الحوقلة في الحيعلتين
قال رحمه الله تعالى: [وحوقلته في الحيعلة] أي: يُسن لك إذا سمعت المؤذن يقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) أن تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وللعلماء في ذلك أوجه: فمنهم من قال: تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم تقول: (حي على الصلاة).
وتقول: (حي على الفلاح)، ثم تقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله).
ومنهم من قال: تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ومنهم من قال: تقول مثل ما يقول المؤذن ولا تقول الحوقلة، فهذه ثلاثة أوجه للعلماء في المسألة.
فمن قال: تقول الحوقلة ولا تحيعل اعتمد حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ الحيعلتين حوقل ولم يحيعل صلوات الله وسلامه عليه.
والذين قالوا: يحيعل استدلوا بحديث أبي موسى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)، فقول: (فقولوا) أمر، فيشمل جميع أفراد الأذان، فيحيعل إذا قال: (حي على الصلاة)؛ لأنها مثل قول المؤذن، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم الحيعلتين بذكر، فتبقى على هذا العموم.
والقول الثالث جمع بين القولين فقال: يقول: (حي على الصلاة) لحديث: (قولوا مثل ما يقول)، ويحوقل لحديث معاوية، وأصح القولين والعلم عند الله: أنه يقتصر على الحوقلة؛ لأن قوله: (فقولوا مثل ما يقول) مجمل وحديث معاوية مبيِّن مفصِّل، والقاعدة أنه إذا تعارض المجمَل والمفسِّر المبيِّن، يُقدَّم المفسِّر المبيِّن، فإن معاوية حكى ترديد النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً لفظاً، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: (قولوا مثل ما يقول) أي: في غالب ألفاظ الأذان، فلما بلغ الحيعلة قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فأصح الأقوال أنه يُحوقِل ولا يُحيعِل.
وأما مذهب من قال: يَجمع بينهما.
فهو مبني على التعارض على النصين، وشرط التعارض قوة الدلالة منهما، وليست الدلالة منهما قوية، لِما ذكرنا من وجود الإجمال والبيان.
وأما مناسبة قول لا حول ولا قوة إلا بالله عند الحيعلة، فقالوا: لأنه إذا قال: (حي على الصلاة) فإنهما تختص بالمؤذن.
وهذا صحيح من جهة النظر؛ فإن المؤذن ينادي الناس، فأنت لا وجه لك أن تقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح)؛ لأنه ليس ثم إنسان تدعوه إلى الصلاة، فاختُصَّ المؤذن بالحيعلة، فبقيت أنت مستيعناً بالله، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، لأنه يُطْلَب منك الإجابة، ولا يُطْلَب منك المماثلة، فلذلك ناسب أن تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ قال بعض العلماء: لا حول في طلب خير، ولا قوة في دفع شر إلا بالله.
وزيادة (العلي العظيم) لا ينبغي أن تُزاد؛ لأن السنة التقيد بالوارد، والألفاظ الواردة لا يزاد فيها.(29/18)
استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة بعد الأذان
قال رحمه الله تعالى: [وقوله بعد فراغه: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محموداً الذي وعدته] هذه هي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ) على أن كثيراً من الناس ترك هذه السنة، وهي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، فتجده مباشرة إذا قال المؤذن: (لا إله إلا الله)، يقول: (لا إله إلا الله، اللهم رب هذه الدعوة ... )، وهذا خلاف السنة.
والسنة أنه إذا قال: (لا إله إلا الله)، أن يصلي بعدها على النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة الإبراهيمية، ثم بعد ذلك يقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة ... ).
قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة عليه بعد الأذان لذكره في الأذان، ومنهم من قال: إنه أمر بالصلاة عليه لوجود الدعوة؛ لأنه يُسن أن يُبتدئ الدعاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن فضائله -كما في أحاديث الترغيب- أن يكون في الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول بعد انتهائه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب هذه الدعوة التامة ... )، فهي دعوة تامة كاملة؛ لأنها اشتملت على أمرين: أحدهما تعظيم الله، وثانيهما توحيده، ولذلك وصف الله صاحبها بأنه أحسن الناس قولاً، فقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]؛ لأن المؤذن يصلي، وعمل صالحاً بدعوة الناس إلى الصلاة، فلذلك قالوا: هي دعوةٌ تامة، دعا إلى توحيد الله عز وجل بشهادته ثم دعا إلى إقام الصلاة التي هي من تعظيم الله عز وجل.
(والصلاة القائمة) أي: التي ستقام، فيوصف الشيء باعتبار ما يؤول إليه، وهذا من بلاغة العرب، حيث يصفون الشيء بما كان عليه، ويصفونه بما يؤول إليه، ويصفونه بحاله، فيقولون: فلان يتيم بناءً على ما كان عليه، كما قالوا: محمد يتيم أبي طالب، باعتبار ما كان عليه، ومنه قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] نهى عن إعطاء اليتيم ماله، لكن: آتوا اليتامى الذين بلغوا راشدين أموالهم، فوصفهم بكونهم يتامى بما كانوا عليه، وكذلك تصف العرب الشيء بما يؤول إليه، فيقولون: (فلانٌ مصلٍ).
أي: سيصلي، ونحن مصلون، أي: سنصلي، فكذلك قوله هنا: الصلاة القائمة، أي: التي ستقام.
والوسيلة هي كما فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم: (درجةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، قال: وأرجوا أن أكون أنا هو).
ومن سأل للنبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة حلّت له الشفاعة يوم القيامة، فنسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يبلغه الوسيلة، وأن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
ثم ختمها بقوله عليه الصلاة والسلام (والفضيلة، والمقام المحمود الذي وعدته)، والفضيلة: من الفضل، والفضل: الزيادة.
أي: الفضائل، وهي أعلى الدرجات، وإذا تفضَّل الله على العبد فقد بلَّغه أعالى المراتب وأكملها، كما قال تعالى في الخير: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، فالفضل: الخير العظيم، وقال تعالى: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105]، وزيادة (الدرجة العالية الرفيعة في الجنة) ضعيفة كما نبَّه عليها السخاوي في (المقاصد الحسنة)، وهي زيادة ضعيفة لا أصل لها.
ومعنى (وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) هو المقام الذي يحمِده عليه الأولون والآخرون، وهو مقام الشفاعة، قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وعسى في القرآن للحقيقة، وهو مقام الشفاعة.
وزيادة: (إنك لا تخلف الميعاد) فيها خلاف، وهي من رواية البيهقي، ومن العلماء من أثبتها، ومنهم من قال بعدم ثبوتها للشذوذ، ومن شرط الصحة عدم الشذوذ، ومن قالها فيتأول الصحة ولا حرج، ومن لم يقلها لا حرج عليه.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك.(29/19)
شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [1]
للصلاة شروط مذكورة في الكتاب والسنة، وهي تنقسم إلى: شروط صحة، وشروط وجوب، ومنها: الطهارة من الحدث والخبث والنجس، ودخول الوقت، وينبني على ذلك معرفة وقت كل صلاة ابتداءً وانتهاءً، وأن الأفضل الصلاة في أول الوقت، ولا يجوز تأخيرها إلا لعذر شرعي.(30/1)
شروط الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب شروط الصلاة].
هذا الباب المراد به بيان العلامات والأمارات التي نصّبها الشارع للحكم بوجوب الصلاة وصحتها من المكلف.
وتنقسم الشروط عند العلماء رحمهم الله إلى شروط صحةٍ، وشروط وجوب، وأصل الشروط مبحث من مباحث الحكم الوضعي، بمعنى أن الشروط علامات وأماراتٌ من الشارع سبحانه وتعالى نصَّبها لكي تحكم بوجوب العبادة على المكلف، أو تحكم بصحتها، أو عدم صحتها إذا لم تكن مستوفيةً لهذه الشروط.
إذاً لا بد في العبادة من النظر إلى هذه العلامات، وبواسطتها يستطيع طالب العلم أن يقول للمكلَّف: برئت ذمتك وأجزأتك الصلاة، إذا توفرت هذه الشروط المعتبرة لصحة الصلاة، ويستطيع أن يقول للمكلف: عليك إعادة الصلاة؛ لأن العلامة والأمارة التي نصَّبها الشارع للحكم بصحة صلاتك غير متوفرة.
فلو أن إنساناً توضأ بعد دخول الوقت، وستر عورته، واستقبل القبلة، وفعل الصلاة بأركانها، فصلاته صحيحةٌ معتبرة.
لكن لو أنه صلى قبل دخول الوقت صلاة الظهر، أو صلاة العصر، أو صلَّى ولم يستقبل القبلة عالماً بجهتها مخالفاً لناحيتها، أو صلَّى ولم يستر عورته مع القدرة، فحينئذٍ تقول له: صلاتك باطلةٌ، وتلزمك الإعادة؛ لأن الشارع جعل دخول الوقت علامةً على وجوبه، ولا تصح الصلاة قبل دخول الوقت.
وجعل ستر العورة علامةً على صحة الصلاة واعتبارها، فما دمت لم تستر العورة أثناء صلاتك فصلاتك باطلة.
فمبحث شروط الصلاة يحتاجه طالب العلم لكي ينظر إلى الأمارات التي نصَّبها الشارع سبحانه وتعالى، لكي يقول: هذه العبادة معتبرة، وبرئت ذمتك أيها المكلف، فلا تُطَالَب بالإعادة، أو يقول: هذه العبادة باطلةٌ ويلزمك إعادة الصلاة؛ لأن شروط الصحة والاعتبار غير متوفرة.
والشروط: جمع شرط، والشرط في اللغة: العلامة، ومنه سميت الشَّرْطَة.
وأما في الاصطلاح فهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.
فالطهارة يلزم من عدمها عدم الصلاة، ودخول الوقت يلزم من عدمه عدم وجوب الصلاة.
ولا يلزم من وجوده الوجود، فالإنسان قد يتوضأ، ويكون متطهراً، والشرط محققٌ فيه، ولكنه لا يصلي، فيلزم من عدم الشرط عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط.
فقول العلماء: (باب شروط الصلاة) أي: العلامات والأمارات التي نصَّبها الشارع للحكم بوجوب الصلاة على المكلفين، أو العلامات والأمارات التي نصَّبَها الشارع للحكم بصحة صلاة المكلفين واعتبارها، فإن كانت الشروط شروط صحةٍ حكَمْتَ بالصحة أو بعدمها، وإن كانت الشروط شروطَ وجوبٍ حَكَمْتَ بوجوب العبادة أو عدم وجوبها.
فشروط الصلاة تنقسم إلى شروط صحةٍ، وشروط وجوب.
فشروط الوجوب منها الوقت، ولا تجب الصلاة قبل دخول الوقت، ومنها البلوغ، فلا تجب الصلاة على الصبي قبل بلوغه، ومنها العقل، فلا تجب الصلاة على المجنون حتى يفيق.
وأما شروط الصحة فهي: الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة.
فلا تصح صلاة غير المتطهر، ولا تصح صلاة من لم يستر عورته اختياراً، بمعنى أنه قادرٌ على سترها، أما إذا كان غير قادرٍ فسيأتي إن شاء الله الكلام عليه.
ولا تصح صلاة من لم يستقبل القبلة اختياراً، أما إذا كان في حال الاضطرار -كما في السفر- ففيه تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقوله: (باب شروط الصلاة) مناسبة هذا الباب أنه بعد أن بين لك حكم الصلاة، وعلى مَن تجب، وتكلَّم على مباحث الأذان والإقامة، ناسَبَ أن يتكلم عن الشروط؛ لأن من شروط الصلاة دخول الوقت، والأذان متعلق بالوقت، فلما ذكر الأذان ووجوبه ولزومه وصفته، يرد
السؤال
متى يؤذِّن المؤذن؟ وما هو الوقت المعتبر للصلاة؟ ولما كان مبحث الوقت متعلقاً بمبحث الشروط ناسب أن يذكر الشروط معه، فهذا وجه المناسبة.
وهناك وجهٌ ثانٍ وهو أن تقول: بعد أن فرغ المصنِّف رحمه الله من بيان حكم الصلاة، والدعوة إليها بالأذان والإقامة ناسب أن يبين العلامات المعتبرة للإلزام بالصلاة، وهي الشروط، فأتبع ذلك شروط الصحة كما قلنا.(30/2)
الشرط الأول: دخول الوقت
قال المصنف رحمه الله: [شروطها قبلها، منها الوقت].
قوله: (شروطها قبلها) أي: قبل الصلاة، وقوله: (منها الوقت) (مِنْ) للتبعيض، والضمير في (منها) بمعنى: من شروط الصلاة، وهذا للتبعيض؛ لأن هناك شرط البلوغ والعقل لم يذكره المصنف، وترك لظهور العلم به؛ لأنه لا يقرأ قارئ ولا يبحث باحث في أبواب الفقه إلا وهو عالم أن أهلية التكليف تقوم على البلوغ والعقل.
فلذلك تَرْكُ المعلوم بداهةً مألوفٌ عند العلماء رحمة الله عليهم.
قوله: (منها الوقت) يقال: وقَّتَ الشيء يؤقته تأقيتاً.
إذا حدده، ويكون ذلك بالزمان، ويكون بالمكان، فيقال: (وقَّتَ له ساعة مجيئه) للزمان، و (وقت له مكان لقائه) للمكان.
فجاء التعبير بالتوقيت في الزمان في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، أي: بالزمان.
وجاء التأقيت بالمكان، ومنه حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة)، وهو ميقات المكان لنسك الحج.
والوقت معتبرٌ للصلاة، والأصل في هذا الشرط قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: مؤقتاً ومحدداً بزمانٍ معين، وقد بينت السنة إجمال القرآن، وقد جمع الله تبارك وتعالى هذا التأقيت للصلاة في آيةٍ واحدة، وذلك في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فهذه الآية جمعت مواقيت الصلاة كما ذكر غير واحدٍ من المفسرين، وهذا من بلاغة القرآن وحسن اختصاره، فإن قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي لزوالها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) فشمل الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فيكون (غسق الليل) على أنه نصف الليل هو الأمد الذي هو آخر وقت العشاء الاختياري، ثم لما انفصل الفجر قال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} فأغنى باسم الفجر عن ذكر وقته؛ لأن الفجر من الانفجار والوضوح، ونظراً إلى أن اسمه يدل على وقته؛ لأنه عند انفجار الضوء وانتشاره أغنى التعبير باسمه عن التصريح بوقته، فهذه خمسة فروض وخمسة مواقيت، وكلتا الآيتين أصل في باب المواقيت عند العلماء رحمة الله عليهم.
أما السنة فجاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تصف وقت الصلاة، والأصل في هذا أن الله لما فرض على نبيه عليه الصلاة والسلام الصلوات الخمس اختار الله فريضتها أن تكون مباشرةً منه سبحانه وتعالى فوق السماوات العلا، ولذلك كان من دلائل فضل الصلاة وعظيم شأنها أن الله عز وجل لم يوح وجوبها إلى نبيه بواسطة، وإنما باشره بوجوبها والأمر بها تعظيماً لشأنها ودلالةً على عظيم مكانتها، فلما أوجب الله على نبيه الصلوات الخمس، وانتهى الأمر إلى الخمس، وكان يراجع ربه حتى استقرت إلى الخمس نزل عليه الصلاة والسلام، ولما أصبح صبيحة الإسراء وزالت الشمس لم يُفاجأ إلا بجبريل قد نزل عليه فأمَّه عند الكعبة، ولذلك كانت بداية المواقيت بحديث جبريل بمكة.
فالأصل في السنة هذا الحديث، وهو أول المواقيت السنية، ولذلك يعتبره العلماء رحمة الله عليهم أصلاً، إلا ما دل الدليل على نسخه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فأَمَّ جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يومين، صلَّى به اليوم الأول كل صلاةٍ عند أول وقتها، وصلى به اليوم الثاني كل صلاة في آخر وقتها، ثم قال له: (ما بين هذين وقت)، فحدَّد مواقيت الصلاة وبينها.
ثم جاءت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وبقوله، فتارةً بالفعل يُبيِّن المواقيت، وتارةً بالقول يدل عليها صلوات الله وسلامه عليه.
فشرط الوقت لا يُحكم بلزوم الصلاة على المكلف إلا بدخوله، فلا يطالب الرجل ولا المرأة بالصلاة إلا بعد دخول الوقت، ويتفرع على ذلك أنه إذا مات قبل دخول الوقت ولو بلحظة فهو غير آثمٍ ولا ملزمٍ بها، وكذلك لو جُنَّ أو حاضت المرأة قبل دخول الوقت ولو بلحظة فإنها لا تُطَالَب بها.
فلا يتوجه الخطاب بالصلاة إلا بعد وجود هذه العلامة، فلما كان الوقت له هذه المنزلة وهي أنه لا يتوجه الخطاب من الشرع للمكلف أن يفعل العبادة إلا بعد وجود هذه العلامة.
قيل: إنه شرط من هذا الوجه.(30/3)
الشرط الثاني: الطهارة من الحدث والنجس
قال المصنف رحمه الله: [والطهارة من الحدث والنجس].
قوله: (والطهارة من الحدث) تقدَّم تعريف الطهارة، وقلنا: إنها صفةٌ حكميةٌ توجب لموصوفها استباحة الصلاة، والطواف بالبيت، ونحوه مما تشترط له الطهارة.
وأما الطهارة من النجس أو الخبث كما يُعبِّر العلماء فيشترط كذلك؛ لأن الطهارة طهارةٌ من الحدث بالوضوء أو الغسل أو التيمم بدلاً عنهما، وطهارةٌ من الخبث بإزالة النجاسة عن البدن والثوب والمكان.
فأما طهارة الحدث فدليل وجوبها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6]، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6]، فأوجب وأمر وألزَمَ المكلف بهذه الطهارة، ثم حكم بعدم صحة الصلاة بالفقد، فقال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين كما في حديث أبي هريرة واللفظ لـ مسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، فهذه طهارة الحدث ودليل اشتراطها لصحة الصلاة من الكتاب والسنة، لكن دليل السنة في الاشتراط أقوى من دليل الكتاب؛ لأن دليل الكتاب دلّ على الوجوب، وأما دليل السنة فقد دل على عدم الصحة والاعتبار إلا بعد وجود الطهارة، وهو أبلغ في الدلالة على الشرطية؛ لأن كون الشيء واجباً لا يدل على كونه شرطاً لصحة الشيء كما هو معلوم.
وأما الطهارة من الخبث، وهي طهارة البدن والثوب والمكان من أجل الصلاة، كونها شرطاً لصحة الصلاة فيدل عليها: أولاً: إلزام المكلف بطهارة البدن، أصله قوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلي عنك الدم ثم صلي)، وقوله: (دعي الصلاة أيام قروئك)، وفي الحديث الآخر: (لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا بلغت ذلك فلتغتسل ثم تستذفر بثوب ثم تصلي)، فأمرها بطهارة البدن.
ثانياً: طهارة الثوب، والأصل فيها قوله تعالى يخاطب نبيه: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:3 - 5]، فكبر: أي للصلاة، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، وليس المقصود الترتيب، وإنما المقصود مجموع هذه الأمور، والمراد بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]: أي طهارتها من النجس والقذر، فلا تصح الصلاة إلا بعد وجود طهارة الثوب.
ثالثاً: طهارة المكان، فلا تصح الصلاة إلا بعد أن يكون مكان المصلِّي طاهراً، والأصل في ذلك حديثان: أحدهما حديث الأعرابي لما بال في المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (أهريقوا على بوله سجلاً من ماء)، فأمر بتطهير المسجد، وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام من دخل المسجد بنعليه إن وجد فيهما أذى بقوله: (ليدلكهما في الأرض)، فجعل دلك الأرض طهارةً لها.
والدليل الثاني حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس، ثم خلع نعليه، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلَّم عليه الصلاة والسلام قال: (ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيهما قذراً، أو قال: أذى).
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع النعلين بعد العلم بنجاستهما؛ لأنهما ليستا بطاهرتين، فلما خلعهما بعد العلم بالنجاسة دل على أن المصلي لا يقف على موضعٍ نجس، ولذلك اعتُبِر حديث النعلين في خلعه عليه الصلاة والسلام لهما أصلاً في طهارة موضع المصلي الذي يصلي عليه.
فمجموع هذه النصوص في الكتاب والسنة دلَّ على أنه ينبغي للمصلي أن يطهِّر ثوبه وبدنه ومكانه من أجل صلاته.(30/4)
أوقات الصلاة(30/5)
وقت صلاة الظهر
قال المصنف رحمه الله: [فوقت الظهر من الزوال إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال] الفاء للتفريع، أي: إذا علمت أن الوقت شرطٌ لصحة الصلاة فاعلم أن وقت الظهر ما سيأتي.
والظهر: هي الصلاة الأولى تسمى بالظهر، وهذا اسمها الغالب، وللعلماء في سبب تسميتها بالظهر خلاف، قال بعضهم: سُمِّيت بالظهر من الظهيرة، لوجود قائم الظهيرة فيها؛ لأن الشمس تقوم فيها، وهي تقع بعد زوال الشمس مباشرة، فنسبت إلى أقرب موصوفٍ لها.
والظُّهر تسمى الأُوْلَى، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي برزة الأسلمي أنه دخل عليه أبو المنهال سيار بن سلامة رحمه الله، فقال: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: (كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة؟ قال: كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى)، فوُصِفت بكونها هجيراً، وبكونها أُوْلى، وبكونها ظهراً، أما كونها هجيراً فلأنها تكون بالهاجرة، وهذا الوقت الذي تقع فيه صلاة الظهر، حيث تكون الشمس فيه شديدة الحرارة، ولذلك أمر بالإبراد عن أول الوقت في شدة الحر، فإذا اشتدت الحرارة هجر الناس الشمس، وصاروا إلى الظل، وهجروا أعمالهم من أجل شدة الحر والمئونة والمشقة، فسمِّيت الهجير من هذا، وسميت الظهر لما ذكرناه، وسميت الأولى لأنها أول صلاة تصلى.
وهذا أصح أقوال العلماء أن الظهر هي أول الصلوات، والدليل على ذلك عدة أدلة، منها: أنه لما أراد الله أن يبين لنبيه عليه الصلاة والسلام مواقيت الصلاة نزل جبريل في وقت الظهر، فكان أول ما أعلمه بوقته هو الظهر، وكذلك الحال في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للصلوات المكتوبة وأوقاتها كلهم كان يبدأ بصلاة الظهر، وذلك مراعاة لأصل الشرع.
وقال بعض العلماء: الأولى هي الفجر والثانية هي الظهر لأجل أن يقوى مذهبهم بأن العصر هي الصلاة الوسطى، وهذا مذهبٌ مرجوح، ويُجاب عنه من وجهين: أولاً مخالفته لظاهر السنة ولهدي الصحابة في قولهم: (كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى ... )، فدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمونها الأولى، وأما اعتذارهم بأن العصر لا تكون وسطى إلا إذا اعتبرنا الفجر الأولى فمحل نظر؛ لأنهم قالوا إن الفجر والظهر يجتمعان في كونهما صلاة نهارية، والمغرب والعشاء يجتمعان في كونهما صلاة ليلية، فيقع العصر بينهما، فتكون صلاةً وسطى من هذا الوجه.
والجواب عن هذا يسير، وهو أن يُقال: إن الوصف بكونها وسطى -أعني العصر- إنما هو لانتصافها بين نهاريةٍ وليلية، لا بين نهاريتين وليليتين، وهم يراعون عدد الصلوات، ويمكن أن تراعى دلالة الحال، فإن صلاة العصر بين نهاريةٍ وهي الظهر، وليليةٍ وهي المغرب، وعلى هذا لا يرد ما ذكروه.
فلصلاة الظهر وقتان: أول وآخر، فأما أول وقت صلاة الظهر فهو من الزوال إذا زالت الشمس، وأما آخر وقت الظهر فكما ذكر المصنف حين يصير ظل كل شيءٍ مثله، أي على قدر ظل الرجل إذا قام.
أما بالنسبة لاعتبار الزوال أول وقت الظهر فدليله الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]، ودلوكها: زوالها.
أما السنة ففي الأحاديث الصحيحة، منها حديث ابن عمر في صلاة جبريل وإمامته بالنبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء.
ومنها: حديث جابر بن عبد الله في الصحيحين (كان يصلي الظهر إذا دحضت الشمس)، أي: زالت.
ومنها: حديث أبي برزة: (كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس).
وكذلك أيضاً حديث مسلم في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
فهذه خمسة أحاديث كلها دلت على أن وقت صلاة الظهر يكون بدايته من زوال الشمس، وحُكِيَ الإجماع على أن وقت صلاة الظهر يبتدئ من الزوال، وهذا الإجماع مخالَف بما حُكِيَ عن ابن عباس أنه كان يجيز إيقاع صلاة الظهر قبل الزوال باليسير، وهو قولٌ محكيٌ عن مالك رحمة الله عليه إمام دار الهجرة، وقولٌ مرجوح لمخالفته لظاهر السنة، فحكاية الإجماع يُشكِل عليها ما أُثِر عن ابن عباس وعن مالك رحمة الله عليه.
وإذا علمنا أن النصوص دلت على أن أول وقت الظهر الزوال، فما هو الزوال؟ الزوال: مأخوذٌ من زال الشيء إذا تحرَّك، والمراد بالزوال زوال الشمس، والسبب في ذلك أن الشمس إذا طلعت يكون الظل في جهة المغرب، ثم تسير وينقبض ظلها حتى تنتصف في كبد السماء، فتقف عن مسيرها، وبالمناسبة في سير الشمس ينبغي إثباته، والقول بأن الشمس ثابتة باطل مخالفٌ لنص القرآن، ولذلك قال بعض العلماء: لا يجوز أن يعتقد المسلم أن الشمس ثابتة، وذلك لقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، فنص سبحانه على أنها تجري، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! هل تدري أين تذهب هذه؟)، فنسب لها الذهاب والمجيء، وهذا يدل على الحركة بخلاف الثبوت، ولذلك يُعتقد جريانها، وقول بعض الفلاسفة: إنها ثابتة مخالفٌ لهذا النص الذي أنبأك به الخبير العليم سبحانه وتعالى خالق الشمس وخالق الكون وهو أعلم بما خلق.
فالشمس تطلع من مشرقها فيكون الظل في جهة المغرب، على أقصى ما يكون عند ارتفاع شعاعها، ثم ترتفع قليلاً قليلاً فينقبض الظل من جهة المغرب قليلاً قليلاً حتى تنتصف في كبد السماء، فإذا انتصفت في كبد السماء وقف الظل عن الحركة فلا يزيد ولا ينقص، وهذا الانتصاف قال بعض الخبراء من أهل الفلك: إنه لحظة يسيرة، أي: قد يكون إلى دقائق معدودة جداً، وفي هذا الوقت وهو وقت انتصافها في كبد السماء تسجر جهنم -والعياذ بالله-، ولذلك نُهِي عن الصلاة فيه؛ لأنه لحظة عذاب، وليست بساعة رحمة، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا اعتدلت على رأسك فإن تلك الساعة تسجر فيها جهنم).
وثبت عن عقبة بن عامر أنه قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)، فإذا قال العلماء: (قام قائم الظهيرة)، أو قالوا: (وقف الظل)، فمرادهم هذه الساعة، ولذلك تقف الشمس في كبد السماء فلا تتحرك، فإذا وقفت وقف الظل، وأحياناً يقف الشاخِص بدون ظل، وهذا في الأماكن التي تكون معادلة لمنتصف السماء، ولذلك يقولون: إنه في مكة في اليوم السابع من حزيران تكون الشمس لا ظل لها، بمعنى أنها في منتصف السماء، أو في كبد السماء كما ورد في الخبر، فإذا أخذت في هذه اللحظة التي هي لحظة الإمساك تبدأ بعد ذلك في الحركة إلى جهة المغرب، فإذا ابتدأت حركتها إلى جهة المغرب تحرّك الظل إلى جهة المشرق، على عكس ما كان عليه عند غروبها.
وهذه اللحظة هي لحظة انتصاف النهار، وتكون في منتصف الوقت ما بين طلوع الشمس وغروبها بإذن الله عز وجل، فإذا انتصفت في كبد السماء وابتدأت بالمسير فحينئذٍ يبدأ وقت الظهر، فقبل مسيرها، وهي لحظة وقوف الظل لا يجوز إيقاع الصلاة -كما قلنا- في قول الجماهير، وانعقد عليه الإجماع، إلا ما جاء عن ابن عباس ومالك رحمه الله تعالى.
فلذلك قالوا: يبدأ وقت الظهر من الزوال، أي: من حركة الشمس، فالسبب في تسمية هذا الوقت بالزوال أنّ الشمس تتحرك، فكأنها زالت عن مكانها الذي ثبتت فيه في كبد السماء، وهذا الوقت هو أول وقت الظهر.
ثم كيفية معرفة هذا الوقت تختلف باختلاف الفصول، وباختلاف البلدان، ولكن الطريقة التي يمكن للإنسان أن يضبط بها المواقيت.
أن يثبت شاخصاً على مكانٍ مستوٍ، ويعرف طول هذا الشاخص، ثم بعد ذلك ينظر في ظل الشاخص، فتبدأ الشمس طالعة من مشرقها فيراقب الظل في جهة المغرب، فكلما تقاصر الظل، خاصةً عند منتصف النهار يضع العلامة، خاصة إذا كان الشاخص على ورقة أو نحوها، فيضع علامة على الظل، حتى يقف الظل فيعلم أن هذه اللحظة التي وقف فيها الظل هي الساعة التي انتصف فيها النهار، بمعنى أنه بمجرد ما يبتدئ الظل بالزيادة والانحسار إلى جهة المشرق فاعلم أنها ساعة الزوال، وأن ما قبلها ساعة انتصاف النهار.
و (من) في قوله: (من الزوال) ابتدائية، أي: يبتدئُ بزوال الشمس.
وقوله: (إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال) الفيء: الرجوع، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءَتْ} [الحجرات:9] أي: رجعت، قالوا: سمي بذلك لأن الظل يَفِيء، بمعنى: يرجع، فبعد أن كان في جهة الغرب إذا به إلى جهة المشرق، وبتقاصُر الظل يكون الفيء، فالظل الذي تقف عليه الشمس عند انتصافها في كبد السماء لا يُحسب، وببداية تحركها إلى جهة المغرب، وزيادة قدر الظل في جهة المشرق يبدأ وقت الظهر كما قلنا، فيضع من هذه البداية علامة على الورقة، ثم بعد مسيرها ينظر إلى طول الظل حتى يساوي العود أو الشاخص الموضوع.
والسبب في ذلك أن الزوال أحياناً يقف على قدر من الظل، بمعنى أنه يكون للشاخص ظل، فلو فُرِض أن ظله يختلف بالصيف والشتاء على حسب قرب الشمس من مسيرها الذي هو في منتصف القطب أو انحرافها في فصل الشتاء، فإذا كان الظل الذي وقفت عليه الشمس يعادل شبراً ونصف لشاخص طوله متر، فحينئذٍ يحسب من هذا الشبر والنصف أو القدم -كما يقولون-، ويُعتبر وصول الظل إلى القدم هو بداية وقت الظهر عند الزيادة، فتضع علامة على هذا القدر.
وبعد زيادة الظل في جهة المشرق بقدر الشاخص الذي هو المتر، يكون وقت الظهر قد انتهى، وهذا هو معنى: إلى أن يصير فيء كل شيءٍ مثله بعد فيء الزوال.
فلا بد في غالب الأحوال أن يكون للزوال ظل، ولذلك تجد في بعض التقاويمات أنَّ ظل الزوال قدم.
بمعنى أن الشمس تنتصف(30/6)
وقت صلاة العصر
قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت العصر].
قوله: (ويليه) أي: يقع بعد وقت الظهر وقت العصر، والولاء بمعنى أنه بعد انتهاء وقت الظهر يدخل وقت العصر.
وقال بعض العلماء: إن هناك وقتاً مشتركاً بين الظهر والعصر، وهو الأمد الفاصل بين الوقتين، وظاهر السنة ما ذكره ودرج عليه المصنف رحمه الله لظاهر حديث إمامة جبريل، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الوقتين في صحيح مسلم.
والعصر في لغة العرب يُطلق بمعانٍ، فالعصر الدهر، وحملوا عليه قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]، فأقسم الله عز وجل بالزمان كله.
والعصر: اليوم والليلة، ومنه قول الشاعر: ولن يلبث العصران يومٌ وليلة.
وكذلك يطلق على الوقت المحدد المعروف الذي يكون في عشي النهار، أي: في آخر النهار.
قالوا: سُمِّي العصر عصراً لأن الإنسان إذا عصر الشيءَ لم يبق إلا آخره، بمعنى أن النهار ولَّى ولم يبق إلا آخره، وكان بمثابة العصارة الأخيرة في الشيء، فسُمي العصر عصراً من هذا.
والعصر هو الوقت الثاني كما ذكرناه، وهو أفضل الصلوات؛ لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فإن الله عز وجل خصها بالذكر، وعطف الخاص على العام يقتضي تشريف الخاص وتميُّزه على العام بفضيلة، كما في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر:4]، وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]، فذكر جبريل وميكال من باب التخصيص والتشريف، فالعرب تعطف الخاص على العام للدلالة على شرفه، فلما قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] دل على فضل صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى.
وأما الدليل على كونها صلاةً وسطى فما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً أو قال: حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً)، وهذا في الصحيح، وهو نص على أن الصلاة الوسطى هي العصر، ووصِفت بكونها وسطى؛ لأنها تقع بين صلاة نهارية وهي الظهر، وصلاة ليلية وهي المغرب، ومما يدل على أنها هي المختصة بالفضل اختصاصها بالوعيد في قوله عليه الصلاة والسلام: (من فاتته صلاة العصرِ فكأنما وتر أهله)، بمعنى -والعياذ بالله- فقد أهله.
فهذا يدل على عظيم شأنها، وأنها تتميز من بين الصلوات بهذا الفضل العظيم.
قال بعض العلماء: خُصَّت العصر بهذه المزية لأنها تقع عند التجار في أوقات التجارة، فالناس الغالب أنهم في العصر يتبايعون ويشترون، فتكون ساعة غفلة، ولذلك خُصَّت بهذا الفضل.
وكذلك الحال بالنسبة لأول النهار، فلما قال تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] قال عليه الصلاة والسلام: (صلاة الأوابين حين ترمض الفِصال) قالوا: خصَّ صلاة الضحى بهذا الوقت لأنها ساعة اشتغال الناس بالتجارة، فهذه في النافلة في أول النهار، والعصر فريضةٌ في آخر النهار، وجُعِلت فضيلتها في آخر النهار لأنه وقت الكلال والتعب والسآمة.
ولذلك قالوا: إنها هي الوسطى، وهي أفضل الصلوات، ووقتها من صيرورة ظل كل شيءٍ مثله على ظاهر حديث جبريل وحديث ابن عمر في الصحيح، إلى أن يصير ظل كل شيءٍ مثليه، فهذا القول الأول.
والقول الثاني أن وقت العصر ينتهي إلى اصفرار الشمس، وكلا القولين في وقت الاختيار.
وأما وقت الاضطرار فيستمر من ظل كل شيءٍ مثليه إلى غروب الشمس، أو من صُفرة الشمس إلى غروب الشمس.
فأما القول الأول الذي يقول: وقت العصر إلى أن يصير ظل كل شيءٍ مثليه، فتحسب ظل كل شيءٍ مثله، ثم بعد ذلك تحسب صيرورته إلى الضعف، فإذا بلغ الضعف من بعد ظل الزوال فقد انتهى وقت العصر الاختياري، فلا يحل تأخير الصلاة لقادرٍ على فعلها عن هذا الوقت، وهذا على القول الأول، ثم يبدأ الوقت الاضطراري، والوقت الاضطراري للحائض والنفساء إذا طَهُرت من حيضها ونفاسها، فلو أن امرأةً طهُرت من حيضها أو نفاسها في هذا الوقت الذي هو بعد أن صار ظل كل شيءٍ مثليه فحينئذٍ يُحكم بوجوب صلاة العصر عليها إذا طهرت قبل غروب الشمس بركعة، فإن طهرت قبل غروب الشمس بثلاث ركعات وهي مسافرة، أو بخمس ركعات وهي مقيمة، طُولِبت بصلاة الظهر والعصر لما بينهما من الاشتراك بدلالة الشرع، وسنبين هذا إن شاء الله في موضعه.
وأما قول من قال: إن وقت العصر إلى أن تصفر الشمس فهو أقوى الأقوال؛ وذلك لأن حديث مسلم في قوله عليه الصلاة والسلام: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس) ثبت بالسنة المدنية؛ لأنه كان بالمدينة.
وحديث إِمَامَة جبريل -وهو حديث ابن عمر - للنبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة، والقاعدة أن المتأخر ينسخ المتقدم، ولذلك لا تعارُض بين الحديثين، فيُعتبر حديث (وقت العصر ما لم تصفر الشمس) نصاً في أن وقتها ينتهي عند اصفرار الشمس، والشمس إذا قربت من المغيب ذهب ضياؤها واصفرت، ثم بعد ذلك يبدأ عند الاصفرار وقت الاضطرار كما ذكرنا، ولا يجوز التأخير إليه إلا لمعذور.
وإذا غابت الشمس انقطع وقت الاختيار ووقت الاضطرار.
قوله: [إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال].
هذا كما قلنا أحد قولي العلماء، والصحيح القول الثاني أن وقتها ينتهي عند اصفرار الشمس.
وأما أول وقت العصر فعند الحنفية أوله إذا صار ظل كل شيءٍ مثليه، وقد بيّنا أن الصحيح أنه إذا صار ظل كل شيءٍ مثله، والدليل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبتدئ وقت العصر إذا صار ظل كل شيءٍ مثله، فالأحاديث الصحيحة التي من تأمَّلها نظر إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع العصر عند صيرورة ظل كل شيءٍ مثله.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي المنهال حيث حدث يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية)، ومعنى ذلك أنه كان يوقعها وقد صار ظل كل شيءٍ مثله، ولا يتأتى أن يُصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن صار ظل كل شيءٍ مثليه، ثم يرجع الرجل إلى رحله والشمس حية، فهذا معروف، وغالباً من يعرف وقت المدينة يرى أن هذا بعيد، والغالب أنه صلَّى عند صيرورة ظل كل شيءٍ مثله، وانتهى وقت صلاته على ظاهر السنة ما لم تصفَر الشمس، واصفرارها -كما قلنا-: انطفاء نورها، بمعنى أنك تستطيع أن تنظر فيها، فإذا بها تصبح صفراء فتقوى على النظر إليها، ولكنها إذا كانت قريبة من الزوال يكون من الصعوبة أن تنظر إليها.
قوله: [والضرورة إلى غروبها].
أي: وقت الضرورة، إلى غروبها، فإن قال قائل: ما الدليل على تقسيم الضرورة والاختيار؟ قلنا: أما دليلنا على الوقت المختار فقوله عليه الصلاة والسلام: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس).
وأما الدليل على وقت الاضطرار الذي لا يجوز إلا لمعذور، فقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أدرك ركعةً قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، فدل هذا على أن من صلَّى في هذا الوقت، فقد أدرك العصر.
وفي الحديث الآخر: (وقت العصر ما لم يغب الشفق)، فعلمنا أن هناك وقت اختيار وهناك وقت اضطرار، وأن وقت الاختيار ينتهي عند انطفاء الشمس وصيرورتها إلى الصفرة، ووقت الاضطرار من الصفرة إلى غروب الشمس.
قوله: [ويسن تعجيلها] أي الأفضل والأكمل والأعظم أجر التعجيل بالعصر، لظاهر الحديث الذي ذكرناه في الظهر.(30/7)
وقت صلاة المغرب
قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت المغرب إلى مغيب الحمرة].
أي: ويلي وقت العصر المغرب، والمغرب هي الصلاة الثالثة، وتكون بعد غروب الشمس؛ لما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أنه لما ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم المكتوبة قال: (والمغرب إذا وجبت)، ومعنى: (وجبت): سقط قرص الشمس وغاب، فإن العرب تقول: وجب الشيء إذا سقط، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]، أي: سقطت الإبل واستقرت على الأرض.
فقول جابر: (والمغرب إذا وجبت) أي: كان عليه الصلاة والسلام يصلي المغرب إذا وجبت الشمس، بمعنى غابت وذهب ضياؤها.
وقوله: [إلى مغيب الحمرة] أجمع العلماء على أن وقت المغرب يبتدئ عند غروب الشمس، فهذا أول الوقت، إلا خلافاً لبعض أهل الأهواء الذين لا يُعتد بخلافهم الذين يقولون: إن المغرب يكون عند اشتباك النجوم، وكان قولاً لبعض السلف المتقدمين، ولكنه قولٌ لا يُعتد به؛ لمخالفته للسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرد
السؤال
هل المغرب له وقت واحد أو وقتان؟ قال بعض العلماء: المغرب وقتها بقدر ما تفعل، واستدلوا بحديث متكلَّمٍ على سنده.
والقول الثاني أن المغرب لها وقتان، بمعنى أنه يبتدئ وقتها بعد غروب الشمس، وينتهي في وقتٍ غيره.
فالأولون يقولون: المغرب لها وقتٌ واحد وهو قدر ما تؤديها بعد غروب الشمس، فلا يجوز التأخير فيها، وهذا أضيق المذاهب كما هو موجود في مذهب المالكية والشافعية.
والقول الثاني وهو الصحيح أن للمغرب وقتين: الوقت الأول لبدايتها، والثاني لنهايتها، فأما بدايتها فبعد الغروب، وأما نهاية وقتها فيكون عند مغيب الشفق، فإذا غاب الشفق انتهى وقت المغرب، والشفق شفقان: شفقٌ أحمر وشفقٌ أبيض، فأجمع العلماء على أن الشفق إذا غاب انتهى وقت المغرب، ولكنهم اختلفوا في حد هذا الشفق.
فقال بعض العلماء: العبرة بالشفق الأحمر، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق)، فنص عليه الصلاة والسلام على أن وقت المغرب ينتهي عند مغيب الشفق، وسكت عليه الصلاة والسلام، فلم يقل شفقاً أحمر ولا شفقاً أبيض، فإذا غابت الشمس يأتي الشفق الأحمر وينتشر من جهة المغرب، فينتحي ناحية الشمس اليمنى وناحيتها اليسرى ويمتد في الأفق، وهذا يختلف باختلاف أزمنة الصيف والشتاء.
وهذه الحمرة تستمر قرابة ساعة زمانية، وقل أن تزيد على ساعة.
وبعد هذه الحمرة يأتي بياض في الأفق ليس بليلٍ ولا بنهار، وهذا البياض قدره ثلاث درجات فلكية، وكل درجة لها أربع دقائق، أي: اثنتا عشر دقيقة إلى ربع ساعة، فهذه الاثنتا عشرة دقيقة هي محل الخلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، فإذا قدَّرت بعد غروب الشمس ساعةً كاملة فيغيب فيها الشفق غالباً.
وبعد هذه الساعة الكاملة يبدأ الخلاف بين العلماء: هل انتهى وقت المغرب أو لم ينته؟ فمذهب بعض العلماء أنه ينتهي وقت المغرب بمجرد مغيب الشفق الأحمر، وهو أصح أقوال العلماء، والدليل على ذلك أن الشفق إذا أطلق فالمراد به الشفق الأحمر.
وأيضاً فإنه إذا أُطلق فالعبرة في الاسم بمبتدئه؛ لأنه أقل ما يصدق عليه الوصف، ولذلك يعتبر مبتدؤه احتياطاً لأمر الصلاة، وتبقى قد ربع ساعة كما قلنا لا يجوز تأخير المغرب إليها.
وبناءً على ذلك إذا غاب الشفق الأحمر يبدأ البياض الذي تدخل به ظلمة الليل، أو ما يسمى في لغة العرب (العتمة)، وسميت بذلك لأن العرب يُعتِمون بالإبل، والسبب في ذلك أنهم كانوا يأتون بالإبل من الرعي، فمن كرمهم وجودهم لا يبادرون الإبل بالحلب خوف الضيف أن يأتي، ويتأخرون إلى قدر العتمة، فترجع إلى ديارهم ومنازلهم وإلى مراحها عند الغروب، فإذا غربت الشمس تركوها، أو تأتي بعد الغروب قليلاً فيتركونها، وإن كان ألذ وأطيب ما يكون عندهم أن يحتلبوها ساعة رجوعها، ولكنهم يؤخرونها خوف الضيف، فيتأخرون إلى (العتمة)، فلذلك يقولون لها العتمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل)، فمعنى (اعتموا بالإبل) أي: أدخلوها إلى العتمة، بمعنى أخَّروا حلبها إلى عتمة الليل، وهي الظلمة التي تكون بعد الشفق الأبيض.
قوله: [ويسن تعجيلها].
أي: ويسن تعجيل المغرب، ويكون التعجيل نسبياً، فيترك قدر ما يُصلَّى ركعتين خلافاً للحنفية والمالكية رحمة الله عليهم، فتؤخر قدر صلاة ركعتين ثم يقيم، وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب لمن شاء).
وفي حديث أنس في الصحيح قال: (فلقد رأيت كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري -أي: يجعلونها سترة- حتى إن الرجل لو دخل ظن أن الصلاة قد أقيمت).
فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك قدراً بين الأذان والإقامة، خلافاً لمن قال من العلماء: إنه يؤذن ويقيم مباشرة، فهذا خلاف السنة، وليس المراد بالتعجيل هذا.
فالأفضل في المساجد أن يُترك قدر ما تصلى به السنة، وهي ليست براتبة ولكنها مستحبة لمكان الندب إليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: [إلا ليلة جمعٍ لمن قصدها محرماً].
ليلة جمع المراد بها: مزدلفة، وسميت جمعاً لاجتماع الناس فيها، والمراد بهذا ليلة النحر للحاج، فإن الحاج إذا دَفَع من عرفات لا يصلي المغرب في عرفات، وإن كان دَفْعُه بعد غروب الشمس، فاحتاط المصنف، والدليل على ذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو صلَّى الحاج بعد غروب الشمس بعرفة صحت صلاته ولكنها خلاف السنة، والأفضل أن يؤخر صلاة المغرب ليلة النحر إلى وصوله إلى مزدلفة، ولا يصلي حتى في الطريق، بل قال بعض العلماء: حتى ولو خرج وقت المغرب، فقد اشترك المغرب والعشاء اشتراك جمع، فيؤخرها ولو وصل قرب الفجر؛ لأنه يرى أن وقت الاضطرار يستمر إلى الفجر.
واحتج الإمام أبو حنيفة على هذا القول -مع أنه يُضيق في التمسك بظاهر السنة- فإن أسامة لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة! قال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة أمامك) قال الإمام أبو حنيفة: قوله: (الصلاة أمامك) تحديدٌ من النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى: ألاَّ تصلي إلا أمامك، يعني جَمْعَاً، ولذلك قال: لا تُصلَّى إلا في جمع، ولو وصلها بعد نصف الليل، وهذا من شدة تمسكه رحمة الله عليه بالسنة، وفي هذا رد على من يقول: إن الإمام أبا حنيفة يرد السنة ولا يقبلها، ولا يجوز اتهام هذا الإمام الجليل والعلم الفاضل من أئمة السلف رحمة الله عليه، بل هو غيورٌ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وإنما كان يخالف الأحاديث بسبب عدم علمه بها، ولكثرة الوضع بالبلد الذي كان بها -أي: العراق-، فقد كان الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم منتشراً في زمانه، فكان يحتاط في الأحاديث، ولذلك قلَّت عنده السنن.
فالمقصود أن الحديث يدل على أن السنة للحاج أن يؤخِّر المغرب إلى بلوغه مزدلفة، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن هنا مسألة وهي أن المعروف في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أنك لو ركبت الدابة أو البعير كما فعل عليه الصلاة والسلام، ودَفَعْت من عرفات إلى مزدلفة، فإنك ستقطع قرابة الساعة أو تزيد قليلاً، ومعنى ذلك دخول وقت العشاء، فقالوا: إن جمعه وقع جمع تأخير.
فلو أن إنساناً بادر كما هو موجود الآن في السيارات، ودفع أول ما دفع الناس، فوصل في وقت المغرب، فهل يصليها في أول الوقت أو يتأخر؟ والذي يظهر أنه يصليها وقت بلوغه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علَّق ذلك بالمكان لا بالزمان.(30/8)
وقت صلاة العشاء
قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت العشاء].
أي يلي وقت المغرب وقت العشاء، ووقت العشاء بعد مغيب الشفق، واختلف العلماء في آخره.
قال رحمه الله تعالى: [إلى الفجر الثاني].
وقت العشاء وقتان: الوقت الأول ينتهي عند منتصف الليل؛ لقوله تعالى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، وهو منتصفه، والمراد الإشارة إلى اختياره.
وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام تأخير الصلاة إلى نصف الليل، كما في رواية.
وقال بعض العلماء: ينتهي وقت العشاء عند الثلث.
والأقوى في دلالة الكتاب والسنة ما ورد من كونه منتهياً عند منتصف الليل، أعني الاختياري، ثم يبقى الاضطراري، فإنه ينتهي بطلوع الفجر الصادق.
قوله: [وهو البياض المعترض].
الفجر فجران: الفجر الكاذب، وهو الذي يكون كذنب السرحان، بياضٌ طويلٌ في أعلى الأفق، ولا يعترض، أي: لا ينتشر.
قال عليه الصلاة والسلام: (الفجر أن يقول هكذا)، وقال: (ولا يهيدنكم الساطع المصَعَّد)، (ولكن الفجر أن يقول هكذا)، بمعنى: لا يروِّعكم، ولا يمنعكم من الأكل والشرب وجود ضياء الساطع المصَعَّد -الفجر الكاذب-، والفجر الكاذب يكون في السدس الأخير من الليل، وسرعان ما يتلاشى هذا الضياء، بمعنى أنه لا يثبت الضياء فيه.
وأما الفجر الصادق فإنه ينتشر فيه الضياء، ولا يزال الإنسان يدخل في الوضوح والإصباح حتى تطلع الشمس، والمراد بهذا أن وقت الفجر المعتبر يكون بطلوع الفجر الصادق، فإذا طلع الفجر الصادق انتهى وقت العشاء الاضطراري.
قال رحمه الله تعالى: [وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل إن سَهُل].
هذا لما ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال: (أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعِشاء فخرج عمر فقال: الصلاة يا رسول الله، رقد النساء والصبيان.
فخرج ورأسه يقطر يقول: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة)، فدل على فضل تأخير العشاء.
والسنة التفصيل، فإذا كان المسجد مسجد جماعة فإنه يُسنُّ للإمام أن ينظر إلى حال المأمومين، فإن كان المأمومون مجتمعين وكثيرين، فحينئذٍ يقيم الصلاة ويُبكر، وإن كانوا متأخرين يؤخر في العشاء إصابةً للسنة.
والدليل على هذا التفصيل ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر أنه قال: (والعشاء أحياناً وأحياناً، فإذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطأوا أخر)، فدل على أن أمر مساجد الجماعة يُنظَر فيه إلى حال الناس.
وأما بالنسبة للمنفرد والمرأة والرجل المعذور فإن الأفضل له أن يؤخِّر العِشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي)، فدل هذا على فضل تأخير العشاء.
وقال العلماء: السبب في ذلك أنه لا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصلاة، ولأن الناس بعد العشاء يضطجعون، خاصة في القديم، والغالب فيهم أنهم بعد العشاء يرتاحون، فكون الإنسان لا يبادر إلى راحته ولا إلى نومه مع أنه قد تعب النهار، وينتظر تأخيرها أبلغ في طاعته لله، حتى يأتي عليه الوقت المتأخر للعشاء، وقل أن تجد أحداً يصلي معه، فيصيب فضلاً لا يصيبه غيره، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها)، (لم يصلها أحد ممن كان قبلكم)، فدل هذا على فضل التأخير من هذا الوجه؛ لأن الناس تغفل وتنام لمكان المشقة وعناء النهار، فلذلك فُضِّل تأخيرها من هذا الوجه، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النوم قبلها، لمكان تعب الناس، ولما فيه من غالب عنائهم بتحصيل مصالحهم في النهار.
وأما كيف يعرف المكلف نصف الليل فإنه يحسب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، ثم يقسم ذلك على اثنين، ثم يضيف النصف الذي خرج من هذه القسمة إلى وقت الغروب، فلو كان غروب الشمس الساعة السادسة، وأذان الفجر الصادق الساعة الخامسة، فمعنى ذلك أن الليل يستمر من الساعة السادسة إلى الخامسة بمقدار إحدى عشرة ساعة، ونصفها خمس ساعات ونصف، فيضيفها إلى الساعة السادسة التي هي وقت الغروب، فتصبح الساعة الحادية عشرة والنصف هي منتصف الليل.
وبناءً على ذلك لا بد أن يعلم ساعة الغروب وساعة طلوع الفجر الصادق، ثم يفعل ما ذكرنا.
وقال بعض العلماء: إنه يَقْسِم ما بين طلوع الشمس وغروبها.
وهذا مرجوح.(30/9)
وقت صلاة الفجر
قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت الفجر إلى طلوع الشمس].
أي: يلي وقت العشاء الفجرُ، وسُمي فجراً لانفجارِ الضوء فيه وانتشاره، وهذه الصلاة هي الصلاة الخامسة، وقد أثنى الله عز وجل عليها، ووصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أثقل صلاة على المنافقين؛ لأن الإنسان يكون في نومه، ولا يقوم إلا بوازعٍ من الإيمان وخوفٍ من الله عز وجل، ولذلك أثنى الله على هذه الصلاة وخصها بالذكر وقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78].
قال بعض العلماء: {قُرْآنَ الْفَجْرِ} أي: صلاة الفجر، وهذا قول جمعٍ من المفسرين، وقوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قالوا: يستمر نزول الله جل وعلا في الثلث الأخير من الليل إلى أن تنتهي صلاة الفجر، ولذلك قالوا: مشهوداً بالخير بهذا الفضل العظيم، فلا تزال ساعة الإجابة مرجوة لقوله عز وجل: (هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟)، فدل على فضل هذه الصلاة من هذا الوجه، وقيل: (كَانَ مَشْهُودًا)؛ لأنه تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار)، فملائكة الليل من صلاة العصر إلى صلاة الفجر، وملائكة النهار من صلاة الفجر إلى صلاة العصر.
وإذا نظرت فقلَّ أن تجد وقت العصر يفارق وقت الفجر، فتجدهما متقاربين كأنهما النصف، فتجد بين العصر وبين الفجر توافقاً غالباً، ويكون الفرق بينهما أحياناً إلى نصف ساعة، وأحياناً إلى ساعة أو ساعتين، لكن الغالب أن يكون هناك توافق بين العصر وبين الفجر؛ لأنه في بعض الأحيان يُؤخَّر العصر عن وقته.
فالمقصود أن هذه الصلاة مفضَّلة من هذا الوجه، وقال بعض السلف: إنها هي الصلاة الوسطى، والصحيح أن الوسطى العصر كما ذكرنا، ولكن لهذه الصلاة فضل، فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه: (من صلى العشاء في جماعةٍ فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعةٍ فكأنما قام الليل كله)، وأن (من صلى هذه الصلاة حيث ينادى لها مع الجماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي).
ثم قال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)، أي: لا تتعرض لمسلم، فإذا تعرضت لإنسانٍ من أهل الفجر بأذية، فإنه في ذمة الله جل وعلا، ومن آذاه وتعرض لذمَّة الله أوشك أن يكبه الله على وجهه في النار -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك خُصَّت هذه الصلاة بهذه الفضائل.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الفجر يجب أداؤها بعد تبيُّن الفجر الصادق، وأنها إذا وقعت قبل الفجر الصادق، فليست بصحيحةٍ ولا معتبرة، وعلى المكلف قضاؤها.
وأما بالنسبة لانتهاء وقت الفجر فإنه ينتهي بطلوع الشمس، وقال حبر الأمة وترجمان القرآن: إنه ينتهي وقتها بصلاة الظهر، وهو قولٌ شاذٌ قال به بعض الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة، ويُحكى عن ابن القاسم من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع، والصحيح أنه إذا طلعت الشمس فقد انتهى وقت الفجر، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أدرك ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح)، ومفهومه أن من لم يدرك الركعة قبل طلوع الشمس، فصلاته صلاة قضاءٍ وليست بصلاة أداء.
ولذلك ذهب جماهير السلف والخلف إلى أنه لا يجوز الفجر بعد طلوع الشمس، وإذا طلعت الشمس فقد انتهى وقتها على ما ذكرناه.
قال رحمه الله تعالى: [وتعجيلها أفضل] أي: السنة تعجيل الفجر.
وللعلماء في هذه المسألة قولان: قال بعض السلف رحمهم الله: السنة أن تبتدئ الفجر في أول وقتها، وهو الذي اصطلح العلماء على تسميته بوقت الغَلَس، وذلك لما ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه كان يصليها بغَلَس.
فقد قال جابر رضي الله عنه كما في الصحيح: (والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس).
والغَلَس يكون في أول الفجر الصادق؛ لأنه مع تبيُّن الضوء في أعلى السماء، فإنه لا تزال ظلمة الليل بين الناس، أعني على البسيطة والأرض، فلا تزال هذه الظلمة تنكشف بحسب قوة الضياء، فالسنة في فعل هذه الصلاة أن تقع عند الغلس أو في الغلس.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله -مخالفاً للجمهور- إلى أن السنة والأفضل في الفجر أن يُسْفر بها، وذلك لما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)، والصحيح مذهب الجمهور أنّ الأفضل في صلاة الفجر أن تؤديها في أول وقتها، وذلك لما ثبت من حديث جابر في الصحيحين، ولما ثبت أيضاً في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس).
ولا يعارض هذا قول أبي برزة: (وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه)، فهذا بالنسبة للقرب، فمعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم يُوقِعها في الغلس، ولكن إذا سلّم من الصلاة عرف الإنسان جليسه، وذلك لمكان القرب وتأثير الضياء، أعني دخول الضياء على البسيطة فأقوى الأقوال أن الأفضل إيقاعها في أول الوقت، وأما دليل الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه: (أسفروا بالفجر).
فللعلماء في هذا الحديث أوجه، فمنهم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)، التبيُّن والتثبت حتى يكون الإنسان موقعاً الصلاة في وقتها؛ لأن الفجر مشكلته أنه يعترض خاصةً في الأزمنة الماضية لم تكن فيها الساعات موجودة، وكان الناس يجدون مشقةً وعناء، خاصةً في الليالي البيض، فإن الليالي البيض يكون -كما هو معلوم- القمر فيها شديد الضياء، ولذلك يلتبس ضياء السماء مع ضياء الفجر، وتجد الناس ربما صلوا الفجر ثلاث مرات، أو أربع، يظنون أن الصبح قد طلع، والواقع أنه لم يطلع، قالوا: فقصَد النبي صلى الله عليه وسلم التبين والتحري.
وقال بعض العلماء -والنفس تطمئن إليه-: إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالإسفار بالفجر أن تبتدئ بها بغلس وتطيل القراءة فيها، حتى إذا سلَّمت أصبت الإسفار، وهذا في الحقيقة هو الأقوى لأمرين: الأمر الأول: أن فيه معنىً يؤكد زيادة الأجر، ووجه ذلك أنك إذا أطلت القراءة، فإنه يوجد موجب للحكم بزيادة الأجر.
الأمر الثاني: تأكد هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يقرأُ فيها من الستين إلى المائة آية -صلوات الله وسلامه عليه-، مع ما فيه من الترتيل والتحبير في قراءته صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان يُوقِع الصلاة في غَلَس، ويخرج منها حين يتبين الرجل جليسه، فلا شك أن هذا نوعٌ من الإسفار، فقُصِد من الإسفار أن الإنسان يطيل القراءة، بشرط ألا يشق على من وراءه، فهذا هو أعدل الأقوال، فالحديث لا يعارض الأصل، ونضيف إلى ذلك أن المعهود في الشريعة أن مواقيت الصلاة الأفضل فيها الإيقاع في أول الوقت، كما جاء في حديث ابن مسعود: أنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله، قال: (الصلاة على وقتها)، وفي رواية ابن حبان وغيره: (على أول وقتها)، ولذلك يقوى القول بأن المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: (أسفروا بالفجر) التعجيل، وليس المراد به تأخر وقت الصبح إلى الإسفار.(30/10)
شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [2]
من شروط الصلاة: دخول الوقت، ومن المسائل المتعلقة بهذا الشرط: كيفية إدراك الصلاة في وقتها، وحكم أداء الصلاة قبل دخول الوقت، وما هو المعتبر في دخول الوقت، وحكم إذا أدرك المكلف وقت الصلاة ثم زال تكليفه ثم كلف وغيرها من المسائل.(31/1)
كيفية إدراك الصلاة في وقتها
قال المصنف رحمه الله: [وتدرك الصلاة بتكبيرة الإحرام في وقتها] كأن المصنف يقول: إن المكلف إذا علم أوقات الصلاة، فعلمتَ وقت الفجر، ووقت الظهر، ووقت العصر والمغرب والعشاء، فحينئذٍ ينبغي أن تعلم أنك إن أوقعت الصلاة في هذه المواقيت التي وقَّتها الشرع وحددها لهذه الصلوات فإن صلاتك معتبرةٌ مجزئه.
واصطلح العلماء رحمهم الله على أنك إذا أوقعت الصلاة في وقتها أنها صلاةٌ مؤدّاة، بمعنى أنها قد أُدِّيت في الوقت المعتبر، ثم إذا علمت أن الصلاة ينتهي وقتها بذهاب ذلك الزمن المحدد الذي سبقت الإشارة إليه فاعلم أنك إن خرجت عن هذا الوقت أنك قاضٍ ولست بمؤدٍ، ولو كنت معذوراً.
فلو أن إنساناً نام عن صلاة الصبح حتى طلُعت الشمس فإنه بالإجماع إذا أراد أن يصلي عليه أن ينوي القضاء ولا ينوي الأداء؛ لأن الوقت الذي يُوقِع الصلاة فيه -بعد طلوع الشمس مثلاً- إنما هو وقت قضاءٍ وليس بوقت أداء.
فثبت عندنا أن للصلاة وقتاً، وأنك إن أوقعت الصلاة خارج الوقت تكون قاضياً، وإن أوقعتها داخل الوقت تكون مؤدياً.
لكن لو أن إنساناً أوقع جزءاً من الصلاة في الوقت المعتبر، وجزءاً منها في الوقت الخارج عن ذلك الوقت المحدد، فهل يوصف الكل بالقضاء؟ أو يوصف الكل بالأداء؟ أو يوصف بحسب الأَجزاء؟ فهذا يتردد من جهة النظر.
و
الجواب
قال رحمه الله: (وتدرك الصلاة بتكبيرة الإحرام في وقتها)، فقوله: (وتدرك الصلاة) أي: أداؤك لها (بتكبيرة الإحرام في وقتها) هذا أحد أقوال العلماء، وهو أن من كبر تكبيرة الإحرام قبل أن ينتهي وقت الصلاة فإنه مؤدٍ لها لا قاضٍ.
مثال ذلك: لو أن إنساناً كبر تكبيرة الإحرام قبل أن تغرب الشمس، فإنه يعتبر مؤدياً لصلاة العصر لا قاضياً لها، ولو أنه كبر تكبيرة الإحرام قبل أن يغيب الشفق الأحمر فإنه يعتبر مؤدياً لصلاة المغرب لا قاضياً لها، وقس على هذا.
فالعبرة في إدراك الصلوات الخمس على هذا القول إدراك تكبيرة الإحرام قبل انتهاء الأمد والزمان.
وذهب طائفةٌ من العلماء وهو مذهب الجمهور إلى أن إدراك الصلاة إنما يكون بالركعة الواحدة فأكثر، فإن ركعت قبل أن يخرج وقت الفريضة فأنت مؤدٍ ولست بقاضٍ.
مثال ذلك: لو أن إنساناً كبَّر لصلاة العصر، ثم قرأ، ثم ركع ووقع تكبيره للركوع قبل أن تغرب الشمس، فلما ركع ورفع من ركوعه غابت الشمس، أو لما ركع وقبل أن يرفع من الركوع غابت الشمس، فكل ذلك يُوصَف فيه بكونه مؤدياً للصلاة مدركاً لها، وهذا أصح القولين، فالعبرة في إدراك الفرائض إنما هو بالركعة الكاملة، فمن أدرك وقتاً يستطيع في مثله أن يؤدي ركعةً من الصلاة يُعتبر مؤدياً لها، لا قاضياً لها.
ودليله ما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر).
ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّق إدراك الصلاتين -أعني الفجر والعصر- على كونه أوقع الركعة قبل أن ينتهي أمد الصلاة المعتبر.
فإذاً أصح الأقوال أن العبرة بإدراك الركوع؛ لأن الركعة تدرك بالركوع، وهذا القول لا شك أنه أعدل لدلالة السنة عليه.
ويتفرَّع على هذا فوائد: فلو قلت: إن العبرة بتكبيرة الإحرام، فلو أن المرأة أدركت لحظة في مثلها يمكن أن تكبر تكبيرة الإحرام، فطهُرت من حيضها، أو طهُرت من نفاسها وجب عليها قضاء العصر.
وعلى القول الثاني: إن كانت قد أدركت هذا القدر الذي لا يمكن إدراك الركعة فيه فإنه لا يجب عليها قضاء صلاة العصر.
فبناءً على هذا تنظر إلى قدر الزمان، فتكبيرة الإحرام لا تأخذ وقتاً كبيراً، فمن أدرك هذه اللحظات -عند أصحاب القول الأول- يجب عليه قضاء الصلاة، فلو أن مجنوناً أفاق من جنونه قبل أن تطلُع الشمس بمقدار تكبيرة الإحرام، نقول: يلزمك أن تقضي صلاة الفجر، ولو أن حائضاً أو نفساء طهُرت نقول: يلزمكِ قضاء هذه الصلاة؛ لأنها قد طهرت في أمدٍ يمكنها أن تكبر فيه تكبيرة الإحرام، والصلاة مدركة بهذا الأمر.
أما لو قلتَ: العبرة بالركعة فقَدِّر للركعة زماناً، فلو قلنا إن الركعة أقل ما يجزئ فيها أن يقرأ الفاتحة، ثم يركع، فيمكنه ذلك في حدود الدقيقتين أو ثلاث دقائق، فحينئذٍ تقول: هذا الأمد -أعني الثلاث الدقائق- إذا أدركه الإنسان قبل غروب الشمس، أو قبل طلوع الشمس فإني أحكُم بكونه مدركاً للفريضة على التفصيل الذي ذكرناه، ولكن لو أدرك دقيقةً فإنه على هذا القول لا يجب عليه القضاء، ولو أوقع الصلاة فيها فإنه قاضٍ وليس بمؤدٍ.(31/2)
حكم أداء الصلاة قبل دخول الوقت
قال رحمه الله: [ولا يصلي قبل غلبة ظنه بدخول وقتها] بعد أن بين لك رحمه الله أن للصلاة بدايةً، وللصلاة نهاية شرع في بيان الأحكام المترتبة على البداية والنهاية، فبيَّن لك أحكام النهاية، وشرع الآن في بيان أحكام البداية.
فإذا علمت هذه المواقيت فإن أحكام بدايتها أنه لا يجوز للمكلف أن يُوقِع أي صلاةٍ قبل وقتها، إلا ما استثناه الشرع، كجمع التقديم في صلاة العصر مع الظهر، وجمع التقديم في صلاة العشاء مع المغرب، فإنك إذا نظرت إلى إيقاع صلاة العصر فقد وقعت في جمع التقديم قبل وقتها، وكذلك أيضاً إذا نظرت في صورة الجمع إلى صلاة العشاء مع المغرب فإنها قد وقعت صلاة العشاء قبل وقتها، لكن باستثناءٍ من الشرع، وبأصلٍ ودليلٍ دل على ذلك، وأنه لا حرج على المكلف في فعله.
أما لو أن إنساناً ليس عنده عذر الجمع، فجاء فجمع أو أوقع الصلاة قبل وقتها لم تصح صلاته، مثال ذلك: لو أن إنساناً توضأ لصلاة الظهر، ثم صلى الظهر قبل أن تزول الشمس، فإنه بالإجماع تبطل صلاته ولا تصح منه ويُلزَم بالقضاء؛ لأن الله عز وجل أمره بالصلاة بعد زوال الشمس، فحدد الأمر بها، ووقَّت الزمان للإلزام بها بزوال الشمس، فالصلاة إذا أوقعها قبل زوال الشمس فهي صلاةٌ غير الصلاة التي أمره الله بها.
فإذا زالت الشمس، فبعد انتهائه من الصلاة توجه عليه خطابٌ جديد يطالبه بفعل الصلاة؛ لأنه أثناء فعله لم يكن هناك خطابٌ شرعي بالفعل.
ولذلك يقول العلماء: من أوقع الصلاة قبل وقتها غير معذور فإنه تلزمه إعادة تلك الصلاة، وصلاته السابقة صلاة نفل، سواءٌ أكان ذلك على سبيل الخطأ منه، أم كان على سبيل التعمد والعلم.
فقوله: (ولا يصلي قبل غلبة ظنه)، فيه: أولاً: لا تجوز الصلاة قبل وقتها، وبيّنا هذا ودليله.
ثانياً: يستفاد من هذه العبارة أنه إذا غلب على ظنك أن وقت الصلاة قد دخل جاز لك أن تصلي، فمن باب أولى إذا تيقَّنْتَ، وقد تقدَّم معنا أن مراتب العلم تنقسم إلى أربع مراتب: الوهم، والشك، والظن أو ما يُعبِّر عنه العلماء بغالب الظن، واليقين.
فالمرتبة الأولى: الوهم، وهو أقل العلم وأضعفه، وتقديره من (1%) إلى (49%)، فما كان على هذه الأعداد يعتبر وهماً.
والمرتبة الثانية: الشك، وتكون (50%)، فبعد الوهم الشك، فالوهم لا يُكلَّف به، أي: ما يرد بالظنون الفاسدة، وقد قرَّر ذلك الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس: قواعد الأحكام، فقال: إن الشريعة لا تعتبر الظنون الفاسدة.
والمراد بالظنون الفاسدة: الضعيفة المرجوحة؛ لأن وجودها وعدمها على حدٍ سواء، ثم بعد ذلك الشك، وهو أن يستوي عندك الأمران، فأنت لا تدري أهو موجود أو غير موجود؟ تقول: يحتمل أن يكون موجوداً، ويحتمل أن يكون غير موجود، وكلا الاحتمالين على مرتبة واحدة، فهذا تسميه شكاً.
والمرتبة الثالثة: غالب الظن، أو الظن الراجح، وهذا يكون من (51%) إلى (99%)، بمعنى أن عندك احتمالين أحدهما أقوى من الآخر، فحينئذٍ تقول: أغلب ظني.
فإذا كان غالب ظنك أن الوقت قد دخل فإنه يجوز لك أن تصلي الصلاة وتفعلها.
والمرتبة الرابعة: اليقين، وتكون (100%)، كأن تتيقن أن الشمس زالت، وتعرف زوالها بالأمارة، أو ترى الشمس قد غابت، وتعرف مغيبها بالأمارة، فإذا رأيت الشمس غابت أمام عينيك، فأنت قد جزمت، وهنا تفعل الصلاة لوجود هذا اليقين.
لكن لو أن إنساناً قدَّر مغيبها، ومن عادته أن ما بين العصر والمغرب يفعل فيه أشياء، وبمجرد أن ينتهي من هذه الأشياء ينتهي الوقت، وكانت والسماء مغيمة لا يستطيع أن يرى مغيب الشمس فيها، أو يكون في مكان لا يرى فيه الشمس، لكن يعلم أن مثل هذا القدر من الزمان الذي من عادته أن يجلسه أن الشمس تغيب في مثله، فهذا ظن غالب، لا قطع.
وكذلك لو جلس من طلوع الشمس إلى زوالها، كرجل كفيف البصر من عادته أن يجلس ما بين طلوع الشمس إلى زوالها، يصلي ما شاء الله له، ويقرأ من القرآن ما كتب الله له، ومن كثرة الإلف والعادة يعلم أنه إذا بلغ إلى القدر المعين أن الشمس تزول، وأن وقت الظهر يدخل، فهذا غالب ظنٍ معتبر.
فهذه دلائل بالنسبة لشخص الإنسان، أو دلائل بالأمارات والعلامات يغلب بها ظن الإنسان أن وقت الصلاة قد دخل، فإذا حصَّل الإنسان غلبة الظن، أو حصَّل اليقين فحينئذٍ يتعبدُ الله ويصلي.
أما لو كان الظن وهماً، أو كان شكاً، فإن الأصل عدم الصلاة.
والدليل على أنه في غالب ظنه يصلي أن الشرع علَّق الأحكام على غلبة الظن، وقد قرر ذلك العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك قالوا في القاعدة: (الغالب كالمحقق).
أي: الشيء إذا غلب على ظنك، ووجِدت دلائله وأماراته التي لا تصل إلى القطع، لكنها ترفع الظنون، فإنه كأنك قد قطعت به، وقالوا في القاعدة: (النادر لا حكم له).
فالحكم للغالب، فالشيء الغالب الذي يكون في الظنون أو غيرها مع الذي به يناط الحكم.
وبناءً على هذا إذا غلب على ظنك أن الوقت قد دخل أو تحقق فصلِّ، لكن لو أن إنساناً قال: أنا أشك أن الشمس قد غابت، فاحتمال مغيبها واحتمال بقائها عندي بمرتبةٍ واحدة، أو قال: أتوهَّم أن الشمس قد غابت.
فإنه لا يُصلي المغرب؛ لأن اليقين أن العصر باقٍ، واليقين أن النهار باقٍ، والقاعدة في الشريعة أن اليقين لا يزول بالشك، ولذلك تبقى على اليقين، والقاعدة المفرعة على القاعدة التي ذكرناها تقول: (الأصل بقاء ما كان على ما كان).
فما دمت في النهار فالأصل أنك في النهار حتى تتحقق من مغيب الشمس، وما دمت أنك في المغرب ولم تتحقق من مغيب الشفق فالأصل أنك في المغرب حتى تتحقق من مغيب الشفق، فهذا بالنسبة إذا شككت واستوى عندك الاحتمالان.
ولذلك قال العلماء: من شك هل طلع الفجر أو لم يطلع جاز له أن يأكل ويشرب إذا كان في الصيام.
فلو أن إنساناً استيقظ من نومه، ولم يستطع أن يتبين هل طلع الفجر أو لم يطلع، فالأصل واليقين أنه في الليل، ونقول: كُل وأنت معذورٌ في أكلك، لكن لو كان مستطيعاً أن يتحرى وجب عليه التحري، للقاعدة: (القدرة على اليقين تمنع من الشك).
ولا يجوز للإنسان أن يجتهد ما دام أنه بإمكانه أن يصل إلى اليقين.
فهذا بالنسبة لحكم الوقت ابتداءً.
فالإنسان له أربعة أحوال: إما أن يتوهم دخول الوقت، أو يشك، أو يغلب على ظنه، أو يستيقن.
فإن توهم دخول الوقت أو شك لم يصلِّ، وإن غلب على ظنه أو قطع فإنه يصلي، وصلاته مجزِئة معتبرة.(31/3)
المعتبر في دخول الوقت
قال رحمه الله تعالى: [بدخول وقتها إما باجتهادٍ، أو خبر ثقةٍ متيقن] اعتبار الإنسان بدخول الوقت وقد يكون باجتهاد؛ لأن غالب الظن ينبني على الاجتهاد، وغالب الظن يكون مبنياً على الإخبار؛ لأنه ربما كذب المخبر، لكنه رحمه الله عبر بغالب الظن، وإلا فيمكن في بعض الأحوال أن تستيقن، كما لو رأيت الشمس غابت، فحينئذٍ أنت على يقين، فاختار المصنف رحمه الله حالة غلبة الظن لكي نعلم أن اليقين من باب أولى وأحرى؛ لأنه إذا حكم لك أنه في غلبة الظن تصلي فتعلم بداهةً أنه لا حاجة أن يقول لك: أو استيقنت؛ لأنه إذا غلب على ظنه فمن باب أولى إذا استيقن.
فغالب الظن إما أن يكون باجتهاد أو بخبر ثقةٍ متيقِّنٍ، أو بالعلامات أو الأمارات أو الدلائل التي يتحرى الإنسان بها زوال الشمس، ويتحرى بها صيرورة ظل كل شيءٍ مثله أو مثليه، ومغيب الشمس، وكذلك أيضاً مغيب الشفق وانتصاف الليل وطلوع الفجر.
فإنسانٌ يعلم دلائل الفجر الصادق من الفجر الكاذب ويستطيع أن يتحرى ويجتهد، فيعرف أن هذا الوقت هو وقت الفجر الصادق، نقول له: اجتهد، فإن غلب على ظنك أن الفجر قد طلع فصلِّ وصلاتك معتبرة.
وحينئذٍ لا يخلو من أحوال: فإما أن يجتهد ويتبيَّن له صدق اجتهاده، فصلاته معتبرةٌ إجماعاً.
وإما أن يجتهد ويتبيَّن له خطؤ اجتهاده، كأن يظن أن الفجر قد طلع، ثم تبيَّن أن الفجر لم يطلع، فحينئذٍ لا عبرة بالظن فالقاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه)، أي: لا عبرة بالظن الذي بان واتضح خطؤه، وبناءً على ذلك يطالب بإعادة الصلاة؛ لأن ظنه في غير موضعه، وقد توصَّل باليقين إلى خطئه فيلزمه أن يعيد.
وإما ألا يتبين له هل صدق اجتهاده فأصاب الوقت، أو أن اجتهاده على خطأ، فحينئذٍ نقول: تعبَّدك الله بغلبة الظن، ولا عبرة بما وراء ذلك.
والدليل على أن غالب الظن في مثل هذا يجزئ ويكفي تعبُّد الشريعة بغلبة الظن، بل إنها تحكم بسفك الدماء في حكم القاضي بالقتل بناءً على شهادة شاهدين، فإن شهد شاهدان أن فلاناً قتل فلاناً، فبالإجماع أنه يُقتص من القاتل؛ لأنه قتله عمداً وعدواناً، مع أنه يحتمل أن الشاهدين زورا أو أخطأا، ومع هذا فالغالب أنهما لم يخطئا، والغالب أنهما صادقان؛ لأننا لا نقبل شهادة إلا من الثقة العدل، فلما كان الشاهدان على ثقةٍ وعدالة حكمت الشريعة بغلبة الظن.
ويُحكم به في الفروج، فتقول: فلانة امرأة فلان، ويحكم القاضي بذلك بناءً على شاهدين عدلين.
وهكذا بالنسبة للأحكام الشرعية، حينما تأتي للمجتهد وتسأله عن مسألة اجتهادية فيُفتيك، فإنه يفتيك على غالب ظنه، وليس على يقينٍ وقطع إلا فيما دلَّت عليه النصوص القطعية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر).
فاجتهاد القاضي على غلبة ظن، كما قال العلماء، وبناءً على هذا فهمنا أن الشريعة تنيط الأحكام على غلبة الظن، فإذا اجتهد الإنسان وغلب على ظنه أن الوقت قد دخل، ثم لم يتبين له خطأُ الاجتهاد، فاجتهاده معتبر، وعبادته مجزِئةٌ صحيحة.
وقوله: [أو خبر ثقةٍ متيقِّن] أي: من غلبة الظن أن يخبرك ثقة، فخرج خبر الفاسق، فإن الفاسق أمرنا الله بالتبيُّن من خبره، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، وفي قراءة: (فتثبتوا)، ولذلك أمر الله عز وجل في مثل هذا الخبر ألا نحكم به، ولكن نتبيَّن، فدلّ على أن خبره لا يُعتد به، إذ لو كان خبر الفاسق مُعتداً به لوجب الحكم به مباشرة، لكن كون الله عز وجل يأمرنا بالتثبت والأخذ من غيره والتبيُّن من صحته دَلّ على أن مثله لا يُعوَّل عليه، ولذلك قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقال سبحانه وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] ثم قال بعد ذلك: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282].
فلو أخبرك من لا يُرضَى دينه، ولا يُرضَى خلقه، فليس خبره بمعتدٍ به.
قال العلماء: لأن الفاسق كما أنه اعتدى حدود الله بفسقه، فلا يُؤمَن أن يعتدي حدود الله فيكذب عليك ويقول: دخل الوقت، وهذا موجود، فإن بعض الفُسَّاق -والعياذ بالله- عنده استهتار بالدين، فلربما أراد أن يخدع المطيع عن ربه، فقال: دخل الوقت، ثم تركه يصلي، وكل ذلك إما قصداً للسخرية والاستهزاء، وإما تهكماً واستهتاراً واستخفافاً -والعياذ بالله- بحدود الله.
فمثله لا يوثق بخبره، فلا بد أن يكون ثقة، وبعد ذلك أن يكون متيقناً.
والثقة على حالتين: إما أن يكون مجتهداً، أو يكون متيقناً، فإن كان الثقة متيقناً فلا إشكال، فلو قال لك: رأيت الشمس قد غابت بعيني فحينئذٍ تصلي صلاة المغرب بلا إشكال؛ لأن خبر الواحد في الديانات مقبول، وأما لو قال لك اجتهاداً: يغلب على ظنِّي أن الفجر قد طلع، فإن من أماراته كذا وكذا، وذكر لك الأمارات؛ أو: يغلب على ظني أن النهار قد انتصف، وزالت الشمس؛ لأن الأمارة كذا وكذا.
فحينئذٍ لا ينفك المُخبَر عن حالتين: فإما أن تكون مجتهداً مثله، فهذا هو الذي عناه المصنف رحمه الله بمفهوم الوصف، فإن لم يتبيَّن لك الصبح، وجاءك وقال لك: قد تبين الصبح.
فهل تترك الاجتهاد وتقلد؟ أو تبقى على الأصل ما دام عندك الآلة والملكة؟ قال بعض العلماء: المجتهد لا يقلِّد، ويجب عليه أن يبقى حتى يتأكد أن الصبح قد طلع.
وقال بعض العلماء: المجتهد إذا تعذَّرت عليه الآلة في نفسه وجب عليه أن يعمل بقول غيره؛ لأنه ترفَّع عن مستوى من يقلد بمكان الاجتهاد، فإذا أصبح الاجتهاد فيه متعذراً أو ممتنعاً انتقل إلى حال الأمي وحال المقلِّد، فنلزمه بالعمل بخبر هذا المجتهد.
والقول الأول من القوة بمكان، وهو أن المجتهد إذا تعذرت عنده الآلة، ولم يستطع أن يتحرى، فإنه يَقْوَى أن يميل إلى قول غيره، ولكن الاحتياط والأفضل أن يُعمَل بما درج عليه المصنف رحمه الله.
والعامِّي الذي لا يعرف الأوقات، ولا يعرف الدلائل لو جاءه إنسانٌ مجتهد يعرف الأوقات بدلائلها وهو ثقة، فلا يَدْخُل فيما سبق، فالعامي يلزمه أن يقلد من عنده علمٌ وبصيرة قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإذا أخبره ثقة أنه باجتهاده قد تبيَّن له أن الصبح قد طلع وجب عليه أن يعمل بقوله؛ لأنه لا آلة عنده، وهو تبعٌ لغيره، فيستوي حينئذٍ أن يكون مخبِرُه على غالب ظنه، أو على يقين.
فالحاصل أن الشخص المجتهد لا يَحكُم بدخول الوقت إلا باجتهادٍ منه أو مخبر متيقِّن، أما لو أخبره بغالب الظن ففيه خلاف، وقلنا: الأحوط أن لا يعمل، وهذا على ما درج عليه المصنف.
وأما إذا كان الإنسان عامياً أو غير مجتهد فحينئذٍ يعمل بقول من تيقَّن، وبقول من اجتهد ولو كان بغالب ظنه.(31/4)
حكم من صلى قبل الوقت باجتهاده فأخطأ
قال رحمه الله تعالى: [فإن أحرم باجتهادٍ فبان قبله فنفلٌ وإلا ففرض] هذه مسألة من اجتهد وتبيَّن له الخطأ، فلو أنه أحرم بالصلاة على أن الوقت قد دخل، فظن أن المغرب قد وجب، وأن الشمس قد غابت فصلَّى، ثم في أثناء الصلاة أو بعد انتهاء الصلاة إذا بالشمس قد طلعت، فإن طلعت بعد انتهاء الصلاة فحينئذٍ لا إشكال أن الصلاة لا تُعتد فريضةً، أي: لا تقع فريضة، ويبطل الحكم بكونها فريضة والاعتداد بها، ويُلزم بفعل الفريضة بعد المغيب، ولكن تقع صلاته تلك نفلاً؛ لأنه إذا تعذَّرت نية الفرض انقلبت إلى النفل؛ لأنها عبادة، والله يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143].
ولذلك أخبر الله أنه لا يضيع الإيمان، وبالإجماع على أن المراد بقول الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، الصلاة؛ لأنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فقالوا: إخواننا قد ماتوا وقد صلوا إلى بيت المقدس، فأنزل الله عز وجل النفي الذي يدل على أنه ما كان ليضيع إيمانهم أي صلاتهم، فسمَّى الصلاة إيماناً.
قالوا: إن الله عز وجل وعد بأنه لا يُضِيع صلاة المصلي، فإذا تعذر إيقاعها فريضةً وانقلبت إلى نافلة، بما دل عليه دليل الكتاب.
وقال تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، والمصلي محسن ومطيعٌ لله عز وجل، وقد يقول قائل: ما الدليل على أن الفرائض تنقلب نوافل والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)؟ فيقال له: الدليل على ذلك أنَّك لو حكمت، فإما أن تحكم ببطلان الصلاة، أو انقلابها نفلاً، فإن قلتَ: أحكُم بانقلابها نفلاً صح ذلك مع دليل الكتاب؛ لأنه ينبني عليه أن صلاته معتد بها، فإنه قصد القربة وقصد الطاعة والإخلاص لله عز وجل، وأوقَع الصلاة بصفاتها الشرعية، فلا وجه للإبطال، والله عز وجل لا يضيع عمل العامل، وهذا عمل، ولذلك نستثنيه من قوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فنقول: إذا تعذر الفرض انقلب إلى كونه نفلاً من هذا الوجه.(31/5)
حكم المكلف إذا أدرك وقت الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وإن أدرك مكلفٌ من وقتها قدر التحريمه، ثم زال تكليفه أو حاضت، ثم كلف وطهرت قضوها] هذا مما ينبني على معرفة آخر الوقت.
وتستفيد منه أنك إن قلت: العبرة بتكبيرة الإحرام فإن المجنون إذا أفاق قبل مغيب الشمس بقدر تكبيرة الإحرام يلزمه أن يقضي العصر، ولو أفاق قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة الإحرام يلزمه قضاء الفجر.
كذلك أيضاً لو أن صبياً احتلم، فبلغ قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة الإحرام يلزمه فعلُ الصبح، وكذلك أيضاً لو أنه احتلم قبل غروب الشمس فإنه يُحكم بكونه مطالباً بصلاة العصر، وهذا إذا قُلنا: إنه يعتد بتكبيرة الإحرام.
أما الراجح والصحيح -وهو مذهب الجمهور- أنه يُعتد بالركعة كاملة، فإذا أدرك الركوع قبل أن تغيب الشمس، أو قبل أن تطلع الشمس حُكِم بإدراكه لوقت الصلاة، وإلا فلا.
وقوله: [أو حاضت، ثم كلف وطهرت قضوها].
أي: أو حاضت المرأة، فيلزمها القضاء.
قال رحمه الله تعالى: [ومن صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها لزمته].
قوله: [من صار أهلاً] يعني: من أهل التكليف بالصلاة، إذا صار أهلاً قبل أن يخرج الوقت [لزمته] أي: يلزمه أن يفعل هذه الصلاة، إذا كان قبل الخروج بقدر تكبيرة الإحرام.
قوله: [وما يجمع إليها قبلها].
الكلام متصل بما بعده، أي [لزمته الصلاة]، ولزمه [ما يُجمع قبلها]، وهذا يتأتى في أربع صلوات: الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء.
فإن قال قائل: قد علمتُ أن من أَدرك من آخر الوقت قدر الركعة أنه يُعتبر مدرِكاً للصلاة، لكن لو أن إنساناً أدرك قبل نهاية الوقت في الصلاة التي تُجمع مع ما قبلها بقدر فعل الأخيرة والأولى، أو قدر فعل الأخيرة وركعة من الأولى، فهل يُلزَم بفعل الصلاتين؟ أو يلزم بفعل صلاةٍ واحدة؟
و
الجواب
لو أن مجنوناً أفاق، أو صبياً احتلم قبل غروب الشمس بقدر خمس ركعات، فالأربع للعصر والخامسة للظهر، فحينئذٍ إن قلتَ: إن وقت الظهر والعصر للضرورات وأهل الأعذار فيُعتبر بمثابة الوقت الواحد، وهو قضاء الصحابة ومفهوم الشرع، وأدلة الشرع تدل عليه من جهة المفاهيم، فإننا نقول: يَلزمه فعل الصلاتين.
وهذا هو الصحيح، وأقوى قولي العلماء، فمن أدرك قبل غروب الشمس الصلاة الأخيرة وقدر ركعة من الصلاة التي قبلها يَلزَمه فعل الصلاتين، فيلزمه فعل الظهر والعصر إن أدرك قدر خمس ركعات قبل مغيب الشمس، ويلزمه فعل المغرب والعشاء إن أدرك قبل نصفِ الليل، أو قبل طلوع الفجر -على القولين في آخر وقت العشاء- قدر خمس ركعات.
وإن كان مسافراً تقول: إن أدرك ثلاث ركعات؛ لأنه يقصرُ الصلاة، فركعتان للأخيرة وركعة للأولى.
وهذا كما قلنا تدل عليه أدلة الشرع، فالصلاتان بمثابة الصلاة الواحدة لأهل الأعذار، فيُلزم بفعلهما معاً، سواءٌ أكان ذلك في الظهر مع العصر، أم المغرب مع العشاء.(31/6)
شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [3]
من فاتته صلاة أو صلوات فلم يدرك وقتها وجب عليه قضاؤها مرتبة، إلا إن نسي فيسقط عنه الترتيب، أو إذا خشي خروج وقت الصلاة الحاضرة، فيصليها ثم يقضي الفائت بعدها.(32/1)
أحكام وأقوال العلماء في قضاء الفوائت
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويجب فوراً قضاء الفوائت مرتباً].
قوله: [يجب فوراً]: بمعنى أن تُبادر مباشرةً.
وقوله: (قضاء الفوائت) معناه أنه قد خرج الوقت، فإذا خرج وقت الصلاة لمعذورٍ ثم زال عذره، كأن يكون نائماً فأفاق بعد طلوع الشمس يجب عليه فوراً أن يصلي الصبح، وهذه المسألة للعلماء فيها قولان: فقالت طائفةٌ من العلماء: إذا استيقظ الإنسان من نومه بعد خروج وقت الصبح، أو خروج وقت أي فريضةٍ، أو زال عذره، فإنه يجب عليه أن يبادر مباشرةً إلى فعل الفريضة، وإذا أخَّر وهو غير معذورٍ، كأن يكون استيقظ الساعة التاسعة صباحاً، وقد خرج وقت الفجر، فيلزمه مباشرةً أن يتوضأ، وأن يصلي الفجر.
فلو جلس إلى العاشرة بدون عذرٍ، قالوا: يأثم، وهذا مذهب من يقول: إن القضاء على الفور لا على التراخي، ولا يجوز له أن يتراخى إلا من عذر، وهو قول الجمهور.
وقال بعض العلماء: إنه إذا استيقظ الإنسان من نومه، أو كان معذوراً وزال عذره بعد خروج الوقت لا يجب عليه القضاء فوراً، وإنما يصلي ما لم يدخل وقت الثانية، وهذا يتأتَّى في الصبح، فإنك إذا نظرت إلى الوقت فما بين طلوع الشمس وما بين زوال الشمس وقتٌ متسع، فعندما نقول: يلزمه الفور، أي: حين يستيقظ، ولكنه ينوي القضاء.
وأما بالنسبة للقول الثاني فمن حقه أن يؤخِّر ما لم تَزُل الشمس، وهذا القول الثاني أحد الوجهين عند الشافعية رحمة الله عليهم، ودليله حديث حذيفة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّس -أي: سار إلى آخر الليل- قال: فوقعنا وقعةً ما ألذ منها على المسافر، فقال صلى الله عليه وسلم: يا بلال اكلأ لنا الليل)، ومراده أنهم من شدة التعب والإعياء وقعوا -بمعنى ناموا- وقعةً ما ألذ منها على المسافر، أي: شعرنا بلذة النوم لمشقة السفر وعناء السهر، قال: فقام صلى الله عليه وسلم: (يا بلال اكلأ لنا الليل)، قال: فقام بلال فلم يشعر الصحابة، ثم طلعت الشمس، ثم استيقظ عمر رضي الله عنه -كما في الرواية- وجعل يكبِّر، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من حر الشمس صلوات الله وسلامه عليه -والتعبير بالحر يدل على أن الشمس قد ارتفعت- فلما استيقظ قال: (يا بلال ما شأنك؟ فقال رضي الله عنه: (أخذ بعيني الذي أخذ بعينك يا رسول الله) أي: ما أنا إلا بشر ضعيف، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان أتى بلالاً حتى نام)، أي: ما زال يهدئه، ويقول له: الصبح باق، حتى نام رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، أي: ارتحلوا فأمرهم أن يرتحلوا عن الوادي الذي ناموا فيه، وقال: (إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، ثم لما ارتحلوا حتى قطعوه أمر بلالاً فأذن، ثم توضأ فصلى رغيبة الفجر ثم صلى الفجر.
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ مباشرة، فما بين قيامهم من النوم وصلاتهم أمد الارتحال، ومعلوم أن الجيش إذا ارتحل يأخذ وقتاً، فإذا شدوا رِحالهم، ووضعوا الرَّحل، فهذا يحتاج إلى عناء ووقت، فليس هو باليسير، خاصة أنه كان هذا في غزاته الأخيرة عليه الصلاة والسلام في العسرة، فإن هذا يحتاج إلى وقت وعناء، وبناءً على ذلك معناه أنهم قد أخذوا وقتاً ليس باليسير.
وبناءً عليه فكون النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر إلى هذا الوقت الذي هو ليس باليسير يدل على أنه يجوز أن يؤخِّر الإنسان، ولا حرج عليه ما لم يدخل وقت الظهر.
والذين قالوا بأنه لا يجوز التأخير، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر وقتاً يسيراً، والحقيقة أنَّ النفس تميل إلى أن قول من قال: إنه يجوز له التأخير أقوى؛ لأن التعليل بكونه منزل حضره الشيطان لا يدل على بطلان الصلاة فيه، بل العجيب أن بعض العلماء يقول: إنه مكانٌ كمَعَاطِن الإبل التي نُهِي عن الصلاة فيها، وقال: (حضرنا فيه الشيطان)، وهذا محل نظر؛ لأن هناك فرقاً بين قوله: (منزل شيطانِ)، و (منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، فإن قوله: (حضرنا فيه الشيطان) أي تسلط على بلال فنام حتى ذهب الصبح، وليس المراد أنه منزلٌ فيه الشياطين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حضرنا فيه الشيطان)، والكلمات دلائلها معتبرة في أخذ معانيها وما يُستنبط منها، فكونه عليه الصلاة والسلام يقول: (حضرنا فيه الشيطان)، ويعدل إنما هو على سبيل الندب والاستحباب، لا على سبيل الحتم والإيجاب، كأنه كرِه هذا المنزل الذي حصل فيه التفويت للصلاة، وهذا من كمال طاعته لله عز وجل، وهذا شأن كمال الطاعة لا شأن الإلزام، ولذلك لو قلنا: إنه كمعاطن الإبل لقال العلماء من نام في غرفةٍ وفاتته صلاة الفجر يجب عليه ألا يصلي فيها، ولا قائل بهذا.
فبناءً على ذلك لا وجه أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع لعذرٍ؛ لأن هذا ليس بعذر، وإنما هو من باب الكمال، وإذا كان من باب الكمال والفضيلة، فإن تأخيره -لو كان القضاء على الفور- لا يتأتى أن يَتْرك الفورية الواجبة لفضيلةٍ غير لازمة.
فمن هنا صح أخذ وجه الدلالة على أنه يجوز للإنسان إذا استيقظ من نومه أن يؤخِّر، ولا حرج عليه، ولكن الأفضل والأكمل أن الإنسان يخرج من الخلاف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بادر بفعل الصلاة، ولذلك نقول: الأفضل والأكمل أنه يبادر بالصلاة، حتى يخرج من خلاف العلماء رحمة الله عليهم.
وأما لو أخَّر الساعة والساعتين ما لم يدخل وقت الظهر فإنه لا حرج عليه لدلالة السنة على هذا.(32/2)
حكم الترتيب بين الفرائض
قال المصنف رحمه الله: [ويسقط الترتيب بنسيانه] أي: يجب على المكلف أن يرتِّب بين الصلوات، والدليل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] والمؤقت: المحدد، تقول: أَقَّت الشيء يُؤَقِّته تأقيتاً.
إذا حدده زماناً أو مكاناً أو صفةً، فلا يصح أن تصلي الظهر ولم تصل الفجر، ولا يصح أن تصلي العصر ولم تصل الظهر، ومن أدلة الإلزام بالترتيب ما ثبت في الحديث الصحيح (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فقال: يا رسول الله! ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها.
فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد أن غربت الشمس، ثم صلى المغرب).
فكونه عليه الصلاة والسلام يراعي الترتيب مع أن الوقت وقت المغرب يدل على الإلزام، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولذلك يدل هذا على أن الإلزام مُعتَبر، ومن هنا أخذ العلماء أنه لا يصح لك أن تصلي العصر قبل الظهر، وهذا صحيحٌ من جهة النظر، فإن المكلف إذا وجبت عليه صلاة الظهر فقد تعلقت ذمته بخطاب الظهر، ولا يُخاطب بالعصر إلا بعد أن تفرغ ذمته بفعل الظهر، ولذلك أصبح مُلزَماً بالترتيب من هذا الوجه، فلا يصح أن يصلي العشاء قبل المغرب.
وبناءً عليه فمن كان في سفر، ودخل إلى مسجدٍ والقوم يصلون العشاء، فإنه يدخل وراءهم وينويها نافلة، ثم إذا انتهوا أقام للمغرب فصلاها، ثم صلى العشاء، فهذا مذهب من يقول بالترتيب.
لكن لو دخل وهم يصلون العصر، وكان قد أخر الظهر يريد أن يجمع، فلما دخل على الناس وجدهم يصلون العصر، فينوي وراءهم الظهر، ولا حرج عليه؛ لأن صورة الصلاتين متحدة، ولا اختلاف في الأفعال.
أما في المغرب والعشاء فستختلف الأفعال والأركان، ولذلك لا يتأتى إيقاع إحدى الصلاتين تلو الأخرى، وبناءً على ذلك يُلزم بالترتيب على ظاهر دليل التأقيت في الكتاب والسنة.
فلو أن إنساناً صلى صلاة العصر قبل الظهرلم تصح صلاته، فتكون صلاة العصر منه نافلة، فيُلزَم بإعادة الظهر وإيقاع العصر بعدها.
لكن لو نسي فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: من صلى العصر ناسياً الظهر، ثم تذكر بعد صلاة العصر يقيم للظهر ويصلي، ولا حرج عليه لمكان النسيان، واختاره المصنف وجمعٌ من أهل العلم، واحتجوا بظاهر قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
وقال جمعٌ من أهل العلم الذين يقولون بوجوب الترتيب: يلزمه أن يعيد الظهر ثم العصر، وذلك لأن المؤاخذة في قوله تعالى: (لا تُؤَاخِذْنَا) لا تُسقِط الضمان بالحق، ولذلك الناسي يسقط عنه الإثم، ويبقى الأصل بالمطالبة، إذ لو أخذنا بظاهر قوله تعالى: (لا تُؤَاخِذْنَا) على أنه يدل على إسقاط الترتيب لدلّ على إسقاط الصلاة كلها؛ لأنه قد نسيها.
وبناءً على ذلك يلزم بفعل الصلاة مع أنه ناسٍ ويلزمه قضاء الصلاة، وحينئذٍ يلزمه أيضاً أن يوقعها مرتبة، كما استثنيتم من قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا) الصلاة نفسها، فبناءً على الدليل يلزمكم استثناء الترتيب بدليل الترتيب نفسه.
فمن نسي الترتيب يُطالَب به، ويسقط عنه الإثم؛ لأن قوله تعالى: (لا تُؤَاخِذْنَا) رفعٌ للمؤاخذة، والمؤاخذة: الإثم، وليس المراد بها رفع المطالبة، إذ لو أخذ بقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا) على أن المراد به عدم المطالبة حتى بالترتيب، نقول أيضاً: لا يُطالَب بالصلاة؛ لأنه نص عام على عدم المؤاخذة، فكما أنه طولِب بحق الله بفعل الصلاة، فحينئذٍ يُطَالَب بحق الله في إيقاعها مرتبة، وهذا أعدل الأقوال وأقواها.
فالاستدلال بقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا) وقوله عليه الصلاة والسلام: (رفِع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) مقيد بإسقاط الإثم دون إسقاط الضمان، ودليله واضح، ألا ترى الإنسان لو قتل إنساناً خطأً لوجب عليه الضمان لحق الله، فيُطَالب بالكفارة وهي عتق الرقبة، فإن لم يستطع صام شهرين متتابعين، مع أنه مخطئ، والله يقول: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، فدلّ على أن المؤاخذة المرفوعة في الآية مؤاخذة الإثم التي لا يفوت بها حق الله وحق المكلَّف.
وهذا أعدل أقوال الأصوليين في هذه المسألة المشهورة وهي: هل المرفوع في قوله: (رُفِع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) الفعل والإثم، أو أحدهما وهو الإثم؟ فالمرفوع هو الإثم حتى يدل الدليل على رفع الاثنين معاً.(32/3)
الترتيب بين الصلاتين في وقت لا يسع سوى الحاضرة
قال المصنف رحمه الله: [وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة].
تقدم معنا أن من الفرائض ما له وقت اختيارٍ ووقت اضطرار، فلو أن إنساناً نام عن صلاته حتى استغرق نومه، فمرَّت عليه صلاة الظهر وصلاة العصر حتى بقي من وقت العصر قدر يسير ثم ينتهي وقت الاختيار، قالوا يبدأ بالعصر فيؤديها، ثم يقيم للظهر فيصليها.
ووجه ذلك أنهم قالوا: إننا لو أمرناه بالترتيب لذهب وقت الاختيار للحاضرة، ولذلك نقول: سقط الترتيب تحصيلاً للصلاة الحاضرة، فيؤدي الصلاة الحاضرة في وقتها؛ لأنه إذا ازدحمت الفروض، فبعضهم يقول: يُراعَى صفة الفرض؛ إذ الحاضرة مزدحمة مع التي قبلها، فإذا قلت له: رتِّب الصلوات بناءً على الأصل الشرعي، فإن معنى ذلك أنه سيقضي الصلاتين، فتصبح صلاته للظهر موجبة لخروجه من وقت الاختيار إلى الاضطرار، فبناءً على ذلك قالوا: إنه يكون في حكم المفوِّت لوقت الاختيار، فيلزمه حينئذٍ أن يصلي الحاضرة في وقت الاختيار، ثم يصلي الفائتة.
وهكذا قالوا لو لم يبق من وقت الحاضرة إلا قدر أدائها، كأن يستيقظ قبل طلوع الشمس بقدرٍ يصلي فيه الصبح، وكان قد نام عن العشاء والصبح، قالوا: فلو أمرناه بصلاة العشاء لفاتت عليه صلاة الصبح، فنأمره بصلاة الصبح حاضرة، ثم بعد طلوع الشمس يصلي العشاء الفائتة؛ لأن العشاء مقضية على كل حال، سواءٌ أصليت قبل الصبح أم بعده.
وذهب طائفةٌ من العلماء إلى أنه يصلي العشاء أولاً مراعاةً لدليل الشرع، حيث قالوا: تأخر لعذر، وأخر الصلاة الحاضرة لعذر، فيصلي العشاء أولاً استناداً إلى أصول الشريعة التي لم تستثن ولم تفرق، فنأمره بصلاة العشاء حتى ولو خرج وقت الفجر، فإذا خرج وانتهى من قضاء العشاء أقام وصلى الفجر؛ لأنه كالشخص الذي قد خرج عليه الوقت.
فهذا الوقت اليسير الذي لا يسع إلا للصبح هو -حكماً- بمثابة من استيقظ بعد خروج الوقت؛ لأنه ملغي بأمر الشرع بالترتيب، وهذا القول من ناحية الأصول أوفق.
لكن هناك مخرجٌ لطيف لبعض العلماء، قال: يستحب له أن يصلي الفجر إدراكاً للوقت، ثم يقيم فيصلي العشاء ويعيد الفجر احتياطاً، قالوا: فيكون بهذا قد احتاط لأمره؛ لأنه سيكون قاضياً في كل الأحوال، فإن كان في القدر المتسع اليسير فضل يكون قد أدركه بالصلاة الأولى، وإن لم يكن له فضل يكون قد استبرأ ذمته بالاحتياط لواجب الشرع.(32/4)
الأسئلة(32/5)
حكم من تعمد تأخير الصلاة حتى خرج وقتها
السؤال
إذا أخر رجلٌ الصلاة عن وقتها متعمداً حتى خرج الوقت، فهل يقضي الصلاة أم لا؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء رحمة الله عليهم، فبعض أهل العلم يرى أن من أخَّر الصلاة حتى خرج وقتها وهو متعمد لا يطالب بالقضاء، خاصةً على مذهب من يرى أنه قد كفر بإخراج الصلاة عن وقتها.
والقول الثاني أنه لا يكفر، ويُلزم بفعل الصلاة بعد خروج الوقت إن أخرها متعمداً، وهو الأقوى والصحيح إن شاء الله تعالى.
والدليل على ذلك أنه إذا اختلف العلماء رحمهم الله: هل يطالب بالفعل أو لا يطالب بالفعل رُجِع إلى الأصل، فإن الأصل فيمن دخل عليه وقت الصلاة أنه مطالبٌ بها لتوجه خطاب الشرع عليه بالفعل، فكونه قد أخرها إلى أن خرج الوقت لا يوجب إسقاطها عنه إلا بدليل يدل على أن المتعمد لا يُطالب بفعل الصلاة بعد خروج الوقت، وليس هناك دليلٌ في الكتاب والسنة يدل صراحةً على أنه إذا خرج الوقت لا يطالب بفعل الصلاة، وغاية ما استدل به أصحاب هذا القول أنهم قالوا: إن الصلاة محددةٌ ببداية ونهاية، وإذا كانت محددة بالبداية والنهاية فإنه إذا خرج عن نهايتها لا يُطَالَب بفعلها وهذا محل نظر؛ ألا ترى النائم يطالب بفعلها بعد انتهاء وقتها؟! ألا ترى المعذور -وهذا بالإجماع- يُطَالَب بالفعل بعد انتهاء وقتها.
فإذا كان هذا مقرَّراً، وهو أن المعذور مطالبٌ بالفعل بناءً على أصل دليل الخطاب، فإنه يدل على أنهم مسلِّمون بوجود الخطاب بعد انتهاء الوقت، وأصبح التأقيت يحتاج إلى دليلٍ من الكتاب والسنة يدل على عدم إلزام المكلف بالفعل بعد خروج الوقت، ولذلك الأقوى أنه يُطَالَب بالفعل، وقد ثبت بدليل السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزَّل حقوق الله كحقوق العباد، فقال عليه الصلاة والسلام: (أرأيتِ لو كان على أمك دينٌ أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)، فجعل الصوم، وجعل الحج بتوجه الخطاب ديناً على المكلف؛ لأنه فريضة.
يقول الجمهور: فالصلاة دينٌ على المكلف؛ لأنه مكلفٌ بها بتوجه الخطاب، كالصوم والحج إذا ثبت أنه دَيْن: (فإن دين الله أحق أن يقضى).
وكما أن حقوق العباد يُطَالب الإنسان بقضائها حتى ولو أنكرها وجحدها وامتنع مِن الفعل وماطل فيها بعد وقتها وهو قادرٌ على السداد، كذلك حق الله يطالب بأدائه ولو خرج عن وقته؛ لأن السداد مأمورٌ به، وهو القيام بفعل الصلاة، فالذي تطمئن إليه النفس مطالبته بالفعل، والله تعالى أعلم.
وقد قالوا في الحج: لو أخر مفرِّطاً فيجوز أن يحج عنه، فلو أن إنساناً غنياً ثرياً أخَّر الحج حتى مات وهو قادر على أن يحج، قالوا: يُطالَب بالحج عنه من ماله، بناءً على قوله عليه الصلاة والسلام: (أرأيتِ لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى)، فجعل الحج في ذمة هذا الميت -مع أنه مفرِّط ومتعمدٌ للتأخير- ديناً في ذمته، مع أنه أخرجه عن الوقت المعتبر؛ لأنه بالإجماع على أنه إذا توجه الخطاب على الإنسان بالحج، وهو قادرٌ مستطيع أنَّه واجبٌ عليه، ولكن اختُلِف في مسألة التأخير وعدم التأخير، فقالوا: إنه يُطالَب بالفعل ويترتب على المطالبة إلزام الذمة.
وبناءً على هذا فإن الصلاة أُلزِمت ذمته بفعلها، وليس عندنا دليل على أنه إذا أخَّر حتى خرج الوقت سقطت عنه، ثم جاء دليل النظر والقياس الصحيح، وهو ما يسمى عند العلماء: قياس الأولى، وقياس الأولى من أقوى الحجج، حتى إن بعض العلماء يقول: الخلاف بين الظاهرية والجمهور في الأقيسة لا يشمل قياس الأولى.
فيقولون: إذا كان المعذور الذي عذر ونام حتى فاتت عنه الصلاة يُطالَب بالإعادة، فكيف بإنسانٍ متعمد؟! فإنه أحرى أن يُطالَب بالإعادة، وهذا يسمونه: قياس الأولى، فإذا كان صح هذا وهو أن المعذور يطالَب بالفعل مع كونه معذوراً، فمن باب أولى غير المعذور، ولذلك تميل النفس إلى المطالبة بالقضاء، والله تعالى أعلم.(32/6)
حكم قضاء النوافل
السؤال
هل تقضى الفوائت من النوافل؟
الجواب
أما قضاء الفوائت من النوافل فإنه سنة، ودل على ذلك حديث حذيفة في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه لراتبة الفجر.
وقال العلماء: إن راتبة الفجر هي آكد الرواتب، وتقضى قولاً واحداً عند العلماء، وتأكُّد قضائها لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوها ولو طلبتكم الخيل).
ولثبوت الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بقضائها مع الصحابة، فإنه لما بات في الوادي الذي ذكرنا أمر بلالاً فأذَّن، ثم صلى ركعتين وهي رغيبة الفجر، ثم أمره فأقام فصلى الصبح.
فدل قضاؤه لها على مسألتين: أما المسألة الأولى فسنِّيَّة قضاء الرواتب، والمسألة الثانية: هل يطالب بالقضاء على الفور أم على التراخي؟ ذلك أنه لو كان مطالباً بالفور لصلى الصبح أولاً، ثم صلى بعده الرغيبة، ولَمَا اشتغل بالنافلة قبل الفريضة، فهذا يؤكد ما ذكرناه مِن أن القضاء ليس على الفور؛ إذ لو كان على الفور لما قدَّم النافلة على الفرض.
وبناءً على هذا فإنهم قالوا: إنه يُشرَع قضاء النوافل.
ومن الأدلة حديث عائشة الصحيح: (يا رسول الله! رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟ قال: أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان).
وأما حديث أم سلمة أنها لما سألته فقالت: (أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا)، الذي رواه أحمد في مسنده فهو ضعيف، والصحيح أنه يُشرع قضاء الرواتب، وأنه سنة ولا حرج على الإنسان في فعله.
وفي الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاته حِزبُه من الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة)، فقضى عليه الصلاة والسلام صلاة الليل مع أنها نافلة، فدل هذا على مشروعية القضاء.
وفي الصحيح أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل)، وهذا يدل على سعة رحمة الله عز وجل، وعظيم فضله، خاصةً عند وجود العذر، والله تعالى أعلم.(32/7)
وقت صلاة الضحى
السؤال
نرى بعض المصلين يصلون صلاة الضحى قبل الظهر بقرابة ربع ساعة، فهل نبيِّن لهم أن هذا وقت نهي؟ مع رجاء تحديد وقت النهي بالدقائق قبل أذان صلاة الظهر.
الجواب
هذا فيه مسألتان: المسألة الأولى: تأخيرهم للضحى إلى هذا الوقت، فلو أن إنساناً أخَّر الضحى إلى ما قبل صلاة الظهر، سواءٌ إلى وقت انتصاف النهار المنهي عنه، أم إلى ما قبل وقت انتصاف النهار، فهل هذا من السنة؟ الجواب: لا؛ لأن الضُّحى شيء، والضَّحَى شيء، فإذا أشرقت الشمس فهناك وقت يسمى الضُّحى، وهو أول النهار إلى اشتداد الشمس بحيث تقرُب من الهاجرة، ثم يأتي وقت قبل انتصاف النهار يُقارب الساعة إلى الساعة والنصف يختلف بحسب طول النهار وقصره صيفاً وشتاءً، ففي الصيف يكون أطول، وفي الشتاء يكون أقصر، فهذا الوقت الذي هو قبل أن تنتصف الشمس في كبد السماء يسمى الضَّحَى، وهو المراد بحديث البخاري: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة، ثم تكون القائلة).
فهذا هو وقت القيلولة قبل الظهر بساعة ونصف إلى ساعة، فغالباً هذا الوقت الذي هو قبل الظهر يعين بإذن الله عز وجل على قيام السحر.
وقالوا: هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل)، فكانت قيلولتهم قبل منتصف النهار، فهذا الوقت يسمى الضَّحَى بالفتح، والذي قبله ما بين طلوع الشمس قيد رمح إلى اشتداد النهار يسمى الضُّحَى، وهو الذي أقسم به الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]، فانظر إلى قوله تعالى: (والليل إذا سجى) أي: جعل بداية الليل وإرخاء سدوله ما يكون عند وجود الشفق إلى سقوط الشفق بحيث يسجِّي الليل، مثل الشخص الذي تسجِّيه، أي: تُغَطِّيه.
فقوله تعالى: (الليل إذا سجى) أي: غَطَّى بظلامه، فجعل الوقتان متقابلان.
فصلاة الضُحى بداية وقتها بعد طلوع الشمس بقيد رمح، أما أثناء الطلوع إلى ارتفاع قيد رمح فهو داخل في المنهي عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر صلاة العيد إلى ارتفاع الشمس قيد رمح، فدل على أن ما قبله باقٍ على الأصل من النهي، وبناءً على هذا لا ينبغي تأخير صلاة الضُحى إلى هذا الوقت.
وأفضل ما تقع صلاة الضُحى بعد ارتفاع النهار، فإذا ارتفعت الشمس قيد رمح بدأ وقت الجواز، فإذا اشتد النهار قليلاً بعد إشراق الشمس بقدر ساعة فهو أفضل؛ لأن الغفلة من الناس تكون في مثل هذا الوقت، وهو وقت طلب التجارة والكسب، فكون الإنسان يترك التجارة والكسب ويُقبِل على الله في مثل هذا الوقت فهذا فضل عظيم.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، والفصيل: ولد الناقة، و (ترمض الفصال) أي: يدركها حر الرمضاء، وهذا يدل على أن الشمس قد ارتفعت، وأن صلاة الأوابين هي الضُحى التي وعد الله أهلها بالمغفرة: {َإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، فالإضافة المراد بها مثل هؤلاء الذين أثني عليهم بالآية، قالوا: فلا تكون إلا بعد ارتفاع النهار بساعة إلى ساعة ونصف، وما قبل الظهر بساعة إلى ساعة ونصف، فهو أشبه ما يكون بقضاء الضُّحى، وليس بالضُّحى أداءً، وينبني على قضاء النوافل من حيث إنه سائغ أو غير سائغ.
فإذا بدأ وقت الضَّحى إلى أن تنتصف الشمس في كبد السماء، فهذا وقت جواز يجوز للإنسان أن يُصلي فيه، وحملوا عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً صلى قبل الظهر أربعاً)، على أن المراد بقبل الظهر قبل وقتها، وليس المراد به الراتبة.
قالوا: لقوله: (إنها ساعة رحمة تفتح فيها أبواب السماء)، ولما سئل عنها قال: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح)، فهذا قبل انتصاف النهار.
وبعض المؤذنين يحتاطون بقدر ربع ساعة ما بين زوال الشمس وصلاة الظهر، فيقولون: الوقت في الظهر داخل بقدر ربع ساعة.
وبناءً على هذا فإذا أذن للظهر في الساعة الثانية عشر والنصف، فمعناه أن الزوال ابتدأ في الثانية عشر والربع، وبناءً على هذا فمن جاء يصلي في مثل هذا الوقت الذي تنتصف فيه الشمس في كبد السماء فإنه حينئذ لا يجوز له، لما ثبت في الحديث: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب).
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (فإذا طلعت الشمس فصل، فإن الصلاة حاضرةٌ مشهودة، فإذا انتصفت -في كبد السماء- فأمسك، فإنها ساعةٌ تسجر فيها نار جهنم).
و (تسجر) أي: يشتد لهيبها، فهي ساعة عذاب وليست بساعة رحمة، ولذلك نُهِي فيها عن دفن الموتى، وعن صلاة النافلة، فمثل هذا الوقت لا تصلى فيه صلاة الضُحى، ولذلك قالوا: إن إيقاع النافلة في الأوقات المنهي عنها وجوده وعدمه على حدٍ سواء، إلا عند من يستثني ذوات الأسباب، والله تعالى أعلم.
فينبغي تنبيه هؤلاء -الذين يصلون في هذه الأوقات المنهي عنها- على أمرين: أولاً: أن وقت الضُحى من بعد طلوع الشمس قيد رمح، أي: بما يقارب -احتياطاً- اثنتي عشرة دقيقة، فبعدها يغلب على الظن دخول وقت جواز صلاة النافلة، ووقت الفضيلة يبتدئ إذا كان طلوعها السادسة والربع إلى ما يقارب السابعة والنصف إلى الثامنة، وكلما تأخر قليلاً كان أفضل؛ لأنه تكون غفلة الناس باشتغالهم بالدنيا أكثر، والله تعالى أعلم.(32/8)
حكم من لا يعرف عدد ما فاته من الصلوات
السؤال
فاتتني كثيرٌ من الصلوات بعد بلوغي، وصليت بعضها جنباً خجلا، وكل ذلك لجهل والدي عن تعليمي ما يجب عليَّ، وهي كثيرةٌ جداً ولا أحصي عددها، ولا أستطيع الاجتهاد في معرفتها، فماذا يلزمني تجاه ذلك؟
الجواب
هذا السؤال فيه مسائل: أولاً: إذا تركت الصلاة في أمدٍ من بعد بلوغك ولم تكن تصلي -والعياذ بالله- بعد البلوغ إلى أن التزمت بطاعة الله وشريعة الله فلا يلزمك القضاء؛ لأن تركك على هذا الوجه آخذٌ حكم الترك الموجب للكفر، فمن ترك الصلاة والعياذ بالله ولم يصل ولم يركع فإنه يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
وإذا حكم بكفر تارك الصلاة على هذا الوجه فلا يُلزَم بقضاء، بقوله صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت من خير)، وقال في الحديث الصحيح: (الإسلام يجُبُ ما قبله)، فتكون بالتزامك بالصلاة كأنك قد دخلت في حظيرة الإسلام بأدائها، وبناءً على ذلك لا تُطالب بقضاء ما مضى.
ثانياً: أما لو كنت تصلي أحياناً وتترك أحياناً، فحديث عبادة في قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) يدل على عدم الكفر، وبناءً على ذلك تجتهد، وتبني على غلبة الظن، وقولك: لا أستطيع الاجتهاد.
غير وارد، فلو قدرت السنة التي التزمت فيها بشرع الله، وأصبحت محافظاً فيها على الصلاة بثلاث سنوات من الآن مثلاً ومن بلوغك إلى الآن لك قرابة سبع سنوات مثلاً، فحينئذٍ تقول: هي أربع سنوات.
فأكثر في الصلوات، وصلِ مع كل صلاةٍ حتى تحتاط بقضاء هذا الأمد كاملاً.
وأما الأمر الثالث في سؤالك فهو قولك: إنك كنت تصلي وأنت جنب.
فلا يجوز هذا، ولذلك قال بعض العلماء: من صلى وهو على غير طهارته عالماً بحرمة ذلك مستخفاً بهذا التحريم فإنه يكفر -والعياذ بالله- وإن كان الصحيح أنه لا يكفر إلا إذا قصد الاستهزاء، ولكن انظر إلى تشدد العلماء رحمة الله عليهم من شدة تعظيمهم لأمر الصلاة، فينبغي حينئذٍ للإنسان أن يحتاط.
ولو أن إنساناً دخل في صلاة الظهر، ثم تذكر أنه أجنب، وقال: لو خرجت الآن فإن الناس تراني أو صلى بهم وهو إمام، فقال: كيف أخرج من الصلاة؟! فينبغي أن تكون خشية الله في قلبك أعظم من خشية الناس، وأن تعلم أنه لا يغني عنك أحدٌ من الله شيئاً، وأنه لا يُجيرك من الله ومن سطوته ومن غضبه أحد، فقد يكون استخفافك بعظمة الله وهيبتك للناس أكثر من هيبتك لله سبباً في غضب الله عليك، فاتق الله عز وجل، فبمجرد ما تشعر أنك غير متوضئ فاخرج من الصلاة، ولتنعم عينك بطاعة الله عز وجل، ولك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة والتوسعة أن تمسك بأنفك وتخرج، فإن الذي أمرك بدخول المسجد أمرك أن تخرج من المسجد، ولا تبالِ بالصغير ولا بالكبير، ولا بالجليل ولا بالحقير، فلتتق الله عز وجل، ولتكن هيبة الله في قلبك أعظم وأجل وأكبر من أن تهاب غيره فتستخف بعظمة الله فتصلي بين يديه على غير طهارة.
ولا يجوز للمسلم أن يصلي على غير طهارة، ولا يجوز له أن يستبيح الصلاة وهو جنُب، لما فيه من الاستخفاف بعظمة الله، ولو كان إماماً فإنه يَسحب من وراءه ويستخلف ويخرج، ولتنعم عينه بطاعة الله، فإن الله يثيبه، والله يبتلي، وقد مر هذا علينا، ومر على بعض العلماء من قبلنا، فالله يبتلي إيمان العبد؛ لأنه لا يمكن أن تخرج من هذه الدنيا حتى يظهر كمال إيمانك من نقصه، ومن الإيمان خشية الله، ولن تخرج من هذه الدنيا حتى تظهر خشيتك لله كاملةً أو ناقصة.
فإذا جاءتك مثل هذه المواقف فاعلم أن الله يمتحنك، وأن الله يريد أن يبتليك بخشيته بالغيب، فإن الناس لا يعلمون أنك جُنُب، ولا يعلمون أنك على غير طهارة، ولكن الله وحده هو الذي يعلم، فهو علام الغيوب، فإذا جئت بإيمانٍ منك وصدق وخوف ويقين من الله سبحانه وتعالى تخرج أمام الناس لا تستحيي منهم ولا تهابهم ولا تخشاهم كان ذلك أصدق ما يكون في خشيتك لله سبحانه وتعالى، وهذا أمر شائع ذائع، فإن كثيراً من الناس يقول: صليت وأنا على غير طهارة، أو كنت على غير طهارة وأنا جالس في المسجد فاستحيت أن أخرج؛ وهذا لا يجوز، فينبغي أن تكون عظمة الله فوق كل شيء، قال تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13]، فالله أحق أن يُخشى ويهاب، وأحق أن تكون له الرغبة والرهبة، فنسأل الله العظيم أن لا ينزع من قلوبنا خشيته، وأن يرزقنا الخوف منه وإجلاله وإعظامه على الوجه الذي يرضيه عنا، والله تعالى أعلم.(32/9)
تذكر صلاة الظهر في آخر وقت العصر
السؤال
إذا فاتت المسلم صلاة الظهر ولم يتذكرها إلا في آخر وقت العصر، والوقت لا يكفي إلا لصلاة العصر فحسب، فهل يلزمه الترتيب أم لا؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء -رحمة الله عليهم- يقول: إذا أدركت آخر وقت الثانية، بحيث لا يسع إلا بقدر أن تصلي الثانية حاضرة وأنت لم تصلِ الأولى، فعليك أن تراعي ترتيب الشرع، وتصلي الأُولى ولو خرج الوقت؛ لأن وقت الثانية ساقط عنك بانشغالك بفرض وهذا هو الأصل، وهو قولٌ مبني على اعتبار دليل الترتيب، وقال به جمع من العلماء رحمة الله عليهم.
وقال بعضهم: يقدم الحاضرة على الفائتة، وذلك لأنه إذا صلَّى الفائتة كان قاضياً، فاستوى أن يؤديها في وقت الأولى، أو يؤديها في وقت الثانية وهذا القول محل نظر؛ أولاً: لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من حديث عمر: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها).
فانظر رحمك الله إلى قوله: (ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب) بمعنى: صليتها فغربت الشمس مباشرة، حتى إنه لا يدري هل الصلاة سبقت أو الغروب، فمعنى ذلك أنه قد غابت الشمس، ثم احسب وقتاً لذكره لله عز وجل بعد أدائه للصلاة، ثم قيامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكى، فيحتمل أن الوقت إلى دخول وقت المغرب بقدر لمكان هذا الذي ذكرناه، فاحسب حساب كون عمر يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له: (والله ما صليتها)، ثم قال: (قوموا بنا إلى بطحان قال: فنزل فتوضأ فصلى العصر ثم المغرب والعشاء)، ووجه الدلالة أنهم قالوا: وقت المغرب ضيق وهذا الحديث يرده؛ لأنك لو حسبت تجد أن النبي ذهب إلى وادي بطحان، ثم نزل به ومعه الجيش، ثم توضأ، ثم صلى العصر، وهذا كله يأخذ وقتاً ليس بالقليل مع أن عمر قد جاءه بعد مغيب الشمس، فاحسب كلامه له بعد ذهابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد المغيب، ثم شكواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجوابه، ثم أمره عليه الصلاة والسلام بالذهاب إلى بطحان، ثم وقت الوضوء، ثم القيام إلى الصلاة، فهذا وقت ليس باليسير، خاصة وأن عدد الناس معه لا يقلون عن ألف، فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم يصلون معه عليه الصلاة والسلام.
فالغالب أن وقت المغرب خرج أو كاد يخرج، قالوا: فصلى العصر أولاً، ثم أتبعها بالمغرب، ثم صلى العشاء، ولذلك ما ورد في الحديث أنه انتظر إلى دخول العِشاء قالوا: هذا يؤكد على أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على التقديم حتى على الأقل مع خوف خروج الوقت، وهذا يؤكد ما ذكرناه أنه يبدأ بالفائتة قبل الحاضرة.
والذين قالوا: إنه يبدأ بالحاضرة قبل الفائتة اضطرب قولهم، فهم يقولون بوجوب الترتيب، ثم يأتون في هذه المسألة ويقولون: لا يجب الترتيب، وإنما يلزم بفعل الحاضرة قبل الفائتة؛ لأنه إذا صلى الحاضرة أدَّى، وإذا صلى الفائتة قضى في كلتا الصلاتين.
والذي تطمئن إليه النفس أنه يبدأ بالفائتة، ثم يتبعها بالحاضرة ولو خرج الوقت؛ لأن التأخير لعذرٍ شرعي، وهو أمر الشرع بفعل الصلاة، ألا ترى أنهم يقولون: إنه لا يصح أن يوقع صلاة العصر حتى يصلي الظهر، فكونه يقول: فائتة أو حاضرة لا تأثير له في الوصف الشرعي، أي: لا يقوى على الاستثناء من الأدلة التي دلت على وجوب الترتيب من التأقيت الذي ذكرناه من دليل الكتاب والسنة، وعلى هذا يقوى القول الذي يقول إنه يبدأ بالفائتة قبل الحاضرة.
لكن بعض العلماء ذكر مَخرجاً لطيفاً، فقال: الأفضل أن الإنسان يخرج من الخلاف، فيصلي الحاضرة في وقتها، ثم يقيم فيصلي الفائتة، ويصلي بعدها الحاضرة، قالوا لأنه إذا كان معذوراً بعدم مراعاة الترتيب فقد أوقع الصلاة في وقتها، فإن كانت معتبرة فقد أدرك الإجزاء والاعتبار، وإن كانت غير معتبرة فقد احتاط لدينه بإعادتها بعد الوقت، وهذا أفضل المخارج، والذي تميل إليه النفس أنه يحتاط، لكن الأصل والأرجح أنه يطالب بفعل الفائتة قبل الحاضرة.(32/10)
آخر وقت سنة العشاء
السؤال
ما هو آخر وقت سنة العشاء؟
الجواب
تتأقت الراتبة البعدية بآخر وقت الفريضة نفسها التي رُتِّبت عليها، فإن كنت في الظهر فآخر وقت الظهر، وإن كنت في المغرب فآخر وقت المغرب، وإن كنت في العشاء فآخر وقت العشاء، فعلى القول بأن وقت العشاء إلى نصف الليل تتأقَّت الراتبة إلى نصف الليل، فتصلي الراتبة إلى منتصف الليل، وعلى القول بأنه إلى الفجر فلك أن تصلي راتبة العشاء ما لم يتبين الفجر الصادق.(32/11)
حكم صلاة العاري إذا وجد الساتر قبل خروج الوقت
السؤال
لو أن إنساناً صلى وهو عارٍ لانعدام السترة، ثم جاءت السترة قبل خروج الوقت، فهل يجب عليه الإعادة؟
الجواب
إن صلى عارياً فقد مضت صلاته وصحَّت، لكن إذا غلب على ظنه أنه يجد السترة قبل خروج الوقت ينتظر، ومذهب طائفة من العلماء أنه يُستحب له أن يُعيد ولا يجب عليه وهذا أفضل.(32/12)
حكم تشمير الثوب عند الهوي للسجود في الصلاة
السؤال
هل من كف الثياب ما يفعله بعض المسلمين من رفع ثوبه عند الهوي للسجود؛ لأن ذلك يمكّن الإنسان من السجود بكماله؟
الجواب
نعم.
هذا يدخل فيه، فذكر بعض العلماء رحمهم الله أن هذا يعتبر من كف الثوب؛ لأنه إذا سجد يكون في حكم من كف طرف الثوب من أجل أن لا يتَّسخ، فيكون تشميره للثوب فيه إخلال من وجهين: أولاً: لأنه حركة زائدة في الصلاة؛ لأن رفعه للثوب ينافي خشوعه، فهذه الحركة في الصلاة زائدة عما قصده الشرع من الخشوع والسكون؛ لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فقالوا: هذا لا يناسب القنوت.
والأمر الثاني: كونه يأنف عن سجوده بهذا الثوب لله عز وجل، فأن يترك الثوب على حالته أبلغ لقربته لله عز وجل وطاعته، والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(32/13)
شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [4]
إن الله عز وجل أمر عباده المؤمنين بعبادته والإقامة على طاعته، وبين لهم كيفية الإتيان بهذه العبادات والطاعات في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن العبادات التي حرص الشرع على بيان أحكامها وشروطها: الصلاة، التي هي عمود الدين، فلا يتأتى للعبد أن يؤدي صلاته صحيحة إلا بمعرفة شروطها وأركانها وواجباتها، ومن الشروط الواجب توافرها لمن أراد أن يصلي صلاة صحيحة: أداء الصلوات في أوقاتها التي بينها الشرع، وستر العورة عند أداء الصلاة، مع الإحاطة بما يتفرع عن هذه الشروط من أحكام.(33/1)
ستر العورة(33/2)
تعريف ستر العورة لغةً واصطلاحاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها ستر العورة] أي: ومن شروط الصلاة التي يلزم بها المكلف لصحتها ستر العورة.
والستر هو: التغطية، تقول: سترتُ الشيء.
إذا غطيته.
والعَوْرَة: أصلها من العَوَر وهو النقص، وقولهم: (ستر العَوْرَة) أي: تغطيتها.
والمراد بالعورة في إطلاق العلماء رحمة الله عليهم أحد أمرين: فمنهم من يقول: القبل والدبر وهذا على الأصل، ومنهم من يقول: القبل والدبر وما أُمِر بستره؛ لأن المرء يؤمر بستر ما عدا القبل والدبر خاصةً مع الأجانب.(33/3)
أدلة وجوب ستر العورة
وهذا الشرط أمر الله به في كتابه المبين، وكذلك في هدي سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وأجمعت الأمة على أنه لازمٌ وواجب، لكن حُكِي عن مالك أنه يراه مستحباً ولا يراه واجباً، والصحيح وجوبه.
ودليل وجوب ستر العورة للصلاة قول الحق تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].
ووجه الدلالة من الآية الكريمة أن الله أمر المكلف أن يأخذ الزينة عند كل مسجد، والمراد بقوله: (عند كل مسجدٍ) أي: عند كل صلاةٍ، فيكون قوله: (خُذُوا) أمراً، والأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه، ولا صارف له هنا.
وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام بستر العورة وهديه صلوات الله وسلامه عليه فيها، حتى نهى الرجل أن يصلي وليس على عاتقيه من ثوبه شيء، ففي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: (لا يصل أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء).
وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ستر عورته، وأمر بستر العورة في أحاديث منها حديث بهز بن حكيم رضي الله عنه عند أبي داود قال: (يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك.
قال: قلت: يا رسول الله! إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها.
قال: قلت: يا رسول الله! إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه).
ولذلك ورد: (إن معكم من لا يفارقونكم فاستحيوا منهم)، وهم الكرام الكاتبون.
وفي حديث أم سلمة أنه لما سئل عليه الصلاة والسلام عن صلاة المرأة في درعٍ وخمار قال: (في الخمار والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها)، والصحيح وقفه على أم سلمة رضي الله تعالى عنها.
وكذلك حديث جرهد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغطي فخذه)، وحديث جرهد وحديث بهز بن حكيم فيهما كلام، وإن كان بعض أهل العلم يميل إلى التحسين بمجموع طرق هذه الأحاديث.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على وجوب ستر العورة للصلاة، وأن المكلَّف لو صلى الصلاة وهو كاشفٌ عن عورته وقادرٌ على سترها فصلاته غير صحيحة، إلا ما ورد في رواية عن مالك رحمه الله أنه كان يستحب ذلك ولا يوجبه، وإن كان بعضهم يضعفها.(33/4)
الشروط اللازم توافرها في الساتر
وأما من ناحية أحكام ستر العورة فيُعتبر ستر العورة من الشروط التي تتعلق بصحة الصلاة؛ لأننا قدمنا أن من الشروط ما يتعلق بالوجوب ومنها ما يتعلق بالصحة، وشرط الصحة -كما هو معلوم- فقده يُوجِب الحكم بعدم صحة الصلاة.
وبناءً على ذلك لا يُحكم بصحة صلاة المكلف إلا إذا حَصَّل هذا الشرط، ومن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يتكلموا على ستر العورة، فيقررون وجوبها، ثم يقررون الضابط المعتبر لستر العورة، ثم يتكلمون بعد ذلك على المسائل المستثناة وأحكام الضرورة، كالعراة الذين لا يجدون ما يسترون به عوراتهم، ونحوها من الأحكام المتعلقة بالاستثناءات.
والمصنف رحمه الله راعى ذلك في كلامه على الشروط هنا فقال رحمة الله عليه: [فيجب بما لا يصف بشرتها].
الفاء: للتفريع، فبعد أن قال: (ومنها) أي: من شروط صحة الصلاة ستر العورة، قال: (فيجب) أي: فيلزم المكلف بسترها، والواجب يتفرع منه الحكم أن من صلَّى عارياً يحكم بإثمه إذا كان مختاراً دون اضطرار، وبعدم صحة صلاته، فالتعبير بالوجوب يتفرَّع منه الحكم بالإثم عند الترك في الاختيار، وزيادة شرطية الصحة يتعلق بها الحكم بالمطالبة بإعادة الصلاة.
فقوله: [فيجب بما لا يصف بشرتها] أي: فيجب على المكلف أن يستر العورة بما لا يصف بشرتها.
فستر العورة على حالتين: إما أن يكون ساتراً مانعاً من رؤية لون البشرة، فهذا لا إشكال في إجزائه واعتباره، كالثوب الثخين، وإما أن يكون الساتر رقيقاً يشف ما تحته، فهذا يقول العلماء: وجوده وعدمه على حدٍ سواء، كالقماش الرقيق الذي ترى معه لون البشرة، فإن وجوده وعدمه على حدٍ سواء.
بل قال بعض العلماء: إن ما شفّ أعظم فتنةً مما كشف؛ لأنه يُغرِي، وتكون الفتنة بدعوته إلى النظر أكثر، بخلاف المتعري فإنه ربما اشمأزت النفوس من نظره، لكن لبس الشفاف أبلغ فتنةً وأعظم جُرأةً كما يقول بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، فالشفاف وجوده وعدمه على حدٍ سواء.
فانقسم الساتر إلى قسمين: ما كان غليظاً غير رقيقٍ يمنع من معرفة أو رؤية لون البشرة، وما كان رقيقاً تُرَى معه البشرة بحمرتها أو ببياضها أو غير ذلك.
فبيَّن رحمه الله أنه لابد من الساتر الذي لا يشف، والكلام في الساتر يكون في جرمه، ويكون في صفة تغطيته.
أما في الجِرم فيبحث العلماء فيه من حيث السماكة والرقة، وقد بيَّنا حكم السميك والرقيق.
وأما بالنسبة لصفة تغطية الساتر، فإنه يكون على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون فضفاضاً، بحيث لا يكون ضيقاً يُحدد تفاصيل الجسم، فهذا بالإجماع يُعتبر ساتراً، لكن كره بعض العلماء المبالغة في الفضفاض إلى درجةٍ قد يكشف العورة في بعض الحالات، كما ذكروه في السراويل، فإنها إذا كانت واسعةً، وكانت أكمامها التي تخرج منها الرجلين مبالغاً في سعتها، وكانت قريبةً من الركبتين فإنها طريقٌ للكشف، ولذلك يُعتبر لبسها سبيلاً أو سبباً لسهولة النظر إلى العورة، ومظنة أن يرفع ركبته فينكشف ما قارب السوءة أو السوءة نفسها.
ولذلك قالوا: يُشدَّد فيما كان فضفاضاً واسعاً بحيث يبالَغ فيه إلى درجةٍ لا يُؤمَن معها انكشاف العورة.
الحالة الثانية: أن يكون ضيقاً، وهو الذي يحدد جرم العضو، فإن كان من المرأة فإنه بالإجماع يَحرُم عليها لبسه، ولذلك شدَّد بعض العلماء في تفصيل المرأة للعباءة التي تكون فيها اليد منفصلة عن الجسم؛ لأنها إذا كانت على هذه الصفة استطاع الناظر أن يدرك تفاصيل جسمها، وهل هي طويلةٌ أو قصيرةٌ أو رقيقةٌ أو غير ذلك.
ولذلك قالوا: تكون عباءتها، ويكون تفصيل يدها على حالٍ لو أنها حركت يدها لا يستطيع الإنسان أن يدرك طبيعة جسمها، أما لو كانت بهذه التفاصيل التي تستخدم عند بعض النساء اليوم بحيث إذا رأيت المرأة تستطيع أن تدرك تفاصيل جسمها، خاصةً في اليدين، وأعالي البدن فقالوا: مثل هذا يحرم عليها لبسه؛ لأنه يحدد تفاصيل جسمها.
وبعض المحدد -كما يقول العلماء- أشد إغراء بالفتنة لأنها إذا حددت تفاصيل الجسم كانت مغرية بالنظر إليها، فتكون الفتنة فيها أشد، ولذلك ينبغي على المرأة أن تكون عباءتها مغطيةً لها، ولا يكون هناك تفصيل لأعضاء الجسم، حتى لا تشابه الرجال، ولا يستطيع الرجل أن يدرك جِرم جسمها.
وكذلك الحال إذا كان سترها في أسفل البدن، كلبسها للسراويل، أو ما يسمى في عُرف اليوم (البنطال)، فهذا اللبس لا يجوز للمرأة مع وجود الرجل الأجنبي، وأما مع محارمها فأقل درجاته الكراهة؛ فإنه يُفصِّل تفاصيل الجسم، ومن أهل العلم من جزم بالتحريم حتى ولو مع وجود محرمها، وقال: لأنه لا يُعرَف في نساء المؤمنين، وإنما هو من باب التشبه، (ومن تشبه بقومٍ فهو منهم)؛ إذ لا يعرف بين النساء المؤمنات أن المرأة تأتي بلباسٍ بهذه الصفة، وإنما هو شيءٌ واردٌ على المسلمين من غيرهم، ولذلك أنا أميل إلى هذا القول، وأرى أنه تشبُّه، وأرى أن المرأة لا يجوز لها أن تلبس البنطلون ولو كان أمام محارمها، إلا إذا اضطرت إلى ذلك فهذا أمرٌ آخر.
فلا تلبس مثل هذا اللباس الضيق الذي يفصِّل تقاطيع الجسم في مواضع الفتنة، حتى ولو كان أمام محارمها.
فإن الإمام أحمد رحمة الله عليه لما سُئِل عن كشف المرأة عن صدرها وساقيها لمحرمها كأخيها ونحوه قال: (أخشى عليه الفتنة)، وهو إمام في زمانٍ الخير فيه شائع، وفي قرنٍ شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل، فكيف بنا اليوم؟! فلذلك ينبغي التحذير من هذا والنهي عنه، ويعتبر من التشبه الذي لا يجوز للمرأة أن تتعاطاه.
وأما بالنسبة لحكمه في الصلاة لو صلَّت به، فإن المفصِّل لتقاطيع الجسم مع ستر العورة يُوجِب الحكم بالصحة، ولكنها آثمةٌ من جهة الإخلال بما ذكرناه.(33/5)
حد عورة الرجل والأمة
قال المصنف رحمه الله: [وعورة رجلٍ وأمةٍ وأم ولدٍ ومعتق بعضها من السرة إلى الركبة].
هؤلاء كلهم عورتهم ما بين السرة إلى الركبة، وقد جاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بين السرة إلى الركبة عورة)، وقوله: (العورة ما بين السرة والركبة) بهذه الألفاظ، لكنه يأتي على وجهين: الوجه الأول: يأتي مقيداً بالصلاة، وهذا حسَّنه بعض أهل العلم.
والوجه الثاني: أن يأتي مطلقاً، وقد تكلم العلماء رحمهم الله على سنده وضعفوه.
وقال العلماء: أما بالنسبة للرجل فما بين السرة والركبة.
وأما السرة نفسها فقول الجماهير: إنها ليست بعورة.
والركبة نفسها عورةٌ في قول بعض العلماء، وليست بعورة في قول طائفة، وإن كان الأقوى أنها ليست بعورة؛ لأن التعبير بالبينية يُشعِر بأن الغاية خارجةٌ عن المغيا، كما هو معلوم في القواعد.
وبناءً على ذلك قالوا: إن الركبة كشفها لا يؤثِّر.
وقوله: (وأمة) أي: كذلك الأمة، قالوا: لمكان الغالبِ من انصراف النفوس عنها؛ لأن النفوس كانت تأنف من وطء الإماء والزنا بهن، وهذا في الغالب، وإنما كن يتبعن الحرائر، ولمكان تسخير الشَّرْع لهنّ بالرق لخدمة أسيادهن فخُفِّفَت عورتهن، ولذلك قالوا: إنها لا تستطيع القيام بحق أسيادها إلا إذا خرجت ودخلت في قضاء الحوائج والمصالح، فهي أشبه ما تكون بالرجل، فقالوا: عورتها عورة الرجل.
ولكن من أهل العلم رحمة الله عليهم من فرَّق بين الأمة الفاتنة وغير الفاتنة لاختلاف النساء في ذلك، وقال: إنه إذا كانت غير فاتنة فالحاجة غير داعية إليها، كما نبه عليه الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني، ودرج على هذا القول، وهو قول الجماهير.
وإن كانت فاتنة قالوا: إنه لا يجوز لها الكشف ولو كانت أمةً، فإن بعض الإماء أشد فتنةً من الحرائر، وليس في دين الله الحكم بجواز وشرعية الشيء الذي يُفضي إلى محارم الله عز وجل، والوقوع في حدوده إلا ما استثناه الشرع من الضرورات.
وقوله: (ومُعتَقٌ بعضها) كالتي تكون نصفها حرة ونصفها أمة، فعورتها ما بين السرة إلى الركبة، قالوا: لأن الْمُعْتَق بعضها تُعتبر في حكم الرقيقة؛ لأن القاعدة أن اليقين لا يزول بالشك، وفرعوا على هذه القاعدة قاعدة تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل أنها رقيقة، فإذا أُعتِق بعضها ترددت بين أن تُلحق بالحرة وبين أن تُلحق بالأمة، فروعي الأصل، ولأنه إذا تُرُدِّدَ بين الأضعف والأقوى فالأصل حمله على الأضعف حتى يدل الدليل على ما هو أقوى منه ولا دليل، فالْمُعْتَق بعضها تُنَزَّل منزلة الأمة، وليس منزلة الحرة.
وهكذا المكاتَبَة، فقد أضاف بعض أهل العلم رحمة الله عليهم أن المكاتَبَة مُنَزَّلَة منزِلة المعتق بعضها.
وقوله: [وأم ولدٍ] ذكر أم الولد لشائبة أنه طريقها إلى العتق.
وأم الولد: هي الأمة التي يجامعها سيدها فتلد منه، فإن هذه تبقى أم ولد، فإن مات سيدها عتقت، وبناءً على ذلك يقولون: إنها آيلة إلى العتق، فهل ننزلها منزلة الحرة أو الأمة؟ قالوا: تبقى على الأصل من كونها أمةً، فعورتها عورة من ذكرنا.(33/6)
حد عورة الحرة
قال المصنف رحمه الله: [وكل الحرة عورةٌ إلا وجهها].
هذا كلامه على الصلاة، فالحرة في الصلاة وجهها ليس بعورة، وهذا مذهب الحنابلة.
وقال الشافعية والمالكية: إن الحرة وجهها وكفاها ليسا بعورة، وتكشف الوجه والكفين، وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: وظاهر القدمين.
فهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم رحمة الله عليهم، أصحُّها وأقواها ما اختاره المصنف من استثناء الوجه، وفيه آثار عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما هو الأثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وبقيت اليدان والرجلان على الأصل، ويدل على ذلك أنه لما سُئِل عليه الصلاة والسلام عن المرأة تصلي في درعٍ وخمار قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها)، والسابغ: أصله في الساتر، فدل على أن أصل البدن يُستر، واستثني الوجه لما ذكرناه من الآثار.
والصحيح في هذا -أعني حديث أم سلمة - وقفه، كما ذكر غير واحدٍ من أهل العلم رحمة الله عليهم.
وإذا وُجِد الأجنبي؟ قال بعض العلماء تغطي وجهها؛ لأنه حق لله، وقال بعض العلماء: إنها تبقى على الأصل من كونها كاشفةً للوجه والإثم على من نظر.(33/7)
حكم الصلاة في ثوبين
قال المصنف رحمه الله: [وتستحب صلاته في ثوبين] قوله: (وتستحب صلاته) الاستحباب يدل على أنه لا يلزمه؛ لأن المقصود أن تستر العورة، فلو أن إنساناً صلَّى بثوبٍ واحدٍ ساترٍ لعورته صحت صلاته، كالحال الآن فلو لبس الثوب المعروف دون أن يكون عليه ملابس داخلية، وهذا الثوب له لون غامق يمنع النظر إلى ما وراءه وصلَّى صحت صلاته، فهذا من ناحية الأصل؛ لأنه ثوبٌ ساتر، والعبرة بالستر.
ولكنهم استحبوا أن يصلي في ثوبين، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أو كلكم يجد ثوبين؟)، لكن قال العلماء: إن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم خرج لمكان الضرورة والضيق على عهد الصحابة، أما بعد أن وسَّع الله عز وجل فإنه يستحب للإنسان أن يصلي في ثوبين؛ لأنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى بالإزار والرداء صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أفضل وأكمل.
والثوبان أعلاهما لأعلى البدن، وأسفلهما لأسفل البدن، فما يكون أسفل البدن كالفوط ونحوها يقولون: هذا إزار، وأما الذي يكون على الأعلى فيقولون عنه: رداء، وفي الإحرام تلبس الرداء الذي هو على الكتف، وتلبس الإزار الذي يكون على أسافل البدن.
فقد يُصلي في ثوبين من غير الإزار والرداء، يصلي -مثلاً- بقميص وسروال، والقميص قد يكون إلى أنصاف العضد، أو إلى نصف الساعد، هذا بالنسبة لأعلاه، وأما بالنسبة للأسفل فقد يكون إلى الركب، وقد يكون إلى نصف الفخذ، فيكون السروال ساتراً لما هو أدنى منه.
وقد يكون قميصاً مع الإزار، وقد كان لبس العرب للقميص في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك قال: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس).
فكان من لباسهم السروال والقميص، فالقميص يكون لأعالي البدن غالباً، وقد يكون القميص طويلاً، وهذا يقع في لباس النساء في القديم، فيكون قميصها طويلاً كالثوب، ويكون ساتراً لجميع البدن إلا ظهور القدمين، إلا إذا كان سابغاً، فيقولون: إن هذا القميص يجوز للرجل أن يصلي به إذا كان معه سروال، أو ما يستر أسافل البدن.
وفي الوقت الحاضر لو صلى بما يستر أعلى بدنه بما يسمى (الفنائل) وصلى بالسروال أجزأه ذلك وصح؛ لأنه ساتر وعلى عاتقه شيءٌ، ولكن لا يصلي بذلك في مجامع الناس، ولا في مساجدهم؛ لأن من فعل ذلك سقطت مروءته، ومن كمال المروءة أن يستر بدنه بما جرى به العرف، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) قالوا: والحياء ألا يلبس مثل هذه الملابس في مجامع الناس، ولذلك تصح صلاته ولكن تسقط مروءته وعدالته، إلا إذا كان مضطراً، أو كان عنده عمل، فلو أن إنساناً عنده عمل فصلى في السروال أو البنطلون أو في القميص فصلاته صحيحة ومجزئة؛ لأن تكليف الناس أن يخلعوا هذه الألبسة وأن يلبسوا ثيابهم فيه مشقة، وفيه حرج عليهم، فيجوز لهم أن يصلوا بمثل هذه الألبسة، لكن الأكمل والأفضل كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته).
فيستحب لمثل هؤلاء الذين عندهم أعمال أو مهن أن يجعلوا ثوباً قريباً من العمل، فإذا جاء وقت الصلاة نزع ثياب العمل ولبس ثوبه، أو لبس الثوب النظيف على ثياب العمل حتى يكون أستر له وأكمل لمروءته.
وهنا تنبيه، وهو أنه شاع في هذه الأزمنة أن بعض الناس -أصلحهم الله- يخرج إلى بيوت الله عز وجل خاصةً في صلاة الفجر والعصر بثياب النوم، وهذه الثياب لها أكمام قصيرة، وهذا لا شك أنه خلاف السنة؛ لأن السنة إبداء الزينة في المساجد، ومثل هذا لا مروءة عنده؛ لأن المروءة أن يلبس ما يستره، ويكون أكمل بصيانة ماء وجهه وهذا من الحياء، فالذي يستحيي لا يخرج بثياب نومه، وهل يليق أن يخرج إلى ملك الملوك وجبار السماوات والأرض الذي أطعمه وسقاه وكساه بهذا المنظر، وكأنه يستكثر أن يقف بين يديه بثيابٍ يتجمل بها لعبادته.
فلا شك أنه من ضَعف الإيمان ونقص العقل أن يخرج الإنسان بثياب نومه أمام الناس لكي يصلي فيها، وهذا يدل على استخفافه بالصلاة، وإلا لو كان يُعظِّم الوقوف بين يدي الله لأحسن له عدته ولتجمَّل.
ولو أن إنساناً -ولله المثل الأعلى- أراد أن يقف بين يدي عظيم من عظماء الدنيا لتجمَّل وتزين وطلب أحسن الملابس، مع أن الذي أطعمك وكساك ورزقك هو الله جل وعلا.
أتستكثر أن تلبس من رزقه، وأن تحسن لباسك وزينتك للموقف بين يديه؟ فهذا ينبغي التنبيه عليه، وينبغي على الأئمة إذا رأوا أحداً بهذه الصفة أن ينبهوه، فإن المسلمين -خاصةً في هذه البلاد- يعظمون شعيرة الصلاة، فإحداث مثل هذه الأمور تُخِل بإكرام بيوت الله عز وجل، وإكرام شعائر الإسلام التي أَمَر الله بتعظيمها وإجلالها، وصدق الله إذ يقول: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] أي: الذي يتقي الله، وكملت تقواه لله عز وجل يُعظِّم الموقف بين يديه، ويحسن التهيؤ لهذه الصلوات.
فلذلك ينبغي التنبيه على مثل هذا الأمر، والنصح بلطف وإرشاد، إلا إذا كان الإنسان عنده حاجة أو ضرورة، كشخص نسي أو ذُهِل؛ لأن الناس قد يحصل منهم هذا، ولا ينبغي التعنيف والمبالغة في التقريع، بل ينبغي أخذ الناس بلطف؛ لأن ذلك أدعى لقبول الحق والرضا به.(33/8)
ستر العاتقين في النافلة والفريضة
قال المصنف رحمه الله: [ويكفي ستر عورته في النفل ومع أحد عاتقيه في الفرض] الصلوات تنقسم إلى نافلة وإلى فريضة، والنفل: الزيادة.
فالنافلة أخف شأناً من الفريضة، بما عُهِد من أدلة الشرع، ولذلك يجوز أن تصلى النافلة في السفر على الدابة بخلاف الفريضة، فخُفِّف أمر النافلة أكثر من الفريضة، ومشى عليه الصلاة والسلام لفتح الباب في النافلة، ولم يمشِ في الفريضة.
فالمقصود أن النافلة أخف من الفرض، وإذا كانت أخف قالوا: إنه إذا صلى النافلة ساتراً عورته أجزأه.
وبناءً على ذلك: لو صلى في سروالٍ دون أن يستر أحد عاتقيه، أو في إزارٍ دون أن يستر أحد عاتقيه، قالوا: تجزيه.
لكن عموم نهيه عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عمر في الصحيح أنه: (نهى أن يصلي الرجل بثوبٍ ليس على عاتقه منه شيء) يدل على العموم، ويشمل النافلة والفريضة، فالأقوى أنه يشمل الفرض والنفل، ولذلك يصلي الإنسان الفريضة والنافلة مع ستر العاتقين والعورة.(33/9)
صفة ما يستر عورة المرأة
قال المصنف رحمه الله: [وصلاتها في درعٍ وخمارٍ وملحفةٍ، ويجزئ ستر عورتها].
قوله: [وصلاتها] أي: المرأة، [في درعٍ وخمارٍ وملحفةٍ] الدرع الثوب الموجود لبعض النساء يكون كالثوب الموجود للرجل، وهو ما يسمى بالفساتين تقريباً، فهو على تفصيل الفساتين الموجودة في الوقت الحالي، لكن ليس بالتفصيل المعروف المبالغ به؛ لأن السلف ما كان عندهم هذه المبالغة، إنما كان عندهم أن يُفَصَّل كالثوب.
قال بعض العلماء: إن الدرع كالقميص بالنسبة للرجل يكون إلى ساتراً لأعالي البدن، ويكون بعض الأحيان سابغاً بحيث يصل إلى ظهور القدمين، وأحياناً أرفع من أن يستر ظهور القدمين -أي: غير سابغ-، ويختلف بحسب بُعدِه، وقد يرتفع.
وأما بالنسبة للخمار فهو مأخوذٌ من خمَّر الشيء يُخَمِّره تخميراً: إذا غطَّاه.
فأصل التخمير: التغطية، ومنه سميت الخمر خمراً لأنها تغطي العقول -والعياذ بالله-، فالخمار يغطي الرأس وتضعه من تحت الحنك، فتغطي به شعرها، وتغطي به طرف الرأس من ناحية الأذنين.
وأما بالنسبة للملحفة فهي الثوب الذي يكون على سبيل الغطاء من خارج، كما هو موجود الآن بما يسمى بالعباء، فيكون في حكم العباء، وإلا هو عادةً يكون من قطع القماش التي تأخذها المرأة وتلتحف بها، وهذا موجود إلى اليوم.
وهذا على سبيل الاستحباب، لكن لو أنها سترت عورتها بما يستر أو يكفي للستر، فأخذت قماشاً فسترت به جميع العورة وبقي وجهها صحت صلاتها؛ إذ لا يُشترط تعيين الدرع، ولا يشترط تعيين الخمار، ولا يشترط تعيين الملحفة؛ لأن مقصود الشرع سترها، فإذا حصل الستر فقد حصل مقصود الشرع، فتصح صلاتها.(33/10)
حكم صلاة من انكشف بعض عورته
قال المصنف رحمه الله: [ومن انكشف بعض عورته وفحش، أو صلى في ثوبٍ محرمٍ عليه أو نجس أعاد].
بعد أن بين المصنف رحمه الله وجوب ستر العورة، ثم بين حدود العورة، ثم بيَّن ما تستر به العورة شرع في المسائل الطارئة، فلو أن إنساناً صلَّى وانكشف منه بعض عورته، فقال رحمه الله: [ومن انكشف بعض عورته وفحش] انكشاف بعض العورة يكون بالاختيار، ويكون بالاضطرار، أما بالاختيار فقولاً واحداً يوجب بطلان صلاته، فإذا كشف عورته مختاراً، دون حاجةٍ ولا ضرورةٍ مع علمه، فإنه تبطل صلاته.
وانكشافها بالاضطرار يتأتى في قصر اللباس، كما لو كان له لباسٌ أو ثوب واحد، فإذا سَجَد انكشفت عورته، وكان هذا موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا -كما في أبي داود - يصلون وهم عاقدو أُزرهم على عواتقهم رضوان الله عليهم، فإذا سجد الرجل منهم انكشفت عورته، من قلة اللباس.
مصعب بن عمير رضي الله عنه كانت له شملة هي التي خرج بها من الدنيا، إن غطوا بها وجهه في الكفن بدت قدماه، وإن غطوا بها قدميه بدا وجهه، وهذا من ضيق الحالة التي كان عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم عاذراً لهم في ذلك، ولم ينزل الوحي بإلزامهم بشيء، أو تحميلهم تبعة ذلك، فدل على أن المضطر لا يكلف أكثر من قدرته.
وإن كشفها ذاهلاً وناسياً دون إدراك منه، فقال بعض العلماء: إنه إذا كان ولم يعلم به، صحَّت صلاته إذا لم يفحش، واستدلوا على هذا بما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه أنه قال: (وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فأسلم الناس بعد فتح مكة، وقدم أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ولأصحابه: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً، قال: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم قرآناً فقدموني).
فذكر رضي الله عنه أنه كان له ثوبٌ إذا سجد بدت به عورته، فقال رضي الله عنه: (فقالت النساء: استروا عنا است قارئكم).
ووجه الدلالة من هذا الحديث قول النساء: (استروا عنا است قارئكم)، فدل على انكشاف عورته، ومع هذا لم تبطل صلاته، ولذلك قالوا: من انكشفت عورته لذهول أو نسيان فإن صلاته تصح بشرط عدم الفحش كما ذكر المصنف رحمه الله.
وكان الإمام أحمد رحمه الله يضعف متن هذا الحديث، فكان إذا ذُكِر له حديث عمرو بن سلمة يقول: أي شيءٍ هذا؟ أي شيءٍ هذا؟ دعه فإنه ليس ببيِّن وهذا من فقهه ودقة فهمه رحمة الله عليه.
فإن حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه يقول: (رجعوا فنظروا) أي: اجتهدوا، وكان هؤلاء الصحابة -كما هو معلوم- أسلموا في عام الوفود حينما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فمعنى ذلك أن اجتهادهم رضوان الله عليهم مع حدث عهدٍ بجاهلية لا يُؤمَن معه وجود الخلل؛ لأن انكشاف عورة المصلي يوجب البطلان بالأصل، فكونهم يتركونه يصلي بهم والعورة منكشفة -مع إمكان سترها- من ناحية أصول الشرع لا يقتضي الصحة، فكأنه يرى أن هذا فعل صحابيٍ في زمان النبوة لا يستلزم الاحتجاج بمثله، فلو كان في المدينة وبمحضر من النبي صلى الله عليه وسلم وإقرارٍ منه لصح الاحتجاج، لكن كون عمرو نفسه يقول: (فنظروا) يؤكد أن هذا خرج منهم على سبيل الجهل رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان كما جاء عنه في بعض الروايات أنه إذا قيل نفض يديه وقال: أي شيءٍ هذا؟ لأننا لو جئنا نقول بظاهره لأدى ذلك إلى بطلان أصل ستر العورة؛ لأنه بإمكانهم أن يستروه، وبإمكانهم أن يمنعوه من انكشاف عورته، ولذلك قال عمرو: (فنظروا).
وهناك رواية عند عبد الرزاق في مصنفه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره، ولكنها روايةٌ ضعيفة لم يصح سندها، ومثلها الرواية التي تفيد أن عمراً قدمَ مع أبيه، وهي رواية غير صحيحة، والصحيح أن عمراً كان عند أهله، وأنه كان يتلقى من قدم من المدينة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظ ما عنده من القرآن حتى كان أحفظ القوم، وكانوا حديثي عهدٍ بجاهلية، فرأوا أنه أحفظهم فقدموه.(33/11)
حكم الصلاة في ثوب حرام أو نجس
قال المصنف رحمه الله: [أو صلى في ثوبٍ محرمٍ عليه، أو نجسٍ أعاد].
قوله: [أو صلى في ثوبٍ محرمٍ] كالثوب المغصوب، كأن يغتصب من إنسانٍ ثوبه ويصلى فيه، والصلاة في الثوب المغصوب للعلماء فيها قولان: قال الجمهور: من صلى في ثوبٍ مغصوبٍ فصلاته صحيحة، فلا يُطَالب بالإعادة، ولكنه آثمٌ بلبس هذا الثوب، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله على الجميع.
وقال الحنابلة رحمهم الله: إن من صلى في ثوبٍ محرمٍ كالمغصوب والمسروق فصلاته باطلة، وتلزمه الإعادة، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن النهي لم ينصب على ذات الصلاة، والنهي إذا لم ينصب على ذات الشيء لم يقتض الفساد؛ لأن النهي هنا عن خارجٍ ليس بمتصلٍ بذات الصلاة، فلو كان النهي عن متصلٍ بذات الصلاة لأوجب البطلان.
وبناءً على ذلك قال الجمهور بانفكاك الجهة، فقالوا: نقول: هو آثمٌ بلبس الثوب مثابٌ بفعل الصلاة، وبناءً على ذلك نقول: إن صلاته صحيحة، ولبسه للثوب حرامٌ عليه وهذا أصح القولين لما ذكرناه من أن النهي إذا لم يرجع إلى ذات المنهي عنه لا يقتضي البطلان، ولا يقتضي الفساد، وأما إذا رجع إلى ذاته فإنه يقتضي البطلان والفساد.
قوله: (أو نجسٍ) أي: أن صلى في ثوبٍ نجس تلزمه الإعادة، وسيأتي إن شاء الله الكلام على الصلاة في الثوب النجس والمكان النجس، ولكن هنا إذا لم يكن مضطراً، أما لو اضطر وكان الثوب الذي يصلي فيه نجساً، ولم يوجد ما يطهر به هذا الثوب، كأن يكون في بريةٍ ونحوها، فقالوا: يصلي ولا تلزمه الإعادة.
واستحب بعض العلماء أنه إذا اضطر وصلى في ثوبٍ نجس ثم وجد الطاهر قبل خروج الوقت أن يعيد استحباباً، وهذا مذهب بعض العلماء رحمة الله عليهم.
قال رحمه الله تعالى: [لا من حُبس في محل نجس].
قوله: [حُبِس] بمعنى أنه ألجأه الوقت أن يصلي في مكانٍ غير طاهر، قالوا: في هذه الحالة يصلي؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فلو كان في مكانٍ نجس ولا يستطيع أن يخرج عنه، فحينئذٍ يصلي وصلاته صحيحة.
وهكذا لو استغرق امتناعه عن الخروج مدة وقت الصلاة، فيصلي ولا إعادة عليه؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهذا ليس بوسعه أن يجد مكاناً طاهراً، فيصلي على حالته.(33/12)
حكم عدم كفاية الساتر لستر العورة
يقول المصنف رحمه الله: [ومن وجد كفاية عورته سترها وإلا فالفرجين فإن لم يكفهما فالدبر].
بعد أن بيَّن المصنف رحمه الله وجوب ستر العورة للصلاة، وأنه ينبغي على كل مصلٍ أن يستر عورته، بيَّن أن من وجد هذا الساتر الذي أمر الله به فينبغي عليه أن يستتر، أما لو كان الإنسان غير واجدٍ للسُّترة التي أمر الله بها، كأن يكون خرج من غرق في البحر، ولا يجد ما يستر به عورته إلا شيئاً يسيراً من الثياب فيستر السوءتين وذلك هو الأصل في العورة، وما زاد على السوءتين إنما هو آخذٌ حكمها بحكم التَّبَع لا بحكم الأصل، فإذا تعارض عندنا ستر السوءة بنفسها -أعني: العورة- وستر ما جاورها قدم ستر العورة على ما جاورها، فيبتدئُ بستر الفرجين، فإذا كان هناك شيءٌ زائد على ما يستر به الفرجين ستره، وأما إذا كان القدر من الثياب الذي معه لا يكفي إلا للفرجين ستر الفرجين.
وقوله: (فإن لم يكفهما فالدبر) للعلماء في تقديم أحدهما وجهان: فمنهم من قال: إن المكلف إذا فقد الساتر ولم يجد إلا ما يستر به أحد الفرجين ستر الدبر؛ لأنه أبلغ في الانكشاف خاصةً عند سجوده، ولإمكان ستر القبُل بالمواجهة، وبإنزال اليدين بمحاذاة الفرج دون مسٍ؛ لأن مس الفرج يؤدي إلى انتقاض طهارته وبطلان صلاته.
قالوا: فخُفِّف في القبُل وشُدد في الدبر، ولأن القبل يستتر في حال السجود والدبر ينكشف، فأصبح أحد الموضعين أبلغ من الموضع الثاني في الانكشاف، وإذا كان أحد الموضعين أبلغ كان هذا مرجِّحاً لستره على غيره؛ لأن التضرر بانكشافه أبلغ.
وقال بعض العلماء: إنه يستر القبُل ويترك الدبر؛ لأنه إذا وقف كان الانكشاف للقبل أبلغ من انكشاف الدبر.
والحقيقة أن القول بستر الدبر أبلغ وأقوم، وذلك من وجوه: منها ما ذكروه، ولأن الإنسان يستر في صلاته قبله، ويضعف انكشاف القبل في حال القيام بضم الفخذين إليه، وبالركوع يكون أخف، وكذلك في حال السجود، فأصبح حال الفرجين مختلفاً من جهة الانكشاف، فرُجِّح تقديم الدبر على القبل للوجوه التي ذكرناها.(33/13)
إعارة العادم السترة وحكم أخذه لها
قال رحمه الله تعالى: [وإن أُعِير سُترةً لزمه قبولها] بعد أن بين رحمه الله أنه لا تصح الصلاة إلا بالسترة، وأن هناك أحكاماً تتعلق بالمضطر -وهو الشخص الذي لا يجد السترة- شَرَع بعد ذلك في حكم هذا الشخص الذي لا يجد سترة، فلو أن إنساناً قال له: خذ هذا الثوب عاريةً مني، أو هديةً، أو عطيةً، فإنه يجب عليه قبول هذا الساتر لستر العورة، وذلك لمكان الفرض الواجب عليه بالستر، وهذه من الصور التي يجب فيها قبول العارية والهبة، لا لذات العارية والهبة، ولكن لأنه مطالبٌ بستر عورته، فتوقَّف هذا الواجب -وهو ستر العورة- على قبول العارية والهدية، والقاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلذلك قالوا: يلزمه القبول، ولا يجوز له أن يمتنع.(33/14)
كيفية صلاة العاري منفرداً
قال المصنف رحمه الله: [ويصلي العاري قاعداً بالإيماء استحباباً فيهما].
بعد أن بين الحالة الأولى، وهي التي تتعلق بالإنسان الذي لا يجد السترة من طَوْلِه ومن ماله ووجدها من الغير بين الحالة الثانية، وهي ألا يجد أحداً يتبرع له بالسترة، ولا يمكنه أيضاً ستر أحد الفرجين، فقال رحمه الله: (ويصلي العاري قاعداً)، فلو أن هذا الشخص الذي لا يجد السترة لم يجد من يعطيه سترة أو يعيره السترة، وليس عنده ما يستر به أحد الفرجين فللعلماء في الإنسان العاري إذا أراد أن يصلي وجهان: فمنهم من قال: يصلي قائماً، ومنهم من قال: يصلي قاعداً.
وصورة المسألة: لو أن إنساناً غرق، أو جماعةً انكسرت بهم السفينة، فخرجوا وأصبحوا عراةً، أو نزلوا في موضعٍ احترقت عليهم ثيابهم، ولم يجدوا ما يستروا به عوراتهم، فأهل القول الأول قالوا: إذا اجتمعوا أو انفردوا فإنه يصلي الإنسان في هذه الحالة قاعداً، ووجه هذا القول أنهم قالوا: إنه إذا صلى قاعداً فات حق الله عز وجل في القيام، وإذا صلى قائماً فات حق العبد بانكشاف عورته وتضرر فتعارض الحقان، والقاعدة أن حقوق الله أوسع من حقوق العباد، فإذا تعارض الحقان قدم حق العبد على حق الله لا من جهة التفضيل، ولكن من جهة الرحمة واللطف، ولذلك من اضطر في سفر إلى مخمصة وأصابته المجاعة فإن حق الله ألا يأكل الميتة، وحق نفسه أن ينقذها، فقُدِّم حق النفس على حق الله من جهة الرحمة والتوسعة من الله على عباده.
