعالى أعلم.(92/16)
كيفية إخراج زكاة العقارات
السؤال
رجل لديه مال واستثمره في شراء العقارات من أراض وغيرها، وذلك بقصد المحافظة على رأس ماله من إنقاص الزكاة له، هل عليه شيءٌ في ذلك؟ وما الحكم إذا كان المال ليتامى، ويقصد بذلك المحافظة على مالهم كما هو، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا المال الذي يشتري به العقارات ويبيعها، إذا اشترى الأرض وعرضها للتجارة فالأرض تجب زكاتها إذا باعها، فلو اشترى أرضاً ومكثت عشرين سنة لم تبع ثم باعها بعد عشرين سنة فعليه أن يزكيها لسنة واحدة، وبهذا القول قال سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وكذلك قال به عروة بن الزبير وخارجة بن زيد بن ثابت، واختاره إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس، وقال به بعض فقهاء الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع.
وبناءً على ذلك إذا اشترى الأرضين، فكل أرض يعتبر فيها الزكاة إذا باعها، إذا تمت لها سنة كاملة وهي معروضة للتجارة، فلو مكثت سنوات زكاها لسنة واحدة للأصل الذي ذكرناه، ولا تجب الزكاة في عين المال، وهناك فرق بين عرض التجارة بالعقارات، وعرض التجارة بالمنقولات، فعرض التجارة بالعقارات أشد لما فيه من الضيق والحرج الذي نفى الله عز وجل وجوده في الشريعة، فإن الرجل ربما عرض أرضه وهي تساوي الملايين ثم يبيعها بعد عشر سنوات بمائة ألف، وهو طيلة هذه العشر السنوات يزكيها على أن قيمتها الملايين، ثم بعد ذلك تنزل إلى هذا السعر وهذا موجود، ربما كانت الأرض في مكان وعليه الطلب والرغبة والإلحاح، فتبلغ الملايين والأسعار الخيالية، فيدفع زكاتها، ثم يشاء الله عز وجل أنها تنزل حتى تباع بالشيء الزهيد اليسير، وقد وقع هذا.
وأعرف رجلاً من القرابة كانت أرضه تساوي تسعة ملايين ثم وصلت إلى عشرة، وما زال على ذلك قرابة عشر سنوات أو أكثر، ثم باعها بما يقارب المليون وشيء يسير، فلو أنه طيلة العشر سنوات وهو يزكي ربما يخرج قيمتها قبل أن يملك القيمة التي سيبيعها به، فالحرج موجود والمشقة حاصلة، وأفتى هؤلاء الأئمة من السلف من التابعين كـ سعيد بن المسيب وخارجة بن زيد والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعروة بن الزبير، كلهم يقولون: إنه يزكيها لسنة واحدة، وذلك بعد قبضها، ولا تجب عليه الزكاة طيلة هذه السنوات.
وأموال اليتامى تجب فيها الزكاة على الصحيح، وفي الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) وهو مذهب جمهور العلماء.(92/17)
شرح زاد المستقنع - باب زكاة الحبوب والثمار [2]
ما سقي من الحبوب والثمار بالمئونة ففيه نصف العشر، وما سقي بلا مئونة ففيه العشر، وتجب زكاته إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر.
وما وجد مدفوناً من عهد الجاهلية ففيه الخمس، وهو ما يسمى بالركاز.(93/1)
إيجاب العشر فيما سقي بلا مئونة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [فصلٌ: يجب عشرٌ فيما سقي بلا مئونة].
شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل ببيان المقدار الذي أوجب الله عز وجل في زكاة الحبوب والثمار، فبيّن أنه العشر، والعشر هو الواحد من العشرة، والأصل في ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فيما سقت السماء العشر).
وهذا يدل على أن الحبوب والثمار تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كان سقيه بمئونة.
القسم الثاني: ما كان سقيه بغير مئونة.
والمئونة: مأخوذة من المئن وهو التعب والنصب، وقالوا: (ما سقي بمئونة) أي: بتعب ونصب، وذلك هو شأن المزارع في غالب أحوالها، أنها تفتقد إلى خروج الماء واستنباطه من الأرض، ثم بعد ذلك توزيعه وتقسيمه على الأماكن التي يراد سقيها، فهذه مئونة وتعب وكلفة ومشقة، ويشمل ذلك ما كان بالآلات القديمة كالسواني ونحوها، وما كان بالآلات الحديثة كالمكائن الزراعية ومضخات المياه، فإن الإنسان إذا سقى بها يعتبر في حكم من سقى بما فيه مئونة ومشقة، وإذا كان الزرع يسقى بالمئونة والمشقة ففيه نصف العشر، وأما إذا كان يسقى بغير مئونة وهو القسم الثاني الذي لا تعب فيه، والمراد به ما تسقيه العيون والسيول، وما تسقيه الأمطار من السماء، فهذا لا مئونة فيه ولا تعب بالنسبة للماء، ولا مشقة في استنباطه واستخراجه، فجعل الله الزكاة الواجبة فيه العشر، أي: يجب إخراج عشره صدقة للفقراء والمساكين الذين سمى الله عز وجل من المستحقين، ولا شك أن الذي فيه المشقة والتعب أعظم كلفة من الذي لا مشقة فيه ولا تعب.
والذي يُسقى بدون مئونة، وهو الذي تسقيه العيون والسيول والأنهار ففيه تفصيل، وله حالتان: الحالة الأولى: أن يحتاج إلى معالجة ما، وذلك بتحويله إلى مكان الزرع، ووجود مشقة في رفعه إلى ذلك المكان، فمن أهل العلم من قال: كل ما سقي بالسيول ما دامت تصيب الأرض -وكذلك العيون والأنهار- فلا كلفة فيه ولا مشقة، والواجب على صاحبه العشر، سواءً حوّل الماء وجعله في سواقٍ وتكلّف السواقي، أو أن الماء بنفسه سرى على الأرض كالرياض المعروفة في البادية، يجعلونها على أماكن جريان السيل، أو في شرائع الجبال، فهذه لا مشقة فيها؛ لأن الماء سينزل وسيصيب هذه الأماكن التي بُذر فيها الحب، فعند هؤلاء العلماء يستوي أن يكون السيل قد أصاب الأرض مباشرة، أو أدخلته أنت إلى الأرض فتكلفت في إدخاله، بأن تكون قد جعلت له حاجزاً أو صخرة يصطدم بها ثم يدخل إلى مزرعتك، فبعض العلماء يفرِّق بين الذي سقي من السماء، والذي يحتاج إلى معالجة بالسيل والأنهار، فيقول: هذا مئونة ومشقة، فيكون فيه نصف العشر.
والصحيح: أنه لا فرق؛ لأنه سقته السماء، وداخل فيما سقته السماء.
وأما ما سُقي بالنضح -كما ورد في الحديث- فهذا فيه كلفة ومشقة، ومعناه: أنه يستنبط الماء ويتكلف إخراجه، هناك حالة تستثنى من السيول والأنهار، وهي حالة المضخات المائية الموجودة الآن، فإذا احتاج المزارع لوضع مضخة على السيل من أجل أن يجذب بها الماء خفِّف عنه في الزكاة؛ لأنه في حكم النضح، أما لو دخل السيل بنفسه أو دخل بمعالجة، فإنه لا يصدق عليه أنه مما فيه المشقة، وإنما يجب فيه العشر، وعلى هذا ففرِّق بين ما سقي بمئونة ومشقة وتعب وبين ما سقي بدون مئونة ومشقة وتعب؛ وهذا يدل على سماحة الشريعة، ورحمة الله عز وجل بعباده، وحكمته في تشريعه جل شأنه؛ لأن الذي فيه المشقة سيحتاج الإنسان إلى كلفة من المال والجهد والوقت، ولذلك يكون حظه من زرعه أقلّ لو قلنا: عليه العشر، ولكن الذي لا كلفة فيه ولا مشقة فإن الأوجه أن يكون حظ الفقراء فيه أكبر، وهو نصاب العشر كما سنّ النبي صلى الله عليه وسلم.(93/2)
إيجاب نصف العشر فيما سقي بمئونة
قال رحمه الله: [ونصفه معها].
أي: مع المئونة والكلفة والمشقة، سواء كانت بالسواني القديمة، أو كانت بالدلو والرشاء القديم، أو كانت بالمضخات الموجودة الآن من المكائن الزراعية وآلات الضخ، كل ذلك يعتبر مما فيه مئونة ومشقة، فيجب عليه نصف العشر، أي: نصف عشر ما يخرجه.
فلو أن إنساناً ملك أرضاً يصبها المطر والسيل -وهي التي تسمى في العرف بالرياض التي تكون في البادية- فزرعها فأخرجت له -مثلاً- ألف صاع من الحب، فإذا كان قد زرعها وأصابها الماء من قطر السماء بدون كلفة ولا مشقة ولا مئونة، أوجبنا عليه عُشْر ألف صاع أي: مائة صاع، نقول: عليك مائة صاع كزكاة، وتسعمائة صاع لك، هذا بالنسبة للواجب.
وبعض العلماء: يعتبر التخفيف على الأصل الذي ذكرناه، يسقط عنه الثلث أو الربع، ثم بعد ذلك يحسب الزكاة من السبعمائة والخمسين التي تعادل ثلاثة أرباع ما أنتجته الأرض، ويوجب عليه عشرها، فإذا كان يخرج ألف صاع، يقول: نسقط عنه ثلث ما تخرجه أرضه أو الربع كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خرصتم فدعوا الثلث وإلا فالربع)، أقلّ ما يترك هو الربع، فربع الألف مائتان وخمسون صاعاً، ثم بعد ذلك من السبعمائة والخمسين الباقية يُخرج عشرها وهو خمسة وسبعون صاعاً.(93/3)
مقدار الزكاة إذا سقي الزرع بمئونة تارة وبدون مئونة تارة أخرى
قال رحمه الله: [وثلاثة أرباعه بهما].
وثلاثة أرباع العشر إذا كان يسقى بالمئونة وبدون مئونة، وهذا إذا كان نصف السنة، مثلاً: إذا كانت هناك الأمطار والسيول، فترك الأرض للأمطار والسيول فسقتها، فمضت ستة أشهر وهي تسقى بالأمطار والسيول والأنهار، أو تكون هناك عين تجري ستة أشهر وتنقطع، فهذه الأرض نصف السنة تسقى بدون مئونة، ثم النصف الثاني يكون سقيها بالآلات والمكائن الزراعية؛ إذا جئنا ننظر إلى وجود المئونة فهي نصف السنة، وإن جئنا ننظر إلى فقد المئونة وعدم وجودها فهو نصف السنة كذلك، وليس لأحدهما أغلبية على الآخر، فقالوا: نوجب عليه العشر في النصف الأول من العام، فيكون حينئذٍ ثابتاً في ذمته هذا العشر في الستة الأشهر الأولى، ثم الستة الأشهر الأخرى نوجب عليه نصف العشر، فيكون عليه ثلاثة أرباع العشر؛ لأنك إذا حسبت في نصف العام الأول العشر ونصفه نصف العشر، وحسبت في نصف العام الثاني نصف العشر ونصفه الربع، أصبح المجموع ثلاثة أرباع.
مثال ذلك: لو كان عنده مثلاً ألف صاع، هذه الألف صاع سُقي منه نصف عام بدون مئونة، الستة الأشهر الأولى، وسقي الستة الأشهر الأخرى بمئونة، فالواجب حينئذٍ نقول: عليه العشر في نصف العام الأول، وعليه نصف العشر في نصف العام الثاني، وحينئذٍ يكون ثلاثة أرباع العشر واجباً عليه؛ لأن العشر لم يستتم في نصف العام الأول، فيكون عليه حينئذٍ نصف العشر؛ لأن نصف العام إذا كان العام كله فيه عشر، فنصف العام فيه نصف العشر، ثم النصف الثاني عليه نصف العشر، ولم يستتم عاماً كاملاً فعليه ربع العشر، فحينئذ نصف العشر وربع العشر يصبح حينئذٍ ثلاثة أرباع العشر، فإذا نحن كنا قلنا: عليه ألف صاع فيه مائة صاع منها، وإذا قلنا: عليه نصف العشر فعليه خمسون صاعاً، والواقع نصف العشر لأنها نصف عام، فعليه حينئذٍ الخمسون، ثم تنتقل إلى النصف الثاني الذي فيه المشقة والعناء، فعليه نصف العشر، ونصف العشر خمسون، ولما كان نصف عام توجب عليه نصفها وهو خمس وعشرون صاعاً ثم تضيف الخمسة والعشرين إلى الخمسين ليصبح المجموع خمساً وسبعين صاعاً.
[فإن تفاوتا فبأكثرهما نفعاً].
إن كان أكثر انتفاع النخل بالمئونة فنحسب نصف العشر، وإن كان أكثر انتفاع النخل بالسقي بلا مئونة وهو سقي الأنهار والسيول والعيون، فحينئذٍ عليه العشر، فينظر إلى ما هو أكثر نفعاً، هذا إذا تفاوتت بحيث لا يمكن أن ينضبط، إذا ضبطنا الأول بنصف العام وضبطنا الثاني بنصف عام فلا إشكال، فتعطي لكلٍ نسبته، أما إذا لم ينضبط، فينظر إلى أكثرهما نفعاً فحينئذٍ يغلَّب، والحكم للأكثر، والنادر لا حكم له.
[ومع الجهل العشر].
إذن عندنا عدة أحوال: إما أنه يسقى بالنضح والمئونة والمشقة ففيه نصف العشر بلا إشكال، وإما أن يكون يسقى بلا مئونة ولا مشقة ففيه العشر بدون إشكال، وإما أن يكون مشتركاً بينهما معلومٌ نصاب كل واحد منهما كنصف ونصف، فحينئذٍ لهذا نصفه ولهذا نصفه، وإما أن يتفاوتا فالنظر إلى ما هو أكثر نفعاً، وإما أن يُجهل الحال -وهي الحالة الخامسة- بمعنى: لا نستطيع أن نعرف لا أكثرهما نفعاً ولا نعرف مقدار النضح، ولا نستطيع أن نميز ما هو بدون نضح، فحينئذٍ يرجع إلى العشر، وهذا مرده إلى الأحظ للفقراء؛ لأن الزكاة مبنية على حق لله عز وجل أوجبه للفقراء والضعفاء، فغلِّب حق الفقراء على حق الأغنياء، ولذلك قالوا حينئذٍ: إذا كان لا يدري ننتقل إلى العشر ونوجب عليه زكاة عشر ماله.(93/4)
وقت وجوب الزكاة في الحبوب والثمار
قال رحمه الله تعالى: [وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة].
قد بيّنا أن اشتداد الحبوب من علامة بدو الصلاح، فالحب أول ما يكون يكون ليناً في سنابله، ثم يبدأ يشتد، فإذا اشتد وابيضّ -كما في رواية الصحيح- بدا صلاحه وجاز بيعه حينئذٍ، أما قبل الاشتداد فلا يجوز البيع ولا يحكم ببدو صلاح، فإذا اشتد الحب يبعث الإمام الخُرَّاص، والخارص: هو الشخص الذي له خبرة في الحبوب والنخيل، بحيث ينظر إليها ويعلم مقدار ما فيها عن طريق التجربة على سبيل التقريب، فيقول: هذا النخل فيه مثلاً ألف صاع، ويبيِّن أو يقدر ما على كل نخلة، وهذا راجع إلى الخبرة وكثرة الابتلاء في هذا العمل، فذلك يجعل الإنسان من السهل عليه أن ينظر إلى النخلة، ويعلم ما بها.
والدليل على مشروعية الخرص: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر)، وخيبر لما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم كان بها اليهود، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وإذا بها أرض زرع، فالصحابة سيرجعون معه إلى المدينة، ولا شك أن هذا الزرع سيتلف ويهلك، فلا هو استفاد منها، ولا استفادت يهود، فسألوه أن يتركهم في هذا النخل يعملون فيه ويصلحونه حتى يثمر، وإذا أثمر قسمت الثمرة بينه عليه الصلاة والسلام وبين اليهود، فوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ساقي أهل خيبر على الشطر -وهو النصف، فيكون لهم نصف الثمرة وللنبي صلى الله عليه وسلم نصف الثمرة- فكان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه لكي يخرص نخل خيبر) يخرص بمعنى: أنه يحدد كم في هذا النخل من الآصع، ثم يخلى بين اليهود والنخل- فيدفعون النصف الذي تبين أن نصف النخل على قدر ما بيّن عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أصل في مشروعية الخرص، والعلماء مجمعون على مشروعية الخرص، وأنه إذا بدا الصلاح يبعث الإمام الولي من يخرص للناس نخيلهم وحبوبهم، ليقدر المقدار الذي أوجب الله وفرض في نخيلهم وحبوبهم.
قال: [وإذا اشتد الحب وبدا الصلاح].
قوله: (اشتد الحب) علامة خاصة، وقوله: (بدا الصلاح) علامة عامة، ونحن بيّنا العلامات الخاصة والعلامات العامة في بدو الصلاح، فالحبوب والثمار إذا بدا صلاحها ينظر كم يحمل هذا النخل أو هذا الزرع من الحبوب والثمار ويحسب ويقدر، ثم يخلى بين الناس وبين الحبوب والثمار ينتفعون بها، فيترك لصاحب البستان بستانه، أن يأكله بلحاً ورطباً وتمراً، وأن يبيع وأن يتصدق وأن يهدي، يخلى بينه وبينه، حتى إذا انتهى وجذ جاء إلى الولي بالمقدار الذي حدد في زكاة المال، فيأتي الخارص ويخرص النخيل والحبوب والثمار والعنب وغيره، وقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد رضي الله عنه ليخرص العنب والنخيل) فهذا كله يدل على مشروعية الخرص عند بدو الصلاح، وإذا بدا الصلاح وحدد المقدار الواجب يترك الناس، يقال لهم: هذا نخلكم وهذا زرعكم افعلوا به ما شئتم، وإنما يجب عليكم أن تُخرجوا من الزكاة قدر كذا وكذا.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر].
(ولا يستقر الوجوب) بمعنى: لا ويطالب الفلاح (إلا بجعلها) أي: بجعل الثمار والحبوب (في البيدر) وهو المكان الذي تجلب إليه الثمرة.
والتمر إذا جُذَّ يكون فيه شيء من اللين، فيحتاج إلى أن يشمّس، فيبسط في مكان يسمى بالبيدر، فهذا المكان تضربه فيه الشمس حتى يقوى ويشتد؛ لكي يصلح لاختزانه، وكذلك أيضاً لكنزه في الآلات التي يكنز فيها، أما لو أُخذ قبل ذلك من النخلة مباشرة ووضع في الآلات فربما فسد فلم يصلح للأكل، ولذلك يحتاج إلى أن يشمس، فهذا البيدر هو المكان الذي يشمس فيه.
وأما الحبوب فإنها تحتاج بعد أن تُجَذ إلى أن توضع ثم تفرش وتصفى، وبعد ذلك ينتفع الناس بها، وتخرج لأجل أن تكون في مصالحهم فيطعمونها ويرتفقون بها.
فقبل جلبها إلى هذا المكان لا يستقر الوجوب على أحد قولي العلماء رحمة الله عليهم، منهم من قال: العبرة بالجذ، فإذا جذ، وجبت عليه الزكاة، واستقرت في ذمته؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فأمر الله عز وجل بإيتاء الحق عند الحصاد وحين الحصاد، ولذلك يجب عليه ذلك.
[فإن تلفت قبله بغير تعدٍّ منه سقطت].
وهذا بناءً على القول الذي يَشْتَرِط أن تكون في البيدر، فهذا القول الذي يشترط هذا الشرط لا يطالب صاحب النخل بالزكاة ودفعها إذا تلفت قبل وضعها في البيدر، ولكن بشرط أن لا يفرط، فإن فرّط ضمن، فإذا أصابتها الآفة قبل جلبها إلى البيدر -ما بين الجذاذ وبين جلبها إلى البيدر- فأصابها إعصار وتلفت أو أصابها غرق -جاء السيل وأغرقها- فحينئذٍ لا يلزمه الضمان، فلا تجب عليه الزكاة، ولا يطالب بدفعها، هذا حسب القول الذي يشترط لاستقرار الوجوب أن تجلب للبيدر.
أما على القول الثاني فإنه بمجرد جذِّه يعتبر في حكم الآخذ لها، وحينئذٍ إذا تأخر في دفعها للمستحقين يتحمل المسئولية.
والأولون يقولون: كيف يدفعها للوالي وهي لم تستصلح بعد ولا يمكن أن يكيلها إلا بعد أن توضع في البيدر وتشمّس ثم بعد ذلك تُكال، ويمكن أن تخرج للناس؟! وهذا القول للجمهور رحمة الله عليهم، وهو من جهة النظر أقوى وظاهر التنزيل على القول الأول له وجهه، وبناءً على ذلك يقولون: إذا تلفت من غير تعدٍ لم يضمن، وإن تلفت بتعدٍ ضمن.
وتلفها بتعدٍ كأن يأتي ويجذ الثمرة ثم يضعها في بيدر مكشوف أمام الناس، ومزرعته مفتوحة لكل من أراد أن يدخل، فجاء السارق وأخذ الثمرة؛ فهذه السرقة وقعت بتعدٍّ وتفريط منه، فإذا فرّط وتعدى أُلزم بعاقبة تفريطه، فيجب عليه ضمان الزكاة، ولا تسقط عنه الزكاة على هذا الوجه لأنه فرّط.
(أو تعدى) أي: تعاطى أسباب الفساد، كأن يرسل الماء عليها، أو يضعها في الشمس على طريقة يفسد بها التمر، فحينئذٍ نقول: أنت الذي تعديت فتُلزم بما فعلت من التعدي، وتجب عليك الزكاة، فيشتري غيرها ويدفعها زكاة بالمقدار الذي وجب في ذمته.(93/5)
حكم إيجار الأرض للزراعة
قال المصنف رحمه الله: [ويجب العشر على مستأجر الأرض دون مالكها].
إذا تبينت هذه الأحكام من وجوب العشر ووجوب نصف العشر، فالنخل والزرع لا يخلو من حالتين: إما أن تكون الأرض والزرع ملكاً للإنسان، فحينئذ لا إشكال، والكلام الذي مضى منصبٌّ على صاحب الأرض بما أنتجت أرضه من حبوب وثمار.
الحالة الثانية: أن تكون الأرض لشخص، والزروع والثمار لشخص آخر، ومن أمثلة هذه الحالة أن يقول لك رجل: أجرّني هذه الأرض عشر سنوات، وهذه هي مسألة إجارة الأرضين للزراعة، وهي مسألة اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيها هل تجوز إجارة الأرضين للزراعة، أو لا تجوز إلى ثمانية أقوال مشهورة: القول الأول: التحريم مطلقاً، كما هو مذهب الظاهرية، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه ولا يؤاجرها) وهو حديث جابر في الصحيح.
وهذا القول الذي يقول به الظاهرية قول ضعيف، وإن كان الحديث صحيحاً لكنه منسوخ؛ لأنه كان في أول الأمر حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان بالمهاجرين ضيق في اليد وكانوا في فقر وشدة، فقال عليه الصلاة والسلام: (من كانت له أرض فليزرعها -أي: بنفسه- أو ليُزرعها أخاه -أي: يمكِّن أخاه من زراعتها- ولا يؤاجرها)، يعني: لا يؤجرها على أخيه المسلم، وهذا تعظيم لأخوة الإسلام وتقديم لها على مصالح الدنيا، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم في أول مقدمه إلى المدينة عن المؤاجرة، ثم رخص فيها كما جاء في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه في الصحيحين.
القول الثاني: تجوز إجارة الأرضين مطلقاً، وبه قال بعض السلف رحمة الله عليهم، وهذا القول يحتج بحديث رافع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع) ثم بيّن رافع سبب هذا النهي وقال: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول فيسلم هذا ويهلك هذا، وأما ما كان بشيءٍ معلوم فلا بأس) ما معنى هذا الحديث؟ أراد رافع أن يبيّن السبب في النهي عن زراعة الأرضين غير النهي الأول؛ لأن النهي وقع على صورتين: الصورة الأولى: النهي المطلق الذي اشتمل عليه حديث جابر في مقدمه عليه الصلاة والسلام على المدينة، وهو نهي متجه إلى الأنصار الذين كانوا يملكون أرض المدينة.
والنوع الثاني من النهي: جاء لصورة مخصوصة من الإجارات، كان الرجل يقول للرجل: خذ أرضي وازرعها، فما يخرج من زرع بجوار الماذيانات وأقبال الجداول -والماذيانات هي التي تسمى الآن القناطر والجداول التي يجري فيها الماء- فهو لي؛ فمن ذكاء صاحب الأرض يعلم أن الذي بجوار الماء يعيش، وأن الذي هو بعيد عن الماء قد يعيش وقد لا يعيش، لمكان العطش والظمأ؛ وحتى لو عاش يكون أقلّ نتاجاً وأضعف، فلذلك يشترط رب الأرض أن يكون له الزرع الذي يكون على الجداول، ويكون للذي يستأجر ما هو بعيد عن الجداول، وفي هذا ظلم وغرر، فهو يتضمن محظورين شرعيين: المحظور الأول: الظلم؛ لأن هذا المسكين يتعب باستصلاح الأرض ثم يَسْلَم الذي لغيره ويهلك الذي له، فهذا من الظلم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة على أخيك فبم تستحل أكل ماله؟) فهذا المؤجر -صاحب الأرض- يستغل تعب المستأجر -العامل في الأرض- وكدّه ونصبه ويأخذ من حبّه دون أن يستفيد الآخر شيئاً إذا لم يسلم البعيد.
ثانيا: أنه من الغرر، كما قال رافع في نفس الحديث: (فيسلم هذا ويهلك هذا) والغرر هو المخاطرة؛ مأخوذ من: غرر فلان بفلان إذا خاطر به وعرّضه للخطر، فيقولون: (يسلم هذا ويهلك هذا) كأن رب الأرض يغرر بالمستأجر، فيجعله يستأجر على رجاء أن يجد مصلحة ولا يجد مصلحة، لكن رب الأرض يستفيد المصلحة.
فأصحاب القول الثاني الذين يجوزون مؤاجرة الأرضين يحتجون بحديث رافع، ولكن الحديث لا يدل على قولهم؛ لأن القول أعم من الدليل، وإذا كان الدليل أخصّ من القول أو القول أعمّ من الدليل فحينئذٍ لا يصلح الدليل دليلاً لإثبات القول كله، وإنما يصلح في حدود ما ورد به الدليل، فحديث رافع يقول: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول فيسلم هذا ويهلك هذا، وأما ما كان بشيءٍ معلوم فلا بأس).
(بشيء معلوم) أي: محدّد.
القول الثالث: تجوز إجارة الأرضين إلا بجزءٍ مما يخرج منها؛ بمعنى: يجوز أن يؤجر الأرض بالذهب والفضة، أما بالطعام الذي يخرج منها فلا يجوز؛ لأنه إذا كان بجزءٍ مما يخرج منها، فإنه يعتبر من باب الغرر؛ لأنه لو قال له: هذا النصف لي والنصف الثاني لك، يحتمل أن يسلم هذا ويهلك هذا، وتقع الخصومة بينهما، فمنعوا من ذلك، وهذا القول يضعف على حديث المزارعة؛ لأن المزارعة تكون في الجزء المعلوم من الأرض.
والقول الرابع: أنه تجوز إجارتها إلا بالطعام، يجوز إجارتها بكل شيء إلا بالطعام، سواء كان منها أو من غيرها؛ والسبب في ذلك يقولون: إنه ربا؛ لأنه إذا استأجر الأرض وقال: أعطيك مائة صاع أو أعطيك مائتي صاع، فإنه حينئذٍ قد باع الطعام بالطعام، لأن حقيقة الأمر أنه استفاد من الأرض ألف صاع، وأعطاك في مقابلها مائتي صاع، فباع الطعام بالطعام نسيئة ومتفاضلاً، فقالوا: لا يجوز.
القول الخامس: أنه تجوز إجارتها بالنقدين فقط، وهذا القول هو من أقوى الأقوال، وهو الذي عناه رافع رضي الله عنه: (وأما ما كان بشيءٍ معلوم فلا بأس به) وذلك لزوال العلة التي سبقت الإشارة إليها في الأقوال المتقدمة.
وهناك أقوال ضعيفة، لكن هذه هي أشهر الأقوال المعتمدة على النصوص.
إذا ثبت هذا فإن استأجر رجلٌ من رجلٍ أرضاً وقال: يا فلان! هذه الأرض لا يخلو الاستئجار لها من حالتين: إما أن يستأجرها للزراعة، أو يستأجرها لغير الزراعة، إن استأجرها لغير الزراعة فلا إشكال، وإن استأجرها للزراعة ففيه تفصيل عند العلماء: إن كانت الأرض فيها بئر ماء، ويغلب على الظن بقاؤه وبقاء مصالحه، وقصد منها الزرع فيجوز، وأما إذا استأجرها بقصد الزراعة ولم يكن بها بئر ماء، وقال: أحفر إن أخرج الله لي ماءً فالحمد لله، وإذا لم يخرج فأنا أتحمل المسئولية، فهذا من الغرر الذي لا يجوز.
الخلاصة أنه إذا كان في الأرض ما يعين على زراعتها -وهو وجود البئر أو وجود العين- جازت إجارتها للزرع، فلو استأجرها عشر سنوات، وفي كل سنة يزرع فيها الحبوب، فزرع فيها في النصف الأول من العام وزرع فيها في النصف الثاني من العام، فهل تجب الزكاة على رب الأرض ومالك الأرض أو على المستأجر؟
الجواب
تجب الزكاة على المستأجر؛ لأن رب الأرض لم يملك هذا الزرع لا أصوله ولا فروعه، وحينئذٍ الواجب إخراج الزكاة على من ملك الحب أصله وفرعه، وبناءً على ذلك: يجب عليه أن يخرج الزكاة من حبه ونتاجه الذي يتحصّل عليه منه.
فنقول: المستأجر هو المطالب بإخراج الزكاة، وتجب عليه الزكاة بنفس التفصيل الذي ذكرنا، ومن هنا قال المصنف: (ولا تجب الزكاة على رب الأرض وإنما تجب على المستأجر دون المالك).
أما في النخل فيتأتى ذلك بأن يؤجره الأرض عشرين عاماً، على القول بجواز إجارتها العشرين عاماً والثلاثين عاماً، فلو استأجرت أرضاً عشرين عاماً وأحببت أن تزرع فيها النخل فيستقيم حينئذٍ الكلام على إجارتها إذا كانت في النخيل، وتقع مسألة إجارة النخيل وإجارة الأرض، وتكون النخيل ملكاً للمستأجر، وحينئذٍ يطالب المستأجر ولا يطالب ربّ المال، فلو زرع فيها نخيلاً عشرة أعوام أو عشرين عاماً وخمسة عشر عاماً، استأجرها وزرع فيها نخيلاً، فإنه حينئذٍ تتحقق مسألتنا، فنقول: إنه تجب الزكاة على المستأجر دون رب الأرض ومالكها.
[وإذا أخذ من ملكه أو موات من العسل مائة وستين رطلاً عراقياً ففيه عشره].
العسل فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه أثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصته مع رجلٍ من أهل اليمن سأله عن عسله.
أما حديث عمرو بن شعيب فقد سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يملك عسل نحلٍ، فقال صلى الله عليه وسلم: (أد العشور، قال: احمها لي يا رسول الله، فحماها عليه الصلاة والسلام له لما أدى عشورها)، هذا الحديث تكلم العلماء على سنده، فمن قائل بثبوته كالإمام أحمد رحمة الله عليه ومن وافقه، وقوى هذا بما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما كتب له عامله عن العسل يسأله فيه، قال: (إن أدوا من كل عشر قرب قربة فاحمها لهم) وهذا يدل على أنه يرى الزكاة فيها بالعشر.
وجمهور العلماء على عدم وجوب الزكاة في العسل؛ لأنه لم تثبت عندهم أدلة صحيحة، وحديث عمرو بن شعيب عندهم متكلّم في سنده، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، ولأن الذين قالوا بوجوب الزكاة في العسل لم يستطيعوا أن يبينوا دليلاً صحيحاً على تحديد نصاب العسل، أي: القدر الذي إذا بلغه العسل وجبت فيه الزكاة، فبعضهم يقول: ستمائة رطل، وبعضهم يقول: مائة وستون رطلاً، واختلفت أقوالهم، وكلهم ليس عنده أصل صحيح من الكتاب والسنة يحدد نصاب العسل، ومنهم من يقول: فيه العشر بغض النظر عن كونه بلغ أو لم يبلغ، ولذلك يقولون: هذا مما يدل على ضعف القول بوجوب الزكاة فيه.
ولا شك أن من أدى عشر ما يخرجه النحل من عسله أفضل وأحوط وأبرأ للذمة، خاصة لما فيه من الاهتداء بسنة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.(93/6)
الركاز وأحكامه
قال المصنف رحمه الله: [والركاز ما وُجِد من دفن الجاهلية ففيه الخمس في قليله وكثيره].
أصل الركز الدفن، ولذلك يقال للرمح: إنه مركوز، إذا دُفِن في الأرض؛ ومعنى رُكِزَ: غُرِز في الأرض ودفن فيها، ويشمل وصف الثبوت، وقد يطلق الرِّكز للصوت الخفي، ومنه قوله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98] أي: هل تسمع لهم صوتاً ولو كان خفياً، فهذا أصل الركاز.
وأما بالنسبة للمراد بالركاز في الشرع فهو دفن الجاهلية، والمراد بذلك ما يعثر عليه من النقود والأموال والجواهر التي كانت لأهل الجاهلية، ويعرف كونها من دفن الجاهلية إذا كانت عليها كتابات جاهلية أو عليها تواريخ جاهلية، فحينئذٍ تعرف بأنها من دفن الجاهلية؛ فيكون فيها الخمس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيح: (وفي الركاز الخمس) أُعطي حكم الفيء، ولذلك يجب فيه الخمس ويلحق بالزكاة، ومصارفه مصارف الفيء، وستأتينا إن شاء الله تعالى في كتاب الجهاد في مباحث الغنيمة.
وهذا الركاز يشترط فيه أن يكون من دفن الجاهلية، أما لو وجدنا نقوداً وذهباً وفضة من دفن الإسلام، يعني: في زمان من بعد عصر النبوة، فإنه حينئذٍ يأخذ حكم اللقطة ويسري عليه ما يسري على اللقطة من أحكام.
فإذا كان عليه أمارات الجاهلية ومن أموال الجاهلية، فإنه ركاز، وفيه الخمس؛ فبمجرد ما يأخذه يُخرج خمسه، سواء كان قليلاً أو كان كثيراً.
فاختلف الركاز عن الزكاة بما يلي: أولاً: أنه لا يتحدد بنصاب، والزكاة تتحدد بنصاب.
ثانياً: مصارفه مصارف الفيء، أما الزكاة فمصارفها هم الذين سماهم الله عز وجل من الأصناف الثمانية، الذين حددهم من فوق سبع سماوات: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] وسيأتي إن شاء الله الكلام على هؤلاء الأصناف الثمانية الذين سماهم الله عز وجل في كتابه.
فبالنسبة للركاز يؤدي الخمس عن قليله وكثيره، فلو حصل على ألف غرام منه، أو حصل على مائة غرام منه فالحكم واحد، بل حتى لو حصل على عشرة غرامات، وهي من دفن الجاهلية، فعليه أن يخرج خمسها ومصرفها مصرف الفيء.
وذهب بعض العلماء -وهم الحنفية- إلى أن المعادن تأخذ حكم الركاز، والجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية- على أن الركاز يختص بدفن الجاهلية.
الحنفية يقولون: المعادن حكمها حكم الركاز، ويجب عليه أن يخرج زكاتها، فيخرج منها الخمس، سواء كانت ذائبة أو كانت مما يحتاج إلى إذابة أو كانت جامدة، فالذائبة مثل أن يؤخذ الذهب والفضة ويذوّب فيلحق بالركاز وعليه الخمس، والجامدة مثل النورة (الجص) وغيرها مما يكون من المعادن التي تستخرج، فهذه فيها الخمس عندهم.
والصحيح: أن المعادن لا تأخذ حكم الركاز، وإنما لها حكم مستقل، ولا تدخل فيما سن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وفي الركاز الخمس).
والركاز يشترط فيه وجود العلامة، أما إذا وجدت فيه علامة الإسلام، أو غلب على الظن أنه من دفن المسلمين، فإنه يأخذ حكم اللقطة، وسنبين هذه الأحكام بالتفصيل في باب اللقطة، وسيأتي إن شاء الله في باب المعاملات.
[ففيه الخمس في قليله وكثيره].
(ففيه الخمس في قليله وكثيره)، فلو كان الذي حصل عليه ألف غرام فإننا نوجب عليه خمُس الألف، وهو مائتان من الغرامات، فيجب عليه أن يؤديها، وشأنه في الأربعة الأخماس يفعل بها ما شاء، والركاز يملكه من وجده، فمن وجده في برِّية أو عمران ملكه، فإذا كان في عمران وهذا العمران ملكاً له فحينئذٍ لا إشكال، وإن كان ملكاً لغيره فهو لذلك الغير؛ لأن من ملك أرضاً ملك ما بباطنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين) فجعل سافل الأرض تابعاً لأعلاها، وبناءً على ذلك قالوا: يكون لصاحب الأرض.(93/7)
الأسئلة(93/8)
إخراج الزكاة مما زرع للعلف
السؤال
نحن نزرع الأعلاف للماشية ويأتي فيه الحب ويبلغ النصاب، ولكن نحصد الأعلاف ونعلف بها الماشية وفيها الحب في السنابل، هل يلزمنا الزكاة مع أننا لم نزرع للحب إنما للتعليف، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فتجب الزكاة على من ملك الخمسة الأوسق سواء زرعها لنفسه أو زرعها لدوابه علفاً، وحينئذٍ يجب عليكم إخراج ما أوجب الله من الزكاة على ظاهر الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب الزكاة في الحبوب.
والله تعالى أعلم.(93/9)
حكم زكاة السويق
السؤال
السويق الذي يحصد قبل أن يشتد حبه ثم يطبخ فيشتد حبه بالطبخ، هل فيه زكاة، ومتى تكون زكاته، أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة للسويق إذا جُذ قبل بدو صلاحه وهو قبل الاشتداد، فلا تجب فيه الزكاة، وبناءً على ذلك يكون حكمه حكم الثمرة إذا قطعت قبل بدو صلاحها، فالثمر إذا قطع قبل بدو صلاحه لم تجب فيه زكاة، كأن يقطع ثمرة نخيله علفاً للدواب، أو يقطعها لأجل أن يتقوى النخل، فكل ذلك لا تجب فيه الزكاة، وعلى هذا فلو قصه قبل بدو صلاحه لم تجب فيه الزكاة، والفرق بين المسألة الأولى والمسألة الثانية واضح، وذلك أن الحاصد في المسألة الأولى قد استقر وجوب الزكاة عليه؛ لأنه حينما بدا صلاح الحب واشتد، فإنه وجب عليه أن يؤدي الزكاة، واستقر عليه الوجوب بالحصاد، وأما الحالة الثانية -وهي ما ذكر في السؤال الثاني- فحينما جُذ الثمر أو الحب قبل بدو صلاحه، فإنه لم يخاطب بالزكاة ولم تجب عليه الزكاة أصلاً؛ لأن شرط وجوبها أن يشتد الحب في سنابله، فإذا حصد قبل اشتداده في سنابله، فإنه لا تجب عليه الزكاة.
والله تعالى أعلم.(93/10)
حكم الحب إذا وضع في البيدر فتلف
السؤال
إذا وضع الحب في البيدر وتلف بتعدٍ أو غير تعدٍ، فما الحكم، أثابكم الله؟
الجواب
إذا وضع في البيدر وتلف بتعدٍ وجب عليه الضمان، وأما إذا كان لم يتعدّ ولم يفرِّط فلا ضمان عليه، وقد بينا هذا التعدي، كأن يرسل الماء عليه، أو يتساهل في وضعه على طريقة تؤدي إلى تلف الثمرة، أو يتركه للدواب والهوام، ويكون المكان الذي فيه البيدر فيه دواب وهوام تفسده، فحينئذٍ تعدى؛ لأنه عالم بوجود هذه المفاسد، ولم يتعاط أسباب الحفظ والصيانة، فيلزم بضمان ما تعدى فيه، وأما إذا كان فرّط فالتفريط أن يتساهل في تعاطي الأسباب للحفظ، كما ذكرنا أنه ترك الباب مفتوحاً فجاء السارق وأخذ، أو جعل مزرعته مفتوحة لكل من يدخل ويخرج بدون أن يحفظ الثمرة ويصونها، ويكون البيدر عليه ما يحفظه، فحينئذٍ يلزمه الضمان ولا يسقط ذلك وجوب الزكاة عليه.
والله تعالى أعلم.(93/11)
حكم المزارعة بما يخرج من الثمر
السؤال
استأجر رجل أرضاً لزراعتها واتفق مع صاحب الأرض على ربع الخارج من ثمارها وحبوبها، فهل هذا جائز، أم لا؟ وما العمل فيما سبق، أثابكم الله؟
الجواب
استئجار الأرض بربع ما يخرج منها أو بنصف ما يخرج منها لا يجوز على أصح أقوال العلماء كما ذكرنا.
الحلّ في هذه الحالة: إذا استأجر وتمّ العقد، فإن القاعدة في الإجارات الفاسدة أنها تُفسخ إن أمكن الفسخ، بمعنى: أنه يقال لكل منهما أن يجدد العقد، وإذا أمكن ذلك فلا إشكال، أما لو زرع وخرج الزرع ومضت المدة، فالحكم حينئذٍ في القضاء والفتوى أن ذلك يردّ إلى أجرة المثل، فنقول: أنتم اتفقتم على وجه فاسد، فننظر كم أجرتها بالمعروف، فننظر في العرف في هذه القرية والمدينة أو المحلّ الذي فيه الأرض، لو أُجرت أرض مثل هذه الأرض بكم ستؤجر.
قالوا: كل شهر بألف -وقد مضت ستة أشهر مثلاً- فنقول للمستأجر: ادفع ستة آلاف وهي أجرة المثل، يجب عليك دفعها، وخذ الثمرة كاملة لك، فيكون حينئذٍ ليس لرب الأرض أن يشارك المستأجر في الثمرة، وتكون الثمرة بكاملها للمستأجر، وعليه أن يدفع لرب الأرض أجرة أرضه بالمعروف، ولذلك قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] فالعرف يُرد إليه عند وجود ما يقتضي ذلك من الخلل في الإجارات أو فساد عقدها، فنقول: كم مضى من الأشهر؟ قالوا: شهران أو ثلاثة أو أربعة، فنقول: ادفع أجرة هذين الشهرين بالمعروف، فحينئذٍ لا ظلمنا رب الأرض ولا ظلمنا من استأجر الأرض، وأعطينا الأرض حقها، وكان في ذلك تحقيق للمصالح كلها، فالعامل في الأرض استفاد بالأجرة وأخذ حقه، والمستأجر استفاد بحبه الذي زرع في أرضه وما يكون منه من نتاج، وأعطيت الأرض حقها بدون ظلم، وهذا هو عين العدل الذي أمر الله به ورسوله.
والله تعالى أعلم.(93/12)
الخراج بالضمان
السؤال
من اشترى بيتاً أو أرضاً ثم وجد فيها ركازاً، فهل هو للبائع، أم للمشتري، أثابكم الله؟
الجواب
من اشترى أرضاً أو اشترى بيتاً فوجد فيه ركازاً فالركاز لمن اشترى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أم المؤمنين عائشة عند أبي داود في السنن: (الخراج بالضمان) ومعنى الحديث: أن الربح لمن يضمن الخسارة، فكما أنه متحملٌ لخسارة أرضه؛ حيث إنه لو تلفت الأرض، أو جاءتها آفة، أو جاءها ضرر، لتحمّل المشتري المسئولية، فكما أنه يتحمل الغرم فله الغنم، والقاعدة في الشرع: أن الغنم بالغرم، تفريعاً على هذا الحديث الذي عمل به وأجمع العلماء على العمل به: (الخراج بالضمان) قال أئمة الحديث: أجمع العلماء على العمل بمتنه، أن الخراج بالضمان، وهي قاعدة الغنم بالغرم، فالذي يشتري أرضاً وبعد عقد البيع بلحظة واحدة افترقا ثم حفر ووجد الركاز، فإنه ملكٌ له، وهو الذي يأخذه ويستحقه.
والله تعالى أعلم.(93/13)
زكاة العسل
السؤال
على القول بوجوب الزكاة في العسل، فهل يعتبر الشمع الموجود في العسل في الوزن أم لا، أثابكم الله؟
الجواب
يقولون: لا بد من تصفيته من شمعه، وإنما يجب منه بعد تصفيته؛ كالحب لا يجب فيه مع وجود قشره وما يصاحبه، كذلك إنما تجب الزكاة من صافي العسل.(93/14)
عدم جواز الإجارة في تأبير النخل على جزء مما يخرج منه دون المساقاة
السؤال
استأجر رجلٌ عدداً من النخل يقوم بتلقيحها والمحافظة عليها في فترة الطلع فقط على عدد من الأقنية، قنوان لكل نخلة، فما الحكم فيها، أثابكم الله؟
الجواب
من يعمل في الأرض يسقيها ويؤبرها ويقوم على مصالحها بجزءٍ مما يخرج منها كربع الثمرة ونصف الثمرة، فهذه مساقاة شرعية، والأصل فيها حديث عبد الله بن عمر الثابت في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها) هذا أصل عند العلماء في مشروعية المساقاة.
الحالة الثانية: أن يقول له: أبِّر النخل وقم بتأبيره ولك ربع الثمرة، فهذا لا يجوز؛ لأنها ليست بمساقاة شرعية، والمساقاة الشرعية يقول العلماء: إجارة مستثناة من الإجارة بالمجهول، فأصل المساقاة الجائزة استثناها الشرع من الإجارة بالمجهول، وتوضيح ذلك: أن الأصل في الإجارة في الشرع -وهذه قاعدة ينبغي أن يضعها كل طالب علم نصب عينيه- أنه لا بد فيها من تحديد العمل والأجرة، فيحدد العمل وتحدد الأجرة، يحدد العمل بالزمان وبالقدر، فتأتي للعامل وتقول له: اعمل عندي يوماً بمائة في زرع أو بناء، هذه تحدد بالزمان، فاليوم يرجع إلى العرف إن كان العرف ثمان ساعات استحق الأجرة بثمان ساعات، وإن كان العرف أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، فإنه سيعمل من طلوع الشمس إلى غروبها، ويرتاح في وقت الراحة بالعرف، هذه إجارة محددة بالزمان، والعمل محدد بالزمان، كذلك تتحدد الإجارة بالمكان بالمسافات وبالأقدار، فتقول له: أستأجرك إلى مكة يعني: توصلني إلى مكة كالسيارات، فهذه إجارة بالمكان، وكما في الصحيحين من حديث عائشة: (استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً) فهذه إجارة للمكان، أنه استأجره لكي يأخذ به مكاناً بعيداً عن الأنظار حتى يبلغ به المدينة، وهذه إجارة محددة بالفعل.
كذلك أيضاً الأجرة لا بد أن تكون معلومة، فلو قال له: تعال واعمل عندي في العمارة يوماً مثلاً، قال: بكم؟ قال: ما نختلف سنتفق، سيكون الذي يرضيك سيكون الذي يسرُّك ما يهمك، لا يجوز، لماذا؟ لأنها مجهولة، فقد يكون الذي يرضي الرجل عند مالك العمل غير الذي يكون عند المستأجر، فيخدعه، ولذلك يحصل الضرر والفتنة، فيقول له: خذ مائة، يقول: لا، الذي يرضيني مائة وخمسون، أو يقول له: خذ خمسين، فيقول: الذي يرضيني مائة، فتقع الفتنة، والشريعة تريد من كل متعاقد أن يكون على بينة من أمره، فلا بد أن تحدد العمل والأجرة التي ترتبت على العمل، ولذلك جاء في حديث عبد الرزاق في المصنف: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره) فلا بد أن يكون الأجر معلوماً، وأجمع العلماء على حرمة الإجارة بالمجهولات.
نحن عرفنا أنك لا يجوز أن تستأجر إنساناً بشيء مجهول، لا على عمل مجهول ولا على أجرة مجهولة، مثلاً: لو قال له: ابن لي حائطاً، أو ابن لي بيتاً، لا يجوز حتى يحدد كم طول الحائط وكم عرضه، وكذلك أيضاً ما هي مواصفاته؛ لأنه لو بناه على طريقة فربما يقول صاحب البيت: كنت أريده على طريقة أخرى، وكنت أريده على وضع آخر، فتقع الفتنة، وكلّما تأملت منهج الشريعة في شروط الإجارات والمعاملات التي تقع بين الناس تجد تشديداً، لكن هذا التشديد حفظ لأموال الناس ولحقوقهم، فلا أحد يظلم أحداً، وكلما طُبقت هذه الشروط الشرعية وجدت الناس في مأمن، وكلٌ يعلم ما الذي له وما الذي عليه، لكن ابحث عن أي خصومة في الإجارات لا تجدها إلا إذا دخلتها الجهالة أو دخلها شيءٌ من الغرر والمخادعة، ولذلك تجد بعض العقود لا تصحح في الشريعة؛ لوجود الدَخَل والجهل.
لابد أن نفرِّق بين الإجارة والمساقاة، فالمساقاة حينما قال رب الأرض للعامل: خذ نخلي -عنده مائة نخلة- اسقها وقم عليها وأصلحها وأبِّرها، فإذا أخرجت الثمرة فبيني وبينك، نصفها لك ونصفها لي، هذا في الأصل الشرعي لا يجوز، لماذا؟ لأن العمل مجهول، فلا ندري كم مدة الأيام، وكم مدة الشهور، وكم المدة التي سيستغرقها عمل العامل.
أيضاً: نفس العمل لا ندري كم قدره، المائة النخلة كلها قد تُطلع، وقد يُطلع نصفها، وقد يطلع ثلاثة أرباعها، وقد يطلع الثلث، لا ندري كم القدر، ثم لو أطلعت قد تطلع الجيد وقد تطلع بعدد كثير، وقد تطلع بالعدد القليل، وإذا أطلعت العدد الكثير أو الجيد، لا ندري هل يبقى صالحاً إلى الجذاذ أو لا، فإذاً المسألة كلها مبنية على الغرر، ومن هنا قال العلماء: المساقاة نوع من الإجارات المستثناة من الأصول.
لأن الأصول تقتضي عدم الجواز، فاستثنيت بقدر الحاجة، إذا ثبت أنه إذا قال له: اسق لي زرعي أو اسق لي النخل ولك نصفه أو ربعه، أن هذا في الأصل لا يجوز ولكن جاز لورود النص عن النبي صلى الله عليه وسلم رفقاً بالمزارعين وبالناس، وكأنه اغتفر وجود الجهالة في العمل لطيبة الأنفس، فهذا شيء ورد النص به.
هنا مسألةٍ لو قال له: قم على النخل أبِّر نخلي وخذ نصف الثمرة، فحينئذٍ ليست بمساقاة؛ لأن المساقاة قائمة على السقي، وقائمة على تطييب النخل، وإزالة الشوك عن الجريد حتى يتهيأ وضع الأقنية عليه، هو أجره فقط على التأبير، والتأبير شيء واستصلاح النخل بالسقي والقيام عليه شيءٌ آخر، فحينئذٍ رجعت إلى الأصل الذي يقتضي التحريم؛ لأنها إجارة بالمجهول، وحينئذٍ لا يصح هذا النوع من الإجارات، فنقول: إذا قال له: أبِّر النخل ولك نصف ما يخرج وارتفعا إلى القاضي، فإن القاضي يحكم بفساد الإجارة، ويأتي بأناس من أهل الخبرة، ويقول: قدروا عمل هذا الرجل في التأبير، كم نخلة أبَّر؟ قالوا: مائة نخلة، يسأل أهل الخبرة: كم يكون قيمة تأبير النخلة الواحدة؟ قالوا: كل نخلة تؤبَّر بعشرة ريالات مثلاً، هذه مائة نخلة معناه أن له ألف ريال يقول لرب الثمرة: أعطه ألف ريال ولك الثمرة خالصة، فأخذ العامل حظه، وأخذ رب المال ثمرته، وألغى هذا النوع من الإجارة الفاسدة.
فإذاً يشترط في صحة الإجارة بجزء الثمرة أن تكون مساقاة شرعية على الصفة المعتبرة، المساقاة الشرعية يتحمل تنظيف البئر واستصلاحه، ويقوم على جلب الماء من البئر سواء عن طريق الدلو أو عن طريق القيام على السواني ومراقبتها، وتشغيل السواني في الأوقات المعتبرة للسقي، ويعطي وجبات النخل بنفس القدر المعتبر في السقي، فإذا قام بالسقي يقوم بعد ذلك بتطييب النخل وتهيئته للطلوع عليه، ثم النخل تكون أعراشه وعراجينه على الجريد، وتحتاج إلى تنظيف الجريد من الشوك حتى يتمكن من جنيه، ثم يقوم على تأبيره، إلى غير ذلك مما يحتاج إليه لاستصلاح ثمر النخل، أما بالنسبة للإجارة على التأبير وحده فالحكم فيه ما ذكرنا.
والله تعالى أعلم.(93/15)
شرح زاد المستقنع - باب زكاة النقدين
الذهب والفضة -وهما النقدان- من الأموال التي تجب فيها الزكاة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، والإجماع قائم على وجوب الزكاة فيهما، ومن الأحكام والمسائل التي تتعلق بالذهب والفضة: حكم إعطاء الأوراق النقدية منزلة الذهب والفضة، وحكم زكاة حلي النساء، وحكم اتخاذ الذهب والفضة للرجال والنساء، وحكم ضم النقدين بعضهما إلى بعض لاستكمال نصاب الزكاة، وغير ذلك من الأحكام.(94/1)
حكم الأوراق النقدية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: (باب زكاة النقدين) هذا الباب قصد المصنف رحمه الله أن يبين فيه الأحكام المتعلقة بزكاة الذهب والفضة، وهما المرادان بقوله: (النقدين)، ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يفردون لكل نوع من أنواع الزكاة باباً مستقلاً، ولذلك ابتدأ رحمه الله بزكاة بهيمة الأنعام وبيّن أحكامها، ثم أتبعها بزكاة الحبوب والثمار، ثم أتبعها رحمه الله بزكاة النقدين؛ والسبب في ذلك تقديم النبي صلى الله عليه وسلم لبهيمة الأنعام، وقد أخّر زكاة النقدين في حديث أنس في كتابه صلى الله عليه وسلم، حيث ذكر زكاة الفضة بعد زكاة الإبل والبقر والغنم، ولذلك ناسب أن يرتب المصنف رحمه الله على ترتيب السنة، فابتدأ بزكاة بهيمة الأنعام كما بيّنا، ثم أتبع ذلك بزكاة الحبوب والثمار، ثم أتبعها بزكاة النقدين.
والمراد بالنقدين: الذهب والفضة، وكان الناس في القديم يتعاملون بهما أصلاً، فكانت الدنانير من الذهب، وكانت الدراهم من الفضة، وما زال الناس يتعاملون بذلك إلى قبل قرنين من الزمان أو قرن ونصف، حيث نشأة فكرة قائمة على المستندات، فكان التجار يسافرون من أماكن بعيدة يخافون في أسفارهم من الغرق وضياع المال، فكانوا يأخذون أوراقاً بالحوالة إلى تجار في الأماكن التي يذهبون إليها، فيسافرون من المشرق إلى المغرب، فيدفعون أموالهم من الذهب إلى رجل في المشرق في البلد الذي هم فيه، يعطيهم حوالة إلى وكيل لهم في المغرب، فيسلمون من ضياع المال في الطريق، وحمل هم حفظه والقيام عليه، فإذا نزلوا بالمكان الذي هم مسافرون إليه وجدوا الوكيل فأعطوه الورقة والمستند، فأعطاهم ما يريدون، فاشتروا تجاراتهم وانتقلوا بها إلى المكان الذي يشاءون.
ثم توسعت الفكرة من التجار حتى أصبحت شائعة ذائعة بين الناس وفي الجماعات، ثم بعد ذلك أصدرت الأوراق المعروفة المعهودة الآن بالنقد، فأصبحت هذه الأوراق من ناحية شرعية بمثابة المستندات لرصيد صاحبها، وهذا أمر ينبغي لكل طالب علم أن يضعه في الاعتبار، أن الورق بذاته ليس مأموراً بزكاته، ولكن رصيده في الأصل إما ذهب إن كان من الجنيه والدولار والدينار ونحوه، أو فضة كالريال، فلما أعطي هذا المستند نُزِّل منزلة الأصل وسمي باسمه، ولذلك كانوا في القديم يتعاملون بريال الفضة المعروف، ثم أُعطوا بدله المستند المكتوب قائماً مقام هذا الأصل، وبناءً على ذلك فمن الناحية الشرعية هي أشبه بمستند الدين والقاعدة: أن المستندات تأخذ حكم أصولها، أي: أنها تُنزَّل منزلتها إذا تعذر الأصل، فأصبحت من الناحية الشرعية منزّلة منزلة رصيده.
ولما شاعت هذه الأوراق أصبح البعض يقول: لا زكاة فيها لأنها ورق، وأغفل الأصل -كون رصيدها من الذهب أو رصيدها من الفضة- ولا شك أن هذا يعتبر مرجوحاً وضعيفاً؛ لأنه يفوت حقوق الفقراء والضعفاء، ولذلك ضعِّف هذا القول -كونها ورقاً لا زكاة فيه- وبناءً على ذلك فالفقه يقتضي أن هذه الأوراق يُنظر إلى رصيدها، فإن كان رصيدها من الفضة وجبت عليها زكاة الفضة، وإذا كان رصيدها من الذهب وجبت فيها زكاة الذهب، بناءً على ذلك أصبح الناس يتعاملون بالفرع قائماً مقام الأصل، ويُنظر إلى رصيدها بحسب أصلها، ثم بعد ذلك ألغي الرصيد، وهذا الإلغاء بتعامل عام لا علاقة له بالأفراد، ومن الناحية الفقهية لا يؤثر هذا الإلغاء؛ لأنه في الأصل إذا أعطى إنسان إنساناً وثيقة عن دين، ثم قال له: ألغيت لك أصل دينك، فإن هذا الإلغاء من الناحية الشرعية واقع في غير موقعه، فلا يترتب عليه حكم، مثال ذلك: لو أن إنساناً أعطيته كيلو من الذهب، ثم كتب لك مستنداً عن هذا الكيلو، ثم قال لك: هذا المستند لا أعترف به، أو ليس لك فيه رصيد، فالأصل الشرعي يقتضي أن رصيده محكوم به شرعاً، وأنه منزلٌ منزلة رصيده، شاء المديون أو أبى، هذا من الناحية الفقهية، إذا ثبت هذا فالإلغاء لا يؤثر في حقيقة الورق، ولا يلغي قيمتها الشرعية، وبناءً عليه تنزل منزلة رصيده، إذا ثبت هذا، فإننا ننظر في كل عملة إلى أصلها، فما كان من الفضة كالريال فأصله فضة، ويحسب نصابه بالفضة بناءً على أن الورق القديم منزلٌ منزلته.
أما لو قيل بإلغاء الرصيد وأن هذا الورق يُنظر إليه مجرداً، ويجوز التعامل به ولو بالفضل وبالزيادة، فهذا القول فيه نظر من وجوه: الوجه الأول: أنه قائم على إلغاء الرصيد الواقع في غير موقعه؛ لأن الشرع لا يلتفت إلى الإلغاء إلا إذا كان له مستند شرعي، لأنه دين ثابت شرعاً بحكم الشرع، فلو ألغاه المدين لا يؤثر هذا الإلغاء؛ لأنه لا تأثير له في الأصل، وبناءً على ذلك يكون كالمعجوز عنه كما لو جحده الأصل، وهذا الفرع منزَّل منزلة أصله.
الوجه الثاني: أننا لو قلنا هذا لما وجبت زكاة في ريال، والسبب في ذلك: أن الله لم يأمرنا بزكاة الورق، وإنما أمرنا بزكاة ذهب وفضة، فإذا قلنا: إننا لا نلتفت إلى رصيدها، فلا زكاة فيها، وهذا لا شك أنه يضيِّع حق الله عز وجل، إضافة إلى أن هذا الريال سمي باسم أصله، ولذلك أصله من الفضة فسمي باسمه، فإذا ألغي الرصيد ونُظر إلى الريال مجرداً عن الورق، فإننا لا نلتفت إلى وجوب الزكاة فيه، فلو قال قائل: إن هذا الورق له قيمة في ذاته، فوجبت فيه الزكاة؛ لأن له رواجاً وله قيمة، أُجيب بأن قيمة الورق لا تستلزم وجوب الزكاة فيه، ألا ترى ورق العلم كتب العلم ونحوها، فإن لها قيمة وتباع بقيمة ولها ثمن، ومع ذلك لا تجب فيها الزكاة، وعلى هذا فإنه لا يُلتفت إلى القول بإلغاء الرصيد، وهذا الذي يقوى من جهة النظر، وأن هذه الأوراق منزلة منزلة رصيد، ولو قيل بإلغاء الرصيد وجواز التفاضل بين الريال الورق والريال المعدني لحل الربا نسيئة وفضلاً وزيادة، ووجه ذلك: إذا ساغ لرجل أن يعطي رجلاً مائة ألف من الورق ثم يقول: اقضها لي بالحديد مائتين أو مائة وعشرين، وهذا لا شك أنه فتح للقول بجواز ما حرّم الله عز وجل، وحينئذٍ يتمكن أهل الربا من المراباة دون أن يُحكم بحرمة تعامله؛ لأنه يقول له: خذها ريالاً وردها حديداً، وحينئذٍ يمكنه أن يفاضل ويقع الربا الذي حرم الله عز وجل، ونهى عباده عنه.
فالذي يظهر أن هذه الأوراق منزَّلة منزِلة رصيدها، وإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: نصابها نصاب الرصيد، وكل ريال منزّل منزلة الرصيد، والحديد المعدني ينزل منزلة الريال الورق؛ لأن كل ريال من الحديد أو الورق إنما هو مقابل لريال من الفضة، فإذا صرفت مثلاً ريالين من الحديد بريال من الورق، كأنك صرفت ريالين من الفضة التي هي في رصيده مقابل ريال من الفضة، وهذا عين ربا الفضل، وعلى هذا فإنه لا بد من تنزيل هذا الفرع منزلة أصله، والحكم بكونها أموالاً منزَّلة منزلة أصولها، فتعتبر الريالات من الفضة، وزكاتها زكاة الفضة.
أما على القول بعدم الالتفات إلى الرصيد، فهم نظروا إلى قيمتها أعني قيمة الفضة بالورق، فقالوا: إذا أراد أن يزكي فإنه ينظر إلى قيمة ريالات الفضة القديمة بريالات الورق، والواقع أن ريالات الفضة القديمة ينبغي صرفها بريالات الورق مثلاً بمثل يداً بيد؛ لأن ريال الفضة القديم كريال الورق سواءً بسواء؛ لأنه مستند عن أصل واحد، فلو اشترى إنسان ريال فضة قديم بعشرة ريالات من الورق فهو عين الربا الذي حرّم الله، لأنه كأنه صرف عشرة ريالات من الفضة في مقابل ريال من الفضة، وهذا عين الذي نهى الله عز وجل وحرّم، فلا يعقل أننا نقول في الزكاة: انظر إلى قيمة ريال الفضة القديم بالريال الورق؛ لأنه لو قيل بذلك لجازت أصل المعاملة وهي ربوية، وعلى هذا فالذي يظهر أن كل ريال من الورق منزل منزلة رصيده من الفضة، وكل ريال من الحديد والنيكل منزل منزلة رصيده من الفضة بناءً على ذلك فنصاب الفضة له حكم، ونصاب الذهب له حكم.(94/2)
الأدلة على وجوب زكاة النقدين
وزكاة النقدين الأصل في وجوبها قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فأمر الله بأخذ الزكاة من الأموال، والذهب والفضة مال، فدخل في هذا المأمور به، وعلى هذا فإنها فريضة من فرائض الله، ودلّت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في كتابه صلى الله عليه وسلم حينما قال: (وفي الرقة في كل مائتي درهم ربع العشر).
فدل على أن الزكاة واجبة في الرقة وهي الفضة، والإجماع قائم على وجوب الزكاة في الذهب والفضة، وأنهما من الأموال التي ينبغي تزكيتها إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، أعني الشروط المعتبرة للحكم بفرضية الزكاة.
إذاً أوجب الله عز وجل زكاة النقدين، والعلماء رحمة الله عليهم يقولون: يستوي في ذلك ما كان منها مغشوشاً، وما كان منها خالصاً، وتوضيح ذلك أنهم في القديم كانوا يضربون الذهب دنانير، ويضربون الفضة دراهم، ويحتاج الذهب إلى شيءٍ من المعدن -من النحاس أو الحديد- يتقوى به، ولذلك لا يصفو الدينار ذهباً خالصاً؛ لأن الذهب ضعيف، فإذا كان الدينار مشوباً وفيه غش فللعلماء رحمة الله عليهم في هذه المسألة خلاف، بعض العلماء يقول: الدنانير ينظر إليها بالرواج، فإذا راج المغشوش منها كرواج الذي لا غش فيه وهو الخالص وجبت زكاة المغشوش كزكاة الخالص، مثال ذلك: إذا قلنا: إن خمساً وثمانين غراماً هي مقدار النصاب في الذهب، فإن الذي عنده من دنانير الذهب ما يبلغ هذا الوزن، يجب عليه أن يؤدي منها سواءً كانت مغشوشة أو كانت خالصة، فلا يلتفت إلى وجود الغش؛ لأنها بالرواج، أعني كون الناس يتعاملون بها كتعاملهم بالخالص نزِّلت منزلة الخالص فكأنه لا شائبة فيها، وهذا القول يقول به بعض الفقهاء، كما هو مذهب المالكية رحمة الله عليهم.
وقال الحنابلة رحمهم الله، ويوافقهم الشافعية: يُنظر إلى الصافي والخالص، فالدنانير إذا كانت مشوبة، لا بد وأن يُنظر إلى خالصها من الذهب، والدراهم إذا كانت مشوبة لا بد وأن ينظر إلى خالصها من الفضة، فلا تجب الزكاة إلا في الخالص منها، فإن نقصت في الخالص عن قدر الزكاة، كأن يكون عنده عشرين ديناراً وفيها مشوب فحينئذٍ لا تجب عليه الزكاة؛ لأنها بالمشوب نقصت عن هذا القدر، وعلى هذا قالوا: إنه يلتفت إلى الأصل، فإذا كانت خالصة وبلغت النصاب وجبت الزكاة، وإن كانت مشوبة ولا يبلغ قدر الخالص منها نصاباً فلا تجب فيها الزكاة.
ولا شك أن هذا القول الثاني أقوى من جهة النظر والاعتبار؛ لأنه إذا قيل: إن الزكاة وجبت في ذهب وفضة، فينبغي الالتفات إلى الذهب والفضة بذاتها دون ما خلطها من الشوائب.(94/3)
نصاب الذهب والفضة
قال المصنف رحمه الله: [يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً، وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم ربع العشر منهما].
قوله: (يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً) هذا هو نصاب الذهب، والأصل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (إذا كان عندك دنانير أو ذهب فبلغ عشرين ديناراً، ففيها نصف دينار)، رواه الإمام الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد، وهذا الحديث حسّن إسناده غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، وفيه كلام؛ لأنه من رواية عاصم بن أبي ضمرة عن علي رضي الله عنه، وفيه الكلام المعروف.
فيقولون: إن الإجماع انعقد على هذا الحديث، أن العشرين مثقالاً هي نصاب الذهب، ولا شك أن العلماء سلفاً وخلفاً أجمعوا على أن عشرين مثقالاً هي نصاب الذهب، فما نقص عن عشرين مثقالاً لا زكاة فيه، وبناءً على ذلك، قالوا: ينظر إلى وزنها وعِدلها، وعدل عشرين مثقالاً خمسة وثمانون من الغرامات الموجودة حالياً، فإذا بلغ الذهب خمسة وثمانين غراماً فإنه تجب فيه الزكاة، وإذا كان دون ذلك فإنه دون النصاب المعتبر، وهناك خلاف في المثقال، مما جعل الأنصبة عند العلماء تختلف، خاصة مع وجود الشوب في الدنانير القديمة، فبعض العلماء يقول: إنها تصل إلى ستة وتسعين غراماً، والخلاف ما بين خمسٍ وثمانين وست وتسعين غراماً، لكنه بالخالص المحرر هو خمسة وثمانون غراماً، وهو ما يعادل أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع الجنيه السعودي، وهذا هو قدر النصاب من الذهب، والإجماع منعقد على وجوب الزكاة في هذا القدر، وأن ما دونه لا تجب فيه الزكاة.
قوله: (وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم)، أما بالنسبة للفضة، فربطها النبي صلى الله عليه وسلم بمائتي درهم، والإجماع قائم على ذلك أن مائتي درهم هي نصاب الفضة، ولا خلاف في هذا من جهة العدد.
أما من جهة الوزن فخمس أواق، وفيها حديث الصحيحين: (ليس فيما دون خمس أواق من الفضة صدقة)، فهذا يدل على أن العبرة بخمس أواق وبمائتي درهم، إن كانت عدداً فبالدراهم، وإن كانت وزناً فبالأوقية، أما ضابطها بالغرامات، فهناك خلاف بين الجمهور والحنفية، والجمهور يقولون: إن مائتا درهم عربي تصل إلى خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، هذا بالنسبة لقدرها بالغرامات.
هذا القدر أجمع العلماء على اعتباره في الذهب والفضة، لورود السنة في الفضة في الصحيحين، وأما بالنسبة للذهب فالحديث الذي ذكرناه، وله شواهد منها ما ذكره الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الأموال، وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فهذه الأحاديث هي أصل في نصاب الذهب ونصاب الفضة على الصورة التي ذكرناها.
قوله: (ربع العشر منهما) أي: من الذهب ومن الفضة، فعشرون ديناراً عشرها ديناران، وربع الدينارين يعادل نصف دينار، ولذلك في كل عشرين ديناراً نصف دينار كما جاء في حديث علي رضي الله عنه.
وأما بالنسبة للفضة ففي كل مائتي درهم خمسة دراهم، هذا هو ربع العشر لورود النص فيه: (في الرقة في كل مائتي درهم ربع العشر) ويسميه العلماء رحمهم الله القدر الواجب، وفي هذا العصر يقولون: يعادل اثنين ونصف في المائة، هذا القدر هو الذي أوجبه الله عز وجل في زكاة الذهب وزكاة الفضة.(94/4)
حكم ضم النقدين إلى بعضهما
قال المصنف رحمه الله: [ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب].
قوله: (ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب) هذه مسألة خلافية، وصورتها: أن يكون عند الإنسان نصف النصاب من الذهب، وعنده فضة بحيث لو جمعت مع الذهب بلغت النصاب، سواء قلنا: عِدلها من نصاب الفضة أو عِدلها من نصاب الذهب، فحينئذٍ يرد
السؤال
هل كلٌ منهما ينظر إليه بانفراد، ويعتبر نوعاً مستقلاً، أم أنهما يضمان مع بعضهما؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: منهم من يرى الضم، وهم الجمهور، ومنهم من لا يرى الضم وهم الشافعية، واحتج الشافعية بالأصل، قالوا: إن الشرع جعل الفضة نوعاً من الأموال، وجعل الذهب نوعاً من الأموال، ولا يمكن أن نضم النوع إلى النوع، كما أننا لا نضم الإبل إلى البقر، ولا نضم الغنم إلى الإبل، فنظراً لاختلاف الأنواع ننظر إلى كل نوعٍ على حدة، وهذا المذهب يستند إلى الأصل كما ذكر أن الذهب نوع والفضة نوع، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، وبالإجماع أنه يجوز بيع الذهب بالفضة متفاضلين، فدل على أنهما نوعان مختلفان، وهذا بالإجماع في الصرف، فإذا كان في نظر الشرع في الصرف أنهما نوعان مختلفان، فكذلك في الزكاة، وهذا القول هو أسعد القولين بالدليل، وأولاهما بالصواب إن شاء الله تعالى؛ أن لكل منهما نصاباً معتبراً، ولا بد أن تبلغ الفضة نصابها وأن يبلغ الذهب نصابه خلافاً للجمهور رحمة الله عليهم الذين يقولون بضم كل منهما إلى الآخر.(94/5)
حكم ضم قيمة العروض إلى النقدين
قال المصنف رحمه الله: [وتضم قيمة العروض إلى كل منهما].
(وتضم قيمة العروض إلى كل منهما)، صورة المسألة: فلان من الناس عنده متجر، يتاجر فيه بطعام أو كساء أو دواء، أو نحو ذلك، وهذا المتجر له رأس مال مائة ألف، دخل بها فتاجر، فمن المعلوم أن البائع والمتاجر، تارة تكون عنده الأعيان من الأكسية والأغذية، ونحوها، وتارة تكون عنده النقود، وتارة يكون عنده الاثنان، فيكون الدرج فيه المال والنقد من الذهب والفضة، ويكون المحل فيه العروض، فإذا دخل برأس مالٍ للمتاجرة فيه، جُعِل هذا الشيء بمثابة الشيء الواحد، لأنه لما فرغ المائة ألف والمائتين للتجارة أعطيت حكم المال الواحد، فحينئذٍ ينظر إلى قيمة ما في المتجر من العروض المعروضة سواءً كانت من الأطعمة أو الأكسية أو الأغذية أو غيرها من العروض المعروضة، ويضيفها إلى ما في درج التاجر، فإذا بلغت النصاب وجبت الزكاة، ويقع ذلك إذا كانت العروض نصف النصاب، وكان الذي في الدرج يعادل النصف، فإذا قيل بالضم وجبت الزكاة؛ لأنه بضم بعضهما إلى بعض بلغا النصاب الذي أوجب الله فيه الزكاة، وهذا هو المعتبر لأنهما بمثابة المال الواحد أما لو كان الذي في الدرج مال مُرصَد لغير التجارة، كإنسان قبل الحول بيوم عنده مال استفاده من دين مائة ألفٍ -مثلاً- فجاء ووضعه في درج متجره للحفظ أو نحو ذلك، فالمائة ألف هذه التي جاءته من الدين لا نضمها إلى ما في المتجر عند حولان الحول، وإنما نضم المال المدار الذي احتكره للتجارة، أو جاءه عن طريق التجارة، وأما ما جاءه عن طريق إرث أو دين، فهذا له حكم المستقل، إلا إذا ضمه لرأس المال للمتاجرة به.(94/6)
حكم اتخاذ الذهب والفضة للرجل
قال المصنف رحمه الله: [ويباح للذكر من الفضة الخاتم].
قوله: (ويباح للذكر من الفضة الخاتم)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الخاتم من الفضة، وسبب ذلك: أنه لما أراد أن يكاتب ملوك الأرض للدعوة إلى الله عز وجل، قيل له: إن الملوك لا يقرءون الكتب إلا إذا خُتمت، فاتخذ خاتماً صلوات الله وسلامه عليه، وكتب إليهم يدعوهم إلى الإسلام، فهذا الخاتم كان في يده صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك انتقل إلى أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، وكان عثمان رضي الله عنه تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم يمر بقباء فيصلي فيه، ثم يجلس على قف بئر أريس، وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك، فجاء عثمان وجلس على قف البئر وما زال يعبث بخاتمه حتى سقط الخاتم من يده في البئر، وطلبوه فلم يجدوه، وبئر أريس بئر بقباء من الجهة الغربية إلى الجهة الجنوبية من المسجد، ويعرف البئر ببئر الخاتم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس عليه، وكان من الفضة، كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من الفضة، وما عاش عثمان بعد سقوط الخاتم إلا يسيراً، قيل سنة، ثم قُتِل رضي الله عنه، فكان فقد الخاتم إشارة إلى ما يكون من الفتن التي افتتح بها البلاء على الأمة بعد ذلك، وهي من الأمور التي كانت من علامات الحوادث التي وقعت في زمانه رضي الله عنه وأرضاه.
أما بالنسبة للخاتم فهو ثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان من الفضة.
وأما بالنسبة للذهب، فإنه لا يجوز أن يتختم به الرجل، فإن تختم به الرجل، فهو جمرة من نار والعياذ بالله، يعذَّب بها يوم القيامة كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رأى رجلاً قد اتخذ خاتماً من ذهب، فقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في إصبعه)، وهذا يدل على أنه إذا تختم بالذهب عذبه الله يوم القيامة، قيل: يعذب في قبره، وقيل: يعذب في حشره، وظاهر النص الإطلاق؛ لأنه قال: (جمرة من نار)، وهذا لا تقييد له، لا بالبرزخ ولا بالآخرة.
وأما بالنسبة للنساء، فيجوز لهن التختم بالذهب والفضة، وهذا بإجماع العلماء؛ لأن الله تعالى يقول: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فالمرأة تتحلى وتتزين، وشرع الله عز وجل لها الزينة، وذلك لمقاصد اعتبرتها الشريعة الإسلامية، لما فيها من حصول الألفة في الزواج ونحو ذلك، وأما بالنسبة للرجل فالإجماع قائم على تحريم الذهب على الرجال، لكن استثنى بعض العلماء اليسير، وسيذكر المصنف رحمه الله بعضاً من ذلك، فمن هذه الاستثناءات صور ذكرها أهل العلم، منها ما ورد فيه النص بأصله، ومنها ما استثناه العلماء من باب الاستحسان، وفيه بعض الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، ومنها ما استثناه العلماء اجتهاداً.
قال المصنف رحمه الله: [وقبيعة السيف].
قوله: (وقبيعة السيف) قالوا: إنها تستثنى، فيجوز أن تكون من الفضة؛ لأن قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم كانت من الفضة، وهذا ورد به النص، وعلل العلماء رحمهم الله بأن قبيعة السيف، وهي التي تكون على رأس المقبض أشبه بالكرة أو الدائرة التي تكون في آخر اليد حتى يستطيع الإنسان إذا أمسك بالسيف أن يحكم إمساكه فيقوى ضربه لمن يقاتل، فهذه القبيعة استثنيت أن تكون من الفضة، فيجوز اتخاذها من الفضة، وفيها حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال العلماء: إن الحكمة في ذلك إرهاب العدو، فإن العدو إذا رأى المسلمين في أحسن هيئة وأحسن حال هابهم، ويكون ذلك أدعى لحصول مقصود الشرع من كسرة شوكة الكفار، وهذا كما ذكرنا من باب التعليل للنص، ومن هنا قاس بعض العلماء على القبيعة صوراً الأصل يقتضي تحريمها، ولكنهم استحسنوها، وقالوا بجوازها اجتهاداً، وفي هذا الاجتهاد نظرٌ لا يخفى.
قال المصنف رحمه الله: [وحلية المنطَقة ونحوه].
قوله: (وحلية المنطَقة) وهي التي يُشد بها وسط الإنسان، أشبه بالحزام وتكون لحاملة السيف تُحلّى ويوضع فيها شيءٌ من الفضة، استثنيت هذه وفيها بعض الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يرى فعل الصحابي حجة يستثنيها، وليس فيها شيءٌ صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ونحوه)، أي: ونحو ذلك، وهذا يقتضي القياس، أنه ينزل منزلة هذه الأشياء، ما كان في حكمها مما فيه إغاظة للعدو وكسرٌ لشأفته، مما يتحلى به على قصد الإغاظة لهم، ولكن الذي يظهر أن هذه الأشياء الأصل فيها المنع؛ لأن الفضة في الأصل فيها وجهان للعلماء: من أهل العلم من يقول: الفضة للذكر تجوز، فيجوز أن يتخذ ما شاء منها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وأما الفضة فالعبوا بها لعباً)، وللعلماء خلاف في قوله: (العبوا بها لعباً)، منهم من حمله على الحقيقة، وهو اللعب الذي يكون بخاتم الإنسان، إشارة إلى ما أبيح منها وهو التختم، والإنسان من عادته إذا تختم لعب بخاتمه، قالوا: فالمقصود به حقيقة اللفظ، ومنهم من يقول: هو مجازٌ كناية عن الجواز، فاتخذوا منها ما شئتم، فيجوز أن يتخذ السيف من فضة، ويجوز أن يتخذ الخنجر من فضة، ويجوز أن يتخذ الحزام من فضة، ويجوز أن يتخذ القلم من الفضة، ويجوز أن يتخذ الإزار من الفضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العبوا بها لعباً)، وهذا على سبيل التجوز، وإن كان الأصل حمل اللفظ على الحقيقة، وهو أقوى.
ومما يقوي حمله على الحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحائفهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)، قال العلماء: لما حرم النبي صلى الله عليه وسلم أواني الفضة، مع أن الأواني يُحتاج إليها للأكل، كأنه نبه بهذا الأعلى إلى ما دونه، وتوضيح ذلك: أن هناك أشياء ضرورية، وأشياء حاجية، وأشياء تحسينية، منها الكماليات والفضوليات، هذه ثلاث مراتب، فالضروريات هي التي تتوقف عليها حياة الناس، وهي التي يرخَّص فيها في مقام المحظورات والمحرمات، كالأمور التي تتعلق بحياة الإنسان وتتوقف عليها حياته كأكله وشربه ونحو ذلك، فهذه من مقام الضروريات، ومقام الحاجيات هي الأشياء التي لو منع الناس منها تضرروا، وحصل الضيق لكنهم لا يموتون، فيفضي إلى درجة الحرج والمشقة، فيقولون: إن وضع الطعام في أواني الذهب والفضة، نفس الأواني في مقام الحاجيات؛ لأنها تحفظ الطعام الذي يغتذي به الإنسان، ولو لم يحفظ الطعام، لا يستطيع الإنسان أن يغتذي، فهي بحكم الحاجيات، فإذا حرّم النبي صلى الله عليه وسلم وضع الذهب والفضة في الأواني، مع أنها في مقام الحاجيات، فمن باب أولى الفضول والتحسينات، كأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بها أن ينبه بما هو أدنى، وهذا ما يسمونه التنبيه بالأعلى على ما هو أدنى منه، كقوله سبحانه وتعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23]، فإنه نهى عن أف فمن باب أولى أن لا يضرب الوالدين.
ولذلك يقولون: إذا حرُم أن يأكل في آنية الذهب والفضة، مع أنه يحتاج إلى حفظ الطعام بالإناء، فمن باب أولى ما هو في مقام الفضول والزينة والتحسين، ولما في اللعب بالفضة من كسرٍ لقلوب الفقراء والضعفاء، وبذلك قالوا: إنها أقرب إلى الإسراف، فالإنسان إذا لبس ساعة من فضة أو اتخذ قلماً من فضة، مع أنه يمكنه أن يتخذ ما دون ذلك، لا شك أنه سيتكلف، وستكون قيمة الفضة غالية.
وأما الذهب فلا يرخص فيه على الأصل حتى يدل الدليل على استثنائه.
قال المصنف رحمه الله: [وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه].
قوله: (وما دعت إليه ضرورة كأنف) مثال ذلك: أن يُجدع أنف الإنسان -يقطع- ثم يحتاج إلى وضع الذهب ستراً لهذا الأنف، هذا من باب الضروريات، والأصل فيه حديث عرفجة بن أسعد أنه جُدِع أنفه يوم كلاب، وقيل: الكلاّب، وكان بين تميم وكندة، ثم اتخذ أنفاً من فضة فأنتن، فاتخذ أنفاً من ذهب، ولذلك قالوا: ما كان من الأعضاء مُحتاجاً إليه أن يوضع فيه ذهب أو فضة، يجوز أن يتخذ منه ما شاء من الذهب والفضة بقدر حاجته، ويبنونه على حديث عرفجة رضي الله عنه وأرضاه، ويقولون: إن هذا من باب الحاجيات، ويؤكد ذلك أن الأنف إذا جُدع فإن الإنسان يستضر بدخول الجراثيم ودخول الأشياء الكبيرة التي قد تضر به، ولذلك اتخذ الأنف دفعاً لهذا الضرر، بخلاف ما إذا كان وضع العضو تحسيناً، كتجميل سنِّ بذهب فإنه لا يجوز؛ لأنه ليس بحاجي ولا ضروري، ولا آخذٌ حكم الحاجة ولا الضرورة، ولذلك فهو حرام، فإن مات ميت وسنه من ذهب، ولبّس بالذهب، أو اتخذ سناً من ذهب، فلا يخلو من حالتين: إما أن يمكن إزالة هذا الذهب دون إضرار بالميت، فتجب إزالته، كما نص العلماء رحمة الله عليهم على ذلك.
وإما أن لا يمكن إزالته إلا بضرر من جرحٍ أو قلع للسن، وهي من أصل الخلقة، فحينئذٍ تترك، ولا يؤمن عليه أن الله يعذبه بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خاتم الذهب: (جمرة من نار)، حتى قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: إنه إذا تحلى بالذهب في سن بدون حاجة لا يأمن أن يكون عليه جمرة من نار في فمه، نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك اختص الحكم بقدر الضرورة، أما الأسنان التي يحتاج إلى سدها واحتيج إلى ذهب أو فضة، فإن كانت الفضة يمكن أن تؤدي المقصود، فلا يترخص بالذهب؛ لأن ما جاز للضرورة يقدَّر بقدرها، فلا يتجاوز إلى الذهب؛ لأن الفضة أهون من الذهب، والرخصة بالفضة أيسر من الرخصة بالذهب، والذهب أشد، ولأن الفضة قد أُذن للرجل بها، والذهب لم يؤذن للرجل به، فيبقى على الأصل المقتضي للتحريم، فيُيَسَّر في الفضة ولا يُيَسَّر بالذهب، فإذا أمكنه أن يدفع ضرورته بالفضة لا يعدل إلى الذهب، لكن لو كانت الأسنان من الفضة تنتن، وتكون لها رائحة، أو اتخذها من الفضة فأنتنت وآذت، فحينئذٍ يجوز له أن يعدل إلى الذهب ولا حرج عليه في ذلك، والشرط في جواز الذهب والفضة في السن أن لا يوجد البديل، فإن وجد بديل من مع(94/7)
ما يباح للنساء اتخاذه من الذهب والفضة
قال المصنف رحمه الله: [ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت العادة بلبسه ولو كثر].
قوله: (ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت العادة بلبسه) كالأسورة والقلائد والأوشحة والحزام من الذهب والفضة، وغير ذلك مما جرت العادة بلبسه، قوله: (ولو كثر) أي: ولو كان كثيراً، وذلك لأن الله عز وجل وصف النساء بكونهن يتحلين بالحلية، وذلك من شأنهن، كما قال سبحانه وتعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فجعل لهن هذا الحظ من الدنيا، وبناءً على ذلك لا حرج أن تتحلى المرأة باليسير والكثير، خاصة إذا جرى العرف بهذا اللبس، ولا يعتبر محظوراً في حقها.(94/8)
حكم زكاة الحلي
قال المصنف رحمه الله: [ولا زكاة في حليهما المعد للاستعمال أو العارية].
قوله: (ولا زكاة في حليهما) المعد للاستعمال، الحلي الذي تتحلى به المرأة للعلماء فيه قولان: منهم من قال: يجب على المرأة أن تؤدي زكاة الحلي قلّ أو كثر، بشرط أن يبلغ النصاب المعتبر، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.
القول الثاني: لا تجب الزكاة في الحلي، وهذا هو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.
واستدل الذين قالوا بوجوب الزكاة في حلي النساء بحديث الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة تطوف، وعليها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال: أتؤدين زكاتهما؟ قالت: لا، قال: هما حسبك من النار)، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بيّن وجوب الزكاة، إذ الوعيد فيه لا يترتب إلا على فعل محرم أو ترك واجب، ولا شك أن الواجب هنا هو الزكاة، فدل على أن الزكاة واجبة، فجعل قوله: (هما حسبك من النار)، مرتباً على قولها: لا، فدل على أنها لو زكت لما كان حسباً لها من النار، قالوا: فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على وجوب الزكاة في الحلي، واستندوا أيضاًَ إلى الأصول، وذلك في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، ولا شك أن الحلي مال؛ لأن له قيمة، وقالوا: إنه تجب فيه الزكاة، سواء كان من الذهب أو كان من الفضة.
واستدل الجمهور على إسقاط الزكاة بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في الحلي زكاة)، وهو حديث ضعيف؛ لأنه من رواية أيوب بن عافية، وهو ضعيف، ولا يقوى على معارضة حديث الترمذي الذي صححه غير واحد.
وبناءً على ذلك: يترجح القول القائل بوجوب الزكاة في الحلي، وحينئذٍ يجب على المرأة إذا حال الحول على حليِّها أن تنظر في زكاته إذا كان قد بلغ النصاب، فتُخرج ربع عشره، إن شاءت أخرجته من الذهب، وإن شاءت أخرجته من الفضة، أخرجت ربع العشر من الذهب، أو أخرجته بعدله من الفضة، توضيح ذلك: لو أن حليها زكاته عشرة غرامات، فحينئذٍ نقول لها: إما أن تخرجي عشرة غرامات من الذهب، وتعطى للمسكين ينتفع بها، يبيعها ويأخذ مالها، أو تنظري عِدل العشرة غرامات في يوم الحول بقيمتها من الذهب، فإذا كانت قيمة كل غرام من الذهب في يوم الحول ثلاثين ريالاً فإننا نعتبر الواجب عليها في عشر غرامات ثلاثمائة ريال، ونقول: أنت بالخيار إن شئت أخرجت عدلها من الفضة، وإن شئت أخرجت أصلها، أعني العشرة غرامات، فتُخيّر بين الاثنين، إن شاءت هذا أو هذا، لكنها إذا أرادت أن تنظر إلى عِدل الذهب من الفضة، فينبغي أن تنظر إلى اليوم الذي هو حولها، فلو كان غرام الفضة في يوم حولها يساوي أربعين ريالاً، ثم أرادت أن تخرج بعد يوم أو يومين، وقيمته خمسون أو ستون فالعبرة بالأربعين، لا بالزيادة ولا بالنقص الطارئ بعد يوم الحول، وعلى هذا لا بد أن تعرف قيمة الغرامات في يوم الحول، وتؤدي زكاته على هذا الوجه المعتبر، والعبرة بقيمة البيع لا بقيمة الشراء.
وقوله: (المعدة للاستعمال أو العارية).
بناءً على القول بإسقاط الزكاة في الحلي، كما يقول الجمهور هناك مسائل، يقولون: أولاً: ينبغي أن يكون الحلي معداً للاستعمال، فإذا كان بعضه معداً للاستعمال وبعضه لا يعد للاستعمال إلا نادراً، فإننا نوجب عليها الزكاة في النادر، وأما الغالب فلا زكاة فيه، ومن أمثلة ذلك: لو كان عندها ذهب تلبسه أكثر الحول، أو كل الحول، وذهب خاص للمناسبات بحيث لا يعادل أكثر الحول، تجب عليها الزكاة في النادر الذي تلبسه في المناسبات، ولا تجب عليها في الذي تتحلى به دائماً.
ثانياً: وأيضاً يقولون: إن الحلي يشترط فيه أن يكون مباحاً للمرأة، فما زاد وكان محرماً فإنه تجب عليها الزكاة فيه، ولا يعتبر مستثنى؛ لأن التحريم يسقط الرخصة، وكأن الحلي الأصل وجوب الزكاة فيها، فرخص بإسقاط الزكاة فيها إذا كانت تتحلى بها، وبقي ما عداه على الأصل الموجب للزكاة.
قال المصنف رحمه الله: [فإن أُعد للكراء أو للنفقة أو كان محرّماً ففيه الزكاة].
قوله: (فإن أعد للكراء) إذا قلت: إن الحلي لا زكاة فيه، فإنه قد يُعد الحلي للكراء، ومن أمثلة ذلك: أن يكون عند المرأة أسورة من الذهب، أو قلائد من الذهب، وتؤجرها على النساء، إذا صارت المناسبات تأخذ المرأة هذا السوار الليلة بمائة مثلاً، وكل سوار بمائة، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء: من أهل العلم من يرى جواز إجارة الذهب والفضة للتجمل والزينة، ومنهم من يمنع من ذلك.
والذين يجيزون يقولون: إن المنفعة وهي الزينة مقصودة، فصارت منفعة مقصودة، فحينئذٍ يجوز أن يُستأجر، وبناءً على هذا القول الذي يقول بالجواز، كما مشى عليه المصنف رحمه الله، حينئذٍ الذي يُعد للكراء تجب فيه الزكاة مع أنه حلي، ولا تسقط عنه الزكاة على أصل المذهب الذي اختاره رحمة الله عليه؛ لأنه لما أُعد للكراء خرج عن كونه حلياً مرخصاً بإسقاط الزكاة عن صاحبه.
وقوله: (أو للنفقة) كامرأة تعد أسورة من أجل أن تبيعها، ثم بعد ذلك تنفق على نفسها وعلى عيالها، فلا تلبسها، هذا ليس بحلي ولا آخذٌ حكم الحلي وإن كان في أصله حلياً، لكنه ليس في مقام الرخصة بالحلي؛ لأنها لا تلبسه ولا تتحلى به ولا تتجمل.
وقوله: (أو كان محرماً) اتخذته وكان حراماً عليها أن تتخذه كأواني الذهب وأواني الفضة، فهذا المعد للأواني يحرم عليها أن تستعمله، وحينئذٍ لا يرخّص ولا يقال بإسقاط الزكاة عنها، فلا يقول قائل: إن الذهب حلال للنساء، وهذه الآنية اتخذتها للزينة في بيتها لا تجب عليها الزكاة بل نقول: يجب عليها أن تزكي هذه الأواني من الذهب والفضة.
والحمد لله رب العالمين.(94/9)
الأسئلة(94/10)
حكم شراء طعام بمال الزكاة وتوزيعه على الفقراء
السؤال
إذا كان يجب على المسلم قدر مالٍ معين من الزكاة فهل يجوز له أن يشتري بالمال طعاماً ويوزعه على الفقراء؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن الزكاة حق من حقوق الله جعله للفقراء والضعفاء في أموال الأغنياء، لا يجوز للغني أن يقدم على التصرف في هذا المال إلا بإذن شرعي، ولم يثبت في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة للغني أن يتصرف في المال الذي أوجب الله عليه أن يؤديه زكاة، فلو وجب عليه أن يخرج خمسة آلاف زكاة، لم يأمره الله عز وجل بإخراجها طعاماً، وقد وجبت عليه نقداً، من ذهب أو فضة أو ما قام مقامهما، فإذا تصرّف بالشراء فاشترى بها طعاماً للفقير، أو اشترى بها أغطية أو أكسية فإنه حينئذٍ لم يؤد الزكاة التي أوجب الله عليه وخرج بالتصرف عن كونه مزكياً إلى كونه متصدقاً، ويجب عليه ضمان هذا المال، وإخراج الزكاة لأصحابها على الوجه الذي أمر الله عز وجل، ولا وجه للاجتهاد بإخراج الأعيان بدل النقود؛ لأن الله سمّى هذا الحق للفقراء، ولا شك أن الإنسان إذا استأجر أجيراً بمائة ريال، فجاء في نهاية اليوم فقال للأجير: هذه المائة ريال اشتريت لك بها طعاماً، لا شك أن الأجير لا يرضى، ويرى أنه قد ظلمه، وقد خرج عن هذا الحق بالتصرف في المال، إلا في حالة واحدة تستثنى، وهي: أن يكون هناك أيتام وهؤلاء الأيتام لا ولي لهم، أو أيتام ومن يقوم عليهم سفيه لا يحسن التصرف، أو هناك فقير أو مسكين ولكنه لا يحسن التصرف في المال، فأنت تعلم أنك لو أعطيته الألف أو الألفين أو الثلاثة أتلفها من ساعته، ولربما صرفها في أمور لا طائل تحتها ولا نائل، والله نهانا عن إعطاء السفهاء الأموال، فإذا نويت أنك قائم عليه، بشرط أن لا يوجد ولي، فحينئذٍ تعطيه على قدر حاجته، فتمر عليه بالشهر تعطيه نفقة شهره، أو تقول لصاحب دكان: أعطه طعامه، وأجمل لي حسابه وأنا أحاسبك، فتقوم على نفقته بالشهر، أو تقوم على نفقته بالأسبوع حتى توفي مال الزكاة، فهذا لا حرج فيه، وإذا كان الإنسان يريد أن يستخدم هذه الطريقة في أناس يستطيعون الإنفاق على أنفسهم، ولكن لا يأمن منهم حسن التصرف، فيمكنه أن يعجل الزكاة قبل وقتها ثم ينفق عليهم مقسطة بالأشهر والأيام.
والله تعالى أعلم.(94/11)
حكم ضم ذهب الزوجة والبنات ليبلغ النصاب
السؤال
عند زوجتي وبناتي ذهب، فهل أضم الذهب إلى بعضه لتكميل النصاب، أم ذهب الزوجة لا يضم إلى ذهب البنات أو زوجة أخرى؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: لمن هذا الذهب الذي يلبسه البنات؟ فإن كان الذهب الذي تلبسه البنات لأمهن وهي زوجتك، فحينئذٍ ذهب الزوجة وذهب البنات بمثابة المال الواحد، وزكاته زكاة المال الواحد فيضم بعضه إلى بعض، إلا في حالةٍ وهي: أن تكون الأم قد نوت العطية، فأعطت ابنتها، فالبنت ذهبها مستقل، وكل بنت ينظر إلى ذهبها، ويعتبر النصاب فيها على حدة، وكذلك الحال بالنسبة للزوج، فإن كان الزوج قد أعطى زوجته ذهباً على سبيل أنها تلبس، ثم بعد ذلك يستبدله لها، لا أنها مالكة لهذا الذهب، فحينئذٍ تجب عليه زكاته، وينظر في زكاة ذهب بناته إذا كان قد أعطاهن من أجل أن يجدد لهن كل سنة، لا على سبيل العطية التي يُقصد منها التمليك.
والله تعالى أعلم.(94/12)
كيفية إخراج الزكاة مع اختلاف عيارات الذهب
السؤال
من المعروف أن الذهب له عيارات مختلفة، فعند إخراج الزكاة هل يضم إلى بعض، أم يزكى كل عيار على حدة؟
الجواب
هذه المسألة، عيار واحد وعشرين وثمانية عشر وأربعة وعشرين، السبب فيه وجود الشوب من النحاس ونحوه، فخالص الذهب يكون أربعة وعشرين، وهو صافيه وأفضله وأجوده، وإذا خالطه المشوب نزل بحسب الدرجات التي تكون فيه، فيضم الذهب بعضه إلى بعض في الزكاة، والسبب في ذلك: أن الشرع جعل خالصه ومشوبه بمثابة المال الواحد في الربا، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة)، وقد أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن خالصها ومشوبها في العيارات واحد، والسبب في ذلك صعوبة الانفكاك، ومن هنا قال العلماء رحمة الله عليهم: أنه يُغتفر وجود النحاس في الذهب، وحكى ابن رشد الإجماع على ذلك، واغتُفر في الموازنة في الربويات، فإذا بادل ذهباً عيار واحد وعشرين بذهب عيار أربعة وعشرين، أو أربعة وعشرين بعيار ثمانية عشر، فيجب التماثل والتقابض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن التمر، وقال عامله على خيبر: (إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين، قال: أوه! عين الربا)، فقوله: (إنا نبيع الصاع من هذا) يعني الجيد، (بالصاعين من هذا) يعني الرديء، فاعتبر المشوب موجباً للتفاوت، فقال: (أوه! عين الربا) أي: لا بد وأن تبيعه مثلاً بمثل، يداً بيد، سواءً بسواء، ولذلك حكي الإجماع على أن خالص الذهب ومشوبه في الوزن واحد، إلا إذا كان المشوب مما يمكن سحبه ويمكن فصله بدون مشقة وعناء، خاصة إذا كان في غير الضرب، كأن يكون أُدخل عليه فحينئذٍ يفصل، وهكذا بالنسبة للقلادات إذا كان فيها فصوص، فلا بد من فصلها وبيع الذهب بالذهب متقابلاً، ولا يغتفر وجود هذه الفصوص مثلما يغتفر في المشوب.
الشاهد: أن الشرع حينما جعل الذهب خالصه ومشوبه بمثابة الشيء الواحد في الربويات نُزِّل هنا منزلة المال الواحد، على خلاف مسألة الخالص والمشوب في تقدير النصاب على الأصل الذي ذكرناه لوجود القدرة، وذلك أن المشوب أُدخل بخلاف المشوب الذي وجد في أصل الخلقة.
والله تعالى أعلم.(94/13)
كيفية إخراج زكاة الحلي
السؤال
حسب علمي أن الكثير يخرجون زكاة الحلي بقسمة قيمة الذهب على اثنين ونصف في المائة، فهل فعلهم صحيح، أم لا بد من نصاب الفضة؟
الجواب
هذا مبني على الأصل الذي ذكرناه، أنه إذا اختار إخراجها من الفضة ينظر إلى قيمتها، سواءً قلت: يحسب الغرامات ثم ينظر إلى قيمة الغرامات الواجبة، أو يحسب غرامات الكل ويزكيها، فالنتيجة واحدة، فهي ابن أخت خالة التي قبلها، ما هناك فرق، وابن أخت الخالة هو الشيء نفسه، وهذا مثال عند العرب، يقولون: هو ابن أخت الخالة، أي الشيء نفسه، ما هناك فرق، سواء قلت: إنه ينظر إلى الغرامات وقيمتها من النقد، أو ينظر إلى مجموع الغرامات كلها ويضربها في الفضة، المعنى واحد.(94/14)
حكم لبس الرجل خاتماً من الألماس أو من الأحجار الكريمة
السؤال
ما حكم لبس الخاتم للرجال، إذا كان هذا الخاتم من الألماس، أو ما يسمى بالأحجار الكريمة؟
الجواب
لا حرج في لبس المعادن الأخرى من الألماس، والأحجار الكريمة، والعقيق، والمرجان، واللؤلؤ، وغيرها؛ لأن الله تعالى سخرها لبني آدم، وكما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، قال العلماء: هذه الآية أصل في جواز التحلي بالمجوهرات وغيرها ما لم يجر العرف باختصاص النساء بها دون الرجال، وأما بالنسبة للأصل، فالأصل يقتضي جواز الانتفاع بما في هذا الكون حتى يقوم الدليل على التحريم، فإذا قام الدليل على الاستثناء والتحريم فإنه محرم بحكم الشرع، ويعتبر خاصاً في التحريم على حسب مورد النص.
والله تعالى أعلم.(94/15)
حكم لبس الرجال الأشياء المطلية بالذهب
السؤال
هناك بعض الساعات والأقلام يوضع عليها دهان من ماء الذهب بنسب مختلفة، فهل يجوز لبسها، أم لا؟
الجواب
الذهب خالصه ومشوبه، مطليّه وغير مطليّه واحد، وحكمه واحد، واستثنى بعض فقهاء الشافعية وبعض الحنفية رحمة الله عليهم المطلي، فقالوا: إذا كان الطلاء يسيراً يجوز، وهذا مبني على دليل يعرف بالاستحسان، والاستحسان: الاستثناء من أصل عام بدليل ينقدح في نفس المجتهد، والذي يظهر أن هذا ضعيف، ولا يستثنى من ذلك مطلي ولا غير مطلي إلا إذا قام الدليل على الاستثناء، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم الذهب وحرّم استعماله، وبناء على ذلك لا يُرخص للرجل أن يتسامح في اليسير من الذهب في ساعة أو قلم أو غير ذلك إلا ما استثناه الشرع.
والله تعالى أعلم.(94/16)
وصية قبل الاختبارات
السؤال
كما تعلمون فإن الاختبارات على الأبواب، فهلا تفضلتم بوصية في ذلك؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهون علينا وعليكم اختبار الدنيا والآخرة، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية سؤلنا ورغبتنا.
أما بالنسبة لهذه الأيام فأوصي إخواني من طلاب العلم بأمور: أولاً: أن يتوكلوا على الله عز وجل، وأن يفوضوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، فما من أمر من أمور الدنيا ينزل بعبد من عباد الله أو بأمة من إماء الله، فينزله العبد بباب الله عز وجل متوكلاً على الله، مفوضاً أمره إلى الله، آخذاً بالأسباب التي شرع الله، إلا جعل الله له العاقبة على أحسن ما يبدو ويأمل، ولذلك قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، وقال سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، فأول ما يوصى به طالب العلم أن يكون متوكلاً على الله، لا على ذكائه، ولا على حفظه، ولا على فهمه، ولا على نبوغه، ولا على ضبطه، ويحس أنه لا يملك من أمره شيئاً إلا أن يعينه الله، وكلما برئت من الحول والقوة في أي أمرٍ من أمورك الدينية والدنيوية، كمّل الله نقصك، وجبر كسرك، وكان لك معيناً وظهيراً، فما من إنسان يكون عنده هذا الشعور إلا وفِّق، ولا تعتمد على أي شيء غير الله سبحانه وتعالى، فمهما أوتيت من الحفظ والفهم، فلابد لك من عون الله، وقد ذكر الإمام الماوردي رحمة الله عليه -يحكي عن نفسه-: أنه دخل ذات يوم المسجد، وكان طلابه ينتظرونه، فكأنه دخله شيءٌ من نفث الشيطان حينما قال له: هل هنا مسألة في الفقه لا تعلمها؟ كان الإمام الماوردي عجيباً في الفقه، وهو صاحب كتاب الحاوي، وهو كتابٌ كاسمه، جمع فأوعى من المسائل أصلية وفرعية في الفقه، يعز وجود مثله، فضلاً عن أحسن منه، أجاد وأفاد رحمة الله عليه، فلما دخله هذا العجب يقول: دخلت على طلابي، فلما جلس بينهم جاءت إليه امرأة، وكانت معها صبية لأول مرة تحيض، فسألته عن مسألة من مسائل الحيض الواضحة، قال: فأظلمت الدنيا في وجهي.
وكأنه لا يعرف شيئاً، هذا الإمام العظيم الذي فرّع وقعّد ونظّر، والإمام النووي رحمة الله عليه في المجموع كثيراً ما يعتمد على تخريجاته وتصحيحاته ونقولاته، رحمة الله على الجميع، قال: فإذا به لا يعي شيئاً، وكأنه لم يعلم شيئاً، يقول: فمن شدة ما هو فيه جعل يتصبب من العرق، والطلاب من هيبة شيخهم وإجلالهم له -كانوا يعظِّمون العلماء ويجلونهم ويوقرونهم- سكتوا وما استطاع أحد أن يجيب عن هذه المسألة الواضحة إجلالاً له، وذهولاً من الموقف، فما زالت المرأة تنتظر الجواب، وتردد عليه السؤال: رحمك الله كان كذا، رحمك الله، ما حكم كذا، وهو لا يجيب، فلما وجدت أنه لا يجيب، انصرفت عنه، فإذا بطالب علم حديث العهد بطلب العلم يدخل المسجد فسألته عن المسألة، فأجابها بكل سهولة، فقالت له: والله أنت خيرٌ من هذا الذي جلس، فضّلته على شيخه، لأنه رأى نفسه في العلو، فوضعه الله في السفول.
هكذا الإنسان، الماء لعظم فضله، جعله الله في قرار الأرض: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون:18]، والدخان لحقارته يتعالى ويتعاظم.
فالإنسان الموفق الكامل يحتقر نفسه مهما أوتي، ولذلك تجد العالم الذي جعل الله علمه رحمة له وخيراً له يتواضع ولا يعد نفسه شيئاً.
فطالب العلم إذا أراد أن يمضي إلى اختباره أو إلى امتحانه لا يُحس أن عنده شيئاً، إنما يعلق أمله على توفيق الله ومعونة الله، وعندها يكون له من الله على قدر ما كان من توكله ويقينه بالله سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: ألا يضيع الإنسان حق الله عز وجل، فيسهر حتى يضيع صلاة الفجر، أو يجلس لترداد المواد ومراجعة الكلمات حتى يفوت صلاة الجماعة، أو يأتي متأخراً، فلا ينصرف الإنسان عن الله عند اشتداد حاجته إليه، بل حتى في الأمور التي تتعلق به في معيشته، المنبغي إذا نزلت بإنسان أيام عصيبة كأيام الاختبارات والامتحانات أن يحافظ على حق الله، وأن يحس أن مخرجه أن يوفِّي لله حقه حتى يعطيه الله عز وجل من معونته وتوفيقه، كما وفّى لله يوفي الله له، ولذلك ينبغي عليه أن يحرص كل الحرص على إقامة الصلاة، والله تعالى يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، فجعل الصلاة قرينة الصبر، وهذا يدل على أن لها في النوائب والشدائد والمصائب فضلاً عظيماً وأثراً كبيراً في صلاح حال العبد، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا بلال! أرحنا بالصلاة)، فكانت قرة عينه صلوات الله وسلامه عليه وبهجته وسروره حينما يقف بين يدي الله.
فإذا كنت في أيام الاختبارات لا يختلف حق الله عندك عن الأيام العادية، عظم شأنك وجلّ بإذن الله عز وجل؛ لأنك تُمتحن أنت في امتحان أُخروي، فإذا كانت امتحاناتك واختباراتك تجعلها تبعاً لامتحان الله لك في هذه الدنيا، وفقك الله وأعانك.
الأمر الثالث: حق العباد، إخوانك وزملاؤك يحتاجون إلى ملخصات، يحتاجون إلى معونة، فأعنهم ولا تكن بخيلاً بالعلم، ولا تضن، وتمن لأخيك من الخير مثل ما تتمنى لنفسك أو أكثر، لا بد أن يربي الإنسان نفسه على المعاني الكريمة التي هذب الله بها المسلمين، نحن أمة مسلمة منقادة لله مستسلمة، فالإنسان ينبغي عليه أن يحب لإخوانه وزملائه من الخير مثل ما يحب لنفسه أو أكثر، حتى قال الإمام الشافعي: (والله ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يُظهِر الله الحق على يديه)، وهذا شيء من النزاهة والنقاء والصفاء في قلوب الأخيار، وهو من رحمة الله عز وجل بالعبد، فالإنسان إذا كان خيراً صالحاً أحب للناس مثل ما يحب لنفسه أو أكثر، ولا تكره أن أحداً يسبقك، فهذه أمور الدنيا، والمعوّل على الآخرة، النبي صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار: (إنكم ستلقون بعدي أثرة، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: اصبروا فإني فرطكم على الحوض)، الفضل هناك إذا قرعت الرءوس ومدّت من يده الشريفة صلوات الله وسلامه عليه شربة هنيئة مريئة لا تظمأ بعدها أبداً، ففضلت على غيرك، هناك الفضل بإذن الله عز وجل.
فالإنسان لا ينظر إلى هذه الدنيا إلى درجة أن يكره لإخوانه الخير، فيحس أنهم إذا سبقوه غمطوه أو أهانوه، بل أحب لهم من الخير مثل ما تحب لنفسك أو أكثر.
فلا ينبغي أن تكون الامتحانات وسيلة لحسد الناس، وكراهية الخير لهم، وإذا أحد سبقك أو فضُل عليك فقل: الحمد لله، اللهم إن فضّلته علي في الدنيا فلا تفضِّله عليَّ في الآخرة.
تكون الآخرة هي مبلغ علمك وغاية رغبتك، وهي أكبر همك، وعندها تسعد وتفلح، وتحس أن أمور الدنيا تحت قدمك، ولا تبالِ بشيء أقبل أو أدبر، إن أقبل استعنت به على طاعة الله، وإن أدبر فلن تلو عليه، تستقم لك السعادة، وهذه من نعم الله عز وجل على العبد، وهي راحة النفس، لا تحسد أحداً على فضل الله عز وجل، وإن أوتيت الفضل بذلته وتمنيته للناس.
كذلك أيضاً من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يحافظ عليها: ذكر الله عز وجل من كثرة الاستغفار وسؤال الله المعونة ونحو ذلك {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
ومن الأمور التي ينبغي على الإنسان أن ينتبه لها: حقوق الأبناء والبنات، فينبغي على الآباء والأمهات أن يرفقوا بالأبناء والبنات في أيام الاختبارات، ويعينوهم على طلب العلم، ويساعدوهم على المذاكرة حتى لا تنكسر نفوسهم بالتأخر عن زملائهم وقرنائهم، يكون للوالد فضل، أما أن تأتي مثل هذه الأيام وهو مهمل حقوق أبنائه وبناته فلا، كذلك أيضاً ينبغي أن يشملهم بالعطف والحنان والرعاية، وأن يحفظ مشاعرهم النفسية، والقلق الذي هم فيه، فيسليهم بالكلمات الإيمانية، ويثبت قلوبهم بالمواعظ الربانية، فالصبي إذا عودته من صغره على ذكر الله في الشدائد، فجاءت العواقب سليمة يحس أن ذكر الله هو الطريق للسلامة في العواقب، فينشأ منذ نعومة أظفاره وقد تعلّق قلبه بالله جل جلاله، وعندها يصلح حاله ويكمل ويشرف، ويكون له خير الدنيا والآخرة.
وليرفق بهم فلا يحملهم ما لا يطيقون، وبعض الآباء والأمهات تزداد أذيته لابنه في أيام الاختبارات، فيكون الابن مشوش الذهن، ولا يحس أنه متقن لعدم تفرغه، فيأتي الأب ليشغله بمشاغل يمكنه بنفسه أن يقوم بها أو يقيم غيره مقامه، فيأتي ويضار به أو يضيق عليه أو يعنت عليه، وهذا لا ينبغي.
كذلك على الآباء أيضاً غفران زلاتهم، والتجاوز عنهم في مثل هذه الأوقات العصيبة؛ لأن نفوسهم مشغولة، فينبغي للإنسان أن يكون مع أبنائه حليماً رحيماً، وهذا من الرفق الذي قال عنه عليه الصلاة السلام أنه: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيءٍ إلا شانه)، فالله جعلهم أمانة في عنقك، والله ما نظرت إليهم في أوقات الشدة والكرب من مرض أو سقم أو مشغلة من مشاغل الدنيا وعوارضها، فشملتهم بعطفك وإحسانك إلا لطف الله بك كما لطفت بهم، فالإنسان إذا عامل غيره بالإحسان عامله الله بالإحسان، فما {جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، ومن يسّر يسّر الله له، فإذا كان تيسيرك على أقرب الناس إليك، فإن الله ييسر عليك، وأفضل ما يكون الإحسان على أقرب الناس منك؛ لأنه أحوج ما يكون إلى عطفك وحنانك وبرك وإحسانك.
وإذا جئت قادماً على صالة الاختبار، فتذكر قدومك على الله جل جلاله، وتذكر قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (أيها الناس حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر على الله)، فالإنسان كما أنه يتهيأ لعرض الدنيا واختبار الدنيا، يجب أن يتهيأ لاختبار الآخرة، هذه ذكرى وعبرة، كما يقول بعض العلماء: المؤمن من فكرة إلى فكرة، ومن عبرة إلى عبرة.
فالله جل جلاله ينبهك بمثل هذه(94/17)
شرح زاد المستقنع - باب زكاة عروض التجارة
عروض التجارة من الأموال التي أمرنا بإخراج الزكاة فيها، والعروض هي ما يملكه الإنسان بنية التجارة، وأما ما ملكه بنية الاقتناء فلا يدخل في ذلك.
فمن ملك مالاً بنية التجارة وحال عليه الحول وبلغ النصاب وجب عليه إخراج زكاته، وينبغي عليه أن يقوِّمه عند إخراجه بالأحظ للفقراء والمساكين وألا يظلمهم حقهم.(95/1)
زكاة عروض التجارة ومشروعيتها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة العروض].
العروض: جمع عرض، والعرض: هو المتاع، ومراده رحمه الله أن يبين حكم زكاة التجارة، وهي الأموال التي يعرضها الإنسان بقصد المتاجرة فيها، وذلك أن ما عند الإنسان منه ما يكون للقنية كسيارته وأثاث بيته ونحو ذلك، ومنه ما يكون معروضاً للبيع والمتاجرة.
والأصل في وجوب الزكاة في عروض التجارة عموم قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى لم يفرِّق بين مال وآخر، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الزكاة من المال، وعروض التجارة مال، فالأصل وجوب الزكاة فيها، حتى يدل الدليل على الإسقاط.
أما الدليل الثاني: فقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]، قال مجاهد -وهو تلميذ عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن- في تفسيرها: إنها عروض التجارة، وأشار إلى ذلك الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، ففسر الآية: بأن المراد بها عروض التجارة، ولا شك أن مجاهداً رحمة الله عليه كان يأخذ التفسير من عبد الله بن عباس، وكان يستوقفه عند كل آية، يسأله عن حلالها وحرامها وما فيها من أحكام، فمثل هذا الغالب أنه أخذه عن ابن عباس رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس مكانته عالية في التفسير والتأويل؛ وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فهو معلَّم ملهم رضي الله عنه وأرضاه، وعلى هذا قالوا بوجوب الزكاة في عروض التجارة، وبذلك قال جماهير العلماء رحمة الله عليهم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وكان يقول به فقهاء المدينة السبعة: سعيد بن المسيَّب وخارجة بن زيد والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وغيرهم من فقهاء المدينة السبعة، ولا يشتهر هذا القول في المدينة غالباً إلا وله أصل عن الصحابة، ولذلك قال العلماء: القول بوجوب الزكاة في عروض التجارة هو الأصل، حتى يدل الدليل على الإسقاط.
قال رحمه الله: (باب زكاة العروض) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بزكاة عروض التجارة.(95/2)
شروط وجوب زكاة عروض التجارة
قال المصنف رحمه الله: [إذا ملكها بفعله بنية التجارة وبلغت قيمتها نصاباً زكّى قيمتها].
(إذا ملكها بفعله) أي: بفعل المكلف، كأن يشتري عروضاً من أغذية أو أكسية أو دواب -كالسيارات الموجودة الآن فهي حكم الدواب- فيملكها بفعله، أي: يشتريها، فلا تأتيه عن طريق الإرث، وتدخل عليه بغير محض الفعل، فاشترط العلماء رحمهم الله: أن يكون مالكاً لها بالفعل، أي: أنه أدخلها إلى ملكه قاصداً التجارة بها.(95/3)
حولان الحول من حين نية التجارة
قوله: (بنية التجارة) أي: لا بد في زكاة العروض من وجود نية التجارة، فالعبرة في حول زكاة العروض بالنية، فمتى ما نوى المتاجرة بهذا المال، فإنه يبتدئ الحول من هذه النية، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، ولا شك أن الزكاة داخلة في هذا العموم، فلا يُحكم بوجوب الزكاة على إنسان في مالٍ على أنه من عرض التجارة حتى ينوي المتاجرة به؛ فإن المال حينئذٍ صدُق عليه أنه معروضٌ للتجارة.
ولكن لو كانت نيته القنية، أي: أنه تملكه للقنية، أو للارتفاق به، فهذا ليس من عروض التجارة، ولا يدخل في هذه النية كون الإنسان عنده بيت أو عنده سيارة، وينوي في قرارة قلبه أنه إذا احتاج إلى بيعها أنه يبيعها، فإن هذه النية مترددة، ولا توجب الحكم بوجوب زكاة عروض التجارة؛ فالإنسان من حيث هو لو أصابته فاقة أو حاجة، فسيبيع ما يملك، فهذه النية عارضة ولا تؤثر، ولا بد من وجود النية المستقرة التي يقصد منها المتاجرة، سواء كان ذلك في العقارات أو المنقولات، والمنقولات كالأغذية، فلو اشترى مائة كيس من طعام، ونوى أن يتاجر بها، فإنها من عروض التجارة، وكذلك العقارات، فلو اشترى أرضاً أو اشترى داراً أو عمارةً، وقصد منها أن يربح بها الأكثر، فحينئذٍ تعتبر هذه الأرض وهذه العمارة من عروض التجارة، وزكاتها زكاة عروض التجارة.(95/4)
بلوغ النصاب
قوله رحمه الله: (وبلغت قيمتها نصاباً زكى قيمتها).
هذا الشرط الثاني: أن تكون قد بلغت النصاب بالفضة، وهو -كما ذكرنا- ثلاثٌ وخمسون ريالاً، فإذا بلغت هذا القدر وعرضها للتجارة، فإنه لا بد من حولان الحول على هذه النية، فلو باعها قبل حولان الحول فلا زكاة فيها، مثلاً: لو عرض غذاءً أو كساءً كالأقمشة، لمدة ستة أشهر بنية التجارة، ثم بيعت أثناءها، واستُنفدت قيمتها، فهذه لا زكاة فيها، فلا بد في عروض التجارة أن يمر عليها حولاً كاملاً، ويستوي في ذلك أن تكون العين بنفسها أو ما قام مقامها مما تولد من أصلها، وذلك كأن يدخل للتجارة بمائة ألف ريال، فيشتري بها عشر سيارات ليتاجر بها، يشتري واحدة ويبيعها ثم يشتري أخرى ثم يبيعها، وهكذا فحينئذٍ الحول حول رأس المال، فهو متاجرٌ بالمائة ألف، فإذا حال الحول، وبقي من المائة ألف ما يساوي قدر النصاب وجب عليه زكاة ذلك القدر الباقي.
قال المصنف رحمه الله: [فإن ملكها بإرث أو بفعله بغير نية التجارة ثم نواها لم تصر لها].
كما ذكرنا؛ لأن الأصل في أموال التجارة أن تكون متأصِّلة أو متمحضة النية بالتجارة؛ فلو أنها دخلت عليه بهبة أو بإرث، فلا تعتبر من عروض التجارة بالنية.(95/5)
الاعتبار في تقدير الزكاة عند الحول
[وتُقوَّم عند الحول بالأحظ للفقراء من عين أو ورِق].
(وتقوّم) أي: عروض التجارة.
من المعلوم أن عروض التجارة في الغالب -سواء كانت من العقارات أو المنقولات- تحتاج إلى معرفة القيمة، فهناك قيمتان: القيمة الأولى: التي اشتريت بها، والقيمة الثانية: التي تعرضها أو تعرض بها الشيء المبيع، فلو أنك اشتريت عشر سيارات لعرضها للتجارة، وقيمتها -مثلاً- في الأصل حينما اشتريتها مائة ألف، ولكنك حينما عرضتها للبيع عرضتها بمائة وخمسين، فحينئذٍ يجب عليك اعتبار سعر البيع، وأما قيمة الأصل فإنها ليست بقيمة؛ والسبب في هذا أن الذي تعرضها به للبيع يعتبر مالاً في الحكم، أي: كأنك مالك لهذا القدر، وأما الذي اشتريت به فإنه لا يؤثر لكونه غير مستقر، وحينئذٍ يستوي أن يكون زائداً عما تعرض به، أو يكون ناقصاً عنه، فلو أنك اشتريت (بمائة ألف) وتريد أن تبيع (بخمسين ألفاً)، أو انخفض السعر حتى أصبحت تباع (بخمسين)، فالقيمة (خمسون)، ولو أنك اشتريت (بخمسين) ثم ارتفعت قيمتها، وعرضتها (بمائة)، فالقيمة مائة، وقس على هذا.
وتقوّم بالأحظ للفقراء، فيُنظر إذا كان الأحظ أن تقوم بالدراهم قُوِّمت بالدراهم، وإن كان الأحظ أن تقوم بالدنانير قوِّمت بالدنانير.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يُعتبر ما اشتريت به].
(ولا يعتبر) أي: في القيمة والتقدير والتقويم (ما اشتريت به)، وفي ذلك أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه أمر أن تقوَّم عروض التجارة بقيمتها، أي: في حالها، وهذا يدل على أن العبرة في عروض التجارة بقيمة البذل لا بقيمة الشراء، وقد بيّنا أن السبب في هذا أنك إذا عرضت الدار -مثلاً- أو الأرض للبيع، وكانت القيمة التي اشتريت بها مائة وتعرضها بمائة وخمسين، فأنت في الحقيقة بمثابة المالك للمائة والخمسين، ولكن يرد
السؤال
لو أن هذا الشيء المعروض للتجارة فيه اضطراب، أي: لا يثبت على قيمة معينة، فأنت تقدِّر أن أقل ما تبيع به هذه السيارة هو مائة وخمسون، ولكنك إذا جئت تعرض تقول: مائة وسبعون أو مائة وستون، فهل العبرة بأكثر ما تطلبه، أم العبرة بأقل ما تطلبه أو ترضى به؟ أولاً: قضية سوم الأشياء بأعلى من قيمتها حتى تنزل، فيه حديث أم أنمار رضي الله عنها، فإنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أنها إذا أرادت أن تشتري الشيء سامته بأقل من قيمته، فلا تزال مع صاحبه حتى يبلغ قيمته فتشتريه، وإذا أرادت أن تبيع الشيء سامته بأكثر من قيمته حتى يبلغ القدر الذي ترضى به فتبيع، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا، فكره بعض العلماء مثل هذا.
ولكن الصحيح أنه يجوز؛ لأن هذا الحديث متكلّم في سنده، وقد ذكره الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه في الإصابة، وأشار إلى سنده، وله أصل في سنن ابن ماجة.
والصحيح: أنه يجوز للإنسان أن يسوم بالأكثر والأقل، والأفضل له أن يجتزئ بأقل الأرباح حتى يضع الله له البركة فيما يأخذ، وهذا مبني على عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع)، قالوا: السماحة في البيع أن يرضى بأقلّ الربح.
ثانياً: إذا قلنا: إنه يشرع أن تسوم بالأكثر حتى تبلغ الأقل، فحينئذٍ نحن بالخيار بين ثلاثة أمور: إما أن نقول: العبرة بالأكثر لأنها تسام به، وعُرضت متاجرةً بهذا الأكثر، وكونه يرضى بالأقل، هذا شيءٌ رضي خسارته على نفسه، فلا نرضى خسارته على الفقراء والمساكين.
وإما أن نقول: العبرة بالأقل؛ لأنه هو اليقين، والقاعدة في الشرع: (أن اليقين لا يزال بالشك)، فالأصل أن الذي يبيع به وتُقدَّر به السلعة ويرضى به المشتري في الغالب هو الأقل، فحينئذٍ نقول على هذا الوجه: العبرة بالأقل.
وإما أن نقول: العبرة بما بينهما.
والذي يترجح من هذه الثلاثة الأمور القول: بأن العبرة بالأقل؛ لأنه اليقين، وهذا أصل طرده العلماء رحمة الله عليهم في كثير من المسائل.
وعليه: فإنه إذا كان يعرضه بمائة ويرضى بتسعين فالعبرة بالتسعين.
وقال بعض العلماء: الورع أنه ينظر إلى السوق، فإن كان السوق رائجاً حتى يصير بالأكثر، فإنه يقدره بالأكثر، وإن كان بالأقل فلا حرج أن يقدره بالرخصة بالأخذ بالأقل.
قال المصنف رحمه الله: [وإن اشترى عرضاً بنصاب من أثمانٍ أو عروض بنى على حوله].
أي: بنى على حول الشراء، ما دام أنه اشتراه بنية التجارة، وهذه المسألة الأصل فيها ما ذكرنا أن من دخل إلى التجارة برأس مال واشترى بها عروضاً ثم باعها قبل تمام الحول، فإن العبرة بالأصل، أي: بالثمن، ولا يلتفت إلى هذه العروض؛ لأننا لو قلنا بهذا لما استطعنا أن نزكي عرضاً للتجارة إلا في القليل النادر، وتوضيح ذلك: أن من دخل بمائة ألفٍ يريد أن يتاجر بها في شهر محرم، فاشترى بها عشر سيارات -مثلاً- فعرضها للبيع، فبيعت في منتصف العام، واشترى أخرى مكانها، فقد يقول قائل: الأول قد انقطع بالبيع، والثاني يستأنفه بالشراء من منتصف الحول، نقول: لا، العبرة بالأصل، فحينئذٍ هذه المائة ألف لما تمحّضت للمتاجرة فإننا نقول: العبرة بحولها، فإذا اشترى وأدخل وأخرج، فهذا كله تابع لأصله، يبني عليه، وتجب عليه زكاته كما ذكرنا.
[وإن اشتراه بسائمة لم يَبْنِ] وهذا بناءً على أن زكاة السائمة غير زكاة الأموال المعروضة للتجارة؛ لأنه انتقل من أصل إلى أصل، فالسائمة إذا قطعها بالبيع لا يبني وإنما يستأنف، مثال ذلك: لو كان عنده من الإبل ما يبلغ النصاب، وتجب عليه فيه الزكاة، وفي منتصف العام باعها، ثم اشترى به سيارات أو أكسية أو أغذية، وعرضها للتجارة، فإننا نقول: السائمة لها زكاة مستقلة، وعروض التجارة التي هي الأكسية والأغذية لها حول مستقل، فيستأنف الحول من جديد، ولا يبني على الحول الأول لاختلاف الأصلين، فأصل السائمة شيء، وأصل عروض التجارة شيءٌ آخر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(95/6)
الأسئلة(95/7)
المعتبر في زكاة العملة الورقية
السؤال
ما هو نصاب المال المعتبر في العملة الورقية، هل المعتبر فيه نصاب الذهب، أم نصاب الفضة؟ ولماذا؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالعملة الورقية أصلها فضة كما ذكرنا، وبناءً على ذلك فزكاتها زكاة الفضة؛ لأنها عبارة عن أسناد توثيقية عن الفضة، فيقدر النصاب بهذا القدر الذي ذكرناه، وهو ثلاثة وخمسون ريالاً، وهي تعادل مائتي درهم، فما بلغه فإنه تجب فيه الزكاة، وما كان دونه فلا تجب فيه الزكاة، وأما تقديرها بالذهب فليس بسديد؛ لأنها إذا قدِّرت بالذهب خرجت عن أصلها، والأوراق لا يؤمر بزكاتها، وإنما أُمرنا بزكاة هذا الأوراق (العملة الورقية)؛ لأن رصيدها من الفضة، ولا يؤثر في ذلك كونه يحصل على الرصيد (الفضة) أو لا يحصل، أو يتمكن منه أو لا يتمكن؛ لأن هذا المستند ثابت من ناحية شرعية، وإلغاء الرصيد لا يؤثر في قيمته الحقيقية واعتباره من الفضة.
والله تعالى أعلم.(95/8)
زكاة المحلات التجارية
السؤال
كيف يُخرج أصحاب المحلات التجارية كالدكاكين والبقالات الزكاة، وذلك لاختلاف البضائع فيها واختلاف أسعارها؟
الجواب
إذا حال الحول يحتاط صاحب (البقالة) و (المتجر) باليوم واليومين الذي يتمكن فيها من جرد البضائع، وحينئذٍ يقفل هذا المحل أو يتصرف بطريقة يمكنه بها أن يجرد في هذا اليوم الذي هو رأس حول المال، فإذا جرد أصناف البضائع وصنّف كل صنفٍ على حدة، حينئذٍ ينظر إلى قيمة عرضه في ذلك اليوم، فلو كان عنده ألف صنف، فيُنظر العدد الموجود من كل صنف، وقيمة كل شيءٍ منه، ثم بعد أن يجرد هذا بقيمته يزكي المحل بقيمة واحدة، ولا يجوز له أن يخمِّن ولا أن يقدر؛ لأن القاعدة: (أن القدرة على اليقين تمنع من الشك) وبعض الناس قد يتلاعب في هذا الأمر، بل قد يتسامح البعض في الفتوى، والواقع أنه ينبغي عليه أن يجرد، وينبغي أن يشعر الناس بأهمية الزكاة، والفقه أننا نطالبهم بالجرد؛ لأن الجرد يُشعر بأهمية الزكاة ووجوب هذه الفريضة، ولو أنه احتاج إلى هذا الجرد لمحاسبة شركائه لوجدته يجرد كل صغيرة وكبيرة، ولا يجد العناء، ولكن في حق الله يتلاعب الناس إلا من رحم الله، ويتساهلون ويبحثون عن الرخصة في الفتوى، فالواجب حملهم على الأصل؛ إلا إذا تعذر القيام بهذا الأصل.
والله تعالى أعلم.(95/9)
زكاة الدين في عروض التجارة، وإخراج الزكاة من العروض نفسها
السؤال
عندي محل تجاري حال عليه الحول، وبه بضاعة بمبلغ مائة ألف ريال، وعلى المحل دين من البضاعة الموجودة بمبلغ وقدره خمسة وثلاثون ألف ريال، فهل أزكي على قيمة البضاعة كاملة، أم أزكي بعد خصم الدين؟ وإذا حال الحول ولا توجد عندي سيولة نقدية، فهل يجوز لي أن أزكي من البضاعة التي توجد عندي، أم تبقى الزكاة ديناً عليَّ، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
للعلماء في الدَّين وجهان: منهم من يقول: إن الدَّين يُسقط، وحينئذٍ تُسقط هذا المبلغ الذي هو دين عليك.
ومنهم من يقول: أنت بالخيار بين أمرين: إما أن تُسدد حقوق الناس قبل استتمام المدة وحولان الحول، وإما أن تُطالب بزكاة الجميع، وهذا أقوى والنفس إليه أميل؛ لأنه هو الأصل، ولا شك أن الإنسان إذا ملك هذا القدر وكان في ماله يمتنع من سداد حقوق الناس، ثم بعد ذلك يسقط الزكاة عنه، فهذا فيه ضعف، ولا يخلو من نظر، وعليه فإنه يقوى القول بأنك تُطالب بأحد الأمرين: إما أن تسدد للناس حقوقهم، أو يجب عليك زكاة المبلغ كاملاً.
على هذا يجب عليك زكاة المال كاملاً، ولا يسقط منه شيء إعمالاً للأصل.
والله تعالى أعلم.
أما إذا حال عليك الحول وليس عندك سيولة؛ فإنه حينئذٍ يجب عليك أن تخرج هذا المال، إما ديناً من الغير، أو تتصرف بما تستطيع الحصول على حق الفقراء وتعطيهم حقهم كاملاً، أما إخراج الزكاة من نفس العروض فقول جمهور العلماء: أن ذلك لا يجزئ؛ لأن الله عز وجل أوجب عليك المال بعينه، فتُخرج من الفضة فضة وتخرج من الذهب ذهباً، وإن كانت من العروض تُخرج بقيمتها من الذهب والفضة، ولو أن إنساناً قيل له: اعمل شهراً، فإذا عمل الشهر جيء له بطعام وكساء ودواء، وقيل له: راتبك خمسة آلاف ريال، وهذه كلها مئونتك بالخمسة آلاف ريال، فلن يرضى، وسيقول: ليس من حق أحد أن يتصرّف في مالي، وهذا حق لي، لا آذن لأحد أن يتصرف فيه، فكذلك الفقير؛ لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، فليس من حق التاجر أن يتصرف في أموال الفقراء والضعفاء، بل إنه قد يحتال بهذه الطريقة، فيجد البضاعة لا تنفد، وسوقها كاسد، فحينئذٍ يدفع عن نفسه ضرر كساد السوق ويعطي الفقراء والضعفاء مما عنده من المعروضات للتجارة، وعلى هذا فإنه يجب عليه أن يؤدي حق الله في ماله، ويمكِّن الفقير من عين المال من الذهب والفضة، ولا يخرج الأطعمة وغيرها من عروض التجارة.
والله تعالى أعلم.(95/10)
زكاة مهر المرأة غير المدخول بها
السؤال
هل في المهر زكاة إذا أعطي للزوجة ولم يتم الزواج إلا بعد سنة؟
الجواب
إذا أخذت المرأة المهر فإنها حينئذٍ تزكيه، وتعتبر حوله من القبض؛ لأنها تستحق هذا المال بالقبض، ويبقى النظر في خوف وجود الطلاق قبل الدخول، ولذلك بعض العلماء يقول: هي مستحقة لنصفه، ولا تجب عليها زكاة النصف الثاني إلا إذا دخل بها، فإن دخل بها قضت زكاة ما مضى، وهذا له وجه، ولكن الأول أورع وأحوط؛ لأن الطلاق نادر، فأُعمِل الأصل من بقاء العقد.
والله تعالى أعلم.(95/11)
حكم من يشتري سلعة ليبيعها لغيره بالتقسيط
السؤال
إذا قال البائع للمشتري: اذهب واختر السلعة التي تريدها وأنا أشتريها لك وأقسطها عليك، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
هذا عين الربا، فإذا قال له: اذهب واشتر ما شئت من متاع أو سيارات وائتني بفواتيره، ثم يشتريها ذلك الشخص ثم يقسِّطها عليه، فهذا عين الربا، بدل أن يقول له: خذ مائة ألف وردها مقسطة بمائة وعشرة احتال بإدخال السلعة، ثم يتفق هؤلاء مع التجار على أنه إذا رفض المشتري أنهم يردون البضاعة، وقد يقول البعض: بأن هذا جائز؛ لأن الطرف الذي ذهب إليه المحتاج اشترى السلعة ولم يلزم الطرف المدين أو الذي يريد هذه السلعة بالعقد، وبناءً على ذلك خيّره، وقال له: إن شئت فخذ وإن شئت فدع، نقول: إن الشريعة ألغت صورة العقدين مع صحتهما ظاهراً لذريعة الربا.
مثال ذلك: بيع العينة، وصورتها: رجل جاء إلى تاجر فاشترى منه سيارة بمائة ألف مقسطة، فالسيارة قيمتها بالأقساط مائة ألف؛ لكن قيمتها بالنقد ثمانون ألفاً، فلما اشتراها بمائة ألف إلى أجل قال التاجر: أشتريها منك نقداً بثمانين، فإذا جئت تنظر إلى صورة العقدين فالأصل صحتهما، فالسيارة قيمتها الحقيقية بالأقساط مائة وقيمتها الحقيقية بالنقد ثمانون، فالأصل يقتضي أن العقد صحيح، لكن لما صُرفت السيارة للمشتري ثم عادت للبائع أُلغيت صورة العقدين، وصارت حقيقة الأمر كأنه أخذ النقد أي: الثمانين في مقابل المائة المؤجلة، فحرم الشرع هذا النوع من العقد، وألغى صورة العقد.
كذلك هنا لما كان البنك أو الشركة أو مَنْ يشتري ليس مراده أن يستفيد بالسلعة أصلاً، وإنما يشتريها بناءً على طلب وتحديد وتعيين، فلما وجدت الرغبة ووجدت الحاجة حينئذٍ توجه بالشراء، فلما اشتراها آل الأمر إلى أنه بدل أن يعطيه الثمانين المعجلة ويقول: ردها مائة مؤجلة أدخل السلعة حيلة وحينئذٍ يعتبر من بيوع الربا، وشبهة الربا فيه ظاهرة.
والله تعالى أعلم.(95/12)
معرفة النصاب في المال
السؤال
عندما أريد أن أعرف ما عندي من المال هل بلغ نصاباً أم لا، فإنني أسأل الصاغة عن قيمة خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً من الفضة كم تساوي من الريالات، فهل فعلي صحيح؟
الجواب
هذا الفعل ليس بصحيح؛ لأن الريال مع الفضة لا بد فيه من التساوي والتماثل، فإذا قلت: خمسمائة وخمسة وتسعون غراماً كم تساوي بالفضة، فهذا عين الربا؛ لأن أصل الورق ريال من الفضة، وله وزن محدد، فعندما تشتري بريال الورق الفضة لا بد أن يكون مثلاً بمثل يداً بيد، فإذا أعطاك الصائغ قيمتها متفاضلاً فإنه قد بناها على الربا؛ لأن التفاضل محرم، وهذه مسألة تحتاج إلى دقة من طالب العلم، لأنه في هذه الحالة كأنه يبادل الفضة بالفضة، ولا بد من التماثل والتقابض، وحينئذ لا تلتفت إلى قيمة زنة الغرامات، وإنما تلتفت إلى تحرير الريال الفضي القديم بالفضة، ثم تنظر إلى عدلها من مائتي درهم، وقد كُفيت المئونة؛ فإن هذا يعادل ثلاثة وخمسين ريالاً، وبناءً على ذلك ثلاثة وخمسون من الفضة القديمة تعادل بزنتها هذا القدر، وحينئذٍ يجب عليك زكاة هذا القدر.(95/13)
اعتبار الحول في زكاة العروض
السؤال
رجل اشترى خمس سيارات في محرم، وعرضها للتجارة، ثم لم يلبث أن باعها في رمضان واشترى بقيمتها أغناماً وعرضها أيضاً للتجارة، فهل يبدأ الحول من جديد، أم يبقى على الحول الأول، أثابكم الله؟
الجواب
يقول بعض العلماء: إذا كانت تجارته من جنس وانتقل إلى جنس آخر فإنه يستأنف الحول، بشرط أن لا يقصد الفرار من الزكاة أو الاحتيال على الزكاة، وعليه فلو دخل في تجارة السيارات، ثم بعد ذلك تحوَّل إلى السائمة، قالوا: يستأنف الزكاة، بمعنى: يحسب حولاً جديداً من رمضان لهذا المال الجديد.
والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(95/14)
شرح زاد المستقنع - باب زكاة الفطر
فُرضت زكاة الفطر على المسلمين طهرة للصائم من اللغو والرفث، فهي مكملة للصيام، وطعمة للفقراء والمساكين وإغناء لهم عن السؤال في يوم العيد.
وهي مفروضة على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، فمن كان عنده فضل عن قوته وقوت عياله فيجب عليه أن يخرج عن نفسه وعمن تلزمه نفقته صاعاً من طعام.(96/1)
زكاة الفطر واشتقاقها ومشروعيتها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة الفطر].
تقدّم تعريف الزكاة، والفطر المراد به: الفطر من الصوم، وللعلماء رحمة الله عليهم في تسمية زكاة الفطر وجهان: الوجه الأول: أن الفطر هنا ضد الصوم، والمراد به الفطر من الصوم، أي: إكمال عدة رمضان، ودخول شهر شوال.
الوجه الثاني: أن المراد بالفطر من الفَطْر وهو الخلق، ومنه قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] أي: خلقهم وجبلهم عليها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)، وقوله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، قال ابن عباس: (ما كنت أعلم معنى هذه الآية - {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ} [فاطر:1]- حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئرٍ، فقال أحدهما: هي بئري وأنا فطرتها، فعلمت أن معنى فطر: خلق وأوجد)، ففي المخلوق أوجد وفي الخالق خلق.
فقولهم: زكاة الفطر، أي من الخلقة، وبناءً على ذلك يعتبرونها من زكاة البدن.
والأقوى: أن المراد بالفطر: الفطر من رمضان؛ لرواية ابن عمر في الصحيح: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان)، فأضاف الفطر إلى رمضان فصار مختصاً به، وخرج معنى الفَطْر وهو الخلق.
هذه الزكاة شرعها الله عز وجل، فمن العلماء من يقول: هي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، ومنهم من يقول: هي مشروعة بالسنة والإجماع.
فأما الذين يقولون: إنها مشروعة بالكتاب، فيحتجون بقوله سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، قالوا: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] أي: أدى زكاة الفطر، (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بالتكبير ليلة العيد؛ لأنه يشرع ذلك، (فَصَلَّى) أي: صلى صلاة عيد الفطر، فجعل الثلاثة الأمور مرتبة بعضها إثر بعض.
وقال بعض العلماء: إنها مشروعة بالسنة، وفيها حديثان: أولهما: حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان)، وثانيهما: حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين أيضاً، قال: (كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكذلك حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند الحاكم وغيره أنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر).
فهذه الأحاديث دلّت على مشروعية صدقة الفطر، ولذلك أجمع العلماء على مشروعيتها، والخلاف بينهم هل هي واجبة، أم مستحبة؟ فمنهم من يقول إنها مستحبة وليست بواجبة.
ومنهم من يقول: إنها واجبة.
فالذين يقولون بالوجوب هم جمهور العلماء رحمة الله عليهم من السلف والخلف، وذهب بعض العلماء -وهو قولٌ في مذهب الإمام مالك وشهّره بعض أصحابه من المتأخرين - إلى أنها ليست بواجبة.
والصحيح: أنها واجبة؛ لقول عبد الله بن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر)، والقاعدة: أن هذا اللفظ (فرض) يدل على الوجوب واللزوم؛ لأن الفريضة تعتبر لازمة لا خيار للمكلف في إسقاطها، فلا تعتبر في مقام المندوبات والمستحبات، وإنما هي في مقام الواجبات، ولذلك قال تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:11]، فالفرض يطلق بمعنى الواجب، ولا يطلق على المندوب والمستحب، فكان تعبير هذا الصحابي بقوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) دالاً على الوجوب.
لكن الظاهرية رحمة الله عليهم ينازعون في مثل هذا الحديث؛ ويقولون: يحتمل أن الصحابي فهم ما ليس بفرضٍ فرضاً، فلا يرونه دليلاً على الفرضية.
وجمهور الأصوليين ومنهم الأئمة الأربعة على أن الصحابي إذا قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه يدل على الوجوب؛ لأن الصحابة أعرف بالخطاب وأعرف بلسان العرب ومدلولاته، وهم قد شهدوا مشاهد التنزيل، فهم أعرف بأساليب الكتاب والسنة، مع ما لهم من العلم والدراية بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الأمر الذي يجعل ما ذكره الظاهرية -من احتمال فهم الصحابي ما ليس بفرض فرضاً- ضعيفاً، والقاعدة: (أن الاحتمالات الضعيفة لا ترد على النصوص، ولا تبطل أدلتها).
وعلى هذا فالصحيح أن قوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعتبر دالاً على الوجوب، وأن زكاة الفطر فريضة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، ويدل على هذا قوله بعد ذلك: (وأمر أن تُخرج قبل الصلاة)، كما في الصحيح، فقوله: (وأمر أن تخرج قبل الصلاة) يدل كذلك على وجوبها، وبناءً على ذلك تأكد القول بوجوب زكاة الفطر.(96/2)
سبب مشروعية زكاة الفطر
للعلماء رحمة الله عليهم في سبب مشروعية زكاة الفطر أوجه، فمنهم من يقول: شرع الله زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، والسبب في ذلك: أن الإنسان ضعيف، يعتريه ما يعتريه من الجهل، كما وصفه تعالى بالجهل والظلم: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فلا يأمن أثناء صيامه من الشتم، والرفث الذي يلغو به وغير ذلك من الخطايا التي لا تصل إلى حد الكبائر، فجعل الله صدقة الفطر مطهِّرة لهذا النقص الذي يعتريه في صيامه.
ومن العلماء من قال: إن صدقة الفطر شُرعت من أجل الضعفاء والمساكين، والسبب في هذا: أنهم إذا أُعطوا صدقة الفطر أُعينوا على الفرح بالعيد والسرور به، ولذلك ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أغنوهم عن السؤال يوم العيد وليلته) ولكنه ضعيف؛ إلا أن العلماء يقولون: معناه صحيح، والشرع يقصد إغناء الفقراء، بدليل أنه فرض هذه الزكاة وخصّها للفقراء والضعفاء.
ويقول بعض السلف رحمة الله عليهم: إن صدقة الفطر -بناءً على القول الأول- تكمّل الصوم وتجبر كسره، على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس وقد حسنه غير واحد من العلماء: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان طعمة للمساكين وطهرة للصائم من اللغو والرفث) فقالوا: إنه على هذا الوجه تكون صدقة الفطر بمثابة سجود السهو للصلاة، فإنه يجبر النقص فيها، وكالهدي في الحج، فإذا حج الإنسان متمتعاً أو قارناً فإنه يجبر النقص به، والسبب في ذلك: أن المتمتع كان ينبغي عليه بعد انتهاء عمرته أن يرجع إلى ميقاته ويُحرم بالحج؛ ولكنه أحرم بالحج من مكة فكان حجه نقصاً، ولذلك المكي لا يجب عليه دم؛ لأنه أحرم من الميقات في النسكين، فلذلك شُرع الدم جبراناً لهذا النقص، وهكذا القارن؛ لأنه في معناه، وعلى هذا قالوا: إنها -أي: زكاة الفطر- بمثابة الجبر للنقص في صيام المكلف على ظاهر الحديث الذي ذكرناه.(96/3)
على مَنْ تجب زكاة الفطر
قال المصنف رحمه الله: [تجب على كل مسلم، فضُل له يوم العيد وليلته صاع عن قوته، وقوت عياله وحوائجه الأصلية].
قوله رحمه الله: [تجب على كل مسلم] (تجب) أي: زكاة الفطر (على كل) (كل) من ألفاظ العموم، والعموم هذا يشمل صغار المسلمين وكبارهم وذكورهم وإناثهم، فالرجل يُخرج عن أهل بيته سواءً كانوا بالغين أو غير بالغين، كانوا ذكوراً أو إناثاً، أحراراً أو عبيداً، فيجب عليه أن يُخرج عنهم صدقة الفطر لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين) وقوله: (من المسلمين) حتى يخرج الكافر، فالكافر لا تجب عليه صدقة الفطر؛ لأنها شرعت للتطهير، والكافر لا يطهر، ويشمل هذا العموم في قوله: (كل) العاقل والمجنون، فلو كان في الأبناء أو البنات من هو مجنون وجبت عليه الزكاة وأُخرجت عنه، وفي الجنين وجهان: وقد أثر عن عثمان رضي الله عنه وسليمان بن يسار رحمه الله أنهم كانوا يخرجون عن الجنين، واستحب بعض السلف وبعض الأئمة كما نقل ابن الملقن وغيره في شرح العمدة: أنه يُخرج عن الجنين إذا تمت له أربعة أشهر؛ لأنه في حكم الحي حينئذ، ومنهم من اعتبر الأربعين يوماً، والأقوى الأول لما فيه من استتمام المدة لنفخ الروح لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيح.
وكذلك أن يكون المكلف الذي نخاطبه بزكاة الفطر، مالكاً قادراً على إخراجها، فلذلك اشترط المصنف رحمه الله أن يكون عنده فضل عن القوت، والفضل: هو الزائد، ومنه فضلة الطهور: أي الزائد بعد وضوئك وطهرك، وفي الحديث: (أنه شرب فضلة وضوئه) أي: ما زاد، ومنه فضلة الطعام.
وقوله: (فضل له يوم العيد وليلته صاع عن قوته وقوت عياله) فالرجل إذا كان وحيداً مسئولاً عن نفسه، نقول: لا تجب عليك زكاة الفطر إلا إذا ملكت ما تُخرج به زكاة الفطر زائداً عن قوتك، ولذلك يبدأ الإنسان بنفسه، فإذا كان المال الذي عنده لا يكفيه إلا لقوته، فليس من المعقول أن يطلب منه أنه يغني الفقير حتى يصير هو إلى الفقر، ولذلك يُبدأ به فيكف نفسه ويقوم بحوائج نفسه الأصلية، فإذا فضل بعد الحاجة شيء، حينئذٍ يُنظر في الزكاة ويُخاطب بها، وهكذا الحال إذا كان عنده أهل وعنده أسرة، فننظر في قوته وقوت زوجه وأولاده ومن تلزمه نفقته كالعبيد، فإذا كان هذا الرجل عنده -مثلاً- مائة ريال يحتاجها ليلة العيد لنفقته الأصلية، فحينئذٍ لا نطالبه بزكاة الفطر؛ لأنه لم يملك ما زاد عن قوته، بحيث يكلّف ويخاطب بالوجوب، أما لو كان يكفيه منها خمسون لحاجته الأصلية وقوته، فحينئذٍ نقول: أنت مخاطب بزكاة الفطر، فالشرط: أن يكون عنده فضلٌ عن القوت.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يمنعها الدين إلا بطلبه].
(ولا يمنعها الدين) قالوا: لأنها ليست متعلِّقة بالمال، وإنما هي متعلقة بالبدن، وبناءً على ذلك: إذا كان الإنسان مديوناً فإنه يجب عليه أن يُخرج زكاة الفطر إذا كان عنده فضلٌ عن قوته يمكنه أن يخرج به هذه الزكاة.
(ولا يمنعها الدين، إلا إذا طولب به) هذا استثناء، أي: في حالة واحدة يكون الدين مانعاً، وهي: إذا طالب صاحب الدين بدينه، فحينئذٍ تعارض حقان: حق الله وحق المخلوق، وحقوق الله مبنية على المسامحة بإجماع العلماء، وحقوق المخلوقين مبنية على المشاحة والمقاصة، وبناءً على ذلك قالوا: يبتدئ بسداد دينه وتسقط عنه الزكاة.(96/4)
إخراج زكاة الفطر عمن تلزمه نفقته
قال المصنف رحمه الله: [فيخرج عن نفسه وعن مسلمٍ يمونه ولو شهر رمضان].
فقوله: [فيخرج عن نفسه وعن مسلم يمونه] (عن نفسه)؛ لأنه مخاطبٌ بها أصالة، (وعن مسلمٍ يمونه) أي: يقوم على نفقته، وسيأتي إن شاء الله في باب النفقات بيان الضوابط التي يُحكم بها على الإنسان بوجوب النفقة على القريب، ونحو ذلك، والأصل في إيجاب زكاة الفطر على الإنسان فيمن تلزمه نفقته ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر)، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (عبده) قال جمهور العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب على السيد أن يُخرج الزكاة عن العبد، ولا نعرف في العبد شيئاً من جهة الإيجاب إلا كون السيد قائماً على نفقته، فلما كان قائماً على نفقته كان هذا معنىً مناسباً لشرعية الحكم بوجوب صدقة الفطر، ومن هنا قال العلماء رحمة الله عليهم: تجب صدقة الفطر عن الإنسان إذا قام بنفقة غيره، فلا يُطالب ذلك الغير بزكاته وإنما يطالب من تلزمه نفقته، وعلى هذا يؤديها عن عبيده، ويؤديها عن زوجته بالتفصيل المعروف في الزوجة، وذلك إذا دخل بها أو مُكِّن من الدخول فلم يدخل، فحينئذٍ تلزمه النفقة؛ لأن النفقة تجب للزوجة بالدخول، لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]، فأمر بالإنفاق على الزوجات بعد الدخول والاستمتاع، وعلى هذا فالدخول على صفتين: إما أن يكون حقيقياً، وإما أن يكون حكمياً، فإن كان حقيقياً فلا إشكال، وإن كان حكمياً كأن يقول أولياء المرأة: خذ زوجتك، أو يمكنوه من الدخول بها، ولكنه امتنع من ذلك، فحينئذٍ تنزَّل الزوجة منزلة المدخول بها في النفقات، وتلزمه حينئذٍ نفقتها، وعلى هذا: فلو خرجت عن هذا الوجوب بعلة -كما سيأتي إن شاء الله في النشوز- فحينئذٍ يجب عليها أن تخرج صدقة الفطر عن نفسها، وخالف الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه، فقال: بعدم وجوب زكاة الفطر على الزوج لزوجته، وقال: الزوجة تطالب بإخراج صدقة الفطر عن نفسها.
قال المصنف رحمه الله: [وعن مسلم يمونه ولو شهر رمضان].
(وعن مسلم) فخرج الكافر، (يمونه) أي: يقوم على نفقته ومئونته، (ولو شهر رمضان) فيدخل في هذا العامل، فلو أن عاملاً عند إنسان، فقال له: ألتزم بنفقتك، وحدد الطعام الذي يعطيه إياه مع الأجرة، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تصح هذه الأجرة، ومن أهل العلم من قال: لا يجوز أن يقول للعامل أستعملك شهراً وطعامك عليَّ؛ لأن الأصل في الإجارة أن تكون الأجرة معلومة، فإذا قال له: وطعامك عليَّ.
ولم يحدد ضوابط الطعام وقدره ونوعيته وقيمته، فحينئذٍ صارت الأجرة مجهولة؛ لأنه وإن أخذ -مثلاً- ألف ريال في الشهر؛ لكن هذا الطعام لا ندري كم يبلغ، فقد يظن العامل أنه من جيد الطعام فإذا به يعطيه من رديئه، أو من المتوسط، وبناءً على ذلك قالوا: قدر الطعام مجهول، فدخلت الجهالة في الأجرة؛ لأن الجهالة في الأجرة على ضربين: إما أن تكون في أصل الأجرة، كأن يقول له: ابن هذا الحائط وأُرضِيك، أو نتفق بعد ذلك، أو لا يكون إلا خيراً، فهذه جهالة متمحِّضة، لا يُدرى ما هو المال المدفوع، ولا تُدرى الأجرة ما هي؟ فهذه جهالة توجب فساد الإجارة بالإجماع.
النوع الثاني من الجهالة: أن تدخل على المعلوم، ومن أمثلتها: أن يقول له: اعمل في هذا المحل شهراً ولك ألف ريال وربع الخارج أو نصفه أو (5%) من الخارج، فحينئذٍ تكون (الألف) معلومة؛ لكن دخلت الجهالة بالنسبة المضافة إليها، وهذا ما يقال في الطعام، فإذا قال للأجير: اعمل عندي وطعامك عليَّ، فحينئذٍ إذا قال: طعامك عليَّ، وحدّد الطعام على وجه ترتفع به الجهالة فلا إشكال، فالأجرة صارت معلومة، فعلى هذا الوجه لو كان طعامه عليه بحدٍ معين واشتغل عنده في شهر رمضان، فحينئذٍ تتفرع على الأصل المستنبط من حديث أبي هريرة من وجوب الزكاة عليه عند من ذكرنا من العلماء رحمة الله عليهم.(96/5)
الترتيب في إخراج الزكاة عند العجز عن إخراجها عن الجميع
قال المصنف رحمه الله: [فإن عجز عن البعض بدأ بنفسه].
