شرح زاد المستقنع - المقدمة [1]
العلم فضله عظيم، وما رفع الله العلماء إلا لفضل هذا العلم، وهذا العلم هو ميراث الأنبياء عليهم السلام، فما شرح الله صدر عبد يطلب العلم إلا أراد به خيراً، وأهل العلم هم أهل خشية الله سبحانه وتعالى؛ وكما قيل: أصل العلم خشية الله، والعلم له حقوق ينبغي القيام بها عند طلب العلم، فأول هذه الحقوق وأعظمها هو الإخلاص لله في طلب العلم، وكذلك النصيحة والمجاهدة وغيرها من الحقوق التي ينبغي القيام بها عند طلب العلم.(1/1)
نعمة العلم وفضله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، من أراد به خيراً فقهه في الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد: فالحمد لله الذي أكرمنا بأن تغبرت الخطا في طاعته ومحبته ومرضاته، وهنيئاً لطلاب العلم يوم خرجوا من البيوت إلى حَلْقة من حلق العلم، وروضة من رياض الجنة، أسأل الله العظيم أن يكتب لنا ولهم أجر الخطا، وأن يوجب لنا ولهم بها من لدنه الحب والرضا.
أيها الأحبة في الله: إن الله تعالى إذا أراد بالعبد خيراً شرح صدره للعلم، وشرح صدره لكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل ذلك الصدر والقلب بمثابة الحِواء والوعاء لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
إنها نعمة العلم التي شرح الله بها صدور العلماء، فرفع لهم بها القدر، وأعظم لهم البهاء، فعظم بها عند الله قدرهم، وانشرحت لها قلوبهم، وعظم في الدين بلاؤهم.
إن العلم نعمة من نعم الله عز وجل، جعلها الله تبارك وتعالى من مواريث النبوة، يوم يصبح الإنسان إماماً من أئمة المسلمين، يؤتمن على أحكام الشريعة والدين، يوم تتلهف القلوب وتشتاق الأسماع إلى معرفة حكم الله من حلال وحرام، وما يكون من الشريعة والأحكام، فيبينها ذلك اللسان الصادق، والعبد الموفق المحقق، فما أجلها من نعمة وما أعظمها من منّة، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
ولذلك أجمع العلماء على أنه لا ينشرح صدر عبد للعلم إلا أراد الله به خيراً، وقد شهد الله تعالى لأهل هذه النعمة العظيمة أنهم أهل الدرجات، وقرن درجاتهم بدرجات أهل الإيمان، الذي هو أعز شيء وأسمى شيء وأكمل شيء، وشهد الله تبارك وتعالى أن أهل العلم هم أهل خشيته، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله: أصل العلم خشية الله.(1/2)
حقوق العلم على أهله
إذا كانت نعمة العلم عظيمة، ومنة الله بها على العبد جليلة كريمة، فإنه ينبغي لكل طالب علم أن يقف قبل العلم وقفات يتدبر فيها ويتأمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في حقوق هذا العلم، فقد أخبر الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن للعلم حقوقاً، ومن هذه الحقوق: أولاً: الإخلاص: فمن أعظم هذه الحقوق وأجلها: حق الإخلاص الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من فاته فقد فاته حق العلم كله، بل أخبر أن علمه حينها وبالٌ عليه، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من تعلم العلم ليماري به السفهاء، وليجادل به العلماء، فليتبوأ مقعده من النار).
وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أن أول خلق الله الذين تسعر بهم نار جهنم من أراد بعلمه غير وجه الله جل جلاله، ذلك القلب المفتون الذي اتجه إلى هذه الدنيا الفانية، فآثرها على الآخرة الباقية، فأصبح حظه من العلم أن ينال السمعة والرياء، فيقف بين يدي الله جل وعلا ليقول له: (عبدي! ألم تكن جاهلاً فعلمتك؟ قال: بلى، ألم تكن وضيعاً فرفعتك؟ قال: بلى، قال: فما عملت لي؟ قال: تعلمت فيك، وعلّمت من أجلك، فقال الله له: كذبت، وقالت الملائكة له: كذبت)، نعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل.
فما أعظمها من ساعة رهيبة لو وقف العبد أمام الأولين والآخرين، فقال الله على رءوسهم: كذبت، نعوذ بالله من ذلك المقام.
وما أشرف ذلك المقام لمن أخلص لوجه الله، فوقف في ذلك الموقف العظيم فقال: (تعلمت لوجهك، وعلمت من أجلك، فقال الله له: صدقت، وقالت الملائكة له: صدقت).
فحق العلم الأول: أن يخرج الطالب من بيته وليس في قلبه إلا الله، وأن يخرج إلى حلق العلم وهو يرجو ما عند الله، فإنك إن أردت وجه الله بارك الله لك في العلم، وحفظك الله بهذا العلم، ولا زال العلم يأخذ بيدك حتى يقودك إلى الجنة.
العلم الخالص لوجه الله قربة، والعلم الخالص لوجه الله يوجب من الله الرضا والمحبة.
فيا أيها الأحبة في الله: على طالب العلم ألا يخرج إلى حلق العلم إلا وهو يريد وجه الله والدار الآخرة، ليشتري رحمة الله بخطواته، ويشتري رحمة الله بمجالسه وإنصاته وكتابته، فتكتب في دواوينه تلك الحسنات، فرجله تمشي في طاعة الله، ويده تكتب في مرضاة الله، وعينه ترى كتب العلم في مرضاة الله، وسمعه يسمع ما أمر الله تعالى به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم في طاعة الله، وذهنه وقاد مشتغل بتلك الآيات الكريمات، وتلك الأحكام الجليلة العظيمة، وكل ذلك في طاعة الله ومرضاته، إذا أخلص لوجه الله جل جلاله.
فلا نخرج لطلب العلم إلا ونحن نريد ما عند الله عز وجل، ولذلك قال بعض العلماء: من تعلم العلم لغير الله مكر الله به، فينبغي لطالب العلم أن ينزه قلبه من حظوظ الدنيا؛ فإن من طلب العلم للسمعة سمّع الله به، ومن طلبه للرياء راءى الله به، فعلى العبد أن يتقي ربه، وليحرص كل الحرص على الإخلاص، وهذا الحق كان العلماء كثيراً ما يذكرون به.
وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليه: الإخلاص يُحتاج أن يذكر به طلاب العلم في كل مجلس من مجالس العلم، ولو أن كل مجلس من مجالس العلم استفتحه العالم بالكلام على الإخلاص لكان ذلك خليقاً به وليس بكثير.
فالإخلاص هو الفرق بين العبد المطيع الذي أراد وجه الله عز وجل والدار الآخرة، ومن أراد ما عند عباد الله من حظ السمعة والرياء.
ثانياً: التضحية والمجاهدة: والوقفة الثانية أيها الأحبة في الله تعالى: أن هذا العلم يحتاج إلى تضحية وجهاد، ولا ينال إلا بالتعب والنصب، فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يهيئ من نفسه الهمة الصادقة في طلب العلم؛ فإن في العلم سآمة ومللاً، وتضحية بالأوقات والأعمار، وتضحية بالمال والنفس، وبالجَهد والجُهد.
فإذا أخلص طالب العلم لله عز وجل، فليتبع إخلاصه بالصبر والتحمل، حتى يبلغ من هذا العلم أعلى المراتب، وكلما ضحى الإنسان نال أعالي الدرجات عند الله عز وجل، وانظر في سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم، وكيف أن الله فاضل بين علمائهم، فجعل لبعضهم من الدرجات ما لم يجعل لبعض، وصدق الله إذ يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76].
فينبغي على الإنسان أن يجتهد وأن يجد في تحصيل هذا العلم، حتى قال بعض العلماء: (أعط العلم كلك يعطك بعضه) فكيف إذا أعطى الإنسان العلم بعضه؟! فينبغي على الإنسان أن يجتهد في تحصيل هذا العلم، وأن يجد، وتكتحل عيناه بالسهر، وأن يضنى جسمه من التعب والنصب، لعلمه أن الله يسمعه ويراه، ولعلمه أن كل تعب ونصب يبذله فإن الله يحب ذلك التعب والنصب.
وإن أفضل ما أنفقت فيه الأعمار، وأفضل ما قضي فيه الليل والنهار طاعة الله جل وعلا بالعلم.
فهذا العلم الذي تقاد به الأمم، والذي تتبدد به دياجير الظلم، وتنشرح به الصدور، وتخرج به الأمة من الظلمات إلى النور، يحتاج صاحبه أن يجد ويجتهد، وكلما قرأت في سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم من العلماء العاملين الربانيين وجدت الهمة العالية والتعب والنصب من أبرز ما يكون في تراجمهم.
يتغرب أحدهم من أجل العلم، فتهون عليه الأموال والأولاد والأوطان، كل ذلك لكي يسمع حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سمعه رفع الله درجته وأعلى مقامه، وكل آية تسمعها وتتعلم حكمها وتفهمه وتعمل به، فإن الله يرفعك بها درجات، وكل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلمته وعملت به وعلّمته يرفعك الله به درجات، فاستقل من ذلك الخير أو استكثر.
ثالثاً: الأخوة والرفقة: والوقفة الثالثة التي ينبغي أن يتواصى بها طلاب العلم: المحبة، والتعاون، والتكاتف، والتعاطف لبلوغ هذه الغاية الكريمة؛ إذ يحتاج الطالب دائماً إلى الأخ الصادق الذي يشد من أزره في طاعة الله جل وعلا، ويحتاج إلى من يذاكره العلم، ومن يعينه على تفهم المسائل والأحكام واستذكارها واستحضارها.
فينبغي على طالب العلم أن ينظر في إخوانه وخلانه، فمن وجده صادق العزيمة، تلوح من أعماله وأقواله أمارات الإخلاص فليقربه إليه، وليحبه في الله ولله، وليجتهد معه في بلوغ هذه الغاية الموجبة لرضى الله جل وعلا.
ولذلك قال الله عن نبيه موسى صلوات الله وسلامه عليه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:29 - 34].
فما أجلها من نعمة حين يقيض الله لك عبداً صالحاً، فإذا كنت على طاعة ثبتك، وإذا كنت على غيرها دعاك للإقلاع عنها.
فينبغي علينا أن نحرص على طلب الإخوة في طلب العلم، وكثير من طلاب العلم يضيعون هذا الأمر العظيم الذي يكمل به طالب العلم نقصه، فطالب العلم لا يستطيع أن يعيش وحده، ولا يمكن أن يحصل هذا العلم على أتم الوجوه وأكملها إلا بأخ صادق يعينه على استحضار المسائل، وكذلك على حل المشاكل، ومعرفة ما كان في حلق العلم، ويحاول الإنسان أن يتناقش معه مناقشة تدل على المودة والمحبة، ولذلك قالوا في العلم: واعلم بأن العلم بالمذاكرة والدرس والفكرة والمناظرة فيحتاج العلم إلى مذاكرته مع الأخ الصادق.
رابعاً: محبة العلماء: والوصية الأخيرة في حقوق العلم التي أحب أن أوصي بها: أنه ينبغي على طالب العلم أن يكون حريصاً على محبة العلماء، فإن من مفاتيح العلم محبة العلماء، ومن فقد محبة العلماء والقرب منهم، فإنه قد حرم خيراً كثيراً من العلم، فحبهم قربة، والدنو منهم قربة، وكذلك اعتقاد فضلهم ونشر علمهم وفتاويهم قربة من الله جل وعلا، وكان السلف يوصون طالب العلم بالحرص على القرب من الشيخ وحفظ علمه، ونشر فتاواه، والدعاء له بظهر الغيب.
فينبغي على طالب العلم أن يحرص على هذه المرتبة التي تقربه من الله جل وعلا.
فحب العلماء الغالب فيه أن يكون خالصاً لوجه الله عز وجل، فمن أحبهم أحبهم لدين الله الذي في صدورهم، فقد جعلهم الله عز وجل أمناء على وحيه، هداة مهتدين إلى طاعته وسبيله ومرضاته، فحبهم طاعة وقربة، والجفوة التي بين طلاب العلم وبين العلماء لا تليق، ولذلك كانوا يثنون على كثيرٍ من السلف بحبهم للعلماء، وقل أن تجد عالماً نفع الله بعلمه إلا وجدته آية في حب عالمه، والقرب منه والاستفادة منه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم في ذلك الحظ الأوفر والمقام الأكبر رضوان الله عليهم، فقد كانوا أقرب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم.
فقد قال سهيل حينما وصف النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: (والله ما كلمهم إلا أطرقت رءوسهم حتى يقضي حديثه، ولا تنخم نخامة إلا سقطت في كف أحدهم فدلك بها وجهه)، وهذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام؛ ولا يليق بغيره كائناً من كان، فكان الصحابة أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في كلام قريب من هذا الكلام: (إذا رأيت العالم بالسنة العامل بها، فإن النظر إليه عبادة وقربة)، فالعلماء حبهم والقرب منهم طاعة، وهم الأدلاء على الخير الأمناء على الطاعة والبر، وما رقت القلوب إلا بالقرب منهم، ولا أنس المستوحشون إلا بحبهم والدنو منهم.
فينبغي على من وفقه الله للخير أن يحرص على حب العلماء، وأئمة الإسلام أمواتهم وأحيائهم.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر حظ ونصيب.(1/3)
نصائح وإرشادات لطالب العلم
أولاً: عدم الاستعجال في طلب العلم: ينبغي على طالب العلم ألا يستعجل في طلب العلم، فبعض طلاب العلم يقول: لو استمرينا في قراءة متن على طريقة ما بالبسط والشرح فقد نمكث سنوات، ونحن نريد في أقرب فرصة أن ننتهي من هذا العلم، وهذا الكلام يعتبر من آفات العلم في هذا الزمان، فقد كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يعتنون بطول الزمان في طلب العلم، فكلما طال زمان طالب العلم كلما أحبه الله، وهيأه لمرتبة عظيمة في الإسلام، وكلما استعجل طالب العلم فظهر للناس ظهر على قصور، وحب الانتهاء من العلم بداراً يدل على وجود الفتنة في قلب صاحبه، وأنه يحب الظهور للناس.
فينبغي على الإنسان أن لا يستعجل وأن يتريث، فقد تفقه علماء الإسلام على أئمة سنوات عظيمة؛ فقد تفقه عبد الله بن وهب -وهو إمام من أئمة الحديث والفقه- على يدي الإمام مالك رحمه الله تعالى أكثر من عشرين سنة، وكان سواده لا يفارق سواد الإمام مالك رحمة الله عليه.
وكانوا يلازمون العالم يسمعون ما يقول، ويعملون بما يأمر به، ثم لا يمكن أن يفوتهم مجلس من مجالس العلم، ولا يمكن أن تفوتهم فتوى، حتى إن بعض أئمة الإسلام -وهذا من الأمر العجيب الذي يدل على حرص السلف وطول الصحبة- كان الرجل منهم أو الصاحب للعالم يقول: حضرته عند بئر كذا، وقد سئل عن مسألة كذا وكذا في الطلاق أو البيع، فهذا يدل على أنهم كانوا يلازمون العلماء ملازمة تامة.
وذكر عن الإمام مالك رحمة الله عليه أنه لما قرئ عليه الموطأ فيما يقرب من عام قال: (كتاب ألفته في أكثر من عشرين سنة، تقرؤونه في عام! ما أقل ما تفقهون) أي: ما أقل ما يكون لكم من الفقه.
فإياك أن تقول في البداية: لا أستطيع أن أداوم على ذلك المجلس؛ لأن الزمان يطول، فالهدف أن تعمر الأوقات في طاعة الله، والشرف أن تتشرف الآذان بسماع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
فلذلك لا ينبغي الاستعجال في تحصيل هذا العلم، وأنبه على هذا الأمر؛ لأن الحلق في العلم كثيرة، فيستعجل كثير من طلابها، وقد ينقطع عنها الناس بسبب الاستعجال في وصول أو بلوغ النهاية في العلم، فلا يزال الإنسان في طاعة ما صبر على طلبه.
فينبغي على طالب العلم الموفق أن يجعل نصب عينيه لحده حتى ينتهي من العلم.
وأذكر علماء أجلاء ومشايخ فضلاء كانوا مع علمهم وجلالة قدرهم يجلسون في مجالس بعض المشايخ كأنهم أطفال لا يفقهون شيئاً.
فطالب العلم الذي يريد مرضاة الله عز وجل يصبر، ويطول زمانه في طلب العلم وصحبة العلم.
ولذلك أقول: خيرٌ لنا أن نتقن هذا العلم المبارك، وأن نقرأ مسائله بتفصيل وبيان مع ضبط ولو طال الزمان، وذلك خير من أن يكون على سبيل العجالة، ونسأل الله العظيم أن يرزقنا الصبر، وأن يرزقنا التحمل لذلك.
ثانياً: تحضير الدروس: ينبغي على طالب العلم أن يقرأ الدرس ولو مرة واحدة على الأقل، وأكمل ما يكون من التحضير الصورة التالية: أن يقرأ المتن أو الباب الذي يريد أن يشرحه ثلاث مرات، ويقرأه مع إدمان نظر، ثم يأخذ أبسط الشروح وأخصرها، ويمر عليه مرة واحدة، ويحاول أن يكون عنده تصور ولو أبتداءً للذي قاله المصنف، ثم بعد ذلك يحضر في حلقة علم، ثم يرجع ويقرأه المرة والمرتين.
وفي الخاتمة أن يدون ما علق بذهنه كتابةً، فبعد أن يقرأ ثلاث مرات ويحضر الدرس ويعلق يقرأ الدرس مرة أخرى أو مرتين، وكلما أكثر كلما ضبط، ثم بعد ذلك يكتب شرحاً مختصراً من إملائه، ثم يرفع هذا الشرح ويستذكر به دائماً، وحبذا لو أنه بعد انتهائه من هذا الشرح المبسط يعرضه على عالم يستبين فيه صحة ما كتبه ودونه.(1/4)
أنواع العلوم(1/5)
علم العقيدة والتوحيد
أيها الأحبة في الله! إن العلوم والفنون مختلفة، أجلها وأعظمها ما قرب إلى الله وزاد العبد معرفة بالله سبحانه وتعالى، ألا وهو علم العقيدة والتوحيد، فهو أشرف العلوم، وأنبلها وأسماها وأزكاها، وثغرة العقيدة أعلى الثغور مقاماً، وأعظمها قربة عند الله عز وجل، وأفضلها مراماً، فالإنسان إذا ضبط علوم العقيدة، وأتقن فنونها، فكفى الأمة شئونها، فإن بلاءه يعظم، وأجره يتم ويكمل.
والسبب في ذلك: أن من حفظ هذا العلم فقد حفظ للأمة أهم شيء في دينها، وهو علم الإيمان الذي من أجله خلق الله الخلق، ومن أجله أوجد الحياة والرزق، فعلم العقيدة أشرف العلوم وأجلها وأحبها إلى الله جل وعلا.(1/6)
علم الحلال والحرام
ثم يلي علم العقيدة علم الأحكام الشرعية، وهو علم الحلال والحرام، الذي يستطيع العبد أن يعبد الله به على بصيرة، ويكون بذلك على نهج الأنبياء والمرسلين، كما قال الله تبارك وتعالى في كتابه المبين: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
فعلم الحلال والحرام علم مهم جداً، ذلك أن الله عز وجل أحل حلالاً وحرم حراماً، فإذا علم العبد حلال الله، وعلم حرام الله، أمكنه أن يطيع الله فيحل ما أحل، ويحرم ما حرم، فإذا لم يكن على علم بالحلال والحرام، فلا يؤمن منه أن يقع فيما حرم الله عليه، ولذلك قال بعض العلماء: (إن العبد قد يشيب عارضه، ولم تقبل له صلاة واحدة)، والسبب في ذلك: إما أن يكون جاهلاً بأحكام الطهارة، فيصلي والنجاسة قد أصابته.
وإما أن يكون جاهلاً بأحكام الوضوء، فيصلي ووضوءه غير صحيح.
وإما أن يكون جاهلاً بأحكام الغسل، فيصلي وغسله غير معتبر فلا تصح له صلاة.
وقد يقوم في صلاته وعبادته بين يدي الله ربه، فيضيع للصلاة أركانها وشروطها وأحكامها، فيوجب ذلك حبوط عمله ورده -والعياذ بالله- عليه.
وكما أن العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج تحتاج إلى فقه وعلم، فكذلك المعاملات؛ من البيع والإجارة والشركة والقراض والهبة وغيرها من المعاملات تحتاج إلى علم.
وقد يكون المرء كأحسن ما أنت راءٍ من استقامة، وحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يمسي ويصبح وقد أكل الربا -والعياذ بالله- لجهله بأحكام المعاملات.
فينبغي على المؤمن الموفق أن يعلم ما الذي أحل الله وما الذي حرم الله.
وأول ما يكون من الخير له أن يسلم له دينه، ويلقى الله يوم يلقاه وقد حفظ أعز شيء في دنياه، وهو دينه، فتلقى الله يوم تلقاه وقد أديت الصلاة على وجهها، وأديت الزكاة من حقها، وأديت الصيام والحج وسائر العبادات على وجهها، ثم تلقى الله ولا يسألك مسلم حقاً في معاملة؛ لأنك تعامل الناس على بصيرة ومعرفة وإلمام وعلم.
فأول ما يكون من الخير لمن فقه في دين الله وعلم الحلال والحرام أن يسلم له دينه، قال بعض العلماء: وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فعلم الحلال والحرام يسلم به دين العبد.
ومما يكون له من الخير بعد ذلك أنه بعد علمه بالحلال والحرام يعظم نفعه للناس، فكم من أناس ينتظرون من يعلمهم أحكام صلاتهم، ومن يبين لهم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء، وهديه في الغسل، وهديه في الصلاة صلوات الله وسلامه عليه، وهديه في الصيام، وهديه في الحج، وسائر العبادات.
ألا تعلم أنك لو علّمت إنساناً وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فما أصابت قطرة ماء جسده من ذلك الوضوء إلا أجرت عليه.
ولو علمت إنساناً غسله من الجنابة فما غَسَّل واغتسل في ليل ولا نهار إلا أجرت على غسله.
ولا علمت إنساناً كيف يصلي كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف يصوم كصيامه، وكيف يقوم كقيامه، وانتصبت له قدم بين يدي الله، فأدى ذلك على الوجه الذي علمته إلا كنت له شريكاً في ذلك الأجر، ولا علّم غيره تلك السنة ولا دعا إليها إلا كان في ميزان حسناتك من الأجور الشيء الكثير.
قال صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له أجره، وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئ).
فعلم الحلال والحرام علم شريف، ومقام جليل منيف، يوم تصبح إماماً من أئمة المسلمين، فيأتيك الجاهل لكي تنقذه بإذن الله من جهله.
ويأتيك الرجل في جوف الليل، وقد قال لامرأته كلمة من الطلاق، ولا يدري أهي حلال فيبيت معها، أم هي حرام عليه فيتركها.
ويأتيك المرء وهو لا يدري أهذا المال حلالٌ له أم حرام عليه.
وتأتيك الناس من كل حدب وصوب، بقلوب مليئة بالشوق لكي تعلم حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في النوازل، وحلها ودفع ما يكون فيها من معضلات ومشاكل.
فعلم الحلال والحرام ثغر من ثغور الإسلام، ينتظر شباب المسلمين وشيبهم، وينتظر أولئك الأخيار الذين يحتسبون الأجر، ويريدون مرضاة الله عز وجل، أولئك الذين يشرون مرضاة الله بتعلم هذا العلم وكفايته، ولا زالت الأمة بحاجة، فكم من بدع انتشرت، وكم من مسائل أشكلت، وكم من معضلات نزلت لم تجد لها حلاً، وقل أن ترى عينك أو تسمع أذنك فقيهاً يضبط أحكامها، أو يحسن سد ثغورها.
فالله الله يا شباب الإسلام، والله الله يا أبناء الإسلام أن تحتسبوا في هذا الثغر العظيم، وأن يهيئ الإنسان نفسه لمعرفة هذا الباب العظيم.
ولا يقل الإنسان: من أنا حتى أكون فقيهاً من فقهاء الأمة، ومن أنا حتى أكون عالماً؟ فإن الله تعالى يقول في كتابه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، فالله له فضل وله منن، وما أخرج العبد من ظلمات المعاصي، ولا شرح صدره فقام بين يديه راكعاً ساجداً إلا وهو يريد به خيراً.
فإذا علم الله من قلبك حب هذا العلم، وأنك تريد أن تسد عن الأمة هذا الثغر العظيم وهو علم الحلال والحرام، وتبين لهم الشريعة والأحكام، فإن الله يوفقك، ولا يزال معك من الله ظهير ونصير ما دام همك أن تكفي المسلمين هذا الثغر العظيم، فاحتسب العلم عند الله.
ولو جلست في مجلس علم ولم تخرج منه إلا بحكم واحد شرعي، فليأتين عليك يوم تبلي بهذا الحكم بلاءً عظيماً.
فكم من المسائل حضرناها في مجالس العلماء، والله ما كنا ولا كان يخطر لنا على بال أننا في يوم من الأيام نحتاج إلى هذه المسألة، فوقعت نوازل ومشاكل ومعضلات حلت بتلك المسائل بفضل الله عز وجل، فاحتسب العلم عند الله.
وكل مجلس يجلسه الإنسان يتعلم فيه كيف يصلي، وكيف يزكي، وكيف يصوم فهو منتفع فيه بنفسه نافع لغيره.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يجعل هذا الفقه موجباً لحب الله ورضوان الله علينا وعليكم.(1/7)
زاد المستقنع ومنهجية الشرح
كتاب (زاد المستقنع) يعتبر متناً من متون الفقه، ومن عادة أئمة الفقه أنهم إذا ألفوا في الفقه فإنهم يجعلون تآليفهم على مراتب: المرتبة الأولى: مرتبة المتون.
المرتبة الثانية: مرتبة الشروح.
المرتبة الثالثة: مرتبة الحواشي.
وهذا الكتاب من المرتبة الأولى، فهو متن من متون الفقه، والمتن من عادة العالم أن يصوغ فيه فقه الدين بأقل عبارة ممكنة، سواءٌ أكان ذلك المتن من الشعر أم من النثر، ويحرص على أن يجعل الفقه بين يديك بأخصر وأقصر عبارة.
ولذلك يحتاج هذا الكتاب إلى أن نشرحه ونبين إجماله، ونفصل ما فيه من الأحكام، سائلين المولى جل وعلا أن يلهمنا التوفيق والسداد، وأن يجعل ما يكون من القول والعمل خالصاً لوجهه الكريم.
وهذا المتن متعلق بمذهب معين، وليس مقصودنا أن ندرس مذهباً معيناً، وإنما المقصود أن نعرف حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فسندرس هذا المتن بالدليل، ولذلك سنبين معنى عبارته، ثم بعد ذلك نذكر موقف العلماء من المسألة التي يذكرها المصنف هل هي إجماعية أو خلافية، وإذا كانت خلافية فهل القول الراجح ما اختاره، أو ما اختاره غيره.
ولذلك أفضل ما يكون في دراسة الفقه دراسته بالدليل؛ لأن الله تعبدنا بالدليل، فلابد للمسلم إذا قال: هذا حلال، أو: هذا حرام، أن تكون عنده الحجة والدليل، كما قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148]، فالعلم هو الدليل والحجة الواضحة.
فسنذكر إن شاء الله تعالى أحكام هذا المتن ومسائله ونبينها بدليلها، وإذا كانت مسائل خلافية فسأعتني بإذن الله ببيان أقوال العلماء وأدلتهم، والراجح من تلك الأقوال والأدلة.(1/8)
تقسيم الفقه ووجه تقديم فقه العبادات على فقه المعاملات
وهنا أمر أحب أن أنبه عليه في قراءة الفقه، فالفقه ينقسم إلى قسمين: فقه العبادات، وفقه المعاملات.
والسبب في هذا التقسيم: أن الله عز وجل شرع الشرائع وبين الأحكام، وكانت هذه الشرائع والأحكام منها ما يتعلق بالعبادة من صلاة وزكاة وصيام وحج، ومنها ما يتعلق بمعاملة الناس بعضهم لبعض من بيع وشراء، وإجارة وهبة وشركة، ونحو ذلك.
فأما ما يتعلق بما بين العبد وربه، فاصطلح العلماء على تسميته بالعبادات، وما يكون فيه التعامل مع الناس اصطلحوا على تسميته بالمعاملات، فعندنا في الفقه مادتان: المادة الأولى: تتعلق بالعبادات.
والمادة الثانية: تتعلق بالمعاملات.
أما التي تتعلق بالعبادات، فمنها ما يتعلق بالعبادة البدنية المحضة، كالصلاة والصيام.
ومنها ما يتعلق بالعبادة المالية كالزكاة.
ومنها ما يتعلق بالعبادة المشتركة بين البدن والمال كالحج.
وأما المعاملات فهناك معاملات تتعلق بالمال، وهناك معاملات تتعلق بالنكاح والزواج، وهناك معاملات تتعلق بالجناية والاعتداء على المال، أو على العرض، أو على النفس والأطراف.
وهناك معاملات تتعلق بكيفية الفصل بين الناس من القضاء والشهادات والإقرار ونحو ذلك.
فالمعاملات تنقسم إلى هذه الأقسام المشهورة: المعاملات المالية، والمعاملات الزوجية التي تتعلق بالنكاح وما يتبع النكاح من حل العصمة بطلاق أو خلع، أو يكون موجباً لحصول أثر مترتب على ذلك كالرجعة ونفقة الرجعة، وغير ذلك.
وهناك معاملات تتعلق بجنابة الناس بعضهم على بعض، وجناية الإنسان على نفسه -والعياذ بالله- كالجناية على العقل، وهذا يتعلق بحد المسكر، وباب المسكرات والأشربة.
وكذلك الجناية على أعراض الناس مما يتعلق به حد الزنا، والجناية على أموالهم مما يتعلق به حد السرقة، وغير ذلك من الحدود كالجناية على النفس بالقتل، والجناية على الأطراف، وما يوجب ذلك من قصاص وديات ونحو ذلك.
وهناك معاملات تتعلق بفصل الخصومات والنزاعات وهو باب القضاء، وما يتبع ذلك من آداب مجلس القاضي، وكيفية الفصل وسماع حجج المختصمين، وكذلك الترجيح بين هذه الحجج إذا تعارضت، إلى غير ذلك من المعاملات المتعلقة بباب القضاء.
والعلماء كلهم متفقون على تقديم فقه العبادات على فقه المعاملات، بمعنى أنهم يبدؤون بالصلاة والزكاة والصيام والحج قبل ابتدائتهم بالبيع والنكاح وغيرها من المعاملات.
والسبب في ذلك: أن الله عز وجل بين في كتابه أنه ما خلق الخلق إلا لعبادته، فلما كانت العبادات المحضة هي المقصود من خلق الناس من صلاة وزكاة ونحو ذلك، كانت العناية بها آكد، وتقديمها أوجب.
أما المعاملات فإنها لا تقع عبادة إلا بقصد القربة، فلو أن إنساناً باع أو اشترى، فإن العبادة في بيعه وشرائه لا تحصل إلا إذا قصد القربة، وإلا هي في الأصل معاملة دنيوية تتعلق بحياة الإنسان ودنياه.
وبناءً على ذلك، قدم المقصود الأصلي وهو العبادة على ما هو تبعٌ له وهو باب المعاملات، فأجمع الفقهاء والمحدثون على تقديم أبواب العبادات على أبواب المعاملات.