فيقولون: إن العاري لو قلنا له: صلِّ قائماً تضرر بحق نفسه بانكشاف عورته وبدو سوءته، وقد سمَّى الله العورة سوءة قال تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه:121].
فأخبر سبحانه وتعالى أن العورة سوءة، قالوا: سميت سوءةً؛ لأنها تسيء إلى صاحبها عند انكشافها.
والقول الثاني: يصلي قائماً ولا يصلي قاعداً؛ لأن الله تعالى قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، وقال لـ عمران: (صل قائماً).
فالأدلة ملزمةٌ بالقيام، قالوا: فإذا قلنا له: اجلس لمكان انكشاف العورة فإننا نقدم الشرط على الركن، والقاعدة أنه إذا ازدحم الشرط والركن قُدِّم الركن على الشرط، فإن القيام ركن، والجلوس من أجل ستر العورة تحصيل للشرط، والذي تطمئن إليه النفس أن الإنسان إذا لم يجد ما يستر به عورته يصلي قائماً، لأمور: أولاً: للأدلة التي دلت على لزوم القيام.
ثانياً: أن قولهم بأنه يجلس ولا يقوم إنما هو تقديمٌ للشرط على الركن، والقاعدة أن الأركان مقدمةٌ على الشروط، وهذا بدليل الشرع، فإن الأركان أَلْزَم؛ لأنها تعود إلى حقيقة الصلاة وماهيتها.
ثالثاً: أن فقه المسألة أن الإنسان إذا صلى قائماً فإنه ليس بمخلٍ من نفسه؛ لأن الله كلَّفه أن يستر عورته عند القدرة، ولا قدرة له على الستر.
فبقي نظر الغير إليه يتعلق إثمه بالناظر، فالله لم يكلفني نظر الغير؛ لأنني إذا لم أجد الطّول فغيري هو الآثم بالنظر، وأصبح التكليف بغض النظر متعلقاً بالغير لا بالمكلف، ولذلك يقوى القول بأنه يُصَلِّي قائماً، ولا يصح منه أن يصلي جالساً لما ذكرناه.
وقوله: (استحباباً) أي: لا نوجب عليه ذلك، ومعناه أنه لو صلى قائماً صحت صلاته، وخلاصة القول: يصلي قائماً حتى نخرج من الخلاف؛ لأن من قال: (يصلي قاعداً) لا يُوجِب القعود، وإنما قال: (استحباباً) أي: لا حتماً ولا إيجاباً.(33/15)
كيفية صلاة العراة جماعة
قال المصنف رحمه الله: [ويكون إمامهم وسطهم].
هذه مسألة من مسائل الإمامة، قالوا: الأصل في الإمام أن يتقدم؛ لأن الإمام مأخوذٌ من الأمام، كما قال ابن منظور في اللسان، والأمام هو الخط الذي يُخط في أول الدار.
قالوا: فوصفه في الشرع بالإمامة يدل على تقديمه، فلو تأخر لم يكن إماماً شرعياً من هذا الوصف؛ لأنه يُؤتم به.
وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) أي: من أجل أن يؤتم به، فلما أخبر أن الإمام مؤتمٌ به، فهذا مطلق يشمل الائتمام به في حال تقدمه والائتمام به في حال أدائه للصلاة، ولذلك ينبغي على الإمام أن يتقدم، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلي بأصحابه متقدماً لا متأخراً، ولا مساوياً للصفوف إلا في حال الاضطرار، فهذا يستثنى لمكان الضرورة والحاجة.
لكن لو أن عراةً اجتمعوا وأرادوا أن يصلوا قال: [ويكون إمامهم وسطهم]، وذلك مما يُغتفر فيه تقدم الإمام على المأمومين، لكن يُنبه على أن الإمام ينبغي عليه أن يتقدم على من بجواره قليلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به)، فهذا يدل على تقدم الإمام ولو قليلاً، كما نبه العلماء رحمهم الله على ذلك، كما في حديث أنس، وهو أحد الوجهين عندهم كما نبه عليه فقهاء الشافعية وغيرهم.
فيصلِّي وسطهم، لكنه يتقدم قليلاً، والسبب في هذا أنه إذا تقدم انكشفت عورته، وانكشاف العورة مخلٌ بالصلاة، قالوا: فيتأخر؛ لأن تقدم الإمام هنا أخف من المسألة التي معنا في القيام والقعود، فإن التقدم في الإمامة يغتفر لمكان دلالة النص على الستر، فإن دلالة النص على الستر في النصوص الواردة بالأمر بالستر وستر العورة أقوى من الأمر بتقدم الإمام، فلما أصبحت نصوص ستر العورة أقوى من نصوص تقدم الإمام قالوا: إن الإمام يصلي وسطهم، بمعنى أن يكون داخل الصف.
فلو فرضنا أنهم ثلاثة عراة، فإنه يصلي وسطهم، ويكون أحدهم عن يمينه والثاني عن يساره.
قالوا: وهذا يغتفر فيه مقامه عن اليسار، وهي من الصور التي يستثنى فيها وقوف المأموم عن يسار الإمام.
لكن لو أنه أخره قليلاً فإنه أولى وأحرى، ولا شك أنه لو تأخر قليلاً لا يكون ثَمّ انكشاف كما لو تقدم تقدماً حقيقياً كما يفعله الأئمة.
قال رحمه الله تعالى: [ويصلي كل نوعٍ وحده] أي: تصلي النساء على حدة، إذا كن عراةً، والرجال على حدة، تحقيقاً لمقصود الشرع من ستر العورة وعدم تعاطي أسباب انكشافها، فيصلي الرجال مع الرجال والنساء مع النساء؛ لأن اجتماع النساء مع الرجال في هذه الصور فيه الفتنة، وقال بعض العلماء: لا حرج أن يصلي النساء مع الرجال حتى في حال العري؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا سجدوا انكشفت عوراتهم؛ لأنهم لم يكن لهم ما يسترون به العورة من ضيق اللباس في زمانهم رضي الله عنهم وأرضاهم، قالوا: ففي هذه الحالة كون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر النساء بالتأخر في رفع رؤوسهن، وإقراره لصلاتهن مع الرجال على هذه الحالة يدل على التخفيف.
لكن هذا محل نظر، وذلك من وجوه: أقواها وأولاها أن حال الصحابة رضوان الله عليهم يقع في صورةٍ يمكن تلافيها، وإمامة العراة صورة لا يمكن تلافيها؛ لأن انكشاف العورة من الرجال في عهد الصحابة كان في حال السجود فقط، وبناءً على ذلك يمكن تلافيه، فإن النساء إذا أخرن رفع رؤوسهن وبادرن بالسجود، فإنه يمكن تلافي الفتنة بالنظر، لكن كونهن يصلين والرجال أمامهن منكشفين فإن النساء يحتجن إلى رؤية الإمام ورؤية من يقتدي بالإمام قطعاً حتى يعلمن بالانتقال، خاصة عند كثرة العدد، وبناءً على ذلك فالفتنة غالبة، ولذلك يقوى قول من قال: إنه يصلي الرجال على حدة والنساء على حدة؛ لأن الجماعة متحققة بالنساء على انفرادهن، وبالرجال على انفرادهم.
قال المصنف رحمه الله: [فإن شق صلى الرجال واستدبرهم النساء، ثم عكسوا] قوله: [فإن شق] أي: إن شق أن يصلي هؤلاء على حدة، وأن يصلي هؤلاء على حدة، كما لو كانوا في سفينة، وليس معهم ثياب تستر بها العورات، فحينئذٍ يصلي الرجال أولاً والنساء مستدبرات للرجال، ثم تصلي النساء والرجال مستدبرون للنساء؛ لأن القاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فغض البصر عن النظر إلى العورة واجب، وتوقف في هذه الحالة على حالة الإستدبار، فأصبح الإستدبار لازماً على الرجال ولازماً على النساء.(33/16)
حكم من صلى عارياً ووجد ساتراً أثناء صلاته
قال المصنف رحمه الله: [فإن وجد سترةً قريبةً في أثناء الصلاة ستر وبنى وإلا ابتدأ] هذه القسمة العقلية، فالإنسان عقلاً لديه ثلاث حالات: إما أن يجد السترة، وإما ألا يجد السترة، وإما أن يجد بعض السترة.
فإن وجد السترة لزمه قولاً واحداً أن يستتر، وهذا الأصل.
وإن فقد السترة صلى عارياً، وقد بين المصنف حكمه جماعةً وفرادى.
وإن وجد بعض السترة فهل يستر القُبُل أو الدبُر، وجهان: أصحهما أن يستر الدبر.
ثم بعد هذا شرَع رحمه الله في الحالة الأخيرة، وهي أن من فقد السترة إما أن يفقدها حتى يصلي وينتهي من صلاته، وحينئذٍ الحكم ما تقدم، وإما أن يفقدها وتطرأ أثناء الصلاة، فقال رحمه الله: (فإن وجد سترةً قريبةً في أثناء الصلاة)، كأنه يقول: بيَّنت لك حكم من لم يجد السترة وصلى، هل يصلي قائماً أو قاعداً، وبقي أنها لو طرأت أثناء الصلاة، فحينئذٍ إذا طرأت أثناء الصلاة لَزِمه أخذها، والحركة لأخذ السترة جائزة ومغتفرة؛ لأنها تحصيل لواجب، والحركة لواجب مشروعة، وقد تحرك النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة الصلاة، ألا تُراه عليه الصلاة والسلام رقى منبره، ونزل من المنبر، وتحرك في الصلاة لمصالحها، وحرك أصحابه لمصالح الصلاة، فدفع جابراً وجباراً وراء ظهره، وأخذ بـ ابن عباس من ورائه فأداره عن يمينه، كل هذا يدل على جواز الحركة لمصلحة الصلاة.
فلو فرض أنه وجدها أثناء الصلاة، فإنه إن كان العمل قليلاً فحينئذٍ لا إشكال، كما لو جاءه رجل بسترة وناوله وهو في الصلاة، فإن مناولة السترة ووضعها على العاتق قد تكون خفيفة يسيرة، والعمل لذلك يسير، لكن الإشكال لو احتيج إلى أن يتكلف في لبسها لطبيعتها إلى عملٍ كثير، ويمكنه أن يستر بعض الجسد بالعمل اليسير، فهل يقدم الستر للكل بالعمل الكثير أو يُقدم الستر للعورة بالعمل اليسير؟ صورة ذلك لو أعطاك ثوباً، فإن لُبسَ الثوب يقتضي حركةً أكثر مما لو احتزمت بالثوب، وفي حال إذا كان الثوب يحتاج إلى عمل كثير من إدخال اليدين فيه، وتعاطي أسباب اللبس، فحينئذٍ يكون هذا التحرك مدفوعاً بما هو أقل منه محصلاً لواجب الشرع، فإنك إذا ائتَزَرْت به، ووضعت أحد طرفيه على عاتقك حققت مقصود الشرع، وذلك بعملٍ يسير، فيلزمك فعل اليسير وترك الكثير؛ لأن ما جاز للحاجة يقدر بقدرها، فهو محتاجٌ لستر عورته، فالكمال أن يلبس الثوب بكامله، والإجزاءُ أن يلبسه على موضع عورته وقدر ما يجب عليه ستره، فيفعل الواجب عليه ستره.
لكن هنا مسألة أشكل من هذه المسألة وأعظم، فلو أن إنساناً كان يصلي وهو قائم، وألزمنا القيام وهو عاري البدن، ثم سقط الثوب بجواره، فحينئذٍ لا يستطيع أن يأخذ الثوب في الغالب إلا بالانحناء، وإذا انحنى انتقل من ركنٍ إلى ركن، فإنه ينتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع أو ركن الجلوس، وحينئذٍ هذا الركن زائد في الصلاة، ولذلك أجمع العلماء على أنَّ تَعمُّدَ زيادة الركن في الصلاة يوجب بطلانها، ففي هذه الحالة ينبه بعض مشايخنا رحمة الله عليهم فقالو إنه يرفعه بقدمه ويتناوله ويلبسه ولا ينحني، فيحافظ على هيئات الصلاة ويلبس ثوبه، ويقتصر على أقل ما يتحقق به الواجب.
وقوله: [قريبة] أي أن تكون هذه السترة قريبة، وفي هذه الحالة إذا كانت بعيدةً، أو لزمه عملٌ كثير لتعاطيها ولبسها، قالوا لا يجب عليه أن يشتغل بها، بل يتم صلاته.
وقوله: [ستر وبنى وإلا ابتدأ].
هذا بالنسبة لحال الإتمام، لكن لو صاح عليه صائح وقال: لك ثياب عند محمد أو زيد فيلزمه قطع الصلاة، ثم يذهب ويلبس ويصلي مستتر العورة.
فلو طرأ أثناء الصلاة وجود سترة تحتاج إلى عملٍ كثير، أو ذهاب إلى موضع، ويمكنه ذلك قبل خروج الوقت يقطع ويذهب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإنما جاز له أن يصلي في حال الفقد، أما في حال الوَجْد فلا يصح منه أن يصلي في حال قدرته على ستر العورة على هذا الوجه.(33/17)
الأسئلة(33/18)
حكم كشف الفخذ في غير الصلاة
السؤال
إن الأحاديث التي وردت بحد العورة مطلقة ضعفها أهل العلم، وحسنُوا المقيد بالصلاة، فهل يُفهم من ذلك أن الفخذ خارج الصلاة ليس بعورة؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فنحن ذكرنا أن الأحاديث المطلقة مضعَّفة، والأحاديث المقيدة بالصلاة محسَّنة وثابتة ويعمل بها، ولكن ليس معنى هذا أنه يجوز للإنسان أن يخرج وعورته مكشوفة.
ولذلك قالوا: إن كشف بعض أعضاء البدن إذا جرى العرف بسترها مخلٌ بالمروءة.
ويقولون: إن من خوارم المروءة أن يفعل الإنسان ما أبيح له سراً أمام الناس جهراً، ككشف بعض أعضاء الجسم إذا جرى العُرف بتغطيته كالرأس، قالوا إنه يعتبر مسقطاً للمروءة، كما قال القائل: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فقالوا: إنه قد يكون الشيء في أصله جائزاً، لكنه من باب المروءة وتعاطي الكمال يجب ستره، وهذا فيما زاد عن حد العورة، كأعالي البدن، فلو أن إنساناً خرج في السوق كاشفاً عن صدره، أو لبس ما يُسمى (بالفنايل)، وجاء أمام الناس لابساً سرواله وفنيلته، فهذا خلاف العُرف، لكن لو كان صانعاً، أو صاحب صنعةٍ أو مهنة، ولبس هذا اللباس أثناء عمله ومهنته فلا حرج ولا عتب عليه، لكن إذا جاء إلى مجامع الناس بهذا اللبس فإنه تسقط مروءته وترد شهادته، قالوا: لأن هذا نقصٌ في العقل، وناقص العقل لا تقبل شهادته، ومن أهل العلم من استدل له بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
قال الشاعر: يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فالإنسان إذا استحيا كملت مروءته، بل قالوا: إنه لا يستحيي إلا من كان كامل العقل، أعني الحياء المحمود الذي يحمل على مكارم الأخلاق.
ومن مكارم الأخلاق ما ذكرناه من عدم تعاطي الألبسة، أو كشف الأمور التي لم يجر العرف بكشفها، ويستحب للإنسان أن يراعي هذا خاصةً في الأعراف، فيساير العرف الذي هو فيه إذا كان العرف على الكمال، أما لو كان العرف على النقص فلا يسايره، فلو كان العرف درج على لبسٍ يخل بالمروءة، أو على لبس متهتك يخالف شرع الله، فإنه لا يعتبر عرفاً.
قال الناظم: وليس بالمفيد جري العيدِ بخلف أمر المبدئ المعيدِ والعرف إن خالف أمر الباري وجب أن ينبذ في البراري فلا قيمة للعرف ما دام أنه يعارض الشرع، ومثل العلماء لذلك فقالوا: لو جرى العرف بحلق اللحية لم يكن عرفاً معتبراً؛ لأنه يُصادم الشرع.
فالمراد بالأعراف المعتبرة الأعراف التي توافق الشرع، وتوافق مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وجميل الطباع، فهذا هو العرف المعوَّل عليه، والله تعالى أعلم.(33/19)
شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [5]
كثيراً ما يقع العبد المسلم في أمورٍ قد تخل بصلاته، لذا وجب على كل مصل معرفة شروط الصلاة؛ كستر العورة وما يخصها من أحكام، وما يكره في الصلاة وما يحرم فيها حتى تكون صلاته صحيحة.(34/1)
ما يكره فعله في الصلاة(34/2)
السدل في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويكره في الصلاة السدل].
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السدل كما في حديث أبي داود الذي حسن العلماء إسناده: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن السدل في الصلاة)، وبين العلماء رحمهم الله هذا السدل وهو أن يرسل طرفي الرداء دون أن يضمهما أو يجعلهما على أحد عاتقيه، كما في الإحرام يكون الإزار لأسفل البدن، والرداء لأعلاه، فإذا جاء الإنسان يصلي فإنه إذا سدل يكون منفتح الصدر، وهذه الهيئة لا تليق والعبد واقف بين يدي الله عز وجل، ولذلك لو دخل عليه إنسان يجله ويكرمه فإنه مباشرة سيضم ذلك الرداء، ولا يرى من نفسه أن يكشف صدره ما دام أمكنه أن يحجبه.
ولذلك يرمي بطرف الرداء إذا أراد أن يصلي، أو على الأقل يضمه، وإذا كان في غير الإحرام شَبَكه، فجعل له مشبكاً أو زَّرره إذا كان له أزراراً، لكن استُثنِي من هذا ما جرت العادة بلبسه مع وجود ما هو دونه مثل العباءة والبشت، فقد أجاز العلماء رحمهم الله أن يرسله؛ لأن العلة غير موجودة فيه، فإن السدل المراد به ما يؤدي إلى الانكشاف، ولذلك يقولون: ما كان معللاً فإنه يدور مع علة الحكم وجوداً وعدماً.
وبناءً على هذا لو كان جرى العرف أنه يُسدَل فلا حرج عليه أن يصلي سادلاً، ولكن مع هذا فالأكمل والأولى أنه يضُم طرفي عباءته حتى يكون ذلك أبعد عن الشبهة.(34/3)
اشتمال الصماء في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [واشتمال الصماء] يقال: حجرةٌ صماء.
إذا لم يكن فيها منفذ، واشتمال الصماء فيه أقوال للعلماء: أقواها وأولاها أن يأخذ الثوب ويتلحَّف به على وجهٍ لا يوجد فيه لليدين أو لأحدهما منفذ.
فبعض الناس في شدة البرد يأتي بالغطاء الذي هو الرداء على أعلى البدن، ويتوشح به على طريقة لا يستطيع أن يخرج يده لو دهمه عدو أو سبع، أو أرادته دابة أو هامة، فلا يستطيع أن يعاجل لدفع هذا الضرر، فنُهِي عن هذا الاشتمال، وهذا وجه.
وقيل: أن يأخذ الثوب ويتلحَّف به ويرده على عاتقيه فينكشف فرجه، قالوا: وهذا وجه من الأوجه التي نهي عنها.
وورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه تفسيره بالوجه الذي ذكرناه، وبناءً على ذلك، فإن قلنا: السدل هو أن يضم الثوب، ويكون الثوب أصم لا منفذ فيه تكون العلة خوف الضرر على الإنسان؛ لأنه ربما في بعض الأحيان خاصة إذا كان يمشي يفاجأ بحية أو سبع أو عدو، فإذا كان مشتملاً للصماء فلا يستطيع أن ينزع سلاحه، أو يكبح عدوه، ولا أن يدفع الضرر عنه، قالوا: فنُهِي عنها من أجل مضرة البدن.
والوجه الثاني: لخوف انكشاف العورة، فإذا التحف بالثوب الواحد فلو تحرك منه انكشفت عورته على الصورة التي ذكرناها، وكل هذه الصور منهي عنها، لكن الخلاف في المراد باشتمال الصماء، وهذا مثله نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، فالإجماع منعقد على أن بيع الملامسة لا يجوز، سواءٌ أقلنا: الملامسة أن يقول له: أبيعك ثوبي على أن يقوم لمسك مقام نظرك، أم قلنا: أن يقول له: إذا لمست الثوب فهو عليك بعشرة، أو إذا لمست الثوب انقطع الخيار عنك، فكل هذه الصور في الأصل محرمة، لكن الخلاف أيها المراد بالحديث، فينبغي أن يُتَنَبه أن خلاف العلماء في اشتمال الصماء هنا إنما هو الخلاف في المراد بالحديث، لكن لو أن إنساناً التحف بالثوب بطريقة تنكشف بها العورة نقول: هذا حرام، سواءٌ أكان هو اشتمال الصماء أم لم يكن؛ لأن الشرع لا يجيز انكشاف العورة، ولا يجيز لبس الثياب على وجهٍ تنكشف به السوءة.
كذلك لو قلنا: إن اشتمال الصماء لا يشمل التلحف بالثوب، فإن التلحف بالثوب على وجهٍ لا يتمكن الإنسان معه من دفع العدو أو الدابة أو الهامة منهيٌ عنه؛ لمكان الضرر بالبدن.(34/4)
تغطية الوجه في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وتغطية وجهه].
ذلك لأنه ورد حديث أبي داود في النهي عن تغطية الوجه في الصلاة، ولأنه إذا غطى وجهه في الصلاة شابه اليهود، فإن اليهود في معابدهم يغطون، فنُهِي عن هذا لئلا يكون فيه مشابهة لليهود، كما نهي عن التشبيك لمن عَمِد إلى الصلاة، أو جلس في الصلاة ينتظرها، أو كان في الصلاة؛ لأن فيه مشابهةً لليهود.
وكذلك أيضاً لأنه إذا غطى وجهه في الصلاة فإنه يمنعه من مباشرة السجود عليه، والسجود على الجبهة والأنف مقصودٌ في حديث السبعة الأعظم التي أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود عليها كما في حديث ابن عباس في الصحيح.(34/5)
وضع اللثام على الفم والأنف في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [واللثام على فمه وأنفه].
أي: يستوي أن يغطي وجهه كليةً، أو جزئياً فيجعل اللثام على أنفه، أو يجعله على فهمه، قال بعض العلماء: إنه إذا جعل اللثام على فمه منع من خروج الحروف وإحسان القراءة، ومنع من تبينها إذا كان إماماً، فنهي عن هذا من أجل هذا الوجه.
وقال العلماء: إن المقام بين يدي الله في الصلاة مقام هيبةٍ وإجلالٍ وتعظيمٍ لله عز وجل وتوقير، فإذا تلثَّم فإن هذا لا يتناسب مع حال المصلي الواقف بين يدي الله عز وجل.(34/6)
كف الكم ولفه في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وكف كمه ولفه] كف الكم ولفه تلك الصورتان منهيٌ عنهما.
وكف الكم هو أنه إذا أراد أن يسجد ضم كف كمه إليه؛ لأنه إذا سجد ربما اتسخ الكم، قالوا: إن هذا كف الكم.
وأما لفه فصورته أن يلفه حتى يَنْشَمِر ويرتفع إلى العَضُد أو إلى نصف الساعد، فهذه الصورة لا تليق بمن وقف بين يدي الله؛ لأنها صورة العمل، والعامل إذا أراد أن يقوم بمهنته وعمله كفَّ ثوبه، وكذلك لَفَّ الثوب، ولذلك نهي عن هذا الكف؛ لأنه لا يليق بمقام العبد بين يدي الله، ولذلك لو دُعِيَ إنسانٍ ليدخل على إنسانٍ يجله ويكرمه ويعظمه لما دخل مشمر اليدين؛ لأنها هيئة لا تليق بالدخول على العظيم أو من يراد تعظيمه، ولله المثل الأعلى، فناسب أن يكون موقف الإنسان بين يدي الله عز وجل على غير هذه الصورة.
وهذا يقع فيه كثير من الناس بسبب الخطأ والجهل، فهم يتوضئون، ثم يأتون مباشرة وقد حسر أحدهم عن ذراعيه، فيكبر ويصلي وهو حاسر الذراعين، وهذا -كما قلنا- لا يليق بالمصلي أن يفعله، والأدهى من ذلك أنه أثناء الصلاة يفك هذا اللفاف عن يديه، وهذا اشتغال، ولا ينبغي للإنسان أن يشتغل به إلا في حالة واحدة، وهي أن ينسى ذلك، ثم يتذكر في الصلاة، قالوا: فإنه يتعاطاه من باب تحصيل الواجب، وهو أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كف الثوب يقتضي خروجه عن هذه الصورة فيُلزم به.(34/7)
شد الوسط في الصلاة
قوله: [وشد وسطه كزنار].
كان قديماً إذا فُتِحت بلاد الكفار وفيها قومٌ من أهل الكتاب من أهل الذمة يُلزَمُون بلبس معين يختص بهم حتى لا يشابه المسلمين؛ لأن لهم أحكاماً تخصهم، فربما أنهم لو اختلطوا بالمسلمين ولبسوا لباسهم سُلِّمَ عليهم وعوملوا معاملة المسلمين، وذلك تكريمٌ لهم، والشرع قصد إهانتهم كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، فلذلك الكفار إذا كانوا تحت حكم المسلمين يُذلون، وهذا أصل شرعي في حدود اشتمل عليها كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الذمة، والذي شرحه الإمام ابن القيم في كتابه النفيس: (أحكام أهل الذمة).
فمن هذه الأحكام أنه يُشَد وسطهم بالزنار، وهو نوع من اللباس يجمع على وسطهم حتى يتميزوا عن المسلمين، ويكون هذا علامة لهم على أنهم من أهل الكتاب، فلا تُعطَى لهم أحكام المسلمين في الظاهر، فإذا أراد أن يصلي المصلي لا يشد وسطه كالزنار، أي: كشد الزنار.
أما لبس الزنار ذاته فإنه منهي عنه؛ لأن فيه مشابهة للكفار، ولا تجوز مشابهتهم.
لكن لو صلى الإنسان فلا ينبغي أن يصلي وقد رفع ثوبه أو شمَر وسطه، ويستوي في ذلك أن يرفع طرف الثوب ويضمه، مثلما يفعله بعض العمال أثناء عملهم، حيث يرفع الطرف الأسفل ثم يشد الوسط، أو يجعل الثوب مرخياً ويأتي بعمامته ويشدها في الوسط، كمن أراد أن يحمل شيئاً حتى يتمكن من حمله بقوة الوسط، فيجعل في وسطه حزاماً أو عمامةً، فهذا منهي عنه، لكن لو كان اللباس يُحتاج إليه، كإنسان يعمل في حدادة أو نجارة، ويلبس البنطال واحتاج أن يشده بحزام، لخوف انكشاف عورته، فلربما انحسر هذا الساتر عن عورته لو لم يشد، فحينئذٍ لا حرج عليه، إنما المراد بالشد الذي ينبئ عن الصورة الناقصة في المصلِّي، مثلما يقع في الثياب يُوضَع في وسطها ما يُشَد، أما لو كان من طبيعة اللباس فهذا مستثنىً ولا حرج فيه.(34/8)
ما يحرم فعله في الصلاة(34/9)
الخيلاء بالثوب وغيره في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وتحرم الخيلاء في ثوبٍ وغيره].
لما ثبت من حديث أبي ذر في الصحيحين: أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب).
وجاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء)، قالوا: نهى عن الإسبال وتَوَعَد بسببه بهذا الوعيد لما فيه من الخيلاء والتبختر، والحديث الثاني في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) يؤكد هذا المعنى، وكذلك ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد إعطاء سيفه في غزوة أحد قال: (من يأخذه بحقه؟ فقالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن يضرب به العدو فتقاعس القوم، فخرج أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه، وعصب عصابته الحمراء وأخذ السيف وتبختر في مشيته، فأخذ يختال بين الصفين، فقال عليه الصلاة والسلام: إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع).
فالخيلاء والتبختر في المشي منهيٌ عنه، واعتبر العلماء رحمهم الله أن من تبختر واختال في مشيته أنه من أهل الكبائر، أي: أنه فاسق بهذه المشية، ولو مرةً واحدة، فلو أن أحداً اختال في مشيته، أو جر ثوبه خيلاء فإنه يعتبر متوعَّداً بهذا الوعيد، إلا أن يتوب فيتوب الله عليه.
فالخيلاء لا يجوز، لا في المشي ولا في الثوب، والخيلاء في الثوب تكون بجره وإسباله، وكذلك ربما تكون في صورة المشية، كأن ترى الإنسان يختال اختيال العظيم، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما رجل ممن كان قبلكم عليه بردان له يتبختر فيهما، إذ نظر إلى عطفيه فأعجب بنفسه، فخسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة).
فهذا يدل على أنه لا يجوز لمسلم أن يختال، أو أن يكون من أهل الخيلاء، بل ينبغي عليه التواضع والذلة لله عز وجل.(34/10)
الصلاة في ثوب فيه تصاوير
قال المصنف رحمه الله: [والتصوير واستعماله] قوله: [والتصوير] تفعيلٌ من الصور، والتصوير سواءٌ أكان باليد أم بآلة، فإنه داخلٌ في عموم الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (ولعن المصورين)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون).
وقد دلت السنة الصحيحة على أن المراد من التصوير إيجاد مثل الخلقة، بغض النظر عن كون المصور أوجدها بآلةٍ أو بنفسه، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)، والكاف تقتضي التشبيه، بغض النظر عن كونه شابه الصورة من كل وجهٍ بآلة، أو لم يشابهها فكان قريباً من الصورة الأصلية، فيشمل ذلك التصوير بآلة والتصوير بالفعل.
والدليل الثاني على دخول التصوير بالآلة في النهي أن الصورة التي أخرجتها الآلة لو سُئِل الإنسان عنها: أهي خِلقة الله أو مثل خلقة الله، لأجاب -قطعاً- أنها مثل خلقة الله، فليست هي الخلقة الحقيقية، وقد قال تعالى: (ممن ذهب يخلق كخلقي)، وهذا يستوي فيه أن يكون بآلةً، أو بالشخص نفسه بفعل يده.
وكون الإنسان يصور بهذه الصورة يوجب وقوعه في المحظور.
فالمصوِّر ولو بآلة يعتبر مصِّوراً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)، وهذا مطلق يشمل أي حالةٍ تم بها التصوير، فمن قيد احتاج إلى دليل، وقولهم: إن التصوير بالآلة كالمرآة هذا قياس مصادمٌ للعموم؛ لأنه قياسٌ مع الفارق، ووجه الفارق أن الصورة في المرآة لا تثبت، والصورة بالآلة ثابتة، والأمر الثاني: أن الصورة في المرآة كانت للخلقة نفسها، فهي محاكاة الخلقة دون ثبوت، والصورة بالآلة محاكاة الخلقة مع الثبوت، فأصبح فعل المكلف بالزيادة على الآلة موجوداً، ولأن المصوِّر بالآلة يحتاج إلى تحميض، وهذا التحميض لا شك أنه فعلٌ للتصوير، ولذلك لا يُشَك أن التصوير بالآلة كالتصوير بالفعل، فلو قال قائل: إن التصوير بالآلة يحكي صورة الإنسان نقول: إذاً لو صور المصور الماهر صورة الإنسان على حقيقته لما كان مصوراً.
والأمر الثالث: أنه ينتقض هذا القياس بالنظير، فلو سألنا وقلنا: لو أن إنساناً أوجد آلةً تخرج تمثال الإنسان بعد تصويره، فتطبع صورة الإنسان وتخرجه بالجِرم بنفس الصورة التي التقطت، لقيل: الإجماع على أن ذلك محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صورة تمثال).
إذن هذه نفس الصورة، فإن كانت الآلة غير داخلة في التحريم فهذه أخرجتها الآلة، وإن كانت المشابهة تمنع التحريم فهذا مشابه، مع أننا حكمنا بالحرمة في كلتا الصورتين، ولذلك يقوى القول بالتعميم، لكن إذا وُجِدت الضرورة أو الحاجة في الصور لا حرج، كحاجة الإنسان إليها في معاملة استخراج الجواز، أو إثبات الهوية؛ لأنه لولا ذلك لضاعت مصالح العباد، ولحصلت مفاسد وشرور عظيمة، فهذا من باب الضرورة، ولا حرج في هذه الحالة.
أما إذا لم تُوجَد الحاجة فالأصل التحريم وأنه لا يجوز، والفتنة الموجودة في صورة اليد كالفتنة الموجودة بصورة الآلة، بل الفتنة بصورة الآلة أعظم من الفتنة بصورة اليد، فالحقيقة أن الذي تطمئن إليه النفس أن مجرد وجود الآلة لا يكفي لزوال التحريم، فإن الآلة ليست بنفسها التي تصور، ومن قال: إنها تصور بنفسها لا شك أنه يكابر في الحس، أليست الآلة يُضْغَط عليها؟! ومن ضغط عليها لا يختلف اثنان في تسميته مصوراً، إذاً هو مصور، فدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) هذا أمر.
الأمر الثاني: أنه إذا طبع بالآلة حمَّض الصورة، ولو كانت صورةً فورية احتاج إلى دلكها، ولا بد من معرفة حقيقة التصوير حتى نحكم، ولذلك حقيقته تدل على وجود فعل المكلَّف، فالآلة إنما هي وسيلة، كالقلم الذي يُراش به، وكالمواد التي تعين على خروج النظير والظل.
ولذلك الذي يظهر -والعلم عند الله- هو القول بالتحريم سواءٌ أكان عن طريق الظل أم كان عن طريق فعل اليد.
فيَحرُم التصوير، وهو من كبائر الذنوب؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المصور وقال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)، (يقال لهم: أحيوا ما خلقتم).
ويحرم استعماله إلا من ضرورةٍ وحاجة، فلو أن إنساناً عنده صور للذكرى يأثم ببقائها، قال علي رضي الله عنه لـ أبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)، فهذا يدل على أنه لا يجوز استعمالها، وبناءً على ذلك يحرُم الاستعمال ويحرُم الإيجاد والفعل.(34/11)
الصلاة في ثوب منسوج أو مموه بذهب
قال المصنف رحمه الله: [ويحرم استعمال منسوج أو مموه بذهبٍ قبل استحالته].
ذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم الذهب، ويحرم استعمال الذهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة).
فلا يجوز استعمال الذهب والفضة في الطعام والشراب في الآنية وهي مصلحة حاجية، فيكون من باب أولى إذا لم توجد الحاجة وهي المصلحة الكمالية، وبناءً على ذلك يكون تنبيه الشرع على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة تنبيهٌ بالأعلى على ما هو أدنى منه، فلا يجوز استعمالهما في الأقلام، ولا في الساعات، ولا في غيرها، إلا ما ورد استثناؤه بالشرع بلبس المرأة ولبس الرجل؛ لقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] عن النساء، ولبس الرجل للفضة في خاتمه كما أُثِر عنه عليه الصلاة والسلام في تختمه بالوَرِق.
وأما استعمالها في الأقلام وغيرها فهذا لا يجوز، والأصل تحريمه، والاستثناء إنما يكون في خاتم الوَرِق، وحديث أم سلمة رضي الله عنها: (دونكم الفضة فالعبوا بها لعباً) المراد به التختُّم، فإن الإنسان إذا تختَّم لعب بالخاتم لعباً، ولو قيل: إن المراد (العبوا بها لعباً) يعني: استعملوها، فهذا تعبيرٌ مجازي، والقاعدة أنه إذا تعارض المعنى في قوله: (العبوا لعباً) بين الحقيقة التي هي اللعب الحقيقي، وبين المجاز الذي هو المعنى الحكمي، فإنه ينبغي صرف اللفظ على الحقيقة إلا بدليلٍ يوجب العدول عنها إلى المجاز.
فلا يستعمل ما فيه ذهب، سواءٌ أكان في الثياب، أم البُسُط، أم الأبواب، أم في غيرها من أدوات البيوت أو في السيارة أو غيرها؛ لأن هذا أصل عام، فلا يجوز استعمالها إلا بما ذكرناه من تحلِّي النساء على الصورة التي ذكرناها سواءٌ أكانت بذهب أم فضة، وتحلي الرجال بالفضة في الخاتم، سواءٌ أكان إنساناً يحتاج إلى الخاتم أم لا يحتاجه.
وقوله: [أو مموه بذهب] كالكاسات مثلاً تموَّه بالذهب، أو تُطْلى بالذهب، أو الساعة تطلى بالذهب، فهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم قليل الذهب وكثيره، وقد استثنى بعض فقهاء الشافعية وبعض فقهاء الحنابلة اليسير المموه، وهذا استحسان، ولا يصح الاستحسان مع دليل العموم، ولذلك الاستحسان لا يقوى في مثل هذا، بل يُبقَى على الأصل الذي يدل على التحريم.(34/12)
الصلاة في ثوب الحرير
قال رحمه الله تعالى: [وثياب حرير].
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الحرير والذهب فقال: (هذان محرمان على ذكور أمتي، حلال لإناثهم).
فدل على أنه لا يجوز لبس الذكر للحرير.
ولبس الحرير يستثنى منه قدر أربع أصابع، وذلك لحديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا هكذا، وجمع بين السبابة والوسطى)، وقال ابن عمر: أو ثلاث أصابع أو أربع أصابع كما في الرواية الثانية.
فقدر الأربعة أصابع من الثوب مستثنى من الحرير.
وللعلماء وجهان، قال بعضهم: إنه أخذ من هذا الحديث بالأربعة الأصابع، وأخذ من حديث الحلة التي لبسها عليه الصلاة والسلام وكان سداها من حرير -والحديث فيه كلام- أنه ينظر في الملبوس: فإن كان أكثره حريراً حرُم، وإن كان أقله حريراً ولو أكثر من أربع أصابع يجوز.
والصحيح أنه لا يستثنى من الحرير إلا قدر الأربعة الأصابع فقط، خلافاً للجمهور الذين قالوا: إنه يُستثنى إذا كان -مثلاً- قطناً وحريراً، وكان القطن أكثر، فقالوا: يجوز في هذه الحالة أن يلبس.
والصحيح أن المستثنى قدر الأربعة الأصابع، وحديث الحُلَّة فيه ضعف في السند، وشك الراوي من جهة السداة أو تجويفة الحلة، ولا شك أنه إذا كان سداها بالطرف لا يصل إلى الأكثر.
قال رحمه الله تعالى: [وما هو أكثر ظهوراً على الذكور] هذا مثل ما ذكرناه، فإذا كان أكثر ظهوراً بالنسبة للملبوس فإنه يحرم، لكن لو كان أقل -بناءً على مذهب الجمهور- يجوز، ولكن الصحيح قدر أربع أصابع فقط، أما إذا كان حريراً خالصاً فبالإجماع لا يجوز.
قال رحمه الله تعالى: [لا إذا استويا].
في حال استوائهما قال بعض العلماء: يبقى على الأصل من الحرمة؛ لأن الاستواء داخل تحت دليل العموم الذي ينهى، ويبقى المستثنَى فقط إذا كان أقل وهذا صحيحٌ من جهة الأصول.
قال رحمه الله تعالى: [ولضرورةٍٍ] أي: يجوز للرجل أن يلبس الحرير لضرورة، والضرورة جاء بها النص في حديث عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام، فإنهما سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخِّص لهما في لبس الحرير من الحكة ومن القمل، فأجاز لهما لبس الحرير من أجل الحكة؛ لأن الإنسان الذي معه حساسية في جلده إذا كان الثوب خشناً أثار الجلد وألهبه، لكنَّ ثوب الحرير يخفف احتكاك الجسم وثوران الجلد.
قالوا: فرَخَّصَ النبي صلى الله عليه وسلم لهما، وهذا من باب الاضطرار، لكن ينبغي أن يفهم أمر، وهو أنه ليس المراد بجواز لبس من به حكة للحرير الإطلاق، بل يتقيد بالكل والجزء، فإن كانت الحكة في جميع البدن لبس ثوباً باطنه من الحرير وظاهره من غير الحرير ولا حرج عليه، فإذا تعذر عليه ولبس ثوباً كله حرير لا حرج.
الأمر الثاني: لو أن يده فيها الحكة وبقية بدنه لا حكة فيها، فإنه يجعل بطانة الثوب لليد من حرير، وأما ما عداه فإنه يبقى على الأصل الموجب لعدم جواز اللبس.
وقوله: [وحكةٍ أو مرضٍ أو جرب].
كل هذا من باب التمثيل للضرورة.
وفي نسخة (حرب)، ففي الحرب قالوا: يجوز أن يلبس الحرير من باب إغاظة الكافر، والحقيقة هذا الاستثناء لا أعرف له دليلاً صحيحاً يدل عليه.
وإنما قالوا اجتهاداً: إن العدو إذا نظر إلى المسلمين وهم في نعمة هابهم.
ولكن الحقيقة أن هذا لا يقوى على الاستثناء من النهي، فإن الهيبة تتحصل بأمور أخرى غير ما ذُكِر من اقتراف ما نهى الله عز وجل عنه، وقد أمَر الله عز وجل عند لقاء العدو بتقواه، وهي السلاح العظيم الذي يثبُت به العبد أمام عدوه، ولذلك ينبغي الرجوع إلى أصول الشرع وعدم الاجتهاد في هذا، وعدم تحليل ما حرَّم الله عز وجل بهذا الاجتهاد، ويُبقى على الأصل الذي يوجب عدم جواز لبس الحرير، سواءٌ أكان في لقاء عدوٍ أم غيره.
لكن بعض العلماء قال: لعل استثناء الفقهاء بلبس الحرير في الحرب مبني على أن الأسلحة في القديم ربما تكون خشنة، وربما يكون ملمسها خشناً يضر بالبدن، فإذا لُبِس الحرير كان أرفق باحتكاك هذه الأسلحة أو حملها على العواتق، أو نحو ذلك.
فإذا وجدت حاجة من مثل هذا فلا حرج، فيكون أشبه بالحاجة إلى الحكة والجرب.
أما أن يُلبس من أجل إشعار العدو بالنعمة فلا، بل نقول: إن هذا يغري العدو أكثر، فإن العدو إذا رأى النعمة على المسلمين قال: هؤلاء إذا قتلناهم غنمنا خيراً كثيراً.
فالأولى البقاء على الأصل الذي يدل على عدم الجواز وهو أولى وأحرى.
وقوله: [أو حشواً] أي: ما يكون بالحشو في الداخل.
وقوله: [أو كان علماً أربع أصابع فما دون] أي: يكون في طرف الثوب، على أن الاستثناء لأربع أصابع، فلا حرج، لما ذكرناه من حديث ابن عمر.
وقوله: [أو رقاعٍ] الرقاع: جمع رقعة، والثوب يتخرَّق فيحتاج الإنسان أن يرقع هذه الشقوق، فيأخذ الرقعة دون الأربعة أصابع، ولا حرج.
وقال بعض العلماء: لا تتقيد بالأربعة أصابع، بناءً على مذهب الجمهور، وقلنا: الصحيح تقيدها بالأربعة أصابع، وما زاد عن أربعة أصابع فلا.
قوله: [أو لبنة جيبٍ] هي التي تكون في الرقبة، والجيب الذي يُدخَل منه الرأس فتكون له لبنة، يعني تكون مثل ما تُسمى في عرف الناس بالياقة اليوم، فهذه في بعض الأحيان تجعل من الحرير، ولا بأس إذا كانت في حدود أربع أصابع.
وقوله: (وسجف فراءٍ) الفراء: من الفرو، وهو معروف، والسجف يكون في أطرافه، مثلما يوجد الآن في بعض الفراء الذي يُلبس في الشتاء، فيجعل في أطرافه قدر أصبعين أو ثلاث أصابع تكون على أطراف السجف، أو تكون من الأسفل في هذه الأطراف، فلا حرج عليه، لكن شريطة ألا تتجاوز الأربعة الأصابع.(34/13)
حكم الصلاة في الثوب المعصفر والمزعفر
قال المصنف رحمه الله: [ويكره المعصفر والمزعفر للرجال] قوله: (ويكره المعصفر) الصحيح تحريم المعصفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه ونهى عن لبسه، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث، والمعصفر نوعٌ من الثياب يُصبَغ بالعُصْفر، وهذا النوع يكون أقرب إلى لون البرتقال إذا اشتدت حمرته، فيكون الصفار داخلاً في الحمار الغامق، فهذا لون العُصْفُر، وتصبغ به الثياب، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
وقال بعض العلماء: إن هذا يقتضي تحريم الحُمرة، أن يلبس اللباس الأحمر وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه لبس حلةً حمراء، فلا حرج في لبس الأحمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبسه، والمعصفَر شيء والأحمر شيء آخر، ولا يمكن الحكم بتعارض النصين إلا إذا استويا دلالةً وثبوتاً، وما ورد من الأحاديث التي فيها النهي عن الأحمر فضعيفة لا تخلو من مقال، ولذلك يبقى الأصل جواز لبس الأحمر، بل قد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه لبس حلةً حمراء.
والمزعفر: الذي به زعفران، وكانت تصبغ به الثياب، وثبت قوله عليه الصلاة والسلام في الْمُحْرِم في حديث ابن عمر في الصحيحين: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فالزعفران كانت تصبغ به الثياب، فيجمع بين الأمرين: طيب رائحته، وجمال لونه.
قالوا: هذا يختص بهذين النوعين، لورود النهي عن لبسهما عن النبي صلى الله عليه وسلم للرجال دون النساء، أما المرأة فإنه يجوز.
لكن المرأة لا يجوز لها أن تلبس المعصفر في الحداد، كما سيأتي إن شاء الله في باب الحداد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس المعصفر والممشق، وسيأتي الكلام على هذا الحديث في باب الحداد إن شاء الله.(34/14)
الأسئلة(34/15)
الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم في رحله ... ) وقوله: (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين)
السؤال
كيف يجمع بين حديث: (إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه، فإنها له نافلة)، وحديث: (لا تصلوا صلاةً في يوم مرتين)؟
الجواب
أما أمره عليه الصلاة والسلام بإعادة الصلاة لمن دخل المسجد فهو ثابتٌ في أكثر من حديث: أولها: ما ثبت في الصحيح في قصة الرجلين في خيف منى: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح، ورآهما لم يصليا، فقال عليه الصلاة والسلام: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله! كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة).
ومنها: حديث أبي ذر رضي الله عنه: (صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة).
فهذه الأحاديث تقتضي جواز الإعادة، وأنه يُشرع إعادة الصلاة، بل ظاهرها الأمر الذي يدل على الوجوب، وأما كيف يُجمع بينها وبين حديث ميمونة: (لا تعاد الصلاة في يوم مرتين) فقال بعض العلماء: درجة الأحاديث التي توجِب الإعادة أقوى في الصحة من حديث ميمونة، فيقدَّم الأصح على الصحيح، والأعلى ثبوتاً على ما هو أدنى، فهذا وجهٌ من يُقَدِّم حديث الأمر بالإعادة.
والوجه الثاني قالوا: لا تعارض بين عامٍ وخاص، فالنهي على عمومه وهذه حالةٌ خاصة، والقاعدة: لا تعارض بين عامٍ وخاص، وهذا أقوى الأوجه، وأميل إليه، فهذان الوجهان مسلك من يقول: إنه يعيد.
وأما من يقول: لا يعيد، فيتفرقون على طوائف: الطائفة الأولى يقولون: لا يعيد في صلاة كصلاة الصبح والفجر لورود النهي عن الصلاة بعد الصبح والفجر، وهذا ضعيف؛ لأن حديث خيف مِنى وقع في صلاة الصبح.
وقالت الطائفة الثانية: لا يعيد المغرب؛ لأنه إذا أعادها أوتر في الليلة مرتين.
ويُجاب عنه من وجهين: أحدهما: إما أن يؤمر بنقض الوتر بركعة، وهذا وجه، أو يقال: إن الوتر يبتدئ وقته بدخول وقت العشاء لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر)، فوقت الوتر جعله بين صلاة الصبح وصلاة العشاء، فإذا وقعت إعادته للمغرب وقعت قبل دخول وقت الوتر، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) أي: في وقت الوتر، وهذا مسلك صحيح وأميل إليه.
فأصحاب المذهب الثاني الذي يُقدِّم حديث النهي قالوا: لا يجوز للإنسان أن يُعيد الصلاة مطلقاً فهذا يقوي حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها في نهيه أن تعاد الصلاة مرتين، ولهم أوجه في الأصول، الوجه الأول: قالوا: لأن القاعدة إذا تعارض الأمر والنهي يُقدَّم النهي على الأمر.
والوجه الثاني: قالوا: إن أحاديث الأمر منسوخة بالنهي وهذا ضعيف؛ لأن الإثبات النسخي محل نظر لأمور: أولها: أحاديث الأمر بالإعادة فيها قرائن تدل على البقاء وعدم النسخ، فإنك إذا تأملت حديث خيف مِنىً وجدته من آخر ما يكون؛ لأنه في حجة الوداع، وما عاش النبي بعد حجه صلى الله عليه وسلم إلا شهوراً يسيرة، ولذلك يقوى بقاء الحكم.
الأمر الثاني: أن القاعدة في الأصول أن النسخ لا يثبُت في الأخبار، فكيف إذا ترتبت الأحكام على الأخبار؟ فلو قال لك: إن النهي عن إعادة الصلاة أقوى من الأمر بإعادتها، وتقول له: كيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر أنه إذا كان أميراً عليه مَن يؤخِّر الصلاة أنه يُعيد، ويتعلق الحكم بما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
فلا يتأتى الحكم بالنسخ، ولذلك الذي تميل إليه النفس أننا نقول: أحاديث النهي عامة، وأحاديث الأمر بإعادة الصلاة خاصة، فيُقَدَّم الأمر بالإعادة على النهي.
وهناك وجه ثان أشار إليه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد، وهو قويٌ أيضاً، يقول: إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إعادة الصلاة مرتين محمولٌ لمن يعتقد الفرض فيهما، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: (فإنها لكما نافلة)، فيكون نهيه عليه الصلاة والسلام عن إعادة الصلاة مرتين فيه إطلاق، وأمره بالإعادة بنية النفل فيه تقييد.
وهذا أيضاً وجه قوي يعتضد مع المسلك الأصولي الذي قلناه، وبهذا لا تعارض بين هذه الأحاديث، والله تعالى أعلم.(34/16)
حكم شراء كاميرا لتصوير الأهل عند الحاجة والضرورة
السؤال
هل يجوز شراء كاميرا لتصوير الأهل لعمل جواز سفر أو لاستخراج الهوية؟
الجواب
لا حرج إذا كان الإنسان يريد أن يصور أهله بدلاً أن يصورهم الغريب، فلا حرج في ذلك؛ لأنه مضطر وهي مضطرة، فلا إثم على الفاعل ولا على المفعول به، بل هذا من كمال الغيرة على الأهل، حتى لا يطلع الأجنبي عليهم، بل قد يجب هذا، ولذلك قرر العلماء أنه إذا أريد ختان المرأة، وأمكن ختانها عن طريق زوجها قالوا: إنه في هذه الحالة يتولَّى ختانها زوجها، ولا يجوز أن يُعدل إلى الأجنبي أن يختنها، حتى ولو كانت امرأةً مثلها.(34/17)
حكم رسم الحيوان أو جزء من الإنسان للطلاب في المدارس
السؤال
ما حكم رسم صور الحيوانات للطلاب في المدارس، وما حكم رسم جزء من جسم الإنسان أو رسم خيال لرأس الإنسان؟
الجواب
أما بالنسبة لمسألة التصوير فإذا كان الإنسان مضطراً إليها غير مختار فقلنا: إن هذا لا يكون في حكم المحرم، فلو أن إنساناً ألزم بها فلا حرج، لكن عليه أن يتقي الله ويتقيد بقدر الحاجة، والزائد عن الحاجة لا يجوز.
أما رسم الظل، فبعض العلماء يقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الصورة الوجه) يقتضي التحريم إذا كان التصوير بالمماثلة والمشابهة بحيث يحاكي المصوَّر في رسم أعضائه وبيانها، فإذا كانت الصورة تتضمن أجزاء الوجه من العينيين والأنف فإنها محرمة، وأما إذا كانت ظلاً؛ كأن يظلل بالجِرم دون وجود التفاصيل قالوا: هذا يُغتفر والحقيقة أن فيه شبهةً، فيكون بمقام المتردد بين الحلال والحرام؛ لأنه ليس بالصورة المحضة، ولا بخالٍ عن وصف الصورة لوجود الشبهة في الظل، ولذلك يُتَّقى لما فيه من بالغ التورع كما قال صلى الله عليه وسلم: (وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، والله تعالى أعلم.(34/18)
حكم تغطية الفم في الصلاة لبرد
السؤال
ما الحكم إذا تلثم الشخص لبردٍ أو حساسية من ريح؟
الجواب
أما بالنسبة للتلثم للبرد والريح أو بسبب عطر أو رائحةٍ كريهة فهذا مستثنى؛ لأنه مضطر، والله عز وجل لا يكلِّف الإنسان ما ليس بوسعه، فإنه إذا شم هذه الرائحة تضرر، ولربما شُغِل عن الخشوع في الصلاة، والتفكر في الآيات والتدبر فيها بسبب ما يختلج النفس من الضعف بسبب هذه الرائحة، فلا حرج في تلثمه كما ذكر العلماء رحمهم الله ذلك، أما إذا لم توجد الحاجة فإنه لا يتلثم ويبقى على الأصل، والله تعالى أعلم.(34/19)
حكم السجود على طرف العمامة
السؤال
ما الحكم إذا سجد الشخص على طرف العمامة إذا كان لابساً لها؟
الجواب
مذهب طائفة من العلماء أنه إذا حصَّل السجود على الأنف أنه يصح سجوده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنفه.
وقال بعض العلماء: لا يصح إلا إذا سجد على جبهته، وكور العمامة إذا منع السجود على الجبهة لا يصح، وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذه المسألة وخلاف العلماء فيها.(34/20)
حكم الإسبال من غير خيلاء للحاجة
السؤال
قال شارح الزاد: ويجوز الإسبال من غير الخيلاء للحاجة فما توجيهكم لهذا القول؟
الجواب
مذهب الجمهور أن من أسبل إزاره لا حرج عليه إذا كان لغير خيلاء، واحتجَّوا له بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه لما سأله أبو بكر وقال: (يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أني أتعاهده، فقال: إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء).
؟ واحتجوا أيضاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء)، وكلا النصيين محل نظر، فإن الصحيح أنه لا يجوز إسبال الإزار مطلقاً ولو كان لغير الخيلاء، وذلك لورود النصوص التي تدل على ذلك، منها: ما ثبت في الحديث الصحيح من قوله: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار).
وأما حديث: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) فإن الوعيد في جر الثوب بالخيلاء مبنيٌ على نفي النظر، والوعيد لمن أرخى ثوبه أسفل من الكعبين بالنار، والقاعدة أن حمل المطلق على المقيد شرطه اتحاد المورد، فهذا واردٌ في الجر، وهذا واردٌ في الإسبال.
وبناءًَ على ذلك يبقى حديث الإسبال على الأصل أنه للتحريم، ونقول: الوعيد بنفي النظر وعيدٌ خاص زائدٌ على العقوبة بالنار؛ لأن هذا النص دل على حكم وهذا النص دل على حكم.
فنقول: كل من أسفل عن الكعبين فإنه يعذب بالنار، كما ثبت في الحديث الصحيح، ومن جر فقد زاد على كونه ظالماً بما أسفل عن الكعبين بالخيلاء.
ويبقى الإشكال في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء).
والحقيقة هذا الحديث يحتاج إلى نظر، وتأمل ألفاظ الحديث: (إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أني أتعاهده)، والإزار مثل الفوطة أو الإحرام الموجود الآن، فعند ربطك له قد ينحل بسبب المشي فيسقط، فقال أبو بكر رضي الله عنه: (إن أحد شقي إزاري يسترخي)، فهل معناه أن الثوب بذاته طويل، أم أن الوصف بالسقوط والزيادة على الموضع وصفٌ عارض؟ الجواب: وصفٌ عارض، وإذا كان وصفاً عارضاً فإنه لا يُشبه الثوب بحال.
وهذا واضح جداً ولا إشكال فيه، فقوله: (إن أحد شقي إزاري يسقط إلا أني أتعاهده، فقال: إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء) معناه: أنني أسهو ولا أنتبه إلا أن أتعاهده، أي: انتبه له، ومعناه أنه إذا انتبه إلى وجوده جره، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء)، فدل على أن من ترك ثوبه يُجر أنه ممن جرّه خيلاء؛ لأن أبا بكر كان يسقط الإزار عنه دون علم؛ لقوله: (إلا أني أتعاهده)، وأنه متى علم كف، فكيف يُقال لك أن تُرخي الإزار مع علمك ولا حرج عليك ولا تكفُّه؟ فهذا شيء وهذا شيء.
ولذلك حديث أبي بكر يحتاج إلى تأمل، وليس فيه دليل على جواز الجر من غير الخيلاء البتة؛ لأنه ذكر صورةً معينة قيَّد الحكم بها، فقال: (إنك) أي: ما دمت على هذه الصفة من كونك رافعاً له عند العلم فلست ممن يتوعد بالعذاب بالخيلاء.
وهذا أمر واضح جداً ليس فيه معارضة للنص الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار).
قال العلماء: إن العبد يعذب بالعضو الذي عصى الله به، كقوله عليه الصلاة والسلام: (ويلٌ للأعقاب من النار) قالوا: لما ترك العقِب في الوضوء، عذب في الموضع الذي عصى الله به، فإذا نزل الإزار عن الكعبين فقد عصى الله بالزيادة، فيعذب في موضعهما، أي: تكون النار في هذا الموضع، وإذا بلغت النار إلى الكعبين فقد ثبت في الحديث الصحيح أن أهون الناس عذاباً يوم القيامة هو أبو طالب حين يوضع في ضحضاح من نار يغلي بهما دماغه -والعياذ بالله-، وهو يظن أنه أشد الناس عذاباً في النار، وهو أهونهم، فكيف إذا كان ما أسفل الكعبين كله في النار؟! نعوذ بالله، فنسأل الله أن لا يعرضنا لسخطه، ونسأل الله تعالى أن يعصمنا بعصمته، وأن يلطف بنا برحمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(34/21)
شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [6]
من المعلوم أن العبد المسلم يقف بين يدي ربه في اليوم كأقل حد خمس مرات يصلي فيها لله عز وجل، ولذلك فلابد من معرفة شروط الصلاة، والتي منها: طهارة المكان، ويتفرع على ذلك معرفة الأماكن التي لا تصح الصلاة فيها، أو تكره، ونحو ذلك.(35/1)
الطهارة من النجاسات شرط من شروط الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها اجتناب النجاسات].
ما زال المصنف رحمه الله يتحدث عن الأمور التي ينبغي توفرها في المصلي حتى يحكم بصحة صلاته، فذكر أن من هذه الأمور والشروط: شرط اجتناب النجاسة، يقال: اجتنب الشيء يجتنبه اجتناباً: إذا تركه وابتعد عنه، وأما النجاسة فقد تقدم الكلام عليها في باب الطهارة، فقوله رحمه الله: [ومنها اجتناب النجاسات] أي: يجب على المصلي أن يجتنب النجاسة سواءٌ في بدنه أم ثوبه أم مكانه الذي يصلي عليه، والأصل في إلزام الناس بالطهارة في الصلاة قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، فإن الآية الكريمة اشتملت على الأمر بتطهير الثوب، والمراد به أن يطهر ثوبه عند الصلاة بذكر التكبير الذي يفهم منه الشروع في الصلاة.
وأما اشتراط طهارة البدن فقد دل عليها قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة الحائض: (ثم اغسلي عنك الدم وصلي)، فدل على أن المرأة لا تصلي إلا بعد أن تطهر بدنها من النجاسة؛ لأن الأمر يدل على الوجوب.
وأما اشتراط طهارة المكان فلما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما بال الأعرابي في المسجد أمر بذنوبٍ من الماء أن يصب على ذلك البول)، وليس ذلك إلا لطهارة المكان، فقد قصد النبي صلى الله عليه وسلم تطهير المكان الذي يصلي فيه الناس في المسجد، ودل أيضاً على اشتراط طهارة المكان حديث أنس في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعاله أثناء الصلاة، فلما سلم قال للصحابة: ما شأنكم؟ -أي: لماذا خلعتم؟ - قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا فقال: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين -أي: أن هذين النعلين ليستا بطاهرتين-)، فاتقى النبي صلى الله عليه وسلم النعل النجس، فدل على أنه لا يجوز للمصلي أن يصلي على موضعٍ نجس.
وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أمر بالصلاة في النعال في المسجد ثم قال: فإن وجد بهما أذى فليدلكهما بالأرض، ثم ليصل فيهما) أي: في المسجد الذي ليس بمفروش.
فالمقصود من أمره عليه الصلاة والسلام بتطهير الحذاء أنه لا يجوز للمصلي أن يصلي على موضعٍ غير طاهر، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن هذا الشرط لازمٌ لصحة الصلاة، وإن كان هناك قولٌ شاذ يقول بعدم اللزوم، ولكن الصحيح لزوم طهارة البدن والثوب والمكان، فلو صلى المصلي وبدنه نجس، أو صلى وثوبه نجس، أو صلى ومكانه الذي يصلي عليه نجس فإن صلاته لا تصح مع العلم والقدرة على إزالة تلك النجاسة.(35/2)
حكم من لاقى نجاسة أو حملها في صلاته
قال المصنف رحمه الله: [فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها، أو لاقاها بثوبه أو بدنه لم تصح صلاته] قوله: (فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها) الفاء في قوله: (فمن حمل) للتفريع والتفصيل، أي: إذا علمت أن اجتناب النجاسة لازمٌ على المصلي فاعلم أن من حمل نجاسةً يحملها بالاتصال، مثل أن تكون في ثوبه متصلةً به، فيوصف بالحمل تجوزاً وإن كان في الحقيقة أنه متلبسٌ بها.
وقوله: (أو لاقاها) أصل الملاقاة: مواجهة الشيء للشيء، يقال: لقيه: إذا واجهه قالوا: فإذا اتصل الجسم بالجسم فقد التقيا، ثم إذا حصل اللقاء على سبيل المداخلة كأن يلقى نجاسةً وتدخل في ثيابه فهي مداخلة، وأما إذا لاقت النجاسة الجسم دون أن تداخله، كأن تكون جامدة لا تسيل على البدن أو الثوب فهي مماسة.
فملاقاة النجاسة على حالتين: فإن كانت النجاسة دخلت في ثوبه، كأن تكون نجاسةً مائعةً فحينئذٍ لا إشكال، فيقال: لقيها وتنجس بها.
وأما إذا لم تدخل واقتصر اللقاء على كونه مواجهاً لها إلى درجةٍ يمس فيها الجسم الجسم يقال: لاقاها، ثم فإذا مس الجسم الجسم لا يخلو من الأحوال: إما أن يمسها ببدنه، فيقال: لاقاها ببدنه، كأن يضع كفه على شيءٍ نجس، فيقال: لاقاها ببدنه؛ لأن بشرة البدن قد لاقت النجاسة، وإما أن يمسها ثوبه، وهو الحائل الذي بين البدن وبين النجاسة، فإذا كان الثوب حصلت به الملاقاة قيل: لاقاها بثوبه، فقال رحمه الله: (أو لاقاها ببدنه أو ثوبه) فالملاقاة بالبدن والثوب على هذه الصور التي ذكرناها.
وحمل النجاسة له أمثلة، كأن يحمل النجاسة بالجرم النجس أو المتنجس، كشخصٌ أصابه رعاف، ثم سال دمه في منديل، ثم نسي ووضع المنديل في جيبه، فهذا حاملٌ للنجاسة بالوصف.
فإن كان عالماً بها فحينئذٌ نقول: حاملٌ للنجاسة، وأما الحمل المنفصل، وهو الحمل الذي يكون جوف الشيء فيه نجس فهذا له حكمٌ يخصه، مثل أن يكون حاملاً لصبية صغيرة أو صبي صغير، فإنه لا يخلو في الغالب من وجود النجاسة، وهذه المسألة ذكرها العلماء رحمهم الله في زمانٍ قد لا يكون مما عمت به البلوى، ولكن في عصرنا اليوم وقعت هذه المسألة، فإن بعض العمليات الجراحية -أعاذنا الله وإياكم منها- يكون الإنسان فيها مضطراً إلى حمل كيس يكون فيه فضل بوله أو غائطه، ففي هذه الحالة يعتبر حاملاً للنجاسة، فلا يشترط في حمل النجاسة أن يضعها على عاتقه، بل الحمل المطلق الذي يطلق على الجيب والبدن، فإن كانت في جيبه قالوا: حملها بثوبه؛ لأن الثوب معلقٌ على البدن، والنجاسة موجودةٌ فيه، فهو حاملٌ لها من هذا الوجه، أو يحملها بالبدن نفسه، كالكيس الذي يكون فيه فضل البول -أكرمكم الله- في حالة الاضطرار، كما في بعض الجراحات المتعلقة بالمسالك البولية، فهذا حاملٌ للنجاسة، وحمل النجاسة لا يخلو من حالتين: إما أن يحملها معذوراً بها لا يمكن بحالٍ، أو يمكنه ولكن بمشقةٍ كبيرة أن يزيلها عنه فهذا يرخص له؛ لأن التكليف شرطه الإمكان وهذا ليس بإمكانه، كمريضٍ قرر الأطباء أنه لا بد من حمله لهذا الكيس الذي يكون فيه فضل بوله، فحينئذٍ نقول: إنه معذور؛ لأنه لم يكلف إلا ما في وسعه، وهذا ليس في وسعه إلا هذا الشيء.
وأيضاً يكون معذوراً بحسب الموضع النجس بالمنديل أو القطن إذا احتاج إلى ذلك، مثل ما يقع في الجراحات السيالة التي لا تنكف إلا بمنديل أو بقطنٍ يوضع عليها، فهذه نجاسة ليست بيد الإنسان أن ينزه عنها فيعتبر مضطراً لها، ويجوز له أن يصلي مع حمله لها.
أما الذي يتكلم عليه العلماء هنا فهو حال الاختيار لا حال الاضطرار، فلو حملها مختاراً وعالماً ذاكراً فإنه لا تصح صلاته.
فقوله: (فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها) أي: يحمل النجاسة، وتكون هذه النجاسة شرطها مما لا يعفى عنه؛ لأن النجاسة على قسمين: ما عفي عنه وهو يسير الدم، وما لا يعفى عنه وهو ما زاد عن ذلك، وقد تقدم ضابط اليسير وخلاف العلماء رحمة الله عليهم فيه، وهناك من أهل العلم من يقول: كل نجاسةٍ يسيرة شق التحرز عنها فإنه يعفى عنها، وهذا من جهة المشقة لا من جهة اليسير، وفرق بأن تقول: يعفى عنه لمكان المشقة وشقة التحرز، وبين أن تقول: يعفى عنه ولو لم يشق، والفرق واضح في هذا، فإنك إن قلت: يعفى عن اليسير للمشقة، مثلما ذكروا في عرق الحمير، إذا ركب الحمار أو نحو ذلك، فهذا لمكان المشقة والعفو من جهة الاضطرار، بحيث لو أمكنه أن يتحرز لزمه، لكن الذي يتكلم عليه المصنف هنا عن نجاسة يعفى عنها في حال الاختيار كاليسير، أو نجاسة يعفى عنها بحال الاضطرار كالنزيف، فحينئذٍ هذا له حكم.
فيشترط في النجاسة المؤثرة في الصلاة أن تكون مما لا يعفى عنها، فإن كانت يسير دمٍ يعفى عنه فهذا معذورٌ صاحبه ولا حرج عليه في حمله.
فإن قال قائل يوماً: خرج من سني دمٌ، فأخذت المنديل وكففته، فتعلق بالمنديل، ثم انكف هذا الدم، فنظرت فإذا المنديل حامل لهذه النجاسة، فوضعته في جيبي فما حكم الصلاة؟ فحينئذٍ ننظر في هذا الدم الذي تعلق بالمنديل، فإن كان يسيراً -وهو دون الدرهم البغلي كما ذكرنا ضابطه في إزالة النجاسة- فإن صلاته صحيحة، ولا يؤثر فيه هذا اليسير، وأما إذا كان كثيراً متفاحشاً فحينئذٍ نقول: إنه حاملٌ للنجاسة وتبطل صلاته، ومن هنا سيخرج ما أُثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يعصرون البثرة وهي الحبة اليسيرة من الدم الذي يخرج في اليد، كانوا يعصرونها وربما عصروها وصلَّوا؛ لأن الذي يخرج من البثرة إنما هو شيءٌ يسير، فنقول: إذا كان الدم الذي حمله المنديل يسيراً فإنه مما يعفى عنه ويغتفر، وإنما ينظر العالم والفقيه في الدم المؤثر في الصلاة إذا كان كثيراً فاحشاً.
وقوله: (أو لاقاها بثوبه أو بدنه) سبق الكلام على الملاقاة بالثوب والملاقاة بالبدن.
وقوله: (لم تصح صلاته)؛ لأن الله عز وجل أمر بالطهارة، والطهارة شرط الصحة، وفقدها فقدٌ للحكم بالصحة.(35/3)
حكم الصلاة بوجود النجاسة المنفصلة عن المصلي
قال المصنف رحمه الله: [وإن طيَّن أرضاً نجسة أو فرشها طاهراً كره وصحت] بعد أن بين لنا رحمه الله أنه ينبغي عليك إذا صليت أن يكون البدن والثوب والموضع الذي تصلي عليه طاهراً، شرع في مسألة النجس غير المتصل، فالنجاسة إذا كان المصلي متلبساً بها إما أن يكون مباشراً لها مثلما قال: (أو لاقاها) وإما أن يكون بحائل، فمن ترتيب الأفكار بدأ بالملاقاة؛ لأنها أقوى ما يكون وهي متصلة بالمكلف وحكمها أقوى وأشد، ثم شرع في مسألةٍ ثانية وهي النجاسة المنفصلة، ويتأتى ذلك لو أن إنساناً علم أن هذا الفراش بال عليه صبيٌ أو فيه نجاسة مثلاً، فجاء بسجادةٍ ووضعها فوق الفراش، بشرط أن يكون الفراش الأسفل الذي حكمنا بنجاسته غير رطبٍ، أي: في حال النجاسة، وأن يكون الأعلى أيضاً غير رطبٍ؛ لأنه لو كان الأدنى نجساً والأعلى طاهراً وأحدهما رطب، فإنه يتشرب النجاسة، فهنا نقول: إنه إذا وضع الطاهر على النجس فإنه قد حيل بينه وبين النجس، لكن من العلماء من يقول: تصح صلاته بدون كراهة؛ لأنه صلى على موضعٍ طاهرٍ، والله عز وجل كلفه طهارة المكان، فلا عبرة بهذا النجس المنفصل عن السجاد، أو عن الحصير الذي يصلي عليه.
ومن أهل العلم من قال: إنه يفرق بين ما تسري فيه النجاسة وما لا تسري فيه، فقالوا: لو أنه وضع تراباً فوق الأرض النجسة وصلى يحكم بأن صلاته صحيحة، ولا كراهة في هذا، ومنهم من قال: تصح مع الكراهة، فيكون وجه الصحة أن الأرض طاهرة، ووجه الكراهة أنه معتمدٌ على نجسٍ، فتكون الكراهة من جهة الاعتماد؛ لأن ثقله وثبوته على الأرض إنما هو ثبوتٌ على أرضٍ نجسة، والحائل طاهر، فقالوا: الحائل يصحح الصلاة، والاعتماد يوجب كراهتها؛ لأن المتردد بين الحل المحض والحرام المحض يوصف بالكراهة على مذهب بعض الأصوليين، لكن يشترط في هذا التراب حينما يوضع على النجس ألا يكون رطباً، وألا تتخلله الرطوبة، ولذلك قالوا: لو طين أرضاً نجسة فجاء بطينٍ ووضعه فوقها في حال طراوة الطين تنجس الطين بملاقاة النجاسة.
وهذه الأمور يذكرها العلماء وهي مسائل فرضية ليس المقصود بها حصر المسائل، وليس المهم أن تعرف حكمها، ولكن الأهم أن تعرف ضابطها؛ لأن الناس لا تسأل عن شيءٍ واضح غالباً، وإنما تسأل عن أمرٍ خفي، فإن كنت قد درست مسائل الطهارة فإنك قد علمت أنه ينبغي طهارة الموضع الذي تصلي عليه، فقد يسألك إنسان عن نجاسةٍ بحائل، ولا يكون فيها طين أو تراب، مثل ما يقع الآن في بعض الحافلات يكون موضع الخلاء -مثلاً- تحت الإنسان، فهل إذا صلى مع وجود هذا الحائل يعتبر كأنه مصلٍ على موضعٍ نجس؟ فهذا كله يذكره العلماء من باب الضابط، والأصل أن يعرف الإنسان القاعدة والأصل في المسألة، وليس المراد أن تحفظ الصورة بعينها بمقدار ما تفهم ضابط الصورة، حتى إذا سئلت عن مسألة مثلها تستطيع أن تخرجها عليها، ولذلك يعرف في الفقه وفي المتون الفقهية ما يسمى بالتخريج، وهو أن يكون أصل المسألة منصوص عليه عند العلماء المتقدمين، وتطرأ مسألة موجودة يمكن إلحاقها وتفريعها على هذه المسألة، وهذا يعتني به العلماء كثيراً لما ذكرناه، حتى يكون الفقيه مستوعباً للمسائل التي تطرأ وتجد عليه من حوادث الناس.(35/4)
حكم الصلاة مع وجود نجاسة متصلة بطرف المُصلَّى
قال المصنف رحمه الله: [وإن كانت بطرف مصلى متصلٍ صحت إن لم ينجر بمشيه] أي: إن كانت النجاسة بطرف المصلى غير متصلةٍ به فإنها لا تؤثر، ما لم تكن بطرف المصلى وتنجر بمشيه، وهذا يقصد منه أن يكون الشيء النجس بمثابة المحمول على المصلى، وذكر العلماء رحمهم الله أمثلة لهذا بالنجاسة التي تكون في طرف الحبل أو طرف القماش المتصل بالثوب، فلو أن إنساناً أراد أن يصلي وهو على سفر ومعه بعيره ويخشى أن البعير يفر، فربما عقد حبله بيده، وقد تكون الدابة نجسة، فهذه صورة في الأصل قد تكون فرضية، لكن المراد منها وضع الضابط كما قلنا، وليس المراد أعيان الصور، ولكن المراد القاعدة التي تخرجت عليها هذه الصورة، فقد ذكر لك الشيء النجس المتصل فقال لك: [لاقاها]، وذكر لك الشيء الذي بينك وبينه طاهر، ويبقى الشيء الذي يتصل بك كأنك حاملٌ له، فإن حملت النجس فلا إشكال، ولكن عندما يكون هذا النجس متصلاً بك بواسطة، بحيث لو تحركت تحركت به، أو يكون متصلاً بك بواسطة لا تتحرك بتحركك، فلو أن إنساناً ربط شيئاً نجساً بحبلٍ، فهذا الشيء النجس المتصل بالحبل لا يخلو من حالتين: إما أن يكون متشرب المادة بالحبل فحينئذٍ الحبل بذاته نجس، ولا يتكلم العلماء عليه؛ لأنه كحمل النجاسة، بمعنى أن يكون طرف النجس سائلاً وسرى إلى الحبل برطوبةٍ أو نحوها فإننا نقول: الحبل نجس، وحكم حمل هذا الحبل كحمل النجاسة؛ لأنه يستوي أن يكون طرف الطاهر في جيبك أو يكون طرفه بعيداً عنك ما دام أن الأصل واحد، كما لو حمل شيئاً وأطرافه التي تتصل بالمصلي نجسة، وأطرافه التي هي بعيدةٌ عنه طاهرة، فلا تؤثر طهارة البعيد ما دام أن القريب نجس؛ لأن الجرم واحد، كذلك لو كان طرفه الطاهر في جيبه وطرفه النجس في موضعٍ آخر، فإن الحكم بذاته واحد، فكما حكمت ببطلان صلاته باتصاله بالنجس مع أن المتصل به طاهر، كذلك تحكم ببطلانها إذا كان المتصل به طاهراً والبعيد عنه نجس.
واحتاج العلماء إلى وضع ضابط في الحبل فقالوا: ينجر بمشيه؛ لأنه إذا انجر بمشيه أشبه الحامل له، لكن لو كان لا ينجر قالوا: لا يعتبر هذا الشيء النجس مؤثراً.
ومثلوا له بالجرو -ولد الكلب أكرمكم الله- على القول بنجاسته، وهذا أقوى الأمثلة؛ لأنه ينجر بجرك له، فأشبه ما لو حملته، فيكون طرفه كطرف النجس، فهذا الذي ذكره المصنف ودرج عليه.
وهناك قول لبعض العلماء أن النجاسة في هذه الصور لا تؤثر، وهو أصح وأقوى، ما لم تتشرب النجاسة في الحبل؛ لأن كونه ينجر لا يستلزم الوصف بكونه محمولاً، وفرقٌ بين المنجر وبين المحمول؛ لأن المنجر منفصل الذات، والمحمول كأنه موضوعٌ على الذات، فالصحيح في هذه المسألة الصحة؛ لأن المجرور والمتصل بحبل ليس كالمحمول لما ذكرناه، إلا إذا كان هذا الحبل الذي يجره الإنسان طرفه نجس، فإننا قلنا: أَشبَهَ ما لو حمل شيئاً طرفه طاهر من جهة ونجسٌ من جهةٍ أخرى، فإنه يحكم ببطلان الصلاة.
فالخلاصة أن العبرة بالتنجيس إذا كان الشيء المتصل بك نجس الطرف، أما لو كان طاهراً في ذاته متصلاً بنجسٍ لا يسري إلى هذا الشيء الذي أنت ممسكٌ به أو واقفٌ عليه فإنه لا يؤثر؛ لأنه ليس في حكم ملاقاة النجاسة ولا حملها لكن لو كان طرف الحبل نجساً فإننا نحكم بالتأثير.
وبناءً على ذلك يستوي عندنا أن ينجر أو لا ينجر، ما دام أنه نجس الطرف، كما لو صليت على سجادة وطرفها نجس، فإنك كأنك صليت على النجس؛ لأن الذات واحدة، وبناءً على هذا نقول: إن التفصيل بين الانجرار وعدمه مرجوحٌ، والأرجح والله أعلم القول بالصحة.(35/5)
حكم من علم بالنجاسة بعد الانتهاء من الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [ومن رأى عليه نجاسةً بعد صلاته وجهل كونها فيه لم يعد] ذكر رحمة الله عليه الأحوال للنجاسة، وقرر لك الأصل أنه ينبغي عليك اتقاء النجاسة، وذكر لك صور ملاقاة النجاسة من جهة التأثير وعدم التأثير.
ثم شرع الآن في مسائل متعلقة بالنجاسات وهي خارجة عن الأصل من جهة الاضطرار، إما بنسيانٍ أو خطأ، فلو أن إنساناً صلى وعليه نجاسة، ولم يعلم بالنجاسة إلا بعد انقضاء الصلاة فحكمه فيه قولان للعلماء: أصحهما أن من صلى وعليه نجاسة وعلم بها بعد انتهاء الصلاة أن صلاته صحيحة، والدليل على هذا ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى بأصحابه وفي أثناء الصلاة خلع نعليه، فلما رآه الصحابة خلع نعليه ظنوا أن هناك تشريعاً جديداً بخلع النعال وعدم جوازه في الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم سألهم: ما شأنكم؟ فقالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين).
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر تكبيرة الإحرام، وفعل من أركان الصلاة ما فعل؛ لأن تنبيه جبريل وقع أثناء الصلاة، وقد فعل بعض أركانها، فلو كان الناسي أو الجاهل لوجود النجاسة يتأثر بوجودها لاستأنف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، ولكان كبر من جديد، ولأعاد من أول الصلاة، فكونه عليه الصلاة والسلام بنى على ما كان دل على أن ما مضى بمكان الجهل وعدم العلم معفوٌ عنه، ولذلك فأصح الأقوال أن من نسي النجاسة أو لم يعلم بالنجاسة أن صلاته صحيحة، ولا تلزمه الإعادة، لكن لو علم بها أثناء الصلاة لزمه قولاً واحداً أن يزيل هذه النجاسة التي علقت به، وذلك بشرط عدم وجود الفعل الكثير الذي يخرجه عن كونه مصلياً كما سيأتي إن شاء الله في صفة الصلاة.(35/6)
حكم صلاة من علم بوجود النجاسة ثم نسيها
قال المصنف رحمه الله: [وإن علم أنها كانت فيها لكن نسيها أو جهلها أعاد] هذا مذهب التفصيل، فبعض العلماء يقول: من صلى في ثوبٍ نجس، أو على موضعٍ نجس، أو في بدنه نجاسة، ولم يعلم بها، أو علم بها ثم نسي، فما دام أنه أثناء الصلاة لا يعلم فالحكم أنه لا تلزمه إعادة الصلاة، وهذا هو الصحيح.
ومنهم من فصل -كما درج عليه المصنف رحمه الله- فقال: إذا كان غير عالمٍ بالنجاسة، ثم علم بعد الصلاة تصح صلاته، لكن إذا كان عالماً بها ثم نسيها وصلى فإن صلاته باطلة.
مثال من جهل وجودها وعلم بعد الصلاة: شخصٌ صلى على سجادة وهو يظن أنها طاهرة، وعهده أن هذه السجادة التي يصلي عليها طاهرة، فلما صلى وانتهى من الصلاة جاءته امرأته، أو جاءه أخوه، أو أحد الناس وقال له: هذه السجادة التي صليت عليها نجسة.
فنقول في هذه الصورة: إنه جاهلٌ بوجود النجاسة؛ إذ إنه غير عالمٍ بها، والحكم أن صلاته صحيحة.
والمثال الثاني: شخصٌ أصابت ثيابه النجاسة فلم يغسلها بعد الإصابة، وانشغل حتى نسي، فأذن عليه المؤذن ونزل بثوبه النجس وصلى، وبعد الصلاة تذكر النجاسة.
فعلى الصحيح أنه لا تلزمه إعادة، وذلك لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه؛ لأن المعنى فيه وجود النسيان.
والقول الثاني: تلزمه الإعادة، يقولون: إنه فرط وقصر؛ لأنه كان عالماً بها قبل الصلاة وفرط وقصر في المبادرة بإزالة النجاسة وهذا -كما قلنا- يحتاج إلى نظر من جهة تفريطه في الغسل، وممكن أن يقال أيضاً: إن من صلى على موضعٍ لا يعلم بنجاسته أنه مفرط؛ لأنه لو قلب السجادة أو ثوبه وتحرى ربما رأى النجاسة، فالمعنى الذي هو التفريط موجودٌ في هذا كما هو موجودٌ في ذلك، وإن كانت الصورة الثانية أكثر من جهة تعدد الأنواع، لكنه لا يمنع التأثير في العلة.(35/7)
حكم الصلاة في الجبيرة إذا كانت نجسة
قال المصنف رحمه الله: [ومن جُبِرَ عظمه بنجسٍ لم يجب قلعه مع الضرر].
الجبيرة على حالتين: إما أن تكون بطاهر، أو تكون بنجس، فلو أن إنساناً جبر عظمه بنجس، ويتأتى ذلك بالعظام النجسة، أو توضع له مواد نجسة تساعد على التحام العظم، فإن بعض العلماء قال: يلزمه قلع الجبيرة وإبدالها بجبيرة طاهرة، وذلك لأن الجبيرة النجسة موجودٌ بديلٌ عنها، وهو الجبيرة الطاهرة، ولا يحكم باضطراره مع وجود البديل؛ لأن شرط الحكم بالضرورة عدم وجود البديل، وبناءًَ على ذلك لما وجدت الجبيرة الطاهرة صار غير مضطر، بل صار مختاراً، وقال بعض العلماء: نفصل فيه: فإن شق عليه نزع هذه الجبيرة وحصل له ضرر بنزعها فإنه يبقي عليها ولا تلزمه الإعادة، ولا يلزمه قلعها، وإن لم يشق عليه نزعها وأمكنه النزع فإنه يجب عليه.
فتحديد الخلاف بين العلماء أن يقال: من جبر عظمه بنجاسةٍ أو بجبيرةٍ نجسة، وأمكنه إزالة هذه النجاسة دون تعبٍ ولا عناءٍ ولا مشقة يلزمه قولاً واحداً أن يزيلها، وذلك لأنه مأمورٌ بالطهارة، وبإمكانه أن يتطهر ولا ضرورة له، وبناءً على ذلك يبقى على حكم الأصل، فهذه الصورة الأولى نريد أن نبحث أحكامها، فلو قلت لإنسان: هذه الجبيرة طاهرة أم نجسة؟ فقال: نجسة تقول له: اخلعها.
فإن قال: لا أستطيع؛ لمشقة ذلك عليه، فحينئذٍ يكون له حكم سيأتي، لكن لو قال: أستطيع وبالإمكان ولا مشقة، نقول: اخلعها.
فإن امتنع عن خلعها وبقيت الجبيرة حتى انجبر العظم فتلزمه إعادة الصلوات كلها، إذا كان قادراً على إزالتها وامتنع من الإزالة حتى انجبر العظم؛ لأنه لم يصل كما أمره الله عز وجل متطهراً في بدنه، ولذلك يلزم بالإعادة.
أما إذا كانت الجبيرة لا يمكن نزعها أو في نزعها مشقة، فتبقى على ما هي عليه، وقال بعض العلماء: تلزمه الإعادة لأنه فرط، وكان بإمكانه أن يجبر بالطاهر ولكنه فرط.
ولكن الأقوى والصحيح أنه يعذر لمكان وجود الحرج والمشقة لإزالة هذه الجبيرة النجسة.(35/8)
حكم طهارة أعضاء الإنسان بعد انفصالها عنه
قال المصنف رحمه الله: [وما سقط منه من عضوٍ أو سن فطاهر] من الملاحظ أن هناك اتصالاً في المباحث والمسائل حيث يذكر العلماء فيه الشبيه بشبيهه، فنحن الآن نتكلم عن إزالة النجاسة، وفي بعض الأحيان يذكر العلماء مسائل فرعية متصلة بالفرع الذي بحث في الباب، فالأسنان والأعضاء التي تسقط من الإنسان ليس هذا موضع الكلام عليها؛ لأن موضع الكلام عليها بكونها طاهرة أو نجسة إنما هو في باب النجاسات، ولكن لما كان يتكلم عن الجبائر وحكم اتصال النجس وانفصاله، فإنه من الأشبه أن تذكر مسألة الأعضاء، فقد يبتر من الإنسان عضو ويزال منه، كأن تقلع منه سنٌ، أو تقطع منه إصبع، أو يد، أو رجل، فللعلماء في حكم هذا العضو الذي بُتر وجهان: فمنهم من قال: هو نجسٌ بمجرد المفارقة، فإذا فارق البدن حكم بنجاسته، قالوا: إن اليد فيها الدم، وإذا قطعت فإن هذا الدم نجس، ولأنه مسفوح، فيحكم بتنجسها بمجرد قطعها، وبناءً على هذا لو أن اليد بترت ثم أعيدت فحينئذٍ يكون إعادةً لنجس؛ لأنها بالبتر أصبح الدم فيها مسفوحاً، وإذا أصبح مسفوحاً فإن الله قال عن الدم المسفوح: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]، فحينئذٍ يكون كإعادة النجس إلى البدن.
والصحيح أن العضو إذا بتر فهو طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أبين من حيٍ فهو كميتته).
والجواب عن الدم المسفوح أن نقول: الدم المسفوح المراق، فاليد ما أريق من جزئها المتصل بالبدن مسفوح، وما أريق من اليد وخرج عنها مسفوح، والجَرَّاح حين يعيدها يزيل ذلك حتى تتصل العروق وتتصل اليدين ببعضها، فيكون هذا ليس من إيصال النجس بالطاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأن ما أُبين من حيٍ فهو كميتته، وميتة الآدمي طاهرة، فاليد حين تبان هي طاهرة، والدم المسفوح لا يحكم بكونه مسفوحاً إلا بالمفارقة، فنحكم بكون الدم الذي جرى خارجاً عن اليد المقطوعة والمكان الذي قطع منه بكونه نجساً، لكن ذات اليد وذات الموضع الذي أُبين منه إذا اتصل عاد إلى أصله، فبناءً على ذلك لا يحكم بكونه نجساً من هذا الوجه.
فإذا ثبت أن السن أو اليد لا يحكم بنجاستها يتفرع على هذا جواز ردها إذا أمكن الرد، فإنه يوجد الآن في الجراحات الدقيقة إذا قطعت اليد وكان قطعها قريباً، وعرضت على جراح أو طبيب، فإنه بإمكانه بإذن الله عز وجل أن يعيدها، فتكون إعادتها على هذا الأصل الذي ذكرناه لا حرج فيها؛ لأنها ليست بنجسة ولا بمتنجسة، ونحكم بجواز الإعادة من هذا الوجه.
كذلك أيضاً إذا حكم بكون السن طاهرة، فإنه حينئذٍ لا تسري عليها أحكام النجاسات، فلو أن إنساناً حملها فإنه حاملٌ لطاهر، بخلاف من يقول: إنها نجسة وحاملٌ لنجس.(35/9)
الأماكن التي نهي عن الصلاة فيها(35/10)
أولاً: المقابر
قال المصنف رحمه الله: [ولا تصح الصلاة في مقبرة] بعد أن بين رحمه الله أنه ينبغي عليك أن يكون الموضع الذي تصلي فيه طاهراً، وبين لك أحكام النجاسات المتصلة، وما هو قريبٌ من المتصل، شرع في بيان المواضع التي لا يجوز أن يصلى فيها، وهذه -كما قلنا- مسائل شبيهة بالمسائل التي معنا، فكما أن الأرض النجسة لا يصلى عليها فإن المواضع التي نهي عن الصلاة عليها كالأرض النجسة، فلا يصح أن تذكر في غير هذا الموضع.
والمقبرة مثلثة الباء، والمقبرة: المكان الذي يقبر فيه الآدمي، ولا يصلى فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المقابر، وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً) فقوله: (ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً) يدل على أن القبر ليس موضعاً للصلاة، قال العلماء: نهى عن الصلاة في القبور لأمورٍ؛ فإن الأمر قد يعلل بعللٍ كثيرة، فقالوا: منها: خوف الشرك، وهذا أعظمها وأجلها؛ لأن الصلاة على القبر قد تؤدي إلى تعظيمه وإجلاله إلى درجةٍ قد تصل بالمرء إلى الصلاة لصاحب القبر والعياذ بالله.
وقيل: نهي عن الصلاة فيها حتى لا يشابه اليهود والنصارى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنهم عند موته، قالت أم المؤمنين: (يحذر مما صنعوا)، أي: يحذر أمته أن تصنع كصنيع اليهود والنصارى، فقالوا: من أجل المشابهة وكذلك أيضاً قال بعض العلماء: لأنه إذا صلى على القبر فإنه يؤذي صاحب القبر، وقد يؤذيه صاحب القبر؛ لأن الجلوس على القبور مضرةٌ لصاحب القبر ومضرةٌ لمن جلس عليها، ولذلك شدد عليه الصلاة والسلام في التحذير من أذية أهل القبور بالجلوس والاتكاء عليها فقال: (لأن يجلس الرجل على جمرة فتحرق ثيابه خير له من أن يجلس على قبر).
فلذلك نهى عن الصلاة في القبور وعلى القبور، ولذلك بين رحمه الله أن هذا الموضع -القبر- لا يجوز أن يصلى فيه، والإجماع منعقد على أنه لا تجوز الصلاة في القبور، والمراد بها صلاة الفريضة وصلاة النافلة، ويستوي في ذلك النوافل المقيدة والنوافل المطلقة، فلا يصلى في المقابر العيدان ولا الكسوف ولا الخسوف، فلا يصلى فيها نفلاً ولا فرضاً.
وأما الصلاة على الجنازة في المقابر أو قريباً من المقابر فهذا مستثنى، كأن تكون الجنازة ما صلي عليها في المسجد، ثم أتي بها عند القبر، فصلي عليها عند قبرها ثم دفنت، فلا حرج أن يصلى عليها، ولكن ينبه على خطأ تكرار الصلاة على الجنائز عند القبور وقد صلي عليها في الجوامع، وأن هذا أمرٌ لا أصل له، فإن الأصل الاكتفاء بصلاة المؤمنين وشفاعتهم في المسجد، ولا يزاد على ذلك.
وأما في داخل القبور فقال بعض العلماء بجوازه استدلالاً بحديث المرأة التي كانت تقم المسجد، ولكن هذا الحديث -كما جاء في صحيح مسلم، وهو مذهب طائفة من السلف- فيه شبهة تقتضي التخصيص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على المرأة قال: (إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي) فقوله: (بصلاتي) دل على التخصيص، فورود النهي الحاضر مع المبيح يوجب تقديم الحاضر على المبيح، فالأولى والأحرى أن الإنسان يقتصر على الصلاة العامة التي تكون في مساجد المسلمين.
أما تكرار الصلاة على الجنائز فهذا لم يكن عليه هدي السلف الصالح رحمهم الله، ولا يستقيم الاستدلال بما ذكرناه لوجود شبهة التخصيص.(35/11)
ثانياً: الحش
قال رحمه الله تعالى: [وحُشَ] الحَش بالفتح والضم، والمراد بالحَش أو الحُش: المزابل، ويقال: موضع قضاء الحاجة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن ماجة: (إن هذه الحُشوش محتضرة) يعني: أماكن قضاء الحاجة، أي: تحضرها الشياطين والعياذ بالله؛ لأنها تحب الأماكن القذرة وروائحها الخبيثة فتأنس بها وتحبها، وأصل الحُش: البستان، قالوا: سميت أماكن قضاء الحاجة حُشاً لأنهم كانوا في الغالب في القديم يخرجون إلى أحوشة البساتين وأسورتها القديمة لقضاء حاجتهم، فما كانوا يضعون الحمامات في البيوت، وإنما كانت مثل المناصع الذي كان في المدينة، وهو موضع شرقي المسجد النبوي إلى شماله كانت تخرج إليه أمهات المؤمنين، وهو الذي كان يؤذي فيه اليهود والمنافقون نساء النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجن، كما قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (من لي بـ الأشرف فقد آذى الله ورسوله)، فالمقصود أنهم ما كانوا يقضون الحاجة في البيوت، وإنما كانوا يقضونها في الحشوش، فيوصف بكونه حُشاً من هذا الوجه، فلا تجوز الصلاة في هذه المواضع؛ لأنها نجسة، وليست محلاً لذكر الله عز وجل، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني كنت على حالةٍ كرهت أن أذكر الله عليها)، فمن باب أولى إذا كان في الموضع النجس نفسه، ولا تصح الصلاة بالإجماع في هذا الموضع، وهو موضع قضاء الحاجة.(35/12)
ثالثاً: الحمّام
قال رحمه الله تعالى: [وحمامٍ] الحمام في لغة القدماء ليس كالحمام الموجود الآن، فالحمام كان مكان الاغتسال، وكانوا في القديم يضعون الحمامات أماكن يغتسلون فيها ولها نظامٌ معين، فيغتسل فيها الناس بالماء الفاتر ويستحمون به، مثل المسابح أو أشبه، لكنها أماكن لها وضع معين تطهر فيها أبدان الناس، ويغتسلون فيها، وهذه الحمامات كانت موجودة إلى عهدٍ قريب في المدن، ونهي عن الصلاة فيها كما في حديث أبي داود والترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المقبرة والحمام)، وهذا يدل على أنها ليست بموضع للصلوات، وذلك لأنها في حكم أماكن قضاء الحاجة لمكان العري، ولذلك قالوا: لا تصح الصلاة في الحمامات، فلو صلى لزمته إعادة الفريضة، ولا تصح منه إذا صلى في هذا الموضع.(35/13)
رابعاً: أعطان الإبل
قال رحمه الله تعالى: [وأعطان إبلٍ] أعطان: جمع عطن، وعطن الإبل: الأصل فيه مراحه، وهو المكان الذي يمرح فيه ويستقر فيه، ويكون على أضرب: منها: أن يكون مراحاً له يبيت فيه ويأوي إليه، فهذا بالإجماع عطن ولا إشكال فيه، أو يكون في وقتٍ دون وقت، فله مكان في الظهيرة يعطِن فيه، ومكان في الليل يعطِن فيه، فإنه إذا عطن في هذا المكان وهو الذي يكون في وقت الظهيرة يوصف بكونه من أعطان الإبل، فلا يشترط أن يمكث جميع وقته في هذا المكان، أعني: وقت راحته أو وقت مراحه.
فالأعطان لا تصح الصلاة فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في أعطان الإبل كما في صحيح مسلم أنه قال: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل)، فنهى عن الصلاة في أعطان الإبل، والصحيح أن العلة أنها خلقت من الشياطين، وأنها مواضع الشياطين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فالعلة -والعياذ بالله- وجود الشياطين بها وتلبسها بالإبل، ولذلك أمر بالوضوء من لحم الجزور ولم يؤمر من غيره، ونهى عن الصلاة في معاطن الإبل، قالوا: إنها لا تخلو من حضور الشياطين فيها، والأحاديث صحيحة في هذا المعنى، وقد تكلم الإمام ابن القيم كلاماً نفيساً في (أعلام الموقعين) حبذا لو يرجع إليه في بيان بعض الحكم والأسرار المبنية على تحريم الصلاة في أعطان الإبل قالوا: فلمكان حضور الشياطين فيها يتقيها المصلي، ولهذا نظير فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بات عند قدومه إلى المدينة وعرس كما في حديث حذيفة في الصحيحين واستيقظ وقد نام عن صلاة الفجر قال: (ارتحلوا فإنه موضعٌ حضرنا فيه الشيطان) قالوا: فهذا أصل يدل على أن المواضع التي تحضرها الشياطين لا يصلى فيها، فلذلك نهي عن أعطان الإبل لمكان وجود الشياطين فيها.
والنهي عن الصلاة في أعطان الإبل يحتج به الشافعية رحمهم الله على أن روح أو فضلة ما يؤكل لحمه نجس؛ لأن أعطان الإبل حكم بنجاستها، لكن ينقض هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الصلاة في مرابض الغنم، فلو كانت فضلة ما يؤكل لحمه نجسة لكان روث الغنم نجساً أيضاً، ولذلك يقوى القول بأنها طاهرة، وحديث مرابض الغنم يدل على طهارتها، وحديث أعطان الإبل لا يستلزم الحكم بالنجاسة.(35/14)
خامساً: الأرض المغصوبة
قال رحمه الله تعالى: [ومغصوبٍ] المغصوب: هو المأخوذ قهراً، والفرق بين السرقة والغصب: أن السرقة تكون خفية، والغصب يكون علانية، وللسرقة حكم وللغصب حكم، والسرقة أشد لما فيها من التخفي وعدم معرفة الآخذ بالمال، لكن الغصب يكون علانية، والغصب من كبائر الذنوب، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اغتصب شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين)، قال بعض العلماء: إنه يضيق عليه سبعة أراضين، تجمع الأرض التي اغتصبها والشبر الذي اغتصبه كالطوق في عنقه، فيكون من أرضٍ إلى أرض حتى يبلغ السبع الأراضين التي اغتصبها، أي: المسافة التي غصبها، وقيل: يكلف حمل هذا القدر -والعياذ بالله- مما اغتصب، وكيفية تكليفه مع ضعفه أمره إلى الله، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن مقعد الكافر في نار جهنم -أي: مكان قعوده فقط- كما بين المدينة ومكة)، فهذا مقعد الكافر ومكان جلوسه في النار، فالله على كل شيءٍ قدير.
وذكر عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أن ضرس الكافر -والعياذ بالله- مثل جبل أحد)، فلا شك أن الله عز وجل على كل شيءٍ قدير، فالغصب حرام وهو من كبائر الذنوب، فلو اغتصب أرضاً فمما يترتب على الغصب مسألة صحة صلاته: فقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: فجمهور العلماء على أن الأرض المغصوبة تصح فيها الصلاة، وذهب طائفة من العلماء إلى أن الأرض المغصوبة لا تصح فيها الصلاة، وهو مذهب الحنابلة رحمة الله على الجميع؛ لأنه منهي عن البقاء في هذه الأرض، فالصلاة باطلة، ويقولون: إن هذا مخرج على القاعدة الأصولية أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، والصحيح أن النهي فيه تفصيل، فإن رجع إلى ذات المنهي عنه اقتضى البطلان، وإن كان منفكاً عن ذات المنهي عنه فإننا نقول بانفكاك الحكم، فنقول: إن الصلاة في المكان المغصوب صحيحة ولكن يأثم بالغصب، فهو آثمٌ من جهة الغصب وصلاته صحيحة؛ لأنه فعل ما أمره الله من القيام والقعود والركوع والسجود، وقد قال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك)، فالصلاة صحيحة، ولكن قال بعض أهل العلم: أجمع العلماء على أن من صلى على أرضٍ مغصوبة أو بثوبٍ مغصوب أن صلاته غير مقبولة والعياذ بالله.
أي: لا يثاب عليها والعياذ بالله، وإن كانت تجزيه، فيقولون: كأنه لم يصل والعياذ بالله من ناحية خلوه من الثواب، نسأل الله السلامة والعافية، وذلك لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] وهذا لم يتق الله، حيث غصب مال أخيه وصلى فيه أو صلى عليه.
فإذا ثبت أن الأرض المغصوبة تصح الصلاة عليها، فيتفرع على ما ذكر المصنف رحمه الله أنه إذا قيل: إن الأرض المغصوبة لا تصح الصلاة عليها، يصبح الأصل عند أصحاب هذا القول: كل أرضٍ محرمة لا تصح الصلاة فيها.
فيطرد على هذا لو كانت الأرض نهي عن الجلوس فيها مثل أراضي الظالمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن دخول مساكن الظالمين وقال: (لا تمروها -أي: ديار ثمود- إلا وأنتم باكون أو متباكون)، ولم ينزل بأرض ثمود، وإنما تنحى بأصحابه صلوات الله وسلامه عليه حينما قدم من غزوة تبوك، فأراضي الظالمين النهي فيها للتحريم، ولو صلى لم تصح صلاته على هذا الأصل؛ لأنه منهي عن الجلوس فيها، ويستوي في هذا أن يكون الغاصب هو المصلي، أو يكون غير الغاصب، فلو علمت أن هذه الأرض مغصوبة فعلى هذا الأصل لا تصل فيها، فلو صليت وأنت ترى عدم صحة الصلاة في الأرض المغصوبة تلزمك الإعادة.
ويتفرع عليه أيضاً الأرض المحرمة، وهي المشتراة بمالٍ حرام، فإنهم يقولون: إنه لا تصح صلاته فيها، كأن يكون المال الذي اشترى به الأرض مالاً حراماً، كمال يتيم، أو مالاً مغصوباً، أو اشترى به ثوباً فإن الحكم كالحكم في الأرض.
فإذا ثبت أن الأرض لا تصح الصلاة فيها، فلو صلى في سطح البيت المغصوب فهل تصح صلاته؟ قالوا: وكذلك السطح، فسطح المغصوب كالمغصوب؛ لأن من ملك أرضاً ملك فضاها وسماها، وملك قعرها بدليل: (من ظلم قيد شبرٍ طوقه من سبع أراضين)، فدل على أنه مالكٌ لأسفل الأرض كما هو مالكٌ لأعلاها، والإجماع منعقد على أنه يملك الأعلى، وبناءً على ذلك قالوا: لو كانت الأرض مغصوبة فصلاته على أعلاها كصلاته على أدناها، وكصلاته فيها، فالحكم في كل ذلك واحد، ولذلك قال رحمه الله تعالى: [وأسطحتها] يعني: أسطح الأرض المغصوبة، وهذا -كما قلنا- مفرع على أن من ملك أرضاً ملك سماها، وتخرج على هذا القول فتوى من يرى الطواف والسعي في الدور الثاني بناءً على أن الأرض وسماها آخذةٌ نفس الحكم.
قال رحمه الله تعالى: [وتصح إليها].
إذا ثبت أن الأرض المغصوبة لا يصلى فيها ولا عليها، فإنها إذا كانت بينك وبين القبلة فقد قال المصنف: وتصح إليها.
فلو كانت بينك وبين القبلة لا تؤثر، إنما المؤثر عند من يرى عدم الصحة أن تكون تحتك بالمباشرة، أو تكون في أسفل الأرض ونحو ذلك.(35/15)
حكم الصلاة في الكعبة وفوقها
يقول المصنف عليه رحمة الله: [ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها، وتصح النافلة باستقبال شاخصٍ منها].
ختم المصنف رحمه الله بهذه الجملة الأحكام المتعلقة بالشرط السابق، وكان الحديث عن طهارة المكان، ولزِم ذكرُ المواضع التي لا يجوز للمكلَّف أن يوقِع الصلاة فيها.
فذكرنا المقابر والمزابل، وقارعة الطريق، وأعطان الإبل، والأصل في هذه المواضع حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في سبعة مواطن: المجزرة، والمقبرة، والمزبلة، وقارعة الطريق، وأعطان الإبل، وعلى ظهر الكعبة).
فهذه المواضع نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة فيها، وقد تقدَّم أن المِجزرة والمقبرة والمِزبلة والحمّام لا يُصلَّى فيها لأنها مشتملة على وجود الشياطين، وذكرنا علَّة ذلك، وأما قارعة الطريق فهي المكان الذي يقرعه الناس، أي: يمشون فيه، سمِّيت بذلك لأن الإنسان إذا سار في الطريق قرع نعاله، وسُمِع قَرع النعال، أي: صوتها، فيُقال: قارعة الطريق، بمعنى المكان الذي يطرقه الناس.
وأما بالنسبة لأعطان الإبل فقد ذكرنا أن العلة في ذلك أنها مأوى للشياطين، وبيَّنا أن هذه العلة هي أقوى العلل، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في أعطان الإبل، وأجازها في مرابض الغنم، فلو كانت العلة كونها أعطاناً للإبل لاشتمالها على فضلة الإبل لمُنِع من الصلاة في مرابض الغنم لاشتمالها على فضلة الغنم، فأقوى العلل كونها من الشياطين كما قرَّره غير واحدٍ من أهل العلم رحمة الله عليهم.
أما الموضع السابع الذي نُهِي عن الصلاة فيه فهو فوق سطح الكعبة، وهذا هو الذي تكلَّم عليه المصنف فقال رحمه الله تعالى: [ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها، وتصح النافلة باستقبال شاخص منها].
أي: لا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها؛ لأننا أمرنا باستقبال الكعبة، والمستقبل للكعبة يستقبل جدارين، والله أمر نبيه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام.
ومسألة الصلاة على سطح الكعبة أو في داخل الكعبة في الأصل ليست بواردة في هذا المكان؛ لأن الكلام عن طهارة المصلَّى، وذكرنا اشتراط طهارة المكان الذي يصلي فيه المكلَّف، ودليل ذلك من السنة، لكن العلماء رحمة الله عليهم من عادتهم أنهم يذكرون المسائل الشبيهة في المظان، فلما ذَكَر تحريم الصلاة في المواضع النجسة ناسَب أن يُتبِعه بالمواضع المنهي عنها، وإلا فالأصل ألا يُذكَر هذا الحكم في طهارة الموضع من النجاسة.
والصلاة على ظهر الكعبة فيها خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم، فمنهم من قال بعدم صحّتها مطلقاً، ومنهم من قال بجوازها مطلقاً وصحّتها، ومنهم من فرّق بين النفل والفرض، كالصلاة بداخل الكعبة.
والصلاة بداخل الكعبة أيضاً فيها ثلاثة أقوال مشهورة: القول الأول: ذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى صحة الصلاة داخل الكعبة مطلقاً، سواءٌ أكانت نفلاً أم فريضة، وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني أنه تصح الصلاة داخل الكعبة إذا كانت نفلاً دون الفريضة، فلا تصح الفريضة داخل الكعبة، وهذا اختيار طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، كما هو عند المالكية وبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، ودرج عليه الحنابلة.
وهناك قولٌ ثالث بعدم الصحة مطلقاً، وهو لبقية من ذكرنا من المذاهب.
فتحصَّل عندنا ثلاثة أقوال، فمن يقول بصحة الصلاة داخل الكعبة مطلقاً يحتج بقوله عليه الصلاة والسلام: (وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، قالوا: فقد عمّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فدلّ على أن الإنسان إذا صلَّى داخل الكعبة تصح صلاته؛ لأنه أخبر أن الأرض مسجد وطهور، وداخل الكعبة مسجد لعموم هذا الخبر، فيصح للإنسان أن يصلي فيه.
والدليل الثاني: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر عندما دخل النبي عليه الصلاة والسلام الكعبة، وأغلق الباب عليه وعلى أسامة وبلال رضي الله عن الجميع، فلما فُتِح الباب كان ابن عمر أول من ابتدر إلى الدخول فسأل بلالاً: هل صلى؟ قال: نعم، بين العمودين.
فدلّ هذا على مشروعية الصلاة داخل الكعبة، قالوا: ولا فرق بين النفل والفرض.
وأما من قال بعدم صحة الصلاة داخل الكعبة فاحتج بحديث ابن عباس رضي الله عنه في الصحيحين عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل الكعبة فكبَّر في أركان البيت ونواحيه، ثم لم يصلِّ، وخرج واستقبل الكعبة وكبر وركع ركعتين.
ف أسامة ينفي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى، وبلال يُثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى، فحصل الخلاف بين هذين الصحابيين، فيقولون: الأصل استقبال القبلة والكعبة بكمالها، فلمّا حصل التردد اعتضد قول أسامة بالأصل، وبقي كلام بلالٍ محتمِلاً؛ لأن الصلاة تُطلق بمعنى الدعاء، وقد قال أسامة: (كبَّر)، فيحتمل أن بلالاً سمع تكبيره وظنها صلاة؛ لأن أسامة يقول: (كبَّر في نواحي البيت)، وهذا يدل على أنه رأى منه انتقالاً في نواحي البيت؛ لأن الإشكال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل أغلق الباب، ومن المعلوم أن من دخل من خارج البيت أو من خارج الغرفة إلى داخلها ثم أُغلِق عليه مباشرة يخفَى عليه رؤية ما بالداخل، فظن أن سماع هذا التكبير المتتالي يُظَن معه أنه صلَّى.
هذا وجه من يقول أنه لم يصلِّ.
وأما الذين توسَّطوا وقالوا: يصلي النافلة دون الفريضة، فقالوا: إن بلالاً أثبت أنه صلَّى، فنُعمِل حديث بلال على الإثبات، ونُبقي الأصل من الأمر بالتوجه إلى الكعبة على ما هو عليه، فنقول: يصح إذا كانت الصلاة نافلة دون الفريضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما صلى فريضة داخل الكعبة، ولو كانت جائزة لبيَّنها إما بقوله أو بفعله، فحيث إنه عليه الصلاة والسلام صلى النافلة دون الفريضة -على القول بأنه صلَّى-، فحينئذٍ نقول: إن الفريضة لا تُصلَّى.
والذي يترجّح والله أعلم أن مسلك من يقول بالتفصيل أقوى لأمور: الأمر الأول: أمر الله تعالى بالتوجه إلى البيت، ومن بداخل البيت يتوجه إلى جهةٍ واحدة، بخلاف من كان خارج البيت، فإنه يجمع بين جهتين من أي الجهات صلى، ولذلك كان استقباله داخل البيت أخف من استقباله خارج البيت، فلو وقفت -مثلاً- من جهة الباب أو المقام استقبلت جدار الباب والجدار الذي هو بين الحِجر وبين الركن، وكذلك لو وقفت بين الركنين استقبلت الجدار الذي فيه الركنان، وكذلك الجدار الذي من جهة الحِجر، بخلاف ما إذا صليت بالداخل فإن ستستقبل جداراً واحداً.
والأصل في دلالة القرآن استقبال البيت، فلذلك يُحمَل على أكمل ما يكون، وحيث تعذر استقبال الأربع الجهات اكتُفِي بالجهتين للتعذُّر، فإذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى -مع التردد في الرواية- فإن الأصل يقتضي الاحتياط، ولو أن القاعدة: (من حفِظ حجة على من لم يحفظ)، لكن الشبهة هنا واردة وقوية، خاصة وأن هناك من ينفي وله جلالة علمه وقدره، والحادثة واحدة.
الأمر الثاني: وجدنا أن الشريعة تخفِّف في النافلة ما لا تخفِّف في الفرض، ألا تراه في السفر عليه الصلاة والسلام كان يصلي على بعيره كما أخبر عنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ولم يصلِّ فريضة على بعيره، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي على بعيره حيثما توجَّه به في السفر، فدلّ على تخفيف القبلة في النافلة، بخلاف الفريضة.
ومن هنا يقوى القول بالتفريق بين النفل والفرض ولأن الذي ورد من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو في النافلة، ولم يرد عنه في الفرض إذ لو كان الفرض سائغاً لبيَّنه بالقول عليه الصلاة والسلام.
فلا يقوى مسلك من يقول بجواز صلاة الفريضة داخل الكعبة، إلا بناءً على قوله بأنه لا فرق بين النافلة والفريضة، فيُنقَض هذا القول بورود النص في استقبال القبلة، فوجدناه يخفِّف في صلاة النافلة على الراحلة في السفر، فيصلي النافلة حيثما توجَّهت به راحلته، فخفَّف في القبلة، بخلاف الفريضة فإنه يجب عليه أن ينزل ويجتهد ويتحرَّى ويستقبل، ففهمنا من هذا أنه قد تختص النافلة في الاستقبال بما لا يكون للفرض، فقوِي مذهب من يقول بصحة صلاة النافلة دون الفريضة.
ثم إن هذا هو مبلغ التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن الحديث فيه ما فيه من تعارض قول أسامة مع بلال رضي الله تعالى عنهما.
ولذلك قَوِي مذهب من يقول: إنه يصلي النافلة دون الفريضة، لما ذكرناه.
ومن هنا لو صلّى على ظهر الكعبة، فإن ظاهر حديث ابن عمر أنه لا يصلي على ظهر الكعبة، وهذا الحديث رواه الترمذي وهو من رواية سعيد بن جبيرة، وهو راوٍ مُتكلَّم في روايته، قال عنه الترمذي: إنه ليس بذاك، وللعلماء فيه قولان: قال بعضهم: إنه كان يضع الحديث، حتى قال بعضهم: إن هذا الحديث من وضعه وهذا من أشد ما يكون في القدح، وقال بعضهم: الرجل ثقة في ذاته -أي: من ناحية ديانته وصلاحه- ولكنه تدرِكه غفلة الصالحين.
ولهذا الحديث أيضاً رواية عند ابن ماجة يرويها عن داود بن حصين، وكذلك أيضاً يرويها ابن ماجة عن الليث بن سعد عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال) وذكر الحديث.
ولكن هذه الرواية مضعّفة بـ العمري، وهو ضعيف من قِبَل حفظه، وقد يقول قائل: إنه قد تنجبر هذه الطريق بهذه الطريق، ويُحكَم بحسن الحديث كما قاله بعض العلماء، ولكن يُشكِل عليه أن الانجبار في الأحاديث الحسنة ش(35/16)
الأسئلة(35/17)
حكم حمل الصبي في الطواف وعليه الحفاظة
السؤال
ما حكم حمل الصبي أثناء الطواف بالبيت وهو حاملٌ للنجاسة فيما يسمى بالحفاظة، وهو مما عمت به البلوى؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فحمل الصبي على حالتين: إن كان طاهراً فلا حرج، وقد ثبت الدليل عن النبي صلى الله عليه وسلم بجواز ذلك ومشروعيته.
وأما إذا كان نجساً أو متنجساً فإنه لا يجوز أن يحمله في الصلاة وهو على هذه الحالة، ويستثنى من ذلك حالة واحدة يحكم فيها بالجواز، وهي: إذا خافت المرأة على صبيها، كأن تريد أن تطوف بالبيت معتمرة أو حاجة ولو تركت الصبي خافت عليه أن يضيع أو يؤخذ، فإنه يجوز لها أن تطوف وهي حاملةٌ له لمكان الضرورة، والله تعالى أعلم.(35/18)
حكم إزالة النجاسة في الصلاة المفضية إلى كشف العورة
السؤال
إذا كانت النجاسة التي علم بها في الصلاة على ثيابه، فإن خلعها ربما انكشفت عورته، فكيف يفعل؟
الجواب
لو أن إنساناً لم يجد إلا ثياباً نجسة، ولا يمكنه ستر العورة للصلاة إلا بهذا النجس، فإن هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة ازدحام الشروط، فإن قلت: أقدم شرط الطهارة على ستر العورة يصلي عارياً، وإن قلت: أقدم ستر العورة على شرط الطهارة يصلي بالمتنجس، وبناءً على ذلك يفصل في هذه المسألة فإن كان يصلي في موضعٍ لا يراه فيه أحد فإنه يعمل الأصل ويصلي عارياً؛ لأن الطهارة معتبرة، وهذا النجس يقدم فيه ما ذكرناه.
أما لو كان في موضعٍ يراه فيه أحد فإنه يصلي بثوبه النجس لمكان الضرورة، والله تعالى أعلم.(35/19)
حكم من صلى وهو جنب ناسياً
السؤال
رجلٌ احتلم بالليل ولم يعلم بذلك، وصلى الظهر والعصر والمغرب، وعند ذلك رأى آثار المني على ثوبه، فهل يعيد تلك الصلوات مرتبة أم كل صلاةٍ في وقتها في اليوم التالي؟
الجواب
من صلى وهو ناسٍ أنه محتلم أو عليه جنابة فإنه يلزمه أن يعيد الصلوات ولو كانت أياماً؛ لأنه لا يصح للإنسان أن يصلي وهو على غير طهارة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وبناءً على ذلك يلزمه إعادة هذه الصلوات كلها، ويراعي فيها الترتيب حتى ولو تعددت أيامه، والله تعالى أعلم.(35/20)
حكم الصلاة في مسجد به قبر
السؤال
ما حكم الصلاة في المسجد الذي به قبر؟ وإذا كانت غير صحيحة فهل يلزمني إعادة الصلوات التي صليتها في هذا المسجد؟
الجواب
إذا بني المسجد على القبر فإنه لا تصح الصلاة فيه؛ لأنه آخذٌ حكم الصلاة على القبر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على القبر، وبناءً على ذلك يلزمك إعادة الصلاة إذا صليت فيه، ويجب عليك أن تبحث عن مسجدٍ لا قبر فيه وتصلي فيه، وأما إذا كانت المساجد كلها فيها قبور فتصلي في بيتك، ثم إذا خشيت الفتنة فكما قال عليه الصلاة والسلام: (صلِ معهم فإنها نافلة)، أما إذا لم تخش الفتنة فإنه لا تلزمك الجماعة لمكان هذا العذر، والأولى أن تصلي جماعةً بأهلك أو بجيرانك، والله تعالى أعلم.(35/21)
حكم من صلى إلى غير القبلة مخطئاً ثم عرف ذلك
السؤال
لو أن رجلاً صلى في بادية فاجتهد في القبلة، وبعد الصلاة أتاه رجل فأخبره باتجاه القبلة الصحيح، فما حكم صلاته؟
الجواب
من صلى في بريةٍ أو باديةٍ لا يخلو من حالتين: إما أن يكون بموضعٍ يمكنه السؤال والتحري فيلزمه؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك، وقد كلفه الله باستقبال القبلة، وبإمكانه أن يتحرى جهتها، فيسأل العالم بمواضع القبلة من أهل ذلك الموضع ويلزمه الرجوع إليه، أما لو كان في بريةٍ ليس فيها أحد، ولا يجد أحداً يسأله، أو الذين معه عوام وجهالٌُ مثله فإنه يتحرى ويصلي، ولا حرج عليه إذا ظهر أنه صلى لغير القبلة؛ لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى وأصحابه في ليلةٍ فيها غيم ثم لما أصبحوا فإذا هم على غير قبلة، فقال صلى الله عليه وسلم: قد مضت صلاتكم).
فإذا تحرى الإنسان عند إمكان التحري على قدر وسعه عند فقد العالم بالقبلة أو بجهة القبلة فإنه قد أدى ما عليه، وصلاته صحيحة، والله تعالى أعلم.(35/22)
وجود النجاسة في الجبيرة
السؤال
كيف يكون الجبر بالعمود النجس؟
الجواب
تحتاج إلى طبيب يذكر لك أنواع الجبارة، وعلى العموم خذ هذا الأصل، أما الكيفية فهذا أمر يرجع إلى أهل الخبرة، وهذا فن ما قرأناه إلى الآن، فتحتاج إلى إنسان يعلم طرق الجبائر وأنواعها ثم يتكلم عليها.
أما المهم فأن تكون الجبيرة نجسة، أو توضع فيها مادة نجسة، فلو أن الجبس كان فيه بول -أكرمكم الله- أو خلط بماءٍ فيه بول، أو وضعت خلطة الجبس في ماءٍ فيه بول، أو المادة التي وضعت بجبر هذا العظم نجسة، فهذا كله من جبر النجاسة، أو تكون الجبيرة التي توضع وتلف أصابتها نجاسة فتنجست، فكل هذه الصور واردة، وأما ما هي الجبيرة النجسة فهذا أمر يحتاج إلى عالمٍ خبير بالجبائر، ومن أحيل على مليء فليتبع.
أما بالنسبة لحكم العلماء رحمة الله عليهم فهذا هو الأصل، أي: يستوي في ذلك أن تكون الجبيرة بذاتها نجسة، أي: نفس الآلات الموضوعة للشد نجسة، أو الحبال واللفائف التي توضع متنجسة، أو الجبس الذي يوضع نجس، فكل هذا يتأتى ويدخل في مسألة الجبيرة النجسة، والله تعالى أعلم.(35/23)
حكم الصلاة على أسطح الحشوش والحمامات وأعطان الإبل
السؤال
هل تصح الصلاة على أسطح الحشوش والحمامات وأعطان الإبل؟
الجواب
الصلاة على أسطح الحُش والحمام وأعطان الإبل مفرعة على الكلام على الموضع، فإن قلت: إن سماء الشيء آخذٌ حكم أرضه فحينئذٍ لا تصح، لكن لقائلٍ أن يقول: إن المتصل بالنجاسة ليس كالمنفصل، فنحن حينما ذكرنا مسألة الغصب قلنا: الصحيح أنها لا تؤثر، وأن المغصوب تصح فيه الصلاة، وأن الصلاة على ظهر أو سطح مغصوب صحيحة، كالصلاة على المغصوب نفسه.
وبناءً على ذلك إذا قلنا: العلة هي النجاسة وكون الحُش متنجساً يبقى سطح الحُش على العموم لقوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، فنقول بصحة الصلاة عليه من هذا الوجه، وكذلك أعطان الإبل إذا كانت الإبل تمرح في مكان وسطحها لا تمرح فيه، فإن العبرة بالمكان لا بسطحه، وهذا أقوى وأوفق وأقرب إلى الأصل من جهة العموم لقوله عليه الصلاة والسلام: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، ويبقى الإشكال في الجواب عن مسألة من ملك أرضاً ملك سماها.
فنقول: هذا في الأوصاف المتعدية، فالاغتصاب الوصف فيه يتعدى؛ لأن الغصب سارٍ على الأرض كلها، لكن النجاسة الوصف فيها لا يتعدى، ونحن قلنا: إذا طين أرضاً نجسة، وكان هناك حائل بينه وبين الأرض النجسة وصلى صحت صلاته، وبناءً على ذلك يفرق بين المتصل والمنفصل، فلما كان في الغصب متصلاً؛ لأن الغصب يسري إلى السطح قلنا بعدم الصحة على الأصل الذي قرره المصنف، ولما كان الوصف هنا لا يسري، ولا يأخذ حكم المتصل قلنا بصحة الصلاة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.(35/24)
حكم الصلاة بالثوب الذي عليه فضلات طير غير مأكول
السؤال
من صلى وقد أصاب ثوبه من فضلات الطيور الجارحة كالصقر، وهو يعلم أنها على ثوبه، فهل يعيد الصلاة؟
الجواب
الطيور الجارحة فضلاتها وذرقها نجس، أما الطيور التي تؤكل كالحمام والعصافير فأصح أقوال العلماء أنها طاهرة، وخالفت الشافعية رحمة الله عليهم فقالوا: إن ذرق الحمام نجس، ولذلك يقعون في حرجٍ كبير إذا صلوا في الأماكن التي فيها حمام، حتى قال بعض العلماء: بسبب كثرة الحمام ومشقة التحرز يعفى عن ذرق الحمام.
فالطيور الجارحة على الأصل الذي ذكرناه أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، وأن ما عداه نجس، فيتخرج على هذا القول بنجاسته، وسيأتينا إن شاء الله في كتاب الأطعمة، فلو أصابه ذرق فإنه يعتبر متنجساً، لكن عند من يقول: إن يسير النجاسة الدم وغيره معفو عنه، وكان هذا الذرق يسيراً فإنه يعفى عنه على هذا القول، وإن كان الصحيح أنه لا يعفى عنه؛ لأن العفو مختصٌ بالدم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(35/25)
شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [7]
مما لا ينبغي لكل مسلم جهله معرفة شروط الصلاة، والأماكن التي تحرم الصلاة فيها، وحكم الصلاة في الكعبة وعليها، وهل الِحجر داخل فيها، وحكم استقبال القبلة، وهل الفريضة والنافلة في ذلك سواء، وأحوال المصلي في استقباله للكعبة، وما هي الأمور التي يستدل بها على جهة القبلة، وغيرها مما يجدر الإحاطة به.(36/1)
شرط استقبال القبلة في الصلاة وأدلته
قال المصنف رحمه الله: [ومنها استقبال القبلة].
أي: من شروط الصلاة التي ينبغي على المكلف أن يراعيها للحكم بصحة صلاته استقبال القبلة، والاستقبال استفعال من القُبُل، ويُقال: الشيءُ قِبَل الشيء، إذا كان مواجهاً له؛ لأن القُبُل ضد الدُبُر، فيُقال استدبَرَه، إذا كان من خلفه، واستقبله، إذا كان من أمامه.
قالوا: وُصِفت القبلة بذلك لأنها تكون قِبَالة الإنسان، أي: من وجهه، وقد أُمِر بالشرع أن يجعلها قِبَالة وجهه، ولذلك ينبغي في الصلاة إذا صلَّى أن يجعل ناحية البيت قِبل وجهه، وذلك لأمر الله عز وجل به في كتابه المبين، وكذلك ثبَت بهدي سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وأجمعت الأمة على اعتباره.
أما دليل الكتاب فقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:149]، فإن قوله سبحانه: (فَوَلِّ وَجْهَكَ) أمر، وقوله: (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي: ناحية المسجد الحرام، وسنبيِّن تفصيل هذه الآية وما دلّت عليه.
فوجه الدلالة أن الآية أمرَت فدل على لزوم استقبال القبلة.
أما دليل السنة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر)، فقال له: (استقبل القبلة)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، وبناءً على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا تصح الصلاة إذا استقبل الإنسان فيها غير القبلة، إلا في حالتين: حالة العذر من وجود السفر، أو حالة العذر من جهة المسايفة، وما في حُكمِها مِن كون الإنسان لا يستطيع أن يتحول إلى القبلة كالمريض الذي يكون مشلولاً ولا يجد من يوجهه إلى القبلة.
فاشتراط هذا الشرط دلّ عليه دليل الكتاب ودليل السنة والإجماع.(36/2)
حكم استقبال القبلة للعاجز والمسافر
قال رحمه الله تعالى: [فلا تصح بدونه إلا لعاجز].
قوله: [فلا تصح بدونه] أي: الصلاة، والفاء للتفريع، أي: إذا علمت رحمك الله أن استقبال القبلة لازم على المكلَّف وواجب عليه، فلا تصح الصلاة مطلقاً سواءٌ أكانت نافلة أم فريضة إذا لم يستقبل القبلة، وذلك لأمر الله عز وجل بها وتعيينها على المكلَّف، إلا ما استثناه الشرع.
قال رحمه الله تعالى: [إلا لعاجز].
قوله: (إلا) استثناء، والقاعدة أن الاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ.
وقوله: (لعاجز) العاجز يكون على أحوال، كالإنسان المريض الذي يكون مشلولاً ولا يستطيع أن يتحرك يميناً أو شمالاً، وكان على جهة غير القبلة، وحضَرته الصلاة، وليس عنده أحد يحرِفه إلى جهة القبلة، فحينئذٍ يصلي على حالته، خاصة إذا خرج عليه الوقت وهو على تلك الحالة؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وقد قال الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وهذا ليس بوسعه أن يستقبل، وليس بوسعه أن ينحرف إلى القبلة، فيبقى على العذر لمكان العجز المتعلق به.
ولو أن إنساناً رُبِط في بئر أو في مكان بحيث لا يستطيع أن يتحول أو ينحرف، أو رُبط بالجدار وكان وجهه إلى غير القبلة، أو سُجن في موضعٍ فوُضِع وجهه على غير القبلة، ولا يستطيع أن يتحرك، فإن هذا يصلي على حالته؛ لأنه عاجز، والتكليف شرطه الإمكان، والعجز يوجب سقوط التكليف، فلذلك لا يُكلَّف.
قال رحمه الله تعالى: [ومتنفل راكب سائر في سفر].
قوله: (ومتنفِّلٍ) أي: في سفر، فيَخرج المفترض، فإن المفترِض يجب عليه أن يستقبل في السفر، وبناءً على ذلك ينزل من على دابته ويستقبل، ودليل استثناء المتنفِّل ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به).
فهذا الحديث دل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من هديه في السفر أن يصلي حيثما توجهت به الدابة، فدل على أنه لا يتعيَّن عليه أثناء ركوبه على الدابة أن يستقبل القبلة، وإنما يصلي حيثما انصرفت الدابة.
الدليل الثاني: حديث أنس في الصحيح، وقد رواه ابن سيرين رحمة الله عليه يقول: (خرجنا نتلقى أنس بن مالك حين قدِم من الشام، -فلم ينتظروه حتى يدخل المدينة، ولكن كان السلف الصالح رحمهم الله يُجِلُّون أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم- قال: فلقيناه بعين التمر وهو على دابته، ووجهه من ذي الجانب -يعني على غير القبلة- فقالوا: رأيناك تصلِّي على غير قبلة! فقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعله ما فعلته).
فدل على أنه من هديه عليه الصلاة والسلام الصلاة على النافلة في السفر حيثما توجّهت به.
فإذا ثبت أن المتنفِّل على الراحلة في السفر يصلي حيثما توجَّهَتْ به راحلته فهنا مسائل ينبغي التنبيه عليها: المسألة الأولى: أنه ينبغي عليه أن يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام، وذلك لحديث أبي داود، وهو حديث حسن، وما ورد من الأحاديث المطلقة عن ابن عمر وأنس مقيد بما ورد بهذا الحديث، ولذلك نقول: إن حديث ابن عمر ذكر الأصل، والقاعدة أن الذي يُفصِّل يُقدَّم على الذي يُجمِل.
فكونه يُجمِل ويقول: كان يصلي على دابته حيثما توجَّهت به، هذا يُقدَّم عليه المفصِّل الذي يبيِّن أنه عند تكبيرة الإحرام يَحرِف دابته ويستقبل القبلة، وبناءً على ذلك لا بد من استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام.
فإذا كان على بعيرٍ حرَف البعير واستقبل جهة الكعبة وكبَّر ثم عطَف البعير على جهة السير، وهذا بالنسبة إذا أمكن.
المسألة الثانية: إذا لم يمكنه ذلك كما هو الحال الآن -مثلاً- في السيارات، فلو كان الإنسان في السيارة والسيارة منطلقة، خاصة إذا كان راكباً فإنه محكوم بقيادة غيره، فحينئذٍ يُكبِّر حيثما توجّهت به السيارة للتعذُّر، فيُستثنَى من هذا الأصل التعذُّر أو حصول المشقة الشديدة، قالوا: وأيضاً في حكمها القاطرة في القديم، وكذلك القطار في الحديث، فإن الإنسان إذا أراد أن يتنفل في قطار أو طيارة أو سيارة وتعذَّر عليه أن ينحرف، فحينئذٍ يكبر على الوجهة التي هو فيها.
وإن كان بعض العلماء اجتهد فقال: ينحرف بجسمه ويكبِّر ثم يرجع إلى وضعه، ولكن هذا الفعل فيه إشكال، ويحتاج إلى نظر.
وبناءً على ذلك إذا ثبت أن الأصل أنه يكبِّر تكبيرة الإحرام ثم يعطف الدابة ويمشي، فإذا مشت الدابة فحينئذٍ الرخصة أن تمشي في مسيرها الذي هو أصل سيرها، وهذا محل الرخصة، قالوا: فإن انحرفت الدابة عن مسيرها المقصود إلى مسيرٍ آخر كان كانحرافه عن القبلة؛ لأنه إنما جاز له لمكان الحاجة، فهو يستقبل جهته التي ذهب إليها كسباً لوقته، فإذا كان عنده من الوقت أن ينحرف عن طريقه، فالأولى أن ينزل ويستقبل قبلة الله التي أوجبها على عباده.
إذاً لا بد وأن يكون على الوجهة التي هو ماضٍ إليها، فإن انحرفت دابته فإنه يكون كما لو انحرف عن القبلة قصداً، وهذا إذا لم توجد حاجة، أما لو انحرفت اضطراراً، أو انحرفت كما يحدث الآن في السيارات أن تنحرف لعارض أو لحاجة فهذا لا يؤثر؛ لأنه في حكم القصد الذي مشى عليه الإنسان من حاجته، فهذا بالنسبة لصلاته على الدابة.
المسألة الثالثة: قالوا: إن الله عز وجل لطف بالعباد وخفَّف عليهم، وهذا من شرف العبادة أن جعلهم في عبادة حتى وهم على الدواب، فيؤجرُ المسافر على ذكر الله عز وجل وهو على دابته وبعيره، فكان من رحمة الله عز وجل أن أجاز للمسلمين أن يصلوا وهم على دوابهم حتى لا يفوت المسافر الخير، وبناءً على هذا تكون هذه الرخصة أصل.
المسألة الرابعة: لو أن إنساناً كان مسافراً وراكباً على دابته عرَفنا حكمَه، فهَب أنه يمشي على قدمه، فما حكمُه؟ قالوا: إذا مشى على قدمه فإنه يستقبل القبلة ويكبِّر، ثم ينحرف ويمشي في مسيره، فإن جاء وقت الركوع وقَف وركع، وقالوا: يَسُوغ له أن يركع ماشياً؛ لأنه لا يُعذر بالركوع مثل الذي على الدابة؛ لأن الذي على الدابة يومي إيماء، ولا يلزمه أن يقوم ويركع؛ لأنه ربما سقط، كالحال في السفينة أو نحوها.
ثم إذا كان يمشي يركع وهو على وجهه، قالوا: ثم يسجد وهو على وجهه، ولا يُعذَر بترك ركوعٍ ولا سجود، فيُفرَّق بين الماشي والراكب على دابته من هذا الوجه.(36/3)
صلاة المتنفل في السفر
قال المصنف رحمه الله: [ويلزمه افتتاح الصلاة إليها، وماشٍ، ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها].
قوله: (ويلزمه) أي: يجب عليه، وقوله: (افتتاح الصلاة إليها) أي: إلى جهة القبلة -كما قلنا- وهو أصح أقوال العلماء، لحديث أبي داود الذي ذكرناه.
وقوله: [وماشٍ] أي: يجوز له إذا كان ماشياً أن يصلي حيثما استقبل من وجهه الذي هو مسافرٌ إليه.
قوله: [ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها].
قال بعض العلماء مثلما درج عليه المصنف في الركوع والسجود: ينحرف الماشي ويركع ويسجد، وهذا أحوط المذاهب، وهو أقربها إلى الصواب إن شاء الله.
وقال بعض العلماء: إنه يركع على سبيله أو على طريقه.
فقال الآخرون: لا؛ لأن الرخصة إنما ثبتت عند الحاجة، وهذا بإمكانه أن ينحرف إلى القبلة ويركع ويسجد، وهذا أحوط وأبلغ في إعمال الأصل، ولذلك اعتباره أولى.(36/4)
أحوال استقبال القبلة
قال رحمه الله تعالى: [وفرض من قرُب من القبلة إصابة عينها ومن بعد جهتها].
المصلي لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون داخل المسجد الحرام.
وإما أن يكون داخل الحرم وخارج المسجد، كبيوت أهل مكة.
وإما أن يكون خارج الحرم وخارج المسجد، وهم أهل الآفاق، ومن في حكمهم.
فإن كنت داخل المسجد الحرام فيجب عليك استقبال عين الكعبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -كما في حديث ابن عباس في الصحيح- لما خرج من الكعبة كبَّر وركع ركعتين، وقال: (هذه القبلة)، أي: هذا الذي فعلته من الاستقبال هو المتعيِّن واللازم على المكلَّف، فاستقبل عين الكعبة، فيجب على المكلَّف أن يستقبل عين الكعبة ما دام داخل المسجد.
وبناءً على ذلك لو كان في الأروقة ينبغي أن يتحرَّى وأن يستبين، ولا يفعل كما يفعل العوام، فبمجرد ما يجد صفاً يكبِّر، بل ينبغي أن يحتاط ويتحرَّى استقبال عين الكعبة؛ لأنه ربما صار مستقبلاً للفراغ خاصة عند طول الصفوف، فينبغي الاحتياط والتثبت، وكذلك أيضاً لو كان في الأدوار العليا وهو بعيد ينبغي عليه أن يحتاط ويتثبت، ويبني على غالب الظن إذا كانت هناك أمارات وعلامات يقوى بها إلى الاهتداء إلى جهة الكعبة، فيصيب تلك العلامات، أو يكون بينها حتى يكون مصيباً لعين الكعبة.
فإذا تبيَّن أنه كان مستقبلاً لفراغٍ أو فضاء، بمعنى أنه لم يستقبل الكعبة لزِمته الإعادة، وذلك لأنه فرّط، فيُلزم بعاقبة تفريطه، فيُعيد صلاته لإمكان استقبال عين الكعبة.
الحالة الثانية: أن يكون داخل بيوت مكة وخارج مسجد الكعبة، فهذا يستقبل المسجد، أي: يَعْتَد بالمسجد، ولذلك صلَّى عليه الصلاة والسلام بالمحصَّب، وكذلك صلّى عليه الصلاة والسلام بالبطحاء، قالوا: فاستقبل جهة المسجد.
والدليل على أنه يستقبل جهة المسجد أنه لما صلى في منىً وهي في الحرم صلّى بالخط الطويل؛ لأنه كان صف أصحابه طويلاً، ومع ذلك لم يحدد عدد الصف حتى يصيب عين الكعبة؛ لأن الصف الطويل قطعاً سيصيب الفراغ، فكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلِّي بالصفوف الطويلة من أصحابه وهو داخل حدود مكة أثناء حجِّه عليه الصلاة والسلام يدلُّ على أن العبرة بجهة المسجد، وأنه إذا استقبل جهة المسجد أجزأه ما دام أنه داخل حدود الحرم.
الحالة الثالثة: أن يكون خارج حدود الحرم، فهذا العبرة عنده بجهة مكة، وبناءً على ذلك قالوا في قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144]، والضمير عائد إلى المسجد، قالوا: (شطره) أي: ناحيته.
وقد دلّ الدليل الصحيح على أن العبرة بالناحية والجهة، ووقع إجماع العلماء على أنك إذا كنت في المدينة فاعتبِر الجهة، فجهة القبلة في المدينة في الجنوب منحرفة قليلاً إلى الغرب، وإذا وقفت إلى الجنوب المحض فأنت مستقبل للقبلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في قبلة أهل المدينة: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وقال كما في الصحيحين من حديث أبي أيوب: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببولٍ ولا غائط، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا)، فدل على أن القبلة بين الشرق والغرب بالنسبة لأهل المدينة، وهذا يُثبت على أن العبرة بالجهة، وليس المراد إصابة عين الكعبة؛ لأن كون الإنسان وهو في المدينة أو جدَّة أو الطائف أو آفاق الأرض يستقبل عين الكعبة فهذا متعذِّر، ولذلك العبرة بالجهة.
وإذا ثبَت أن العبرة بالجهة، فحينئذٍ لو أن الإنسان انحرف انحرافاً لا يخرجه عن جهة القبلة فلا بأس بذلك، فلو أن قبلته في الجنوب، ولم ينحرف إلى الشرق ولا إلى الغرب، أو إلى جهة فرعية يتبين بها انحرافه فصلاته صحيحة، وقبلته معتبرة، وقال بعض العلماء بإلغاء الجهات الفرعية، والعبرة بالجهات الأصلية، وهذا مذهب قوي، خاصة للأحاديث التي ذكرناها.
ومن هنا يُنبّه على ما شاع وذاع في هذه العصور المتأخرة من العمل بالبوصلة، وتشكيك الناس في محاريبهم، فإن بعض من يضبط بالبوصلة يبالغ في الضبط بها، فلو حُدِّدت الدرجة لأهل المدينة -مثلاً- تسع عشرة درجة، فهل معنى ذلك أن شرق المدينة كغربها كوسطها؟ لا.
فإذا وجدنا المسجد ينحرف قليلاً، فما دام أنه يصيب الجهة فلا داعي لتشكيك الناس في صلاتهم، وهدم بيوت الله عز وجل، وإحداث الشوشرة على الناس، فلا يُعتد بالانحراف اليسير؛ لأن الله عز وجل كلَّفهم بالجهة، كما قال تعالى: ((فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)) [البقرة:144]، فإذاً العبرة بالشطر والناحية، فكونه بعد وجود هذه الآلات الدقيقة يُحرص على أنه لا بد من أن يكون استقبالاً محضاً، فهذا محل نظر، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإمكانه أن يستقبل عين الكعبة بالوحي.
فإن قال قائل: إن وجود هذه الآلات الآن أمكن معها ضبط عين القبلة! نقول: نعم.
لكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان محرابه مصيباً لعين الكعبة، وقال بعض العلماء بالإجماع على ذلك، ومع ذلك ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي إلى مساجد الناس في المدينة ويقول لهم: هلموا أضبط لكم قبلة الكعبة بعينها، بل ترَكهم يجتهدون، وقال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وهذه هي سماحة الدين ويُسره، وأما المبالغة في الضبط والتحرَّي، وتشكيك الناس في صلاتهم فهذا لا ينبغي؛ لأن الله عز وجل وسَّع على عباده، وديننا دين رحمة، وليس دين عذابٍ وعنت، ولذلك ما دام أنه استقبالٌ للجهة فهذا يكفي، ولا عبرة بالتحديد المبالغ فيه كما ذكرنا.
وقوله: (ومن بَعُد جهتها) أي: جهة الكعبة، فإن كانت جهتها في المشرق فالقبلة المشرق، وإن كانت جهتها المغرب فالقبلة المغرب، لا يكلِّفك الله أكثر من الجهة، والدليل على هذا قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144]، والشطر هو الناحية؛ لأن الشطر يُطلق بمعنيين: بمعنى النصف، وبمعنى الناحية، فيُقال شطر كذا، بمعنى ناحيته، وشطر كذا، أي: نصفه.(36/5)
كيفية الاستدلال على جهة القبلة
قال المصنف رحمه الله: [فإن أخبره ثقة بيقين أو وجد محاريب إسلامية عمل بها].
بعد أن عرفنا أن من كان داخل المسجد يستقبل العين، وأن من كان خارج المسجد يستقبل المسجد، وأن من كان خارج مكة يستقبل جهة مكة، بقي معرفة هذه الجهات، فللمصلي حينئذٍ حالات: الحالة الأولى: أن يكون عالماً بها عارفاً لها، يعلم أن جهة مكة هنا، فحينئذٍ يعمل بعلمه، وهذا لا يحتاج إلى اجتهاد ما دام أنه يعلم أن جهتها في هذه الجهة؛ فيعمل بما يعلم.
الحالة الثانية: أن يكون غير عالمٍ بجهة الكعبة، ولكن هناك من يعلم جهتها، فإن أخبره وهو ثقة عمِل بقوله ما دام أنه يعلمها بيقين، وليست المسألة هنا مسألة اجتهاد، بل مسألة العلم، وفرقٌ بين مسألة العلم والاجتهاد، فالعلم أن تعلم جهة الكعبة، والاجتهاد أن تجتهد في ضبطها، فهذا شيء، وهذا شيء.
مثال ذلك: لو كنت في دار بجوار مسجد الكعبة، وهذه الدار تطِل على البيت، لكن الغرفة التي أنت فيها ليس فيها نافذة تطل على البيت، والغرفة التي فوقك فيها نافذة، فجاءك الذي فوقك، وقال لك: القبلة هكذا لأنه نظر ووجد أن القبلة أمامه مباشرة، فحينئذٍ يلزمك أن تعمل بخبره، كأنك رأيت أنّ القبلة في هذا الموضع، وهذه المسألة ليست موضع اجتهاد، بل هذا موضع النقل، وموضع النقل شيء، وموضع التحرِّي والاجتهاد شيءٌ آخر.
فابتدأ المصنِّف رحمه الله بمسألة العلم والاطلاع، إن اطلعت بنفسك على الكعبة، فكنتَ في غرفة تطل على مسجد الكعبة، وتعلم أنك تستقبل ما بين الركنين صحّ ذلك ولزِمك أن تعمل بهذا؛ لأنه اليقين، وليس هناك أرفع ولا أعلى من نظر الإنسان إلى الشيء؛ لأنه علم اليقين.
الحالة الثالثة: أن يكون في حكم علم اليقين، كإخبار الشخص الثقة، أي: العدل الذي يوثق بقوله، وليس بإنسان كذاب، ولا فاسق لا يُعتَد بقوله وخبره، فإن كان فاسقاً لزِمك التبيُّن؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6].
كذلك في حكم هذا قالوا: لو نزل الضيف على مضيفه، فإن صاحب الدار له أن يُعلِمه بأمور، منها قبلتَه ومكان قضاء حاجته؛ لأنه يحتاج إلى ذلك، فالأول لدينه، والثاني لرفقه ببدنه، فإذا أعلمك صاحب الدار عملت بعلمه؛ لأنه لا مساغ في مثل هذه المواضع أن تجتهد، وإنما هي مواضع النقل.
قوله: [أو وجد محاريب إسلامية عمل بها].
المحاريب: جمع محراب، وكان بعض السلف يكرهون وجودها في المساجد، ويكرهون الصلاة فيها، كما أُثِر عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورخَّص فيها بعض العلماء، قالوا: هذا مما سكت عنه الشرع، ويُعتبر من المصالح المرسلة؛ لأن الناس ضعُف فيهم الاجتهاد الذي يعلمون به القبلة، والأمر الثاني: قل أن تجد إنساناً منهم يعلم جهة القبلة، وربما جاء الغريب إلى البلد، فإذا وجد المساجد مربَّعة ليس فيها موضع القبلة فإلى أين يصلي؟ قالوا: فإذن هذه تعين على مقصود الشرع من استقبال القبلة، فتسامح فيها طائفة من العلماء رحمة الله عليهم.
ودُرِج على ذلك، وانتشرت المحاريب ووُجِدت، وحصل الخلاف على ما ذكرنا، فبعض العلماء يكرهها، وبعض العلماء يُجيزها، وإن كان الأصل كراهيتها، لكن نظراً لوجود الحاجة قد يُغتفر وجودها.
وبناءً على هذا فإذا وُجِد في المسجد محراب فإن هذا المحراب دليلٌ على القبلة، وأهل المسجد أعلم بقبلتهم، فكون هذه الأمة كلها تصلي في هذا المسجد، وأهل البلد أو أهل هذا الحي كلهم متظافرون ومتفقون على أن القبلة هنا، فمثل هؤلاء يُعتَد باجتهادهم.
قالوا: هذه حالة الغريب إذا نزل، فحينئذٍ يلزمه أن يعمل بهذا المحراب، فيستقبل جهة المحراب؛ لأنها دليل على جهة القبلة، ولا يُعقل أن هؤلاء كلهم يتظافرون على خطأ دون نكير.
وقوله: [محاريب إسلامية] مفهوم ذلك أن محاريب غير المسلمين لا يُعتَد بها كالديَر والصوامع، ويتأتى ذلك لو أن إنساناً -مثلاً- مسافر بين الشام وبين المدينة، ورأى بَيْعة (كنيسة) مستقبِلة إلى جهة بيت المقدس يعلم أن عكسها هو القبلة؛ لأن بيت المقدس على عكسه، فيعكس إلى القبلة فيستقبل الجنوب؛ لأن الذي يريد أن يستقبل بيت المقدس يستقبل الشمال، فإذا أراد أن يستقبل الكعبة يستقبل الجنوب.
فقالوا: إن هذا لا يُعتد به؛ لأن النصارى لا يُؤمَن منهم تحريف دينهم، فخرج من هذا محاريب غير المسلمين، فقالوا: العبرة بمحاريب المسلمين دون غير المسلمين.(36/6)
العلامات التي يستدل بها المسافر ونحوه على القبلة
قال رحمه الله تعالى: [ويُستدل عليها في السفر بالقطب والشمس والقمر ومنازلهما].
قوله: [ويستدل عليها بالسفر] أي: في حال السفر؛ لأن الباء تأتي بعشرة معانٍ، ومنها الظرفية.
تعد لصوقاً واستعن بتسبب وبدِّل صحاباً قابلوك بالاستعلاء وزد بعضهم يميناً تحز معانيها كلا فمن معانيها الظرفية، تقول: محمدٌ بالبيت، أي: في البيت.
فُستدل على القبلة بالسفر -أي: في حال السفر- بالقطب، والقطب نجمٌ صغير خفي، والمراد به القطب الشمالي، ويكون بين بنات نعش الصغرى، وهو لا يكاد يظهر إلا في الليالي المقمرة، ويستدل عليه بالجَدي وبالفَرقَدَين، والفرقدان: النجمان اللذان يدوران على القطب، والقطب ثابت لا يتحول، ولكن دورتهما خفيفة، وبقية النجوم التي تراها حوله تدور حوله ومحيطة به كإحاطة الرحى، ولذلك يقولون: سمِّي قُطباً من هذا الوجه، ويستدل عليه إما بالجدي، وإلا بالفرقدين، ويحتاج إلى إنسان له علم وبصيرة بموضعه.
وهذا القطب يكون في الجهة الشمالية، وفي بعض المواضع يمكن للإنسان أن يحدد موضع القبلة على حسبه، فإذا كان الإنسان في الشام، أي: في جهة الشمال، ووَضَعه وراء ظهره، ووراء أذنه، قالوا: هذا يُعد مستقبلاً للقبلة، وإذا كان في جهة اليمن يجعله في وجهه، كما قيل: مَن واجه القطب بأرض اليمن وعكسه الشام وخلف الأذُن يُمنى عراقٍ ثم يُسرى مصر قد صححوا استقبالها في العمر ففي اليمن يجعله في وجهه؛ لأنه يكون في الجنوب فيَعكِس؛ لأن من كان في جنوب الجزيرة تكون قبلته في الشمال، فيجعل القُطب في شماله، وإذا كان في الشمال سيكون الأمر بالعكس، فيجعل القطب وراءه، ويكون في يمين مَن كان في جهة العراق، ويَسار من كان في جهة مصر، فهذا المشرق وهذا المغرب، فيُستدل بالقطب، وهو دليلٌ ثابت، هذا إذا كان يعرفه، ويمكنه أن يهتدي إليه.
قوله: [والشمس والقمر ومنازلهما].
كذلك الشمس والقمر، فلو فرَضنا أن إنساناً أراد أن يصلي الصبح قضاءً، حيث استيقظ بعد طلوع الشمس، فهو يعلَم أن الجهة التي فيها الشمس الآن هي المشرق، ويقابلها تماماً المغرب، فإذا كانت قبلته في جهة الشرق استقبل جهة طلوع الشمس، وإذا كانت في جهة الغرب استقبل جهة غروب الشمس العكسية، وجعل الشمس وراء ظهره عند الإشراق.
لكن ينتبه لفصل الشتاء وفصل الصيف؛ لأنها في فصل الشتاء تنحرف إلى جهة الشمال، وتكون عند مهب الصبا في الشتاء، فينتبه لهذا الانحراف في الدرجات حتى يُراعِي السمت والجهة، ويكون أقرب إلى إصابة جهة الكعبة.
وكذلك منازل القمر، فلو أنه في الليلة الأولى رأى الهلال فإنه يعلم أنها جهة المغرب، فإذا أراد أن يستقبل القبلة وكانت هذه جهة المغرب التي فيها الهلال فمعناه أن التي يخالفها المشرق.
فإن كان من أهل المغرب جعل الهلال وراء ظهره واستقبل عكس الجهة التي هو فيها، وإن كان من أهل المشرق جعله في جهة المغرب؛ لأن قبلته ستكون في المغرب.
قوله: [ومنازلهما] للقمر منازل، فمثلاً في الليلة السابعة لو أن الإنسان في المشرق يكون القمر مواجهاً له، بحيث لو استقبله يكون على القبلة، فهذا في الليلة السابعة؛ لأنه في كل ليلة يكون للقمر منزلة، وهي ثمانٍ وعشرون منزلة.
والمقصود أنه يتعلم هذه الأمارات والعلامات ويطبِّقها، وهذا إذا كانت السماء صحواً وأمكنه أن يعلم، أما إذا كانت مغيمة فحينئذٍ يكون الحكم شيئاً آخر، فيستدل إذا وُجِد الإمكان للاستدلال، لكن لو لم يمكن له الاستدلال لوجود الغيم فحينئذٍ لا يُكلَّف بالاستدلال لعدم وجود الأمارات والعلامات، والأصل في اعتبار هذا الدليل وهذه الأمارات قول الله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، وهذه من نعم الله عز وجل.
وذكر لنا بعض مشايخنا رحمة الله عليهم -وقد كان يفسِّر لنا قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:63]- أنه كان في صِغَرِه مسافراً من مصر إلى مكّة من أجل الحج، وهذا الكلام قبل قرابة ثمانين سنة، وقد توفِّي الشيخ وكان من العلماء الأجلاء رحمة الله عليه، يقول: كنا في الليل في السفينة، وكنت بجوار الذي يقود السفينة، فوجدته ينظر إلى السماء ويقود، وكنت صغير السن، فعجبت؛ فسألته وقلت له: كيف تقود وأنت تنظر إلى السماء؟ قال: إن بعض الشعاب المرجانية الموجودة في البحر يُستدَل عليها بالنجوم، فبعض النجوم تدل على مواضعها.
ولا يقف الأمر عند العلامات والأمارات التي تكون بالجهات، بل حتى ساعات الليل من ناحية أوله وأوسطه وآخره، فالثلث الأول والثلث الأوسط والثلث الأخير يدل على ذلك إذا ضبطها الإنسان، فكل شيء موزون، وليس في الكون اختلاج؛ لأنه من صنع اللطيف الخبير والحكيم البصير سبحانه الذي لا يمكن أن تجد في خِلقته أو صنعه أي خلل، وخلَق كل شيءٍ فقدَّره تقديراً.
وقد وضع بعض الخبراء في موضع ما ثقباً صغيراً لا يدخل ضوء الشمس منه إلا في لحظة معينة من السنة كلها، وهذا يدل على أن مجرى الشمس ثابت لا يمكن أن يتحول شعرةً واحدة، وهو يوم معين في السنة خاصة على الأيام التي تكون منضبطة بالأشهر الشمسية، فالشاهد من هذا أن هذه العلامات والأمارات ثابتة، وعلم النجوم محرَّم إذا كان يُتوصل به إلى ادعاء علم الغيب، أو يتوصل به للاعتقاد بالنجوم كما هو مذهب السامرة الذين يعبدون النجوم والكواكب -والعياذ بالله-، وهم قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهذا كفر -والعياذ بالله-، ويعتبر ردة وخروجاً عن الإسلام إذا اعتقد الإنسان أنها تنفع وتضر، كالاعتقاد في بعض النجوم أنها إذا ظهرت كان بلاءٌ وشقاءٌ على الناس، أو إذا اختفت أن ذلك نعمة ويسر، ويسمون هذا سعد السعود، وهذا سعد الذابح ونحو ذلك، فلا يجوز الاعتقاد في الكواكب ولا في النجوم، وإنما يعتقد في الله سبحانه وتعالى الذي يحكم ولا يعقَّب حكمه وهو الحكيم الخبير، فالمقصود أنه يجوز الاهتداء بالنجوم وبالكواكب وبالشمس وبالقمر لمن يعرف هذا الدليل.
قال بعض العلماء: يجب على الإنسان إذا سافر أن يكون على علم بهذا الدليل، وإذا تركه يأثم؛ لأنه تلبَّس بالحاجة، وإذا تلبس الإنسان بالحاجة يجب عليه تعلم علمها، وكذلك يقولون: يجب تعلم أحكام البيع لمن تلبس بالبيع، ويجب تعلم أحكام التجارة لمن تلبس بالتجارة، وأحكام الحج لمن أراد الحج، وكذلك هنا من أراد السفر ينبغي أن يتعلم هذه الأمارات والعلامات حتى يكون آمناً أو سالماً في دينه.
وهناك أدلة أخرى لم يذكرها المصنف، ومن أضعفها الرياح، فقد ذكر الإمام النووي رحمه الله أن للقبلة أدلة كثيرة، حتى أُلِّفت فيها مؤلفات، وكثيرٌ منها مخطوط، ويقول: إن أضعفها الرياح.
فالريح أحياناً يستدل بها على القبلة، كالصبا والدبور والشمال والجنوب، فهذه كلها رياح يُستدل بها على الجهات، خاصةً إذا كان الإنسان غالب حاله في البر فإنه يضبط هذا، فأهل البر عندهم علم وخبرة بذلك.
وأذكر أنني ذات مرة زرت بعض المناطق التي على الساحل، فقال أحد المشايخ الفضلاء: إنه إذا جاء الزوال هبت الرياح من البحر، وكانت في أول النهار تهب الرياح إلى داخل البحر، وإذا جاء الزوال هبت من البحر، ثم لا نلبث أن نمكث ثلاث ساعات إلى ساعتين ونصف حتى تهب إلى داخل البحر، ثم إذا جاء العشي أو آخر النهار هبت من البحر، فانظر إلى رحمة الله ولطفه؛ لأنهم في أول النهار يحتاجون الدخول إلى البحر، فسخرها سبحانه على البحر، ثم إذا قضوا معاشهم في منتصف النهار احتاجوا للرجوع فسخرها الله على البر، ثم إذا قضوا واستجموا كانوا أحوج ما يكونون للدخول، فيسخرها الله على البحر ويرسلها على البحر ثم يعيدها إلى البر، وهذا كله من لطف الله سبحانه وتعالى.(36/7)
اختلاف مجتهدين في القبلة
قال رحمه الله تعالى: [وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهةً لم يتبع أحدهما الآخر ويتبع المقلد أوثقهما عنده].
إذا اجتهد المجتهدان فلن يخلو اجتهادهما من حالتين: إما أن يتفقا وإما أن يختلفا، فإذا اتفقا على الجهة وجب عليهما أن يصليا على هذه الجهة، ويأتمُّ كلٌ منهما بالآخر والجماعة فرضٌ في حقهما؛ لأن صلاة الجماعة خاصة على المذهب واجبة، وهذا هو الصحيح لدلالة السنة، ففي هذه الحالة إذا اتفق اجتهادهما لزمتهما الجماعة، ووجب عليهما أن يقيما الجماعة، ويأتم أحدهما بالآخر؛ لأنه يعتقد أنه يصلي إلى القبلة.
لكن لو أن أحدهما قال: القبلة هنا، وقال الثاني: القبلة هنا، فحينئذٍ ينبغي النظر في دليل كلٍ منهما، فإن كان لا يمكن الجمع بين الدليلين والنظر إلى الأصوب منهما فحينئذٍ يصلي كل واحدٍ منهما إلى جهته، ولا يأتم أحدهما بالآخر؛ لأنه إذا ائتم به اعتقد بطلان صلاته؛ لأنه يصلي على غير جهة القبلة.
وقال بعض العلماء: الشروط مسامحٌ فيها إذا اختلف حال المأموم والإمام.
لكن لا أحفظ أن منها القبلة، والمحفوظ في شرط الطهارة والوقت، مثال ذلك: لو أن حنبلياً يرى صلاة الجمعة قبل الزوال، قالوا: يسوغ للمالكي والحنفي أن يصلي الجمعة وراءه؛ لأنها صحيحةٌ في أصلها من جهة المكلف، وقالوا: كذلك أيضاً لو أن من يرى أن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء جاز لمن يرى أنه ناقض أن يصلي وراءه، قالوا: فالخلاف في الفروع يرتفع في الاقتداء.
وهذا مذهب المحققين، وقد نبه على ذلك ابن عابدين في حاشيته، وابن الهُمَام في فتح القدير، وأئمة المالكية كما في شروح المختصر، حيث يقولون: يرتفع الخلاف في الفروع في مسائل الاقتداء، ونبه عليه الشافعية ومنهم الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم، وفي روضة الطالبين، فذكر أن الخلاف في الفروع يرتفع، ويجوز للإنسان أن يصلي وراء من يرى أن مذهبه مرجوحٌ.
وعلى هذا فرّع بعض العلماء مسألة الاقتداء، ولكن فُرِّق بينهما بأن الجهة تخالف الطهارة؛ لأن الطهارة أنت متطهر، قالوا: إنه متطهر في نفسه فصحَّت الصلاة.
فالشاهد أن اقتداء المجتهدين بعضهما ببعض لا يتفرع إلا على مسألة من يرى اغتفار الخلاف في الفروع.
لكن لو فرضنا أن الخلاف في الفروع مرتفع، وأنه يجوز أن يقتدي أحدهما بالآخر فمن الذي يكون إماماً؟ إذ ربما يقول أحدهما: أنا أريد أن أكون إماماً حتى أخرج من الإشكال ومن خلاف العلماء.
ويقول الآخر: لا، بل أنا الإمام.
فقالوا: العبرة بالإمام في الأصل، فإن تشاحَّا جرت بينهما القرعة، فمن خرجت القرعة له فالقبلة ما رجَّحه، هذا بالنسبة إذا حصل خلاف بينهما.
وهذا على القول بأنه يأتم أحدهما بالآخر، أما على القول أنهما لا يأتم أحدهما بالآخر كما ما رجح المصنف فلا إشكال.
قوله: [ويتبع المقلد أوثقهما عنده] المقلد: هو الذي لا يستطيع أن يجتهد، وليس عنده علم بأدلة القبلة، ولا يعرف القطب، ولا يعرف منازل القمر، ولا يعرف كيف يهتدي إلى جهة القبلة.
فلو كان هناك مجتهدان واختلفا، وكان معهما عوام، فمن يتبع العوامُ؟ قالوا: ينظر العامي إلى أقربهما أو أعدلهما أو أوثقهما في نظره، فإن رأى أن أحدهما أكثر ضبطاً وأكثر علماً ائتم به، وهذه المسألة التي يلغزون فيها ويقولون: عاميٌ يجتهد في المجتهد لأن المجتهدين كلٌ منهما توفرت آلته، قالوا: فيجتهد فيهما، فينظُر أيهما أقرب إلى الخير أو أكثر علماً ويصلي وراءه.
وقال بعض العلماء: يُستثنى من هذا إذا كان أحدهما أميراً في السفر وهو إمامهم، فحينئذٍ تتبعه لمكان حق الإمارة؛ لأن إمامته هي المنعقدة، فالمأموم تبعٌ لهذا الأمير في سفره.(36/8)
حكم الصلاة بغير اجتهاد ولا تقليد إلى غير القبلة
قال رحمه الله تعالى: [ومن صلى بغير اجتهادٍ ولا تقليدٍ قضى إن وجد من يقلده].
لو أن شخصاً لا يعرف أن يجتهد، وعنده إنسان عنده علم ومعرفة بجهة القبلة ولم يسأله ولا تابعه بجهة القبلة، وإنما جاء من نفسه وصلى إلى غير القبلة، فإنهم قالوا: صلاته باطلة؛ لأنه اجتهد من نفسه، وهو لا يحق له أن يجتهد، مع إمكان اطلاعه على جهة القبلة من جهة الاجتهاد، ولذلك ما دام أنه بوسعه أن يسأل هذا المجتهد، وأن يرجع إلى مَن هو أعلم منه يُلزم بعاقبة تقصيره، ويُطالب بإعادة الصلاة ولو طالت مدة هذه الصلاة، فلو جلس شهراً ثم سأل يلزم بإعادة الصلاة؛ لأنه صلى إلى غير قبلة، فالذي ليس عنده علم أو إلمام بجهات القبلة مع إمكانه أن يسأل مفرط، فيلزم بعاقبة تفريطه؛ لأن الله لا يأذن له أن يجتهد لنفسه ما دام أنه غير محصِّلٍ لآلة الاجتهاد.(36/9)
الاجتهاد في تحديد القبلة لكل صلاة
قال رحمه الله تعالى: [ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاةٍ].
قررنا أن المجتهد يجتهد، فإن كان عندك علم أن جهة القبلة في هذه الناحية، فصليت البارحة العشاء في هذه الجهة، فإن أصبحت وجاء الفجر فهل تبقى على اجتهادك الأول أم تجتهد اجتهاداً جديداً؟ لأنه ربما في الليل تهتدي بالقطب، ولكن في ليلة ثمانٍ وعشرين ربما تجتهد بطلوع القمر هلالاً من جهة المشرق، فيكون عندك دليل قد يكون أقوى من استدلالك بالقطب في الليل، فبعض الأحيان قد يحصل عند الإنسان في اجتهاده اختلاف على حسب الأدلة والأوقات، ولذلك قالوا: كل صلاةٍ يستأنف الاجتهاد فيها وهذا هو الصحيح، حتى يكون محصِّلاً للأصل، وهو كونه مطالباً بالنظر والاستدلال.
قال رحمه الله تعالى: [ويصلي بالثاني ولا يقضي ما صلى بالأول].
إذا اجتهد ثانية لا يخلو من حالتين: إما أن يوافق اجتهاده الثاني اجتهاده الأول فلا إشكال، كما لو صلى العشاء على هذه الناحية، فلما استيقظ الفجر اجتهد فوجد أن القبلة على هذه الناحية، لكن الإشكال لو أنه صلى العشاء على هذه الناحية، ثم اجتهد فوجد أن القبلة في هذه الناحية أو على العكس تماماً من الجهة التي استقبلها، قالوا: يصلي على اجتهاده الثاني ومضت صلاته على اجتهاده الأول؛ لما ثبت عند أبي داود والدارقطني والبيهقي وحسنه غير واحد من حديث سعد بن عامر رضي الله عنه: (أنهم كانوا في سفر في ليلةٍ ذات غيم فأرادوا الصلاة فنظروا -أي: اجتهدوا-، فلما أصبحوا إذا بهم على غير قبلة، قال: فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد مضت صلاتكم) أي: ما دمتم أنكم اجتهدتم وتحرَّيتم فقد مضت صلاتكم، أي أنها معتبرةٌ وصحيحة.(36/10)
الأسئلة(36/11)
حكم صلاة الفريضة داخل الحِجْر
السؤال
هل تصح صلاة الفريضة داخل الحِجْر؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة تقدّم الكلام عليها، والحِجْر آخذ حكم داخل البيت؛ لأن الحجر تُرِك منه ستة أذرع، واختُلِف فيما هو زائد على ستة أذرع، كما ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من البيت قدر ستة أذرع وشيء، واختُلِف في هذا الشيء، وتكلَّم عليه المؤرخون الذين تكلموا على تاريخ مكة والكعبة، فقال بعضهم: إنه يصل إلى النصف، وقال بعضهم: إنه دون النصف بقليل.
فهذا القدر يُعتبر من البيت، فإن صلى في هذا الحد وقع الخلاف الذي ذكرناه، أما لو أنه صلى فيما هو خارجٌ عنه، -أي: وراء الستة الأذرع والنصف- فإن صلاته صحيحة ومعتبرة، والله تعالى أعلم.(36/12)
حكم النظر إلى الكعبة أثناء الصلاة في الحرم
السؤال
إذا كان الإنسان داخل الحرم فهل يلزمه أن ينظر إلى عين الكعبة أم ينظر إلى موضع سجوده؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء رحمة الله عليهم، قال بعض أهل العلم: من صلَّى فإنه يضع وجهه قِبَلَه ولا يضعه جهة السجود، وذلك لأن الله عز وجل يقول: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، وأما ورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرمي ببصره إلى موضع سجوده، فقالوا: لا مانع أن يكون الأصل أنه كان يرمي ببصره إلى حيث أُمِر، ثم إنه يرمي إلى موضع سجوده في بعض الأحيان، كما يقع من الإنسان الخاشع، فهذا وجه من يقول: إنه يستقبل جهة القبلة ويجعل بصره أمامه.
وأكدوا هذا أيضاً فقالوا: لأنه يحقق مقصود الشرع، فإنه لو مر أحدٌ بين يديه ينتبه له، ولكن إذا كان رامياً إلى موضع سجوده فقد يكون أقل انتباهاًَ لمن يمر، ولذلك قالوا: إن الأفضل والأولى أن يجعل وجهه قِبَل القبلة، بمعنى أنه يرفعه.
وقال بعض العلماء: السنة أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وذلك لثبوت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا صلى رآه الصحابة رامياً ببصره إلى موضع سجوده) صلوات الله وسلامه عليه.
قالوا: وهو أيضاً يحقق مقصود الشرع؛ لأنه أقرب إلى الخشوع.