أي: فإن عجز هذا الرجل الذي خوطب بالزكاة، وعنده جماعة تلزمه مئونتهم ونفقتهم.
(إن عجز عن البعض) بمعنى: عنده زوجة وعنده أربعة أولاد ذكور وإناث، فحينئذٍ إذا جئنا ننظر إلى الزكاة وإذا بها تبلغ مائة ريال، والذي عنده خمسون ريالاً، فقد عجز عن البعض، وهذه هي صورة المسألة، فإذا عجز عن البعض، فكيف يرتب؟ وهذا من دقة المصنف رحمه الله، فبعد أن ذكر لك الأصل ذكر لك ما يطرأ على الأصل من وجود البعض دون الكل.
قال المصنف رحمه الله: [بدأ بنفسه فامرأته فرقيقه].
أي: يجب عليه أن يُخرج على هذا الترتيب، فيبدأ بنفسه لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأ بنفسك)، فيبدأ أول ما يبدأ بنفسه، ثم بعد ذلك بزوجته؛ لأن نفقتها متأصلة وليست بعارضة، بخلاف الأجير، أو المملوك، فإذا فضل بعد ذلك ينتقل إلى الرقيق.
قال المصنف رحمه الله: [فأمه فأبيه].
وهما الوالدان.
لكن هل يقدّم الأب، أم يقدّم الأم؟ الصحيح: أن الأم تقدّم، لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه سأله رجل فقال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، قال العلماء رحمة الله عليهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قدّم الأم على الأب، وجعل لها ثلاثة حقوق من أربعة، وجعل للأب ربعها، وذلك لعظيم ما للأم من فضل وإحسان وبر للولد، سواءً كان ذكراً أو أنثى، فعليه أن يبدأ بأمه قبل أبيه، وهذه مسألة مطردة، من أمثلتها: لو مات الوالدان ولم يحجا، فهل يبدأ بالحج عن أمه، أم عن أبيه؟ يبدأ بالحج عن أمه، ويقدمها على أبيه، وقس على هذا، ومنها: مسألة التعارض، فأمرته أمه وأمره أبوه، فأيهما يطيع؟ هذا يحتاج إلى تفصيل؛ لكن لو تساويا في المرتبة فالأم مقدمة على الأب، على تفصيل يذكره العلماء رحمة الله عليهم في باب البر.
قال المصنف رحمه الله: [فولده، فأقرب في ميراث].
(فولده) أي: بعد ذلك يقدم الولد، سواءً كان ذكراً أو أنثى، فيخرج عن أولاده إذا فضل شيء بعد الوالدين.
قال المصنف رحمه الله: [فأقرب في ميراث].
أي: بعد ذلك ينظر إلى الأقرب في الميراث، فابن العم إذا كان مشلولاً عاجزاً عن الكسب، ولزمتك نفقته، وهناك ابن عم ثان؛ لكن الأول ابن عم شقيق والثاني ابن عم لأب، فإن ابن العم الشقيق يُقدم على ابن العم لأب، وقس على هذا، فإن الإخوة الأشقاء يقدمون على الأعمام، فإذا كان هناك أخٌ شقيق عاجز عن الكسب وتلزمك نفقته وهناك عم شقيق، فتقدِّم الأخ الشقيق على العم الشقيق؛ لأن جهة الأخوة أقوى من جهة العمومة؛ ولأنه شاركك في أحد أصليك أو فيهما معاً، ولكن العم شارك أباك ولم يشاركك، ولا شك أن الأخ أقرب من هذا الوجه، ولذلك يقدم على العم، وغيره من مسائل الترتيب المعروفة، والتي تقدمت الإشارة إليها في باب الجنائز.
قال المصنف رحمه الله: [والعبد بين شركاء عليهم صاع].
فلو كان هناك رجلان يملكان عبداً واحداً نصفه لزيدٍ ونصفه لعمرٍ، فحينئذٍ على هذا نصف صاع وعلى هذا نصف صاع.(96/6)
إخراج الزكاة عن الجنين وعن المرأة الناشز
قال المصنف رحمه الله: [ويستحب عن الجنين].
لأنه فعل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ولم ينكر عليه أحد، وفعله بعض السلف أيضاً، وكان يفتي به سليمان بن يسار رحمة الله عليه، وقالوا: إنه يستحب إخراجه عن الجنين على التفصيل الذي ذكرناه، وذلك إذا استتمت له المدة أما إذا كان ناقصاً عنها فلا يستحب.
قال المصنف رحمه الله: [ولا تجب لناشز].
أي: ولا تجب صدقة الفطر عن ناشز وهي المرأة التي نشزت، والنشز: هو المرتفع من الأرض، كالهضبة ونحوها، والكدية ونحوها من الأشياء التي ليست على منبسط الأرض، ووصفت المرأة بكونها ناشزاً كأنها تعالت عن زوجها؛ لأن الله جل وعلا خصّ الرجال بفضائل وخصّ النساء بفضائل، فجعل للرجل فضل القيومية على المرأة، وذلك لما جعل فيه من الخصائص المعينة في ذلك، وجعل للمرأة ما جعل من اللين والرفق والدعة والسكون لكي يجبر الله نقص هذا بكمال هذا، ويكون في ذلك الخير للأولاد، بوجود الشدة إذا احتاج إلى شدة ووجود اللين والرفق إذا احتاج إلى اللين والرفق والحنان، فإذا كانت المرأة خرجت عن هذه الفطرة توصف بكونها ناشزاً، أي: تتعالى على زوجها، فإن أمرها لا تأتمر، وإن نهاها لا تنتهي، وإذا دعاها إلى فراشه امتنعت، والنشوز أبلغ ما يكون في الامتناع عن الاستمتاع، وهو الذي وردت فيه اللعنة -والعياذ بالله- فإذا نشزت عن زوجها أو ذهبت إلى بيت أهلها بدون إذن زوجها، وبدون إضرار من الزوج أيضاً، ففي هذه الحالة تسقط نفقتها، وحينئذٍ لا يُطالب الزوج بإخراج زكاة الفطر عنها، وإنما يطالب إذا كانت في طاعته وقائمة بحقوقه وتلزمه نفقتها.(96/7)
إخراج الزكاة بدون الإذن ممن أمر بالإنفاق عليه
[ومن لزمت غيره فطرته، فأخرج عن نفسه بغير إذنه أجزأت].
هذه المسألة صورتها: أن يكون الإنسان مطالباً بالزكاة عن شخص، ثم يُخرج هذا الشخص عن نفسه بدون إذن من أُمر بالإنفاق عليه، كأن تُخرج الزوجة بدون علم أو استئذان من الزوج، أو يخرج الولد إذا كان في نفقة أبيه بدون علم أبيه وبدون استئذانه -أما إذا استأذن فلا إشكال، فلو قالت الزوجة لزوجها: سأخرج صدقة الفطر، فلا إشكال- فللعلماء رحمة الله عليهم وجهان: بعض العلماء يقول: صدقة الفطر متوجه الخطاب فيها إلى هذه المرأة -التي هي الزوجة- ولكن أُسقطت عنها فوجِّه الخطاب إلى الزوج لوجوب النفقة عليه، فإن أخرجت الزوجة أجزأها لأنه الأصل، وعلى هذا درج المصنف.
ومنهم من يقول: الزكاة عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، وحينئذٍ لا يجزيها أن تُخرِج حتى تستأذن المطالب بها وهو الزوج، وهذا أقوى إعمالاً للأصول، ولذلك لو أن امرأة تملك حلياً، ثم أراد الزوج أن يُخرج زكاة حليها بدون علمها، فهذا بالإجماع لا يجزئ؛ لأن الزكاة لابد فيها من النية، وهي لم تنو الإخراج، ولم توكله بذلك، فصارت صدقة محضة، وكذلك هنا، فإنه إذا أخرجها بدون إذن المخاطب بها أصلاً، صارت من محض الصدقات، والورع أنه لابد من الاستئذان، ولا تصح إلا بنية على الوجه الذي ذكرناه.(96/8)
وقت وجوب زكاة الفطر
[وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر].
لقوله: (صدقة الفطر من رمضان) فأسند الصدقة إلى الفطر من رمضان، واختلف العلماء في وقت وجوبها: فقال بعضهم: تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان؛ لأنه إذا غابت شمس آخر يوم من رمضان فإن الليل محسوب لشهر الفطر، وهو شهر شوال.
ومنهم من قال: تجب بطلوع الفجر من يوم العيد؛ لأن الفطر لا يتحقق إلا بطلوع الفجر، وبناءً على ذلك يبتدئ فطره بطلوع الفجر.
ومنهم من يقول: بطلوع الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر عند غدُوِّه إلى المصلى، وكان غُدُوُّه بحيث تكون الشمس قد ارتفعت على قدر رمحين، فكان يصلي بالناس صلاة العيد في ذلك الوقت، ومعنى ذلك: أن خروجه سيكون -كما هو معلوم لمن قدّر المسافة بين مصلاه عليه الصلاة والسلام وحجراته- بعد طلوع الشمس.
وفائدة هذا الخلاف: أنه لو أسلم الكافر قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان فحينئذٍ تجب عليه صدقة الفطر، لماذا؟ لأنه يكون في حكم من أدرك رمضان، ويلزمه كذلك قضاء آخر يوم من رمضان إذا أسلم قبل غروب شمسه، وإذا قلنا: إن العبرة بطلوع الفجر، فحينئذٍ تتأقت بطلوع الفجر، فعلى هذا لو أسلم الكافر بعد غروب الشمس وقبل طلوع الفجر فلا تجب عليه الزكاة، وكذلك لو اشترى عبداً في هذا الوقت لا تجب عليه الزكاة أيضاً؛ لأنه دخل في ملكه ولم يوجد بعدُ سبب الوجوب أو سبب مخاطبته بالزكاة، وإنما تجب على سيده الأول، وقس على هذا بقية المسائل، فهذه فائدة الخلاف، هل تجب الزكاة بغروب شمس آخر يوم من رمضان، أم تجب بطلوع فجر يوم العيد، أم بطلوع الشمس فيه؟ والأقوى أنها تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان؛ لظاهر حديث ابن عمر: (صدقة الفطر من رمضان)، فأسندها إلى الفطر، لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185]، فإن إكمال العدة إنما يكون بمغيب شمس آخر يوم من رمضان، وعلى هذا فالعبرة بمغيب شمس آخر يوم من رمضان.
قال المصنف رحمه الله: [فمن أسلم بعده أو ملك عبداً أو تزوج أو وُلد له لم تلزمه فطرته].
لما ذكرناه في فائدة الخلاف في وقت الوجوب.
قال: [وقبله تلزم].
لأنه وجد السبب الموجب للوجوب.
قال المصنف رحمه الله: [ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط].
هذا ثابت في الصحيح أنهم كانوا يخرجون صدقة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين، ولا تجوز قبله بثلاثة أيام، وقال الإمام أبو حنيفة: يجوز إخراجها من أول رمضان؛ لأنه يرى أنها متعلقة بالشهر، وإذا وُجد السبب من أوله جاز الإخراج، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن الأصل إخراجها ليلة العيد، ولأن مقصود الشرع إغناء الفقراء ليلة العيد ويومه، وبناءً على ذلك يكون إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين رخصة، والأصل إخراجها في ليلة العيد ويومه قبل الصلاة.
قال المصنف رحمه الله: [ويوم العيد قبل الصلاة أفضل].
لأنه يحقق مقصود الشرع من إغناء السائلين، وإعفافهم عن المسألة.
قال المصنف رحمه الله: [وتكره في باقيه].
أي: وتكره في باقي اليوم، يعني بعد الصلاة، والكراهة هنا إما أن تكون تنزيهية أو تحريمية، والأقوى أنها تحريمية، فإذا أخرجها بعد الصلاة فإنها تعتبر صدقة من الصدقات ويأثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات).
ولقول ابن عمر في الحديث: (وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)، فدل على أنه يجب على المكلف أن يخرجها قبل الصلاة، وأن إخراجها بعد الصلاة يوجب الإثم للمخرج.
قال المصنف رحمه الله: [ويقضيها بعد يومه آثماً].(96/9)
القدر الواجب في زكاة الفطر
يقول المؤلف عليه رحمة الله: [ويجب صاع من بر أو شعير].
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان القدر الواجب من زكاة الفطر، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: (كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط) وهذا يدل على القدر الواجب في زكاة الفطر، وهو الصاع، والصاع النبوي أربعة أمداد، والمد: هو ملء الكفين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وهو الصاع الذي عنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها: (وكان يغتسل بالصاع)، وأما المد فإنه ربعه، فيقال: مدٌ ويقال: ربع صاع، كل ذلك بمعنى واحد، فيخرج صاعاً -أربعة أمداد- من بر أو شعير أو تمر أو زبيب أو أقط، وإذا كان هناك طعام تعارف الناس عليه كالأرز في زماننا، فإنه يخرجه ويجزيه؛ لأن مقصود الشرع إغناء السائلين بالطعام في هذا اليوم، ولا شك أن الأرز يقوم مقام المطعومات الموجودة على عهده صلى الله عليه وسلم، وهو يحقق مقصود الشرع من إغناء السائل في يوم العيد، ولذلك يخرج الإنسان منه ولا حرج عليه في ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [أو دقيقهما أو سويقهما].
إذا طُحن الشعير والبر فأخرج من دقيقهما أو سويقهما الذي طُحن ثم لُتَّ واستوى على النار ونضج، ثم بعد ذلك صار سويقاً، فيجوز أن يخرج منه صاعاً، سواءً هذا أو ذاك، والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الصاع من الطعام نفسه.
قال المصنف رحمه الله: [أو تمرٍ أو زبيب أو أقط، فإن عدم الخمسة أجزأ كل حب وثمر يُقتات].
فبيّن رحمه الله بهذا أن الحكم لا يختص بالإخراج من هذه الخمسة فقط، ولكن العبرة بالطعام، ويدل على ذلك حديث أبي سعيد: (كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام)، قالوا: وهذا يدل على العموم، وإن كان بعضهم يرى أن ما بعده مفسر له، والبعض يحمله على البر، وعلى العموم قال العلماء: العبرة بكونه يرتفق به مطعوماً، فإذا حصل ذلك فقد أجزأ.
قال المصنف رحمه الله: [لا معيب ولا خُبز].
أي: لا يجوز أن يخرج المعيب من الحبوب، فلو أخرج شعيراً فيه السوس، أو تغيّر أو تعفّن فلا يجوز له أن يخرجه؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد نهى الله عز وجل المسلم أن يقصد إلى الخبيث، والمراد بالخبيث من الطعام الرديء منه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]، فدلّ على أنه لا يجوز إخراج الرديء من الطعام، ويستوي في ذلك صدقة الفطر وغيرها من الصدقات الواجبة، فيخرجه من أوسط الطعام، لا يُطالب بالجيد الأعلى ولا يطالب بالرديء الأدنى، ولكن يخرج من المتوسط، والدليل على ذلك: أن الله نهى عن الرديء، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كرائم الأموال، فقال: (وإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم)، فيخرج من المتوسط، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، فلا يجزئ أن يخرج صاعاً معيباً، كأن يكون تمراً فيه سوس، أو طالت مدته حتى تغيَّر.
قال المصنف رحمه الله: [ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد وعكسه].
فلو أنه أخذ الصاع فقسمه بين أربعة مساكين لكل مسكين ربع صاع أجزأه، وهكذا لو قسمه بين مسكينين فأعطى كل مسكين نصف صاع أجزأه، فيجوز أن يُخرج ما للواحد للجماعة، ويجوز أن يخرج ما للجماعة للواحد، فلو أنه هو وأهل بيته يجب عليه إخراج خمسة آصع، فوجد مسكيناً فأعطاه الخمسة الآصع أجزأه ذلك، ولكن بشرط ألا يتوسع في حق المسكين على حساب غيره.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(96/10)
الأسئلة(96/11)
وجوب زكاة الفطر على من أفطر في رمضان
السؤال
هل تجب زكاة الفطر على من أفطر شهر رمضان كاملاً لعذرٍ شرعي كالحامل والمرضع وغيرهما؟ وهل إذا قضى صيام شهر رمضان تجب عليه الزكاة بعد ذلك، أي: هل زكاة الفطر تتعلق بالصائم دون المفطر، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن من أفطر في شهر رمضان فإنه يجب عليه أن يؤدي زكاة الفطر، سواءً كان معذوراً أو غير معذور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان، والمراد بذلك الزمان، وعلى هذا فإنه يخرجها وتجب عليه، ونصّ على هذا أهل العلم رحمة الله عليهم.
والقول بأنها تسقط عنه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (طعمة للمساكين، وطهرة للصائم من اللغو والرفث) ضعيف، والصحيح: ما نص عليه الجماهير من أنها شرعت طعمة للمساكين وغناءً لهم يوم العيد، وعلى هذا كونها تطهِّر الصائم من اللغو والرفث مشترك مع غيره من العلة الموجودة، ويجوز تعليل الحكم بعلتين على أصح أقوال الأصوليين، وحينئذٍ يستقيم أن يخاطب بها إعمالاً للأصل؛ لأنه أفطر من رمضان، والمراد أنه دخلت عليه ليلة العيد وهي ليلة الفطر من رمضان.
ألا ترى أنهم نصوا على أنه لو أسلم الكافر قبل مغيب الشمس ولو بلحظة أنه تجب عليه زكاة الفطر مع أنه لم يصم، وبناءً على ذلك لا يشترط أن يكون قد صام، بل زكاة الفطر واجبة على من صام أو أفطر بعذر؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يُخرجوا زكاة الفطر، ولم يفصِّل، حيث لم يقل: (من أفطر شيئاً من رمضان فلا زكاة عليه)، ولم يقل: (من كان شيخاً كبيراً فأفطر فلا زكاة عليه)، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، وبناءً على ذلك يجب عليه أن يؤدي الزكاة، سواءً كان مفطراً أو كان صائماً.
وأما ما ذكرته من كونه يؤخرها إلى القضاء، فهذا لم يقل به أحدٌ من العلماء.
والله تعالى أعلم.(96/12)
إخراج القيمة في زكاة الفطر
السؤال
هل يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، لا سيما وأنها أحياناً قد تكون أحب للفقير، أثابكم الله؟
الجواب
اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: فجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز أن يُخرج القيمة بدل الطعام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من الطعام؛ ولأن النقد كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر بإخراج النقد بدل الطعام؛ ولأن الطعام يأخذه المحتاج ولا يأخذه غير المحتاج، وأما النقد فيأخذه المحتاج وغير المحتاج؛ ولأن المقصود أن يغنيهم بالطعام، بخلاف ما إذا أعطاهم المال فبذَّروه في غير ما مصلحة، فلا شك أن أخراج الطعام أولى للأثر وللنظر، وقد كان الخلفاء الراشدون من بعد النبي صلى الله عليه وسلم يُخرجون صدقة الفطر ويأمرون بها، وما حُفظ عن واحد منهم أنه اجتهد فأمر الناس بإخراج القيمة، وبناءً على ذلك فإنه لا يجوز إخراج القيمة.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى جواز إخراج القيمة، واحتج بدليلين: أولهما: حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا بعثه إلى اليمن قال لأهل اليمن: (ائتوني بخميصٍ أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) قالوا: فطلب البدل في الزكاة، فدل على جواز إخراج القيمة بدلاً عن الطعام، كما طلب الثياب بدلاً عن الورِق، إذاً: يجوز أن يأخذ الورق أو الذهب بدل الطعام، وهذا الدليل أُجيب عنه بأنه في الجزية، وقوله (ائتوني بخميص أو لبيس) إنما هو في الجزية وليس في الزكاة، وبناءً على ذلك لا يعتبر دليلاً على جواز إخراج البدل في الزكاة.
وأما الدليل الثاني فحديث ابن عباس: (اغنوهم عن السؤال ليلة العيد ويومه)، وهذا حديث تكلّم العلماء في سنده، وقوله: (اغنوهم) لا يدل على التأقيت والتحديد بالنقد؛ لأنه لو أُخذ قوله: (اغنوهم) على ظاهره من النقد لعارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا قال: (اغنوهم) وأمر بإخراج الطعام دل على أن المراد بذلك الاستغناء والكفاية عن السؤال بوجود الطعام؛ لأنه إذا وجد الطعام اندفعت الضرورة، وهذا هو الصحيح.
وعليه فلم يقم دليل قوي على إخراج النقد، وقد يقولون: إن النقد أرفق؛ لأن المسكين يأخذ الزكاة ويبيعها، فبدل أن يبيعها بقيمة قليلة فلنعطه القيمة الأصلية، فهذا أفضل.
ولا شك أن هذا مردود عليه؛ لأن الثواب بالطعام أبلغ وأعظم أجراً من الثواب بالمال؛ لأن الطعام إذا أكله تحققت من حصول النفع له، وإذا باعه كان التفريط داخلاً منه، ولذلك قالوا: إنه يرتفق بالطعام أكثر من ارتفاقه بالنقد، وهذا صحيح؛ لأنه قد يأخذ النقد ويكون سفيهاً لا يحسن التصرف فيه.
وبناءً عليه فإنه لا يجوز إخراج النقد بدل الطعام في صدقة الفطر.
والله تعالى أعلم.(96/13)
شرح زاد المستقنع - باب إخراج الزكاة
الزكاة شأنها عظيم، ولذلك يجب على الإنسان أن يبادر بأدائها على الفور وألا يتأخر في ذلك، إلا إذا وجد الضرر، فيجوز له أن يتأخر إلى زواله.
والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، ولذلك فإن من منعها جاحداً لوجوبها وهو عارف به فقد ارتد عن دين الإسلام، ويجب أخذها منه وقتله، وأما منع الزكاة بخلاً بها فهو من كبائر الذنوب، وكفران لنعمة الله عز وجل، وهو مؤذن بزوال الأموال ومحق بركتها، ويجب على الوالي أخذها منه وتعزيره.(97/1)
وجوب إخراج الزكاة في وقتها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب إخراج الزكاة].
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بصفة إخراج الزكاة الواجبة، وذلك أن إخراج الزكاة، فيه بعض المسائل التي تتعلق بالمُخرج، وكذلك بالنسبة لمن يُعطى الزكاة، فناسب أن يُفردها رحمه الله بهذا الباب.
[ويجب على الفور].
أي: ويجب إخراج الزكاة على الفور، والفور: ضد التراخي، ومعنى هذه العبارة: أن المسلم إذا أوجب الله عليه زكاة ماله؛ فإنه يجب عليه أن يخرج الزكاة في وقتها، كما قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، فلذلك يجب عليه أن يبادر، وأن يمتثل أمر الله عز وجل، فيُخرج الزكاة فوراً ولا يتأخر، قال العلماء: الأصل في الأمر أنه يقتضي الفور، إلا إذا دل الدليل على التراخي، فإنه إذا قال السيد لعبده: قم، فتأخر في القيام ساعة استحق أن يعاقبه، قالوا: فهذا يدل على أن صيغة (افعل) تقتضي الفورية، ولذلك نص الأصوليون على وجوب المبادرة بفعل الأوامر، وأنه لا يجوز التأخر إلا إذا أذن الشرع بالتأخير والتراخي.
فمثلاً: إذا زالت الشمس توجه الخطاب بصلاة الظهر، ووجب على المسلم أن يصلي أربع ركعات، ولكن الأمر فيه شيءٌ من التراخي؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما بين هذين وقت) فجعله مخيراً، وهذا يدل على أنه يجوز له أن يتأخر، إلا إذا كانت هناك جماعة ونادى المنادي، فيجب عليه السعي إليها.
فالشاهد: أن الأوامر ينبغي أن يبادر المكلف بفعلها، والزكاة من جنس الواجبات والفروض التي أمر الله، فلا يجوز له أن يؤخرها؛ ولأنه إذا أخَّرها أضر بالفقراء والضعفاء والمساكين، ومن هنا تتفرع مسائل: منها: أن بعض الوكلاء يأخذون الزكاة بقصد إعطائها للفقراء والمساكين، فتمكث الزكاة عندهم بالأيام، بل بالأسابيع، بل بالشهور، وقد تتأخر إلى سنة كاملة، وهذا من الظلم وصاحبه آثم، والسبب في ذلك: أن من أخذ الزكاة يريد إنفاقها، فينبغي عليه أن يكون على بصيرة بالمستحقين، ويكون عنده ديوان أو كتاب يحدد فيه الأشخاص الذين يريد أن يصرف الزكاة إليهم، فإن كان الأشخاص المسجلون عنده يبلغون -مثلاً- خمسة أشخاص وتجزيهم الخمسة آلاف، فلا يجوز له أن يأخذ عشرة آلاف ويعطل ما تبقى منها حتى يبحث عن مستحق، بل يأخذ بقدر ما يعلم من الفقراء والضعفاء.
وهذه المسألة يخلط فيها الكثير، وتضيع بسببها حقوق، وقد يبقى الضعفاء والفقراء محرومون من أموال كثيرة مجمدة، وهذا لا يجوز، بل ينبغي على الإنسان إذا توكّل بالزكاة أن يأخذ بيد وأن يعطي بأخرى، مبادرة للامتثال بأمر الله عز وجل، ولا يجوز التأخير إلا في حدود ضيقة، وكان بعض العلماء والفضلاء من مشايخنا رحمة الله عليهم ممن أدركناهم لا يستطيع أن ينام أحدهم ليلته وعنده شيء من الزكاة، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في قصة الدينارين أنه تخطّى الرقاب بعد صلاة الفجر مهموماً مغموماً، وقال: (ما ظني لو أني مت وعندي هذان الديناران؟!)، فهذا يدل على عظم أمر الزكاة، وكون الإنسان يأخذ العشرة آلاف والعشرين الألف ويجمدها في رصيده أو يضعها في بيته، والفقراء يكتوون بالجوع، والمديونون والمعسرون يُهانون ويُذلُّون بذل الدين وهوانه، فإن الله سيحاسبهم على ذلك كله، ولا يجوز له أن يفعل ذلك، بل ينبغي أن يتشدد في هذا الأمر على نفسه، ولا يأخذ الزكاة إلا وقد علم بأهلها، وإن استطاع أن لا يبيت وعنده شيءٌ منها، فذلك هو الحسن والأكمل، أما ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من كونه أعطى الصدقة لـ أبي هريرة ليحفظها فهذا أمر يرجع إلى قسمته عليه الصلاة والسلام للضعفاء الذين كانوا يأتونه من القرى، وهذه أحوال استثناها العلماء.
وكذلك بالنسبة لصاحب المال إذا أراد أن يُخرج زكاة ماله، فلو فرضنا أن زكاة ماله عشرة آلاف ريال، وهو يريد أن يُخرجها بنفسه، فعليه أن يتحرى قبل نهاية الحول، فيكتب الضعفاء والفقراء، حتى إذا انتهى الحول أوصل لكل ذي حق حقه، أما أن يبقيها مجمدة عنده، ويتحرى ويتأخر ويماطل، فهذا لا يبعد أن يكون كالذي قبله، ولذلك نبّه العلماء على أنه ينبغي على من توكّل بالزكاة أن يتقي الله في حقوق الضعفاء والفقراء، فإن الله جعل الزكاة حقاً، ولم يجعل لأحد فيها منّة على الضعيف والفقير، فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، فجعله حقاً واجباً، حتى إن بعض العلماء يقول: لا ينبغي للغني إذا أعطى الفقير أن يرفع يده عليه، حتى لا يشعره بالذلة؛ لأن هذا حقٌ واجب، وليست بصدقة نفل.
فالزكاة أمرها عظيم، فينبغي أن يبادر الإنسان بأدائها على الفور، وأن يُنصح كل من يأخذ الزكاة، سواء كان يأخذها على سبيل الأفراد أو على سبيل الجماعة ألا يتأخر فيها، وأن يبادر بإخراجها لأهلها.(97/2)
جواز تأخير إخراج الزكاة للضرورة
يقول المصنف رحمه الله: [مع إمكانه].
(مع إمكانه) الإمكان: ما في وسع الإنسان، فإذا كان يمكنه وفي وسعه أن يبادر بادر، لكن لو جاءه ظرف لا يستطيع معه أن يتمكن من إخراج الزكاة، وهو شيءٌ يقهره ويمنعه من المبادرة بها، فحينئذٍ له أن يتأخر إلى أن يتمكن، والأصل في ذلك أن الله عز وجل كلّف العباد بما في وسعهم، ولم يكلِّفهم بما هو خارج عن وسعهم، ومن هنا قعّد العلماء القاعدة التي تقول: (التكليف شرطه الإمكان)، وهذه قاعدة مستنبطة من قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فإن كان بإمكانه أن يبادر بالإخراج لزمه الإخراج فوراً، وإن كان لا يمكنه إلا بعد ساعات، أو بعد أيام، أو بعد أسابيع، فيعذر بقدر الضرورة التي ضيقت عليه أو منعته من المبادرة بامتثال أمر الله عز وجل بإخراج الزكاة.
[إلا لضرورة].
أي: إلا إذا وجد الضرر، فإذا وجد الضرر جاز له أن يتأخر إلى زواله، كأن يعلم بأهل بيت هم مساكين أو فقراء، ولكن الطريق الذي يريد أن يذهب فيه بهذه الزكاة فيه ضرر، فيؤخِّر إلى زواله، حتى يعطي المستحق حقه، كأن يخشى من لصوص أو قطع طريق أو نحو ذلك من الأسباب، فحينئذٍ يجوز له أن يؤخر خوفاً من هذا الضرر، ويستوي في ذلك أن يكون الضرر متعلقاً به أو متعلقاً بماله أو متعلقاً بأهله وولده، فهذه الأحوال يجوز له أن يؤخر فيها، ولا يجوز له أن يؤخر إلا عند خوف الضرر الذي يصل به إما إلى مرتبة الحاجيات أو مرتبة الضروريات، ومرتبة الضروريات كأن يخاف على نفسه الهلاك، ومرتبة الحاجيات دونها، فلا يخاف الهلاك والموت، ولكن يخاف الضرر والإجحاف، كمذلة ومهانة لا تليق بمثله، ونحو ذلك، فإن نزلت نظرنا، إن وصلت إلى قدر الحاجيات ساغ ذلك للقاعدة: (الحاجة تنزل منزلة الضرورة)، وإن كانت دون مرتبة الحاجة والضرورة فلا يجوز تأخيرها، ومن توسع في تأخير الزكاة أثِم.
والأصل في إسقاط الإخراج الفوري لوجود الضرر: أن الشريعة لا تأمر بالضرر، فلو كان هناك ضررٌ في الإخراج الفوري، وقلنا للمكلف: أخرجها فوراً، فقد أُمر بالضرر، والله لا يأمر بالضرر، ولذلك ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار)، وهذا يدل على أن الضرر لا يأمر به الشرع، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، والضرر فيه حرج، ولذلك لا يأمر الله عز وجل بما فيه حرج، فإذا كان إخراجه للمال فوراً فيه حرج وضرر عليه، نقول أخِّر حتى يزول الضرر، للقاعدة: (أن ما شُرع لحاجة بطل بزوالها)، فإذا زال الضرر أو ذهب تزول معه الرخصة، فحينئذٍ يجب عليه الإخراج فوراً.(97/3)
حكم من جحد وجوب الزكاة
قال رحمه الله: [فإن منعها جحداً لوجوبها كفر عارف بالحكم].
(فإن منعها) أي: الزكاة، (جاحداً لوجوبها) -نسأل الله السلامة والعافية- قيل له: أدِّ زكاة مالك، فإن الله فرض عليك الزكاة، فقال: لا زكاة، أو طرد الذي بعثه الوالي لجلب الزكاة، وقال: لا أريد أن أخرجها، وليست هناك زكاة، فقال له: اتق الله، فإن الله فرض عليك الزكاة، فقال: الزكاة غير مفروضة -نسأل الله السلامة والعافية-، فجحد أن الله أوجب على عباده زكاةً، فهذا يعتبر كافراً بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن الإنكار للمعلوم من الدين بالضرورة يقتضي الكفر، فمن أنكر فرضية الصلاة أو فرضية الزكاة فإنه يعتبر كافراً بإجماع المسلمين، وهذا يسميه العلماء: إنكار المعلوم من الدين بالضرورة.
وخصّ المصنف التكفير بحالة ما إذا كان عالماً كأهل الردة، فإنهم لما ارتدوا على عهد أبي بكر رضي الله عنه بعدما توفِّي النبي عليه الصلاة والسلام قالوا في سبب ردتهم حينما منعوا الزكاة: مات الذي أُمرنا بدفع الزكاة إليه، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن الله يقول: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]، وما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي علينا.
يستخفُّون بـ أبي بكر رضي الله عنه، يقولون: إن الزكاة إنما أوجبها الله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول له: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103] فخصّ الخطاب به، وغفلوا أن هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم والأمر له أمرٌ لأمته بالتبع، فأنكروا فرضية الزكاة على هذا الوجه، ومن هنا كفروا، ولم يكفروا لمنع الزكاة؛ لأن مانع الزكاة لا يكفَّر إلا إذا جحد، وأهل الردة جحدوا، ومن هنا قال أبو بكر: (والله لو منعوني عناقاً -وفي رواية: عقالاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه)، فإذا منع وأنكر فقد كفر.
لكن اشترط العلماء في تكفير من جحد الزكاة، أن يكون عارفاً بوجوب الزكاة، عالماً به، فإذا كان جاهلاً أن الزكاة مفروضة، وقال: ليس هناك زكاة، وأنكر لجهله لم يكفَّر.
ومن أمثلة ذلك: حديث العهد بالإسلام، فلو أن رجلاً أسلم وعنده تجارة، ثم حال عليها الحول، فجاء المصدِّق والمزكي، فقال له: أد الزكاة، فقال: أي زكاة.
ليست هناك زكاة، فأنكر الزكاة لجهله بالإسلام، وعدم علمه، فيعرَّف مثل هذا ويعلّم، ولا يحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة.
[وأخذت منه وقتل].
أي: وأُخذت من الذي منع وجحد وقُتل، فهناك حكمان يتعلقان بمن منع جحوداً -والعياذ بالله-: أولهما: أخذ الزكاة منه؛ لأن الزكاة متعلقة بالفقراء، وحقٌ للفقراء والمساكين، فكونه يرتد، لا يمنع أن نأخذ الحق الواجب في ماله، كما لو ارتد وعليه دين للمسلمين، فإننا نأخذ من ماله سداداً لدين المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فدين الله أحق أن يقضى)، فالزكاة حقٌ لله عز وجل في ماله، وهو دين واجب عليه أن يؤديه، وقد صرّح النبي صلى الله عليه وسلم بكون الحقوق ديناً على المكلف، فإذا امتنع من أدائها قوتِل وأُخذَت منه، وإذا جحدها قُتل وأخذت منه، أي: من ماله؛ لأنها دينٌ للفقراء والمساكين، فوجب أن يؤخذ هذا الدين ويعطى لأصحابه المستحقين.
الحكم الثاني: أنه يقتل، ويستتاب المرتد ثلاثاً -كما سيأتي إن شاء الله في أحكام المرتدين- فإن تاب وإلا قتل، وهل يشمل ذلك مانع الزكاة، أو لا يشمله؟ فيه كلام للعلماء رحمة الله عليهم، ووجّه بعض العلماء أنه يقتل مباشرة.(97/4)
حكم من منع أداء الزكاة بخلاً
قال رحمه الله: [أو بخلاً أُخذت منه وعزر].
أي: (أو منعها بخلاً، فقال: الزكاة واجبة، فقيل له: أد الزكاة، قال: لا أؤديها، فهو مقرٌ بوجوبها، ولكنه بخل بها -نسأل الله السلامة والعافية-، وهذا من أسوأ ما يكون من العبد أن يكفر نعمة الله عليه، وأن يجحد ويبخل بما آتاه الله من فضله، ولذلك آذن الله أموال البخلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله أن يمحق بركتها، وقد يسلبهم بها فيكويهم بنار سلبها في الدنيا: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفِّحت له صفائح من نار، يكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيد عليها فأحميت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها فصيلاً، يجدها أوفر ما تكون، تطؤه بأخفافها وتعضه بأنيابها، كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار).
فمنع الزكاة والبخل بها من كبائر الذنوب، ولذلك يؤذن الله أهل المنع بمحق البركة من أموالهم، ويعذبهم بها، فتزهق أنفسهم.
فما من إنسان يمتنع من أداء حق الزكاة إلا ضيق الله عليه كما ضيق على الفقراء، وتجده في ضيق ونكد من العيش، ولو كانت أموال الدنيا تصب في حجره؛ لأن الله أصابه بزهق النفس؛ بسبب بخله بما آتاه الله من فضله، وقد يعاقبه الله بعقوبة في دينه، فيفتنه أو يبتليه بنفاق، فيختم له بخاتمة السوء -والعياذ بالله-: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبة:77]، فهذا يدل على أن التمرد على الله وكفران نعمة الله عز وجل يؤذن بزوال الأموال، كما في قصة الأقرع والأبرص والأعمى؛ فإنه لما جحد الأقرع والأبرص وبخلا بفضل الله عز وجل عليهما وعندما: (جاء الملك إلى الأعمى في صورته وقال له: ابن سبيل منقطع، فقال له: دونك الوادي، وفيه الغنم فخذ منه ما شئت، فقد كنت فقيراً فأغناني الله، والله لا أرزؤك من مالي اليوم شيئاً -وهذا حال أهل الوفاء-، فقال: أمسك عليك مالك فقد هلك صاحباك)، فهذا يدل على أن من بخل -والعياذ بالله- فإن الله سبحانه وتعالى يؤذن ماله بالهلاك.
ومن البخل: البخل بنعم الله الأخرى، فلا يختص الحكم بالبخل بنعمة المال فقط، بل حتى البخل بنعمة العلم، في تعليم الجاهل إذا سأل وتوجيهه، فهذا أيضاً من أعظم البخل، وقد كان بعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، قال: فكيف بمن حبس طعام الروح؟!! والمراد بذلك تعليم الناس وتوجيههم.
فالمقصود: أنه لا يجوز للإنسان أن يبخل بما آتاه الله من فضله، ومن ذلك البخل بالزكاة، نسأل الله السلامة والعافية! [أُخذت منه وعزِّر].
أخذت منه قهراً، أي: بالقوة والغصب، (وعزِّر)، للعلماء قولان: منهم من يقول: تؤخذ وشطر المال، عقوبة وعزمة من عزمات الله عز وجل.
ومنهم من يقول: تؤخذ الزكاة وحدها.
وجمهور العلماء يقولون: تؤخذ الزكاة وحدها؛ لأن الأصل في أموال المسلمين أنه لا يجوز أخذها إلا بحق، فهذا منع الزكاة وهي حق فنأخذ الحق وحده، ولم يروا ثبوت الحديث في التعزير بأخذ شطر المال.
وأما من قال: يؤخذ شطر المال فلقوله عليه الصلاة والسلام عمن منع الزكاة أي: الزكاة، لما منعها قال: (إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا)، قالوا: فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ الزكاة وشطر المال، وللعلماء في شطر المال قولان: منهم من يقول: شطر ماله كله، فلو كان عنده ذهب وفضة وإبل وغنم وبقر وعروض تجارة، فمنع إخراج الزكاة من عروض التجارة أو من الإبل، قالوا: نأخذ نصف ثروته كلها من عروض التجارة ومن غيرها، فلو كانت ثروته كلها عشرة ملايين فنأخذ نصفها وهو: خمسة ملايين، عزمة من عزمات الله عز وجل؛ لكفرانه لنعمة الله عز وجل عليه.
ومنهم من يقول: يؤخذ شطر المال الذي منع إخراج الزكاة منه، فإن كان عنده -كما ذكرنا- عروض تجارة، وإبل وبقر وغنم وذهب وفضة، ومنع إخراجها من الذهب أُخذ نصف الذهب الذي عنده، وإن منع من عروض التجارة أُخذ نصف عروض التجارة التي عنده.
والصحيح الأول: أنه يؤخذ من نصف المال كله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا آخذوها وشطر ماله)، وهذا يدل على أنه شطر المال كله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الأخذ من المال الذي منع منه المانع، فدل على أنه يؤخذ نصف المال كله، وهذا هو الأقوى.
وبعض العلماء يقول: الأمر يرجع إلى الوالي، فإن رأى أن تعزير هذا لمنعه وجيه عزّره بشطر المال، وإن أراد أن يخفِّف عنه لمصلحة يراها فلا حرج عليه في ذلك.(97/5)
زكاة مال الصبي والمجنون
قال رحمه الله: [وتجب في مال صبيٍ ومجنون].
أي: (وتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون) الصبي: من الصبا، والصبا: هو الطور الذي يسبق البلوغ، والبلوغ يكون بوصول الإنسان، بلغ الشيء إذا وصله، وسمي البلوغ بلوغاً؛ لأن الإنسان يصل فيه إلى طور العقل.
فإذا كان الذي يملك المال صبياً، ومثال ذلك: لو مات رجلٌ وعنده ثروة، وخلّف ابنين، وقُسمت الثروة عليهما، ونصيب كل واحد منهما قد بلغ النصاب، وكان الصبيان دون البلوغ، فهما يتيمان،
و
السؤال
هل نقول: إن اليتيم غير مكلّف، فكما أنه لا تجب عليه الصلاة لا يجب عليه أن يزكي، أم أننا نقول: إنه تجب عليه الزكاة في ماله؟ للعلماء قولان: الجمهور على وجوب الزكاة في أموال اليتامى، وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: لا تجب، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن الزكاة حق متعلق بالمال، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103]، وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهو المأمور باتباع سنته- أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها الصدقة)، وهذا قد قاله بمسمعٍ ومرأى من فقهاء الصحابة؛ لأن عمر رضي الله عنه كان يمنع فقهاء الصحابة من الخروج من المدينة حتى إذا أرادوا أن يخرجوا للجهاد منعهم؛ خوفاً من نزول المسائل والنوازل، فإنه كان يستشيرهم، ومع ذلك قال هذه الكلمة ولم ينكر عليه أحد، فدلّ على أن الزكاة حق متعلق بالأموال، وليس متعلقاً بالمكلَّف نفسه، بمعنى: أنه يسقط على من كان غير مكلَّف كالصبي والمجنون.
وعلى هذا فتجب الزكاة في مال الصبي ومال المجنون؛ لأن الصبي إذا كان عليه دين للمخلوق وجب عليه أن يؤديه، فكذلك الزكاة هي دين وحق لله في أموال الناس، فيجب عليه أن يخرجه، ولا تتعلق الزكاة بالبلوغ.(97/6)
من يتولى إخراجها
قال رحمه الله: [فيخرجها وليهما].
الصبي والمجنون كلٌ منهما كما هو معلوم لا يُحسن التصرف في أمواله، فالصبي لو مات أبوه وترك له عقاراً فأراد أن يبيعه لما أحسن بيعه، وربما يبيع الذي (بمائة) (بعشرة) فهو لا يُحسن الأخذ لنفسه، ولو أراد أن يشتري شيئاً يشتهيه، وقيل له: هذا الشيء الذي تشتهيه لا نعطيكه إلا (بمائة)، وقيمته (عشرة) لاشتراه (بالمائة)؛ لأنه ليس عنده عقل يمنعه، ولذلك قالوا: لا يؤمن على ماله، فحجر الله على اليتامى، وعلى السفهاء رحمة بهم؛ لأنهم لا يحسنون الأخذ لأنفسهم ولا الإعطاء لغيرهم، وهذا النوع من الحجر يسميه العلماء: الحجر لمصلحة المحجور، وهناك نوع ثانٍ وهو: الحجر لمصلحة الغير كالمفلس.
فإذا حُجر على الصبي أو على اليتيم أو على المجنون، فمن الذي يُخرج الزكاة من أموالهم؟ يُخرجها الولي، والولي: شخصٌ يقيمه القاضي للنظر في مصلحة مال اليتيم والمجنون، فمثلاً: إذا توفي الأب نظر القاضي في ورثته وفي أقربائه، فإن وجد عم الصبي عاقلاً حكيماً رشيداً ديِّنا أميناً، وضع الأموال عنده، وهذا العم الذي يُنصَّب من القاضي ولياً عن اليتيم، هو الذي يبيع له ويشتري له، فلو رأى المصلحة أن يبيع بيوته باعها، ولو رأى المصلحة أن يشتري له عقاراً اشتراه، فيتصرف في ماله فيما فيه المصلحة، ولذلك قال عمر: (اتجروا في أموال اليتامى)، فجعل الأولياء مكلَّفين، وخوّل لهم أن يقوموا بالتجارة في أموال اليتامى طلباً لمصلحة الربح والنماء، فعلى هذا يُخاطب الولي بإخراج الزكاة، وكلما حان وقت وجوبها نظر إلى قدرها فأخرجه من المال وزكاه.(97/7)
بعض أحكام إخراج الزكاة
قال رحمه الله: [ولا يجوز إخراجها إلا بنية].
أي: ولا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية، ولما كان الباب معقوداً لأحكام الإخراج يرد
السؤال
هل يصح الإخراج بدون نية، أو لا بد من النية؟
و
الجواب
أنه لا بد من النية؛ لقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، والزكاة عبادة، ولما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات)، والزكاة عمل، فدلّ على أن الزكاة لا تصح إلا بنية، وعلى ذلك اتفق العلماء رحمة الله عليهم، وبناءً عليه: فلو أن إنساناً وجبت عليه الزكاة ألف ريال، فمرّ عليه مسكين وشكا له حاجته، فأعطاه الألف ريال شفقة عليه، ولم يتذكر أن عليه زكاة ألف ريال، وبعد أن ذهب المسكين تذكّر أن عليه زكاةً وهي ألف ريال، فنوى أن هذه الألف الماضية، قائمة مقام الزكاة فهذا لا يجزئ؛ لأن شرط النية أن تكون مصاحبة للعمل أو سابقة عنه باليسير الذي لا يضر، بمعنى: لا يوجد الفاصل الذي يضر، وبناءً على ذلك فلا بد من النية.(97/8)
الأفضل للمزكي أداء الزكاة بنفسه
قال رحمه الله: [والأفضل أن يفرِّقها بنفسه].
أي: والأفضل والأكمل أن يفرق زكاته بنفسه؛ لما فيه من كمال الطاعة لله عز وجل، ولما فيه من المشقة والتعب الذي يأجره الله عليه، ولما فيه من الطمأنينة بوصول الحق إلى مستحقه، ولما فيه من خلو المسئولية بين يدي الله عز وجل، فإنك لو أعطيت زكاة مالك لرجل وقلت له: أخرج هذه الزكاة للفقراء.
وهذا الرجل ضيَّع هذه الزكاة، فأنت مسئول بين يدي الله عنه، حتى ولو كان أميناً، فإن الله يسألك عن أمانته، لم أعطيته؟ ولذلك لا يجوز أن يوكِّل الإنسان بالزكاة إلا إذا كان على غلبة ظن بأمانة من يؤدي إليه وحفظه وقيامه بأداء الزكاة على وجهها، فلو كان أميناً ولكنه متباطئاً كسولاً يتأخر في أداء الحقوق، فأدّى الزكاة إليه وهو يعلم أنه متكاسل، فتباطأ وتكاسل، فإنه يأثم كإثمه؛ لأنه أعانه على الظلم وتأخير الحق عن مستحقه.
إذاً الأفضل والأكمل خلواً من المسئولية وعظماً في الأجر أن يقوم بنفسه بأداء الزكاة، ولما فيه من تحصيل دعوة الفقراء والضعفاء، ولدعوات الفقراء والضعفاء لذة يعرفها من وجدها، فإنه لربما دعا له مسكين مستجاب الدعوة، أن يبارك الله له في ماله، ولما فيها من جمع القلوب، ولذلك يُحس الفقراء بعطف الأغنياء عليهم، ولكن إذا جاء وكيل الغني، وأعطاها إليه، لم يشعر بذلك العطف والحنان، ولكن أن يأتيه إلى داره، ويعطيه بنفس سمحة، ويُظهر له العطف والحنان، فذلك أبلغ في حصول الألفة والمحبة والترابط والتراحم بين المسلمين، وهذا مقصود شرعاً، ولذلك تجد الغني الذي يتولى زكاة ماله بنفسه مباركاً له، وكثيراً ما يجد من دعوات الخير، وكلّما فرجت الزكاة عن مكروب ومنكوب وتذكّر كربه قال: غفر الله لفلان؛ لأنه يذكر الساعة التي وقف عليه فأعطاه زكاته فيها، فلذلك الأفضل والأكمل أن يلي صاحب الزكاة إخراج زكاته لما فيه من تحصيل الأجور، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين: (ثوابك على قدر نصبك) أي: على قدر ما تجدين من التعب في الطاعة يثيبك الله جل وعلا، ولذلك قال العلماء: الأفضل أن يلي الإنسان إخراج زكاته بنفسه؛ لأنه إذا ذهب إلى بيوت الفقراء والضعفاء نظر في حالهم، فلربما وجد عورة، فزاد على الزكاة بالصدقة، ولربما كشف حاجة لمحتاج، وفرَّج نكبة لمنكوب، وكربة لمكروب، وهذا لا شك أنه أفضل، فهو يحصِّل وجوه خير كثيرة، مع ما فيه من احتساب الخطوات بمشيه في طاعة الله عز وجل، واحتساب الوقت، وغير ذلك من الأمور التي ذكرناها.(97/9)
الدعاء لمن أخرج الزكاة
قال رحمه الله: [ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد].
الذي ورد أن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]، (وصل) بمعنى: ادع، ومنه قول الشاعر: تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلاً يا رب جنِّب أبي الأوصاب والوجعا فدعت لأبيها فقال: عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا فقوله: (عليك مثل الذي صلّيت) أي: دعوتِ.
فالصلاة في اللغة هي: الدعاء، فلما قال الله جل وعلا: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]، أي: ادع لهم، وهذه هي السنة أن الإمام ومن يقوم مقامه كالسعاة الذين يأخذون الزكاة من الناس، يُسن لهم إذا أخذوا الزكاة أن يدعوا للمتصدق: أن يبارك الله له في ماله، وأن يبارك له فيما آتاه، وأن يقولوا له القول الحسن الذي يحمله على محبة الخير والزيادة منه، وهذا مقصود شرعاً، وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال كما في الصحيح: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى)، قال بعض العلماء: أي: ارحمهم؛ لأن الصلاة تُطلق بمعنى الرحمة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56]، فصلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي الرحمة، وقيل: (صلِّ) أي: بارك لهم فيما أعطيتهم من المال والخير، وهذه نعمة عظيمة؛ لأنه ليس المهم أن يكون عند الإنسان مال، ولكن الأهم أن يبارك الله له في هذا المال، ولذلك يدعو له بالبركة، ويقول: اللهم بارك لفلان، والأفضل أن يشمله وأهله بالدعاء، فيقول: اللهم بارك لآل فلان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى).
وأما بالنسبة لمن يعطيها فقد جاء في حديث أبي هريرة أنه يقول: (اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً)، وهذا حديث ضعيف تكلم العلماء في سنده، والصحيح: أنه ليس هناك تقيد أو إلزام بذكر معين، والأمر واسع؛ لأن القاعدة: (أن ما أطلقه الشرع من الأذكار يبقى مطلقاً حتى يرد التقييد) ولم يرد تقييد في هذا بدليل ثابت في الكتاب والسنة، فبقي المطلق على إطلاقه.(97/10)
إخراج الزكاة لفقراء البلد
قال رحمه الله: [والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده].
هذه العبارة المراد بها أن أصحاب الأموال يُخرِجون زكاة أموالهم في البلد الذي هم فيه، وفيه تجاراتهم وأموالهم، وهذا من حكمة الله عز وجل أنه جعل فقراء البلد غناهم في أموال الأغنياء في نفس البلد، والأصل في الإلزام بهذا ما ثبت في حديث معاذ في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة -أي: زكاةً- تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) فقال: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ولم يقل: (فأتني بها)، فدل على أن الزكاة تتعلق بالبلد، وهذا هو الصحيح على ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيّد الزكاة بالبلد، وعلى هذا فلا يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر.
ومن تأمل ونظر وجد أن نقل الزكاة يفوِّت مصالح عظيمة، وإن كان في بعض الظروف الضيقة قد يحصِّل مصالح أو يدرأ مفاسد؛ لكنه في كثير من الأحوال يُضر بأهل البلد، ولذلك تجد في البلد الضعفاء والفقراء، ويكون فيه أغنياء، فإذا قيل لأحد من خارج البلد: تصدّق على فقراء هذا البلد، قال: إن فيه من الأغنياء ما يكفيه، ويسد عوزه، فيمتنع من الصدقة عليهم.
ومن هنا قال العلماء: ينبغي للإنسان إذا كان له أقرباء مستحقون للزكاة أن يبدأ بهم، وليس هذا من المحاباة، والسبب في هذا: أن أقارب الغني لا يُعطون إذا كانوا فقراء أو ضعفاء من الأجانب؛ لأن كل إنسان يقول: هذا قريب لفلان الغني، فيمتنع من إعطائه شيئاً، ولذلك تصبح قرابته وبالاً عليه بحرمانه الخير من الأجنبي ومن قريبه.
ومن هنا قالوا: تعطى لفقراء البلد، حتى إذا سُدّت حاجتهم صُرفت إلى ما وراء ذلك البلد، وهذا هو الذي تميل إليه النفس؛ إذ لا يُعقل أن يصل الإنسان مكاناً بعيداً وحوله الفقراء يكتوون بالجوع والأسى والألم، وفيهم الأيتام والضعفاء والأرامل، أما في الأحوال المخصوصة كالنكبات والفجائع التي تحصل في البلدان والأمصار، فرخّص بعض العلماء في نجدتها، وإن كان بعض العلماء قال: إن هذا له أصل من وجوب المبادرة في سد عوَز المسلم؛ لكن الكلام إذا لم تكن هناك مثل هذه الأحوال الطارئة، فإذا كان الناس في بلد، وجب على أغنيائهم أن يسدوا عوزهم، لما فيه من رعاية حق الجوار، فإن الناس في البلد الواحد بمثابة المتجاورين، فإذا اكتفى بلده فحينئذٍ ينصرف إلى ما وراء مدينته وقريته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً فقال: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وهذا خبرٌ بمعنى الإنشاء، أي: خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم.(97/11)
نقل الزكاة إلى مسافة القصر
قال رحمه الله: [ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة].
هذا هو الذي ذكرناه، وهو مذهب الجمهور، أنه لا يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر، والنقل المحرّم إلى مسافة تُقصر فيها الصلاة؛ لأن الذي دون مسافة قصر الصلاة يُعتبر من ضاحية المدينة، فلو كنت -مثلاً- في مكة وجاء ضعفاء من ضواحي مكة فإنك تعطيهم، أو خرجت إلى القرى المجاورة لمكة، ولم تكن على مسافة القصر فلا حرج؛ لأنها تعتبر ملتحقة بمكة وآخذة حكمها؛ لأن ما جاور الشيء أخذ حكمه.
[فإن فعل أجزأت].
فإن خالف هذا وفعله، فصرف زكاته عن بلده إلى بلد آخر أجزأت، والله سائله عن ضعفاء بلده، وسائله عن محتاجيهم، ولذلك يكون غير خالٍ من المسئولية والتبعية في إخراجه لهذا الحق عن بلده؛ لأن الأصل يقتضي أن يخرج زكاته في بلده.
[إلا أن يكون في بلدٍ لا فقراء فيه، فيفرقها في أقرب البلاد إليه].
هذا بالنسبة للأحوال المستثناة، أن يكون في بلدٍ سدَّت حاجته، وليس فيه فقراء، وهذا أمر يرجع إلى الحقيقة، أما المبالغة وكلام الناس، فلا يُعتد بكلامهم، بل عليه هو أن يتحرى ويتأكد من هذا الشيء، أنه لا يوجد فقير، ولا مسكين، ولا يوجد مديون، أو غيرهم من بقية الأصناف الذين سماهم الله عز وجل، فبعد ذلك ينقل الزكاة إلى غير هذا البلد، وللعلماء تفصيل: بعضهم يقول: ينقلها إلى أقرب البلدان إليه، ولا يجوز له أن ينقلها إلى ما هو أبعد منها؛ لأنه لمّا أمر الشرع بإخراجها في نفس البلد دلّ على أن العبرة بالبلد وما في حكمه، أي: ما هو أقرب إليه، حتى ينزَّل منزلته في الحكم.
وبعضهم يقول: هو مخيّر.
وفائدة هذا الخلاف: أنه لو كان الإنسان -مثلاً- في بلدٍ وهناك مدينتان، إحداهما: تبعد خمسمائة كيلو مترات، والثانية تبعد مائة كيلو، فاكتفى بلده، فعلى القول الأول: لا يجوز أن ينقلها إلى البلد الأبعد مع وجود البلد الأقرب، وعلى القول الثاني: هو مخيَّر، فإن شاء نقلها للأبعد وإن شاء نقلها للأقرب.(97/12)
إخراج الزكاة في بلد المال
قال رحمه الله: [فإن كان في بلد ومالُه في آخر أخرج زكاة المال في بلده].
للعلماء قولان في هذا: بعضهم يقول: العبرة ببلد المال.
وبعضهم يقول: العبرة ببلد صاحب المال.
والأقوى: إذا نظرنا إلى جهة المعنى ومقصود الشرع.
مسألة: لو فرضنا أن عنده عشرة آلاف في المدينة، وعشرة آلاف في جدة، وعشرة آلاف في مكة، وهو في مكة، فعلى القول الثاني: يُخرج زكاة الثلاثين الألف في مكة، وعلى القول الأول: يجزئ زكاته أثلاثاً، فيجعل لمكة الثلث، وللمدينة الثلث، ولجدة الثلث الآخر، وهذا هو الأقوى والأوجه.
[وفطرته في بلدٍ هو فيه].
أي: وأما زكاة الفطر فإنها تتبع الشخص، فلو كان -مثلاً- ماله في المدينة، وأفطر في جدة أو في مكة، فيخرج زكاته في البلد الذي أفطر فيه؛ لأنها وجبت عليه في البلد الذي هو فيه، إلا أهله وولده، فلو كان في المدينة، وأهله في مكة، ووجبت عليه زكاة الفطر، فهو مخيَّر بين أمرين بالنسبة لأهله: إما أن يوكلهم فيخرجونها في البلد الذي هم فيه، أو يخرجها عنهم في البلد الذي هو فيه، فالأمر واسعٌ في زكاة الفطر.(97/13)
حكم تعجيل الزكاة
قال رحمه الله: [ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل ولا يستحب].
التعجيل: المبادرة بالزكاة قبل أن يتم الحول، وشرط ذلك: أن يملك النصاب، فلو عجّل الزكاة قبل ملك النصاب فهي صدقة من الصدقات، وليست بزكاة واجبة، فلو بلغ النصاب فعجل لسنة أو سنتين فلا حرج عليه.
والأصل في ذلك حديث العباس كما في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل منه الزكاة لعامين) وهو حديث حسَّنه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، وعليه: فإنه يجوز تعجيل الزكاة لسنة أو سنتين، ولا يجوز لأكثر؛ لأن ما شُرع على سبيل التخصيص يختص الحكم بالصورة الواردة، فهنا الأصل أنه يخرج كل زكاة بعد تمام الحول، وكونه يؤذن له بالإخراج قبل تمام الحول يُعتبر خارجاً عن الأصل، فجاز بالصورة الواردة، فقالوا: يعجِّل سنة، ويعجِّل سنتين.
وهذا قد تترتب عليه مصالح، منها: لو حصلت نكبة لفقراء وضعفاء، واحتيج أن يكون هناك مالٌ كبير، فقال: لو أني عجّلت زكاتي لسنتين لعظُم المال ففُرِّجت عليهم هذه النكبة العظيمة، فعجَّلها وفرج عليهم هذه النكبة العظيمة، فهذا حسن، وهكذا لو حصلت أحوال نادرة فعجَّل فيها الزكاة.
أما إذا لم تحصل الموجبات، فقالوا: لا يستحب تعجيلها.
والسبب في عدم الاستحباب: خوف أن يأتي زمان الزكاة، ويوجد من هو أحوج ومن هو أضعف، ولذلك قالوا: فلو يؤقت لوقتها، فهذا أفضل وأكمل، وفصّل بعض العلماء وتفصيله جيِّد: فقال: إن وُجِد موجب للتعجيل، واحتاج محتاجون للتعجيل عجَّل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تعجّل العباس، فدل على وجود الموجب، فيُستحب التعجيل تفريجاً لهذه الكربة والنكبة، وإن لم يوجد موجب، إلا أن يتخلص من الزكاة، وأن يخفف عن نفسه التبعية، فقالوا: إنه خلاف الأولى والأفضل والأفضل له إذا وُجد الموجب أن يبادر، لما فيه من المبادرة بالخير، وتحصيل الأجر.(97/14)
الأسئلة(97/15)
كيفية تعزير مانع الزكاة
السؤال
هل يقتصر التعزير بأخذ شطر المال فقط، أم للقاضي أن يعزر بالجلد أو السجن، أثابكم الله؟
الجواب
مسألة التعزير تأتي على وجهين: إما أن تكون مقيّدة.
وإما أن تكون مطلقة.
فالتعزير من حيث هو في القضاء راجعٌ إلى الوالي يعزر بما رأى، وقال بعض العلماء: يعزر ولو بالقتل في مسائل مختلفة، أي: من حقه أن يعزِّر ولو بالقتل، ومن هنا قال العلماء: -كما يختاره المالكية- واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقول عند الحنابلة، ويميل إليه الإمام ابن القيم رحمة الله عليه، وأشار إليه في كتابه النفيس الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، وكذلك أشار إليه ابن فرحون في تبصرة الحكام ومناهج الأحكام -إن التعزير لا يتقيد بشيء، وإنما يرجع إلى نظر الإمام بما فيه المصلحة.
يبقى النظر في تعزير النبي صلى الله عليه وسلم للذي منع الزكاة، وهو يحتمل أمرين: - إما أن يقصد به التأقيت، وهذا يُفهم من قوله: (عزمة من عزمات ربنا).
- وإما أن يُفهم منه مطلق التعزير، فحينئذٍ لا يتأقّت.
والأول أقوى؛ لقوله: (عزمة من عزمات ربنا)، فدل على أن هذا التعزير مؤقت، لا يُزاد فيه على هذا الحد، وأنه يؤخذ ويُعاقب في المال الذي منعه.
والله تعالى أعلم.(97/16)
حكم إظهار الزكاة عند إعطائها
السؤال
هل يجب إظهار الزكاة، أي: هل يجب إخبار الفقير والمسكين بأن هذه زكاة؟
الجواب
يستحب العلماء رحمة الله عليهم ذكره لذلك؛ لأمور: أولها: لأنه إذا كان من غير أهل الزكاة أخبرك أنه ليس من أهل الزكاة، ولذلك قالوا: فيها احتياط لحقوق الضعفاء والفقراء، فلربما ترى الرجل تظنه فقيراً وهو ليس بفقير، ولذلك إذا أخبرته أنها زكاة احتطت للمستحقين، فكان أبلغ في الاحتياط.
ثانيها: لدفع المنة، وذلك أن بعض الناس قد يستغل الزكاة لأغراض شخصية، يقصد منها أن يظهر أنه -نسأل الله السلامة والعافية- كريم وجواد، أو كونه صديقاً صادقاً في ودّه لمن يحبه، فيعطي الزكاة ولا يُظهرها، فيظن الذي أخذها أنها عطيّة منه، ولذلك قالوا: لا يجوز له أن ينتحل على هذا الوجه حق الله عز وجل وحق الفقير، وبناءً على ذلك لا بد وأن يُخبر، ولا شك أن هذه الأمور التي ذكروها لها وجاهة، إلا إذا كان الإنسان متأكداً من أنه فقير ضعيف، ولم يقصد الاستعلاء، واستثنى كذلك بعض العلماء: أن ترى أنك لو أخبرته أنها زكاة لامتنع وهو محتاجٌ، ولكن عنده عزة نفس، فحينئذٍ يجوز لك أن تخفي عنه فتعطيه دون أن يعلم أنها زكاة.
والله تعالى أعلم.(97/17)
مَنْ تعجل في إخراج الزكاة ثم زاد ماله وقت وجوبها
السؤال
إذا عجَّل رجل إخراج زكاة ماله، فقد يأتي وقت وجوبها وقد زاد ماله، فماذا عليه عندها، أثابكم الله؟
الجواب
يخرج بقدر الزيادة، أي: يحتسب الزيادة ويخرج قدرها.
والله تعالى أعلم.(97/18)
حكم إعطاء الزكاة للأقرباء البعيدين
السؤال
إذا كان للإنسان أقرباء يستحقون الزكاة؛ ولكنهم ليسوا في نفس المدينة التي هو فيها، فهل يعطيهم إياها، أم لا، أثابكم الله؟
الجواب
يجوز أن يعطيهم في حالة ما إذا قدموا عليه أو وكّلوا شخصاً يأتيه فيأخذ منه الزكاة في المدينة التي هو فيها، فحينئذٍ يكون ذلك مجزياً ولا حرج فيه.
والله تعالى أعلم.(97/19)
حكم إعطاء الزكاة للمديون
السؤال
لو كان على والدي دين يستطيع أداءه؛ ولكن بعد مدة من الزمن، فهل يجوز أن أعطيه الزكاة ليعجِّل قضاء دينه، أثابكم الله؟
الجواب
إذا لم يكن عنده مال يسدد منه دينه، ويفي لسداد دينه فتعطيه، والعبرة بالحال لا بالمآل؛ لأنك لا تضمن بقاءه إلى السداد؛ ولأن مقصود الشرع دفع هم الدين الذي هو ذل في النهار وهم في الليل، فالله رحم هؤلاء الذين ابتلوا بالدين، فجعل تفريج كربهم في الزكاة، فليس وجيهاً أن تتركه إلى أن يسدد دينه؛ لأنك لا تضمن بقاءه؛ ولأنه تضيق عليه مصالحه بسبب وجود الدين، ويهان ويذل بسؤال صاحب الدين، إلى غير ذلك من التبعات والآثار المترتبة على وجود الدين، فشُرعت الزكاة دفعاً لهذا الضرر، فعليك أن تبادر بتسديد دينه من الزكاة، ولكن يشترط: ألا يكون عنده مال يمكن بيعه سداداً لدينه.
والله تعالى أعلم.(97/20)
حكم إخراج الزكاة إلى السعاة وتأخيرها
السؤال
قال صاحب الروض رحمه الله: (ويجب على الفور إخراجها مع إمكانه، إلا لضرورة كخوف رجوع الساعي).
فهل نفهم من ذلك أنه لا يمكن للمزكّي أن يخرجها إلا بإذن الساعي، أثابكم الله؟
الجواب
إذا خصّص الوالي سعاة وجباةً يأخذونها، فإنها لا تُجزي إلا بدفعها للساعي، وقدوم الساعي معتبرٌ شرعاً، ففي الليلة التي قدم فيها الساعي لولد الغنم أو ولدت الإبل أو البقر، حُسِب من العدد، ولا يُشترط حولان الحول على هذا المولود الجديد، وبناءً على ذلك قدوم الساعي له آثار وله أحكام، فالزكاة لا بد من دفعها للساعي والجابي، ولا يجزيه أن يخرجها بنفسه، قالوا: لو عيّن الوالي من يأخذ الزكاة من الناس فجاء إنسان واجتهد وأخرج زكاته بنفسه وجب عليه قضاؤها؛ لأن الزكاة على هذا الوجه مؤقتة ومحددة، ولا يجوز له أن يُقْدِم بإعطائها إلا على الوجه الذي أمره الله من دفعها إلى الوالي أو من يقوم مقامه، وعلى هذا فلا بد من وجود الساعي لأخذ الزكاة.
وينبغي على أصحاب الأموال أن يؤدوها إليه، سواء كانت من السائمة أو كانت من غير السائمة، كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، وخوف رجوع الساعي: أن يخاف أن يعطي الساعي الآن، ثم يرجع بعد ذلك ويطالبه مرة ثانية، فيؤخرها إلى ذهابه ورجوعه مرة ثانية حتى يستبرئ، فحينئذٍ لا حرج عليه، دفعاً للضرر الذي يأتيه من رجوعه مرة ثانية.
والله تعالى أعلم.(97/21)
حكم احتساب الدين من الزكاة
السؤال
إذا كان لي دين على رجل، وعندي زكاة مال فأردت إخراجها، فقمت بإسقاط بعض الدين الذي لي عند الرجل، ويكون ذلك مقابل زكاة مالي، فهل هذا صحيح، أثابكم الله؟
الجواب
لا يصح هذا في مذهب جمهور العلماء، فلو كان لك على إنسان دين، وكان الدين -مثلاً- خمسة آلاف ريال وزكاتك خمسة آلاف ريال فلا يجوز أن تحسب هذا الدين من الزكاة، وبناءً على ذلك: يجب عليك إخراج زكاة مالك؛ لأن المراد من ذلك أن تدفع عن نفسك ضرر المطالبة، وعليه فإنه لا بد وأن يكون إعطاء الزكاة على وجه تنتفي فيه التهمة، وهذه يمثل العلماء بها بزكاة التهم، أي: يؤدي الزكاة على وجهٍ فيه تهمة، وبناءً عليه: فإنه لا يصح ولا يجزيه أن يؤدي الزكاة على مديون له عليه دين، ويحتسب ذلك من دينه، والله تعالى أعلم.
ويقول بعض العلماء: هذا لا يصح؛ لأنه لم يخرج زكاةً أصلاً؛ فإن الإخراج لم يحصل، والإعطاء لم يحصل، وإنما حصل الإعطاء ديناً، ولا يمكن قلب الدين إعطاءً للزكاة؛ لأنه سابق لأوان الزكاة وغير معتد به، وهذا مستقيم أيضاً من جهة النظر، فاعتضد ذلك بوجود التهمة مع وجود السبق للإعطاء، وعليه فلا يجزيه أن يحتسب دينه من الزكاة.
والله تعالى أعلم.(97/22)
مقدار أخذ الولي من مال اليتيم إذا تاجر به
السؤال
إذا تاجر الولي بمال اليتيم، فهل يأخذ شيئاً على عمله؟
الجواب
إذا تاجر الولي بمال اليتيم فإنه يأكل منه بالمعروف، قال العلماء: يقدَّر له قدر التعب، فمثلاً: فتح متجراً لبيع طعامٍ أو كساءٍ أو غذاءٍ أو غير ذلك، وقام عليه وصار يتولى شئونه وأعماله، يقولون: ننظر إلى أجرة مثله، فلو أننا استأجرنا إنساناً يعمل مثل العمل الذي قام به هذا الولي، وكان يستحق كل شهر -مثلاً- ألف ريال، فيأخذ الولي من مال اليتيم بقدره، وقس على ذلك.
إذاً: يُحسب له تعبه، ويعطى أجرة المثل، ومرد ذلك إلى العرف وأهل الخبرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(97/23)
شرح زاد المستقنع - باب أهل الزكاة [1]
أهل الزكاة هم الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه، وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فيجب صرف الزكاة إليهم، ولكن هل يجب استيعابهم كلهم؟ وما حكم صرفها لصنف واحد؟ وما حكم صرفها للأقارب؟ هذه مسائل خلافية مذكورة بالتفصيل في هذه المادة.(98/1)
أهل الزكاة الثمانية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنِّف رحمه الله: [باب: أهل الزكاة ثمانية].
الأهل للشيء: هو المستحق له، تقول: فلان أهلٌ لكذا إذا كان مستحقاً له.
وقوله رحمه الله: (أهل الزكاة) أي: المستحقون لها وهي فريضته في أموال المسلمين، وقد قسم الله عز وجل الزكاة من فوق سبع سماوات، ولم يكلْ قسمتها إلى نبيٍ مرسل ولا إلى ملكٍ مقرب، الأمر الذي يدل على عظيم أمرها، وما ينبغي من العناية بشأنها.
وقد عقد المصنف رحمه الله هذا الباب في كتاب الزكاة لأهميته؛ لأنه بعد بيان الحق الواجب في الأموال، وبيان الأحكام المتعلقة بذلك الحق، شرع في بيان مصارفها، والعلماء يقولون: أهل الزكاة، ويقولون: مصارف الزكاة، والمراد بذلك بيان من المستحق لأخذ الزكاة.
فقال رحمه الله: (أهل الزكاة ثمانية)، وهذا إجمالٌ قبل البيان، وهو أسلوب من أساليب القرآن والسنة، وفائدته تهيئة السامع والقارئ لما يُذكر، إضافة إلى إحداث الشوق بترتب الجمل بعضها على بعض.
وعد أهل الزكاة ثمانية هو الذي ورد به النص في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] أي: عليمٌ سبحانه وتعالى بأمر عباده، وعليم بما يشرِّعه لهم، وحكيم في حكمه سبحانه وتعالى وما يكون من تقديره، فختم الآية بما يناسبها، وهو العلم والحكمة؛ وكلتاهما من صفات الله عز وجل.
وهذه الأصناف الثمانية، حصر الله مصارف الزكاة فيها، والدليل على الحصر أنه قال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة:60]، (وإنما) أسلوب حصر وقصر، يفيد إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، كأنه يقول: لا صدقة لغير هؤلاء، ولما قال: (إنما) فهمنا بهذا الأسلوب أنه سيخصِّص، وذلك يقتضي أن مصارف الزكاة خاصة، وهو يدل على ضعف تعميم الزكاة في وجوه الخير، وعدم رجحان القول الذي يقول: إن الزكاة تُصرف في وجوه الخير عموماً، إذ لو كانت الزكاة تُصرف في وجوه الخير عموماً؛ لما كان لقوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فائدة، ولقال: إنما الصدقات في وجوه الخير، لكن كونه يخص ذلك ويقصره ويحصره في وجوه خاصة من البر، يدل على أنه ليس كل البر، بل أصناف معينة يخص الشرع إعطاء الزكاة بها، فوجب التقيد بها.
ولأن الذي يقول بجواز صرفها في وجوه الخير عموماً يستدل بقوله سبحانه: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]، وهذا اللفظ إذا أُطلق في كتاب الله عز وجل فالمراد به في الأصل الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا هو الذي وردت به نصوص الكتاب والسنة، ويعرف ذلك بالاستقراء والتتبع، ولذلك كان جماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وأتباعهم على أن الزكاة تختص بهذه الأصناف الثمانية، ولا تُصرف في مطلق وجوه الخير.
وذهب بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، وبعض المتأخرين إلى ترجيح القول الذي يقول بصرفها في وجوه الخير عموماً، وهذا القول مرجوح؛ وذلك أنه يستند إلى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]، وقد بيّنا أن قوله: (في سبيل الله) إذا أُطلق في الكتاب والسنة فالمراد به الجهاد، ومما يدل على ضعف حمل: (في سبيل الله) على العموم أن قوله: (وفي سبيل الله) يحتمل معنيين: إما خاص بمن ذكرنا وهم المجاهدون، وإما عام.
فإذا قيل بعمومه، فإن العرب لا تعرف إدخال العام بين خاصَّين، وإنما تقدم العام وتعطف الخاص عليه، أو تقدم الخاص لشرفه وتعطف العام عليه، فتقول: دخل محمدٌ والناس، فتقدم الخاص وهو محمد لشرفه وفضله، ثم تقول: والناس وهو العام، أو تقول: دخل الناس ومحمدٌ، للدلالة على شرفه وفضله، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] فخصَّص بعد تعميم، وهذا هو أسلوب القرآن وأسلوب العرب.
أما أن تقول: دخل الناس ومحمد والناس، أو تقول: دخل محمد والناس ومحمد، تؤكد ذلك، فهذا لا تعرفه العرب.
وكذلك تقول: دخل الناس ومحمدٌ وعلي، أو تقول: دخل محمد وعلي والناس، أما أن تقول: دخل محمد والناس وعلي، فلا يستقيم؛ لأنك تدخل العام بين خاصين، فهذا لا يعرف في أساليب العرب، وإنما يعطف العام على الخاص، أو الخاص على العام كما هو معروف بالاستقراء.
وعلى هذا فإن القول بالتخصيص بالأصناف الثمانية وهو مذهب الجمهور هو الظاهر؛ لما ذكرناه من استقراء نصوص الكتاب والسنة، ولأننا لو قلنا بالتعميم فإن هذا يفوِّت المقصود من التنصيص على الأفراد الخاصة.
ويختص هؤلاء الثمانية بالمسلمين، فأما الكفار فلا تدفع لهم الزكاة، ولا يجوز صرفها إليهم ولو كانوا فقراء أو مساكين أو غارمين ولو كانت فيهم أي صفة من صفات أهل الزكاة، فإنما تدفع للمسلمين خاصة، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.
وقد جاءت الآية مطلقة شاملة في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، وهذا يدل على أن القرآن قد يُطلق ويريد الخصوص، وأنه ليس كل نص مطلقٍ في القرآن نحمله على إطلاقه حتى نتتبع ونعرف هل هناك إجماعٌ يخصص عمومه أو يقيد مطلقه، أم لا، فهذه الآية لو أخذ أحدٌ بإطلاقها لقال: تُدفع الزكاة للكفار، ولا أحد يقول بذلك، فدل على أن المطلق في الكتاب والسنة ينبغي الرجوع إلى ضوابطه، هل يوجد ما يخصصه إذا كان عاماً، وهل يوجد ما يقيده إذا كان مطلقاً.(98/2)
الصنف الأول: الفقراء
قال المصنف رحمه الله: [الفقراء].
وهو مأخوذ من الفقر؛ وهو شدة الحاجة، وأصح أقوال العلماء: أن الفقير أشد حاجة من المسكين، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه استعاذ بالله من الفقر، كما في أذكار الصباح والمساء، فكان يقول: (أعوذ بك من الكفر والفقر) فاستعاذ بالله من الفقر، ثم قال: (اللهم أحيني مسكيناً) فدل على أن المسكنة أقلّ من الفقر، ولو كانت المسكنة فوق الفقر وأشد منه لما استقامت استعاذته عليه الصلاة والسلام وسؤاله الله عز وجل أن يحييه مسكيناً، فدل على أن المسكنة دون الفقر.
ودل أيضاً دليل الكتاب على أن المسكنة دون الفقر، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فوصفهم بكونهم مساكين مع أنهم مالكون للسفينة، ومن هنا قال العلماء: الفقر أشد من المسكنة.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على جواز صرف الزكاة للفقراء بنص الآية الكريمة، وضابط الفقير: هو الذي لا يجد كفايته بالكلية، أو يجد بعضها ولا تصل إلى النصف فأكثر، هذا هو الفقير.
ويُعرف الفقر بعدة دلائل: الدليل الأول: معرفتك الشخصية بذلك الفقير، بأن تعرف حاله، وتعرف شدة عوزه وفقره وضيق يده، فإذا كنت تعرفه بنفسك مطّلعاً على حاله، كأخيك وابن عمك وأختك وقريبتك، فلا حرج حينئذٍ في دفع الزكاة إليه.
وضابط الفقر في هذه الحالة أن تطّلع على نفقته، فتجده لا يجد ما يُنفق على نفسه، وقد يجد ما يُنفق على نفسه لكن لا يجد ما ينفقه على أولاده، فإذا كان يجد طعاماً لنفسه ولا يجد الطعام لأولاده فهو فقير؛ لأن من احتاج فيمن تلزمه نفقته كان كحاجته في نفسه، وعلى هذا يُحكم بفقره، ويجوز لك حينئذٍ أن تدفع له الزكاة بسهم الفقير.
الدليل الثاني الذي تعرف به فقره: أن يشهد عدلان على فقره وعوزه وشدة حاجته، فإذا شهد عدلان تثق بهما وبشهادتهما أن فلاناً فقير، حلّ لك أن تدفع الزكاة له.
الدليل الثالث: الأمارات والعلامات الظاهرة التي يغلب على الظن فقره مع سؤاله، كأن يأتيك إنسان ويقول: إني فقير، وأنت تعرف ظواهر حال هذا الإنسان، فترى عليه أثر الجوع، وترى عليه ضعف البدن، وأحواله أمامك تدل على هذا الضعف، وإن كنت لا تعلم على الحقيقة نفقته مثل الحالة الأولى التي ذكرناها، ففي هذه الأحوال كلها تَصرِف الزكاة إليه بسهم الفقير.
لكن لو أن هذا الفقير جاءك وسألك الزكاة وأنت لا تعلم حاله، فحينئذٍ لا تخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن تقطع بكذبه، أو يغلب على ظنك كذبه، فحينئذٍ لا يجوز لك صرف الزكاة إليه قولاً واحداً، ولو قال إنه فقير، ولو ادعى الفقر ما دمت تعلم أنه ليس بفقير، فلا يحل لك أن تصرف الزكاة إليه، فإن صرفتها إليه بناءً على دعواه أنه فقير، فإنه يلزمك قضاء هذه الزكاة.
وعلى هذا فلو أخبر الإنسان أنه فقير، وأنت تعلم من حاله أنه كاذب أو عنده ما يسد حاجته، ويخرج به عن وصف الفقر والمسكنة، فإنه حينئذٍ لا يجوز لك دفع الزكاة إليه، وإن دفعتها عن نفسك وجب عليك القضاء، وإن دفعتها وكيلاً عن شخص وجب عليك أن تغرم مثلها وتدفعها للمستحق.
الحالة الثانية: أن تشك في حاله فلا تدري أهو صادق أو كاذب، وفي هذه الحالة لا يجوز لك أن تدفع الزكاة إليه إذا شككت من حاله، ووجِد ما يحتمل صدقه ويحتمل كذبه، حتى تتحرى وتتأكد أو يغلب على ظنك أنه محتاج، فإن دفعت الزكاة إليه وأنت تشك في فقره وحاجته، فحينئذٍ لا يُجزيك، ويلزمك قضاء الزكاة كما في الحالة الأولى، لأنه لا يجوز الصرف إلا مع اليقين أو غلبة الظن، فإذا كان الإنسان شاكاً، فإننا لن نتيقن صرف الزكاة لمستحقها، والأصل وجوبها، فوجب على من تولاها على هذا الوجه وصرفها على الشك أن يقضيها.
فهذه حالتان: إذا تيقن الكذب أو شك في صدقه وكذبه.
الحالة الثالثة: أن يغلب على ظنه صدقه، فإن غلب على ظنه صدقه بوجود دلائل وأمارات تدل على ذلك الصدق جاز له وحلّ أن يدفع الزكاة إليه.
قوله: [وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية]: أي: وهم الذين لا يجدون شيئاً، فتجده يطوي يومه جائعاً، كقريب لك تراه لا يفطر ولا يتغدى ولا يتعشى ولا يجد طعاماً يأكله يوماً، وأنت تعلم أن السبب في عدم إصابته للطعام عدم وجوده، فيمضي عليه اليوم، وفي اليوم الثاني يصيب بعض الكفاية، ثم اليوم الثالث لا يجد، أو يجد بعض الكفاية، بشرط: أن لا تصل إلى أكثر الكفاية وهي النصف فأكثر، فمثل هذا يعتبر فقيراً، أو يكون عنده دخل، ولكنه نزرٌ قليل بحيث لا يكفيه إذا كان وحيداً، أو يكفيه ولكن لا يكفيه مع أهله وأولاده.
فلو فرضنا أن دخله في اليوم خمسة أو عشرة ريالات، فإن هذه الخمسة أو العشرة إذا نظرت إليها في قوته في ذلك اليوم لو كان وحيداً فإنها لا تصل إلى أكثر السداد، فتحكم بأنه لو كان دخله العشرة أنه محتاج، لكن بشرط أن لا يكون له دخل آخر بحيث يغلب على ظنك أن هذا الدخل هو الوحيد الذي لا يجد غيره، فحينئذٍ يجوز لك أن تبني على هذا الدليل حاجته وفقره وتدفع الزكاة إليه.
فضابط الفقير أن لا يجد شيئاً، أو يجد ولكن هذا الوجدان لا يقوم بأكثر الكفاية، فلو كان أكثر الكفاية خمسين ريالاً، وهو يجد الأربعين أو الثلاثين أو خمساً وأربعين ونحو ذلك، فهذا يعتبر فقيراً، وتدفع الزكاة إليه بسهم الفقر، فإن دفعت الزكاة إليه بسهم الفقر قدّرت حاجته إذا كان وحيداً، أو قدّرت حاجته وحاجة من يعول كأولاده وزوجه، فإذا كان خلال السنة احتاج إلى نفقة ثلاثة آلاف ريال، تعطيه من زكاتك ثلاثة آلاف ريال، وقس على ذلك.(98/3)
الصنف الثاني: المساكين
قال المصنف رحمه الله: [والمساكين يجدون أكثرها أو نصفها].
والمساكين هم الصنف الثاني من أصناف أهل الزكاة، والمساكين: مأخوذ من المسكنة، وهي الذلة.
ويقول العلماء: ضابط المسكين أن يجد أكثر الكفاية، ولذلك وصف الله الذين يملكون السفينة بأنهم مساكين، مع أنهم مالكون للمال، فدل على أن الإنسان قد يملك المال ويُوصف بالمسكنة، فيجوز لك أن تُعطيه الزكاة على قدر ما يسد حاجته، فلو كان هذا المسكين عنده سيارة مثلاً، وهذه السيارة يعمل عليها، ولكنها لا تكفي دخلاً له، أو مصاريفها وكلفَتُها تحمِّله أكثر مما يدخل عليه، أو تستنفذ أكثر ما يدخل عليه حتى لا يصل إلى كفايته أو أكثر الكفاية، حلّ لك أن تُعطيه من الزكاة ما يسد كفايته.
فلو كانت نفقته في العام ستة آلاف، ودخله أربعة آلاف استحق أن تعطيه ألفين؛ لأنه في هذه الحالة مسكين قد وجد النصف فأكثر، فتعطيه بسهم المساكين.
والفرق بين المسكين والفقير: أن الفقير تقدِّر نفقته لأنه لا يجدها، فتعطيه نفقته للعام، فلو كانت نفقته في العام ستة آلاف أعطيته ستة آلاف، ولكن المسكين يجد أكثر النفقة، فتحتاج إلى تقدير وضبط، فلا تستعجل بأن تُخرج له نفقة كاملةً، إنما تنظر وتتحرى وتسأله، فإذا كان دخله ستة آلاف ومصاريفه عشرة آلاف فهو يحتاج إلى أربعة آلاف، فلو أعطيته خمسة آلاف فالألف زائدة عن حاجته، ولذلك يقولون: يغرم المقسِّم إذا أعطى أكثر من الحاجة في المسكين، أو أعطى أكثر الحاجة في الفقير.(98/4)
الصنف الثالث: العاملون عليها
قال المصنف رحمه الله: [والعاملون عليها، وهم جباتها وحفاظها].
الصنف الثالث: العاملون عليها وهم جباتها وحفّاظها في القديم، ولا يزال إلى الآن يُحتاج إلى جباية الزكاة وجلبها ممن وجبت عليهم، الأمر الذي يحتاج إلى سفر السعاة إلى موارد المياه لعد الإبل والنظر في أموال الناس، وكذلك سفرهم إلى البساتين، وخرصها وتقديرها.
فهؤلاء هم السعاة الذين يبعثهم ولي الأمر لمعرفة مقدار ما فرض الله عز وجل على الناس، فهم جباة يجلبون الزكاة، وحفّاظ لها يحفظونها.
فالزكاة تحتاج إلى هذين الصنفين: من يجبي، ومن يحفظها ويقوم عليها، ففي جبي الزكاة يدخل الخارص، وهو الذي يقوم بخرص النخل، ويعرف مقادير ما فيه، وكذلك أيضاً الذين يقومون بجمع زكاة الحبوب والثمار، وعلى هذا فهؤلاء يُعطون نصيبهم، فالخارص لو كانت أجرته ثلاثة آلاف استحق أن يأخذ ثلاثة آلاف، ولو كان غنياً أو كان ثرياً؛ لأن إعطاءه هذا المال أشبه بالإجارة، ولا يُنظر فيه لا إلى فقر أو غنى.
أما لو كان الساعي فقيراً، فإنه يحتاج إلى تفصيل، فنعطيه أجرته أولاً، ثم ننظر بعد الأجرة هل سدّت الأجرة فقره أو لم تسده، فإن كان يحتاج إلى نفقة ستة آلاف وأجرته كانت ستة آلاف أو سبعة آلاف فقد خرج بأجرة العمل عن وصف الفقر، وحينئذٍ لا يُعطى، وإن كانت أجرته ثلاثة آلاف وحاجته في العام ستة آلاف؛ أُعطي ثلاثة آلاف، ثلاثة آلاف أجرة لسعيه، وثلاثة آلاف لمسكنته أو فقره.
وعلى هذا فإن السعاة يأخذون من باب الإجارة، ويقدر عملهم ولي الأمر أو من يقوم مقامه، نقدر كم يكون نصيب من عمل هذا العمل، فإذا كان جبى المال من مكان بعيد ومن مسافات بعيدة تحتاج إلى مئونة للسفر، وتحتاج إلى مئونة في الطعام، ومئونة في الحمل، ومئونة في النزول؛ فكل ذلك يقدر ويعطى حقه كاملاً.
ثم الأموال التي تحفظ بعد جبايتها تحتاج إلى حراسة رعاية، وتحتاج إلى من يقوم على الإبل والغنم والبقر إذا جُبيت ويسوسها، وهم الرعاة، فهؤلاء الرعاة الذين يحفظون الإبل أو البقر أو الغنم التي جُبيت في الزكاة لهم سهم، ولهم نصيب يقدَّر عملهم بالمعروف، يقدَّر أجرة عمل مثلهم، فيعطون من الزكاة على قدر استحقاقهم.
وهل يُعطى المقسِّم للزكاة، أو لا يعطى؟ قال بعض العلماء: يُعطى إذا نصّبه ولي الأمر، كأن يحتاج لتوزيع المال في بلد، فإذا تولى قاضٍ أو عالم هذا المال، وأراد توزيعه واحتاج إلى من يساعده، فإن هؤلاء الذين يساعدونه يستحقون نصيباً من الزكاة إذا كانوا مولَّون.
أما لو كان وكيلاً عن شخص، فهذا لا يستحق، كأن يكون عندك زكاة خمسة آلاف ريال ثم تذهب وتعطيه لشخص من أجل أن يوزعها، فيقوم هذا الشخص ويأخذ من هذه الزكاة، فقالوا: لا يأخذ، ولا يستحق؛ والسبب في ذلك أن الواجب عليك أنت أصلاً أن تقوم بدفعها، فإذا دفعتها إلى شخص آخر، فإن احتاج نفقة أو سأل مالاً فأعطه من مالك، أما أن يكون دخيلاً على الفقراء والضعفاء ويُنقص حقّهم في مالك فلا، لأنه بإمكانك أن تقوم بهذا، والأصل فيك أن تتولى توزيعها بنفسك.
قالوا: فإذا قام الغير بدون إذنٍ فإنه لا يستحق أن يأخذ المال في هذه الحالة، وعلى ذلك فإنه يختص الحكم في العاملين عليها بالجباية ومن يقوم بحفظها.(98/5)
الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم
قال المصنف رحمه الله: [والرابع: المؤلفة قلوبهم ممن يرجى إسلامه، أو كفّ شرِّه، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه].
المؤلفة قلوبهم هم أقوام على الكفر يرجى إسلامهم، أو على الإسلام وتُخشى عليهم الفتنة، فلم تطمئن قلوبهم بالإيمان، فهؤلاء يعطون ما يكون في غالب الظن سبباً لثباتهم أو دخولهم في الإسلام.
فأما الصنف الأول وهم الذين على الكفر، ويغلب على الظن أنك لو أعطيتهم من الزكاة أنهم يدخلون، قالوا: يعطون، ويقدِّر الوالي المال الذي يغلب على الظن تأليف قلوبهم به، وحينئذٍ يعطيهم إياه ولو كانوا أغنياء، ولو كانوا غير محتاجين، من باب إدخالهم في الإسلام وتأليفهم له.
وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فقسم الغنائم، فأعطى أبا سفيان رضي الله عنه وأرضاه، وأعطى معاوية وأعطى عباس بن مرداس السلمي وعيينة بن حصن الفزاري والزبرقان بن بدر، كل هؤلاء أعطاهم مائة مائة من الإبل، وكل ذلك من باب تثبيتهم على الإسلام وتقوية عزائمهم على الثبات على الدين.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسقط هذا النوع من أصناف الزكاة، وقال: (إنما أُعطوا وكان الإسلام محتاجاً إليهم، واليوم الإسلام في عزة ومنعة، فمن أراد أن يسلم ومن أراد أن يكفر)، فكأنه رأى تخصيص ذلك بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن جماهير الصحابة وإجماع العلماء رحمة الله عليهم على مشروعية صرفها بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن بعض العلماء يرى أنه إذا كان الإسلام في عزة ومنعة ويمكنه كسر شوكة الكفار، أنه لا يصرف هذا المال حتى لا يضر بمصالح الضعفاء والفقراء، ويصبح من أسلم من الكفار أسلم ومن لم يسلم لا يعطى.
والصحيح ما ذكرناه من العموم؛ لأن الناس على أقسام إذا كانوا كفاراً، منهم من يدخل للإسلام بالقوة ولا يدخله إلا رهبة الإسلام وقوته وشدته، فهؤلاء شرع الله لهم الجهاد، ومنهم من يدخل في الإسلام عن قناعة وعلم، كأن تقارعه الحجة بالحجة كعلماء الملل المخالفة، فإنك إذا ناظرتهم وأقمت عليهم الحجة قد يتقبلون الحق، وكذلك بالنسبة لمن يطلب الحق وينشده ولو كان على الكفر، فهذا تقام عليه الحجة بالبرهان، والأولون تقام عليهم الحجة بالسنان، فإما أن يسلموا وإما أن تضرب رقابهم.
وأما بالنسبة للنوع الثالث فإنهم يدخلون الإسلام عن طريق المال والإغراء، كأقوامٍ تعلقت نفوسهم بالدنيا، خاصة إذا كانوا على الكفر، فإذا أُعطوا من المال طمعوا في الإسلام أكثر، ولذلك مضى الرجل إلى قومه وقال: (لقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر) يعني النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطاه وأرضاه.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فإنه لما أعطى عيينة بن حصن الفزاري والزبرقان وأعطى معاوية بن أبي سفيان وأباه أبا سفيان رضي الله عن الجميع، غضبت الأنصار وقالوا: (أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم) فبلغت المقالة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك اليوم من أشد الأيام على الأنصار، كانت فيه فتنة وامتحان وابتلاء من الله عز وجل لهم، ولكن جعل الله عاقبته إلى خير، حتى إن سعداً رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنهم يقولون كذا وكذا، يريد مقالتهم: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال: أين أنت يا سعد؟ قال: الرجل مع قومه، فإني أجد في نفسي ما يجدون.
أي: كيف نقاتل عن الإسلام وندافع عنه ثم تقسم الغنائم على أقوام هم حديثو عهد بإسلام، فقال: اجتمعوا لي يا معشر الأنصار.
فاجتمعوا له في خيمة لا يوجد فيها غيرهم، ثم قال: أفيكم غيركم؟ قالوا: يا رسول الله لا، إلا ابن بنتنا وهو النعمان بن مقرن رضي الله عنه، فقال: ابن بنت القوم منهم.
ثم قال: ما مقالة بلغتني عنكم؟ فقالوا: يا رسول الله -وكانوا قوم صدق- أما أهل العلم منا والحلم فلم يقولوا إلا خيراً، وأما سفهاؤنا وشبابنا فقالوا: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار! أوقد وجدتم في لعاعة من الدنيا أعطيها أقواماً أتألفّ قلوبهم للإسلام.
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم حبه لهم، وقال: والله لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلك الأنصار وادياً وشعباً لسلكت شعب الأنصار وواديهم، أما تحبون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لما تنقلبون به إلى رحالكم خير مما ينقلبون به إلى رحالهم، ثم قال: الأنصار شعاري، والناس دثاري إلى آخر الحديث.
المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم الغنائم وتألف بها هذا النوع، وجعل لهم حظاً في القسم، ولذلك كأن الإسلام يقصد من هذا النوع الذي يرجى إسلامه أن يكون له مطمع في هذا الدين، فإذا دخل ورأى سماحة الإسلام وأخلاقه وشمائله والخير الذي فيه اطمأن قلبه بدون مال، وهذه هي حكمة الشرع، ولذلك يدخل للدنيا، ثم إذا رأى سماحة الإسلام وما في الإسلام من خير، عزف عن ذلك كله ورجا ما عند الله من الرحمة وخاف ما عند الله من العقوبة والعذاب.
فمقصود الشرع تأليف قلوب أمثال هؤلاء.
وكذلك لو كان مسلماً ولكنه على اضطراب في إسلامه، أو كان صاحب ثروة في حال الكفر ثم أصبح في حالٍ ضعيف بعد إسلامه، فتعطيه من أجل أن تقويه وتثبته على الدين، فهذا يعطى، ويكون التقدير بحسب الحال والمصلحة التي يغلب على ظنك أنه لو أخذها رُجي ثباته على الإسلام وتمسكه به.
وقوله رحمه الله: (المؤلفة قلوبهم) لقوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60]، فنص سبحانه وتعالى على هذا الصنف، وهم الذين يرجى ثباتهم على الإسلام.
وهناك نوع ألحقه العلماء بالمؤلفة قلوبهم لدفع شرهم عن المسلمين، فهؤلاء هم أقوام لهم مكانة ووجاهة، كأن يكونوا عشائر كفر، ورؤساؤهم هؤلاء إذا أسلموا رُجي إسلام من وراءهم، وإذا لم يرج إسلامهم كُفّ شرهم عن المسلمين، أو يغلب على ظنك أنك لو دخلت للدعوة وأعطيت هؤلاء المال سكتوا عنك وأعانوك على الدعوة مع أنهم على الكفر، فيعطون لمصلحة الدعوة ولمصلحة الإسلام، ولا حرج في ذلك.(98/6)
الصنف الخامس: المكاتبون
قال المصنف رحمه الله: [الخامس: الرقاب وهم المكاتبون].
وذلك لقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] والرقاب: جمع رقبة، والمراد بهم المكاتبون كما نص المصنِّف رحمه الله، وهم الأرقاء المسلمون الذين يكاتبون أسيادهم للعتق.
وقد جعل الله عز وجل من الأبواب التي يُفك فيها الرق عن الأرقاء أن يكاتب العبد سيده، وقد أمر الله عز وجل بذلك أمر ندب واستحباب: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33]، فهؤلاء يعطون من الزكاة لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33].
فيُعطون من الزكاة على قدر ما يكون سداداً لهم وسبباً في فك رقابهم من الرق، فلو كاتب عبدٌ سيده بستة آلاف ثم استطاع أن يسدد ثلاثة آلاف منها فبقيت ثلاثة آلاف، فيعطى ثلاثة آلاف لكي يتمكن من عِتق نفسه، وهكذا لو كانت الكتابة في بداية أمرها، بأن قال له السيد: كاتبتك باثني عشر ألفاً، تدفع في كل شهر ألفاً، قال: قبلت، فهذا عقد كتابة، ففي بداية كتابة العقد جاءك، وقال: كاتبت سيدي على كذا وكذا، جاز أن تعطيه كل ما كاتب عليه وتعتقه، وهكذا لو جاءك في أنصاف الكتابة أو جاءك في آخرها وقد بقيت عليه أنجم وأقساط، أي: أن الحكم لا يختص بحالة دون حالة، وإنما يعطون على نفس السبب الموجب للإعطاء وهو فكهم من الرق، سواءً كان ذلك في أول الكتابة أو في أثنائها أو في آخرها.
وقوله: [ويفك منها الأسير المسلم]: قال بعض العلماء: قال الله: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60]، وهذا يختص بالأرقاء، ولا يشمل الأسير.
وقال بعضهم: يقاس الأسير على العبد إذا طلب العتق.
وهذا القياس لا يخلو من نظر، والأقوى والأحوط أن الحكم يختص بالمكاتبين؛ لأن الله نص عليهم وقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، وهذا هو المراد بقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] ولذلك يختص الحكم به، وأما فك الأسير المسلم فإنه يفك من ماله إن كان عنده مال، وإذا لم يكن عنده مال فعلى جماعة المسلمين أن يسعوا في فكاكه على الأصل المعروف في الشرع، وإلا من بيت مال المسلمين على حسب وجود القدرة في فكه.(98/7)
الصنف السادس: الغارمون
قال رحمه الله: [السادس: الغارم لإصلاح ذات البين ولو مع غِنَى، أو لنفسه مع الفقر].
قوله: (الغارم لإصلاح ذات البين ولو مع غِنَى) أي: ولو كان غنياً وحالته حال غِنَى.
والغارم: من الغُرم، والغرم هو الخسارة، ومنه القاعدة المشهورة: (الغنم بالغرم) وهي معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان).
والغارم هو الشخص الذي يدفع المال للصلح بين المسلمين، فقد كانوا في القديم عندما تقع الفتن بين الناس، وتقع بينهم جراحات، أو يقع بينهم قتل، يأتي رؤساء العشائر كأمراء القبائل ونحوهم للصلح، وقد يكون هذا الأمير من القبيلة كبيراً فيتحمل مائة رقبة، بمعنى أنه يريد الصلح بين الطائفتين، ويكون الذين قتلوا قرابة مائة شخص، فيقول: علي ديتهم، وهذا يعتبر غرماً ويستحق به أن يعان من الزكاة؛ لأنه فعل الخير، وأصلح ذات البين التي هي من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وأعظمها أجراً ومثوبة في الدنيا والآخرة.
فهؤلاء كرؤساء العشائر وأُمرائهم الذين يتولون الصلح بين الناس يُعطون.
وهكذا لو وقعت خصومة بين اثنين وخشيت أن يقع بينهما أمرٌ لا تحمد عقباه، وقد يكونان من الأرحام والقرابة فجئت تصلح بينهم، وكان سبب الخصومة تلف سيارة، أو تلف دار، وهذا التلف بخمسة آلاف أو ستة آلاف، فقلت: أنا متحملٌ لها، وتحمّلت الخمسة أو الستة الآلاف، فإنك تعطى من الزكاة؛ لأن هذا لإصلاح ذات البين، وحينئذٍ يشرع دفع الزكاة إلى من غَرِم على هذا الوجه.
قال بعض العلماء: ومن الغارمين الذين يتحمّلون الديون، كشخصٍ ينفق على أهله وولده، فيتحمل الدين، فهذا الشخص محتاج وأصابه العوز حتى ركبته الديون، وعليه دين عشرة آلاف ريالٍ، أو عشرين ألف ريال، أو ثلاثين ألف ريال، وعندك زكاة، فيجوز دفع الزكاة إليه، لكن الذي يتحمّل الدين يحتاج إلى نظر، فلا تعطِ أحداً مديوناً حتى تسأل عن سبب الدين، وحينئذٍ لا يخلو سبب الدين من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون سبب الدين أمراً محرماً، كذهابه إلى أماكن الفساد وسفره إليها حتى تحمّل الديون، فهذا لا يعطى من الزكاة وجهاً واحداً؛ لأنها معونة على الإثم، والله عز وجل نهى عن التعاون على الإثم، والشرع لا يعين على المحرم، وبناءً على ذلك لا يعطى مثل هذا من الزكاة.
الحالة الثانية: أن يكون أنفقها في شهوة حلال، أو على وجه السفه، في شهوة حلال كأن يشتري السيارات والبيوت، ويبالغ في الترف وهو ضيِّق المال ضيق اليد، ليس عنده قدرة، ولكنه يتوسع في الشهوات المباحة، وتجد عنده نوعاً من السفه، لا يُحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره، يشتري الشيء بعشرة آلاف وهو يباع بعشرة آلاف فيبيعه بتسعة آلاف، أو بثمانية آلاف، فهذا سفيه، ومثل هذا لا يعطى من الزكاة؛ لأنه أنفقها على وجه السفه الذي نهى الله عن إعطاء المال فيه، فقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، فلو قلنا بمشروعية سداد دينه فكأنه تشريع للسفه، وإعانة عليه، والسفه تبذير الأموال في الشهوات، كما أشار بعض العلماء إليه بقوله: والسفه التبذير للأموال في لذة وشهوة حلال ممكن أن يتزوج ويتحمل الدين، ويكون زواجه بثلاثين ألف ريال سعودي، ولكنه يسرف في زواجه حتى يصل إلى مائة ألف، ثم يقول: أنا مديون، ويزاحم الفقراء والمساكين، فهذا لا يعطى، وإنما يعطى بقدر الحاجة، وينظر إلى قدر حاجته، والدين الذي كان صحيحاً معتبراً شرعاً.
الحالة الثالثة: أن يكون دينه على وجه معتبرٍ شرعاً، كإنسان يتدين في نفقته ونفقة عياله، جاءك رجل وقال: إني مديون، فسألته عن دينه، فقال: صاحب البقالة له عليَّ ثلاثة آلاف ريال، فتسأل صاحب البقالة وإذا به يقول: هذا الرجل كان يأخذ مني هذه الأموال طعاماً في نفقة أولاده، فهذا لا بأس أن تعطيه؛ لأنه من أهل الزكاة.
كذلك أيضاً جاءك وقال: إني مديون، قلت له: كم دينك؟ قال: عشرة آلاف، سألت: هذه العشرة آلاف ما سببها؟ قال: استأجرت بيتاً لي بخمسة عشر ألفاً، سددت منها خمسة وبقيت عشرة، تنظر في هذا البيت، هل هذا البيت فيه بذخ وإسراف وكان بإمكانه أن يستأجر بما هو أقلّ، وأسرف واستأجر بما هو أكثر، فحينئذٍ تعطيه بقدر الحاجة، أم أنه قد وضع الشيء في موضعه، فالبيت الذي استأجره لائق به وبأولاده، ولا إسراف فيه ولا بذخ، فحينئذٍ تعطيه من الزكاة.
الشاهد: أنه لا بد من التحري، وليس كل صاحب دين رفع إليك حاجته وأنه مديون يُعطى من الزكاة، بل ينبغي التحري والتقصي والسؤال، وإلا لو فتح هذا الباب لضاعت أموال الزكاة، وأصبح الرجل يسرف في شهواته وملذاته، ثم يأتي ويقول: إنه مديون.
فإنما يعطى المديون الذي استدان لطعامه وشرابه وكسائه، أو جاءك مديون وقال: إني مرضت واحتجت إلى عملية، وفعلت هذه العملية، وكلّفتني عشرة آلاف ريال أو خمسة عشر ألف ريال، أو جاء الخبر أن فلاناً أجرى عملية وتحمّل بسببها عشرين ألف ريال، فيُعطى ويسدد دينه، هذه أمور محتاج إليها، وقد تصل إلى الضرورة، فمثل هؤلاء هم الذين يُعطون من الزكاة.
أما إذا كان كل من قام يدّعي أنه مديون، أعطي من الزكاة لقوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة:60] فهذا ليس بصحيح، وإنما يتقيد كما ذكر العلماء بأن يكون دينه على وجه معتبرٍ شرعاً، لا إسراف فيه ولا حرمة.(98/8)
الصنف السابع: المجاهدون في سبيل الله عز وجل
[السابع: في سبيل الله، وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم].
قوله: (الذين لا ديوان لهم) الديوان: هو العطاء كالراتب ونحوه، فهؤلاء ما دام أن لهم عطاء فلا يُعطون من الزكاة، أما لو تطوّع إنسان بالجهاد في سبيل الله عز وجل وخرج، فقال بعض العلماء: يعطى لسلاحه، وقال بعضهم: يعطى لنفقته وسفره وتجهيزه للغزو، فيجهّز في ملبسه ومركبه، وكذلك آلات جهاده، والقول الثاني أقوى، وشرط ذلك: أن لا يكون لهم ديوان.
أما لو كان لهم ديوان بأن خصص لهم قدر معين من بيت المال، فإنهم لا يُعطون من الزكاة إلا إذا وُجدت فيهم حاجة من وجه آخر.(98/9)
الصنف الثامن: ابن السبيل
قال المصنف رحمه الله: [الثامن: ابن السبيل المسافر المنقطع به].
ابن السبيل: نُسب إلى السبيل وهو الطريق، والمراد بابن السبيل المسافر، وشرطه: أن يكون منقطعاً، وتعطيه لرجوعه إلى بلده، لا لإنشاء السفر، ففرق بين إنشاء السفر وبين الرجوع عن السفر، ولذلك يعبّر العلماء فيه ويقولون: المنقطع، والمنقطع هو الذي يريد البلغة إلى داره، وحينئذٍ لا يخلو من حالتين: إما أن يكون ابن السبيل غنياً بحيث لو رجع إلى بلده كان عنده مالٌ ووفاء لما أعطيته، فقال بعض العلماء: يُعطى للبلغة، ثم يقضي هذا الدين الذي أُعطيه؛ لأنه احتاج بقدر ما يصل إلى بلده، ثم زالت حاجته فوجب عليه السداد.
وقال بعض العلماء: يعطى وإن كان غنياً ولا يطالب بالقضاء.
والأول أحوط.
وأما إذا كان فقيراً هنا وفي بلده، بحيث لو سافر إلى بلده لا يملك السداد، فإنه يُعطى بقدر ما يوصِّله إلى بلده، ويُعطى شيئين: أحدهما: ما يتعلق بمركوبه، والثاني: ما يتعلق بزاده وطعامه ونفقة أكله وشربه ونحو ذلك، ويلتحق بذلك إذا كان في الطريق منازل ينزل فيها كالمحطات، فإنه يحتاج إلى الاستئجار فيها لنوم وراحة ونحو ذلك.
هذا بالنسبة لابن السبيل، فإنه يعطى بقدر حاجته التي توصله إلى بلده.
قال المصنف رحمه الله: [دون المنشئ للسفر من بلده، فيعطى قدر ما يوصله إلى بلده].
قوله: (دون المنشئ) فلو قال: أريد أن أُسافر؛ لم يُعط، وإنما يُعطى الذي انقطع عن أهله وولده، ويريد أن يرجع إليهم، كأن يكون في سفر ثم تضيع نقوده، أو يأتي بنقود ثم تستنفذ هذه النقود في الطريق ولم يحسب حسابه، أو يأتي وهو على عوز لأمرٍ ضروري ثم ينقطع.
لكن فصّل بعض العلماء في السبيل، وفرّقوا بين السفر، فقالوا: يُنظر في سفره، فإن كان سفره سفر طاعة أو سفراً مباحاً لا إسراف فيه ولا سفه فإنه يعطى، أما إن كان سفره على وجه السفه أو على وجه الحرمة فلا يعطى.
وتوضيح ذلك: أنه إذا سافر سفراً مباحاً كالتجارة، ثم لما جاء إلى البلد الذي سافر إليه ضاعت نقوده أو استنفذت بسبب طول البقاء، فهذا يعطى بقدر ما يبلغه.
وقد يكون السفر واجباً، كأن يسافر لحج وعمرة، وهما عليه فريضة، فيسافر من أجل القيام بفرض الله عليه، فينقطع، فحينئذٍ يعطى.
أما لو سافر لأمرٍ محرّم فيه عقوق أو ارتكاب محرم فإنه لا يعطى؛ لأنه إعانة على الحرام، والشرع لا يأذن بالحرام، فكأننا إذا أعطيناه أعناه على الحرام.
وقال بعض العلماء: إنه يعطى إذا كان سفره إلى الحرام وأراد أن يرجع إلى بلده، وظهرت عليه آثار توبته ورجوعه إلى الله، أما إذا كان مستمراً على معصيته واعتدائه لحدود ربه فإنه لا يعطى؛ لأنه آثم في ذهابه ورجوعه، وحينئذٍ لا يعطى على هذا الوجه.(98/10)
حكم إعطاء من يستحق الزكاة ما يكفيه هو ومن يعول
قال المصنف رحمه الله: [ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم].
قوله: (ومن كان ذا عيال) بعد أن بيّن لنا الأصناف الثمانية، وأراد أن يبين لك أنك إن أعطيت الفقير لفقره، أو المسكين لمسكنته، فينبغي عليك أن تنظر إلى عياله، ومن تلزمه نفقتهم، فقال: (من كان ذا عيال) يعطى قدر نفقتهم.
فلو أن رجلاً عنده خمسة أطفال وزوجة، وعندك زكاة، وتعلم أن نفقته وحده هي ثلاثة آلاف، ونفقته مع عياله تصل إلى اثني عشر ألفاً، فتعطيه اثني عشر ألفاً؛ لأن من تلزمه نفقته منزَّلٌ منزلته، ومن كان ذا عيال يعطى نفقته ونفقة عياله.(98/11)
حكم إعطاء الزكاة لصنف واحد
قال المصنف رحمه الله: [ويجوز صرفها إلى صنف واحد].
أي: ويجوز صرف الزكاة لصنف واحد من هذه الأصناف الثمانية، وهذه مسألة خلافية، قال بعض العلماء: تعمِّم الزكاة على الأصناف الثمانية، فتقسم الزكاة ثمانية أسهم، فلو كان عندك ثمانية آلاف زكاة، تجعل ألفاً للفقراء وألفاً للمساكين وألفاً للغارمين إلى آخره.
وقال بعض العلماء: يجوز أن تصرف الزكاة لصنف واحد، واحتجوا بحديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فخصّ الفقراء وهم صنف واحد من أصناف الزكاة، ولم يذكر أصناف الزكاة الثمانية، فدل على مشروعية الصرف لوجهٍ واحد من الوجوه الثمانية، وهذا هو الصحيح.(98/12)
حكم إعطاء الزكاة للأقارب
قال المصنف رحمه الله: [ويسن إلى أقاربه الذين لا تلزمه مئونتهم].
أي: كأخيه وأخته، فإن الفقير المحتاج من الأقرباء قد يمتنع الناس من الإحسان إليه لوجود قرابتك منه، فإنهم يقولون: هذا قريب لفلان الغني، ولا يتصوّرون أنك لا تعطيه، فلو حُرم من زكاتك، وحُرم من زكاة الناس فلن يعطى شيئاً، ولذلك يعطى القريب، وهو أحق من غيره وأولى.
وقال بعض العلماء: إن صرف الزكاة للأقرباء فيه أجرٌ زائدٌ على أجر الزكاة وهو أجر الصلة والإحسان، ولذلك يبتدئ بالقرابة فيبدأ بهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحق للأقرباء مقدماً على حق الأبعدين، فيبدأ بالأقارب ويعطيهم، وهذا أفضل وأكمل.(98/13)
الأسئلة(98/14)
حكم صرف زكاة الفطر إلى المساكين فقط
السؤال
هل أهل الزكاة الثمانية يشملهم زكاة الفطر، أم هي مختصة بالمساكين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (زكاة الفطر طعمة للمساكين)؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد رجّح غير واحد من العلماء تخصيصها بالمساكين، وإذا كانت للمساكين فمن باب أولى أن تكون للفقراء، وذلك أنها شُرعت لإغنائهم عن السؤال يوم العيد وليلته، ومن هنا قالوا بتخصيصها بهذا الصنف من أصناف الزكاة.
والله تعالى أعلم.(98/15)
الفرق بين الزكاة والصدقة
السؤال
ما الفرق بين الزكاة والصدقة؟
الجواب
الزكاة فريضة، والصدقة نافلة، وقد تُطلق الصدقة بمعنى الزكاة.
وإنما سمِّيت الصدقة صدقة؛ لأن الإنسان يصدق فيها رغبته في طاعة الله عز وجل، والسبب في ذلك: أن الإنسان بالصدقات يتجاوز حدود الواجب إلى غير الواجب، فكأنه صدق في محبة الله عز وجل، وصدق في التماس ما عند الله من الأجر والمثوبة بإنفاق ماله أو نحو ذلك من وجوه الخير التي يفعلها.
وعلى ذلك قالوا: إن الصدقة تكون نافلة، والزكاة تكون واجبة، ثم الصدقة تكون في وجوه الخير عموماً، والزكاة لا تصرف إلا لأصنافها الخاصة، والصدقة تكون من جميع الأموال، ولكن الزكاة لا تكون إلا من أموال مخصوصة.
والصدقة لا تتقيد بوقت، والزكاة تتقيد بوقت، وبناءً على ذلك تفترق الصدقة عن الزكاة.
وأمر الصدقة أعمّ من أمر الزكاة، ولذلك لا يشترط فيها ما يشترط في الزكاة، ولا تعتبر آخذة حكم الزكاة، حتى قال بعض العلماء: إنه قد يجوز الشيء في الصدقة ولا يجوز في الزكاة، كقول من يقول بجواز أخذ الهاشمي ومن كان من آل البيت من الصدقات العامة، ولا يجوز أن يأخذ من الزكاة، وإن كان الأقوى والأرجح أنهم لا يأخذون من عموم الصدقات.
والله تعالى أعلم.(98/16)
حكم إعطاء الفقير من الزكاة مع العلم باستخدامه بعضها فيما لا يجوز
السؤال
إذا علمت أني إذا أعطيت الفقير من الزكاة أنه سيشتري ببعضها ما ينفعه، وببعضها ما لا يجوز شراؤه، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
إذا أعطيت الفقير لفقره، وقدّرت المال لحاجته الأصلية التي هي مباحة مشروعة، فإنه يتحمل المسئولية أمام الله عز وجل في إنفاقه على غير ذلك، وقال بعض العلماء وكان بعض مشايخنا يميل إلى هذا القول: إنه يُجتهد في هذا الذي يُخشى أن يصرف المال في الحرام، فإن كان له قريب صالح ديِّن أمين بحيث يكون بمثابة الولي عليه، يستطيع أن يحجره عن هذا الحرام، فيُعطى المال لهذا القريب، ثم يُنفق عليه في حاجته الأصلية، ولا يعطيه عيناً، وإنما يقوم بشراء حوائجه الأصلية بمثابة الحجر عليه.
والله تعالى أعلم.(98/17)
حكم أخذ الوكيل الفقير من الزكاة
السؤال
هل إذا كان الوكيل فقيراً وفي حاجة للمال، فهل يجوز له أن يأخذ منه؟
الجواب
هذا فيه تفصيل، إذا قال صاحب المال للوكيل: خذ زكاتي وأعطها فقراء بني فلان أو أعطها إلى فلان، فعليه أن يؤديها إلى هؤلاء الفقراء، ولا يجوز له أن يأخذ منها شيئاً؛ لأنه وكيل بالإعطاء، وليس له حظ النظر في الزكاة، ولا يجوز أن يخلِّف منها شيئاً.
الحالة الثانية: أن يقول له: اصرفها للمحتاجين، أو لك النظر فيها، أو يفوضه في أمر الزكاة، فحينئذٍ يجوز له أن يأخذ منها إذا كان محتاجاً.
والله تعالى أعلم.(98/18)
المخاطب بالزكاة بعد بيع الحب بعد حصاده وبدو صلاحه
السؤال
لو باع رجلٌ حبوب المزرعة وقد بلغت النصاب، وذلك عند الحصاد، فمن يدفع الزكاة البائع أو المشتري، أثابكم الله؟
الجواب
إذا باع المالك الحقيقي للمزرعة الحب فإن البيع لا يصح إلا بعد بدو الصلاح، وإذا بدا الصلاح وهو في ملكه، فإنه المخاطب بالزكاة، وحينئذ يجب عليه أن يؤدي زكاته، فالزكاة واجبة على رب البستان وصاحبه، وليس على المشتري؛ لأن رب البستان قد وجبت في ذمته الزكاة ببدو الصلاح في حبه.
والله تعالى أعلم.(98/19)
حكم زكاة من كان لديه أرض يريد بيعها ولم يبعها إلا بعد عشر سنوات
السؤال
رجلٌ لديه أرضٌ اشتراها منذ عشر سنوات بنية بيعها بعد فترة، ولم يعرضها للبيع مدة العشر سنوات، ثم عرضها بعد ذلك، فماذا يكون عليه من الزكاة؟
الجواب
إذا باعها وتحقق بيعها زكّاها لسنة واحدة على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم، وهو قول طائفة من السلف كـ سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر وخارجة بن زيد وغيرهم من فقهاء المدينة السبعة، واختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة، واختاره بعض أصحاب الشافعي، وهو أقوى الأقوال، أنها تُزكى لسنة واحدة بعد البيع والقبض.
والله تعالى أعلم.(98/20)
حكم زكاة من معه تجارة وعليه دين ينقص النصاب
السؤال
رجل عنده محل تجاري، ويقوَّم ما فيه بعشرين ألف ريال، وعليه دينٌ يقدّر بخمسين ألف ريال، فهل عليه زكاة في هذا المحل، مع أنه وقت الزكاة لا يملك مالاً ليزكي به؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، بعض العلماء يرى أن من كان عليه دين يسقطه مما يملك من الأموال، وبعضهم يرى أنه إذا حال الحول والمال عنده، فإنه مالكٌ لهذا المال، وبناءً على ذلك لا يُعقل أن يمتنع من سداد الناس لحقوقهم ويمتنع من أداء حق الله في ماله، فيخيّر بين أمرين: إما أن يسدد الديون قبل حولان الحول حتى يبرأ من الزكاة، وإما أن تلزمه الزكاة بحلول الوقت، وهذا القول هو أحوط القولين وأولاهما في النظر.
والله تعالى أعلم.(98/21)
حكم البيع في فناء المسجد وأروقته
السؤال
ما حكم البيع في فناء المسجد وأروقته؟ وهل هي في حكم المسجد؟
الجواب
فناء المسجد ورحبته لا تأخذ حكم المسجد، ولذلك لا تجب فيه تحية المسجد بالإجماع، ومن خرج إليه وهو معتكف بطل اعتكافه، ويجوز للمرأة الحائض أن تجلس فيه، فدل على أنه غير آخذ حكم المسجد، لكن إذا أراد أحدٌ أن يبيع فيه نظر: فإن أدى إلى الضرر، كأن يرفع صوته بعرض السلع وينادي ويصيح فيشوش على المصلين ويكون المسجد صغيراً بحيث يسمعه من بداخله فيمنع، أما لو كان بعيداً والمصلون بعيدون عنه، وهو ينادي بصوتٍ معقول، ولا يتضرر من بداخل المسجد، فيترك الرجل لينال رزقه، خاصة وأنه لا يقف في هذا الموقف إلا وهو محتاج، فمثل هذا لا يُمنع إذا كان لا يشوش على الناس ولا يؤذيهم، أما إذا ضيق عليهم وآذاهم، وأضر بهم، واجتمع الناس به فتضرر الناس في خروجهم من المساجد، ولربما تعثروا أو آذى بعضهم بعضاً، فحينئذٍ يعتبر آثماً شرعاً.
والله تعالى أعلم.(98/22)
حكم الدم الذي ينزل بعد الأربعين للمرأة النفساء
السؤال
امرأة قضت الأربعين بعد النفاس ولم تطهر، وإذا طهرت نصف يوم عاد إليها الدم، وهكذا حتى وصلت اليوم السادس والأربعين، علماً بأن هناك علاجاً تستخدمه، فهل يكون هذا العلاج سبباً في استمرار الدم حيث إنه منظِّف لبقايا الدم؟
الجواب
هذا السؤال فيه جانبان: جانب شرعي، وجانب طبِّي: أما الجانب الشرعي: فالمرأة إذا أتمت أربعين يوماً في نفاسها فإنه يُحكم بطهرها، وبعد الأربعين إذا رأت الدم فهو دم استحاضة وليس بدم نفاس، إلا في حالة واحدة، وهي: أن ترى دم الحيض بصفاته، فيكون دخل الحيض على النفاس، فتنتقل من النفاس إلى الحيض بعادتها، أما إذا لم تر علامة الحيض والدم مستمرٌ معها فمُضي أربعين يوماً يعتبر دليلاً على انتهاء مدة النفاس، لحديث أم عطية رضي الله عنها أنه: (كانت النفساء تمكث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً)، فإذا خلّفت الأربعين فقد طهُرت.
وأما بالنسبة للجانب الطبي؛ وهو: هل يكون هذا الدواء سبباً أو لا، فهذا مرده إلى الأطباء ولا يُسأل عنه العلماء، فهم أعرف بدوائهم وما صرفوا من علاجهم.
أما من الناحية الشرعية فما زاد عن الأربعين فإنه يُعتبر استحاضة، إلا في حالة واحدة هي دخول الحيض على النفاس، فإذا دخل الحيض على النفاس حكمنا بانتقالها من النفاس إلى الحيض، وحينئذٍ تمكث أيام عادتها التي اعتادتها قبل نفاسها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(98/23)
شرح زاد المستقنع - باب أهل الزكاة [2]
هناك أصناف لا يجوز دفع الزكاة إليهم، وهم: بنو هاشم وبنو المطلب ومواليهم، وأصول المزكي وفروعه، ومن تجب عليه نفقته، والزوج والعبد ونحوهم.
ولا يجوز دفع الزكاة إلا لمن يستحقها بصدق، ومعرفة المستحق تتحقق بأمور ذكرها الشيخ في هذه المادة، وذكر فضل صدقة التطوع وبعض ما يتعلق بها من أحكام.(99/1)
حكم دفع الزكاة إلى بني هاشم وبني المطلب ومواليهم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [فصل: ولا تدفع إلى هاشمي ومطّلبي ومواليهما].
فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله الأصناف الثمانية الذين سمّى الله في كتابه، وأمرنا بدفع الزكاة إليهم، شرع في بيان هذا الفصل المهم، والذي يتعلّق بالصفات التي تمنع استحقاف أخذ الزكاة، فهذه الأوصاف التي سيذكرها المصنف رحمه الله تعتبر مانعة من أخذ الإنسان للزكاة ولو كانت فيه صفة من صفات أهل الزكاة، كأن يكون فقيراً أو مسكيناً، فإذا وُجد فيه مانع من هذه الموانع فإنه لا تُصرف الزكاة إليه.
ولما قال المصنف رحمه الله: (ولا تدفع) لا نافية، أي: لا يجوز دفعها لهاشمي، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يجوز الدفع إلى هؤلاء الذين سيذكرهم رحمة الله عليه، ويكون هذا دالاً على تحريم الدفع، فمن كان يعلم أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى هاشمي فدفعها للهاشمي، فإنه يأثم.
المسألة الثانية: أنه لما قال: أنها إذا دُفعت وعلم الإنسان أنه تحرُم الصدقة والزكاة على هذا النوع، فدفع إلى هذا الممنوع من دفعها إليه، فإنه لا تجزيه الزكاة، ويجب عليه أن يقضي، وتعتبر صدقة من الصدقات النافلة، أما بالنسبة للفريضة فلا تزال في ذمته، ولو كان جاهلاً ثم علم بالحكم؛ فإنه يلزمه القضاء، ويسقط عنه الإثم لمكان الجهل، ولكنه يُطالب بضمان حق الله عز وجل على الأصل المقرر في الجاهل، أن الجهل يوجب سقوط الإثم، ولكنه لا يُسقط الضمان في الحقوق.
وبناءً على ذلك فإن المصنف رحمه الله حينما نص على حرمة الدفع لمن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن دفع الزكاة إليه فكأنه يقرر هذين الأمرين: حرمة الدفع، وأن من دفع لا يجزيه ذلك عن زكاة الفرض وأن عليه القضاء.(99/2)
تعيين بني هاشم
قوله رحمه الله: (إلى هاشمي): هو نسبة إلى هاشم بن عبد مناف، وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في تحريم دفع الزكاة لبني هاشم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحلّ لمحمدٍ ولا لآل محمد)، فأجمع العلماء رحمهم الله على حرمة دفعها لبطون بني هاشم، ويشمل ذلك: آل العباس، وآل عقيل، وآل علي، وآل جعفر، وآل الحارث بن عبد المطلب، واختلف في آل أبي لهب -وهم البطن السادس-، هل يجوز أن تصرف لهم الزكاة، أو لا يجوز دفعها إليهم؟ فقال بعض العلماء: آل أبي لهب يعتبرون من آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين لا يجوز صرف الزكاة إليهم.
وقال بعض العلماء: إن آل أبي لهب يخرجون من هذا المنع؛ لأن أبا لهب كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل ما ذكر الله عز وجل في كتابه من الوعيد الشديد له لتكذيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأذيته له على رءوس الناس، فقالوا: خرجوا من هذا؛ لأن المنع للفضل والتكريم، وكان أبو لهب شديداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم معادياً للإسلام، فخرج من هذا.
ولـ أبي لهب عتبة ومعتِّب وقيل: معْتِب، اللذان أسلما وشهدا فتح الطائف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهل ذرِّيتهما يمنعان من الزكاة كما يمنع بقية الآل أو لا؟ هذان الوجهان للعلماء رحمهم الله، والأصل يقتضي أن تمنع الزكاة عنهم؛ لأنهم داخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا فهمنا من الآل النصرة مع القرابة، فحينئذٍ لا يدخلون، ولكن الأول أوجه بمقتضى لفظ النبي صلى الله عليه وسلم.(99/3)
أقوال العلماء في دخول بني المطلب مع بني هاشم
قوله: (ولا لمطَّلبي): بنو المطلب هم نسبة إلى المطلب بن عبد مناف وهو أخٌ لـ هاشم، وله أخوان آخران وهما نوفل وعبد شمس؛ لأن عبد مناف له أربعة من الولد وهم: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس.
فالنوفليون والعبشميون، وهم نسبة إلى نوفل وعبد شمس لا يدخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحرُم الصدقة عليهم بالإجماع، بل يجوز دفع الزكاة إليهم، وآل هاشم يدخلون بالإجماع على التفصيل الذي ذكرناه.
واختلف في المطلب بن عبد مناف، فظاهر النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آل المطلب بن عبد مناف داخلون في المنع، وأنهم من آل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول يختاره فقهاء الشافعية، وهو قولٌ عند المالكية، ورواية عن الإمام أحمد اختارها المصنف رحمة الله عليه، فإن آل المطلب بن عبد مناف تحرُم عليهم الصدقة، ويدخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدل الذين قالوا بأن آل المطلب يدخلون في آل النبي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحد) وفي رواية: (لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام)، وهذا نصٌ صحيح صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في اعتبار آل المطلب كآل هاشم، وإذا كان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ورد بسبب النصرة، فإن هذا لا يقتضي تخصيص الحكم؛ لأن القاعدة في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ في مسألة الخُمس، فأدخلهم في خُمس الخُمس، وعدهم من آله وقرابته عليه الصلاة والسلام الذين يصرف لهم خمس الخمس، وقال: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)، وقال: (إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام)؛ لأنهم حُوصروا في شعب أبي طالب مع آل هاشم، فدل هذا النص على أنهم مع بني هاشم كالشيء الواحد، وإذا كان الأمر كذلك فظاهر اللفظ أنهم يُمنعون.
القول الثاني: ذهب طائفة من العلماء من فقهاء الحنفية وبعض فقهاء المالكية، وقيل: إنه هو المعتمد في مذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد: أنهم لا يدخلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الحكم بدخول بني المطلب في مسألة خمس الخمس، وقالوا: إن هذا يدل على أنهم مع بني هاشم من جهة النصرة لا من جهة العموم.
والصحيح هو القول الذي اختاره المصنف على ظاهر النص؛ لأن القاعدة في الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد) دل ذلك على أنهم شيءٌ واحد دون تفريق، وكونه يرد لسبب خاص لا يقتضي التخصيص.
إضافة إلى أمر ثان: وهو أننا لو سلّمنا أن الحديث ورد في مسألة خمس الخمس، فإنه قد جاء في الرواية الأخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يخاطب آله: (إني أرغب لكم عن أوساخ أيدي الناس، ولكم في الخمس غِنَى) أي: أنه جعل في وجود خُمس الخمس غنى عن الصدقات.
فإذا تأملت هذا الحديث -أن خُمس الخمس غنى عن الصدقات- وآل المطلب هم داخلون مع آل هاشم في خمس الخمس دلّ على أنهم كذلك يمنعون؛ لأن المعنى موجود فيهم، فلو سلم النص الذي يستدلون به على التخصيص، فإننا نقول: علّته تقتضي التعميم.
وعلى هذا فيحرم دفع الزكاة إلى: آل العباس بن عبد المطلب، وآل عقيل بن أبي طالب، وآل علي بن أبي طالب، وآل جعفر بن أبي طالب، وآل الحارث بن عبد المطلب، وكذلك آل أبي لهب، على أصح قولي العلماء رحمة الله على الجميع، وهؤلاء كلهم من بني هاشم، ثم يلحق بهم آل المطلب بن عبد مناف، وعلى هذا يحرم دفع الزكاة إلى هؤلاء.(99/4)
العلة في تحريم دفع الزكاة إلى بني هاشم وبني المطلب
لقد علّل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن الزكاة تعتبر طُهرة للناس وطهرة لأموالهم، كما قال سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فأخبر أنها طُهرة، فإذا كانت طُهرة فإن آل النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الشرف والمكان ما هم أرفع من أن يقبلوا هذه الطهرة، كما جاء في الخبر: (إنها أوساخ الناس).
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه رأى الحسن أو الحسين يتناول تمرة من تمرات الصدقة فقال: كخ كخ، إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، وعلى هذا فإن تحريم الصدقة عليهم لمكان الشرف؛ ولأن الله سبحانه وتعالى فضلهم بهذه المزية لمكان قرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن لهم الحق ولهم الفضل الذي يجب على كل مسلم أن يحفظه لهم، وأن يرعى لهم الحرمة، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تفضيل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وإجلالهم وإكرامهم، وأن ذلك مما يُتقرب به إلى الله عز وجل، ولكن بشرط أن يكون في الحدود الشرعية بعيداً عن الغلو، فلا يجحِف الإنسان بحقهم فيساويهم بعامة الناس كما هو صنيع الجهال والرعاع، ولا يرفعهم عن مقامهم الذي يليق بهم، وإنما يعطيهم الحق، قالوا: إنهم يفضلون حتى في المجالس، فيُكرمون ويجلُّون ويقدَّرون؛ لمكان قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والله لا آذن، والله لا آذن، والله لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها)، فجعل آله عليه الصلاة والسلام ومن هم منه بمثابته هو عليه الصلاة والسلام قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، ولذلك عظُمت حرمتهم ووجب حفظ حقوقهم.(99/5)
شرف الانتساب إلى آل النبي صلى الله عليه وسلم
وقوله رحمه الله: (ولا تدفع إلى هاشمي ومطّلبي) قلنا: إن المطّلبي يلحق بالهاشمي على الصحيح، وآل النبي صلى الله عليه وسلم يُعرفون بإثبات النسب، كأن تكون لهم الشجرة التي تثبت نسبتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده الشجرة التي تثبت النسبة حلّ له أن ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرُم عليه أن يقبل الزكاة من الناس، وهكذا الصدقات النافلة على أصح قولي العلماء كما سيأتي.
وكذلك يعرف كذلك آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بالشهرة والسماع، والقاعدة عند العلماء: أن السماع يثبت النسب، فهناك شهادة تسمى عند العلماء بشهادة السماع والاستفاضة، وهي أن يُعرف أن هذا البيت من آل النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون هناك لقب معروف على مستوى الحي أو على مستوى المدينة يعرف أنه لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وينتسب الإنسان إليه، فهذا من القرائن الظاهرة.
وتعتبر شهادة الاستفاضة والسماع موجبة لثبوت النسب، ولذلك يحكم العلماء رحمهم الله بها في القضاء كما قرر الفقهاء رحمهم الله في باب الشهادة، فإذا استفاض أن فلاناً ينتسب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ أحكامهم، ولا يجوز لأحد أن يطعن في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو يشكك في أنسابهم، فذلك من الخطورة بمكان، فإن هذا يعتبر من أشد أنواع القذف وأسوئها، أن ينفي نسبة إنسان إلى آل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثبوت نسبته أو اشتهاره بين الناس أنه من آل النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمع بين كبائر: أولها: قذفه بإخراج نسبه عن الأصل الصحيح فينسبه إلى غير أهله.
وثانياً: لما فيه من الأذية لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وقذف غيرهم ليس كقذفهم، ولذلك جعل الله عز وجل عظيم الوعيد لمن قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وعلى هذا فإنه إذا ثبت واستقر عن الإنسان أنه ينتسب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم سرت عليه الأحكام؛ فحرُم إعطاء الصدقة إليه، وحرُم دفع الزكاة له، وحرُم قبوله للصدقات.(99/6)
أقوال العلماء في حكم إعطاء موالي بني هاشم وبني المطلب من الزكاة
وقوله: (ومواليهما): يعني: موالي بني هاشم وموالي بني المطلب.
المولى: هو العتيق، يكون عند الإنسان عبد ثم يعتقه، فإذا أعتقه فإنه يكون مولى له، وحينئذٍ يقال: مولى بني فلان، وينسب ويقال: الهاشمي مولاهم، يعني نسبته إلى بني هاشم من جهة الولاء.
وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم هذا الولاء، وقال: (قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق)، فأخبر أن الولاء لمن أعتق، فإذا أعتق الهاشمي عبداً فإنه يعتبر مولىً لبني هاشم، ولو أعتق المطَّلبي عبداً فإنه يعتبر مولىً لبني المطّلب، وحينئذٍ فهؤلاء الموالي الذين أصلهم عبيد يعتبرون آخذين لحكم أسيادهم الذين أعتقوهم، فتحرُم عليهم الصدقة سواءً كانت فريضة أو كانت نافلة على الصحيح.
والدليل على ذلك: أن أبا رافع وكان مولىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل ولايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة فتح الطائف حينما حاصرها عليه الصلاة والسلام، فنزل رضي الله عنه وأرضاه، ثم أعتقه فكان مولىً للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى أبي رافع رجلٌ من بني مخزوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمل هذا الرجل المخزومي على الصدقة، فقال الرجل المخزومي لـ أبي رافع: اصحبني كيما تصيب مما أصيب، يعني حتى يكون لك شيءٌ مما آخذه في عمالتي على الزكاة، فقال أبو رافع: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرّم عليه ذلك وقال: (إن مولى القوم منهم).
فهذا نصٌ صحيح صريح يدل على أن موالي آل البيت لا يجوز صرف الزكاة إليهم، ولا يحل أخذهم لهذه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مولى القوم منهم).
ولما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (الولاء لحمة كلحمة النسب)، فجعل الولاء لحمة كلحمة النسب، فلما كان آل بني هاشم يحرم عليهم بالانتساب للبيت فكذلك مواليهم يعتبرون منتسبين للبيت من جهة الولاء، فلا يجوز دفع الزكاة إليهم.
هذا على القول الراجح وهو قول الجماهير؛ لأن بعض المالكية وبعض الحنفية يجيز دفع الصدقة للموالي، وهذا القول يعتبر مرجوحاً، ويعتذر لأصحاب مالك رحمة الله عليهم الذين يقولون بجواز دفعها للمولى بأنه ربما لم يطّلعوا على الحديث الذي دلّ على التحريم، وإلا فالأصل أن الحديث إذا استبانت حجّته للفقيه لم يجز له أن يخالفه.
وعلى هذا فإنه لا يجوز دفع الصدقة إلى موالي بني هاشم وبني المطلب، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم.(99/7)
حكم إعطاء الهاشمي والمطلبي من صدقة النافلة
من ظاهر قوله: (ولا تدفع لهاشمي ومطلبي) أنه لا يجوز دفع الزكاة، لكن يرد سؤال عن الصدقة النافلة، فللعلماء فيها وجهان: الوجه الأول: أنها تحرُم عليهم كما تحرم الزكاة الواجبة.
والوجه الثاني: أنها تحل لهم الصدقة النافلة وتحرم عليهم الصدقة الواجبة.
واستدل الذين قالوا بحرمة أخذهم من الصدقات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، وهذا كلام عام يدل على أن الصدقة على الإطلاق لا يجوز دفعها إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما في أخذهم الصدقة من الغضاضة والحط من قدرهم، ولذلك قالوا: إنه لا يُشرع أخذهم للصدقة والزكاة الواجبة، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، وهو اختيار جمعٍ من العلماء رحمة الله عليهم.
وأما ما ورد من قوله: (إنما هي أوساخ الناس) فهذا ورد ورد تعليلاً لخاص، وإذا ورد التعليل لخاص لم يقتض ذلك تعميم الحكم، بل يُقصر، أي: إنني منعتك من هذه الزكاة الواجبة؛ لأنها أوساخ الناس.
فالذي يظهر منعهم من الصدقة عموماً لفضل الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما لهم من خمس الخمس؛ لأن الله جعل لهم في خُمس الخُمس غناءً عن هذه الصدقة.
فلو قال قائل: إنه قد يأتي زمان ولا يوجد خمس الخمس؟ قالوا: إن هذا أصل شرعي، وقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجد خمس الخمس إلا في حالات الجهاد، وهي أحوال خاصة، ومع ذلك كانوا يعيشون في ضيق وشدة وحاجة، حتى جاءته بنته فاطمة تشتكي له أنها طحنت النوى بيدها حتى مجلت، ومع ذلك لم يحلّ دفع الزكاة إليها.
وعليه فإنه لا تدفع الزكاة إليهم، وكذلك الصدقة النافلة.
وبقي
السؤال
لو أنه افتقر حتى بلغ إلى مقام الضرورة، هل يجوز له أن يأكل من الصدقة، سواءً كانت نافلة أو واجبة؟
و
الجواب
أما بالنسبة من بلغ إلى مقام الضرورة فقد رخّص له العلماء رحمهم الله إذا خشي الهلاك أن يطعم من الزكاة بقدر الضرورة، وأما إذا لم يبلغ هذا القدر، ولم يصل إلى هذه الدرجة، فإنه يبقى على الأصل الموجب لتحريم أكله لصدقات الناس.(99/8)
حكم دفع الزكاة إلى فقيرة تحت غني
قال رحمه الله: [ولا إلى فقيرة تحت غني منفق].
الأصل في ذلك أن المرأة إذا كانت تحت زوج أن الزوج مطالبٌ بالإنفاق عليها، فإذا كان زوجها فقيراً وهي فقيرة جاز دفع الزكاة بالإجماع إليها وإليه؛ وذلك لوجود السبب الموجب لصرفها إليهما، لكن لو كانت هي فقيرة وهو غني فإنه لا يجوز دفعها إليها، أي: إلى هذه الفقيرة؛ لأن زوجها سيقوم بحقها.
فلو أن هذا الزوج كان غنياً بخيلاً، لا ينفق على زوجته ويقتِّر عليها، فهل يجوز الدفع، أو لا يجوز؟ الجمهور على عدم جواز الدفع؛ لأنها إذا أرادت حقها فإنها تطالبه وتقاضيه.
وقال بعض العلماء: إنه إذا كان بخيلاً جاز دفع الزكاة إليها؛ لأن وجود هذا الغني وعدمه على حدٍ سواء، فغناه لا يفيدها شيئاً، بل إنها تتضرر أكثر؛ لأن الناس يمتنعون من الإعطاء إليها لمكان غنى زوجها، وهم لا يعرفون أنه في الحقيقة مقتِّر ومقصر عليها.
وقوله: (ولا إلى فقيرة تحت غني) يفهم منه أنها إذا كانت تحت فقير أنه يجوز الدفع إليه وإليها، والعكس يجوز، فلو كانت المرأة غنية والزوج فقيراً جاز دفع الزكاة إلى الزوج؛ لأن الزوجة لا تنفق على زوجها، ولذلك خصّ الزوجة ولم ينص على الزوج؛ لأن الزوج إذا كان فقيراً وكانت زوجته من أثرى خلق الله فلا يجب على الزوجة أن تعطيه من مالها ولا أن تغنيه وحاله حال فقر، فيجوز دفع الزكاة إليه؛ لأنها ليست مطالبة بالإنفاق على زوجها.(99/9)
حكم دفع الزكاة إلى فرع أو أصل
قال المصنف رحمه الله: [ولا إلى فرعه وأصله].
أي: ولا يجوز دفع الزكاة إلى الفرع ولا إلى الأصل.
والفرع: هو الذي ينبني على غيره، تقول: فروع الشجرة؛ لأنها منبنية على أصلها، وتقول: الجريد فرع النخلة؛ لأنه منبن على جذعها، فالفرع هو الذي انبنى على غيره، والأصل هو الذي ينبني عليه غيره، فالفرع مبني على غيره.
والأصل مبنيٌ عليه الغير، وعلى هذا يقولون في الإنسان: أصوله آباؤه وأمهاته، الأقربون والأبعدون، فأبوه وجدُّه وإن علا يعتبر أصلاً له، وأمه وجدته وإن علت أصلٌ له، ويشمل ذلك المباشر وغير المباشر.
الفرع: وهم الذين يلدهم الإنسان، فله عليهم ولادة كابنه وبنته، وإن نزل الابن وإن نزلت البنت كبنت بنت البنت، وابن ابن الابن، كل هؤلاء يعتبرون من الفروع.
فلا يجوز دفع الزكاة لا إلى الأصول ولا إلى الفروع، والدليل على ذلك السنة الصحيحة التي دلت على أن الفرع مع الأصل كالشيء الواحد، وهذه المسألة نص عليها جماهير العلماء، حتى حُكي الإجماع على أنه لا يجوز صرف الزكاة لا إلى الفروع ولا إلى الأصول، والدليل على ذلك من السنة الصحيحة حديث فاطمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، وبضعة الشيء كالشيء؛ لأنها قطعة منه، فدل على أنها وإياه كالشيء الواحد.
وأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه لا يجوز أن يصرف الزكاة لأبنائه ولا لبناته؛ لأنه إذا فعل فكأنما يصرف لنفسه، لأنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، وتأكد هذا أيضاً بالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، وقال للرجل: (أنت ومالك لأبيك).
فهذه نصوص صحيحة من السنة جعلت جماهير العلماء رحمة الله عليهم يحكمون بعدم جواز صرف الزكاة للأصول وكذلك للفروع؛ لأن السنة دلت على أن الأصل والفرع كالشيء الواحد، وعلى هذا فلو أعطى أباه أو أمه من الزكاة فكأنه يعطي نفسه، وإنما يجب عليه أن يقوم بحق والديه من الإحسان إليهما.
ولا شك أنه من أعظم العقوق أن يكون الابن غنياً أو تكون البنت غنية -والمراد بالغني من عنده الفضل عن حاجته- ومع ذلك يرى والديه في الفقر والشدة ولا ينفق على والديه، فهذا من أشد العقوق الذي يؤذن بمحق البركة من المال، بل وبمحق التوفيق للإنسان، نسأل الله السلامة والعافية.
فلن تجد إنساناً يحرم والديه من فضلٍ أعطاه الله إياه إلا محق الله له البركة فيما أعطاه، وقد يجعل ما أعطاه وبالاً عليه في دنياه أو قد يجمع له بين وبال الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك ينبغي على الإنسان أن لا يبخل بماله على والديه، وإذا استطاع أن يبادرهما بالإنفاق قبل أن يسألاه فذلك من أكمل البر، ولذلك قال الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، فأصل التقدير: أحسنوا بالوالدين إحساناً، وقال تعالى: {إِحْسَانًا} [البقرة:83] وهذا مطلقٌ في الإحسان، أي: قدر ما تستطيعون من بذل الإحسان، وما يحسُن به حال الإنسان، أي: ما يُحسِن به إلى والديه في حالهما، سواءً بالقول أو الفعل، ولذلك لا يجوز أن يكون عنده المال ويؤدي الزكاة ووالديه في فقر ومسكنة، فهذا يعتبر من العقوق، ونص العلماء رحمهم الله على وجوب قيام الابن بالإنفاق على والديه إذا احتاجا.(99/10)
حكم دفع الزكاة إلى العبد
قال المصنف رحمه الله: [ولا إلى عبدٍ].
أي: ولا تدفع الزكاة إلى عبد؛ لأن العبد لا يملك، ولو دفع له انصرفت إلى سيده، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)، فهذا الحديث يدل على أن العبد لا يملك، وعلى هذا فقد أخلى يد العبد من الملكية، وجعل ماله إما للبائع وإما للمشتري، فدل على أنه لا يملك.
وعلى هذا فلا يتأتى أن يصرف الزكاة إليه؛ لأنه لا يملك، وإذا صرفها إليه فكأنه يعطيها لسيده، فإذا كان السيد محتاجاً جاز دفع الزكاة إليه بوجود الحاجة التي يؤذن بصرف الزكاة بسببها.
في حالة واحدة يستثنى فيها العبد، وهي إذا كان مكاتباً، وقد بيّنا هذا في قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60]، فإن الله عز وجل نص على دفع الزكاة للمكَاتَب كما في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فتصرف الزكاة إلى العبد إذا كان مكاتباً لسيده، وأما غير ذلك فإنه لا تصرف الزكاة إليه.(99/11)
حكم دفع الزكاة من الزوجة للزوج
قال المصنف رحمه الله: [وزوج].
أي: ولا إلى زوج أي: ولا يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها لزوجها، وهذا إذا وجد في الزوج ما يدل على حاجته وفقره ومسكنته، وهذه المسألة للعلماء رحمة الله عليهم فيها وجهان: بعض العلماء يقول: يجوز دفع زكاة الزوجة لزوجها، وأنه لا حرج عليها في ذلك، واستدلوا: أولاً: بعموم الآية الكريمة التي وردت في أصناف الزكاة.
وثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ زينب امرأة عبد الله بن مسعود حينما استأذنته أن تنفق صدقتها على عبد الله وأولاده، فأخبرها أنها إذا تصدّقت على زوجها وأولاده أنها تكون حائزة لأجرين: الصدقة، وصلة الرحم، قالوا: فهذا يدل على أنه يجوز لها أن تدفع زكاتها إلى زوجها.
والذين منعوا استدلوا: بأن الزوج ينفق على زوجته، وإذا كان الزوج ينفق على زوجته، فكأنها إذا أعطته الزكاة فهي مستفيدة من المال لا شك؛ لأن الزوج إنما يفتقر من أجل الإنفاق على نفسه وعلى من يعول، وزوجته ممن يعول، فكأنها إذا أعطته الزكاة أعطته لنفسها، فقال بعض العلماء: إنه لا يجوز إعطاء الزكاة لأجل هذه العلّة؛ لأن الزوج ينفق على زوجته من هذا الوجه.
والذي يظهر والله أعلم أنه يجوز صرف زكاتها إلى زوجها: أولاً: لعموم آية الزكاة.
وثانياً: أن هناك ما يدل على جواز الصرف عند اختلاف اليد: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما غلا القدر بلحمٍ أُعطي لـ بريرة صدقة، وأراد أن يأكل منه قالت عائشة: إنه صدقة، فقال: (هو لها صدقة ولنا هدية)، فأخبر باختلاف اليد.
فعلى هذا فلها أن تعطيه الزكاة، ثم إذا أنفق عليها ينفق كان ذلك بسبب شرعي وهو الاستمتاع، قال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]، فاختلفت اليد، والقاعدة: أنه إذا اختلفت اليد اختلف الحكم باختلاف اليد، وعلى هذا فإنه إنما يستقيم أن لو كان ينفق عليها بدون موجب، وعليه فإنه يجوز صرف الزكاة من الزوجة لزوجها.
وأجابوا عن الوالد مع ولده بأن الاستحقاق وإن كان مختلفاً فورود السنة بالنصية على أنه مالٌ للأب ومالٌ للفرع، يدل على أنهما كالشيء الواحد، ولو أخذه باستحقاق، ففُرِّق بين الوالدين وبين الزوجين من هذا الوجه، فيجوز صرف الزكاة من الزوجة لزوجها ومن الزوج لزوجته، قالوا: ولا حرج في ذلك، وحينئذٍ إذا صرفت زكاتها لزوجها يشترط أن لا تحابيه في قدر الزكاة الذي تعطيه له، فإذا كان يستحق ثلاثة آلاف لم يجز أن تزيد عليها، فإن زادت رجعت الزيادة نافلة، فلو كانت زكاتها أربعة آلاف ريال وزوجها يستحق الألفين فأعطته أربعة آلاف، فألفان زكاة وألفان صدقة، ويجب عليها أن تقضي الألفين؛ لأنه لا يستحق أن تُصرف إليه.(99/12)
حكم إعطاء الزكاة لمن لا يستحقها
قال المصنف رحمه الله: [وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه].
وذلك كأن يعطيها لإنسان يظنه فقيراً أو مسكيناً وهو غني، ثم بان بأنه ليس بأهل؛ فإنه يجب عليه أن يقضي.
وهنا ينبغي أن ننبه على مسألة مهمة، وهي أن الواجب على الإنسان إذا وجبت عليه الزكاة في ماله أن ينظر في حاله، فلا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يعلم بوجود ضعفاء أو فقراء مستحقين للزكاة، أو أن يكون عالماً بأناس مستحقين للزكاة، علماً شخصياً بنفسه، كأن يعرف جيراناً له فقراء، أو يعرف أقارب له فقراء، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يصرف لأي شخص غيرهم؛ لأنه إذا صرفها للغير الذي يشك في حاله كأنه ينتقل من اليقين إلى الشك على وجه يشك في براءة ذمته.
ولذلك يقول العلماء: إذا علم الإنسان فقراء محتاجين، وجاءه سائل يشك في أمره لم يجُز له أن ينصرف عن اليقين إلى شك، والقاعدة في الشرع: أن القدرة على اليقين تمنع من الشك، فما دمت قادراً على صرفها على وجه تستيقن منه أنها تصل إلى مستحقها فلا يجوز لك أن تعدل إلى وجهٍ تشك فيه.
وتفرّع على هذه القاعدة مسائل كثيرة، ومنها هذه المسألة، أنه ما دمت تعلم أن البيت الفلاني فيه فقراء وضعفاء محتاجون، وتعلم حاجتهم وأنهم مستحقون للزكاة، وجاءك من تشك في أمره يسألك لدين أو حادث أو فقر، لم يجز لك أن تنصرف من الأمر الذي تستيقن به صرف الزكاة على وجهها إلى أمر تشك فيه.
الحالة الثانية: أن لا يعرف الناس بنفسه، ولكن يعرفهم عن طريق الثقات، أو أناس فيهم أمانة وعدالة، ويغلب على ظنه أنهم يوصلون المال إلى مستحقه، فهؤلاء الأشخاص جاءوك وأخبروك أن هناك بيتاً من الفقراء أو المساكين، أو أن هناك شخصاً مديوناً، ويعلمون صدقه وحاجته وفقره، فحينئذٍ تنزّل هذه الحالة منزلة الحالة الأولى، ولا يجوز لك أن تعدل عن هذا الأمر الذي غلب على ظنك فيه وصول الزكاة إلى مستحقها إلى أمر تشك فيه، وتعتبر هذه الحالة لاحقة بالحالة الأولى.
الحالة الثالثة: أن لا تعلم أناساً، وليس هناك أشخاص تستطيع أن تعتمد عليهم في الكشف والتحري، وجاءك من يسأل، فلا تخلو أيضاً من حالتين: إما أن يمكنك أن تتحرى وتتثبت في أمره؛ فلا يجوز أن تدفع له مباشرة قبل أن تتحرى وتتثبت.
مثال ذلك أن يقول لك: إنه يسكن في حي ما، فتقول له: اذهب وأحضر لي شهادة من إمام المسجد أو أحضر لي من جيرانك من أعرفه يزكيك أو يشهد بأنك محتاج أو أنك فقير، ففي هذه الحالة إذا أمكنك بالتحري والسؤال أن تعرف جليّة أمره، كان من التساهل والتفريط في حق الله عز وجل أن يُدفع المال إليه مباشرة؛ والأمانة والصدق في القول من العدالة، والله عز وجل يقول: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فأخبر بكونه ظالماً وجاهلاً، فكان الأصل أنه ينبغي أن يزكَّى، حتى يغلب على الظن صِدْقُه، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان على ظهر غنى وأصاب ماله جائحة أن يقوم اثنان من ذوي الحجى يشهدان بأن مال فلان قد أصابته جائحة.
فعلى هذا يكون من التفريط والتساهل أن يأتي الإنسان إلى صدقة واجبة عليه فيعطيها لكل من سأل، ومن جاءه أعطاه، ومن أخبر له صدّقه، فهذا من التساهل والتضييع.
بل قد تجد أجرأ الناس على السؤال من أكذب خلق الله وأكثرهم حيلة، بل قد تجده يملك من الأموال ما لا يملكه الذي يتصدق عليه، وقد رأينا ذلك بأعيننا، ولا نبالغ فيه، بل وجدنا من يملك العمارة والعمارتين وهو يسأل ويكذب ويدعي أنه محتاج، وقد بنى ثروته وأمواله على السؤال، خاصة في هذا الزمان، عندما تساهل كثير من الأغنياء.