ولذلك سنشرع إن شاء الله تعالى في فقه العبادات أولاً ثم نتبعه بفقه المعاملات، ونسأل الله العظيم أن يلهمنا الصواب، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل، والله تعالى أعلم.(1/9)
الأسئلة(1/10)
حكم أخذ المال على تدريس العلوم الشرعية
السؤال
نحن نُدرّس العلوم الشرعية، ونأخذ على ذلك رواتب، فهل هذا ينافي الإخلاص؟ علماً بأنَّا لن نتمكن من التفرغ للتدريس إذا لم نأخذ هذه الرواتب؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمذهب المحققين من العلماء رحمهم الله، وهو الذي اختاره بعض الأئمة، ومنهم الإمام ابن جرير الطبري، والحافظ ابن حجر، وغيرهما من المحققين أن الإنسان إذا قصد بعلمه الآخرة، ثم أخذ أجراً على ذلك العلم بسبب عدم تمكنه من طلب الرزق فذلك لا يقدح في الإخلاص، ما دام أن مقصوده هو تعليم العلم، ونفع أبناء المسلمين، فلا يقدح في الإخلاص وجود حظ من الدنيا.
وقد دل على هذا القول الصحيح دليل الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب فإن الله عز وجل يقول في كتابه: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]، وهذه الآية نزلت في أهل بدر، فأخبر الله أنهم كانوا يتمنون العير بقوله تعالى: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)، فهم خرجوا للعير، فلما واجهوا القتال صدقوا مع الله، فلم يقدح في قتالهم وجهادهم وجود حظ أو قصد حظ الدنيا من تلك العير.
ومن الأدلة على صحة هذا القول قول الحق تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، فإنها نزلت -كما صح- في أقوام يريدون الحج والتجارة، فالحج عبادة والتجارة دنيا، فلم يقدح في إرادة الآخرة وجود حظ الدنيا.
كما دل على صحة هذا القول دليل السنة الصحيح، فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام قال قبل القتال: (من قتل قتيلاً فله سلبه)، وهذا القول قاله لترغيب الناس في القتال، فأعطى على القتال الذي يراد به وجه الله حظاً من الدنيا، قال بعض العلماء: في هذا دليل على أنه لا يقدح في الإخلاص وجود حظ من الدنيا إذا لم يكن هو مقصود العبد، فإذا كان مقصودك ما عند الله عز وجل فلا يؤثر فيه وجود حظ من الدنيا.
وقد جاء في حديث أبي محذورة رضي الله عنه أنه قال: (ألقى النبي صلى الله عليه وسلم عليّ الأذان، فلما فرغت، ألقى إليّ صرة من فضة) قالوا: في هذا دليل أيضاً على أن حظ الدنيا لا يؤثر إذا لم يكن هو مقصود العبد.
ومن مجموع هذه الأدلة خلص هؤلاء العلماء إلى القول بأنه ينظر في الإنسان، فإذا كان مقصوده من التعليم نفع أبناء المسلمين، وإسداء الخير إليهم، ودلهم على طاعة الله ومرضاته، ثم حصل بعد ذلك أجر أو راتب أو غير ذلك، ولم يكن هو مقصوده الأساس، فإن ذلك لا يقدح في إخلاصه، والله تعالى أعلم.(1/11)
الزاد والمقنع والمبدع
السؤال
هل لكتاب الزاد من شروح، وما هو أفضلها؟ وكيف نتمكن من حفظ متن هذا الكتاب؟
الجواب
هذا الكتاب في الأصل -وهو الزاد- اعتمد فيه المصنف رحمه الله تعالى على كتاب (المقنع)، وهو في الحقيقة كتاب مقنع، وإن كان أضيفت إليه اختيارات الحجاوي رحمة الله عليه وعلى مؤلفه، ولكن في الأصل كتاب (المقنع)، وكتاب (المقنع) له شروحات، تعتبر بمثابة شرح هذا الكتاب وزيادة أيضاً؛ لأن الإمام الحجاوي رحمة الله عليه حذف بعض المسائل.
وأنفس الشروح وأفضلها لكتاب (المقنع): كتاب (المبدع في شرح المقنع) لـ ابن مفلح رحمه الله تعالى، فقد شرحه شرحاً وافياً كافياً، وذكر فيه الأوجه والروايات، ورجح بين الأوجه والروايات، وذكر الأدلة، وقد يناقش في بعض المسائل، لكنه كتاب واسع يجمع هذا الكتاب وغيره، خاصة في الفروع والتتمات التي يذكرها في نهاية كل باب.
وكتاب (المبدع) يعتبر شرحاً لأصل هذا الكتاب؛ لأن كتاب (المقنع) يعتبر في نظر مؤلفه -وهو الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى- في الدرجة الثانية، فإن ابن قدامة رحمة الله عليه جعل علم فقه المذهب على درجات: الدرجة الأولى: كتابه (العمدة)، ثم جعل بعد (العمدة) (المقنع)، ثم جعل بعد (المقنع) (الكافي)، ثم جعل خاتمتها بـ (المغني)، ولذلك قال فيه بعض العلماء: كفى الخلق بالكافي وأقنع طالباً بمقنع فقه عن كتاب مطول فكتابه (المقنع) يعتبر في الدرجة الثانية، وأنفس الشروحات -كما قلنا- شرح ابن مفلح رحمة الله عليه الذي أجاد فيه وأفاد، وجمع فيه مسائل الكتاب وزيادة، مع فروعات وتتمات في الحقيقة يكمل بها كتاب (المقنع)، والله تعالى أعلم.(1/12)
نصيحة لمن منعه والداه من السفر لطلب العلم
السؤال
أنا أريد طلب العلم، ولكن أهلي يرفضون ذلك، وقد تركت كل شيء في مدينتي من أجل أن أذهب إلى مدينة أخرى للجلوس عند علمائها، فهلا من كلمة لوالدي أسمعهما إياها علهما أن يوافقا؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أهنئك أخي في الله على حب العلم، وحب التغرب من أجل التفقه في الدين، وحمل رسالة الله رب العالمين، وما قذف الله في قلبك حب هذا العلم إلا وهو يريد بك خيراً، فإنهم بذلك عيناً، وليكن حسن ظنك بالله عظيماً، فلابد أن تنال العلم إذا صدقت مع الله جل وعلا.
أما الوصية الأولى التي أوصيك بها، فإن تيسر لك طلب العلم في دار فيه والداك، فإياك ثم إياك أن يفارق سوادك سوادهما.
إن من أعظم الأسباب التي تنشرح بها الصدور لطلب العلم، ويوفق فيها طالب العلم في طلبه: رضى الوالدين، فلتجتهد في إرضاء والديك، فقد جاء في الحديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله: أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد -أي: أن ألازمك، يريد طلب العلم والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم- قال: أحية أمك؟ قال: نعم، قال: فالزم رجلها فإن الجنة ثَمَّ).
فالزم رجل والديك إذا كان العلماء في بلدك، وإياك أن تفكر في طلب العلم في مكان ليس فيه والداك، إلا إذا تعين عليك ذلك، ولم تجد أحداً في المكان الذي أنت فيه.
وقد كتب بعض العلماء ترجمته، وكان رحمة الله تعالى عليه آية في العلم والعمل، موفقاً حتى في كثير من المسائل والنوازل والفتاوى التي كان يفتي فيها، فقال: لا أعلم عملاً صالحاً بعد الإيمان وفقني الله فيه حتى بلغت هذا العلم مثل بري بوالدي، فقد توفي أبي وهو في النزع يدعو لي بالعلم والعمل.
ولذلك أوصي طالب العلم فأقول: إذا أردت أن توفق في طلب العلم، وتوفق لكل عمل صالح بعد الإيمان، فأول ما تفكر فيه إرضاء والديك، من إدخال السرور عليهما، والحرص على الإحسان إليهما، وإسداء الخير إليهما، فتلك من أعظم المفاتيح التي ينال الإنسان بها العلم والعمل.
وكذلك أوصي والديك أن يتذكرا فضل الله عليك، وأن يكونا خير والدين حينما يعينانك على بلوغ هذه الرسالة العظيمة، وما أعظمه من شرف للوالدين حينما يتسببان في تحصيل الابن للعلم والعمل؛ إذ ورد في الحديث: (أن حافظ القرآن يؤتى بوالديه يوم القيامة فيلبسان تاج الكرامة)، إكراماً لحافظ القرآن، فكيف بمن حفظه وعلمه وعمل به وعلم الناس؟!! فلذلك أوصي الوالدين أن لا يزهدا في هذا الخير العظيم، فما الذي ينتظران من الأبناء غير أن يكونوا لهما خلفاً صالحاً، ولو لم يكن في العلم إلا أن العالم يأتيه السائل وقد ضاقت عليه الدنيا فإذا أجابه يكون من دعائه له: رحم الله والديك لكفى بها نعمة.
وهذا يدل على شرف العلم وبركة العلم وفضله، حتى على والدي الإنسان، فنسأل الله العظيم أن يشرح صدرهما لإعانتك على بلوغ هذه الغاية النبيلة، وتحصيل هذا المقام العظيم، والله تعالى أعلم.(1/13)
توجيه قول سفيان: (تعلمنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله)
السؤال
ما توجيهكم للقول المنسوب إلى سفيان: (تعلمنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله)؟
الجواب
قول سفيان رحمة الله عليه: (تعلمنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله) هذه العبارة من أصح الأقوال في توجيهها: أن الإنسان في بداية طلب العلم يأتيه نوع من الغرور، ونوع من الطفرة، وهذا معروف ومألوف، فإذا تمكن العلم من قلبه كسره خشية لله جل جلاله.
ولذلك كانوا يعرفون كون هذا العلم يقرب إلى الله، أو يبعد عن الله على مقدار زيادة الخشوع في القلب، فإذا وجدوا هذا العلم يزيد من الخشية والخشوع عرفوا أن العلم لوجه الله جل جلاله، وأنه يزيد العبد قرباً إلى الله.
فقوله: (تعلمنا العلم لغير الله) أي: تعلمنا العلم وكان في النية ما كان من دخن بسبب غرور العلم، فالناس تنظر إليك طالب علم تحمل كتابك، ويمدحون الإنسان ويمجدونه فيدخله الدخن.
وقوله: (فأبى أن يكون إلا لله)، أي: لما تعمقنا فيه، ودخلت آيات الكتاب إلى القلوب، وعمرت بها القلوب انكسرت تلك القلوب لله جل جلاله، والعلم يكسر صاحبه لله سبحانه وتعالى، ويزيده خشية وخوفاً، كما قال الإمام أحمد: (أصل العلم خشية الله)، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا العلم.
وهذا العلم الموجب للخشية هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ميراث العلماء والصلحاء والأخيار والأئمة المهتدين، فهم ورثوا العلم الذي يزيد من خشية الله جل جلاله.
فقوله: (تعلمنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله)، أي أنه صاغهم لطاعة الله ومرضاته، حتى خلصت قلوبهم من شوائب الغرور، ونحو ذلك مما يكون لطالب العلم في بداية طلبه، والله تعالى أعلم.(1/14)
حكم انتقال المرأة من بيت زوجها في عدة الوفاة
السؤال
امرأة مات زوجها وهي في عدة الحمل، وتريد الخروج من بيت زوجها لمرضها، ولعدم وجود من يرعاها، مع العلم بأنه قد توفي لها مولودان من قبل، فهل يجوز خروجها إلى بيت أحد محارمها؟
الجواب
أولاً أهنئ هذه المرأة؛ لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (جاءت امرأة فقالت: يا رسول الله: ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا يوماً، فجعل لهن يوماً صلوات الله وسلامه عليه، فلما اجتمعن قال: ما منكن من امرأة تقدم بين يديها ثلاثة إلا كانوا لها حجاباً من النار، فقالت امرأة: واثنين يا رسول الله؟ فسكت، فقالت: واثنين يا رسول الله؟ قال: واثنين واثنين واثنين) فأسأل الله أن يجعل ما قدمته هذه المرأة حجاباً لها من النار.
أما الأمر الثاني: فأوصيها أن تحتسب الأجر في طاعة الله جل وعلا بلزوم بيت الزوج، فقد قال صلى الله عليه وسلم لـ فريعة بنت مالك بن سنان رضي الله عنها لما سألته عن حدادها: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله).
فالمرأة تمكث في بيت الزوج في الحداد، فإن كانت مريضة يستدعى لها من يعالجها، فإن تعذر ذلك خرجت للعلاج ولا حرج عليها ثم ترجع؛ لأن ما جاز لحاجة يقدر بقدرها، فلذلك تمكث هذه المرأة في بيت زوجها حتى يبلغ الكتاب أجله، ولله الحكمة البالغة في هذا الحداد، فإن المرأة إذا مكثت في بيت زوجها تذكرته فترحمت عليه، ودعت له، واستغفرت له، وكان ذلك أدعى لسماحها عن أخطائه، وما كان منه من تقصير.
فمقصود الشرع من بقائها في هذا المكان أن يكون أدعى لترحمها، وهو حق الأزواج على أزواجهن، فكون كثير من النساء يتساهلن في هذا الحق، ويحرصن على الخروج هو خلاف السنة، وخلاف الهدي، فينبغي الحرص على هذا الأمر الذي شرعه الله تبارك وتعالى.
وأما إذا بلغ بالمرأة مقام الاضطرار، كأن تكون في مكان لا تأمن فيه أن تؤذى من الناس في عرضها، أو تقتل، أو يحصل لها ضرر في نفسها، أو أولادها فيجوز لها أن تتحول، واختلف العلماء في تحولها، فقال بعض العلماء: تتحول إلى أقرب مكان من قرابتها، وقال بعض العلماء: إذا إذن لها بالتحول ساغ لها أن تتحول لبيت بعيد مع وجود القريب، والله تعالى أعلم.(1/15)
حكم النوم بعد صلاة الفجر والعصر
السؤال
ما رأيكم في طالب العلم الذي ينام بعد صلاة الفجر؟
الجواب
كان السلف يكرهون النوم بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر، حتى إن الإمام أحمد رحمة الله عليه كان يكره النوم بعد العصر، وقال: كانوا يخافون على عقل الإنسان، وذكروا عن رجل أنه حذر أخاه من النوم بعد صلاة العصر، فقال له: إني أخشى على عقلك، فقال له رجل مجنون: لا تصدقه، فإني ما تركتها.
يعني هذه النومة.
فالنوم بعد صلاة العصر لا يمدحونه، وما بعد الفجر قيل: إنها ساعة البركة، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بورك لأمتي في بكورها) فإذا كان عندك بحث، أو رسالة أو طلب علم، وبكرت وابتكرت وجدت خيراً كثيراً، وهكذا لو كانت عندك أعمال من الدنيا.
وما محقت البركة في كثير من أعمال الناس وأوقاتهم إلا بسبب إضاعة البكور، لكن إذا كان قواماً لليل، ويريد أن ينام بعد صلاة الفجر حتى يكسب أعماله في النهار فلا حرج والأمر واسع.
وفي التحذير من النوم بعد العصر حديث ضعيف عن عائشة رضي الله عنها رواه ابن ماجة: (من نام بعد صلاة العصر فأصيب في عقله فلا يلومن إلا نفسه) ولكنه حديث ضعيف، كما نبه على ذلك ابن الجوزي وغيره، وهو حديث غير معتبر، والأصل الجواز حتى يدل الدليل على المنع، لكن قالوا: إن النوم في هذين الوقتين مكروه لما فيه من تفويت البركة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في نوم الصبح، وكذلك أيضاً قالوا: بعد العصر لا يحمد للإنسان منامه، والله تعالى أعلم.
أما طالب العلم إذا كان يسهر في تحصيل العلوم والمنافع وينام بعد صلاة الفجر، فهذا رأيي فيه أنه ذكي؛ لأن الناس في النهار يشغلون عن طلب العلم، فإذا سهر ليله في تحصيل العلوم وضبط العلوم، ونام النهار، فهذا على خير كثير.
وأما بالنسبة للنوم على سبيل الكسل والخمول، فهذا لا شك أنه يدل على ضعف الهمة وقصورها، والأفضل والأكمل للإنسان أن يحرص على قضاء هذا الوقت في طاعة الله تعالى، كأن يجلس بعد صلاة الفجر إلى الإشراق، فتكون له حجة وعمرة تامة تامة تامة، والله تعالى أعلم.(1/16)
حكم حج من داعب زوجته دون جماع بعد التحلل الأول
السؤال
تحللت التحلل الأول، وبقي عليّ الطواف والسعي، وقبل أن أقوم بتكملة هذا الركن، كنت أداعب زوجتي بدون جماع ولا إنزال، فهل عليّ شيء؟
الجواب
إذا لم يحصل الإنزال، فإن الحج صحيح، وليس عليك شيء؛ لأنه ليس هناك موجب للفدية، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، والله تعالى أعلم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(1/17)
شرح زاد المستقنع - المقدمة [2]
من عادة السلف رحمهم الله في كتابة الكتب أنهم يبدءون بحمد الله عز وجل والثناء عليه سبحانه، ومن ثم يفصلون بين المقدمة والمضمون بقولهم: أما بعد، والمقدمة لا بد أن تكون مشتملة على التعريف بالكتاب، وبيان منهج الكتاب، ثم تختم بالثناء على الله عز وجل وسؤاله المدد والعون.(2/1)
معنى الحمد ومشروعية الاستفتاح به وبيان الفرق بينه وبين الشكر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد].
هذه مقدمة المصنف رحمه الله لهذا الكتاب المبارك -أعني: زاد المستقنع- يبدؤها رحمه الله بقوله: [الحمد لله]، ومن عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم إذا أرادوا التأليف أو التصنيف، أو أرادوا الخطابة أو الكتابة صدروا ذلك بحمد الله جل وعلا.
ولهم في ذلك دليل من الكتاب والسنة: أما دليل الكتاب فإن الله تبارك وتعالى استفتح كتابه المبين بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، فاستفتح أفضل الكتب وأشرفها وأجلها على الإطلاق وهو القرآن بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2].
قال بعض العلماء: في هذا دليل على أنه يشرع استفتاح كتب العلم بحمد الله جل وعلا.
وأما دليل السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح خطبه بقوله: (إن الحمد لله)، وثبتت الأحاديث عنه عليه الصلاة والسلام في مواعظه المشهورة، أو كلماته المعينة التي وقعت في المناسبات بما يحكيه الرواة عنه بقولهم: (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال).
وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية استفتاح الكتب ونحوها بحمد الله جل وعلا، والمناسبة في ذلك: أن الله جل وعلا هو المستحق للثناء، وما كان العبد ليعلم أو يتعلم لولا أن الله علمه، وما كان ليفهم لولا أن الله فهمه، فيستفتح بحمد الله الذي شرفه وكرمه كما قال: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5].
وقالوا: كما أن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح الخطب بالحمد فيشرع استفتاح الكتب بالحمد؛ لأن الخطبة والكتاب كل منهما هدفه واحد، وهو الدلالة والدعوة إلى الله.
فكما أن المراد من خطبه عليه الصلاة والسلام توجيه الناس ودلالتهم على الخير، كذلك هو المراد من كتابة الكتب وتأليف المؤلفات.
فلهذا كله شرع في كتب العلم ورسائل العلم والخطب والندوات ونحوها مما فيه تعليم وتوجيه أن تُستفتح بحمد الله، لما فيه من تعظيم الله جل وعلا، ولما فيه من الاعتراف بالجميل والثناء على الله العظيم الجليل.(2/2)
معنى الحمد والفرق بينه وبين الشكر
قوله رحمه الله تعالى: [الحمد لله].
الحمد في اللغة: الثناء، وقد أطبق على ذلك العلماء في تعريفه, يقال: حمد الشيء، إذا أثنى عليه.
والمراد بالحمد في اصطلاح العلماء هو الوصف بالجميل الاختياري على المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد أو غيره، فقولهم: (الوصف بالجميل الاختياري)، هو كأن تقول: محمد كريم، شجاع، فاضل، فوصفته بجميل لو سئل إنسان عنه لقال: سئل فلان عن محمد فحمده، أو ذكر أوصافه المحمودة.
وقولهم: (على المنعم)، أي: الذي أعطى النعمة وهو الله جل وعلا، أو المخلوق بعد فضل الله جل وعلا.
والفرق بين الحمد والشكر عند العلماء أن الحمد أعم بالأسلوب وأخص من جهة السبب، والشكر أعم من جهة السبب وأخص من جهة الأسلوب أو الوسيلة.
فالحمد إنما يكون باللسان فهو أخص من حيث الآلة، والشكر أعم منه؛ لأن الشكر يقع باللسان ويقع بالجنان ويقع بالجوارح والأركان.
أما باللسان فمنه قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، لأن الحديث عن النعم شكر للمنعم.
وأما بالجنان، فمنه قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] أي اعتقدوا أنها من الله، فمن شكرك لنعمة الله أن تعتقد في قرارة قلبك أن الله أنعم بها عليك، وأما الشكر بالجوارح والأركان فأن تعمل بجوارحك ما ترد به جميل المنعم، ومنه قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13].
فهذه ثلاثة أنواع من الشكر، تشكر بلسانك فتثني على الذي أعطاك الجميل وأسدى إليك النعمة بعد الله، وتشكر بجنانك بأن تعتقد فضله، وتشكر بجوارحك وأركانك برد الجميل إليه، أو فعل ما يرد إحسانه إليه.
وأما الحمد فلا يكون إلا باللسان، ولكنه من جهة السبب أعم من الشكر، فتحمد الإنسان مطلقاً سواءٌ أعطاك نعمة أم لم يعطكها، فتقول: فلان كريم، وإن لم يعطك شيئاً، فأثنيت عليه وحمدته لهذه الخصلة الطيبة فيه.
فالحمد لا يستلزم وجود فضل للمحمود على الحامد، بخلاف الشكر، إذ إنما يكون بعد جميل ونعمة، فلا تشكر إلا من أحسن وأسدى إليك المعروف.
إذاً الفرق بينهما أن الحمد من جهة التعبير أخص ومن جهة السبب أعم، والشكر من جهة التعبير أعم ومن جهة السبب أخص.
قال العلماء رحمة الله تعالى عليهم: استفتح الله كتابه بـ (الحمد لله)، فاختار اسم (الله) ولم يقل: (الحمد للكريم) ولا (للعظيم) وهو وإن كان حمداً للعظيم والكريم، ولكن تخصيص الاسم الدال على الذات أبلغ في الحمد والثناء من ذكر الوصف؛ لأنك لو قلت: الحمد لله الكريم، لأشعر أنك حمدته من أجل أنه كريم، ولكن لما قلت: الحمد لله، أثبت له الحمد لذاته سبحانه وتعالى فكان أبلغ.
قوله رحمه الله تعالى: [حمداً لا ينفد].
أي: أحمده حمداً لا ينتهي ولا ينقطع، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان: (إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد)، وفي رواية: (لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض ... ) إلى أن قال: (أهل الثناء والمجد) أي: يا الله أنت أهل أن يثنى عليك، فالله هو المستحق للحمد الذي لا ينفد؛ لأن نعمه لا تنقطع ولا تنتهي ولا تنقطع عن العبد، وهو لا يستطيع عدها فضلاً عن شكرها والثناء على الله عز وجل بما هو أهله.
قوله: [أفضل ما ينبغي أن يحمد].
أفضل على وزن أفعل، والعرب تأتي بهذه الصيغة للمفاضلة فتقول: فلان أكرم، فلان أحسن، فلان أعلم، وهذه الصيغة تدل على أن الاثنين اشتركا في وصف أحدهما أعلى من الآخر فيه، فقوله: [أفضل] يعني أن الحمد يفضل، والفضل الزيادة، أي أن هذا الحمد فرق بينه وبين حمد غير الله جل وعلا أنه يفضل كل حمد، أو أنه حمد يفضل حمد غيره لله جل وعلا.(2/3)
بيان معنى الصلاة والآل ومعنى العبادة
قوله رحمه الله تعالى: [وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد].
الصلاة تطلق في اللغة على معانٍ، فتأتي بمعنى الدعاء، ومنه قول الشاعر: تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا يقول الشاعر: إن ابنتي حينما هيَّأت رحلي للسفر قالت: يا رب جنب أبي الأوصاب والوجع، أي أنها دعت له بالسلامة، فأجابها بقوله: عليك مثل الذي صليت، أي: عليك مثل الذي دعوت، وهو موضع الشاهد من البيت؛ فإنه استعمل الصلاة بمعنى الدعاء.
ومنه قول الحق تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] أي: إذا أعطوك الزكاة يا رسولنا -عليه الصلاة والسلام- فصل على من أعطاها لك، ولذلك قال العلماء: يسن لنائب الإمام الذي يلي أخذ الزكاة من الناس إذا أعطوها أن يدعوَ بالبركة والخير في أعمالهم، فقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] أي: ادع لهم، فالصلاة تطلق بمعنى الدعاء.
وتأتي الصلاة بمعنى الرحمة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] أي أن الله يرحمه، وصلاة الله على العبد رحمته.
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم صل على آل أبي أوفى) أي: ارحمهم، وقيل: (بارك لهم في مالهم)، وهو حديث في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
ومنه قول الشاعر: صلى المليك على امرئ ودعته وأتم نعمته عليه وزادها أي: رحم الله ذلك العبد، أو ذلك الأخ الذي ودعته.
فقوله: [وصلى الله] أي: على نبيه صلوات الله وسلامه عليه، والمراد به الترحم؛ لأن الصلاة من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي الرحمة.
قوله: [وصلى الله وسلم]: جمع المصنف بين الصلاة والسلام، والسلام إما مأخوذ من السلامة من الآفات، وإما أن يراد به التحية.
قال بعض العلماء: قول الإنسان: السلام عليكم.
أي سلمكم الله من الآفات والشرور وهي التحية، ووصفت التحية بكونها تحية؛ لأن الإنسان إذا حيَّا غيره دعا له بما يوجب طول بقائه في الحياة، فإذا قلت: السلام عليكم، فمعنى ذلك: سلمكم الله من الآفات.
وإذا سلم العبد من الآفات طال عمره وبقي زمناً أكثر مما لو أصابته، ولذلك يقولون: السلام من السلامة، وهو اسم من أسماء الله جل وعلا كما في آية الحشر.
فجمع المصنف بين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام عليه؛ لأنها من أكمل الصفات.
قال بعض العلماء: أدب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع فيها بين الصلاة والسلام، والدليل على ذلك.
أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فجمع له بين الصلاة والسلام عليه أفضل الصلاة والتسليم.
قال رحمه الله تعالى: [وعلى آله وأصحابه ومن تعبد].
قوله: [وعلى آله] الآل تطلق على معنيين: الأول: آل الرجل بمعنى قرابته، قالوا: وأصل آل: أَهْلٌ، وهو قول سيبويه رحمه الله تعالى.
الثاني: تطلق بمعنى الأنصار والأعوان والأتباع وشيعة الإنسان، تقول: آل فلان؛ بمعنى أتباعه، وهذا هو المراد بقول العلماء: وعلى آله، وهذا هو الصحيح، ونص عليه الإمام أحمد رحمه الله، واختاره جمع من العلماء، فالمراد بآل النبي صلى الله عليه وسلم الذين يصلى عليهم ويسلم تبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هم أتباعه في كل زمان ومكان.
لكن قوله: [وعلى آله وأصحابه ومن تعبد] يؤكد غير هذا المعنى، فإن قوله: [ومن تعبد] يدل على أن المراد بالآل هم الأهل؛ لأنه قال بعد ذلك [ومن تعبد]، والمراد به من سار على نهجه عليه الصلاة والسلام، فإذا كان المريد بالآل الأهل، يكون قوله: [ومن تعبد] من باب عطف الشيء على الشيء.
لكن يمكن أن يقال: إن المراد بقوله: [وعلى آله] أي: أتباعه وأنصاره، وقوله: [ومن تعبد] من باب عطف الخاص على العام، أي أنه خص المتعبدين الذين هم أكثر عبادة وصلاحاً.
وهذا من باب التشريف والتكريم؛ لأن العرب تعطف الخاص على العام، مثل قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] والروح: جبريل عليه السلام، فقوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) يدخل فيهم جبريل، لكنه تعالى لما قال: (والروح) نص على الروح تشريفاً وتكريماً وتنبيهاً على علو مقامه ودرجته.
وقوله: [تعبد] أي: تفعّل العبادة، والتفعّل زيادة، والزيادة في المبنى تدل على زيادة المعنى، والتعبد مأخوذ من العبادة، والعبادة مأخوذة من قولهم: طريق معبد، أي: مذلل؛ لأن أصل العبودية: الذلة، فإن الإنسان إذا عبد ربه تذلل له، أما حقيقة العبادة في الاصطلاح فأجمع التعاريف لها ما اختاره جمع من المحققين ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
فهي شاملة لأعمال القلوب كحب الله، وخشية الله، والإيمان به، واعتقاد فضله سبحانه وتعالى، والخوف منه، والرجاء فيما عنده، فإن هذه كلها من أعمال القلوب الباطنة.
والأقوال كالتسبيح والتهليل والتكبير.
والأفعال كالركوع والسجود والذبح، ونحو ذلك، فالعبادة تشمل الأقوال والأفعال والاعتقادات لكن بشرط أن تكون مما يحبه الله ويرضاه.
وشرط ما يحبه الله ويرضاه أن يكون مشروعاً، فلا يُعبد الله إلا بما شرعه، فلا يُعبد بأهواء ولا آراء، ولكن يُعبد بنصوص الكتاب والسنة التي دلت على مشروعية ذلك العمل قولاً كان أو فعلاً أو اعتقاداً.
قال رحمه الله تعالى: [أما بعد].
هذه كلمة يؤتى بها للفصل بين المقدمة والمضمون، فإذا خاطب الإنسان غيره بكلام مكتوب أو مسموع فإن من عادة الناس أنهم يصدرونه بالثناء على الله جل وعلا، وهذه الكلمات التي يصدر بها الكلام توصف بكونها مقدمة.
ثم بعد هذه المقدمة من ثناء العبد على ربه عز وجل، وصلاته على نبيه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه يشرع في المقصود، أي: الأمر الذي يريد الكلام عنه بالخطابة أو الكتابة.
ولذلك قال بعض العلماء: إن (أما بعد) هي فصل الخطاب، وقد قيل: إن أول من تكلم بها داود عليه السلام، وحملوا عليه قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] قالوا: بدليل قرنها بالحكمة وفصل الخطاب، أي: الفصل بين مقدمته ومضمونه، وذلك أبلغ في نفع الناس وتوجيههم، وأن لا يختلط الكلام بعضه ببعض، وهذا قول الشعبي وطائفة من المفسرين رحمهم الله تعالى.
والصحيح أن فصل الخطاب هو القضاء بين الناس في الخصومات والنزاعات، وأن قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] ليس المراد به (أما بعد)، وإنما المراد به -كما قال طائفة من العلماء- معرفة الطريقة التي يفصل بها بين خطاب الخصوم إذا تخاصموا؛ لأن الخصوم إذا تخاصموا اختلفت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، فيحتاج إلى فصل، قالوا: فصل الخطاب قولهم: البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
وقيل: من فصل الخطاب أن يترك المدعي حتى يكمل دعواه، ثم يسأل المدعى عليه، ولذلك لما عجل داود عليه السلام وحكم وقال: (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) عاتبه الله تعالى.
وهذه الكلمة -أي: أما بعد- سنها النبي صلى الله عليه وسلم، وثبتت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أما بعد: فما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) فكان يقول: (أما بعد) ولذلك كان من السنة أن تقال هذه الجملة.
وقد يكررها بعض المتكلمين فيقول: (أما بعد)، ثم يأتي بكلمة ثم يقول: (ثم أما بعد)، والذي يظهر هو الاقتصار على السنة، بأن يثنى على الله تعالى ويحمده، حتى ينتهي الثناء والحمد ثم يقول: (أما بعد) ويدخل في المقصود، فتكرارها لا يحفظ له أصل، والأبلغ في التأسي الاقتصار على الوارد، خاصة في خطب الجمعة ونحوها.(2/4)
طريقة الأولين في كتابة المقدمات وبيان معنى الاختصار والفقه
قال رحمه الله: [فهذا مختصر في الفقه].
أي: هذا الكتاب الذي بين أيدينا مختصر في الفقه، كلمة [هذا] لها حالتان: الحالة الأولى: تكون إشارة إلى شيء موجود.
الحالة الثانية: أن تكون إشارة إلى شيء غير موجود نزل منزلة الوجود.