وجاء حديث أم سلمة يؤكد هذا، وهو: (أن الناس كانوا إذا صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت أبصارهم لا تفارق موضع سجودهم، ثم لما قُتِل عمر رضي الله عنه نظروا أمامهم، فلما قتل عثمان أخذوا يميناً وشمالاً)، أي: على حسب الفتن، نسأل الله السلامة والعافية.
فكان الخشوع موجوداً فيهم، ثم لما حصلت الفتن أصبح الناس يسلبون الخشوع شيئاً فشيئاً، كما جاء في حديث الدارمي: (إن أول ما يرفع من العلم الخشوع).
فالمقصود أنهم قالوا: إن أم سلمة أثبتت هذا، فدل على أن مقصود الشرع أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وهذا القول في الحقيقة أقوى، وبناءً على ذلك إذا كان في مكة أو داخل البيت فإنه يأخذ بالسنة من الرمي إلى موضع السجود، وإن رفَع بصره إلى جهة الكعبة فلا حرج، لكن الذي تطمئن إليه النفس ما ذكرناه لورود الخبر مع تحقيق مقصود الشرع من الخشوع.
وما ذكروه من دفع المصلي فإننا نقول: إذا تعارضت فضيلتان: الانتباه لدفع المصلي وخشوع المصلي، فإن خشوع المصلي متصلٌ بالصلاة، وفضيلته متصلة من هذا الوجه، ودفع المصلي منفصلٌ عن الصلاة ففضيلته منفصلة من هذا الوجه، فتُقدَّم الفضيلة المتصلة على الفضيلة المنفصلة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.(36/13)
استقبال القبلة لصلاة الفريضة في الطائرة
السؤال
في بعض الأسفار تطير الطائرة لمدة ثلاث عشرة ساعة أو أكثر، ويتعذر استقبال الكعبة، فكيف تصلى الفريضة؟
الجواب
بالنسبة للأسفار الطويلة في الطائرة فإنه يلزمه أن يستقبل جهة الكعبة، فيقوم ويأتي في هذا الممر؛ لأنه لا بد من وجود أوقات يمكن أن يستقبل فيها القبلة حتى ولو يؤخر إلى آخر الوقت، وإذا كان الناس يمرون أخر إلى آخر الوقت، وهذا مما يُستثنى من النهي عن الصلاة في قارعة الطريق، فإن النهي عن الصلاة في قارعة الطريق أضعف من أن يمنع المكلف من ركن الصلاة الذي هو القيام والركوع والسجود.
ولذلك الأقوى -كما اختاره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم والنفس تميل إليه- أنه إذا جاء وقت الصلاة يقوم فيستقبل جهة مكة أو جهة الكعبة، وخاصة في بعض الرحلات حيث يتيسر فيها وجود البوصلة التي تدل على الجهة، فحينئذٍ يستقبل الجهة، ثم يصلِّي ولو في الممر، كأن يأتي في آخر الممر ويبسط سجادة ثم يصلي، فيأتي بالقيام والركوع والسجود والجلوس، لكنه لو جلس على كرسيه فلا يستطيع القيام ولا الركوع ولا السجود، فيُذهِب ما لا يقل عن ثلاثة أركان من أركان الصلاة، ولذلك لا يُخفَّف؛ لأنه بإمكانه أن يُحقِّق هذه الأركان بهذا الموضع، ولذلك تُغتفر صلاته في الطريق؛ لأن حديثها ضعيف، وتبقى الأركان المأمور بها على الأصل، ولأن قارعة الطريق إنما نُهِي عنها لوجود الضرر، وخاصة في الطائرات التي تكون ممراتها متعددة، فالضرر غير موجود؛ لأنه إذا صُلِّي في هذه الطريق فيمكن أن يلتمس المارُّ طريقاً آخر، فالذي يظهر أنه يمكن من الصلاة على الصفة التي ذكرناها في كل وقتٍ بحسبه، والله تعالى أعلم.(36/14)
حكم السترة في الحرم
السؤال
ما الحكم في سُترة المصلي داخل الحرم؟ وهل يعذر في قطع الصلاة بسبب الزحام ونحوه؟
الجواب
النصوص في السترة عامةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين قبلته أحد فليفعل)، وسئل عليه الصلاة والسلام عن سترة المصلي فقال: (مثل مؤخرة الرحل)، فلا يضره من مر وراء ذلك، وقال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً) فهذه كلها تدل دلالةً واضحةً على اللزوم.
وبناءً على ذلك نظرنا في هذا النص فوجدناه عاماً لم يفرق بين كون الإنسان داخل المسجد أو خارجه.
وقال بعض العلماء باستثناء مكة وداخل المسجد، والحديث في ذلك ضعيف، فلم يصح حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم باستثناء داخل الكعبة، وإنما استثناه العلماء بهذا الحديث الضعيف وبالنظر -أي: الاجتهاد- فقالوا: إنه داخل المسجد يرى الكعبة، فلا حرج أن يمر أحدٌ بين يديه ولا يقطع صلاته وهذا اجتهاد في مقابل عموم النص فيُقدَّم عموم النص عليه، والصحيح أنه لا بد من السترة، بل ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته إلى السترة في داخل مكة.
ففي الصحيحين من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبةٍ له حمراء من أدم -وهذا بعد أن فرغ من المناسك ونزل عليه الصلاة والسلام- قال: فأتاه بلال بوضوءٍ.
إلى أن قال: ثم رُكزت له العَنَزَة).
وهذا يدل على أن داخل مكة كخارجها سواءً بسواء، والحديث ضعيف فيُبقى على عموم النص، ويستوي من كان بالداخل والخارج.
لكن لو أن إنساناً غُلِب بمرور الناس فليتنح إلى ناحية ليس فيها أُناس، خاصة إذا كان يريد أن يصلي صلاةً واجبةً عليه، كأن يقضي ظُهراً أو عصراً، أما أن يأتي في المطاف مثلاً، أو بجوار المطاف أو المقام، ويريد أن الناس لا تمر بين يديه فإنه يعتبر كالمتسبب لنفسه في مرور الناس، فلو ظن أنه لا يمر بين يديه أحد وغلبه الناس فلا حرج، فلو قام يصلي سنة الظهر، أو ليصلي صلاة رغيبة الفجر فجاء الناس ومروا بين يديه وغلب عليهم فلا حرج؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن يدفع إذا حصل الضرر عليه بغلبة الناس له، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(36/15)
شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [8]
من المعلوم أن النية في العبادة لها شأن عظيم، خاصة في الصلاة؛ لأنها هي التي تميز بين الفريضة والنافلة، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على اشتراطها في الصلاة، ومحلها هو القلب، ولها أحوال وأحكام ينبغي معرفتها.(37/1)
شرط النية في الصلاة ودليله
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها النية] ما زال المصنف رحمه الله يبين شروط الصلاة، وقد تقدمت جملٌ منها وبقي هذا الشرط الأخير وهو شرط النية، فقوله رحمه الله: [منها] أي من الشروط التي ينبغي توفرها للحكم بصحة الصلاة وجود النية.
والنية في اللغة: القصد، يقال: نوى الشيء ينويه نيةً (بالتشديد) ونيةً (بالتخفيف)، أي: قَصَدَه.
وأما في الاصطلاح: فهي القصد لفعل العبادة تقرباً إلى الله عز وجل، وقد تقدم الكلام على هذا الضابط وبيان الفرق بينه وبين من عبر بالعزم.
أي: يشترط لصحة الصلاة أن تنويها، فإذا فقدت النية حكم بعدم اعتبار الصلاة، وهذا ينبني عليه أنه لا تصح فريضةٌ إلا بنية، ولا نافلةٌ معينةٌ إلا بنية، أما إذا كانت الصلاة من النفل المطلق فإنها لا تُشترط لها النية، وإنما يقصد التقرب إلى الله عز وجل بفعل الصلاة.
والدليل على اشتراط النية قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، فهذا الحديث المتفق على صحته دل على أن اعتبار الأعمال وصحتها مترتبٌ على النية، وإذا ثبت أن الأعمال اعتبارها موقوفٌ على النية يتفرع عليه ألا عمل إلا بنية.
والصلاة من الأعمال، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها عملاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملاً، وقال في حديث عمر في الصحيحين: (إنما الأعمال بالنيات).
فللإنسان أن يقول: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت بحديث عمر أن الأعمال اعتبارها وصحتها بالنية، والصلاة عملٌ كما ثبت في الحديث الصحيح الذي ذكرنا، إذاً لا صلاة إلا بنية.
وعلى هذا فإنه إذا لم ينو الصلاة فإنها لا تصح، فلو لم ينو الظهر وصلى أربعاً لم تصح لإبراء ذمته، فيُطالب بإعادة الظهر، ولو صلى أربعاً في وقت العصر ولم ينو أنها عن العصر فإنها تقع نفلاً محضاً، ويُلزم بفعل صلاة العصر، وهكذا في المغرب والعشاء والفجر، فلا بد من قصد الصلاة وتعيينها.(37/2)
حكم استحضار النية عند الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [فيجب أن ينوي عين صلاةٍ معينةٍ، ولا يشترط في الفرض والأداء والقضاء والنفل والإعادة نيتهن].
قوله: (فيجب) الفاء للتفريع، أي: إذا علمت أن النية لازمةٌ فإنه يتفرع على ذلك أنه يجب على المكلف أن ينوي الصلاة المعينة، ويستوي في ذلك أن تكون فريضةًَ أو نافلة، فالصلاة المعينة من الفرائض كصلاة الظهر ينوي أنها ظهر، وصلاة العصر ينوي أنها عصر، وهكذا المغرب والعشاء والفجر، وهكذا لو نذر صلاةً؛ فإن الصلاة المعينة تنقسم إلى قسمين: نفل وفرض، فالفرض كالصلوات الخمس، وفي حكمها الصلاة المنذورة، فلو أن إنساناً قال: لله عليّ أن أصلي اليوم مائة ركعة؛ فإنه حينئذٍ يُلزم بهذه المائة، ويُعتبر نذراً يجب الوفاء به؛ لأنه نذر طاعة، فيجب عليه أن يعين هذه الصلوات التي يصليها لنذره.
وهكذا بالنسبة للنافلة، والنافلة تنقسم إلى قسمين: النافلة المعينة والنافلة المطلقة التي هي غير مقيدةٍ، كإنسانٍ يريد أن يتقرب إلى الله عز وجل بصلاةٍ دون أن تكون لراتبةٍ أو وترٍ أو نحو ذلك، فالمقصود أن النافلة تنقسم إلى هذين القسمين: نافلةٍ معينة كالوتر والسنن الراتبة القبلية والبعدية وصلاة الضحى، فهذه توصف بكونها نافلةً معينة، ونافلةٌ مطلقةٌ، كإنسانٍ يريد أن يتقرب إلى الله، فتوضَّأَ وصلى ركعتين -على القول بأن ركعتي الوضوء ليست من النوافل المعينة-، أو صلى ناوياً التقرب إلى الله عز وجل بمطلق النفل، فهذه تعتبر نافلةً غير مقيدة.
فإذا ثبت أن الفرائض معينة، وهناك نوافل معينة وغير معينة فيجب عليك إذا أردت أن تؤدي الفرائض أن تعيِّنها، فتعيِّن الظهر وتعين العصر وهكذا بقية الفروض، وتعيِّن الوتر وتعين السنن الراتبة في النوافل، فلو أن إنساناً أحرم قبل صلاة الظهر بين الأذان والإقامة دون أن يُعيِّن أنها للراتبة القبلية صحت نفلاً مطلقاً، ولا نقول: إنها تحل محل الراتبة القبلية؛ لأن الراتبة القبلية نافلةٌ مقيدة ومعينة، فلا بد من تعيينها والقصد إليها، فإذا لم يُعينها ولم يَقصد إليها فإنها لا تعتبر لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فهذا نوى النافلة المطلقة فلا تجزيه عن النافلة المقيدة.
وقوله: [ولا يشترط في الفرض والأداء والقضاء والنفل والإعادة نيتهن] أي: ولا يشترط في الفرض أن ينوي فرضاً، فالإنسان إذا أراد أن يصلي الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء أو الفجر لا يُشترط أن ينوي الظهر فريضةً، وإنما ينوي الظهر، فإذا نوى الظهر أجزأه ذلك.
أما تفصيل المنوي فإنه يؤدي إلى الاسترسال، والمؤدي إلى الاسترسال باطل؛ فإنه لو قلنا بوجوب أن ينوي الفرض فرضاً، لزِمه أن ينوي أداءً أو قضاءً، ثم حاضراً أو مسافراً، أربع ركعات أو ركعتين، مع إمامٍ أو منفرد، فيسترسل إلى ما يضر بالناس ويوجب الوسوسة لهم والحرج عليهم، وكل ما أدى إلى باطلٍ فهو باطل، ولذلك اكتُفي بتعيين الفرض، فإن نوى أنها للظهر فهي ظهر، فلا نلزمه بنية أنها فرض، ولا نلزمه بنية أنها أداءٌ أو قضاء.
ويتفرَّع على هذا لو دار بخلده أن الشمس لم تطلع بعد في صلاة الفجر، فأحرم بالصلاة ظاناً أن الشمس لم تطلع وفي نيته أنه يؤدي، ثم تبين أن الشمس قد طلَعت، فحينئذٍ يجزيه ولا يُطالب بالإعادة؛ لأنه لا يشترط تعيين الأداء والقضاء، فإذا أُلزِم بتعيين المؤاداة والمقضية لم يصح إيقاع إحداهما عن الأخرى، وهذا وجه إسقاط اشتراط الأداء والقضاء والفرض.
فغاية ما يطالب به المكلف أن ينوي عين الفرض، سواءٌ أكان من الفروض الخمسة أم كان من الفرائض التي جاءت بأسبابها، كركعتي تحية المسجد عند من يقول بوجوبها، ينوي أنها تحيةٌ للمسجد.
وهكذا لو قلنا بوجوب ركعتي الطواف في الطواف الركن، فإنه ينوي أنها عن طوافه الركن، وقس على هذا.(37/3)
وقت استحضار النية
قال المصنف رحمه الله: [وينوي مع التحريمة].
بعد أن بين لك رحمه الله لزوم النية، وما هو الشيء الذي يُنوى له، يرد
السؤال
أين موضع النية؟ فقال: [ينوي مع التحريمة]، أي: مع تكبيره للإحرام.
وللعلماء قولان: القول الأول: المعتبر في النية أن تصاحب تكبيرة الإحرام، ولا يصح أن تقع قبل تكبيرة الإحرام ولو باليسير.
والقول الثاني: المعتبر في النية وقوعها مع التكبير أو قبله ولو بزمنٍ يسير ما دام أنه في الوقت، كما درج عليه المصنف، والسبب الذي جعل بعض العلماء يقول: لا بد في النية أن تصحب تكبيرة الإحرام، هو البناء على أنها ركن، والركن لا بد وأن يكون من الشيء لا خارجاً عن الشيء، ولذلك قالوا: لا بد أن تصحب النية تكبيرة الإحرام.
ومن هنا لو أنها سبقت تكبيرة الإحرام فهو ركنٌ منفصلٌ عن الماهية وذات الشيء، وإذا انفصل الركن عن الماهية وذات الشيء لم يُعتد به، فهذا وجه من يقول: إذا سبقت نيته تكبيرة الإحرام لم تُجزِه، والعبرة بوقت التكبيرة.
والقول الثاني: -وهو أقوى، وإن شاء الله أنه أصح كما درج عليه المصنف رحمه الله- أن العبرة بالمصاحبة أو ما قاربه، فالصحيح أنها شرطٌ للصحة وأنها ليست بركن، وشروط الصحة منها ما يكون قبل فعل الصلاة ومنها ما يكون داخل الصلاة، ولذلك فإنه ينوي ولو قبل الصلاة بيسير، فإذا كان الفاصل يسيراً أجزأه ولا حرج عليه، بل قال بعض العلماء: إنه لو خرج من بيته بعد أذان الظهر قاصداً إلى المسجد فإنَّا نستصحب نيته التي خرج من أجلها وهي السبب الباعث، فلا نلتفت للتفصيل بعد ذلك.
والأولى والأقوى ما قلناه أنه ينبغي أن يقارب الفعل؛ لظاهر دليل السنة على لزوم أن تكون النيات مع تكبيرة الإحرام.
ومما يُصَحِّح أنه يجوز تقدمها على تكبيرة الإحرام بقليل أن المكلف عند تكبيره للإحرام يستشعر الذكر الذي يذكره وهو تكبيره لله عز وجل؛ لأن المسلم مطالبٌ أن يذكر الله وهو حاضر القلب لا غافلاً عما يقول، فلو قلنا: إن النية يلزم أن تكون مصاحبةً من كل وجه فإن هذا يؤدي إلى الاشتغال، ويكون لفظه بالتكبير دون التفاتٍ إلى المعنى؛ لأن الله تعالى ما جعل لرجلٍ من قلبين في جوفه، فأنت إذا قلت له: انو الصلاة وكبر وأنت مستشعرٌ للتكبير امتنع أن يجتمع الأمران في محلٍ واحد لا يقبل الاجتماع.
ولذلك نقول: صحة جواز كونه قاصداً قبل الصلاة بيسير يُنَزَّل منزلة القصد المصاحب، ومن القواعد المعلومة أن ما قارب الشيء أخذ حكمه، ولذلك نقول: إنه يصح منه أن ينوي وهو قريبٌ من الصلاة، ولا حرج عليه في ذلك.
وهذه النية التي تكون مصاحبةً لتكبيرة الإحرام تكون بالقلب ولا يتلفظ بها، وعلى هذا ظاهر سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو قول الأئمة الأربعة، وإنما خرَّج بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي من قول الشافعي أن الصلاة تنعقد بالقول، خرَّجوا منه وجوب النية أن تكون باللفظ ولا تكون سراً، وهذا القول الذي قاله الإمام الشافعي -أعني: إلزامه الدخول في الصلاة بالقول- المراد به تكبيرة الإحرام، وليس المراد به أن يكون متلفظاً بالنية، ولذلك لا يُتلفظ بالنية إلا في موضعين ثبتت السنة بهما: الموضع الأول: عند نية الإحرام سواءٌ أكان في حجٍ أم عمرة، والدليل على ذلك ما ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة)، ولذلك قال أنس: (كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرةً وحجاً).
أما الموضع الثاني: فهو عند ذبح النسك، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأضحية: (اللهم هذا عن محمدٍ وآل محمد)، وقوله في الحديث الثاني: (اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي) صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فدل هذا على موضعين يشرع فيهما التلفظ: عند الإحرام، وعند النسك.
أما في الصلاة فإنه لا يشرع التلفظ بالنية، ولا شك أن القول بالتلفظ بالنية متأخر عن القرون المفضلة، وهو إلى الحدَث أقرب، وقد فتح على الناس باب الوسوسة والشكوك، ولذلك تجد الرجل يقول: نويت نويت ويتردد، ويكون عنده التباس، وربما خالف لفظه ما في قلبه فيحصل عنده من الارتباك والوسوسة شيءٌ كثير، ولذلك الأولى أن يبقى على سماحة الشرع ويُسره من القصد ووجود توجه القلب بقصد القربة بهذا الفعل وهذه الطاعة لله عز وجل.(37/4)
حكم استحضار النية قبل دخول وقت الصلاة
قوله: [وله تقديمها عليها بزمنٍ يسيرٍ في الوقت] أي: يجوز له أن يقدمها على الصلاة بيسيرٍ، لكن بشرط أن يكون في الوقت، وبناءً على ذلك فمن سبقت نيته الصلاة المفروضة لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تسبق نيته وتكون خارج الوقت.
والحالة الثانية: أن تسبق نيته وتكون داخل الوقت.
فإذا سبقت نيته وكانت خارج الوقت فإنه لا يُعتد بها ولو كانت بيسير، مثال ذلك: لو أن إنساناً قبل أذان الظهر بخمس دقائق خرج من بيته ناوياً أن يصلي الظهر، فأذَّن عليه الأذان، فانقطعت نيته قبل الأذان، ثم بعد الأذان اشتغل عن النية، ثم دخل وكبر دون أن يستحضر أو يعين الصلاة التي يريد أن يصليها، فإن نيته لاغية؛ لأن النية وقعت قبل لزوم الذمة وانشغالها بفعل الصلاة، ولذلك لا يعتد بها.
وإذا كان الفاصل اليسير سابقاً للصلاة، ولكن بعد دخول الوقت، فبعد أن أذن المؤذن نويت أن تصلي الظهر وكان في نيتك أن تصلي الظهر، ثم انشغلت بقراءة كتابٍ فأقيمت الصلاة، فقمت وكبرت أجزأتك نيتك، وكانت صلاتك معتبرة.(37/5)
حكم قطع النية في أثناء الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [فإن قطعها في أثناء الصلاة أو تردد بطلت].
بعد أن بين رحمه الله أنه يلزمك أن تنوي، وألا حرج أن تنوي والفاصل يسير بشرط أن يكون داخل الوقت شَرَع في مسائل النية بعد وقوعها، وهذا من ترتيب الأفكار، فبعد أن بيّن لزومها شرع في الأحكام المتعلقة بالنية بعد وقوعها، فهذه النية التي دلّ دليل الشرع على لزومها، لو أن إنساناً تردد فيها أو شك أو قطعها فما الحكم؟ فبعد أن أثبتها بيّن ما ينقضها، فلو أن إنساناً كبّر لصلاة الظهر، ثم قطع هذه النية ونواها نافلةً أجزأه ذلك، ولكن لا تقع عن فرضه، فالنية الأولى وهي نيته للفرض ملغية بقطعه لها، فقوله بالبطلان أي: للنية الأولى.
فقطع النية الأولى بفرضٍ أو نفلٍ يوجب إلغاءها، فلا بد وأن تكون النية باقية؛ لأنه إذا قطعها لم يكن ناوياً، والشرع لا يصحح الصلاة إلا بنية.
فلذلك قالوا: حديث عمر في إثبات النية يدل على أن من قطعها لم ينو، وبناءً على ذلك إذا لم ينو فإن صلاته لا تصح ولا تعتبر لما نواه في ابتدائها، وعلى هذا لو نوى الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء أو الفجر، وفي أثناء الصلاة قطع هذه النية عن فرضه فإن هذا القطع يؤثر ويوجب إلغاء نيته الأولى، لكن لا يُحكم ببطلان صلاته؛ لأنه يمكن الانتقال من الفرض إلى النفل ومن الأعلى إلى الأدنى، فنقول: إذا قطعها واستمر متقرِّباً لله عز وجل فهذا عملٌ صالح، وتبقى نية النافلة المطلقة؛ لأن هذا عمل، فتكون نيته الأولى قد حَلَّ محلها النفل، فتقع صلاته نافلةً وتُجزيه قربةً وطاعة، هذا إذا قطعها أو تردد، أو علق على فعلٍ بالشرط -أي: علّق القطع على الشرط- كما إذا نوت امرأة في نفسها إن قام طفلها فإنها تقطع هذه النية وتقطع صلاتها أو تنتقل إلى النافلة، فهي تريد أن تصلي الظهر أربعاً وتخشى على صبيها، فقالت: لو أتممتها أربعاً ربما خرج، ولكن إذا تحرك الصبي فسأقلِبها نافلة؛ لأن الركعتين أستطيع أن أُسلِّم منهما فأدركه فحينئذٍ إذا علّقت على حركة الصبي، أو على فعلٍ ما فإن النية غير مستصحبة، ولذلك يكون هذا من التردد الموجب لعدم الاعتداد بنية الفرض، وتكون نافلةً كما ذكرنا.(37/6)
حكم الشك في النية أثناء الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وإذا شك فيها استأنفها].
هذه مسألة مشكلة، فإذا جاء الإنسان أثناء صلاته وسواس، فحدثته نفسه وهو يصلي الظهر مثلاً أنه لم ينو الظهر، فحينئذٍ قال: [استأنفا] أي: الصلاة.
والسبب في ذلك أنه إذا شك فاليقين أنه لم ينو، ومن قواعد الشريعة التي دلت عليها النصوص في الكتاب والسنة أن اليقين لا يزول بالشك، فالأصل أنه لم ينو حتى يتحقق أنه نوى، فإذا شك أنه نوى فمعنى ذلك أنه لم تبرأ ذمته المشغولة بلزوم النية، وبناءً على ذلك يلزم باستئناف الصلاة، فهذا وجه عند العلماء رحمة الله عليهم، ودرج عليه فقهاء الحنابلة والشافعية، وجمع من فقهاء المالكية والحنفية رحمة الله على الجميع.
وهذا مبني على القاعدة أن اليقين لا يزول بالشك، فقالوا: الأصل البراءة والعدم حتى يدل الدليل على الوجود، فهو مطالبٌ في الشرع بالنية، فإذا شك أنه فعل أو لم يفعل فالأصل أنه لم يفعل حتى يستبين ويستيقن أنه فعل، فلما حصل عليه الشك أثناء الصلاة أُعمل الأصل، وهو أنه لم ينو حتى يستيقن أنه قد نوى.
وقال بعض العلماء: يستمر في صلاته ولا عبرة بهذا الشك، وهذا ينبني على قاعدةٍ ثانية وهي (إعمال الظاهر)، وتعتبر هذه المسألة من تعارض الأصل والظاهر، فإن من يقول: يستأنف الصلاة يقول: إن اليقين أنه لم ينو، والشك أنه نوى، فنبقى على اليقين أنه لم ينو.
والذين يقولون: إنه يستمر في صلاته ويلغي هذا الحديث والهاجس يقولون: إن الظاهر من حال المكلف أنه لم يدخل في الصلاة إلا بنية، وبناءً على ذلك نبقى على هذا الظاهر، ونلغي هذا الشك الطارئ، ويعتبر هذا من تقديم الظاهر على الأصل.
والحقيقة أن هذه المسألة من قواعد الفقه التي ينبني عليها معارضة الأصل والظاهر.
ولكن ما هو الأصل وما هو الظاهر؟ الأصل هو الذي يكون في الإنسان سواءٌ في المعاملات أم العبادات، فلو أن إنساناً أحدث فنقول: الأصل فيه أنه محدث.
ثم شك هل توضأ أو لم يتوضأ بعد حدثه، فتقول: الأصل فيك أنك محدث، واليقين فيك أنك محدث حتى تستيقن أنك قد توضأت.
كذلك أيضاً العكس، فلو قال: أنا على يقين أنني توضأت من البيت، ثم دخل المسجد وجاءه حديث نفس أنه خرج منه شيء أو لم يخرج، تقول له: الأصل فيك بفعل الوضوء أنك متطهر، فتبقى على هذا اليقين حتى تستيقن أن الوضوء أو الطهارة قد انتقضت بالحدث، فهذا يسمى استصحاب الأصل، ويعتبره العلماء مندرجاً تحت قاعدة: (اليقين لا يُزال بالشك، أو لا يزول بالشك)، ويعتبرون هذا الأصل فرعاً عن القاعدة التي تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان.
فهذا الأصل.
فالأصل أن تنظر إلى اليقين وتبقيه وتُعمِله حتى تستيقن مثله سواءٌ كان في الطهارة أم في الصلاة، ففي الصلاة قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة)؛ لأن الأصل فيه أنه صلى واحدة، والشك أنه صلى الثانية، فيبقى على الواحدة.
كذلك في الزكاة، فلو أنه قال: أنا أشك في كوني أخرجت زكاة هذه السنة أولاً، نقول: الأصل أن ذمتك مطالبةٌ بالزكاة وعلى شكٍ أنك أخرجتها، فتبقى على اليقين من كونك مطالباً بالزكاة.
وفي الصوم لو شك هل طلع الفجر أو لم يطلع، فإننا نقول: الأصل أن الليل باقٍ حتى تستيقن أن النهار أو الفجر قد طلع فيحرُم عليك الأكل.
وفي الحج لو شك -مثلاً- في الطواف هل طاف خمساً أو ستاً، نقول: ابن على خمس.
ولو شك هل فعل الطواف أو لم يفعله، فاليقين أنه لم يفعله، فهذا بالنسبة للعبادات.
وفي المعاملات لو أن إنساناً تعامل مع غيره، كبائع ومشترٍ اختصما إليك، فقال أحدهما: هذا اشترى مني هذا الكتاب ولم يدفع لي المال، فسألت الخصم: هل اشتريت الكتاب؟ قال: نعم، ولكني دفعت المال.
فالأصل أن الذي اشترى مطالب بقيمة الكتاب، فتقول: إما أن تأتي بدليلٍ على أنك دفعت القيمة، وإلا أُلزِمت بالقيمة؛ لأن الأصل أنك مدين؛ لأنك باعترافك أنك اشتريت الكتاب فأنت مدين، فهذه قاعدة عامة في العبادات والمعاملات.
كذلك لو شك هل طلق امرأته أو لم يطلقها، فنقول: اليقين أنها زوجته، والطلاق شك، فنبقى على اليقين من كونها زوجةً له، ولو شك هل طلق طلقة أو طلقتين، بنى على أنها طلقة، وقس على هذا، إذاً هذه القاعدة يُعتبر فيها الأصل.
لكن هناك دلالة الظاهر، ودلالة الظاهر تقع في العبادات والمعاملات، ففي العبادة لو أن إنساناً رأى ماءً في موضع نجاسة، مثل الماء الذي يكون في دورات المياه، فإن الأصل في الماء أنه طاهر، والشك أنه نجس، لكن كونه في دورة المياه الظاهر منه أنه نجس، فنقول: هنا نقدم الظاهر على الأصل.
ولو أن اثنين اختصما في دابة، أحدهما على صدر الدابة أمامها، والثاني وراءه، فإن الظاهر أن الدابة ملكٌ للذي في الأمام؛ لأن قائد الدابة يكون في الأمام، ويكون هو المدَّعَى عليه، والذي خلفه مدعٍ، مع أن القاعدة هنا قدمنا فيها الظاهر، فعندنا ظاهر وعندنا أصل.
فهنا حينما تقول: المكلَّف ما دخل المسجد ولا كبَّر في الصلاة ولا قرأ ولا ركع ولا سجد إلا والظاهر أنه ناوٍ؛ لأن الظاهر من حال الإنسان أنه لا يدخل في الصلاة إلا بنية، ثم إذا نظرت إلى الأصل أن ذمة المكلف مطالبة بفعل الصلاة تقول: إنني أُلزِمه بقطع الصلاة، وأعتبر ما قاله غير مُعتدٍ به لأنه شك، والشك عندي لاغٍ بالأصل.
هذا بالنسبة لقضية الظاهر والأصل في تكبيرة الإحرام هنا، فمن يقول: يستأنف الصلاة نقول له: المسألة تحتاج إلى تفصيل: فيتم الصلاة نافلة؛ لقوله تعالى: {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، ثم إذا سلَّم يشرع من جديد، ويبتدئ صلاةً مفروضة بنيةٍ من أولها، وهذا القول أوجه وأقوى من حيث الأصول والقواعد؛ لأن عندنا دليلاً في الشرع يُلزِم بالنية، والظاهر هنا ضعيف؛ لأن الظاهر تكون دلالته في بعض الأحيان قوية، وبعض الأحيان تكون ضعيفة، فنظراً لوجود دليل الشرع بإلزام المكلف بالنية نُغَلِّب الأصل، ونقول: تقديم الأصل في هذا أشبه، وهو مذهب الجمهور رحمة الله عليهم.
فلذلك نقول: لو أن إنساناً شك في أثناء الصلاة هل نوى الظهر أو لم ينوه يستأنف.
وإذا ثبت أنه يستأنف، بمعنى أنه يتمها نافلة ثم يكبر من جديد فحينئذٍ يرد
السؤال
هل هذا الحكم بإطلاق؟
و
الجواب
لا، فيُستثنى من هذا الموسوس، فمن كانت عنده وسوسة لا يلتفت إلى هذا الشك، ونبقى على الظاهر؛ لأن في مثله الظاهر أقوى، الموسوس والمسترسل إذا كان معهما الوسواس فهذا لا يؤثر في نيته ما طرأ عليها؛ لأنه لو فتح عليه هذا الباب لما صلى صلاةً بسبب ما يشتغل به من الوساوس، والتكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن يطالَب كل فترة بقطع الصلاة؛ لأنه يدخل عليه بل يزيده بلاءً، فيُستثنَى من هذا الموسوس، ونقول: إنه يستمر في صلاته؛ لأن وجود الوسوسة معه يدل على ضعف الأصل وقوة الظاهر.(37/7)
حكم قلب نية الفرض نفلاً
قال المصنف رحمه الله: [وإن قلب المفترض فرضه نفلاً في وقته المتسع جاز].
هذه من المسائل بعد وجود النية، فنحن قلنا: إن الإنسان إذا شك أو قطع أو تردد فحكمه أنه يستأنف، وبيّنا مسألة الشك.
والسؤال هنا: لو أن إنساناً أراد أن يقلب نيته من الفرض إلى النافلة، كشخصٌ يصلي الظهر ثم أراد أن يقلب هذا الفرض الذي نواه فرضاً إلى نافلة أثناء الصلاة فهل من حقه ذلك أو لا؟ مذهب الجماهير على أن من حقه ذلك ولا حرج عليه أن ينوي النافلة، ولكن هنا تفصيل عند بعض العلماء، فمن يرى وجوب صلاة الجماعة يقول: إذا نوى أن ينتقل إلى النفل في فريضةٍ ولا يتيسر له وجود الجماعة بعده فإنه لا يجوز له ذلك؛ لأنه يفوت أمر الشرع بحضور الجماعة، وهو ملزم بهذه الجماعة التي هو فيها، ولذلك لا يصح انقلابه من الفرض إلى النفل؛ لأن الصلاة متعينةً عليه، كذلك أيضاً يستثنى -كما ذكر المصنف- أن يكون الوقت غير متسع إلا لبقية الفريضة، فلو كان في آخر الوقت بحيث لو قلبها نافلة خرج عليه الوقت فحينئذٍ لا يصح القلب؛ إذ لا يصح التنفل مع انشغال الذمة بالواجب.
ولذلك من أصول الشريعة أنها تلغي التنفل مع اشتغال الذمة بالفرض، حتى المعاملات، فإنه لما اعتق رجلٌ غلمانه عن دبرٍ وعليه دين ألغَى النبي صلى الله عليه وسلم هذا العتق، وباع الغلمان، وسدد دينه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان هذا في حقوق العباد فحق الله أولى وأحرى، كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالانتقال من الفريضة إلى النافلة يُفصَّل فيه: فإن اتسع الوقت جاز، إلا إذا كان في جماعةٍ ولا يمكنه أن يحصل غيرها.
أو إذا كان الوقت ضيقاً بحيث إذا صلى نافلةً خرج عليه وقت الفريضة، فحينئذٍ لا يصح منه قلب النية؛ لأنه يفوت مقصود الشرع من إيقاع المكلف للعبادة على وجهها المعتبر.(37/8)
صور انتقال النية
قال المصنف رحمه الله: [وإن انتقل بنيةٍ من فرضٍ إلى فرضٍ بطلا].
للانتقال في النية صورٌ: الصورة الأولى: أن ينتقل من الأعلى إلى الأدنى، فإنه يجوز، وهذا كما قررنا أنه ينوي الفرض ثم يقلبه إلى النافلة.
الصورة الثانية: أن ينتقل من الأدنى إلى الأعلى، ولا يجوز قولاً واحداً، كإنسانٍ كبر في صلاته ناوياً النفل المطلق، فحينئذٍ لا ينقلب إلى فريضة، ولا ينقلب إلى نافلةٍ مقيدة، فلو كبر ناوياً النفل المطلق والتقرب إلى الله بهاتين الركعتين ولم يعين فيهما شيئاً، ثم طرأ عليه أن يقلبهما سنةً راتبةً قبليةً للفجر نقول: السنة الراتبة القبلية في الفجر في حكم الشرع آكد من النفل المطلق، ولذلك لا يجزيه أن ينتقل من هذا الأدنى إلى الأعلى، كما لا يجزيه أن ينتقل من النفل المطلق إلى الفريضة؛ لأن المقصود في الشرع واحد، وهو ارتفاع درجة الثاني عن الأول.
الصورة الثالثة: أن يكون الانتقال من النظير إلى نظيره ولا يخلو من حالتين: إما أن يكون في النوافل، وإما أن يكون في الفرائض، ففي الفرائض ينتقل من الظهر إلى العصر، وفي النوافل ينتقل من سنة إلى سنة، فتكون هذه راتبة وهذه راتبة، فلو أراد شخص أن يصلي ركعتي الضحى فهذه نافلة معيّنة، ثم لما أحرم بركعتي الضحى تذكّر أنه لم يصل راتبة الفجر فحينئذٍ ينتقل من النظير إلى نظيره، من نافلةٍ معينة إلى نافلةٍ معينة.
فإذا كان انتقاله من فرض إلى فرض بطل الفرضان الأول والثاني، أما الفرض الأول فإنه بطل لقطعه للنية، وذلك أنه فيما استقبل من الصلاة لم يستصحب نيته التي أُمِر باستصحابها، ولذلك لم ينو، فلو أنه انتقل من الظهر إلى العصر وهو في الركوع، أو عند ركوعه للركعة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة فإن ما وقع من الصلاة من تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة وقع عن فرضه، ثم ما وقع بعد تجديد النية وقع بنية لفرضٍ ثان، فقَطَع به الفرض الأول فأشبه ما لو لم ينو.
وبناءً على ذلك إذا قَطَع النية بفرضٍ محل فرضٍ ألغي الفرض الأول لمكان القطع، ولظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، قالوا: مفهومه أن من لم ينو شيئاً لا يكون له.
وبناءً على هذا يبقى النظر في الفرض الداخل، فالفرض الداخل باطل؛ لأن من شرط نية الفرض أن تكون عند تكبيرة الإحرام، وهذا الفرض وقعت نيته في الأثناء، ولا يصح إيقاع النية في الأثناء، إنما المعتبر في النية أن تكون قبل تكبيرة الإحرام، أو مع تكبيرة الإحرام.
وبناءً على ذلك لا يصح منه أن يُدخل نية فرضٍ على فرض.
ويبقى
السؤال
هل تبطل صلاته أو تنتقل إلى النافلة؟
و
الجواب
تنتقل نفلاً محضاً، وبناءً على هذا إذا نوى من فرضٍ إلى فرض فإنه ينتقل إلى النفل المحض.
وأما إذا انتقل من نافلةٍ معينة إلى نافلةٍ معينة فهذا للعلماء فيه خلاف، قال بعض العلماء: إن الانتقال من المثل إلى المثل يسري حتى في النوافل، وقال بعض العلماء: النافلة أهون من الفرض، فيُخفف فيها.
ولكن القول بأن النافلة المعينة كالفريضة المعينة أقوى من جهة الأصول وكمسلك أصولي صحيح؛ لأن التعيين في كلٍ منهما يُوجِب إلحاق النظير بنظيره، وبناءً على ذلك يقوى أنه ينتقل إلى نفلٍ محضٌ سواءٌ أكان انتقاله في فريضةٍ أم نافلة.(37/9)
حكم استحضار الإمام نية الائتمام بالناس
قال المصنف رحمه الله: [ويجب نية الإمامة والائتمام].
قوله: [ويجب نية الإمامة] أي: على الإمام أن ينوي أنه إمامٌ لمن وراءه ومؤتمٌ به، وذلك لحصول الجماعة، وفي الجمعة آكد، ولذلك قالوا: إنه يُلزَم بنية الإمامة في الجمعة.
وقال بعض العلماء بعدم وجوب النية، أي: عدم لزومها، بحيث لو لم ينو الإمامة صَحّ اقتداء المأموم به، وهذا مبنيٌ على مسألة وهي حمل الإمام عن المأموم، فمن يرى أن الإمام يحمل عن المأموم فإنه يقول: لا يصح حمل الإمام عن المأموم إلا بنية، فيجب على الإمام أن ينوي، وهذا يقوى على مذهب من يقول: إن المأموم لا يقرأ الفاتحة وراء الإمام، ويُقوِّي هذا، فكأنه يرى أن صلاة المأموم مبنية على صلاة الإمام، فحتى يقع هذا الحَمْل، وتقع هذه العبادة على الوجه المعتبر فإنه لا بد وأن ينوي، فلو ائتممت بإنسانٍ لم يعلم بك فإنه لا يصح هذا الائتمام، وبناءً على ذلك يقولون: تبطل الجماعة، ولا تقع صلاته جماعةً إذا لم ينو الإمام الجماعة.
وأما على مذهب من يقول: إن الإمام لا يَحمِل الفاتحة فالأمر أخف؛ لأنه لا يرى أركاناً تترتب على هذا، بخلاف ما إذا حَمَل عنه الفاتحة، فإنه يحمل ركناً من أركان الصلاة، ويرى أن صلاة المأموم مربوطة بصلاة الإمام بحكم الشرع، ولكن كونه ينوي الإمامة قالوا: يكون بتحصيل الفضيلة له، لكن لا يُحكم بإثمه ولزوم ذلك عليه.
والحقيقة أن الأقوى والذي ينبغي دائماً في مسائل الإمامة أن يُحتاط للناس، فينوي الإئمة ولو كان الأمر خلافياً، ولو ترجَّح عند الإنسان أنه لا ينوي فينبغي عليه أن ينوي حتى يصون صلاة الناس عن الخطأ، وكما ذكرناه غير مرة أن من آداب الإمامة مراعاة الخلاف، وقد نبه على هذا غير واحد من الأئمة، منهم الإمام الحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والحافظ ابن حجر، وأئمة العلم رحمة الله على الجميع، وذكروا أنه ينبغي على الإمام أن ينتبه للخلاف، فيُخرِج صلاة الناس من الشبه دائماً في الأمور اللازمة، فيحتاط لها حتى تقع صلاة الناس على وجهٍ معتبر، فهذا من النصح للعامة.(37/10)
صيرورة المنفرد مؤتماً أو إماماً
قال رحمه الله تعالى: [وإن نوى المنفرد الائتمام لم يصح كنية إمامته فرضاً].
قوله: [وإن نوى المنفرد الائمتام لم يصح] ذلك أنه لما أحرم لزمته الصلاة، ولزمته قراءة الفاتحة، فكان أصله أقوى، ولذلك يقرر العلماء أن المنفرد أقوى من المأموم، وبعض الأحيان تجد المنفرد في حكم الإمام، وتجب على المنفرد أشياء لا تجب على المأموم كالتسميع والتحميد، فإنه يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وتكون واجبة في حقه، لكن لو كان مأموماً فإنه لا يجب عليه التسميع، وإنما يجب عليه التحميد وحده.
كذلك أيضاً في حَمْل السهو منه إذا كان مأموماً، فلا يحمل سهو نفسه، ولا يحمل غيره عنه سهو نفسه إذا كان منفرداً، فكأن المنفرد بمثابة الإمام.
فقالوا: لا يصح من المنفرد أن ينتقل مأموماً، وصورة المسألة: لو دخلت المسجد بعد أن انتهى الناس من صلاة الفريضة فكبرت للصلاة، فبعد أن دخلت فيها منفرداً جاءت بجوارك جماعة وانعقدت، بحيث يمكنك أن تخطو حتى تدخل في صفها، أو اقتربت منك بحيث يمكن أن تلتصق بمن بجوارك وتعتبر مأموماً لهذا الإمام، فحينئذٍ إن قلنا: يصح للمنفرد أن ينتقل مأموماً يجوز لك أن تدخل في هذه الجماعة، والصحيح أنه لا يجوز له، وخاصةً على مذهب من يرى أن الإمام يحمل عن المأموم الفاتحة، فقد تعينت عليه الفاتحة، وبانتقاله ينتقل من الأعلى إلى الأدنى على وجهٍ يُفوِّت الواجب الذي ذكرناه وهو قراءة الفاتحة عليه، فقالوا: لا يصح انتقال المنفرد مأموماً كما لا يصح انتقال الإمام مأموماً، فهذا مذهب من يقول بعدم صحة الانتقال.
وقوله رحمه الله: [كنية إمامته فرضاً] أي أنه لا يصح أن يدخل المأموم وراء المنفرد إذا طرأ عليه أثناء الصلاة.
والصحيح أنه يجوز له ذلك؛ لأن من العلماء من قال: لا يصح في الفرض إلا أن يكون من ابتداء الصلاة.
والصحيح أنه يستوي الفرض والنفل في ذلك، وقد ثبت من حديث ابن عباس في الصحيحين أنه قال: (نمت عند ميمونة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها في تلك الليلة، فتوضأ ثم قام يصلي، فقمت عن يساره، فأخذني فجعلني عن يمينه)، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح الصلاة منفرداً، ثم آل أمره إلى كونه إماماً، فالمنفرد والإمام بمرتبةٍ واحدة، فيجوز له أن يصير إماماً سواءٌ أكان في فرضٍ أم نافلة.
فلو دخلت بعد صلاة الظهر لوحدك وأقمت الصلاة وكبّرت، فجاء رجل صح له أن يدخل معك حتى تصير لك الجماعة، وقد ثبت بذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً يصلي لوحده بعد إن انقضت الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: (من يتصدق على هذا؟ فقال أبو بكر: أنا.
فقام أبو بكر فصلى معه)، فدل على أنه يجوز للمنفرد أن يصير إماماً، وبناءً على ذلك يصح منه أن يكون في النفل، أو يكون في الفرض.(37/11)
حكم المفارقة للمؤتم بلا عذر
قال المصنف رحمه الله: [وإن انفرد مؤتمٌ بلا عذرٍ بطلت].
أي: إذا كنت مأموماً وأردت أن تنفرد عن إمامك فتصير منفرداً، لتنتقل من الأدنى وهو كونك مأموماً إلى الأعلى وهو كونك منفرداً، فقال: [لم يصح].
أي: أنه لا يصح من المكلف أن ينفرد عن الإمام وذلك لارتباط صلاته بصلاة الإمام.
وقد ينفرد بعذر ويستوي في ذلك أن يكون العذر متعلقاً به أو بغيره، فمثال تعلقه به: كإنسان استفتح إمامه بسورةٍ طويلة، ومعه مرَض -كما يجري لبعض من ابتُلِي بالسكر ونحوه- فيضيق عليه الحصْر، ويَخشى أن يستضر بهذا، فيحتاج إلى قطع الصلاة، فيقطع الصلاة مع إمامه، أي: نية الائتمام، ويبقى منفرداً يتم لنفسه.
وأما ما يتعلق بغيره فكامرأةٍ خافت على صبيها وهي مأمومة، فتنفرد وتُتِم لنفسها عند خوف الضرر عليه ثم تدركه؛ لأنها مصلحةٌ قد تصل إلى الضرورة، وأقلها الحاجة.
وبناءً على ذلك إذا احتاج الإنسان للقطع لمصلحته أو مصلحة غيره جاز، كما قال المصنف: [لعذرٍ]، فيستوي أن يكون العذر في الشخص أو في غيره، لكن إذا علمنا أنه يجوز للإنسان عند العذر أن ينفصل عن إمامه ولا يجوز له عند عدم العذر، فما الدليل على الجواز؟
و
الجواب
الدليل على الجواز ما ثبت في الحديث الصحيح عند مسلم أن معاذاً رضي الله عنه استفتح الصلاة بقومه ثم قرأ بالبقرة، فتخلف أو انفرد رجلٌ عن الصف، فأتم لنفسه، ثم رجع إلى بيته، فأُخبِر معاذ بخبره، فقال: إنه منافق، فقال: لست بمنافق.
ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن معاذاً يصلي معك ثم يأتينا بآخرته، وإنا أصحاب حرثٍ وزرع، ثم ذكر القصة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أفتانٌ أنت يا معاذ؟ أفتانٌ أنت يا معاذ؟) الحديث، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الرجل إتمامه لنفسه، وذلك لوجود العذر.
ومن ثمّ قالوا: إنه يجوز للإنسان عند وجود العذر أن ينفرد عن إمامه إذا خشي إطالته، وغلبة الظن كالتحقيق، فإذا كنت تعرف الإمام، أو يغلب على ظنك أنه يطيل وانفردت عنه كأنك متحققٌ أنه يطيل، والقاعدة أن الغالب كالمتحقق، وبناءً على ذلك لا حرج عليك لوجود العذر، وهذا من سماحة الشريعة ويسرها ورحمة الله بعباده، فإن الإنسان إذا كان معذوراً وأُلزِم أن يتم صلاته وراء الإمام استضر، ولربما حصل الضرر بغيره، كالمرأة يحصل الضرر لصبيها، وحينئذٍ يجوز للإنسان أن يقطع ولا حرج عليه.(37/12)
حكم صلاة المأموم إذا بطلت صلاة الإمام
قال المصنف رحمه الله: [وتبطل صلاة مأمومٍ ببطلان صلاة إمامه فلا استخلاف].
هذا مذهب من يرى ارتباط صلاة المأموم بالإمام، حيث يرون أنه إذا أحدث الإمام، أو حصل منه ما يوجب بطلان صلاته فصلاة المأموم وراءه باطلة.
وقال بعض العلماء: يصح أن يستخلف الإمام إذا أحدث، والصلاة بالنسبة لمن وراءه صحيحة، ثم يذهب ويتوضأ.
مثال ذلك: لو أن إماماً صلى بالناس الظهر، ثم تذكر أثناء الصلاة أنه محدث، أو أن عليه نجاسة، أو صلى وطرأ عليه الحدَث، ففي هذه الأحوال يقوم الإمام بالاستخلاف، وهذا أصح أقوال العلماء، فيشرع للإمام أن يستخلف إذا طرأ عليه العذر في الصلاة فبطلت صلاته، ويصح للمأمومين أن يُتموا فرادى، فإن استخلف الإمام اعتبر البديل خليفته ونُزِّل منزلته، وإن لم يستخلف فحينئذٍ يتم كل إنسانٍ على حدة، فسواءٌ أبنوا صلاتهم على الاستخلاف، أم أتم كل واحدٍ منهم على حدة، فصلاتهم صحيحة، وهذا مذهب الجمهور وهو الصحيح؛ لظاهر قصة عمر رضي الله عنه، فإنه لما طعن استخلف عبد الرحمن بن عوف، وجعله مكانه إماماً يصلي بالناس، فدلَ هذا على مشروعية الاستخلاف، وأنه لا حرج فيه.
وبناءً على ذلك لا يُحكم ببطلان الصلاة، ويُعتبر قول المصنف رحمه الله: [فلا استخلاف] مرجوحاً، خاصةً وأن الصحابة رضوان الله عليهم قد فعلوا ذلك، ولم يقع بينهم نكير، وهي سنة راشدة، ويكاد يكون إجماعاً من الصحابة؛ لأنها قصةٌ اشتهرت ولم يُنكرها أحد، فكان هذا أقوى في الدليل على الاستخلاف.
والذين يقولون: إنه لا يستخلف قالوا: لقصة معاوية رضي الله عنه، فإنه لما ضُرِب على عجيزته أتم الناس فرادى، ولو صحّ هذا فإنه لا يعارض ما أُثر عن عمر، ونقول: اختلف قضاء الصحابة، فيقدم قضاء عمر على فعل معاوية، فإن عمر رضي الله عنه ممن أمر بالاستنان به، فتكون رتبة الصحابي هنا أقوى من رتبته هناك.
والأمر الثاني: نعتذر لـ معاوية بانشغاله بالطعن عن الاستخلاف، وصحة الائتمام بالإمام أن يُوجَد الخليفة المستَخْلف من الإمام، وكون الإمام لم يستخلف فإنه يحمل على أنه من شدة الطعن ذُهِل عن أن يستخلف للناس، وبناءً على ذلك نقول: إن فعل عمر يعتبر مقدماً على فعل معاوية رضي الله عنه، أو نعتذر لـ معاوية، فيصبح لا تعارض بين فعل الصحابيين، فـ عمر استخلف لمكان القدرة على الاستخلاف؛ لأن نفسه كانت أقوى، وكان صبره أكثر، ومعاوية فاته الاستخلاف، أو لم يستطعه لمكان قوة الألم، وحينئذٍ نعتبر حادثة معاوية خارجة عن موضع النزاع؛ لأن النزاع على الاستخلاف، ومعاوية لم يستخلف، فيكون هذا في جانب وهذا في جانب، ويصح القول بالاستخلاف، ويقوى من هذا الوجه.(37/13)
مسألة إذا جاء الإمام الراتب وقد ائتم بالناس غيره
قال المصنف رحمه الله: [وإن أحرم إمام الحي بمن أحرم بهم نائبه وعاد النائب مؤتماً صح].
إمام الحي هو آكد من غيره، فلو أن إمام الحي استخلف إنساناً مكانه، وتقدم وصلى بالناس، فجاء إمام الحي، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: لو أن الناس قدموا رجلاً يصلي بهم لتأخر الإمام، ثم جاء الإمام متأخراً كان من حقه أن يُتِم بالناس، وذلك لقصة أبي بكر رضي الله عنه حينما قُدِّم عند اختصام بني عوفٍ وصُلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، كما في الحديث الصحيح، فتأخر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء بلال إلى أبي بكر وأمره أن يصلي، ثم أقام للناس، فتقدم أبو بكر وصلى، وفي أثناء الصلاة جاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه منشغلاً في صلاته، فنبهه الصحابة إلى ذلك، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس المراد الالتفاف الكامل وإنما كان من خشوعه رضي الله عنه أنه مقبلٌ على صلاته، فالتفت لمكان إحساسه بتسبيح الناس، فإذا به برسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: رَمَق رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، أي: الزم مكانك، فتأخر رضي الله عنه وأرضاه، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأتم بالناس.
وقال بعض العلماء: هذه المسألة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدل بآية الحجرات قالوا: هذا من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يرون أن إمام الحي إذا حضر كان من حقه أن يؤخِّر من كان بدلاً عنه.
وبعضهم يرى أن تقدُّم النبي صلى الله عليه وسلم هنا لمكان الاستحقاق في الإمامة، فتقدم أبو بكر لعذر، أو للحاجة وهي تخلف الإمام، وما شُرِع لحاجةٍ يبطل بزوالها، فالشريعة تحفظ الحقوق، فالإمام الراتب الذي رَضِي به الناس أحق، فلما تقدم لحاجة وزالت الحاجة وَجَب أن يُعاد الإمام الراتب، وأكدوا هذا بمرض الوفاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم على أبي بكر رضي الله عنه، وائتم أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، والناس بـ أبي بكر، وبناءً على هذا قالوا: إن الإمام الراتب من حقه أن يأتي -ولو كان متأخراً- ويُتِم بالناس.
فإن صلى الأول ركعتين وكنا في الظهر، ثم جاء إمام الحي، وقلنا بجواز أن يدخل إماماً في الركعتين الأخريين وتأخر الخليفة، فإنهم قالوا: يبقى المأمومون يتشهدون قياساً على صلاة الخوف، فيُتِم الإمام لنفسه ركعتين، ثم يسلم بالناس؛ لأن لها نظيراً في صلاة الخوف.
والصحيح الذي يقوى أنه ينبغي صيانة صلاة الناس عن التشويش، خاصةً وأن هذا يُحدِث للناس إرباكاً، وكثيرٌ من الناس لا يفقهون، والدليل فيه شبهة، فإن للنبي صلى الله عليه وسلم من الخصوصيات ما ليس لغيره، فيقوى القول بتخصيص هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم، خاصةً وأن أبا بكر رضي الله عنه قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا يدل على أنه فَهِم أن التقدم المنهي عنه بين يدي الله ورسوله يشمل حتى الصلاة، فاستند إلى دليل، وهذا الدليل من الخاص وليس من العام، فيقوى القول بتخصيص هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم والاحتياط فيه.
ولذلك الأولى أن إمام الحي يأتي ويدخل مع الجماعة إذا كان مسبوقاً، لكن لو كان الإنسان يرى مشروعية هذا، ويرى أن السنة عامة فله ذلك، فإذا جاء متأخراً قالوا: إنه من حقه أن يفعل ذلك وقالوا: لأن القاعدة: (لا إيثار في القُرَب)، وكونه يصلي بالناس أعظم لأجره من أن يصير مأموماً، فإنه إذا صلى إماماً أفضل له، فقالوا: من حقه أن يتقدم، خاصةً إذا كان يرى ذلك، فالأفضل له إذا كان يرى جواز ذلك أن يتقدم وأن يتأخر الإمام الذي يصلي بالناس مكانه.(37/14)
الأسئلة(37/15)
التشريك في النية بين تحية المسجد وسنة الفجر
السؤال
إذا دخلت المسجد لصلاة الفجر فإني أصلي ركعتين بنية أنها السنة القبلية لصلاة الفجر ولا أصلي غيرها، فهل تسقط عني ركعتي تحية المسجد؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة -على مذهب الجمهور- جوابها أن ركعتي رغيبة الفجر تحل محل تحية المسجد، وأنه لا حرج على المكلف إذا صلاها أن يجلس ولا يصلي بعد ذلك تحية المسجد، وهذا مبنيٌ على أن مقصود الشرع أن يصلي الإنسان ركعتين، وهو قوي خاصةً لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)، فدل على أن المقصود أن يصلي قبل أن يجلس، وهذا قد صلى قبل أن يجلس، والله تعالى أعلم.(37/16)
حكم من نوى أن يصلي الوتر ثلاث ركعات متصلات ثم بدا له أن يفصلهن
السؤال
من نوى أن يصلي الوتر ثلاث ركعاتٍ متصلات، ثم غير نيته وصلى ركعتين، ثم سلم وأوتر بواحدة، فما الحكم؟
الجواب
هذه المسألة تنبني على الشروع في النوافل، فبعض العلماء يقول: الشروع في النوافل يصيرها فرائض.
ففي هذه الحالة لما شرع ناوياً أن يصليها ثلاثاً قالوا: ينبغي عليه أن يتمها ثلاثاً ولا يقطعها بركعتين.
لكن من العلماء من قال: حتى ولو قيل باللزوم فإنه يتخرَّج هذا بالانتقال من نية الفرض إلى النافلة، قالوا: وإن كانت لازمةً عليه فإنه ينتقل إلى النافلة، خاصةً وأنه سيصلي ثلاثاً، وبناءً على ذلك لا حرج عليه إذا قطعها بالركعتين المنفصلة ثم صلى ركعة الوتر منفردة، والله تعالى أعلم.(37/17)
حكم صلاة الفريضة بوضوء النافلة
السؤال
مَن توضأ للنفل كصلاة الضحى -مثلاً- ثم دخل وقت صلاة الظهر، فهل يجب عليه إعادة الوضوء قياساً على تحويل النية في الصلاة؟
الجواب
ظاهر السنة أن من نوى شيئاً كان له، ومن لم ينوه لم يكن له؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، فخرج العلماء على هذا أن من نوى وضوءه للنافلة لا يصح أن يصلي به الفرض؛ لأنه مُحدِث، وقد رفع حدثه لاستباحة النافلة لا لاستباحة الفرض، وهذا هو أقوى الأقوال، خاصةً على ظاهر حديث عمر الذي ذكرناه، فإنه إنما نوى النافلة ولم ينو الفرض.
ولذلك الأفضل للإنسان وإنما إذا أراد أن يتوضأ أن ينوي رفع الحدث، فإذا نوى رفع الحدث يصح له أن يصلي مطلقاً، أما لو نوى بالخصوص فريضةً أو نافلةً فهذا مُشكِل، فحتى يخرج من الإشكال ينوي رفع الحدث؛ لأن نية الوضوء إما نية رفع الحدث، أو نية الأدنى، أو نية الأعلى، ولذلك جمعها بعض العلماء بقوله: ولينو رفع حدثٍ أو مفترض أو استباحةً لممنوع عرض فالأولى أن ينوي رفع الحدث حتى يخرج من الإشكال، ويكون على ظاهر الحال أنه متطهر، ويصح له أن يصلي النافلة والفريضة دون قيد.(37/18)
حكم إمامة المتنفل بالمفترض
السؤال
ما الحكم إذا صلى الرجل نافلةً، وفي أثنائها ائتم به شخصٌ بنية الفرض؟
الجواب
إذا كان الإنسان في النفل وطرأ عليه من يريد أن يصلي معه الفرض قالوا: لا يصح.
على ما قرره المصنف رحمه الله بقوله: [وإن نوى المنفرد الائتمام لم تصح، كنية إمامته فرضاً] فإذا لم يصح وهو مفترض فمن باب أولى ألا يصح وهو متنفل.
والأقوى كما قلنا على ظاهر حديث ابن عباس رضي الله عنهما صحة ذلك وجوازه.
وأما ائتمام المفترض بالمتنفل فإن الصحيح جواز ائتمام المفترض بالمتنفل لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ، وهو أصح الوجهين عند العلماء، ففي هذا السؤال مسألتان: المسألة الأولى: هل يجوز ائتمام المفترض بالمتنفل؟ وهذه المسألة أصح الأقوال فيها الجواز للحديث الذي ذكرناه.
والمسألة الثانية: إذا قلنا بالجواز فهل يحق له أن تطرأ عليه نية الإمامة لهذا المفترض أثناء الصلاة؟ أصح الأقوال جواز ذلك لحديث ابن عباس، والله تعالى أعلم.(37/19)
كيفية صلاة العراة إذا كانوا أكثر من صف
السؤال
لو اجتمع عراةٌ كثيرون في صفين أو أكثر كيف يصلون؟
الجواب
أما بالنسبة لصلاة العراة فإنهم يصلون ويكون إمامهم وسطهم، والصحيح أنهم يصلون قياماً، ولا يصلون وهم جالسون، ولذلك يكونون صفاً واحداً لمكان الاستتار، ولا حرج عليهم إذا ضاق بهم المكان أن يصلوا صفين، والله تعالى أعلم.(37/20)
وقت صلاة الوتر عند جمع التقديم
السؤال
إذا جمع المسافر بين المغرب والعشاء في وقت المغرب، فهل يصلي الوتر أم يصليه بعد دخول وقت العشاء؟
الجواب
هذه المسألة للعلماء فيها وجهان: الوجه الأول: وقت الوتر يبتدئ بوقت العشاء، ومن أوتر قبل دخول وقت العشاء لم يصح وتره.
والوجه الثاني: وقت الوتر يصح بعد فعل العشاء لا مقيَّداً بوقت العشاء.
وأصح القولين أن وقت الوتر مقيدٌ بوقت العشاء؛ لظاهر السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفج)، فإن الصلاة إذا أُطلقت يراد بها وقتها، ولذلك نقول: مما يدل على أن المراد وقت العشاء أنه لو استيقظ بعد وقت الفجر وقبل أن يصلي الفجر لم يوتر؛ لأن وقت الفجر ينقطع به الوتر، فدل على أن ابتداء الوتر كانتهائه، فيكون ابتداؤه مقيداً بوقت الصلاة لا بفعل الصلاة، كما أن انتهاءه مقيدٌ بوقت الصلاة لا بفعل الصلاة، وعلى هذا فالأقوى أنك إذا سافرت وجمعت بين المغرب والعشاء في وقت المغرب أنك تنتظر دخول وقت العشاء حتى توتر، والله تعالى أعلم.(37/21)
طهارة وصلاة من ابتلي بسلس البول
السؤال
أنا شابٌ مصابٌ بسلس البول أكثر من سنتين وقد شق ذلك علي، فما الحكم؟
الجواب
نسأل الله العظيم أن يشفيك وأن يعافيك، وأن يمن بالشفاء على جميع مرضى المسلمين.
أولاً: أوصيك بالصبر واحتساب الأجر عند الله عز وجل، فإن البلاء -خاصةً- إذا كان في الدين يكون أعظم أجراً، وبلاؤك هذا في الدين؛ لأنه كما أنه مضرةٌ بالبدن، ويُتعِب الإنسان من حيث عنايته بانتباهه لبوله وأذى البول، كذلك أيضاً هو مضرةٌ في الدين؛ لأن الإنسان ينشغل وتعتني نفسه بهذا الخارج، ويُصبِح في هم وقلق، خاصةً إذا دخل عليه وقت الصلاة، وقد وجدت ذلك ورأيته فأبشر بخير، والله أعلم كم لك من الأجر في هاتين السنتين اللتين مضتا، فأبشر بخير، وأنعم عيناً بالله عز وجل، فإن الله سيرضيك إذا صبرت واحتسبت، والله يقول عن أيوب عليه السلام: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، فمن صبر فإن الله يُنعم عليه، فاصبر بارك الله فيك، واعلم أن الذي ابتلاك هو ربك، وليس لك إلا الرضا عن الله عز وجل، فأوصيك أولاً بالصبر واحتساب الأجر عند الله.
والأمر الثاني: أن تأخذ بالأسباب فإذا دخل وقت الصلاة، وكان السلس مسترسلاً فإنك تتوضأ لدخول وقت كل صلاة، فتتوضأ عند أذان الظهر ثم تصلي الظهر، وتضع إذا أمكنك قطنةً لخروج البول إذا كانت تحبس البول.
أما إذا كانت تضر بك وتجحِف بك وتحدث الضرر فحينئذٍ لا حرج عليك، بعد أن تتوضأ في أول الوقت ولو خرج الخارج؛ لأنه ليس بإمكانك إلا أن تصلي على هذا، والله لا يكلفك إلا ما بإمكانك، كما قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فهذا الذي في وسعك.
أما لو كان السلس متقطعاً بحيث يمكن أن يسلم وقت الصلاة لك، بحيث تمكث -مثلاً- ربع ساعة لا يخرج شيء فصلِّ في ربع الساعة ولو أدى ذلك إلى فوات الصلاة مع الجماعة، فإن الصلاة مع الجماعة يجوز تركها تحصيلاً لشرط الطهارة المتصل بالصلاة، فإيجاب الجماعة منفصل، والطهارة إيجابٌ متصل، فيقدم الواجب المتصل على الواجب المنفصل.
أما إذا كان لا يسع الوقت فحينئذٍ تنزل وتصلي مع الجماعة، ولو خرج منك البول، والله تعالى أعلم.(37/22)
حكم من نسي ركعة من الصلاة
السؤال
رجلٌ صلى صلاة العشاء ثلاث ركعات، وبعد السلام تذكر بأنه بقي عليه ركعة واحدة، فهل يصلي الركعة الناقصة أم يعيد الصلاة، مع العلم أنه تذكرها بعد تمام الذكر بعد الصلاة؟
الجواب
من سلم من صلاة ناقصةً، ولم يعلم بنقصها إلا بعد وقتٍ سواءٌ أكان بعد الأذكار أم بعد السنن فإنه يجوز له أن يستقبل القبلة ويُتم صلاته ما دام أنه في المسجد، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم بنا إحدى صلاتي العشي، فسلم من اثنتين، ثم قام إلى الجذع وشبّك بين أصابعه كالغضبان، فهاب الصحابة أن يكلموه، وفي الناس أبو بكر وعمر، فقال له رجلٌ يقال له ذو اليدين: يا رسول الله! أقصُرَت الصلاة أم نسيت؟ فقال: ما قصرت ولا نسيت)، وفي رواية: (ما كان شيءٌ من ذلك! قال: بلى، قد كان شيءٌ من ذلك، فسأل الصحابة: أَصَدقَ ذو اليدين؟ قالوا: نعم فرجع إلى مصلاه وأتم ركعتين، قال: وأنبئت أن عمران قال: ثم سجد سجدتين قبل أن يسلم).
فدل هذا الحديث على مسائل كثيرة: منها: أن من سلَّم من صلاته منتقصاً لها، وكان في المسجد فمن حقه أن يرجع ويُتِم الصلاة ولو كان قد استدبر القبلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استدبر القبلة.
وبناءً عليه فما دمت قد صليت العشاء ثلاثاً فإن ذمتك مشغولةٌ بالركعة الرابعة، فيلزمك أن تستقبل القبلة وتتم الركعة الرابعة، ثم تسجد سجدتين قبل أن تسلم.
المسألة الثانية في هذا الحديث، وهي مما يحسن التنبيه عليها: جواز مخاطبة الإمام بخطئه إذا لم يفهم، وهذه المسألة يُغفلها كثير، فلو أن إماماً أخطأ في الصلاة، كأن قام إلى الركعة الثانية وكبَّر ووقف فقرأ فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] مثلاً، فإنه يظن أنه قرأ الفاتحة وهو لم يقرأها، فلو قلت له: سبحان الله.
سيرجع ويقول: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] يظن أنه أخطأ في الآية، فحينئذٍ لا يمكن أن ينتبه إلا أن تقول له: اقرأ الفاتحة فيجوز لك أن تقول له: اقرأ الفاتحة؛ لأن ذا اليدين خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فكون بعض العلماء يقول: إن ذا اليدين كان يظن أن التشريع على الركعتين.
خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ما كان شيءٌ من ذلك)، وقال: (ما قصرت ولا نسيت)، فقال: بلى قد كان شيءٍ من ذلك.
فتكلَّم مع علمه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حصل منه السهو، وبناءً على ذلك يصح للمأموم أن يخاطب الإمام بخطئه إذا تعذَّر فهم الإمام، خاصةً إذا كان خطؤه مما تختلج معه الصلاة، بحيث إذا قلت له: سبحان الله يزيد في الخطأ، وبناءً على ذلك تنبهه وتقول له مباشرة -مثلاً-: اركع اسجد اقرأ الفاتحة، وينبغي أن تقتصر على أقل الكلام فتقول له: الفاتحة.
بمعنى: اقرأ الفاتحة، وقس على هذا؛ لأن ذا اليدين خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بخطئه، والله تعالى أعلم.(37/23)
حكم دخول الحمام بسبيكة على شكل الكعبة
السؤال
يوجد عند بائع الذهب سبيكةٌ ذهبية على شكل الكعبة المشرفة تُلبس في العنق، فهل يجوز للمرأة دخول الحمام بها؟
الجواب
لا ينبغي في الحقيقة تصوير مثل هذه الصور للأماكن التي قَصَد الشرع تعظيمها، والناس إذا أَلِفوا النظر إلى الكعبة يكون دخولهم عليها لأول وهلة أمراً معتاداً، ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا انتهى الناس من الحج صاح فيهم فيقول: يا أهل الشام شامكم، يا أهل اليمن يمنكم، يا أهل العراق عراقكم، يا أهل مصر مصركم.
فلما سُئِل عن ذلك قال: أخشى أن تذهب هيبة الكعبة من قلوبهم؛ لأنهم إذا أَلِفوا الجلوس وألفوا النظر إليها اعتادوها فذهبت هيبتها، ومقصود الشرع تعظيم مثل هذه الأماكن، فهذا من فراسته رضي الله عنه، وكان محدَّثاً ملهماً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه في الصحيح.
وبناءً على ذلك لا ينبغي تصوير مثل هذه الصور التي هي محل إجلال وتعظيم من المؤمنين، فينبغي إجلالها وصيانتها، وبناءً على ذلك فالذي أراه أنها تُصاغ على غير صورة الكعبة، أما من ناحية الجواز فيجوز، لكن كون الإنسان يعلق مثل هذه الصور فلا أرى له وجهاً أن يفعل ذلك، وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.(37/24)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [1]
تنقسم صفة الصلاة إلى: صفة كمال، وصفة إجزاء، فالأولى هي أتم الصفتين، وهي المشتملة على هدي النبي صلى الله عليه وسلم الكامل في صلاته، والثانية هي التي يجب على المسلم أن يأتي بها، فإن أخل بشيء منها نقص من صلاته بقدر ما أخل منها.
ويذكر العلماء في صفة الصلاة المشي إلى المساجد وآدابه وسننه.(38/1)
من آداب المشي إلى الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صفة الصلاة].
بعد أن تكلم المصنف رحمه الله على الأمور التي ينبغي على المكلف أن يحصلها قبل الصلاة شرع رحمه الله في بيان صفة الصلاة.
وصفة الشيء: حليته وما يتميز به، فقوله رحمه الله: (باب صفة الصلاة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل يستدل بها على هدي الصلاة.
وصفة الصلاة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يسمى صفة الكمال، وهذه الصفة هي أتم الصفتين وأكملها، وذلك أنها تشتمل على هدي النبي صلى الله عليه وسلم الكامل في صفة صلاته.
والقسم الثاني من صفة الصلاة: صفة الإجزاء، وهي الصفة التي ينبغي على المسلم أن يأتي بها كاملةً، فإن أخلّ بشيءٍ منها فإنه يعتبر مخلاً إما بركنٍ أو بواجب، فإن ترك الركن فإن صلاته تبطل ما لم يكن نسياناً وكان نسيانه مقارباً للصلاة في مسجده، فلو ترك ركناً وهو في المسجد، ثم ذكر قبل الخروج وأمكنه التدارك أتم صلاته، وصفة الإجزاء تشتمل على الأركان والواجبات، وقد يقتصر بعض العلماء فيها على الأركان وحدها.
ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يعتنون بذكر وصف العبادة حتى يحكم على صلاة المكلف بكونها معتبرة أو غير معتبرة، وبعض العلماء يقدِّم على هذا الباب باباً، وهو باب آداب المشي إلى الصلاة، كما اعتنى به الإمام ابن قدامة رحمه الله في كتابه العمدة، وهكذا غيره من العلماء، ومنهم من يقتصر على ذكر الصفة ولا يذكر آداب المشي، والأكمل الاعتناء بآداب المشي في الصلاة، وهي تنحصر في أمورٍ من أهمها ما يلي:(38/2)
استحضار النية
أولاً: ينبغي للمكلف إذا أراد أن يذهب إلى المسجد للصلاة أن يستحضر النية، وهي قصد وجه الله عز وجل بخروجه إلى المسجد، وهذه النية معتبرة للحكم بكونه في قربة وعبادة، وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الرجل تضعّف على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأصبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة)، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يخرجه إلا الصلاة)؛ لأن الناس منهم من يذهب إلى المسجد للآخرة، ومنهم من يذهب للدنيا، ومنهم من يذهب جامعاً بين الدنيا والآخرة، فمن خرج وقصده الآخرة كأن يخرج وقصده العبادة والتقرب لله، وشغل الوقت في طاعة الله، وأداء ما افترض الله عليه فهو في قربة، ومثاب من خروجه إلى رجوعه إلى بيته، حتى ورد في الخبر أنه لو هلك فعلى الله أجره، بمعنى أنه لو أصابته مصيبة فمات في طريقه إلى المسجد، أو أصابته بلية فإن أجره على الله، ولذلك كانوا يعتبرون من حسن الخاتمة موت الإنسان في خروجه إلى الصلاة، أو خروجه إلى المسجد؛ لأنها طاعةٌ وقربة، فإذا خرج يستحضر النية.(38/3)
ذكر الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم
ثانياً: أن يأخذ بآداب الخروج من الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: (باسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة الله إلا بالله)، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (فإذا قالها تنحى عنه الشيطان، وقال الملك: أمنت وكفيت ووقيت، فقال: ما لكم في رجلٍ كفي ووقي من حاجةٍ) أي أنه في رحمة الله وضمانه.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج من بيته إلى صلاة الفجر، فدعا بثمان كلمات -كما في صحيح مسلم وغيره- وقال: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وأعطني نوراً)، فهذه ثمان كلمات من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الإنسان عند خروجه من بيته يريد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فليحرص على هذا الذكر، فما أكثر فلاحه، وما أنجحه حين يخرج وهو يسأل الله أن يجعل في قلبه نوراً، ومن جعل الله في قلبه نوراً فإنه في أمنٍ وعافيةٍ من الفتن، وقال: (اجعل في لساني نوراً)، فلا يقول إلا خيراً، ولا يتكلم إلا بخير، ويعصم في كلامه، وإذا عُصِم الإنسان في كلامه ومنطقه كان على سدادٍ ورشاد، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب:70 - 71] فيحرص على هذه الأدعية النبوية، وهذا من آداب الخروج.(38/4)
المشي راجلاً دون أن يركب
ثالثاً: أن يمشي ولا يركب؛ لأن مشيه أعظم أجراً وثواباً له في الطاعة، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى)، (وكان رجلٌ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تخطئه صلاة، وكان يمشي على رجله، فقالوا له: لو أنك أخذت دابة تقيك حر الرمضاء والهوام، فقال: ما أحب لو أن بيتي معلقٌ طنبه بطنب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أحتسب عند الله أن يكتب أجري في ذهابي ورجعتي، فأخبر صلى الله عليه وسلم بقوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد جمع الله لك بين ذلك)، فإذا كان خروجك ماشياً بقصد أن يكتب الله لك أجر المشي، وكانت نيتك أن يجمع الله لك بين أجر الذهاب والرجعة كتب لك الأجران، فهذا من فضل السعي إلى المسجد.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، كثرة الخطا إلى المساجد)، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (إذا رفع العبد قدمه وهو ماضٍ إلى الصلاة لم يخط خطوةً إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة)، فهذا خيرٌ كثير.
وكان العلماء رحمهم الله يستحبون للإنسان إذا خرج إلى الصلاة أن لا يسرع، وأن يقارب الخطا حتى يكثر أجره بناءً على هذا الحديث، وأذكر من العلماء رحمهم الله من كان يمشي كأنه معقول الرجلين، يخفف من المشي حتى تكون خطاه أكثر وأجره عند الله أعظم؛ لظاهر هذا الحديث الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.(38/5)
المشي إلى المسجد بالسكينة والوقار
رابعاً: والسنة لمن خرج إلى المسجد أن لا يشبك بين أصابعه، وأن لا يشتد سعيه.
أما عدم التشبيك بين الأصابع فلأنه في صلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تشبيك الأصابع في الصلاة؛ لأن اليهود إذا صلوا شبّكوا، فنهي المسلمون عن التشبيك حتى لا يتشبهوا باليهود، فإذا خرج إلى الصلاة يمتنع من تشبيك الأصابع، وقد جاء في حديث أبي داود تأكيد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما أن لا يشتد في سعيه فمعناه: لا يجري ولا يهرول، ولا يسعى حثيثاً حتى ولو سمع الإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا أقيمت فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من أتى إلى الصلاة أن لا يسعى، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليأتها بسكينة ووقار)، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما خرج إلى الصلاة -أعني صلاة الاستسقاء- خرج متخشعاً متذللاً متبذلاً) صلوات الله وسلامه عليه.
فلا بد من العناية بهذه الآداب.
وقد يقال: هل الأفضل أن يركب الإنسان حتى يحصل الصف الأول في المسجد، أو الأفضل أن يمشي فيحصل فضل السعي إلى المسجد؟ فإن الإنسان لو مشى قد يكون بعيداً عن المسجد، بحيث لو مشى على قدميه ربما فاته الصف الأول، وإذا ركب سيارته أو دابته أدرك الصف الأول، فهل الأفضل مشيه إلى الصلاة تحصيلاً لهذه الفضائل، أو تبكيره بالركوب وفوات فضل المشي عليه بإدراك الصف الأول؟ في هذه المسألة وجهان للعلماء: أقواهما أنه يركب، فيكون فضل الصف الأول مقدّماً على فضل المشي، ووجه هذا الترجيح أن القاعدة: (إذا تعارضت الفضائل قدمت الفضيلة المتصلة على الفضيلة المنفصلة)، فإن المشي إلى الصلاة فضيلة منفصلة عن الصلاة، والصف الأول فضيلة متصلة بالصلاة، ولذلك تقدم الفضيلة المتصلة على الفضيلة المنفصلة، فالأفضل له أن يركب، ولكن كما قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: يستحب له أن يجعل في نيته أنه لولا ضيق الوقت لمشى على قدميه، حتى يكتب له الفضلان.(38/6)
ذكر الدعاء المأثور عند دخول المسجد
خامساً: إذا دخل المسجد قال الدعاء المأثور: (باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)، والسنة أن يقدم يمناه ويؤخر يسراه، والسنة إذا دخل إلى المسجد أن يكفّ أذاه عن الناس بعدم تخطي الرقاب ورفع الصوت تشويشاً على المصلين، حتى ولو كان ذاكراً، إذا أمكنه ذلك، وذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في الجمعة، فجاء رجلٌ يتخطى الرقاب، فقال عليه الصلاة والسلام: اجلس فقد آذيت وآنيت)، ومعنى قوله: (فقد آذيت) أي بتخطيك لرقاب الناس، ومعنى (آنيت): أي تأخرت، فالذي يريد الصفوف الأول، والذي يريد الفضائل التي تكون في الصفوف الأول فليبكر، أما أن يأتي متأخراً ويتخطى رقاب الناس ويؤذيهم ويشوش عليهم فإن هذا لا يجوز له لما فيه من الضرر، والقاعدة في الشريعة: (إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم درأ المفسدة على جلب المصلحة)، وهذا من حيث الإطلاق، فكيف إذا كانت المصلحة عامة والمفسدة خاصة؟! لأن تخطي الرقاب يؤذي العامة، أي: عامة الناس، وكونه يدرك الصف الأول فضيلة خاصة، فلذلك تقدم درأ المفسدة هنا على جلب المصلحة، فلا يجوز له أن يتخطى رقاب الناس، ولا أن يؤذيهم بالهيشات ورفع الصوت؛ لأن ذلك مما لا ينبغي في بيوت الله عز وجل؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى منبهاً عباده المؤمنين على حرمة المساجد، وما ينبغي أن تكون عليه من إجلال وإكبار: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، ورفع الشيء: إجلاله وتعظيمه، وذلك يكون بالسكينة والوقار في بيوت الله عز وجل.
وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلين اختصما في المسجد ورفعا أصواتهما، فلما جاء إليهما قال: ممن أنتما؟ قالا: من أهل الطائف.
قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً، أي: لمكان حرمة المسجد وأذية الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا بد للإنسان أن يراعي هذه الآداب، ولذلك نبّه العلماء رحمهم الله على أنه كلما كان الإنسان متعاطياً للسنة حريصاً عليها كلما كان موفقاً للقبول في صلاته، وينبغي نصح الناس وتوجيههم إلى عدم الإخلال بهذه السنن، وبيان ما ينبغي من التزامه بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصةً فيما يتعلق بكفّ الأذى.(38/7)
صلاة تحية المسجد
سادساً: فإذا دخل المصلي في وقتٍ لا صلاة فيه كأن يدخل بين الأذان والإقامة فإنه يفتتح الصلاة بتحية المسجد، فيحي المسجد بالصلاة، وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فدل هذا على لزومها، وأنه لا ينبغي للمسلم أن يجلس في المسجد حتى يصليهما، ثم إذا صلاهما فإنه في صلاةٍ ما انتظر الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوةً إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه) أي: ما دام جالساً في مصلاه فريضةً كانت أم نافلة فإنه تصلي عليه الملائكة، فتدعو له بالمغفرة والرحمة، وهذا خيرٌ كثير، ولذلك ما دخل إنسان مسجداً وصلى مع الجماعة وخرج إلا خرج طيب النفس ومجبور الخاطر، ولو كانت عليه هموم الدنيا، فإنه إذا دخل وخاصةً إذا بكّر إلى المسجد وصلى فيه فإنه يجد هذا الخير الكثير من صلاة الملائكة عليه، ودعائها له، واستغفارها له.
فإذا حضرت الصلاة فحينئذٍ يبتدئ بمراعاة ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، فإذا أقيمت الصلاة فإنه يمتنع من التنفل، ويمتنع من إحداث صلاة النافلة بعد إقامة الصلاة.(38/8)
صفة القيام إلى الصلاة(38/9)
سنية القيام عند (قدْ) من إقامتها
قال المصنف رحمه الله: [يُسن القيام عند (قدْ) من إقامتها].
إذا كان المكلف جالساً في المسجد وأقيمت الصلاة، فقد قال بعض السلف: يبتدئ قيامه عند قول المؤذن: (الله أكبر) من الإقامة.
وهذا القول مأثور عن عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمة الله عليه، وكان يقول به بعض السلف، أي: أنه إذا قال المؤذن: (الله أكبر) للإقامة فإن الناس يقومون.
والمحفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان الستار على بابه، فكان بلال رضي الله عنه إذا شعر بحركة الستار أقام الصلاة، فكان الناس إذا ابتدأ بلال للإقامة قاموا، فإذا رأوا الستر تحرك قاموا، وأخذوا مصافهم، وهيأوا أنفسهم للصلاة، فلا يصل عليه الصلاة والسلام إلى موضع محرابه أو مكان مصلاّه إلا والناس قد أخذوا مصافهم، فسواهم وأمرهم بالاستواء، ثم كبر وصلى بهم.
وثبت في الحديث الصحيح أن بلالاً رأى حركة الستر، فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج فأقام الصلاة، فانتظر الناس وهم قيام حتى طال عليهم القيام، ثم دخل عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم-: (إذا رأيتموني فقوموا)، رفقاً بالصحابة رضوان الله عليهم وبالمصلين، وأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه من السنة أن يقام عند رؤية الإمام، وللعلماء في هذا الحديث وجهان: منهم من يقول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموني فقوموا) لم يقصد به حالة مخصوصة، كأنه يقول: إذا رأيتم الإمام في المسجد فقوموا.
حتى يكون ذلك أبلغ في استواء الناس قبل دخول الإمام إلى المحراب أو موضع الإمامة.
وقال بعض العلماء: بل هذا خاص؛ لأنه وُجِدت المشقة بقيام الصحابة، فقال لهم: (إذا رأيتموني فقوموا).
والذي يظهر أن أقلّ ما فيها أنها سنةٌ تقريرية، فإن الصحابة كانوا يقومون عند دخوله، فالأفضل والأكمل عند رؤية الإمام أن يقوم الناس، وأن يأخذوا مصافّهم، ويحاولوا تهيئة أنفسهم، بحيث لا يبلغ موضع إمامته إلا والناس قد أخذت مصافّها، كما جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الإمام مالك رحمه الله فإنه لم يجد حداً معيناً لقيام الناس عند الإقامة، ورأى أن الأمر واسع، فخفف رحمه الله وقال: الناس فيهم الصغير وفيهم القوي وفيهم الجلد، أن الناس يختلفون في أحوالهم، فلم يحدّ في القيام للصلاة حداً معيناً، وهذا لا شك أنه من ناحية الإلزام صحيح، فلا نستطيع أن نلزم الناس بالقيام لا عند ابتداء الإقامة، ولا عند (قدْ)، ولكننا نقول: الأفضل والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يقام عند رؤية الأئمة، فإذا رؤي الإمام داخلاً إلى المسجد، أو رؤي عامداً إلى مصلاّه فإن الناس يقومون، وهذا هو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الصحابة على فعلهم، ولأنه يعين على تحقيق مقصود الشرع، فإن الناس إذا ابتدروا بالقيام وسووا صفوفهم، ثم أمرهم الإمام كان ذلك أبلغ في تسوية الصفوف، وخاصةً في هذا الزمان فإنه يعجل الإمام بالتكبير، والفاصل قد يكون قليلاً، وقد يكون الإنسان يرغب في إدراك تكبيرة الإحرام وفضلها، فقد يضطر إلى الاشتغال بتسوية الصفوف، لكن المبادرة للقيام عند رؤية الإمام أبلغ في استواء الصفوف واعتدال الناس، ولا نحفظ في ذلك أمراً يدل على اللزوم بالقيام عند (قد)، ولكن نقول: الأفضل والسنة القيام عند رؤية الأئمة، وأُثِرَ عن علي رضي الله عنه القيام عند قدَّ، ولا يصح هذا عنه ويُروى في حديث مرفوع ضعيف.
والصحيح أن الأمر واسع، ولكن السنة والأفضل أن يُقام عند رؤية الأئمة كما ذكرنا.
وقوله رحمه الله: [عند (قدْ) من إقامتها] الإقامة -كما هو معلوم فيها-: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فتقال مرتين، فحينئذٍ هل يكون القيام على قول المصنف عند (قدْ) الأولى أو الثانية؟
و
الجواب
يكون عند (قد) الأولى، وليس الثانية؛ لأنه أطلق، والمطلق ينصرف إلى أول مذكور، ولو أراد الثانية لقال: عند قوله (قد) الثانية من إقامتها، أو: بعد قوله (قدْ) من إقامتها.(38/10)
تسوية الصفوف وإقامتها
قال رحمه الله تعالى: [وتسوية الصف].
يسنّ للناس أن يعتنوا بتسوية الصفوف، والمراد بهذه السنة أنها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسوية الصفوف وإقامتها من إقامة الصلاة، وقول الجماهير على أنه يجب على الناس أن يسووا صفوفهم، وأن من لم يسو الصف فهو آثم، وذلك لدليلين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (استووا)، وقال: (ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، وقال: (عباد الله لَتُسَوُّونَّ صفوفكم)، فجاء بصيغة التأكيد الدالة على اللزوم.
الدليل الثاني الذي يدل على وجوب تسوية الصفوف ولزومها: أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد على الإخلال بهذا، -فقد ثبت عنه في الصحيح-: (أنه كان يأمر الناس بتسوية الصفوف -قال الصحابي رضي الله عنه-: حتى إذا رأى أنا قد عقلنا عنه خرج ذات يومٍ فرأى رجلاً بادياً صدره في الصف، فقال عليه الصلاة والسلام: عباد الله لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم -وفي رواية-: وقلوبكم)، فهذا وعيد، والقاعدة في الأصول أنه إذا ترتب على ترك الأمر وعيد كان هذا دليلاً على أنه من الواجبات، وأن الإخلال به من المنهيات، ولذلك يعتبر الإخلال بتسوية الصفوف من المحرمات، والأمر به واجب، فالناس مطالبون بإقامة الصفوف وتسويتها، وثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة، فالذين يسوون صفوفهم ويعتنون بتسويتها هم مقيمون للصلاة، والله أثنى على المقيمين للصلاة وزكاهم في كتابه، فمن إقامة الصلاة تسوية الصفوف.
وثبوت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدم تسوية الصفوف سببٌ لمخالفة القلوب، أو مخالفة الأوجه فيه خطر شديد، حتى قال بعض العلماء: المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم أو قلوبكم) أن يلبسهم شيعاً وأحزاباً والعياذ بالله، أي: يجعل الناس مفترقين لا يتفقون، فتحصل بينهم النزاعات والخلافات والشجارات بسبب عدم العناية بهذا الأمر وهو تسوية الصفوف، وهو أمرٌ عظيم، وكان عمر رضي الله عنه لا يكبر حتى يأتيه أناسٌ وكّلهم بالصفوف فيعلمونه أن الصفوف قد استوت -رضي الله عنه وأرضاه- حرصاً منه على هذه السنة، وعنايةً منه بها، فيسوّي الصفوف.
وإذا كان الذي وراء الإمام يعقل تسوية الصفوف كطلاب علم، فللعلماء وجهان: فبعضهم يقول: السنة أن تطلق، فدائماً تقول: استووا.
وظاهر الحديث: (حتى إذا رأى أنا قد عقلنا عنه) يدل على أنه إذا كان الناس عندهم علم بتسوية الصفوف، وكان الذين معه من طلاب العلم، أو من العلماء، فلا حاجة أن تقول: استووا.
وهذا مذهب طائفة من العلماء.
وقال بعضهم: لا، بل إنها سنة مطلقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وكان إذا قام أمر بالاستواء.
ولكلا الوجهين وجهه، خاصةً في هذا الزمان الذي كثر فيه العوام وكثر فيه الإخلال، حتى إن من يعلم ربما نسي وربما ذهل، ولربما قام الإنسان في الصف وهو من العلماء أو من طلاب العلم فغفل عن تسوية نفسه، والإنسان بشر، ولذلك الأمر والتنبيه بها فيه أجر للإمام، وفيه تنبيهٌ أيضاً للناس، فلا حرج في المداومة عليها والأمر بها.(38/11)
تكبيرة الإحرام
قال رحمه الله تعالى: [ويقول: (الله أكبر)، رافعاً يديه].
أي: يقول المصلي إذا أراد الدخول في الصلاة (الله أكبر)، وهذا التكبير يسمّى عند العلماء رحمهم الله بتكبيرة الإحرام، وسبب تسميته بذلك ظاهر السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي داود والحاكم بسندٍ صحيح: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير)، فوصف التكبير بكونه موجباً للدخول في حرمات الصلاة، فسمّى العلماء هذا التكبير بتكبيرة الإحرام؛ لأن المصلّي إذا كبر دخل في حرمات الصلاة، وهذا التكبير للعلماء فيه ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يصح لك أن تدخل الصلاة نافلةً أو فريضة إلا إذا قلت: (الله أكبر) وحدها، فلا يجزي غير هذا اللفظ، لا المشتق منه ولا من غيره، ولو اشتمل على تعظيم الله، فلو قال: الله العظيم، أو قال: الله الكبير، أو: الله الأكبر لم تنعقد تحريمته، وكذلك لو اختار لفظاً فيه تعظيم من غير المشتق، كقوله: الله القدوس، الله السلام، الله المهيمن، فإنه لا ينعقد تحريمه، وهذا مسلك الحنابلة والمالكية رحمة الله عليهم، وهكذا لو قدّم: (أكبر) على لفظ الجلالة، فقال: أكبر الله، فإنه لا يصح ولا ينعقد تحريمه، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، وكبر معناها: قل: الله أكبر.
وهو المعهود في أذكار الشرع في الدخول إلى الصلاة، بدليل ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من تكبيره في الدخول إلى الصلاة، فهذا أمرٌ.
الأمر الثاني: أنه لم يثبت حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالعدول عن هذا اللفظ المخصوص، والصلاة عبادةٌ مخصوصة، وأذكارها مخصوصة، فلا يصح أن يجتهد المكلف بإدخال ألفاظٍ قريبة من اللفظ المشهور.
الأمر الثالث: أنه لفظ مخصوص في موضع مخصوص لم يشرع إحداث غيره أو قريبٍ منه كالتشهد، أي: كما أن التشهد لا يجزي إلا باللفظ الوارد، كذلك تكبيرة الإحرام لا تجزي إلا باللفظ الوارد.
فهذه الأوجه كلها تدل على لزوم التكبير.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه يجوز للمصلي أن يدخل بأي لفظٍ دال على تعظيم الله عز وجل وذكره، واستدل بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، فقال رحمه الله: إن الله عز وجل قال: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} [الأعلى:15]، فمن ذكر اسم ربه عند بداية صلاته أجزأه ذلك وصحت صلاته، فلو قال: الله العظيم أجزأه وانعقد إحرامه وانعقدت تحريمته.
وذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى موافقة الإمام أحمد ومالك، ولكن قال: يجوز إذا كان من لفظ (أكبر)، فقوله مثلاً: الله الأكبر تنعقد به التحريمة، فالمشتق كالكبير والأكبر قالوا: ينعقد به إحرامه، وأما بغير ما اشتق منه فلا ينعقد إحرامه.
والصحيح أنه لا بد من ذلك اللفظ المخصوص، وهو لفظ التكبير، والجواب عن دليلهم أنه مطلق مقيد.
كما أن الآية التي استدل بها الإمام أبو حنيفة رحمه الله في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] الصحيح أن المراد بقوله تعالى: (قد أفلح من تزكى)، أي: زكاة الفطر ليلة العيد، (وذكر اسم ربه) أي: أكثر من التكبير ليلة العيد فصلّى صلاة العيد، والمراد بذلك أنه على فلاح بانتهائه من فريضة الله عز وجل وهي الصيام.
فالمقصود أن هذه الآية يجاب عنها من وجهين: إما أن يقال: إنها خارجة عن موضع النزاع، والمراد بها صلاة العيدين.
وإما أن يقال: إنها مطلقةٌ مقيدة، والقاعدة أن المطلق يُحمل على المقيد، ولا تعارض بين مطلقٍ ومقيد.
وقوله رحمه الله: [يقول: الله أكبر] أي: يقول بلسانه: الله أكبر.(38/12)
رفع اليدين مضمومتي الأصابع وممدودة عند التكبير
قال رحمه الله تعالى: [رافعاً يديه مضمومتي الأصابع ممدودة حذو منكبيه كالسجود].
[رافعاً يديه] هذه هي السنة في تكبيرة الإحرام، وأجمع العلماء على أن تكبيرة الإحرام برفع اليدين، وقد جاء عن أكثر من ستين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صفة صلاته أنه رفع يديه في تكبيرة الإحرام، ولذلك قالوا: رفع اليدين في تكبيرة الإحرام متواتر، كما أشار إلى ذلك صاحب الطلعة رحمه الله بقوله: ثم من المشهور ما تواترا وهو ما يرويه جمعٌ حظرا كذِبهم عُرفاً كمسح الخف رفع اليدين عادمٌ للخُلفِ وقد روى حديثه من كتبا أكثرُ من ستين ممن صَحِبا فرفع اليدين بالدخول في الصلاة في تكبيرة الإحرام متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه جمع، وقال بعض العلماء: فيه أكثر من خمسين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها في رفع اليدين، حتى إن العلماء لما اختلفوا في رفع اليدين في الصلاة اتفقوا على أنه في تكبيرة الإحرام يرفع يديه.
ثم هنا في رفع اليدين السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفعها حذو منكبيه، وقال به جمعٌ من العلماء رحمة الله عليهم، كما اختاره الشافعي وأحمد، وقال بعض العلماء: حذو الأذنين، والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم من سنته أنه كان يرفع حذو منكبيه، وأما ما ورد إلى حذو أذنيه فهذا يُحمل على وجهين: الوجه الأول: إما أن يحمل على أنه كان يفعل هذا تارة ويفعل هذا تارة ولا حرج، ويصير خلاف تنوع لا حرج فيه.
والقاعدة تقول: إن خلاف التضاد لا يحكم فيه بالخلاف، فتقول: هذا نوع من الرفع، وهذا نوع من الرفع، والأكمل حذو منكبيه، والجائز والسنة التي لا حرج فيها أن يرفع إلى حيال أُذنيه.
الوجه الثاني: وجه الجمع، قالوا: إنه رفع، فمن أراد الغاية التي بلغتها أصابعه فهما المنكبان، ومن أراد غاية ما وصل إليه في رفعه حتى يقابل أقلّ أصابعه بهما فهما الأذنان، فيكون هذا من باب الجمع، فيكون هذا عبر بالغاية وهذا عبر بالبداية، فبداية ما يكون من أصابعه حيال أذنيه، فكأنه اعتبر غاية اليد ولم يعتبر أولها، وهذا يكون من باب الجمع بين الروايتين.
وأما بالنسبة لقوله: (كالسجود) فللعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: يجعل اليدين كالرجل الذي يريد أن يمسك طرفا رأسه، فتكون بطون اليدين مقابلة لصفحتي الوجه.
والوجه الثاني: أن يجعل بطون اليدين أو الراحتين إلى جهة القبلة، ولذلك عبر بقوله: (كالسجود) أي: كحال الإنسان في سجوده؛ لأنه لما قال لك: (رافعاً) التبس الأمر: هل يرفع وقد جعل البطون إلى القبلة، أو يرفع وقد جعل البطون إلى وجهه؟ فلذلك قال: (كالسجود).
وأما بالنسبة للتفريج والضم للأصابع، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يفرج ولم يضم، فالسنة الاعتدال، واختار المصنف الضم، والسنة الاعتدال في هذا، ولا يتكلف في الأمر.
وهناك ثلاثة أوجه في الابتداء بالرفع أو التكبير: الأول: أن تبتدئ التكبير وتقول: الله أكبر ثم ترفع يديك، وتخفض بعد إنزالهما، أو: تقدم الرفع على التكبير فترفع يديك ثم تقول: الله أكبر بعد أن تتم الرفع وتنزلهما، أو: تجمع بين الرفع والتكبير، وذلك لكون الإنسان يرفع يديه فيبتدئ التكبير عند رفعه، ثم لا ينتهي إلا وقد انتهى من تكبيره، فهذه كلها أوجه، وقد جاءت بها الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي حديث ابن عمر: (أنه رفع ثم كبر).
وثم تقتضي الترتيب، قالوا: فيكون التكبير بعد الرفع.
والوجه الثاني الذي هو وجه الجمع بينهما أو وجه المتابعة جاء في حديث وائل وغيره في رواية السنن، والأول صحيح من حديث ابن عمر.
وأما كونه يكبر ثم يرفع فقد قال الحافظ ابن حجر: لا قائل به، أي: لا يعلم قائلاً يقول بالتكبير قبل الرفع.
قال العلماء: الأفضل للإمام أنه ينتبه لأحوال الناس، فإن من الناس من يسمع الصوت ولا يرى الشخص، ومنهم من يرى الشخص ولا يسمع الصوت، فالشخص الذي هو في أقصى الصف -خاصةً في المواضع التي لا يكون فيها مكبر الصوت موجوداً- يرى شخص الإمام ولا يسمع صوته، فإذا رفع الإمام يديه ظن المأموم أنه دخل في حرمة الصلاة وكبر، فربما سبق المأموم الإمام بالتكبير في هذه الحالة، كما لو كان في آخر الصفوف ويرى شخص الإمام، كما هو الحال في الأرض المنحدرة حيث يرى شخص الإمام، أو يكون الإمام مرتفعاً قليلاً فيراه يرفع يديه، فيرفع المأموم يديه ويقول: الله أكبر، فيسبق تكبيره تكبير الإمام، خاصةً إذا لم يسمع الصوت، وقالوا: أيضاً من الناس من يسمع الصوت ولا يرى الشخص ككفيف البصر، أو من هو بمنأىً لا يستطيع أن يرى الإمام، فإنه يعتبر الصوت ويسمع صوته، كما في الصف الرابع والخامس في الصحراء ونحوها، فربما خفي عليه صوت الإمام، ولذلك الأفضل والأولى للإمام حتى لا يعرض صلاة الناس للبطلان بتقدم التكبير على الرفع أن يجمع بينهما، حتى لا يكون سبقٌ، ما دام أن السنة قد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالجمع بينهما.(38/13)
لزوم إسماع الإمام من خلفه من المؤتمين
قال رحمه الله تعالى: [ويسمع الإمام من خلفه كقراءته في أولتي غير الظهرين].
قوله: [ويسمع الإمام من خلفه] أي: تكبيرة الإحرام، وذلك لأن تكبيرة الإحرام تنعقد الصلاة بها، وقال العلماء: إنه لو سبق المأموم الإمام في تكبيرة الإحرام، أو سبقه بالسلام بطلت صلاته خاصة على مذهب من يرى اتصال صلاة المأموم والإمام، كما درج عليه الحنابلة ومن وافقهم أنه لو سبق تكبير المأموم على الإمام بطلت صلاته ولم تنعقد له، ولذلك يقولون: إنه ينبغي عليه أن يتحرى، فإذا كان المأموم مطالباً بإيقاع تكبيره بعد تكبير الإمام فإنه ينبغي على الإمام أن يرفع صوته حتى ينبه الناس.
وقد أجمعوا على أن المأموم لا يجوز له أن يسبق الإمام فيكبر قبل تكبير الإمام، واختلفوا: لو أن المأموم ساوى الإمام فكبّر مع تكبير الإمام، فهل هذا هو السنة، أم السنة أن ينتظر إلى أن يكبّر الإمام ويكبر بعده؟ فذهب جمهور العلماء إلى أن السنة أن يكبّر المأموم عقب تكبير الإمام، وذلك لحديث أنس رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبروا)؛ لأن قوله: (فإذا كبّر) أي: فرغ من التكبير، (فكبروا) أي: أوقعوا تكبيركم بعد تكبيره، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبقوني إني قد بدنت)، فدل على أن المأموم كما أنه في الفعل لا يوقعه إلا بعد الإمام، كذلك أيضاً في القول لا يوقعه إلا بعد الإمام، ولقوله في الرواية الثانية: (ولا تكبروا حتى يكبر).
فهذه الثلاثة الأحاديث اقتضت أن يقع تكبير المأموم بعد تكبير الإمام، ولذلك قال أصحاب هذا القول وهم الجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية-: تحرم مسابقة الإمام وتكره موافقته؛ لأنها حالة بين الحلال والحرام، فبين الحلال كونك توقع التكبير بعده، وبين الحرام كونك تسبقه، ولذلك عبروا بالكراهة، كما نبهنا غير مرة أن مسلك بعض الأصوليين أن المكروه مرتبة بين الحلّ والحرمة.
أما بالنسبة لفقهاء الحنفية فقالوا: السنة أن يوقع المأموم تكبيره مع تكبير الإمام، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كبّر فكبروا) والفاء تقتضي العطف مع المقارنة، كما تقول: جاء محمد فعمر بمعنى أنهما كادا أن يكونا متصلين ببعضهما، قالوا: وهذا يدل على أن تكبير المأموم يكون مع تكبير الإمام، ولا شك أنه الحل المجازي؛ لأنهم قالوا: (إذا كبّر) بمعنى: شرع في التكبير، كما يقال: أنجد: إذا دخل نجداً، أي: بدايتها، وأتهم: إذا دخل تهامة وإن لم يكن قد بلغ آخرها، وهذا معروف في لغة العرب، قالوا: فقوله: (إذا كبّر) أي: ابتدأ التكبير، (فكبروا) أي: اصحبوه في تكبيره، فهذا وجه الحديث عندهم، ويلاحظ أن الكل يتمسك بالسنة.
والحقيقة الذي يترجح ويقوى من جهة النصوص والنظر أن تكبير المأموم يقع بعد تكبير الإمام، وعلى هذه المسألة تفرّع قولهم في السلام، ولذلك تجد بعض من يميل إلى هذا القول يسلم مع تسليم الإمام، ولا شك أن هذا له وجهٌ من السنة بناءً على أنهم يرون أن العطف في هذه اللغة وفي هذا الوجه يقتضي المقارنة، وإن كنا قد قلنا: إن الصحيح أن يأتي بالتكبير والفعل بعده، لكن ما دام أن الإنسان يتأول وجهاً من السنة فلا إنكار، ولكن الصحيح والأقوى أن يوقع فعله بعد فعل الإمام.
والجهر بالتكبير على حالتين: الحالة الأولى: المبالغة في الجهر فهذه مكروهة، وهي أن يبالغ في رفع صوته إلى درجة أن يزعج من وراءه من المصلين، فإن الصلاة خشوع وخضوع وسكينة، وينبغي للأئمة دائماً أن يتعاطوا مراتب الكمال وأنسب الأحوال، حتى يكون ذلك أقرب لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأشبه بالعبادة التي يتلبسون بها، ولذلك لا يبالغ بالتكبير بصوتٍ فيه مبالغة في الرفع؛ لما فيه من الأذية والإجحاف بالنفس، والسنة في الشرع في الذكر أن الإنسان لا يبالغ فيه برفع الصوت، كما قال تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:110]، وقال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، فقالوا: تجتنب المبالغة في رفع الصوت، إلا ما ورد النص به كالتلبية، فترفع صوتك حتى تبالغ بها ولا حرج؛ لأن الصحابة كانوا إذا أحرموا لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم، وهذا لا شك أن ورود السنة به هو مقصود في العبادة، وقال عليه الصلاة والسلام: (الحج العج والثج) فهذا مخصوص، لكن بالنسبة للأذكار تبقى على الأصل من تحري السنة وعدم المبالغة في الرفع، فيرفع صوته على الحالة الثانية، وهي الرفع المعتبر الذي يسمع به من وراءه، وبناءً على ذلك فإذا حصل مقصود الشرع من الإعلام فإنه يقتصر عليه المكلف.
ومن هنا كان من الخطأ ما يفعله بعض المصلين حينما يأتي والناس في المسجد، ويريد أن يصلي تحية المسجد، فتجده يكبر تكبيرة الإحرام بلفظ مزعج وملفتٍ للأنظار، ولربما يشوش على غيره، ويجعل الناس يلتفتون إليه من غرابة ما وقع منه، والصلاة -كما قلنا- فيها سكينة وخشوع، فينبغي للمصلي أن يبتعد عن أذية الناس بها.
وقوله: [كقراءته في أولتي غير الظهرين].
المراد بالظهرين: الظهر والعصر، وهذا من باب التغليب، كالعمرين والقمرين، والمراد بهذا في قوله رحمه الله: [كقراءته] أن يجهر بالتكبير -أعني تكبيرة الإحرام- كما يجهر بقراءته في الأوليين من صلاة المغرب والعشاء، وكذلك الفجر، فالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقراءة في صلاتي الصبح والمغرب والعشاء، يجهر في الأوليين من العشاء وكذلك المغرب، وفي صلاة الفجر كلها، فالسنة أن يرفع صوته ويجهر.
وهنا ينبه على أمرٍ ينساه كثير من الناس، أو يغفلون عن حكمه، وهو أن الإنسان ربما تفوته صلاة الفجر، أو تفوته ركعةٌ وراء الإمام فيقوم للقضاء، فلا تسمع من يرفع صوته بالقراءة، وهذا كثير بين الناس إلا من رحم الله، فبسبب الجهل تجدهم يقومون ولا تسمع أصوات القراءة، وهذا ينبغي التنبيه عليه، فصلاة الفجر كلها جهر، ولذلك ليس من السنة الإسرار في الجهري، ولا من السنة الجهر الكلي في السري، أما كونك في السر ترفع صوتك بالآية والآيتين فلا حرج، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما ملازمة الجهر في السري كله فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر والعصر معاً.(38/14)
أن يسمع المنفرد نفسه بالقراءة والتكبير
قال رحمه الله تعالى: [وغيرُه نفسه].
أي: يسمع غيرُ الإمام نفسَه القراءة، فإذا صليت لوحدك تسمع نفسك القراءة، أي: تجهر جهراً بحيث تَسمَعُ قراءتك، فهذا هو الحد، كأنه أراد أن يضع لك ضابطاً للجهر إذا كنت لوحدك أو منفرداً.(38/15)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [2]
إذا قام المصلي إلى الصلاة فإنه يبدأ بتكبير الإحرام، ولها صفة معلومة، ثم يضع يمينه على شماله، وصفة الضم معلومة مفصلة، ولها حالات مذكورة في موضعها، ثم ينظر إلى موضع سجوده، ويقرأ دعاء الاستفتاح، وله ألفاظ عدة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يتم صلاته على هذا النحو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.(39/1)
ما يفعله المصلي حال قيامه في الصلاة(39/2)
وضع اليمين على الشمال ومحلهما حال القيام في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يقبض كوع يسراه تحت سرته].
بعد أن يفرغ الإنسان من التكبير والرفع فالسنة له أن يجعل يمينه على شماله، وهذا ثبتت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وترجم له الأئمة والحفاظ في كتب الحديث.
وقال بعض أهل العلم: بلغت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع اليمين على الشمال في الصلاة مبلغ التواتر، أي أنها متواترة بوضع اليمين على الشمال، وهذه هي السنة، وخالف في هذا بعض المالكية رحمة الله عليهم فقالوا: إنه يطلق يديه ويرسلهما إلا في النافلة، وقالوا: في النافلة لا بأس أن يقبض أما في الفريضة فلا، وهذه المسألة تعرف بمسألة الإرسال، وفيها لبسٌ ينبغي لطلاب العلم أن يتنبهوا له، حتى يحصل منهم التوجيه لمن يرسل يديه في صلاته اعتماداً على القول في مذهب المالكية.
ووجه ذلك أن الإمام مالكاً رحمه الله قال في موطئه: (باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة)، فبوب رحمه الله لوضع اليمين على الشمال في الصلاة، وكان عبد الرحمن بن القاسم العتقي من أصحاب مالك المصريين رحمة الله عليهم أجمعين، فسافر إلى مالك، وقرأ عليه الموطأ، وحمل عنه مذهبهم وعلمه، ثم رجع إلى مصر، وتوفي مالك، فقدم أسد بن الفرات من المغرب لأجل أن يسأل عبد الرحمن بن القاسم، وكانت نيته حينما سافر من المغرب أن يلقى الإمام مالكاً، وأن يتتلمذ عليه، فلما وصل إلى مصر توفي الإمام مالك، فلما أخبر بوفاته سأل: مَنْ مِنَ أصحابه أخذ علمه؟ فقالوا: عبد الرحمن بن القاسم، فلزم عبد الرحمن وقال له: إني سائلك عن مسائل، فما كان فيها من قول مالك فأفتني به بقوله، وما كان لا قول له فيه فأخبرني بالأشبه، أو اذكر أشبه الأقوال بقوله، وذلك لأن عبد الرحمن بلغ مبلغ الاجتهاد في قول مالك رحمه الله؛ لأنه أخذ عنه الفقه وتتلمذ عليه، فسأله عن مسائل، ثم ارتحل أسد إلى المغرب، فجاء رجل يقال له: سحنون واسمه عبد السلام فسأل أسد بن الفرات أن يعطيه المدونة من أجل أن يأخذها ويدون ما فيها من المسائل والعلم، فامتنع أسد من إعطائها له، فضن بها عليه، فقال له: هذا علم، ولا يجوز لك أن تحفظه، فاشتكاه إلى القاضي، فأمر القاضي بها لـ أسد؛ لأن أسداً قال: الكتابُ كتابي والقلم قلمي والمداد مدادي وسحنون يقول: إنه علم ولا يحل كتمه، فحكم القاضي أنها لـ أسد، وله أن يعطيها من شاء ويمنعها من شاء، فارتحل سحنون إلى عبد الرحمن بن القاسم وأخبره بالقصة، فغضب عبد الرحمن، وسأله سحنون عن المسائل، وهي الموجودة الآن في كتابه (المدونة)، وفيها مسائل لـ عبد السلام الذي يسمى سُحنون وكان مما سأل عبد الرحمن أنه سأله عن القبض، فقال عبد الرحمن بن القاسم: سألت مالكاً عن القبض فقال: لا أعرفه، ولا بأس به في النفل وأكرهه في الفرض.
فهذه العبارة قالوا: المراد بها وضع اليمين على الشمال وأنه لا بأس به في النفل ويُكره في الفرض.
والواقع أن هذه العبارة ليس لها علاقة بوضع اليمين على الشمال؛ لأن هناك شيئاً يسمى وضع اليمين على الشمال، وشيئاً يسمى القبض، وهو الزائد عن الوضع، فالإمام مالك رحمه الله روى الحديث في موطئه، ولا يمكن أن يقول قائل: إن مالكاً يقول: لا أعرفه.
فهو قد رواه في موطئه، وهذا لا يمكن أن يكون بحال، والمراد بهذا القبض الأخذ؛ لأن بعض السلف يقول: إنما السنة أن تضع اليمين على الشمال وأما القبض فهذا فيه نوع من الراحة، ولذلك عندما تنظر إلى العبارة الواردة المدونة فسياقها في الاعتماد، والاعتماد في النافلة جائز، ولكنه في الفريضة مكروهٌ وممنوع، وقد يعبر بالكراهة ويراد بها المنع، فلذلك قال: لا بأس به في النفل وأكرهه في الفرض.
فلو صليت في التهجد أو أطلت في قيام ليلك، فحينما تتهجد دون أن تقبض تتعب، فبمجرد ما تمضي عليك ربع ساعة وأنت واضع يدك اليمنى على الشمال تجد التعب والعناء، لكن حينما تقبض ترتاح، فأصبح فيه نوع اعتماد، فهذا من دقة مالك رحمه الله في تحري السنة، فليست العبارة لها علاقة بوضع اليمين على الشمال البتة؛ هل يمكن أن يقول في موطئه: (باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة)، ثم يقول: لا أعرفه؟! وفي هذا الوضع أكثر من أربعين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه وضع وأمر بالوضع، حتى قال: (أُمرنا معاشر الأنبياء أن نأخذ بأيماننا على شمائلنا في الصلاة).
فالسنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وأما بالنسبة للقبض فأخذوه من قوله: (أن نأخذ)، والأخذ فيه زيادة معنى، فإنك لا تأخذ الشيء إلا إذا استحكمت يدك به، فلما قال: (أن نأخذ بأيماننا على شمائلنا) دلّ على هذه الزيادة، والإمام مالك لم يرو هذا الحديث، واقتصر على الأحاديث التي فيها وضع اليمين على الشمال، فكان من فقهه تسويغ ذلك في النافلة دون الفريضة.
وإنما أحببنا التنبيه على هذا حتى لا ينسب إلى الإمام مالك رحمة الله عليه، ويكون طالب العلم على بينة إذا اعترض عليه معترض فقال: هذا قول الإمام مالك، فليقل له: إن الإمام مالكاً رحمه الله ذكر هذا في المدونة، وقال: باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وقد قال رحمه الله: (إذا وجدتم قولي يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط وخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقال: (كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر -وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم-) فكلٌ يؤخذ من قوله ويرد، ولو صح عنه فالحجة في السنة، ونقول: لو كان الإمام مالك لا يرى القبض لعدم ورود الحديث عنده، فإنه يعتذر له بعدم العلم به، ويبقى سنة لورود الخبر من طريق غيره، ولذلك فالسنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وهذا الوضع -كما قلنا- ثبتت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.(39/3)
قبض كوع اليسرى تحت سرته
يقول المصنف رحمه الله بعد أن ذكر الوضع: [ثم يقبض كوع يسراه تحت سرته].
هذا وجه في محلهما، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه -وهو غير صحيح- في وضع اليدين تحت السرة، وهو مذهب الحنفية أيضاً.
والصحيح أن السنة وضعهما على الصدر، وثبتت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبالغ في رفعها في الصدر حتى يصل إلى الرقبة؛ لأن هذا ليس بالسنة، وإنما السنة أن تكونا على الصدر، وذلك على القصد دون تكلف، وإذا وضعها قال بعض العلماء: يقبض يمينه على شماله جهة قلبه؛ لأنه أشرف الأماكن ولا وجه لهذا التخصيص، والسنة مطلقة، فإن الإنسان يضع يمناه على يسراه على صدره كما ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو السنة والذي يستحب للإنسان أن يتحراه، وإن وضع الكف على الكف فقد ثبت وضع يمينه على شماله على ظاهر الحديث، وإن وضعها على الرسغ -وهو المفصل الذي يكون بين الكف والساعد- فحينئذٍ لا حرج، وإن وضعها على الساعد فلا حرج، والناس يختلفون على حسب اختلاف الأماكن ضيقاً واتساعاً، وإن أراد الإنسان أن يفعل هذا مرةً ويفعل هذا مرةً ويفعل هذا مرةً فكل ذلك سائغ، وكلٌ على خير وسنة، ولا حرج على الإنسان في فعله.
لكن الأخذ بالمرفق يعتبر من المخالف للسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه وضع أو ألقم كفه الأيمن مرفقه الأيسر، فهذا ليس من السنة في شيء، وهكذا لو عكس.
والسنة في وضع اليدين أن تكون اليمنى هي العليا واليسرى أسفل، وليس من السنة وضع اليسرى على اليمنى، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما رأى الرجل وضع يسراه على يمناه نزع، فجعل يمناه على يسراه)، وهذا تشريف وتكريم، ويدل على فضل اليمين على اليسار.
وقد أخذت منه فائدة، وهي خلاف العلماء رحمهم الله: هل الأفضل في الميت إذا كفن في ثلاثة أثواب أن يكون أحسنها جمالاً مما يلي الميت، أو الأفضل أن يكون من خارج لمنظر الناس؟ فالذين يقولون يكون من الخارج قالوا: الأفضل يكون الأعلى، ولذلك لما أريد تشريف اليمنى جعلت هي الأعلى، مع أن اليسرى وليت البدن، وكذلك الأفضل في الكفن أن تكون العليا هي الحسنة، إضافةً إلى أنه جمالٌ له أمام الناس، وأبلغ في زينته لكفنه، وأجمل له في حاله، فهذه من المسائل التي خرجت على ما ذكرنا؛ لأنه لما جعل عليه الصلاة والسلام اليمنى على اليسرى دل على أن الأعلى أشرف وأفضل وإن كان الأدنى والياً للبدن أو مباشراً.(39/4)
نظر المصلي إلى مكان سجوده
قال رحمه الله تعالى: [وينظر مسجده].
السنة للإنسان إذا صلى أن يرمي ببصره إلى مكان سجوده، والمسجد: مكان السجود، على وزن (مَفْعِل)، والمراد به موضع سجوده، وذلك لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رمى ببصره إلى موضع سجوده)، وكان إذا تشهد رمى ببصره إلى إصبعه وهو يشير بها صلوات الله وسلامه عليه لا يجاوزها، فقال: السنة في القيام الرمي بالبصر إلى موضع السجود.
أما إذا ركع فقال بعضهم: يرمي ببصره إلى رؤوس قدميه؛ لأنه أبلغ في الذلة وقال بعضهم: إلى موضع السجود.
والأولى: الكف في هذا حتى يثبت الخبر، ويترك الناس على سعة ولا يحدد لهم شيءٌ معين؛ لأنه لا تحديد من الشرع.
فالسنة أنه إذا قام يرمي ببصره إلى موضع سجوده، لكن لو رمى ببصره إلى أمامه، إلا أن يكون في اضطرار كالخوف في صلاة الخوف، فلا بد أن يرمي ببصره أمامه، فالله عز وجل حينما قسّم طوائف المؤمنين في القتال في صلاة الخوف إنما شرع أن تكون الطائفة الثانية قائمة وراء الطائفة الأولى عندما تسجد من أجل مراقبة العدو، ففي هذه الحالة لا يكون من السنة الرمي بالبصر إلى السجود، وهذا من باب تقديم مصلحة فوات الأنفس على الخشوع المتعلق بالصلاة، فهذه من صورها ومن أمثلتها، وقد ثبت في حديث عباد بن بشر أنه لما صلى رمى ببصره إلى الشعب يحرسه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلف العلماء: هل الأفضل أن يرمي المصلي إلى موضع سجوده أو ينظر أمامه؟ قال بعض العلماء: الأفضل أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، لما ذكرناه وقال بعضهم: الأفضل أن يرمي ببصره قِبَل وجهه، وذلك لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] قالوا: فهذا يدل على أن وجهه يكون إلى جهة القبلة، وأنه لا يرمي ببصره أكثر.
وأكدوا هذا بما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو في الصحيح- أنه قال: (أميطي عنا قِرامَك، فإنه ما زالت تصاويره تُعرض عليَّ آنفاً حتى ألهتني عن صلاتي) قالوا: هذا يدل على أن القرام كان ستراً ولا يمكن أن يراه عليه الصلاة والسلام إلا إذا رفع بصره، فدل على أنه كان يرفع بصره.
والذي يظهر والله أعلم أن السنة أن يرمي ببصره إلى موضع السجود، وأنه لا حرج أن يرفع بصره أحياناً؛ لأنه قد يدفع إنساناً ماراً أمامه، وقد يحتاج إلى شيءٍ من هذا القبيل، أما السنة فرمي البصر إلى موضع السجود.(39/5)
ذكر دعاء الاستفتاح
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك].
هذا دعاء الاستفتاح يقوله بعد أن يفرغ من التكبير، فيضع يمناه على يسراه ويقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) ودعاء الاستفتاح مشروع، وهو قول الجماهير، خلافاً للإمام مالك رحمةُ الله عليه الذي لا يراه، والصحيح أنه سنة، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بدعاء الاستفتاح أكثر من حديث.
منها حديث أبي هريرة في الصحيح، وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في السنن، وكذلك أيضاً حديث قيام الليل في افتتاحه عليه الصلاة والسلام، وكذلك حديث علي رضي الله عنه: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) وكلها أحاديث صحيحة في دعاء الاستفتاح، فالسنة مشروعية دعاء الاستفتاح.
فبعد أن ذكر المصنف رحمه الله وضع اليمين على الشمال في الصلاة قال: (ثم يقول)، وذكر دعاء الاستفتاح، وقلنا: إنه مشروع على مذهب جمهور العلماء لثبوت الأحاديث الصحيحة به عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال له أبو هريرة: (أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ فقال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي) الحديث، فدل هذا على مشروعية دعاء الاستفتاح، والاستفتاح يأتي على ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يشتمل على التمجيد المحض.
الصورة الثانية: أن يشتمل على الدعاء المحض.
الصورة الثالثة: أن يجمع بين التمجيد والدعاء.
فاستفتاح النبي صلى الله عليه وسلم لصلاته الذي أقره وفعله عليه الصلاة والسلام أتى على هذه الثلاثة الأحوال، تارةً يعظم الله ويمجده ويسبحه ويقدسه، ومن ذلك ما ذكره المصنف من حديث عائشة رضي الله عنها في السنن: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، واستفتح به عمر رضي الله عنه، وجهر به ليعلم الناس، ومن الاستفتاح بالتعظيم ما أقره عليه الصلاة والسلام، ففي الحديث الصحيح: (أن رجلاً دخل في الصلاة وقال: الله أكبر، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، فلما سلّم عليه الصلاة والسلام، قال: من الذي قال كذا وكذا آنفاً؟ قال: أنا يا رسول الله.
قال: والذي نفسي بيده لقد رأيتُ اثنى عشر ملكاً يبتدرونها إلى السماء)، فتأمل هذه الألفاظ: الله أكبر، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، فكل كلمة يحملها ملك، وإذا نظرت إلى عددها وجدتها اثنتي عشرة كلمة، ولما قال رجل بعد التسمية: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، قال صلى الله عليه وسلم: رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها)، فإذا عددت حروفها وجدتها بضعاً وثلاثين، فهذا من المناسبات كما يقولون، وهو يدل على فضل ذكر الله عز وجل، وهذا من الألفاظ الواردة في الشريعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ الصحابي على هذا الذكر المخصوص، وقد ثبت في الحديث أنك إذا قلت: الحمد لله تملأ الميزان، وإذا قلت: سبحان الله والحمد لله ملأت ما بين السماء والأرض، فمن أنواع الذكر أن تستفتح بتمجيد الله عز وجل، أو أن تقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك).
أو تقول: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً)، أو يكون دعاءً محضاً كما في حديث أبي هريرة: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي)، فهذا دعاء محض.
أو أن تجمع، وقد جمع عليه الصلاة والسلام بين الدعاء والثناء، وذلك في حديث علي الثابت في الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام فيه باستفتاحه: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلكَ أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت وأنا عبدك، ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، واعترفت بذنوبي، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير بيديك، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين التمجيد وبين الدعاء، وهو النوع الثالث من الاستفتاحات، وكلٌ على سنة.
قال العلماء: إن كان الوقت طويلاً كقيام الليل، وتريد أن تكسب فضل الذكر والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذه الدعاء الطويل، وكذلك صلاة الظهر تحتاج إلى الإطالة حتى تصيب السنة في إطالة الأوليين، فتقول الدعاء الطويل في الاستفتاح، وإن كان الوقت ضيقاً ولا يسع فلك أن تقول: (سبحانك اللهم وبحمدك)، أو الدعاء المحض، أو (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً)، ونحوها مما يشتمل على التمجيد.(39/6)
بعض مسائل دعاء الاستفتاح(39/7)
تفاوت أدعية الاستفتاح في الفضل
يقول المؤلف عليه رحمة الله: [ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك].
تقدم معنا أن هذا الدعاء يسميه العلماء رحمهم الله دعاء الاستفتاح، والمراد بذلك أنه تستفتح به الصلاة، وفاتحة الشيء: ما يكون في أوله، وقد يسمى بدعاء الثناء.
وتقدم معنا أن استفتاح النبي صلى الله عليه وسلم الذي ورد من هديه القولي والتقريري منه ما هو دعاء محض، ومنه ما هو ثناءٌ محض، ومنه ما هو مشتملٌ على الدعاء والثناء، فكان صلى الله عليه سلم يستفتح صلاته بالثناء على الله عز وجل، ويستفتح صلاته بالدعاء وسؤال الله، ويستفتح صلاته جامعاً بين الثناء والدعاء.
وقد ذكرنا الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، من قوله وإقراره عليه الصلاة والسلام.
وأما المفاضلة بين هذه الاستفتاحات من عدمها فقد ذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى تفضيل الثناء على الدعاء، وقال: الاستفتاح بالثناء على الله عز وجل أفضل من الاستفتاح بالدعاء، وذلك لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح صلاته بهذا الثناء فقال: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، فأثنى على الله عز وجل، وثبت في الحديث أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، قال: والذي نفسي بيده لقد فتحت لها أبواب السماء، وقال: لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يصعد بها)، فهذا يدل على فضل الثناء على الله عز وجل في دعاء الاستفتاح.
وذهب بعض العلماء إلى تفضيل الدعاء، وأخذ بحديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)، وهو حديث أبي هريرة في صحيح مسلم، قالوا: فالأفضل للمكلف أن يفتتح صلاته بالدعاء والمسألة.
وقال بعض العلماء: الأفضل حديث علي: (وجهْتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض)، وقالوا: لأنه يجمع بين الدعاء والثناء.
والذي يظهر والله أعلم أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قول أبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي) هو هديه الذي فعله عليه الصلاة والسلام واختاره الله له.
وأما حديث: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك) فهو نوعٌ من أنواع الثناء على الله عز وجل لا يخالف ما ورد عن أبي هريرة فإنه قد روته أم المؤمنين عائشة، والأشبه بـ عائشة رضي الله عنها أن تعلم صلاته بالنوافل، وأما بالنسبة لـ أبي هريرة فقد صرح أنه يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو اطلع على سكوته بين التكبير والقراءة، وهذا إنما يكون في الصلاة المفروضة، فيجمع بين هاتين، فيقال: الدعاء أفضل لفضل الفريضة، ثم التمجيد والثناء وما ورد في الأحاديث الأُخر فيكون في النوافل، جمعاً بين هذه النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.(39/8)
مشروعية دعاء الاستفتاح في الصلاة
دلت الأحاديث الصحيحة، كحديث أم المؤمنين عائشة، وحديث أبي سعيد، وحديث أبي هريرة، وغيرها من الأحاديث التي اشتملت على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الاستفتاح على أن دعاء الاستفتاح من الأمور المسنونة والمشروعة في الصلاة، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: فذهب جمهور العلماء إلى أن دعاء الاستفتاح سنة، كما هو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله على الجميع، وذلك لثبوت الأحاديث والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استفتح صلاته الفريضة والنافلة.
وذهب الإمام مالك رحمه الله في المشهور عنه إلى أن دعاء الاستفتاح لا يشرع، وجاءت عنه رواية إلى أنه يشرع في النافلة دون الفريضة، والسبب الذي جعل المالكية يقولون بعدم مشروعية دعاء الاستفتاح أدلة: منها: حديث أنس في الصحيح أنه قال: (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان كلهم كانوا يستفتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]) قالوا: فلم يذكر أنهم استفتحوا بدعاء الاستفتاح.
وقالوا أيضاً: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علم المسيء صلاته وقال له: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) قالوا: فلم يذكر صلوات الله وسلامه عليه دعاءً بين التكبير والقراءة.
والذي يترجح والعلم عند الله القول بمشروعية دعاء الاستفتاح، وذلك لثبوت الأحاديث الصحيحة فيه.
وأما الاستدلال بحديث أنس رضي الله عنه فإنه محله القراءة، أي: أنهم كانوا يستفتحون قراءتهم بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ولا يستفتحونها بسورةٍ أخرى، فهو يتكلم عن الابتداء بالقراءة، ونحن نتكلم عن ابتداء الصلاة، وفرقٌ بين الابتداء العام وهو ابتداء الصلاة، وبين الابتداء الخاص وهو ابتداء القراءة، ولذلك لا معارضة بين حديث أنس وبين حديث الاستفتاح.
ثم إننا نقول: لو أن أنساً قال: لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح لكان حديث أبي هريرة حجةً عليه؛ لأن القاعدة أن من حفظ حجةً على من لم يحفظ، فكيف وحديث أنس لم يصرح بنفي دعاء الاستفتاح؟! فلذلك يقوى اعتبار الأحاديث التي دلت على مشروعية دعاء الاستفتاح.(39/9)
دعاء الاستفتاح مشروع في كل صلاة
ظاهر النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن دعاء الاستفتاح مشروعٌ في الصلوات كلها، نافلةً كانت أو فريضة، والمالكية يفرقون بين النفل والفرض كما قدمنا، والصحيح أنه سنةٌ مطلقة.
واختلف في صلاة الجنائز: هل يستفتح المصلي إذا صلى صلاة الجنازة؟ فللعلماء في هذه المسألة قولان مشهوران: القول الأول: صلاة الجنازة لا يشرع لها دعاء الاستفتاح، وإنما تكبر وتبتدئ بقراءة الفاتحة، وذلك لثبوت السنة من حديث أبي أمامة، وكذلك حديث ابن عباس رضي الله عن الجميع في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام على الجنائز، فذكرا أنه استفتح بالفاتحة، وأنه لم يقرأ غير الفاتحة، ولم يفصل بين الفاتحة والتكبير بدعاء.
القول الثاني: يُسنّ أن يقرأ دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة في التكبيرة الأولى، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم، وأخذوا بعموم الأحاديث.
والذي جعل الحنفية رحمة الله عليهم يذهبون إلى هذا هو أنهم لا يرون في الصلاة على الجنائز قراءة الفاتحة، وإنما يرون أنها دعاء، ولذلك قالوا بمشروعية هذا الدعاء؛ لأنه داخل في جنس ما قرروه من أن صلاة الجنازة تقوم على الدعاء والشفاعة للميت.
والذي يترجح والعلم عند الله القول بعدم مشروعية دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة؛ لأن العموم الوارد هنا مخصص هناك، فإن حديثي ابن عباس وأبي أمامة في السنن رضي الله عن الجميع يدلان دلالة واضحةً على أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الفاتحة في التكبيرة الأولى.(39/10)
موضع دعاء الاستفتاح
دعاء الاستفتاح يقع بين تكبيرة الإحرام والقراءة، سواءٌ أكان في فريضة أم نافلة.
وهنا
السؤال
فلو أن إنساناً صلى صلاة العيد، فهل يستفتح بين التكبيرة الأولى والتكبيرة الثانية، أو يستفتح عقيب التكبيرات؟
و
الجواب
مذهب الجماهير أنه يستفتح عقيب التكبيرات، وذلك لأن الفصل بين تكبيرة الإحرام وبين دعاء الاستفتاح بعد الانتهاء من التكبيرات إنما هو فصل بشيء من جنس التكبير، ولذلك لا يؤثر، وبناءً على هذا يشرع أن يستفتح بعد التكبيرة الأخيرة من تكبيرات العيدين في الركعة الأولى من الصلاة.(39/11)
نسيان دعاء الاستفتاح وسجود السهو له
للعلماء في نسيان دعاء الاستفتاح وسجود السهو له وجهان: أصحهما أن دعاء الاستفتاح سنة وليس بواجب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّم المسيء صلاته الأركان والواجبات، ولم يرد في دعاء الاستفتاح دليل يأمر به ويلزم به، فبقي على السنة والتخيير، ويؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالاستفتاح، ولم يطلع عليه أبو هريرة إلا بعد أن قال له: (أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة)، فلو كان دعاء الاستفتاح واجباً لبينه صلوات الله وسلامه عليه، ولما جعل الصحابة ينتظرون أن يعلمهم بعد سؤالهم.
وهنا مسألةٌ وهي: لو أن إنساناً نسي دعاء الاستفتاح فكبّر تكبيرة الإحرام في فريضةٍ أو نافلة، ثم شرع بالاستعاذة، خاصة في الصلوات السرية، وتذكّر قبل أن يبدأ بالبسملة والسورة، فهل يرجع أو لا؟ فيه وجهان للعلماء: أقواهما أنك إذا شرعت في الاستعاذة أو البسملة أو الفاتحة لا ترجع للفوات، فإن محل دعاء الاستفتاح ما بين التكبير والاستعاذة، وبناءً على ذلك إذا فات فإنه يشرع في الاستعاذة، ويسقط الاستفتاح.(39/12)
الأسئلة(39/13)
حكم الجمع بين أدعية الاستفتاح في موضع واحد
السؤال
هل يجوز جمع روايات دعاء الاستفتاح في الصلاة، أم يقتصر على رواية واحدة؟
الجواب
الذي اختاره جمعٌ من المحققين أنه ينوع، فيدعو بهذا تارةً ويدعو بهذا تارة؛ لأن الخلاف هنا خلاف تنوع وليس بخلاف تضاد، وبناءً على ذلك ينوع، فيصلي بهذا تارة ويصلي بهذا تارة؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما لو جمع الجميع في موضع واحد فللعلماء وجهان: الوجه الأول: اختار الإمام النووي رحمه الله أنه لا حرج في الجمع بين هذه الأدعية.
والوجه الثاني: اختار شيخ الإسلام وغيره: أن الجمع بينهما لم يرد، فلذلك يقتصر على الوارد.
والأولى والأحوط أن الإنسان يقتصر على الوارد، فيصلي بهذا تارة وبهذا تارة، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.(39/14)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وتعالى جدك)
السؤال
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وتعالى جدّك) في دعاء الاستفتاح؟
الجواب
( تعالى) من العلوّ، فلذلك وصف الله سبحانه وتعالى بالعلو، وقد ثبتت صفة العلو لله سبحانه وتعالى، وهي على مذهب أهل السنة والجماعة تدل على ثبوت الفوقية لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50].
ولذلك لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء)، فهذا إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى، على خلاف من قال بعدم ثبوتها، وقال: إن العلو ليس لله سبحانه وتعالى، بمعنى أنك لا تقول: إن الله في العلو كما ثبتت به النصوص الواردة في الكتاب والسنة، ولذلك يقول: من أثبت الجهة كان مبتدعاً، وهذا قولٌ مردود.
فمذهب أهل السنة والجماعة إثبات العلو لله عز وجل على ما يليق بجلاله وكماله.
فالنصوص ثبتت بوصف الله عز وجل بكونه أعلى، كما قال عليه الصلاة والسلام: (سبحان ربي الأعلى) في سجوده، وقال تعالى في كتابه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، فأثبت العلو لنفسه، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء)، فدل هذا على ثبوتها.
وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الدعاء كما جاء في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أحب الكلام إلى الله: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك).(39/15)
حكم إشراك نية الدنيا مع نية الآخرة
السؤال
هل يشترط في الخروج إلى المساجد أن يستحضر النية في رفع الدرجات وحط الذنوب والسيئات بالخطا، أم أنها تقع بمجرد المشي؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا خرج الإنسان من بيته ونيته المسجد فلا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن تكون نيته الصلاة والتقرب إلى الله عز وجل، وليس في قلبه أن يلقى أحداً أو أي شيء من عرض الدنيا، لا يريد إلا أن يذهب لأجل أن يصلي ويطيع الله عز وجل، فهذا بأعلى المراتب وأشرفها عند الله عز وجل، ونيته نية آخرة، فإذا نوى هذه النية كتب الله له أجره، ورفع درجاته، وحط خطيئاته، فتكفي هذه النية، وهي أن تخرج للصلاة ولا يخرجك إلا إجابة داعي الله عز وجل، وهذا هو الذي يحصل به قدر الفضل.
الحالة الثانية: أن يخرج ونيته الدنيا والعياذ بالله، كرجل لولا أن هناك حاجة من حوائج الدنيا ما خرج، أو يخرج رياءً أو سمعة، فهذا -والعياذ بالله- خروجه عليه لا له.
الحالة الثالثة: أن يُشَرّك بين النيتين، فتكون نيته الصلاة والدنيا، يقول: أخرج إلى الصلاة وألقى فلاناً فأكلمه على البيت وعلى الحاجة، أو أكلمه على دَين، أو أكلمه على أمرٍ من الأمور.
وإن كانت نيته المشتركة نية طاعة وعبادة فلا إشكال، كأن يقول: أخرج إلى المسجد من أجل الصلاة ومن أجل تعليم العلم، فهذا أفضل من الذي قبله من جهة أنه جمع بين فضل الصلاة بالخطا وفضل تعليم الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمد إلى مسجده ليتعلم أو يعلم الناس كان كأجر المجاهد في سبيل الله)، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصوصيات مسجده عليه الصلاة والسلام.
أما إذا كانت النية المشرَّكة لحاجة من حوائج الدنيا كأن يقول: أُصلي وأكلم فلاناً، أو: أصلي وأوصي فلاناً على أمر من أمور الدنيا، فحينئذٍ إن كانت نية الآخرة هي الأصل ونية الدنيا تبع بحيث لو لم توجد نية الدنيا لخرج لا يؤثر هذا التشريك؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، فإنها نزلت فيمن يريد الحج والتجارة، فلما كانت التجارة تبعاً لم تؤثر، وقال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]، فكانوا يتمنون العير وقد خرجوا إلى غزوة بدر، فجعل الله لهم فضل الجهاد مع أنهم كانوا يتمنون العير وهي دنيا، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل قتيلاً فله سلبه)، فهذا دنيا لكنه تبع وليس بغاية.
فمن خرج إلى المسجد بهذا النوع الثالث وهو يريد الدنيا، والنية لها تبع وليست بأصل، بحيث لو امتنعت نية الدنيا لخرج، فهذا لا يؤثر، ويعتبر من التشريك المغتفر على مذهب المحققين من العلماء، كما ارتضاه الإمام الطبري رحمه الله، والحافظ ابن حجر، وغيرهم من علماء الإسلام، فإذا كانت نيتك الصلاة أساساً ونية الدنيا تبعاً فلا حرج عليك في ذلك، وأنت مأجورٌ إن شاء الله.
والله تعالى أعلم.(39/16)
الجمع بين أفضلية الجماعة على الانفراد بسبع وعشرين وخمس وعشرين درجة
السؤال
ورد في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة)، وفي حديث آخر: (بخمس وعشرين)، فكيف نجمع بين الحديثين؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف، قال بعض العلماء: سبع وعشرون وخمس وعشرون لا تعارض بينهما، فالسبع والعشرون لمن بكّر إلى المسجد، وحصّل الصلاة من أولها، والخمس والعشرون لمن تأخر فجاء في آخر الصلاة، كأن يدرك التشهد، فمن أدرك الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك الخمس والعشرين، وهذا القول له وجهٌ من حديث أبي هريرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وذلك أنه إذا توضأ فأصبغ الوضوء ثم مشى إلى المسجد أو خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوةً) الحديث، وقد قال في صدر الحديث: (تضعف على صلاة الفذ بخمسٍ وعشرين ضعفاً) فجعل الفضل من جهة الخروج، فمن أدرك آخر الصلاة أدرك الخمس والعشرين، والسبع والعشرين لمن أدرك أولها، فلا تعارض بين الحديثين لانفكاك الجهة.
وقال بعضهم: السبع والعشرون درجة للصلاة مع الجماعة إذا كانت جهرية، والخمس والعشرون درجة إذا كانت سرية؛ لأن الجهرية فيها قراءة واستماع وتأثر بالقرآن.
وقيل: السبع والعشرون درجة لمن سمع القراءة وتأثر بها، والخمس والعشرون لمن سمع وغفل عن التأثر بها.
وقيل: إن السبع والعشرين درجة تكون لمن مشى إلى المسجد، والخمس والعشرين لمن ركب.
وقيل: إن السبع والعشرين درجة تكون لمن تأثر وخشع وكانت الصلاة مؤثرةً فيه، والخمس والعشرين لمن كان على قدر الإجزاء، فيكون له حظ السعي والتعب والمشي.
وهناك أوجه أخرى ذكرها العلماء رحمهم الله، من ذلك أن سبعاً وعشرين درجة للجماعة الكثيرة، وخمساً وعشرين درجة للجماعة القليلة، إلى غير ذلك مما ذكروه.
ولكن الحقيقة أن القول الذي يقول: إن الخمس والعشرين للمشي، والسبع والعشرين لكمال الصلاة من القوة بمكان، وهناك وجه يرفع التعارض بالكلية، فيقول: عندنا حديث يقول: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين درجة)، وهذا من حديث ابن عمر في الصحيح، وحديث أبي هريرة: (صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته خمساً وعشرين ضعفاً)، فجعل الفضل هنا بالضعف، والفضل هناك بالدرجات، والقاعدة في الأصول أنه لا يُحكم بالتعارض إلا إذا استويا محلاً، وهنا لم يستويا؛ لأن الموصوف بالدرجة ليس كالموصوف بالمضاعفة، وهذا مذهب من يقول بانفكاك جهة التعارض.
وعلى العموم صل مع الجماعة وأدرك فضلها وأنت على خير، فالأفضل للإنسان أن يدرك الصلاة على أكمل وجوهها، حتى يحصل الفضل على أتم وجوهه، كتبكير إلى الصلاة، والخشوع والتأثر بالقرآن، فهذا أكمل ما يكون من الحظ في السبع والعشرين درجة، وهو أعلى مرتبة من صاحب الخمس والعشرين درجة، ولذلك ينبغي للمسلم أن يحرص دائماً في مسائل الفضل على تحصيل الفضل، وما دام أن الإنسان يرجو الخير والفضل ويسعى إلى الكمال فهو على خير، ثم العلم عند الله في حقيقة هذه الأمور، وهو الذي يفصل بين عباده وهو خير الفاصلين.
والله تعالى أعلم.(39/17)
حكم الائتمام بمسبوق من الجماعة الأولى
السؤال
يحدث كثيراً أن بعض المصلين يفوتهم شيء من الصلاة، فإذا قاموا ليقضوا ما فاتهم جاء رجلٌ من خارج المسجد وائتم بأحد هؤلاء، فهل يصح ذلك؟
الجواب
هذه المسألة فيها تفصيل، فإذا صليت مع الجماعة وأدركت الجماعة فلا تخلو من حالتين: فإن أدركت ركعةً فأكثر فقول جماهير العلماء أنه لا يصح الاقتداء بك؛ لأنك مأموم ولست بإمامٍ، ولا يصح للمأموم حُكماً وفضلاً أن يصير إماماً، ولا يعرف في الشرع هذا إلا في مسائل الاضطرار كالاستخلاف.
وقال بعض العلماء -وهو وجهٌ ضعيف عند الشافعية-: يجوز أن يصلي المأموم الذي أدرك الإمام بجماعةٍ ثانية، واستدلوا على هذا بوجود صلاة الخوف في الاستخلاف، ولكن هذا المذهب ضعيف، وبيّن العلماء رحمهم الله أنه قولٌ ضعيف ولا يقوى دليله.
والصحيح أن من أدرك ركعةً فأكثر أنه مأموم وليس بإمام، ولا يحمل عن مأمومه الصلاة وهو منها في حلّ، ولذلك لا يكون المأموم إماماً.
أما بالنسبة للحالة الثانية فهي أن لا تدرك ركعةً مع الإمام، كأن تدرك الإمام وقد رفع من الركوع الأخير، سواءٌ أدركته بين الرفع وبين السجود، أم أدركته في السجدة قبل الأخيرة، أو السجدة الأخيرة، أو في التشهد، فإذا أدركته في هذه الحالة جاز لك أن تصير إماماً لغيرك؛ لأنك وبالإجماع تأخذ حكم المنفرد، ألا تراهم في هذه الحالة يقولون: إنك لو أدركت إمام الجمعة في التشهد أو بعد الركعة الأخيرة فإنك تصلي ظهراً على الراجح، فدل ذلك على أنك مدركٌ لفضل الجماعة لا لحكمها، فتكون إماماً من هذا الوجه، ولذلك رخص العلماء في هذه الصورة، فإذا دخلت مع إنسان معك تقول له: إذا سلّم الإمام ائتم بي حتى تكون النية منقعدة، فإذا سلّم الإمام تقوم أنت فتكبر فيتبعك دون أن تكلمه، فتنعقد لكم الجماعة، فيحصل لكم فائدة دخولكم في الجماعة الأولى، وفائدة الجماعة الثانية من جهة الاقتداء.
ولذلك الأفضل للإنسان إذا دخل أن يتبع الإمام، بل قال العلماء: يجب على من دخل المسجد ولو بقيت لحظة على سلام الإمام أن يدخل معه، ولو لم يدخل يأثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أدركتم فصلوا)، وهذا نص من السنة، وإن كان بعض الشافعية رحمهم الله اختاروا على أنه لا حرج أن يحدث جماعة ثانية، لكنه وجه شاذ؛ لأن الإسلام يحرص على الجماعة ولا يريد الشذوذ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: لما رأى الرجلين لم يصليا قال: (ما منعكما أن تصليا في القوم، ألستما بمسلمين؟!!)، فدل على أنه لا يجوز إحداث جماعة في داخل المسجد مع وجود الجماعة الأولى، ولأنه يحتمل أن الإمام بقيت عليه ركعة كأن يكون سلّم من ثلاث وهو في ظهر سهواً، فلذلك لا يحكم بجواز إحداث الجماعة الثانية ما دام أن الإمام لم يسلم من الجماعة الأولى، ولأن إدراكك للجماعة الأولى أفضل من إحداث جماعةً ثانية؛ لأنك إذا أدركت الجماعة الأولى أدركت فضلاً في الوقت لم تدركه الجماعة الثانية، واللحظة اليسيرة في أوقات الصلاة بينها وما بعدها كما بين السماء والأرض، ففي الحديث: (إن العبد ليصلي الصلاة، وما يصليها في وقتها، وإن ما فاته من وقتها خيرٌ له من الدنيا وما فيها)، فقد يكون وقتاً يسيراً جداً ما بين الجماعة الأولى والثانية، فتفوت على نفسك الفضل بإحداث الجماعة الثانية، ثم إن هذا شذوذ ويخالف ظاهر السنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أدركتم فصلوا)، فدل على أن من دخل المسجد يلزم بالدخول مع الجماعة، ولا يجوز له أن يختلف عن الإمام والشذوذ عنه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(39/18)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [3]
إذا أتم المصلي قراءة دعاء الاستفتاح فإنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يبسمل سراً، ثم يقرأ الفاتحة، وهي ركن من أركان الصلاة، ثم يقول (آمين) بعد الفاتحة جهراً في الجهرية، ثم يقرأ بعدها سورة من القرآن، ويلتزم في التطويل والتخفيف بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم يركع مكبراً، وللركوع صفة معلومة، ثم يقوم من الركوع ملتزماً فيه بالصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.(40/1)
أحكام الاستعاذة والبسملة(40/2)
الاستعاذة قبل القراءة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يستعيذ ثم يبسمل سراً].
الاستعاذة: طلب العوذ، ومعناها: ألتجئ وأعتصم بالله عز وجل نعم المولى ونعم النصير، ولذلك شرع الله هذه الاستعاذة عند قراءة كتابه العزيز، فقال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم -وأمره أمرٌ لأمته حتى يدل الدليل على الخصوص- أنه إذا استفتح قراءة القرآن أن يستفتحها بالاستعاذة، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه استفتح قراءته بالاستعاذة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه ينبغي على القارئ أن يستفتح قراءته بالاستعاذة، ومن السلف من قال بوجوب الاستعاذة، وذلك لأمر الله عز وجل بها، قالوا: فهي واجبة.(40/3)
صيغ الاستعاذة
والاستعاذة تأتي على صيغ: الصيغة الأولى: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهذه الصيغة هي التي وردت في سورة النحل، وعليها جماهير القراء، وهي أفضل من غيرها، وذلك لأن الله أمر بها وحدّدها في افتتاح كتابه، والمعين أفضل من غير المعين، فيعتبر تعيينها دليلاً على فضلها، وقد أشار بعض الفضلاء إلى ذلك بقوله: ولتستعذ إذا قرأت واجهر مع استماع وابتداء السور إلى أن قال: ولفظه المختار ما في النحل وقد أتى الغير عن أهل النقل أي: لفظ الاستعاذة المفضل ما في سورة النحل، وهو قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98].
وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)، فهذه أيضاً استعاذة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعض السلف: يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم)، وبعضهم يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)؛ لأن الله قال لنبيه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] قالوا: فيقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم).
ولا شك أن الوارد أوقى من غيره؛ لأن القاعدة -كما قرر العز بن عبد السلام وغيره- تقول: (إذا وردت ألفاظٌ للأذكار منها وارد ومنها مقتبس من الوارد، فالوارد أفضل من غيره -أعني: المقتبس-)، ولذلك يقدم قولهم: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهو أقوى الاستعاذات.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ أحياناً بقوله: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) يدل على الجواز، وما دلّ على الجواز ليس كما أُمِر به، فإن اختيار الله له يدل على الفضل.(40/4)
أوجه الاستعاذة مع البسملة وأول السورة، وأوجه البسملة بين السورتين
والاستعاذة أدب من آداب التلاوة ينبغي لمن تلا كتاب الله أن يستفتح بها، قالوا: لأن الإنسان يُعصم بإذن الله عز وجل من دخول الدخل من الشيطان الرجيم في قراءته، فينال بركة القراءة وخيرها وحظها، ولذلك تجده أكمل الناس تدبراً ووعياً وفهماً، فإنه حينما يلتجئ ويحتمي بالله عز وجل من الشيطان أن يدخل بينه وبين قراءته فإنه يأمن الفتنة، وتكون قراءته على أتم الوجوه وأفضلها وأحسنها، فشرع الله لعباده أن يفتتحوا بهذه الاستعاذة، وهذه الاستعاذة تعتبر أصلاً في القراءة كما ذكرنا، وتكون مع البسملة والابتداء بأول السورة على أربعة أوجه: الوجه الأول: تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين)، وهذا الوجه يسميه العلماء وجه الوصل، فتصل الجميع.
الوجه الثاني: تقطع فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، (بسم الله الرحمن الرحيم)، (الحمد لله رب العالمين)، فتقطع الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث.
الوجه الثالث: أن تجمع بين الأول والثاني وتفصل الثالث عنهما، فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم)، (الحمد لله رب العالمين).
الوجه الرابع: أن تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين).
وأما البسملة بين السورتين ففيها أربعة أوجه، وأحدها لا يجوز: الوجه الأول: أن يقول مثلاً: " {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] " وهذا وجه الوصل، فيصل الجميع.
الوجه الثاني: " {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3]، بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] " فيقطع الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث.
الوجه الثالث: أن يقطع آخر السورة، ويقول: " {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] " ثم يسكت، ويبتدئ ويقول: " بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ".
الوجه الرابع: ولا يصح هذا الوجه، وهو أن يصل قوله تعالى: " {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] ببسم الله الرحمن الرحيم " ثم يقطع ثم يقول: " {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] "؛ لأنه يوهم أن البسملة لآخر السور، وإنما شرعت البسملة لأوائل السور.(40/5)
الإسرار بالبسملة
قال رحمه الله تعالى: [ثم يبسمل سراً وليست من الفاتحة].
أي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فـ (البسملة) اختصار لها، كالحوقلة والحسبلة اختصاراً لما ذُكِر من الأذكار.
والبسملة شرعت للفصل بين السور، ومذهب طائفة من العلماء وجوبها إلا فيما بين براءة والأنفال، فإنه لا يفصل بينهما بالبسملة، ولذلك قالوا: بسمل وجوباً عند كل السور عدا براءةٍ وذاك في الأشهر أي: على أقوى قول العلماء رحمةُ الله عليهم، فالأشهر يعني الأقوى والأرجح.
فالبسملة مشروعة لابتداء السور، فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
وقوله: (سراً) على مذهب الجمهور.
والشافعية رحمة الله عليهم يقولون بالبسملة جهراً.
وكلا الفريقين يحتج بحديث أنس: (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان كلهم كانوا يستفتحون القراءة: ببسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2])، والرواية الثانية: (كلهم يستفتحون القراءة: بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]).
وجمع العلماء بين الروايتين عن أنس بأن نفيه للبسملة مراده الجهر، وإثباته لها مراده السر، أي: أنهم كانوا يقرؤون (بسم الله الرحمن الرحيم) سراً لا جهراً.
فإن كان الإنسان قد ترجح عنده القول بعدم الوجوب فإنه يسر، وهذه هي السنة في حقه، وإن ترجح عنده القول بوجوب البسملة وقرأها جهراً فلا حرج، ولا ينكر على أحد بسمل جهراً، ولذلك اختار بعض العلماء: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا تارة ويفعل هذا تارة، كما يفهم من كلام بعض المحققين، ولذلك لا ينكر على من جهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهو قولٌ أئمة من السلف، ومعتدٌ بقولهم وخلافهم؛ لأن له وجهاً من سُنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.(40/6)
هل البسملة من الفاتحة
قوله: [وليست من الفاتحة] هو مذهب الجمهور.
وعند الشافعية البسملة هي آية من الفاتحة، ولذلك يصلون قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فإن قلت: إنها آية وصلت اعتبرتها آية واحدة حتى تكمل سبعاً؛ لأن سورة الفاتحة سبع آيات كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر:87] قيل: إنها الفاتحة، وعلى هذا الوجه قالوا: إن آياتها سبع، وبناءً على ذلك يقولون: إذا قرأ البسملة فإنه يصل الآية الأخيرة ولا يحسبها آيتين، ولا يقف عند قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، أما إذا كان يرى أنها ليست من الفاتحة فإنه يعتبر هذا موقفاً له وآية.(40/7)
قراءة الفاتحة في الصلاة(40/8)
وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ الفاتحة].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وقال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أيما صلاةٍ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، فهي خداج)، وسميت فاتحة لأن الله افتتح بها كتابه، وتشرف الكتب بما تفتتح به، ولذلك كانت أفضل سورةٍ في كتاب الله عز وجل، فأفضل آيةٍ آيةٌ الكرسي، وأفضل سورةٌ سورة الفاتحة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام فيها: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) فهذا يدلّ على شرفها، ولذلك قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، فعطف العام على الخاص، وعطف الخاص على العام والعام على الخاص يدلّ على شرف الخاص وفضله، كما قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4]، فإن اختصاصه بالذكر يدل على ثبوت شرفه وعلوه عن غيره، فلذلك قالوا: الفاتحة هي أفضل ما في القرآن من سور.(40/9)
حكم قطع الفاتحة بذكر أو سكوت طويل
قال رحمه الله تعالى: [فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال، أو ترك منها تشديدة أو حرفاً أو ترتيباً لزم غير مأموم إعادتها].
قوله: [فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال].
أما الذكر فمثاله: لو أن إنساناً قرأ وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2 - 3] فقطع بين الآية الثانية والآية الثالثة بذكرٍ غير مشروع في هذا الموضع، كما لو قال: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)، فهذا ذكر، لكنه غير مشروع في هذا الموضع، لكن لو قطعها بسؤال رحمته أو استعاذة من عذابه فإنه مشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه كما في حديث ابن مسعود أنه: (ما مر بآية رحمة في قيام الليل إلا سأل الله من فضله، ولا مرّ بآية عذابٍ إلا استعاذ بالله عز وجل)، فلو أنه قطع بينهما بذكرٍ مشروع لا يؤثر، وإن قطع بذكر غير مشروع أثر.
فلو قال الحسبلة بين الآية الثالثة والرابعة أو الرابعة والخامسة يبتدئ من جديد قراءة الفاتحة؛ لأن هذه الحسبلة ليست من كتاب الله عز وجل، ولا يشرع ذكرُها في هذا الموضع الذي ذكر، فكأنه تكلم بكلامٍ خارجي، وخرج عن كونه قارئاً، وقارئ الفاتحة لا بد أن يتمها، فإن فصل بين آياتها بالذكر الخارجي فإنه لم يتمها، فيلزمه أن يبتدئ قراءتها من أولها، وقال بعض العلماء: يبتدئ من حيث فصل، فيقرأ الآية الأخيرة التي وقع عند الفصل ثم يتم ما بعدها والأول أحوط.
وأما السكوت فهو السكوت الفاحش، وهو السكوت الطويل، كما لو قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ثم سكت وطال سكوته، فإنه حينئذٍ يستأنف؛ لأنه لا يشرع السكوت هنا إذا كان متفاحشاً.
أما لو سكت للفصل بين الآيات فهذه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4]، فكانت قراءته عليه الصلاة والسلام مفصّلة مرتلة صلوات الله وسلامه عليه.(40/10)
حكم ترك بعض الحروف والتشديدات في الفاتحة
قوله: [أو ترك منها تشديدة].
في الفاتحة إحدى عشرة تشديدة: (الله)، (ربِّ)، (الرَّحمن)، (الرَّحيم)، (الدِّين)، (إيَّاك)، (وإيَّاك)، (الصِّراط)، (الَّذين)، (الضَّالِّين وفيها تشديدتان)، فهذه إحدى عشرة تشديدة، فإذا ترك منها تشديدة واحدة يستأنف؛ لأن الحرف المشدد يشتمل على حرفين، فـ (ربّ) تشتمل على بائين مدغمتين في بعضهما كأنهما حرفٌ واحد، وهي ولكن حقيقتهما أنهما حرفان، فإذا خفف وترك التشديد كأنه أسقط حرفاً من الفاتحة، ولم يقرأ الفاتحة كما أمرهُ الله، وإنما يعتد بقراءةٍ وقعت على السورة التي أمر الله عز وجل بها، فإن صلى الإمام وكان من هذا الجنس الذي يترك التشديد، أو يُخِلّ بالألفاظ إخلالاً يخرجها عن المعنى، كأن يضم التاء من: (أنعمتَ)، أو يكسرها: (أنعمتِ)، فإنه حينئذٍ لا تصح الصلاة وراءه، فالذي يلحن لحناً يحيل المعنى في الفاتحة فإن صلاته باطلة إذا لم يكن معذوراً، أما إذا كان معذوراً فإنه تصح صلاته لنفسه ولمن هو مثله أو دونه.
ومن ذلك أيضاً الأمي الذي يلحن في الفاتحة لحناً يحيل المعنى، كما لو قال: (أَهدِنا)، فإنه غير قوله: (اهْدِنَا)، وكذلك إذا ضم التاء أو كسرها في قوله تعالى: (أنعمتَ)، فإنه حين يقول: (أنعمتُ) أحال المعنى، فكأنه هو المنعم، وكذلك الحال إذا كسر فإنه خطاب للأنثى، وليس ذلك بصائغٍ لله عز وجل.
فالمقصود أن أي إخلال في الفاتحة يُذهِبُ به الحرف أو يخل به المعنى فقراءته غير معتبرة، وإن كان على سبيل السهو فحينئذٍ يرجع ويعيد القراءة؛ لأنها ركن في الصلاة ويتدارك، وإلا صحت صلاته إذا كان معذوراً كالأمي وحديث العهد بالإسلام الذي لا يمكنه، فإذا غلط في أول مرة يتسامح له، ويصلّي على حالته لنفسه، ثم إذا وسعه الوقت للتعلم فإنه يأثم.
قوله: [أو حرفاً].
وهكذا لو ترك حرفاً، كما لو قرأ: (الصراط) بتخفيف الصاد، فإنه ترك حرفاً، أو ترك الحرف بالكلية فقال: (أنعم) بدل (أنعمتَ)، فإنه تبطل قراءته، ويلزمه أن يأتي بالفاتحة على الوجه المعتبر.
قوله: [أو ترتيباً].
أي: لم يرتب آياتها، فذكر آيةً قبل آية، فإنه لا يعتد بقراءته، ويلزمه أن يستأنف.
وقوله: [لزم غير مأمومٍ إعادتها].
أي أن الإمام يلزمه أن يعيد، وإذا أعاد أجزأ ذلك المأموم، ولذلك قال: [غير مأموم]، وهذا على القول أن الإمام يحمل الفاتحة عن المأموم، وإن كان الصحيح أن الإمام لا يحمل الفاتحة عن المأموم، وبناءً على ذلك فإنه قال على الوجه الذي يرى أن الإمام يحمل عن المأموم، فقال: (لزم غير مأمومٍ إعادتها)، فيلزم المنفرد والإمام أن يعيد القراءة إذا حصل واحدٌ من هذه الإخلالات التي ذكرناها، فإذا ترك حرفاً، أو تشديدةً أو لحن لحناً يخل بالمعنى، فإنه يستأنف.(40/11)
قول (آمين) والجهر بها للإمام والمأموم
قال رحمه الله تعالى: [ويجهر الكل بآمين في الجهرية].
التأمين معناه: (اللهم استجب)، فقولك: (آمين) أي: اللهم استجب، وقد شُرِع التأمين جهرةً لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، ولذلك قال: (إذا أمّن الإمام فأمنوا)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمّن) أي: بلغ موضع التأمين، وليس المراد أنه إذا أمَّن وقال لفظ التأمين؛ لأن هذا معروف في لغة العرب، إذ يصفون الإنسان بالشيء عند مقاربته له، فيقال: أصبح، أي: كاد أن يصبح، ومنه قوله: أصبحت أصبحت، أي: كدت أن تصبح، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أمّن) أي: قارب التأمين ووقف عليه، فحينئذٍ: (إذا أمَّن فأمنوا)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإذا قال: (ولا الضالين) فقولوا: (آمين) فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه)، وثبت في الحديث تفصيل ذلك بأن الملائكة تقول في السماء: آمين، ويقول العبد: آمين، فإذا وافق تأمين العبد تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه، وهذا يدل على أنه يجهر، لقوله: (قولوا)، والقول إنما هو اللفظ، وليس الكلام النفسي؛ فإن الكلام النفسي لا يسمّى قولاً، على ما هو معروف من مذهب أهل السنة والجماعة من أن الكلام إنما هو باللفظ وليس في النفس.
كذلك أيضاً ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان وأصحابه إذا أمَّن رفع صوته حتى ترتج أعواد المسجد، أو يرتج المسجد من تأمينه عليه الصلاة والسلام وتأمين الصحابة معه، ولذلك حسدت اليهود المسلمين على هذا التأمين.
فالسنة أن يرفع الصوت، وقال بعض العلماء: يرفع الصوت ولا يبالغ في الرفع إلى درجة الإزعاج، ولا يخافت، ولكن يرفع بقدر وسط.(40/12)
قراءة سورة بعد الفاتحة
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ بعدها سورة].
وهذا من هديه صلوات الله وسلامه عليه، والسورة قيل: مأخوذة من السور لارتفاعه، فقيل: سميت سورةً لارتفاعها وعلو شأنها، وقيل: لأن المكلف بقراءته لها يرتفع درجة، فيكون بحالٍ أحسن من حاله قبل قراءتها بفضل التلاوة، وقيل: من السور، بمعنى الإحاطة، وكل هذه أوجه.
فقوله: [يقرأ بعدها سورة] أي: من كتاب الله عز وجل، ولا حرج عليك أن تقرأ سورةً كاملة، أو تقرأ بعض السورة، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ السور كاملةً، وجزّأ السورة في الركعة الأولى والثانية كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة، ففي فريضة الفجر قرأ: {قُولُوا آمَنَّا} [البقرة:136]، و: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران:64]، فالأولى من البقرة والثانية من آل عمران، هذه آية وهذه آية، وكذلك ثبت عنه قراءته بآخر سورة البقرة صلوات الله وسلامه عليه.
وكذلك أيضاً ثبت عنه في الحديث الصحيح قراءة السور كاملة، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث أنه قرأ في الصلوات الخمس السورة في الركعتين، في الفجر كما سيأتي إن شاء الله، وفي الظهر، وفي العصر، وفي المغرب، وفي العشاء، قرأ السورة كاملة، ويجوز للإنسان أن يجمع بين السورتين أيضاً ولا يقتصر على سورةٍ واحدة، فقد ثبت في الحديث أن رجلاً كان يقرأ ثم يختم بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في كل ركعة، فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما حملك على هذا؟ - أي: ما حملك على أن تجمع بين السورة وسورة الإخلاص- قال: إني أحبها قال: حبك لها أدخلك الجنة)، فهذا يدل على جواز أن يقرن بين السور، وقد قال ابن مسعود: (إني لأعرف السور التي كان يقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها).
فعلى العموم لا حرج أن تقرأ أكثر من سورة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه استفتح قيام الليل، فقرأ سورة البقرة والنساء والمائدة -كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه - ولم يقرأ آل عمران) قيل: هذا قبل الترتيب في العرضة الأخيرة.
فالمقصود أن هذا كله من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شئت قرأت سورةً كاملة، وإن شئت قرأت بعض السورة، وإن شئت قرأت نصف السورة في الركعة الأولى أو أكثرها، وفي الركعة الثانية أتممت، فكل هذا من هديه عليه الصلاة والسلام.(40/13)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التخفيف والتطويل في الصلوات(40/14)
القراءة في الصبح بطوال المفصل
قال رحمه الله تعالى: [وتكون في الصبح من طوال المفصل].
أي: في صلاة الفجر، والمفصل: مأخوذٌ من فصل الشيء، قال بعض العلماء: إنه من الفصل بين الشيئين أن يُحال بينهما بحائل.
قالوا: وُصِفت هذه السور بكونها مفصلة لكثرة الفصل بينها بالبسملة، بخلاف أوائل القرآن كالسبع الطوال، فإنها طويلة، والفصل بالبسملة قليل، والمفصل يبتدئ من سورة (ق) إلى آخر القرآن.
والوجه الثاني: سمّي المفصل مفصلاً لكثرة الفصل بين آياته، فآياته قصيرة، على خلاف السبع الطوال وما بعدها من السور، فإن غالبها طويل المقاطع.
والوجه الثالث: سمّي المفصل مفصلاً من الفصل بمعنى الإحكام، والسبب في ذلك قلة النسخ فيه؛ لأنه محكم وقليل النسخ، بخلاف أوائل القرآن، فإن فيه آيات منسوخة.
وهذه كلها أوجه في سبب تسميته بالمفصل.
والمفصل كما هو المعهود عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعتبرونه من سورة (ق).
ثم هذا المفصل فيه طواله وأواسطه وقصاره، فيُقسم على هذه الثلاثة الأقسام: طوال المفصل، وأواسط المفصل، وقصار المفصل.
فأما طوال المفصل فتبتدئ من سورة (ق) إلى سورة (عم)، وأما أواسطه فمن سورة (عم) إلى (الضحى)، وأما قصاره فمن سورة (الضحى) إلى آخر القرآن، هذا بالنسبة لطوال المفصل وأواسط المفصل وقصار المفصل.
فقوله رحمه الله: [يقرأ في الفجر أو في الصبح بطوال المفصل] أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح أنه كان يقرأ بطوال المفصل، ويطيل القراءة فيها، ثبت هذا في حديث جابر وأبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، ففي حديث جابر: (وكان يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية)، فقراءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت ما بين الستين إلى المائة، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يطيل القراءة، قالوا: لأن النفوس في صلاة الفجر مهيأة لسماع القرآن والتأثر به، والناس حديثو العهد بالنوم، وعلى استجمام وراحة.
وقول جابر: (ما بين الستين إلى المائة) ظاهره أن ذلك في الركعتين، وحديث صلاة الفجر في الجمعة: (أنه كان يقرأ في الفجر (الم تنزيل) في الركعة الأولى، وسورة (هل أتى) في الركعة الثانية) يدل عليه، فإن مجموع السورتين إحدى وستين آية، وهذا يقوي أنه كان يقرأ ما بين الستين إلى المائة في الركعتين، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه طوّل في صلاة الصبح، ويشترط أن لا يكون في ذلك حرجٌ على الناس وأذيةٌ بهم، فإن كان هناك على الإنسان حرج، أو كان يغلبه النعاس، أو كان خلفه مريضٌ وأراد أن يخفف فهي السنة؛ لما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (قرأ بالزلزلة)، وثبت عنه في الحديث الصحيح أنه استفتح صلاة الفجر التي كان يطوّل فيها فسمع بكاء صبي فقرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه) صلوات الله وسلامه عليه، من رحمته وحلمه وتخفيفه ولطفه بالناس.