ولذلك لما تساهل الأغنياء في صرف الزكاة إلى المستحقين عظُمت حاجة الناس، ووجد الضعفاء والفقراء الذين هم في فقر وضعف ومسكنة لا يعلمها إلا الله عز وجل، وضاعت حقوقهم بسبب هؤلاء السؤَّال، والغني يحضر ماله وكل الذي يريده أن يخلص من هذه الزكاة، ويحس أنه من الورع أن يتخلص منها مباشرة، ويعطيها لكل من هب ودب، وهذا لا تبرأ به الذمة، وأنت تعلم أن هذا الزمان فيه الكذب وفيه الغش وفيه التدليس، فتأتي إلى حق الضعفاء والفقراء والمساكين والمديونين والمعسرين، فتتساهل فيه فتعطيه لكل سائل، وتعطيه لكل من يقف عليك، فهذا من التساهل.
فإن كنت عاجزاً بحثت عمن تثق بدينه وأمانته، بأن تذهب إلى إمام مسجد أو تذهب إلى عالم تثق بدينه وأمانته، فتعتمد عليه بعد الله عز وجل في صرف زكاتك، أما أن تُعطى الزكاة لكل من سأل، ثم إذا بان غنياً عفي منها فلا، هذا من الصعوبة بمكان، ولا شك أنه يضيِّع حقوق الفقراء والضعفاء والمساكين، وعلى هذا فإنه ينبغي التفصيل.
أولاً: إن كان الشخص بنفسه يعلم الضعفاء والفقراء لم يَجُز له أن يصرف المال للسؤَّال الذين يشك في أمرهم.
ثانياً: إذا كان لا يعرف ولكنه يستطيع أن يعتمد على من يثق بدينه وأمانته من أهل العقل والحجى ويسلمهم زكاته وجب عليه ذلك، ولم يجز له أن يعطي الزكاة لكل سائل وهو لا يعرف أهو صادق أو كاذب.
ثالثاً: إذا لم يمكنه الأمران، وأمكنه أن يعتمد على تزكية إمام مسجد أو تزكية جيران يثق بهم طولب بذلك.
فإن تعذر عليه في هذه الحالة، ولم يستطع أن يستجلي الأمر بنفسه، ولم يستطع أن يطالبه كأن تكون حاجة نازلة، أو يكون غريباً منقطعاً، كابن السبيل، فحينئذٍ إن دفع له الزكاة على هذا الوجه فإنه يتحرى فيما في وسعه، كأن يسأله: متى قدمت، أو يسأله عن أمورٍ يظهر بها صدقه وكذبه.
فإذا فعل ذلك وتحرّى وبان خطؤه، فمذهب طائفة من العلماء: أنها تجزيه؛ لأنه اجتهد وتحرّى ولم يكلّفه الله إلا ما في وسعه.
ومذهب طائفة من العلماء: أنه يلزمه الضمان لأنه قصّر، ولو تحرى لتبيّن له الأمر، ومن قصّر يلزم بعاقبة تقصيره، والتفصيل في هذه المسألة قوي: فإن كان هناك ضعفاء غير هذا الفقير وتساهل في صرفها إلى هذا السائل المشكوك في أمره ضمن، وإلا قوي القول الذي يقول بالإسقاط وببراءة الذمة.
وقوله: (وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه).
أي: إن أعطاها لمن ظنه أهلاً فبان أنه غير أهل، أو أعطاها لغير المستأهل كأن يعطيها لغني، فلو أعطاها لإنسان يظنه غنياً ثم بان فقيراً فهل تجزي؟ للعلماء قولان: قال بعض العلماء: تجزيه؛ لأنها وصلت للمستحق، وقال بعضهم: لا تجزيه، وهو الصحيح.
والسبب في هذا: أنه إذا أعطاها لغني فهو مستهتر خارجٌ عن قصد القربة والعبادة بالزكاة، فتخلّفت نية الزكاة المعتبرة، وحينئذٍ تكون هبة لمحض الفضل منه، ولا تكون زكاة شرعية، ويلزمه قضاؤها.
قال المصنف رحمه الله: [إلا لغني ظنه فقيراً].
والأصل في ذلك حديث الصحيح في قصة الرجل الذي تصدّق على الزانية وتصدق على الغني، فقيل له: (أما الزانية فلعلها أن تستعف، وأما الغني فلعله أن يتّعظ ويدَّكر)، قالوا: إن هذا يدل على أنه إذا تصدَّق على غني يظنه فقيراً أنه يجزيه.
وقال بعض العلماء: لا يجزيه؛ لأنه قصَّر، والحديث شرع من قبلنا وهو شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، والأصل في الشرع أنه يجب عليه أن يتحرى ويسأل، وعلى هذا فلا يجزيه، والحديث وارد في صدقة النافلة، ولا يعتبر دليلاً على جواز الاعتداد بها في صدقة الفريضة.(99/13)
فضل صدقة التطوع
قال المصنف رحمه الله: [وصدقة التطوُّع مستحبة].
التطوُّع: تفعُّلٌ من الطاعة، ووُصِف التطوع بكونه تطوعاً؛ لأن الإنسان يزداد تقرباً وتحبباً إلى الله عز وجل بفعله.
وكأنه بفعله لهذه الطاعة غير الواجبة ازداد امتثالاً للشرع؛ لأن الشرع أوجب عليه الفرائض ولم يوجب عليه النوافل، فكونه يفعل النوافل فيه دلالة على قربه من الله عز وجل وحبِّه لله سبحانه وتعالى، ولذلك سميت صدقة؛ لأن صاحبها يصدق في حبه لله عز وجل، ويصدق في قصد التقرُّب إليه سبحانه وتعالى.
وقوله: (مستحبة) أي: مندوب إليها شرعاً، يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، والأصل في أنها مستحبة نصوص الكتاب والسنة.
أما نصوص الكتاب: فإن الله شرّف الصدقات النافلة وفضّلها وعظّم شأنها، حتى وصفها بوصف قلّ أن يصف به غيرها، فقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، فجاء بأمرين: أحدهما: أنه وصف الصدقة النافلة بأنها قرض، والله أغنى الأغنياء، ولا غنى فوق غنى الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك وصف كون المتصدق بأنه يُقرض الله عز وجل، ولذلك لما نزلت هذه الآية جاء أبو الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟!).
وهذا يدل على أن الصحابة كانوا يتأملون ألفاظ القرآن، وكلّما تأمّلت ألفاظه وتدبرتها وجدت فيها معاني عجيبة، تزيد من خير الإنسان وتزيد من طاعته لله عز وجل.
فكم من مرة يقرأ الإنسان قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] ولا يتأمل، لكنك لو تأملت أن الله ملك الملوك وأغنى الأغنياء سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245]، {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ} [التغابن:17]، هذا كله يدل على فضل الإنفاق، فقال: (يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: نعم؛ ليرفع من درجاتكم، ويكفر من خطيئاتكم) أي: يستقرضكم وهو غنيٌ عنكم، فلا تنفعه طاعتكم ولا تضره معصيتكم، ولكنه يستقرضكم لأمرين: يرفع من درجاتكم بالحسنات، ويكفر من خطيئاتكم والسيئات، فقال رضي الله عنه: (يا رسول الله! إن لي بالمدينة حائطاً فيه ستمائة نخلة، أشهدك أنها لله ورسوله).
كان الجيش بكامله والسرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي بجرابٍ من تمر، فستمائة نخلة ليست بالهينة وليست باليسيرة، وقد تكون عناء حياته، وقد تكون رأس ماله.
فانطلق رضي الله عنه إلى حائطه، فوجد امرأته وهي تجمع التمر من تحت النخل هي وصبيانها، فقال رضي الله عنه يخاطبها: بيني، أي: اخرجي.
بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي أقرضته الله على اعتماد إلا رجاء الضعف في المعاد والبر لا شك فخير زاد قدّمه المرء إلى التنادي لكن من المرأة الصالحة المؤمنة، ما قالت له: ضيّعتنا، ولا قالت: أفقرتنا، ولا قالت: ما هذا الذي تفعله، ولا قالت: أمجنون أنت، بل قالت له: بشّرك الله بخير وفرح مثلُك أدى ما لديه ومنح قد متّع الله عيالي وفرح بالعجوة السوداء والزهو البلح والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح ثم ضربت أيدي صبيانها وخرجت من الحائط بلا تمرة واحدة.
كان الصحابة رضوان الله عليهم رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، يشترون مرضاة الله عز وجل، ولذلك فضّل الله الصدقة.
فخرج إلى الحائط، وقطّع عراجينه، وجاء إلى المسجد وعلّق فيه تلك العراجين، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فلما خرج نزل عليه جبريل من السماء بالوحي، فقال كلماته المشهورة عليه الصلاة والسلام: (كم لـ أبي الدحداح من دار فياح وعذق رداح في الجنة) أي: أن الله تقبل صدقته؛ لأنها خرجت بصدقٍ مع الله عز وجل.
فمن أفضل ما يتقرب الإنسان به إلى الله عز وجل الصدقات، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تطفئ غضب الرب، ونصّ العلماء رحمة الله عليهم على أنه إذا نزلت النكبة بالعبد شرع له أن يتصدّق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الكسوف: (فصلوا وادعوا وتصدقوا)؛ لأن الصدقة تطفئ غضب الله على العبد، والبلاء ينزل بسبب الغضب.
بل جعل الله عز وجل الصدقة سبباً في دفع بلاء الدنيا والآخرة، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عدي: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، فإن الله قد يحجب العبد عن النار بسبب نصف تمرة، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه دخل على عائشة فقصت له قصة المسكينة مع بنتيها: (دخلت امرأة مسكينة على عائشة فاستطعمتها فأعطتها ثلاث تمرات، فأخذت تمرة، وأعطت بنتها تمرة، وأعطت الثانية تمرة، فلما أرادت أن تطعم التمرة التي عندها، وقد أخرجت نواها وأرادت أن تأكلها استطعمتها إحدى البنتين، فأعطتها التمرة ولم تمتنع منها، فلما أعطتها عجبت عائشة رضي الله عنها من كرمها وجودها وإيثارها ورحمتها ببنتها، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فقال صلى الله عليه وسلم: أوتعجبين من أمرها، إن الله حرّمها على النار بتمرتها تلك).
فالصدقة فيها فضلٌ عظيم وثواب كريم، ولذلك ندب الله عز وجل إليها ونص العلماء على استحبابها وتفضيلها، وأفضل ما تكون الصدقة إذا كانت للمحتاج المضطر إليها كالمديون والمعسر، والذي يشتد به الأمر في مخمصة ومجاعة.
وكذلك إذا كان بائس الحال في نفسه كاليتيم والأرملة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة واليتيم كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر)، وهذا يدل على فضل الإنفاق والصدقة.
وقد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن الإنسان إذا تصدق أخلف الله عليه، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً) قال العلماء: هذه دعوة ملكٍ لا تُرد؛ لأن الله ما أنزله لكي يدعو هذه الدعوة إلا لتستجاب، قالوا: والخلف له يأتي على وجهين: إما خلف يعجله الله عز وجل له في الدنيا، وإما خلف يدّخره له في الآخرة، والخلف الذي في الدنيا يعجِّله لا ينقص مما عند الله في الآخرة.
فإذا كان كامل الإنفاق لوجه الله عز وجل ربما ادخر الله له الخلف في الآخرة، فيجده أوفر ما يكون، كما في صحيح مسلم قوله: (إن الإنسان إذا تصدّق بالصدقة تلقاها الرحمن بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فيربيها له وينميها له كما يربي أحدكم فلوه)، ولذلك قالوا: إذا نويت الصدقة فلا تتأخر، لا تقل: إلى الصبح، لا تقل: إن شاء الله غداً يكون خيراً؛ لأن كل لحظة ودقيقة تعتبر زائدة في ميزان حسناتك، وبمجرد أن تضعها في يد الفقير، فإنك في هذه الحالة تعتبر معاملاً لله عز وجل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فإذا قمت بين يدي الله كان خلفك عند الله عز وجل، وعِوضك من الله سبحانه وتعالى، فهي مستحبة، وقد أجمع العلماء على استحبابها، وأنها من أفضل الطاعات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.(99/14)
حكم تصدق الإنسان بماله كله
ولكن
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يتصدق بكل ماله، أم أن هذا الاستحباب مقصور على بعض المال دون بعض؟ قال بعض العلماء: لا يجوز أن يتصدّق بكل ماله؛ لأنه إذا تصدق بجميع المال ضيّع أهله وضيّع نفسه، واضطر إلى الدين، واضطر إلى ذل سؤال الناس، والحاجة إليهم، ولا ينبغي للمسلم أن يورد نفسه هذه الموارد.
وقال بعض العلماء: يجوز أن يتصدّق بجميع ماله، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر أن يتصدق بجميع ماله.
والصحيح: أن الناس يختلفون في اليقين، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءت عنه نصوص قبل فيها من بعض الصحابة كل المال، وجاءت نصوص لم يقبل فيها وردّهم إلى الأقل، فقبل من أبي بكر كل ماله كما في الحديث الصحيح عن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى الصدقة، قال عمر: وكان عندي في ذلك اليوم فضل مال، فقلت: كنت سابقاً أبا بكر فسأسبقه اليوم، فمضى إلى ماله وقسمه قسمين، فجاء بنصفه يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لأهلك؟ قال: مثله -يعني: أن هذا نصف ما أملك- قال فلم يشعر إلا وأبو بكر قد جاء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله -يعني: ما تركت لهم من شيء-، فعتِب عمر على نفسه وأنه لن ينافس أبا بكر بعدها في خير؛ لأنه يعلم أنه سيسبقه، بمعنى: أنه لا يعتقد أنه سيصل إلى منزلة أبي بكر فضلاً عن أن يفوقه.
فأوتي أبو بكر رضي الله عنه من اليقين ما لم يؤته أحد من هذه الأمة بعد نبيه عليه الصلاة والسلام، ولذلك فضِّل رضي الله عنه وأرضاه على الأمة كلها، بعد نبيها، فهو أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك ليقينه بالله عز وجل.
فإذا كان عند الإنسان يقين، وصبر وإيمان وتوكل على الله عز وجل، أن الله لن يخيِّبه، وأن الله سبحانه وتعالى سيربط على قلبه، وأن هذا المال حقيرٌ في عينه، وأنه يريد ما عند الله، ورأى نكبة أو فاجعة تستحق أن يضحي بكل ماله فضحّى؛ فهو على خير، وهذا يجوز، بل هذا من أفضل الطاعات.
ولذلك أُثر عن بعض الصحابة والتابعين منهم الحسن أنه خرج من ماله مرتين، أي: أنه تصدّق بجميع ماله صدقةً لله عز وجل، خاصة إذا كان عند الإنسان اليقين وقوة الإيمان بحيث لا يندم ولا يضجر.
أما إذا كان ضعيف الإيمان، أو يُخشى منه أن يندم، أو يُخشى منه سوء العاقبة بأن ينتكس والعياذ بالله فلا، ولذلك لما أراد سعد أن يوصي بماله كله، قال عليه الصلاة والسلام: لا، قال: (يا رسول الله! إن لي مالاً وليس لي وارث إلا ابنة، أفأوصي بكل مالي؟ قال: لا، قال فبثلثيه؟ قال: لا، قال: فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال: نعم، الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
فإذا كان الإنسان عنده ذرية ضعيفة ويخشى عليها المسألة والدين، فحينئذٍ يبقي لهم حقهم الذي فرضه الله عليه أن ينفقه عليهم، ثم بعد ذلك يتصدّق بما زاد عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، ولما أخبره الرجل أن عنده ديناراً، قال: (أنفقه على نفسك، قال: عندي غيره، قال: أنفقه على أهلك فلما انتهى من الحقوق قال: عندي غيره، قال: شأنك به) أي: أنفق به حيث شئت، وعلى هذا فلا يجوز أن يعرِّض نفسه لأمرٍ يضعف به يقينه إذا كان ضعيف اليقين.
ومن هنا خرّج العلماء قبول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصدقات دون بعضها؛ لأن الناس يتفاوتون في كمال الإيمان، وكمال اليقين في الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أنه إذا كمُل يقين الإنسان وعظُم إيمانه بالله جل وعلا فوالله لن يخيب، ولو أطبقت عليه السماوات والأرض وما فيها بالضيق والفقر والشدة لجعل الله له من بينها فرجاً ومخرجاً، والأمر كله مردّه إلى مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، بمعنى: أن يكون عندك قوة إيمان أن الله لن يضيِّعك، وأن الله لن يخيِّبك، وقد رأينا هذا في مشايخنا وعلمائنا، أنه ربما ضاقت على الإنسان منهم الضائقة، ويأتيه المحتاج وليس عنده إلا قوته أو قوت أولاده، فيؤثر على نفسه وعلى ولده، ومع ذلك لا يلبث أن يأتيه الفرج من حيث لا يحتسب.
ولذلك لما بات أبو طلحة رضي الله عنه مع الضيف كما في الحديث الصحيح، قال لزوجته أم طلحة: (عللي الصبية حتى يناموا، وأطفئي السراج حتى يظن الضيف أننا نأكل، فأكل الضيف حتى شبع، وهو يظن أنهما يأكلان معه ولم يأكلا، فلمّا أصبحا أصبحا طاويين فقيرين، جائعين، ولكنهما قد غفر لهما ذنوبهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما مضى أبو طلحة إليه، قال له: (عجب الله من صنيعكما البارحة)، عجب الله من فوق سبع سماوات لهذا الإيثار، ولهذا الإيمان أكرمتما ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعجب صفة من صفات الله جل جلاله.
وهنيئاً لمن عجب الله له، ولذلك عجب لشاب ليست له صبوة الحرام لعظيم ما قدم من العفة عن الحرام، وعجب لهذين الزوجين لأنهما آثرا على أنفسهما، ونزل قوله سبحانه وتعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فأثنى عليهما من فوق سبع سماوات، فدل على أن من يقدم ماله ويؤثر على أهله وولده من غير مضيعة أنه على خير وأنه على طاعة وبر، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.(99/15)
استحباب التصدق في رمضان
قال المصنف رحمه الله: [وفي رمضان وأوقات الحاجات أفضل].
في رمضان لفضل الزمان، فأفضل الشهور طاعة شهر رمضان، وأفضل الأيام والليالي طاعة عشرٌ من ذي الحجة، وأفضل الليالي طاعة العشر الأواخر من رمضان، وهذا هو أعدل الأقوال في مسائل التفضيل الزمانية.
فأفضل الشهور شهر رمضان، والله اختاره من بين الشهور، وأفضل الليالي ليالي العشر، وأفضلها ليلة القدر، وأفضل الأيام العشر الأُول من ذي الحجة، وعلى هذا تستقيم النصوص، ويبقى لكل ذي فضلٍ فضله.
وأما داخل الأسبوع فأفضل أيامه يوم الجمعة، وحينئذٍ لا يكون هناك تعارض بين النصوص، فيكون التفضيل نسبياً، ففي الأيام نقول: عشرٌ من ذي الحجة أفضل الأيام، وفيها يتقرّب الإنسان بعموم الطاعات والقربات، وأفضل الليالي ليالي العشر، والفضيلة فيها بالإحياء، يعني بالقيام والصلاة، ففضلت عشرٌ من ذي الحجة على العشر الأواخر؛ لأن الطاعات فيها مطلقة، وأما بالنسبة للعشر الأواخر فاختُصّت بالقيام، ولذلك قال: (من قام ليلة القدر) فاختُصَّت بنوع من الفضائل، ولم يبق لها المزية المفضلة المطلقة كعشرٍ من ذي الحجة.
وأما بالنسبة لرمضان فهو أفضل الشهور، وأما أيام الأسبوع فأفضلها يوم الجمعة، وأفضل أيام السنة على الإطلاق يوم عرفة، وعلى هذا يكون التفضيل نسبياً كما ذكره المحققون من العلماء.
فأفضل ما يُتصدق فيه شهر رمضان، وقد نص العلماء على فضيلة التصدق فيه لما فيه من فضيلة الزمان، والدليل على تفضيل الصدقات في رمضان ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) يعني أنه لا يتوانى، ولا يتأخر في الصدقات والخير، وإذا أرسل الخير كان أكثر من الريح إذا أرسلت، وهذا يدل على سرعة مبادرته عليه الصلاة والسلام للخير، وعلى هذا قال رضي الله عنه: (وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن).
وهذا يدل على أن مدارسة القرآن تزيد من الطاعة والبر والخير، ومن اشتكى ضعفاً في هدايته والتزامه فلينظر ما بينه وبين القرآن في ختمه وتعاهده، فإنه ما نقصت هداية الإنسان إلا وبينه وبين القرآن فجوة، حتى ولو كان يختم كل ثلاث ليال، فتجده قد تغيّر في خشوعه وتدبره للقرآن.
فـ ابن عباس ينبه على هذا المعنى، يقول: (وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن)، فدل هذا على فضيلة تخصيص رمضان بالصدقات، والصدقات هنا هي النافلة.
أما الفريضة وهي الزكاة ففيها تفصيل: إن كان الحول يتم قبل رمضان فيحرم التأخير إلى رمضان؛ لأن بعض الناس عن جهل منهم تكون الزكاة واجبة عليه في رجب فيؤخر إلى رمضان، وهذا لا يجوز، بل يأثم بكل ليلة وبكل ساعة؛ لأنه يجب عليه أن يبادر بدفع الزكاة إلى مستحقها، أما لو كانت صدقته واجبة عليه في ذي القعدة، فيعجل في رمضان خاصة لوجود المحتاجين والفقراء، فهذا أفضل، ويكون له فضل التعجيل، وفضل الزمان، أما أن يؤخر الصدقة المفروضة إلى رمضان، وقد وجبت عليه قبل رمضان فإنه لا يجوز.(99/16)
حكم الصدقة بما يضر النفس ومن يعول
قال المصنف رحمه الله: [وتسن بالفاضل عن كفايته ومن يمونه، ويأثم بما ينقصها].
قوله رحمه الله: (تسن بالفاضل عن قوته) أي: بالشيء الزائد عن قوته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، فيبدأ الإنسان بنفسه وبقوته وقوت عياله، ثم بالنسبة لما وراء ذلك شأنه به.
وقوله: (ويأثم) أي: يأثم في حال تفضيل الفقير على أهله؛ لأن الله أوجب عليه نفقة أهله وولده، فلا يجوز أن يصرف ما هم بحاجة إليه إلى غيره، ولأنه قد وجب عليه أن ينفق على أهله وذوي قرابته الذين تلزمه نفقتهم، وأما بالنسبة للفقير، فلا يجب عليه أن يتصدق عليه أو ينفق عليه، فحينئذٍ لا يسعه أن يبدأ بالنافلة ويترك الفريضة.
ولكن استثني من ذلك من كان عنده يقين بالله عز وجل في حدودٍ لا تصل إلى حد الضرر بأهله وولده، كأن يصلوا إلى درجة المخمصة أو الضرورة، فهذا يُعتبر ممنوعاً، أما لو كان في الحدود المعقولة مع أنه يمكن أهله الصبر، أو نزلت فاقة وحاجة شديدة وأراد أن يفضلهم فلا حرج.
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن ادخار اللحوم فوق ثلاث ليال، ثم قال: (كنت نهيتكم عن الادخار فادخروا)، وقال: (إنما نهيتكم من أجل الدافة)، فجعل الدافة؛ وهم أقوام كانوا يأتون ضعافاً من خارج المدينة ويرتفقون في المدينة، فنهى الصحابة عن أن يدخروا فوق ثلاث ليال، وذلك حتى يواسوا إخوانهم الضعفاء، مع أن ادخار الثلاث فيه مزية بإنفاقه على الأولاد وعلى الأهل والتوسعة عليهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(99/17)
شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [1]
صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وقد فرض لحكم جليلة، من أعظمها تقوى الله تعالى، وقد أوجب الله تعالى الصيام عند رؤية هلال رمضان، ومن المسائل المتعلقة بالرؤية: أنها تثبت بشهادة رجل مسلم عدل، ومنها: هل رؤية كل بلد خاصة به أم أنه يلزم الجميع أن يصوموا الرؤية أي بلد للهلال؟ اختلف فيها العلماء، كما هو مفصل في هذه المادة.(100/1)
تعريف الصيام لغةً وشرعاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الصيام]: تقدم تعريف الكتاب وبيان اصطلاح العلماء رحمة الله عليهم فيه، ومعنى قوله: [كتاب الصيام] أنه سيذكر جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بعبادة الصيام؛ فإنه بعد أن فرغ من بيان أحكام الصلاة وأحكام الزكاة شرع في بيان أحكام الصيام.
وهذا الترتيب مستند إلى الشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزكاة قرينة الصلاة ثم أتبعها الصيام، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح.(100/2)
تعريف الصيام لغة
الصيام في اللغة: أصله الإمساك، تقول: صام عن الكلام إذا أمسك عنه، وصام عن السير إذا وقف، وصام عن الأكل والشرب إذا أمسك عنهما.
فأصل الصيام في لغة العرب الإمساك، ومنه قوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] أي: إمساكاً عن الكلام، ويقولون: صامت الخيل.
إذا أمسكت عن الصهيل، ومنه قول الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللُجم فقوله: (خيل صيام): أي: ممسكة عن الصهيل.(100/3)
تعريف الصيام شرعاً
أما في الشريعة: فالمراد بالصيام: إمساك مخصوص من شخص مخصوص بنية مخصوصة.
فقولهم رحمة الله عليهم: الصيام إمساك مخصوص: وذلك لأن الإمساك يطلق ويقيد، فتقول: أمسك.
بالمعنى المطلق، فيشمل كل إمساك، سواءً كان عن أكل أو شرب أو كلام أو سير، فلما قلت: إمساك مخصوص، فهمنا أنه يتقيد بشيء معين، وهو الإمساك عن شهوة البطن والفرج، فالصائم يمتنع عن الأكل وعن الشرب وما في حكمهما، وكذلك يمتنع عن شهوة الفرج، والأصل في ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي).
فأصل الصيام الإمساك عن هذه الأشياء، ولذلك قالوا: إمساك مخصوص.
ولم يقولوا: إمساك عن المفطرات لأنه قد يكون فيه إجمال، ومن هنا قالوا: إمساك مخصوص حتى يفهم من دلالة الخصوصية ما يقصده الشرع بهذا الإمساك المعين.
من شخص مخصوص: وهو المكلف، والصبي يروض على الصيام كما في حديث أنس رضي الله عنه حينما كانوا يلهونهم باللعب إلى منتصف النهار.
ولا يجب الصوم على الصغير؛ لأنه غير مكلف، وإنما يجب على المكلف، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك.
وقولهم: بنية مخصوصة، النية ترد بمعنيين: المعنى الأول: نية التعبد والتقرب لله عز وجل بإخلاص العمل، وهذا هو الذي يسميه العلماء: الإخلاص، والمقصود بذلك خلوص النية، بمعنى: ألا يقصد غير الله عز وجل.
والعلماء رحمة الله عليهم لما قالوا: بنية مخصوصة.
لم يريدوا قضية الإخلاص؛ لأن التعبد والتقرب معلوم بداهة، فإنه لما قيل: تعريف الصيام في الشرع فهمنا شرعاً أن المراد بذلك التعبد، ولذلك لا يقصدون هذا المعنى الخاص.
وإنما يقصدون بقولهم: بنية مخصوصة.
أن تبين هل تنوي الفريضة، أو تنوي النافلة، وإذا كانت نيتك بهذا الصيام الفريضة، فما هي هذه الفريضة؟ أهي صيام رمضان أو كفارة قتل أو كفارة ظهار أو كفارة جماع أو صيام نذر واجب.
ثم إذا كانت النية نافلة، فما هي هذه النافلة؟ أهي عاشوراء أو عرفة أو الإثنين والخميس وهكذا.
فمرادهم بقولهم: بنية مخصوصة.
أي: تعيين المراد من هذا الصوم في الشرع؛ لأنك لما قلت: تعريف الصيام شرعاً، فالمراد بذلك: في حدود الشريعة؛ فإن الشريعة تقصد من هذا الصوم إما شيئاً مطلقاً أو تقصد به شيئاً مقيداً، فالمطلق كالتقرب إلى الله عز وجل بصيام النافلة المطلقة كصيام يوم وإفطار يوم، والنافلة المقيدة كعاشوراء والإثنين والخميس والثلاثة الأيام البيض من كل شهر.
والفريضة إما أن تكون فريضة محددة كصيام رمضان، وإما فريضة يلزم الإنسان نفسه بها كالنذر، وإما أن تكون داخلة عليه بسبب الإخلال كصيام الكفارات والنذور ونحوها.
يقول العلماء: الصيام: إمساك مخصوص.
فلما قالوا: إمساك مخصوص على هذا الوجه المخصوص الذي هو النية المخصوصة بالفريضة والنافلة، فخرج الإمساك عن الطعام لمعنى الصحة، كأن يصوم الإنسان ويمتنع عن الأكل والشرب لتقوية بدنه، أو تخفيف وزنه، أو نحو ذلك من النوايا الدنيوية، فإن هذا ليس بصيام شرعي، فمن قصد من صيامه أن تقوى نفسه أو يستجم بدنه فإنه غير متقرب لله عز وجل.
لكن لو نوى أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ثم كانت نية الدنيا وهي صلاح بدنه وذهاب الأمراض عن جسده تبعاً فإن هذا لا يضر؛ لأن نية الدنيا إذا وقعت تبعاً لم تضر، كما لو قصد الإنسان عبادة كطلب العلم، وقصد منها أن يطلب العلم ثم بعد طلبه للعلم قصد أن تكون هناك حوافز مادية أو تكون هناك رواتب، فهذه لا تؤثر إذا كانت تبعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] فقال العلماء: إذا دخلت النية تبعاً فإنها لا تؤثر.
فالمقصود: أن حقيقة الصيام في الشرع هي مخصوصة بهذا الوجه.(100/4)
الأدلة على وجوب صيام رمضان
فرض الله عز وجل الصيام بكتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على أن صيام رمضان فريضة من فرائض الله عز وجل.
أما دليل وجوبه من كتاب الله فقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] و (كُتِبَ) بمعنى: فرض، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] أي: أوجبناه وفرضناه.
وكذلك ثبتت السنة بفرضيته كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان) فنص عليه الصلاة والسلام على اعتبار صيام رمضان ركناً من أركان الإسلام.
وفي مسند أحمد: (أن رجلاً ثائر الرأس دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يسمع لصوته دوي، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان) فدلت هذه النصوص على أن صيام رمضان فريضة.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وأنه من الفرائض التي أوجب الله عز وجل على عباده.(100/5)
مراحل فرض الصيام
في أول الأمر فرض على الناس صيام يوم عاشوراء، ثم نسخ صيام يوم عاشوراء بصيام رمضان، وقال بعض العلماء: لا، بل فرض عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر وهي الأيام البيض، ثم نسخ ذلك بصيام رمضان.
والصحيح: القول الأول، وهو: أن الناس كانوا مطالبين بصيام يوم عاشوراء فريضة، كما في حديث معاوية في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر وقال: (إن الله فرض عليكم صيام يومكم هذا في ساعتي هذه) فأوجب الله على الناس صيام يوم عاشوراء، ثم نسخ بصيام شهر رمضان.
وهذا النوع من النسخ يعتبر أحد أنواع النسخ، وهو نسخ الأخف بالأثقل؛ لأن النسخ ينقسم إلى قسمين: الأول: نسخ إلى بدل.
الثاني: ونسخ إلى غير بدل.
والنسخ إلى بدل إما أن يكون: إلى بدل مساوٍ، أو إلى بدل أثقل، أو بدل أخف.
فمثال البدل المساوي: كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى بيت الكعبة، فإن التوجه مساوٍ، وإن كانت فضيلة الكعبة أعظم من فضيلة بيت المقدس، فهذا يسمونه: نسخ إلى مثل.
ونسخ الأخف بالأثقل منع منه بعض الأصوليين، وقالوا: إن الشريعة شريعة رحمة ولا ينسخ الأخف بالأثقل، والصحيح: أنه ينسخ الأخف بالأثقل بدليل فرضية شهر رمضان، فقد كان المفروض يوماً واحداً فنسخ بثلاثين يوماً، فأوجب الله على الناس صيام شهر كامل، وهذا دليل على جواز نسخ الأخف بالأثقل.
وقد ينسخ الأثقل بالأخف، وهذا كثير، كما في مصابرة الواحد للعشرة، فنسخت بمصابرته للاثنين.
وهذا النسخ -نسخ صيام عاشوراء- يعتبره العلماء من نسخ الأخف إلى الأثقل، فقد نسخه الله عز وجل بفرض الصيام ثلاثون يوماً، وقد يكون الشهر تسعاً وعشرين إذا كان ناقصاً، وسواءً كان كاملاً أو ناقصاً فإنه أثقل من صيام يوم واحد.
وهذه الفرضية بصيام شهر رمضان وقعت في السنة الثانية من الهجرة، في اليوم الثاني، قيل: لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الثانية، ففرض الله على المسلمين صيام شهر رمضان، وأوجب عليهم ذلك، وصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات كاملة، وهذه السنة -السنة الثانية- هي السنة التي وقعت فيها غزوة بدر الكبرى.(100/6)
من حكم الصيام
قال العلماء: فرض الله عز وجل صيام رمضان لحكم عظيمة وغايات جليلة كريمة؛ أعظمها وأجلها على الإطلاق: ما جعل الله في الصيام من معاني الإخلاص لوجهه الكريم؛ فإن الإنسان إذا تعود على الشيء وأصبح ديدناً له ارتاضت نفسه على ذلك الشيء خيراً كان أو شراً، فإذا عود على الخير كان على خير، وإن عود على شر -والعياذ بالله- كان على شر.
فالصيام من أعظم حكمه وأجلها وأشرفها: أنه يعود الإنسان على الإخلاص لله عز وجل.
والسبب في ذلك: أنه أخفى العبادات؛ فإن الإنسان يستطيع أن يتظاهر بالصيام أمام الناس ثم يفطر في بيته بعيداً عن نظر الناس، فإذا صام فكأنه يُعّود بهذه العبادة على إرادة وجه الله الكريم؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله تعالى أنه قال: (كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) قال العلماء قوله: (فإنه لي) أي: أنه يقع خالصاً لوجه الله عز وجل.
وسر قوة الإنسان إذا تغلب على نفسه، فإذا أردت أن ترى الإنسان القوي الذي يستطيع أن ينال الطاعة بيسر وسهولة بعد توفيق الله عز وجل؛ فانظر إلى من قهر هواه وأصبحت نفسه تحت أمره ولم يصبح تحت أمر نفسه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] فإذا أصبحت النفس تحت أمرك وتحت نهيك فقد ملكت كثيراً من الخير، وأصبحت نفسك مستجيبة لطاعة الله؛ لأنك تأمرها وتنهاها فتأتمر وتنتهي، لكن المصيبة إذا كان الأمر على العكس.
فكأن الإنسان حينما يصوم تصبح نفسه تحته؛ لأن النفس تريد شهوة الأكل والشرب، والفرج، ومع ذلك يكبحها ويمنعها، فيقوى سلطان الإنسان على نفسه، وهذا يقع في كثير من العبادات، فالإنسان يشتهي -مثلاً- النوم، فتجده في لذيذ نومه وراحته واستجمامه يأتيه أمر الله أن يقوم إلى صلاة الفجر، فيقوم ويقهر نفسه، فإذا قهر نفسه استجابت نفسه لما بعد ذلك من الأوامر في سائر يومه.
كذلك تأتيه لذة الأكل والشرب، فتأتي فريضة الله عز وجل بالامتناع عن طعامه وشرابه فيصوم، ثم تأتيه شهوة المال فيأتيها أمر الله بإخراج الزكاة فيخرجها، ثم شهوة الأهل والأولاد والأوطان فيأتيها أمر الله بالخروج عنهم والتغرب عنهم في الحج إلى بيت الله الحرام فيحج.
فإذا انتزع الإنسان نفسه من الهوى وأصبحت نفسه تحت أمره ونهيه، استطاع أن يأمرها فتأتمر، وينهاها فتنزجر.
ولذلك الناس على ثلاثة أقسام: القسم الأول: منهم من أصبح هواه تحت أمره، وهم صنف السعداء، كما أشار الله إلى هذا صنف السعداء في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
القسم الثاني: هواه غالب عليه، وقد أشار الله عز وجل إلى هذا القسم بقوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك تجد بعض أهل الشهوات عندما تقول له: يا أخي! هذا حرام هذا لا يجوز.
يقول: أنا أعلم أنه حرام وأنه لا يجوز ولكن لا أستطيع أن أتركه.
ومعنى أنه لا يستطيع أن يتركه: أنه قد بلغ مرتبة يأمر نفسه فيها فلا تستجيب له، فأصبح هواه هو الذي يأمره، وشهوته هي التي تحكمه، نسأل الله السلامة والعافية.
القسم الثالث: هم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهؤلاء إلى أمر الله عز وجل، فإن عذبهم فبعدله، وإن عفا عنهم فبمحض فضله، فهؤلاء هم الذين تارة يغلبون الهوى وتارة يغلبهم الهوى، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، إن غلبوا الهوى كانوا على الصلاح، وإن غلبهم الهوى كانوا على الطلاح، ولذلك لا يأمن الواحد منهم أن تأتيه منيته وهو متبعٌ لهواه، أو تأتيه منيته وهو على طاعة ربه، ولذلك مثل هؤلاء على خطر إن لم يتداركهم الله عز وجل برحمته.
فالمقصود: أن الصيام يربي في النفس القدرة على قهر الهوى، حتى تكون النفس مستجيبة، قال العلماء: من امتنع عن الطعام والشراب والجماع الحلال -فإن الله أحل له أن يطعم ويشرب ويجامع زوجته- كان أقدر على أن يمنع نفسه بتوفيق الله عن الحرام.
فإذا مكث ثلاثين يوماً وهو لا يقترب من طعامه ولا شرابه ولا شهوة فرجه؛ فإنه قادر -بإذن الله عز وجل- إذا دعته نفسه للحرام أن يمتنع عن أكله أو شربه أو فعله.
وفي الصيام خير كثير، فإنه يذكر الأغنياء بالفقراء والمحتاجين، فإن الإنسان إذا جاع وعطش مع قدرته أو علمه أنه في آخر النهار سيجد الطعام وسيجد الشراب، سيتذكر الفقير الذي لا يجد طعاماً ولا شراباً، ولذلك قالوا: إن هذا الصيام فيه مصلحة عظيمة للإنسان من جهة تذكره للضعفاء، وخاصة إذا كان من الأغنياء والأثرياء.
فإن الغني ربما ينسى إخوانه من الضعفاء والفقراء بسبب ما فيه من الغنى، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فالإنسان إذا استغنى أصابه الطغيان، ولكن إذا جاع كما يجوع الفقير وضمأ كما يضمأ الفقير دعاه ذلك إلى أن يتذكر هؤلاء الضعفاء فيعطف عليهم.
إن الصيام يذكر بالله جل جلاله ويذكر بالآخرة، ولذلك كان بعض العلماء رحمة الله عليهم يبكي إذا انتصف النهار؛ لأنه يتذكر الموقف بين يدي الله عز وجل واشتداد الحر وعظم ضمأ الناس في عرصات يوم القيامة.
فلأجل هذه الحكم العظيمة والغايات الجليلة الكريمة شرع الله الصيام وأخبر سبحانه وتعالى أنه سبيل لأعظم وأحب الأشياء إليه وهو تقواه، فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] أي: جعلناه سبباً للتقوى، وما خرج الإنسان بزاد من الدنيا أحب إلى الله من تقواه، كما قال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
فإذا كان الصوم يزيد من التقوى فمعناه: أنه يزيد من أمرين وهما: الأول: تحصيل فرائض الله.
الثاني: الانكفاف والامتناع عن محارم الله سبحانه وتعالى.(100/7)
من أحكام الصيام المنسوخة
كان الإنسان يصوم -في بداية فرضية الصيام- من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإذا غابت الشمس أفطر، فإذا نام ولو بعد مغيب الشمس بلحظة واحدة حرم عليه الأكل والشرب إلى اليوم الثاني، فكانت هذه هي فرضية الصيام في أول الأمر، ثم إن الله خفف ذلك، فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187].
والسبب في ذلك: قصة الصحابي الذي أغمي عليه حينما جاء من عمله وكان في فلاحته وزراعته، فلما جاء آخر النهار سأل امرأته الطعام، فذهبت لتحضر الطعام له فأصابه غشي من التعب والعناء فنام، فجاءت فقالت له: ويلك! أنمت؟ فلما أصبح في اليوم الثاني أصبح مجهداً منهكاً فغشي عليه في منتصف النهار، فخفف الله عز وجل عن عباده، وهذا من نسخ الأثقل بالأخف.
فخفف الله عز وجل الفرضية وجعلها من طلوع الفجر الصادق إلى مغيب الشمس، وهذا هو الذي استقر عليه حكم الله عز وجل لهذه الأمة إلى قيام الساعة.
كان الصيام في الأمم الماضية بالإمساك عن الكلام، كما قالت مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] واختلف العلماء في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، فقال بعض العلماء: الشبه في قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] من حيث الفرضية، أي: ألزمناكم بالصيام كما ألزمنا من قبلكم، وإن كان هناك فرق بينكم وبينهم في الصفة، وقال بعض العلماء: بل إن الفرضية في أولها كانت كفرضية أهل الكتاب، ثم نسخت بعد ذلك.(100/8)
وجوب صوم رمضان برؤية هلاله
قوله: [يجب صوم رمضان برؤية هلاله]: هذا الوجوب الذي نبه عليه المصنف على سبيل الفرضية هو الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وإذا ترك شخص صيام رمضان عامداً متعمداً فأفطر -ولو يوماً واحداً- لم يقضه ولو صام الدهر.
بمعنى: أن الله لا يعطيه ثواب ذلك اليوم ولو صام الدهر كاملاً، لكن يجب عليه قضاء ذلك اليوم؛ لأن الله عز وجل فرض علينا صيام الشهر كاملاً، ولا يسقط هذا الشهر إلا بدليل، وأما حديث: (من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر) فقد خرج مخرج الوعيد، وهو المخرج الذي يسمى بالمبالغة، وله نظائر، كقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) فليس المراد به التحديد والقصر.
بمعنى أن الحج فقط في عرفة وحدها، إنما هو على سبيل المبالغة وقوله عليه الصلاة والسلام: (لم يقضه صيام الدهر) معناه: أن من أفطر عامداً متعمداً لا ينال فضل صيام ذلك اليوم مهما صام، بخلاف من أفطر لعذر؛ فإنه إذا صام يوماً بدلاً عن هذا اليوم الذي أفطر فيه فكأنه صام رمضان نفسه؛ وهذا لوجود العذر، فإذا كان بدون عذر فإن الله لا يبلغه مرتبة من كان معذوراً.
أما إسقاط الفرض عنه فإنه قول ضعيف ومخالف للأصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لنا أن الحقوق واجبة، وأن حقوق الله دين على المكلف، كما في الحديث الصحيح أنه قال: (فدين الله أحق أن يقضى) فهذا نص صحيح صريح على أن العبد إذا أخل بواجب فإن عليه ديناً يجب أن يقضيه، وأن يقوم به على وجهه، ولما كان الحديث محتملاً بقينا على الأصل من وجوب مطالبته بصيام رمضان.
وقوله: (رمضان) اختلف العلماء فيه، فقال بعض العلماء: هو مأخوذ من الرمضاء، والمراد بذلك شدة الحر، والسبب في هذا: أن العرب كانت تسمي هذا الشهر في الجاهلية نائقاً يقولون: شهر نائق، وهو الشهر التاسع من الأشهر القمرية، ثم لما فرض الله صيام رمضان وافقت السنة الثانية سنة حر وشدة، فسموه رمضان من هذا.
القول الثاني: أنه سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب، وفي ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب) بمعنى: يحرقها ويذهبها، ولكنه حديث ضعيف، بل فيه راوٍ كذاب، ولذلك لا يعول عليه.
القول الثالث: إن اسم رمضان اسم من أسماء الله عز وجل، وفيه حديث ضعيف.
وأصح هذه الأقوال القول الأول: أنه سمي رمضان من الرمضاء وهي شدة الحر؛ حيث إنه حينما فرضه الله على عباده وافق زماناً شديد الحر.
وفي قوله رحمه الله: [يجب صوم رمضان]: للعلماء قولان: قال بعض العلماء: لا يجوز أن تقول: دخل رمضان وخرج رمضان وانتصف رمضان، واستدلوا بالحديث الذي تقدمت الإشارة إليه: (لا تقولوا: جاء رمضان، فإنه اسم من أسماء الله) وهذا حديث ضعيف.
والصحيح أنه يجوز أن يقول: جاء رمضان ومضى رمضان وانتصف رمضان؛ لأن السُّنة دلت على جواز ذلك، وقد ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، والدليل على جواز ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة).
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفي الصحيح قوله أيضاً: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فلأجل هذا دلت النصوص على جواز قولك: جاء رمضان، وخرج رمضان، وانتصف رمضان، ولا حرج عليك في ذلك، ولكن بعض العلماء يقول: الأفضل أن يقول: شهر رمضان.
فيضيف لفظ الشهر؛ لأن الله سبحانه وتعالى نص على ذلك فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] فقالوا: الأفضل أن يضيف كلمة الشهر، وهذا على سبيل الكمال والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب.(100/9)
أحكام رؤية هلال رمضان
قوله: [يجب صوم رمضان برؤية هلاله].
(الباء) سببية، أي: بسبب رؤية هلاله.
والشهور تنقسم إلى شهور شمسية، وشهور قمرية، الشهور القمرية اثنا عشر شهراً، وهي السنة القمرية، وهذه الشهور هي التي رتب الشرع عليها الأحكام، ولم يرتبها على الشهور الشمسية، فالشريعة ترتب أحكامها على الشهور القمرية.
فمثلاً: في عدة المرأة الآيسة من الحيض؛ إذا كانت ثلاثة أشهر فإنها تعتد بالشهور القمرية، ولا تعتد بالإجماع بالشهور الشمسية، وهكذا بالنسبة للمرأة المحتدة في الوفاة أربعة أشهر وعشراً؛ فإنها تحد بالشهور القمرية ولا تحد بالشهور الشمسية، وهكذا صيام شهرين متتابعين في كفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة الجماع في نهار رمضان، تكون بالشهور القمرية، ولا تكون بالشهور الشمسية.
والشهور القمرية تنقسم إلى شهور كاملة، وهي التي استتمت العدد ثلاثين يوماً.
وشهور ناقصة وهي التي تكون رئي الهلال دالة على نقصانها، فتكون تسعة وعشرين يوماً، فالفرق بينهما يوم واحد، وهو الذي يسمى بيوم الشك.
والسبب في ذلك: أن القمر له منازل ودرجات، فإذا غابت الشمس وسقطت قبل القمر، فمعنى ذلك: أن الهلال في هذه الليلة قد دخل الشهر التالي، وبناءً على ذلك تكون منزلته من منزلة الشهر التالي، أما لو سقط قبل الشمس، فمعنى ذلك: أنه قد بقيت له درجة، وحينئذٍ يكون الشهر كاملاً، وبناءً على ذلك: لا يمكن أن يحكم بدخول الشهر إلا بأحد أمرين في الشهور القمرية: الأمر الأول: كمال العدد للشهر السابق، فتتم له ثلاثون يوماً.
الأمر الثاني: أن يرى الهلال ليلة الثلاثين، فتكون رؤيته دليلاً على أن الشهر الماضي ناقص، وأن عدة أيامه تسع وعشرون يوماً.
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] فهو على منازل ودرجات، فإذا سقطت الشمس قبله وبقي فمعنى ذلك: أن الشهر كامل وأن هذه الليلة للشهر التالي.
لكن لو سقط قبل الشمس فمعنى ذلك: أنه قد بقي له درجة فحينئذٍ لابد من الليلة الثلاثين التي تكون فيها درجة القمر كاملة.
فإذا وجدت هاتان العلامتان حُكم بما يترتب عليهما، من القول بكمال الشهر، وحينئذٍ يحكم بوجوب صيام رمضان، فإذا رُئي الهلال ليلة الثلاثين فحينئذٍ يثبت عندنا أن شهر رمضان قد دخل، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) فاللام: في قوله صلى الله عليه وسلم (لرؤيته) تعليلية أي: بسبب رؤيته، فجعل الرؤية سبباً في وجوب الصوم، فمن رأى الهلال ليلة الثلاثين فإنه حينئذٍ يثبت دخول رمضان برؤيته على تفصيل عند العلماء؛ هل يشترط العدل أو لا يشترط.(100/10)
إذا غم الهلال
إذا لم ير الهلال فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن تكون السماء ليلة الثلاثين صحواً، والسماء الصحو: هي الواضحة التي لا غيم فيها ولا قتر، والقتر: هو الغبار ونحو ذلك كالدخان الذي يجب الرؤية، فالسماء إذا كانت صحواً والرؤية ممكنة، وترائينا الهلال ولم نره؛ فحينئذٍ -بالإجماع- تعتبر الليلة من شعبان، ولا تعتبر من شهر رمضان ولا يحكم بدخول شهر رمضان.
الحالة الثانية: وهي أن لا تكون السماء صحواً، أي: فيها غيم أو يكون فيها قتر من غبار، كما يقع في بعض الأحيان حين يأتي العجاج والريح بالغبار والأتربة فلا يتمكن الناس من رؤية السماء، أو يكون هناك حريق ودخان، فلا يتمكن الناس من رؤية السماء، فإذا حصل الحائل سواءً من غيم أو قتر أو دخان فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: إذا كانت السماء مغيمة، أو كان بها قتر، فإننا نحكم بتمام شهر شعبان، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية وطائفة من أهل الحديث، أي: أنه إذا كانت ليلة الثلاثين ولم نر الهلال سواءً كانت السماء صحواً أو كانت مغيمة، فالحكم عندهم سواء، أي: أنهم يتمون عدد شعبان ثلاثين يوماً، واستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة) وفي رواية: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً).
ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن غم عليكم) فنص على أنه إذا لم يُر الهلال -كأن يكون هناك غيم- فإننا نتم العدة ثلاثين يوماً.
والدليل الثاني: قالوا: الأصل في الشهر أنه ثلاثون يوماً حتى يدل الدليل على أنه ناقص، فالنقص خلاف الأصل، والقاعدة في الشرع: أن الأصل بقاء ما كان على ما كان.
فالأصل: أننا في شعبان، ونشك هل دخل رمضان أو لا، فلما كانت العدة ناقصة نقول: يجب علينا إكمال العدة لأنه الأصل، وعلى هذا فيجب إتمام شعبان ثلاثين يوماً.
القول الثاني: قالوا: إذا كان هناك غيم أو قتر فإنه يصام ذلك اليوم ويحسب من رمضان، وهذا هو قول الإمام أحمد رحمة الله عليه واختاره طائفة من أصحابه، وهو أنه إذا كانت السماء مغيمة أو بها قتر فإنه يجب صوم ذلك اليوم لاحتمال كونه من رمضان، واستدلوا برواية: (فإن غم عليكم فاقدروا له) قالوا: قوله عليه الصلاة والسلام: (اقدروا) من التضييق، تقول العرب: قدّر الشيء إذا ضيقه، ومنه قوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] حينما علم داود صنعة اللبوس التي تكون لمنع ضربات السيوف ونحوها، قال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] يعني: ضيق حلق السرد حتى لا يصاب الإنسان إذا طعن أو جرح، فالتقدير هو: التضييق، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] أي: ضيق عليه، ولذلك قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26] يبسط: بمعنى: يغني، ويقدر: بمعنى: يضيق، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (إن غم عليكم فاقدروا له) فمعنى ذلك: أننا نقدر شهر شعبان، أي: نضيق شهر شعبان ولا نعده كاملاً، ونجعله تسعاً وعشرين، ثم ندخل في شهر رمضان.
واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية) وهذا الحديث يحتاج إلى تأمل؛ فإن وصف الأمية لأمة النبي صلى الله عليه وسلم وصف شرف، وليس بوصف نقص، على خلاف ما يظن بعض الناس اليوم أن الأمية وصف نقص؛ فإن هناك فرقاً بين الجهل وبين الأمية؛ فالشخص قد يكون أمياً وهو عالم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً وهو أعلم من على وجه الأرض، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ} [الجمعة:2] فهو وصف شرف لا نقص، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية) يثبت هذا.
ولذلك الأنسب أن يقال: محو الجهل.
لا أن يقال محو الأمية؛ حتى لا يظن الناس أنها صفة نقص.
قال عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا) قال الراوي: أشار بيديه ثلاثاً، يعني: ثلاثين يوماً، (وهكذا) أي: أشار ثلاث مرات، قال: ثم قبض إبهامه في الثالثة.
أي: أن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعاً وعشرين.
وقال أصحاب القول الثاني: إنه لما قال: (الشهر هكذا وهكذا) فمعناه: أن اليقين أن الشهر تسع وعشرون، والشك في الثلاثين، فالأصل في الشهر تسع وعشرون عندهم، وحينئذٍ يكون كمال الشهر بتسع وعشرين، ويكون اليوم الثلاثون مشكوكاً فيه، قالوا: فحينئذٍ نوجب على الناس صيام هذا اليوم؛ لاحتمال كونه من رمضان.
والذي يترجح والعلم عند الله هو قول الجمهور: وهو أنه إذا حال بين الناس وبين رؤية الهلال غيم أو قتر أنه لا يجب عليهم صيام يوم الثلاثين، والدليل على ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) وهذا يدل على أننا لا نصوم يوم الشك، وهذا نهي تحريم، وإذا ثبت أن الأصل أن يكون الشهر ثلاثين يوماً كما في الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) فهذا نص صريح، فالقول الذي يقول: إن العدة تكمل ثلاثين يوماً أقوى؛ لأنه اعتمد الأصل، وأما رواية: (فاقدروا له) فإن القدر يطلق بمعنيين: الأول: إما أن يراد به التضييق.
الثاني: وإما أن يراد به الحساب.
تقول: قدِّر، يعني: احسب لي هذا الشيء، وبيّن لي حقيقته وأعطني قدره وحقه من العدد والحساب، فلما كان قوله عليه الصلاة والسلام: (اقدروا له) وكانت المسألة مسألة حسابية حمل قوله: (اقدروا له) على الحساب؛ لأن القاعدة تقول: (أن مبنى الحديث قرينة على معناه) فلما كان الحديث منبنياً على الحساب، وعندنا معنيان للقدر: معنى التضييق، ومعنى التقدير، وهو الحساب، حملناه على معنى الحساب؛ لأن القاعدة في الأصول أنه إذا تردد الحديث بين معنيين: معنى يخالف نصوصاً أخرى، ومعنىً يوافق، وجب صرفه إلى المعنى الموافق.
فلما جاءنا حديث: (أكلموا العدة ثلاثين) فسّر المراد بقوله: (اقدروا له) أي: اجعلوا لشعبان قدره، فيكون قوله: (اقدروا له) أي: أعطوا شعبان قدره، بمعنى: أكملوا عدة شعبان، فاتفقت رواية التقديم مع رواية الإكمال، وبناءً على ذلك: فإنه إذا حال بيننا وبين رؤية الهلال في ليلة الثلاثين غيم أو قتر، فإننا نكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.(100/11)
رؤية الهلال فرض كفاية
رؤية الهلال من الأمور المهمة التي ينبغي أن يحافظ الناس عليها؛ وذلك لأن الأحكام الشرعية تتوقف على هذه الرؤية، ومن هنا قال العلماء: إن رؤية هلال الشهور -كرمضان وذي الحجة ونحوها- تعتبر من فروض الكفاية، فلو قصر أهل بلد فيه أتموا جميعاً.
فتساهل الناس في رؤية الهلال يعتبر من المنكرات، وينبغي على طلاب العلم أن يحيوا هذه السنة؛ فقد كان الناس -إلى عهد قريب- إذا كان يوم التاسع والعشرين وليلة الثلاثين خرجوا إلى الصحراء؛ لإحياء هذه السنة.
وحبذا لو يسألون أهل الخبرة ويعرفون منازل القمر قبل مغيبه في الأيام التي تسبق أيام الرؤية، حتى يكون عندهم إلمام ومعرفة، ثم بعد ذلك يخرجون لرؤية الهلال، ويعرفون درجاته ومنازله حتى يمكنهم أن يثبتوا هذا الأمر؛ لأنه إذا لم يقوموا بذلك فإنه قد يوجد الهلال ولا يتراءاه الناس، فيضيع حق الله عز وجل، وصيام هذه الأيام مركب على وجود هذه الرؤية.
وبناءً على ذلك قال العلماء: لا ينبغي التساهل في رؤية الهلال، بل إذا تساهل الناس أو انشغلوا فينبغي توصية أناس ولو بالأجرة؛ لأن فروض الكفايات إذا لم يوجد من يقوم بها شرع إعطاء الأجرة لمن يقوم بهذه بها؛ لكي يثبت به حق الله عز وجل من صيام الأيام المفروضة.(100/12)
حكم صيام يوم الشك
[فإن لم يُرَ مع الصحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين]: وهذا بالإجماع؛ فإن هذا اليوم هو يوم الشك، وهو يوم يحرم صومه، ويوم الشك هو يوم الثلاثين، وسمي يوم الشك لأن ليلته تحتمل أن تكون من رمضان، وتحتمل أن تكون من شعبان، واليوم نفسه يحتمل أن يكون من رمضان فيصام، ويحتمل أن يكون من شعبان، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن أبيه أنه قال: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) وهذا يدل على أنه يحرم صيام يوم الشك.
والعلماء مجمعون من حيث الأصل على كراهة الصوم، واختلفوا في التحريم، فكانت أسماء وعائشة رضي الله عنهن يرين الجواز، وأنه لا حرج على الإنسان أن يصوم يوم الشك، ويُعتذر لهما بعدم علمهما بالحديث الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن صوم يوم الشك، وقال بعض العلماء: يجوز صومه مع الكراهة، ولكن ظاهر الحديث أنه حرام وأنه لا يجوز أن يصام، بل قال بعض العلماء: إنه يأثم بدل أن يؤجر.
وهذا هو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) وهذا نهي، والأصل في النهي أنه يدل على التحريم.
قال العلماء: حرم النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم الشك؛ لأنه ذريعة للتنطع والغلو، ولما فيه من مشابهة أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب فرض عليهم صيام عدد معين من الأيام فزادوا فيها، فلما زادوا فيها ابتدعوا في دين الله ما ليس منه، وهذا على سبيل الشك والوسوسة.
وقال بعض العلماء: إنما حرم صيام يوم الشك لما فيه من إدخال الوسوسة على الناس، وبناء الشريعة على الوسوسة؛ لأنه ليس من رمضان فيصومه وهو يعتقد أنه من رمضان، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) فدل على أنه غير قاصد لرمضان، فكأنه يستثنيه إذا لم يقصد أنه من رمضان، وهذا هو الأولى.
فالصحيح: أنه لا يجوز صيام يوم الشك، وأن صومه حرام على ظاهر النهي، إلا إذا وافق صوم إنسان، كأن يكون ممن اعتاد صيام الإثنين والخميس، فوافق يوم الشك يوم الإثنين أو يوم الخميس فإنه يصوم ولا حرج، أو يكون من عادته أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فأفطر يوم التاسع والعشرين ووافق أن الثلاثين شك وثبت أنه ليس من رمضان فإذا أحب أن يصومه؛ فحينئذٍ لا حرج.
وعلى هذا فإن الإنسان إذا كان من عادته أن يصوم أو نذر نذراً فإنه يصوم ولا حرج عليه، وأما ما عدا ذلك فإنه باق على الأصل الموجب للحرمة والمنع.
قوله: [وإن حال دونه غيم أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه]: قوله: [وإن حال]: الحائل: هو الذي يمنع من رؤية الشيء، فإن حال بينه وبين رؤيته غيم أو قتر أو دخان -كأن يكون هناك دخان حريق ونحو ذلك فتملأ سحب الدخان السماء فتحجب رؤية الهلال، وخاصة إذا كان في جهة المغرب، أو كان هناك عجاج من غبار أو نحوه -فهذا كله على ظاهر المذهب- مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه أنه يصام.
والصحيح: أنه لا يصام كما هو مذهب الجمهور لما ذكرناه من السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [وإن رئي نهاراً فهو لليلة مقبلة]: رؤية الهلال نهاراً إما أن تكون قبل الزوال أو بعد الزوال، وقد اختلف السلف رحمة الله عليهم في رؤية الهلال نهاراً، فمنهم من قال: إذا رئي الهلال نهاراً قبل الزوال وجب قضاء هذا اليوم، وإذا رُئي بعد الزوال فإنه يكون لليلة التالية.
ومنهم من قال: إذا رئي قبل الزوال أو بعد الزوال فهو لليلة التالية، وهذا هو الصحيح كما هو مذهب الحنابلة والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع: أنه إذا رئي في النهار سواءً قبل الزوال أو بعد الزوال فإنه لليلة القادمة، وأنه لا يعد دليلاً على أن يوم الشك من رمضان، والأصل في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته) فجعل الصيام على الكمال، فمعنى ذلك: أن الرؤية قد وقعت بالليل؛ لأنه لو رئي في النهار فلا يمكن الصيام، وعلى هذا فيكون قوله: (صوموا لرؤيته) يدل على أن الرؤية إنما تكون بالليل؛ ولأنه إذا رئي نهاراً فلا شك أنه أقرب إلى الليلة التي تلي من الليلة التي مضت باحتساب البداية لا باحتساب النهاية.(100/13)
لزوم أهل كل بلد برؤيتهم للهلال
قوله: [وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم صومه].
إذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس في ذلك البلد أن يصوموا، فمثلاً: إذا رئي في مكة فيلزم جميع أهل مكة الصيام، وإذا رئي في المدينة فيلزم جميع أهل المدينة وهكذا بالنسبة لبقية البلدان، فإذا رئي في موضع لزم أهله، لكن السؤال إذا تعددت الأمصار كأن تكون رؤيته في المشرق، فهل يصوم أهل المغرب برؤية أهل المشرق أو لا؟ للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: كل أهل بلد يرجعون إلى رؤيتهم، فمثلاً: أهل الجزيرة يرجعون إلى رؤيتهم؛ فإن رأوه لزمتهم الرؤية في خاصتهم ولا تلزم أهل الشام ولا أهل المغرب، ولا أهل المشرق، والعبرة في كل مصر وقطر بحسبه، وهذا دليله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قدم عليه كريب من الشام، فسأل كريباً: (متى رأيتم الهلال؟ فأخبره: أنهم رأوه ليلة الجمعة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لكنا رأيناه ليلة السبت، فقال: ألا تعتدوا برؤيتنا؟ فقال: لا.
هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
، ففصل رؤية بلده عن رؤية غيرهم، فقالوا: فهذا يدل على أن كل قطر ومنطقة بحسبها، وهذا هو الذي تدل عليه الرواية الصحيحة في قول ابن عباس رضي الله عنهما ويدل عليه الأصل؛ لأن المطالع مختلفة، والمنازل متباعدة، بل قد يكون الفرق بين البلدين بقدر يومين؛ فحينئذٍ يصعب أن تلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب.
ولما وجد التفاوت دل على أنه لا يمكن جعلهم بمثابة المكان الواحد، إذ لو قلت: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته) على العموم، فمعنى ذلك: أن يصوم أهل الأرض كلهم برؤية بلد واحد بل برؤية قرية واحدة، وهذا لا شك أنه غير مراد؛ لأنه قد يكون اليوم في بلد في المشرق ثمانية وعشرين، ويكون في بلد في المغرب يوم ثلاثين، فيكون الفارق يومين، ولا يمكن بحال أن نقول لأهل يوم الثمانية والعشرين أن يصوموا برؤية الذين هم من بعدهم، وعلى هذا قالوا: إن كل بلد يعتد برؤيته.
القول الثاني: أن رؤية البلد الواحد رؤية للجميع، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) قالوا: وهذا يدل على أن الجميع تكون رؤيتهم واحدة.
القول الثالث التفصيل قالوا: إذا تقاربت الأماكن وكانت المنزلة واحدة فإنه يصام برؤية البلد الواحد والعكس بالعكس، وقالوا: لأنهم إذا كانوا في منزلة واحدة أمكننا أن نلزمهم بقوله: (صوموا لرؤيته) أي: نلزمهم بالعموم.
والذي يترجح -والعلم عند الله- أن لكل أهل بلد رؤيتهم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد من قوله: (صوموا لرؤيته) أن رؤية الرجل الواحد في البلد الواحد رؤية للجميع، وليس المراد: أنها رؤية لجميع من في الأرض، ولا يختلف اثنان أن النهار عند غيرنا قد يكون ليلاً عندنا، والنهار عندنا قد يكون ليلاً عند غيرنا، وأن الأماكن تتفاوت يوماً ويومين؛ ولذلك لا يمكننا أن نقول: إن حديث: (صوموا لرؤيته) على العموم.
قال العلماء: إن العموم قد يخصص بدلالة الحس، ويمثل علماء الأصول لهذا بقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] قالوا: وهذا العموم مخصص بالحس؛ لأنها ما دمرت كل شيء، فهي ما دمرت الأرض لأنه قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] وهذا عام يشمل كل شيء في الأرض، ومع ذلك قالوا: هذا العام مخصص بدلالة الحس وبدليل الوجود.
وكذلك أيضاً دليل الحس عندنا هنا، فإنه لا يمكننا أن نقول: إن رؤية بلد رؤية للجميع، وهذه المسألة يقع فيها خطأ كثير وخلط كبير، ولذلك تجد المسلمين في مشرق الأرض ينقسمون قرابة ثلاث فرق: فرقة تقول: نصوم مع بلد كذا، وفرقة، ففرقه تقول: نصوم مع بلد كذا، وفرقة تقول: لا نصوم لا بكذا ولا بغيره، بل نصوم برؤيتنا.
والصحيح الذي يظهر -والله أعلم- من خلال النصوص وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تقطع النزاع: أن كل أهل بلد ملزمون بالرؤية، فإذا رأوا الهلال فالحمد لله، وحينئذٍ يلزمهم ما يلزم الرائي من صيام ذلك الشهر، وأما إذا لم يروا الهلال فإنهم باقون على الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) فإن غم الهلال فنجعل لكل بلد رؤيتهم، فمثلاً: يتراءاه أهل المشرق وأهل المغرب كذلك، فإن ثبت عندهم جميعاً فبها ونعمت، وإن لم يثبت أكملوا العدة والكل على خير، أما لو قلنا: إن رؤية بلد هي رؤية لغيره، فإن ذلك سيكون سبباً في النزاع: هل نتبع هذا البلد، أو نتبع هذا البلد؟ وهل نعتد بهذه الرؤية أو بهذه الرؤية؟ فتقع فتن كثيرة بسبب جعل الرؤية الواحدة رؤية للجميع.
والذي يظهر من خلال السنة وخاصة حديث ابن عباس -الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) -: (لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فصار تفسيراً لقوله: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) أي: صوموا -يا أهل الشام- لرؤيتكم، وصوموا -يا أهل الحجاز- لرؤيتكم، فجعل لكل أهل منطقة رؤيتهم، وهذا هو الذي يندفع به الإشكال ويزول به اللبس، وحينئذٍ إذا رأوا الهلال عملوا بالرؤية، وإذا لم يروه أكملوا العدة ثلاثين يوماً.(100/14)
الأسئلة(100/15)
حكم من مات وعليه صوم
السؤال
رجل مات وعليه صوم بعض أيام أفطرها في رمضان من غير عذر، فهل يجوز لورثته الصيام عنه؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمن مات وعليه صوم سواء ترك ذلك متعمداً أو غير متعمد، فإنه يصوم عنه وليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) فهذا يدل على أنه يشرع أن يصوم الولي عن نيته، وهذا على العموم، سواءً كان الميت ترك الصيام ذلك متعمداً أو غير متعمد، والله تعالى أعلم.(100/16)
حكم من أفطر أياماً من رمضان لا يعلم عددها
السؤال
رجل أفطر في رمضان سابق ولا يدري كم يوم أفطر فكيف يقضي؟
الجواب
من أفطر من رمضان أياماً لا يدري عددها، فإنه يبني على التقدير والخرص، نقول له: قدر، فلو قلنا: عشرة أيام؟ فقال: أكثر.
نقول: عشرين يوماً؟ قال: أكثر.
نقول: ثلاثين يوماً؟ قال: أكثر.
نقول: أربعين؟ قال: أكثر.
نقول: إذاً ستين؟ قال: لا أقل.
إذاً نقول: خمسين.
ولو قلنا: خمسين؟ فقال: كثير.
نقول: أربعين؟ قال: قليل.
إذاً: نقول: خمس وأربعون.
وهكذا حتى يصل إلى القدر الذي يغلب على ظنه أنه قد أصاب به القدر الواجب عليه، وهذا يسميه العلماء الرجوع إلى التقدير.
فإنه إذا تعذر علينا معرفة الحقيقة فإنه يرجع إلى التقدير، ويكلف الإنسان بالتقدير، والسبب في هذا: أن الشريعة تنزل التقدير منزلة اليقين عند تعذر الحساب، ولذلك شرع الخرص كما في النخل، وشرع في المزابنة لأنه يتعذر أن تنزل العرجون وتعلم ما بداخله، وهذا رفق من الله ويسر ورحمة بعباده، والله تعالى أعلم.(100/17)
حكم من جامع زوجته وهو صائم تطوعاً
السؤال
ما حكم من جامع زوجته في النهار وهو صائم صوم تطوع؟ بالنسبة للجماع للعلماء رحمهم الله فيه وجهان: فبعضهم يقول: إن الصيام إذا وقع فيه الجماع تجب فيه الكفارة فرضاً كان أو نافلة، ومنهم من يقول: النافلة أمرها أخف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتطوع أمير نفسه)، فإذا كان هذا المتنفل قبل أن يجامعها استشعر أنه يريد الفطر وأنه قد عزف عن صيامه وجامعها، فإنه لا شيء عليه، وهذا على ظاهر الحديث، كما لو أكل وشرب، والله تعالى أعلم.(100/18)
حكم صيام ستٍ من شوال لمن عليه قضاء من رمضان
السؤال
هل يجوز لشخص عليه قضاء من رمضان أن يصوم ستاً من شوال قبل القضاء؟
الجواب
لا حرج أن يصوم الإنسان ستاً من شوال قبل أن يقضي رمضان، والسبب في ذلك: أن قضاء رمضان انتقل إلى الأيام الأخر لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] وبناءً على ذلك يكون قوله: (من صام رمضان) خرج مخرج الغالب، وعليه فإنه لو صام هذه الأيام الواجبة عليه بعد أن يصوم الست فإن صيامه صحيح؛ لأنه قد صام ستاً وثلاثين.
ولو قلنا: إنه يجب عليه القضاء أولاً وكان القضاء مثلاً عشرة أيام تقولون له: صم العشرة الأيام، ثم صم بعدها ستاً قلنا: لماذا؟ قالوا: حتى يصدق عليك أنك قد صمت رمضان، فإذا صام العشرة نقول لهم: هل تعتبرونه قد صام رمضان؟ قالوا: نعم، بعد أن يصوم العشرة يصوم الست، نقول: قد نزلتم العشرة التي هي من شوال منزلة رمضان بالقضاء.
قالوا: نعم.
نقول: إذاً لا فرق بين شوال وبين غيره، فهي في القضاء سيان كما أنكم تقولون: إذا صام العشرة من شوال فإنه يعتبر قد صام رمضان كاملاً، فكذلك إذا صامها من رجب أو صامها من جمادى أو صامها من غيره.
ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة: (إن كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان)، وقد كانت تصوم يوم عرفة -كما ثبت في الموطأ- وكانت تصوم الأيام الفاضلة، فدل هذا على أن قوله: (من صام رمضان) خرج مخرج الغالب، سواء قضاءً أو أداءً، ولو أخذ هذا على ظاهره، وهو أنه لابد وأن يصوم القضاء أولاً، ثم بعد ذلك يصوم الست فإن المرأة النفساء لا تنال هذا الفضل؛ لأن المرأة النفساء ربما تستغرق رمضان كله، فمتى تقضي؟ هل نقول: إنها لا تصوم الست لأنه لا يمكنها ذلك.
وبناءً على ذلك نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (من صام رمضان) المراد به أن يصوم رمضان أصلاً أو يصوم ما يقوم مقام رمضان من القضاء، ويستوي ذلك في جميع شهور السنة.
وغالب النساء عندهن نقص في رمضان، لمكان العادة إذا كانت تحيض، فإذا قلت: إذا صامت من شوال قضاءً لهذه الأيام تعتبر بمثابة الصائم لرمضان كاملاً، فنقول: شوال وغيره في ذلك على حد سواء، إضافة إلى ظاهر السنة في حديث عائشة رضي الله عنها.
ثم إننا إذا نظرنا إلى جهة المعنى -كما جاء في حديث زيد رضي الله عنه- وجدنا أن المعنى أن ثلاثين يوماً بثلاثمائة؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها، وستة أيام بستين فأصبح المجموع ثلاثمائة وستين يوماً، فإذا كان هذا هو المعنى فإنه يستوي في الست أن تكون قبل القضاء أو بعد القضاء.
والله تعالى أعلم.(100/19)
حكم نزول المذي في نهار رمضان
السؤال
ما حكم نزول المذي في نهار رمضان؟
الجواب
المذي لا يخلو من حالتين: الأولى: إما أن يستدعيه الإنسان ويحرك شهوته ويتعاطى أسبابه بالنظر ونحو ذلك من الأمور التي تهيج شهوته حتى خرج منه المذي، فهذا ينقص الله به أجره، ويعتبر من اللغو الذي يؤثر في صوم الإنسان ثواباً، وأما بالنسبة لصيامه، فإن صومه صحيح حتى يخرج منه المني، فإن خرج منه المني فقد أفطر، سواءً أخرجه بمباشرة للمرأة، أو أخرجه باستمناء والعياذ بالله.
فإن أخرجه بالاستمناء كان له حكمان: أحدهما: بطلان صومه.
الثاني: حصول الإثم بمخالفة الشرع بالاستمناء.
أما بالنسبة لبطلان صومه بالاستمناء فلظاهر السنة كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن الله عز وجل: (يدع طعامه وشرابه وشهوته)، فقوله: (وشهوته) مطلق، وإن من الخطأ أن يقول بعضهم بجواز الاستمناء، وبجوازه في رمضان وأنه لا يؤثر في الصوم، ولا شك أن طالب العلم الذي يفتي بهذا: ليس عنده من الورع وخوف الله عز وجل ما يردعه عن أن يأمر الناس بأمر مشتبه؛ فإن طالب العلم إذا تقلد الفتوى وتوجيه الناس ينبغي أن يأخذهم بالورع، وأن يصونهم عن حدود الله عز وجل وأن يحفظهم وخاصة في المسائل التي يكون فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، وتفضي إلى ضرر في دين الناس، فكون الإنسان يتساهل في شهوته على هذا الوجه، ويتعاطاها فإن هذا أمر يفضي إلى استرسال الناس إلى ما فيه الحرمة، ولذلك قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) قالوا: وأقل درجاته الشبهة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) لأنه إذا لم يكن هناك ورع وخوف من الله عز وجل يردعه عن هذا المشتبه فلا يأمن أن يسترسل منه إلى الحرام.
ولذلك لا يجوز فتح الباب للناس في مثل هذا، كقول بعضهم بجواز الاستمناء؛ لأنه ليس بجماع حقيقي، وبجواز شرب الدخان؛ لأنه ليس بأكل وشرب حقيقي، وأن هذا لا يفطر، وكل ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- تبعات ومسئوليات على صاحبه، فينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) والتفقه: تفعل يحتاج إلى إمعان النظر في الأحكام ودقة النظر في مقاصد الشريعة ومعرفة مراميها، أما أن يأتي ويقول: لا أعلم نصاً، ولا أرى بأساً، وهذا يجوز، وليس فيه أمر ظاهر يدل على تحريمه، وهذا حسب علمه، ولكنه لو أمعن النظر كما أمعن من هو أعلم منه وأتقى لله منه وأورع لوجد الأمر جلياً، فإن الشهوة تحصل بالاستمناء ويجد به اللذة كما يجدها بالجماع، وإن كان في الجماع أشد وأكمل، لكنه يجدها في الاستمناء.
ولذلك تجده إذا استمنى فإنه لا ينصرف إلى الحرام، ومن هنا قالوا: بإباحته عند الضرورة لا على سبيل أنه مباح بذاته، ولكن من باب ارتكاب أخف الضررين، قالوا: إذا خاف على نفسه الزنا، هل يستمني؟ قالوا: يستمني، لكنه إذا استمنى يكون حينئذٍ آثماً إثماً أصغر من وقوعه في الزنا، ففهم البعض أن الإذن به في حال الزنا إذن به على الإطلاق، وهذا من عدم إمعان النظر في كلام العلماء الأجلاء رحمة الله عليهم، وهذا له أمثلة: لو أنه خير بين حرام قليل وحرام كثير، فإنه لا شك أنك ستصرفه إلى الحرام الأقل، لكن مع ذلك تقول: يأثم بهذا الحرام الأقل، فالمقصود: أن العلماء رحمة الله عليهم لما قالوا: من يخاف على نفسه الزنا يستمني، فإنما هذا من باب ارتكاب أخف الضررين لا أنه يشرع ويجوز ومباح في دين الله عز وجل.
وعلى هذا فإنه إذا خرج منه المني يعتبر مفطراً، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(100/20)
شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [2]
من الأحكام المتعلقة برمضان: معرفة دخوله وخروجه، وهذا يتعلق برؤية الهلال، لكن تحقق ذلك والعمل به يرتبط بصفات من قال برؤيته، من عدالة ونحوها، ويتفرع على ذلك أحكام مختلفة.
وقد وضح الشيخ هذه الأحكام في هذه المادة، ثم ذكر من يجب عليه الصوم، ومن يكون معذوراً يحق له الفطر، ومن لا يصح صومه من أهل الأعذار، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بأهل الأعذار.(101/1)
صفة من يعتد برؤيته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويصام برؤية عدل ولو أنثى]: أي: يصام شهر رمضان إذا رآه شخص واحد، والعدل المراد به: من يجتنب الكبائر ويتقي في غالب حاله الصغائر.
العدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا فإذا كان مجتنباً للكبائر وهي المعاصي الكبيرة كالقتل والزنا وشرب الخمر ونحوها فهو عدل.
وقلنا: ويجتنب في غالب حاله؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يسلم من الصغائر، وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى ذلك بقوله في الحديث:: (إن تغفر اللهم تغفر جما، وأي عبد لك ما ألما؟).
جماً: أي شيئاً كثيراً.
وأي عبد لك ما ألما: أي: أي عبد من عبادك لم يصب اللمم وهي صغائر الذنوب.
فلا يمكن لإنسان أن يسلم من صغائر الذنوب، وصغائر الذنوب لها أمثلة منها: مثل النظرة، وإن كان بعض العلماء يفاوتها بحسبها؛ فالنظر إلى العورة المغلظة ليس كالنظر إلى الوجه، ونحو ذلك.
فالمقصود أنه إذا اتقى في غالب حاله صغائر الذنوب فهو عدل، أما لو أصر على الصغيرة وداوم عليها فإنه لا يكون عدلاً، ولذلك قالوا: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
فإن صغائر الذنوب تهلك صاحبها، كما أن الجبال تكون من دقائق الحصى، فإن هلاك الإنسان قد يكون بصغائر الذنوب.
ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تنظر إلى معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت)، فإذا كان نظر الإنسان إلى عظمة الله سبحانه وتعالى فإن الصغيرة تصبح في عينه كبيرة؛ لكن إذا استخف بذلك ونظر إلى أنها شيء يسير فقد تهلكه وتوبقه، نسأل الله السلامة والعافية.
فالعدل هو الذي يتقي في غالب حاله صغائر الذنوب، ويمتنع من كبائر الذنوب، فإذا كان كذلك فهو العدل الذي تقبل شهادته، وهو الرضا الذي يعتد بشهادته، أشار الله إليهما بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فلا يرضى إلا العدل.
وقوله: (شهد عدل) معناه: إذا شهد غير العدل لم تقبل شهادته، وغير العدل هو الذي يفعل كبائر الذنوب، سواء كانت قولية كأن يكون إنساناً نماماً، أو يكون كثير الاغتياب للناس، فهذا لا تقبل شهادته، وهذه من الكبائر القولية، وأما الفعلية فكشرب الخمر والزنا؛ ولهذا تسقط عدالته ويجب رد شهادته، والسبب ذلك كما يقول العلماء: أنه إذا كان جريئاً على هذه الكبيرة فمن باب أولى أن يجرؤ على الكذب، ومن هنا كان وجود هذه الكبيرة يعتبر دليلاً على أنه غير مأمون؛ لأنه إذا لم يؤتمن على حق الله فمن باب أولى ألا يكون أميناً على حقوق الناس.
أما الحنفية رحمة الله عليهم فعندهم تفصيل في الفاسق، فيقولون: إن الفاسق ينقسم إلى قسمين: الأول: فاسق تحصل بفسقه التهمة.
الثاني: وفاسق لا تحصل بفسقه التهمة.
فالفاسق التي تحصل بفسقه التهمة: كأن يكون معروفاً بالكذب ومعروفاً بارتكاب كبائر الذنوب.
والفاسق الذي لا تحصل التهمة بفسقه: كأن يكون إنسان يشرب الخمر ولكنه لا يكذب، وهذا موجود فإنك قد ترى بعض الناس على سمته أنه ليس بمطيع، وتجده من أبر الناس بوالديه، وتجده محافظاً على العهد لا يكذب ولا يغش، فتجد مظهره على أن عنده بعض الإخلال، لكن تجد في نفسه وفي قرارة قلبه مالا تجده عند من يوصف بكونه صالحاً، فقد تجد الإنسان على سمت ظاهره طيب لكنه كذاب أو غشاش أو خائن -والعياذ بالله- أو سارق أو شارب خمر في الخفية.
فالحنفية رحمة الله عليهم يقولون: العبرة بالأمانة، فإذا عرف بالصدق ولو كان يشرب الخمر أو يزني فإننا نقبل شهادته؛ لأنه لما عرف بالصدق غلب على الظن أنه صادق فيما يقول؛ قالوا: فلا تقوى التهمة في رد شهادته.
والذي يظهر أنه لا تقبل شهادة من طعن في عدالته، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فأمرنا بالتثبت والتبين والتروي في خبر هذا النوع، فدل على عدم قبوله؛ لأن التثبت والتروي نوع من الرد؛ لأنه لم يقبلها مباشرة، وعلى هذا فالصحيح مذهب الجمهور: أنه لا تقبل شهادته، سواء كان ممن يغلب على الظن صدقه أو لا يغلب على الظن صدقة.(101/2)
مسألة قبول شهادة الفاسق عند انتشار الفسق
هنا مسألة ذكرها شيخ الإسلام رحمة الله عليه وأشار إليها ابن فرحون في التبصرة والطرابلسي صاحب معين الأحكام الذي كتبه في مناهج القضاء وهذه المسألة تقول: لو حدث شيء في مكان لا تجد فيه العدل أو قد لا تجد العدل إلا بصعوبة، ثم جاء شهود من هذا المكان الذي أصحابه فساق، فهل نقبل شهادتهم أو لا؟ قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه إذا عم وانتشر فإنه يقبل أمثل الفساق، يعني: ممن يعرف بالصدق، أو يعرف بالانضباط.
والحقيقة أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أصل قوي؛ لأن الحاجة تدعو إليه، وهي التي يسمونها: مسائل عموم البلوى، وهي مفرعة على القاعدة المعروفة: أن الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق، فإذا كان الناس في سعة وكان العدول كثيرين فحينئذٍ نضيق على الناس في الشهادة، أما إذا كان الأمر على العكس، أي: كان العدول قليلين فحينئذٍ يتسع الأمر ونحكم بقبول شهادة من هو أمثل.(101/3)
شهادة العدل الواحد برؤية الهلال
فلو جاءنا رجل واحد وشهد أنه رأى هلال رمضان فهل يصام أو لا؟ للعلماء وجهان: الجمهور على أن شهادة الواحد تقبل، وأن هذا ليس من باب الشهادة وإنما هو من باب الخبر، لأن الشهادة لابد فيها من التعدد، ولا تقبل فيها شهادة الواحد، والشرع دائماً يقبل العدد.
وبناءً على ذلك قالوا: تقبل شهادة الواحد لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى الهلال وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فصامه وأمر الناس بصيامه؛ فدل ذلك على قبول شهادة الواحد في دخول شهر رمضان، وفي حديث الأعرابي أنه شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم.
قال: يا بلال! قم فأذن بالناس أن يصوموا غداً) ولكنه حديث ضعيف، وحديث ابن عمر أقوى منه وصححه غير واحد من العلماء منهم الحاكم وغيره، وهو يدل على أن شهادة الواحد يثبت بها شهر رمضان.
وإذا قلنا: إن قبول شهادته إنما هو من باب الخبر لا من باب الشهادة فحينئذٍ يقال بقبول شهادة الأنثى، فلو أن امرأة شهدت برؤية الهلال قبلت شهادتهها لكن من باب الخبر لا من باب الشهادة، والفرق بينهما: أن الشهادة يشترط فيها العدد وأيضاً لابد أن يحكم القاضي بها، فيأتي إلى مجلس القضاء ويشهد، ويثبت الدخول بشهادته.
وكذلك تكون الشهادة بلفظ: أشهد أني رأيت الهلال ويصف رؤيته على وجه تنتفي به التهمة.
وكذلك يشترط في الشهادة الذكورية، فلا يقبل فيها أقل من شاهدين ويشترط فيها الذكورية، فلا تقبل شهادة الأنثى؛ لأن الأنثى شهادتها على نوعين: إن كانت في الأموال وما يتبع الأموال قبلت شهادتها، وإن كانت في غير الأموال فالإناث لا تقبل شهادتهن؛ لحكمة من الله سبحانه تعالى، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى في آية النور أمرنا باستشهاد أربعة على الزنا فلو كانت المرأة تشهد لقال: أو ثمان، لكن في الأموال في آية البقرة قال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فنزل المرأتين منزلة الرجل الواحد، وقال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ} [البقرة:282] في قراءة (فتذكر إحداهما الأخرى) أي: أن شهادتها معها بمثابة الرجل، تذكرها، بمعنى: تنزلها منزلة الذكر.
والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى جبلهن على العاطفة، وفيهن من الضعف واللين ما جعله الله عز وجل بحكمته لصلاح هذا الكون، فلا يستقيم الكون باثنين بصفات واحدة متماثلة؛ لأن هذا يفضي إلى مفاسد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن جعل الله في المرأة العاطفة واللين حتى تقوم على الذرية، فهذا اللين والضعف في مكان كامل وفي مكان ناقص فإذا جاءت المرأة تشهد فإنها لا تستطيع لأن فيها العاطفة.
ولذلك يقول العلماء: لو أن المرأة خاصمت الرجل فإنها تتكلم بكلمتين أو ثلاث ثم تبكي وتستولي عليها العاطفة، فلا تستطيع أن تكمل كلامها، والسبب في هذا: أن الله جبلها على هذا حكمة منه سبحانه ورفقاً بالأولاد وبالذرية، فتجد من حنانها وعطفها على ولدها ما لا يستطيع الرجل أن ينزل منزلتها وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى.
ولما كانت الشهادة تحتاج إلى ترو وتثبت، فالشاهد يرى الدماء ويرى الأشلاء ويرى القطع، فإذا كانت المرأة ضعيفة القلب فإنها لا تستطيع أن تتحمل هذا، ولذلك بمجرد أن ترى هذه الأشياء فإنها تصرخ، ولربما تصاب بشيء في رؤيتها مما يؤدي إلى التأثير في شهادتها، ومن هنا منعت من الشهادة في غير الأموال، وعلى هذا جماهير العلماء رحمة الله عليهم، وظاهر القرآن يدل عليه، فلو كانت شهادة المرأة في غير الأموال مقبولة لنص سبحانه وتعالى على البدلية.
فالصحيح: أن شهادتهن قاصرة على الأموال وما في حكم الأموال.
ما في حكم الأموال كالشهادة على الوصية التي تتضمن إثبات مال، فهذه يمكن أن يثبت بها إذا شهدنا بأن الميت أوصى لفلان بنصف ماله أو بربع ماله، أو بثلث ماله، ونحو ذلك، فهذه شهادة وإن لم تكن مالية محضة لكنها آيلة إلى المال، وهي التي يسمونها الشهادة في حكم المال.(101/4)
حكم إكمال رمضان عند تبين خطأ الشهادة
يقول المصنف رحمه الله: [وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا].
لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا الأحكام المتعلقة برؤية الهلال، فبعد أن بين الأحكام المتعلقة بثبوت شهر رمضان ودخوله، شرع في بيان ما يتعلق بالخروج من شهر رمضان، والأصل أن الخروج من شهر رمضان يكون بتمام الشهر ثلاثين يوماً، وذلك أنهم إذا صاموا ثلاثين يوماً فقد تم الشهر، وحينئذٍ يكون ما بعده من شوال قطعاً.
وأما العلامة الثانية: فهي أن يشهد العدلان لرؤية هلال شهر شوال، فإذا شهد العدلان أنهما رأيا هلال شهر شوال فإن الناس يفطرون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن شهد عدلان فصوموا، وإن شهد عدلان فأفطروا) فجعل رؤية العدلين موجبة لثبوت دخول شهر شوال وانتهاء شهر رمضان.
لكن هنا مسألة، وهي: إذا شهد عدل واحد، ثم أكمل الناس العدة ثلاثين يوماً من رمضان ولم يروا الهلال، قال العلماء: هذه أمارة ودليل على خطأ الشاهد، ومن هنا فإنه يجب عليهم أن يتموا العدة لظهور خطأ الشهادة.
وهكذا الحال في المسألة التي ذكرناها: لو كان هناك غيم ليلة الثلاثين من شهر شعبان، ولم يتمكنوا من رؤية الهلال، فإن المذهب -على ما قرره المصنف- أن يصام ذلك اليوم، وإن كان الصحيح: أنه لا يصام، لكن على القول بصيامه لو صاموا ثم أتموا العدة ثلاثين، وتراءوا الهلال ليلة الواحد من شوال على تمام الشهر فلم يروه، قالوا: هذا يدل على أن الشهر -أعني: شهر شعبان- يعتبر كاملاً، وحينئذٍ عليهم أن يتموا عدة رمضان ثلاثين يوماً ولا يفطرون.
وعلى هذا هناك حالتان ذكرهما المصنف: الأولى: أن يشهد عدل واحد، ثم نحكم بدخول شهر رمضان، ثم بعد تمام العدة ثلاثين يوماً نتراءى الهلال ليلة شوال فلا نراه، وعلى هذا تبين لنا خطأ الشاهد الواحد؛ لأن الخطأ في الشاهد الواحد أكثر منه من الخطأ في الشاهدين، وحينئذٍ يلزمون بتمام شهر رمضان ثلاثين يوماً، وهذا على سبيل الاحتياط، وهذه قاعدة: أن بعض العلماء يحتاط في الخروج من شهر رمضان أكثر من احتياطه في دخول شهر رمضان، ولذلك يرون أنهم في هذه الحالة يتمون العدة ثلاثين يوماً حتى يخرجوا من الصوم بيقين.
الثانية في قوله: (أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا).
هذا على المذهب المرجوح، وإن كان الصحيح: أنه إذا كان هناك غيم ليلة الثلاثين من شعبان أنه يجب إتمام عدة شعبان ثلاثين يوماً.(101/5)
حكم من رأى هلال رمضان أو شوال وحده
وقوله: [ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله، أو رأى هلال شوال، صام].
هذه مسألة مفرعة على الشاهد الواحد، فلو أن إنساناً رأى هلال شهر رمضان -أو رأى هلال شهر شوال، فجاء يشهد فلم تقبل شهادته وردت، وهو متأكد أنه قد رأى الهلال- فقد وقع في يقين نفسه أن رمضان قد دخل، ولكن في حكم الشرع الظاهر أن رمضان لم يدخل، فهل نوجب عليه في خاصة نفسه أن يصوم هذا اليوم أو لا يصوم؟ للعلماء مذاهب: منهم من يقول: نوجب عليه الصيام لأنه قد تحقق من دخول شهر رمضان؛ وهو متعبد لله عز وجل بما تحققه، وقد أوجب الله على من رأى الهلال أن يصوم، وهذا قد تحقق من رؤيته وأن هذه الليلة من رمضان، فلا وجه لإسقاط الصوم عنه، قالوا: فحينئذٍ يلزمه أن يصوم.
القول الثاني: أن العبرة بجماعة المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) قالوا: كما لو أنهم تراءوا الهلال فلم يروه -مع أنه رمضان حقيقة- قالوا: فقد تعبدهم الله عز وجل بالدخول، فحينئذٍ لا نوجب عليه هذا اليوم؛ لأنه ليس من رمضان حكماً.
والقول الثالث يفصل فيقول: دخول رمضان يوجب عليه الصيام، وفي خروجه لا يفطر احتياطاً.
وهذا المذهب من أقوى المذاهب -أي: التفريق بين الدخول وبين الخروج- والسبب في هذا: أن الدخول تقبل فيه شهادة الواحد كما ذكرنا، وأنه من باب الخبر.
ولذلك نقول: من رأى هلال رمضان وحده -كما لو كان مسافراً فرآه وحده- فبالإجماع أنه يصوم، مع أنه في هذه الحالة لم يثبت شهر رمضان عند الجميع، فنقول: إذا رآه في الدخول وجب عليه أن يصوم؛ لأن الدخول تقبل فيه شهادة الواحد.
أما الخروج فقد قال صلى الله عليه وسلم: (فطركم يوم تفطرون) فرد الأمر إلى جماعة المسلمين، ففي الخروج لا نقول له: إنه يفطر، وإنما يبقى مع جماعة المسلمين؛ لأن الفطر للجميع بخلاف دخول شهر رمضان، ولذلك نقول: إنه قد ثبت في ذمته صيام اليوم الأول من رمضان بيقين؛ لأنه قد استيقن برؤية الهلال بنفسه، وحينئذٍ نوجب عليه الصيام دخولاً، ولكننا لا نوجب عليه الفطر خروجاً؛ لأن الفطر مقيد بالجماعة، فيفطر إذا ثبتت رؤيته مع رؤية غيره وحكم بها، ولا يفطر إذا ردت شهادته أو كان شاهداً واحداً ولم تقبل شهادته.
وهناك مذهب يقول: يفطر سراً، ولكن القول بالتفصيل اعتماداً على السنة أقوى وأظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة ابن عمر وحده في دخول شهر رمضان، فألزم الجماعة بشهادة ابن عمر، فلئن نلزم الشاهد نفسه والرائي نفسه من باب أولى وأحرى، ولكن في الخروج ردنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى جماعة المسلمين فقال: (فطركم يوم تفطرون) فجعل الفطر لجماعة المسلمين كلهم، كما لو رأى هلال ذي الحجة -مثلاً- ليلة الخميس والناس لم يروه، ثم بعد ذلك أصبح وقوف الناس متأخراً عن وقوفه؛ فإننا نقول: لا يصح وقوفه لوحده؛ لأن الوقوف بجماعة المسلمين، وعلى هذا فإنه يصح أن يصوم وحده ولا يصح أن يفطر لوحده.
وقد يشكل على هذا مسألة: كيف نحكم بالظاهر ونترك الباطن؟
و
الجواب
أن الشرع يحكم بالظاهر، ويلغي الحقيقة والباطن.
مثال ذلك: لو أن رجلاً -والعياذ بالله- رأى امرأة على الزنا، وقد رآها بعينه وشهد أنها زانية، أو شهد رجلان أو ثلاثة أنها زانية، فأتي بها إلى القاضي فلم تعترف وأنكرت، فإنه بالإجماع يجلد هؤلاء الثلاثة، ويعتبرون قذفه، والله تعالى يقول: {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] فوصفهم بالكذب بالنسبة للظاهر؛ لكنهم في الحقيقة والباطن صادقون، ولذلك يعطي الحكم للظاهر، والباطن مرده إلى الله عز وجل.
ومن أمثلته: قوله عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع) فدل على أن حكم الظاهر لا يبيح الباطن، كما أن الباطن لا يبيح حكم الظاهر، وعلى هذا فرقت الشريعة، فما كان الشرع معتبراً فيه بشهادة الواحد -وهو دخول شهر رمضان- فنعتبره ملزماً بالصيام برؤيته، كما لو رآه وحده في الصحراء فإنهم كلهم يقولون: عليه أن يصوم.
أما بالنسبة لخروج رمضان فقد جاء النص باعتبار الشاهدين، ولم يأت استثناء كالدخول، فالدخول جاء فيه استثناء في حديث ابن عمر، فقبلت فيه شهادة الواحد، وأما الخروج فلم يأت فيه استثناء، فبقينا على الأصل من كونه مطالباً بصيام هذا اليوم الذي هو يوم الثلاثين، والأصل أن الشهر كامل، وعلى هذا يقولون: إنه يقيد بجماعة المسلمين؛ لورود النص بتأكيد الجماعة.
ففي الخروج ورد النص بتأكيد الجماعة، وفي الدخول ورد النص بالاعتداد بشهادة الواحد، فخفف في الدخول ولم يخفف في الخروج، وهذا هو الذي يسميه العلماء مذهب الاحتياط.
والاحتياط ينقسم إلى قسمين: الأول: احتياط ينبني على دفع الشبهة والبعد عن الريبة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) وقوله عليه الصلاة والسلام: (دع ما يربيك إلى ما لا يريبك).
الثاني: احتياط يكون مستنداً إلى النصوص، فلما جاء النص بقبول شهادة الواحد دخولاً؛ احتطنا وقلنا: يجب عليه الصوم، فكان الاحتياط أن يصوم، بخلاف ما لو قلنا له: أفطر؛ لأنه لو أفطر ربما أفطر يوماً من رمضان، ولكن في الخروج نقول له: يبقى على صيامه، فأصبح الاحتياط هنا مستنداً إلى أصل الشرع، فكان اعتباره أولى وأحرى مع الأصل الذي دل على أنه ينبغي للمسلم أن يخرج من الريبة والشبهة.(101/6)
وجوب الصيام على كل مسلم مكلف قادر
[ويلزم الصوم لكل مسلم مكلف قادر].
يلزم: أي: يجب، وهو فريضة الله عز وجل على كل مسلم، فالكافر لا يلزمه صوم بالنسبة له، بمعنى أنه لا يخاطب ولا يصح منه صومه إلا بعد أن يحقق أصل الدين وهو التوحيد، فلو صام الدهر كله وهو لم يوحد الله فلا عبرة بصيامه، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] فالكافر لا يعتد بصومه ولا يعتد بطاعته حتى يسلم، فإن أسلم أثناء الشهر وجب عليه أن يصوم ما بقي، ولا يجب عليه قضاء ما مضى.
وإن أسلم أثناء اليوم وجب عليه الإمساك بعد إسلامه وقضاء ذلك اليوم، وهذا مبني على حديث يوم عاشوراء الذي رواه معاوية رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما كان يوم عاشوراء قال: إن الله فرض عليكم صيام هذا اليوم، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه) قالوا: فيجب على الكافر أن يمسك بقية اليوم، ثم يقضي هذا اليوم؛ لأنه لما أسلم ولو قبل غروب الشمس بلحظة فقد وجب عليه قضاء هذا اليوم، ولذلك يقولون: إنه يطالب بالقضاء، وأما بالنسبة للأيام التي مضت فإنه لا يطالب بقضائها لوجود الانفصال، وفرق بين المتصل والمنفصل، فإن إفطاره في اليوم نفسه متصل، وإلزامه بقضاء ما مضى من رمضان منفصل؛ فوجبت عليه العبادة المتصلة دون العبادة المنفصلة.
وقوله: (على كل مسلم مكلف) ويشترط بعد الإسلام أن يكون مكلفاً، والتكليف يكون بالعقل والبلوغ.
فإذا قيل: مكلف، تضمن ذلك كونه عاقلاً وكونه بالغاً، فلا يجب الصوم على صبي، ولا يجب الصوم على مجنون.
أما الصبي فالسنة إذا أطاق الصوم أن يعود عليه من الصغر، كما في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه (أنهم كانوا يروضونهم على الصيام، ويعطونهم اللعب يلعبون بها وهم صبيان)، ولكن ينبغي أن يكون مطيقاً لذلك.
أما إذا كان صغير السن ويتضرر بالإمساك ولو بعض اليوم؛ فإنه لا يحمل فوق طاقته؛ لأن هذا يزعجه ولربما يجعله يكره هذه العبادة، فإنه إذا أطاقها ألفها وأحبها كما أمر الأولياء أن يأمروا صبيانهم بالصلاة لسبع؛ تعويداً لهم على هذه العبادة وترويضاً لهم عليها، فيعود الصبي الصيام من الصغر، كأن يكون ابن العاشرة أو الحادية عشرة، أو يكون دون ذلك إذا أحب هذه العبادة وألفها، وإذا صام فليشجعه وليه على ذلك ويعينه عليه؛ لما فيه من تحصيل مقصود الشرع من تحبيب العبادة لنفسه وتعويده عليها.
وأما المجنون فلا نطالبه بالصوم، سواء بلغ مجنوناً أو طرأ عليه الجنون.
وهكذا لو صار كبير السن فأصبح يضيع ويخلط، فإذا أصبح يضيع ويخلط أو كان مجنوناً وحصل له هذا التضييع والخلط أو الجنون أثناء الصوم، فإننا لا نلزمه بذلك اليوم، سواء كان جنونه مسترسلاً أو متقطعاً.
وإذا كان جنونه متقطعاً بأن طرأ عليه الجنون في نصف رمضان، فالنصف الذي جن فيه ليس عليه قضاؤه، والنصف الذي كان فيه عاقلاً صحيحاً فإنه يطالب بصيامه.
وإذا أفاق بعد ذلك فلا نطالبه بقضاء الشهر إن كان مجنوناً في الشهر كله؛ لأن المجنون حال جنونه غير مكلف.(101/7)
حكم صيام المغمى عليه
وهل المغمى عليه في حكم المجنون أو في حكم النائم؟ كما يقع الآن في موتى الدماغ فبعضهم ربما يستمر الشهر والشهرين وربما السنة بكاملها، وقد يستمر سنوات وهو تحت هذه الأجهزة وقد مات دماغه، فمثل هذا لا يطالب بصوم، بل لا يطالب أولياؤه لا بقضاء ولا بإطعام؛ لأنه لم يجب عليه الصوم أصلاً، إذا قرر الأطباء أنه قد فقد عقله، فإنه في هذه الحالة لا يطالب بقضاء، ولا يطالب أولياؤه أيضاً بالقضاء أو بالصيام عنه ولا بالإطعام؛ لأنه غير مكلف بالصوم أصلاً.
وأما بالنسبة للجنون المتقطع فحكمه ما ذكرناه: في حال إفاقته يطالب بالصوم، ويطالب بالقضاء إن أفاق أثناء اليوم، وبالنسبة للأيام التي هو فيها عاقل فإنه يطالب فيها بالصوم.(101/8)
اشتراط القدرة في الصيام
قوله: (قادر) أي: يشترط للصائم أن يكون قادراً على الصوم، فخرج بهذا المريض، فإن المريض لا يلزم بالصوم إذا كان لا يستطيع معه الصوم، سواء كان لا يستطيع بالكلية كأن يخشى على نفسه الموت، أو كان المرض يوجب الحرج والمشقة عليه إن صام.
فهناك نوعان من المرض: النوع الأول: أن يقرر الأطباء أنه لو صام فإنه سيهلك، كما يقع في بعض الحالات التي يكون فيها فشل الكلى، بحيث يقرر الأطباء أنه في حالة خطرة بحيث لو انقطع عن الماء فإن مصيره إلى الموت والهلاك، وهكذا إذا كان فيه مرض قلب، أو كان حديث عهد بعمليات ويحتاج إلى الاستمرار على دوائها، فمثل هؤلاء يلزمهم ويجب عليهم أن يفطروا؛ لأن تعاطي الأسباب الموجبة للهلاك لا يؤمر به شرعاً، ولذلك قال العلماء: من ترك أكل الميتة وهو مضطر لها حتى مات، يحكم بكونه قاتلاً لنفسه والعياذ بالله؛ لأنه قد تحقق أو غلب على ظنه أنه سيموت فتعاطى أسباب الهلاك.
وقد أشار شيخ الإسلام -رحمة الله عليه- إلى هذا القول: أنه لا يجوز للمسلم إذا توقفت نجاته على أمر أن يتعاطى أسباب فوات النفس؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] فليس في دين الله ولا في شريعته إلزام إنسانٍ بالصوم على وجه يوجب هلاكه، ولذلك أسقط الله الصوم في حال المرض لمكان المشقة الفادحة؛ فلأن يسقط في حال الخوف على النفس من باب أولى وأحرى.
وعلى هذا: فإنه إذا كان المرض مخوفاً بحيث يخشى على صاحبه أن يهلك فإنه لا يصوم، وأما إذا كان يجد المشقة والحرج فإنه يخير بين الفطر وبين الصوم، والأفضل له أن يفطر؛ لما فيه من الأخذ برخصة الله عز وجل؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عتب على الرجل أن شق على نفسه بالصوم، وقال: (ليس من البر الصيام في السفر) أي: على من يشق عليه ويحرجه.
أما لو كان في حال مرضه يطيق الصوم، والصوم عليه يسير بدون حرج، فالأصل فيه أنه مطالب بالصوم، ولا يرخص له.
مثاله: لو أن إنساناً كسرت يده، لكن كسر اليد لا يتأثر بالصوم، فنقول: إنه يجب عليه أن يصوم إلا في حالة ما إذا كان عنده ألم شديد وتوقف على علاج يسكن له هذا الألم، فرخص بعض العلماء -رحمهم الله- في تسكينه من باب دفع الحرج، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
إذاً: لابد أن يكون المكلف قادراً، فإذا كان قادراً فإنه يجب عليه، والدليل على اشتراط القدرة قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقوله عليه الصلاة والسلام (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون) فأمرنا أن نتكلف من الأعمال والعبادات ما نطيقه، وقال: (إن المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع) فالشخص الذي يصوم وهو غير قادر سينتهي به الأمر إلى أن يهلك، أو أن يؤدي العبادة على مضض وسآمة وملل، ولربما يترتب على ذلك ضرر أعظم من تركه للصوم.(101/9)
وجوب الإمساك حال قيام البينة برؤية الهلال
وقوله: [وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه].
البينة: مأخوذة من البيان، يقال: بان الصبح إذا اتضح ضوؤه، والشيء البين هو الواضح، والبينة: هي الدليل الذي يظهر صدق الدعوى ويكشف وجه الحق، فلو أن اثنين اختصما عند القاضي، فادعى أحدهما على الآخر شيئاً، كأن يقول: لي على فلان ألف ريال ديناً.
فقال فلان: ليس له عندي شيء، وأنكر.
فجاء المدعي بشاهدين عدلين، فنقول: هذه بينة أظهرت صدق الدعوى؛ لأنه لما قال: لي على فلان ألف ريال.
احتمل أن يكون صادقاً واحتمل أن يكون كاذباً، والأصل أن المدعى عليه بريء حتى يثبت أنه مدان بهذا الحق، فلما جاء بالبينة أظهرت صدق الدعوى.
والظهور الغلبة، كما قال تعالى: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] أي: غالبين، فكأن صدق الدعوى وكذبها في منزلة واحدة عند الادعاء، فلما جاء بالبينة أظهرت صدق الدعوى وكشفت وجه الحق، لأنه لما قال: لي على فلان ألف.
فقال فلان: ليس له علي ألف ريال، التبس وجه الحق، فلما قام الشاهدان انكشف أن الحق مع من قال: لي على فلان ألف ريال.
فعلى هذا قالوا: إن البينة هي ما يظهر صدق الدعوى ويكشف الحق.
والأصل في البينة أن تكون بشهادة العدلين على الشروط المعتبرة، لكن قد تكون البينة امرأة واحدة كالشهادة على الرضاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟!) فقد قبل شهادة المرأة الواحدة، فلو قالت امرأة: أرضعتك وفلانة، فإنه يثبت حينئذٍ أنها أخت لك، وهكذا لو أن امرأة قابلة -وهي التي تشرف على الولادة- شهدت بأن المولود استهل صارخاً، فإن المولود والجنين لا يرث إلا إذا تحققنا من حياته، ولا نتحقق من حياته إلا إذا عاش لحظة على الأقل بعد ولادته، فلو ولد ميتاً لم يكن له شيء، فنحتاج لكي نثبت الميراث له أن يستهل صارخاً، بمعنى: بأن يحدث منه الصوت أو الحركة التي تدل على الحياة حال ولادته على خلاف عند العلماء، فإذا شهدت امرأة واحدة أنه استهل صارخاً قبلت شهادتها في الاستهلال، لمكان الضرورة والحاجة، كما قبلنا شهادة المرضعة.
وهذه من المسائل التي تكون فيها البينة قاصرة وناقصة، وعلى هذا فالبينة هي: شاهدان عدلان قاما بالشهادة على وجهها بأنهما قد رأيا الهلال ليلة البارحة، وإذا لم ير الناس الهلال فأصبحوا مفطرين في يوم الثلاثين من شعبان، فجاءت البينة وشهدت عند القاضي أنها رأت الهلال ليلة البارحة، وأن هذا اليوم هو الأول من رمضان، فيأمر القاضي بالنداء في الناس أن يمسكوا.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض عليكم صوم هذا اليوم -يعني: يوم عاشوراء- فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه) فإن هؤلاء الذين أفطروا إنما أفطروا في أول الأمر وهم يظنون أن الصوم غير واجب، بل على يقين بأنهم يفطرون، وكان الصيام تخييراً لا إلزاماً، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك بقية اليوم، قالوا: فيعذر أهل البلدة إذا لم يروا الهلال أول اليوم؛ لمكان عدم العلم، فإذا علموا وتحققوا فقد تبين أن هذا اليوم يجب عليهم صيامه، فعذروا بالفطر بأوله ولا يعذرون بالفطر في باقيه، فيلزمهم الإمساك بقية اليوم على ظاهر حديث معاوية رضي الله عنه.
ثم يلزمهم قضاء هذا اليوم؛ لأن القاعدة في الشرع: أنه لا عبرة بالظن البين خطؤه، أي: لا عبرة بالظن الذي بان أنه خطأ، فهم قد بنوا على غلبة الظن بأن شعبان كامل، ثم تبين أن هذا الظن خاطئ، وقد تحقق أن هذا اليوم من رمضان، فنعذرهم لأن الشيء إذا جاء لعذر يقدر بقدره.
فجاز لهم أن يفطروا أول اليوم لأنهم معذورون بعدم العلم، فلما زال السبب الذي من أجله عذروا رجعوا إلى الأصل من كونهم مخاطبين بإتمام العدة، وعلى هذا قالوا: يلزمهم الصوم بقية اليوم، ويلزمهم قضاء هذا اليوم؛ لأن الله أوجب عليهم صيام رمضان كاملاً وقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] فهؤلاء مطالبون بصيام رمضان كاملاً، وهذا اليوم من رمضان ولا وجه لإسقاطه.
وقال بعض العلماء: لا يجب عليهم قضاؤه، بل يمسكون بقية اليوم ولا يقضون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بقضاء يوم عاشوراء.
وهذا مذهب مرجوح، والجمهور على أنهم يقضون، ووجه كونه مرجوحاً: أولاً: يجاب عن حديث معاوية من وجهين: الوجه الأول: أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء ويحتمل أنه لم يأمرهم، والسكوت عن النقل لا يدل على عدم الوجوب كما هو معلوم في الأصول، وعلى هذا قالوا: إنه قد يكون سكت للعلم به بداهة بأنهم مطالبون بالقضاء.
الوجه الثاني: أن هناك فرقاً بين استئناف التشريع وبين ثبوته، فقالوا: إن التشريع استؤنف في أثناء اليوم بخلاف بقية الأمة، فإنهم مطالبون بصيام الشهر كاملاً لأن التشريع موجود، وإنما سقط عنهم القضاء لأن التشريع استؤنف؛ ففرق بين كون التشريع مستأنفاً وبين كونه ثابتاً.
فعلى هذا قالوا: إنه يجب عليهم قضاء هذا اليوم؛ لأن الأصل أنهم مطالبون بصيام ثلاثين يوماً بخلاف أهل يوم عاشوراء، فإنهم لم يطالبوا به في الأصل، وعلى هذا فرق بين الإلزام بصيام اليوم إذا قامت البينة، وبين عدم ورود أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء في حديث يوم عاشوراء.(101/10)
وجوب القضاء على من نوى الصيام متردداً
وقوله: [والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه].
معنى ذلك: أنه لو أصبح إنسان صائماً يوم الشك، ثم تبين أن هذا اليوم من رمضان، قالوا: يلزمه أن يقضي؛ لأنه صام يوم الشك على نية مترددة، والنية المترددة لا تسقط الجزم؛ فإن الإنسان إذا قال: يحتمل أنه من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، فأنا أصومه إن كان من رمضان ففرض، وإن كان من شعبان فنفل، فأصبحت نيته ليست بمتمحضة للفرض، وقد نوى النفل أثناءها؛ لأنه قال: إن كان من شعبان فنفل.
فقد أدخل نية النفل عليه، ولا تصح نية الفريضة إلا متمحضة؛ فيلزمه القضاء.
وقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم بالنية في الصوم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له) كما هو حديث ميمونة، وهو حديث صحيح، فلما ألزمنا بتبييت النية فكانت النية للفريضة فريضة، ولا تكون مترددة، وهذا قد نوى على التردد فلم تقع نيته وفق النية المعتبرة شرعاً، فألزمه الجمهور بقضاء هذا اليوم، وهذا معنى قول العلماء: يلزم القضاء للجميع.
لكن لو أن إنساناً رأى الهلال وحده فأصبح ناوياً صيام رمضان، وقدم عليهم وهم مفطرون أول اليوم فأمسك، ثم ثبت بالبينة أنه من رمضان فإن صومه يجزيه، ولا يلزمه القضاء.(101/11)
صيام أهل الأعذار بعد زوال الأعذار
وقوله: [وكذا حائض ونفساء طهرتا].
أي: وكذا المرأة الحائض والمرأة النفساء، فإنها إذا طهرت أثناء يوم رمضان فإنه يلزمها إمساك بقية اليوم وقضاؤه، وذلك أن المرأة الحائض سقط عنها الصوم أثناء تلبسها بالعذر، والقاعدة في الشرع: أن ما جاز لعذر بطل بزواله.
فمثلاً: جاز للإنسان أن يسأل الناس إذا أصابته حاجة، فإذا تبرع له الناس حتى سدت هذه الحاجة حرم عليه أن يسأل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (حتى يمسك قواماً من عيش) فلما أمسك القوام من العيش رجع إلى الأصل من كون السؤال حرام عليه.
قالوا: كذلك ما جاز لحاجة وعذر، فإنه قد جاز للمرأة الحائض والنفساء أن تفطر لمكان العذر وهو الحيض والنفاس، فإذا زال العذر وطهرت رجعت إلى الأصل من كونها مطالبة بالإمساك، فيجب عليها أن تمسك بقية اليوم، ثم بعد ذلك تقضي هذا اليوم.
وهكذا المسافر إذا قدم من سفره، فإن الله قد أباح الفطر للمسافرين إذا كانوا على سفر؛ فإذا قدموا وزال عنهم وصف السفر بقوا على الأصل من كونهم مطالبين بالإمساك بقية اليوم، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الإمساك بقية يوم عاشوراء.
ولذلك فحكم المسافر والمرأة الحائض والنفساء حكم صيام يوم عاشوراء كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا وجه للتفريق بالتعليل والنظر، ولذلك يُبقى على الأصل الذي دل عليه حديث يوم عاشوراء، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو أقوى المذاهب وأعدلها، إضافة إلى أنه يرجع إلى الأصل، ويكون أقوى الأقوال في الفقه هو ما يشهد الأصل باعتباره.
فالأصل أنه مطالب بالإمساك، وهذا شهر إمساك وصوم، ولذلك لا يفرق بين أجزاء النهار كاملة أو ناقصة، فإذا جاز أن يفطر أو يأكل في حالة معينة على صفة معينه، ثم زالت هذه الحالة والصفة؛ وجب عليه أن يرجع إلى الإمساك الذي هو أصل الشهر، فالشهر إنما سمي بشهر الإمساك لكون الصائم يمسك فيه، فإذا جاز له أن يأكل بسفر أو مرض، أو جاز للمرأة أن تأكل لحيض أو نفاس، ثم زال الحيض والنفاس والسفر والمرض؛ رجع إلى الأصل من كونه مطالباً بالإمساك.
وقوله: [ومسافر قدم مفطراً].
أي: وهكذا لو سافر إنسان وقدم من سفره أثناء اليوم؛ فإنه يلزمه أن يمسك بقية اليوم؛ لأنه جاز له الفطر أثناء السفر: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فجعل المريض والمسافر معذوراً أثناء السفر والمرض؛ فإذا زال السفر وزال المرض رجع إلى الأصل من كونه مطالباً بالإمساك في هذا اليوم.(101/12)
حكم من أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه
وقوله: [ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، أطعم لكل يوم مسكيناً].
هذا النوع الثاني ممن يرخص له أن يفطر في شهر رمضان، وهو المريض الذي لا يرجى برؤه من المرض، والكبير أي: الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم.
فبالنسبة للمريض الذي لا يرجى برؤه كمن به فشل في الكلى، أو معه مرض مزمن لا يمكنه أن يمسك عن الطعام والشراب، فهذا يلزمه أن يطعم؛ فيعدل من الصوم إلى الإطعام، لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] وفي قراءة: (وعلى الذين يطَيّقونه) وفي قراءة: (وعلى الذين يَطوّقونه) والمراد بهذه القراءة أنهم يجدون المشقة والعناء، ويتكلفون ما في طاقتهم ووسعهم للصوم، فهؤلاء أوجب الله عليهم أنه يطعموا المسكين؛ فيعدلون من الصيام إلى الإطعام، ولا يكون الصوم واجباً عليهم لا أداءً ولا قضاءً، فيسقط عنهم الصوم بالكلية.
والمريض الذي لا يرجى برؤه؛ لأنه إذا أفطر لا يستطيع أن ينتقل إلى بدل، فالمرض معه والعذر مستديم معه، وهكذا الشيخ الهرم، فإنه يفطر ولا يلزمه أن يقضي، وإنما يعدل هذان النوعان إلى الفطر بدون قضاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب عليهم الإطعام ولم يوجب عليهم الصيام لظاهر آية البقرة التي ذكرناها.
وقوله: (أطعم لكل يوم مسكيناً): إطعام المساكين له صور: إن شاء في كل يوم أن يرتب طعامه ويعطيه للمسكين، وإن شاء جمع في آخر رمضان ثلاثين مسكيناً وأطعمهم، أو مر على الثلاثين وأطعمهم دفعة واحدة؛ لكن لو أنه من بداية رمضان أخذ طعام الثلاثين وفرقه على ثلاثين ناوياً به الشهر كاملاً لم يجزه؛ لأنه لا يجب عليه الإطعام إلا بالإخلال، وذلك بفطره في اليوم، فلا يطعم إلا بعد فطره، ولذلك قالوا: لو أراد أن يطعم عن كل يوم فإنما يطعم بعد طلوع الفجر؛ لأنه يفطر بعد طلوع الفجر، وحينئذٍ يكون متوجهاً عليه الخطاب بالإطعام، أما قبل الفطر فإنه لا يطعم ولو كان قبل تبين الفجر الصادق.
وإنما يطعم بعد طلوع الفجر؛ لأنه يتعين عليه حينئذٍ الإطعام، أما لو أطعم قبل فإنه يكون إطعامه حينئذ نافلة ولا يكون فريضة؛ لأن الله لم يوجب عليه الإطعام بعد، كما لو صلى قبل دخول الوقت، وبناء على ذلك قالوا: العبرة بوقت الصوم، فإذا دخل عليه وقت صوم هذا اليوم أطعم عن هذا اليوم، فلو أراد أن يقدم لم يصح ذلك منه، ووقع الإطعام نافلة لا فريضة.
وأما لو أخر وأطعم عن ثلاثين يوم دفعة واحدة فيأتي على وجهين: إما أن يجمع طعام ثلاثين يوماً ويعطيه لمسكين واحد.
وإما أن يجمع طعام الثلاثين ويفرقه على الثلاثين.
فإن فرق طعام الثلاثين على الثلاثين أجزأه، فأما إطعام مسكين طعام ثلاثين يوماً فلا يجزيه إلا عن يوم واحد؛ لأن كل يوم يخاطب فيه بحسبه، فعلى هذا يجب عليه أن يطعم ثلاثين مسكيناً إذا كان الشهر كاملاً، وتسعة وعشرين مسكيناً إذا كان الشهر ناقصاً، والأولى والأحرى والأفضل أن يطعم كل يوم مسكيناً في يومه، لكن لو أخر إلى آخر رمضان فإنه يجزيه الإطعام، لكن هل يأثم أو لا يأثم؟ قال بعض العلماء: يأثم بالتأخير، ويصح إطعامه.
وقال بعض العلماء: يجوز له التأخير، لكن القول بإثمه من الوجاهة والقوة بمكان، وبناءً على ذلك فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً.(101/13)
شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [3]
صيام رمضان واجب على كل مسلم مكلف قادر، ومن تعذر عليه الصيام فإنه يفطر ويقضي بعد رمضان، ومن أهل الأعذار في رمضان: الحائض، والنفساء، والمريض، والمسافر سفراً يقصر فيه، والحامل والمرضع إن خافتا على أنفسهما أو على ولدهما.(102/1)
حكم فطر أهل الأعذار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد(102/2)
الفطر بعذر المرض والسفر
فيقول المصنف رحمه الله: [ويسن لمريض يضره ولمسافر يقصر].
ويسن الفطر لمريض؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فأمرنا الله عز وجل أن نعدل في حال السفر والمرض إلى الفطر، لكن هل ذلك على سبيل الوجوب أو على سبيل التخيير؟ للعلماء قولان: قال جمهور العلماء: من كان مريضاً أو على سفر إن شاء أفطر وإن شاء صام، فهذا مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة.
وقال بعض العلماء: المسافر لا يصح منه أن يصوم، ولو صام في السفر بطل صيامه ويجب عليه القضاء؛ لأن الله يقول: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] أي: أنه يجب عليه أن يفطر، ويكون صومه في عدة من أيام أخر، وهذا مذهب الظاهرية.
والصحيح: مذهب الجمهور؛ وذلك لأن السنة فسرت القرآن وبينت المراد منه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه مسافراً، قال أنس: (فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم).
وفي الصحيح: أن عمرو بن حمزة -رضي الله عنه- سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني أطيق الصوم في السفر.
فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر) فخيره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلزمه عليه الفطر؛ فدل على أن الإنسان مخير.
لكن إذا حصل الحرج والمشقة للإنسان في السفر فإنه يعدل إلى الفطر، وقد يجب عليه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام حتى بلغ كراع الغميم، وهو موضع بين مكة والمدينة، أقرب إلى مكة منه إلى المدينة، وكراع الغميم هو كراع البحر، أقرب إلى جهة عسفان، المسافة ما بين المدينة وعسفان تقرب من سبع مراحل أو ثمان مراحل، والثمان المراحل: قرابة ثمانية أيام، وكلها كان يصومها عليه الصلاة والسلام، فاشتد الصوم على المسافرين من أصحابه فأفطر عليه الصلاة والسلام، وأخبر أن أقواماً لا يزالون صائمين، فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك العصاة أولئك العصاة) وهذا لأن اليوم كان شديد الحر، عظيم الضرر على المسافرين؛ فكان المنبغي عليهم أن يأخذوا برخصة الله عز وجل عليهم، فصار تكلفهم الصيام فيه حرج ومشقة على النفس.
ومن هنا قال العلماء: نفرق في المسافر؛ فإذا كان السفر يحرجه ويتعبه ويشق عليه أن يصوم فيه؛ فإنه يعدل إلى الفطر، وقال بعضهم بالوجوب كما ذكرنا، وأما إذا كان يجد المشقة ولا تصل به إلى الحرج فهو مخير بين أن يفطر وبين ألا يفطر.
أما الحالة الثالثة: وهي أن يسافر وهو مرتاح -كما هو الحال في وسائل السفر الموجودة اليوم- فلا يجد عناءً ولا مشقة، فهل يجوز له أن يفطر؟
الجواب
نعم، يجوز له أن يفطر؛ لأن الشرع علق العلة بالغالب، والقاعدة في الأصول في مثل هذه الرخص أنه لا يلتفت فيها إلى نادر الصور؛ لأن نادر الصور أن المسافر يرتاح، والواقع أن المسافر له عناءان وعليه مشقتان: مشقة ظاهرة، ومشقة باطنه.
أما المشقة الظاهرة: فهي التعب في التحمل والنزول والغربة.
وأما المشقة الباطنة: فهي مشقة التعب النفسي في بعده عن أهله، وتغربه عن وطنه، وإقدامه على المكان الموحش والأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا جليس، فهذا يرهق النفس ويتعبها وإن كان في الظاهر مرتاحاً مستجماً، فالشرع علق الرخصة بوجود السفر.
فنحن نقول: من شاء أن يصوم ومن شاء أن يفطر، ولو كان في حالة من الراحة والاستجمام؛ لأن الله عز وجل جعل للمسافر أن يفطر بغض النظر عن كونه مرتاحاً أو غير مرتاح، ولا نفرق بين المرتاح وغيره؛ لأن التفريق بين المرتاح وغيره مبني على الاجتهاد والنظر، والقول باعتبار الظاهر من النص أولى وأحرى.
ولذلك من الخطأ ما يقع فيه بعض الناس من الإنكار على المسافر المرتاح أنه يفطر، وهذا خطأ؛ لأن الله عز وجل أباح للمسافر أن يفطر ولم يفرق بين مسافر وآخر، ولذلك لا يجوز لأحد أن ينكر على مسافر إذا أفطر ولو كان في أقصى راحة واستجمام؛ لأن الله عز وجل أحل له ذلك، فلا نلزمه بما لم يلزمه الله عز وجل به، ونقول: هو بالخيار، إن شاء أفطر وإن شاء صام، والأفضل له إذا كان في سفر وكان مرتاحاً أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر؛ ولأن ذلك يبرئ ذمته، وإبراء الذمة أولى من شغلها، فكونه يبرئ ذمته بالعاجل أفضل؛ ولأنه لا يضمن أن يبقى، ولذلك كونه يخلي نفسه من المسئولية والتبعة فهو أفضل له وأولى وأحرى، فعلى هذا قالوا: الأفضل له أن يصوم ولا يفطر.(102/3)
الضابط في السفر المرخص فيه بالإفطار
وقوله: [ومسافر يقصر].
أي: يباح الفطر للمسافر بشرط: أن يكون سفره سفر قصر، وسفر القصر هو: أن يكون المكان الذي يقطعه في سفره مسيرة يوم وليلة على الإبل المعتادة، وهذا يقرب من خمس وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً، فمن قصد بلدة ومدينة تبعد عن مدينته ما بين خمس وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً فإنه يباح له أن يفطر، وأما إذا كانت المدينة تبعد عنه أقل من ذلك كسبعين أو ستين كيلو متراً فإنه لا يفطر، ولو كان الفرق يسيراً ككيلومتر أو نصف كيلومتر عن المسافة المعتبرة فإنه لا يفطر، وقد استغرب بعض المتأخرين ذلك وقالوا: كيف تحدد مسافة السفر، فنقول لشخص قصد مدينة تبعد أربعاً وسبعين كيلومتراً لا يفطر، ومن قصد مدينة من خمسة وسبعين كيلومتراً يفطر؟ نقول: هذا تفريق من الشرع، ولذلك لما سئل عبد الله بن عباس عن القصر في السفر من مكة إلى مر الظهران والجموم، قال: لا، ولكن إلى جدة وعسفان والطائف.
فأجاز رضي الله عنه القصر إلى جدة، وكانت تبعد مسافة القصر، والطائف لأنها تبعد مسافة القصر، وعسفان لأن عسفان كان بينها وبين مكة مرحلة، والمرحلة هي مسيرة اليوم الكامل، وهذه مرحلة كاملة كانت بين عسفان ومكة، فأجاز القصر في هذه المسافة ولم يجز دونها، وكان ابن عمر كذلك يقصر إذا ذهب إلى مزرعته بوادي ريم، وريم تبعد عن المدينة فوق السبعين كيلومتراً، وهي مسافة المرحلة الكاملة.
وعلى هذا فإننا نقول: إن الله عز وجل أباح للمسافر أن يفطر، ولكننا لا نجيز في كل سفر الفطر ما لم يكن هذا السفر معتبراً شرعاً، والسفر المعتبر شرعاً هو ما بلغ مسيرة اليوم والليلة، والدليل على اعتبار الشرع له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) فلو كان ما دون مسيرة اليوم والليلة يسمى سفراً لقال عليه الصلاة والسلام: لا يحل لامرأة أن تسافر يوماً، أو: لا يحل لامرأة أن تسافر ليلة، أو: لا يحل لامرأة أن تسافر نهاراً، أو: لا يحل لامرأة أن تخرج من المدينة، لو كان كل خروج من المدينة سفراً لقال: لا يحل لامرأة أن تخرج من المدينة، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (أن تسافر) وقيد السفر بقوله: (مسيرة يوم وليلة) أخذ منه جمهور العلماء أن السفر هو مسيرة اليوم والليلة.
فمن قصد من بلده موضعاً يبعد مسيرة اليوم والليلة وقدره من خمسة وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً فإنه يقصر ويفطر.
ويشترط في هذا السفر ألا يكون سفر معصية؛ لأن سفر المعصية لا يجوز للإنسان أن يفطر فيه؛ لأنه ليس بسفر معتبر شرعاً، فإن بلغ به الحرج والمشقة والضيق حل له الفطر من باب آخر لا من باب السفر.
والأصل في ذلك: أن الشرع لم يأذن له بهذا السفر، فصار كغير المسافر، وإنما يحل له أن يقصر وأن يفطر إذا كان سفره يعتبره الشرع سفراً، وأما ما لم يعتبره الشرع سفراً فإنه لا يفطر فيه، كالسفر إلى حرام وقطيعة رحم وعقوق والدين، فمثل هذه الأسفار لا يترخص صاحبها فيها، ولا يجوز له أن يفطر ولا أن يقصر الصلاة كما قررناه في باب صلاة المسافر.(102/4)
حكم من نوى صيام يوم ثم سافر في أثنائه
[وإن نوى حاضر صيام يوم ثم سافر في أثنائه فله الفطر].
هذا مذهب جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم: أنه إذا أقام ثم طرأ عليه السفر في أثناء اليوم، فإنه يجوز له أن يفطر، فلا يشترط في المسافر أن يكون قد بيت النية بالسفر، فلو طرأ عليك السفر أثناء اليوم حل لك أن تفطر بمجرد خروجك من المدينة.
والأصل في ذلك أن الله تعالى يقول: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]، فوصف الإنسان بكونه على سفر.
وذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جواز الفطر في داخل المدينة، وكان بعض العلماء يقول بجواز الفطر بالنية، وهذا من أضعف المذاهب؛ لأنه يخالف نص القرآن وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نص القرآن الثابت في كتاب الله عز وجل أنه وصف الإنسان بكونه على سفر، والذي على سفر لا يكون مسافراً إلا إذا أسفر، والإنسان لا يقال: إنه على سفر، إلا إذا خرج وأسفر، والإسفار يتحقق بخروجك من آخر عمران المدينة؛ فإذا خرجت من آخر عمران المدينة حل لك أن تفطر، وأما إذا كنت داخل المدينة فإنه لم يتحقق كونك مسافراً.
ولذلك يقولون: إنه لا يرخص له الفطر إلا إذا جاوز آخر العمران، وقد بينا ضوابط مجاوزة آخر العمران في باب صلاة المسافر في كتاب الصلاة، وبينا ضابط ذلك، وما أثر عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه من كونه أفطر وهو يرى البنيان، قال العلماء في جوابه: إن قوله: إن ذلك من السنة، مراده: أنه لا يشترط أن يغيب عن نظرك رؤية العمران؛ فهناك مسألتان: المسألة الأولى: خروجك من المدينة.
والمسألة الثانية: إذا خرجت من المدينة هل يشترط أن تغيب العمران، بمعنى أن تبعد وتبعد حتى إذا نظرت لا ترى أثراً للعمران، أم أن العبرة بمجرد خروجك؟ فظاهر ما جاء عن أبي بصرة أنه حينما كان على مركبه وسفينته على دجلة أنه كان يرى العمران، فدل على أن رؤية العمران لا تسقط الرخصة، وهذا صحيح ويقول به الجمهور: أن العبرة بمجاوزتك للعمران، وأن رؤيتك له ولو كنت على متر من العمران جاز لك أن تفطر، فلا يشترط عدم الرؤية، وفرق بين مسألة الرؤية وبين مسألة النية.
ومما يدل على أن الشرع رخص في السفر؛ أنه أعطى رخصتين: الرخصة الأولى: قصر الصلاة.
والرخصة الثانية: الفطر في الصوم، وكلاهما من جنس العبادة، ومع هذا فإنه لا يقصر الصلاة بالإجماع وهو في المدينة، ولو كانت نيته السفر، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربع ركعات، مع أنه ناو للسفر لحجة الوداع، فصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، فمعنى ذلك أنه إذا أصبح ذلك اليوم وهو ناو للسفر لم يقصر الصلاة، وكذلك في الصوم، لو أصبح وهو ناو للسفر لا يباح له الفطر ما لم يخرج من المدينة ويجاوز عمرانها على الصفة التي ذكرها في باب صلاة المسافر.(102/5)
إفطار الحامل والمرضع
وقوله: [وإن أفطرت حامل أو مرضع خوفاً على أنفسهما قضتاه فقط].
أي: قضتا ذلك اليوم، ولا يلزمهما إطعام.
والحامل والمرضع لا يخلو في فطرهما من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الخوف على أنفسهما.
الحالة الثانية: أن يكون الخوف على الولد.
الحالة الثالثة: أن يكون الخوف على النفس مع الولد.
فإن كان خوفهما على أنفسهما أو على أنفسهما مع الولد فإنه يباح لهما الفطر والقضاء بدون إطعام، لأن العذر متصل بهما.
وإن خافتا على الولد أفطرتا وقضتا وأطعمتا.
وهذا على ظاهر آية البقرة، فإن ابن عباس -رضي الله عنه- كان يرى أنها باقية في الحامل والمرضع: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] قال: إن المرأة الحامل عليها أن تطعم المسكين، وهذا في حالة ما إذا كانت مفطرة عن نفسها؛ فخالف جمهور العلماء، والجمهور على أنه إذا أفطرت المرأة الحامل والمرضع خوفاً على أنفسهما فإن الواجب عليهما القضاء دون الإطعام كالمسافر والمريض، لأن العذر متصل بهما.
أما إذا خافتا على الولد وحده ولم يكن الخوف على النفس؛ فإنه حينئذٍ يلزمهما الإطعام والقضاء عن ذلك اليوم، قالوا: الإطعام لمكان انفصال العذر، وأما بالنسبة للقضاء فلكون اليوم واجباً عليهما بالأصل.
وقوله: [وعلى ولديهما قضتا وأطعمتا لكل يوم مسكيناً].
أي: إذا خافتا على الولد.
المرضع في بعض الأحيان تكون صحتها طيبة، وهي قادرة على الصوم؛ ولكنها تخاف أنها إن صامت فلن يجد الولد اللبن ويتضرر بصيامها، فقالوا: حينئذٍ يكون فطرها لعلة منفصلة عنها وهو الولد.
وهكذا بالنسبة للحامل، فإنها تطيق الصوم في نفسها، ولكنها تخشى أن يتضرر الولد، كأن يقول لها الطبيب: إذا صمت في هذا الشهر فإن الولد سيتضرر، فحينئذٍ يكون الخوف على الولد وليس على المرأة الحامل، فيكون العذر في كلتا الصورتين منفصلاً لا متصلاً بالمرأة نفسها.(102/6)
حكم من صام ثم جن أو أغمي عليه
ذكر المصنف رحمه الله مسألة جنون الصائم وإغمائه، وصورة ذلك: أن ينوي الإنسان الصوم لفريضة كرمضان أو نذر أو كفارة، ثم إذا أصبح وهو مغمى، واستمر إغماؤه النهار كله، وهكذا لو أصابه جنون ولم يفق من جنونه إلا بعد مغيب الشمس، فإنه يبطل صومه بهذا الإغماء وبهذا الجنون؛ والسبب في ذلك -كما ذكر العلماء رحمهم الله-: أن النية تزول ويزول منه القصد ولا يستصحب، وإن كانت هناك مسائل يقال فيها باستصحاب الحكم في المغمى عليه والمجنون كالإسلام والردة ونحو ذلك، ولكن هذه المسألة لا يحكم فيها بالاستصحاب، وحينئذٍ يسقط عنه هذا اليوم، فلا يصح صومه ولا يعتد به؛ لمكان فوات النية بزوال الإدراك والشعور.
وقوله: [لا إن نام جميع النهار].
اختلف العلماء في الصائم إذا نام جميع النهار: فمنهم من قال: إن النائم يصح صومه، وبناءً على ذلك فلو نام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فصومه صحيح، بخلاف المجنون وبخلاف المغمى عليه، وهذا التفريق مبني على الأصل؛ وذلك أن الصحابة كانوا ينامون؛ ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بانتقاض الصوم بالنوم، والإجماع قائم على أن النوم المعتبر -كالنوم بين الظهر والعصر، والنوم ضحوة، ونوم القيلولة- لا يبطل الصوم، ولكن الخلاف إذا نام أكثر النهار أو نام كل النهار.
وصحح جمع من العلماء رحمهم الله التفريق بين الجنون والإغماء والنوم، فقالوا: إن النوم لا يبطل، بخلاف الجنون والإغماء.
وقال بعض العلماء: إذا نام أغلب النهار أو كله بطل صومه؛ وذلك لأن المغتفر في النوم ما كان معتاداً، وما خرج عن العادة فإنه يرجع إلى الأصل، فيكون في حكم المجنون والمغمى عليه؛ فيبطل صومه.
وقوله: [ويلزم المغمى عليه القضاء فقط].
أما بالنسبة للمجنون فبالإجماع أنه لا يطالب بالقضاء، فلو أن إنساناً يصيبه الجنون متقطعاً، فجن من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس، فإن صومه لا يعتد به حتى ولو صام، ولا يلزمه قضاء هذا اليوم.
وأما بالنسبة للمغمى عليه فللعلماء فيه قولان: من أهل العلم من يقول: إن المغمى عليه يأخذ حكم المجنون، وبناءً على ذلك لا يلزمه قضاء ولا يصح صومه.
وقال بعض العلماء: المغمى عليه في حكم النائم، فصومه صحيح.
والصحيح الذي يترجح -والعلم عند الله-: أن المغمى عليه في حكم المجنون، وبناءً على ذلك يطالب بالقضاء ولا يصح صومه.
وعلى هذا فما اشتهر في هذه الأيام مما يسمى بموت السرير أو موت الدماغ، فيكون الإنسان قد زال شعوره وليس فيه إلا نبضات قلبه، وحكم الأطباء بموت دماغه، وقد يستمر في جهاز الإنعاش شهوراً وقد يستمر سنوات، فمثل هذا غير مكلف، ولا يلزم بالقضاء، ولا يلزم أهله بالقضاء ولا بالإطعام عنه، بل يسقط عنه التكليف بمجرد موت دماغه وتقرير الأطباء لذلك.(102/7)
اشتراط النية في الصيام
وقوله: [ويجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب].
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان المسائل والأحكام المتعلقة بنية الصائم؛ والسبب في ذلك: أن الصوم عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، وبيان أحكام العبادة التي لها نية يستلزم بيان حكم النية وحدودها وضوابطها.
وينقسم الصوم إلى قسمين: صوم فريضة، وصوم نافلة.
فكلا القسمين لا يصح إلا بنية، فلو أن إنساناً أضرب عن الطعام واستمر إضرابه يوماً كاملاً، فإننا لا نقول: إنه صائم، ولا يحكم بصومه لا نافلة ولا فريضة؛ لأنه لم يقصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الامتناع، وهكذا لو امتنع عن الطعام والشراب ليخفف وزنه، أو خوفاً من الطعام والشراب أن يضره في جسده، فمثل هذا لو استمر يوماً كاملاً لا نحكم بكونه صائماً؛ لأنه لم ينو التقرب لله سبحانه وتعالى.
أما بالنسبة للصوم الذي فرضه الله على المكلف: فإنه لا يُجزئه ولا يصح منه إلا إذا بيت النية بالليل، والدليل على ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقوله سبحانه وتعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2].
ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمر بإخلاص العبادة لوجهه، والإخلاص يتوقف على النية، فلا عبادة إلا بنية، والصوم عبادة لا يصح إلا بنية.
وأما دليل السُّنة: فحديث أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها وأرضاها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يُبَيِّتِ النية بالليل فلا صوم له) وفي رواية: (من لم يجمع النية بالليل فلا صوم له).
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بعدم صحة الصوم إذا لم يبيت صاحبه النية بالليل.
وثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) والصوم عمل.
ومن أدلة السُّنة أيضاً: ما ثبت في الصحيح من الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) فقال: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) أي: قاصداً التقرب لي؛ فدل على أنه لا صوم شرعاً إلا إذا قصد أن يترك الطعام والشراب لوجه الله عز وجل.
ولذلك فضل العلماء الصوم حتى قال بعض فقهاء الشافعية -وهو أحد الأوجه في مذهب الإمام الشافعي -: والصوم أفضل من الصلاة؛ والسبب في ذلك هذا الحديث، قالوا: لأن الله تعالى يقول: (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) قالوا: وأفضل الأعمال وأحبها إلى الله: الإخلاص، الذي هو التوحيد، فلما كان الصوم قائماً على الإخلاص وروحه ولبه للإخلاص قالوا: شرُف وفضل على الصلاة من هذا الوجه.
والصحيح: أن الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) ولما ثبت في الصحيحين من قوله: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها).
والصوم ينقسم إلى قسمين: الفريضة، والنافلة: أما الفريضة: فلا تصح إلا بنية وجهاً واحداً.
وأما النافلة ففيها قولان للعلماء رحمة الله عليهم: منهم من يقول: لابد من تبييت النية في النافلة، فلو أردت أن تصوم الإثنين أو الخميس تقرباً إلى الله عز وجل فلا بد أن تنوي الصيام في ليلة الإثنين وليلة الخميس.
وقال جمع من العلماء: يصح أن يصوم النافلة وينشئ نيتها وهو لم يجمع النية بالليل، وهو الصحيح؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه قال: (هل عندكم شيء؟ قالت: لا.
قال: إني إذاً صائم) وهذا في النهار؛ فدل على أن صوم النافلة يجوز أن ينشئ الإنسان صومه من النهار، ولا يجب عليه أن يبيت النية من الليل.
فلو أصبحت يوم الإثنين وأنت لا تدري أنه الإثنين، ثم قيل لك بعد صلاة الفجر قبل أن تطعم شيئاً: هذا يوم الإثنين، فقلت: إني إذاً صائم؛ صح صومك.
وهكذا لو أصبحت ولم تجد فطوراً، وكنت قد أصبحت من بعد طلوع الفجر لم تأكل شيئاً، فلما لم تجد طعاماً أو شيئاً تفطر به قلت: إني إذاً صائم أو أستمر بقية يومي صائماً، صح ذلك وأجزأك؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتبر حديث أم المؤمنين عائشة مخصصاً لحديث أم المؤمنين حفصة.
فنقول: الأصل تبييت النية بالليل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له) لكن يستثنى صيام النافلة لحديث أم المؤمنين عائشة الصحيح؛ فصيام النافلة يجوز لك أن تنشئه بعد طلوع الفجر ولا حرج عليك في ذلك.(102/8)
أحكام تتعلق بالنية في الصيام
قوله: [ويجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب].
في نية الصوم مسائل: أولاً: أنها واجبة، ودليل وجوبها ما تقدم من دليل الكتاب والسُّنة.
ثانياً: هناك فرق بين صوم الفريضة والنافلة، فصوم الفريضة لابد فيه من تبييت النية بالليل، وصوم النافلة يجوز أن تنشئه ولو لم تبيت النية بالليل.
المسألة الثالثة: إذا قلنا: لابد وأن تبيت النية بالليل، فمن المعلوم أن ليلة الصيام تبتدئ من مغيب الشمس،
و
السؤال
هل تُبَيَّت النية بمجرد مغيب الشمس أم العبرة بما بعد منتصف الليل؟ بعض العلماء يقول: تبييت النية يكون من بعد منتصف الليل؛ لأنك لا تدخل في الليلة القابلة إلا من بعد منتصف الليل، ولذلك قالوا: صح طواف الإفاضة بعد منتصف الليل في ليلة النحر، ولا يصح قبل منتصف الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن للظعن بعد منتصف الليل، وكذلك بالنسبة للمبيت، قالوا: لابد وأن يكون قد بَيَّتَ النية من بعد منتصف الليل، والعبرة بمنتصف الليل الثاني لا بمنتصفه الأول.
وقال جمعٌ من العلماء -وهو الوجه الثاني-: إنه يجوز أن تبيت النية بمجرد مغيب الشمس لليوم السابق، وذلك على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم المؤمنين حفصة: (من لم يبيت النية بالليل ... ) والشخص يوصف بكونه بات وبيّت من بعد مغيب الشمس، ولذلك قالوا: لو نوى بعد مغيب الشمس أجزأته النية، وهذا هو الصحيح: فمن نوى قبل منتصف الليل الآخر والثاني فإن نيته صحيحة معتبرة.
وفائدة هذا الخلاف: أنه لو نوى في النصف الأول ثم نام قبل النصف الثاني، واستيقظ بعد أذان الفجر، فعلى القول الأول الذي يشترط النصف الثاني: لا يصح، وعلى القول الثاني: يصح.
وعلى هذا فلا بد من تبييت النية سواءً وقعت في النصف الأول أو النصف الثاني.
المسألة الرابعة: التعيين: إذا عرفنا أن النية لازمة فأنت تقصد في قرارة قلبك أن تصوم هذا اليوم قربة لله سبحانه وتعالى، فهذه هي النية، ثم بعد النية شيء يسمى التعيين.
والتعيين: أن تحدد صومك فريضة أو نافلة؛ فإن كان فريضة فهل هو عن رمضان أو عن كفارة أو عن نذر؟ فتحدد في تلك النية، فيكون تحديدك وتعيينك للنية ببيان نوعية هذا الفرض الذي تريد صيامه، فإن كنت في رمضان نويت أن تصوم الغد من رمضان، وإن كنت في كفارة نويته صياماً عن كفارة جماعٍ أو كفارة قتل أو كفارة ظهار أو غير ذلك.
فالمقصود: أن المراد أن تعين هل نيتك لفريضة أو نافلة، ثم إذا عينتها فريضة هل هذه الفريضة لرمضان أو لنذر أو لكفارة أو نحو ذلك من الصيام الواجب، فمعنى تعيين النية: أنه يُعين ما هو المراد من هذا الصوم الواجب إن كان واجباً.
وإن كان نافلة: هل هي نافلة معينة مقصودة كصوم الإثنين والخميس والأيام البيض من كل شهر، وعاشوراء وعرفة، أم أنه يريد نافلة مطلقة كأن يصوم تقرباً إلى الله عز وجل بغض النظر عن قصد ذلك اليوم المتنفل به، وهذا هو الذي يقصده المصنف بمسألة التعيين، كما أنك إذا صليت أربع ركعات عن فريضة فلا بد وأن تحدد هل هي ظهر أو عصر أو عشاء، فقالوا: يجب عليه تعيين الصوم كما يجب عليه تعيين فريضة الصلاة.
وقوله: (لصوم كل يوم واجب لا نية الفريضة).
هذا في رمضان، وقال بعض العلماء: إذا دخل رمضان تنوي من أول رمضان صيام الثلاثين يوماً ويجزئك، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم، قالوا: كأن المحل لا يسع لغير رمضان، فعندهم أن صيام رمضان يجزئك أن تنويه من أول الشهر، وتجزئ نية لجميع الشهر؛ لأن رمضان لا يسع لصيام غيره، فالنية لا تنصرف إلا إلى رمضان، قالوا: فلا يحتاج أن يجدد النية كل ليلة.
والصحيح: مذهب الجمهور؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له) فبين أنه لابد من تبييت النية في الصوم، وهذا شامل للفريضة كما ذكرنا، ولم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم بين صيام رمضان ولا غيره.
قوله: [لا نية الفريضة]: أي أنه لو نوى مطلق الفرض لا يجزيه؛ لأنه لو نوى مطلق الفرض احتمل أن يكون رمضان، واحتمل أن يكون صيام كفارة، واحتمل أن يكون صياماً عن كفارة قتل أو ظهار أو يمين أو نذر؛ ولذلك قالوا: إنه لا يجزيه أن يقول في نفسه: نويت أن أصوم هذا اليوم لأنه فرض، ولا يُبين هل هو فرض عن رمضان، أو فرض عن كفارة، عتق أو ظهار أو نحو ذلك، هذه النية يقولون: فيها نوع من الإبهام، فلابد أن يُعين ما هو مراده بالفرض.(102/9)
حكم صيام النافلة دون تبييت النية
وقوله: [ويصح النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده].
النافلة: خلاف الفريضة، والمراد بذلك الصوم غير الواجب، وهو يشمل النافلة المقصودة أو المعينة، والنافلة غير المقصودة، وهي النافلة المُطلقة؛ لأن الصوم ينقسم نفله إلى قسمين: قسم مقصود، مثل: نافلة الإثنين، ونافلة الخميس، والأيام البيض من كل شهر، وعاشوراء وعرفة، ونحو ذلك من الأيام المقصودة لفضلها أو ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صيامها.
والنافلة غير المقصودة: هي النافلة المطلقة، كأن ينوي تقرباً إلى الله، مثاله: أصبحت في يوم شديد الحر، وذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله عن وجهه النار سبعين خريفاً) فأردت أن تصوم هذا اليوم قربة لله سبحانه وتعالى، فإذا فعلت ذلك فإنه يجزئك؛ لأنها نافلة مطلقة، فتنويها نافلة مطلقة ولا يلزمك التعيين.
في النوافل المطلقة والمقصودة يجوز إذا أصبحت بالنهار أن تنوي، فلو أن إنساناً لم يعلم أن اليوم هو عاشوراء، أو لم يعلم أن اليوم هو يوم عرفة، وعلم بعد طلوع الفجر فأمسك -ولم يكن قد أكل أو شرب- ونوى أن يتم صومه، أجزأه ذلك؛ لأن النافلة لا يشترط فيها تبييت النية بالليل كالفريضة.(102/10)
حكم التردد في النية
وقوله: [ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرضي لم يجزئه].
هذه مسألة من مسائل النية، فالنية واجبة، ويشترط فيها التعيين، ويشترط فيها الوقت والزمان، على حسب تفصيل العلماء، فمن لا يشترط أن تكون في النصف الثاني من الليل يقول: أن تكون بالليل، بغض النظر عن كونها في النصف الأول أو الثاني، فهذا يسمى شرط الزمان.
وهناك شرط وهو: الجزم.
والجزم: ألا تكون النية مترددة، كأن يقول في ليلة الثلاثين من شعبان: إن كان غداً من رمضان فإنني قد نويت أن أصومه، وإذا لم يكن رمضان فإنها نافلة، أي: يقول في نفسه وقرارة قلبه: سأصبح صائماً؛ فإن كان هذا اليوم من رمضان فهذا فرضي، وإن كان من غير رمضان فهو نافلة وقربة لله سبحانه وتعالى.
فهذه نية مترددة، والشك والتردد في النية يبطلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات).
والأصل في النية أن تكون بالجزم، لأن الشخص إذا تردد في نيته لم ينو ولم تثبت، وعلى هذا ليس بناوٍ للفرض ولا للنافلة؛ فلو أصبح واليوم من رمضان فإن نيته بالليل لم تتمحض لرمضان، ولو أصبح واليوم من غير رمضان فإنه يصح نافلة عند من يقول بجواز صوم يوم الشك، وقد بينا أنه لا يجوز ذلك.
فالمقصود: أن التردد في النية يبطلها، وعلى هذا: لو سألك سائل وقال: لما كانت ليلة الثلاثين بيتُّ النية بالليل لصيام الثلاثين، وقلت في نفسي: إن كان من رمضان فهذا فرضي، وإذا كان من شعبان فهو نافلة وقربة لربي، قال: فأصبحت فإذا باليوم من رمضان، هل صومي صحيح؟ تقول: يلزمك القضاء؛ لأن النية شرط في صحة الصوم؛ لدلالة الكتاب والسُّنة، وثانياً: أن نيتك لم تقع على الوجه المعتبر شرعاً فكأنك لم تنو؛ لأن التردد في النية يبطلها.(102/11)
حكم من نوى الإفطار
وقوله: [ومن نوى الإفطار أفطر].
هذه مسألة خلافية: قال بعض العلماء: إن نية الإفطار أثناء اليوم كالتردد في النية، فمن نوى أن يفطر فكأنه تردد في النية.
وبعضهم يقول: لم يصبح متردداً، بل أبطل النية ورفعها، وقالوا: بناءً على ذلك يبطل صومه، وهو اختيار المصنف رحمه الله.
ومن أهل العلم من قال: إن نية الفطر مغتفرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل) فهذا قد حدثته نفسه ولم يتكلم ولم يعمل.
وأُجيب عن ذلك: بأن هذا الحديث المراد به: ما يكون من جنس الأشياء التي تبطل بالأقوال والأفعال؛ لكن الإبطال هنا متعلق بعمل القلب، وإذا تعلق بعمل القلب خرج الحديث عن موضع النزاع كما لا يخفى.(102/12)
الأسئلة(102/13)
حكم التتابع في صيام كفارة اليمين
السؤال
في كفارة اليمين هل يشترط التتابع في صيام الثلاثة أيام؟
الجواب
هذه مسألة خلافية بين أهل العلم رحمة الله عليهم، والسبب في الخلاف: هل القراءة الشاذة يثبت بها الحكم أو لا يثبت؟ فبعض العلماء يرى أن القراءة الشاذة توجب ثبوت الحكم، وهذا هو أصح القولين.
والسبب في ذلك: أن قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فهذه القراءة في آية المائدة التي في كفارة اليمين ورد فيها التتابع في قراءة ابن مسعود، وهي قراءة شاذة، وكونها شاذة فإن بعض العلماء يقول: إن القراءة الشاذة لا تقبل قراءة كما هو عمل القراء؛ لأن القراءة الشاذة تخالف العرضة الأخيرة التي جاءت من جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يعتد بهذه القراءة عندهم في القراءة، ولا يعتد بها في الحكم.
وإذا كانت القراءة شاذة فإنهم يقولون: لم يثبت كونها قرآناً ولا كونها سنة، وإذا لم يثبت ذلك فإنها لا توجب ثبوت الحكم، وهذا مذهب الجمهور.
وذهب الإمام أحمد وطائفة من علماء الأصول إلى أن القراءة الشاذة يثبت بها الحكم.
ومن أمثلة هذه المسألة: حديث أم المؤمنين عائشة: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فهذه قراءة شاذة، بل إنها قراءة منسوخة، وقولها: (وهن مما يتلى من القرآن) أي: كان بعض الصحابة يتلوها ويظن أنها من القرآن، ولم يعلموا بكونها منسوخة في العرضة الأخيرة، هذا معنى قولها: (وهن مما يتلى من القرآن).
وهذا يقع كثيراً؛ لأن الصحابة كانوا يقرءون القراءات التي نسخت لعدم علمهم بنسخها، ولعدم ثبوتها في العرضة الأخيرة التي عرض فيها جبريل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وهي آخر سنة من حياته صلوات الله وسلامه عليه، وعلى هذا نقول: إن القراءة الشاذة فيها جانبان: الجانب الأول كونها قرآناً، وهذا لا يثبت إلا بالتواتر بشروط معتبرة من كونها توافق اللغة العربية، وضوابط أخرى ذكرها أئمة القراءة في اعتبار القراءة، فقالوا: كونها قراءة لا نثبته، فبقي الجانب الثاني: وهو ثبوت الحكم بها، فكون الحكم موجوداً فيها يوجب ثبوته؛ لأنها ثبتت بالنص، فكما أن حديث الآحاد يوجب ثبوت الحكم مع كونه لم يبلغ مبلغ التواتر، كذلك القراءة التي جاءت من طريق الآحاد وهي شاذة توجب ثبوت الحكم، وإن كانت لا توجب ثبوت كونها قراءة.
وهذا المذهب انتصر له شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، وتكلم عليه كلاماً نفيساً، وتكلم عليها في مسألة الخمس رضاعات وأجاد وأفاد كعادته رحمة الله عليه، وقرر أن القراءة الشاذة فيها جانبان: كونها قرآناً، وكونها توجب حكماً.