ومن عادة المتقدمين أنهم كانوا يكتبون المقدمات قبل كتابة الكتاب، فقد كانوا علماء وأئمة وجهابذة، لا يضع أحدهم قلمه إلا وهو أهل لأن يخط بذلك القلم.
ولذلك تجد في بعض الكتب القديمة من يقول: هذا أوان الشروع فيه، وتجد من يقول: وأسأل الله تعالى أن يعين على إتمامه.
فالإشكال عند العلماء في قول المصنف: [فهذا] وهو غير موجود، فقالوا: هو إشارة لصيغة موجودة، فنزَّل غير الموجود منزلة الموجود، فلذلك قال: (فهذا مختصر)، أي: الذي سأكتبه بمعونة الله وتوفيقه من وصفه كذا وكذا وأنه مختصر.
والاختصار: ضد الإسهاب، فإذا خاطبت الناس في خطبة، أو كتبت لهم كتاباً، أو أردت أن تتحدث في موضوع فلك ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون كلامك أكثر من المعنى.
الحالة الثانية: أن يكون كلامك أقل من المعنى.
والحالة الثالثة: أن تأتي بكلام على قدر معناه.
فإذا كان الكلام كثيراً والمعنى قليلاً فإنه يوصف بكونه إطناباً، ولذلك يقولون: أطنب في الأمر، ولا يكون إلا للعوام الذين يحتاجون إلى شرح.
أما إذا خاطب إنسانٌ علماء أو طلاب علم فالذي ينبغي أن يكون على إحدى حالتين: فإما أن يخاطب بكلام مقارب للمعنى، وهو الذي يسمونه خطاب المساواة، وإما أن يكون المعنى أكثر من الكلام، وهذا يسمونه الإيجاز والاختصار، وهذا من أبلغ ما يكون؛ لأنه يدل على عقلية المتكلم، وكذلك عقلية الكاتب.
وكانوا يقولون: من ألَّف فقد عرض عقله في طبق، فإن كان الكتاب قليل الكلام كثير المعاني دل ذلك على علمه وفضله ونبله وأنه أهل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (وأوتيت جوامع الكلم)، فقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) يندرج تحته ما لا يقل عن مائة وخمسين مسألة، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]، يتفرع عنه ما لا يقل عن مائة مسألة، وذكر الإمام ابن العربي: أنه اجتمع علماء فاس فذكروا فيها ثمانمائة مسألة من وجوه البلاغة والأحكام وغيرها.
والاختصار يدل على عقلية الإنسان؛ لأنه لا يختصر الكلام إلا من يعرف الألفاظ التي يخاطب بها الناس ومدلولات الألفاظ، فيتخير ما يدل على الاختصار، أو ما يتضمن الاختصار، فقول المصنف: [فهذا مختصر] دل على النوع الثالث وهو الاختصار.
ومن منهج العلماء رحمهم الله تعالى في الكتب التي تسمى بالمتون الفقهية أنهم يصوغون الفقه في أقل العبارات، فقد تستطيع أن تشرح السطر الواحد في صفحات.
فإذا قيل: (مختصر) يفهم من ذلك أن الكلام قليل ولكن المعنى كثير وجزيل.
قوله: [في الفقه] الفقه هو: الفهم، تقول: فقهت المسألة إذا فهمتها، وقال بعض العلماء: الفقه: الفهم مطلقاً، وقال بعضهم: بل يكون للأمر الذي يحتاج إلى دقة في الإدراك والتصور، فلا تقل: فقهت أن الواحد نصف الاثنين، ولكن يقال الفقه في الأمر العظيم، أي: المسألة التي تحتاج إلى تركيز.
وقيل: إن الفقه في اللغة عام.
وقيل: إنه خاص.
ومنه قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28] أي يفهموه.
أما الفقه في الاصطلاح فهو العلم بالأحكام الشرعية المستفادة من أدلتها التفصيلية.
والعلم: ضد الجهل، وحقيقته: إدراك الشيء على ما هو عليه، فإذا أدركت الشيء على حقيقته التي هي عليه فقد علمته، أما لو أدركته ناقصاً عن حقيقته فإنك لم تعلمه على الحقيقة.
وقولهم: (العلم بالأحكام) الأحكام: جمع حكم، والحكم: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه.
وقولهم: (إثبات أمر لأمر) كأن تقول: زيد قائم، فإنك أثبت القيام لزيد وحكمت عليه بالقيام، وإن قلت: زيد ليس بقائم، فقد حكمت عليه بأنه ليس بقائم.
والأحكام في الاصطلاح هي: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء أو التخيير.
فقولهم: (الفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية) خرجت به الأحكام الطبيعية التي هي راجعة إلى الحكم الطبيعي العادي، وخرجت به الأحكام اللغوية والأحكام المنطقية.
وقولهم: (العلم بالأحكام الشرعية المكتسبة أو المستفادة) أي: التي حصلت واستفيدت من الأدلة الشرعية، فيشمل ذلك دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وما هو ملحق بها وجارٍ مجراها، أي: الذي دل عليه النظر الصحيح.
فالفقه يتعلق بالأحكام العملية، فيتعلق بالعبادة من صلاة وزكاة وصيام وحج، ويتعلق بالمعاملة من بيع وإجارة وشركة وهبة وقرض، وغير ذلك، فجميع هذه الأحكام توصف بكونها أحكاماً عملية بخلاف الأحكام الاعتقادية، فإن الأحكام الاعتقادية تدرس في علم العقيدة، وبين علم العقيدة والفقه ترابط، فإن الفقه طريق للاعتقاد، ولا يمكن للإنسان أن يكون فقيهاً إلا إذا كان معتقداً، أي: اعتقاد أهل السنة والجماعة.
فباب الردة باب متعلق بالعقيدة، وهو من أبواب الفقه، فإذاً لابد من الترابط بين الفقه وبين العقيدة، فالفقه فرع عن الأصل؛ لأن الإيمان لا يكمل إلا بهذه الأحكام العملية، فلا إيمان لمن لا صلاة له، ولا إيمان لمن لا يزكي، بمعنى كمال الإيمان، ولا إيمان لمن لا يصوم، بمعنى كماله كذلك، ولا إيمان لمن لا يحج، فإن أنكر الحج فقد كفر.
فمن لازم الإيمان العلم بهذه الأحكام، ولذلك قالوا: هي أحكام عملية.(2/5)
أهمية التدرج في طلب العلم
قال رحمه الله تعالى: [من مقنع الإمام الموفق أبي محمد].
(مِنْ): للتبعيض؛ وهي تأتي بمعانٍ منها التبعيض، ومنها السببية كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح:25] أي: بسبب خطيئاتهم، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) أي: الماء الذي هو غسل الجنابة بسبب الماء وهو المني.
قوله: [من مقنع الإمام الموفق أبي محمد] هو كتاب للإمام الموفق أبي عبد الله محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمة الله عليه، المتوفى عام 620هـ في يوم الفطر.
فهذا الإمام الجليل ألف كتاباً اسمه: العمدة، صاغ فيه الفقه بأقصر عبارة، واعتبره الدرجة الأولى لطالب الفقه، ثم وضع درجة ثانية فوقه وهو المقنع، وتوسع فيه قليلاً عن العمدة، ثم وضع كتاباً ثالثاً وهو الكافي، وذكر فيه القولين إشارة إلى الوجهين، وهو فوق كتاب المقنع، ثم وضع كتابه المغني وهو النهاية لمن أراد أن يتأهل لدرجة الاجتهاد.
فهذه درجات وضعها الإمام الموفق رحمة الله عليه في دراسة الفقه، وهذه عادة المتقدمين، فإنهم يضعون الفقه على مراتب، ولا يمكن لطالب العلم أن يضبط علم الفقه ويكون فقيهاً بمعنى الكلمة إلا إذا ربط الفقه بصغاره قبل كباره، وهذا أمر مهم جداً.
فالكتاب الذي بين أيدينا هو الدرجة الثانية وهو كتاب المقنع، فليس من الصواب أن يتفقه الشخص مباشرة من المغني؛ لأنه لا يتأهل لفهمه، ولذلك لابد وأن يرجع إلى البداية، وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] قالوا: العالم الرباني هو الذي يربي على صغار العلم قبل كباره.
والذي ضر الآن كثيراً ممن يتصدر لطلب العلم وتعليم العلم والفقه أنه يحفظ المسائل الكبيرة قبل أن يتقن بدهيات المسائل في الفن، وتجد الطالب يأتي في الفقه يناظر في مسألة من المسائل التي لو عرضت على عالم من السلف لرعدت فرائصه من خشية الله.
وتجده بكل بساطة وسهولة يبت لك فيها القول، فعنده إلمام بأن فلاناً قال فيها وفلاناً قال فيها، ولو أخذت بيده وقلت له: ما رأيك لو توضأت ولم تتمضمض فما حكم وضوئك؟ لقال: الله أعلم.
فلذلك ينبغي العناية بهذا الكتاب الذي بين أيدينا، فإنه يعتبر الدرجة الثانية في سلم الفقه، وقد أشار بعض العلماء إليه بقوله: كفى الخلق بالكافي وأقنع طالباً بمقنع فقه عن كتاب مطول ثم جاء الإمام الحجاوي رحمة الله عليه وألغى من هذا الكتاب مسائل كما سيبين إن شاء الله، وأضاف مسائل وسماه: زاد المستقنع، وسيشير إلى منهجه، فالأصل في هذا الكتاب أنه كتاب المقنع، وقد أضيفت إليه مسائل وحذفت منه مسائل.(2/6)
طرق تدوين الفقه
قال رحمه الله: [على قول واحد وهو الراجح في مذهب أحمد].
كان الفقهاء رحمة الله عليهم يكتبون الفقه على طريقتين: - طريقة المذاهب.
- وطريقة الخلاف بين المذاهب.
أما طريقة المذاهب فهي طريقة يعتنى فيها ببيان خلاصة المذهب دون تعرض لخلافه، وهذه طريقة المتون، وهذا هو منهج الكتاب الذي معنا، أو يذكر الخلاف في المذهب فيقول: في المذهب أربع روايات، فإن ذكر الخلاف في المذهب، فإما أن يذكره عن الإمام بالروايات، وإما أن يذكره عن أصحاب الإمام بالأوجه في المذهب.
فلو قال: في المذهب وجهان، أي أن أصحابه اجتهدوا في تخريج هذه المسألة على رواياتهم، أو على أصول مذهبهم فاختلفوا فيها على وجهين أو ثلاثة أو أربعة.
فكتب المذهب إما أن تعتني بحسم المذهب بذكر الخلاصة، وإما أن تعتني ببيان الخلاف داخل المذهب، فبيّن ابن قدامة رحمه الله تعالى الخلاصة في المقنع، وبيّن الخلاصة في العمدة، وذكر الخلاف في الكافي، وذكره بإسهاب مقارناً بين المذاهب في المغني فيقول: عندنا روايتان: الأولى كذا والثانية كذا.
ثم يقول: الأولى: لا يجوز، رواها -مثلاً- الإمام علي بن سعيد عن الإمام أحمد رحمة الله عليه وبها قال الشافعي وأبو ثور وفلان وفلان، والثانية يجوز، وقال بها مالك وفلان وفلان وفلان.(2/7)
المسائل النادرة والموقف منها
قال رحمه الله تعالى: [وربما حذفت منه مسائل نادرة الوقوع]: (رُب): للتقليل، وقد تستعمل بمعنى التكثير ولكن الأصل فيها التقليل.
وقوله: [ربما حذفت] الحذف يكون بقصد الاختصار، وقد يحذف الكلام لعدم وجود الفائدة منه.
قوله: [مسائل نادرة الوقوع].
النادر: ضد الغالب، والنادر هو الأمر قليل الحدوث، والغالب عكسه.
والمسائل الفقهية النادرة إما نادرة في زماننا كثيرة في زمانهم، وإما نادرة في زمانهم كثيرة في زمان غيرهم.
وإما نادرة في زمانهم وزماننا ولم تحدث بعد.
واعلم رحمك الله أن لمز العلماء بالمسائل النادرة من الخطأ بمكان إلا في مسائل مخصوصة فقط يردها علماء جهابذة لهم علم وإدراك، ويعرفون أن هذه المسألة لا طائل تحتها كما يقولون: (مسألة طويلة الذيل قليلة النيل).
فقولهم: (طويلة الذيل) أي: الكلام فيها كثير، و (قليلة النيل) أي: قليلة الفائدة والثمرة، هذا معنى، فإذا قال عالم جهبذ: هذه المسألة طويلة الذيل قليلة النيل قبلنا قوله، أما أن يأتي إنسان ضعيف البضاعة في العلم ليس عنده بلاء الفقيه، وما يتعرض له من مسائل ومعضلات فينكر عليهم ذكرهم هذه المسائل ويشنع عليهم فلا.
والعلماء رحمهم الله ذكروا المسائل النادرة لأسباب، منها: أولاً: بيان قواعد تفرعت عليها هذه المسائل النادرة، ولذلك تجدهم يقولون: ويتفرع على هذا مسألة كذا وكذا، وتكون نادرة الوقوع، وإنما ذكر العلماء هذه المسألة النادرة الوقوع تفريعاً على هذه القاعدة؛ لأنه علم ولا يجوز كتمان العلم.
حتى إنهم من ورعهم رحمة الله عليهم ذكروا أقوالاً ضعيفة لا يعول عليها، ويقولون: ذكرناها من باب عدم كتمان العلم، وينبهون على ضعفها.
كل ذلك كان عندهم من الورع، فإنهم كانوا يخافون أن يموت أحدهم وفي قلبه هذه المسألة، فذكر المسائل النادرة غالباً ما يكون في الفروع، فتكون متفرعة إما على حكم أو على دليل أو قاعدة.
وقد طرأت الآن مسائل جديدة عصرية وخُرِّجَت على تلك المسائل النادرة، حتى إنني كنت في بحث الجراحة الطبية تمر بي مسائل غريبة، وأجتمع مع بعض الأطباء وبعض طلاب العلم، وتكون هناك مسائل فعلاً ذكرها العلماء وفرعوها ويكون من السهولة بمكان تخريج المسائل الجديدة عليها؛ فرحمة الله على تلك الأفهام وعلى تلك العقول التي نصحت للأمة.
فليكن كل إنسان على علم بأنهم -كما نحسبهم ولا نزكيهم على الله تعالى- ما كانوا يحبون الشهرة، ولا تحسبن أنه من العبث والفراغ والترف الفكري ذكر هذه المسألة في كتابه، حاشا وكلا، فهم أرفع -والله- بكثير من هذا كله، فلا ينبغي التشنيع في المسائل النادرة، فإن كان زمانك في غنىً عنها فليأتين زمان يحتاج إليها.
ثانياً: قد تذكر المسائل النادرة للتفريع، والفوائد التي يستفاد منها: أنه في بعض الأحيان تكون المسألة في باب الطهارة وهي من غرائب المسائل، وتكون مفرعة عليها مسألة في باب الأطعمة أو في باب النكاح، فمن ميزة فقه المتقدمين -وهذا معروف بالاستقراء والتتبع- أن الفقه عندهم كالبناء مبني بعضه على بعض، وأدلته التي يستدلون بها قل أن تجد واحداً منهم يتناقض فيثبتها في مكان وينقضها في آخره، بل تجده إذا قال مثلاً: أعتبر الدليل الفلاني فيعتبره في العبادات والمعاملات، وإذا قال: أعتبر القاعدة أو الأصل الفلاني يعتبره في العبادات والمعاملات، بينما تجد اليوم الشخص متناقضاً يبني على قاعدة ثم يهدمها.
فمن ميزات ذكر المسائل الفريدة أنه قد يحتاج إلى تخريجها في مسائل هي مذكورة في العبادة، لكنها تتفرع على مسائل في المعاملة، فقد يتفرع -مثلاً- على جلد الكلب هل هو نجس أو طاهر.
ذكرت هذه المسألة الغريبة في جلد الكلب؛ لأنه يتفرع عليها جواز بيع حذاء صنع من هذا الجلد، فإنه يحكم بطهارته ثم يحكم بجواز بيعه، فيخرج من باب تحريم النجاسات على القول بنجاسة عين الكلب.
ومن ذلك قولهم: لو حمل إنسان نجاسة في جيبه؛ إذ ما كان يتصور في الزمن القديم أن إنساناً عاقلاً يضع فضلته من بول أو غائط في إناء ثم يصلي بها، والآن ما أكثر من في المستشفيات من تجرى لهم الجراحة، ويوضع لهم الكيس المعروف الذي فيه فضلة الإنسان.
فرحمة الله على أولئك العلماء، ولكن لا ينبغي لنا التشنيع، فإن وجدنا فائدة من المسألة فالحمد لله، وإن لم تجد فَعِلم زادك الله تعالى إياه.
فعلى العموم: ينبغي التأدب مع أهل العلم، وأقول هذا لأنه بلغ ببعض طلاب العلم أن يشنع حتى في بعض المسائل الموجودة، ولذلك أقول: لا يشنع في الفقه مسألة إلا إذا شنع عالم وإمام ضابط يعلم أن هذه المسألة لا فائدة فيها فكن له متبعاً، أما أنت بفهمك مع ضعفك في مادة الفقه والعلم فلا تستعجل بالكلام على المسائل.
فالمسائل النادرة هي: المسائل التي يقل وقوعها، وهي عند العلماء على ضربين: ضرب منها يقل وقوعه ويندر، وليس فيه ذاك البلاء الذي يحتاج فيه لها، ومسائل يندر وقوعها لكن تعظم بلواها فيحتاج إلى معرفة حكم الله تعالى فيها، كمسائل في السهو وهي نادرة، ولكن قد يصلي الرجل بآلاف ويسهو فتعظم بلواه.
قال رحمه الله: [وزدت ما على مثله يعتمد].
أي أنني سأزيد بدل هذه المسائل التي حذفتها مسائل على مثلها يعتمد، إما أنَّ (يعتمد) بمعنى أنها مسائل محررة لا خلاف فيها في المذهب، فمراده اعتماد في المذهب، أو يعني أنها مسائل تكثر لها الحاجة ويكثر لها الطلب.(2/8)
بيان سبب التصرف في المقنع بالحذف والزيادة
قال رحمه الله: [إذ الهمم قد قصرت والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت].
إذا كان هذا في زمانه رحمة الله عليه فكيف في زماننا؟ فنسأل الله تعالى أن يلطف بالحال، وإن شاء الله تعالى لا يزال الخير موجوداً.
والهمم: جمع همة، وذلك بأن يكون الشيء في قلب الإنسان حديثاً ووسواساً يخطر على الإنسان ويحدث به نفسه، فإذا حدث نفسه اهتم به، فالهم يكون بعد الخاطر والهاجس، ويكون بمعنى تهيؤ الإنسان للعمل، ثم يأتي بعد ذلك عزمه.
ولا شك أن قوة الإنسان في همته، ومن كانت عنده همة حَصَّل المراد، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (أسألك العزيمة على الرشد) ولذلك فكم من خير تعلمه وتعرفه ولكن لا تستطيع أن تفعله.
فقيام الليل كم فيه من الفضل والخير، وصيام النهار كم فيه من الفضل والأجر، ولكن من يهم ويعمل؟ فليس المهم أن تعلم، ولكن الأهم أن تعزم وتفعل.
وذكر أبو نعيم رحمه الله تعالى في الحلية عن بعض السلف أنه قال: علمت أن قوة الإنسان في نفسه.
قالوا: وكيف ذاك؟ قال: ألا ترون الرجل العاجز يصلي ويبلغ من الطاعة ما لا يبلغه الشاب.
فدل على أنها لو كانت بقوة البنيان لكان الشاب أكثر من العاجز، ولكن العاجز تراه في آخر عمره يحمل على كتفيه ويهادى على رجليه حتى يبلغ الصف الأول في المسجد بفضل الله تعالى ثم بالهمة على العمل الصالح، وترى الشاب الجلد القوي يأتي في آخر الناس، وقد تفوته الصلاة، وقد لا يصلي، فهو يحب الخير ولكن يحال بينه وبينه، لضعف الهمم.
ولذلك كانوا يعتنون دائماً بتربية العزيمة، وعبادات الإسلام غالباً تربي على العزيمة، حتى إن فرائضها ونوافلها تؤكد هذا المعنى، وهو أن يكون عند الإنسان عزيمة على الخير.
وأيام العلماء رحمة الله عليهم كانت المساجد مليئة بذكر الله جل وعلا، هذا يتلو كتابه، وهذا يراجع درسه، وتوجد حلقة علم، وحلقة فتوى، لكثرة الخير، فتجد بعد صلاة الفجر من العلم مالا يحصى كثرة، وفي الضحى، وبعد صلاة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وذلك بسبب همة الناس في الخير وقربهم إلى عصور الخير، فالسلف الصالح كانت مساجدهم تعج بذكر الله جل وعلا من كثرة الناس الطالبين للخير، والراغبين فيما عند الله جل وعلا.
وكان العالم إذا أراده الإنسان يجده في مسجده أو في حلقته، فهمم الناس كانت عالية، ولذلك ألفت المختصرات، وكانوا ينبهون في المختصرات، على أنها تحفظ، فكانت تحفظ مثل حفظ الفاتحة، وكان عند السلف همة في أمرين: تعليم أنفسهم، ثم تعليم أبنائهم، فقد كان الرجل عالماً في نفسه ومعلماً لأبنائه، فكانت الهمم عالية، وكلما تباعد الناس عن ذلك الرعيل الطيب -أعني السلف الصالح- جاء زمان شر من الذي قبله، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة)، وقوله: (ولا يزال المؤمن تأتيه الفتنة فيقول: هذه، هذه حتى يسلمه الله) فكلما جاءت فتنة يقول: هذه آخر الفتن، ثم تأتي بعدها فتنة، وفي وصف الفتن قال صلى الله عليه وسلم: (يرقق بعضها بعضاً).
أي: إذا جاءت فتنة نسيت التي قبلها فيقال: التي قبلها أهون، فمن الفتن العظيمة التي بليت بها الأمة: ضعف الهمة في طلب العلم.
وكان الناس في الزمان الماضي والزمان القديم يرسم طالب العلم في طلبه للعلم همته، وأنه من ساعته التي يفكر فيها في طلب العلم إلى أن يلقى الله تعالى سيضع كتب العلم بين عينيه، لكن طالب العلم اليوم يفكر هل يستطيع أن يصير عالماً خلال سنتين، ثم يقول: هذا كثير، فلماذا لا نجعلها سنة؟ لماذا لا تكون شهراً؟ لماذا لا تكون أسبوعاً؟ ولو كان بيده أن يصير عالماً في يوم لفعل، وذلك من ضعف الهمة، فلما ضعفت هممهم صاروا يحتاجون إلى اختصار على قدر هذه الهمم الضعيفة.
فنسأل الله عز وجل أن يجبر هذا الكسر، وأن يرحم هذا الضعف.
قوله: [والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت].
الإنسان يضعف عن الخير بأحد أمرين: إما من نفسه، وإما لشيء خارجيِّ.
فقوله: [إذ الهمم] إشارة إلى العلة التي في النفوس، وقوله: [والأسباب] إشارة إلى العلة الخارجة عن النفوس، وهذا من دقة كلام العلماء رحمهم الله تعالى.
كأن تجد الرجل يهم أن يذهب لصلة رحم، ويتهيأ، وما عنده أي شك، ويحب صلة الرحم، فهيأ نفسه، ولكن تعلقت به زوجته، أو تعلق به ابنه، أو تعطلت سيارته، أو جاءه جاره، أو طرقه ضيفه، فجاءه سبب يحول بينه وبين هذا الخير.
إذاً: إما أن يكون بسبب ضعف النفس وهذا من ضعف الهمة، أو بسبب خارج عنه.
فهذا هو التثبيط -نسأل الله العافية- وهو نوع من التخذيل، ومن أعظم البلاء أن الله يثبط الإنسان عن عمل الخير.
ويقول بعض العلماء: من نقم الله على العبد تثبيطه عن الخير -نسأل الله تعالى السلامة والعافية- فإن من الناس من ليست فيه النية الصادقة فيثبطه الله، كما ثبط أهل النفاق عن الخروج في ساعة العسرة {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
فمن أسباب البلايا ضعف الهمة، أو الأسباب التي تحول بين الإنسان وبين الخير.(2/9)
الثناء على المؤلفات وحكمه
قال رحمه الله تعالى: [ومع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل].
الغنى: الكفاية، تقول: هذا يغنيني، أي: يكفيني، وقد يطلق بمعنى حسن الصوت ومنه التغني، وقد يطلق بمعنى الإقامة ومنه قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24] أي: لم تقم بمكانها، أي: يغني عن التطويل وهو الإسهاب، كما ذكرنا وهنا يرد إشكال وهو أن العلماء رحمهم الله قد تجد في كتبهم عبارات فيها ثناء على كتبهم، أو بيان لفضل هذه الكتب أو المؤلفات، وقد ثبت في دليل الشرع النهي عن تزكية النفس، فثناؤه على كتابه أليس من باب التزكية والمدح؟ والجواب أن التزكية والثناء على النفس لها أحوال: فإن تضمن ذلك الإدلال على الله -والعياذ بالله- وتزكية النفس على الله جل وعلا، فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- هو المحرم ولا يجوز، كأن يثني الإنسان على نفسه بكثرة علم وعبادة تبجحاً ونوعاً من التفاخر والتعالي، وقد عاتب الله جل وعلا موسى عليه السلام لما ذكر علمه وهو عالم، ولم يكن تفاخراً، فكيف بمن فعل ذلك تفاخراً؟! وذكر الله أن الذين أهلكم من شأنهم أنهم فرحوا بما عندهم من العلم فالفرح بما عند الإنسان من العلم لا يؤمن معه أن يمكر الله به -والعياذ بالله- كما يقول العلماء، فلا تفرح بعلم إلا من باب الفرح برحمة الله.
وإن كانت التزكية على سبيل معرفة الحق والترغيب فيه، كأن تقول: تعلمت هذا العلم من العلماء، أو أفتيتك بهذه الفتوى عن العلماء، أو هذا الأمر الذي ذكرته لك موروث من الكتاب والسنة، أو تثني على شيء حينما ترى استخفاف الناس به، فهذا فعله الصحابة، كما قال أبو العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (ما بقي أحد أعلم بمنبر النبي صلى الله عليه وسلم مني)، فهذا نوع من الثناء على نفسه بالعلم حتى يقدر قدره، فأجاز العلماء أن يثني الإنسان على نفسه بمعرفة قدره، وقد قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، فإذا كان الإنسان عنده حق العلم ومن باب معرفة قدره فلا حرج، فهذا من باب الترغيب والتشويق في علمه، ونرجو أن لا يكون من باب التزكية والثناء، وإنما أراد به أن يعرف قدر هذا العلم الذي تعلمه، وحق لمثله، فإنك إن تعلمت علماً، ووفقك الله فيه فمن حقك أن تظهر للناس فضل هذا العلم.(2/10)
معنى قول المصنف: (لا حول ولا قوة إلا بالله)
قال رحمه الله تعالى: [ولا حول ولا قوة إلا بالله].
قوله: (لا حول) قيل: هو تحول الإنسان من حال إلى حال، ولذلك سمي الحول -وهو السنة- حولاً كما قالوا؛ إذ الغالب أن الإنسان إذا عاش سنة أنه يتحول، فيتغير طبعه ويتغير حاله إن لم تتغير نفسيته، ويتغير ماله فإما أن يزيد وإما أن ينقص، ويتغير أهله فإما أن يهلكوا وإما أن يبقوا، فقالوا: سمي الحول حولاً من تحول الناس فيه، ولا يبقى شيء على حال، والله المستعان.
فقوله: [ولا حول ولا قوة إلا بالله] للعلماء فيها وجهان: فمنهم من يقول: أي: لا تحول من حال إلى حال، ولا قوة على ذلك التحول ولا بلاغ إلا بالله.
وقيل: لا حول في دفع ضره ولا قوة في بلوغ خير إلا بالله، فالله جل وعلا منه الحول ومنه الطول ومنه القوة.
وكل هذه المعاني متقاربة، ولكن المعنى الأجمع: لا حول في تحصيل خير ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما سمع المؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله).
قال بعض العلماء: مناسبته أنه برئ من الحول والقوة في إجابة داعي الله إلا بعد توفيق الله جل وعلا، فقد يكون الإنسان راغباً في حضور الصلاة وأدائها، ولكن يحال بينه وبينها بسقم أو مرض، وقد يحال بينه وبينها بتأخر أو تقاعس، فلا حول للإنسان ولا قوة في بلوغ الخير إلا بالله جل وعلا، وهكذا في دفع الشر.
قوله: [وهو حسبنا ونعم الوكيل].
حسبي أي: كفايتي.
وجاء بصيغة الجمع (وهو حسبنا) التي تشمله وتشمل السامع والقارئ.
وقوله: [ونعم الوكيل] ثناء على الله جل وعلا، والوكيل هو: القائم على الشيء المتوكل عليه، والله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، فهو القائم على كل نفس، وهو المتوكل بكل نفس سبحانه وتعالى، فهو حسبنا في بلوغ هذا الأمر الذي رسمناه والمنهج الذي ذكرناه.
ومعنى [ونعم الوكيل] أي: نعم من يوكل إليه الأمر.(2/11)
فوائد المقدمة
وهذه المقدمة فيها فوائد نجملها فيما يلي: أولاً: الثناء على الله عز وجل واستفتاح الكتب بالثناء عليه عز وجل، وفي حكمها الخطب ونحوها.
ثانياً: الفصل بين مقدماتها ومضامينها.
ثالثاً: أن تكون المقدمة مشتملة على التعريف بالكتاب أولاً، وهذا في قوله: [فهذا مختصر].
رابعاً: بيان منهج الكتاب حينما بين أنه مختصر من المقنع، وأنه يحذف ويزيد، وكذلك بيان أنه يقتصر على القول المعتمد والراجح.
خامساً: ختم ذلك بالثناء على الله جل وعلا، وسؤاله المدد والعون، فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يستفتح مقدمته بالثناء على الله عز وجل ويختمها أيضاً بسؤال الله عز وجل المعونة والتوفيق.
قال بعض العلماء يوصي ابناً من أبنائه وطالباً من طلابه: (يا بني: سل الله التوفيق، فإنه إذا وفقك ألهمك الخير)، فإذا كنت موفقاً فأنت ملهم للخير، فلذلك يسأل الإنسان في خاتمة الأمور دائماً توفيق الله جل وعلا، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي هؤلاء الأئمة وإخوانهم من علمائنا خير ما جزى عالماً عن علمه، اللهم أسبغ عليهم شئابيب الرحمات، وأوجب لهم بذلك جزيل المغفرات وعلو الدرجات، وألحقنا بهم على أحسن ما تكون عليه الوفاة والممات، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
والله تعالى أعلم.(2/12)
الأسئلة(2/13)
المبتدئ في طلب العلم والدروس الموسعة
السؤال
كيف يصنع طالب العلم المبتدئ إذا حضر درساً موسعاً ولم يكن تدرج في هذا العلم قبل ذلك؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا كان طالب العلم قد ابتدأ طلبه للعلم في كتاب موسع فإنه يأخذ الخلاصة والزبدة، فيكون طلبه للعلم بتلخيص دروس العلم الموسعة إذا لم يتسير له قراءة المتون المختصرة، والسبب في ذلك الآن ضيق الوقت وضيق الزمان، وقلة من يُعلِّم هذا العلم وندرته، فقد يكون في البلد الواحد درس واحد، بل قد يوجد في الإقليم والمنطقة بكاملها درس واحد إن وجد، فلذلك إذا وجدت درساً موسعاً فأوصيك أن تأخذ زبدة ما يقول ذلك الشارح بالدليل، فالفقه بالدليل.
فإذا تكلم عن باب المياه -مثلاً- فلتعرف أول شيء الأمور التي اتفق عليها العلماء، والتي لا إشكال فيها، فتكتبها وتلخصها، ثم الأمور الخلافية التي يتوسع فيها فتأخذ زبدة الخلاف ودليل القول الراجح.