وهكذا ينبغي أن يكون عليه الإمام، والإمام الحكيم الموفّق يُحسِنُ النظر لمن وراءه؛ لأن الله سائله عن جماعته، ومحاسبه عليهم، والهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف)، فهذا خِطابٌ للأمة.
وينبغي أن ينبه على مسألة، وهي أننا إذا قلنا بالستين إلى المائة، فإن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قراءة مرتلة مجوّدة تُعطى فيها الحروف حقها من صفةٍ لها ومستحقها، وكون الإنسان يصلي بالناس بالستين إلى المائة وهو يتغنى ويمطط الآيات ويتكلف فيها ليس من السنة، بل يقرأ قراءة مرتلة ولا يبالغ في التمطيط؛ لأن هذا يجحف بالناس ويضر بهم، ولذلك ينبغي إذا أراد أن يتخير الإطالةَ أن يُحسن ترتيل القرآن، وأن يكون بعيداً عن التكلف والتقعر في تلاوته، وكذلك أيضاً لا يبالغ في الهذ والإسراع في القراءة، وإنما تكون قراءته قراءةً مفصلة مبينة، حتى يكون ذلك أبلغ لانتفاع الناس بقراءته، وحصول الخير لإمامته.
فالسنة في صلاة الفجر الإطالة، ولكن -كما قلنا- النبي صلى الله عليه وسلم من هديه التخفيف عند وجود الحاجة، فلو علمت أن هناك مريضاً، أو أن الناس في سفر، كأن تكون مع رفقة مسافرين في الليل وحضرت صلاة الفجر وهم على نعاس وتضرر من أذى السفر للتخفف عليهم وترفق بهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم اللهم فارفق به)، فالإمام ولاية، وهي ولايةٌ في أمور الدين، فينبغي التخفيف في هذه الحالة.(40/15)
القراءة في المغرب بقصار المفصل
قال رحمه الله تعالى: [وفي المغرب من قصاره].
أي: يقرأ في المغرب من قصار المفصل، وقد جاء ذلك في حديث سلمان بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: (ما رأيت أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، لإمامٍ كان يصلي به)، وهو حديث قال عنه الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح، قال: (فنظرت فإذا به يصلي المغرب من قصار المفصل) أي: من قصار سور المفصل من الضحى فما بعد.
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في المغرب بطوال المفصل، بل بأطول الطوال وهي سورة الأعراف صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك ثبت عنه أنه قرأ (المرسلات عرفاً)، وهي من أواسط المفصل، فدل على أنه لا حرج أن الإنسان أحياناً يصلي بطوال المفصل، والحقيقة أن الأمر يرجع إلى الإمام، فإن بعض الأئمة قراءته تكون طيبة ترتاح لها القلوب والنفوس، ويكون لها أثر من ناحية الخشوع، حتى يتمنى الناس لو طول بهم أكثر مما هو عليه، وهذا كان حال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإمام يريد أن يطيل أو يصيب السنة بقراءة الأعراف فلا حرج، ولكن حبذا أن ينبه الناس، خاصةً في هذه الأزمنة التي تكثر فيها شواغل الناس وحصول الظروف لهم، فينبه على أنه سيصلي بالأعراف، ولا حرج أن يصلي بهم بالمرسلات، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بالطور، وهي من طوال المفصل، فلا حرج أن ينوع بين هذا الهدي، فيصلي على غالب حاله بقصار المفصل، ويصلي أحياناً بطوال المفصل، ولا حرج عليه في ذلك.(40/16)
القراءة في العشاء والظهرين بأوساط المفصل
قال رحمه الله تعالى: [وفي الباقي من أوساطه].
أي: يقرأ في صلاة الظهر والعصر والعشاء من أوسط المفصل، أما صلاة الظهر فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بما يقرب من ثلاثين آية، وجاء عنه أنه قرأ السجدة وهي ثلاثون آية، أو إحدى وثلاثون آية، فهذا يدل على أنه من السنة قدر الثلاثين، خمس عشرة آية تكون للركعة الأولى، وخمس عشرة آية للركعة الثانية، وجاء هذا في حديث السنن، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في الظهر بأواسط المفصل، كما في سورة البروج فقد قرأها في صلاة الظهر، وكذلك سورة {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1] وسورة: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] كله جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما بالنسبة للعصر فإنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يجعله على النصف من صلاة الظهر، وكان في صلاة الظهر يطول في الركعة الأولى، حتى ثبت في الحديث أنه: (كان الرجل يذهب إلى البقيع فيقضي حاجته ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى)، وثبت أنه: (كان يقوم في الركعة الأولى حتى لا يسمع قرع نعال)، وهذا يدل على تطويله عليه الصلاة والسلام، وورد في حديث أبي داود أنه كان تطويله يفهم منه الصحابة أنه يريد من الناس أن يدركوا الركعة الأولى.
أما العصر فإنه كانت قراءته على نفس قراءة الظهر، فلذلك يقرأ بخمسة عشر آية، أو فيما هو في حدودها.
وأما العشاء فقد ثبت عنه ما يدل على أنه كان يقرأ من أواسط المفصل، والسبب في ذلك أن معاذاً رضي الله عنه لما اشتكاه الرجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت القضية في صلاة العشاء-: (هلاَّ قرأت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1])، فدل هذا على أنه كان يقرأ من أواسط المفصل، ولا حرج أن يقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1] كما جاء في بعض الروايات، وكل هذا من السنة.(40/17)
حكم القراءة في الصلاة من غير مصحف عثمان
قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان].
والسبب في ذلك أنه كان على العرضة الأخيرة، ولذلك تعتبر هذه العرضة الأخيرة بمثابة النسخ لبقية القراءات التي هي خلاف ما في المصحف الإمام، فقد أجمع المسلمون على هذا المصحف، ولذلك كانت قراءته متواترة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرأ في الناس بالمصحف الإمام، ولا حرج أن يقرأ بأي القراءات الثابتة.
لكن هنا مسألة وهي: لو قرأ بقراءةٍ صحيحة ثابتة، كقراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) أي: في كفارة الحلف، فهذا فيه وجهان للعلماء: من أهل العلم من قال: إن هذه القراءة وإن صحت بالآحاد فإنها لا تثبت حكماً؛ لأن القراءة إنما تكون بما ثبت بالقطع والتواتر، ولذلك لا تصح بها القراءة.
وقال بعض العلماء: إنها تصح، وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.
ولكن لا ينبغي للإنسان أن يخرج بالناس عما هو الأصل الذي اتُفق على صحة الصلاة به وهو مصحف الإمام، ولا حرج على الإنسان أن يقرأ بأي القراءات، ولكن نبه العلماء رحمة الله عليهم على أنه إذا كان الإنسان بين قوم يجهلون القراءات، ويكون تنويعه للقراءات تعليماً لهم أنه يستحب له أن ينوع بين القراءات إذا كانت له رواية بهذه القراءات.
وقال بعض العلماء أيضاً: يستثنى من هذا أن يكون بين قومٍ جهال، فلو قرأ بقراءاتٍِ غريبة ربما أحدث الفتنة، فلا يقرأ بغير القراءة المعروفة، فلو كان بين قومٍ يعرفون رواية حفص فجاء وقرأ برواية ورش فلربما تكلم عليه الناس، وربما ردوا عليه وظنوا أنه قد أخطأ، والواقع أنه مصيب، فقالوا: في مثل هذه الأمور لا ينبغي التشويش، خاصة على العامة، فربما عرضهم للكفر؛ لأنهم ربما أنكروا هذا القرآن وهو ثابت، فيكون هذا الإنكار في الأصل من حيث هو كفر، وإن كان العامي على قول طائفة يعذر بجهله إذا لم يعلم أنها قراءة.
فالمقصود أن الإنسان إذا أراد أن يخرج عن القراءة المعروفة فلينتبه لحال الناس ولا يشوش عليهم، ولا يأتي بقراءةٍ لا يعرفونها، حتى لا يحدثهم بما لا يعرفون، قال صلى الله عليه وسلم: (حدّثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، وهذا في الأحاديث فكيف بالقراءات؟! أما لو كان بين طلاب علم، ويريد أن يبين لهم بعض القراءات ليستفيدوا منها، فهذا في الحقيقة أفضل وأكمل؛ لأن فيه زيادة علمٍ وبيان للناس وتوضيحٍ وإرشادٍ لهم.
فإذا قلنا: تجوز القراءة بالقراءات فهذا يشترط فيه أن يكون في كل ركعة بحسبها، فلا يصح -كما يقول بعض العلماء- أن تخلط بين القراءتين في الركعة الواحدة، فلو قرأت سورةً ما من السور واستفتحت برواية حفص فلتتمها برواية حفص، ولا تدخل القراءة في القراءة، فإذا التزمت القراءة تستمر بها، أما إذا شئت في الركعة الثانية أن تقرأ بقراءة ثانية فقالوا: لا حرج، أما أن ينوع في القراءات في الركعة الواحدة فلا، كأن يقرأ الآية الأولى بحفص، والآية الثانية بورش؛ فإن حفصاً لا يقرأ المصحف كله إلا على قراءته التي رواها، فإذا التزمت استفتاح السورة بقراءة حفص تتمها بقراءة حفص، ولا تدخل فيها قراءة ورش؛ لأن هذا فيه إخلال، وإنما رخص العلماء للقراء والعلماء في أثناء الدروس في القراءات لمكان الحاجة، فله أن يقرأ بالأوجه المتعددة من باب التعليم والحاجة، أما في داخل الصلاة فلا.(40/18)
الركوع وصفته قولاً وفعلاً(40/19)
رفع اليدين عند الركوع
قال رحمه الله تعالى: [ثم يركع مكبراً رافعاً يديه].
أي: بعد أن يفرغ من القراءة يركع، وسيأتي إن شاء الله بيان ما هو الواجب منه واللازم، وما هو المندوب والمستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (ثم اركع)، وقد أمر الله بالركوع فقال: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، وقال: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الحج:77] فأمر بالركوع، وهذا يعتبر من أركان الصلاة، ويركع في النافلة والفرض، يركع حال كونه مُكبراً، أي: جامعاً بين الفعل والقول، وهذا التكبير يسميه العلماء تكبير الانتقال؛ لأنه انتقل من حال القيام إلى حال الركوع.
وقوله: [رافعاً يديه]، لثبوت السنة بذلك من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الركوع).(40/20)
وضع الكفين على الركبتين مفرجتي الأصابع
قال رحمه الله تعالى: [ويضعهما على ركبتيه مفرجتي الأصابع].
أي: يلقم الركبتين بكفيه، ولا يفعل مثل ما يفعل بعض العوام حين يجعل رؤوس الأصابع عند الركبة، والسنة أن يُلقم أصابعه للركبتين.(40/21)
استواء الظهر مع الرأس حال الركوع
قال رحمه الله تعالى: [مستوياً ظهره].
قد كان عليه الصلاة والسلام من هديه إذا ركع هصر ظهره، فاستوى ظهره في الركوع حتى قالوا: لو صُبّ الماء على ظهره صلوات الله وسلامه عليه لم ينكفئ، فكان يركعُ مستوي الظهر.
ثم رأسه لا يشخصه ولا يصوبه، وإنما يجعله مساوياً لظهره، كما جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبلغ ما يكون في الذلة والخضوع لله سبحانه وتعالى، فلا يبالغ الإنسان في الانحدار، ولا يبالغ في رفع الرأس، وإنما يهصر ظهره حتى يستوي، ثم يكون رأسه باستواء ذلك الظهر.(40/22)
قول: (سبحان ربي العظيم) في الركوع
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقول: سبحان ربي العظيم].
وهذا التسبيح بمعنى التنزيه، فسبحان ربي العظيم بمعنى: (أنزهه)، وقد جاء في الحديث: (أنه لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قال عليه الصلاة والسلام: اجعلوها في ركوعكم)، فالركوع فيه فعلٌ وقول، فالفعل هصر الظهر والانحناء، وأما القول فهو قوله: (سبحان ربي العظيم)، والثناء على الله وتمجيده وتعظيمه، قال صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع فعظموا فيه الرب)، فيقول: (سبحان ربي العظيم) لثبوت السنة به، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التسبيح، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي) بعد نزول قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]، وكان في قيام الليل صلوات الله وسلامه عليه يقول: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، فكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه الثناء على الله في الركوع.(40/23)
القيام من الركوع وصفته قولاً وفعلاً(40/24)
قول: (سمع الله لمن حمده) للإمام والمنفرد حال القيام من الركوع
قال رحمه الله تعالى: [ثم يرفع رأسه ويديه قائلاً إمام ومنفرد: سمع الله لمن حمده].
قوله: (قائلاً) أي: حال كونه قائلاً، (إمام ومنفرد) أي: يقول الإمام والمنفرد: (سمع الله لمن حمده) ولا يقول المأموم: (سمع الله لمن حمده)، وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمةُ الله على الجميع، فالإمام والمنفرد يقولان: (سمع الله لمن حمده)، والمأموم لا يقول: (سمع الله لمن حمده)، وإنما يقتصر على قوله: (ربنا ولك الحمد) أو: (ربنا لك الحمد)، ولا يزيد التسميع.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى أنه يقول المأموم: (سمع الله لمن حمده)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به).
والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن التقسيم ينفي التشريك، وهذه قاعدة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن فأمنوا)، فدل على أنه في الأصل لا يؤمنون مع الإمام حتى يؤمروا بالتشريك، فلما قال: (إذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا:) دل على التقسيم، والتقسيم خلاف التشريك، وإنما قالوا بالتشريك لحديث: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به)، فنقول: هذا مطلق وهذا مقيد، والقاعدة أن المقيد مقدمٌ على المطلق، والأصل: حمل المطلق على المقيد، فنقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به) فيه إجمال، وإن كان الأمر فيه من حيث العموم، لكن نقول: جاء المفصل، فقال عليه الصلاة والسلام: (فإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد)، قالوا: هذا يدل على أنه لا يجمع المأموم بين قوله: (سمع الله لمن حمده) وقوله: (ربنا ولك الحمد).
فأصح الأقوال أنه لا يجمع بينها بالنسبة للمأموم، فمحل الخلاف في المأموم، أما الإمام والمنفرد فشبه إجماع من أهل السنة أنه يقول: (سمع الله لمن حمده).(40/25)
قول: (ربنا ولك الحمد) بعد إتمام القيام
قال رحمه الله تعالى: [وبعد قيامهما: (ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ومأموم في رفعه (ربنا ولك الحمد) فقط].
أي: يقول حال رفعه أثناء الانتقال: (سمع الله لمن حمده)، حتى إذا استتم قائماً قال: (ربنا ولك الحمد)، سواءٌ أكان إماماً أم مأموماً أم منفرداً، فالإمام والمنفرد إذا أراد أن يُسَمِّع فأثناء الفعل، وبعضهم يترك التسميع حتى ينتصب قائماً، وهذا ليس من السنة، والسنة أن يكون التسميع أثناء رفعه من الركوع فيقول: (سمع الله لمن حمده) و (سمع) قيل معناه: استجاب الله دعاء من حمده، ولذلك كان من السنة استفتاح الأدعية بالحمد وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بالحمد لله)، قالوا: وهذا يدل على أن من علامات إجابة الدعاء الاستفتاح بحمد الله تبارك وتعالى والثناء عليه.
فإذا انتصب الإمام قائماً قال: (ربنا ولك الحمد)، أو قال: (ربنا لك الحمد)، فهذا كله وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
واستحب طائفة من العلماء رواية الواو: (ربنا ولك الحمد)، وفضلها على رواية: (ربنا لك الحمد)؛ لأن رواية الواو فيها زيادة معنى، فأنت تقول: (ربنا) أي: أنت ربنا، (ولك الحمد) أي: فيه معنى زائدٌ، فتثبت له الربوبية مع الثناء عليه بالحمد، لكن إذا قلت: (ربنا لك الحمد) قالوا: هذا معنىً واحدٌ، والأفضل الأول، وبالنسبة للإمام أو المنفرد فإنه يجمع بينهما، فيقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)، أو: (ربنا لك الحمد)، والمأموم يقتصر على قوله: (ربنا ولك الحمد).
ولهذا يقول المؤلف عليه رحمة الله: [ثم يرفع رأسه ويديه قائلاً إمام ومنفردٌ: (سمع الله لمن حمده)، وبعد قيامهما: (ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ومأموم في رفعه: (ربنا ولك الحمد) فقط].
فذكر رحمه الله ما ينبغي على المصلي بعد انتهائه من الركوع من رفعه، وهذا الرفع أمرَ به النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح من حديث المسيء صلاته، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على لزومه في الصلاة، وإن كانوا قد اختلفوا في الطمأنينة في هذا الرفع، وقد تقدم بيان الأذكار وخلاف العلماء رحمهم الله في مسألة الجمع، ثم ذكر المصنف رحمه الله الدعاء المأثور الذي يقوله بعد قوله: (سمع الله لمن حمده)، أو قول الإمام: (سمع الله لمن حمده) وهو أن يقول: (ربنا ولك الحمد)، أو على الرواية الثانية: (ربنا لك الحمد)، ورواية الواو أوجه عند بعض العلماء، والسبب في هذا أن رواية الواو فيها زيادة معنى، كأنك تقول: (أنت ربنا)، ثم تقول: (ولك الحمد).
وذكر رحمه الله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه بقوله: (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد)، وفي رواية: (لا مانع لما أعطيت)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ملءَ): أي حال كونه ملءَ السماوات وملءَ الأرض، وهي رواية الفتح.
وقد احتج بهذا الحديث طائفة من العلماء رحمهم الله على أن الأعمال توزن يوم القيامة، وهي مسألةٌ خلافية بين أهل العلم، فهل الذي يوضع في الميزان هو الإنسان نفسه يوم القيامة، وعلى قدر صلاحه وفساده يكون الوزن، أم أن الذي يوزن هو عمله قولاً كان أو فعلاً أو اعتقاداً، أم مجموع الأمرين؟ فقال بعض العلماء: الذي يوزن هو الإنسان نفسه؛ لقوله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، ولقوله عليه الصلاة والسلام لما اهتزت الشجرة بـ ابن مسعود فضحك الصحابة من دقة ساقيه: (ما يضحككم من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد)، فهذا يدل على أن الموزون هو الإنسان نفسه.
وقال بعض العلماء: إن الموزون هو العمل؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقليتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
فقد دلّ هذا الحديث الصحيح على أن قول الإنسان للذكر هو الموزون، قالوا: فالعمل شامل للقول والفعل، وكله يوزن.
والصحيح أنه يوزن الإنسان نفسه وعمله؛ لأن النصوص وردت بالجميع، والقاعدة تقول: (النصوص إذا وردت بأمرين فلا يصح إثبات أحدهما ونفي الآخر إلا بدليل)، فكما أن الله أخبر في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بما يدل على أن الإنسان يُوزَن، وأخبر بما يدل على أن العمل يُوزَن فنقول: كلٌ صحيح، وكلٌ خرج من مشكاةٍ واحدة، فالإنسان يوزن، وعمله يُوزن، وعرصات القيامة مختلفة -كما هو جواب ابن عباس رضي الله عنهما أن عرصات يوم القيامة مختلفة- والمراد بالعرصات: المواقف -نسأل الله أن يلطف بنا وبكم فيها-، فتارةً توزن الأعمال، وتارة يوزن أصحاب الأعمال، وكلٌ على حسب ما يكون منه من خير وشر.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (ملء السماوات وملء الأرض) دلّ على أن الحمد موزون، وأن له ثقل، فقال في هذا الثقل: (ملء السماوات وملء الأرض)، وهذا يدل على عظم ما للعمل الصالح من عاقبةٍ، وكونه له أثر في ثقل ميزان العبد يوم القيامة.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع بعض أصحابه يقول وراءه: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، فقال صلى الله عليه وسلم: (من المتكلم بها؟ فقال: أنا يا رسول الله فقال: لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يرفعها) وفي رواية: (رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)، فلو نظرت في حروف هذه الكلمات لوجدتها ما يقارب اثنين وثلاثين حرفاً، فكان هذا مناسباً، كأن لكل حرف ملك يرفعه، وهذا يدل على فضل ذكر الله عز وجل، وأن له عند الله عز وجل شأناً عظيماً، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين.
فورد عن النبي صلى الله عليه وسلم التحميد بقوله: (ربنا لك الحمد)، وقوله: (اللهم ربنا لك الحمد) (اللهم ربنا ولك الحمد).
وقوله: (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيءٍ بعد) إنما يقع بعد التحميد، ولا يكون من الإمام جهراً.
وقال بعض العلماء: يستحب للإمام أن يرفع صوته قليلاً ببعض الأذكار إذا كان بين قومٍ يجهلونها وهذا على سبيل التعليم؛ فإن العوام والجهال قد يحتاجون من طلاب العلم ومن الأئمة إلى بيان بعض السنن، ويفتقر هذا البيان إلى نوعٍ من الوضوح، كأن يرفع الإمام صوته قليلاً، ولذلك جهر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدعاء الاستفتاح، لكي يعلم الناس دعاء الاستفتاح.
قالوا: فلا حرج أن يجهر الإمام أحياناً بمثل هذه الأدعية المأثورة تعليماً للناس بالسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(40/26)
الأسئلة(40/27)
حكم السلام على الجالسين عند دخول المسجد
السؤال
حينما يدخل المصلي المسجد، فهل أن يسلم على الجالسين في المسجد لأن السلام سنةٌ من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، أم لا؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالسنة لمن دخل المسجد أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام على الناس، وهذه السنة دل عليها حديث أبي هريرة في الصحيح: (أن المسيء صلاته لما دخل ابتدأ بالصلاة، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم ورحمةُ الله، فقال له: ارجع فصل فإنك لم تصل)، فدل على أن السنة أن يُبتدأ بالصلاة قبل السلام على الناس؛ إذ لو كان من السنة أن يستفتح بالسلام لابتدأ الأعرابي السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصلاة، فكونه يبتدئ بتحية المسجد دل على أن الهدي الذي كان معروفاً أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام، ولذلك قالوا: السنة لمن قدم المدينة أن يبتدئ بتحية المسجد، ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التحية.
وهذا مبني على ما ذكرنا من حديث المسيء صلاته، ولذلك هذا هو الهدي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحكم المسجد فليركع ركعتين).
وبعد أن ينتهي من التحية يسلم على الناس ويحدّث من شاء، أما قبل التحية فلا يشرع له أن يسلم.
والذي يظهر والله أعلم ترجيح القول الأول، وهو أنه يبتدئ بتحية المسجد، ثم يثني بعد ذلك بالسلام على الناس؛ لأنه حقٌ خاص، والحق الخاص مقدمٌ على العمومات؛ لأن هذا في موضعٍ خاص ورد فيه دليل السنة الذي يدل على اعتبار تقديم الصلاة على السلام.
والله تعالى أعلم.(40/28)
حكم قطع الفاتحة بالاستعاذة من الشيطان
السؤال
لو أن إنساناً قطع الفاتحة بقوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)؛ لكي يذهب عنه وساوس الشيطان، فهل يعيد الصلاة، أم ماذا عليه؟
الجواب
إذا دخل على الإنسان داخل الوسواس فاستعاذ أثناء القراءة قالوا: هذا ذكرٌ مشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الشيطان الذي يسمى (خنزب)، وهو شيطان الصلاة، وشيطان الوضوء (الولهان) كما ورد في الخبر عنه عليه الصلاة والسلام، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام قوله: (إذا أُقيمت الصلاة أقبل -أي: الشيطان- فيوسوس على الإنسان حتى يحول بينه وبين الصلاة)، وذلك لعلمه أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، فيأتيه بالوساوس والخطرات، قال عليه الصلاة والسلام: (فيقول له: اذكر كذا.
اذكر كذا.
اذكر كذا)، حتى ورد: (إن العبد لينصرف من صلاته وليس له منها إلا العشر إلا الربع إلا الثلث إلا الثمن، وما فاته منها خيرٌ من الدنيا وما فيها) وهذا كله بسبب الوساوس، قال عليه الصلاة والسلام: (فإذا وجد أحدكم ذلك فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله منه)، ولا يكون فيه التفات، وإنما يكون نفثه إلى اليسار دون حصول اللي للعنق، فيتفل عن يساره ثلاثاً بريق خفيف، ويقول: (أعوذ بالله من الشيطان)، فهذا ذكر مشروع.
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بأصحابه، ثم تكعكع فتكعكع الصف الأول وتكعكع الصف الثاني بعده، وهو يقول: أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك.
فإذا بالشيطان قد جاءه بشهاب من نار، فخنقه صلوات ربي وسلامه عليه وقال: (لولا أني ذكرت دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً يلعب به صبيان المدينة) فهذا يدل على مشروعية الاستعاذة في الصلاة من الشيطان؛ لأنها ذكر مشروع، فالإنسان إذا حيل بينه وبين القراءة وتدبر كلام الله والتأثر بآيات القرآن لا حرج عليه أن يستعيذ.
والله تعالى أعلم.(40/29)
حكم قراءة الفاتحة للمأموم
السؤال
إذا قرأ الإمام سورة الفاتحة، فهل يقرأ المأموم بعد الإمام، أم ينصت للإمام؟ وما الخلاف في هذه المسألة، وما الراجح؟
الجواب
للعلماء في المأموم إذا كان وراء الإمام أقوال في وجوب الفاتحة عليه: القول الأول، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه: الوجوب في جميع الصلاة، سواءٌ أكانت سرية أم جهرية، وهو مذهب الشافعية، وكذلك اختاره جمع من أهل الحديث، والظاهرية رحمة الله على الجميع، فهم يرون أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم والمنفرد والإمام، وأنك إذا صليت وراء الإمام في جهرية أو سرية يجب عليك قراءة الفاتحة.
القول الثاني: لا تجب على المأموم قراءة الفاتحة وراء الإمام مطلقاً، وهو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.
القول الثالث: تجب عليه في السرية دون الجهرية، كما هو موجود في مذهب المالكية، وكذلك بعض أصحاب الإمام أحمد يميل إليه، وقالوا: إذا جهر لا يقرأ، ولا تلزمه القراءة، وإذا أسر وجبت عليه القراءة.
وأصح هذه الأقوال والعلم عند الله القول بوجوب القراءة مطلقاً، وذلك لما يأتي: أولاً: لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاةٍ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)، والقاعدة في الأصول أن (أيّ) من ألفاظ العموم، وما فرّق النبي صلى الله عليه وسلم بين صلاتك إماماً أو مأموماً أو منفرداً، نافلة أو فريضةً، فالأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، ولا مخصص.
الدليل الثاني: أنه ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه استثنى الفاتحة في القراءة وراء الإمام حتى في الجهرية، فثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (صلى بالناس الصبح فسمع قارئاً يقرأ وراءه، فقال: إنكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم.
قال عليه الصلاة والسلام: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فهذا نص، والذين قالوا بعدم القراءة قالوا: هذا منسوخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث جابر: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، قالوا: فهذا يعتبر ناسخاً لحديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).
والجواب عن هذا القول من وجوه: أولاً: إنه لا يصح النسخ بالاحتمال، حيث لم يثبت دليل يدل على تأخر هذا الحديث عن الحديث الذي ذكرناه: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).
ثانياً: أن هذا الحديث ضعيف، وجماهير المحدثين على ضعفه، فلا يقوى على معارضة ما هو أصح منه.
ثالثاً: أن قوله: (فقراءة الإمام له قراءة) المراد به: القراءة التي بعد الفاتحة، فبالإجماع أنك إذا صليت وراء الإمام أنك تترك قراءته، وهذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر، ولذلك نهى الصحابي لما قرأ بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فقال: (مالي أنازعها)، فلذلك يفهم من هذا أن المراد بقوله: (فقراءة الإمام له قراءة) ما بعد الفاتحة.
وبناءً على هذا يترجح القول بوجوب القراءة مطلقاً، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما صلاةٍ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
وقوله في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).
فهذه الأدلة تقوي مذهب من قال بأنه يقرأ في السرية والجهرية.
أما السؤال: متى يقرأ إذا كان وراءه، فإنَّ قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] لا يعارض ما نحن فيه؛ فإن القاعدة: (العام يخصص إذا أمكن تخصيصه)، وقد جاءنا الحديث يقول: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فهذا مخصص، والقاعدة: (لا تعارض بين عامٍ وخاص).
فنقول قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف:204] محمول على العموم إلا في الصلاة؛ لأنك مطالبٌ بالقراءة كما يقرأ إمامك، وبناءً على ذلك: فله قراءته وأنت لك قراءة، فلا يصح أن تترك الفرض للاستماع الذي هو دونه في الوجوب، حتى لو قلنا بوجوب استماع القرآن، فقد تعارض الفرض الذي هو ركن الصلاة والواجب، والقاعدة أنه إذا تعارض الفرض والركن مع الواجب يقدّم الفرض والركن على الواجب، فهذا وجهٌ.
الوجه الثاني: أن أبا هريرة رضي الله عنه -كما روى البيهقي عنه بسندٍ صحيح في جزء القراءة وراء الإمام- لما قيل له ذلك قال: (اقرأها في سرك)، وجاء عن بعض السلف: اقرأها في سكتات الإمام، فتقرؤها في سكتات الإمام كسكتته بين الفاتحة والسورة، أو سكتته قبل الركوع، فهذا الذي تميل إليه النفس.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(40/30)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [4]
إذا رفع المصلي رأسه من الركوع فإنه يسجد مكبراً، والسجود ركن من أركان الصلاة، وله صفة معلومة، ثم يرفع من السجود ويجلس بين السجدتين كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الجلسة ركن من أركان الصلاة أيضاً، ثم يسجد سجدة ثانية كالأولى، ثم يرفع منها ويقوم للركعة الثانية، ويفعل فيها كما فعل في الأولى، ما عدا تكبيرة الإحرام والاستفتاح.(41/1)
السجود وأحكامه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يخر مكبراً ساجداً].
الخرور: هو السقوط من أعلى إلى أسفل، ومنه قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26]، ولذلك قال بعض العلماء: إنه إذا قرأ الإنسان آية السجدة وكان جالساً فليقف حتى يأتسي بداود عليه السلام في خروره؛ لأنه لما كان الخرور من أعلى إلى أسفل فإنه يقف لكي يسجد.
ويُفهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه الميل إليه، وإن فعله الإنسان فحسن، لكن الأقوى واختيار الجماهير أنه يسجد على حالته.
والمراد بهذا الخرور تحصيل الركن البعدي، وهو مرحلة الانتقال من ركن الرفع بعد الركوع إلى ركن السجود، وهذا الركن الذي يَخِرُّ إليه عبر عنه بقوله: (مكبراً ساجداً) أي: حال كونه مكبراً قائلاً: الله أكبر، وقد تقدم أن هذا التكبير يسميه العلماء رحمة الله عليهم تكبير الانتقال؛ لأنه ينتقل فيه من ركنٍ إلى ركن، ما عدا تكبيرة الإحرام.
فقوله: (ثم يخر مكبراً) أي: قائلاً: (اللهُ أكبر) كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والسنة أن يوافق تكبيره الفعل كما تقدم معنا غير مرة، لأنه إذا وُجِد من لا يراه ويسمع صوته فإنه يساويه في الفعل ولا يسبقه، ومن يراه ولا يسمع صوته كذلك أيضاً يساويه في الفعل، فحينما يوافق تكبيره خروره فإن ذلك أنسب لحصول ائتمام الناس به إذا كان إماماً.(41/2)
أدلة وجوبه ومعناه
أمر الله بهذا السجود فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، وأجمع العلماء على أنه ركنٌ من أركان الصلاة.
والسجود: أصله التذلل والخضوع، ويتضمن إظهار الحاجة لله عز وجل بما يشتمل عليه من الأذكار من التسبيح والتحميد والتمجيد لله عز وجل، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي)، وهذا السجود أمر به النبي صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته فقال: (ثم اسجد)، فأمره بالسجود، ولذلك قلنا بلزومه ووجوبه، وسيأتي أنه من أركان الصلاة.
وهذا الخرور بين فيه المصنف صفةً معينة هي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، على أحد القولين عند العلماء وسيأتي بيانها.(41/3)
وجوب السجود على سبعة أعضاء
قال رحمه الله تعالى: [ساجداً على سبعة أعضاءٍ: رجليه، ثم ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته مع أنفه] هذه السبعة الأعضاء ثبت فيها الحديث عن ابن عباس رضي لله عنهما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرتُ أن أسجد على سبعة أعظم) ثم ذكرها، وابتداء المصنف بذكر الرجلين لأن المصلي ثابت عليهما، والسجود على الرجلين ليس المراد به أن يرفع ويعود، وإنما لبكونه ينتقل إلى الخرور فيضطر إلى ميل الرجلين، فكأنه سجد على الرجلين، وهو في الحقيقة ساجد؛ لأن السنة لمن سجد أن يستقبل بأصابع الرجلين القبلة كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حرص على أن تستقبل أصابع رجليه القبلة فإنه يتمكن من السجود أكثر، ولذلك تجد الأعضاء قد تمكنت من الأرض، وهذا أبلغ ما يكون في الذِّلَّة لله عز وجل بالسجود، فحينما يستشعر الإنسان أن أعضاءه جميعها مستغرقة للسجود، وأنه متذلل لله عز وجل، فذلك أبلغ ما يكون في التذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى، وهذا هو المقصود من الصلاة، فيستقبل بأطراف أصابعه القبلة، كما جاء في الحديث، وكذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رصّ العقبين، فلم تكن مفرجة، وإنما كان يرص قدميه صلوات الله وسلامه عليه، فيبتدئ بالرجلين مستقبلاً بهما القبلة، فإذا انحنت الرجلان فقد سجدتا؛ لأنه قد تحصل بهما السجود من جهة الاعتماد.(41/4)
كيفية الهوي للسجود
قوله: [ثم ركبتيه] هذا على القول بأنه يقدِّم الركبتين على اليدين، وهو أحد الوجهين عند العلماء رحمة الله عليهم، وقال طائفة من أهل العلم: يقدم اليدين على الركبتين.
والسبب في ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبرك الرجل كما يبرك البعير، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) أخرجه أبو داود.
ففي روايةٍِ: (يضع ركبتيه قبل يديه)، وفي رواية: (يضع يديه قبل ركبتيه)، فنظراً لهذا الاختلاف في الروايات اختلف العلماء رحمهم الله: فمنهم من رجّح أن يقدِّم الركبتين كما درج عليه المصنف رحمه الله، واحتجوا برواية أبي هريرة التي تدل عليه، وكذلك حديث وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه وأنه: (قدّم ركبتيه على يديه) لهذا قالوا: إنه يقدم الركبتين على اليدين.
وقالت طائفة: يقدم اليدين على الركبتين، وذلك لرواية في حديث أبي هريرة، وهي عند أبي داود في سننه بسندٍ صحيح، وفيها تقديم اليدين على الركبتين.
وقالوا: إن رواية وائل بن حجر مطعونٌ فيها من جهة الثبوت.
ثم قالوا: إن صدر الحديث يدل على ترجيح هذه الرواية، وذلك من جهة أن البعير يقدِّم ركبتيه على يديه حال بروكه، ولذلك إذا رأيت البعير أراد أن يبرك فإنه يقدم الركبتين قبل تقديمه لرجليه، ومن ثم قالوا: إنه من السنة أن يقدم اليدين، فإذا قلنا بتقديم الركبتين شابه البعير، وإلا تناقض صدر الحديث مع عجزه.
وللشيخ ناصر الدين رحمه الله في الإرواء بحث جيد في هذا يُرجع إليه، وكذلك أشار إلى شيء منه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة أن هذا القول هو أعدل الأقوال وأولاها إن شاء الله بالصواب، وهو أنه يقدم اليدين، ولو ترجح عند الإنسان تقديم الركبتين على اليدين فليقدِّم الركبتين على اليدين ولا حرج عليه، فكلٌ على خير، فمن ترجَّح عنده تقديم الركبتين فليقدم، ومن ترجح عنده تقديم اليدين فليقدم، لكن الخلط بين الروايتين باطل؛ إذ يقول بعض طلاب العلم: نجمع بين الروايتين بأن نفعل هذا تارة وهذا تارة.
فليس الخلاف هنا من خلاف التنوع الذي يسوغ فيه الجمع بين الصفات، وذلك لورود النهي عن بعضها، فبالإجماع أنه منهيٌ عن واحدةٍ منها، فإذا فعلت هذا تارة وهذا تارة فقد وقعت في المحظور، ولذلك إما أن يأخذ الإنسان برواية أبي داود الثابتة في تقديم اليدين على الركبتين، إضافةً إلى أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يفعل ذلك، وهذا يترجح أيضاً بما جاء عن السلف، كما قال الأوزاعي وهو فقيه الشام، ومنزلته ومكانته لا تخفى: (أدركتهم يقدمون اليدين على الركبتين) أي: إذا سجدوا.
فإذا ترجح عند إنسان هذا القول عمل به، وإن ترجح عنده غيره عمل به.
وليتأكد من أن أهل اللغة يقولون: إن ركبتي البعير في مقدمته.
فهذا يُرجع ويحتكم إليه عند الخلاف؛ لأنه إذا ثبت قولهم: إن ركبتي البعير في يديه فحينئذٍ يُقدِّم المصلي الركبتين على اليدين، وإن قيل: إن الركبتين في موضعهما كما يُفهم من قول صاحب اللسان، وهو الذي اعتمده غير واحد من أهل اللغة فحينئذٍ يترجح القول بتقديم اليدين على الركبتين، وهذا هو الذي تميل إليه النفس، وهو قول طائفة من السلف كما ذكرنا.
قالوا: إن مما يؤكد هذا القول أن النزول على اليدين أرفق بالإنسان، وخاصةً إذا كان مع الضعف؛ فإن الغالب فيه أنه إذا خرّ يحتاج للاعتماد على اليدين أكثر من اعتماده على الركبتين، ولذلك تجده يتحامل عند تقديمه للركبتين على اليدين، وهو أرفق وأولى بالاعتبار من هذا الوجه.(41/5)
حكم الحائل بين أعضاء السجود والأرض
قال رحمه الله تعالى: [ولو مع حائل ليس من أعضاء سجوده] ذكرنا أن هذه السبعة الأعضاء يُسجد عليها، وهذا على سبيل الوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، خلافاً لمن قال بعدم وجوب السجود عليها.
وبناءً على ذلك فمن سجد فإنه يراعي في سجوده سجود الرجلين بالصفة التي ذكرناها، وكذلك سجود الركبتين بالتصاقهما بالأرض، وسجود الكفين، وذلك بالتصاقهما بالأرض، وسجود الجبهة والأنف، وذلك بوضعهما على الأرض، فلو سجد ورفع رجليه فإنه يُعتبر آثماً، ولا يصح سجوده في قول طائفة من أهل العلم رحمةُ الله عليهم، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود على هذا الوجه، وكذلك لو رفع إحدى الركبتين متعمداً دون حاجةٍ فإنه يأثم ولا يصح سجوده في قول من ذكرنا.
فإن وضع أعضاءه على الأرض، ووجد الحائل بينها وبين الأرض، سواء في مقدمة الإنسان أم في مؤخرته، فإن الحائل في القدمين والركبتين يكاد يكون بالإجماع أنه لا يؤثر، وتوضيح ذلك: لو صلَّى في نعليه، فإنه سيكون اعتماده على النعلين، وهذا مع وجود حائلٍ متصل، فقالوا: لا يؤثر.
وكذلك الحال بالنسبة للركبتين، فإنه لو صلّى سيصلي بثوبه، وبناءً على ذلك فالحائل المتصل بالإنسان في هذين الموضعين بالإجماع لا يؤثر، وقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي في نعليه وخفيه، ومن المعلوم أن الخف والنعل يحول بين الإنسان وبين إلصاقه العضو بالأرض مباشرة.
أما بالنسبة لليدين والجبهة فإن كان على حصيرٍ أو سجاد أو خمرة فإنه بالإجماع لا يؤثر، فقد ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم عند أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها قال: فقال لنا: (قوموا فلأصل لكم)، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، وهذا الحديث في صحيح مسلم، قالوا: إنه صلى على حصير.
وفي الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام لـ عائشة رضي الله عنها: (ناوليني الخمرة، قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك) والخمرة: أصلها من خمّر الشيء إذا غطاه، وهي قطعة توضع لكي تحول بين الوجه وبين الأرض يُسجد عليها وتكون من قماش، كالسجادة الصغيرة، وكالقطعة التي تسع مقدم الإنسان، أو تسع غالب أجزائه.
فهذا يدل على أن الحائل بالسجاجيد لا يؤثر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرده ولم يعتبره مؤثراً في سجوده.
والسنة أن الإنسان إذا كانت أعضاؤه على الأرض أن تلي الأرض، فإن وُجِد هذا الحائل الذي لا يؤثر فلا إشكال.
لكن لو أن إنساناً قصد وضع الحائل للحاجة إلى ذلك، كأن يكون في حرٍ شديد، فلو سجد ربما أضر بجبهته وأنفه فيؤثر عليه، فهل له أن يبسط طرف الثوب مثل كمه أو طرف الرداء، ويجعله تحته إذا سجد لكي يكون أرفق به؟
الجواب
ثبت الحديث عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا إذا أرادوا أن يسجدوا بسط أحدُهم طرف ثوبه فسجد عليه من شدة الحر في صلاتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا حرج أن يكون ما يسجد عليه حائلاً، ولو بحائل متصل، وهذا الذي دعا المصنف إلى أن يقول: (ولو مع حائل) إشارةً إلى هذا الأصل الذي دلت السنة عليه.
السجود مع الحائل إذا لم توجد إليه حاجة فهو ممنوع، وشدد بعض العلماء فقال: إنه إذا احتاج إلى حركة وأفعالٍ من أجل الحائل فإنه لا يبعد أن يأثم، كأن يسحب شيئاً من أجل أن يسجد عليه، فيتكلف دون وجود الحاجة، ومن أمثلة ذلك أن يصلي المصلي فتنقلب سجادته، ويكون بإمكانه أن يسجد على الأرض، فلا ينبغي له أن يشتغل بقلب السجادة؛ لأنها حركة زائدة، خاصةً في الفريضة، ومن مشايخنا رحمة الله عليهم من كان يشدد في ذلك، خاصةً طلاب العلم، لمقام الهيبة والوقوف بين يدي الله عز وجل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن في الصلاة لشغلا)، فكونه لا توجد الحاجة ويشتغل بقلب السجادة وردها، خاصةً إذا كان هناك هواء وريح، فإنه اشتغالٌ بما لا تأثير له في الصلاة، وليس من جنس أفعال الصلاة، فليتركها على حالها، ويتفرغ لطاعته لله عز وجل بالسجود على الأرض، بل أبلغ وأعظم قربةٍ إلى الله عز وجل أن يعفِّر الإنسانُ جبينه بالسجود لله سبحانه وتعالى.
وقد ثبت عن خير خلق الله، وحبيب الله صلى الله عليه وسلم أنه سجد على الطين حتى رئي أثر الماء والطين في جبهته صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من أبلغ ما يكون من الذلة، ولذلك لما أثنى الله على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم وزكّاهم قال سبحانه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29].
فلذلك كلما سجد على الأرض وتذلّل لله عز وجل كان أبلغ، ولا ينبغي -كما قلنا- تكلف وجود الحائل، خاصة مع الحركات في الصلاة، أما قبل الصلاة فلو وضع الحائل فلا بأس.
وهنا مسألة يخشى فيها على دين الإنسان، وقد أشار إليه بعض أهل العلم وهي أن بعض المصلين يتتبع المواضع الحارة للصلاة فيها، حتى تحترق جبهته، ليكون شعار الصلاح في وجهه نسأل الله السلامة والعافية (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) لأنه يريد الرياء ويريد ما عند الناس من التزكية والثناء، فلا يجوز للإنسان أن يبالغ في سجوده في المواضع التي يترتب على السجود فيها حصول الأثر، وهكذا الضغط على الجبين حتى يظهر في وجهه أثر السجود، فهذا لا ينبغي، إنما ينبغي أن يترك الأمر على ما هو عليه دون تقصُّد.
وكان السلف الصالح رضوان الله عليهم يخافون من ظهور الخير من الإنسان فضلاً عن أن يطلبوا أمارات الصلاح رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان الرجل منهم إذا اطُّلع على عبادته ربما بكى وأشفق على نفسه من الفتنة، فنسال الله السلامة والعافية، فالمبالغة في وضع الجبهة على مكان السجود حتى تؤثر في الجبين، أو تؤثر في مارِن الأنف كل ذلك مما ينبغي للإنسان أن يحذره، وأن يتقي الله في عبادته، وأن يجعلها لله، فإن الله وصف أهل النفاق بأنهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، فنسأل الله أن يعيذنا من أخلاقهم، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.(41/6)
مجافاة العضدين حال السجود
قال رحمه الله تعالى: [ويجافي عضديه عن جنبيه] المجافاة: أصلها البعد، وجفاه: إذا قلاه وابتعد عنه، أو امتنع من كلامه والقرب منه، والمجافاة بين العضد والجنب هي أن لا يقرِّب عضده من جنبه؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وائل، وكذلك في الأحاديث الصحيحة عنه أنه جافى، وثبت في حديث البراء قال: (إن كنا لنأوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة ما يجافي)، فكان إذا سجد جافى حتى يرى بياض إبطيه صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه المجافاة تعين على تمكن أعضاء الإنسان من السجود، بخلاف ما إذا طبّق بينها أو افترش افتراش السبع، فإن هذه الحالة لا تكون أبلغ في سجوده وتمكن أعضائه من الموضع.
فالمجافاة سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي للإنسان أن يؤذي جاره إذا كان في الصف، فهي سنةٌ لمن تيسر له ذلك، فإذا كان بجواره من يزعجه ويضايقه حين يجافي فإنه في هذه الحالة يجافي بقدر معين؛ لأنه كما أنك تريد تحصيل السنة، كذلك هو يريد تحصيل السنة، فلو ذهب كل منكما يجافي فإنه يضر بالآخر، ولذلك يجافي الإنسان عند الإمكان، واستثنى أهل العلم مَن كان في الصف، ولذلك قالوا: تأتَّى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يتأت لغيره، وذلك لكونه إماماً؛ فإن الإمام يتمكن من السجود أكثر، ويتمكن من المجافاة أكثر.(41/7)
مجافاة البطن عن الفخذ حال السجود
قال رحمه الله: [وبطنه عن فخذيه] فلا يجعل الفخذين حاملين للبطن، وهذا من السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنسان مع هذه المجافاة يجد نوعاً من المشقة، ولكنها طاعةٌ وقربة، ولذلك يُحس بأثر هذا السجود، ولعله عند سجوده وحصول نوعٍ من الأثر عليه يُحس بالسجود بين يدي الله، لكنه لو ارتفق ربما ارتاح لذلك فأنست نفسه، ولذلك قال بعض العلماء: إن المجافاة تُشعر الإنسان بالسجود بين يدي الله.
وجرِّب ذلك، فإنك كلما جافيت وحرصت على أن يكون هناك مجافاة بين وسطك وبين العضدين والجنب فإنك تجد أنك تُحس بالسجود وثقله عليك، وهذا أدعى لاستشعار الإنسان مقامه بين يدي الله عز وجل، وذلك أدعى لحضور قلبه وخشوعه.
قال رحمه الله تعالى: [ويفرق ركبتيه] أي: يفرِّق الركبتين، فليس من السنة التصاقهما، ولذلك يرص العقبين ويفرِّق بين الركبتين، وهذا إذا كان رجلاً، كما سيأتي.(41/8)
قول: (سبحان ربي الأعلى) في السجود
قال رحمه الله تعالى: [ويقول: سبحان ربي الأعلى] بعد أن فرغ رحمة الله عليه من بيان صفة السجود الفعلية بدأ بما ينبغي على المكلف أن ينتبه له من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم القولي، فقد كانت للنبي صلى الله عليه وسلم أذكارٌ وأدعية في سجوده، فيُسن للإنسان أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وهذا الموضع من أبلغ المواضع ذِلةً لله سبحانه وتعالى، وقال بعضهم: إنه من أشرف مواضع الصلاة.
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من مواطن الإجابة فقال: (أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً)، وقال عليه الصلاة والسلام في هذا الموضع: (فقمنٌ أن يستجاب لكم) أي: حريٌ أن يستجاب لكم من الله عز وجل، وذلك لما فيه من بالغ الذلة لله سبحانه وتعالى.
فيقول: (سبحان ربي الأعلى)، وهذا التسبيح يُعتبر من أذكار السجود الواجبة فيه، ولذلك لما نزل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوها في سجودكم).
ولما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قال: (اجعلوها في ركوعكم)، وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا سجد قال: (سبحان ربي الأعلى)، وهذا من الدعاء بالمناسبة، فهو في أدنى ما يكون ذلَّة لله، فقابلها بما يكون من صفة العلو لله سبحانه وتعالى، فقال: (سبحان ربي الأعلى)، وفيه ردٌ على من ينفي جهة العلو لله سبحانه وتعالى، وسيأتي إن شاء الله أن هذا الذكر من واجبات الصلاة.
وله أن يدعو بالأدعية التي يريدها من خيري الدنيا والآخرة، فلا مانع أن يسأل الله العظيم من فضله سواء أكان في نافلةٍ أم فريضة.
وقد جاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه افتقدته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: (فجالت يدي) أي: في حجرتها، وكانت حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الضيق بمكان؛ لأن الله اختار له الآخرة، ولم يختر له الدنيا، كان إذا أراد أن يسجد لا يستطيع أن يسجد حتى تقبض عائشة رجليها من أمامه، فتقول: (افتقدته فجالت يدي فوقعت على رجله ساجداً يقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك) فكان من أجمع الدعوات وأفضلها وأعزها وأكرمها أن يسأل الله الثبات على دينه، فجعله في هذا الموضع، فكونه ساجداً بين يدي الله، وكونه في ظلمات الليل التي هدأت فيها العيون، وسكنت فيها الجفون يدل على شرف هذا الموضع، فاختار له هذه الدعوة العظيمة وهي الثبات على الدين، وكان من هديه أن يقول: (يا مقلب القلوب: ثبت قلبي على دينك)، وفي رواية: (صرّف قلبي في طاعتك).
المقصود أن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء في السجود، فعلى الإنسان أن يدعو ويسأل الله من فضله.(41/9)
صفة الجلوس بين السجدتين
قال رحمه الله: [ثم يرفع رأسه مكبراً] أي: إذا فرغ من السجود رفع رأسه مكبراً، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرفع، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المسيء صلاته، حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع)، فأمره بالرفع من السجود لكي ينتقل إلى الركن البعدي، وهو الجلوس بين السجدتين.
قال رحمه الله تعالى: [ويجلس مفترشاً يسراه ناصباً يمناه] أي: يجلس حال كونه مفترشاً يسراه، فيقلبها لكي تكون حائلاً بين الإلية والأرض، ولما صارت حائلاً بين إليته والأرض فإنها تعتبر بمثابة الفراش الذي يحول بين البدن وبين الأرض، فمن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يفترش رجله اليسرى كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في صفة صلاته صلوات الله وسلامه عليه، فيفترش اليسرى ويجعلها بمثابة الفراش، ثم ينصب يمناه.(41/10)
دعاء الجلوس بين السجدتين
قال رحمه الله تعالى: [ويقول: رب اغفر لي] أي: يستقبل بأطراف أصابعه اليمنى القبلة كما هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: رب اغفر لي.
وهو الدعاء الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقول: (رب اغفر لي.
رب اغفر لي)، وكان يقول عليه الصلاة والسلام دعاءه المأثور في السنن: (اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني)، وهذه أدعية تجمع خيري الدنيا والآخرة للعبد، فسأل الله عز وجل خير دينه، وذلك بسؤاله الرحمة والمغفرة، وقال: (اجبرني وارفعني) وهذا للدين والدنيا والآخرة، فإنه جبر لأمور الدين والدنيا، ورفعة في أمور الدين والدنيا، وقال بعد ذلك عليه الصلاة والسلام: (وعافني وارزقني) فهذا أيضاً من خير الدنيا؛ فإن الإنسان إذا عُوفي فقد تمت عليه نعمة الله عز وجل بالنسبة لأمور الدنيا؛ لأن أكثر المصائب في الدنيا إنما تقع بسبب زوال عافية الله عز وجل عن العبد، وإذا سُلب العبد العافية فقد هلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يا عم رسول الله سل الله العافية).
فكان يسأل عليه الصلاة والسلام بين السجدتين العافية، ويكون هذا الموضع موضع دعاء، وللعلماء في ذلك وجهان: قال بعضهم: هو موضع دعاء فيشرع أن يدعو الإنسان بما يتخير من أمور دنياه وأخراه، وقال بعضهم: يُتقيد بالوارد.
وهذا أقوى، ولكن إذا لم يحفظ، كأن يكون عامياً فلا بأس أن يدعو بما تيسر له.
والسبب في أنه يدعو بما تيسر له أن السنة أمران، الأمر الأول: دعاء، والثاني: لفظٌ مخصوص، فإن تعذر عليه اللفظ المخصوص فالسنة أن يسأل، وهو قول الجماهير كما نسبه غير واحدٍ إليهم، فإذا كان لا يستطيع أن يحفظ الوارد، أو كان يجهله ودعا بما تيسر له، كدعائه له ولوالديه فلا حرج، والأفضل والأكمل أن يدعو بالدعاء المأثور، وفرقٌ بين قولنا: الأفضل، وبين أن يقال: إن هذا حرامٌ وبدعة.
فلا يسوغ للإنسان أن يحرِّم، إنما يكون التحريم في ألفاظ الذكر المخصوصة، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يسكت عن الصحابة، ولم يأمرهم بلفظ مخصوص بين السجدتين يدل على أن الأمر واسع، وهذا قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم، وينبه على أن الحكم بالبدعة يحتاج إلى دليل، والأصل في الأذكار التوقيف، لكن إذا كان المحل محل تمجيد، أو دعاء، أو أُثر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء فإن لمن دعا فيه -كأن يدعو له ولوالديه- وجه من السنة، وإن قال: أنا لا أدعو بذلك؛ لأني لا أراه، فله أن يقول ذلك، أما أن يُقال لمن دعا: ابتدعت، ويُحرم عليه، ويحكم بكونه آثماً في صلاته فهذا يحتاج إلى نظر، ولذلك قال بعض العلماء: يدعو لوالديه لتعذر ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نُهي عن الدعاء لوالديه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك يبقى غيره على الأصل من أمر الله عز وجل له بالدعاء ولوالديه، فلا حرج عليه أن يدعو، لكن السنة والأفضل والأكمل للإنسان أن يتقيد بالوارد.
قال رحمه الله: [ويسجد الثانية كالأولى] أي: يسجد السجدة الثانية، ويفعل فيها ما فعل في الأولى من الهدي العملي والقولي.(41/11)
الانتقال من السجود إلى الركعة الثانية
قال رحمه الله: [ثم يرفع مكبراً] أي: ثم يرفع رأسه من سجوده مكبراً لكي ينتقل إلى الركعة الثانية إذا كان في شفع، سواء أكان في الفرض أم النفل.
قال رحمه الله تعالى: [ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه إن سهل] هذا وجه عند أهل العلم رحمة الله عليهم، وهو أنه يعتمد القائم من السجود على ركبتيه وصدور قدميه إذا تيسر له ذلك، وهو قول بعض السلف رحمة الله عليهم.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتماده على الأرض كما في حديث العَجْن، وكذلك في حديث مالك بن الحويرث وللعلماء في ذلك وجهان: منهم من قال: إن كان الإنسان مطيقاً قادراً قام على صدور القدمين والركبتين، كما جاء في بعض الروايات عنه عليه الصلاة والسلام من قيامه على هذا الوجه، فإن كان عاجزاً، أو لا يستطيع الأخذ بحديث العجْن فلا حرج عليه.
وحديث العجن مختلفٌ في إسناده، وإن كان حسنه بعض أهل العلم وقال بثبوته، فلا حرج في الأخذ بهذه السنة والعمل بها، والعَجْن: أن يجمع أصابعه لكي يتمكن من وضعها، ثم يقوم معتمداً عليها؛ لأنه إذا أراد أن يعجن العجين جمع أصابعه ثم اتكأ عليها، هذا بالنسبة لصفة قيامه من السجود.(41/12)
تحقيق القول في جلسة الاستراحة
مسألة جلسة الاستراحة للعلماء فيها وجهان: فمنهم من قال: هي سنةٌ مطلقاً للكبير والصغير، واحتجوا بحديث مالك بن الحويرث، وما جاء في بعض روايات حديث أبي حميد الساعدي، وما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علّم المسيء صلاته أمره بهذه الجلسة، ولكن هذه الزيادة في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري ضعيفة، ونبَّه على ضعفها غير واحد كما أشار إليه الحافظ ابن حجر رحمةُ الله عليه، هذه الزيادة من أمره عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته بعد فراغه من السجدة الثانية أن يرجع ضعيفة، والأقوى فيما اعتمده الإمام الشافعي رحمه الله في إثبات هذه الجلسة -وهو وجهٌ عند الحنابلة- حديث مالك بن الحويرث، وهو حديث صحيح لا يختلف اثنان في ثبوته، ولكن الإشكال أن مالك بن الحويرث قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره بعد عام الوفود.
وثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في آخر عمره أخذه اللحم، بمعنى أنه بدُن وثَقُل صلوات الله وسلامه عليه، كما في حديث عائشة: (فلما سن وأخذه اللحم) ولذلك كان يصلي في قيام الليل جالساً، حتى إذا قرُب من قدر مائة آية قام وقرأها ثم ركع.
فقالوا: كونه يراه في آخر عمره بهذه الصفة يدل على أنه كان يفعلها لحاجة، فهي سنةٌ للمحتاج، إما لضعفٍ أو مرضٍ أو كِبَر، ولكن الحدث والقادر فإنه يقوم مباشرة.
وهذا القول هو أولى الأقوال، وهو مذهب المالكية والحنفية، وقولٌ عند الحنابلة رحمة الله عليهم، والدليل على ذلك أنه ثبت عندنا أمر في حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع)، وهذا بعد السجود، وهو في الصحيحين، والأمر يقتضي الوجوب.
وحديث مالك متردد بين أن يكون سنةً جبلِّية لمكان الحاجة، وبين أن يكون سنةً تشريعية للأمة، ولمكان هذا الاختلاف فإنه يُبقى على الأصل من كونه يقوم مباشرةً، ومن تأول هذه السنة وفعلها أيضاً فلا حرج عليه، فلو ترجح عند الإنسان الأخذ بحديث مالك بن الحويرث واعتبرها سنةً مطلقة فإنه لا حرج عليه ولا يُنكر عليه، وكلٌ على سنة وخير.
فالأصل عند سلف الأمة رحمةُ الله عليهم أنه لا يُشنَّع عليه ولا يُبدَّع، ولا يؤذى من تأول سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعنده سلفٌ من هذه الأمة يقول بقوله، فلا حرج على من جلس وهو يتأول السنة، ومثابٌ إن شاء الله، ولا حرج على من قام وهو يتأول السنة.
ولكن لو ترجح عند الإنسان أن جلسة الاستراحة تعتبر سنة فالأفضل له أن لا يداوم عليها؛ لأن كون الصحابة كـ ابن عمر وأبي هريرة وأنس، والذين هم محافظون على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقومون بعد السجود مباشرة، ولم يُحفظ عن واحدٍ منهم أنه كان يجلس هذه الجلسة يدل ويؤكد على أنها على الأقل لا يُوَاظَب عليها؛ لأنه لو وُوظِب عليها لانتشر ذلك وذاع بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك الأولى والأحرى أن الإنسان إذا تأوّل اعتبارها أن لا يداوم عليها، وإنما يفعلها أحياناً.
وهنا مسألة وهي: لو ترجح عند الإنسان أنها سنة، فإذا سها مرة فظن أنه في الركعة الثانية، فلما رفع من السجود وفي نيته أن لا يجلس جلسة الاستراحة، فكان عليه أن يقوم، فجلس ناوياً التشهد، ثم تذكر أنه في الركعة الأولى، فهل تنقلب إلى جلسة استراحة، أو تعتبر عملاً زائداً في الصلاة ويسجد للسهو؟
و
الجواب
لو أنه ابتدأ بالتشهد وتكلم فلا إشكال، لكن قبل أن يتكلم بالتشهد إن تذكَّر ثم قام فالذين يقولون: لا تشرع جلسة الاستراحة للحدث عندهم وجه واحد وهو أنه يسجد سجود السهو.
والذين قالوا بمشروعية جلسة الاستراحة اختلفوا: فقال بعضهم: يسجد للسهو؛ لأنه لم يفعلها بقصد السنية، وإنما فعلها على سبيل السهو، والسجدتان جابرتان لهذا النقص.
وقال بعض العلماء: إنها تنقلب جلسة استراحة؛ لأن سجود السهو إنما شُرِع لزيادة وهو في الحقيقةِ لم يَزِد، وهذا مبني على أصل، هل يغلّب الظاهر أو الباطن؟ إن قلت: يُغلَّب الباطن لزمه سجود السهو؛ لأنه في الباطن يَعتقد أنها جلسة التشهد، وإن قلت: يُغلَّب الظاهر فإنه في هذه الحالة لا يلزمه أن يسجد؛ لأن الظاهر معتبرٌ مأذونٌ به شرعاً.
والوجهان ذكرهما الإمام النووي رحمه الله، وغيره من أصحاب الشافعي الذين يقولون بمشروعية جلسة الاستراحة، وكلا الوجهين من القوة بمكان، لكن القول الذي يقول: إنه يسجد للسهو أقوى من ناحية النظر.(41/13)
ما يفعله المصلي في الركعة الثانية
قال رحمه الله تعالى: [ويصلي الثانية كذلك ما عدا التحريمة والاستفتاح والتعوذ وتجديد النية] قوله: (الثانية) أي: الركعة الثانية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف للمسيء صلاته الركعة الأولى أمره أن يفعل في الثانية مثل ما فعل في الأولى، والسنة أن تكون الثانية أخف من الأولى.
قال بعض العلماء: تخفَّف قسطاً.
وقال بعضهم: هي كالأولى في قدر المقروء.
وتوضيح هذين القولين أننا لو قلنا: تخفف قسطاً -أي: في القراءة، لأن طول القيام يقوم على القراءة- فمعناه: أن تختار سورة أقل من السورة التي في الركعة الأولى، وإن قلت: ليس المراد أن تخفف قسطاً، وإنما باعتبار فلك أن تختار سورةً مثل السورة التي في الركعة الأولى، ويكون التخفيف بفارق دعاء الاستفتاح في الأولى، فهذا الفرق بين الوجهين، تخفيفها قسطاً أقوى من جهة السنة، ولكن هناك أحاديث تدل على أنه لا حرج أن تتساوى الركعة الأولى مع الثانية في القراءة، ويكون الفضل لدعاء الاستفتاح، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام قراءته للزلزلة في الركعتين، قال الصحابي: ما أُرَاه إلا نسي.
وهو في الحقيقة لم ينس عليه الصلاة والسلام، وإنما فعل ذلك لكي يبين أنه لا حرج أن تقرأ في الركعة الثانية نفس السورة التي قرأتها في الركعة الأولى.
فهذا الحديث يشير إلى أن التخفيف في الركعة الثانية قد يكون باعتبار زيادة دعاء الاستفتاح، خاصةً إذا أطال الإنسان في قيام الليل، ولكن وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في تخفيفه للقراءة في الركعة الثانية عن الركعة الأولى، وبناءً على هذا يكون حال الإنسان في الركعة الثانية أخف، فلا يدعو بدعاء الاستفتاح، ولا يُكبر تكبيرة الإحرام، وإنما يكبر تكبيرة الانتقال، ولا يتعوذ على ما اختار المصنف، وإن كان الأقوى أنه يتعوذ، وذلك لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، وللعلماء في هذه المسألة وجهان: فمنهم من قال: يتعوذ.
ومنهم من قال: لا يتعوذ.
والسبب في هذا الفاصل، فهل هو من جنس العبادة الواحدة، أم من جنس العبادة المختلفة؟ والأقوى أنه يتعوَّذ، فالذين يقولون: إن انتقاله لا يؤثر يقولون: ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ -كما في حديث ابن مسعود - في قيام الليل، فما مر بآية رحمةٍ إلا سأل الله من فضله، ولا مر بآية عذاب إلا استعاذ بالله، قالوا: ففَصَل بين القراءة الأولى والقراءة الثانية بالتعوذ وسؤال الرحمة، ومع ذلك لم يبتدئ قراءته من جديد.
فدل على أن الذكر الذي هو من جنس القراءة في حكم المقروء، وبناءً على ذلك قالوا: الفصل بالركوع والسجود وأذكارهما بمثابة كأنه في عبادةٍ واحدة.
وقال الآخرون: إن الاستعاذة لفظٌ مخصوص، وزيادته في الصلاة تحتاج إلى دليل.
والأقوى أنه يتعوذ لعموم الأدلة، ولا مُخصِّص يدل على سقوطها في هذا الموضع، فيبتدئ بالاستعاذة.(41/14)
الأسئلة(41/15)
قول: (ربنا ولك الحمد ولك الشكر) زيادة لم تثبت
السؤال
ما حكم زيادة: (ولك الشكر) في قول: (ربنا ولك الحمد) بعد تسميع الإمام؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه الزيادة لم تثبت، فالشكر ثابتٌ لله عز وجل في الأصل على العموم، ولكن اختيار هذا الموضع لزيادة الشكر لا أصل له، وإنما الوارد أن يقول ما ذكرناه، وله أن يقول: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، وإن كان بعض العلماء رحمة الله عليهم سامح في الثناء على الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الصحابي حينما قال: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، قال: فالمقام مقام تمجيد، فلو مجّد الله وعظّمه فإنه لا حرج عليه.
لكن الأولى والذي ينبغي دلالة الناس على السنة والاقتصار على الوارد، والقاعدة -كما نبه عليها العز بن عبد السلام - أن الوارد أفضل من غير الوارد، وهذا فيما شُرِع فيه الدعاء والثناء، فلو اخترت لفظاً وارداً فهو أفضل من غير الوارد، فكيف إذا كان محتمِلاً التقيي؟! ولذلك القول بالتقيد من القوة بمكان، ويُنبه الناس على السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.(41/16)
حكم من سجد على الجبهة دون الأنف
السؤال
هل إذا سجد على الجبهة دون الأنف أجزأه ذلك؟
الجواب
هذا فيه خلاف بين العلماء رحمةُ الله عليهم، وقد جاء في حديث ابن عباس الجمع بين الجبهة والأنف، حيث أشار عليه عليه الصلاة والسلام إلى جبهته وأنفه.
واختلف العلماء، في الاقتصار على واحدٍ منهما دون الآخر، فقال بعضهم: يُجزيه، ويكون هذا على سبيل أنه عضو أو جزء العضو، وإذا سجد ببعض العضو قالوا: يُجزيه السجود ولكن يأثم بالترك.
فهذا هو أعدل الأقوال وهو أنه يأثم بترك الأنف لو تركه، والجبهة لو تركها، كما لو سجد على يده فاعتمد على رءوس أصابعه متعمداً فإنه يصح سجوده من جهة الإجزاء، ولكنه يأثم بترك الباطن، فهو جزء المأمور به.
فإذا قلنا: إن الجبهة والأنف بمثابة العضو الواحد على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (على سبعة أعظم) فإنه في هذه الحالة يكون من جنس الجزء المشتمل على موضعين، كالحال في الكف والأصابع، فبطن اليد شيء والأصابع شيءٌ آخر، فلو اتكأ على أطراف أصابعه، أو رفع أصابعه واعتمد على راحته فإنه يجزيه ويأثم.(41/17)
حكم السجود على العمامة
السؤال
إذا كان المأموم لابساً عمامته فهل له أن ينحيها قليلاً حتى يمكن جبهته من السجود؟
الجواب
استحب العلماء رحمةُ الله عليهم أن لا يغطي الإنسان جبهته؛ لأنه شعار أهل الخير والصلاح، وقد وصف الله عز وجل أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، وهذا لا يتأتى إلا برؤية الناس لهذا الموضع، ولذلك استُحِب لطالب العلم ولأهل الفضل والصلاح أن يكشفوا عن هذا الموضع، وكان معروفاً في عهد السلف، ولذلك لما قال ابن النصرانية الأخطل في الأنصار يهجوهم -قاتله الله وأبعده ولعنه-: ذهبت قريشٌ بالمفاخر كلها وبقى اللؤم تحت عمائم الأنصارِ لما قال ذلك دخل قيس بن سعد رضي الله عنه وأرضاه على معاوية وكشف جبهته وقال: أترى لؤماً؟ قال: لا.
والله ما أرى إلا خيراً ونبلاً.
قال: ما بال ابن النصرانية يقول كذا وكذا؟ قال: لك لسانه.
فأهدر لسانه، ثم إنه فرّ.
فالمقصود أنهم كانوا يرون أن من شعار أهل الصلاح والخير كشف هذا، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (مسح على ناصيته وعلى العمامة).
وكان بعض العلماء رحمة الله عليهم يكشفون عن النواصي أحياناً، إيثاراً للتواضع والذلة لله عز وجل، حتى يكون أبلغ في قبول الناس له وإقبالهم عليه، خاصةً العلماء ومن يُحتاج إليه، فإنهم إذا كانوا على سمتٍ فيه لين ورفقٌ بالناس كلما كان ذلك أبلغ لقرب الناس منهم، وتغطية هذا الموضع يفعلها الإنسان في الغالب على سبيل الكبر أو الخيلاء، فلذلك الأفضل أن يجلي جبهته.
وإذا أراد أن يسجد -نظراً إلى أنه مأمورٌ بالسجود على الجبهة- فإنه يجليها حتى يتمكن من السجود، والله تعالى أعلم.(41/18)
حكم تكرار الفاتحة في الركعة الواحدة
السؤال
إذا قرأ المصلي بعد سورة الفاتحة سورة الفاتحة أيضاً فهل صلاته جائزة؟
الجواب
إذا قرأ المصلي سورة الفاتحة بعد قراءتها فهذا على صور: الصورة الأولى: أن يقرأ ذلك متعمداً متقصداً تكرار الفاتحة، فللعلماء فيه وجهان: قال بعض العلماء: تبطل صلاته؛ لأنه زيادة ركنٍ، فكما أن زيادة الأركان في الأفعال تبطل الصلاة، كذلك زيادة الأركان في الأقوال تُبطل الصلاة.
وهذا القول من جهة الأصول قوي؛ فإنك إذا نظرت إلى أنها زيادةٌ مقصودة في ركنٍ مقصود فإنها كزيادة الأفعال، ولذلك يقوى هذا القول من الوجه الذي ذكرناه.
وقال بعض العلماء: أساء ولا تبطل صلاته.
ولذلك هذا الفعل أقل درجاته أنه إذا تقصَّده فهو حدث وبدعة؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا على سبيل الفضل، ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون مبتدعاً من هذا الوجه.
أما لو شك هل قرأ الفاتحة أو لم يقرأها، ثم قرأها على سبيل الجزم والاحتياط فهو مأمورٌ بقراءتها في هذه الحالة وتجزيه، فلو صليت ثم شككت: هل قرأت الفاتحة أو لم تقرأها -خاصةً إذا كان الإنسان وحده، أو كان إماماً في سرية من ظهر أو عصر- فإنه في هذه الحالة يعيد قراءتها، ولو ركع قبل أن يجزم بقراءتها فإنه يلزمه قضاء تلك الركعة، فيجب عليه أن يقرأها ويتأكد من قراءتها، إلا إذا كان مبتلىً بوسواس فإنه في الوسوسة لا يلتفت إليها، ولا يعمل بها، والله تعالى أعلم.(41/19)
مشروعية صلاة الضحى والمداومة عليها
السؤال
هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على صلاة الضحى أم لا؟ وهل المداومة عليها من السنة، أم نصلي بعض الأيام ونترك بعضها؟
الجواب
صلاة الضحى ورد فيها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وغيره من الأحاديث التي تدل على مشروعيتها وسنيتها، وكون عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ينكرها وغيره من الصحابة فإن من حفظ حجةً على من لم يحفظ، وكم من سنن خفيت على الأفاضل من كبار الصحابة، كما ثبت عن عمر رضي الله عنه في الصحيح أنه لما نزل بالشام أُخبر بخبر الطاعون -طاعون عمواس- فامتنع من دخول الشام، فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: (نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله?!) فبيَّن له أن هذا من الأسباب، وليس له علاقة بالفرار ما دامت عقيدته في الله عز وجل وأخذ بالسبب، فلا حرج عليه، ثم قام في الناس فقال: أُحرّج على من كان عنده خبر من هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعلمنا أو يخبرنا.
فقام عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه)، فحمد الله على موافقته للسنة.
فهذا يدل دِلالة واضحة على أنه قد تكون السنة خافية على كبار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فكيف بـ ابن عمر رضي الله عن الجميع وأرضاهم؟! وإن كان ابن عمر له فضله ومكانته وعلمه وورعه رضي الله عنه، ولكن المقصود أن كون ابن عمر لا يراها لا يدل على نفيها، فهي ثابتة، ومن السنة فعلها.
والأصل أن ما جاء على الإطلاق لا يُقيد إلا بدليل، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بها أبا هريرة رضي الله عنه، ويوصيه بها فإنها سنةٌ ثابتة، فتبقى سنة ثابتة حتى يدل الدليل على التقييد بفعلها تارة أو تركها تارة.
ويبقى النظر: هل فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم أو لم يفعلها؟ فهذا مما سكتت عنه الأخبار، وليس عندنا دليل يثبت أنه كان يصلي ركعتي الضحى، وليس عندنا دليل ينفي ذلك.
والقاعدة أنه إذا لم يرد ما يوجب النفي وما يوجب الإثبات رُجِع إلى الأصل، فلما كان الأصل عندنا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بها على الإطلاق نبقى على هذا الإطلاق، ونقول: هي سنة.
فلو قال قائل: كيف ولم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مداومته؟ قلنا: ولو ثبت عنه أنه تركها فإنه لا يعتبر دليلاً على نفي المداومة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك العمل وهو يحب أن يفعله خشية أن يُفترض على أمته، كما ثبت في الحديث الصحيح.
وبناءً على ذلك نقول: السنة المداومة عليها للإطلاق، ولا حرج على الإنسان أن يداوم عليها، وهو على خير.
كما أنه ثبت في الحديث الصحيح ما يدل على تقوية هذا القول من قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، فصلاتهم هذه معناها أنه أمر ألفوه وداوموا عليه، فلا يحتاج إلى أن يُقيد بدليل، فنبقى على هذا الإطلاق من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، والله تعالى أعلم.(41/20)
حكم قيام الليل لمن صلى الوتر بعد العشاء
السؤال
هل يجوز للمسلم أن يقوم الليل إذا كان قد صلى الوتر بعد العشاء مباشرة؟
الجواب
من صلى الوتر بعد العشاء وأحب أن يقوم الليل فلا حرج عليه، وكان ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه يقوم بعد أن يوتر، وينقض وتره بركعةٍ، ثم يصلي ركعتين ركعتينِ، ثم يوتر.
ولا حرج على الإنسان أن يفعل ذلك؛ فإنه ربما خاف الإنسان أن لا يقوم فاحتاط بالوتر في أول ليله، ثم يريد الله به الخير فيستيقظ من آخر ليله، فلا حرج عليه أن يصلي، وأن يسأل الله من فضله؛ لعموم الأدلة الثابتة في ذلك، وإن صلى ركعتين ركعتينِ ولم يوتر فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- صلى ركعتين بعدما أوتر.
فدل هذا على أنه من السنة ولا حرج، وقد ألف فيه الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه رسالة في إثبات سنية الشفع بعد الوتر، ولكن السنة والأفضل والذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم جعْل الوتر في آخر الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا).
نسأل الله العظيم أن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.(41/21)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [5]
للتشهد صفة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وله صور وحالات معلومة، وينقسم إلى: التشهد الأول، والتشهد الثاني، فإذا أتم التشهد الثاني فإنه يسلم من صلاته، وللتسليم صور واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكون قد أتم صلاته على أكمل وجه وأحسنه.(42/1)
صفة الجلوس للتشهد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ثم يجلس مفترشا ويداه على فخذيه] أي: إذا تم من الركعة الثانية يجلس مفترشاً كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك غيرها في صفة جلوسه عليه الصلاة والسلام أنه (افترش اليسرى ونصب اليمنى، واستقبل بأطراف أصابعه القبلة)، صلوات الله وسلامه عليه.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون ذلك، حتى أُثر عن بعضهم أنه كان إذا انحنى إبهامه أصلحه حتى يكون مستقبلاً القبلة، ويكون معتمداً عليه في جلوسه، وهذه إحدى الجلسات.
كذلك أيضاً جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه جلس بين السجدتين، فنصب قدميه وجعل صدور القدمين على الأرض مستقبلاً بها القبلة وإليته على العقبين، وهذا ليس بالإقعاء المنهي عنه، فقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وأنه من السنة فلا حرج فيه، وإنما الإقعاء المنهي عنه أن يجعل طرفي القدمين ويفضي بإليتيه إلى الأرض، فهذا الصورة للإقعاء.
الصورة الثانية: أن ينصب رجليه، ثم يفضي بإليتيه إلى الأرض.
الصورة الثانية: أن تكون بطون القدمين إلى الأرض، وتلتصق العقبان بالإلية، هذه كلها صور للإقعاء المنهي عنه.
أما لو نصب واستقبل بأطراف أصابعه القبلة؛ فإن هذا ورد فيه حديث ابن عباس أنه من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [ويداه على فخذيه] أي: تكون يدا المصلي على الفخذين، وهذه جلسة التشهد، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل هذا الفعل، فشرع رحمه الله في الصفة الفعلية، فجلسة التشهد تحتاج إلى فعلٍ وقول، أما الفعل فشيءٌ منه يتعلق بمؤخر الإنسان وشيء يتعلق بمقدمه، فالذي يتعلق بمؤخَّره فقد ذكرناه من افتراش اليسرى ونصب اليمنى، واستقبال القبلة بأطراف أصابع اليمنى.
أما ما يتعلق بمقدمه فنبدأ بوضع اليد اليسرى، وفيه ثلاثة أوجه: الوجه الأول: قال بعضهم: يُلقِمها ركبته كما جاء في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه ألقَم ركبته، والإلقام: أن تجعلها بمثابة الفم على الركبة، كأن نصفها على آخر الفخذ، ونصفها الذي هو أطراف الأصابع ملتصق بظاهر الركبة، وهذه الصورة تعرف عند العلماء بصورة اللقم.
الوجه الثاني: أن يجعل رءوس أصابعه عند ركبته مستقبلاً بها القبلة.
الوجه الثالث: أن تكون على الفخذ، بمعنى أنها لا تكون قريبة من الركبة، وإنما تكون على الفخذ.
هذه ثلاثة أوجه للعلماء رحمةُ الله عليهم.
واليد اليسرى بالإجماع أنه لا يشرع التحريك فيها، والأصل في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرّ على الرجل وهو يشير بإصبعيه قال: (أحِّد أحِّد) أي: اجعله واحداً، فنهى عن رفع إصبعه الثانية؛ فدل هذا على أنه ليس من السنة أن يشير بالأصبعين من اليدين، وإنما يقتصر بالإشارة على الكف الأيمن.
قال رحمه الله: [يقبض خنصر يده اليمنى وبنصرها] بالنسبة للوسطى مع الإبهام يحلق بهما، ويشير بالسبابة.
والسبابة: هي ما بين الإبهام والوسطى، فالعرب تسمي أصغر الأصابع: الخنصر؛ ثم التي تليها البنصر، ثم الوسطى، ثم السبابة، ثم الإبهام، والسبابة سُمِّيت بذلك لأن الإنسان عند السب أو اللعن -والعياذ بالله- مع شدة الغضب يشير بها، كالمتوعد، ووُصِفت بهذا وأصبح اسمها، فيقبض الخنصر والبنصر، ثم يحلق ما بين الوسطى والإبهام، ويشير بالسبابة.
[ويحلق إبهامها مع الوسطى ويشير بسبابتها في تشهده] بعض العلماء يرى أنها تكون كالدائرة، وقال بعضهم: أن يجعل طرف الإبهام عند منتصف السبابة، وهذا مبني على رواية: إحدى وخمسين، بناءً على حساب العرب في عدّ الأصابع.
وبعضهم يرى أنه يكون جامعاً بها على هذه الصفة، بحيث تجتمع الأنملة العليا من الوسطى مع طرف الإبهام، وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحليق، وثبت عنه في الأحاديث الصحيحة، ويشير بالتوحيد عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (أحّد) والسبب في هذا أن الأصل عدم التحريك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسكنوا في الصلاة) وقال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].
قالوا: الأصل السكون وعدم الحركة والكلام حتى يدل الدليل على حركة وكلام معتبر، فلما جاء الدليل ووجدنا أنه عليه الصلاة والسلام أمره بالتوحيد، فدلّ ذلك على أنه عند الشهادة، وهذا على الأصل، ولذلك قالوا: يرفعها عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) وهذا هو أوجه الأقوال وأعدلها وأقربها إلى السنة إن شاء الله تعالى.
وللعلماء في هذه الإشارة أوجه: منهم من يرى أنه يُشار بها شديدا، يعني: بقوة، ومنهم من يرى أنها لا تُشد ولا تُرخى وإنما يُتوسط فيها، كما جاء في حديث ابن عمر عند البيهقي وغيره؛ ولذلك قالوا: منكتاً بها إلى الأرض، وهذا أولى الأقوال، ولو فعل الأول فلا حرج، لكن أولى الأقوال أنه يُنَكِّت بها إلى الأرض، ويرمي ببصره إليها، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينظر إليها كما في حديث السنن.
إذاً: ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجعل مرفقه عند فخذه صلوات الله وسلامه عليه، ثم يعقد خنصره وبنصره، ويحلق بالوسطى مع الإبهام ويشير بالسبابة.
وهناك صورة أخرى اشتمل عليها حديث وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه، وحديث أحمد في المسند، وكذلك غيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد ثلاثاً وخمسين، وهذا يعني: أن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى، ويجعل الإبهام عند أصل الوسطى.
الصورة الثالثة: أنه يستقبل بالأصابع القبلة، ويجعل أصابعه مستقبلة القبلة، ويُشير بالسبابة، وهذه الصورة اختارها بعض العلماء رحمهم الله استحساناً، من جهة استقباله للقبلة، قالوا: لأنها هيئة الساجد.
والأقوى ما ذكرناه من الصفتين أنه إما أن يُحلّق بين الوسطى وبين الإبهام ويشير بالمسبحة، وإما أن يعقد ثلاثاً وخمسين.
والسبب في ذلك أن الخنصر واحد، والبنصر الثاني، والوسطى الثالث، والعرب إذا أرادت أن تعد تعقد الإبهام إلى أصل الأصابع، فيكون فيه إشارةً إلى الخمسين، فأصبح المجموع ثلاثاً وخمسين.
هاتان الصفتان هما أقوى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة كفه اليمنى أثناء التشهد.
أما بالنسبة للكف اليسرى فلها كما قلنا إما أن يجعلها على فخذه، وإما أن يجعل أطراف أصابعه عند ركبته، وإما أن يلقم بها الركبة، وكلٌ قد جاءت به سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الإشارة باليسرى فإنه لم يثبت بها دليل، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس وغيره أنه رأى رجلاً يشير بإصبعيه يدعو بهما، فقال عليه الصلاة والسلام: (أحّد أحد) وهو حديث عند النسائي، وهذا على سبيل المناسبة؛ فإن الله واحد؛ ولذلك جعل الإشارة بتوحيده بالإصبع الواحدة، ولم يجعله بإصبعين، حتى تكون هناك مناسبة بين العدد الذي يشير به وبينما يدل عليه.(42/2)
حكم الإشارة بالإصبع في التشهد
الإشارة في الصلاة للعلماء فيها ثلاثة أوجه: منهم من قال: يشير ولا يحرك، وهذا بناءً على ما ثبت في حديث ابن عمر وحديث وائل رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بها، وكلها أثبتت الإشارة دون تحريك.
وأما التحريك فقالوا: أخذوه من حديث ابن الزبير (يدعو بها) قالوا: والدعاء بها يقتضي التحريك، وجاءت أحاديث -لم يخل حديث منها من كلام، وقد أشار الذهبي وغيره إلى ضعفها- أنها مذعرةٌ للشيطان أي: أنها تصيب الشيطان بالذعر، ولكن لم يصح في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث إما منكرةٌ أو موضوعة.
والذين قالوا بالتحريك ينقسمون إلى طائفتين: طائفة تقول: يبتدئ الدعاء بالرفع، فيجعل الرفع عند ابتداء كل دعاءٍ، وعلى هذا إذا قال: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات) ابتدأ الرفع عند قوله: (اللهم) وكلّما ابتدأ دعاءً رفع إصبعه سائلا الله عز وجل الإجابة.
هذا بالنسبة لمذهب من يقول: يدعو بها؛ أي: أنه يحركها عند ابتداء كل دعوة.
والقائلون بهذا القول كأنهم يرون أن الأصل هو ثبوت الإصبع، فقالوا: يدعو بها؛ ويتقيد تحريكها بالدعاء.
لكن يُشكل عليهم لفظ الشهادة، فإنه لا يشتمل على السؤال، ولا يشتمل على الدعاء؛ فالذين يقولون: تثبت دون تحريك أي: من عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) يبقى مشيراً بها ومنكِّتاً إلى الأرض، كما في حديث ابن عمر عند البيهقي وغيره، وعلى هذا تثبت إلى نهاية الصلاة.
وأما الذين يقولون بالتحريك فيقولون: يبتدئ تحريكها عند الشهادة فيشير ثم يقبض، فإذا ابتدأ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لاشتمالها على نوع من الدعاء: (اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد) فيحرك عند ابتداء كل صلاةٍ؛ لأنها دعاء ومسألة.
والذين قالوا بالتحريك المطلق -وهو أضعف الأقوال، وهو القول الثالث- قالوا: إنه يشير بها، أي: يحركها سواء كان في ابتداء الدعاء أو أثنائه.
وأقوى هذه الأقوال أنه يشير بها ولا يحركها؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسكنوا في الصلاة) وقوله: (يدعو بها) متردد بين شهادة التوحيد وبين أن يبقى مشيراً بها، فنقول: إن من رفعها أثناء دعائه فكأنه داعٍ بها؛ ولذلك ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خطب لا يزيد على الإشارة بها صلوات الله وسلامه عليه.(42/3)
التشهد الأول والصيغ الواردة فيه
قال رحمه الله تعالى: [ويقول: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).
هذا التشهد الأول] التشهد -كما قلنا- يشتمل على فعلٍ وقول، ففرغ رحمه الله من هيئة المتشهد، ثم شرع في أذكار التشهد، والسبب في تقديمه للأفعال والأوصاف على الأقوال أن أول ما يبتدئ به المتشهد أن يهيئ مجلسه للتشهد، فابتدأ بهيئة الجلوس، ثم أتبعها بذكر الجلوس، وذكر التشهد يبتدئ بالتحيات.
وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم صِيغٌ للتشهد، منها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي ذكره المصنف.
ومثله حديث عبد الله بن عمر، وحديث أبي موسى الأشعري مع اختلاف يسير، وهناك صيغٌ أخرى منها تشهُّد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وتشهد عمر بن الخطاب.
فأما الإمامان أحمد وأبو حنيفة فاختارا تشهد ابن مسعود هذا، والسبب في ذلك أنه قال: (علمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه) إشارة إلى القرب واتصال الرواية، ولأن ألفاظ تشهد ابن مسعود جاءت متناسقة، ولم يحدث بينها اختلاف، ولأن هذا التشهد علَّمَه غير واحدٍ من السلف، فلذلك قالوا: إنه أفضل صيغ التشهد.
وقيل بتشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله)، وهناك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله)، وفي رواية: (الطيبات) بدون (لله)، وفي رواية: (الطيبات لله، والصلوات لله)، وكلتاهما روايتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فاختار الإمام الشافعي تشهُّد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واختار الإمام مالك رحمه الله تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد بيّن المحققون -ومنهم الإمام الحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما قرره في القواعد النورانية، وابن عبد البر في الاستذكار، وكذلك الإمام ابن القيم رحمه الله في غير ما موضع من كتبه- أن الأمر واسع، فإن شئت تشهدت بتشهد ابن مسعود، أو بتشهد عبد الله بن عباس، أو بتشهد عمر بن الخطاب.
وكأنهم يرون أن هذا الخلاف إنما هو من اختلاف التنوع، وليس من اختلاف التضاد، فالأمر واسع، فإن شئت تشهدت بهذا، وإن شئت تشهدت بهذا، واستحب بعض العلماء أن يُكثر من تشهد عبد الله بن مسعود وذلك لقوة رواياته، ولكن ينوع في بعض الصلوات بالتشهد الآخر الوارد عن عمر وعن عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع.
ومعنى: (التحيات) أي: البقاء والدوام لله عز وجل.
ومعنى: (والصلوات) أي: الثناء على الله سبحانه وتعالى، والأدعية مختصة بالله عز وجل لا تكون لغيره.
وقوله: (والطيبات) وصَفَها بالطيب؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً سبحانه وتعالى.
و (المباركات) من البركة، وأصل الشيء المبارك: الكثير الخير والنماء والزيادة، فالبركة هي النماء والزيادة والخير الكثير.
وقوله: (السلام عليك أيها النبي) جاء في الرواية عنهم أنهم رضي الله عنهم لما توفي عليه الصلاة والسلام كانوا يقولون: (السلام على النبي)، وقال بعض العلماء: يُبقى على اللفظ الوارد؛ لأنه هو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة فيقتصر عليه، وإن قال الإنسان: (السلام على النبي) فلا حرج.
فالذين قالوا إنه يقول: (السلام عليك أيها النبي) قالوا: إن كاف الخطاب لا يشكل عليها وفاته عليه الصلاة والسلام؛ لأن الصحابة كانوا يسافرون، وكانوا يبتعدون أحياناً عن النبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته، ومع ذلك لم يغيروا هذا اللفظ، فيبقى هذا اللفظ على ما هو عليه لا يختلف في حياته وموته صلوات الله وسلامه عليه، ولا شك أن هذا المذهب من جهة الاتِّباع والقوة في التأسي من حيث اللفظ الوارد هو أقوى، وذلك لأن التحيات ذكر مخصوص، وينبغي أن يلتزم فيه المصلي ما ورد، وأما اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم فهذا منهم، فلهم أجرهم على الاجتهاد، ولكن الأقوى والأولى ما ذكرناه.
وقول: [السلام عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] في التشهد لأنهم كانوا في القديم يسلّم بعضهم على بعض عند انتهاء الصلاة، فأبدلهم الله عز وجل بهذا، وكانت هي الصلاة المدنية؛ فعندما كان يسلم بعضهم على بعض، ويشير بعضهم على بعض لبُعدهم قال صلى الله عليه وسلم: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيلٍ شمسٍ، اسكنوا في الصلاة)، فنهاهم عن هذا السلام، وأبدلهم الله بقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، وقد ورد في الخبر أنه لا يبقى عبدٌ لله صالح إلا أصابه هذا السلام، إذا قال المصلي: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، وفيه دليل على فضل صلاح الإنسان.
قال بعض العلماء: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) عامة تشمل كل مسلم.
وقال بعضهم: بل تختص بمن زاد خيره وزادت طاعته، فهو المختص بهذا التسليم من المصلين إظهاراً لشرف الصلاة والزيادة في الهداية، فكلما زادت هداية الإنسان وازداد صلاحه وخيره كان عليه سلامٌ من المصلين، فمن صلى نفلاً أو فرضاً أصابه هذا التسليم من عباد الله المصلين، وهذا فضلٌ عظيم وخيرٌ كثير.
وأما قول: [أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] لقد جاء في الرواية الثانية: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له -بزيادة (وحده لا شريك له- وأشهد أن محمداً رسول الله)، وجاء في روايةٍ أيضاً: (محمداً عبده ورسوله)، وكل هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [هذا هو التشهد الأول] لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبع كلمات وهي تحية الصلاة)، وهو حديث عند مسلم وغيره، قالوا: هو التشهد الأول؛ لأن التشهد تفعلٌ من الشهادة، فمن بلغ إلى قوله: (أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) فقد انتهى من تشهده الأول، وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لا تكون في التشهد الأول على أصح أقوال العلماء، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمن قال إنها تكون في التشهد الأول.
والسبب في ذلك أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء إنما يكون في التشهد الثاني لا في التشهد الأول، وقد اختلف في حديث النسائي وغيره الذي فيه ما يدل على أنه يدعو في التشهد الأول، ولذلك خطَّأ بعض العلماء هذه الرواية، وقوَّى أن الدعاء إنما هو في التشهد الثاني، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لمن انتهى من صلاته: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فالتشهد الأخير هو تشهد المسألة والدعاء، وأما التشهد الأول فإنه لا يُدعا فيه، ولذلك جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (كان إذا جلس في التشهد الأول قام كأنما كان على الرضف)، وهو الحجارة المحماة، وهذا إشارة إلى أنه كان يستعجل، ولم يكن يطيل جلوسه للتشهد الأول.
ولذلك قالوا: السنة أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمُرُه عليه الصلاة والسلام بالصلاة عليه في هذا الموضع، فيقتصر على التشهد، وقد سموه تشهداً واسمه دال عليه، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قالوا: فتسمية النبي صلى الله عليه وسلم له تشهداً تدل على أنه يقتصر فيه على قول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).
فالخلاصة أن ما قلنا هو أقوى الأقوال، هناك قولٌ ثانٍ: أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك قولٌ ثالث: أنه يشرع له الدعاء.
ولكنه قولٌ ضعيف عند العلماء للاختلاف في ثبوت الرواية بدعائه عليه الصلاة والسلام؛ لأن المحفوظ عدم دعائه، وسرعة قيامه إلى الركعة الثالثة.(42/4)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الثاني
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد].
هذه هي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولها صيغٌ عديدة، واختار المصنف رحمه الله منها هذه الصلاة، وهي صحيحة ثابتة، فهذه الصلاة لها أكثر من عشر صيغ ثابتة في الكتب الستة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأي صلاةٍ صلى بها فإنها مجزئة، لكن المعتبر منها الصلاة الإبراهيمية التي اختارها المصنف رحمة الله عليه، وقد دلّ عليها حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه.(42/5)
حكم الاستعاذة من النار والقبر بعد التشهد الثاني
قال رحمه الله تعالى: [ويستعيذ من عذاب جهنم وعذاب القبر] أي: يسأل الله أن يعيذه من عذاب جهنم، والتعوذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال أربع كلمات، اختلف العلماء فيها على وجهين: فمنهم من قال: يُستحب للمصلي أن يتعوذ من هذه الأربع: من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن عذاب القبر، ومن عذاب جهنم.
والسبب في ذلك أمره عليه الصلاة والسلام على سبيل الندب لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فقوله: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء) يدل على الندب والاستحباب، وأنك تقول هذا الدعاء على سبيل الأفضلية لا على سبيل اللزوم.
وهناك قولٌ ثانٍ يقول: يجب على المصلي أن يتعوذ بالله من هذه الأربع، ويُلزمه بها، وهو قول بعض فقهاء الظاهرية كما اختاره ابن حزم، بل شدد بعضهم -ويوافقه بعض أهل الحديث رحمة الله عليهم- فقال: من لم يتعوذ بالله من هذه الأربع تبطل صلاته.
والصحيح أنها مندوبة مستحبة، وليست بلازمة واجبة؛ لدلالة السنة على صرف الأمر عن ظاهره من الوجوب إلى الندب، والقاعدة في الأصول أن الأوامر تبقى على ظواهرها من الدلالة على الوجوب ما لم يقم الصارف على صرفها عن ذلك الظاهر.
وقد قام الصارف في قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فوسَّع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقيِّد.
وهذه الأربع -كما يقول العلماء- اشتملت على شرور الدنيا والآخرة؛ فإن الإنسان يأتيه الشر من فتنة المحيا، وقد يؤخر الله عنه البلاء فيكون في فتنة الممات، والأمر الثالث: البرزخ، والرابع: عذاب جهنم.
قال بعض العلماء: فتنة الممات ما يكون عند سكرات الموت، نسأل الله أن يلطف بنا فيها.
فالإنسان المسلم الموفَّق السعيد يخشى من هذه الأربعة المواضع.
الموضع الأول: فتنته في حال حياته، فمادامت روحه في جسده فإنه معرضٌ للفتن، حتى ولو بلغ أعلى درجات الصلاح فإنه لا يأمن أن يُمسِي مؤمناً فيصبح -والعياذ بالله- كافراً، ولا يأمن أن يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ففي الحديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) نسأل الله السلامة والعافية.
فإذا كان حياً فإنه يخاف من فتنة المحيا، وكم من إنسان كان على خير فانعكس حاله -والعياذ بالله- إلى الشر بسبب طول حياته إلى زمان الفتن، ولذلك كان بعض العلماء -رحمةُ الله عليهم- من مشايخنا يقول: كنت أسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمره بالتعوذ من فتنة المحيا والممات، وكنا نتعوذ، ونسأل الله أن يعيذنا، ولكن لم نعرف ولم نجد أثر ذلك إلا بعد رؤية الفتن، فعلمنا فضل هذا الدعاء: (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)، وكم من إنسانٍ يتمنى العيش إلى دهر يسوءه ولا يسره ولا ينفعه، بل يضره، نسأل الله أن يلطف بنا وبكم.
الموضع الثاني: إذا سَلِم في حياته فقد يبتليه الله قبل موته، فيختم له بخاتمة السوء، ولذلك قد يتخبط الشيطان الإنسان عند سكرات الموت -والعياذ بالله- فقال صلى الله عليه وسلم: (وفتنة الممات)، فيسأل الله أن يلطف به في فتنة الممات، وأن يجعل خاتمته على خير؛ فإنه قد يموت الإنسان على خاتمة السعداء، وقد يموت على خاتمة الأشقياء، ولذلك ثبت في الحديث أن رجلاً طُعِن يوم أحد فسالت دماؤه فاستعجل الموت -والعياذ بالله- فطعن نفسه فقتل فمات قاتلاً لنفسه.
فعلى الإنسان أن يسأل الله أن يلطف به، خاصةً عند سكرات الموت وشدته، فإن سَلِم من فتنة المحيا والممات فإنه قد تكون هناك ذنوبٌ وخطايا منه لم يغفرها الله سبحانه وتعالى لعدم وجود التوبة النصوح منه، فيبتليه بفتنة القبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك من عذاب القبر)، فإن سلم من فتنة المحيا ومن فتنة الممات، ومن فتنة القبر فإنه يحتاج إلى أن يسلِّمه الله من عذاب جهنم.
ثم بعد هذه الفتن الأربع هناك فتنٌ خاصة وهي التي عناها بقوله: (فتنة المسيح الدجال)، فالفتن منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص، فاستعاذ من فتنة المحيا العامة، ثم شرع في فتنة المحيا الخاصة وهي فتنة المسيح الدجال، وهي من أعظم الفتن، وسمي مسيحاً لأنه يمسح الأرض، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه لا يدع موضعاً من الأرض إلا وطئه، إلا ما يكون من المدينة، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث تميم الداري - أنه: (على كل نقب من أنقابها ملائكةٌ يحرسونها، فلا يستطيع أن يدخلها، وإنما ترجف فيخر المنافقون إليه في السبخة من أرض الجرف، ويمكث أربعين يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، ويوم كسائر أيام السنة).
وتعظُم فتنته، حتى ثبت في الحديث الصحيح أنه يمر على الأرض الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها تتبعه كيعاسيب النحل، أي: من الذهب والفضة وما فيها من الكنوز، فيفتن الناس به فتنةً عظيمة، ويدعي أنه الله، ويعظمُ بلاؤه، وله جنةٌ ونار، فناره جنة وجنته نار، حتى يكتب الله عز وجل للمؤمنين السلامة من فتنته بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام وقتله للمسيح، كما ثبتت بذلك الأخبار في الصحيحين.
وأما عذاب القبر فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (دخل على عائشة، وكانت قد دخلت عليها يهودية فأطعمتها أم المؤمنين عائشة، فقالت لها اليهودية: أعاذك الله من عذاب القبر، فعجبت عائشة من قولها، فلما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، فقال عليه الصلاة والسلام: أشعرت أن الله أوحى إليَّ أنكم تفتنون في قبوركم؟! قالت أم المؤمنين: فما سمعته صلى صلاةً إلا واستعاذ بالله من عذاب القبر).
وفي الحديث الصحيح من حديث البراء عند أحمد في مسنده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جنازة أنصاري، فجلس -لكي يلحِدوا له- قال: وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً)، ثم ذكر الحديث، فالشاهد من هذا أنها فتنة عظيمة تكون للإنسان في قبره، ويستعيذ الإنسان منها لكي تحصل له من الله السلامة، فنسأل الله أن يعيذنا من هذه الفتن ما ظهر وما بطن.
قال رحمه الله: [ويدعو بما ورد] أي: يسأل الله عز وجل من خير الدنيا والآخرة بما ورد، فيسأله العافية في دينه ودنياه وآخرته، ويقول الدعاء المأثور -كما في حديث أنس -: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، ومن أفضل الدعاء الدعاء بجوامع الكلم كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى)، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، واجعل الموت راحةً لي من كل شر).
فإن هذه الخمس الكلمات تجمع للإنسان سعادة الدنيا والآخرة، فمن أعطاه الله هذه الخمس فقد أعطاه السعادة بعينها.
فهذا اختيار جمعٍ من العلماء وهو أنه يقتصر في دعائه على ما ورد، وقالوا: لا يدعو بأدعية الدنيا، كأن يقول: اللهم إني أسألك دابةً سريعة، أو زوجةً جميلة، أو داراً فسيحة، ونحو ذلك.
وقالوا: إنما يدعو بما ورد، ورخص بعض العلماء في الدعاء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثم يتخير من المسألة ما شاء)، وهذا في الحقيقة أقوى لظاهر دلالة السنة، ولكن أجمع العلماء على أن الأفضل للإنسان أن يدعو بما ورد؛ لأنه إذا دعا بما ورد كان له أجران: أجر الدعاء وأجر الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقال: الأفضل الاقتصار على ما ورد، ولا يُقال: إنه يمتنع عليه الدعاء بغير ما ورد، لثبوت السنة بالإقرار.(42/6)
السلام من الصلاة والأحكام الواردة فيه
قال رحمه الله: [ثم يسلم عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله) وعن يساره كذلك] السلام يحتاج إلى فعل وذكر، فأما هديُه عليه الصلاة والسلام فكان يلتفتُ حتى يُرى بياض خده، وهذا البياض للخد سببه أنه كان يلبس العمامة صلوات الله وسلامه عليه فلا يمنع رؤية الخد شيء، فإذا وضع صلوات الله وسلامه عليه ذقنه على كتفه بدا خده، وبعض طلاب العلم يخطئ عند تطبيق هذه السنة، فإنه ربما يكون عليه غطاء رأسه فيتكلف حتى ينحرف عن القبلة بجذعه، فتجدهُ بحرف صدره كأنه يريد أن يري الناس خده، وهذا لا شك أنه يريد الخير والتأسي ببيان خده كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن خفي عليه أن خد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستره شيء؛ لذلك ينبغي لمن أراد أن يطبق هذه السنة أن يثبُت؛ لأنه مطلوب منه أن يكون مستقبل القبلة، فالانحراف والحركة من الأمور التي شدّد فيها العلماء رحمةُ الله عليهم، بل كان يقول بعض العلماء: إذا انحرف انحرافاً لأغلب الجذع فإنه لا يؤمن أن تبطل صلاته؛ لأنه انحرف عن القبلة قبل تمام صلاته.
فهذا ينبغي التنبيه عليه ويخطئ فيه كثير، بل من طلاب العلم من يخطئ فيه.
فلذلك يثبت الإنسان مُستقبل القبلة بصدره، ثم يحرف رأسه ويجعل ذقنه على الكتف، فهذه هي السنة في السلام الكامل، وأما المبالغة في الحركة والانحراف، فليست من السنة في شيء، ولذلك يُشدد فيها ويمنع منها.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من تسليمه عن اليمين سلم عن يساره، فابتدأ باليمين تشريفاً لها، ثم سلم عن يساره صلى الله عليه وسلم.(42/7)
صيغ السلام الثابتة في السنة
أما الذكر القولي فهناك أربع صيغ للسلام: الصيغة الأولى: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) عن اليمين، (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليسار.
الصيغة الثانية: (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليمين، (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليسار.
وهي الصيغة المشهورة والموجودة الآن.
الصيغة الثالثة: (السلام عليكم ورحمة الله) عن يمينه، (السلام عليكم) عن اليسار.
الصيغة الرابعة: (السلام عليكم) عن يمينه.
فهذه أربع صيغ ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، سلم تسليمتين فجعلها كاملة، وجعلها كاملة عن اليمين ناقصة عن اليسار، وجعلها أيضاً متساوية في اليمين واليسار.
والتسليم يُعتبر من أركان الصلاة على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله الذي لا يرى وجوب التسليم، ويقول: لو أن المصلي خرج من الصلاة بصنعةٍ فإنه يُعتبر خارجاً من الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (فإذا فعلت هذا فقد تمّت صلاتك) ولم يأمره بالتسليم.
والصحيح أنه لازم لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه الثابت عنه: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)، فلما قال: (تحليلها التسليم) دلّ على أن المصلي لا زال في حرماتها حتى يسلم.
واحتج الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه أيضاً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقضى تشهده ثم أحدث فقد تمت صلاته)، وهو حديث ضعيف، والصحيح ما ذكرناه من لزوم السلام ووجوبه.
وأصح الأقوال عند العلماء أن السلام مخيرٌ فيه، فإن شاء سلّم تسليمتين، وإن شاء سلم تسليمة واحدة، ولكن إذا كان مأموماً يرى التسليمتين، وصلى وراء إمامٍ يسلم تسليمة واحدة يُسلِّم وراءه تسليمةً واحدة، وإن كان مأموماً يرى التسليمة الواحدة، وصلى وراء إمامٍ سلم تسليمتين فإنه يسلم من ورائه تسليمتين.
قال بعض العلماء: الواجب في التسليم الأولى، والثانية سنة، وقال بعضهم: الواجب التسليمتان.
فإن قلنا: الواجب التسليمتان، أو قلنا الواجب التسليمة فالحكم يختلف.
وفائدة ذلك أنه لو قلنا الواجب تسليمة واحدة، فإن سلم الأولى ثم أحدث فإن صلاته صحيحة على القول بأن الواجب هي التسليمة الأولى.
وكذلك لو قلنا: إن الواجب التسليمة الأولى.
فإذا سلم التسليمة الأولى، وقبل أن يسلم الثانية مرت امرأة، أو مر كلبٌ أو مر حمارٌ فإنه على القول بأن الصلاة تقطع يُعتَبر بتسليمته الأولى قد خرج من الصلاة وصحّت صلاته.
أما على القول بأن الواجب تسليمتان فلا.
ومن فوائد هذا الخلاف أننا إذا قلنا: الواجب التسليمة الأولى فمعنى ذلك أنك لو صليت وراء إمام وفاتتك ركعة فأكثر، وسلم الإمام التسليمة الأولى، فإنك تقوم مباشرة؛ لأنك مأمورٌ بواجب، فلا تتوقف على السنة، قالوا: ولا ينتظر التسليمة الثانية، كما اختاره غير واحدٍ من أهل العلم، ومنهم الإمام العز بن عبد السلام، وطائفة من أصحاب الشافعي رحمة الله عليه، فقالوا: لا يجلس؛ لأن جلوسه تحصيلاً للسنة، وقد أُمِر بالإتمام لقوله عليه الصلاة والسلام: (وما فاتكم فأتموا)، قالوا: فلذلك لا يشتغل بالسنة عن الفرض اللازم عليه.
هذا حاصل ما ذُكِر في تسليم المصلي من صلاته.(42/8)
مسائل متفرقة في الصلاة(42/9)
التكبير ورفع اليدين عند القيام إلى الثالثة
قال رحمه الله تعالى: [وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبرا بعد التشهد الأول] أي: إن كان المصلي في ثلاثيةٍ كالمغرب، أو رباعية كالظهر والعصر والعشاء نهض مكبراً إلى الركعة الثالثة، وقوله: (مكبراً)، أي: حال كونه مكبراً يقول: اللهُ أكبر، فإن استتمّ قائماً رفع يديه مشيراً بها كالحال في تكبيرات الركوع والرفع من الركوع.
وهذا هو الموضع الرابع الذي يُشرع فيه رفع اليدين كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر في صفة رفعه صلوات الله وسلامه عليه يده في الصلاة.
قال رحمه الله تعالى: [وصلى ما بقي كالثانية بالحمد فقط] قوله: [كالثانية] أي: كما وصفنا في الركعة الثانية، لا كما وصفنا في الركعة الأولى؛ فإنه في الثالثة والرابعة يفعل ما يفعل في الثانية، لكن يقتصر في الثالثة والرابعة على سورة الفاتحة إلا الظهر، وهذا فيه حديث ابن عباس، فإن السنة أن يقرأ بسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في الركعة الثالثة، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في الركعة الرابعة، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه.
وقال بعض العلماء: يُقاس على الظهر العصر، ففي الأخريين من العصر يقرأ بسورتي الإخلاص.
وهذا محل نظر، فإن الأقوى أن يُقتصر على الوارد، ويُقال بسنيته في الظهر، ويضعف القياس في مثل هذا.(42/10)
مسألة التورك في التشهد الأخير
قال رحمه الله تعالى: [ثم يجلس في تشهده الأخير متوركا] أي: إذا كان في ثلاثية أو رباعية يجلس في تشهده الأخير حال كونه متوركاً.
والتورك ثَبَتَ فيه حديث ابن عمر وابن الزبير رضي الله عن الجميع.
وهذا التورك للعلماء فيه ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن يجعل طرف قدمه اليسرى بين الساق والفخذ قريباً من الركبة، وهذا الوجه يصعب في حال ازدحام الناس، بل قد لا يتأتى؛ لأنه يحتاج إلى انفراج الإنسان قليلاً حتى يتمكن من إدخال قدمه اليسرى بين ساقه وفخذه قريباً من الركبة.
الوجه الثاني: أنه يؤخِّرها حتى يقترب من الإلية.
الوجه الثالث: أنه يُنزلها ويجعلها تحت الساق، وتكون على صورتين: الأولى تكون فهيا مقدمة، بمعنى: قريبة من الركبة.
والثانية: تكون مؤخرة بحيال القدم المنصوبة.
فهذه كلها أوجه في التورك لا حرج على الإنسان أن يفعل أي واحدةٍ منها.
وتشرع في الثلاثية والرباعية.
والجلوس في الصلاة على صورتين: الأولى: الافتراش، وهي أن تجعل اليسرى بمثابة الفراش، فظاهرها على الأرض وباطنها الذي يلي الأرض عند المشي يكون إلى الإليتين، وينصب رجله اليمنى، ويجعل أصابعه مستقبلة القبلة، فهذا يسمى الافتراش، وفيه حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث وائل بن حجر رضي الله عنه.
الثانية: التورك الذي ذكرناه.
والعلماء رحمة الله عليهم لهم في هذه الجلسات ثلاثة مذاهب: فمذهب يقول بتقديم الافتراش على التورك، كما هو اختيار الحنفية ومن وافقهم.
ومذهبٌ يقول بتقديم التورك على الافتراش، كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم.
ومذهبٌ يرى التفصيل، كما هو اختيار الحنابلة والشافعية، وهو الأرجح.
ومذهب التفصيل هو أنه إن كان في ثنائيةٍ بعدها سلام، أو في التشهد الأول من الرباعية أو الثلاثية فإنه يفترش ولا يتورك، وإن كان في رباعيةٍ، أو في ثلاثيةٍ وجلس للسلام فإنه يتورك ولا يفترش، فهؤلاء يرون أن الافتراش يكون في الثنائية، ويكون في الجلسة الأولى من الرباعية، بمعنى أفهم يرونه في كل ركعتين، وأما التورك فيرونه لجلسة السلام.
ولذلك بعض العلماء يقول: إن كانت ثلاثيةً ورباعيةً جلس متوركاً لسلامه، ويجلس مفترشاً في التشهد الأول، وفي كل ثنائية.
فهذا بالنسبة للمذهب الذي يقول بالتفصيل، فجمع بين الأحاديث، وقد جاء في حديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفترش ويتورك على حسب حاله في التشهد من كونه مسلِّماً أو غير مسلِّم.
فإذا قلنا بالتفصيل فإنه قد يقال: هل التورك في الرباعية والثلاثية من أجل السلام، أم من أجل العدد؟ وهذا يتفرع عنه ما لو صلى الوتر، فإن قلنا: إن جلوسه متوركاً في الرباعية والثلاثية من أجل السلام فحينئذٍ يتورك في الوتر.
والأقوى عندهم أنه لا يتورك؛ لأنه في الفجر لا يتورك، ومن بعده السلام؛ وبعض العلماء الشافعية يرون أنه يتورك لتشهد السلام، فيرى أنه إذا أراد أن يسلِّم تورَّك لكل تشهد من بعده سلام، وافترش لكل تشهدٍ لا سلام بعده.(42/11)
المرأة كالرجل في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [والمرأة مثله لكن تضم نفسها وتسدل رجليها في جانب يمينها] المرأة كالرجل فيما ذكرناه من صفات الصلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما هن شقائق الرجال)، والأصل في الأحكام أن النساء فيها كالرجال حتى يدل الدليل على اختصاص الرجال، أو اختصاص النساء.
ولكن جلوسها للعلماء فيه وجهان: قال بعض العلماء: إذا جلست في التشهد فإنها تتربع ولا تفترش، والسبب في ذلك أنه أبلغ في سترها.
ورووا عن بعض أمهات المؤمنين ما يدل على جلوسها متربعة، كما أُثِر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقالوا: ما كانت لتفعله إلا وله أصل، خاصةً وأن الصلاة مبناها على العبادة والتوقف.
ومنهم من قال بما اختاره المصنف وهو أنها تحمل رجليها إلى جهة اليمين، والسبب في ذلك أنها إذا جعلت الرجلين إلى جهة اليمين فإنه لا يتحدد جِرمها، فيكون أبلغ في سترها، ويكون غطاؤها عليها، فلا تستطيع أن تميِّز جرم المرأة بخلاف إذا ما جلست مفترشة.(42/12)
الأسئلة(42/13)
الإشارة بالسبابة في التشهد وغاية انتهائها
السؤال
إذا أشار المصلي بسبابته في التشهد عند لفظة الشهادة، فهل يبقى مشيراً إلى نهاية التشهد أم يقبضها؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد ذكرنا أن أصح شيء ما جاء في كونه يشير، ويبقى بإشارته حتى ينتهي منكتاً بها إلى الأرض، وإن حركها يتأول قول من قال بذلك فلا حرج، وإن أشار بها شديداً -كما هو اختيار بعض السلف- فلا حرج، فالأمر في هذا أن كل من ثبتت عنده سنة، أو اطمأن إلى قول عالمٍ يقول بسنة، أو يترجح عنده صحة حديث التحريك والإشارة بها ولو متردداً فلا حرج عليه؛ لأن له أصلاً، والأقوى ما ذكرناه؛ لأن السنة دلَّت على أن الحركة لا تجوز إلا بدليل، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اسكنوا في الصلاة) فلما قال عليه الصلاة والسلام: (اسكنوا في الصلاة)، كان الأصل هو عدم التحريك حتى يدل الدليل على التحريك، فجاء الدليل يدعو بها، فنقول: إن مطلق الدعاء بها لا يستلزم الحركة كما هو معلوم.(42/14)
معنى السلام على عباد الله الصالحين في التشهد
السؤال
ما معنى أن كل عبدٍ صالح يصله السلام عند التسليم من عباد الله المصلين؟
الجواب
المراد بذلك أن السلام أصله الدعاء بالسلامة، فإذا قلتَ لإنسان: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فمعناه: سلمكم الله من الآفات ومن الشرور، وسلمكم الله من الفتن، فتدعو له بالسلامة؛ لأن من سلِم غَنِم، فالعبد إذا سلَّمه الله كان غانماً وعلى خير وبر، والسلامة تكون في الدين والدنيا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية) فالعافية هي السلامة، فمن عُوفي فقد سلم، فإذا قلت: (السلام عليكم) أي: سلمكم الله، وإذا قلت: (السلام علينا) أي: أسأل الله أن يسلمنا، (وعلى عباد الله الصالحين) أي: أسأل الله أن يسلمهم، فتلقي السلام عليهم، وهذا بمثابة الدعاء أن يسلمهم الله، والله تعالى أعلم.(42/15)
إذا نسي المصلي فسلم عن اليسار قبل اليمين
السؤال
إذا نسي المصلي فسلّم أولاً على الشمال ثم على اليمين، فهل يلزمه سجود السهو، أم أنه خالف السنة ولا شيء عليه؟
الجواب
أما بالنسبة لتسليمه عن يساره قبل اليمين فإنه يعتبر خارجاً من الصلاة بتسليم اليمين زائداً لتسليمة اليسار؛ لأن تسليمة اليسار وقعت في غير موقعها، فلذلك يعتبر أشبه بالالتفات الزائد، ولذلك اختار بعض العلماء رحمة الله عليهم أنه يسجد للزيادة، خاصةً على القول بأن سجود الزيادة بعد السلام، فبعد أن يسلم يسجد سجدتين؛ لأن زيادة التسليم من جنس الصلاة، فيسجد السجدتين بعد السلام، والله تعالى أعلم.(42/16)
حكم تكبيرات الانتقال للإمام والمأموم
السؤال
هل يجب على المأموم تكبيرات الانتقال؟
الجواب
تكبيرات الانتقال واجبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وقد فعلها عليه الصلاة والسلام وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، والمراد بتكبيرات الانتقال: تكبيره للركوع، وتكبيره للسجود، وتكبيره للرفع من السجود، وتكبيره للسجدة الثانية، وتكبيره للقيام إلى الثانية والثالثة، فكلها وصفت بكونها تكبيرات انتقال؛ لأنه ينتقل بها من ركنٍ إلى ركن، فلما كان قائماً انتقل إلى الركوع فقال: الله أكبر، وكان ساجداً فانتقل إلى الجلوس فقال: الله أكبر.
فقالوا: هذه تكبيرات الانتقال، وأصح الأقوال وجوبها، والله تعالى أعلم.(42/17)
التسليم قبل الوجه ثم الالتفات
السؤال
ما حكم من ينطق بالتسليمة ثم يقوم بعد ذلك بالالتفات؟
الجواب
هذا قول بعض العلماء رحمة الله عليهم، ويميل إليه بعض المالكية، حيث قالوا: إن التسليم أن يسلِّم قبل وجهه ثم يلتفت.
خاصةً وأنهم يقولون بالتسليمة الواحدة، وعلى العموم فإذا اختار أحدٌ هذا القول وعمل به فلا إنكار عليه.(42/18)
حكم من أدرك مع الإمام ركعة
السؤال
رجلٌٌ أدرك ركعة مع الإمام في صلاة المغرب، فهل يقرأ التشهد الثاني مع الإمام حتى يسلم، ثم يكمل ما فاته، أم يقتصر على التشهد الأول؟
الجواب
إذا صليت وراء إمام وأدركت شيئاً من الركعات، وفاتك شيءٌ منها، ثم جلست الجلسة الأخيرة فبعض العلماء يقول: العبرة بحاله عند ائتمامه كحال الإمام، فإذا كان مؤتماً يعتبر حاله كحال الإمام، فيفعل ما يفعله مَنْ وراء الإمام، ويَتفرَّع على هذا القول مسائل، منها: أنك لو أدركت الإمام في الركعة الثالثة من العصر تقتصر على الفاتحة، والثالثة من المغرب تقتصر على الفاتحة، والثالثة من العصر كذلك تقتصر على الفاتحة.
وأما القول الثاني فإنه يقول: العبرة بالمأموم؛ لأن صلاته مع الإمام هي الأُولى.
فعلى القول الأول فإنه عند تشهد الإمام التشهد الأخير يعتبر حاله حال المتم، ويتشهد تشهداً كاملاً، وهذا أقوى.
وعلى القول الثاني يعتبر حاله وراء الإمام حال الباني، فصلاته مع الإمام هي الأولى، ويكون حاله دون حال الإمام.
ومن فوائد هذه المسألة أن من أدرك الإمام في التكبيرة الثانية أو الثالثة من صلاة الجنازة، فبعضهم يرى أن العبرة بحاله، فحينئذٍ يبتدئ بالفاتحة، خاصةً وأنها ركنٌ في الصلاة، وحتى لو كان الإمام في الدعاء تداركاً لما فات، والقول بأنه يعتبر حاله كحال الإمام أقوى، وذلك لظاهر السنة: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فإنه جعل الإتمام والبناء بعد الانفصال، وبعد الإكمال، ولذلك يقوى في هذه الحالة اعتبار حاله مع الإمام كحال الإمام، فيأتم بالإمام على الصورة التي يجده عليها.
ولا يُشكِل على هذا قول من قال: إنه لو أدرك مع الإمام التكبيرة التي قبل الأخيرة في الصلاة على الجنازة فإنه يترك الفاتحة؛ فإننا نقول: إنه لو أدركه وصلى وراءه فإنه يدعو، فكما أنه لو أدركه راكعاً، أو أدركه قبل الركوع بقليل لا يتمكن فيه من قراءة الفاتحة فإنها تسقط عنه، كذلك تسقط عنه هنا، فدل على أن مسائل الاضطرار لا تأخذ حكم الاختيار، ولا يلزم فيها بالأصل ولا يُعترض به، والله تعالى أعلم.(42/19)
الدعاء في الصلاة بغير اللغة العربية
السؤال
هل يجوز الدعاء في الصلاة بغير اللغة العربية؟
الجواب
فقد رخص بعض أهل العلم في الأمور التي هي من غير الأذكار والأدعية المخصوصة كالتشهد، فإذا كان الإنسان أعجمياً ولا يسعه أن يتعلم الدعاء الوارد فله أن يدعو بلسانه ولا حرج عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يتخير من المسألة ما شاء)، ولم يقيد ذلك بلسان، لذلك قالوا: إنه لا حرج عليه.
ولأن كثيراً ممن يسلمون ويكونون حديثي عهدٍ بجاهلية لا يستطيعون الكلام، فإذا كانوا من العجم فلا يستطيعون تعلم اللغة ومعرفة اللسان العربي في الدعاء إلا بعد وقتٍ وجهد، ولذلك وُسِّع عليهم من هذا الوجه، فلا حرج عليه أن يدعو بدعائه سواء أكان بعد انتهاء تشهده أم في حال سجوده، والله تعالى أعلم.(42/20)
حكم التسليمتين في صلاة الجنازة
السؤال
نرى من يسلم في صلاة الجنائز عن اليمين والشمال، فما حكم التسليم عن الشمال؟
الجواب
المحفوظ التسليمة الواحدة، وحكى بعض أهل العلم التسليمة الثانية، لكني لا أحفظ في ذلك حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيُسأل، فإذا كان عنده حجة ودليل ثابت في هذا، فحينئذٍ لا إشكال، وإلا الأصل في التسليم المتابعة وعدم إحداث سلام زائد على ما ورد.(42/21)
قول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وخلاف العلماء في محله
السؤال
هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) بعد التشهد؟
الجواب
نعم، فهذا اختيار بعض العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام: (يا معاذ! إني والله لأحبك.
فقال معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
وأنا والله أحبك، فقال: أوصيك يا معاذ ألا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
فقال بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (دبر كل صلاة) إن دبر الشيء منه.
فقالوا: تدعو بهذا الدعاء بعد التشهد، فتقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
وقال بعض العلماء: إنه يدعو به خارج الصلاة وهو أقوى، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).
وبالإجماع فإن هذه الأذكار تكون بعد الفراغ من الصلاة، وقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بكونها دبر الصلاة، قالوا: قد عرف في اللسان العربي أنه يوصف الشيء بحكم قربه من غيره، ولذلك يقولون: إن قوله: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) إنما يكون بعد الانتهاء من السلام، وهذا المذهب أقوى لوجود النظير الدال عليه، ولأن الأصل أن لا يُدخل في الصلاة إلا بدليل، فإذا فعله الإنسان في أثناء التشهد لا يُنكر عليه، وإن فعله بعد انتهائه من السلام فهو الأولى والأحرى، والله تعالى أعلم.(42/22)
ضابط صلاة الإشراق
السؤال
هل ينبغي لمن جلس إلى الإشراق أن لا يتحرك من مكانه الذي صلى فيه؟ أم أن المقصود بالمصلى المسجد عامة؟
الجواب
أما بالنسبة لصحة الحديث الوارد في ذلك والقول بثبوته أو تصحيحه لغيره.
فهو يتوقف على مجموع طرق الحديث، والمعتبر بالتحسين منها كله بلفظ: (في مقعده)، (في مصلاه)، والقاعدة أن الإضافة تقتضي التخصيص؛ فإن معنى (مقعده) أي: مكان جلوسه، و (مصلاه) أي: مكان صلاته، ولذلك المحفوظ من كلام أهل العلم أن المراد بمقعده ومصلاه نفس المكان، حتى ولو قام يريد أن يأخذ المصحف فإنه لا يعتبر له هذا الفضل فإنك لو تأملت أن فضل ذلك حجة وعمرة تامة تامة فإنه ليس باليسير، وهذا أمر ينبغي للإنسان أن يجتهد فيه، ولذلك كلما كان الفضل أعظم والأجر أكثر كان الابتلاء أكثر وأعظم، ولذلك ابتلي بأن يثبُت في نفس المصلى.
ثم إنه ينبغي عليه أن يكون ذاكراً لله؛ إذ بعضهم يجلس وينام، وربما يتكاسل حتى تصيبه السنَة من النعاس، ويغفل عن ذكر الله عز وجل، فقد شدد بعض العلماء حتى قال: لو أنه تكلم في فضول الدنيا فإنه لا يؤمن أن يفوته الفضل وهذا أقوى.
واعتُرِض على هذا القول بما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس بعد صلاة الفجر فيحلق عليه الصحابة، فيأخذون فيما كانوا فيه من أمور الجاهلية -أي: يتحدثون بما كانوا عليه من الجاهلية- فيضحكون ويتبسم النبي صلى الله عليه وسلم.
قالوا: فهذا يدل أنه لا حرج أن يتكلم في أمور الدنيا، ولكن هذا الاعتراض ضعيف؛ لأن الكلام كان من الصحابة، ولم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم.
والأمر الثاني: أنهم كانوا يتحدثون بما كانوا عليه من أمور الجاهلية على سبيل ذكر نعمة الله عليهم، فكان عبادة من هذا الوجه، فإنهم يذكرون ما امتنّ الله عليهم بنعمة الإسلام، فيكون التحدث بما كانوا عليه في الجاهلية على سبيل الإشعار بفضل الله عليهم بالهداية للإسلام، ولذلك كان التحدث بالنعم شكراً لله عز وجل، فهو ذكر وطاعةٌ من هذا الوجه.
فالذي تطمئن إليه النفس أن يبقى قارئاً للقرآن، أو مسبحاً، أو مهللاً، أو مكبراً، أو مستغفراً، أو قائلاً لأذكار الصباح، أو أذكار المساء، ويجلس في ذكرٍ وطاعة، وهذا يحتاج إلى جهاد وصبر حتى ينال فضل الحجة والعمرة التامةِ التامة.
وأما القول بأن مصلاه المسجد كله فلا أحفظ أحداً من العلماء من السلف رحمة الله عليهم يقول به، وخاصةً أن ظاهر الحديث لا يساعد عليه، فالقول بأن مصلاه المراد به المصلى كله من باب التجوُّز، والأصل حمل اللفظ على حقيقته بقيد (مصلاه) أي: مكان صلاته، كما يُقال: مسجده أي: مكان سجوده، وهذا هو الأقوى والأشبه بلفظ الحديث، والله تعالى أعلم.(42/23)
شرح زاد المستقنع - فصل: مكروهات الصلاة
المكروه هو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وفي الصلاة مكروهات لا ينبغي فعلها؛ لأنها تنقص من الخشوع والإقبال على الصلاة، ومنها: الالتفات، ورفع البصر إلى السماء، وإغماض العينين، والإقعاء في الجلوس، وافتراش الذراعين في السجود، والعبث، والتخصر، والتروح، وفرقعة الأصابع، وتشبيكها، والصلاة مع وجود البول، أو الطعام، وتكرار سورة الفاتحة.(43/1)
مكروهات الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(43/2)
الالتفات
فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ويكره في الصلاة التفاته] بعد أن فرغ المصنف رحمه الله من بيان صفة الصلاة المشروعة الكاملة، وشرع الآن في بيان ما يُكرَه للإنسان أن يفعله في الصلاة، ولذلك قال: [فصل]، وأصل الفصل: قطع الشيء عن الشيء، والفاصل: هو الحائل بين الشيئيين.
ووصف العلماء رحمهم الله هذه المواضع بكونها فصلاً؛ لأنه يُفصَل بها بين المسائل والأحكام لاختلاف أجناسها وما تضمنته من معانٍ.
وهذا الفصل سيتكلم المؤلف رحمه الله فيه على الأمور المكروهة، وهي التي يتركها الإنسان فيُثَاب على تركها، ولا يعاقب على فعلها، والسبب في إيراد هذا الفصل في المكروهات هو أن اتقاء هذه المكروهات يحصل به المكلف على كمال الصلاة، فلما فرغ من صفة الصلاة الكاملة نبه على أن هذا الكمال ينبغي أن يكون مصحوباً بترك هذه الأمور التي فِعلها يُعد خلاف الأولى.
والمكروه: هو ما يُثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، ويأتي النهي عنه من الشرع إما في الكتاب، وإما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة عنه، وتدل الأدلة على أن هذا النهي الوارد في الكتاب، أو الوارد في السنة ليس على ظاهره وإنما هو على الكراهة.
قوله: [يكره في الصلاة التفاته] أي: يكره للمصلي إذا كان في صلاته أن يلتفت، يُقال: التفت إذا صَرَف وجهه قبل اليمين أو قبل الشمال، وهذا الالتفات يكون من المكلف على صورتين: الصورة الأولى: أن يَصرِف وجهه مع بقاء جذع جسمه.
الصورة الثانية: أن يصرف الوجه والجسد.
ومراد المصنف رحمه الله هنا صرف الوجه وحده، فإن السنة لمن وقف بين يدي الله عز وجل أن ينصب وجهه، وأن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، وهذا من تعظيم أمر الصلاة، وتعظيم الموقف بين يدي الله عز وجل، ولذلك أمر الله باستقبال القبلة، ويكون استقبال المكلَّف لها بجميع جسمه، فإذا التفت فقد صرف وجهه عن قبلته؛ ولذلك يُعتبر هذا ممنوعاً عن المصلي.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل عن الالتفات الذي يقع من الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو اختلاسٌ يختلسه الشيطان من صلاة العبد)، وأصل الاختلاس: الأخذ بسرعةٍ مع غفلة المأخوذ منه، أي: يأخذ الشيطان حظاً بهذا الالتفات من صلاة الإنسان، حتى قال بعض العلماء: إنه ينقص أجره على قدر ما كان منه من الالتفات.
والالتفات إذا كان ضرورياً لحاجةٍ؛ أو أمرٍ ناب الإنسان فالتفت من أجله، فهذا إن كان يسيراً فإنه لا يضر ولا يؤثر في الصلاة.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه حينما كان في الصلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تأخر عن الحضور بسبب كونه يُصلِح بين حيين من بني عوفٍ بقباء، فتأخر النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر وأخبره، فأقام بلال الصلاة وتقدم أبو بكر رضي الله عنه؛ فلما كان في الصلاة قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبَّح الناس لـ أبي بكر، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت من كمال خشوعه وصلاته، فلما أكثر الناس عليه التسبيح التفت فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك إلى آخر الحديث.
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ أبا بكر حينما التفت، ولم يجعل التفات أبي بكر موجباً لبطلان الصلاة، فأخذ العلماء من هذا دليلاً أن المكلَّف إذا كان في الصلاة والتفت لمصلحة الصلاة، أو لأمر مضطر إليه لمصلحة نفسه، كأن يظن أن عقرباً يتحرك عن يمينه، أو حيةً تحركت عن شماله فخاف على نفسه فالتفت، فحينئذٍ يكون مضطراً إلى هذا الالتفات ومُحتاجاً إليه، فلا يوجب بطلان صلاته.
والالتفات يكون جزءاً وكلاً، فالالتفات الكامل: أن يصل الذقن إلى العاتق، وفي هذه الحالة يكون الالتفات كاملاً، وأما الالتفات الجزئي فيكون بصرف الوجه قليلاً، وهذا لا يؤثر، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا شوّش عليه الشيطان في صلاته فيتفل عن يساره ثلاثاً.
فإذا كثُرت وساوس الشيطان على الإنسان وهو في الصلاة، وقال له الشيطان: اذكر كذا، اذكر كذا.
يريد أن يصرفه عما هو فيه من أمور الصلاة والخشوع فيها فإنه يُحرِّك رأسه قليلاً دون أن يلتفت التفاتاً كاملاً، ثم يتفل عن يساره، أي جهة اليسار، فكونه عليه الصلاة والسلام يقول: (وليتفل عن يساره) يدل على أنه نوع التفاتٍ، وهو جزء الالتفات الذي ذكرناه.
أما الالتفات الكامل فقد قلنا: إنه إذا وُجِدت الضرورة فلا إشكال، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه التفت إلى الشِّعب وهو في الصلاة، وجاء في بعض الروايات أنه كان يلتفت إلى الشعب، وأن الشعب كان في جهة القبلة وهذه الرواية تخفف من شأن الالتفات؛ لأنه لو لم تأت هذه الرواية لفُهِم منه أنه التفات خارجٌ عن جهة القبلة؛ ولذلك لا حرج على المكلف أن يلتفت قليلاً، أو يُحرِّك رأسه قليلاً، ولكن مع هذا فإنه بالتفاته من دون حاجةٍ معرَّضٌ لفوات الكمال، ولذلك جاء في الحديث: (لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه)، وهذا يدل على فوات الكمال، والحظ الأوفر للعبد إذا صلى واستشعر موقفه بين يدي الله ولم يلتفت.
أما النوع الثاني من الالتفات: فهو الالتفات بالجذع، وهو الذي يتحرك الإنسان فيه إلى درجة ينحرف فيها عن القبلة، فلو أن إنساناً كان في صلاته ثم سمع صياح صَبِيِّه، فالتفت فتحرك جذعه حتى تحركت قدماه بحيث خرج عن كونه مستقبلاً الشرق فاستقبل جهة فرعية أو جهةٍ أصلية فإنه تبطل صلاته ولو كانت لضرورة، إلا ما استثني من ضرورة القتال؛ فإنه في حال ضرورة القتال يُستثنى لمكان نص الله عز وجل على ذلك في آية المسايفة.(43/3)
رفع البصر الى السماء
قال رحمه الله: [ورفع بصره إلى السماء] كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أكمل ما يكون من المكلف في خشوعه وخضوعه وذلته بين يدي الله عز وجل وهو واقفٌ في الصلاة؛ فإن هذا يدل على الإقبال على الله عز وجل، والاشتغال بما في الآيات من العظات والذكرى، فأكمل ما يكون من المكلَّف أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما رفع البصر إلى السماء فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على إنكاره، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما بال أقوامٍ يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم)، ثم شدد فقال عليه الصلاة والسلام: (لينتهنَّ عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم)، وفي رواية لـ مسلم: (أو لا ترجع إليهم)، والعياذ بالله.
وهذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يصرف بصره إلى السماء، وذلك لأن القاعدة في الأصول تقول: (إذا ورد الوعيد على فعل شيء دل ذلك على أنه محرم)، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يبين أنه سبب لأن تُخطَف الأبصار إن استمروا على ما هم عليه يدل على حرمة رفع البصر إلى السماء.
وقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقلِّب بصره في السماء حتى نزلت آية القبلة، ثم نهي عن ذلك، وقيل: لما نزلت آية المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 1] رمى ببصره عليه الصلاة والسلام إلى موضع سجوده.
فلا يجوز للمصلي أن يرفع بصره إلى السماء، ويستوي في ذلك أن يكون في موضعٍ له سقف، أو يكون في موضعٍ منكشف السقف، وهذا على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إلى السماء)، أي: إلى العلو، فإنه حينئذٍ يكون المراد به أن لا يرمي ببصره إلى أعلى، ويستوي حينئذٍ كونه مسقوفاً أو غير مسقوف.
وقال بعض العلماء: الحكم يختص بالسماء، أي: عند نظره إلى السماء.
وهذا جمودٌ على ظاهر النص؛ فإننا لو قلنا لهؤلاء: أرأيتم إن كانت السماء مغيمة فإن الحكم واحدٌ عندكم، فالغيم الذي بين المكلفين وبين السماء كالسقف الذي بينهم وبين السماء، ولذلك يستوي أن يكون رفعه للبصر عند وجود الحائل كالسقف، أو يكون بدون حائلٍ كالفضاء.(43/4)
إغماض العينين
قال رحمه الله: [وتغميض عينيه] تغميض العين: إطباق الجفن على الجفن، فإذا أطبق الجفن على الجفن فقد غمَّض عينيه، فالتغميض مكروه في الصلاة؛ لأنه من فعل اليهود؛ فإنهم إذا صلَّوا غطوا رءوسهم وغمَّضوا أعينهم.
وقال العلماء: إن هذا التغميض يعتبر مكروهاً، ونص عليه غير واحدٍ من أهل العلم، وهذا الصحيح، ووجه كراهته ما ذكرناه من المشابهة، ولأنه يُفوِّت المصالح، وذلك أن المكلَّف إذا غمَّض عينيه قد لا يستطيع أن يدفع المار؛ لأنه مُغمَّض العينين، ولأنها حركةٌ زائدة، وحينئذٍ لا تُشرع إلا بدليل، ويستوي في ذلك تحرك العضو أو جزء العضو.
ويستوي في ذلك أن يغمض العينين أو يغمض إحداهما، فالحكم واحد.
ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يغمض عينيه في الصلاة، وفصَّل بعض الفقهاء فقالوا: إذا كان غمض عينيه لكمال الخشوع، أو لكون الموضع الذي أمامه فيه نقوش وزخرفة وإذا نظر إليها اشتغل بها عن الصلاة فغمَّض، فحينئذٍ لا حرج، والذي ينبغي ترك التغميض مطلقاً، حتى ولو كانت هناك نقوش؛ فإنه من المجرَّب أن الله إذا أراد بعبده خيراً ورزقه الخشوع يستوي عنده أن يُصلي على ذات نقوشٍ أو غيرها، فلو كانت النقوش موجودة وحدد البصر على موضع السجود فإنه سيخشع إن شاء الله، ولذلك الأَولى والأكمل والأحرى والأقرب لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الامتناع عن تغميض العينين.(43/5)
الإقعاء
قال رحمه الله: [وإقعاؤه].
يقال: أقعى الكلب إذا أَلصَق إليتيه بالأرض، وهذه مسألة ينبغي لطلاب العلم أن يتنبهوا لها، فالإقعاء ينصب فيه الكلب -أكرمكم الله- رجليه ويجعل يديه على الأرض، فتكون الإليتين ملتصقة بالأرض والرجلان منتصبتان، فهذا إقعاء الكلب الذي تكلم عليه أئمة اللغة وجهابذتهم كـ أبي عبيدة مَعْمَر بن مثنى، وأبي عبيد القاسم بن سلام الجمحِي، وناهيك بهما علماً وفضلاً، فهما أعرف بلسان العرب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقعاء.
والذي عليه جماهير العلماء رحمة الله عليهم أنه هو المراد بالحديث، وأن من فعل هذا فقد فعل ما حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وبعض الناس يفعل هذا الإقعاء بين السجدتين، أو يكون جلوسه لهذا الجلوس عند قيامه للركعة الثالثة أو الثانية، فإنك تجده ينصب القدمين ويلصق الإليتين ويتكئ على اليدين كالمرتاح، وبعضهم يَهِم ويظنها جلسة الاستراحة، وهذا لا شك أنه أبلى وأطم؛ لأن الإنسان حينها يوقع غير المسنون وغير المشروع موقع المسنون.
وهذا النوع من الجلوس يستوي فيه أن يكون بين السجدتين، أو يكون حال التشهد، أو يكون عند القيام إلى الركعة الثانية أو إلى الرابعة، فكل ذلك منهي عنه ومحرمٌ.
وهناك جلسات اختلف العلماء رحمهم الله في كونها من الإقعاء أو ليست من الإقعاء، ففسَّر بعض العلماء الإقعاء بكونه ينصب القدمين، ويجعل الإلية على العقبين، وهذا النصب له صورتان: الصورة الأولى: أن ينصب القدمين، ويجعل الأصابع مستقبلة للقبلة، وتكون الإلية على العقبين.
الصورة الثانية: أن ينصب القدمين ويجعل بطنهما إلى الأرض، ولا يجعل الأصابع مستقبلة القبلة، فإذا جعل البطنين إلى الأرض برز العقبان فكانت الإليتان عليهما.
وهناك صورةٌ ثالثة يدخلها بعض العلماء فيقول: هو أن ينصب القدمين ويجعل يديه على الأرض.
والأوّلون يقولون: يستوي أن تكون يداه على الأرض، أو تكونان على فخذيه.
أما كونه ينصب القدمين ويجعل رءوس الأصابع مستقبلة للقبلة فهذا ليس من الإقعاء، لظاهر حديث ابن عباس، إذ فعله بين السجدتين؛ لأن ابن عباس نصب قدميه رضي الله عنه وأرضاه واستقبل بالأصابع القبلة، وجعل إليتيه على العقبين، فلما قال له تلميذه طاوس بن كيسان: إنه من الجفاء قال: سنةَ نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على أنه من السنة أن يفعله الإنسان، ولكن بين السجدتين كما ورد عن ابن عباس.
أما الصورة الثانية: وهي أن يجعل بطني القدمين إلى الأرض والعقبين تحت الإليتين والأصابع إلى الأرض ليست بمنتصبة فهذه هي عقبة الشيطان، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، وفيها حديث عائشة رضي الله عنها الصحيح من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الجلسة، فالصحيح أنها محرمة ومنهيّ عنها من حديث عائشة لا من جهة الإقعاء، يعني: إذا رأيت الرجل ينصب قدميه فيجعل بطونهما إلى الأرض مع الأصابع، ثم يجعل الإليتين على العقبين فلك أن تنماه عن ذلك من جهة حديث عقبة الشيطان، لا من جهة حديث الإقعاء، وهذا هو أصح الأوجه عند الجماهير رحمة الله عليهم.
ونُهِي عن هذه الصورة -التي ذكرناها- من الإقعاء لما فيها من مشابهة الحيوان -أكرمكم الله-، وقد شرف الله الآدمي وكرمه كما أخبر الله تعالى في آية الإسراء، وأخبر أنه كرمه وفضَّله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، ومن باب أولى أن يُكَرَّم في أثناء وقوفه بين يدي الله عز وجل، ولذلك نهي عن هذه الصورة، ولأنها لا تتناسب مع الأدب ومقام الذلة بين يدي الله عز وجل، فنُهِي عن هذه الجلسة لما فيها من بشاعة الصورة؛ ولذلك فإن طاوس بن كيسان لما ذكر أن الرجل يجعل إليتيه على عقبيه قال: إنه من الجفاء بالرجل.
أي: كان السلف رحمة الله عليهم، وكان الناس في القديم يرون أن هذا جفاء، فكيف بالإقعاء الذي هو صورة الحيوان؟!(43/6)
افتراش الذراعين في السجود
قال رحمه الله: [وافتراش ذراعيه ساجدا] أي: يُكره للمكلف إذا سجد أن يفترش ذراعيه افتراش السبع، كما ورد مِن نهي النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالافتراش: أن يجعل الذراعين ممدودين على الأرض كانبساط الكلب إذا جلس، فإنه ينبسط انبساطاً، وهذا الانبساط مَنهِيٌ عنه.
فالسنة أن يَرفع وأن يُجافِي عَضُده عن جنبه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يجافي حتى كان الصحابة يُشفقون على النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة مجافاته، كما في حديث البراء عند ابن ماجة في سننه، ولذلك كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا، لكن لو اضطر الإنسان بسبب ضيق المكان فألزَق عضُدَه بجنبه بسبب الضيق وتراصّ الناس فإن هذا لا حرج فيه، ويُعتبر الإنسان فاعلاً له بغير الاختيار.(43/7)
العبث
قال رحمه الله: [وعبثه].
أي: يكره له العَبَث، والعَبَث: الحركة الزائدة.
ووصف المتحرك بغير المشروع في صلاته بكونه عابثاً، لأن الأمر يقتضي منه ما هو أشرف وأكمل من اشتغاله بهذا الشيء.
فمثال العبث: أن يصلح ثوبه من دون حاجة، كأن يبالغ في تعديل عمامته على رأسه، أو ينظر إلى ساعته، أو يُحرِّكها كما هو حال بعض الناس اليوم أصلحهم الله.
ومن العبث كثرة تحريك الأرض، وإصلاح السجاد عند السجود، وكثرة العبث بها، واشتغاله بحركة يديه على فخذه إذا كان جالساً في التشهد، أو بحركة يده بثوبه إذا كان قائماً بين يدي الله عز وجل في حال وقوفه، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الصلاة لشغلاً)، أي أن المكلف ينبغي عليه أن يشتغل بأمر الصلاة، وشأن الصلاة وحالها يشغل.
فقد أُثِر عن علي زين العابدين أنه كان إذا توضأ تغيّر وجهه فاحمرّ، فقالوا: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ قال: ألا تدرون من أناجي؟! فالإنسان إذا أقبل على الله عز وجل فهو في شغل، وهو أشرف الأشغال وأعظمها وأجلها وأكرمها، كما قال العلماء، هو الشغل الذي خُلِق من أجله، وهو العبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فهذا هو الشغل وأَنعِم به من شغل، فكونه ينصرف عما هو بِصَدَدِه من الإقبال على الله عز وجل إلى تحريك اليدين، أو العبث بالفخذ، أو العبث بالساق، أو كثرة الحركة، أو الترنُّح أثناء الوقوف فكل ذلك مما لا يليق بالمصلي.
فإذا كان العبث يكثر منه إلى درجةٍ لو رآه إنسان لظن أنه في غير صلاة حُكِم بكونه قد بطلت صلاته، أما لو كان عبثه يسيراً فإنه حينئذٍ يكون بين درجة الحرام ودرجة المسنون وهو المكروه، فقالوا: يُكره.
فالعبث الذي يريده المصنف هنا رحمة الله عليه هو العبث الذي لا يخرج المصلي عن كونه مصلياً، أما لو بالغ في العبث فحينئذٍ تبطل صلاته.
فلو قال قائل: ما دليلكم على أن الحركة اليسيرة لا تُبطِل الصلاة ولو لم تكن من جنس الصلاة؟ قلنا: ثبوت السنة بذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما وقف في صلاة الليل ووقف معه ابن عباس أخذ يفتِل أذنه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا نوع حركة وهي خارجةٌ عن الصلاة، وهذا يدل على أنه لا حرج.(43/8)
الاختصار
قال رحمه الله: [وتخصره].
الاختصار للعلماء فيه أقوال: قال بعض العلماء: التخصُّر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح هو وضع اليدين على الخاصرة، وهذا الوضع للعلماء فيه ثلاثة أوجه في التعليل: الوجه الأول: أنه من فعل الشيطان، فنُهِي عنه حتى لا يُشابه الشيطان.
والوجه الثاني: أنه فِعل اليهود، فنُهِي عنه حتى لا يشابه اليهود.
والوجه الثالث: أنه صنيع المتكبرين، والمقام مقام أهل الذلة والخضوع، وهم الخاشعون، فلا يليق أن يقف بهذا الموقف بين يدي الله عز وجل.
وهذه الثلاثة الأوجه صحيحة؛ فإنه لما نهى عنه الشرع دلّ على أنه من الشيطان، ولذلك ينسب المنهي عنه إلى كونه من فعل الشيطان.
أما كونه من فعل اليهود فقد جاء عنهم أنهم يفعلون ذلك في صلاتهم.
وأما كونه من صنيع المتكبرين فإن أهل التكبر إذا أعجبتهم أنفسهم تخصَّروا، فوضع الواحد منهم يديه في خاصرته كالمستعظم لنفسه والمتعالي، والمقام مقام ذلة بين يدي الله عز وجل، فلذلك قالوا: لا يناسب الحال -أعني الخشوع بين يدي الله- أن يتخصَّر، فنهي عنه.
وقال بعض العلماء: المراد بالتخصر: الاختصار، وهو اختصار الآيات، كأن يقرأ من بعض السور آية أو آيتين ثم ينتقل إلى سورةٍ أخرى، ويقرأ منها آيةً أو آيتين.
وقال بعض العلماء: الاختصار الذي نهي عنه: السرعة والاختلاس في الصلاة، بمعنى أنه يختصر الصلاة، فبدل أن تكون على قدر من الزمان تكون على ما هو أقل منه، والمراد بذلك الاستعجال حتى إنه لا يُعطِي الأركان حظها، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ لأنه يُفوِّت الطمأنينة.
فهذه أقوال العلماء رحمة الله عليهم في مسألة الاختصار، وجميع ما ذكرنا منهيٌ عنه إلا مسألة انتقاء الآيات من القرآن، فالصحيح أنك لو أخذت آيةً من البقرة وقرأتها في الركعة الأولى، ثم أخذت آيةً من آل عمران وقرأتها في الركعة الثانية فلا حرج؛ فإن الاختصار بهذا المعنى ثبتت فيه السنة، كما في حديث ركعتي الفجر، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأولى منها بقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، وفي الركعة الثانية بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64]، فدل هذا على جواز اقتطاع آيات من القرآن في الركعات، وأنه لا حرج فيه.(43/9)
التروح
قال رحمه الله: [وتروحه].
التروُّح في الصلاة: مأخوذ من المروحة، وذلك من شدة الحر؛ لأن الإنسان ربما كان في مكانٍ حار، خاصة في القديم؛ فإن المساجد لم تكن مُهيّأة فيها وسائل الراحة والاستجمام، فلربما مع كثرة الناس -خاصةً في الجمع، أو في غيرها، أو في التراويح- يكون الحر شديداً، والمسجد مع كثرة الناس فيه تشتد حرارته، فربما احتاج أن يحرك شيئاً يتروح به، وهذا مكروه وممنوع منه؛ لأنه يُخالف هيئة المصلي، ولأنها حركةٌ زائدة لغير مصلحة الصلاة، لكن قالوا: هو مكروه مع وجود الحاجة، أي إذا كان الإنسان محتاجاً إليه، فقالوا: إذا كان يسيراً فإنه يعتبر مكروهاً لا يوجب بطلان صلاته، كأن تكون معه المروحة، فإذا اشتد عليه الحر إلى درجةٍ تزعجه قالوا: يدفع هذا الإزعاج؛ لأنه يحصل مقصود الصلاة من حضور القلب، فإن الحر يزعجه، وربما يخرجه عن كونه خاشعاً في صلاته.
وهناك نوع من التروُّح، وهو المراوحة بين القدمين، فإنك تجد بعض المصلين إذا طال عليه القيام في الصلاة يقف على القدم اليمنى وتكون اليسرى مُرسَلة لا يعتمد عليها، فإذا طال قيامه انتقل إلى الجهة اليسرى، فكان اعتماده على اليسرى وأصبحت اليمنى خفيفة الثقل، فأرسَلها لكي يتروح.
وهذا أُثِر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقالوا: إنه السنة، وهذا هو المقصود، وهو أن يكون هناك تروُّح، بمعنى أن يفرج بين القدمين، ولذلك لا يَرُصّ القدمين معاً إذا وقف، ولا يُبالِغ في التفريج، إذا وقف المصلي فلا يُسن له أن يبالغ في توسعة ما بين القدمين، ولا يبالغ أيضاً في رصّ القدمين فيجمعهما.
ولذلك لما رأى ابن عمر رضي الله عنهما هذا الفعل أنكره، وبين أنه خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قالوا: يكون في قيامه وسطاً، ويروح بينهما، بمعنى أنه يعتمد على إحداهما، لكن كره بعض العلماء المبالغة في التروح؛ فإن البعض إذا رأيته متروِّحاً وهو واقفٌ ربما أنكرت أنه في صلاة، وهو التروُّح المبالغ فيه، كأن يَعتَمِد اعتماداً كلياً على اليسرى ويُرسِل اليمنى، وهي صورة ربما يكون فيها نوعٌ من الفوات للأكمل، ولذلك لا حرج أن يُروِّح بين الأقدام، خاصةً عند طول القيام، والسنة وسط، بل قال بعض العلماء: من رص القدمين معاً فقد تنطع، ومن بالغ في إلزاقها بمن هو بجواره فقد تنطع، فالمبالغة في التفريج والمبالغة في الضم كلاهما ذميم، وإنما السنة وسط.
لكن هنا مسألة، وهي أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإلزاق الكعب بالكعب والمنكِب بالمنكِب، وكان الإنسان لا يستطيع أن يُلزق الكعب بالكعب إلا إذا مد رجله ذات اليمين ومد الأخرى ذات اليسار، فقال العلماء: هذا فيه تفصيل، فبعض العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إن الذي ينبغي أن الإنسان يرتصّ مع من بجواره، ويسحب الذي بجواره إليه، فإن امتنع الذي بجوارك أن يقترب منك فالإثم عليه والإخلال منه، قالوا: فلا يقتضي أن تبالغ في وجود الاتساع بين القدمين.
وبناءً على فإن الأصل أن الإنسان يقف وقوفاً اعتيادياً، فإن احتاج إلى شيءٍ قليل من التفريج لينضم إلى من بجواره حتى يصيب السنة من رصِّ القدم بالقدم فحينئذٍ لا حرج، أما أن يبالِغ في التفريج فإن هذا خلاف السنة، وخلاف صورة الأدب في الوقوف بين يدي الله عز وجل.
وإذا قلنا: إنه يسحب من بجواره إليه حتى يرتص القدم مع القدم، وتُلزَق المنكب بالمنكب، فحينئذٍ يرد
السؤال
إلى أي جهةٍ يرتص؟ وهذه المسألة كثيراً ما تقع، فلو أن إنساناً مع الإمام وجاء فجذب الذي عن يمينه إليه، فأيهما أحق؟! هل الذي عن اليمين، أو الذي عن الشمال؟ قال العلماء: العبرة بجهة الإمام، فإذا دخلت المسجد وكان الإمام في جهة اليمين فإنك تجذب الذي في جهة اليسار؛ لأنه ينبغي عليه أن يرتص إلى جهة الصف، وبناءً على ذلك لو كان في جهة اليسار فإنك تجذب الذي في جهة اليمين.
وعلى هذا تتفرع مسألة إتمام الصفوف، فإنه إذا جاء الإنسان بعد اكتمال الصف الذي أمامه، فقد قالوا: الأفضَل له أن يقف وراء الإمام من جهة اليمين.
وقال بعض العلماء: بل الأفضل أن يكون وراء الإمام قصداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى).
فجعل هذا المقام مقام فضل، فقالوا: الأفضل أن يكون وراءَه مباشرة، ثم يليه في الفضل من كان عن يمينه، ثم من كان عن يساره، وفي الحديث: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)، وفيه كلام.
فالمقصود أنه إذا جئت وراء الإمام مباشرة حُق لك أن تسحب مَن على اليمين ومَن على الشمال، لكن إذا كنت منحرفاً عنه إلى جهة اليمين فإنك تسحب من كان عن يمينه، وإذا كنت على شماله فإنك تسحب من كان عن شماله، وقس على هذا.(43/10)
فرقعة الأصابع وتشبيكها
قال رحمه الله: [وفرقعة أصابعه وتشبيكها].
فرقعة الأصابع أن يضغط على الإصبع حتى يُسمع له الصوت، وهذه الفرقعة نُهِي عنها وتعتبر مكروهة، ولذلك أُثِر عن حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه أنه كان معه مولاه ففرقع أصابعه في الصلاة، فلما سلّم رضي الله عنه وأرضاه قال له: أتفرقع أصابعك في الصلاة لا أم لك؟! أي: وأنت واقفٌ بين يدي الله عز وجل تفعل هذا الفعل! فهذا الفعل لا يليق، ولو فُعِل بين يدي أهل الفضل وأهل العلم وأهل المكانة فإنه يُعد من سوء الأدب، فكيف بالموقف بين يدي الله عز وجل؟ ولله المثل الأعلى، ففرقعة الأصابع لا تنبغي، ولذلك إذا كان الإنسان في صلاته فإنه لا يفرقع، وفيه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه.
قوله: [وتشبيكها].
التشبيك: إدخال الأصابع بعضها في بعض، وهذا التشبيك إما أن يكون خارج المسجد، أو يكون داخل المسجد، فإن كنت خارج المسجد قاصداً إلى المسجد فلا تشبك، فقد جاء فيه حديث أبي داود بالنهي، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من توضأ ثم خرج يريد الصلاة فهو في صلاة)، ولذلك قالوا: ينبغي عليه أن يراعي أدب المصلِّي من السكينة والوقار، وقد ثبتت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إذا شبك بين أصابعه فإنه يخالف هيئة الصلاة، ولذلك لا يشبك وهو قاصدٌ إلى المسجد لجمعة أو جماعة.
فإذا كان في المسجد فإنه إذا كان قبل الصلاة -كأن يكون في حال دخوله، أو في كونه ينتظر الفريضة- فالحكم سواء، فإنه لا يشبك بين الأصابع لورود النهي، ولأنه في حكم المصلي، وقد ثبتت في ذلك الأحاديث.
وإن كان داخل الصلاة فالأمر أشد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وقالوا: إنه فعل اليهود في صلاتهم، وجاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (رأى رجلاً شبك بين أصابعه في الصلاة ففرقها).
فإذا انتهت الصلاة فللعلماء وجهان: قال بعضهم: يستمر النهي.
وقال بعضهم: لا يستمر، فإذا أراد أن يقوم بذلك وهو في داخل المسجد فلا حرج وقد ثبت بذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه) الحديث.
قالوا: وهذا بعد انتهاء الصلاة؛ لأنه كان يظن أن الصلاة قد انتهت، فدل على أنه لا حرج في التشبيك بعد الصلاة وبعد انتهائها.(43/11)
احتقان البول
قال رحمه الله: [وأن يكون حاقناً].
أي يكره أن يكون حاقناً ببول، والسبب في ذلك أنه إذا كان البول يزعجه ويحتاج إلى إخراجه، فإنه ينشغل عن الخشوع في الصلاة، كما قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين) قالوا: فدل هذا الحديث على أنه لا ينبغي للإنسان إذا كان محصوراً ببولٍ أو غائطٍ يدافعهما أن ينشغل بذلك عن الصلاة، وإنما يقضي حاجته ويتوضأ ويتطهر، ثم يصلي وقلبه قد فرغ من هذا الشغل، وهذا مبنيٌ على حديث عائشة الذي ذكرناه.
وأَلحق العلماء بهذا شِدة الحر وشِدة البرد، فإذا أمكنه أن يتقيهما فإنه يتقيمهما ثم يصلي، فلو كان المكان شديد البرد وأمكنه أن يأتي في مكانٍ أخف برد فإنه يتنحى إلى ذلك.
وهنا مسألةٌ لطيفة وهي: لو كان المكان الذي هو أخف برداً يبعد عن المكان الذي فيه البرد بقدر بحيث يفوته وقت أفضل وهو وقت أول الصلاة، فهل الأفضل له أن يذهب إلى المكان الذي هو منفصل وبعيد، حتى يكون أبلغ لخشوعه، أم أنه يصلي إدراكاً لفضيلة أول الوقت؟ قال بعض العلماء: فضيلة أول الوقت أفضل ويُغتفر فيها فوات الخشوع؛ لأنه كمال.
وقال بعض العلماء: هذا من تعارض الفضيلتين: فضيلة تخفيف البرد الذي يزعجه ويشغل ذهنه، وفضيلة الوقت، ولا شك أن الإزعاج المتعلق بذات الصلاة دفعه أولى من الفضيلة المنفكة عن الصلاة، وأَمِيل إلى هذا القول الثاني لوجود النهي عن الصلاة حال مدافعة الأخبثين؛ فإن ورود النهي يُقوِّي أن فضيلة الحضور للقلب والخشوع أبلغ من فضيلة أول الوقت، فلو أنه تنَحَّى إلى المكان الذي لا برد فيه أو لا حر فيه، وكان الوقت بقدر لا تفوت به الصلاة فإن هذا أفضل وأكمل على ظاهر ما ذكرناه.(43/12)
الصلاة بحضرة الطعام المشتهى
قال رحمه الله: [أو بحضرة طعام يشتهيه].
حضور الشيء ضد غيابه، وحضرة الطعام هي أي أكلٍ من غداءٍ أو عشاءٍ أو فطورٍ، وقال: [بحضرة]، بمعنى أن الطعام قد حضر، ومفهوم ذلك أن الطعام إذا لم يحضر وجب عليه أن يصلي، فمحل النهي في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يصلي أحدكم بحضرة طعام)، إذا كان الطعام موجوداً والنفس جائعة بحيث تميل إليه، وبناءً على ذلك فإذا كان لا يشتهيه كأن يكون شبعاناً، أو تكون نفسه لا تميل إليه فإنه حينئذٍ يُصلِّي ويصيب فضل الصلاة في أول الوقت لما ذكرناه.
وبنى العلماء على هذا لو أذن المؤذن وعشاء الإنسان بين يديه فإنه يقدم طعام العَشاء على العِشاء، لظاهر السنة: (إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدأوا بالعَشاء قبل العِشاء).
فدل على أنه يجوز للمكلف أن يتخلَّف عن الجماعة، ولكن بشرط أن لا يجعل ذلك إلفاً له وعادة، وإنما أن يحصل ذلك على سبيل الموافقة لا على سبيل القصد، وفرقٌ بين الموافقة وبين القصد.
والقصد: أن يُهيِّء طعامه على وجهٍ يعلم أنه سينتهي به عند حضور وقت الصلاة، فحينئذٍ يُعتَبر إخلالاً؛ لأن المقاصد مُعتبرة، فالقاعدة أن الأمور بمقاصدها، كما دلّ على اعتبارها حديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات)، فلما وضع الطعام عند وقت الأذان أو عند وقت الإقامة دلّ على أنه قَصَد أن يُفوِّت إجابة النداء، فحينئذٍ شُدِّد في حقه، والقاعدة عند العلماء أنه يُعامَل بنقيض قصده، ويجب عليه أن يصلِّي مبالغةً في النكاية به، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم.
فالمقصود أنه إذا حضر الطعام وحضرت الصلاة فإنه يقدم الطعام على الصلاة.
لكن هنا مسألة، وهي مسألة فطور الصائم، فبعض الناس -أصلحهم الله- يضعون الطعام الكثير، ويبالغون في إفطار الصائم إلى درجةٍ يفوتون بها على الناس إدراك الجماعات، ولربما تفوتهم الركعة الأولى وهم مشتغلون برفع الطعام، وربما يكون بعضهم مشتغلاً بإصابته، وهذا لا شك أنه منهيٌ عنه؛ لأن النصوص دالة على أن من دخل المسجد يجب عليه أن يدخل مع الجماعة، وقد ثبتت النصوص بذلك حتى على من صلى، وقد أَمَر النبي صلى الله عليه وسلم من صلى في بيته أن يعيد في المسجد، كل ذلك حتى لا يشذ عن الجماعة، وإعمالاً للدخول مع الجماعة، فكون الصائم يضع هذه السُّفَر على وجهٍ يخِلُّ أو يؤدي إلى الإخلال لا شك أنه يعتبر آثماً من هذا الوجه، ولكن يفطر الصائم بالوجه المعروف، كأن يضع الطعام اليسير الذي ليس فيه إشغالٌ للصائم عن فرضه من أداء الجماعة والقيام بما أوجب الله عليه من الصلاة.
فالمقصود أنه ينبغي تنبيه الناس في إفطار الصائم، ولا شك أن الناس -إن شاء الله- نيتهم صالحة نحسبهم ولا نزكيهم على الله، وبعضهم يقول: إني أريد أن أصيب فضل تفطير الصائم قبل المغرب لا بعد المغرب.
ولا شك أنه إذا كان يريد إصابة هذا الفضل أنه سيضيع واجباً أهم مما هو مشتغلٌ به؛ فإن العلماء اتفقوا على أن تحصيل الفضائل لا يكون على حساب المنهيات، وهذا منهي عنه، ولربما أدى ذلك إلى إفساد فرش المساجد وغير ذلك مما لا يخفى، بل إنه يبالغ فيه إلى درجةٍ أن يزعج المصلين أثناء الركعة الأولى، فلا تسمع إلا اللغط، ولربما تسمع الكلام الذي يكون بسببه انشغال الناس عما هم فيه من الإقبال على الله عز وجل، فجميع هذه المفاسد تدل على أن طلبه لهذه الفضيلة لا يُعتبر شرعاً لوجود هذه الإخلالات.
وبناءً على ذلك نقول: يفطر الناس على التمرة والشربة، ثم بعد الصلاة يمد لهم ما شاء من الطعام والله يَأْجُره، فإنه على خير؛ لأنه امتنع من وضع طعامه كله لأمر الشرع، فإذا وضعه بعد الصلاة لا شك أنه يصيب الفضل إن شاء الله تعالى والله يأجره على حُسن نيته، فيُنَبَّه الناس على ذلك، وينبغي على الأئمة أن ينصحوا الناس.
ولقد رأينا -خاصةً في هذه الأزمنة- أموراً عجيبة مما ذكرناه، من التشويش على المصلين وأذية المساجد في فرشها؛ لأنه ربما يستعجل إلى درجةٍ يصيب بها الفراش، فيبقى الطعام على الفراش ولربما يُنْتِنُه، ولربما يؤذي المصلي بهذا النتن، فكل هذه المفاسد الموجودة مع ما فيها من إضاعة الركعة الأولى وفضل التأمين وراء الإمام، وإصابة أول الوقت بالتكبير تدل على أنه ينبغي تنبيه الناس على مثل هذا الأمر ونهيهم عنه.(43/13)
تكرار الفاتحة
قال رحمه الله: [وتكرار الفاتحة].
تكرار الفاتحة يأتي على وجهين: الوجه الأول: أن لا يكون معذوراً.
والوجه الثاني: أن يكون معذوراً بالتكرار.
أما التكرار الذي لا يعذر فيه فكأن يقرأ الفاتحة مع علمه أنه قرأها، فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: من كرر الفاتحة عالماً أنه كررها بطلت ركعته.
وقال بعضهم: بل تبطل صلاته، ووجه ذلك: أن الفاتحة ركن، فإذا كررها مرتين فإنه يكون قد زاد ركناً قولياً، وزيادة الركن القولي مؤثرة كزيادة الركن الفعلي، فهذا وجه من يقول في أن من كرَّر الفاتحة تبطل صلاته.
وقال بعض العلماء -كما درج عليه المصنف-: من كرر الفاتحة كرِه له ذلك، ولا تبطل صلاته؛ لأنه خلاف السنة، ولا تبطل صلاته؛ لأن زيادة الأقوال ليس كزيادة الأفعال.
وهذا مُرَكَّب على مسألة الزيادة في الماهية والخارج عن الماهية؛ فإن زيادة الأفعال تُعتَبر زيادةً في الماهية فأبطلت؛ لأنها زيادة في هيئة الصلاة، بخلاف زيادة الأقوال فإنها لا تؤثر في الهيئة، فالهيئة على ما هي عليه، قالوا: وبناءً على ذلك لا يؤثر هذا على صلاته.
إلا أن تسليم أصحاب هذا القول بأن الفاتحة ركن يُوجِب إحراجهم من هذا الوجه، ولذلك ينبغي اتقاء تكرار الفاتحة على هذا الوجه.
الوجه الثاني: تكرارها لحاجة، مثل الذي يشك أنه قرأ الفاتحة، فهذا لا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون الشك معه طارئاً، كما لو صليت ذات يومٍ الظهر، ثم شككت هل قرأت الفاتحة أو لم تقرأها، فاليقين أنك لم تقرأ، فتقرأها وتلزمك قراءتها.
ففي هذه الحالة إذا كان الشك طارئاً فحينئذٍ لا حرج وأنت معذورٌ لوجود السهو.
الحالة الثانية: أن يكون الشك مسترسِلاً، كالموسوس، فإنه حينئذٍ لا يخلو شكه في الفاتحة من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون بعد دخوله في السورة، فإذا دخل في السورة وجاءه الشيطان وقال له: لم تقرأ الفاتحة فإنه يلغي هذا الشك؛ لأن الظاهر من حاله بدخوله في السورة أنه قد قرأ الفاتحة، ووجود الشك المسترسل يدل على ضعف هذه الشبهة، فيبقى على دلالة الظاهر ويُلغِي الأصل من هذا الوجه.
الحالة الثانية: أن يكون شكه في حال سكوته، والتبس عليه كون سكوته بين الفاتحة وبين السورة، أو بين دعاء الاستفتاح وبين الفاتحة، فالأصل أنه ما بين دعاء الاستفتاح وما بين الفاتحة فيقرأ الفاتحة ولا حرج عليه في هذا التكرار.
قال رحمه الله: [لا جمع سور في فرض كنفلٍ].