أما كونها قرآناً فقال: إننا لا نتعبد إلا بما ثبت بطريق التواتر، وهي العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما بالنسبة لكونها متضمنة للحكم فإنه يوجب ثبوت الحكم بها، وحينئذٍ نقول: بأن صيام كفارة اليمين يجب فيه التتابع، فيصوم فيه ثلاثة أيام متتابعة، والله تعالى أعلم.(102/14)
حكم تعزير الشاهدين عند تبين الخطأ
السؤال
هل يعزر الشاهدان إذا تبين خطؤهما، سواء في شهادة دخول الشهر أو في خروجه؟
الجواب
الشاهد لا يعزر إلا في حالة واحدة وهي: أن يتبين كونه زور وكذب، ويتبين كونه شاهد زور أو كذب بإقراره على نفسه، كأن يأتي للقاضي ويقول: إنه شهد كذباً على فلان أنه فعل كذا وكذا وهو لم يفعل، فإذا شهد الإنسان على نفسه بكونه شاهد زور، فحينئذٍ يترتب على ذلك أحكام: أولاً: إسقاط الحكم الذي ثبت بهذه البينة على خلاف عند العلماء، فبعض العلماء يقول: إذا كان رجوعه بعد ثبوت الحكم وقبل التنفيذ فإنه ينفذ، قالوا: لأنه لما رجع عن شهادته طعن في عدالته، ونحن قبلنا شهادته للحكم وهو عدل، فلما رجع بعد ثبوت الحكم شككنا هل هو صادق أو غير صادق، فنبقي الشهادة الأولى؛ لأنه شهد بتزكية الشهود العدول أنه عدل، فقالوا: لا نقبل رجوعه.
والصحيح وهو مذهب الجمهور: أنه إذا شهد على كونه مزوراً وكاذباً أنه ينقض الحكم.
والأمر الثاني: يعزر، والتعزير يختلف باختلاف الأشخاص، فبعض الأشخاص يعزر بالقول وبعضهم يعزر بالفعل، فالذي يعزر بالقول كالتوبيخ، كأن يكون من ذوي الهيئات وممن يعرف بالاستقامة ولكن حصلت منه فلتة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) ففي هذه الحالة يخفف عليه القاضي، ويكون تعزيره بالتوبيخ، كالناس الذين يتألمون بالكلام؛ لأن بعض الناس ينجرح بالكلام أكثر من انجراحه بالضرب والأذية، فيوبخه القاضي ويقرعه.
والنوع الذي يعزر بالفعل، كأن يأمر القاضي بجلده، فيجلد -مثلاً- عشر جلدات أمام الناس، أو يجلد في الملأ، فيؤتى به ويقيمه أمام باب المسجد ويضربه ويقرعه أمام الناس؛ حتى يكون ذلك تشهيراً له وزجراً لغيره.
أما الحكم الثالث فهو: التشهير، والتشهير: أن يركب على دابة ويطاف به في الأسواق، وقد فعل هذا السلف الصالح رحمة الله عليهم وأفتوا به.
فالتشهير أن يطاف به في الأسواق، ويقال: إن الشيخ فلان يقرئكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور؛ فلا تصدقوه، فيطاف به في الأسواق تشهيراً له وردعاً له عن العودة إلى مثل هذا الفعل، وزجراً لغيره أن يرتكب مثل ما ارتكب.
فإذا تبين خطأ الشهود فلا نحكم بتعزيرهم ولا نحكم بأنهم شهود زور؛ لأنهم ربما أخطئوا، والخطأ محتمل في الشهادة، فقد يتراءى له الشيء فيظن أنه هلال، فيحتمل أنه أخطأ ويحتمل أنه زور، ولما وجد التأويل لا يجوز اتهام الناس والوقيعة فيهم مادام أنه يوجد مساغ للتأويل ومساغ لنفي التهمة عنهم.
فحينئذٍ ما دام أنا وجدنا لهم المخرج من كونهم أخطئوا فإننا لا نوجب تعزيرهم، ولا الحكم بكونهم شهود زور، بل إننا نترك البينة على حالها؛ لأنها زكيت وعدلت وحكم القاضي بكونها على العدالة، فلا ننقض هذا الحكم ولا نوجب كونها زوراً إلا إذا جاء الشاهد وقال إنه تعمد الكذب، وإنه كذب من أجل أن يصوم الناس خطأً، فهذا حكمه حكم شاهد الزور سوءاً بسواء، والله تعالى أعلم.(102/15)
لزوم التأكد من غروب الشمس عند الإفطار
السؤال
هل إفطار الصائم يتعلق بغروب الشمس أو بأذان المغرب، خاصة إذا رأى الغروب واستبطأ الأذان لاسيما وقد جاء الأمر بتعجيل الفطور؟
الجواب
إذا كان الإنسان في مدينة فلا يمكنه أن يتحقق من غروب الشمس، فإنه يعتمد الأذان؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) فجعل الأذان دليلاً على دخول الليل، وحينئذٍ يحل الفطر ويجوز للصائم أن يفطر.
وأما إذا كان في موضع يمكنه أن يرى الشمس ويتحقق من غروبها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم)، فإذا رأى إقبال الليل وإدبار النهار، وهو يعرف أمارات الغروب حل له الفطر.
أما مجرد غياب الشمس فيحتاج إلى ضبط؛ لأن الله عز وجل يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] وإلى الليل: أي مع الليل، وهو أن تمسك جزءاً يسيراً من الليل، وهذا الذي يضبطه البعض بذهاب الصفرة القليلة بعد المغيب، ولذلك قالوا: إن ذهاب هذه الصفرة يتحقق به من غروب الشمس، ولذلك يحتاج إلى إنسان عنده معرفة وعلم، فليس بمجرد أن يرى الشمس كادت أن تتوارى بالحجاب فيقول: غابت الشمس وحل الفطر، بل لابد أن يكون عنده إلمام بالتحقق من غروب الشمس بالصفة المعتبرة، فإذا تحقق بنفسه من مغيب الشمس بالصفة المعتبرة حل له أن يفطر، والله تعالى أعلم.(102/16)
حكم الإفطار بالجماع أثناء قضاء صوم رمضان
السؤال
إذا كان الصوم قضاءً لأيام من رمضان ووقع الجماع، فهل يلزم المجامع بالكفارة؟
الجواب
مسألة الفطر في قضاء رمضان بالجماع، بعض العلماء يقول: إن القضاء يحكي الأداء، والإخلال في القضاء كالإخلال في رمضان؛ لأن الله عز وجل قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فجعل العدة من أيام أخر في منزلة رمضان، وعلى ذلك قالوا: إنه لو جامع فيها فإنه يجب عليه أن يقضي ويجب عليه أن يكفر كما لو جامع في رمضان نفسه.
وقال بعض العلماء: إنه لابد بأن يكون الجماع في نهار رمضان، فإذا وقع الجماع في أي صوم في غير رمضان فلا يلزم بالكفارة؛ لأن الرجل قال: (هلكت وأهلكت! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أهلكك؟ قال: جامعت أهلي في رمضان) فنص على رمضان، وإنما وجبت الكفارة في رمضان.
قالوا: فلا ينزل غير رمضان منزلة رمضان لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، وهذا المذهب هو أقوى من جهة النظر، والأول أحوط، والله تعالى أعلم.(102/17)
لزوم جماعة المسلمين عند الفطر واجب شرعي
السؤال
أشكل علي صوم واحد وثلاثين يوماً لمن ردت شهادته فصام لرؤية نفسه، مع حديث (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وذكر فيه أن الشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً، فكيف الجواب على هذا؟
الجواب
أما بالنسبة لكونه يصوم واحداً وثلاثين يوماً فبطبيعة الحال أنه إذا رأى الهلال في ليلة الثلاثين سيصوم هذا اليوم من يوم رمضان -الذي هو من رمضان- وأما بالنسبة للواحد والثلاثين -وهو يوم العيد بالنسبة له- فقد ألغي من كونه عيداً، وألزم بالبقاء تبعاً، وفرق بين أن نقول: إن شهر رمضان واحد وثلاثون وبين أن نقول: إنه ألزم به تبعاً.
ومن أمثلة ذلك: من خرج من مدينة وكانت قد تأخرت في الصوم يوماً، وارتحل إلى مدينة أخرى، فإنه يعتد بهذه المدينة فطراً؛ لأنه ملزم بالجماعة، فإذا جلس معهم قد يكون صومه واحداً وثلاثين، فحينئذٍ يلزم بصيام هذا اليوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فطركم يوم تفطرون) فجعل الفطر لنا يوم يفطر الناس، فألغي حكم هذا اليوم، وصار واحداً وثلاثين تبعاً لا أصلا.
أي: أننا لا نلزمه بذلك أصلاً من جهة أن رمضان واحد وثلاثين يوماً، وإنما ألزمناه في حالة فريدة، والقاعدة: أن الأصول العامة إذا ورد ما يستثنى منها فلا يعتبر قادحاً في الأصل.
فأنت تقول: الأصل عندي أن الشهر ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً، لكن هذه الحالة ورد بها نص أنه لا يفطر في الثلاثين، وأنه ينبغي أن يكون مع جماعة المسلمين، فأبقيه أنا لحكم يقصدها الشرع.
والاستثناء من القواعد العامة لا يعد قادحاً في تلك الأصول، ولا يعد معارضاً لها؛ لأنها أشياء وردت بأسباب معينة لمقاصد شرعية، فحينئذٍ نقول: إنه يلزمه أن يمسك يوم الثلاثين الذي هو واحد وثلاثون بالنسبة له ويتقيد بجماعة المسلمين، وهذا كله لمقصد في الشرع.
وكان الوالد رحمة الله عليه يقول: إن الشريعة اعتنت بلزوم الجماعة أيما عناية، وأن أكثر البلاء الذي يجر الناس إلى الشقاء هو الخروج والشذوذ عن الجماعة، ولذلك كان الشرع يربي في الإنسان الانتماء إلى جماعة المسلمين وعدم الشذوذ عنها.
قال صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا) وقد تدخل المسجد والإمام في التشهد الأخير وقبل السلام بلحظة، فيجب عليك أن تدخل معه؛ لأنه لا يجوز لك أن تشذ عن جماعة المسلمين، فما دام أنها جماعة وهي قائمة في المسجد فأنت ملزم شرعاً بالدخول لظاهر قوله: (ما أدركتم) أي: أي شيء أدركتموه ولو للحظة واحدة قبل السلام فصلوا.
ثانياً: لما صلى عليه الصلاة والسلام بخيف منى ورأى الرجلين لم يصليا قال: (علي بهما! ألستما بمسلمين -وهما على ظاهرهما وسمتهما ما دخلا المسجد إلا وهما مسلمان-؟ قالا: بلى يا رسول الله، ولكنا صلينا في رجالنا، قال: إذا حضرتما المسجد فصليا مع الناس) وجاء بالرجل حينما لم يصلِ فقال: (ألست بمسلم؟ قال: بلى، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك).
وهو من حديث عمران في الصحيح.
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وقال في الرواية الأخرى: (فلا تختلفوا علي) فكأن مقصود الشرع أن يربي الإنسان على ملازمة الجماعة، وهذا منهج علماء التربية فإنهم يقولون: إن تعويد الإنسان على وتيرة معينة من أقوى الأشياء التي تجعله يألفها بنفسيته؛ بمعنى: أن الإنسان إذا ربيت عنده الشعور بالانتماء للجماعة والحرص عليها، وعدم الشذوذ عن جماعة المسلمين؛ ألف ذلك وأصبح ديدناً له، فعندما تأتي في صيام رمضان وتقول له: إنه يفطر، ويكون العيد له وحده، ويشذ عن جماعة المسلمين في فطره وعبادته، وفي فرحته وسروره، وهو يحس أن عيده هذا اليوم من دون سائر المسلمين؛ فكأنه يتربى عنده إلف الشذوذ والانفراد، لكن حينما تقول له: أنت ملزم بالجماعة، ويجب عليك أن تبقى معها وأن تصوم معها؛ فإنك تربي فيه هذه الملكة.
وكذلك إذا كان ثلاثين يوماً وهو يمتنع عن الطعام والشراب الذي أحله الله وأباحه له، وامتنع ولم يأكل ولم يشرب، فلو وقف على طعمة من حرام، وقيل له: إن هذا الطعام فيه لحم خنزير، يقول: لا آكل؛ لأنه صار عنده إلف أن يمتنع عن الطعام الذي حرم الله، وصار عنده إلف أن يمتنع عن الطعام الذي أحله الله له في الوقت حرم الله عليه فيه أن يطعمه، فمن باب أولى أن يمتنع عن الطعام الذي حرمه الله عليه بالكلية، وقس على هذا مما لا يحصى.
وحينما نأمر أولادنا بالصلاة لسبع فليست القضية قضية صلاة فقط، بل إن الصبي إذا تربى من الصغر والوالد يأمره وهو يأتمر وينفذ أمر الوالد؛ يصبح عنده شعور بالطاعة لوالديه، وشعور بالتبعية للوالدين.
لكن انظر إلى المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات المسلمة التي تفرط في أمر الأبناء بالصلاة، فيأتي يوم من الأيام وإذا بالابن متمرد بالكلية على والده، وكثيراً ما تجد الشذوذ والعقوق في الابن الذي لم يروض على الصلاة من الصغر، فقل أن تجد إنساناً عنده ابن عاق إلا ووجدته من الصغر لا يأمره بالصلاة؛ لأنك إذا ربيته على الاستجابة لأمر الله عز وجل، والاستجابة لأمرك؛ فإنه يألف ذلك، فكأنها قضايا لها أبعاد لا تقف عند مسألة العبادة فقط؛ ولذلك قال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] أي: هناك أمور لا تعلمونها، وهناك حكم وأسرار عجيبة غريبة تعود على الإنسان بالنفع في دينه ودنياه وآخرته.
فكون الإنسان يربى على الارتباط والانتماء لجماعة المسلمين فذلك فيه مصالح عظيمة؛ لأنه وإن كان فرداً يتضرر بصيام واحد وثلاثين يوماً، لكنه يحقق غايات أعظم وأسمى من كونه يشق على نفسه، وقد تأمر الشريعة بمشقة للفرد لمصلحة تترتب للجماعة، ولذلك كان العلماء رحمة الله عليهم يربون في طلابهم الشعور بالانتماء للعلم ومحبة العلماء، وكانوا يكرهون من طالب العلم كثرة الاعتراضات؛ لأنه حينما يتعود طالب العلم على الاعتراض والنقد وعلى هذا الشعور؛ تجده جريئاً على أئمة السلف وعلى العلماء، صلفاً وقحاً -نسأل الله السلامة والعافية- لا يتورع في كلامه ولا يتورع في تخطيئهم؛ لكن إذا ربيت فيه الشعور بالأدب والإجلال والتقدير لأهل العلم أصبح إذا جاء ليرد على العلماء تحفظ وتوقى، وصان لسانه عن الوقيعة في أعراضهم؛ لأن لديه إلفاً وشعوراً بتعظيم وإجلال السلف الصالح رحمة الله عليهم.
ولذلك كان بعض العلماء إذا وجد من الطالب هذا الشعور ربما طرده، ولربما أعرض عنه، وهذا معنى قول الإمام مالك رحمة الله عليه: (لا تعلموا أولاد السفلة العلم؛ حتى لا يستطيلوا على العلماء) لأن عندهم الإلف والشعور بذلك، فقد ألفوا ذلك في بيئاتهم وفي مجتمعاتهم، فالإلف له تأثير على نفسية الإنسان، ومن هنا كان من الخطأ الذي يقع فيه بعض المربين وبعض المدرسين أن يأتيه الطالب فينتقد شيئاً فيشيد به أمام الطلاب أنه انتقد، وأصبحنا نعود أبناءنا على الانتقاد، ولربما تجد البحث يقول لك: انقد كتاباً، فربينا فيهم الشعور على الجرأة.
وقد كان الناس قبل مائة سنة يجلون العلماء، وما وجدنا أحداً من أهل العلم يأتي ويجعل من منهجية تعلميه نقد الكتب والعلماء، ولكن أصبحنا اليوم بمجرد أن يأتي الشاب وعمره ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة- بل بعضهم حديث عهد بهداية- فنقول له: حضر كلمة انقد فيها كتاباً، أو لربما تكون مسابقة في عطلة صيفية أو مركز صيفي على نقد كتاب معين! من الذي ينقد؟! وما هذا الشعور الذي نربيه في الطالب؟ فالذي يتعود على النقد يصبح إلفاً له.
وابحث عن عالم يكون درسه وعلمه قائماً على نقد العلماء والتجريح فيهم وتتبع عثراتهم، أو تكون كتبه قائمة على نقد العلماء والتجريح في العلماء، إلا وجدت طلابه يسيرون وراءه حذو القذة بالقذة، حتى إن الله ينتقم منه في الدنيا قبل الآخرة، فيسلط عليه من طلابه من ينتقده كما انتقد، ويسل عليه ما سله على علماء المسلمين، لكن من يربي في طلابه حب العلم، ويجعل عندهم الشعور بالانتماء لجماعة المسلمين، والانتماء للعلم والعلماء وإجلال السلف الصالح وإعظامهم وإكبارهم؛ تجد طلابه قد تربوا على حب الله ووده وإجلاله؛ لأنهم ألفوا ذلك وأحبوه واعتادوه؛ فصار ديدناً لهم شاءوا أم أبوا.
فهذا المنهج ينبغي أن نعتني به كما اعتنى به الشرع، فهذا على شاهد قضية: أننا لا نفطر شذوذاً عن الجماعة، وهذا ابن مسعود رضي الله عنه كان يصلي وراء عثمان وهو يعلم أن عثمان قد زاد في الصلاة ما ليس منها، ومعلوم أن الزيادة في ركن من أركان الإسلام، ومع ذلك يصلي وراءه، قالوا له: ألا تجتزي بالركعتين؟ قال: الخلاف شر.
أي: لا أريد أن أشذ عن جماعة المسلمين.
وهذا عمر بن الخطاب يقف في وجه أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ويقول له: كيف تقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)؟! فأصر أبو بكر وقال: (ألم تسمع قوله: إلا بحقها؟! والله لو منعوني عناقاً كان يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه) فقال عمر: (فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعملت أنه الحق) فما جاء يشذ ويقول: أيها الناس! أخطأ أبو بكر، أو يؤلف رسالة ويقول: إن أبا بكر قد أخطأ، ويشهر به، لكن اجتمعت الكلمة واجتمع الشمل واتحد الصف؛ فكانت قوة على أعداء الإسلام، فجعل الله رأي أبي بكر عزاً للإسلام والمسلمين.
ولما أراد أن ينفذ جيش أسامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والعرب مرتدة، فاختار أبو بكر أن ينفذه، فصارت الكلمة مع أبي بكر، فراجعه الصحابة فقال: (والله لا أحل لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: لا أستطيع أن أحل هذا اللواء وقد عقده الرسول صلى الله عل(102/18)
شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [1]
للصيام مفسدات من ارتكبها فقد بطل صومه، ومنها ما يوجب القضاء مع التوبة إلى الله تعالى، ومنها ما يوجب القضاء مع الكفارة، كالجماع في نهار رمضان، وقد شرعت الكفارة تكميلاً للنقص الذي يطرأ على أداء الفريضة، مع ما فيها من الزجر عن الوقوع في حدود الله ومحارمه.(103/1)
مفسدات الصوم
بسم الله الرحم الرحيم بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول: المصنف رحمه الله: [باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة].
يقول رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم) أي: يبطله، فبعد أن بين لنا أن الله فرض علينا صيام رمضان، وبين لنا المسائل المتعلقة بهذه الفريضة، شرع رحمه الله في بيان ما يوجب فساد الصوم ويبطله، ويوجب الكفارة؛ لأن ما يبطل الصوم يأتي على صور: الصورة الأولى: يفسد الصوم ويلزم صاحبه بالقضاء.
الصورة الثانية: يفسد الصوم ويلزم صاحبه بالقضاء مع الكفارة.
وبناءً على ذلك جمع بينهما؛ لأن الكفارة مترتبة على وجود الإفساد للصوم كما هو الحال فيمن جامع أهله في نهار رمضان وهو صائم، فإن إيجاب الكفارة عليه مرتب على كونه أفسد صيامه، فقال رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم -أي: سواء كان نافلة أو فريضة- ويوجب الكفارة) أي: يوجب على صاحبه أن يُكَفِّر، والكفارة مأخوذة من الكَفْر، وكَفَر الشيء إذا ستره، وسمي الكافر كافراً لأنه يستر نعمة الله عز وجل عليه، والكَفْر: هو الستر، ومنه قول الشاعر: فِيْ لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا أي: ستر نجومَها غمامُها، وسمي المزارع كافراً لأنه حينما يبذر البذر يستره ويُغيبه في الأرض.
وقوله: (الكفارة) عقوبة شرعية، اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيها: فبعض العلماء يقول: إن الله شرعها عقوبة للمُخل بالطاعة، كما هو الحال في الصيام فيمن جامع أهله في نهار رمضان.
ومنهم من قال: شرعها الله جبراً للنقص الموجود في العبادة.
ومنهم من جمع بين الأمرين فقال: الكفارات تعتبر عقوبات وزواجر ومكملات، فهي عقوبة لمن فعل، وزجرٌ لغيره أن يفعل، وتكميل للنقص الموجود بسبب الإخلال في العبادة.
ولذلك قالوا: إن من جامع أهله في نهار رمضان جعل الله كفارته عتق الرقبة، وهذا من أبلغ ما يكون، وقالوا: لأنه إذا أعتق الرقبة أعتقه الله من النار؛ وكأنه حينما تقحّم المجامعة لأهله متعمداً مخلاً بفريضة الله تقحّم نار الله عز وجل، فجعل الله الرقبة فكاكاً له من النار، ولذلك ثبت في الحديث: (أن من أعتق يُعتق بمن أعتقه حتى العضو بالعضو) يعتق كل عضو بعضوه.
ومن هنا قالوا: اشترط الله فيمن قتل مؤمناً خطأً أن يعتق رقبة مؤمنة، ولم يشترط الإيمان في كفارة الظهار، وقالوا: لمكان العتق، كذلك أيضاً قالوا: نزَّل الله عز وجل عند فقد العتق صيام شهرين متتابعين مكانه؛ فكأن هذا اليوم يقوم مقامه ستون يوماً متتابعة، وهذا يدل على حرمة شهر رمضان، وحرمة الإفطار في شهر رمضان.
قالوا: ومن هنا تكون الكفارة أشبه بالتكميل للنقص، مع ما فيها من معنى الزجر، فإن الناس ينزجرون، ولذلك جعلت هذه الكفارات جوابر، وجعلت عقوبة، وجعلت زواجر للمكلفين أن يقعوا في حدود الله ومحارمه بالإخلال بالفرائض والواجبات أو الانتهاك للحدود والمحرمات.
يقول رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة) كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بما يخل بصوم الإنسان ويوجب بطلانه.(103/2)
الأكل والشرب عمداً من مفسدات الصيام
وقوله: [من أكل أو شرب أو استعط أو احتقن أو اكتحل بما يصل إلى حلقه، أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع غير إحليله، أو استقاء أو استمنى، أو باشر فأمنى أو أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أو حجم أو احتجم وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد].
(من أكل أو شرب): أي: من أكل وهو صائم أو شرب، بشرط أن يكون ذاكراً لصومه، فلو كان ناسياً أنه صائم فالجمهور على أن صومه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل أو شرب وهو ناسٍ فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) فهذا يدل على أن الناسي إذا أكل أو شرب في نهار رمضان أو غيره فصيامه صحيح؛ والسبب في ذلك: أن النسيان يعتبر عذراً له بنص الشرع، وهذه من المسائل التي يُسقِطُ فيها النسيان الضمان.
قال رحمه الله: (من أكل) سواءً وقع الأكل كثيراً أو قليلاً، ولو أخذ جزءاً يسيراً من الطعام وجاوز به اللهاة -اللهاة: هي اللحمة المتدلية في أعلى الحلق، وهذه اللهاة هي الفاصل بين أول الجوف وبين الفم- فإنه يحكم بفطره.
وقوله: (أو شرب): الشرب للمائعات والأكل للجامدات، ويستوي في ذلك القليل والكثير، ولو بقطرة ماء فأحس أنها بلغت الحلق فإنه يفطر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.
وعلى هذا (من أكل أو شرب) هذا فيه إطلاق، وهو شامل لكل ما يصدق عليه أنه أكل أو شرب، سواء كان قليلاً أو كان كثيراً، يغذي أو لا يغذي، يحصل به الارتفاق بالبدن أو لا يحصل، وفي حكم الأكل والشرب أن يدخله تداوياً، كما لو بخ على حلقه ذرات من الماء كالبخاخ المعروف للربو، فإن هذه القطرات -وإن قيل: إنها هواء لكنها ماء- تعتبر في حكم الماء، ورطوبتها واصلة إلى الحلق مندية له موجبة للفطر، وهذا قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم.
وقال بعض المتأخرين: إنها لا تفطر؛ والسبب في ذلك قالوا: إن هذا هواء؛ ولكن بسؤال أهل الخبرة يقولون: فيه من المركبات ما هو غريب عن الهواء، ولذلك: لو كان هواءً لما كان دواءً؛ لأنه لو كان هواءً مجرداً لكان بإمكان الإنسان أن يتداوى بدونه؛ لأن الهواء داخلٌ إليه لا محالة؛ فدل على أنه دواء، ولذلك قالوا: إن مادته لها جرم كالدخان ونحو ذلك، وبناءً عليه قالوا: لو أنه بخ فإنه يعتبر غير مفطر، وبسؤال أهل الخبرة والرجوع إليهم أثبتوا أنها مواد مركبة تتحلل وتمتص، ثم بعد ذلك يحصل بها رفق البدن والتداوي، وعلى ذلك: فكل ما جاوز اللهاة من ماء أو جامد أو دخان له جرم كالعود والشراب المحرم، كل ذلك يوجب الفطر.
ومن يفرق ويقول: هذا دواء وهذا هواء، فيحتاج إلى دليل؛ والسبب في ذلك: أن الإجماع منعقد على أن من أخذ قطرة من دواء وقطرها في حلقه فأنه يفطر، فدل على أن كونه يغذي أو لا يغذي لا معنى له، وأن العبرة بكونه يمسك، فإذا جاوزت قطرة واحدة حلقه فقد أفطر، دليلنا على ذلك: السُّنة الصحيحة في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فأنت إذا لاحظت هذا الحديث وتأملته فإن الذي يبالغ في الاستنشاق يحصل منه الغلط اليسير ببلوغ الذرة اليسيرة لحلقه، ومع ذلك قال له: (إلا أن تكون صائماً) ومن هنا أخذ جماهير العلماء على أن قليل المفطر وكثيره على حد سواء؛ وكأن الشرع قصد أن هذا حد لحرمته، لا يجاوزها مطعوم ولا مشروب، بل ولا دخان له جرم، فإذا جاوزها فقد خرج عن كونه ممسكاً صائماً على الوجه المعتبر شرعاً، وعلى هذا حكم جماهير العلماء بفطره.
وبناءً على ذلك: (من أكل أو شرب) الحكم هنا يشمل كل ما يحصل به الأكل أو الشرب ولو كان شيئاً يسيراً كما قلنا في قطرات الماء اليسيرة أو البخات التي لها ذرات؛ فإنها توجب الحكم بفطره.
وقوله: (أو استعط) السعوط يكون عن طريق الأنف، فلو أنه استعط عن طريق أنفه سواءً بلغ إلى دماغه كما هو الحال في بعض الأمراض التي يتداوى منها، وكما هو موجود في القديم بحيث يضعون -مثلاً- السمن في أنف الإنسان علاجاً لخياشيمه، فهذا الجفاف الذي يعالج بهذه المادة لو أنه استنشقه إلى أن بلغ الدماغ قالوا: يعتبر منفذاً.
ودليلنا على ذلك: حديث لقيط بن صبرة، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم من الأئمة الأربعة، على أنه إذا استعط من أنفه ونزل إلى حلقه ووجد طعمه في الحلق أنه يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً).
وفي هذا الحديث نقطة تحتاج إلى تأمل، وذلك أن العلماء المتقدمين رحمة الله عليهم ينظرون إلى علة الحكم، يعني: السبب الذي يحكم بكون الإنسان مفطراً به وما لا يعد فطراً، يعني: ما هو الشيء الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالفطر في بعض الأحوال ولا يحكم بالفطر في بعضها؟ العلماء في حديث لقيط بن صبرة على ثلاثة خيارات: منهم من يقول: الشرع يوجب فطر الإنسان إذا تناول الشيء عن طريق معين وهو الفم والمنفذ، ولذلك هذا المذهب يقوم على اعتبار الجهة التي يدخل منها المفطر.
وبعضهم يقول: لا.
العبرة بما يدخل إلى البدن بغض النظر عن جهة دخوله، سواء دخل من أعلى البدن أو أسفل البدن، ما دام أنه مادة مفطرة كالمغذيات والأدوية فإنه يعتبر مفطراً.
ومنهم من قال: يعتبر مجموع الأمرين.
وفقه هذه المسألة: أنك إذا جئت تتأمل حديث لقيط بن صبرة الذي اعتمده جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وتجد كتب الفقهاء رحمة الله عليهم والفتاوى مشحونة بالفتوى بفطر من دخل جوفه شيء من غير طريق الفم والأنف، وقالوا: لأن حديث لقيط بن صبرة حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالتأثير في الصوم بغير المدخل المعتاد، فإن دخول الماء عن طريق الأنف مدخل غير معتاد، فلو قلت: لابد وأن يكون الشيء الذي يأكله الإنسان ويشربه يقوي البدن ويرفقه، فنرد عليك بقولنا: إن القطرات اليسيرة لا تقوي البدن ولا ترفق به، ونرد عليك أيضاً بقولنا: إن الإجماع حاصل على أن مجرد مجاوزة القطرة الواحدة للهاة يفطر، إذاً: كون المادة بذاتها مادة معينة غير وارد.
بقي مسألة أن تقول: العبرة بالدخول، بغض النظر عن كون الداخل دواءً أو طعاماً قليلاً أو كثيراً؛ والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من دخول القطرة اليسيرة عن طريق الأنف، فدل على أن الجوف ممنوع أن يصل إليه شيء، وعلى هذا تُفرع فتقول: يستوي عندي أن يصل للجوف من أعلى البدن أو من أسفله.
وقد يعترض معترض فيقول: لو حقنه بحقنة في العضل فإنها لا تصل إلى داخل الجوف، والمراد بها علاج موضعي لالتهاب أو نحو ذلك.
يرد عليك ويقول: القطرة إذا دخلت من الأنف في الاستنشاق لا تصل إلى الجوف، وإنما تمتص قبل وصولها إلى الجوف، فكأن الشرع قصد من الصوم الإمساك المطلق.
ومن هنا نجد الفرق بين مسلك المتقدمين والمتأخرين، فنجد المتقدمين يشددون في وصول الشيء إلى البدن؛ لأن حقيقة الصوم: إمساك، وهذا الإمساك استنبطوه من جهة المعنى؛ فقد يخفى هذا المعنى على بعض العلماء ويقول: لا دليل على كون الكحل يفطر أو على كون القطرة تفطر.
نقول: لو كان كل أمر يحتاج إلى دليل لم تكن هناك حاجة للعلماء؛ وإنما الفقه أن يفقه ويفهم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) فاجتهد العلماء في المسألة من نص، ولم يجتهدوا من رأي مجرد.
إذ تأملوا حديث لقيط بن صبرة فظهر لهم أنه لا عبرة بالفم؛ لأن الأنف ليس بمدخل لطعام ولا شراب، ودائماً الشرع ينبه بالنظير على نظيره.
ولذلك الفطر بالفم مدخل معتاد، والفطر بالأنف -أي: بالاستنشاق- مدخل غير معتاد؛ فكأنه لما استنشق ونزل إلى حلقه صار الوصول إلى البدن موجباً للفطر، فقالوا: إذا قَطّر القطارة في عينه فوجد طعمها في حلقه أفطر، وإن وضع الكحل في عينه فوجد طعمه في حلقه أفطر؛ لأنه قد وصل إلى جوفه، فهذا هو فقه المسألة.
فليست المسألة كما يظن البعض أن هذا اجتهاد من العلماء دون وجود دليل عليه ولا نص، والحقيقة من لم يظهر له هذا المعنى ولم تظهر له هذه العلة لا يعده دليلاً حسب اجتهاده ورأيه؛ لكن الأئمة والعلماء المتقدمون رحمة الله عليهم الذين قرروا ذلك وبسطوه وبينوه وشرحوه إنما ركبوه من هذا الحديث، وهو حديث لقيط بن صبرة.
ولذلك تجد من يقول: إن الإبرة لا تفطر إذا كانت في العضل، قيل لهم: فلو كانت مغذية؟ قالوا: تفطر، فتناقضوا؛ لأنهم إذا قالوا: إن الإبرة تدخل من غير المدخل المعتاد في العضل، نقضه قولهم: إن الإبرة المغذية تفطر؛ فإن قالوا: تفطر لكونها مغذية.
رددنا بأن الوصول إلى البدن لا يلتفت فيه إلى كونه مغذياً أو كونه غير مغذ.
وهذه المسألة من جهة النظر والإمعان في حديث لقيط بن صبرة تدل دلالة واضحة على رجحان مذهب جماهير السلف رحمة الله عليهم والأئمة المتقدمين الذين كانوا يفرعون هذه المسألة على حديث لقيط بن صبرة، ومن رجع إلى الشروحات والمطولات يجد ذلك جلياً، ولذلك تتعارض أنظار العلماء في تحديد الوصول إلى الجوف، وتجدهم يختلفون -كما سيأتي إن شاء الله- في ضوابط مفسدات الصوم.
ومن هنا أقول: لا ينبغي الاستعجال في الحكم على كون الأئمة المتقدمين رحمة الله عليهم يقولون بالمسألة بدون دليل، فقد كان السلف رحمة الله عليهم أورع وأخشى وأتقى لله سبحانه من أن يقولوا في دين الله ما لا علم لهم به.
وينبغي أن يعلم كل طالب أن الأئمة المتقدمين رحمة الله عليهم أصون وأحفظ لدين الله من أن يتجرءوا على تحليل حرام أو تحريم حلال بمحض الرأي أبداً، فهذا لا يمكن أن يكون من أئمة السلف رحمة الله عليهم، ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله، وقد قرر ذلك شيخ الإسلام رحمة الله عليه في رفع الملام وفي مجموع الفتاوى، وتكلم كلاماً نفيساً في هذا، مبيناً أن الأئمة رحمة الله عليهم اجتهدوا، واجتهاداتهم كانت مبنية على النصوص.
ولذلك فإن الشرع مبني على الفقه والفهم، قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) فهم يفهمون العلل ويقولون: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إ(103/3)
الاحتقان من مفسدات الصوم
قوله: [أو احتقن] كأن تكون حقنة في الدبر، فهذه قالوا: إنها توجب الفطر؛ لأنها تصل إلى الجوف ويتغذى بها الإنسان ويرتفق بها دواءً وعلاجاً، وكما أنه يرتفق بالدواء من أعلاه، فهو يرتفق به من أسفله، ولذلك قالوا: إنه إذا احتقن بالحقنة من أسفل بدنه فإنه يعتبر مفطراً.(103/4)
الاكتحال بما يصل إلى الحلق يفسد الصوم
وقوله: [أو اكتحل بما يصل إلى حلقه].
اكتحل: وضع الكحل في عينيه أو إحدى عينيه، (ووصل إلى الحلق) هذا هو الشرط؛ لأنه لو اكتحل قبل غروب الشمس بنصف ساعة ولم يجد طعم الكحل إلا بعد غروبها بنصف ساعة أو بساعة أو بلحظة، فإننا لا نحكم بفطره؛ لأنه لم يصل هذا المفطر إلى المكان إلا بعد انتهاء وقت الصوم، فصومه صحيح.
ولو اكتحل بالليل ووجد الطعم بالنهار لم يفطر؛ وذلك لأن الدخول كان بالليل، ولا عبرة بالوصول ولا تأثير له؛ لأن الإمساك الذي خوطب به المكلف قد تحقق؛ ولأن حقيقة الصوم الإمساك، ولذلك نجد الجمهور يقولون بالفطر في هذه الأحوال لأنها ليست بإمساك، فالإنسان إذا أدخل الكحل فيعتبر مفطراً إذا وجد طعم الكحل في يومه، أما إذا وجده بعد اليوم أو وضعه في الليل ووجده في النهار فإنه لا يفطر.(103/5)
دخول أي شيء إلى الجوف من مفسدات الصيام
وقوله: [أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان غير إحليله].
أو أدخل إلى جوفه أي شيء كان، سواء كان مما يغتذي به البدن أو لا يغتذي به البدن.
(من أي موضع) أي: سواءً من أعلى البدن أو وسطه أو أسفله، فكل ما وصل إلى الجوف فإنه يوجب الفطر، والدليل على ذلك: ما ذكرناه من حديث لقيط بن صبرة؛ فكأن حقيقة الصوم في الشرع هي الإمساك، ومن أدخل إلى جوفه شيئاً فليس بممسك، سواء كان الشيء يؤكل أو يشرب أو كان من غير ما يؤكل أو يشرب، فكل ذلك يوجب فطر الإنسان ويحكم بفطره.
(غير إحليله) والإحليل: هو مجرى البول من الذكر، واختلف فيه، ولما قال: (الإحليل) فهو بالنسبة للرجل، وأما بالنسبة للمرأة فالإيلاج في فرجها يوجب الفطر كالدبر، بخلاف قُبُل الرجل، فاختلف العلماء في الإحليل، فقال بعضهم: إنه لا يصل إلى الجوف، وليس بنافذ إلى الجوف لمكان الرشح الذي يكون عن طريق الكلية، قالوا: وهذا لا يوجب فطره، ومن هنا استثنى المصنف رحمه الله الإدخال عن طريق الإحليل بالنسبة للرجل.(103/6)
الأسئلة(103/7)
الإفطار بالنية إذا لم يجد شيئاً يفطر به
السؤال
من لم يجد ما يفطر عليه فهل يفطر بالنية؟
الجواب
على القول بأن النية تعتبر موجبة للفطر؛ فإنه يجزيه أن يفطر بالنية، بل يجب عليه أن ينوي أنه مفطر، وحينئذٍ يعتبر مفطراً، وقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) فيصيب السنة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السنة والهدي تعجيل الفطر وتأخير السحور، وعلى هذا فإنه ينوي إذا لم يجد طعاماً وشراباً، كما لو خرج من بيته، وأدركه وقت الأذان وهو في سيارته، وليس عنده طعام ولا شراب؛ فإنه ينوي في قلبه أنه مفطر على هذا الوجه، والله تعالى أعلم.(103/8)
حكم وضع الطعام في الفم ثم لفظه
السؤال
من وضع الطعام في فمه وتذكر أنه صائم فلفظ الطعام، ثم وجد طعمه في فمه، فما حكمه؟
الجواب
من وضع الطعام في فمه، ثم تذكر أنه صائم ولفظه؛ فإن صومه صحيح، ويجب عليه أن يتمضمض وأن ينظف فمه حتى لا يمازج اللعاب تلك المادة الغريبة عن الفم، ومن هنا: إذا استاك بالمعجون ونحو ذلك فإنه يجب عليه أن يتنظف حتى تذهب مادة المعجون، فإذا مازجت مادة المعجون اللعاب واختلطت به فإن هذا يوجب فطره؛ لأنها مادة غريبة كما لو وضع تلك المادة الغريبة قصداً.
وعلى هذا: لابد له من المضمضة ومن التنظيف، فإن امتنع من المضمضة والتنظيف وبلع ريقه الذي فيه طعم ذلك الطعام، وفيه مادة ذلك الطعام وجرمه، أو حتى تحلل في ريقه، فإن هذا يوجب فطره، والله تعالى أعلم.(103/9)
حكم من بالغ في الاستنشاق جاهلاً بالحكم
السؤال
ما حكم من كان يبالغ في الاستنشاق وهو جاهل بالحكم، وكان يجد الماء في حلقه؟
الجواب
من كان يبالغ في الاستنشاق ويجد طعم الماء في حلقه فإنه مفطر، ويلزمه قضاء تلك الأيام، والعذر بالجهل عذر في زمان التشريع، وأما بعد استقرار الشريعة فإنه ليس بعذر لإمكان سؤال العلماء، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على أن من بلغ ووجبت عليه عبادة فينبغي قبل أن يفعلها أن يسأل عن كيفية فعلها، فكونه يقصر في سؤال العلماء لا يعد جهله عذراً شرعياً، وعليه القضاء بالتقدير، والله تعالى أعلم.(103/10)
حكم استعمال حبوب منع العادة في رمضان
السؤال
إذا تناولت المرأة ما يؤخر عادتها لكي تتمكن من صيام رمضان كاملاً، فما حكم ذلك؟
الجواب
ترد هنا مسألتان: المسألة الأولى: هل يجوز للمرأة أن تتناول الحبوب التي تؤخر العادة؟ الصحيح: أنه لا يجوز لها ذلك؛ لما فيه من إدخال الضرر على النفس، ولما فيه أيضاً من فوات المقصود شرعاً من حصول النسل، ولما فيه من إرباك العادة واختلالها على وجه قد تصبح المرأة فيه مضطربة العادة، حتى لا تستطيع أن تميز بين كونها حائضاً أو كونها مستحاضة، وتعاطي الأسباب للإخلال لا يجوز، وبناءً على ذلك: أرجح الأقوال في هذا أنه لا يجوز تعاطي مثل هذه الحبوب، وقد ثبت طبياً مؤخراً أنها تضر بالبدن، وأصبح وجود الضرر فيها موجباً لمنعها.
المسألة الثانية: لو أنها استعملت هذه الحبوب، ومنعت الدم شهر رمضان كاملاً، فهل صومها صحيح؟ أصح الأقوال: أن صومها صحيح؛ وذلك لأن الشرع علق الإبطال بوجود الدم، والدم غير موجود، ولذلك أصح الأقوال أن صومها صحيح، وحجها وطوافها بالبيت على هذا الوجه صحيح، وهو أصح أقوال العلماء المتأخرين الذين تكلموا على هذه المسألة، وبناءً عليه: فإن الدليل على صحة صومها وحجها وصلاتها أن الشرع علق المنع والتحريم على وجود الدم، والدم غير موجود، وبناءً على ذلك يعتبر صومها وصلاتها وسائر عبادتها صحيحاً من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.(103/11)
حكم مباشرة الزوجة في نهار رمضان
السؤال
من باشر أهله في نهار رمضان من غير إنزال، فهل يعتبر مفطراً وعليه الكفارة؟
الجواب
من باشر أهله فإنه يعتبر متعدياً لحد الله عز وجل؛ وذلك لأن الغالب في المباشرة أنه لا يأمن معها الوقوع في المحظور، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) ولذلك قال العلماء: ينقص أجره في الصوم بقدر مباشرته، وعلى هذا فإنه لا يجوز له أن يتعاطى هذه الأسباب، وقد قال عليه الصلاة والسلام (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) فالله عز وجل حرم على المكلف أن يجامع أهله، والحمى الذي حول الجماع للصائم أن يباشر أهله فيتجرد هو وزوجته على وجه يحرك الشهوة، وهو صائم في فريضة من فرائض الله عز وجل فلا يأمن معها الإخلال، ولا يأمن معها أن يقع في حد الله عز وجل وحرمته.
ولذلك: لا يجوز له أن يتعاطى مثل هذه الأسباب، فإن حفظ نفسه ولم ينزل فإن صومه صحيح، ولكنه ناقص الأجر، وقال بعض العلماء: شرعت صدقة الفطر جبراً لمثل هذا النقص، وأما لو أنزل وحصل منه الإنزال دون إيلاج فللعلماء فيه قولان: قال الحنفية والمالكية: عليه القضاء والكفارة؛ لأن الكفارة مرتبة على كونه انتهك حرمة شهر رمضان.
وقال الشافعية والحنابلة: عليه القضاء دون الكفارة -وهو الصحيح- وإنما يجب عليه أن يقضي ذلك اليوم؛ لأنه بإنزاله لم يمسك على الوجه المعتبر في صومه، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وشهوته) ومن أنزل بالاستمناء أو مباشرة الأهل أو النظر إلى الصورة التي تثير شهوته، أو النظر إلى زوجته، أو كثرة تعاطي الأسباب الموجبة للإنزال فأنزل فإن صومه يعتبر فاسداً، وعليه القضاء، والله تعالى أعلم.(103/12)
معنى صيام يوم في سبيل الله
السؤال
في قول النبي صلى الله عليه وسلم (من صام يوماً في سبيل الله) إلى آخر الحديث هل هذا الحكم خاص بالمرابط، أم هو على العموم؟
الجواب
للعلماء في هذا الحديث قولان: قال بعض العلماء: هذا الحديث خاص بالمجاهد في سبيل الله، سواء كان مرابطاً أو كان في حال القتال، وقالوا: السبب في ذلك: أن سبيل الله إذا أطلق المراد به الجهاد، وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة، فينصرف إلى الغالب المشهور، وقال بعض العلماء: إن قوله: (في سبيل الله) أي: ليس بواجب، وإنما صامه قربة ونافلة لله عز وجل، وقالوا: لأن المجاهد الأفضل له أن يتقوى بالفطر، ولذلك لا يكون صائماً في حال قتاله؛ حتى لا يضعف عن لقاء العدو، ويرجحون من هذا الوجه أن قوله: (في سبيل الله) المراد به النافلة، وكلا الوجهين له قوة وحظ من النظر، وكنت أرجح القول الذي يقول بالتخصيص، ولكن تبين أن الإطلاق أقوى، وإن كنت لا زلت متردداً في ترجيحه، والتوقف في هذه المسألة في نظري هو الذي ملت إليه.
فالحديث محتمل لكونه في سبيل الله في الجهاد، ومحتمل أن يكون (في سبيل الله) أي: طاعة وقربة لله عز وجل، وكان الذي يترجح عندي من قبل أنه الجهاد؛ وذلك لأنه المعهود في إطلاق الشرع؛ ولأنه لو كان المراد به النافلة المطلقة لقال: من صام نافلة ولم يخص بقوله: (في سبيل الله).
فهذان الوجهان يقويان أن يكون في الجهاد، ولما ظهر قول من يقول: إن المجاهد يتقوى بفطره على الجهاد، وكان ذلك أبلغ في حصول المقصود من جهاده تعارض القولان عندي، وتوقفت في هذه المسألة حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين.
والله تعالى أعلم.(103/13)
حكم من أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان التالي
السؤال
إنسان لم يصم سنتين قديماً، وهو الآن شارع في القضاء، فهل القضاء كاف أم عليه القضاء والإطعام معاً، أم عليه الإطعام مع التوبة فقط؟
الجواب
من أفطر في رمضان فإنه يلزمه القضاء، سواء وقع فطره متعمداً أو لعذر؛ فإذا أفطر رمضان كاملاً لزمه قضاء رمضان كاملاً، ويعتبر القضاء مؤخراً في حقه، فيجوز له أن يؤخر القضاء ما لم يبق على رمضان الثاني بقدر ما عليه من القضاء؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: (إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني) أخذ العلماء من هذا دليلاً على أن قضاء رمضان موسع، فإذا ماطل الإنسان وأخر وقصر حتى دخل رمضان الثاني، فجماهير العلماء على أنه يلزمه القضاء مع الكفارة، فيكفر عن كل يوم ربع صاع، وعن كل شهر سبعة آصع ونصف، وعلى هذا: فإنه يحسب الرمضانات التي أخل فيها، ويلزمه القضاء مع التكفير على قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم.
والله تعالى أعلم.(103/14)
مسألة في حكم حياة الشخص بالتنفس الصناعي
السؤال
من مات دماغياً واحتيج إلى الجهاز الذي يستخدمه لوصله بشخص آخر، فهل يؤخذ منه ولا يكون في ذلك إزهاق لنفس مسلمة؟
الجواب
هذه المسألة تعتبر من النوازل المعاصرة، وموت الدماغ مسألة تحتاج إلى نظر وعدم استعجال في الفتوى، وذلك لأن مسألة موت الدماغ نفسها لم يتفق فيها الأطباء على ضوابط معينة، فهناك تقريباً ثلاث مدارس في تحديد المفهوم لموت الدماغ، ومع هذا حصلت حوادث يحكم فيها على إنسان بأنه ميت دماغياً، ثم بعد ذلك يفيق، وقد حصل هذا ووقع، وقد اطلعت على بعض الحوادث التي نقلت بأنه حكم بموته دماغياً، وأعرف حتى من أهل العلم والفضل من حكم عليه بالموت دماغياً، وأرادوا أن يأخذوا منه أعضاء للتبرع، ثم تأخر الورثة وحصل بينهم شقاق خلال أسبوع، فشاء الله أن يفيق بعد أسبوع.
فهذه مسألة ليست من السهولة بمكان، إضافة إلى أن التشخيص والضوابط التي اطلعت عليها من كلام الأطباء في مسألة الموت الدماغي أو الموت السريري، هذه الضوابط لا تتيسر إلا في أرقى المستشفيات، فكوننا نفتي وتكون الفتوى عامة فهذا أمر يحتاج إلى تريث؛ فإنه لابد من الاحتياط لأرواح الناس وعدم الاستعجال في مثل هذه المسائل.
لكن لو أن شخصين أحدهما ميئوس منه؛ لأن الأمراض تتفاوت ودرجاتها مختلفة، فهناك أمراض ميئوس من علاجها كالسرطانات ونحوها، أو يكون الإنسان في سن يغلب على الظن هلاكه وأصابه مرض قل أن يشفى منه أو الغالب أنه لا يشفى منه، وهناك حالة طارئة طرأت لإنسان مرضه غير ميئوس منه، والغالب أننا لو وضعنا عليه الجهاز فإنه يشفى ويعافى، فحينئذ هل للطبيب أن يسحب الجهاز من هذه الحالة الميئوس منها إلى هذه الحالة التي يمكن علاجها؟ فالجواب: نعم، كما لو دخل مريضان على طبيب وقد أشرفا على الموت، وأحدهما أرجى نجاة من الآخر؛ فإنه ينصرف إلى الذي هو أرجى ويغلب على ظنه أنه يحيا، والسبب في هذا: أن اشتغاله بهذه الحالة الميئوس منها مفض إلى مصلحة مظنونة وضعيفة الحصول، مع فوات مصلحة متيقنة أو غالبة وهي مصلحة الشاب أو الشخص الذي مرضه غير ميئوس منه، لكن إقباله على هذه الحالة التي لا ييئس منها مصلحة غالبة ومصلحة راجحة، تعارضها مصلحة متوهمة، فكان الترجيح؛ لأن الشرع يقدم في المفاسد درء أقواهما وفي المصالح أرجحهما، فإذا تعارضت مصلحتان تقدم أرجحهما، وإذا تعارضت مفسدتان تدرأ أكبرهما، والدليل على ذلك أن الخضر كسر السفينة لخوف أن تؤخذ السفينة بكاملها، فقالوا: هذا يدل على أنه إذا تعارضت مفسدة فوات السفينة بكاملها، وكونه يكسر جزءاً منها ويعيبها، يدل على أن الضرر الأخف يَدْفَع ما هو أعظم منه، ويراعى ما هو أغلب ضرراً وأعظم.
فمثل هذه الحالات التي يغلب على الظن الشفاء والعلاج فيها، مثل: حوادث السيارات، فيدخل المريض وهو في حالة من الخطر ويتوقف علاجه على الأجهزة؛ فإننا نقدمه على تلك الحالة الميئوس منها، ويجوز للطبيب في هذه الحالة خاصة، وهي التي توصلت إليها من خلال البحث -أي: هي الحالة التي يجوز فيها سحب أجهزة الإنعاش عن المريض- أن توجد حالات غير ميئوس منها أو الغالب على الظن علاجها، فإنها تقدم على الحالة الميئوس منها والتي كانت تعالج من قبل، والله تعالى أعلم.(103/15)
مسألة الإنصات عند سماع القرآن
السؤال
قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] هل الحكم خاص بالصلاة، أم هو عام حتى خارج الصلاة؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: إذا كان المكان مهيأ لتلاوة كتاب الله عز وجل، كأن يكون في حلق علم وحلق دراسة للقرآن فلا يجوز لأحد أن يجلس في الحلقة وهو يحدث صاحبه؛ حتى لا يشوش على إخوانه، بل ينتحي مع زميله ناحية بعيداً عن هذه الحلق.
أما لو كان المكان غير مهيأ، كأن يكون الإنسان ماشياً في الطريق، أو سمعه عرضاً في دكان أو بقالة أو نحو ذلك فلا يلزمه أن يستمع، ولكن لو استمع فهو أفضل، والمرد بذلك أن يكف عن الكلام ويصغي، حتى ولو كان يمشي، وهكذا المرأة لو كانت في عملها وشأنها وتصغي لكتاب الله وتستمع له، وتتأثر بالآيات التي فيه فهذا خير، وهي عبادة السمع والقلب.
فإذا كان الإنسان يريد الأفضل فليستمع، وأما بالنسبة لوجوب الإنصات فهذا في الصلاة من جهة تعين الإنصات، أما في الطريق أو أثناء المرور على حلقة علم لا يلزمه أن يجلس ويستمع، وإنما يلزمه الاستماع والإنصات في الصلاة، وأما خارج الصلاة فالعلماء يفصلون بين المكان المهيأ وغير المهيأ.
ومن هنا ينبه على مسألة جلوس البعض في حلق العلم يتحدث بعضهم مع بعض وخاصة النساء، وقد اشتكت بعض الأخوات في بعض المساجد من أن بعض النساء يأتين في أثناء حلق العلم أو المحاضرات ويتكلمن ويتحدثن داخل مصلى النساء، ويشوشن على أخواتهن.
وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر، ومن أعظم الضرر أن يأتي طالب العلم أو تأتي طالبة العلم وقد تركت مصالحها وتفرغت لكلام ربها وكلام رسولها عليه الصلاة والسلام؛ تريد أن تستفيد وأن تتعلم، ثم تأتي هذه المرأة لكي تشوش على أخواتها، فهذا من أعظم الضرر، وإني أخشى على أمثال هؤلاء أن تصيبهم دعوة المؤمنين والمؤمنات، والإنسان إذا ظلم أخاه ودعا عليه فإنه لا يعود عليه بخير، فعلى الإنسان أن يبتعد عن أذية إخوانه المسلمين؛ فإذا كان يريد التحدث فليخرج من المسجد أو ينتحي ناحية بعيدة عن الحلق؛ حتى لا يشوش على إخوانه المصلين وكذلك على إخوانه الذاكرين لله عز وجل، سواءً كان ذلك في حلق علم أو في محاضرات أو في قراءة قرآن.
أو نحو ذلك.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(103/16)
شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [2]
مما يفسد الصوم ويوجب القضاء: القيء عمداً، والاستمناء، والمباشرة مع الإنزال، والإنزال بسبب تكرار النظر، وهناك خلاف بين العلماء في الحجامة هل تفطر أو لا؟ وهناك أمور لا تفسد الصوم ولا توجب القضاء، ومنها: من طار الى حلقه ذباب ونحوه، ومن فكر فأنزل المني أو احتلم في نهار رمضان ونحوها، وهناك مسائل متعلقة بالشكل في طلوع الفجر وغروب الشمس مبينة في موضعها.(104/1)
من مفسدات الصيام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المؤلف عليه رحمة الله: [أو استقاء أو استمنى، أو باشر فأمنى أو أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أو حجم أو احتجم وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد].(104/2)
القيء عمداً مفسد للصوم
لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا ما يوجب فساد صوم الصائم، فقال رحمه الله: (أو استقاء) وقد تقدم أن طلب القيء يعتبر موجباً لفساد الصوم، والأصل في ذلك ما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استقاء فقاء فليقض) فقد دل هذا الحديث على أن الصوم يفسد بالقيء، وهناك فرق بين من استقاء وبين من ذرعه القيء؛ فالإنسان له حالتان: الحالة الأولى: أن يستدعي القيء، وذلك بإدخال إصبع أو نحو ذلك من الأفعال التي تحركه فيقيء ما في بطنه، فإذا استقاء بمعنى أنه تعاطى الأسباب التي يستدعي بها القيء فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً، وعليه قضاء ذلك اليوم.
أما الحالة الثانية: بالنسبة لمن ذرعه القيء وغلبه، سواء سمع ما يكره أو رأى ما يوجب اشمئزازه ونفرته فذرعه القيء فقاء؛ فكل هؤلاء يعتبرون في حكم المعذورين، ولذلك لا يجب عليهم قضاء، وحكي الإجماع على هذه المسألة -أعني مسألة القيء- فقالوا بالتفريق بين من ذرعه القيء وغلبه، وبين من تعاطى أسباب القيء، فإذا تعاطى وجب عليه القضاء، وإذا غلبه القيء لا قضاء عليه.(104/3)
الاستمناء من مفسدات الصيام
[أو استمنى].
الاستمناء: أن يطلب خروج المني، وهو على وزن (استفعال)، والمراد بذلك أن يحرك شهوته إما بيد أو بتحكك على أرض أو على جدار أو نحو ذلك، كل ذلك يعتبر استمناءً، وكانت العرب في الجاهلية تسميه (جلد عميرة) يكنون به عن استخراج المني، ومنه قول الشاعر: إِذَا حَلَلْتَ بِوَادٍ لا أَنِيسَ بِهِ فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لا عَيْبٌ ولا حَرَجُ فجاء الإسلام بتحريم هذه العادة المشينة القبيحة، فقد قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7] فبين سبحانه أن من طلب شهوته، وكان طلبه خارجاً عما أحل الله من الزوجة والسّرية؛ فإنه يعتبر متعدياً لحدود الله عز وجل.
وهذا القول قال به أئمة من السلف وفسروا به الآية، وقالوا: إنها تدل على تحريم الاستمناء، وقد وردت أحاديث في تحريم هذه العادة؛ حتى إن بعض العلماء جمع طرقها وقال: إنها يقوي بعضها بعضاً، بحيث تدل على أن للحديث أصلاً في التحريم.
والشاهد من هذه المسألة: أن من حرك شهوته بنفسه أو عن طريق زوجته: فاستمنى بها بمفاخذة أو نحو ذلك؛ فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم إذا خرج منه المني.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي عن الله تعالى في حق الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته) فلما قال: (وشهوته) أطلق، فشمل الشهوة الكبرى سواءً كانت عن طريق الجماع أو كانت عن طريق الاستمناء، فإذا أنزل المني فقد حصلت شهوته، وهي شهوة كبرى، وبناءً على ذلك يعتبر غير صائم؛ لأن الصائم يدع هذه الشهوة، ومن استمنى لم يدع هذه الشهوة.
وبناءً عليه: فإن الاستمناء يعتبر من موجبات الفطر.
وشذّ الظاهرية رحمة الله عليهم فقال بعض فقهائهم: إن الاستمناء ليس بحرام، ولا يوجب الفطر.
ولا شك أن النصوص التي قدمنا تدل على حرمته، إضافة إلى ما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) فلو كان الاستمناء جائزاً لقال: فعليه بالاستمناء، فدلت هذه النصوص من الكتاب والسُّنة على تحريم الاستمناء، ودل حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه -وهو ثابت في الصحيح- وفيه: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) على أن من استمنى أنه يعتبر مفطراً.
وعلى هذا: فإنه يستوي أن يستمني بنفسه أو يستمني بواسطة الغير، فكل ما استدعى به خروج منيه يعتبر موجباً لفطره إذا خرج ذلك المني.
والعبرة في المسألة بخروج المني، فلو استمنى ولم يخرج مني أو حرك شهوته ولم يخرج المني فإن الشهوة لم تقع على الصورة الكاملة، فلا ينتقض صومه ولا يلزمه قضاء، ولكنه يعتبر ناقص الأجر بمثل هذا كما ذكر ذلك بعض العلماء رحمة الله عليهم.(104/4)
المباشرة المسببة لنزول المني أو المذي مفسدة للصوم
[أو باشر فأمنى أو أمذى].
أو باشر امرأته فأمنى أو أمذى، والمباشرة (مفاعلة) من البشرة، والمراد بها: أن تلي بشرته بشرة المرأة فتتحرك شهوته فينزل، وهذا يكون فيه المضاجعة التي لا جماع فيها، فإذا باشر امرأته فكأنه تعاطى السبب للفطر كما لو استقاء أو استمنى، ولذلك إذا أنزل المني سواءً بمباشرة أو استمناء فإنه يعتبر مفطراً.
والدليل على كونه إذا باشر فأنزل أنه يعتبر مفطراً ما تقدم من حديث الشهوة، حيث دلت هذه السُّنة الصحيحة على أن الصائم لا يقضي شهوته بإنزال المني ولا بالجماع، فإذا باشر زوجته وأنزل منيه فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً ويلزمه القضاء.
لكن قوله: (أمذى) المذي: هي القطرات القليلة اللزجة التي تخرج عند بداية الشهوة، بخلاف المني الذي يخرج دفقاً عند الشهوة واللذة الكبرى، فإذا حصل المني أفطر لقول جماهير العلماء كما ذكرنا، أما لو باشر زوجته فخرج منه المذي قطرة أو قطرات فإنه يعتبر مفطراً في قول الحنابلة والمالكية.
وذهب الحنفية والشافعية إلى أنه غير مفطر، والصحيح: أن من باشر أو نظر إلى شيء فأمذى أن المذي لا يوجب الفطر؛ لأن المذي ليس كمال الشهوة، وبذلك لا ينتقض صومه.(104/5)
الإنزال بسبب تكرار النظر يفسد الصوم
[أو كرر النظر فأنزل].
أو كرر النظر إلى ما يُشتهى فأنزل؛ لماذا قال: (كرر)؟ التكرار يحصل بالمرة الثانية؛ وذلك لأن النظر في المرة الأولى عفي عنه؛ لأنه ومما يشق التحرز عنه، فلو نظر إلى زوجته فأعجبته وبمجرد نظره إليها أنزل قالوا: إن هذا ليس بيده، وغالباً يكون مثل من ذرعه القيء؛ فاغتفروه، وأما إذا كرر النظر وتابع النظرة بعد النظرة فإنه يحرك شهوته كما يحركها المباشر والمستمني، فإن حصل إنزال على هذا الوجه فإنه يجب عليه القضاء.(104/6)
الحجامة من مفسدات الصيام
[أو حجم أو احتجم وظهر دم].
أو حجم غيره أو احتجم لنفسه، فهناك حاجم وهناك محجوم، والحجامة تكون بمص الدم، وهي من الجراحات القديمة، وقد ثبتت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها من الأدوية، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن كان في شيء مما تتعالجون به شفاء ففي شرطة من محجم، أو آية من كتاب الله، أو شربة من عسل، أو كية من نار، ولا أحب أن أكتوي).
فالحجامة من أنواع العلاج، ولا تزال إلى يومنا هذا، وتسمى من تخصصات الجراحة العامة في عصرنا الحاضر، وقد أقرتها الشريعة وحمدت العلاج بها، وهي تقوم على مص جزء من الدم من الجسم، ويختلف العلاج بها فتكون في الرأس، وتكون في الظهر، وتكون في أسافل البدن، وتحجم المواضع على حسب الأمراض والأدواء، فلكل داء ومرض مكان معين، ولربما لو تحرك عنه أو عدل عنه جاء بداءٍ أعظم من المرض الذي يريد أن يعالج من أجله، ففي الرأس مواضع لو حُجمت شفي الإنسان من ثقل النوم ومن أمراض الصداع، وفيه مواضع لو حُجمت أصابه النسيان، ولربما ذهبت ذاكرته، ولذلك هي تعتبر من أنواع العلاج لكن بشرط: ألا يحتجم الإنسان إلا عند إنسان يعرفها، فهي خطيرة، فكما أنها تأتي بالنفع فقد تأتي بالضرر.
وهذه الحجامة تعتبر محل خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، هل إذا احتجم الإنسان أو حجم غيره يعتبر مفطراً أو لا؟ ففي ذلك سنن وآثار مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في حديث أحمد وأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) وهذا الحديث رواه بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أوصلهم الإمام الحافظ الزيلعي رحمة الله عليه إلى ثمانية عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم روى عنه هذا الحديث.
إلا أن أكثر هذه الأحاديث ضعيف ولا يقوى سنده؛ ولكن هناك أحاديث حكم بتحسينها، وجزم بعض العلماء والحفاظ بتصحيحها، فقد صححها الإمام أحمد رحمة الله عليه، والإمام البخاري يحكى عنه تصحيح حديث الحجامة في الفطر، وغيرهما من الأئمة رحمة الله على الجميع، والعمل على ثبوت قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) قالوا: فقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) يدل على أن من حجم أو احتجم يعتبر مفطراً.
ووجه ذلك: أن الحاجم -وهو الشخص الذي يقوم بالحجامة- ولأن الحجامة تحتاج إلى مص الدم -فيُشرَّط الموضع ثم يُمص الدم الفاسد- فلا يأمن من أن يمص شيئاً من ذلك الدم.
وأما المحجوم: فلأن الحجامة تضعف بدنه وتنهك قوته، ولذلك قالوا: إنه يعتبر مفطراً، ويستوي الحكم في الحاجم والمحجوم.
وذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم -وهو قول طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ أنس وغيره- أن هذا الحديث منسوخ، ومنهم من يقول: إن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) يُخرج على غير الفطر الحقيقي.
واختلفوا في ذلك، فقالت طائفة: إن هذا الحديث ورد في سبب مخصوص، وذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بالبقيع -كما في بعض الروايات- على حاجم ومحجوم وسمعهما يغتابان الناس وهما صائمان، فقال عليه الصلاة والسلام: أفطر الحاجم والمحجوم) أي: أنهما بغيبتهما للناس قد أذهبا أجر صيامهما، فكأنهما أفطرا.
والعرب تقول: أفطر، وتقول: أصبح، وتقول: أمسى، وهو لم يمس ولم يفطر ولم يصبح حقيقة؛ وإنما المراد: أنه تعاطى شيئاً يفوّت المقصود كما في حال الصائم هنا: لما تعاطى الغيبة كأنه ذهبت حسناته فكأنه لم يصم أصلاً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) هذا الوجه الأول.
والوجه الثاني -وهو أقوى الوجوه-: أن قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) المراد به أنهما أوشكا على الفطر، كما تقول: أصبحتَ أصبحتَ.
أي: ويحك كدت أن تصبح.
كما في حديث ابن أم مكتوم (وكان لا يؤذن إلا إذا قيل له: أصبحتَ أصبحتَ).
وهذا موجود في لغة العرب إلى يومنا هذا، فإنك تقول للرجل: هلكتَ هلكتَ! وأنت لا تقصد أنه هلك حقيقة، كأن يكون قريباً من نار أو قريباً من بلاء، فتقول له: احترقتَ احترقتَ! وهو لم يحترق حقيقة؛ وإنما المراد أنه في موضع يعرضه للاحتراق.
قالوا: فقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) أي: أن الحاجم لا يأمن من دخول شيء من الدم إلى جوفه، والمحجوم لا يأمن من الضعف الذي يفضي به إلى الفطر، وهذا نسميه تأويل الحديث بما يدل عليه الحال، فإن الحال يدل دلالةً واضحةً على أنه سينهك بدن المحجوم، ولا يأمن الحاجم من ازدراد الدم، ولذلك لا تستطيع أن تقول: إن الحاجم أفطر حقيقة؛ لأن المفطر حقيقة يأكل أو يشرب أو يتعاطى شهوة توجب فطره، فلما كان الحاجم والمحجوم لا يأكلان ولا يشربان، وإنما فيهما معنىً يفضي بهما إلى الضعف الذي ينتهي إلى الفطر قَوِيَ حمل الحديث على هذا الوجه.
وهناك وجه ثالث -وهو من أقوى الأوجه، واختاره جمع من الأئمة رحمة الله عليهم كما أشار إليه الإمام ابن حزم الظاهري وغيره- وهو: أن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) كان في أول الإسلام ثم نسخ، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك قال: (إنما كان رخصة) وكذلك مثله حديث أبي سعيد الخدري قال: (ثم رُخص في الحجامة) قالوا: فقوله: (ثم رخص في الحجامة) يدل على أن الأمر كان في الأول عزيمة ثم خفف فيه، وهذا هو القول الأقوى والأوجه في هذه المسألة.
إضافة إلى أنه ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم) وابن عباس من صغار الصحابة، ولذلك قالوا: إنه يقوى أن يكون حديث الناسخ متأخراً عن المنسوخ، وهو حديث الرخصة الذي ذكرناه عن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
وعلى هذا الوجه: فإن الحجامة كانت في أول الأمر موجبة لفطر الحاجم والمحجوم، ثم نسخ ذلك وأصبحت رخصة، كما قال أنس: (ثم رخص بَعْدُ في الحجامة) وعليه: فإنه إذا احتجم الإنسان أو حجم غيره فإنه لا يعتبر مفطراً.
لكن على القول بأن الحجامة تفطر فقالوا: لا تكون مفطرة إلا إذا مص الدم - أعني الحاجم - فلو أنه فصده، بمعنى قطع منه العرق وجرى الدم، والفرق بين الحجامة والفصد: أن الحجامة تكون لأوعية الدم، فتمتص ما هناك من الدم الفاسد، وأما بالنسبة للفصد فإنه يكون للعروق، فالفصد لايعتبر موجباً لفطر الفاصد؛ لأنه لا يمص؛ ولكن هل يكون مؤثراً في صيام المفصود؟ قال بعض العلماء: الفصد يلتحق بالحجامة من جهة أنه ينهك بدن المفصود، بل قد يكون الفصد أقوى وأبلغ في التأثير على الجسم من الحجامة؛ لأنه يتصل بالعروق، وجريان الدم في العروق أشد من جريانه في الأوعية، وتضرر الإنسان بالفصد أعظم من تضرره بالحجامة.
وعلى القول بأن الفصد يوجب الفطر فإن من تبرع بدمه يدخل في هذا؛ لأن الفصد إخراج للدم من العرق، والتبرع بالدم إخراج للدم من العروق.
وعلى هذا فإنهم يقولون: إذا خرج منه الدم على هذا الوجه فإنه يعتبر مفطراً؛ لكن لو خرج الدم بغير اختياره كرعاف ونزيف من جرح ونحو ذلك قالوا: لا يعتبر مفطراً؛ لأنه هناك أدخل الضرر على نفسه، بخلاف ما إذا غلبه الرعاف أو طعن أو جرح؛ فإنه لا يعتبر مفطراً.
[وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد].
يشترط في الحجامة -كما قلنا-: أن يظهر الدم، ومفهوم قوله: (وظهر دم) أنه إذا لم يظهر الدم فإنه لا يعتبر مفطراً.
ومثال ذلك: لو أنه شرطه وأذن المغرب فخرج الدم بعد أذان المغرب فإنه لا يعتبر مفطراً؛ لأن خروج الدم الذي ينبني عليه الحكم بالفطر إنما وقع بعد الأذان، وعليه: فإنه لا يعتبر مفطراً من هذا الوجه.
وأما لو شرطه وخرج الدم قبل الأذان ولو بلحظة فإنه يعتبر مفطراً على هذا القول.
[عامداً ذاكراً لصومه فسد].
(عامداً): أي متعمداً للحجامة، فلو أكره عليها لم يؤثر.
(ذاكراً لصومه): فلو كان ناسياً لم يؤثر، وقد قلنا إن الصحيح في هذا كله: أن الحجامة لا توجب الفطر.
[عامداً ذاكراً لصومه لا ناسياً أو مكرهاً].
(لا ناسياً) أي: لا إن كان ناسياً؛ لأن النبي قال: (من أكل أو شرب في نهار رمضان وهو ناس فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) فإذا كان الأكل والشرب مع النسيان لا يوجب الفطر، فكذلك الحجامة مع النسيان لا توجب الفطر.
وقوله (لا ناسياً أو مكرهاً) المكره: ضد المختار وهو الذي يأتي الشيء بغير اختياره، والإكراه له شروط، فإذا تحققت شروط الإكراه المعتبرة شرعاً فإنه يسقط عنه التكليف في قول جماعة من أهل العلم رحمة الله عليهم، وأصول الشريعة دالة على ذلك، فقد قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] فأسقط الله المؤاخذة بالردة، وهي كلمة الكفر إذا كان الإنسان مكرهاً عليها؛ فمن باب أولى فروع الشريعة، فإذا كان الإكراه لا يوجب الكفر فمن باب أولى أن لا يوجب الفطر ولا غيره من الإخلالات.(104/7)
الأشياء التي لا تفسد الصيام
[أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار، أو فكر فأنزل، أو احتلم، أو أصبح في فيه طعام فلفظه، أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر، أو زاد على الثلاث، أو بالغ فدخل الماء في حلقه لم يفسد].(104/8)
من طار إلى حلقه ذباب أو غبار لم يفسد صومه
[أو طار إلى حلقه ذباب].
كأن يكون الإنسان يتكلم فلا يشعر إلا والذباب قد دخل في حلقه، فقد غلبه، فهذا لا يؤثر.
[أو غبار].
فالغبار إذا قصده فإن له جرم ومادة ويوجب هذا الفطر، وقد قررنا هذه المسألة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل قطرات الاستنشاق يحظر على الإنسان أن يتعاطى أسبابها في الأنف -في قوله صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) -؛ والسبب في ذلك: أن لها جرماً، ويستوي في ذلك القليل والكثير، ولذلك لو أخذ قليلاً من الطين وطعمه وجاوز اللهاة فإنه يفطر بلا إشكال، فكذلك لو قصد الغبار فلعقه، أو فتح فمه له قاصداً دخوله فإنه يعتبر مفطراً، فإذا طار الغبار أو الذباب فدخل حلقه فلا يفطر؛ لأنه مما يشق التحرز منه.(104/9)
من تفكر فأنزل المني لم يفسد صومه
[أو فكر فأنزل].
قوله: (أو فكر فأنزل) لا يفطر فإنه مما يشق التحرز والتوقي عنه، والأصل في الشريعة أنه لا حرج فيه، فإننا لو قلنا: إن الإنسان إذا فكر فأنزل يجب عليه القضاء فإن هذا مما يشق التحرز عنه كحديث العهد بالعرس ونحو ذلك، كما يكون حديث العهد بالجماع قبل الفجر، فمثل هذا إذا دهم عليه التفكير فإنه يعتبر مما يشق التحرز عنه كمسألة الغبار.
والمصنف يقصد من هذا أن الفقهاء عندما يأتون بهذه الصور مرادهم أن تأخذ القاعدة والأصل، وهو: أن الفطر يكون بالاختيار، ولذلك انظر في قوله: (لا ناسياً أو مكرهاً) ثم بعد ذلك قال: (أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار) تأمل قوله: (مكرهاً) ثم أتبع بعدها طيران الغبار والذباب، فتفهم من هذا دقة المصنف وأن مراده أن يجعلك في دائرة معينة، وهي: أن تفرق في الفطر بين ما يغلب الإنسان وبين ما لا يغلبه.
فإذا سألك السائل عن شيء غلبه وشق التحرز عنه فإنه يعتبر في حكم المعذور، وأما إذا كان شيئاً يمكن توقيه وتحفظه منه فإنه يعتبر مفطراً.(104/10)
الاحتلام في نهار رمضان لا يفسد الصوم
[أو احتلم].
والاحتلام: أن يرى الإنسان وهو نائم ما يحرك شهوته فينزل، فإذا احتلم على هذا الوجه فإنه لا يفسد صومه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: النائم حتى يستيقظ) وقد أجمع العلماء على أن من نام واحتلم أنه لا يجب عليه الفطر، وبناءً على ذلك: إذا تقرر هذا كأن الإجماع يدلنا على أن الشريعة تفرق بين ما يغلب الإنسان وبين ما لا يغلبه، فهذا الشيء الذي هو الاحتلام أو طيران الغبار كأن تمشي في صحراء أو نحوها ولا يمكنك التوقي منه، فهذا كله مما يعفى عنه.(104/11)
من أصبح وفي فمه طعام فلفظه لم يفسد صومه
[أو أصبح في فيه طعام فلفظه].
وهذا يحصل بعد السحور، فيؤذن أذان الفجر ولا يزال بقايا الطعام في فم الصائم، وخاصة فيما يكون بين الأسنان، فإذا لفظه فإنه لا يؤثر في صومه، لكنه لو بلعه وازدرده فإنه يعتبر مفطراً.(104/12)
الاغتسال في نهار رمضان لا يفسد الصوم
[أو اغتسل].
أو اغتسل بالماء، فإن الاغتسال بالماء لا يوجب الفطر، ولذلك اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ابن عباس رضي الله عنه يجلسان في البرك بين مكة والمدينة يتنافسان أيهما أطول نفساً وهما ينغمسان في الماء؛ والسبب في ذلك: أنه ليس بشرب ولا بأكل حقيقة، ولا في حكم الأكل والشرب.
وعلى هذا: فإن الانغماس في الماء والسباحة لا يوجب الفطر، وهكذا لو اغتسل فرش الماء وصبه عليه، فإن هذا كله مما لا يوجب الفطر؛ والسبب في هذا: أنه يصب الماء على ظاهر الجسد، وقد دلت الشريعة على أن صب الماء على ظاهر الجسد لا يوجب الفطر، ولذلك من تمضمض وهو صائم بالإجماع لا يفطر؛ لأن الفم من ظاهره، فكذلك إذا صب الماء على ظاهره.(104/13)
المضمضة والاستنثار والمبالغة فيها لا تفسد الصوم
[أو تمضمض أو استنثر، أو زاد على الثلاث، أو بالغ فدخل الماء في حلقه لم يفسد].
لو أنه تمضمض أو استنشق فله حالتان: الحالة الأولى: أن يتمضمض ويستنشق بدون تكلف، فهذا لا يفطر عند العلماء رحمة الله عليهم في قول الجماهير.
الحالة الثانية: إذا كان تمضمضه واستنشاقه بطريقة فيها تكلف ومبالغة فللعلماء وجهان: منهم من يقول: إذا بالغ أفطر وهذا يفهم من السُّنة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط بن صبرة (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) قالوا: ففي هذه الحالة يعتبر مفطراً، وهذا القول هو أحوط القولين، وهو خلاف ما اختاره المصنف رحمة الله عليه.
وعليه: فإنه إذا بالغ في المضمضة فغرغر بالماء، فأحس بالماء في حلقه فإنه يعتبر مفطراً، وهكذا لو بالغ في الاستنشاق فوجد طعم ذرات الماء في حلقه فإنه يعتبر مفطراً على أصح قولي العلماء؛ لأنه تعاطى السبب للإخلال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السبب، فدل على أنه إذا ارتكب المحظور وخالف النهي أنه يعتبر مفطراً.
[أو زاد على الثلاث] قالوا: لأن الزيادة على الثلاث تعتبر غير مشروعة، فكأنه إذا زاد عن الثلاث زاد وبالغ، فكما أنه لا يشرع له المبالغة في حال الصيام في الاستنشاق والمضمضة، كذلك أيضاً إذا بالغ فزاد على الثلاث فإنها محظورة شرعاً، كالمبالغة في الاستنشاق المأذون به شرعاً، فيفطر هنا كما يفطر هناك سواءً بسواء لتعاطي السبب.(104/14)
من أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه
[ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه].
استيقظ رجل من الليل فشك هل طلع الفجر فيمسك أو لا زال الليل فيأكل؟ فبالإجماع على أنه يعتبر نفسه بالليل ويأكل ويشرب، وحينئذٍ لا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن لا يتبين له شيء، فإذا لم يتبين له شيء مثل أن يقوم في جوف الليل ولا يدري هل طلع الفجر أو لم يطلع، فيشرب أو يأكل ثم يرجع فينام، ويستيقظ بعد صلاة الفجر فلا يدري حينما قام فأكل أو شرب هل وقع أكله وشربه بعد تبين الفجر فيعتبر مفطراً أو وقع قبل الفجر فهو صائم؟ بالإجماع يعتبر نفسه أنه في الليل، ويحل له الأكل والشرب، وإذا لم يتبين له شيء فصومه صحيح.
والدليل على ذلك: أن الأصل بقاء الليل حتى يتحقق من أن النهار قد طلع، والله أمرنا أن نبقى على اليقين، والشك لا عبرة به، وأصول الشريعة دالة عليه، ونصوص الكتاب والسُّنة تقتضي ذلك: أن العبرة باليقين، وأن الشك لا يلتفت إليه.
ومن قواعد الشريعة: (اليقين لا يزال بالشك) وتفرع عليها قولهم: (الأصل بقاء ما كان على ما كان).
فالأصل بقاء الليل، ونحكم بكونه يحل له الأكل والشرب والجماع حتى يتحقق أنه قد أصبح، فينتقل من يقين الحل إلى يقين التحريم.
الحالة الثانية: أن يتبين له الأمر، فإن تبين له الأمر لا يخلو من صور: الصورة الأولى: أن يأكل ويشرب ثم يتبين له أن الفجر لم يطلع، مثال ذلك: استيقظت فأكلت أو شربت على أن الليل باقٍ، ثم نظرت في الساعة أو سمعت الأذان الأول فقد تبين لك أن الفجر لم يطلع، فحينئذٍ بالإجماع لا يؤثر؛ لأنه أكل وشرب في وقت مأذون به شرعاً.
الصورة الثانية: أن يتبين له أن النهار قد طلع، فاختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: صومه صحيح.
وقال الجمهور: عليه القضاء؛ لأنه تعاطى سبباً فيه تقصير؛ فألزم بعاقبة التقصير، وتوضيح ذلك أنه لو تحرى لتبين له أن الفجر قد طلع، فلما قصر فإنه يُلزم بعاقبة تقصيره، ويلزمه القضاء؛ لأن الله تعالى أوجب عليه أن يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا لم يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس حقيقة؛ فيُلزم بالقضاء، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم؛ لأنه قصر ويلزم بعاقبة تقصيره ويلزمه القضاء.(104/15)
من أكل شاكاً في غروب الشمس فسد صومه
[لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس].
لو غابت الشمس في الغيم، وفي الأزمنة التي لم يكن فيها ساعات، أو يكون الإنسان ليست عنده ساعة، فحينئذٍ يشك هل غابت الشمس أو لم تغب؟ فالأصل واليقين: أنه في النهار، فنقول له: يحرم عليك الأكل والشرب حتى تتحقق أو يغلب على ظنك أن الليل قد أقبل وأن الشمس قد غابت.
بناءً على ذلك: إذا أمكن أن يرجع إلى ساعة ونحوها لا يجوز له أن يفطر حتى يتحقق عن طريق الساعة.
وإذا لم توجد ساعة فإنه يُقدر الزمان، وذلك أن يحسب فيجلس إلى فترة يغلب على ظنه أن الشمس قد غابت، والدليل على ذلك حديث الدجال: (أنه يمكث أربعين يوماً، يوم منها كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، قالوا: يا رسول الله! هذا اليوم الذي هو كسنة أتُجزينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، ولكن اقدروا قدره) قال العلماء: فيه دليل على أن الصائم يرجع إلى التقدير إذا تعذر عليه الضبط بالحقيقة، فتقدر زماناً يغلب على ظنك أن الشمس قد غابت فيه، فإذا قدرت هذا الزمان تفطر بعده.
فإن أفطرت فلا تخلو من حالتين: إما أن يتبين لك الأمر أو لا يتبين -مثل ما تقدم معنا في السحور- فإن لم يتبين لك شيء، وغلب على ظنك أن الشمس قد غابت فصومك صحيح؛ لأن الله تعبدنا بغلبة الظن، ولم يظهر ما يدل على بطلان الصوم وفساده.
ثانياً: الحالة الأولى: أن يتبين لك أن تقديرك صحيح، مثلاً: لو أنك أكلت في هذه اللحظة، ثم دخل عليك رجل فسألته: كم الساعة؟ قال: الساعة السادسة، وغروب الشمس يكون عند السادسة إلا ربعاً، أو عند السادسة إلا عشرة دقائق، فما بين أكلك ودخوله عليك وإخباره لك وقت يدل على أن أكلك وشربك قد وقع بعد الغروب قطعاً، فحينئذٍ تبين لك صحة اجتهادك، فصومك صحيح.
الحالة الثانية: أن يتبين لك أن الشمس لم تغب، وأن النهار لا زال باقياً، وأن أكلك وشربك وقع في حال النهار، فللعلماء قولان مشهوران: قال بعضهم: إنه يلزمه القضاء؛ لأنه قصر فيُلزم بعاقبة تقصيره كمسألتنا في السحور، وكذلك فيه حديث البخاري وسئل هشام بن عروة رحمة الله عليه: (أَقضوا ذلك اليوم؟ قال: ليس في القضاء شك، أو ما من القضاء بُد).
قالوا: فهذا يدل على أنه يُلزم بالقضاء، وهذا أقوى، ولذلك قال عمر: الخطب يسير.
أي: قضاء يوم مكانه.
وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس لما فيه من الورع، ولما فيه من إعمال الأصل من مطالبة الصائم بالضمان بسبب تقصيره؛ لأنه قصر نوع تقصير؛ إذ لو تحرى كمال التحري لتبين له أن النهار ما زال باقياً، والقاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه).
وتوضيح ذلك: أن الصوم حقٌ لله، وحق الله دين على المخلوق، ودلت السنة الصحيحة على هذا الأصل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج: (أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى) فجعل الحج الذي هو ركن الإسلام دَيْناً، والصوم الذي هو ركن الإسلام دَينٌ على المخلوق.
وعلى هذا: إذا كان الصوم دَيْناً وحقاً لله عز وجل، فإنك لو كنت في دين المخلوق وظننت أنك قضيته حقه، ثم تبين أنك لم توفه وأن هناك نقصاً ألزمت بكمال النقص، فحق الله أولى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى).
فإذاً: قد دلت أصول الشريعة على أنه يطالب بالقضاء؛ لأنه لم يصم اليوم على وجهه؛ ولأنه قصر، إذ لو تحرى كمال التحري لتبين له أن النهار ما زال باقياً؛ ولأنه حق لله عز وجل لا يسقط بالظن الخاطئ، فيلزمه القضاء.
قد يقول القائل: ما فائدة الخطأ؟ نقول: خطؤه يسقط الإثم عنه، وكونه لا إثم عليه لا يسقط الضمان، كما لو قتل إنساناً خطأً، نقول: قَتْلُه بالخطأ يسقط الإثم عنه؛ لكن الضمان لهذه النفس يجب عليه.
ومن هنا نرى أن أصول الشريعة تجعل المخطئ يُلزم بالضمان، ولذلك حتى في قتل الخطأ تلزمه الشريعة بعتق الرقبة، فإذا لم يجد صام شهرين متتابعين لمكان الإخلال؛ لأنه ما من مخطئ إلا وقد قصر نوع تقصير، وعلى هذا قوي أن يقال: إنه يطالب بقضاء ذلك اليوم، ولما فيه من براءة الذمة والقيام بحق الله عز وجل على أتم وجوهه.
[أو معتقداً أنه ليلٌ فبان نهاراً].
مثل ما ذكرنا في مسألتنا: أكل أو شرب ظاناً أن الشمس قد غابت، ثم تبين له أن الشمس لم تغب، فإنه يلزم بقضاء ذلك اليوم، خلافاً لما اختاره رحمة الله عليه بأنه لا قضاء عليه.(104/16)
الأسئلة(104/17)
حكم الإفطار لظن الغروب خطأ
السؤال
إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب في رمضان خطأً، وأفطر الناس على أذانه قبل الغروب، فهل عليهم القضاء أثابكم الله؟
الجواب
إن المؤذنين مؤتمنون على صيام الناس، ويتحملون هذه الأمانة ويسألون عنها بين يدي الله عز وجل، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أحمد وأبي داود في السنن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن).
قالوا: فقوله: (والمؤذن مؤتمن) أي: مؤتمن على صيام الناس؛ لأنه يؤذن للإمساك ويؤذن للفطر؛ فإذا تساهل المؤذن ولم يتحر ولم يضبط الوقت بأذانه خاصة في الفجر وفي المغرب فإنه يتحمل إثم كل من أفطر بأذانه، خاصة إذا كان ذلك على سبيل الاستهتار والتلاعب، وتجده يتسحر ويأكل، ولربما خرج من بيته وقد دخل الفجر ولا يؤذن إلا بعد الوقت المعتبر بعشر دقائق أو خمس دقائق.
فمثل هذا آثم شرعاً، خائن للأمانة التي حمله الله إياها، خاصة إذا كان معيناً ويعطى راتباً على ذلك، فإنه يعتبر ماله فيه نوع من الحرمة؛ لأنه أخل بأمانته التي كوفئ عليها، ولذلك تجتمع عليه المظالم من وجوه: منها: أنه يعرض صيام الناس للفطر، وحينئذ يكون آثماً بإثم هؤلاء الذين أفطروا على أذانه، وهم معذورون إذا كانوا لا يعلمون بالحقيقة.
وثانياً: أنه قد ضيع هذه الأمانة وأخل بها، والمال الذي يأخذه تجاهها -خاصة إذا كان منصباً، ويعطى راتباً على ذلك- يعتبر مالاً فيه حرمة بقدر ما حصل منه من إخلال مقصود.
وعلى هذا: فالأمر على المؤذنين شديد، فينبغي على الأئمة أن يتفقدوا مؤذني مساجدهم، وأن ينصحوا لعامة المسلمين، وأن ينتبهوا لهذا الأمر، وألا يتساهل الإمام مع مؤذنه، فإذا رأى المؤذن يقصر في مثل هذا فإنه ينصحه ويذكره، فإذا لم ينتصح ولم يذكر فإنه يجب عليه أن يرفع أمره إلى من يردعه ويمنعه عن هذا.
وهكذا أهل الحي فإنه يحرم عليهم السكوت على المؤذنين الذين يتساهلون في مواقيت الصلاة، فإذا سكتوا على ذلك فهم شركاء لهم في الإثم، إذ لا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور؛ لأنها تضيع حقوق الله عز وجل، خاصة في نهار رمضان، بل ينبغي أخذ الأمر بالحزم والاحتياط في صيام الناس، وبذل جميع الأساليب لكي يقع الأذان في وقته المعتبر.
وإذا كان عند المؤذن ظرف أو يخشى النوم فإنه يأمر من يوقظه، أو يعهد إلى شخص أمين إذا غاب أو تأخر يؤذن للناس، ويقيم لهم هذه الفريضة على وجهها، فهذا الأمر يعتبر أمانة في أعناق المؤذنين، وعلى الأئمة مسئولية، وعلى الجماعة الذين يصلون في هذا المسجد أو يسمعون الأذان أيضاً مسئولية ألا يسكتوا على تلاعب المؤذنين، وقد تساهل الكثير في هذا الزمان، ولقد سمعت بأذني حتى في المدينة، لربما تسمع الإنسان يؤذن قبل الحرم مع أن مسجده قريب من الحرم، وقد سمعت من يؤذن قبل الحرم بسبع دقائق، بل سمعت بأذني من أذن قبل أذان الحرم بربع ساعة! وهذا كله يدل على الاستخفاف وعدم المبالاة بحقوق الله عز وجل، وإلى الله المشتكى في ضياع هذه المسئوليات العظيمة.
فلذلك ينبغي الحزم في مثل هذه الأمور، وعدم التساهل مع المؤذنين، وإذا كان المؤذن يتساهل في أذانه فيؤخر الأذان في السحور ويعجل الأذان في المغرب فإنه ينبغي نصحه وتوجيهه وتذكيره بالله، وتخويفه من عذاب الله، وأن هؤلاء الناس أمانة في عنقه، وأنه إذا تساهل وهو يعلم أن الوقت قد ذهب وفرط فإنه يلزم بهذا التفريط، ويحمل بين يدي الله إثم من أفطر على أذانه أو تسبب في فطره، سواء كان أذان الفجر أو كان أذان المغرب.
أما بالنسبة للمؤذن: فالمؤذن إذا أخطأ ووقع منه الخطأ فيجب عليه أن يعلم الناس، وأن يبين لهم أنه في اليوم الفلاني أو في هذا اليوم قد أذن بعد دخول الوقت، وأن من أمسك على أذانه مباشرة أن عليه القضاء، وإذا سكت عن ذلك فإنه يتحمل مسئولية من أفطر على هذا الأذان، وقس على ذلك من المسائل؛ سواء كان في الصلاة أو غيرها، فعلى الإمام أن ينبه، فإذا أخطأ مؤذن وجب عليه أن ينبه على الأقل من في الحي، أنه يلزمهم أن يعيدوا هذا اليوم؛ لأنهم قد أفطروا، وذلك بوقوع الأكل والشرب بعد تبين الفجر، والله قد حرم الأكل والشرب.
والله تعالى أعلم.(104/18)
الجواب عن حديث أسماء من أن الصحابة لم يؤمروا بقضاء
السؤال
بماذا يجيب الذين يوجبون القضاء على من أفطر ظاناً غروب الشمس على حديث أسماء رضي الله عنها، الذي جاء فيه: (أنهم أفطروا في يوم غيم ولم يؤمروا بالقضاء) أثابكم الله؟
الجواب
هذا يسميه العلماء (المسكوت عنه) فالحديث سكت: هل أمروا بالقضاء أو لم يؤمروا؟ لم يبين شيئاً، بعض العلماء الذين يقولون: لا قضاء، يقولون: لو أمروا بالقضاء لبين، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به.
وكمسلك أصولي: الحديث مسكوت، وإذا كان مسكوتاً ترجع إلى الأصل، وهذا هو الفقه: أن النص إذا جاء يدل باللفظ الصريح قبلناه، أو فيه دلالة ظاهرة قبلناه، أما إذا كان متردداً بين الأمرين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يسكت عن القضاء للعلم به؛ لأنه إذا تبين أنهم قد أكلوا وشربوا في النهار فإنهم لم يصوموا على الوجه المعتبر، فيسكت للعلم به بداهة، وأما كونه لم ينقل إلينا، وقد يكون أمروا ولم ينقل، لكن الحديث مسكوت عنه.
ولذلك يقول بعض العلماء: هو من رواية أسماء رضي الله عنها، والنساء قد يخفى عليهن حال الرجال، وقد يحصل في الرواية نقص، ومن هنا: يقوى القول أنه يرجع إلى الأصل، والأصل أنهم مطالبون بضمان اليوم كاملاً، والإخلال موجود، والأقوى والأحوط والأبرأ للذمة أن نأمرهم بالقضاء، ولا نستطيع أن نقول بأنه لا قضاء عليهم بأمر محتمل، فإن الأصول تقتضي أنهم مطالبون بحق الله كاملاً، وما وردت به الرخصة صريحة نرخص فيه، وما لم ترد به الرخصة صريحة واضحة فإننا نبقى على الأصل الذي يوجب القضاء.
والله تعالى أعلم.(104/19)
الفرق بين إنزال المني بالفكر وبالنظر
السؤال
هل يقاس من فكر فأنزل بمن كرر النظر فأنزل، من جهة كون كل منهما لم يتعاط ما يحفظ صومه أثابكم الله؟
الجواب
الفكر أضعف من النظر -قال بعض العلماء هذا- والفكر تهجم فيه الخواطر أكثر من هجومها بالنظر، والفكر مما يشق التحرز عنه أكثر من النظر، ففي حال النظر يمكنه أن يغض بصره ويصرفه، ولكن الفكر يقهر الإنسان، وقد يدخل عليه فجأة والنفس ضعيفة، فإذا دهم عليها فجأة فإنها قد تسترسل معه، ومن هنا فرق بين الفكر وبين النظر.
لكن القول بأنهما بمنزلة واحدة له وجه، وله حظه من الاستدلال كما ذكرناه، وبناءً على ذلك: فإن التفريق بينهما من جهة كونه يدهم على الإنسان هو الأقوى في نظري، ولا يبعد القول الذي قال: بأنهما بمنزلة واحدة من القوة.
والله تعالى أعلم.(104/20)
الفرق بين الشك في طلوع الفجر أو غروب الشمس في رمضان
السؤال
ما الفرق بين قول المؤلف رحمه الله: (من أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه) وبين قوله: (أو معتقداً أنه ليل فبان نهاراً) أثابكم الله؟
الجواب
هناك فرق بين من يعتقد وبين من يشك، الشك: يستوي عندك الاحتمالان: هل طلع الفجر أو لم يطلع، هل أذن أو لم يؤذن، فأنت الآن ما عندك جزم؛ لكن إذا اعتقد أنه ليل فإنه غلب الظن أو جزم، فالفرق بين الاعتقاد وبين الشك: أن الشك استواء الاحتمالين، تقوم في جوف الليل ولا تدري هل هو ليل أو طلع الفجر فدخل النهار، فهذا يسميه العلماء (شك)، فإذا قلت: هو نهار، قلت: يحتمل أن يكون ليلاً، وإذا قلت: هو ليل، قلت: يحتمل أن يكون نهاراً، فبناءً على ذلك تكون في مرتبة كالحائر لا تدري هل هو ليل أو نهار، ولكن الاعتقاد تعتقد واحداً من الأمرين فتجزم به، وتقول: أعتقد أن الليل إلى الآن لا زال باقياً، فهذا اعتقاد وجزم، فحينئذٍ يكون أقوى من الحالة الأولى.
فالشك: استواء الاحتمالين، فترجع إلى الأصل؛ فإن شككت في الليل هل هو باق أو لا فالأصل بقاؤه، وإن شككت في النهار هل غابت الشمس أو لم تغب، فالأصل بقاؤه، ففي الأول تأكل وفي الثاني تمسك، وهذا الفرق بينهما: أنه لا جزم في الشك، والاعتقاد فيه جزم إما على سبيل اليقين أو على سبيل الغالب.
والله تعالى أعلم.(104/21)
حكم من تبرع بالدم في نهار رمضان
السؤال
من تبرع بدم في نهار رمضان لإنقاذ حياة مصاب، فهل يؤثر ذلك في صومه أثابكم الله؟
الجواب
التبرع بالدم بإنقاذ حياة المصاب قربة وطاعة وصدقة، وهو داخل في عموم قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] وقال بعض العلماء: من تسبب في حياة نفس وكانت صالحة، وقصد أن تعان على صلاحها، كان له كأجرها بعد إنقاذها.
وهذا فضل عظيم! فتكون حسناته من الخير والبر لك مثلها، ولذلك إنقاذ مثل هذه الأنفس التي تكون في الحوادث أو النساء في الولادة إذا حصل لهن نزيف، التبرع في مثل هذه الحالات من أجل القربات، ولا شك أن تفريج كربة المسلم من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وقد غفر الله لزانية بسبب شربة ماء لكلب، فكيف بمن أنقذ نفساً مؤمنة أو تسبب في نجاتها؟! ولا شك أنها من أجل القربات وأفضل الطاعات.
وأما بالنسبة لهذا التبرع: فإنه لا يوجب الفطر، فلو سحب منه الدم وقويت نفسه، واستطاع أن يبقى إلى آخر النهار وهو ممسك فإن صومه صحيح، لكن بعض العلماء يقول: يعتبر مفطراً من جهة إدخال الإبرة إلى منفذ في الجسم، وهذا فيه ضعف لا يخلو من نظر، وعلى هذا: فإن الأصح أنه لا يفطر.
والله تعالى أعلم.(104/22)
حكم من أكل مع سماع أذان الفجر في رمضان
السؤال
ما حكم الأكل مع سماع أذان الفجر في رمضان أثابكم الله؟
الجواب
من سمع الأذان لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتحقق من أن المؤذن قد أخطأ، كأن يكون عنده معرفة بالفجر الصادق، وينظر في السماء كما يحصل في البادية والأماكن البعيدة من المدن، فيمكنك أن تنظر وتعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، فإذا كان النهار أمامك لم يطلع، فإنه يجوز لك في هذه الحالة -إذا كنت تعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، وتحققت أن الفجر لم يطلع- أن تأكل وتشرب، وترجع إلى يقين نفسك، ولست مطالباً بظن غيرك.
الحالة الثانية: أن يكون الإنسان ليس عنده وسيلة يتمكن بها من معرفة خطأ المؤذن، فيجب عليه أن يمسك بمجرد الأذان، فإذا أكل أو شرب بعد الأذان ولو بلحظة فإنه يعتبر مفطراً بنص الكتاب والسنة؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فأمرنا أن نأكل إلى التبين، فعند بداية التبين يحرم على الإنسان أن يأكل، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) وقوله: (حتى يؤذن) أي: حتى يبدأ بالأذان.
وعليه: فإنه إذا أكل أو شرب ولو بعد الأذان بلحظة واحدة فإنه يلزم بالقضاء، وهذا هو ظاهر الكتاب والسنة.
وأما ما ورد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد، حتى إن بعضهم يأكل وقد تبين النهار، بل بعضهم يأكل وقد اتضح الفجر واستبان الصبح، فكل ذلك اجتهاد من الصحابة، فكان بعضهم يجتهد في قوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) ويرى أنه غاية التبين فينظر إلى لفظ الآية، وقد خطأ النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاد الصحابي كما في الصحيحين من حديث عدي، فإن عدياً مع كونه عربياً يعرف اللسان ويعرف دلالة الكتاب، أخطأ في فهم الآية كما هو ظاهر في رواية الصحيحين، وبين له النبي صلى الله عليه وسلم خطأ اجتهاده.
فلا يمنع أن يكون غيره من الصحابة ممن لم يطلع على الأحاديث المبينة المفسرة للآية قد اجتهد كهذا الاجتهاد، وينبغي على طالب العلم دائماً أن ينظر إلى نصوص الكتاب والسنة الصريحة، فيعمل بها، ويلقى الله عز وجل بحجة بينة واضحة؛ فإن قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] وحديث السنة في الصحيحين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الفجر قال: (لا أن يقول هكذا، وإنما يقول هكذا وهكذا) أي: ينتشر، كل ذلك يدل على أنه ينبغي عليك الرجوع إلى تبين الفجر، وأنه بمجرد تبين الفجر ودخول وقت الفجر يحرم على الإنسان أن يأكل أو يشرب.
هذا هو الذي دل عليه ظاهر الكتاب والسنة، ويلقى المسلم ربه بنص صحيح صريح من الكتاب والسنة.
وأما الأحاديث المحتملة المختلف في أسانيدها، وآثار الصحابة، فقد كان أئمة السلف وقول الجماهير كلهم على هذا، وعمل جماهير السلف رحمة الله عليهم على: أن العبرة بتبين الفجر، وأنه إذا تبين حرم الأكل والشرب.
وبناءً على ذلك: نقول بهذا القول الذي درج عليه أئمة سلفنا الصالح، مع أنه أسعد بنص الكتاب والسنة، وأوفق دليلاً، وأرعى لأصول الشريعة، وهذا هو المنبغي على طالب العلم الذي يريد أن يلقى الله عز وجل بحجة بينة.
وأما من احتج باجتهاد الصحابة فنعتذر لهم بأن الصحابي ربما لم يبلغه النص، ولا نستطيع أن نعدل عن نص كتاب ربنا وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه الصحيحة الصريحة في تحديد الأكل إلى حال التبين؛ لأن ذلك مما يعتبر خلاف الأصل.
والله تعالى أعلم.(104/23)
حكم من سافر إلى بلد متأخر في الصيام عن بلده الأصلي
السؤال
لو أن رجلاً سافر إلى بلد تأخر صيامه بيوم أو يومين عن بلده الأصلي، فهل يفطر عند تمام الثلاثين، أم يعمل بميقات البلد الذي هو فيه أثابكم الله؟
الجواب
من سافر إلى بلد فإنه يعتبر حال أهل البلد الذي يسافر إليه، فإن كان البلد متقدماً أو متأخراً فعليك أن تفطر معهم تقدماً أو تأخراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فطركم يوم تفطرون) فجعل الفطر لعامة المسلمين.
وبناءً على ذلك: تتأقت بهذا التأقيت الذي طرأ عليك، فإن كان هناك زيادة كأن يكون هذا البلد تأخر -كما ورد في السؤال- فحينئذٍ ستزيد يوماً أو يومين؛ لأن فطرك مع فطرهم، ويعتبر شهرك كشهرهم، والعبرة في فطرك بموافقتهم.
وأما إذا كان هناك نقص فبلغ عدد الأيام ثمانية وعشرين يوماً، فإنك في هذه الحالة تقضي يوماً واحداً، فتفطر معهم يوم العيد ثم تقضي يوماً واحداً، ويعتبر على أصح قولي العلماء.
وقال بعض العلماء: تقضي يومين؛ لأن الشهر يكون ثلاثين يوماً.
وقال بعضهم تقضي يوماً واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشهر هكذا وهكذا) وعقد تسعاً وعشرين وثلاثين، فاليقين أنه تسع وعشرون، والثلاثون في بعض الأحوال، والأقوى: أنه يقضي يوماً واحداً، والأحوط: أنه يقضي اليومين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(104/24)
شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [3]
مما يفسد الصوم ويوجب الكفارة: الجماع في نهار رمضان، فمن جامع امرأته في نهار رمضان وجب عليه الكفارة، وهي عتق رقبة، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، وهناك أحكام ومسائل متعلقة بالجماع في نهار رمضان وكفارته ذكرها الشيخ وفصَّل فيها في هذه المادة.(105/1)
مسائل في الجماع في نهار رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ومن جامع في نهار رمضان في قُبُل أو دبر فعليه القضاء والكفارة].
فإن الله حرم على الصائم أن يجامع زوجته، ولذلك يعتبر الجماع موجباً لفساد الصوم، وقد ذكرنا أدلة الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة على تحريم ذلك على الصائم.
وبقي
السؤال
لو وقع هذا الإخلال من الصائم فما حكمه؟(105/2)
الجماع المعتبر في إيجاب الكفارة
فقال رحمه الله: (ومن جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر).
هذا الفصل خصه المصنف رحمه الله بالإخلال بالصوم من طريق الشهوة، وابتدأ بالشهوة الكبرى لورود النص بالعقوبة فيها، ثم تدرج بعد ذلك إلى المسائل المتفرعة على الجماع في نهار رمضان.
أما بالنسبة لقوله: (ومن جامع) فلا يتحقق الجماع إلا بإيلاج القبل، والعبرة بالحشفة -وهي رأس الذكر- وقد فرع العلماء رحمهم الله على إيلاجها أكثر من ثمانين حكماً، ومنها وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، وذلك بتحقق الإيلاج بالصورة التي ذكرناها.
فقوله رحمه الله: (ومن جامع) سواءً كان جماعه لزوجته الجماع المأذون به شرعاً في الأصل، أو المحرم في الزمان في نهار رمضان، أو كان جماعه وطأً لشبهة كأن يجامع امرأة يظنها زوجته أو يظنها سريّته، أو يكون جماعه بالحرام -والعياذ بالله- كالزنا.
فإن وقع الجماع في مأذون به شرعاً كزوجته، أو معذور به شرعاً من حيث وجود الشبهة كوطء من ظنها زوجة له، فيترتب الحكم بالقضاء إجماعاً، وكذلك بالكفارة.
وأما بالنسبة للزنا -والعياذ بالله- فقد اجتمعت فيه موبقات: أولها: كونه أخل بهذا الركن من أركان الإسلام، وهو: صومه الذي فرضه الله عليه.
الموبقة الثانية: كونه زنى والعياذ بالله.
فيكون هناك عدة إخلالات: أولها: تعمده للفطر، ووقوع الفطر بأشنع صوره وهو الجماع.
وثانياً: كونه والعياذ بالله حرام.
وكذلك الحال لو وقع الوطأ في الدبر، فيستوي الجماع في القبل أن تكون المرأة حية أو ميتة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم: أنه لو حصل الإيلاج بامرأة وهي ميتة فإنه يحكم بكونه مجامعاً إعمالاً للصورة، كما لو جامعها وهي نائمة أو مجنونة، ولذلك يجب عليه القضاء والكفارة، وهكذا بالنسبة لوطء الدبر؛ فإنه يوجب القضاء والكفارة والحد الشرعي على الأصل الذي هو مقرر شرعاً في باب الجنايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.(105/3)
تخصيص الكفارة بجماع نهار رمضان
قال رحمه الله: [ومن جامع في نهار رمضان].
الشافعية والحنابلة على أن الكفارة تختص برمضان، وأما ما عدا رمضان فإنه لا يأخذ حكم رمضان.
وقالت المالكية والحنفية: إن الله عز وجل أوجب على من جامع في نهار رمضان الكفارة، والعبرة بكونه أخل بفريضة الله عز وجل وهو الصوم الواجب، فقاس بعضهم على ذلك قضاء رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر الواجب، فقالوا: لو صام قضاءً عن رمضان، وجامع امرأته في اليوم الذي هو قضاء عن رمضان فإنه تلزمه الكفارة كما تلزم من جامع في نهار رمضان، وقالوا: إن الله عز وجل جعل هذا اليوم بدلاً عن يوم رمضان، ولذلك قالوا: إذا وقع الإخلال في القضاء فهو إخلال كإخلال الأداء، والقاعدة تقول: (القضاء يحكي الأداء) فإذا كان القضاء يحكي الأداء، والشرع نزّل القاضي منزلة المؤدي فإننا كذلك نحكم بأن الإخلال بالقضاء كالإخلال بالأداء.
وأصح القولين والعلم عند الله: القول بعدم وجوب الكفارة على من جامع في قضاء رمضان، وأن الحكم يختص برمضان دون غيره؛ والسبب في ذلك ظاهر النص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه السائل يستفتيه وأخبره أنه واقع أهله في نهار رمضان وهو صائم، أي: والحال أنه صائم، فاجتمع فيه شرط الزمان وهو كونه مجامعاً في نهار رمضان، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، فالأصل ألا نوجب على المكلفين كفارة، ولا نعاقبهم بعقوبة، وتشغل الذمم بأدائها والقيام بها حتى يدل الدليل على ذلك.
فلما دل الدليل على شغل الذمم في نهار رمضان بقي ما عدا رمضان آخذاً حكم الأصل من مطالبته بالقضاء، ولكنه لا يخلو من الإثم، فلو كان في نهار القضاء وجامع أهله أو أفطر متعمداً بدون عذر لا يخلو من الإثم كما نص على ذلك جمع من العلماء رحمة الله عليهم.
قوله رحمه الله: [في نهار رمضان].
خرج من ذلك الجماع في الليل فإنه بالإجماع ليس فيه كفارة، والمراد بالنهار: من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فإذا طلع الفجر الصادق فإنه يبتدئ حكم اليوم الذي أوجب الله صيامه.
قال رحمه الله: [من جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر].
وهذا كما ذكرنا أنه مذهب جمهور العلماء، وخالف بعض الأئمة فقال: من وطأ في الدبر سواءً زوجته أو غيرها فإنه يعتبر مخلاً بالصوم ولا تجب عليه الكفارة.
والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الكفارة عليه، بل هو أشد وأشنع.
ومن هنا يقول الأئمة رحمة الله عليهم: إن الله أوجب الكفارة على من جامع في نهار رمضان في فرج حلال، فنبه بالجماع في الفرج الحلال على ما هو أشد منه، وهو: الجماع في فرج حرام أو وطءٍ في الدبر.(105/4)
حكم من جامع دون الفرج
قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل].
هذه المسألة ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لها وهي: ضابط الجماع من الناحية الشرعية؛ لأن مسائل الجماع تترتب عليها أحكام في العبادات وأحكام في المعاملات، فبعض من الناس يظن أن مجرد مس الفرج للفرج أنه يوجب الغسل، وأنه لو وضع العضو على العضو أنه يجب عليه الغسل، وبعضهم يعتقد أنه لو حصل مس للعضو بالعضو أنه يجب عليه الحد وأنه قد زنى، وهذا كله خلاف الأصل، فالأصل الشرعي: أنه لا يتحقق الجماع إلا بإيلاج رأس الذكر وهو الذي حده العلماء-رحمة الله عليهم- بقولهم: بإيلاج الحشفة، وهي رأس الذكر أو قدرها من مقطوعه، ولذلك لا يثبت حد الزنا إلا إذا سأل القاضي وتحقق أنه قد حصل إيلاج لهذا القدر.
وبناءً على ذلك نبه الشرع على هذا بقوله: (إذا مس الختان الختان -وفي رواية: إذا جاوز الختان الختان.
وفي رواية: إذا التقى الختانان- فقد وجب الغسل) وكل ذلك -كما يقول الأئمة رحمة الله عليهم- يُعتبر من باب التنبيه على إيلاج رأس العضو، فلو كان مقطوع الرأس فقدره حكماً؛ لأن الشرع ينزِّل الشيء بالتقدير عند العجز عن الشيء بعينه، فإذا كان يتعذر فيه ذلك الشيء لقطع أو خِلقة لم يوجد فيه فإنه يُنَزَّل قدرها من مقطوعه.
بناءً على ذلك: إذا حصل الإيلاج لهذا القدر ثبت الحد وثبت الإحصان، بمعنى: لو أن رجلاً تزوج امرأة ودخل عليها، وحصل منه إيلاج برأس العضو فقط ولو لم تفتض البكارة فإنه يثبت كونه ثيباً (محصناً) ويعطى حكم الثيب، وإذا زنى يرجم ولا يجلد كالبكر، فهناك ثمانون حكماً كلها مفرعة على هذه المسألة، ونحن نذكرها ونبينها لترتب الأحكام الشرعية عليها، فلابد من حصول هذا القدر، فقوله رحمه الله: (ومن جامع) هنا المراد به تحقق هذا الشرط.
وأما قوله: (ومن جامع في غير القبل والدبر) كما هو الحال في المفاخذة -كما يسميها العلماء- أو المباشرة دون إيلاج، فهذه في الأصل الشرعي لا تسمى مجامعة، فالمجامعة لا تتحقق إلا بالإيلاج لكنها في الصورة مجامعة؛ لأن الجماع سمي جماعاً من الاجتماع.
المقصود: أن المصنف رحمه الله تجوز في هذه العبارة وقال: (ومن جامع في غير القبل والدبر) فلا يحصل الجماع في غير القبل والدبر، ولكنه تَجَوّز في العبارة، وإلا لو وقع الجماع لثبتت الكفارة، وإنما الصورة هنا: ألا يقع الجماع، كأن يضع العضو على العضو دون إيلاج، أو مثلاً يضعه مفاخذة كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، فهذا كله لا يوجب الكفارة، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم.
وذهب المالكية إلى أن من فاخذ امرأته أو استمنى بيدها أنه يعتبر منتهكاً لحرمة شهر رمضان، والشرع أوجب الكفارة على من جامع أهله في نهار رمضان ليس من الجماع فقط؛ وإنما للجماع ولكونه انتهك حرمة شهر رمضان، فاستوى عندهم أن يكون قد جامع أو يكون باشر امرأته ثم أنزل بمفاخذة أو غير ذلك حال المضاجعة.
فعندهم يجب عليه في هذه الحالة أن يُكَفِّر؛ لأنه قد حصل المحظور من انتهاك حرمة الشهر بالفطر عمداً بالإنزال، وهكذا بالنسبة للمفاخذة وما في حكم ذلك من صور الاستمتاع.
المصنف رحمه الله يتكلم على مسألة شرعية دلت النصوص عليها وهي: وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، يلزمه حينئذٍ أن يتكلم عن الصور التي لا تتحقق بها المجامعة، وكأنه حينما يبين لك حكم المفاخذة والمضاجعة بدون إيلاج كأنه يضع لك الحدود التي إذا وصل المكلف إليها وجبت عليه الكفارة، وإذا لم يجاوزها ولم يصل إليها فإنه يعتبر مطالباً بالقضاء إذا حصل إنزال، ولا تجب عليه الكفارة لما ذكرنا.
قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل، أو كانت المرأة معذورة].
هذا هو الشرط، لكن لو جامع دون الفرج كأن فاخذها وضاجعها ولكن لم يحصل إيلاج ولا إنزال فيعتبر صومه صحيحاً، ولو حصل منه مذي فإننا قدمنا أن الصحيح أنه لا يوجب الكفارة ولا يوجب القضاء، فالمذي والمني لا يوجب كفارة، ولكن يختص المني بإيجاب القضاء، وأما المذي فيه التوبة والاستغفار، ولا شيء على المكلف من جهة العقوبات والكفارات.(105/5)
إذا كانت المرأة معذورة في جماع زوجها لها في رمضان
[أو كانت المرأة معذورة].
إذا كانت المرأة معذورة في الجماع فإنه لا يجب عليها كفارة، وتعذر المرأة بالإكراه، والأصل أنه لا يجوز لها أن تمكّن الزوج منها في نهار رمضان؛ لأن الله حرم عليها أن تستمتع بهذه الشهوة، وحرم على الزوج أن يستمتع بها، وحينئذٍ إذا طاوعته أعانته على الإثم والعدوان، وعلى انتهاك حد الله عز وجل وإصابة حرماته، ومن هنا يجب عليها أن تدفعه، بل قالوا: تدفعه بقدر ما تستطيع، حتى ولو أنه حاول فرمته وألقته على الأرض لم يكن عليها شيء، وتنصحه وتذكره بالله عز وجل وتعظه بلسانها، فإن طاولها وأرادها بفعله فإنها تدفعه بيدها وبرجلها ما استطاعت؛ شريطة ألا يحصل الضرر، بل قال بعض العلماء: حتى ولو حصل ضرر؛ لأنه هو المتعاطي للسبب في الإخلال بحد الله عز وجل والانتهاك لحرمته، فيجوز لها أن تدفعه، ولو كان ذلك بدفعه برجلها أو بيدها ولو حصل ضرر، قال بعض الأئمة: إنها تعذر في هذا الضرر، وتعتبر هذه الصورة من الصور المستثناة في إعراض المرأة عن طاعة زوجها؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فهذه معصية لله سبحانه وتعالى، بل متعلقة بفرض وركن من أركان الإسلام وهو الصيام.
ولذلك: ينبغي عليها أن تتعاطى الأسباب في دفعه، فإذا كانت مغلوبة على أمرها -كأن تكون نائمة أو مكرهة- فغالبها فوقع عليها ولم تستطع دفعه، فقالوا: إنها في هذه الحالة تعذر، وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان بعضهم يُفَصِّل ويفرق بين مسائل الجماع وبين مسائل الزنا في إكراه المرأة كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الخلاف بين الجمهور والحنفية في ضابط إكراه المرأة في مسألة الزنا.
فالمقصود: أنها تدفع وترد زوجها ما أمكنها، فإن غلبها فلا كفارة عليها؛ ولكن عليها القضاء لحصول الشهوة واللذة ولا تلزمها الكفارة.(105/6)
حكم جماع من نوى الصوم في سفره
قال رحمه الله: [أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة].
رجل سافر وكان قد نوى أول اليوم أن يصوم، فقال بعض العلماء: لماذا ذكر نية الصوم؟ لأن بعض العلماء يفرق في المسافر بين أن ينوي أو لا ينوي، فإذا نوى السفر ونوى الفطر فلا إشكال، لكن لو نوى الصوم ونوى السفر، قال: إنه مسافر غداً إلى المدينة مثلاً، فلما نوى أصبح وفي نيته أن يصوم، قالوا: يلزمه أن يتم صومه، ففي هذه الحالة لو تلبس بالرخصة -وهي حال السفر- وخرج من مكة وجاوزها وأفطر، ثم أراد أن يجامع زوجته وهما في حال السفر فلا شيء عليه؛ لأنه معذور، وفي هذه الحالة لا يعتبر مفطراً بالجماع على وجه محرم، وإنما أفطر على وجهٍ يعذر فيه شرعاً.
لكن لو دخل المدينة -يستوي في ذلك أن يكون دخوله للمدينة آخر النهار أو وسط النهار- أو وصل إلى بلده فهل يُمسك ولا يجوز له أن يجامع أم يجوز له أن يجامع؟ جمهور العلماء على أنه يجب عليه الإمساك، وقد ذكرنا هذه المسألة وذكرنا دليلها الصحيح من حديث صوم يوم عاشوراء، وبينا الوجه الذي استند العلماء رحمة الله عليهم فيه على تحريم الأكل والشرب في هذه الحالة، فإذا أكل أو شرب فإنه يأثم، ولو جامع زوجته في هذه الحالة بعد أن استقر أو وصل إلى مدينته أو نزل، فقال بعض العلماء: إنه لا تلزمه الكفارة، ولكنه يعتبر آثماً على القول بوجوب الإمساك.
أما عند من لا يرى وجوب الإمساك بقية اليوم ويقول: قد أفطر وأصبح مفطراً فإنه لا يرى عليه إثماً، ولا يلزمه بالاستغفار والتوبة.
فتلخص من هذا: أن المسافر إذا قدم قبل نهاية اليوم وكان قد أفطر في سفره فإنه يلزمه الإمساك بقية اليوم، فإن وقع منه الجماع في هذه البقية من اليوم فللعلماء وجهان: منهم من يقول: لا حرج عليه ولا إثم، بل لو شاء أن يجامع اختياراً لا حرج عليه.
ومنهم من يقول: إنه يجب عليه الإمساك، فإذا جامع أهله فإنه يعتبر آثماً شرعاً، وعليه التوبة والاستغفار، ولكن لا تجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يفطر بجماع على الوجه المحظور.(105/7)
كفارة من كرر الجماع في نهار رمضان
قال رحمه الله: [وإن جامع في يومين أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية وفي الأولى اثنتان].
جامع امرأته متعمداً في اليوم الأول، وجامعها في اليوم الثاني، فهذا جماع تكرر في يومين وفي محلين مختلفين، قد أوجب الله عز وجل عليه صيام اليوم الأول وصيام اليوم الثاني، فانتهك الحرمة في اليوم الأول وانتهك الحرمة في اليوم الثاني فعليه كفارتان، سواء كفّر عن اليوم الأول أو لم يكفر، فعليه كفارتان.
وأما لو جامع في اليوم الواحد وتكرر منه الجماع في اليوم الواحد فإنه لا تجب عليه إلا كفارة واحدة، سواء كفر عن الجماع الأول أو لم يُكَفِّر.
مثال ذلك: لو جامع امرأته أول النهار، ثم جامعها وسط النهار، ثم جامعها آخر النهار قبل غروب الشمس، فهذه ثلاث مرات، فتجب عليه كفارة واحدة؛ لأنه قد أفطر وحصل الإخلال بالجماع الأول، وتلزمه الكفارة من ثم، وأما بقية اليوم فإنه لا تلزمه فيه كفارة هذا بالنسبة للجماع.
من الصور التي ذكرها العلماء: لو جامع أربع زوجات في يوم واحد فإنه تلزمه كفارة واحدة بالنسبة لنفسه، أما بالنسبة للنساء فعلى التفصيل الذي ذكرناه في المرأة: أن المرأة إذا طاوعت واختارت فعليها كفارة غير كفارة زوجها، وأما إذا كانت دافعت ومانعت فمن العلماء من يقول: إنه يجب عليه أن يكفر عنها، ومنهم من يقول: لا تجب عليه الكفارة على ظاهر حديث الذي جامع امرأته في نهار رمضان وهو صائم.
[أو كرره في يوم ولم يكفر، فكفارة واحدة في الثانية، وفي الأولى اثنتان].
قال بعض العلماء: إن جامع أكثر من مرة في يوم واحد نظرنا: فإن كفر عن الجماع الأول لزمته الكفارة عن الجماع الثاني، وهذا مذهب مرجوح.
والصحيح: أنه إذا كرر الجماع في اليوم الواحد ولو عشر مرات فإنه تلزمه كفارة واحدة، ولكنه في إخلاله بحق الله عز وجل قد تكرر إخلاله عشر مرات، ولذلك عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل من هذا الوجه، وأما بالنسبة للكفارة فلا تلزمه إلا كفارة واحدة، ولا يلزمه إلا القضاء والكفارة ليوم واحد.
والذين يقولون: إنه تتكرر الكفارة يقولون: إذا كفر عن الجماع الأول، وحصل الجماع الثاني بعده فعليه كفارة ثانية، كأن يجامع في أول النهار في الساعة الثامنة صباحاً، ثم يكفر في الساعة العاشرة، ثم يجامع في الثانية عشرة وفي الواحدة وفي الثانية وفي الثالثة، قالوا: لما كفر عن الجماع الأول في الساعة العاشرة فإنه يلزم بتكرار الكفارة، وحينئذٍ تلزمه كفارة عن الجماع الثاني الذي وقع منه في بقية اليوم.
والصحيح: ما ذكرناه أن اليوم الواحد له كفارة واحدة، سواء وقع الجماع مرة أو وقع مرات؛ وذلك لأنه إخلال واحد وقد أفطر ذلك اليوم بجماعه الأول، فكأنه بجماعه الثاني والثالث والرابع والجماع المتكرر قد وقع بعد جماعه الأول وهو مفطر ولم يقع وهو صائم، ولذلك لا تجب عليه الكفارة من هذا الوجه.
قال رحمه الله: [وإن جامع ثم كفر، ثم جامع في يومه فكفارة ثانية].
الصحيح: أنه ليس عليه كفارة ثانية، وأن الكفارة الأولى تغنيه؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، ووقع جماعه الثاني وهو مفطر، وشرطه: أن يقع جماعه وهو صائم.(105/8)
حكم جماع من لزمه الإمساك بقية اليوم
قال رحمه الله: [وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع].
كما ذكرنا في من وصل إلى مدينته وقد بقي شيء من اليوم، قالوا: يعتبر في حكم الصائم، فلو وقع منه جماع في بقية اليوم تلزمه الكفارة، والصحيح ما ذكرناه وأشرنا إليه سابقاً أنه لا تلزمه الكفارة؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، وإنما تجب الكفارة على من صام لا على من أفطر.(105/9)
حكم من جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر
قال رحمه الله: [ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط].
بعد أن بين لنا رحمه الله وجوب الكفارة بالجماع، يرد
السؤال
لو تكرر الجماع ما الحكم؟ فقال لك: إما أن يتكرر في أيام متكررة أو يتكرر في يوم واحد، فإن تكرر في يوم واحد إما أن يكفر عن الجماع الأول أو لا يكفر، فبين حكم هذه الصور كلها.
ثم شرع رحمه الله في مسألة وهي: لو أن إنساناً جامع امرأته في رمضان من أول النهار وهو غير معذور بالفطر، فجامع ووقع منه الإخلال على وجه تلزم به الكفارة، وقبل أن تغيب الشمس طرأ عليه عذر يُعذر فيه بالفطر كما لو جنّ أو سافر أو مرض، فهل نقول: بأن العبرة باليوم كاملاً إلى تمامه؟ فإن قلنا: العبرة باليوم إلى تمامه وكماله فحينئذٍ هذا اليوم يباح له الفطر بالجنون وبالسفر وبالمرض، ولم يوجب الله عليه صيامه؛ لأن أمره إلى الرخصة؛ فتسقط عنه الكفارة من هذا الوجه.
وهذا وجه شاذ عند العلماء، يحكى في مذهب الشافعية رحمة الله عليهم؛ لكن عندهم تفصيل أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة.
والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أن من جامع في أول اليوم ثم طرأ عليه عذر يبيح له الفطر أنه تلزمه الكفارة؛ لأن الإخلال وقع في صورة هو مكلف فيها، وقد حصل الإخلال والانتهاك لحد الله عز وجل، وأنت ترى أن المجامع في نهار رمضان لما يعاقب هذه العقوبة إنما عوقب للزجر عما وقع منه من الجرأة على حدود الله، والجرأة قد وقعت في أول اليوم، ولا عبرة بطروء العذر بعد ذلك، ومن هنا طروء الأعذار لا يؤثر، وهذه من صور مسائل طروء الأعذار التي توجب زوال الحكم أو زوال الوصف، ولها نظائر كثيرة، منها: لو حكم القاضي ثم جن ولم ينفذ الحكم، ومنها لو أن الشهود شهدوا عند القاضي ثم ماتوا، أو شهدوا ثم جنّوا، أو شهدوا ثم فسقوا وطرأ عليهم فسق بعد الشهادة وثبوتها عند القاضي، هذه كلها مسائل تسمى مسألة طروء العذر، وهذه تقع في العبادات والمعاملات، فتارة يعتبر الطروء مؤثراً وتارة لا يعتبر مؤثراً، وسنذكر جملة من هذه المسألة إن شاء الله إذا جاء كتاب القضاء، وقد تتخلل هذه المسألة في بعض أبواب المعاملات المالية.
لكن الذي يعنينا هنا: أن الشرع قصد عقوبة هذا المخالف بانتهاكه لحدود الله عز وجل، وقد انتهك حد الله عز وجل وجاوز الحدود بجماعه لامرأته في حال تكليفه وحال مؤاخذته؛ فثبتت وتعلقت بذمته الكفارة.
أما كونه يطرأ له العذر آخر النهار أو يطرأ له العذر ولو بعد الإخلال بلحظة فهذا كله لا يؤثر؛ لأن العبرة بالحال والابتداء لا بالانتهاء في هذه الصورة، ومن هنا تلزمه الكفارة حتى ولو طرأ عليه العذر.(105/10)
الإفطار بغير الجماع لا يوجب كفارة
قال رحمه الله: [ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان].
فلا تجب بالاستمناء، ولا تجب بالمفاخذة وغير ذلك من صور الاستمتاع، فلا تجب إلا بالجماع، ولا تجب أيضاً إلا في صوم رمضان أداءً لا قضاءً، فلا يدخل في ذلك حكم الواجبات، وقد أشرنا إلى هذه المسألة والخلاف بين الحنفية والمالكية من جهة، وبين الشافعية والحنابلة من وجه آخر، ولذلك يأخذها طالب العلم كقاعدة أو ضابط، يقولون: لا كفارة على الصائم إلا إذا وقع جماع في رمضان.
فلا تلزمه الكفارة إذا كان في غير رمضان ولو كان صوم فرض، ولو كان قضاءً عن رمضان، ولا تلزمه في غير الجماع كما لو قلنا في الاستمناء ونحو ذلك، فهذا لا تجب فيه الكفارة؛ لأن المذهب عندهم متعلق بصورة معينة، وهذه المسألة تعتبر من مسائل القياس في الكفارات، وهذه مسألة أصولية، فالشافعية والحنابلة لا يرون القياس في هذه المسألة، والمالكية والحنفية يرون القياس، والعلة عندهم انتهاك حرمة الشهر.
فكأن الذين قالوا بوجوب الكفارة في غير رمضان يرون أنه إذا صام قضاءً أو صام واجباً فإنه ينتهك الحرمة كما ينتهكها من جامع في نهار رمضان، ولا فرق، فهذا صوم فرضه الله وهذا صوم فرضه الله، فاستوى أن يكون من رمضان أو غير رمضان.
ثم قالوا أيضاً: لما كانت العبرة بالشهوة فيستوي أن يخرج منه المني، سواء كان ذلك بجماع أو مفاخذة أو غيرها كالاستمناء، وقالوا أيضاً: يستوي عندنا الجماع وغيره مما تحصل به اللذة أو يحصل به الإنزال، فنوجب عليه القضاء والكفارة من هذا الوجه.
والصحيح: ما ذكرناه من الاقتصار على مورد النص؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها وإلزام الكفارة بها، وهنا قوي الدليل على البقاء على الصورة التي ورد السؤال عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزم فيها المجامع بالكفارة، فنقتصر عليها دون غيرها.(105/11)
أحكام كفارة الجماع في نهار رمضان
قال المصنف رحمه الله: [وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت].(105/12)
عتق الرقبة وما يشترط فيها
[وهي عتق رقبة] قوله: (وهي) تعود على الكفارة، والرقبة منهم من يشترط فيها الإيمان قياساً على رقبة كفارة القتل.
وهذه المسألة من المسائل التي يختلف العلماء فيها، فالأمر بعتق الرقبة يأتي على صورتين: صورة يكون فيها مقيداً كما في صورة كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] فاشترط الله عز وجل أن تكون الرقبة مؤمنة.
وصورة ترد الرقبة مطلقة كما في آية المظاهر من امرأته، وكذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (أتجد رقبة أو أعتق رقبة) كما في الروايات، فهذا الإطلاق للعلماء فيه قولان ومذهبان: منهم من يقول: المطلق هنا -في مسألة المجامع في نهار رمضان- أحمله على المقيد الوارد في كفارة القتل، فلا كفارة بالعتق إلا إذا كانت الرقبة مؤمنة.
واستدلوا بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام لما سأل الجارية فقال: (أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة).
فقوله: (فإنها) جملة تعليلية أي: لأنها مؤمنة، فكأنها لو لم تكن مؤمنة ما أمره بعتقها، وهذا من جهة النظر له وجهه، يعني: إذا جئت تنظر إلى النصوص وتراها له وجهه؛ لكن الأولين يجيبون عن هذا ويقولون: إن الرجل أراد أن يُعْتِقَ اختياراً لا إيجاباً وإلزاماً، فلما أراد أن يعتق باختياره فالأفضل والأكمل أن تكون الرقبة مؤمنة؛ حتى يكون عتقها معيناً لها على الطاعة والخير؛ فيتحقق المقصود من عتق النافلة.
وأما عتق الفريضة فالمراد به حصول العتق والغرم المالي، فإن الإنسان يغرم بفوات عبيده؛ لأنه كانت العبيد بمثابة الأموال، وينتفع الإنسان بهم ويرتفق، فيتضرر بماله، كما أُلزم عند فقدها والعجز عن الصيام شهرين متتابعين بإطعام ستين مسكيناً، وهذا غرم مالي.
فقالوا: المقصود أن يغرم، وحينئذٍ لا يحملون المطلق على المقيد، ويقولون: لو كان عتق المظاهر يشترط فيه الإيمان أو عتق الكفارة في نهار رمضان يشترط فيها الإيمان لنبه الشرع على ذلك ولم يسكت عنه، فكيف هناك يقول: (تحرير رقبة مؤمنة) وهنا يطلق؟! قالوا: فلو كان مقيداً بوصف الإيمان لقيده.
وهذا المذهب يقويه أن عتق الرقبة المؤمنة في القتل له قصد وذلك أن من أعتق رقبة أُعتق بها من النار، حتى يعتق العضو بالعضو، كما جاء في الخبر، حتى إن الفرج يعتق بالفرج.
ومن هنا قالوا: لما كان القاتل كأنه أورد نفسه النار بقتله لأخيه المسلم، فإنه حينئذٍ يكفر بعتق الرقبة المؤمنة، وكأنه يعتق نفسه من النار، وأشكل على هذا: أنها كفارة خطأ، والقاتل ليس بمتعمد، فقالوا: الخطأ لا يخلو من تقصير؛ لأن القاتل خطأً لو تحرى وتفقد لما وقع منه ذلك، ولذا لزمته الكفارة لوجود التقصير والإخلال.
فمن هنا قالوا: يجبر هذا الإخلال بكونه يعتق الرقبة المؤمنة حتى يُعْتَق بها من النار، وأيّاً ما كان فالقول بعدم التقييد له قوة وله وجاهة لإطلاق النصوص، وحمل المطلق على المقيد أحوط القولين، لكن القول بالإطلاق من القوة بمكان، وعلى هذا فيلزمه عتق الرقبة.
وعتق الرقبة يستوي فيه أن تكون صغيرة أو كبيرة، ويستوي فيها حتى لو كانت صبية صغيرة في عتق رقبة القتل، وإذا كانت مولودة من أم مؤمنة فإن الصبيان يلتحقون بأمهاتهم، فإذا كان والداها مؤمنين فإنه حينئذٍ يعتق هذه الرقبة وتكون موصوفة بكونها مؤمنة.
وهذا الوصف لصبيان المسلمين بالإيمان يسميه العلماء الوصف التقديري، وقد تكلم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس "قواعد الأحكام" في مسألة التقديرات، قال: التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود، ومن أمثلته الصبيان إذا كانوا في ديار المسلمين فإننا نعطيهم حكم الإسلام، فمن وجد لقيطاً في بلد مسلم أعطاه حكم أولاد المسلمين، ومن وجد لقيطاً في بلد كافر أعطاه حكم أولاد الكافرين لماذا؟ من باب التقدير؛ ولكنه وإن لم يكن حقيقة أنه يحكم له بالإيمان لكنهم يقولون: من باب التقدير.
إضافة إلى أن النص يقول: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) فهم يقولون: إن الأولاد يتبعون الوالدين تقديراً من باب الأحكام الشرعية، فهنا لو أراد أن يعتق رقبة ولو كانت صغيرة فإنه يجوز عتقها.
وهذا القول اختاره أئمة منهم الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله عليه في تفسيره، وعلى هذا فيجوز عتق الصغار من أولاد المسلمين إذا كانوا أرقاء، ويكون لها وصف الإيمان بالحكم التقديري.
وهنا لو جامع امرأته في نهار رمضان فأعتق صبياً أو صبية أجزأه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعتق رقبة.
وفي رواية: أتجد رقبة؟) فهذا فيه إطلاق فشمل الذكر والأنثى، فالرقبة التي تعتق تشمل الذكور والإناث، فلو أعتق جارية صح وأجزأه، ولو أعتق ذكراً صح وأجزأه، فكل يجزئه؛ لأن الشرع أطلق.
وهذه الرقبة اختلف العلماء: هل يشترط سلامتها من العيوب أو لا يشترط؟ فبعض العلماء يقول: لا يصح العتق إلا إذا كانت سالمة من عيوب النقص، وعيوب النقص تكون في الأخلاق وفي الجسد؛ لأن العيوب في الأرقاء تنقسم إلى قسمين: عيوب مؤثرة، وعيوب غير مؤثرة.
فالعيوب غير المؤثرة هي العيوب اليسيرة التي لا يتوقف عليها مصلحة الانتفاع بالرقيق، وهكذا لو كانت عيوباً مثل أن يكون لا يعرف الكتابة ولا يعرف القراءة، فهذا ليس بعيب مؤثر؛ لأنه لا يمنعه من الانتفاع به في مصالح خدمته.
لكن العيوب المؤثرة والتي هي النوع الثاني تنقسم إلى قسمين أيضاً: نقص الجسد أو العيب الخُلقي، فإما أن يكون عيباً خِلْقياً وهو نقص الجسد كالشلل والعمى والعرج، فهذا نقص خِلقي.
والنوع الثاني: النقص الخُلقي، كأن يكون مجنوناً فإنه لا يستطيع أن يضبط مشاعره ولا أن يضبط أقواله وأفعاله وتصرفاته، فهذا النقص الذي هو الجسدي أو الخُلقي إذا وجد في الرقيق فبعض العلماء يقول: لا يجزئه، ويشترط أن تكون الرقبة كاملة سالمة من العيوب.
وبعض العلماء يقول: لو أعتق مشلولاً أجزأه، ولو كان أعمى أو كان مجنوناً كل ذلك يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعتق رقبة) وهذا مطلق يشمل الرقبة الكاملة والناقصة.
وفي الحقيقة: لا شك أن المذهب الذي يرى كمال الخلقة وسلامة الإنسان من العيوب المؤثرة هو أسلم وأحوط وأولى بالاعتبار.(105/13)
صيام الشهرين المتتابعين وما يشترط فيه
[فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين].
الرقبة إذا كان الإنسان لا يجد قيمتها وأعطيت له هدية ونحلة، فإنه حينئذٍ يكفر بعتقها، ولو جاءته على سبيل الهدية فإنها تجزئه، وإذا ملكها قبل أن يشرع في الصوم فإنه يجب عليه أن يكفر بعتق الرقبة؛ لأنه قال: (فإن لم يجد) فكفارة الجماع في نهار رمضان مرتبة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وأفتى بعض العلماء بالانتقال إلى صيام شهرين متتابعين مع إمكان العتق، وفعل ذلك استحساناً كما حصل للإمام الحافظ المحدث يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس الليثي رحمة الله عليه في قصته مع عبد الرحمن الأموي والي الأندلس، فإنه استفتاه في الجماع في نهار رمضان، فقال: تصوم شهرين متتابعين.
وكان إمام القضاة في زمانه، ولما أفتى بهذه الفتوى عجب العلماء الذين معه وسكتوا هيبة له، وظنوا أن له مساغاً من الاجتهاد، فلما خرج راجعوه فقال: إننا لو قلنا له: اعتق رقبة لجامع وخف عليه الأمر، وهان عليه كل يوم أن يجامع ويعتق رقبة، وأما إذا أمرته بالصيام فإنه يحفظ حدود الله ومحارمه أن ينتهكها، فأمرته بالصوم لعظيم مشقته عليه؛ ولأنه أمكن لزجره من الوقوع في هذا المحظور.
والحقيقة: هذه الفتوى مردودة وباطلة، وقد نبه العلماء وأئمة الأصول على ذلك، حتى إن صاحب المستصفى ذكرها مثالاً للتعليل الباطل والفاسد؛ لأنها في مقابل النص، والشرع إذا أمر بالعتق نأمُر بالعتق، وليس لأحد أن يجاوز حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا وجه لهذا الاجتهاد ولمثل هذه الاستحسانات.
ولا شك أن الأصل يلزمنا أن نأمره بالعتق ولو كان قادراً على العتق، ولو كان غنياً؛ لأن الله أعلم بخلقه وأحكم في حكمه سبحانه وتعالى، وهو يعلم أن هناك الغني الذي لا يضره أن يعتق الرقاب ولو جامع كل يوم، ولكننا نقول بما أمرنا الله عز وجل به من الفتوى، وما ثبت به النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا ننبه على أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب الاستحسانات والآراء المصادمة للنصوص، وأنه ينبغي على المسلم أن يتقيد بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في الفتوى والقضاء ونحو ذلك من الأمور التي يكون فيها الإنسان مؤتمناً على شرع الله عز وجل.
فليس لأحد كائناً من كان أن يُدْخِل في دين الله عز وجل ما ليس منه ولو كان برأي واستحسان، ولذلك قال الإمام الشافعي: (من استحسن فقد شَرَّع).
وكان أئمة السلف رحمة الله عليهم يشددون على أهل الرأي من هذا الباب: إذا كان الرأي فاسداً مصادماً للنص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن الآراء التي يفهمها الإنسان من النص فهذه آراء شرعية بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم) وبدليل قوله: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فأنت تفهم من قوله: (يفقهه) أي: يفهمه، فمعنى ذلك أنه نظر في النص ففهم شيئاً، فهذا يدل على أن الرأي إذا استخلص من الشرع فحي هلاً ونعمَّا به، والإنسان مجزيٌ عليه خيراً؛ إن أصاب كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجر واحد.
أما أن يأتي شخص إلى نص عنده في الكتاب والسُّنة، ويرى الواقع أو الحياة تقتضي أن يغير النص، أو يأتي بشيء أثقل حتى يكون أزجر، فهذا كله من المصادمة لشرع الله عز وجل والتعدي لحدوده، ولا يجوز للمسلم أن يتقحّم النار على بصيرة، فيفتي بهواه ورأيه في دين الله عز وجل حيث يؤتمن على الفتوى أو يؤتمن على قضائه، فهذا أمر ينبغي الحذر منه، فأي شيء تعلم أن فيه نصاً في الكتاب والسُّنة، وأن الشرع ألزمك بهذا النص فلا تتقدم ولا تتأخر؛ لأنك كقاضٍ أو مفتٍ أو معلم لا يجوز لك أن تتجاوز ما علمت، والذي علمته من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تخبر به، فإن خرجت عن الكتاب والسنة إلى محض رأيك واجتهادك، وخالفت ما نص الله عليه في كتابه أو نص عليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- عين الهلاك، والضلال، ولا يجوز للمسلم أن يترك هذه المحجّة التي دل عليها نص الكتاب والسُّنة.
وهذا أمر مهم جداً لطلاب العلم، فينبغي عليهم دائماً أن يضعوا نصب أعينهم أنهم مؤتمنون على شرع الله عز وجل، ولا يجوز لطالب العلم أن يستحسن أو يصوب شيئاً ويجتهد فيه إلا إذا أذن له الشرع بالرأي والاجتهاد.
قال رحمه الله: [فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين].
فإن لم يجد عتق الرقبة ولم يستطعها يصوم شهرين متتابعين.
والشهران لهما صورتان: الصورة الأولى: أن يستفتح الشهر من أوله، كأن يبدأ من أول شهر محرم أو شهر صفر أو شهر ربيع، فإذا ابتدأ بأول محرم فحينئذٍ العبرة بالشهر ناقصاً أو كاملاً، فلو ابتدأ من محرم وتبين أن محرماً تسعة وعشرون يوماً فقد صام شهراً، وحينئذٍ إذا انتهى شهر صفر فقد تمّ صيامه وأدى الكفارة على وجهها ولو صام ثمانية وخمسين يوماً -تسعة وعشرين لشهر محرم، وتسعة وعشرين لشهر صفر- أجزأه ذلك، وهذا بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) فأشار بيده في الأول إلى الثلاثين، وفي الثاني عقد الإبهام تسعة وعشرين، فدل على أن من صام تسعة وعشرين يوماً ورئي الهلال للشهر الأول والشهر الثاني فإنه حينئذٍ يجزئه، ويكون صيامه ثمانية وخمسين يوماً يجزئه عن الكفارة.
الصورة الثانية: أن يستفتح صيام الشهرين المتتابعين أثناء الشهر، كأن يبدأ في العاشر من محرم، فإذا ابتدأ في العاشر من محرم لا يتم شهره الأول إلا في العاشر من شهر صفر، ولا ينتهي شهره الثاني إلا في العاشر من ربيع الأول، وحينئذٍ يؤقت بالأيام، ويلزمه في هذه الصورة الثانية أن يصوم ستين يوماً كاملة.
بقيت مسألة وهي: لزوم التتابع يعني: هذان الشهران يشترط فيهما التتابع، والتتابع: ألا يفطر فيهما، فلو أفطر قبل إتمامهما بيوم واحد لزمه أن يستأنف العدد من جديد، فلو جاء في يوم تسعة وعشرين من شهر صفر وأفطر فإنه حينئذٍ يلزمه أن يقضي، ويعود من جديد ويصوم الشهرين متتابعين، وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في حديث المجامع لأهله في نهار رمضان، إذ أمره أن يصوم شهرين متتابعين فقال: (يا رسول الله! وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟!) وكان رجلاً لا يصبر عن النساء، فكأنه اعتذر لأنه لا يستطيع الصوم.
فحينئذٍ يلزمه أن يصوم الشهرين متتابعين إذا كان قد أفطر ولو قبل تمامهما بيوم واحد.
لكن بقي
السؤال
لو أنه ابتدأ صيام الشهرين المتتابعين في كفارة الجماع أو كفارة القتل أو كفارة الظهار في شعبان ودخل عليه رمضان فهل يقطع رمضان التتابع؟
الجواب
لا يقطع رمضان التتابع، ويصوم شهر رمضان كاملاً، فإذا انتهى شهر رمضان يرد السؤال: هل يفطر يوم العيد أو لا يفطره؟ فللعلماء وجهان: أصحهما أنه يفطر يوم العيد، ثم بعد ذلك يتم ويبني على ما مضى، فلو صام شهر شعبان كاملاً ثم صام رمضان، فإذا أفطر أثناء رمضان لسفر أو نحوه فلا يقطع التتابع ولا يؤثر فيه حتى يتم رمضان، فإذا أتم رمضان ودخل عليه العيد فإن يوم العيد محرم الصوم، وحينئذٍ لو صام يوم العيد لا يجزئه عن صوم التتابع، وإذا كان لا يجزئه بنص الشرع -لأن الشرع حرم صيام هذا اليوم- فحينئذٍ يسقط عنه صيام يوم العيد، ويصبح يوم العيد هذا وجوده وعدمه على حد سواء.
فحينئذٍ يفطر فيه كما أفطرت المرأة الحائض، فإن المرأة الحائض لا تستطيع أن تصوم ستين يوماً متواصلة؛ لأن الحيض يأتيها في الغالب -أو غالب النساء- فحينئذٍ يكون وجود هذا العذر الشرعي ينزل منزلة العذر الحسي، فلما كان الحيض لا يقطع التتابع لدخوله بغير اختيار المكلف، كذلك دخول يوم العيد لا يقطع التتابع على من ابتدأ في شهر شعبان، فيفطر يوم العيد ثم يتم العدد من بعد يوم العيد، فإذا أتم العدد من بعد يوم العيد لم يقطع تتابعه فطره لذلك اليوم.
والمسألة الثانية: المرأة الحائض والنفساء لا يقطع التتابع حيضها ونفاسها؛ فإنها تصوم الشهرين المتتابعين في كفارتها، وإذا صامت الشهرين المتتابعين وقطع ذلك الحيض فإنها تفطر في أيام حيضها، وصومها تبنيه بعد انتهاء أيام الحيض.
لكن لو أن إنساناً ابتدأ صومه في شهر المحرم، ثم أصابه المرض أثناء صيامه، فهل يقطع المرض التتابع أو لا؟ وجهان للعلماء في ذلك: قال بعضهم: لا يقطع، كما هو الحال في المرأة الحائض، وهذا قوي من جهة النظر.
وقال بعضهم: يقطع؛ لأن العبرة بالصورة وهي التتابع، فيلزمه حينئذٍ أن يستأنف العدد بعد صحته وقوته.
والأقوى: أنه إذا كان المرض يضر به أن يصوم معه فلا يقطع، ويرخص له بالفطر على عدد الأيام التي مرضها، ثم بعد ذلك يبني بعد انتهاء هذه الأيام أعني: أيام فطره بعذر المرض.
قال: (صوم شهرين متتابعين) يصوم شهرين كاملين متتابعين بالصورة التي ذكرناها، قال بعض العلماء: إن الشهرين بمثابة الفدية لهذا اليوم الذي أفطره، ولذلك وجب عليه أن يصوم، فإذا لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، وكأن كل مسكين عن يوم، فأنت إذا نظرت إلى عدد الشهرين فإنه ستون يوماً، والمساكين الذين يلزم إطعامهم ستون مسكيناً، وكل مسكين يأخذ ربع صاع كما سيأتي، فكأنها فدية عن فطر ذلك اليوم، وكأن فطره ذلك اليوم يفديه بصيام الشهرين المتتابعين.
قال بعض العلماء: وفي هذا دليل على تعظيم فرائض الله عز وجل، وأنه لا يجوز للمسلم أن يتساهل في أداء حقوق الله عز وجل، وأنه إذا تساهل فيها وأفطر من دون عذر أو ترك ما أوجب الله عليه من دون عذر، ولو قضى ذلك الشيء فإنه لا ينزل منزلته، خاصة إذا كان متعمداً، ومن هنا ورد حديث أبي هريرة: (من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر ولو صامه) أي: أنه لا ينزل منزلة ذلك اليوم من حيث الفضل وحصول الثواب.(105/14)
إطعام ستين مسكيناً
قال المصنف رحمه الله: [فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً].
فإن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين، وعدم الاستطاعة إما لمرض كإنسان عنده فشل الكلى مثلاً، فهذا لا يستطيع أن يصوم، وقرر الأطباء أنه إذا صام يموت، فهذا يجوز له أن يعدل من الصيام إلى إطعام ستين مسكيناً، وهكذا الحال لو كان شديد الشهوة لا يصبر على النساء، فلو صام لا يستطيع الصبر ستين يوماً؛ رخص له أن ينتقل؛ لأن المجامع قال (وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟!) وقالوا: إنه عدل عن الصيام إلى الإطعام لعدم القدرة على الصبر، وهو شديد الشهوة ومن به شبق، فإذا وجد العذر من المرض، أو وجد العذر من شدة الشهوة وعدم الصبر عن النساء انتقل إلى الإطعام.
(إطعام ستين مسكيناً) يطعم كل مسكين ربع صاع، وذلك لما جاء في رواية الموطأ أن الذي جامع أهله في نهار رمضان أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم ستين مسكيناً، فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجد، فجاء في الحديث: (أتجد ما تطعم به ستين مسكيناً؟ قال: لا).
فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -والعرق: المكتل، مثل ما يسمى في عرفنا اليوم القفّة، وهي القفة الكبيرة تكون من الخوص ونحوه، وهذه القفاف الكبيرة كان الناس في القديم يحملون فيها التمور والثمار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق به.
والعرق فيه خمسة عشر صاعاً، وهذا كما جاء في رواية الموطأ أن العرق كالمكتل فيه خمسة عشر صاعاً، فإذا كان هذا العرق فيه خمسة عشر صاعاً، فمعنى ذلك أنك لو قسمته على ستين مسكيناً فكل مسكين سيكون نصيبه ربع صاع، أي ربع الصاع الذي يخُرج في آخر رمضان، وربع الصاع يسمى المد، وهذا المد هو الصاع النبوي الصغير؛ لأن هناك صاعاً نبوياً صغيراً وكبيراً، فالصغير هو الذي ضبطه العلماء بقولهم: هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وسمي مداً لهذا، فهذا القدر هو قدر المد النبوي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، فإذا أطعم يطعم ستين مسكيناً، لكل مسكين ربع صاع، فإذا فعل ذلك فقد أجزأه.(105/15)
حكم من عليه كفارة إذا لم يجد ما يكفر به
قال المصنف: [فإن لم يجد سقطت].
ولذلك إن لم يجد لفقر وعوز وليس عنده ما يشتري به الطعام ويتصدق به على الفقراء؛ سقطت عنه الكفارة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتكى له المجامع لأهله في نهار رمضان، فلما أتي عليه الصلاة والسلام بعرق أمره أن يأخذه وأن يتصدق به، فقال: (يا رسول الله! أعلى أفقر مني؟! -جاء وهو يشتكي فأصبح الآن يسأل- والله ما بين لابتيها رجل أفقر مني، وفي رواية: أهل بيت أفقر منا).
اللابتان: مثنى لابة، وذلك لأن المدينة بين حرتين، وهي التي تسمى في يومنا هذا الحرة الشرقية والحرة الغربية، فالحرة الشرقية كانت تسمى في القديم حرة واقم، وهي التي وقعت فيها الموافقة أيام يزيد، وفيها قول قيس الرُّقَّيات: فإِنْ تَقْتُلُونَا يَوْمَ حَرَّةِ وَاقِمٍ فِإنا عَلى الإِسْلاَمِ أَوَّلِ مَنْ قُتِلْ الثانية: حرة الوبرة، وهي الحرة الغربية، ومراده: ما بين لابتيها يعني ما بين الحرتين: الحرة الغربية والحرة الشرقية، كأنه يريد المدينة كلها، والسبب في ذلك: أن مساكن المدينة كانت لا تجاوز الحرتين، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذه ويطعمه لأهله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده.
لكن هذه المسألة من خصوصيات هذا الرجل كما نبه العلماء رحمة الله عليهم، وإلا لو أنه أُعطي مكتلاً فلا يصح للعالم أن يقول له: خذه إلى أهلك، ولو أن إنساناً جاء يسألك وعليه كفارة، ثم تصدق عليه أحد بمكتل، وقال: هو فقير، تقول له: تجب عليك الكفارة؛ لأن هذا -كما يقولون- صورة عين، وقضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم.
فهذه سماحة من الشرع ويسر من الله عز وجل أجراه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما نبه الأئمة رحمة الله عليهم في شرح الحديث على أن هذا الحكم يختص بهذا الرجل.
أما من أُهدي له هذا القدر الذي يستطيع به التكفير، أو أعطي مالاً يستطيع به التكفير فقال: أريد أن آخذه لنفسي.
فإنه لا يستحل ذلك، ويجب عليه أن يكفر الكفارة التي أوجب الله وفرض عليه.(105/16)
الأسئلة(105/17)
وجوب الكفارة لأجل الجماع هل وجبت على المرأة في حديث الأعرابي
السؤال
في حديث الأعرابي لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكمه على امرأة الأعرابي من حيث مطالبتها بالقضاء أو الكفارة، فكيف نوفق بين هذا وبين القاعدة: (لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة)، وضحوا هذا الإشكال أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة في الحقيقة للعلماء فيها كلام طويل -وهي مسألة المجامع في نهار رمضان- ولذلك لما تكلم العلماء على مسألة التعليل ومسالك التعليل كان هذا الحديث من أنسب الأحاديث لبيان صور التعليل، ولذلك تجد الأئمة رحمة الله عليهم وكتب الأصول تعتني بشرح هذا الحديث من جهة أصولية والتعليل به.
هناك مسلكان للأصوليين فيه: مسلك اعتباره لطيف وجميل؛ لأنه يدفع كثيراً من الإشكالات، يقولون: الرجل جاء يسأل أول ما يسأل عن نفسه، فوقع السؤال أول ما وقع عن نفسه، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرر له وبين له، فتبين أن الرجل ما عنده شيء لنفسه، فسقطت عنه الكفارة، فسكت عن زوجه لأن الحكم واحد؛ لأنه إذا كان هو سقطت عنه الكفارة فمن باب أولى تسقط عن الزوجة التي يعولها.