ومن لا يستطيع استيعاب المسائل الخلافية فليأخذ بالطريقة التالية: أولاً: يتصور المسألة، ثم بعد ذلك إن قيل: فيها قولان، فيستمرُّ في معرفة الأقوال والأدلة، ويتصور ما يستطيع تصوره حتى يَأتي إلى الراجح، فإذا قال الشيخ: الراجح عدم الجواز، فيعلق في كتابه: الراجح عدم الجواز؛ لقوله تعالى كذا وكذا، ولقوله عليه الصلاة والسلام كذا وكذا، فيكون قد أخذ فقهاً بدليله، لكن ينتبه لقضية وجود القول المخالف، فإن جاءه أحد وقال له: هذه المسألة فيها كذا، يقول: نعم.
هناك قول مخالف، ولكن الشيخ الذي قرأت عليه رجح كذا وكذا فأنا أسير معه بدليله؛ لأنني أرى فيه فضلاً، وأعتقد أن عنده إلماماً بهذا العلم، فأنا أتبعه بالدليل، فإذا قيل لك: هناك دليل آخر، فقل: قد أجاب عنه الشيخ، فمن أراد أن يناقش فليناقش الشيخ، فلا تفتح باب المناقشة؛ لأنك في بداية الطلب، فلو فتحت باب المناقشة تعبت، وهذا الذي يضر كثيراً من طلاب العلم.
فاقتصر على القول الراجح بالدليل ولا تتعصب، فليس الشيخ بملك مقرب ولا نبي مرسل، وقوله يؤخذ منه ويرد، فإن ذكر القول بالدليل فاعلم أن الله سائلك عن القول بالدليل، فإن اعتقدت ما قاله بالدليل فقد أديت ما عليك.
ثم إن خالف أحد فحينئذٍ لا تفتح باب الخلاف، وهذا أمر أجمع العلماء عليه، فمن ليست عنده أهلية للترجيح والخلاف والنظر فإنه يقتصر على قول عالم يثق بعلمه بالدليل حتى يتم الفقه، وإذا بالفقه بين يديك عصارة خالصة، ثم تنتقل بعد ذلك إلى مرتبة معرفة الأدلة ووجه دلالاتها، ثم تتوسع بقاعدة وركيزة.
فكل السلف رحمهم الله توسعوا بقواعد وركائز، فكان شيخ الإسلام يقول: وهذا قول أصحابنا وخالفنا الشافعية لقوله تعالى كذا وكذا، فالذي دله على أنه قول أصحابه أنه ابتدأ بفقه مذهبه وضبطه بدليله، ثم انتقل إلى مستوى من خالف وما دليله، ثم يناظر ذلك الدليل ويقارع الحجة بالحجة حتى يستبين السبيل والمحجة، فإذا بلغ طالب العلم هذا المبلغ فبإذن الله يصل إلى علم وفقه واضح.
لكن لو فتح باب النقاش وهو في بداية الطلب فإنه سيتبلبل ويقول: الشيخ يقول كذا، والشيخ فلان يقول كذا، والشيخ فلان أعلم من فلان لأنه يعرف الحديث، وفلان يعرف الفقه، فتضيع الأمة، وقد تنتقص وتجرح عالماً، فإذا جاء من يجادلك فقل له: أنا أدين الله أن فلاناً من أهل هذا العلم، وأخذ هذا العلم عن أهله، وأنا لا آخذ قوله لأنه فلان، بل أخذته للدليل، فسأبقى معه حتى أضبط، ثم بعد أن أضبط أنظر من خالفه وما دليله.
أما قبل هذه المرتبة فليست مرتبة مقارنة أو مناقشة؛ لأن الإنسان لا يكون متأهلاً للنقاش والخلاف، فهذا أمر ينبغي أن يدرك، وقد نبه عليه الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، ونبه عليه الحافظ ابن عبد البر رحمة الله عليه في الانتقاء، ونبه عليه شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، كلهم نبهوا على أن طالب العلم يأخذ القول بالدليل حتى يبلغ درجة المناظرة فينتقل إلى درجة الاجتهاد، أما إذا لم يبلغ هذا المبلغ فعليه أن يتريث.
وكثير من طلاب العلم بدءوا بكتاب الطهارة، فأخذوا كتباً في الحديث اختلف العلماء فيها على قولين أو على ثلاثة، فيقول أحدهم: الراجح عندي هذا القول لقول كذا وكذا، فرجح هذا القول لدلالة المفهوم، ثم جاء في مسألة أخرى وقال: الراجح عندي القول الثاني، وهو دلالة منطوق، وقد يكون المفهوم الذي رجح به يعارضه مفهوم آخر من جنسه في المسألة الثانية، فيتناقض ويتبلبل ويعيش في حيرة؛ لأنه ليست عنده موازين للترجيح، ولا موازين للفهم، فهذا هو الذي ضر كثيراً من طلاب العلم.
وبعد أن تنتقل إلى درجة معرفة المخالف ودليله ووجه الخلاف فكم من دليل ستراه كأنه حجة وهو ضعيف في دلالته، وكم من دليل ستراه قوي الحجة قد عارض ما هو أقوى منه، فهذا أمر ينبغي التنبه له.
فاضبط الفقه بدليل، وانتظر حتى تتسع مداركك وتتفتح، وتفقه عن الله ورسوله، وتأخذ علماً منضبطاً واسعاً، ثم بعد ذلك تنتقل إلى من خالفك ودليله، مثلما درج السلف الصالح رحمة الله عليهم.
وهذه قضية مهمة جداً أثرت على كثير من طلاب العلم، حتى إن بعضهم ملّ الفقه وتركه، وأصبح في دوامة لا يعرف الحق والعياذ بالله، فوصل إلى الحيرة، والسبب أنه أوقف نفسه في موقف لا يليق به.
فمن أنت حتى تصير حكماً بين الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؟! ومن أنت حتى تقول: فلان ومن هو فلان؟! فهذا ليس بالسهل، وقد كان بعض العلماء إذا سئل عن راجح يخاف وتنتفض يداه من الرعب، فهذه مرتبة لا يصل إليها الإنسان إلا بعد عناء، ومن الأدلة على ذلك أن تبحث عن كتب الخلاف في الفقه، فإنك ستجدها تعد على الأصابع؛ لأنهم كانوا يعرفون أن هذا الثغر لا يبلغه الإنسان إلا بعد تحصيل، وبعد أن يشيب رأسه، وبعد تتبع الأقوال ومعرفة المخالفين وأدلتهم، وما كان لمن وراءهم أن يدخلوا في مسائل الخلاف إلا بعد الاستيعاب، ومعرفة ما هي الأقوال في المسألة.
وقد تجد الرجل يقف على قولين، وفي المسألة ستة أو سبعة أقوال، فلذلك ينبغي للإنسان أن يتأنى ولا يستعجل حتى يضبط العلم وبإذن الله عز وجل سيبارك الله فيه.
فإذا سرت على ما ساروا عليه فستبلغ ما بلغوا بإذن الله جل وعلا، وإذا جئت تجتهد وترسم لنفسك منهجاً جديداً بمحض رأيك وفهمك فلا تلومنّ إلا نفسك.
فارتبط بمنهج السلف، وبإذن الله لن تختم باباً إلا وأنت على تصور واضح وطريقة معينة.
وليكن قولك: أنا لا أفتح باب النقاش، وأنا الآن أقرأ بدليل، وألقى الله بهذا الدليل والحجة؛ لأنه ليس عندي مرتبة أن أفاضل، فلم أقرأ الأصول، ولا عرفت مراتب الأدلة، ولا عرفت ما هو الراجح من الأقوال.
فأنا أقتصر على هذا القول بالدليل.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن طالب العلم إذا أخذ القول بالدليل فقد أعذر؛ لأنه يلقى الله بدليل، إنما المحرم أن تكون طالب علم تعرف الأدلة ثم تقول: أنا لا أحيد عن العمدة والزاد، فهذا هو التقليد المتعصب المذموم، أو يأتيك إنسان بحجة من الكتاب والسنة فتتركها، لكن إذا كان عندك حجة من الكتاب والسنة، وقول عالم مبني على الكتاب والسنة فعندك حجة وأنت على محجة حتى تبلغ درجة الاجتهاد، ولا يكلف الله تعالى نفساً إلا وسعها، والله تعالى أعلم.(2/14)
كيفية حفظ المتون
السؤال
كيف نستطيع حفظ هذا المتن؟
الجواب
بالنسبة للحفظ فأنا أرغب في حفظ كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب العلماء على العين والرأس، ولكن بدل إضاعة الساعة في حفظ زاد المستقنع استغلها في حفظ حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والزاد افهمه، واعرف كيف تعبد الله عز وجل، واحفظ مسائله.
أما أن تحفظ العبارات فأولى منها حفظ كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل حرف تتعبد الله عز وجل به لك فيه من الأجور ما الله به عليم، والزاد خير وحفظه بركة، ولكن الأفضل والأكمل لك أن تحفظ كتاب الله تعالى.
ومن الصعب أن تجد الطالب يحفظ الزاد ولا يحفظ القرآن، وكيف يحفظ الزاد وتخفى عليه أحاديث الأحكام؟! أما طريقة حفظ الزاد فهي باختصار: أولاً: تأخذ المادة مكتملة ولا تزد على سطر واحد.
فإذا تكلم المصنف -مثلاً- عن أقسام المياه في سطرين أو ثلاثة أسطر، فلا تحفظ الثلاثة الأسطر دفعة واحدة، فإذا كانت المادة مكتملة في سطر فخذها، وأما إذا كانت غير مكتملة إلا بثلاثة أسطر فجزئ جزئيات المادة، فإذا كانت المادة ثلاثة أقسام: الماء الطهور سطر، والطاهر سطر، والنجس سطر، فاحفظ أولاً الطهور، ولو ذكره في السطرين فإنه يذكر لك وصفه وحكمه، فالسطر الأول في وصفه والثاني في حكمه، فابدأ بوصفه ثم بحكمه.
ولا تحفظ السطر ولا نصف السطر إلا وأنت تعرف عن أي شيء يتكلم.
فاكتب السطر ثم أدم النظر فيه، واقرأه على الأقل عشر مرات بتمعن، ولا تقرأ إلا بعد تصحيح هذا المتن على عالم حتى تضبط، ويكون حفظك صحيحاً.
وبعد ما تقرأ عشر مرات حاول مرة أن تقرأه غيباً، وتعرَّف على نقاط الضعف في الحفظ في أي العبارات، ثم ارجع وكرر إن استطعت مائة مرة، أو مائتين إذا كنت تريد الحفظ؛ لأن الذي ضر الكثير الآن في الحفظ ازدحام المعلومات، والأولون لم تكن عندهم مشاغل ولا مشاكل كثيرة، وعند الإنسان اليوم مشاغل ومشاكل في بيته وأهله وأولاده وأطفاله فيستغرق ذهنه، لكن إذا صح ذهنه وصفا فإنه تكفيه المرتان والثلاث، وأحياناً مرة واحدة.
يقول الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا سألت رجلاً أن يعيد حديثه عليّ مرتين.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا السداد والصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.(2/15)
شرح زاد المستقنع - أحكام المياه [1]
إن الإسلام دين الطهارة والنظافة، ولذلك ألزمنا بالطهارة في كل شيء؛ في الصلاة والحج والصيام والزكاة، سواء كانت طهارة معنوية بإخراج الشرك وحب الدنيا والرياء والسمعة من قلوبنا، أو حسية كالطهارة الماء من غسل ووضوء، وطهارة المال بإخراج الزكاة، وهذه بعض أخلاق الإسلام ومعالمه الراسية.(3/1)
أحكام المياه
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وخير خلق الله أجمعين، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الطهارة].
الكلام على هذه الجملة في مواضع: الموضع الأول: في بيان معنى قوله: (كتاب الطهارة).
والموضع الثاني: في بيان مناسبة تقديم كتاب الطهارة وجعله في صدر هذا الكتاب.
يقول المصنف رحمه الله: (كتاب الطهارة).
الكتاب: مصدر، مأخوذ من قولهم: كتب الشيء يكتبه كتابة وكتبا، وأصل الكَتب في لغة العرب: الضم والجمع، ومن ذلك قولهم: تكتب بنو فلان، إذا اجتمعوا.
قال العلماء: سمي الكتاب كتاباً لاجتماع حروفه بعضها إلى بعض.
وقوله: (كتاب الطهارة)، الطهارة: مأخوذة من الطهر، وهو: النقاء والنظافة من الدنس والأقذار، فأصل الطهر في اللغة: النقاء.
وأما في اصطلاح العلماء: فإنهم إذا قالوا: الطهارة، فمرادهم بها شيء مخصوص، عبروا عنه بقولهم: صفة حكمية توجب لموصوفها استباحة الصلاة والطواف بالبيت ونحوها مما تشترط له الطهارة.
معنى العبارة: أن الطهارة إذا وصفت بها مكلفاً فإن هذا الوصف من لوازمه أنه صفة حكمية، فلا تستطيع أن تجد للطهارة أوصافاً محسوسة، ولذلك هي حكم يحكم به على الإنسان، يقال: فلان متطهر، وفلان غير متطهر، وليست الطهارة شيئاً محسوساً تراه كالثوب والكساء ونحو ذلك، وإنما هي شيء معنوي.
ولذلك قالوا: صفة حكمية، أي: غير محسوسة ولا مرئية ولا ملموسة، لكن لو قلت فلان لابس، فلان مكتسٍ، فإن الكساء مدرك بالحس، لكن: فلان متطهر لا تستطيع أن تقول: فلان هذا متطهر، وتشير إلى وصف موجود في ظاهره، وإنما هو وصف حكمي لا يتعلق بالمحسوسات.
صفة حكمية تثبت لموصوفها، أي: للشخص الذي تصفه بها، استباحة الصلاة، أي: حل فعل الصلاة؛ لأن الله أمر كل من قام إلى الصلاة أن يتطهر لاستباحة الصلاة والطواف بالبيت ونحو ذلك مما تشترط له طهارة.(3/2)
مناسبة تقديم كتاب الطهارة على بقية أبواب الفقه
السؤال
لماذا بدأ المصنف رحمه الله كتابه الفقهي بكتاب الطهارة؟
الجواب
لأن الفقه منه ما هو متعلق بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج، ومنه ما هو متعلق بمعاملة الناس بعضهم مع بعض كالبيع والنكاح والجناية.
فأجمع العلماء على تقديم العبادة على المعاملة، فيقدمون أبواب الصلاة والزكاة والصوم والحج على سائر أبواب المعاملات.
والسبب في ذلك: أن العبادة هي الأصل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة) فقدم الصلاة وجعلها بعد الشهادتين.
ولذلك درج العلماء من المحدثين والفقهاء على استفتاح كتب الحديث والفقه بكتاب الصلاة.
والمصنف قال: (كتاب الطهارة) ولم يقل: (كتاب الصلاة)، فلماذا لم يجعل بداية كتابه بكتاب الصلاة؟ الجواب: أن الصلاة لا تقع إلا بطهارة سابقة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] فأمر كل من قام إلى الصلاة أن يتطهر قبل فعل الصلاة.
وبناءً على ذلك قدم الكلام عن الطهارة على الكلام عن الصلاة، وبعبارة علمية كما يقول العلماء: الطهارة وسيلة والصلاة مقصد، والقاعدة تقول: (الكلام على الوسائل يقدم على الكلام على المقاصد).
والطهارة تحتاج إلى معرفة أمور: أولها: أن تعرف ما هو الشيء الذي تتطهر به؟ أي: تتوضأ وتغتسل به، وتغسل به النجاسة عن البدن أو الثوب أو المكان حتى توصف بكونك متطهراً.
ثانياً: أن تعرف الصفة التي تحصل بها الطهارة.
فلابد من أمرين: ما يتطهر به وصفة الطهارة، وبعبارة مختصرة: شيء يتوضأ به وصفة تحصل بها الطهارة.
أما الشيء الذي تتوضأ به فقد جعله الشرع في شيئين: إما الماء، أو البدل عن الماء.
فالإنسان يصلي إذا تطهر بماء أو ببدل يقوم مقام الماء.
إذاً عندنا أمران: أصل، والذي هو الماء، وبدل، والذي هو التراب، فلابد للمكلف أن يبدأ بمعرفة الشيء الذي تحصل به الطهارة وهو الماء، ثم بعد ذلك يعرف كيفية فعل الطهارة، فإن كل مكلف إذا أراد أن يتوضأ يحتاج أول شيء إلى الذي يتوضأ به، ثم يسألك بعد ذلك كيف أتوضأ؟ فأما الشيء الذي يتوضأ به فهو الماء، ولذلك قال المصنف: (كتاب الطهارة، باب المياه).
فابتدأ أول شيء بالمياه؛ لأن الإنسان يحتاج أولاً إلى وجود الماء حتى يسألك بعد ذلك: كيف أتوضأ؟ وكيف أغتسل من الجنابة؟ وتسأل المرأة: كيف تغتسل من نفاسها وحيضها؟.
إلخ.
فتبين أن الصلاة هي الأساس، ويقدم الحديث عنها على سائر المعاملات، ثم الصلاة تحتاج إلى وسيلة وهي الطهارة والطهارة، تحتاج إلى شيء يتطهر به، وصفة الطهارة.
وسينحصر كلامنا إن شاء الله في المياه التي يتطهر بها الإنسان ويزيل بها عنه الخبث ويرفع بها الحدث.
ولذلك قال المصنف: (وهي ارتفاع الحدث) فبعض العلماء يقول: باب المياه، وبعض العلماء يقول: كتاب الطهارة: باب المياه ثم يتكلم عن أنواع الماء، لكن المصنف جاء مباشرة وقال: (كتاب الطهارة وهي ارتفاع الحدث) إلخ.
ولا فرق لكن التعبير بباب المياه أدق.(3/3)
أقسام المياه
وأحب أن أقدم بمقدمة يتهيأ بها الإخوان لمعرفة أحكام المياه التي يذكرها العلماء رحمة الله عليهم: لابد لكل مسلم أن يعرف الأحكام التي تتعلق بالمياه؛ لأنه لا صلاة له إلا بماء معتبر، بعد أن يكون طاهر الثوب والبدن والمكان.
والمياه منها ما أذن الله بالطهارة به، ومنها ما لم يأذن الله بالطهارة به، فلابد للمكلف أن يعرف ما هو الماء الذي يتوضأ ويغتسل به، وما هو الماء الذي لو توضأ أو اغتسل به لم يصح وضوءه ولا غسله.
وبناءً على ذلك فهذا الباب مهم، فنحتاج أول شيء أن نعرف أقسام المياه؛ لكي نرتب بعد ذلك الأحكام المتعلقة بكل قسم على حدة.
الماء قسمه العلماء -على مذهب الجمهور- إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الماء الطهور.
والقسم الثاني: الماء الطاهر.
والقسم الثالث: الماء النجس.
فعندنا ثلاثة أقسام: إما ماء طهور، وإما ماء طاهر، وإما ماء نجس.
فيرد السؤال مباشرة: ما السبب في تقسيم الماء إلى هذه الأقسام؟
و
الجواب
أن الماء له حالتان: الحالة الأولى: إما أن يبقى على أصل خلقته كماء السيل، وماء البئر، فما نزل وجرى به السيل فهو باقٍ على أصل خلقته، وما نبع من بئر فهو باقٍ على أصل خلقته.
الحالة الثانية: أن يأخذه المكلف فيضع فيه شيئاً يخرجه عن أصل خلقته، أو يأتي ريح فيلقي فيه شيئاً فيخرجه عن أصل خلقته.
ففي الحالة الأولى إذا بقي على خلقته يسمونه: الماء الطهور: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] وهو القسم الأول.
القسم الثاني: إذا تغير هذا الماء عن الخلقة فإما أن يتغير بشيء طاهر، وإما أن يتغير بشيء نجس.
فإن جاء المكلف ووضع فيه شيئاً طاهراً كحمص أو باقلاء أو زعفران، فتغير الماء بالحمص أو الباقلاء أو الزعفران، صار ماء زعفران أو ماء باقلاء أو ماء حمص أو غيره.
فتسميته ماءً طاهراً؛ لأنه انتقل عن أصل خلقته إلى صفة جديدة تخالف ما خلقه الله عليه، فأصبح فيه لون الزعفران وطعمه ورائحته، فلو قلت: هذا ماء طهور، لم تصدق؛ لأن الطهور باقٍ على خلقته، وهذا غير باق على الخلقة، حيث تغير بطاهر.
القسم الأخير: أن يتغير بنجس، كإناء فيه ماء فجاء صبي وبال فيه أو سقطت فيه نجاسة، فتغير لون الماء بلون النجاسة أو رائحته برائحة النجاسة، فحينئذٍ يكون الماء ماءً نجساً.
إذا الآن عندنا ثلاثة أقسام للماء: ماء باقٍ على أصل خلقته.
وماء متغير عن أصل خلقته، إن كان بطاهر فطاهر، وإن كان بنجس فنجس.
العلماء رحمهم الله يتكلمون على هذا: حقيقة الماء الطهور والطاهر والنجس.
وبناءً على ذلك يرد
السؤال
ما الذي يحل أن أتوضأ وأغتسل به وأزيل به نجاسة الثوب والبدن والمكان؟ وما هو الذي بخلاف ذلك؟(3/4)
الماء الطهور أمثلته وأحواله
بعد أن قسمنا الماء إلى ماء طهور وماء طاهر وماء نجس.
نقدم بمقدمة ثانية: الماء الطهور وصفناه بكونه باق على أصل خلقته، ومثاله: ماء البئر، فإنك إذا حفرت بئراً واستخرجت الماء استخرجت ماءً باقياً على أصل خلقته: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18] فالله أسكن هذا الماء الذي نزل من السماء في الأرض، فإذا خرج خرج على أصل خلقته سواءً خرج من بئر، أو من عين، كل ذلك نسميه: ماءً طهوراً، ومثل ماء البئر: ماء العين، وماء النهر، وماء السيل، لكن ماء السيل قد يقول لك قائل: إن السيل يمشي على وجه الأرض فيختلط بالتراب حتى يصير لونه أحمر أو غالباً إلى الحمار مع ضرب من السواد والأحمر القاتم، وأنت تقول: يشترط في الطهور أن يبقى على أصل خلقته، وهذا لم يبق على أصل خلقته، إذاً ليس بطهور.
و
الجواب
أن الماء الطهور يحكم بكونه طهوراً إذا بقي على أصل خلقته أو تغير بشيء يشق احترازه عنه، فماء النهر لو نبت فيه الطحلب -وهو نوع من أعشاب البحر- فأصبحت رائحة الطحلب أو طعمه في الماء، نقول: هذا ماء طهور، وإن كان قد تغير بالطحلب الطاهر.
إذاً: الماء الطهور إذا تغير بطاهر فلا نحكم بتغيره في حالات الضرورة، وهي الحالات التي لا يمكن للإنسان أن يفك الماء فيها عما غَيَّره، مثل: اختلاط التراب بماء السيل، ومثل ماء القربة، فإنك إذا وضعت فيها الماء وجئت تشرب تجدُ رائحة القربة في الماء، ويكون الماء قد تغيرت رائحته وقد يتغير طعمه، فلا تقل: تغير بطاهر فهو طاهر، لا؛ لأنه تغير بشيء يشق التحرز عنه، هذا بالنسبة للماء الطهور.
إذاً الماء الطهور له حالتان: الحالة الأولى: أن يقال لك: توضأ من هذا الماء الطهور واغتسل منه بدون كراهة، كما لو جئت إلى بركة ماء -والماء فيها على خلقته- فسألت الفقيه وقلت له: هل يجوز أن أتوضأ من هذه البركة؟ قال لك: نعم يجوز بالإجماع؛ لأنه ماء طهور باق على أصل خلقته.
لكن هناك حالات يقول لك: يجوز ولكن مع الكراهة، حيث يكره لك أن تتوضأ بهذا النوع من الماء ولو كان في الأصل طهوراً، وسنبين ذلك إن شاء الله.(3/5)
تعريف الطهارة
قال المصنف رحمه الله: [وهي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث].
(وهي) الضمير عائد إلى الطهارة.(3/6)
أنواع الأحداث
قال المصنف رحمه الله: (وهي ارتفاع الحدث) لما قال: (كتاب الطهارة) مباشرة قال: (وهي ارتفاع الحدث).
إذاً ما معنى قوله: (الحدث) وقوله: (وما في معناه وزوال الخبث)؟ فأما الحدث فحقيقته في اللغة: حدث الشيء إذا وقع، تقول: هذا حدث أي: وقع، ومنه الحدث، أي: الخبر الذي حصل وكان.
ولما قال العلماء: ارتفاع الحدث، يريدون به شيئاً مخصوصاً، فالحدث في الأصل يطلق على خروج الخارج، ويشمل: البول، والغائط، والريح، والحيض، والنفاس، وغيرها من الأحداث.
ثم هذا الخارج إما أن يكون موجباً للطهارة الصغرى التي هي الوضوء كخروج الريح، فإذا خرجت الريح وجب على الإنسان أن يتوضأ حتى يصلي، وكذلك خروج البول والغائط والمذي والودي كلها أحداث صغرى.
وإما أن يكون الخارج حدثاً أكبر كدم الحيض والنفاس والمني فإنه يوصف بكونه حدثاً أكبر.
إذاً الحدث عندنا قسمان: إما حدث أكبر، يشمل الجنابة والحيض والنفاس.
أو حدث أصغر، يشمل -أكرمكم الله- البول والغائط والريح ونحوها.
فلما قال المصنف: (ارتفاع الحدث) أي: أن الإنسان إذا خرج منه خارج فبمجرد ما يخرج منه تقول: هذا أحدث، فتصفه بكونه خرج منه الحدث؛ لكن قولك: هذا محدث، لا تريد منه أنه خرج منه الخارج، لا، وإنما تريد منه أن مثله لا يصلي، ولا يطوف بالبيت، ولا يمس المصحف ونحوه مما تشترط له الطهارة.
وبناءً على ذلك كأنه محبوس عن فعل الصلاة، فإذا اغتسل أو توضأ فقد ارتفع الحدث، أي: زال المانع.
فقوله: (هي ارتفاع الحدث) مراده بذلك زوال المانع؛ لأن الرفع -كما يقول العلماء- يكون لشيء وقع، تقول: رفعت الثوب إذا كان قد وقع على الأرض، لكن إذا كان الثوب معلقاً، فلا تقول: رفعت الثوب.
فالرفع لا يكون إلا لشيء وقع، فما الذي وقع من المكلف؟ إما خروج ريح، أو بول، أو مذي، أو ودي، أو دم نفاس، أو دم استحاضة، أو دم حيض، فيمنع من الصلاة، فإذا فعل الطهارة التي ستأتي من الوضوء والغسل ووصف بكونه متطهراً جاز له فعل الصلاة ونحوها من العبادات التي تشترط لها الطهارة.
(هي): أي: الطهارة عندنا معشر الفقهاء (ارتفاع الحدث).
ما هو الحدث؟ الحدث: صفة حُكمية توجب منع موصوفها من استباحة الصلاة والطواف بالبيت ونحوه مما تُشترط له الطهارة.
(صفة) أي: تقول: فلان محدث وفلانة محدثة إذا اتصفا بهذه الأشياء (صفة حكمية) ما تُرى بالعين ولا تُلمس باليد؛ إنما هي متعلقة بالمعاني والإدراكات.
وعند العلماء الشيء يكون على حالتين: إما حسي، وإما معنوي.
الحسي أو الأوصاف المحسوسة: كالطول والقصر والعرض والارتفاع ونحو ذلك.
المعنوي: شيء يرجع إلى المعاني والأذهان.
فلو دخل عليك رجل عالم هل ترى العلم شيئاً ملموساً عليه مثل الطول والقصر؟ لا.
وعندما يخرج من الإنسان الريح أو البول أو الغائط فيوصف بكونه محدثاً، هل الحدث شيء يُرى أو يلمس عليه؟ أبداً، ما تستطيع أن تفرق، وقد يدخل الرجلان أحدهما محدث والآخر لا يدري.
إذاً الحدث ليس صفة محسوسة ولكنه صفة معنوية، ولذلك قال العلماء: الحدث صفة حكمية، والحكمية والمعنوية معناهما واحد.
(توجب) أي: تثبت منع موصوفها من استباحة الصلاة.
فالرجل إذا خرج منه الريح أو البول أو الغائط لا يصلي ولا يطوف بالبيت ونحوه مما تشترط له الطهارة.
إذاً: الحدث يمنع، والطهارة تبيح.
فأصبح الأمر من باب التضاد (طهارة وحدث)، ولذلك تجد العلماء دائماً يقولون: طاهر ومحدث، هذا حاصل ما نقوله في قوله: (هي ارتفاع الحدث).(3/7)
ما في معنى الحدث
قوله: (وما في معناه) كالنوم، فإنه ليس بحدث ذاتي، ولكنه في معنى الحدث، وغسل الميت عند من يقول: أنَّ منْ غَسّلَ ميتاً يغتسل، ومن حمله فليتوضأ، فإنَّ غَسْلَ الميتِ ليس بانتقاض للطهارة، ولكن يقولون: هو في حكم الحدث.
فصارت عندنا الموانع قسمين: إما حدث كبول وريح وغائط.
وإما في معنى الحدث كالنوم، فإن النوم ذاته ليس بحدث؛ ولكن الإنسان إذا نام سها، فربما خرج منه الريح وهو لا يدري، فأصبح في حكم الحدث، هذا معنى قوله: (وما في معناه) يعني: ما في معنى الحدث، مثل: غسل المستيقظ من النوم يده قبل أن يدخلها في الإناء ثلاثاً كما سيأتي.(3/8)
الخبث وأقسامه
وقوله: (وزوال الخبث): الخبث أصله من خَبُثَ الشيء، يَخْبُثُ خُبْثاً إذا كان مستقذراً.
فأصل الخبيث المستقذر والذي تعافه النفوس، قال الله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] أي: الذي تعافه النفوس.
وقد يطلق الخبث على الخبيث حساً ومعنىً، وقد يطلق على الخبيث معنىً.
فالخبث النجاسة، والمراد بها أن يصيب الثوب أو البدن أو المكان نجاسة، فإن الله أمر كل من أراد أن يصلي أن يكون طاهر البدنِ، ليس عليه نجاسةً، وطاهر المكان ليس على سجادته أو على المكان الذي يصلي عليه نجاسة، وطاهر الثوب الذي يلبسه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4].
وهنا إشكال وهو: عرفنا أنَّ الإنسان لابد أن يكون طاهر الثوب والبدن والمكان، لكن لو فرضنا أنّ الثوب الذي أُصلي فيه عليه نقطةٌ من بولٍ ونجاسةٍ، أو السجادةِ التي أُريد أن أصلي عليها فيها نقطة من بول أو دم أو نحو ذلك من النجاسات، أو البدن الذي أريد أن أصلي به فيه شيء من النجاسة من دم أو بول أو ودي أو مذي.
إلخ، فكيف أزيل هذه النجاسة؟! إنما يتحقق ذلك عن طريق الطهارة، فمن غسل ثوبه وبدنه والموضع الذي يصلي فيه حتى طَهُرَ وُصِفَ بكونه متطهراً.
إذاً الطهارة لها حالتان: إما أن تتعلق بالإنسان نفسه من ناحية فعل الطهارة التي هي الوضوء والغسل من الجنابة.
وإما أن تتعلق بثوبه وبدنه ومكانه من جهة إزالة الخبث والنجاسة التي عليها.
فأصبحت الطهارة تنقسم إلى قسمين: إما طهارة حدث في الإنسان.
وإما طهارة خبث في المكان.
ولابد للإنسان أن يكون متطهراً من ناحية فعل الوضوء والغسل، ومتطهراً من ناحية البدن والثوب والمكان.