أي: أنه لا يُكره تكرار السور وجمعها في فرضٍ، فلو أن إنساناً قرأ سورتين في ركعة فلا حرج عليه، وليس بمكروه، وقال بعض العلماء بالكراهة، ولكن السنة خلافه، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر الصحابي الذي كان يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في كل ركعة، فإنه كان يقرؤها مضافةً إلى السورة، وكان ابن مسعود يقول: (إني لأعرف النظائر التي كان يجمع بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته)، فلا حرج أن تجمع بين السورتين في ركعةٍ واحدة.(43/14)
الأسئلة(43/15)
حكم تغميض العينين في المساجد المزخرفة
السؤال
في المساجد المزخرفة -خصوصاً إذا كانت الزخارف في مواضع السجود- هل يجوز للمصلي أن يغمض عينيه؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد قال بعض العلماء: إنه إذا كان في الأرض زخرفة أو نحوها فإنه لا بأس بتغميض الإنسان لعينه؛ لأنه يُحصِّل الخشوع بالانكفاف عن هذه الزخرفة.
ولهذا القول ما يدل عليه في السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه قال: (أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)، قالوا: هذا يدل على أن الإنسان مهما بلغ من الخشوع فإنه يُشغَل، ولو جاهد الإنسان نفسه فإن الله عز وجل يعينه.
وكنا في القديم نغمض ونظن أن هذا يُعين على الخشوع فوجدنا أن المجاهدة أفضل، حتى يصبح هذا الشيء شيئاً عادياً عندك، بحيث إذا أَلِفْته وأحدقت البصر إلى موضع سجودك وتأثرت بالآيات وأحسست أن الله يخاطبك بها بما فيها من الوعد والوعيد والترغيب والترهيب فإن هذا يدعوك إلى التأثُّر وعدم الالتفات إلى الزخرفة، ولذلك الذي تطمئن إليه النفس أن الإنسان يجتهد قدر استطاعته، ويجاهد علّ الله عز وجل أن يبلغه إلى هذه الدرجة من الكمال، والله تعالى أعلم.(43/16)
الواجب على من ترك الركوع سهواً
السؤال
رجلٌ كان يصلي وراء الإمام، وقد قرأ الإمام في آخر قراءته آية سجدة ثم ركع، ولكن هذا المأموم لم يركع مثل الإمام، وإنما سجد سهواً، فماذا يكون على هذا المأموم؟
الجواب
هذا أمرٌ ينبغي التنبيه عليه لأئمة المساجد وطلاب العلم، فقد نَبَّه العلماء رحمة الله عليهم أن من فقه الإمامة أن لا يفعل الإمام شيئاً يُوجب اختلال صلاة الناس وراءه، وهذا من النصح للعامة، ووجه ذلك أنه إذا وقف على موضع السجدة أَربَك الناس، فلا يدري الناس أهو ساجد أم راكع خاصةً إذا كان هناك أناس يقتدون به في خارج المسجد، فترى هذا راكعاً وهذا ساجداً، وترى آخر قائماً حائراً لا يدري، أيسجد أم يركع، ولذلك ذكروا أن من فقه الإمامة التَّنَبُّه لمثل هذه الأمور.
قالوا: فإذا قرأ ذلك وَوَقَع فيه فإن لم يكن عنده رغبة أن يَسْجُد فليصلها بسورة بعدها، فإنه إذا قرأ الآيتين والثلاث، أو استفتح سورةً مثل سورة (اقرأ)، ولا رغبة له في السجود فإنه يستفتح بسورة القدر، فإن دخوله بسورة القدر ينبه على أنه لا يريد الركوع، قالوا: حتى ولو قرأ منها آيتين لينبه الناس على أنه غير ساجد، ثم يركع بهم.
ولذلك يقولون: يَنبغي للإمام أن يكون عنده العلم بأحكام الإمامة وفقه الإمامة.
أما بالنسبة لحكم هذه المسألة فإن الإمام إذا كبر وركع ثم سجد الناس، فمَن سجد صحّ سجوده، وحينئذٍ إذا رفع الإمام يقوم مباشرة، ثم يركع ويدرك الإمام في الرفع من الركوع وصلاته صحيحة؛ لأنه سجد على وجه الإخلال، ويَحمِل الإمام عنه هذا السهو.
وأما إذا لم يركع وإنما سَجَد ثم قام من سجوده فوقف مع الإمام في الرفع من الركوع ولم يركع فعليه أن يلغي هذه الركعة، فإذا سلَّم الإمام قضى هذه الركعة؛ لأنه لم يركع.
فإن تَدَارك صحت ركعته، وإن لم يتدارك وجب عليه قضاء الركعة، فإن خرج من المسجد ولم يقض هذه الركعة وَجَب عليه قضاء الصلاة كاملة.
فالخلاصة أن الصور ثلاث: الأولى: أن لا يركع ولكن يتدارك، فصلاته صحيحة وركعته مجزية.
الثانية: أن لا يركع ولا يتدارك فتلزمه الركعة، فإن فَعَلَها وهو في المسجد وقام وتحرك كما في قصة ذي اليدين، فحينئذٍ صلاته صحيحة.
الثالثة: فإن خرج من المسجد ولم يتدارك هذه الركعة لَزِمه قضاء الصلاة كاملة، والله تعالى أعلم.(43/17)
وصايا لطلاب العلم قبل الامتحانات
السؤال
أقبلت الامتحانات، فما هو الذي ينبغي على طالب العلم فعله في هذه الأيام؟
الجواب
يوصى طلاب العلم بأمور: أولاً: إخلاص العمل لوجه الله عز وجل وإرادة ما عند الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى يأجر الإنسان على قدر نيته، فلا يُغلِّب طالب العلم نية الدنيا على الآخرة.
الأمر الثاني الذي يُوصَى به طالب العلم: الاعتماد على الله، كما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]، فلا تعتمد على ذكائك ولا على فهمك، ولا على حفظك ولا على تحصيلك، ولكن توكل على الله، فإن الله قادر على أن يترك الإنسان وهو على أكمل ما يكون من الذكاء والحفظ حتى يدخل إلى الاختبار فينسيه جميع ما حفظ، والله على كل شيء قدير، وربما يبتليه بمرض في رأسه أو جسمه فيصبح في شتاتٍ من أمره لا يستطيع أن يبلغ ما يريد.
فنحن تحت رحمة الله عز وجل، وإذا أردت أن تنظر إلى توفيق الله لك في الأعمال فلا تستفتح عملاً إلا وأنت تعلِّقه على حول الله وقوته.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم المأثور: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فلا يصلح الشئون إلا هو سبحانه، فالتوكل على الله تعالى، كما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]، وقال الله في كتابه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، وأيام الاختبارات أيامٌ صعبة، وفيها هموم وغموم، فالإنسان يذهب هذه الهموم والغموم بالاعتماد على الله عز وجل والتوكل على الله سبحانه وتعالى وحسن الظن به.
الأمر الثالث: ينبغي لطلاب العلم أن يتراحموا، وأن يكون بينهم ما ينبغي أن يكون بين طلاب العلم من البعد عن الأنانية والبخل بالخير على إخوانهم، فإن احتاج أخوك إلى شرح مسألة أو كتاب أو ملخَّص فأعطِه، وإياك وما يسوِّله الشيطان حين يقول: هذا مهمل متكاسل.
فمن الآن تعود على الإيثار، فلربما كانت عنده ظروف، أَعطِه ملخَّصك وانصحه، فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يبخل على الناس، وطالب العلم الذي يبخل اليوم سيبخل غداً، والذي فيه الأنانية اليوم فيه الأنانية غداً.
فينبغي لطالب العلم أن يُوطِّن نفسه على الإيثار وحب الخير للناس، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، والعلم رحمٌ بين أهله، فإذا احتاج أخوك إلى مساعدة، أو إلى شرح مسألة فلا تبخل فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
الأمر الرابع: البعد عن المحرمات، ومنها الغش في الاختبار؛ لأن الغش في الاختبار يُعتبر كبيرة من الكبائر ولا شك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا)، ولأنه يفضي إلى استباحة الأمور المحرمة؛ لأن الإنسان ينال شهادةً مزورة وهو ليس بأهل لهذه الشهادة، بل قال بعض العلماء: يُشتبه في رزقه، إلا أن يتوب فيتوب الله عليه.
ولذلك يُنظر فإن نال الشهادة بالزور وبالغش -والعياذ بالله- فأقل ما يكون أن يمحق الله بركة ماله، ولذلك تجده يأخذ المال الكثير وليست فيه بركة، ولو تاب لتاب الله عليه.
الأمر الخامس الذي يُنَبَّه عليه: تعظيم شعائر الله عز وجل، فإن الطلاب في الاختبارات ربما يقطعون أوراق القرآن من المصاحف، وربما يمتهنون بعض الكتب، فينبغي التناصح في هذا الأمر، فلا يجوز امتهان كتاب الله ولا تمزيق أوراق المصحف، وكذلك لا يجوز امتهانها بوضعها في الطرقات والوطء عليها بالأقدام.
ولذلك يُخشى على الإنسان إذا رمى بورقة أن يطأ عليها أحد فيكون عليه وزر؛ لأنه هو السبب، والتسبب في الأشياء يوجب ضمان ما نشأ عنه، لذلك من يتسبب في امتهان كتبه وأوراقه بمجرد أن ينتهي من اختباره، أو يضعها في مكان تعبث بها الرياح فهذا لا يجوز، وينبغي التناصح في هذا الأمر.
كذلك أيضاً أُوصِي بوصية ينبغي التنبه لها، وهي حقوق الأبناء في مثل هذه الأيام، فعلى الآباء والأمهات أن يتقوا الله في الأبناء والبنات؛ فإن أيام الاختبار أيام عصيبة، ويكون الطلاب فيها في هم وغم، فينبغي الرفق بهم والتوسعة عليهم وإعانتهم وتيسير الأمور لهم وتقوية صلتهم بالله عز وجل، وغير ذلك من الأمور التي ينبغي أن يسديها الوالدان إلى الولد في مثل هذه المواقف، وينبغي القيام بالواجب والمسئولية.
وبعض الآباء لا يهمه أن يضبط ابنه العلم أو لا يضبطه، والله سائلك عن ضبط ابنك للعلم؛ لأن تعلم الابن ومعرفته بأمور دينه وما يتصل بها من الأمور التي يحتاجها لحياته أمرٌ مطلوب.
فينبغي شحذ همم الأبناء والبنات وإعانتهم على مراجعتهم، وتيسير الأمور التي تعينهم على الخير وبلوغهم لأفضل الغايات؛ لأن هذا من النصيحة؛ فإن من نصحك لولدك قيامك عليه على هذا الوجه الذي يُرضِي الله عز وجل.
وكلمةٌ أخيرة إلى من ابتلاه الله بالتدريس، فإني أسأل الله العظيم أن يشكر سعيهم، وأن يعظِّم أجرهم، وأن يجزيهم على أبناء المسلمين وبناتهم كل خير، فنعم ما يصنعه المعلم من كلمات طيبة، فأسأل الله أن يتقبل منا ومنهم صالح العمل، فلا يعلم مقدار ما يبذله المعلم والموجِّه لمن يُعلِّمه إلا الله سبحانه وتعالى، فالله أعلم كم تمر عليه من ساعات هم وغم، حتى وإن كان يُعلِّم شيئاً من أمور الدنيا، فإن المسلمين بحاجة إلى طبيب وبحاجة إلى مهندس، وبحاجة إلى كل من يسد ثغور الإسلام ولو كان في أمور الدنيا ما لم تكن محرمة، فالمعلم بقيامه بهذه المسئولية على خير، وهو مأجورٌ عند الله عز وجل، فنسأل الله أن يتقبل منا ومنكم.
والوصية التي يوصون بها: الرفق بالطلاب، وإحسان الظن بهم وعدم التشويش والتضييق عليهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به).
فبعض المدرسين يأتي بأسئلة تعجيزية، وبعضهم يُحاول أن يضيق على الطلاب، وكأن الاختبار شيء من المنافسة والأذية والإضرار، وهذا لا يجوز؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار)، فرفقاً بأبناء المسلمين وبناتهم، ولتتق الله في هذا الابن الذي يأتيك متوتر الأعصاب شارد الذهن مهموماً مغموماً مكروباً، فينبغي الرفق بمثل هؤلاء، خاصة وأنهم ذرية ضعيفة، فإن الله سمى الأطفال -خاصة صغار السن- ذريةً ضعيفة، فمثل هؤلاء يرفق بهم.
وبعض المعلمين إذا رأى التقصير من الطالب سبّه وشتمه وأهانه، بل ربما ضيق عليه، فيخرج هذا الطالب بهم وغم يبقى معه دهره كله، فلربما يُصاب بمرضٍ في نفسه أو في عقله، وهذا لا يجوز، فهؤلاء أمانة والله سائلنا عنهم، فينبغي الرفق بهم والإحسان إليهم وأخذهم بالتي هي أحسن، وإذا كنت في المدرسة ورأيت من يشدد فذكِّره بالله عز وجل، وذكره أن حوله بحول الله، وأن قوته بقوة الله عز وجل.
ولذلك لما ضرب أبو مسعود رضي الله عنه وأرضاه غلامه وهو يملكه قال: أغضبني فضربته ضرباً شديداً، فسمعت صوتاً من ورائي لم أستطع أن أتبينه من شدة الغضب، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام).
فلذلك ينبغي على الإنسان أن يتقي الله في أبناء المسلمين وبناتهم فهم أمانة، وينبغي أن نعرف نفسياتهم والضيق الذي هم فيه والكرب، فإن الله عز وجل يرحم من عباده الرحماء، وفي الحديث: (من لا يرحم لا يرحم)، وهذا لا يعني أن نسوي بين الخامل وبين المجد، فيستطيع المدرس الموفق الناجح أن يُعطي كل ذي حقٍ حقه، وأن يزن بالقسطاس المستقيم، وهذا لا شك فيه، لكن بطريقة ليس فيها إضرار بأمثال هؤلاء الضعفة الذي ينبغي الإحسان إليهم.
والشدة المبالغ فيها تنفِّر، ولو كان المعلم يدرس أفضل العلوم وأحسنها، فإنها تنفر، ولربما يكره بعض الطلاب كتاب الله عز وجل -والعياذ بالله- لصغرهم وجهلهم بسبب الأذية والإضرار، فينبغي تهيئة من يعين الطلاب على بلوغ هذه الغايات الطيبة، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا وإياكم من امتحان الآخرة، فينبغي علينا أن نتذكر في مثل هذه المواقف حينما يدخل الطالب إلى الاختبار وقد هُيِّئت له الأمور، فكيف إذا قدِم العبد على الله عز وجل في يومٍ تشخص فيه الأبصار؟! ولا شك أن الإنسان الموفَّق يتنقل من فكرةٍ إلى فكرة ومن عبرة إلى عبرة، فاختبار الدنيا يذكر باختبار الآخرة.
ويا للعجب حين تجد الآباء والأمهات مشفقين على الأبناء والبنات وهم يذهبون إلى الاختبارات، والأكف تُرفع بالدعوات، ولا يبالي الأب بابنه في الامتحان الأكبر، ومن منا سأل الله لنفسه وأولاده أن يجيرهم الله من عذاب الآخرة؟ فإن الامتحان كل الامتحان في الآخرة.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا من هول يوم الوعيد، وأن يؤمننا من سطوة ذلك اليوم الشديد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(43/18)
شرح زاد المستقنع - مباحات الصلاة
هناك مباحات يجوز للمصلي أن يفعلها في صلاته ولا حرج عليه، ومنها: رد المار بين يديه، وعد الآيات بأصابعه أثناء القراءة، والفتح على الإمام إذا أخطأ أو أرتج عليه، ولبس الثوب أثناء الصلاة، ولف العمامة، وقتل ما يؤذي كالحية والعقرب ونحوها، وقراءة ما شاء من أول السورة أو وسطها أو آخرها، والبصق عن يساره، وإذا كان في المسجد ففي ثوبه.(44/1)
مباحات الصلاة(44/2)
رد المار بين يدي المصلي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وله رد المار بين يديه].
الضمير في (له) عائد إلى المصلي، سواء أكان في فرضٍ أم في نفل.
وقوله: [وله رد المار بين يديه] قال بعض العلماء: بل يجب عليه ذلك.
وقال بعض العلماء: لا يرد.
وهو قول طائفة من أهل الرأي، فقد كانوا يرون أن هذا من المنسوخ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اسكنوا في الصلاة)، والصحيح أنه ليس بمنسوخ، وأن الحكم باقٍ إلى قيام الساعة، وأنه لا يجوز أن تترك إنساناً يمر بين يديك، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فليقاتله فإنما هو شيطان)، وقوله عليه الصلاة والسلام عن السترة أنها: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)، فإن قوله: (فلا يضره) يدل على أنه إذا مر بينه وبين قبلته ضرَّه.
قال العلماء: إن من صلَّى ومر المار بين يديه تضرر الاثنان، فيتضرر المصلي لأنه قُطِع عن خشوعه، وإذا سكَت عنه أعانه على الإثم والعدوان، ومن أعظم الإثم والعدوان إثم العبادات والاعتداء على حدود الله عز وجل في المقام بين يديه، فقالوا: يأثَم المصلي من هذا الوجه؛ لأنه أعانه وسكت عنه، ويأثم المار عند علمه؛ لأنه فعل ما نُهِي عنه شرعاً من المرور بين يدي المصلي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه).
قال أبو النضر: لا أدري أقال أربعين يوماً أو شهراً أو سنة.
ولذلك شدد الشرع في هذا المرور؛ لأنه يشوش على الناس في صلاتهم ويقطعهم عن الخشوع، وهو عبادة لا نعلم علتها الحقيقية، فمِن الله الأمر وعلى الرسول البلاغ وعلينا الرضا والتسليم، وليس هذا بكثيرٍ على أشرف العبادات، وأكمل المقامات وهي الصلاة.
والمار بين يدي المصلي لا يخلو المصلى معه من أحوال: الحالة الأولى: أن تشعر به قبل المرور، وهذا يتأتى حينما يكون الإنسان قد رمى ببصره إلى موضع سجوده فأحس بالمار من جهة يمينه أو من جهة يساره قبل أن يحول بينه وبين القبلة، فإن شَعَرت به قبل مروره مددت اليد، وهذا المد من باب التنبيه، ولا يجوز لك في هذه الحالة أن تبدأ بالمقاتلة، وهذا على خلاف ما يُرى من بعض الناس -أصلحهم الله- فإنه بمجرد أن يمر بين يديه يضربه، وهذا لا يجوز؛ لأن أذية المسلم والإضرار به محرَّمة، ولا تجوز إلا في الحدود الشرعية التي أَذِن الله بها ورسوله عليه الصلاة والسلام، وبناءً على ذلك لا يبتدئ الناس بالدفع أو ضربهم على صدورهم مباشرة، وإنما يمد مداً قوياً حتى يتنبه المار، فإذا أحسست أن ثبوت اليد يحول بينك وبينه أثبتّ اليد واكتفيت بالإثبات دون حركة، فإن انصرف فبها ونعمت؛ لأنه ربما يكون المار مشوشَ الذهن، وربما يكون شارد الذهن، وربما يكون غير منتبه لما أمامه، فإذا وضعت يدك تنبَّه، فحينئذٍ يرتدع، ولا شك أن ما أُبِيح للضرورة يُقدَّر بقدرها، فإن أصر على المرور في هذه الحالة دفعته، فإن أصر قاتلته، فلك حق الدفع، ولو كان ذلك على وجه الإضرار.
واختلف العلماء لو أنه دفعه وسقط وانكسر، أو أصابه ضرر، فقال بعض العلماء: أَذِن الشرع بالمقاتلة ودمه هدر، فإن مات فلا يلزم الدافع الضمان ولا يجب عليه القصاص.
وقال بعض العلماء: إنه ضامن، فلا إثم عليه في الدفع، ولكنه يضمن.
وهذا القول أقوى الأصول؛ لأن إسقاط الإثم عليه لا يستلزم إسقاط الضمان، وبناءً على ذلك تَردُّه وتدفعه، فإن حصل له ضرر فإنه من يدك، وابتلاءٌ ابتلاك الله به، كما يُبتَلى الرجل بالسقم في جسمه والبلاء في جسده فيضمن؛ لأن الأصل الضمان حتى يدل الدليل على الإسقاط، وليس هنا دليل يدل على إسقاط الضمانات، فالدليل عندنا في الإذن بالمقاتلة، لكنه لا يستلزم إسقاط الضمان، وفرقٌ بين قوله: (فليقاتله)، وبين قوله: (فليقتله)، فإن المقاتلة هي المدافعة، وهو أسلوب عام، أي أعم من أن يكون دالاً على الإسقاط.
واختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (فليقاتله).
فقال بعضهم: ليس المراد أن يقاتل بمعنى أن يدافعه في الصلاة، وإنما المراد أن المار على حالتين: فإن دفعته فلا إشكال، وإن لم يندفع، وغلب فإنهم قالوا: فليدْع عليه في صلاته، فإن القتل يُستعمل بمعنى اللعن، وبمعنى الدعاء، ومنه قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]، وقوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] أي: لُعِن، فقالوا: إنه بمعنى الدعاء عليه، فإذا غَلَب المكلَّف فحينئذٍ يدعو عليه لعظيم الضرر الذي أصابه.
ولكن القول الثاني -وهو أن المراد بالمقاتلة المدافعة- أقوى، وهو قول الجماهير، وليس المراد به استباحة دمه والخروج عن كونه مصلياً.
فإن كان المار قوياً، وكنت ضعيفاً وغلبك فحينئذٍ قالوا: الإثم على المار دون المصلي.
وفي بعض الأحيان في حال الجلوس بين السجدتين أو التشهد لا تستطيع المصلي أن يدفع إلا إذا كان الإنسان قوياً يستطيع أن يقاتل، فحينئذٍ لا حرج؛ فلقد رأيت رجلاً ضعيف البنية أمسك بساق رجل حتى كاد أن يموت الرجل بسبب ما أعطاه الله من القوة، لكن الإشكال إذا غلبه، فقالوا: إذا غلبه فالإثم على المار دون المصلي.
وقد ذكر العلماء حالات المرور بين يدي المصلي فقالوا: لا يخلو المصلي والمار بين يديه من حلالت، ففي حالة يأثمان، وحالة لا يأثمان، وحالة يأثم المار دون المصلي، وحالة يأثم المصلي دون المار.
فالحالة الأولى التي لا يأثمان فيها صورتها أن يكون المصلي كفيف البصر، ويمر المار وهو لا يدري أنه مارٌ بين يدي المصلي.
فسقط الإثم عن الأعمى؛ لأنه لا يرى، وهذا ليس بإمكانه، وسقط الإثم عن المار لكونه لا يعلم.
الحالة الثانية التي يأثمان فيها: أن يبصره وهو قادرٌ على دفعه ولا يدفعه، ويمر المار دون وجود عذر، مع علمه أنه مارٌ بين يدي المصلي، فيأثمان معاً.
الحالة الثالثة التي يأثم فيها المار دون المصلي: أن يكون المصلي كفيفاً والمار مبصراً عالماً، فيأثم المار دون المصلي.
وأما الحالة الرابعة التي يأثم فيها المصلي دون المار، كأن يكون المار كفيف البصر، أو لا يعلم فيمر دون أن يدفعه، فحينئذٍ يأثم المصلي دون المار.
فذكرنا أن السنة رد المار بين يدي المصلي، وعبَّر المصنف بهذا الرد على العموم، فيشمل كل ما مرّ بين يديك، سواءٌ أكان إنساناً أم حيواناً، فإذا مرَّ الشيء بين يديك فإنك تدفعه، خاصةً إذا كان مما يقطع الصلاة فإن الأمر فيه أشد، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه.
أما بالنسبة لغير الآدمي، وهي الحيوانات، فهي على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: ما يمكن ردُّه بمد اليد، كالبعير وكالبقرة إذا كانت مماثلة لموقف المصلي، فإذا مد يده تنبه البعير وانصرف عنه، وكذلك البقرة، وفي حكمها أيضاً الحمار والبغل ونحوه مما هو عظيم الجثة بحيث يماثل الإنسان حال قيامه.
الضرب الثاني: أن يكون مما لا يُمكن رده من الحيوانات، كالطائر إذا مر بين يدي الإنسان، فإنه يتعذر عليه أن يرده بيده.
الضرب الثالث: أن يكون مما يمكن رده في حال القيام مع حدوث الانتقال من ركنٍ إلى ركن، وذلك كالهره، فالهرة الصغيرة إذا مرَّت لا تستطيع أن تردها إلا إذا انحنيت إليها، وكذلك البهمة الصغيرة من الغَنَم كالسخلة ونحوها، فإنك تضطر إلى أن تنحني، فتنتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع، وربما تُبالغ في الانحناء لردها كالقطة، فحينئذٍ هناك أوجه: قال بعض العلماء: يجوز له أن يدفعها ولو بالرَّمي، فينحني مسرعاً في انحنائه، أي: ينتقل بسرعة ويأخذها ويرميها، ثم يرجع إلى قيامه ويُغتَفر هذا الانتقال.
وهذا قال به بعض السلف.
القول الثاني: أنه يَرُد بقدمه، ولا يرد بيده، فينتقل الرد من كونه بيده إلى كونه بقدمه، فيدفعها بقدمه، فإذا جاءت تمر فإنه حينئذٍ يجعل قدمه في منتصف الهر ونحوه ثم يرمي به فيُغْتَفر هذا، ويكون كالمدافعة باليد.
القول الثالث: أنه يتقدم حتى يلتصق بالحائط أو بسترته، فتمر البهمة من ورائه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لذلك.
وأقوى هذه الأقوال وأعدلها والقولان الأخيران، فإما أن يكون الدفع بالقدم، وإما أن يكون الدفع بأن يتقدم حتى يلتصق ثم تمر هي من رواءه كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام.
والرد المشروع أن يكون قبل دخوله فيما بين الإنسان وبين سترته، أما لو جاوز هذا المكان ومر، فقال بعض العلماء: يردُّه.
وقال بعضهم: لا يرده؛ لأنه إذا رده حصل مروران بين يدي المصلي.
وهذا أقوى، أعني الأخير؛ فإنه إذا فات الإنسان ومر، فحينئذٍ قد سقط التكليف وأصبح من المتعذر؛ لأن الإخلالات تنقسم إلى قسمين: ما لا يمكن تداركه فلا تكليف، وما يمكن تداركه فإنه يُكلَّف به الإنسان، وهذا مما لا يمكن تداركه؛ فإن المرور قد فات، فحينئذٍ لا يُطَالَب برده، ولأن رده يتضمن مفسدةً من الانشغال مع حصول مرورٍ زائد، وبناءً على ذلك لا يشتغل برده ثانيةً.
الأمر الثاني الذي يُرَاد التنبيه عليه: أن يكون المرور فيما بين يدي المصلي، فلو مر من وراء سترته فإنه بالإجماع لا يُؤثِّر؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في السيرة: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)، فدل على أن المرور وراء السترة لا يُؤثِّر، وثبتت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر حينما مرّ الناس من وراء السترة، فالسترة جُعِلت كغاية، فالدفع يكون فيما بينه وبين هذه الغاية، ولا يُشرع له الدفع فيما زاد عن هذه الغاية.
ويبقى النظر لو كان الإنسان يصلي إلى غير سترةٍ، أو كانت سترته بعيدة، فهل يُشرع له أن يتقدم حتى يَرُد؟
و
الجواب
السنة للإنسان أن تكون سترته على ممر الشاة من موضع سجوده، وهذا يأتي بأكثر من ذراع، فهذا القدر يتركه ويسجد، كما جاء في حديث سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (جعل هذا القدر ممر الشاة) قالوا: العلة في هذه -والله أعلم- أن لا يُشبِه عبدة الأ(44/3)
عد الآيات أثناء الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وعدّ الآي]، المراد بالعد: الحساب، والآي جمع آية، وهي آيات القرآن.
ومراد المصنف أن المصلِّي إذا أراد أن يعد الآيات في صلاته فلا حرج عليه في ذلك، وقد جاء حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يعقد أصابعه لعد الآي)، ورخَّص فيه بعض السلف رحمة الله عليهم، وجاء عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم لذلك.
وقال العلماء: إنه اغتُفِر هذا الفعل لكونه يسيراً، وقد يحتاج الإنسان للعد لطلب فضيلةٍ، كما في قيام الإنسان بمائة آيةٍ وقيامه بألف آيةٍ في الليل، فبيَّن المصنف رحمه الله بهذه العبارة أن من اشتغل بعد الآي فلا حرج عليه، ولكن الأكمل والأفضل والأعظم أجراً أن يقتصر على التلاوة بالتدبُّر.
وأما عد الآي فإن حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه لم أعثر على من صحّحه وقال بثبوته، ولذلك يُبْقَى على الأصل، ولأن المصلي إذا عد الآي فإن ذلك يشوش عليه فكره، وكذلك قد يمنعه ويحول بينه وبين تدبر معاني الآيات، ولذلك قالوا: إنه خلاف الأولى على أقل درجاته.(44/4)
الفتح على الإمام
قال رحمه الله تعالى: [والفتح على إمامه] إذا صلَّيتَ وراء إمامٍ وارتُج على هذا الإمام أو أخطأ فإنه يحق لك أن تفتح عليه، والفتح على الإمام يكون عند حدوث الخطأ، والخطأ يأتي على صور في تلاوة القرآن، فتارةً يكون الإمام واقفاً عند الآية لا يعرف ما بعدها، وتارةً يُردد الآية على سبيل اللبس مع آيةٍ أخرى، خاصةً في المتشابه من الآيات.
ففي هاتين الحالتين يُفَصَّل في حكمه، فإذا كان الإمام قد ارتُجَّ عليه فقرأ الآية ثم وقف ولم يكمل ما بعدها؛ فإنه حينئذٍ يحتمل أن يكون وقوفه لتدبرٍ أو تفكر أو اتعاظ، ويحتمل أن يكون وقوفه لمكان الخطأ وعدم معرفة ما بعد الآية على سبيل النسيان، فإن غلب على ظنك أنه قد وقف على هذه الآية على سبيل الخطأ جاز لك أن تبادره بالفتح وأن تعاجله به، وأما أن يبادر الإنسان مباشرة بالفتح فلا؛ لأن الأصل سكوت المأموم وعدم كلامه، وإنما أبيح لك أن تتكلم فاتحاً على الإمام عند وجود الحاجة، فلمّا تردد الحال بين كونه محتاجاً أو غير محتاج بُقِي على الأصل.
ولذلك قال العلماء: ليس كل سكوتٍ من الإمام في وسط الآيات أو عند ختم الآيات يدل على أنه قد التبس عليه، أو ارتج عليه، ولذلك هذا النوع من الوقوف ينبغي على الإنسان أن لا يتعجل فيه؛ لأنه ربما قرأ الإمام فأدركه خشوع الآية فقطع نصفها، وربما غلبته نفسه بالفكر والتأثر فوقف حتى يسترجع نفسه، وربما لم يستطع إكمال الآية لضيق نفسه، ونحو ذلك.
قالوا: ففي مثل هذه الصور لا يعاجل الإنسان بالفتح، وهذا إذا وقف الإمام على رأس الآية، أو وقف أثناء الآية، إلا أنهم قالوا: إن وقوف الإمام أثناء الآية أبلغ في الدلالة على كونه ناسياً منه إذا وقف عند آخر الآية.
أما وقوفه عند آخر الآية فلا شك أن مبادرتك بالفتح خلاف الأولى، وذلك أنه من المعهود في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من قراءته سكت، ثم كبر للركوع، فلربما سكت الإمام من أجل الركوع، فلذلك كان وقوفه على رأس الآي وتأخره في قراءة ما بعدها لا يدل على كونه ناسياً.
ومن هنا قالوا: من فقه الإمام إذا كان وقوفه على سبيل النسيان أن يكرر الآية التي وقف عليها، فإن تكراره يشعر من وراءه بالخطأ، فهذا إذا وقف على رأس الآيات.
أما الحالة الثانية: وهي أن يرتج على الإمام، والمراد به: أن تجده يكرر الآية على وجهين وهذان الوجهان لا أصل لهما، بمعنى أن أحدهما الصحيح والآخر خطأ، أما لو كررهما على وجهين يحتملان الصواب -كما هو الحال في القراءات المختلفة- فهذا ليس محل كلام العلماء رحمةُ الله عليهم.
فقولهم: (إذا ارتج) مأخوذ من رج الشيء إذا خض، والمراد بذلك أن الإمام يتردد في الآية.
أما إذا أخطأ فقرأ الآية على غير ما أُنزلت عليه، فحينئذٍ بمجرد خطئه تبادره بالفتح، ويختلف هذا الوجه عن الوجه الذي قبله بكون الوجه الذي قبله يتحرى فيه المأموم، وهذا الوجه يبادر فيه بالفتح.
وقوله: [على إمامه] تقييد فيه نوع من التخصيص؛ لأن الإضافة تقتضي التخصيص، فدل على أنه يُشرع له أن يفتح على إمامه دون إمامٍ آخر، ودون قارئ آخر.
ولذلك صور: الصورة الأولى: لو أن إمامين صلّيا بجوار بعضهما، فأخطأ أحد الإمامين وكنت وراء المصيب وسمعت بخطأ الثاني الذي لا تأتم به، قالوا: لا يفتح عليه؛ لأنه ينشغل عن صلاته خاصةً مع وجود من يفتح عليه.
الصورة الثانية: أن يقرأ بجوارك إنسان كتاب الله عز وجل فيخطئ، فهنا قال بعض العلماء: يجوز لك أن تفتح عليه، بخلاف الإمام.
ومن العلماء من قال: إنه لا يفتح عليه كالإمام الذي لا تأتم به، ومن رخص في الفتح عليه قال: إن هذا -أي الفتح- إنما شُرِع لإصلاح الخطأ في كتاب الله عز وجل، ولعظيم حرمة كلام الله عز وجل، فيُشرع للإنسان أن يبين خطأه، ويُغتفر هذا الكلام ويَقْصِد به الذكر، فخففوا في هذا، كأن يقرأ بجوارك قارئ فيخطئ، فلك أن تقرأ الآية التي يقرأها، وهذا على سبيل التعبُّد لا على سبيل الرد.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة -أعني إذا أخطأ الإمام- فهل من حقك أن ترد عليه أو ليس من حقك ذلك؟ وذلك على وجهين مشهورين عند العلماء رحمة الله عليهم، فذهب جمهور العلماء إلى مشروعية الفتح على الإمام، وأن الإمام إذا أخطأ في قراءته كان من حقك أن تفتح عليه بالصواب، وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى عدم جواز الفتح على الإمام وقال: إنه يلزم المأموم أن يسكت، وأما الإمام فإنه يتذكر، فإن تذكر فبها ونعمت، وإلا ركع وانتقل إلى موضعٍ آخر من كتاب الله عز وجل.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وذلك لما ثبت في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة يقرأ فيها، فالتبس عليه، فلما انصرف قال لأبي بن كعب: أصليت معنا؟ قال: نعم قال: فما منعك أن تفتح عليَّ).
قالوا: فهذا يدل دلالة واضحة على مشروعية فتح المأموم على إمامه، وأنه لا حرج على المأموم إذا تكلم بما يعين إمامه على صواب قراءته، وهذا المذهب لا شك أنه أَقرب المذاهب إلى السنة.
وأما ما يفتح فيه من الأخطاء فالصواب أنه يفتح في جميع الأخطاء، سواءٌ أأخطأ بإسقاط آية أم جملة أم كلمة أم حرف أم غير الشكل، وسواء أكان تغيير الشكل محيلاً للمعنى أم غير محيلٍ للمعنى؛ لأن المقصود إصلاح قراءته لكتاب الله عز وجل.
وعلى هذا فيُشرع الفتح على الأئمة في هذه الأحوال كلها، والإنسان مثابٌ على هذا الفتح ومأجورٌ عليه.(44/5)
لبس الثوب أثناء الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [ولبس الثوب].
أي: وله لبس الثوب في الصلاة.
وهذا مبني على حديث مسلم، فقد جاء عن وائل بن حجر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر للصلاة والتحف بإزاره).
قال بعض العلماء: هذا يدل على مشروعية لبس الإنسان لثوبه أثناء الصلاة، ولكن قالوا: بشرط أن لا يكون بالحركة الكثيرة، فإن التحاف النبي صلى الله عليه وسلم بالإزار إنما كان على وجه ليس فيه كثير عبث وكثير حركة، بخلاف الدخول في الثوب الآن، فإنه يحتاج إلى كثير حركةٍ وكثير فعل، ولذلك يُفرَّق بين اللبس الذي فيه كثير الحركة، وما فيه يسير الحركة.
وبناءً على ذلك فله أن يصلح ثوبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أصلح إزاره، وصورة ذلك أن تكون العمامة على رأسه فيلفها، أو يرفع الغطاء -أعني غطاء القلنسوة- عن جبهته لكي يسجد عليها، ونحو ذلك، فهذا لا حرج فيه، أما ما كان من اللباس يحتاج إلى كثير عمل فإنه لا يفعله في صلاته.(44/6)
لف العمامة
قال رحمه الله تعالى: [ولف العمامة].
أي: إدارتها؛ لأنها إذا سقطت أزعجته، ولذلك قالوا: لا حرج عليه في لفها؛ لأنه ربما انحلت العمامة فسقط كورها، خاصةً عند السجود؛ فإذا ارتفع من سجوده وأراد أن يعيد كورها فإنه لا حرج عليه في ذلك إلحاقاً بالتحاف النبي صلى الله عليه وسلم بالإزار.
ومن أهل العلم من قال: فرقٌ بين الإزار والعمامة ونحوها؛ لأن الإزار يتوقف عليه ستر العورة الذي من شروط صحة الصلاة، فكان أمره أشد من العمامة التي لا يُشترط فيها ما يُشترط في الإزار، فلذلك فرّقوا بين العمامة والإزار.
ولكن هذا التفريق محل نظر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كبر وقد ائتزر، وإنما مراد وائل شد الإزار، وشد الإزار لا شك أنه مرحلة فوق تغطية العورة، فخرج عن كونه مؤدياً لشرط الصحة إلى ما هو فضل أو معينٌ على الفضل.(44/7)
قتل الحية والعقرب والقمل في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وقتل حية وعقرب وقمل].
أي: وللمصلي أن يقتل الحية العقرب، وأن يقتل القمل.
أما قتله للحية والعقرب فقد جاء فيه حديث السنن من أمره عليه الصلاة والسلام بقتل الأسودين في الصلاة، أي: العقرب والحية.
وهذا يدل على سماحة الشريعة ويسرها، ووجه ذلك أن المصلي لو اشتغل بصلاته وجاءته العقرب فلدغته فإن ذلك مظنة أن يموت، وكذلك إذا لُدِغ من الحية، ولذلك يُعتبر هذا -أعني جواز القتل أثناء الصلاة- من باب ارتكاب أخف الضررين، ويَعتبره العلماء من باب تعارض المفسدتين، فعندنا مفسدة الفعل وهو القتل الذي يُخرِج المصلي عن كونه مصلياً، ومفسدة فوات النفس وحصول الضرر بلدغة الحية والعقرب.
فلذلك قالوا: كون الشريعة تأذن بقتل الحية وبقتل العقرب يدل على تقديم المفسدة العليا على المفسدة الدنيا، وهذا أصل في الشريعة، ومنه القاعدةٌ المشهورة: (إذا تعارضت مفسدتان أكبرهما)، وبعضهم يقول: (رُوعِي ارتكاب أخفهما بدفع أعظمهما) أي: لدفع الأكبر، ومن ذلك كَسْر السفينة، كما في قصة موسى مع الخضر، حيث علل الخضر عليه السلام كسرها بقوله فيما حكى الله تعالى عنه:: {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]، فكسرها أفضل من أخذها بالغصب كلها، ولذلك قالوا: كسر السفينة مفسدة أهون من فوات السفينة بكاملها.
وعليه فرّع العلماء جواز أن يذهب ثلث الوقف لاستصلاح ثلثيه، ونحو ذلك من المسائل، فكون الشريعة تأذن بقتل الحية والعقرب في الصلاة من باب ارتكاب أخف الضررين؛ فإن الاشتغال بالقتل أولى من كون الإنسان يُلدغ، قالوا: لأنه إذا لُدِغ شوّشت عليه صلاته، ولم يستطع أن يصلي وربما مات، فلذلك قالوا: تقدم المفسدة العليا أعني فوات النفس.
ومما تفرع على هذا الأصل من المسائل: أنك لو خفت من شيءٍ يُفضِي بك إلى فوات نفسك فإنه يجوز لك في الصلاة أن تدفعه، فلو جاء الإنسان أسد وهو في صلاته شُرِع له أن يفر، أو يتخذ السلاح، أو يضربه بالسلاح درْءاً لمفسدة فوات النفس، وكذلك الحال بالنسبة لغيره، فلو رأيت أعمى يكاد يقع في حفرة جاز لك أن تقطع الصلاة لإنقاذه إن توقَّف إنقاذه على قطع الصلاة، وجاز لك أن تتكلم، وأن تصوِّت بصوت تمنعه من الوقوع إن كان ذلك يمكن، فقالوا: هذا من باب حفظ الأنفُس، ولا شك أنه مطلوبٌ شرعاً، بل هو أحد الضروريات الخمس التي راعتها الشرائع كلها.
ومن ذلك أيضاً: المرأة إذا كان معها صبيها الصغير فرأته قد اقترب من نار، أو خشيت عليه السقوط على وجهٍ يوجب تلف نفسه، أو ذهاب عضو من أعضائه، أو حصول الضرر عليه، قالوا يجوز لها أن تتحرك وتنقذه، فإن توقفت نجاته على الخروج من الصلاة شُرِع لها الخروج من الصلاة.
فكل هذه الأمثلة مخرَّجة على ما ذكرناه.
أما الأدلة التي دلت على مشروعيةِ تحصيل حفظ الأنفس بفوات الصلاة، فمنها حديث السنن الذي ذكرناه في قتل الحية والعقرب.
ومنها: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (جاءه الشيطان في الصلاة فتكعكع، فتكعكع الصف الأول، ثم لما سلّم عليه الصلاة والسلام سأله أصحابه، فقالوا: رأيناك تكعكعت فتكعكعنا -أي: رأيناك تأخرت فتأخرنا- فذكر أن الشيطان قد جاءه بشهابٍ فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أعوذ بالله منك)، وفي رواية: (أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله).
إلى أخر الحديث.
وقالوا: إن كونه يأتيه بشهابٍ من نار ثم يدفعه النبي صلى الله عليه وسلم يدل على دفع المفاسد التي هي دون القتل؛ فإن شهاب النار مُحرِق ولكنه لا يصل إلى درجة فوات النفس فجعلوا حديث الحية والعقرب فيما فيه فوات النفس، وجعلوا حديث النار فيما فيه الضرر البالغ على الإنسان.
ومن الأدلة أيضاً: مشروعية الصلاة حال القتال والمسايفة فإن الله أَذِن للعبد أن يصلي ويقاتل، وذلك حفظاً لنفسه، فدل على أنه يجوز للإنسان أن يتحرك تحصيلاً لهذا الأصل الذي ذكرناه.
وما الحية والعقرب فبعض العلماء يفرق بين الحية والعقرب، قالوا: إن شأن الحية أخف من شأن العقرب، والسبب في ذلك أن الحيّات لا يعترضن غالباً إلا من اعترضهن، وربما مرّت الحية على ساق الإنسان ولا تؤذيه، وربما مرت أمامه ولا تتعرض له، وإنما تتعرض لمن يتعرض لها.
فقالوا في هذه الحالة: هي أخف من العقرب، بخلاف العقرب فإن ضررها أبلغ وقصدها للأذية أبلغ، ففي حالة كونه يتضرر من الحية قالوا: يتريث ولا يعجل إذا غلب على ظنه أنه قد يأمن الشر، وإنما يجوز لك أن تقطع الصلاة، أو تقاتلها أثناء الصلاة إذا كان الفعل يسيراً، وغلب على ظنك كونها ضارةً لك وقال بعض العلماء: لا يُفَصَّل بهذا التفصيل؛ لأن الحية مأمورٌ بقتلها.
قال رحمه الله تعالى: [فإن أطال الفعل عرفاً من غير ضرورة وبلا تفريق بطلت ولو سهواً] بعد أن بين لنا رحمه الله أنه يُشرع للمصلي أن يفعل هذه الأفعال من قتل الحية وقتل العقرب بين لنا أنه إن طال فعله -أي للقتل ورد المار- بحيث يؤثر في صلاته استأنف الصلاة، وإلا بنى.
وهذه المسألة للعلماء فيها وجهان: فجمهور العلماء على الجواز، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد رحمة الله على الجميع، ووافقهم أهل الحديث وأهل الظاهر.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى عدم مشروعية هذه الأفعال، فقال: إن الحركة في الصلاة نُسِخت، وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (اسكنوا في الصلاة).
والصحيح أنه باق، وأنه لا حرج على الإنسان أن يفعل هذه الأفعال عند وجود أسبابها وموجباتها.
فإذا قلنا على مذهب الجمهور: إنه يُشرع لك أن تقتل الحية وأنت في الصلاة، سواء أكانت فريضةً أم نافلة، وأنه يشرع للإنسان أن يتسبب في نجاة غيره إذا كان في الصلاة، فحينئذٍ لا يخلو فعلك من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون فعلاً يسيراً.
والحالة الثانية: أن يكون فعلاً كثيراً.
فإن كان فعلاً يسيراً فإنه مغتفر عند الجمهور، ومثال ذلك أن يكون بجوار الإنسان عصا فأخذها ورفعها مباشرة وضرب بها الحية ثم رماها وألقاها، فهذا فعل يسير، أو كان بجواره رمح فأخذه وطعن به الحية فقتلها، فهذا أيضاً يسير مغتفر.
وإن كان فعلاً كثيراً، فهذا يوجب استئناف الصلاة، بمعنى أنه قد خرج عن كونه مصلياً وتُستثنى حالة المسايفة وهي القتال، فإن الكثير فيها والقليل على حدٍ سواء، فلو أن العدو نزل بالمسلمين في وقت الصلاة، فقاتلوه بحيث لم يبق إلا قدر أدائها، قالوا: يُقاتِل على حالته، ولو كان في حال ضربه بالسيف، فإنه يقاتِل ويصلي ولو ترك ركوعه وسجوده لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239].
وإذا ثبت أنه يُشرع لك أن تفعل هذه الأفعال، وقلنا: إن الكثير مؤثر، فللعلماء وجهان في هذه ضابط هذا الكثير المؤثر: فقال بعض العلماء: الكثير عندي يرجع إلى العرف ومراده بالعرف أنه لو نظر إليه شخصٌ وهو في حال أفعاله وحَكَم بكونه غير مصلٍ بطلت صلاته، وأما لو نظر إليه ورأى أن فعله يسيراً، ولا يخرج في العرف عن كونه مصلياً، فصلاته صحيحة، ويبني على ما مضى.
وقال بعضهم: الضابط ثلاث حركات، وبشرط أن تكون متتابعات، فإن فرق بينها لم يؤثر، فإذا تتابعت ثلاث حركات فأكثر حكم ببطلان صلاته، ويستأنف الصلاة.
وقوله: [فإن أطال الفعل عرفاً] دلّ على أن المصنف رحمه الله يميل إلى التقيِيد بالعرف، كما هو مذهب الشافعية ووافقهم جماعة على ذلك.
وذهب الحنفية إلى الضابط بالعدد وهو عندهم ثلاث حركات متتابعات.
والقول بالعرف من القوة بمكان، ولكن تعتبر الثلاث الحركات في بعض الصور.(44/8)
قراءة أواخر السور وأوساطها
قال رحمه الله تعالى: [ويباح قراءة أواخر السور وأوساطها].
أي: يباح لك إذا صليت أن تقرأ أواخر السور وأواسطها، ولا حرج عليك في ذلك؛ لأن هذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أكثر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:136]، إلى آخر الآية، وفي الركعة الثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64]، إلى قوله {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]).
قالوا: فهذا يدل على جواز قراءة جزء السورة في ركعة وجزء السورة الثانية في ركعة ثانية، وهو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن قالوا: الأفضل والأكمل أن يقرأ السورة كاملة، وذلك أفضل لكونه هدي النبي صلى الله عليه وسلم الغالب، ولاشتمالها على الموعظة، فإن إتمام السور أبلغ من اقتطاع أجزاء منها لكن قالوا: ربما احتاج الإنسان أن يذكر الناس بآيات، أو كانت قراءته تخشع في مواضع دون مواضع فحينئذٍ لا حرج عليه أن يتخير من كتاب الله عز وجل، ويقرأ بعض الآيات في ركعة ثم غيرها في ركعة أخرى، سواء من أواخر السور، كأواخر سورة البقرة أو أواخر سورة آل عمران، أم من أواسطها، كما جاء في حديث ابن عباس في صلاته عليه الصلاة والسلام في الرغيبة، فكل ذلك جائزٌ وسائغ.
أما الدليل على جواز ذلك فعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن)، فكونه يقرأ من وسط السورة أو آخرها هو الذي تيسر له، ولذلك لا حرج عليه في فعله هذا الوجه، لكن الأفضل والأكمل إتمام السور لما ذكرناه، ولأنه الهدي الغالب من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.(44/9)
تسبيح الرجل وتصفيق المرأة في الصلاة للحاجة
قال رحمه الله تعالى: [وإذا نابه شيء سبح رجل، وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى].
قوله: [سَبّح] اختصارٌ لـ (سبحان الله) فقوله: [سبح رجلٌ] أي: قال: سبحان الله.
ويرفع بها صوته إذا نابه شيء، كأن يقرع عليه ضيف الباب، أو يتحرك عنده الطفل حركة غريبة ويخشى عليه فيقول له: سبحان الله.
حتى يتنبه.
أو كان هناك أمرٌ يحتاج إلى التنبيه عليه لجالسٍ بجواره، فإنه يقول: سبحان الله.
والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، فدل هذا على مشروعية أن يسبِّح الرجال.
ومن ذلك أن ينوب الإنسان أمرٌ داخل الصلاة، فإنه من باب أولى وأحرى، كأن يسهو الإمام، فإذا سها الإمام في الأفعال تسبِّح له، فلو أن إماماً كبَّر للجلوس بين السجدتين فإذا به يحاول القيام، أو قام ووقف فإنك تسبح؛ لأن الجلوس بين السجدتين لا بد من الرجوع إليه، فهو ركنٌ من أركان الصلاة، وهكذا إذا فعل فعلاً يُحتاج إلى تنبيهه عليه، ولا حرج عليك في ذلك لعموم قوله عليه والصلاة والسلام: (إنما التسبيح للرجال).
وأما التصفيق فقد ثبت في جزء الحديث الثاني، وهو يختص بالنساء، والحديث في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، وفيه دليل على أن النساء إذا عَلِمن بخطأ الإمام وسهوه وغفل الرجال عن التنبيه، أو صلت المرأة مع زوجها وسها فإنها حينئذٍ تصفِّق له، والتصفيق ينقسم إلى قسمين في الأصل: تصفيق مشروع في الصلاة، وتصفيق غير مشروع وهو تصفيق أهل اللهو والمجون.
ويكون التصفيق ببطن الكف إلى بطن الكف، وهو التصفيق المعروف والمعهود، سواء أوقع بالمقابلة الكاملة أم كان بجزئه، كأن يجعل أصابعه على بطن راحته فإنه يعتبر من التصفيق.
أما التصفيق المشروع الذي يكون في الصلاة فقيل: هو أن تضرب بظاهر الكفين على بعضهما.
وقال بعض العلماء: التصفيق المشروع في الصلاة أن تضرب ببطن إحدى اليدين على ظهر الأخرى.
وقيل: أن تَقْلِب فتجعل الظاهر على باطن الأخرى.
وسواء أفعلت هذا أم هذا فكل ذلك جائزٌ ومشروع، وفي هذا الحديث حجة لما ذهب إليه جمهور العلماء من أن صوت المرأة عورة، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صرفها من اللفظ إلى التصفيق، مع أن المرأة قد تصلي مع محارمها ولم يرد استثناء.
ولذلك قالوا: عُدِل عن التسبيح إلى التصفيق بالنسبة للنساء لمكان الافتتان بأصواتهن، والفرق بين قولنا: إن صوت المرأة عورة، وقولنا: ليس بعورة يظهر في مسألة محادثتها للرجال من دون حاجة، فإن القول بأنه ليس بعورة معناه أنه لا حرج أن يسمع الرجل صوت المرأة إذا أمِن الفتنة.
والأصل أن الغالب كالمحقق، ولذلك قالوا: الأصل فيه أنه عورة، ولا يُرخَّص إلا لحاجة كسؤالٍ واستفتاءٍ ونحو ذلك.(44/10)
البصق في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [ويبصق في الصلاة عن يساره وفي المسجد في ثوبه].
البصاق والبساق والبزاق ثلاث لغات، بالصاد والسين والزاي.
وقوله: [ويبصق في الصلاة عن يساره] لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المصلي أن يبصق قِبَل وجهه، ونهاه أن يبصق عن يمينه، وقال: (عن يساره تحت قدمه)، فإذا كان في بَرِّيةٍ فإنه يُشرع له أن يتفل عن يساره ويبصق عن يساره تحت قدمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك.
أما إذا كان في المساجد وكانت مفروشة فإنه لا يجوز له أن يبصق لا عن يمينه ولا عن يساره ولا قبل وجهه ولا وراء ظهره، فلا يجوز له بحال أن يبصق داخل المسجد، وفي القبلة أَشَد، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك وقال: (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)، وهذا حينما كانت المساجد من التراب، وكان عليه الصلاة والسلام يدفنها، وثبت عنه في الحديث الصحيح أنه لما رأى نخامةً في قبلة المسجد حكّها، ثم طيب مكانها صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا يدل على تعظيم أمر المساجد، وأنه لا يجوز البصاق فيها، وقد ثبت في حديث مسلم أنها من خطايا أمته التي عرضت عليه صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض العلماء: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البصاق في المسجد لمكان الأذية والضرر فإن هذا يدل على أن كل شيء فيه أذيةٌ للمصلين وفيه إضرارٌ بهم لا ينبغي للمسلم أن يفعله في المسجد، فالأصل أن تُرفع المساجد وأن تُكرَم لظاهر آية النور في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
والمراد بها المساجد.
قال بعض المفسرين: معنى قوله تعالى: (أَنْ تُرْفَعَ): أي: تُصان عما لا يليق بها حساً ومعنىً، فما لا يليق بها حساً مثل البصاق ونحوه كالقاذورات، وما لا يليق بها معنىً كلغط أهل الدنيا ونحوه؛ فإنها لم تُبن لهذا، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا).
فقال العلماء: في هذا دليل على أنه ينبغي صيانة المساجد، ولذلك قالوا من دخل بنعليه على مسجدٍ مفروشٍ فإنه لا يخلو من الإثم؛ لأنه إنما شُرِعت الصلاة في النعلين في ما هو غير مفروش، أما إذا كان مفروشاً فإنها قد خرجت عن صورة السنة، ولا بد في صورة السنة من التأسِّي والاقتداء، فكونه يصلي على فراشٍ على خلاف ما أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الفراش غير موجودٍ على عهده صلوات الله وسلامه عليه، ولم يصل على فراشٍ البتة، بل قام على حصير -كما في حديث أنس في الصحيحين- فلم يقم بنعليه صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا يدل على أن المعنى هو عدم أَذِيَّة المصلين، وعدم التسبب في الإضرار بهم، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام -وهو أصلٌ في الشرع- أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار)، وخرّج العلماء عليه القاعدةٌ المشهورة التي هي إحدى قواعد الفقه الخمس (الضرر يُزال)، فلذلك لا يُشرع للمصلي أن يتفل قِبَل وجهه، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟!) أي: هل يرضى أحد أن يُستقبل من قبل وجهه بالنخامة؟! فالله أجل، ولله المثل الأعلى.
فإن كان في المسجد فإنه يبصق في ثوبه كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، ثم يدلك الثوب، أو كما هو موجودٌ الآن من المناديل التي يضعها المصلي في جيبه، فله الحق أن يُخرِجها من الجيب ويبصق فيها ولا حرج عليه في ذلك، لكن السنة والأولى له إذا بصق في المنديل أن يجعله في شقه الأيسر وأن لا يجعله في شقه الأيمن؛ لأن المعنى موجود.
ولا ينبغي أن نجعل الأواني التي تحفظ هذه الفضلة من هذه المناديل في قِبْلة المصلين، وهذا خطأ يشيع عند بعض الناس، فإنهم يجعلون هذه الأواني التي تحفظ بقايا النخامات قبل المصلين أمام وجوههم، ولذلك لا يُشرع مثل هذا، وإنما تُصرَف إلى مياسر الصفوف ونحو ذلك.(44/11)
الأسئلة(44/12)
حكم الرد على الإمام إذا أخطأ في التجويد
السؤال
هل يجوز لنا أن نرد على الإمام إذا أخطأ في حكم من أحكام التجويد؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: تجويد القرآن وترتيله أمرٌ لازم، وذلك لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4]، وهو مشروع؛ فإن القرآن إنما نزل على صورةٍ معيَّنة، وهذه الصورة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبريل، وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتناقلتها الأمة جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل على صورةٍ مخصوصة وهيئة مخصوصة عُرِفت بمصطلحٍ اصطلحوا على تسميته بالتجويد.
وهذا المصطلح يكاد يكون إجماع السلف رحمة الله عليهم ومن بعدهم على كونه مشروعاً في الأصل، فلم يُوجد في العصور المتقدمة بل إلى عهدٍ قريب من يقول: إن التجويد بدعة.
وذلك لأن القرآن واضح في الأمر بترتيل القرآن.
والمراد بترتيل القرآن إعطاء الحروف حقها ومستحقها، ولذلك قال الله عز وجل: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، فلم يقتصر على وصفه بكونه لساناً عربياً حتى أضاف إليه كونه مبيناً، قيل: مبيناً من جهةٍ كونه يبين الحق، وقيل: مبيناً من جهة اللفظ.
ولا مانع من الجمع بين المعنيين كما هو مُقرَّر في أصول التفسير أن اللفظ إذا احتمل المعنيين وكان يمكن أن يُطلَق عليهما معاً فإن الأصل حملُه على ذلك العموم المقتضي لهما معاً.
وقد اختَص أهل القرآن بتجويده وضبطه وإتقانه وتحريره، وكان لهم شرف هذا الضبط وهذا التحرير، وعُقِدت لهم مجالسهم في بيوت الله عز وجل وفي أماكن حِلَق الذكر والعلم، ولم يُنكر أحدٌ هذا العلم، بل قالوا في حكمتهم المشهورة: القراءة سنةٌ متبعة لا تؤخذ إلا من أفواه الرجال فكانوا يأخذون القرآن بالتلقي.
وأخذ المصاحف والقراءة بها فيها بالطريقة الموجودة اليوم ما عُرِف إلا في هذه الأزمنة الأخيرة، وإنما كان في القديم لا يقرأ الإنسان إلا عن طريق الشيخ صيانةً لكتاب الله عز وجل وحفظاً له من الخطأ والزلل.
ومن قال: إن التجويد بدعة فإن قوله محل إشكال عظيم؛ إذ لو قلنا: إن الإنسان يقرأ القرآن على ظاهره فكيف يقرأ قوله تعالى: (كهيعص)؟ فمن أين جاءتنا معرفة المدود لنقرأ: (كاف، ها، يا، عين، صاد)؟ ومن أين جاءتنا تلاوة هذه الحروف على هذا الوجه المعين؟ فما جاءنا إلا عن طريق الرواية، فكما أنه أُلزِم بهذه الرواية على هذا الوجه فكذلك الشأن في كتاب الله عز وجل في حروفه، ولذلك تجد التنوين والغُنَّة والإخفاء وغيرها من الأحكام تترتب عليها مسائل دقيقة في صِفَة الحروف.
وقد أُثِر عن علي رضي الله عنه أنه لما فَسَّر الترتيل فسَّرَه بإعطاء الحروف حقها من صفةٍ لها ومستحقها، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله لزوم التجويد، ومرادهم بذلك التجويد الذي تنضبط به الحروف، وتنضبط به مخارج الحروف، أما الزائد على ذلك من التحبير والتحسين والإتقان الذي هو مرتبة الكمال فهو مرتبة فضل، وليس بمرتبة وجوب، ولذلك لا حرج في كون الإنسان يجهله، لكن إذا جاء إلى القدر اللازم مثل إخفاء الحرف، ومثل كون الحرف منوناً، والذي تبين به صفة الحروف، فهذا سنةٌ متَّبَعة، وينبغي التأسي فيها والاقتداء بسلف هذه الأمة ومن بعدهم، ولا شك أن هذا الأمر مما يكاد يكون مجمعاً عليه بين أهل العلم رحمة الله عليهم.
وعليه فإذا أخطأ الإمام في أحكام التجويد بما يُخِل، فلا شك أنه يُشرع الفتح عليه ويُلزَم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما لو أخطأ في الآية كلها، ولذلك يُشرع في مثل هذه الصورة أن يُفتح عليه، أما إذا كان في الكمال فإنه يغتفر، وخاصةً إذا كان من الأميين الذين يطول ردهم، والله تعالى أعلم.(44/13)
حكم الفتح على الإمام بصوت عالٍ
السؤال
يلاحظ على بعض المأمومين في قضية الفتح على الإمام أنه إذا كان في مؤخرة المسجد يفتح على الإمام بصوت عالٍ يُسمع في أرجاء المسجد، فهل هذا الفتح يعتبر من العبث الذي يؤثر في صحة الصلاة؟
الجواب
هذه المسألة مهمة جداً، خاصةً في صلاة التراويح، فتجد الناس يمسكون المصاحف، وقد يكون أحدهم خارج المسجد، فإذا أخطأ الإمام رفع صوته ورد على الإمام، وهذا يُعتبر من الأمور التي يُنْهى عنها؛ لأنه لا حاجة إلى كلامه، وما أبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها.
ولذلك قال العلماء: إذا كان وراء الإمام من يتولى الرد عليه فإنه يُتْرك الأمر له؛ لأنه ليس هناك حاجة إلى أن يتكلم.
وقالوا: إنه لو أخطأ الإمام وأنت خارج المسجد، بحيث لا يمكن أن يبلغ الصواب الإمام فإنه حينئذٍ يُشرع ترك الفتح؛ لأنه يعتبر من العبث؛ إذ ليس فيه إلا التشويش على المأمومين، لكن لو كنت في طرف الصف أو بعيداً، ويغلب على ظنك أنك لو فتحت ربما نقل غيرك فَتْحَك للذي أمامه، والذي أمامه لمن أمامه حتى يصل إلى الإمام، فحينئذٍ لا حرج أن تفتح عليه لكي يُبَلّغ بصوتك، بل وترفع صوتك ولا حرج عليك في هذا.
أما لو وُجِد وراء الإمام من يفتح عليه وينبهه على الخطأ فحينئذٍ يلتزم الإنسان الصمت كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم المأموم وراء الإمام، فيُنصِت ويسكت؛ لأنه هو الأصل في المصلي، والله تعالى أعلم.(44/14)
قتل القمل أثناء الصلاة
السؤال
ما حكم قتل القمل في الصلاة؟
الجواب
القمل له حالات: الحالة الأولى: أن يشوش على المصلي، كما لو كان في رأسه وبين شعره وآذاه وأزعجه، فقد شُرع له أن يقتله، ويكون ذلك كما هو معلوم بحركة الإصبع.
الحالة الثانية: أن يكون بعيداً عن الأذية، كأن يراه على ثوبه، فبعض العلماء يُعمِّم ويقول: يقتل القمل مطلقاً، فيدخل في هذه الحالة أن يقتله ولو كان على ثوبه؛ لأن الضرر في مظِنّة الوقوع فإذا كان في هذه الساعة على الثوب فربما بعد ساعات يكون على الجسد، ومن ثم قالوا: يُشرع له أن يقتله بناءً على العموم ولا تجد العلماء يفرقون بين كونه مُشوِّشاً في الصلاة أو غير مشوِّش، لكن لو أمكن الإنسان أن يصبر عنه حتى ينتهي من صلاته فهو أولى وأحرى وقتل القمل -كما يقول العلماء- حركته يسيرة وفعله يسير، ولذلك لا يُشدد فيه، وليس كقتل غيره، والله تعالى أعلم.(44/15)
دعاء المصلي أثناء الصلاة إذا مر بآية عذاب أو رحمة
السؤال
إذا قرأ الإمام قول الله عز وجل: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] ونحوه، فهل يشرع أن يقول الإمام والمأموم: (سبحانك.
بلى)، أم لا يُشرع؟
الجواب
نعم.
فهذا فيه حديث في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (سبحانك.
بلى) لما قرأ قوله تعالى:: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40]، وهذا إنما يكون في النافلة، أما في الفرض فلا.
وكان عليه الصلاة والسلام في قيام الليل إذا مر بآية عذابٍ استعاذ، وإذا مر بآية رحمةٍ سأل الله من فضله، ولذلك ما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام إلا في قيام الليل.
ولذلك يُعتبر هذا الأصل في صلاة النافلة، فلا حرج على المصلي أن يفعل ذلك؛ لأن أمرها أخف من أمر الفريضة، وأما في الفريضة فإنه يسكت لأنه الأصل، حتى يدل الدليل على جواز الكلام والنطق؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أنه لما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، قال الراوي: (أُمِرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام).(44/16)
حكم تصفيق الرجال والنساء في الحفلات والأعراس
السؤال
ما حكم التصفيق للرجال في الحفلات ونحو ذلك، وما حكم التصفيق للنساء في غير الصلاة، كالأعراس ونحوها؟
الجواب
التصفيق من صنيع أهل اللهو؛ ولذلك لا يُشرع، ويُسقِط مروءة طالب العلم والعالم إذا فعلاه، وأما عوام الناس فيُنبَّهون على أنه من صنيع أهل اللهو ومن لا يؤبه له، أما طلاب العلم وأهل الفضل ومَن هم قدوة فلا يصفقون، وحَمَلوا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] على هذا الوجه، والله تعالى أعلم.(44/17)
حكم تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة
السؤال
ما حكم تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة؟
الجواب
تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة مَنْهِيٌ عنها.
فقد قال العلماء: نُهِي عنها.
واختلفوا في العلة، فقال بعضهم: لأنه تشبه باليهود، ولذلك لا يُغَطِّي فمه.
وقال بعض العلماء: نُهِي عن تغطية الفم في الصلاة لأنه لا يُحسن القراءة وإخراج الحروف، وأياً ما كان فلا مانع من تعليل النهي بالعلتين؛ لأن أصح الأقوال عند الأصوليين أنه يجوز تعليل الحكم بعلتين، وبناءً على ذلك نقول: إن تغطية الفم في الصلاة فيها محظور وهو صعوبة خروج الحروف من مخارجها مع ما فيها من التشبُّه، والله تعالى أعلم.(44/18)
الواجب على المصاب بسلس البول إذا دخل وقت الصلاة
السؤال
شيخٌ كبير به سلس البول ولا يتحكم في بوله، فهل يجب عليه غسل ما وَصَل إليه البول من الثياب دائماً وخاصةً إذا كان بعيداً عن بيته؟
الجواب
من كان بهذه الحالة فإنه إذا دخل عليه وقت الصلاة يغسِل الأماكن المتنجسة من ثوبه الذي يلي فرجه وما أصابه البول، فإن شقّ عليه وعَسُر فحينئذٍ يمكنه أن يستبدله بثوبٍ آخر إذا كان يشق عليه غسله، كما هو الحال في أيام البرد، فإنه إذا غسل الثوب لا يستطيع أن يلبسه مباشرة، فإذا وجد مثل هذا فليتخذ له سروالين ونحوهما كما هو الأصل في الواجبات، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فقد أوجب الله عليه الطهارة للصلاة، وكونه يصلي على هذه الحالة مع القدرة على التخلي عن هذه النجاسة لا يباح له ولا يُرَخَّص له.
وأما مسألة تطهره للصلاةِ فإنه كلما دخل عليه وقت الصلاة يُشرَع له أن يتوضأ، ولا يضره خروج البول أثناء وقت الصلاة، كالمستحاضة.
لكن في مسألة تغيير الثوب وغسل البول، فإذا شق عليه، أو لم يمكنه ذلك، كالمريض الذي يكون طريح الفراش ولا يستطيع أن يجد الماء الذي يغسل به العضو، وحضره وقت الصلاة وخاف خروجه فحينئذٍ يجوز له أن يصلي ولو كان في ثوبه البول لمكان الضرورة، والله تعالى أعلم.(44/19)
الأمر بغض الصوت للمرأة
السؤال
زوجي كثير الخروج بنا إلى منزل أهله، وإذا ذهبنا إلى منزلهم أجلس مع أهله جميعاً في مجلس واحد ويكون معهم أخوه البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، وأكون أثناء الجلسة متحجِّبة بالحجاب الإسلامي الكامل، إلا أنني أتحدَّث بصوتٍ مسموع مع والدة زوجي وأخواته، وأحياناً يتعدى الأمر إلى الضحك، وقد حاولت عدم التحدث بصوتٍ مسموع والإقلال من ذلك، لكني لم أستطع، فما الحكم في مثل هذه الحالة؟
الجواب
إذا كان الإنسان في مثل هذه الحالة يأمن الفتنة فلا حرج أن يجلس القرابات النسوة مع بعضهن ويتحدثن ويكون صوتهن عالياً، لكن إذا كان بجوارهن رجال وكانوا أجانب فإنه في هذه الحالة ينبغي عليهن الغض من الصوت وعدم إسماع الرجال الأجانب؛ لأن الرجل يُفتَن بصوت المرأة غالباً، واغتفَر العلماء صغار السن ومن هو قريب البلوغ إذا أُمِن منه أن يفتتن، والله تعالى أعلم.(44/20)
حكم قصر الصلاة لمن كان عمله خارج مدينته
السؤال
رجلٌ يسكن في مكة وعمله خارجها، فهل يقصر الصلاة إذا خرج من مكة إلى مكان عمله، أو لا؟
الجواب
إذا خرج من مكة إلى مكان العمل ولم يكن له مستقرٌ في مكان العمل، كبيتٍ يسكنه ومزرعة يقوم عليها، أو ملك له فيها فإنه في هذه الحالة يقصُر بشرط أن لا يُقِيم أو ينوي الإقامة أربعة أيام فأكثر، فإن نوى الإقامة أربعة أيام فإنه ينتقل إلى حكم المقيم، ويلزمه إتمام الصلاة من أول يوم ينزل فيه في ذلك الموضع، والله تعالى أعلم.(44/21)
حكم قراءة الآية من نصفها في الصلاة
السؤال
ما حكم القراءة في الصلاة من نصف الآية لا من أولها، علماً بأن المعنى مكتمل؟
الجواب
هذا خلاف السنة، فالسنة أن يبتدئ بأول الآية كما ذكرنا في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قراءته عليه الصلاة والسلام في ركعتي الفجر أما لو فعل ذلك فإن صلاته صحيحة، والله تعالى أعلم.(44/22)
حكم الدعاء في القنوت بغير ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل يجوز للإنسان الدعاء بالأذكار التي فيها مواضع دعاء كأذكار الصباح والمساء والنوم أثناء القنوت وغيره، أو الاستغفار بسيد الاستغفار؟
الجواب
القنوت لا يُشرع فيه إلا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والحاجة الداعية إلى القنوت، فإذا قَنَت الإنسان فإنه يقتصر على الوارد كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك)، وقوله: (اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد) ونحو ذلك من الأدعية الواردة.
ثم يقتصر على أمرين: الدعاء على من فيه ضرر على المسلمين، والدعاء لمستضعفي المسلمين، فإن زاد عن هذين الموضعين -كأن يدعو بأمورٍ خارجةٍ عنهما- فقد حكم العلماء ببطلان صلاته؛ لأنه كلامٌ خارجٌ عن المشروع كما لو تكلَّم بكلامٍ أجنبي، ولذلك قال الإمام أحمد: إن زاد عن الوارد حرفاً واحداً فاقطع صلاتك.
تشديداً في هذا الأمر.
ومن البدع المحدثة الاستسقاء في القنوت، فهذا بدعة وليس له أصل، وينبغي تنبيه الأئمة على أنه ينبغي عليهم التأسِّي برسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتصار على الألفاظ التي ورَدت، فتدعو على من ظلم، وتدعو للمسلمين بالنُّصرة والتأييد، والزائد على ذلك يعتبر من البدعة والحدَث، والإمام يأثم ويتحمل مسئولية من وراءه، وينبغي على الأئمة إذا أرادوا أن يفعلوا أمراً وله أصلٌ من الشرع أن يسألوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وأن لا يختلقوا من عندهم بالاجتهادات والاستحسانات.
ولذلك شدد العلماء رحمهم الله في القنوت، وعباراتهم فيها مشهورة، وينبغي التقيد بما ذكرنا، فإذا دعا بمثل هذا الدعاء فقنوته صحيحٌ ومشروع وأما إذا زاد عليه، وكانت الزيادة بما لم يُشرع فحينئذٍ تنوي المفارقة، أي: تنوي أنك منفرد، ولا حرج إذا خفت الفتنة أن تسجد مع سجوده، ثم إذا رفع ترفع معه، ولا تنو الاقتداء به.
وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم إذا طرأ في الإمام ما يوجب بطلان إمامته، والله تعالى أعلم.(44/23)
الواجب على من فاتته تكبيرة من تكبيرات الصلاة على الميت
السؤال
كيف يصنع من فاتته تكبيرة من تكبيرات الصلاة على الميت؟
الجواب
إذا فاتت تكبيرة فأكثر من تكبيرات الصلاة على الميت، فإنه في هذه الحالة لا تخلو الجنازة من حالتين: الحالة الأولى: أن تدرك بقدرٍ يقضي فيه الإنسان ما فاته، فحينئذٍِ تُكَبِّر التكبيرة وتُتِم الأذكار الواردة فيها.
وأما الحالة الثانية وهي الموجودة الآن: أن ترفع مباشرة، فإذا رُفِعت مباشرة فإنك تُكَبِّر بدون دعاءٍ وذكر، ثم توالي بين التكبيرات، كأن يفوتك تكبيرتان، فتقول: الله أكبر، الله أكبر، السلام عليكم.
فهذا هو المشروع والذي عليه العمل عند أهل العلم رحمة الله عليهم، وإنما قالوا بالتفريق بين كون الجنازة حاضرة ومرفوعة لأن حضورها هو الذي شُرِعت فيه الصلاة، ولذلك لا يُصَلّى عليها قبل حضورها، فالصلاة عليها بعد رفعها كالصلاة عليها قبل حضورها، ولذلك قالوا إنما يُشرع القضاء وذكر الأذكار بين التكبيرات إذا كانت الجنازة ثَم.
والله تعالى أعلم.(44/24)
قول الإمام للمؤذن أقم الصلاة
السؤال
هل من السنة قول الإمام للمؤذن أقم الصلاة؟ وهل للإمام أن يطيل في الركوع في الفريضة لكي يتسنى للداخل إدراك الركعة؟
الجواب
لا يقول الإمام للمؤذن أَقِم، ولا يتنحنح، ولا يفعل شيئاً.
فإذا كان الإمام يأتي من قِبَل المسجد والمؤذن يراه، فحينئذٍ يسكت الإمام ولا يقل: أقم، لكن لو كان المؤذن يأتيه الإمام من ورائه، أو يأتيه من مكان يريد أن ينبهه وينبه من أمامه حتى يمكنه أن يدخل إلى الصف الأول فلا حرج أن يقول: أقم.
خاصةً إذا كان الإمام لم يصلِّ تحية المسجد، ولذلك يُشدد في كلامه وذكره، فالأَولى والأفضل أن يكون دخوله على وجهٍ يتنبه به المؤذن لإقامة الصلاة.
والله تعالى أعلم.(44/25)
شرح زاد المستقنع - سنن الصلاة
كما أن للصلاة أركاناً وواجبات وشروطاً، فلها أيضاً سنن ينبغي المحافظة عليها، ومنها: السترة، والاستعاذة عند آية وعيد، والسؤال عند آية رحمة، ونحوها.(45/1)
سنن الصلاة(45/2)
السترة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وتسن صلاته إلى سترة قائمة كمؤخرة الرجل] ذكر المصنف رحمه الله تعالى جملةً من الأحكام والمسائل التي كانت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، وشرع بعد بيان صفة الصلاة في بيان الأمور التي يسن للإنسان أن يحصلها في صلاته، ومنها السترة.
فيقول رحمه الله: [وتسنّ]، وهذا التعبير يَدل على أن جعلك للسترة إنما هو على سبيل الندب والاستحباب، بمعنى أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلّى صلّى إلى سترة.
والسترة أصلها: ما يستتر به الإنسان، ويشمل ذلك ما يستر عورته، أو يستره إذا كان في مكان، ولكن المراد بها هنا سترة مخصوصة حَكَم الشرع باعتبارها، فأنت إذا صَلَّيت تحتاج إلى حدٍ معين تمنع فيه الناس أن يمروا بينك وبينه، وهذا الحد وَضَعه الشرع على سبيل العبادة؛ لأن المكلَّف إذا خَلِي من مرور الناس بين يديه كان ذلك أدعى لخشوعه، وأدعى لحضور قلبه، ثم إن هذه الصلاة تكون لها حرمة، فيمتنع المار أن يمر بين يدي المصلي، وذلك إنما يكون بوضع حدٍ معين، وهو الذي وصف في الشرع بكونه سترةً.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن السترة: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)، أي: مثل مؤخرة الرحل سترةً للمصلي، ثم لا يضره من مر وراء هذه السترة.
وأمر عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث إذا صلى المصلي أن يجعل السترة تلقاء وجهه، ولذلك ذهب طائفةٌ من أهل العلم رحمة الله عليهم إلى أن جعل السترة أمام المصلي في صلاته أمر واجب، ولا شك أن هذا القول أقرب لظاهر السنة الثابتة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إننا إذا تأمّلنا خطر المرور بين يدي المصلي وتشديد الشرع في أمره وترهيب المار من مروره فإنه يتضمن الدلالة على أن السترة واجبة.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو يعلم المار بين يدي المصلي -أي ما في ذلك من الوعيد والعذابِ- لكان أن يقف أربعين أهون من أن يمر بين يديه).
قال أبو النضر: لا أدري أقال أربعين يوماً، أو أربعين سنةً، أو أربعين شهراً.
فأمر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول أمر عظيم يدل على عظم خطر المرور بين يدي المصلي، فإذا كان الأمر كذلك فإن من مقصود الشرع صيانة الناس عن هذا الخطر، وحفظهم عن الوقوع في هذا الضرر، وذلك إنما يكون بسبيل الإلزام، فإذا أُلزِم المصلي بجعل السُّترة كان ذلك أدعى لحفظ الناس من الوقوع في هذا المحظور.
والسترة تكون جداراً، وتكون جماداً، وتكون حيواناً، فلا حرج أن تستتر بظهر إنسان، ولا حرج أن تستتر بحيوان، فلو أنك دخلت المسجد وأردت أن تصلي تحية المسجد ولا تجد شاخصاً إلا ظهر إنسان أمامك فإنه لا حرج أن تصلي وراء ظهره، وقد جعلت في نفسك أن هذا الظهر بمثابة السترة لك، ويحق لك إذا وقع موقفك في الصف الذي يلي الصف أن تجعل الصف الأمامي بمثابة السترة.
وتكون السترة حيواناً، كأن يُنيخ الإنسان بعيره ثم يجعل أحد جنبي البعير سترةً له؛ لأنه لا يليق أن يجعل وجهه أمامه، وهكذا بالنسبة للرجل، حتى لا يُظَن أنه ساجدٌ للبعير أو ساجدٌ للإنسان، فسدّاً لذريعة السجود لغير الله عز وجل، لا تجعل الحي قبل وجهك، وإنما تأتي من قفاه إذا استُحسِن أن تكون في القفا، أو تأتي من جنبه، كالحيوان من بهيمةٍ أو إبلٍ أو بقرٍ أو غير ذلك، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يُنيخ بعيره ويصلي إليه.
وكذلك تكون السترة جماداً، وهذا الجماد قد يكون حائلاً كالجدار وكالبناء، فهذا لا إشكال في كونه سترةً مؤثرة.
لكنه يكون في بعض الأحيان شاخصاً، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى إلى كلٍ منهما، فلما دخل الكعبة اقترب من جدارها وصلى إلى الجدار، وكذلك اعتبر الجماد الشاخص كما في حديث أبي جحيفة وهب ابن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ثم ركزت له عنزة)، وهذا يدل على جواز الصلاة إلى الشاخص، كأن تغرز عوداً أو عصاً أو رمحاً أو نحو ذلك ثم تصلي إليه، أو تضع حجراً، لكنهم قالوا: إذا صليت إلى الحجر فاجعله عدة أحجارٍ حتى لا تشابه عبدة الأوثان، سداً لذريعة المشابهة لعبدة الأوثان؛ لأنه إذا جعل حجراً واحداً فكأنه يُشَابه أهل الأوثان بعبادتهم للأنصاب ونحوها، فقالوا: تجعل حجرين أو ثلاثة بجوار بعضها حتى تخرج من مشابهتهم.
وكذلك قالوا: السنة في الصلاة إلى الحجر أو الشاخص أن تجعل الشاخص إما على حاجبك الأيمن، أو على حاجبك الأيسر، ولكن لا تجعله أمامك مباشرة حتى لا تشابه عبدة الأوثان.
وفيه حديث أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عليه الصلاة والسلام إذا صلّى جعل السترة على جانبه الأيمن، أو على جانبه الأيسر، ولم يصمُد لها صمْداً، أي: ما جعلها أمامه كأنه يسجد لها كحال عبدة الأوثان.
قوله: [قائمة كمؤخرة الرحل] الرحل: هو ما يكون على ظهر البعير، ومؤخرته -كما ضبطها بعض العلماء- بقدر ذراع، وهي تحفظ الراكب من ورائه.
فإن كانت السترة صغيرة الحجم طلب ما هو أعلى منها، وذلك أن العالي أدعى لانتباه الناس له وتوقيهم المرور بين يدي المصلي.
ثم السنة في هذا الشاخص أن تجعل بين سجودك وبين مكانه قدر ممر الشاة، فمكن أن يكون قدر ذراع، وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان بين منبره والجدار قدر ممر الشاة قال بعض العلماء: الحكمة فيه -والعلم عند الله- أنه يمنع من مشابهة عبدة الأوثان؛ لأنه إذا كان بينك وبين السترة حائلاً دلّ على أنك لا تقصدها.
قال رحمه الله تعالى: [فان لم يجد شاخصاً فإلى خط].
الخط يكون في الأرض التي هي كالبرية، والتي يمكن وضع الخطوط فيها، وللعلماء في مشروعية هذا الخط قولان مشهوران: فقال الجمهور بعدم مشروعيته، وذلك لشدة الضعف في الحديث الذي ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: (فإن لم يجد فليخط خطاً)، فالضعف في الحديث قوي جداً، وأشار بعض العلماء إلى تحسينه كالحافظ ابن حجر وغيره، ولكن الكلام فيه قوي، لكن قال العلماء رحمةُ الله عليهم: لو لم يدل عليه الحديث لاقتضاه الأصل؛ لأن المقصود منع الناس، وليس المراد به أن يكون سُترةً.
ثم اختلفوا في صورة هذا الخط، فقال بعضهم: يجعله في أحد جانبيه كالحال في العصا.
وقيل: يجعل الخط من أمامه على آخر ما ينتهي إليه سجوده كالحال في الجدار المعترض.
وقيل: يجعله كالهلال.
أي: كالمحراب الذي يدخل فيه الإنسان، وأصح الأقوال أن الأمر واسع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليخط خطاً) -على القول بثبوت الحديث- ولم يبين كيف يكون، فيبقى الأمر على إطلاقه إعمالاً للأصل.
قال رحمه الله تعالى: [وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط].
أي: تبطل الصلاة إن صليت إلى السترة بمرور كلبٍ أسود بهيمٍ، وهذا فيه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب)، فهؤلاء الثلاثة بأمر الشرع يقطعون الصلاة، أي أن الشرع دلّ على أنهم يقطعون الصلاة على سبيل العبادة، والله تعالى أعلم بعلة ذلك، وإن كانوا قد ذكروا في الكلب وخَصُّوه بالأسود لورود الخبر أنه شيطان.
وهذا القول -أعني القول بقطع الصلاة بمرور أحد هؤلاء الثلاثة- هو أصح الأقوال وأعدلها، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة من أهل الحديث، بمعنى أن المكلف يُطَالب باستئناف الصلاة، ومثال ذلك: لو قمت تصلي تحية المسجد، فجاءت امرأةٌ، أو مَرّ حمارٌ -أكرمكم الله- بينك وبين السترة، فهذا المرور لهذه الدابة يُوجِب قطع الصلاة، فلو صليت ركعةً من تحية المسجد فكأنك لم تصلِّ، فتسأنف الصلاة ولو كنت في التشهد الأخير، فمروره بين يديك في هذه الحالة يُوجِب انقطاع الصلاة من أصلها فتستأنف الصلاة، وكأنك في غير صلاةٍ، ولو كانت فرضاً، أي ولو كنت في فرض فإنك تستأنف الصلاة، وهذا على أصح أقوال العلماء.
وخَالَف الجمهور رحمةُ الله عليهم من الحنفية والمالكية والشافعية، فقالوا: لا يقطع الصلاة واحدٌ من هؤلاء الثلاثة.
قالوا: أما الحمار فلثبوت حديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد).
ووجه الدلالة أن الأتان مرَّت بين المصلين فلم يوجب ذلك قطع صلاتهم، فدل على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة.
قالوا: وأما المرأة فلما ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح).
كانت حجرته عليه الصلاة والسلام صغيرة الحجم إلى درجة أنها لو نامت رضي الله عنها لا يجد مكاناً يسجد فيه صلوات الله وسلامه عليه، ولكنها وإن كانت ضيقة فهي واسعةٌ بما فيها من الإيمان والحكمة ونور القرآن، وبما فيها من خير النبي صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الآفاق صلوات الله وسلامه عليه.
قالوا: لو كان مرور المرأة يقطع الصلاة لامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على هذه الصورة.
وعند التأمل لهذه النصوص التي احتجّ بها جمهور العلماء رحمةُ الله عليهم فإننا نرى أن الدليل الذي دلّ على قطع الصلاة أرجح، وذلك لكونه نصاً في موضع النزاغ.
ثانياً: أن اعتراض أم المؤمنين عائشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو اعتراض الجزء، والقاعدة في الأصول أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، ولذلك لو حَلَفت وقلت: والله لا أدخل الدار، فأدخلت رجلاً ولم تدخل الأخرى لم تحنث؛ لأنه لا يَصْدُق عليك أنك قد دخلت إلا بالجرم كله، و(45/3)
التعوذ عند آية وعيد والسؤال عند آية رحمة في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وله التعوذ عند آية وعيدٍ والسؤال عند آية رحمة ولو في فرض].
قوله: [وله] أي: للمصلي، فلك إذا صليت نافلة أو فريضة وقرأت آية عذابٍ أن تسأل الله أن يُعيذَك منه، أو قرأت آية رحمةٍ أن تسأل الله من فضله.
والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في قيام الليل من حديث حذيفة أنه ما مر بآيةٍ فيها ذكر رحمةٍ إلا وقف وسأل الله من فضله، ولا مر بآيةٍ فيها ذكر عذابٍ إلا استعاذ بالله عز وجل.
قالوا: فهذا يدل على مشروعية أن يسأل المكلف ربه من فضله إن مرّ بالرحمة، ويستعيذ به إن مر بالعذاب، ولا فرق عند القائلين بهذا القول بين الفرض والنفل.
والصحيح أنه يُفَرَّق في السؤال بين الفرض والنفل كما ذهب إليه الجمهور؛ فإنه -كما في الحديث الصحيح- لما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، قال الراوي: (فأُمِرنا بالسكوت ونُهِينا عن الكلام)، فدل على أن الأصل في المصلي أن يسكت، وقال عليه الصلاة والسلام في الإمام: (إذا قرأ فأنصتوا)، فالأصل عدم الكلام، فلما ثبتت السنة بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، ولم يثبت حديث صحيح واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل هذا في الفرض؛ إذ لا يُعقَل أنه يصلي بأصحابه صلوات الله وسلامه عليه هذا الردح من الزمان الطويل ولا يثبت عنه في فرضٍ واحدٍ أنه فعل ذلك، فحينئذٍ نقول: يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض، فيُشرع فعل ذلك في النفل دون الفرض، وهذا هو أعدل الأقوال وأقربها إلى السنة، فعلى المصلي إذا كان وراء الإمام أن ينصت ويمتنع عن الحديث، ويختص حكم هذه المسألة بالنفل دون الفرض.
ولذلك قال المصنف: [ولو في فرضٍ]، وكلمة (لو): تشير إلى الخلاف، ومعنى ذلك أن هناك من يقول بتخصيصه بالنفل دون الفرض، وهو مذهب الجمهور، وهو أقرب الأقوال وأعدلها، ولذلك ينبغي الاقتصار عليه في النوافل دون غيرها، أعني: الفرائض.(45/4)
الأسئلة(45/5)
حكم السترة في الحرم المكي
السؤال
ما حكم السترة في الحرم المكي؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: السترة في الحرم المكي وغيره حكمها واحد، وذلك لثبوت السنة على سبيل العموم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن الحرم، والقاعدة في الأصول أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يُخصِّصه.
ولم يثبُت حديثٌ صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في استثناء مكة، فبقِيَت على الأصل.
لكن قالوا: إن اقترب من المطاف وآذاه الطائف وتعذر عليه منعه فإن هذا يُوسَّع فيه، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (يا بني عبد مناف: إن وليتم هذا الأمر فلا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار) قالوا: فكأنه يمنع.
هناك وجه ألطف من هذا الوجه في استثناء الطائف، قالوا: لأن الطائف في صلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت صلاة).
فمروره أصلاً هو من الصلاة، فهذا التوجيه من أدق ما قيل في هذه المسألة، فالطائف عند مروره استثني وأما غيره فيبقى، ولذلك استثناؤه على هذا الوجه لا حرج فيه.
والدليل الذي يدل على أن مكة وغيرها على حدٍ سواء حديثُ أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه الثابت في الصحيحين أنه قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبةٍ حمراء من أدم -لأنه نزل بالمحصِّب بجوار الحجون بعد أن أتم ليالي منى فبات بها وتأخر ولم يتعجل عليه الصلاة والسلام- قال: ثم رُكِزت له عنزة.
وركز العنزة إنما يُقصَد به أن تكون سترةً له عليه الصلاة والسلام، فدلّ على أن مكة وغيرها على حدٍ سواء، خاصةً على القول الذي يقول: إن حرم مكة كله آخذٌ حكم مضاعفة الصلاة، وهو قولٌ من القوة بمكان، ولذلك يقوى أن يكون حرم مكة كله يمتنع فيه المرور بين يدي المصلي، والله تعالى أعلم.(45/6)
منع الأطفال من المرور بين يدي المصلي
السؤال
عند الصلاة إلى سترة هل يمنع الأطفال من المرور بين يدي المصلي وكيف؟
الجواب
يمنع الطفل من المرور بين يدي المصلي، وإن كانت الصلاة نافلة وأزعج المرأة طفلها فإن لها أن تنحني وتتناوله وترفعه حتى لا يمر، وهذا من أرفق ما يكون إذا كان مما يصعب رده؛ لأن الانحناء في النافلة أوسع منه في الفرض، وقال بعض العلماء بجوازه في الفرض لحديث أمامة بنت أبي العاص رضي الله عنه، قالوا: إنه حَمَلَهَا النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن حديث أمامة فيه إشكال؛ لأن حديث أمامة لم ينتقل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالانحناء، وإنما كان يرفعها وإذا سجد وضعها ثم حَمَلها عند رفعه، فما كان ينتقل بالانحناء؛ لأنه في الفرض لو انحنى انتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع، ولربما اضطر إلى الجلوس، فلما كان النفل يجوز لك أن تجلس فيه مع القدرة على القيام وُسِّع في حملها في النفل دون الفرض، والله تعالى أعلم.(45/7)
حكم المرور بين يدي المأمومين لغير حاجة.
السؤال
إذا مر الرجل بين المأمومين لغير حاجة، فهل ينبغي له هذا، وهل عليه حرج؟
الجواب
لا يُمَر بين يدي المأمومين إلا من حاجة، أما إذا لم توجد الحاجة فلا، وأذكر من أهل العلم رحمة الله عليهم من مشايخنا من يقول: يُشرَع دفعه إذا مر للتشويش والأذية؛ لأنه ينشغل الواحد بدفعه لمصلحة الكل، فيجوز أن تُرتَكب المفسدة الدنيا لجلب المصلحة العليا، فلذلك قالوا: يُشرع أن تدفعه فتنشغل وحدك تحصيلاً لمصلحة الكل، ومنع بعض العلماء من دفعه، وقالوا لأنه إذا اندفع انشغل وهو مكلَّف بمصلحته والعذر متعلقٌ بمصلحة الغير، فلا يسوغ؛ لأنه لا إيثار في القُرَب.(45/8)
المقصود بالكلب الذي ورد أنه يقطع الصلاة
السؤال
قول المصنف رحمه الله: (بمرور كلبٍ أسود) هل المراد به هذا الكلبٌ المعهود، أم أنه يطلق على السباع وغيرها؟
الجواب
يختص بالكلب المعروف، أما السباع كالأسد والنمر ونحوه فلا يدخل في هذا، وأما في الصيد فإنه يدخل فيه لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، فوصف الجارحة مع الكَلَب يدل على أنه يجوز أن تُعَلِّم أسداً الصيد وتصيد به، وهكذا لو علمت نمراً أو غيره من السباع العادية؛ لأنه يصدق فيه وصف الجارحة والكلب لكن (ال) في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب) عهدية، فيشمل كلب البادية وكلب الحاضرة.
والكلاب التي تكون في البادية للصيد معروفة، وهي صغيرة الحجم، فهذا الذي يقطع الصلاة، فنقول بالعموم في جنس الكلاب، بخلاف الكَلَب فهناك فرق بين الكَلْب والكَلَب، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تسمية الأسد في قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم سلِّط عليه كلباً من كلابِك) حين دعا على عتبة بن أبي لهب، ثم لما خرج في تجارته إلى الشام قال: إني أخاف دعوة محمد.
فكان إذا نام ينام بين أصحابه، فلما كان على تخوم الشام جاء الأسد وافترسه من بين أصحابه.
فأخذ العلماء من قوله صلى الله عليه وسلم (.
كلباً من كلابك) أنه وصف الأسد بكونه كلباً، فدل على أنه في عرف الشرع قد يُطلق الكلْب ويراد به الأسد أو كل جارح؛ لأنه مأخوذ من الكَلَبِ، وهذا كما نبّه عليه ابن منظور رحمة الله عليه في (لسان العرب) فالصيد يكون بأي نوع من الحيوانات المفترسة من السباع، وقد كان عَدِي يصيد بالسباع على اختلافٍ بالكلاب وغير الكلاب، وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقال: إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب والبزاة فما يحل لنا منها؟ والباز هو الصقر.
فأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم ينكر عليه.
فنقول: بعض العلماء يقول: اسم الكلب عام كما جاء في الصيد، ونقول: الصيد شيء، والكلْب في الصلاة شيءٌ آخر؛ لأنه في الصلاة أمر تعبدي، وفي الصيد من جانب الكلب والقوة، والمقصود تحصيل الرفق بالناس في الصيد.
فجاز في الصيد على سبيل العموم رفقاً بالناس، ولذلك يقال هنا بخصوصه في الكلب المعهود دون غيره، والله تعالى أعلم.(45/9)
حكم دعاء القنوت
السؤال
هل دعاء القنوت خاصٌ بالفريضة دون النافلة؟
الجواب
نعم.
القنوت قنوتان: قنوت فرض، وقنوت نفل.
فقنوت الفرض مثل الدعاء في النوازل، فالدعاء في النوازل يُقتصر فيه على الوارد مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك)، وكذلك قوله: (اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق)، ثم بعد أن تنتهي من هذا التمجيد الوارد في هذين الخبرين تدعو على من ظَلَم من الكفار، وتدعو بالنصرة للمسلمين، وتقتصر على ذلك لا تزيد، فلو دعا بالاستسقاء كان بدعة، ولو دعا بنجاح الطلاب في الاختبار كان بدعة، وهذا مما يحدث الآن، فبعضهم يدعو بنجاح الطلاب في الاختبار، وبعضهم يدعو بعموم الأدعية، وهذا لا يجوز، فالصلاة لا يجوز فيها الكلام إلا بقدر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلُح فيها شيء من كلام الناس)، فما ورد في القنوت يُقتَصر عليه، ولذلك قال الإمام أحمد: إن زاد على الوارد حرفاً واحداً فاقطع صلاتك.
يعني أنه قد خرج عن كونه مصلياً.
ولذلك ينبغي على الإمام أن يحتاط لصلاة الناس فيدعو بالوارد، ويدعو بنصرة المؤمنين بجوامع الدعاء، مثل (اللهم انصر المستضعفين) ونحو ذلك من جوامع الدعاء، ولا داعي للإطالة والخروج عن المعهود والتكلُّف، فلذلك يقتصر على جوامع الدعاء، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم يدعو بالنصرة للمسلمين وهلاك على الكافرين، ثم يختم ويسجد.
أما بالنسبة لقنوت النافلة وهو قنوت الوتر فيدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الفضل، لا على سبيل الفرض، فلو دعا بغير هذا الدعاء جاز، ولو زاد على الوارد جاز، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الحسن، والحسن كان صغير السن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان الدعاء لازماً بالقيد لعلمه الصحابة، ولألزم الصحابة بهذا الدعاء في الوتر على سبيل الخصوص، ولأن الوتر رِفقٌ بالناس ليسأل المصلِّي فيه حاجته في ليله فوُسِّعَ على الناس أن يسألوا من حوائج الدنيا والآخرة ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم، والله تعالى أعلم.(45/10)
بيان الترتيب فيما يكون سترة للمصلي
السؤال
في الحديث: (فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطاً)، فهل هذا على الترتيب أم على التخيير؟
الجواب
قوله: (إن لم يجد) دليل على الترتيب، وهذا أصل، فإن وردت في الكتاب فهي على الترتيب، ففي كفارة اليمين قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89]، وفي قراءة ابن مسعود: (متتابعات)، فاشترط في جواز الصيام وإجزائه في كفارة اليمين أن لا تستطيع الإطعام أو الكسوة أو تحرير الرقبة.
وبعض العامة هداهم الله إذا حلف اليمين وحنث ينتقل مباشرة إلى الصوم، وهذا لا يُجزيه لإجماع العلماء على أن كفارة اليمين بالصيام شرطها عدم الوَجْد، أي: عدم القدرة.
وهكذا قالوا: لو أن إنساناً وجبت عليه الرقبة في الظهار، أو الجماع في نهار رمضان، أو في القتل فانتقل -وهو قادر على أن يشتري رقبة- إلى صيام شهرين متتابعين لم يُجزِه، فكأنه لم يَصُم ويصبح صومه نافلة؛ لأنه شرط مقيد بنص الشرع: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة:4]، {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [المجادلة:4]، فالذي لم يجد له حكم، والذي لم يستطع له حكم، أما أن ينتقل إلى درجة ما بعد الشرط و {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة:4]، مع القدرة والوَجْد فهذا خارجٌ عن الحد المعتبر.
فلما قال: (فإن لم يجد) دلّ على الترتيب لا على التخيير، ولذلك يُبتدأ بالشاخص ثم بالعصا ثم بعد ذلك بالخط كما ورد في الخبر على القول بثبوته، والله تعالى أعلم.(45/11)
شرح زاد المستقنع - فصل: أركان الصلاة [1]
للصلاة أركان دلت عليها الأدلة من الكتاب والسنة، ومن تركها عمداً بطلت صلاته، ومن تركها سهواً فإن أمكنه أن يعود عاد وأداها، وإن لم يمكنه فإنه يقضي الركعة كاملة، وهي: القيام، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والاعتدال عن الركوع، والسجود على الأعضاء السبعة، والاعتدال عن السجود، والجلوس بين السجدتين وغيرها.(46/1)
أركان الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصلٌ أركانها].
ركن الشيء: دعامته وعمدته التي يقوم عليها، وقد دلت النصوص الصحيحة الصريحة في الكتاب والسنة على أركان الصلاة، وهذه الأركان من تركها عامداً بطلت صلاته، ومن تركها ساهياً فإن أمكنه أن يعود إليها عاد وجبرها، وإن لم يمكنه العود إليها فإنه يقضي الركعة كاملة.
فمن ترك قراءة الفاتحة عامداً وهو يرى رُكنيتها بطلت صلاته، ولو في ركعةٍ واحدة، ومن تركها ساهياً، كما لو صليتَ فابتدأت الصلاة مباشرة، وقرأت دعاء الاستفتاح، ثم سهوت فقرأت: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1]، فابتدأت بالسورة قبل أن تبدأ بالفاتحة، فلما كنت في أثنائها تنبهت أو ذكّرك من وراءك إن كنت إماماً، فإنك ترجع وتقرأ الفاتحة وتتدارك الركن؛ لأنه يمكن التدارك حيث لم تدخل في ركنٍ بعدي، أما إذا كان لا يمكن التدارك كأن تكون دخلت في الركعة الثانية فتذكَّرت أنك في الركعة الأولى لم تركع أو لم تسجد، وقمت إلى الركعة الثانية فإنه حينئذٍ يلزمك قضاء الركعة الأولى، على تفصيل في كونك تلغي الركعة وتلفِّق، أو تبني الصلاة وتعيد الركعة من موضعها؟(46/2)
الأدلة من السنة على أركان الصلاة
الأركان هي أهم شيءٍ في الصلاة، والأصل فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً ذات يومٍ مع أصحابه في المسجد، فدخل رجلٌ فصلَّى واستعجل في صلاته، فلم يحسن ركوعه ولا سجوده ولا جلوسه، فلما فرَغ من الصلاة قَدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ مع أصحابه، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصلّ)، فرجع الرجل وصلى كحاله أولاً، ثم أتاه فسلم فرد عليه، فقال: (ارجع فصلّ؛ فإنك لم تصلّ)، فلما كانت الثالثة قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها).
فهذا الحديث بيّن النبي صلى الله عليه وسلم فيه الأركان التي لا تصح الصلاة إلا بها، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنك لم تصلّ)، فيكون بيانه هنا بياناً للأركان، ولذلك ذكر غير واحدٍ من أهل العلم رحمةُ الله عليهم أن حديث أبي هريرة هذا الذي يسميه العلماء: (حديثُ المسيء صلاته) قد جمع التنبيه على أركان الصلاة، فلذلك اعتنى علماء الإسلام رحمهم الله بهذه الكلمة، وهي مصطلح الأركان والواجبات والسنن.
وهذه المصطلحات ليست ببدع كما يظن بعض من ليس عنده إلمام بالعلم وضبطه، فيظن أن هذه أمور محدثة، فيقول: من أين جاءنا الركن أو الواجب أو السنة؟ فإنا نظرنا في الشرع فوجدناه تارةً يقول: إذا فات هذا الشيء بطلت الصلاة، أو: يجب قضاء الركعة، ووجدناه تارةً يبين أن الشيء الذي فات يمكن جبره بالسجود، ووجدناه يُرخِّص في ترك شيءٍ، فعلمنا أن أعمال الصلاة ثلاثة أشياء: شيءٌ تبطل الصلاة بعدم وجوده، وشيءٌ يمكن جبره بالسجود، وشيءٌ يُتسامح فيه فلو تركه الإنسان ولو متعمداً صحت صلاته.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى ركعتين ثم سلمّ -كما في قصة ذي اليدين- فقال له ذو اليدين: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: كل ذلك لم يكن.
فقال: بلى.
قد كان بعض ذلك.
فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم.
فرجع فصلى ركعتين)؛ وكان قد قام من مصلاه كما في الصحيح، قال الراوي: وأنبئت أن عمران قال: ثم سجد سجدتين وسلم.
فدل هذا على أن الأركان لا تُجبر إلا بالفعل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر السهو موجباً لإسقاط الركن، بل تعتبر الركعة بمثابة الركن في الصلاة الجامع للأركان، فهي أصل في الصلاة، فكما أن الظهر قائمة على أربع ركعات كذلك كل ركعة قائمةً على أركانها.
ثم وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم تفوته أشياء من أفعال الصلاة ويجبرها بالسجود، فقد صلى عليه الصلاة والسلام إحدى صلاتي العشي، فسجد السجدة الثانية من الركعة الثانية ولم يجلس للتشهد، بل استوى واعتدل قائماً، فلما كبر سبح له الصحابة ليعود إلى جلسة التشهد، فأشار إليهم بيديه من وراء ظهره أن: قوموا.
أي: إني لستُ براجعٍ وقد لَزِمَكم الركن البعدي الذي هو القيام للركعة الثالثة، فقام الصحابة، فأتم بهم الركعتين ثم سجد سجدتين قبل أن يُسلِّم، فهنا فات شيء من أفعال الصلاة، ولكنه اعتبره مجبوراً بالسهو، فعلمنا أن مرتبة هذه الأفعال دون مرتبة الأفعال التي قبلها.
وكذلك أيضاً وجدناه عليه الصلاة والسلام يرى بعض الأقوال في الصلاة لازمة.
وبعضها غير لازمة، فقال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، فلم يعتد بالصلاة ولم يعتبرها عند عدم وجود الفاتحة، ووجدناه يسامح في ترك دعاء الاستفتاح، فقد قال له أبو هريرة: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي).
فقد ثبت قطعاً أن الصحابة لم يعلموا ما الذي يقول، فلو كان هذا الدعاء حتماً كالفاتحة لألزَمهم به وعلّمهم إياه، فدل على أن هناك أموراً تلزم في الصلاة وأموراً لا تلزم، ولذلك قلنا: إن مثل هذا سنة.
فأصبحت القسمة عندنا بتتبع واستقراء الشرع تنقسم إلى هذه الثلاثة الأقسام، فوجدنا ما هو ركنٌ وما هو واجبٌ وما هو سنةٌ.
فلو قال قائلٌ: إن هذا بدعة نقول: إن الأسماء في ظاهرها بدعة -أي: لا نعرفها في القديم- ولكنها في الحقيقة موجودةٌ في حكم الشرع، ولا مشاحةً في الاصطلاح أن تسمي الشيء بأي اسم ما دام أن الشرع قد ترك لك التسمية والحكم موجود.
فإنك لو قلتَ: جميع أقوال الصلاة وجميع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لازم لتناقضت النصوص، ولو قلتَ: إن جميع ما قاله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الصلاة ليس بلازم لتناقضت النصوص.
فإذاً لا بد من التفريق بين اللازم وغير اللازم، وذلك هو مصطلح العلماء بالأركان والواجبات والسنن.
وقوله: [فصلٌ] يبين دقته رحمه الله تعالى، حيث ذكر صفة الصلاة كاملة، ثم جاء يبين ما الذي يَلزَم وما الذي لا يَلزَم، ثم الذي يَلزَم منه ما هو ركنٌ تتوقف الصلاة عليه، ومنها ما ليس بركنٍ وهو الواجب الذي لا تتوقف صحة الصلاة عليه، بحيث لو تركه الإنسان سهواً أمكنه أن يجبره بسجود السهو.
فابتدأ رحمه الله بالأركان، اعتناءً بالأهم، وهذا من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى؛ لأن أهم ما في الصلاة أركانها، ولذلك ابتدأ، فقال: [أركانها].
والضمير عائدٌ إلى الصلاة.(46/3)
الركن الأول: القيام
قال رحمه الله تعالى: [أركانها: القيام].
القيام ضد القعود، يقال: قَام إذا انْتَصَب عوده، أي: استَتَم.
وقوله: [القيام]، أي: أول ركنٌ من أركان الصلاة القيام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]، وقال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر).
هذه النصوص دلت على وجوب القيام ولزومه على سبيل الركنية والفرض، ولذلك ذهب إلى هذا الحكم جماهير أهل العلم رحمةُ الله عليهم، لكنهم قالوا: الصلاة لا تخلو من حالتين: إما أن تكون فريضة أو نافلة، فإن كانت فريضةً وصلى جالساً مع القدرة على القيام بطلت صلاته؛ لأنه لم يُصلِّ كما أمره الله بالقيام، لكن لو كان في نفلٍ صحَّ له أن يصلي جالساً لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)، وهذا إنما هو في النفل.
والظاهرية حملوا قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) على الفريضة بالنسبة للمعذور، وقولهم مردود؛ لأننا لو حملنا هذا الحديث على الفريضة بالنسبة للمعذور لردت نصوص الشريعة التي تدل على أن كل مريضٍ ومعذورٍ أجره كامل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)، فحينئذٍ بتناقض النصوص، فدلّ هذا الحديث على صرف عموم الحديث الذي معنا عن ظاهره، وأن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) النافلة دون الفريضة، ووجدنا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في السفر يُصلِّي على دابته غير المكتوبة.
ومن هنا قلنا: إنه يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض، بدليل أنه في السفر يصلي على الدابة حيثما توجهت، وهذا في النافلة دون الفريضة.
وعليه فيلزمك القيام لصحة الصلاة المفروضة، لكن بشرط أن توجد القدرة، وذلك لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فالعاجز عن القيام معذور.
وقد أثبت المصنف أن القيام مع القدرة ركن.
وأما ضابط القيام فقالوا: الضابط في القيام أن لا تصل كفَّاك إلى ركبتيك، فلو انحنيت بحيث تصل الكفان إلى الركبتين فقد خرجت عن كونك قائماً إلى كونك راكعاً ومنحنياً.
ويتفرع على هذا مسائل: المسألة الأولى: لو أن إنساناً يكون جالساً فيكبر الإمام تكبيرة الإحرام، فيقوم فيستعجل فيكبر تكبيرة الإحرام قبل أن يستتم قيامه، فلا تنعقد تكبيرة الإحرام؛ لأن من شروط انعقادها أن يكون قائماً كما أمر الله عز وجل، فإذا كان أثناء قيامه وانتصابه رفع يديه وكبّر ولم يستتم، بحيث أمكن لليدين أن تنال الركبتين، وهو الانحناء المؤثِّر، فهذا لا يُعتد بتكبيره؛ لأن هذا الركن -وهو تكبيرة الإحرام- يُشترط فيه أن يكون في حال القيام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر).
فدل على أن القيام يسبق التكبير، ومن فعل هذا الفعل فقد سبق تكبيره القيام، فلم يصلِّ كما أمره الله.
المسألة الثانية: المعذور الذي لا يستطيع القيام يصلي قاعداً، وهيئة القعود تختلف، فبعض الأحيان لا يستطيع أن يصلي قاعداً إلا على علو ونَشَز، كأن يجلس على دكةً أو سرير أو كرسي، فهذا الجلوس ينبغي أن يُفَصَّل فيه، فإن كان قادراً على القيام في تكبيرة الإحرام، فلا يأتي ويجلس مباشرة ويكبر، وإنما يكبر قائماً؛ لأنه بإمكانه أن يكبر في حال القيام، ثم يجلس إذا كان يشق عليه أن يقوم، وإن كان يمتنع أو يصعب عليه أن يقوم، كالحال في المشلول، فإنه يكبر وهو جالس، أما إذا كان يمكنه أن يقف فإنه يقف ويجعل الكرسي وراءه ولا حرج، فإن أدركته المشقة رجع فجلس، كما هي القاعدة في الفقه أن الضرورة تقدر بقدرها، ويتفرع عنها أن ما أبيح للحاجة يُقَدَّر بقدْرِها.
فلما كانت ضرورته أن القيام يشق عليه نقول: كبِّر قائماً ثم اجلس.
لكن لما كانت الضرورة أن يتعذر عليه القيام قلنا: كبِّر جالساً ولا حرج.
فهذا له قدره وهذا له قدره، فيُنَبَّه الناس؛ لأنك قد ترى الرجل يكبر وهو جالس مع أنه يستطيع أن يقف، وقد يقف ويتناول الكرسي ويخرج به وهو حاملٌ له، فمثل هذا لا يُرَخَّص له أن يؤدي الركن وهو تكبيرة الإحرام في حال قعوده، فهذا يُنَبَّه عليه، فإن تعذر عليه القيام قلنا: يجلس.
وهذا الجلوس جلوسان: جلوس على هيئة شرعيةٍ، وجلوس على غير الهيئة الشرعية.
فجلوس الهيئة الشرعية كأن يجلس الإنسان متربعاً أو مفترشاً أو متورِّكاً، ووجه كونها شرعية أنها جلسة اعتبرها الشرع للتشهد وللجلسة بين السجدتين، فإذا كان جلوسه على هذه الهيئة فحينئذٍ لا إشكال عليه لو جلس بهذه الصفة.
لكن الإشكال إذا جلس الجلسة الثانية، وهي غير الهيئة الشرعية، كأن يجلس على سريرٍ أو كرسي، فإنه بجلوسه على السرير والكرسي في حال القيام يُعذَر، لكن عند التشهد لا يكون ملاصقاً للأرض، ومقصود الشرع أنك عند التشهد أو بين السجدتين تكون قريباً من الأرض، فحينئذٍ يكون ارتفاعه على الأرض خلاف ما ورد في الشرع من كونه ملتصقاً بالأرض.
قال العلماء: إن تَعذَّر عليه أن يجلس انتقل بالانفصال هذا لكونه متصلاً بالأرض عن طريق الكرسي، فكان في حكم الجالس، وأبيح له أن يصلي على هذه الهيئة، أما لو كان بإمكانه أن ينزل ويجلس جلسة المفترش، أو جلسة المتربِّع فإنه يلزمه ذلك ولا يجلس على كرسيّ ونَشَز؛ لأنه يفوِّت صفة الصلاة.
وفي جلوسه متربعاً أو مفترشاً وجهان للعلماء، وأشار إلى ذلك الطبري وابن المنذر في الأوسط.
فقال بعض العلماء -وهو مأثور عن بعض الصحابة-: يجلس جلسة التشهد.
وهذا أقوى، وذلك لأنها هيئة أقرب لهيئة الصلاة.
وقال بعضهم: يجلس متربعاً لأنه أَرفق.
وهذا مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
والأمر واسع فإن كان الأرفق له أن يجلس متربعاً جلس، وإن كان على جلسة المتشهد جلس، لكن ينبغي أن يُنَبَّه على إعانته على السجود؛ فإن جلوسه كجلسة المتشهد أبلغ في إعانته على السجود من هيئته إذا كان على هيئة المتربِّع؛ لأنه عند التربع يحتاج إلى كلفة حتى يتمكن من السجود.
ودليلنا على الترخيص أن يصلي جالساً ما ثبت في حديث عمران رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان عمران مبتلى بالبواسير، فشكى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فوسَّع النبي صلى الله عليه وسلم للمعذور؛ لأن من به بواسير فإنه يشق عليه في هيئات الصلاة أن يقوم، ولربما أضرَّه القيام، ولذلك رخَّص له صلوات الله وسلامه عليه، فدلّ على التوسعة في حال وجود العذر، وأنه عند وجود الرُّخصة والعذر لا حرج، وقد قال تعالى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]:.(46/4)
الركن الثاني: تكبيرة الإحرام
قال رحمه الله تعالى: [والتحريمة].
المراد بالتحريمة تكبيرة الإحرام، فالركن الأول: القيام مع القدرة، والركن الثاني: تكبيرة الإحرام.
فبعض العلماء يختصر ويقول: التحريمة.
ومراده تكبيرة الإحرام.
ووُصِفت بكونها تحريمه أو تكبيرة إحرام لأن المكلف إذا جاء بها دخل في حُرُمات الصلاة، ولا يمكن أن يُحكم بكونه مصلياً إلا بعد إتيانه بها.
والتكبير للدخول في الصلاة يُعتَبر ركناً من أركان الصلاة، والدليل على ركنيته قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيحين للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، فأمره بالتكبير.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر تكبيرة الإحرام في أكثر من ستين حديثاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك بلغ مبلغ التواتر.
وأما إلزام المكلف بها بحيث لو لم يأت بها لم تصح صلاته فلقوله عليه الصلاة والسلام: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)، فقوله في هذا الحديث: (تحريمها التكبير)، أي أن دخول المكلف في حرمات الصلاة يتوقف على شيءٍ وهو تكبيرة الإحرام.
فإن وُجِد هذا الشيء حكمت بكونه مصلياً وقد دخل في الحرمات، وإن لم يوجد حكمت بكونه غير مصلٍ، ولذلك قالوا: هي ركن من أركان الصلاة.
وتكبيرة الإحرام للعلماء -رحمهم الله- فيها ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تكبيرة الإحرام لا تنعقد إلا بلفظ: (الله أكبر) بخصوصه، كما هو مسلك المالكية والحنابلة من حيث الجملة.
الوجه الثاني: يصح للمكلف أن يقول: (الله أكبر) وما اشتُق من هذا اللفظ، كأن تقول: (الله كبير)، وتنعقد تحريمته، وهو قول الشافعية.
الوجه الثالث: يصح للمكلف أن يدخل في الصلاة بكل لفظ دال على التعظيم، فإن قال: (الله العظيم) أو (الله الجليل) صح ذلك وأجزأه واعتبر داخلاً في حرمات الصلاة، وهو قول الحنفية.
والصحيح أنه لا بد من قول المكلف: (الله أكبر)، وأنه لو غيَّر في هذه الصيغة ولو بالذكر العام فإنها لا تنعقد تحريمته ولا يعتبر داخلاً في حرمات الصلاة.
فإن كان القيام ركناً فلا تصح تكبيرة الإحرام إلا بعد أن يستتم المكلف قائماً، وإن كان القيام موسعاً فيه كصلاة النافلة فيصح أن يكبر وهو جالسٌ تكبيرة الإحرام، ويصح أن يكبر أثناء قيامه، ويصح أن يكبر بعد أن يستتم قائماً.
وبناءً على هذا فإن من الأخطاء التي يفعلها بعض الناس في الصلاة المفروضة أن تُقَام الصلاة فيستعجل الشخص في القيام، فقبل أن يستتم قائماً يكون قد كبَّر.
فلا ينعقد تكبيره إلا بعد ثبوت القيام، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، فجعل التكبير مرتباً على القيام، ولذلك لا بد من سبق القيام للتكبير، ولا يصح أن يُكبِّر قبل أن يستتم قائماً، فتلازم القيام والتكبير.(46/5)
الركن الثالث: قراءة سورة الفاتحة
قال رحمه الله تعالى: [والفاتحة].
هذا هو الركن الثالث، أي: قراءة سورة الفاتحة.
وهذا الركن دليل لزومه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج) أي: ناقصة.
وهذان الحديثان صحيحان ثابتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن صلَّى ولم يقرأ الفاتحة فإن صلاته لا تصح.
وفي قراءة الفاتحة مسائل: المسألة الأولى: أن قراءة الفاتحة لازمة، وأنها ركن من أركان الصلاة لظاهر السنة.
وهذا الركن يجب في الصلاة في كل ركعة، ولا يختص بجزء منها؛ لأن العلماء اختلفوا، فمنهم من يقول: من قرأ الفاتحة في ركعة صحت صلاته، ولو تركها في بقية الركعات.
وقال الإمام مالك رحمه الله -في إحدى الروايات عنه-: لو ترك الفاتحة في ركعة من رباعية صحت صلاته.
والصحيح أنه لا بد من قراءتها في كل ركعة، وذلك لدليلين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، الثاني: قوله تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل ... ) الحديث، فذكر القراءة وهي واقعة في الركعة، فصح أن يصدق على الركعة أنها صلاة، وأن جزء الصلاة الذي هو الركعة يُعتبر صلاةً، لأن الذين قالوا: يجوز أن تقرأ الفاتحة في ركعة وتجزيك، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صلاة لا يقرأ فيها)، وأنت قد قرأت.
فيقولون: يصح أن تقرأها في ركعة، ويصح أن تقرأها في ركعتين، وتقتصر على هذا.
والصحيح أنه لا بد من قراءتها في كل ركعة، ويقوي هذا حديث المسيء صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره بالقيام والقراءة في الركعة الأولى ووصفها قال له بعد القراءة: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع) ثم ذكر السجود، ثم قال له بعد السجدة الثانية: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)، فدل على أن هذا الموصوف الذي ذكره وألزم فيه بالقراءة في الأولى أنه يسري حكمه إلى غيره كما هو ثابت فيه، وبناءً على ذلك يُلزَم المكلَّف بقراءة الفاتحة في كل ركعة.
وكان بعض العلماء يقول: إن الأخريين من صلاة الظهر لا يُقرأ فيهما، والصحيح أنه يُقرأ، وكانوا يقولون: إنه يرخص للمكلف أن يترك الفاتحة فيهما، واحتجوا بما أُثر عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما رخصا في ترك الفاتحة، كما روى ذلك مالك عن عمر في الموطأ.
والصحيح أن الحجة في السنة، ويعتذر لـ عمر -إن ثبت عنه، وإن كان الأثر عنه غريباً- بأنه لم يبلغه الحديث، والصحيح ما ذكرناه لظاهر السنة، وهو الذي يجب على المكلف التزامه في كل ركعة.
المسألة الثانية: قراءة الفاتحة للمنفرد والإمام والمأموم: أما المنفرد والإمام فنلزمهما قراءة الفاتحة وجهاً واحداً.
وأما المأموم فللعلماء فيه أقوال: فبعض أهل العلم رحمة الله عليهم يرون أن المأموم يَحْمِل الإمام عنه قراءة الفاتحة، فمذهب الحنفية وإحدى الروايات عن الإمام مالك أنه إذا قرأ الإمام -خاصة في الجهرية- سقط عن المأموم قراءة الفاتحة، ولزمه الإنصات والاستماع.
والصحيح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة ووافقهم الظاهرية وبعض أهل الحديث أنه يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة وراء إمامه، وذلك لأمور: أولها: أن الحديث الذي دل على وجوب الفاتحة ولزومها عام شامل لحال المنفرد والمأموم، ولا مخصص له.
ثانيها: أنه ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بالناس الفجر فارتج عليه، فقال: (إنكم تقرءون خلف إمامكم! قالوا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فإن هذا نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن المأموم ملزم بالقراءة وراء الإمام، فإن قوله: (إلا بفاتحة الكتاب) استثناء، والقاعدة في الأصول أن الاستثناء إخراجٌ لبعض ما يتناوله اللفظ، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب، وقال: (فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، أي: بفاتحة الكتاب افعلوا.
فألزم النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها وراء الإمام، فدل على أن المأموم وراء الإمام يلزمه أن يقرأ الفاتحة.
وأما من قال بعدم لزومها فاحتج بحديث جابر: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، وهذا الحديث ضعفه جماهير أهل الحديث، والضعف فيه من القوة بمكان، وقد نبه على ذلك الحافظ ابن حجر وغيره، لكن هناك من أهل العلم من حسن الحديث، وحَسّن إسناده لشواهد.
فعلى القول بتحسين هذا الحديث قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) يدل على سقوط الفاتحة.
وهذا الحديث يُجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) المراد به قراءة الإمام التي يختارها بعد الفاتحة، ولذلك نسبها إليه، أي: لو أن الإمام قال: (ولا الضالين) وقلت: آمين، ثم قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، فلا تقرأها، فقراءة الإمام بـ (سبِّح) لك قراءة، فكأنك قد قرأتها.
فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: (فقراءة الإمام له قراءة) أي: فيما كان من غير الفاتحة، وهذا هو الذي ورد فيه الحديث.
الوجه الثاني: أن من قال: إن هذا الحديث متأخر عن حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).
يجاب عنه بأنه ليس هناك دليل صحيح يدل على تأخر هذا عن تاريخ الذي قبله، وقد تقرر في الأصول أن ادعاء النسخ ليس بحجة؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فلو قال أحد: إن هذا الحديث متأخر عن الذي قبله لا يُقبل قوله حتى يأتي بالدليل على تأخره، وأنه قد وقع بعده لكي يكون ناسخاً.
ولذلك فالأحاديث التي تدل على وجوب قراءة الفاتحة على العموم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وكذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) كلها نصوص صحيحة تدل على أنك إذا كنت وراء الإمام فإن قراءة الفاتحة تلزمك.
وهذه الركنية شاملة للمنفرد وللإمام وللمأموم، ويستوي في هذا أن تكون الصلاة جهرية أو سرية، فأما الجهرية فقراءة الفاتحة بالنسبة لك ركن، واستماعك لقراءة الإمام لما بعد الفاتحة أعلى درجاته أنه واجب على القول بظاهر الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204]، فنقول: إنه قد تعارض الركن والواجب فيقدم الركن على الواجب.
ولو أن قائلاً قال: إن إثبات الركنية إنما هو بالاجتهاد.
فلو سُلِّم هذا جدلاً فإننا نقول: هب أنهما واجبان، واجب متصل وواجب منفصل، والقاعدة أنه إذا تعارض الواجب المتصل بعبادة المكلف مع الواجب المنفصل فإن الواجب المتصل الذي أُمِر به إلزاماً يقدم على ما انفصل عنه على سبيل المتابعة للإمام.
وقوله: [الفاتحة] يخالفه فيه بعض العلماء فيقول: قراءة الفاتحة.
وهذا أدق، فالتعبير بالقراءة إسقاط لما في السِّر، فلا يجزئ الإنسان أن يقفل فمه؛ لأن بعض الناس يكبر تكبيرة الإحرام ويقفل فمه فتجده كالصامت وهو يقرأ في داخل نفسه، فهذه القراءة لا تجزيه، ولا تصح منه حتى ينطق، وقالوا: يُسمِع نفسه.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ) والقراءة إنما تكون باللفظ، وأما ما كان في النفس فليس بقراءة ولا في حكم القراءة.
المسألة الثالثة: إذا ثبت أن المأموم مأمور بقراءة الفاتحة فإنه يستثنى من هذا إذا أدرك الإمام راكعاً، فإنه تسقط عنه الفاتحة لظاهر حديث أبي بكرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، وهذا نص، وبناءً على هذين الحديثين نقول: إن هذا استثناء لهذه الحالة بعينها، فمن أدرك الإمام راكعاً سقطت عنه الفاتحة؛ لأنه لم يُدرِك وقتاً يمكنه فيه القيام بركنها.
أما إذا أدركه قبل الركوع فحينئذ لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يدرك وقتاً يتسنى له أن يقرأ فيه الفاتحة فيقصِّر أو يشتغل بدعاء الاستفتاح، فحينئذٍ يلزمه قضاء الركعة إن لم يقرأ الفاتحة، لأنه كان بإمكانه أن يقرأ.
الضرب الثاني: أما لو أدرك وقتاً لا يمكن معه قراءة الفاتحة، فبمجرد أن كبَّر وقبض يديه وشرع في الفاتحة كبَّر الإمام للركوع، فتسقط عنه الفاتحة؛ لأنه لم يدرك وقتاً يُلزَم في مثله بالقراءة.
المسألة الرابعة: الأصل وجوب قراءة الفاتحة باللفظ، ويستثنى المريض الذي تكون في لسانه عاهة، ولا يمكنه التحريك، فإنه يجزيه أن يقرأ في نفسه؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن يقرأ إلا على هذا الوجه، فسقط عنه اللفظ وتحريك اللسان وبقي على الأصل.
وفي حكم هذا من كان في لسانه جراح بحيث يصعب عليه، أو يتألم عند تحريك اللسان، فإنه يجزيه لو أطبق الشفتين وقرأ في نفسه، وتصح منه القراءة ويعتد بها.(46/6)
الركن الرابع: الركوع
قال رحمه الله تعالى: [والركوع].
الركن الرابع الركوع، ودليل ركنيته قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، فقوله تعالى: (اركعوا) أمر، ودلت السنة على ثبوت ذلك ولزومه، كما قال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً)، فدل على لزوم الركوع، وأنه ركن في الصلاة، والركوع يتحقق بوصول اليد إلى الركبة، فإذا وصل الكف إلى الركبة فقد ركع.
وبناءً على ذلك لو انحنى فلم تصل الكف إلى ركبته فإنه لا يعتبر راكعاً ولا يجزيه ذلك، ولو انحنى فوصلت كفاه إلى ركبتيه ولكنه لم يهصر ظهره فإنه حينئذ يُجزيه الركوع وفاتته السنة؛ لأن السنة أن يهصر ظهره، كما جاء في حديث عائشة: (ثم هصر ظهره)، فإذا هصر الظهر واعتدل الظهر فهذه مرتبة الكمال، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن حصل منه قدر الإجزاء -وهو بلوغ الكفين إلى الركبتين- صح ركوعه، ولكن فاته الكمال، فإن وُجِد عذرٌ من مرض أو ضيق مكان كتب له أجر السنة كاملاً لوجود العذر.
فمن كان مريضاً على وجهٍ لا يتسنى له أن يركع، فحينئذٍ يُجزيه أن ينحني بالقدر الذي يصل إليه على حالةٍ لا يشق عليه فيها، أو لا يبلغ فيها بنفسه درجة المشقة، فإذا انحنى بهذا القدر من الانحناء الذي يستطيعه ويطيقه فقد أجزأه وانعقد ركوعه، ويستثنى من كمال الانحناء لانعقاد هذا الركن.
كذلك يستثنى من ركنية الركوع أن يكون الإنسان على دابته في السفر ويصلي النافلة، فإن الركوع يعتبر ركناً، بمعنى أنه يُطلب فعلُه، ولكنه ركن باعتبار، فينحني ويكون انحناؤه أقل من انحناء السجود، أما انحناء السجود فإنه يكون أبلغ، فينحني انحناءً بقدر، فإذا حصل هذا الانحناء صدق عليه أنه ركع وأجزأه وتحقق الركن من صلاته النافلة.(46/7)
الركن الخامس: الاعتدال من الركوع
قال رحمه الله تعالى: [والاعتدال عنه].
الركن الخامس الاعتدال عن الركوع، والاعتدال: هو الذي لا اعوجاج فيه.
فلما كان المكلَّف في حال الركوع ينحني ظهره، فإنه يخرج عن هذا الركن إلى الركن الذي بعده بوجود الاعتدال، والاعتدال: هو أن يستتم قائماً.
ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا رفع رأسه من الركوع اعتدل حتى يرجع كل فقار إلى موضعه)، والمراد بقوله: (كل فقار) أي: فقرات الظهر؛ لأن ظهر الإنسان فيه فقرات، فإذا انحنى تباعد ما بين الفقرات، لكنه إذا اعتدل كأنها رجعت إلى حالتها الطبيعية، وهذا الحديث يدل على هديه في الاعتدال.
أما كون الاعتدال ركناً فدليله قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع -أي: من الركوع- حتى تعتدل قائماً)، فإذا حصل الاعتدال قائماً أجزأه وتحقق الركن، لكنه لو رفع من الركوع وقبل أن يستتم قائماً انحنى ساجداً أو خرَّ ساجداً فإنه لا يُجزيه ولا يصح منه ذلك، وإذا لم يتداركه وجب عليه قضاء الركعة، فإن لم يقضها بطلت صلاته؛ لأنه لا بد من ركن الاعتدال، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده)، فلا بد من أن يستتم قائماً، فلو أنه قال: (سمع الله لمن حمده) ولم يستتم قائماً وبادر بالسجود فإنه حينئذ يُحكم بأنه لم يقم صلبه.
ويستثنى من هذا الذي لا يستطيع أن يستتم قائماً كالمريض، أو الشيخ الهرم إذا كان منحني الظهر، فإن ركوعه يكون بالقدر، ويكون رفعه من الركوع على القدر الذي يستطيع تحصيله في حال قيامه.(46/8)
الركن السادس: السجود على الأعضاء السبعة
قال رحمه الله تعالى: [والسجود على الأعضاء السبعة].
من أركان الصلاة أن تسجد على الأعضاء السبعة.
أما دليل ركنية السجود فقوله سبحانه وتعالى في آية الحج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، فإن قوله سبحانه وتعالى: (اسجدوا) أمر، والأمر يدل على اللزوم والوجوب.
وقال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً)، فدل على أن السجود ركن من أركان الصلاة.
ويتحقق السجود على الكمال في كونه على الأعضاء السبعة، وقد بيّنا ذلك، وبينا دليله من حديث ابن عباس الثابت في الصحيح: (أمرت أن أسجد على سبعة آراب)، أو: (على سبعة أعظم)، كما في الرواية الثانية.
فإذا سجد فكان سجوده على الأعضاء السبعة فإنه تم ركنه، وأجزأه بمماسة الأرض، ثم يبقى شرط الطمأنينة الذي يأتي ذكره.
ويُستثنى من هذا من كان مريضاً بحيث لا يمكنه الهوي للسجود ولا السجود، حتى ولو كان يخشى ضرراً بعضو أو نفس، كمن أجريت له عملية في عينه، فإنه قد يُمنع من السجود خشية ذهاب البصر، فأصح الأقوال -وهو قول جماهير السلف رحمة الله عليهم والعلماء- أنه يُرخص للإنسان إذا خاف على بصره بطب ونحوه أن يترك السجود.
وشدَّد في ذلك بعض السلف ومنهم ابن عباس، رضي الله عنهما، فقد قال العلماء عن ابن عباس إن سبب إصابته بالعمى أنه كان مريضاً في عينه، فنصحه الطبيب أن لا يسجد، فلم يرض ابن عباس بذلك وسجد فكُفّ بصره رضي الله عنه.
وإن كان الذي ذكره غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم أن ابن عباس ابتلِي بذهاب البصر لأنه قل أن يرى أحدٌ الملائكة إلا عمي بصره، وكان ابن عباس قد رأى الملائكة -كما جاء في الحديث الصحيح- لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبوه العباس، فلما دخل سلّم العباس فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه إذ كان مشغولاً بالوحي، وكان جبريل عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، فسلّم وكرر السلام فلم يرد عليه فانصرف العباس وفي نفسه شيء، وخاف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجِد عليه، فلما انصرف علم عبد الله من أبيه ما علم، فقال: يا أبتِ! إنه قد شغل بمن معه، وكان قد رأى جبريل، فلما قال ذلك رجع العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل رأيته يا عبد الله؟ قال: نعم.
قال: ذاك جبريل)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو كان معي بصري لأريتكم الغار الذي نزلت منه الملائكة يوم بدر) أي: يوم القتال، وقد ذكر عن بعض الصحابة ومن غير الصحابة أنهم رأوا الملائكة فكُفّت أبصارهم، فيقولون: إن هذه سنة كونية من الله عز وجل أنه لا يبقى له البصر لقوة ما رآه.
ولكن هذا قد يستثنى منه الأنبياء ونحوهم مما أُعطوا بإقدار الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل على حقيقته.
والمقصود أن هناك من العلماء من يقول: إن ابن عباس كان مذهبه أنه يشدد في ذلك، حتى إنه حين نهاه الطبيب خشية أن يكف البصر لم يرخص لنفسه.
ولهذا قال بعض العلماء: إن الخوف على العضو أو الخوف من الزيادة في المرض لا يرخِّص به في السجود.
والصحيح أنه يرخص به، فمن كان قد تعاطى علاجاً أو عملية جراحية في صلبه أو ظهره، وخُشِي أنه لو سجد يتضرر أو يذهب عضو من أعضائه فإنه يُرخَّص له في ترك السجود، ولا حرج عليه أن يسجد بالقدر الذي يصل إليه.
فإن صلّى على مرتفع أو نشز كالكرسي ونحوه فسجوده أخفض من ركوعه، بمعنى أن يكون انحناؤه أبلغ ما يكون في السجود، ويكون الركوع أرفع منه قليلاً، وهذا إذا كان على نشز، أما لو كان على الأرض كأن يجلس جلسة التشهد، فإن سجوده أن ينحني إلى القدر الذي يستطيع تحصيله دون ضرر، فإذا بلغ هذا القدر فإنه يُعتبر ساجداً، لكن ينبغي أن يُنبه على كيفية السجود، فبعض الناس يكون مريضاً ولا يستطيع السجود، فتجده إذا سجد وضع كفيه على فخذيه وانحنى، وهذا لا يصح، بل ينبغي أن ينزل الكفين إلى الأرض، لأنه مأمور بالسجود على السبعة الآراب (الأعضاء)، فكونه عاجزاً عن إيصال الجبهة أو الرأس إلى الأرض لا يُوجِب ذلك الترخيص بترك مماسة اليدين للأرض؛ لأن القاعدة أن الضرورة تقدر بقدرها، فضرورته أن لا يصل رأسه إلى الأرض، والزائد على الضرورة من كونه يترخص بسحب اليد ووضعها على الفخذ لا موجب له، فيبقى على الأصل الموجب لتحصيل السجود به.(46/9)
الركن السابع: الاعتدال من السجود
قال رحمه الله تعالى: [والاعتدال عنه].
أي: الاعتدال عن السجود، والمراد بذلك أن يحصِّل القَعْدة وذلك بالرفع من السجود، فإذا اعتدل من السجود حصل الركن، وهذا الاعتدال أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته فقال له: (ثم ارفع حتى تستوي جالساً)، فدل على ركنية هذا الرفع من السجود وأنه يُلزم به، وقد ذكره في موضعين: في السجدة الأولى وفي السجدة الثانية، فقال: (حتى تستوي جالساً)، وقال: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً)، فدل على ركنين: الركن الأول: الرفع من السجود أو الاعتدال عنه.
والركن الثاني: الجلسة بين السجدتين.(46/10)
الركن الثامن: الجلوس بين السجدتين
قال رحمه الله تعالى: [والجلوس بين السجدتين].
من دقة المصنف وتحرِّيه وفقهه جعل الاعتدال من السجود والجلوس بين السجدتين ركنين، وليس ركناً واحداً؛ لأن هناك فرقاً بين الجلوس بين السجدتين والاعتدال من السجود؛ لأن الاعتدال يقع بالجلوس ويقع أيضاً بعد الجلوس، كما لو سجد السجدة الثانية، فمن دقة المصنف أن قال: (الاعتدال عنه)، حتى يشمل ما بعد السجدة الثانية.
ويكون والجلوس بين السجدتين ركن منفصل؛ لأنه يختص بما بين السجدتين، فلو قال: [الاعتدال عنه] وسكت، فإنه لا يتضمن ذلك الجلسة بين السجدتين، ولو قال: [الجلوس بين السجدتين] وسكت، فإن هذا لا يشمل الرفع بعد السجدة الثانية، ومن هنا كان من فقهه رحمة الله عليه أن جعلهما ركنين، وهذا هو الصحيح، ولذلك تعقُّب بعض الشراح على المصنف رحمه الله ليس في محله، بل من دقته أن هذا ركن وهذا ركن؛ لأنك لو قلت: (الجلسة بين السجدتين) فحسب لم تنبه على ركن الرفع من السجدة الثانية، فإن الرفع من السجدة الثانية ليس فيه جلوس بين السجدتين كما هو معلوم، ولو قلت: (الرفع من السجود) فحسب فإن الرفع من السجود مطلق لا يستلزم جلوسك بين السجدتين؛ لأن من رفع ولم يجلس صدُق عليه أنه قد حصل الركن.
والجلوس بين السجدتين يتحقق بحصول الجلسة، والجلسة بين السجدتين تكون بالافتراش بأن يرفع الإنسان رأسه حتى يستوي جالساً وتحصل له طمأنينة الجالس، لكن لو أنه رفع من السجود وقبل أن يستوي جالساً كبّر للسجدة الثانية فإنه لا يجزيه، ولم يتحقق ركن الجلوس بين السجدتين، فيلزمه أن يرجع مرة ثانية ويستقر جالساً؛ لأنه قال: [والجلوس بين السجدتين] وهذا لم يجلس.
ويتحقق الجلوس بالتصاق الإلية بالعقب، أو إذا فرش رجله اليمنى للإليتين، فإذا حصل هذا فقد جلس، لكن لو أنه قبل أن يرجع وتصل الإلية إلى العقب قال: الله أكبر.
لم يصح ذلك ولم يُجزه، ويلزمه أن يعيد الجلوس بين السجدتين، وتُلغى السجدة الثانية التي سجدها، ويسجد لها سجود الزيادة.(46/11)
شرح زاد المستقنع - فصل: أركان الصلاة [2]
من أركان الصلاة: الطمأنينة في جميع أركان الصلاة وهيئاتها، والتشهد الأخير والجلوس له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، والترتيب بين أركان الصلاة، والتسليم، وبه يخرج المصلي من صلاته.(47/1)
تابع أركان الصلاة(47/2)
الركن التاسع: الطمأنينة في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والطمأنينة في الكل].
الطمأنينة: هي الوقت الكافي الذي يصدق به تحصيل الركن، ففي القيام لا إشكال أنه سيقرأ الفاتحة فيحصِّل الطمأنينة المعتبرة، فإن وقت قراءة الفاتحة قدرٌ للطمأنينة.
لكن بحث العلماء في الطمأنينة في الركوع والسجود والرفع من الركوع والرفع من السجود.
أولها: إذا ركع، لأنه في القيام سينشغل بالقراءة، فلو ركع فإن الواجب عليه تسبيحة واحدة، فإذا ركع ثم رفع مباشرة ولو قال: (سبحان ربي العظيم) اختطافاً فإنه حينئذ لا يُجزيه هذا الركوع؛ لأنه لم يطمئن، وهذا هو الذي وقع من المسيء صلاته، وهو الذي من أجله نبهه النبي صلى الله عليه وسلم على صفة الصلاة؛ لأن هذا الرجل -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - صلى ولم يحسن الصلاة، والمراد بعدم إحسانه الصلاة استعجاله فيها.
فالطمأنينة إذا ركع أن ينتهي إلى الركوع الكامل، فإذا انتهى إلى الركوع الكامل يقول: (سبحان ربي العظيم)، وقدر قوله: (سبحان ربي العظيم) يعتبر تحصيلاً للطمأنينة، فلو أنه خطف الكلام، أو أنه ركع ونسي أن يقول: (سبحان ربي العظيم) ورفع مباشرة، فإنه في هذه الحالة يبطل ركوعه، ويلزمه أن يعيده، فيقول: (الله أكبر)، راكعاً، ويقول: (سبحان ربي العظيم)، ويُحصِّل قدر الطمأنينة ثم يرفع، ويبقى ما بين الركنين من كونه ركع ورفع لاغياً؛ لأنه ركوع لم يَعتَد به الشرع، فيسجد له السجود البعدي المتعلق بالزيادة.(47/3)
الركن العاشر: التشهد الأخير
قال رحمه الله تعالى: [والتشهد الأخير].
التشهد تشهدان إذا كانت الصلاة رباعية أو ثلاثية، أما إذا كانت ثنائية، أو كانت وتراً فالتشهد واحد، فإذا قالوا: التشهد الأخير.
فالمراد به الذي يحصل بعده السلام.
وهذا التشهد يعتبر ركناً من أركان الصلاة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد الإنسان للتشهد.
فلو أن إنساناً سجد السجدة الثانية من الركعة الثانية ثم مباشرة سلَّم فإنه يُحكم ببطلان صلاته، فلا بد من التشهد.
والمراد بقوله: [التشهد] أي: اللفظ الذي هو ذكر التشهد، والأحاديث الواردة فيه وهي حديث ابن مسعود، وحديث عبد الله بن عمر، وحديث عبد الله بن عباس، وحديث عمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري رضي الله عن الجميع.
والركن في التشهد الأخير ينتهي عند قولك: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، فلو أن مصلِّياً قرأ (التحيات لله) حتى بلغ قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) واحتاج أن يقطع الصلاة فسلَّم صَحَّت صلاته؛ لأن الزائد ليس بركن، فما بعد التشهد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء ليس بركن على أصح أقوال العلماء.
وبناءً على ذلك لو وقف عند آخر جملة من التشهد -أي: عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) - وسمع أمر خطيراً أو أمراً أفزعه فأراد أن يُدركه فسلم صحت صلاته وأجزأته.(47/4)
الركن الحادي عشر: الجلوس للتشهد الأخير
قال رحمه الله تعالى: [وجلسته].
أي: من أركان الصلاة الجلوس للتشهد الأخير، فلو قرأ التشهد الأخير وهو واقف فإنه لا يُعتَد بقراءته إلا أن يكون معذوراً، أو قرأ التشهد الأخير قبل أن يستتم جالساً، كما لو رفع من السجدة الأخيرة وانحنى فلم يستتم جالساً وقرأ التشهد بسرعة وسلم فإنه لا يجزيه، فلا بد من أن يستتم جالساً ويقرأ التشهد بكماله إلى القدر الذي ذكرنا، ثم بعد ذلك إن سلَّم لحاجة فحينئذٍ تصح صلاته وتعتبر.(47/5)
الركن الثاني عشر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير
قال رحمه الله تعالى: [والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه].
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركن على هذا القول، والحقيقة أنه ليس هناك دليل قوي على ركنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، بل هي سنة ثابتة ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُشك في هذا، لكن القول بأنها ركن لو تُركت تبطل بها الصلاة ليس عليه دليل صريح.
واحتج من يقول بركنيتها بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وهذا عام، ومثل هذا لا يصلح حجة على الإلزام، ولو قلنا بأنه يصح حجة لقلنا: غاية الأمر أن يكون واجباً لا ركناً؛ لأن الركنية توجب بطلان الصلاة.
والأمر الثاني: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جاءت أشبه ما تكون من أجل الدعاء، ولذلك شرعت الأدعية أن يكون فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة أشرف مواضع الدعاء، فهي مناسبة من أجل الدعاء.
فإذا كان الأصل ليس بواجب فمن باب أولى ما يُقصد له، فإن الدعاء نفسه ليس بواجب، وبناءً على هذا يكون ما شُرِع له ليس بواجب من باب أولى وأحرى.
ولذلك ليس هناك حديث أو آية تدل صراحة على كون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركناً في الصلاة.
واحتجوا أيضاً بحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه في تعليمه صلى الله عليه وسلم الصحابة الصلاة عليه بقوله: (قولوا: اللهم صلِّ على محمد) قالوا: هذا أمر، ويدل على ركنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
ويجاب عنه بأنه مبني على بيان، وذلك أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال معادٌ في الجواب، فيكون قوله: (قولوا) من باب البيان.
ألا ترى لو أن إنساناً قال لعالم: كيف أصلي ركعتين نافلة؟ فقال له: قم وافعل كذا وكذا وكذا، فإننا لا نقول: إن هذا لازم عليه.
وإنما يكون من باب البيان المرتب على السؤال الذي لا يقتضي الإلزام، وإنما يكون إلزاماً أن يقول عليه الصلاة والسلام: إذا صليتم فصلوا علي.
وأيضاً فإن حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الذي فيه التعليم لصفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه دليل على تخصيصه بالصلاة.
وبناءً على ذلك فإننا لو سلمنا أن دلالة: (قولوا) للوجوب، فإننا نقول: إن هذا على سبيل العموم، ومسألتنا على سبيل الخصوص، وإذا كان الدليل أعم من موضع النزاع فإنه لا يقوى على إفادة المراد.
وبناءً على هذا، فالذي يترجح -والعلم عند الله- أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بركن، بمعنى أن من تركها لا تبطل صلاته، ولكن لا شك أن الأكمل والأحرى والأولى بالمصلي أن لا يسلم إلا وقد صلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم.(47/6)
الركن الثالث عشر: الترتيب بين أركان الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [والترتيب].
الترتيب: مأخوذ من رتّب الشيء على الشيء إذا جعله عليه، بمعنى أن وجود الثاني بعد الأول، والثالث بعد الثاني.
ومراد المصنف بالترتيب هنا أن يُوقِع هذه الأركان مرتبة على الصورة التي وردت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبناءً على ذلك فإن المكلَّف لو فعَل جميع هذه الأركان بأن جاء وكبَّر، فلما قام ركع مباشرة، وبعد الركوع رفع من الركوع وقرأ الفاتحة، فإنك إذا نظرت إلى الصلاة وجدت الأركان جميعها موجودة، لكنها ليست مرتَّبة على الصفة التي وردت في السنة، فنقول: هذا غير معتبر، فالركن ومحل الركن لا بد منه، ودليلنا على الإلزام بالترتيب قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع) الحديث.
فالعطف بـ (ثم) يفيد الترتيب، وقد وقع هذا العطف بين هذه الأركان، فدل على أنه لا يصح إيقاع بعضها سابقاً على بعض.(47/7)
الركن الرابع عشر: التسليم
قال رحمه الله تعالى: [والتسليم].
التسليم وهو الركن الأخير، والمراد بذلك أن يقول: السلام عليكم، وهذا أقل قدر يصح به التسليم.
فلو أن مصلياً قال: (السلام عليكم) تسليمةً واحدة، فإنه يُجزيه وتتم صلاته.
وهناك صفات أُخرى في التسليم، منها: الصفة الأولى: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله.
الصفة الثانية وهي المشهورة: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله.
الصفة الثالثة: السلام عليكم ورحمة الله (عن اليمين) السلام عليكم (عن اليسار).
الصفة الرابعة: السلام عليكم عن اليمين فقط.
وهذه أربع صفات من فعل واحدة منها فإنه قد خرج من صلاته.
وقوله: [التسليم] المراد به التسليمة الأولى، فلو أنه سلَّم التسليمة الأولى ثم أحدث فإن صلاته تصح وتجزيه، ولو أنه سلم التسليمة الأولى فمرت بين يديه امرأة قبل أن يسلم التسليمة الثانية فإن صلاته صحيحه؛ لأن التسليم قد حصل بالأولى، والثانية تعتبر سنةً وليست بواجبة.
أما دليلنا على أن التسليم ركن فقوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، وفائدة كونك تجعل التسليم ركناً تظهر عند حصول الموجِب لبطلان الصلاة قبل التسليم.
فلو أن إنساناً تشهد وقبل أن يسلِّم انتقض وضوؤه فإنه حينئذٍ تبطل صلاته؛ لأنه بقي ركن من أركانها، وهكذا لو أنه صلى وفي التشهد مرت امرأة، أو مر حمار أو كلب -أكرمكم الله-، فعلى القول بأن هؤلاء يقطعون الصلاة فإننا نحكم بأن صلاته قد بطلت؛ إذ لا بد من وقوع التسليم قبل وجود المُخِل، فما دام أن التسليم ركن فإن الصلاة لا تصح.
وقد خالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فإنه يرى جواز الخروج من الصلاة بصنعة، فلو أن إنساناً التفت وقصد بهذا الالتفات الخروج فإنه يخرج من صلاته، وهكذا لو صنع أي شيء يُخِل بالصلاة قاصداً به الخروج من الصلاة فإنه يجزيه ويعتبر خارجاً من الصلاة.
والصحيح أن الخروج من الصلاة عند تمامها، أو قبل تمامها -كأن تُقام الصلاة وأنت في الركعة الأولى وتريد أن تخرج منها- أن تخرج بالتسليم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، ولم يفصِّل صلى الله عليه وسلم بين كمالها وبين نقصانها.
فلو قال قائل: قوله صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم) المراد به أن يكون بعد تمام الصلاة.
قلنا: هذا تخصيص بدون دليل يدل على التخصيص، بل إن ظاهر الحديث في سياقه يدل على أن التسليم مطلق، وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها) يدل على أنك قد دخلت في الحرمات، وأن هذا الخروج من الحرمات يفتقر إلى شيءٍ تخرج به، فقال: (وتحليلها التسليم)، فالمقابلة تقتضي الملازمة، بمعنى أنك إذا دخلت في الحرمات لا تخرج من هذه الحرمات إلا بتسليم.
ومن الفروق بين قولنا: يخرج بتسليم، وقولنا: يخرج بدون تسليم أنك لو كنت ترى أن التسليم معتبر للخروج من الصلاة، فكبَّرت وقرأت الفاتحة وقرأت السورة فأُقِيمت الصلاة، وغلب على ظنك أن الصلاة ستفوتك لو استمررت في هذه النافلة، فأردت قطع هذه الصلاة فقطعتها بفعلٍ ولم تقطعها بتسليم فحينئذٍ لا أجر لك فيما مضى؛ لأنك أبطلت الصلاة بهذا الفعل؛ لأنه فعل غير شرعي، وخرجت به عن كونك مصلياً، لكن لو سلّمت معتداً بالأصل الشرعي، بأن دخلت بالتكبير وخرجت بالتسليم فإنه يكتب لك أجرها، وهذا إذا كنت ترى أن التسليم لازم.
وأما الحنفية فيرون أنه يجوز له أن يخرج بصنعة، ويقولون: إذا أقيمت الصلاة فله أن يلتفت، وله مباشرة أن ينوي القطع في قلبه ويُكبِّر للفريضة، فلو قال: (الله أكبر) تكبيرة الإحرام الثانية تنعقد الفريضة؛ لأنه قد قطع النافلة بنيته.
وهذا ضعيف مخالف لظاهر العموم؛ لأن الخروج من الصلاة جمع الشرع فيه بين الظاهر والباطن، فخروجه بمجرد نيته إنما هو خروج بالجزء؛ لأن الشرع في الصلاة المعهودة أن تخرج بالفعل الذي هو التسليم، أي: القول والفعل.
فقولهم: نيته كافية في الخروج إنما هو اجتزاء ببعض المطلوب مع أن الشرع اعتبر للخروج من هذه العبادة دلالة الظاهر، فلا وجه للاقتصار على دلالة الباطن وهي النية.
ولذلك يقوى مسلك الجماهير أنه لا بد من التسليم.(47/8)
الأسئلة(47/9)
مواطن قراءة الفاتحة للمؤتم
السؤال
متى يقرأ المكلَّف الفاتحة خلف الإمام، خاصة إذا لم يترك له الإمام فرصة للقراءة؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن قراءة الفاتحة وراء الإمام تكون في السكتات، كسكوت الإمام ما بين قراءة الفاتحة وقراءة السورة، وقد جاء هذا عن سعيد بن المسيب، وهذا الأثر وإن كان مرسلاً فإنه يدل على أن أقل درجاته أنه كان معهوداً عند السلف الصالح رحمة الله عليهم، ومعلوم مكانة سعيد بن المسيب، فهو قريب إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يقال: إن المدينة إلى عهد مالك لم تدخلها بدعة.
فكيف بعهد سعيد بن المسيب الذي كان من أقرَب الناس إلى عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم?! ولذلك يسكت الإمام هذه السكتة، وهي من فعل السلف، ويعطي للمأموم مجالاً أن يقرأ، فإذا أمكنته قراءتها فالحمد لله، وإذا لم يمكنه أن فليقرأها يستمر، ولو استمر الإمام في قراءته؛ لأننا قلنا: يتشاغل بالركن عن الواجب، على القول بوجوب الإنصات لقراءة الإمام.
ولذلك أمر بها أبو هريرة، فقد روى البيهقي عنه بالسند الصحيح في جزء القراءة خلف الإمام أنه أمر بها، وقال: (حتى ولو قرأ الإمام).
ولذلك فإنه يقرأ الفاتحة ولو لم يعطه الإمام مجالاً لقراءتها؛ لانشغاله بما هو ركن تنعقد به الصلاة ولا تصح بدونه، والله تعالى أعلم.(47/10)
قراءة القرآن
السؤال
ما حكم قراءة الفاتحة للمأموم خلف إمامه في صلاة النفل؟
الجواب
الحكم في ركنية الفاتحة شامل للفرض والنفل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُفصِّل في الصلوات، ولم يفرِّق بين حال الائتمام والانفراد والإمامة، فيبقى هذا العموم على ظاهره، ويُلزم المكلف بالقراءة على كل وجه، سواءٌ أكان في فريضة أم نافلةٍ، ولا وجه للتخصيص لعدم ثبوت دليل يخصص، والله تعالى أعلم.(47/11)
بم تدرك الركعة؟
السؤال
مصلٍ كبَّر تكبيرة الإحرام وانتهى منها في الركوع أو في أثناء الركوع، فهل تجزيه؟
الجواب
إذا جئت متأخراً والإمام راكع، فكبّرت، ثم رفع الإمام، أو كبرت وأثناء التكبير رفع الإمام، فهذه المسألة على صورتين: الصورة الأولى: أن تُكبِّر لركوعك وتنتهي من التكبير بكماله، أي: بعد انتهائك من حرف (الراء) من قولك: (أكبر) قال الإمام: (سمع الله لمن حمده) فأنت مدرك للركوع، وأيضاً قبل أن يتلفظ الإمام بـ (السين) من: (سمع الله لمن حمده)، ولو رأيته بالفعل؛ لأن العبرة بالقول وليس بالفعل، وبناءً على ذلك فلو رأيته تحرك ثم مباشرة أدركت التكبير وكبّرت، فإنه يجزيك وتُعتبر مدركاً للركوع وتسقط عنك الركعة.
الصورة الثانية: أن يرفع الإمام، أو أن يُسمِّع الإمام في أثناء تكبيرك أو قبل تكبيرك، فحينئذٍ لا تُعتبر مدركاً للركوع، فإذا قلت: (الله أكبر) وما بين لفظ الجلالة وأكبر قال: (سمع الله)، فحينئذٍ تتم تكبيرك وتبقى قائماً، فقد أدركت ركن القيام ولم تدرك ركن الركوع.
وبناءً على هذا يلزمك أن تقضي هذه الركعة لعدم إدراكك لركوعها، والله تعالى أعلم.(47/12)
انتظار الإمام الداخل إلى الصلاة أثناء الركوع
السؤال
هل للإمام إذا كان راكعاً أن ينتظر الداخل إلى المسجد لإدراك الركعة؟
الجواب
هذه المسألة اختلف فيها السلف رحمة الله عليهم، فكان بعض العلماء يقول: إذا ركع الإمام وسمع رجلاً يدُّب إلى الصف فإنه لا ينتظره؛ لأن الصلاة لله وليست للناس؛ لأنه إذا انتظره وأطال القيام أساء من وجوه: أولها: أنه قصد الداخل ولم يقصد العبادة، وبناءً على ذلك قالوا: هذا يُخِل في قصده ونيته، والمساجد لله وليست للناس.
ثانيها: أنه يشق على الجماعة من أجل الفرد، والأصل تقديم ضرر العامة على ضرر الخاصة، فإن إطالة الركوع مشقة لمن ركع وهم الجماعة، وكونه يرفع من الركوع مشقة على المنفرد وهو المسبوق، فقالوا: إنه يلزمه أن يعتد بركوعه المعتاد، فإن بلغ القدر الذي في مثله يرفع رفع.
وقالت طائفة من العلماء بالتفصيل: فإن كان يشق الانتظار على المأمومين فلا ينتظر، كالمساجد الكبيرة التي يكون فيها فسحة والمكان بعيد بين بابها وبين آخر الصفوف؛ لأنه إذا انتظر شق على المأمومين، وأما إذا كان لا يشق عليهم فإنه ينتظر، وذلك لعموم الأوامر، ولثبوت السنة بما يشهد بهذا، فقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (كان يصلي في الظهر حتى لا يُسمع قرع نعال)، والمراد بذلك إطالته للقيام لكي يدرك المأمومون الصلاة.
وقالوا مجيبين عن الأولين: أما قولكم: فإنه يطيل من أجل الناس فإن الصورة ليست مقصودة، وإنما المقصود معنى الصورة، فإنه لما أطال ليس لذاك الرجل، بدليل أنه لا يعرف من الداخل، وإنما أطال تحصيلاً للقربة، فكان ثواباً للجماعة وثواباً للداخل، فالمأمومون يحصلون الخير فيسبحون أكثر، وتطول صلاتهم، وليس هناك مشقة.
فقالوا: إنما أطال تحصيلاً للقربة؛ لأنه إذا أطال كان أعظم لأجرهم وعوناً للمكلف أن يدرك الفضل، فليس ثمّ إخلال.
ومن هنا نفهم عبارة بعض العلماء الذين يقولون بهذا القول، قالوا: فإن كان الذي دخل يعرفه أنه من ذوي الشرف أو ذوي الجاه حرُم عليه.
وقال بعض العلماء: تبطل صلاته إن كان قصد مثل هذا الرجل، أي أنَّ قصده بإطالة الركوع هو مُدَاهنة هذا الرجل أو محبته أو تأليفه، أو نحو ذلك مما ليس بمقصد شرعي.
والمقصود أن أصح الأقوال أنه إذا كان لا يشق على المأمومين ونية الإمام صالحة فلا حرج لظاهر السنة في حديث الظهر، ولعموم الأدلة التي دلَّت على معونة الناس في تحصيل الخير، والله تعالى أعلم.(47/13)
حكم صلاة راتبة العشاء خلف من يصلي التراويح
السؤال
إذا كان المأموم خلف إمامه في صلاة التراويح، فهل له في ركعتين منها أن ينوي سنة العشاء؟
الجواب
لا حرج على المأموم أن ينوي الراتبة (سنة العشاء) مع الإمام في صلاة التراويح، وكان بعض العلماء يستحب غير هذا فيقول: أستحب أن يدخل وراء الإمام بنية التراويح ولا يقلبها راتبة، حتى إذا انتهى من الوتر صلى ركعتين؛ لأنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (صلى ركعتين بعد الوتر).
قالوا: لأنه إذا فعل هذا فقد حصَّل فضل قوله صلى الله عليه وسلم (من قام مع إمامه حتى ينصرف ... ) الحديث.
قالوا: لأن الركعتين الأوليين من التراويح إنما هي من القيام، أي: من إحياء الليل، فلو نوى بها راتبة العشاء خرج عن كونه مقتدياً بالإمام لاختلاف النيتين.
والأولون يقولون: يدخل بنية الراتبة من أجل قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، قالوا: لأنه سيحتاج بعد هذا أن يشفع بعد الوتر فيفوته هذا الفضل.
والذي تميل إليه النفس أن لا ينوي، وإنما يصلي حتى يُوتِر، ثم بعد الوتر يصلي ركعتين؛ لثبوت فعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) على سبيل الاختيار، وهذا لا اختيار له لمكان ضيق الوقت، والله تعالى أعلم.(47/14)
توجيه إشكال في قراءة الفاتحة للمؤتم
السؤال
أشكلت عليَّ حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فقد قرأت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ما لي أنازع ... ) الحديث.
فقال أبو هريرة: فانتهى الناس عن القراءة والفاتحة أيضاً.
فما قولكم في هذا الإشكال؟
الجواب
هذا يحتاج إلى نظر، فـ أبو هريرة بنفسه أمر بها، وقد روى ذلك عنه البيهقي في جزء (القراءة خلف الإمام) بالسند الصحيح، فأين ثبت قوله: (والفاتحة أيضاً) بهذا اللفظ؟ إلا إذا كان السائل فهمه من قوله: (فانتهى الإمام عن القراءة وراء الإمام).
فـ أبو هريرة رضي الله عنه أخبر أنهم كانوا يقرءون، فإذا قرأ الإمام مثلاً: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فالناس خلفه يقرءون: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]؛ لأنهم كانوا يرون أن الإمامة تقتضي المشاركة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الجزء الزائد، ولذلك قال: (فقراءة الإمام).
لأن الإمام يختار في هذا الموضع، لكن الفاتحة ليس باختياره، وإنما هي قراءة للكل.
فقوله: (فقراءة الإمام له قراءة) أي: ما يختاره من السور ويعيِّنه فهو له قراءة.
أي: تجزئ المأمومَ.
ولو فرض غير هذا فإن حديث:: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نص على قراءة الفاتحة صراحة، وقول أبي هريرة (فانتهى الناس) متردد بين ما ذكرناه فهو محتمل، فالتشريع للأمة في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، وكون الناس انتهوا أو لم ينتهوا هو جزء الحكاية، ولا يعتبر حجة.
ثم إن أبا هريرة نفسه بيَّن أنه تلزم قراءة الفاتحة، فلا يُعقل أنه يروي أن الناس انتهوا عن القراءة، ثم يروي إلزاماً المأموم بقراءة الفاتحة إلا ومراده ما زاد عن الفاتحة وليس الفاتحة نفسها.
فهذا أمر ينبغي التنبه له، ولذلك أوصي طالب العلم بالتحفظ، خاصة في حكاية سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فبعض الأحيان قد تجد في بعض فتاوى العلماء، أو قد تجد في كتبهم أنهم حينما يصفون شيئاً على هدي النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: من السنة كذا وكذا.
ويكون ذلك من السنة المفهومة، وليس بالصريح، فينبغي أن يفرق بين حكاية النص، وبين فهم مدلول النص، فالفهم شيء والنص شيء آخر.
فإذا جئت تحكي شيئاً عن السنة وتثبته، بمعنى أن تقول: وكان كذا وكذا، أو قال أبو هريرة كذا وكذا، أو قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فينبغي أن تتقيد فيه باللفظ ولا تراعي فيه ما ترى، ولا تراعي فيه المذهب؛ لأن هذا أمانة لا بد فيه من الحيطة والحذر، خاصة طلاب العلم، ولذلك ما رأيت شيئاً يَكمُل به طالب العلم في فقهه وفهمه وفتواه وقضاءه وحكمه بعد توفيق الله عز وجل مثل الأمانة والتحفظ.
فلتتحفظ في فهمك، ولا تتجاوز في فهم الشيء أكثر مما دل عليه النص، ولا تتجاوز في بيان ما دلَّت عليه النصوص.
فكونك ترى شيئاً فتأتي وتقول: السنة كذا وكذا.
بمعنى أنك تحكي السنة، وتقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو: فعل كذا وكذا، وأنت تفهم الشيء فتحكيه قولاً، أو تحكيه سنة، فهذا أمر من الصعوبة بمكان، إلا في حالة واحدة رخص فيها العلماء، وهي بيان الهدي الذي يكون على سبيل السياق، مثل أن يحكي الإنسان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم، لكن يحتاط في المواضع.
ولذلك كان من دقة العلماء المتقدمين أنهم يقولون: وكان من هديه عليه الصلاة السلام كذا وكذا.
فيذكرون الهدي المنصوص عليه، فإذا جاءوا إلى مواضع الخلاف، لا يقولون: وكان من هديه كذا وكذا.
وإن كان الواحد منهم يرى أنه من الهدي، لكن يقولون: وقال عليه الصلاة والسلام كذا وكذا.
فيكون القول محتمل الوجهين، فلا تجد أحدهم ينص صراحة بناءً على مذهبه، أو يقول: وكان من هديه كذا وكذا على أصح قولي العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام كذا وكذا.
وهذا موجود خاصة عند المتقدمين، وهذا من الورع والتحفظ.
وهذا على خلاف حالنا اليوم، فإنك تجد الرجل إذا رأى قولاً أو رأياً، أو اعتبر قولاً فهو يرى أنه السنة التي لا جدال فيها، وقد تكون هذه السنة بنصوص محتمِلة، وقد تكون بأحاديث ضعيفة حُسِّنت بالشواهد والاعتبار، فيأتي ويحكم بكونها السنة الثابتة التي لا تقبل نقاشاً، وأن دلالتها صريحة لا تحتمِل قولاً ثانياً، فلا يجوز أبداً أن إنساناً يحكي ما ليس صريحاً على وجه الصراحة، ويحكي المحتمِل على وجه غير محتمِل، فهذا ليس من الأمانة؛ لأن العلم أمانة وتحفُّظ.
فعلى الإنسان أن ينقل العلم للناس مثل ما هو عليه لا يزيد فيه بفهمه ولا ينقص منه برأيه، وهذه هي الأمانة، ومن فعل ذلك بارك الله له في علمه، وغالباً لن تجد طالب علم يتحفظ، ويتقيد في أخذه للعلم وفهمه، وإفهام الناس وبيان الفتوى لهم إلا وَجدت الله عز وجل قد وضع له القبول في فتاويه وفي علمه.
لأنه من الصعوبة بمكان أن يترجَّح عندي قول في مسألة فيها حديث محتمِل، وهناك نصوص أخرى عارضته، فآتي وأغرس في نفوس طلاب العلم أن هذه هي السنة وحدها، فيصبح كل من خالفه من أهل العلم كأنه مرتكب لما خالف السنة، فهذا لا ينبغي، إنما ينبغي أن أقول: ترجح، أو ظهر لي، أو: هذا هو السنة على ما ظهر، أو: على أصح أقوال العلماء، أو: هناك قول آخر لقوله تعالى، أو لقوله عليه الصلاة والسلام، أو: لكن الصحيح كذا وكذا.
فإذا رأيت من خالفك تعلم أن عنده سنة وأن عنده حجة فلا تبالغ في الإنكار عليه، ولا تستعجل في استهجانه، وقد يكون الحق معه، وكان السلف يقولون: (قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب)، وهذا في النصوص المحتمِلة، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يجاوز دلالة النصوص، بل ينبغي عليه أن يتقيَّد، فالشيء المحتمِل يقول عنه: محتمِل.
فهذه فائدة عارضة، وأوصي بها طلاب العلم كثيراً، خاصة في هذا الزمن الأخير، ولذلك كان الوالد رحمة الله عليه كثيراً ما يوصيني ويقول لي: أي علم تستطيع أن تأخذه من الأوائل فابدأ به؛ لأنه ليس من السائغ أن يبدأ الإنسان بعلمه من الأواخر.
ولا يعني هذا هجران العلماء الموجودين، إنما المراد أن تلتزم بمنهج الأوائل وطريقة سلفك الصالح رحمة الله عليهم، فكنت كثيراً ما أرجع إلى كتب الأولين، فأجد المسألة تُعرض بشيءٍ من الأمانة والتحفظ، ووالله إن بعض العبارات في الفتاوى وفي الشروحات تلمس فيها من العالم من خلال كلامه خوفه من الله عز وجل، وتلمس ورعه وتحفظه وصيانته.
ولذلك لو جئت تجمع فتاوى المتقدمين قد تجدها لا تتجاوز جزءاً واحداً، فتجد السؤال وجوابه بكل تحفظ وحذر من الزيادة عما دلت عليه النصوص الشرعية، وهذا هو العلم، فمن سلك هذا المسلك فقد علم وفهم.
ولكن إذا جئت اليوم إلى إنسان في مسألة تريد أن يبين لك فيها حكماً قال لك: هذه مسألة خلافية سبق الكلام فيها بين العلماء، ويكتب رسالة، أو يجيب عن سؤال فتجده يبيِّن لك المسألة ويبين لك دليلها، وقد يكون هذا الدليل حديثاً اختلف في إسناده، أو يكون دليلاً صحيحاً ثابتاً في الكتاب والسنة ولكن دلالته محتمِلة، فيأتي ويذكر الحديث، فلا ينتهي منه حتى يقول: قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، ويملي عليك خطبة في حجية السنة، بمعنى: إن خالفتني فقد خالفت السنة، وإن تركت قولي فأنت على غير محجَّتي، وعلى هلاك.