وهذا المسلك لا يعطي أي مدخل للاحتجاج في المسألة، فتبقى المرأة داخلة تحت حكم الأصل من كونها مطالبة بالكفارة كالرجل، يقولون: إن الرجل سأل أول ما سأل عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يجيب السائل عما سأل عنه، ولا يتكلف في الإجابة عن شيء لم يسأل عنه، فأجاب وما زال مع الرجل يوجب عليه الكفارة وينتقل معه خصلة خصلة، حتى إذا انتهى من ذكر مراتبها منها إذا بالرجل ليس عنده شيء، وإذا بالكفارة ساقطة عنه بالحال، فإذا سقطت عنه بالحال من باب أولى أن تسقط عن زوجته وأهله ومن يعول، فقالوا: لذلك سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن أن يتكلف مرة ثانية، خاصة وأن الرجل قال له: (والله ما بين لابتيها أهل بيت) فلما قال: (أهل بيت) شمله وشمل زوجه.
وهذا الجواب من أدق الأجوبة، والذي يقفل جميع الاعتراضات، ومن هنا يقول جمهور العلماء: تبقى المسائل مسكوت عنها، كون الزوجة طاوعت أو لم تطاوع تبقى مسائل اجتهادية، وهذا من دقة الشرع، وهو أنه في بعض الأحيان ينص على شيء ويترك ما عداه لاجتهاد العلماء، حكمة من الله سبحانه وتعالى؛ يرفع بها درجاتهم، ويجعلها خلافاً بينهم؛ يبين بها فضل العالم على غيره، فتبقى المسائل المسكوت عنها في النص وتترك لاجتهاد العلماء يبينون حكمها، فمنهم من يلحقها بالأصل، وينظر أقوى شبه لها فيلحقها به؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، وهذا الاجتهاد مستند إلى أصول الشرع.
ومنهم من يقول: هي عفو، كما هو مسلك الظاهرية رحمة الله عليهم، وهذا المسلك يقول: هي عفو، فكل شيء لم يرد النص به عفو، والمرأة لا يجب عليها عندهم شيء، حتى ولو طاوعت زوجها ورضيت واختارت، يقول: لا يجب عليها شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوجب على المرأة في هذا الحديث شيء.
فإن قلت لهم: سكت.
يقولون: السكوت عفو.
والواقع: أن ما سكت عنه الشرع هو عفو من الله من جهة النص على حكم معين؛ لكن يبقى الفقيه مطالب بالاجتهاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اجتهد الحاكم) فمعنى ذلك أن هناك مسائل تحتاج إلى نظر وبحث وتحتاج إلى بيان حكمها.
فإذا بإعطاء الشيء حكم نظيره فقد اجتهد بالشرع، (وفقه) يعني: فهم من الشرع، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) يعني: يفهمه مقصود الشرع فيبني الحكم عليه، فأنت إذا نظرت إلى أن مقصود الشرع تحريم هذا الشيء فحينئذٍ تقول: لا يجوز.
وإذا فهمت أن مقصود الشرع جوازه والتوسعة على الناس تقول: يجوز، وكل ذلك مبني على فهمك لأصول الشرع.
وفي هذه المسألة كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الرجل هل طاوعته المرأة أو لم تطاوعه، وهل هي مكرهة أو غير مكرهة، معذورة أو غير معذورة.
لا يقال: تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنسب شيء ما يذكره علماء الأصول بقولهم: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما استفصل من الرجل، وما قال له: هل امرأتك طاوعت أو لم تطاوع؟ هل امرأتك مكرهة أو غير مكرهة، راضية أو غير راضية؟ بل ترك الاستفصال في مقام الاحتمال.
أي: في مقام يحتمل فيه أن تكون المرأة معذورة، ويحتمل أن تكون غير معذورة، فكونه لم يستفصل ينزل منزلة العموم.
يعني: لا تجب كفارة إلا على الرجل، أما المرأة فلا تجب عليها سواء طاوعت أو لم تطاوع هذا معنى القاعدة.
ولكن مثلما ذكرنا: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ليس هذا موضعه، إنما موضعه في مقام السؤال حينما يسأل السائل عن الشيء بذاته، كأن يسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم امرأته فيقول: عليها الكفارة.
ولا يستفصل طاوعت أو لم تطاوع، فتقول: ترك الاستفصال هنا مؤثر ودليل وحجة؛ لكن كونه لم يرد سؤال عن المرأة وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ فهذا مما يسع الاجتهاد فيه.
فلا يعقل؛ لأن المرأة قد تغري الزوج على الجماع، وقد يقع منها الجماع ابتداءً بزوجها، وذكر هذا بعض العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان الغالب أن الرجل تكون منه بواعث الجماع، لكن كونها هي التي تبعثه وتدفعه، يقولون: هذا يدل على أن المرأة تأخذ حكم الرجل إن طاوعت ورضيت وأغرت وقصدت وأرادت ذلك.
فإذا كانت المرأة هي التي تريد الجماع، وحصل منها ذلك وطاوعت زوجها مختارة راضية؛ فالمرأة والرجل سواء، وتجب عليها الكفارة؛ لأن المعنى الذي عاقب الشرع به الرجل موجود في المرأة كما هو موجود في الرجل.
هذا من ناحية فقهية ومن ناحية الأصول والضوابط والاجتهادات صحيح؛ لأن العلة الموجودة في الرجل موجودة في المرأة، فتجب عليها الكفارة كما تجب على الرجل؛ لكن إذا استكرهها وغالبها فحينئذ يكون كأنه أوقعها في هذا المحظور، فتجب عليه الكفارة؛ لأنه متسبب في ذلك كما هو الحال في الضمانات في الحقوق، ولما كان الشرع ينزل حقوق الله عز وجل قياساً على حقوق الآدميين بدليل الحديث الصحيح (فدين الله أحق أن يقضى) وجعل الحقوق مقضية تنزيلاً لشغل الذمم بها، كذلك هنا حق الله يضمن، فكما أن المرأة سقط عنها المؤاخذة بالكفارة لكونها مكرهة، فحينئذ من الذي أكرهها؟ ومن الذي قسرها؟ ومن الذي أوقعها؟ هو الرجل.
فهناك محل تتعلق به الكفارة ويسع أن تتعلق به الكفارة الثانية، بخلاف ما إذا أكرهت المرأة فإنا لا نجد إلزاماً؛ لأن الإخلال غير موجود، وعلى هذا فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن تكون المرأة مكرهة ومغلوبة، فبالنسبة للرجل ما عندنا إشكال، لكن بالنسبة للمرأة المحل -الذي هو المرأة المكلفة- غير قابل لإيجاب الكفارة؛ لأنها لم تتوفر فيه شروط الإخلال؛ لكن إذا كانت مكرهة فمعنى ذلك أن هناك إخلالاً من الرجل من ناحيتين: من ناحية نفسه، ومن ناحية إيقاعه للغير في الإفطار.
وهذا الإفطار وقع بشهوة الجماع، فكما أن الجماع في حقه يوجب الكفارة، كذلك بالنسبة للمرأة.
على هذا القول الذي يرى أن المكرهة يجب على زوجها أن يكفر، حينئذ يقولون: تجب عليه الكفارات المتعددة في اليوم الواحد؛ ولذلك يلغز بعض العلماء ويقول: على المذهب الذي يرى أن من جامع أكثر من مرة في يوم واحد ليس عليه إلا كفارة واحدة، فقد تجب عليه الكفارة متعددة في أي صورة؟ تقول: إذا قلنا: إن المرأة المكرهة -التي أكرهها زوجها- تجب عليه الكفارة، فحينئذ إذا جامع الجماع الأول وجبت عليه الكفارة لنفسه وكفارة لزوجه التي جامعها، فصارت كفارتان، فإن جامع الزوجة الثانية -وليس الزوجة الأولى- فقد حصل فطر وجماع ثان، فتجب عليه الكفارة الثانية، فإن جامع زوجته الثالثة وجبت عليه الكفارة الرابعة، وإن جامع زوجته الرابعة وجبت عليه الكفارة الخامسة.
فهذه خمس كفارات تجب بجماع يوم واحد على رجل واحد، هذه المسألة يلغز فيها بعض العلماء، لكن محله أن ترى أن المرأة التي أكرهت على الجماع من قبل الرجل كأن يهددها أو يغلبها بقوة أو تكون نائمة ثم لا تشعر به إلا وقد أصابها، قالوا: هذه يجب عليه أن يكفر عن نفسه وعنها؛ لأنه وقع الإخلال بالصوم من وجهين: من جهته ومن جهة زوجه، فتتكرر عليه الكفارة من هذا الوجه.
وبناءً على ذلك: فإن حديث المجامع في نهار رمضان يعتبر من المسكوت عنه؛ لأن السؤال لم يرد عن المرأة أصلاً، ولا يعتبر هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة.
والله أعلم.(105/18)
كفارة العبد إذا جامع في نهار رمضان
السؤال
هل كفارة الجماع في نهار رمضان على الحر والعبد سواء، أم أن الأمر فيه تفصيل أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة للعبد فإنه لا يملك؛ لكن قال بعض العلماء: لو ملكه سيده وأذن له بالعتق يعتق، وحينئذٍ تجزيه، ومذهب طائفة من علماء السلف أن العبد ينتقل إلى الصيام فيلزمه أن يصوم؛ فإن عجز عن الصوم سقطت عنه الكفارة؛ لأنه لا يملك، والدليل على أنه لا يملك: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأخلى يد العبد عن الملكية؛ فدل على أنه لا يملك، وهذا أصل عند العلماء، وقد سبق بيانه وبسط الكلام عليه في مسائل الزكاة.
والله تعالى أعلم.(105/19)
العبد المكاتب لا يجزئ في الكفارة الواجبة
السؤال
من كان يدفع إلى سيده أنجم المكاتبة وبقيت بعضها، فأعتقه سيده بكفارة الجماع، فهل يجزئه ذلك أم لابد أن يرجع إلى عبده ما أخذ من المكاتبة أثابكم الله؟
الجواب
إذا اتفق السيد على الكتابة وأدى العبد أنجم الكتابة كاملة فإنه يجب على السيد أن يعتق عبده، وإذا لم يعتقه واشتكى العبد إلى القاضي فإن القاضي يحكم بعتقه، وهذا من العقود التي تكون لازمة في أول حال وفي آخر حال؛ لأن العقود منها ما يلزم في أول حال وفي آخر حال، ومنها ما يلزم في أول حال دون آخر حال، ومنها ما لا يلزم في أول الحال ويلزم في آخر الحال.
فالمكاتبة تعتبر في أول الحال إذا تعاقد الاثنان، وفي الأصل السيد لا يلزمه أن يكاتب عبده على القول بعدم وجوب الكتابة عليه، ومنهم من يقول بوجوبها لظاهر قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33] فإذا قلنا بعدم الوجوب فهي غير لازمة في أول الحال على السيد، لكنه إذا وقع العقد وتم بينهما وافترقا فحينئذ يلزمه الوفاء بهذا العقد، وعلى الرقيق أن يسدد ما عليه، فلو قال له: كاتبتك بعشرة آلاف، تؤدي لي كل شهر ألفاً، فإذا أتممت العشرة فأنت حر.
فإذا أعطى العشرة كاملة أعتق بآخر نجم منها، وأما إذا عجز عن سداد أنجم الكتابة يعود رقيقاً لسيده.
وبناءً على ذلك: إذا عجز العبد عن السداد لبعض أنجم الكتابة وعاد رقيقاً لسيده فأعتقه سيده عن ظهار أو عن قتل أو عن جماع في نهار رمضان أجزأه؛ لأنه إذا عجز وثبت العجز رجع إلى ملكية سيده.
أما إذا كان أثناء أنجم الكتابة ووصل إلى آخرها، فقال له السيد: أنت حر؛ فإن هذا العتق لا يعتبر عتقاً عن الواجب عليه في ذمته؛ لأن الأصل يلزمه بأداء أنجم الكتابة حتى يكون العبد حراً بأنجم الكتابة، لا بما عليه من فرض الله، كأنه يتخلص مما عليه من حق الله عز وجل فيعتق حتى لا يشتري رقبة ثانية، فكأنه يدفع الغرم عن نفسه لما أوشك العبد أن يسدد، فمعنى ذلك: أنه يريد ألا يتحمل رقبة ثانية ويشتريها، فهو يريد أن يعتق هذه الرقبة حتى يتخلص من تبعة الرقبة الثانية؛ ولذلك لا يصح العتق على هذا الوجه، ولا يجزيه في الكفارات، سواء كانت عن ظهار أو قتل أو أي عتق واجب آخر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(105/20)
شرح زاد المستقنع - باب ما يكره ويستحب في الصوم وحكم القضاء
هناك أمور ذكر العلماء أنه يكره فعلها في الصيام؛ لأنها تخدش في الصيام وتنقص أجره، وهناك أيضاً مستحبات ينبغي على الصائم أن يعلمها ويحافظ عليها حتى يكون صومه تاماً صحيحاً مقبولاً عند الله تعالى.
ومما يتعلق بالصيام: أحكام القضاء لمن أفطر في رمضان لعذر، وحكم من مات وعليه صوم وغيرها من أحكام ومسائل القضاء.(106/1)
مكروهات ومستحبات الصوم وحكم قضائه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء].
يقول المصنف رحمه الله: (باب ما يكره) أي: ما يكره على الصائم أن يفعله حال صيامه، سواء كان لنافلة أو فريضة، والمكروه: هو الذي تعافه النفوس، وكره فلانٌ فلاناً إذا وجد فيه ما يوجب نفرته منه، وأما المكروه في الشريعة: فهو الذي نهى الشرع عنه نهياً غير جازم، وهذا المكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وكأن المصنف رحمه الله يريد أن يبين لنا بعض الأمور التي لا يستحب للصائم أن يفعلها، وإذا تركها بقصد التقرب فإنه يثاب شرعاً، ولكنها لا توجب فطره.
وقوله: (ويستحب) ضد المكروه، فالأمر من الأقوال والأفعال إن كان جازماً فهو واجب، وإن كان غير جازم فهو مندوب ومستحب.
وحكمه: أنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
ومعنى: يستحب أي: يستحب للصائم أن يفعله أو أن يقوله؛ والسبب في ذلك: أن الصيام فيه أمور محرمة، وفيه أمور مكروهة، وفيه أمور واجبة، وفيه أمور مستحبة، وفيه أمور مباحة، ولذلك تكلم -رحمة الله عليه- في الأبواب الماضية عن الأمور المحرمة والأمور الواجبة، وبعد بيانه لكلا القسمين شرع في بيان ما يكره وما يستحب، ولكن
السؤال
لماذا قال: باب ما يكره فقدم المكروه على المستحب، والتقديم للشيء فيه دلالة على شرفه في الغالب؟ قدم المكروه؛ لأن الصيام يقوم على الترك، ولذلك المكروه ألصق بمادة الصيام من المستحب الذي يطلب فيه الفعل في الغالب.
وقوله رحمه الله: (وحكم القضاء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل المتعلقة بقضاء صيام رمضان، والسبب في ذلك أن المكلف لا يخلو من حالتين: إما أن يوقع صيام الفريضة في زمانه المعتبر على وجهه المعتد به شرعاً، فحينئذٍ لا إشكال، ويسمى هذا الصيام منه: صيام الأداء.
وإما أن لا يوقعه؛ وذلك لوجود العذر الشرعي الذي يبيح له الفطر، من مرض أو سفر أو غير ذلك فيفطر؛ فإذا أفطر توجه إليه خطاب الشرع بأن يقضي أياماً أخر على عدد الأيام التي أفطرها من غير رمضان، وحينئذٍ ينتقل من رمضان إلى غير رمضان.
ويرد السؤال عن هذه الأيام والأحكام المتعلقة بها، هل تنزل منزلة أيام رمضان أو لا تنزل؟ كذلك أيضاً من جهة كون الذي يقضي إذا أفطر متعمداً، هل يجوز له ذلك أو لا يجوز؟ وما الحكم في فطره إذا وقع على هذا الوجه؟ يقول رحمه الله: (باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء) جمعها رحمة الله عليه في هذا الموضع لتجانسها، فإن المكروه والمستحب يتضادان في الغالب، وإن كان هناك صور يكون فيها المستحب لا يضاد المكروه.(106/2)
أقوال العلماء في جمع الريق وبلعه لمن كان صائماً
[يكره جمع ريقه فيبتلعه].
أي: يكره للصائم أن يجمع ريقه، والريق: لعاب أوجده الله في الفم، ويكون في أصله لعاب قوي المادة أو يتحلل مع حركة الفم، وهذا اللعاب أوجده الله عز وجل لحكمة، وإذا أراد الإنسان أن ينظر إلى عظيم نعمة الله عليه بهذا اللعاب، فلينظر إلى حاله في شدة الظهيرة وقد جف حلقه من لعابه كيف يكون حاله؟ فلو أن الله خلقه على هذه الصفة لوجد من المشقة والعناء ما لا يخفى؛ ولكنه أحسن كل شيء خلقه سبحانه وتعالى وتبارك وهو أحسن الخالقين، فخلقه على هذه الصفة فجعل اللعاب في فمه؛ يمكنه من الكلام؛ ويدفع عنه مشقة يبس حلقه وصعوبة كلامه، ولذلك تجد من جف لعابه أو قل -خاصة في أحوال الصيام وشدة الظمأ- يصعب عليه الحديث ويصعب عليه الكلام.
فهذا اللعاب والريق له حالتان: الحالة الأولى: أن يتركه المكلف على خلقة الله عز وجل فيرتفق به في حال يبس حلقه أو يبس فمه، على الوجه المألوف المعتاد المعروف.
وهذه الحالة لا إشكال فيها بإجماع العلماء؛ لأن اللعاب يعتبر غير مؤثر في الصيام ولو بلعه الإنسان؛ لأنه مما يشق التحرز عنه، ولذلك يمثل العلماء له بما يشق التحرز عنه في الصيام، واغتفروا في حكمه اللعاب اليسير الذي يكون من فضلة الطعام إذا شق عنه التحرز عنه في الصلاة، وكذلك اغتفروا ما يكون بين الأسنان في الصلاة كوضر اللبن الذي يكون من دسامة مادة اللبن.
وأما في الصيام فقالوا: إذا بزغ الفجر وانتهى وقت السحور، فإنه يتمضمض إن بقيت مادة الطعام في فمه؛ لأن اللعاب متصل بممنوع، وهو وإن كان لعاباً في أصله لكنه خرج عن الأصل؛ لامتزاجه مع المادة التي هي مادة الطعام، وعلى هذا قالوا: إن اللعاب في هذه الحالة يجب إزالته إما ببصاق، أو بغسل الفم بالمضمضة، ولذلك ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه تمضمض قبل الصلاة من وضر اللبن ودسومته.
وأما الحالة الثانية للريق: فهي أن يجمع الريق فيبلعه وهو صائم، فهذا الجمع للريق يعتبر متردداً بين أصلين، فيحتاج تقرير هذين الأصلين إلى أمر مهم لابد من بيانه، حاصله: أن فم الإنسان يعتبر من خارج الجسد ولا يعتبر من داخل الجسد، وتوضيح ذلك: أنك في الصيام تحتاج إلى أن تفرق بين خارج البدن وداخل البدن؛ حتى تستطيع أن تفتي في مسائل الصيام، وهذا أمر مهم لطالب العلم وللعالم، ولا يستطيع أن يفتي في مسائل الفطر حتى يقرر ما الذي من خارج البدن، وما هو الذي من داخله بحيث إذا وصل إليه الغريب حكم بفطر الصائم بسبب ذلك.
فالفم دلت الأدلة على أنه من خارج البدن، فإذا قلت: إنه من خارج؛ فأي شيء يصل إليه من المفطرات لا يضر ولا يؤثر ما لم يتجاوز الحد المعتبر شرعاً، وما هو هذا الحد؟ الحد: هو اللهاة، واللهاة هي: اللحمة المتدلية عند بداية الحلق، فهي فاصل بين داخل البدن وبين خارج البدن، وخارج البدن هو الفم، فما كان دون اللهاة فهو من داخل، وبناءً على ذلك لو استقاء فخرج القيء إلى فمه ورد ولو يسيراً من القيء إلى جوفه -إلى ما وراء اللهاة- فقد أفطر، وهذا بإجماع العلماء: أنه إذا رد مادة القيء إلى داخل البدن بعد وصولها إلى الفم أنه يفطر؛ لأنه بمجرد وصولها إلى الفم خرجت من البدن.
إذاً تثبت أن هناك داخلاً وخارجاً؛ فالداخل ما دون اللهاة من جهة الجوف، والخارج ما قبل اللهاة من جهة الفم، وعلى هذا: إذا كان الريق موجوداً في الفم ليس عندنا إشكال، حتى ولو جمعه ثم أداره في فمه ثم بصقه لا إشكال؛ لأن الأمر كله في خارج البدن؛ لكن الإشكال لو جمع هذا الريق ثم ابتلعه بعد ذلك، فهذا الفعل يتردد بين وجهين: أحدهما: يقتضي الحكم بالفطر.
والثاني: يقتضي عدم الحكم بالفطر.
فأما كونه مقتضياً للفطر فهم يقولون: هذا اللعاب مادة متعلقة بخارج البدن، وكون الإنسان يبلع ريقه يسيراً يسيراً، قالوا: هذا على المعروف المألوف الذي يشق التحرز منه، فرخص الشرع فيه، لكن كونه يجمع ريقه باختياره وقدرته وتمكنه، ثم يبلع كما لو أفضل الجسم فضلة ثم بلعها، فهم يقولون: اللعاب فضلة الجسم، وهذا بالإجماع أنه فضلة من الجسم، فكما أن فضلة الجسم كالقيء إذا خرجت إلى الفم ثم ردت أنها تفطر، قالوا: اللعاب إذا جمع خرج عن الرخصة، فالرخصة فيه أن يكون متحللاً لترطيب الفم، لكن إذا جمعه فإنه يقصد ما يقصده الشارب أو من يريد بل حلقه، فخرج عن كونه مادة للفم إلى كونه مادة للحلق؛ فأفطر من هذا الوجه.
قالوا: وأشبه ما لو إذا خرج القيء ثم رده إلى داخل البدن.
وأما الوجه الثاني الذي يقتضي أنه لا يفطر: فهم يقولون: هذا اللعاب مادة تسامح الشرع فيها، والإجماع منعقد على أن اللعاب الذي في داخل البدن لو بلعه الإنسان قليلاً قليلاً أنه لا يفطر؛ فلا فرق عندي بين أن يبلعه دفعة واحدة وبين أن يبلعه شيئاً فشيئاً.
إذاً عندك وجهان: أحدهما: يقتضي الحظر والحكم بالفطر.
والثاني: يقتضي الإباحة، وأنه لا يوجب فطر صاحبه.
والقاعدة عند بعض العلماء: أنه إذا تردد الفعل أو القول بين مأذون به شرعاً، وبين غير مأذون به شرعاً وهو المحرم، وأصبح فيه شبهاً من هذا وشبهاً من هذا فإنه يكره.
هذا ضابط للمكروه عند بعض العلماء، ولذلك يمثلون بإسبال الإزار، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) وأجاز الأزر إذا كانت فوق الكعبين، وقد ثبت عنه أنه قال: (أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه) فإذا ارتفع الإزار عن الكعبين فالإجماع على حله، وإذا نزل عن الكعبين فإنه يعتبر داخلاً في قوله: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار).
لكن لو أنه وصل إلى الكعبين ولم يجاوز ولم يرتفع عنهما وكان محاذياً للكعبين؛ فليس عندك نص يقتضي التحريم، وليس عندك نص يقتضي الإباحة، فإذا جئت تقول: أبيحه.
أجابك المجيب بأن الشرع أباح ما فوق الكعبين، وإذا قلت: أحرمه.
أجابك المعترض بأن الذي حرمه الشرع ما نزل عن الكعبين، قالوا: فيصبح بين الحظر والإباحة فهو مكروه، فيسكت عنه الشرع لتردده بين الحظر والإباحة، فيقولون: هو مكروه.
فإذاً: كأن المكروه يتردد بين الحلال والحرام، ويتردد بين الحظر والإباحة، فجمع الريق فيه وجه لأن تجيزه، وفيه وجه لأن تمنعه، فإن قلت: الشرع رخص في الريق لمكان مشقة التحرز والتوقي؛ فإن الريق المجموع لا يشق التحرز عنه؛ لأنه بإمكانه أن يبصقه، قالوا: فحينئذٍ كأنه قصد الإخلال، فيعتبر هذا الوجه يقتضي الحظر.
وتقول: الريق مأذون به شرعاً، فيستوي أن يكون مجموعاً أو متفرقاً، فهذا الوجه يقتضي الإباحة؛ فأصبح جمع الريق مكروهاً من هذا الوجه.
فهذا هو وجه كون العلماء رحمة الله عليهم ينصون على كراهية مثل هذه الأمور، ويستشكل بعض طلاب العلم كيف يحكم بالكراهة بما لا نص فيه؟ وهذا من ورع السلف والأئمة رحمة الله عليهم، ولذلك لما تكلم العلماء عن ضابط المكروه قالوا: إن هناك صوراً للشيء المتردد بين الحظر والإباحة، يؤكد الشرع على قصد الترك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ولذلك فالفقيه لا يستطيع أن يقول: هذا حرام، وإذا قال: هو حلال وجد في نفسه الشبهة فتردد، ولذلك إذا قال لك قائل: أجمع الريق وأبلعه.
فستجد في نفسك الشبهة، لكن ما تستطيع أن تقول: إنه حرام؛ فالبر طمأنينة، قالوا: فوجود هذه الشبهة كونه يجمع الريق فستفهم منه أنه في حكم من يدخل على البدن الشيء الغريب عنه؛ لأن الذي ليس بغريب أن يترك اللعاب على طبيعته، لكن كونه يجمعه وكونه يبلعه قالوا: هذا يقتضي الشبهة.
ومن هنا يقوى القول بكون جمع الريق من مكروهات الصيام.
وخلاصة الكلام أن لبلع الريق ثلاثة أحوال: الحالة المعروفة المألوفة، ولا إشكال فيها، ولكن هناك حالتان يذكرهما العلماء، وهما: الحالة الأولى: أن يجمع الريق من داخل -أي: من داخل الفم-.
والحالة الثانية: أن يخرج الريق المجتمع إلى خارج الفم.
فأما إذا كان الريق في داخل الفم فجمعه وبلعه فمثلما ذكرنا أنه مكروه، لكن لو جمع الريق فأخرجه عن الفم بلسانه وجاوز شفتيه ثم رده فإنه يفطر في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأنه إذا أخرجه عن الفم فإنه حينئذٍ يخرج عن الرخصة قولاً واحداً عند أهل العلم؛ ولأنه يعتبر خارجاً عن اللعاب المأذون به أو المرخص به شرعاً؛ لأن الذي يشق التحرز عنه ما كان في داخل الفم، أما إذا خرج قالوا: إنه يفطر.
ما فائدة قول العلماء رحمة الله عليهم: الريق يجمع من داخل أو يجمع من خارج؟ قد يقول قائل: إنه من القبيح من الإنسان أن يخرج الريق من فمه ثم يرده! وهذه المسائل يذكرها العلماء لأمور قد يحتاج إليها الفقهاء، فمثلاً في زماننا قد يوجد في بعض أحوال أن تقوم بعض الآلات بشفط ما في الفم وإعادته إليه لتكريره عليه، كما يكون في بعض من يكون في أجهزة الإنعاش، فإنه يحتاج إلى وجود بعض المواد التي تكون في فمه، فإذا كانت الآلة التي تشفط تشفط المادة إلى خارج الفم وتجاوزه ثم تعيده؛ فمثل هذا يرد فيه الكلام، وإن كانت في داخل الفم ولا تجاوزه فلا إشكال فيها.
فالمقصود: أن مسألة جمع الريق لا تخلو من هاتين الصورتين: إن خرج الريق وجاوز حد الشفتين أفطر قولاً واحداً، وإن لم يجاوز فإنه يرد فيه ما ذكرناه من الحكم بالكراهة، ولا يحكم بفطر صاحبه.(106/3)
حرمة بلع النخامة بعد وصولها إلى الفم
قال رحمه الله: [ويحرم بلع النخامة ويفطر بها فقط إن وصلت إلى فمه].
(ويحرم بلع النخامة) هناك مادة ثانية من فضلة الفم، وهو: المخاط الذي يكون في الخياشيم وفي الأنف، وقد يخرج من الصدر كالبلغم، فأما بالنسبة للمخاط الذي يكون في الخياشيم فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون سحب الإنسان له إلى الجوف مباشرة، كما لو استنشق ثم ذهب إلى جوفه دون أن يمر بفمه، هذا بالإجماع لا يفطر، ولو كان للنخامة جرم، كما هي القطعة الصغيرة التي تتجلط من المخاط، فهذا لا يفطر.
الحالة الثانية: أن تكون النخامة قد خرجت إلى الفم، فإن خرجت إلى الفم وأدارها في فمه فلا يخلو من حالتين: إما أن يديرها في فمه ثم يبلعها، وهذا هو الذي حكم المصنف عليه أنه يحرم، وأنه يوجب الفطر إن بلعها، وهناك وجه ثان: أنه لا يفطر، ويرون أن الفم مغتفر كالأنف، والذي اختاره المصنف من القوة بمكان؛ لأن الأصول تقتضيه.
وإما أن يخرجها إلى الشفتين كما ذكرنا، كأن يخرج لسانه وعليه النخامة ثم يزدردها، فإنه يفطر في قول جماهير العلماء رحمهم الله قولاً واحداً.
على هذا يفرق في النخامة بين هاتين الحالتين.
أما بالنسبة للبلغم الذي يكون من الصدر، فإن كح وأخرجه إلى حلقه دون أن يصل إلى فمه ويجاوز لهاته، فلا إشكال إن ازدرده مباشرة، وأما إذا أخرجه إلى فمه ففيه الكلام الذي ذكرناه، والصحيح والأقوى: أنه يفطر، كما لو أخرج القيء ثم رده.
وبناءً على ذلك، فإن النخامة والبلغم يفصل فيهما هذا التفصيل.(106/4)
حكم تذوق الطعام بلا حاجة
[ويكره ذوق طعام بلا حاجة] قوله: (ويكره ذوق طعام بلا حاجة) له حالتان: الحالة الأولى: إذا نظرت إلى ذوق الطعام، فأنت ترى أن الذي يذوق الطعام فيه شبهة؛ لأنه إذا ذاقه وازدرده لا إشكال أنه يفطر بالإجماع؛ كأن يتحسى شراباً أو يتذوق طعاماً، ثم بعد ذلك يزدرده ويجاوز اللهاة، فإنه بالإجماع يفطر.
الحالة الثانية: أن يذوق الطعام ثم يغسل الفم مباشرة ويلقيه، فهذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم والصحيح ما أفتى به ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة من السلف: أنه لا حرج ولا بأس أن يذوق الإنسان الطعام؛ لكن بشرط أنه بعد تذوقه يغسل فمه، ويذهب المادة التي ذاقها، أما إذا لم تذهب المادة وبقيت وتحللت في اللعاب، ووجد طعم الطعام في حلقه فقد أفطر.(106/5)
حكم مضغ الصائم للعلك وأنواعه
[ومضغ علك قوي].
العلك: هو اللبان وهو أنواع: النوع الأول: ما يكون دواءً وعلاجاً كاللبان المر، فهذا له فوائد للصدر، وله فوائد للجوف.
وهناك النوع الثاني الذي لا يقصد منه التداوي، وهو الذي يستعمل من باب الترفيه عن النفس، فهذا يشدد فيه بعض العلماء لما فيه من شبه بقوم لوط، ولا يحفظ في ذلك نص صحيح يدل على ثبوت هذا، لكنه من خوارم المروءة، يعني: إن الحياء والمروءة أن لا يستعمله من له مكانة، كالوالد أمام أولاده، وهكذا الأم أمام بناتها وصغارها، وهكذا طالب العلم والعالم ومن له مكانة بين الناس، فمضغ اللبان يسقط مروءته ويدل على قلة حيائه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت) وضابط ذلك أن يفعله أمام الناس كما أشار إلى ذلك بعض العلماء بقوله: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فكونه يمضغ اللبان أمام الناس، فهذا يوجب سقوط عدالته والجرح في شهادته، ويدل على نقص عقله؛ لأن العقل يمنع من فعل هذه الأمور أمام الناس.
وبالنسبة للتحريم بأن أهل لوط يفعلون ذلك، هذا لم يثبت به نص صحيح، والأصل الجواز، ولا حرج في مضغه، وكون الإنسان يمضغ اللبان لا حرج؛ لكن لا يفعل ذلك أمام الناس، وأما لو كان صغير السن كالأحداث ونحوهم فهذا مما جرت العادة باغتفاره، والدليل على الجواز: أن الله سخر لبني آدم الارتفاق بالمطعوم والمشروب ما لم يدل الدليل على التحريم، وهذا مما يطعم، وأما اللبان الذي يتداوى به كمرضى السكر ونحوهم لكونهم يحتاجون إلى وجود اللعاب في أفواههم، وهكذا بالنسبة للبان المر الذي يتداوى به الإنسان فهذا لا إشكال فيه.
فاللبان أو العلك له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون قوياً ومادته متحللة، وهذه الحالة أوضح ما تكون حينما يأخذ الإنسان في بدايته، فإنه يجد قوة المادة ويجد تحللها وأثرها في فمه، فتجد لعاب الإنسان يسيل بسبب قوة المادة؛ فإذا كانت المادة حلوة سال لعابه؛ فتجد قوة المادة مؤثرة، هذا هو المتحلل.
الحالة الثانية: غير المتحلل: وهو الذي لا تجد له طعماً، فأنت إذا نظرت إلى هذا اللبان كاللبان المر إذا علكه الإنسان لمدة ربع ساعة تقريباً أصبح مادة يعلكها، لا يجد لها طعماً قوياً ولا تكون مؤثرة، والمقصود منها في الغالب أن الإنسان يريد منها جريان اللعاب.
فهذا معنى القوي المتحلل، والضعيف غير المتحلل، فاللبان في بدايته يكون متحللاً قوياً.
ما فائدة هذا التفصيل؟ فائدة هذا التفصيل: أنه لو كان قبل أذان الفجر يعلك اللبان فعلكه وذهبت قوته، ثم أذن عليه الفجر وهو في فمه، ولا يجد إلا إسالة اللعاب، ولا يجد لمادة اللبان أثراً؛ فهذا أضعف مما لو كان في بداية العلك، فيفرق بين الذي له مادة تتحلل والذي ليست له مادة، وتوضيح ذلك: أن الفم من الخارج كما قررناه، فكونه يجري اللعاب في داخل فمه عن طريق اللبان هذا لا يؤثر، ما لم يكن من لبان مادته قوية متحللة، ويكتسب طعم الريق فيها، ثم يزدرد هذه المادة فيفطر، وأما إذا كانت مادة اللبان جافة، خاصة لو شرب الماء بعد مضغ اللبان بربع ساعة تقريباً أو عشر دقائق فإن اللبان يصبح جافاً ومادته جافة ولا تتحلل؛ فحينئذٍ يضعف عن التأثير، بخلاف ما لو كان في بدايته.(106/6)
إفطار الصائم بوجود طعم العلك والطعام في الحلق
[وإن جد طعمهما في حلقه أفطر].
وإن وجد طعم العلك سواء كان قوياً أو ضعيفاً -يعني: المتحلل وغير المتحلل- إن وجد طعمه في حلقه أفطر قولاً واحداً؛ والسبب في ذلك: أنه بوصول هذه المادة إلى الحلق، فإنه يعتبر في حكم من طعم الطعام، ووجد الطعام أو أثر الطعام في حلقه.
[ويحرم العلك المتحلل إن بلع ريقه].
قال: يكره إذا لم يكن قوياً، وأما إذا كان متحللاً فإنه يحرم إن بلع ريقه، أما لو أجراه في فمه ثم لفظه ولفظ ما فيه، فهذا لا يؤثر.(106/7)
حكم القبلة بالنسبة للصائم
[وتكره القبلة لمن تحرك شهوته].
وتكره القبلة للشخص الذي تحرك القبلة شهوته، فالشخص إذا قبَّل لا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن لا يأمن من نفسه أن تقوى شهوته، ويندفع إلى درجة لا يأمن معها أن يفسد صومه بالجماع.
الحالة الثانية: أن تتحرك شهوته إلى درجة لا تصل إلى الجماع ولكن إلى أن ينزل، ويستطيع أن يحبس نفسه عن الجماع لكن لا يستطيع أن يحبس نفسه عن إنزال المني كأن يكون سريع الإنزال عند بداية شهوته.
والحالة الثالثة: أن يكون قوياً مالكاً لإربه، فلا ينزل ويأمن أن يقع منه الجماع.
هذه ثلاثة أحوال بالنسبة للشخص الذي تقع منه الشهوة: إما أن تحركه حتى يصل إلى غايتها من الجماع، وإما أن تحركه فيصل إلى الإنزال ولا تؤدي به إلى الجماع، وإما أن تحركه فيجد النشوة، ولكن لا يصل إلى الإنزال ولا يقع منه جماع.
أما إذا كان لا تحرك القبلة شهوته فهو الشخص الذي لا يجد الانتشاء بالتقبيل، كأن يقبل لعاطفة، كأن يقبل أبناءه ويقبل بناته، فهي ليست بقبلة شهوة؛ لأن التقبيل يكون لمعانٍ: أن يقبل محبة وشهوة وهي قبلة الزوج لزوجته والعكس، وأن يقبل لرحمة كتقبيل الابن لأبيه والأب لابنه، ويقبل لعاطفة وهي صورة العكس الأب لابنه، ويقبل لهيبة وإجلال كأن يقبل جبهة العالم أو يده.
فهذه أحوال للمقبل، لكن الذي يتكلم العلماء عنه: التقبيل للمرأة، وهو تقبيل الشهوة، أما لو رأى المرأة في حزن ورحمها وعطف عليها فقبلها من باب العطف والحنان، فإنه خارج عن مسألتنا، وحمل بعض العلماء عليه تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة قبل أن يدخل إلى المسجد، فقالوا: إن هذا التقبيل من النبي صلى الله عليه وسلم ليس تقبيل محبة، وإنما هو صدق مودة من النبي صلى الله عليه وسلم لها، ليس يقصد منه تحريك الشهوة، أو ما يكون بين الرجل وامرأته من باب الشهوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما قالت: كان إذا أذن عليه المؤذن لا يعرفنا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يشتغل بأمر الصلاة.
فالتقبيل الذي يبحثه العلماء في هذا الموضع: تقبيل الشهوة، ولا يريدون منه مطلق التقبيل، فلو قبل الأب ابنه فإن قبلته قبلة عطف وحنان وشفقة، كما قال أحدهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم.
قال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!) فوصف التقبيل بكونه رحمة، فهذا لا يتكلم العلماء عنه، وهكذا لو قبلت الأم بنتها إذا رأت عليها الحزن وقبلتها ونحو ذلك، فإذا كان التقبيل للشهوة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل وهو صائم، كما في الصحيحين من حديثٍ يرويه هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، فسألها عروة رضي الله عنه وقال: ما أراه إلا أنت.
قال: فضحكت رضي الله عنها وأرضاها)، ما فائدة سؤال عروة رضي الله عنه بهذا الأسلوب؛ لأنه قد يقول البعض: ما داعي أن يقول عروة ذلك؟ الواقع أننا استفدنا من هذا أنها رواية متصلة لا منفصلة؛ لأنه قد تحكي أم المؤمنين شيئاً من حاله عليه الصلاة والسلام عن غيرها من أمهات المؤمنين؛ لكن كونها تضحك هذا يدل على أنه وقع لها من النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون الرواية متصلة، ويكون الفعل بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة.
هذا يدل على أنه لا حرج أن يقبل الصائم زوجه؛ لكن قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (ولقد كان أملككم لإربه -وفي رواية: لأرْبه، وقيل: لأرَبِه-) واختلف العلماء فيه على وجهين: قيل: الأَرَب هو العضو، أرادت أنه لا ينزل عليه الصلاة والسلام، وقيل: شهوته، يعني الشهوة مطلقاً؛ فإذا قلت: إن المراد بالأرب العضو، فيكون مرادها أنه يتحفظ من الإنزال، فيدل على حل أن يقبل للشهوة، ولكن بشرط أن يأمن الإنزال، وإن قلت: إن المراد بتقبيل النبي صلى الله عليه وسلم مطلق الشهوة، فحينئذٍ تشمل الشهوة المنبعثة من التقبيل، والشهوة التي يكون منها الجماع؛ فحينئذٍ تقول: إنه قبل لمعنى غير الشهوة، كأن يقبل لعطف أو لحنان أو نحو ذلك، والأول أقوى.
وعلى هذا: فإنه لو قبل زوجته للشهوة لا حرج، لكن فيه تفصيل: إن غلب على ظنه أنه يجامع أو يقع في الجماع فلا يجوز له أن يقبل؛ لأن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها؛ فإنك لو قلت: الشرع يأذن للرجل أن يقبل زوجته، مع أنه يغلب على ظنك أنه سيقع في الجماع ويفسد الصيام، فهذا مما لا يأذن الله عز وجل به، وحينئذٍ يتناقض الشرع، ولذلك نبهت أم المؤمنين رضي الله عنها على هذا فقالت: (كان أملككم لإربه) وكأنها تريد أن تفرق بين من يملك ويقدر على حفظ نفسه، وبين من لا يملك ولا يقدر على حفظ نفسه.
وقد دل الشرع على أن تعاطي السبب يوجب الضمان للإنسان، وأن الإنسان ينبغي عليه أن يتحفظ عن الأسباب التي تفضي به إلى الإخلال، سواء بالمأمورات أو بالمنهيات، وبناءً على ذلك إذا غلب على ظنه أنه يفسد صيامه بالجماع أو بالإنزال؛ فإنه لا يقبل.
الحالة الثانية: فلو اعترض معترض وقال: هذا ليس بصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل، فلا داعي بأن نفرق بين من يقع وبين من لا يقع، نقول: إذا استدليت بفعله عليه الصلاة والسلام يلزمك الاستدلال به كاملاً، والذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئان: التقبيل مع التحفظ، والذي نتكلم فيه: التقبيل مع عدم التحفظ، فصورة القبلة منه صلى الله عليه وسلم فيها محافظة ولا إخلال فيها، والصورة التي ذكرها العلماء واستثنوها التي فيها الإخلال، فبقيت على الأصل الموجب للمنع، وهكذا لو أنه لم يأمن أن ينزل؛ لأن إنزاله يفضي به إلى الفطر، فاستوى أن لا يأمن الجماع وأن لا يأمن الإنزال، ففي هذه الأحوال يمنع منه.
وأما بالنسبة لما ورد في حديث أبي داود، وتفريقه عليه الصلاة والسلام بين الشيخ وبين الشاب فهو حديث ضعيف؛ لكن متنه صحيح، وأصول الشريعة دالة على أن الذي لا يملك نفسه، وقصدنا الشاب الذي لا يملك نفسه فإنه لا يقبل، وأما بالنسبة للذي يملك نفسه ويقدر فإنه لا حرج عليه أن يقبل.(106/8)
حرمة الكذب من الصائم وغيره
[ويجب اجتناب كذب وغيبة وشتم].
ويجب على الصائم أن يجتنب الكذب، في الحقيقة الكذب محرم على المسلم سواءً كان صائماً أو مفطراً، ولكن لماذا يقول المصنف رحمه الله: ويجب اجتناب كذب؟ وتوضيح ذلك أن الكذب محرم في أصل الشرع، ولكنه في رمضان أو في حال الصيام المفروض إذا كذب عليه وزران وإثمان: الإثم الأول: من جهة كونه كاذباً، والإثم الثاني: عدم رعايته لحرمة صيامه، ولذلك يضيف العلماء في باب الصيام تأكيداً، وإلا فالكذب محرم مطلقاً.
والكذب هو مخالفة الخبر للواقع، كأن يقول: محمد في الدار.
والواقع أنه ليس في الدار، الواقع: يعني الذي حدث وحصل أو الخارج عن الكلام الذي يوصف به ذلك؛ فلو قلت: ومحمد موجود في حال النفي أو غير موجود في حال الإثبات، فهذا كذب، أي يكون كاذباً إن كان عالماً بأنه ليس بموجود فأخبر بالوجود، والعكس.
فالكذب محرم مطلقاً، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] وقال صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح-: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة) وقوله: (يهدي إلى البر) يعني: يهدي لكل خير، فقل أن تجد إنساناً لسانه صدوق إلا وجدته أكثر الناس حرصاً على الطاعة، وقل أن تجد إنساناً كذوباً ويوفق للخير، فغالباً ما تجد الصادق في قوله الأمين في خبره موفقاً للخير؛ لأنه قد سد عن نفسه إثم لسانه، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف كمال المسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فمن أذية المسلمين باللسان الكذب عليهم، فيكذب ويخبرهم بأمور ليس لها حقيقة، فهذا من الكذب، وأشد ما يكون الكذب إذا كان على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتحليل الحرام أو تحريم الحلال، فهذا من أعظم الكذب نسأل الله السلامة والعافية! وهو من كبائر الذنوب التي توعد الله عليها باللعنة والغضب، نسأل الله السلامة والعافية.
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب حيث قال: (وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور؛ وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) فالإنسان الذي لا يبالي بالكلام الذي يخرج منه، ويتكلم بما لا حقيقة له؛ فإن هذا الفعل منه اعتداء لحدود الله في اللسان، فيفجر بلسانه.
وقد ثبت في الحديث عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: هذا أي: لسانك) فإذا كذب لسانه وتحرى الكذب -نسأل الله السلام والعافية- اعوجت جوارحه، وهذا يشهد له ما جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أن الأعضاء تكفر اللسان في صباح كل يوم، وتقول: (يا هذا! اتق الله فينا، فإنما نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) وهذا يدل على خطر الكذب، ولذلك قال: (فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)، والكذب حرام سواء كان في الصيام أو غيره، ولكنه في الصيام أشد، وهو كبيرة من كبائر الذنوب.
واختلف العلماء متى يكون الكذب كبيرة؟ فبعض العلماء يقول: الكذب كبيرة ولو بمرة واحدة، فمن كذب الكذبة الواحدة فإنه -نسأل الله السلامة والعافية- يعتبر فاسقاً مردود الشهادة مقدوح العدالة.
وقال بعض العلماء: لابد وأن يتكرر الكذب ثلاث مرات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) فالناس فيهم كاذب وفيهم كذاب وفيهم كذوب، فالكذاب والكذوب هو الذي يتكرر منه الكذب، وصيغة فعّال تدل على الكثرة من ذلك الشيء، فبعض العلماء يرى أنه لا يعتبر من كبائر الذنوب إلا بثلاث، ولكن الأقوى أنه يفرق في نوعية الكذب، فبعض الكذبات تعتبر كبيرة بمرة واحدة، وبعضها لا تعتبر كبيرة إلا بالتكرار، فالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بحديث واحد يعتبر كبيرة، حتى ولو روى حديثاً وهو يعلم أنه ضعيف ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسكت على ذلك وأقره، أو عبر بصيغة تدل على ثبوته، وهو يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله السلامة والعافية! قوله: (ويجب اجتناب كذب) قال بعض العلماء: من كذب وهو صائم فقد أفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) قالوا: فإذا كذب فقد انتقض صيامه، وهذا مذهب بعض الظاهرية وبعض أهل الحديث رحمة الله عليهم، وجماهير السلف على أن الكذب لا يوجب الفطر، ولكنه ينقص أجر الصائم ويخل بثوابه الكامل، وقد يمنع من قبول الله لصيامه -نسأل الله السلامة والعافية-؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] وقال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] فجعل الصدق من تقواه سبحانه وتعالى من باب عطف الخاص على العام.
وعلى هذا قالوا: إنه لا يأمن لو كذب مرة واحدة وهو صائم أن يرد الله صيامه عليه ولا يتقبله، وإذا لم يتقبل العمل فكأن الإنسان لم يعمله، نسأل الله السلامة والعافية!(106/9)
حرمة الغيبة للصائم وغيره
قوله: [وغيبة].
ويجب اجتناب الغيبة بالنسبة للصائم فلا يغتاب الناس، والغيبة حقيقتها أن تكون بالقول وتكون بالفعل.
وعلى ذلك فالغيبة لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون باللسان.
والحالة الثانية: أن تكون بالجوارح والأركان.
فأما الغيبة باللسان: فهو أن يذكر أخاه بما يكره، فيقول مثلاً: فلان قصير، فلان سمين، فلان أعرج، فلان أعور، بشرط أن لا يكون من باب التمييز المحتاج إليه أو مما اشتهر به، فهذا يعتبر من الغيبة إذا ذكر نقصاً خَلقياً أو خُلقياً، والنقص الخلقي مثلما ذكرنا: فلان قصير، فلان كذا، بصفاته الخِلقية.
أما النقص الخلقي فينقسم إلى قسمين: منه ما يتصل بالشرع، ومنه ما يكون من أحوال الإنسان ولا يتصل بالشرع، فالنقص الخلقي المتصل بالشرع: كأن يقول: فلان فاسق، فلان فاجر، نسأل الله السلامة والعافية! فيتهمه بالفجور وبالفسق، حتى ولو كان فاسقاً أو فاجراً فهي غيبة، أما إذا لم يكن فاسقاً ولم يكن فاجراً فإنه يعتبر جامعاً بين السوءتين والعظيمتين: الغيبة والبهتان، نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أعظم ما يكون، كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام عندما قيل له: (يا رسول الله! إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) فهذا النقص المتعلق بالدين، أما النقص الخُلقي الذي لا يتصل بالدين: كأن يقول: فلان يستعجل في رأيه، فلان لا يشاور، فلان مستبد برأيه، فهذا عيب في الإنسان، لكنه لا يتصل بالدين ولا يعتبر قادحاً دينياً، فهذا يعتبر من الغيبة، لكنه ليس بعيب ديني، إنما هو عيب خُلقي، وهذا كله يندرج تحت الغيبة باللسان.
أما الغيبة بالجوارح والأركان فقد تكون باليد، كأن يشير عند قوله: فلان قصير، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (والذي نفسي بيده -لما أشارت أم المؤمنين أنها قصيرة- لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لأنتنته) أي: أن هذا الفعل منك تعيرين به هذه الأمة من إماء الله بالقصر، فيه أذية للمؤمنة، وأذية المؤمن عظيمة عند الله سبحانه وتعالى.
فقوله: (لو مزجت بماء البحر) أي: لو كانت شيئاً حسياً يظهر قذره للعيان، ووضع هذا القذر في البحر الذي يعرف بكثرة الماء ولا يتغير، قال: (لأنتنته) أي: لوجد نتنه وضرره.
فهذا يدل على خطر الغيبة، فهذه غيبة اليد.
ويندرج تحت الغيبة بالجوارح غيبة اللسان: مثل أن يأتي الشخص يحكي لهجة الشخص، أو يحكي أسلوبه في الكلام؛ كأن يحاكي كلام رجل أعجمي فيتكلم كلاماً أعجمياً، أو يكون في لسانه رتق أو لثق، فيأتي بالرتق واللثق على أساس أنه يحكي كلامه، فهذا كله من الغيبة وآخذ حكمها -نسأل الله السلامة والعافية! - وكما تقع الغيبة بالكلام تقع كذلك بالجوارح والأركان؛ فبعض الناس يظن أن الغيبة لا تقع إلا بالكلام، والواقع أنها أعم من هذا كله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإشارة غيبة، ومن هنا قال العلماء: إن الفعل آخذ حكم القول؛ لأن المراد أن تحفظ حرمة أخيك المسلم، ويستوي في ذلك أن يكون انتهاكها بالقول أو يكون انتهاكها بالفعل، بل إن انتهاكها بالفعل في بعض الأحيان أشد من انتهاكها بالقول.
والغيبة لا خير فيها، فلا يغتاب الناس إلا إنسان دنيء؛ لأن الإنسان الكامل في خلقه، والكامل في أدبه مع الناس يحفظ لسانه عن أذية المسلمين، ويصونه عن الوقيعة في أعراضهم، وعلى ذلك يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فكما أنه يكره أن يذكر عند الناس، كذلك يكره أن يذكر الناس بما لا يحبونه، فهذه الغيبة محرمة، وهي بالإجماع من كبائر الذنوب.
واختلفوا متى تكون كبيرة، قال بعض العلماء: تعد كبيرة بحسب الأشخاص الذين يذكرهم المغتاب، فغيبة العلماء سواءً كانت باللسان أو كانت بالجوارح والأركان، يقصد منها تجريح عالم أو انتقاصه، فقالوا: هذا يعتبر كبيرة، فذكر العالم بما يكره في غيبته يعتبر كبيرة ولو مرة واحدة، وذلك لعظيم حرمتهم عند الله عز وجل.
ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما قال المنافقون: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله عز وجل {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) قالوا: لأن المنافقين وقعوا في أعراض القراء واغتابوهم، وهم قراء لكتاب الله؛ ولأن الأذية لهم من جهة الشرع فكذلك العلماء والقضاة.
والناس يقعون في الغيبة وهم لا يشعرون، فتجد الواحد يقول: القضاة لا يعرفون، أو الدعاة لا يعرفون.
فإذا قال: القضاة فإنه قد اغتاب جميع من يقضي على وجه الأرض بشريعة الإسلام، ويعتبر متحملاً لوزرهم، نسأل الله السلامة والعافية! وهكذا إذا قال: العلماء لا يحسنون الفتوى، فإنه يعتبر متحملاً لوزر جميع العلماء إذا وصفهم بكونهم لا يفقهون، ولذلك الأمر خطير جداً! فإذا ذكرت جنساً معيناً وقلت: جنس كذا لا يفهمون، جنس كذا يسرقون، جنس كذا يفعلون، جنس كذا يتركون، جنس كذا طوال أو قصار، فهذه غيبة لتلك الأمة كلها؛ لأنه وصفهم جميعاً، وشهد عليهم بهذا، فالأمر خطير جداً والله تعالى يقول: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19].
فالإنسان يتكلم وهو لا يدري، ويظن أن الأمر سهل، ومن هنا أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: (والذي نفسي بيده! إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً، يهوي بها أبعد مما بين المشرق والمغرب في نار جهنم) الكلمة الواحدة، فهذا أمر صعب، حتى قال بعض العلماء: إن العبد يبيت قائماً ويصبح صائماً وحسناته قد ذهبت بغيبة واحدة، كأن يغتاب أمة بكاملها والعياذ بالله! فالأمر جد خطير، وعلى طالب العلم والعلماء والدعاة أن ينصحوا الناس وأن يذكروهم، فهذا أمر حرمه الله عز وجل، إذا وقع فيه الصائم -قال بعض العلماء- فسد صيامه وأفطر ولزمه القضاء.
وهو قول ضعيف، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور أنه يأثم، وصيامه صحيح.(106/10)
وجوب اجتناب الشتم للصائم
قوله: [وشتم].
الشتم له حالتان: إما أن يكون شتماً يوجب النقص للمشتوم في دينه، كأن يشتمه شتيمة كفر -والعياذ بالله- فيصفه بالكفر، فهذا من أشد الشتم وهو الذي أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه أنه إذا قال لأخيه المسلم: يا كافر! إن كان كما قال وإلا حارت عليه، يعني: رجعت إليه والعياذ بالله! فهذا أعظم الشتم، وهو الشتم بالعيب الديني الموجب لخروجه من الملة.
وبعده الشتم بالفسق، كأن يشتمه بعيب فيه فسق كشرب خمر أو زناً أو غير ذلك، فهذا من كبائر الذنوب، ومنه قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وهو الذي توعد الله عليه باللعنة والغضب والعذاب العظيم في الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أشد أنواع الشتم.
ويليه بعد ذلك: الشتم بالمحقرات، أو قد يكون الشتم غير مباشر، فيكون بالتشبيه، كأن يصفه بوصف يقصد به المنقصة، فهذا من الشتم؛ لأنه يتضمن الانتقاص والعيب.
هذا كله مما يحرم على الصائم، ولذلك كان بعض العلماء يكره ويتقي أن يعنف الطالب في رمضان أو وهو صائم؛ خوفاً أن يكون منقصاً لأجره وموجباً لذهاب كمال ثوابه، حتى كان بعضهم يتورع ويتقي أن يقول للطالب: أنت لم تفهم؛ لأنه عيب وانتقاص؛ ولأن أصل الشتم الانتقاص.
وعلى هذا ينبغي للصائم أن يتحفظ ولا يؤذي إخوانه المسلمين بالشتم واللعن والسب، وقد ثبت في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة) اللعانون هم الذين يكثرون اللعن فهم لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، نسأل الله السلامة والعافية! فهؤلاء حرمهم الله من هاتين المرتبتين الكريمتين اللتين يحتاجهما الإنسان أكثر ما يكون لقرابته كأبنائه وبناته، فهو يريد أن يشفع لهم بخروجهم من النار أو بعذاب استحقوه، فلا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، والشهادة مرتبة شرف وكمال، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتحفظ من اللعنة.
واللعنة إذا خرجت من الفم لا تعود، وإذا نطق بها اللسان إن كان الملعون كما ذكر أصابته، وأما إذا لم يكن كذلك رجعت في الذي قالها، نسأل الله السلامة والعافية!(106/11)
ما يسن لمن شُتِم
قال رحمه الله: [وسن لمن شتم قوله: إني صائم].
أما الدليل على أنه لا يسب ولا يشتم: قوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل) والجهل: أن يسب الناس؛ لأنه فعل الجاهلية والجهل من الجاهلية، فمراده بأن لا يجهل: يعني بأن لا يقول قولاً فيه جهل، كالسب والشتم ونحو ذلك من الغيبة، (ولا يجهل ولا يصخب -والصخب: رفع الصوت- فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم) هذه هي السنة التي تدل على أنه ينبغي أن يتحفظ، فإذا استفزه الغير وحركه للانتقام ذكره بالصيام، ويقول: إني صائم.
أي: عندما يقول: إني صائم، فإنه يذكر أخاه المسلم أن يتقي الله فيه، وأن لا يجمع له بين ذنبين: بين كونه يسبه وينتقصه وبين أن يحركه لإفساد صومه، ويقول بذلك ويسمعه حتى يذكره أيضاً بتقوى الله عز وجل، خاصة إذا كان صائماً مثله.
إذا وقع السباب والمخاصمة بين اثنين فهناك سنن تتعلق بالذي شُتِمَ وسُبَّ، وسنن تتعلق بالذي يتكلم ويشتم، فالأصل أن الإنسان لا يشتم الناس كما ذكرنا، وإذا كان صائماً فإن الأمر في حقه أشد، فإن تعدى وشتم سن للذي يُشْتَمُ أن يقول: إني صائم، إني صائم.
وبعد أن بين لنا المصنف رحمه الله أنه يحرم على الإنسان أن يسب الغير ويشتمه في حال الصيام أو أن يصخب أو يجهل، شرع في بيان ما ينبغي على من خوطب بالجهل فَسُبَّ أو شُتِمَ أو انتُهِكَ عرضُه أن يقول بلسانه: إني صائم، إني صائم.
لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم) والصحيح: أنه يقول ذلك بلسانه ويسمعها للشخص، وقيل: يقول ذلك في نفسه، وهذا ضعيف؛ لأن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة حتى يدل الدليل على غيره، وقوله: (فليقل) القول: هو اللفظ، والكلام النفسي الذي بداخل الإنسان ليس بلفظ؛ لأنه لم يلفظه، وقد قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق:18] ووصف القول بأنه يلفظ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فليقل) معناه: فليلفظ هذا اللفظ فيقول: إني صائم، إني صائم.
فإذا قال في نفسه: إني صائم، فمعنى ذلك: أنه لم يلفظ وحينئذٍ لم يقل، فلا يعتبر مصيباً للسنة من هذا الوجه.(106/12)
يسن تأخير السحور
قال رحمه الله: [وتأخير سحور].
وسن له أن يؤخر السحور، والسحور: فعول من السحر، والسحر آخر الليل قبل الفجر بساعة، تزيد أو تنقص على حسب طول الليل وقصره في الشتاء والصيف، والسحر: هو السدس الأخير من الليل، فتقسم الليل على ثلاثة أجزاء: ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ثم بعد ذلك تأخذ نصف الجزء الأخير وهو السدس، فهذا السدس هو السحر الذي انتهى إليه وتره عليه الصلاة والسلام كما قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيحين: (من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوله وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر) وهو أفضل الأوقات لذكر الله عز وجل كما قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
وسمي السحور سحوراً لوقوعه في هذا الوقت، والعرب تسمي الشيء بزمانه، كما سميت صلاة الضحى؛ لأنها تقع في الضحى، وعيد الأضحى؛ لأن الأضحية تذبح في الضحى وهو أول النهار، فالمقصود: أن السحور سمي سحوراً بهذا، والسحور: فعل الأكل في وقت السحر، سواء كان قليلاً أو كثيراً، فمن أكل تمرة واحدة فقد تسحر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا فقال: (ولو بتمرة) فهو إذا أكل في السحور ولو تمرة واحدة فقد تسحر، والأفضل أن يؤخر الأكل إلى هذا الوقت؛ لأنه إذا أخر الأكل إلى هذا الوقت قويت نفسه على العبادات وعلى الطاعات؛ ولأنه يخالف شريعة من قبلنا من اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا لا يأكلون إذا استيقظوا من نومهم وإنما يمسكون، فكان في شريعتهم أنه إذا نام أحدهم حرم عليه الأكل إلى اليوم الثاني، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فرق ما بيننا وبينهم طعمة السحر) فهو يطعم ولو تمرة؛ حتى يخالف اليهود، وحينئذ تكون فضيلة وقربة لله عز وجل.
والأكل في وقت السحور مما يعين على أداء فريضة الفجر؛ لأن الإنسان إذا وقام وحافظ على السحور؛ فإنه أدعى لأن يحفظ صلاته وأن يتمكن من أدائها، لكنه إذا تسحر أول الليل ربما تساهل وقصر حتى يذهب وقت الفجر عليه، أو تفوته الجماعة فلا يصلي معها.
فالمقصود: أن الأفضل له أن يتسحر.
لكن لو أكل من الليل ثم نام واستيقظ في السحر ولم يأكل، وواصل فإنه لا إثم عليه؛ لأنه سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ولا تؤدي إلى الإخلال، فهذه من السنن ومن الفضائل.
إذاً يؤخر السحور بحيث أنه بمجرد انتهائه من السحور يكون قد دخل وقت الفجر، وهذا من أفضل ما يكون، لكن ينبغي أن يكون ذلك مع حفظ وقت الفجر، أما إذا كان يتساهل ولا يضبط الوقت وعلى شبهة فيتحرى ويتحفظ؛ فالمقصود: أن تأخير السحور شرطه أن يضبط الوقت، أما إذا كان على وجه لا يأمن منه الإخلال فإنه يمنع منه؛ لأنه لا يعقل أن يطلب السنة على وجه يضيع به فريضة الله عز وجل، وهذا ركن من أركان الإسلام.(106/13)
سنية تعجيل الفطر والمبادرة به
قال رحمه الله: [وتعجيل فطر].
ويسن أن يعجل الفطر من صيامه، فبمجرد مغيب الشمس يبادر بالفطر، وقال بعض العلماء: بذهاب الصفرة التي تكون بعد المغيب حتى يقبل الليل، قالوا: وهذا هو السر في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] أي: مع إمساك جزء يسير من الليل، وعناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا أدبر النهار من هاهنا -وأشار إلى المغرب- وأقبل الليل من هاهنا -وأشار إلى المشرق- فقد أفطر الصائم) ويبادر بالفطر (وأحب العباد إلى الله أعجلهم فطراً)، كما ورد في الخبر عنه عليه الصلاة والسلام، فهذه من الفضائل؛ لما فيه من الأخذ برخصة الله عز وجل، وترك التنطع في الدين والتشدد؛ لأن التنطع لا خير فيه، والتنطع يهلك صاحبه كما قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون) ولا ينبغي للإنسان إذا وقت له الشرع شيئاً أن يجاوزه؛ فلما وقت له أن يبقى صائماً إلى مغيب الشمس، فينبغي له إذا غابت الشمس أن يأخذ برخصة الله عز وجل ويفطر.(106/14)
سنية الفطر على رطب أو تمر أو ماء والحكمة من ذلك
قال رحمه الله: [على رطب، فإن عدم فتمر.
فإن عدم فماء] السنة أن يكون الفطر على رطب، والرطب أفضل من التمر، فإذا لم يجد الرطب فالتمر، فإذا لم يجد التمر حسا حسوات من ماء؛ لحديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا أفطر أفطر على رطبات، فإن لم يكن أفطر على تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء) صلوات الله وسلامه عليه.
وكان بعض العلماء يذكر في الطب النبوي: أن للرطب خاصية طيبة للجسم، وأنه يقابل ما في جوف الإنسان من الشدة والحرارة، ويصلح بذلك البدن ويرتفق به، بخلاف الماء فإنه ينزل نزولاً سريعاً، ويفاجئ به أعضاء الإنسان في جوفه، فيستحبون أن يسبق بالرطب؛ لأن الرطب أقل انسياباً من التمر، والتمر أسرع انسياباً.
ثم في التمر فضائل من جهة كونه هضيماً، كما أخبر الله عز وجل: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:148] فهذا الطلع إذا كان رطباً فهو أفضل وأكمل، فإذا اكتمل استواؤه صار تمراً، ومن المعلوم أن أول ما يكون من ثمرة النخل هو البسر، ويسمى: البلح، وهو الذي يكون عند الإزهاء من اصفرار أو احمرار، فتبقى البلحة على حالها ويضربها اللون، وهذه مرتبة الإزهاء، فبعد أن تزهي تبدأ تستوي قليلاً قليلاً، فيبدأ طرفها الأسفل بالاستواء والنضج، وبعض التمرات تبدأ بالترطيب من أعلاها، وبعضها تبدأ بالترطيب من أوسطها؛ حكمة من الله سبحانه وتعالى، وهذا من أبلغ الآيات التي ترد على الطبيعيين الذين يقولون: هذا من خيرات الطبيعة.
وما هذه الطبيعة التي ليست برازقة ولا خالقة؟! فلو كان للطبيعية دور في ذلك لكان الرطب إما أن يستوي من أسفله أو من أعلاه أو من أوسطه، فيتفق على حالة واحدة، فهذا الاختلاف في الألوان والأشكال والخلقة، والاختلاف في الصور، والاختلاف في الترطيب كما في الثمر، يدل على وحدانية الله عز وجل ووجوده؛ لأن هذا يدل على وجود من فرق بين هذه الأحوال، ولذلك جعل الله الاختلاف آية على وحدانيته سبحانه وتعالى.
فالمقصود: أن الرطوبة تبدأ من أسفلها، فلو كان في بداية الرطب يكون آخذاً حكم هذه الفضيلة، إذا لم يجد غيره، أما إذا كان بلحاً فلا يستحب؛ لأن البلح ييبس في الحلق، وله أثر يضر بالإنسان؛ لكنه إذا كان رطباً فإن لين الاستواء يقابل خشونة ما فيه من البلح فيعتدلا، ويكون نزوله إلى الأمعاء برفق، وهذا يذكره بعض العلماء في الطب النبوي، ثم يأتي بعده التمر؛ لأن التمر ينساب أكثر من الرطب، والشيء إذا جاء برفق للبدن صلح وانتفع به البدن.
يقولون: فإذا انساب برفق امتصته الأمعاء، ويكون هذا أكثر وأبلغ في الرفق بالبدن، فجاءت الشريعة بطب الأرواح وطب الأبدان، فكان هديه عليه الصلاة والسلام أن يبدأ بالرطب، ثم التمر، ثم الماء، وكرهوا أن يفطر على شيء فيه نار، وفيه حديث تكلم العلماء على سنده، والأطباء يؤكدون أنه لا يستقيم؛ لأن الجوف حار بسبب الصيام، فإذا شرب الحار لا يكون مما يحمد للبدن، وكان بعض الأطباء القدماء يذكرون هذا، وأشار إليه بعض الأئمة -رحمة الله عليه- في شرح حديث أنس رضي الله عنه، وبين السبب في كونه عليه الصلاة والسلام يفطر على هذا الوجه، فلا يستحبون الفطر بما فيه نار أو بالأشياء الحارة؛ لأنه لا يأمن منها الضرر لنفسه.(106/15)
سنية الدعاء عند الإفطار والحكمة منه
قال رحمه الله: [وقول ما ورد].
(وقول ما ورد) أي: يسن أن يقول ما ورد: (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله) وأما الحديث (اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا) فإنه ضعيف، وإنما يدعو الإنسان بما تيسر وليس في ذلك توقيف؛ ولكن الهدي على أنه إذا انتهى الإنسان من العبادة يرجى له القبول؛ وإذا انتهى من الصلاة قبل أن يسلم شرع له الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم (ثم ليتخير من المسألة ما شاء) وجعل هذا الموضع موضع مظان الإجابة، كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن مواضع الإجابة: (أي الدعاء أسمع؟ قال: أدبار الصلوات المكتوبات) قيل: أدبار الصلوات المكتوبات، يعني: عند آخر الصلاة، فهذا من مواضع الإجابة، وبعد الصلاة الزكاة، ولذلك قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] فإذا أدى الزكاة دعا له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكلما انتهى من الفريضة وقام بحق الله كأن الله سبحانه وتعالى يرحمه، ويكون ذلك عاجل المكافأة له في الدنيا.
وفي الصيام إذا انتهى من صيامه رجي له القبول، وفي الحج تجده إذا انتهى من موقفه بعرفة، وأصبح في يوم العيد الذي هو تمام عشية عرفة، يصلي صلاة الصبح ثم يقف عليه الصلاة والسلام بالمشعر ويدعو.
قال بعض السلف: شهدت هذا الموضع ستين عاماً أسأل الله أن لا يجعله آخر العهد به فيردني الله إليه، وإني لأستحيي أن أسأله، فرجع فمات من عامه.
وورد مثله عن الثوري رحمه الله.
المقصود: أنهم يقولون: إن انتهاء الإنسان من الطاعة والقربة مظنة الإجابة، ولذلك يقولون في الصيام: إذا انتهى من أداء صيامه يدعو وليس فيه توقيت، يعني: ليس هناك لفظ معين يحد به، وإنما يدعو بما تيسر.(106/16)
استحباب القضاء متتابعاً وفائدته
قال رحمه الله: [ويستحب القضاء متتابعاً].
ويستحب أن يقضي رمضان متتابعاً، وهذا الاستحباب لما فيه من براءة ذمة الإنسان وأدائه لحق الله عز وجل؛ فإنه لا يأمن الموت، ووجه الاستحباب: أنه بادر بأداء حق الله عز وجل: (وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) فكونه يترك التأخير ويبادر بالتقديم، هذا أفضل وأكمل؛ ولذلك قالوا: الاستحباب أن يكون القضاء متتابعاً، وذلك بأن يبدأ بعد انتهاء أيام العيد بقضاء رمضان في اليوم الأول، أما لو أفطر بعده في اليوم الثاني فقد تأخر عن إبراء ذمته، فكان خلاف الأفضل، والأفضل والأكمل أن يبادر، وأن يكون قضاؤه متتابعاً، ولكن ليس بلازم، فلو قضى رمضان متفرقاً أجزأه؛ لأن الله قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] وبالإجماع على أن المراد بها أي أيام، ما دام أنها تصح للقضاء، فيستوي في ذلك أن تقع مرتبة أو تقع مع وجود الفاصل بالفطر.
لكن هنا مسألة، وهي: أن البعض ربما يؤخر قضاء رمضان إلى أوقات يكون القضاء فيها أخف، كأن يؤخر إلى أيام الشتاء حيث يطول ليلها ويقصر نهارها، ويكون تأذيه بضرر الصيام والعطش أقل وأخف.
قالوا: يفوته الأفضل والأكمل.(106/17)
حكم من أخر قضاء رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر
قال رحمه الله: [ولا يجوز إلى رمضان آخر من غير عذر، فإن فعل فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم].
ولا يجوز أن يؤخر قضاء رمضان إلى دخول رمضان آخر من غير أن يوجد له عذر، أما لو وجد له عذر فإنه يجوز له ذلك.
توضيح هذا: أن قضاء رمضان إذا أفطر الإنسان يوماً أو يومين أو أكثر لعذر فإنما نقول له: أنت بالخيار أن تقضي متى ما شئت، بشرط أن لا يدخل عليك رمضان الثاني وأنت لم تصم.
وما الدليل على ذلك؟ حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح قالت: (إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني).
فكانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان، وهذا يدل على أن القضاء موسع، ولذلك يذكر العلماء هذه المسألة مثالاً على الواجب الموسع، ودل على هذا القرآن في قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] لكن إطلاق القرآن يقيد بما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما ذكرناه؛ وذلك بأن لا يدخل رمضان آخر.
فإذا دخل رمضان آخر ولم يصم نظرنا، نقول له: أنت بالخيار في صيامك إن شئت أن تصوم من الشهر الأول أو الثاني أو الثالث؛ لكن إذا دخل شعبان فحينئذٍ ننظر فيه، إن بقي من شعبان قدر الأيام التي عليك من رمضان الأول وجب عليك الصيام، فلو كانت عليه عشرة أيام فإنه يجب عليه أن يصوم من اليوم العشرين؛ لأن يوم الثلاثين يحتمل أن يكون من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، وحينئذٍ يصوم يوم عشرين والواحد والعشرين ثم ما بعده حتى يتم العدة.
وأما إذا كان عليه مثلاً خمسة أيام فنقول له حينئذٍ: صم من الرابع والعشرين، فيصوم اليوم الرابع والعشرين والخامس والعشرين والسادس والعشرين، حتى لا يصل إلى يوم الشك، لاحتمال أن يكون من رمضان؛ فإذا بقي على قدر الأيام التي عليه من شعبان تعين عليه الصوم، وهذا يمثل له العلماء فيقولون: الواجب الموسع يصير مضيقاً في آخره إذا بقي على قدر فعله.
كالصلاة إذا دخل وقتها فإن الإنسان إذا لم يكن ملزماً بالجماعة، كأن يكون في سفر أو نحوه، فله أن يؤخرها إلى آخر وقتها ولا حرج، فحينئذٍ إذا بقي على قدر فعلها تعينت عليه، وانتقل الواجب الموسع إلى الواجب المضيق.
فإذا بقي من شعبان على قدر الأيام التي عليه فلا يخلو من حالتين: إما أن يقول: لا أريد أن أصوم -نسأل الله السلامة والعافية- ويترك الصيام مع القدرة عليه؛ فهو آثم شرعاً، وسيأتي بيان الحكم.
وأما الحالة الثانية: وهي أن يكون معذوراً كالمرأة الحائض يصيبها الحيض، أو تصير نفساء في هذه الفترة؛ فإذا كان معذوراً فحينئذٍ ينتقل قضاؤه إلى ما بعد رمضان الثاني بدون أن نطالبه، ولا إثم عليه.
فمن سألك وقال: لم أستطع قضاء رمضان الأول حتى دخل رمضان الثاني، تقول: هناك تفصيل في مسألتك: إن كنت قد قصرت عند بقاء المدة التي عليك من رمضان الأول قبل رمضان الثاني فحينئذٍ أنت آثم شرعاً.
وهل عليه الكفارة أو لا؟ فيه قولان: الجمهور على أنه يكفر، فيطعم عن كل يوم ربع صاع، وإذا كان عليه أربعة أيام يطعم صاعاً كاملاً، فكل مسكين يعطيه ربع صاع.
وقال بعض العلماء: لا يجب عليه إلا القضاء والاستغفار.
وهذا أقوى؛ لأن الحديث الذي دل على الكفارة ضعيف؛ ولكن العمل عند جماهير العلماء على المطالبة بالكفارة، وإذا كفر فهو أفضل حتى يخرج من الخلاف.(106/18)
حكم من مات وعليه صوم
قوله: [وإن مات وعليه صوم] إن مات المكلف وفي ذمته صوم واجب عليه، كصوم رمضان أو صوم نذر، فإنه يصوم عنه وليه؛ لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه).
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الولي أن يحل محل مُوْليه إذا مات ذلك المولي ولم يصم، وهذا أصل عند جمع من العلماء رحمهم الله، إلا أن بعض أهل العلم فرّق بين صوم رمضان وصوم النذر، ورأوا أن الحديث خاص بصوم النذر.
ولكن الصحيح: أن الحكم عام في كل صيام مفروض؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صوم النذر نبه به على سائر الصيام المفروض.
وثانياً: لأن القاعدة تقول: (إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) فكون السؤال ورد على النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام النذر لا يقتضي تخصيص الحكم به، إذ كانت العلة في النذر وغيره واحدة؛ والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في صيام النذر بالقضاء بعد الموت، وذلك لكون النذر ديناً كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (أرأيتِ لو كان على أمك دين) فدل هذا على أنه لا فرق بين صوم النذر وغيره، والمهم أن يكون الصوم واجباً على الميت، فيشمل صوم رمضان وصوم النذر.
ويستوي في هذا الولي أن يكون ذكراً أو أنثى، ويستوي في الميت أن يكون ذكراً أو أنثى، فالرجل يقضي عن المرأة والمرأة تقضي عن الرجل، فالابن الذكر يقضي عن والدته، وكذلك البنت الأنثى تقضي عن والدتها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) والمراد بذلك: جنس الولي.(106/19)
حكم من مات وعليه حج
قال رحمه الله: [أو حج].
أي: من مات وعليه حج، سواء كان حج فرض كأن يموت ولم يحج، ومن مات ولم يحج فعلى حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مستطيعاً الحج وفرّط في ذلك حتى مات، فحينئذٍ يجب أن يُخْرَج من ماله على قدر الحج عنه ويحج عنه.
والحالة الثانية: أن يموت ولم يجب عليه حج؛ وذلك لأنه لم يتمكن؛ بسبب عجز مالي، ويكون معذوراً حينئذ ولا يجب عليه الحج، ومن ثم قالوا: إنه لا يجب عليه أن يُحج عنه، وهكذا لو كانت امرأة فلا يجب أن يحج عنها بعد الموت، فيستوي الرجال والنساء، المقصود أنه لا يؤمر الولي بالحج عن مُوليه إلا إذا وجب الحج على ذلك المُولي.
وأما إذا كان الحج غير واجب عليه فلا يجب على ورثته؛ لأن القاعدة تقول: (إن البدل يأخذ حكم المبدل عنه) فالولي بدل عن الأصيل الذي هو الميت، فإذا لم يجب الحج على الميت، فمن باب أولى أن لا يجب قضاؤه على ورثته، وعلى هذا فإنه إذا وجب الحج على ميت ولم يحج وفرّط حَجّ عنه وليه.
وهكذا إذا كان الحج واجباً بالنذر، كأن يكون حَجّ حجة الإسلام ثم قال: لله عليَّ أن أحج وَأَطْلَقَ ثم مات فيبقى النذر في ذمته على القول ببقائه بعد الموت، وإن كان بعض العلماء يسقطه؛ لأنه قد صار في عداد ما لا يملكه، ويسقط عنه كما يسقط النذر إذا لم يكن في ملك الإنسان.
ففي هذه الحالة إذا لزمه الحج يُحج عنه إذا قصر وفرَّط فيه، ويؤخذ من ماله على قدر ما يحج به الغير عنه.
وللعلماء تفصيل في مسألة المفرّط في الحج: فإذا كان الذي فرط في الحج وهو الميت قد وجب عليه الحج من ميقات بعيد، فإن وليه ومن يريد أن يحج عنه ينبغي عليه أن يحرم بالحج من هذا الميقات البعيد، فمثاله: لو أنه فرط في الحج وهو من أهل المدينة وقصر في ذلك، ومات ولم يحج، فإن وليه إذا أراد أن يحج عنه وكان من أهل الطائف، أو من أهل الرياض مثلاً، فإن ميقات أهل الطائف والرياض أقرب من ميقات المدينة، فحينئذٍ يلزمه أن يحرم من ميقات المدينة؛ لأن الحج وجب على الأصل من المدينة من ميقات الأبعد، فلا يحج من هو مُبْدَل عنه مما هو دون الميقات الأبعد الواجب.(106/20)
حكم من مات وعليه اعتكاف
قوله: [أو اعتكاف].
أو كان عليه اعتكاف، كأن نذر أن يعتكف، قالوا: استحب لوليه أن يعتكف عنه، وهذا مبني على العبادات البدنية التي يدخلها التناوب، وأما إذا كانت العبادة بدنية لا تمكن فيها النيابة، فلا ينزل الولي منزلة الميت، كأن يموت وعليه صلاة؛ فإنه بالإجماع لا يقضي الولي الصلاة عن الميت؛ لأنها عبادة بدنية محضة.
ورخص في الصوم لورود النص، وقيس الاعتكاف على الصوم ونزل منزلته، وإلا فالأصل أن العبادات البدنية لا ينزل فيها الولي منزلة الميت؛ وإنما جاز ذلك في العبادات البدنية المُشْتَرِكة مع المال، كالحج والصوم لورود النص باستثنائه، وبقي ما عدا ذلك على الأصل الموجب لعدم دخول النيابة فيه.(106/21)
حكم من مات وعليه صلاة نذر
قوله: [أو صلاة نذر].
أو كان عليه صلاة نذر، فللعلماء وجهان في الصلاة عنه: أصحهما أن الصلاة لا تقضى عن الميت، وبعض أهل العلم يفرق بين الصلاة المفروضة في الأصل وبين الصلاة التي فرضها المكلف على نفسه، ووجه ذلك: أنهم يسلِّمون بأن الأصل في العبادات البدنية أنه لا تدخلها النيابة.
فلا يصلي حي عن ميت، ولا يصلي حي عن حي، لكن ورد الحديث أن المرأة لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن وليّها الذي مات وعليه صوم نذر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصوم عنه، قالوا: فهذا يدل على أن العبادة البدنية المحضة وهي الصوم تدخلها النيابة إذا كانت نذراً؛ لأن السؤال وقع من المرأة عن النذر، فأبقوا الفريضة على الأصل، ثم قالوا: إن النذر ينزل فيه الولي منزلة مُوليه إذا توفي ولم يفعله.
وبناءً على ذلك ألحقوا الصلاة المنذورة، فإذا نذر أن يصلي مائة ركعة أو يصلي عشرين ركعة ونحو ذلك، وتوفي ولم يقم بهذه الصلاة، يقوم وليه بالصلاة عنه، والأول أشبه وأقوى أنه لا تدخل النيابة في مثل هذا.(106/22)
استحباب الصوم عن الميت من وليه
قوله: [استحب لوليه قضاؤه].
استحب لوليه أن ينزل منزلة الميت فيقوم بقضاء ما على الميت، وفي بعض الأحيان لابد من الإفراد في الولي، وفي بعض الأحيان يمكن للأولياء أن يقتسموا ما على ميتهم، فلو كان على ميتهم صوم مائة يوم وهذا الصوم نذره مفرقاً، فإنه في هذه الحالة يمكن أن تفرق المائة على الأولياء، ويصوم هذا عشرة أيام وهذا عشرة أيام حتى يتم العدد.
وأما إذا كان الصوم لا يدخله الاشتراك كأن ينذر صيام شهر بعينه، فإنه في هذه الحالة لا يمكن أن يتأتى القيام بهذا النذر إلا من واحد من الأولياء، فحينئذ ينتدب أحدهم ويصوم عن ميته.(106/23)
الأسئلة(106/24)
حكم بلع ما علق بين الأسنان بعد طلوع الفجر
السؤال
ما كان عالقاً بين الأسنان من أثر السحور فابتلعه الصائم هل يفطر أم لا أثابكم الله؟
الجواب
ما كان من فضلات الطعام بين الأسنان مما لا يشق التحرز عنه؛ فإنه إذا خلله وأخرجه -كبقايا اللحم أو بقايا الخبز- وقام وبلعها أو وجد طعمها في حلقه بعد طلوع الفجر الصادق عامداً لذلك؛ فإنه يفطر قولاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.
وعلى هذا: فإنه يخرج هذه الفضلات ويتفلها، أو يستاك ثم يبصق ما استاكه وما بقي من وضر ذلك الطعام، والله تعالى أعلم.(106/25)
حكم استخدام معجون الأسنان للصائم
السؤال
هل نستطيع أن نقيس معجون الأسنان على العلك بحيث نحكم بفطره إذا وجد طعمه في حلقه أثابكم الله؟
الجواب
نعم، بالنسبة لمعجون الأسنان إذا وجد طعمه في حلقه أفطر، أما لو استاك بالمعجون ثم تمضمض ونظف فمه حتى ذهبت مادة المعجون فحينئذٍ لا يؤثر؛ لأن الفم من الخارج كما ذكرنا، كما لو استاك بمسواك؛ فإن هذا لا يضر، لكن لو تحلل المعجون ووجد طعمه في حلقه فإنه يعتبر مفطراً، والله تعالى أعلم.(106/26)
وجوب القضاء على المكرهة دون الكفارة
السؤال
أشكل عليَّ أن المكرهة لا كفارة عليها، وعليها القضاء علماً بأن الطارئ واحد وهو الإكراه، فلم لم نرفع الكل أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة للإكراه يسقط عنها ولا كفارة، والسبب في ذلك أن الكفارة بمثابة العقوبة على الجرأة، فإذا كانت مكرهة لم يوجد فيها الجرأة التي من أجلها وجدت الكفارة، أي أننا أسقطنا عن المرأة المكرهة على الجماع الكفارة لكونها لم تتعد حدود الله عز وجل، وحصل منها هذا الشيء وهي كارهة، فحينئذ لا وجه لأن تطالبها بالكفارة حتى تجبر ما في نفسها من الجرأة على حدود الله.
لكن في القضاء من باب خطاب الوضع، فحينئذ تطالب بضمان حق الله؛ لأنه من باب حكم الوضع لا من باب حكم التكليف، والله تعالى أعلم.(106/27)
حكم ماء المضمضة المتبقي في الفم بالنسبة للصائم
السؤال
بعد الوضوء أحسست في فمي ماء المضمضة، ما حكم بلعه أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة لماء المضمضة إذا كان موجوداً في الفم، أو بقايا المضمضة موجودة في الفم فيجب إلقاؤها، فإن بلعها فإنه يكون في حكم الشارب.
أما إذا كانت بقايا المضمضة، وهي التي تكون مع اللعاب فهذا مما العلماء اغتفره؛ لأنه يشق التحرز عنه، فلو أبقى بعض الماء من المضمضة ثم ازدرده، فإنه يفطر قولاً واحداً عند العلماء، أما لو بقيت بقايا الماء مما هو مع اللعاب ومصاحب للعاب فإن هذا لا يضر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(106/28)
شرح زاد المستقنع - باب صوم التطوع [1]
لقد شرع الصيام فرضاً ونفلاً، وما ذلك إلا لعظيم أجره وثوابه، ومما ندب إلى صيامه: صيام الست من شوال، وأيام البيض، والإثنين والخميس، ويوم عرفة، وعاشوراء، وشهر المحرم، وما ذلك إلا ليبقى العبد على صلة دائمة بالله عز وجل عن طريق الصيام، فالصيام يطهر النفس، ويكسر الشهوة، ويحصل التقوى التي هي الغاية والحكمة من مشروعيته.(107/1)
فضل صيام التطوع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول عليه رحمة الله: [باب صوم التطوع] التطوع: تفعّل من الطاعة، والمراد بذلك زيادة الطاعة والتقرب لله عز وجل بفعل الصوم، وتوضيحه أن الصوم ينقسم إلى قسمين: قسم أوجبه الله عز وجل وفرضه على المكلف، كصيام رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر، فهذا يلزم المكلف به نفسه فيجب عليه القيام به.
وقسم ثانٍ لا يجب على المكلف وهو صيام النافلة.
وصيام النافلة: منه ما هو مطلق، كأن يصوم من الأيام ما شاء، ومنه ما هو مقيد، ندب الشرع إليه وحث العباد عليه، وهذا أفضل من النوع الذي قبله.
فالمؤلف لما فرغ من بيان أحكام الصيام الواجب، شرع رحمه الله في بيان أحكام الصوم الذي لا يجب على المكلف.
يقول العلماء: إن صيام التطوع تجبر به الفريضة، فلو أن إنساناً أخل بصوم الفرض جبر الله نقص صيام الفريضة بصيام النافلة.
واستدلوا لذلك: بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (إن أول ما يحاسب عنه العبد من عمله الصلاة، فإن كان فيها نقص قال الله لملائكته: انظروا هل لعبدي من تطوع).
قالوا: فهذا يدل على أن نقص الفرائض يكمل من النوافل والتطوع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثم سائر عمله على ذلك) قالوا: فهذا يدل على أن سائر الأعمال يفرق بين فرضها ونفلها، فيكون نفلها مكملاً لفريضتها.
وعلى هذا فمن فوائد صيام التطوع من فوائده أن الله يجبر به تقصير العبد في الفرائض، ثم إن صيام التطوع زيادة قربة وامتثال وطاعة لله عز وجل، فتزيد من محبة الله للعبد كما في الحديث الصحيح: (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه).
فالتقرب بالنوافل يزيد من حسنات العبد ويرفع من درجته، ويوجب محبة الله للعبد، وبقدر حرص الإنسان على فعل النوافل والطاعات يكون أقرب لمحبة الله، فأولى الناس بمحبة الله من حافظ على النوافل وأكثر منها.
والسبب في ذلك أنه يفعل شيئاً لم يلزمه الله به بل ترك له الخيار، فصدق في طاعته ومحبته لله عز وجل فتطوع، ويشمل ذلك الطاعات البدنية من صلاة وصيام، والنوافل المالية كالصدقات التي ينفقها الإنسان من ماله ونحو ذلك من القرب.
كأن المصنف رحمه الله يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصيام التطوع، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن أفضل الطاعات وأشرفها الصيام؛ والسبب في ذلك أن الصيام يقوم على الإخلاص، والإخلاص هو أحب الأعمال إلى الله عز وجل.
حتى قال بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع: إن الصيام أفضل من الصلاة؛ والسبب في ذلك أن الصلاة ربما دخلها الرياء، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142].
ولكن في الصيام قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ففضلوا الصيام، وقالوا: إنه من أفضل الطاعات فريضة ونافلة، ففي الفرائض هو أفضل من بقية الفرائض، وفي النوافل نافلته أفضل من بقية النوافل.
وعلى هذا خرّجوا أن الاستكثار من الصوم أفضل من الاستكثار من بقية النوافل إذا كانت تشغل عنه.
والصحيح أن الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)؛ ولأنها عماد الدين؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل -كما في الصحيحين: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- (أي: العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها) فالصلاة أفضل من الصيام؛ لكن المراد هنا الإشارة إلى تفضيل صيام التطوع.
ولا شك في أن صيام التطوع له فضيلة عظيمة، ومنزلة شريفة كريمة، ولا يحافظ على الصيام لوجه الله عز وجل إلا مؤمن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من صام يوماً في سبيل الله شديداً حره باعد الله عن وجهه النار سبعين خريفاً) فهذا يدل على فضيلة الطاعة والتقرب لله سبحانه وتعالى بالصيام.(107/2)
صيام أيام البيض وحقيقتها
قال رحمه الله: [يسن صيام أيام البيض].
أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام أيام البيض، وأيام البيض هي: اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وقال بعض العلماء: هي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، والصحيح الأول.
وقد ثبت بذلك حديث أبي ذر الذي رواه الترمذي حسنه غير واحد من الأئمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بصيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر)، ووُصفت هذه الأيام بكونها أيام بيض؛ لأن السماء تبيضّ من شدة ضياء القمر؛ والسبب في ذلك اكتمال ضوئه، وقال العلماء: إن صيامها سنة ومستحب.
وذهب الإمام مالك رحمة الله عليه وطائفة من أصحابه إلى المنع من صيام أيام البيض ومنع تحريها، ولعل الإمام مالكاً رحمه الله لم يبلغه الحديث في ذلك، وإن كان بعض العلماء يرى أن الإمام مالكاً كان يشدد في صيام أيام البيض أول الأمر، ثم لما ثبتت عنده السُّنة خفّف في ذلك، بل روي عنه أنه كان يصومها.
وقال بعض أصحابه: إنما منع منها أول الأمر؛ لأنه لم تثبت عنده السُّنة، وهذا عذر للأئمة الذين ربما يؤثر عنهم القول بخلاف السنة؛ لعدم اطلاعهم عليها، كما قرر ذلك الإمام شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه النفيس: رفع الملام، وكذلك صاحب كتاب: الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف بين الأئمة، رحمة الله عليهم.
فالصحيح أن صيام أيام البيض قربة ومستحب وأنه ليس بممنوع، وأيام البيض كما قلنا: هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
وللعلماء فيها وجهان: الوجه الأول: أن أيام البيض هي الأيام الثلاثة التي ندب إلى صيامها من كل شهر، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام، وبركعتي الضحى) فقوله: (ثلاثة أيام من كل شهر) الصحيح أنها هي الأيام البيض، وأن أفضل ما يكون من صيام ثلاثة أيام من كل شهر أن تكون الأيام البيض.
وقال بعض العلماء: الأيام البيض غير الأيام الثلاث.
والصحيح أنها هي الثلاث؛ لحديث أبي ذر رضي الله عنه: (إذا صمت ثلاثاً من كل شهر فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر).
فهذا حديث صريح في أن الأيام الثلاثة من كل شهر أفضل ما تكون الأيام البيض، وقد جاءت السنة بخلاف تنوعي وليس فيه تضاد في الروايات والأحاديث، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصوم الثلاثة أيام من غرة كل شهر، وجاء في رواية أنه كان يصوم السبت والأحد والإثنين إذا وافقت أول الشهر، فإذا كان الشهر الثاني صام الثلاثاء والأربعاء والخميس.
قال الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه: لعل الحكمة في ذلك أن يعدل بين الأيام صلوات الله وسلامه عليه، فكان إذا وافق بداية الشهر صام السبت والأحد والإثنين كما جاءت عنه الرواية، وإذا كان الشهر الذي يليه صام الثلاثاء والأربعاء والخميس.
وجاءت الرواية أنه كان يصوم الثلاثة الأيام من غرة كل شهر، فيقول بعض العلماء: هذه الثلاث التي هي من كل شهر تنوعت السُّنة بها، فتارة تكون من غرة الشهر، وتارة تكون من أوسط الشهر في الأيام البيض، وتارة تكون من آخر الشهر.
والخلاف هنا خلاف تنوع وليس بخلاف تضاد، بأن تحمل على أيام مخصوصة؛ فالصحيح والأقوى أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل جميع ذلك توسعة؛ لأن الناس يختلفون في أحوالهم.
قالوا: إنما كانت الغرة؛ لأنها مبادرة بالخير؛ لأن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر سنة مستحبة، فالأفضل أن تبادر بها في أول الشهر؛ لأنه مسارعة إلى الخير ومسابقة إلى الطاعة، وذلك مندوب ومرغوب فيه، ويكون صيام الإنسان له على هذا الوجه قربة وطاعة.
وأما إذا لم يتيسر لك صيام الغرة، فإنك تصوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، أي: تنتقل إلى منتصف الشهر، فإذا لم يتيسر لك أوله وأوسطه صمت آخره، والأمر في ذلك واسع.
وعلى هذا فإن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر الأفضل أن تكون الأيام البيض، ولا حرج أن تكون من غرة الشهر لورود السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وقد ذكر بعض العلماء -كما نبه بعض الأطباء- ومنهم الحكيم الترمذي في كتابه: المنهيات، إلى أن هذه الأيام وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، يكتمل فيها ضياء القمر ويكثر فيها الأرق ويشتد فيها هيجان الدم، فالصوم يخفف من هذا ويكون فيه لطف بالبدن.
فجمعت السنة بين خير الدين والدنيا، وعلى هذا ففي صيام الأيام البيض علة أخرى مع كونها قربة لله عز وجل، فإنها تتضمن الرفق بالبدن من هيجان الدم في ليالي البيض عند اكتمال واشتداد الضوء.
ومن بعد الخامس عشر ينكسر ضوء القمر، ويكون الأرق أخف من أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وهذا أمر معروف لمن جرّب ذلك في النوم تحت السماء مباشرة، فإن الأرق في هذه الأيام يشتد ويكون أكثر من غيرها كما لا يخفى.(107/3)
صيام الإثنين والخميس
قال رحمه الله: [والإثنين والخميس].
أي: ويسن صيام يومي الإثنين والخميس، وهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله عز وجل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الإثنين والخميس، وقال -كما في الحديث الصحيح عنه-: (تعرض الأعمال على الله في كل إثنين وخميس).
وجاء في الرواية الأخرى: (تفتح أبواب الجنة كل إثنين وخميس فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئاً، إلا اثنين بينهما شحناء، فيقال: أَنْظِرا هذين حتى يصطلحا) وهذا من شؤم القطيعة والعياذ بالله.
قال بعض العلماء: يشمل هذا أن تكون القطيعة في حدود الأيام المسموح بها، وهي حدود الثلاثة الأيام، أو تكون قد جاوزت، قالوا: إذا كانت في حدود الثلاثة الأيام أن توافق يوم إثنين، فتكون بينه وبين رجل قطيعة فيقطعه يوماً ويوافق ذلك يوم إثنين، فيمنع من حصول هذا الخير من إصابة الرحمة له، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد جاءت في السُّنة ثلاثة أدلة تدل على شؤم القطيعة: أولها: حديث أبي داود: (هجر المسلم سنة كسفك دمه)، وقد صححه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، يقولون: إنه إذا هجر المسلم أخاه سنة كاملة، فإنه تتراكم عليهم الذنوب حتى تصل في جرمها وقدرها جرم من قتل نفساً بدون حق؛ لأنه لا يأمن خلال هذه السنة من الحقد عليه والضغينة عليه، فتجتمع عليه مظالم القلب ومظالم اللسان، فلا يأمن من غيبته ولا يأمن من الوقيعة فيه، مع ما في القطيعة نفسها من إثم.
وأما النص الثاني: فحديث ليلة القدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أراه الله ليلة القدر، فأثناء بيانها له تلاحى رجلان واختصما، ووقعت بينهما الفتنة وهما: أُبي وأبو حدرد الأسلمي رضي الله عنهما في دَيْن لهما، فتخاصما وتشاجرا حتى ارتفعت أصواتهما في المسجد، فشوشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورُفعت ليلة القدر.
قال بعض العلماء: فمن شؤم الخصام والخلاف أن الله رفع هذا الخير العظيم عن الأمة.
وأما الأمر الثالث: فهذا الحديث، وهو كونه تعرض الأعمال على الله في كل إثنين وخميس، فلا يغفر للإنسان إذا كان قاطعاً لأخيه.
وأما بالنسبة لصيام الإثنين والخميس فمندوب إليه، ومفضّل لمكان عرض الأعمال على الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام: (فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) أي: والحال أني صائم.
قال بعض العلماء: لأنه إذا عُرِضَ العمل وهو صائم فهو مظنة أن يُرحم العبد، وأن يتجاوز الله عز وجل عن إساءته، وأن يتقبل ما كان من طاعته فيحصل على الخيرين، فإن كان عبداً طائعاً فهو أحرى أن يتقبل الله طاعته، والقبول هو خير ما يطلبه الإنسان من ربه إذا عمل العمل.
وأما إن كان مسيئاً فيكون مظنة أن يرحمه الله عز وجل ويغفر له.(107/4)
أقوال العلماء في صيام الست من شوال والراجح منها
قال رحمه الله: [وست من شوال].
أي: يندب له صيام ست من شوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر) والست من شوال يستوي أن تقع مرتبة أو تقع متفرقة، ويجزئه أن يصوم الإثنين والخميس ينوي بها الست من شوال، وينوي بها أن يعرض عمله وهو صائم فيحصل على الفضيلتين؛ لأن المقصود من صيام الإثنين والخميس أن يعرض العمل والعبد صائم، وهذا يقع في حالة نيته عن ست من شوال.
وتقع الست من شوال إذا كان الإنسان عليه قضاء من رمضان، فلو أخر قضاء رمضان ولم يصمه وصام ستاً من شوال قبل فإنه يجزئه، ويحصّل هذه الفضيلة والخير؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان) خرج مخرج الغالب، يعني على الأصل من صيامه، أو يقال: إن قوله: (من صام رمضان) يشمل صيام رمضان بعينه وصيام القضاء.
وقال بعض العلماء كما هو مذهب طائفة من الحنابلة والشافعية لا يجزئ أن يصوم الست قبل صيام رمضان؛ وذلك لأنه لم يصم رمضان؛ ولأنه لا يتأتى منه أن يتنفل وعليه فريضة.
والصحيح أنه يجزئ أن يصوم ستاً من شوال قبل القضاء؛ لأن قوله: (من صام رمضان) لو أخذ بظاهره لم يدخل النساء في هذه الفضيلة؛ لأن المرأة لابد وأن يأتيها العذر أثناء رمضان، فلابد وأن يكون عليها قضاء.
فإذا قيل: إنها إذا صامت بعد انتهاء يوم العيد صامت قضاءها ثم صامت الست، فإنها قد صامت رمضان وحينئذٍ يحصل لها الفضل، نقول: يستوي أن تصوم من شعبان أو تصوم من غيره، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان) على غير ظاهره؛ وإنما المراد أن يجمع العدد وهو ست وثلاثون، فإذا كان الإنسان قد صام ستاً وثلاثين، فإنه يستوي أن تكون أيام رمضان أصلاً أو قضاءً، ثم يصوم ستاً من شوال فحينئذٍ يكون محصلاً لهذه الفضيلة سواء سبق القضاء أو تأخر.
ومن الأدلة على ذلك: أنه لو قيل بأنه لابد من تقدم القضاء، فإن المرأة النفساء يأتيها النفاس ويستمر معها شهر رمضان كله، وقد يستمر معها خمسة وعشرين يوماً مثلاً، فكيف ستصوم ستاً من شوال؟ لا يتأتى لها بحال أن تصيب هذا الفضل، فعلمنا أن المراد من ذلك إنما هو المبادرة بالخير بصيام رمضان أصلاً أو قضاءً، ويستوي في ذلك أن يكون قضاؤه من شوال أو يكون قضاؤه من غير شوال.
أما كونه يتنفل وعليه فرض فهذا لا إشكال فيه؛ لأن الفرض إذا كان موسعاً فإنه لا حرج أن يتنفل صاحبه، بدليل ما لو أذن أذان الظهر فإنه يجوز للمسلم أن يصلي الراتبة القبلية مع أنه مخاطب بالفرض، لأن الوقت واسع، وقضاء رمضان وقته واسع كما ثبتت بذلك السُّنة الصحيحة في حديث أم المؤمنين عائشة: (إن كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني) والإجماع على هذا.
وبناءً على ذلك فلا حرج أن يصوم القضاء بعد صيام الست، وحديث عائشة: (إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان) يدل دلالة واضحة على أنها كانت تتنفل قبل الفريضة، ولذلك كانت تصوم الست؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يندب إليها، والغالب أنها كانت تصوم، وثبت عنها في الرواية أنها صامت يوم عرفة.
وعلى هذا فإن الصحيح والأقوى أنه يجوز أن يؤخر القضاء إلى ما بعد الست، لكن الأفضل والأكمل للإنسان أن يقدم قضاء رمضان ثم يصوم الست من بعد ذلك، وهذا أكمل من عدة وجوه، فضلاً عن كونه خروجاً من الخلاف، فإنه أفضل لما فيه من المعاجلة والمبادرة بإبراء الذمة، وذلك مندوب إليه شرعاً.
فصيام ست من شوال مندوب إليه، خلافاً للمالكية الذين يشددون في صيام ست من شوال، وأُثر عن الإمام مالك أنه كره صيام الست من شوال.
وللعلماء خلاف في سبب كراهية الإمام مالك لصيام الست، فقيل: إن الناس كانوا بمجرد فطرهم بعد يوم العيد يبتدئون صيام الست كما يفعله البعض الآن، فأصبح الناس في أيام العيد يضيقون على أنفسهم مع أنها أيام عيد، ولذلك كره هذه المبادرة والمعاجلة بصيام الست بمجرد انتهاء يوم العيد.
وقال بعضهم: إنما كره متابعتها بعد العيد؛ حتى لا يُظن أنها من رمضان، فيأتي زمان يعتقد الناس أنها كالفرض والواجب، فكان من باب سد الذرائع، ومن أصول مالك رحمة الله عليه التي بنى عليه مذهبه: القول بسد الذرائع، فكان يقول: بالمنع من الصيام على هذا الوجه سداً للذريعة.
وقيل: إنه كان يكره تتابعها، وهي أن يصومها ستاً سرداً وراء بعضها؛ حتى لا يعتقد أن ذلك فرض، والصحيح أنه يُشرع أن يصوم ستاً من شوال سواء أوقعها متتابعة أو أوقعها بعد يوم العيد، أو فرقها؛ لأن السنة أطلقت، لكن الأفضل الذي تطمئن إليه النفس، أن الإنسان يترك أيام العيد للفرح والسرور.
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أيام منى: (إنها أيام أكل وشرب)، كما جاء في حديث عبد الله بن حذافة: (فلا تصوموها)، فإذا كانت أيام منى الثلاثة لقربها من يوم العيد أخذت هذا الحكم، فإن أيام الفطر لا تبعد فهي قريبة.
ولذلك تجد الناس يتضايقون إذا زارهم الإنسان في أيام العيد فعرضوا عليه ضيافتهم، وأحبوا أن يصيب من طعامهم فقال: إني صائم، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما دعاه الأنصاري لإصابة طعامه ومعه بعض أصحابه، فقام فتنحى عن القوم وقال: إني صائم، أي: نافلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخاك قد تكلّف لك فأفطر وصم غيره).
فحينما يدخل الضيف في أيام العيد، خاصة في اليوم الثاني والثالث، فإن الإنسان يأنس ويرتاح إذا رأى ضيفه يصيب من ضيافته، كونه يبادر مباشرة في اليوم الثاني والثالث بالصيام لا يخلو من نظر، فالأفضل والأكمل أن يطيب الإنسان يطيّب خواطر الناس، وقد تقع في هذا اليوم الثاني والثالث بعض الولائم، وقد يكون صاحب الوليمة له حق على الإنسان كأعمامه وأخواله، وقد يكون هناك ضيف عليهم فيحبون أن يكون الإنسان موجوداً يشاركهم في ضيافتهم، فمثل هذه الأمور من مراعاة صلة الرحم وإدخال السرور على القرابة لا شك أن فيها فضيلة أفضل من النافلة.
والقاعدة تقول: (أنه إذا تعارضت الفضيلتان المتساويتان وكانت إحداهما يمكن تداركها في وقت غير الوقت الذي تزاحم فيه الأخرى، أُخرت التي يمكن تداركها)، -فضلاً عن أن صلة الرحم لاشك أنها من أفضل القربات فصيام ست من شوال وسّع الشرع فيه على العباد، وجعله مطلقاً من شوال كله، فأي يوم من شوال يجزئ ما عدا يوم العيد.
بناءً على ذلك فلا وجه لأن يضيق الإنسان على نفسه في صلة رحمه، وإدخال السرور على قرابته ومن يزورهم في يوم العيد، فيؤخر هذه الست إلى ما بعد الأيام القريبة من العيد؛ لأن الناس تحتاجها لإدخال السرور وإكرام الضيف، ولا شك أن مراعاة ذلك لا يخلو الإنسان فيه من حصول الأجر، الذي قد يفوق بعض الطاعات كما لا يخفى.(107/5)
فضل صيام شهر الله المحرم بعد رمضان
قال المصنف: [وشهر المحرم].
أي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى صيامه، وهو أول الشهور من السنة القمرية وهو شهر الله المحرم؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن أفضل الصوم بعد شهر رمضان صوم شهر الله المحرم.
والأفضل أن يستكثر من الصيام من شهر محرم، وأفضله يوم عاشوراء كما سينبه عليه المصنف رحمة الله عليه.
قال العلماء: إن هذا الشهر اختص بفضيلة، ولذلك يحرص الإنسان على صيامه وهو من الأشهر الحرم، والأشهر الحرم ثلاثة منها سرد، وهي: ذو القعدة وذو الحجة وشهر الله المحرم، وواحد فرد وهو رجب كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع.(107/6)
الأقوال في صيام يوم عاشوراء والراجح منها
قال رحمه الله: [وآكده العاشر ثم التاسع] أي: وآكد صيام شهر الله المحرم أن يصوم اليوم العاشر، وهو يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود تصوم يوم عاشوراء، فسأل عن ذلك؟ فقالوا: إنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه).
وللعلماء في عاشوراء قولان: منهم من يقول: إن يوم عاشوراء كان فريضة في أول الأمر ثم نُسخ برمضان.
ومنهم من يقول: لم يكن فريضة وإنما كان سنة ولم يجب.
والصحيح أنه كان فريضة ثم نسخت فرضيته برمضان وأصبح مستحباً.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة قال: (هذا يوم كتب الله عليكم صيامه، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه) فهذا حديث صريح في الدلالة على أنه كان فريضة.
وهذا في السنة الأولى من الهجرة، وفي السنة الثانية نزلت فرضية شهر رمضان فنسخت فرضية صيام عاشوراء، وبقي صوم يوم عاشوراء على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب، وصيام عاشوراء من شكر الله عز وجل على نعمته، فصامه عليه الصلاة والسلام شكراً لله عز وجل؛ لأن الله عز وجل دمغ فيه الباطل ونصر فيه الحق، وأظهر فيه أولياءه وكبت فيه أعداءه، فهو شكر لله عز وجل على عظيم نعمته وجزيل منته.
والمسلم يفرح بما يصيب إخوانه المسلمون من الخير والنعمة، وتصيبه الغبطة بذلك، وهذا يدل على أن الأنبياء كانوا كالأمة الواحدة، وأن فرحه عليه الصلاة والسلام إنما هو تبع لفرح نبي الله وكَليِمه موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ثم لما صام عاشوراء بعد ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) أي: لأصومن التاسع مع العاشر؛ لأن الأصل بقاء العاشر، ولم ينص على رفع العاشر فقال: (لأصومن التاسع) بلفظ محتمل أن يصوم التاسع وحده أو يصوم التاسع والعاشر، فبقي ما كان على ما كان.
فلما كانت النصوص تنص على العاشر، وتبين فضيلته وأن صومه يكفّر السنة الماضية كما جاء الخبر بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بقي العاشر كما هو، فصار قوله: (لأصومن التاسع) أي: لأصومن التاسع مع العاشر مخالفة لليهود.
وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان في أول الأمر يحب موافقة أهل الكتاب خاصة حينما كان بمكة؛ لأن أهل الكتاب كانوا أهل دين سماوي، وكان المشركون على الوثنية، فكان يحب موافقة أهل الكتاب لإغاظة أهل الشرك والوثنية.
فلما انتقل إلى المدينة كان اليهود يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعمون أنه يأخذ من دينهم، فأصبحت الموافقة هنا محظورة، وقصد عليه الصلاة والسلام مخالفتهم، ومن ذلك قوله: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) أي: لأصومن التاسع والعاشر مخالفة لليهود.(107/7)
استحباب صيام التسع الأول من ذي الحجة
قال رحمه الله: [وتسع من ذي الحجة].
أي: ويندب صيام التسعة الأيام، وهي اليوم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع من أول شهر ذي الحجة.
وأما اليوم العاشر فهو يوم عيد النحر، ولا يجوز صومه بالإجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين: يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى، وهما يوم ضيافة من الله سبحانه وتعالى وكرامة، ولذلك لا يصومهما المؤمن؛ ويجب الفطر فيهما حتى ولو كان الإنسان يصوم صيام كفارة، ككفارة القتل، فلو صام صيام كفارة القتل فابتدأ صيامه بشهر ذي القعدة وأتم شهر ذي القعدة، ثم شرع في شهر ذي الحجة، فإنه إذا كان يوم النحر وهو يوم العيد وجب عليه الفطر، ولا يقطع ذلك تتابع صيامه، فيصوم التسعة الأيام الأول من شهر ذي الحجة، وما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من النفي لا يقتضي عدم السنية للصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع بشيء من ذلك).
فدل هذا الحديث على فضيلة العمل الصالح المطلق في العشر، ولم يفرق صلوات الله وسلامه عليه بين الصوم ولا غيره، والأصل أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، وما ورد عن أم المؤمنين من نفي صومه عليه الصلاة والسلام للعشر من ذي الحجة فهذا مبلغ علمها.
وأياً ما كان فلا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم يترك صيام الشيء مع سنيته وفضيلته، ألا تُراه عليه الصلاة والسلام فضل صيام نبي الله داود ولم يكن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فندب إلى ذلك بالقول، فنقول: صيام تسع من ذي الحجة مندوب إليه بالقول ولا يفتقر إلى دلالة الفعل، فنفي وجود الصوم منه عليه الصلاة والسلام لتسع ذي الحجة لا تقتضي عدم الوجود، فهو مبلغ علم.
ولأنه عليه الصلاة والسلام إن لم يكن يصمها فقد دل على فضيلة صيامها بالقول، فلم يفتقر ذلك إلى وقوع الفعل منه، ومثله صيام يوم وإفطار يوم، حيث ندب إليه وفضله وجعله من أفضل الصيام وأحبه إلى الله عز وجل، وهو صيام نبي الله داود، ومع ذلك لم يكن يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام.
ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يفعل العمل ويتركه خشية أن يفترض على الأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وعلى هذا فإنه لا يكره صيام تسع من ذي الحجة، بل من الأفضل صيامها، فإذا كان يوم النحر فإنه يجب فطره ولا يجوز صومه.(107/8)
فضيلة صيام يوم عرفة لغير الحاج
قال رحمه الله: [ويوم عرفة لغير حاج بها].
أي: ويسن صيام يوم عرفة لغير حاج بها.
أي: أن فضيلة صيام يوم عرفة ثبتت بها السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صام يوم عرفة فإنه يكفر السنة الماضية والسنة الباقية قال وفي الحديث: (أحتسب عند الله أن يكفر السنة الماضية والسنة الباقية).
ولكن الحاج الأفضل له أن يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قدح اللبن وهو واقف بعرفة صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لما اختصم الصحابة هل هو صائم أو مفطر، فبُعث إليه بقدح من لبن فشربه صلوات الله وسلامه عليه وهو قائم يدعو عشية عرفة.
فدل هذا على أن السُّنة والأفضل والأكمل أن لا يصوم، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت تصوم يوم عرفة، ولكن الأفضل كما روى مالك في الموطأ: (كانت تصوم يوم عرفة حتى إذا ابيض ما بينها وبين الحاج - يعني دفع الناس من عرفة وأفاضوا - دعت بفطورها فأفطرت).
ولا شك أن الأفضل والسنة والأكمل للحاج أن لا يصوم يوم عرفة؛ والسبب في ذلك أنه إذا صام يوم عرفة فإنه يضعف عن الدعاء، ويضعف عن الذكر، وتأتي ساعات العشي التي هي أفضل ما في الموقف والإنسان منهك، وقد يشتغل بتهيئة فطوره قبل غروب الشمس، وهذا الوقت وقت دعاء وابتهال ومناجاة لله عز وجل، ولذلك كان التقوي بالفطر أفضل؛ لأنه يحقق المقصود من النسك من إصابة الدعاء ورجاء الإجابة في مثل هذا الموقف.
ومن هنا كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم الفطر، قال العلماء: الأفضل أن يحج الإنسان راكباً مع أن الحج ماشياً أكثر مشقة وأكثر تعباً، والأصول تقتضي أنه أعظم أجراً؛ لكنهم قالوا: الأفضل أن يكون راكباً؛ لأنه إذا كان راكباً قوي على العبادة وتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم.(107/9)
أفضل صوم التطوع صيام يوم وإفطار يوم
قال رحمه الله: [وأفضله صوم يوم وفطر يوم].
أي: وأفضل صيام التطوع صوم يوم وفطر يوم، وبذلك ثبتت السُّنة الصحيحة كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أحب الصيام إلى الله صيام نبي الله داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) وهذا أقصى ما يكون من صيام النافلة، ولا أفضل من هذا الصيام، أي: لا يشرع أن يصوم الأيام كلها، ولذلك قال: (لا صام من صام الأبد).
فلا يجوز صيام الدهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ وإنما يصوم الإنسان يوماً ويفطر يوماً، وهذا يدل على سماحة هذا الدين ويسره، وأنه لا خير في التنطع والتشدد في العبادات.
ولذلك لما قال الرجل: أما أنا فأصوم ولا أفطر قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون) فلا يجوز يسرد المرء الصوم؛ وإنما يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهو أقصى ما يؤذن فيه من صيام التطوع؛ لأن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يطيق أكثر من صيام يوم وإفطار يوم قال عليه الصلاة والسلام: (لا أفضل من هذا).
فأمره أن يقتصر على هذه الفضيلة التي هي غاية الصوم، وهي أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويستوي في ذلك أن يوافق يوم الإثنين أو لا يوافقه، فإذا كان الإنسان يريد أن يصوم يوماً ويفطر يوماً فإنه يتمسك بذلك ويسير عليه، سواء وافق الإثنين والخميس أو خالفهما؛ لأنه يحصل على أعلى المراتب في الصيام.
ولذلك يقولون: يغتفر ما دونها من الفضائل، وتصبح مندرجة تحت هذا الصوم تحقيقاً لفضيلة الشرع؛ لأنه لو أدخل الإثنين بأن يكون صائماً يوم الأحد ثم أتبعه بالإثنين فإنه حينئذٍ تفوته فضيلة هي أكمل من صيام الإثنين، لأنه إذا صام الإثنين فكأنه صام الأبد لأنه يعتبر كأنه سرد الصوم.
وقال بعض العلماء: يجمع بين الفضيلتين فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ويصوم الإثنين والخميس إن لم يوافقهما الصيام، وهذا القول الثاني له وجه، فلو صام يوماً وأفطر يوماً وصام الإثنين والخميس فلا حرج عليه، كما لو لم يوافق صومه يوم عرفة ويوم عاشوراء، فإنهم يقولون: يصوم ذلك اليوم ولا حرج عليه.(107/10)
إفراد رجب بصوم وغيره
قال رحمه الله: [ويكره إفراد رجب].
كانت العرب تعظم شهر رجب في الجاهلية، فبقيت هذه العادة في الإسلام، فنُهي عن إفراد رجب وتخصيصه بالعبادات، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه يضرب على أيدي المترجبين، أي الذين يفضلون شهر رجب ويخصونه بالصيام ويلزمهم بالفطر، وكان رضي الله عنه شديداً عليهم في ذلك، وحُق له ذلك إحياءً للسُّنة وإماتة للبدعة، فلم يكن عليه الصلاة والسلام يخص شهر رجب بفضائل.
وتوسع الناس في ذلك حتى فضلوا هذا الشهر على غيره من الشهور، ولا شك أنه من الأشهر الحرم، ولكن لا يُخص بالعبادات، ولا يخص بالأذكار، ولا يخص بالصلوات، ولا يعتقد في أيامه ولا في لياليه؛ لأنه لم تثبت بذلك نصوص صحيحة لا في الكتاب ولا في السنة.
والأحاديث التي وردت في تخصيص شهر رجب بالصيام والقيام والفضائل في منتصفه، وفي ليلة سبع وعشرين، كلها من الأحاديث الضعيفة، بل المكذوبة والموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي لا يجوز لمسلم أن يعتقد نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أن يتدين ويتقرب إلى الله عز وجل بها.
فلا يجوز له أن يفرد شهر رجب بالصيام، لكن لو صام فيه الإثنين والخميس، وكذلك أيام البيض فلا حرج؛ لأن هذا في رجب وغيره على حدٍ سواء.(107/11)
إفراد يوم الجمعة بصوم
قال رحمه الله: [والجمعة].
أي: وكذلك الجمعة لا يجوز إفرادها بصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على أم المؤمنين وهي صائمة سألها: (هل صمت الخميس؟ قالت: لا، قال: وهل تريدين أن تصومي الغد؟ قالت: لا قال: فأفطري) فأمرها بالفطر.
وهذا يدل على حرمة تخصيص يوم الجمعة بصيام، لأن هذا يؤدي إلى الغلو فيه.
وقال بعض العلماء: بل النهي لأن يوم الجمعة يوم فيه صلاة فإذا صام ضعف عن الصلاة، والأقوى أن العلة هي الاعتقاد في اليوم والمبالغة فيه، بدليل أنه لو كان من أجل الجمعة لكان مشروعاً للنساء؛ لأنه لا جمعة عليهن.
وبناءً على ذلك فالذي يقوى ويترجح أن العلة هي الغلو في اليوم، وهو يوم عيد للمسلمين، وهو أفضل أيام الأسبوع كما لا يخفى، وبعض العلماء يقول: إن العلة كونه عيداً والعيد لا يصام، لكن ما ذكرناه من خوف الغلو في هذا اليوم هو الأولى والأحرى.
وإذا نذر المسلم صوم يوم من الشهر كالخامس عشر أو الثاني عشر أو الثالث عشر ووافق نذره يوم الجمعة جاز له؛ لأنه فرض، وهكذا إذا صام يوماً قبله وهو يوم الخميس أو يوماً بعده وهو يوم السبت فإنه لا حرج عليه.(107/12)
إفراد يوم السبت بصوم
قال رحمه الله: [والسبت].
أي: وكذلك يحرم أن يخص السبت بصوم؛ وذلك لأن اليهود تعظم هذا اليوم، فإذا صام يوم السبت كان كما لو قصد الجمعة؛ لأنه إذا حُظر علينا أن نصوم يوم الجمعة وهو يوم عيدنا، كذلك يحظر علينا أن نخص يوم السبت بصيام لما فيه من معنى التعظيم كما ذكرنا في الجمعة.
لكن لو أن يوم السبت وافق يوماً من الأيام البيض فإنه يشرع صيامه، وهكذا لو صام الجمعة وأحب أن يصوم معها السبت فلا حرج عليه، لأن النصوص صحيحة في الدلالة على ذلك.
وأما نهيه عليه الصلاة والسلام في قوله: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) فهو حديث تكلم العلماء على سنده وفيه اضطراب، والعمل عند جمع من أهل العلم على ضعفه لقوة الاضطراب فيه، لكن على القول بتحسينه فإن القاعدة تقول: (إن الحديث الحسن لا يُعارض ما هو أصح منه).
والأدلة صحيحة صريحة في صيام يوم عاشوراء ويوم عرفة، وهي ثابتة في الصحيحين، ولا شك أن الحديث الحسن لا يرتقي إلى معارضة الحديث الثابت الصحيح، كما قال بعض الفضلاء في الحديث الحسن: وهو في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح فإذا جئنا ننظر إلى قوله: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) مع أمره عليه الصلاة والسلام بصيام يوم عاشوراء وندبه إلى صيام يوم عرفة، فإننا نرى أن هذه النصوص أقوى وأسعد وأوفق للسُّنة، وأما المبالغة في النهي إلى درجة أن البعض منع بعض الناس في الأعوام الماضية أن يصوم يوم عرفة؛ لأنه وافق السبت؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فهذا ضعيف؛ لأنه تقديم للحديث المختلف في إسناده على الأحاديث التي هي أصح وأثبت.
إضافة إلى أن عمل جماهير السلف رحمة الله عليهم من الأمة والعلماء والأجلاء، على أنه لا حرج في صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء ولو وافقت يوم السبت، ولم يمنع ذلك أحدٌ منهم إذا وافقت يوم السبت ولم ينص على المنع منه.
إضافة إلى أن السُّنة لم تنص على ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) ومن المعلوم أن صوم عرفة وعاشوراء قد يوافق السبت فقد ندب إلى صيامهما، ولم يقل: إلا أن يوافق السبت، وهو عليه الصلاة والسلام أرعى لحرمات الله.
ومذهب بعض المحدثين وأئمة أهل الحديث كـ أبي داود وغيره: أن النهي عن صيام يوم السبت منسوخ، وقد أشار إلى ذلك بعد روايته للحديث.(107/13)
النهي عن صيام يوم الشك
قال رحمه الله: [والشك].
المراد بذلك يوم الشك، وهو اليوم الثلاثين من شعبان؛ لأنه يشك فيه هل هو من رمضان أو ليس من رمضان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كحديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) وفي الحديث الصحيح: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم).
وأشار المصنف إلى هذه المسألة هنا؛ لأن صيام يوم الشك يكون على سبيل النافلة في حالة تحقق أنه من شعبان.(107/14)
حكم صيام أعياد الكفار
قال رحمه الله: [وعيد الكفار].
أي: ولا يجوز صوم يوم عيد الكفار؛ لأنه تعظيم له، ولا يجوز للمسلم أن يشابه الكفار في تعظيمهم لأيام أعيادهم.(107/15)
حرمة صوم العيدين فرضاً ونفلاً
[ويحرم صوم العيدين ولو في فرض].
أي: ويحرم على المسلم أن يصوم يومي العيد، والمراد بذلك يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى؛ وذلك لأنهما يوم ضيافة من الله سبحانه وتعالى، فيوم عيد الفطر يفطر الناس فيه من الصوم، ويوم عيد الأضحى فإن المسلم يأكل من أضحيته التي تقرب فيها لله سبحانه وتعالى.
ويحرم عليه أن يصوم يوم النحر ويوم الفطر ولو كان في صيام فرض، فلو كان عليه كفارة قتل فصام شهر شعبان كاملاً ثم صام رمضان ثم أراد أن يستتم الشهر الثاني بشوال فإنه يفطر يوم العيد ثم يصوم اليوم الثاني من العيد ويُتابع صيامه بعد ذلك.
وعلى هذا فلو نذر وقال: لله علي أن أصوم يوم عيد الفطر أو يوم عيد النحر فإنه لا يصوم اليومين؛ لأنه معصية وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم هذين اليومين.(107/16)
النهي عن صيام أيام التشريق لغير الحاج المتمتع والقارن
[وصيام أيام التشريق إلا عن دم متعة وقران].
ولا يصام أيام التشريق كما في حديث عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي: (إن أيام منى أيام أكل وشرب) وفي رواية (وبعال) فهي أيام أكل وشرب فلا يصومها الإنسان، إلا الحاج الذي لم يجد دم المتعة ولا دم القران، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله.
فالثلاثة الأيام من الحج يصومها إذا أحرم بحجه في اليوم السادس كأن يصوم اليوم السادس والسابع والثامن، فإذا لم يتيسر له ذلك فإنه يصوم أيام التشريق، ويشمل ذلك اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.(107/17)
الأسئلة(107/18)
جواز جعل أيام البيض من الست من شوال
السؤال
علمنا أنه يجوز إدراج الإثنين والخميس تحت ست من شوال، ولكن ماذا عن الأيام البيض أثابكم الله؟
الجواب
لو صام الثلاثة الأيام البيض، ونواها عن ست من شوال فإنه يجزيه وحينئذ يحصل الاندراج، وقال بعض العلماء: إنها مقصودة لشهر شوال فلا يحصل الاندراج، لكن الأشبه والأقوى أنه يحصل الاندراج، وهذا آخر ما رجعت إليه في المسألة.
والله تعالى أعلم.(107/19)
حكم القبلة للمعتكف
السؤال
ما حكم القبلة بالنسبة للمعتكف أثابكم الله؟
الجواب
القبلة للمعتكف لا تجوز؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] وهذا أمر يخطئ فيه بعض طلاب العلم، يظن أنه كما جازت القبلة للصائم أنها تجوز للمعتكف، وفي المعتكف شيء ليس في الصائم، ولذلك انعقد الإجماع على أنه لا يقبل المعتكف زوجه؛ لأن في الاعتكاف شغلاً عن الزوجة وغيرها.
وقد قال تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] وقد كان عليه الصلاة والسلام يدخل بيته ولم يقبل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وإنما كان يمضي لحاجته فإذا فرغ انطلق إلى مسجده، فالمعتكف لا يجوز له أن يقبل المرأة ولا أن يباشرها، وإذا قبلها قال جمع من العلماء: فسد اعتكافه وبطل.
والله تعالى أعلم.(107/20)
حكم إفطار المؤذن قبل الأذان
السؤال
هل المؤذن يفطر قبل الأذان أو بعد أن يؤذن أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة في الحقيقة تنبني على التقديم عند ازدحام الفضائل، فالسنة أن يبادر الإنسان بالفطر، فالمؤذن إذا بادر بالفطر فإننا نقول: يأكل التمرة أو يحتسي من الماء ثم يؤذن، فهذا وجه من يقول: يفطر ثم يؤذن؛ لأن ظاهر السنة تعجيل الفطر.
هناك وجه ثانٍ: أنه يؤذن ثم يفطر؛ لأنه إذا أذن أصاب الناس السنة وتأخر فرد عن إصابة هذه السنة، فيقولون: الأفضل أن يبادر بالأذان؛ لأنه إذا بادر بالأذان كان تحصيل سنة التعجيل لأمة؛ لكنه لو بادر بالفطر، كان تحصيل هذه السنة لواحد وفرد.
وهذا الوجه أقوى، ويعتبره العلماء مستثنى من قاعدة: (لا إيثار في القربات)؛ لأن الأفضل أن الشخص يصيب الفضيلة لنفسه، لكنه حينما يؤذن يحصل أجور من بادر بالفطر فيكون له مثل أجورهم، فحينئذ يزول الإشكال ولا يكون هذا من باب الإيثار في القرب.
فالذي تطمئن إليه النفس أنه يبادر بالأذان، ثم بعد ذلك يفطر، لما ذكرناه.
والله تعالى أعلم.(107/21)
حكم من أفطر من النفل إبراراً لمن أقسم عليه
السؤال
إذا أقسم عليَّ إنسان أن آكل معه، وكنت صائماً صيام نفل، هل أبر بقسمه أم أواصل صومي أثابكم الله؟
الجواب
لاشك أن برك بالقسم أفضل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البراء: (أمرنا بسبع ونهانا عن سبع)، ومن السبع التي أمر بها كما في الصحيحين إبرار المقسم، فإذا أقسم عليك أخوك فإنك تبر قسمه وتنال الأجرين: أجر الصيام بوجود العذر، وأجر إبرار أخيك المسلم في قسمه، إضافة إلى ما تحصله من كسب وده ومحبته، وذلك مندوب ومطلوب شرعاً.
والله تعالى أعلم.(107/22)
حكم صيام من حاضت قبل المغرب بقليل
السؤال
امرأة حاضت قبيل المغرب بقليل هل تواصل صومها أم تفطر أثابكم الله؟
الجواب
إذا حاضت المرأة قبل المغرب بقليل فإنها تفطر؛ وذلك لأن الحائض لا تصوم ولا يصح منها الصوم، وهي مفطرة شاءت أم أبت، وعلى هذا فإنها تعتبر في حكم المفطر ولا تتشبه بالصائم؛ لأنه لا وجه لها أن تتشبه بالصائم، بل الأفضل أن تفطر وتصيب الأجر حيث امتثلت أمر الله عز وجل لها بالفطر.
والله تعالى أعلم.(107/23)
تقديم طاعة الوالدين على صيام النوافل
السؤال
ما الحكم إذا تعارض صيام التطوع مع بر الوالد، وهل يجوز للوالد منع الابن من صيام النفل شفقة عليه أثابكم الله؟
الجواب
بر الوالدين من أفضل الطاعات وأجل القربات، وقد تتهم الناس إذا نصحوك أو نهوك عن أمر يريدون الخير لك، لأنك ربما اشتبهت في نصيحتهم، ولكن الوالد والوالدة لا يمكن أن تتهمهما في نصيحتهما، ولا في أي أمر يمنعانك أو يأمرانك به؛ لأنهما جبلا على محبة الخير لك، وخلق الله في قلبيهما من الرحمة والحنان والعطف ما يزيل الشبهة والشك والتهمة.
وبناءً على ذلك فإن الوالد قد يمنعك من الصيام شفقة عليك؛ لما يرى من نحول جسمك أو ضعف بدنك، أو خوفاً عليك من أن تمل الطاعة، أو نحو ذلك من المقاصد التي قد يؤجر بحسن نيته فيها.
وعلى هذا إذا وجدت من والديك العزيمة على أن تفطر فأفطر، فإنك تصيب البر، وهو آكد من صيامك؛ لأن صيامك نافلة، وتحصيلك لبر والديك فريضة، فقد دلت على ذلك السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (لما نادت أم جريج العابد جريحاً وهو في الصلاة، فقال: ربي أمي وصلاتي، أي: لست أدري هل أجيب أمي أو أتم صلاتي، فأتم صلاته فدعت عليك.
وقد بوب الإمام النووي رحمه الله: باب إذا دعاه والداه أو أحدهما وهو في النافلة قطعها وأجاب، والسبب في ذلك أن بر الوالدين فرض، والنافلة نافلة ليست بعزيمة، وأحب ما تتقرب به الفريضة، وهي مقدمة على النافلة.
ولو كان البر نافلة لكان التنفل بالبر أفضل من التنفل بالنوافل الأخرى، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما سئل عن أحب الأعمال إلى الله قال: الصلاة على وقتها قيل له: ثم أي؟ قال: بر الوالدين) ولم يفرق فيه بين الفريضة والنافلة، وعلى هذا فإنك تجيب والديك، فإن قال الوالد: لا تصم الإثنين والخميس؛ شفقة عليك وخوفاً على صحتك، فإنك تبره وحينئذٍ يكتب لك أجر الصيام لأنه حبسك عذر البر، ويكتب لك أجر البر، وأنت على خير، وكم من إنسان صرف عن طاعة لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، فما من إنسان يبر والديه في الغالب ما لم يأمر بمعصية إلا كان عاقبته خيراً.
والإنسان قد يغلبه حب الخير فيترك الفريضة بالنافلة، ولا شك أن بر الوالدين غالباً ما يأتي بأحسن العواقب وأفضلها، وقد تصرف عن النافلة بخير أعظم من ذلك، وقد يعلم الله عز وجل أنك لو داومت على خير لفتنت به بالعجب أو بالغرور.
فذات مرة اتصل بي رجل وهو يريد أن يتزوج بامرأة صالحة، وقال: إن أمه لا ترضى عن هذه المرأة، وإنها تريد امرأة قريبة له ولكنها أقل صلاحاً من هذه المرأة، فقال: نفسي تميل إلى هذه المرأة الصالحة، ولكن الوالدة تلح على ابنة خالتي؛ لأنها بنت أختها، قال: فأجد في نفسي الضيق أن أترك هذه الصالحة وأبر والدتي.
فقلت له: فيما يظهر من نصوص الشرع ما دام أن هذه بنت الخالة لا ترتكب الحرام، وأنها محافظة على أصول دينها ولكنها ليست في مرتبة الكمال، فبرك لوالدتك أفضل، فما زال يلح حتى تكرر منه السؤال ثلاث أو أربع مرات، وما زلت أحثه على بر والدته، وشاء الله أن يبر والدته وأن يترك المرأة التي كانت أصلح وعلى خير واستقامة، وانصرف إلى بنت خالته، وتزوجت المرأة الصالحة، ويشاء الله عز وجل بعد عام كامل أن ألتقي به في سفر وإذا به يكب عليَّ يسلم ويبكي، قال: والله يا شيخ! لقد سألتك عن أمر كذا وكذا إن كنت لا تذكره فإني أذكرك به، لقد شاء الله عز وجل أن تتزوج هذه المرأة الصالحة وأن أتزوج بنت خالتي، فوضع الله لي البركة في بنت الخالة، فصلحت واهتدت وحصل منها الخير الكثير، وشاء الله أن المرأة الصالحة أنه بعد زواجها بشهرين أن انتكست والعياذ بالله، وأصبحت من أفسق النساء حتى إنها اتهمت.
فالله عز وجل لحكمة يوقفك على شيء تهواه وتحبه، وقد تتحمس لعاطفة الدين وأنت على خير وأنت تريد نية الخير، ولكن الله يقيض لك أماً تدعوك إلى برها ويقيض الله لك والداً يدعوك إلى بره، فقد ترى أن هذه المرأة صالحة، ولكن علم الله أن خاتمتها ليست بحسنة، أو تراها صالحة ولكن علم الله أن ذريتها ليست بصالحة، فيقيض الله لك الوالد أو الوالدة يقفان في وجهك ويصرفانك عما هو أجود، فقد ترى بنت الخالة أو بنت العم أقل صلاحاً، وقد تبتلى في آخر عمرك ببلية وتكون بنت العم أصبر على بليتك، وقد تكون بنت العم التي تراها أقل التزاماً أو أقل طاعة، قد يجعل الله لك منها ذرية ونسلاً صالحاً.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا البر وأن يعيذنا من العقوق، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضى.
إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(107/24)
شرح زاد المستقنع - باب صوم التطوع [2]
الدخول والشروع في الفرض الموسع يحرم قطعه، ويوجب إتمامه، أما إذا كان نفلاً فلا يحرم؛ ولكن الإتمام أفضل.
وقد فضل الله شهر رمضان فاختصه بوجوب الصيام، وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير ليالي العام، وفضائلها مشهورة، وهذه الليلة كما ينبغي الحرص عليها ينبغي معرفة آدابها وما يستحب من الدعاء والعمل فيها، ومعرفة الليلة التي يرجى أن توافقها.(108/1)
يحرم قطع الفرض الموسع لمن دخل فيه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه].
بين المصنف رحمه الله بهذه العبارة أن الشروع في الفريضة يمنع من قطعها، وهذا أصل قد دل عليه قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] ولا شك أن العبادة في الأصل إذا شرع الإنسان فيها فعليه أن يحرص على إتمامها وكمالها، وإذا أحب الله العبد ووفقه للطاعة والخير والبر فمن دلائل حبه له أن يعينه على فعل ذلك الخير، فإذا أراد أن يتمم عليه النعمة ويكملها أعانه على تكميل ذلك الخير.
فالشروع في الفرض الموسع يحرم قطعه.
والفرض ينقسم إلى قسمين: مضيق، وموسع.
فالمضيق: يلزم فعله في وقته الذي ضيق الشرع فيه، ولا يجوز للمكلف أن يؤخره.
وأما الموسع: كقضاء رمضان، فإنه يجب عليك أن تقضي ما فاتك من أيام رمضان، إلا أن هذا القضاء لا تطالب به مباشرة بعد انتهاء شهر الصوم؛ فقد وسع الله في قضائه إلى رمضان الآخر، فهو واجب موسع وفرض موسع.
وهكذا لو أذن عليك أذان الظهر وأنت في أول الوقت فإنه فرض موسع، أي أنك بالخيار أن تؤخره ما لم يكن ذلك سبباً في تفويت جماعة أو نحوه، إذا كان يجب على الإنسان أن يشهدها.
فالمقصود: أن الواجب الموسع ذكره المصنف لكي ينبه على أن الواجب المضيق من باب أولى وأحرى.
بناءً على العبارة الأولى، فلو أن إنساناً كان عليه صيام يوم من رمضان، وقضاؤه موسع، فأنت بالخيار أن تصوم مباشرة بعد يوم العيد، وبين أن تؤخر القضاء إلى شعبان، فلو أنك بادرت وصمت هذا اليوم في شوال، فإنك بشروعك فيه لا يجوز لك أن تقطعه ولا أن تفطر فيه.(108/2)
أقوال العلماء في قطع النفل بعد الشروع فيه
قال رحمه الله: [ولا يلزم في النفل].
أي: إذا صام الإنسان صوم نفل فهل يلزمه بمجرد شروعه في صوم النفل أن يتمه أو لا يلزمه الإتمام؟ قولان عند العلماء رحمة الله عليهم، وتعرف هذه المسألة عند أهل العلم رحمهم الله بمسألة: الشروع في النوافل، وأوردوا عليها السؤال المشهور: هل الشروع في النوافل يصيّرها فرائض أو لا؟ فذهب طائفة من العلماء إلى أن الشروع في النوافل يصيرها فرائض.
وذهب طائفة من العلماء إلى أن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض.
ومحل الخلاف: إذا بدأ الإنسان بالنافلة.
ومن أمثلة ذلك: لو أن إنساناً أحرم بنافلة في الضحى مثلاً، فإنه لا يجب عليه إتمامها، فلو أنه عرض له العارض فسلَّم منها ومضى، فإنه لا حرج عليه على القول الثاني، وأما على القول الأول فيأثم؛ لأن الشروع فيها ملزم بإتمامها، وهكذا في الصوم، فمن شرع في صوم نافلة كأن يصوم الإثنين والخميس، ثم طرأ عليه ما يوجب فطره من غير عارض لازم، فلم يكن ذلك لمرض أو عذر، فعلى القول بأن الشروع في النوافل يصيرها فرائض لا يجوز له الفطر، ويجب عليه أن يتم صوم ذلك اليوم، وعلى القول بأن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض، فإنه لا يجب عليك الإتمام، فإن شاء أفطر، وإن شاء أتم، وهو الصحيح.
والدليل على جواز فطرك في صوم النافلة إذا شرعت فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتطوع أمير نفسه) فدل هذا الحديث على أن الخيار لمن تطوع، ولكن الأفضل والأكمل للمسلم إذا بدأ خيراً أن لا يقفل بابه على نفسه، ولذلك ينبغي للمسلم دائماً أن يحرص على شكر نعمة الله عليه بالطاعة، فأي عمل خير يفتحه الله عليك من نافلة أو بر فلا تقطعه ما استطعت لإتمامه سبيلاً.
وهذه المسألة يقع فيها بعض الأخيار خاصةً، إذا عرضت لهم أمور فيها خير ومصلحة، فتجد الإمام يتقدم بالناس ويؤمهم أو يعظهم ويخطب فيهم، فقلّ أن تجد الشيطان يترك مثل هذا، فيأتيه من باب الخير فيسوّل له ترك هذا العمل، أو الإعراض عنه بحجة الاشتغال بغيره.
وهذا لا شك أنه يقفل على نفسه باب الخير، ويحرم نفسه من خير عظيم، وهكذا إذا فتح الله عليك باب خير في دعوة أو بر أو قربة ونحو ذلك مما يحتسب فيه الأجر عند الله، إياك أن تكون سبباً في قفل باب الخير عليك! فلو كنت مشتغلاً بالصدقات وتفريج كربات المسلمين وستر عوراتهم، فجاءك الشيطان وقال لك: اترك هذا، وأقبل على كذا وكذا؛ فانظر رحمك الله في أمرك؛ وارجع إلى العلماء ولا تستعجل؛ لأنه قلّ أن يوفق إنسان لباب خير فيقفله عليه ثم يوفق له ثانية؛ لأنه إذا تسبب في قفل باب الخير على نفسه كأنه أعرض عن نعمة الله، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه.
ولذلك تجد الإنسان إذا كان مذبذباً في أموره، وكلما فتح الله عليه باب خير قفله على نفسه، قلّ أن تجده موفقاً، وقلّ أن يصيب الكمالات في أمور الطاعة والبر، فينبغي على الإنسان دائماً إذا وجد أن الله هيأ له باب خير، كالصلاة والصيام وقيام الليل أن لاّ يسعى في قفل هذا الباب على نفسه، فإن حال بينه وبين هذا الخير عذر كمرض أو شغل أو نحو ذلك مما هو آكد، فإنه يندم، ويشتكي إلى الله عز وجل أنه لو كان فارغاً لقام بهذا الخير حتى يجمع الله له بين الحسنيين، ويُبَلِّغه أجر الطاعتين، والله كريم وفضله عظيم، وكلما حسنت نية الإنسان بلغ من الخير الشيء الكثير.
فهذه الجملة المقصود منها: أن الإنسان إذا بدأ بالطاعة، فإنه مخير بين أن يتمها، وهذا أفضل بإجماع العلماء، وبين أن يتركها، وهذا دون الكمال، ولا يجب عليه أن يتم؛ لأن الطاعات ليست بواجبة في أصل الشرع إلا شيئاً واحداً استثناه العلماء من النوافل فيجب إتمامه بمجرد الدخول فيه، وهو النسك، والمراد به الحج والعمرة.
فمن أحرم بحج نافلة أو أحرم بعمرة نافلة فإنه يجب عليه إتمامهما، ولا يحل إلا بإتمامهما إلا في ما استثنى الله من المحصر وما في حكمه، فلو أن إنساناً أحرم بعمرة نافلة في رمضان مثلاً، ثم جاء فوجد الزحام، فقال: لا أريد أن أتمها، ولبس ثيابه ومضى، فقال: ما دامت نافلة فإني لا أتمها، ورجع إلى أهله، فإنه لا يزال محرماً حتى يتحلل من عمرته، وجميع ما يصيب من محظورات الإحرام فإنه يجب عليه أن يفتدي عنها، ولو مضت على هذه العمرة أيام وأسابيع وشهور، فإنه لا يزال مخاطباً بنص كتاب الله عز وجل بإتمامها، كما في قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196].
وقد أجمع العلماء على أن الحج والعمرة إذا كانا نافلة، أنه يجب على من شرع فيهما أن يتمهما، وعلى هذا: فإن العلماء استثنوا من مسألة الشروع في النوافل الحج والعمرة إذا كانا نافلتين، فيجب على الإنسان أن يتمهما ولا يخرج منهما إلا بالتحلل، أو بالصورة التي أذن الله فيها في مسائل الإحصار، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية.(108/3)
عدم وجوب قضاء الفاسد من النوافل إلا نافلة الحج
قال رحمه الله: [ولا قضاء فاسده إلا الحج].
أي: ولا يجب عليه قضاء الفاسد من النافلة.
فلو أن إنساناً صلى ركعتين وتبين له فسادهما، فإنه لا يجب عليه قضاء الركعتين، وأما الحج والعمرة فإنه يجب عليه قضاء الفاسد.
توضيح ذلك: لو أن إنساناً أحرم بالحج أو أحرم بالعمرة وقد نوى النافلة، ثم أفسد ذلك بالجماع، فيقال له: يجب عليك أن تمضي في هذا الفاسد وأن تتمه، ثم تنشئ بعد ذلك عمرة بدلاً عن هذه العمرة، أو حجاً بدل هذا الحج.
وهذا هو ظاهر القرآن في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] قال العلماء: وردت الآية الكريمة عامة تأمر بالإتمام للفاسد والصحيح على حد سواء، فيجب عليه أن يتم عمرته الفاسدة ويتم أيضاً حجه الفاسد، وعليه القضاء.
وبذلك أفتى عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر في الرجل الذي جامع أهله، وأصله قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: عليه أن يمضي في حجه حتى يتمه، ثم يأتي بحج من عام قابل ويهدي، ويفترقا.
يعني: أنه لا يحج مع امرأته في السنة القادمة عقوبة له، وخوفاً من الوقوع مرة أخرى، من باب تعاطي الأسباب لحفظ الحق لله عز وجل.(108/4)
طلب ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان
قال رحمه الله: [وترجى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان] حديث المصنف هنا عن الصوم، ولما بين أحكام الصوم المفروض والصوم النافلة شرع فيما يتبع الصوم من قيام رمضان.
وقيام رمضان في الأصل يراد به تحصيل فضيلة الشهر كله، وفضيلة ليلة القدر على وجه الخصوص، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وقال أيضاً في الصحيح: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
فقوله رحمه الله: (وترجى ليلة القدر في العشر الأواخر): أولاً: ليلة القدر سميت بذلك لعظيم قدرها ومكانتها عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك شرفها الله عز وجل فجعل قيامها خيراً من ألف شهر يقومها الإنسان، ولا شك أن هذا يدل دلالة واضحة على أن الله فضلها واختارها من بين الليالي، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]: إن الله اختار من الليالي ليالي العشر الأواخر، واختار من الليالي العشر ليلة القدر.
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]: هي ليالي العشر الأواخر من رمضان، أقسم الله عز وجل بها لشرفها وعظيم قدرها ومكانها؛ لاشتمالها على أعظم وأفضل ليلة وهي ليلة القدر.
والله سبحانه وتعالى اختار من الناس، واختار من الجماد، واختار من الأزمنة، واختار من الأمكنة ما شاء سبحانه وتعالى، فاختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة، واختار من ليالي السنة ليالي العشر، واختار من ليالي العشر ليلة القدر، واختار من الأيام أيام العشر من ذي الحجة، فأيام العشر من ذي الحجة أيام مفضلة، واختار من أيام العشر من ذي الحجة يوم عرفة، فكان اختيار الله عز وجل لجميعها.
فإذا نظرت إلى الأيام كانت الأيام العشر من ذي الحجة أفضل، وفضيلتها في النهار آكد، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة) وخصت ليالي العشر الأواخر من رمضان بفضيلة الليل دون النهار، وهذا الذي دعا بعض العلماء إلى قوله: إن أيام عشر من ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر؛ وذلك لأن العشر الأواخر فضيلتها في الليل، وأما عشر من ذي الحجة ففضيلتها عامة شاملة لليل والنهار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من أيام) فشمل ذلك النهار والليل.
وأما بالنسبة لليالي: فالفضيلة لليالي العشر، وبها ورد القسم، وأفضل ليالي العشر ليلة القدر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وأفضل أيام العشر من ذي الحجة يوم عرفة، وهذا التفضيل لله فيه الحكمة البالغة.
والله سبحانه وتعالى فضل ليلة القدر وندب إلى إحيائها، وذلك في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 - 3] فوصفها بأنها خَيْرٌ، وقوله: (خَيْرٌ) في لغة العرب بمعنى: أخير، فالعرب تقول: فلان خير من فلان.
أي: أخير، وتقول: فلان شر من فلان.
أي: أشر، كما في قول أبي طالب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم في البائية المشهورة: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّا وَجدْنا مُحَمَّداً نَبِيّاً كَمُوْسَى خطَّ في أَوَّلِ الكُتْبِ وَأن عليه في العباد محَبَّةً وَلاَ خَيْرَ مِمَّنْ خَصَّهُ الله بالحُبِّ أي: ولا أخير ممن خصه الله بالحب، فمعنى قول الله في ليلة القدر: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] أخير من ألف شهر، وهذا يدل على فضيلتها وعظيم شأنها عند ربها.
وقال بعض العلماء: ليلة القدر من التقدير؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقدر فيها الأرزاق والأمور، وهي الليلة التي يكون فيها التقدير من عام إلى عام، والله أعلم بما يكتب فيها من سعادة السعداء ومن شقاء الأشقياء، ولذلك فضلت وَشُرِّفَت بهذا.
وقوله: (ترجى ليلة القدر) أخفى الله ليلة القدر؛ وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى، وهذا الخفاء -كما يقول العلماء- لكي يجتهد الناس في الطاعة، فلا يقتصرون على ليلة من بين الليالي، ولا يجعلون طاعتهم مقصورة عليها، فإذا علموا أنها في العشر الأواخر اجتهدوا في العشر الأواخر كلها، وهذا هو مقصود الشرع.(108/5)
تأكد طلب ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر
قال رحمه الله: [وأوتارة آكد] وعلى هذا: فإن الأفضل أن يحرص على قيام ليالي العشر لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف العشر الأواخر من رمضان.
وأوتار العشر الأواخر آكد؛ وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
وللعلماء في الوتر وجهان: منهم من يقول: الوتر بعدد الشهر، فيبتدئ بالليلة الحادية والعشرين، ثم بعدها ليلة ثلاث وعشرين، ثم ليلة خمس وعشرين، ثم ليلة سبع وعشرين، ثم ليلة تسع وعشرين.
وقيل: الوتر لما بقي من الشهر، فيشمل ذلك ليلة الثلاثين، وليلة ثمانٍ وعشرين، وليلة ست وعشرين، وليلة أربع وعشرين، وليلة اثنتين وعشرين؛ وذلك بسبب كون الباقي وتراً إذا نظرت إلى العدد.
ومن هنا قال العلماء: إنها تشمل الأوتار والأشفاع لاحتمال النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في ثالثة تبقى، في خامسة تبقى) والثالثة التي تبقى هي: ليلة ست وعشرين، والخامسة التي تبقى هي: ليلة أربع وعشرين، وقس على هذا، ومن هنا قال العلماء: شمل الأمر بالوتر ما بقي وشمل عدد الشهر، ومن هنا بقيت محتملة للعشر الأواخر كلها.
وأقوى الأقوال: أنها تنتقل؛ وذلك لأن النصوص قوية جداً في إثبات ليلة الحادي والعشرين وإثبات ليلة التاسع والعشرين، ولذلك لا يمكن التوفيق بين هذه النصوص إلا بمسألة الانتقال.
وهذا قول جمع من السلف رحمة الله عليهم وجمع من الأئمة؛ بأنه لا يمكن الجمع بين هذه النصوص إلا على هذا الوجه، مع أن هناك بعض الأدلة يقوي ليلة خمس وعشرين، وهناك بعض الأدلة يدل على إحدى وعشرين، وهو ثابت في الصحيح، وليلة سبع وعشرين وهو آكدها وأقواها لورود كثير من الأدلة، فدل هذا على وجود مسألة الانتقال.
والمسلم يتحرى هذه الليلة ويحرص على قيام العشر الأواخر طلباً لفضيلتها، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى يختص بفضله من شاء، وإذا حسنت نية الإنسان وصدق مع الله فإن الله يصدق معه.
هذان قولان للعلماء رحمة الله عليهم؛ لأن السُّنة وردت بهما في حديث: (التمسوها في الوتر من العشر الأواخر) وكذلك تفصيله في قوله: (في ثالثة تبقى، في خامسة تبقى) ومن قال: إنها ليلة إحدى وعشرين فقد استدل عليها بحديث المطر (أُريت أني أسجد صبيحتها على الماء والطين) فوكف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين، وأُري الماء والطين في جبهته صلوات الله وسلامه عليه في مسجده، فهذا يقوي قول من قال: هي ليلة إحدى وعشرين.(108/6)
القول بأن ليلة القدر في ليلة سبع وعشرين
قال رحمه الله: [وليلة سبع وعشرين أبلغ].
فإنه قد قال به جمع من السلف رحمهم الله، ويختاره بعض الأئمة كما نبه عليه المصنف رحمه الله عليه.
والذي يظهر -والله أعلم- أن القول بانتقالها قول من القوة بمكان، أي: أنها تنتقل خلال العشر، وأن ليالي العشر محتملة؛ ولله في ذلك حكمة بالغة، فلو علم الناس ليلة القدر لأهلك بعضهم بعضاً بالدعاء، ولتسلط السفهاء بمسائل وحوائج الدنيا، ولخمل الناس عن إحياء العشر الأواخر، والعناية بغيرها، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى: أنه جعلها مخفية، وقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم عليها ثم رفعت.
وسبب رفعها: أنه تلاحى رجلان -وهما: أُبي وأبو حدرد الأسلمي رضي الله عنهما- فلما تلاحيا، أي: حصلت بينهما الخصومة داخل المسجد في الدَّين، كشف النبي صلى الله عليه وسلم الستار من قبته التي كان يعتكف فيها، فأمر عليه الصلاة والسلام بالوضع من الدَّين، وأمر المديون أن يقوم بالقضاء، وقال لأصحابه: (أُريت ليلتكم هذه فتلاحى رجلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً ... ) أي: عسى الله أن يجعل الخير في رفعها.
ولا شك أنه خير عظيم إذ صرف الله عز وجل الناس إلى الاشتغال بإحياء الليالي العشر، وهذا أعظم في أجورهم؛ والإنسان إذا أحيا ليالي العشر كاملة فلا شك أنه مصيب لليلة القدر، وأنه سينال هذه الفضيلة بلا إشكال؛ لنص النبي صلى الله عليه وسلم على كونها داخل العشر.(108/7)
دعاء ليلة القدر
قال رحمه الله: [ويدعو فيها بما ورد].
أي: ويدعو في ليلة القدر إذا رآها بما ورد؛ والسبب في ذلك: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (يا رسول الله! أرأيت لو أني رأيت ليلة القدر ما أقول.
قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) استدل بعض العلماء بقولها: (رأيت) على أن السُّنة دالة على أن لليلة القدر أمارات وعلامات، وأن الإنسان يتبين بهذه العلامات أن الليلة ليلة القدر؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (لو أني رأيت ليلة القدر).
وتوسع العوام في ذلك وأحدثوا في ذلك بدعاً وأموراً لا أصل لها في الشرع، وذلك في الدلالة على ليالي القدر، والصحيح: أن هذا أمر مسكوت عنه، والله أعلم بالعلامات التي تكون والتي تقع.
ولكن من أهل العلم رحمة الله عليهم من قال: إن الله وصف هذه الليلة بنزول الملائكة، والملائكة سكينة، والسكينة تغشى معها الطمأنينة للناس، خاصة في المساجد، قالوا: فالغالب أن الإنسان يجد من انشراح الصدر وطمأنينة القلب ما لا يجده في غيرها من الليالي؛ لأن الملائكة تتنزل، ولا شك أن السكينة إذا تنزلت فإن فيها الثبات وفيها الطمأنينة، ويجد الناس أثر ذلك.