فلما كانت الطهارة تنقسم إلى قسمين، وكان في الأحداث ما هو ليس بحدث أصلاً؛ وإنما هو في معنى الحدث، أضاف المصنف كلمة ثالثة فقال: (ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث) وبهذا يكون قد جمع الطهارة المتعلقة بالحدث والطهارة المتعلقة بالخبث.(3/9)
أحكام الماء الطهور
قال المصنف رحمه الله: [المياه ثلاثة].
لا يمكن أن تجد ماء على وجه الأرض يخرج عن واحد من هذه الثلاثة: إما طهور، وإما طاهر، وإما نجس.
ولا يمكن أن تجد ماء إلا والشريعة جعلت له واحداً من هذه الثلاثة الأحكام، وهناك بعض من العلماء يقول: الماء طهور ونجس وقد فصلت هذه المسألة وبينت أدلتها في شرح البلوغ، فحتى لا نشوِّش على بعض الإخوة من العوام نقتصر على أنَّ الراجح تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام، لظاهر القرآن وظاهر السنُّة ودلالة الحس على ذلك.
أما ظاهر القرآن: فقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] فعبر بالطهور، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الصحابة وقالوا: (إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟) هذا يدلُ على أن الصحابة كانوا يعرفون انقسام الماء إلى الثلاثة؛ لأن ماء البحر موجود وهو طاهر، فامتنعوا من هذا الطاهر وظنوا أنه لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه) أي: كون الملح فيه لا يخرجه عن وصف الطهورية، وهذا يدل على أن الماء إذا خرج عن أوصافه في لون أو طعم أو رائحة أصبح طاهراً إلاّ إذا كان مغيره نجساً.
وكذلك دلالة الحس، فإنه لا يصح أن تقول لماء الباقلاء: إنه ماء طهور، والله أمرنا بالطهارة من الماء الطهور، وقد قال في ماء السماء: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11] ووصفه بكونه طهوراً فدل على أن الطهارة لا تحصل إلا بهذا الذي هو الطهور، ومحل البسط والخلاف في شرح بلوغ المرام.
على العموم الماء عندنا ينقسم إلى هذه الثلاثة الأقسام.(3/10)
تعريف الماء الطهور
قال المصنف رحمه الله: [طهور لا يرفع الحدث، ولا يزيل النجس الطارئ غيره].
هذا القسم الأول: (طهور لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره)، معنى قولهم: طهور، بعبارة مختصرة تقول: الماء الباقي على أصل خلقته، ومن حُكْمِهِ أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث أو النجس الطارئ غيره.
قوله: (ولا يزيل النجس الطارئ غيره) وصف الشيء بكونه نجساً على حالتين: إما أن يكون نجس العين والذات.
وإما أن يكون نجساً حكماً.
تقول: هذا شيء نجس؛ لأن الله حكم بنجاسة عينه.
وإما أن تقول: هذا نجس أي: أصابتهٌ نجاسةٌ، لكنْ هو في أصلهِ طاهر.
فأما الشيء الذي هو نجس العين هذا لا تستطيع أن تطهره، مثل: الميتة والخنزير: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] والرجس هو: النجس، فإنك لا تستطيع أن تطهر الخنزير ولو غسلته مائة مرة، فلن يصير طاهراً بل هو إلى الأبد نجس ونجاسته عينية.
ولكن الثوب في أصله الخز والقماش طاهر، فإذا وقعت النجاسة عليه فلا تقول: عينه نجسة، ولا ذاته نجسة، ولكنه تنجس فأخذ حكم المتنجس، وليس كله تنجس وإنما جزء منه، فيقولون: هذا ثوب نجس.
ولماّ وصفوا الثوب كله أنه نجس هل هذا حكمي أم حقيقي؟ حكمي أي: أن الشرع حكم بمجرد وقوع النجاسة القليلة على الثوب أو على البدن أو على المكان أنه نجس لكن عين الشيء طاهر.
ولذلك قال: (ولا يزيل النجس الطارئ) فأخرج الميتة، فإن نجاستها عينية لا يمكن بحال أن يزول منها هذا الوصف بالنجاسة.
وبعبارة أخرى يعبر بعض العلماء عن الطهور بقوله: الماء الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره.
قال المصنف رحمه الله: [وهو الباقي على خلقته].
أي: هذا الماء من شأنه أنه باقٍ على خلقته، فإذا خرج عن الخلقة فإما أن يخرج إلى طاهر أو يخرج إلى نجس، فالماء الطهور من شرطه أن يبقى على أصل الخلقة.(3/11)
حكم الماء المتغير بمجاور
قال المصنف رحمه الله: [فإن تغير بغير ممازجٍ كقطع كافورٍ].
سندخل الآن في تفصيلات، ولكن باختصار شديد فنقول: الماء الطهور إذا تغير بشيء ينتقل إلى حكم ما غَيَّره، هذه قاعدة عندنا، فالماء الطهور إذا تغير انتقل إلى الشيء الذي غيره، إن طاهر فطاهر وإن نجس فنجس.
وهنا سنذكر أموراً تغير الماء الطهور بصورة يصعب على المكلف أن يحترز عنها، فهذه يغتفرها الشرع، أو يتغير بصورة لا يمتزج فيها المغَيِّر مع الماء المغَيَّر، فهاتان حالتان: الحالة الأولى: أن يتغير ويكون تغيره بطريقة لا يمكن للمكلف أن يدفعها، وهي حالة المشقة والحرج، حيث يشق عليه أن يفعل ما يوجب انفصال الماء عن هذا الذي غيَّره.
والحالة الثانية: أن يتغير بشيء فيه، لكن ذلك الشيء لا يتحلل فيه، كأن تُلقي فيه قطعة جامدة فتجد رائحة هذه القطعة أو طعمها، ولكنها لم تمتزج مع الماء.
وكل هذا يعتبر فيه الماء طهوراً؛ ولكن يوصف بكونه مكروهاً أو غير مكروه كما سيذكر.
(فإن تغير بغير ممازج).
الممازجة: امتزج الشيءُ بالشيءِ إذا دخل بعضه في بعضٍ، حتى لا تكاد أن تفرّقَ بينهما، أكرمكم الله الآن البول لو سقط على الماء يمتزج معه امتزاجاً كلياً، والملح إذا ذُوّبَ في الماء يمتزجُ به امتزاجاً كلياً.
فإذا تغير بشيء لا يمكن أن ينفك عنه فهذه ممازجة كاملة؛ لكن لو ألقيت السمن داخل الماء هل يمتزج امتزاجاً كلياً؟ لا يمتزج، كذلك عندما تلقي قطع العود في الماء تجد طعمها فيه؛ لكن هل هذا العود تحلل في الماء؟ ما تحلل.
إذاً التغير عندنا له حالتان: إما أن يتغير تغيراً مستحكماً فهذا سنذكره إذا تغير إلى طاهر أو إلى نجس.
وإما أن يتغير تغيراً ناقصاً كأن يضع فيه شيئاً لا يمازجه.
فقال: (كقطع كافور).
الكافور معروف، فإذا أخذ الإنسان من هذا الكافور قطعة ورماها في الماء فإنه يجد طعم الكافور، لكن هل الكافور تحلل تحللاً كاملاً في الماء؟ لا.
فيقولون: هذا التغير ليس تغيراً حقيقياً وليس بتغير كامل.
قال رحمه الله: (أو دُهن).
قال رحمه الله: (أو دهن) الدهنُ لا يمازج الماء، إذا وضع في الماء تجده ينفصل عنه، ولو جئت تطعم الماء لوجدت طعم الدهن فيه، فهو قد تغير، فالماء فيه دهن لكنه لم يمازجه ممازجة كاملة.
صورة المسألة: عندك إناء ماء أردت أن تتوضأ به، فجاء أحد أبنائك ورمى فيه قطعة من العود، أو رمى فيه قطعةً من الكافور، أو جاء إلى علبة سمن أو زيت ورماها في هذا الإناء، فتغير الماء، فيرد السؤال حينئذٍ: درست وتعلمت أن الماء الطهور هو الباقي على أصل خلقته، فهذا الآن حين تغير هل هذا التغير مؤثر؟ يكون
الجواب
أن هذا غير مؤثر، لكن يحكم عليه من ناحية الكراهة أو عدم الكراهة.
قال رحمه الله: [أو ملح مائي].
الملح: إما جبلي، وإما مائي.
والملح المائي: الذي يستخلص من الماء ويكون في الأراضي السبخة، يصب عليها الماء ثم يستخلص منها بطريقة معينة.
والملح الجبلي: هو عبارة عن معادن في الجبال يستخرج منها هذا الملح.
فقال: (ملح مائي) وخص المائي؛ لأنه لا يتحلل.
قال رحمه الله: [أو سخن بنجس كره].
مثلاً: رجل جاءَ إلى ماءٍ في يومٍ شديدِ البرد يريد أن يتوضأ أو يغتسل من الجنابة، فما وجد وقوداً إلا نجاسة -أكرمكم الله-، فجمع هذه النجاسة وأوقد النار فيها، ثم وضع إناء الماء على النجاسة، فاشتعلت حتى سخن الماء، فسخن الماء بالنجس.
فيرد
السؤال
هل الماء المسخن بالنجس يعتبر نجساً؟ ومعلوم أن رائحة الوقود تكون في نفس الماء إذا سخن به، وهذا معروف، فالحطب إذا أشعلته على القدر أو على الإناء المفتوح تجد طعم الحطب فيه، فقد تسخن الماء بالنجس وتجد أنه ربما تأثر بهذا النجس، لكن هل هو تأثر حقيقي ممازج أم منفصل؟ منفصل.
وبناءً على ذلك قال رحمه الله: (كره).
فنريد أن نضبط شيئاً واحداً وهو: أن الماء الطهور تغير، ولكن هل هذا التغير كامل أو ناقص؟ تغير ناقص ليس بكامل، فهذا فقه المسألة.
لا يهمك أن تحفظ أنه تغير بدهن أو بكافور لا داعي لحفظ هذه الأشياء، ولذلك الذي ضر كثيراً من طلاب العلم أنهم يجمدون على الألفاظ، فيجمد على اللفظ: تغير بقطع كافور أو دهن، فإذا نسي الدهن والكافور ما يحسن الجواب.
وفقه المسألة هو في المخالطة والممازجة وجوداً وعدماً، المهم أن يتغير بشيء لا يمازجه، فلو سُئلت الآن عن نوع من المياه سقطت فيه مادة كيماوية لا تتحلل في الماء ماذا يكون جوابها؟ تقول: نص العلماء رحمهم الله على أن الماء إذا تغير بغير ممازجٍ أنه يكره، وهذا المذكور قد تغير فيه الماء بغير ممازج فهو مخُرَّج على ما ذكروه من المكروه.
إذاً الضابط عندنا: هو عدم وجود الممازجة.
وقوله: (كره) المكروه: هو الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله.
وبناءً على ذلك: إن تركت هذا الماء وتوضأت بغيره فأنت مثاب؛ لأنك تترك الشك إلى اليقين.
وما السبب في كراهية هذا النوع من الماء؟! عند العلماء قاعدة في المكروه وهي: الأشياء التي تتردد بين الحرام والحلال، فمذهب طائفة من المحققين من الأصوليين أنها تعطى حكم المكروه؛ لأنك لا تستطيع أن تقول: حرام؛ لأن الشرع حكم بالحرمة للذي فوقها، ولا تستطيع أن تقول حلال؛ لأن الشرع حكم بالحل للذي دونها، فأصبحت مترددة بين الحلال والحرام فتقول: هي مكروهة.
ومن أمثلة ذلك كما مثل الأصوليون رحمهم الله: إسبال الثوب إذا نزل عن الكعبين قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين ففي النار) فهو محرم، ثم ما فوق الكعبين: (أُزْرَةُ المؤمن إلى أنصاف ساقيه) مباح.
بقي الإشكال في الذي يوازي الكعبين هل هو مباح أو حرام؟ تقول: هو مكروه؛ لأنه ليس عندك دليل يحرم ولا دليل يبيح، وإن كان بعض العلماء يقول: الأصل الإباحة فيجوز له، ومذهب المحققين أنه يبقى بين مرتبة الحل والحرمة، وهذا الذي تجدُ بعض السلف دائماً يقول: أي شيء هذا؟ وينفض يديه، يكرهه كله ورعاً عن التحريم والحل، فيصفونه بالكراهة.
كذلك عندنا هذا الماء لم يتغير تغيراً كاملاً إن جئت تقول: الأصل أنه طهور فالعبادة صحيحة، ويجوز للإنسان أن يتوضأ به، وإن جئت تنظر إلى التغير غير الكامل فيه تقول: والله أنا أشتبه فيه، فلذلك لا هو بالحرام المحض المتغير تغيراً كاملاً، ولا هو بالسالم سلامة كاملة فقالوا: هو مكروه.
واختلف العلماء هل يكره مطلقاً أو يكره بشرط وجود غيره؟ الشرّاح على أن الكراهة مطلقةً، كيف؟! صورة المسألة: لو عندك إناء من الماء وقع فيه عود أو كافور أو دهن، وإناء ثانٍ ليس فيه كافور ولا عود بل هو باقٍ على أصل خلقته، فبعض العلماء يقول: أنا أحكم بالكراهة بشرط وجود البديل.
وبعضهم يقول: أنا أحكم بالكراهة مطلقاً وجد البديل أو لم يوجد، وهما مذهبان مشهوران للعلماء رحمهم الله.
وكل ما تقدم هذا يعتبر من باب التغير غير الكامل؛ لأننا قلنا عندنا طهور تغير تغيراً غير كامل، وطهور تغير تغيراً كاملاً لكن بشيء يشق التحرز منه.
وقد تكلمنا عما تغير تغيراً غير كامل، وسنذكر الآن ما يشق التحرز عنه أي الشيء الذي لا يمكن للإنسان أن ينفك عنه.(3/12)
حكم الماء المتغير بطول المكث وبما يشق صون الماء عنه
قال رحمه الله تعالى: [وإن تغير بمكثه أو بما يَشُقُّ صون الماء عنه].
نزل المطر فملأ حفرةً من الماء استمرت هذه الحفرة شهراً أو شهرين أو ثلاثة، فاحتجت يوماً أن تتوضأ من هذا الماء، فوجدت الماء قد تغير؛ لكن تغير بطول المكث في هذه الحفرة، يعني: لم يتغير بفعل فاعل وإنما بطول المكث، فالماء الآسن وهو الذي طال مكثه فتغير؛ فهل هذا التغير مؤثر أو غير مؤثر؟! قلنا: شرط الطهور بقاؤه على أصل الخلقة، وهذا لم يبق على أصل خلقته وإنما تغير، لكن تغير بطول المكث والزمان وهو باقٍ في هذا المستنقع أو الغدير.
[أو بما يَشُقُّ صون الماء عنه].
يعني: يعسر ويصعب صون الماء عنه، وهذا له حالات: تغير الماء بما لا تستطيع أن تصونه عنه، كأن تأخذ الماء وتضعه في قربة، وهي بطبيعتها تخرج رائحتها وتتأثر بالحر والبرد، فيتأثر الماء الموجود برائحة القربة، فهل تستطيع أن تصون الماء الموجود في القربة عن هذا التغير في الرائحة؟ لا يمكن.
كذلك لو أن النهر جرى أو السيل فهل يمكن حفظ مياه السيول عن التراب والغبار الموجود فيها؟! أبداً لا يمكن.
قال رحمه الله تعالى: [من نابتٍ فيه وورق شجر].
(من نابت فيه) مثلاً: لو أن هذا الماء الذي نزل إلى الحفرة أو المستنقع الموجود في هذا الموضع نبت فيه طحلب أو نبات الماء، فأصبحت رائحته برائحة النبات الموجود فيه، أو سقط فيه ورق شجر، وهذا كثير في البادية، يكون على البئر شجرة مثل شجر اللوز، وهذه الشجرة تسقط أوراقها فتقع في البئر، ثم تصبح رائحة ماء البئر كرائحة اللوز، فتتغير رائحته وقد يتغير طعمه؛ لكن تغير بورق الشجر الذي يشق صون البئر عنه، فهذا جائز دون كراهة.
قال رحمه الله: [أو بمجاورة ميتة].
حفرة فيها ماء وماتت وبهيمة من إبل أو بقر أو غنم بجوار هذا المستنقع، فهذه لها حالتان: الحالة الأولى: أن تلتصق بالغدير.
الحالة الثانية: أن تكون بعيدة عن الغدير بينها وبينه فاصل، قليلاً كان أو كثيراً.
فبالطبيعي أنها إذا كانت ملتصقة بالماء أنه سيتأثر إلا إذا كان مستبحراً، ونحن كلامنا في الماء المستنقع الذي يتأتى منه التأثر.
أما إذا كانت بعيدة فكيف يتأثر الماء؟! يتأثر بالرائحة، كأن تهب الريح على الميتة، فتأتي رائحة الميتة على سطح المستنقع، فإذا جئت تطعم ماء المستنقع وجدت فيه رائحة الميتة أو طعماً متغيراً عن أصل الخلقة.
فيرد
السؤال
الميتة نجسة، والماء أصبحت رائحته رائحة الميتة، وقد درست أنَّ الماءَ إذا تغير لونه أو طعمه أو رائحته أنه يتأثر، فيقال لك: لا؛ إذا كانت الميتة بعيدة لم تلتصق فإنها لا تؤثر، ولذلك قال: (أو بمجاورة ميتة).
ولم يقل: بملاصقة ميتة، ولذلك إذا جاورت الميتة الماء لا تضر مطلقاً؛ لكن إذا التصقت ضرت في اللون والطعم، واختلف في الرائحة: فقال بعضهم: تؤثر.
وبعضهم قال: لا تؤثر.
وقد أشار بعض العلماء إلى ضبط هذه المسألة بقوله: ليسَ المجاورُ إذَاْ لمْ يلتصقْ يضرُّ مطلقاً وضَرَّ إن لصقْ في اللونِ والطعمِ بالاتفاقِ كالريحِ في معتمدِ الشقاق (ليس المجاور إذا لم يلتصق) يعني: هذه الميتة، (يضر مطلقاً) أي: لا يضر مطلقاً إذا كانت بعيدة عن الماء، سواءً انتقلت رائحتها أو نحوها كلها لا تؤثر.
(وضر إن لصق، في اللون والطعم) أي: إذا تغير لون الماء الموجود في المستنقع وطعمه.
في اللون والطعم بالاتفاق كالريح في معتمد الشقاق اللون والطعم بالاتفاق، والرائحة على الراجح من الخلاف، فإن تغير ريحه فإنه يؤثر على أرجح أقوال العلماء.
قال رحمه الله: [أو سخن بالشمس].
أُخذ الإناء ووضع في الشمس وسخن فيه ماء.
والمسخن بالشمس فيه أثر عن عمر لكنه ضعيف، والصحيح أن المسخن بالشمس يجوز الوضوء به؛ لكن قال بعض الأطباء: إنه يورث البرص والمرض في الجلد، ولذلك إذا صح قول الأطباء أنه يؤثر على الصحة مُنِعَ منه لعارضٍ، لكنه طهور.
قال رحمه الله: [أو بطاهر لم يكره].
أي: جاز للإنسان استعماله إن سخن بطاهر، كأن يضع الحطب فيوقد على الماء حتى يتوضأ به في البرد، فتصير رائحة الماء رائحة الحطب أو الفحم، فلا يؤثر هذا فيه (لم يكره) أي: جاز لك أن تتوضأ به دون كراهة.(3/13)
الأدلة على ما تقدم من أحكام المياه
عرفنا أول شيء معنى الطهارة، ولماذا قدم العلماء الكلام على الطهارة؟ ثم ذكرنا أن الطهارة منها ما هو طهارة حدث، ومنها ما هو طهارة خبث.
وطهارة الحدث تنقسم إلى قسمين: حدث أصغر، وحدث أكبر.
وأن المراد بطهارة الخبث طهارة البدن والثوب والمكان من النجاسة والقذر المؤثر في العبادة.
ثم بعد ذلك قلنا: إن المصنف سيبتدئ الكلام عن المياه؛ والسبب في ذلك أن الطهارة لا تحصل إلا بماء، والكلام عن الماء مقدم على الكلام عن صفة الوضوء والغسل بذلك الماء.
وقلنا: إن الماء إما طهور باقٍ على أصل خلقته، وإما طاهر، وإما نجس.
ثم ذكرنا الطهور وضابطه وحقيقته، وأنه إن تغير بما يشق التحرز عنه أو يصعب على المكلف أن يصونه منه فإنه يجوز له أن يتوضأ به لكن مع الكراهة.
ثم بعد ذلك تكلمنا على الحالة الأخيرة وهي فيما إذا كان يشق صون الماء عنه جاز بدون كراهة، وأما إذا تغير تغيراً ناقصاً فإنه يكره، أي: الطهور، فإما أن يبقى على أصل خلقته فلا إشكال، وإما أن يتغير تغيراً ناقصاً بطاهر أو نجس فهذا حكمه الكراهة، وإما أن يتغير بما يشق التحرز منه فحكمه الجواز بدون كراهة.
وإن كان تغير تغيراً كاملاً بما يشق جاز بدون كراهة، هذا الذي كنا نتحدث فيه.
ونريد الآن جملة واحدة وهي قضية الأدلة: عرفنا أولاً أن الطهور هو الأصل، والدليل قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] وقوله عليه الصلاة السلام عن البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فلم يقل صلوات ربي وسلامه عليه: هو الطاهر، لكن قال: (هو الطهور) وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
وهذا الماء الباقي على أصل خلقته العلماء مجمعون بدون خلاف على أن الماء الباقي على أصل خلقته أنه يتوضأ ويغتسل به من الجنابة، ولذلك لما سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن بئر بُضاعة وما يلقى فيها من النتن والحِيَض قال: (الماء طهور لا ينجسه شيء) فردها إلى أصل خلقتها في ماء البئر.
وعلى هذا فكل ماء باق على أصل خلقته سواء نزل من السماء أو خرج من الأرض فهو على الطهارة، دليلنا على ذلك النصوص.
أما إذا نزل من السماء فقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] وأما إذا خرج من الأرض: فحديث بئر بضاعة: (الماء طهور لا ينجسه شيء).
وأما إذا كان جارياً على وجه الأرض: فقوله عليه الصلاة والسلام في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) هذا على وجه البحر، ولتوضئه عليه الصلاة السلام من المزادة وغيرها مما ثبتت به الأحاديث الصحيحة، إذاً كل ماء على أصل خلقته هو طهور.
ننتقل إلى المسألة الثانية: كيف حكمتم بجواز الوضوء من ماء يشق التحرز عنه؟ وكيف حكمتم بالكراهة من ماء تغير تغيراً ناقصاً؟ فتقول: دليلنا على الحكم بصحةِ الوضوءِ من ماء يشق التحرز عن ما خالطه وغيره: أنَّ تكاليف الشرع مرتبطةٌ بالإمكان، ولذلك يقولون في القاعدة: التكليفُ شرطه الإمكان.
ودليل هذه القاعدة قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فجعل التكليف مرتبطاً بالإمكان، فكل ما بإمكان المكلف يكلَّف به، وما ليس بإمكانه لا يكلَّف به.
إذاً لا يكلف ما لا طاقة له به: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] هل بوسعك أن تزيل هذا؟ ليس بوسعك، إذاً لا تكلف! ولذلك القاعدة المجمع عليها: المشقة تجلب التيسير من فروع هذه القاعدة: الأمر إذا ضاق اتسع، فهنا ضيق، فهذا الشخص الذي يشق عليه التحرز عنه لو قلت له: لا يجوز الوضوء به، ضاق به الأمر، فَيُوَسَّع عليه في جواز الوضوء، هذه الحالة الثانية إذا شق التحرز عنه.
أما الدليل على كراهية ما إذا تغير تغيراً ناقصاً فقد بينّا ذلك ضمن الكلام، وقلنا: إنه ليس بالمباح، أي: ليس بماء باق على أصل خلقته، ولا بماء متغير، فبقي متردداً بين المأذون به وغير المأذون به، فأعطي حكم الكراهة.
وعلى هذا نكون قد انتهينا من الثلاث الجمل بأدلتها ومعانيها وأمثلتها، والله تعالى أعلم.(3/14)
الأسئلة(3/15)
حكم تغير الماء إلى البياض حال الضخ بالمكائن
السؤال
سؤالي عن الماء الذي يؤتى في القرب من الحرم، فذلك الماء يتغير بمسحوق أبيض معقم فما هو حكمه؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
هذا الماء البياض الموجود فيه ناشئ عن ضغط مكائن الضخ، وهذا موجود في كل ماء يُضخَ، فمع فعل الضخ وقوة الضخ وقوته أحياناً يخرج الماء كالأبيض فتظنه ماءً كالحليب، وهو في حقيقته ماء طهور باقٍ على أصل خلقته.
فإن كان كما ذكروا أنه يبيض بالضخ وهو باقٍ على أصل خلقته فحينئذٍ لا إشكال ويعتبر ماءً طهوراً، والعبرة في ذلك بشهادة من يعرف الحال لا بحكم الناس عليه؛ لأن الناس يظنون أنه ماء فيه دقيق، حيث ينظرون إليه ويرون فيه البياض فيظنون أنه قد خلط بالدقيق، والواقع أنه كما يذكرون عنه أنه ناشئ عن الضخ، وإذا كان ناشئاً عن الضخ فما حكمه؟ هو باقٍ على أصل خلقته لم يتغير لونه؛ لأن هذه الفقاقيع البيضاء لا توجب تغير اللون الحقيقي، فهو على حقيقة لونه، مثل: تغير مياه البحار إلى الزّرقة الشديدة، فإنها لا تؤثر، فكذلك مع الضخ إذا تغير إلى البياض، بفعل التكرير وكثرة الضخ هذا لا يؤثر، ولا يعتبر مؤثراً وموجباً لزوال وصف الطهورية.(3/16)
خلاف الفقهاء في نقض النوم للوضوء
السؤال
ذكرتم -حفظكم الله- أن في معنى الحدث النوم عند من يراه ناقضاً للوضوء، ففهمت من هذه العبارة أن النوم مختلف فيه، نرجو بيان هذا؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأمر كما فهمت وهو صحيح، فإن العلماء رحمهم الله سلفاً وخلفاً اختلفوا في النوم.
فقال بعض العلماء: النوم ناقضٌ مطلقاً، وهذا القول يرى أن النوم على أي صفة وقع ينقض الوضوء، سواءً نام قاعداً أو مستلقياً أو منكباً على وجهه، وسواءً نام نوماً مستغرقاً أو نوماً يسيراً، فبمجرد أن تخفق عينه فهو نائم ينتقض وضوءه.
واحتجوا بحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: (أمرنا ألا ننزع خِفَافَنَا ثلاثةَ أيامٍ من بولٍ أو نوم).
وجه الدلالة: أنه قال: (أو نوم) ولم يفرق بين نوم وآخر، وقرن النوم بالبول والغائط، فدل على أنه حدث، يعني أنه آخذ حكم الحدث، فقالوا: إن هذا يدل على أن النوم مؤثر.
القول الثاني يقول: النوم ليس بناقض مطلقاً.
واحتجوا بحديث أنس الثابت في الصحيحين أنه قال: (أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء، فخرج عمر يصرخ يقول: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والصبيان، فخرج صلى الله عليه وسلم ورأسه يقطر يقول: والذي نفسي بيده إنه لوقتها لولا أن أشق على الناس أو على أمتي).
وفي رواية عن أنس في السنن عند أبي داود وغيره: (كان الصحابة ينامون حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضأون) قالوا: هذا يدل على أن النوم ليس بناقض مطلقاً.
وذهب أصحاب القول الثالث إلى التفريق بين نوم القاعد الممكن مقعدته من الأرض، ونوم القاعد غير ممكن مقعدته من الأرض، وهذا هو مذهب الشافعية رحمة الله عليهم، والذين قالوا: إنه ناقض مطلقاً، طائفة منهم ربيعة.
والذين قالوا: ليس بناقض مطلقاً هم الظاهرية.
والذين قالوا: إنه ناقض في حال عدم تمكين المقعدة هم الشافعية، قالوا: إذا نام ممكناً مقعدته من الأرض لم ينتقض وضوءه، وإن نام على وجهه أو على جنبٍ أو مستلقياً انتقض وضوءه.
ودليلهم: أنهم جمعوا بين الحديثين، قالوا: حديث: (من بولٍ أو نومٍ) يدل على أن النوم ناقض، وحديث كان الصحابة ينتظرون العشاء هذا في حال كونهم ممكنين مقاعدهم من الأرض، وعلى هذا ينتقض نوم من كان نائماً مستلقياً لحديث صفوان وهو الأصل، ونستثني ما ورد الشرع بعدم اعتباره ناقضاً، هذا مذهب الجمع للشافعية.
القول الرابع: وهو مذهب الحنفية، زادوا على قول الشافعية: إذا نام راكعاً أو ساجداً، قالوا: إنه لا ينتقض وضوءه حتى ولو نام في الصلاة، واحتجوا بما جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام من الله تعالى: (إذا نام العبد في صلاته وهو ساجد باهى الله به ملائكته وقال: انظروا إلى عبدي! روحه عندي ساجد بين يدي) وهو حديث ضعيف بل باطل، وذكر الإمام ابن الجوزي في العلل المتناهية أنه ليس بصحيح.
القول الخامس في المسألة يقول: إن العبرة في النوم بزوال الشعور، وهو مذهب المالكية والحنابلة وهو الصحيح -إن شاء الله- في هذه المسألة، فإن كان الذي نام قد زال شعوره ولو كان نومه يسيراً قاعداً أو قائماً أو مستلقياً انتقض وضوءه، وإن كان لم يَزُل معه الشعور لم ينتقض وضوءه.
الحنابلة فرقوا بين القليل والكثير، والمالكية ضبطوه بالشعور، وهذا القول في الحقيقة هو أصح الأقوال في المسألة، أن العبرة بالشعور، فإذا نام الإنسان وشعر بالخارج فهذا لا ينتقض وضوءه بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي ومعاوية: (العين وكاء السَّهِ فإذا نامت العين استطلق الوكاء).
فهذا يدل على أن الناقض في النوم هو زوال الشعور وليس مطلق النوم، وكذلك حديث: (رقد النساء والصبيان).
وعلى هذا فمن نام شاعراً بنفسه لم ينتقض وضوءه، ولو نام ساعات ومعه الإحساس والشعور لا ينتقض؛ لكن لو زال شعوره ولو لحظة انتقض وضوءه.
والسؤال: كيف يفرق الإنسان بين الشعور وعدمه؟ بعض العلماء يقول: من أمثلة ذلك: لو كان بيده شيء فسقط ولم يشعر به دل على زوال شعوره، كما لو كان يكتب بقلم، ثم ما شعر إلا والقلم سقط دون أن يعلم بسقوطه، دل هذا على أنه قد زال شعوره، فيلزمه الوضوء من هذا النوم.
وقيل: من أمثلته: أن يجلس القوم بجواره يتجاذبون الحديث فلا يفرق بين كلامهم، ولا يستطيع أن يُدْرِك معنى الحديث فيغيب عنه بعض معانيه، أو مرادهم بالأحاديث، فيصبح يسمع الأصوات فقط ولا يعي معناها، فإذا بلغ إلى درجة سماع الأصوات دون وعي لمعناها فقد زال عنه الشعور، وهذا ضابط صحيح.
وعليه فإن أصح الأقوال في النوم أن العبرة بالشعور، فإن لم يكن عنده الشعور انتقض وإلا فلا، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضطجع بين الأذان والإقامة ثم يؤذِنه بلال بالصلاة؛ وكان يضع كفّهُ تحت خده الأيمن صلوات الله وسلامه عليه، وهذه نومة المضطجع، ومع هذا كان عليه الصلاة والسلام يقول: (تنام عيني ولا ينام قلبي) ولهذا قالوا: إن وضوءه لا ينتقض بالنوم من هذا الوجه.