وهذا لا ينبغي؛ لأنك إذا أصبحت تحجر الناس كلهم على رأيك وفهمك، فإنك ستأتي إلى الأقوال المخالفة وتستهجن آراء العلماء، وتبالغ في ذم الرجال، وتعتبر شيخك هو الوحيد الذي ينبغي قبول السنة منه، وأنه إن خرج أحد عن الذي في كتاب فلان فليس من أهل السنة والجماعة، ويصل بك الأمر إلى أنك تجد أقوالاً للسلف الصالح رحمة الله عليهم -إذ الخلاف قديم وموجود بين أئمة العلم- فتحتقر هذه الأقوال وهي لأئمة وعلماء، وقد يكون الذي رجّحه مشايخك من أقوال الشذاذ والأفراد، فتأتي وتقول: سبحان الله! جماهير أهل العلم خالفوا السنة! إي نعم لا تعتد بالرجال إنما اعتد بالدليل.
وقد تجد أقوال أفراد من التابعين أو الصحابة نُسيت وتركت، وأصبح العمل في القرون كلها على قول انتشر وذاع، فهل أصبحت هذه الأمة كلها على ضلالة، وهي أمة معروفة بالعلم والورع والصلاح والإخلاص لله عز وجل، أفكل هؤلاء ما أصابوا الجادة?! فهذا أمر يحتاج إلى تَنبُّه، فإنك تجد بعض طلاب العلم اليوم يفرحون ببعض الأقوال المنفردة، فبعض طلاب العلم قد يفرح عندما يجد أن هذا القول لا يقول به إلا الأفراد، وهذا موجود وملموس في طلاب العلم، ولذلك ينبغي التأنِّي والتريُّث وأخذ العلم عن أهله، والتحفظ في ضبط العلم وتحريره، فإذا قال لك العالم: هذا القول هو الصواب، وظهر لي منه كذا فعليك أن تفتش وتنقب؛ إذ ليس قوله هو الغابة، وليس هو النهاية، فقد سبقه رجال فحول وأرباب في العلم، وأناس لهم فهمهم وعلمهم وورعهم وقدمهم الراسخة، فينبغي الرجوع إليهم والاعتداد بأقوالهم، والتنبه لكون الأمر مجمعاً عليه أم أن فيه خلاف، وهل الدلالة مسلمة أم لا.
فكثير من الطلاب يغتر بمثل هذا، إذ يأتيني طالب علم قرأ رسالة ما لمتأخر وهو مقتنع اقتناعاً كاملاً أن الحق في هذه الرسالة، وكأن صاحبها هو المعصوم؛ لأن أسلوب الرسالة يحمل هذا الطالب على أنه لا يحيد عنها؛ لأن صاحبها ابتدأها بالسنة وأهمية السنة وحجية السنة، وكأنه يقول: إنني قد أصبتها فإياك أن تحيد عنها.
وهو وإن أصاب شيئاً لكنه محتمل، فليس هذا من الأمانة، فينبغي التحفظ والصيانة، خاصة في المسائل الخلافية.
فإذا جاء الطالب قلت له: هذا القول الذي تقوله يستدل بحديث كذا وكذا، وهذا الحديث دلالته مختلف فيها حتى بين الأصوليين؛ لأن دلالته معارضة بما هو أقوى منها، أو هذا الحديث ضعيف، وتحسينه قول لبعض العلماء، وهناك حديث أصح منه، فتجد الطالب مقتنعاً اقتناعاً كاملاًلا يرضي أن يتركه.
وفي بعض الأحيان نجد الطالب لا يحفظ(47/15)
حكم صلاة الجالس القادر على القيام
السؤال
بعض النساء -هداهن الله- يعملن في البيوت طوال الوقت، فإذا جاء وقت الصلاة صلَّين وهنّ جالسات بحجة أنهن متعبات لا يستطعن القيام، فما حكم هذا، وما هو توجيهكم لهؤلاء النسوة؟
الجواب
إذا كانت الصلاة فريضة وصلّت المرأة جالسة وهي قادرة على القيام، فعليها أن تعيد صلاتها، ولو جلست مائة سنة بهذهِ الحال لا تجزيها الصلاة، وينبغي عليها أن تعيد صلواتها مدة حياتها إذا لم يكن ثم عذرٌ؛ لأنها لم تصلِّ كما أمرها الله، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته أن يرجع ويصلي لفوات ركن الطمأنينة، فكيف بركن القيام، ولذلك يلزمهن الإعادة لهذه الصلوات.
وأما إذا كان التعب عُذْراً بيِّناً، كما يكون في بعض النساء الحوامل، وقد تكون بعض النساء ضعيفة البنية، فيحصل لها إرهاق شديد، خاصة مع شدة السهر أو نحوها، وتخشى السقوط في صلاتها، أوتخشى الضرر فلا حرج أن تصلي جالسة، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وهكذا إذا كانت مريضة كما ذكرنا.
أما الترَخُّص والتوسُّع في هذا فإنه يوجب بطلان الصلاة، والله تعالى أعلم، لكن ينبغي أن يُنصَح الرجال بالتخفيف على النساء، حتى لا يضطررن إلى ذلك، فالحكمة تقتضي تخفيف أعباء البيوت حتى لا تصبح معونة على تركهن لفريضة الله عز وجل.(47/16)
حكم تقييد الصلاة على الراحلة
السؤال
هل الصلاة على الراحلة مقيَّدةٌ بصلاة الوتر كما ثبت في الحديث الصحيح، أم أنها مطلقة في جميع صلاة النفل بما فيها السنن والرواتب؟
الجواب
صيغة السؤال تفيد أنه ورد حديث يقول: (لا تصلوا النافلة في السفر إلا إذا كانت وتراً على الدابة).
وهذا لم يرد، ولهذا فلينتبه طالب العلم، وليحذر من الكلمات في التعبير، فينبغي أن تنتبه لمنطوق اللفظ ودلالة المفهوم؛ لأنك غداً ستكون المعلم والمربي والمفتي والقاضي، فينتبه الإنسان في العبارات، ولتكن عنده دقة، ولا يُحمِّل النصوص في دلالتها ما لا تحتمل، فانتبه رحمك الله وقل: هل هي مقيدة بالوتر، أو ليست مقيدة بالوتر؟ أمَّا النصوص فهي تدل على العموم، كما في حديث ابن عمر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض)، وهذا في الصحيح.
وكما في حديث أنس، حيث يقول ابن سيرين: (خرجنا فاستقبلناه بعين التمر، فلقيناه يصلي على حماره ووجهه من ذا الجانب، فقلنا: رأيناك تصلي إلى غير قبلة! قال: لولا أني رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته).
فالمهم أن النصوص الواردة ورد فيها في الوتر، ووردت نصوص أنه أوتر على بعيره، لكن هذا ليس على سبيل التقييد.
والقاعدة في الأصول أن ورود الخاص بخصوصه لا يقتضي حمل العام عليه ما لم تُفهم القرائن أو تَدُل الأصول على اعتبار هذا الحمل.
ولذلك فالذي يقوي العموم في النوافل قوله: (إلا الفرائض)، ويشمل هذا الوتر، وهكذا لو توضأ وأراد أن يصلي ركعتي الوضوء، أو ركعتي استخارة، أو يتَنفَّل طاعةً وقربة لله في سفره، فلا حرج عليه أن يصلي على دابته حيث توجهت به.(47/17)
حكم تكبيرة الانتقال إذا دخل المصلي والإمام راكع
السؤال
رجلٌ دخل المسجد والإمام راكع، فدخل معهم في الصلاة، وجعل تكبيرة الإحرام والركوع تكبيرة واحدة، فهل هذا يجزئه؟
الجواب
قال بعض العلماء: لا بد من التكبيرتين.
وقال بعضهم: تجزيه تكبيرة واحدة.
وهذا هو الصحيح.
وهذا ظاهر؛ فإن النصوص لم يرد فيها الإلزام بالتكبيرتين، لكن الذين قالوا بالإلزام قالوا: لأنه يكبر التكبيرة الأولى للإحرام، والثانية: للركوع.
وهذا محل نظر؛ لأنه لو جاء والإمام ساجد فإن قالوا: يُكَبِّر أيضاً تكبيرتين، فحينئذٍ نقول: إنه ليس في حال قيام؛ لأن تكبيرة الإحرام للدخول في الصلاة وللقيام، فلذلك ليس ثم ركن قيام إذا كان ساجداً.
وبناءً على ذلك قال بعض العلماء الذين يقولون بالتكبيرة الواحدة: لو كبَّر تكبيرتين لم يجزه؛ لأنه إذا كبر في القيام لزمته القراءة، وهو لم يقرأ ويريد أن يركع، ولذلك قالوا: لا يصح منه.
والصحيح: أنه يجزيه؛ لأنه كبَّر للقيام في وقتٍ لا يتسنى له فيه قراءة الفاتحة فسقطت للعجز فأجزأه أن يُكَبِّر، فمن فعل هذا فلا حرج، ومن فعل هذا فلا حرج، لكن الأشبه والأقوى أن يُكبِّر تكبيرةً واحدة، وهذا أصل خَرَّجَهُ العلماء على القاعدة الشرعية: (اندراج الأصغر تحت الأكبر)، وهذا له ضوابط كثيرة، فالأصغر هو تكبيرة الركوع، والأكبر تكبيرة الإحرام، فاندرج الأصغر تحت الأكبر.
ولذلك لو جئت وأنت متأخر والإمام في الركعة الثالثة واقف فإنك تكبر تكبيرةً واحدة مع أن الإمام تعتَبر صلاته في الثالثة، فإذا كان كذلك فمعناه أن عليك تكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام للثالثة؛ لأنه قام لها الإمام ولها تكبيرة خاصة.
فقالوا: أصل الاندراج يَدُلُّ عليه.
وله نظائر في العبادات والمعاملات، ومن نظائره في المعاملات أن يسرق الإنسان -والعياذ بالله- ويزني ويقتل، فقالوا: إن حد القتل يأتي عليها جميعاً.
فلو كان محصناً فزنى وقتل فإنه يُقتَل بالقصاص، فيُعتَبر قتله قصاصاً يندرج تحته قتله بالرجم، ولا حاجة أن يُرجَم، ولذلك يقولون: يندرج الأصغر تحت الأكبر؛ لأن حَدَّ القتل أعظم من حد الزِّنا في الأصل، بدليل تنوع حد الزنا وعدم تنوع حد القتل، قالوا: فاندرج الأصغر تحت الأكبر.
وهو مذهب بعض الصحابة رضوان الله عليهم الذين يقولون بالاندراج.
وتتفرع على هذه القاعدة فروع منها هذه المسألة، وهي أنه لو قدم والإمام راكع، فقالوا: يُكَبِّر تكبيرةً واحدة، فتندرج تكبيرة الركوع تحت تكبيرة الإحرام.
نسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وموجباً لرضوانه العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(47/18)
شرح زاد المستقنع - واجبات الصلاة
الواجب في الصلاة: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، ومن تركه عمداً بطلت صلاته، وإن تركه سهواً جبر بسجود السهود على تفصيل في ذلك، وواجبات الصلاة هي: لفظ التكبير عند الانتقال من ركن إلى ركن، وقول سمع الله لمن حمده، وربنا لك الحمد، والتسبيح في الركوع والسجود، والتشهد الأول والجلوس له.(48/1)
واجبات الصلاة(48/2)
تكبيرة الانتقال
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وواجباتها التكبير غير التحريمة] الواجبات: جمع واجب، والضمير عائد إلى الصلاة، أي: واجبات الصلاة، فعَطَفَ رحمه الله الواجبات على الأركان، أي: إذا علمت أحكام الأركان فاعلم أن هناك أموراً واجبة، وأن للصلاة واجبات، ثم شرع في بيان هذه الواجبات، وهذا -كما يسميه العلماء- من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى.
وهذه والواجبات لها أحكام: الحكم الأول: أنه يثاب فاعلها.
الثاني: يعاقب تاركها.
الثالث: من تركها متعمداً بطلت صلاته.
الرابع: أن من ترك هذا الواجب ساهياً فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون منفرداً أو إماماً، أو يكون مأموماً، فإن كان منفرداً أو إماماً وجب عليه أن يجبر هذا الواجب بسجود السهو، وأما إذا كان مأموماً فإن الإمام يَحمِل عنه الواجب، وبناء على ذلك اتفقت الأركان والواجبات في كون كل منهما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وانفردت الواجبات بأن تركها نسياناً يُجبر بسجود السهو، والأركان إذا تركت نسياناً وجب جبرها بالفعل، فالواجبات تجبر بسجدة السهو والأركان لا تجبر، بل لابد من فعلها.
ثم إن الواجبات يحملها الإمام إذا نسيت أو سهيت أو لم يمكنك فعلها، ولكن الأركان لا يحملها الإمام عنك البتة، بل ينبغي عليك فعلها، وإن لم تفعلها وجب عليك قضاء الركعة كاملة، فهذا بالنسبة للفرق بين الواجبات وبين الأركان في الصلاة.
قوله: [التكبير غير التحريمة] أي: من الواجبات التي أوجبها الله عز وجل في الصلاة التكبير غير التحريمة، والتكبير لفظ: (الله أكبر)، وهذا التكبير يسميه العلماء بتكبير الانتقال، أي: يجب على المصلي أن يُكبر عند انتقاله من ركن إلى ركن، فإذا أراد أن ينتقل من القيام إلى الركوع قال: الله أكبر.
وإذا أراد أن ينتقل بعد رفعه من الركوع إلى السجود قال: الله أكبر.
وإذا أراد أن ينتقل من سجوده إلى الجلسة بين السجدتين كبَّر.
وإذا أراد أن ينتقل منها إلى السجود كبر، وهكذا، فهذا التكبير الذي يقع بين الأركان لكي تنتقل به من ركن إلى ركن يسميه العلماء تكبير الانتقال.
وقوله رحمه الله: [التكبير غير التحريمة] المراد بالتحريمة تكبيرة الإحرام، وهي ركن وليست في مرتبة الواجبات، وإنما هي في مرتبة أكبر، فالتكبير من غير تكبيرة الإحرام واجب.
فلو أن إنساناً كان يصلي لوحده فقرأ الفاتحة، ثم قرأ السورة، ثم ركع ونسي أن يكبر فإنه يجبره بسجود السهو لأنه واجب عليه، فإن تعمد فركع دون أن يكبر قاصداً ترك التكبير بطلت صلاته فرضاً كانت أو نفلا.
فهذا معنى قولهم: (التكبير غير تكبيرة الإحرام) أي: يلزمك إذا صليت فريضة أو نافلة أن تكبر تكبيرة الانتقال، فلا تنتقل من ركن إلى ركن إلا بهذا التكبير، فلو حصل أن تركت هذا التكبير قاصداً ومتعمداً بَطَلت صلاتك نفلاً أو فرضاً، ولو حصل أن تركته سهواً قلنا: إن كنت منفرداً تجبره بسجدتي السهو قبل السلام لمكان النقص، وإن كنت مع الإمام حَمَل الإمام عنك هذا السهو لقوله عليه الصلاة والسلام: (الإمام ضامن) كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود وأحمد في مسنده، فقد دل هذا الحديث على أن الإمام ضامن، والمراد بضمانه ضمان صلاة من وراءه، وذلك بحمل الواجبات دون الأركان، كما هو معلوم ومقرر عند العلماء.
وهكذا الحكم لو أن إنساناً بدلاً من أن يكبر للركوع قال: سمع الله لمن حمده، فأبدل ذكراً مكان ذكر في الانتقال، أو أراد أن يسجد فقال: (ربنا ولك الحمد) سهواً، فإنه حينئذٍ يمكنه التدارك إن أمكنه، وإن لم يمكنه التدارك فإنه لابد وأن يأتي بسجدتي السهو على التفصيل الذي ذكرناه.
أما دليل وجوب التكبير فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا كبر فكبروا)، وهذا أمر، وشمل تكبيرة الإحرام وغيرها للإطلاق، ولكن خُصَّت تكبيرة الإحرام بالزيادة لورود النصوص فيها، كقوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير)، ونحوه من النصوص التي ذكرنا، ودلت السنة على وجوب تكبير الانتقال، وبناء على ذلك فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بالتكبير يوجب علينا التكبير.(48/3)
قول: سمع الله لمن حمده
قال رحمه الله: [والتسميع] أي: الواجب الثاني من واجبات الصلاة التسميع.
والتسميع على وزن (تَفْعِيل) والمراد به قول المكلف: سمع الله ولمن حمده أي: استجاب الله دعاء من حمده، وقيل: معناهنا: سمع الله على الحقيقة من أثنى عليه سبحانه وتعالى، فلا يخفى عليه شيء وهي جملة متصلة ببعضها، فلو قال: (سمع الله) لم يُجزِه، بل لا بد من تمام الذكر، فلا يُنقص منه ولا يزاد عليه، فلا يقال: سمع الله الجبار المتكبر من حَمِده.
فلا تُشرع الزيادة، ولا يُشرع النقص كأن يقول: (سمع الله)، ويسكت، أو يقول: (سمع الله مَن)، ويسكت، فكل هذا لا يجزي، بل لا بد من تمام الجملة؛ لأنه ذكر توقيفي، فوجب البقاء على حدِّه دون زيادة ولا نقصان.(48/4)
قول: ربنا لك الحمد
قال رحمه الله: [والتحميد] التحميد على وزن (تَفْعِيل) من الحمد، أي قولك: (ربنا ولك الحمد)، أو (ربنا لك الحمد)، فكلاهما وارد ومأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلت: (ربنا ولك الحمد)، أو: (ربنا لك الحمد)، فقد فعلت ما أوجب الله عليك من التحميد.
والتحميد يتعلق بالمأموم، والتسميع يتعلق بالإمام والمنفرد فيجمعان بين التسميع والتحميد، أما المأموم فيقتصر على قوله: ربنا ولك الحمد.
أما دليل الوجوب فما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: (وإذا قال -أي الإمام- (سمع الله لمن حمده) فقولوا: (ربنا ولك الحمد))، فقوله: (فقولوا) أمر، والأمر يدل على الوجوب، وقد قاله عليه الصلاة والسلام في معرض التقسيم، وكونه يقوله في معرض التقسيم فقد خص الإمام بالشرط في قوله: (إذا قال)، فإذا كان التحميد واجباً كان موجبه واجباً، فأصبح التسميع والتحميد واجبين من واجبات الصلاة، فلابد من قول المكلف: (سمع الله لمن حمده.
ربنا ولك الحمد) إن كان إماماً أو منفرداً، أما إذا كان مأموماً اقتصر على قوله: (ربنا لك الحمد).
ومكان هذا التسميع والتحيمد مختص بما بعد الرفع من الركوع، فيقول: (سمع الله لمن حمده) في حال الرفع، فإذا استتم قائماً قال: (ربنا ولك الحمد)؛ لأنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يُشرع له أن يقول: (ربنا ولك الحمد) قبل أن يَستتم قائماً، وإنما يقول: (ربنا ولك الحمد) إذا انتصب عوده واستقام ظهره، وبناءً على ذلك فإن السنة أن يبتدئ بالتسميع عند ابتداءِ الرفع حتى إذا استتم قائماً قال كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم المؤمنين عائشة قال: (ربنا ولك الحمد)، وقاله عليه الصلاة والسلام وهو قائم.
قال العلماء: في هذا فائدة لطيفة، وهي أن التسميع ذكر الانتقال من الركوع إلى القيام الذي هو الوقوف، فيُشرع له الذكر المقارن كالتكبير، ثم إذا استتم قائماً كان ذكر ما بينهما -أي: ما بين الرفع وبين سجوده- أن يقول: (ربنا ولك الحمد)، كما هو الحال فيما بين السجدتين، فتقول التكبير عند الانتقال من السجود إلى الجلوس، فإذا جلست قلت: (رب اغفر لي).
بين السجدتين، كذلك هنا يكون تسميعك عند الانتقال وقولك: (ربنا ولك الحمد)، عند استتمامك قائماً، كأنهم نظروا أن التحميد ذِكرٌ لما بين الركنين، والتسميع ذكر انتقال.(48/5)
تسبيحتا الركوع والسجود
قال رحمه الله: [وتسبيحتا الركوع والسجود] هذان واجبان، أي: قوله: (سبحان ربي العظيم) في الركوع، وقوله: (سبحان ربي الأعلى) في السجود، وأما دليل وجوب التسبيح في الركوع فإنه لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوها في ركوعكم)، فإن قوله: (اجعلوها) أمر، والقاعدة تقول: الأمر يدل على الوجوب إلا إذا قام الدليل على صرفه.
فوَجَب على المكلف أن يمتثل هذا الأمر على سبيل اللزوم، وبناءً على ذلك فإذا ترك التسبيح لا يخلو من حالتين: إما أن يتركه ناسياً، وإما أن يتركه متعمِّداً، فإن ترك تسبيح الركوع أو تسبيح السجود متعمداً فإنه تبطل صلاته إماماً كان أو منفرداً أو مأموماً، سواءٌ أكان في فريضة أم نافلة، وإن تركه ناسياً فإنه إن كان وراء إمام قلنا: حمل الإمام عنه التسبيح، كأن يكون نسي، أو اقتصر على تعظيم الله عز وجل بغير التسبيح سهواً ونسياناً، أو ركع ولم يتكلم لمكان السهو، فرفع الإمام ولم يتدارك التسبيح، فحينئذٍ نقول: هذا السهو وراء الإمام يَحمِله الإمام عنه؛ لأن الإمام ضامن، وإن كان إماماً أو منفرداً فإنه يسجد للسهو.
وأما التسبيح في السجود فالدليل على وجوبه في السجود ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما نزل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال: (اجعلوها في سجودكم)، فدل قوله: (أجعلوها) على الأمر، والأمر يقتضى الوجوب، وبناءً على ذلك يجب على المكلف أن يقول: (سبحان ربي الأعلى) في السجود، وأن يقول: (سبحان ربي العظيم) في الركوع، فلو أبدل اللفظين فجعل (سبحان ربي الأعلى) في ركوعه، و (سبحان ربي العظيم) في سجوده، فإنه إن تَقصَّد وتعمَّد فقد أساء، وذلك لمخالفته للسنة.
وأما بطلان صلاته فالذي يظهر أن التسبيح قد حصل، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم في ركوعه يقول: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)، فدل على أن قوله: (أما الركوع فعظموا فيه الرب) يشمل التسبيح الذي يكون للسجود، ويكون اختلاف التسبيحين تنوعاً لا يُوجِب بطلان الصلاة بترك التسبيح المأمور به في الأصل، وبناءً على ذلك يجزيه، ولكن لا يخلو من الإثم لمكان التعمد بالعصيان، وأما لو تَرَك ذلك سهواً فإنه يُجزيه ويصح منه، ولا يُلزَم بسجود السهو، وإن سجد للسهو فحسن.(48/6)
سؤال الله تعالى المغفرة بين السجدتين
قال رحمه الله: [وسؤال المغفرة مرة، مرة ويسن ثلاث] التسبيح في الركوع والسجود الواجب منه مرة، ولا حرج أن يزيد المكلف، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يزيد، وكان يقول: (سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى)، وكان يُسمَع تسبيحه صلوات الله وسلامه عليه في صلاته.
وقوله: [وسؤال المغفرة مرة مرة]، أي: بين السجدتين، وهذا واجب آخر، أي: ويجب على المكلف أن يقول: (رب اغفر لي بين السجدتين)، وقد صح عنه أنه قال: (رب اغفر لي رب اغفر لي)، قاله مرتين صلوات الله وسلامه عليه بين السجدتين، فدل على مشروعية التكرار.
وهذا الذكر الذي بين السجدتين يعتبر واجباً بناءً على الأصل؛ لأننا عهدنا من الشرع أنه جعل الأذكار المتخللة بين الأركان واجبة فأُلحِق النظير بنظيره، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فقوي إلحاقه بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فأُلحِق بالواجبات، فصار ذكراً لما بين السجدتين، وأُلزِم به المكلف تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلو صلى المصلي ونسي أن يقول بين السجديتن: (رب اغفر لي)، وقال أي ذكر آخر، فحينئذٍ لا يخلو إما أن يكون منفرداً أو مأموماً، فإن كان منفرداً وتعمَّد بطلت صلاته، وإن كان منفرداً ونسي سجد للسهو، وإن كان مأموماً فإن تعمد بطلت، وإن سها حَمَل عنه ذلك الواجب الإمام.(48/7)
التشهد الأول والجلوس له
قال رحمه الله: [والتشهد الأول وجلسته] التشهد الأول وجلوسه كلاهما واجب، أما دليل الوجوب فما ثبت في حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم، فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم).
وهذا الحديث في الصحيح، ومثله حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في كونه رضي الله عنه وقع في نفس السهو، ولما سبحوا له أشار إليهم أن قوموا، ثم سجد قبل أن يسلم سجدتين، ثم رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعل.
فهذان الحديثان يدلان دلالة واضحة على أن هذا الجلوس واجب، أما دليل وجوبه فكون النبي صلى الله عليه وسلم جبره بسجدتي السهو، فدل على أنه دون الأركان؛ لأنه لو كان ركناً لرجع له النبي صلى الله عليه وسلم، فكونه لم يرجع له يدلّ على أنه ليس بركن، وكونه يَجبُره بالسجدتين يدلّ على أنه من الواجبات وليس من السنن والمستحبات، وبناءً على ذلك ارتقى عن درجة السنن والمستحبات، ونَزَل عن درجة الأركان، فأصبح واجباً من واجبات الصلاة.
ولما كان هذا الموضع يشتمل على فعل وقول قالوا بوجوب كل منهما؛ لأن الجبر وقع لهما معاً، واستُدِل به على أن الواجبات تتداخل، فمن ترك أكثر من واجب جبره بسجدتين وكان ذلك كافياً له ومبرِئاً لذمته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الواجب الفعلي وهو الجلوس، وترك الواجب القولي وهو قراءة التشهد.
فأصبح عندنا واجبان: الواجب الأول: الجلوس للتشهد بعد الفراغ من السجدة الثانية من الركعة الثانية.
الثاني: قراءة التشهد.
فإن تركهما جبرهما بسجود السهو، وإن ترك واحداً منها كأن يجلس وينسى أن يقول الشهد ثم يقوم، فإن كان وراء الإمام حمل الإمام عنه الذكر القولي، وإن كان منفرداً ومتعمداً بطلت صلاته، وإن كان ناسياً جَبَره بسجود السهو.(48/8)
سنن الصلاة
قال رحمه الله: [وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة سنة] تقدَّم معنا ذكر المصنف شروط الصلاة من النية والوقت والطهارة، واستقبال القبلة، وغيرها مما ذكر من الشروط، وذكر لنا الأركان الأربعة عشر التي ذكرناها، وذكر لنا الواجبات الثمانية التي كنا بصددها.
وعليه فما عدا هذه الأركان والواجبات والشروط فهو سنن، ومستحبات يُثاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها، ولو تركها عمداً فإن الشرع لم يُلزِم بها، والأصل أننا نعتبر ما اعتبره الشرع، فإن كان اعتباره على سبيل اللزوم ألزمنا، وإن كان اعتباره على سبيل عدم اللزوم رخَّصنا وقلنا: الناس في سعة، فإن فعلوا أثيبوا، وإن تركوا فلا حرج عليهم.
ومن هذه السنن المستحبات قوله: (ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد) إلخ بعد قوله: (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد).
فهذا الذكر من المستحبات، وليس بواجب ولا لازم، ولو قال بين السجدتين: (اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني وارزقني واهدني وعافني)، فهذا الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة وليس بواجب.(48/9)
حكم ترك بعض شروط الصلاة غير النية
قال رحمه الله: [فمن ترك شرطاً لغير عذرٍ غير النية فإنها لا تسقط بحال] قوله: (فمن ترك) الفاء للتفصيل، فبعد أن ذكر الشروط والأركان والواجبات شَرَع رحمه الله في حكم ترك هذه الأمور، فابتدأ بالشروط، وقد سَبق أن ذكر الشروط قبل الأركان، والسبب في هذا أن شروط الصحة والوجوب تكون قبل الأركان في غالب صور المصلي وأحواله، فإن الإنسان يتوضأ قبل الصلاة وقبل فعل أركان الصلاة، وهكذا بالنسبة لاستقباله القبلة يكون قبل تكبيره حتى يقع تكبيره وفعله للأركان في حالة استقباله للقبلة، وهكذا طهارته من الحدث وطهارته من الخبث.
فلذلك ابتدأ بحكم ترك الشروط، فالتارك للشرط إما أن يتركه معذوراً فحينئذٍ يسقط عنه لمكان العذر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، إلا شرطاً واحداً من شروط الصحة وهو النية.
فلو ترك المكلف الوضوء والتيمم لعدم وجود الماء وعدم وجود ما يتيمم به -وهي مسألة فاقد الطهورين- فإنه تصح صلاته وتجزيه؛ لأنه ليس بإمكانه إلا ذلك، والقاعدة تقول: (التكليف شرطه الإمكان) لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
فإذا كان المكلَّف عاجزاً عن تحصيل الشرط الذي هو طهارة الحدث فإننا نعذره ونقول: صلاته صحيحة، والدليل على ذلك ما ذكرناه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمستحاضة أن تُصَلِّي والدم يجري معها، فدل على أنها معذورة، وأن من كان في حكمها معذوراًَ أنه يرخص له في صلاته.
ولأنه عليه الصلاة والسلام أقر الطائفة التي صلت قبل فرضية التيمم بدون وضوء، مع أن الوضوء كان لازماً، وقد ثبت اعتبار لزومه بالشرع، ومع هذا صحَّح صلاتهم ولم يأمرهم بالإعادة، وذلك لعدم إمكانهم أن يتوضأوا، فدلنا ذلك على أن من ترك الطهارة من الحدث لوجود العذر فصلاته صحيحة.
ولو ترك شرط طهارة الخبث لعذر فالحكم كذلك، كأن تَرَكه نسيان، كما لو صلَّى ولم يعلم أن بثوبه نجاسة، فلما سلَّم اطلع على النجاسة فإن صلاته صحيحة، والدليل حديث أنس في الصحيح (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت فخلعنا فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا).
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد الصلاة من بدايتها؛ لأنه فعل أركاناً كتكبيرة الإحرام، وربما قرأ الفاتحة، وقد يكون ركع عليه الصلاة والسلام، أو فعل أكثر من ركعة، ومع هذا لم يُعِد ولم يستأنف الصلاة، وإنما اعتبر الأركان السابقة، وذلك بسبب وجود العذر من النسيان.
فدلّ على أن من ترك طهارة الخبث لمكان النسيان أنه معذور وصلاته صحيحة، وهكذا لو ترك استقبال القبلة لعذر يُعذر به شرعاً، ألا ترى المسافر عذره الشرع في استقبال القبلة، فلو اجتهد ثم تبين له أن اجتهاده خاطئ فإن صلاته صحيحة، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان مع الصحابة في ليلة مغيمة، فصلّوا وهم على غير قبلة، فلما أصبحوا تبينوا أنهم على خطأ، فقال عليه الصلاة والسلام: (قد مضت صلاتكم)، فدل على أن من فقد هذا الشرط معذوراً -وهو استقبال القبلة- الذي يُشترط لصحة الصلاة أنه يعذر وتصح صلاته.
ويستثنى من سقوط الشروط بالعذر النية؛ فإنه لا تصح الصلاة إلا بها، والدليل على هذا أن النية دلّ الشرع على عدم الاعتداد والاعتبار بالعبادات إلا بها، فدل على أن الأصل عدم صحة العبادة إلا بالنية.
أما الشروط الأخرى فقد جاءت النصوص تستثني بعضها، كاستقبال القبلة، والطهارة من الحدث والخبث، ونحوها من الشروط، فتلك الشروط من تركها لعذر عذرناه لورود النصوص بالاستثناء، وبقي شرط النية على الأصل الموجب لعدم الاعتداد بالعبادة إلا بها.(48/10)
حكم ترك ركن أو واجب من الصلاة عمداً
قال رحمه الله: [أو تعمد ترك ركن أو واجب بطلت صلاته بخلاف الباقي] أي: كذلك لو تعمّد ترك ركن أو واجب بطلت صلاته بخلاف البواقي، إلا إذا كان لعذر فيُعذر.
فمن ترك ركناً متعمداً، كما لو لم يقرأ الفاتحة وهو ذاكر ومتعمِّد بطلت صلاته، أو قرأ الفاتحة وسورة، ثم قال: بدلاً من أن أركع أسجد.
فسجد مباشرة، فإنه حينئذٍ يكون قد ترك ركن الركوع والرفع من الركوع فتبطُل صلاته إذا تعمد.
فهذا بالنسبة للأركان وهو بالإجماع.
وهكذا لو ترك الترتيب بين الأركان، كما لو قال: أسجد ثم أقوم وأركع.
فإنه حينئذٍ تبطل صلاته؛ لأن الترتيب يُعتبر من فرائض الصلاة، ولا تصح إلا به.(48/11)
أحكام السنن
قال رحمه الله: [وما عدا ذلك سنن أقوال وأفعال] ذكر لنا رحمه الله الصلاة مجملاً، ووصف لنا الصلاة بصفتها الكاملة، ثم قال: ما عدا الأركان والواجبات والشروط فسنن، سواءٌ أكانت من الأقوال أم من الأفعال، فلا تبطل الصلاة بتركها، فمن فعلها فقد أُثِيب وأَحْسَن، ومن تركها فلا إثم ولا حرج عليه.
قال رحمه الله: [ولا يشرع السجود لتركه، وإن سجد فلا بأس] أي: ولا يشرع سجود السهو بترك هذا المسنون قولاً كان أو فعلاً، فإن سجد فلا بأس.
وبعض العلماء يقول: إذا كان الإنسان ترك سنة يسجد لها، ولا يُفرق بين الواجبات وغيرها.
وهذا القول مذهبٌ والعمل على خلافه عند أهل العلم رحمة الله عليهم، والصحيح أن السنة لا يجب جبرها؛ لأنها ليست بلازمة، ولو كانت لازمة لنُزِّلَت منزلة الواجبات، فيكون رفعة لها عن مرتبتها التي نص الشرع أو دلّ دليل الشرع، على كونها فيها، وبناءً على ذلك لا تُنَزَّل السنن منزلة الواجبات، فحيث ترك سنة نقول: إنه لا حرج عليه، ولكن فاته الأكمل والأفضل.
والدليل على ذلك أن الصحابة كانوا يصلون وراء النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم سنن، ومع ذلك لم يُلزِمهم بسجود السهو لعدم إتيانهم بهذه السنن.
ألا ترى دعاء الاستفتاح لم يطلع عليه أبو هريرة إلا بعد أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستفتح بهذا الدعاء، فدلّ على أن السنن لا يجب جبرها بسجود السهو، وإن فعل ذلك فقد قال بعض العلماء: لا حرج أن يسجد للسهو.
لكن بعض أهل العلم يقول: لو أن الإنسان ألف السنة -أي: أعتادها-، وداوم عليها ثم أتاه الشيطان فنسيها، فلو جبرها بسجود السهو فإنه حسن أي أنه يُفرِّق بين السنة التي يداوم عليها والسنة التي لم يداوم عليها، فإن كان مداوماً على الدعاء الذي بعد التحميد، وهو قوله: (ملء السماوات وملء الأرض ... ) إلخ، أو مداوماً على دعاء الاستفتاح وتركه ناسياً قالوا: يسجد للسهو، وحسنٌ منه أن يفعل ذلك.(48/12)
الأسئلة(48/13)
مناسبة تقديم المصنف للمكروهات قبل الأركان والواجبات
السؤال
أشكل عليَّ تقديم المصنف رحمه الله للمكروهات على الأركان والواجبات فهل هذا هو الأولى؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذا من الدقة بمكان، لأن الإنسان إذا جاء يصلي فإنك تحذِّره مما يكره قبل أن يشرع في الصلاة؛ لأن التحذير يقع قبل التلبس بالشيء لا بعده، ولذلك تقديمه على الأركان والواجبات له وجه من جهة التحذير ومن جهة والبيان، حتى يكون الإنسان على بينة من أمره، وهذا اعتذارٌ للمصنف، وإلا فإنه يستقيم لو أنك ذكرت الشروط، ثم الأركان، ثم الواجبات، ثم السنن والمستحبات، ثم المخالفات وهي المكروهات، وهذا أيضاً له وجهه، ويفعله بعض العلماء رحمة الله عليهم، فهذا له وجهه وهذا له وجهه، والله تعالى أعلم.(48/14)
وجوب التلفظ بجميع أذكار الصلاة وضابطه
السؤال
إذا كانت قراءة الفاتحة يجب التلفظ بها، فهل يُقاس على ذلك بقية أذكار الصلاة؟
الجواب
نعم، فلا بد لمن كبر أن يتلفظ بالتكبير، فلو تلفظ في نفسه لم يقم بالواجب، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، وقوله: (إذا كبَّر فكبروا)، ولا يصدق على الإنسان أنه كبَّر إلا إذا تلفَّظ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا)، والقول إنما يكون باللفظ، والكلام النفسي لا يعتبر قولاً، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً لمن يقول: إن الكلام النفسي كلام.
وبناءً على ذلك لا بد وأن يتلفظ، واللفظ يكون بتحريك الشفتين واللسان وحصول الحروف على الوجه المعتد به، والله تعالى أعلم.(48/15)
حكم متابعة الإمام في السنن
السؤال
ما هو حكم متابعة الإمام في السنن، وهل تضر مخالفته عند تركها؟
الجواب
متابعة الإمام في السنن ليست بواجبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرنا في حديث أبي هريرة -كان يفعل السنن وهي خافية على الصحابة، فدل على أنها ليست بواجبة ولا لازمة.
ومن الأدلة على عدم وجوبها حديث أنس في الصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، ثم فصَّل وبين، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قوله: (فإذا كبر فكبروا) تفصيل لإجمال وهو قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فبين صلوات الله وسلامه عليه ذلك الإجمال بقوله: (إذا كبروا فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: (سمع الله لمن حمده) فقولوا: (ربنا ولك الحمد))، وفي الرواية الثانية: (إذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: (وَلا الضَّالِّينَ) فقولوا: (آمين)) فهذا كله يدل على ما يجب وما هو ركن، وأن ما ليس مذكوراً في هذا من السنن فالأمر موسَّع فيه.
فلا يجب على المكلف أن يتابع إمامه في السنن، فلو أن الإمام جلس جلسة الاستراحة وأنت لم تجلس فلا حرج.
وهذا إذا كانت سنة فعلية، وفي حكمها السنة القولية، فلو أن الإمام قرأ دعاء الاستفتاح ولم تقرأه فإنه لا حرج عليك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ دعاء الاستفتاح ويتركه بعض الصحابة ولم يُنكِر عليهم، وكذلك كان يزيد في قوله: (سمع الله لمن حمده) قوله: (ربنا ولك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض ... ) إلخ، وكان يخفى على كثير من أصحابه، ومع ذلك لم يُلزِم به، فدلّ على أنه على سبيل النفل لا على سبيل الوجوب، وأن المكلف لو ترك هذه السنن فلا حرج عليه، والله تعالى أعلم.(48/16)
حكم من صلى بغير طهور ثم ذكر بعد خروج وقت الصلاة
السؤال
صلى رجل وهو محدث وكان ناسياً، ولما خرج وقت الفريضة تذكر أنه صلى بغير وضوء، فما الحكم؟
الجواب
لا تصح الصلاة إلا بطهور كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وبناءً على ذلك فإنه إذا تذكر داخل الوقت، أو تذكر بعد خروج الوقت فإنه يُلزَم بقضاء الصلاة، ولو تذكر بعد أيام، ولو تذكر بعد شهور، بل ولو تذكر بعد أعوام فإنه يلزم بقضاء الصلاة؛ لأنه لا تُقبل منه صلاة إلا بطهور كما ذكرنا، والله تعالى أعلم.(48/17)
الفرق بين من صلى وفي ثوبه نجاسة وبين من صلى تاركاً للطهارة
السؤال
أشكل عليَّ فهم مسألتين: الأُولى: صلى وفي ثوبه نجاسة ناسيا فصحت صلاته، والثانية: صلى ونسي أنه ليس بمتوضئ فلم تصح صلاته، وهل المسألتان من باب واحد؟
الجواب
الطهارة نوعان: طهارة حدث وطهارة خبث، وينبغي في الأصل أن يتساويا في الحكم؛ لأنه يقال: كيف إذا صلى وعليه نجاسة ناسياً وتذكّر بعد الصلاة تصح صلاته، وإذا صلى وهو ناسٍ للوضوء، أو ناسٍ للغُسل يُلزم بالإعادة؟! والجواب: أن الفرق واضح وظاهر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وجاء دليل الشرع بالأمر بطهارة الخبث، فلما جاءت السنة تستثني في حديث النعلين طهارة الخبث بقيت طهارة الحدث على الأصل الذي يُوجِب عدم صحة الصلاة إلا بفعلها.
وهناك مخرج آخر لبعض الفقهاء، حيث يقولون: إن طهارة الخبث من التروكات، وطهارة الحدث من الأفعال والواجبات، فيُغتفر في التروكات ما لا يُغتفر في الواجبات، فالتروكات الأمر فيها أوسع من الواجبات، فصحَّت صلاته في التروكات ولم تصح في الواجبات، والله تعالى أعلم.(48/18)
لزوم مقارنة تكبيرات الانتقال للأفعال
السؤال
هل يكبِّر المصلي ثم ينتقل إلى الركوع، أم يكبر أثناء الانتقال، أم يكبر بعد الانتقال؟
الجواب
الأولى والأحرى أن يكون التكبير مقارناً؛ فإن بعض السنن تشير إلى ذلك، كما في صحيح البخاري من حديث خباب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود فإني قد بدنت)، فقد دل ذلك على أن قوله كان مُصاحباً لفعله، فلو كان فعله يسبق قوله لما شعر به الصحابة، ولما كانوا سابقين له، لكن لما أقترن قوله بفعله دل على أن الصحابة يشعرون بالانتقال فتكون خفتهم موجبة للسبق فقال: (لا تسبقوني فإني قد بدنت)، فدل هذا الحديث -كما قرر غير واحد من الأئمة- على أن الأولى بالإمام والمنفرد والمأموم أن يجعل الذكر مقارناً، إلا ما دل الشرع على تأخيره، كالتحميد بعد انتهائه من الرفع، فقد قالت عائشة: ثم قال وهو قائم: (ربنا ولك الحمد)، فهذا يشرع بعد تمام القيام.
أما التكبيرات فتشرع عند الانتقال، خاصة الإمام.
قال بعض العلماء: في تخصيص الأئمة حكمة لطيفة، وذلك أن المأمومين منهم من يرى الإمام ولا يسمع صوته، ومنهم من يسمع صوته ولا يرى شخصه، فلو سبق القول الفعل أو الفعل القول فإن هذا يحدث الاختلاف، فإن الأعمى يسمع الصوت ولا يرى الشخص، فلربما سبق بالفعل إذا كان الإمام يسبق بالقول، وكذلك الحال لو كان يرى شخصه ولا يسمع صوته كالحال في الصفوف البعيدة جداً التي يرى فيها الإمام ولا يسمع فيها صوته، فلو كان الإمام بمجرد قيامه من التشهد يقوم ولا يكبر إلا إذا وقف، فإنك إذا كنت في الصف الأخير ولا تسمع صوته، فإنه مظنة أن تراه يتحرك فتتحرك مع أنه لم يكبر للانتقال، قالوا: فهذا يؤدي إلى سبق المأموم للإمام.
ولذلك قالوا: يُحتاط بالمقارنة فهذا أولى وإن كان بعض السنة يُفهم منه سبق القول للفعل، والله تعالى أعلم.(48/19)
عمرة أهل مكة في رمضان
السؤال
هل لأهل مكة عمرة، خصوصاً في رمضان؟
الجواب
لا حرج على أهل مكة أن يعتمروا، فإن الترغيب في العمرة خاصة في رمضان النص فيه عام، وليس هناك دليل في الكتاب والسنة يُحرِّم على أهل مكة أن يعتمروا، ولو نقل المنع عن بعض السلف فإن هذا لا يقوى على التحريم.
فالتحريم والمنع يحتاج إلى دليل ينص على أنهم لا يعتمرون، وفي حديث ابن عباس في الصحيح قال صلى الله عليه وسلم في المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك -أي دون المواقيت- فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة).
فدل على أن لأهل مكة أن يُهِلوا، ويشمل ذلك تلبيتهم بالحج والعمرة، خصوصاً أن مذهب طائفة من العلماء أن العمرة واجبة، ولذلك لا يُفرَّق بين أهل مكة وغيرهم، ولكن كان بعض العلماء رحمة الله عليهم يقول: لا ينبغي للمكي أن يذهب للعمرة ويُفَوِّت فضل الطواف بالبيت، وأُثر عن بعض أصحاب ابن عباس أنهم كانوا يقولون: عمرة أهل مكة الطواف بالبيت.
ووجه ذلك أنهم خرجوه على النظر، فقالوا: لأنهم إذا خرجوا إلى التنعيم تكلَّفوا الخروج، فما دام أن العمرة يقصد منها الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فإن هذه الخطوات التي يذهب بها إلى التنعيم ويرجع منه الأولى أن تُستغل في الطواف بالبيت.
أي: بدلاً من أن يذهب إلى التنعيم ويتكلَّف الذهاب فليطُف بالبيت، فمن هنا تخرَّج قولهم: عمرة أهل مكة الطواف بالبيت.
إلا أن هذا إنما يكون لأُناس معروفين بالمرابطة عند البيت، فتجدهم لا يفرطون في مكة، ولا يفرطون في الصلاة في الحرم، ولا يفرطون في الطواف، بحيث إذا خرج من مكة ضاع عليه وقته في الذهاب، فيكون فيه نوع من الاشتغال بالمفضول عن الأفضل، لكن إذا كان مثل حالنا ولا حول ولا قوة إلا بالله، حيث تجد الإنسان في مكة وعهده بالبيت منذ أسابيع أو شهور، وبعضهم ربما تمر عليه فترة طويلة وهو لا يرى البيت، لأنه يرى قول من يقول إن الصلاة بمكة كلها مضاعفة، فتَرَخَّص في هذا القول، وإذا قيل له: انزل وطُف بالبيت قال: فيه فتن.
فيُضيِّع الشيطان على كثير من الأخيار الخير بسبب ما يكون من هذه الأعذار والعلل العقلية، ففي هذه الحالة الأولى له أن يعتمر، فالطواف بالبيت له فضله، فإذا كان الشخص قائماً بمكة كثير العبادة في الحرم فلا شك أن الأفضل أن يشتغل بالطواف، ومن أراد أن يُصيب فضل العمرة في مكة تحصيلاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة في رمضان فإنه لا حرج عليه، وليس هناك دليل يمنع، ومَن مَنع يُطالَب بالدليل، لكن الاستكثار من الخروج والرجوع وتكرار العمرة للمكي وغير المكي بدون موجب لا أصل له، فإذا وجد الموجب فلا حرج، كرجل قدم من الآفاق فاعتمر، ثم أراد أن يعتمر عن أبيه الذي لم يعتمر، أو عن أمه التي لم تعتمر فلا حرج، لكن لو أراد هذا الآفاقي بعد إتيانه بالعمرة أن يأتي إلى التنعيم ويعتمر نقول له: طف بالبيت؛ لأن الآفاقي الأفضل له أن يشتغل بالطواف بالحرم؛ لأن المقصِد أولى من الوسيلة، فإن خروجه إلى العمرة مآله إلى الطواف بالبيت، فالأفضل منه أن يشتغل بالطواف بالبيت، وهذا هو الذي ذكره غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم، وإلا فالأصل الجواز، والبقاء على الأصل معتبر حتى يدل الدليل على الزوال عنه، والله تعالى أعلم.(48/20)
حكم طواف الوداع للمعتمر
السؤال
ما حُكم طواف الوداع للمعتمر؟
الجواب
هذه مسألة خلافية، فمن العلماء من قال بوجوبه لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه يعلى بن أمية رضي الله عنهما وأرضاهما أنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي عليه جبة عليها صفرة من أثر الطيب، وهو معتمر بالجعرانة فقال: يا رسول الله! ما ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ قال: فأُوحِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يغط كغطيط البكر، فلمّا سُرِّي عنه قال: أين السائل؟ قال: أنا.
قال: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).
قالوا: وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).
فهذا يدل على أن العمرة تأخذ حكم الحج، فإن كان طواف الوداع واجباً في الحج فيلزمكم أن تقولوا بوجوبه في العمرة.
وذهب طائفة من العلماء إلى أنه لا يجب طواف الوداع في العمرة.
وهذا هو الصحيح؛ لأنه الأصل، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عائشة أن تطوف طواف الوداع بعد فراغها من عمرتها بعد الحج، ولأن الدليل الذي استدلوا به إنما هو أشبه بالتروكات لا بالأفعال، ووجه ذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) المراد به حسب السياق الذي ورد في القصة: اصنع في عمرتك هذه ما أنت صانع في حجك من الانكفاف عن المحظورات؛ إذ لو كان المراد به الأفعال لوجب عليه أن يخرج إلى عرفة، وأن يبيت بمزدلفة، وأن يفعل ما يفعله الحاج في الأفعال، فدل على أنه في مقام التروكات، وليس في مقام الأفعال.
فبما أن قوله: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) تخرج منه أفعال الحج، فإن طواف الوداع من أفعال الحج، وتأكّد هذا من جهة النظر في معنى طواف الوداع، ففي حديث عائشة في طواف الوداع في الصحيح قالت رضي الله عنها: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات) بمعنى أنهم يكون آخر عهدهم بمنى وعرفات، قالت: (فأُمِروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً)، والسبب أنهم كانوا يطوفون يوم النحر فيبعد عهدهم بالبيت، فشُنِّع على الحاج أن يصدُرَ من حجه دون أن يطوف بالبيت، قالت: (فأُمِروا -وهذا تخصيص واضح بالحاج- أن يجعلوا آخر عهدهم -أي: عهد الحاج- بالبيت طوافاً)، فصار من واجبات الحج، ولم يصر من واجبات العمرة، ويتأكد هذا بأن عائشة بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بطواف الوداع في الحج لم يأمرها أن تطف طواف الوداع في عمرتها، وإلا كانت ستقول: أُمِر الناس إذا صَدَروا من مكة أن يطوفوا؛ لأنه يشمل المعتمر وغير المعتمر.
ولذلك الذي تميل إليه النفس أنه لا يصح الاستمساك بقوله عليه الصلاة والسلام: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) بوجوب طواف الوداع.
وذلك لأنه ثبت بدليل الشرع أن المراد به ترك المحظورات، فإن كان لا يشمل أفعال الحج الواجب من رَمْي الجمار والمبيت بمزدلفة ونحوها من الواجبات، فكذلك لا يشمل طواف الوداع الذي هو من خصوص الحج، لكن الأولى والأحرى إذا أحب الإنسان أن يخرج من الخلاف أن يطوف للوداع.
ومن الأدلة أيضاً التي تدل على ضعف قول من يقول بطواف الوداع في العمرة قول: بعض العلماء -وهو استنباط جيد-: إن الذين قالوا بوجوبه على المعتمر اضطربت أقوالهم، فقال بعض العلماء: يجب على المعتمر بمجرد انتهائه من عمرته.
أي: بعد أن ينتهي من العمرة ينزل ويطوف.
وقال بعضهم: لا.
بل أجمعوا على أن المعتمر إذا طاف وسعى ومشى مباشرة ليس عليه طواف وداع.
فاضطربت أقوالهم في المعتمر الذي يَصدُر مباشرة، ثم اضطربت في المعتمر الذي يجلس، قال بعضهم: إن جلس ساعة وجب عليه طواف الوداع.
وقال بعضهم: إن جلس فرضاً وجب عليه طواف الوداع.
وقال بعضهم: إن جلس خمسة فروض، أو يوماً كاملاً وجب عليه طواف الوداع.
فلو كان طواف الوداع واجباً على المعتمر لما تُرِك على هذا الاختلاف، ولحَدّ الشرع فيه حداً معيناً يُنتَهى إليه، ولذلك يَقوى أنه اجتهاد، والأصل براءة الذِّمَم، وإن احتاط المكلف فلا حرج عليه، والله تعالى أعلم.(48/21)
حكم التقبيل والمداعبة للصائم
السؤال
هل يجوز التقبيل والمداعبة للصائم إذا لم يُنزل، وما الحكم إذا أنزل دون جماع؟
الجواب
أما التقبيل فلا حرج فيه على الصائم، فقد جاء في حديث عمر رضي الله عنه في تقبيل الصائم أنه كالمضمضة، ولكن إذا كان الإنسان يغلب على ظنه أنه يقع في المحظور فإن الوسائل آخذة حكم المقاصد فيَتَّقي ويَمتَنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أملك الناس لإربه كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقد قال العلماء: أكمل الناس أجراً في الصيام من اتقى الرفث واللغو، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو لبيان الجواز وتوسِعةً على الأمة، ولكن الأفضل والأكمل تركه.
ولذلك قال بعض العلماء: إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم المفضول كان أفضل في حقه.
ولا يُشكِل على هذا أن يقول قائل: لو كان الأفضل ترك التقبيل فلماذا لم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإنهم قالوا: فعله تشريعاً، ولم يفعله على سبيل القصد.
وفرقٌ بين التشريع والقصد، ومن هنا يتخرَّج قولهم: إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما قد نهى عنه فهذا الفعل يصرف النهي إلى الكراهة.
فحين يقول قائل: كيف يصير هذا الشيء مكروهاً مع أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله؟ عندئذ تقولون: لأن المقام مقام تشريع، ولا يسري عليه ما يسري على عموم الأمة.
فنسأل الله العظيم أن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، وأن يجعل ما تعلمناه وعلّمناه خالصاً لوجهه الكريم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(48/22)
شرح زاد المستقنع - باب سجود السهو [1]
شرع الله السهو جبراً للنقص وإبطالاً للزيادة، ويشرع كذلك لأجل الشك في الصلاة، وهو سجدتان يسجدهما المصلي قبل السلام أو بعده على تفصيل معلوم في ذلك، ولا يسجد للسهو إلا من نسيان أو شك، أما العمد فليس فيه سجود سهو.(49/1)
أحكام سجود السهو
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب سجود السهو].
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام الشرعية المتعلقة بالسهو في الصلاة، ويعبِّر عنه العلماء بـ (باب سجود السهو)، والأصل أن يقال: باب السهو.
لكن لما كان هذا السهو يترتب عليه الأمر بسجدتي السهو قالوا: (باب سجود السهو)، و (باب سجدتي السهو) كما يعبر عنه بعض العلماء، وبعضهم يقول: (باب السهو في الصلاة)، أو (أحكام السهو في الصلاة)، فيجعل الباب عاماً، لكن لو جُعِل خاصاً فإن هذا هو الأصل الذي ورد الدليل فيه.
فمن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يذكروا ما يشرع له سجود السهو في هذا الموضع، ويذكرون أحكام السهو العامة، فمن يعبر ويقول: (باب أحكام السهو في الصلاة)، يُعبر بالعموم، ومن يعبر فيقول: (باب سجود السهو)، يُعبر بالخصوص، ثم يتبع بالخاص الذي ورد الدليل فيه بقية الأحكام لمكان المجانسة؛ لأن من عادة الفقهاء أن يذكروا أجناس الأحكام المتقاربة مع بعضها في أبوابها أو فصولها ومباحثها.
وسجود السهو المراد به سجدتان، وهاتان السجدتان تكونان قبلية وتكونان بعدية، على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله، وتُشرع هاتان السجدتان بتكبير للسجدة الأولى ورفع، ثم تكبير للثانية ورفع، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسلِّم من هذا السهو كما سيأتي إن شاء الله تعالى.(49/2)
خلاف العلماء في التشهد بعد سجدتي السهو
للعلماء وجهان في التشهد بعد سجود السهو إذا وقع بعد السلام: قال بعض العلماء: إذا سجد بعد السلام سجدتي السهو تشهد، وفيه حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما في قصة ذي اليدين أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فرجع إلى مقامه فصلى ما تركه، ثم سلم، ثم كبر فسجد، ثم تشهد، ثم سلم)، لكن زيادة (تشهد) انفرد بها أشعث عن أصحاب ابن سيرين الحفاظ، ولذلك قالوا بأنها شاذة.
والعمل عند طائفة من المحققين من أهل الحديث على شذوذ ذكر التشهد، وإن كان الحافظ ابن حجر يقول: لو قال قائل بتحسين الحديث لوجود شواهد أخرى تقويه فإنه له وجه وقوَّى ذلك العلائي أيضاً فقال: إن التحسين له وجه، خاصة وأن ابن مسعود فعله، فقد جاء عنه بسند صحيح كما روى ابن أبي شيبة في المصنف.
وعلى ذلك فلو فعل الإنسان التشهد خروجاً من الخلاف فلا حرج عليه خاصة وأن له أصلاً، ولو تركه فلا حرج عليه.(49/3)
حكم سجود السهو
للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: سجود السهو جميعه زيادةً ونقصاً واجب.
وهذا قول الحنفية والحنابلة رحمة الله على الجميع، وبناءً على ذلك لو أن المكلف زاد في الصلاة أو نقص منها، وتذكَّر أنه زاد أو نقص فلم يسجد للسهو فإنه يُحكم ببطلان صلاته إذا تركه متعمداً، فعند أصحاب هذا القول أنه واجب من واجبات الصلاة، فلو قلت للإمام: إنك زدت.
فقال: علمت أني زائد.
فقلت له: اسجد للسهو.
فقال: لا أريد أن أسجد.
وتركه متعمداً بطلت صلاته وصلاة من صلى وراءه لتركه متعمداً.
القول الثاني: سجود السهو سنَّة، وبه قال الإمام الشافعي رحمة الله عليه، فعنده إن فعل فقد أحسن، وإلا فإن الصلاة يُحكم بصحتها والاعتداد بها.
القول الثالث: التفصيل، وهو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمة الله عليه، قال: إن كان السجود سجود نقص فواجب؛ لأنه يجبر نقصاناً في الصلاة فكأنه من الصلاة، فحل محل الواجب من الصلاة، وإن كان السجود لزيادة فسنة، ولا يحكم ببطلان صلاة المكلف؛ لأنه قد جاء بالصلاة كاملة.
والصحيح أن سجود السهو واجب، وذلك لما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم)، فإن أمره بالسجود يدل على الوجوب، وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمسا، فقالوا: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً.
فثنى رجليه وسجد سجدتين ... )، ثم ذكر الحديث وفيه: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم).
فهذه أوامر، والقاعدة في الأصول أن الأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه.
فلما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسجد سجدتي السهو دلّ ذلك على وجوبها ولزومها، وأنه إذا تَركها المكلَّف فقد ترك الواجب، وحكمه حكم تارك الواجب سواءً بسواء.
وإذا قلنا بالوجوب وأنه هو الصحيح، فإنه لو أن إنساناً صلَّى ونسِي واجباً من واجبات الصلاة، ثم سلَّم وقام من مصلاه وهو في المسجد إلى حلقة علم، أو قام إلى موضع ثانٍ، وتذكَّر بعد قيامه فعلى القول بالوجوب يلزمه أن يستقبل القبلة وأن يكبر ويسجد، وذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عبد الله بن مسعود قال: (فثنى رجليه وسجد سجدتين) الحديث، فإنه عليه الصلاة والسلام تداركه حين كان في المسجد، فلذلك إذا تذكر السجديتن وهو في المسجد يقضي، وهكذا لو كان في بيته في مكان الصلاة، أما لو خرج من المسجد وتذكَّر بعد خروجه فإنه لا يُلزَم بالرجوع، وقد مضت صلاته وصحَّت، وتسقط عنه السجدتان لمكان العذر؛ لأن المكان قد فارقه المكلف، ولا يمكن بمفارقته التدارك فتصح صلاته وتجزيه.(49/4)
الحكمة من سجود السهود في الصلاة
شرع الله عز وجل السهو جبراً للنقص وإبطالاً للزيادة، يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد في الصحيح: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان).
فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أحكاماً، منها أن سجود السهو إن كان لزيادة أبطل الزيادة، فكأن المصلي لم يفعلها.
وقال بعض العلماء: في سجود الزيادة إغاظة الشيطان، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان)، وبناءً على ذلك قالوا: إن السهو كان من الشيطان، فكونه يسجد أبلغ في رد الأذية التي كانت من الشيطان.
ولذلك ثبت في الحديث أنه: (إذا سجد ابن آدم اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله! أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار)، فيكون ذلك أبلغ في الأذية والتحقير والإرغام له.
ومن حكم الله تعالى في تشريعه لهذا السجود الرفق بالمكلف؛ فإنه لو قيل: إن المكلف إذا نقص من صلاته فصلاته باطلة، وإذا زاد في صلاته فصلاته باطلة، فكيف سيكون حال الناس؟ فإن الإنسان ضعيف، فربما دخل الصلاة وهو مشوّش الفكر بهمٍّ في نفسه أو أهله أو ولده أو ماله أو تجارته، ومن مظان ضعفه أن يضعف أمام الوساوس والخطرات، فالسهو لا بد منه، ولا بد وأن يقع، وقل أن تجد إنساناً يسلم من هذا السهو، وقد حصل لنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه وهو أكمل الناس خشوعاً وتقوى لله عز وجل، فما بالك بغيره صلوات الله وسلامه عليه؟! فلو أن الشريعة حكمت على كل من زاد في صلاته أو نقص ساهياً ببطلان صلاته فكيف ستكون صلاة الناس؟ وكيف يكون حالهم؟! خاصة من ابتلي بالوسوسة أو كان عنده شك، فإنه تضيق به الأرض، وتصعُب عليه عبادته حتى يكون أصعب ما يكون عليه أن يصلي، أو يقف بين يدي الله عز وجل، مع أن الصلاة طمأنينة القلوب، وفيها انشراح الصدور وحصول الخير للإنسان بوقوفه بين يدي ربه، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقول: (يا بلال! أرحنا بالصلاة)، فتنقلب الصلاة هماً على المكلف بدلاً من كونها انشراحاً لصدره ورحمة به.(49/5)
التفصيل في محل سجود السهو
المسألة الأخيرة في سجود السهو: السهو يكون بالزيادة ويكون بالنقص، وبعض السجود يكون قبل السلام وبعضه بعد السلام، فهل المكلف مطالب بالسجود على وتيرة واحدة، بمعنى أنه يسجد السجود كله بعد السلام، أو كله قبل السلام، أو فيه تفصيل؟ للعلماء رحمة الله عليهم ثلاثة أقوال في محل السجود: القول الأول: أن السجود جميعه بعد السلام.
وهذا القول مأثور عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود فجميع السجود عندهم يكون بعد السلام، وبهذا القول قالت الحنفية رحمة الله عليهم، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، ومروي عن عمار بن ياسر، سواءٌ أكان لنقص أم لزيادة، وحكاه بعض العلماء عن سعد بن أبي وقاص.
وعند هؤلاء أيضاً أنك إذا سجدت للسجدتين فإنك تتشهد، فيقولون بالتشهد بعد السلام أيضاً، لما ذكرناه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
القول الثاني: أن السجود كله يكون قبل السلام، وهذا القول مروي عن أبي هريرة، وبه قال الليث بن سعد فقيه مصر رحمة الله عليه، وهو مذهب الأوزاعي، ومذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع، فيقولون: جميع السهو يكون قبل السلام سواءٌ أكان المكلف قد زاد في صلاته أم نقص منها، لكن استثنى الحنابلة أنك لو سلمت ونسيت السجود قبل السلام فإنك تسجد بعد سلامك ولا حرج عليك.
القول الثالث: التفصيل بين النقص والزيادة، فقالوا: إن سها بنقص فالسجود قبل السلام، وإن سها بزيادة فسجوده بعد السلام، وهذا هو مذهب المالكية رحمة الله على الجميع.
فعندنا في المسألة ثلاثة أقوال: قول بأن السجود كله يكون بعد السلام، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص، وبهذا القول يقول فقهاء الحنفية رحمة الله عليهم.
وقوله: أن السجود كله يكون قبل السلام، وبه يقول فقهاء الشافعية والحنابلة، ومروي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.
وقول: بالتفصيل، إن كان نقصاً فقبل السلام، وإن كان السهو زيادة فبعد السلام، وهو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمة الله على الجميع.
واحتج الذين قالوا: جميع السجود يكون قبل السلام بأحاديث: أولاً: حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم)، قالوا: فقوله صلى الله عليه وسلم: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم) أمر، والأمر يدل على اللزوم والوجوب، وكونه قبل أن يسلم يدل على ظرفية الأمر وهو كونه واقعاً قبل السلام.
ثانياً: حديث ابن عباس، وهو بنحو حديث أبي سعيد، وأصله في الصحيح.
ثالثاً: حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وأرضاه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من الثنتين من الظهر ولم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم)، وهذا حديث أيضاً في الصحيح.
ومثله ما أخرجه الترمذي وصحَّحه أن المغيرة صلى بالناس وسها فلم يجلس في التشهد الأول، فسبحوا له فأشار إليهم أن: قوموا.
فلما فرغ من تشهده سجد السجدتين ثم سلم) ورفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل مثل ما فعل.
قالوا: هذه الأحاديث كلها تدل على أن السجود كله يكون قبل السلام، سواءٌ أكان لنقص أم لزيادة، فهذا مذهب الشافعية والحنابلة كما قلنا.
وأما الذين يرون أن السجود كله بعد السلام -وهم الحنفية- فقد احتجوا بأحاديث: أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -أي: الظهر أو العصر- فسلَّم من ركعتين، ثم قام وشبك بين أصابعه واستند إلى الجذع، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاب الناس أن يكلموه، وكان رجل من بني سلمة يقال له ذو اليدين -واسمه الخرباق - فقال: يا رسول الله: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: كل ذلك لم يكن، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم، قال: فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر ثم سجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر ورفع).
ووجه الدلالة أن السجدتين وقعتا من النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام، ثانياً: حديث عمران بن حصين في الصحيحين، وهذا الحديث مثل حديث أبي هريرة في قصة التسليم من الركعتين، وأنه بعد أن أتم الصلاة وسلَّم كبر فسجد ثم رفع، قال الراوي: (وأُنبِئت أن عمران قال: (ثم سجد سجدتين بعدما سلم).
ثالثاً: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -وهو في الصحيح أيضاً ورواه الجماعة- قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمساً، فقالوا: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟! قالوا: صليت خمساً، فثنى رجليه وسجد سجدتين).
ووجه الدلالة أن هذا الحديث وقع فيه سجود النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام، فدل على أن السهو كلَّه يكون بعد السلام، ولا يكون قبله.
وأما أصحاب القول الثالث فجمعوا بين النصوص فقالوا: تأمَّلنا هذه الأحاديث فوجدنا حديث أبي سعيد الخدري في الشك، والشك خارج عن أصل المسألتين؛ لأن مسألة الشك تُستثنى، والكلام عن الزيادة والنقص.
قالوا: وحديث عبد الله بن مالك بن بحينة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الجلسة التي للتشهد، فهذا نقص، فسجد عليه الصلاة والسلام قبل السلام، وحديث ذي اليدين زاد فيه التسليم، فحينما صلى ركعتين وسلم قام ثم سجد بعد السلام، وأكَّده حديث عبد الله بن مسعود أنّه صلَّى خمساً فاتجه إلى القبلة فسلَّم، فاتفقت عندنا الأحاديث؛ لأنها كلها من مشكاة واحدة، فوجدناه يسجد للنقص قبل السلام، ووجدناه يسجد للزيادة بعد السلام.
ولما كانت حالة الشك مترددة بين النقص والزيادة أُلحِقت بالنقص لأنه الأصل لاحتمال أن تكون ناقصةً، فلذلك قالوا: حينئذٍ نقول: إن نقص من الصلاة فقبل السلام، وإن زاد في الصلاة فبعد السلام، فوجدنا النظر يُقوي الأثر، وذلك أن النقص من الصلاة سيُجبر في الصلاة، والزيادة خارجة عن الصلاة، فيكون ترغيم الشيطان بها بعد الصلاة، فقالوا: نجمع بين النصوص على وجهٍ لا تعارض فيه.
وبهذا يكون مذهبهم قد أخذ بهذه النصوص كلها؛ لأنك إن قلت: السجود قبل السلام عارضتك أحاديث ما بعد السلام، وإن قلت: السجود بعد السلام عارضتك أحاديث ما قبل السلام، مع أن القاعدة أنه لا يعارض بين الأحاديث إلا باتحاد موردها، فوجدنا المورد مختلفاً، وأنا أميل إلى هذا القول، فما كان من نقص فقبل السلام، وما كان من زيادة فبعد السلام، على التفصيل الذي يميل إليه أصحاب هذا القول.(49/6)
مشروعية سجود السهو
قال المصنف رحمه الله: [يشرع لزيادة ونقص وشك].
قوله: (يشرع) الضمير فيه عائد إلى سجود السهو، أي أن سجود السهو شرعه الله عز وجل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيادة ونقص وشك.
وقوله: (لزيادة) أي: من أجل الزيادة.
وقوله: (ونقص) معطوف على الزيادة، أي: يشرع سجود السهو للنقص كما يشرع للزيادة، فإن وقع سجود السهو لزيادة ألغى الزيادة، فلو أن إنساناً صلى الصبح ثلاث ركعات ثم علم بعد انتهائه منها أن الذي صلاه إنما هو ثلاث، فإنه بفعله للسجدتين يلغي الركعة الزائدة، وهكذا لو زاد ركوعاً أو سجوداً أو ركناً قولياً، كأن يكرر الفاتحة مرتين، فإن قوله: (لزيادة) معناه أن الله شرع هاتين السجدتين إذا زاد المكلف في صلاته، سواءٌ أزاد واجباً، أم زاد ركناً، أم ركعة متضمنة للأركان، فمن زاد في صلاته وسجد هاتين السجدتين فإنها تلغى الزيادة، وهذا محله إذا زاد في صلاته سهواً لا قصداً.
وقوله: (ونقص) أي: ويشرع سجود السهو للنقص، والانتقاص من الشيء الأخذ منه، فلما كان الله عز وجل قد حدّ في الفرائض حدوداً فجعلها على عدد معين، فإن المكلف ينتقص إما من أركانها وإما من واجباتها، فإن انتقص الأركان فلا بد من الإتيان بها، لكن إن انتقص الواجبات فإن انتقاصه للواجبات يوجب جبره لها بسجدتي السهو، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وشك) أي: ويشرع سجود السهو لمكان الشك، والشك مأخوذٌ من: شك في الشيء: إذا تردد بين الأمرين، تقول: أشك في وجود محمد.
أي أنك متردد بين كونه موجوداً أو غير موجود، فالشك استواء الاحتمالين.
فالإنسان إذا صلى لا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن يتم صلاته ويجزم بتمامها.
الحالة الثانية: أن يزيد في صلاته ويجزم بالزيادة.
الحالة الثالثة: أن ينتقص منها ويجزم بالنقص.
الحالة الرابعة: أن يتردد بين كونه قد صلى على التمام، أو أن صلاته ناقصة أو زائدة.
فهذا الشك هو استواء الاحتمالين، فيتردد بين كونه قرأ الفاتحة أو لم يقرأها، وكونه ركع أو لم يركع، وكونه سمع أو لم يسمع، وكونه حمد أو لم يحمد، ونحو ذلك مما يعتري الإنسان من الشك.
فيشرع سجود السهو إما لزيادة في الصلاة، أو نقص فيها، أو شك يحدث للمكلف في أعداد الركعات، أو في أركانها، أو في واجباتها.(49/7)
أدلة مشروعية سجود السهو للزيادة
ثبت في سجود السهو للزيادة أحاديث: منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في قصة ذي اليدين المشهورة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -إما الظهر وإما العصر- فسلم من ركعتين، ثم قام كالغضبان -صلوات الله وسلامه عليه- وشبّك بين أصابعه واستند إلى الجذع، فهاب أصحابه رضي الله عنهم أن يكلموه، ورأوا الغضب في وجهه -وكان صلوات الله وسلامه عليه مهاباً بينهم- فلما هابوه قال رجل في القوم يقال له ذو اليدين: يا رسول الله: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: ما كان شيء من ذلك، قال: بلى قد كان شيء من ذلك، فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فرجع وأتم الركعتين، قال الراوي: وأنبئت أن عمران قال: ثم سجد سجدتين بعدما سلم) وهذا الحديث فيه زيادة؛ لأنه لما جلس للتشهد الأول صلوات الله وسلامه عليه زاد أمرين: الأمر الأول: الدعاء؛ لأنه ظن أنه في التشهد الأخير.
الأمر الثاني: التسليم، فسلم من الصلاة، والتسليم ركن.
فهذه الزيادة للدعاء والسلام اقتضت أن تجبر بسجدتين، فسجد بعد سلامه صلوات الله وسلامه عليه، فدل هذا الحديث على مشروعية السجود للزيادة.
ومما يدل على مشروعية السجود للزيادة حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعدما سلم)، وأصل الحديث في الصحيح.
فدل هذان الحديثان الصحيحان على أن الزيادة في الصلاة يشرع لها سجود السهو.(49/8)
أدلة مشروعية سجود السهو للنقص
وأما السجود للنقص ففيه أحاديث، ومن أشهرها ما ثبت في حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وعن أبيه وعن أمه، فكلهم صحابة رضوان الله عليهم، فقد ذكر هذا الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى فقام في الركعتين، فسبحوا فمضى، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم)، فدل هذا الحديث على أن فوات الواجب يجبر بسجود السهو، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك الركعتين -كما في الحديث السابق- رجع وفعلها، ولما ترك الواجب هنا -وهو التشهد الأول- جبره بسجود السهو، فدل على أن الأركان في النقص لا تجبر إلا بالفعل إذا أمكن التدارك.
وأما الواجبات فإنها تجبر بسجدتي السهو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على السجدتين جبراناً للنقص الحاصل من كونه لم يجلس في التشهد الأول، فدل هذا الحديث على مشروعية سجود السهو للنقص.
ومن أدلة السجود للنقص: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه، حيث صلى بأصحابه، فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس، فسبّح من خلفه، فأشار إليهم أن: قوموا.
فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فالحديث الأول -وهو حديث عبد الله بن مالك بن بحينة - عند النسائي وغيره، والثاني -وهو حديث المغيرة - عند الترمذي، وصححه غير واحد من أهل العلم.
فهذان الحديثان الثابتان يدلان على أن نقص الواجبات يجبر بسجدتي السهو، وأما الأركان فلابد وأن تأتي بالركن، فإن فات تدارك الإتيان بالركن فإنك تقضي الركعة كاملة.(49/9)
أدلة مشروعية سجود السهو للشك
وأما السجود للشك ففيه حديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدهما: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان)، وهذا الحديث في الصحيح، ونفهم منه أن الإنسان إذا شك فإنه يبني على الأقل، وأنه ببنائه على الأقل يلزم بالإتيان بما يوجب الكمال والتمام، فإذا فعل هذا -أعني: الإتيان بما يوجب الكمال- أُلزم بالسجدتين قبل أن يسلم، وهاتان السجدتان اللتان تشرعان في حال الشك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكمة منهما، فإنك إن صليت الفجر وشككت هل الركعة التي تصليها الأولى أو الثانية، فإنك تبنى على أنها الأولى، ثم تضيف ركعة، ثم تسجد قبل أن تسلم سجدتين، فإن كانت الركعة التي أضفتها توجب تمام عدد الفجر، بمعنى أنك فعلت الصحيح وأنك لم تزد في صلاتك، كانت السجدتان ترغيماً للشيطان؛ لأن الشيطان إذا رأى ابن آدم يسجد يتولى يبكي، ويقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار.
وكلما رأى ابن آدم يسجد كلما ازداد غيظاً، وكان ذلك أبلغ في إرغامه.
وإن كان الذي صليت زيادة فالسجدتان تلفيان الركعة الثالثة، فكأنها لم تكن، وتكون الصلاة تامة كاملة من هذا الوجه.
فدل هذا الحديث على مسائل: أولاً: مشروعية السجود للشك، وهذا هو المطلوب.
ثانياً: أن هذا السجود يكون ترغيماً للشيطان إن كان الذي فعلته على التمام، ويكون إلغاء للزيادة إن كان الذي فعلته زائداً.
ومثل حديث أبي سعيد رضي الله عنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو في الصحيح.
فهذان الحديثان الصحيحان يدلان على مشروعية سجود السهو في الحالة الثالثة وهي حالة الشك.
فقول المصنف: (يشرع لزيادة ونقص وشك) من باب ترتيب الأفكار، حيث بيّن محل سجود السهو، وبيّن مشروعيته في قوله: (يشرع) أي: يشرع سجود السهو، ومن عادة الفقهاء والعلماء رحمة الله عليهم أنهم إذا تكلموا على أمر أن يبينوا موقف الشرع منه، فقال: (يشرع)، فالأصل في سجود السهو أنه مشروع، لكن مشروعية هذا السجود لموجب، أي: ليست مشروعية مطلقة، وذلك لقوله: (يشرع لزيادة ... )، أي: أنها مشروعة في حد، أو في مكان معين، ولذلك يكون ابتداؤه رحمه الله بذكر الزيادة والنقص والشك من باب بيان المحل الذي يشرع فيه فعل هاتين السجدتين.(49/10)
حكم سجود السهو في حال التعمد
قال رحمه الله تعالى: (لا في عمد).
أي أن سجود السهو إنما يشرع في حال النسيان والشك، أما في حال التعمد والقصد فلا يشرع.
كما لو صلى الظهر فزاد قراءة الفاتحة مرتين متعمداً، فهذه زيادة ركن قولي، أو زاد ركوعاً مع الركوع الذي شرعه الله في أي ركعة من ركعات الظهر، وهذه زيادة ركن فعلي.
ففي هاتين الحالتين تبطل صلاته، ويكاد يكون بإجماع العلماء أن من زاد في صلاته ركناً واحداً متعمداً فقد أحدث وابتدع وترتب عليه أمران: الأمر الأول: أنه آثم لإحداثه في دين الله وابتداعه، ومعلوم ما للبدعة من سوء عاقبة والعياذ بالله، فإن صاحبها يفتن، كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] ويصرف عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فالمبتدع لا يسقى من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يزيد ركعة، أو يحدث في صلاته ركناً زائداً، أو واجباً زائداً، فإنه قد أحدث في دين الله ما لم يأذن الله عز وجل به، ويحكم ببطلان صلاته؛ لأنه لم يصل كما أمره الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام -وهو يبين تأقيت الصلاة وتحديدها وأنها عبادة لا مجال فيها للرأي والاجتهاد-: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أي: لا تجتهدوا من عند أنفسكم.
أما لو اجتهد العالم في إثبات حكم في الصلاة بناءً على كتاب أو سنة فلا حرج؛ لأنه من الدين، أما أن يأتي إنسان ويقول: أصلي الظهر بدل ركعتين ثلاثاً.
فقد حبط عمله وكان من الخاسرين، فصلاته رد عليه.
الأمر الثاني: قال بعض العلماء: زيادة الأركان وزيادة الركعات استهزاء واستخفاف -والعياذ بالله-، والاستخفاف بهذه الشعيرة أمره عظيم، ولذلك يخشى على صاحبه.
فقوله: (لا في عمد) أي: أن سجود السهو لمكان السهو والنسيان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى علم ضعف الإنسان، وأنه لا بد أن يعتريه ما يعتري هذا البشر الناقص من الخلل والنسيان، فانظر رحمك الله لو أن الله أوجب علينا أن لا نؤدي الصلاة إلا كاملة، وأن من شك في أقل شك ينبغي عليه أن يعيد صلاته، كيف يكون حال الناس، خاصة وأن الإنسان ربما دخل في صلاته مهموماً بكرب في نفسه أو في جسده أو في أهله أو في ولده أو في ماله، فيتشتت ذهنه، وقد قال عليه الصلاة والسلام في انبجانية أبي جهم التي أهداها إليه: (فإنها ألهتني عن صلاتي آنفاً)، والانبجانية: الخميصة التي لها الأعلام.
فالإنسان بشر يعتريه ما يعتري البشر، فلو أن الله سبحانه وتعالى ألزم المكلف أن يوقع الصلاة كاملة لحصل له من الضنك ما الله به عليم، فسجود السهو لا يشرع إلا عند السهو والنسيان، أما عند التعمد والقصد فلا.(49/11)
سجود السهو للفريضة والنافلة
قال رحمه الله: [في الفرض والنافلة].
أي: أن سجود السهو يشرع لك أن تفعله في زيادة ونقص وشك، سواءٌ أكانت الصلاة مفروضة أم نافلة، فهو لا يختص بالنوافل دون الفرائض، ولا بالفرائض دون النوافل، وإنما حكمه على العموم، ولذلك من سها في فريضة كمن سها في نافلة، ولذلك يعمم العلماء رحمهم الله في أحكام سجود السهو، فيشمل حكمه النافلة والفرض على حد سواء، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا صلى أحدكم) ولم يقل: نافلة ولا فرضاً، والحديث ثابت في الصحيحين من حديث أبي سعيد وابن عباس رضي الله عن الجميع.
وقوله رحمه الله: (في الفريضة والنافلة) فيه فائدة، وذلك أنه لما قال: (والنافلة) عمم، فشمل أي نافلة، وهذا قد يشمل النافلة التي ألزم الشرع بها على الكمال، أو أوجب فيها بعض الأفعال فانتقص منها بعض أفعال الناس المعهودة، كصلاة الجنائز على أنها سنة مؤكدة.
فإن صلاة الجنائز إذا سها الإنسان فيها فمن العلماء من يرى أن السهو في صلاة الجنائز يجبر بسجود السهو، وظاهر كلام المصنف العموم، فيشملها من هذا الوجه، وهو اختيار بعض العلماء، ولكن لا يسجد والجنازة أمامه، وإنما يسجد بعد رفعها في قول بعض العلماء، وإن كان قد استحب طائفة من العلماء أن السجود يكون عند وجودها أمامها.
وهذا أقوى؛ لأنه لا يعتبر ساجداً لها إلا إذا كانت أمامه كالسترة التي تكون أمام المصلي؛ فإنه حينئذٍ يسجد جبراناً لواجبها على القول بأن سجود السهو يشرع حتى في صلاة الجنائز.(49/12)
حكم زيادة أقوال أو أفعال في الصلاة عمداً أو سهواً
قال رحمه الله تعالى: [فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت، وسهواً يسجد له].
قوله: (فمتى) الفاء للتفريع؛ لأنه إذا أثبت لك الأصل والقاعدة فإنه بعد ذلك يفصل، فبعد أن بيّن أن سجود السهو يشرع للزيادة وللنقص وللشك شرع الآن في التفصيل.
وابتدأ بذكر الزيادة قبل النقص؛ لأن الإنسان إنما يراعى فيه حال أدائه للصلاة على الكمال، والزيادة زيادة على الكمال، فيبتدأ بأحكام الزيادة أولاً ثم بأحكام النقص.
وقوله: (فعلاً) لأن الزيادة تكون أقوالاً وتكون أفعالاً، فالأقوال كأن يكبر مرتين، أو يُسَمِّع مرتين، فيقول: (سمع الله لمن حمده، سمع الله لمن حمده)، أو يزيد فعلاً مرتين، كأن يركع مرتين، فيركع ويرفع، ثم يسهو ويظن أنه قائم فيركع ثانية ويرفع، فيتذكر أنه قد ركع مرتين، أو يسجد ثلاث سجدات في الركعة الواحدة أو أربع سجدات، وقس على هذا، فهذا من الزيادة في الأقوال والزيادة في الأفعال، وهذه الزيادة إذا وقعت في الصلاة لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يزيد شيئاً مشروعاً أصله في الصلاة، كأن يقرأ الفاتحة مرتين، أو يكبر مرتين، أو يسمع مرتين، وهذا في الأقوال، أو يركع ركوعين أو ثلاث سجدات، وهذا في الأفعال، فكونه يزيد فيقرأ الفاتحة مرتين فإن الفاتحة التي زادها من جنس ما شرع في الصلاة، فإن قراءة الفاتحة مشروعة في الصلاة، وكونه يزيد الركوع فإنه بزيادته للركوع مرتين في الصلاة قد زاد فعلاً أصله مشروع في الصلاة.
الحالة الثانية: زيادة شيء من خارج الصلاة قولاً أو فعلاً، فالقول كقوله: أف، أو يتأوه فيقول: آه، أو يتنحنح، فهذا كله ليس من جنس الصلاة.
وأما زيادة الفعل الخارج عن الصلاة فكأن يتناول كتاباً، أو يرفع شيئاً، أو يضع شيئاً، أو يدخل يده في جيبه، أو يعبث بساعته، فهذه زيادة أفعال ليست من جنس الصلاة.
فإذا ثبت أن الزيادة لها حالتان فإن من عادة العلماء أن يبتدئوا بالشيء الذي هو من جنس الصلاة، فابتدأ رحمه الله بقوله: [فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت].
فقوله: (فعلاً) نكرة يشمل أي فعل.
وقوله: (من جنس الصلاة قياماً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت) هذا تفصيل لقوله: (لا في عمد)، أي: إذا علمت رحمك الله أن سجود السهو محله أن يكون في سهو ونسيان فاعلم أنه لو زاد فعلاً من ركوع أو سجود أو قيام عمداً فإن صلاته تبطل، فيكاد يكون بإجماع أهل العلم رحمة الله عليهم أن من زاد متعمداً عالماً فصلاته باطلة.
قوله: [وسهواً يسجد له] أي: إن زاد في صلاته الركوع والسجود والقيام سهواً سجد لمكان هذه الزيادة.
وقلنا: إن هذا السجود قد بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة بكمالها، فإذا كان السجود يلغي الركعة بكمالها فلأن يلغي جزء الركعة من باب أولى وأحرى؛ لأن الشرع ينبه بالأعلى على الأدنى، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن لنا أن من زاد ركعة كاملة في صلاته وسجد للسهو، -أي: سهو الزيادة- أن هذا السجود يرفع هذه الزيادة، فلأن يرفع السجود زيادة الركن الذي هو جزء الركعة من باب أولى وأحرى.(49/13)
الأسئلة(49/14)
حكم نسيان السجدة الثانية من الركعة الأخيرة في الصلاة
السؤال
كُنت إماماً فنسيت السجدة الثانية في آخر ركعة، ثم جلست للتحيات وقرأتها، وكنت أظن أنها الجلسة الأخيرة، ثم تبين لي أنها الجلسة بين السجدتين، فكيف العمل وقتئذٍ إن تذكرت في أثناء الصلاة، أو إن تذكرت بعد الصلاة؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهناك إشكال في السؤال؛ لأنه وصف نفسه بأنه في السجدة الأخيرة لقوله: (كنت إماماً فنسيت السجدة الثانية من آخر ركعة).
وهذا يقتضي أنه إذا جلس بعدها تكون الجلسة للتشهد الأخير، ثم قال: (ثم جلست للتحيات وقرأتها وأظن أنها الجلسة الأخيرة).
فظنك في محله لأنك تقول: (نسيت السجدة الثانية من آخر ركعة)، فمعنى ذلك: أن هذا التشهد هو التشهد الأخير.
وبناءً على ظاهر كلامك لا يستقيم هذا، وذلك في قولك: (ثم تبين لي أنها الجلسة بين السجدتين، فكيف العمل وقتئذٍ؟) فإذا نسي الإنسان السجدة الثانية من الركعة الأخيرة، وسلّم وهو ظان أنه في الجلسة الأخيرة فللعلماء فيه وجهان: فبعضهم يرى أنه يلزمه أن يسجد سجدة بعد سلامه، وينوي بهذه السجدة السجدة الثانية التي نسيها، ثم يتشهد، ثم يسلم، ثم يسجد بعد السلام للزيادة.
وهذا هو أصح الأقوال.
وهناك قول يرى الإلغاء، فحينئذٍ لا يعتد بركعته ويستأنف ركعة مكان الركعة التي أخلّ فيها ما دام أنه سلم.
والصحيح أن يعتبر نفسه كأنه لم يقرأ التشهد، وكأنه لم يسلم، فيسجد السجدة الثانية التي نسيها، ثم يتشهد بعد ذلك، ثم يسلم، وإن كان يرى أن السجود كله قبل السلام يسجد قبل سلامه سجدتي السهو، وإن كان يرى أن الزيادة بعد السلام يسلم ثم يسجد للسهو، فهذا هو أصح أقوال العلماء.
والدليل على ذلك أنه لما رفع رأسه من السجدة الأولى ظاناً أنه في السجدة الثانية فإنه في هذه الحالة يلزمه أن يذكر أذكار السجدتين، كقوله: (رب اغفر لي) -كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام- فعدل إلى التحيات، فحينئذٍ يرجع وإن كان في جلسة التشهد ثم يقول: (رب اغفر لي، رب اغفر لي) لكي يأتي بالذكر الواجب، ثم يسجد السجدة الثانية، ثم يتم على الصفة التي ذكرناها.
والله تعالى أعلم.(49/15)
حكم سجود المؤتم إذا ركع الإمام عند وقوفه عند آية سجدة
السؤال
إذا صلى وقرأ آيات وكان آخر آية في السورة سجدة فكبر وركع، وظن المأموم أنه سجد للتلاوة فنزل للسجود، فرفع الإمام من الركوع، فتبين للمأموم أن الإمام ركع وسجد للتلاوة، فماذا عليه في هذه الحال؟
الجواب
هذا السؤال تعم به البلوى، وفيه جوانب: الجانب الأول: أن بعض العلماء رحمة الله عليهم نبهوا إلى أن الإمامة لها فقه وآداب، فلا يكفي طالب العلم أن يكون على علم بأفعال الصلاة ليأتي ويؤم الناس، بل ينبغي أن يعرف فقه الخلاف، والنوازل التي تطرأ على الأئمة، وفقه الإمامة.
ومن الأمور التي ذكروها في فقه الإمامة أنهم قالوا: لا ينبغي للإمام أن يتسبب في أمر يوجب اختلال صلاة الناس.
ومن ذلك ما ذكر في السؤال: أن يقرأ سورة في آخرها سجدة.
قالوا: إذا قرأ السورة التي في آخرها سجدة فإنه يسجد ولا يركع؛ لأن الناس لا شك أنهم سيسجدون، وبناءً على ذلك يعمل بالأصل فيسجد، فإن كان ليس عنده نية أن يسجد فحينئذٍ لا يقف على السجدة، وإنما يقف إما قبل السجدة، أو يصل السورة بالتي بعدها ويستفتح بآية أو آيتين ويركع.
فيعلم الناس أنه بدخوله في السورة الثانية قصد أن لا يسجد، وحينئذٍ تحفظ صلاة المأمومين من الاختلاج، ولذلك قال الأئمة: إنه مما يكره تخيّر آيات السجدة لمن لا يريد السجدة، كأن يقرأ سورة (اقرأ باسم ربك) في صلاة المغرب وهو لا يريد أن يسجد، فإنه إذا مر بالسجود وقال: (الله أكبر) فإن من لا يراه، كالنساء سيسجد مباشرة، كذلك من هو بعيد عن الإمام، خاصة في المساجد الكبيرة.
فمن فقه الإمامة التنبه لمثل هذا، ولذلك لا ينبغي فعل مثل هذا، فإن أراد الإمام أن يقرأ السجدة ويسجد فلا حرج، وقد أصاب السنة، أما إذا لم ينو السجود فلا يقرأ، أو يقرأ ما بعدها من آيات لكي يبين أنه غير قاصد للسجود.
فهذا بالنسبة لما يتعلق بالإمام.
أما بالنسبة لما يتعلق بالمأمومين فإذا كبّر الإمام وركع فمن الناس من يسجد، ومنهم من يركع، أما من ركع فلا إشكال، ولكن من سجد فلا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن يسجد ويتنبه أن الإمام راكع أثناء سجوده أو أثناء الهوي، أو يتنبه بعد سجوده أن الإمام لم يسجد، أو يتنبه بمن بجواره، أو يتنبه برؤية الإمام أثناء الهوي أنه ركع ولم يسجد، فحينئذٍ إذا تنبه رجع مباشرة؛ لأنه مطالب بالاقتداء، وزيادة هذا الفعل حصلت لما كان الأمر في الآية بالسجود، ولا عبرة بالظن الذي بان خطؤه، فيلغى فعله، والإمام يحمل عنه هذا الخلل، فهذا إذا تنبه ورجع.
الحالة الثانية: أن لا يتنبه إلا بعد تسميع الإمام، وحينئذٍ لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون ساجداً، فيقول الإمام: (سمع الله لمن حمده)، فإن قام واستتم قائماً وركع وأدرك الإمام في الرفع من الركوع أو في السجدة صحت صلاته وأجزأته، وقد فاته الركن وتدارك، ويكون تأخره للعذر، فيجبره بالتدارك، وهذا إذا قام وركع.
الحالة الثانية: أن يجهل الحكم فيقوم ولم يركع، لكون الإمام قد وقف، فاجتهد لحظ نفسه، فحينئذٍ إذا لم يركع يلزمه أن يأتي بركعة بعد سلام الإمام، كمن فاتته ركعة وراء الإمام، وكمن لم يقرأ الفاتحة وراء الإمام، أو لم يركع أو يسجد لسهو وراء الإمام، فيلزمه أن يأتي بركعة تامة؛ لأن الركوع لا يجبر إلا بالركعة التامة، وحينئذٍ إذا جاء بالركعة الثانية صحت صلاته تامة، لكن لو فرض أنه لم يفعل شيئاً من هذا، كأن قام ووقف مع الإمام وسجد وسلم مع الإمام، ثم خرج من المسجد ولم يقضِ هذه الركعة فقد بطلت صلاته ولزمته الإعادة.
فهذا حاصل ما يقال في هذه المسألة التي يكون فيها سجود المأموم وركوع الأئمة، وقس على هذا بقية الأركان التي يحصل فيها الاختلاج بين الأئمة والمأمومين.
والله تعالى أعلم.(49/16)
كيفية الفتح على الإمام إذا لم يفهم المقصود بالتسبيح
السؤال
إذا سبح الثقات للإمام، ولكن الإمام لا يعلم هل زاد أم نقص، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا كنت وراء إمام وسبحت له ولم يفهم مقصودك فإنه يشرع في هذه الحالة أن تخاطبه، وتبين له ما ينبغي عليه فعله، وهذا الكلام الذي تخاطبه به دلت السنة على مشروعيته في حديث أبي هريرة في الصحيحين، فإن ذا اليدين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أقصرت الصلاة، أم نسيت؟) فباشره ببيان الحال.
فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الإمام إذا لم يفطن، أو غلب على ظنك أنك لو سبحت له أنه يرتبك ولا يعرف ماذا يصنع، فحينئذٍ تباشره بالكلام وتقول له: اركع.
أو: فاتت ركعة.
أو: فاتت سجدة.
أو: اقرأ الفاتحة.
فلو أن إماماً كبر وابتدأ القراءة بـ (التِّينِ وَالزَّيْتُونِ)، فإنك إذا سبحت له ظن أنك تسبح لخلل في قراءته فيرجع ويقول: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] فحينئذ تقول له: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال بعض العلماء: تذكر الآية حتى تكون من جنس القراءة، ويكون فتحاً عليه.
وهذا أولى وأنسب، فإن لم يفهم ولم يتفطن فلك الحق أن تقول: اقرأ الفاتحة، أو: فاتت الفاتحة، فإن الفتح على هذا الوجه لعذر، وإذا كان الكلام لعذر، لمصلحة الصلاة فإنه جائز ولا حرج فيه.
والله تعالى أعلم.(49/17)
حكم سجود المؤتم للسهو إن لم يسجد الإمام
السؤال
نرى بعض الناس بعد تسليم الإمام يسجد سجدتي السهو قبل أن يسلم، فما حكم هذا؟
الجواب
لا يشرع للمأموم أن يسجد بعد تسليم الإمام لما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود وأحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)، وبناءً على هذا الحديث قالوا: يحمل الإمام عن المأموم سهوه بالنقص في الواجبات، ولا يحمل عنه سهوه في الأركان، وبناءً على ذلك فإن الأركان لا تجبر إلا بالفعل، وعليه فإذا سها المأموم وراء الإمام في غير الأركان فإن الإمام يتحمل عنه السهو، وقد خرّج العلماء على هذا أن المأموم لا يشرع له سجود السهو وراء الإمام، إلا في مسألة ما إذا كان المأموم مسبوقاً، كما لو أدركت الإمام في الفجر في الركعة الثانية فقمت بعد سلام الإمام بالركعة الثانية بالنسبة لك وفي قيامك بها حصل خلل، فإن نسيت أن تقول: (سمع الله لمن حمده)، أو غيره من الواجبات، فحينئذٍ يشرع لك أن تسجد للسهو، لكن هذا بعد الانفصال وليس قبل الانفصال، أما وأنت وراء الإمام وسلامك بسلام الإمام فلا يشرع لك أن تسجد وراء الإمام سجود السهو، وينصح مثل هذا.
والله تعالى أعلم.(49/18)
حكم سجود السهو مع الإمام إذا زاد في صلاته وقد فارقه المؤتم
السؤال
قام الإمام إلى الركعة الخامسة ولم يرجع، فجلسنا للتشهد حتى أتم الصلاة ثم سلمنا معه، ثم قيل له بعد الصلاة: إن الصلاة زائدة فهل نسجد معه سجود السهو؟
الجواب
من كان مع الإمام متصل الصلاة وانتظر تسليم الإمام فإنه لم يفارقه، والذي لم يفارق يسجد مع الإمام لسهو الإمام؛ لأنه متصل بصلاته، كما لو سها الإمام في ركعة لم تدركها، أو سها قبل أن تدركه في الركعة، فحينئذٍ يشرع لك أن تسجد وراءه، ولا يشترط في متابعة الأئمة أن يكون سهوك كسهوه، ألا ترى في صلاة الظهر لو أنه نسى واجباً من الواجبات كقراءة التشهد الأول وقام وأنت قرأت التشهد الأول فإنك تسجد وراءه، مع أنك لم تحدث النقص.
وبناءً على ذلك فلو أنك انتظرته حتى أتم الركعة ثم جلس للتشهد وسجد بعد السلام للزيادة فإنك تسجد وراءه، أو سجد قبل سلامه سجدت وراءه على الأصل الذي ذكرناه.
والله تعالى أعلم.(49/19)
ضوابط بيع الذهب بغيره
السؤال
أنا تاجر ذهب في محلٍّ صغير آخذ الذهب من التجار الكبار بدون مبلغ أحياناً، ثم أبيعه وأعطيهم الثمن بعد ذلك، فهل في هذا شيء؟
الجواب
لا يجوز التعامل في الذهب والفضة إلا يداً بيد، مثلاً بمثل عند اتحاد الصنف لما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير والملح بالملح، مثلاً بمثل يداً بيد)، فبيع الذهب بالفضة لا يجوز إلا يداً بيد لقوله في نفس هذا الحديث: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فإذا اشتريت ذهباً فإنه لا يجوز لك أن تفارقه حتى تعطيه قيمة الذهب، فلو قلت له: هذه خمسون، وتبقى علي مائة، أو: يبقى ريال واحد.
فإنه يحكم بكونه ربا النسيئة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في التعامل في الذهب مع الفضة في البيع أن يكون يداً بيد.
والله تعالى أعلم.(49/20)
الاستدلال بحديث المسيء صلاته على عدم وجوب السترة
السؤال
القاعدة الأصولية تقول: (لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة)، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر المسيء صلاته عن السترة، فهل يدل ذلك على أنه صارف لوجوب السترة إلى الندب؟ وإذا كان ترك الواجب عمداً يبطل الصلاة وسهواً يجبر بالسجود، فهل يكون كذلك في ترك السترة؟
الجواب
هذا اعتراض على مسألة وجوب السترة، والاعتراض بحديث المسيء صلاته غير وارد، وذلك لأن المسيء صلاته حدثه النبي صلى الله عليه وسلم عمَّا هو متعلق بذات الصلاة -أي: بجنسها-، مع أن لقائلٍ أن يقول: إنما نبهه على الخلل -وهو حصول عدم الطمأنينة- وارتبطت به الواجبات التي ذكرت تبعاً، ولذلك قال العلماء رحمهم الله عند ذكرهم لهذا الحديث: أجمعوا على أنه تضمن أركان الصلاة والتنبيه على الأركان.
ولذلك فما ورد إلا في روايات الآحاد والأفراد مسألة: (استقبال القبلة)، ورواية: (توضأ)، وإلا فإن الرواية المشهورة ذكرت الأركان التي حصل الخلل فيها.
ولذلك قالوا: هذا منفك؛ فإنك توجب الأذان ولا تستطيع أن تسقطه بحديث المسيء صلاته؛ لأن حديث المسيء صلاته منصب على شيء معين حصل الإخلال فيه، مع أنه يمكن أن يعترض على من اعترض بحديث المسيء صلاته، فيقال له: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه اقترب من السترة وكبّر فنبهه على الإخلال في الأركان ولم ينبهه على السترة، فهذا محتمل، والقاعدة تقول: (ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال)، وإنما يستقيم الاستدلال به لو رآه عليه الصلاة والسلام يصلي إلى غير سترة ولم يأت في الحديث ذكر السترة، فإنه حينئذٍ يكون دليلاً صريحاً يقوى على معارضة الصريح من الأمر بالسترة، أما إذا كان الدليل متردداً يحتمل أنه صلى إلى سترة ويحتمل أنه صلى إلى غير سترة فلا؛ لأنه لا يستقيم استدلاله بالحديث إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم رآه يصلي إلى غير السترة وسكت عنه، أما لو رآه يصلي إلى السترة فإنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن الرجل يعلم وجوب السترة، فلا يحتاج إلى أن ينبهه عليها.
الأمر الثاني: أنه يمكن أن يقال: إنه لا تعارض بين هذا وهذا لورود الأمر بالسترة منفصلاً عن حديث المسيء صلاته، وإنما يستقيم الاستدلال بحديث المسيء صلاته إذا جاء بأسلوب القصر والحصر الذي يدل على أن ما عدا ما ذكر من المستحبات والمندوبات.
وأما بالنسبة لجبرها بسجود السهو فليست السترة من جنس الأفعال والأقوال المتعلقة بالصلاة التي يعتبر تركها مجبوراً بسجود السهو، فهي عبادة هيئة إن وجدت حصل المقصود، وإن لم توجد أثم التارك لها متعمداً، ولا يجبر تركها بالسجود.
والله تعالى أعلم.(49/21)
حكم قصر الصلاة لمن يظن أنه سيصل إلى بلده ويدرك الوقت
السؤال
هل يجوز القصر لمن يستطيع أن يدرك الفريضة في المدينة التي يريد أن يسافر إليها؟
الجواب
لو كنت من أهل مكة وجئت من المدينة في الساعة الثالثة والنصف أو الرابعة، وأذّن المؤذن أذان العصر وأنت في الجموم أو في عسفان، ويغلب على ظنك أنك ستصل إلى مكة قبل غروب الشمس فأنت مدرك للوقت، فلك أن تأخذ بالرخصة وتصلي قصراً، مع علمك أنك تصل قبل انتهاء الوقت.
وذلك لأن الخطاب توجه عليك بدخول الوقت بركعتين، فأنت مطالب بهما على الأصل.
أما إدراكك للمحل الذي تريده قبل غروب الشمس فمظنون فإذا لطف الله وصلت، وإذا لم يلطف الله عز وجل فلو بلغت شق الأنفس لن تبلغ، وبناءً على ذلك تبقى على الأصل، فيجوز لك أن تصلي؛ لأن الخطاب متوجه عليك بركعتين، فإذا صليت الركعتين فقد برئت ذمتك.
وهذا على أصح أقوال العلماء، فمن صلى مسافراً في أول الوقت وأدرك آخر الوقت في الحاضرة لا يلزم بالإعادة؛ لأن ذمته برئت.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(49/22)
شرح زاد المستقنع - باب سجود السهو [2]
من زاد في صلاته ركعة فلم يعلم بها إلا بعد إتمامها فإنه يسجد للسهو، وإن سها الإمام فزاد في الصلاة فعلى من خلفه أن يسبحوا، فإن سبحوا ورجع فبها، وإلا بطلت صلاته وصلاة من تبعه إن كان عالماً.
ومن أكثر الحركة في الصلاة من غير جنسها فإن صلاته تبطل، وإن كانت الحركة يسيرة فلا تبطل بها الصلاة، ولا يشرع لها سجود سهو.
وهناك أحوال لا يشرع فيها سجود السهو مفصلة في موضعها.(50/1)
أحكام سجود السهو(50/2)
حكم زيادة ركعة في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد].
الزياة في الصلاة إما أن تكون عمداً أو سهواً، فإن كانت عمداً فإنها توجب البطلان، وإن كانت سهواً، كأن زاد فعلاً أو أفعالاً من جنس الصلاة ساهياً سجد، فالزيادة مع السهو تجبر بسجدتي السهو، ولذلك قال المصنف: [وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد].
فلو أنّه صلى الصبح فقام إلى الركعة الثالثة وهو يظن أنه في الثانية، فلما سجد الثانية من هذه الركعة الزائدة، أو كان في التشهد تذكر أنه قد زاد وأنه قد صلى ثلاثاً، فلا إشكال أنه يسجد بعد السلام سجدتين.
قال رحمه الله تعالى: [وإن علم فيها جلس في الحال، فتشهد إن لم يكن تشهد وسجد وسلم].
قوله: (وإن علم فيها) أي: بأن قام للركعة الزائدة ناسياً فقرأ الفاتحة وأتمها، أو قرأ نصف الفاتحة، أو قبل ابتدائه بالفاتحة وبعد أن استتم قائماً فذكر أنه زاد ركعة فعليه أن يجلس مباشرة، سواء أذكر عند بداية الركعة بمجرد وقوفه، أو تذكر بعدما وقف وقرأ الفاتحة، أو تذكر بعدما وقف وقرأ الفاتحة وشرع في السورة، أو قرأ الفاتحة وقرأ السورة وأراد أن يركع فتذكر أنها زائدة، أو قرأ وانتهى من القراءة وركع وأثناء الركوع تذكر، أو قرأ وركع ورفع من الركوع وقبل سجوده تذكر، ففي هذه الأحوال كلها يلزمه أن يرجع مباشرة، ولا يجوز له أن يبقى لحظة واحدة بعد العلم متلبساً بهذه الحالة الزائدة، فإن بقي لحظة واحدة بعد العلم وكان متعمداً بطلت صلاته؛ لأنها زيادة قيام وركن.
وهنا أحكام: الحكم الأول: أنه يلزمه قطع الأقوال والأفعال مباشرة، فلو قلت: (الله أكبر)، وقمت واستتمت قائماً، فقلت: (الحمد لله رب العالمين)، ثم تذكرت مباشرة فإنك تجلس.
الحكم الثاني: أن انتقالك من القيام إلى الجلوس بعد أن علمت أنك زدت لا تتكلم فيه ولا تكبر؛ لأنك في هذه الحالة مأمور بالجلوس للتشهد، وبمجرد رفعك من السجدة الثانية قد كبرت للتشهد الأخير، فلا تحدث أي قول، بل تجلس مباشرة وأنت ساكت، وإن كنت إماماً جلست وأنت ساكت والناس معك سكوت.
ثم إن كنت في مثل صلاة الفجر، فقمت إلى الركعة الزائدة، ثم تبين لك بعدما قمت أنك زدت، وكنت قد قرأت التشهد، فحينئذٍ إذا رجعت لا تقرأ التشهد؛ لأنك قد قرأته، فتتم بالدعاء ثم تختم بالتسليم، فهذا إذا تذكرت بعد أن كنت قد قرأت التشهد.
أما لو أنك بعد سجدتك الثانية قمت إلى الركعة الثالثة الزائدة، فتذكرت فإنك تجلس مباشرة، ثم تشرع في قراءة التشهد؛ لأنك مخاطب في هذه الحالة بقراءة التشهد، فتتشهد وتتم صلاتك، ثم تسجد بعد السلام للزيادة؛ لأنك لما وقفت هذه الوقفة كان ركناً زائداً جبر بسجدتي السهو بعد السلام.
فقوله: (جلس في الحال) هذا هو الحكم الأول، وقوله: (فتشهد إن لم يكن تشهد) حكم ثان في حالة ما إذا صليت الظهر أربع ركعات ثم جلست للتشهد، ثم شككت بعد أن انتهيت من التشهد بكماله، في كون الركعة التي أنت فيها الثالثة أو الرابعة، فالشك إذا حصل للإنسان قبل سلامه فإنه يلزمه أن يأتي باليقين على ظاهر حديثي ابن عباس وأبي سعيد رضي الله عنهما، فإن قمت ظاناً أنك في نقص، فلما وقفت تذكرت أن الذي أنت فيه إنما هو التمام والكمال، فإنك تجلس مباشرة، وحينئذٍ لا تقرأ التشهد، وكونك أحدثت قياماً بعد تشهدك لا يلغي التشهد الأول لمكان إذن الشرع بالتمام، فألغي بعد العلم، وصار وجوده وعدمه على حد سواء، فإن شئت أتممت الدعاء، وإن شئت جلست مباشرة وسلمت.
وقوله: (وسجد ثم سلم) هذا على ما اختار رحمة الله عليه -وهو أحد أقوال العلماء- أن سجود السهو كله قبل السلام، والراجح للنصوص الواردة أن الزيادة يسجد لها بعد السلام، والنقص والشك قبل السلام.(50/3)
حكم إلزام الإمام بتسبيح المؤتمين إن سها في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وإن سبح به ثقتان فأصرو لم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته وصلاة من تبعة عالماً لا جاهلاً أو ناسياً].
أي: قالا: (سبحان الله).
وهو اللفظ الذي يشرع عند حصول الخلل من الإمام، أو يكون لعارضٍ يريد أن ينبه الإنسان به غيره، كما لو رأى إنسان غيره يريد أن يقع في ضرر أو شيء ما فإنه يقول: (سبحان الله).
وأما الدليل على اشتراط الثقتين فحديث ذي اليدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سلم من الركعتين وقام كالغضبان، قال ذو اليدين: (يا رسول الله! أقصرت الصلاة، أم نسيت؟) فالنبي صلى الله عليه وسلم بنى على ظنه واجتزأ بهذا الظن وسلم بالمأمومين، فدل على أن الإمام يعمل بظنه، فلما قال له ذو اليدين: (يا رسول الله: أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ قال: ما كان شيء من ذلك.
فقال: بلى قد كان شيء من ذلك) فلم يرجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى قول ذي اليدين وحده.
فدل على أن قول الثقة وحده لا يكفي؛ إذ لو كان كافياً لعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن صواب نفسه إلى قول ذي اليدين، وإنما قال عليه الصلاة والسلام للصحابة: (أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم).
فدل على أنه لا بد من تمام البينة والشهادة، وذلك إنما يكون في أصل الشرع بشهادة ثقتين، فإذا قال أحد المأمومين: (سبحان الله).
وهو وحده، وأنت على غلبة ظنك أنه لابد من ركعة، فإنك تقوم، فإن سبح اثنان ثقتان وراءك فحينئذٍ ترجع إلى قوليهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى ظنه ورجع إلى ظن الثقات، فدل على أنه إذا كمل النصاب رجع إلى قول الثقات، وهذه من المسائل التي يقدم فيها قول الثقتين على ظن النفس.
ولها نظائر، منها: لو أن القاضي شهد عنده عدلان أن لفلان على فلان ألفاً، وهو يعلم أن فلاناً قد سدد هذا الألف، ولكن ليست عنده بينة، فلا بد أن يحكم بشهادة الشهود، ولا يعتبر بعلم نفسه، قالوا: يحكم بما قال الشهود، ثم يخبر صاحب الحق أنه سيشهد له، فيقيم صاحب الحق دعوى عند غيره ويكون القاضي شاهداً بحقه.
ولذلك قال: وعدل إن أدى على ما عنده خلافه منع أن يرده وحقه إنهاء ما في علمه لما سواه شاهداً بحكمه فهذه من المسائل التي تقدم فيها شهادة الشهود على ظن نفسك، وإلا فإن الأصل يقتضي أن يقين نفسك لا تعدل به إلى ظن غيرك.
لكن قالوا: إنما اشترط العدلان لأنه حينما يقول لك رجل: (سبحان الله) فأنت على يقين في نفسك، وهو أيضاً على يقين في نفسه، فحينئذٍ ليس من حقك أن تعدل عن يقين نفسك إلى يقين غيرك؛ لأن الله كلفك بيقين نفسك، ومن هنا قالوا: لا يجوز للمجتهد أن يعدل إلى اجتهاد غيره، ما دام أنه قد تبين له الحق في اجتهاد نفسه.
وقالوا: يحرم على المجتهد أن يقلد؛ لأنه على بينة في قرارة نفسه والله تعبده بظنه.
فالإمام إذا سُبِّح له وهو على يقين من نفسه، وقال الذي وراءه: (سبحان الله) فهذا ظن غيره، فلما اكتملت الشهادة ضعف جانب الإمام وحده، ووجب عليه الرجوع إلى قول هؤلاء العدول.
وقوله: [سبح به] الباء لها معانٍ تقرب من عشرة معانٍ، وقد أشار إليها ابن مالك بقوله: تعد لصوقاً واستعن بتسبب وبدَّل صحاباً قابلوك بالاستعلاء فقوله: (سبح به الثقتان) بمعنى: أعلموه بالزيادة التي هو فيها، فهو قائم وهم جلوس، فسبحوا له أن: ارجع إلى التشهد.
فإن لم يكن على يقين نفسه، وأصر على القيام ولم يكن جازماً في قرارة نفسه فحينئذٍ (بطلت صلاته وصلاة من تبعه عالماً)؛ لأنه إذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأمومين على هذا الأصل المقرر عند فقهاء الحنابلة والحنفية.
قالوا: لأنه لما سبح به الثقتان ولم يكن عنده يقين نفسه فإنه في هذه الحالة مأمور بالرجوع إلى قول الثقتين، وكونه لم يرجع إلى قول الثقتين يكون قد ترك واجباً من واجبات الصلاة، ومن ترك الواجب متعمداً فصلاته باطلة، ولذلك يقولون: دليل الوجوب هدي النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
وأما كونهم اشترطوا الجزم فلأن ذا اليدين لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (بلى قد كان شيء من ذلك) شك عليه الصلاة والسلام فقال: (أصدق ذو اليدين؟)، فدل على أنه ليس على يقين من نفسه، وبناءً على ذلك فإذا كان الإمام على يقين من نفسه فحينئذٍ يعمل بيقين نفسه.
وقوله: (عالماً) أي: بالزيادة.
وقوله: (لا جاهلاً أو ناسياً) هذا على العذر بالجهل والنسيان، وفيه حديث معاوية بن الحكم المشهور.
وبعض العلماء يقولون في مسألة العذر بالجهل: إذا استقرت الأحكام فلا يعذر بالجهل، وإنما يعذر بالجهل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وحملوا عليه حديث الأعرابي في عمرة الجعرانة، وحديث معاوية بن الحكم في الكلام، فقالوا: إن الأحكام لم تستقر، ولذلك يعذر، ويعتبر هذا موجباً لعذره.
ومنهم من يقول: إن العذر يكون لعدم العلم بالناسخ، خاصة في الكلام، وسيأتي إن شاء الله ذكره، وهو قول بعض العلماء، منهم أبو الخطاب، حيث يخرجها على المسألة الأصولية المشهورة: (إذا لم يعلم بالناسخ فإنه يعذر بفعل المنسوخ).
وبناءً على ذلك يكون كأنه متعبد لله عز وجل بأصل، فيعتبرون الجهل في هذا موجباً لعدم بطلان صلاته، وموجباً للعذر.(50/4)
أحكام مفارقة المؤتم للإمام إذا سها في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [ولا من فارقه].
إذا كنت وراء الإمام وصلى الإمام الظهر خمساً وقام إلى ركعة وأنت على يقين من أنها خامسة، فإن الذي يلزمك شرعاً -إذا علمت أنه قد زاد الركعة- أن تبقى في مكانك وتتشهد، ولا يجوز أن تتابعه على الزيادة، ولك هنا حالتان: الحالة الأولى: قال بعض العلماء: تتشهد وتتم لنفسك وتفارقه لمجرد زيادته.
الحالة الثانية: تبقى تتشهد وتنتظر حتى ينتهي من الركعة؛ لأنه معذور فيها فله حكمه على ظنه، وأنت معذور بترك الائتمام، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، إذ جلست الطائفة الأولى وقام للطائفة الثانية بالركعة، فأتمت لنفسها وسلم بالجميع.
قالوا: فيتخرج على هذا أنه يعذر المأموم في ترك الاقتداء لمكان الزيادة، ثم يبقى يتشهد، ثم يكثر من الدعاء والاستغفار وسؤال الله من فضله حتى يتم الإمام ركعته، ثم يسلم معه.
وهذا المذهب أقوى؛ لأن الأصل المتابعة حتى يدل دليل على الخروج من الصلاة.
وبناءً عليه، فلو صلى إمام الحي الصبح ثلاثاً، فإذا قام للثالثة تجلس وتتركه حتى يتم إذا أصر على رأيه ويقينه، ثم إذا تشهد تبقى تتشهد حتى ينتهي من الركعة بكمالها، ثم تسلم معه.
وإذا زاد إمام الحي بأن قام للثالثة في صلاة الفجر، أو الخامسة في صلاة الظهر أو العصر، أو الرابعة في المغرب، أو الخامسة في العشاء، فالمأمون على حالات: الحالة الأولى: من تبعه منهم ظاناً أنه على حق وصلاته صحيحة، كأن يقوم الإمام في الفجر إلى الثالثة والمأموم يعتقد أنها الثانية، فصلاته وصلاة الإمام صحيحة؛ لأن الله تعبدهما بهذا الظن.
الحالة الثانية: أن تعلم أنها زائدة، فثبت على الحالة التي ذكرناها وسلمت مع الإمام، أو فارقته على مذهب من يرى المفارقة، فصلاتك صحيحة.
الحالة الثالثة: أن تعلم أنها زائدة وتقوم معه متعمداً عالماً بزيادته لكنك جهلت الحكم، فحينئذٍ تعذر بالجهل عند من يرى العذر بالجهل، والدليل على ذلك أن الصحابة سلموا وراء النبي صلى الله عليه وسلم -كما في قصة ذي اليدين - ظانين أن الصلاة قد قصرت بدليل الحديث: (فقام السرعان من الناس يقولون: قصرت الصلاة.
قصرت الصلاة)، فسلم أبو بكر وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سلم وأن هذا السلام ليس في موضعه، لكنه جاهل بالحكم، ويظن أن الصلاة قد نسخت.
فلذلك قالوا: (الجهل بالحكم والظن بالتشريع في مرتبة واحدة)، فيعذر هذا كما يعذر هذا، وبناءً على ذلك فمن قام من العوام مع الإمام يظن أنه يتابعه وهو يعلم أنه قد زاد فحينئذٍ يحكم بصحة صلاته من هذا الوجه.
وقالت طائفة من العلماء: تبطل صلاتهم.
وهذا على مذهب من يقول: إن العذر بالجهل خاص بزمان النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو أقوى المسلكين من مسالك الأصوليين رحمة الله عليهم.(50/5)
حكم كثرة الحركة في الصلاة من غير جنسها
قال رحمه الله تعالى: [وعمل مستكثر عادة من غير جنس الصلاة يبطلها عمده وسهوه].
وصف المصنف العمل بكونه مستكثراً، أي: كثيراً، فخرج العمل القليل، كأن يصلح عمامته أو يصلح ثوبه، فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حينما جر ثوبه وهو في الصلاة والتحف به، فهذا عمل يسير.
وللعلماء قولان في ضابط العمل الكثير: القول الأول: أنه يضبط بالعدد، فإذا فعل ثلاث حركات متتابعات بدون فاصل فهذا عمل كثير ويوجب بطلان الصلاة، وهذا قول الحنفية.
القول الثاني: لا حد بالعدد، وإنما يحد بالعادة والعرف؛ لأن ما أطلق في الشرع فإنه يبقى على إطلاقه.
فيعرف الكثير من العمل في العادة بأنه لو رآه رجل من بعيد يفعل هذه الأفعال لقال: هذا غير مصلٍ.
فبناءً عليه فرقوا بين القليل والكثير بضابط العادة، وهذا قول الجمهور، ومنهم الشافعية والحنابلة، ودرج عليه المصنف فقال: [عادة]، والقاعدة أن ما أطلقه الشارع فإنه يرجع فيه إلى العرف والعادة.
فعمل المستكثر عادة يعتبر من موجبات بطلان الصلاة؛ لأن الإنسان إذا فعل الأفعال الكثيرة التي لا تتعلق بالصلاة خرج عن كونه مصلياً، وبناءً على ذلك يحكم ببطلان صلاته، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن في الصلاة لشغلاً)، والتعبير بهذا الأسلوب يدل على أنه شغل، أي: ينبغي للمكلف أن يستجمع نفسه لهذه الصلاة فلا يشتغل بأي أمر خارج عنها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن الحكم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، فهي عبادة مخصوصة تقع على هيئة مخصوصة، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
فالأفعال التي هي من جنس الصلاة إن كانت عمداً فالصلاة باطلة، وإن كانت سهواً جبرت بسجود السهو.
وهذا هو النوع الأول من الأفعال الزائدة.
والأفعال الزائدة من غير جنس الصلاة يفرق بين قليلها وكثيرها، فإن كان الفعل كثيراً بطلت، وإن كان يسيراً لم تبطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح الباب وهو في الصلاة، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه حمل أمامة في الصلاة ووضعها، وصعد المنبر ونزل عنه عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك لم يوجب بطلان صلاته صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: (يبطلها عمده وسهوه).
أي أن الأفعال المستكثرة التي ليست من جنس الصلاة يبطلها العمد والسهو، فلو أن إنساناً نسي أنه في الصلاة فتحرك حركات كثيرة، ثم تذكر أنه في الصلاة ورجع إليها؛ فإنه يحكم ببطلان صلاته، ويستوي في ذلك أن يكون متعمداً أو ناسياً، ولذلك يعتبرون النسيان في مثل هذا الحال لاغياً.
فإن قال قائل: كيف نجيب عن قول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]؟ قلنا: نسيانه وذهوله يوجب سقوط الإثم عنه، ولا يوجب سقوط الحق عنه، ولذلك فإن النسيان لا يسقط الحقوق، فلو كان لرجل على إنسان دين ونسيه ثم تذكره وجب عليه أن يقضي الدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى)، فحق الله لا يسقط بالنسيان، وهذا على الأصل وإن كان هناك استثناءات دلت النصوص عليها، ولذلك يعبر الأصوليون بعبارة أدق فيقولون: يسقط عنه الإثم من باب الحكم، ويلزم بإعادة صلاته واستئنافها إعمالاً للأصل.(50/6)
يسير الحركة في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [ولا يشرع ليسيره سجود].
أي: إذا عمل عملاً كثيراً حكم ببطلان صلاته، أما لو عمل شيئاً يسيراً فإنه لا يشرع له أن يسجد سجود السهو، فلا يسجد لليسير من الأفعال سجود السهو جبراً للخلل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل بعض الأمور اليسيرة التي ليست من مقصود الصلاة ولم يسجد لها، كفتحه للباب لما قُرع عليه، ورده السلام حينما سُلم عليه وهو في الصلاة، فهذه الأعمال اليسيرة لا يحكم فيها ببطلان الصلاة، ولا يشرع لها سجود سهو، وإنما تغتفر سماحة ويسراً من الشرع.(50/7)
الأكل والشرب في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [ولا تبطل بيسير أكل وشرب سهواً].
لأن الأكل والشرب يخالف مقصود الصلاة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الصلاة لشغلاً)، فالأصل في المصلي أن يشتغل بذكر الله عز وجل، وعمل الأعمال التي أمر الله بعملها حال الوقوف بين يديه، فإذا أكل أو شرب فقد خرج عن كونه مصلياً.
ومذهب كثير من العلماء أن من أكل أو شرب اليسير أو الكثير عمداً أو نسياناً فصلاته باطلة، وهذا القول أشبه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن الصلاة فيها شغل، وليس من شغل الصلاة الأكل والشرب، بل هو متضمن للإعراض عن الله عز وجل بالالتهاء بشهوة البطن، سواءٌ أكان أكلاً أم شرباً، كثيراً أم قليلاً، إلا أن هؤلاء منهم من استثنى اليسير الذي يكون بين الأسنان، وهكذا طعم الطعام، كأن يكون شرب لبناً فبقي شيء من طعمه في ريقه، أو بقيت رائحته في فمه فاستطعم ذلك الطعم، فقالوا: لا تبطل صلاته لما في ذلك من المشقة؛ إذ يصعب على الإنسان -خاصة أثناء صيام رمضان إذا كان حديث عهد بالسحور وجاء لصلاة الفجر- أن يدفع مثل هذا اليسير، ثم هو شيء قليل لا يقصد عادة فاستثنوا مثل هذا اليسير الذي يكون بين الأسنان، أو يكون داخل الفم من رائحة قوية للطعام لم تزل بالمضمضة.
وفصّل بعض العلماء فيما يكون بين الأسنان فقال: إن اشتغل بقلعه أثناء الصلاة ووضعه بين أسنانه كحال الطاعم والعاض فإنه يحكم ببطلان صلاته؛ لأنه في صورة الآكل.
أما لو أنه استخرجه مباشرة فإنه لا يحكم ببطلان الصلاة لكونه لم يطعم.
ولا شك أن الأكل والشرب لا وجه لاستثنائه يسيراً كان أو كثيراً، إلا ما أثر عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه شرب الماء في صلاة النافلة، وبعض العلماء يشكك في ثبوت الخبر، ولكنهم قالوا: إن هذا لا يقوى على معارضة السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تدل على أن المصلي ينبغي عليه أن يشتغل بمقصود الصلاة.
وبناءً على هذه السنة فإنه لا يقوى على تخصيصها إلا ما هو في مثلها في القوة أو أقوى منها، كأن يكون نصاً قطعياً متواتراً، فلا يقوى مثل هذا على الاستثناء، ويتأول لـ ابن الزبير لو صح عنه، فإذا قيل بهذا فإنه يُبقى على الأصل الذي يوجب الحكم ببطلان الصلاة.
واستنثى المصنف رحمه الله حالة السهو إذا أكل أو شرب يسيراً، وقد قال بعض العلماء: يغتفر له وتصح صلاته.
والصحيح ما ذهب إليه طائفة من أهل العلم أنه يستوي في ذلك العمد والسهو، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر برفع المؤاخذة عن الساهي، فيقولون: يسقط عنه الإثم لمكان السهو ويحكم ببطلان صلاته ولزوم استئنافها.
وهذا له أصل، فلو احتاج لإنقاذ نفس، كأن رأى صبيه يوشك أن يقع في الهلاك، فقد قالوا: لو قطع صلاته واشتغل بإنقاذه فخرج عن الصلاة بالعبث الكثير لإنقاذه، فإننا نحكم بسقوط الإثم لمكان الضرورة، ونحكم بوجوب الاستئناف لكونه قد خرج عن الصلاة ومقصودها.
وكذلك قالوا هنا: يسقط عنه الإثم لمكان السهو، ويؤمر باستئناف صلاته وابتدائها.
قال رحمه الله تعالى: [ولا نفل بيسير شرب عمداً].
أي: ولا يبطل النفل بيسير شرب عمداً، فإذا كان شربه للماء قصداً في النفل قالوا: إن صلاته لا تبطل.
وهذا مبني على مذهب من يقول من الأصوليين: إن قول الصحابي وفعله حجة.
وهذا لا شك أن له وجهاً عند من يقول به، ولكن نظراً لمعارضته للأصل الذي يدل على وجوب اشتغال المصلي بما هو من مقصود الصلاة فإنه لا يقوى تخصيص هذا الأصل بالأثر الوارد عن ابن الزبير لو صح عنه ذلك.(50/8)
نقل الذكر المشروع في الصلاة إلى غير موضعه
قال رحمه الله تعالى: [وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه كقراءة في سجود وقعود، وتشهد في قيام، وقراءة سورة في الأخيرتان لم تبطل ولم يجب له سجود، بل يشرع].
قوله: (وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه) مثاله: أن يصلي إنسان الظهر، فعندما قام للركعة الثانية فبدل أن يقرأ الفاتحة قرأ التشهد سهواً لا قصداً، أو ركع فسها فقرأ القرآن راكعاً، أو سجد فقرأ الفاتحة ساجداً، أو جلس للتشهد فسها فقرأ الفاتحة وهو في التشهد.
فالفاتحة مشروعة في الصلاة، والتشهد مشروع في الصلاة، فهو متلفظ بلفظ مشروع في الصلاة، ولكن الموضع الذي تلفظ فيه لا يشرع إيقاع هذا الذكر فيه.
فسواءٌ أكان في حال القراءة أم حال الرفع من الركوع، أم تشهد بين السجدتين في جلسته بينهما، فكل هذا إذا سها فيه فقد قال رحمه الله: (لم تبطل، ولم يجب له سجود، بل يشرع).
وهذا النوع من الأقوال يعتبر متردداً في القياس، أي: يعتبر قياسه قياس شبه، وهو عند الأصوليين (أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفين في الحكم)، فأنت إذا نظرت إليه وقلت: إن هذا القول مشروع في أصله.
فإن زيادته في الصلاة توجب سجود السهو، كما لو زاد في الصلاة ذكراً في موضع لا يشرع أداء ذلك الذكر فيه، كأن يتشهد مرتين في موضع التشهد فإنه يسجد للسهو، فحينئذٍ إن قسته على من تشهد مرتين أو قرأ الفاتحة مرتين قلت: يسجد للسهو؛ لأن الذكر مشروع في أصله، ولأن إيقاع التشهد الثاني وقراءة الفاتحة مرة ثانية واقع في غير موقعه، فهذا إذا قلت: إنه يسجد للسهو.
وإن قلت: لا يجب عليه سجود السهو فذلك لأن المكان ليس بمكان هذا الذكر، فأشبه الفعل الخارج عن الصلاة والقول الخارج عن الصلاة، فلذلك تقول: إنه قول زائد عن الصلاة، فلا يشرع سجود سهو له، كما لو فعل اليسير من الأفعال فلا يجب عليه أن يسجد سجود السهو.
فتوسط أصحاب هذا القول بين الأصلين وقالوا: لا يجب عليه سجود السهو؛ لأن الموضع ليس بموضع الذكر، ويشرع له، أي: لو سجد لشرع له لمكان الأصل الذي يلتحق به، كما لو كرر الفاتحة أو كرر التشهد.
فالمصنف رحمه الله ذهب إلى هذا القول المتوسط فرأى أنه لا يجب عليه سجود سهو، ولكن لو سجد فلا حرج، وهذا معنى قوله: (بل يشرع) أي: له أن يسجد.
فلو سألك سائل وقال: أنا قرأت التشهد قائماً، قلت له: لا يجب عليك أن تسجد، وإن سجدت فلا حرج.
ولو سألك وقال: قرأت الفاتحة ساجداً، أو حال التشهد، أو بين السجدتين تقول: لا يجب عليك أن تسجد للسهو، وإن سجدت فلا حرج.(50/9)
التسليم قبل إتمام الصلاة عمداً أو سهواً
قال رحمه الله تعالى: [وإن سلم قبل إتمامها عمداً بطلت، وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد].
قوله: (وإن سلم) أي: الإمام أو المأموم أو المنفرد، (قبل إتمامها) أي: إتمام الصلاة (عمداً بطلت) أي بطلت صلاة الجميع.
فلو أن شخصاً صلى الصبح، فلما انتهى من الركعة الأولى سلم، وهو عالم أنه في الركعة الأولى وأن صلاته لم تتم فإن صلاته تبطل بالإجماع، أو سجد السجدة الثانية الأخيرة، وقبل أن يقرأ التشهد سلم فقد بطلت صلاته، إلا عند من لا يرى وجوب التشهد ولزومه.
فمن سلم من الصلاة قبل كمالها وتمامها عالماً أن صلاته لم تتم، فصلاته باطلة؛ لأنه لم يصل على الصفة المعتبرة شرعاً، وقد ثبت في الحديث الصحيح من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)، فدل على أنه لما سلم أثناء الصلاة فقد حل منها، وبناءً على ذلك يكون تسليمه قبل انتهاء صلاته خروجاً من الصلاة، وقد خرج من الصلاة قبل كمالها فبطلت، وهذه المسألة تدل على أن من أراد أن يقطع الصلاة إذا أقيمت الصلاة فعليه أن يسلم حتى يصدق عليه أنه صلى، ولذلك قالوا: من سلم قبل تمام الصلاة بطلت صلاته.
وهذا يدل على أنهم معتبرون للتسليم، وأن التسليم يوجب الخروج من الصلاة، وكل هذا إذا بقي له ركن، أما لو سلم قبل الكمال الذي هو بمنزلة الفضل، كأن يكون سلم قبل الدعاء الأخير، فإن صلاته صحيحة؛ لأن الدعاء الأخير لا يعتبر ركناً ولا واجباً ولا شرطاً في صحة الصلاة، فلو أنه قرأ التشهد وأكمله وكان مستعجلاً وسلم صحت صلاته وأجزأته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (إذا فعلت هذا -أي: الأركان- فقد تمت صلاتك).
وقوله: (وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد) مثاله: أن يسلم من ركعتين في الرباعية، كما لو صلى الركعتين الأوليين من الظهر وجلس للتشهد، ثم ظن أنه في الركعة الأخيرة فسلم، أو صلى الفجر ركعة ثم جلس يظن أنه في الأخيرة وتشهد وسلم، فكل هذه الصور داخلة تحت هذا الأصل الذي ذكره المصنف، وهذا الحكم مبني على حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين أنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدمة المسجد فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة، فقام رجل يقال له: ذا اليدين فقال: يا رسول الله: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال: بلى، قد نسيت، فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم.
فصلى ركعتين، ثم تشهد، ثم سلم، ثم سجد سجدتين بعدما سلم) صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الحديث يدل على مسائل، منها: أن من سلم من صلاته ساهياً يجوز له أن يرجع فيتم ما فاته ويستدركه، وأنه يسجد للسهو لمكان الزيادة، وبناءً على ذلك فمن صلى الصبح ركعة وسلم فإنه يرجع، وإذا رجع يجلس كحال المتشهد ليأتي بصفة القيام من الجلوس إلى القيام، فيقوم ويقرأ الفاتحة ويتم الركعة، ثم يجلس للتشهد ويسلم، فإذا سلم سجد بعد السلام سجدتين، وهاتان السجدتان لمكان الزيادة، ووجه الزيادة أنه زاد في تشهده، ثم زاد السلام بعد التشهد، وهذه الزيادة التي وقعت وهي من جنس الصلاة شرع لها جبر، وذلك بسجوده بعد السلام.
فإذا ثبت أن من سلم من نقص يلزمه التمام، فهل كل من ذكر النقص في الصلاة يرجع ويتمها؟
الجواب
هذه المسألة فيها تفصيل، فلو أن إنساناً صلى الركعتين وسلم بعد انتهائه منها وبقيت له ركعتان، كأن يكون في الظهر أو العصر أو العشاء، فإن تذكر في المسجد فإنه يشرع له أن يرجع ويتم الصلاة، سواء أطال الوقت أم قصر، ويستوي في هذا أن يكون في مكان صلاته، أو يكون في غير مكان الصلاة.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من مكان الصلاة وانتقل إلى جوار الجذع، فخرج عن المكان الذي صلى فيه، لكنه داخل المسجد، فاشترط أن يكون ذكره حال كونه داخل المسجد، فلو خرج من المسجد انقطع التدارك ولزمه الاستئناف.
وقال بعض العلماء: إن طال الزمان بين تسليمه من الركعتين وذكره يلزمه أن يستأنف.
واختلفوا في قدر الطول والقصر على تفصيل.
ولكن الأشبه والأقوى أن يرجع إلى المصلى ولو طال الزمان ما دام أنه في المسجد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع، فدل على أنه في حال المصلي، مع وقوع الكلام الأجنبي الذي ليس هو من ألفاظ الصلاة كقوله: (ما نسيت ولم تقصر)، وقوله: (أصدق ذو اليدين؟)، فهذا كله كلام ليس من أذكار الصلاة، وإن كان مشروعاً لمصلحة الصلاة.
فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى الصلاة، واعتبر هذا الفاصل مع وجود الكلام غير مؤثر في الصلاة، وعلى هذا فيشرع للإمام والمنفرد أن يرجعا إلى صلاتهما ويتما على الصورة التي ذكرنا.
أما لو أنه خرج من المسجد فإنه يستأنف الصلاة، سواءٌ أطال الوقت أم قصر، فلو أنه سلم من ركعتين وخرج من المسجد مباشرة فإنه حينئذٍ لا يتدارك، وإنما يرجع ويستأنف الصلاة؛ إذ قد بطلت صلاته الأولى بالخروج من المحل، فاعتبر المحل لتصحيح بنائه على صلاته الأولى.
وبناءً على ذلك فلو أوقع شخص صلاة بين الركعتين الأوليين من الظهر والركعتين الأخريين، كأن صلى الظهر ثم سلم من ركعتين ساهياً، ثم قام وصلى ركعتين نافلة، ثم بعد أن صلى الركعتين تذكر أنه سلم من اثنتين فعليه أن يرجع ويتم الصلاة، وذلك لأن الصلاة التي أوقعها من جنس الصلاة، وهذا ظاهر.
ومثله لو طاف إنسان شوطين، ثم أقيمت الصلاة المفروضة فصلى، ثم رجع وبنى فهو من جنس الطواف، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت صلاة)، فلم يجعل دخول الصلاة بين الأشواط الأولى والأشواط الأخيرة فاصلاً؛ لأنه من جنس الطواف من جهة كونه صلاة.
وهكذا لو أوقع نافلة بين الصلاتين المفروضة فيعذر لمكان السهو، وتصح صلاته لمكان الكمال والتمام.(50/10)
من فاته شيء في الصلاة ثم ذكر بعد السلام
قال رحمه الله تعالى: [فإن طال الفصل، أو تكلم لغير مصلحتها بطلت ككلامه في صلبها، ولمصلحتها إن كان يسيراً لم تبطل].
في هذه المسألة مذاهب، فبعض العلماء يقول: أعتبر في الفاصل بين الركعتين الأوليين والأخريين وجود الوقت الطويل، ويعبرون عنه بالفاصل كما درج عليه المصنف.
وطائفة من العلماء يقولون: لا عبرة عندنا بالفاصل، ما دام أن المكان لم يغادره المصلي إعمالاً لظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ظاهر السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى مصلاه وهو في المسجد، فقالوا: نعتبر الحال والهيئة.
وهذا المذهب أشبه من جهة دلالة حال النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكروه.
قوله: (أو تكلم لغير مصلحتها بطلت ككلامه في صلبها) أي: إذا تكلم بكلام أجنبي، كأن يسلم من ركعتين فيسأل الذي بجواره عن حاله، أو يكلمه في أمر ما من الأمور، أو سئل عن مسألة فأجاب، أو تكلم بكلام أجنبي ليس من ذكر الله عز وجل وليس من الصلاة، فإنه يستأنف الصلاة على هذا المذهب.
والذي يختاره بعض العلماء أنه إذا تكلم بكلام أجنبي نزل منزلة الساهي، كمن تكلم ناسياً كونه في الصلاة، قالوا: فإذا كان كلامه كثيراً فإن صلاته باطلة، وأما إذا كان يسيراً فلا تبطل الصلاة.
قوله: [ولمصلحتها إن كان يسيراً لم تبطل].
أي: إن كان الكلام يسيراً لمصلحة الصلاة لم تبطل، فلو سلمت من ركعتي الظهر فقال رجل بجوارك: يا هذا: إن صلاتك لم تتم لأنك صليت ركعتين، فقلت له: لم أصل ركعتين.
أو سألته متأكداً من قوله فحينئذٍ إذا رجعت مباشرة صحت صلاتك، وذلك أن سؤالك على سبيل الاستيقان والتثبت، كسؤال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق ذو اليدين؟)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه ذو اليدين فراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى تأكد وتحقق، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الكلام لمصلحة الصلاة ولتصحيحها لا يوجب البطلان.
وفرعوا على هذا لو كنت وراء إمام أخطأ في صلاته بحيث لو سبحت له ازداد في الخطأ، قالوا: يشرع أن تكلمه، فتخاطبه بالذي يفعله، ولا حرج عليك؛ لأن ذا اليدين خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يفعله، ولم يوجب ذلك الحكم ببطلان صلاته.(50/11)
شرح زاد المستقنع - باب سجود السهو [3]
ينتاب العبد في صلاته أمور كثيرة، منها ما قد يوجب إعادة الصلاة، ومنها ما يوجب نقصانها وجبرها بسجود سهو وغير ذلك، وكل حال من الأحوال التي تعرض للعبد في صلاته فإن لها أحكاماً نصت عليها أدلة السنة النبوية وبينها أهل العلم في مصنفاتهم، وفي هذه المادة كثير من تلك المسائل التي تتعلق بسجود السهو.(51/1)
تابع أحكام سجود السهو(51/2)
حكم القهقهة والنفخ والانتحاب والتنحنح
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وقهقهة ككلام].
القهقة: هي الضحكة المعروفة، والقهقهة للعلماء فيها قولان إذا وقعت في الصلاة: فمنهم من يقول: من ضحك في صلاته فإن صلاته باطلة ويلزمه أن يعيد الوضوء.
وهذا مذهب الحنفية.
ومنهم من يقول: من ضحك في أثناء صلاته فصلاته باطلة ووضوءه صحيح، وهذه هو مذهب الجمهور.
واستدل الحنفية بحديث ضعيف وهو: (أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا أعمى تردى فضحكوا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الوضوء والصلاة).
وهذا حديث ضعيف السند والمتن: أما ضعف سنده فالكلام فيه، وأما ضعف متنه فلأن الصحابة أورع وأتقى لله وأخشى من أن يروا أعمى ويضحكون عليه، خاصة وأنهم وقوف بين يدي الله عز وجل، بل إنهم أبعد من أن يضحكوا لو سقط الأعمى في غير صلاة، فكيف وهم واقفون بين يدي الله عز وجل؟!! فهذا حديث ضعيف لا يعول على مثله في بناء الأحكام عليه.
وبناءً على ذلك فإذا قهقه أو ضحك في الصلاة فإن صلاته باطلة لخروجه عن كونه مصلياً، ولا شك أن الضحك في الصلاة يعتبر من الآثام، أما لو غلب الإنسان عليه، كأن ذكر أمراً لم يستطع دفعه فهذا له حكمه، لكن أن يضحك قاصداً متعمداً فهذا على خطر، ولذلك يخشى عليه أن يكون مستهزئاً، ومعلوم ما للمستهزئ بالدين من حكم، فالضحك في الصلاة على سبيل العبث واللهو واللعب أمر خطير، ولذلك قال الله عز وجل: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} [الأنعام:70]، فلذلك لا يجوز للإنسان أن يتشبه بأمثال الكفار الذين قال تعالى عنهم: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة:58]، فالاستهزاء في داخل الصلاة أمره عظيم، وهو من صنيع أهل النفاق والكفر، والعياذ بالله.
ولا يقع من إنسان إلا إذا كان في قلبه مرض -نسأل الله السلامة والعافية-، أما لو غُلِب على ذلك فإنه يدل على ضعف إيمانه؛ لأنه لو استشعر مقامه بين يدي الله عز وجل، ووقوفه بين يدي الله ملك الملوك وجبار السموات والأرض، وأن الله مطلع عليه حال وقوفه لما ضحك، خاصة وأنه يتدبر ويتأمل الآيات، فإنه في هذه الحالة أبعد من أن يضحك، ولو تذكر ما يضحك الإنسان فإنه لشدة الهيبة والمقام بين يدي الله يستطيع أن يتماسك ويمتنع من الضحك.
فنسأل الله العافية من هذا البلاء، ونسأل الله أن لا يبتلينا بالاستخفاف بعظمته وهيبة المقام بين يديه.
وقد قال بعض العلماء مستنداً إلى بعض الأحاديث، وإن كان قد تكلم في سندها: (إن مقام الناس بين يدي الله يوم القيامة على قدر خشوعهم في الصلاة).
فيقف الإنسان بين يدي الله يوم القيامة على قدر ما كان منه من حال أثناء صلاته، فإن كان أثناء وقوفه بين يدي الله في الصلاة يعظمه ويجله كان مقامه بين يدي الله يوم القيامة على أكمل المقامات وأتمها وأحبها إلى الله، ويكون حاله على حال السعداء، وإن كان حاله على الاستخفاف والتلاعب والتشاغل فهو بحسبه، نسأل الله السلامة والعافية.
قال رحمه الله تعالى: [وإن نفخ، أو انتحب من غير حشية الله تعالى، أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت].
وقوله: (وإن نفخ) النفخ في الصلاة هو إخراج الهواء من الفم، ويكون في بعض الأحوال متضمناً لبعض الحروف والكلمات، خاصة إذا كان نفخه فيه شيء من التأوه والتألم والتضجر والسآمة، فإنه في هذه الحالة يخرج شيء أشبه بالأصوات، فقد يقول: آه.
فإن فيه الهمز والهاء، وهذان حرفان.
وقوله: (أو انتحب من غير خشية الله) أي: بكى، وذلك كالشخص الذي يكون حزيناً لأمر، فيدخل في الصلاة وهو حديث عهد بالحزن، فيبكي في صلاته لحزنه لا لخشية الله، فهذا البكاء إذا كان فيه نحيب وصوت فإنه يوجب بطلان صلاته.
وقوله: (أو تنحنح لغير حاجة) التنحنح استثناه بعض العلماء لحاجة، كأن يجد في صدره ما يوجب التنحنح، أو يتنحنح للتنبيه، فقالوا: إنه يكون في حكم التسبيح، وقد جاء عن علي رضي الله عنه أنه: (كان إذا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بالليل تنحنح له عليه الصلاة والسلام)، فهذا يعتبره العلماء بمثابة التسبيح؛ فإن التسبيح فيه حروف وجمل، فإن (سبحان الله) جملة، وبناءً على ذلك قالوا: لا تبطل الصلاة إذا وجدت الحاجة الداعية إلى أن يتنحنح، خاصة لورود حديث علي رضي الله عنه في السنن.
أما إذا انتحب -وهو الصوت الذي يكون مع البكاء-، وكان نحيبه من خشية الله فبعض العلماء يقول: إذا أصدر الأصوات وأزعج فإن صلاته تبطل، وخرج عن كونه مصلياً، وقد أثر عن عمر رضي الله عنه أنه: (كان يسمع نشيجه وبكاؤه من آخر الصفوف)، لكن هذا النحيب من عمر وأمثال عمر إنما هو من مغلوب عليه، أما أن يتكلف الإنسان ويحاول أن يغلب نفسه لكي تبكي، ويرفع صوته بذلك فلا شك أن هذا يوجب بطلان صلاته، خاصة إذا علت الأصوات وشوش على المصلين، ولا يأمن على صاحبه من الرياء، نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك تجد بعض العلماء والأخيار والصالحين يغالب نفسه في البكاء، ويحاول أن لا يبكي حتى يغلب، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه الله برحمته الواسعة (إذا خطب في الناس وبكوا قطع الخطبة وجلس خوف الرياء).
فإذا كان الإنسان مغلوباً على البكاء فلا حرج، خاصة إذا كان من خشية الله عز وجل، أما إذا كان بكاؤه تكلفاً ويغالب به نفسه وحصلت من الأصوات الحروف فإنه يحكم ببطلان صلاته وخروجه عن كونه مصلياً.(51/3)
ترك الركن وغاية تداركه
قال المصنف رحمه الله: [فصل: ومن ترك ركناً فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت التي تركه فيها].
من ترك ركناً فإما أن يكون تكبيرة الإحرام، وإما أن تكون غيرها، فمن ترك تكبيرة الإحرام بطلت صلاته؛ لأن الصلاة لا تنعقد بغير تكبيرة الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث علي: (تحريمها التكبير)، وهو حديث صحيح، فلو أن إنساناً وقف ظاناً أنه كبر تكبيرة الإحرام وقرأ الفاتحة وركع وسجد، ثم تذكر أنه لم يكبر تكبيرة الإحرام فصلاته لم تنعقد أصلاً، فتكبيرة الإحرام لا تنعقد الصلاة بغيرها.
أما بالنسبة لغير تكبيرة الإحرام، كأن ترك قراءة الفاتحة، بأن كبّر ثم سها فقرأ السورة التي بعد الفاتحة، ثم ركع، فتذكر وهو في الركوع أو بعد الركوع، فحينئذٍ قال بعض العلماء: من نسي ركناً وشرع في الركن الذي يلي الركن الذي بعده فإنه يلزمه قضاء الركعة؛ لأنهم يرونه بدخوله في الركن البعدي قد ابتعد ولم يمكنه التدارك؛ لأنه قد اشتغل بركن غير الركن الذي هو فيه، فلا يرجع.
وقال بعضهم: العبرة بأربعة أركان، فإن دخل في الركن الرابع لم يرجع للذي قبله؛ لأنه في الركن الأول والثاني والثالث يمكنه أن يتدارك، أما فيما بعد الأركان الثلاثة بدخوله للرابع فإنه لا يمكنه التدارك.
وقال بعضهم: إن دخل أو شرع في قراءة الركعة التي بعد الركعة التي سها فيها فحينئذٍ قد خرج عن التدارك، وإن كان قبل ذلك يتدارك.
وهذا هو الذي درج عليه المصنف، وهو الأقوى والأرجح إن شاء الله، فمن نسي ركناً وتذكر هذا الركن قبل أن يدخل في قراءة الركعة التي تلي الركعة التي سها فيها فإنه يرجع ويتدارك الركن، فلو نسي الفاتحة فركع وتذكر وهو راكع فإنه يرفع رأسه بدون ذكر، ويقرأ الفاتحة ويقرأ السورة التي تليها، ويتم الصلاة على سننها وطريقتها، ثم يسجد بعد السلام؛ لأنه زاد ركن الركوع قبل أن يفعل ركن القراءة.
وكذلك لو تذكر في ركن ثان، كأن نسي قراءة الفاتحة وركع ثم رفع من الركوع، فإذا تذكر في حال الرفع من الركوع فإنه يقرأ الفاتحة ثم ما بعدها من سورة، ثم يتم الصلاة على سننها ويسجد للزيادة.
وكذلك لو تذكر أنه لم يقرأ الفاتحة وهو في السجدة الأولى، أو بين السجدتين، أو في السجدة الثانية من الركعة التي نسي فيها، فإنه يقوم مباشرة بدون ذكر ويقرأ الفاتحة والسورة التي تليها، ويتم الصلاة على سننها ويسجد للزيادة.
والسبب في هذا أنه بمجرد تركه للركن لا يزال خطاب الشرع عليه بقراءة الفاتحة، فلما ركع أوقع الركوع في غير موقعه؛ لأن الركوع في هذه الركعة لا يصح إلا بعد قراءة الفاتحة، فكأنه فعل شيئاً خارجاً عن الصلاة، فلم يعتد بوقوع ذلك الشيء ورجع للتدارك، وهكذا لو رفع أو سجد أو كان بين السجدتين، ففي الجميع قد توجه عليه الخطاب أن يقرأ الفاتحة فيرجع تداركاً لأمر الشرع، ويكون انتقاله لهذه الأركان مغتفراً لمكان السهو، ويلزم بسجود السهو البعدي لمكان الزيادة، فقد زاد شيئاً من جنس الصلاة، فهذا وجه كونه لم يرجع ما لم يدخل في ركعة ثانية.
أما لو دخل في الركعة الثانية، كما لو نسيت الفاتحة فركعت ورفعت وسجدت، ثم سجدت السجدة الثانية، ثم قمت إلى الركعة الثانية وقرأت الفاتحة، فقد دخلت في ركعة جديدة، وألغيت ركعتك الأولى، وحينئذٍ وقع الخلاف في كونه يلفق أو يلقي: فقال بعض العلماء: يلغي الركعة الأولى كأنها لم توجد؛ لأن هذه الركعة وجودها وعدمها على حد سواء.
وقال بعضهم: يقضي ركعة بعد انتهائه من الصلاة.
وفائدة الخلاف: أنك لو صليت الركعة الأولى ونسيت فيها الفاتحة، ثم قمت إلى الركعة الثانية وشرعت في قراءة الفاتحة، فبعد انتهائك من الركعة الثانية فإنك على أحد القولين تقوم بناءً على أن الركعة الأولى ألغيت وأنت في الثانية، وهو الأقوى والأصح إن شاء الله.
وعلى القول الآخر تجلس للتشهد، ثم تأتي بالركعتين الأخريين، ثم تقضي ركعة كاملة.
والأقوى ما ذكرناه؛ لأن الأولى تلغى لكونها غير معتدٍ بها، ويلزمه أن يأتي بالركعة الثالثة بعد الركعة الثانية على الصورة المعهودة في الصلوات.
قال رحمه الله تعالى: [وقبله يعود وجوباً فيأتي به وبما بعده].
أي: قبل أن يشرع في الركعة الثانية يرجع ويتدارك وجوباً، كما لو نسي الفاتحة وتذكرها وهو راكع فإنه يرجع مباشرة، وهكذا لو تذكرها وهو ساجد، وقس على هذا.
قال رحمه الله تعالى: [وإن علم بعد السلام فكترك ركعة كاملة].
ذلك بأنه إذا لم يقرأ الفاتحة في الأولى، أو الثانية، أو في الثالثة، أو الرابعة فكتركه لركعة، أي: يلزمه أن يرجع إلى مصلاه، أو يستقبل القبلة إن بعد عنه المصلى ويتم ركعة كاملة.
فكأنه يقول: ابن الحكم في هذه المسألة على المسألة التي تقدمت معنا فيمن سلم من ركعتين، فلو أنك سهوت عن الفاتحة ولم تتذكر إلا بعد السلام، فإن طال الفصل فإنك حينئذٍ تستأنف الصلاة وتعيدها كاملة، وإن لم يطل الفصل فحينئذٍ تأتي بركعة كاملة.
فهذا وجه تشبيهه؛ لأنه كتركه لركعة، وبناءً على ذلك فإن طال فصله فعلى مذهب المصنف رحمه الله يستأنف الصلاة وتبطل صلاته الأولى، وإن لم يطل الفصل فإنه يبني ويأتي بركعة كاملة قضاءً لهذه الركعة التي اختلت بفوات ركنها.
وأما على المذهب الذي قلنا: إنه أقوى فعلى ظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن تذكر أنه لم يقرأ الفاتحة وهو داخل المسجد فإنه يستقبل القبلة ويتم صلاته على الصورة التي ذكرناها.(51/4)
ترك التشهد الأول ومتى يتدارك حال النسيان
قال رحمه الله تعالى: [وإن نسي التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائماً].
هذه المسألة تتعلق بنسيان الواجبات، والمسألة الأولى في نسيان الأركان، فذكر لك رحمه الله حكم ما إذا نسي الركعة بكاملها، وفصّل لك بين أن يطول الفصل وألا يطول، ثم إن نسي جزء الركعة، وفصّل بين أن يتذكر داخل الصلاة أو بعد الفراغ من الصلاة، ثم انتقل إلى نسيان الواجبات، كأن ينسى التشهد الأول ويقوم إلى الركعة الثالثة، فإذا نسي التشهد الأول، كما لو صلى الركعة الأولى والثانية، ثم بدل أن يجلس للتشهد انتصب قائماً، فحينئذٍ إذا انتصب قائماً فإنه انتصب عوده واستتم قائماً فإنه لا يرجع إلى التشهد، ويسقط عنه التشهد لحديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس، وسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم)، ومثله حديث المغيرة بن شعبة حينما كان أميراً على الكوفة، فإنه سها وقام ولم يجلس في التشهد الأول، فسبحوا له، فأشار إليهم أن: قوموا.
ورفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل فدل هذا على أن من نسي التشهد الأول واستتم قائماً أنه لا يرجع، بل يمضي في صلاته، ثم يسجد سجدتي السهو قبل السلام تداركاً لهذا الواجب الذي تركه.
وهناك أقوال أخر للعلماء في هذه المسألة: فقد قال بعضهم: بمجرد مفارقته للأرض لا يعود.
- وقال بعضهم: إذا استتم قائماً وشرع في الفاتحة.
- وقال بعضهم: ما لم يركع.
فهذه كلها أقوال للسلف رحمهم الله.
وأقواها أنه يعود ما لم يستتم قائماً؛ لأنها صورة حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه انتصب قائماً، ولم يذكر الراوي شروعه في الفاتحة، ولا قدر الشروع في الفاتحة، والذي يظهر أن الصحابة رفعوا رءوسهم مباشرة، وأنت إذا تأملت حاله فالغالب أنه إذا كبّر عليه الصلاة والسلام فتكبيره كان مقارناً بقيامه، فإذا تأملت حال الصحابة أنهم رفعوا رءوسهم سيكون تسبيحهم بمجرد استتمامه قائماً، ولا شك أنه يقوي القول بأنه قبل قراءته للفاتحة، وأن العبرة باستتمامه قائماً، فكما أنه قوي من جهة الأثر فإنه قوي من جهة النظر؛ لأنه إذا استتم قائماً قد دخل في الركعة التي تلي واجب التشهد، فيقوى حينئذٍ اشتغاله بالركن عن الرجوع إلى الواجب.
وعليه فيقوى أن يقال: إنه يتم بناءً على وقوفه، ولا يشترط قراءته للفاتحة.
قال رحمه الله تعالى: [فإن استتم قائماً كره رجوعه وإن لم ينتصب لزمه الرجوع، وإن شرع في القراءة حرم الرجوع وعليه السجود للكل].
المصلي إذا يستتم قائماً، كأن تحرك أو وثب فلما وصل إلى درجة الركوع سبحوا له فإنه يلزمه الرجوع؛ لأنه لا يعتبر متلبساً بالركن ولا داخلاً فيه إلا عند استتمامه بالقيام، ويلزمه حينئذٍ الرجوع، وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مفاد قوله: (وإن لم ينتصب لزمه الرجوع) وحينئذٍ إذا تركه متعمداً بطلت صلاته، فلو أنه تحرك للقيام فسبحوا له وعلم أنه قد ترك التشهد فقام عالماً متعمداً، ولم يتأول مذهب من يقول بمفارقة الأرض، فحينئذٍ يحكم ببطلان صلاته؛ لأن من ترك واجباً من واجبات الصلاة متعمداً بطلت صلاته.
قوله: [وإن شرع في القراءة حرم الرجوع] أي: حرم عليه أن يرجع إلى التشهد، فبين لك رحمه الله متى يلزم بالرجوع للتشهد، ومتى يلزم بالبقاء وإتمامها، فقال: إن فارق الأرض ولم يستتم قائماً وجب عليه أن يرجع؛ لأن الخطاب متوجه عليه بالجلوس للتشهد، وإن استتم قائماً لزمه إتمام الركن؛ لأن الخطاب متوجه عليه بإتمام الركعة، وحينئذٍ لا يرجع للتشهد، فلو رجع فقد حكم بعض العلماء ببطلان صلاته؛ لأنه زاد ركن القيام.
وقال بعضهم: يحكم ببطلان صلاته؛ لأنه زاد التشهد بعد سقوطه عنه.
وكلا القولين والتخريجين صحيح.
وقال بعض العلماء بالتفريق بين الجاهل وبين العالم على الأصل الذي يسلكه بعض الأصوليين في العذر بالجهل، وكون الجاهل يعذر بالجهل بعد استقرار الأحكام أو لا يعذر مسألة معروفة عند الأصوليين.
وقوله: [وعليه السجود للكل].
فيه صورتان: الأولى: أن يستتم قائماً ويقرأ الفاتحة ولا يرجع، فيكون سجوده عن نقص، ويكون قبل السلام.
الثانية: أن يكون قد ارتفع من الأرض ولم يستتم قائماً ورجع فيكون سجوده للزيادة؛ لأنه زاد الحركة -التي هي قيامه ومفارقته للأرض قبل استتمامه- ما بين جلوسه وما بين استتمامه قائماً، وهذه الحركة زائدة؛ لأنه مطالب أن يجلس للتشهد، فكونه يزيد الوقف أو التحرك للوقوف فإنه يطالب بسجدتي السهو جبراً لهذه الزيادة.
ولما كان المذهب لا يفرق بين الزيادة والنقص قال: (وعليه السجود) للكل وسكت، لكن من يفصل يقول: يسجد للزيادة إن كان قد رجع، ويسجد للنقص إن كان قد استتم قائماً.(51/5)
الشك في الركعات والأركان
قال رحمه الله: [ومن شك في عدد الركعات أخذ بالأقل، وإن شك في ركن فكتركه].
بعد أن بيّن لنا رحمه الله النقص والزيادة وأحكامها في سجود السهو شرع بإلحاق مسائل ملتحقة بهذا، وهي تصرف الإنسان في حال الشك.
والشك: هو استواء الاحتمالين، فلو صليت الصبح ولم تدر هل صليت الركعة الثانية، أم صليت ركعة واحدة فحينئذٍ كأنك لم تصل الثانية إذا استوى عندك الاحتمالان، أما لو ترجح عندك أو غلب على ظنك رجحان أحد الاحتمالين فحينئذٍ تبني على غالب ظنك، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام سلم من اثنتين، بناءً على ظنه الغالب.
وقال بعض العلماء: الشك والتردد يوجب البناء على الأقل مطلقاً.
والأقوى أنه يتحرى الصواب ويبني على غالب ظنه.
والبناء على غالب الظن هو أن توجد قرائن تدل على أنه ليس في الركعة الثانية، كأن يحس أن الوقت قصير جداً بحيث لا يتسع لصلاة ركعتين، فحينئذٍ يبني على واحدة، أما لو أحس بطول الزمان، وقراءته قليلة، وغلب على ظنه أنه صلى الركعتين فحينئذٍ يبني على أنه أتم الصلاة ولا يأتي بالركعة الثالثة.
والأصل في هذا حديث أبي سعيد الخدري في الصحيح أن النبي صلى قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى تماماً كانتا ترغيماً للشيطان)، فدل على أنه مطالب بالأخذ بالأقل، وهذا مفرّع على القاعدة المشهورة: (اليقين لا يزول بالشك)، فمن كان شاكاً: هل صلى واحدة أو اثنتين فهو على يقين من واحدة وشك من اثنتين، واليقين أنه مأمور بركعتين، فحينئذٍ لا تبرأ ذمته إلا بيقين، فيلزمه حينئذٍ أن يأتي بالركعة الثانية، ويقاس على هذا تكبيرات الجنائز، فلو شك هل كبّر واحدة أو اثنتين فإنه يبني على واحدة، ولو شك في أشواطه في طوافه بالبيت فإنه يبني على الأقل، وهكذا السعي بين الصفا والمروة، فكل هذا يبني فيه على الأقل، وفي الصلاة يسجد سجدتين قبل أن يسلم.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من هاتين السجدتين، فقال: (إن كان صلى تماماً -يعني: أربعاً- كانتا ترغيماً للشيطان)، وذلك أن الشيطان يتألم من سجود ابن آدم، فإذا رأى ابن آدم ساجداً تولى يصيح: يا ويله! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار.
فإن كنت صليت تماماً فيكون بناؤك صحيحاً واعتبارك لليقين صحيحاً، وتكون السجدتان ترغيماً للشيطان؛ لأنه أدخل عليك الوسوسة بالشك فيؤذى بالسجود، وأما إن كانت صلاتك زائدة وكانت الركعة التي صليتها ركعة خامسة في رباعية، أو رابعة في ثلاثية، أو ثالثة في ثنائية، فإن السجدتين تشفعان هذه الركعة، فتلغيانها كأنها لم توجد، وصلاتك صحيحة ومعتبرة.
وقوله: [وإن شك في ترك ركن فكتركه]، أي: إذا شك في ترك الفاتحة أو عدم تركها فإنه كما لو تركها، ويلزمه أن يقرأ الفاتحة، وهكذا أي ركن سواها.(51/6)
حكم الشك في ترك واجب
وقوله: [ولا يسجد لشك في ترك واجب أو زيادة].
فرق العلماء بين الواجب والركن لوجود الأصل في الركن الذي دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أم اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثاً فليبن على اثنتين)، فاعتبر عليه الصلاة والسلام في الأركان الأقل، وبقي الواجبات على الأصل، وبناءً على ذلك فإنه يلزم بسجود السهو إذا تيقن أن شكه باطل، سواء أتيقن أثناء أدائه أم تيقن بعد انتهائه.
مثال ذلك: لو قام إلى الركعة الخامسة ظاناً أنه قد صلى ثلاثاً، وأن هذه التي قام لها هي الرابعة، فإنه إذا تذكر أثناء صلاته للركعة الخامسة وأدائه لها لزمه أن يجلس مباشرة، وحينئذٍ يسجد بعد السلام لمكان الزيادة بالقيام والقراءة إن وجدت.
وكذلك الحال لو تذكر أنه لم يفعل واجباً ثم تبين له أنه فعله، كما لو رفع رأسه من الركوع فقال: (سمع الله لمن حمده)، ثم شك: هل قال أو لم يقل، أو شك هل كبر للسجود أو للركوع أو لم يكبر؟ هذه الواجبات إذا شك في وقوعها فإنه حينئذٍ يتدارك إذا أمكنه التدارك، وأما إذا لم يمكنه التدارك فإنه حينئذٍ يسجد للسهو قبل السلام، على الأصل الذي ذكرناه: أن نقص الواجبات يجبر بسجود السهو.(51/7)
ما يحمله الإمام عن المأموم
قال رحمه الله تعالى: [ولا سجود على مأموم إلا تبعاً لإمامه].
وهذا مبني على أن الإمام يحمل عن المأموم نقص الواجبات، ولا يحمل عنه نقص الأركان، ويحمل عن مأمومه الزيادة، فإذا زاد المأموم وراء إمامه سهواً فإن الإمام يحمل عنه هذه الزيادة.
فلو أنك كنت وراء الإمام، فسهوت وركعت ظاناً أن الإمام راكع، أو قرأ الإمام فاختلجت عليك القراءة فظننت أنه يكبر فكبرت راكعاً، فهذه زيادة وراء الإمام، وهي ركن، فالإمام يحمل عنك هذا الركن الذي زدته.
وكذلك لو زدت واجباً وراء الإمام، فعلى القول بأن المأموم يقتصر على قوله: (ربنا ولك الحمد) فإن قلت وراء الإمام ساهياً: (سمع الله لمن حمده) فزدت واجباً، فإن الإمام يحمل عنك هذا الواجب الذي زدته سهواً.
والدليل على أن الإمام يحمل عن المأموم الواجبات ظاهر حديث أبي هريرة عند أبي داود وأحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن)، وهذا الضمان فسره غير واحد من أهل العلم أنه حمل الإمام عن المأموم.
وبناءً على ذلك فيحمل عن المأموم الواجبات إذا نسيها، ويحمل عنه زيادة الأركان، فيعتبر كأنه لم يزد في صلاته إذا كان وراء إمامه.(51/8)
حكم سجود السهو
قال رحمه الله تعالى: [وسجود السهو لما يبطل عمده واجب].
أي أن سجود السهو لجبر الواجبات وجبر الأركان واجب.
وقد اختلف العلماء في حكم سجود السهو: فمنهم من قال: إنه واجب.
ومنهم من قال: إنه سنة.
ومنهم من يفصل بين سجود الزيادة وسجود النقص، فيوجبه في النقص ولا يوجبه في الزيادة.
والصحيح وجوبه على العموم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فليسجد سجدتين)، فهذا أمر والأمر ظاهره الوجوب، ولا دليل يدل على صرف هذا الأمر عن ظاهره.
فالأصل في سجود السهو أنه للوجوب، لكن هذا الوجوب يتقيد في جبر الواجبات؛ والأركان لا تجبر إلا بفعلها.
وبناءً على ذلك فإن سجود السهو لجبر الواجبات واجب، أما لو سها في صلاته بزيادة ذكر في غير موضعه كقراءة الفاتحة في حال الركوع أو السجود فإنه يشرع ولا يجب، على التفصيل الذي ذكرناه عند كلام المصنف رحمه الله على زيادة الأقوال المشروعة في غير موضعها.
قال رحمه الله تعالى: [وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام فقط وإن نسيه وسلم سجد إن قرب زمانه].
سجود النقص إذا تركه متعمداً بطلت صلاته إذا كان السجود قبل السلام، أما عند من يقول بالسجود بعد السلام فإنه يمكن أن يتدارك بعد سلامه، فلو تعمد ترك السجود عند من يقول بوجوبه فهو كترك واجبات الصلاة، وهذا المذهب صحيح، فمن ترك واجباً كالتسميع والتحميد وتكبيرات الانتقال، ثم علم أنه ترك هذا الواجب ناسياً، وتعمد ترك سجود السهو قبل السلام بطلت صلاته كما لو ترك واجباً متعمداً، وذلك أن سجدتي السهو جبر، لهذا الواجب، فكونه يترك سجدتي السهو متعمداً كما لو تعمد ترك هذا الواجب أصالة، وبناءً على ذلك تبطل صلاته بترك سجود السهو من هذا الوجه.
وقوله: [وإن نسيه وسلم سجد إن قرب زمانه] أي: إن نسي سجود السهو جبره إن قرب زمانه، كالحال في الأركان، فإذا كانت الركعات يمكن تداركها مع قرب الزمان فإن الواجبات من بابٍ أولى وأحرى.
مثال ذلك: لو صليت فنسيت تكبيرات الانتقال أو التسميع أو التحميد، أو نسيت التشهد الأول، ثم صليت وسلمت ونسيت أنك قد نسيت هذا الواجب فلم تسجد للسهو، ومكثت في مصلاك، ثم تذكرت قبل أن يطول الفصل فإنك تسجد سجدتي السهو وتسلم، ولا يلزمك شيء.