فهذه من العلامات التي استؤنس فيها بورود نص القرآن بقوله سبحانه: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} [القدر:4] لكن ينبغي الوقوف في مثل هذا على مورد النص؛ لأنه هو الأصل.(108/8)
الأسئلة(108/9)
الشروع في النافلة لا يصيرها فريضة
السؤال
على القول الراجح بأن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض، فما معنى قول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] أثابكم الله؟
الجواب
أن ظاهر هذه الآية الكريمة المراد به: ما أوجبه الله وفرضه على عبده، فهذه الأعمال التي فرضها الله سبحانه وتعالى على العبد، لا ينبغي له أن يسعى في إبطالها وإفسادها باختياره.
أما بالنسبة للنوافل وبالنسبة وما لم يوجبه الله عليه فإننا نقول: يجوز له أن يقطعه؛ والسبب في ذلك: أنه لو قيل: إن الآية عامة فإننا نقول: هذا العام مخصص؛ لأنك لو قلت: إن الشروع في النافلة يصيرها فريضة؛ أصبحت النافلة التي نص الشرع على كونها نافلة فريضة، والشرع إنما نص على كونها نافلة، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) فدل على أن النافلة ليست بفريضة، إذ لو كانت النافلة فريضة بالشروع للزم إتمامها ولو فاتت الفريضة.
فدلت هذه النصوص بمجموعها على أن النافلة نافلة، وأننا لو قلنا: إن الشروع فيها يصيرها فريضة فقد خالفنا أصل الشرع الذي جعلها ليست بلازمة، كما في الصحيحين عندما سئل عليه الصلاة والسلام: (هل علي غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوع) فوصفه بكونه متطوعاً من بداية العمل إلى نهايته، فدل على أن النافلة نافلة، وأنها لا تصير فريضة بالشروع.
والله تعالى أعلم.(108/10)
حكم من نذر أن يصوم يوماً ثم أراد قطع الصيام
السؤال
من نذر أن يصوم لله يوماً، ثم صام وأراد أن يقطع صومه ويصوم في يوم آخر، فهل له ذلك؟
الجواب
من نذر أن يصوم لله يوماً: إن سمّى اليوم وحدده فلا يجوز له أن يفطر قولاً واحداً؛ كأن يقول: لله علي أن أصوم غداً، فحينئذ لا يجوز له أن يفطر قولاً واحداً، لكن إذا قال: لله عليّ أن أصوم يوماً وأطلق، فهذا واجب موسع يصدق على أي يوم، لكنه بمجرد دخوله فيه صار مضيقاً عليه، وحينئذٍ هو فريضة في أصله، وبتحديده لذلك وابتداء الصيام يجب عليه الإتمام.
والله تعالى أعلم.(108/11)
شرح زاد المستقنع - باب الاعتكاف [1]
الاعتكاف سنة مستحبة، ثبت فضله في الكتاب والسنة، وذلك لما فيه من الخير الكثير، ولأنه تجتمع فيه فضائل وخصال حميدة، منها: لزوم المساجد، ومداومة ذكر الله سبحانه، وكثرة الصلاة، وتلاوة القرآن، وغيرها من الفضائل والقرب والطاعات، وأفضل الاعتكاف في العشر الأواخر؛ لأن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والمعتكف فيها هدفه إدراك هذه الليلة المباركة.
وللاعتكاف شروط وأحكام وآداب يجب مراعاتها حتى تحصل الفائدة من هذه القربة العظيمة.(109/1)
مشروعية الاعتكاف وفضله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [باب الاعتكاف].
الاعتكاف: مأخوذ من قولهم: عكف على الشيء يعكف عكوفاً، إذا لزم ذلك الشيء، سواء كان خيراً أو شراً، كما قال سبحانه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] أي: عليها عاكفون ملازمون لها، والاعتكاف: هو لزوم المسجد للطاعة والقربى والتقرب لله سبحانه وتعالى، فهو لزوم مخصوص، من شخص مخصوص، في وقت مخصوص.
فهذا اللزوم المخصوص المراد به لزوم المساجد، وهذه القربة والطاعة مستحبة، ولها فضيلتها، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنها من الطاعات والقرب المستحبة؛ لثبوت فضيلتها في كتاب الله عز وجل، وكذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الكتاب فقوله سبحانه: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]، وهذا يدل على شرف وفضل العكوف والاعتكاف في المسجد.
وكذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه اعتكف، واعتكف معه أصحابه رضي الله عنهم، فهي من السنن التي يقتدى ويتأسى فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، واعتكف أزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن، وأجمع العلماء على فضيلة الاعتكاف، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة الاعتكاف نصوص صحيحة كما نص على ذلك الأئمة رحمة الله عليهم، ومنهم الإمام أحمد، قال: لا أعلم فيه شيئاً صحيحاً.
يعني: في فضيلة الاعتكاف وما يكون فيه من الأجر.
إلا أن هناك بعض الأحاديث التي تدل على الفضيلة، وما خلت من كلام وما خلت من مطعن.
والاعتكاف: قربة وطاعة شرعها الله عز وجل لعظيم ما يحصل فيها من الخير والبر للإنسان، فالإنسان إذا اعتكف في بيت الله عز وجل لزم طاعة الله سبحانه، ولزم أفضل الطاعات وأشرفها وأحبها إلى الله عز وجل، ألا وهي ذكره عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عنه: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله) ولو لم يكن في فضل هذه الطاعة إلا قوله سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] لكفى، فإن الإنسان إذا لزم بيت الله فقد لزم أحب البيوت إلى الله سبحانه كما في الحديث الصحيح: (أحب البلاد إلى الله مساجدها).
فهو يلزم أحب البلاد لفعل أحب الطاعات، ولا شك أنه سيصيب من ذلك الخير في دينه ودنياه وآخرته؛ فالإنسان إذا لزم المساجد معتكفاً على الوجه المعتبر، وأدى لهذه العبادة حقها، وقام بها وأقامها على وجهها؛ فإنه أسعد الناس بما يكون فيها من الخير.
ولذلك من الناس من اعتكف فخرج من اعتكافه بصيام النهار وقيام الليل، ومنهم من خرج من الاعتكاف بختم كتاب الله عز وجل كل ثلاث ليال، ومنهم من خرج من الاعتكاف بلزوم ذكر الله عز وجل؛ لأنك إذا بَقِيْتَ عشر ليال وأنت في طاعة الله صائم النهار قائم الليل، والناس حولك يذكرون الله سبحانه، ويعينونك على الطاعة والذكر، حتى لو أنك سئمت أو مللت فنظرت إلى غيرك ووجدته مجداً مشمراً في الخير؛ قويت نفسك على الخير، وانبعثت على الطاعة والبر.
وهذا يجعلك مستديماً للطاعة، فتمر عليك العشر الليالي وأنت محافظ على ختم كتاب الله كل ثلاث ليال؛ فتجد لذة العبودية لله والأنس بالله عز وجل، ولذة مناجاته وحلاوة دعائه وذكره سبحانه؛ فتخرج منشرح الصدر مطمئن القلب؛ وقد وجدت خيراً كثيراً غفل عنه الغافلون.
فإذا كان الإنسان كامل العقل سوي الفطرة ووجد هذه اللذة فإنه لا يفرط فيها، ويقول: الله عز وجل ندبنا إلى الخير في كل زمان ومكان، وندبنا إلى الطاعة في كل زمان ومكان، فيخرج وهو أقوى ما يكون على العبادة، وأقوى ما يكون على الذكر، ولذلك من الناس من يحافظ على ختم القرآن كل ثلاث ليال؛ لأنه اعتاد ذلك في اعتكافه فقويت نفسه على ذلك بعد الاعتكاف.
ومن هنا قال العلماء: إن الاعتكاف يعين على الخير، ويقوي النفوس على الطاعة والبر، وهذا هو الاعتكاف الحق الذي يخرج الإنسان منه وهو أقوى ما يكون على طاعة الله وأقرب ما يكون إلى الخير.
وَذِكْرُ المصنف لهذا الباب في كتاب الصوم واضح؛ لأن الاعتكاف إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في شهر الصوم، ولذلك السُّنة في الاعتكاف أن يكون في رمضان؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا بأس بالاعتكاف في غير رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف عشراً من شوال.
قال بعض العلماء: في هذا دليل على مشروعية الاعتكاف في رمضان وغير رمضان؛ ولأن الله سبحانه وتعالى قال: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125] ولم يفرق بين اعتكاف وآخر، فالمعتكف في أي زمان هو على طاعة الله عز وجل وبره، ولا يخص ذلك رمضان على سبيل اللزوم، لكن الأفضل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والحرص على الاعتكاف في رمضان ما لم تكن هناك أمور آكد من الاعتكاف: كبر الوالدين، والقيام على الأهل في نفقاتهم، ونحو ذلك من الحقوق الواجبة، فإذا كان عند الإنسان والدان يحتاجان إليه، ويحتاجان إلى بره وقربه فإنه يقدم بر الوالدين على الاعتكاف؛ لأن بر الوالدين فريضة فرضها الله عز وجل وقرنها بتوحيده، وألزم عباده بها، وحثهم وحضهم عليها، وأكد هذا الحث والحض، وأما الاعتكاف فإنه سنة ومندوب إليه، ولا يشتغل بالمندوب على وجه يضيع به الحق الواجب بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ وإنما يتقرب إلى الله بما فرض، ولذلك لا يعتكف الإنسان إلا بعد أن يكون قائماً بحقوق نفسه، وحقوق أهله، وحقوق الناس، فإذا كان على هذا الوجه فَنِعْمَ الاعتكاف! ثم إنه إذا دخل إلى معتكفه عليه أن يعلم أن هذا الاعتكاف ينبغي أن يتقيد بالضوابط الشرعية، وأن يكون قائماً فيه بالواجبات على أتم وجوهها وأكملها.
فأول ما ينبغي على المعتكف: أن تكون نيته وطويته وسريرته خالصة لله سبحانه وتعالى، وأحب ما يكون عنده أن لا تسمع به أذن ولا تراه عين ولا يعلم أحد أنه معتكف؛ وذلك من كمال إخلاصه، وهذا هو الذي دعا بعض السلف لما سئل عن الإخلاص، قال: أن يتمنى العبد أن عمله بينه وبين الله لا يعلم به أحد.
وهذا كمال الإخلاص، فتدخل إلى المسجد ولا يشعر أحد بك أنك معتكف على قدر استطاعتك.
على خلاف ما يفعله البعض -أصلحهم الله- في هذا الزمان، فتجد الرجل يحدث بالاعتكاف قبل أن يفعله نسأل الله السلامة والعافية! ويقول: إذا كانت العشر الأواخر سنعتكف في مكة أو نعتكف في المدينة أو نحو ذلك.
وهذا لا يأمن صاحبه من الغرور، ولا يأمن من الرياء، ولا يأمن من الإدلاء على الله عز وجل بطاعته، بل ينبغي على الإنسان أن يحفظ طاعته، وأن يجعلها خالصة لوجه الله عز وجل، وهذا هو أصل الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه.
فإن الإنسان إذا راءى راءى الله به، وإذا سمّع سمّع الله به كما قال صلى الله عليه وسلم: (من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به) فإذا كان الإنسان يخرج إلى معتكفه وهو يريد وجه الله، فإنه ينال أجره حتى يعود إلى بيته؛ لأنه خرج في حسبة وطاعة وقربة لله عز وجل، فخطواته مكتوبة وأوقاته مكتوبة، حتى نومه في المسجد يكون عبادة له؛ لأنه قد اعتكف ولزم المسجد في طاعة الله سبحانه وتعالى، وهذا لا شك أنه مقرون بإخلاص النية لله عز وجل، وكلما خلصت نية الإنسان نال من التوفيق في الاعتكاف بقدرها.
ولذلك تجد البعض من الأخيار إذا دخل الاعتكاف وقد حدث الناس باعتكافه، أو دخل وفي نيته أن يجلس مع زيد وعمرو، وأن يؤانس الأصحاب والأحباب ونحو ذلك؛ وجدته ينصرف كثيراً عن ذكر الله عز وجل، ولا يوفق إلا إلى النزر القليل من الخشوع والإنابة إلى الله عز وجل، ولا شك أن هذا كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فمن كانت نيته خالصة لله، ثم غيرها فجعلها للأنس بالناس، ولإضاعة الأوقات بالجلوس مع زيد وعمرو؛ فإن الله يغير ما به من حلاوة طاعته ولذة مناجاته.
وإذا علم المعتكف أنه سيأنس بالناس، فليعلم أن الأنس بالله أعظم من الأنس بالناس، وإذا كان جلوس الإنسان مع زيد وعمرو يدخل السرور عليه، فإن الصلاة وإحياء الوقت بذكر الله أعظم سروراً وأنساً وبهجة وطمأنينة في قلب من فعل ذلك، فليحرص الإنسان على أن يقوم بهذه العبادة على وجهها.
كذلك أيضاً ينبغي عليه أن يحفظ هذه العبادة من العوارض التي تصرفه عن ذكر الله عز وجل، فلا ينبغي له أن يكون خاملاً مكثراً من النوم، ومكثراً من رغبات النفس التي تريدها، ومن شهواتها الكثيرة من مأكل ومشرب ونحو ذلك، بل عليه أن يحمل نفسه على العزيمة، وأن يقويها على الطاعة، وأن يعد أيامه التي يعتكفها، ويقول: يا نفس! -كأنه يناجي نفسه- كم نمت؟ وكم ارتحت؟ وكم استجميت؟ فاجعلي هذه الأيام من السنة في طاعة الله عز وجل خالصة لوجهه.
والاعتكاف له شروط وله واجبات ينبغي توفرها، وسينبه المصنف رحمه الله على جميع هذه الشروط والواجبات، إلا أن المنبغي على الإنسان أن يحرص في اعتكافه على السؤال عن السُّنة وتحري هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.(109/2)
حقيقة الاعتكاف ومحل وقوعه
قال المصنف رحمه الله: [وهو لزوم مسجد لطاعة الله تعالى] الضمير (وهو) عائد للاعتكاف؛ كأنه يقول رحمه الله: حقيقة الاعتكاف عندنا معشر الفقهاء والعلماء لزوم المسجد.
هذا المسجد مفهومه: المسجد مَفْعِل من السجود، والمراد بذلك المسجد المعهود، وليس المراد به كل موضع يسجد عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فالمراد بالمسجد هنا: المعهود الذهني، وهو المسجد المعروف الذي إذا أطلق في الشرع انصرف إليه الحكم، فلا يشمل المصلى، والمصلى: هو الذي تفعل فيه بعض الصلوات دون بعضها.
فالمُصَلَّى لا يعتكف فيه، أي: ليس محلاً للاعتكاف، ودليل ذلك قوله سبحانه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فدل على أن الاعتكاف يختص بالمساجد.
وبناءً عليه قالوا: لو كان المعتَكَفُ مصلًّى فإنه لا يعتكف فيه؛ وإنما يعتكف في المسجد.
ثم المسجد ينقسم إلى قسمين: هناك مسجد يجُمَّع فيه، وهناك مسجد لا يجمَّع فيه.
والمراد بقولنا: (يجمّع فيه) أي: تصلى فيه صلاة الجمعة؛ فالمسجد الذي تصلى فيه الجمعة بالإجماع يعتكف فيه.
وأما المسجد الذي لا يجمّع فيه، ففيه تفصيل: إن كان قد أوجب على نفسه أن يعتكف العشر الأواخر فحينئذٍ ينصرف إلى مسجد يجمّع فيه؛ والسبب في ذلك: أنه إذا نذر اعتكاف العشر الأواخر أو أوجبها على نفسه فإن هذه العشرة الأيام ستتخللها الجمعة قطعاً، وبناءً على ذلك لابد وأن يكون في موضع أو مسجد يجمّع فيه، ومن هنا يقولون: إنه لابد وأن يكون اعتكافه للعشر كاملة في مسجد يجمّع فيه؛ لأنه لو اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة فسيكون مضطراً إلى الخروج لصلاة الجمعة، وحينئذٍ يفسد اعتكافه بالخروج إذا كان قد نذر اعتكاف العشر كاملة.
أما إذا كان اعتكافه اعتكاف طاعة وقربة ولم يقصد به العشر كاملة، فإنه يصح في المسجد الذي يجمّع فيه والمسجد الذي لا تكون فيه الجمعة، لكن بشرط: أن تكون فيه جماعة؛ لأنه مخاطب بشهود الصلاة مع الجماعة، وبناءً على ذلك لابد وأن يكون اعتكافه في موضع تقام فيه الجماعة بالصلوات الخمس.
وبناءً على ما سبق: فلا يصح الاعتكاف في مسجد لا تقام فيه الجمعة إن كان مريداً لاعتكاف العشر كاملة، أو أوجبها على نفسه، وأما بالنسبة للمسجد الذي لا يجمّع فيه وتقام فيه الجماعة، فإن الاعتكاف فيه صحيح، إذا لم يكن قد أوجبه على نفسه وفرضه.(109/3)
الغرض من الاعتكاف والأعمال التي يقوم بها المعتكف
قوله: (لطاعة الله) (اللام) للتعليل، أي: لزوم المسجد من أجل طاعة الله تعالى.
والطاعة هنا نكرة شاملة لكل طاعة أي: لكل أمر مشروع، سواء كان من الأقوال أو الأفعال.
أما الأقوال: فيشمل ذلك: قراءة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، والاستغفار، ونحو ذلك من القرب القولية.
وكذلك أيضاً يشمل الطاعة التي هي القرب الفعلية: فيشمل ذلك الصلاة وهي أفضلها وأحبها إلى الله عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) فمن أفضل الطاعات التي يداوم عليها المعتكف كثرة الصلاة، فإن كثرة الصلاة تزيد من صلة العبد بربه كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه: (وما تقرب إلىّ عبدي بشيء أحب إلىّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه) الحديث.
فيحرص العبد على طاعة الله عز وجل سواء كانت قولاً أو فعلاً، وكذلك الاعتقاد، وهو الطاعة بالقلب؛ كذكر الله في قلبه، والنظر في ملكوت الله عز وجل، والتفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى، كل ذلك يعتبر من الطاعة والقربة، كما أثنى الله عز وجل على عباده الأخيار من أولي الألباب الذين يذكرونه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ويثنون على الله عز وجل بما هو أهله، من ذكره وتعظيمه سبحانه وتعالى.
قوله: (لطاعة الله) فخرجت المعصية، فلا يجوز للمعتكف إذا كان معتكفاً أو غير معتكف أن يرتكب معصية؛ لكنه في الاعتكاف أشد، فالغيبة في المسجد أعظم من الغيبة خارج المسجد، وهكذا أذية المسلم في المسجد بلسان؛ كَسَبِّ الناس وشتمهم، وهذا ما يقع فيه بعض الجهال -أصلحهم الله- حينما يحجزون الأماكن فهم يحجزونها بدون حق، فإذا جاء أحد وقعد فيها سبوه وشتموه، ونسوا حقوق المسلم على أخيه المسلم، ولم يرعوا فيه حق الإسلام، ولربما كان ذلك على سبيل الظلم، فتجده يحجز المكان الذي يسعه ويسع غيره، فإذا جاء الغير وجلس فيه أقام الدنيا وأقعدها، فانتهك حد الله عز وجل ومحارم الله بسبه وشتمه وأذيته وانتقاصه وعيبه.
ولا شك أن هذا يعود على صاحبه بالوزر العظيم، فلا يجوز أذية الناس باللسان والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فالمسلم يحفظ لسانه عن أذية المسلمين والنيل منهم والانتقاص لهم، وإذا زلّوا عليه وأخطئوا فزاحمه إنسان في الصف الأول أو نحو ذلك فليذكره بالله عز وجل، وليقل: يا أخي! اتق الله.
لأن الله سائلنا ومحاسبنا عما نقول، فبدلاً من أن تبادر الإنسان بالأذية والسب والشتم والثلب وكشف عورته وأذيته، فبادره بالنصيحة، وذكره بالله عز وجل حتى تعذر إلى الله، فإذا أصر وأبى فحينئذٍ يخير الإنسان بين أمرين: بين أن يعفو عنه إذا أخطأ عليه، وهذا أحسن، وبين أن يقتص منه، وهذا حسن؛ ولذلك قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18] ففي القرآن حسن وأحسن، فالحسن: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] والأحسن: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فهذا أكمل وأعظم، وهو أكثر قربة لله سبحانه وتعالى، وأرضى لله عز وجل.
فإذا كان الإنسان معتكفاً، وجاء شخص وجلس في مكانه، جاءه برفق وقال له: يا أخي! هذا مكاني.
وهذا إذا كنت خرجت من هذا المكان لقضاء الحاجة فقط، وأما ما عدا ذلك فلا يجوز حجز المكان، فإذا خرج الإنسان لقضاء حاجته ثم جاء ووجد الغير قد جلس مكانه فليقل: أصلحك الله يا أخي! هذا مكاني.
فإذا أصر وأبى ذكره بالله، وقال له: يا أخي! لا يجوز لك أن تجلس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا قام أحدكم من مجلسه لحاجته فهو أحق به إذا عاد إليه) فتذكره بالسُّنة وتقيم عليه الحجة، فإن أبى فاعلم رحمك الله أن الأجر من الله، وأن الله يعلم أن هذا المكان مكانك، وأنك في الصف الأول ولو كنت في آخر الصفوف، فما دمت قد صرفت عن حقك بالظلم؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيؤتيك أجرك، والله مطّلع على السرائر والضمائر، فلا يجوز لك أن تضيع الأجر عليك.
فإذا كان الإنسان معتكفاً فليحذر من مثل هذه الآفات، وليعلم كما قال هذا الإمام الجليل: إن الاعتكاف للطاعة وليس للأذية ولا للتشويش على الناس ولا للتضييق عليهم، ولا شك أن أذية المسلمين عامة لا تجوز، فكيف إذا كانت في المساجد؟!(109/4)
سنية الاعتكاف
قوله رحمه الله: [مسنون].
أي: أن هذا الاعتكاف الذي هو ملازمة المسجد لطاعة الله مسنون، أي: هو سنة، وقد دل على سنيته وشرعيته دليل الكتاب -كما قلنا- ودليل السُّنة من هديه عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال لأصحابه: (فمن كان معتكفاً فليعتكف معنا) أي: ليعتكف العشر الباقية كما في حديث أبي موسى في الصحيح حينما نزل عليه الوحي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه اعتكف أول الشهر ثم اعتكف أوسطه، ثم نزل عليه جبريل بالوحي من السماء (إن الذي تطلبه -يعني: ليلة القدر- أمامك) أي: أمامك فاطلبه، فدل هذا على فضيلة العشر، وفيه دليل على مشروعية الاعتكاف وفضيلته.(109/5)
جواز الاعتكاف بلا صوم
قال رحمه الله: [ويصح بلا صوم].
أي: ويصح الاعتكاف بلا صوم، وهذا له صور: الصورة الأولى: أن تعتكف في الليل مجرداً عن النهار، وقد ثبت بذلك الحديث الصحيح عن عمر رضي الله عنه كما في الصحيح لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نذر أن يعتكف ليلة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره، فدل هذا على مسألتين: المسألة الأولى: أن الاعتكاف لا يشترط له الصوم، وهذا هو أصح قولي العلماء، خلافاً للحنفية والمالكية رحمة الله عليهم الذين يقولون باشتراط الصوم لصحة الاعتكاف.
والأمر الثاني: أنه يجوز أن تعتكف أجزاء النهار؛ لأنه إذا لم يشترط الصوم فإنه يجوز لك أن تعتكف أجزاء النهار؛ لأن الليل جزء من اليوم، فدل على جواز اعتكاف جزء من اليوم، سواء كان ليلة كاملة أو كان نهاراً كاملاً أو كان ساعة كاملة، بل قال العلماء: لو أن إنساناً دخل الفريضة فنوى أن يعتكف مدة جلوسه في المسجد فإنه معتكف، ويكون له فضل الاعتكاف إذا نوى ذلك؛ وذلك لإطلاق الكتاب والسُّنة.
والأفضل والأكمل: التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف الكامل خاصةً في العشر الأواخر.(109/6)
وجوب الاعتكاف مع الصوم بالنذر
قال رحمه الله: [ويلزمان بالنذر].
ويلزم الاعتكاف والصوم بالنذر، هذا إذا كان اعتكافه نافلة، ولا ينتقل من كونه نافلة إلى الوجوب إلا في صور: منها: النذر، فإذا نذر وقال: لله عليّ أن أعتكف يوماً.
فقال بعض العلماء: إذا قال: لله عليّ أن أعتكف يوماً، فلابد وأن يكون صائماً فيه.
وقال بعض العلماء: يغنيه أن يعتكف اليوم بدون صيام.
وهكذا لو قال: لله عليَّ أن أعتكف ليلة.
فإنه يجزئه أن يعتكف الليل ولا يلزمه الصوم في هذه المسألة، إنما يلزمه الصوم إذا نوى النهار، فقال بعض العلماء: إذا نوى اعتكاف النهار كاملاً فإنه يصوم.
والصحيح: أنه يلزمه الصوم ويلزمه الاعتكاف بالنذر، بمعنى إذا نذر وصرّح في نذره أن يكون صائماً، فإنه يلزمه الاعتكاف مع الصوم، وإلاّ أجزأه ولو جزء النهار، فلو قال: لله عليّ أن اعتكف في النهار.
فإنه يصدق عليه أنه معتكف ويتم نذره ولو بساعة واحدة من النهار.(109/7)
عدم صحة الاعتكاف إلا في مسجد جامع
قال رحمه الله: [ولا يصح إلاّ في مسجد يجمّع فيه].
ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد يجمّع فيه؛ لأنه إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجماعة، فإن معنى ذلك أنه سيترك فريضة الله من شهود الصلاة مع الجماعة.
وكذلك أيضاً إذا اعتكف العشر الأواخر في مسجد تقام فيه الجماعة ولا تقام فيه الجمعة، فمظنة أن يترك الجمعة في يوم الجمعة.
واستثنى بعض العلماء من ذلك: المريض المعذور في الجمعة، قالوا: يجوز أن يعتكف العشر الأواخر في مسجد لا يجمع فيه؛ لأنه إذا حضرت الجمعة صلاها ظهراً، ولا يجب على مثله أن يشهد الجمعة.(109/8)
جواز الاعتكاف للمرأة في كل مسجد
قال رحمه الله: [إلا المرأة ففي كل مسجد سوى مسجد بيتها].
إلا المرأة فإنه يجوز لها أن تعتكف في كل مسجد، والأصل في جواز الاعتكاف للنساء: أن الله تعالى عمم في قوله سبحانه: (وَالْعَاكِفِينَ) فشمل هذا الرجال والنساء.
وكذلك السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أقر نساءه على الاعتكاف معه صلوات الله وسلامه عليه، وإنما عاتبهن في الغيرة ومنافسة بعضهن لبعض وقال: (آلبر أردتن) وهذا يدل على مشروعية اعتكاف المرأة، ولكن بشرط أن لا يكون في النية دخن، كأن يكون ذلك على سبيل المضارة، كأن يكون بين الضرتين كما وقع لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.
واعتكاف المرأة جائز؛ لكن بشرط: ألا يؤدي إلى المحاذير الشرعية كمخالطة الرجال، وكذلك أيضاً وقوع الفتنة والمحظور.
والأفضل للمرأة أن تلزم بيتها كما قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، والأفضل أن تصلي في مسجدها في بيتها وفي مخدعها، فهذا أفضل لها وأكمل وأفضل لغيرها؛ لأن الخير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، وكلما سُتِرَ النساء عن الرجال، كلما كان ذلك أحفظ لدين الرجال وأحفظ لدين النساء، فما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده فتنة أضر على الرجال من فتنة النساء، ولذلك الأفضل للمرأة أن تلزم بيتها.
فإن أحبت أن تعتكف فلا حرج، لكن بشرط: أن لا يؤدي اعتكافها إلى فوات الحقوق الواجبة عليها، فإن كان هناك حق لزوج فإنها لا تعتكف، وإنما تؤدي حق زوجها؛ لأن الله فرض عليها القيام بحقه، ولا يعقل أن تنصرف من الواجب إلى النفل، فالله يُتَقَّربُ إليه بما افترض، وإذا نوت المرأة في نفسها أنه لولا شغل زوجها لاعتكفت كتب الله أجرها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم شعباً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم شركوكم الأجر.
قالوا: يا رسول الله! كيف وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر).
فالمرأة التي يحبسها عذر زوجها والقيام بحقوق زوجها أجرها كامل، وهكذا لو حبسها تربيتها لأطفالها، وقيامها بحقوق أطفالها؛ فإن أجرها كامل، فكم من متمن للخير يبلغه الله درجته! ولعل الله لحكمة صرف المرأة عن شهود المساجد حتى تنصرف عن الفتنة، ويكتب لها الأجر بالنية.
فلا يجوز للمرأة أن تخرج للاعتكاف وتضيع حقوق أولادها أو حقوق زوجها، فلا شك أنها مطالبة بالحقوق المفروضة قبل القيام بالنوافل والمستحبات.(109/9)
عدم جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها
قال رحمه الله: [سوى مسجد بيتها].
أي: يجوز لها أن تعتكف في كل مسجد؛ لأنه لا تجب عليها الجمعة ولا تجب عليها الجماعة، إلا مسجد بيتها فلا يصح لها أن تعتكف فيه؛ لأن المراد بالمساجد: المساجد المعهودة، ومسجد بيتها يعني: مخدعها الذي تصلي فيه، فهو ليس بمحل للاعتكاف؛ لأن الاعتكاف إنما هو في المساجد المعهودة.(109/10)
عدم الوفاء بالنذر إذا شدت الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة
قال رحمه الله: [ومن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة، وأفضلها المسجد الحرام، فمسجد المدينة، فالمسجد الأقصى لم يلزمه فيه].
ومن نذر الاعتكاف فقال: لله عليّ أن أعتكف.
فإنه لا يلزمه الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ولذلك خص الله عز وجل هذه المساجد، فلا يجوز شد الرحال للقرب المتعلقة بالمواضع إلا إلى هذه المساجد، فلا تشد الرحال للمشاهد ولا للقبور ولا لزيارتها، ولا كذلك للدعاء عندها، ولا للذبح عندها، وكل ذلك مما يعتقد أنه قربة لا يجوز فعله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
بل إن بعض هذه الأفعال يفضي إلى الشرك، والخروج من الملة -والعياذ بالله- وكفر صاحبه، كأن يشد الرحل للذبح عند القبر، أو دعاء صاحب القبر، أو التوسل بصاحب القبر بالذبح والاستغاثة والاستجارة به، مما وقع فيه كثير من الجهال في الأزمنة المتأخرة نسأل الله السلامة والعافية! ولا شك أن هذا الأمر تُنْقَضُ به عرى الإسلام، ويوجب خروج صاحبه من الملة نسأل الله السلامة والعافية! فالمقصود: أن شد الرحال للاعتكاف ولو أوجب ذلك على نفسه فقال: لله عليّ أن أعتكف في مسجد قباء، فإنه لا يلزمه أن يذهب إلى مسجد قباء وأن يعتكف فيه، فإذا نوى ونذر في أي مسجد فإنه يغنيه أحد هذه المساجد الثلاثة، إلا إذا نوى أفضلها فلا يغني المفضول عن الأفضل، فلو نوى أن يعتكف في مسجد بيت المقدس فإن الصلاة فيه بخمسمائة، فيجزئه أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً لو نوى أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يغنيه أن يعتكف في مسجد الكعبة.
وهذا على الأصل الذي ذكرناه؛ لأن الأعلى يغني عن الأدنى، ولا يغني الأدنى عن الأعلى، فالعكس لا يصح، فلو نوى أن يعتكف في المسجد الحرام فإنه لا يجزئه أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ينتقل من الأعلى إلى الأدنى.(109/11)
عدم جواز النقل في النذر من الأعلى إلى الأدنى
قال رحمه الله: [وإن عين الأفضل لم يجز فيما دونه وعكسه بعكسه].
لقد بين المصنف رحمه الله في هذه المسألة حكم نذر الاعتكاف، فالشخص إذا نذر الاعتكاف في مسجد، وكان هذا المسجد أفضل من غيره، فإنه لا يجزئه أن ينصرف إلى ما دونه، ومثال ذلك: أن ينوي الاعتكاف في المسجد الحرام؛ فإنه لا يجزئه أن ينصرف إلى مسجد المدينة، وكذلك لو نوى الاعتكاف في مسجد رسول صلى الله عليه وسلم لم يجز له أن ينصرف إلى ما دونه من سائر المساجد، غير المسجد الحرام.
والأصل في ذلك: أنه إذا نوى الأفضل أنه لا تبرأ ذمته إلا به أو بما هو أفضل منه، ولذلك إذا نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وانصرف إلى المسجد الحرام، فإنه قد حصَّل فضيلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة، حيث فضل الله المسجد الحرام على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بمضاعفة أجر الصلاة فيه، وبوجود عبادة الطواف.
إذاً المسجد الحرام اختص بهاتين الفضيلتين اللتين لا يشاركه فيهما غيره من سائر المساجد، فمن نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز له أن ينصرف إلى المسجد الحرام، ولا يجزيه أن ينصرف من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأقصى، أو إلى غيره من سائر المساجد ما عدا المسجد الحرام، وفي ذلك سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر الصحابي حينما نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى أن يعتكف في مسجده صلى الله عليه وسلم.(109/12)
جواز النقل في النذر من الأدنى إلى الأعلى
قال رحمه الله: (وعكسه بعكسه).
أي: إذا نوى الأقل جاز له أن ينصرف إلى الأعلى -كما ذكرنا- ومن نوى الأعلى لا ينصرف إلى الأدنى، فالحكم في هذا على ما ذكرناه.(109/13)
الأسئلة(109/14)
المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة
السؤال
هل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) يخصص الدليل العام في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فلا يجوز الاعتكاف إلا في هذه الثلاثة أثابكم الله؟
الجواب
( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) للعلماء فيه وجهان: يقولون: هذا نفي بـ (لا نافية) وهو نفي لحقيقة شرعية، والنفي المسلط على الحقيقة الشرعية عهدنا من الكتاب والسنة أنه يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يقصد به نفي الكمال.
والصورة الثاني: أن يقصد به نفي الصحة.
أما مثال النفي المسلط على الحقيقة الشرعية لنفي الكمال: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له) فأهل السنة والجماعة على أن هذا النفي نفي لكمال الإيمان، وليس المراد به نفي الإيمان كلية كما يقول الخوارج، وإنما قالوا: إنما هو نفي لكمال الإيمان؛ لثبوت النصوص الأخرى التي تدل على أن الإيمان لا يحبط بنقصانه عن الكمال.
فقوله: (لا إيمان) نفي للإيمان، والإيمان حقيقة شرعية، فتسلط النفي على الحقيقة الشرعية وهي الإيمان، فحمل على الكمال لورود النصوص الأخرى التي تدل على أنه مراد للكمال.
كذلك أيضاً: تنفي الحقيقة الشرعية للصحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فإن هذا نفي لصحة القبول من أساسه، فلا يحكم بصحة العبادة ولا بإجزائها -أعني الصلاة- إذا وقعت من غير طهارة؛ لأن النفي هنا مسلط على القبول المراد به نفي الصحة.
وعلى هذا قالوا: إذا ورد النص بنفي حقيقة شرعية نظرنا: فإن دلت النصوص على العموم بالصحة بقينا على ذلك، كقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فهذا يدل على إطلاق الاعتكاف في جميع المساجد، فصرف النفي عن ظاهره من إفادته لعدم صحة الاعتكاف إلى نفي الكمال.
ثم في الحديث ما يدل على نفي الكمال: (لا اعتكاف -كامل- إلا في المساجد الثلاثة) لأن هذه الثلاثة المساجد فيها فضائل لا توجد في غيرها، فالمسجد الحرام الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، مع فضيلة الطواف بالبيت، وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالصلاة فيه بألف صلاة، وأما المسجد الأقصى ففيه الصلاة بخمسمائة صلاة.
فكأن المعتكف في هذه المساجد الثلاثة لا يمكن أن يوازيه غيره ولو بلغ ما بلغ من كثرة الطاعات؛ لأنه يحصل على فضائل اختصت بها هذه المساجد الثلاثة.
والقاعدة في الأصول: (أنه إذا تردد الحديث بين معنيين: معنى يعارض به النصوص، ومعنى لا يعارض به النصوص، وأشعر معنى النص بأحد المعنيين وجب صرفه عليه) فلما كان في هذه المساجد مزية وفضل دل على أن قوله: (لا اعتكاف) أي: لا اعتكاف كامل؛ لمزية هذه المساجد ودلالة الشرع على وجود خصوصيتها بالفضائل.
فقوي حمل الحديث على اعتكاف كامل، وهذا قول جماهير السلف رحمة الله عليهم، وبه أفتى الأئمة الأربعة، وهو أنه يجوز أن يعتكف في غير المساجد الثلاثة.
وذهب مجاهد بن جبر رحمه الله -من أئمة السلف، وهو تلميذ ابن عباس رحمه الله- إلى القول بأن الاعتكاف لا يصح في غير المساجد الثلاثة، واختاره بعض المتأخرين من العلماء، وهذا قول له وجهه من ظاهر الحديث، فمن أخذ به فإنه لا يعتكف في غير هذه المساجد الثلاثة، ولكن الظاهر والأقوى: أنه يعتكف في غير هذه المساجد الثلاثة، وأن الفضيلة للمساجد الثلاثة ومن اعتكف فيها، فإن غيره لا يحصل فضله؛ لعظيم ما ورد فيها من الخصائص كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.(109/15)
حكم قطع صلاة الفريضة لمن سمع جماعة بقربه
السؤال
هل يجوز لمن دخل في الصلاة وسمع جماعة بقربه أن يقطع الصلاة ليصلي معهم أثابكم الله؟
الجواب
من دخل في صلاة وظاهر السؤال أنه دخل في صلاة الفريضة، كأنه يريد أن يصلي مع الجماعة بدلاً من أن يصلي لوحده، وهذا مبني على مسألة تسمى: ازدحام الفضائل.
هل يقطع الصلاة ليدرك فضيلة الجماعة، أو يصلي وحده لإدراك فضيلة الوقت؟ هو كبر تكبيرة الإحرام؛ فأدرك وقتاً لم تدركه الجماعة التي كبرت بعده، فبعض العلماء يرى أن فضيلة الوقت مقدمة على فضيلة الجماعة.
وبعضهم يرى أن فضيلة الجماعة أفضل من فضيلة الوقت؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة عن أول وقتها لاجتماع الناس، كما في الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال: (والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر) قالوا: فهذا يدل على الفضيلة، لكن أجيب بأن هذا الحديث في صلاة العشاء والتي الأفضل فيها التأخير، فكان طلب الجماعة لفضيلة الوقت.
وعلى هذا: فإن الأقوى والأظهر أنه لا يقطع؛ لأنه بدخوله في الفريضة قد أوجب الله عليه الإتمام، فحينئذ لا ينتقل إلى النافلة ويقطع هذه الفريضة التي أوجبها الله عليه.
وتوضيح ذلك: أنه إذا كبر في صلاة الظهر -مثلاً- يريد أن يصليها، وأحرم بها، فإن النصوص دالة على أنه يجب عليه الإتمام، فإذا كبرت بعده جماعة فإننا لو قلنا: ينصرف إلى الجماعة.
فمعنى ذلك: أننا نرد النص الذي أوجب عليه الإتمام بفضيلة، وهي تحصيل فضيلة الجماعة، ولا شك أن هذا يضعف من جهة الأثر والنظر.
والصحيح: أن يتم الصلاة منفرداً وقد أدرك فضيلة الوقت التي لها شأن لا يخفى لورود النصوص به، والله تعالى أعلم.(109/16)
الفرق بين الصلاة مع الإمام حتى ينتهي وبين إحياء الليل كله
السؤال
هل إذا صليت مع الإمام حتى ينتهي، هل أعتبر أحييت ليالي العشر كاملة، أم لابد أن يصلي الإنسان في بيته ويحيي ليله أثابكم الله؟
الجواب
هناك فرق بين الإحياء وبين القيام نفسه، فقوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) والمراد بذلك: فضيلة الاستمرار مع الإمام حتى يسلم وينتهي من آخر صلاته وهي الوتر، ومن فعل هذا يحصل على فضيلة قيام الليلة، أي: كأنه في الأجر والثواب قام الليلة كاملة، لكن هذا لا يتعلق بقيام الليالي المقصودة بذاتها؛ فإن التعبير المشعر بفضيلة الفعل لا يدل على تحقق الفعل بنفسه.
ولذلك فرق بعض العلماء في الأدلة التي وردت بفضائل الأعمال التي ينزل الإنسان فيها منزلة الفاعل، فقالوا: قوله عليه الصلاة والسلام (من صلى الفجر في جماعة، ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين؛ كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) قالوا: يكون له أجر الفعل، وهو أجر الحجة والعمرة في الأصل، أما من حج واعتمر وتكبد المشاق وتحملها فله أجر الفعل الأصلي، وأجر المتاعب والمشاق.
ولذلك قالوا: إنه يفرق في هذا بين فضيلة قيام الليلة وبين كونه قد قام ليالي العشر حقيقة، فمقصود الشرع: أن يقوم ليالي العشر كاملة، وعلى هذا فإنه يكتب له قيام ليلة فضيلة، ولا يعتبر قائماً حقيقة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(109/17)
شرح زاد المستقنع - باب الاعتكاف [2]
للاعتكاف أحكاما من جهة المكان ومن جهة الزمان، وأحكام الاعتكاف من جهة الزمان يندرج تحتها تحديد أول اليوم وآخره، وما يلزم المعتكف عند خروجه أثناء الاعتكاف، وكذلك تخصيص الأزمنة الفاضلة بالاعتكاف، كعشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان؛ لما تمتاز به من الفضيلة على سائر الأيام، ويلزم المعتكف اجتناب ما يفسد اعتكافه، ويستحب له الاشتغال بالطاعات وترك فضول القول والعمل.(110/1)
أحكام الاعتكاف الواجبة من جهة الزمان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ومن نذر زمناً معيناً دخل معتكفه قبل ليلته الأولى وخرج بعد آخره].
لما بين لنا رحمه الله أحكام الاعتكاف المنذور من جهة المكان، شرع في بيان أحكام الاعتكاف الواجب من جهة الزمان، فالاعتكاف فيه جانبان: أولاً: من جهة المكان حيث يتقيد بالمسجد، وإذا تقيد بالمسجد فلا يخلو من أمرين: إما أن ينوي مسجداً مطلقاً فلا إشكال، وحينئذٍ يجزيه أي مسجد.
وإما أن يعين، فإن عين إما أن يحدد ما هو أدنى فيجزيه ما هو أعلى، أو أعلى فلا يجزيه ما هو أدنى، على التفصيل الذي ذكرناه.
ثانياً: من جهة الزمان فلو أن رجلاً نذر أن يعتكف يوماً كاملاً -أي: نهاراً بليلته- فإنه إذا قال: لله عليَّ أن أعتكف يوم الأحد أو الإثنين أو الثلاثاء.
فإنه يدخل قبل مغيب الشمس من يوم السبت؛ وذلك لأن يوم الأحد يبدأ من ليلة الأحد، وليلة الأحد إنما تكون بمغيب شمس يوم السبت، فإذا أراد أن يعتكف الليلة كاملة فلابد وأن يكون بكامل جسمه في داخل المسجد من أول الزمان.
ولا يتأتى ذلك إلا بالدخول قبل غروب الشمس، فإن دخل بعد غروب الشمس فإنه لم يعتكف الليلة كاملة، ولذلك من نوى العشر الأواخر فإنه يدخل قبل مغيب شمس يوم العشرين، وأما الدخول إلى المعتكف نفسه فيكون بعد فجر ليلة الحادي والعشرين، فقد كان يدخل عليه الصلاة والسلام إلى معتكفه بعد فجر ليلة الحادي والعشرين.
فالشاهد من هذا: أن السُّنة لمن نوى الاعتكاف يوماً كاملاً أن يدخل قبل مغيب شمس اليوم الذي قبله، حتى يحُصِّل الليلة كاملة، وهكذا بالنسبة لآخر زمان الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف فيه أول زمانه وفيه آخر زمانه، فأنت إذا ما ألزمت نفسك باعتكاف يوم كامل فإن الله فرض عليك أن تستغرق الزمان بكامله، فأوله قبل مغيب الشمس، وآخره بعد مغيب الشمس من اليوم الذي نويته، فإن كنت ناوياً للاعتكاف يوم الأحد فإنك تدخل قبل مغيب الشمس من يوم السبت؛ لتحصل على أول الزمان، ثم إذا غابت الشمس من يوم الأحد فقد تم نهارك، وحينئذ يجوز لك الخروج، فإن خرجت قبل مغيب الشمس لم يستتم اعتكافك على الوجه المعتبر.
وعلى هذا فإن المعتكف للعشر الأواخر إذا ألزم نفسه بها ونذرها، فإنه يخرج بعد مغيب الشمس من آخر يوم من رمضان، وحينئذٍ لا يخلو الشهر من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون تاماً ثلاثين يوماً، فإن تم الشهر ثلاثين يوماً فحينئذ تنتظر إلى مغيب شمس الثلاثين، فإن غابت شمس يوم الثلاثين من رمضان تخرج بعد المغيب، فبمجرد أذان المغرب ينتهي الاعتكاف الواجب عليك، وحينئذٍ إذا صليت المغرب جاز لك أن تنصرف.
وأما إذا كانت الليلة ليلة شك فتنتظر إلى ثبوت كونها ليلة الفطر، فإذا جاء الخبر أنها ليلة الفطر في الساعة التاسعة أو الساعة الثامنة أو الساعة العاشرة فتخرج بمجرد علمك أنها ليلة العيد؛ وذلك لأنك لما تحققت أنها ليلة العيد لم يجب عليك اعتكافها ولا تلزم بها.(110/2)
عدم جواز خروج المعتكف من المسجد إلا لضرورة
قال رحمه الله: [ولا يخرج المعتكف إلا لما لابد له منه].
المعتكف حبس نفسه لطاعة الله، وفر من الدنيا وشواغلها إلى مرضات الله ومحبته، فالمنبغي عليه أن يحقق هذه العبادة، وأن يقوم بها على الوجه الذي يرضي الله عز وجل؛ حتى يكون أسعد الناس بالقبول منه سبحانه وتعالى، فإنها نعمة من الله إذا وفق عبده لاغتنام هذا الاعتكاف بذكره وشكره وحسن عبادته، ثم تقبل منه، ولا يتقبل الله إلا من المتقين، الذين حفظوا حقوق العبادات، وقاموا بها على أتمّ وجوهها على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.
إذاً فالمعتكف في اعتكافه لا يجوز له أن يخرج من المسجد إلا لضرورة وحاجة، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم؛ لأن حقيقة هذا اللفظ الشرعي -أي: الاعتكاف- المتضمن للعبادة الشرعية يدل على اللزوم وعلى المكث، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يخرج من المسجد إلا لحاجة وضرورة، كما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان لا يخرج إلا لحاجته).
والمراد بالحاجة: البول والغائط، فإذا احتاج إلى بول وغائط فإنه يجوز له أن يخرج؛ والسبب في ذلك: أن المساجد لا يجوز قضاء الحاجة فيها، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بال الأعرابي في المسجد وأنكر الصحابة عليه ذلك أقرهم، ولكن أنكر عليهم أنهم يريدون قطعه عن البول، أما كون البول في المسجد لا يجوز فهذا محل إجماع، والله تعالى نبه إلى ذلك بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] فلا يجوز للمعتكف أن يقضي حاجته داخل المسجد، فإذا كان لا يجوز له ذلك فمعنى ذلك أنه لابد له من الخروج، فيصير الخروج مسموحاً وجائزاً.
فلو قلنا: إنه يحرم على المعتكف أن يخرج لقضاء حاجته، لما استطاع إنسان أن يعتكف؛ لأنه ما من إنسان إلا وهو مضطر لقضاء حاجته، ولا يمكنه أن يحبس هذه الحاجة؛ لأن ذلك ربما أهلكه وأتلف نفسه، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجوز له أن يخرج لقضاء الحاجة من بول وغائط.
وفي حكم ذلك ما يضطر إليه من الأكل والشرب، فإذا لم يجد أحداً يقوم بإحضار الطعام والشراب إليه -إذ لابد له من الأكل ولابد له من الشرب- جاز له أن يخرج.
فإن قلنا: إن السُّنة قد دلت على جواز الخروج للحاجة، وأنه يجوز له أن يقضي حاجته، فإن الأصل يقتضي أن ما أبيح للحاجة والضرورة يقدر بقدرها، ومن هنا فصّل العلماء فقالوا: إذا اضطر للخروج لقضاء البول أو الغائط فلا تخلو أماكن قضاء البول والغائط من حالتين: إما أن تكون قريبة، وإما أن تكون بعيدة: فإن كانت قريبة فإنه يقضي حاجته فيها بلا إشكال؛ لأن قربها من المسجد ينفي الإشكال في جواز قضاء الحاجة فيه، كأن تكون لا تبعد عن المسجد إلا يسيراً، أما إذا كانت بعيدة فإنه يختار أقربها، ولا يجوز له أن ينصرف إلى المكان الأبعد مع وجود الأقرب.
فلو اختار منزله أو شقته أو عمارته، وهو أبعد عن المسجد من دورة مياه قريبة لم يجز له ذلك؛ والسبب في هذا: أنه إذا خرج لقضاء حاجته فقد استغل الوقت الذي يجب صرفه في الاعتكاف لقضاء الحاجة، وما أبيح للحاجة يقدر بقدرها، فكأنه يترفه ويزداد في الوقت المسموح له، فلما سُمِحَ له أن يقضي حاجته في الأقرب، لم يجز له أن يقضي حاجته في الأبعد.
(أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) هي أصل عام عند العلماء، ولذلك قالوا: إذا أراد الشخص أن يطعن في أحد الشهود، وعلم فيه أكثر من جَرْح ترد شهادته، ويكون بعضها أشد من بعض، فإنه يختار أقل جرح ترد به شهادته؛ لأن كشف العورات غير مأذون به إلا بقدر الحاجة.
وكذلك من أكل من الميتة بسبب المخمصة والمجاعة قالوا: إنه يأكل ويسد رمقه، ولا يجوز له أن يتزود؛ لأن الزاد زائد عن حاجته، والأصل أنه محرَّم، فأبيح له قدر الحاجة.
فالأصل أنه لا يجوز للمسلم أن يخرج من المسجد ما دام معتكفاً، وأبيح له أن يخرج لقضاء حاجته، وعليه فلا يجوز للمعتكف أن يقضي حاجته في مكان بعيد؛ لأن الشرع إنما أجاز له الأقرب.
إذاً لا يجوز الانصراف إلى دورات المياه البعيدة مع وجود القريبة إلا في حالات: الحالة الأولى: أن تكون شديدة الزحام، ويكون الإنسان شديد الحصر، أو يتضرر بالانتظار في الزحام لضيق نفس، أو يتضرر من وجود بعض الروائح الكريهة أو نحو ذلك، فيجوز له حينئذ أن يختار شقته أو يختار عمارته إذا لم يكن بعدها متفاحشاً.
كذلك الحكم إذا كان محتاجاً للطعام والشراب، فلو كان يتيسر له أن يطعم في مطعم وهو قريب من المسجد فحينئذ ننظر: إن كان جلوسه في المطعم ينقص من قدره كالعالم وطالب العلم ومن هو قدوة، فتسقط مروءته بوجوده في هذا المكان، فإنه يجوز له أن ينصرف إلى شقته وبيته؛ لأنه يتضرر بالجلوس في هذا المكان، فوجود هذا المكان وعدمه على حد سواء.
وأما إذا كان يمكنه أن يأكل فيه ولا يستضر بذلك، والمكان محفوظ ولا يجد غضاضة فيه، فإنه لا يجوز له أن ينصرف إلى مكان أبعد مع وجود الأقرب.
فالقاعدة: أن هذا الشخص جاز له أن يفارق المسجد لضرورة، وإذا جاز له لضرورة لا يجوز له أن يتمادى أكثر منها.
ومن هنا فرَّع العلماء أنه إذا خرج من أجل أن يستحم أو يغير ثيابه، ولم يستضر بالثياب التي عليه فإنه يفسد اعتكافه، لكن لو خرج لقضاء الحاجة وأخذ ثيابه معه من أجل أن يزيل العرق والنتن عنه، أو عليه جنابة فحينئذٍ لا إشكال، لكن أن يخرج من معتكفه من أجل أن يستحم، ومن أجل أن يترفه بالاستحمام لشدة الحر أو نحو ذلك فلا، وإنما يخرج بقدر الحاجة والضرورة؛ لقضاء الحاجة، أو إصابة الطعام ونحو ذلك.
والدليل على هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث السنن: (أنه كان إذا خرج من معتكفه إلى بيته لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة، وإنما يكون لما لابد منه) وعلى هذا: فإنه لو تأمل الإنسان عيادة المريض وكذلك شهود الجنازة فإنها قد تصل في بعض الأحيان إلى مقام الحاجة، وقد يحتاج المريض منك أن تواسيه وتسليه، ومع ذلك لم يكن عليه الصلاة والسلام من هديه أن يُعَرِّج على المريض أو يجلس عنده، وإنما كان يسأل وهو مار: كيف فلان؟ وهذا أصل يخل به البعض بسبب الجهل بأحكام الاعتكاف، ولذلك تجد الإنسان يدخل إلى معتكفه ويخرج وقد تكون حالته هي هي لم يتغير؛ لأنه لم يستشعر أنه في عبادة تلزمه بالتقيد والانضباط بالحدود الشرعية، بحيث ينصرف عن هذه العبادة بقلبه وقالبه.
فلذلك: ينبغي على المسلم أن يحفظ هذه الأحكام، وهي: أنه لا يجوز له أن يفارق المسجد إلا من ضرورة وحاجة، فإن وُجدت الضرورة والحاجة جاز له أن يخرج.(110/3)
أقوال العلماء في اشتراط المعتكف الخروج لحاجة
قال رحمه الله: [ولا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه] أما إذا اشترط كأن يشترط أن يتفقد حال أهله أو يعود مريضاً أو يشهد جنازة، فللعلماء قولان: منهم من قال: الأصل الشرعي أن المعتكف لا يجوز له أن يخرج، ولا يجوز له أن يترفه، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الاشتراط في الحج ولم يجزه للمعتكف، فُنْبقي الاعتكاف على ظاهر النصوص، ولا نجيز لأحد أن يشترط فيه، وأصحاب هذا القول يُضَعِّفون القياس في هذا.
ومنهم من يقول: نقيس الاعتكاف على الحج، فكما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم في الحج أن تشترط المرأة، فإنه يجوز للمعتكف أن يشترط.
والقول الأول ألزم للأصل؛ وذلك لأنه أوفق، إلا أنه لو قال قائل: لو أن المعتكف في أثناء اعتكافه أو عند دخوله للمعتكف، كانت بنته مريضة أو أمه مريضة أو والده مريضاً وخشي عليهم، أو كان هو نفسه مريضاً وخشي على نفسه فاشترط، كان القياس هنا أقرب إلى الصواب؛ لحديث ضباعة رضي الله عنها حين قالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية) فكأنها ألزمت نفسها مع وجود المرض، بخلاف من دخل العبادة وهو صحيح قادر.
فكأن الشرع أعطى فسحة للمكلف الذي دخل العبادة وهو ضعيف؛ لأنه دخل فيها مع وجود الضرر، فألزم نفسه ما لم يَلْزَمْه، ولذلك يقوى أن يقال بجواز الاشتراط، إذا كان في حالة وجود العذر عند الدخول، تحقيقاً لدلالة النص الذي هو أصل في مباحث الاشتراط.
فعلى القول الثاني: إذا كان عنده مريض من أهله له أن يسأل ويقول: كيف حالك يا فلان؟! وهو مار، ولا يعرج عليه، ولا يقصد إلى غرفته ولا يجلس عنده أو يسأل زوجته عن أبنائه فلا حرج، أما أن يقصد عيادته فلا، وفي حكم ذلك أن يخرج من اعتكافه بقصد الاتصال على أهله للاطمئنان على مريض، فإنه في حكم العيادة، ولذلك لا يعود، وهذا أصل، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما بينت سنة المعتكف قالت: (أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يخرج إلا لما لابد له منه) هذه ثلاثة أمور مضت بها السُّنة في المعتكف: أن لا يعود المريض، وأن لا يشهد الجنازة، وأن لا يخرج من معتكفه إلا لما لابد منه، يعني الأمر الضروري.(110/4)
مفسدات الاعتكاف
قال رحمه الله: [وإن وطئ في فرج فسد اعتكافه].
بعد أن بين رحمه الله حقيقة الاعتكاف، والأمور التي ينبغي على المعتكف أن يلتزم بها في اعتكافه، شرع في بيان ما يفسد الاعتكاف.(110/5)
الجماع أعظم مفسد للاعتكاف
يفسده الجماع، فإنه إذا حصل جماع بينه وبين زوجه، أو جماع محرم -والعياذ بالله- فقد فسد الاعتكاف بإجماع العلماء رحمهم الله.
والأصل في ذلك: أن المعتكف لا يجوز له أن يجامع لقوله سبحانه وتعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فحرم الله على المعتكف أن يباشر أهله، فدل على حرمة المباشرة، والمباشرة هنا بالإجماع إذا بلغت غايتها أي: المباشرة بالجماع فإنها محرمة.
وقال بعض العلماء: إنها مُحَرِّمَة للمباشرة التي يراد بها الاستمتاع؛ إعمالاً للعموم في قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] كالتقبيل والهمز والغمز ونحو ذلك من الأفعال التي تكون مقدمات للاستمتاع بالمرأة، وهذا على ظاهر قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] ومن هنا تنقسم المباشرة إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون المباشرة مفضية إلى الجماع أو من مقدمات الجماع كالتقبيل ونحوه، فهذه بالإجماع لا تجوز، فلا يجوز للمعتكف أن يقبل زوجه ولا يجوز له أن يستمتع على سبيل إثارة الشهوة وهذا بالإجماع.
القسم الثاني: أن تكون المباشرة لغير الشهوة، كأن تسرح المرأة شعر زوجها أو يدني رأسه من المسجد لزوجته لتسرح شعره أو تغسل يده أو نحو ذلك، ويحصل اللمس والمباشرة، لكنها ليست مقصودة للاستمتاع، فهذه جائزة بالإجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيح-: (كان يدني لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رأسه فترجله وهو معتكف في المسجد صلوات الله وسلامه عليه).
فإن جامع بطل اعتكافه، وأما إن باشر ولم يجامع كأن يقبل أو نحو ذلك، فإذا باشرها ولم يجامع، وحصلت مقدمات الاستمتاع فلا يخلو من ضربين: الضرب الأول: أن ينزل فيفسد اعتكافه.
الضرب الثاني: أن لا ينزل، فللعلماء فيه قولان، أصحهما: أن اعتكافه لا يفسد.
وأما إذا جامع فللعلماء قولان: منهم من يقول: يفسد اعتكافه، ولا شيء عليه وهو مذهب الجمهور.
ومنهم من يقول: يفسد اعتكافه، وتلزمه كفارة الجماع في نهار رمضان وهو رواية عن الإمام أحمد.
والصحيح القول الأول: أن من جامع زوجته وهو معتكف أنه يفسد اعتكافه، ولا يجب عليه أن يكفر؛ لأن الكفارة خاصة بالجماع في نهار رمضان على ظاهر السُّنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، فالأصل أن ذمته بريئة من المطالبة بالكفارة، ولا دليل على شغلها بالجماع في الاعتكاف، إذْ لو كان الجماع في الاعتكاف موجباً للتكفير لما سكت الشرع عن ذلك.
ومحل الخلاف في مسألة الكفارة وعدمها: إذا وقع الجماع ليلاً، أما لو وقع جماع المعتكف في نهار رمضان وهو صائم، فإنه تجب عليه الكفارة للإخلال بصيامه، لا من باب إفساد الاعتكاف، وفرق بين كونها تجب للإخلال بالصيام وبين كونها تجب من أجل الاعتكاف.
على هذا لو سألك سائل وقال: اعتكف رجل وجامع زوجته فما الذي يجب عليه؟ تقول له: فسد اعتكافه بالإجماع.
وأما الجماع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إن وقع جماعه في نهار رمضان وهو صائم لزمته الكفارة؛ من أجل الصيام لا من أجل الاعتكاف.
والحالة الثانية: إن وقع جماعه في الليل، فإنه لا تجب عليه الكفارة على أصح القولين، وهو مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم.(110/6)
مستحبات الاعتكاف
قال رحمه الله: [ويستحب اشتغاله بالقرب](110/7)
الاشتغال بالقرب من مستحبات الاعتكاف الاشتغال بالقرب
قوله: (يستحب) أي: الأفضل والأكمل والأعظم أجراً للمعتكف أن يشتغل بالقرب، وهي كل ما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى من الاعتقاد والأقوال والأعمال الظاهرة.
فمن الاعتقاد: التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى، وكذلك استشعار عظيم فضل الله عليك، فإن الإنسان لو تفكر وتأمل وتدبر في نعم الله عز وجل المغدقة عليه؛ فعظّم الله وهابه، وخشي منه سبحانه، كان هذا منه عبادة وقربة، حتى قال بعض العلماء: أعمال القلوب أعظم من أعمال الجوارح، وأعمال القلوب تشمل تعظيم الله سبحانه وتعالى والخوف منه وخشيته وحبه وإجلاله، فهي أعظم من أعمال الجوارح.
ولذلك غفر الله عز وجل لعبده لما عظمه كما في الحديث الصحيح: (أن عبداً قال لأبنائه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، وذروا نصفي في البر ونصفي في البحر، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.
قال: فلما مات صنعوا به ذلك، ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فقال الله للبحر: اجمع ما فيك، وقال للبر: اجمع ما فيك، فإذا هو قائم بين يدي الله، قال الله: عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: خوفك يارب! قال: قد غفرت لك).
قالوا: فهذه من أعمال القلوب، ولذلك أثنى الله على أهل هذه العبادة فقال: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191] فالتفكر والتدبر من أعمال القلوب، فإذا كان الإنسان في معتكفه وتفكر في عظمة الله، وتذكر ذنوبه وإساءته وتفريطه في جنب الله، وذرفت عيناه من خشية الله فهذه قربة بقلبه.
كذلك إذا سبح وهلل وحمد وكبر، وأثنى على الله بما هو أهله فهي قربة بلسانه، وهكذا إذا قام يصلي فركع وسجد وتلا كتاب ربه، فهي قربة بجوارحه، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
فالمقصود: انصراف الإنسان في معتكفه إلى الله عز وجل، وهي عبادة مخصوصة المراد منها: أن يستكثر الإنسان فيها من طاعة الله عز وجل.
لكن لو أن المعتكف تحدث وقتاً في شيء من الدنيا وكان ذلك منه بقدر، فإن هذا لا يفسد الاعتكاف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام مع أم المؤمنين صفية رضي الله عنها يَقْلِبُها، وكانت تأتيه وهو معتكف، فكان صلى الله عليه وسلم يتحدث معها ويباسطها، ثم يقوم يقلبها كما ثبت عنه ذلك في الصحيحين.
فهذا من سماحة الإسلام، فالإسلام دين وسط، ليس فيه رهبنة بحيث يقبل الإنسان إقبالاً كلياً ينصرف فيه عن أموره الضرورية، وعن الأمور التي هي من جبلة البشر، فإن النصارى غلت في العبادة حتى أصبحت في مقام الرهبنة، والإسلام لا يريد هذا من المسلم، فلا رهبانية في الإسلام؛ وإنما يريد من المسلم أن يعبد الله، ولكن لا يصل إلى درجة الغلو ولا إلى درجة التنطع؛ وإنما إلى درجة معتبرة يصل الإنسان بها إلى مرضات الله عز وجل، متأسياً ومقتدياً بنبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
فيستحب له الاشتغال بالقرب الظاهرة والباطنة التي يحبها الله ويرضاها، ويستجمع أمرين هامين: الأمر الأول: الندم على ما فات من الذنوب والعصيان؛ فإن الإنسان في أوقات مظنة أن يرحمه الله عز وجل برحمته، فإن مواسم الخير وساعات الطاعة والبر مظنة الرحمة؛ لأن الله فضلها وشرفها واختارها لحكمة منه سبحانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة) كما في الصحيح من حديث أبي هريرة.
قال بعض العلماء: وأعظم ما تكون الرحمة إذا كانت في العشر الأواخر؛ لأن الله اختار من الشهر العشر الأواخر، فإذا كان الإنسان معتكفاً في العشر الأواخر واستجمع نفسه في الإقبال على الله، فعليه أن يندم على ما فات من الذنوب والعصيان، لعله أن يخرج من معتكفه كيوم ولدته أمه.
لأن المقصود من الاعتكاف: أن يصيب ليلة القدر، ومن أصاب ليلة القدر وقامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فكم من أناس تشرق عليهم الشمس في صبيحة ليلة القدر وقد خرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم! فهذا هو المقصود من ليلة القدر، والمقصود من الاعتكاف: أن الإنسان يصيب رحمة الله عز وجل وعفوه ومغفرته.
الأمر الثاني: الإكثار من الدعاء، وسؤال الله العافية فيما بقي من العمر، ويتضرع إلى الله عز وجل أن يحسن له الخاتمة في ما بقي له من عمره، كما قال تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15] فالإنسان إذا نظر إلى ما هو قادم عليه من عمره خاف من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وخاف أن يختم له بخاتمة السوء، وخاف أن تزل القدم بعد ثبوتها.
فلذلك يخشى من الله عز وجل في ما هو قادم عليه، ويسأل الله عز وجل أن يلطف به، فإذا حصّل المعتكف الشعور بالندم على ما فات، احتقر نفسه؛ بسبب تفريطها في جنب الله، وأيضاً أحسن الظن بالله سبحانه وتعالى ورجا أن يرحمه وأن يغفر له.
وهذه أمور تعين على شغل الوقت بذكر الله عز وجل: الأمر الأول: عليه أن ينصرف إلى الله بكليته، فإذا جاء من يشغله عن ذكر الله، أو جاءه أصحابه أو أحبابه، ورأى منهم الإفراط في الجلوس وإضاعة الوقت والتفريط في الأوقات، فلا يحرص على مثلهم، وإنما يفر منهم.
ولذلك كلما كان الإنسان بعيداً عن الخلطة كلما كان آنس بالله عز وجل، ومن كان أنسه بالناس أعظم من أنسه بالله فلا خير فيه، إنما يكون الأنس بالله جل جلاله، وإذا كنت تستشعر أن أصحابك وأحبابك يدخلون السرور عليك، فوالله إن سرورك بهم لا يكون شيئاً أمام سرورك بالله عز وجل، وإذا أحس الإنسان بالأنس بالله عز وجل فإنه يقبل على الله بكليته.
الأمر الثاني: أن يستشعر أنه ما ترك الوالدين ولا الأولاد ولا القَرابات؛ من أجل إضاعة الوقت في القيل والقال، ومن أجل شغل الأوقات في الأمور التي قد يكون فيها الغيبة والنميمة والأمور المحرمة، إنما ترك الوالدين والأولاد من أجل ذكر الله ومن أجل طاعة الله، فيستحب للإنسان أن يستشعر هذا الشعور؛ حتى يستفرغ همته للخير والطاعة والبر، ونسأل الله التوفيق! فإن العبد لا يستطيع أن يصيب الخير إلا بتوفيق الله عز وجل، فكم من محب للخير لا يوفق له، فيحال بينه وبين التوفيق للخير بسبب الذنوب، نسأل الله العظيم أن لا يحول بيننا وبين رحمته بما كان من ذنوبنا وإساءتنا.(110/8)
اجتناب المعتكف وغيره لما لا يعنيه
قال رحمه الله: [واجتناب ما لا يعنيه].
هذا أصل عام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) أي: من كماله وجلاله وفضله، ومن علو مرتبة الإنسان في الإسلام، وإذا أردت أن ترى المسلم الكامل فانظر إلى الذي يترك ما لا يعنيه، فالله عز وجل كلفك نفسك، وكلفك أن تأمر الناس بالخير وتنهاهم عن الشر؛ استجابة لأمر الله عز وجل، وما وراء ذلك من لمز الناس وأذيتهم، أو الاشتغال بفضول الدنيا فهذا مما لا يعنيك.
ولذلك إذا فَرَّغ الإنسان نفسه لما يعنيه ساد، فهذا الأحنف بن قيس عندما قال له رجل: كيف سدت قومك وأنت قصير، دميم الخلقة؟ وكان الأحنف من سادات العرب ومن أهل الحلم والفضل، فقال كلمة عظيمة في جواب هذا السائل المحتقر له المزدري له في خلقته قال له: بتركي لما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
فهذا الأمر -وهو خلقة الله عز وجل- لا تعنيك، وأنت اشتغلت بها مع أنها لا تعنيك، فَسُدتُ قومي حينما تركت الفضول وتركت الاشتغال بالناس وهمزهم ولمزهم واحتقارهم والوقيعة فيهم، فالسيد الذي يتبوأ المنزلة العالية هو الذي يسلم الناس منه.
وإذا سلم الناس منك أحبوك وهابوك، وكلما كنت عفيفاً عن أعراضهم وعن عيوبهم، فإنهم يعفون عن عرضك وعن عيوبك، كما قال الإمام مالك: أعرف أقواماً عندهم عيوب ستروا عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وأعرف أناساً لا عيوب عندهم تكلموا في عيوب الناس وكشفوها؛ فكشف الله عيوبهم، أي: أوجد الناس لهم عيوباً ليست لهم.
فلذلك على الإنسان ألاّ يشتغل بما لا يعنيه، خاصة الكلام في الناس، وتتبع عثراتهم والوقيعة فيهم، وخاصةً إذا كانت غيبة ونميمة، وأشد ما تكون إذا كانت في العلماء والأئمة وطلاب العلم والفضلاء.
بعض الأحيان يجلس المعتكفون ويقعون في الغيبة وهم لا يشعرون، فلان طوّل بنا، وفلان قصّر، وفلان تلاوته أحسن من فلان، وفلان أفضل من فلان، وليت فلاناً قرأ بكذا ولم يقرأ بكذا، وفلان يخطئ، فهذه أمور من الغيبة يقع الإنسان فيها وهو لا يشعر، وفي الحديث (قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).
فلذلك ينبغي على المسلم أن يعلم أن الاعتكاف لله لا لأي شيء سواه، فيشتغل بالأمور التي تعنيه، ويترك عنه فضول الحديث.
وقد كان السلف رحمة الله عليهم يخافون من فضول الحديث كخوفهم من الأمور المحرمة؛ خوف الاشتغال بها فتوصلهم إلى الحرام، وينبغي للمسلم أيضاً أن يوطن نفسه على اجتناب فضول الكلام، سواءً كان معتكفاً أو غير معتكف، خاصةً طلاب العلم وأهل الفضل؛ لأن الناس تنظر إليهم على أنهم القدوة، والشاب الملتزم الصالح إذا كان بين أهله وإخوانه وقرابته ينظرون إليه أنه قدوة، فإذا وجدوه يكثر من ذكر الدنيا ومن العقارات والبيع والشراء سقط من أعين الناس واحتقروه وازدروه.
ولذلك يقول العلماء: الأمر في أهل العلم وأهل الفضل آكد، كالأئمة والخطباء والوعاظ والدعاة والعلماء ونحوهم، هؤلاء ينبغي عليهم أن يحفظوا ألسنتهم، وأن يتحفظوا فيما يتكلمون فيه ويسمعونه، فإذا جلس الإنسان في المجلس ووجد فضول الكلام وفضول الأحاديث، اشتغل بما يعنيه من ذكر الله عز وجل والتسبيح والاستغفار، قال أحد الصحابة رضي الله عنه: (كنا نعد للنبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة: أستغفر الله، أستغفر الله) لأنه قدوة، ولأنه كان إماماً في الخير وكان معلماً للخير، فكان إذا جلس استغفر الله، فما كان يشتغل بما لا يعنيه صلوات الله وسلامه عليه، فالمنبغي على الإنسان أن يحرص على هذه الخلة.
فالمعتكف إذا حافظ في هذه العشرة الأيام على أنه لا يشتغل بما لا يعنيه، قد يستمر على هذه الخصلة الكريمة طيلة حياته؛ لأن الاعتكاف مدرسة، فإذا كان وطن نفسه في خلال العشرة الأيام على أن يستجمع قواه فيضغط على نفسه وعلى شهوته، فينضبط في سلوكه وأقواله وأفعاله، فإنه يبقى أثر هذه الطاعة.
ومن دلائل قبول الاعتكاف: أن تجد المعتكف يخرج بخصلة من خصال الخير، بل يخرج بخصال، فإذا تعوّد على أنه معتكف وأنه مراقب في أقواله وأفعاله، فإنه قد يبقى معه هذا الشعور.
يقول العلماء: والمقصود من الاعتكاف أن المعتكف حينما يُلْزَم بمكان، ويستشعر أنه ينبغي أن يستفرغ جميع جهده، يحس كأنه في الدنيا من حيث هو مخلوق ينبغي أن يستفرغ وقته في ذكر الله عز وجل، فمثل هذه المواسم وهذه المواقف تعين الإنسان على أن يضبط شهوته، وأن يضبط نفسه، فلا يسترسل في الكلام وفي ما لا يعنيه.
نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(110/9)
الأسئلة(110/10)
الفرق بين الاعتكاف وغيره من العبادات
السؤال
أشكل عليّ مسألة عدم جواز نقل نية النافلة إلى الفريضة، أي: من أدنى إلى أعلى، بينما يجوز في الاعتكاف الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، كمن نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز أن يعتكف في المسجد الحرام، فما الفرق بينهما أثابكم الله؟
الجواب
أن النية إذا انعقدت بالنافلة فلا يجوز لك أن تصرفها إلى فريضة، فلو أن إنساناً كبر تكبيرة الإحرام، أو صلى ركعتي الوضوء أو راتبة الظهر ناوياً النافلة، ثم فكر وقال: لو أني قلبتها إلى الفريضة.
فإنه لا يجزيه ذلك؛ لأن النية انعقدت للنافلة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما لكل امرئٍ ما نوى) والفريضة أعلى من النافلة، ولا يجزئ أن ينصرف من الأدنى فتبرأ ذمته بالأعلى، بدليل: أنه إذا صلى أربع ركعات نافلة ثم نواها عن الفريضة فإنه بالإجماع لا تنقلب فريضة.
أما مسألة أنه لو نوى الاعتكاف في الأقل كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم مع المسجد الحرام، وانصرف إلى الأعلى، فهذا من جهة الإسقاط، بخلاف الصلاة التي تنعقد بتكبيرة الإحرام، فإن الإنسان إذا كبر تكبيرة الإحرام نافلة فإنها لا تنصرف فريضة، بخلاف الاعتكاف، فإنه في الفضائل، ولأنك لما تعتكف في البيت الحرام فإنك تحصل الواجب وزيادة، ولكن إذا نويت النافلة فإنك تحصل ما دون الواجب، فلا تنتقل إلى الواجب.
وتوضيح ذلك: أنه عندما يكبر تكبيرة الإحرام للنافلة، فإنها تقع من أول التكبير للأقل، فلا تنتقل للأعلى؛ لأنه أعلى بحكم الشرع وهو الواجب والفرض.
وأما بالنسبة لمن اعتكف في البيت الحرام، وكان قد نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الفعل الذي يقع منه يقع على الأكمل، فهو صورة عكسية تماماً، وكذلك إذا اعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد نوى الاعتكاف في المسجد الأقصى والذي تكون الصلاة فيه بخمسمائة صلاة، فمعناه: أنه قد حصل الفرض -وهي الخمسمائة صلاة وزيادة- فجاز له أن ينصرف من الأدنى إلى الأعلى.
وأما إذا كبر تكبيرة الإحرام فقد دخل في الأدنى، ولم يجز أن ينتقل إلى الأعلى في النافلة؛ لأنه لا يحقق الفرض ولا يحقق الزيادة.
وبناءً على ذلك اختلفت المسألتان فكان الحكم بالجواز في الاعتكاف، والحكم بالمنع في صلاة النافلة.
والله تعالى أعلم.(110/11)
جواز الطواف حول البيت للمعتكف
السؤال
إذا كان الاعتكاف بالمسجد الحرام، هل هناك حرج إذا خرج إلى الطواف؟
الجواب
البيت الحرام كله مهيأ للاعتكاف، فمن اعتكف في الدور الأول أو الدور الثاني أو الدور الثالث، أو اعتكف في الساحات فإنه معتكف؛ لأن الله عز وجل أطلق البيت كله، ولذلك قال: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125].
فإذا تأملت أن البيت كله مكان للاعتكاف صح أن ينزل للطواف؛ لأنه أثناء طوافه في حكم المعتكف، وأثناء طوافه واشتغاله بالطواف كاشتغاله بالصلاة أثناء الاعتكاف، لأن الطواف صلاة، وكونه ينزل إلى صحن بيت الله الحرام فهو في أفضل الأماكن وأشرفها، وهذا لا يضر ولا يخرجه عن كونه معتكفاً.
ولذلك قال العلماء: من طاف في أي مكان من البيت، بحيث أنه لم يخرج عن حدود المسجد؛ فإن طوافه صحيح، لكن لو خرج عن حدود المسجد وجاوز المسجد، أو طاف من خارج المسجد بسيارة مثلاً لم يصح طوافه؛ لأنه قال: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة:125] فالطائف لا يصدق عليه أنه طائف إلا إذا كان في داخل البيت، وداخل حدود البيت، أعني: المسجد المبني.
فالمقصود: أن هذا التعبير بقوله: (بيتي) شامل لجميع المسجد، فالمعتكف ما دام داخل المسجد فإنه لا يضره، وإذا نزل إلى الطواف فقد نزل إلى أفضل الأماكن، خاصة وأنه يجمع بين الاعتكاف وبين الطواف، وهو ضرب من الصلاة بنص حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.(110/12)
حكم من اشترط الخروج من المعتكف ليصلي بالناس
السؤال
من اشترط الخروج من المعتكف ليصلي بالناس كأن يكون إماماً لمسجد غير المسجد الذي اعتكف فيه؟
الجواب
أما بالنسبة لمسائل الاشتراط في الاعتكاف فأنا أتوقف فيها؛ لأنها مبنية على القياس، وأنا أرى أن الأحوط للإنسان أن يبقى على السنة، وأن لا يعتكف إلا بالصورة المعتبرة شرعاً، والأفضل في مثل هذا أن يخرج من الخلاف فيجعل اعتكافه جزئياً، فينوي الاعتكاف ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، حتى إذا قارب وقت أذان الظهر خرج من المعتكف؛ تحصيلاً للواجب الذي عليه، فيصلي الظهر بالناس ثم يرجع، وينوي الاعتكاف بين الظهر والعصر، وهكذا يجزئ الاعتكاف، فهذا يخرج من الخلاف وهو أرفق به، والله تعالى أعلم.(110/13)
عدم لزوم تجديد النية من البيت لمن فسد اعتكافه
السؤال
هل الذي يفسد اعتكافه يلزمه خروجه من المسجد ورجوعه إلى منزله وأهله لكي يجدد نية الاعتكاف؟
الجواب
من فسد اعتكافه وجدد النية صح ذلك وأجزَأَه، ولا يجب عليه الخروج إلى البيت لكي ينوي الاعتكاف من جديد من البيت، فهذا لا أصل له، وإنما يجدد نيته في المسجد، ويصح اعتبار اعتكافه المستأنف، فلو أنه فسد اعتكافه في الساعة الثانية ظهراً بخلل شرعي؛ كخروجه من المسجد من دون حاجة، ثم قال: أستغفر الله! ورجع إلى المسجد، فإنه يكون اعتكافه مستأنفاً بالرجوع الثاني، والله تعالى أعلم.(110/14)
حكم الصفرة والكدرة قبل الحيض وبعده
السؤال
أحياناً وقبل مجيء العادة الشهرية بيوم أو يومين تأتي صفرة وكدرة فما حكمها، أثابكم الله؟
الجواب
الصفرة والكدرة لا تخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تأتي قبل زمان الحيض الذي اعتادته المرأة، كأن تكون عادتها الستة الأيام من أول كل شهر، فإذا جاءتها في نهاية الشهر السابق فإنها تعتبر استحاضة لا تمنع من الصوم ولا تمنع من الصلاة، وتغسلها ثم تضع قطنة في الفرج ثم تصلي.
الحالة الثانية: أن تكون الصفرة والكدرة أثناء أمد الحيض، فهي حيض على الصحيح من أقوال العلماء؛ لحديث أم عطية: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الحيض شيئاً) ومفهوم هذا الحديث أنها في الحيض حيض.
وأما إذا جاءت الصفرة والكدرة بعد انتهاء أمد العادة، كأن تكون عادتها سبعة أيام فجاءتها بعد السبعة الأيام، فإنها استحاضة قولاً واحداً عند أهل العلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(110/15)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب المناسك [1]
الحج ركن من أركان الإسلام، وقد فرضه الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين مرة واحدة في العمر، وذلك عند توفر الشروط وانتفاء الموانع.
وللحج شروط عدة منها: الإسلام، والحرية، والتكليف، والقدرة والاستطاعة، فإن توفرت هذه الشروط وجب الحج.
وهناك موانع تمنع من إيجاب الحج على الإنسان منها: الكفر، والجنون، والرق، وعدم البلوغ، وبعض هؤلاء قد يصح منهم الحج نفلاً لا فرضاً، وبعضهم لا يصح منهم الحج لا نفلاً ولا فرضاً.(111/1)
مقدمة عن الحج وبيان أهميته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول رحمه الله: [كتاب المناسك] هذا الكتاب المراد به بيان أحكام الحج والعمرة، وما يتصل بهما من بيان أحكام الهدي والأضاحي، وما أوجب الله عز وجل في هذه الفريضة العظيمة الجليلة الكريمة، التي هي الركن الخامس من أركان الإسلام.
ذكر رحمه الله كتاب المناسك عقب كتاب الصيام؛ لأنها الركن الخامس من أركان الإسلام؛ مراعاة للترتيب كما في حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً) فلما رتب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأركان بهذا الترتيب، اعتنى الفقهاء رحمة الله عليهم بذكرها مرتبة على هذا الوجه.
المناسك: جمع منسك، والنسك يطلق ويراد به المعنى العام وهو العبادة وحملوا عليه قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] قيل: النسك كل ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون قوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي من عطف العام على الخاص.
وأيضاً يطلق النسك ويراد به العبادة الخاصة كالذبح، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (انسك نسيكة) كما في حديث كعب بن عجرة في الصحيحين، أي: اذبح ذبيحة، فالنسك يطلق بمعنى الذبح، وهو الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] أي: ذبحي.
كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2].
والمناسك المراد بها هنا: أفعال الحج والعمرة، ويشمل ذلك: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، والمبيت بمنى وبقية المناسك، فهذه مناسك الحج.
كذلك أيضاً مناسك العمرة من الإحرام والطواف بالبيت، والسعي بن الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.
في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل الشرعية المتعلقة بعبادة الحج وعبادة العمرة.
لقد فرض الله عز وجل الحج على عباده بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] وكذلك العمرة -على أصح قولي العلماء- فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده، كما في الحديث الصحيح عند الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في سننه: (أن عائشة رضي الله عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل على النساء جهاد؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة).
فقال: (عليهن) يعني: أنهن ملزمات، فهي صيغة إلزام، مثل: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] أي: ألزموها.
فدل هذا الحديث على أن العمرة واجبة، فتبين بهذا أن الحج والعمرة كل منهما واجب على الذكر والأنثى، بقيود وشروط سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
فضل الله الكعبة البيت الحرام وجعلها قياماً للناس يقيمون فيها طاعته، ويتقربون إليه سبحانه بأفضل وأحب وأجل ما يتقرب إليه وهو التوحيد.
والله سبحانه وتعالى جعل هذا البيت وهذه المشاعر والمناسك لشيء واحد وهو توحيده سبحانه وتعالى، فتكون العبادة خالصة لوجهه، فالمسلم يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، وكذلك يقف بعرفة، ويبيت بمزدلفة، ويفعل سائر أفعال الحج؛ توحيداً لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ما من منسك من هذه المناسك إلا وفيه معلم من معالم التوحيد، بل معالم عديدة من معالم التوحيد، قصد منها أن يخرج الإنسان من هذه العبادة وهو أخلص ما يكون لله عز وجل في قوله وفعله وظاهره وباطنه.
وعبادة الحج والعمرة فيها خير كثير من منافع الدنيا، كما أنها تحقق أعظم منفعة في الدين، فإن فيها منافع ومصالح عظيمة دينية ودنيوية.
أما منافع هذه المناسك الدينية: توحيد الله عز وجل، وجمع المسلمين في صعيد واحد ليستشعروا به أخوة الإسلام، وما ألف الله به بين قلوبهم، حتى يحس المسلم أن الله جمع بينه وبين أخيه المسلم بهذا الدين.
ورابطة الدين هي أعز وأكرم وأشرف عند الله سبحانه من رابطة النسب والقرابة؛ ولذلك يجمع الله المسلم مع جيرانه وأهل حيه في اليوم خمس مرات، فإذا تم الأسبوع جمعه مع أهل البادية وضاحية المدينة؛ حتى يأتلف الناس ويحسوا أنه لا فرق بينهم، وأن هذه الأشكال والصور والألوان والأماكن والبلدان لا فرق بينها في دين الله عز وجل، فيركعون ويسجدون خلف إمام واحد، ويتقيدون بهذا الإمام وينصتون إليه، فتجد المليون يستمعون إلى رجل واحد؛ حتى نشعر بالألفة وبالأخوة.
ولا يجتمع على وجه الأرض المليون والمليونان ينصتون لرجل واحد وهو يتكلم؟! ولو اجتمع مائة ألف عجز الناس عن إسكاتهم، ولو جاءوا بعدد من الخلق من أجل أن يُسْكِتُوا هؤلاء المائة ألف لحظة أو ساعة مؤقتة، لكان من الصعوبة بمكان، ولحصل اللغط، ولكن في الإسلام يجتمع المليون والأكثر من المليون ويستمعون لخطيب واحد على صعيد عرفة، لا يتكلمون ولا يهمسون.
وكذلك أيضاً عندما يجتمعون في صلاة الجمعة؛ من أجل أن يشعر المسلم بأخوة هذا الدين، وأن هذا الإسلام جمع بين القلوب وألف بين الأرواح، وهي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك جعل الله عز وجل المسلمين بمثابة الجسد الواحد، وأشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المسلمين في توراتهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
فيجتمعون في الأسبوع على مستوى المدينة والأحياء القريبة من المدينة، فإذا كان يوم العيد اجتمعوا على أبعد من المدينة، وتجد الناس تأتي من أماكن بعيدة من أجل شهود العيد داخل المدينة.
كل ذلك من أجل جمع القلوب وتآلف الأرواح: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] وهذا هو مقصود الإسلام، ولذلك يقول بعض العلماء: إن الله امتن على عباده بالألفة والأخوة والتواد والتراحم قبل منَّةِ الدين، فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] فجعل نعمة الاعتصام والائتلاف والتواد والتراحم واجتماع الكلمة قبل قوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] وهذا يدل على عظيم أمر الائتلاف والاجتماع والاعتصام بحبل الله عز وجل.
وهذا مقصود ومراد في الحج، ولذلك يجتمع الناس بإمام واحد، ولا حج إلا بإمام، ويدفعون بدفع الإمام، وتراهم جميعاً بثوب واحد وزي واحد، وعلى هيئة واحدة، وفي مقام واحد وصعيد واحد، كل ذلك لكي يشعروا بأخوة الإسلام وما ربط الله عز وجل بينهم.
كذلك من مقاصد الحج: أن المسلم يجتمع بأخيه المسلم، يسأله عن حاله وأشجانه وأحزانه، فإن وجد خيراً حمد الله، وأمره أن يشكر الله على فضله، وإن وجد غير ذلك ثبته وقواه، ودعاه إلى الاعتصام بحبل الله، وتواصى المسلمون بالثبات على الحق إلى الممات، والصبر على ما يكون من بلايا الدنيا ومصائبها، فتجدهم متآلفين متعاطفين متكاتفين متراحمين متواصلين كالجسد الواحد، فالمسلم الذي في مشرق الأرض يتأوه لأخيه المسلم الذي في مغرب الأرض؛ وما ذلك إلا برابطة هذا الدين.
فالمقصود من الحج: جمع الكلمة وائتلاف القلوب.
أما المنافع والمصالح الدنيوية من المناسك: التجارة وغيرها.
ولقد فضل الله أهل البيت الحرام فساق إليهم الخيرات، وجعل بلدهم آمناً مطمئناً تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً منه سبحانه؛ لكي يشكروه ويحمدوه ويعظموه، فحق جيران بيت الله الحرام آكد من غيرهم، فلما رأوا الناس تتوافد عليهم، من كل حدب وصوب شعروا بحرمة هذا البيت، وشعروا بنعمة الله عليهم وفضل الله عليهم بأن جعل القلوب تهوي إلى هذا البيت! يُسأل المسلم في أقصى الشرق عن أمنية عزيزة عليه، فيقول: أتمنى أن أرى البيت الحرام، وأن أحج، وأن أعتمر.
وهذا كله لاشك يدعو الإنسان أن يشعر بنعمة الله عز وجل عليه.
ومن مصالح الحج الدنيوية أن يجتمع الناس ويتعرف بعضهم على بعض، وتتعرف على عادات وتقاليد، وترى أشياء وصنوف عجيبة غريبة من تصرفات الناس وأفعالهم، فترى الحكيم بحكمته والجاهل بجهله، فإن وجدت خيراً تعلمته، وإن وجدت غير ذلك حمدت الله على نعمته وفضله عليك.
ففي الحج غايات عظيمة وأسرار كريمة، فليس المقصود أن الإنسان يحج من أجل أن يصيب هذه العبادات خالية عن هذه المعاني.
وقال بعض العلماء: من أعظم معاني التوحيد في الحج أن الحج يذكر الإنسان بالآخرة، فإن الإنسان من أول لحظة في الحج إذا خرج من بيته يتوجه إلى الميقات، فيأتيه أمر الله عز وجل في الميقات أن يتجرد من ثيابه، وأن ينزع عنه المخيط.
فإذا تجرد من ثيابه تذكر إذا جرده أهله من ثيابه حين يموت ليغسلوه، هو اليوم يجرد نفسه؛ ولكنه غداً يُجَرَّدَ.
ثم إذا لبس ثياب الإحرام فإنه يتذكر لبس الأكفان، وعندما يلبس ثياب الإحرام فإنه يمنع من الطيب، ومن قص الشعر، ومن الترفه، فيتذكر أنه إذا صار إلى قبره يحال بينه وبين أي شيء من ملاذ الدنيا ومتعها وما فيها من الشهوات والملهيات، كذلك هو في حجه يُمنع من هذه الأمور لكي يتذكر الآخرة.
ثم إذا صار إلى صعيد عرفات تذكر وقوف الناس بين يدي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً، فيتذكر مثل هذه المواقف؛ ولذلك يقولون: الحج يعين على تذكر الآخرة.
ومن غايات الحج وأهدافه وأسراره: أنه يقوي شكيمة المسلم، ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بكونه جهاداً، فتتعود على التغرب عن الأوطان، ولذلك جعل الله عز وجل شهواتك تستجيب لك، ولس(111/2)
مشروعية الحج والعمرة وحكمهما
يقول المصنف عليه رحمة الله: [الحج والعمرة واجبان على المسلم الحر المكلف القادر] شرع المصنف رحمه الله في بيان حكم الحج والعمرة، وهما النسك.
فبيّن رحمه الله أن كلاً من الحج والعمرة يعتبر فريضة من فرائض الله عز وجل.
أما بالنسبة للحج فهذا محل إجماع واتفاق بين أهل العلم رحمهم الله؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97].
وقال عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس) وذكر منها: حج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
وأجمع المسلمون على أن الحج ركن من أركان الإسلام.(111/3)
أقوال العلماء في فرضية العمرة
وأما بالنسبة للعمرة ففيها قولان مشهوران لأهل العلم رحمة الله عليهم: القول الأول: إن العمرة سنة وليست بواجبة، وبهذا القول قال فقهاء الحنيفة والمالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول للشافعي رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني: إن العمرة واجبة، وبهذا القول قال الشافعية والحنابلة في المشهور.
فأما دليل من قال: إن العمرة سنة وليست بواجبة فقد استدلوا بظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] قالوا: ولو كانت العمرة واجبة لقال الله: ولله على الناس الحج والاعتمار، ولكن الله سبحانه وتعالى خص الفريضة بالحج، فدل على أن العمرة لا تأخذ حكم الحج.
واستدلوا كذلك بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث عبد الله بن عمر في الصحيح (بني الإسلام على خمس، وفيه: حج البيت من استطاع إليه سبيلاً) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر العمرة مع الحج، فدل على أن الحج فريضة والعمرة سنة.
وكذلك استدلوا بحديث عمر في الصحيحين حينما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فذكر شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، قالوا: ولم يذكر العمرة.
وكذلك أيضاً استدلوا بحديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه، وذلك أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله فقال: (زعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
قال: صدق، فقال بعد ذلك: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.
فقال صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة) فقال: لا أزيد على هذا.
والعمرة زائدة على الحج، فدل على أن العمرة ليست بواجبة.
كذلك أيضاً استدلوا بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أعرابي عن العمرة أواجبة هي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا وأن تعتمر خير لك) وهذا الحديث رواه الإمام الترمذي في سننه، وقال: إنه حديث حسن صحيح، وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده.
قالوا: فهذا الحديث الصحيح يدل على أن العمرة ليست بواجبة، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل: (أهي واجبة؟ قال: لا) وهذا يدل على أنها ليست بلازمة، ثم قال: (وأن تعتمر خير لك) أي: أنها سنة مستحبة وليست بفريضة واجبة.
كذلك استدلوا بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج جهاد والعمرة تطوع) وهذا الحديث رواه ابن ماجة بسند ضعيف.
هذه هي حاصل حجج من قال: بأن العمرة ليست بواجبة.
أما من قال: بأن العمرة واجبة فقد استدل بقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196].
وجه الدلالة: أن الله قرن العمرة بالحج، فدل على أن حكمهما واحد، وهذه الدلالة تسمى عند العلماء: بدلالة الاقتران، وهي دلالة ضعيفة، والدليل على ذلك أن الله يقرن الواجب وغير الواجب كما قال سبحانه وتعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فإن الله قرن الأكل بأداء الزكاة، فدل على أنه قد يقرن الواجب بغير الواجب.
ثم إن هذه الدلالة في الآية محل نظر، وذلك أن الله تعالى قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة:196] ففي قراءة (والعمرة لله) على العطف وهناك قراءة على الاستئناف (وأتموا الحج والعمرةُ لله) وعلى هذه القراءة لا يستقيم الاستدلال.
وكذلك أيضاً استدلوا بالسنة، وذلك لما ثبت من حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه وأرضاه: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه حيث قال: إن أبي لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، فقال صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك واعتمر) وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وكذلك الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه غير واحد من الأئمة، قالوا: إن هذا الحديث أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أبا رزين أن يعتمر عن أبيه، فدل على أن العمرة واجبة.
واستدلوا أيضاً بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وذلك (أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل على النساء جهاد؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) فقوله: (عليهن) أي: يلزمهن كقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] أي: ألزموها، فهذه الصيغة صيغة إلزام، وصيغة الإلزام تدل على الوجوب، وبناءً عليه فإن هذا الحديث يدل على وجوب العمرة.
وبناءً على ذلك قالوا: إن العمرة واجبة، وهذا القول أعني: القول بوجوب العمرة هو أصح القولين والعلم عند الله، وذلك لقوة دلالة الأدلة التي استدلوا بها، وأما الآية فدلالتها ضعيفة هي قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] لكن الأقوى حديث أبي رزين وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وكيف نجيب عن دليل القائلين بالسنة؟ الجواب عن ذلك من وجوه: أقواها ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله من أن الحج ينقسم إلى قسمين: - حج أكبر.
- وحج أصغر.
وهذا هو الذي دل عليه القرآن في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3] فهناك حج أكبر وهو الحج المعروف، وهناك حج أصغر وهو العمرة، فلما قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] شمل الحج الأكبر والأصغر.
وكذلك ما ورد من الأحاديث في قوله: (وأن تحج البيت) فإنه يشمل حج البيت بالأكبر والأصغر؛ لأنه مطلق فيشمل الاثنين، وهذا هو أنسب الوجوه؛ لأن الله وصف الحج بكونه أكبر وأصغر.
وأجيب أيضاً بأن سكوت الأدلة عن ذكر هذه الفرائض في العزائم والأركان لا يدل على عدم وجوبها، وأن وجوبها شُرِعَ متأخراً، وهذا الوجه يختاره بعض الأئمة رحمهم الله.
وبناءً على ذلك فإنه يترجح قول القائل بوجوب العمرة.
إذا ثبت وجوب الحج والعمرة فيرد
السؤال
هل هذا الوجوب وهذه الفريضة عامة أو خاصة؟ أما بالنسبة للحج فهو واجب وفريضة على المستطيع عموماً بالشروط التي سنذكرها، أما العمرة فللعلماء الذين قالوا: بوجوبها وفرضيتها مسلكان: منهم من يقول: العمرة واجبة على الجميع دون فرق بين أهل مكة وغيرهم.
ومنهم من يقول: هي واجبة على غير أهل مكة، أما أهل مكة فإنه لا تجب عليهم العمرة.
والصحيح فرضيتها على الجميع؛ وذلك لأنه لم يدل دليل على استثناء المكي وإخراجه من هذا العموم.(111/4)
شروط وجوب الحج
وأما بالنسبة لقوله: (الحج والعمرة واجبتان على المستطيع): هذا الشروع الذي بدأه المصنف في كتاب المناسك، إنما هو في بيان حكم هذه العبادة.
وهذه الفرضية وهذا الوجوب مقيد بشروط، بدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فقال (حِجُّ) وفي قراءة: (حَجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا) فقيد هذا الوجوب وهذا اللزوم بالاستطاعة، ولذلك قال العلماء: إن هذه الفرضية تتقيد بشروط.(111/5)
الشرط الأول: الإسلام
قوله: (الحج والعمرة واجبان على المسلم): أي: واجبان على المسلم أما الكافر فلا يجب عليه أن يحج، ولا يجب عليه أن يعتمر، حتى يحقق أصل الإسلام والتوحيد من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد ذلك يخاطب بفروع الإسلام، أما الدليل على أن الكافر لا يحج ولا يعتمر فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] وقوله سبحانه: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3] فهذا يدل على أنه لا يجوز دخول المشرك والكافر إلى مكة، ويشمل ذلك الحج والعمرة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه بعث علياً رضي الله عنه ينادي بندائه: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)، ولذلك قالوا: لا يدخل الكافر لحج ولا لعمرة، ومُنِعَ المشركون من الحج والعمرة بعد نزول هذه الآية الكريمة.(111/6)
الشرط الثاني: الحرية
قوله: [الحر]: أي: يجب الحج وتجب العمرة على الحر، أما الرقيق فلا يجب عليه حج ولا عمرة؛ لأن الله قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] والرقيق ليس عنده مال، فشرط الاستطاعة ليس بمتوفر ولا متحقق فيه، والدليل على أن الرقيق لا يملك المال، ما ورد من حديث ابن عمر الذي ذكرناه في كتاب الزكاة، وبينا أن الشرع أخلى يد العبد عن الملكية، وإذا خلت يدُ العبد عن ملكية المال فإنه لا يتحقق فيه شرط الوجوب، فلا يخاطب بالحج، ولا بالعمرة حتى يعتق.
لكن لو أذن السيد لعبده بالحج وبالعمرة، فحج أو اعتمر فحجه صحيح وعمرته صحيحة.
وخالف الظاهرية جمهور العلماء، فقالوا: إن العبد يطالب بالحج لعموم الأدلة، ولكن يجاب عنهم بأن هذا العموم مقيد بشروط، وذلك في قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] والاستطاعة تشمل الاستطاعة المالية، والعبد لا يملك المال فلا يتوجه إليه الخطاب بوجوب الحج، لكن لو حج بإذن سيده فلا إشكال.
والعبد الذي لا يجب عليه الحج يشمل العبد الذي هو متمحض الرق، والعبد المبعض، أي: الذي بعضه حر وبعضه عبد، فلا يطالب بالحج وذلك لوجود حق السيد فيه، وإذا ازدحم الحقان حق المخلوق وحق الخالق، قدم حق المخلوق لوجود المشاحة فيها.(111/7)
الشرط الثالث: التكليف
قوله: [المكلف]: والمراد بذلك شرطا التكليف: الأول: البلوغ.
الثاني: العقل.
والتكليف مأخوذ من الكلفة والمشقة؛ والسبب في ذلك أن شرائع الإسلام فيها مشقة مقدور عليها، وأما المشقة غير المقدور عليها فلا يكلف الله بها، فإذا كان الشرع فيه مشقة وكلفة ظهر المطيع من العاصي، ولذلك حفت الجنة بالمكاره حتى يظهر من يمتثل أمر الله ومن يترك.
والتكليف شرطه العقل والبلوغ.
وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل فلا يحكم بكون الإنسان مكلفاً بشرائع الإسلام إلا إذا كان عاقلاً، فالمجنون لا يكلف ولا يجب عليه الحج، وهل إذا حج المجنون وأحرم عنه وليه يصح حجه؟ للعلماء وجهان: الأول: من أهل العلم من قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بفج الروحاء، وسألته المرأة وقد رفعت صبياً لها فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولكِ أجر) قالوا: والمجنون في حكم الصبي، كل منهما فاقد للحلم والعقل، فقالوا: كما صحح النبي صلى الله عليه وسلم حج الصبي يصحح أيضاً حج المجنون.
وبناءً على ذلك إذا أحرم عنه وليه، واستقامت له أركان الحج وشرائط صحته، حكمنا باعتبار حجه وصحته.
الثاني: ومن أهل العلم من قال: المجنون لا يصح منه الحج البتة، لا يحرم بنفسه ولا يحرم عنه وليه، وذلك أنهم يرون أن الصبي استثني بالنص وبقي المجنون على الأصل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- المجنون حتى يفيق).
والمجنون له حالتان: الأولى: إن كان جنونه مطبقاً فإنه لا يجب عليه الحج ولا العمرة، ولا تجب عليه الشرائع؛ لأنه قد رُفِعَ عنه القلم، وَسَقَطَ عنه التكليف.
الثانية: أن يكون جنونه متقطعاً، وهو الذي يجن تارة ويفيق أخرى، فإنه إذا حج في حال الإفاقة وكان قادراً مستطيعاً في حال إفاقته، فإنه يجب عليه الحج ويصح منه.
وأما بالنسبة لشرط البلوغ: فهو أن يبلغ الصبي طور الحلم، وقد بينّا ذلك في كتاب الصلاة، وبينّا تعريف البلوغ وضابطه.
والمراد بذلك أننا لا نوجب الحج على الصبي، ولكن لو حج الصبي وأحرم عنه وليه صح حجه، ولكن لا يجزيه عن حجة الإسلام وفريضته، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لأنه إذا حج في حال صباه كان له نافلة، والنافلة لا تجزئ عن الفريضة، والرقيق إذا حج حال رقه فإنها كذلك نافلة؛ لأن الله لم يوجب عليه الحج، فإذا عتق العبد وبلغ الصبي لزمهما أن يعيدا حجهما وعمرتهما.(111/8)
الشرط الرابع: القدرة والاستطاعة
قوله: [القادر] وهذا هو الذي نص القرآن عليه بشرط الاستطاعة، فقال سبحانه: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] أي: من استطاع إلى بيت الله سبيلاً، وهذه الاستطاعة تشمل الزاد والراحلة، فلا يجب الحج على من ليس عنده زاد أو راحلة تبلغه البيت، هذا إن كان على مسافة القصر من مكة، أما من كان من أهل مكة فإنما يشترط وجود الزاد، أما الراحلة فلا تشترط؛ لأنه بداخل مكة ويمكنه أن يخرج إلى المناسك ماشياً على رجليه.
وفي حكم أهل مكة من كان دون مسافة القصر، فهؤلاء يجب عليهم الحج إذا وجدوا الزاد، والمراد بالزاد طعامهم ومئونتهم التي تكفيهم لحجهم، بشرط أن تكون فاضلة عن قوتهم وقوت من تلزمهم نفقتهم كما سيأتي.
وقد عبّر المصنف رحمه الله بالقدرة، وهذه القدرة تشمل الزاد والراحلة، وقد جاءت في ذلك أحاديث موصولة ومرسلة وموقوفة، قال شيخ الإسلام: إنها أحاديث حسان، وينضم بعضها إلى بعض، ويقوي بعضها بعضاً، وهي تدل على أن شرط الاستطاعة قائم على الزاد والراحلة.
وبناءً على ذلك فإن العبرة في الزاد نفقة الذهاب ونفقة الرجوع، فيقدر كم يحتاج للسفر إلى مكة ذهاباً وإياباً، ومن أهل العلم من قال: العبرة بالذهاب، أما الإياب فلا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون رجوعه إلى بلده لازماً من أجل من يقوم عليهم من أولاده وأهله، فيكون الشرط بالرجوع لازماً، أي: أنه يشترط أن يكون قادراً على نفقة الذهاب والإياب.
الثانية: أن يكون لا أهل له ويمكنه أن يبقى بمكة، فزاد الرجوع ليس بلازم.
وفائدة الخلاف: لو كان الرجل الذي يسافر من المدينة إلى مكة محتاجاً إلى زاد يقدر بمبلغ خمسمائة ريال في الذهاب، وخمسمائة ريال للرجوع، فبلغ ماله خمسمائة وليس عنده ألف، فحينئذٍ إن كان له أهل، ورجوعه إلى المدينة متعين لم يجب عليه الحج، وإن كان لا أهل له ويمكنه البقاء بمكة فيلزمه الحج، ويعتبر مخاطباً بأداء الحج فوراً.
هذا بالنسبة على القول بأنه تقدر نفقة الإياب كما تقدر نفقة الذهاب.
ولقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] يدخل في ذلك الطريق، فإذا كان الطريق مخوفاً لوجود السباع والعوادي، أو كان سفره إلى مكة يتوقف على ركوب البحر والسفر، وكان الزمان ضيقاً، بحيث لم يكن بينه وبين الحج إلا ثلاثة أيام أو أربعة أيام، وهاج البحر فيها، وغلب على ظنه أنه لو ركبه لهلك، لم يجب عليه الحج؛ لأن الله يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] فالله لا يخاطب بما فيه فوات الأنفس، إلا ما شرع من الجهاد، وأما ما عدا ذلك من الفرائض فإنها لا تكون لازمة على وجه يؤدي إلى فوات الأنفس.
وبناءً على ذلك فإنه إذا خاف من الطريق لوجود السباع العادية، أو وجود ضرر كركوب البحر أو نحو ذلك من المسائل؛ فإنه لا يلزمه الحج.
أما إذا أمن الطريق؛ فحينئذٍ لا إشكال.
وفصّل العلماء: إذا كان الطريق مخوفاً بين أن يجد بديلاً أو لا يجد، فإن وجد بديلاً كأن يكون الطريق الأول فيه سباع عادية، والطريق الثاني أشق وأكثر كلفة، ولكنه آمن ويمكنه أن يسلكه، فإنه يلزمه أن ينصرف إلى الحج؛ وذلك لوجوبه عليه.
هذا بالنسبة لشرط القدرة، أما المكي فالأمر فيه خفيف بالنسبة للحج والعمرة؛ والسبب في ذلك أنه لا يفتقر إلى سفر، ومن هنا قالوا: ينظر إلى زاده في الحج، بحيث لو كان عنده نفقة وأمكنه أن يحج، فإنه يجب عليه أن يحج.(111/9)
الأسئلة(111/10)
أقوال العلماء في الإنصات لخطبة يوم عرفة
السؤال
هل يجب الإنصات لخطبة يوم عرفة وتأخذ حكم خطبة الجمعة، وذلك استناداً لقوله صلى الله عليه وسلم قبل خطبته: (استنصت لي الناس)؟
الجواب
حديث جابر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالإنصات إليه يوم عرفة، وفتح الله له قلوب الناس وأسماعهم، فبين شرع الله عز وجل فأحل حلاله وحرم حرامه، وبين نظامه صلوات الله وسلامه عليه، وأعذر إلى العباد، فأقام عليهم حجة الله، وأشهد الله على أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة.
فبعض العلماء يقول: إن هذا الاستنصات لإقامة الحجة، ولا يلزم الإنصات في خطبة يوم عرفة، كلزومه في خطبة الجمعة.
وبعضهم يقول: ظاهر الحديث أنه أمر بالإنصات فيجب.
وفي الحقيقة لا ينبغي للمسلم أن يفرط في هذا الخير، والمسلم إذا استشعر أنه تغرب عن الأوطان وفارق الأهل من أجل هذه الطاعة؛ فلا يفرط في أي شيء ولو كان سنة، ولو كان غير واجب لا يفرط فيه.
واعلم رحمك الله! أنك إذا جئت إلى خطبة يوم عرفة، وحضرتها كاملة على أتم الوجوه، وصليت في مسجد عرفة، وأصبت أفضل الأماكن كالصفوف الأول، وخشعت وخضعت وتأثرت بالخطبة، وأنصت لها وأحضرت لها سمعك وقلبك؛ فاعلم أن هذا من محبة الله لك، والله عز وجل لا يوفق لطاعته إلا من يحب؛ فإنه يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن لا يعطي الدين إلا لمن أحب.
فاعلم رحمك الله! أن مسألة الإنصات لخطبة يوم عرفة ليست هي الأهم، إنما الأهم أن تعلم أنك ما تغربت إلا من أجل أن تطيع الله سبحانه وتعالى، وأنه بمقدار ما توفق للقيام بالسنن وتتبع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، تكون أحظى بالقبول من الله عز وجل، وهذا مجرب، فإن من أراد أن يجد لذة الحج وحلاوة الحج فليحرص على تطبيق السنة بحذافيرها، ولا يعلم شيئاً من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحبه ولزمه وتأثر به وحرص عليه.
ولا شك أن أداء المناسك تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم له لذة يعرفها من وجدها، ولا شك أن الإنسان إذا قام بأركان الإسلام على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سنته وعلى طريقته؛ فإنه يكون من الموفقين، وهذا لا شك أنه من محبة الله له، نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل! فينبغي أن يحرص الإنسان على السنة، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يحرص كل الحرص أن لا يزاحم الناس ولا يؤذي الناس، ولكن يحرص كل الحرص على أن يصيب السنة، فإذا لم يوفق لها أو غلبه الناس عليها، فإنك تجده يتمعر ويتغير وجهه، ويقول: إنا لله، أستغفر الله من ذنب حال بيني وبين سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
هكذا شأن أهل العلم الذين هم قدوة، والإنسان كلما حرص على السنة كلما أصابته الرحمة؛ لأن الله جعل الرحمة والهداية في التأسي به عليه الصلاة والسلام.
تجد بعض الناس ينتهي من عمرته خلال نصف ساعة، وبعضهم ربما يتسابق مع أصحابه وزملائه على الانتهاء من العمرة، وكنا نصحب بعض العلماء فيبقى في عمرته الساعتين والنصف إلى الثلاث ساعات؛ لأنه يمشي بسكينة ووقار، ويتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أخذ الأشواط بين الصفا والمروة تضرع لله عز وجل، وكرر الدعاء تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر من المسألة والحاجة.
إذاً تجد لذة العبادة، وتستشعر فعلاً أنك تؤدي عبادة، إذا قمت بها على وجهها؛ لكن بعض الناس كلما علم سنة تركها، وأصبح علمه بالسنة سبباً في تركها! بل قد تجد بعض العوام يحرص على السنة فلا يتركها، بينما تجد بعض طلاب العلم يرى أنها سنة فيتركها، حتى صار العلم وبالاً على بعض الناس وحرم من الخير.
ولا ينبغي لطالب العلم أن يكون زاهداً في السنن، فالإنصات إلى الخطيب في يوم عرفة، بل الإنصات لكل مذكر بالله عز وجل فيه خير وبركة.
وبالمناسبة: أن الإنسان إذا عظم الله عز وجل عظم كل شيء يدعو إليه، وكلما كمل التزام الإنسان وكملت هدايته وكمل إيمانه أحب كل شيء يقربه إلى الله.
ولذلك تجد المهتدي كامل الاهتداء كثير الحب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولهديه، كثير الحب للعلماء والصالحين؛ لأنه يرى أن العالم يدعوه إلى السنة فيحبه، فينبغي على الإنسان أن يحرص على تعظيم شعائر الله عز وجل، وعلى تطبيق السنة، وأن لا يجعل علمه بالسنة سبباً في تركها والزهد فيها.
نسأل الله العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة والثبات عليها إلى لقائه.
والله تعالى أعلم.(111/11)
دخول العمرة في الحج للقارن والمتمتع
السؤال
هل تندرج العمرة تحت الحج، وما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) وذلك في مسألة وجوب العمرة أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فتندرج العمرة تحت الحج في حج القارن وحج المتمتع؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت العمرة في الحج) والسبب في ذلك أن العرب أحدثوا في الجاهلية أحدثوا أموراً خالفت السنن، وخالفت الحنيفية، ومنها أنهم كانوا يحرِّمون على الناس أن يعتمروا في أشهر الحج، فإذا دخل شهر شوال، حرموا على الناس أن يحرموا بالعمرة، وألزموهم بالحج حتى ينسلخ صفر، وقد أشار إلى ذلك حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بقوله: كانوا يقولون -أي العرب في الجاهلية- إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر.
فرفع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وأبطله.
ولذلك لما أمر الصحابة أن يفسخوا حجهم بعمرة، وأمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، (قالوا: يا رسول الله! أي الحل قال: الحل كله، -فاستبشعوا ذلك على ما ألفوه في الجاهلية- وقالوا: يا رسول الله! أنذهب إلى منى ومذاكرنا تقطر منياً؟!) لأنهم كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن العمرة دخلت في الحج، بمعنى: أنه يجوز للإنسان أن يعتمر في أشهر الحج، ولذلك اعتمر من الجعرانة صلوات الله وسلامه عليه بعد فراغه من فتح الطائف، وقسمته لغنائم حنين، وقد وقعت في أشهر الحج إبطالاً لهذه العادة، وتأكيداً وتقريراً لمبدأ الإسلام بجواز العمرة في أشهر الحج.
فهذا معنى قوله: (دخلت العمرة إلى الحج، وشبك بين أصابعه، وقيل: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: لأبد الأبد) أي: أن هذا الحكم بجواز العمرة في أشهر الحج لأبد الأبد، فهذا هو المراد بقوله: (دخلت العمرة في الحج) أي: أنه لا حرج عليك أن تأتي بالعمرة في أشهر الحج.
فلو سأل إنسان وقال: هل لي أن أعتمر في شهر شوال ثم أرجع إلى بلدي ولا أريد أن أحج؟ نقول: لا حرج، وكذلك لو سأل أنه يريد العمرة في شهر ذي القعدة ثم يرجع إلى بلده لا حرج، ولو أهل شهر ذي الحجة وأراد أن يؤدي عمرته ثم ينطلق إلى بلده لحاجة أو نحو ذلك، كما لو مر بمكة وأراد أن يصيب العمرة نقول: لا حرج؛ لأن الشرع بيّن حكم دخول العمرة في أشهر الحج، وأن هذا الحكم لا يختص بحجته صلوات الله وسلامه عليه، وأنه باقٍ إلى قيام الساعة، لقوله: لأبد الأبد.(111/12)
حكم حج من زال عنه المانع فأعاد الوقوف بعرفة
السؤال
إذا زال الرق والجنون والصبا بمزدلفة، ثم رجع إلى عرفة ودفع مرة أخرى فهل يصح فرضاً أثابكم الله؟
الجواب
يقول بعض العلماء: إذا وقع قبل انتهاء أمد الوقوف صح وأجزأ، وأما إذا وقع بعد انتهاء أمد الوقوف فإنه لا عبرة به ويمضي في حج النافلة حتى يتمه، ثم يحج من عامه الذي بعده إن توفرت فيه شروط الفرضية والوجوب.
والله تعالى أعلم.(111/13)
وجوب إعادة الحج لمن ارتد عن الإسلام ثم أسلم
السؤال
من ارتدّ عن الإسلام -والعياذ بالله- ثم أسلم فهل يعيد حجه مرة أخرى أثابكم الله؟
الجواب
للعلماء في هذه المسألة قولان، إن وقعت منه الردة ثم أسلم ثانية فالصحيح أنه يعيد؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65].
فالردة -والعياذ بالله- توجب حبوط العمل، ولو كان العبد من أتقى عباد الله عز وجل وارتد عن الإسلام، فإنه بكلمة الكفر وردته عن الإسلام قد أصبح صفر اليدين؛ لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] يصبح كأنه لم يعمل خيراً قط، نسأل الله السلامة والعافية! فإذا ثبت بالنص أن العمل يحبط، فإنه يجب عليه إذا أسلم من جديد أن يعيد حجه وعمرته، وكذلك إذا كان ممن يلزمه أن يحج ويعتمر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(111/14)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب المناسك [2]
فرض الله الحج على عباده مرة في العمر، وكذا العمرة، ومن رحمة الله أن جعل فرضيته على المستطيع دون العاجز، والاستطاعة إنما تتحقق بوجود الزاد والراحلة فائضاً عن نفقة ممونه حتى يرجع.
ولذلك تفصيل لابد من معرفته.(112/1)
وجوب الحج والعمرة مرة على الفور
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: [في عمره مرة على الفور]: قوله: (في عمره مرة) أي: يجب على المسلم الحر المكلف القادر أن يحج ويعتمر مرة في العمر، فهذه الفريضة تجب على الإنسان مرة في عمره؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف للناس في حجة الوداع، فقال: (أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقيل: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت عليه الصلاة والسلام وقال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) إلى آخر الحديث.
وجه الدلالة من الحديث: أنه لم يقل: نعم.
والصحابي عندما سأل: أفي كل عام؟ لم يجبه بنعم، وإنما قال: لو قلت نعم لوجبت، أي: لوجب عليكم الحج في كل عام، ولكنه لم يقل ذلك، فدل على أن الحج إنما يجب مرة في العمر، وهذا بإجماع المسلمين.
قوله: [على الفور] فلا يتراخى ولا يتأخر، على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم.(112/2)
أحكام تتعلق بحج الصبي ونحوه(112/3)
صحة حج من زال رقه وجنونه وصباه قبل غروب شمس يوم عرفة
قوله: [فإن زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة وفي العمرة قبل طوافها صح فرضاً] أي: لو خرج الرقيق من المدينة إلى مكة وهو يريد الحج، فإننا ننظر إن وقع عتقه قبل الوقوف بعرفة فللعلماء فيه أقوال: أصح الأقوال أنه يجزيه عن حجة الإسلام، ولا يجب عليه أن يرجع إلى الميقات.
وقال فقهاء الحنفية: يجب أن يرجع إلى الميقات؛ لأنه وجب عليه الحج من ميقاته، فيرجع لكي يحرم منه، فإن لم يرجع لم يجزه، فقيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأن نيته الأولى وقعت نافلة ولم يكن الحج واجباً عليه، فلما وقعت نافلة فلا ينقلب النفل إلى الفريضة.
وقال بعض العلماء: يجب عليه أن يرجع إلى الميقات حتى يسقط عنه الدم، فإن حج من مكانه ومضى فإنه يصح حجه ولكن يجب عليه دم.
فهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم: منهم من يقول: يصح ما دام أنه قد عتق قبل الوقوف بعرفة، أو أثناء وقوفه بعرفة قبل أن يدفع، ويجزيه عن حجة الإسلام.
ومنهم من قال: يلزمه الرجوع إلى الميقات حتى يخرج بنية الفريضة بدل نية النافلة.
ومنهم من قال: إنه يلزمه الرجوع إلى الميقات حتى يسقط عنه الدم؛ لأنه سَيُحْرِمُ بالحج الفرض من موضع دون الميقات.
والصحيح أنه يجزيه في حجه أن يمضي؛ وذلك لما ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً وهو يطوف بالبيت يقول: لبيك عن شبرمة، لبيك عن شبرمة، فقال عليه الصلاة والسلام: ومن شبرمة؟ قال: أخي -أو ابن عم لي- مات ولم يحج، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة).
فهذا الحج الذي وقع من هذا الرجل كان في الميقات قد نوى عن شبرمة، فلو كان يلزمه الرجوع إلى الميقات لقال له: ارجع إلى الميقات وانوِ عن نفسك؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فاغتفر الشرع ذلك وصار من سماحة الشرع ويسره.
وإلا فالأصول تقوي أن يرجع، فلما استثنى النبي صلى الله عليه وسلم هذا، دل على أن من طرأ له الحكم وانقلبت نيته أن ذلك لا يؤثر، وقد قال علي رضي الله عنه: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد قدم من اليمن، فلم يقل له: ارجع إلى يلملم وجدد النية بما نويت به.
يقول العلماء: إن هذا يدل على أنه لا يلزم الرجوع إلى الميقات، وأنه إذا عتق الرقيق وبلغ الصبي قبل الوقوف بعرفة، فإنه يجزيهما أن يمضيا في حجهما.(112/4)
صحة عمرة من زال رقه وجنونه وصباه قبل طوافه
أما في العمرة فتنظر إلى أول الأركان، وهذا مسلك الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم: أن العبرة عندهم في العمرة بتغيير النية وانقلابها أن يكون قبل بداية الطواف، فإذا ابتدأ الطواف فقد تلبس بالنسك نافلة، أما لو غير نيته قبل الطواف فإنه يجزيه ذلك.
ولذلك فمسائل الفسخ من حج إلى عمرة ونحوها من المسائل، إنما تكون قبل أن يتلبس بالطواف، فإذا وقع عتقه قبل طواف الركن، أي: طواف العمرة، فإنه حينئذٍ تجزيه عن عمرة الإسلام وتعتبر عمرته فريضة؛ لأنها وقعت قبل ركن الطواف.
وذكرنا أنه إذا وقع بلوغ الصبي باحتلام وغيره قبل الوقوف بعرفة، أو أثناء وقوفه بعرفة قبل دفعه أجزأه وصحت حجته عن حجة الإسلام، وإن وقع بلوغه قبل طوافه بالبيت في عمرته أجزأه وانقلبت عمرته إلى فريضة الإسلام.
قوله: (صح فرضاً): أي: أجزأه عن عمرة الإسلام وحجه.(112/5)
الحج والعمرة من الصبي والعبد حال الصبا والرق لا تجزئ عن الفريضة
[وفعلهما من الصبي والعبد نفلاً] أي: أن الصبي والعبد إذا حج كل منهما أو اعتمر في حال الصبا والرق، فهي عمرة نافلة وحجة نافلة ولا تجزي عن الفريضة، هذا مراد المصنف رحمه الله، وفي ذلك حديث ابن عباس الذي ذكره الشافعي في مسنده وغيره أنه قال: (أيما صبي حج ثم بلغ فإنه يعيد حجه) وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم، فيقول جمع من السلف: إنه يلزمه أن يعيد حجه، ولا تجزيه الحجة النافلة ولا العمرة النافلة عن فريضة حجة الإسلام وعمرته.(112/6)
وجوب الحج على من قدر وأمكنه الركوب
قال رحمه الله: [والقادر: من أمكنه الركوب] قوله: (والقادر) أي: الشخص الذي يجب عليه الحج لوجود شرط القدرة، والقادر من وجد راحلة، ومسألة وجود المركوب للعلماء فيها وجهان: الأول: لا يجب الحج إلا على من وجد الراحلة.
وهذا في غير المكي كما سبق، فالخلاف بين العلماء في غير أهل مكة، فلا بد من وجود الراحلة لغيرهم، وهو قول الجمهور.
الثاني: قال بعض السلف: إذا كان يطيق المشي لزمه الحج؛ لأن الله تعالى يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] فوصفهم بكونهم يأتون رجالاً.
ولا شك أن اشتراط وجود الراحلة أصح؛ وذلك لوجود الأحاديث التي أشرنا إليها، وأنها بمجموعها تتقوى، وكما وصفها العلماء والأئمة أنها ترتقي إلى درجة الحسن بالاعتضاد، وتقوي شرط الراحلة.
وبناءً عليه فإنه لا يجب الحج على من أطاق المشي، لكن لو مشى وبلغ مكة وحج فحجه صحيح، وليس هذا بشرط للصحة، وإنما هو شرط وجوب، فلا يجب عليه إلا إذا ملك الراحلة.
والراحلة في زماننا تشمل أن يكون قادراً على الركوب بالبر أو بالجو أو بالبحر، بأن تكون عنده مئونة الركوب، فإذا كان عنده المال الذي يستطيع أن يكتري به سيارة لبلوغ مكة، أو طائرة أو نحو ذلك؛ فحينئذٍ يجب عليه الحج، فلو كان سفره إلى مكة يحتاج فيه إلى استئجار سيارة بمائتين؛ فحينئذٍ نقول: لا يجب عليه الحج إلا إذا ملك مائتي ريال لركوب سيارته، بحيث تكون زائدة عن حاجته وحاجة أولاده والحقوق الواجبة عليه.
فلو كان مديوناً وعنده مال لا يفي بسداد دينه لم يجب عليه الحج؛ لأن هذا المال مستحق للغير، وإنما يجب عليه الحج إذا ملك ما فضل عن استحقاق الغير، كذلك أيضاً إذا كان يملك المائتين، ولكن هناك حقوق واجبة عليه: لنذر، أو كفارة، أو عتق، أو نحو ذلك من الحقوق الواجبة، فاحتاج المائتين لشراء طعام الكفارة، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج، ويبدأ بهذه الحقوق الواجبة حتى يخاطب بعد ذلك بما فضل، إن كان يملك به القدرة للحج إلى بيت الله الحرام وإلا فلا.
فلا بد من أن يكون المال الذي عنده فاضلاً عن حاجته وحاجة من تلزمه نفقته، كزوجته وأولاده، فلو كان الحج يكلفه ألف ريال، أو ألفي ريال، فحينئذٍ نقول: لا يجب عليه الحج إلا إذا ملك هذا المبلغ، فاضلاً عن الحقوق الواجبة عليه لنفسه ولأهله، وهكذا للناس كالديون والنذور والكفارات، أما إذا كانت لله عز وجل فيشترط لها القدرة والاستطاعة.
إذاً لابد من الزاد، ثم بعد الزاد الراحلة التي يستطيع أن يركب عليها، فلو ملك الزاد وملك الراحلة فلا بد من شرط الاستطاعة البدنية، فقد يكون الإنسان غنياً، وعنده الزاد وعنده الراحلة، ولكنه لا يستطيع أن يركب السيارة، بل قد لا يستطيع أن يقوم بأعمال الحج، وذلك بسبب شلل أو نحو ذلك، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج؛ لأنه لا يستطيع، وإنما فرض الله الحج على المستطيع.
ولذلك لما سأل أبو رزين العقيلي رضي الله عنه وأرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فريضة الحج التي أدركت أباه شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يحج ولا أن يعتمر، ولا أن يظعن -والظعن هو السفر ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل:80]- فأمره أن النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج عن أبيه.
قال العلماء: في هذا دليل على أن الشخص إذا كان عنده قدرة مالية، وعنده أيضاً راحلة يركب عليها، فإنه لا يكفي لوجوب الحج حتى يكون قادراً ببدنه، فإن كان مبتلىً بالمرض نظرنا فيه، إن كان المرض يمنع مثله من الحج، فحينئذٍ لا يخلو من حالتين: إما أن يكون مرضه مرضاً مزمناً فهذا ينظر في توكيله للغير بشرطه.
وإما أن يكون مرضه مرضاً يرجى برؤه فيسقط عنه الحج في السنة التي مرض فيها، فإن شفي بعد ذلك لزمه أن يحج، وهذا مبني على وجود العذر، والعذر يسقط التكليف مادام موجوداً، فعندنا في شرط الاستطاعة أن يكون واجداً للزاد والراحلة، مع قدرة البدن، فلا يكفي أن يجد الزاد والراحلة، وهو غير قادر ببدنه.
كذلك أيضاً يشترط أن يكون طريقه آمناً، فإن كان في طريقه من السباع ونحوها ما قد يؤدي إلى هلاكه أو تلفه أو حصول الضرر والبلاء عليه، فكما ذكرنا فيما سبق أنه يعذر حتى يزول عنه المانع.(112/7)
أدلة اشتراط وجود الزاد والراحلة لوجوب الحج
قال رحمه الله: [ووجد زاداً وراحلة صالحين لمثله].
وهذا مبني على أن العرف محتكم إليه؛ لأن الشرع جعل لكل ذي قدر قدره، فلو وجد سيارة تصلح لمثله، مثل أن يكون الشخص كبير السن، ولا يمكنه أن يحج إلا إذا كانت السيارة فيها وسائل الراحة التي تمكنه من بلوغ البيت، دون أن يصل إلى درجة الحرج والمشقة غير المقدور عليها، فحينئذٍ يجب عليه أن يحج إن وجد هذا النوع من السيارات، لكن إذا لم يجد إلا نوعاً لا يأمن معه زيادة المرض، ولا يأمن معه حصول المشقة الفادحة عليه، فوجود هذا النوع وعدمه على حد سواء، فلا يجب عليه الحج.(112/8)
عدم وجوب الحج والعمرة لمن عليه نفقات وواجبات شرعية حتى يقضيها
قال رحمه الله: [بعد قضاء الواجبات والنفقات الشرعية والحوائج الأصلية] قوله: (بعد قضاء الواجبات والنفقات) كأن يكون عليه دين فيجب عليه أن يسدده.
والمديون له أحكام تتعلق به تحتاج إلى تفصيل: فالشخص المديون ينبغي أن يبادر بسداد دينه ثم يحج، ولا يجوز للمديون أن يحج بدون إذن أصحاب الدين؛ لأن حقوقهم متعلقة به، والأصل أنه يطالب بسداد ديون المخلوقين، ثم بعد ذلك يوجب عليه الحج؛ ولأنه بتعلق الدين بذمته، أصبح غير مستطيع للحج، فيستأذن أصحاب الحقوق أن يسمحوا له بالحج، فإن سمحوا له بالحج صح حجه وأجزأه، وإن لم يسمحوا له بالحج صح حجه وأثم، فلو كانت عليه ديون ولم يرض أصحاب الدين أن يسافر، فحينئذٍ يأثم بإضاعة حقوقهم؛ لأنه كان المفروض أن يبدأ بسداد ديونه، ثم بعد ذلك يحج ويعتمر، فلما تجاوز هذا الحكم، فإننا نقول: يأثم ويصح حجه.
وعلى هذا فإنه إذا أذن صاحب الدين باللفظ، أو كان هناك إذن ضمني فإنه يحج ويعتمر، يقول بعض العلماء: إن الديون المقسطة التي تكون على أشهر يجزيه إذا سدد الشهر الأخير الذي هو قبل شهر ذي الحجة أن يحج؛ والسبب في ذلك أنها ديون غير حالة بجميعها، وإنما حلت أقساطاً فيؤدي للناس حقوقهم في أوقاتها، لأنهم إنما أوجبوا عليه الأداء للزمان، فلما أدى قسط ذي القعدة، حل له أن يحج في ذي الحجة، وإذا أدى قسط شعبان حل له أن يعتمر في رمضان، وقس على هذا.
فلو كان عليه دين خمسة آلاف ريال، ومقسطة في كل شهر ألف ريال، أو بكل شهر خمسمائة ريال فأدى قسط ذي القعدة وبقيت عليه الأقساط الباقية، فإننا لا نقول بوجوب الحج عليه وفرضية الحج عليه؛ لأن ذمته لا تزال مشغولة بهذا الحق حتى يؤديه كاملاً.
وهكذا إذا كانت عليه حقوق واجبة لله عز وجل، كأن يكون عنده خمسة آلاف ريال، يكفيه لحجه ألفا ريال، فإذا كان يكفيه الألفان، فحينئذٍ ننظر في الخمسة آلاف، فلو كان عليه كفارات تقدر بثلاثة آلاف ريال، وعليه نذور تقدر بألف وخمسمائة ريال، فالباقي معه خمسمائة ريال، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج؛ لأنه مطالب بحقوق لا يكون معها قادراً على الحج أو مستطيعاً الحج بماله.
فإذا أراد أن يحج فعليه أن يترك عند أهله نفقتهم حال غيبته عنهم، فإذا كان يكفيه في حجه ألف وخمسمائة ريال مثلاً وعنده ألفا ريال مثلاً، ونفقة أهله في حال غيبته خمسمائة ريال، نقول: يجب عليه أن يحج؛ لأنه إذا أدى الخمسمائة فقد أدى الحقوق التي عليه، ففضل الفضل الذي يجب بمثله أن يحج.
وأما إذا كانت الحقوق التي لأهله تحتاج إلى ألف ريال وعنده ألفان، وهو يحتاج لحجه إلى ألف وخمسمائة فقد سقط الحج عنه؛ لأنه لا يكفيه المال للقيام بهذه الفريضة.
وكذلك الحوائج الأصلية من مأكل ومشرب وملبس، فلو كان الشخص مثلاً في نهاية ذي القعدة يريد أن يسافر للحج، وحوائجه الأصلية في بيته تقدر نفقتها بخمسمائة ريال، وعنده ألف وخمسمائة، وحجه لا يمكن أن يكون إلا بهذه الألف والخمسمائة فوجود العوز في الخمسمائة يسقط الحج عنه، فحوائجه الأصلية لنفقته ونفقة أولاده، وهكذا من تلزمه مئونته تسقط الحج عنه إذا استغرقت ماله على وجه لا يملك به الفضل الذي يجب معه الحج وتجب معه العمرة.(112/9)
حكم من عجز عن أداء الحج بسبب كبر أو مرض مزمن
[وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه] أي: إن عجز عن الحج إلى بيت الله، وذلك بسبب الكبر، فإنه يكون من الحطمة، والدليل على أن الكبر من الأعذار حديث أبي رزين، وذلك عندما سأل النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وقال: (إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستقيم على الراحلة) فهذا يدل على أن الكبر يعتبر من الأعذار؛ لأن الكبر يوهن الإنسان، كما قال سبحانه وتعالى حكاية عن نبيه زكريا عليه السلام لما سأل ربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4] فذكر حال الكبر أنه وهن في الداخل ووهن في الظاهر، فقال: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4] وهذا وهن الكبر في الداخل {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4] وهذا وهن الكبر في الظاهر.
فالكبر يضعف الإنسان ظاهراً وباطناً، ولذلك لا يجب الحج على من أصابه الكبر، على وجه لا يستطيع معه أن يقيم الفرائض ويقوم بالأركان؛ فالحج يحتاج إلى جلد وصبر وتحمل، ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بكونه جهاداً، والجهاد لا يجب على الشيخ الكبير الحطمة الذي يستضر.
والكبر نسبي، فبعض الناس يكون كبيراً وهو أجلد من الشاب، فهذا يحج، وبعض الناس قد يعاجله الكبر؛ وذلك بسبب الهموم وما يصيبه ويعتريه من الأمراض، فهذا أمر نسبي لا يتأقت بزمان، فلا نقول: من بلغ خمسين سنة أو ستين سنة فهذا لا يجب عليه الحج، وإنما نرد ذلك إلى أحوال الناس، فقد ترى الإنسان كبير السن والله عز وجل أبقى له العافية، فهذا يجب عليه أن يحج، فليس الكبر عذراً إلا إذا استضر الإنسان ومنعه مانع من القيام بفريضة الحج والعمرة.
قوله: (أو مرض لا يرجى بؤره): فالمرض يكون مانعاً من الحج إذا كان مزمناً، فإن كان المرض مزمناً مقعداً كالشلل ونحو ذلك من الأمراض والأسقام، وفي حكم ذلك الكسور التي تكون في الإنسان ويلزم بها فراشه فلا يستطيع أن يبرحه، فهذه تعتبر أعذاراً في حال وجودها، فإن انجبر الكسر حج من عام يليه، أما في العام الذي ينكسر فيه ويكون الإنسان لازماً لفراشه، فإنه يسقط عنه الحج في ذلك العام.
فالمرض له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون مانعاً على الدوام، وهو المرض المزمن، قد يكون الإنسان مصاباً بمرض في قلبه، لا يستطيع معه أن يحج ولا يتحمل معه مشقة الحج، فهذا يسقط عنه الحج.
الحالة الثانية: أن يكون المرض مؤقتاً؛ وهو الذي يحصل للإنسان في فترة زمنية، فهذا يكون مانعاً مؤقتاً، فالتفصيل في المرض على هذين الوجهين.
وشرط كون المرض مانعاً من الحج والعمرة أن يكون مؤثراً، وإذا شك الإنسان في مرضه هل يستطيع معه الحج أو لا، فليرجع إلى قول الطبيب العدل المسلم.
وأما الكافر فمذهب طائفة من السلف: أنه لا تقبل شهادة الطبيب الكافر في ترك النسك والعبادة؛ لأنه متهم في شهادته.
ومذهب طائفة من العلماء: أن الطبيب الكافر إذا وثق فيه وعرف فيه الأمانة عمل بقوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بشهادة الكافر كما في استئجاره لـ عبد الله بن أريقط، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة في الفتاوى كلاماً نفيساً بيّن فيه أن هدي الشرع بالرجوع إلى مثله.
الشاهد أن المرض إذا شهد به الطبيب العدل أو من يوثق بقوله فحينئذٍ يعتبر مانعاً، فإذا شك المريض في وجوب ذهابه إلى الحج فإنه يرجع إلى قول الأطباء الذين عرفوا بالخبرة، وعرفوا بكونهم مهرة في هذا الأمر، ولا يرجع لكل طبيب.
فإن اختلفت أقوال الأطباء رجح بالأكثرية، فإن لم يستطع وتساوى عددهم رجح بالمهارة، يعني: أن يكون الإنسان معروفاً بمهارته، وهذا أصل ذكره بعض فقهاء الحنفية رحمهم الله في تعارض شهادة أهل الخبرة في مسائل العبادات والعادات.(112/10)
إقامة العاجز عن الحج من يحج عنه وأنواع الإجارة في الحج
[لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا] أي: يلزم الشخص الذي لا يستطيع الحج والعمرة؛ لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أن يقيم غيره إن كان قادراً؛ لأن الله عز وجل فرض عليه الحج في نفسه إن استطاع، فإن لم يستطع فهو قادر على استئجار من يقوم بالحج عنه.
والإجارة تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: يسمى بإجارة البلاغ: وهي أن تأخذ من الشخص الذي تريد أن تحج عنه مقدار نفقتك وما يبلغك الحج، فلو كانت النفقة تقدر بثلاثة آلاف ريال للحج متمتعاً أو قارناً تقول: أعطيني ثلاثة آلاف ريال فتذهب وتسافر، فإن نقص المبلغ وجب عليه أن يكمله، كما لو حججت وسرت بالقصد، وعلى حسب الشرط وعلى حسب الاتفاق، فحصل عجز عندك بخمسمائة ريال، فحينئذٍ لزمه أن يدفع الخمسمائة، وإن كان متوفى فإنها تخرج من تركة الميت وتضمن.
هذه الإجارة جائزة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، لما فيها من المعونة على البر والتقوى، والإنسان لا يأخذ فيها حظاً لنفسه، وإنما يتقوى بها على عبادة الله عز وجل، وإسقاط الحق عن أخيه المسلم.
النوع الثاني من الإجارة: يسمى بإجارة المقاطعة والمفاضلة، فيكون فيها الشيء أشبه بالسوم، يقول له: تحج عن ميتي بألفين، فيقول: لا، بل بثلاثة.
أو قال: بثلاثة.
فقال: لا، بل بأربعة.
فيكون السوم بينهم والمقاطعة، كأنه يبحث عن ربح وفضل، فهذا النوع، للعلماء فيه قولان: القول الأول: لا يجوز هذا النوع من الإجارة؛ لأنه يتخذ العبادة وسيلة للدنيا، والحج إنما يراد به وجه الله عز وجل، ولا يراد به أي شيء سواه، وشددوا في هذا النوع من الإجارة.
القول الثاني: يجوز؛ لأنها قربة ليست بفرض عين، والقرب التي هي من فروض الكفايات يجوز أخذ الأجرة عليها ولو فضلت، كما في الأذان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى الأذان على أبي محذورة فلما أَذَّنَ ألقى عليه أسورة من فضة، قالوا: وهذا يدل على مشروعية المكافأة على الطاعة، إذا لم تكن فرض عين على الإنسان.
فلما قام بها تفضلاً عن أخيه المسلم جاز له أن يأخذ الفضل والزيادة.
وفي النفس شيء من هذا القول، فالأفضل أن الإنسان يأخذ أجرة البلاغ حتى يصيب الأجر من الله عز وجل، وهذا في حق طلاب العلم وأهل العلم آكد، لما فيه من صيانة وجوههم، وصيانة العلم وحفظ حقه الذي جعله الله عز وجل نوراً في صدورهم، من أن يكون مظنة الامتهان والابتذال واستخفاف الناس بهم.
فالأفضل والأكمل على طلاب العلم ونحوهم من أهل الفضل أن لا يأخذوا مثل هذه الإجارة، إلا على سبيل البلاغ، فإن قدرت من نفسك أن تحج تفضلاً فهذا أفضل وأعظم أجراً، وثوابك على الله، ومن كان أجره على الله فنعم الأجر ونعم الثواب في الدنيا وفي المآب، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ومن أعظم الإحسان أن تحسن إلى أخيك الميت أو أخيك المسلم فتسقط عنه فريضة، وبذلك يأجرك الله أجر الفريضة، خاصة إذا لم تأخذ عليها مالاً؛ فكأنك حججت فرضاً، وهذا لا إشكال فيه من جهة وجود العناء والتعب والنصب، إذا قصد الإنسان وجه الله عز وجل.(112/11)
وجوب الإحرام على الوكيل من ميقات الأصيل
قوله: [من حيث وجبا]: أي: من حيث وجب عليه الحج والعمرة؛ لأن الوكيل ينزل منزلة الأصيل، فلو كان من أهل المدينة فإن الذي يحج عنه لا بد وأن يحج من المدينة، وهذا أصل شرعي صحيح؛ لأن الحج فرض عليه من المدينة، وهذا الذي يريد الحج إنما يريد الحج عن غيره، فإذا أراد أن يحج عن غيره وجب أن يتقيد بذلك الغير، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو أصح قولي العلماء.
فالوكيل منزل منزلة الأصيل، وأصول الشريعة تدل على هذا؛ لأنهم أقاموا البدل مقام مبدله، فلما كان المبدل مطالباً ومخاطباً بالحج من حيث وجب عليه الحج، كأن يكون من أهل المدينة، فإنه إذا حُجَّ عنه من الجحفة، أو من يلملم، أو من السيل، فقد حُجَّ عنه من الأدنى، ولا يصح للإنسان أن يحج من الأدنى وقد وجب عليه الحج من الأبعد، وقد فرض الله عليه الحج من ميقات ذي الحليفة، فحينئذٍ يلزمه أن يحج من ميقات ذي الحليفة، وهذا أحوط وأبرأ للذمة وأبلغ في القيام بحق الله عز وجل وأدائه على وجهه.
قال رحمه الله: [ويجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام] أي: لو أقام وكيلاً عنه وهو معذور ثم شفي بعد إحرام الوكيل، فإنه يجزئ عنه حجة الوكيل، حتى وإن تغير الحال وزال العذر بعد الإحرام، فالعبرة عندهم بالإحرام.
وبعض العلماء يرى أن العبرة بالطواف، فإذا طاف بالبيت في عمرته أو وقف بعرفة في حجه، فإنه حينئذٍ يمضي هذا الوكيل، ولا يلزم الموكل بإعادة الحج ثانية، ويجزئه هذا عن حجة الإسلام.
وقال بعض العلماء: إذا شفي وعوفي أو زال العذر قبل نهاية حجه، فإنه يلزم بإعادة هذا الحج، والسبب في ذلك أنه عذر في حال العجز، فإذا زال العذر عنه رجع الأمر إلى وجوب الحج عليه، وهذه المسألة تعرف بمسألة: زوال العذر، ولها صور: الأولى: أن يزول العذر قبل الشروع.
الثانية: أن ويزول العذر أثناء الشروع.
الثالثة: أن يزول العذر بعد الانتهاء.
فتارة يكون زوال العذر موجباً للقطع، ويكون الاستئناف من الأصل والرجوع إلى الأصل فيه خلاف، مثلاً مسألة المتيمم: إذا تيمم في أول الوقت ثم كبر تكبيرة الإحرام، فرأى الماء أو وجد الماء وقدر على استعماله، فالصحيح أنه يقطع صلاته؛ لأنه قد زال العذر الذي جوز له أن يصلي وهو على تيممه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) فخوطب بالرجوع إلى الأصل، ولا يمكن الحكم بثبوت العذر إلا إذا تم العمل، حتى يوصف الإنسان بكون ذمته قد برئت على الوجه المعتبر.
والفقه أنه إذا كان الأصيل مخاطباً بفعل العبادة، وأن هذا الوكيل منزل لحاجة وزالت الحاجة، وشككنا هل يمضي في العبادة أو لا يمضي، أن نرجع إلى الأصل من كون الأصيل أو الموكِّل مخاطباً شرعاً بالقيام بالحج بنفسه، فلما شككنا في إجزاء الوكيل عنه رجعنا إلى الأصل من مخاطبته بالفعل بنفسه.(112/12)
الأسئلة(112/13)
حكم من جُنَّ بعد أن تلبس بالنسك ولم يتم
السؤال
من أحرم بالنُّسك ثم جُنَّ وأفاق بعد زمن، فهل يعتبر ما زال متلبساً بالنسك فيجب عليه الإتمام أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة تسمى مسألة: تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وهي مسألة راجعة إلى التقديرات الشرعية.
التقديرات الشرعية تنقسم إلى قسمين: - تنزيل المعدوم منزلة الموجود.
- وتنزيل الموجود منزلة المعدوم.
وتوضيح ذلك، أن من جُنَّ على حالة فإنه أثناء الجنون يعتبر فاقداً للحالة، مثلاً: لو جُنَّ وهو مؤمن فإنه قبل جنونه مؤمن؛ لكن لما جُنَّ فقد العقل وقد يتكلم بكلمات الكفر فننزل المعدوم من الإيمان منزلة الموجود، ونقول: لما كان مسلماً قبل جنونه فهو مسلم الآن وآخذٌ حكم المسلم، فلو مات دفن مع المسلمين ووُرث وأخذ حكمهم سواءً بسواءٍ، وهذا تنزيل للمعدوم منزلة الموجود، وهذا من باب التقديرات الشرعية وقد تكلم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام.
لكن البعض يرى أن الإحرام يفسد بزوال العقل، وحينئذٍ عليه أن يعيد النسك كما لو أحرم بالصلاة، فيرى أن العبادة تبطل بزوال العقل وزوال التكليف ويرى أن عليه الإنشاء.
لكن هناك مذهب لبعض العلماء رحمة الله عليهم وهو: أن المجنون يجوز لوليه أن يحجِّجه كالصبي، وحينئذٍ إذا جُنَّ بعد إحرامه صح من وليه أن يأخذه وأن يؤدي مناسك الحج فعلاً، ويكون الولي هو الذي ينوي عنه، وهو الذي يتلفظ عنه كما هو الحال في الصبي.
قالوا: إنه لما رفعت المرأة الصبي وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (ألهذا حج؟ قال: نعم.
ولكِ أجر) والصبي لا عقل له فالمجنون مثله، ورد بعض العلماء هذا.
وهذا القول موجود في مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وأشار الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني وكذلك الزركشي في المختصر إلى هذا القول، وأنه يمكن إتمام النسك في حال الجنون؛ وذلك أن النسك يقوم على شيئين: - الفعل.
- والقول المستصحب للنية وقصد التقرب لله عزَّ وجلَّ.
فلما فات في المجنون أن يتكلم ويقول بقصد النية ويعمل بنية معتبرة، قالوا: بقي الفعل، والمجنون بإمكانه أن يقف بعرفة، وبإمكانه أن يؤدي الأفعال، فيأخذه وليه ويجعله يؤدي أفعال الحج والعمرة ويتمها، ثم يتحلل كما هو الحال في الصبي سواءً بسواءٍ.
والله تعالى أعلم.(112/14)
صحة حج من كانت نفقته على غيره
السؤال
من حج مع رفقة قاموا بنفقة حجه، فهل له ذلك إذا كان حجه للفريضة، أم لا بد من الإنفاق من حر ماله أثابكم الله؟
الجواب
هذا حج غنيمة، ما دام أن الله عزَّ وجلَّ يسر له من ينفق عليه، وهذه رحمة ساقها الله إليه، وإذا جاء المال للإنسان من دون مسألة ومن دون استشراف فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى عمر المال وأراد عمر أن يمتنع قال: (إذا جاءك من غير مسألة ولا استشراف فخذه وتموَّله) خاصةً إذا كان الذي حج معه له حق عليه، كعمه وخاله وقريبه، أو إنسان أعطاه الله بسطة من المال ويحب طلاب العلم ويكرم العلماء، ولا يقصد بهذا إذلالهم، ولا يريد شيئاً في نفسه من الرياء والفخر، وإنما أراد وجهَ الله ومحبةً لأهل العلم وطلابه، وإكراماً لهم.
أما إذا وجدت عنده أغراض كأن يقصد مثلاً: الرياء والسمعة وأن ينظر الناس إليه، أو أراد أن يهين طلاب العلم بهذه الطريقة، أو أنك إذا حججت معه ربما يذلك ببعض التصرفات، فلا تُهِن العلم الذي في صدرك؛ فإن الله أكرمك بالعلم فلا تهنه، وحقٌ على من أكرمه الله بالعلم أن يكرم العلم، وهذا العلم الذي يرفعك على رءوس الناس في منبرك، وفي درسك، وفي موعظتك، وفي خطبتك، تكرمه كما أكرمك.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما فحق على أهل العلم وطلاب العلم أن يترفعوا عن مثل هذه الأمور إذا وجدت شائبة، أما إذا لم توجد شائبة وكان الرجل قد عرف بالفضل والصلاح والتقوى، وأوسع الله له في الدنيا، فَأُحِبَّ أن تكون معه؛ تفتي الجاهل وتعلِّمه، وترشد الحائر وتدله، ويكون الخير له ولمن معه من الرفقة، وتكون معونة على البر والتقوى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح).
فإذا وجدت رفقةً صالحة أو أناساً أثرياء وأغنياء فيهم الفضل، فلا بأس أن تذهب معهم، ففي الأغنياء أناس وضع الله عز وجل في غناهم البركة، فتجدهم يكرمون طلاب العلم، ويكرمون العوام، ويكرمون الضعفاء والفقراء، فأمثال هؤلاء الذين عُرِفوا بهذا الفعل وعُرِفوا بإرادة وجه الله عز وجل تُقبل منهم المكرمة، أما إذا وجدت الشبهة فلا.
ومع هذا فإن الأفضل والأكمل دائماً لطالب العلم أن يتقي الله في علمه، وأن يكرم هذا العلم.
وكانوا يقولون: إن من أسباب القبول في العلم الورع، فإذا كان الشخص ورعاً عن أموال الناس قذف الله في قلوب الناس حبه ووُضِع له القبول، ولذلك لا يستشرف إنسان من أهل العلم الدنيا إلا أهانه الله وأذله، ونزع من قلوب العباد القبول فلا تجد لمواعظه تأثيراً؛ لأن أكمل ما يكون العالم إذا كمل يقينه وزرع الله في قلبه عزة النفس، وتعوَّد من بداية طلبه للعلم أن يجعل فقره إلى الله وغناه بالله سبحانه وتعالى، وأحس أنه في نعمة عظيمة، وأنه أوتي شيئاً هو أفضل ما يؤتى، وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فخاف من الله جلَّ وعَلا أن يهين هذا العلم الذي في صدره، فإن الله يكرمه كما أكرم هذا العلم، وإذا لقي الله عزَّ وجلَّ لقيه يوم يلقاه مُكْرِماً لدينه ومُعِزّاً له، ويَشْهَد الله له بأنه أراد وجهه وأراد حفظ دينه، وهذا مظنة المثوبة العظيمة من الله جلَّ جلالُه.
وكم قرأنا في تراجم العلماء من السلف الصالح رحمة الله عليهم، أنهم لما تورعوا عن الدنيا ملأ الله قلوبهم بالغنى! وكان الرجل منهم يمشي مرقع الثياب؛ ولكنه أغنى الناس بما قذف الله في قلبه.
وكم من أناس أهانوا العلم! وهذا موجود، فتجده كلما جاءه إنسان يريد أن يعطيه شيئاً من حظ الدنيا، أو تجده دائماً عند أهل المال يطلبهم حظوظ نفسه، فإنك تجده مهاناً مُذَلاً مَقِيتاً، نُزِع من قلوب الناس القبول له.
نسأل الله السلامة والعافية! ونعوذ بوجه الله العظيم من غضبه وسخطه! فإذا فعل العبد بعلمه هذا وأكل به الدنيا مَقَتَه الله عزَّ وجلَّ.
وأهل العلم هم أهل الآخرة: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:83].
ولقد بايع أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يسألوا الناس شيئاً، وكان الواحد منهم يسقط سوطُه فلا يسألُ أحداً أن يناوله، بل ينزل من على فرسه ويأخذ سوطه، وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزة النفس؛ لأن الله شرفهم بعلم الكتاب السنة، فأخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن مظنة الخير لطالب العلم أن تجده دائماً عفيفاً عن أموال الناس، عفيفاً عن الدنيا، مستغنياً بالله عزَّ وجلَّ، مع أنه مديون أو فقير؛ لكن لا يمكن أن يهين العلم الذي في صدره، وهو مع ذلك لا يضيع حقوق الناس، وكذلك تجده لا يمكن أن يريق ماء وجه لأحد من أهل الدنيا أبداً، حفظاً لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو والله ما ضاقت عليه الدنيا إلا جعل الله له فرجاً ومخرجاً، ولا أصبح في ضنك من العيش إلا جاءه الفرج من حيث لا يحتسب، وهذا موجود ومعروف ومعهود؛ لأنه لا أوفى من الله لعبده! وهذا بالمناسبة يشمل طلاب العلم وغيرهم؛ لكننا نؤكد على طلاب العلم؛ لأنهم أحق، والناس كلما وجدت أهل العلم على ورعٍ واستغناءٍ بالله عزَّ وجلَّ أحبتهم، وأحبت العلم الذي في صدورهم، وأحبت العلم من أفواههم، وشعرت أن هذا العلم يخرج من معدنٍ طيب ونفسٍ كريمة؛ لأن الذي يكرم دين الله عزَّ وجلَّ خليقٌ أن يُكْرَم، وخليقٌ أن يُحَب، ولا يمكن للإنسان أن يسيء ظنه بالله عزَّ وجلَّ، فوالله ما أرقتَ ماء وجهك لأحد من أهل الدنيا إلا عَظُم عليك أن ترد هذا الماء بعد إراقته؛ ولكن إذا جعلتَ فقرك لله عزَّ وجلَّ صان الله وجهك عن عباده، وصانه عن ذل المسألة، وهذا لا يكون إلا باليقين في الله جلَّ جلالُه.
فإن طلاب العلم وأهل العلم يتأكد عليهم هذا الحق؛ لأنهم عرفوا الله بأسمائه وصفاته، ومن صفاته سبحانه وتعالى أنه الغني وأنه الكريم، يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، فطالب العلم عنده اليقين أنه إن أغناه الله لا يفقره أحد، وأنه إن أفقره الله لا يغنيه أحد.
فإذا أصبح أهل العلم يستشعرون هذه العقيدة، وهم أعلم الناس بالله، وهم أهل خشية الله، وأهل الإيمان بالله عزَّ وجلَّ رفع الله قدرهم بهذا، وصانهم وأجلهم وأكرمهم، وجعل حسن العاقبة لهم، وإذا رأيت الرجل يهين العلم، أو بمجرد ما يطلب العلم يريد أن ينال به حظوظ الدنيا، أو ينال به السمعة والرياء، فإنك لا تجده إلا في فقر وضيعة، حتى إنك تجد عنده الأموال الكثيرة الطائلة، ومع ذلك تجده يزداد كل يوم فقراً إلى فقر نسأل الله السلامة والعافية! هذا الشخص بعد أن أغناه الله وبسط له من رزقه، لا تجده يحمد الله عزَّ وجلَّ من كل قلبه، فيملأ الله عزَّ وجلَّ قلبه فقراً، ويملأ الله عزَّ وجلَّ نفسه شَرَهاً وطمعاً، نسأل الله السلامة والعافية! فالله الله يا طلاب العلم! وكان العلماء والمشايخ كثيراً ما يوصون بهذه؛ لأن هذه ثغرةٌ فساد عظيمة على طالب العلم.