والله تعالى أعلم.(3/17)
حكم العطور المحتوية على كحول من جهة الطهارة
السؤال
هل العطور التي يوجد فيها كحول تنجس الثوب؟
الجواب
هذا يختلف، فإن كانت النسبة تؤثر حتى يصبح متنجساً فحينئذٍ حكمه حكم النجس، ولا يجوز أن يصلي به حتى يغسله، وسنبين -إن شاء الله- ذلك في الدرس القادم من جهة النجاسة متى تكون مؤثرة ومتى تكون غير مؤثرة.
فإن كانت نسبة مادة السبيرت التي هي الكحول مؤثرة أي: غالبة، فإنه في هذه الحالة لا يجوز أن يصلي به.
ونجاسة الخمر هو قول الأئمة الأربعة، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة، ولم يحكِ قولاً مخالفاً تضعيفاً للمخالف في هذا.
وكذلك قال ابن رشد في بداية المجتهد: إلا خلافاً شاذاً، أعني: القول بطهارتها؛ والسبب في ذلك ظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90] فإنه نص على كونها رجساً.
فلو قال قائل: إن الرجس هنا المعنوي، بدليل ذكر الأنصاب والأزلام، نقول: إن الأصل حَمْلُ اللفظِ على حقيقته من نجاسة الحس والمعنى حتى ينتفي الوصفُ بنجاسة الحسن، فانتفت نجاسة الحس في الأنصاب والأزلام لدلالة الظاهر والحس، فبقيت الخمر على الأصل، وقد تكلم العلماء على هذا.
أما الاستدلال الذي استدلوا به على طهارتها من أنها أُرِيقتْ على الأرض وَجَرَتْ بها سكك المدينة، وكان الصحابة يصلون في أحذيتهم، وحديث المزادتين، فقد أجاب العلماء عنه، وللشيخ الأمين رحمة الله عليه في أضواء البيان بحث نفيس في تفسير آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة:90] بين فيه نجاستها وبين أن قوله: (حتى جرتْ بها سككُ المدينة) أسلوبٌ عربي يُراد به التكثير لا الحقيقة، كقولك: امتلأ المسجدُ، فإنه ليس المراد أن كل بقعةٍ من المسجدِ عليها أحد؛ إنما المراد امتلأ المسجد بالناس أي: كثر الناس في المسجد، فقولهم: امتلأت بها سكك المدينة أي: كثرت في سكك المدينة.
الوجه الثاني: أنه لو سُلِّمَ أنَّ الصحابةَ وطئوها بنعالهم، فإن وجه الاستدلال يقوم على أنهم وطئوها بنعالهم ثم صلوا في النعال.
ثم إنه إذا وطئ النعل النجاسة ثم مشى على أرض يابسة فقد طَهرت الحذاء، وقد ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المصلي إذا أراد أن يدخل المسجد إن وجد الأذى في نعله أن يدلكها بالأرض ثم يصلي فيها).
فإذاً كونها تصيبها الأنعل لا يدل على طهارتها؛ لأنها قد طهرت بوطء اليابس من الأرض بعد الرطب منها.
وكذلك أيضاً في حديث المزادتين قالوا: سكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر صاحب المزادتين بغسلهما، وحديث المزادتين أصله: أن رجلاً كان صديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فلما كان يوم حنين قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأهدى له مزادة خمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أن الله حرمها؟ فقام رجل وسارَّ صاحب الخمر في أذنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بمَ ساررته؟ -يعني: ما الذي قلت له؟ - قال: أمرته يا رسول الله أن يبيعها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرَّمَ شُرْبَها حرَّم ثمنها، ففتح الرجل المزادة حتى أراقها على الأرض) قالوا: إنه لم يأمره بغسل المزادة، وهذا ليس بقوي؛ لأنه من المعلوم بداهةً أنه سيغسلها، فإن المزادة لو وضعت فيها لبناً ثم أفرغت اللبن ما الذي تفعل؟ -تغسلها منه، هذا معلوم بداهة.
ثم لو قيل بهذا القول لصح لقائل أن يقول: يجوز للإنسان إذا أفرغ مزادة خمرٍ أن يملأها باللبن مباشرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بغسلها، وهذا ما يقول به أحد!! فنقول مباشرة: إنه لم يأمره بغسلها للعلم به بداهة.
فإذاً: الصحيح أنها نجسة، وإن ترجح عند الإنسان القول بطهارتها فإنه لا حرج عليه في هذه الحالة أن يصلي وعليه هذه الكحول ولو كان ترجح عنده في السابق طهارتها وصلى فصلاته صحيحة.
أما بالنسبة للقول الصحيح المعتبر فهو قول جماهير العلماء أنها نجسة وعليه الفتوى، واختاره غير واحد من أئمة العلم رحمة الله عليهم، والأدلة التي استدل بها على طهارتها لم تقوَ على معارضة ظاهر القرآن، فإن ظاهر القرآن في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90] أبلغ في الاعتبار من أدلة جريان السكك بالخمر، والمزادة، فإن دلالة (رجس) على النجس أبلغ من دلالة المعنى الموجود في الحديثين.
وجماهير السلف رحمة الله عليهم على هذا القول، وكتب العلماء في الفتاوى مملوءة بهذا الحكم، ومن راجعها يعرفها، ومن راجع التفاسير يدرك أن هذا هو قول جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم.
حتى إن شيخ الإسلام رحمة الله عليه لماّ حكى نجاستها قال: الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة، ولم يحكِ قولاً مخالفاً تضعيفاً للقول بطهارتها؛ لأنه كان رحمه الله يعتني بالأقوال المخالفة التي لها عمدة ولها أصل، ولذلك الذي تميل إليه النفس القول بنجاستها، وعلى هذا فلا يجوز أن تكون في بدنٍ ولا ثوبٍ ولا مكان.
لكن متى يحكم بكون هذا الوعاء أو هذا العطر نجس؟! شرط الحكم أن تكون فيه نسبة مؤثرة، أما لو وضعت نسبة من الكحول ليست مؤثرة لا تغير لوناً ولا طعماً ولا رائحة فإنه في هذه الحالة لا يحكم بنجاسة العطر، والمرد في ذلك إلى أهل الخبرة؛ لأن كل نوع من العطور فيه نسبة معينة مكتوبة إما 2% أو 10% أو 20% وأحياناً 25%، فهذه النسب يرجع فيها إلى قول أهل الخبرة، فإن أثرت فهي نجسة وإلا فلا.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/18)
شرح زاد المستقنع - أحكام المياه [2]
إن العبد مطالب أن يتطهر ويستعمل الماء في الغسل والوضوء إذا أراد الصلاة والوقوف بين يدي ربه سبحانه، والطهارة لا بد لها من فقه وعلم؛ إذ كيف يميز العبد بين الطاهر والطهور والنجس إلا إذا فهم القواعد والأصول عند الفقهاء التي يعرف بها الفرق بين أنواع المياه، وضابط كل نوع، ومن ثم يعرف الماء الذي يصلح للطهارة من غيره.(4/1)
أحكام ومسائل في الماء الطهور
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى جميع من سار على نهجه إلى يوم الدين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن استعمل في طهارة مستحبة].
تقدم أن ذكرنا أن العلماء رحمهم الله قسموا المياه إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول: ماء طهور، والقسم الثاني: ماء طاهر، والقسم الثالث: ماء نجس، ثم ابتدأنا ببيان الماء الطهور، وهو الماء الذي شرع الله للمكلف أن يتوضأ ويغتسل به من الجنابة ونحوها، وكذلك يزيل به القذر والنجس العالق بثوبه أو بدنه أو مكانه.
ثم تكلمنا على بعض المسائل المتعلقة بالماء الطهور، وهي تتلخص فيما إذا ألقي في الماء شيء خارج هل يؤثر فيه أو لا يؤثر، ذكرنا ذلك كله.
وسنبتدئ ببعض المسائل المتعلقة بتغير الماء إما إلى طاهر أو إلى نجس، فالماء الذي أوجده الله جل وعلا على أصل الخلقة والذي شرع لك أن تتوضأ وتغتسل به، قد يستعمله الإنسان في غسل مستحب، قال المصنف: (وإن استعمل في طهارة مستحبة) بمعنى أنك إذا توضأت بهذا الماء وضوءاً غير واجب، أو اغتسلت به غسلاً غير واجب، ثم جمعت هذا الماء الذي توضأت أو اغتسلت به في إناء، فجاء غيرك يريد أن يتوضأ به أو يغتسل به وضوءاً أو غسلاً واجباً، هل يصح إيقاع الوضوء بماء قد استعمله الإنسان في طهارةٍ مستحبة؟(4/2)
استعمال الماء في تجديد الوضوء أو الغسل
استعمال المياه في الوضوء أو الغسل له صورتان: الصورة الأولى: أن يتوضأ الأول ويغتسل وضوءاً وغسلاً واجباً، مثال ذلك: أذن مؤذن الصلاة للمغرب، فتوضأت في طشت، فجمع الطست فضلة الماء الذي توضأت به، فجاء آخر يريد أن يتوضأ بفضلة الماء الذي توضأت به لوضوءٍ واجب، فلو توضأ بهذا الوضوء أيصح وضوءه أو لا؟ هذه المسألة ستأتينا -إن شاء الله- في الماء الطاهر.
الصورة الثانية: أن تغسل الأعضاء في صورة مستحبة، سواءً كان ذلك وضوءاً أو غسلاً، ومثل المصنف لها بقوله: [كتجديد وضوء وغسل جمعة].
أولاً: معنى تجديد الوضوء: أن يتوضأ الإنسان وضوءاً كاملاً، ثم بعد أن ينتهي من الوضوء، إما بزمان يسير، أو بزمان كبير كساعة ونحوها، يريد أن يعيد الوضوء مرة ثانية، هذا التجديد.
دليل مشروعيته ما ثبت في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) فدل هذا الحديث على مشروعية تجديد الوضوء بالجملة الأولى، فإن السائل لما قال: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟) أي: يا رسول الله! لو كنا على وضوء، فأكلنا لحم الغنم هل ينتقص هذا الوضوء؟ فقال: (إن شئت)، فأجاز أن يوقع وضوءاً ثانياً غير واجب عليه، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على مشروعية إيقاع الوضوء، ولو كان ذلك مرتين أو ثلاثاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان الوضوء غير مشروع لقال: لا تتوضئوا، وإنما قال: (إن شئت)، فخيره.
وللعلماء تفصيل في مسألة تجديد الوضوء.
لكن الذي يهمنا هنا أن تجديد الوضوء مشروع، والدليل على مشروعيته حديث جابر الذي ذكرنا، يبقى
السؤال
لو أن إنساناً أخذ الماء الطهور -الذي تقدم ذكره- فتوضأ به لصلاة المغرب وضوءاً وكان قد توضأ قبل ذلك، فالعلماء يسمون طهارة الوضوء الثانية طهارة مستحبة، لقوله: (إن شئت)، أي: حبذ فيه الشرع، وهذا مثال لتجديد وضوءٍ.
(وغسل جمعةٍ) هذه الكلمة فيها فائدتان: أولاً: دقة المصنف حيث جاء بطهارة صغرى مجددة كتجديد وضوء، وطهارة كبرى مجددة كغسل جمعةٍ.
وغسل الجمعة الصحيح وجوبه، وسنتكلم على وجوبه ودليل وجوبه في كتاب الجمعة إن شاء الله، لكن المصنف يسلك مسلك الجمهور من عدم وجوب الغسل للجمعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) واختلف في إسناد الحديث، وسنتكلم عليه إن شاء الله.
فقال المصنف ومن وافقه: إن غسل الجمعة ليس بواجب، فعلى القول بأن غسل الجمعة ليس بواجب، لو أن إنساناً اغتسل الجمعة داخل موضع يحفظ ماء الغسل كالموجود الآن من البرك الصغيرة، ولكن هذا الغسل ليس بواجب، إنما هو غسل مستحب، هذا المثال الثاني: (وإن استعمل) أي: الماء الطهور (في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة).
قال رحمه الله: [وغسلة ثانية وثالثةٍ كره].
الغسلة المستحبة تأتي على صورتين: إما أن تأتي الغسلة المستحبة في طهارة كاملة: كالوضوء والغسل من غير جنابة -أي: من غير الواجب- فهذه طهارة مستحبة كاملة للأعضاء كلها، وقد تأتي بإعادة غسل الأعضاء مرة ثانية وذلك بالغسلة الثانية والثالثة.
صورة هذه المسألة: لو أن إنساناً ترجح عنده قول بعض العلماء الذين يرون أن استعمال الماء في وضوء أو غسل يوجب سلبه الطهورية، فقال: أنا أحافظ على هذا الماء، فالغسلة الأولى التي أغسل بها وجهي هذه واجبة، فلا أحفظ ماءها، ولكن أغتسل الغسلة الثانية والثالثة للوجه فأحفظ الماء المتساقط منها، ثم غسل يده فغسل الغسلة الأولى للفرض، ثم غسل الثانية والثالثة استحباباً، وحفظ ماء الغسلة الثانية والثالثة، حتى انتهى من جميع أعضاء الوضوء.
فإن الماء في الغسلة الثانية والثالثة لم يفرضه الله على المكلف، بدليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة)، فأصبحت المرتان والثلاث فضلاً لا فرضاً، فهذا الفضل الذي ليس بفرض، لو أن إنساناً حفظ ماءه ثم جاء ثانٍ يريد أن يتوضأ به، فسألك: ما الحكم؟ ومراد المصنف من ذكر هذه الثلاثة الأحوال كتجديد وضوء، وغسل جمعة، وغسلة ثانية وثالثة أن تحفظ القاعدة، وهي: إيقاع طهارة ليست بواجبة.
(وغسلة ثانية وثالثة كره).
أي: أن هذا الماء المستعمل في الطهارة الغير الواجبة يجوز أن يتوضأ به الإنسان ولكن على سبيل الكراهة، والسبب في ذلك ما سبق بيانه، فإن أصحاب هذا القول يرون أن استعمال الماء لوضوء وغسل واجب يسلبه الطهورية كما سنبينه.
وإذا استعمل في طهارة مستحبة فهو متردد بين الطهور السالم والطهور غير السالم فيعطى حكم الكراهة على القاعدة التي سبق بيانها (كره) المكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، والصحيح أن من استعمل الماء في طهارة مستحبة لم يكره لغيره أن يتوضأ ويغتسل بذاك الماء، وسنبين ذلك -إن شاء الله- ونبين أدلته وأقوال العلماء فيه.(4/3)
تحديد القليل والكثير من الماء بالقلتين
قال رحمه الله: [وإن بلغ القلتين وهو الكثير].
أي: اعلم رحمك الله لو أن هذا الماء الذي شرع الله لك أن تتوضأ به -وهو الماء الطهور- بلغ قلتين، والأصل في القلتين حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وهذا الحديث صحح إسناده غير واحد، وارتضى الحافظ ابن حجر كما في التلخيص والفتح صحته، والعمل عند جمع من العلماء إما على حسنه أو على صحته، وقال طائفة من العلماء: إنه ضعيف، كما اختاره بعض المحققين ومنهم الإمام الحافظ ابن عبد البر، والإمام ابن القيم رحمة الله على الجميع.
وعلى العموم بناء على هذا الحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، قال لك المصنف: لو أن هذا الماء الطهور بلغ قلتين فهو الكثير.
(وهو الكثير).
كلمة: (وهو الكثير) اصطلاحية، بمعنى: أنها ستمر عليك في ثنايا كلام الفقهاء وفتاويهم، فإن قال العالم: يجوز ذلك في الماء الكثير، ولا يجوز في القليل، يؤثر في الكثير ولا يؤثر في القليل، أو العكس، فعندهم أن الكثير هو الذي بلغ قلتين، بناء على مذهب من يقول بصحة هذا الحديث والعمل به، وسنبين مسألة القلتين -إن شاء الله- في موضعها.
قال رحمه الله: [وهما خمسمائة رطل عراقي تقريباً].
حديث القلتين -كما قلنا- اختلف العلماء في سنده، والواقع أنه وإن صح الحديث فإن متنه لا يدل على اعتبار القلتين فاصلاً؛ لأن ذلك من باب المفهوم، وليس من باب المنطوق، وهو المفهوم الذي يسميه الأصوليون: مفهوم العدد، وفي مفهوم العدد خلاف، ورجح غير واحد عدم اعتباره، وقد تكلمت على هذه المسألة ببسطها وبيان أدلتها وأقوال العلماء والجواب عن هذا الحديث في شرح بلوغ المرام.
لكن الخلاصة أن اعتبار القلتين فرقاً بين القليل والكثير مرجوح، والصحيح -كما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وجمع من المحققين- أن الماء العبرة فيه بأن يتأثر لونه أو طعمه أو ريحه، وأما أن يجعل العبرة فيه بالقليل والكثير فهذا لا يراه المحققون، وبينا وجه ذلك ودليله، لكن هنا لما كان المصنف يرى أن القلتين فرق بين القليل والكثير احتجنا أن نبين مسألة القلتين: فعند العلماء أن القلتين مثنى قلة، والقلة: ما يقل، بمعنى: يحمل، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} [الأعراف:57] أي: احتملته الريح.
وسميت قلة لأنها تحمل باليد، وهي الجرة، أو الشراب الموجودة الآن وتسمى في العرف: الشربة، أو الزير الصغير الذي يحمل باليد، ولا يزال إلى الآن بعض أهل البادية يحملونه ويستسقون به، يضعون فيه الماء من الآبار ويجلبونه إلى منازلهم، وهذه القلة تقل باليد، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) بمعنى: أنه لو وقعت فيه نجاسة لم تغير لونه أو طعمه أو رائحته فإنه طهور، وينبغي أن ننبه على أمور هي: هناك ماء بلغ القلتين، وهناك ماء دون القلتين، وهناك ماء فوق القلتين، فأصبح الماء له ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون دون القلتين.
الحالة الثانية: أن يكون بلغ القلتين.
الحالة الثالثة: أن يكون فوق القلتين.
فإن كان دون القلتين، مثلاً: فرضنا أنه قلة واحدة، ومن أمثلتها السطل الموجود الآن، لو أن إنساناً كان عنده ماء على قدر السطل، فهذا يسمى ماء دون القلتين، إذا كان دون القلتين ووقعت فيه نجاسة فعلى حالتين: الحالة الأولى: مثلاً: عندك سطل فيه ماء، وجاء صبي وألقى فيه نجاسةً، أو سقطت منك نجاسة في السطل، فإن تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه بالنجاسة فبالإجماع أنه نجس، سواء كانت النجاسة مائعة أو جامدة.
وإذا كان نجساً فلا يجوز لك لا أن تتوضأ به، ولا أن تغتسل به، ولا أن تزيل به النجاسة؛ لأنه نجس بذاته.
الحالة الثانية: أن يلقي النجاسة في الماء فلا يتغير لونه ولا طعمه ولا رائحته، كقطرة بول -أكرمكم الله- ألقاها في السطل، فهل هذه القطرة تمنع من الوضوء والاغتسال من هذا السطل؟ أو وضع الإنسان بمكان غسله سطل ماء فتطاير رذاذ نجاسةٍ على السطل، فشك هل تطاير النجاسة إلى هذا السطل يمنع من الوضوء به؟ مع أنه لم يتغير الماء لا لونه ولا طعمه ولا رائحته، فهذا محل الخلاف بين العلماء.
فمن يقول: أعتبر القلتين يقول: كل ما كان دون القلتين إذا وقعت فيه نجاسة، ولم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، فإني أحكم بكونه نجساً ولو لم يتغير، وهذه فائدة اعتبار القلتين، فهو إذا كان دون القلتين وتغير فبالإجماع ينجس، لكن إذا لم يتغير فعند المصنف وغيره من العلماء وهو مذهب الشافعية والحنابلة أنه يحكم بنجاسته بمجرد وقوع النجاسة فيه.
وهكذا لو وقع فيه عطرٌ، أو شيء طاهر من مسك أو زعفران ونحوه، إذا وقع في هذا الماء الذي في السطل نقطة منه، ولم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، يقولون: هذا طاهر وليس بطهور.
لكن مذهب المحققين وهو مذهب الظاهرية والمالكية واختيار شيخ الإسلام رحمة الله عليه أن العبرة بتغير الماء، فإن وقعت هذه النجاسة وغيرت لون الماء الموجود في السطل أو طعمه أو ريحه حكم بنجاسته، أما إذا لم تغيره فليس بنجس، وهذا هو الصحيح.
الحالة الثالثة: إذا بلغ الماء فوق القلتين، فلا ينجس ولا يحكم بنجاسته إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو رائحته، فلو سألك سائل عن بركة ماء -البركة تبلغ القلتين وزيادة- وقعت فيها نجاسة هل يجوز له أن يغتسل من هذه البركة أو يتوضأ منها؟ تقول له: إن تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه فالإجماع أنه لا يجوز الوضوء من هذه البركة، أما إذا لم يتغير شيء من أوصافه فالإجماع على جواز التطهر منها، وإن كان هناك بعض الخلاف يحكيه بعض العلماء على مسألة البول في الماء الراكد سنبينه إن شاء الله.
فعندنا مذهبان: مذهب يقول: الفرق عندي بين الماء القليل والكثير هو القلتان.
ومذهب يقول: المهم عندي تغير الماء بالطاهر والنجس، وهذا هو الصحيح.
فلما كان المصنف يرجح التقدير بالقلتين قال رحمه الله: [فخالطته نجاسة غير بول آدمي، أو عذرته المائعة، فلم تغيره، أو خالطه البول أو العذرة ويشق نزحه، كمصانع طريق مكة فطهور].
(فطهور) في كلتا الحالتين: إذا بلغ القلتين وخالطته نجاسة من غير بول الآدمي وعذرته، كأن يلقى فيه نجاسة خنزير مثلاً، فإن الخنزير نجس العين والفضلة، فأصبح الماء محل
السؤال
هل وقوع النجاسة في هذا الماء الذي بلغ القلتين يوجب الحكم بعدم طهارته إذا لم يتغير؟ قلنا: إن اتفاق العلماء رحمهم الله الذين اختلفوا في القلتين واقع على أنه يجوز التطهر به، وهو طهور ما دام أنه لم يتغير.
أما إذا تغير فالإجماع على أنه لا يجوز الوضوء به ولا الطهارة.
الحالة الثانية: بلغ قلتين وألقيت فيه نجاسة، وغيرته لكن يشق نزحها، كمصانع طريق مكة، وكانوا في أيامهم يستقون على السابلة على الطرق ويكون فيها البرك ونحوها، فمثل المصنف بهذا المثال؛ لأن مكة مورد المسلمين، فكان شيئاً ظاهراً معروفاً عند غالب أو أكثر المسلمين، فمثل به على هذا الوجه.
(يشق نزحها) أي: يشق إخراج النجاسة من هذا الموضع، وذكروا من أمثلة ذلك أن يكون الموضع ألقيت فيه نجاسة ولم يمكن إخراج هذا النجاسة عن ذلك الموضع كما في الآبار والبرك، ويشق نزح هذه النجاسة، فإن شق النزح فالقاعدة: (أن المشقة تجلب التيسير)، ودليل الحكم في هذه المسألة قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ما دام أن الناس ليس بوسعهم أن يزيلوا هذه النجاسة فيخفف عنهم في التطهر بهذا الماء، ويقال: إن الأمر إذا ضاق اتسع، ولا يكلفهم الله إلا بما في وسعهم.(4/4)
تطهر الرجل بفضل طهور المرأة والعكس
قال رحمه الله: [ولا يرفع حدث رجلٍ طهور يسير خلت به امرأه].
هذه مسألة ثانية، فقد ورد في حديث ابن عباس وميمونة وأصله في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغتسل الرجل بفضل طهور المرأة) فاختلف العلماء فيما إذا تطهرت امرأة من إناء وبقي بعد طهارتها ماء، هل يجوز للرجل أن يتوضأ ويغتسل من هذا الماء؟ فمذهب طائفة من العلماء الأخذ بظاهر الحديث، والمسألة لها صور: جاءت امرأة إلى سطل من الماء واغتسلت منه فبقي نصف الماء فيه، فاحتاج رجل أن يتوضأ بهذا النصف أو يغتسل به، فهل يصح وضوءه وغسله؟! ظاهر الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل طهور المرأة).
فقال أموراً: أولاً: فضل يعني: الزيادة.
ثانياً: فضل طهور لا فضل شرب، فلو شربت من السطل لم يرد الخلاف، ولو غسلت بعض أعضاء الطهارة لا يرد الخلاف، لكن يقع الخلاف إذا حصلت الطهارة الكاملة، فلو أنها غسلت يدها أو وجهها من سطل فليس هذا بفضل طهور، وإنما محل الخلاف أن تتطهر طهارةً كاملة، إما طهارة صغرى كأن تتوضأ من الماء أو تغتسل منه، فيبقى بعد غسلها من السطل بقية، فهل من حق الرجل أن يتوضأ أو يغتسل به؟ قولان عند العلماء مشهوران، أصحهما: أنه لا يجوز لظاهر الحديث، وهو قول الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمة الله عليه وطائفة من أصحاب الحديث والظاهرية، على أنه لا يجوز للرجل أن يغتسل من فضل ماء خلت به المرأة، إذاً هناك شروط: أولاً: أن يكون المغتسل بهذا الماء أو المتوضئ امرأة، فلو كانت صبية طفلة صغيرة اغتسلت من السطل لا يقع الخلاف؛ لأن الخلاف في المرأة، والصبية ليست بامرأة.
ثانياً: أن يكون هناك تطهر كامل، إما من حدثٍ أصغر، أو من حدثٍ أكبر، فلو استعملته في شرب أو غسل وجه، أو جزء من أعضاء الوضوء والغسل لم يقع الخلاف.
ثالثاً: أن تخلو المرأة بذلك الماء، فلو اغتسلت أو توضأت أمام زوجها أو محرمها، واحتاج أن يتوضأ بعدها أو يغتسل فلا حرج، لأنها لم تخلُ به، إذاً أين محل الخلاف؟ فيما إذا تطهرت وكانت امرأة وخلت به، ففي هذه الحالة هل يجوز للرجل أن يتوضأ بهذا الماء؟ قلنا: الصحيح عدم جوازه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى، وظاهر النهي التحريم.
وخالف الجمهور رحمة الله عليهم فقالوا: يجوز للرجل أن يتوضأ ويغتسل من فضل طهور المرأة، ودليلهم حديث أم المؤمنين عائشة: (أنها كانت تغتسل ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، تقول له: دع لي، ويقول لها: دعي لي) وجه الدلالة: أنها إذا غرفت الغرفة الأولى فإن الباقي الذي اغترف منه النبي صلى الله عليه وسلم فضلة، ثم لما اغترفت الثانية فأتبع النبي صلى الله عليه وسلم الغرفة بعد غرفتها الثانية فقد اغترف من فضل.
وهذا الحديث يجاب عليه من وجوه: أولاً: أن محل الخلاف فيما إذا خلت، وهنا عائشة اجتمعت مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وثانياً: أن محل الخلاف أن تكمل الطهارة، وعائشة لم تكمل الطهارة.
وعلى هذا فنجمع بين الحديثين ونقول: هنا نصان خرجا من مشكاة واحدة، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي نهى عن التطهر بفضل المرأة توضأ مع عائشة، ففهمنا أن النهي لا يشمل الذي فعل، فاشترطنا خلو المرأة به، فدليل الشروط التي ذكرناها هو ما ورد في هذا الحديث، فيعتبر هذا الحديث مقيداً لإطلاق الحديث الذي سبق النهي فيه، وبناءً على هذا نخلص بفائدة وهي: عدم جواز أن يتوضأ الرجل أو يغتسل من بقية وضوء أو غسل المرأة بشروط ذكرناها.
ثم يرد
السؤال
إذا كان لا يجوز له فهل إذا فعل نقول بإثمه وصحة وضوئه وغسله، أو نقول بإثمه وعدم صحة وضوئه؟ وجهان للعلماء: فمن يرى أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، يقول: لو اغتسل الرجل من هذا الماء أو توضأ به لم يصح لا غسله ولا وضوءه، وهي مسألة أصولية، وقد تكلمت عن هذه المسألة بإسهاب أيضاً في شرح بلوغ المرام، فنكتفي هنا بالقول الراجح من أنه لا يجوز للرجل أن يغتسل أو يتوضأ من فضل طهور المرأة بالشروط التي ذكرناها.
(ولا يرفع حدث رجل طهور).
مفهوم ذلك أن المرأة لو اغتسلت بفضل المرأة، ما الحكم؟ يجوز، والوضوء صحيح والغسل صحيح، محل الخلاف إذا كان رجلاً.
يرد السؤال: لو أن خنثى أراد أن يتوضأ ويغتسل بفضل امرأة، فهل الخنثى ملحق بالرجال أو ملحق بالنساء؟ الخنثى له حالتان: الحالة الأولى: الخنثى البين، الذي بان كونه ذكراً أو كونه أنثى، وذلك بأمارات الرجولة أو أمارات الأنوثة، فهذا لا إشكال فيه، فإن ظهرت فيه علامات الرجولة فحكمه حكم الرجل، لا يتوضأ ولا يغتسل من فضل المرأة، وإن ظهرت فيه علامات الأنوثة فالحكم واضح بين.
الحالة الثانية: الإشكال عند العلماء في الخنثى إذا كان مشكلاً، بمعنى: ليس فيه لا علامات الرجولة ولا علامات الأنوثة، ولم يتميز، فهذا فيه ما لا يقل عن ثمانين مسألة، حيرت العلماء رحمة الله عليهم، هل يعطى حكم الرجل أو يعطى حكم المرأة؟ من ناحية الطهارة ومن ناحية الصلاة عليه وتغسيله وتكفينه إلى غير ذلك، المهم من هذه المسائل هذه المسألة، بعض العلماء يقول: الخنثى حكمه حكم المرأة؛ لأن اليقين فيه أنه في درجة المرأة، والشك أنه ارتفع إلى درجة الرجل؛ لأن الله فضل الرجل على المرأة وقال: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36].
{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] فقالوا: نعطيه اليقين لكونه في حكم الإناث، وعلى هذا فيجوز له أن يتوضأ من فضل المرأة، لأنه آخذ حكم المرأة.
وعلى الوجه الثاني قالوا: فيه شبهة، فليس بمحض الأنوثة ولا الرجولة، فارتفع عن الأنوثة المحضة، ونزل عن الرجولة الكاملة، فأصبح بين بين، فلا يتوضأ بفضل المرأة، لأنه ليس بامرأة، فاشتبهنا في حكمه.
(ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة).
الطهور اليسير مثل: الذي في السطل، ومثل: الذي في الإناء المعروف، هذا يعتبر ماء طهوراً يسيراً، ولو قلنا بعموم هذا الحكم لصارت مصيبة؛ لأن البرك يغترف منها النساء، فلو أن امرأة اغترفت من بركة واغتسلت هل نقول: هذه البركة بكاملها لا يجوز للرجال أن يتوضئوا ويغتسلوا منها؟ ف
الجواب
أن هذا الحكم هو في الطهور اليسير، فالماء الموضوع في الأواني هو الماء الذي ورد فيه النص، وأما غيره فيبقى على الأصل.
(يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة).
قال بعض العلماء: شرط خلوها أن تكون في موضع لا يراها الرجل، وقال بعض العلماء: تكون فيها خلوة نكاح، بمعنى: أن لا تراها الأنظار، أو ترخى عليها الأستار ونحو ذلك.
المسألة الأخيرة: هل نهي الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويغتسل بفضل طهور المرأة تعبدي أو معلل؟ الصحيح أنه تعبدي لا نعقل علته، حكمة منه سبحانه، قال: هذا الماء توضئوا منه، وهذا الماء لا تتوضئوا منه، هذا الماء اغتسلوا منه وهذا الماء لا تغتسلوا منه، يبتلي عباده بما شاء، فليس الأمر معللاً، ولهذا يقولون: هذا الحكم تعبدي، بمعنى: لا يجري فيه القياس.
قال رحمه الله: [لطهارة كاملة عن حدث].
أي: بسبب حدث، فلو تطهرت طهارة كاملة لغير حدث كالغسلة المستحبة، فوجهان للعلماء: قال بعض العلماء: حكمه حكم الغسلة الواجبة.