وكذلك الحال لو أنه قام من مصلاه -على القول بأنه ما دام في داخل المسجد- ثم تذكر، فإنه يستقبل القبلة ويسجد سجدتي السهو، ويصح ذلك منه ويجزيه.(51/9)
تكرار السهو في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [ومن سها مراراً كفاه سجدتان].
أي: من ترك أكثر من واجب فإنه تكفيه سجدتان، ويدل على ذلك ظاهر السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك التشهد الأول كان التشهد مشتملاً على الجلوس للتشهد، وعلى تشهده، وعلى التكبير الجلسة؛ لأن تكبيره الذي قام فيه للركعة واقع بعد التشهد.
وبناءً على ذلك فقد حصل هنا أن ثلاثة واجبات قد تركت، فتداخلت في سجود النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبرها بمثابة الواجب الواحد، فهكذا الحال لو ترك واجبات متفرقة فيسجد لها سجدتين وتجزيه، ويتداخل السهو في هذه المسألة.(51/10)
الأسئلة(51/11)
حكم تكرار قراءة الفاتحة في الركعة الواحدة
السؤال
رجل صلى الفجر، وفي قراءة السورة التي بعد الفاتحة سجد للتلاوة، ثم بعد الرفع سها وقرأ الفاتحة وسورة بعدها وتذكر قبل التسليم، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن هذا قد زاد ركناً قولياً وهو قراءته للفاتحة بعد قيامه من سجود التلاوة، ويلزمه أن يسجد بعد السلام، على القول بأن سجود الزيادة بعد السلام، وصلاته صحيحة إن شاء الله.
والله تعالى أعلم.(51/12)
حكم استئناف الصلاة من جديد إن علم نقصانها بعد الصلاة
السؤال
رجل صلى الفجر وسلم بعد ركعة واحدة، وأخبر قبل أن يبرح من مكانه، ولكنه لم يتم بل استأنف الصلاة من جديد، فما هو الحكم؟
الجواب
هذا الفعل خلاف السنة، وبناءً على ذلك فلا شك أنه لو علم بالسنة وتعمد هذا الفعل فقد خالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدث وتنطع، وذلك أنه لم يجتزئ بالرخصة التي وسّع الله على عباده؛ لأنه كان يكفيه أن يستقبل قبلته ويتم ركعة واحدة، فتنطع واعتقد عدم الإجزاء فزاد على الشرع، ولذلك يعتبر فعله هذا من الحدث والابتداع، أما لو كان جاهلاً ولم يعلم الحكم وأحب أن يحتاط ويستبرأ فحينئذٍ يجزيه فعله، ولا حرج عليه.
إلا أن بعض العلماء قال: إنه يعتبر منتهياً من الصلاة بالركعة الأولى من الركعتين الأخيرتين؛ لأنه لما قام وجاء بركعة تمت صلاته الأولى فيسجد حينئذٍ للسهو، وتجزئه صلاته في هذه الحالة لمكان العذر بالجهل، كما لو سها وزاد ركعة على صلاة ثنائية فصلاها ثلاثاً، فبهذا يكون قد صلى مرة واحدة على هذا القول، لكن القول الثاني يرى أنه قد صلى صلاتين: الصلاة الأولى لاغية والصلاة الثانية مستأنفة.
والله تعالى أعلم.(51/13)
موضع سجود السهو في الزيادة والنقص
السؤال
صليت الظهر وأدركت مع الإمام الركعة الأخيرة، فلما سلم أكملت الصلاة، فلما قمت من الركعة الثانية نسيت التشهد، ثم في الركعة الثالثة جلست للتشهد سهواً، ثم قمت للرابعة، فهل السجود هنا قبل السلام أم بعده؟
الجواب
هذه المسألة اجتمع فيها سجود السهو للزيادة والنقص، أما النقص فلكونك قمت بعد الركعة الأولى من قضائك؛ لأن الأصل أنك بعد الركعة الأولى من القضاء تجلس للتشهد؛ لأن أصح أقوال العلماء أن من فاته شيء مع إمامه أنه يبني على صلاته على ظاهر حديث أبي هريرة في الصحيح، فكان يلزمك أن تجلس لهذا التشهد الأول، ويعتبر هذا تشهداً أولاً بالنسبة لك، وقد سهوت وأنت ترى هذا القول، فتكون قد تركت واجباً، فهذا هو النقص في صلاتك، ثم لما قمت إلى الركعة الثانية من القضاء والثالثة بالنسبة للصلاة كان يلزمك بعد سجدتها الثانية أن تقوم للركعة الرابعة، ولكنك جلست ساهياً على سبيل السهو، فحدثت زيادة التشهد بين الركعتين الأخريين، وليس في الأخريين من الظهر أو العشاء أو العصر تشهد بينهما، فهذا هو مكان الزيادة في صلاتك، فاجتمع في صلاتك وصف الزيادة ووصف النقص، فبعض العلماء يقول: إذا اجتمعت الزيادة والنقص اجتزأ بسجدتين قبل السلام، خاصة على مذهب المصنف ومن وافقه في كون السجود كله قبل السلام، وأما على مذهب من يرى التفصيل فهذا هو الذي يقع فيه الإشكال، فهل يغلب النقص فيسجد قبل السلام، أم يغلب الزيادة فيسجد بعد السلام، أم يجمع بينهما فيسجد قبلياً وبعدياً؟ فالوجه الأقوى عندهم: أنه يغلب جانب النقص لاتصاله بالصلاة ويسجد السجدتين، وتكون بهذا صلاته تامة صحيحة.
والله تعالى أعلم.(51/14)
صلاة من لا يجيد قراءة الفاتحة
السؤال
هناك امرأة كبيرة في السن ولا تعرف أن تصلي بغير الفاتحة، وقد لا تجيد الفاتحة كذلك، ولا تحسن الحفظ لكبر سنها، فما هو العمل مع هذه المرأة الكبيرة؟
الجواب
إذا كان الشخص لا يستطيع أن يُعلّم الفاتحة لمكان صمم أو نحو ذلك أو لا يستطيع أن يضبط الفاتحة لكبر سنه وضعف ذاكرته، فإنه يحفظ قدر ما يستطيع، ويجزيه ذلك القدر الذي يمكنه حفظه ولو آية من الفاتحة، فإذا حفظه أجزأه.
ثم قال بعض العلماء: يسبح ويكبر ويذكر الله عز وجل على قدر ركن الفاتحة؛ لأن الله أوجب عليه أمرين: الأمر الأول: قراءته للفاتحة.
الأمر الثاني: إن تعذر عليه أن يقرأ الفاتحة في الوقت المستغل للفاتحة فعليه أن يقرأ قدر ما يستطيع من الآيات، ثم يذكر الله بقدر قراءة الفاتحة، ثم يركع، ثم يفعل ذلك في بقية الركعات الأخر.
والله تعالى أعلم.(51/15)
تحية المسجد لمن فارق المسجد بنية الرجوع إليه
السؤال
من خرج من المسجد وفي نيته الرجوع كمن أراد الوضوء، فهل تجب عليه تحية المسجد، أثابكم الله؟
الجواب
جماهير أهل العلم على أن من خرج من المسجد ولو خطوة واحدة يلزمه أن يصلي ركعتي التحية، وهذا القول هو الذي دلت عليه السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فقوله: (إذا دخل) يعيد ذلك، فإن الإنسان بمجرد خروجه من الباب ورجوعه ثانية يصدق عليه أنه دخل، وبناءً على ذلك يستوي أن يطول الزمان أو يقصر.
أما القول بأنه إذا كان في نيته أن يرجع فلا يصلي تحية المسجد فهذا القول محل نظر؛ لأنه ما من إنسان صلى فرضاً من الفروض إلا وفي نيته أن يرجع ليصلي الفرض الذي بعده، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي: (قم فاركع ركعتين) وأمره أن يترك الاستماع للجمعة من أجل هاتين الركعتين لكونه دخل المسجد، ولم يقل له: هل كان في نيتك أن تعود إلى المسجد، أو لم يكن في نيتك؟ ثم إن التفصيل بأنه إذا قرب العهد كما لو ذهب ليتوضأ ورج لا يصلي، وإن طال العهد يصلي، تفصيل وتفريق بدون دليل؛ لأن الطول والقصر يحتاج إلى دليل باعتبار الأصل، والأصل لم يقم عليه دليل، فلا وجه للتفريق بين طول الزمان وقصره؛ لأنه استحسان، والاستحسان لا يعارض العموم، فإن عموم النص: (إذا دخل أحدكم المسجد) يلزم المكلف بأداء هذه الصلاة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم كل داخل إلى المسجد، وهذا القول لا شك أنه قول جماهير العلماء، وهو أولى بالصواب لدلالة السنة عليه.
وبعض العلماء يستثني النية، وهذا مذهب مبني على تغليب الباطن على الظاهر، فيقولون: في الظاهر أنه دخل، لكن كونه في نيته أن يعود فإنه في حكم الجالس في المسجد.
وهذا محل نظر؛ فإنه بخروجه عن المسجد لا يعطى حكم المصلي، فخرج عن كونه في المسجد أصلاً، ولذلك لو فعل الأفعال التي تخالف مقصود المسجد من بيع وشراء صح منه ذلك وأجزأه، ولا عتب عليه ولا ملامة؛ لأنه خارج عن كونه في المسجد، وتغليب الباطن على الظاهر لا يقع إلا في صور، وليست هذه الصور منها، أي: كونه في نيته أن يرجع، فهذا تغليب للباطن على الظاهر، ولا شك أن إعمال الظاهر الذي دلت عليه السنة أقوى وأولى.
والله تعالى أعلم.(51/16)
الأحكام المترتبة على سقوط الجنين وهو ابن ثلاثة شهور
السؤال
ما هي الأحكام المترتبة على سقوط جنين عمره نحو ثلاثة شهور، لم تتضح أعضائه، وذلك فيما يتعلق بصيام المرأة التي أسقطت وصلاتها؟
الجواب
إذا أسقطت المرأة وكان الذي أسقطت ليس فيه صورة الخلقة واسترسل معها الدم، فإن هذا الدم دم استحاضة وليس بدم نفاس على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، فالعبرة بالتخلق، فإن وجد في هذا الذي سقط منها صورة الآدمي، أو صورة أعضائه وأجزائه أخذت حكم النفاس وامتنعت مما تمتنع منه النفساء.
أما لو لم تكن فيه صورة الخلقة فإن هذا الدم لا يعتبر دم نفاس ما لم تميزه، فإن ميزت أنه دم حييض دخلت في حكم الحيض، كأن يجري معها يومين أو ثلاثة أيام ثم ترى أوصاف دم الحيض، فتكون قد انتقلت من الاستحاضة التي كانت عقب الإسقاط إلى الحيض الذي دخلت فيه بصفته.
والله تعالى أعلم.(51/17)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [1]
صلاة التطوع هي الصلاة النافلة غير الواجبة، وتنقسم إلى: قسم محدد مقيد، وقسم مطلق غير مقيد، فمن الأول: الكسوف، والاستسقاء، والتراويح، والوتر، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل، وينبغي على المؤمن الحرص على النافلة قدر المستطاع.(52/1)
صلاة التطوع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [باب صلاة التطوع].
تقدم تعريف الصلاة، وأما التطوع فهو تفعُّل من الطاعة، يقال: تطوع الرجل: إذا تبرع بالشيء، وأصل التطوع: النافلة التي ليست بواجبة على المكلف، ولذلك يوصف كل شيءٍ فعله الإنسان من العبادات دون أن يكون لازماً عليه على سبيل القربة والطاعة لله عز وجل بكونه تطوعاً، فيقال: هذه صلاة تطوعٍ، وهذه صدقة تطوعٍ.
ونحو ذلك، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:79]، فالمراد بهم المتبرعون بصدقاتهم الذين دفعوها ولم تكن لازمةً عليهم.
ومن فوائد هذه النوافل أنه إذا كان هناك نقص في الفرائض فإنها تجبر بما كان من النوافل، وهذه النوافل فيها حِكَم، خاصةً إذا كانت قبل العبادات المفروضة، فإنها تهيئ المكلف لفعل العبادة المفروضة، فإذا دخل الإنسان إلى العبادة المفروضة وكان قد تنفل قبلها قويت نفسه على العبادة المفروضة لحدث عهده بالطاعة، وتوضيح ذلك أن الإنسان إذا دخل مباشرةً إلى الفريضة يكون إقباله على الله في حال أضعف من حاله إذا سبق الفريضة بنافلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)، إذا سبق الفريضة بنافلةٍ فإن نفسه تقوى على أداء الفريضة أكثر، ويكون أكثر انشراحاً صدره، وأقوى لفهم آيات ربه.(52/2)
أقسام صلاة التطوع
الصلاة التي توصف بكونها تطوعاً تنقسم إلى قسمين: قسم محدد ومقيد، وقسم مطلق غير مقيد، ولا شك أن المحدد يعتبر أفضل من المطلق، وذلك أن تحديد الشرع له يدل على عنايته به، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن فضل النوافل المقيدة بأحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها).
وإخباره عن الله تعالى في الحديث القدسي أنه قال: (يا ابن آدم اكفني أربع ركعات في أول اليوم أكفك آخره).
ففي هذه النوافل المقيدة كصلاة الضحى وركعتي الفجر فضل وعلو درجة على النافلة المطلقة، وأفضل الصلوات صلاة الليل، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار؛ لأن الليل مظنة أن يكون الإنسان مجهداً من عناء النهار، فكونه يتقرب إلى الله عز وجل مع أنه وقت راحته وسكونه واستجمامه وأنسه بأهله فإن ذلك أبلغ وأعظم في تقربه إلى الله عز وجل.
ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد يقوم من الليل، فإذا قام وصلى قال الله تعالى: يا ملائكتي: عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟)، فيكون نائماً بجوار زوجته فيذكر الجنة والنار فيتوضأ ويصلي بالليل، فيقول الله: (يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟ قالوا: إلهنا: يرجو رحمتك ويخشى عذابك.
قال: أشهدكم أني قد أمنته من عذابي وأدخلته في رحمتي)، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار، ولأن صلاة الليل فيها إخلاص، فإنها بعيدةٌ عن أنظار الناس، وبعيدة عن اطلاع الغير، ولذلك يكون الإنسان فيها أقرب، ولأن الليل فيه الثلث الذي ينزل فيه الله عز وجل، ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب له)، فلذلك فضّل العلماء هذا النوع من النوافل.
أما النوافل المقيدة فإنها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما شرعت له الجماعة، كصلاة العيدين والاستسقاء والخسوف والكسوف والتراويح والتهجد ونحوها من الصلوات التي شرعت جماعةً.
القسم الثاني: ما يقع فرادى، كصلاة الضحى وغيرها.
فهذا نوع وهذا نوع، وكلٌ قد ثبت الشرع بجواز أدائه على حاله، إن كان يصلى جماعةً فجماعة، وإن كان يصلى فرادى ففرادى.
فقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة التطوع] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام المتعلقة بصلاة التطوع.(52/3)
آكد صلاة التطوع
[آكدها كسوف].
آكد الصلاة النافلة صلاة الكسوف، وهي الصلاة التي تكون بسبب ذهاب ضوء الشمس كله أو بعضه، فإن ذهب ضوء الشمس كله فإنه حينئذٍ يقال: كسوف كلي، وإن ذهب بعضه فإنه يقال: كسوف جزئي، وكذلك صلاة الخسوف، والخسوف: هو ذهاب ضوء القمر كله أو بعضه، وقد يطلق الخسوف على غياب الشمس، كما في حديث أم المؤمنين: (خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وصلاة الكسوف إنما فضلت على بقية الصلوات التي هي من النافلة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، حيث ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس على عهده قال الناس: كسفت لموت إبراهيم، وكان الناس في الجاهلية يعتقدون أن الشمس لا تنكسف إلا لموت عظيم أو لولادة عظيم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ونادى: الصلاة جامعة.
فاجتمع الناس، فصلى بهم عليه الصلاة والسلام وأطال قيامه على الصفة التي ستأتي إن شاء الله في صلاة الكسوف، ثم لما سلم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان ولا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، ثم قال: فإذا رأيتم ذلك -أي: كسوف الشمس- فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)، فقوله: (فصلوا) أمر قالوا: فورد بها الأمر فكانت أعلى مراتب صلاة التطوع، ولأن هذا الأمر ورد على سبيل الجماعة على ظاهر النص.(52/4)
الخلاف في أفضل الطاعات
صلاة التطوع فيها مسألة ذكرها العلماء رحمة الله عليهم وهي: هل صلاة التطوع أفضل الطاعات، أم هي دون غيرها من الطاعات الأخر؟ فمن المعلوم أن العبد إذا تقرب إلى الله إمّا أن يتقرب بواجب لازمٍ عليه، فهذا الذي اصطلح عليه بالفرائض، وإما أن يتقرب بالنوافل التي لا تجب عليه.
فاختلف العلماء في الأفضل من النوافل الذي ينبغي للعبد أن يكثر منه، فهل الأفضل أن يكثر الإنسان من الصلوات، أم الأفضل أن يكثر من الصيام، أم الأفضل أن يكثر من الذكر، أم الأفضل أن يكثر من الجهاد في سبيل الله، أم من الدعوة، أم من العلم؟ فقال الجمهور: أفضل الطاعات وأشرفها وأزكاها وأعظمها نفعاً للعبد في الدنيا والآخرة طلب العلم وتعليم الناس، ويعبرون عنه بقولهم: العلم.
فهو أفضل الطاعات وأشرف القربات لورود النصوص في الكتاب والسنة الدالة على عظيم منزلة أهله وشرفهم وعلوّ درجتهم وعظيم بلائهم، قال الله عز وجل في كتابه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وهذا الاستفهام يدل على أنهم لا يستوون، فهذا نصٌ من كتاب الله يدل على أنه لا يستوي العالم والجاهل.
ثم إنَّ الله سبحانه وتعالى قد قرن العلم بالإيمان، وأخبر عن رفعة درجة أهل العلم والإيمان، فقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال: [درجات] ولم يقل: درجة.
والتعبير بالنكرة بصيغة الجمع يدل على أنها كثيرةٌ بإذن الله عز وجل.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين فضل رباط طالب العلم وصبره على طلب العلم وتحمله لمشاق العلم، وكذلك تحمله لمشاق العمل بهذا العلم، ومجاهدته للنفس والشيطان والهوى حتى يبلغ مرتبة العلم والعمل، فإذا بلغ مرتبة العلم والعمل جاءت مرتبة الدعوة إلى الله عز وجل بتعليم الناس، فهذه المراتب الثلاث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن علو درجتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، قال بعض السلف: في هذا دليل على أن من حُرم الفقه في الدين فقد حُرِم خيراً كثيراً.
فقوله: (من يرد الله به خيراً) يدل على أن الله أراد لأهل العلم خيري الدنيا والآخرة؛ ولذلك هم أنفع الناس وأصلح الناس، وأقربهم إلى الخير وأدعاهم إليه، وبهم تشحذ الهمم إلى الطاعات، ويتنافس الناس في الخيرات.
وأيضاً ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، ولذلك قالوا: إن المراد بهذا الحديث أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم وهو يغدو إلى مجالس العلم لشرف هذه العبادة وعظيم منزلتها، فالدين لا يصان ولا يحفظ إلا بطلب العلم، ولذلك إذا كثر العلماء انتشر الدين بين الناس وانتشر الخير، وحمل الناس على الطاعات والخيرات، وإذا قلّ العلم كثر الجهل وعظمت المصائب والبلايا بين الناس، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة فشو الجهل وقلة العلماء، وكان ابن عباس رضي الله عنه من تلامذة زيد بن ثابت، فلما توفي زيد قام على قبره وبكى، وقال: (ألا من سره أن ينظر كيف يقبض الله العلم فلينظر هكذا، ثم ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا)، فصلاح الأمة موقوف على كثرة العلماء العاملين، وعلى وجود العلماء العاملين المخلصين في الدعوة إلى الله عز وجل.
وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن أفضل الأعمال فقال: أفضلها طلب العلم.
وفي رواية عنه: أفضلها العلم إذا صحت فيه النية.
قالوا: كيف تصح نيته؟ قالوا: ينوي أن يتواضع فيه، وأن يعلمه الناس.
أي: ينوي أن يجعل علمه للآخرة، كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]، فينوي أن يصحح نيته، فهذا بخير المنازل عند الله عز وجل.
فهذا هو قول جمهور العلماء، ومن تأمل الواقع وتأمل الحال فإنه لا يشك أن طلب العلم هو أفضل القربات وأجلها وأعظمها.
فالمقصود أنه ظهر من ظاهر دليل الكتاب والسنة أن طلب العلم والعمل به وتعليمه للناس أفضل وأحب الأعمال إلى الله عز وجل، وإذا تعارضت عند الإنسان الأعمال الخيرية فليبدأ بطلب العلم، ثم انظر إلى دليل العقل والنظر، فإنك إذا تأملت كثيراً من المشاكل والنوازل والمعضلات والمشكلات تجد أنها لا تحل إلا بالعلم، ولا يمكن للناس أن يجدوا من يحل لهم المشكلات ويرفعها عنهم بإذن الله عز وجل إلا العالم العامل، فالرجل يأتيك في جوف الليل لا يدري هل امرأته تحل له أو لا تحل له، حيث قال لها: أنت طالق، فقال كلمةً لا يدري أهي بها حرام أم حلال.
ويأتيك الناس وقد عظمت الفتن والخصومات بينهم في الأراضي والأموال، ويحتاجون إلى من يفصل بينهم.
بل قد تجد العالم مشلول الجسد لا يستطيع أن يبرح مكانه، وقد تجده مشوه الخلقة، ولكن عنده لسان ينبئ به عن حكم الله عز وجل، فتضعه الناس فوق رؤوسها بهذا العلم، لشرفه وعلو منزلته وعظيم بلائه.
فالمقصود أنه لا يشك أحد في عظيم فضل هذا العمل، ولو تأملت العالم وهو يسهر الليالي فيجيب الناس عن المشكلات والمسائل فإنك لا تشك أن طلب العلم وتعليمه أفضل.
وقال بعض العلماء: إن الجهاد أفضل لما فيه من إعلاء كلمة الله عز وجل، وكسر بأس الذين كفروا، وصد العدو.
وهذا إنما يراد به جهاد النفل وليس جهاد الفرض؛ لأنهم اتفقوا على أن الفرائض ليست بداخلة في هذا الخلاف، فإذا تعين العلم أو تعين الجهاد فلا يدخلان في هذا الخلاف، إنما الكلام هنا على النافلة، أي: جهاد النفل، وهو جهاد الطلب، واحتج هؤلاء الذين قالوا: إن الجهاد أفضل فقالوا: إن إعلاء كلمة الله عز وجل ونشر دين الله متوقفان على الجهاد، ويفتقران إلى مجالدة أعداء الله عز وجل، حتى ينتشر التوحيد، وترفع راية الإسلام، ويكون في ذلك الخير لأهل الأرض جميعاً، فلذلك يكون الجهاد هو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل.
وهذا القول يقول به الإمام أحمد، ففي رواية عنه أن الجهاد أفضل الطاعات.
وهناك قول ثالث في المسألة أن أفضل الطاعات وأشرفها الصلاة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، ولما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول: ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من سعادة المؤمن كثرة الصلاة، وكثرة الصيام، وصحبة الفقيه).
فقالوا: إن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل الصلاة، ولأنها في أصلها عماد الدين، فتشرف بشرف أصلها.
وأصح هذه الأقوال كما ذكرنا هو القول بأن طلب العلم والعمل به والدعوة إليه أفضل وأشرف وأكمل هذه الطاعات كلها، بل إن ما ذُكِر من الأعمال الصالحة من الصلاة والجهاد يفتقر إلى العلم، فإذا نظرت إلى الجهاد فإن ثغور الجهاد لا تملأ ولا يمكن أن تقوى عزائم المجاهدين إلا بالعلم، وابحث عن ثغرٍ فيه طالب علمٍ يذكر الناس ويعظ الناس فستجد نفوسهم معلقة بالله سبحانه وتعالى، وتجدهم أقوى شكيمة وأشد بأساً وأعظم حميةً، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا مع أعلم من على وجه الأرض صلوات الله وسلامه عليه، فكيف يخرج الناس للنفير وتسد الثغور بغير العلماء؟ فالعلم هو أفضل الأعمال.
ثم إن الصلاة إذا تأملتها وجدتها تفتقر إلى علم، وتفتقر إلى معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ومعرفة ما يطرأ في الصلوات.(52/5)
ترتيب بقية النوافل في الفضيلة
قال رحمه الله تعالى: [ثم استسقاء].
ذكرنا أنَّ أول النوافل فضلاً وأعلاها وآكدها صلاة الكسوف لما فيها من الدعاء برفع البلاء، ولذلك قالوا: إنها آكد مع ورود أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، فتأكد فضلها وتأكد القيام بها.
ثم تليها صلاة الاستسقاء.
والاستسقاء: استفعالٌ من السقي، والمراد به هنا: طلب السقيا، أي: طلب الغيث من الله عز وجل، وأن يمطر العباد والبلاد، وإنما فضل الاستسقاء لما فيه من رفع البلاء عن الناس، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وسنه للأمة، وسيأتي إن شاء الله بيان صفة هاتين الصلاتين، صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء، وسنبين إن شاء الله هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيهما، والأحكام المتعلقة بهما.
قال رحمه الله تعالى: [ثم تراويح].
التراويح: قيل: إنها مأخوذ من الراحة، والسبب في ذلك أنهم كانوا يرتاحون بين كل تسليمتين، فقد كانوا يطيلون حتى اعتمدوا على العصي، كما في الأثر حين جمع عمر الناس لصلاة التراويح وجعل أبياً الإمام، فقالوا: إنها سميت بذلك لمكان الاسترواح والراحة في أثناء هذه الصلاة والتراويح المراد بها: القيام جماعةً في ليالي رمضان، وقالوا: إنها من آكد السنن.
وإذا قيل: سنةٌ مؤكدة فإنها تقارب الوجوب، لكن ليست بواجبة ولا لازمة، والنص في هذا واضح، كما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: (خمس صلواتٌ كتبهن الله في اليوم والليلة)، فالفرض الخمس المعروفة، والكسوف والاستسقاء والتراويح كلها زائدة عن هذه الفرائض.(52/6)
حكم صلاة الوتر
قال رحمه الله تعالى: [ثم وتر يفعل بين العشاء والفجر].
قوله: (ثم وتر) أي: آكد النوافل بعد الصلوات التي شرعت لها الجماعة الوتر، والوتر المراد به الواحد في الأصل، ويعبر به عن كل ما لا يقبل القسمة على اثنين فيقال: إنه وتري فيشمل ذلك الواحد والثلاثة والخمسة إلخ.
والوتر من آكد النوافل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الوتر حق، ومن لم يوتر فليس منا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد زادكم صلاةً هي خيرٌ لكم من حمر النعم، جعلها لكم ما بين العشاء والفجر)، وقال الإمام أحمد رحمةُ الله عليه فيمن ترك الوتر: هذا رجل سوءٍ لا ينبغي أن تقبل شهادته.
وهذا يدل على تأكد الوتر، ولذلك جعله العلماء رحمهم الله سنةً مؤكدة.
واختلف العلماء رحمهم الله في الوتر على قولين مشهورين: فمذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم أن الوتر سنةٌ وليس بواجب، وبهذا القول قال فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، فلو ترك الإنسان الوتر فإنه لا يأثم، ولو فعله فإنه يثاب.
وذهب غيرهم إلى أن الوتر واجب، وبهذا القول قال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه وأصحابه.
واستدل الذين قالوا: إن الوتر ليس بواجب بأدلة منها: أولاً: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، ووجه الدلالة أن الله عز وجل قال: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فدل على أن الصلاة التي أُمر بالمحافظة عليها وهي واجبةٌ على المكلف وترية، ولو قيل بوجوب الوتر لصارت الصلوات ستاً، فيكون العدد شفعياً لا وسط فيه؛ لأن قوله: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] يدل على أن العدد وتري؛ لأنها خمس، ونصف الخمس معناه أنه يكون في وسط الخمس واحدة، فيكون المقابل لها اثنتان واثنتان، فيكون العدد بهذا وترياً.
ثانياً: ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُسْري به وعرج صلوات الله وسلامه عليه، قال الله له في آخر المرات حينما راجع ربه في الصلوات المفروضة: هي خمسٌ وهنّ خمسون)، فقوله تعالى: (هي خمس) أي: الصلوات التي كتبتها عليك يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- وعلى أمتك هي خمس، (وهن خمسون) أي: في الأجر والثواب تفضلاً من الله عز وجل، ثم قال تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)، فثبت أنها خمس إلى قيام الساعة لقوله تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أي أنه لا يكون هناك تشريعٌ بزيادة.
الدليل الثالث: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله الأعرابي عن الصلوات التي فرضها الله عليه، قال له: (خمس صلوات في كل يوم وليلة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا.
إلا أن تطوع)، فدلّ على أن الوتر ليس بواجب؛ لأن الوتر غير الصلوات الخمس، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بواجبٍ عليه.
الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلة)، فهذا الحديث -إذا تأملته- من آخر ما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً في آخر حياته، ومع هذا قال له: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)، فلو كان الوتر واجباً لقال: افترض عليهم خمس صلواتٍ ووتراً.
فالمقصود أن هذه الأدلة من الكتاب والسنة تدل على أن الوتر ليس بواجب.
أما الذين قالوا: بالوجوب فقد استدلوا بأحاديث السنن: أولها: قوله عليه الصلاة والسلام: (أوتروا يا أهل القرآن).
ثانيها: قوله عليه الصلاة والسلام: (الوتر حقٌ، ومن لم يوتر فليس منا).
ثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد زادكم صلاةً هي خيرٌ لكم من حمر النعم، وهي الوتر).
قالوا: أما الحديث الأول: (أوتروا) فهذا أمر، والأمر للوجوب، وأما الحديث الثاني: (إن الله قد زادكم صلاةً) فإنه يدل على أنها زائدة على الصلوات الخمس، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يوتر فليس منا) فإنه ذم، والذم لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم، فثبت أن الوتر واجب.
فهذا حاصل أدلة القائلين بالوجوب.
والذي يظهر والله أعلم أن الوتر ليس بواجب، وذلك لصحة دلالة الكتاب والسنة على هذا القول.
أما استدلال من قال بالوجوب بقوله: (الوتر حق) فالجواب عنه بأن الحق معناه: الثابت، تقول: هذا حقي.
أي: ثابتٌ في ملكي، فالحق يعبر به بمعنى الثابت، فمراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الوتر سنة من هديه، أي ثابتٌ في الشرع ومسنونٌ فعله.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يوتر فليس منا) فمعناه: ليس على هدينا الكامل، وليس المراد به الهدي اللازم الذي يعتبر من تركه وأخل به مذموماً.
وأما قولهم: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد زادكم صلاةً) يدل على الوجوب، فيجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم قد قال مثل هذا في ركعتي الفجر، وأنتم لا تقولون بوجوبها، أي أنه عبر بالزيادة في ركعتي الفجر، ومع هذا لا يقول الحنفية بوجوبها، فكما أنهم رأوا أن صيغة الخبر هناك لا تدل على الوجوب فيلزمهم القول هنا بأن صيغته لا تدل على الوجوب.
فأصح ما يقال في الوتر أنه مسنون وفيه فضيلة، ومن فضائله أنه يسن فيه الدعاء، وهو خاتمة صلاة الليل، فتشرع صلاة الوتر بالليل.
وأما صلاة الوتر بالنهار تنفلاً لا قضاءً، كما لو دخل المسجد وصلى ركعتين، ثم قال: أحب أن أتنفل بركعةٍ ركعة فقد أُثِر عن بعض الصحابة أنه فعل هذا، ومذهب جماهير العلماء رحمة الله عليهم أنك لا تسلم إلا من ركعتين إلا في الوتر وحده، على أن السنة والذي ينبغي للمصلي أن يصلي ركعتين ركعتين ولا يسلم من واحدة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: (صلاة الليل مثنى مثنى)، وفي حديث آخر: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، فدل على أنه لا يسلم من واحدة، وما أثر عن الصحابي مردود إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يختص الوتر بأنه من صلاة الليل، والسنة فيه أن يكون في آخر الليل، كما سيأتي إن شاء الله بيان أحكامه.(52/7)
وقت صلاة الوتر
قال رحمه الله تعالى: [يفعل بين العِشاء والفجر].
العِشاء من العشي، وسميت بذلك لأنها تقع في وقت العشي بعد ذهاب الشفق الأحمر على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فتبدأ صلاة العشاء بمغيب الشفق الأحمر، ويستمر وقتها إلى طلوع الفجر الصادق.
وقد اختلف العلماء في كون العبرة في وقته بصلاة العشاء أم بوقت العشاء: فبعض العلماء يقول: العبرة بصلاة العشاء، فإن صلى العشاء شُرِع له أن يصلي الوتر ولو لم يدخل وقت العشاء.
وقال بعض العلماء: العبرة بوقت العشاء لا بفعل العشاء.
والذي ينبني على هذا الخلاف أن العشاء لها حالتان: الحالة الأولى: أن تصليها في وقتها، وحينئذٍ بالإجماع يجوز لك بعد أن تصلي العشاء أن توتر.
الحالة الثانية: أن تجمع العشاء مع المغرب، كالحال في ليلة مزدلفة، فإذا أقبلت على مزدلفة في أول الوقت وأدركت صلاة المغرب فصليت المغرب والعشاء، فإنك إن قلت: العبرة بصلاة العشاء فحينئذٍ توتر ولا حرج، وإن قلت: العبرة بدخول وقت العشاء نفسه فحينئذٍ لا بد وأن يكون وترك بعد مغيب الشفق الأحمر كما ذكرنا.
ومذهب الجمهور أنه لابد من مغيب الشفق، وأنه لا يصلى الوتر قبل دخول الشفق؛ لأن تقدم العشاء على خلاف الأصل، وإنما شُرِع على سبيل الرخصة فاقتصر فيها على موضعها، ولذلك جاء في الرواية الأخرى: (ما بين صلاة العشاء والفجر)، ويدل التعبير بقوله: (صلاة العشاء والفجر) على الوقت المعهود، وكذلك تعبيره: (ما بين العشاء والفجر) يدل على أن العبرة بالوقت نفسه كما في رواية السنن، فأقوى الأقوال أنه لا يصلي الوتر إلا بعد دخول وقت العشاء.
وقوله: (يفعل بين العشاء والفجر) أي: يفعله المكلف ما بين العشاء إلى الفجر، فإذا دخل وقت الفجر فحينئذٍ لا يصح إيقاع الوتر بعد تبين الفجر الصادق من الكاذب بعد الأذان.
وقال بعض الصحابة: يشرع أن يصلي الوتر ما بين الأذان والإقامة من صلاة الفجر، وهو مذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أنه إذا أذن المؤذن لصلاة الصبح فإنك تمسك عن الوتر، وتنتظر إلى طلوع الشمس، ثم تقضيه بعد طلوع الشمس وتشفع الوتر بركعة، فإذا كنت صليت بالليل عشر ركعات، فلما كبرت ودخلت في صلاة الوتر أذن المؤذن لصلاة الفجر، فحينئذٍ تنوي أن هذه الصلاة شفعية، وتقلبها من الوتر إلى الشفع؛ لأن الوقت قد زال، ويجوز الانتقال في هذه الحالة من الوتر إلى الشفع، ثم إذا انتهيت من هاتين الركعتين انتظرت حتى طلوع الشمس، فإن طلعت الشمس صليت الوتر ركعة وشفعته بركعةٍ معه، فتصلي ركعتين إن كان وترك ركعة، وإن كان وترك بثلاث صليت أربعاً؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاته حزبه من الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة)، وكان حزبه من الليل إحدى عشرة ركعة، فلما قالت: (صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة) دل هذا على أن وتر الليل قد شُفع بركعةٍ واحدة.
ثم إن وتر النهار قضاءً فيه أحكام: أولها: أن تشفع الوتر ولا تتركه على حاله.
ثانيها: أن لا تدعو بعد الركعة الأولى، فوتر الليل فيه دعاء ووتر النهار لا دعاء فيه.
ثالثها: أن صلاته في النهار سرّية، وصلاة الليل جهرية.(52/8)
عدد ركعات صلاة الوتر وهيئاتها
قال رحمه الله تعالى: [وأقله ركعة، وأكثره إحدى عشر ركعة مثنى مثنى، ويوتر بواحدة، وإن أوتر بخمس أو سبع لم يجلس إلا في آخرها، وبتسع يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم].
قوله: (وأقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة) ثبت في عدد ركعات الوتر أحاديث مختلفة، أما الركعة -وهي أقله- فقد ثبت فيها الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة).
وأما الوتر بثلاث أو خمس أو سبع أو تسع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (الوتر حقّ، فمن شاء أن يوتر بثلاث أو بخمس أو بسبع أو بتسع ... ) الحديث.
كما ثبت الوتر بخمس في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أنه صلى الوتر خمساً).
وثبت الوتر بسبع كذلك في حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر في الوتر بسبع).
وثبت الوتر بالتسع كذلك في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بتسع، ولم يقعد إلا في الثامنة، ثم قام -أي: نهض عليه الصلاة والسلام- ولم يسلم، فصلى التاسعة -وهي الوتر- ثم سلم) صلوات الله وسلامه عليه.
وأما الوتر بإحدى عشر ركعة، فهو أكثره كما ذكر المصنف رحمه الله، وللوتر بإحدى عشرة ركعة صور: الصورة الأولى: أن تجعل صلاتك مثنى مثنى، وتجعل الحادية عشر ركعةً مستقلة، وهي الصورة التي فيها حديث ابن عمر.
الصورة الثانية: أن تصلي أربعاً بتسليمة واحدة، ثم أربعاً بتسليمة واحدة، ثم توتر بثلاث، فيكون العدد إحدى عشرة ركعة، لما أخرجه النسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (.
فمن شاء منكم أن يوتر بثلاث)، وكذلك ثبت في حديث أبي بن كعب في صلاته صلى الله عليه وسلم.
الصورة الثالثة: أن تصلي ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم خمساً متصلة، فهذه إحدى عشرة ركعة، ويكون وترك بخمس في الإحدى عشرة ركعة.
قال رحمه الله تعالى: [وإن أوتر بخمسٍ أو سبعٍ لم يجلس إلا في آخرها، وبتسع يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم] هذا الذي ذكره المصنف ثبت فيه حديث أم سلمة رضي الله عنها في السنن، فالسنة أن تصلي الخمس متصلة وتجلس في آخرها ثم تسلم، وإن أوترت بالسبع فكذلك، فتصلي السبع ثم تجلس في آخرها، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل في التسع خلاف ما فعل في الخمس والسبع، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام صلى ثماني ركعات متصلة ثم جلس عليه الصلاة والسلام في الثامنة، ثم قام إلى التاسعة ولم يسلم، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم، فهذا يدل على مشروعية الجلوس في وتر التسع قبل الأخيرة، فيجلس للتشهد في الركعة الثامنة ولا يسلم منها ويقوم للركعة التاسعة ثم يجلس، فيكون وتره بالتسع فيه جلستان في آخر الصلاة على ظاهر حديث عائشة.
وقد جاءت رواية أخرى تدل على خلاف ما اختاره المصنف في السبع، وذلك أنه جلس عليه الصلاة والسلام في السبع قبل تسليمه عليه الصلاة والسلام ثم أوتر بواحدة، وهذا يدل على أن الأمر واسع، لكن حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه الجلوس في الثامنة قالت فيه: (فلما كبر وضعف) عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه لم يستطع أن يصلها ببعضها صلوات الله وسلامه عليه، فأوتر على هذه الصورة التي ذكرناها، وهذا كله من باب التوسعة.
وأما السبب في مشروعية الوصل فقد ذكروا أنه لذلك حكماً عظيمة، ومنها أن المصلي يقوى على طول القيام؛ إذ إنّ للعلماء رحمهم الله تعالى في كون الأفضل في صلاة الليل كثرة الركعات أو طول القيام مذهبان: فبعض العلماء يقول: الأفضل في صلاة الليل أن يكثر العدد ويكثر السجود.
وقال بعضهم: الأفضل أن يطيل القيام ولو قلّ السجود.
واحتج من قال: إن الأفضل أن يكثر من السجود بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ربيعة أنه لما كان يعد للنبي صلى الله عليه وسلم طهوره بالليل قال له صلى الله عليه وسلم: (سلني حاجتك؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة.
قال: أو غير ذاك؟ قال: هو ذاك.
قال: أعني على نفسك بكثرة السجود) قالوا: فهذا يدل على أن الأفضل أن تكثر من السجود، وهذا يدل على مشروعية الزيادة على إحدى عشرة ركعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، ولم يقيد ذلك بالليل ولا بالنهار، وإنما أطلق.
وأما الذين قالوا: إن الأفضل طول القيام في الليل فاحتجوا بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر أنه لما سئل صلى الله عليه وسلم: (أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت)، أي: طول القيام في القراءة.
وهذا المذهب الثاني أرجح، فإن الأفضل أن يصلي إحدى عشرة ركعة يطيل القراءة فيها، وذلك لدليلين: أحدهما: أنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يختار الله لنبيه إلا الأفضل والأكمل.
الثاني: أن الشخص إذا صلى إحدى عشرة ركعة وسجد في كل ركعة سجدتين فإنه يوصف بكونه قد أكثر من السجود؛ لأنه تكون له قرابة اثنتين وعشرين سجدة، ولذلك يكون موصوفاً بكونه قد أكثر من السجود، وعلى هذا فالأفضل طول القنوت، ولأن طول قنوتك ووقوفك فيه كثرة قراءة للقرآن، وكثرة القراءة يصحبها التدبر والتأمل والتأثر، وهذا هو المقصود من قيام الليل، وهو أن الإنسان يتأثر بالقراءة في وقتٍ لا شغل فيه، فلذلك قالوا: إن هذا كله يرجح مذهب من يقول بطول القنوت.
وفائدة الخلاف أنه لو كان رجلٌ عامي يحفظ سوراً قصيرة فالأفضل له أن يقرأ هذه السور، ولو بالتكرار ولا حرج عليه؛ لأن المراد شغل الركن الذي هو القيام بالقراءة.
فلو قال قائل: كيف نجمع بين هذا وبين كراهية تكرار الفاتحة؟ قلنا: إن الفاتحة ركن، وتكرار الأركان محظور، ولكن السنن التي هي القراءات ونحوها لا حرج فيها، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كرر سورة الزلزلة في ركعتين، فقرأها في أولى الفجر وثانيتها)، وكذلك ثبت عنه أنه أقر الصحابي على قراءة سورة الإخلاص في كل ركعة، فالأفضل لمثل هذا أن يكثر من القراءة حتى يطول قنوته وقيامه.
وعلى القول الثاني: يقرأ قصار السور ويكثر من السجود، فيعوض ما عنده من نقص في حفظ القرآن بكثرة السجود، والأرجح ما ذكرناه.
[وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين، يقرأ في الأولى بـ (سبح)، وفي الثانية بـ (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثالثة بالإخلاص].
ثبت في حديث أبي بن كعب وحديث ابن عباس رضي الله عن الجميع في وتره عليه الصلاة والسلام أنه: (أوتر بثلاث، قرأ في الأولى بـ (سبح)، وفي الثانية بـ (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثالثة بسورة الإخلاص)، وورد عنه أنه قرأ في الثالثة بالمعوذات مع سورة الإخلاص، فهذا يدل على أدنى الكمال الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثلاث.
ثم إن في صلاتها ثلاث ركعات ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تصلي الثلاث متصلة وتجلس في آخرها وتسلم.
الصورة الثانية: أن تصلي ركعتين وتسلم، ثم تقوم للثالثة وتسلم، فتكون ثلاث ركعات.
الصورة الثالثة: أن تصلي الركعتين وتجلس للتشهد، حتى إذا فرغت من التشهد الأول قمت ولم تسلم وأتيت بالركعة الثالثة، فهذه ثلاث صور.
فالصورة الأولى -وهي صلاة جميع الركعات بدون وجود فاصل- لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في وتره عليه الصلاة والسلام بالخمس والسبع.
وأما إذا صلى ركعتين ثم سلم ثم قام إلى الثالثة فمذهب الجمهور أنه الأفضل، وأنه هو المعتبر، وأنه كذلك لا يفعل الصورة الثالثة، وهي أن يصل الثلاث بتسليمة واحدة، فيتشهد في الثانية، ثم يقوم ولا يسلم إلا في الثالثة.
وذهب أبو حنيفة إلى جواز أن تصل الثلاث في الوتر، فتجلس بعد الركعة الثانية للتشهد ولا تسلم، كصلاة المغرب سواءً بسواء، وقد جاء في حديث السنن: (لا تشبهوا بالمغرب)، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر بثلاث تشبهاً بالمغرب.
والصحيح أنه يمنع، فلا يصليها ثلاثاً على صفة صلاة المغرب، والأفضل أن يسلم من ركعتين، وأن يقوم للركعة الثالثة كما ثبت في الحديث الذي ذكرناه.(52/9)
حكم القنوت في الوتر ومحله
قال رحمه الله: [ويقنت فيها بعد الركوع].
قوله: (ويقنت) أي: يدعو.
والقنوت في الوتر سنة، وقد اختلف العلماء والسلف رحمة الله عليهم في هذا الدعاء في الوتر: فمنهم من يقول: يشرع مطلقاً.
أي: في جميع الوتر في سائر السنة.
ومنهم من يقول: إن السنة في دعاء الوتر أن يكون في آخر رمضان.
أي: في النصف الثاني من رمضان دون النصف الأول.
ومنهم من يقول: في رمضان كله، فيخصه برمضان.
ومنهم من يقول: يقنت أحياناً ويترك أحياناً، وهذا القول هو أعدل الأقوال وأقربها إلى السنة، واختاره غير واحدٍ من أهل العلم رحمة الله عليهم، وإن داوم عليه فلا حرج، لكن لو علّم الناس السنة فترك القنوت في ليلة من ليالي الشهر فلا حرج، لكن في رمضان استحبوا أن يستديم القنوت؛ لأن هناك قولاً للسلف في استدامة القنوت في كمال رمضان خاصة، وذلك لما فيه من حصول البركة باجتماع الناس، كما ثبت في الحديث الصحيح اعتبار هذا النوع من الخير، ففي حديث العيد ذكرت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالخروج إلى المصلى، وقال في شأن الحيض: (يشهدن الخير ودعوة المسلمين) فاجتماع الناس في الدعاء فيه خيرٌ كثير؛ لأنه اجتماعٌ مشروع، وليس باجتماع بدعةٍ ولا حدث، بل هو اجتماع مشروع وله أصلٌ في الشرع، فمثل هذا الاجتماع إذا اغتنم في الدعاء للناس بخيري الدنيا والآخرة فلا شك أنه أفضل، فاستحب بعض العلماء أن يُخرج قنوت رمضان من الخلاف لما فيه من الفضائل ولما ذكرناه.
والقنوت له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون قبل الركوع.
الصورة الثانية: أن يكون بعد الركوع.
وكل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن قنت قبل الركوع فقد فعل سنة، فلو أن إماماً قرأ سورة الإخلاص، أو قرأ سورة الإخلاص والمعوّذات ثم ابتدأ الدعاء فلا حرج عليه في ذلك، وهو على سنة وخير، ولا ينكر عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه في حديث أبي ذلك، وإن ترك قنوته إلى ما بعد الركوع فكذلك هو على سنةٍ وخير، وهذا النوع من الخلاف يسميه العلماء خلاف التنوع، وليس بخلاف التضاد الذي يوجب التبديع أو المنع من إحدى الصورتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا مرة وفعل هذا مرة، وكلٌ جائز ولا حرج فيه.(52/10)
شرح دعاء القنوت
قال رحمه الله تعالى [ويقنت فيها بعد الركوع فيقول: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت)].
هذا حديث الحسن بن علي رضي الله عنه في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه هذا الدعاء:: (اللهم اهدني فيمن هديت) وأصل (اللهم): يا الله، فحُذف حرف النداء (الياء) وعوّض عنه (الميم) فقيل: اللهم.
ولذلك لا يقال: يا اللهم، إلا في القريض والشعر، كما قال الناظم: والأكثر اللهم بالتعويض وشذ يا اللهم في قريض أي: في الشعر.
ومنه قول الشاعر: إني إذا ما حدثٌ ألمّا ناديت يا اللهم يا اللهما وهذا خاص بالشعر، أما في النثر فإنه يقال: (اللهم)، ولا يقال: يا اللهم.
وقوله: (اللهم اهدني فيمن هديت) الهداية: الدلالة.
يقال: هداه: إذا دله.
والهداية تكون بمعنى التوفيق، وهذه خاصةٌ بالله سبحانه وتعالى، فهو يوفق من يشاء إلى رحمته بفضله سبحانه وتعالى، وتكون بمعنى الدلالة، فإن كانت بمعنى الدلالة فإما أن تكون دلالةً على خير، وإما أن تكون دلالةً على شر، فيقال: هداه إلى الشر.
بمعنى دله عليه، وهداه إلى الخير، بمعنى دله عليه، وقد تكون دلالةً على مصالح الدنيا، ومنه قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أي: هدى كل مخلوقٌ إلى ما فيه صلاحه في معاشه، فتجد النملة تغدو لرزقها، وتجد الطير تغدو إلى أرزاقها، وتُهدى كيف تبني أعشاشها وأكنانها، وكيف تقضي مصالحها وتربي أطفالها، فهذا كله من الهداية، والله هو الذي هداها لذلك، فهذه هداية إلى مصالح الدنيا، أما الهداية إلى مصالح الدين فإنها على نوعين: النوع الأول: التوفيق، وهي مختصة بالله عز وجل، والنوع الثاني: الدلالة والإرشاد، فهذه تكون لله، وتكون لأنبيائه ورسله، ولذلك نفى الله هداية التوفيق عن نبيه فقال سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، وأثبت له هداية الدلالة فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، فهنا الهداية بمعنى الدلالة والإرشاد.
والمراد بالهداية في قوله: (اللهم اهدني فيمن هديت) هداية التوفيق، أي: اجعلني على صلاحٍ وخير، وهذا فيه تعطشٌ لرحمة الله عز وجل، وإظهارٌ للفقر، وأنك بحاجة إلى رحمة الله أن يرحمك بالاستقامة على دينه، وفيه استرحامٌ من العبد لربه أن لا يجعله محروماً؛ لأنه لما قال: (اهدني فيمن هديت) فمعناه: لا تصب الناس بهدايتك وتجعلني محروماً من هذه الهداية.
قوله: وعافني فيمن عافيت.
المعافاة: السلامة، والمعافى: هو السليم، وعافاه الله: سلّمه الله من شر دين، أو شر دنيا، أو منهما معاً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عافني) فيه إطلاق يشمل عافية الدين وعافية الدنيا، ولذلك لما جاء العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يا عم رسول الله! سل الله العافية.
يا عم رسول الله! سل الله العافية.
يا عم رسول الله! سل الله العافية)، فإذا عافاك ربك فقد صلح لك دينك، وصلحت لك دنياك، وصلحت لك آخرتك، فأكثر المصائب تأتي من البلاء، حين يبتلى الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يرزق التوفيق للصبر على هذا البلاء.
قوله: (وتولني فيمن توليت) الولاَية بالفتح تكون بمعنى النصرة، وتكون بمعنى التأييد، وولي الله عز وجل وصفه الله عز وجل بصفتين، فقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، ولا يوصف الإنسان بكونه ولياً لله عز وجل إلا إذا كان مؤمناً تقياً، ولذلك لما توسع الناس في هذا ضل فئام وحارت أفهام حينما تُرِك هذا الأصل الذي دلّ عليه دليل الكتاب، فولي الله عز وجل هو المؤمن التقي، فأصبحت الولاية تطلق على أناس هم أبعد ما يكونون عن دين الله عز وجل من أهل الأهواء والبدع والضلالات -نسأل الله السلامة والعافية-، حتى أصبحت الولاية في لبس الخرق، وإظهار رثاثة الحال، والخروج عن سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحريم الحلال، وغير ذلك من الأمور المنكرة التي أحدثها الناس، وأصبحت الولاية إنما تكون للإنسان المجتهد في أذية الناس والتعرض لهم، فيوصف بكونه ولياً -نسأل الله السلامة والعافية-، وهذا كله من الضلال والبدع والأهواء التي أصابت الناس فأضلتهم عن سبيل الله، فالولاية لا تكون إلا بهذين الأمرين: الإيمان والتقوى.
قوله: (وبارك لي فيما أعطيت).
البركة: الزيادة والنماء والخير؛ لأن الله قد يعطيك شيئاً ولا يبارك لك فيه -نسأل الله السلامة والعافية-، فقد يعطى الإنسان علماً ولا يبارك له فيه، وقد يعطى دنيا ولا يبارك له فيها، فربما رأيت الرجل العالم لا ينصح، ولا يُذَكِّر بالله تعالى، ولا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، بل قد تجد الرجل يدخل إلى المسجد وبجواره رجلٌ يقرأ القرآن يحرّف كلام الله عز وجل ويخطئ في آياته ولا يرد عليه بحرفٍ واحد، ويقول: أنا الذي أخذت الدكتوراه فكيف أجيب على هذا فأشتغل به؟!! فهذا من محق البركة -نسأل الله السلامة والعافية- لنظره إلى علو مرتبته في نفسه، أو بسبب موت قلبه عن استشعار مسئوليته أمام الله عز وجل، لكن الله إذا أحب عبداً وأعطاه نعمة بارك له فيها، ولذلك فدائماً سل الله البركة فيما أعطاك.
والبركة كما تكون في أمور الدين تكون في أمور الدنيا، فقد تجد إنساناً عنده المال القليل توضع له البركة فيه، فإذا به مالٌ كثير.
وقد تجد الرجل عنده الولد الواحد فيقوم بمصالحه ويقضي حوائجه، ويكون قرة عينٍ له في الدنيا والآخرة، فإن كان في الحياة خدمه وأحبه وأكرمه، وإن توفي رفع كفاً إلى الله عز وجل لا تخيب بصالح الدعوات، فجعل الله له فيه خيراً كثيراً، فهذا من البركة في الولد، وقد تجد الرجل عنده العشرة من الولد وأكثر من ذلك لكنهم أصحاب مصائب، لا يجني منهم إلا سوء السمعة والأذية والبلية والإضرار، ويتمنى موتهم بدل حياتهم -نسأل الله السلامة والعافية-، وهذا من محق بركة الولد.
كما تكون البركة تكون في الزوجات، وتكون في الأموال.
والدعاء هنا بوضع البركة إنما هو الدعاء بالخير، فقوله: (وبارك لي فيما أعطيت) أي: اجعل فيما أعطيتني وأوليتني بركة وخيراً، فنسأل الله العظيم أن يبارك لنا فيما أعطانا.
قوله عليه الصلاة والسلام: (إنه لا يذل من واليت).
الذلة: ضد العزة، فقوله: (إنه لا يذل من واليت) أي: لا يذل من كنت ولياً له، وهذا كأنه تعليل لسؤال الولاية.
وقوله: (ولا يعز من عاديت) يفيد أن الولاية طريق إلى العزة، كما قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، فجعل الله العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه، فإذا كان الإنسان مطيعاً لله فإن الله يعزه، يقول بعض العلماء: إن سؤال الأثر أو المسبب يتضمن ما يكون سبباً في وجوده، فكأنه لما يسأل الله عز وجل أن يكون على هذه الحال من كونه ولياً لله عز وجل فقد حصل العزة.
وفي هذا الدعاء تنبيه على أن الناس إذا أسلموا وأطاعوا وكانوا من أتباع هذا النبي الكريم وأصابتهم الذلة فإنها تكون بسبب ضعف الولاية لله عز وجل، فإذا رأيت المسلمين في ضعفٍ وخور وذلة ومهانة واحتقار من الأعداء فاعلم أن بينهم وبين الله أموراً، وهذه الأمور هي معاصي الله وانتهاك حدود الله عز وجل، فإذا عظّموا الله وكانت ولايتهم لله أعزهم الله عز وجل.
فقوله: (لا يعز من عاديت) أي: لا يكون من عاديته عزيزاً، وهذا فيه إطلاق يشمل عزة الدنيا وعزة الآخرة، ولذلك جعل الله أهل الكفر في ذلةٍ وحقارة كما قال تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام:124]، فلا يكتب لأحد عصى الله عز وجل عزة ما دام على معصية -نسأل الله السلامة والعافية-، فلذلك ضرب الله الذلة والمهانة على اليهود لما قتلوا أنبياء الله واعتدوا حدود الله عز وجل.
(تباركت ربنا وتعاليت).
(تبارك) تفاعلٌ من البركة، فأعظم ببركته سبحانه وتعالى.
وقوله: (وتعاليت) مأخوذ من العلو، وهذا فيه ثناء على الله عز وجل، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء بين الثناء وبين المسألة، فمن أبلغ ما يكون أن تجمع بين الثناء على الله عز وجل والمسألة.
قال عليه الصلاة والسلام: (وقني شر ما قضيت) قوله: (قني): مأخوذ من الوقاية.
وهذا الدعاء يشمل الوقاية من شرور القضاء، سواء أكانت في أمور الدين أم أمور الدنيا.
والله عز وجل قد كتب ما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائنٌ وما يكون إلى قيام الساعة)، فكتب الله عز وجل المقادير، وقضى بها سبحانه وتعالى، ولا شك أن ما كتبه لا بد أن ينفذ، فيسأل العبد ربه أن يكفيه وأن يقيه شر ما قضى، وليس المراد بهذا ما قد كتب على العبد، فإن الذي يكتب على العبد لا بد من مضيه ولا بد من نفاذه، ولكن المراد من هذا أن يسأل الله عز وجل العافية والسلامة مما يكون من البلاء على العباد، أي: من سواه من العباد، وقد يقول قائل: إذا كان الله عز وجل لم يكتب عليه فكيف يدعو وهو سالم من هذا القضاء؟ فقالوا: لأنه يثاب على هذا الدعاء ويؤجر، وثانياً: لأنه لم يطلع على الذي كتب، ولذلك هو يسأل على ما ظهر له، وهذا هو الأصل في قضايا القضاء والقدر.
وقوله: [(اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناء عليك،(52/11)
مسح الوجه باليدين بعد الدعاء
قال رحمه الله: [ثم يمسح وجهه بيديه].
المسح: هو إمرار اليد أو الكف على الشيء، ويستدل لهذا المسح بحديث عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه)، وهذا الحديث تكلم العلماء على سنده، والأقوى أنه ضعيف، وإن كان الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه أشار إلى أن للحديث طرقاً يقوي بعضها بعضاً، وأنه يرتقي إلى درجة الحسن، وتضعيف الراوي موقوف على كلام الحافظ ابن حجر نفسه الذي نقله في التهذيب وأشار إليه في التقريب، فإذا كان الحافظ ابن حجر الذي كتب وبيّن وأرشد إلى الكلام في هذا الراوي، يقول: إن مجموع طرقه تقوّي الحديث وتشهد بأصله، فإنه حينئذٍ لا ينكر على من فعله، لكن الأولى والأكمل أن يقتصر على رفع اليدين، وإن مسح وجهه فلا ينكر عليه؛ لأنه فقد ثبت الحديث: (أنه رفع يديه في القنوت)، وهو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وحسنه الحافظ ابن الملقن في تحفة المحتاج في تخريجه لأحاديث المنهاج، حيث ذكر حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قنت رفع يديه)، وهو أصل عند العلماء في رفع اليدين في القنوت، فإذا ضممت حديث أنس مع حديث عمر الذي ذكرناه: (أنه كان إذا رفع يديه لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه) فحينئذٍ لا ينكر على من مسح، لكن الأسلم والأولى -نظراً للكلام في الحديث، ولعظيم شأن الصلاة وشدة أمرها، وأنه لا ينبغي أن يفعل الإنسان إلا ما ثبت وتقرر- أن يقتصر على الرفع دون المسح، ومن مسح فإنه لا ينكر عليه إذا تأوّل الحديث وكان يرى تحسينه، أو يرى اعتبار قول من يقول بالحسن، على الأصل المقرر عند العلماء أنه لا إنكار إذا اختلفت النصوص صحةً وضعفاً، فكما أنك تقول بصحة حديث لتصحيح من ترى علمه، وتقول بضعف غيره للقول الذي يقوله هذا العالم، فكذلك غيرك يرى، والكل بشر يحتمل قوله الصواب والخطأ، ولذلك لا ينكر على من فعله إذا كان يتأول، وإنما يُدل من فعله على الأفضل، فيقال له: الأفضل أن تقتصر على الرفع ثم تضع يديك، وهكذا في الدعاء العام، فإذا جلس ورفع كفيه يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة فإنه يقال له: لا تمسح وجهك.
ويُدل على الأفضل، ويقال: إن الحديث ضعيف.
لكن لو قال: إنني أقول بحديث عمر، وفيه كذا وكذا.
فلا حرج، كما قال الناظم: واقبل لإطلاق لصحة السند أو حسنه إن كان ممن يعتمد أي: ما دام أن هذا التحسين والتضعيف من أئمة وأناس شهد لهم بالأهلية فإنه يقبل، ويكفيك بالحافظ ابن حجر رحمة الله عليه علماً وفهماً ودرايةً بأصول التصحيح والتضعيف، فلا شك أن مثل قوله له وجه.
وعلى العموم يُدَل الناس على الأفضل، ويقال لهم: الأفضل والأكمل أن لا يُمسح.
لكن الذي نعتقده وندين الله عز وجل به -لضعف الحديث- أنه لا يثبت المسح في الدعاء العام ولا في الدعاء الخاص، وأما أمر الصلاة فهو أعظم.
وعلى القول بحديث عمر رضي الله عنه أنه كان يمسح بهما وجهه، فقد اختلف العلماء في تعليل هذا الفعل، ومن التعليلات ما ذكره بعضهم -وأشار إليه الصنعاني رحمة الله عليه في السبل- أن هذا الحديث إنما خُرّج على أن الإنسان يقوى يقينه بالله من باب الفأل، والشرع يستحب الفأل، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، فكأن الداعي اعتقد أن الله لا يخيبه وأنه سيعطيه سؤله، ولذلك مسح أشرف المواضع كأنه مصيبٌ لحاجته من قوة يقينه بالله.
فعلى القول بثبوت هذا الحديث فإنه يُخرّج على هذا التعليل.
وأما ما يفعله بعض الجهال بعد الانتهاء من مسح الوجه حيث يجعل مسحه جميع الجسد فهذا لا أصل له، ويعتبر بدعةً وحدثاً، وهذا في الصلاة أشد؛ لأنه فعلٌ خارج عن هيئات الصلاة لا يشرع إلا بدليل، ولا دليل.(52/12)
الأسئلة(52/13)
كيفية قضاء الوتر لمن لم يكن له حزب محدد
السؤال
إذا كان الإنسان يصلي الوتر مرة ثلاثاً ومرة خمساً ومرة سبعاً، فكيف يقضي إذا فاته الوتر؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا كان يوتر بخمسٍ أو بسبع فحينئذٍ يشفع وتره، فيكون وتره ستاً إن كان يوتر بخمس، وإن كان يوتر بسبع فيكون وتره ثماني ركعات، يشفع وتر الركعة السابعة بالثامنة.
أما لو اضطرب حاله، فتارةً يوتر بسبع وتارةً يوتر بخمس، فهذا مما لا أحفظ فيه نصاً عن العلماء، ولذلك أتوقف في حكمه.
والله تعالى أعلم.(52/14)
حكم من أوتر في النهار سهواً
السؤال
رجلٌ صلى صلاة النافلة في النهار فسها وصلى وتراً، ثم تذكر بعد سلامه، فماذا يصنع؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: فإن كان تذكر في نفس المكان الذي صلى فيه قبل خروجه منه فإنه يستقبل القبلة ويجلس كحال المتشهد حتى يأتي بالقيام، ثم يقوم للركعة التي فاتته ويتمها كأنه لم يسهُ، ثم يسجد سجدتين بعد السلام، على ظاهر حديث ذي اليدين في الصحيحين، فحينئذٍ يجبر هذه الركعة التي فاتته ما دام أنه لم يخرج من المسجد، أو لم يخرج من الغرفة التي صلى فيها.
أما لو خرج من الغرفة أو خرج من المسجد فإن كانت الصلاة التي صلاها ركعةً واحدة مفروضة فإنه يلزمه قضاؤها وفعلها تامةً على الصفة المشروعة، وقد بطلت بخروجه من المسجد وبخروجه من الغرفة، أما لو كانت الصلاة نافلة ففيها قولان للعلماء: فمن يقول: إن النوافل إذا شرع فيها المكلف وجبت عليه، فإنه يوجب عليه القضاء.
ومن يقول: إن الشروع في النافلة لا يصيرها فرضاً، فحينئذٍ لا يوجب عليه القضاء.
وتوضيح ذلك أن بعض العلماء يقول: إذا كبّرت في نافلةٍ، أو أنشأت صيام تطوعٍ وجب عليك أن تتم النافلة وأن تتم الصيام، فإذا قطعته بدون عذر أثمت، وإذا قطعت الصلاة النافلة بدون عذرٍ أثمت، واحتجوا بقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، قالوا: نهى الله تعالى عن إبطال العمل، والصلاة عمل، بل هي من خير العمل، وهكذا في بقية النوافل.
والذين قالوا: إن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض قالوا: إنها ليست بواجبةٍ في أصل الشرع، فإذا قلنا: إنها تصير فريضةً فقد زدنا على أصل الشرع الذي دلّ على عدم لزومها، وقاسوا النظير على نظيره، فقالوا: هي ليست بواجبةٍ بعد الشروع كما أنها ليست بواجبةٍ قبل الشروع، وأما قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] فإنما هو في الأعمال التي هي على سبيل اللزوم، وأما بالنسبة للأعمال التي هي على سبيل الخيار فالمكلف مخيرٌ بأصل الشرع.
وبناءً على هذا فلو أنشأ نافلة، كأن يقوم في غرفته ليصلي ركعة في النهار ثم سلّم منها ظاناً أنه صلى ركعتين فحينئذٍ إن قلنا: النوافل تصير فرائض بالشروع فإنه يلزمه أن يتم هذه الركعة الباقية، وإن قلنا: النوافل لا تصير فرائض بالشروع فإننا نقول له: أنت بالخيار، فإن أحببت أن يثيبك الله وأن يتم لك أجر الركعتين فأتمها، وإن لم تحب فحيئنذٍ لا حرج عليك؛ لأن النوافل لا تصير مفروضةً؛ إذ هي نافلةٌ في أصل الشرع، وليست بفريضةٍ واجبة.(52/15)
نصائح وتوجيهات لطلبة العلم
السؤال
هل من وصيةٍ لطالب العلم عن كيفية مراجعة الدروس؟
الجواب
طلب العلم فيه سآمةٌ وملل، وفيه تعبٌ ونصب، وطالب العلم لا بد أن تمر عليه ساعات وأيام وأعوام يجد فيها بعض السآمة والملل والظروف والمصائب والمتاعب، ولذلك ينبغي لطالب العلم دائماً أن يستشعر الإخلاص؛ فإنه لا يبدد هذه الهموم والغموم شيءٌ غير توفيق الله سبحانه وتعالى، ثم وجود نيةٍ خالصة بين العبد وبين ربه، وهذا هو الذي صبر به الأولون وسار على نهجه الأخيار الصالحون، فبارك الله في علمهم وتعلمهم ونفعهم للعباد، فإذا استشعرت دائماً حب الله في هذا العلم وحب الله لك في هذا التعلم والسعي لإنقاذ نفسك وإنقاذ الأمة بهذا العلم المبارك فإن الله سبحانه وتعالى يرحمك ويوفقك ويذهب عنك كل ما يحول بينك وبين رحمته، فهذا الأمر الأول.
والأمر الثاني الذي يوصى به طالب العلم حتى يثبت في طلب العلم ويقوى على تحصيل العلم وضبطه: أن يجمع في علمه بين العلم والعمل، فأي سنة يتعلمها يطبقها، وأي نافلةٍ يُدعى إليها يعمل بها ولو مرة، وقد قالوا: اعمل بالحديث مرةً تكن من أهله، فتلقى الله يوم تلقاه وقد عملت به ولو مرةً واحدة، حتى إذا قلت للناس: إن هذا الحديث يدل على الخير، تكون لك قدم سابقة عند الله عز وجل، وتكون لك قدم صدق أنك فعلت وعملت بهذا الذي دعوت إليه، ولذلك أوصي طلاب العلم خاصة في مرحلة الطلب أن يكثروا من العبادة والعمل بالعلم؛ فإن لهذا أثراً عظيماً فيما يكون في مستقبلهم، وأن لا يشتغلوا بالقيل والقال وإضاعة الأوقات فيما لا ينفع، وإنما يشتغلون بهذا العلم، وطالب العلم إذا أقبل عليه يقبل بكله ولا يقبل بجزئه، فتقبل على هذا العلم إقبالاً صادقاً، وتجعله ليلاً ونهاراً أنيسك وجليسك الذي تسعد به وترتاح إليه وتأنس به، ويكون أفرح ما عندك أن تظفر بالفائدة والحكمة والمقولة التي تستنير بها وتضيفها إلى علمك، فإذا بلغت إلى هذه المرتبة -وهي التفاني في تحصيل هذا العلم مع العمل- فإن الله سبحانه وتعالى يبلغك أعالي درجات العلماء بإذنه سبحانه وتعالى، وإذا جمعت بين العلم بالعمل والتفاني في تحصيله فإن الله عز وجل سيجعل العاقبة لك محمودة، ولذلك تجد بعض طلاب العلم يطلبون العلم سنة ويملون، أو سنتين ويسأمون، أو ثلاث سنوات ويتركون، والسبب في هذا -والله أعلم- أنهم يضعون العلم أحمالاً على ظهورهم، فلا يعملون بما علموا، وتجد طالب العلم يجمع الأقوال ويجمع المسائل ويجمع الردود والمناقشات، وهذه أمور قد يقسو القلب بسببها إذا كثر الاشتغال بها، وكان اشتغالاً جامداً عارياً عن العمل، وقد تخرج الإنسان عن المقصود الأعظم، ولكن الإنسان إذا عُرضت عليه المسألة فتأملها ونظر الحق الذي فيها عجب من فتح الله على العلماء، وأدرك فضل الله على هذا العالم في فهمه، وأدرك فضل الله عز وجل على هذا العالم في استنباطه ومناقشته ومراجعته، فيقول: يا رب أسألك أن تفتح عليّ كما فتحت عليه.
وينظر إلى دواوين السلف التي زخرت بهذه المسائل فيزداد حباً لها ويقول: يا رب كما وفقتهم وفقني، فحين يكون علمه في مثل هذا الارتباط بينه وبين الله عز وجل يجد أنه كلما ازداد علماً كلما ازداد قرباً من الله تعالى.
وشوب العلم بالعمل له بركة عظيمة، ولذلك قالوا: إن أول العلم طفرة وآخره انكسار وخشية لله عز وجل.
فهذا هو العلم المبارك الذي يهتدي الإنسان به إلى الله، بل قال بعض العلماء: إذا أراد الإنسان أن يعرف أن علمه نافع فلينظر إلى كسر هذا العلم لقلبه لله، فإن وجد أنه يزداد خشية لله ومعرفة بالله سبحانه وتعالى فليعلم أن علمه نافع بإذن الله عز وجل، وأنه علمٌ مبارك، فهذا العلم النافع الذي تحس أنه يكسر قلبك لله عز وجل ويذهب عنك طفرة الغرور لا يكون إلا بشوب العلم بالعمل والخشية لله عز وجل، قال الإمام أحمد رحمه الله: أصل العلم خشيةُ الله.
كما أن العلم بحاجة إلى أشياء كثيرة بجانب خشية الله تعالى، منها: حب الله، والتعلق بالله سبحانه وتعالى، والقرب من الله عز وجل، واستشعار أن هذا العلم بفضل الله وحده، لا أنه بفضل الذكاء والفهم، فالذين حفظوا لم يحفظوا لأن أذهانهم كانت حافظة، وإنما هو فضل الله سبحانه وتعالى، فكم من مسائل تنزل على المفتي يفتح عليه في جوابها، ووالله لو أعمل فكره ليلاً ونهاراً على أن يصل إلى هذا الفتح الذي فتح الله عليه لما وصل إليه، لكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فمن الأمور التي تعين على الجد والاجتهاد في تحصيل العلم الإخلاص وكثرة العبادة مع العلم، وقرن العلم بالعمل والتزكية والخشية والقرب من الله عز وجل والحب لله سبحانه وتعالى، وتجعل كل مجلس علم تجلسه لا تقوم منه إلا وأنت تثني على الله، وتسأل الله عز وجل أن يجعل هذا الذي تعلمته خالصاً لوجهه الكريم.
فطلاب العلم بحاجة إلى مثل هذه المواقف الكريمة التي يحسون فيها بلذة العلم، فكم من مجلس علم جلسته وانتفعت فيه!! فقل لي بربك: هل جلست مجلس علمٍ، وبعد أن انتهيت منه دمعت عيناك من خشية الله، وقلت: يا رب علمتني ما لم أكن أعلم وكان فضلك عليّ عظيماً.
فتأملوا إلى هذه النعم، فكم من أناسٍ في دياجير الجهل والظلمات بعيدين عن الله سبحانه وتعالى هم أحوج ما يكونون إلى كلمةٍ تنقذهم، وكم من إنسان مشغول يتمنى أن يجلس هذا المجلس، وكم من مريض يتمنى أن يجلس هذا المجلس، فهذه النعمة العظيمة إذا شبتها بالشكر لله والثناء على الله عز وجل أحبك وبارك فيك، وإذا شكرت هذا المجلس بورك لك في المجلس الثاني، فبدل أن تعلم ربع العلمٍ يعطيك الله نصف العلم، ثم ثلاثة أرباع العلم، حتى تبلغ من العلم خيراً كثيراً.
فالارتباط بالله في هذا العلم مهم، وليست القضية أن نحمل الكتب ونذهب إلى المجالس ونرجع وحالنا هو الحال، بل إن بعض طلبة العلم قد يفتن بعلمه، فنريد أن نشوب علمنا بالورع وبالعمل وبالطهارة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل علمنا نافعاً، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم.
اللهم إنا نسألك علماً يقربنا إليك، وأن تهب لنا رحمةً من لدنك إنك أنت الوهاب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(52/16)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [2]
من صلوات التطوع: صلاة الوتر، ويشرع فيها القنوت، وكذلك يشرع القنوت إذا نزلت بالمسلمين نازلة، فيقنت في جميع الصلوات، ومن الصلوات المسنونة المؤكدة: صلاة التراويح في رمضان، وهي إحدى عشرة ركعة، ولا بأس بالزيادة، وتصلى جماعة مع الإمام حتى ينصرف.(53/1)
أحكام القنوت(53/2)
محل القنوت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ويكره قنوته في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون فيقنت الإمام في الفرائض].
تقدم معنا بيان مشروعية القنوت في الوتر، وذكرنا تعليم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء للحسن بن علي رضي الله عنه وعن أبيه.
وهنا شرع المصنف رحمه الله في التنبيه على مسألة القنوت في غير الوتر التي تعتبر من مسائل الخلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، فهذا القنوت -وهو الدعاء الذي يكون بعد الركوع، أو يكون قبل الركوع- هل يشرع في غير الوتر، أو لا يشرع؟ فمذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن دعاء القنوت في الفريضة يعتبر سنة.
وبهذا القول قال الإمام مالك والشافعي عليهما رحمة الله، وقال الإمام أبو حنيفة وأحمد رحمة الله عليهما: إن المداومة على دعاء القنوت في الفريضة ليست بسنة، ثم اختلفوا على قولين: فقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: إنما يشرع في النوازل.
ومنع الإمام أبو حنيفة القنوت مطلقاً.
فأما الذين قالوا بمشروعية دعاء القنوت فقد استدلوا بأحاديث صحيحة ثابتةٍ عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه قنت ودعا، ومن أصحها ما ثبت عنه: (أنه قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله)، وكان يدعو بالنجاة للمسلمين، فكان يدعو أن ينجي الله الوليد بن الوليد، وكذلك دعا عليه الصلاة والسلام بنجاة عياش بن أبي ربيعة رضي الله عن الجميع، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على مشروعية القنوت، وأكدوا هذا بحديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا).
وأما الذين قالوا: إنه لا تشرع المداومة على القنوت، وإن المداومة عليه بدعة فقد استدلوا بما ثبت في حديث لـ مالك الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه أنه سأل أباه رضي الله عنه فقال: يا أبت: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فهل كانوا يقنتون؟ قال: أي بني: إنه مُحْدث.
وهو حديثٌ رواه أصحاب السنن، قالوا: فهذا يدل على أن المداومة على القنوت تعتبر بدعة.
وقالوا: إن الأحاديث التي دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة الفجر إنما كانت في أول الأمر، ثم نسخ ذلك.
وأجابوا عن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بالطعن في سنده، وهو حديثٌ متكلمٌ في سنده، رواه البيهقي وغيره.
ولذلك فالذي يظهر من هذه المسألة أحد أمرين: الأول: ما اختاره جمعٌ من المحققين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل القنوت أحياناً ويتركه أحياناً.
وهذا مسلك يسلكه بعض العلماء رحمة الله عليهم في الجمع بين النصوص.
والمسلك الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لحاجة، فيعتبر القنوت سنة إذا وجدت الحاجة.
وهذا القول الأخير هو أحوط الأقوال وأولاها بالصواب إن شاء الله؛ لأن الصلاة شأنها عظيم، وقد حصل التردد بين كون القنوت باقياً وبين كونه منسوخاً، ولا شك أن الأدلة على نسخه أقوى، أي: نسخ المداومة عليه، فإن الله عز وجل أوحى إلى نبيه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] فكفّ عليه الصلاة والسلام.
وجاء في الحديث الآخر: (أنه لما قنت يلعن رعلاً وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله، وقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف أوحى الله إليه: يا محمد: إنا لم نجعلك نكالاً، وإنما جعلناك رحمةً للعالمين) -صلوات الله وسلامه عليه- وكان فيما أنزل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] أي: لا تدعُ عليهم، فلعلّ الله أن يتوب عليهم، ولذلك فالفاسق والمجرم والكافر المعين لا يدعا عليه، وإنما يدعا بتوبته، ويدعى بكف بأسه عن المسلمين، ومنه أخذ جمعٌ من أهل العلم تحريم لعن الكافر المعين، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نُهي عن ذلك، أما الدعاء على الكافر فإنه يشرع ولا حرج، ولكن الأفضل والأكمل أن يدعا بصلاحه وبهدايته إن أمكن ذلك.
وبناءً على هذا فالقنوت يشرع عند وجود النوازل، والنوازل المراد بها المصائب والنكبات، كأن يعتدى على أعراض المسلمين، أو على دمائهم، أو يضيق بهم الحال في كربٍ أو خطب، فيلجأون إلى الله بالدعاء، وهذا هو الأصل الذي دعا الله إليه عباده فقال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، والمسلمون (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
ولا يبلغ المسلم حقيقة الإسلام، ولا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان إلا إذا بلغ به الحال أنه إذا بلغه ضرر بأخيه المسلم أحس به كما يحس به أخوه المسلم أو أشد، ولذلك كان بعض العلماء رحمة الله عليهم إذا بلغه المصاب في المسلمين، أو النكبة تحل بالمسلمين تأثر، وربما مرض حتى يعاد في بيته، وهذا من كمال الإيمان، ومما جعله الله عز وجل وشيجة بين المؤمنين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد).
فإذا نزلت المصيبة بالمسلمين هنا أو هناك شرع أن يقنت، وأن يدعا بالنجاة والسلامة لمن ابتلي، وكذلك يدعا بكفّ بأس الذين ظلموا عن المسلمين، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك فهذا القول يعتبر أعدل الأقوال، وفيه جمع بين النصوص، خاصةً وأنه أعمل السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحالة التي فعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم القنوت.
وبناءً على ذلك يشرع القنوت للنوازل في دفع ضرر عام أو خاص على بلاد المسلمين.(53/3)
السنة في القنوت
وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت، منها دعاؤه المشهور: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونهجر من يفجرك، اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق)، وقد كانت سورة تتلى من سور القرآن، وكان يقنت بها في دعاء القنوت.
فالسنة أن الإمام إذا دعا في القنوت أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما في هذا الدعاء الوارد من إظهار الفاقة والحاجة إلى الله سبحانه وتعالى، والاعتراف له بالعبودية، والإسلام له سبحانه وتعالى.
ثم إنه يقتصر على أمرين: الأول: أن تدعو بكف بأس الذين ظلموا، فتدعو على الكافرين أن يستأصل الله شأفتهم، وأن يكفّ بلاءهم عن المسلمين.
الثاني: الدعاء للمسلمين أن يرحمهم الله، وأن يغاثوا، وأن يعجل لهم بالنصر إن كانوا في ضائقة.
وأما الزائد على ذلك من الأدعية الأخرى فلا يشرع في هذا الموضع؛ لأنه كلام أبيح للضرورة، ولا يجوز فيما أبيح للضرورة والحاجة أن يزاد فيه على الوارد، فإن هذا القنوت إنما شرع للنازلة، فيتقيد الإمام فيه بالوارد، حتى قال الإمام أحمد: إن زاد حرفاً واحداً -أي: عن الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- فاقطع صلاتك.
أي: لا تأتم به إذا خرج عن السند والسبب في هذا أنه إذا زاد كلاماً آخر فإنه قد خرج عن كونه قانتاً إلى كونه مُحدثاً، نسأل الله السلامة والعافية.
فينبغي على الأئمة أن يتقيدوا بما ورد، وأن لا يزيدوا على هذه السنن الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالوارد موصوف بهذين الوصفين: أولهما: ما ورد من الثناء على الله عز وجل في هذه الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: (اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق) إلى آخره.
الثاني: الدعاء بالنجاة للمسلمين والهلاك على الكافرين، ولا حرج أن يعمم في دعائه أو يخصص قوماً؛ فإن تخصيص القوم جائز إذا كان لا يعني منهم شخصاً معيناً، ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رعلٍ وذكوان وعصية عصت الله ورسوله، فلا حرج إذا دعا على طائفة أن يكون دعاؤه على هذا الوجه لثبوت السنة به، وقال بعض العلماء: إذا سمى طائفةً أو سمى جماعةً بعينها فإنه يعتبر داخلاً في نهي الله عز وجل لنبيه؛ لأن سبب نزول الآية إنما ورد في دعائه عليه الصلاة والسلام على مضر في قوله: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف)، قالوا: فخصص، وتعتبر مضر بطوناً كثيرة، ومع ذلك نهاه الله عز وجل.
وهذا القول لا شك أنه من القوة بمكان، فلو دعا على الكافرين فإنه يعمم، ولذلك كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللهم قاتل الكفرة من أهل الكتاب الذي يصدون عن سبيلك)، فعمم صلوات الله وسلامه عليه، ولم يخص منهم طائفة دون أخرى.(53/4)
قنوت النازلة وموضعه
قال: [إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون فيقنت الإمام في الفرائض].
قوله: (إلا أن تنزل) استثناء، والاستثناء -عند أهل العلم رحمة الله عليهم-: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ.
فكأنه يقول: إنه لا يشرع أن يقنت إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة، وقد ذكرنا ذلك.
قوله: (غير الطاعون) الطاعون: مرض يصيب الجوف، ويعتبر شهادةً، فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أصابه الطاعون فمات منه -والعياذ بالله- يعتبر في حكم الشهيد.
ويقول بعض العلماء: إنه هو المرض المعروف اليوم بالكوليرا فتعتبر هي الطاعون، ومن مات بها فإن هذا الموت يعتبر شهادة، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الطاعون: (أنه رحمةٌ بالمؤمن، ونقمةٌ على الكافر)، فإذا انتشر بين المسلمين فإنه رحمةٌ يريد الله أن يرحم بها عباده المسلمين، وإذا انتشر بين الكافرين فيعتبر عاجل نقمة عجلها الله لهم في الدنيا قبل الآخرة، ولا يشرع إذا نزل هذا المرض أن يدعا أو يقنت، قالوا: لما فيه من معنى الرحمة، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم طُعنوا كما في طاعون عمواس في عهد أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنهم أجمعين، فلم يقنت رضي الله عنه، ولم يسأل الله رفعه، ولذلك قالوا: لا يشرع في هذا أن يدعا برفع البلاء.
قوله: [فيقنت الإمام في الفرائض].
قد جاءت أحاديث تدل على هذا، وقد اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من يخص القنوت بالفجر، وهذا لا شك أنه لا شبهة فيه ولا إشكال، ومن أهل العلم من قال بالعموم في الصلوات.
والسبب في هذا الخلاف ورود أحاديث اختلف في تصحيح أسانيدها، فمن يصحح أسانيدها يقول بمشروعية القنوت في الصلوات الخمس، وأنه لا فرق بين السرية والجهرية، وأنه في السرية يقنت ويكون قنوته سرياً، ويعتبر هذا تابعاً للسنة كما ذكرنا.
ومن أهل العلم من خصه بالجهرية دون السرية، وقال: إنما يشرع القنوت في الجهرية دون السرية، ولذلك فعله النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر.(53/5)
صلاة التراويح
التراويح: تفاعيل من الراحة، وسميت التراويح بهذا الاسم لأنهم كانوا يتروحون ويرتاحون بين كل أربع ركعات، فكانوا يرتاحون لطول القيام، وقد اختار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب أن يصلي بالناس بعد صلاة العشاء، وكان أبي رضي الله عنه من حفّاظ كتاب الله عز وجل، وكان من الصحابة القلائل الذين جمعوا حفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفاه شرفاً وفضلاً ونبلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلاة وارتج عليه، فلما سلم قال: (أفي الناس أبي؟ قال: نعم.
قال: ما منعك أن تفتح عليّ آنفاً؟)، فاختاره من بين الصحابة.
وثبت في الحديث الصحيح: (أن الله أوحى إلى نبيه أن يقرأ القرآن على أبي، فقال أبي: وسماني لك؟ قال: نعم.
فبكى -رضي الله عنه وأرضاه-)، فلما قام بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أطال قيامه، فقام بهم من بعد صلاة العشاء وأطال بهم القيام، فكان يروح أو يرتاح بهم بين الأربع، فلذلك سميت التراويح بهذا الاسم.(53/6)
أصل مشروعية صلاة التراويح
صلاة التراويح من أهل العلم من يقول: إنها شرعت بهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يقول: إنها شرعت في أصلها بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم شرعت بوصفها بسنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهذا القول الثاني أدق، ووجه ذلك أن الصحابة اجتمعوا وصلّى بهم النبي صلى الله عليه وسلم الليلة الأولى، ثم كثروا في الليلة الثانية، ثم كثروا في الليلة الثالثة، فلم يخرج إليهم عليه الصلاة والسلام، حتى حصبوا الخيمة التي كان فيها ليشعر، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إنه لم يخف عليّ مكانكم البارحة، ولكني خشيتُ أن تفرض عليكم)، فامتنع من الخروج والصلاة بهم خوف أن تفرض هذه الصلاة على الأمة، وكان عليه الصلاة والسلام من رحمته وشفقته ورفقه بالمؤمنين يخشى أن ترهقهم التكاليف، فيعجزون أو يمتنعون عن فعلها فتكون فتنةً عليهم، فكان صلى الله عليه وسلم ممتنعاً من أجل هذا المعنى، فلما توفي صلّى الناس قيام رمضان في المسجد، فصار هذا يشوش على هذا، وتجدهم أوزاعاً كلهم يصلي، وصلاة الليل فيها نوع من الجهر، فلا يجهر بها جهراً كاملاً ولا يخافت، فلما صار بعضهم يشوش على بعض جمعهم عمر رضي الله عنه -وهو المحدّث الملهم- على أبي، فكانت سنةً حسنةً منه، فكان أصلُ الجمع مستنداً إلى السنة من فعله عليه الصلاة والسلام، لكن الوقت الذي اختاره من كونها بعد صلاة العشاء لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فاستند إلى الأصل في قيام الليل، وكانت الصفة من كونها في أول الليل من سنة عمر، ولذلك لو اعترض معترضٌ على فعل التراويح والتهجد في آخر رمضان أجيب بهذا الجواب، وقيل له: إن التراويح شرعت سنةً عمرية، أي أنها سنة، وحصل الإجماع عليها، وأما التهجد فيكون بعد الهجود؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تهجده إنما كان بعد اضطجاعه، فسمي التهجد تهجداً لأنه بعد الهجود، وهو أكمل وأفضل وأعظم ما يكون لكونه بعد الراحة والاستجمام، كما أشار الله إلى ذلك حينما أمر به نبيه فقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79].
فكان هذا القول أدق من هذا الوجه، فتكون سنةً عمرية من جهة الوقت، أي: كونها في أول الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جمع الصحابة في آخر الليل.(53/7)
عدد ركعات صلاة التراويح
قال رحمه الله تعالى: [والتراويح عشرون ركعة] في القرون المفضلة كانوا يقومون بعشرين ركعة، وفي هذا العدد حديثٌ عن ابن عباس مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه حديث ضعيف، فيه إبراهيم بن عثمان، وهو ضعيف باتفاق المحدثين.
وفيه كذلك أثر السائب بن يزيد في قيام أبي بن كعب، وتكلم العلماء فيه، فمنهم من صححه كالإمام النووي وغيره، ومنهم من ضعفه، وكانت عشرين على عهد عمر رضي الله عنه، واستمر هذا في عهد السلف الصالح، فقد كان في عهد مالك رحمة الله عليه، وكذلك أدركه الأئمة كالإمام أحمد رحمة الله عليه، وهذا يدل على أن له أصلاً، ومن المعلوم أن المدينة إلى عهد مالك -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - لم تدخلها بدعة واحدة، ولذلك رأى الإمام مالك أن العمل بقول أهل المدينة حجة إذا كان من الأمور الظاهرة، وقد فصّل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالةٍ نفيسة في إجماع أهل المدينة.
فكون التراويح تصلى بعشرين ركعة إلى عصر مالك -كما نقل في الموطأ ما يدل عليه ويشهد له- يقوي أن هذا العدد له أصل، لكن اعتقاد أن هذا العدد بمثابة اللازم، والمحافظة عليه على وجهٍ يُظَنّ أنه لازم لا تشرع الزيادة عليه ولا النقص منه لا أصل له، ولذلك ينبه على أن فعله من حيث الأصل جائز؛ لأنه داخل تحت الأصل الذي يطلق قيام الليل، لكن إذا اعتقد الشخص أنه لا تجوز الزيادة على ثلاث وعشرين، أو أنه لا يجوز النقص عن ثلاث وعشرين، وتقيد بذلك والتزم فقد أحدث، ووجه الإحداث فيه أنه ظن ما ليس بلازمٍ لازماً، واعتقد فضل الثلاث والعشرين بعينها دون ورود نص بالتحديد، فكان تبديعه من هذا الوجه، أما لو صلّى ثلاثاً وعشرين على أصل أنه كان محفوظاً، وأراد بذلك التخفيف، كالإمام يريد أن يخفف على كبار السن ونحوهم، فيجعل طول القيام لأجل أن يكون أرفق بهم فلا حرج في ذلك، والهدي الأكمل والأفضل والأعظم أجراً اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاقتصار على إحدى عشرة ركعة، فهي الثابتة في حديث أم المؤمنين عائشة، وإن زاد إلى ثلاث عشرة ركعة فلا حرج؛ فإنها سنة كما في الحديث الآخر، وكذلك إلى خمس عشرة ركعة، كما هو حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه في السنن، فكلٌ على سنةٍ وخير، ولا يجوز لأحدٍ أن يقول: إن الإحدى عشرة ركعة واجبة، فمن زاد عليها يعتبر مبتدعاً.
فليس هناك أحدٌ من أئمة السلف رحمة الله عليهم يقول: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة؛ لأنك إذا قلت: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة فمعناه أنه يجب على من قام الليل أن يلتزم بإحدى عشرة ركعة، ولكن تقول: الهدي الأكمل والأفضل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المحافظة على إحدى عشرة ركعة، أما أن يعتقد أن من زاد على إحدى عشرة ركعة أنه مبتدعٌ فلا، ويأبى الله ويأبى رسوله عليه الصلاة والسلام ذلك؛ لثبوت الأدلة من الكتاب والسنة على مشروعية الزيادة على إحدى عشرة ركعة.
أما الدليل الأول على إطلاقها فقوله سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، فأطلق ولم يقيد، ولم يلزم بعددٍ معين.
وقال سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر:9]، فأطلق ولم يقيد.
وقال تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2]، فأطلق ولم يقيد.
وقال سبحانه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79]، فأطلق ولم يقيد.
فدليل الكتاب صريحٌ في عدم الإلزام بعدد معين.
ثم انتقلنا إلى السنة فوجدناها قد دلت على هذا قولاً وفعلاً وإقراراً: أما القول فقد وجدنا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله السائل -كما في الصحيحين من حديث ابن عمر - عن صلاة الليل كان الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة)، فلم يبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الليل يلزم فيها بإحدى عشرة ركعة، وإنما أطلق له، وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل).
وأقوى الأدلة دلالةً على عدم الإلزام بإحدى عشرة ركعة ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل إلى المدينة خاطب أهل المدينة -وهم لم يروه يقوم الليل- خاطبهم بقوله: (أيها الناس أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام)، فلو كانت هذه الإطلاقات مقيدة بالفعل فكيف يفهم أهل المدينة في أول لحظة يلقون النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنهم مطالبون بإحدى عشرة ركعة، وهو يخاطبهم ويقول: (صلوا بالليل والناس نيام)؟ فأطلق لهم، ففهمنا من هذه الأدلة في الكتاب والسنة أن قيام الليل على الإطلاق، ثم جاء فعل النبي صلى الله عليه وسلم فوجدناه على صورتين: فصورة إحدى عشرة ركعة ترويها عائشة، وصورة في الزيادة على إحدى عشرة ركعة يرويها ابن عباس وغيره، وبناءً على ذلك فإنك لو قلت: احملوا المطلق على المقيد من فعله عليه الصلاة والسلام يرد الإشكال: أنحمله على إحدى عشرة ركعة، أو على ثلاث عشرة ركعة، أو على خمس عشرة ركعة؟ ثم إن مسلك حمل المطلقات على المقيدات في مثل هذا ضعيف، ولا يتأتى بحال؛ لأنك لو قلت بهذا لزمك أن تقول: إن صلاة النهار المطلقة مقيدة بما ورد؛ لأنه كما قيدت في صلاة الليل تقيد في صلاة النهار، فتعتبر من زاد على ما ورد في صلاة النهار مبتدعاً ولا قائل بذلك، فعلى العموم لو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد ينهى عن الزيادة على إحدى عشرة ركعة ما حل لمسلمٍ أن يجاوزه، ثم إننا لم نجد في عصر القرون المفضلة التي شهد لها بالخيرية إماماً واحداً من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم يقول: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة.
ومن وجد أحداً من السلف الصالح من الأئمة الذين هم أهل الفضل والعلم في القرون المفضلة يقول بذلك فإنها فائدةٌ عظيمة وليتحفنا بها، لكن الذي يظهر من أدلة الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح من هذه الأمة أن الأمر موسّع فيه، وأنك إذا أردت أن تلتزم السنة تقول: الأفضل والأكمل أن يصلى كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة، فتكون ملتزماً بدليل النص.
ثم لو قلت: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة فاعلم أنك تقول ذلك بالاجتهاد، ووجه الاجتهاد أنك حملت مطلق النص على المقيد، وهذا -كما هو معلوم- ليس من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يقوى على ترك النصوص المطلقة التي هي من كلامه، كقوله: (صلوا بالليل والناس نيام)، وكذلك التي من نص القرآن، فضلاً عن أن حمل المطلق على المقيد فيه النزاع المعروف بين الأصوليين، فالتزام نصوص الكتاب والسنة الواردة أولى من الميل إلى هذا الاجتهاد في حمل المطلق على المقيد مع ضعفه من جهةٍ أصولية؛ لأن فقه الأصول في حمل المطلق على المقيد أن يكون الأصل دالاً على التقييد، أما إذا كان الأصل دالاً على الإطلاق فإنه لا يقوى حمل المطلق على المقيد في مثل هذا، فهذا الذي ظهر والله تعالى أعلم.
فإذا ثبت هذا فهل الأفضل لو صلّى الإمام ثلاثاً وعشرين ركعة أن تنصرف من عشر ركعات تتأول السنة، أو تبقى معه إلى تمام قيامه؟ والجواب أنه إن انصرف من عشر ركعات فإنه يكون على الحال المفضول، وإن انصرف من ثلاث وعشرين ركعة فلا شك أنه يكون على الأفضل، وذلك لثبوت النص في قوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع إمامه حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة).
وإذا قال قائل: إنه الإمام الأول فهذا ضعيف؛ لأنه إذا قيل بأنه الإمام الأول الذي ينصرف من خمس تسليمات فمعنى ذلك أنك تخالف معنى النص؛ لأن النص إنما جاء من أجل شحذ همم المأمومين للبقاء مع الأئمة، فقصد الشرع من قوله: (من قام مع إمامه حتى ينصرف) أن يبين فضل معونة الأئمة على البقاء، فإذا قال: إنه الإمام الأول خالف المقصود.
ثم إن الإمام الأول إذا انصرف فإنه لم ينصرف حقيقةً، وإنما بقي كما هو معلومٌ ومعهود، وبناءً على ذلك فلا يسلم الانصراف لا من جهة معنى النص، ولا من جهة دلالة ظاهر الحال، فلا يشك أن البقاء إلى انتهاء التراويح بكمالها أقرب إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرب إلى هديه، فهو أكمل من وجوه: أولها: أنه ظاهر قوله: (من قام مع إمامه حتى ينصرف)، فلم يفصّل النبي صلى الله عليه وسلم بين إمامٍ يلتزم الإحدى عشرة ركعة أو يزيد.
ثانياً: أنه إذا بقي مع الإمام حتى ينصرف فإن هناك فضائل كثيرة لا يشك أنه مثابٌ عليها، منها: سماعه للقرآن، ومنها: قيامه بين يدي الله راكعاً ساجداً، ومنها: ما يكون من مشقة ومؤنه العمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثوابك على قدر نصبك)، أي: على قدر تعبك.
وقال الله تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195]، فلا شك أنه لو بقي إلى تمام التراويح فهو أفضل وأعظم أجراً، وأضف إلى ذلك أن آخر التراويح فيه الوتر، خاصةً في الثلثين الأولين من الشهر، وهذا الوتر فيه دعوة المسلمين، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحائض أن تشهد صلاة العيد وتعتزل المصلى، مع أن عندها العذر وممنوعةٌ من الصلاة، فقال: (وأما الحيّض فليعتزلن الصلاة وليشهدن الخير ودعوة المسلمين)، فلا شك أنه لو بقي إلى انصراف الإمام الأخير أصاب هذه الفضائل التي دلت عليها السنن، وبناءً(53/8)
حكم الجماعة في صلاة الليل
قال رحمه الله تعالى: [تفعل في جماعة].
صلاة التراويح مما تشرع له الجماعة، وهنا مسألة، وهي: لو أن قوماً خرجوا ذات يومٍ، أو ذات ليلة ثم قام رجلٌ منهم يصلي، فصلوا معه جماعة في غير رمضان، فهل تشرع الجماعة في غير التراويح في قيام الليل؟
و
الجواب
هذه المسألة لها صورتان: الصورة الأولى: يسميها العلماء الجماعة قصداً.
والثانية: أن تكون اتفاقاً.
أما الجماعة قصداً فصورتها أن يقول قائل: إذا سافرنا أو بتنا الليلة نقوم الليل جماعة، فمعنى ذلك أنهم قصدوا القيام.
والحالة الثانية: أن تكون اتفاقاً، كأن تقوم في المسجد فيأتي رجلٌ ويأتم بك، أو تكون مع جماعة في السفر فتتوضأ وتقوم تصلي بالليل فيراك أخوك فيأتي بجوارك، ثم يأتي الثاني والثالث حتى تصير جماعة، لكن اتفاقاً لا قصداً، أي: موافقةً دون أن يكون ذلك بترتيب معين.
فإن كانت قصداً فقد منع منه طائفة من العلماء، وأشار إلى ذلك غير واحد من محققي أهل العلم، فلا تشرع الجماعة في قيام الليل في غير رمضان، وهذا الذي أشار إليه المصنف رحمة الله عليه بما ذكر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع سفره وكثرة خروجه وحصول الجماعة له حتى في بيته -كما في حديث ابن عباس وابن مسعود - فإنه لم يطلب منهم أن يكونوا معه جماعة، فلم يحدث الجماعة على سبيل القصد.
أما الحالة الثانية، وهي أن تكون الجماعة اتفاقاً، كأن تقوم تصلي ويأتي رجل بجوارك ويصلي معك، أو يكون هناك إنسان عرف بقيام الليل فرأيته فقمت معه فهذه سنة؛ لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود وحديث عبد الله بن عباس، قال رضي الله عنه -أعني ابن عباس -: (بِتُّ عند خالتي ميمونة، وبتّ في عرض الوسادة، فلما كان هوياً من الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح النوم من عينيه، ثم تلا الآيات من آخر سورة آل عمران، ثم قال: ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، قال: فتوضأ، ثم قام فكبر، فقمتُ فصنعت مثل ما صنع، فقمت عن يساره فأدارني عن يمينه)، ووجه الدلالة أن ابن عباس تبع النبي صلى الله عليه وسلم في فعله، فوقعت جماعة ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقاً لا قصداً، بمعنى أنه لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قمتُ فقم معي وكذلك الحال في قيامه عليه الصلاة والسلام مع بقية الصحابة.
وعلى هذا فإنه تشرع الجماعة اتفاقاً لا قصداً، فلو قال جماعة في رحلة أو نحوها: سنصلي بالليل.
وألزموا من معهم أن يصلوا معهم جماعة فإن هذا يعتبر مضيقاً فيه عند العلماء رحمة الله عليهم، خاصةً وأن قيام الليل كما هو معلوم أمرٌ أقرب إلى الإخلاص، وأقرب إلى معاملة الله سبحانه وتعالى بالسر، فإذا رتب لها، أو أمر بها إنسانٌ كانت أشبه بالفريضة، ولذلك لا يدعا الناس إلى مثل هذا إلا بسنة أو بدليل من الشرع ولا دليل، فهذا بالنسبة لقوله: [تفعل في جماعة]، فقيام الليل جماعة إنما يفعل في التراويح، أو يفعل على سبيل الاتفاق لا القصد.(53/9)
وقت التراويح ووقت الوتر في لياليها
قال رحمه الله تعالى: [تفعل في جماعةٍ مع الوتر بعد العشاء في رمضان].
أي أنه يقوم بهم ويوتر، ولذلك يوتر بهم في التراويح، فإذا جاءت أواخر رمضان وأرادوا أن يقوموا في التهجد فلا شك أن الأفضل انصرافهم بدون وتر؛ لما يحدثه قيامهم بالوتر في أول الليل وآخر الليل ما هو معروف من اللبس على الناس، مع أن أكثرهم يحضرون ويشهدون التهجد، ولذلك يوتر وتراً واحداً، خروجاً من مخالفة حديث الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام في قوله: (لا وتران في ليلة) وعلى هذا فالسنة في إيقاع صلاة جماعةً على هذا الوجه يختص بها شهر رمضان، والسبب في هذا أن رمضان نُدِب إلى إحيائه، وثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم النصوص بمشروعية هذه الجماعة في رمضان دون غيره، والأصل أن يتقيد بالوارد، فكانت السنة في قيام رمضان بالتراويح في أول الليل خاصة برمضان دون غيره من سائر الشهور.
وقوله: (بعد العشاء) أي: بعد صلاة العشاء، ويكون هذا -كما هو معلوم- بعد أن تصلى سنة العشاء، ولذلك يبتدأ بسنة العشاء، ويترك للناس وقت ليصلوا سنة العشاء، ثم يبتدأ بصلاة التراويح، وتعتبر صلاة التراويح في الأصل قياماً لأول الليل، وصلاة التهجد قياماً لآخر الليل، والقيامان بينهما فرق، فقيام التهجد أفضل من قيام التراويح، فإذا كان الشخص لا يستطيع أن يقوم الاثنين معاً فإن الأفضل والأكمل أن ينتظر إلى قيام التهجد؛ لما فيه من هجر النوم والكرى، وهذا أبلغ في الطاعة والعبودية، وأكثر عناءً ونصباً وتعباً، ثم إن فيه إحياءً لآخر الليل الذي ثبتت فيه النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضل إحيائه، وأنه أفضل ما تكون فيه صلاة العبد، كما قال عليه الصلاة والسلام للصحابي في شأن جوف الليل الآخر: (وإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) أي: في جوف الليل الآخر.
[ويوتر المتهجد بعده].
أي: بعد صلاة التهجد.
وهذا هو الأصل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، فالسنة في الوتر أن يجعل بعد التهجد، أي: في آخر التهجد، وهذا فيه حكم: منها: أن يكون وتراً للصلاة على ظاهر ما ورد في السنة.
وثانياً: أنه يصيب السَحَر، أو يقارب السَحَر الذي يكون فيه الدعاء أسمع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن دعاء السحر أسمع، ففي الحديث الصحيح أن الله تعالى ينزل كل ليلة في الثلث الآخر، ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب دعوته، هل من مستغفرٍ فأغفر له ... ) الحديث.
فهذا يدل على فضل الدعاء في مثل هذه الساعات، ولذلك يكون الوتر آخر الليل، وفي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر)، فمن صلّى التهجد فإنه يجعل وتره في آخر التهجد، وهذه هي السنة.(53/10)
الجمع بين أكثر من وتر في ليلة
قال رحمه الله تعالى: [فإن تبع إمامه شفعه بركعة].
قوله: (فإن تبع إمامه) أي: في التراويح طلباً للفضل، فإذا صليت التراويح وأوتر الإمام فللعلماء أوجه: قال بعض العلماء: لا توتر معه، حتى لا يكون وتران في ليلة، إذا كنت تريد أن تتهجد وتوتر.
وقال بعضهم: توتر معه، وتوتر في التهجد، وتوتر بعدهما.
وقال بعضهم: توتر في التراويح، ثم تصلي التهجد، وتترك وتر التهجد بناءً على أن الفضل للأول منهما والأسبق.
والذي يظهر والله أعلم أن الأفضل والأولى أن توتر في التراويح لكي تحصل ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع إمامه حتى ينصرف)، فإن انصراف الإمام -كما هو معلوم- إنما يكون بعد الوتر لا قبل الوتر، فتوتر معه في التراويح، ثم إذا قام للتهجد فإنك تصلي ركعةً قبل التهجد تنقض بها الوتر الذي أوترته مع الإمام، ثم تصلي ركعتين ركعتين، ثم تجعل وتر الإمام هو وترك، فهذه هي أسلم وأفضل الصور، وهي مأثورةٌ عن عبد الله بن عمر.
أما دليل فضلها فلكونك تدرك فضل القيام مع الإمام في التراويح إلى الانصراف، وقد ثبت النص بتفضيل هذه الحالة، وأنها كقيام الليل.
وأما نقض الوتر الأول بركعة فيدل له قوله: (لا وتران في ليلة)، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) ونهيه عن إيقاع الوترين في ليلة يدل على أن أحدهما ناقضٌ للآخر؛ لأن العلة في النهي عن الوترين في الليلة أنه يجعل العدد شفعاً، ويصير مثنى، وقد قصد الشرع أن تختم صلاة الليل بالوتر، وهذا يكون مؤكداً لما ذكرناه من أن الركعة المنفصلة ناقضةٌ للركعة التي وقعت في التراويح، فإن قوله: (لا وتران) يدل على أن الوتر الثاني يؤثر في الوتر الأول؛ إذ لو لم يكن مؤثراً في الوتر الأول لما قال: (لا وتران في ليلة).
والأمر الثالث في هذا الفضل أنه يدرك أيضاً الإيتار مع الإمام في التهجد، فهو أفضل من القول بتركه، ولا شك أن وتر التهجد أفضل؛ لما فيه من إصابة السنة التي ذكرناها من كونه يقع في هذا الوقت الذي يكون فيه الدعاء أسمع، ولكونه مطابقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأضف إلى هذه الفضائل كلها أنه قد جاء عن عبد الله بن عمر فعل ذلك.
ويتخرّج على هذا أن من أوتر ثم نام ثم استيقظ فهو على حالتين: الحالة الأولى: أن يريد أن يصلي ركعتين ويقتصر عليهما، فهذا السنة له أن يصلي الركعتين، ولا ينقض الوتر الأول، ولا يوتر بعد الركعتين، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى ركعتين بعدما أوتر)، وألف الحافظ ابن حجر في هذا رسالة أثبت فيها الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وفي السنن التي تدل على شفعه بعد الوتر، وأنه فعل ذلك على سبيل الجواز لكي يبين الجواز للأمة.
الحالة الثانية: أن يكون قصده أن يصلي أكثر من ركعتين، وأن يقوم آخر الليل، فهذا الأفضل له أن ينقض الوتر الأول بركعة كما ذكرنا، لحديث الترمذي: (لا وتران في ليلة)، ثم يصلي شفعاً شفعاً، ثم يوتر لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، فيصيب هذه السنة، خاصةً وأنها جاءت بالأمر المشتمل على الحث والحض، فيطابق السنن من هذه الوجوه كلها.
أما إذا صلى مع الإمام الوتر وقام ليشفع بركعة ففيه وجهان للسلف: قال جمهور العلماء: إنه يسلم مع الإمام.
وهذا على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به).
قالوا: فلا يحدث الركعة الزائدة، وذلك لأن الأصل فيه أن يتابع الإمام، فليست هذه الركعة الزائدة واجبةً عليه حتى يتكلف القيام لها ويأتي بالشفع.
والقول الثاني: أنه يأتي بركعةٍ شفعية.
وهذا القول هو إحدى الروايات عن الإمام أحمد في هذه المسألة، فينقض وتره مع الإمام بركعة بعد سلام الإمام.
والقول الأول بأنه يسلم مع الإمام على ظاهر السنة، وأما القول بالشفع فإن أقل درجاته أنه خلاف الأولى لأمور: أولها: أنك إذا صليت مع الإمام وشفعت بعد سلامه خالفت ظاهر الحديث: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).
ثانياً: أنك تستبيح الدعاء في الركعة الأولى مع أنك تريد الشفع، ولا يعرف في الشرع صلاة شفعية يكون الدعاء في الركعة الأولى منها، وإنما يكون الدعاء في الشفعية في الثانية كالفجر، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا شفعت وترك كنت قاصداً لركعتين مستبيحاً للدعاء في أولهما، ولا صورة في الشرع لمثل هذه الصلاة.
ثالثاً: أنه يُحدثُ جلوساً بين ركعتين شفعيتين، ولا يعرف في الشرع صلاة شفعية يجلس فيها بين الأولى والثانية للتشهد، فإنه سيستبيح الجلوس في التشهد والدعاء والذكر بعد انتهائه من السجدة الثانية من الركعة الأولى.
رابعاً: أنه -خاصةً في أول الشهر- إذا صلى مع الإمام وقام أمام الناس لكي يأتي بركعة فكأنه يشير وينبه على أن له حظاً من قيام الليل في آخره، ولذلك يكون في هذا شيءٌ من الإظهار للعبادة، فإذا سلم مع الناس كسائر الناس خفيت عبادته، لكن لو قام أمام الناس فإن هذه ينبه على أن عنده ورداً في آخر الليل، وكأنه يشعر بهذه الصلاة التي سيصليها، والتي الأولى فيها والأحرى أن تكون سرية بين العبد وبين الله، لذلك فالأفضل والأكمل أن يسلم مع الإمام حتى يصيب ظاهر الحديث، ثم بعد ذلك إذا أراد أن ينقض الوتر نقضه قبل دخوله في التهجد، أو يوتر ويجعل وتر التهجد ناقضاً لوتر التراويح، ثم يصلي بعد ذلك ما شاء الله، ثم يوتر لظاهر قوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً).(53/11)
التنفل بين التراويح
قال رحمه الله تعالى: [ويكره التنفل بينها لا التعقيب بعدها في جماعة].
أي: يكره التنفل بين التراويح، فإذا صلى الإمام التراويح وجلس بين الركعات، كأن صلى تسليمتين، ثم جلس لكي يخفف على الناس ويرتاح الناس، فقام الإنسان يتسنن، فإنهم قالوا: يكره والسبب في هذا أنه أثر عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه أنكر ذلك، وقال لمن فعل ذلك: أتتنفل وإمامك أمامك؟! ولذلك قالوا: إنه لا يتنفل بينها، ولو تنفل جاز له ذلك، لكن مشى المصنف رحمه الله على مذهب بعض الأصوليين الذين يقولون: إن قول الصاحب حجة، فحكم بالكراهة، مع أنه لو صلى فلا حرج عليه؛ لأنه داخل في ظرفٍ شرع فيه أن يصلى فرادى وأن يصلى مع الجماعة، ألا ترى أنك لو انصرفت عن الإمام وصليت لوحدك لما أنكر عليك، وعلى هذا فإنه لا حرج أن يتنفل، والمصنف رحمه الله إنما حكم بالكراهة لما أُثِرَ عن زيد رضي الله عنه، والكراهة حكمٌ شرعي تحتاج إلى دليل، وليس عندنا دليل مرفوع؛ ولذلك لو بقي المصنف على الأصل لكان أولى وأحرى.
قوله: [لا التعقيب بعدها في جماعة].
أي: لا حرج عليه أن يعقب بعدها في جماعة، كأن يصلي في تهجد ونحو ذلك.(53/12)
الأسئلة(53/13)
صلاة الرجل بامرأته ليلاً
السؤال
إذا كانت الجماعة لا تستحب إلا في رمضان، فكيف يمكن الجمع بين هذا والحديث الذي يحث على قيام الزوج مع زوجته؟ وهل يصح أن يصلي مع زوجته قيام الليل والوتر؟
الجواب
أما حديث قيام الرجل مع زوجه فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله امرأً قام من الليل فصلى وأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء)، وليس فيه التصريح بصلاتهما معاً، وهو أعمّ من أن يكون جماعةً أو يكون فرادى.
الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه جمع بأهله، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، فهو ما صلى بنسائه، ولا حفظ عنه في حديث واحد أنه صلى بأهله صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يقول فيه العلماء: إنه من السماحة، فكانت أم المؤمنين عائشة وأمهات المؤمنين ربما أوترن أول الليل وعجزن عن القيام آخر الليل، وهذا أمر يحتاج إلى صبر ومكابدة، فليست كل زوجة تستطيع أن تفعله، وإنما دلّ النبي صلى الله عليه وسلم على نضح الماء في وجه المرأة على سبيل الأفضلية، وعلى سبيل السنية والاستحباب، ولكن لا يستلزم ذلك وجود جماعةٍ بينهما، فإنه لم يثبت في هذا ما يدل عليه، وليس في نفس الحديث ما يدل عليه، ولا يعتبر معارضاً للأصل الذي ذكرناه.
والله تعالى أعلم.(53/14)
اقتداء المسافر في صلاة المغرب بمن يصلي العشاء
السؤال
رجل مسافر أخر صلاة المغرب إلى العشاء ليجمع جمع تأخير، وحين نزوله إلى المسجد وجد المصلين يصلون العشاء، فماذا يصنع؟
الجواب
إذا نوى الإنسان أن يؤخر صلاة المغرب والعشاء ويجمع بينهما فإنه في هذه الحالة إذا دخل المسجد فإنه يدخل وراء الإمام بنية النافلة، ثم إذا انتهى من صلاته نافلةً أقام لصلاة المغرب ثم صلاها وصلى بعدها العشاء، والسبب في كونه لا يتابع أن صلاة العشاء والمغرب ليس بينهما اتفاق في الصورة، وشرط اقتداء المأموم بالإمام عند اختلاف نية الصلاتين أن تتحد صورتهما، والصورة هنا مختلفة، فالثلاث لا تصلى وراء الأربع، ولا يمكن بحال أن تتحقق المتابعة على الصورة المعتبرة شرعاً، وإن كان بعض العلماء -وهو وجهٌ ضعيف شاذٌ يحكى ولا يعول عليه قال به بعض فقهاء الشافعية قياساً على صلاة الخوف- قالوا: يجوز له أن يدخل وراء من يصلي العشاء، ثم إذا انتهى الإمام من الركعة الثالثة جلس، وترك الإمام يتم الركعة الرابعة قياساً على صلاة الخوف.
وهذا محل نظر؛ لأنه قياس في صورة التعبد، وفيما هو تعبدي يفتقر إلى نص يدل على مشروعية هذه الصورة وجوازها.
ثانياً: أن نفس القياس معارض بأنه قياسٌ على الخارج عن الأصل، والقاعدة أن ما خرج عن الأصل لا يقاس عليه.
توضيح ذلك أن صلاة الخوف خارجة عن الأصل، ولذلك الإمام في بعض الصور يصليها أربعاً والمأمومون يصلون ركعة ويفارقونه، والطائفة الثانية تصلي ركعة وتفارقه، وهذا لا يعرف في سنن الصلاة أو الجماعة الأصلية، ولذلك قالوا: إن ما عدل عن سنن القياس -أي: عن الأصل- فغيره عليه لا ينقاس.
كما لو قال قائل -مثلاً-: أقيس الأخ لو قذف أخاه -والعياذ بالله- بالزنا على الزوجة، فيشرع بينهما اللعان قياساً على لعان الزوج لزوجته.
فيكون القياس باطلاً؛ لأن أصل اللعان الذي وقع بين الزوجين خارجٌ عن الأصل؛ لأن الأصل: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، فشرع للزوجين على سبيل الخصوص، فكذلك أيضاً متابعة الإمام في الأصل واجبة على المأموم، فجاءت صلاة الخوف بعينها واستثنيت، فلا وجه لأحدٍ أن يقيس على هذا المستثنى.
لكن هنا مسألة، حيث قالوا: لو أدركه في الأخيرتين من صلاة العشاء، أو أدرك إماماً مسافراً يصلي ركعتين، فقد اختار بعض العلماء أنه يدخل وراءه في ركعتين ناوياً بها المغرب، فإذا سلم الإمام قام وجاء بركعة، وهذا أخف من الذي قبله؛ لأن الذي قبله فيه اختلاف، وأما هذا فلا اختلاف في صورته، وغاية ما فيه أنه كالمسبوق يقوم ويتم لنفسه.
والأحوط والأفضل ما ذكرناه من كونه يدخل متنفلاً، ثم بعد ذلك يقيم لصلاة المغرب، ثم يقيم بعدها لصلاة العشاء، أما لو نوى الجمع بين صلاتي الظهر والعصر وأخرهما فدخل ووجد إماماً يصلي العصر فإنه يدخل وراءه بنية الظهر، ثم إذا سلم الإمام أقام لصلاة العصر وصلاها؛ لأن الظهر والعصر صلاتان متفقتان في الصورة، والله تعالى أعلم.(53/15)
حكم المسبوق إذا سجد إمامه للسهو بعد السلام
السؤال
إذا زاد الإمام في الصلاة وسجد سجود السهو بعد السلام وبعض المأمومين فاتته الركعة الأولى، فقاموا بعد سلام الإمام مباشرة، ولم يسجدوا معه للسهو، فهل يرجعون ليسجدوا للسهو، أم يتمون صلاتهم ثم يسجدون للسهو؟
الجواب
إذا دخلت المسجد وقد فاتتك ركعة، وكان الإمام قد سها في صلاته، سواءٌ أدركت السهو، كأن يقع سهوه بزيادة في ركعةٍ خامسة، أو يقع سهوه بزيادة سجدة في الركعة الرابعة، وقس على هذا، أم لم تدرك السهو، كأن يكون في الركعة التي لم تدركه فيها قد زاد شيئاً، فحينئذٍ للعلماء وجهان: قال بعض العلماء: تثبت في مكانك وتسجد معه بعد سلامه دون أن تسلم، وهذا إذا علمت أنه سيسجد، كأن تكون قد اطلعت على زيادته، فتثبت في مكانك ولا تقوم للإتمام، وذلك لأنك مطالب بالمتابعة، وإنما تنفصل عنه بعد سلامه الكلي لا سلامه الجزئي الذي يكون قبل إتيانه بسجدتي السهو، فتثبت في مصلاك، ثم تكبر وراءه ساجداً السجدتين لمكان المتابعة، ولا يضر وقوع هاتين السجدتين قبل إتمامك للصلاة؛ لأن النص استثناهما بالأمر بالمتابعة.
الوجه الثاني يقول: تقوم وتتم لنفسك، ثم بعد سلامك تقضي ما فاتك من السجدتين.
وكلا الوجهين صحيح، فلو أنك انتظرت وسجدت معه ولكن لم تسلم فلا حرج، ولو أنك -وهو أقوى وأولى- قمت بعد سلامه مباشرة لقوله صلى الله عليه وسلم: (وما فاتكم فأتموا) فحينئذٍ لا حرج عليك، وتسجد سجدتي الزيادة بعد سلامك من الصلاة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(53/16)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [3]
السنن الراتبة التي تصلى قبل الصلوات المفروضة وبعدها من أفضل صلاة التطوع، وقد شرعت لحكم عظيمة، منها: الاستعداد لأداء الفريضة، وجبر النقص الواقع في الفريضة، وهي ركعتان قبل الفجر وأربع قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء، ومن فاته شيء منها سن له أن يقضيه.
ومن أفضل صلاة التطوع صلاة الليل، وخاصة في الثلث الأخير منه.(54/1)
السنن الراتبة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ثم السنن الراتبة].
السنن الراتبة: مجموعةٌ من الصلوات ثبت في الشرع الحث والحض عليها، وسميت راتبة؛ لأن الشرع رتبها، وهذه السنن الراتبة تفعل مع الفرائض إما قبل، وإما بعد، وإما قبل وبعد، ولذلك قسّم الشرع هذه السنن بهذا الترتيب، فجعل لبعض الصلوات المفروضة سنناً قبلها ولم يجعل لها شيئاً بعدها كالفجر، وجعل لبعضها سنناً بعدها ولم يجعل لها سنناً راتبة قبلها كما في المغرب والعشاء، فإن السنة الراتبة فيهما بعد وليست قبل، وجعل للظهر سنة راتبة قبل وسنة راتبة بعد، وجعل لبعض الصلوات رواتب ولم يجعل لبعض الصلوات لا قبلية ولا بعدية على سبيل الترتيب وهي العصر، وإن كان للعصر سنة عامة، وهي داخلة في السنن العشرين، فهناك السنن العشر الراتبة التي ذكرت هنا، وبعضهم يجعلها اثنتي عشرة ركعة على تفصيل سنذكره، وهناك السنن المطلقة التي رتبت لكن لم تكن على سبيل التقييد بالوصف الذي ذكرناه، ويجعلونها عشرين ركعة، وهي: الأربع قبل الظهر والأربع بعدها، والأربع قبل العصر، والأربع بعد المغرب، والأربع بعد العشاء، فهذه عشرون ركعة وردت بها الأحاديث وصحت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(54/2)
حكمة مشروعية السنن الراتبة
والسنن الراتبة هذه شُرعت لفضائل وحكم عظيمة؛ فإن المصلي إذا دخل إلى الفريضة مباشرة يكون في حالة أدنى من الخشوع والخضوع واستحضار القلب مما لو سبق الفريضة بسنة قبلية، كما هو الحال في صلاة الظهر، فإن الناس في الظهر يكونون على عناء العمل وشظف طلب العيش، فإذا دخلوا إلى الصلاة وهم حديثو عهد بالتجارات ونحوها فإنهم يكونون أقل خشوعاً مما لو قدموا بسنة ثم دخلوا الفريضة بعد السنة، فإن الطاعة تشرح الصدر وتيسر الذكر، وهذا محفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما أراد أن يقوم الليل عليه الصلاة والسلام استفتح بركعتين خفيفتين، قالوا: لأن هذا الاستفتاح يهيئ النفس للإطالة، وللاستحضار وللخشوع، فكان في السنة الراتبة نفس المعنى، وهذا مجرب في الشخص الذي يأتي متأخراً في الصلوات، أو يأتي مع الإقامة، فإنه إذا دخل لا تجده في الخشوع كحالته حين يدخل بين الأذان والإقامة فيصلي الراتبة ويذكر الله، فإن الحسنة تدعو إلى أختها، فتجده بعد انتهائه من الراتبة أشرح صدراً وأكثر طمأنينة في قلبه، فهذا يقوّيه على فعل الفريضة بنفس أقوى وحضور أبلغ، وهذا إذا كانت الراتبة قبلية، وكذلك الحال إذا كانت بعدية، فإن فيها كمال خضوع وكمال تعلق بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الرواتب ليست بواجبة، فكونه بعد فراغه من الفريضة يتعلق بربه سبحانه وتعالى وينيب إليه بقيامه بهذه الصلاة الراتبة البعدية فهذا فيه كمال ذكر وكمال إنابة إلى الله عز وجل أبلغ مما لو انصرف إلى أمور دنياه بعد انتهائه من فريضته.(54/3)
عدد السنن الراتبة
ثبت عن عبد الله بن عمر في الصحيح أنه حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر.
فهذه في الأوصاف خمس ركعتان ركعتان، وعددها عشر، وهي ثابتة وصحيحة.
وحمل بعض العلماء هذه الرواتب على حديث أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله في كل يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً)، وفي رواية: (بني له بيت في الجنة)، قالوا: إنها هي الرواتب.
وأضافوا إليها الأربع قبل الظهر، فتكون أربعاً قبل الظهر وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، فيكون المجموع ثنتي عشرة ركعة.(54/4)
مسائل في راتبة الفجر
المسألة الأولى: أفضل هذه الرواتب وآكدها راتبة الفجر، وهي التي تسمى بالرغيبة، وكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه أنه يصليها ويخفف فيها صلوات الله وسلامه عليه، حتى كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (لا أدري أقرأ فيهما بفاتحة الكتاب أو لم يقرأ).
وقال بعض أهل الظاهر وبعض أهل الحديث: إنه لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب والصحيح أنه يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما صلاةٍ)، وقولها: (لا أدري) لا يعتبر نافياً للأصل، ولذلك يبقى على الأصل، ويحمل قولها: (لا أدري) على التجوّز؛ فإن قول عائشة لا يقوى على معارضة النص بالإلزام بالفاتحة.
وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقوم الليل فإذا بلغ السحر أوتر، ثم يترك السحر للاستغفار والراحة عليه الصلاة والسلام، فإن كانت له حاجةٌ إلى أهله فعل، وإن كانوا مستيقظين حدّثهم صلوات الله وسلامه عليه حتى يؤذن المؤذن بالصبح، ثم يصلي ركعتين وهما رغيبة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن صلوات ربي وسلامه عليه، قال العلماء: إنما اضطجع على شقه الأيمن لأجل أن يرتاح من قيام الليل وعناء الليل.
فقد كان يقوم حتى تفطرت قدماه صلوات الله وسلامه عليه، فكان يضطجع هذه الضجعة على شقه الأيمن، ولا ينام فيها، وإنما هي ضجعة، ولذلك سنّ فعل هذه الضجعة لمن قام آخر الليل، أما من كان نائماً ثم أذن عليه الصبح فإنه لا يعتبر فيه المعنى الذي كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثبت عنه أنه قرأ في ركعتي الفجر بسورتي الإخلاص، وقرأ فيهما آيتين: أولاهما من البقرة وهي قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، والثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ.
} [آل عمران:64]، فهذا بالنسبة لهديه عليه الصلاة والسلام في القراءة فيها، وكان يخفف فيهما عليه الصلاة والسلام، ويتجوّز فيهما، ولكن مع إتمام الأركان من الركوع والسجود.
المسألة الثانية: السنة في هذه الرغيبة أن تقع بين الأذان والإقامة، فإذا أقيمت الصلاة فلا يجوز فعلها بعد الإقامة، ووردت في فعلها بعد الإقامة بعض الأحاديث الضعيفة، ولا تصلح للاستمساك بها في معارضة النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، وهذا النص ورد في صلاة الفجر، ولذلك لما رأى رجلاً يتنفل بركعتين بعد الإقامة، قال: (يا هذا! بأي الصلاتين اقتديت: أبصلاتك معنا، أم بصلاتك وحدك؟!)، وفي الحديث الآخر عن أنس قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاً)، فلا وجه لإنشاء هاتين الركعتين بعد الإقامة، أما لو أقيمت الصلاة وأنت في الرغيبة فأنت على حالتين: فإن كنت قريباً من السلام، أو تستطيع أن تتمها وتدرك الإمام قبل تأمينه حتى تحصل فضيلة التأمين فحينئذٍ تتم، على ظاهر قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].
وأما إذا غلب على ظنك فوات الركعة فإنك تقطع الرغيبة، ويكون قطعك بالسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، وإذا قطعتها بسلام كتب لك الأجر كاملاً؛ لأنك قطعت بعذرٍ على صورةٍ شرعية، فيكون تسليمك في موضعه، كأنك سلمت من الصلاة بعد كمالها في الحكم من ناحية الفضل، أما إذا قطعتها بدون تسليم فإنه لا يكون لك أجر العمل السابق، وذلك لأنه بمثابة الإلغاء للركعتين.
وكان عليه الصلاة والسلام لا يدع هاتين الركعتين حضراً ولا سفراً، بل كان عليه الصلاة والسلام إذا نام عن صلاة الفجر قضى هاتين الركعتين قبل أن يفعل صلاة الفجر، ففي الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه أنه لما عرّس عليه الصلاة والسلام ونام عن صلاة الفجر هو وأصحابه في الوادي، في مقفله إلى المدينة، وقام وقد ارتفعت الشمس أمر بلالاً فأذن، فصلى ركعتين -وهما رغيبة الفجر- ثم أمره فأقام فصلى الصلاة.
وفي هذا دليل على مسائل: الأولى: أنه يجوز لك أن تتنفل قبل أن تفعل الفرض إذا كان وقت قضاء الفرض موسعاً، ومن هنا تخرّج قول من يقول: يجوز أن يصوم ستاً من شوال ثم يقضي رمضان بعد ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ من نومه كان في الأصل مخاطباً بصلاة الفجر، وفي ذمته فريضةٌ هي صلاة الفجر، فاشتغل بالنافلة قبل القضاء؛ لأن الصورة صورة قضاء، فكذلك يجوز لك أن تشتغل بالنافلة بستٍ من شوال مع تعلق الذمة بقضاء رمضان لمكان التوسع في القضاء.
المسألة الثالثة: أن قضاء الفجر موسع إذا كان بعد طلوع الشمس، ووجه ذلك أنه يجوز لك أن تؤخر القضاء، وذلك لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه تحول من الوادي إلى موضع آخر وقال: (إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، وصلى رغيبة الفجر وهذا نوع تأخير، فأخذ منه بعض العلماء دليلاً على أن من استيقظ بعد طلوع الشمس وكان عنده أمرٌ ضروري واحتاج أن يفعله مع أنه عازمٌ على أن يفعل الصلاة بعد انتهائه من هذا الأمر ما لم يدخل وقت الظهر فلا حرج عليه في ذلك، على ظاهر هذا الحديث، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل من الوادي لكونه حضره فيه الشيطان، وهذا على سبيل الفضل وليس على سبيل اللزوم والوجوب، ولذلك أجمعوا على أن من نام في موضعٍ لا يجب عليه أن يتحول عن ذلك الموضع ليصلي.
المسألة الثالثة: لو فرض أنك استيقظت على قربٍ من طلوع الفجر، بحيث لو صليت الرغيبة خرج وقت الفجر وطلعت الشمس فحينئذٍ يجب عليك أن تبتدئ بالفجر، وأن تلغي ركعتي الرغيبة وتجعلهما من بعد طلوع الشمس.
المسألة الرابعة: أنه يُسنّ قضاء رغيبة الفجر، وقضاء رغيبة الفجر لا يخلو من حالتين: إما أن لا يمكنك أن تصليها قبل الفجر، كأن تستيقظ عند الإقامة، فتأتي ولا يمكنك أن تصلي قبل صلاة الفجر، أو تخشى فوات الجماعة، ففي هذه الحالة هل بعد سلامك مع الإمام تقوم وتأتي بالرغيبة، أو تنتظر إلى طلوع الشمس؟ فأقوى ما دلت عليه النصوص أن تنتظر إلى طلوع الشمس؛ لورود المعارض من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس) كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
فإن صليت بعد الفجر ففيها أحاديث اختلف في أسانيدها، وإن كان تحسينها مقبولاً عند جمع من المحققين رحمة الله عليهم، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر من قضى ركعتي الفجر بعد صلاة الفريضة.
والأفضل والأولى أن تصلي بعد طلوع الشمس، لكن إذا كان عند الإنسان عمل، أو غلب على ظنه أنه لو أخر القضاء إلى بعد طلوع الشمس فربما لا يتمكن من القضاء لوجود المشاغل، فحينئذٍ لا حرج عليه أن يصليها بعد صلاة الصبح، ولكن بشرط أن لا يكون ذلك في حال طلوع الشمس؛ فإنه في حال طلوع الشمس لا يجوز إيقاع النوافل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة)، وثبت في الحديث الصحيح: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا، ثم ذكر منها: إذا طلعت الشمس)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا طلعت فأمسك عن الصلاة؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)، فهذا بالنسبة لرغيبة الفجر وما فيها من أحكام.(54/5)
راتبة الظهر
قال رحمه الله: [ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها].
السنة أن تصلي أربعاً قبل الظهر، وهي المذكورة في الحديث: (من حافظ على أربع قبل الظهر حرمهُ الله على النار)، وهذا فيه فضل، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى قبل الظهر أربعاً، وسألته أم المؤمنين فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عملٌ صالح)، قال بعض العلماء: إن مراد عائشة: بقبل الظهر أي: فيما بين الأذان والإقامة، أي: قبل فعله لصلاة الظهر، وقال بعض العلماء: (قبل الظهر) أي: وقت الضَحَى، أي: قبل أن يدخل وقت الظهر، وكلاهما وجهان للعلماء.(54/6)
التنفل قبل الجمعة
الركعتان اللتان هما قبل الظهر في غير الجمعة، أما في الجمعة فليس للجمعة قبلية، وإنما يسن لك إذا مضيت إلى الجمعة أن تتنفل، وأن تستكثر من النوافل؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل التبكير إلى الجمعة أنه قال: (من غسّل واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ثم صلى ثم دنا وأنصت ... ) الحديث، قالوا: فقال: (صلى)، فدل على أن الأفضل أنك إذا دخلت المسجد في الجمعة أن تستكثر من الصلاة، حتى يأتي وقت الخطبة، ولا حرج عليك أن تصلي في حال الأذان الأول أو بين الأذان الأول والثاني، فهذا لا حرج فيه، لكن لو كنت جالساً وقصدت أن تصلي بين الأذان الأول والثاني فحينئذٍ للعلماء وجهان: قال فقهاء الشافعية: لا حرج -أو يسن- أن يصلي بين الأذان الأول والثاني.
واستدلوا لهذا بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (بين كل أذانين صلاة)، قالوا: والأذان الأول أذان مشروع؛ لأنه سنةٌ راشدة ثبت النص باعتبارها؛ لأنه فعلها عثمان، وعمل السلف الصالح رحمة الله عليهم بها دون أن ينكرها أحد، وأجمعت الأمة على هذا الأذان الثاني.
ومن قال: إنه بدعة فقوله لم يسبق إليه، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له؛ فإن هذه السنة فعلها خليفة راشد أمر باتباعه، وعلماء الأمة كلهم ليس فيهم واحد يقول: إنها بدعة، فلا شك أنه أمرٌ من السنة بمكان، وأثرٌ يتعين اقتفاؤه ولزومه، ولا شك أن اعتبار قول هذه الطائفة من المؤمنين التي تتابعت جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل أنه أولى وأحرى من حيث الأصل في الأذان الثاني، ولا يحكم ببدعيته في أي زمان، وذلك لأن السلف الصالح رحمة الله عليهم أقروا ذلك، ولم ينكروه، ولم يوجد عالم من علماء السلف رحمة الله عليهم يقول: إن الأذان الثاني بدعة، إنما هو سنة ثابتة، ولا إشكال في ثبوتها، وأما قصد الصلاة فقلنا: إن بعض فقهاء الشافعية يرى ذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين)، قالوا: الأذان الأول ثبتت مشروعيته بالسنة؛ لأن الشرع وصف سنة الخلفاء الراشدين بكونها سنة، فإذا ثبت أنه أذان مسنون، وأجمعت الأمة على اعتباره فإنه يصدق عليه ظاهر الحديث: (بين كل أذانين صلاة).
وقال الجمهور: إنه لا يسن التنفل بين الأذان الأول والثاني.
وهذا هو الأرجح بمعنى: لا يسن أن يقصد الإنسان التنفل قصداً، لكن لو أنك قمت تصلي وأطلت الصلاة بحيث استغرقت الأذان الأول ووقعت صلاتك بين الأذان الأول والثاني اتفاقاً لا قصداً فإن ذلك مشروع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فصلى ثم دنا وأنصت)، فإن قوله: (فصلى ثم دنا وأنصت) يدل على مقاربة الصلاة للخطبة، ولذلك قالوا: إنه وقت فضيلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى الاستكثار من النافلة يوم الجمعة، وقال: (فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي ... ) الحديث، قالوا: فهذا يدل على أن الشرع قصد الاستكثار من النافلة في هذا اليوم، وبناءً على ذلك لا حرج أن يستطيل الإنسان في قيامه حتى يصيب هذا الفضل، ويخرج أيضاً من الخلاف، ولا شك أن مذهب الجمهور، أنه لا يسن قصد فعل ركعتين بين الأذان الأول والثاني، أما فعل النوافل المطلقة فلا حرج.
وبناءً على ذلك يكون قوله: (ركعتان قبل الظهر) في الأصل في الظهر، وعلى هذا فالمريض لو ترك الجمعة شُرِع له أن يصلي قبل ظهره ركعتين وأربعاً على الصورة التي ذكرناها.(54/7)
راتبة المغرب
قال رحمه الله: [وركعتان بعد المغرب].
قد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما، وكان يفعلهما في بيته صلوات الله وسلامه عليه، فيدخل إلى بيته ويصلي هاتين الركعتين بعد صلاة المغرب، والتنفل بعد صلاة المغرب جعله بعض العلماء من قيام الليل، وإن كان الصحيح أنه ليس من قيام الليل، وحملوا عليه قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، قالوا: إنها نزلت في جمع من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا فرغوا من أعمالهم في المغرب أصابهم الجهد والنصب، فإذا صلوا المغرب قاموا يتنفلون حتى يقووا على الصبر والمكابدة إلى صلاة العشاء، فأنزل الله فيهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، وعدّ -كما ذكرنا- بعض العلماء هذا الوقت وقتاً من قيام الليل.
والصحيح أن قيام الليل إنما يبتدئ بعد صلاة العشاء على الأصل الذي دلّت عليه النصوص من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(54/8)
راتبة العشاء
قال رحمه الله: [وركعتان بعد العشاء].
هذه سنة بعدية، فتجتمع العشاء والمغرب في كون كل منهما السنة فيها بعدية، ولكن كان عليه الصلاة والسلام إذا جمع بين صلاة المغرب والعشاء بجمعٍ لم يسبح بينهما، كما في حديث ابن عمر في الصحيحين: (أنه -عليه الصلاة والسلام- جمع بين المغرب والعشاء ولم يسبح بينهما)، وهذا أصل عند العلماء، وهو أن السنة الراتبة تترك في السفر، وهكذا بالنسبة للظهر؛ حيث ثبت في حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزل وصلى بالمحصب -وذلك حينما ركزت له العنزة- لم يتنفل قبل الظهر.
والركعتان بعد العشاء راتبة، وتقدم على التراويح، وإن أخر العشاء فإنه يؤخر راتبة العشاء بعده، فإذا أخرها إلى آخر وقتها لكي يصيب فضيلة تأخير العشاء كما في حديث عائشة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتم بالعشاء، فخرج عمر يقول: الصلاة يا رسول الله! فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي)، فإذا طلب الإنسان هذه الفضيلة وأخر العشاء إلى آخر وقتها فإنه يجعل كذلك الراتبة مؤخرة، فراتبة العشاء تكون بعدية في الصورة والحقيقة، فلا تقع راتبة العشاء بمجرد دخول وقت العشاء، فهي راتبة بعدية.(54/9)
تأكد راتبة الفجر على غيرها
قال رحمه الله: [وركعتان قبل الفجر وهما آكدها].
أي: هاتان الركعتان آكدهما وذلك للأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان فضل هاتين الركعتين، حتى قال في الحديث الحسن: (لهما أحب إليّ من الدنيا وما فيها)، أي: هاتان الركعتان رغيبة الفجر القبلية، وقال في اللفظ الآخر: (ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها)، وجاء في الحديث الثالث -وإن كان ضعفه من القوة بمكان-: (لا تتركوها ولو طلبتكم الخيل)، وفُهِم تأكدهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركهما حتى في السفر، كما ذكرنا في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه أنه لما فاتته عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر قضى هاتين الركعتين وحافظ على قضائهما، فدلّ على تأكدها، وهذا يدل على عظيم شأنها وفضيلتها.(54/10)
حكم قضاء الفوائت
قال رحمه الله: [ومن فاته شيء منها سن له قضاؤه].
أي: من فاته شيءٌ من هذه السنن سنّ له قضاؤه؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى، فيسن لك -مثلاً- أن تقضي راتبة الظهر القبلية، فإذا دخلت والإمام قد دخل في الصلاة فإنك تدخل معه، وبعد السلام تقوم وتصلي ركعتين تنوي بهما القبلية إن كانت قبليتك اثنتين، وإن كانت قبليتك أربعاً فتقضي أربعاً، وهكذا الحال لو نسي الإنسان راتبة المغرب، فإنه حينئذٍ لو تذكرها بعد العشاء شرع له أن يصليها.
وقال بعض العلماء: إنه لا حرج في تداخل الصلوات، بمعنى أن يجعل الراتبة البعدية من الأولى تُصلى قبل الراتبة البعدية من الثانية، ومثال ذلك: صلاة العشاء والمغرب، فقال بعض العلماء: لا حرج أن تؤخر راتبة المغرب إلى ما بعد العشاء، فتصلي راتبة المغرب أولاً ثم راتبة العشاء ثانياً.
والذي يظهر أن هذا ليس من السنة إذا قصده قصداً، لكن لو أنه شُغِل ونسي، أو جاءه شغل لا يستطيع معه أن يصلي الراتبة فأخرها إلى ما بعد العشاء فصلاها ثم صلى راتبة العشاء فإنه لا حرج عليه في ذلك.(54/11)
صلاة الليل وأفضل وقتها
يقول المصنف عليه رحمة الله: [وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار].
فبعد أن ذكر رحمه الله النوافل التي يسن للمكلف فعلها، وبيّن أنواع هذه النوافل من حيث ما تسن له الجماعة وما يوقعه المكلف حال انفراده شرع رحمه الله في بيان فضل صلاة الليل، فإن أفضل النوافل وأحبها إلى الله عز وجل وأعظمها أجراً صلاة الليل، وهذا بالنسبة للمقابلة بين صلاة الليل والنهار، والأصل في تفضيل صلاة الليل على صلاة النهار ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل)، وقد امتدح الله عز وجل أهل الليل الذين يتهجدون، خاصةً إذا كان تهجدهم في دياجير الظلمات، أعني الثلث الأخير من الليل، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه انتهى وتره إلى السحر)، فكان قيامه أكمل القيام، وإحياؤه الليل أكمل الإحياء.
وقد جاءت الآيات في كتاب الله عز وجل والأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبيّن فضل قيام الليل، وأنه لا يحافظ عليه إلا مؤمن يخاف الله ويرجو رحمته، قال الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ} [الزمر:9]، قال العلماء: في هذه الآية دليل على أنه لا يحافظ على قيام الليل إلا من خاف الله عز وجل ورجا رحمة الله سبحانه وتعالى، وأكد الله هذا المعنى بقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16].
وفي قيام الليل الفضائل والنوائل، ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، أي: مقاماً يحمدك عليه الأولون والآخرون.
وهذا إنما ذكره الله بعد أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن قيام الليل دأب الصالحين وشأن عباد الله الأخيار المتقين، كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين من قبلكم)، فدلت هذه النصوص من كتاب الله عز وجل وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم على فضيلة قيام الليل، ونظراً لكون قيام الليل فيه المشقة وفيه العناء وفيه الجهد أثنى الله عز وجل عليه، وأخبر أنه أجلّ وأكرم، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، وناشئة الليل إنما تكون بعد الليل وبعد الضجعة، فأفضل قيام الليل ما كان في آخر الليل، وكان بعد نوم وهجود، فحينئذ يصدق على الإنسان أنه متهجد، والسبب في هذا أنه إذا اضطجع ونام وذاق لذة النوم والكرى فإنه لا ينبعث من فراشه إلا بقوة إيمان وخشية لله عز وجل ورجاء في رحمته، وفي الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا قام من الليل يتهجد من بين زوجه وحِبّه قال الله: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حِبّه وزوجه؟ قالوا: إلهنا: يرجو رحمتك ويخشى عذابك.
فيقول الله: أشهدكم أني قد أمنته من عذابي وأصبته برحمتي)، فقيام الليل فيه فضلٌ عظيم.
وإنما قال العلماء بتفضيله لورود النصوص في الكتاب والسنة بالثناء على أهله وبيان عظيم فضله، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: أفضله وأكمله أن يكون في آخر الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الدعاء أسمع في آخر الليل، وأن أفضل ما يكون من الصلاة في جوف الليل الآخر، فقال عليه الصلاة والسلام يخاطب الصحابي: (إن أحببت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)، أي: إن أحببت واستطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن.
أعني: الثلث الأخير من الليل.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ يسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه)، فهذا فضلٌ عظيم، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن أفضل قيام الليل الثلث الآخر، ولكنهم استحبوا أن يكون السحر للاستغفار، والسحر يوافق سدس الليل الأخير، فيجعل ما قبل السدس للتهجد والعبادة وتلاوة القرآن تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم ثلث الليل الآخر، فكان يصلي ما شاء الله له أن يصلي، ثم إذا فرغ جعل بينه وبين صلاته وأذان الفجر وقتاً كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولذلك قال العلماء: الأفضل في آخر الليل -أعني السدس الأخير من الليل- أن يتفرغ للاستغفار، حتى قال بعض العلماء: هو أفضل من تلاوة القرآن؛ لأن الله يقول: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، فأثنى على من استغفره سبحانه في هذا الوقت -أعني السحر-، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الله تعالى ينزل في كل ليلة في الثلث الآخر من الليل)، كما ثبت في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام، ولذلك استحب العلماء أن لا يصل قيام الليل إلى السحر، وإنما يكون وتره عند ابتداء السحر، وهذا أفضل الهدي وأكمله؛ لما فيه من الراحة للنفس قبل الفجر، فإنه إذا جلس للاستغفار هدأت أعضاؤه وسكنت من عناء قيام الليل؛ لأن الإنسان بشر، وربما أنه لو واصل قيام الليل إلى الفجر ضعف عن الصلاة المفروضة ولم يخشع فيها، فكان مشتغلاً بفضل نافلة عن فضيلة فريضة، والفريضة أفضل من النافلة.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن قيام الليل أفضل من صلاة النهار تطوعاً.
قال رحمه الله: [وأفضلها ثلث الليل بعد نصفه].
أي: أفضل قيام الليل ثلث الليل بعد نصفه، أي: الثلث الآخر كما يعبر عنه العلماء رحمة الله عليهم.
قال العلماء: فضلت صلاة الليل على صلاة النهار من وجوه: أولها: ثناء الله على أهل هذه الصلاة في كتابه العزيز، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث.
ثانياً: لأنها صلاة خفية لا يعلمها إلا الله عز وجل، وذلك أن ساعة الليل ساعة تهدأ فيها العيون، وتسكن فيها الجفون، ولا يرقب فيها أحد أحداً، حتى إن الرجل ربما قام يصلي وأهله الذين هم أقرب الناس منه لا يشعرون بقيامه، ولذلك قالوا: لمكان الإخلاص وكون هذه العبادة خفية لا يعلمها أحد كانت أفضل من غيرها، بخلاف صلاة النهار، فإن الغالب فيها أن يطلع عليها الناس، وأن يعلم بها الناس.
ثالثاً: لأن الناس في الليل يحتاجون إلى النوم ويحتاجون إلى الراحة، فإن قام أول الليل فإنه يقوم بعد عناء وتعب ونصب وهو أحوج ما يكون إلى النوم، فكونه يؤثر الصلاة على النوم فذلك أبلغ ما يكون في العبادة والطاعة، وإن صلاها بعد نومه كان أبلغ وأبلغ؛ لأنه إذا ذاق لذة النوم والكرى وحلاوة الفراش ثم قام من ذلك كله فهو مؤثر مرضاة الله عز وجل.
فلأجل هذه الفضائل كلها فضلت صلاة الليل على صلاة النهار.(54/12)
كيفية تطوع الليل والنهار
قال رحمه الله: [وصلاة ليل ونهار مثنى مثنى].
أي: إذا صليت تطوعاً بالليل، أو صليت تطوعاً بالنهار فصلّ مثنى مثنى، أي: سلم من ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر -وأصله في الصحيحين-: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) فقوله: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، أخذ منه الإمام أحمد رحمة الله عليه وطائفة من أهل العلم أنه لا يسلّم المصلي من ركعةٍ واحدة في الليل والنهار إلا في الوتر.
ولذلك قال العلماء: من أراد أن يتطوع في النهار فلا يصلي ركعة واحدة إلا في الوتر، وأما في غير الوتر فإنه يسلم من اثنتين، وإن شاء سلم من أربع، وإن شاء سلم من ست، وإن شاء سلم من ثمان، فقالوا: إنما يسلم من شفع ولا يسلم من وتر؛ لما ذكرناه في الحديث السابق.
قال رحمه الله: [وإن تطوع في النهار بأربع كالظهر فلا بأس].
أي: لا حرج عليه، وأخذ العلماء هذا الحكم مما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (رحم الله امرأً صلى قبل الظهر أربعاً)، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأربع، وإن كان مذهب بعض العلماء أن هذا المطلق محمول على المقيد في قوله: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، ولكن أجيب بأن قوله: (مثنى مثنى) أي: يسلم من شفع، فتدخل الأربع في هذا، ولذلك لو صليت أربعاً وجلست في آخر الأربع فلا حرج وإن صليت أربعاً وجلست جلستين أو تشهدت تشهدين فلا حرج، على أصح أقوال العلماء، ولذلك قال: [كالظهر] أي: يصليها كالظهر.
وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم التشهد الأول في قيام الليل، كما في حديث عائشة: (يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن)، فقالوا: أسقط التشهد لكي يكون قيامه أطول، فكان يريد أن يجعل وقت التشهد لقراءة القرآن، وذلك أفضل؛ لقوله: (أفضل الصلاة طول القنوت).
ومن هنا قال العلماء: الأفضل إذا صليت أربعاً أن تصلها؛ لأن الوقت الذي تأخذه في الجلوس للتشهد ستستغله في قراءة القرآن؛ لأن طول القيام أفضل من وجود التشهد؛ لما ثبت في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئِل عن أفضل الصلاة؟ قال: (طول القنوت) أي: طول القيام بالقراءة.(54/13)
أجر صلاة القاعد
قال رحمه الله: [وأجر صلاة قاعد على نصف أجر صلاة قائم].
هنا مسألتان: الأولى: الأصل عندنا صلاتان: صلاةٌ مفروضة، وصلاة نافلة، فأما الصلاة المفروضة فمذهب جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم أنه لا يجوز لك أن تصليها قاعداً إلا من عذر.
وذهب الإمام داود الظاهري وأصحابه إلى أنه يجوز لك أن تصلي جالساً وأجرك على النصف من أجر القائم، وهذا إذا كان عندك العذر.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أنه لا يجوز لك أن تصلي الفريضة قاعداً إلا من عذر، فإن صليت قاعداً من عذر في الفريضة فأجرك كامل.
والإمام داود الظاهري ومن معه يقولون: يصلي قاعداً للعذر ويكون أجره على النصف.
فطبّقوا هذا الحديث على عمومه.
وأصح الأقوال في هذه المسألة أنك إن صليت في الفريضة قاعداً من عذر فأجرك كامل؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له عمله)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم شعباً ولا قطعتم وادياً إلا شركوكم في الأجر)، وقال هذا الكلام وهو في تخوم الشام صلوات الله وسلامه عليه في غزوة تبوك غزوة العسرة، فقالوا: (يا رسول الله! كيف وهم في المدينة؟ قال: حبسهم العذر)، فدلت هذه الأحاديث الصحيحة على أن المعذور أجره كامل، ولذلك إذا كان الإنسان مريضاً فصلى الفريضة قاعداً فإن أجره على الكمال والتمام.
المسألة الثانية: يجوز لك أن تصلي النافلة قاعداً، ويجوز لك أن تصليها قائماً، ولا إلزام في ذلك.
فإن صليت النافلة قاعداً وأنت قادرٌ على القيام انطبق عليك الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)، وذلك أن القعود أقل عناءً وأقل تعباً، ولذلك كان أجره على النصف من أجر القائم.
وجمهور العلماء على أن المراد بهذا الحديث النافلة لا الفريضة، خلافاً لـ داود الظاهري الذي يحمله على الفريضة في حال وجود العذر.
والصحيح أن هذا الحديث الذي يدل على أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم إنما هو في النافلة، فالإنسان مخيرٌ، فلو رأيت إنساناً -كما يفعله بعض الناس بعد صلاة الفريضة- كبّر للسنة وصلاها قاعداً فإنه لا ينكر عليه؛ لأنه مخيّر بين أن يصلي قائماً أو يصلي قاعداً، فإن صلّى قاعداً فأجره على النصف، إلا أنه إذا كان الإنسان معذوراً أو يشق عليه القيام فإن الأفضل له أن يجلس حتى إذا قارب الركوع قام ووقف وأتم قراءته ثم ركع، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه من طول القيام، وذلك لأنه أخذه اللحم صلوات الله وسلامه عليه في آخر عمره وبدن، فكان يثقل على بدنه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا طال القيام عليه كان عبء الجسد على القدمين حتى تتفطر، قالوا: تفطرها أن تتشقق كاللحم يتمزع عن بعضه من طول قيامه صلوات الله وسلامه عليه، فلما ثقل عليه طول القيام كان يصلي قاعداً، تقول عائشة: (حتى إذا بلغ مائة أو قدر مائة آية قام -صلوات الله وسلامه عليه- فأتمهن قائماً ثم ركع).
فهذا أفضل، فلو صليت في التهجد وكنت على تعب أو نصب وأردت أن تجلس فالأفضل أن تجلس حتى إذا قارب الإمام الركوع تقوم وتتم معه حتى تصيب فضيلة القيام ولو في بعض أجزاء ركن القيام.(54/14)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [4]
من الصلوات المسنونة: صلاة الضحى، فقد ورد في فضلها أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووقتها من بعد طلوع الشمس إلى قبل الزوال، ومن النوافل: صلاة الاستخارة، وصلاة الشروق، وصلاة الهم والحاجة، ويسن كذلك سجود التلاوة، وسجود الشكر.(55/1)
نوافل الصلاة(55/2)
صلاة الضحى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وتسن صلاة الضحى].
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلى صلاة الضحى، وصلاة الضحى هي إحدى الصلوات التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسميت بهذا الاسم من باب تسمية الشيء بزمانه الذي يقع فيه، كالأضحية سميت أضحية لأنها تذبح أضحى يوم النحر، فقالوا: صلاة الضحى من إضافة الشيء إلى زمانه، وهذه الصلاة جماهير السلف رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومنهم الأئمة الأربعة على أنها سنة، وقد ثبتت فيها الأحاديث الصحيحة، وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم ينكرون هذه الصلاة، ومنهم عبد الله بن عمر، فكان إذا رأى من يصليها في المسجد حصبه بالحصباء منكراً عليه وكأنه يراها بدعة، إلا أنه أجيب عن فعل ابن عمر هذا من وجهين: الوجه الأول: أن ابن عمر رضي الله عنهما يحتمل أنه لم يبلغه النص بثبوت صلاة الضحى، فرأى كأنهم يفعلون أو يتكلفون فعلاً لا أصل له، وقد كان حريصاً على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر على حسب علمه.
والوجه الثاني -وهو أقوى-: أن ابن عمر إنما أنكر على الناس قصدهم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الضحى، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف فعلها في المسجد، فحينئذٍ يكون كأنه يوافق في أصل المشروعية ولكن ينكر صفة الإيقاع، وقد يكون الشيء مشروعاً بأصله ولكنه غير مشروع بوصفه، ومن أمثلته هذا، فحمل إنكار ابن عمر رضي الله عنه على الناس أنهم تكلفوا المجيء إلى المسجد، مع أن صلاة الضحى تفعل في البيوت.
وقد ثبتت في صلاة الضحى أحاديث: منها ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يصبح على كل سلامى من الناس في كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة، فبكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى)، (فقوله: على كل سلامى) أي: مفصل، فهذه المفاصل الثلاثمائة والستون في الإنسان إذا أصبحت سليمة وأنت معافى بنعمة الله عز وجل ثبت أداء شكرها، فمن شكر هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك من سلامة أعضائك أن تفعل الخير، فتكثر من التسبيح والتحميد حتى تبلغ عدد هذه الأعضاء، فتسبح وتحمد وتكبر وتهلل، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعين الرجل على دابته فتحمل له متاعه عليها أو تحمله عليها، حتى تبلغ من الصدقات والنوافل قدر هذه النعمة التي أنعم الله عليك بها وهي الثلاثمائة والستون مفصلاً، فكأنها صدقة الأعضاء، فقال عليه الصلاة والسلام: (ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى)، وفي هذا دليل على فضيلة هاتين الركعتين اللتين بلغتا شكر نعمة الله عز وجل على سلامة البدن كاملاً، وهذا يدل على فضل الصلاة.
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى يقول: (يا ابن آدم! اكفني أربع ركعات أول النهار أكفك آخره)، أي: إن صليت أربع ركعات قربة ونافلة أول النهار كفيتك همّ يومك كله، سواء همّ دِين أم دنيا أم آخرة، فتكفاه إلى نهاية هذا اليوم بالأربع ركعات.
وكذلك ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه يوم الفتح اغتسل صلوات الله وسلامه عليه، وسترته فاطمة، فدخلت عليه أم هانئ يوم الفتح وهو يغتسل، فلما انتهى من الغسل التحف عليه الصلاة والسلام بردائه فكبّر وصلى ثماني ركعات)، ومذهب طائفةٌ من السلف أن المراد بها ركعات الضحى، ولذلك تسن هذه الصلاة.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بثلاث، ومنها صلاة الضحى.
فصلاة الضحى سنة، والأحاديث فيها صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (تسن) أي: فعلها سنةز واختلف العلماء: هل الأفضل أن يداوم عليها، أو يفعلها أحياناً ويتركها أحياناً؟ وأصح الأقوال -والعلم عند الله-: أن الأفضل المداومة عليها، وكونه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه داوم عليها لا يمنع المداومة عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دلّ على فضلها بالسنة القولية، وقد كان يترك فعل الشيء وهو يحب أن يفعله خشية أن يفترض على الأمة، مع أن عدم النقل لا يدل على عدم الوجود، ولهذا الأفضل أن يداوم على ركعات الضحى.
قال رحمه الله تعالى: [وأقلها ركعتان وأكثرها ثمان].
هذه الركعات أقلها ركعتان، وأكثرها فيه للعلماء وجهان: فقيل: ثمان ركعات.
وقيل: اثنتا عشر ركعة.
وهو الأقوى.
أما كونها تصلى ركعتان فلما ثبت في حديث أبي هريرة: (ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى).
وأما كونها تصلى أربعاً فلما ثبت في الحديث الصحيح الذي ذكرناه: (ابن آدم اكفني أربع ركعات من أول اليوم أكفك آخره).
وأما كونها تصلى ست ركعات فلحديث أنس -وقد ذكره الترمذي في الشمائل-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ست ركعات).
وأما كونها تصلى ثماني ركعات فلما ثبت في الصحيح من حديث أم هانئ: (أنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وفاطمة تستره بثوب وهو يغتسل، وفيه قالت: فالتحف، ثم صلى ثماني ركعات)، وحديث أم هانئ هذا فيه وجهان للعلماء: فبعض العلماء يقول: هي صلاة الضحى.
وكانت أم هانئ تفعل ذلك، وكان ابن عباس لا يرى الضحى، حتى دخل على أم هانئ فوجدها تصليها فاعتبر صلاة الضحى لما رآها تصلي هذه الثمان.
فمذهب طائفة أن هذه الصلاة صلاة الضحى.
وهناك وجه ثانٍ أن هذه الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يوم الفتح إنما هي صلاة الفتح، صلاها شكراً لله عز وجل أن فتح له مكة، وبلّغه هذا اليوم الذي أعزّ فيه جنده وأعلى فيه كلمته ونصر فيه عبده، فكانت شكراً لله على الفتح، ولذلك لما فتح سعد بن أبي وقاص إيوان كسرى صلى فيه هذه الثمان الركعات، كانوا يستحبون لأمراء الجيوش والقادة أن يصلوها عند الفتح شكراً لله عز وجل على الفتح، فهذا أحد الوجهين فيها، وعلى القول بأنها صلاة الضحى تصبح صلاة الضحى ثماني ركعات.
وتصلى اثنتي عشرة ركعة، وفيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى ركعتين كان من العابدين ... ) الحديث، وذكر فيه من صلى اثنتي عشرة ركعة.
ولذلك قالوا: أقل الضحى ركعتان وأكثر الضحى اثنتا عشرة ركعة.
وقيل: ثمان.
وقيل: يصلي ما شاء الله.
وفي هذا حديث أم المؤمنين عائشة: (أنها لما سُئِلت عن صلاة الضحى قالت: (كان يصلي أربعاً، ويزيد ما شاء الله)، فهذا يدل على أن فيها أدنى الكمال وأعلى الكمال.
فأفضل ما يكون أن تصلى اثنتي عشرة ركعة، وحملوا عليه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله في يومٍ ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة)، فحملوه على هذه الركعات التي تكون في صلاة الضحى.(55/3)
وقت صلاة الضحى
قال رحمه الله: [ووقتها من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال].
قوله: (ووقتها) الضمير عائد إلى صلاة الضحى، فبعد أن عرفنا أنها سنة وعرفنا عدد ركعاتها، يجئ الكلام على وقتها.
فوقتها يبتدئ بابتداء وقت صلاة العيد، ويكون بعد انتهاء وقت النهي، ووقت النهي يبتدئ بصلاة الفجر، ويستمر من بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، ثم من بعد الطلوع حتى ترتفع قيد رمح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة عيد الأضحى صلاها والشمس على قيد رمح، ولما صلى صلاة عيد الفطر صلاها والشمس على قيد رمحين، فعجّل الأضحى وأخر الفطر، فعجّل الأضحى لأن الناس تحتاج إلى وقت الضحى من أجل الأضحية، فعجّل صلاة الضحى وأوقعها بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، وأخّر صلاة الفطر لأن الناس يحتاجون لهذا الوقت من أجل إخراج زكاة الفطر حتى تكون زكاة مقبولةً إن شاء الله، فأول وقت الجواز بعد طلوع الشمس حين ترتفع قيد رمح، فهذا هو وقت بداية صلاة الضحى، ثم ينتهي وقت صلاة الضُّحى في الضَّحى، أي: في دخول وقت الضَّحى، فهناك وقت يسمى وقت الإشراق، وهو ما بعد طلوع الشمس بقيد رمح، ثم يدخل وقت الضُّحى، وذلك عند تجلي الشمس بارتفاعها، وهناك وقت الضَّحى، وهو ما قبل الزوال بما يقرب من ساعة ونصف إلى ساعتين إلا قليلاً، وهو الذي ورد فيه الحديث الصحيح: (فنرجع إلى بيوتنا -يعني يوم الجمعة- فنقيل قائلة الضَّحى)، فالضَّحى ما قبل الظهر بقرابة ساعتين إلا ربع فما دون، فهذا الوقت يسمى، وقت الضَّحى، أي: قرب الزوال.
فإذا دخل وقت الضَّحى -أي: قبل صلاة الظهر بساعة ونصف إلى ساعتين إلا قليلاً- فهذا الوقت ينتهي فيه وقت صلاة الضُّحى.
ثم إن هذا الوقت الذي هو وقت صلاة الضُّحى فيه وقت فضيلة، فأفضل أوقات صلاة الضُّحى إذا ارتفعت الشمس قليلاً، أي: بعد ارتفاعها قيد رمح، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه: لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أوّاب.
وقد قال الله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، فالذي يحافظ على هذه الصلاة أوّاب، وعندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة قال: (صلاة الأوّابين حين ترمض الفصال)، كما في الصحيح.
أي: صلاة الضحى.
,الفصال: جمع فصيل، وهو ولد الناقة الصغير، ومعنى: (تمرض) أي: يدركها حرّ الرمضاء.
فالفصيل يسرح بجوار أمه حتى إذا ارتفعت الشمس وابتدأ وهيج الشمس دخل تحت أمه، أو أوى إلى ظل الشجر، فهذا الوقت -الذي هو ما بعد طلوع الشمس إلى ساعتين، أو ساعتين وقليل- هو أفضل أوقات صلاة الضحى، والسبب في فضله ما ذكره العلماء في كلامهم على حديث مسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، حيث قالوا: إنما فُضّل هذا الوقت لأنه وقت غفلة.
ولذلك أشد ما تكون عليه السوق في هذا الوقت، فالناس مشتغلون بالتجارة ومشتغلون بالبيع والشراء، ومشتغلون بمصالحهم وأمورهم الدنيوية، ثم إنك قلّ أن تجد فراغاً في هذا الوقت، فكون الإنسان يعرض عن لغط الدنيا في ساعة غفلة الناس فهذا من أبلغ ما يكون في القربة إلى الله، كصلاة الليل إذا نام الناس وهجدوا فضلت لإعراض الناس عن العبادة سكوناً إلى الراحة وخلوداً إليها، كذلك أيضاً في حال الغفلة، فلما غفل الناس في أول النهار بطلب معايشهم وطلب أمورهم كان وقت الفضيلة عند اشتداد النهار قبل الضَّحى، فهذا هو أفضل الأوقات، وكلما تأخّر قليلاً إلى ما قبل الضَّحى كان أبلغ، إلا أنه إذا كان الإنسان يخشى الانشغال فليصلها في أول وقتها ولا حرج عليه، وكان بعض العلماء يستحب أن تكون في أول اشتداد النهار؛ لقوله: (يا ابن آدم اكفني أربع ركعات من أول النهار)، فقالوا: كلما قرب من أول النهار كان ذلك أفضل وأكمل.(55/4)
نوافل لم يذكرها المصنف
وهناك نوافل أخرى لم يذكرها رحمة الله عليه ورضوانه، ومن هذه النوافل ركعتا الوضوء، وفيها أحاديث صحيحة:(55/5)
ركعتا الوضوء
منها: حديث عثمان رضي الله عنه، فعن حمران مولى عثمان أن عثمان دعا بطهور، فتوضأ فأكفأ على يديه، فغسلهما ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً -أي: توضأ وضوءاً كاملاً، وهو وضوء الإسباغ-، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه)، فهذا يدل على فضيلة ركعتي الوضوء.
ومنها: حديث بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إني سمعت خشخشة -أو دف- نعليك في الجنة، فأخبرني عن أرجى عمل عملته؟ قال: يا رسول الله! ما أحدثت إلا توضأت، ولا توضأت إلا صليت ما كتب لي)، قالوا: فلذلك يحافظ الإنسان على ركعتي الوضوء.
وقال بعض العلماء رحمة الله عليهم: الأفضل في ركعتي الوضوء أن تكون بعد الوضوء مباشرة، حتى قال بعض العلماء: قبل أن تجف الأعضاء؛ لما فيه من وصل الطاعة بالطاعة.
وهذا أبلغ ما يكون في القربة والانكسار لله عز وجل، حتى لا يدخل بينهما غيبة ونميمة، أو شيء من أمور تغفل قلبه عن ذكر الله؛ لأنه بمجرد انتهائه من الوضوء تتحات عنه الذنوب، فيكون أشرح صدراً، فربما لو أخرها اغتاب أحداً أو وقع في محرم فصرف عن الخشوع، والخشوع هو المعين على المغفرة في ركعتي الوضوء.(55/6)
صلاة الاستخارة
ومن النوافل: صلاة الاستخارة، جعلها الله عوضاً عما كان عليه أهل الجاهلية من البدع والخرافات، فيقدمون على أمورهم ومصالحهم الدنيوية ويحجمون عنها بالاستقسام بالأزلام، وبتحريك الطيور والنظر إلى جهاتها، فعوض الله المسلمين بركعتي الاستخارة، فإذا أهمك أمر ولم تدر تقدم عليه أم تحجم، فحينئذ إذا هممت به وأردت أن تعزم عليه بعد استشارة الناس فإنك تستخير.