ولا يقتصر الأمر على كون الإنسان يقبل الشيء، بل حتى جلوس الإنسان مع إنسان من أهل الدنيا، من أجل أن يغنيه أو يحسن إليه، أو نحو ذلك من الأمور التي يفعلها بعض طلاب العلم طلباً للدنيا، فهذا كله مما يضر الإنسان ولا ينفعه: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13].
فالغنى من الله، والفقر من الله وإليه سبحانه.
أستودع الله أموري كلها إن لم يكن ربي لها فمن لها لنا مليك محسن إلينا مَن نحن لولا فضله علينا تبارك الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه سبحان من ذلت له الأشراف أكرم مَن يُرجى ومَن يُخاف اختار الله منك قلبك، فهو محل النظر من الله عزَّ وجلَّ في كل لحظة، ونظره إلى قلبك لما فيه من توحيده والغنى به سبحانه، والافتقار إليه واليقين به سبحانه، فوالله ما ملأتَ هذا القلب بحسن الظن به إلا تلقاك برحمته وفضله ومنَّه وكرمه، ولا نزع عبد من قلبه اليقين بالله والغنى بالله والفقر إلى الله، إلا ملأ الله قلبه فقراً ولو كان من أغنى الناس، ثم لم يبالِ الله به في أي أودية الدنيا هلك.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل فقرنا إليه وغنانا به، ونسأله تعالى أن يرزقنا حسن الظن به، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين.(112/15)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب المناسك [3]
من الشروط المعتبرة للحكم بوجوب الحج على المرأة: وجود المحرم لها، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته وتيسيره على عباده، فلا يجوز للمرأة أن تحج بدون محرم، ومن باب أولى لا يجوز لها أن تسافر لغير الحج بدون محرم.
وبناءً على ذلك فلابد من معرفة من هم المحارم الذين يجوز للمرأة أن تسافر معهم، فإن هذه المسألة من المسائل التي عمت بها البلوى.
والمحرمية لها ثلاث جهات: محرمية بسبب النسب، ومحرمية بسبب الرضاع، ومحرمية بسبب المصاهرة.(113/1)
عدم وجوب الحج والعمرة على من عدمت المحرم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فالمصنف عليه رحمة الله يقول: [ويشترط لوجوبه على المرأة وجودُ محرمها وهو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب].
شرع المصنف رحمه الله في بيان شرط من الشروط المعتبرة للحكم بوجوب الحج على المرأة، فلا يجب الحج على المرأة إلا إذا وجدت المحرم، ولا يجوز لها أن تخرج لحج ولا لعمرة إلا إذا كان معها محرمها، هذا كله إذا لم تكن بمكة، أما إذا كانت بمكة أو من حاضري المسجد الحرام دون مسافة القصر، فإنه إذا أُمِنَت الفتنة وأمكنها أن تحج مع الرفقة المأمونة فلا بأس؛ لأن خروجها إلى البيت الحرام والمناسك ليس هو بسفر ولا في حكم السفر، وإنما أوجب الله المحرم فيما إذا كان سفراً؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم).
فهذا الحديث الصحيح يدل على أن المرأة يجوز لها أن تخرج لما دون مسافة القصر بدون محرم؛ ولكن بشرط أمن الفتنة، ولذلك كان أمهات المؤمنين رضي الله عنهن يخرجن إلى المناصع من أجل البراز وقضاء الحاجة، وهذا خارج عن حجراته عليه الصلاة والسلام وبأطراف العمران بالمدينة.
وثبت في الحديث: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إني اكتتب في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك).
قوله: (ويشترط لوجوبه محرمها)، والمحرم: أصله من حرم الشيء يحرم فهو حرام ومحرم، ووصف المحرم بكونه محرماً؛ لأن الله حرم عليه نكاح هذا النوع من النساء، فمن حرم عليه نكاح المرأة؛ بسبب النسب، أو بسبب الرضاعة، أو بسبب المصاهرة، فإنه يعتبر محرماً لهذه المرأة، إضافة إلى الزوج، فإذا حرَّم الله عز وجل عليه نكاحها للسبب المباح، فإنه حينئذٍ يجوز له أن يسافر معها وأن يختلي بها وأن يصافحها، وأن يرى وجهها ويديها ونحو ذلك مما لا فتنة فيه.
ومسألة المحارم مسألة مهمة ويحتاجها الناس عامة، سواءً كانوا طلاب علم أو لم يكونوا من طلاب العلم.
فينبغي على المسلم أن يعلم إذا بلغ ما الذي أحل الله له من النساء، أن يختلي بهن وأن يصافحهن وأن يعطيهن حكم المحارم، وما الذي حرم الله عليه الخلوة بهن والسفر معهن وكذلك النظر إليهن ولمسهن.
وهذه مسألة -كما يصفها العلماء- من المسائل التي تعم بها البلوى، وينبغي تعليم أبناء المسلمين، وينبغي العناية بهذه المسألة خاصة من الخطباء والوعاظ والمرشدين، فالناس يحتاجون إلى بيان من هم المحارم، حتى يكونوا على بينةٍ من أمرهم، فيأتوا ما أحل الله ويذروا ما حرم الله عليهم.(113/2)
جهات المحارم المؤبدة والمؤقتة وبيان أحكامها
والمحرمية لها ثلاث جهات: الجهة الأولى: محرمية بسبب النسب.
الجهة الثانية: محرمية بسبب الرضاع.
الجهة الثالثة: محرمية بسبب المصاهرة.
فأما الذين حرم الله على المسلم نكاحهن والزواج منهن من جهة النسب: فسبع.
ويأخذ نفس الحكم مَن حرم الله من جهة الرضاعة.
وأما المصاهرة: فأربعة أنواع من النساء كما سيأتي إن شاء الله تفصيله.
وسنذكر هذه الثلاث الجهات من جهة النساء.
فإذا قلنا: الأم فيقابلها الأب بالنسبة للمرأة، فإذا قلنا: أول المحارم الأم، فنحن نتكلم بالنسبة للرجل، أما المرأة فأول المحارم لها هو الأب.
وإذا قلنا: الأخت بالنسبة للرجل، تعكس المرأة وتقول: الأخ.
وإذا قلنا: بنت الأخ بالنسبة للرجال، فتعكس النساء ويقلن: ابن الأخ؛ لأنهن يسألن عن المحارم من جهة الذكور، والرجال يسألون من جهة الإناث.(113/3)
أنواع المحارم من جهة النسب وحكم كل نوع منها
أما بالنسبة للجهة الأولى: وهي النسب، فهن سبع من النسوة: الأولى: الأم: والأم هي: كل أنثى لها عليك ولادة سواءً كانت مباشِرة أو كانت بواسطة فهي محرم لك، يشمل ذلك: - الأم المباشرة.
- وأم الأم.
- وأم أم الأم، وإن علت.
- ويشمل أيضاً أم الأب.
- وأم أب الأب، وإن علا.
فأم الإنسان المباشِرة حرام، وأم أصوله أم له، فلو سألك السائل وقال: أم أب الأب هل هي محرم لي؟ تقول: نعم.
ولا يجوز لك نكاحها، ويجوز لك مصافحتها والسفر معها، وأنت محرم لها.
أما الدليل فقوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، فنص الآية الكريم جاء بالجمع، قال بعض المفسرين: تنبيه من الله سبحانه وتعالى على أن التحريم لا يختص بالأم المباشِرة، وإنما يشمل الأم المباشِرة والأم بواسطة كأمهات الأصول.
الثانية: البنت: والبنت هي: كل أنثى لك عليها ولادة سواءً كانت مباشرة: - كبنت الصلب التي هي مباشِرة من صلبك.
- أو بنت بنتك وإن نزلت.
- أو بنت أبنك، وإن نزل.
فجميع الإناث اللاتي ولدن منك أو من فروعك من الذكور والإناث فهن محارم لك.
وهذا دليله قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] فجمعت الآيةُ الكريمة تنبيهاً على البنت المباشِرة والبنت بواسطة.
الثالثة: الأخت: والأخت ضابطها هي: كل أنثى لأحد أصليك عليها ولادة، أو هما معاً، فيشمل ذلك ثلاثة أنواع من الأخوات: النوع الأول: الأخت الشقيقة: لأن الولادة من أصليك.
والثاني: الأخت لأب: وقد شاركتك في أصل واحد وهو الأب.
والثالث: الأخت لأم: وقد شاركتك في أصل واحد وهو الأم.
فالأخت محرم لك سواءً كانت شقيقةً أو كانت لأب أو كانت لأم.
أما دليل كونها محرماً فقوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء:23].
الرابعة: العمة: العمة هي: كل أنثى شاركت أباك في أحد أصليه أو فيهما معاً، فيشمل: - العمة الشقيقة.
- والعمة لأب.
- والعمة لأم.
فكل أنثى اجتمعت مع والدك سواء من جهة أحد أصليه كالعمة لأب: وهي أختُ الأب من أبيه، والعمة لأم: وهي أختُ الأب من أمه، أو العمة الشقيقة: وهي أخته من أبيه وأمه شاركته في الأصلين معاً.
العمة محرم، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ} [النساء:23].
يستوي في العمات عماتك المباشِرة، وعماتك بواسطة من جهة الأصول: فعمة أبيك محرم لك، وعمة جدك محرم لك، وعمة جدتك محرم لك، وعمة أمك محرم لك، فاجعل العمات والخالات من جهة الأصول عمات وخالات لك.
ولذلك إذا سألك السائل فقال: عمة جدي هل هي محرم لي؟ تقول: عمة أصلك عمة لك.
ولو سألك عن عمة أمه أهي محرم له؟ تقول: عمة أصلك عمة لك، فهي محرم لك.
الخامسة: الخالة: وهي: كل أنثى شاركت الأم في أحد أصليها أو فيهما معاً، فيشمل: - الخالة لأب: شاركت الأم في أحد أصليها وهو الأب.
- والخالة لأم: لأنها شاركت الأم في أحد أصليها وهي الجدة أم الأم.
- والخالة الشقيقة: وهي أخت الأم من جهة الأب والأم، شاركت الأم من أصليها معاً.
فالخالة محرمٌ لك سواءً كانت خالةً مباشِرة وهي أخت أمك لأب أو أم أو لهما معاً، أو خالةً لأصلك.
فلو سألك سائل عن خالة أبيه: هل يجوز له أن يختلي بها ويسافر معها؟ تقول: نعم.
خالة أصلك خالة لك، وخالة أب الأب، وخالة جد الأب، كل هؤلاء من النسوة محارم.
والدليل قوله تعالى: {وَخَالاتُكُمْ} [النساء:23] قال المفسرون بالإجماع: إن خالاتِ الأصول خالاتٌ للفروع، وعماتِ الأصول عماتٌ للفروع.
السادسة: بنت الأخ: وضابط بنت الأخ هي: كل أنثى لأخيك عليها ولادة، ويشمل: - الأخ الشقيق.
- والأخ لأب.
- والأخ لأم.
- ويشمل الولادة المباشِرة كبنت أخيك الشقيق.
- والولادة بواسطة كبنت بنت أخيك الشقيق.
- وبنت ابن أخيك الشقيق.
فالفروع هنا يأخذن حكم ما تفرعن عنه، فبنت الأخ محرم لك سواء كان أخاً شقيقاً، أو لأب، أو لأم.
والدليل: قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأَخِ} [النساء:23].
وأما السابعة: فبنات الأخت: وضابطهن: كل أنثى لأختك عليها ولادة، سواءً كانت مباشِرة أو كانت بواسطة، وسواءً كانت الأخت: - شقيقة.
- أو لأب.
- أو لأم.
فجميع ما تنجبه الأخت يعتبر من محارمك من الإناث سواءً باشَر أو كان بواسطة.
هؤلاء السبع تحريمهن جاء من جهة النسب.
والنسب: مأخوذ من النسبة يقال: نسب الشيء إلى الشيء إذا أضافه، وسمي النسب نسباً؛ لأن الابن يضاف إلى أصله، فيقال: محمد بن عبد الله، وعبد الله بن عبد الرحمن، فيضاف الابن لأبيه، والأب للجد، والجد لأبيه وهكذا.
فهؤلاء السبع إذا تأملتهن وجدت التحريم جاء من جهة القرابة، فتجد إما من جهة الأصول أو من جهة الفروع، أو من جهة فروع الأصول، أو من جهة فروع مَن شارك في الأصول.
فهؤلاء النسوة من السبع الجهات يعتبرن محارم للرجل.
والعكس في الإناث: فتقول في الأمهات: الآباء.
وتقول في البنات: الأبناء.
وتقول في الأخوات: الإخوة الذكور.
وتقول في العمات: الأعمام.
وفي الخالات: الأخوال.
وفي بنات الأخ: أبناء الأخ.
وفي بنات الأخت: أبناء الأخت.
هذا بالنسبة للتحريم من جهة النسب، وكل واحد منا ينبغي أن يكون حافظاً لهؤلاء السبع؛ حتى يعلم أن الله أحل له الخلوة بهذا النوع من النساء ومصافحتهن والسفر معهن، وغير ذلك من أحكام المحرمية المعروفة.(113/4)
أنواع المحارم من جهة الرضاع وحكم كل نوع منها
أما بالنسبة للجهة الثانية فهن المحارم من جهة الرضاع: وجهة الرضاع كجهة النسب سواءً بسواءٍ، فتقول: الأم من الرضاع، وأم أمها، وإن علت، وأمهات الأصول من الرضاع أمهاتٌ للفرع الرضيع.
كذلك أيضاً: البنات من الرضاع وإن نزلن.
فبنتك من الرضاع تعتبر محرماً لك، وبنت بنتها، وبنت ابنها، وإن نزل الجميع.
كذلك أيضاً: الأخت من الرضاع: سواءً اجتمعت معك في المرأة المرضعة من الأصلين، فكان الزوج الذي ارتضعت هذه الأخت من لبنه، فهي أختٌ لك من الرضاع شقيقة، أو كانت بنتاً لهذا الرجل من هذه المرأة التي رضعت منها، فهي أخت لك من الرضاعة شقيقة.
ولكن هذا الرضاع يعتبر فيه ما يعتبر في النسب، فلو أن هذا الرجل الذي رضعتَ من لبنه من هذه المرأة تزوج امرأة ثانية، أو كانت عنده امرأة ثانية فأنجبت، فجميع ما ينجبه هذا الرجل الذي ارتضعت من لبنه يعتبرون أخوة لك من الرضاعة.
إن كان من المرأة نفسها فهو أخٌ شقيق وأخت شقيقة، وإن كان من غير المرأة قَبْل أو بَعْد فهو أخ من الرضاع لأب.
ثم هذه المرأة التي ارتضعتَ منها جميعُ ما تنجبه من قبل هذا الرجل أو من غيره، فإنهم يعتبرون أخوة لك من الرضاع من جهة الأم فقط إذا كانوا من غير الرجل، وإن كانوا من الرجل فيعتبر أخاً شقيقاً من الرضاع وأختاً شقيقةً من الرضاع.
هذا بالنسبة للرضاع.
فالأخت من الرضاعة، وكذلك بنات الأخت والأخ من الرضاعة، والعمة من الرضاعة، والخالة من الرضاعة، كل هؤلاء السبع من جهة الرضاع يُنَزَّلن منزلة السبع من جهة النسب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فدل هذا الحديث الصحيح على أننا ننزل الحكم في الرضاع منزلة الحكم الموجود في النسب.(113/5)
أنواع المحارم من جهة المصاهرة وحكم كل نوع منها
أما بالنسبة للجهة الثالثة فهن المحارم من جهة المصاهرة فيشمل أربعة أنواع من النساء.
والمصاهرة: تقوم على الصهر وهو الزواج من الناس، والإنسان يصاهر القوم إذا تزوج منهم، وصِهْرهم زوج بنتهم أو زوج أختهم.
أولاً: ما كانت المصاهرة في أصولك، وما كانت المصاهرة من جهة فروعك: - فتنظر إلى أصولك، وهم: آباؤك وإن علوا كالجد.
- وتنظر إلى فروعك، وهم: أبناؤك وإن نزلوا.
ثانياً: تنظر إلى المرأة التي تزوجتها: - أصلِها.
- وفرعِها.
فهذه أربع جهات: النوع الأول من المحرمات من جهة المصاهرة: زوجات الآباء وإن علوا: فزوجة الأب: هي المرأة التي عقد عليها الأب، وبمجرد عقده عليها تعتبر محرماً لك، سواءً دخل بها أو لم يدخل بها، طلقها أو مات عنها، ما دام أنه قد عقد على هذه المرأة فهي حرام عليك إلى الأبد، وهي مَحْرَمٌ لك إلى الأبد، يستوي في ذلك أن يكون أباً مباشِراً وهو الذي ولد الإنسانَ مباشَرةً، أو أباً لأبيه وإن علا.
فلو سألك سائل: عن امرأة عقد عليها أبو الأم وهو جدك من جهة الأم أو امرأة عقد عليها أبو الأب.
تقول: إنه لا يحل لك نكاحها وهي محرم لك.
ما الدليل؟ قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22].
والأبُ أبٌ تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث، فإن جدك من جهة الأم كأبيك، يعتبر وفي حكم الأب، ولذلك قالوا: كل من عقد عليها الأب أو أبوه، وإن علا، والجد وجده، وإن علا، فهو محرم للفروع.
الخلاصة: أن أي امرأة بمجرد ما يعقد عليها الوالد، أو يقع بينه وبين وليها الإيجاب والقبول بحضور شاهدين عدلين يصح بهما العقد، فإنه يحل لك أن تجلس معها، وأن تصافحها، وتختلي بها، وتسافر معها، وأنت محرم لها.
هؤلاء زوجات الآباء.
النوع الثاني: زوجات الأبناء: عرفنا أن اللاتي تزوجهن الأصول أنهن محارم، وعكسهن اللاتي تزوجهن الفروع.
فكل امرأة عقد عليها ابنك أو ابن ابنك وإن نزل، بمجرد العقد تصير محرماً لك.
فزوجات الأبناء وأبناء الأبناء وأبناء البنات، كل هؤلاء من النسوة محارم لك.
والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] أي: حرمت عليكم نكاح الحليلة للابن إذا كان من الصلب، ومراده (مِنْ أَصْلابِكُمْ) أن يُخرِج الابن من التبني، وقد كان في الجاهلية كـ زيد بن حارثة كان يقال له: زيد بن محمد، فقوله: (مِنْ أَصْلابِكُمْ) ليس المراد به قصر الحكم على الابن المباشر وإنما المراد به جميع ما كان من صلبك ومن ولدك، فالابن الذي من صلبك وولدك سواءً كان مباشراً أو كان بواسطة، تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث، فإنه ابن لك، وزوجته التي عقد عليها محرمٌ لك، بمجرد ما يعقد الابن تحرم زوجته على أبيه وإن علا، فتحرُم على أبيه وعلى جده وجد أبيه وإن علا، سواءً كان من جهة الذكور أو من جهة الإناث.
هذا بالنسبة لزوجات الأبناء.
والدليل على أن مجرد العقد على زوجة الابن يحرِّمها: أن الله تعالى قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:23] فقال: (حلائل) والمرأة حلال للولد بمجرد العقد، فلا يشترط دخول الولد حتى تصير محرماً لأبيه، وإنما بمجرد عقد الابن على هذه المرأة تصير محرماً لأصوله.
النوع الثالث من المحرمات من جهة المصاهرة: أم الزوجة: هذه الأم تعتبر محرماً لك، وتكون أم الزوجة محرماً لزوج بنتها بمجرد العقد، فلا يشترط الدخول ببنتها، فكل امرأة عقدتَ عليها فإن أمها تعتبر محرماً لك بمجرد عقدك عليها، وحينئذٍ يحرم عليك نكاحها إلى الأبد، سواءً طلَّقتَ بنتها أو بقيت في عصمتك أو ماتت عنك فهي محرم إلى الأبد.
والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23] والمرأة تكون من نساء الرجل بمجرد العقد عليها، ولذلك تقول: هذه من نسائي، بمجرد عقدك عليها ولا يشترط الدخول بها.
هذا بالنسبة لأم الزوجة فهي محرم لك بمجرد العقد عليها.
يستوي في ذلك أن تكون أماً مباشرة أو أماً بواسطة، فأم أم الزوجة، وأم أم أم الزوجة تعتبر محرماً لزوج بنتها، وسواءً تمحضت بالذكور أو تمحضت بالإناث فالحكم في ذلك سواء؛ لأن الله قال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}.
فأم أبي الزوجة تعتبر محرماً لك؛ لأنها أم لزوجتك، ويستوي في ذلك تمحضها بالذكور كأم أبي أبي الزوجة، أو تمحضت بالإناث كأم أم أم الزوجة، فهؤلاء النسوة جميعهن يعتبرن محارم بمجرد العقد على بناتهن.
النوع الرابع: بنت الزوجة وهي التي تسمى الربيبة: وسميت ربيبة؛ لأنها تتربى عند زوج أمها، وجاء التعبير في القرآن متضمناً لهذا المعنى في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] فقوله: (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب إذا تزوج إنسان امرأةً، ولها بنات من رجل قبله أن يعطف عليهن وأن يربيهن كأنهن بنات له.
فهذه الربيبة تحرم على الإنسان بشرط الدخول على أمها، وهي التي تنفرد من بين المحرمات بالصهر بشرط الدخول، فلو عقد على أمها فإنها لا تزال أجنبية حتى يدخل بأمها، فإن دخل بأمها حرُمَت عليه؛ وذلك لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23].
إذاً الربيبة تنفرد من بين الأربع في المحرمات من الصهر، بحيث يشترط في تحريمها أن يدخل الزوج على أمها، فإن لم يدخل الزوج على أمها فلا تزال حلالاً، وهذا يدل على حكمة الله عزَّ وجلَّ ولطفه بالعباد، فإن أم الزوجة الغالبُ أن تكون أكبر ولا تُرْغَب، ولذلك حرُمَت بمجرد العقد، ولكن بنت الزوجة قد تُرْغَب، ولذلك لو كان مجرد العقد على أمها يحرمها؛ لكان فيه تضييق، فجعل الله في الأمر سعة، فلو عقد على أمها ثم نفر من أمها ورغب في الزواج منها كان الأمر أوسع، ولذلك قالوا: حتى يكون أدْفَعَ للفتنة؛ لأنه ربما افتتن بها أو تعلق بها، فكان ذلك أدعى لدفع الفتنة قبل أن يدخل بأمها.
ولا يشترط أن تكون ربيبة في حجرك، وقال الظاهرية: يشترط، فلا تحرم عليك بنت الزوجة إلا إذا تربت في حجرك.
والصحيح أنه لا يشترط، وهو مذهب الجمهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم حبيبة -لما عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أختها-: (أترضين ذاك؟ فقالت: إني لست لك بمخلية، وأحب من يشاركني أختي، إني سمعت أنك ناكح، بنت أبي سلمة؟! فقال عليه الصلاة والسلام: إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة)، ثم قال كلمة هي الحجة والفيصل في هذه المسألة يخاطب زوجته أم حبيبة (فلا تعرضن عليَّ أخواتكنَّ ولا بناتكنَّ) فقال: (بناتكنَّ) ولم يقل: اللاتي تربين في حجري، وإنما قال: (بناتكنَّ) وأطلق.
ففُهِم من هذا أن تعبير القرآن في قوله: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] خرج مخرج الغالب، والقاعدة في الأصول: أن النص إذا خرج مخرج الغالب لا يعتبر مفهومه.
وعلى هذا: فلو كانت بنت الزوجة قد بلغت قبل أن تدخل بأمها، فإنها لا تكون محرماً لك إلا إذا دخلت بأمها، وهكذا لو تربت من باب أولى وأحرى وهي بالإجماع.
هؤلاء أربع من النسوة من أربع جهات: فتقول: التحريم بالمصاهرة: من جهة أصلي، ومن جهة فرعي.
فأما من جهة أصلي: فزوجات آبائي.
وأما من جهة فرعي: فزوجات أبنائي، وإن نزلوا.
وأما بالنسبة للثالث والرابع منهن: فأم زوجتي، وبنت زوجتي.
فالأمر فيهن واضح، وجمعهن يكون على هذه الصورة؛ أن تنظر إلى أصولك، وفروعك، وتسند بالزوجية إليهما، وتنظر إلى أصل زوجتك، وفرع زوجتك، فيصبح المجموع أربعة أنواع من النسوة.
ويضاف إلى المحرمات من جهة المصاهرة أربع من جهة الرضاع.
هذا بالنسبة للمحرمات وكما قلنا: سبعٌ من النسب.
وسبع من الرضاع.
وأربع من المصاهرة.
إضافة إلى أربع من المصاهرة من جهة الرضاع.
فأصبح المجموع اثنتين وعشرين امرأة من جميع الجهات، فهؤلاء النسوة يعتبرن محارم بالنسبة للرجل.
يضاف إليهن: الزوجة، وهي ليست من المحرمات؛ لكنها أبيحت له، ولذلك لا تتعلق بنسب ولا تتعلق برضاع ولا تتعلق بمصاهرة، لا من جهة الأصول ولا من جهة الفروع؛ ولكنها هي التي أحل الله.
فأصبح عددُ النسوةِ ثلاثاً وعشرين امرأةً.
هذا بالنسبة للمحرمات على التأبيد.(113/6)
أنواع المحرمات على التأقيت وحكم كل نوع منها
هناك نوع من المحرمات حرم الشرع نكاحهن على التأقيت: أخت الزوجة: حرام على الإنسان أن ينكحها مؤقتاً، فلا نقول: إنها من المحارم، وهذا يغلط فيه البعض، بل بلغني عن بعض طلاب العلم أنه يجلس مع أخت زوجته، ويقول: إن الله عزَّ وجلَّ عدَّها في المحرمات، فهي كالأم وكالبنت، وهذا خطأ؛ لأن التحريم في حقها مؤقت، وإنما تثبت المحرمية في التحريم المؤبد.
كذلك أيضاً: من التحريم المؤقت: الخامسة من النسوة: فمن كان عنده أربع من النسوة لا يحل له أن ينكح الخامسة، فليست الخامسة حلالاً له، بل يحرم عليه نكاحها؛ لكن تحريماً مؤقتاً.
وكذلك: المحصنات من النساء: كما ذكر الله في القرآن، من المحرمات؛ لكنهن لسن من المحارم، فليُنْتَبَه إلى قولنا: من المحرمات، ومن المحارم، فالمحارم شيء، والمحرمات شيء آخر؛ لأن المحرمات أعم من المحارم؛ لكن وصف هؤلاء النسوة بكونهن محارم لوجود التحريم من جهة التأبيد.
بقي إشكال؛ هناك نوع من النسوة يحرمن على التأبيد ولسن من المحارم، ويُلْغِز بعض العلماء في هذا ويقول: امرأة محرمة إلى الأبد ليست بمحرم؟ فجوابه: زوجة الملاعِن، فإن الزوج إذا لاعن زوجته -والعياذ بالله- فُرِّق بينهما فراقاً أبدياً، ولا تحل له إلى الأبد، وهذا التحريم يسمونه: تحريماً مؤبداً؛ لكنه لا يقتضي المحرمية وليست بمحرم له، وإنما هي أجنبية تبين منه بمجرد انتهاء المرأة من قولها -في اللعنة الخامسة والعياذ بالله-: أَنْ غضب الله عليها إن كان صادقاً فيما ذكر، فإذا قالت هذه الكلمة فحينئذٍ يفرق بينهما فراقاً أبدياً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ عويمر العجلاني بعد أن فرغت المرأة من اللعان وقالت الموجبة الخامسة-: (حسابكما على الله، الله أعلم أن أحدكما كاذب، فقال عويمر: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلقها ثلاثاً، فقال: إنها لا تحل لك) يعني: إلى الأبد، فهذا يدل على أن التحريم إلى الأبد؛ لكن ليست بمحرم.
وعلى هذا اختص التحريم بالمحرمات من جهة النسب، والمحرمات من جهة الرضاعة، والمحرمات من جهة المصاهرة، إلا أن التحريم من جهة الرضاع يشترط فيه ما يشترط في الرضاع المؤثر، وإن شاء الله سيأتي بيان حدود الرضعات المؤثرة، وضابط ذلك في كتاب النكاح.
هؤلاء النسوة وما يقابلهن من جهة الذكور، يعتبر محارم للرجال وهم محارم لهن، على التفصيل الذي ذكرناه.
فلا يحل للمرأة أن تسافر إلى الحج ولا إلى العمرة إلا مع محرم، ومن باب أولى السفر إلى غير الحج والعمرة، مع أن الحج والعمرة واجبتان.
قد يقول قائل: سفر الحج والعمرة واجب عليها، وإن لم تجد محرماً فإنها تخاطَب بالخروج إبراءً للذمة، فما الدليل على أنه لا يجوز لها الخروج إلا مع المحرم؟
الجواب
أولاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم) وجه الدلالة: أن الحديث عام لم يفرق بين سفر وآخر، فشمل السفر الواجب وغير الواجب.
ثانياً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الصحابي: يا رسول الله! إني اكتُتِبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك)، فدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر وليس معها ذو محرم منها، ولو كان السفر واجباً على المرأة.(113/7)
ضرورة توفر السبب المباح في المحرمية
قوله: [أو سبب مباح].
يخرج به السبب غير المباح كالبنت من الزنا، والأخت من الزنا والعياذ بالله! فهؤلاء وأمثالهن من النسوة لسن بمحارم للإنسان، أي: لا يسافر مع أخته من الزنا، كأن تزني أمه أو يزني أبوه والعياذ بالله! فتكون له أختٌ من الزنا لأب أو لأم، أو كأن يزني الرجل بالمرأة والعياذ بالله! ثم يتزوجها بعد أن تلد بنتاً، فالبنت التي وقعت قبل الزواج الشرعي بنتُ سفاح، وما كان من بعد ذلك فهو ابن نكاح وبنت نكاح، فلا تكون هناك نسبة بين الحلال والحرام، ولا يجوز لأحد -مثلاً- أن يسافر مع بنته من الزنا ويقول: هذه محرم؛ لأنها بنتي، بل إنها تعتبر أجنبية عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش وللعاهر الحَجَر) فقطع الصلة بين الزاني وما كان من مائه الحرام.
ولذلك لو تحقق أن هذه البنت بنته وأن هذه المرأة لم تزنِ بغيره، فهي ليست ببنته وليس له إلا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وللعاهر الحَجَر) كناية على أنه لا شيء له، ولا تنسب البنت إلا لأمها.
والحرام لا يحلل، فلو وطأ امرأة بدون عقد وحملت ثم عقد عليها بعد انعقاد الحمل وهو يعلم أن هذا الحمل حمله وولدت بنتاً من الزنا، فهي بنت زنا، ويكون ما وقع من مائه بعد العقد سقيٌ للحرام بالحلال، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم كما في سبي أوطاس لما رأى الرجل يريد أن يلم بالمرأة من السبي وهي قائمة على الباب، فقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (أيغذوه في سمعه وبصره؟! لقد هممتُ أن ألعنه لعنةً تدخل معه إلى قبره).
والمراد بذلك أن هذه المرأة السبي كانت قد حملت قبل الغزو، ثم أسرت فأصبح حملها للأول الذي كان يطؤها وهو زوجها، فلما وقعت في السبي حلت بالغنيمة لمن أخذها وأصبحت من سبيه ومن إمائه، ويجوز له وطؤها؛ ولكن لما كانت حاملاً فإنه لا يجوز له وطؤها إلا بعد الاستبراء، وحينئذٍ ينتظر حتى تضع حملها ثم يستمتع بها بما أحل الله؛ لكن الرجل استعجل فقال عليه الصلاة والسلام: (أيغذوه في سمعه وبصره؟!) يعني: أنه لو جامعها فأنزل الماء اغتذى الولد وانتشى بمائه، فهذا يدل على حرمة إدخال الماء على الماء.
ولا يجوز ما يفعله بعض العامة بحيث إذا زنى فيهم الرجل بالمرأة زوجوه بها قبل أن تستبرئ، وهذا لا شك أنه من حكم الجاهلية ولا يجوز ذلك، وإذا أراد أن يتزوجها والعياذ بالله، فإنه لا يتزوجها حتى يتوب توبة نصوحاً، وكذلك حتى تتوب توبة نصوحاً، فإن تابا توبة نصوحاً، فلا يجوز له أن يعقد عليها ولا أن يدخل عليها إلا بعد أن يستبرئها من الحرام، حتى لا يخلط النكاح بالسفاح، وما أحل الله بما حرم الله.
فالشاهد: أن البنت من الزنا ليست بمحرم لأبيها الزاني، وهكذا بالنسبة لفروعها من الإناث.(113/8)
حكم من لزمه الحج ومات قبل أن يحج
قال رحمه الله: [وإن مات من لزماه أُخْرِجَاْ من تركته].
قوله: (وإن مات من لزماه): أي: من لزمه الحج ولزمته العمرة، أخرج من تركته بقدر ما يُحَجُّ ويعتمر به عنه، فإن كان موته بالمدينة وَوُجِدَ شخص يحج عنه ويعتمر عنه، نُظِر إلى كلفة ومئونة الحجة والعمرة فإذا كانت ألف ريال أو ألفين فيُخْرَج من تركته قبل قسمتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فدين الله أحق أن يقضى)، والميت إذا مات أول ما يقام به مئونة التجهيز من تغسيله وتكفينه وحمله ودفنه، ثم بعد ذلك تقضى عنه ديونه التي عليه إبراءً لذمته، فيشمل الديون التي للآدميين، والديون التي لله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج ديناً فقال: (فدين الله أحق أن يقضى).
فعلى هذا تخرج الألف أو الألفان من تركته ويُحَجَّجُ عنه، فإن وجد من ورثته من يتبرع عنه المال، فيُتْرَك مالُه حظاً للورثة يقتسمونه بقسمة الله عزَّ وجلَّ في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (من لزماه): أن من مات ولم يلزمه الحج كأن يموت فقيراً، ولا يجد الزاد الذي يجب معه الحج، فحينئذٍ لا يجب أن يخرج من تركته ما يحجج به عنه، ولو صار غنياً بعد الحج، مثال ذلك: فقير جاءه شهر ذي الحجة من آخر عمره وهو على الفقر طيلة حياته، أي: لا يجد الزاد لكي يؤدي فريضة الحجة والعمرة عنه، فلما ولَّى شهرُ الحج اغتنى، فحينئذٍ إذا اغتنى ينتظر إلى السنة القادمة حتى يحج، فإن عاجله الموت قبل أن يأتي وقت الحج فإنه لا يُخْرَج من تركته ما يحج به عنه؛ لأنه لم يجب الحج عليه، وإنما يجب عليه الحج إذا دخلت أشهر الحج، فحينئذٍ يخاطَب بالحج إلى بيت الله الحرام.(113/9)
الأسئلة(113/10)
خالة الزوجة وعمتها ليستا محرمين للزوج
السؤال
ماذا عن خالة الزوجة وعمة الزوجة أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أما بعد: فخالة الزوجة وعمة الزوجة محرمة على التأقيت، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك كما في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها) والسبب في ذلك: أن النكاح والزواج مظنة الغيرة، وحينئذٍ كأنه بهذا الزواج يقطع الأرحام؛ فتحصل القطيعة بين البنت وعمتها والبنت وخالتها، وفي هذا مفسدة عظيمة تُقَدَّم على المصلحة، فحرم عليه أن يجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، ولكن هذا التحريم يعتبر تحريماً مؤقتاً، والتحريم المؤقت لا يوجب المحرمية، فلا يجوز للزوج أن يختلي بخالة زوجته، ولا بعمة زوجته؛ لأنها ليست بمحرم له.
والله تعالى أعلم.(113/11)
اعتبار أم الزوجة من الرضاع محرماً للزوج
السؤال
هل أم زوجتي من جهة الرضاع أُعتبر محرماً لها أثابكم الله؟
الجواب
هذا مبني على قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وقد أشار إلى هذه المسألة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه: جامع العلوم والحكم، وحكى الإجماع على أنه يُنَزَّل الرضاع منزلة النسب، فكما أن النسب في المصاهرة يوجب التحريم، كذلك أيضاً المحرمة بالرضاع تُنَزَّل منزلة النسب، وهذا مبني على أن المعنى واحد، فإننا إذا نظرنا إلى أن الرضاع مُنَزَّلٌ منزلة النسب، فالأب لو تزوج امرأة فإنه حينئذٍ تكون هذه المرأة محرماً لك، كذلك أيضاً الأب من الرضاع؛ لأنك ارتضعتَ لبنه نُزِّل منزلة الأب من النسب، وحينئذٍ تحرم زوجته كما تحرم زوجة النسب.
كان بعض العلماء يقول: قياس النص يقتضي حِلها؛ ولكن لا قائل به، والسبب في هذا أن الله عزَّ وجلَّ ذكر التحريم بالنسب، ثم أتبعه بالتحريم بالرضاعة، ثم أتبعه بالتحريم بالمصاهرة ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] قالوا: هذا يقتضي أن ما كان من الرضاع من جهة المصاهرة حلال؛ وذلك لأنه وإن كان التحريم بالرضاع كالتحريم من النسب إنما هو في النسب، ولا يرى المصاهرةَ آخذةً حكم النسب، فيرى أن قياس النص يقتضي حلها.
ولكن نقول: لا قائل بهذا، والمعنى واحد فيها.
والله تعالى أعلم.(113/12)
عدم حرمة الربيبة على ابن زوج أمها
السؤال
الربيبة لا تحل للرجل وتعتبر محرماً له، فهل نفهم من ذلك أن أبناء الزوج محارم أيضاً للربيبة وكأنها أختهم أثابكم الله؟
الجواب
ليست الربيبة بمحرم لأبناء زوج أمها، فهي تحرم على زوج أمها ولا تحرم على أبنائه، فلو أراد الابن أن يتزوج الربيبة، وهي بنت زوجة أبيه حل له ذلك، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فالربيبة حلال لأبناء زوج أمها وإذا كانت حلالاً فإنها ليست بمحرم، ولا يجوز لابن زوج أمها أن يجلس معها ويخلو بها، وليس بمحرم لها في السفر، ولا يجوز له أن يصافحها، فحكمه حكم الأجنبي سواءً بسواءٍ.
والله تعالى أعلم.(113/13)
اقتصار التحريم في الرضاعة على الرضيع دون إخوته
السؤال
هل يجوز لأخي أن يتزوج من أخت أختي من الرضاعة أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة لأخيك يجوز له أن يتزوج أخت أختك من الرضاعة، بل يجوز أن يتزوج أختك من الرضاعة نفسها إذا لم يكن قد ارتضع معك، ولم تكن هذه الأخت قد رضعت من أمك، بمعنى أن الرضاعة منفصلة عن أمك، فإذا كانت أختك من الرضاعة فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إن كانت أختاً لك من الرضاعة، رضعت من أمك وأصبحت أختاً من جهة رضاعها للبن أمك فهي حرام على إخوانك كلهم، سواءً كانوا أشقاء لك أو كانوا لأم؛ لكن إذا كانت هذه الأخت لها أخت، فإنه يجوز لأخيك أن يتزوج هذه الأخت؛ لأن المحرمية اتصلت بهذه الأجنبية التي دخلت على لبن الأم، أما أختها فيجوز لأخيك أن يتزوجها، فأخت أختك من الرضاعة حل لأخيك من الرضاعة سواءً دخلت أو لم تدخل.
- الحالة الثانية: أن تكون أختاً لك من الرضاعة برضاعك من أمها، فحينئذٍ ننظر في الأخ الذي يريد أن يتزوجها، إن رضع معك فهي أخته كما أنها أختك، وأما إذا لم يرضع فالتحريم يختص بك، ويجوز لأخيك أن ينكحها ويتزوجها؛ لأنه أجنبي عنها والتحريم مختص بك.
- وهناك حالة ثالثة: وهي أن تكون أختاً لأختك من الرضاعة بمعنى: أنها أخت لها في الرضاعة من جهة منفصلة عن التي رضعتها كأن تكون هذه الأخت رضعت من امرأة ثم رضعت من امرأة ثانية، فحينئذٍ هي أخت لأختك من الرضاعة وليست بأخت لك، أختك من الرضاعة اسمها: خديجة، وخديجة رضعت من زينب، وأنت رضعت من زينب، فهي أختك من الرضاعة، وكلٌّ منكما قد ارتضع هذا اللبن، خديجة هذه التي هي أختك من الرضاعة لها أختٌ اسمها عائشة، خديجة رضعت مع عائشة من امرأةٍ ثانية عائشة لا تشترك معك في محرمية وليس بينك وبينها محرمية، وإنما دخلت أختاً على أختك برضاع منفصل، فيجوز لك أن تتزوج هذه الأخت لأختك من الرضاعة؛ وذلك لعدم وجود الاتصال في التحريم.
فالتحريم إنما يتصل بمن يرتضع، فأنت لا تحرم إلا من رضع؛ لأن الأصل الحل حتى يدل الدليل على التحريم، فإذا شاركتك امرأة في الرضاع فهي محرم لك، وتعتبر حراماً عليك من جهة الزواج، وكل من شاركك في الأخوة من الأخوات إن اتصل بالغير بسبب منفصل عنك فإنه أجنبي، ووجود هذه الصلة وعدمها على حد سواء، فلما كانت الأخت من الرضاعة قد ارتضعت من امرأة أجنبية غير التي رضعتها، فقد أدخلت على نفسها أخوَّة غير الأخوَّة التي بينك وبينها، وحينئذٍ يجوز أن تتزوج من أختها من هذه الرضاعة الأجنبية ولا حرج عليك.
والله تعالى أعلم.(113/14)
جواز الجمع بين المرأة وبنت خالتها أو بنت عمتها
السؤال
ما حكم الزواج من بنت خالة الزوجة أثابكم الله؟
الجواب
الجمع بين المرأة وبنت خالتها، والمرأة وبنت عمتها فيه خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم.
والأقوى والأصح أنه لا حرج في الجمع بين المرأة وبنت عمتها والمرأة وبنت خالتها؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى حرم الجمع بين الأختين، وحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وبقي ما عدا هؤلاء داخلاً في عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24].
ولذلك: فالأصلُ حِلُّه حتى يدل الدليل على التحريم.
وعليه فإنه يجوز الجمع بين المرأة وبنت عمها، وبنت خالها، وبنت خالتها، وبنت عمتها، ولا حرج عليه في ذلك.
والله تعالى أعلم.(113/15)
تزوج الأم أثناء رضاعها لولدها لا يجعله محرماً لنساء الزوج الثاني
السؤال
تزوج خالي من امرأة لها ولد وعمره سنة، فدخل بها فأتم هذا الولد مدة الرضاع وهو تحت خالي، هل يعتبر ولداً لخالي من الرضاعة فيجوز لأمي أن تقابله وتصير عمة له أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة لهذا الولد الذي أتم مدة الرضاع بعد أن تزوجت أمه، فهو يرتضع من لبن أبيه؛ لأنه فضلة ما أبقى والده سواء كان ميتاً أو حياً طلق أمَّه، فهذا اللبن الذي ارتضعه الولد في السنة الأولى من الزوج الأول واضحٌ أنه أبوه؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك لبن إلا من أبيه؛ فإذا كان هذا اللبن الذي ارتضعه خلال السنة من اللبن الأول الباقي من أبيه فلم يدخل خالك عليه بماء جديد؛ لأنه إنما يكون ولداً لخالك لو حملت من خالك ثم وضعت ثم ارتضع اللبن بعد وضعها من خالك.
أما هذا اللبن الموجود فيعتبر للزوج الأول الذي هو والده، وكون خالك عقد على هذه المرأة وهي تُرْضِع هذا الولد، فهذا لا يغير في اللبن شيئاً؛ لأن اللبن للفحل الأول، ولا يؤثر إلا إذا حملت بحمل جديد وولدت منه وثاب اللبن، فإن ثاب لبن من وطء خالك ثم ارتضع اللبن بعد الإنجاب فحينئذٍ هو محرم، وأما إذا لم يرتضع فلم يتغير في الحال شيء، وعقد خالك لا يغير من الحقيقة شيئاً؛ لأن الشرط في الرضاع أن يكون قد ثاب اللبن من مائه، أما إذا ثاب من ماء غيره فهو للأصل وهو والده، والولد أجنبي عن نساء الزوج الثاني، إلا من أمه.
والله تعالى أعلم.(113/16)
حرمة حلائل الأبناء من الرضاع كحرمة حلائل الأبناء من النسب
السؤال
يقول الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] هل هذا القيد يُخْرِج حلائلَ الأبناء من الرضاع أم أثابكم الله؟
الجواب
قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] المراد به إخراج ما كانت العرب في الجاهلية تفعله من ولد التبني، كان الرجل يتبنى ولداً لغيره ويقول: هذا ابني، فينسب إليه، ويقال: فلان بن فلان، وهذا هو الذي ألغاه الإسلام وحرمه الله عزَّ وجلَّ بقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5]، وأمر المسلمين أن يردوهم إلى الأصل، ومن الظلم للأب الأول أن ينسب ولده إلى غيره.
فالآية أخرجت هذا، وأما بالنسبة لمسألة الرضاع، فقد جاءت السنة تدل بعمومها على أن التحريم من الرضاع يُنَزَّل منزلة التحريم من النسب، فكما يسري التحريم من النسب مصاهرةً يسري كذلك رضاعاً.
ثم هو من جهة النظر واضح: فإن الابن من الرضاعة بينك وبينه الاغتذاء بلبنك كالابن من النسب، وحينئذٍ تكون موطوءته كموطوءة النسب ولا فرق، ولذلك تجد قوة الرضاعة كقوة النسب، وصريح السنة يقوي ما ذكرناه.
والله تعالى أعلم.(113/17)
زوج الخالة أجنبي وإن رضعت ابنته من خالتها
السؤال
تقول السائلة: ابنة خالتي رضعت من والدتي رضاعةً كاملة دون أن تقوم والدتها بإرضاعي، هل والدها وإخوانها وأبناؤها محارم لي أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة لبنت خالك إذا ارتضعت من أمك فإن والدها أجنبي عنك.
زوج الخالة أجنبي؛ والسبب في هذا أن رضاعة بنته من أمك لا تقتضي سريان الحكم لكِ إليه، بل يبقى أجنبي، إنما يسري الحكم أنْ لو ارتضعت من الخالة فتكوني بنتاً له من الرضاعة، أما لو جاءت إحدى بناته، أو جاء واحد من أبنائه وارتضع من أمك، فالتحريم يتعلق بهذا الذي ارتضع من أمك، ويبقى زوج الخالة على أجنبيته، ولا يعتبر محرماً بدخول ابنه على الأجانب، فهن أجانب بالنسبة له؛ ولكنهن محارم لابنه.
وقد تكون المرأة محرماً للأب ولكنها أجنبية للابن مثل: الربيبة هي محرم للأب لكنها ليست بمحرم لولده.
المقصود: أن كون هذه البنت وهي بنت خالتكِ قد ارتضعت من أمكِ، فإنها بنت لأمكِ ولا يسري ذلك إليكِ، فلستِ ببنت للخالة، وإنما أنت بنت للأم، وهذه التي دخلت وهي بنت خالتكِ تعتبر محرماً لإخوانكِ من جهة أبيكِ الذي ارتضَعَتْ من لبنه، ويسري التحريم عليها، أما أبوها فإنه ليس بمحرم لكِ ولا بمحرم لأخواتكِ وإنما هو أجنبي؛ لأن زوج الخالة وزوج العمة يعتبر أجنبياً.
والله تعالى أعلم.(113/18)
شرح زاد المستقنع - باب المواقيت
باب المواقيت من الأبواب الهامة التي لابد للحاج والمعتمر من الإلمام بها، فللحج ميقات مكاني وميقات زماني، وأما العمرة فليس لها إلا ميقات مكاني، وأما الزمان فإنها تؤدى في سائر أيام السنة، ويتناول هذا المبحث الكثير من الأحكام والمسائل المتعلقة بالمواقيت، ومنها: صور الإهلال، وكيفية إحرام من مر على الميقات بالطائرة، وحكم من أحرم بعد الميقات وغير ذلك.(114/1)
معنى المواقيت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: يقول رحمه الله: [باب المواقيت]: المواقيت: جَمْع ميقات، وأصله: مِوْقات، ثم أبدلت الواوُ ياءً، فصار ميقاتاً.
الميقات مأخوذ من قولهم: أقَّت الشيء يؤقته تأقيتاً إذا حدده، سواء كان الشيء المحدد بالزمان أو بالمكان، فإذا حُدَّ بالزمان فهو مؤقتٌ زماناً، وإذا حُدَّ بالمكان فهو مؤقتٌ مكاناً.(114/2)
مواقيت الحج والعمرة نوعان زمانية ومكانية
عبادة الحج لها ميقات زماني وميقات مكاني، وعبادة العمرة لها ميقات مكاني، وأما الزمان فإن العمرة تؤدَّى في سائر أيام السنة ولا كراهة أن تؤدى في أيام التشريق، ولا حرج في ذلك خلافاً لمن قال من السلف إنها تكره.
فالعمرة ليس لها حد معين بالنسبة للميقات الزماني ولكن لها ميقات مكاني، وأما بالنسبة للحج فله ميقات زماني وميقات مكاني.
والأصل في المواقيت: الكتاب والسنة.
فأما الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال في الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].
وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى جعل الحج الشرعي في أشهر معلومات، فدل على أنه لا حج في غير هذه الأشهر المعلومات التي أقَّتها الله عزَّ وجلَّ وحددها.
وبناءً عليه فإنه يقال: إن الحج يصح في زمان ولا يصح في زمان آخر، وينعقد إحرامه في زمان ولا ينعقد في زمان، وأما بالنسبة للعمرة فإنه ليس لها ميقات زماني، ويدل على ذلك القرآن، فإن الله عزَّ وجلَّ قال: (الْحَجُّ)، ولم يقل: الحج والعمرة، ولذلك أجمعت الأمة على أن العمرة ليس لها ميقات زماني، بمعنى أنه يجوز أداؤها في سائر أيام السنة.
وقد كانت العرب في الجاهلية تمنع من العمرة في أشهر الحج، ويعدُّون ذلك من أفجر الفجور، وكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر) وهذه يسمونها: مختلقات العرب في الجاهلية، أو مسائل العرب في الجاهلية التي أحدثوها على الحنيفية وبدلوا بها دين الله عزَّ وجلَّ، فاختلقوا أنه لا يُعْتَمَر في أشهر الحج، وكانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبطل ذلك وبيَّن أن العمرة صالحة في أشهر الحج كما هي صالحة في غير أشهر الحج.
وأما بالنسبة للميقات المكاني فهي أمكنة حددها الشرع لا يجوز لمن مَرَّ عليها مريداً الحج أو مريداً العمرة أو مريدهما معاً أن يجاوز هذه الأمكنة إلا وقد أحرم، فهو مؤقت بمكان واحد معين لا يجوز له أن يجاوزه، وهذه المواقيت جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثين في الصحيحين: الأول: حديث عبد الله بن عمر، والثاني: حديث عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع.
يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة).
وهو في الصحيح.
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيح: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن المنازل، وأهل اليمن من يلملم).
فهذان الحديثان أصلٌ في تأقيت وتحديد الحج والعمرة بالمكان؛ حيث لا يجوز لمن مر بهذه المواقيت وعنده نية الحج والعمرة أن يجاوزها إلا وقد أحرم منها.(114/3)
المواقيت المكانية(114/4)
ميقات أهل المدينة ذو الحليفة
يقول المصنف عليه رحمة الله: [وميقات أهل المدينة ذو الحليفة] قد تقدم أن للحج والعمرة ميقاتين، الميقات الأول يُسمى بالميقات الزماني، والميقات الثاني يُسمى بالميقات المكاني.
وابتدأ المصنف رحمه الله ببيان الميقات المكاني، وهي أماكن حدَّها الشرع لا يجوز لمن أراد الحج أو العمرة أو هما معاً قاصداً إلى مكة أن يُجَاوِز هذه الأمكنة حتى يُحرِم منها، وقد بيَّنت السنة هذه المواقيت، وذلك في حديثين هما أشهر ما وَرَد في المواقيت، حديث عبد الله بن عمر وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، بيَّن فيهما النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت المكانية مفصَّلة.
فابتدأ المصنف رحمه الله بميقات أهل المدينة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة)، وهذا حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وحديث عبد الله بن عباس: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدنية ذا الحليفة).
والحلَيْفَة: واحدة الحَلفَى، وهو نوع من الشجر، والسبب في ذلك أن هذا الوادي -وهو ذو الحليفة- كانت فيه شجرة، أي في وسطه، وقيل إنه كان يكثر فيه هذا النوع من الشجر، وهو الوادي الذي يسمى في المدينة بوادي العقيق، ويسمى في عرف العامة اليوم وادي عُروة؛ لأن عروة بن الزبير رحمه الله كانت له مزارع في هذا الوادي، وهذا الوادي ثبت في الصحيح من حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذا الوادي بكونه مباركاً، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)، فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فاجتمعت السنة القولية والسنة الفعلية على اعتبار ميقات المدينة وهو ذو الحليفة، وهذا الميقات هو أبعد المواقيت عن مكة، ولذلك يبعد عنها فوق عشر مراحل، وبينه وبين مكة ما لا يقل عن عشرة أيام بسير الإبل في الأزمنة الماضية.
ويقع هذا الوادي أو المِهَل الذي أَهَلّ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحذاء جبل عَيْر، فيَحُدُّ هذا الوادي من الجهة الشرقية إلى الجهة الجنوبية جبل عَيْر وهو آخر حدود المدينة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما بين عير إلى ثور)، فهذا الجبل المعترض وهو جبل عير، يكون طرفه مشرفاً على وادي العقيق وعلى المِهَل مِهَل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يسميه الناس اليوم بأبيار علي.
وهذا الميقات أجمع العلماء رحمهم الله على أنه ميقات أهل المدينة، ومن مر من غير أهل المدينة بالمدينة وفي نيته أن يحج أو في نيته أن يعتمر أو في نيته أن يجمع بين الحج والعمرة فيقرنهما معاً؛ أنه يجب عليه أن يهل من المدينة إلا الشامي فلهم فيه تفصيل.(114/5)
ميقات أهل الشام إذا نزلوا المدينة
فأهل الشام خلاصة ما يقال فيهم إذا مروا بالمدينة ونزلوا بها كما هو موجود اليوم في الحملات التي تأتي من جهة الشام: أنهم يدخلون المدينة ويصلون بمسجدها، فحينئذٍ يتعين عليهم أن يُحرِموا من المدينة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)، فنصَّ على أن من أتى على هذه المواقيت من غير أهلها أنه يلزمه الإحرام منها.
فأهل الشام إذا نزلوا المدينة ومرَّوا بها ولو ساعة فإنه يلزمهم أن يُحرِموا من ميقاتها، وهل إذا مروا بحذاء المدينة ولكنهم لم ينزلوا بها وأخذوا طريق الساحل الذي يُعرف الآن بطريق جدة القديم ولكنهم لم ينزلوا بالمدينة، مثل أن يأخذوا من أطراف المدينة أو من الشوارع التي بأطراف المدينة لكن لا يدخلون المدينة؛ فحينئذٍ ميقاتهم رابغ، والسبب في ذلك أنهم لم يأتوا على الميقات حقيقة فهم مارون بالمدينة وليسوا بنازلين بها حتى يأخذوا حكم أهلها، ولأنهم سيمرُّون بميقات ثانٍ على الطريق هو ميقات لهذا الطريق وهو الذي يسمى بطريق الساحل، فطريق الساحل إذا سُلِك من أهل الشام أو من أهل مصر أو من أهل المغرب فإنهم حينئذٍ يُحرِمون من رابغ، لكنهم إذا نزلوا بالمدينة ولو ساعة أو دخلوا المدينة، فقد وجب عليهم أن يُهلوا من ميقات المدينة ولو كانوا مارين بطريق الساحل.(114/6)
صور الإهلال وبيان أفضلها
قال عليه الصلاة والسلام: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة)، هذا الإهلال يأتي على صورتين، الصورة الأولى وهي الأكمل والأفضل؛ لما اشتملت عليه من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، وهي أن تَنْزِل في الوادي وتصنع ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاغتسال، ثم بعد ذلك تصلِّي الفريضة وتهل بعد الفريضة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات، اغتسل وأصبح ينضخ طِيباً بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ثم أَهَلّ بَعْدَ الفريضة، وعلى هذا فالأكمل أن الإنسان يغتسل في الوادي، ثم بعد ذلك يُصلِّي الفريضة وينشئ عمرته أو ينشئ حجه.
كذلك أيضاً إذا لم يتيسر له الفرض واغتسل وصلَّى ركعتي الوضوء يُهِل بعدها، وليس للإحرام صلاة مقصودة تُسمى سنة الإحرام، إنما هو يقع بعد الفريضة أو النافلة حتى ولو كانت نافلة مطلقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر في الصحيح: (أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)، وفي رواية: (صلِّ في هذا الوادي المبارك ... )، فاستحبوا أن يقع الإحرام عقب الصلاة، ولا تُشترط صلاة مقصودة.
هذا الأكمل والأفضل، ويكون الإهلال والنية والإنسان جالس في مصلاه، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
أما الصورة الثانية وهي صورة الإجزاء، فهي أن تمر بالوادي مروراً وتقول: لبيك حجاً، لبيك عمرة، ولا يُشترط النزول وليس بلازم ولا واجب، بحيث نقول لا بد وأن تنزل إلى الوادي ثم تحرِم، فلو مررت بمحاذاة الميقات وقلت: لبيك عمرة، لبيك حجاً؛ فقد انعَقَد إحرامك وصح، لكن فاتك الأفضل والأكمل الذي هو التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا إن تيسر لك النزول نزلت وإذا لم يتيسر لك النزول فحينئذٍ تعتبر المحاذاة.(114/7)
كيفية إحرام من مر على الميقات بالطائرة
بقيت مسألة وهي مسألة الطائرة، إذا كان الشخص مسافراً بالطائرة من المدينة إلى جدة وهو محرِم بالحج أو العمرة أو بهما معاً، أو سافر من أي صقع من الأصقاع وهو يريد أن يصل إلى جدة، وهي ليست بميقات، وعلى هذا فإنه من أَحرم منها لا يُحرِم منها إلا إذا كانت نيته مبتدَأَة في جدة، أما إذا كان قد قدم على جدة وهو في نيته أن يحج ويعتمر فيعتبر المواقيت التي ذكرناها.
فمن مر بالطائرة على الميقات فإنه لا يستطيع النزول فحينئذٍ بمجرد محاذاته للميقات يُلبِّي وينوي ويصح منه ذلك ويجزيه، فإذا لم يمكنه أن يطلع ولا يعرف الأماكن، فيحسِب بالزمان، فيكون له التقدير الزماني، ففي المدينة يكون إقلاعها على حالتين، في حالة يكون الإقلاع والطائرة متجهة إلى جدة فتكون المسافة قصيرة جداً، بمجرد إقلاعها لا تأخذ إلا في حدود دقيقة أو أقل من دقيقة أو دقيقة ونصف حتى يحاذي الإنسان أبيار علي، لكن إذا كان -مثلاً- إقلاعها على الجهة التي هي خلاف جهة مكة أو جهة القبلة؛ فإنها تأخذ وقتاً حتى تعتدل وتأخذ مسارها، وحينئذٍ قد تصل -كما يقول بعض المختصين- إلى ثلاث دقائق، فهذا لا بد من ضبطه ومعرفته على حسب المواقيت ولا يختص بالمدينة.
فإذاً عندنا صورتان، الصورة الأولى: أن يتمكن الإنسان من النزول في الوادي وإصابة سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيغتسل ويتنظف ويتطيب تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلي الركعتين ثم بعد ذلك يحرم، وإن كانت فريضة فإنه يحرم عقب الفريضة.
ولا حاجة بعد الفريضة أن يصلي ركعتين لكي يَحرِم بعدها، بل إنه إذا فعل ذلك خالف السنة؛ لأن السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بعد الفريضة، وبعض العوام يفعل هذا الجهل، فإنهم يصلون الفريضة ثم بعد الفريضة تجدهم يقومون لركعتين لينشئوا الإحرام، وهذا مُصادِم للسنة تماماً، فإن الأفضل والأكمل أن يقع إحرامه في هذه الحالة بعد الفريضة مباشرة.
وأما الإجزاء فإنه بمجرد مروره على الوادي يُحرِم.(114/8)
حكم من خالف في الإحرام من الميقات
المسألة الثانية: عرفنا الآن أن الشخص يحرم من الميقات كمالاً وإجزاءً بقيت مسألة فرضية وهي: هل يُحرِم قبل الميقات أو من الميقات؟ أما إحرامه قبل الميقات فإنه خلاف الأفضل، فالأفضل والأكمل أن يُحرِم من الميقات، فلو اغتسل وتطيب في المدينة ولبس الإحرام ولبَّى، فللعلماء وجهان: بعضهم يقول إنه أفضل؛ لأنه سيكون تعبه أكثر، والقاعدة في الشرع أن ما كان تعبه أكثر فأجره أعظم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ثوابكِ على قدر نصبكِ)، فهذا سيتعب أكثر؛ لأنه سيكون مانعاً نفسه من محظورات الإحرام من أكثر من سبعة أو ثمانية كيلو تقريباً قبل الميقات، هذه المسافة تقرَّب فيها إلى الله بطاعة زائدة فقالوا: هذا أفضل، وكما لو أَحرَم من مكانٍ أبعد من المواقيت الأُخَر، كأن يحرم -مثلاً- من الرياض، فإنه إذا أحرم من الرياض قبل ميقاته وهو قرن المنازل لاشك أنه ستمضي عليه مئات الكيلو مترات وهو متلبِّس بالطاعة والنسك، قالوا: فهذا أفضل.
والصحيح ما ذهب إليه طائفة من السلف أن الأفضل والأكمل أن يؤخر إلى الميقات، وأن من أحرم قبل الميقات فإنه لا يُعتبر مصيباً للسنة، فالسنة والأكمل والأفضل أن يكون من الميقات.
ولذلك سئل الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمة الله عليه، قال له رجل: يا أبا عبد الله إني أريد أن أحرم من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له الإمام مالك رحمة الله عليه: لا تفعل، فقال: إني أريد أن أفعل، قال: لا تفعل، قال: ولم رحمك الله؟ قال: إني أخاف عليك الفتنة، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الميقات، وإنك إن أحرمت من المسجد خالفتَ أو ظننتَ أنك أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63].
فلا شك أن كون النبي صلى الله عليه وسلم يُؤخِّر إحرامه إلى الميقات يدل دلالة واضحة على أن الأفضل والأكمل أن يحرم من الميقات.
إذا قلنا: أن الأفضل والأكمل أن يُحرِم من الميقات، فلو لبَّى قبل الميقات وعَقَدَ إحرامه؛ فإنه قد دخل في النسك، ويُعتبر حينئذٍ متلبساً بالنسك وعليه ما على مَن أحرم ويمتنع من المحذورات، فإن مر بالميقات جدد النية.(114/9)
حكم من أحرم بعد الميقات
ما هو حكم الإحرام بعد الميقات؟ الإحرام بعد الميقات -سواء ميقات المدينة أو غيره من المواقيت- يُعتبر خلاف الشرع، فيَأثم من قصده.
فلو أن إنساناً تعمَّد وهو من المدينة وقال: لا أريد أن أحرم من ميقات المدينة وأخَّر إلى جدة، فإنه يأثم؛ لأنه خالَف الشرع وعصى، ثم يلزمه دم جبران لهذا النقص، وهذا الدم سيأتي إن شاء الله بيانه ودليله، وفتوى جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة رحمة الله عليهم به، ووجه استنباط حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه له من كتاب الله عز وجل وعمل الأئمة في فتاويهم به.
هذا الدم جبران للنقص، وحينئذٍ من جاوز الميقات لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تعقد النية وتصمم وتمضي فتحرِم من بعد الميقات ولو بكيلو واحد أو بنصف كيلو، فحينئذٍ يلزمك الدم الذي ذكرناه ويُعتبر إخلالاً بالنسك كما ذكرناه.
الحالة الثانية: أن يتذكر الإنسان كأن يكون ناسياً، أو يتعمد مجاوزة الميقات فلا يلبِّي ولا ينوي، فيلزمه أن يرجع، فإن رجع إلى الميقات ونوى من الميقات سقط عنه الدم، وحينئذٍ يُعتبر متلافياً للإخلال ولا شيء عليه.
إذاً هناك حالتان لمن جاوز الميقات: إما أن يستمر وينوي بعد الميقات ولو بيسير، فعليه الدم ويُعتبر آثماً بتعمده، وإما أن يتدارك ويرجع، فإن رجع وتدارك سقط عنه الدم.(114/10)
ميقات من كان دون المواقيت
بقي السؤال في ميقات المدينة الموجود الآن، فخط الهجرة يَمُر بالمدينة ثم يمر بقرى دون ميقات المدينة كاليُتَمَة، ووادي الفرع، والمهْد ونحو هذه القرى؛ فهل يُحرِمون بمحاذاة رابغ، ويُعتَبرون بالميقات الأدنى أو يعتبرون دون المدينة لأنهم في سمت المدينة؟
الجواب
أنهم يُعتبرون دون المدينة، فمن كان من أهل اليُتَمة وأراد الإحرام فإحرامه من اليُتَمَة نفسها ولا يُحرِم من دون اليتمة بمحاذاة رابغ، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ)، والإشارة راجعة إلى المواقيت، فالذي يكون في المهْد أو يكون في اليُتَمَة أو يكون في وادي الفرع فليُحرِم من مكانِه، ولو أنه في وادي ريم والذي يبعد عن المدينة قرابة ستين كيلو فإنه يُحرِم من وادي ريم، وقد دل على ذلك فعل السلف الصالح فإن ابن عمر رضي الله عنهما وهو راوي حديث المواقيت كانت له مزرعة بوادي الفرع، فلما أراد الحج أنشأ النية منها، فأَحرم من وادي الفرع ولم يؤخر إلى محاذاة رابغ، فالتأخير إلى محاذاة رابغ خطأ بالنسبة لهؤلاء.
لكن الذين هم على الساحل مثل أهل بدر ومثل القرى التي يكون مرورها بطريق الساحل، فإنهم دون ميقات المدينة لكن طريقهم على طريق الساحل، فهؤلاء ميقاتهم ما يُقدِمون عليه -رابغ- وإن أحرموا من موضعهم كأهل بدر يحرمون من بدر، وأهل الروحاء يحرمون من الروحاء فهذا حسن وأفضل، لكن لو أن البدري أو من بالروحاء يريد أن يمر عن طريق خط الهجرة الموجود الآن؛ فإنه يدخل بمحاذاة سمت المدينة فيحرم من موضعه، مثل أن يُحرِم من بدر، لأنه سيكون دون ميقات المدينة من بلده.
هذا حاصل ما يقال بالنسبة لميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة، قال بعض العلماء: إنه أفضل المواقيت وفضله من جهة كونه أبعد، ولا شك أن الأبعد أكثر عناءً وأكثر نصباً وأكثر تعباً، والقاعدة أن الأكثر تعباً يُعتبر أعظم أجراً، وهذا لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثوابكِ على قدر نصبكِ)، فعلى هذا قالوا إنه أفضل، ولأن الله عز وجل اختاره لنبيه فهو أبعد المواقيت عن مكة، وقد أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(114/11)
ميقات أهل الشام ومصر والمغرب الجحفة
قال رحمه الله: [وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة].
وميقات أهل الشام وأهل مصر والمغرب الجحفة.
والجُحْفَة مأخوذة من قولهم: اجْتَحَفَ السيلُ القريةَ إذا أخذها بما فيها من بناءٍ ومن ماشيةٍ ومن زرع ونحو ذلك.
سُمِّيَت بذلك لأنها كان بها قوم عصاة فأرسل الله عليهم السيل فاجتَحَفَهُم عن بكرة أبيهم -والعياذ بالله- إلى البحر فأغرقهم الله عز وجل فسميت الجحفة، وهذا الموضع كان معروفاً إلى ما قبل الإسلام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل المدينة كانت المدينة فيها الحمَّى وهي التي تُسمى اليوم في عصرنا بالملاريا، كانت وبيئة والسبب في ذلك السيول التي تحيط بها والمستنقعات بها كثيرة، قالت أم المؤمنين عائشة: (قدمنا المدينة وبطحان نجلا) يعني كالمستنقعات، فلكثرة المياه فيها كانت وخيمة ووبيئة، فلمَّا قدم الصحابة على المدينة أصابتهم الحمى واستضر بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وبلال وقصتهم في الصحيحين مشهورة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وهم يَحِنُّون إلى مكة فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد)، أي: وأشد؛ لأن أو بمعنى الواو، كقوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]، أي: وأدنى، {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، أي: ويزيدون، فقال: (حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد)، فاستُجِيبت دعوته عليه الصلاة والسلام وإلا لقد كانت المدينة لا تُطَاق لا ينزل بها أحد إلا أصابته حُمَّى.
ولذلك العرب في الجاهلية كانوا يسافرون بالعير إلى الشام فإذا قدموا من الشام ينهق كما ينهق الحمار وذلك خوفاً من حمى يثرب، كما أشار إلى ذلك بعض الفضلاء بقوله: واختلقوا التعشير أن يُعشَّر من النهيق بحذاء خيبراً واختلقوا يعني أهل الجاهلية وهي من المسائل التي أحدثوها.
فكانوا يخافون من حُمَّى المدينة فيظنون ويعتقدون أن هذا النهيق يَعصِم صاحبه من حُمَّى المدينة، وهي من أمور الجاهلية التي كانوا يحدثونها، فكانت معروفة بالوباء، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بنقل الوباء إلى الجحفة، فالشاهد أنه لما نقل الوباء إلى الجحفة امتنع الناس منها -ولا تزال خربة- خشية أن يُصيب الإنسان الحمى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أن يُنقل الوباء إليها، وأصبح الناس يُحرِمُون من رابغ بحذاء الجحفة، ولذلك إذا سمعت الجحفة أو رابغ فالمعنى واحد والخطب يسير، إنما هو ميقات معدول به خوف الوباء، فالجحفة هو ميقات أهل الشام وميقات أهل مصر والمغرب.(114/12)
سبب تفريق العلماء بين من سلك طريق الساحل ومن لم يسلكه
والسبب في ذلك أنه قبل شق قناة السويس كان حجاج أفريقيا وبلاد المغرب وبلاد الأندلس يأتون على مصر، ومن مصر يأتون من جهة العقبة على شمال المملكة، ثم يأخذون طريقاً يُسمى بطريق الساحل كان مَسْلكاً للتجارة والعير فيمرُّون برابغ ومنها يفيضون إلى قُدَيْد، ثم إلى عسفان، ثم إلى مكة، فهذا طريق في القديم فجُعِل ميقاتهم الجحفة، وهذا الذي جعل العلماء يفرقون بين من سلك طريق الساحل ومن سلك طريق غير الساحل، فأصبح من يسلك طريق الساحل كأنه يخرج عن حدود ميقات المدينة ويصبح كأنه صار في حكم الشامي والمصري الذي يَقدُم من الشام أو مصر، وحينئذٍ يكون ميقاتهم الجحفة، وهذا الميقات هو الذي يلي ميقات المدينة في البُعد عن مكة، وهو يبعد فوق مائتي كيلو عن مكة، وهذا الميقات ميقات من ذكرنا، وأشار إليه المصنف لحديث عبد الله بن عباس قال: (ولأهل الشام الجحفة)، وقال في حديث ابن عمر: (وأهل الشام من الجحفة)، أي: ويهل أهل الشام من الجحفة.(114/13)
ميقات أهل اليمن وميقات نجد
قال رحمه الله: [وأهل اليمن يلملم].
أهل اليمن ميقاتهم يَلََمْلَم، وهي التي تسمى اليوم بالسعدية، وتبعد عن مكة مرحلتين، وهذا الميقات نصّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم: (ولأهل اليمن يلملم)، وهو ميقات في حكم ميقات قرن المنازل.
من المواقيت الباقية قرن المنازل التي تسمى بالسَّيل الكبير، وذات عِرق، ويلملم، هذه الثلاثة المواقيت متقاربة في البعد؛ ولذلك تكون في حكم الميقات المتقارب، لكنها اختلفت في الجهات.(114/14)
خطأ بعض المعاصرين في جعل جدة ميقاتاً
وبسبب قرب هذه المواقيت أخطأ بعض المعاصرين فجعل جدة ميقاتاً؛ لأنه سَامَت بها يلملم وسَامَت بها السيل الكبير فقال: إن المسافة واحدة فمن نزل بجدة فإنه يحرم منها؛ وهذا خطأ فاحش، فليست جدة بميقات لأن جدة كانت معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما سئِل ابن عباس عن قصر الصلاة إلى الجموم قال: (لا.
ولكن إلى جدة وعسفان والطائف)، فجدة ليست بميقات ولذلك لم يسمِّها النبي صلى الله عليه وسلم ميقاتاً.
والسبب الذي جعل بعض المتأخرين يقول إن جدة ميقات كما هو موجود عند بعض متأخري الحنفية هو وَهَمٌ وَقَع في بعض كتب المتقدمين من الحنفية، فإنهم ذكروا أن من قدم من البحر فميقاته من طرف جدة، وذلك إذا سامَت البحر قدر ما يَبْعُد عن مكة مثل بُعد الجحفة، وهم يريدون بذلك أن يُحرِم وهو في داخل البحر، مقدِّراً مسافة تساوي في بعدها الجحفة.
فإذا كان قادماً من إفريقيا عن طريق البحر الأحمر، فحينئذٍ يُقدِّر المسافة التي هي في مثل بُعْد الجحفة من مكة، فيزيد عن بُعد جدة ما فَضَل من الفرق، فلو كان -مثلاً- بُعْد جدة يصل إلى خمسة وسبعين كيلو، وكانت الجحفة تَبْعُد مائتي كيلو؛ فتَحسِب مائة وخمسة وعشرين كيلو في البحر حتى تُسَامِت الجحفة، وهذا هو الذي عُنِي، وهو من باب الرأي والاجتهاد.
فهذا معنى قولهم: غربي جدة -في بعض كتب الحنفية- أي: من داخل البحر في الغرب، بحيث يقدِّر مسافة قبل وصول الباخرة والسفينة إلى الميقات بقدر بُعْدَ المراحل الموجودة في الجحفة، وهذا يسمونه ميقات السَّمْت.
أما القول بأن جدة ميقات فهو قول يخالف النصوص، فليست جدة بذاتها ميقاتاً.
وعلى ذلك الفتوى قديماً وحديثاً، ولا زال علماؤنا ومشايخنا نسأل الله أن يحفظهم ويرعاهم يفتون أن جدة ليست بميقات، وهو الذي أدركنا عليه أهل العلم.
وعلى هذا يمكن أن تكون ميقاتاً بالمحاذاة، وذلك إذا كان في عَرْض البحر، وقَدَّر مسافةً تُسَامِت الجحفة؛ لأنه في بعض الأحيان لا يتيسر لمن كان في البحر أن يُسامِت الجُحفة، كأن يأتي ولا يمكنه أن يُسَامِت الجحفة بالعرض، فإذا استطاع أن يسامت جدة مباشرة، مثل أن يأتي من شاطئ مِصر فيُقَدَّر المسافة الموجودة وهو في عَرْض البحر حتى يسامِت البُعْد الموجود في الجحفة عن مكة، فإذا كان بنفس السمت الموجودة فيه الجحفة فحينئذٍ يُحرِم.
على هذا يتخرج أنه لو كانت الطائرة لا تمر بالجحفة، فعليه أن يُقَدِّر المسافة الزمنية التي تقطع بها المسافة المكانية التي يكون بها في حدود المواقيت، أعني ميقات الجحفة، فحينئذٍ له أن يُحرِم.
قال المصنف: [وأهل نجد قرن، وأهل المشرق ذات عرق] ولأهل نجد قرن المنازل، وهذا الميقات نَصَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يُعرَف الآن بالسيل الكبير، فهذا الميقات ميقات أهل نجد، ومن جاء من المشرق كأهل خراسان وبخارى وسمرقند ونحوهم، كل هؤلاء كانوا في القديم يقدُمُون من جهة الشرق ويكون ميقاتهم هذا الميقات، ويكون في حكمها ذات عِرْق.(114/15)
قرن المنازل وذات عرق سمتها واحد وبعدها متقارب
وذات عرقٍ ميقات يسامت ميقات قرن المنازل، فقرن المنازل وذات عرق هي الضريبة سمتها واحد وبُعْدُها متقارب، وثَبَت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه وَقَّتَها، واختلف العلماء هل عمر هو الذي وَقَّتها أو النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّتها.
وسُئِل عمر عن ميقات يُسامِت السيل الكبير الذي هو قرن المنازل، فوقَّت لهم ذات عرق، فوافق اجتهاده سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كان رضي الله عنه وأرضاه محدَّثاً مُلْهَماً، فالصحيح أن ذات عرق تُعتبر ميقاتاً مؤقتاً من النبي صلى الله عليه وسلم وليس باجتهاد من عمر؛ لأن الحديث صحيح في توقيته عليه الصلاة والسلام لأهل المشرق ذات عرق.(114/16)
الانتقال من الميقات الأقرب إلى الأبعد والعكس
قال: [وهي لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم].
لو أن رجلاً من أهل المدينة سافر إلى الرياض وهو يريد الحج فلا يخلو من حالتين: إن مضى من الرياض إلى مكة فميقاته قرن المنازل، فيحرم من قرن المنازل، ويُعتبر آخذاً حكم أهلها.
وأما إذا كان يريد أن يرجع إلى المدينة فميقاته ميقات المدينة.
ولو أن رجلاً من أهل الرياض أراد أن يسافر إلى الحج ولكن قال: أريد أن أذهب إلى المدينة ثم أحج؛ فحينئذٍ سفرته الأولى تمحَّضت إلى غير النسك فلا يلزمه أن يُحرِم من قرن المنازل وإنما يؤخِّر إلى أن يذهب إلى المدينة فيُحرِم من المدينة.
لو كان ماراً على قرن المنازل وهو يريد المدينة: كأن ينزل من الرياض إلى الطائف ومن الطائف إلى المدينة؛ فحينئذٍ يكون ميقاته ميقات أهل المدينة.
فله سفران: السفر الأول: تمحض إلى المدينة قَصْداً وليس بسفر النُّسك، وقَصَد به موضعاً آفاقياً خارجاً عن المواقيت؛ فأصبحت سفرة ليست للنسك بذاتها، أي ليست هذه السفرة آخذة حكم من مَرَّ بقرن المنازل حتى يُلزَم بالإحرام من قرن المنازل، فلا يلزمه إذا مر بالسيل الكبير أن يُحرِم، وإنما يتأخر إلى أن يأتي المدينة ثم يُحرِم، هذا يسمونه الانتقال من الأقرب للأبعد ولا إشكال فيه؛ لأنه لو انتقل إلى المدينة فسيُحصِّل المسافة التي في ميقاته وزيادة.
لكن الإشكال لو أن طالباً يدرس في المدينة وأراد أن يسافر إلى أهله في الطائف، وعنده نية أن يحج هذه السنة، فحينئذٍ أراد أن يقصد إلى الطائف، ومن الطائف يريد أن ينزل إلى مكة، أو كان يريد مثلاً تَرَبَة أو يريد موضعاً بعد الطائف؛ فحينئذٍ نقول له: لك أن تسافر إلى أهلك ولا يلزمك ميقات المدينة؛ لأنه سيسافر إلى أُفُق وليست سفرته الأولى متمحضة للنسك، وإنما هي لخارج المواقيت.
ومن سافر السفرة الأولى لخارج المواقيت فلا يلزمه أن يحرم من الميقات الذي يمر عليه، فيؤخِّر إلى أن يأتي الطائف لأنه في حِل وليس في حدود المواقيت، فإذا جاء إلى الطائف أَحرَم من ميقات أهل الطائف، وحينئذٍ يكون منتقلاً من الأبعد إلى ما هو أدنى.
وهكذا لو كان في رابغ وأراد أن يسافر إلى المدينة ثم يحج فنقول له: أخِّر إِحرامك بالنسك إلى وصولك للمدينة حتى تأخذ حكم أهلها.
والعكس لو أن طالباً يدرس في المدينة وعنده نية أن يحج، ولكن قال: أُرِيد أن أمر على أهلي بينبع أو أريد أن أمر على حاجة لي في ينبع، فحينئذٍ تمحض سفره إلى مكان هو من الأفق وخارج عن حدود المواقيت، وسفرته هذه ليست بسفرة النسك أصلاً، فحينئذٍ يكون ميقاته ميقات أهل الساحل ويُحرِم من رابغ؛ لأنه خرج عن حدود المواقيت فلم يأخذ حكم أهلها.(114/17)
ميقات من كان دون الميقات أو آفاقياً أو في حرم مكة
قال رحمه الله: [ومن حج من أهل مكة فمنها وعمرته من الحل].
عندنا ثلاثة أنواع، النوع الأول: يسمى الآفاقي ومن كان في حكم الآفاقي، وهذا هو الذي يكون من حدود المواقيت فما فوق في الأصل، وفي حكمه من هو دون المواقيت لكن نعتبره نوعاً مستقلاً.
والنوع الثالث: من كان من أهل مكة، فهؤلاء ثلاثة أنواع: - أن يكون فوق المواقيت.
- أن يكون دون المواقيت وقبل مكة ولو بيسير كأهل النّوَارِية مثلاً.
- الثالث أن يكون داخل حدود الحرم ومكة ويكون من أهلها.
فأما بالنسبة للنوع الأول، وهم الذين يكونون في حدود المواقيت فما فوق فيلتزمون بالمواقيت والحكم على حسب الميقات الذي يمرون به.
النوع الثاني من كان دون المواقيت، خارج حدود الحرم فيُحرِم من موضِعه، فيحرم أهل النوارية من النوارية، وأهل عُسفان من عُسفان، وأهل خُليص من خُليص، وأهل قديد من قديد، وقِس على هذا؛ فإنهم يَعتبرون المكان الذي هم فيه ميقاتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الثلاثة الأنواع.
قال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أَتَى عليهن من غير أهلهن).
(فمن كان دون ذلك)، هذا النوع الثاني، (فمن حيث أنشأ)، ومن كان دون ذلك فينقسمون إلى قسمين: من كان ساكناً دون المواقيت كأهل قديد وعُسفان وخُليص والنُّوارية، فيُحرِمون من موضعهم.
والنوع الثاني من هؤلاء: مَن كان مُنشِئاً النية -طرَأَت عليه النية- وهو دون المواقيت كرجلٍ خرج من المدينة لغرضٍ له في جدة، وهو لا يريد الحج ولا يريد العمرة، فخرج إلى جدة وهو يريد -مثلاً- معاملة له في جدة، أو رحماً يصله، أو والدين يبرهما، فلما وصل إلى جدة وجد الوقت متسعاً فقال: لو أني اعتمرت، أو قويت نفسه وعزيمته على الحج فقال: لو أني حججت، فطرأت له النية فيكون في حكم من كان دون المواقيت.
فإذاً الذي دون المواقيت ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون ساكناً دون المواقيت ويحرم من موضعه فلا إشكال، وإما أن يكون شخصاً طرأت عليه النية وهو دون المواقيت؛ فحينئذٍ نقول له: حيث طرأت عليك النية يَلزَمك الإحرام.
بناءً عليه أهل جدة يكون إحرامهم إذا أحرموا من المكان الذي أنْشَئُوا فيه، ولا يؤخِّرون إلى طرف جدة كما يفعله بعض العامة اليوم، حيث يؤخرون إلى المحطات التي تكون خارج جدة، ومن فعل فإنه يلزمه الدم.
قال بعض العلماء: لو أنشأها في بيته لا يخرج من بيته إلا وهو مُحرِم، ولو أنشأها من مسجد فإنه لا يخرج من ذلك المسجد حتى يحرم، فيغتسل ويتهيَّأ وينوي من ذلك الموضع، ولا يؤخِّر إلا إذا كان سيذهب إلى بيته وهو أبعد، كأن يكون المسجد مثلاً في طرف جدة من جهة مكة وبيته في داخل جدة، حينئذٍ يذهب إلى بيته ويغتسل؛ لأنه ينتقل إلى أبعد ولا حرج.
لكن لو أنه أنشأ النية وهو في مسجد -مثلاً- في طرف جدة من جهة المدينة، وبيته في طرف جدة من جهة مكة؛ فأراد أن يقترب وهو يأخذ بعض الأحيان عشرة كيلو وهو ناوٍ للنسك غيرَ مُحرِم به؛ فلا يصح له أن يعقد النية من الطرف الأدنى وقد انعقدت نيته من الطرف الأبعد، لأن السنة نصَّت وقالت: (إحرامه من حيث أنشأ)، وهذا يدل على التأقيت بالموضِع، وأنه لا يجوز له أن يجاوز ذلك الموضع إلى موضع أدنى منه، وأَنَّ من خرج إلى المحطات التي هي خارج جدة؛ يُعتبر مجاوزاً لميقاته ويَلزَمه ما يَلزَم المجاوز لميقاته ولو كان بفرق كيلو واحد بل ولو بنصف كيلو؛ لأنه حينئذٍ خالف النص الذي قيده بالموضِع: (فإحرامه من حيث أنشأ).
بقي النوع الثالث: وهم أهل مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: (حتى أهل مكة من مكة)، أي: حتى أهل مكة تكون نيتهم وإحرامهم من مكة، هذا في الحج، وجاء ما يُبَيِّن الحكم في العمرة وذلك بأمره عليه الصلاة والسلام لـ عائشة أن تخرج إلى الحل، ولذلك تقول عائشة في الرواية عنها: (والله ما ذكر التنعيم ولا غيره)، ولكنها طلَبَت التنعيم لأنه أرفق بها، والأصل أنه يخرج إلى أدنى الحل حتى يجمع بين الحِل والحَرَم.
وبناءً على حديث عائشة أنت بين أمرين: إما أن تقول عائشة من أهل المدينة وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تخرج إلى الحل، فيكون دليلاً على أن أهل المدينة يجوز لهم أن يتركوا ذا الحليفة وأن يحرموا من طرف مكة وأن يدخلوا مكة مُحرِمين، وهذا لا قائل به وهو خلاف السنة، فإما أن تقول إن عائشة آفاقية، وإما أن تقول إنها مَكِّية، وليس هناك فرضٌ ثالث، فأصبَحت إما مَكِّية وإما آفاقية.
فلما أَمَرها أن تخرُج إلى الحِل فهِمْنا من هذا أن العمرة يُجمع فيها بين الحل والحرم، بخلاف الحج فإنه لو أحرم من الحرم سيخرُج إلى عرَفات، وهي خارج حدود الحرم فيجمع بين الحل والحرم في نُسُكه.
فالحج يكون إحرامه من حيث أنشأه، واستُثْنِيَت العمرة لورود النص عنه عليه الصلاة والسلام في عائشة تنبيهاً من الشَّرع.
ولذلك يقول بعض العلماء: لولا حديث عائشة لأشكل الأمر في عمرة المكي -هذا على القول بأن المكِّي لا يعتمر-؛ لأنه لو كان يُحرِم من مكانه وموضعه كان الأفضل له أن يطوف بالبيت، وهذا الذي جعل بعض علماء السلف كـ عطاء وغيره لا يرى لأهل مكة أن يعتمروا؛ لأنهم يرون أن عمرتهم أن يطوفوا بالبيت؛ لأنه إذا كان يُحرِم من نفس مكة فالأفضل بدل أن يذهب إلى بيته وأن ينوي من بيته ويرجع هذه الخطوات، الأفضل أن يقضيها وهو يطوف بالبيت.
ولذلك قال: لا أدري هؤلاء الذين يذهبون إلى التنعيم -يعني يتكلَّفون الذهاب إلى التنعيم والخُطَى إلى التنعيم- هلا جعلوا هذه الخطى في الطواف بالبيت! فهذا أفضل وأكمل؛ لأن المقصود من العمرة أن يزور البيت وأن يطوف بالبيت.
فهذا هو وجه تشديد بعض السلف في عمرة المكي، وهو يَقْوَى على مَذْهَب من يقول إن المكي يُحرِم من نفس موضعه من مكة، وهو قولٌ ضعيف، لكن لما أَلحَّت عائشة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم -وكان لا يرد سائلاً سأله بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- أَذِن لها، وهذا الإلحاح من عائشة كان فيه خير للمسلمين، فقد بَتّ في هذه المسألة، وبيَّن أن المكِّي إن نوى العمرة فإنه ينويها من الحِل، ولو قلنا: إن المكِّي لا يعتمر فإنه قد يعتمر ويُشرع له أن يعتمر، كأن يريد أن يعتمر عن أبيه؛ لأنه حينئذٍ يخرج إلى الحل.
فحتى عند من يقول إن المكي لا يعتمر فقد تكون عمرة عن الغير، فيُحتَاج إلى أن يُعرَف ما ميقاته، فهو يقول: لولا حديث عائشة لأشكل الأمر.
يعني: كيف أن المكي يُحرِم من موضعه، فيستوي حينئذٍ هو والطائف، فيمكن أي شخص وهو يطوف بالبيت أن ينويها عمرة وهو مكي.
ولكن لما جاء حديث عائشة وأمرها أن تنزِل إلى حدود الحِل؛ دلّ على أن المكِّي في عمرته لا بد أن يجمع بين الحِل والحرم، كما أنه في نسك الحج قد جمع بين الحل والحرم.
فهذا بالنسبة للثلاثة الأنواع، من كان آفاقياً، ومن كان دون المواقيت وليس من أهل مكة، ومن كان داخلاً في حدود حرم مكة.
يستوي في المكي أن يكون من أهل المساكن -هذا في القديم- أو ضواحي مكة التي لا تخرج عن حدود الحرم، لأنه في القديم كان هناك المساكن، وهي مكة القديمة التي هي بمساكنها، وكان الإنسان إذا وصل إلى قبور المعلاه لم يجد مساكن، ويبدأ في مُنْقَطَع الطريق، ولذلك يقولون: أهل مكة ومن في حكمهم ممن هم داخل الحرم.
أما يومنا هذا تكاد تكون مكة ممتلئة، ولهذا يقول العلماء أهل مكة وذي طِوى، وهو الوادي المعروف الذي يسمى الآن بالزاهر، فهذا الوادي كان قديماً فيه زروع ومساكن فكانوا يقولون: أهل مكة ومن في حكمهم ممن هم داخل حدود الحرم.(114/18)
ميقات الحج الزماني وأحكامه
قال رحمه الله: [وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة].
بعد أن فرغ رحمه الله من بيان ميقات الحج المكاني، شَرَع في بيان ميقات الحج الزماني، وميقات الحج الزماني دلّ عليه الكتاب في قوله سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، وحَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداءً، فقال عليه الصلاة والسلام: (من صلَّى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا)، وهذا في يوم عيد الأضحى صبيحة يوم النحر، فقوله: (من صلى صلاتنا هذه)، يعني بمزدلفة (ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه وقضى تفثه)، فكأنه جعل ميقات الزمان ينتهي بطلوع الفجر من صبيحة اليوم العاشر، وفي الحقيقة عشرٌ من ذي الحجة ليست بكاملها داخلة في الميقات؛ لأنه لو أحرم بعد طلوع الفجر الصادق في يوم العيد لم يصح إحرامه بالحج.
وهكذا لو أَحْرَم ولكن لم يدرك الوقوف بعرفة لحظةً قبل طلوع الفجر من صبيحة يوم النحر، فحينئذٍ يتحلَّل بعمرة ويقضي حجه من العام القادم، وعليه دم كما هو قضاء عمر في هبّار بن الأسود لما فاته الحج.
الشاهد أن هذا الميقات ميقات زماني، وتعبير الفقهاء بذكر عشر من ذي الحجة ليس المراد أنه يمكن أن ينوي الحج في اليوم العاشر؛ لأنه لا يتأتى منه ذلك، لكن هذا من دِقَّة العلماء رحمة الله عليهم.
فإنه ينتهي اليوم التاسع -يوم عرفة- بمغيب الشمس، فالأصل أن تسع من ذي الحجة تنتهي بمغيب الشمس، لكن لما مَدَّ الشَّرع الموقِف إلى طلوع الفجر دخل اليوم العاشر؛ لكن لم يدخل بكماله، وإنما دخل بصورة مؤقتة محددة معروفة معهودة.
فكذلك يقولون: وعشرٌ من ذي الحجة، على سبيل التنبيه على ليلة النحر أنها داخلة في الإحرام فيجوز لك أن تُحرِم وأن تقف بعرفة وتكون مدركاً للحج، لا أن العَشر بتمامها وكمالها تُعتبر محلاً للنُّسُك، فهذا لا يقول به أحد.
لو جاء صبيحة يوم العيد بعد طلوع الفجر وقال: لبيك حجاً لم ينعقد حجه، وهل تنقلب عمرة أو يَفْسُد إحرامه؟ وجهان مشهوران عند العلماء رحمة الله عليهم إذا لم يكن الزمان زمان حج.
لكن قالوا: عشرٌ من ذي الحجة، لأن كل يوم عشيته في الليلة التي تسبقه.
فاليوم تسبقه ليلته ثم بعد ذلك النهار، ولكن في يوم عرفة يكون العكس، حيث يكون النهار ثم بعد ذلك عشية عرفة، وهذا الذي دعا بعض العلماء أن يقول: رمي الجمار يستمر في أيام التشريق إلى طلوع الفجر، فسَحَب الليالي فجعل ليلة الحادي عشر لما بعد، لأن ليلة النحر تكون في ليلة التاسع حكماً، ولذلك صَحّ فيها الإحرام، ثم في يوم العيد ترمى جمرة العقبة إلى طلوع الفجر من صبيحة الحادي عشر وحينئذٍ كأنك سحبت ليلة الحادي عشر إلى العاشر، ثم تسحب ليلة الثاني عشر للحادي عشر، وتسحب ليلة الثالث عشر للثاني عشر، هذا بالنسبة لمن يقول بأن الرمي يستمر إلى طلوع الفجر، فكأنهم رأوا أن استمرار الوقوف إلى طلوع الفجر صبيحة يوم النحر يقوي هذا، وهذا هو السر في قول العلماء وعشرٌ من ذي الحجة فهذا بالنسبة لابتداء الحج.
وانتهاء الحج له ميقات آخر: شوال وذو القعدة وذو الحجة بمعنى أنه إذا طاف طواف الإفاضة قبل مغيب شمس آخر يوم من ذي الحجة فإنه لا فدية عليه؛ لأن الركن وقع في الميقات الزماني، وأما إذا أوقعه بعد مغيب شمس آخر يوم من ذي الحجة؛ فحينئذٍ يكون أشبه بالقضاء ويَلزَمه دم جبران لهذا النقص.
فحينئذٍ إذا قالوا أشهر الحج: شوال وذي القعدة وعشر من ذي الحجة؛ فقَصْدُهم الابتداء أي: الدخول بنية النسك، وإن أرادوا التمام والكمال أي: إتمام المنسك يقولون: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
فيقع بعض الأحيان لبس، حتى إن بعض طلاب العلم قد يستغرب يقول: كيف يقولون إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة كاملة؟ وكيف يُقال إنها شوال وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجة؟ فوجهها أنه تارةً يُؤقَّت الحج ابتداء، وتارةً يؤقَّت الحج انتهاءً.
وفائدة الخلاف فيمن أَخَّر طواف الإفاضة؛ لأن بعض العلماء يرى أنك إذا قلت: عشر من ذي الحجة تأقِيتاً، أنه يلزم أنه لو طاف طواف الإفاضة في اليوم الأول من أيام التشريق لزمه دم؛ لأنهم يرون أنه لا بد من إيقاعه في يوم النحر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَوقَعه في يوم النحر، وحينئذٍ يرونه تأقِيتاً وإلزاماً بيوم النحر.(114/19)
الأسئلة(114/20)
حكم من أحرم بعد الميقات ثم عاد إلى الميقات وأحرم
السؤال
من أحرم دون الميقات ثم عاد إلى الميقات فماذا يفعل؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصبحه ومن والاه.
أما بعد: من أحرم دون الميقات ثم رجع إلى الميقات وأحرم وجدَّد النية للعلماء فيه قولان: القول الأول: أنه لا يسقط عنه الدم وأن إحرامه انعقد من دون الميقات، وحينئذٍ لا يفيده الرجوع شيئاً، ولا يُسقِط عنه الدم سواءً كان ناسياً أو متعمداً.
فلو نَسي وبعد أن جاوز الميقات تذكَّر فأَحرَم ثم رَجَع، أو قَصَد أن يجاوز الميقات فأَحرَم مُجَاوزاً للميقات، ففي كلتا الحالتين يلزمه الدم رجع أو لم يرجع، وهذا هو الصحيح؛ لأنه نوى وقد لزمه الإحرام بالنية؛ لأنه إذا لبَّى ونوى فقد دخل في النسك إجماعاً، فحينئذٍ يكون رجوعه بعد انعقاد الإحرام، وانعقاد الإحرام كان بعد الميقات، وبناءً على ذلك يلزمه الدم، ولا يفيده الرجوع شيئاً؛ لأنه لا يرفع الثابت، بدليل أنهم حكموا بكونه محرماً، والإحرام منعقد بالموضع الذي أحرم منه من دون الميقات.
فبالإجماع أنه لو مضى لوجهه صح إحرامه، إذاً معنى ذلك أن الإحرام قد انعقد وأن الرجوع لا يغني شيئاً، وإذا كان الإحرام منعقداً فالإخلال موجود، فيكون رجوعه لما بعد ذلك لا يرفع الثابت والباقي، فلزِمه الدم من هذا الوجه.
وقال بعض العلماء: إذا رجع ملبياً سَقَط عنه الدم، وهذا القول لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وهو قول مرجوح، والصحيح أن الدم لا يَسقط بأي حال ما دام أنه قد أحرم ونوى، سواءً رجع أو لم يرجع، وهو أصح أقوال العلماء.
والله تعالى أعلم.(114/21)
سبب إعمال المسامتة في المواقيت المكانية
السؤال
أشكل عليَّ أن المواقيت أماكن خصَّصها الشرع ولكننا نُعمِل المسامته، فهل المسامته من باب القياس؟
الجواب
القياس حجة، والشرع اعتَبَر القياس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سأَلته المرأة أن تحج عن أمها قال: (أرأيتِ لو كان على أُمِّكِ دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى).
فجاء رجل فقال: (يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، قال: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حُمُر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقاً، قال: فأنى كان ذلك؟ قال: لعله نزعها عرق، قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق) فقاس دفع الشبهة لإسقاط القذف على الحيوان، وهذا قياس صحيح.
كذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: (أرأيت لو وَضعها في الحرام أكان عليه ورز)، فهذا يدل على القياس.
فالشاهد أن الشَّرع يعتبر القياس حجة، والرجل هنا في منطقة لا يستطيع أن يمر فيها بذي الحليفة، ولكنه يُسامِت ذا الحليفة تماماً، فحينئذٍ نقول: حكمه حكم من مرّ بذي الحليفة يَعتَبِر المسافة التي تسامت.
ألسنا نقول: إنه إذا ركب الطائرة وركب السيارة أنه بمجرد المحاذاة يلبِّي؟ فالمحاذاة كالمسامته لا يوجد فرق ما دام أنه في نفس الجهة، فكأن الشرع قصد أن لا يمر من هذه الجهة إلا وقد أَحرَم، فيكون العبرة بالسمت والجهة، وحينئذٍ نقول بالسمت لأن الشرع يشهد له.
وهذا نظر صحيح وقياس صحيح، فتصوَّر الآن لو أن الشَّرع أَراد أَن يُحدد المواقيت فهو -بالقسمة العقلية والفرض العقلي كتشريع- بين أمرين.
مثلاً: بالنسبة للمدينة ميقاتها ذو الحليفة، وهي تبعد عن مكة عشر مراحل لعشرة أيام، فبالنسبة للأربعمائة كيلو التي بين مكة وذي الحليفة، فهو فيها بين أمرين: إما أن يحدد جهة المدينة ثم يذكر ما يسامت جهة المدينة من القرى والمنازل، فيأتي النص من النبي صلى الله عليه وسلم يُعدِّد هذه القرى والمنازل ويقول: المواقيت ذو الحليفة وكذا وكذا وكذا وكذا، حتى يذكر جميع القرى التي تسامتها.
الطريق الثانية أن يقول: يلزم هؤلاء الذين يأتون من الجهات البعيدة أن يذهبوا ويتحولوا إلى المدينة، وحينئذٍ كأنه يقول: لا يصح إحرام لأهل المدينة ومن كان بجوارهم أو من سامتهم إلا من ذي الحليفة، والنص لم يأت بهذه الصفة، بل وَقَّتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، وسَكَتَ عن غيرهم حتى يَجتَهِد العلماء فيثابوا على اجتهادهم، فنزَّلوا غير المنصوص عليه على المنصوص عليه، وأَلَحَقوا المسكُوت عنه بالمنطوق به، ورأَوا أن الشَّرع نبَّه بهذا على هذا، وحينئذٍ يكون الحُكم واحداً، وتطمئن النفس إلى أنهم يأخذون حكم أهل المدينة.
وبناءً عليه فإننا نقول: مَن سَامَت المدينة يَعْتَبِر سَمْتَ ذي الحليفة إذا كان في الطريق على السَّمْت.
لكن لو كان في جهة غير جهة المدينة، مثلاً: المدينة واقعة شمال مكة، فهو في شمالٍ منحرف إلى الشرق -شمال شرق- ولكنه لا يمر بميقات المشرق؛ فحينئذٍ نقول له: أنت بين أمرين، إما أن يكون تدخل على محاذاة سمت المدينة فتُحِرم عند دخول الطريق، مثل الذين هم في شرق الخط السريع (خط المدينة) كالمَهْد فنقول: لا يلزمك الإحرام ما لم تدخل في الخط حتى تكون بسمت أهل المدينة فيلزمك حينئذٍ أن تُحرِم بدخولك، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ).
أما إذا كان على نفس السمت كاليتمة ووادي الفُرْع ونحوها، فقد بيَّنا حكمه وأنه يحرم من موضعه، والله تعالى أعلم.(114/22)
ميقات أهل الطائف
السؤال
هل ميقات وادي مَحْرَم مسامت لقرن المنازل؟ وأهل الطائف بالخيار بأن يحرموا من قرن المنازل أو وادي مَحْرَم؟
الجواب
نعم هم يقولون أنه بالمحاذاة، خاصة بالمراحل على التقدير القديم أن المرحلة مسيرة يوم وليلة، وفي حكم بُعْد قرن المنازل وذات عرق عن مكة، وهؤلاء يعتبرون بالسمت والمحاذاة، فإن شاءُوا أحرموا من وادِي مَحْرَم وإن شاءوا أحرموا من السيل، ولكنهم إن أحرموا من وادي مَحْرَم فإنه ينعقد إحرامهم ويصح.
والله تعالى أعلم.(114/23)
حكم تجديد الإحرام عند الميقات لمن أحرم قبل الميقات
السؤال
ذكرتم أن من أَحرم قبل الميقات فإنه يجدد إذا مر بالميقات، فهل التجديد واجب؟
الجواب
التجديد لازم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت، وهذا التأقيت على سبيل التحديد، وفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (خذوا عني مناسككم)، فأقته وحدده، ولا يصح أن يمر بالميقات دون أن يجدد نيته بالإحرام بالعمرة والحج أو بهما معاً، والله تعالى أعلم.(114/24)
ميقات من خرج إلى الطائف بعد أن نوى الحج في مكة
السؤال
رجل نَوَى الحج من مكة ثم خرج إلى الطائف لزيارة أهله ثم أحرم من ميقات أهل الطائف ماذا عن هذا الإحرام؟
الجواب
أن المكي إذا نوى الحج ثم انطلق إلى الطائف فيجب عليه أن يحرم من ميقات أهل الطائف، والسبب في ذلك أنه يتمحَّض سفره الثاني للنسك وقد مر بالطائف فأخذ حكم أهلها، فيلزمه حينئذٍ أن يحرم من ميقات أهلها، وهكذا لو خرج إلى المدينة أو إلى جدة، فإنه يلزمه أن يُحرِم من ميقات المدينة أو أن يحرم من جدة؛ لأنه لا يصح منه أن يدخل إلى مكة بعد هذه النية إلا وقد أَحْرَم بالنسك الذي أراده.
والله تعالى أعلم.(114/25)
حكم من أحرم من الميقات ثم رجع إلى دون الميقات لعذر
السؤال
هذا سائل يعرض مسألةً وقعت له: وهو أنه قَدِم من القصيم بالطائرة وأحرم فيها لما حاذى الميقات، لكن الطائرة لم تستطع الهبوط في جدة نظراً للأحوال الجوية وهبطت في المدينة، فماذا يفعل؟
الجواب
من أحرم ثم رجع إلى دون المواقيت فلا يزال مُحْرِماً وحينئذٍ يبقى بإحرامه، وإذا رجع إلى مكة يرجع بالإحرام الأول ولا يلزمه إحرام ثانٍ، ولذلك قلنا: إن من أحرم دون المواقيت ورجع ثانية لم يسقط عنه الدم، وهكذا الحال بالنسبة لمن أحرم فطرأ عليه العذر فرجع، فإنه لا يزال متلبساً بالإحرام الأول.
أما الدليل على كونه لا يزال متلبساً فظاهر قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أنه لما مر بالميقات في السفر الأول ونوى انعقدت نيته وصحت وثبتت، فتوجه عليه خطاب الشرع أن يُتِم هذا الحج ويتم هذه العمرة لله، فحينئذٍ لا تدخل عمرة ثانية ولا تدخل حجة ثانية، أي: لا تدخل نية عمرة وحجة ثانية فوق النية الأولى، بل يبقى بإحرامه الأول، ورجوعه إلى دون المواقيت لا يضرُّه بشيء.
والله تعالى أعلم.(114/26)
ميقات من نوى أن يحج عن غيره نافلة
السؤال
هل يلزم من حج عن غيره نافلة أن يرجع من حيث فُرِض عليه الحج، أم يختص ذلك بالحج في الفريضة؟
الجواب
يختص ذلك بحج الفريضة أما بالنسبة للنافلة فإنه من حيث أنشأ، والسبب في ذلك أنه إذا نوى أن يحج عنه نافلة فمن حيث أنشأ نيتَه، فأصبحت النية بالنسك ناشئة بخلاف النية المستقرة في الذمة، فإنه إذا مات وقد قصَّر في حجه من المدينة فقد توجه عليه خطاب الشرع أن يحج من المدينة، وحينئذٍ يلزم من حج عنه أن يحج من ميقات المدينة ولا ينتقل إلى ما دون ذلك.
والله تعالى أعلم.(114/27)
المعتبر في محرم المرأة في السفر
السؤال
ما مقدار السن المعتبر في المحرم حتى يصح للمرأة أن تسافر معه؟
الجواب
العبرة في المحرم في السفر أن يكون قوياً على الدفع، أما إذا كان عاجزاً ومن الحُطَمة الذين لا يدفعون فهذا يُفَوِّت مقصود الشرع، فمثلاً لو كان مشلولاً فمثل هذا بعض العلماء يعتبره محرماً للسفر لكنه يُفَوِّت مقصود الشرع، قالوا: فلو سافرت بصبي صغير لا يَدْفَع فإنه لا يُعتَبر محرماً موجباً لحل السفر، والسبب في ذلك أن مقصود الشرع من وجود المحرم أن يدفع عنها، فإذا كان صغير السِّن وهو الذي دون البلوغ فإن وجوده وعدمه على حد سواء.
ولا بد أن يكون المحرم من الرجال، ويكون قادراً على الدفع، بحيث لو طرأ على المرأة من يؤذيها أو يتعرض لها، أو تعبت المرأة واحتاجت إلى معونته أو أن يحفظها؛ فإنه يكون جلداً قوياً على ذلك أما إذا كان مشلولاً أو كان صغيراً فهذا وجوده وعدمه على حد سواء، ولا بد من وجود المحرم الذي يدفع، وعليه فالصغير لا يجزئ بالحج والنسك إذا لم تجد غيره ولا بد أن يكون المحرم بالغاً قادراً على الدفع عنها؛ لأن مقصود الشرع هو حصول دفع الضرر عن المرأة.
والله تعالى أعلم.(114/28)
حكم كون المرأة محرماً للمرأة في السفر للحج
السؤال
ما حكم سفر العمة مع ابن أخيها وأن تصطحب معها بناتها، فهل تعتبر الأم بمثابة المحرم لبناتها وذلك في رفع الحرج ومشروعية السفر، ومثل ذلك سفر الزوجة مع زوجها بصحبة أختها ونحو ذلك؟
الجواب
نعم الأم تكون محرماً لبناتها إذا انقلبت ذكراً ورجلاً! كيف ندخل هذا في هذا؟! فالمحرم لا يكون إلا رجلاً فهذا من غرائب ما يكون عند بعض العامة، يقولون: يسافر مع عمته ومعها بناتها، فالأم محرم لبناتها وهو محرم للعمة، وهذا لا شك أنه من غرائب ما يكون من الفقه، ولم يقل أحد بهذا؛ لأن المرأة لا تكون محرماً للمرأة، المراد وجود الرجل: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم)، ما قال (ذات)، فإذا انقلبت الأم ذكراً فنعم.
أما ما ذكره السائل فلا يقول به أحد، ولا يعتد به أحد، وقد انتشر عند بعض الناس اليوم أن المرأة للمرأة محرم، تسافر الزوجة ومعها أختها أو بنت أختها، فالزوجة محرم أختها أو بنت أختها، والزوج محرم للزوجة، على هذا يصح أن تسافر مائة امرأة وكل امرأة معها امرأة محرم، يعني يجوز لها أن تنكشف عليها وتصافحها وتكون معها، ثم يسافرون بذكر واحد محرم لواحدة، وتكون بقية النساء كل واحدة محرم لمن معها، هذا ما يقول به أحد.
وعلى العموم فلا بد من وجود الذكر، الرجل مَحْرَم لعمته وأما بنات العمة فأجانب، ولا يصح سفرهن مع أمهن إلا بوجود أخ أو بوجود محرم منهن.
والله تعالى أعلم.(114/29)
حكم من اعتمرت ونسيت التقصير وهي متزوجة
السؤال
امرأة اعتمرت ونسيت أن تُقَصِّر ولم تذكر إلا بعد أسبوعين وهي متزوجة، فماذا تفعل؟
الجواب
من أحرم بالعمرة أو الحج ولم يتحلل ونسي أن يُقَصِّر ففي العمرة لا يزال متلبساً بمحظورات الإحرام حتى يتحلل كما سَنَّ الله عز وجل وشرع، فإذا تركت المرأة التحلل ناسية ثم أصابت المحظورات تفرع الحكم على الوقوع في المحظورات نسياناً، فما كان منها لا ينجبر كقص الأظافر وقص الشعر ونحو ذلك فهذا تلزم فيه فدية، وما كان منها منجبراً كالطيب يُغسل ويُزال فحينئذٍ يسقط بالنسيان على القول بأن النسيان يُنَزَّل منزلة الجهل لحديث الجعرانة.
فعلى هذا لو جامعها زوجها فسَدَت عمرتها، وتُقَصِّر حتى تخرج من العمرة الأولى وتتحلل؛ لأن العمرة الفاسدة تُتَم؛ لأنه إذا وقع الجماع قبل التقصير فإنه يُفْسِد العمرة، ويدخل في ذلك أن تكون ناسية له أو متعمدة له، لأنها لا تتحلل من نُسُكها الذي دخلت فيه إلا بتقصير، وحينئذٍ كونها طافت وسعت لا يُخرِجها من الحرمة التي هي فيها، فإن وقعت إصابة زوجها لها قبل أن تُقَصِّر فإنها حكمها حكم من جامع أهله قبل أن يتحلل من العمرة، فتُتِم العمرة الأولى بالتحلل منها، وقد أجمع العلماء على أن فاسِد الحج والعمرة يُتَم، لظاهر قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فُتتم هذه العمرة الفاسدة إن جامعها زوجها، ثم تأتي بعمرة بدلاً عن هذه العمرة، ويلزمها الدم جبراناً لوطئ زوجها لها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(114/30)
شرح زاد المستقنع - باب الإحرام
شرع الله سبحانه وتعالى الإحرام وجعله نية لنسك الحج أو العمرة، وجعل له أحكاماً وسنناً بينتها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمها: حكم الغسل والطيب قبل الإحرام، والمخيط المنهي عن لبسه للمحرم، واللباس الخاص بالمحرم.
ومن رحمته تعالى بعباده أن نوّع لهم مناسك الحج لتكون ملائمة لأحوال العباد وقدراتهم، وبيَّن السبيل والطريق للمرأة الحائض إذا خشيت فوات الحج.(115/1)
صفة الإحرام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الإحرام] بعد أن بين لنا المصنف الأحكام المتعلقة بمواقيت الحج والعمرة، ناسب أن يبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتفرع عليه من المسائل والأحكام المتعلقة بالإحرام؛ لأن الإنسان إذا خرج من بيته يريد الحج أو العمرة أو هما معاً، فإنه أول ما يكون من أمره أن يصل إلى الميقات، فبيَّن المؤلف أحكام المواقيت، ثم بعد أن بيَّن ما هي المواقيت شرع في بيان صفة الإحرام، وكيف يدخل الإنسان في نسك الحج ونسك العمرة، فقال رحمه الله: (باب الإحرام).
والإحرام: مأخوذ من قولهم: أحرم الرجل يحرم إحراماً فهو محرم، إذا دخل في الحرمة، وأحرم الرجل إذا دخل في الحرمات، سواء كانت زمانية كالأشهر الحرم، أو كانت مكانية كحدود حرم مكة والمدينة، فتقول للرجل إذا دخل حدود حرم مكة: أحرم، بمعنى: أنه دخل داخل الحرم، وتقول: هو حرمي، أي: هو ساكنٌ داخل حدود حرم مكة.
والعرب تقول: أحرم إذا دخل في الحرمات كأنجد إذا دخل نجداً، وأتهم إذا دخل تهامة.
ومراد العلماء بقولهم (الإحرام): نية أحد النسكين أو هما معاً، إما الحج وإما العمرة، فإن كانت نيته أن يدخل في الحج فهو حاج، وإن كانت نيته أن يدخل في العمرة فهو معتمر، وإن نواهما معاً فهو حاج قارن لحجه.
يقول رحمه الله: (باب الإحرام) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بكيفية الإحرام والدخول في نسك الحج ونسك العمرة، وذلك أن الدخول في نسك الحج والعمرة يفتقر إلى نية مخصوصة، وينبغي لمن دخل في هذه العبادة -أعني الحج أو العمرة- أن يراعي أموراً فرضها الله عز وجل عليه، وأن يتقي أموراً حرمها الله عليه، وهي التي تسمى بمحظورات الإحرام، فالإحرام كأنه حد للدخول في هذه العبادة.(115/2)
أهمية الإحرام والتلبس بنية النسك
قوله رحمه الله: [الإحرام نية النسك].
الإحرام -في عرفنا معاشر الفقهاء-: نية النسك.
أي: نية الدخول في الحج أو الدخول في العمرة أو هما معاً، وليس مجرد كون الإنسان يخرج من بيته للحج والعمرة كافٍ، فقد تخرج من بيتك وأنت تريد الحج والعمرة، ولكن لا يحصل بهذه النيةِ النيةُ المعتبرة، ولا يقال: إنك محرم.
مثال ذلك: لو كنت في المدينة أو في الرياض فخرجت من المدينة إلى ذي الحليفة، فإنه منذ خروجك من بيتك قبل الميقات وأنت ناوٍ للحج أو العمرة أو هما معاً فليست هذه نية، ولكن الدخول لا يكون إلا في الميقات، وحينئذٍ يصدق عليك أنك قد تلبست بالنسك.(115/3)
حكم الغسل للإحرام
قوله: [سن لمريده غسل أو تيمم] أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل، فأول ما يبدأ به الإنسان إذا أراد الحج أو العمرة أن يغتسل لحجه أو عمرته؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه اغتسل في الوادي المبارك، وهو وادي العقيق، وهو الذي يسميه الناس اليوم بوادي عروة، وموضعه أبيار علي، فاغتسل في ذي الحليفة، وقد طاف على نسائه صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك تطيب واغتسل وتنظف صلوات الله وسلامه عليه.
والسبب في الاغتسال: أن الإنسان إذا دخل في الحج والعمرة قد تمضي عليه أيام وهو متلبس بهذه العبادة ولا يتطيب، ولا يقلم أظافره ولا يقص شعره، فهو مظنة الشعث، ولذلك جاء في الأثر: (انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً)، خاصة في الأزمنة القديمة، حيث كان بين ميقات المدينة وبين مكة ما يقرب من عشر مراحل يسيرونها عشرة أيام بالإبل، وحينئذٍ يتضرر ويتضرر من معه، ويتضرر الناس من حوله، وإذا شهد الجماعات أو الصلاة مع الناس آذاهم برائحته وببخره، ولذلك سن له أن يغتسل.
وهذا الاغتسال في حق الحائض والنفساء آكد، حتى ذهب جمع من العلماء رحمة الله عليهم إلى أنه يجب عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، والسبب في ذلك وجود القذر كما سيأتي -إن شاء الله- ذكره.
فيسن للمحرم أن يغتسل فيزيل ما يعلق ببدنه من الروائح الكريهة والأوساخ، فيكون طيباً في بدنه، ويدخل لهذه العبادة على أتم الصفات وأكملها.
قال بعض العلماء: كأن الإنسان إذا أراد الحج أو العمرة ونزل في ميقاته، وأراد أن يغتسل وتجرد من مخيطه؛ يتذكر حينما يجرد من الدنيا ويخرج منها صفر اليدين إلا من رحمة الله عز وجل، فحينما يغتسل لإحرامه ويتجرد وهو بقوته واختياره كأن هذه بداية العظة له، إذ يتذكر حينما ينزع من الدنيا وينزع من بين أهله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
قوله: [أو تيمم لعدم] إذا لم يستطع الاغتسال لمرض أو لعدم وجود الماء، أو كان الزمان بارداً شديد البرد، ولا يستطيع أن يدفئ الماء، أو يستطيع أن يدفئ الماء ولكنه يخشى إذا اغتسل ولبس ثياب الإحرام أن لا يحسن الاستدفاء، فحينئذٍ يعدل إلى التيمم، وهو أحد قولي العلماء.
وقال بعضهم: لا يتيمم؛ لأن المقصود من الغسل النظافة، والتيمم لا ينظف، حساً، بخلاف ما إذا اغتسل فإنه ينقي بدنه، ولكلا القولين وجه، فمن تيمم فلا حرج عليه، ومن ترك التيمم فلا حرج عليه.(115/4)
كيفية التنظف للإحرام
قوله: [وتنظف] التنظف يكون بتقليم الأظفار، وقص الشعر من رأسه إذا كان يخشى طوله، وهكذا بالنسبة للشعر الذي يكون في بدنه، فينتف إبطه ويحلق عانته، ونحو ذلك من الأمور التي يتهيأ بها البدن على أحسن وأفضل الهيئات وأكملها؛ تشريفاً لهذه العبادة وتأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.(115/5)
حكم التطيب للإحرام
قوله: [وتطيب]: أي: يسن له أن يتطيب، والطيب: ما طاب ريحه، وسمي الطيب طيباً لطيب رائحته، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أطيب الطيبين بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، طيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها في حله قبل حرمه، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت، فدل على أن السنة لمن أراد أن يحج أو يعتمر أن يتطيب.
مسألة: هل يضع الطيب في بدنه قبل الغسل أو بعد الغسل؟ أجمع العلماء على أنه يجوز للإنسان أن يتطيب في بدنه قبل الغسل، ثم إذا غسل بدنه فإن بقي شيء من الطيب؛ فإنه مغتفر بإجماع العلماء، ولكن الخلاف فيما لو اغتسل ثم تطيب قبل أن ينوي، أي: قبل أن يدخل في النسك.
فمذهب الشافعية والحنابلة وأهل الحديث أن من السنة أن يغتسل ثم يضع الطيب في بدنه، ولا بأس أن يكون الطيب في شعره أو صدره أو مغابنه.
وذهب المالكية والحنفية إلى أنه يتطيب أولاً ثم يغتسل، فإن بقي بعد غسله شيء فهو مغتفر، وعلى هذا فإن أصحاب القول الثاني لا يجيزون أن يتطيب بعد الغسل، وكأنهم يرون أنه مغتفر بعد غسله.
والصحيح أنه يجوز أن يتطيب قبل الغسل وبعده؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها كما في صحيح مسلم قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه) وهذا يشمل ما بعد الغسل وقبل النية.
ثم إذا وضع الطيب في بدنه فإن كان في أعالي البدن كالرأس، أو في المواضع التي لا يحتك بها الثوب فلا إشكال، ولا حرج عليه أن يبقى أثر الطيب في بدنه، كأن تبقى صفرة الطيب في شعره، أو على صدره أو نحو ذلك؛ وذلك لأن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (كنت أرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله عليه وسلم وهو محرم) -أي: لمعان الطيب- لأنه كان يفرق شعره نصفين، وقيل: مفرقه في أصل الشعر، فدل على أنه يجوز أن يبقى الطيب بعد الغسل وبعد النية، ولكن إذا سقط شيء من هذا الطيب وعاد إلى البدن بعد سقوطه، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تلزمه الفدية.
أما لو تطيب في صدره وعلق الطيب بثوب الإحرام -الذي هو الرداء- أو تطيب على أسفل بدنه ومغابنه فتعلق بالرداء، فحينئذٍ إن كان الرداء باقياً عليه ولم ينزعه فلا إشكال، ولكن إذا نزع الرداء عنه فإنه لا يعيده مرة ثانية؛ لأنه يغتفر استصحاباً ما لا يغتفر استئنافاً، لكن لو خلع الرداء المطيب عنه ثم أراد لبسه فكأنه يلبس بعد إحرامه ثياباً مسها الزعفران والورس، هذا عند من يقول: يغتفر إصابة الطيب للثوب، لأنه لما رئي على رسول الله صلى الله عليه وسلم دل على جواز أن يكون في ثوب الإحرام.
ولكن الأحوط والأكمل أن يتحفظ من إصابة الطيب لثوبه؛ لأنها رخصة جاءت في البدن، فلا يقاس غير البدن عليه، وعلى هذا: فإنه إذا أصاب ثياب الإحرام الطيب فإن الأحوط له أن يغسله، وأن يخرج من العهدة بيقين ويستبرئ لدينه، فهذا أكمل.
لكن من قال من العلماء إنه يغتفر ورأى فيه المسامحة قياساً على ما في البدن، فحينئذٍ يفرقون بين أن يكون الرداء على الإنسان، وبين أن ينزعه ثم يلبسه، فإنه إذا لبسه فكأنه يلبس ثوباً مسه الطيب.
والدليل على أنه لا يجوز له أن يلبسه بعد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للرجل لما لبس الجبة وعليها الطيب: (انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما-: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) فدل على أنه يتقي في ثيابه أن تصيب الطيب، والرخصة في البدن، وأما الثياب فإنه لم يرد التصريح بالرخصة فيها.(115/6)
حكم لبس المخيط للمحرم
قوله: (وتجرد من المخيط) المخيط هو الذي يحيط بالبدن، فالقميص يعتبر مخيطاً؛ لأنه يحيط بصدر الإنسان ويحيط بيده، ولذلك قالوا: قد يكون المخيط مخيطاً ولا خيط فيه، فلو أخذ رداء الإحرام وعقده بشوك فأحاط بالبدن حتى صار كيد الثوب فهو مخيط؛ لأنه محيط بالبدن، فالعبرة بالإحاطة بالبدن، لا بعدم وجود خيط، ولذلك كانت العمامة في حكم المخيط؛ لأنها تحيط بأعلى الرأس، مع أنها ليست مخيطة، مما يدل على أن المراد: الإحاطة بالعضو.
أما بالنسبة للدليل على أن المحرم لا يلبس المخيط -أي: المحيط بالبدن جزءاً أوكلاً-: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله الرجل فقال: (يا رسول الله! ما يلبس المحرم؟ قال: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف) وهذا الحديث إذا تأملته وجدت كمال بلاغته عليه الصلاة والسلام، وما أوتي من جوامع الكلم! فإنك إذا تأملت هذا الحديث وجدت أنه نهى عن العمامة: والعمامة تكون غطاء لأعلى الرأس، ثم (القميص): وهو يكون للصدر وأعلى البدن، ثم (السراويل): وهي لأسفل البدن، ثم (البرانس): وهي التي فيها غطاء الرأس وغطاء جميع البدن، فكأنه بهذا يمنع المخيط الذي يحيط بالبدن أجزاءً أو كلاً، فجمع قوله: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات) بين تغطية أعلى البدن وأوسطه وأسفله، ثم جاء بما يجمع الكل فقال: (ولا البرانس)، وهو جمع برنس، ولذلك قالوا: يحظر عليه أن يلبس ما يحيط بالبدن ولو لم يكن له خياطة، وهو مخيط إذا أحاط بالبدن.
والإحاطة بالبدن جزءاً كأن يحيط بيده أو برجله كما في السراويلات ونحوها، فعلى المحرم أن يتجرد من السراويل، والفنايل التي تسمى بهذا في زماننا، وهي سترة الصدر، وكذلك يتجرد من القمص وما في حكمها مما يسمى اليوم بالكوت أو نحوه؛ لأنه يستر أعالي البدن، فجميع ذلك يلزمه أن يتجرد منه، ويتجرد مما يغطي الرأس من العمائم والغتر والأشمغة، وهكذا بالنسبة للطواقي ونحوها فإنها غطاء للرأس، فيتجرد من جميع ذلك.
مسألة: لو كان الإنسان في طائرة، وعنَّ له وهو قادم من الرياض -مثلاً- أن يحرم بالعمرة، ولكن ليس عنده إزار يستر أسفل بدنه، وليس باستطاعته أن يتجرد، فحينئذٍ يجوز له أن يلبس السروال، ويكون السروال عوضاً عن الإزار؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في يوم عرفة وقال: (السراويل لمن لم يجد الإزار) فحينئذٍ يتجرد من المخيط إلا إذا لم يجد ما يستره؛ فيجوز له أن يستتر بالمخيط حتى يجد غير المخيط، وهذا من كمال الشريعة ومن رحمة الله عز وجل بعباده، وهو من اليسر الذي بعث به نبيه صلوات الله وسلامه عليه.(115/7)
لباس المحرم
قال رحمه الله: [ويحرم في إزار ورداء أبيضين] كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (خير ثيابكم البيض) وقال: (كفنوا فيها موتاكم)، وثبت في الصحيح عنه أنه كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، وقد قالوا: إن إحرام الإنسان كالكفن، فمن هنا استحب جماهير العلماء رحمة الله عليهم البياض في إحرام الإنسان.
لكن لو لم يجد إزاراً ورداء أبيضين، ووجد إزاراً ورداءً بلون آخر، فلا حرج أن يلبسه ولا عتب عليه، فالبياض من باب الأكمل والأفضل، ولكن إذا وجد الأبيض وغيره فإنه يستحب له أن يتحرى الأبيض؛ لما فيه من تحري السنة ولأنه خير ما لبس من الثياب.(115/8)
حكم صلاة ركعتين قبل الإحرام
قال المصنف رحمه الله: [وإحرام عقب ركعتين] أي: والسنة أن يحرم عقب الركعتين، وهذا من ترتيب الأفكار، وهو يقول لنا: أولاً يتجرد من المخيط في ثيابه، ثم بعد ذلك يغتسل ويتطيب، وهذا بعد أن ينظف بدنه مما علق به، وينتف إبطيه ويحلق عانته، فإذا ما تم هذا كله؛ قال: وإحرام عقب ركعتين.
فالسنة أن يقع الإحرام عقب صلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بعد الفريضة، ولكن إذا كان الوقت ليس بوقت فريضة فحينئذٍ يغتسل، ثم ينوي ركعتي الوضوء، ويحرم عقب ركعتي الوضوء، وليس للإحرام سنة مقصودة، وإنما يغتسل أو يتوضأ ثم يصلي ركعتي الوضوء لما فيها من الفضل، ثم يحرم بعد ذلك؛ لأن فيه شبهاً بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بعد الصلاة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم.
وقد جاء في حديث عمر المشهور في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: أهِلَّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة)، والمعنى: أنه رأى رؤيا وقال بعض العلماء: بل أتاه حقيقة، أي: يقظة وليس بمنام وفي رواية: (صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة) ولذلك ثبت في رواية الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يمر بهذا الوادي -وادي العقيق- وهو مسافر إلا صلى فيه رضي الله عنه وأرضاه؛ تأسياً بهذه السنة.
فأحرم عليه الصلاة والسلام عقب الفريضة، وهذا هو هديه، فإذا صلى الإنسان الفريضة وأراد أن يدخل بنية النسك فإنه يدخل عقب الفريضة، ولا يتكلف ركعتين؛ لأن هذا خلاف السنة، بل قال بعض العلماء: لو صلى الفرض ثم قام يصلي ركعتين خاصة لإحرامه فهو إلى البدعة أقرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف الركعتين بعد الفريضة، فلما تكلفهما وخالف هديه بالإحرام عقب الفريضة مباشرة كان هذا خلاف السنة، وكأنه يعتقد فيها مزية فضل، فكان أقرب إلى البدعة من هذا الوجه.(115/9)
حكم النية والاشتراط في الإحرام
قال المصنف رحمه الله: [ونيته شرط].
أي: أن نية النسك شرط في صحة الإحرام، وقيل: إنها ركن.
ولا يصح الإحرام ولا ينعقد إلا بنية، فلو أن إنساناً مر بالميقات ولم يوجب الإحرام ولم ينو؛ فإنه لا يصح منه ذلك ولا يجزيه، ولا يزال حلالاً حتى يعود ويحرم من الميقات، فإن أحرم من دونه فعلى التفصيل الذي ذكرناه في مسألة من أحرم دون المواقيت.
وقوله: [ويستحب قوله: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي، وإن حبسني حابس؛ فمحلي حيث حبستني] هذا اللفظ جاء في حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج، وأنا شاكية -يعني: مريضة- فقال عليه الصلاة والسلام: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني).
وللعلماء في هذا الحديث وجوه: الوجه الأول: أن هذا الحديث يعتبر أصلاً عاماً، وأن كل من يريد أن يهل فله أن يقول هذه الكلمة، ويجوز له أن يشترط؛ بل ويستحب له تلافياً لما يطرأ عليه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث خاص بـ ضباعة.
فهو عكس الوجه الأول، فالوجه الأول يرى أنه عام في الحال وفي الأفراد، سواء وجد عذر أو لم يوجد عذر، والوجه الثاني يقول: هذه قضية عين، والقاعدة في الأصول: (أن قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم)، ولا يوصف الحديث بكونه قضية عين إلا إذا كان الأصل خلافه، وتوضيح ذلك: أن الأصل في المريض أنه يفتدي إن أصابه المرض، وأنه إذا أحصر ومنع من البيت؛ فإنه حينئذٍ يتحلل كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، لكنه بالاشتراط يخرج من هذا كله: من الفدية ومن إراقة الدم في الإحصار، فصارت قضية عين من هذا الوجه.
وتوسط بعض العلماء وهو المذهب الراجح، وبه يقول جمع من الشافعية والحنابلة: أن هذا الحديث مخصوص بالشخص الذي يكون مريضاً قبل الحج أو العمرة، فيكلف نفسه الحج أو العمرة، وكأن الشرع أعطاه بتكلفه مع المرض سعة، أما الصحيح القادر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم على الميقات لم يقل للصحابة: أهلوا واشترطوا، ولا شك أن الاشتراط يخفف عنهم التبعة.
فكونه يقال: إن كل من أراد أن يحرم يستحب له أن يقول هذا غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به الصحابة، ولو كان سنة ماضية للجميع لأُمِر به الصحابة، والفقه أننا نعتبر كل نص بمورده وطريقته، ونحمل النصوص على مواردها، فلما كان الأصل في الإنسان الصحيح القادر أنه يحرم ويمضي لوجهه، فإن طرأ له عذر يمنعه من البيت صار محصراً، وأحكام المحصر معروفة، وإن كان مريضاً فأحكام المريض معروفة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فهذا هو الأصل.
وأما إذا كان على صفة ضباعة، أراد الحج وتكلفه وهو مريض، فحينئذٍ يصح أن يشترط، وحينئذٍ نكون قد أعملنا النصوص على وجهها، فأبقينا الأصول كما هي، واستثنينا ما ورد به حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس: أن الاشتراط لا يكون إلا للمريض على صورة حديث ضباعة، وهو أعدل الأقوال في هذه المسألة، وأولاها بظاهر الحديث الوارد بالرخصة في ذلك.
قوله: [ويستحب قول: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي] والمسلم لا شك أنه يدعو ربه في أي عبادة أن ييسر له الخير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيث ما توجهت) فهذا من نعم الله على العبد أن ييسر له الخير، ولكن في مواطن العبادات لا يستحب شيء إلا بنص، فلا يستحب ذكر مخصوص ولا لفظ مخصوص في موضع مخصوص إلا بدليل يخص هذا اللفظ وهذا الموضع بهذا الذكر، ولذلك الأصل أن يقتصر على النية، فيقول: (لبيك حجاً، لبيك عمرة، لبيك حجاً وعمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: حجة وعمرة).
فهذا نص يدل على أنه لا يزاد على هذه النية، ولذلك قال أنس رضي الله عنه: (ما تعدوننا إلا صبياناً، لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها) أي: كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه، لأنه كان ربيباً عند أبي طلحة زوج أم سُليم، وأم سُليم هي أم أنس، وكانت ناقة أبي طلحة مع ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يكادان يتساويان مع بعضهما، فكان أنس من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول: (لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرة وحجة) فهذا يدل على أنه يقتصر على ذكر النسك، وأن في ذلك الكفاية.(115/10)
أنواع النسك في الحج ومشروعيتها
قال المصنف رحمه الله: [وأفضل الأنساك التمتع، وصفته: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه].
هناك أنساك ثلاثة لمن أراد الحج: فإما أن يفرد فينوي الحج وحده.
وإما أن يذهب بعمرة في أشهر الحج يتمتع بها، ثم إذا قضى العمرة وانتهى منها تحلل وتمتع، ثم يحرم بعد ذلك بالحج.
وإما أن يكون قارناً -وهو النسك الثالث- وهو أن ينوي الحج مع العمرة، فيجمع بين نية الحج والعمرة، يقول: لبيك عمرة وحجة.
وقد أجمع العلماء على مشروعية الأنساك الثلاثة: الإفراد، والقران، والتمتع.
ودليل هذا الإجماع ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى الميقات قال: (من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل) فخيرهم بين الأنساك الثلاثة.
وخالف ابن عباس جماهير الصحابة رضوان الله عليهم، ومنهم الخلفاء الراشدون المأمور باتباع سنتهم، فقال رضي الله عنه وأرضاه: (إن من طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وكان لم يسق الهدي؛ فيجب عليه أن يتحلل بعمرة)، وهذا كأنه نسخ للإفراد؛ لأنه إما تمتع بالقران وإما تمتع بالتمتع المعروف، فكأنه نسخ للإفراد، وهي من المسائل التي انفرد بها ابن عباس رضي الله عنهما، وخولف في ذلك من جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم.
ومن مفرداته التمتع بالنساء، وقوله بجواز ربا الفضل، ونحوها من المسائل التي انفرد بها رضي الله عنه وأرضاه.
فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي أن يتحلل وأن يجعلها عمرة، فهم رضي الله عنه وأرضاه أن التخيير الذي وقع عند الميقات منسوخ بأمره عليه الصلاة والسلام بفسخ الحج بعمرة.
وخالفه في هذا الفهم جماهير الصحابة؛ لأن السنة الصحيحة دلت على صحة الإفراد، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه عروة بن مضرس وهو في صبيحة يوم النحر قال: (يا رسول الله! أقبلت من جبل طيء، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، وما تركت جبلاً ولا شعباً إلا وقفت عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: من صلى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار؛ فقد تم حجه) وهذا يدل على صحة حج الإفراد؛ لأن عروة كان مفرداً بالإجماع؛ ولم يدرك إلا الوقوف بالليل، فلم يكن هناك عمرة، ولم يستطع أن يتمتع، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ العام، ولم يقل: من كان مثله متأخراً عن الحج يجوز له، ومن لم يكن مثله فإنه يجب عليه الفسخ.
وقد فهم الصحابة أن إيجاب فسخ الحج بالعمرة خاص، ولذلك قال أبو ذر كما في الرواية الصحيحة عنه: (متعتان لا تصلح إلا لنا أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم: متعة النساء ومتعة الحج)، أي: أن إيجاب فسخ الحج بعمرة كان في ذلك العام للتشريع، وتأكيداً على جواز العمرة في أشهر الحج؛ لأنهم كانوا حديثي العهد بالجاهلية، وكان الناس قد قدموا من كل صوب وحدب، وأقبلوا طائعين للإسلام، فكانوا على ما ألفوه أن العمرة في أشهر الحج فجور، وقالوا: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟! وقالوا: (يا رسول الله! أي الحل؟ قال: الحل كله) فلذلك كان الأمر بالعزيمة، وأمروا بفسخ الحج والعمرة، وبقي الأمر بعد ذلك على السعة.
وقد حج أبو بكر جميع سنوات خلافته وهي سنتان من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها مفرداً، وهذا بإجماع العلماء، كما أن عمر رضي الله عنه وأرضاه في جميع سنوات خلافته -قرابة العشر السنوات- ما حج إلا مفرداً، وكذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه ما حج إلا مفرداً، وهذا على ما كانوا يختارونه، حتى كان عمر رضي الله عنه يرى أن إتمام الحج والعمرة بأن يحرم بهما من دويرة أهله.
فالمقصود أن هذا وقع في الخلافة الراشدة، وكان أبو بكر رضي الله عنه هو الذي يقيم للناس حجهم، فلو كان الإفراد منسوخاً لما صح حج الناس؛ لأن الخلفاء وهم: أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كلهم حجوا بالناس مفردين، ولذلك قال العلماء: إن هذا من مفردات ابن عباس رضي الله عنه، وهو مأجور على اجتهاده وما أدى إليه قوله، ولكن قول جماهير الصحابة الموافقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أولى وأحرى، والقول بوجوب فسخ الحج بالعمرة إنما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وأما من عداهم فقد بقي الأمر على التخيير.(115/11)
ذكر الخلاف في أفضل الأنساك وأدلته
قال المصنف رحمه الله: [وأفضل الأنساك التمتع] مسألة: هل الأفضل أن يفرد أو يقرن أو يتمتع؟ قال الشافعية والمالكية: الأفضل أن يفرد.
وقال الحنفية: الأفضل أن يقرن.
وقال الحنابلة: الأفضل أن يتمتع.
ولهم جميعاً حججهم رحمة الله عليهم، فمن قال: الإفراد.
احتج بأن الأفراد ليس فيه دم الجبران؛ لأنهم يرون أن الدم الذي في التمتع والذي في القران دم جبران؛ قالوا: فكان المفروض على من تمتع بالحج والعمرة أن يرجع بعد العمرة إلى الميقات ويحرم من الميقات، ولذلك لو تمتع المكي سقط عنه الدم؛ لأنه أحرم من ميقاته، وهذا يدل على أن الدم لمكان النقص الذي وقع بين الحج والعمرة بالتمتع أو لكونه لم يرجع إلى الميقات؛ بدليل سقوط الدم عن حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم أحرموا من ميقاتهم.
فقالوا: الإفراد ليس فيه نقص، والتمتع فيه نقص.
والتمتع بنوعيه: القران والتمتع المعروف، وقالوا: إن أبا بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان، والخلافة الراشدة ظلت أكثر من عشرين عاماً والحج بالإفراد، وما هذا إلا لفضيلة الإفراد.
وقال الحنفية: إن الأفضل القران؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة، وقد قرن عليه الصلاة والسلام منذ ابتداء نسكه إلى نهايته، ولذلك قال: (إني لبَّدتُّ شعري وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر)، وقد ثبت عنه الصلاة والسلام عن طريق أكثر من خمسة وعشرين صحابياً أنه قرن الحج بالعمرة.
قالوا: ولو كان غير القران أفضل لما اختار الله لنبيه المفضول، فكونه عليه الصلاة والسلام لم يحج إلا حجة واحدة، ومع ذلك يختار الله له إحراماً من فوق سبع سماوات أن يقرن الحج بالعمرة يدل على أنه أفضل، وأكدوا هذا بما يلي: أولاً: لو كان الإفراد أفضل -وذلك أنكم تقولون: إن المفرد يأتي بسفر مستقل لعمرته وسفر لحجه- فإننا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر أكثر من عمرة، ومع ذلك لم يقع اختيار الله له للإفراد، وإنما اختار الله له القران، فلو كان الإفراد أفضل لما اختار الله لنبيه المفضول.
وقالوا: إن القران كان أوحي به من فوق سبع سماوات ولم يكن باختيار النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي، وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة) فقرانه عليه الصلاة والسلام إنما كان بوحي وباختيار من الله، وهي حجة واحدة ولا يختار له إلا الأفضل.
ثالثاً: إنه قد اعتمر أكثر من عمرة، ومع ذلك أمر أن يقرن عمرته مع حجه، فدل على فضيلة قرن الحج بالعمرة.
رابعاً: أن القارن يفضل المتمتع؛ لأن المتمتع يشارك القارن في جميع ما ذكروه من هذه العلل، فقالوا: فينفرد القارن عن المتمتع بأن القارن بعد العمرة يبقى بإحرامه، ولكن المتمتع يتحلل فيتمتع بالنساء ويصيب الطيب، والقارن يبقى على إحرامه، والقاعدة: (أن الأكثر تعباً أعظم أجراً)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دل على هذه القاعدة كما في الصحيح: (ثوابكِ على قدر نصَبكِ)، قالوا: فإذا كان القارن لحجه بعمرته يوافق المتمتع في كون كلاً منهما يصيب النسكين، إلا أن هذا يتعب أكثر من المتمتع؛ لأنه يبقى على إحرامه بعد العمرة، وحينئذٍ يكون أفضل.
رد أهل التمتع بأن هذا التمتع الذي يقع بين العمرة والحج إنما هو بإذن شرعي.
وأما قولكم: إن الأكثر تعباً أعظم أجراً؛ فقد يكون الشيء أقل تعباً ويصيب به الإنسان ما هو أكثر فضيلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت من بعدكِ كلمات لو وزنت بما قلتِ لرجحتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته)، قالوا: فهذا يدل على أنه قد يكون الشيء أقل عملاً ولكنه أكثر أجراً.
ثم أكدوا فضيلة التمتع بأن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى التمتع، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة) قالوا: ولا يتمنى إلا الأفضل، وقولكم: إنه أحرم واختار الله له إحرام القران ينسخه ما بعده من التمني.
رد الأولون بأن هذا التمني لم يقع ابتداءً وإنما وقع لسبب، وهو أن الصحابة لما أمرهم أن يتحللوا امتنعوا، فطيب خواطرهم بهذه الكلمة.
وفي الحقيقة إن أعدل ما ذكر في هذه المسألة وهو اختيار بعض المحققين ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أن في المسألة بالتفصيل: فإن كان الرجل يستطيع أن يأتي إلى البيت ويفرد حجه عن عمرته فالإفراد أفضل، وإن كان يستطيع أن يسوق الهدي معه فالقران أفضل، وإن كان لا يستطيع أن يسوق الهدي، أو يصعب عليه -كحال أكثر الناس اليوم حينما يقدمون من خارج المملكة- فالتمتع له أفضل؛ لأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بسفر مستقل لعمرتهم، وبناء على ذلك يجمعون بين التمتع بالتحلل ثم يحرمون بعد ذلك بحجهم لصعوبة سوقهم للهدي، وعلى هذا يكون الجمع بين النصوص من جميع الأوجه، ففضل التمتع من وجه، وفضل القران من وجه، وفضل الإفراد من وجه، ويكون هذا جمعاً بين هذه النصوص والأوجه المختلفة.(115/12)
خلاف العلماء فيمن يجوز له التمتع
مسألة: من الذي يتمتع؟ ينقسم الناس في التمتع إلى قسمين: مكي، وغير مكي.
حاضر المسجد الحرام وغير حاضر المسجد الحرام، أما الذين هم من حاضري المسجد الحرام فللعلماء فيهم أوجه، وأقوى ما قيل في حاضري المسجد الحرام أن المراد بهم: أهل مساكن مكة أو من كان دون حدود الحرم، أو من كان دون مسافة القصر، فالمكي ومن كان داخل حدود حرم مكة فهو من حاضري المسجد الحرام.
وللعلماء قولان فيمن يجوز له أن يتمتع: قال جمهور العلماء: المكي وحاضر المسجد الحرام يتمتعون، وإن تمتعوا فلا دم عليهم، وعلى هذا فأهل مكة يجوز لهم أن يأتوا بالعمرة في شوال وما بعد شوال، ثم يحجون من عامهم فهم متمتعون، ويصيبون فضيلة التمتع ولا يلزمهم الدم.
وقال الحنفية رحمة الله عليهم: المكي ومن كان من حاضري المسجد الحرام لا يتمتع، وإن تمتع فعليه دم.
فلا يرون لأهل مكة أن يتمتعوا، وإن تمتعوا فعليهم الدم.
وسبب الخلاف الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196].
فلما قال الله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] اختلف في مرجع الإشارة: (ذلك)، فالجمهور يقولون: (ذلك) عائد إلى إيجاب الدم: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فأعادوه إلى أقرب مذكور؛ لأن الإشارة تعود إلى أقرب مذكور، فيكون قوله: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) أول الآية منفصل عن آخرها، ويكون قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] المراد به: إيجاب الدم، فيقولون: يصح التمتع لعموم قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة:196] ولا يجب الدم لقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196].
والحنفية يقولون: (ذلك) عائد إلى أول الآية، بدليل أنه اسم الإشارة (ذلك) للبعيد، فقالوا: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] عائد إلى صدر الآية: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] فالتمتع لمن لم يكن من حاضري المسجد الحرام.
قالوا: والدليل الثاني عندنا على هذا أنه قال: {ذَلِكَ لِمَنْ} [البقرة:196] فلو كان الدم -كما يقول الجمهور- لقال (ذلك على من لم يكن).
فدل على أن المراد مشروعية التمتع وليس وجوب الدم.
رد الجمهور بأن (ذلك) جاء اسم إشارة لصيغة البعيد لوجود الفصل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] فنظراً للفصل بالبدل عن الواجب جاء باسم (ذلك)، حتى لا يفهم منه أن هذا الإيجاب مختص بمن يكون على خلاف هذه الحال.
وأجابوا عن قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ} [البقرة:196] أن (اللام) تأتي بمعنى (على) كما قال تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] أي: فعليها، فيكون قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ} [البقرة:196] أي: ذلك الدم على من لم يكن من حاضري المسجد الحرام.
ومذهب الجمهور أقوى، وعليه: فإن أهل مكة يتمتعون، وإن تمتعوا فلا دم عليهم.
فالمتمتع إما أن يكون من حاضري المسجد الحرام، وإما أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام، فيشمل الذين كانوا خارج حدود الحرم أو خارج مسافة القصر، فالآفاقيون الذين هم غير حاضري المسجد الحرام يشرع لهم التمتع بإجماع العلماء.(115/13)
شروط التمتع بالعمرة إلى الحج
قال المصنف رحمه الله: [وصفته أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه].
شروط التمتع: أن تكون هناك عمرة في أشهر الحج، فمن اعتمروا في أشهر الحج صح له أن يتمتع بهذه العمرة إلى الحج، بشرط البقاء بعد فعل هذه العمرة بمكة، وعدم الرجوع إلى الميقات أو ما يحاذيه أو إلى مسافة القصر، وأن يحج من ذلك العام، فهذه شروط لا بد من توفرها للحكم بصحة التمتع.
أما الشرط الأول -أن يأتوا بعمرة في أشهر الحج- ففيه تفصيل: أشهر الحج تبدأ من ليلة العيد، فمن أوقع العمرة في ليلة عيد الفطر فما بعدها من شوال أو ذي القعدة فحينئذٍ يصدق على هذه العمرة أنها عمرة تمتع إن بقي بعدها وحج، لكن إن وقعت عمرته قبل ليلة العيد، ثم بقي بمكة وحج من عامه؛ فليس بمتمتع بالإجماع؛ لأن عمرته ليست في أشهر الحج، وعمرة التمتع يشترط فيها أن تكون في أشهر الحج.
لكن لو أحرم قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان، وغابت عليه شمس آخر يوم من رمضان قبل أن يتم، فأوقع بعض أفعال العمرة في رمضان وبعض أفعالها في شوال، فهل نقول: العبرة بالابتداء، أم العبرة بالانتهاء، أم يفصل؟ خلاف بين السلف، قال بعض العلماء: العبرة بالنية، فإذا دخل في النسك ونواه قبل غروب الشمس ولو بلحظة؛ فإنه لا يعتبر متمتعاً، فهم يعتبرون أول لحظة من العمرة، وهي نية الدخول في النسك، فإن غابت عليه الشمس ثم نوى ولو بلحظة بعد مغيبها فإنه متمتع، وهذا مذهب الظاهرية.
القول الثاني: العبرة بدخوله إلى مكة، فإن وقع دخوله مكة قبل غروب الشمس؛ فعمرته ليست تمتعاً، فهو مفرد إن حج من عامه، وإن وقع دخوله لمكة وحدود الحرم بعد مغيب الشمس، وبقي بعد هذه العمرة وحج فهو متمتع، فالعبرة عندهم بدخول حدود الحرم، وهذا مذهب طائفة من السلف ومنهم عطاء.
القول الثالث: العبرة بابتداء الطواف، فننظر متى ابتدأ الطواف، فإذا ابتدأ طوافه قبل غروب الشمس ولو بلحظة، فهو مفرد إن حج من عامه، وإن ابتدأ طوافه بعد غروب الشمس ولو بلحظة؛ فهو متمتع إن حج من عامه، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
القول الرابع: العبرة بأكثر الطواف، وهذا مذهب الحنفية، فيقولون: إن طاف أربعة أشواط قبل غروب الشمس؛ فمفرد إن حج من عامه، وإن طاف الثلاثة الأشواط قبل غروب الشمس والأربعة بعد الغروب؛ فإنه متمتع إن حج من عامه.
فتجد أن مذاهب الأئمة اعتبرت بالطواف؛ لأن الطواف أول أركان العمرة.
وهناك قول خامس: وهو أن العبرة بالتحلل، وهو مذهب المالكية، قالوا: ننظر متى يقص شعره أو يحلق رأسه، فإن وقعت حلاقته أو قصه لشعر رأسه قبل غروب الشمس فإنه مفرد إن حج من عامه، وإن وقع القص والتحلل بعد غروب الشمس ولو بلحظة فإنه متمتع إن حج من عامه.
وأصح هذه الأقوال والعلم عند الله: أن العبرة بابتداء الطواف لما ذكرنا؛ وذلك لأنه يكون حينئذٍ قد دخل في ركن عمرته فإذا كان قد ابتدأ طوافه قبل غروب الشمس فإنه حينئذٍ يكون قد أوقع الركن -الذي هو ركن العمرة- قبل غروب الشمس، وحينئذٍ لا يصدق عليه أنه تمتع بعمرته إلى الحج.
الشرط الثاني من شروط التمتع: بقاؤه بمكة وهذا هو نص القرآن: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] فإنه يشترط في كونه متمتعاً أن يبقى بعد العمرة إلى أن يحج من نفس العام، فلو رجع بعد عمرته إلى بلده أو إلى ميقات بلده؛ فإنه لم يتمتع بسفره الأول -وهو عمرته الأولى- لحجه، وحينئذٍ كأنه أنشأ سفراً ثانياً، وعليه فيكون مفرداً ولا يكون متمتعاً على ظاهر القرآن.
وشذ طاووس فقال: هو متمتع وإن رجع إلى بلده.
والعلماء يقولون: شذ طاووس كما عبر به غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم في هذه المسألة، وإذا قال العلماء: شذ.
فليس المراد تحقير العالم، ولكن الخلاف عندهم في المسائل على مراتب، فتارة يكون المخالف مصادماً للنصوص أو مصادماً لجماهير العلماء، فيقولون عنه: شذ؛ تنبيهاً إلى أن العمل عند الأئمة والسلف والعلماء وأكثر الأمة على عدم قبول هذا القول؛ لمخالفته للنصوص القوية، فيعبرون عن ذلك بالشذوذ مثلما يقولون: شذ ابن عباس فقال بالمتعة.
وليس المراد منه تحقير ابن عباس رضي الله عنه، وإنما المراد أن قوله هذا خالف الأصول وخالف الجماهير، ولذلك فإن خلاف الشذوذ يكون في المسائل التي تخالف النصوص، كالقول بجواز ربا الفضل وبجواز المتعة، ونحوها من المسائل المفردة.
فعند طاووس من سافر إلى بلده بعد عمرته وحج من عامه فإنه يعتبر متمتعاً، وهذا قول شاذ كما ذكرنا لمخالفته لظاهر الآية الكريمة، وجماهير السلف والخلف على خلاف ذلك، وأن من رجع إلى بلده أو أنشأ السفر بعد عمرته فإنه لم يتمتع على ظاهر الصفة التي نص عليها كتاب الله عز وجل.
والشرط الثالث من شروط التمتع: أن يحج من عامه، ويحكى عن عبد الله بن الزبير: أنه لو أتى بالعمرة في هذه السنة، ثم أتى بالحج من العام القادم أنه متمتع، ولكن جماهير السلف رحمة الله عليهم على خلافه، والإجماع على أنه لا يكون متمتعاً إلا إذا حج من ذلك العام.(115/14)
حكم من تمتع بالعمرة إلى الحج وليس من حاضري المسجد الحرام
قال المصنف رحمه الله: [وعلى الأفقي دم] أي: وعلى الأفقي دم إن تمتع، وفهم من ذلك أن غير الأفقي لا يلزمه دم.
أما بالنسبة لإيجاب الدم على الأفقي فلقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فأمر الله سبحانه وتعالى من تمتع بالعمرة إلى الحج أن يريق الدم، وهذا الدم ستأتي مباحثه ومسائله في الفدية، ونبين إن شاء الله ما هو المعتبر في هذا الدم، وأين محله، وما هو الواجب، والسن الواجب في هذه الدماء، سواء كانت في قران أو تمتع.(115/15)
حكم المرأة الحائض إذا خشيت فوات الحج
قال رحمه الله: [وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج أحرمت به وصارت قارنة].
هذا إذا كانت المرأة متمتعة، والمرأة الحائض في الإحرام قبل الحج على صور: الصورة الأولى: أن يأتيها الحيض قبل نية النسك، فحينئذٍ إذا كان هناك وقت قبل الحج ويمكنها أن تتمتع بالعمرة؛ فالأفضل أن تصيب فضيلة التمتع، فتحرم بالعمرة، ثم تتحلل من العمرة، ثم بعد ذلك تتم مناسك الحج، مثال ذلك: لو أن امرأة أقبلت على الميقات في شهر ذي القعدة، وجاءها الحيض، وحيضها ثمانية أيام، فقد بقي من الوقت ما يسعها أن تطهر ثم تؤدي العمرة قبل أن تتلبس بالحج أي: قبل أيام الحج، فحينئذٍ تحرم بالعمرة، ويجوز لها وهي حائض أن تنوي العمرة، ولكن تمتنع من الطواف بالبيت، لقوله عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين عائشة حيث كانت معه في حجه وأصابها الحيض فقال: (ما لكِ أنفستِ؟ قالت: نعم.
قال: ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) فهذا يدل على أنه لا يجوز لها أن تطوف بالبيت، ولا يجزئها أن تطوف وهي حائض على ظاهر النص، فتمكث حتى تخرج من عادتها وتطهر، فتغتسل ثم تؤدي عمرتها وتتحلل منها، هذه الصورة الأولى.
الصورة الثانية: أن يطرأ الحيض بعد نيتها للنسك، فإذا طرأ الحيض بعد نيتها للنسك فلا يخلو من حالتين: إما أن يمكنها أن تؤدي العمرة قبل أيام الحج، وإما أن يضيق الوقت ولا يمكنها أن تؤدي عمرتها قبل أيام الحج، كأن تكون عادتها ثمانية أيام، وبقي على الحج ثلاثة أيام أو أربعة أيام، فإذا طرأ عليها الدم وكانت قد دخلت في النسك فلا تخلو نيتها.
إما أن تكون مفردة فحينئذٍ تمضي إلى عرفات، وتتم مناسك الحج، حتى إذا طهرت طافت طواف الإفاضة ولا إشكال.