والصحيح القول الثاني: أنه ليس حكمه حكم الغسلة الواجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بفضل طهور المرأة) والطهور الغالب فيه: الواجب، فيعطى حكم الغالب ويهدر النادر.(4/5)
أحكام ومسائل في الماء الطاهر
قال رحمه الله: [وإن تغير طعمه أو لونه أو ريحه].
الآن سنبدأ بالطاهر، وكل الذي تقدم فيما مضى ماء أباح الله الوضوء، وهو الماء الطهور.
وذكرنا الأحكام العارضة على الماء الطهور، يبقى
السؤال
كيف أدخل المصنف المسألة الأخيرة في الماء الطهور؟
الجواب
أن الماء الذي هو فضل طهور المرأة هو في الأصل طهور، ولكن حكم الشرع عبادة، ولذلك ألحقه بالماء الطهور، ولم يلحقه لا بالنجس ولا بالطاهر، وإلا فكل كلامنا الذي تقدم هو في الماء الذي أذن الله به.
الخلاصة: أن الذي تقدم الكلام عليه فيما مضى هو ماء أذن الله لنا أن نتوضأ به ونغتسل، وهو الماء الذي يزيل النجاسة عن البدن والثوب والمكان.
وسنبدأ الآن بالنوع الثاني: وهو ماء ليس بنجس، ولكن لا يجوز للإنسان أن يتوضأ ولا أن يغتسل به، لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً وهو الماء الطاهر.
الماء الطاهر نريد أن نعرفه ونعرف أحكامه؛ حتى إذا جئت تتوضأ لا تتوضأ بمثله، وإنما تتوضأ بالنوع الأول، وإذا جئت تغتسل لا تغتسل بمثله، وإنما تغتسل بالنوع الأول، وقس على هذا بقية الأحكام.(4/6)
تغير الماء الطهور بشيء طاهر
(وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه).
قلنا: الماء الطهور الذي تقدم الكلام عليه ماء باقٍ على أصل خلقته كماء البئر، وماء النهر، ونحو ذلك من المياه، لكن الماء الذي معنا الآن ماء خرج عن أصل خلقته، بمعنى: أنه تغير عن حالته الحقيقية فوضع فيه شيءٌٌ طاهر.
مثال ذلك: عندك سطل ماء أخذته من بئر، لو سألك سائل عن هذا الماء الذي أخذته من البئر: من أي أنواع المياه؟ تقول: هذا ماء طهور؛ لأن الله قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] وقال عن هذا الماء الذي أنزله من السماء: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون:18] فدل على أن ماء البئر ماء طهور.
أخذت هذا الماء الطهور من البئر، أو من النهر، أو نزل من السماء مطر على ذلك السطل فملأه، فإن بقي على خلقته قلنا: توضأ به واغتسل، وأزل به النجاسة، والحكم: أنه يزيل النجاسة ويرفع الحدث.
لكن جاء صبي فصب في هذا السطل زعفران، أو وضع فيه صابونة، فتغير لون الماء وأصبح بلون الصابون، أو بقي لونه كما هو لكن جئت تطعم الماء فإذا هو بطعم الصابون، أو بقي على لونه الحقيقي وطعمه الحقيقي ولكن رائحته رائحة صابون لما ألقى الصابونة فيه، فالماء خرج عن أصل خلقته الطهورية إلى شيء جديدٍ وهو الطاهر، ف
السؤال
ما حكم هذا الماء؟ المصنف سيأتي بأمثلة كلها فيها: ماء طهور وقع فيه شيء طاهر فسلبه الطهورية، ولذلك العلماء يقولون: سلبه الطهورية، فتحتاج حتى تعرف الماء الذي أذن الله لك في أن تغتسل وتتوضأ به أن تعرف هذا النوع وهو الطاهر، فهو طاهر ولكن لا يتطهر به، فقال رحمه الله: (وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بطبخ أو ساقط فيه).
تغير اللون، أو الطعم، أو الريح هذه قاعدة مطردة.
إذا تغير شيء بشيء فإن كان نجساً فغير اللون أو الطعم أو الرائحة فاحكم بنجاسته، وإن كان التغير بطاهر فهو طاهر وليس بطهور، وبالإجماع أنه يوصف بكونه طاهراً إن تغير بطاهر.
(وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بطبخ أو ساقط فيه).
أخذ هذا الماء ووضع فيه باقلاء أو باذنجان أو فاصوليا أو غير ذلك من المطعومات ثم طبخه، فأصبح لون الماء بلون الفاصوليا أو الباذنجان ونحوها، فهنا تغير بطاهر فتقول: هذا ماء طاهر تغير بالطبخ، بل حتى ولو لم يطبخ ووضعت فيه هذا الطاهر فتغير لونه أو طعمه أو ريحه حكم بكونه متغيراً.
(أو ساقط فيه).
جاء صبي فأخذ محبرة فرماها في السطل، فأصبح لون الماء الموجود في السطل بلون الحبر، أزرق أو أحمر أو أسود المهم أنه تغير بلون هذا الحبر فتقول: هذا ماء طاهر.(4/7)
حكم الماء المستعمل
قال رحمه الله: [أو رفع بقليله حدث].
هذه المسألة التي سبق الإشارة إليها؛ مثالها: شخص أخذ سطلاً فتوضأ وضوءاً واجباً عليه، أو اغتسل غسلاً من الجنابة، وحفظ الماء في طشت ونحوه، فجاء رجل آخر يريد أن يتوضأ بهذا الماء، فللعلماء في هذا الماء ثلاثة أقوال: القول الأول: الماء طهورٌ، وهو مذهب الظاهرية، ورواية عن مالك، وقول للشافعي ورواية عن أحمد رحمة الله على الجميع.
بمعنى: أن الماء باق على أصله، ولو توضأ به مائة شخص، فما دام أنه لم يتغير فهو ماء طهور كأنه نزل من السماء.
القول الثاني: أن الماء إذا كان يسيراً فهو طاهر وليس بطهور، وعليه مذهب الحنابلة ومذهب الشافعية وهو رواية عن مالك، وأيضاً رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمة الله على الجميع، وبناءً على ذلك يقولون: هذا الماء لا تتوضأ به ولا تغتسل، لكنه ليس بنجس، فلو وقع على ثوبك أو وقع على بدنك أو وقع على سجادتك التي تصلي عليها لم ينجسها.
القول الثالث وهو أشدها: أن الماء إذا توضأ به أحد حكم بنجاسته، وهي رواية في مذهب الحنابلة وأيضاً قول القاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمة الله على الجميع.
فعندما ثلاثة أقوال في الماء الذي توضئ به أو اغتسل به من الجنابة: منهم من يرى أنه طهور ويجوز للغير أن يتوضأ ويغتسل به، ومنهم من يرى أنه طاهر وليس بطهور، فلا يجوز للغير أن يتوضأ ويغتسل به، لكنه ليس بنجس، والقول الثالث -وهو أشدها-: أنه نجس.
دليل من قال بطهوريته: ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء)، قالوا: نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الماء لا يتأثر بشيء إلا ما غير اللون أو الطعم أو الرائحة، وهذا مجمع عليه، وهذا لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو باقٍ على الطهورية.
الدليل الثاني: ما رواه أحمد وابن ماجة: (الماء لا يجنب) فدل على أن الاغتسال من الماء والانتفاع به في الطهارة لا يوجب زوال وصف الطهورية عنه، هذا حاصل أدلة من قال: إنه طهور.
أما من قال: إنه طاهر فقالوا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال في الماء الدائم)، نهى الرجل أن يغتسل بالماء الدائم، قالوا: وما معنى هذا النهي إلا كونه يسلبه الطهورية، هذا القول الثاني.
أما القول الثالث والأخير وهو قول الذين قالوا: إنه نجس، فاحتجوا بحديث النهي: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) قالوا: في رواية عند أبي داود: (ويغتسل فيه).
قالو: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ويغتسل فيه) فشرك وجمع بين الغسل في الماء وبين البول فيه، فدل على أن من اغتسل في الماء كمن بال فيه فهو نجس.
والصحيح من هذه الأقوال أنه طهور، وليس بنجس ولا طاهر، أي: لا يحكم بكونه نزل إلى مرتبة الطاهر.
أما دليل الرجحان: أولاً: صحة ما ذكره أصحاب هذا القول.
ثانياً: أن القاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل أنه طهور، ونحن شككنا في سلب الطهورية فنبقى على الأصل.
ثالثاً: استدلال أصحاب القول الثاني بأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال في الماء الدائم علته كونه يسلب الطهورية مردود، فإن العلة يحتمل أن تكون خوف تغير الماء وسلبه الطهورية، فاحتمل الوجهين، فجاءت رواية: (وليغترف منه) لتفيد أن العلة هي خوف إفساد الماء على الغير، ولذلك الراوي وهو أبو هريرة يقول: لعله أن ينتفع به غيره فيشرب منه ونحو ذلك، فدل على أن علة النهي عن الاغتسال في الماء الدائم ليست سلب الطهورية، وإنما هي خوف تلوث الماء وإفساده على من يأتي بعده.
رابعاً: استدلال من يقول: نهى عن البول والغسل، فدل على أن الغسل كالبول، هو استدلال بدلالة الاقتران، ودلالة الاقتران دلالة ضعيفة عند الأصوليين، ودليل ضعفهما ظاهر القرآن قالوا: لما قرن الاثنين دل على أن حكمهما واحد، فهذه الدلالة استعملها العلماء في هذه المسألة وفي مسألة: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة:196] قال بعض العلماء: العمرة واجبة لأن الله قرنها بالحج، فدلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين، كما نبه عليه صاحب المستصفى وغيره.
وجه ضعفها -كما قال المحققون وأشار إلى ذلك الإمام النووي في المجموع- ظاهر التنزيل، فإن الله عطف الشيئين المتغايرين في الحكم، فقال سبحانه: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] كلوا من ثمره، هذا أمر للإباحة (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) أي: أبحت لكم أكل ثمر الشجر، ثم قال: (وَآتُوا حَقَّهُ) أي: الزكاة وهي واجبة، فعطف غير الواجب على الواجب، فدل على أن الشرع قد يعطف على المتغايرين حكماً ومرتبةً، فلا يستقيم استدلالهم بالعطف الموجود في حديث النهي عن البول في الماء الراكد، بدليل رواية الصحيح: (ثم يغتسل فيه).
وعلى هذا: فالذي يترجح أن الماء إذا توضأت به وحفظته أو اغتسلت به وحفظته جاز لغيرك أن يتوضأ ويغتسل به، لكن المصنف درج على قول من يقول: إنه طاهر وليس بطهور ولا نجس.(4/8)
حكم الماء الذي غمس القائم من النوم يده فيه
قال رحمه الله تعالى: [أو غمس فيه يد قائم من نوم ليل].
مثلاً: عندك ماء يسير تريد أن تتوضأ منه لصلاة الفجر، فقمت لصلاة الفجر، وإذا بالماء في إناء -والإناء هو المفتوح، بخلاف الإبريق الذي يكون مغلقاً، فمحل الكلام في الإناء الذي تغترف منه كالقدر- وأردت أن تغترف منه، فالسنة الواردة في حديث أبي هريرة في الصحيحين: (إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً) فتمسك بالإناء وتميله قليلاً إلى كفك، ثم إذا ملأت الكف بالماء غسلت كلتا اليدين الغسلة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فتطهر يداك، ثم بعد ذلك تغترف للمضمضة والاستنشاق، وتغسل بقية الأعضاء، لكن أن تأتي وتدخل يدك إلى الإناء مباشرة فهذا منهيٌ عنه.
وبناءً على ذلك قال بعض العلماء من السلف وغيرهم: علة النهي أنهم كانوا في بلادٍ حارة، وكان الناس لا يعرفون عند قضاء الحاجة الغسل بالماء، وإنما كانوا يستجمرون بالحجارة، فربما عرق الإنسان أثناء نومه فجالت يده فأصابت العرق المتنجس في الموضع، وربما أصابت العضو، أو أصابت نجاسة خارجة من العضو، فنهى الشرع عن إدخال اليد في الإناء حتى لا يفسد الماء.
وبناءً على ذلك فعندنا مسائل في المستيقظ من النوم: أولاً: لا يجوز له أن يدخل يده في الإناء حتى يغسلها، والغريب أن بعض الأطباء يقول: ثبت طبياً أن أكثر حالات الرمد -هذا المرض المعروف الذي يصيب الصغار- سببها أن الأطفال يستيقظون من النوم، فيجعلون أصابعهم في أعينهم قبل غسلها.
وهنا تظهر حكمة الشرع، فإنه إذا انتقلت النجاسة إلى الإناء والإنسان في الوضوء يرفع الماء إلى وجهه لغسله فربما كان ذلك طريقاً لأذية البدن أو حصول الضرر، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام.
وقال بعض العلماء: بل أبلغ من ذلك معجزةً أن الشرع فيه أولاً أن تتمضمض ثم تستنشق ثم تغسل وجهك؛ لأن الماء إذا كان فاسداً أدركت فساده بالذوق، فإن عجز الذوق أدركته بالشم؛ مع أن العين أشد حساسية من الأنف، والأنف أشد حساسية من الفم، إلا أنه ثبت طبياً أن في الفم من أجهزة المناعة أضعاف ما في الأنف، وفي الأنف أضعاف ما في العين، فهذا من أبلغ ما يكون في حكمة الشرع في مسألة غسل اليدين للمستيقظ من النوم.
وبناءً على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن غمس اليد في الإناء، على مذهب من يقول: إن ما دون القلتين ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، يتفرع على هذا القول أن السطل الذي دون القلتين لو غمس القائم من النوم يده فيه شككنا فيه: فيحتمل أن فيه نجاسة ويحتمل أنه ليس فيه نجاسة، فقال: هو طاهر وليس بطهور؛ لأن النجاسة مشكوك فيها، فقال: نجعله طاهراً لا يتوضأ به ولا يغتسل، ولا نقول: هو نجس؛ لأننا لم نتحقق من النجاسة، ولا نقول: هو طهور، لأنه لم يبق على أصل خلقته، هذا هو وجهه.
قوله: (من نوم ليل).
وحديث: (إذا استيقظ أحدكم من نومه) للعلماء فيه أقوال: بعض العلماء يقول: لا يجوز إدخال اليدين في الإناء من نوم الليل والنهار، وهو مذهب الظاهرية.
ومنهم من يقول: لا يجوز إدخالها من نوم الليل خاصة، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة من المحدثين.
ومنهم من قال: باستحباب غسلها كما هو مذهب الجمهور.
والصحيح مذهب الظاهرية، أن النهي على العموم، والذين يقولون بتخصيص نوم الليل -كما درج عليه المصنف- يستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، والبيتوتة لا تكون إلا بالليل فقالوا: الحكم يختص بنوم الليل دون النهار.
والصحيح أنه يشمل نوم الليل والنهار والحكم معمم، والسبب في ذلك أن قوله: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) خرج فيه النص مخرج الغالب، والذي خصه بالبيتوتة بنى على مفهوم الحديث، والقاعدة: أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، وهي مسألة أصولية، وحبذا لو يرجع إلى شرح عمدة الأحكام، فقد ذكرت فيه أقوال العلماء وأدلتهم والراجح من تلك الأقوال بدليله كما ذكرنا.
فالمصنف رجح أن غمس اليد في الإناء قبل غسلها لا يجوز من نوم الليل دون نوم النهار، والشرط أن يكون النوم موجباً للوضوء؛ لأن النوم إذا كان يسيراً لا يوجب الوضوء؛ لأنه لا يزول به الشعور، فالشخص في هذه الحالة يدري أين باتت يده، بخلاف ما إذا زال الشعور، فيحتمل أن تجول اليد إلى مكان فيه نجاسة.(4/9)
حكم آخر غسلة أزيلت بها النجاسة
قال رحمه الله: [أو كانت آخر غسلة زالت بها النجاسة فطاهر].
مذهب طائفة من العلماء أن النجاسة تغسل ثلاثاً على الأقل: الأولى: لإذهاب عين النجاسة.
والثانية: لإذهاب أثر النجاسة.
والثالثة: للاستبراء واليقين.
فغالباً الغسلة الثالثة يذهب بها عين النجاسة وأثر النجاسة، فتأتي على نقاء من موضع، فيكون الماء المنفصل من هذه الغسلة طاهراً وليس بنجس، لكن لو أن هذه الغسلة وجد فيها أثر النجاسة، فتغير لون الماء بها أو طعمه أو ريحه، فإنه يحكم بكونها نجسة، فمحل كونها طاهرة ألا تتأثر.(4/10)
الأسئلة(4/11)
العبرة بتغير أحد أوصاف الماء حتى ولو أصابه بول أو غائط
السؤال
إذا وقعت عذرة الآدمي المائعة أو بوله في الماء الذي يشق نزحه، فما حكمه؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسألة سبقت الإشارة إليها في قول المصنف: (فخالطته نجاسة غير بول آدمي أو عذرته المائعة)، كما ذكره رحمة الله عليه، فقلنا: استثنوا العذرة أو البول لحديث الصحيحين عن أبي هريرة: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم) فقالوا: إذا وقع هذا البول أو هذه العذرة في ماء راكد ولو كان فوق القلتين سلبه الطهورية، والصحيح أنه لا يسلبه الطهورية إلا إذا غير لوناً أو طعماً أو رائحة.
ولذلك القول باعتبار التأثير وتغير اللون والطعم والرائحة يريح طالب العلم والمكلف؛ لأننا لو قلنا بالقلتين سيظل الإنسان يوسوس: هل بلغت خمسمائة رطل عراقي أم لم تبلغ؟ أو مائة وثمانية بالدمشقي -وهي وحدة قياس، قالوا: ذراع وربع في ذراع وربع في ذراع وربع- ويجلس على البركة ويحاول أن يعرف هل بلغت القلتين أم لا، ويصيبه من الوسوسة والتعب ما الله به عليم، والشريعة شريعة سماحة ويسر وتخفيف على العباد.
ولذلك تجد المذهب الذي يقول باعتبار القلتين يفرع عليها مسائل دقيقة جداً ومظنية فرحمة الله عليهم، وهم العلماء الذين نتطفل على علمهم، ولكن الحمد لله الذي جعل لنا فرجاً ومخرجاً، وجعل الأمر راجعاً إلى التأثير، فاختيار المحققين مثل: شيخ الإسلام وغيره أن العبرة بالتأثير، ولذلك تنظر للماء إذا وقعت فيه نجاسة أو شيء طاهر، فإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه، فقل هذا متغير، وإن لم يتغير فقل: هذا باقٍ على أصله، فأصبح الأمر مرده إلى المؤثر الحقيقي، والله تعالى أعلم.(4/12)
الدليل على اعتبار تغير الماء للحكم بنجاسته
السؤال
وهذا سائل يقول: فضيلة الشيخ ما الدليل على أن العبرة بالتغيير باللون أو الطعم أو الريح، وأنه بذلك تعرف النجاسة؟
الجواب
عندنا دليلان: دليل شرعي ودليل حسي.
أما الدليل الشرعي: فهو موجود، وهو أن الإجماع منعقد على أن الماء إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجس أنه نجس، وحكى هذا الإجماع غير واحد، منهم الإمام النووي في المجموع، والإمام ابن المنذر في الإشراف، وحكاه الإمام ابن قدامة في المغني، وحكاه كذلك صاحب البحر الزخار وغيرهم، فحكموا أن الماء المتغير لونا أو طعماً أو ريحاً بنجاسة يحكم بنجاسته، وهناك رواية من حديث أبي سعيد: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه) وهي ضعيفة، ويقول العلماء: إنها ضعيفة السند صحيحة المتن، وهذه من أمثلة الحديث ضعيف السند صحيح المتن؛ لأن الحديث قد يكون صحيح المتن، كما لو جاء حديث في فضل الصلاة وله أصل في الصحيح، فنقول: إن المتن صحيح لوجود أصله، لكن سنده ضعيف، فنحكم بضعف سنده لا معناه، ولذلك تجد العلماء رحمهم الله كـ شيخ الإسلام يقولون: وهذا حديث ضعيف لكن معناه صحيح.
وكذلك الحديث الذي معنا: (إلا ما غير لونه ... )، فهذا دليل الشرع والإجماع المنعقد.
ومن قال: إن الماء الذي خالطته نجاسة وأصبح لونه لون النجاسة، أو طعمه طعم النجاسة، أو ريحه ريح النجاسة، أنه ماء طهور، فهذا يعتبر شاذاً عن الإجماع، ومتبعاً غير سبيل المؤمنين، نسأل الله السلامة والعافية.
إياك والشذوذ عن إجماعات العلماء رحمة الله عليهم! فإن الخير في اتباع من سلف، والشر كل الشر في اتباع من خلف.
أما الدليل الحسي: فإن هذا الماء الذي أنزله الله من السماء، إن بقي على أصل خلقته فهو الماء الذي شرع الله له أن يتطهر به، وإن لم يبق على أصل خلقته وتغير، فحكمه حكم ما غيره، ألا ترى أنك تقول: ماء زعفران، ماء ورد، فتعطيه حكم ما غيره، فدلالة الحس معتبرة كما أن دلالة الشرع معتبرة، بشرط ألا تصادم دلالة الحسن النقل الصحيح المعتبر.(4/13)
حكم الماء الذي تخالطه مادة الكلور
السؤال
إذا تغير لون الماء الموجود في البركة بمادة الكلور مثلاً، فهل هذا الماء طهور؟
الجواب
إذا وجد طعم الكلور في البركة أو رائحته أو لونه، فإنه يحكم بكون الماء طاهراً غير طهور، والله تعالى أعلم.(4/14)
اعتبار القلتين للفرق بين القليل والكثير عند الفقهاء
السؤال
نرجو إعادة الكلام على اعتبار القلتين فرقاً بين القليل والكثير؟
الجواب
قلنا: القلتان قدر معين من القلال التي تقل باليد، فإن بلغ الماء قلتين، بمعنى: أن هذا القدر الموجود في بركة أو في حوض أو في خزان إذا بلغ القلتين ثم وقعت فيه نجاسة فلم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، قلنا: الإجماع على أنه طهور، ويجوز أن يتطهر به، ولا حرج على المكلف في ذلك، فإن تغير فحكمه حكم ما غيره على التفصيل الذي سبق الإشارة إليه.(4/15)
الحكمة في عدم جواز تطهر الرجل بفضل طهور المرأة
السؤال
في مسألة إذا خلت المرأة بالماء، ما الحكمة في عدم جوازه في هذه الحالة فقط؟
الجواب
على الله الأمر، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، وليس هذا فقط، بل: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] أي حرج، فجاءت نكرة، والنكرة تفيد العموم في أساليب العرب: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فنسأل الله أن يرزقنا التسليم، فالتسليم هو: الإسلام، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن الإسلام هو الاستسلام لله.
فمن استسلامك لله إذا جاءك الخبر أن تقول: سمعت وأطعت كما قال أبو هريرة لـ ابن عباس: (يا ابن أخي! إذا سمعت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال) بمجرد ما يصح الخبر ضع رأسك في التراب وقل: سمعت وأطعت غفرانك ربنا وإليك المصير.
وسبحان الله ما سلم عبد لنص كتاب أو سنة إلا جعل الله له فرجاً ومخرجاً، ولذلك شق على الصحابة قول الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] وعظم عليهم هذا الأمر؛ لأن قلوبهم تعامل الله وتعبده، فخافوا مما أكنوا ومما أظهروا أن يحاسبهم الله به، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! إن الله يقول كذا وكذا، -فشق عليهم الأمر- فقال صلوات الله وسلامه عليه: ما زدتم على ما قالت بنو إسرائيل) يعني: كونكم تعترضون وتستثقلون هذا الحكم على أنفسكم، ما يجعلكم أنتم وبني إسرائيل إلا سواء، فقال: (قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فنزل جبريل من السماء بالتخفيف والتسهيل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت) كما في الصحيح.
إذاً: إذا جاءك الحكم وقيل لك: يا فلان لا يجوز؛ لأن الله قال أو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقل: سمعت وأطعت، ولا تزيد ولا تنقص على هذه الكلمة، وبإذن الله سيجعل الله لك فرجاً ومخرجاً.
ولكن ما أن يقول العبد -والعياذ بالله-: كيف هذا؟ لا ما يمكن! كيف يفتيك العالم الفلاني بعدم الجواز؟ هذا ما نقبله!! فيرد السنة والنقل بالعقل فهذا هو العار والشنار وخزي الدنيا والآخرة، وربما أفضى إلى النار وبئس القرار.
لا يجوز تحكيم الأهواء والآراء في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بل بمجرد ما يأتيك الشيء استسلم لله، فإن الاستسلام مظنة الفرج، ألا ترى إبراهيم عليه السلام قال الله عنه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] استسلم لأمر الله، ما قال: يا رب! كيف أقتل ابني فلذة كبدي؟ ولكن جاء الأمر فقال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فجاء الابن الصالح: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] إذا كان الله أمر فأنا مستسلم، حتى ورد في الخبر أنه قال: يا أبت أكفأني على وجهي، حتى لا تدرك عطف الأبوة وحنان الأب فلا تأتمر بأمر الله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] استسلم لله، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:103 - 105].
إذاً التسليم هو مظنة الفرج، وأما كون الإنسان يحكم رأيه فهذا ليس بإيمان، وكون الإنسان تأتيه السنة فيحكم رأيه، ويقول: الذي يوافق العقل نعمل به، والذي يصادمه لا نعمل به، كيف هذا! ما يمكن!! كيف ما يجوز؟ لا، كيف يحل؟ كيف يجب؟ هذا كله -والعياذ بالله- عدم تسليم لله ورسوله.
يقول بعض السلف: (لا يؤمن على الرجل إذا ترك سنة أن يهلك)، يعني: في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قال أبو بكر: (والله لا يبلغني شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا عملت به؛ إني أخاف إن تركت شيئاً من سنته أن أضل) صلوات الله وسلامه عليه.
فإذاً التسليم والمتابعة المجردة والالتزام هو الهداية وهو التوفيق والسعادة والرحمة؛ لأن الله يقول: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] اتبعوه في كل ما جاءكم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغتسل من فضل المرأة) إذاً لا أغتسل والمرأة المؤمنة لا تقول: الإسلام يفضل الرجل على المرأة؟! بل تقول: الله هو الحكم العدل الذي هو أعلم بعباده، وأحكم في خلقه، فرغمت أنوف الكفار الذين يدعون أن الإسلام يفرق بين الرجل والمرأة، أبداً بل نحن راضون مسلِّمون، هذا هو الإيمان، وعندها تكون الرحمة والرضا ويكون التوفيق وانشراح الصدر.
ويا لله! هناك أقوام بمجرد ما تبلغهم السنة يطيرون بها فرحاً، والناس في السنن على أحوال ومراتب، أعظمها وأجلها -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- من تتشوق نفسه إلى معرفة السنة.
فإذا بلغك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: الحمد لله الذي بلغني معرفة هذه السنة.
الأمر الثاني: تسأل الله المعونة في امتثال أمره واتباعه صلوات الله وسلامه عليه، فتجد نفسك تتشوق للخير، ولا تزال تعمل بالأحاديث والسنن، حتى تكتب من أهل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولئك القوم الذين وجوههم ناضرة في الدنيا والآخرة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يحشرنا وإياكم في زمرتهم.
فالمقصود: أن الواجب علينا أن نسلم، ولا داعي للبحث عن العلل، وآراء الرجال، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون، وعقل ناقص لا يستطيع أن يعرف الحكم والأسرار من الله العظيم الكامل جل جلاله وتقدست أسماؤه، فليس لنا إلا الرضا والتسليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(4/16)
شرح زاد المستقنع - أحكام المياه [3]
الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما استثنى الشرع تحريمه، أو غلب أمر ظاهر على الأصل فينتقل من الإباحة إلى التحريم.
والأصل في الماء أنه طهور إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة جامدة أو مائعة، فإنه حينئذ ينجس ويحرم استعماله.(5/1)
الماء النجس
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:(5/2)
الأحوال التي يحكم فيها بنجاسة الماء
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والنجس ما تغير بنجاسة].
هذا النوع الثالث من أنواع المياه: وقد تقدم معنا: الماء الطهور، والماء الطاهر، وهنا: الماء النجس، ولابد من الحديث عن هذا النوع؛ لأن الطهارة لا تصح به، ولأنه لا يمكن للمكلف أن يعرف الطهور إلا إذا حفظه من النجاسة.
والنجاسة: أصلها القذر، يقال: نجس الشيء ينجس فهو نجس، إذا كان مستقذراً، والمراد بها نجاسةٌ مخصوصة، وهي التي حكم الشرع بكونها نجاسة؛ ولذلك لابد للمكلّف من معرفة المياه المتنجسة والمياه النجسة.
وقبل أن نبدأ الحديث عن أحكام الماء النجس، أحب أن أمهد بتنبيه، وهو أن هناك مائعٌ نجسٌ في أصله، وهناك مائعٌ متنجس.
فالمائع النجس: هو الذي أصله نجس، كأن يكون مستخلصاً من شيءٍ نجس، كزيوت الميتة، فلو أُخذَ شحمها وأذيب، فإن المائع المستخلص -وهو الودك- يعتبر نجساً، أي: أن عينه نجسة، وهكذا البول فإن عينه نجسة.
أما النوع الثاني: وهو المتنجس، فإن أصله طاهر، ولكن وقعت فيه نجاسةٌ أوجبت نقله في الحكم من كونه طاهراً إلى كونه نجساً.
وسنتكلم -إن شاء الله- عن ماءٍ تأثر بالنجاسة، وحُكمَ بكونه نجساً، وعلى هذا فإننا نحتاج إلى معرفة متى يُحكم بانتقال الماء من كونه طهوراً إلى كونه نجساً.
فقال رحمه الله: (والنجس ما تغير بنجاسة).
والماء النجس ما تغير بنجاسة: أي أن أصله طاهر، مثالُ ذلك: لو أخذت إناءً فيه ماءٌ من بئر فإنه ماءٌ طهور، فإذا تغير بنجاسةٍ فإنه يُحكم بتغيره إذا تغير لونه أو طعمه أو رائحته؛ مثلاً: بال فيه صبيٌ فوجدت لون الماء قد تغير بلون البول، أو تغير بطعم البول، أو رائحة البول في الماء، فإذا وجدت أحد هذه الأوصاف الثلاثة حكمت بكون هذا الماء قد انتقل من كونه طهوراً إلى كونه نجساً، ويحكم بنجاسته؛ لأن النجاسة دخلت عليه فهي نجاسةٌ عارضة؛ ومن ثم لا يجوز أن يتوضأ بهذا الماء؛ لأنه لا يزيل خبثاً ولا يرفع حدثاً، فلا يتوضأ به ولا يُغتَسلُ به من الجنابة، ولا ينظف به من الخارج من بولٍ أو غائط.
فكل ماءٍ وقعت فيه نجاسة وغيرت أحد الأوصاف الثلاثة حكم بكونها مؤثرة، سواءً كانت مائعة كالبول أو جامدة كالعذرة، فحينئذٍ يحكم بكون الماء نجساً.
قال رحمه الله: [أو لاقاها وهو يسير].
تقدم معنا أن العلماء رحمهم الله منهم من يقول: الماء ينقسم إلى قليلٍ وكثير، أو كثيرٍ ويسير، فعندهم الكثير ما بلغ القلتين وجاوزها، واليسير: ما كان دون القلتين، فكلٌ ماءٍ كان دون القلتين عند من يرى اعتبار القلتين، بمجرد أن تقع فيه النجاسة يحكم بكونه نجساً، فالماء الطهور يحكم بنجاسته في إحدى حالتين: إما أن يكون كثيراً تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة، أو يكون قليلاً ولم يتغير، فإن القليل بمجرد أن تقع فيه النجاسة يحكم بكونه متنجساً، هذا في مذهب من يرى القلتين.