وهنا أمر يخطئ فيه كثير من الناس، فبعض الناس يجعل الاستخارة قبل الاستشارة، وهذا خطأ، بل الذي ينبغي أن تكون الاستخارة بعد أن تهتم النفس بالشيء، وبعد أن يشاور الناس فيجد من يعينه ومن يثبطه؛ لأنك إذا استخرت فلا تستشر أحداً بعد الله عز وجل، ولذلك قالوا: تكون الاستخارة هي آخر الأمر، بمعنى: أنه التبس عليك الأمر، فوجدت هذا يقول لك: أقدم، وهذا يقول لك: أحجم، وهذا يقول لك: هذا فيه خير، والثاني يقول: فيه شر، فحين تتردد نفسك وتهتم بالأمر فإنه تستخير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا همّ أحدكم بالأمر)، فمعناه: أن يكون عنده الاهتمام، ومعنى ذلك أنه قد وجد من مشورة الناس ومن حديث النفس ما يجعله يتردد، فحينئذٍ يصلي ركعتين من غير فريضة، ثم يقول الدعاء المأثور: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك؛ فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسميه- فيه خيرٌ لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فيسره لي وسهله لي، وإن كنت تعلم أن فيه شراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، ثم اقدر لي الخير حيثما كنت، ثم رضِّني به)، فأي شيء بعد هذه الاستخارة تفعله هو خير مهما كان هذا الشيء، ولذلك بعد الاستخارة سلّم الأمر لله، حتى ولو وجدت الأمر في أوله يسوؤك فإن عواقبه خيرٌ لك في الدنيا والآخرة، وقد يكون الشيء في أوله حزن ولكن آخره سرور، وقد يكون أوله نكبة ولكن آخره صلاح وفلاح وخير لك في الدنيا والآخرة، ولذلك إذا استخرت الله عز وجل فحينئذٍ تنشرح نفسك، ولا تجعل في قلبك من هذا الأمر أي هم، إن تيسر فعله فافعل، وإن تيسر تركه وصرفت عنه فهو الخيرة من الله عز وجل، وهذه رحمة من الله عز وجل.
وأما هل يفعل الدعاء في آخر الصلاة، أو يفعله بعد السلام فأصح الأقوال أنه يفعله داخل الصلاة.
وقال بعض العلماء: إذا فعله داخل الصلاة أو بعد السلام فلا حرج عليه.
ولكن الأولى والأكمل أن يكون عقب تشهده وقبل السلام، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن بعد الفراغ من التشهد: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء)، وهذه مسألة، وشرعت الصلاة من أجل هذه المسألة، فالذي يظهر إيقاع السؤال والاستخارة قبل السلام.(55/7)
صلاة الإشراق
ومن الصلاة النافلة: صلاة الإشراق، وهي تكون بعد جلوس الإنسان في مصلاه بعد صلاة الفجر في جماعة، فقد ثبت في الحديث عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع عليه الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامةٍ تامة).
وهذا الفضل له شروط: أولها: أن يصلي الفجر في جماعة، فلا يشمل من صلى منفرداً، وظاهر الجماعة يشمل جماعة المسجد وجماعة السفر وجماعة الأهل إن تخلف لعذر، كأن يصلي بأبنائه في البيت فيجلس في مصلاه.
ثانياً: أن يجلس يذكر الله، فإن نام لم يحصل له هذا الفضل، وهكذا لو جلس خاملاً ينعس فإنه لا يحصل له هذا الفضل، إنما يجلس تالياً للقرآن ذاكراً للرحمن، أو يستغفر، أو يقرأ في كتب العلم، أو يذاكر في العلم، أو يفتي، أو يجيب عن المسائل، أو ينصح غيره، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن جلس لغيبة أو نميمة لم يحز هذا الفضل؛ لأنه إنما قال: (يذكر الله).
الأمر الثالث: أن يكون في مصلاه، فلو تحول عن المصلى ولو قام يأتي بالمصحف فلا يحصل له هذا الفضل؛ لأنه فضلٌ عظيم، وهو حجةٌ وعمرة تامة تامة، فهذا فضل عظيم، والمراد به الرباط؛ لأنه قال: (ثم جلس في مصلاه)، فهذا يدل على أنه لا يبرح المصلى، ومن قام من مصلاه لسلام أو تحية أو طلب حاجة فإنه لا يصدق عليه هذا الشرط، وهو قوله:.
(ثم جلس في مصلاه)، فلذلك يلزم المصلى؛ لأنه فضل عظيم، وتحصيل الفضل العظيم يكون أكثر عناءً وأكثر نصباً، فيحتاج إلى أن يتكلف العبد في إصابة ظاهر هذه السنة، فيجلس حتى تطلع الشمس، ثم يصلي ركعتين.
رابعاً: أن يصلي ركعتين.
وهاتان الركعتان هما ركعتا الإشراق، وهناك من يطلق ركعة الإشراق على الركعة التي تكون بعد ارتفاع الشمس بين الضحى وبين طلوع الشمس، أي: بعد ارتفاعها قيد رمح.
وأثر عن ابن عباس في التسبيح بالإشراق، قال في قول الله عز وجل: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18]: ما كنت أعلم التسبيح بالإشراق حتى سمعت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها تذكره.
فحملوه على الركعتين ركعتي الإشراق، وجعلوها صلاةً تكون في أول النهار.(55/8)
صلاة الهم والحاجة
وهناك أيضاً صلاة الهمّ والحاجة، كأن ينزل بالإنسان كرب، أو -لا قدّر الله- فاجعة أو مصيبة، فإذا نزل به أمر ضاق به صدره، أو جاءته مصيبة، أو بلغه خبر يحزنه أو يفجعه، أو أهمه أمر فالسنة له أن يتوضأ ويصلي ركعتين؛ لما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزّ به أمرٌ -وفي رواية: إذا حزبه أمر- فزع إلى الصلاة) فقولها: (فزع إلى الصلاة) أي: ناجى الله عز وجل وصلّى، فالأفضل للإنسان إذا نزلت به كربة أو مصيبة أن يصلي، ولذلك أخبر الله عز وجل أنها معونة للعبد، فقال سبحانه وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، وذكر الصلاة مع الصبر، فمعناه: أن يستعان بالصلاة عند وجود الشدائد والأهوال، وهذا أبلغ ما يكون في العبودية؛ لأن الله يحب من عبده إذا نزلت به المصائب أو نزلت به البلايا أن يضرع إليه، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، أي: فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، وأبلغ الضراعة الصلاة، ولذلك قالوا: يشرع أن يصلي إذا نزلت به مصيبة، أو ألمت به حادثة، أو أصبح عنده أمرٌ يهمه ويقلقه، فينزل حاجته بالله جل جلاله الذي تنزل به الحاجات ومنه تفرج الكربات، فهذا من أفضل ما يكون عند نزول الشدائد بالعبد.(55/9)
أحكام سجود التلاوة
قال رحمه الله: [وسجود التلاوة صلاة].
بعد أن فرغ رحمه الله من النوافل التي تكون بفعل الصلاة شرع في النوافل التي هي أجزاء من الصلاة، كسجود التلاوة، وهو آخذٌ حكم الصلاة من حيث الطهارة واستقبال القبلة والتكبير والتسليم.
فسجود التلاوة يأخذ حكم الصلاة، وقال بعض العلماء: يجوز له أن يسجد ولو لم يكن متوضئاً، بل قال بعضهم: يسجد ولو لغير القبلة، وهذا القول من أضعف الأقوال أي: أن يسجد لغير القبلة، وذلك لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً) يعني الكعبة، وهذا نصٌ عام، ولذلك شرع في الميت إذا وضع في قبره أن يقبّل للقبلة، وهكذا إذا كان عند الاحتضار، فقال: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، ومن هنا أخذ العلماء رحمة الله عليهم أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأراد السلام عليه عند الدعاء أن يستقبل القبلة، وذلك لأن القبلة تقصد عند الدعاء وعند السجود، ولذلك لا يقال بالتوسع بحيث يسجد لأي جهة، ومن قال بالسجود لغير القبلة فهو مطالبٌ بالدليل، ومطالب بأن يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد لغير قبلة، ونحن لا نحفظ ذلك عنه عليه الصلاة والسلام في صلاة فريضة ولا نافلة، بل حتى في سجود التلاوة ما حفظ عنه نصٌ واحد أنه استقبل غير القبلة وسجد، ولذلك لا بد من استقبال القبلة، ولا يعتبر ساجداً إلا إذا استقبل القبلة التي سنّ الله عز وجل للصلاة، وما في حكم الصلاة -أعني: سجود التلاوة-، وبناءً على هذا فسجود التلاوة يشرع لأن الله عز وجل ذكره في كتابه، وامتدح أهله، وكذلك فعله النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ آية السجدة فيسجد ونسجد معه حتى لا يجد أحدنا موضعاً يضع فيه جبهته)، وهذا دليل على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في السجود.(55/10)
الخلاف في وجوب سجود التلاوة
وسجود التلاوة للعلماء فيه وجهان: أحدهما: أنه عزيمة وواجب.
وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، واستدل بالأوامر في القرآن، حيث جاءت أكثر آيات السجدة بالأمر بالسجود في مواضع متعددة، فقال: هو واجب ولازم.
وذهب الجمهور إلى أنه ليس بواجب، واحتجوا بحديث أبي داود بسند صحيح أنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما قرأ السجدة وتهيأ الصحابة أن يسجدوا قال: (على رسلكم، إنها ليست بعزيمة)، ولما رآهم تهيأوا للسجود نزل فسجد تطييباً لخواطرهم صلوات الله وسلامه عليه، فدل على أنها ليست بعزيمة.
ومما يؤكد هذه الآثار الصحيحة ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى عنه مالك في الموطأ أنه قرأ السجدة وهو في الخطبة أي: قرأ آية السجدة-، فنزل فسجد في أصل المنبر، فسجد الناس معه، ثم لما كانت الجمعة الثانية قرأها فتهيأ الناس للسجود، فقال: على رسلكم، إنها ليست بعزيمة -أي: سجود التلاوة ليس بعزيمة- وإنما هو فضل لا فرض)، ولذلك قال جمهور العلماء: إنه فضيلة وليس بفريضة.
أما استدلال الإمام أبي حنيفة رحمة الله ورضوانه عليه بما ورد من الأوامر بالسجود في الآيات فهو مردود بورود حديث السنة الذي يدل على صرف الأمر عن ظاهره من الوجوب إلى الندب.
كما أنه لو قيل بهذا الاستدلال -كما أجاب بعض العلماء- للزم المصلي أن يصلي عند كل آيةٍ فيها أمر بالصلاة، كقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، ولا قائل بهذا، فدل على أن الأمر بالسجود غير واجب كما أن الأمر بالصلاة غير واجب عند تلاوته الأمر بها.
فسجود التلاوة يشرع عند تلاوة الآية التي فيها سجدة.(55/11)
سجود التلاوة للمستمع واقتداؤه بالقارئ
قال رحمه الله: [يسن للقارئ والمستمع دون السامع].
أي: يسن سجود التلاوة لمن قرأ ولمن استمع، أي: حضر مجلس القراءة وكان مع القارئ في نفس المجلس، أما لو سمعه بالمبلّغ الذي لا يجتمع معه في المكان، أو سمعه في الأجهزة من مسجلٍ ونحو ذلك فإنه لا يشرع له أن يسجد معه، وذلك لأنه ائتمام، وحكمه حكم الائتمام في الصلاة، وحينئذٍ لا يسجد معه، كما أنه لا يصلي وراءه ولا يركع ولا يسجد بالتبليغ بالجهاز دون التبليغ الحقيقي الذي يكون فيه مجتمعاً معه في المكان، وعلى هذا فلا تسجد إذا كنت مستمعاً إلا إذا كان المكان متحداً، ولذلك بعض العلماء يضيف قيد المجلس، ولا يقتصر على كونه مستمعاً، وإنما يضيف قيد المجلس، وهو اتحاد القارئ والمستمع في المجلس؛ لأنه ربما حصل الاستماع بدون حضور المجلس، كأن يعلو صوته من بيته وأنت في بيتك فتسمعه، أو تسمعه من غرفته وأنت في غرفتك، فحينئذٍ قالوا: إنه لا يشرع السجود لمكان عدم صحة الاقتداء.
وأما السامع فإنه لا يسنّ له السجود، وهناك فرق بين السامع والمستمع، ففضل الاستماع أكثر من فضل السماع؛ إذ السامع هو الذي لا يقصد، ولذلك قالوا: لو مررت على صوت غناءٍ وسمعته ولم تستمع له لم تأثم، ومن هنا خرّجوا أثر ابن عمر الوارد عنه حينما كان معه مولاه نافع، فمر بالسوق فسمع صوت الغناء فوضع أصبعيه في أذنيه، فما زال يسأل نافعاً: أنتهى الصوت؟ فيشير له: لا بعد.
حتى أشار له أنه قد انقضى.
فاستشكل العلماء: كيف ابن عمر يضع أصابعه ولا يأمر نافعاً أن يضع أصبعه في أذنه؟ فقالوا: وضعها ابن عمر ورعاً وكمالاً في البعد والهجر لمعصية الله، وبقي نافع على الأصل من الرخصة.
ولذلك قد تغلب على سماع شيءٍِ وأنت لا تريده، فإذا سمعته ولم تستمع له -بمعنى: لم تصغ إليه- لم تأثم، وهكذا إذا سمعت القرآن ولم تستمع له لم تؤجر، وبناءً على ذلك فرقوا بين السماع والاستماع من هذا الوجه، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم، ونبه عليهم علماء محققون، منهم الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني.
قال رحمه الله تعالى: [وإن لم يسجد القارئ لم يسجد].
أي: إذا لم يسجد القارئ لا تسجد لمكان الاقتداء، وقد جاء فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه آثار عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لم يسجدوا، حتى إن ابن مسعود رضي الله عنه أمر تميماً رحمة الله عليه فقال له: اسجد حتى نسجد معك.
فدلّ على أن سجود المستمع متوقف على سجود القارئ، ولذلك قالوا: لا يسجد المستمع دون أن يسجد القارئ.(55/12)
عدد سجدات التلاوة
قال رحمه الله: [وهو أربع عشرة سجدة].
أي: سجود التلاوة أربع عشرة سجدة.
أولها سجدة الأعراف، ثم تليها سجدة الرعد، ثم النحل، ثم الإسراء، ثم مريم، ثم في الحج سجدتان، ثم الفرقان، ثم النمل، ثم السجدة، ثم سجدة حم فصلت ثم سجدة النجم، ثم الانشقاق، ثم العلق، فهذه أربع عشرة سجدة، ومذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه وطائفة من السلف أنها كلها من عزائم السجود.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يسجد في المفصّل، كما هو مذهب إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمة الله عليه، فقال: إنه لا يسجد في المفصل، واستدل بحديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سجد في المفصل بعد الهجرة)، ولكنه حديث منكر كما بيّن العلماء رحمة الله عليهم، ومنهم الحافظ ابن عبد البر الذي بيّن أنه حديث ضعيف.
والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في المفصل، وعلى هذا يشرع السجود في المفصل، ولا حرج على الإنسان، وتكون السجدات أربع عشرة سجدة.
واختلف العلماء في سجدة الحج الثانية، وأما الأولى منهما فعزيمة، والثانية وهي قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] فيها خلاف.
ومذهب طائفة كـ الشافعي وأحمد رحمة الله عليهما السجود فيها، وثبت فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على صحة القول بالسجود فيها.
وأما سجدة (ص) فالصحيح أنها ليست من عزائم السجود، وجاء فيها حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (إنها ليست بعزيمة، إنما كانت توبة من نبي من أنبياء الله)، فيكون الاقتداء به على سبيل الاستنان العام بهدي الأنبياء، ولذلك ابن عباس لما قيل له في سجدة (ص) قرأ قول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فسجد نبي الله داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فنحن نسجد من باب الاستنان العام، لكنها ليست من عزائم السجود، والفرق بين قولنا: إنها تسجد من باب الاستنان العام وكونها من عزائم السجود أنه لو سجد الإمام بها في الصلاة فلا تتابعه؛ لأنها ليست من عزائم السجود، فتكون فعلاً زائدة.
وبناءً على ذلك لا يسجد وراء الإمام إذا سجدها، وهذا إذا كان الإنسان لا يراها عزيمة، أما إذا كان يراها من عزائم السجود -كما هو مذهب بعض السلف رحمة الله عليهم- فحينئذٍِ لا حرج أن يسجد وراء الإمام إذا سجدها.
قال رحمه الله: [في الحج منها اثنتان].
أشار إلى الخلاف رحمة الله عليه، أي أنه يرى القول الذي يقول بالسجدة الثانية من الحج، وهي التي تكون في آخر سورة الحج، أما الأولى منهما فيكاد يكون بالاتفاق أنها من عزائم السجود.(55/13)
التكبير والتسليم والقيام في سجود التلاوة
قال رحمه الله: [ويكبر إذا سجد وإذا رفع ويجلس ويسلم ولا يتشهد].
قوله: (ويكبر إذا سجد وإذا رفع) هذا هو المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح أنه كبّر لسجوده، وفي حديث أبي داود أيضاً ما يؤكد ذلك حينما سجد عليه الصلاة والسلام، فكان يكبّر لسجوده ورفعه من السجود.
وقوله: [ويجلس ويسلم ولا يتشهد].
أي: يجلس ثم يسلم، ولا يتشهد في جلوسه.
وللعلماء في الأفضل في كيفية الابتداء في هذا السجود وجهان: فاختار بعض العلماء من الحنابلة والحنفية رحمة الله عليهم أن الأفضل في سجود التلاوة أن تقوم ثم تخر ساجداً؛ لأن الله أثنى على من خرّ ساجداً فقال تعالى:: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء:107]، فالخرور قالوا: من أعلى إلى أسفل.
فإذا وقف كان هذا أبلغ؛ لأن فيه تكلف الفعل، ووجود المشقة فيه أكثر مما لو سجد وهو جالس، ثم إنه مطابقٌ لوصف الآية.
وقال بعض العلماء: لا فضيلة في القيام، وإنما يجلس ويسجد وهو جالس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه تكلف القيام.
وهذا القول الثاني فيه قوة ووجاهة، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه قام ثم خرّ ساجداً، لكن لو خرّ الإنسان وسجد فلا حرج عليه ولا بأس.(55/14)
سجود الإمام للتلاوة في الصلاة السرية
قال رحمه الله تعالى: [ويكره للإمام قراءة سجدة في صلاة سر وسجوده فيها].
هذا لأنه إذا قرأ سجدة -مثلاً- في صلاة الظهر وهي صلاة سر ثم سجد فإنه يشوش على المأمومين، وهذه من آداب الإمامة، ولذلك ينبغي للإمام أن يكون ملماً بفقه الإمامة، فمن فقه الإمامة هذه المسألة.
وذكروا مسألة ثانية في سجود التلاوة، وهي إذا قرأ آية السجدة وكانت في آخر قراءته، كما في سورة العلق، فحينئذٍ قالوا: إذا كان لا يرغب في السجود فليقرأ بعد فراغه من آخر السورة آيات أو سورة حتى ينبه من وراءه أنه لا يريد السجود؛ لأنه لو كبّر راكعاً في هذه الحالة سيخرّ الناس سجداً، وحينئذٍ يحصل الاختلال في صلاة الناس، فعدوا من فقه الإمام أن يتفطن لمثل هذا، فلا يركع عند آية السجدة؛ لأنه إذا ركع لبّس على الناس، خاصةً في الفريضة فإن الأمر أشد، فتجد هذا قائماً وهذا راكعاً وهذا ساجداً؛ لأن الناس يلتبس عليهم الأمر.
ولذلك قالوا: لا يقرأ آية السجدة عند الركوع، إلا إذا كان يريد أن يسجد فحينئذٍ يقرؤها.
ومن ذلك أن يقرأ السجدة في السرية، فكره بعض العلماء أن يقرأها، ولكن ورد ما يدل على مشروعية قراءتها في السرية وسجوده فيها، وعلى هذا فلا حرج أن يفعل ذلك، لكن يقول بعض العلماء: لو أنه رفع صوته قليلاً بآية السجدة قبل أن يسجد في السرية فلا بأس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة السرية يرفع صوته أحياناً يُسمِّع بالآية، قالوا: فإذا ثبت التسميع بالآية وهو مشروع فليفعل ذلك قبل سجوده حتى ينبه الناس أنه يريد أن يسجد، وإنما كره من كره من العلماء أن يقرأ آية السجدة في السرية لأنه إذا ترك السجود ترك السنة، وإن سجد ظن الناس أنه وهِم، فبدل أن يركع سجد، فيلتبس على الناس فعله، ولذلك قالوا: لا يقرأ في الصلاة السرية السجدة.
والصحيح أنه لا حرج عليه أن يقرأ السجدة لثبوت ما يدل على مشروعية ذلك، والأصل العام يقتضيه.
قال رحمه الله: [ويلزم المأموم متابعته في غيرها].
أي: إن شاء سجد وإن شاء لم يسجد، فيلزمه متابعته على الأصل في حديث أنس بن مالك في الصحيح: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا)، فأمر المأموم بمتابعة إمامه، ولذلك يلزم المأموم في الأصل بمتابعة الإمام، وسيأتي إن شاء الله الكلام على المتابعة وأحكام الاقتداء في باب صلاة الجماعة بعد هذا الباب.(55/15)
مشروعية سجود الشكر
قال رحمه الله: [ويستحب سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم].
استحباب سجود الشكر هو مذهب طائفة من السلف رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، قالوا: إنه يستحب للمسلم إن أصابته نعمة أن يسجد شكراً لله عز وجل؛ لأن داود عليه السلام أناب إلى ربه وخر راكعاً، حينما تاب الله عز وجل عليه، فقالوا: يستحب للإنسان إذا نزلت به النعمة أو اندفعت عنه الشدة والنقمة أن يستقبل القبلة ويسجد لله عز وجل شكراً.
وسجود الشكر كسجود التلاوة، لكن خصص بعض العلماء الطهارة له، فقالوا: إنه لو سجد على غير طهارة صح منه سجوده ولا حرج عليه.
ويكون سجود الشكر في موضعين: الأول: حصول النعم، كأن يأتي خبرٌ سار بحصول الخير، فأول ما تستقبل الخبر تشكر الله عز وجل فتسجد، وقد تأذن الله بالزيادة لمن شكر.
الثاني: اندفاع النقم، كزوال بلية أو مصيبة، عامة كانت أو خاصة، فلو بلغه أن كربة فرجت عن المسلمين، أو ضائقة زالت عنهم سجد شاكراً لله عز وجل، وهكذا إذا بلغه أن نعمة أصابت إخوانه المسلمين خرّ ساجداً شاكراً لله عز وجل، فكل ذلك مما هو مشروعٌ، ولا حرج على المكلف في فعله.
قال رحمه الله: [وتبطل به صلاة غير جاهل وناسٍ].
هذه مسألة العذر بالجهل، قالوا: إنه يعذر إذا كان جاهلاً ويعذر إذا كان ناسياً.
والسبب في ذلك أن الله عز وجل رفع المؤاخذة عن الناس، فقد جاء في الحديث الصحيح في قوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، أن الله تعالى قال:: (قد فعلتُ)، أي أني لا أؤاخذكم إذا نسيتم أو أخطأتم، فقالوا: إذا كان الإنسان جاهلاً بالحكم عذر؛ لحديث معاوية رضي الله عنه عندما تكلم في الصلاة فقال: واثكل أمياه وكذلك أيضاً إذا كان ناسياً فتابعه فيها وهي زيادة فعل، فحينئذٍ يقولون: إنه لا تبطل صلاته لمكان الجهل والنسيان(55/16)
الأسئلة(55/17)
اندراج ركعتي الإشراق والضحى في ركعتي الطواف
السؤال
هل تجزئ ركعتي الطواف عن ركعتي الإشراق أو الضحى؟
الجواب
مذهب طائفة من العلماء أنه يحصل الاندراج في مثل هذا، ولكن بما أن الأمر متوقف على ركعتين فاركع لطوافك واركع لإشراقك، وهذا خير كثير ونعمة عظيمة.
أما في الإشراق فلا يحصل هذا؛ لأن الإشراق -كما هو معلوم- متصل بجلوسه، فإذا فصل بالطواف فصل بأمرٍ أجنبي عن الذي من أجله قصد الصلاة التي هي ركعتا الإشراق، وعلى هذا فلا يحصل الاندراج.
فالذي يظهر أن الإنسان يركع ركعتي الإشراق أولاً، ثم بعد ذلك يطوف، ثم يصلي ركعتي الطواف على الأصل المعروف الذي وردت به السنة.
والله تعالى أعلم.(55/18)
قراءة الإمام للقرآن بعد الرفع من سجود التلاوة
السؤال
إذا قام الإمام من سجود التلاوة فهل له أن يركع، أم لا بد أن يقرأ ما تيسر؟
الجواب
ذكر بعض العلماء أنه يستحب له أن يقرأ، حتى لا يكون هناك وصل بين السجود وبين الركوع، ولا يحفظ في هذا أصل، وإنما استحبه بعض العلماء.
والله تعالى أعلم.(55/19)
حكم تكرار صلاة الاستخارة
السؤال
هل يشرع تكرار صلاة الاستخارة إذا لم يحصل انشراح الصدر من أول مرة؟
الجواب
لا يشرع هذا فمن الحدث والبدعة تكرار صلاة الاستخارة، أو سؤال غير أن يصليها، أو ادعاء أنه يرى في النوم ما يسر وما يزعج، فكل هذا من البدع، فإن صلاة الاستخارة إنزال للأمر بباب الله جل وعلا الذي تنزل به الأمور، وبه تتيسر الأمور، ويستفتح المغلق، ويزال الهم والغم، فلذلك إذا صليت هاتين الركعتين فحسبك، وخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإياك والحدث، ولا تلقَ الله عز وجل وقد زدت في دين الله ما ليس منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليركع ركعتين من غير الفريضة)، فلا تزد على هذا الحد الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليكون لك في ذلك الخير والفلاح والصلاح والنجاح.
أما تكرار الاستخارة وتعلق القلب برؤيا ونحوها فكل ذلك مما لا أصل له، فإن أصابك الهم فأكثر من ذكر الله عز وجل حتى يأتيك الفرج من الله، فإنك إن صليت هاتين الركعتين فقد قضي الأمر وفرغ من الأمر، فإن وجدت هماً وعيق بينك وبين الأمر بهذا الهم فاعلم أنه صرفٌ من الله صرفك الله به عن هذا الأمر بالهم، وإن حصل انشراح ولو بعد حين فهو خيرة الله عز وجل، فيكون ما سبق من الهم نفث من الشيطان نفثه في قلبك فعوضك الله به تيسير الأمر، وقد يسلط الله على المستخير هماً بمجرد انتهائه من الاستخارة، فيبقى اليوم واليومين والأسبوع والشهر والشهرين والثلاثة ثم يجد الانشراح؛ لحكمةٍ من الله، فهو يعلم أنه لو فعل هذا الأمر خلال هذه الأيام فإنه لا يكون له خير، ولذلك أَنْزِل الأمر بالله عز وجل، ولا تنتظر شيئاً غير أن يأتيك الفرج بإذن الله عز وجل، أما أن ينتظر الإنسان رؤيا في المنام، أو يأمر غيره أن يصلي له، ويكثر الاستخارة ويقول: ما تبين لي شيء فكل هذا من حدث الناس، وهو غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى المسلم الاتباع ونبذ الابتداع.
والله تعالى أعلم.(55/20)
اشتراط الطهارة لسجود التلاوة
السؤال
هل تشترط الطهارة لسجود التلاوة؟
الجواب
هذا هو المحفوظ: أن السجود أُمِر فيه باستقبال القبلة والتكبير وما ورد من صفات الصلاة مما يدل على أنه آخذ حكمها، والنظر الصحيح دال على صحة هذا القول، ووجه ذلك: أن صلاة الجنازة تشتمل على القيام، وتشتمل على القراءة، وهذه أركان، ويشابهها سجود التلاوة؛ فإن سجود التلاوة فيه ركن السجود، والرفع من السجود مع وجود الذكر من تسبيح وسؤال الله عز وجل الخير، كما ورد في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول في سجود تلاوته: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين)، وفي الحديث الآخر: (اللهم اكتب لي بها أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك ونبيك داود)، فهذا ذكر، ولذلك خصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الذكر، فيقوى إلحاق سجود التلاوة بصلاة الجنازة، وصلاة الجنازة قال الجمهور رحمهم الله بوجوب الوضوء فيها لحديث أبي هريرة: (لا صلاة بغير طهور)، وبناءً على ذلك فإذا كانت صلاة الجنازة مع اشتمالها على هذا القيام والتكبير الذي لا سجود فيه فإن في حكمها سجود التلاوة؛ لأنه مشتمل على جزء الصلاة، ولا فرق بين هذا وهذا من جهة النظر الصحيح.
والله تعالى أعلم.(55/21)
تكرار السجود بتكرار قراءة السجدة لمن يحفظ القرآن
السؤال
إذا كان الإنسان يحفظ ومرت به سجدة التلاوة فهل يسجد عند كل إعادة؟
الجواب
إذا كان الإنسان يكرر آية السجدة فما أحلى وما أجمل وما ألذ تكرار السجود؛ لأنه من الذي يشرع له أن يكرر السجود غيره؟ فما يشرع لأحد أن يكرر السجود إلا بتكراره بالتلاوة، وهذا على سبيل الحفظ، ولذلك قالوا: لو قرأ وسجد ثم رجع مرة ثانية يقصد تكرار السجود كان مبتدعاً لكن هذا معذور لمكان الحفظ، فما ألذه من سجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة وكتب لك بها حسنة، فهذه نعمة عظيمة من الله عز وجل، وهذا هو الأفضل والأكمل.
أما لو أخذ بقول جماهير العلماء، فجمهور العلماء يقولون: من حفظ وكرر فإنه يجزيه السجود لأول مرة، فيسجد السجدة الأولى ثم التكرار الباقي تبع للسجدة الأولى؛ لأنه لم يقصده، وقصده إنما وقع على سبيل التبع، والقاعدة أن المشقة تجلب التيسير والأمر إذا ضاق اتسع، قالوا: فيضيق عليه أنه كلما قرأ يسجد، لكن إذا كان لا مشقة عليه وكان يمكنه أن يكرر السجود فلا حرج، وهو حسن، وهو مأجور على ذلك.
والله تعالى أعلم.(55/22)
حكم من أحدث وهو ينوي الجلوس إلى الشروق
السؤال
إذا أحدث الإنسان فهل يخرج من المسجد للوضوء، ثم يرجع إلى مصلاه، أو يبقى حتى تطلع الشمس ثم يخرج ويتوضأ ثم يصلي الركعتين؟
الجواب
استحب بعض العلماء إذا أحدث أن يبقى حتى تطلع الشمس، ويجلس في ذكر حتى يصيب فضيلة: (جلس يذكر الله)، ثم يعذر في صلاة الركعتين لوجود الحدث، فيتوضأ ويصلي ركعتيه، فتقع حينئذٍ بعد انتهاء جلوسه، فكانت كما لو جلس ولم يحدث.
والله تعالى أعلم.(55/23)
نصيحة وتوجيه في صلة الأرحام
السؤال
إلا لم أصل الأرحام بالزيارات ووصلتهم بالكلام معهم عبر الهاتف هل أعتبر قاطعاً للرحم؟
الجواب
الله المستعان وإلى الله المشتكى.
صلة الرحم من أحب الأعمال وأفضلها عند الكبير المتعال، ولذلك عظّم الله شأنها ورفع الله قدرها، وأمر عباده أن يتقوه فيها: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]، فالأرحام أمرهم عظيم وشأنهم كبير، وصلة الرحم منسأةٌ في الأثر، وزيادة في العمر، وبسطٌ في الرزق، وتيسيرٌ في الخير، وقلّ أن يصل عبدٌ رحمه إلا خرج مسرور النفس منشرح الصدر قوي العزيمة على طاعة الله عز وجل، فمن أحب الأعمال بعد توحيد الله وبر الوالدين صلة الأرحام، ودخل صلوات الله وسلامه عليه المدينة فكانت أول الكلمات التي قالها: (أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا جنة ربكم بسلام)، فمن وصل الرحم وصله الله، ففي الحديث القدسي: (إني أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فأنا الرحمن وهي الرحم، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)، فمن قطعه الله عز وجل فبئس -والله- حاله، ولذلك أخبر الله عز وجل أن من قطعها ملعون، وأنه لا ينتفع بخير ولا ذكر، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، قال بعض العلماء: أصمهم فإذا سمعوا موعظةً لا ينتفعون بها، (وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) فإذا رأوا خيراً لا يهتدون إليه -والعياذ بالله- ولذلك تجد بعض الناس إذا ذكّرته بالله لا يتذكر، فهو قاسي القلب يتمنى أن يكون خاشعاً، وقد حالت الرحم بينه وبين الله عز وجل، فالرحم أمرها عظيم.
وأوصيكم ونفسي -وخاصةً طلاب العلم- أن نتقي الله في الرحم، فكم من طالب علم يجد في قلبه الظلمة ويجد في نفسه الوحشة، وقد يبتلى ببعض الذنوب، وقد يبتلى ببعض المعاصي بسبب لعنة أصابته بقطيعة الرحم، فسل نفسك كلما مر عليك أسبوع متى عهدك بالرحم، ومتى عهدك بالعم، ومتى عهدك بالعمة، ومتى عهدك بالخال، ومتى عهدك بالخالة، ومتى عهدك بهذا القريب الضعيف، ومتى عهدك بذلك القريب المحتاج، وإذا وصلتهم أعظم الله أجرك، قال صلى الله عليه وسلم: (من أحب منكم أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه فليصل رحمه)، فهذه نعمةٌ عظيمة، ولذلك كان الناس بخير، وكنت تجد كبار السن فيهم الرحمة، وتجدهم دائماً يعصمون من كثير من الشرور والبلايا؛ إذ تجدهم من أوصل الناس للرحم.
واليوم نشأت الناشئة ونشأ الشباب بعيدين عن الأرحام، حتى تجد الإنسان عهده بعمه في العيد، وهذا إذا كان يأتيه في العيد، بل إنه لا يكاد يعرف عمه إلا في المناسبات -نسأل الله السلامة والعافية-، بل إن بعضهم يستحي في المناسبات أن يسلم على عمه وخاله، فتكمل له القطيعة حتى تكمل عليه لعنة الله والعياذ بالله.
والله عز وجل يقطع من قطع الرحم ولو كان أقرب الناس منه، فإن قطيعة الرحم أمرها عظيم، ولقد توعد الله عز وجل من يقطعها أن يقطعه، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لهذا الأمر، وقد تجد الرجل صالحاً لكنه قاطع للرحم من حيث لا يشعر، فهذا أمر يحتاج طالب العلم دائماً أن يضعه في حسبانه، ويسأل نفسه دائماً عن عهده بالعم والعمة والخال والخالة، والأقارب والأرحام، خاصةً إذا كانوا محتاجين، وإذا وصلت الرحم وكان له حقٌ عليك -كأن يكون كبير سن- فعظمه وأجله، فقد دخل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فقام له يجر رداءه صلوات الله وسلامه عليه، فالتزمه وقبّل بين عينيه.
فمن آداب الإسلام وشعائر الإسلام إجلال ذي الرحم، خاصةً إذا كان كبير سن، أو كان من أهل العلم والفضل وبينك وبينه رحم فينبغي أن توصل، بل إن الرحم قد تكون من أجل المصاهرة، ولو كانت في طبقة عالية، فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط -وهي مصر-، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم رحماً)؛ لأن أم إسماعيل منهم، وكذلك مارية أم إبراهيم منهم، فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بها لوجود الرحم البعيد، فكيف بالرحم القريب كالعم والخال؟! فلذلك ينبغي للإنسان أن يحرص كل الحرص على صلة رحمه، وإذا دخلت على العم فقبّل بين عينيه، ولو كان أصغر منك سناً عظمه وأجله؛ فإن جعفراً دون النبي صلى الله عليه وسلم في الفضل، ومع ذلك قبّل النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه؛ لكي يرسم للأمة المنهج في صلة الرحم، وينبغي عليك مع صلة الرحم أن تعوّد أبناءك وبناتك وتأخذهم معك، فيا لها من نعمةٍ عظيمة إذا نشأت أبناءك على صلة الرحم، ووالله ما خرجت بابنك إلى صلة عم أو عمة أو خال أو خالة فاغبرت قدمه إلا كان لك أجره، ولن يحافظ من بعد موتك على صلة رحم إلا أجرت كأجره؛ لأنه ما عرف صلة الرحم إلا بك، فإذا نشأت أبناءك على هذا الخير وعودتهم على صلة الرحم وجعلت فيهم حب القرابة والميل إلى القرابة آجرك الله وعظّم ثوابك، وفتح لك أبواب الخير، بل يسعدك حتى في هذا الابن؛ لأن الابن الذي ينشأ على صلة الرحم يكون فيه رحمة من الله عز وجل، فينبغي التواصي بهذا الأمر، ولذلك لما سأل هرقل أبا سفيان: بماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبد الله ولا تشركوا به شيئاً.
ويأمرنا بصلة الرحم، فكانت من الأمور الهامة التي اعتنى بها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته صلة الرحم.
وينبغي دائماً على طلاب العلم أن يحيوا هذا الأمر في المساجد في كلمة بعد الصلاة تذكر فيها الناس بصلة الرحم، وكذلك الأئمة والخطباء، ولو بكلمة عابرة في الشهر، أو على الأقل في العام تذكر فيها بحق الرحم؛ حتى تنشأ الناس على التواصل والرحمة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(55/24)
شرح زاد المستقنع - أوقات النهي في الصلاة
جاء النهي عن الصلاة في خمسة أوقات: بعد صلاة الفجر، وعند طلوع الشمس، وعند انتصاف الشمس في السماء، وبعد صلاة العصر، وعند الغروب، وهذا النهي يتعلق بالنوافل، واختلف في إيقاع بعض النوافل في وقت النهي، وكذلك قضاء الفرائض.(56/1)
أوقات النهي عن صلاة التطوع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [وأوقات النهي خمسة].
بعد أن بيّن لنا رحمه الله أنواع النوافل شرع في بيان الأوقات التي يمنع فيها الإنسان من فعل النافلة؛ لأن الكلام عن الصلاة يستلزم بيان مواقيتها، ولذلك يقول العلماء: إن لصلاة النافلة ميقاتاً، يعنون بذلك ألا تقع في وقت النهي.
والوقت: مأخوذ من وقّت الشيء يؤقته تأقيتاً إذا حدده فإما أن يحدد بالزمان أو يحدد بالمكان، فالحدود الزمانية مواقيت، والحدود المكانية مواقيت، ومواقيت الصلاة التي ذكرها هنا مواقيت زمانية.
قوله: [وأوقات النهي] أي: الأوقات التي ينهى فيها عن الصلاة، وهذا راجع إلى الزمان، وجمعها رحمة الله عليه لأنها أكثر من وقت، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيقاع الصلاة فيها، وهي على التفصيل الآتي: الأول: من بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، الثاني: من بعد طلوعها حتى تبلغ قيد رمح، الثالث: حين يقوم قائم الظهيرة -أي: حالة انتصاف الشمس في كبد السماء كما سيأتي-، والوقت الرابع: من بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، الخامس: من الغروب حتى يتم الغروب، فهذه خمسة مواقيت ينهى فيها عن صلاة النافلة، والأصل في ذلك حديث عبد الله بن عباس في الصحيحين قال رضي الله عنه: (شهد عندي رجال مرضيون -وأرضاهم عندي عمر - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وعن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس)، وفي الحديث الصحيح قال: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة)، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأوقات الثلاثة -التي تنقسم بالتفصيل إلى خمسة- عن إيقاع الصلاة، والمراد بهذا صلاة النافلة.(56/2)
حكم قضاء الفريضة في وقت النهي
لو أنك نمت عن صلاة الفجر، واستيقظت فتوضأت ثم صليت فأوقعت ركعة قبل الطلوع، ثم أثناء أدائك للركعة الثانية طلعت عليك الشمس، فهل تتم الصلاة، أو تقطعها؟ في هذا قولان للعلماء: فمذهب جمهور العلماء أن النهي لا يشمل الفرائض، وأن الفريضة مستثناة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، فقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إدراكك للركعة قبل الطلوع يوجب إدراكك لصلاة الصبح، وكذلك إدراكك لها قبل الغروب يوجب الحكم بكونك مدركاً للعصر، وهذا لا يتّأتى إلا إذا أتممت الصلاة؛ لأنك لو قطعتها لكنت كمن أداها بعد الطلوع وبعد الغروب.
وبناءً على هذا الحديث الصحيح ثبت أن من طلعت عليه الشمس أثناء أدائه لصلاةٍ مفروضة فإنه يتم الصلاة ولا يقطعها.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى أنه إذا طلعت عليك الشمس وأنت في صلاة الصبح، أو غربت عليك وأنت في صلاة العصر، أو في غيرهما من الفرائض فإنك تقطع الصلاة لظاهر الحديث الذي تقدم: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس).
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ فإن الحديث نصٌ في موضع النزاع، وهو دال على أن من أدرك الركعة قبل الطلوع فقد أدرك الصبح، ومن أدركها قبل الغروب فقد أدرك العصر.
وهنا أيضاً مسألة ثانية في قوله رحمه الله: [وأوقات النهي] حيث تقيد بالنافلة ولا تشمل الفرائض، والنوافل على قسمين: نافلة لها سبب، ونافلة لا سبب لها، ثم النافلة ذات السبب على صور، وسيأتي إن شاء الله الكلام على أحوال الأسباب المتقدمة والمصاحبة والمتراخية.
من العلماء من يقول: إن النهي يتبدئ من صلاة الصبح حتى تطلع الشمس.
ومنهم من يقول: من طلوع الفجر الثاني.
والفرق بين القولين يظهر في مسألة خلافية، وهي: لو أذن أذان الصبح هل يجوز لك أن تتنفل غير راتبة الصبح؟ فذهبت طائفة من العلماء إلى أنه لا يصلي الإنسان بعد أذان الصبح إلا راتبة الصبح، حتى قالوا: إذا دخل المسجد فإنه ينوي تحية المسجد تحت راتبة الصبح.
كل ذلك تشديدٌ لمنع غير الراتبة بين الأذان والإقامة في الصبح، وهذا فيه الحديث الصحيح: (لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتي الفجر)، قالوا: إنه يحمل على هذا.
وبناءً على ذلك قالوا: إنه لا يصلي بعد أذان الصبح إلا راتبة الفجر، وأما غيرها فلا يصليها.
وذهب الجمهور إلى أنه يجوز للإنسان أن يصلي بعد أذان الفجر بين الأذان والإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا صليت العشاء فصلّ فإن الصلاة حاضرة مشهودة حتى تصلي الصبح، فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس) الحديث، وهو حديث صحيح، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للصحابي أن يتنفل بعد العشاء ما لم يصلّ الفجر، فدل على أن ما بين الأذان والإقامة من الفجر وقت نافلة.
أما الذين قالوا: إنه لا يتنفل فقد احتجوا بالحديث الذي فيه النهي، وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الفجر -التي هي الرغيبة- ثم اضطجع ولم يصلّ، فدل على أنه ليس بوقت نافلة.
لكن أجيب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان متهجداً، وأراد أن يتقوى على الفريضة؛ لأن تهجده عليه الصلاة والسلام كان طويلاً حتى تفطرت قدماه فيه، فكان يصلي بالبقرة وآل عمران والنساء في ركعةٍ واحدة، فهذا يأخذ من الجهد شيئاً كثيراً، ويحتاج بعد الأذان أن يستجم حتى يقوى على الصلاة، خاصة أنه كان يقرأ في صلاة الصبح -كما في حديث أبي برزة في الصحيح- من الستين إلى المائة آية، فاضطجاعه بين الأذان والإقامة ليس لتحريم الصلاة، وإنما ليتقوى على صلاة الفجر.
فالذي يترجح أنه لا حرج في إيقاع النوافل بين الأذان والإقامة؛ لأن الأصل جواز ذلك، وأما حديث: (لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتي الفجر) فالمراد بذلك على أحد الوجهين أنه يقضي رغيبة الفجر بعد صلاة الصبح، وفي ذلك أحاديث أخرى صحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رخّص في استثناء ركعتي الرغيبة بعد صلاة الصبح.(56/3)
حكم قضاء الرغيبة وقت النهي
المسألة الثانية: من نام حتى سمع الإقامة، أو نام حتى سمع الأذان، وأثناء تهيؤه لصلاة الفجر أقيمت الصلاة، فلم يتمكن من الرغيبة، فهل يصلي الرغيبة بعد صلاة الصبح، أم ينتظر إلى طلوع الشمس؟ للعلماء وجهان: فذهب الجمهور إلى أنه ينتظر إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قضى رغيبة الفجر.
وفي ذلك أحاديث صحيحة، منها ما صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بتأخيرها إلى ما بعد طلوع الشمس، ومنها -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن حزبه من الليل فقرأه ما بين طلوع الشمس وزوالها -أو صلاة الظهر كما في الرواية الثانية- كتب له كأنما صلاه من ساعته) قالوا: فإذا كان هذا في صلاة الليل فمن باب أولى في رغيبة الفجر التي هي بين أذان الفجر وإقامته وهذا القول هو أحوط الأقوال، لكن لو كان الإنسان يخشى أن ينسى رغيبة الفجر، أو يخشى أن تفوته فحينئذٍ لو صلاها بعد صلاة الفجر فلا حرج عليه إن شاء الله.(56/4)
النهي عن النافلة في الساعات الثلاث
المسألة الثالثة: أجمعوا على أنه أثناء الطلوع وأثناء الغروب وأثناء بقاء الشمس في كبد السماء لا تصلى النوافل، وهذا الإجماع يحكيه طائفة من علماء الإجماع، حتى ذوات الأسباب لا تصلى؛ لأن النص فيها صريح، وهو قوله: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة)، فهذه الثلاث الساعات نهي عن الصلاة فيها، قالوا: فلا تصلى النافلة في أثناء الطلوع وأثناء الغروب وأثناء انتصافها في كبد السماء، خاصةً في أثناء انتصافها في كبد السماء؛ لأنها ساعة عذاب وليست بساعة رحمة -والعياذ بالله- ولذلك نهى عن قبر الموتى فيها، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة السلام أنه قال: (فإذا انتصفت الشمس في كبد السماء فأمسك عن الصلاة؛ فإنها ساعةٌ تسجر فيها جهنم).
قال رحمه الله: [من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس، ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح].
دل حديث ابن عباس المتقدم على النهي عن الصلاة من بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس.
والعبرة بصلاتك لا بصلاة الناس، توضيح ذلك: لو أنك دخلت المسجد بعد انتهاء الجماعة فصليت رغيبة الفجر، أو صليت تحية المسجد، ثم أقمت للصبح فلا حرج؛ لأنه قال: (لا صلاة بعد صلاة الصبح)، فلذلك العبرة بفعلك لصلاة الصبح، وعلى هذا: فلو أوقعت النافلة قبل أدائك لصلاة الصبح فلا حرج.
وقوله: [ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح] دلّ عليه حديث العيدين: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي الأضحى والشمس على قيد رمح، ويصلي الفطر والشمس على قيد رمحين)، وقد بينا فيما سبق أنه أخّر الفطر وعجّل الأضحى؛ لأن الناس يحتاجون في عيد الأضحى إلى الوقت حتى تقع الأضحية في الضحى، وفي صلاة الفطر الناس يحتاجون إلى الوقت لإخراج زكاة الفطر، فأخّر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفطر إلى قيد رمحين، وقدم صلاة الأضحى إلى قيد رمح، فأخذوا من كونه عليه الصلاة والسلام يوقع صلاة الأضحى على قيد رمح أن وقت النهي ينتهي بارتفاع الشمس قيد رمح.(56/5)
تسعير جهنم عند انتصاف الشمس في السماء
قال رحمه الله: [وعند قيامها حتى تزول].
قوله: [وعند قيامها] أي: انتصافها في كبد السماء؛ لأن الشمس تسير من المشرق إلى المغرب، فإذا جاءت في منتصف السماء الذي هو منتصف النهار وقفت لحظات، وبعض العلماء يقول: من ثلاث دقائق إلى خمس دقائق تقف ولا تتحرك، وهذا الوقوف تسعر عنده -والعياذ بالله- جهنم، وعلى صفة الله أعلم بها، وهذا أمر يرد غيبه إلى الله عز وجل، وقد تجد من أهل الفلسفة والعقل من لا يتصور ذلك، ويقول: كيف هذا، وهي تسير على الأرض كلها، فما من فترة إلا وهي تقف فيها؟ فنقول: هذا أمرٌ مردهُ إلى الله، كالنزول في الثلث الآخر من الليل، فهذه أمور نسلم ونؤمن بحقيقتها، والله أعلم بالكيفية التي تقع عليها، فتسعير جنهم مردهُ إلى الله عز وجل، لكن نؤمن بأنها تسعر كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، ولذلك قال العلماء: إنها ساعة عذاب وليست بساعة رحمة، ولذلك يمسك عن الصلاة في وقتها.
ومن هنا قال بعض العلماء: إن مواطن العذاب لا يصلى فيها، فكما أن ساعات العذاب لا يصلى فيها فكذلك مواطن العذاب لا يصلى فيها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما مر على ديار ثمود التي تسمى مدائن صالح: (لا تدخلوها إلا وأنتم باكون أو متباكون، لا يصيبكم ما أصابهم) وضرب دابته وأسرع، حتى إنه أرخى عليه الصلاة والسلام رداءه على عينيه، كأنه يقول: إني مؤمن ولو لم أر.
وهذا يدل على أن مواطن العذاب لا ينبغي الجلوس فيها، كذلك قالوا: ولا يصلى فيها حتى قال بعض العلماء ببطلان الصلاة فيها كمواطن الغصب.(56/6)
النهي عن التطوع بعد صلاة العصر إلى الغروب
قال رحمه الله: [ومن صلاة العصر إلى غروبها].
أي: غروب الشمس، لحديث ابن عباس المتقدم.
قال رحمه الله: [وإذا شرعت فيه حتى يتم].
أي: وإذا شرعت الشمس في الغروب حتى يتم، أي: حتى يتم غروبها.
بمعنى: تتوارى في الحجاب فإذا توارت الشمس في الحجاب فحينئذٍ تم غروبها، قال بعض العلماء: العبرة بتواريها في الحجاب، وذهاب الحجاب ليس بشرط ومن أهل العلم من قال: ذهاب الحجاب شرطٌ لصلاة المغرب وبناءً على ذلك طردوا النهي فيه، فقالوا: يمسك بعد غروبها إلى قدر ما تتوارى بالحجاب والصحيح أنها إذا توارت بالحجاب وسقطت فقد حل إيقاع الصلاة، ويجوز للإنسان أن يتنفل بين الأذان والإقامة في ذلك الوقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، وقال في الثالثة: لمن شاء).
وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (ولقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري -أي: يسرعون إلى السواري لأجل أن يجعلوها سترة- حتى لو دخل الداخل ظن أن الصلاة قد أقيمت)، من كثرة من يصلون.
قال رحمه الله: [ويجوز قضاء الفرائض فيها].
إذا استيقظت بعد صلاة العصر ولم تصل الظهر فيجوز لك أن تقضيها وتصليها في هذا الوقت.(56/7)
حكم إيقاع ركعتي الطواف وقت النهي
وأما ركعتي الطواف فاختُلف في إيقاعها في الأوقات المنهي عنها: فقال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: يجوز فيها إيقاع ركعتي الطواف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أي رجلٍ طاف بهذا البيت وصلى أي ساعةٍ شاء من ليلٍ أو نهار)، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عمم، ثم قالوا: إن ركعتي الطواف لهما سبب، وكل ما له سبب يجوز إيقاعه بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، ولا حرج في فعل هذا، وهذا القول هو منصوص الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم.
وذهب طائفة من أهل العلم -وهو مذهب الحنفية والمالكية، وبعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليهم- إلى أن ركعتي الطواف لا تفعل بعد صلاة الصبح ولا بعد صلاة العصر ولا حين يقوم قائم الظهيرة، وذلك لأنهم قالوا: إن العموم مخصص، ولأن النهي عن فعل الصلاة في هذا الوقت نصٌ في موضع النزاع، ولأن القاعدة في الأصول أنه إذا تعارض نصان أحدهما نهيٌ والثاني أمر يقدم النهي على الأمر.
فركعتا الطواف أبلغ ما فيها إذا كانت عن طواف واجب أنها واجبة، فتعارض النهي عن فعل الصلاة والأمر بفعلها فيقدم النهي.
والوجه الثاني للترجيح: أنه إذا تعارض نصان وعمل الخلفاء الراشدون أو واحد منهم بواحد من النصين كان مرجحاً، فلما تعارض حديث يدل على جواز فعل ركعتي الطواف على العموم وحديث أوقات النهي قلنا: نرجع إلى الخلفاء الراشدين، فنجد عمر رضي الله عنه كان يؤخر ركعتي الطواف حتى تطلع الشمس وحتى تغرب.
وفي الأثر الصحيح عنه الذي رواه مالك في الموطأ: أنه طاف طواف الوداع بعد صلاة الصبح، فأخر ركعتي الطواف إلى ذي طوى وهذا بمحضرٍ من الصحابة وباطلاعٍ منهم ولم ينكر عليه أحد، فكان هذا مرجحاً.
والوجه الثالث لرجحان مذهب من يقول بالمنع: أنَّ حديث: (يا بني عبد مناف) عام دخله التخصيص، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، وبناءً على ذلك لو أنه استأنف الصلاة بعد المكتوبة لمنع، فدخل العموم التخصيص، ولذلك قالوا: إنه إذا دخل النص العام التخصيص لم يصح الاستدلال بعمومه، مع أنهم يقولون: إنه عام ويخص بالأوقات والقاعدة: (لا تعارض بين عام وخاص)، فقوله: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار)، نقول هذا عام، وجاءت أحاديث المواقيت خاصة، فيخص العموم للقاعدة: لا تعارض بين عام وخاص.
وهذا المذهب لا شك أنه أحوط وأسلم، خاصةً أنه لو أخر ركعتي الطواف إلى ما بعد الطلوع أو الغروب خرج من الخلاف ولم يحصل له محظور، لكن لو فعلها في وقت النهي شك هل تجزيه أو لا تجزيه.
وبناءً على ذلك يحتاط الإنسان لإيقاعها بعد الطلوع وبعد الغروب، والله تعالى أعلم.(56/8)
حكم إعادة الجماعة وقت النهي
قال رحمه الله: [وإعادة جماعة].
هذه المسألة ثبت فيها الحديث الصحيح، ولكن المقصود بها أعلى، حتى قال بعض العلماء: إن إعادة الجماعة واجبة.
صورة ذلك: لو أنك صليت الصبح في بيتك، ثم طلبت رجلاً في مسجد فدخلت فإذا الناس يصلون صلاة الصبح، فإنه يجب عليك أن تدخل معهم، وذلك لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى بالناس الفجر في الخيف -خيف منى-، فرأى رجلين لم يصليا فقال: عليّ بهما فأتي بهما ترعد فرائصهما من الخوف، قال: ما منعكما أن تصليا معنا ألستما بمسلمين؟ قالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة)، ووجه الدلالة أنه قال: (فصليا) فأمر، فقالوا: إن الوجوب فيها آكد من الوجوب في ركعتي الدخول إلى المسجد، قالوا: لأن الإسلام منع من الشذوذ، وجواز عدم الصلاة مع الجماعة فيه فتح بابٍ ليدخل الرجل ويجلس والجماعة تصلي، ولذلك حارب الإسلام هذا الشذوذ، وأمر من دخل المسجد ولو كان قد صلى أن يصلي مع الجماعة، ولذلك قال: (ألستما بمسلمين؟)، فأمر بالدخول في جماعة المسلمين، ولذلك قالوا: شدد في هذا وعلى هذا قالوا: تعاد الجماعة، واختلف العلماء في إعادة الجماعة: فمنهم من يقول: تعاد الجماعة في كل الصلوات، فإذا دخلت المسجد وقد صليت تعيد في جميع الصلوات، سواءٌ أدخلت في صبح أم ظهر أ/ عصر أم مغرب أم عشاء لظاهر هذا الحديث: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا)، فهذا عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه.
ومنهم من قال: لا تعاد أي صلاة صلاها المكلف، وقالوا: إن هذا الحديث منسوخ بحديث ميمونة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعاد الصلاة مرتين).
والقول الثالث يقول: تعاد في جميع الصلوات ما عدا صلاة الصبح وصلاة العصر، للنهي عن النافلة بعد الصبح وبعد العصر.
ومنهم من قال: تعاد في جميع الصلوات إلا صلاة الصبح والعصر والمغرب؛ لأن المغرب وترية، ولا وتران في ليلة.
فحاصل أقوال العلماء رحمة الله عليهم في المسألة تتلخص في هذه الأربعة الأقوال.
وأصحها -والعلم عند الله- أن الصلوات جميعها تعاد، وذلك لصحة دلالة النص الذي معنا، حيث إنه نصٌ في موضع النزاع، أما من قال باستثناء الصبح والعصر فجوابه أن الحديث ورد في صلاة الصبح، وهو نصٌ في وقتٍ منهي عنه، وفيه الأمر، ولذلك يعتبر مستثنى.
أما من قال: بالنسخ فالقاعدة أن النسخ لا يثبت إلا بإثبات أن الناسخ متأخر عن المنسوخ ولا دليل هنا، بل لو قال: إن الأمر بإعادة الصلاة آخر ما كان لكان أقوى؛ لأنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ومعلوم أن حجة الوداع توفي النبي صلى الله عليه وسلم بعدها بفترة وجيزة، ولذلك الذي يقوى أن حديث الأمر بإعادة الصلاة لم يدخله النسخ، ويقوي هذا حديث أبي ذر: (كيف بك إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى؟ قال: فما تأمرني يا رسول الله! قال: صلّ الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم)، والقاعدة في الأصول: (النسخ لا يثبت في الأخبار)، فقال له: (صلها معهم)، فأعطاه حكماً إلى ما بعد وفاته، فدلّ على أن هذا الحكم غير منسوخ، ولهذه الأوجه يقوى القول بأنها تعاد الصلوات كلها، ويبقى الإشكال: كيف نجيب عن حديث: (نهى أن تعاد الصلاة مرتين)؟ فيجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إعادتها لمن يعتقد أن كلتا الصلاتين فرض، بمعنى: يعيد الصلاة الثانية على أنها فرض أيضاً، فيحتسب أجر الأولى فريضة والثانية فريضة، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة على أن الثانية نافلة، والقاعدة في الأصول: لا تعارض بين نصين إلا إذا اتحد موردهما، وهنا النصان اختلف موردهما، فالنهي وارد لمن يعتقد الفريضة في الاثنتين، والأمر بالإعادة لمن يعتقد النافلة في الثانية، فلا تعارض بينهما، وهذا جمع بين النصين.(56/9)
حكم فعل ذوات الأسباب وقت النهي
قال رحمه الله: [ويحرم تطوع بغيرها في شيء من الأوقات الخمسة حتى ما له سبب].
هذا مذهب الجمهور، وهو أنك لا تصلي بعد العصر وبعد الصبح حتى ذوات الأسباب، والصلاة التي لها سبب ينقسم سببها إلى ثلاثة أقسام: السبب السابق، والسبب المصاحب، والسبب المتراخي، فيكون السبب سابقاً كدخول المسجد، فإن تحية المسجد وجبت لسبب سابق وهو دخولك المسجد، ولذلك قالوا: إن السبب إذا كان سابقاً أثّر وإذا كان مقارناً أثر، وأما إذا كان لاحقاً فإنه لا يؤثر، فإن كان السبب سابقاً كالدخول للمسجد وركعتي الطواف فإنهم قالوا: تصلي.
أما إذا كان السبب مصاحباً كما لو كسفت الشمس واستمر كسوفها إلى ما بعد صلاة العصر فإنك تصلي صلاة الكسوف، وعند الجمهور لا تصلي، والسبب المتراخي يكون بعد الصلاة، فتشرع الصلاة لسبب بعدها، ومن أمثلته: الاستخارة، فهنا لا يجوز لك أن تصلي بعد الصبح وبعد العصر بالإجماع قولاً واحداً، فهذه أحوال السبب الثلاثة، وهي: أن يكون سابقاً كتحية المسجد وركعتي الطواف، وأن يكون مقارناً كالكسوف، وأن يكون متراخياً كمسألة الاستخارة.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(56/10)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجماعة [1]
فرض الله تعالى على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، وأوجب عليهم أن يؤدوها جماعة مع المسلمين، فصلاة الجماعة واجبة على الرجال دون النساء، ولها حكم وفوائد عظيمة، وأحامها معلومة في بابها، ومنها: حكم صلاة الجماعة في البيت، وصلاة أهل الثغور في المسجد الجامع وغيرها.(57/1)
أحكام صلاة الجماعة(57/2)
مشروعية صلاة الجماعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الجماعة].
وهذه الترجمة تشتمل على مضاف ومضاف إليه، وذلك في قوله [صلاة الجماعة]، وقد تقدم معنا تعريف الصلاة لغة واصطلاحاً.
وأما الجماعة فإنها مأخوذة من قولهم: جمع الشيء إلى الشيء إذا ضمه إليه، فأصل الاجتماع الانضمام، وسميت الجماعة جماعة لانضمام أفرادها بعضهم إلى بعض.
وقد ائتسى العلماء والفقهاء رحمة الله عليهم في هذه الترجمة برسول الله صلى الله عليه وسلم في تسميته لهذا النوع من الصلوات التي تقع على صورة الاجتماع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين) وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة)، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة بهذا الوصف، فمن الفقهاء من يقول: (باب صلاة الجماعة) مراعاة لهذا الحديث، ومنهم من يقول: (باب الإمامة) وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لـ مالك بن حويرث وأخيه الذي كان معه من قومه: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وليؤمكما أكبركما)، فقال: (وليؤمكما)، وقال كما في الصحيح من حديث ابن مسعود: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فعبر بالإمامة.
فبعض العلماء يقول: (باب صلاة الجماعة)، وبعضهم يقول: (باب الإمامة) والمعنى واحد، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة الجماعة، وتقوم الجماعة على ربط المأموم صلاته بالإمام، فيتابعه قولاً وفعلاً كما يتابعه مكاناً، فلا يتقدم على الإمام من جهته، وذلك مراعاة لهذا الائتمام.
والإمامة مأخوذة من أمَّ الشيء يؤمه إذا قصده.
وهي هنا: ربط المأموم صلاته بالإمام، ويقع هذا الربط بصورة مخصوصة بيّن الشرع حكمها كما في دليل الكتاب في صلاة الخوف، وكذلك أدلة السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد شرع الله صلاة الجماعة في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبفعله عليه الصلاة والسلام، وكذلك أجمع العلماء رحمة الله عليهم على مشروعيتها.
أما دليل الكتاب على مشروعية هذا النوع من الصلاة فقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله تبارك وتعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوم بالطائفة، وذلك في صلاة الخوف، وإذا كانت الجماعة مشروعة في حال الخوف فمن باب أولى وأحرى أن تشرع حال الأمن والطمأنينة، ولذلك دلت هذه الآية الكريمة على مشروعية صلاة الجماعة، كما يقول العلماء، واحتج بعض أهل العلم بدليل الكتاب في قوله سبحانه: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، ووجه الدلالة أن هذه الآية الكريمة أمرت بني إسرائيل أن يركع بعضهم مع بعض، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهنا ورد شرعنا بما يوافقه.
وأما دليل السنة فأحاديث صحيحة، منها حديث ابن عمر في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية صلاة الجماعة، وأنها أفضل من صلاة الفذ، وذلك لما ذكر من الدرجات، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث مالك بن حويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكما أحدكما، وليؤمكما أكبركما)، فدلت هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث الصحيحة على مشروعية صلاة الجماعة، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعة، بل إنه حين وطئت قدمه طيبة الطيبة بعد نزوله من قباء كان أول ما فعل أن اختط مسجده صلوات الله وسلامه عليه تأكيداً لأهمية الصلاة في المساجد وفي بيوت الله عز وجل.
فالصلاة إذا ثبتت مشروعيتها، وتبين لنا أنها مشروعة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يعلم أنه قد أجمع العلماء رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على مشروعيتها.
وهذه المشروعية لها فضائل ونوائل تعود على الإنسان بالخير في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: شرع الله صلاة الجماعة وجعل فيها الخير للفرد وللمجتمع وللأمة كلها، وهذا الخير لا يقتصر على خير الدين بل يشمل حتى خير الدنيا، ويقولون: إن صلاة الجماعة تعود على الإنسان بالخير في دينه، فمن خيراتها في دينه أن الله يكفر بها سيئاته ويرفع بها درجاته، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد)، وإنما يأتي الإنسان إلى المساجد تحصيلاً لصلاة الجماعة، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، ورفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفضل من كونها تكفر خطايا العبد وترفع درجاته، وكفى بذلك فضلاً ونبلاً للإنسان، مع أن فيها إيماناً واهتداءً، ولذلك يعمر المسلم بيوت الله بشهود صلاة الجماعة، وأثنى الله عز وجل على من كان متخلقاً بذلك ومتصفاً به بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه من أهل الإيمان، وأن مآله إلى الاهتداء، وكان العلماء رحمة الله عليهم إذا لمسوا من الإنسان ضعفاً في دينه سألوه عن الصلاة مع الجماعة.
فصلاة الجماعة جعل الله فيها هذه الخيرات الدينية للفرد والمجتمع، فبها يتواصل الناس ويتراحمون؛ لأن الإنسان إذا غاب عن المسجد لمرض أو عاهة أو بلاء علم الناس ذلك واطّلعوا عليه وأدركوه بتخلفه عن الصلاة مع الجماعة، خاصة إذا كان من المحافظين والمداومين عليها، ومع ما فيها من جوار لله عز وجل، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي)، فهذه نعم عظيمة وخيرات كثيرة، وبشهود الناس لصلاة الجماعة تتحقق أواصر المحبة للمجتمع، فهذا يلقى أخاه يسلم عليه، ويسأله عن حاله، ويعين الضعيف، ويفرج كربة المكروب، إلى غير ذلك من الخيرات التي جعلها الله عز وجل في هذه الصلاة.(57/3)
حكم صلاة الجماعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [تلزم الرجال للصلوات الخمس لا شرط].
قوله: (تلزم) الضمير عائد إلى صلاة الجماعة، أي: تجب.
والمراد بالتعبير باللزوم الدلالة على أنها واجبة لازمة في ذمة المكلف، لكنه قال: (تلزم الرجال)، ومفهوم قوله: (الرجال) أنها لا تلزم النساء، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك كان من تعبير العلماء أن قالوا: ليس على النساء جمعة ولا جماعة.
أي: ليس على النساء أن يشهدن الجمعة ولا الجماعة، وهذا من باب درء المفاسد؛ إذ إنه لو أذن للنساء كلهن بالخروج لكان في ذلك مفاسد عظيمة وأضرار كثيرة لوجود العبء عليهن بالخروج.
وقوله: (تلزم الرجال) هذه الجملة ظاهرها أن كل مسلم بالغ من الرجال يجب عليه أن يشهد الصلاة مع الجماعة، والمراد بذلك الصلوات الخمس، وهذا الحكم اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيه على قولين: فذهب الإمام أحمد وداود الظاهري -وهو قول مأثور عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان- إلى أن صلاة الجماعة واجبة على كل بالغٍ ذكر، وأنه إذا تخلف عنها من غير عذر يعتبر آثماً.
ووافقه على هذا القول بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة والشافعي رحمة الله على الجميع، فعند أصحاب هذا القول أن صلاة الجماعة لازمة، ولا يجوز للمسلم أن يتخلف عنها إلا إذا وجد عنده عذر من مرض يحبسه أو نحو ذلك.
القول الثاني: أن الصلاة ليست واجبة على الرجل.
وبهذا قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله على الجميع.
وقد استدل أصحاب القول الأول الذين قالوا بالوجوب بدليل الكتاب والسنة والأثر: أما دليلهم من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل قال: (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) وهذا أمر، والأمر للوجوب، ثم أمر الطائفة الثانية التي تخلفت بالشهود فقال تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:102]، قالوا: فدلت هذه الآية الكريمة على وجوب صلاة الجماعة، وذلك في حال الخوف، فلأن تجب في حال الأمن والسلامة من باب أولى وأحرى.
وكذلك استدلوا بدليل السنة، وذلك بأحاديث: الأول: حديث أبي هريرة رضي الله الثابت في صحيح مسلم: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد.
فرخص له، فلما ولّى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم.
قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة) رواه مسلم.
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن هذا الرجل الأعمى مع وجود المشقة والعناء عليه بشهود الجماعة أمره النبي صلى الله عليه وسلم بها، فدل على أنها واجبة لازمة، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (فأجب)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، وقال: (فإني لا أجد لك رخصة)، فدل على اللزوم، وأن من تخلف عن الجماعة آثم.
الدليل الثاني: حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الجماعة فأحرّق عليهم بيوتهم).
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أنه سيعاقب من تخلف عن الجماعة، وأنه همَّ بمعاقبة من لا يشهد هذه الصلاة، ولا ترد العقوبة إلا على ترك واجب أو على فعل محرم، فدل على أن شهود الجماعة واجب، وأن التخلف عنها من غير ضرورة ولا عذر محرم.
الدليل الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة وغيره.
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أن من لم يشهد الجماعة فلا صلاة له إلا من عذر، فدل على أنها واجبة لازمة، فهذا حاصل ما احتج به أصحاب القول الأول من دليل الكتاب والسنة.
وأما دليلهم من الأثر فما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن؛ فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو تركتموها لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين فيقام في الصف.
ووجه الدلالة من هذا الأثر أن هذا الصحابي الجليل الموسوم بالفقه والعلم والعمل أخبر عن أهمية هذه الصلاة، وأنها بمثابة اللازم الواجب الذي لو ترك لضل العبد بتركه، وهذا كله يؤكد وجوبها ولزومها؛ لأنه لا يوصف بالضلالة إلا على ترك الهدى اللازم والواجب على المكلف.
فهذا حاصل ما استدل به أصحاب القول الأول القائلين بالوجوب.
أما من قال بعدم الوجوب فقد استدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين)، وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة).
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر كلتا الصلاتين، وجعل لصلاة الفرد فضلاً، فدل على أن صلاة الجماعة ليست بواجبة؛ إذ لو كانت واجبة لما ورد الفضل لضدها، أعني صلاة الفرد.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بوجوب صلاة الجماعة، وذلك لصحة دلالة الكتاب والسنة على هذا القول.
وأما ما استدل به من قال بعدم الوجوب فإن حديث ابن عمر رضي الله عنهما غاية ما دل عليه إثبات الأجر لصلاة الفذ، وذلك لا يستلزم عدم وجود الإثم المترتب على التخلف عن صلاة الجماعة.
ووجه ذلك أن يقال: إن الأحاديث التي أمرت بصلاة الجماعة دلت على وجوبها، وحديث أبي هريرة دل على المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفذ، فكأن حديث أبي هريرة خرج عن موضع النزاع؛ لأن موضع النزاع في الدلالة على الوجوب أو عدم الوجوب، وكون الأجر يرد على هذا أقل من غيره، أو يرد على هذا أكثر من غيره فهذا خارج عن موضع النزاع، والقاعدة في الأصول أن النص إذا خرج عن موضع النزاع لم يصلح دليلاً على عين المسألة المختلف فيها.
وبهذا يترجح القول القائل بالوجوب.
وقوله: [للصلوات الخمس] أي: تلزم في الصلاة المكتوبة، وهي الصلوات الخمس: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولذلك قيد المصنف رحمه الله إطلاق الوجوب واللزوم بهذه الصلوات الخمس على ظاهر النصوص؛ لأنها إنما وردت في الصلاة المفروضة والمكتوبة، وأما جماعة النوافل كصلاة التراويح والصلاة على الجنازة إذا كانت جماعة فهذه ليست بلازمة ولا واجبة على المكلف.
وقوله: [لا شرط] أي: صلاة الجماعة شهودها مع الجماعة واجب ولازم، ولكن ليس شرطاً في صحة الصلاة.
ونحن ذكرنا أن العلماء رحمة الله عليهم -الظاهرية والحنابلة وبعض الحنفية والشافعية- الذين قالوا بوجوب صلاة الجماعة انقسموا إلى طائفتين: فطائفة أوجبت صلاة الجماعة، وقالت: لو صلى لوحده صحت صلاته.
وطائفة قالت بوجوب صلاة الجماعة، وقالت: لو صلى فرداً من دون عذر لم تصح صلاته.
وإذا ثبت أن صلاة الجماعة واجبة، فهل وجوبها وشهودها شرط في صحة الصلاة أو ليس شرطاً؟ في المسألة قولان عند من يقول بالوجوب: قال الحنابلة، والحنفية والشافعية الذين يوافقونهم على وجوب صلاة الجماعة: إنها ليست بشرط في صحة الصلاة، فمن صلى منفرداً صحت صلاته وأجزأت ويأثم؛ لأنه لم يشهد الجماعة.
وقال الظاهرية -وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع- إنها واجبة وشرط في الصحة.
فلو صلى منفرداً بدون عذرٍ فإن صلاته باطلة على هذا القول.
وقد استدل الذين قالوا بالوجوب وأنها ليست بشرطٍ في الصحة بأدلة الوجوب التي ذكرناها؛ لأن الأصل أن من أدى صلاته كاملة بأركانها وشرائطها وواجباتها فصلاته صحيحة حتى يدل الدليل على البطلان.
فلو سألك سائل: ما الدليل على أن الأصل فيمن أدى الصلاة بأركانها وواجباتها أن يحكم بصحة صلاته تقول: حديث المسيء صلاته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بين له ما يجب في الصلاة قال له: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك)، فإذا صلى المنفرد وأدى الصلاة بأركانها وواجباتها انطبق عليه ما ورد في هذا الحديث.
أما فقهاء الظاهرية ومن وافقهم فقد استدلوا على بطلان صلاة المنفرد بدون عذر بما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة، وهذا الحديث مختلف في إسناده وفيه كلام، ولكن على القول بصحته، قالوا: إن قوله: (فلا صلاة له) أي: فلا صلاة صحيحة.
فدل هذا الحديث على بطلان صلاة المنفرد؛ لأنه صلى بدون عذر.
وأما الذين قالوا بصحتها فإنهم يقولون: إن قوله: (فلا صلاة له) أي: كاملة، والذين يقولون بعدم صحتها يقولون: فلا صلاة صحيحة، فأصبح حديث ابن عباس متردداً بين نفي الكمال ونفي الصحة.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بصحة صلاة المنفرد ولو كان تاركاً للجماعة بدون عذر، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة ما احتج به أصحاب هذا القول.
ثانياً: أن استدلال أصحاب القول الثاني بحديث ابن عباس يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: من جهة السند، فإنه معارض لما هو أصح منه، مع ما فيه من الطعن في روايته.
الوجه الثاني: من جهة المتن، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا صلاة له) يتردد بين نفي الصحة ونفي الكمال، وال(57/4)
صلاة الجماعة في البيت
قال رحمه الله تعالى: [وله فعلها في بيته].
قوله: (وله) أي: للمكلف، (فعلها) أي: فعل صلاة الجماعة في بيته، بأن يجمع أهله، فيصلي بامرأته أو ببناته، أو يصلي بإخوانه وأخواته، أو يصلي بأبنائه وبناته، وقس على هذا، فلا حرج عليه على هذه الرواية.
ومن الأصحاب من قال: إن كان تخلفه عن المسجد لا يؤدي إلى ضعف الجماعة فإنه يجوز له أن يتخلف ويصلي مع جماعته في المنزل، واحتجوا بحديث الرحل -وهو ثابت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام-: أنه صلى بالناس بخيف منى، فرأى رجلين لم يصليا، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا.
قال: فلا تفعلا.
إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه؛ فإنها لكما نافلة).
ووجه الدلالة أنهما تركا جماعة المسجد لجماعة الرحل والبيت، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهما ذلك.
وهناك من العلماء من قال: إن هذا لا يشمل صلاة الرجل في أهله، وإنما هو وارد في صلاة السفر، والجماعة في السفر ساقطة عن المسافر لهذا الحديث، فلا تشمل من جمع في أهله.
وهذا القول من القوة بمكان، أعني أنه لا يشرع للإنسان أن يتخلف عن الصلاة مع الجماعة ويجمع بأهله؛ لأنه لو فتح هذا الباب لفات كثير من مقاصد الشريعة بإيجاب الجماعة، ولذلك يحمل حديث الرحل على المسافرين؛ لأنهما كانا بخيف منى فكانا في حكم المسافرين، ولذلك صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قصراً، فالحديث وارد في المسافرين، وأحاديث الجماعة إنما هي في المقيم، وعلى هذا نقول: إن المسافر لا تجب عليه الجماعة إن كان يصلي في رحله رفقاً وتوسعةً من الله عز وجل على هذا النوع من المكلفين.(57/5)
صلاة أهل الثغور في مسجد جامع
قال رحمه الله تعالى: [وتستحب صلاة أهل الثغر في مسجد واحد].
أهل الثغور: هم الذين يكونون في الجهاد، ويوصف الجهاد بكونه ثغراً، فيقال: ثغور الإسلام؛ لأنها منافذ يدخل منها على المسلمين، ويقف المجاهدون المرابطون عليها صيانة لثغور الأمة.
فيستحب لأهل الثغر -أي: الذين يكونون في الجهاد -أن لا يتفرقوا في جماعات متعددة؛ لأنهم إذا اجتمعوا في جماعة واحدة كان أمكن في إظهار هيبة الإسلام وعزة أهله وتآلف أصحابه، وإذا رآهم العدو وهم بهذه الكثرة العظيمة يصلون مع بعضهم ويركعون وراء إمام واحد وينضبطون انضباطاً كاملاً كان ذلك أبلغ في الهيبة، حتى إن الأوزاعي قال: لقد هممت أن أحرق المساجد في الثغور من أجل أن يجتمع المجاهدون على إمام واحد، وهذا لا شك أنه أبلغ في الجماعة، وفي الألفة والمحبة، وفي قوة الأخوة وتحقيق الأواصر، وأبلغ في النكاية بالعدو وإرهابه من شوكة المسلمين، فلذلك استحب العلماء أن تكون جماعتهم واحدة، ولكن نظراً لأن الثغور يعتريها ما يعتريها من وجود التفرق خوفاً من دهم العدو ومباغتته فلا حرج أن تكون هناك أكثر من جماعة، ولا حرج أن يتفرقوا جماعات، ويكون الأمر مرتبطاً بمصلحة الجهاد على حسب ما يراه إمامهم.(57/6)
صلاة الرجل في المسجد القريب منه
قال رحمه الله تعالى: [والأفضل لغيرهم في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره ثم ما كان أكثر جماعة].
بعد أن بين لنا لزوم الجماعة ووجوبها، وأنها ليست شرطاً في الصحة شرع الآن في بيان أفضل الجماعات.
فمنها: أن الرجل الذي تتوقف الجماعة عليه في مسجده، ويكون مسجده محتاجاً إليه لحصول الكثرة، فهذا الأفضل له أن يصلي في جماعة مسجده.
مثال ذلك: أن يكون لحيك جماعة، وهذه الجماعة قليلة العدد، وبشهودك يكثر العدد ويعرف الناس هذا المسجد ويقبلون عليه وتقوى جماعتهم، فحينئذ تصلي معهم، ولا تنصرف إلى غيره؛ لما فيه من تقوية هذه الجماعة ودعوة الناس لشهودها، وهذا يحقق مقصود الشرع.
قال: (ثم ما كان أكثر جماعة).
إن كان مسجدك لا تتوقف جماعته عليك يرد
السؤال
لو أن عندك أكثر من مسجد، فهل الأفضل أن تصلي في هذا المسجد، أو في ذاك المسجد؟
و
الجواب
أن المساجد قد فاضل الشرع بينها، فما كان من المساجد منصوصاً على فضله فمقدم على غيره، فيقدم المسجد الحرام على سائر المساجد على وجه الأرض، فمسجد الكعبة أفضل المساجد على الإطلاق، والصلاة فيه أشرف وأكمل وأعظم أجراً وحظاً، وذلك من كل الوجوه، خاصة وجود المضاعفة التي تصل إلى مائة ألف صلاة، وكذلك الجمعة فإنها آكد، والحض عليها في مسجد الكعبة آكد، ولو كان الإنسان يرجح القول الذي يقول: إن كل مكة يعتبر من المسجد الحرام فلا ينبغي له أن يذهب الفضل بعدم شهود الصلاة في المسجد الحرام؛ فإن دخوله وشهوده وتكثير سواد المسلمين فيه من الخير بمكان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن صلاة الرجل مع الرجل أفضل وأزكى من صلاته وحده، وأنها مع الثلاثة أزكى من الاثنين، وما كان أكثر كان أفضل، كما في حديث أحمد، فصلاة الجماعة في المسجد الحرام فيها فضيلة المكان، وفضيلة العدد -الكثرة-، وفضيلة القدم؛ لأن الله يقول: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فقدم هذا المسجد، وشهود الله عز وجل بقدمه يدل على فضله وبركة الصلاة فيه؛ لأن كل شيء شهد الشرع بفضله فهو مبارك.
ويلي ذلك المسجد النبوي، وذلك لشهود النبي صلى الله عليه وسلم له بالفضل في قوله: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصلاة فيه أفضل، ثم يليه المسجد الأقصى، فإنه بخمسمائة صلاة فيما سواه إلا ما ذكرنا من المسجدين، فهذه المساجد الثلاثة هي أفضل المساجد على وجه الأرض، والصلاة فيها أكمل وأعظم أجراً، ويليها مسجد قباء، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه كان له كأجر عمرة) رواه النسائي وغيره بسند صحيح.
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الفضل لمسجد قباء، وأما الصلاة فيه فمطلقة، سواءٌ أكانت نافلة أم فريضة، وأما رواية: (فصلى فيه ركعتين) فضعيفة، لكن الرواية القوية: (فصلى فيه) بإطلاق، ولذلك لو صلى فيه فريضة أو نافلة فإنه ينال أجر العمرة.
فهذه المساجد أفضل، وشهود الجماعة فيها أكمل، وفي مكة لا شك أن الإنسان ينبغي له الحرص على الصلاة في المسجد الحرام، خاصة في يوم الجمعة؛ فإن الجمعة فيه بمائة ألف جمعة، فهي الفضل بمكان، ولو أن الإنسان حسبها لوجدها تعادل قروناً من العمر، فهذا فضل عظيم خص الله عز وجل به أهل مكة، فلا ينبغي -خاصة لأهل العلم وطلاب العلم- البعد عن هذا الفضل، خاصة وأن المسجد الحرام -مع ما في شهوده من الخير- فيه تعليم الجاهل وإحياء السنة؛ لأنه إذا كثر شهود أهل السنة الصلاة في هذا المسجد ائتسى الناس، وأحييت السنن، وكان في ذلك من الخير ما الله به عليم، ولذلك ينبغي الحرص على هذه الفضيلة.
وبعد هذه المساجد للعلماء تفصيل في تفضيل الجماعات: - فمنهم من يقول: يلي هذه المساجد أقدم المساجد، فلو كان عندك مسجدان، أو جماعتان إحداهما مسجدها أقدم فإنه تقدم الجماعة على المسجد الذي يلي ذلك المسجد في القدم، واحتجوا بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فقد أخبر الله تعالى أن قدم المسجد دال على فضله، فأثبت الأحقية للأقدم، وعلى هذا كلمة جماهير العلماء، فالمسجد القديم أفضل من المسجد الجديد وأحق، حتى قالوا: لو وجد مسجد قديم ثم جاء إنسان وأحدث مسجداً جديداً من دون حاجة لصلاة جماعة وإنما لقصد جذب الناس إلى مسجده فإنه يعتبر مسجد ضرار، ولو أُحدث مسجد للجمعة بعد مسجد قديم فإن العبرة في الجمعة بالمسجد القديم، ولا تصح الجمعة في المسجد الجديد إذا لم توجد حاجة، وهذا على ظاهر آية التوبة التي ذكرناها.
وعلى هذا جمع من أهل العلم رحمة الله عليهم من الفقهاء، فالمسجد القديم أحق لنص كتاب الله عز وجل على تفضيله، ولأنه أكثر طاعة وشهوداً للخير، وذلك لفضل الزمان الذي امتاز به على المسجد الذي هو دونه في الزمان.
فقوله: [ثم ما كان أكثر جماعة] أي: ثم ينظر إلى المسجد الذي هو أكثر جماعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أفضل)، وهذا الحديث المسند يدل على أن الجماعة الأكثر عدداً أفضل من الجماعة الأقل عدداً.
قال رحمه الله تعالى: [ثم المسجد العتيق].
اختلف العلماء فيما لو كان هناك مسجدان أحدهما قديم وجماعته قليلة، والثاني جديد وجماعته أكثر، فهل الأفضل أن تشهد القديم مع قلة الجماعة، أو تشهد الجديد مع كثرة الجماعة؟ فمنهم من يقول: أقدم فضيلة المكان -أي: فضيلة المسجد القديم-، وذلك لورود النص بها من القرآن.
ومنهم من قال: أقدم فضيلة الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين مسجد قديم وجديد، والذي يظهر -والله أعلم- أن المسجد القديم ولو كان أقل جماعة أفضل؛ وذلك لأن حديث النسائي فيه كلام في سنده، ودلالة نص الآية أقوى من دلالة السنة.
قال رحمه الله تعالى: [وأبعد أولى من أقرب].
أي أن أبعد المساجد أفضل من أقربها.
فلو كان عندك جماعة بعيدة وجماعة قريبة، فالجماعة البعيدة أفضل؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا دياركم تكتب آثاركم.
وذلك لأنهم أرادوا أن يتحولوا إلى جوار المسجد، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى)، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن أعظم الناس أجراً في صلاة الجماعة أبعدهم إليه ممشى، فدل على أن المسجد البعيد أفضل من المسجد القريب، ولذلك قالوا: الأفضل أن يذهب إلى ما هو أبعد لما فيه من المشقة والعناء.
وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن رجلاً كانت لا تخطئه صلاة في المسجد، فقيل له: لو أنك اتخذت دابة تقيك حر الرمضاء وهوام الليل؟ فقال: ما أحب لو أن بيتي معلقاً بطنب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إني أحتسب أن يكتب الله لي الأجر في ذهابي ورجعتي.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد جمع لك بين ذلك)، فمن كان بعيداً واحتسب الخطا إلى المسجد فإن ذلك أفضل وأكمل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، فدل هذا على أن من كان أبعد فهو أفضل ممن كان أقرب، ولذلك قالوا: إذا وجد مسجدان أحدهما أبعد والثاني أقرب فإن الأبعد أحب وأفضل من الأقرب.(57/7)
الأسئلة(57/8)
حكم صلاة الجماعة للمسافر
السؤال
هل يعتبر السفر عذراً في سقوط الجماعة عن المسافر ولو سمع النداء؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فظاهر حديث الخيف أنه إذا صلى المسافران أو المسافرون في رحلهم سقطت عنهم الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من الرجلين: أسمعتما النداء أو لم تسمعا.
والقاعدة في الأصول: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال)، فكأنه إذن بالعموم، سواءً أسمعوا أم لم يسمعوا، وهذا هو الذي يترجح من ظاهر السنة.
والله تعالى أعلم.(57/9)
الترخص برخص السفر لمن نوى السفر وهو لا يزال مقيماً
السؤال
نويت السفر، وأثناء الاستعداد للرحيل نودي لصلاة الظهر، فهل الجماعة واجبة في هذا الظرف، أم أصلي بأهلي ثم أسافر؟
الجواب
إذا سمعت النداء وأنت تنوي السفر فحكمك حكم المقيم، ولا يأخذ المسافر رخصة المسافر إلا إذا أسفر وخرج من آخر العمران، فإذا أسفر فقد سافر، وحينئذٍ لا حرج عليه أن يأخذ برخص السفر من قصر الصلاة والفطر ونحو ذلك مما يشرع للمسافر أن يترخص به، أما وأنت لا زلت مقيماً وتسمع النداء فإنه يجب عليك شهود هذه الجماعة، إلا إذا كنت مسافراً واضطررت بحيث يتوقف على تعجيلك أمور مهمة ويكون في تأخرك ضرر عليك، فحينئذ ينزل هذا منزلة العذر، كالعذر في حال الإقامة، ولا حرج عليك أن تبرد وتسافر.
والله تعالى أعلم.(57/10)
حضور صلاة الجماعة لمن سمع النداء وهو في نزهة
السؤال
نحن مجموعة من الشباب نخرج إلى نزهة ونصلي الجماعة في المكان الذي نحن فيه، ونسمع النداء في المكان المجاور لنا، فما حكم صلاتنا؟
الجواب
إذا كنتم تسمعون النداء بدون وسائل التكبير الموجودة الآن فإنه يجب عليكم شهود الجماعة، وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم على شهودها لمن سمع النداء، ولا عذر لكم.
والله تعالى أعلم.(57/11)
تعدد صلاة الجماعة في أيام الحج
السؤال
ما حكم تعدد الجماعات في وقت واحد في أيام الحج، وما الواجب عليّ فعله أثناء تواجدي في ذلك المكان؟
الجواب
الأصل أن يجتمع الناس على إمام واحد تحقيقاً لمقصود الشرع، فإن كان المنزل الذي نزلته فيه مكان قد هيئ لصلاة الجماعة فإنه أحق، وجماعته هي الجماعة، فالزمها واحرص عليها، وأنت مأجور بشهودها أكثر من غيرها، وأما إذا كان منزلاً يستوي فيه الناس، كأن يكون في أطراف المناسك -كما يحصل في عرفات وفي مزدلفة وفي منى- فحينئذ تصلي في أقرب الجماعات إليك إن أردت اللزوم، وأما إن أردت الفضل فانظر إلى أكثرها عدداً وأكثرها جماعة؛ فإن شهودها أفضل.
والله تعالى أعلم.(57/12)
اللحن الذي تبطل به الصلاة
السؤال
ما هو اللحن الذي تبطل به الصلاة، وهل لي أن أعلم جماعة المسجد بذلك؟
الجواب
اللحن الذي يبطل الصلاة أن يكون لحناً يحيل المعنى، كأن يقول: (أهْدِنَا)، فإن (اهدنا) غير (أهْدِنَا)، ولذلك يقولون: إذا لحن هذا اللحن الموجب لخروج المعنى من الدلالة فإنه حينئذ تبطل صلاته وصلاة من وراءه إذا كان من وراءه يحسن الفاتحة، أما إذا كان هذا الرجل لا يحسن الفاتحة ومن وراءه مثله أو أسوأ منه، فإن صلاته صحيحة، وتصح صلاته ولا يأثم إلا إذا فرط في التعلم.
والله تعالى أعلم.(57/13)
إتمام الصلاة لمن فاته بعضها
السؤال
من أعاد صلاة في مسجد آخر وقد سبقته الجماعة الثانية بركعة فأكثر هل يتم ما فاته؟
الجواب
من صلى وراء إمام فإنه يتم ما فاته؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمام والكمال، إلا إذا كان مسافراً ودخل وراء المقيم في الركعتين الأخريين من الرباعية.
فإنه يشرع له أن يسلم بسلام الإمام والله تعالى أعلم.(57/14)
نصيحة لمن يتخلف عن صلاتي الفجر والعصر
السؤال
كثير من الناس في هذا الزمن يتخلفون عن الجماعة في صلاتي الفجر والعصر بحجة غلبة النوم، فما توجيهكم لهؤلاء؟
الجواب
على المسلم أن يأخذ بالأسباب، وذلك إذا كان شديد العناء شديد التعب، فإنه يوصي من يوقظه، أو يضع بجواره من الآلات ما يعينه على الاستيقاظ، فإن تعاطى أسباب إيقاظه وغلبه النوم فإنه يعذر، أما إذا لم يأخذ بالأسباب فإنه يعتبر آثماً؛ لأن تعاطي الأسباب واجب عليه، وتركها أوقعه في محظور التخلف عن الجماعة، فيعتبر آثماً من هذا الوجه، أما لو تعاطاها واحتاط لنفسه فإنه لا يأثم؛ لظاهر حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه حينما عرس النبي صلى الله عليه وسلم في مقدمه من غزوة تبوك إلى المدينة.
وأما تساهل الناس في شهود هاتين الصلاتين فإنه لا يجوز للناس أن يتعاطوا أسباب التقاعس عن هاتين الصلاتين وشهودهما مع الجماعة، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل شهودهما مع الجماعة، فقال في الحديث الصحيح: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وشهود الصلاة فيه خير كثير على الإنسان، من استفتاح يومه بالعمل الصالح، واستفتاحه بسماع كلام الله وكتاب الله عز وجل، خاصة إذا كان الإمام قد أعطى كتاب الله حقه من الترتيل والتجويد؛ فإن في ذلك أثراً عظيماً على النفس، من انشراح الصدر وطمأنينة القلب وقوة النفس واستجمامها وإقبالها على الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأصبح طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)، نسأل الله المعونة وكفاية المئونة.
والله تعالى أعلم.(57/15)
إمامة المتنفل بالمفترض
السؤال
إذا صليت في جماعة ثم أتيت إلى مسجد آخر وقد أقيمت الصلاة فهل لي أن أصلي بهم؟
الجواب
من صلى الفريضة في جماعة ثم قدم على جماعة ثانية، فإن وجد غيره ممن هو أهل للإمامة فإن الأفضل له أن لا يتقدم؛ لأن العلماء رحمهم الله اختلفوا في إمامة المتنفل بالمفترض، وإن كان الصحيح جوازها، ولكن صيانة صلاة الناس والخروج من خلاف العلماء رحمهم الله أولى وأحرى، ولذلك تقدم غيرك، إلا إذا لم يكن هناك إمام سواك، فتتقدم بهم ولا حرج عليك.
والله تعالى أعلم.(57/16)
الصلاة في المسجد لمن فاتته صلاة الجماعة
السؤال
لو جئت إلى المسجد وقد انتهت الصلاة، فهل الأفضل أن أصلي في المسجد أم أرجع إلى البيت؟
الجواب
الأفضل أن تصلي في المسجد، وذلك لأن صلاتك في المسجد فيها فضيلة إتيان غيرك إليك، فإنه ربما رآك إنسان متخلف وصلى معك فأصبت وإياه الجماعة، ثم قد يصلي معك إنسان ممن صلى فيتصدق عليك ويثاب وتثاب أيضاً فتحصل فضيلة الجماعة، أما الرجوع إلى البيت فهذا قول شاذ ضعيف قال به بعض العلماء في المتخلف وراء الصف، حيث قالوا: من دخل ووجد الصفوف مكتملة فإنه يقف وينتظر، فإذا لم يأتِ أحد فإنه يرجع إلى بيته ويصلي.
وهذا القول من الشذوذ بمكان؛ لأن معناه أو مبناه على أن صلاته في المسجد غير صحيحة، فأين الدليل الذي يدل على أنه لو صلى لا تصح صلاته؟! وبناء على ذلك لا تصح صلاته إلا إذا صلى منفرداً خلف الصف، أما لو صلى منفرداً بعد الجماعة فعلى الأقل يقال: إنه يصلي، فإن جاء أحد معه فبها ونعمت، وإن لم يأتِ أحد معه استقبل الصلاة.
أما أن يرجع بعد أن أمره الله عز وجل بالشهود والحضور فهذا قول ضعيف قال به بعض العلماء رحمة الله عليهم، ووصفه جمع من العلماء رحمة الله عليهم بالشذوذ، أعني القول الذي يقول: إنه لو جاء والصف قد اكتمل ولم يجد من يصلي معه فإنه ينصرف ويرجع إلى بيته ولا يصلي في المسجد.
والله تعالى أعلم.(57/17)
كيفية إحرام من دخل مكة لغرض العمل ثم غير نيته
السؤال
ما حكم رجل يقيم في جدة، وخرج إلى مكة بنية العمل فغير نيته إلى نية الحج، فحج من مكانه؟
الجواب
من كان من أهل جدة وبعد أن خرج إلى مكة للعمل طرأت عليه النية في الطريق أو في مكة ففيه تفصيل: فإن طرأت عليه النية في الطريق فمن المكان الذي طرأت عليه يجب عليه الإحرام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ)، فإذا أنشأ نية الحج وهو في طريقه بين مكة وجدة يلزمه أن يحرم من المكان الذي جددت فيه نيته، ولذلك أحرم عبد الله بن عمر رضي الله عنه من وادي الفرع، وذلك من مزرعته التي كانت هناك، وهذا يدل على أن من طرأت عليه النية أحرم من حيث طرأت عليه النية، وعلى ذلك جماهير العلماء رحمة الله عليهم.
أما لو طرأت عليه النية بعد أن دخل مكة، أو بعد أو وصل إلى منى فيحرم من موضعه ولا حرج عليه، والله تعالى أعلم.(57/18)
حكم من جامع زوجته بعد التحلل الأول
السؤال
ما حكم رجل جامع زوجته بعد التحلل الأول، وهل على الزوجة شيء؟
الجواب
هذه المسألة قضى فيها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن حجه صحيح.
وعلى هذا جماهير العلماء رحمة الله عليهم، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)، ولكن يلزمه أن يذهب إلى التنعيم ويأتي بعمرة حتى يقع طواف الإفاضة في نسك صحيح؛ لأنه بجماعه قد أفسد نسكه -أعني فيما يستقدم-، فيمضي إلى التنعيم ويحرم بعمرة، ثم يطوف طواف الإفاضة قبل العمرة، ثم يعتمر بعد ذلك، ثم يرجع ويتم مناسكه وعليه الدم.
والله تعالى أعلم.(57/19)
صلاة الحاج من أهل مكة
السؤال
هل الحاج من أهل مكة في الحج بين المشاعر يقصر الصلاة أو يتمها؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم -أعني مسألة أهل مكة-، وبعض العلماء يرى أن أهل مكة في حكم المسافر، وإذا خرجوا إلى عرفات أو منى يقصرون؛ لأن أصحاب هذا القول لا يرون أن للسفر حداً، وعلى هذا فإن قليل المسافة وبعيدها سفر، وبناء عليه يشرع لهم الجمع لا للنسك ولكن للسفر، وذهب جمع من العلماء رحمة الله عليهم إلى أنهم يأخذون حكم المقيم إعمالاً للأصل، ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) صح عنه في مكة، ولم يصح عنه في عرفة، قالوا: إنما سكت في عرفة؛ لأنه سبق وأن أعلن أهل مكة بمكة.
وهذه المسألة مشكلة حتى على القول بأنهم قد خرجوا، فالمشكلة الآن أنه اتصل البناء، فأصبحت الأرض سكناً لأهل مكة، ولذلك أرى أن يحتاط وأن يخرج من خلاف العلماء رحمة الله عليهم، وإن جمعوا تجمع للنسك في يوم عرفة، وتجمع للنسك أيضاً ليلة مزدلفة لورود السنة بها، فإذا جمعت للنسك فلا حرج، لكن إتمام الصلاة يعتبر خروجاً من الخلاف.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.(57/20)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجماعة [2]
لصلاة الجماعة أحكام ومسائل متعلقة بها، منها: حكم إمامة الشخص في المسجد مع وجود الإمام الراتب، وحكم إعادة الصلاة لمن صلاها ثم حضر جماعة يصلون نفس الصلاة، وحكم تكرار الجماعة في المسجد، وحكم النافلة إذا أقيمت الصلاة، وبماذا تدرك الجماعة ونحوها من المسائل.(58/1)
تابع أحكام صلاة الجماعة(58/2)
التقدم للإمامة مع وجود الإمام الراتب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه أو عذره].
قوله: [ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه] أي: يحرم على المكلف أن يؤم غيره في المسجد الذي له إمام راتب إلا بإذنه.
أي: بإذن الإمام الراتب.
فلا يجوز للإنسان أن يتقدم للإمامة إذا وجد الإمام الراتب إلا بعد إذنه، وذلك لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه تخلف للصلح بين حيين من بني عوف، فلما تأخر جاء بلال فآذن أبا بكر بالصلاة، فأقام وتقدم أبو بكر يصلي بالناس، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فنبه الناس أبا بكر رضي الله عنه، فالتفت فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب يتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأتم، وتأخر أبو بكر.
ووجه الدلالة: -كما يقول العلماء- أن أبا بكر تأخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأحقية النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة، وذلك لمكان الرسالة من وجه، ولمكان الإمامة من وجه؛ ولذلك قالوا: إن هذا الحديث سنة، فلو قدم الإمام الراتب أثناء الصلاة وقد تقدم غيره، وأراد أن يؤخره ويتقدم صح ذلك وأجزأه، وبه أفتى جمع من العلماء رحمة الله عليهم، والسنة دالة على هذا.
والسبب في ذلك أنه أحق، والشرع قد أعطاه ذلك إن تعيّن من الإمام، أو من ينوب منابه، كما هو الحال لو عُين إمام راتبا لمسجد، فهذه الأحقية من جهة الولاية لا يجوز لأحد أن يتقدم عليها إلا بإذن من الشرع، وأذن لك الشرع أن تتقدم إماماً بدل الإمام الراتب عند عدم وجوده، فأما لو وجد فإن التقدم عليه يعتبر طعناً فيه وأذية له، وتقدماً من دون حق، وقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث عنه-: (من زار قوماً فلا يؤمهم)، فنص عليه الصلاة والسلام على أن لا يتقدم على إمامهم، ولذلك قال جماهير العلماء: الإمام الراتب أحق، ولا يجوز لأحد أن يتقدم عليه، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل أن يؤم الرجل في سلطانه، والإمام الراتب سلطان في مسجده.
وقالوا: هو في حكم الرجل في بيته وفي سلطانه، فلا يجوز التقدم عليه، ومن هنا لا يشرع للإنسان أن يتقدم للإمامة مباشرة، وإنما يتقدم إذا لم يوجد الإمام الراتب، أو وجد إمام راتب وأذن له أن يتقدم، كأن يكون أعلم وأحق وأولى لعلم وفضل ونحو ذلك، فإنه يشرع للإمام أن يقدمه إظهاراً لفضله وإظهاراً لنبله ولذلك تأخر أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لعظيم حقه صلوات الله وسلامه عليه، فإن تأخر له فحينئذ يتقدم.
فإذا لم يوجد الإمام الراتب ولم يوجد له نائب فحينئذ يجوز لك أن تتقدم إذا كنت أهلاً للإمامة، أو جد إمام راتب لكنه يلحن في الفاتحة لحناً يوجب بطلان صلاة من وراءه، فحينئذ يشرع لك أن تتقدم، وذلك صيانة لصلاته وصلاة من وراءه، فحينئذ لا حرج عليك أن تتقدم، إلا إذا وجدت مفسدة أو ضرر فحينئذٍ لا تعتد بصلاتك وراءه.
وقوله: [أو عذره].
أي: وجود العذر.
وإذا تأخر الإمام عن المسجد فحينئذٍ يرسل إليه إذا كان بيته قريباً، ولا حرج أن يطلب من الأئمة إذا تأخروا أن يحضروا، فإن عمر رضي الله عنه لما أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة العشاء خرج يصرخ ويقول -كما في الصحيحين-: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والصبيان.
فإذا كان تأخير الناس في انتظار الصلاة يحصل به المشقة والضرر فلا حرج أن يرسل إلى الإمام ويقال له: بادر إلى الصلاة.
فإن كان.
عنده عذر، أو طرأ عليه عذر فقال لهم: صلوا.
وأذن لهم بالصلاة، فحينئذ يقدمون من رضوه لإمامتهم ويصلي بهم.(58/3)
إعادة الصلاة لمن صلى ثم حضر جماعة يصلون
قال رحمه الله تعالى: [ومن صلى ثم أقيم فرض سن أن يعيدها إلا المغرب] قوله: [ومن صلى] أي: الفريضة.
[ثم أقيم فرض] أي: لنفس الفريضة التي صلاها، كأن تصلي العصر في مسجد، ثم تذهب إلى مسجد آخر تطلب أخاً أو تريد حاجة، فدخلت في هذا المسجد فأقيمت الصلاة، فإنه يجب عليك أن تدخل مع هذه الجماعة الثانية، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فمنهم من قال: من صلى صلاة ثم دخل المسجد وأقيمت نفس الصلاة فلا يصليها ولا يعيد.
واحتجوا بحديث ميمونة: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تعاد الصلاة مرتين).
والقول الثاني: يعيد جميع الصلوات بدون استثناء وهو مذهب بعض أهل الحديث وأهل الظاهر، وذلك لظاهر حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (صل الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم، ولا تقل: إني صليت)، وحديث الخيف بمنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا؛ فإنها لكما نافلة).
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإعادة الجماعة، وهذا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن الصلاة تعاد في المسجد مطلقاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إلا المغرب، أو العصر، أو الفجر، وإنما قال: (فصليا؛ فإنها لكما نافلة).
ومنهم من قال: يعيد جميع الصلوات إلا صلاة الفجر والعصر.
ومنهم من قال: يعيد جميع الصلوات إلا المغرب، كما اختاره المصنف.
ومنهم من قال: يعيد جميع الصلوات إلا صلاة الفجر والعصر والمغرب.
والسبب في استثناء المغرب -كما درج عليه المصنف- أن المغرب وتر، وإذا صلاها فإنه يكون موتراً وترين في ليلة، وفي حديث الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا وتران في ليلة).
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- أنه يشرع له أن يعيد جميع الصلوات بدون استثناء، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة حديث أبي ذر في الصحيحين أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صل الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم، ولا تقل: إني صليت)، ولم يقل: إلا المغرب.
بل أطلق، والقاعدة في الأصول: (المطلق يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده)، ولا مقيد له هنا.
وكذلك حديث الخيف، حيث قال للرجلين: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا)، ولم يقل: إلا المغرب، أو الفجر، أو العصر.
وهذان النصان مطلقان.
أما استثناء المغرب لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) فيجاب عنه بأن الوتر يبتدئ وقته من بعد صلاة العشاء، وإذا صلى المغرب فإنه لم يدخل بعد وقت العشاء، فيكون هذا الوتر غير معتدٍ به ولا مؤثر.
ثانياً: أن نقول: إنه بعد سلام الإمام يقوم ويشفع صلاته بركعة، جمعاً بينه وبين حديث: (لا وتران في ليلة)، وعلى هذا فلا تعارض بين هذه النصوص، وكل من صلى ثم دخل المسجد فإنه يعيد صلاته مع الجماعة الثانية.
وهذا -كما يقول العلماء- فيه نكتة لطيفة، وهي أن الإسلام حرص على الجماعة ونهى عن الشذوذ؛ لأن الشذوذ عن الجماعة شر وبلاء، ولذلك من خرج عن جماعة المسلمين العامة مات ميتة جاهلية والعياذ بالله، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج عن الجماعة، حتى قال: (من مات وليس في عنقه بيعة فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً)، فالخروج عن جماعة المسلمين هلاك، فأدب الله عز وجل عباده المؤمنين في أهم أركان الدين وهي الصلاة أن يكونوا على وتيرة واحدة ولا يشذون، ولأنه لو فتح باب التخلف عن الجماعات لفتح لأهل الأهواء والبدع أن يتخلفوا عن أهل السنة، ولذلك جمع الله شمل المسلمين بهذه الصورة، فإذا دخل الإنسان إلى المسجد فإنه يلتزم بجماعة المسجد، حتى نص جماهير العلماء على أنه لو دخل قبل تسليم الإمام ولو بلحظة وأمكنه أن يكبر يجب عليه أن يكبر، ولا ينتظر، ولا يحدث جماعة ثانية، وذلك للنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا) أي: ما أدركتموه مع الإمام فصلوا، قالوا: فهذا مطلق يشمل جميع ما يدرك، وإذا أراد أن يحدث جماعة ثانية يقول لمن معه: ندخل في التشهد، فإذا سلم الإمام فائتم بي.
فإن كل هذا تعظيم لأمر الجماعة، ولذلك قالوا: من دخل وقد صلى فإنه يصلي ويدخل مع الجماعة ويعيد، وتعتبر هذه الإعادة لازمة وواجبة؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها دون استثناء لفرض.(58/4)
حكم تكرار الجماعة في المسجد
قال رحمه الله تعالى: [ولا تكره إعادة الجماعة في غير مسجد مكة والمدينة].
أي: لا حرج في استحداث جماعة ثانية بعد الجماعة الأولى، وذلك لأدلة: أولها: أنه قد ثبتت النصوص في الكتاب والسنة باعتبار المساجد للجماعات، وأن الأصل في المساجد أنها للجماعة.
ثانيها: أنه ثبت في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس جماعة، ثم لما انفتل من صلاته رأى رجلاً يصلي وحده، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا؟) فقام أبو بكر فصلى معه.
ووجه الدلالة أن هذا الرجل دخل لوحده، وأبو بكر كان قد صلى، ولم يوجد مع الرجل رجل ثانٍ، فندب النبي صلى الله عليه وسلم من كان صلى أن يصلي معه.
قالوا: عرف منه الشرع أنه ينبه بالأدنى على الأعلى.
وقالوا: فإذا شرعت الجماعة في المسجد بعد الجماعة الأولى لمتنفل مع مفترض، فلأن تشرع لمفترض مع مفترض من باب أولى وأحرى.
ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لو وجد معه رجلاً لم يقل للناس: (من يتصدق على هذا)، فكأن مقصود الشرع الرفق بالناس، ونفهم من قوله: (من يتصدق على هذا) أن مقصود الشرع حصول الجماعة بأية وسيلة ولو بإعادة الصلاة مرة ثانية، فإذا علمت أن مقصود الشرع هو حصول الجماعة من جهة قوله: (من يتصدق) دل قوله: (من يتصدق) على العموم، أي أن مقصود الشرع أن تحصل الجماعة الثانية، بدليل قوله: (من يتصدق) أي: من يجعل صلاة هذا صلاة جماعة، فإذا كان مقصود الشرع أن يتصدق على هذا، وأن تكون الصلاة بالرجل صلاة جماعة فلا فرق أن تقع الجماعة الثانية بمفترض مع مفترض، أو بمفترض مع متنفل، والقول بأن هذا خاص بالمتنفل تخصيص بدون مخصص، ولا يستقيم هذا القول.
فلو قال قائل: إن هذا يختص بمتنفل مع مفترض، فهذا قول ضعيف؛ لأن مسلك التخصيص عند الأصوليين شرطه أن يكون الأصل خلاف ما ورد به النص، بمعنى أن يأتي أصل نص صريح يدل على أنه لا تجوز الجماعة الثانية، وليس عندنا نص صريح بل غاية ما فيه حديث ابن مسعود، وحديث تأخر النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح بين حيين بقباء، فقدم المسجد فوجدهم قد صلوا، فلم يعرج على المسجد بل مضى إلى بيته، فهذا الحديث لا يدل على المنع من الجماعة الثانية -كما يقول الإمام مالك ومن وافقه-؛ لأن حديث الصلح يجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى بيته، ودعوى أصحاب هذا القول أنه: لا تشرع الجماعة الثانية -أي: نهي ومنع وتحريم- تحتاج إلى صريح نص، ولذلك يقولون: دلالة الفعل لا تدل على التحريم، فيقول الجمهور: لا مانع أن ينصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته لئلا يكسر خواطر أصحابه؛ لأنه لو دخل المسجد لانكسر خاطر من صلى بهم، وقد كان عليه الصلاة والسلام من أرحم الناس بأصحابه، وغاية ما فيه أن يقال: إنه خارج المسجد، وخلافنا في داخل المسجد، والقاعدة في الأصول: (لا يحكم بالتعارض بين نصين إلا إذا اتحدا مورداً ودلالة).
وقد جاءنا حديث أبي بكر في داخل المسجد، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في خارج المسجد، مع وجود صريح اللفظ في حديث أبي بكر، ووجود دلالة فعل محتملة في حديث الصلح، فبقي قول من قال بمشروعية التكرار أقوى وأوجه وأولى بالاعتبار، ولذلك كان أرجح القولين، والعلم عند الله عز وجل.
وقوله: [في غير مسجدي مكة والمدينة].
أي أن مسجدي مكة والمدينة لا يشرع تكرار الجماعة فيهما، وهذا توسط بين القولين اللذين ذكرناهما، وإلّا فإن الخلاف بين العلماء رحمة الله عليهم عام في المساجد كلها، وكان الإمام مالك رحمة الله عليه ومن وافقه من السلف يشددون في الجماعة الثانية من باب سد الذرائع، ومن أصول المالكية سد الذريعة؛ لأن عصورهم كان فيها أهل بدع وأهواء يتخلفون عن جماعة أهل السنة ويحدثون الجماعة الثانية، فخشي أن يفتح لأهل البدع والأهواء ما يفعلونه من التخلف عن الجماعة واستحداث جماعة ثانية حتى تكون شعاراً لهم، قالوا: ولأنه لو حدثت الجماعة الثانية لتقاعس الناس عن الجماعة الأولى، وهذه كلها علل عقلية لا تصادم النص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من يتصدق على هذا)، ولا تصادم النصوص التي دعت إلى إحياء الجماعة، وغاية ما نقول: إن الجماعة الثانية لو تخلف الإنسان لها فقد فاته فضل الجماعة الأولى، فبقي مشدود الهمة للجماعة الأولى تحصيلاً لفضيلة أول الزمان وفضيلة أولى الجماعتين.(58/5)
حكم صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فإن كان في نافلة أتمها إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها] هذه العبارة تعتبر جملة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح، وأصله قصة وقعت لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة فأقيمت الصلاة فكبر رجل ودخل في الصلاة، فلمّا سلّم النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (يا هذا بأي الصلاتين اقتديت؟ أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟) وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاً)، وهذا الحديث يتضمن النهي عن الدخول في صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة المفروضة.
فقوله: [إذا أقيمت الصلاة] معناه: إذا كان الإنسان في المسجد وأقيمت الصلاة الحاضرة [فلا صلاة] أي: لا يجوز له أن يبدأ في صلاة إلا المكتوبة التي أقيمت.
وبناءً على ذلك فلو كان يريد التنفل، كأن يصلي الفجر القبلية ويكون ذلك عند الإقامة أو بعد الإقامة فإنه ينهى عن ذلك، ويعتبر فعله هذا محرماً ومنهياً عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلا صلاة إلا المكتوبة)، والنفي في قوله: (فلا صلاة) يتضمن النهي؛ إذ لم يفرق بين صلاة وأخرى.
وهناك فائدة ثانية، وهي أن هذا الحديث دلنا على أن التعارض بين الواجب وغير الواجب الذي هو أدنى منه يوجب تقديم الواجب لعلو مرتبته في الشرع، ووجه ذلك أنه إذا أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فإنك مخاطب بواجب حاضر وهو الصلاة مع الجماعة، والتنفل دون هذا الواجب، وبناءً على ذلك تقطع هذه النافلة وتدخل في الفريضة مع الجماعة.
وفيه دليل على فائدة ثالثة، وهي أن الإسلام يريد من المسلمين أن يكونوا جماعة واحدة، ولا يريد التفرق حتى في أشرف العبادات وهي الصلاة، ولذلك منع المصلي أن ينفرد عن الجماعة في المسجد، وكما أنه في الابتداء يدخل مع الجماعة فكذلك عند الانتهاء، فلو دخلت قبل تسليم الإمام ولو بلحظة فإنك تدخل مع الجماعة، وحينما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أنه سيكون عليهم أئمة يؤخرون الصلاة قال الصحابي: ماذا أفعل؟ قال: (صلِّ الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم) أي: لا تشذ عن الجماعة، وقال للرجلين لمّا صليا بعد يوم النحر بمنى ثم جاءا إلى ناحية من المسجد فلم يصليا: (ألستما بمسلمين؟) أي: لو كنتما مسلمين لكنتما مع جماعة المسلمين قالا: بلى يا رسول الله.
ولكنا صلينا في رحالنا.
قال: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا؛ فإنها لكما نافلة) يقول العلماء رحمة الله عليهم: وهذا كله يؤكد أمر ولزوم جماعة المسلمين ما أمكن، حتى في أشرف المواطن وأعظمها وهي الصلاة.
فلو فتح للناس أن يتنفلوا أثناء الفريضة لتفرقت جماعة المسلمين، وأصبح هذا يصلي الرغيبة وهذا يصلي تحية المسجد، فلا يدري الإنسان وهو داخل عن حال الجماعة، لكنهم إذا صلوا وراء إمام واحد، واقتدوا بإمام واحد كان ذلك أبلغ في الاجتماع والاتئلاف، وهذا هو مقصود الشرع من صلاة الجماعة.
وللإنسان عند إقامة الصلاة حالتان: الحالة الأولى: أن تقام الصلاة ثم يبتدئ النافلة، وهذا محرم بالإجماع، فلا يشرع في النافلة بعد إقامة الصلاة، سواءٌ أكانت في أول الإقامة أم بعد الانتهاء من الإقامة، أم في أثنائها، فإذا قال المؤذن: (الله أكبر)، يقيم الصلاة فإنه يحرم على الإنسان أن يكبر لنافلة أو غيرها.
وقد استثنى بعض فقهاء الحنفية المتأخرين رحمة الله عليهم رغيبة الفجر، فتجدهم ينفردون يصلون ولو كان الإمام في الأولى، واحتجوا بحديث ضعيف: (إلا رغيبة الفجر)، ولكنه لا يقوى على استثناء هذا النص الصحيح الصريح، وبناءً على ذلك فإن العمل على ما عليه جماهير العلماء من أنه لا يجوز إذا أقيمت الصلاة أن يبتدئ المصلي بصلاة نافلة أياً كانت هذه النافلة.
الحالة الثانية: أن تقام الصلاة وأنت في أثناء الصلاة، فإن غلب على ظنك أنك سوف تتم الصلاة قبل أن يركع الإمام ويمكنك أن تدرك الركعة معه فحينئذ تتم الصلاة على قول جماهير العلماء، خلافاً للظاهرية وأهل الحديث، حيث قالوا: إذا أقيمت الصلاة -حتى ولو غلب على ظنك أنك تدرك الإمام في ركوعه- فإنك تقطع هذه الصلاة، ولو كنت في آخرها؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا صلاة إلا المكتوبة) والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن الله يقول -كما في التنزيل-: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، فنهانا عن إبطال العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير أعمالكم الصلاة)، فنهانا الله عن إبطال العمل، والصلاة عمل، فلا نبطلها إلا بوجه بين، فإنه إذا غلب على ظنك أنك مدرك للركعة جمعت بين الأمرين، والقاعدة: (الجمع بين النصين أولى من العمل بأحدهما وترك الآخر).
ثم إننا نقول: إن قوله: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة) هو نص في ابتداء الصلاة، وليس المراد به إلغاء الصلاة التي من قبل، وبناءً على ذلك فإنه يقوى أن يكون المعنى: (فلا صلاة ابتدءاً)، ويؤخذ المعنى منسحباً إلى كل صلاة تؤدي إلى فوات جزء الصلاة ركعة فأكثر.
وقوله: [فلا صلاة إلا المكتوبة].
المكتوبة هي المفروضة؛ لأن الكَتْب يطلق بمعنى الفرض، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] أي: فرض ووجب ولزم عليكم الصيام، فالكتب هو الفرضيّة والوجوب، فمن هنا يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) أي: المفروضة الحاضرة.
وقوله: [فإن كان في نافلة أتمها إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها]: أي: إن كان في نافلة فإنه يتمها إن وسعه الإتمام دون أن تفوته الركعة، وأما إذا كانت الركعة سوف تفوته فإنه يقطعها ويدخل في الجماعة.(58/6)
ما تدرك به فضيلة الجماعة
قال رحمه الله تعالى: [ومن كبر قبل سلام إمامه لحق الجماعة].
إذا دخلت إلى المسجد والإمام في التشهد الأخير ففي هذه الحالة تعتبر غير مدرك للركعة؛ لأن من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة، وهناك أمران عند العلماء: أحدهما: حكم الصلاة مع الجماعة.
وثانيهما: فضل الجماعة.
فهناك فرق بين الحكم وبين الفضل، يُقال: أدرك الفضل.
ويقال: أدرك الحكم.
وإدراك الحكم شيء، وإدراك الفضل شيء آخر، فإذا كان الإنسان قد أدرك ركعة فأكثر مع الإمام فقد أدرك الصلاة، فلو أدركت ركعة فأكثر، كأن دخلتَ في صلاة الظهر فأدركت الإمام في الركعة الأخيرة، وكبرت وركعت معه فأنت مدرك للصلاة، وكذلك الحال لو أدركته يوم الجمعة في الركعة الأخيرة، فأنت مدرك للجمعة، وحكمك حكم المجمّع.
الحالة الثانية: إدراك الفضل، وهو على صورتين: الأولى: إدراك الفضل الحقيقي بالدخول مع الجماعة الأولى الذي يتضمن إدراك فضلها وقتاً.
الثانية: إدراك فضلها ثواباً، ولكن دون ثواب من أدركها كاملة، وهناك إدراك فضلها بمطلق الخروج.
فأما إدراك فضلها الذي يكون دون إدراك الحكم فكما لو أدركته قبل التسليم وقلت: (الله أكبر)، فانتهيت من تكبيرة الإحرام قبل أن يسلم فقد أدركت فضل الجماعة، وبناءً على ذلك قال بعض العلماء: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة) محمول في رواية السبع والعشرين على من أدركها من أولها، وأجر الخمس والعشرين لمن أدرك آخر أجزائها، فيكون أقل ما يدركه الإنسان في فضل صلاة الجماعة الخمس والعشرين جزءاً، وإذا أدركها من ابتدائها فيدرك سبعاً وعشرين درجة، ويتردد بين الفضيلتين، فهذا بالنسبة لإدراك الفضيلة.
وتوضيح هذين الأمرين يتضح بصلاة الجمعة، فلو أن إنساناً أدرك الإمام في يوم الجمعة في الركعة الأخيرة فقد أدرك الجمعة، ويتم ركعة واحدة، لكنه لو أدرك الإمام بعد الرفع من الركوع ولم يدرك الركعة الأخيرة نقول: أدرك فضيلة الجمعة ويتمها ظهراً؛ لأنه لم يدرك الحكم، فهناك فرق بين حكم الجمعة وبين فضلها، وبين حكم الجماعة وبين فضلها.
وبناءً على هذا فمن أدرك الإمام قبل تسليمه ولو بلحظة فكبر فإنه مدرك للفضيلة، وبناء على ذلك لو دخلت ولو قبل تسليم الإمام بلحظة فإن الجماعة الأولى التي تدركها أفضل من الجماعة الثانية التي ستصلي معها، خلافاً لمن اختار من بعض الأئمة أنه ينتظر ويقيم جماعة ثانية، وهذا فيه إشكال من وجوه أشهرها وجهان: الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم فصلوا)، وهذا عموم؛ حيث لم يفرق بين إدراك الحكم وإدراك الفضيلة، وهذا نص لا يحتاج إلى اجتهاد، ولم يقل: إلا أن يكون قبل السلام بلحظة فجمعوا، وإنما قال: (فما أدركتم فصلوا).
الوجه الثاني: أنك لو دخلت مع الجماعة الأولى أدركت فضيلة الجماعة الأولى في الوقت، ولكن لو تأخرت وأحدثت جماعة ثانية فقد فاتك من الفضائل ما الله به عليم؛ لأنه ربما تكون اللحظة بين أول وقت الصلاة وبين التي تليها كما بين السماء والأرض.
وفي الحديث: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها -أي: الكامل- ولما فاته من وقتها خير من الدنيا وما فيها)، فربما أن الجماعة الأولى ستأخذ الركعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة فيها أجزاءً من الوقت، وقد تطول الصلاة، فعندما تدخل مع الإمام قبل تسليمه ولو بلحظة فقد أدركت فضيلة الوقت، وكان لك حكم الجماعة الأولى التي أدركت من فضل الوقت ما لم تدركه الجماعة الثانية.
ومن هنا ترجح قول الجماهير أنه يدخل مع الجماعة الأولى، ولكن استحب بعض العلماء أنه لو دخل بجواره من يفقه ويعلم أن يقول له إذا دخل بعد الركعة الأخيرة: إذا سلم الإمام فائتم بي.
فإذا سلم الإمام فإنه يقتدي هذا المتأخر بالمتأخر، ولو كانا اثنين دفعهما وراءه ثم صلى بهما، أما لو أدرك ركعة فأكثر فلا يحدث جماعة ثانية، فيكون مدركاً لفضيلة الجماعة الثانية ومدركاً لفضيلة الجماعة الأولى، وهذا أنسب الوجوه وأحبها عند طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم.
قال رحمه الله تعالى: [وإن لحقه راكعاً دخل معه في الركعة وأجزأته التحريمة].
الضمير في [وإن لحقه] راجع إلى الإمام، فإن لحق الإمام راكعاً أدركه، أي: إذا كبر تكبيرة الإحرام فإنه يعتبر مدركاً لتلك الركعة ما لم يرفع الإمام رأسه، وبناء على ذلك فإن أصح أقوال العلماء -وهو مذهب الجمهور- أن من أدرك الإمام راكعاً وركع معه فإنه يعتبر مدركاً للركعة وتسقط عنه الفاتحة.
وهناك حديث في ذلك صحيح قوي، وهو حديث أبي بكرة رضي الله عنه: أنه انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تَعُدْ)، فروي بلفظ: (ولا تَعْدُو)، ولفظ: (ولا تُعِد)، وأصحها: (ولا تَعُد) أي: لا تعد إلى التأخر عن الجماعة حتى تضطر إلى هذا الفعل.
وقيل: (لا تَعُد) بتكبير دون الصف والمشي؛ لأنه حركة في أثناء الصلاة، وأما رواية: (لا تعْدُ) فلأن المساجد القديمة المفروشة بالحصى إذا أسرع الإنسان فيها شوش بصوت الحصى، وهذا موجود إلى الآن، فقال: (لا تعدُ)؛ لأن الصلاة تحتاج إلى سكينة.
وأما رواية: (ولا تُعِد) أي: لا تعد الركعة فقد أجزأتك، والروايتان الأخيرتان أضعف من الرواية الأولى، وهي: (ولا تَعُد)، أي: لا تعد إلى هذا التأخير الموجب لفوات الفضل عليك.
و (راكعاً) في قوله: [وإن لحقه راكعاً] حال، أي: حال كونه راكعاً، وبناءً على ذلك فأنت حينما تدرك الإمام راكعاً فأنت على أحوال: الحالة الأولى: أن تنتهي من التكبير والانحناء قبل أن يُسمّع الإمام ويرفع رأسه؛ لأن هنا شيئين: شيئاً يصدر منك وهو التكبير، وشيئاً يصدر من الإمام وهو التسميع والرفع من الركوع.
فعندنا أمران لا بد من بيانهما لتفصيل أحكام الإدراك، فالذي يفعله المكلف التكبير والانحناء لكي يدرك الركوع، والذي يفعله الإمام التسميع والرفع من الركوع، فالذي يدرك الإمام راكعاً إما أن يقول التكبير ويفعل الانحناء، بمعنى أن يركع قبل أن يتلفظ الإمام ويرفع رأسه، وبناءً على ذلك تكون قد أدركت القول والفعل قبل أن يكون من الإمام القول والفعل، فحينئذٍ لا إشكال أنك مدرك للركوع عند من يقول: إن إدراك الركوع يوجب إدراك الركعة.
الحالة الثانية: أن تدرك القول ولا تدرك الفعل قبل رفعه، بأن تقول: (الله أكبر)، ثم يقول الإمام: (سمع الله لمن حمده) قبل أن تحني رأسك، أو قبل أن تركع، ففي هذه الحالة إذا انتهيت من راء (أكبر) قبل أن يبتدئ الإمام بالسين من (سمع الله لمن حمده) فأنت مدرك للركعة؛ لأنك بتكبيرك قد دخلت، وتسقط عنك التكبيرة الثانية؛ لأنها داخلة في الأولى، وبناء على ذلك يجزئ المكلف في قول الجماهير تكبيره واحدة لإدراك الركعة، كما اختاره المصنف ودرج عليه.
وبناءً على هذا فالعبرة بانتهائك من قولك: (الله أكبر)، فإن ابتدأ الإمام بالسين من (سمع) أثناء تكبيرك، أو قبل ابتدائك التكبير فتبقى واقفاً؛ لأنك لم تدرك الركوع، وقد أدركت الرفع من الركع، فتبقى واقفاً لم تدرك الركعة ويلزمك قضاءها.
الحالة الثانية: أن تبتدئ بالتكبير وترى الإمام أمامك رافع الرأس قبل أن يسمع كما يفعل بعض الأئمة، فيسبق الفعل القول، فأنت تراه أمامك قد رفع رأسه، فإذا رفع قلت: (الله أكبر)، قبل أن تسمع منه الصوت فحينئذ أنت مدرك ولا عبرة بالفعل؛ لأن العبرة بالانتقال الذي هو التسميع، قال صلى الله عليه وسلم: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، وأمر عليه الصلاة والسلام من أدرك الإمام على حالة أن يدخل معه عليها، وقوله: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة) نص في أن إدراك الركوع يوجب ثبوت إدراك الركعة، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) فإنه عموم مخصص بالنصوص السابقة، كحديث أبي بكرة الصحيح، وحديث: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، ثم إننا نقول: إن إيجاب قراءة الفاتحة محله إذا وسع الوقت لقراءتها، وهذا لم يسع الوقت له بالقراءة، وبناء على ذلك لا يجب عليه أن يقرأ الفاتحة ولا يلزمه ذلك، وتسقط عنه، والركعة مجزئة.(58/7)
الأسئلة(58/8)
كيفية قطع النافلة إذا أقيمت الصلاة
السؤال
إذا شرع المصلي في نافلة، ثم أقام المؤذن للصلاة، فكيف يكون القطع لصلاة النافلة؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن دخل في صلاة ثم أقيمت الصلاة وأراد أن يقطع فمذهب جمهور العلماء أن قطعها يكون بالتسليم، وذلك لحديث علي الصحيح في الصلاة قال (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، فلم يفرق بين التحليل الذي يكون أثناء الصلاة أو بعد الصلاة، والقاعدة أن النص العام يبقى على عمومه.
وذهب الحنفية رحمة الله عليهم وأهل الرأي إلى أنه ما دام سيقطع الصلاة فلا يحتاج إلى تسليم، فقالوا: لو التفت أي التفات، أو فعل أي فعل فإنه يخرج به عن الصلاة ويجزئه ذلك.
وقال بعضهم: لو نوى الخروج بقلبه أجزأه.
وكلا القولين ضعيف للآتي: أولاً: أنه اجتهاد في مقابل النص؛ فإن النص: (وتحليلها التسليم) عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه.
ووجه هذا العموم أنه قال: (تحريمها) بمعنى أنه دخل في الحرمات بالتكبير، فدل على أنه أثناء الصلاة في حرمة، ولا يخرج إلا بما يخرج من الحرمة وهو التحليل، فقال: (وتحليلها التسليم)، وبناء على ذلك يبقى هذا العام على عمومه، كما هو مذهب الجمهور.
أما قولهم: إنه يخرج بنيته فهذا محل نظر؛ لأن الشريعة فيها ثلاثة أوجه: الأول: ما انحصر فيه الحكم في الباطن.
الثاني: ما انحصر فيه الحكم في الظاهر.
الثالث: ما اجتمع فيه الحكم بينهما، أي: بين الظاهر والباطن.
فهناك أمور تجزئ فيها النية -الباطن- ولا يحتاج إلى ظاهر، وهناك أمور يجزئ فيها الظاهر ولا يحتاج فيها إلى نية، وهناك أمور يجمع فيها بين الأمرين.
فما كان فيه حكم للظاهر فإنه لا يقتصر فيه على الباطن، وما كان الحكم فيه للباطن لا يقتصر فيه على الظاهر؛ لأن الشريعة أعطت كل شيء حقه وحظه، فلما كانت الصلاة أفعالاً قائمة على الظاهر والدخول فيها راجع إلى النية فإنه كما أنه لا يصح أن يصلي بنية خالية عن الفعل كذلك لا يصح أن يبطل الصلاة بنية خالية عن الفعل، ولذلك فإن الخروج من الصلاة في حكم الشرع وفعل الشرع إنما يكون بالفعل مع النية المصاحبة، فلو سلم ساهياً لم يجزه السلام وعليه أن يعيد السلام؛ لأن الشرع اعتبر الظاهر مع الباطن، فكذلك هنا، وهذا إذا جئنا إلى العقل والرأي.
أما إذا جئنا إلى النص الذي ينبغي أن يحتكم إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس: من كبر في صلاة فقد دخل في حرمات الصلاة.
ولذلك سميت التكبيرة بتكبيرة الإحرام، فمن دخل في حرمات الصلاة لا يخرج إلا بتحليل، ولذلك قال: (تحليلها التسليم)، وقال: (تحريمها التكبير)، فكل من كبر فقد أحرم، ومن أحرم لا بد وأن يخرج بحل وإذن من الشرع.
فالذي يظهر أنه لا بد وأن يسلم، ويجزئه أن يسلم تسليمة واحدة عن يمينه يقول: (السلام عليكم)، فيكون قد خرج من صلاته، ويدخل في الفريضة بعد ذلك.
والله تعالى أعلم.(58/9)
قراءة الفاتحة لمن يخشى فوات الركعة
السؤال
إذا دخلت مع إمام في سرية، وبعد شروعي في قراءة الفاتحة ركع الإمام، وإذا علمت أني لو أكملت قراءة الفاتحة فلن أدرك الركعة مع الإمام فماذا أفعل؟
الجواب
من أدرك الإمام قبل أن يركع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تدرك قدراً يمكنك معه قراءة الفاتحة فحينئذ يجب عليك قراءة الفاتحة، وتتم الفاتحة ثم تركع، وتدرك الإمام.
الحالة الثانية: أن تكون غير مدرك للقدر الذي يمكن معه قراءة الفاتحة، فعند تكبير الإمام لو قرأت آية أو آيتين، وغلب على ظنك أنك لو أتممت الفاتحة أن الإمام سيرفع فإنك تقطع الفاتحة وتركع؛ لأن الذي وجب عليك قراءة الآيتين اللتين أدركت وقتهما، وما بعدهما ليس بواجب عليك؛ لأن الوقت الذي أدركته ليس كافياً لوجوب الفاتحة عليك، فكأنك أدركت الإمام راكعاً فتسقط عنك قراءة الفاتحة، وتعتبر قراءة ما قرأته حداً مجزئاً أو كافياً في براءة الذمة، والله تعالى أعلم.
أما لو أدرك قدراً يمكن معه قراءة الفاتحة وتساهل أو تشاغل، ثم ركع الإمام وغلب على ظنه أنه سوف يرفع فترك الفاتحة وركع مع الإمام فإنه يلزمه قضاء هذه الركعة؛ لأنه فرط، والمفرط ملزم بسبب تفريطه، والله تعالى أعلم.(58/10)
الائتمام بالمسبوق بعد ما يفارق الإمام
السؤال
من أدرك الإمام قبيل السلام فهل يشترط أن يخبر من بجواره أن يأتم به، أم لا حرج ولو ائتم به دون قصد مسبق؟
الجواب
لا حرج عليه، سواء أطرأ القصد أم كان سابقاً؛ لكن ينبغي أن لا يقف قبل وقوفك، فإن وقف قبل وقوفك فإنه لا يدخل معك؛ لأنه ينتقل من الإفراد إلى الائتمام، لكن لو أنك أخبرته قبل أن تدخل مع الإمام فقلت: إذا سلم الإمام فائتم بي فهذا هو الذي ينبغي، وهو الأفضل والأحرى، وخاصة لكثرة جهل الناس بمثل هذا، فتخبره قبل أن يسلم الإمام حتى يكون على بينة، ثم تنال فضل الجماعتين على الصورة التي ذكرناها.
والله تعالى اعلم.(58/11)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجماعة [3]
أحكام صلاة الجماعة كثيرة ومتنوعة، ينبغي على المسلم أن يعلمها ويلم بها، ومنها: حكم القراءة للمأموم، سواء في الجهرية أم في السرية، وحكم متابعة المأموم لإمامه، ومشروعية التخفيف في صلاة الجماعة، وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية، ومنها: حكم خروج المرأة إلى المسجد وغيرها من المسائل.(59/1)
تابع أحكام صلاة الجماعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا قراءة على مأموم].
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم: - فمن أهل العلم من يرى وجوب قراءة الفاتحة على المصلي، سواءٌ أكان منفرداً أم كان في جماعة، وذلك لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)، والقاعدة في الأصول أن (أي) من ألفاظ العموم؛ حيث لم يفرق بين المأموم والمنفرد.
وذهبت طائفة من العلماء إلى سقوط الفاتحة وراء الإمام مطلقاً في السرية والجهرية.
وذهبت طائفة ثالثة إلى وجوبها في السرية على المأموم دون الجهرية؛ فإن الإمام يحملها عنه في الجهرية، كما درج على ذلك المصنف رحمه الله، وهي رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.
أما الذين قالوا بسقوطها عن المأموم وراء الإمام فيحتجون بحديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، كما هو مذهب الحنفية ومن وافقهم، ويحتجون أيضاً بما رواه أبو داود وأحمد في مسنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) قالوا: الضمين: هو الحميل الذي يضمن الشيء ويتحمله، فهو يحمل عن المأموم، وبناءً على ذلك لا تلزم المأموم قراءة الفاتحة، فهذا مذهب من يرى الإسقاط، سواءٌ في جهرية أم سرية.
وهناك من يرى التفصيل فيقول: إن كانت جهرية سقطت القراءة؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، وفي السرية يقرأ لحديث: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)، الحديث، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، فعملوا بالنص في السرية، وأما في الجهرية، فقالوا: إنه مأمور بالإنصات، فيلزمه الإنصات ولا يقرأ.
والذي يترجح -والعلم عند الله- القول بوجوبها مطلقاً، سواءٌ أكانت الصلاة سرية أم جهرية، في جماعة أم منفرداً، وذلك لما يلي: أولاً: لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ... ) الحديث، ولم يفرق.
كما أن الصلاة في قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ) نكرة في سياق النفي، والقاعدة أنها تفيد العموم.
ثانياً: النص الصحيح الصريح القوي في هذا، وهو أنه لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه فارتج عليه قال: (لعلكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم.
قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، وقد قال بعض العلماء المتأخرين: إن هذا الحديث منسوخ بحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، وهذا القول ضعيف من وجوه: الوجه الأول: أن حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) ضعيف عند جماهير المحدثين، والضعف فيه من القوة بمكان.
الوجه الثاني: أنه لو قيل بتحسينه فهناك قاعدة في الأصول تقول: (إن النسخ لا يثبت بالاحتمال)؛ لأنا لا ندري أي الحديثين أسبق.
الوجه الثالث: أن متن هذا الحديث وهو: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) لا يقوى على معارضة متن: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)؛ فإن قوله: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) دل على أن هناك قراءتين: قراءة الفاتحة، وقراءة ما بعد الفاتحة التي هي السورة، فقال: (لا تفعلوا -أي: في السورة- إلا بفاتحة الكتاب)، فاستثناها، وفي الحديث الآخر لم يقل: فكل قراءة الإمام له قراءة.
وإنما قال: (فقراءة الإمام له قراءة)، والقراءة إنما تكون لما بعد الفاتحة، وتبقى الفاتحة على الأصل.
وهذا أنسب الوجوه عند جمع من العلماء؛ لأنه يجمع بين النصين، ولذلك يقولون: لا يقوى التخصيص ولا المعارضة إلا إذا استويا دلالة وثبوتاً، فحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) أضعف ثبوتاً؛ لأن غاية ما قيل فيه: إنه حسن لغيره، وحديث (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) وحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وكذلك حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) أقوى صحة من هذا الحديث، فهذا من جهة السند.
أما من جهة المتن فعمومات صريحة، حتى إن بعض العلماء يرى أن النص العام قطعي الدلالة على أفراده ثم إن القاعدة في الأصول أن صورة السبب قطيعة الدخول في الحكم.
وصورة السبب وردت في صلاة الفجر وهي جهرية، وبناءً على ذلك تعتبر الصلاة الجهرية قطعية الدخول في هذا الحكم: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، وحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) متردد، فلا ندري أقراءة الفاتحة هي المرادة به أم قراءة ما بعد الفاتحة، فهو لا يقوى على المعارضة.
وبناءً على ذلك فالذي تطمئن إليه النفس القراءة، ولذلك فقد روى البيهقي بسند صحيح في كتابه النفيس: (القراءة وراء الإمام) أن أبا هريرة سئل: متى أقرأ إذا عجل الإمام؟ قال: اقرأها في سكتات الإمام قال: فإن عجزت؟ قال: اقرأها وقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] عموم تستثنيى منه الصلاة؛ لأن القرآن إذا قرئ فالاستماع له واجب، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) يدل على الوجوب واللزوم ويدل على أنه ركن من أركان الصلاة، كما هو قول من يقول باعتبار الفاتحة، فوجوب الفاتحة آكد من وجوب الاستماع.
وثانياً: أن الاستماع منفصل ووجوب الفاتحة متصل، والقاعدة أن الواجبات أو الفروض إذا تعارضت ينظر إلى جهاتها، فيقدم باختلاف الجهات، فلما كانت عين الفاتحة على المأموم متصلة به، والاستماع إلى غيره منفصل عنه قدم المتصل بوجوبها على المنفصل، ولذلك ترجح القول بالوجوب على العموم.(59/2)
حكم قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام(59/3)
استحباب قراءة الفاتحة للمأموم أثناء سكوت الإمام أو إسراره
قال رحمه الله: [وتستحب في إسرار إمامه وسكوته وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش]؛ لأنهم لا يرون وجوبها.
قوله: [في إسراره] أي: في الصلاة السرية.
وقوله: [وسكوته] أي: في حال سكتات الإمام، فإذا أراد أن يقرأ الفاتحة فلا يقرأها في الصلاة الجهرية على مذهب من يرى أنها لا تقرأ في الصلاة الجهرية.
وقوله: [وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش].
كأن هذا المذهب قائم على كونه يسمع قراءة الإمام، ولذلك يعتبر الاستشهاد بالآية أضعف من الاستشهاد بالحديث الذي هو نص في موضع النزاع، فقالوا: لما كان وجوب أو إسقاط الفاتحة مبنياً على سماع قراءة الإمام فإنه لو كان بعيداً لن يسمع؛ لأنه في القديم لم تكن هناك وسائل تعين على نقل الصوت مثل الأجهزة الموجودة الآن، فكان الصف قد يصل إلى مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة أحياناً فلا يسمع الصوت، ولذلك اختلفوا فيما لو أن إنساناً أراد أن يصلي الفجر والصف طويل وليس هناك مكبر صوت، فإذا اقترب من الإمام يسمع القراءة سيكون في الصف الثاني أو الثالث، فهل الأفضل أن يكون في الصف الأول مع عدم سماع القراءة، أم يكون قريباً من الإمام مع تخلفه في الصف؟ فهذا مسألة خلافية في صلاة الفجر، فبعضهم يرى أن استماعه للقرآن وتأثره به لفضل القراءة في صلاة الفجر أفضل؛ لقوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] فيستثنون صلاة الفجر.
وبناءً على ذلك قالوا: إذا كان بعيداً لا يسمع الإمام لا لطرش -والأطرش: هو ثقيل السمع- فمثل هذا يبقى على الأصل، أما من لا يسمع لبعد فيستحب له القراءة.(59/4)
دعاء الاستفتاح
قال رحمه الله: [ويستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه].
قوله: [ويستفتح] أي: يقرأ دعاء الاستفتاح.
وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، قالوا: فيسن أن يقرأ دعاء الاستفتاح ولذلك لما سأل أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعاء الاستفتاح علمه، ولم ينكر عليه ذلك، ولم يقل: هذا خاص بي.
وهنا مسألة مهمة، وهي أنه: إذا قلنا بمشروعية الاستفتاح وراء الإمام فلو جئت في صلاة الظهر أو العصر، أو أي صلاة والإمام قبل الركوع بقليل، بحيث يغلب على ظنك أنك لو قرأت الاستفتاح لم تستطع قراءة الفاتحة فحينئذٍ تترك الاستفتاح، وبمجرد تكبيرك تبدأ بقراءة الفاتحة؛ لأننا عهدنا من الشرع تقديم الواجب على ما هو دونه، كما في الحديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، فعلمنا أن الشرع يقدم الأهم على المهم، وبناءً على ذلك فإنه يقدم قراءة الفاتحة ويشتغل بها، قال بعض العلماء: لو كبر وقرأ الاستفتاح وركع الإمام ولم يقرأ الفاتحة ولم يتمكن منها لم تجزه الركعة، وعليه قضاؤها؛ لأنه حينما أدرك القدر الذي تقرأ فيه الفاتحة فوجبت عليه قراءتها، وهذا إذا أدرك وقتاً يغلب على ظنه أنه لو قرأ الاستفتاح وراء الإمام فاتته الركعة، فتسقط عنه من هذا الوجه.
فإذا كان الأصل في إسقاط القراءة عن المأموم الاستماع في الجهريات أو غير الجهريات بناءً على أن الإمام يتحمل قالوا: يبقى دعاء الاستفتاح على ما هو عليه، ويبقى التعوذ، فيستفتح ويستعيذ بالله عز وجل من الشيطان، ثم يبقى ساكتاً منصتاً لقراءة الإمام إذا كان يقرأ، أو ينتظر تكبير الإمام، وإذا قرأ على الاستحباب فلا حرج عليه، لا على الحتم والإيجاب.(59/5)
سبق الإمام بالركوع أو السجود
قال رحمه الله: [ومن ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرجع ليأتي به بعده].
ذلك لأن الله عز وجل أوجب على المأموم متابعة الإمام، ويحرم على المأموم أن يسابق إمامه، ويكره له أن يوافقه، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به ... ) الحديث.
أي: إنما شرع الله الإمام من أجل أن يؤتم به، فقوله: (ليؤتم به) بمثابة التعليل، كقوله: (إنما فعلت هذا لتأتموا بي)، فاللام تعليلية، أي: إنما شرع الله الإمامة في الصلاة لكي يكون الإمام بمثابة القدوة لمن بعده، فيوقع فعله بعد فعله، ولا يوقعه قبله.
وقال أئمة اللغة: الإمام: مأخوذ من الأمام والأمام هو الخط الذي يخط في أول الباب عند البناء؛ لأنه يعول عليه ويبنى عليه، فصلاة المأموم لما كانت واقعة وراء الإمام كأنها بنيت على صلاة إمامه، ولذلك لا يجوز للمأموم أن يسبق الإمام، فإن سبقه أعاد.
قال رحمه الله: [فإن لم يفعل عمداً بطلت].
أي: إن سبقه في ركن فركع قبله، ولم يرجع لكي يتابع الإمام ويكبر ويركع بعده بطلت صلاته، وحينئذٍ يلزمه أن يستأنف الصلاة، لكن لو أنه ركع قبل الإمام ولم يشعر، إما لغلبة هم أو حزن عليه، أو فرح، أو انشغال ذهن، فلم يشعر إلا وقد كبر وركع، فلم يفاجأ إلا والإمام قال: (الله أكبر) وركع، فقالوا في هذه الحالة يرجع ويكبر وراء الإمام ويدركه في الركوع، وهكذا الحال لو شعر قبل أن يكبر الإمام.
فإنه يرجع مباشرة إلى حالته مع الإمام، ولا يبقى على حالة السبق والتقدم؛ لأن ذلك مما نهى الله عز وجل عنه.
ومن الأدلة التي تدل على عظم هذا الأمر قوله عليه الصلاة والسلام: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)، والقاعدة في الأصول أنه إذا ورد الوعيد بعقوبة دينية أو دنيوية أو أخروية فإن هذا مشعر بالإثم وبكون الفعل ذنباً وهذا من دلائل المنهيات وأنها تدل على التحريم، ويعتبر العلماء رحمة الله عليهم سبق الأئمة بالأركان كبيرة من الكبائر؛ لورود الوعيد على من سبق الإمام، واختص الرفع من الركوع لكثرة البلوى به؛ لأن الانحناء في الركوع غالباً ما يكون فيه مشقة، فالركوع ليس كالسجود، ولذلك يعجل الناس في مثله لقربهم من الاعتدال، ولخفته عليهم، فخص الركوع بهذا، فلذلك يقولون: لا فرق بين ركن الركوع وغيره من سائر الأركان، فالشرع قصد أن يرتبط المأموم بإمامه، وكونه يورد هذا الوعيد على هذا الفعل يدلنا على أنه كبيرة من كبائر الذنوب، ولذلك عده جمع من الأئمة والعلماء -منهم صاحب الزواجر- أنه من كبائر الذنوب وهذا بناءً على ثبوت ضابط الكبيرة فيه.
قال رحمه الله: [وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالماً عمداً بطلت].
أي: بطلت صلاته، سواءٌ أتم الركعة ورفع قبله أم ركع عامداً ولم يرفع أو ينتظره حتى رفع، فكل ذلك يوجب بطلان صلاته بالعمد.
قال رحمه الله: [وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعة فقط].
يعذر بالجهل -عند من يقول بالعذر بالجهل- أن يكون جاهلاً بالاقتداء، وبعد ذلك رأى الناس يتابعون الإمام فرجع إلى المتابعة، فإنه في هذه الحالة يعذر عند من يقول بعذره، وهذا خاصة في الناس الذين هم حديثوا عهد بإسلام، فمثلاً شخص قيل له: صلِ مع الجماعة وعرف أنه يقرأ ثم يركع ثم يرفع، فجاء وسبق الإمام في الركوع، فرأى أن أصحابه لم يركعوا، فعلم أن الذي فعله خطأ، ثم رجع والتزم مع الإمام، فإن هذا يعتبر عذراً عند طائفة وجمع من أهل العلم رحمة الله عليهم.
وقوله: [أو ناسياً].
أي: أو ناسياً كونه مع الإمام، فيظن أنه لوحده، وهذا يحصل مع غلبة الفرح، أو غلبة الترح، أو الحزن، أو يكون منصرف الذهن -نسأل الله السلامة والعافية- فيسهو عند الانتهاء من القراءة، فلا يفاجأ إلا وهو راكع يظن أنه لوحده، ثم يتذكر أنه مع الإمام، فإنه يرجع ويتابع الإمام على الصورة التي ذكرنا.
قال رحمه الله: [وإن ركع ورفع قبل ركوعه، ثم سجد قبل رفعه بطلت إلا الجاهل والناسي].
ومن فعل هذا يلزمه في هذه الحالة قضاء هذه الركعة بعد سلام الإمام، كأنه لم يدرك الإمام في هذه الركعة، فإن كان قد صلى مع الإمام أربع ركعات -كصلاة الظهر- فإنه يلغي هذه الركعة، ويصبح حاكماً على نفسه بأنه مدرك لثلاث ركعات، كأنه سبق بركعة كاملة؛ لأنه إذا سبق الإمام في الأركان الثلاثة فقد سبقه في أغلب الركعة، فحينئذ تلغى هذه الركعة، ويلزمه قضاؤها كاملة.
قال رحمه الله: [ويصلي تلك الركعة قضاء].
أي: بعد سلام الإمام يقوم ويأتي بهذه الركعة قضاء، والفرق بين قولك: إنه يتمها، وقولك: يقضيها هو أنه إن قلت: يتمها ففي هذه الحالة -إذا كان في الظهر- يأتي بالفاتحة وحدها، لكن إذا قلت: يقضيها وكان في الركعات الأول فإنه يأتي بالفاتحة والسورة؛ لأن القضاء يحكي الأداء، فكأنه لم يفته شيء مع الإمام، ويعتبر كأنه يؤديها حال قضائه على الصورة المعتبرة حال متابعته للإمام.(59/6)
مشروعية التخفيف بالمصلين
قال رحمه الله: [ويسن لإمام التخفيف مع الإتمام].
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف، والتخفيف ضد التطويل، والمراد به الرفق بالناس؛ لأن شريعتنا شريعة رحمة ويسر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)، وقال: (أنا رحمة مهداة)، وفي التنزيل قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وهذا يتضمن أن الشعائر والشرائع التي بعث بها صلوات الله وسلامه عليه فيها رحمة، وليس فيها عنت ولا عذاب، ولذلك ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الأفضل والأكمل والأصل التخفيف من قبل الإمام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف)، فهذا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل على أن السنة والأصل هو التخفيف على الناس؛ لأن التطويل عليهم ينفرهم من الصلاة مع الجماعة، وقد حدث هذا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل الأمة، فقد أخبر رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يتأخر عن الصلاة بسبب تطويل إمامهم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فوعظ موعظة -قال الراوي: ما رأيت أشد منه في تلك الموعظة- وقال: (إن منكم منفرين)، وقال لـ معاذ لما اشتكاه الرجل في تطويله لما صلى بالناس البقرة في العشاء قال: (أتريد أن تكون يا معاذ فتاناً)، أي: هل تريد فتنة الناس عن دين الله؟! وصرفهم عن دين الله! فالدين يسر والشريعة شريعة رحمة، فعندما يأتي الإمام ويطول على الناس، وإذا دخل المحراب لا يشعر بالضعيف ولا بكبير السن، ولا يشعر بالسقيم والمريض وذي الحاجة، فهذا يدل على غفلته وعدم فقهه بسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من هديه أنه كان يطيل فما يمل من إطالته، ويخفف فما يخل في تخفيفه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك قال أنس: ما صليت وراء أحد أتمّ ولا أخف صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودخل في صلاة الفجر - وكان يقرأ من الستين إلى المائة آية، كما في الصحيح من حديث أبي برزة وجابر في صلاة الفجر- فلمّا سمع بكاء صبي قرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، فلما سلم قال: (إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه)، وهكذا الحال إذا صلى الإمام بالناس ورأى أن الوقت وقت إزعاج، وأنهم في حالة من التعب والإعياء فليخفف عنهم، كأن يكونوا في سفر، ونزلوا بعد عناء السفر، فيجب على الإمام أن يخفف ويقرأ قراءة محببة إلى النفوس، وتكون إمامته بهم تدل على رحمته وشفقته، فهذا من خيرية الإمامة، ولذلك يرزق أمثال هؤلاء القبول وحب الناس والدعاء بظهر الغيب، وترى الناس يقبلون على مواعظهم، ويتأثرون بهم؛ لأنهم يحسون أنهم يريدون الخير ويتلمسون أحوال الناس، بل والغريب أن الإنسان إذا تعود التخفيف على الناس بدون أن يكون تخفيفاً زائداً عن الحد، ثم أطال في بعض صلواته لتطبيق السنن في التطويل في بعض المناسبات فلن تجد أحداً يكرهه؛ لأنه يعلم أنه يحب الرحمة والتيسير، وأنه إنما فعل هذا على سبيل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيحب السنة، لكن إذا ألف التطويل على الناس ولو جاء بسنة نفروا منه، وتجدهم لا يحبون ذلك منه، وأشد ما يكون هذا في الخطب؛ فإن الخطب إذا كانت طويلة جداً ومزعجة فإن الناس لا تتيسر لهم الاستفادة، وربما ينفرون، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر الخطبة، ولو جئت إلى بعض خطبه المأثورة عنه عليه الصلاة والسلام تجده لم يتجاوز الصفحة، ولو تتبعت المرويات في خطبة حجة الوداع التي بين فيها شرائع الإسلام وشعائره فإنها لا تتجاوز صفحة ونصف صفحة، وهكذا الأئمة وغيرهم كانوا على هذا الحال، فخير الكلام ما قل ودل، وكان آخذاً بمجامع قلوب الناس موجباً لحبهم لهذا العلم الذي يكون في الخطب والمواعظ، نسأل الله العظيم أن يرزقنا الائتساء والاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [مع الإتمام]؛ لأن التخفيف على حالتين: الحالة الأولى: التخفيف مع التقصير.
الحالة الثانية: التخفيف مع الإتمام، كأن يقرأ فيهز بقراءته القلوب، فيعطي الحروف حقها من صفة لها ومستحقها، ويعرب كتاب الله ويفصله ويبينه، فيقرأ السور المناسبة، ثم إذا ركع سبح ثلاث تسبيحات تدل على طمأنينته، كذلك إذا رفع من الركوع قرأ هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأذكار وحافظ عليها، وما تقوم به الأركان، فهذا كله من الكمال، فيخفف مع التمام والكمال؛ لحديث أنس: (ما صليت وراء أحد أتم ولا أخف صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم).(59/7)
تطويل الركعة الأولى على الثانية
قال رحمه الله: [وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية].
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف، وقال بعضهم: الأصل التطويل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالأعراف في صلاة المغرب، كما كان يقرأ المرسلات والطور صلوات الله وسلامه عليه.
ولكن هذا محل نظر؛ فإن المفردات لا تدل على العموم، ولذلك ولو سُلِم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا فإن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قراءة مرتلة لا يشعر الناس معها بالملل ولا بالسآمة، وكان عليه الصلاة والسلام لا يُمَلُّ في إطالته، ولو سلم هذا فإن له خصوصيات عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما صلى معه الصحابي في الركعة الواحدة في قيام الليل قرأ البقرة والنساء والمائدة في ركعة واحدة، وهذا إنما يكون بقوة نفسه عليه الصلاة والسلام، أما كون الإنسان يأتي يريد أن يقرأ سورة الأعراف، ويحاول أن يتكلف في أحكام التجويد، أو يقرأ -مثلاً- سورة المرسلات ويتكلف فيها، أو يقرأ فجر يوم الجمعة سورة السجدة والإنسان بالتجويد، ويحاول أن يتكلف ويتقعر ويترنم ويشق على العجزة وعلى المسلمين وكبار السن فهذا ليس من السنة، إنما السنة أن القراءة إذا كانت لجزء طويل فيرتل، والدليل على هذا واضح؛ إذ القراءة على مراتب معروفة، وهي التجويد والتدوير والترتيل والحدر، كما قال الناظم: إن القراءة على مراتب أربع قد فصلت للراغب ترتيلنا والحدر والتدوير كذلك التجويد يا فصيح فلو جاء يجود سورة الأعراف وقت المغرب فيخرج الوقت وما انتهى من الأعراف، ولذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم مناسبات في القراءة، فمن كانت عنده قدرة على القراءة بحيث يقرأ للناس في فجر يوم الجمعة ويرتل وتكون قراءته بالحدر الذي يعطي به أيضاً للقرآن حقه من التأثر بالآيات فهذا شيء طيب، ولذلك تجد الناس يرتاحون إذا قرأ الإمام بالحدر وأعطى الآيات حقها من التأثر، هذا من أفضل ما يكون؛ لأنه لا يشق على الناس، ويطبق السنة، ويتأثر بكتاب الله، أما لو جاء يتكلف بالإتيان بأحكام التجويد، ويحاول أن يتقعر في الآيات ويبالغ فيها فهذا يشق على الناس كثيراً، ولذلك ينبغي أن نطبق السنة من جميع وجوهها، فعندنا سنة قراءة السجدة والإنسان في الجمعة -مثلاً- أو قراءة الأعراف في المغرب لكن عندنا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف)، وهذا أمر والأمر للوجوب، ويدل على اللزوم، خاصة وأن هناك مفاسد، فلذلك ينبغي الالتزام بمثل هذه السنة، فيفعل هذه السنن دون أن يؤدي إلى إحراج الناس أو الإضرار بهم.
ومن السنة -ونبه عليه المصنف- تطويل الركعة الأولى وتقصير التي بعدها، فهذا من السنة، والتطويل للأولى والتقصير في الثانية من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن ينبغي أن ينبه على أمر، فإن العبرة بالآيات لا بعدد الآيات، فقد تكون السورة آياتها قليلة ولكن قراءتها تأخذ وقتاً، ولربما تكون السورة كثيرة الآيات ولكنها سهلة تقرأ بسرعة، ويمكن للإنسان أن يقرأها في وقت أقل من التي هي أطول منها، فإذا نظرت إلى سورة الأعلى مع الغاشية فإنك تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما، فإنك إذا نظرت إلى سبح تجد في آياتها ما يحتاج إلى التأخر، ولكن الغاشية تجد فيها سهولة في الانسياب في الآيات، وهذا يختلف باختلاف الحروف ومخارجها كما هو معروف، وكذلك تجد -مثلاً- سورة الليل إذا قرنتها بسورة الشمس، وقد تجد سورة أقل في الآيات ولكنها تحتاج إلى معالجة مثل العاديات، بحيث يطول وقتها أكثر، فقال العلماء: العبرة بالوقت والقدرة على الأداء، وليست العبرة بالقدر، فإن كان في قراءة الأولى مسترسلاً بحيث يستطيع أن يقرأ القدر الأكثر فحينئذ يؤخر، وإذا كانت الثانية أقل فإنه يجعل القليل للثانية والكثير للأولى.
ويجوز له أن يجمع في الوقت بين الأولى والثانية، فلو جعل وقت الأولى والثانية متناسباً فإنه لا حرج عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] في الركعة الأولى، وقرأ في الركعة الثانية: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]، فأخذ العلماء منه دليلاً على مسألتين: المسألة الأولى: جواز تكرار السورة في الركعتين.
المسألة الثانية: جواز العدل بين الركعتين، بحيث تكون الأولى والثانية بقدر واحد، وبناء على ذلك قالوا: لو كانت السورة ثلاثين آية فإنه يقرأ في الركعة الأولى خمس عشرة آية، وفي الركعة الثانية خمس عشرة آية.
فبناءً على ذلك يكون قد عدل بين الركعتين، ولو جعل للركعة الأولى عشرين آية وللثانية عشر آيات فحسن، ولا حرج عليه، والأمر واسع في هذا كله.
ومن السنة أيضاً أن يطيل الأوليين ويخفف الأخريين؛ فإن سعداً رضي الله عنه وأرضاه الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي)، وكان من المبشرين بالجنة، اشتكاه أهل الكوفة إلى عمر، حتى قالوا: إنه لا يحسن كيف يصلي وهذا يدل على أن الإنسان لا يسلم من الناس، فلما جيء إلى عمر وبلغت الشكوى، أمر محمد بن مسلمة أن يأتي به إلى المدينة، فجاء إلى المدينة، فقال له: لقد قالوا: إنك لا تحسن أن تصلي.
قال: والله ما كنت آلوا أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أطيل في الأوليين، وأركض في الأخريين.
فدل على أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم تطويل الركعتين الأوليين وتخفيف الركعتين الأخريين.
قالوا: لأنه كان يقرأ فيهما بالفاتحة وحدها، كما في حديث ابن عباس، وكان أحياناً ربما قرأ بالفاتحة وسورتي: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، كما كان يفعل ذلك في صلاة الظهر، وثبت وصح عنه ذلك.
قال رحمه الله: [ويستحب انتظار داخل ما لم يشق على مأموم].
هذه المسألة اختلف فيها العلماء، فإذا كنت راكعاً وأنت إمام فسمعت الداخل فهل تنتظر هؤلاء الداخلين أو لا تنتظر؟ فللعلماء أقوال في هذه المسألة أشهرها قولان: القول الأول: ينتظر؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى واستدلوا بالعمومات التي فيها الرفق والتيسير، وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم من ولي من أمور المسلمين شيئاً فرفق بهم فارفق به).
قالوا: فهذا من الرفق.
القول الثاني: لا ينتظر؛ لأنه أطال الصلاة من أجل الداخل لا لله جل وعلا.
وبناء على ذلك قالوا: لا يشرع هذا.
ولأنه يفتح باب المحاباة، ويعين على التكاسل عن الصلاة.
إلى غير ما ذكروا من العلل.
والذي يظهر أنه لا حرج أن يطيل قليلاً إذا رأى أكثر الناس يأتون، فيزيد في القراءة لا في الركوع؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صلاة الظهر- أنه: (كان يصلي حتى لا يسمع قرع النعال)، فدل على أنه كان يراعي حال الناس، فيكون التطويل في القراءة، فإذا ركع بعد تطويله في القراءة فالأفضل إذا كان لا يوجد مشقة على الناس وأحب أن ينتظر ولا حرج، وإن وجدت مشقة فإنه لا ينتظر.(59/8)
حكم خروج المرأة إلى المسجد
قال رحمه الله: [وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد كُرِهَ منعها، وبيتها خير لها].
الاستئذان استفعال من الإذن، والإذن: هو السماح بالشيء، يقال: أذن له إذا أحل له الشيء وسمح له به، واستأذنت، أي: طلبت الإذن.
فالحل للمرأة أن يسمح لها زوجها بالخروج، وهذا فيه دليل وهو حديث ابن عمر في الصحيح: (إذا استأذنت أحدكم امرأته المسجد فلا يمنعها)، وقال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وفيه دليل على مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها؛ لأنها إذا كانت وهي خارجة إلى الصلاة تستأذن فمن باب أولى إذا خرجت لأمور الدنيا، وهذا أمر يقصر فيه كثير من النساء، فلا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، وينبغي على المرأة أن تسمع وتطيع، فلو قال لها زوجها: لا تخرجي فلا تخرج، ولا تراجع ولا تحاول؛ لأن الزوج ربما كانت عنده أعذارٌ، لا يستطيع أن يبينها، كما قال الإمام مالك رحمه الله: ليس كل الناس يستطيع أن يبين عذره.
وقد تكون عنده حمية أو يريد لها الخير، كما قالت فاطمة رضي الله عنه: خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال.
المسألة الثانية: من سماحة الشرع أنه جعل الأمر للزوج، ولكن قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، فإذا قالت له: أريد أن أصلي، أو أريد أن أشهد التراويح أو التهجد فإنه يعينها على الخير، وينبغي للزوج أن يكون حكيماً؛ لأن الشيطان ربما دخل عليها وقال لها: هذا يمنعك من الخير، فيزين لها أن زوجها أحد رجلين: الأول: أنه إنسان يشك فيها والعياذ بالله؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، يقول العلماء: إنه يدخل الشك والوساوس على المرأة والمرأة ضعيفه، فإذا منعها من الخير قالت: الصلاة لا أحد يمنع منها، فليس هناك سبب إلا الشك فيدخلها الشيطان من هذا الباب، فكان من حكم الشرع: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله).
الثاني: أنه إذا ضعيف الإيمان؛ لأنه لو كان قوي الإيمان لأحب لها الخير كما يحبه لنفسه، ولذلك منع الشرع من منعهن، ولما قال بلال بن عبد الله بن عمر: والله لنمنعهن أقبل عليه ابن عمر فسبه سباً سيئاً، قال الراوي: ما سمعته سبه مثله قط، قال: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن.
أي: تجرأ على السنة! فهذا يدل على أن المسلم ملزم باتباع السنة.
ولكن يجوز للزوج أن يمنعها إذا علم أو غلب على ظنه الوقوع في الفتنة والمحظور، كأن يغلب على ظنه وجود الفساق والفجار، وأنها قد تتعرض لما لا يحمد عقباه، فمن حقه أن يمنعها؛ لأن الله لم يجعل الأمر بيده إلا لكي يتقي الله عز وجل، ومن تقوى الله سبحانه وتعالى منعها عند وقوع الفتن، ولذلك أثر عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب عجيزة امرأته لما خرجت إلى الصلاة، وقال: إن الناس قد تغيروا، فأصرت عليه أن تخرج فتركها، فلما كانت الليلة الثالثة ضرب عجيزتها، أي: ضربها على عجيزتها وهي مارة، وكانت النساء على حياء وخجل، وكانوا يعرفون أن المرأة الحرة، فيقولون: لو ضربت بالسوط على ظهرها لم تلتفت من كمال عفتها وحيائها.
حتى إن العلماء لما تكلموا على توبة الزانية من الزنا قالوا: توبتها أن تترك ماشية، ثم يصاح وراء ظهرها، فإن التفتت فما زالت في ضعف العفة؛ لأن من كمال عفة المرأة الحية أنها لا تلتفت ولا تنظر إلا في أرضها، وقد يبلغ بها أن تتعثر وتسقط، ولكن سقوط الجسم أهون من سقوط الهوى والردى، ولذلك كن بهذه المثابة.
وإذا أذن لها فعليها أن تخرج تفلة، بمعنى أنها لا تخرج متعطرة ولا متبرجة، وإلا منعها وأخذ على يدها، فإن لم يفعل فهو آثم، وبناءً على ذلك فمن حقه أن يمنعها في مثل هذه الأحوال، وكذلك الحال إذا كان طريقها غير آمن، فإنها قد تكون صالحة ولكن غيرها غير صالح، فيشرع للزوج أن يحبسها.
وقوله: [وبيتها خير لها] لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاتها في مخدعها خير لها من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في مسجد حيها، وصلاتها في مسجد حيها خير لها من صلاة المسجد الجامع)، وهذا مبالغة في ستر المرأة.(59/9)
الأسئلة(59/10)
التطويل في الركعتين الأوليين ليس خاصاً بالقراءة فقط
السؤال
هل التطويل في الركعتين الأوليين مختص بالقراءة فقط كأم هو عام في سائر الأركان كالركوع والسجود؟
الجواب
المحفوظ من هديه -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- أن قراءته وركوعه وسجوده ورفعه من السجود كل ذلك كان قريباً من المساواة، وهذا هو هديه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك وصفت صلاته بالتمام، فإذا فعل الإنسان هذا ووسعه ذلك فإنه يفعل، لكن إذا كان فيه مشقة على الناس فإنه يقتصر على حد الإجزاء، ففي التسبيح يقتصر على ثلاث، وكذلك أيضاً في الرفع من الركوع يقرأ الدعاء المأثور: (ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) إلى آخره، ويجعل صلاته موزونة حتى يدرك السنة بصورتها إن لم يدرك حقيقتها، فإنه يدرك فضل صورة السنة، فيكون مدركاً للسنة من وجه؛ لأن الله لا يضيع عمل العامل، فهذا من إدراك جزء السنن كما يقرره جمع من الأصوليين رحمة الله عليهم.
والله تعالى أعلم.(59/11)
دعاء الاستفتاح لمن دخل والإمام يقرأ الفاتحة
السؤال
من أدرك الإمام وهو يقرأ الفاتحة فهل ينصت، أم يقرأ دعاء الاستفتاح؟
الجواب
إذا أدركت الإمام وهو يقرأ الفاتحة تنصت، ويسقط دعاء الاستفتاح لفوات المحل والانشغال بالواجب؛ فإن مرتبة دعاء الاستفتاح دون مرتبة وجوب الإنصات، وبناء على ذلك يسقط دعاء الاستفتاح لمكان المتابعة، ولوجود قراءة، ويشتغل الإنسان بالاستماع على ظاهر النص.
والله تعالى أعلم.(59/12)