وأما إذا كانت متمتعة -أي: كانت معتمرة- فإنه لا يمكنها أن تؤدي عمرتها قبل حجها؛ لأنه وقت ضيق، فتنقلب قارنة لمكان الضرورة، لقول عليه الصلاة والسلام: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)، فدل على أنها كانت متمتعة بمنعه إياها من الطواف بالبيت، وقد ثبت أنها كانت متمتعة، فحينئذٍ انقلبت إلى القران لقوله عليه الصلاة والسلام لها في آخر الحج: (طوافكِ بالبيت وسعيكِ بين الصفا والمروة كافيكِ لحجكِ وعمرتكِ) فدل هذا على أن الذي وقع منها إنما هو القران؛ لأنه لم يمكنها أن تتحلل، فلما منعها من الطواف دل على أنه يجوز لها أن تنقلب قارنة، وحينئذٍ تؤخر طوافها بالبيت إلى طهرها، وهذا هو قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
وهكذا الحال إذا كان طرأ العذر، فإذا أحرمت بالتمتع فطرأ الحيض فإنها تحرم وينقلب نسكها القران، على ظاهر هذه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(115/16)
التلبية
قال المصنف رحمه الله: [وإذا استوى على راحلته قال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
يصوت بها الرجل وتخفيها المرأة].(115/17)
تحقيق الخلاف في وقت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم في حجته
قوله رحمه الله: (وإذا استوى على راحلته).
السنة أن يلبي وهو في مصلاه، فقد أوجب عليه الصلاة والسلام وهو في مصلاه، وأوجب وهو على الراحلة، وأوجب وهو على البيداء، وهذا كله ثابت عنه، ولذلك فضل ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ذلك فيما ثبت وصح عنهما، وكان ابن عمر يقول: (بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أهل إلا من عند الشجرة)، وقد بين ابن عباس السبب في ذلك، وهو أن الناس كانوا كثيرين.
وقال أنس رضي الله عنه: (كنت أنظر أمامي فأرى الناس مد البصر، وأنظر عن يميني فأرى الناس مد البصر، وأنظر عن شمالي فأرى الناس مد البصر، كلهم يقولون: كيف يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما نزل إلى الميقات وصلى عليه الصلاة والسلام أدرك أناس تلبيته وهو في مصلاه)، وأدرك أناس تلبيته وهو عند الشجرة، وأدرك أناس تلبيته وهو قد استوى على راحلته، وأدرك أناس تلبيته وهو على البيداء؛ لأن الميقات -وهو الذي يسمى بأبيار علي- واد، ومنخفض الوادي في بطنه المسجد والمصلى، هذا المنخفض يكتنفه شقي الوادي الأيمن والأيسر، أيسر الوادي من جهة جبل عير الذي هو حد المدينة، وأيمن الوادي الذي هو صفحته اليمنى بعد أن تخرج من المسجد وتصعد هذه الربوة التي هي أعلى الشط الأيمن للوادي وهي تسمى بالبيداء، وهي ما ارتفع من الأرض من مائتي متر إلى ثلاثمائة متر، وبعد البيداء وأنت في طريقك إلى مكة متجهاً إلى جهة جنوب غرب تقريباً تأتي منطقة تسمى ذات الجيش، وهي التي انقطع فيها عقد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وكان لـ أسماء، في قصة التيمم، فالبيداء هذه كانت هي الربوة العالية التي بعد الوادي، بمعنى أنك إذا خرجت من الوادي وصعدت فأول ما يواجهك البيداء، فكان الناس يعتقدون أن التلبية تبدأ من البيداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رقى البيداء لبى؛ لأنه كان من سنته إذا علا النشز أن يلبي، فأدرك أناس تلبيته بالبيداء، فظنوا أن السنة هناك، وأدرك أناس تلبيته عند الشجرة فظن أن السنة هناك، وأدرك أناس تلبيته أول ما أوجب.
فالسنة أنه يلبي وهو في مصلاه، ثم إذا ركب على راحلته -وفي حكمها السيارة الآن- يلبي، وإذا علا البيداء أو صعد من شط الوادي لبى؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، سواء صعد على الخط القديم -الذي هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم في القديم- أو صعد على الخط الجديد -الذي يسمى بالهجرة-؛ لأن الجهتين اللتين تكتنفان الوادي بمثابة واحدة من حيث العلو والنشز، فالسنة فيهما واحدة، فكان ابن عمر يقول: (بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم) تكذبون: الكذب يطلق بمعنى الكذب المذموم، وبمعنى مخالفة الحقيقة، وليس المراد به ذم صاحبه، فقال: (تكذبون) يعني: أنكم تقولون بها أمراً غير الذي وقع منه عليه الصلاة والسلام، ولا يقصد أصل الكذب الذي ورد في الوعيد، فمراده: أن الأصل أن التلبية كانت في بطن الوادي، فالسنة أن تكون التلبية على هذه الصورة.(115/18)
معنى التلبية
أما قوله: (لبيك اللهم لبيك)، (لبى): اختلف العلماء في أصلها، قيل: (لبى) بمعنى أجاب، تقول: لبيت النداء، أي: أجبته، وهذا مبني على قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] حيث أوحى الله بذلك لإبراهيم فقال: (ربي وما يبلغ صوتي.
قال: أذن وعلينا البلاغ، وهو حديث رواه الحاكم في مستدركه، وصححه غير واحد، فأذن وقال: (أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا) فمن كتب الله عليه الحج والعمرة فإنه يلبي هذا النداء بقوله: لبيك.
أي: إجابة لداعي الله عز وجل، هذا على القول بأنها مشتقة من إجابة النداء.
وقيل: (لبى) بمعنى: لب الشيء وخالصه، والمراد بذلك: إن إخلاصي لك يا ألله.
فمعنى (لبيك): أي إخلاصي؛ لأنها كلمة التوحيد، ولذلك قال جابر: (أهل بالتوحيد).
فقالوا: إن المراد بها إخلاص العبادة لله عز وجل، وهو الأصل الذي من أجله أمر الله عز وجل بالحج إلى بيته، فتكون أول كلمة من الإنسان بالتلبية شعارها التوحيد والإخلاص لله سبحانه وتعالى بالعبادة، وإفرادها له جل شأنه، فقالوا: إنها مأخوذة من لب الشيء، وهو خالصه.
وقيل: مأخوذة من (ألب بالمكان)، إذا أقام به، أي: أنا مقيم على طاعتك طاعة بعد طاعة، أي: أنه ثابت على طاعة الله مستديم عليها.
وقيل: إنها من (ألب) بمعنى: واجه، وتجاه الشيء وجهته تقول: (داري تلب بدارك) أي: تواجهها، كأنه يقصد بقوله: (لبيك اللهم) أي: اتجاهي لك يا ألله في كل صغير وكبير، فلا يسأل إلا هو، ولا يستعان إلا به، ولا يستغاث إلا به، ولا يستجار إلا به، فكأنه يقول: (وجهت وجهي لك كلاً) كما قال تعالى: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79] فهذه أوجه ذكرها العلماء في معنى: (لبيك اللهم) أي: لبيك يا ألله.(115/19)
صفة التلبية
للتلبية صفتان: الصفة الواردة المشروعة، والصفة الزائدة من المكلف ثناءً على الله عز وجل.
أما بالنسبة للصفة المشروعة: فالتي ذكرها المصنف: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) هذه الصفة الواردة، وهناك حديثان في السنن، أولهما: (لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً) وهو حديث أنس، والثاني: (لبيك إله الحق) وهو حديث أبي هريرة، والصحيح الأول، وأما الصيغتان الأخريان ففيها كلام وفي سندهما مقال، وبعض العلماء يحسن إسناد: (لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً).
أما بالنسبة للصفة الزائدة عن الوارد، كأن يقول: لبيك يا رحمن، لبيك يا عظيم، لبيك يا كريم.
ونحو ذلك، فللعلماء قولان: قيل: لا يجوز أن يحدث غير الصفة الواردة، وقيل: يجوز، وهذا هو الصحيح؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الصحابة يقولون: لبيك ذا المعارج) فلم يأمرهم بالتزام اللفظ الوارد، ولذلك قال جمهور العلماء بجواز الزيادة وهو فعل السلف، ولذلك كان ابن عمر يقول: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) والأفضل: أن يقتصر على الوارد؛ لأنه إذا اقتصر على الوارد أجر بأجرين: الأول: أجر التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والثاني: أجر اللفظ الوارد.(115/20)
حكم التلبية
الصحيح وجوبها، وهو أصح قولي العلماء، ولذلك من نوى ولم يلبِ حتى فرغ من نسك العمرة أو الحج، يلزمه دم جبراناً لهذا الواجب وهي التلبية، قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية).
والدليل على وجوب التلبية: قوله عليه الصلاة والسلام: (أتاني الليلة آتٍ من ربي وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة) قالوا: إن هذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لبيك عمرة وحجة).
كما في حديث أنس في الصحيح، قالوا: فقوله: (أهل في هذا الوادي المبارك، وقل) الإهلال: هو النية، وقل: المراد به التلبية، فيكون أمراً وهو دال على الوجوب.(115/21)
حكم رفع الصوت بالتلبية
السنة رفع الصوت بالتلبية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية)، وهذا ثابت في الصحيح، فدل على أن السنة في التلبية أن يرفع بها الصوت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الحج: العج والثج) أما (العج): فهو رفع الصوت بالتلبية، وأما (الثج): فهو نحر الهدي ونحوها مما يتقرب به إلى الله عز وجل في الأنساك في الحج.(115/22)
وقت قطع التلبية للحاج والمعتمر
أما المعتمر، فقال طائفة من العلماء: يقطع التلبية عند الحرار التي تبدو قبل مكة، وهي الحرار التي قبل التنعيم، وهو المأثور عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال به جمع من فقهاء المدينة.
والقول الثاني: أنه يقطع التلبية عند دخوله لحدود الحرم؛ لأنه يلبي إلى الحرم، فإذا بلغ الحرم فإنه يقطع التلبية.
والقول الثالث: أنه يقطع التلبية عند ابتداء الطواف.
وهو أصح الأقوال في العمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (أنه لم يزل يلبي حتى استلم الحجر)، فدل على أن التلبية تنقطع عند استلام الحجر، يعني: عند ابتداء الطواف.
وأما الحاج فقال جمع من العلماء: يقطع التلبية إذا مضى إلى الوقوف بعرفة، وذلك بعد الزوال؛ لأنه يبتدئ الوقوف بعد الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل خارج عرفة وذلك بنمرة، وهو المنبسط الذي قبل الوادي الذي بين حدود الحرم وبين الوادي الذي هو وادي عرنة، هناك منبسط يقرب من خمسمائة متر يسمى بنمرة، نزل فيه عليه الصلاة والسلام، فابتدأ وقوفه ومضيه إلى عرفات بعد الزوال، وبعد أن زالت الشمس ركب صلوات الله وسلامه عليه وخطب الناس، قالوا: فيقطع التلبية بعد الزوال من يوم عرفة، وكان يفعله علي رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها، وأكدوا هذا بأن التلبية للحج، والحج عرفة، ويكون وقوف عرفة بعد الزوال فيقطع عند الزوال.
القول الثاني: أنه يقطع عند ابتداء رمي جمرة العقبة، وهو مذهب الجمهور.
والقول الثالث: أنه يقطع عند آخر حصاة يرمي بها جمرة العقبة، وهو رواية عن أحمد وقول إسحاق بن راهويه وجمع من أهل الحديث، وهو الصحيح؛ لحديث الفضل أنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يلبي حتى رمى آخر حصاة من جمرة العقبة).
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله.(115/23)
شرح زاد المستقنع - باب محظورات الإحرام [1]
الحج شعيرة عظيمة، يخرج فيها العبد عن أهله ووطنه، ويخرج كذلك عن إلفه ورفاهيته، ولذلك حظر على المحرم عدة أمور ما تحصل بها الرفاهية؛ ليكون أبلغ في التعبد لله، منها: الأخذ من الشعر والأظافر، وتغطية الرأس، ولبس المخيط للذكر، واستخدام الطيب.(116/1)
محظورات الإحرام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(116/2)
معنى محظورات الإحرام وعددها
فيقول المصنف رحمه الله: [باب: محظورات الإحرام]: المحظورات: جمع محظور، يقال: حُظر الشيء إذا مُنع، والمراد بهذا الباب أن يبين رحمه الله جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بما ينبغي على المحرم أن يجتنبه.
والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى حرم على المحرم إذا أحرم بالنسك من حج أو عمرة أو هما معاً أن يفعل أشياء في بدنه أو متعلقة بالغير، وهذه الأشياء جاءت بها نصوص الكتاب ونصوص السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على أكثرها، ولا يجوز للمسلم إذا أحرم بالنسك أن يتلبس بها، وتوصف بكونها محظورات؛ لأن الله حظرها على المحرم؛ تعظيماً لهذه الشعيرة، وإشغالاً لعبده بما هو أهم، ولذلك يكون له الأجر والمثوبة بالامتناع والانكفاف عن هذه الأمور التي حرمها الله عليه.
أما مناسبة هذا الباب لما قبله: فبعد أن بيّن رحمه الله الإحرام شرع في بيان ما ينبغي على المحرم أن يجتنبه، وهذا ترتيب صحيح؛ لأن أول ما يفعله الحاج والمعتمر أن يحرم، فإذا أحرم تقول له: لا تفعل أو افعل، فإذا قلت له: لا تفعل، فهذه هي المحظورات، فيكون الكلام عن المحظورات بعد وقوع الإحرام وبيان أحكامه.
قوله: [وهي تسع].
أي: المحظورات تسع، وهذا أسلوب إجمال قبل البيان والتفصيل، يهيئ السامع ويشوقه إلى معرفة هذه التفاصيل، بخلاف ما إذا بدأ بها سرداً.
وهذه المحظورات التسع منها ما يتعلق ببدن الإنسان، ومنها ما يتعلق بغيره، ومنها ما يعين على تفرغ القلب لذكر الله عز وجل، ومنها ما شرع الله عز وجل للمحرم أن ينكف عنه ابتلاء واختباراً.(116/3)
المحظور الأول: حلق الشعر
قال رحمه الله: [حلق الشعر]: وهو المحظور الأول، والمراد بذلك جزّه، وجزّ الشعر يكون بالموس ويكون بالسكين وما في حكمهما من الآلات.
أي: يحرم على المحرم أن يحلق شعره، والأصل في ذلك التحريم قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إني لبدت شعري وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر)، فلا يجوز لمن أحرم بالنسك أن يحلق شعره.
وعمم رحمه الله في الشعر، فشمل شعر أعالي البدن كشعر الرأس وشعر اللحيين والشارب، وكذلك شعر الصدر وشعر اليدين، وأسافل البدن، فيشمل ما يكون حول الفرجين، وعلى الساقين، فكل ذلك حظر على المحرم أن يزيله.
وتقع الإزالة بالحلق كما تقع بالنتف، وكذلك بالتقصير، فهذه ثلاثة أوجه للاعتداء على الشعر: إما بالحلق، وإما بالتقصير، وإما بالنتف، فالحلق والنتف كلاهما في حكم واحد، والتقصير دلت السنة على أنه في حكم الحلق، أي: من ناحية التأثير وإن كان دونه من ناحية الفضل، ولذلك يصح أن تتحلل من العمرة والحج بالتقصير كما تتحلل بالحلق، فأنت منهي عن قص الشعر كما أنك منهي عن حلق الشعر، وهما في مرتبة واحدة من حيث الحكم، وإن كان الحلق أفضل من التقصير.
وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم أن يحلق كما لا يجوز له أن يقصر؛ لأن الله عز وجل نص على هذا التحريم في كتابه، وكذلك نتف الشعر، كنتف شعر الإبطين ونحو ذلك، فهذا بالإجماع يعتبر محرماً، خلافاً لمن شذ في مسألة النتف، فإن النتف فيه إزالة أبلغ من إزالة الحلق، وعلى هذا فلا يجوز له أن يحلق، ولا أن يقصر، ولا أن ينتف، سواء كان التقصير لأغلب الشعر أو كان لأقله، فلو أخذ قدراً يسيراً من الشعر وقصه فإنه كأخذ الشعرة نفسها، فالتقصير في حكم الحلق سواء بسواء.
فحلق الشعر محظور من محظورات الإحرام، والعلماء رحمهم الله أجمعوا عليه، لكن بينهم خلاف في بعض التفاصيل، أما من حيث كونه محظوراً فهذا ليس فيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.
قال بعض العلماء: إن الله عز وجل ابتلى الحاج بأن يكون على شعث وعلى حالة وهيئة تخالف حال المترفّه، ولذلك يترك الشعر حتى يكون أبلغ في تقربه لله سبحانه وتعالى، وأبعد عن الترفّه الذي يشغله عن العبادة.(116/4)
المحظور الثاني: تقليم الأظافر
قال رحمه الله: [وتقليم الأظافر]: أي: المحظور الثاني: تقليم الأظافر، والمراد بذلك قصها، وقص الأظافر من خصال الفطرة، كما ثبت بذلك الحديث في الصحيحين، ولكن الله عز وجل حرم على المحرم أن يقلم أظفاره؛ لأنه من التفث، وقد نهي المحرم عن تقليم الأظفار لما فيه من الترفه، والدليل على ذلك قوله سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، قال بعض السلف: إن التفث المراد به إزالة الأظفار بقص وتقليم ونحو ذلك، وعلى هذا جماهير أهل العلم.
[فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم].
إذا كان المسلم مأموراً باجتناب حلق الشعر وتقليم الأظفار، فمتى يكون الإخلال كاملاً في قصه للشعر أو حلقه له أو نتفه له، وكذلك في تقليمه للأظفار؟ قال جمع من العلماء: إن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة:196]، قالوا: ولا يمكن أن يكون مخلاً إلا إذا أزال ثلاث شعرات فأكثر، وهي أقل ما يصدق عليه الجمع، فمن أزال شعرة واحدة فليس عليه فدية ولكن عليه أن يتصدق بحفنة من طعام، ومن أزال الشعرتين فإنه يتصدق بحفنتين من طعام حتى يبلغ قدر الإخلال بثلاث شعرات، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم كما درج عليه المصنف رحمه الله؛ والسبب في ذلك: صيغة الجمع في آية البقرة.(116/5)
المحظور الثالث: تغطية الرأس
قال رحمه الله: [ومن غطى رأسه بملاصق فدى].
أي: هذا هو المحظور الثالث: وهو تغطية الرأس حال الإحرام بالحج أو العمرة، فلا يجوز للمسلم أن يغطي رأسه بملاصق؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل كما في حديث ابن عمر في الصحيحين قال: (يا رسول الله! ما يلبس المحرم؟ قال: لا تلبسوا القمص ولا العمائم)، قالوا: فقال قال عليه الصلاة والسلام: (ولا العمائم) والعمائم جمع عمامة، سميت بذلك لأنها تعم الرأس بالتغطية، قالوا: فكأن مقصود الشرع أن لا يغطي المحرم رأسه، ومن هنا قالوا: من محظورات الإحرام أن يغطي المحرم رأسه بملاصق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه فقال: (ولا العمائم) وهي التي تلاصق، وكذلك نص عليه في قوله: (ولا البرانس) لأن البرنس يكون غطاء ملتصقاً بنفس الثوب، قالوا: فهذا النص الصحيح يدل دلالة واضحة على أن المحرم لا يجوز له أن يغطي رأسه، بل يضحى حتى يكون أبلغ في تذلله لله سبحانه وتعالى، ويكون رأسه مكشوفاً.
فلا يجوز للمحرم الذكر أن يغطي رأسه بالإجماع، وإذا غطى رأسه بغير الملاصق كأن يأتي تحت جدار، أو يأتي مثلاً تحت غطاء السيارة الذي من أعلى يستظل من الشمس، أو جاء تحت شجرة، فلا حرج في ذلك؛ لأنه ليس بملاصق، وهو وإن غطى الرأس من جهة كونه يحول بين الرأس وبين السماء لكنه ليس بملاصق مؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نص على تحريم الملاصق، ومن هنا تجد العلماء رحمهم الله يقولون: بملاصق، أي: أن يغطي رأسه بملاصق، فخرج غير الملاصق، ولو حمل على رأسه شيئاً فللعلماء وجهان: قال بعض أهل العلم: لا يجعل ذلك الشيء يلتصق برأسه، فلو حمل متاعاً قالوا: عليه أن يبينه عن الرأس، ولا يجعله ملتصقاً بالرأس.
ومن أهل العلم من فصل فقال: إن وضعه على الرأس بقصد حمله فإنه يجوز؛ لأن التغطية جاءت تبعاً، ويجوز في الشيء تبعاً ما لا يجوز قصداً كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكما لو أراد الطبيب أن يقطع من جلدة يده وعليها شعر، فإنه إذا زالت الجلدة والشعر عليها فليس عليه فدية؛ لأنه لم يحلق ولم ينتف ولم يقص، وجاءت إزالة الشعر تبعاً ولم تأت أصلاً وقصداً، ففرقوا بين ما كان أصلاً وبين ما كان تبعاً، فقالوا: يجوز له أن يضع المتاع على رأسه، ولا فدية عليه.
ولكن المذهب الذي ينظر إلى صورة الظاهر أبلغ وأقوى؛ وذلك لأنه يوافق معنى النص في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(116/6)
المحظور الرابع: لبس المخيط للذكر
قوله رحمه الله: [وإن لبس ذكر مخيطاً فدى].
هذا هو رابع المحظورات: والمخيط: هو الذي يحيط بالعضو، سواء كان لأعلى البدن كالقميص، أو كان لأسفل البدن كالسراويل وأمثالها، أو كان جامعاً بين أعلى البدن وأسفله كالثياب الموجودة اليوم، فهذا كله من محظورات الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس)، فدل على عدم جواز ستر أعلى البدن أو أسفله أو كله بالمخيط، وعلى هذا قالوا: إنه يعتبر محظوراً، وهذا محل إجماع بين أهل العلم رحمهم الله.
والمراد بالمخيط كما ذكرنا سابقاً أن يكون محيطاً بالعضو.
فلو ستر بغير المخيط، كأن أخذ الرداء فوضعه على كتفيه أو على عاتقيه فإن هذا هو شأن المحرم، وكذلك أيضاً لو التحف ببطانية أو نحوها على كتفيه فلا بأس، ولا نقول: إنه ستر بدنه بمخيط؛ لأن البطانية ليست مفصلة على الجسد، بخلاف ما إذا لبس عباءة أو بشتاً أو نحو ذلك، فإنه إذا وضعه يعتبر في حكم اللابس، وللعلماء وجهان في البشت: قال بعضهم: لو وضعه على كتفيه ولم يدخل يديه فيه لم يكن لابساً ولا تلزمه الفدية، وإنما تلزمه الفدية إذا حصلت الإحاطة، وذلك بإدخاله اليدين في الأكمام، أما لو وضعه على عاتقيه لشدة برد فلا يلزمه شيء؛ لأنه ليس بلابس حقيقة، وإنما هو مستتر به من شدة البرد فأشبه البطانية أو اللحاف، وهذا قوي وله وجهه، ولكن الورع والأفضل أن لا يفعل الإنسان ذلك، وإن كان لا يصدق عليه من جهة النظر أنه لابس حقيقة إلا بالإدخال، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا) ففرق بين الأمرين، ولذلك لو أخذ العباءة ووضعها دون تفصيلها على كتفيه فإنه لا تلزمه الفدية.
فالمخيط ضابطه: أن يكون مفصلاً للعضو، فلا يصدق عليه أنه لابس إلا إذا أدخل يده في الأكمام، لأن الرداء لا يوجب الفدية بالإجماع، ولا يعتبر محظوراً من محظورات الإحرام لعدم اشتماله على الإحاطة بالعضو.(116/7)
المحظور الخامس: استخدام الطيب في الثوب أو البدن
قوله: [وإن طيب بدنه أو ثوبه].
هذا هو المحظور الخامس وهو: الطيب.
والطيب حرمه الله على المحرم بالحج أو العمرة أو بهما معاً، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فهذا الطيب في الثياب.
وكذلك أيضاً حرم الطيب في البدن فقال في المحرم الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه) وفي رواية: (ولا تمسوه بطيب)، فهذا طيب البدن.
قال العلماء: لا يجوز للمحرم أن يضع الطيب في بدنه بعد إحرامه، لكن لو كان الطيب في بدنه قبل أن يحرم فلا بأس به، ولا يلزمه ما يلزم من تطيب بعد الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُرى أثر الطيب في رأسه وهو محرم، قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (لقد كنت أرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم)، فدل على أنه إذا كان الطيب قد وضعه الإنسان قبل أن يغتسل لإحرامه، أو بعد أن يغتسل للإحرام وقبل أن يلبي ويدخل في النسك فلا حرج عليه، ولا تلزمه الفدية، ويبقى الطيب.
وهناك فرق بين استدامة الشيء وبين ابتداء وضعه، حيث تلزم الفدية في ابتداء الوضع ولا تلزم في الاستدامة، فلا يجوز له أن يتطيب في بدنه بعد أن يدخل في النسك ولا أن يتطيب في ثوبه، ولذلك ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر من الجعرانة بعد مرجعه من غزوه حنين، قال صفوان رضي الله عنه: (فجاءه أعرابي عليه جبة عليها الصفرة من أثر الطيب فقال: ما ترى يا رسول الله! في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يغط كغطيط البكر، ثم سري عنه، فقال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: انزع عنك جبتك -هذا لبس المخيط- واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)، فقال: (اغسل عنك أثر الطيب)، فدل على أنه لا يجوز للمحرم أن يضع الطيب في ثوبه ولا بدنه، وهذا محل إجماع بين أهل العلم رحمهم الله.
[وإن طيب بدنه أو ثوبه].
يستوي أن يكون الطيب في البدن أو يكون في الثوب، ولكن لو أن إنساناً قبل الإحرام طيب بدنه وكان الطيب في إبطيه ثم اضطبع للطواف بالبيت، فصار طرف الرداء تحت إبطه، فربما أصابه الطيب، فإذا أصابه الطيب فحينئذٍ هذا الرداء إذا بقي عليه فإنه يستدام ويغتفر، لكن لو أنه نزعه لوضوء أو غسل ثم أراد أن يلبسه ثانية فلا بد أن يغسل عنه أثر الطيب في ثوبه.
ففرق بين أن يكون مستديماً متصلاً بالبدن وبين كونه يرد على البدن بعد الإزالة؛ لأن الحكم يستأنف بعد إزالة الرداء، فيكون كأنه لبس الرداء مطيباً، وعلى هذا فلا يجوز له أن يلبسه بعد أن يخلعه، لكن أن يكون معه وعلى بدنه وفيه أثر الطيب، فهذا لا حرج فيه.
أما لو أنه طيب لباس الإحرام قبل أن يلبسه فإنه لا يجوز له أن يلبسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) قالوا: فنص على الزعفران والورس؛ لأنه كان موجوداً في زمانه، وهو دليل على أنه لا يجوز أن يضع المحرم الطيب في إحرامه قبل أن يحرم، لكن أن يعلق الطيب من بدنه في الإحرام فهذا من مغتفر، لأنه اتصل بالمغتفر، وما اتصل بالمغفرة كان آخذاً حكمه، فإن الثوب إذا اتصل بالبدن وما في البدن مغتفر كان آخذاً حكم البدن، وعلى هذا فيفرق بين أن يطيب ثوب الإحرام قبل أن يلبسه أو يطيبه بعد لبسه، وبين كون الطيب موجوداً في بدنه قد علقت رائحته بالإحرام، فهذا كله لا يؤثر.
والطيب يكون في البدن، ويكون في الثوب، ويكون بالشم، ويكون بالادهان، وهناك حالة خامسة وهي: أن يأكل الطيب أو يشربه، فالأشربة التي فيها طيب كماء الورد وماء الكاذي ونحوها، أو المشروبات الساخنة التي يكون فيها الزعفران، أو الأكل الذي فيه الزعفران أو فيه الريحان، فهل هذا آخذ حكم التطيب في البدن؟ هذا كله مما يبحث في مسائل الطيب، فبين رحمه الله طيب البدن والثوب، ثم شرع بعد ذلك في حكم الصورة الثالثة من التطيب وهي الادهان به.(116/8)
حكم استخدام الدهان للمحرم
قال رحمه الله: [أو ادهن بمطيب].
كأن يوجد معجون -كالموجود في زماننا- فيه طيب فادهن به، وفي حكم الادهان أن يغتسل بالطيب، كالصابون الذي يكون مطيباً، فإن الادهان والاغتسال كله إصابة لظاهر البدن، فالجميع لا يجوز، فلو كان هناك دهان شعر أو دهان بدن يحتاجه حتى ولو كان لمرض، وهذا الدهان الذي للمرض فيه رائحة طيب فلا يجوز، ويستوي في الادهان أن يكون الطيب قصداً، كأن تأخذ الورد وتدهن به، أو يكون مركباً مع شيء آخر، فإنه ككونه منفرداً، ويستوي الحكم في ذلك ما دام أن الرائحة موجودة والطيب موجود، وهو آخذ حكم التطيب كما ذكرنا.
ويستوي أن يكون الطيب منفرداً كأن يأخذ الورد أو العود ويدهن به، أو يكون مخلوطاً بغيره كالصابون المطيب برائحة ذكية يقصد منها أن يكون له أثر، فهذا لا يجوز أن يغتسل به، ولو وجد في الدواء -كالأدهنة التي يتعالج بها- ما فيه رائحة طيبة فإنه يرجع للأطباء ويسألون، فيقال لهم: هذه الرائحة الطيبة هل هي نكهة مضافة للدواء؟ لأن الأعشاب أو المستخلصات الطبية تكون رائحتها نتنة، فيحتاج لإزالة هذه الرائحة بوضع طيب، فحينئذٍ تجب الفدية، فيجوز له لمكان المرض أن يستخدم هذا الدهان، وتكون الفدية لازمة له، فوجود الأذى ووجود الضرر لا يمنع من الفدية، ولذلك قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، وكما لو حلق رأسه لضرر القمل كما في حديث كعب رضي الله عنه، وبسببه نزلت آية الفدية.
الشاهد: أنه إذا كان الدهان دهان علاج وطب وسألنا الأطباء فقالوا: هذا الطيب موضوع في الدهان لتطييب رائحته، لزمت الفدية بلا إشكال؛ لأن الطيب موجود وأثره موجود، لكن لو كانت هذه الرائحة الذكية في نفس الدواء والدهن، فجاءت من خلط الأعشاب ببعضها وليست الأعشاب بذاتها، ولكن طبيعة خلطها أخرج هذه الرائحة، فليس هذا من جنس الطيب، ولا يأخذ حكم الطيب؛ لأنها لم تأت قصداً وليست بطيب حقيقة وإنما حصلت اتفاقاً، وعلى هذا فإنه لا يلزم في هذا النوع من الدهن الفدية، ويجوز له أن يضعه لعلاج أو نحو ذلك ولا فدية عليه.
كذلك أيضاً: إذا كان الصابون الذي يغتسل به فيه طيب ورائحة فإنه حينئذٍ يتقيه ولا يغتسل به؛ لأن الله عز وجل حرم على المحرم أن يصيب الطيب، واستوى في ذلك أن يكون على سبيل الاغتسال أو يكون على سبيل الوضع مباشرة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تمسوه بطيب) وأجمع العلماء رحمهم الله على عدم جواز أن يصيب المحرم الطيب ويدهن به.
وفي حكم الادهان وضع اليد على موضع فيه طيب، كما لو وضع على الحجر الطيب، أو وضع على الركن اليماني الطيب ورأيته فإنك لا تلمسه؛ لأن اللمس سنة وإصابة لفضيلة، واجتناب الطيب وعدم مس البدن له واجب على المكلف أن يفعله بتعاطي الأسباب، فقدم ما يلزم المكلف على ما هو فضيلة ومستحب، وعلى هذا قالوا: لو رأى على الحجر أثر الطيب فإنه لا يلمسه ولا يقبله، وإنما يترك غيره من الحل يلمسه، فإذا لمسه وبقي أثر الطيب الذي هو الرائحة فذلك لا يضر، وإنما الذي يضر جلب الطيب ومادته.(116/9)
حكم شم الطيب واستخدام الدهان المطيب للمحرم
قال رحمه الله: [أو شم طيباً]: شم الطيب لا يجوز للمحرم؛ لأن الشرع لما نص على النهي عن مس الطيب، فهمنا من ذلك أن مقصود الشرع أن المحرم لا يترفه بالطيب، وهذا من باب التنبيه بالشيء على ما هو آخذ حكمه، فإن شم الطيب يترفه به الإنسان كما يترفه بوضعه، ألا ترى أن الشخص لو وضع الطيب في بدنه إنما قصد من ذلك أن يشمه ويشمه الغير، فاستوى في ذلك أن يكون موضوعاً أو يقصده بالشم.
أما لو وقع شمه للطيب بدون قصد، كما لو طيب المطاف ووجدت فيه رائحة الند والعود فشممت هذه الرائحة من غير قصد، فإن هذا لا يؤثر، وكما لو مر بجوارك متضمخ بعود أو ورد أو طيب فشممته وأنت محرم فإن هذا لا يضر؛ لأنه حصل اتفاقاً ولم يحصل قصداً، ويجوز الشيء اتفاقاً ولا يجوز قصداً، وعلى هذا فإنه يعتبر شمه للطيب من محظورات الإحرام ولا يجوز له، سواء كان الشم بوضعه على البدن أو بوضعه على شيء والدنو منه، أو الدنو من الزرع والرياحين ونحو ذلك، كل ذلك مما حظر على المحرم أن يفعله.
قال: [أو تبخر بعود أو نحوه فدى].
قوله: (أو تبخر بعود)، أي: استجمر بالعود، (أو نحوه) أي: من الأعشاب التي لها رائحة طيبة، فإنه حينئذٍ يلزمه أن يفتدي، وقوله: (فدى) عائد للجميع، يعني: جميع هذه الإخلالات بالطيب في البدن والطيب في الثوب، وهكذا شم الطيب والادهان به توجب الفدية.
فلو ادهن بشيء لا طيب فيه كزيت الزيتون أو ادهن بدهان شعر، فهل يجوز له ذلك؟ جمهور العلماء: على أن الادهان لا يجوز للمحرم.
وقال فقهاء الحنابلة رحمهم الله: يجوز للمحرم أن يدهن إذا لم يكن في الدهان طيب.
واستدل الذين قالوا بالمنع بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (من الحاج؟ قال: الحاج التفث) قالوا: إن نصه عليه الصلاة والسلام على التفث، والمراد بذلك أن لا يدهن؛ لأن الإنسان إذا بقي على حالته كان أبلغ في تذلله لله سبحانه وتعالى في عبادته، وكأن مقصود الشرع أن يخرج الإنسان عن إلفه من الترفه، خاصة إذا كان غنياً أو ذا ثراء ونعمة، فيحس بنعمة الله عز وجل عليه، ويحس بفضل الله سبحانه وتعالى عليه.
فإذا أصبح يدهن ويتجمل كغيره فقد فات مقصود الشرع، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل مكة: (مالي أراكم تأتون مدهنين ويأتي الناس شعثاً غبراً، أهلوا لهلال ذي الحجة).
والمراد بهذه الكلمة: أن عمر رضي الله عنه نظر إلى الناس يوم التروية فرأى أن الآفاقيين يذهبون إلى منى وعرفات وهم شعث غبر، ولكن أهل مكة لحدثهم بالإحرام يأتون مدهنين فقال: أهلوا لذي الحجة.
قالوا: فدل على أن الصحابة فهموا أن مقصود الشرع أن يبقى الحاج على تفث وتفل في صورته حتى يكون أبلغ في تذلله لله سبحانه وتعالى.
والذي يظهر من جهة النص: أنه يجوز له أن يدهن، وليس هناك نص يمنع؛ لأن الحديث متكلم في إسناده، وضعفه غير واحد من الأئمة رحمهم الله وقالوا: إن هذا الحديث لا يثبت مرفوعاً، والأشبه أن يكون موقوفاً على عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه، وعلى هذا فإنه يجوز أن يدهن، ولكن الأفضل والأكمل أن يترك ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدهن.(116/10)
المحظور السادس: قتل الصيد للمحرم
قال رحمه الله: [وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً].
أي: هذا هو المحظور السادس وهو قتل الصيد، وهذا المحظور أجمع العلماء رحمهم الله عليه؛ لأن الله نص عليه في كتابه، وكذلك بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]، وقال سبحانه وتعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] فنص سبحانه على أن المحرم لا يصيد.
والصيد ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون صيد بر، وإما أن يكون صيد بحر، وأصل الصيد الحيوان المتوحش، ولذلك كان الحيوان في الأصل ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مستأنساً، وإما أن يكون متوحشاً، فالحيوان المستأنس كالإبل والبقر والغنم، ومن الطيور كالدجاج والحمام إذا كان في منزل الإنسان، فهذه توصف بكونها مستأنسة؛ لأنها تأنس بالإنسان، وتألفه ويألفها، ولا تفر منه إذا جاءها، فهذا النوع من الحيوان يأمرك الشرع إذا جئت لتأكله أن تذكيه الذكاة الشرعية، إما بالذبح وإما بالنحر، أما الذبح فكالشاة والغنم، وأما النحر فكالإبل تطعنها في وهدتها وتنحرها، وما يكون جامعاً للأمرين فكالبقر يصلح فيه الذبح ويصلح فيه النحر، على خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم، فهذا يسمى بالمستأنس، وذكاته ذكاة المستأنس.
هناك نوع ثانٍ: وهو المتوحش، ولا يمكن لك أن تصيبه إلا باحتيال أو مغافصة ومغالبة وقهر، كأن تغلبه حتى تمسك به، أو تجري وراءه فتمسكه، أو تطلق عليه السلاح فتعقره أو تقتله، فهذا يسمى بالصيد، وهو الحيوان الذي لا يأنس للإنسان ويفر عنه.
ويشمل الصيد الظباء والوعول والغزلان وبقر الوحش وحمار الوحش وتيس الجبل ونحوها مما خلق الله من الدواب التي يصيدها الإنسان ويحل له أكلها، وهذه من قسم المتوحش، وهو الصيد الذي أحله الله.
وكما ذكرنا في المستأنس أن فيه من الطير كالحمام والدجاج ونحوها من الطيور، ويكون أيضاً من الدواب كالإبل والبقر والغنم، فكذلك المتوحش في الصيد يكون من الدواب على وجه الأرض، كالظباء والوعول والغزلان والريم ونحوها، ويكون من الطيور فيشمل الحباري ويشمل الطيور التي ليست بيد الإنسان فهذه كلها توصف بكونها متوحشة وصيداً، لكن بشرط أن لا تكون من الطيور من الجوارح ذوات المخلب، فلا يجوز أكل الصقر ولا الباز ولا الشاهين ولا الباشق ولا النسر ولا العقاب ونحوها، فانقسمت الحيوانات إلى هذين القسمين: الصيد ويكون للمتوحش، وغير الصيد الذي يكون من المستأنسات.
وهناك نوع ثالث ليس من هذا ولا هذا، وهو الذي حرم الله من السباع العادية ذات الناب، كالأسد والنمر ونحوه، وذي المخلب من الطير كما ذكرنا في البواشق والنسور والصقور، فهذه كلها لا يجوز أكلها كما سيأتينا إن شاء الله في باب الذبائح.
فانقسمت الحيوانات إلى هذين القسمين، والله عز وجل حرم على المكلف إذا كان مُحْرِماً أن يصيد المتوحش منها، فلا يجوز له أن يصيده سواء كان برياً أو كان من الطيور؛ لأنه لا يجوز له إذا كان محرماً أن يصيده ولا أن يصاد له، ومحل التحريم إذا كان برياً، والعلماء يصفون ما كان برياً مما ذكرنا من الريم والغزلان والظباء والوعول، ويصفون الطيور أيضاً بأنها برية وأنها صيد بر؛ لأنها تأوي في الليل إلى أكنانها، ولا تستطيع أن تنفك عن الإيواء إلى أكنانها، فتأخذ حكم صيد البر.
هناك نوع ثانٍ: وهو صيد البحر، والمراد بذلك السمك والحوت، وهناك خلاف في غير السمك والحوت هل يدخل في صيد البحر، فيحل لنا جميع ما في البحر إلا ما كان ساماً أو عرف أنه يضر بالإنسان، أم أن الحكم خاص فقط بالسمك والحوت؟ أصح المذاهب في هذه المسألة مذهب الجمهور: أن الله أحل لنا ما في البحر، فيشمل جميع ما في البحر، إلا إذا كان ضاراً أو مستخبثاً، فهذا النوع من الصيد وهو صيد البحر حلال بإجماع العلماء لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:96] ثم قال بعد ذلك: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [المائدة:96] عطفاً على صيد البحر، فدل على أن صيد البحر في الأصل حلال، سواء كنت محرماً أو غير محرم، فالمحرم يجوز له أن يصيد صيد البحر، ولكن لا يجوز له أن يصيد صيد البر.
إذا عرفنا هذه المقدمة، وأن الحيوان منه ما هو بري ومنه ما هو بحري، فيبقى السؤال عما جمع بين البر والبحر، وهو الذي يسمى بالبرمائي، هل يحرم على المحرم أن يصيده، أو لا يحرم؟ والبرمائي ينقسم إلى قسمين: منه ما لا يمكن له العيش والتكاثر والتوالد غالباً إلا في الماء كالضفادع ونحوها، فهذا يأخذ حكم ما في الماء، ويكون صيده صيد بحر، ومنها ما يكون تكاثره وغالب وجدانه في البر كالسلحفاة ونحوها فتأخذ حكم ما في البر، ويكون الحكم في حلها وحرمتها راجعاً إلى هذا التفصيل.
إذا تبين هذا فصيد البحر جائز بالإجماع؛ لنص الآية، أما صيد البر فلا يجوز لك إذا أحرمت أن تصيده، ولا أن تعين على صيده كأن تقول لرجل: انظر إلى هذه الحمامة أو هذا الطائر، أو أدرك الحمامة، أو صد الحمامة، ولا يجوز أن تشير إلى مكان الصيد، كأرنب ونحو ذلك، فتقول له: هو في هذا الموضع، بل يجب عليك أن تسكت حتى ولو رأيته أمامك.
ولا يجوز أن يصاد من أجلك؛ فلو صاد إنسان صيد بر وقصدك به وأنت محرم فلا يحل لك، ولا يحل أيضاً هذا الصيد الذي صيد للمحرم، وتكون تذكيته لاغية فيعتبر كالميتة، لا يجوز أكله ولا بيعه، فإذا صاد المحرم أو أعان على الصيد أو صيد من أجله فإن هذا الصيد يعتبر في حكم الميتة، لا يجوز أكله لا للمحرم ولا للحلال، فلو قلنا: إن المحرم لا يجوز له، كذلك أيضاً غيره؛ لأنه في هذه الحالة ينتقل إلى حكم الميتة على تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله سيأتينا بيانه إن شاء الله في باب الأطعمة.
كذلك أيضاً: لا يصاد للمحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (أهدى له الصعب بن جثامة رضي الله عنه وأرضاه حمار وحش فرده عليه -لم يقبل الهدية، وقد كان بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه لا يرد الهدية- فلما ردها على الصعب تغيّر وجه الصعب رضي الله عنه وأرضاه، فقال عليه الصلاة والسلام يطيب خاطره: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) أي: لكوننا حرماً وأنت صدته من أجلنا فإن هذا اقتضى عدم حله لنا، فإذا قيل: ما الدليل على التفصيل بين كونه يصاد له، أو لا يصاد له؟
الجواب
أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية الصيد مرة وهو محرم، ولم يقبله مرة وهو محرم، فقبله في قضية أبي قتادة وهي ثابتة في الصحيحين، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد عمرة الحديبية خرج من المدينة، فبلغه أنه ربما جاءت بعض الأرسال والبعوث من المشركين تريد أن تؤذيه وهو محرم بالعمرة، فأرسل سرية لـ أبي قتادة وقال: (خذوا ساحل البحر)، فأرسلها من الجهة الغربية للمدينة على جهة الساحل، فأحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم، وهذا يدل على أن من جاء من المدينة وقصد جهة رابغ أو جهة ينبع، أنه لا يلزمه الإحرام من ذي الحليفة؛ لأن أبا قتادة أخر إحرامه.
فأخذوا ساحل البحر، وقال: كونوا على ساحل البحر حتى نلتقي، وإذا حدث من العدو شيء يكون النبي صلى الله عليه وسلم على علم به، فلما أخذوا ساحل البحر كانوا كلهم محرمين إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم، فسنح لهم حمار الوحش فجلس أصحابه ينظر بعضهم إلى بعض، ولم يخبره أحد بأن هناك صيداً، فالتفت أبو قتادة فإذا هو بحمار الوحش، فركب فرسه فسقط سهمه، فسألهم أن يناولوه فلم يعنه أحد ولم يناوله، فنزل عن فرسه وأخذه ثم عقر منها وصاد رضي الله عنه وأرضاه، فلما صاد هذا الصيد أكلوا، فلما أكلوا قالوا: أنأكل ونحن محرمون؟ فاشتبهوا، فتوقفوا عن الأكل حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (هل أحد منكم أشار إليه؟ قالوا: لا، قال: هل أحد منكم أعانه؟ قالوا: لا، قال: هل بقي عندكم منه شيء؟ فأعطي عليه الصلاة والسلام من فضلته وقال: كلوا)، وأذن لهم أن يأكلوا.
فدل على أنه لا يعان الحلال من المحرم على الصيد، لا بإشارة، ولا بسلاح ونحوه، وأن المحرم يبقى ساكتاً مهما رأى، ولا يشير إليه بإشارة فعلية ولا ينبهه بالقول، فإذا نبهه بالقول حرم عليه الصيد، وإذا صاد المحرم فيحرم عليه أن يأكل الصيد أو ينتفع بما في الصيد، فلا يجوز له أن يأكل بيض الصيد؛ لأن هذا الصيد حرام عليه، والفرع تابع لأصله، ولا يجوز له أن ينتفع بفرعه إذا كان قد صاده هو، وإنما يرسل هذا الصيد حتى يأخذه على وجه شرعي معتبر، وحينئذٍ يحل الانتفاع به.
قوله: (برياً أصلاً) أي: يكون الصيد برياً أصلاً، فخرج البرمائي، فإن البرمائي ليس ببري أصلاً، ولو كان أكثر عيشه في البر فإنه لا يوصف بكونه برياً أصلاً.
وعلى هذا: خرج صيد البحر؛ لأنه ليس ببري أصلاً، وخرج ما جمع بين وصف البري والبحري معاً.(116/11)
حكم قتل الحيوان المتولد من مأذون وغير مأذون
قال رحمه الله: [ولو تولد منه ومن غيره]: هذه مسألة ما إذا تولد الحيوان من مأذون وغير مأذون، فهل نغلب جانب التحريم فنمنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غلب جانب التحريم وقال: (إذا نهيتكم فانتهوا)، وقال عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، والأصل أن هذا الحيوان يعتبر حراماً من جهة تذكيته وإعمال الذكاة به، حتى تتحقق أنه من جنس ما أحل الله أكله، هذا قول.
القول الثاني: إذا تولد من الحرام والحلال حل أكله؛ لأن الأصل أن الله سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، فلما لم نتحقق من الخروج عن هذا الأصل فيحل لنا أكله.
القول الثالث: ننظر إلى أم الحيوان، إن كانت أمه من الحلال فحلال، وإن كانت أمه من الحرام فحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، فالشاهد أنه لا بد وأن يكون برياً أصلاً؛ لأن هذا أصل عند الحنابلة سنتكلم عليه إن شاء الله في باب الأطعمة.
قال: [أو تلف في يده فعليه جزاؤه].
سنتكلم إن شاء الله على جزاء الصيد، إذا قتله المحرم، وما هي الفدية وجزاء الصيد الذي أوجب الله على من قتل الصيد سواء كان متعمداً، أو كان مخطئاً، أو كان ناسياً؟ وهل هذه الفدية تخييرية، أو ترتيبية؟ كل هذا سنتكلم عليه في باب الجزاء إن شاء الله.(116/12)
حكم قتل الحيوان المستأنس إذا بقي على حاله وإذا شرد
قوله رحمه الله: [ولا يحرم حيوان إنسي].
أي: كبقر وغنم، وقد تقدم إن الحيوان ينقسم إلى قسمين: إما متوحش فصيد، وإما مستأنس فحلال، لكن المستأنس من الإبل والبقر والغنم قد يخرج عن كونه مستأنساً إلى كونه متوحشاً، كما لو ندَّ البعير وكما لو شردت الشاة؛ فهو وإن كان مستأنساً في الأصل لكنه قد صار متوحشاً في الصورة، فهل هذا المستأنس إذا خرج إلى صورة المتوحش يعامل معاملة الصيد، أو لا؟ للعلماء قولان: القول الأول للجمهور: أن الحيوانات المستأنسة كالإبل والبقر والغنم والدجاج والحمام، لو فرّت وندت عن الإنسان عاملها معاملة الصيد، وإذا ضربها في أي مكان وقتلها فهي حلال، هذا مذهب جمهور العلماء، واستدلوا بحديث رافع رضي الله عنه وهو ثابت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فندّ بعير -أي: شرد- فرمى رجل بسهم فعقره، فقال صلى الله عليه وسلم: إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ندّ منها فاصنعوا به هكذا)، فجعل المستأنس معاملاً معاملة الصيد والمتوحش بالنفور، قالوا: فإذا نفرت الشاة أو الدجاجة أو الأرنب أو البعير جاز لك أن تعامله معاملة الصيد، وعلى هذا: فلو إن إنساناً كانت عنده شاة ثم فرت فحينئذٍ لا يجوز له أن يعقرها؛ لأنه إذا عقرها كان صائداً لها.
وقال فقهاء المالكية: المستأنس إذا توحش يبقى مستأنساً ويعامل معاملة المستأنس، وعلى هذا القول يجوز أن يعقر هذه الشاة وأن يحبسها.
والقول الأول: أن المستأنس إذا ندّ وتوحش كان له حكم الصيد هو الصحيح؛ لأن المتوحش إذا أمسك به وقدر عليه الممسك صار في حكم المستأنس، ألا ترى أنك لو أمسكت بحمار وحش أو بقر وحش لم يجز أن تعقره وإنما تذكيه الذكاة الشرعية، فدل على أنه ينتقل من صفة المتوحش إلى صفة المستأنس باختلاف الصورة، وعلى هذا فإن الحيوان إذا ندّ وفر وهو مستأنس عومل معاملة المتوحش، فلا يحل للمحرم أن يعقره ولا أن يصيده.(116/13)
حكم صيد البحر ومحرم الأكل
قال رحمه الله: [ولا صيد البحر].
أي: ويحل له صيد البحر، فإنه ليس بحرام بنص الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة:96] فدل على أن التحريم يختص بالبر دون البحر، وهذا بالإجماع.
قال: [ولا قتل محرم الأكل]: ولا يحرم على المحرم أن يقتل محرم الأكل، كالسباع العادية، فلو قتل أسداً أو نمراً فإنه لا يضر؛ لأن هذا ليس بصيد ولم يسمه الشرع صيداً؛ لأن الأسد والنمر ليس من جنس الحيوانات التي أباح الشرع أكلها، فلو أن إنساناً سألك وقال: كنت محرماً فلقيت أسداً وقتلته، هل يلزمني شيء؟ تقول: هذا ليس بصيد، ولا يلزمك جزاء الصيد، سواء عدا عليه الأسد أو لم يعدُ، وكذلك بالنسبة كذلك للفواسق، لو قتل حيةً أو عقرباً أو غراباً أو فأرة فهذا كله ليست فيه فدية، وليس فيه جزاء الصيد، وليس عليه شيء لقتله.(116/14)
حكم قتل الصائل للمحرم
قوله: [ولا الصائل].
لو قتل صائلاً صال عليه، وهو الذي يهجم على الإنسان يريد أن يؤذيه في نفسه.
وهذا الصائل له حكم خاص في الشرع، قال: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار)، فالصائل الذي يصول على النفس أو يصول على العرض أو يصول على المال، فيأتي مشهراً سلاحه، سواء في بر أو غيره، هذا الصائل في الأصل فيه تفصيل: فإن أمكنك أن تفر عنه وتبتعد عنه، فلا يجوز لك قتله؛ لأن نفس المسلم محرمة، والأصل أنه محرم الدم، فلا يجوز لك أن تستبيحه إلا عند الحاجة، فإذا كان يمكن تلافي ضرره بالفرار فيجوز لك أن تفر، بل يجب عليك أن تفر، ولا يجوز لك قتله، فإن قتلته مع القدرة على الفرار كان الحكم كحكم قتل العمد في قول طائفة من العلماء؛ لأنه لا يرخص لك بقتله، وقال بعض العلماء: يسقط القصاص ويكون حكمه حكم شبه العمد وتغلظ الدية، على تفصيل يأتي -إن شاء الله- في باب القصاص.
الحالة الثانية: أن يأتي وهو يريد العرض، فيمكنك الفرار أو يمكنك دفعه، يأتي -مثلاً- شاهراً سلاحه، فيمكنك أن تضربه في يده فتسقط السلاح من يده، أو تعقره بضربة لا يستطيع أن يقتلك بها، فحينئذٍ لا يجوز لك أن تعدل إلى قتله مع القدرة على عقره.
فالحالة الأولى: أن يمكنك الفرار عنه، أو تضع شيئاً بينك وبينه لتأمن ضرره، فحينئذٍ لا يجوز لك قتله، أو تستطيع أن تصارعه أو تدافعه فتأمن ضرره، فتصارعه وتدافعه ولا تقتله؛ لكن إذا تعين ولم تستطع أن تدفع ضرره إلا بالقتل فحينئذٍ يحلّ لك قتله ودمه هدر؛ وذلك لأنه اعتدى، وباعتدائه على المسلم سقطت حرمة نفسه فإذا لم يمكنك دفع ضرره إلا بالقتل فإنه يقتل ويكون مهدر الدم، هذا إذا اعتدى على النفس.
وكذلك إذا اعتدى على العرض، كأن يكون اعترض الإنسان في طريقه، فإن أمكنه أن يدفع ضرره فبها ونعمت، ولا يجوز له أن يقتله في هذه الحالة، لكن إذا كان معه من السلاح أو الضرر ما لا تستطيع معه دفعه ولا تستطيع معه الفرار، وغلب على ظنك أنه سيصل إلى الحرام، وأنه لا سبيل إلى كف ضره إلا بقتله حلّ لك قتله في هذه الحالة، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.(116/15)
الأسئلة(116/16)
حكم أخذ الظفر إذا كان مؤذياً للمحرم
السؤال
من انكسر ظفره وتأذى من ذلك، فهل له أن يقلمه؟
الجواب
فرق جمع من أهل العلم رحمهم الله في الشعر والظفر بين أن يكون الأذى في نفس الشعر وفي نفس الظفر، فرخصوا في القلع والقص والحلق والإزالة، وبين أن يكون الضرر في شيء في الشعر كالقمل ونحوه، فتلزم الفدية إذا أزال الشعر، وتوضيح ذلك: أنه إذا كان ظفره منكسراً وكان يجرح، وكلما مشى آذاه وأضره، فالأذى والضرر في نفس الظفر، فيرخص له لمكان الضرورة، ولا فدية عليه إذا قصه، وهكذا لو تدلى شعره على عينه فأصبح يؤذيه في بصره أو يؤذيه في نظره أو نحو ذلك، جاز له أن يقص منه على قدر الحاجة ولا فدية عليه؛ لأن الضرر تعلق بنفس الشعر وبنفس الظفر.
وأما إذا تعلق بشيء في الشعر كالقمل في داخل الشعر، فإن إزالة الشعر جاءت تبعاً ولم تأت أصلاً، وعلى هذا قالوا: تلزم الفدية إذا كان الشعر تابعاً لضرر وليس الضرر في نفس الشعر، وأما إذا كان الضرر من نفس الشعر والأذى من نفس الشعر فإنه يرخص له أن يزيله ولا فدية عليه.
والله تعالى أعلم.(116/17)
حكم وضع الأزرار على رداء الإحرام
السؤال
ما حكم وضع الأزرار والمشابك على الرداء؟ وهل تأخذ حكم المخيط؟
الجواب
لا يجوز لبس الإحرامات التي لها أزارير، وينبغي تنبيه الحجاج والمعتمرين على ذلك؛ وذلك لأن الإحرام ينبغي أن يكون على الصفة الشرعية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أن لا يكون مفصلاً، ولذلك قالوا: لو أنه جعل على الفوط كالأحزمة، فوضع فيها الحزام المطاط في داخلها كالفوط الموجودة الآن، فصارت أزرة لأسفل البدن، انتقلت عن كونها غير مخيط إلى كونها في حكم المخيط، وحينئذٍ لا يجوز له لبسها، وكذلك إذا كان مفصلاً بالأزارير الموجودة الآن لأعلى البدن وأسفله، فلا إشكال أنها آخذة حكم المخيط كالقميص والسراويل وغيرها، ولو لبس الثوب، فإنك إذا رأيت الثوب في أصله ولو كان قصير الكم فإنك تجد أنه يستر البدن تفصيلاً، فإذا كان الثوب أو الملبوس يفصل على البدن ويخاط أو يشبك على البدن ففيه الفدية، وعلى هذا فإنه ينبغي التنبيه على هذا النوع الذي ابتلي به بعض الناس في هذا الزمان من وجود التفصيل فيه والأزرار، فهذا يوجب الفدية على من لبسه.
وأما بالنسبة لوضع المشابك فهو في حكم الأزارير في قول جمع من العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك كان السلف رحمهم الله ينهون عن وضع الشوك، ففي القديم كانوا يضعون شوك النخل، إذ كانوا ربما يحتاجونه فيضعونه في الإزار، فنبهوا على أنه لا يجوز؛ لأنه إذا وضع الشوك كان أشبه بما يلتحف به على أعلى البدن، وحينئذٍ يكون في حكم المفصل ويأخذ حكم المخيط من وجوب الفدية فيه.
والله تعالى أعلم.(116/18)
حكم تذكية ما صيد قبل الإحرام بعد الإحرام
السؤال
لو أن إنساناً صاد صيداً قبل أن يحرم، ثم أحرم والصيد معه، هل يجوز له أن يذكيه ويأكل منه؟
الجواب
إذا صاد الصيد وأمسكه وبقي عنده، ثم أحرم ولو بعد إمساكه بلحظة، فإن هذا الصيد مستأنس وآخذ حكم المستأنس، يحل له أكله والانتفاع به، ولا حرج عليه؛ لأنه لم يصده بعد الإحرام، وإنما صاده في حال الحلّ، فيجوز له أكله والانتفاع بما يكون منه.
والله تعالى أعلم.(116/19)
شرح زاد المستقنع - باب محظورات الإحرام [2]
تحقيقاً لمقصود الحج من ترك الدنيا وما يتعلق بها فإنه يحرم على المحرم عقد النكاح له أو لغيره، وكذلك الجماع، أو مباشرة زوجته، والمرأة كالرجل في كل المحظورات إلا في اللباس، فإنها تلبس ما تريد إلا أنه يحرم عليها أن تلبس شيئاً يغطي وجهها ويديها.(117/1)
تابع محظورات الإحرام(117/2)
المحظور السابع: عقد النكاح للمحرم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ويحرم عقد نكاح ولا يصح ولا فدية].
ما زال المصنف رحمه الله يبين لنا محظورات الإحرام، فقال رحمه الله: (ويحرم عقد نكاح)، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح، سواء كان في حج أو كان في عمرة، ولذلك يعتبر عقد النكاح المحظور السابع من محظورات الإحرام التي ذكرها المصنف رحمه الله.
والعقد في اللغة: التوثيق، يقال: عقد الحبل إذا شد وثاقه، وكذلك يقال: عقد إذا أبرم الشيء، وأما في الاصطلاح: فإن المراد به الإيجاب والقبول، فالإيجاب هو قول الرجل: زوجتك، والقبول قول الزوج: قبلت، فإذا قال الولي: زوجتك، وقال الزوج: قبلت، فقد عُقد النكاح، وإذا قال الموجب: بعتك، وقال المشتري: اشتريت، فقد عُقد البيع، وإذا قال: أجرتك داري بمائة ألف لمدة سنة، فقال: قبلت، فهو عقد إجارة، وقس على ذلك.
فإذا وجدت الصيغة المشتملة على الإيجاب والقبول فإنه يوصف ذلك بالعقد، وهذا في الاصطلاح عند العلماء رحمة الله عليهم، فإذا وجدت كتب الفقهاء ينصون فيها على كلمة العقد فمرادهم بها الإيجاب والقبول، وعلى هذا يقول المصنف: (يحرم عقد النكاح) أي: يحرم على الإنسان إذا أحرم بالحج أو العمرة أن يتزوج أو يزوج غيره، كأن يكون ولياً لبنت أو أخت أو امرأة من أقربائه، أو تكون المرأة المحرمة بحج أو عمرة منكوحة، بمعنى: أنه يراد تزويجها، فلا يجوز أن يعقد النكاح، سواء كان زوجاً أو كانت زوجة، خاصة على القول بأن للمرأة أن تلي عقد النكاح كما هو مذهب الحنفية، وكذلك أيضاً أن تكون ولياً.
دليل التحريم ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب)، وهذا الحديث اتفق الشيخان على صحته وثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله: (لا ينكح المحرم) لم يفرق بين محرم لحج أو عمرة (ولا يُنكح) أي: إذا كان امرأة، وهذا يدل على أنه لا يجوز له أن يكون في عقد النكاح لا زوجاً -وهو الأصيل- ولا وكيلاً، فلا يجوز للمحرم أن يكون وكيلاً في عقد النكاح بأن يقبل النكاح من غيره، أو يوجبه للغير.
وهذه المسألة للعلماء فيها قولان: القول الأول يقول: لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن ينكح ولا أن يخطب، وهذا هو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله على الجميع، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المحرم عقد النكاح سواء كان زوجاً أو زوجة أو ولياً أو وكيلاً، وذلك هو نص الحديث الثابت عنه والذي ذكرناه.
القول الثاني: ذهب فقهاء الحنفية رحمهم الله إلى القول بجواز أن ينكح المحرم وأن يُنكح، وأن يخطب، لكن بعضهم ينص على جوازه مع الكراهة، أي: أنه يكره له ذلك، ولكن يجوز، والعقد صحيح، واحتج هؤلاء العلماء بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم)، فأثبت أن الزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ميمونة وقع وهو محرم، قالوا: فدل دلالة واضحة على أنه يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يزوج الغير وأن يخطب، وأما ما ورد من النهي عن النبي صلى عليه وسلم فإن فعله صلوات الله وسلامه عليه يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، وهذا مسلك يعمل به جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم: وهو أنه إذا ورد النهي وجاء ما يدل على الجواز صرف ظاهر النهي من التحريم إلى الكراهة.
والذي يترجح بنظري والعلم عند الله: هو القول بالتحريم، وهو مذهب جمهور السلف كما ذكرنا؛ وذلك لما يلي: أولاً: لصحة دلالة السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم.
ثانياً: أنه يجاب عن حديث ابن عباس من وجوه: الوجه الأول: أن القاعدة: إذا تعارضت رواية أكابر الصحابة مع رواية أصاغر الصحابة قدمت رواية أكابر الصحابة على الأصاغر؛ والسبب في هذا واضح، وهو أن أصاغر الصحابة في الغالب يروون بواسطة، وأكابر الصحابة في الغالب يروون مباشرة، فتقدم رواية الأكابر؛ لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمهم بحاله أكثر من أصاغر الصحابة.
الوجه الثاني: أن حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) عارضته ميمونة صاحبة القصة، وعارضه أبو رافع السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة، ومن المعلوم أن ميمونة رضي الله عنها -وهي خالة ابن عباس - أعلم بحال النبي صلى الله عليه سلم حينما تزوجها، فلما أثبتت أنه تزوجها وهو حلال، دل هذا على ضعف ما ذكره ابن عباس، ومن هنا قال الإمام أحمد: إن هذا الحديث خطأ، وهذا الخطأ قد يكون من الرواة أو يكون من سماع ابن عباس عن غيره من الصحابة رضوان الله عليهم.
وهناك وجه ثالث في الترجيح: أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما له معارض، وحديث التحريم صريح في التحريم لم ترد له صيغة معارضة، وإذا تعارض النصان أحدهما له وجه معارض، والآخر لا معارض له قدم الذي لا معارض له؛ لأن له مزية، وأنت إذا تأملت أحاديث النهي لم تجد ما يعارضها في الروايات نفسها، ولكن إذا تأملت حديث ابن عباس الذي يدل على الإباحة تجد أنه قد عارضه أبو رافع وعارضته ميمونة فلم يتمحض حديث ابن عباس في القوة في الدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حلالاً.
الوجه الرابع في الترجيح: أن القاعدة أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح أنه يقدم النص الحاظر على النص المبيح؛ لما فيه من زيادة العلم، ولما فيه من زيادة الاحتياط، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم نهيه على أمره، فكيف بتقديم نهيه على ما يكون من حاله محتملاً الخصوصية، فهذا من باب أولى وأحرى، ولذلك قال: (إذا نهيتكم فانتهوا)، وقال في الأمر: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، فهذا يدل على قوة أدلة التحريم ورجحانها على أدلة الجواز.
الوجه الخامس: أن حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) يحتمل أن يكون خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصيات حتى في النكاح، ولذلك قال سبحانه: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، فالله خصه بخصائص كما نص على ذلك كتاب الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41].
فلما خاطب عليه الصلاة والسلام عموم الأمة بقوله: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) دل على أننا مطالبون بامتثال هذا النهي، ولما فعل هو عليه الصلاة والسلام -على القول بأنه تزوجها وهو محرم- فإننا نقول: هذا خاص به؛ لأن القاعدة: إذا تعارضت دلالة القول مع دلالة الفعل احتملت دلالة الفعل الخصوصية، فتقدم دلالة القول؛ لأنها تشريع للأمة.
الوجه السادس: أن قول ابن عباس: (تزوج ميمونة وهو محرم) كما أنه ضعيف من جهة السند فلا يقوى على معارضة النص الصحيح الصريح فإننا نقول: هو في لفظه محتمل؛ وذلك أن قول ابن عباس: (تزوج ميمونة وهو محرم) يحتمل أن يكون مراده: (وهو محرم) أنه عقد عليها داخل حدود الحرم، وهذا له مغزىً دقيق، وهو من فقه ابن عباس، كأنه يريد أن ينبه على مسألة فقهية من مسائل الهجرة، وذلك أن من هاجر من بلد فإنه لا يرجع إليه إذا تركه لله ورسوله، ولذلك ثبت في النص الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكن البائس سعد بن خولة) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.
ولذلك قال العلماء: من خرج من بلد كفر مهاجراً عنها فإنه لا يرجع إليها، ولذلك لم يرجع المهاجرون إلى مكة إلا بقدر الحاجة، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم في الإقامة فيها ثلاثة أيام فقط، فدل على أنه لا يجوز لمن هاجر من بلد أن يقيم فيها بعد هجرته؛ لأنه تركها لله عز وجل، ولو عادت بلد إسلام بعد ذلك، وإذا ثبت هذا ورد سؤال هو: هل يجوز له أن يتزوج من أهل هذا البلد؟ وهل زواجه من أهل هذا البلد وعقده فيه يعتبر بمثابة الإقامة؟ فرد ابن عباس رضي الله عنهما هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، أي: داخل حدود الحرم، والعرب تسمي من كان داخل الحدود محرماً، ومنه قول حسان بن ثابت يرثي عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ومن المعلوم أن عثمان إنما قتل في حرم المدينة ولم يقتل وهو محرم بالحج أو بالعمرة، فدل على أن من كان داخل حدود حرم مكة أو حرم المدينة فإنه يوصف بكونه محرماً.
فالعرب تسمي من دخل في الزمان الحرام -كالأشهر الحرم- أو دخل في المكان الذي له حرمة، تسميته محرماً، وعلى هذا يكون حديث ابن عباس له مغزىً خارج عن مسألتنا، أي: أنه لا يدل على أنه تزوجها حال إحرامه صلوات الله وسلامه عليه.
وبناء عليه يترجح مذهب الجمهور الذين يقولون بأنه لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، وهذا الحكم يستوي فيه أن يكون المحرم أصيلاً عن نفسه، كأن يتزوج لنفسه، أو وكيلاً عن غيره، كأن يقول له رجل: اذهب واخطب لي فلانة، وأنت وكيلٌ عني، فإن الوكيل ينزل منزلة الأصيل، وعلى هذا فإنه يستوي أن يكون وكيلاً عن محلّ أو وكيلاً عن محرم، ويستوي في ذلك أن يكون الوكيل ذاته وكيلاً عن إنسان محرم، أو يكون في حال إحرامه كما ذك(117/3)
حكم عقد النكاح إذا قام به المحرم
قال رحمه الله: [ويحرم عقد نكاح، ولا يصح، ولا فدية].
أي أنه لو وقع الإيجاب والقبول من المحرم زوجاً أو ولياً فإنه لا يصح، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ويركبونه من أن النهي هنا استغرق زماناً لا يصح فيه الإيجاب والقبول، كأن الشرع جعل هذا مدة، إحرام الإنسان إلى أن يتحلل غير صالحة للإيجاب والقبول، فإذا وقع الإيجاب والقبول لم يقع معتداً به شرعاً، وحينئذٍ يكون من اللغو، فوجوده وعدمه على حد سواء، لكن لو عقد وهو محرم وتزوج المرأة ودخل بها وجاء له منها أولاد، فإن هذا يعتبر نكاح شبهة إذا كان يظن أن هذا جائز، ولكن لا يوجب حرمة نسله؛ لأن نكاح الشبهة كما هو معلوم تسري عليه أحكام النكاح الصحيح، ولكن يفسخ ثم يطالب بتجديده بعد ذلك.
قوله: [ولا فدية].
أي: أن هذا المحظور ليست فيه فدية، فلو أن رجلاً سألك وقال: عقدت نكاحاً وأنا محرم بحج أو عمرة، فما الحكم؟ تقول له: إن النكاح لا يصح ولا فدية عليك، وإنما عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل.(117/4)
حكم مراجعة المطلقة حال الإحرام
قال: [وتصح الرجعة]: أي: إذا كان النكاح لا يصح، والخطبة لا تجوز، حيث لا يجوز للمحرم أن ينكح، ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، ف
السؤال
لو أن رجلاً طلق امرأته طلاقاً رجعياً، ثم ارتجعها في عدتها، فهل الرجعة تأخذ حكم الابتداء؟ أولاً -حتى تكون الصورة واضحة-: إذا طلق الرجل امرأته فإن طلاقه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون طلاقاً رجعياً.
والحالة الثانية: أن يكون طلاقاً بائناً.
فأما الطلاق الرجعي فهو: أن يطلقها الطلقة الأولى، فالشرط فيها: أن تكون الطلقة بعد الدخول، وأن تكون في غير خلع.
فإذا طلقها طلقة واحدة بعد دخوله بها في غير خلع وفي غير طلاق من القاضي أو من الحكمين -على القول بأن طلاق القاضي والحكمين يوجب البينونة- فحينئذٍ تبقى المرأة في عدتها من الطلقة الأولى، ما لم تضع حملها، أو تستتم الثلاثة الأشهر إن كانت من ذوات الأشهر، أو تمضي عليها ثلاثة قروء إذا كانت من ذوات الأقراء، وخلال هذه المدة يجوز له أن يرتجعها ولو بغير رضاها.
فلو أن رجلاً طلق امرأته بعد الدخول طلقة واحدة ثم أراد أن يراجعها في أي وقت، فما دام أنها لم تخرج من عدتها، فإنه تصح رجعته وتلزم المرأة بالرجوع بغير رضاها، حتى ولو كان يريد أن يرجعها بدون رضاها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228].
فمن حقه أن يرتجع زوجته ما دامت في عدتها، وإذا ثبت أن من حقه أن يرتجعها ما دامت في عدتها فهذا يسمى بالطلاق الرجعي، ويقع بعد الطلقة الأولى ويقع بعد الطلقة الثانية، أما لو طلقها الطلقة الثالثة فإنها تبين منه، وتكون البينونة هنا بينونة كبرى؛ لأن الطلاق البائن ينقسم إلى قسمين: طلاق بائن بينونة كبرى.
وطلاق بائن بينونة صغرى.
فالمطلقة طلاقاً بائناً بينونة كبرى هي التي لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا بينه الله تعالى بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] يعني: الطلقة الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فنص سبحانه على حرمة ارتجاعه لها، وأنه لا يجوز له أن ينكحها إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، كما ثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والبينونة الصغرى تقع على صور: منها: أن يطلقها قبل الدخول، كأن يعقد على امرأة ثم يحصل بينه وبينها ما يحصل فيقول لها: أنت طالق، فإذا طلقها قبل الدخول فإنها تبين منه بينونة صغرى.
والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن البينونة الصغرى يستحق فيها أن يرتجع المرأة لكن بعقد جديد، ولكن لا يلزمها أن ترجع إليه إلا برضاها، بمعنى أنها لو امتنعت أو امتنع وليها فمن حقها ذلك ولا يستطيع ارتجاعها، على خلاف الرجعية فلا خيار لها.
ففارقت البينونة الصغرى الرجعية بأن الرجعية يردها على رغم أنفها حتى ولو أبت، وأما في البينونة الصغرى فإنه لا يمتلك ارتجاعها إلا بعقد جديد فهي كالأجنبية، ولكن يجوز له أن يرتجعها.
والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن في الكبرى لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وفي البينونة الصغرى تحل له بعقد جديد ولا يشترط أن تنكح زوجاً غيره.
وعلى هذا يرد السؤال في هذا النوع من الطلاق وهو الطلاق الرجعي: لو أن زيداً من الناس قال لامرأته: أنت طالق، ثم أحرم بحج وعمرة، فأراد أن يرتجعها، فهل يجوز له أن يرتجعها أثناء تلبسه بالإحرام بحج أو عمرة، هذه هي صورة المسألة.
و
الجواب
أنه يجوز له أن يرتجعها؛ لأن الاستدامة لا تأخذ حكم الابتداء، فاستدامة المحظور ليست كابتدائه، ومثل هذا أنه يجوز أن يستصحب الطيب في بدنه إذا تطيب قبل إحرامه، كذلك يجوز له أن يستديم النكاح؛ لأنه ثابت قبل إحرامه؛ لأن المرأة الرجعية في حكم المرأة التي في عصمة الإنسان، فإنه حينئذٍ يجوز له أن يرتجعها ولو كان في حج أو عمرة.
فلو سألك سائل وقال: إن الله عز وجل حرم على المحرم أن ينكح أو يُنكح أو يخطب كما ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد طلقت زوجتي طلقة واحدة أو الطلقة الثانية، وأريد أن أرتجعها أنا محرم، فهل يجوز لي ذلك؟ تقول: نعم، يجوز لك ذلك؛ لأن الارتجاع ليس كالعقد، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم النكاح ولم يحرم الارتجاع، فدل على أنه باقٍ على الأصل الذي يدل على جوازه ومشروعيته، فيجوز له أن يرتجع امرأته.(117/5)
المحظور الثامن: الجماع
قال المصنف رحمه الله: [وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما].
هذا المحظور الثامن من محظورات الإحرام: وهو الجماع، وقد حرم الله عز وجل على المحرم ثلاثة أمور في النساء: الأول: أن يعقد.
والثاني: أن يباشر بما دون الفرج.
والثالث: أن يجامع.
فهذه ثلاثة محظورات ذكرها المصنف مرتبة، فابتدأ بالعقد ثم أتبعه بالجماع ثم أتبعه بالمباشرة، وأعلاها وأقواها الجماع.
فالجماع محرم بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فحرم الله عز وجل الرفث الذي هو مقدمات الجماع، بل قالوا: إنه أقل ما يقال من الكلمات التي تثير النساء، فإذا حرم الله عز وجل الكلمة اليسيرة التي تثير الشهوة كما نص على ذلك جمهور السلف رحمهم الله فالجماع أولى.
فسر ابن عباس وعطاء وغيره من تلامذته رحمة الله عليهم جميعاً الرفث، فقالوا: إن المراد بالرفث الكلمات التي تستثار بها غرائز النساء، فلا تحل ولا تجوز للمحرم، فهي من المحظورات؛ فإذا حرم هذا فمن باب أولى الجماع، ولذلك انعقد الإجماع على أنه لا يجوز الجماع في الحج ولا في العمرة، فلو وقع الجماع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قبل الوقوف بعرفة.
والحالة الثانية: أن يكون بعد الوقوف بعرفة.
فإن وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة، أي: قبل أن يستتم وقوفه بعرفة وينصرف منها، فإن حجه باطل بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فمن جامع أهله في يوم التروية وهو محرم بالحج أو جامعهم صبيحة يوم عرفة أو عشية عرفة قبل أن يدفع، فإنه حينئذٍ يفسد حجه.
وبعض العلماء يقول: ما لم يقف بعرفة، وعلى هذا فإن الجماع إذا وقع قبل استتمام الوقوف والاعتدال به فإنه يعتبر موجباً لفساد الحج.
وإذا فسد الحج فإنه يلزمه أن يمضي في هذا الحج الفاسد، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، والحج والعمرة عبادتان لو أفسدهما المكلف ألزم بإتمامهما مع الفساد بإجماع العلماء؛ لأن الله أمر بإتمام هذين النسكين ولم يفرق بين فاسد أو صحيح.
ولذلك قالوا: من جاء بعمرة ولبى وأحرم ثم بعد الإحرام ولو بلحظة قال: لا أريد العمرة، وأراد أن يفسخ عمرته فإنه يبقى محرماً إلى الأبد حتى يؤدي عمرته؛ لأن الله قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فهذا يدل على أن النسك لا بد من إتمامه على وجهه المعتد به شرعاً، قالوا: فإذا وقع جماعه قبل وقوفه بعرفة فإنه حينئذٍ يحكم بفساد الحج على الأصل، وهذا محل إجماع، ثم يطالب بإتمام وقوفه، والمضي في بقية مناسكه، ثم عليه الحج من قابل وعليه بدنة، وهذا قضاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجامع.
قضى به عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وبه قال أبو هريرة رضي الله عن الجميع، فهؤلاء الصحابة الأجلاء قالوا بهذا، وحكموا به، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أنه لو وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة أنه يوجب فساد الحج، وعلى من جامع والمرأة التي جومعت المضي في حجهم الفاسد، ثم عليهم الحج من قابل، يستوي أن يكون جماعه لامرأة تحل له، أو بشبهة كخطأ في الوطء، أو بحرام كزناً، أو نحو ذلك من المحرمات فإنه يعتبر حجه فاسداً وجهاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.
وأما إذا وقع الجماع بعد الوقوف بعرفة فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قبل التحلل الأول.
والحالة الثانية: أن يكون بعد تحلله الأول.
فإذا وقع الجماع قبل التحلل الأول فقد أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: [وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما].
بأن وقف بعرفة، ثم مضى إلى مزدلفة، فوقع جماعه ليلة المزدلفة، فهذا يعتبر قبل التحلل الأول، فاختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول يقول: إذا وقع الجماع قبل التحلل الأول فسد حجه، وبه قال الجمهور، كما يفسد قبل الوقوف بعرفة.
والقول الثاني يقول: إذا وقع جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فحجه صحيح، وهو مذهب الحنفية.
والقول: بأن حجه فاسد أقوى، وقد قال الحنفية، حجه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة)، قالوا: فإذا وقف بعرفة ووقع جماعه بعد وقوفه فإننا لا نحكم بفساد حجه، وقد قال عليه الصلاة والسلام لـ عروة بن مضرس: (من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه).
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لأنه إذا كان قبل التحلل الأول فإنه في حكم ما إذا كان قبل الوقوف بعرفة؛ وذلك لبقاء الركن وهو طواف الإفاضة.
وقد صحح بعض العلماء مذهب الجمهور: أنه إذا وقع جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فإن حجه يعتبر فاسداً؛ وذلك لأن الشرع قد جعل هذا التحلل لمعنى، ولذلك يستوي فيه أن يكون الإخلال قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بعرفة؛ لأنه ما وصف بكونه تحللاً إلا وهو مؤثر في حل النكاح، وموجباً لجوازه، فكأن النكاح يتأقّت والجماع يتأقّت بهذا التحلل، فاستوى أن يقع الإخلال قبله مباشرة أو قبل الوقوف بعرفة.
فمسلك الجمهور من جهة النظر قوي، ولذلك قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] حتى يحصل التحلل الكامل، فقالوا: إن التحلل ينقسم إلى قسمين: تحلل أول، وتحلل عام، وهو الذي يقع بعد طوافه للإفاضة.
فقالوا: إذا كان الشخص قد وقع منه الإخلال قبل التحلل الأول، فإنه في حكم من جامع قبل الوقوف بعرفة، وهذه المسألة توقفت فيها كثيراً، وكنت لا أفتي فيها لتعارض النظر فيها، ولذلك أحكي فيها مذاهب العلماء على ما ذكره أهل العلم رحمهم الله.
قال: [ويمضيان فيه ويقضيانه ثاني عام].
هذا قضاء الصحابة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم أجمعين.(117/6)
المحظور التاسع: مباشرة المرأة
قال رحمه الله: [وتحرم المباشرة].
هذا هو المحظور الأخير، أشار إليه رحمة الله عليه بقوله: (وتحرم المباشرة) أي: لا يجوز للمحرم أن يباشر زوجته بتقبيل أو غمز أو نحو ذلك مما يستمتع به من المرأة فيما دون الجماع، لقوله سبحانه: {فَلا رَفَثَ} [البقرة:197] وهو يشمل الرفث بالقول والرفث بالفعل، لأن النفي المسلط على النكرة يفيد العموم.
أي: لا رفث عموماً، سواء كان بقول أو كان بفعل، فلا يجوز للرجل أن يستمتع بامرأته بما دون الفرج على أي وجه كان.
وقوله: [فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه وعليه بدنة].
أي: فإن فعل المباشرة، فلا يخلو من حالتين: إما أن يفعل المباشرة ولا يقع منه شيء، وإما أن يفعل المباشرة ويقع منه شيء.
فإن فعل المباشرة ولم ينزل ولم يمذِ فلا إشكال في صحة حجه، وعدم تأثير المباشرة في تلك الصحة، ولكنه آثم، ويعتبر نقصاناً في أجره، وإذا تاب تاب الله عليه.
ولكن لو باشر فأنزل، فإن الإنزال لذة وهي تقارب اللذة الكبرى بالجماع، ولكن لا يفسد حجه؛ لأن الأصل صحة الحج حتى يدل الدليل على الفساد، وإنما وقع إجماع الصحابة وفتوى الصحابة على الفساد بالجماع، وبقي ما عدا الجماع على الأصل من كون الحج صحيحاً حتى يدل الدليل على الفساد؛ لأن الأركان والشرائط موجودة، فقالوا حينئذٍ: يحكم بصحة حجه؛ لأنه لم يصل إلى الجماع الذي يفسد الحج كما عليه فتوى الصحابة، وعليه العمل، فحينئذٍ يلزمه أن يجبر هذا النقص.
وقضوا فيه بالبدنة، والأصل أنهم نظروا إلى أن فعل الصحابة رضوان الله عليهم حينما أفسدوا الحج أفسدوه بالجماع، وقضوا بالبدنة حينما نظروا إلى وجود الإنزال غالباً في الجماع، فقالوا: إذا حصل الإنزال فإنه حينئذٍ يلزمه أن ينحر بدنة؛ جبراً لهذا النقص، وهو مبني على النظر، وله أصل من فتوى الصحابة من جهة العلة كما ذكرنا، وبناء عليه قالوا: لا بد من وجود الإنزال، ويستوي أن يكون الإنزال بالمباشرة، وحقيقة المباشرة أن تفضي البشرة إلى البشرة، أو يكون الإنزال بالاحتكاك سواء كان بحلال أو بحرام، فإنه لو تحكك واستثيرت غريزته على الوجه المحظور فإنه حينئذٍ يلزمه ما ذكرنا من جبر النقص؛ لقول من قلنا من أهل العلم، ويختاره المصنف وفقهاء الحنابلة رحمهم الله.
لو حصل منه إمذاء، والمذي دون الإنزال، وهي القطرات التي تخرج عند بداية الشهوة، فلو باشر امرأته فحصل منه الإمذاء فإنه لا يفسد حجه بالإجماع، ولا يلزمه بدنة، وإنما عليه الندم والتوبة والاستغفار.
فهذه أحوال: الحالة الأولى: أن يباشر ويقع الجماع، وذلك إما أن يكون قبل الوقوف بعرفة أو يكون بعد الوقوف بعرفة، على التفصيل الذي بيناه.
الحالة الثانية: أن تكون المباشرة بإنزال ولا يقع فيها جماع، فحينئذٍ يبقى الحج صحيحاً ويلزم ببدنة.
وقال بعض أهل العلم: إذا وقع هذا قبل التحلل الأول فإنه ينزل إلى الحل ويأتي بعمرة حتى يقع طوافه للإفاضة على صورة معتبرة دون وجود نقص أو إخلال.
الحالة الثالثة: إذا وقعت المباشرة ولم يحصل بها إنزال ولا جماع، وإنما وقع بها الإمذاء، فإنما عليه التوبة والندم والاستغفار.
قال: [لكن يحرم من الحل لطواف الفرض].
فيمضي إلى التنعيم أو يمضي إلى عرفات أو غيرها مما هو خارج عن حدود الحرم ويأتي بعمرة، حتى يقع طوافه في نسك لا إخلال فيه.(117/7)
الفرق بين إحرام الرجل وإحرام المرأة
قال رحمه الله: [وإحرام المرأة كالرجل إلا في اللباس].
أي: إذا علمت هذه المحظورات فإن المرأة يحظر عليها أن تقص شعرها أو تحلقه، وكذلك حلقها للعانة، وكذلك نتفها للإبطين ونحو ذلك، فلا يجوز لها أن تزيل الشعر، ولا يجوز لها أن تقلم الأظفار، وكذلك أيضاً لا يجوز لها أن تتطيب لا في بدنها ولا في ثيابها، وكذلك أيضاً لا يجوز لها الصيد، ولا الإعانة على الصيد، ولا الأكل مما صيد لها إذا كانت محرمة، ولا يجوز لها أن يعقد عليها النكاح، ولا يجوز لها مباشرة الزوج، فكل ما يقال في الرجل يقال في المرأة، إلا أنها في اللباس لا تنتقب ولا تلبس القفازين، فمحظورها في اللباس ينحصر في تغطية وجهها ولبسها للقفازين في يديها.
والأصل في هذين المحظورين حديث عبد الله بن عمر في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) رواه البخاري في صحيحه.
قالوا: نص عليه الصلاة والسلام على أن المرأة لا تنتقب، وإذا كان النقاب تكشف فيه المرأة عن إحدى عينيها لتنظر الطريق أو نحو ذلك محظوراً، فمن باب أولى البرقع فإنه أبلغ من النقاب، فإن النقاب أن تكون ساترة لوجهها ولكنها تكشف عن عينها حتى تنظر في طريق أو نحو ذلك، فقالوا: إن هذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، والشرع ينبه بالأدنى على الأعلى، وينبه بما هو أعلى على ما دونه من باب أولى.
وعلى هذا فلا يجوز للمرأة أن تلبس البرقع والنقاب، فكأن الشرع قصد أن لا تستر وجهها بالنقاب ولا ببرقع ونحوه، ولكن إذا مر بها الركب تسدل خمارها؛ لحديث أسماء رضي الله عنها: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر بنا الركب سدلت إحدانا خمارها فإذا جاوزنا كشفنا) وهذا هو الأصل، والسدل أن يكون هناك حائل بين الناظر وبين وجهها؛ لأنه حقيقة السدل كما تقول: سدلت الستار ونحو ذلك.
وكذلك بالنسبة للبسها القفازين لا تلبس قفازين في حال الإحرام، وهذا يدل على مشروعية لبسه في غير الإحرام؛ لما فيه من كمال الستر، ولما فيه من كمال التحفظ من رؤية الأجانب، وهو يدل على أن إحرام المرأة كما يقول الجماهير في وجهها وكفيها.(117/8)
ما يحرم على المرأة حال الإحرام
قال رحمه الله: [وإحرام المرأة كالرجل إلا في اللباس، وتجتنب البرقع والقفازين وتغطية وجهها، ويباح لها التحلي].
ويباح للمرأة أن تلبس الحلي؛ لأن الأصل جوازه حتى يدل الدليل على تحريمه، ولم يوجد دليل في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تحريم لبس الحلي للمرأة في حال إحرامها، بل ولا في حال حلها، قال الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فجماهير أهل العلم والسلف في تفسير هذه الآية على أن المراد بها المرأة، ولذلك تغلبها العاطفة فلا تبين خصامها، وقالوا: إن الله تعالى قال: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18]، وقال سبحانه وتعالى: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12] فامتن سبحانه وتعالى باستخراج الحلي للبس، ولم ينه سبحانه وتعالى عن ذلك ولم يحرمه، ولم يفرق بين محلق ولا غيره.
وكذلك ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة في حديث أم زرع المشهور: قالت أم زرع: (أناس من حلي أذني.
قالت عائشة: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع)، وثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما ندب النساء إلى التصدق يوم العيد، قالت رضي الله عنها: (فجعل النساء يلقين من حليهن وأقراطهن)، فدل على أن هناك ذهباً غير الذهب المتعلق بالقرط وهو قولها: (من حليهن) حيث عممت، وهذا هو الأقوى.
وقال بعض السلف رحمة الله عليهم كـ ربيعة الرأي: إنه يحرم لبس الذهب المحلق في حال الإحرام وفي حال الحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه الوعيد في لبسه كما في الحديث المختلف في إسناده أنه قال: (من أحب أن يسور حبيبه بسوارين من نار فليسوره) قال: فهذا يدل على عدم جواز لبس الذهب المحلق.
وقد أجاب العلماء: أن أحاديث التحريم أضعف سنداً من أحاديث الحل، وعلى فرض صحتها وثبوتها فإنها لا تقوى على معارضة ما هو أصح منها.
ثانياً: أنها تعارض الأحاديث التي شهد الكتاب بصحتها واعتبارها، وهي أحاديث الحلي، مع أن ظاهرها أنها كانت في آخر عهده صلوات الله وسلامه عليه؛ لتأخر رواية الصحابة الذين رووها، وقالوا: إنها أقوى وأولى بالاعتبار، حتى قال بعض العلماء: إن هذا يدل على أن التحريم للذهب المحلق كان في أول الأمر، وهذا مسلك يقوله غير واحد من أهل العلم: أنه كان في أول الأمر يحرم لبس الحلي المحلق على النساء، ثم نسخ ذلك وجاءت الرخصة والتوسعة من الله عز وجل.
والشاهد معنا: أن المرأة لا يحظر عليها لبس الحلي حال الإحرام أو غير الإحرام، وأن هذا لا يعتبر من محظورات الإحرام.(117/9)
الأسئلة(117/10)
حكم شراء المحرم للإماء
السؤال
علمنا أن عقد النكاح لا يجوز للمحرم، ولكن هل يجوز عقد شراء الإماء والسراري للمحرم؟
الجواب
يجوز للمحرم أن يشتري الأمة، ولو قصد من ذلك أن يطأها بعد انتهائه من حجه وعمرته؛ والسبب في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينكح المحرم ولا ينُكح ولا يخطب) وشراء الأمة ليس بنكاح، ولذلك فالأمة لا تعتبر منكوحة؛ لأن ملك اليمين ليس كالنكاح، والإماء إنما هن من السراري ولسن من الأزواج، والحكم إنما هو وارد في الزواج وليس في شراء الإماء، وعلى هذا فإنه يجوز له أن يشتري الأمة، -وهذا ليس موجوداً الآن- وإذا وجد فإنه يجوز له أن يشتري الإماء، وليس هناك نص يدل على حرمته.
والله تعالى أعلم.(117/11)
حكم الرجوع إلى الميقات عند قضاء العمرة الفاسدة
السؤال
إذا أبطل المحرم عمرته بالجماع فإنه يتمها ويأتي بأخرى، فهل يلزمه في الثانية أن يرجع إلى ميقاته أم يحرم لها من مكانه؟
الجواب
البدل يأخذ حكم مبدله، فإذا أفسد عمرته وجبت عليه القضاء من الميقات الذي أحرم منه بالعمرة الفاسدة، وعلى هذا قالوا: كأنه لما أحرم بهذه العمرة وجب عليه إتمامها بالشرط، فلما وجب عليه الإتمام فإننا ننظر إلى كمال العمرة، فإن أفسدها وجب عليه أن يقضي عمرة مثلها، لأن البدل يأخذ حكم مبدله فيحرم من ميقاتها.
لكن أجازوا أن يكون إحرامه من الميقات الأبعد إذا كان إحرامه للفاسد من الميقات الأقرب، كأن يكون قدم من ميقات السيل، فأحرم بالعمرة الفاسدة أو بالحج الفاسد من ميقات السيل، فحينئذٍ لو أنه أراد أن يحرم بالبدل من ميقات المدينة وميقات رابغ جاز له ذلك، بل قال بعض العلماء: يجوز له أن يحرم من الميقات المساوي، كأن يكون أفسد عمرة من ميقات يلملم فيجوز له أن ينشئ العمرة التي هي محلها من ميقات السيل.
والله تعالى أعلم.(117/12)
الترجيح بتقديم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم على أفعاله
السؤال
هل يعد من الوجوه المرجحة حديث (لا ينكح المحرم) على حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحديث الأول قول وحديث ابن عباس حكاية فعل، فنقول: القول مقدم على الفعل؟
الجواب
نعم هذا من المرجحات، توضيح ذلك: أنه قد يشكل على بعض طلاب العلم كيف نقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على فعله، وهذا أمر يرجع إلى مسألة مهمة عند العلماء، إذا جاء النص بقول أو جاء النص بفعل فالأصل أننا مطالبون بالائتساء والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا فرق بين قوله وفعله؛ لأن الله قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، والأسوة: أن نأتسي ونقتدي به صلوات الله وسلامه عليه في أقواله وأفعاله، فحينئذٍ لا فرق بين القول والفعل من جهة أن الله أمرنا وكلفنا أن نأتسي به عليه الصلاة والسلام، لكن الإشكال حينما يأتيك قول يبيح، وفعل يحرم، أو يأتيك القول يحرم والفعل يبيح، فإنه لا بد وأن تنظر؛ لأن القول والفعل صدرا من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال وهو الذي فعل.
فحينئذٍ إذا جئت تنظر إلى أقواله حينما يخاطب الأمة ويقول: أيها الناس، ويقول: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) يخاطب الأمة، فلا تشك في أن هذا عام لجميع الأمة.
فأنت ترى حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إشكال فيه -هذا من جهة أحاديث الأقوال؛ لأنها خطاب وتشريع للأمة، لكن إذا جئت إلى أفعاله عليه الصلاة والسلام وجدت أن الله عز وجل قد خصه بأفعال، حتى في باب النكاح الذي اختلف فيه فقد أجاز الله له أن ينكح تسعاً من النسوة، ولم يجز لأمته أن ينكح الواحد فوق الأربع، فتبين أن هناك خصوصيات في أفعاله عليه الصلاة والسلام.
فأنت تنظر إذا جاءك النصان، وهذا الذي يسميه العلماء: باب التعارض، يأتيك نصان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من أقواله التي لا تشك أنها تشريع للأمة، والثاني من أفعاله التي يدخلها احتمال التخصيص، فحينئذٍ تترجح كفة القول، وليس المراد أن نسقط أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كما يظن البعض، إنما المراد أنك أمام نصين لو جئت تتعبد الله بهما معاً لما أمكن، وإذا أردت أن تتركهما لما أمكن أيضاً، فأنت بين هذه الخيارات الثلاثة: إما أن تقول: أعمل النصين، وهذا لا يمكن.
وإما أن تقول: أترك النصين، وهذا -والعياذ بالله- لا يجوز؛ لأننا مأمورون باتباعه عليه الصلاة والسلام، ولم يرد ما يستثني هذين النصين.
وإما أن تقول: أعمل بأحدهما وأترك الآخر، وإذا تعارض النصان فلا شك ولا شبهة أن الحكم في واحد منهما، لكن ابتلاء واختباراً من الله لعباده، وحتى ترتفع درجة العلماء فيختلفون ويتناقشون ويناظرون وتخرج الفوائد من هذه النقاشات والمناظرات، فيجتهد العالم الفقيه ويظهر فضل الله على العلماء ومزية ما خصهم به من العلم، فحينئذٍ يظهر الترجيح.
فتقول: حديث القول خاطب به الأمة، وحديث الفعل احتمل الخصوصية به عليه الصلاة والسلام، فكأنني أرى أن النصين ليسا بدرجة واحدة، مع أن حديث الفعل جاء ما يعارضه، أي: أن الحديث الذي دل على الجواز عارضه الحديث الذي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محرماً وإنما كان حلالاً، فإذاً كأنك لا ترى أن الأحاديث استوت كفتها حتى تقول: هي متعارضة، فتقدم أحاديث الأقوال على أحاديث الأفعال لهذه القاعدة.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: حديث النهي عن استقبال القبلة واستدبارها، انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط)، فهذا نص قولي واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب به الأمة: ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الاستقبال ولا بين الاستدبار، ولم يفرق أيضاً بين البنيان وغير البنيان، قال: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط).
وجاء في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول على لبنتين مستقبل الشام مستدبر الكعبة).
فحينئذٍ تقول: عندي قول يخاطبني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنني لا أستقبل ولا أستدبر، ولا يفرق هذا القول بين صحراء ولا بنيان، فأنا أبقى على هذا القول الذي خاطبني فيه، وأما فعله عليه الصلاة والسلام فيحتمل أن الله خصه بهذا، ويقوي هذا أنه لو كان تشريعاً للأمة لما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الخفاء، ويطلع عليه ابن عمر فجأة بدون أن يعلم النبي عليه الصلاة والسلام وبدون أن يشعر، فهل يعقل أن الشرع يفصل في التفريق بين البنيان والصحراء ولا يُعْلم هذا حتى يأتي ابن عمر وهو حدث صغير يرقى على البنيان؟! فحينئذٍ تقوى عندك دلالة القول، فتقول: أنا أبقى على دلالة القول، وما ورد من فعله احتمل خصوصيته به عليه الصلاة والسلام، مع احتمال أن يكون سابقاً للنهي، فلا يخرجني عن دلالة القول، فحينئذٍ أبقى على دلالة القول؛ لأنها أقوى وأرجح.
فهذا هو مسلك علماء الأصول حينما يقولون: إذا تعارض القول والفعل فإننا نقدم القول على الفعل؛ لأن القول خاطب به الأمة، والفعل يحتمل أن يكون من خصوصياته صلوات الله وسلامه عليه.
والله تعالى أعلم.(117/13)
حكم المحرم المضطر إذا اجتمع له ميتة وصيد
السؤال
إذا اجتمع للمحرم صيد وميتة وكان على مخمصة فأيهما يقدم؟
الجواب
إذا اجتمع للمحرم الصيد والميتة، فحينئذٍ يكون من باب تعارض المحظورين، فإذا جئت تنظر إلى الميتة فإن الله عز وجل حرمها بإطلاق إلا في حال الضرورة، وإذا جئت إلى الصيد وجدت أن الله حرمه في حال الإحرام، والتحريم المؤقت أخف من التحريم غير المؤقت؛ لأن تحريم الميتة بالنسبة لحال الاختيار عام للأزمنة والأمكنة، ولم يستثن الله منه إلا حالة الضرورة والمخمصة، وهو يدل على شدة أمر الميتة.
وأما المحرم فالصيد في حقه أخف تحريماً من الميتة، وعليه يرجح أكل الصيد على أكل الميتة، وذلك من جهة كون تحريم الصيد مؤقتاً وتحريم الميتة مؤبداً، وهذا وجه للترجيح، فتقدم الميتة على الصيد.
وهناك وجه آخر يقدم فيه الميتة على الصيد، وتوضيح ذلك: أن الصيد اتصل بحالته، أي: أن تحريمه اتصل بحالته، ولكن تحريم الميتة عمَّ، وجاء حال الخصوصية في الاضطرار، فكأنها أخف من جهة الحال، أي: أن المحرم حرم عليه الصيد بدون تفريق بين كونه مضطراً وغير مضطر، ولكن الميتة حلّت عند الضرورة، فإذا جئت إلى حالته كمحرم تقول: إن الله حرم عليه الصيد، ولم يستثن حال الضرورة، ولكن حرم عليَّ الميتة واستثنى لي حالة الضرورة، فأقبل النص الذي دخله الاستثناء، ولا أفعل ما لم يدخله الاستثناء، فيقوى أن يأكل من الميتة، وكلاهما له وجه، وهذا يسمونه: التعارض.
وهذا يشكل في بعض الأحيان، ومنه: إذا خرج من بيته وغلب على ظنه أنه لو مشى بقدميه فسيفوته الصف الأول وتفوته تكبيرة الإحرام، فهل الأفضل أن يمشي على قدميه ويفوته الصف الأول وتكبيرة الإحرام، أم أن الأفضل أن يركب سيارته وتفوته فضيلة المشي وتكفير الخطايا والذنوب؟ قالوا: الأفضل أن يركب ويدرك الفضيلة المتصلة بالصلاة، أعني: كونه في الصف الأول، وكونه يدرك تكبيرة الإحرام، لأن فضيلة الصف الأول وتكبيرة الإحرام متصلة بالعبادة، وفضيلة المشي منفصلة عن العبادة، والتفاضل يدخل في الفضائل وفي المحرمات والمسلك واحد، فإذا جئت تنظر إلى أن تحريم الصيد عليه كمحرم تقول: هذا أقوى؛ لأن الله حرم على المحرم أكل الصيد دون أن يستثني حالة الاضطرار، وأما الميتة فإن الله حرمها عليه واستثنى حالة الاضطرار، فمن جهة حاله تقول: الأفضل أن يأكل من الميتة ولا يأكل من الصيد.
والله تعالى أعلم.(117/14)
حكم التحلل بأخذ ثلاث شعرات من الرأس
السؤال
هل يجزئ أخذ ثلاث شعرات من الرأس لمن أراد التحلل بناء على اعتبارها جمعاً؟
الجواب
مسألة الجمع في الإخلال، وهو أقل ما يصدق عليه الإخلال، لا تستلزم أن التحلل لا يكون إلا بثلاث شعرات، فهناك فرق بين المسألتين، فإن التحلل قال الله فيه: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة:196] وهذا شامل لجميع الرأس من حيث التحلل، وقال صلى الله عليه وسلم: (إني لبدت شعري وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر)، فهذا يدل على تعلقه بالرأس كله، أما مسألة أن أقل الجمع ثلاثة، فهذه تتعلق بأقل ما يقع به الإخلال، وقد قالوا: إذا جز شعرة واحدة فإنه لم يحلق رأسه، لكن إذا وصل إلى أقل الجمع، وهي الثلاث من الرأس، فيصدق عليها أنها شعر للرأس، فكأنه حلق الرأس كله؛ لأن ابتداء الحلق يحصل بأقل ما يصدق عليه الجمع وهو الثلاث، فكأنه إذا حلق الثلاث أو قص الثلاث أو نتف الثلاث؛ كأنه شرع في الإزالة، وفرق بين كوننا نقول: كأنه شرع، وبين أن نقول: قد أزال فعلاً، فهناك فرق بين الابتداء وبين الكمال، وعلى هذا قالوا بأقل الجمع في الإخلالات؛ لأن الشرع قصد أن لا يمس شعره وأن لا يترفه بحلقه أو نتفه أو تقصيره، بخلاف مسألة التحلل فإنه لا بد فيها من تعميم الرأس قصاً وحلقاً.
والله تعالى أعلم.(117/15)
التوفيق بين سنة الجهر بالتلبية وسنة إخفاء الدعاء
السؤال
كيف نوفق بين قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أمره جبريل عليه السلام بأن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم في التلبية، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)؟
الجواب
الأصل في الدعاء وذكر الله عز وجل أن يكون بين العبد وربه، فهو أقرب للإخلاص، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)، فهذا يدل على أن السنة أن يخفض صوته وأن لا يرفعه، هذا أصل عام، وقد ورد التخصيص، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص، فاستثني منه ذكر الحج بالتلبية؛ لشرف هذه العبادة وفضلها وعظيم ما فيها من التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وكون هذا العبد وافداً على الله وضيفاً على الله، يرجو رحمته ويخشى عذابه، مجيباً لداعيه، فإنه شرف بأن يكون حاله وأن يكون مقاله واضحاً بيّناً للناس، ولذلك حتى الهدي إذا أهدي للبيت فإنه يشعر ويقلد وتكون عبادة واضحة أمام الناس؛ تشريفاً لهذه العبادات وتكريماً، وإظهاراً لحرمات الله وشعائره، ولذلك قال تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة:2].
فشرف الله عز وجل هذه العبادة، حيث إن الإنسان يقدم على بيت الله عز وجل تائباً منيباً يرجو رحمته ويخشى عذابه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في شرف هذه العبادة وفضلها: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، وهذا يدل على فضل هذه الشعيرة وعلو منزلتها، فكونه يرفع صوته بها فإن هذا لا يقدح في الأصل؛ لأنه لا تعارض بين عام وخاص، كما أن الإمام يجهر بقراءته في صلاته، ونحو ذلك من الأذكار التي شرع رفع الصوت فيها، سواء كان في عبادة مخصوصة أو كان مطلقاً.
والله تعالى أعلم.(117/16)
حكم التمتع لمن اعتمر في أشهر الحج
السؤال
من اعتمر في أشهر الحج، فهل يكون التمتع واجباً عليه حتى ولو لم يكن ناوياً لذلك؟
الجواب
من اعتمر في أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع شاء أو أبى ما لم يرجع إلى بلده، أما لو اعتمر ثم رجع إلى بلده أو إلى ميقات بلده أو ما يحاذي ميقاته ثم أحرم بالحج من ذلك المكان، فإن إنشاءه السفر الثاني يسقط عنه دم التمتع، بدليل المكي، فإن المكي لما أحرم بالحج والعمرة من مكة سقط عنه دم التمتع وصح تمتعه.
فدل على أن التمتع إنما هو بوجود الترفه والتمتع بسقوط السفر الثاني، كأن الإنسان إذا جاء بعمرة في أشهر الحج ثم بقي في مكة ثم أحرم بالحج من ذلك العام كأنه أحرم من دون ميقاته؛ لأنه أنشأ الحج من مكة نفسها، فاستوى أن يكون ناوياً أو غير ناو؛ لأن هذا الدم يجبر النقصان بالرجوع إلى الميقات، لأن الواجب عليه أن يرجع ويحرم بالحج من ميقاته.
والله تعالى أعلم.(117/17)
حكم الأخذ من الأظافر عند الإحرام لمن أراد أن يضحي
السؤال
علمنا أن من مسنونات الإحرام تقليم الأظافر وأخذ الشعر، ولكن هل هذا عام حتى لمن أراد الأضحية؟
الجواب
إذا أراد الإنسان أن يضحي وأراد أن يحج، وكان إيقاعه للإحرام بعد دخول شهر ذي الحجة فإن السنة أن لا يأخذ من شعره ولا ظفره، فلا يقدم السنة المستحبة على النهي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى من دخلت عليه العشر وأراد أن يضحي أن يمس ظفره وشعره، فدل على أنه يترك الشعر والظفر، فكونه يأتي إلى الميقات ويريد أن يصيب السنة بحسن الشرف والهيئة لا يسوغ ذلك، فلا تقدم السنة المستحبة على نهيه عليه الصلاة والسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا نهيتكم فانتهوا)، فقد نهانا بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فيلزمنا الامتثال، فلا يقص شعره ولا يقلم أظفاره، وحينئذٍ يكون له أجر السنة بالنية.
والله تعالى أعلم.(117/18)
حكم السعي بين الصفا والمروة في غير حج ولا عمرة
السؤال
هل يشرع التطوع بالسعي بين الصفا والمروة في غير حج ولا عمرة قياساً على الطواف؟
الجواب
نص جمع من العلماء رحمة الله عليهم على مشروعية السعي بين الصفا والمروة ولو لم يكن الإنسان في حج أو عمرة؛ لأن الله قال في كتابه بعد ذكره لشعيرة السعي بين الصفا والمروة: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] فأخبر أنه يشكر عمله، ولا شك أنه عام، وقد جاء بعد ذكره سبحانه وتعالى لشعيرة السعي بين الصفا والمروة: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158]، فكونه سبحانه يذكر التطوع بعد الحج والعمرة، أي: طف بين الصفا والمروة لحجك وعمرتك، وإن تطوعت خيراً فإن الله شاكر عليم، قالوا: فهذا يدل على أنه يجوز أن يسعى بين الصفا والمروة، ولو لم يكن ذلك في الحج والعمرة.
والله تعالى أعلم.(117/19)
توضيح قاعدة: (إذا خرج النص مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه)
السؤال
ما معنى القاعدة التي تقول: إن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه؟
الجواب
للنص منطوق ومفهوم، المنطوق: هو دلالة اللفظ نفسه من حيث عمومه وخصوصه، فتنص السنة أو ينص الكتاب على حكم، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، تقول: دلت الآية على وحدانية الله بمنطوقها: فوصف الله سبحانه وتعالى نفسه بكونه واحداً، وهذا نص من المنطوق.
أما بالنسبة للمفهوم -وهو قسيم اللفظ المنطوق- فإنك إذا نظرت إلى لفظ الآية ولفظ الحديث تجد أن اللفظ يدل على معنى يسمى: المنطوق، وتجد خلافه، أي: عكس اللفظ هو: المفهوم.
ومن أمثلة ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (في السائمة الزكاة)، فيصدق على البهيمة من الإبل والبقر والغنم إذا كانت ترعى وتسوم، هذا المنطوق، لكن المفهوم هو أنها (إذا لم تكن سائمة فلا زكاة فيها).
كذلك أيضاً قال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] هذا منطوق الآية، وهو أنه إذا بلغ اليتيم، وهو الشرط الأول، وكان رشيداً، وهو الشرط الثاني، {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، إذا بلغ وكان رشيداً يجب دفع المال إليه بمنطوق الآية ونصها، لكن مفهوم قوله: {آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] أنه إن لم تؤانسوا منهم الرشد فلا تدفعوا إليهم أموالهم، فهذا يسمى المفهوم.
وأقسامه: مفهوم صفة، وشرط، وعلة، ولقب، واستثناء، وعدد، وحصر، وظرف زمان، وظرف مكان، وغاية، هذه عشرة أنواع للمفاهيم: وقد جمعها بعض العلماء بقوله: صف واشترط علل ولقب ثنيا وعد ظرفين وحصر إنحيا هذه المفاهيم العشرة تعتبر عند العلماء على اختلاف فيما هو حجة منها وما ليس بحجة، فالمفهوم في بعض الأحيان يكون معتبراً وأحياناً يكون غير معتبر، فأنت إذا نظرت إلى قوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، إذا كنت تعتبر أن مفهوم العدد حجة تقول: إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث، وإذا كنت تعتبر أن مفهوم العدد ليس بحجة فتقول قوله: (إذا بلغ الماء قلتين) لا مفهوم له، أي: لا أعتبر له مفهوماً، هذا بالنسبة لمفهوم العدد.
لكن قوله: إذا خرج النص مخرج الغالب فلا مفهوم له، مثال ذلك: لما قال الله عز وجل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23]، المرأة إذا تزوجتها وكانت لها بنت، فهذه البنت تسمى: ربيبة، والغالب في البنت إذا كانت مع أمها أن تتربى في حجر زوج أمها، فهو الذي يرعاها ويقوم عليها؛ لأن والدها قد طلق أمها، أو مات عن أمها مثلاً، ففي هذه الحالة تتربى في الغالب في حجر زوج أمها، وإذا ثبت أن الربيبة في الغالب تتربى في حجر زوج أمها فيكون قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23]، كأنه خرج مخرج الغالب، فتقول: لا أعتبر مفهومه؛ لأن مفهومه أنها إذا لم تترب في حجره -كأن يتزوج أمها وهي كبيرة- حينئذٍ يجوز له نكاحها كما يقول الظاهرية، لكن الجمهور يقولون: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] لا مفهوم له؛ لأنه خرج مخرج الغالب.
ومن أمثله -ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) فقال: (باتت) والبيتوتة لا تكون إلا بالليل، فتقول: الأمر بغسل اليدين قبل إدخالها الإناء عام، سواء كان مستيقظاً من نوم الليل أو نوم النهار، فيرد عليك الظاهري ومن يقول بالتخصيص فيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (باتت)، فالحكم خاص بنوم الليل دون نوم النهار، فتقول له: (باتت) خرج مخرج الغالب؛ والقاعدة: أن الغالب في النوم أن يكون في الليل، ولذلك يقولون: إنه خرج مخرج الغالب فلا يعتبر مفهومه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(117/20)
شرح زاد المستقنع - باب الفدية
من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام فيجب عليه الفدية، وهي واجبة على التخيير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاةٍ، ومن قتل صيداً محرمٌ وجب عليه مثله من النعم؛ إن كان له مثل، وإن لم يكن له مثل فهناك تفاصيل ذكرها العلماء في هذه المسألة.(118/1)
المحظورات التي تلزم فيها الفدية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [باب الفدية].
(الفدية): ما يدفع أو يبذل لقاء الشيء، ومنه فداء الأسير، وكأن الإخلال بالمحظورات يوجب الضمان على المكلف فيما ورد الضمان فيه، كحلقه لشعره ونحو ذلك من المحظورات، فكأنه إذا أدى ما أوجب الشرع عليه لقاء هذا الإخلال قد فدى.
وقوله رحمه الله: (باب الفدية) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالفدية، أي: ما يجب على المحرم بالحج والعمرة إذا أخل بالمحظورات.
والأصل في هذه التسمية قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، فسمى الله عز وجل ما يكون من الحاج والمعتمر لقاء إخلاله بحلقه لشعره فدية، فقال العلماء: باب الفدية.
وقوله: [يخير بفدية حلق وتقليم وتغطية رأس وطيب ولبس مخيط بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من تمر، أو شعير، أو ذبح شاة].
فقوله رحمه الله: (يخير بفدية حلق) أي: أن الله عز وجل خير المكلف فيما يدفعه لقاء إخلاله بمحظور الحلق، فإذا حلق رأسه، أو نتف شعر إبطيه، أو حلق عانته، أو قص الشعر فإننا نقول: عليك الفدية.
وهذه الفدية فدية تخييرية، والفدية منها ما يكون المكلف فيه مخيراً كفدية الأذى وفدية جزاء الصيد، وكذلك منها ما يكون على سبيل الترتيب كما أوجب الله عز وجل على من لم يجد الهدي أن يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
فقوله: (يخير بفدية حلق) الأصل في هذا التخيير قوله سبحانه وتعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فجاءت (أو) للدلالة على التخيير، أي: إن شاء افتدى بالصيام، وإن شاء افتدى بالإطعام، وإن شاء افتدى بذبح النسيكة، وأكدت السنة هذا فيما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من قوله: (انسك نسيكة، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صم ثلاثة أيام) فخير رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة، وجاء نص السنة موافقاً لما في الكتاب، ولذلك قال العلماء: (الفدية في الأذى تخييرية) فلو قال: أريد الإطعام.
لا نلزمه بالصيام، ولو قال: أريد الصيام.
لا نلزمه بالإطعام، فلو اختار أي واحد من هذه الثلاث فلا حرج عليه؛ لأن الله خيره.(118/2)
التخيير في الفدية
وقوله: [يخير بفدية حلق وتقليم].
يخير بفدية الحلق إذا حلق شعر رأسه أو قصه أو نتفه، أو حلق شعر سائر البدن أو قصه أو نتفه من أي موضع من البدن، هذا الحلق.
(وتقليم) أي: تقليم الأظفار؛ لأن الله عز وجل جعل تقليم الأظفار من التفث، فقال سبحانه وتعالى في المتحلل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] فلما قال: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29] نبه على أنهم أثناء إحرامهم بالحج كان عليهم ذلك، بمعنى: أنهم تاركون لأظفارهم وأبشارهم وهيئتهم، ولذلك قال العلماء: يحظر تقليم الأظفار، كما تقدم معنا في المحظورات، فلما حرم الله على المحرم بالنسك أن يحلق شعر رأسه جعل الفدية لقاء الإخلال بحلق الشعر، ويعتبر هذا الدليل أصلاً في التنبيه على وجود الفدية فيه، فكأن الله عز وجل أورد الفدية لحلق الشعر لكي ينبه على المثل، وهي مسألة القياس، فكما أن المكلف أثناء إحرامه بالحج والعمرة إذا أحرم بالحج والعمرة وتلبس بالنسك، وحرم عليه أن يحلق شعره أو يأخذ شيئاً من شعر بدنه، وحظر عليه أن يقلم أظفاره، فإذا اعتدى بمخالفة الشرع هنا كان معتدياً في الآخر مثله سواء بسواء، فإذا خاطب الشرع بالضمان في قص الشعر وحلقه من سائر البدن فكأنه يقول: ألحقوا بهذا ما كان في حكمه.
إذ لا يعقل أن تقول: محظور عليه أن يقلم أظفاره، ومحظور عليه أن يتطيب، ومحظور عليه أن يلبس المخيط، فإذا حلق شعر رأسه تقول: عليه الفدية، وإذا غطى رأسه أو لبس المخيط تقول: لا فدية عليه! فيكون هذا من التفريق بين المتماثلين، وقد عهدنا من الشرع أنه يسكت عن المثل حتى يؤجر المجتهد بالاجتهاد والقياس، ولذلك قد وردت النصوص في السنة بحجية القياس؛ لكي يكون هناك أجر للمجتهد بإلحاق النظير بنظيره، كما قال عمر رضي الله عنه لـ أبي موسى: (اعرف الأشباه، ثم قس الأمور بنظائرها)، وذلك في كتابه المشهور الذي بعث به إليه، وقد ذكره الإمام ابن القيم في (أعلام الموقعين)، وبين في أكثر من صفحة حجية القياس، وأورد أدلة السنة، وأن الشرع يسكت عن المثل حتى ينبه بعلة المثل على أنه آخذ حكم أصله.
وعلى هذا فإنه لا يستقيم أن تقول: إذا حلق شعر رأسه عليه الفدية، وإذا تطيب ولبس المخيط وغطى رأسه وقلم أظفاره تقول: لا شيء عليه؛ لأن الكل محظور، والكل نهى عنه الله عز وجل وحرمه على المحرم كما ثبتت بذلك السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونبه الكتاب عليه كما في تقليم الأظفار، فإذا قلت: وجبت عليه الفدية هنا بنص الكتاب، فإن نص الكتاب يعتبر تنبيهاً على أن ما ماثل ذلك أخذ حكمه، كما نص على ذلك جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم، فقالوا: في حلق الشعر وتقليم الأظفار والطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس الفدية؛ لأن الكل جاء بمرتبة واحدة في الشرع، حيث حرم الله عز وجل على المحرم أن يفعل هذه الأشياء، فإذا فعلها متعمداً فتلزمه الفدية.
ثم لو نظرت إلى حديث كعب بن عجرة الثابت في الصحيحين أنه حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من على رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى، ثم قال له: أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة) فهذا مريض ومعذور، ومع ذلك احتاج إلى حلق شعره وخاطبه الله بالفدية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة:196] فهو مع كونه معذوراً يخاطبه الشرع بالفدية، فما ظنك بمن اعتدى وتطيب عامداً متعمداً أليس هو أحرى بالفدية؟ ولذلك قالوا: إن قياس الأولى يقتضي إلحاق من أخل بهذه المحظورات بمن حلق شعر رأسه بدون إشكال أو ريب.
وقوله: [وتغطية رأسه].
كأن يلبس عمامة أو طاقية أو يضع حائلاً على الرأس من سائر الغطاء فإنه يعتبر منتهكاً للحرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تلبسوا العمائم) والعمامة سميت بذلك لأنها تعم الرأس بالتغطية، فلما نهى صلوات الله وسلامه عليه عن لبس العمامة، قالوا: من غطى رأسه فإنه قد وقع في المحظور الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيلزم بالفدية، فكما أنه إذا حلق رأسه مع وجود العذر لزمته الفدية، فلأن تجب عليه الفدية إذا غطاه من باب أولى وأحرى، خاصة إذا لم يكن له عذر.
وقوله: [وطيب].
وهكذا الطيب سواء وضعه في بدنه أو في رأسه أو في مغابنه، فإنه تلزمه الفدية التي نص الله عز وجل عليها وهي فدية الأذى.
وقوله: [ولبس مخيط].
وكذلك لبس المخيط، فجميع هذه الأشياء حظرت على المحرم، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس)، فحرم تغطية الرأس ولبس المخيط والطيب في البدن والثياب، فدل على أن هذه الأمور كلها تعتبر محظورة وهي في حكم واحد، فمن أخل بواحد منها كان كمن أخل بغيره سواء بسواء.(118/3)
الفدية بصيام ثلاثة أيام
وقوله: [بين صيام ثلاثة أيام].
يخير بين صيام ثلاثة أيام، نقول له: اختر، إما أن تصوم ثلاثة أيام حيث شئت فالصيام لا يتقيد بمكة، ولا يتقيد بحال إحرام، ولا يتقيد بزمان ولا مكان، لكن ينبغي عليه أن يبادر إبراء للذمة وخشية الاشتغال.
ولا يجب أيضاً في هذا الصيام أن يكون متتابعاً، فلو صام في الوقت الحاضر يوماً، وفي الأسبوع القادم اليوم الثاني، وفي الأسبوع الذي بعده اليوم الثالث فلا حرج، سواء وقعت الأيام الثلاثة متتابعة أو متفرقة؛ لأن الله تعالى قال: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة:196] وأطلق، وقال صلى الله عليه وسلم: (صم ثلاثة أيام)، والقاعدة: (أن المطلق يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده) ففي القرآن إطلاق في الصيام، وفي السنة إطلاق في الصيام، فإطلاق القرآن في قوله سبحانه: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة:196] هذا إطلاق قيدته السنة بقوله عليه الصلاة والسلام: (صم ثلاثة أيام)، فقيدته في العدد ولم تقيده في الوصف، فلم يقل: صم ثلاثة أيام متتابعة، ولم يقيده بالمكان، فلم يقل: صم ثلاثة أيام في حجك، أو صم ثلاثة أيام في عمرتك، ولم يقيده بمكان كأن يقول: صم ثلاثة أيام بمكة، أو صم ثلاثة أيام في مكان إخلالك، فأصبح هذا الصيام له جملة من الأحكام: أولاً: أنه لا يتقيد بمكان معين فله أن يصوم حيث شاء.
وثانياً: أن الواجب أنه مقيد بثلاثة أيام، وهذه الأيام الثلاثة لا يشترط فيها التتابع، فإن صامها متفرقة أو متتابعة فلا حرج عليه في ذلك.
وهذا الصيام جعله الله عز وجل على الخيار، فإن اختاره فله أن يصوم لأكثر من فدية، فلو كانت عليه ثلاث فديات فأحب أن يصوم تسعة أيام فلا حرج.(118/4)
الفدية بإطعام ستة مساكين
وقوله: [أو إطعام ستة مساكين].
هذا الخيار الثاني، نقول له: صم ثلاثة أيام حيث شئت، أو أطعم ستة مساكين، ولكل مسكين نصف صاع، وإطعام ستة مساكين الأصل فيها: قوله تعالى: {أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة:196] فإن (صدقة) نكرة؛ والقاعدة: (النكرة تفيد العموم) فهذا يشمل أي صدقة، ولذلك يقولون: إن القرآن لما ورد بالصدقة ورد بها على سبيل العموم أياً كانت قليلة أو كثيرة، فجاءت السنة وخصصت، والسنة تقيد مطلق القرآن وتخصص عمومه وتبين إجماله، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] فهذا من بيان السنة للقرآن، فيكون بتقييد المطلقات وتخصيص العمومات وبيان المجملات، فلما قال سبحانه: {أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة:196] شملت الصدقة سواء أكانت قليلة أو كثيرة، فلو سكت القرآن على هذا وسكتت السنة عليه لكان أي صدقة تجزئ، لكن لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أطعم ستة مساكين) لكل مسكين قال: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) والفرق: ثلاثة آصع، فإذا كان الفرق ثلاثة آصع ويفرق بين ستة مساكين فمعناه أن لكل مسكين نصف صاع، وعليه قالوا: فدية الأذى يعطي نصف صاع من تمر، أو شعير أو بر أو غيره.
فلذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) دل على أنه يعطي لكل مسكين نصف صاع، لكنه لم يحدد صلوات الله وسلامه عليه الإطعام بمكان، فليس بواجب على من لزمته هذه الفدية أن يطعم ستة مساكين من مساكين الحرم، بل إنه إذا أطعم ستة مساكين في أي مكان أجزأه، ففدية الأذى بالإطعام والصدقة لا تختص بالحرم، ولذلك لو أطعم المساكين في الحرم وغيره فإنه يُبرئ ذمته بذلك الإطعام.
وكذلك لو كانوا فقراء فإنه يجزيه إذا أطعم ستة فقراء، ولذلك قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطعم ستة مساكين) لأن المسكين يعتبر أحسن حالاً من الفقير، فإذا جاز إطعامه للمسكين فمن باب أولى أن يطعم الفقراء، والسبب في ذلك: أن المسكين يصل به الضيق إلى أنه لا يجد قدر كفايته الكاملة، إنما يجد بعض الكفاية، ولكن الفقير قد لا يجد كفايته، ولذلك جعل الله المسكين أفضل حالاً من الفقير فقال سبحانه: {وأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فأثبت لهم وصف المسكنة مع كونهم يملكون السفينة، ولذلك يقولون: إن المسكين أحسن حالاً من الفقير.
وهذا على أصح قولي العلماء، فالمسكين لا يجد كفايته، ولكن الفقير لا يجد لا قوته ولا أقل القوت في بعض الأحيان، بل قد لا يجد شيئاً، ويوصف بكونه فقيراً، ولكن المسكين يجد دون الكفاية فلا يجد قدر الكفاية، فيكون مسكيناً، وكان نص النبي صلى الله عليه وسلم على المسكين من باب التنبيه على من هو أدنى وأحرى، فكأنه على من هو أدنى يقول: أطعم ستة مساكين، وإن شئت أطعمت ستة فقراء.
وقوله: [لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير].
يلاحظ أن المصنف رحمه الله فرق بين البر وبين غيره، فقال: (مد بر، أو نصف صاع من شعير أو غيره) والصحيح: أن نصف الصاع من أي طعام شاء، فيشمل التمر والبر والشعير، وأنه لا فرق بينها، والدليل: السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) فإنه لما نص عليه الصلاة والسلام على الفرق دل على أن ما دونه لا يجزئ، إذا لو قلت: إن مد بر يجزئ لكل مسكين لكان الإطعام صاعاً ونصف من بر وثلاثة آصع من غير البر، والصحيح: أنه لا يجزئ أقل من ثلاثة آصع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أطعم فرقاً بين ستة مساكين) دل على أن ما دون الفرق لا يجزئ، فلو قلنا: إنه يجزئ مد البر فإن هذا يؤدي إلى أن دون الفرق يجزئ، وهو خلاف ظاهر السنة، وقد قال به بعض الصحابة اجتهاداً كما هو فعل معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وخالفه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأنكروا ذلك، ولا شك أن العمل يكون بما قال به جمهور الصحابة، بالإضافة إلى أنه هو الموافق لظاهر السنة؛ ولذلك لا وجه للتفريق بين البر وبين غيره.(118/5)
الفدية بذبح شاة
وقوله: [أو ذبح شاة].
الخيار الثالث أن نقول له: اذبح شاة، وفي الشاة مسائل: أولاً: أن هذه الشاة يشترط فيها أن تكون قد بلغت السن المعتبر، فلا يجزئ أقل من المسنة من الماعز، والجذع من الضأن، إذا أراد أن يذبح من الماعز فإنه لا يجزئ ما كان منها دون السنة، وإذا أراد أن يذبح من البقر فلا يجزئ ما دون السنتين -أي لابد أن يكون بلغ السنتين ودخل في الثالثة- وأما بالنسبة لجذع الإبل فلا يجزئ أقل مما أتم الرابعة وطعن في الخامسة، هذا بالنسبة للجذع من الماعز والبقر والإبل.
أما بالنسبة للضأن فإنه يجزئ فيه الجذع، وهو ما تم له ستة أشهر فأكثر، فإذا أراد أن يذبح الشاة فإنه يخير بين أن يذبح مسنة من الماعز وبين أن يذبح جذعة من الضأن، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) وعلى هذا: فليست كل شاة تجزي، فلو ذبح جفرة من المعز لا تجزي، ولو ذبح العناق لا تجزي؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث البراء في الصحيح لما سأله أبو بردة رضي الله عنه أنه ذبح العناق فقال له: (تجزيك ولا تجزي غيرك) فدل على أنه لا يجزئ بالنسبة للماعز ما كان دون السنة التامة وهو المسن.
وأما بالنسبة للبقر فيجزئ سبعها، وكذلك الإبل يجزي سبعها، فلو وجبت عليه الفدية وكانت عليه ثلاث إخلالات، فاشترى ثلاثة أسباع بعير أو ثلاثة أسباع بقرة فإنه يجزيه ذلك إذا بلغ البعير أو البقرة السن المعتبر.
إذاً: تجزيه الشاة والسبع من البدنة والبقر لقاء هذه الفدية، ولو كان عليه أكثر من محظور وبلغت محظوراته السبع، فتكررت له في حج وعمرة وبلغت سبعاً، وأراد أن يذبح ناقة أجزأته عن جميع هذه المحظورات، وهكذا لو أراد أن يذبح عنها بقرة كما في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه: (أن الصحابة كانوا يشتركون السبعة في البعير) فدل على أن سبع البدنة يجزئ عن شاة، وكذلك ضحى رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر، والبقر منزل منزلة البعير، وهذا عليه قضاء جماهير السلف والخلف رحمة الله على الجميع.
فيجزيه في فدية الأذى أن يذبح شاة -وهو الخيار الثالث- أو يذبح سبع البدنة أو يذبح سبع البقرة، والذبح يجزيه في أي موضع، ومن هنا تختلف الفدية عن هدي التمتع والقران ودم الجبران، فهدي التمتع وهدي القران ودم الجبران لا يجزئ ذبحه إلا بمكة وداخل حدود الحرم، فلو ذبح هدي التمتع خارج حدود الحرم، كأن يذبحه في عرفات أو في التنعيم خارج حدود الحرم، فإنه لا يجزيه، ويكون صدقة من الصدقات، ويلزمه أن يكون ذبحه داخل مكة، ولذلك قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95].
ومثل ذلك: جزاء الصيد؛ لأن الله نص فيه ببلوغه للكعبة، والمراد بقوله سبحانه: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] أي: بالغاً حدود الحرم، من باب إطلاق الجزء على الكل، كما قال سبحانه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1] والمراد: أطلق الجزء وأراد الكل، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (لا سبق إلا في خف أو حافر) فأطلق الجزء وأراد الكل، وقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] أي: بالغاً حدود الحرم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (نحرت هاهنا، وفجاج مكة وشعابها كلها منحر) فدل على أنه يجزئ أن يذبح الشاة الواجبة عليه في الهدي، وهدي التمتع والقران وجزاء الصيد -كما ذكرنا- بمكة، وأما ما عداها من فدية الأذى ونحوها فيجزيه في أي مكان.
أما الدليل الصريح الذي يدل على أنه يجزيه أن يذبح فديته في الأذى خارج مكة: ما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة، أنه في عام الحديبية لما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابه ما أصابه، وهو دون الحرم لم يبلغ الحرم بعد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انسك نسيكة) النسك: هو الذبح، ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] أي: ذبحي، كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] فالنسك المراد به: الذبح، فقوله: (انسك نسيكة) أي: اذبح ذبيحة، ولم يقل له: بمكة، ولم يقل له: بالحرم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلما أطلق صلوات الله وسلامه عليه قال العلماء: يجزيه أن يذبح الشاة في فدية الأذى والحلق والتقصير ونحوه في أي موضع شاء، ولا يلزمه أن يكون ذبحه بمكة، فإذا ذبحها فإنه قد أدى ما عليه.(118/6)
حكم من قتل صيداً وهو محرم
وقوله: [وبجزاء صيد بين مثل إن كان، أو تقويمه بدراهم يشترى بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً أو يصوم عن كل مد يوماً].(118/7)
الحكم عند قتل المحرم لصيد له مثل
فقوله: [وبجزاء صيد بين مثل إن كان].
نحن قدمنا أنه لا يجوز للمحرم بالحج والعمرة أن يقتل الصيد، وهذا ترتيب من المصنف رحمه الله، فبدأ بالمحظورات التي في جسد الإنسان وفي نفسه من الحلق والتقليم والتطيب وتغطية الرأس ولبس المخيط، ثم انتقل إلى ما يحتاجه لبدنه وهو جزاء الصيد فقال: (إذا أخل بجزاء الصيد)، ففي جزاء الصيد تكون الفدية تخييرية، والمراد بذلك: أن يقتل المحرم صيداً.
ويشترط أن يكون الحيوان من الصيد، ولذلك بعض الناس اليوم يسأل: إذا كان في سيارة وهو محرم بالحج والعمرة، ثم يشاء الله أن يقتل شاة في الطريق، فالشاة ليست من الصيد، ونحن نتكلم على الصيد، فلو قتل حيواناً أصله من المتوحش الذي هي الصيود، وأما ما عدا الصيد من الحيوانات المستأنسة التي تكون مع الآدميين كالإبل والبقر والغنم فهذه لها حكم الضمان الشخصي، فلو صدمها بسيارته لا يجب ضمان الصيد في هذا؛ لأنها ليست بصيد، وإنما حرم عليه قتل الصيد، ولذلك يجوز لك وأنت محرم أن تذبح الشاة لضيوفك أو تذبح الشاة في سفر، أو تنحر البعير لك أو لضيوفك أو لرفقتك، فلا حرج عليك في هذا، فمحل الإخلال قتل الصيد.
لكن مثلاً: لو كان في سيارته فارتطمت به حمامة أو عصافير فقتلها، أو دهس أرنباً أو نحو ذلك من الحيوانات سواء من الطيور أو غيرها من العوادي كتيس الجبل والوعول والظباء، فصدم مثل هذا وقتله، أو أطلق النار عليه فقتله، فحينئذٍ يقع
السؤال
قد أخل بما نهاه الله عز وجل عنه من قتل الصيد، فما الذي يلزمه؟ إذا قتل المحرم الصيد فينظر إلى الموضع الذي قتل فيه الصيد، ويبحث عن شخصين عدلين من الرجال دون النساء؛ لأن مثل هذه الأمور يطلع عليها الرجال أكثر من النساء، وحكمهم خاص بهم: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:106] فيأخذ اثنين من العدول الذين لهم معرفة في الموضع الذي قتل فيه الصيد، واختلف العلماء إذا لم يتيسر له ذلك، فقال بعضهم: يجزيه من أي موضع، بل حتى ولو تيسر له في موضع الصيد وذهب إلى غيره -كما أثر عن عمر رضي الله عنه في قضائه- فلا حرج.
وقال بعض العلماء: الاثنان يمكن أن يكون هو واحد منهما مع آخر إذا كان عدلاً، فيحكم على نفسه، واستشهدوا بذلك في قضية عمر رضي الله عنه في الموطأ وغيره.
فالمقصود: أن يأخذ هذين العدلين لينظرا في هذا الشيء الذي قتله من الصيد، وهذا الشيء الذي قتله من الصيد إما أن يكون له مثل من بهيمة الأنعام أو لا يكون له مثل من بهيمة الأنعام، فبهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم، فينظر الحكمان في هذا الشيء الذي قتله ما هو الذي يماثله من بهيمة الأنعام، فإن كان -مثلاً- تيس جبل فينظرون في حجمه، فيجدون أن الذي يماثله تيس من الماعز مثلاً، فيقولون حينئذٍ: مثله شاة من ماعز أو ضأن (طلي) مثلاً.
ثم ينظرون أيضاً إلى مثله من البقر إن كان بقر وحش أو غزالاً أو ريماً، فإن قتل غزالاً أو ريماً أو وعلاً فينظرون فيه إلى ما يعادله، فقالوا: عدل حمار الوحش وبقر الوحش البقرة، فحينئذٍ يوجب عليك بقرة، أو ينظرون إلى أنه قتل نعامة، فيقولون: عدل النعامة البعير، فكل شيء من هذه الصيود التي لها عدل ومثل يحكم عليه بذلك المثلي.
فالمرحلة الأولى: أن يبحث عن العدلين.
الثانية: بعد وجود العدلين يقوم العدلان بالنظر فيما قتل وما الذي يماثل المقتول، فإن كان له مثلي من بهيمة الأنعام من إبل أو بقر أو غنم حكما عليه بذلك المثلي، فإذا أصدر الحكم أن عليه شاة فيقولان له: عليك شاة.
ويحددان له هذه الشاة المطلوبة، فإذا حددت فيقولان له: أنت بالخيار: إما أن تذبح هذه الشاة بمكة وتتصدق بها على فقراء الحرم -هذا الخيار الأول- أو تقوم الشاة بالنقد، فقيمتها -مثلاً- مائة ريال، فالمبلغ الذي تبلغه يقدر به الطعام، فيُشترى به آصع من التمر، فرضنا أن الصاع بعشرة ريالات، فحينئذٍ إذا كانت قيمة الشاة مائة ريال فيكون عليه عشرة آصع، فيعطونه الخيار الثاني، يقولون له: إما أن تذبح الشاة بمكة، أو تطعم عشرة آصع لكل مسكين ربع صاع، وقيل: نصف صاع، على خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم، فإذا قلنا بربع الصاع فنقول: إذا كان عليه عشرة آصع ولكل مسكين ربع صاع، فيكون عليه إطعام أربعين مسكيناً.
فيقال له: إما أن تذبح الشاة بمكة، أو تطعم أربعين مسكيناً بمكة -على خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم- أو تصوم عدل كل مسكين يوماً، فإن قلت: نصف صاع يكون حينئذٍ عليه عشرون يوماً، وإن قلت: ربع صاع يكون عليه أربعون يوماً، فيقال له: إما أن تذبح الشاة بمكة أو تطعم المساكين الذي هو عدل قيمة الشاة، أو تصوم من الأيام عدل النصف أو الربع على قولي العلماء رحمة الله عليهم، ورجح أكثر من واحد الربع، أي: أن عليه ربع صاع لكل مسكين.
وعلى هذا: يكون جزاء الصيد ليس بالترتيب وإنما هو بالتخيير، فيقال له: إن شئت أخرجت العدل والمثل، ولا نلزمك به عيناً، وإن شئت أطعمت وإن شئت صمت عدل المساكين الذين وجب عليك إطعامهم.(118/8)
الحكم عند قتل المحرم لصيد ليس له مثل كالعصفور
إن لم يكن للصيد مثل، كأن يكون -مثلاً- عصفوراً، فالعصفور حينما تنظر إليه لا يعادل شاة ولا بقرة ولا بعيراً، فهذا مما لا مثل له من بهيمة الأنعام، والله تعالى يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة:95] فإذا كان لا مثل له من بهيمة الأنعام فيقولون: ينقطع الخيار الأول -وهو بهيمة الأنعام- وحينئذٍ إذا كان قد قتل عصفوراً فنقول للحكمين: قدرا قيمة العصفور.
فيقدران أن قيمة العصفور عشرة ريالات، فنقول له: أنت بالخيارين، إما أن تطعم بالعشرة وتشتري بها، فلو فرضنا أن العشرة تعادل صاعاً، فنقول له حينئذٍ: خذ الصاع وأطعم المساكين إما ربعاً أو نصفاً، وإن قلنا: النصف؛ فحينئذٍ كم مسكيناً يكون عليه أن يطعم؟ إذا كان الصاع الواحد بعشرة ريالات، فيكون عليه أن يطعم مسكيناً؛ لأن قيمة العصفور عشرة ريالات، والعشرة الريالات قيمة للصاع الواحد، فإن كان عليه نصف صاع لكل مسكين فمعناه أنه يطعم مسكينين، وإن قلنا: ربع صاع، فيطعم حينئذٍ أربعة مساكين؛ لأن لكل مسكين ربع صاع، فعلى هذا يقال له: إما أن تصوم يومين على أن الواجب النصف، أو تصوم أربعة أيام على أن الواجب الربع.
هذا بالنسبة إذا لم يوجد للمقتول من صيد البر مثلٌ من بهيمة الأنعام، وعليه قالوا: إن قتل الصيد إما أن يكون بمثل فيخير بين ثلاثة أشياء: المثل، أو عدله من الطعام، أو عدله من الصيام.
وأما إذا لم يوجد له مثل فإنه ينتقل إلى الإطعام أو عدل الإطعام من الصيام، هذا بالنسبة لجزاء الصيد.
وقوله: [وبجزاء صيد بين مثل إن كان].
(بين مثل إن كان) أي: وجد له مثل.
وقوله: [أو تقويمه بدراهم إن كانت].
(أو تقويمه) تقويم المثل على أصح أقوال العلماء؛ لأن هناك قولاً يقول: يقوم الصيد.
والصحيح: أن الذي يقوم هو المثل؛ لأن المثل هو الذي وجب، والله تعالى يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة:95] وهناك فرق بين أن يقوم الصيد وبين أن يقوم بهيمة الأنعام، فلو فرضنا أنه: قَتل حمار وحش، فإذا عدلته ببقرة فإنك تجد قيمة البقرة -مثلاً- خمسمائة ريال، لكن حمار الوحش يكون غالياً، فقد تصل بقرة الوحش -مثلاً- إلى سبعمائة أو ثمانمائة ريال، فحينئذٍ يكون هناك فرق بين قيمة المثل وقيمة الصيد، ولذلك اختلف العلماء هل العبرة بقيمة الصيد أو العبرة بقيمة المثل؟ والصحيح: أن العبرة بقيمة المثل؛ لأن الله عز وجل أوجب عليه أن يخرج المثل الذي هو عدل ما قتل من بهيمة الأنعام، فلما وجب عليه أن يخرج العدل وهو من بهيمة الأنعام صارت ذمته مشغولة بالعدل من بهيمة الأنعام لا بالصيد؛ لأن هذا العدل وقع بدلاً عنه، فحينئذٍ يكون بدلاً عن ذلك الذي وجب عليه، فيُلزم بالنظر إلى قيمة المثلي من بهيمة الأنعام لا إلى قيمة الصيد المقتول.
وقوله: [أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً].
وهذا يرجع في التقويم إلى قول أهل الخبرة، والأصل في الشريعة الإسلامية في القضاء، وفي مثل هذه المسائل في فصل الخصومات أنه إذا احتيج إلى التقديرات أنه يرجع إلى أهل الخبرة والنظر، فلا يقبل تقدير كل أحد، وإنما يسأل أهل الخبرة كم قيمة هذا العدل أو المثل من بهيمة الأنعام؟ فمثلاً: لو فرضنا أن المحرم يرى أن الشاة تساوي ثلاثمائة ريال، لكن أهل الخبرة قالوا: قيمتها أربعمائة ريال أو خمسمائة ريال، فلا يلتفت إلى تقديره هو، وإنما ينظر إلى قول أهل الخبرة؛ لأنه يرجع في كل فن وعلم إلى أهله، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة: (أن الشرع يأخذ بشهادة كل قوم فيما يختص بهم) فإذا شهد الشهود العدول أهل كل صنعة بصنعتهم اعتدَّ بشهادتهم وأخذ بها.
وقوله: [فيطعم كل مسكين مداً].
المُد: وهو ربع الصاع، بمقدار ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وهو مد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكلمنا على هذه المسألة في الزكاة، فهناك ربع الصاع الذي يسمى بالمد النبوي، وهو أصغر المكاييل النبوية، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، وهناك الصاع الذي يعادل أربعة أمداد، وهناك المد الكبير وهو موجود في زماننا، والمد الكبير يعادل ثلاثة آصع، فأصبح المد الكبير يعادل من المد الصغير اثني عشر مداً صغيراً، وهذا موجود إلى زماننا، ويقال للصغير: المد النبوي، ويقال للمتوسط: الصاع النبوي، وهو الذي كان يغتسل به صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: [أو يصوم عن كل مد يوماً].
سواء أوقع الصيام متتابعاً أو متفرقاً.
وقوله: [وبما لا مثل له بين إطعام وصيام].
ويخير فيما لا مثل له بين إطعام وصيام؛ لأنه سقط المثلي لتعذره؛ ولأنه لا مثل له، فالله أوجب المثل إن وجد، فأما إذا كان عصفوراً ولا مثل له فحينئذٍ لا يلزمه إلا الإطعام وعدل الإطعام من الصيام.(118/9)
وجوب الهدي في المتعة والقران
وقوله: [وأما دم متعة وقران فيجب الهدي].
هذا مما لزم بالترتيب، والأول لزم بالتخيير، ففي التمتع والقران يجب عليه أن يذبح شاة بالصفة التي ذكرناها، يشترط فيها: أن تكون بلغت السن المعتبرة، وأن تكون سالمة من العيوب، وأن يكون هدي القران والتمتع ذبحه ونحره بمكة، فهذه أمور لابد من توافرها للحكم ببراءة ذمته من هذا الواجب، فإذا لم يجد الشاة فإنه ينتقل إلى البدن، فليست بلازمة على التخيير وإنما هي لازمة على الترتيب؛ لأن الله رتبها في كتابه في آية البقرة في التمتع: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196].(118/10)
كيفية الصيام إن عدم الهدي في المتعة والقران
وقوله: [فإن عدمه فصيام ثلاثة أيام].
فإن عدم الهدي ولم يجده، كأن يكون ذهب وليس عنده مال يشتري به الهدي بالنسبة له وهو في الحج، والعبرة به وهو في الحج، فلو كان عنده مال ببلده لم يؤثر كما في المتيمم، فإن المتيمم إذا سافر وفقد الماء في السفر فإنه سوف يجده في بيته وفي الحضر، فوجدانه في بيته لا عبرة به إنما العبرة بحاله حينما خوطب وأُلزم، والعبرة في قدرته على الإتيان بالهدي، وللعلماء في هذه المسألة أقوال، أصحها: أن العبرة بصبيحة يوم النحر، فإذا أصبح يوم النحر وليس عنده قدرة على شراء الهدي وأصبح فقيراً فإنه لا يلزمه الهدي، وقيل: بمجرد إحرامه -العبرة بالإحرام- وفائدة الخلاف: أنه لو كان غنياً قبل يوم النحر ثم افتقر يوم النحر بسرقة ماله، أو وجود غرامة عليه فذهب ماله في تلك الغرامة، أو احتاج رفيقه إلى مال فأخذه واستنفده في سفره ونحو ذلك فحينئذٍ إذا قلنا: العبرة بإهلاله وجب عليه الهدي عيناً، وأما إذا قلنا: إن العبرة بصبيحة يوم النحر فحينئذٍ ينظر إلى حاله صبيحة يوم النحر؛ لأنه حينئذٍ يلزمه التحلل من نسكه بالهدي.
وعلى هذا فإذا كان في صبيحة يوم النحر فقيراً أو معسراً فلا يلزمه الدم، وكذلك أيضاً لو لم يجد الدم، عنده المال ولكنه لم يجد الشاة ولم يجد سبع البدنة ولا سبع البقرة، فذهب إلى السوق فلم يجد شيئاً، فحينئذٍ يلزمه أن ينتقل إلى البدل ويسقط عنه الدم إذا مضت أيام التشريق ولم يجده.
وقوله: [والأفضل صوم آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله].
يصوم ثلاثة أيام إذا لم يجد في الحج، واختُلف هل العبرة بإهلاله للعمرة لأنها سبب في التمتع وسبب في لزوم الدم، أم أنها تكون من بداية إهلاله بالحج، فظاهر القرآن: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة:196] أنه يصوم بعد إهلاله بالحج، وقال به طائفة من السلف، وهو مذهب المالكية والحنفية، على أن الله عز وجل قيد هذا الصيام بالحج، فلا يجزيه أن يبدأ به وهو في العمرة، وتوضيح ذلك: أنه لما قيد بظرفية الحج: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة:196] دل على أنها لا تجزي في غير الحج، فقالوا حينئذٍ: يلزمه الصيام إذا شرع في الحج، وأما قبل الحج فلا يصح منه، وقال بعض العلماء -وهو رواية الإمام أحمد، اختارها جمع من أصحابه-: إذا أحرم بالعمرة أجزأه أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت العمرة في الحج، وشبك بين أصابعه)، ولكن رد على هذا الدليل بأن الله تعالى فصل بين العمرة والحج في الآية التي أوجب فيها البدل، فقال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ففصل بين العمرة وبين الحج، وهذا القول -الذي يقول: إنها تكون بعد الإحرام بالحج- هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لأن ظاهر القرآن فيه قوي، ودخول العمرة في الحج قصد منه النبي صلى الله عليه وسلم جواز العمرة في أشهر الحج، وهي مسألة خارجة عن موضوعنا.
ولذلك يقوى أن يقال: إنه لا يصومها إلا بعد إحرامه بالحج، فإذا أحرم بالحج فيصوم الثلاثة الأيام، ويستحب أن يكون صيامه قبل يوم عرفة، وهذا هو قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عمر، وكانت أم المؤمنين عائشة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يريان الصيام عن دم التمتع قبل الحج -كما ذكرنا في مذهب من سمينا من العلماء- وكانا يريان ظاهر القرآن في قوله: (في الحج) فيصومها فيما بين إحرامه بالحج وقبل يوم عرفة، واختارا أن يكون إهلاله -مثلاً- بالحج من اليوم السادس ليصوم السادس والسابع والثامن، فإذا جاء يوم عرفة فتكون ذمته قد برئت، ولا يُدخل يوم عرفة في الصيام، وقال بعض السلف -كما هو قول طاوس ومجاهد والشعبي والنخعي وجمع من السلف-: (إنه يجوز أن يصوم ويجعل يوم عرفة آخرها) وهذا القول قول مرجوح، ولكن إذا احتاج الإنسان إليه بمعنى: أنه لم يستطع أن يصوم فيما قبل يوم عرفة فإنه يصوم يوم عرفة؛ لأنه صيام واجب عليه.
واختلف العلماء: هل الأفضل أن يفطر يوم عرفة ويصومها من أيام التشريق، أو الأفضل أن يصوم يوم عرفة ولا يصوم أيام التشريق؟ والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيام منى أيام أكلٍ وشربٍ وبعال)، قالوا: فهذا يدل على أنه لا ينبغي للحاج أن يصومها، ولذلك قالوا: لا تصام أيام التشريق للحاج، فمن يقول بأفضلية تأخيرها عن يوم عرفة يقول: يجوز أن يؤخر هذا اليوم، والأفضل: ألا يصوم يوم عرفة ويؤخرها إلى أيام التشريق، فيجعل هذا اليوم الثالث من الأيام الواجبة عليه من أيام التشريق؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ثبت عنهم أنهم كانوا يصومون أيام التشريق في دم التمتع، ولذلك قالوا: نفضل له أن يفطر يوم عرفة؛ لأنه الركن الأعظم، وقد قصد من هذا الركن أن يتفرغ للدعاء فيكون أبلغ وأقوى وأجلد له على الدعاء، ثم بعد ذلك يصوم هذا اليوم من أيام التشريق.
وقال بعض العلماء بل يصوم يوم عرفة؛ وذلك لأن يوم عرفة له أصل من فعل الصحابة، فكانت أم المؤمنين عائشة تصومه كما جاء في الموطأ، حتى إذا ابيضت الأرض بينها وبين الحاج دعت بفطورها فأفطرت، قالوا: حينئذٍ يصوم يوم عرفة، وكان طاوس بن كيسان -وهو من تلامذة ابن عباس - وسعيد بن جبير وكذلك الحسن البصري والشعبي وإبراهيم النخعي -وهو قول طائفة من السلف- يرون أنه يصوم هذا اليوم -أعني: يوم عرفة- ويجعله ضمن الأيام.
والذي يظهر -والله أعلم-: أنه يصوم السادس والسابع والثامن، ولا يصوم يوم عرفة، وإذا بقي عليه شيء من الثلاثة الأيام يؤخره إلى أيام التشريق؛ فإنه أفضل من صيام يوم عرفة لما ذكره أصحاب هذا القول، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصومون أيام التشريق، وحينئذٍ لما جاءنا عن الصحابة أنهم صاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أيام التشريق يقوى أن يقال: بأنه ينصرف إلى أيام التشريق ويقدمها على يوم عرفة.
وقوله: [والأفضل كون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله].
وهذا لما ذكرناه من قول بعض السلف كـ طاوس وغيره، ولكن قلنا: إن هذا مرجوح، والصحيح: مذهب من سمينا أنه لا يصوم يوم عرفة؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عمر كانا يقولان: (يصومها فيما بين إحرامه بالحج وقبل يوم عرفة) وعلى هذا إذا شاء فإنه يحرم بالحج ليلة الخامس، فيصوم الخامس والسادس والسابع، وإن شاء يحرم بالحج ليلة السادس فيصوم السادس والسابع والثامن، فهذا أفضل له وأبلغ في إبراء ذمته وانصرافه إلى حجه متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم بفطر يوم عرفة وبفطر أيام التشريق.
وقوله: [وسبعة إذا رجع إلى أهله].
ويلزمه صيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، قال بعض العلماء: (العبرة في الرجوع بالشروع) فلو مثلاً: انتهى من الحج، وركب في السفر وهو راجع إلى أهله يجوز أن يصوم؛ لأنه راجع إلى أهله، وقيل: (إذا رجع) أي: إذا وصل إلى أهله، فإذا وصل إلى أهله صام السبعة.(118/11)
حكم المحصر إذا لم يجد هدياً
وقوله: [والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة ثم حل].
والمحصر: الممنوع، الحصر: أصله المنع، والمحصر: هو الذي يمنع من البيت كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، أهل بالعمرة فمنع من الوصول إلى البيت، فإذا أحصر بعدو فإنه ينحر هديه ثم يتحلل ولا شيء عليه، أي: ليس عليه قضاء عمرته أو حجة، وهذا على أصح قولي العلماء، فإذا منع بعدو من الوصول إلى البيت لا يقال بأنه ينحر مباشرة وإنما ينظر فيه، يقال: هل لك طريق غير هذا الطريق يمكن أن تصل به إلى البيت؟ قال: نعم.
نقول: أنت لست بمحصر، ويلزمك أن تذهب إلى الطريق البديل، ولا يحكم بإحصاره إلا إذا منع بالكلية فليس له إلا طريق واحد أو طريقان، وهذان الطريقان لا يمكن أن يصل معهما إلى البيت.
كذلك أيضاً يتفرع عليه أن المحصر الأصل في أنه يتحلل قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فجعل للمحصر مخرجاً من إتمام حجه، وهذا يعتبر بمثابة الرخصة جعلها الله عز وجل للعزيمة في قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196].
فالأصل عندنا في الشرع أن من نوى الحج أو من نوى العمرة وتلبس بالنسك فإنه يجب عليه أن يتم هذا النسك، فإذا منع من الوصول إلى البيت وحيل بينه وبين البيت بأي حائل يمنع من وصوله إلى البيت فإنه حينئذٍ يعدل إلى هديه، وإذا نحر الهدي تحلل ولا شيء عليه، فلا نطالبه بقضاء عمرته ولا نطالبه بقضاء حجه على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم.
وقوله: [والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة ثم حل].
قياساً على دم المتعة، وذهب المالكية والحنفية إلى أنه إذا لم يجد الهدي لا شيء عليه، وهذا هو الصحيح؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى جعل الصيام بدلاً في هدي التمتع، ولم يجعله في هدي الإحصار فقال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ولم يذكر البدل، لكن أصحاب القول الأول -كما يختاره المصنف- لهم حجة، قالوا: إن الله عز وجل ذكر حكم الإحصار، فقال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، ثم قال بعدها: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] قالوا: ((فما استيسر من الهدي)) فنص على الهدي مع أن السياق واحد، فذكر الإحصار ثم أتبعه بالتمتع فكأن الحكم واحد، فكأنه ذكره في المتأخر حتى لا يحصل التكرار بعد ذكره في المتقدم، ولذلك قال بعدها: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] ولذلك لا يقع إحصار لمن كان من حاضري المسجد الحرام، ولكن الصحيح أن المقصود بقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] المراد به: من كان متمتعاً دون من كان محصراً؛ لأن قوله: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] يدل على أنه قد حج، وأن الآية المراد بها المتمتع، والمحصر لم يحج بعد، فلا يستقيم أن تجعل هذه الآية بدلاً عما تقدم، ولذلك يقوى أن آية وجوب الهدي تختص بالمحصر ولا بدل عن الهدي، فإذا لم يجد الهدي فلا شيء عليه، كأن يكون ليس عنده مال فيذبح الهدي أو لم يجد الهدي حتى يذبحه؛ فإنه حينئذٍ يتحلل ولا شيء عليه على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم.(118/12)