أما المذهب الصحيح وهو اختيار شيخ الإسلام وجمع من المحققين أنه لا فرق بين القليل والكثير، وأن المهم هو تغير الماء بالنجاسة لوناً أو طعماً أو رائحة، لكن المصنف يرجح مذهب القلتين، والصحيح كما قلنا: أن المهم تغير اللون أو الطعم أو الرائحة.
الخلاصة: أنه لا يحكم بنجاسة ماءٍ إلا إذا وجدنا لون النجاسة أو طعمها أو ريحها في ذلك الماء.
قال رحمه الله: [أو انفصل عن محل نجاسةٍ قبل زوالها].
هذا الذي يسميه العلماء: غسالة النجاسة، فإذا وقعت على الثوب قطرةٌ من بول فصبّ الإنسان الماء على هذه البقعة، فالماء المصبوب إذا أذهب هذه النجاسة وكان كثيراً ولم يتغير فالمذهب أنه طاهر كالغسلة الأخيرة في إزالة النجس وقد تقدم في الكلام عن الماء الطاهر؛ لكن لو صبت الغسلة الأولى وبقي أثر النجاسةِ في المحل حكمنا على الماء الذي صُبّ أنه متنجس؛ لأنه لو كان طاهراً لأثر في عين النجاسة ولأزالها ولم يبق لها أثراً.
فإذا صُبّ الماء على نجاسةٍ، وبقيت بعد الماء المصبوب، فإن الماء المخالط للنجاسة نجس، وهذه صور يمثل بها العلماء، والذي يهمنا هو أنه إذا كان الماء طهوراً وتغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو نجس، وإذا لم يتغير أحد أوصافه فهو طهورٌ أو طاهر.(5/3)
مسألة زوال النجاسة عن الماء ورجوعه إلى حالته الأولى
قال المصنف رحمه الله: [فإن أضيف إلى الماء النجس طهور كثير].
تقدم أن الماء يتنجس إذا وقعت فيه نجاسة، وتبقى عندنا مسألة وهي: كيفية زوال النجاسة ورجوع الماء إلى حالته الأولى من كونه طهوراً أو طاهراً، توضيح ذلك: قلنا: إن الماء في الأصل طهور؛ فإن تغير بنجسٍ فهو نجس، وإن تغير بطاهرٍ فهو طاهر، فإذا عرفنا أن الماء ينتقل من كونه طهوراً إلى كونه نجساً بالنجاسة.
فقد يسألك سائل ويقول: أنت حكمت بكون الماء الطهور صار نجساً لوجود أثر النجاسة، أرأيت لو أن أثر النجاسة هذا زال بحرارة الشمسٍ، أو صببنا ماءً كثيراً على الماء المتنجس حتى غالب النجاسة فذهب لونها وطعمها وريحها، هل نحكم برجوع الماء إلى حالته الأولى من كونه طهوراً؟! فقال رحمه الله: [فإن أضيف إلى الماء النجس طهورٌ كثير غير تراب ونحوه، أو زال تغير النجس الكثير بنفسه، أو نزح منه فبقي بعده كثيرٌ غير متغير طهر].
فالماء إذا تنجس بنجاسة، ثم صُبّ عليه ماء طهورٌ حتى يبق معه أثرٌ للنجاسة، فإنه في هذه الحالة نحكم بكونه طهوراً عاد لحالته الأولى.
والمهم عندنا تأثر الماء بالنجاسة، فإذا أثرت النجاسة في الماء فهو متنجس، وإن صُبّ على الماء المتنجس طهورٌ كثير حتى رجع إلى حالته الأولى وغلب الطهور النجس بحيث لم يوجد أثرٌ للنجاسة حكمنا بكون الماء طهوراً؛ لأن القاعدة تقول: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فالحكم: هو النجاسة، والعلة: هي وجود أثر النجاسة، فإذا وجدت في الماء أثر النجاسة حكمت بكونه متنجساً، وإذا زال أثر النجاسة عن الماء حكمت بكونه طاهراً وراجعاً إلى أصله.
فمثل لك -رحمه الله- بصب الطهور الكثير، فلو أن إنساناً عنده ماءٌ قليل قدر الكأس، ووضعه في إناء، فجاءت قطرة من بول وأثرت في هذه الكأس أو الكأسين، ثم أراد أن يطهر هذا الماء المتنجس فصب -مثلاً- إلى منتصف الإناء حتى ذهب لون النجاسة وطعمها وريحها، فنقول: هذا الماء انتقل من كونه نجساً إلى كونه طهوراً، وهذا من رحمة الله جل وعلا ولطفه بالعباد.
وهذا بشرط أن يكون الماء الذي صُبّ طهوراً، أما إذا كان الماء الذي صبه طاهراً فقد انتقل الماء من كونه نجساً إلى كونه طاهراً.(5/4)
مسألة الشك في نجاسة الماء أو طهارته
قال المصنف رحمه الله: [وإن شك في نجاسة ماءٍ أو غيره، أو طهارته بنى على اليقين].
بعد أن ذكر المصنف أقسام المياه سيذكر الآن مسائل تعمُّ بها البلوى، وهي مسائل الشبهة والشك في طهارة الشيء ونجاسته، ومن عادة أهل العلم رحمةُ الله عليهم أنهم يذكرون مسائل الشك في الطهارة والحدث في كتاب الطهارة، ويجعلون هذه المسائل قاعدةً عامة.
والأصل في هذه المسائل: أن الشريعة كلفت المكلف بما يستيقنه أو يغلب على ظنه، أما ما شك فيه وتوهم فهذا لا يبنى عليه حكم.
وكثيراً ما يسأل الناس: عندي إناء فيه ماء طهور، ثم شككت، هل أصابته نجاسة صبي كان يلعب بجواره فهو نجس أو لم تصبه فهو طهور؟!! وهذه مسائل يحتاج إليها الناس كثيراً وتعمُّ بها البلوى؛ فإن الإنسان قد يكون في غرفة فيها فراش، وعليها صبيان يلعبون أو يعبثون، ثم يشكُ في كون نجاسة أحدهم أصابت ذلك الفراش فلا يصح أن يصلي عليه، أم أن الفراش طاهر فيجوز له أن يصلي عليه؟! إذاً فالناس يحتاجون إلى معرفة أحكام الشك الذي يطرأ على الأشياء الطاهرة، فقال رحمه الله: (وإن شك في نجاسة ماء أو غيره أو طهارته بنى على اليقين).
قال: (وإن شك في نجاسة ماء أو غيره) أي شيء حتى ولو كان طعاماً، فلو كان عندك كأسٌ من الماء وشككت هل هذا الكأس طاهر أم نجس؟ ترجع إلى اليقين، والأصل في الأشياء أنها طاهرة حتى يدل الدليل على نجاستها، فإذا كان عند الإنسان فراش، وكان الصبيان يلعبون على هذا الفراش وخرج عنهم، ثم جاء بعد يوم أو يومين وشك: هل بال أحدهم في ثوبه ثم جلس على هذا الفراش ونجسه؟ نقول: اليقين أن الفراش طاهر، والقاعدة تقول: اليقين لا يزال بالشك هذه قاعدة من قواعد الشريعة، وهي إحدى القواعد الخمس المتفق عليها: الأولى منها: (الأمور بمقاصدها).
والثانية: (اليقين لا يُزال بالشك).
والثالثة: (المشقة تجلب التيسير).
والرابعة: (الضرر يزال).
والخامسة: (العادة محكمة).
وكل قاعدة منها يندرج تحتها من المسائل والفروع ما لا يحصى كثرة، وقد يندرج تحت القاعدة الواحدة ما لا يقل عن مائة مسألة من مسائل الفقه، فمنها مسألتنا التي معنا في قاعدة: (اليقين لا يزال بالشك).
هذه القاعدة التي فرعنا عليها الحكم الذي معنا دليلها ما جاء من حديث عبد الله بن زيد أنه قال: (شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً).
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى إليه بعض الصحابة، أن الرجل يقوم في الصلاة، ثم يأتيه الشيطان ويقول له: خرج منك ريح، انتقض وضوءك، أنت لست على طهارة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً).
يعني: حتى يتيقن الحدث كما تيقن الطهارة، فدل هذا على أن اليقين لا يزال بالشك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره: (إذا صلى أحدُكم فلم يدرِ واحدةً صلى أو اثنتين، فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن اثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدرِ أثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث، فإن لم يدرِ أأربعاً صلى أو خمساً فليبن على أربع، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم) وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر اليقين وألغى الشك.
ولذلك العلماء أخذوا من الحديث قاعدة وقالوا: (اليقين لا يزال بالشك)، أي: الشيء الذي أنت على طمأنينة به ويقين به لا يزيله الشك كحديث النفس والوسوسة، فأنت في الفراش على يقين من أن فراش الغرفة طاهر، ولم تجد أثر البول على الفراش فتقول: (اليقين) وهو كون الفراش طاهراً (لا يزال بالشك) وهو وسوسة النفس ببول الصبي عليه، وهذا أصل عظيم يتفرع عليه من المسائل ما لا يحصى كثرة، وسيمر علينا -إن شاء الله- في كتب العبادات والمعاملات.
فهنا إذا شك في طهارة شيء ونجاسته بنى على اليقين، فلو أن الثوب كان معلقاً ثم تطاير بولٌ في مكان قريب من الثوب، وشككت هل الثوب أصابه البول أو لم يصبه، فاليقين أن الثوب طاهر، والشك أنه نجس، فتقول: (اليقين) وهو طهارة الثوب (لا يزال بالشك) وهذا من رحمة الله.
فلو أن الناس فُتح عليهم باب الوسوسة ما استطاع أحدٌ أن يصلي، ولوجدوا في ذلك من الحرج والضيق والمشقة ما الله به عليم، حتى ولو كان الثوب فيه نجاسة حقيقة وأنت لم تدرِ فإن صلاتك تصح وتجزئك عند الله جل وعلا، وهذا من رحمة الله عز وجل.
فقال المصنف رحمه الله: (ومن شك في نجاسة ماء أو غيره أو طهارته بنى على اليقين) فإذا شككت في الماء من كونه طاهراً أو نجساً، أو شككت في الطعام من كونه طاهراً أو نجساً بنيت على اليقين من كونه طاهراً، واستبحت أكله وشربه حتى تستيقن النجاسة.(5/5)
مسألة اشتباه الطهور بالنجس
قال المصنف رحمه الله: [وإن اشتبه طهورٌ بنجس حَرُمَ استعمالهما].
قبل أن نبدأ بهذه المسألة الثانية ننبه على مسألةٍ أخرى: تقدم أن من شك في شيءٍ رجع إلى اليقين، لكن لو كان هذا الماء نجساً ثم شككت: هل زالت نجاسته بالشمس وتبخرت أم أنه لا زال نجساً، فاليقين هنا أنه نجس، والشك في كونه طاهراً، فنبقي اليقين من كونه نجساً، ونلغي الشك من طهارته، وهذا أصل عام.
فلو أصاب الثوب نجاسة، ثم جاءك حديث نفس وشككت: هل غسلت الثوب فهو طاهر، أو لم تغسله فهو نجس؟ فالأصل واليقين أنه نجس، فنقول: (اليقين) وهو كونه نجساً (لا يزال بالشك) وهو كونه طاهراً.
وهذا أصل عام يسري في كثيرٍ من الأمور، وكثير من المسائل وأحكام القضاء الموجودة في الفقه الإسلامي مفرعة على هذه القاعدة العظيمة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) وأصلها قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]؛ لأن الأصل في المتهم أنه بريء حتى يثبت ما يُدانُ به، إلى غير ذلك من المسائل التي لا تحصى كثرة، في مسألة الشك في طهارة الشيء ونجاسته.
فإذا شككت في شيءٍ رجعت إلى الأصل، فإذا كان عندك شيئان: أحدهما طاهر، والثاني: نجس، أو عندك ماءٌ طهور يجوز أن تتوضأ به، وماءٌ نجس، ولكن لا تستطيع أن تعرف الماء الطهور من الماء النجس ففي هذه الحالة هل نقول: يترك الاثنين ويتيمم، أو نقول: يتوضأ بأحدهما ويصلي؟ إن قلنا: يتوضأ بأحدهما ويصلي فإن اليقين أن ذمّته معلقةٌ بالصلاة، فإذا توضأ بأحدهما احتمل أنه توضأ بماءٍ نجس، وحينئذٍ لا يكون قد أبرأ ذمته التي هي معلقةٌ باليقين، إذ كيف يبرئها بأمرٍ مشكوك؟! ولذلك لا يصح ألبتة أن نقول له: يتخير واحداً منهما.
بعضهم يقول: يجتهد ويأخذ أقواهما وأقربهما من الطهور، ولكن ليست مسألتنا فيما فيه مدخل للاجتهاد إنما مسألتنا في سطلين أو إناءين لا تستطيع أن تعرف النجس من الطاهر منهما ألبتة، إذ الاشتباه عند العلماء يعني: وجود شيئين كلٌ منهما يشبه الآخر بحيث لا يمكن التمييز؛ لكن لو استطعت أن تميز بالرائحة أو باللون أو بالطعم فالقدرة على اليقين تمنع من الشك، ومسألتنا هي فيما إذا تعذر التمييز.
جاءك رجل وقال لك: أنت درست كتاب الطهارة، وعندي سطلا ماء، أحدهما طهور والثاني نجس، ولا أستطيع أن أعرف الطهور من النجس، وأريد أن أصلي، فبأيهما أتوضأ؟ إن قلت له: توضأ منهما فيحتمل أن يتوضأ بالنجس أولاً وبالطهور بعده، فيكون وضوءه بالطهور بعضه رافع لنجاسة البدن بالذي قبله، وإن كان توضأ بالطهور أولاً ثم بالنجس بعده فهذه مصيبة؛ لأنه سيتنجس ويصلي وهو متنجس، ولذلك لا يستقيم أن يقال له: توضأ بواحدٍ منهما أو بهما معاً، وإنما يقال له: اتركهما واعدل إلى التيمم.
فلو قال قائل: كيف يتيمم والله يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] وهذا قد وجد الماء؟! نقول: إن الشرع قال: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) أي: ماءً طهوراً تبرأ به الذمة، وهذا ماءٌ لا تبرأ به الذمة، فأصبح وجوده وعدمه على حدٍ سواء، ولذلك يسمونه العجز الحكمي، حيث يكون الماء موجوداً ولكن لا تستطيع أن تستعمله، فيعتبر الماء كأنه مفقود حكماً.
وقال بعض العلماء: يخلطهما مع بعضهما، وعلى كل حال: فإن المذهب المعتبر أنه يترك كلا المائين ويتيمم.
وأصل هذا مسألة أصولية من أمثلتها: إذا اختلطت أخته بأجنبية أو ميتة بمذكاة حرمتا، فلو كان عنده شاتان: إحداهما مذكاة ذكاة شرعية، والثانية: ذُكر عليها اسم غير الله، فهي فسق ورجس لا يجوز أكلها، وكلا الشاتين شكلهما واحد، ومكانهما واحد، فالتبس عليه فلم يستطع أن يعرف أيتهما المذكاة؟ فإننا نقول: حرمت كلا الشاتين؛ لأنه في مظنة أن يقع في المحرم، وهذه المسألة قررها غير واحد من أئمة الأصول ومنهم الغزالي في المستصفى، وكذلك الإمام ابن قدامة في الروضة.
كذلك هنا: إذا اختلط الماء الطهور بالنجس، نقول: اتركهما واعدل إلى التيمم.
(وإن اشتبه طهورٌ بنجس حرم استعمالهما ولم يتحر).
لأنه يؤدي إلى تنجيس بدنه واستباحة الصلاة على وجهٍ لا تبرأ به الذمة.
قال رحمه الله: [ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما].
قال بعض العلماء: يشترط في التيمم أن يريقهما حتى يصير غير واجد للماء، وصورة المسألة: إذا كنت في سفر وليس عندك إلا وعاء فيه ماء طهور، ووعاء فيه ماء نجس ولا تستطيع التمييز؛ أما لو وجدت غيرهما فإنك تتركهما وتتوضأ بالغير، لكن محل الإشكال هنا إذا لم يوجد ماء غير هذا الماء المشتبه فيه، فتترك الاثنين وتتيمم، وقال بعض العلماء: يخلطهما.
ومذهب الخلط يصح إذا كان أحدهما طهوراً يغالب الآخر وأمكن تمييزه، لكن هنا لا يمكن التمييز؛ لأنه إذا خلطهما مع بعضهما ربما أنه يتنجس أحدهما في الآخر؛ لأنه إذا وردت النجاسة على الطهور نجسته، وإذا ورد الطهور على النجاسة طهرها، وأنت لا تستطيع في هذا الحالة أن تفعل كلا الأمرين، لا تورد هذا على هذا، ولا هذا على هذا، فتلغي الاثنين كأنهما غير موجودين، ثم تتيمم، وهذا هو المذهب المعتبر.(5/6)
مسألة اشتباه الطهور بالطاهر من الماء
قال المصنف رحمه الله: [وإن اشتبه بطاهرٍ توضأ منهما وضوءً واحداً].
هذه مسألة أخرى: عندك سطلان، أحدهما فيه ماءٌ طهور، والثاني فيه ماءٌ طاهر.
فإن الماء الطهور هو وحده الذي يصح به الغسل والوضوء، أما الطاهر -كما تقدم معنا- فإنه لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً، فهل إذا كان أحدهما طهوراً، والثاني طاهراًَ، يأخذ نفس الحكم السابق؟!
الجواب
لا.
فإن الطاهر لا ينجس البدن، فنقول له: توضأ من هذا غرفة، ومن هذا غرفة، فيأخذ الغرفة الأولى من أحدهما ويتمضمض، ثم يأخذ الغرفة الثانية من الآخر ويتمضمض، ثم يأخذ غرفةً من أحدهما ويغسل بها وجهه، ثم يأخذ غرفة من الآخر ويغسل بها وجهه، ثم يأخذ غرفةً أخرى لليد وبعدها للرأس وبعدها للرجلين.
ويكون على هذا قد تأكد أنه قد توضأ بماءٍ طهور؛ لأن الماء الموجود إما طهور وإما طاهر، فإذا توضأ منهما فقد جزم بكون الماء الطهور قد أصاب بدنه، وهكذا في الغسل يصب ويفرغ عليه من الإناءين.
ويشترط في ذلك تعميم العضو، فبكل غرفة يعمم العضو، إن كان الوجه استوعب الوجه بكل إناءٍ منه غرفة، وإن كانت اليد استوعب اليد وهكذا.
قال رحمه الله: [من هذا غرفة ومن هذا غرفة، وصلى صلاةً واحدة].
(وصلى صلاةً واحدة) لأنه يكون بعد انتهائه من الوضوء على هذه الصورة قد تطهر، ولا يجب عليه صلاتان، قال بعضهم: يتوضأ من هذا ويصلي، ثم يتوضأ من الثاني ويصلي، والصحيح: أنه يتوضأ من هذا غرفة ومن هذا غرفة حتى يتم الوضوء ثم يصلي صلاةً واحدة.(5/7)
مسألة اشتباه الطاهر بالنجس من الثياب
قال المصنف رحمه الله: [وإن اشتبهت ثيابٌ طاهرةٌ بنجسةٍ أو محرمة].
هذه مسألة ثانية: أراد إنسانٌ أن يصلي، ومن شرط صحة الصلاة سترُ العورة، وعنده ثوبان أحدهما: نجس، والثاني: طاهر، ولا يستطيع أن يعرف الثوب النجس من الثوب الطاهر، والتبس عليه ذلك، فلو قال لك قائل: ما يمكن هذا! لأنه إذا وقعت النجاسة -مثلاً- على ثوبه فإنه يستطيع أن ينظر إلى مكان النجاسة ويعرف أن هذا نجس وأن هذا طاهر.
فنقول له: افرض أنه في صلاة الفجر في ظلمة، ليس عنده ما يستطيع أن يميز به الثوب الطاهر من الثوب النجس، فما الحكم؟! في هذه الحالة قال العلماء: يصلي بعدد النجس ويزيد صلاة، فلو كان عنده ثلاثة أثواب، واحد منها نجس، يصلي في ثوبين، فيلبس أحدهما ويصلي، ثم يلبس الآخر ويصلي، فإنه إذا كان الأول نجساً فإن الثاني طاهر بيقين، فلو فرضنا أن عدد الثياب خمسة والنجس منها ثوبان فإنه يصلي ثلاث صلوات؛ لأني النجس ثوبان، فيصلي في كل ثوبٍ، ثم إذا بلغ المرة الثالثة يكون قد تحقق أنه قد أدى الصلاة بطهارةٍ كاملة.
قال رحمه الله: [صلى في كل ثوبٍ صلاةً بعدد النجس أو المحرم وزاد صلاة].
(أو المحرم) كأن يكون عنده ثوب حرير، ولا يستطيع أن يميز أن هذا ثوب حرير، كأن يكون في ظلام لا يعرف هل هذا حرير أو غيره، ففي هذه الحالة يصلي بعدد النجس أو المحرم ويزيد صلاةً واحدة.(5/8)
الأسئلة(5/9)
إشكال في مسألة اشتباه الطهور بالنجس
السؤال
مسألة: (إن اشتبه طهورٌ بنجس) كيف يكون ذلك الاشتباه والنجس إنما يعرف إما بلونه أو طعمه أو رائحته؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذا سؤالٌ جيد، وتعلمون أننا قلنا: إن المذهب الراجح هو تغير اللون والطعم والرائحة، وبناء على ذلك فإن المصنف أورد هذه المسألة على المذهب الثاني، وهو الذي يرى: أن مجرد وقوع النجاسة في القليل والكثير يوجب الحكم بنجاسة الماء الطهور، وبناءً على مذهب المصنف: لو كان هناك سطل دون القلتين فأصابته نجاسة حكم بنجاسته، فلا يمكن التمييز فيه، ففي هذه الصورة يكون من جنس ما لا يمكن تمييزه، ويصح تفنيد المصنف وذكره لهذه المسألة على الأصل الذي درج عليه والله تعالى أعلم(5/10)
وجوب الغسل وإراقة الماء من ولوغ الكلب
السؤال
على القول بأن العبرة في نجاسة الماء وطهوريته بالتغير لا بالقلتين، فما قولكم -حفظكم الله- في هذه الصورة: قدرٌ فيه ماء، ولغ فيه كلبٌ، فإن قلنا: هو طهور، فكيف نجمع بينه وبين حديث الإراقة من ولوغ الكلب، وإن قلنا: هو نجس، خالفنا الإجماع؟
الجواب
هذا سؤالٌ جيد، وهو إيراد أورده أصحاب مذهب القلتين على مذهب العلماء الذين يعتبرون التغير، والجواب يسير سهل، فقد قالوا: إن الحكم على الماء بالإراقة كما في رواية مسلم في حديث الكلب حكمٌ تعبدي، بدليل أنه أُمر بالتسبيع، فلو كان لنجاسته لأمر بالتثليث ولم يؤمر بالتسبيع؛ ولذلك يقولون: إنه حكمه تعبدي، ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً) فدل على أن النجاسة تغسل ثلاثاً، فكونه يأمر في ولوغ الكلب بغسله سبعاً، دل على أن حكم المسألة تعبدي.
والقاعدة عند الأصوليين: أن الإيرادات على الأصل بالمسائل التعبدية لا تصح، أي أن الأصل معتبر؛ ولكن ما كان تعبدياً فلا يرد على الأصل، وبناءً على ذلك يعتبر هذا الاعتراض غير مؤثر في حكم المسألة، والله تعالى أعلم.(5/11)
حكم المواد البترولية الخارجة من الأرض
السؤال
ما حكم المواد البترولية مثل الزيوت والبنزين والشحم وغيرها إذا وقعت على الثوب أو على مكان الصلاة أو كانت في اليد وغيرها، هل هي من النجاسات التي يجب التطهر منها؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالمواد البترولية طاهرة كلها، وليس فيها شيءٌ نجس، وإنما التبس على بعض طلاب العلم ما ذُكِرَ أن أصلها من الميتات القديمة، وأنها ضغطت في الأرض حتى صارت بترولاً، والصحيح: أن هذا الكلام ليس بمعتبرٍ شرعاً، بل هي كنزٌ من كنوز الله التي أودعها في الأرض، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه: (لا تقوم الساعة حتى تخرج الأرض كنوزها) ولو كانت الحيوانات الميتة القديمة هي التي نشأ منها البترول، لوجدنا البترول تحت المجازر.
ولذلك لا يعتبر هذا دليلاً وإنما هو من رجم الغيب وهذا من تعبيرات الكفار، فإنهم لا يؤمنون بوجود المؤثر فيقولون: منذُ ملايين السنين كانت هناك دواب كالديناصورات ونحوها فانقرضت مع فعل الزمن، ثم ضُغطت في الأرض، سبحان الله! ما أكفر الإنسان! كل شيء يمكن أن يقال إلا: لا إله إلا الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] يعطيهم المؤن والمنن وبدلاً من أن يقولوا: هي كنزٌ من الله يقولون: من ميتة الديناصور، ومن ضغط الأرض عليها منذ ملايين السنين، ثم ملايين السنين متى هذا؟ يعني: لو جئت تحسب ما بينك وبين نوح هل يبلغ ملايين السنين؟ كل ذلك حساب وضرب في الظنون كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام:116] ولكن المؤمن الصالح الموفق يقولها بكل عقيدةٍ وإيمان: هذا كنزٌ أوجدهُ الله وأسكنه في أرضه، وهو العليم بخلقه، فإننا نجده في البحار حيث لا دواب ولا غيرها، ولكنه كنزٌ من الله جل وعلا جعله فيها.
وهذا الكنز الأصل طهارته حتى يدل الدليل على نجاسته، فجميع مواد البترول وما يشتق منها طاهرة، وليست بنجسة سواءً أصابت الثوب أو البدن أو المكان لا تؤثر في ذلك ألبتة، والله تعالى أعلم.(5/12)
الفرق بين اشتباه الماء الطاهر بالنجس واشتباه الثوب الطاهر بالنجس
السؤال
فضيلة الشيخ حفظكم الله قلتم: إنه لو كان عند أحدنا ثياب واختلطت النجسة منها بالطاهرة أنه يصلي بعدد النجس ويزيد صلاة، السؤال: لماذا لا يجري هذا الأمر باختلاط الماء الطاهر بالنجس؟
الجواب
بينا أنه في حال اختلاط الماء الطاهر بالنجس لو أمرناه أن يصلي بكل ماء على حدة لأدى ذلك إلى الشك بكونه متنجساً؛ لأنه سيصلي بنجاسةٍ قطعاً، بمعنى أنه سينجس بدنه، فلا يدري هل الأول هو النجس أم الثاني هو النجس؟ فإن تنجس في الأول وصلى فإنه لم يصلِّ، فتكون صلاته بالطهور الثاني غير معتبرة، وتوضيح ذلك: أننا لو قلنا: توضأ من أحدهما ثم صلِّ، ثم توضأ من الثاني وصلِّ، كما قلنا في الثياب لأدى ذلك إلى ما يلي: أنه لابد أن يبدأ إما بالنجس أو بالطهور، فإن ابتدأ بالنجس وتوضأ به، فإنه لا تصح صلاته الأولى، فإن توضأ بعده بالطهور؛ فإنه في هذه الحالة يكون الطهور أثناء صبه على اليد مزيلاً للخبث لا رافعاً للحدث، فلا يستقيم وضوءه لا الأول ولا الثاني، هذا إذا تقدم النجس وتأخر الطهور، قالوا: فإذا أمرناه يحتمل أنه يفعل ذلك وبسبب هذا الاحتمال لا نجيز له، فلو فرضنا أنه توضأ بالطهور أولاً وصلى، ثم توضأ بالنجس بعده وصلى؛ فإنه ستبقى فيه النجاسة فينجس بدنه وثوبه، ومكانه بخلاف الثوب الذي تكون نجاسته قاصرة على المحل المتنجس دون البدن، والله تعالى أعلم.(5/13)
حكم من وجد المني على ثوبه
السؤال
سائل يقول: رجل نام ليلة السبت وهو متأكدٌ من طهارة ملابسه، ثم اكتشف يوم الأحد بعد العشاء أن على ملابسه الداخلية جنابة، فماذا يصنع في تلك الصلوات التي مرت عليه وهو نجس، وهو لا يعلم هل حصلت الجنابة ليلة السبت أو ليلة الأحد أفتونا وجزاكم الله خيرا؟ الجواب، أولاً: وصفك له بقوله: (وهو نجس)، غير صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمن لا ينجس) ولكن يقال: متنجس، يعني عنده ثوبٌ لابسه النجس، وهذا على القول: بأن المني نجس، والصحيح: أن المني طاهر، فلا يستقيم وصفه بالنجاسة ألبتة على ظاهر السنة.
وبناءً على ذلك: يرد السؤال: من وجد في نهارٍ أثر المني، وهو متأكد أن الليلة الماضية وهي السبت أو الأحد أو الإثنين أو الثلاثاء كان على غير جنابة، فأصح الأقوال عند العلماء، أن من وجد الجنابة في ثوبه فعليه أن يعيد من آخر نومةٍ نامها، فلو فرضنا أنه وجد أثر الجنابة في صلاة المغرب، فإنه إن نام الصبح ولم ينم بعد الصبح أعاد الصبح وما بعده، وإن نام الظهر ووجد الأثر المغرب وجب عليه قضاء العصر وحدها، فيغتسل ويقضي العصر، وهذا على قاعدة (اليقين لا يزال بالشك)، فإن اليقين في آخر نومة والشك فيما قبلها، فنبني على اليقين ونلغي الشك قبلها، والأصل فيه قبل ذلك أنه متطهر، وهذا على القاعدة التي ذكرناها والله تعالى أعلم.(5/14)
شرح زاد المستقنع - باب الآنية
الأصل في الأواني إباحة استعمالها واتخاذها إلا ما حرمه الشرع كآنية الفضة والذهب، والأصل في أواني الكفار الحل إلا إذا رأينا أمراً ظاهراً يقتضي عدم جوازها، كاستعمالها في النجاسة وطبخ الخنزير وغير ذلك، فيحرم علينا استعمالها، إلا إذا لم نجد غيرها فلنغسلها ونستعملها.(6/1)
أحكام الأواني
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الآنية] الباب: هو المنفذ بين الشيئين يتوصل به أحدهما إلى الآخر، من داخلٍ إلى خارج والعكس، قالوا: سُميت مباحث العلم أبواباً؛ لأن الإنسان يتوصل من خارج وهو: الجهل بها، إلى داخلٍ وهو: العلم بما فيها، فمن قرأ شيئاً من هذه الأبواب فقد أدرك العلم الذي فيها، كمن دخل البيت فإنه يدرك ما فيه، ويرتفق بمنافعه.
(باب الآنية) واحدها إناءٌ، وجمعها رحمة الله عليه لأن الأواني منها ما أباحه الشرع، ومنها ما حرمه الشرع، فناسب أن يقول: (باب الآنية)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك أحكام الشريعة في الأواني، والسبب الذي يجعل العلماء يذكرون باب الآنية، ويتكلمون على مباحث الآنية في كتاب الطهارة: أن الطهارة تحتاج إلى ماء يُتطهر به، وصفةٍ تتم بها الطهارة، والماء الذي يتطهر الإنسان به يحتاج إلى وعاء يحمله فيه، فإنه قد يكون الماء طهوراً ولكن الإناء نجس، فهل يجوز أن يتوضأ الإنسان منه؟! وقد يكون الماء طهوراً، ولكنه في إناءٍ محرم كالمصنوع من الذهب والفضة، فهل يجوز أن يتطهر به؟ فإذاً لا بد من الكلام على أحكام الآنية؛ لأنها أوعية الماء الذي يُتطهر به.(6/2)
الأصل في الأواني الطهارة
قال المصنف رحمه الله: [كل إناء طاهر ولو ثميناً يباح اتخاذه واستعماله].
هذه قاعدة، فلو سألك سائل: ما هو الأصل في الأواني؟ تقول: الأصل أنها جائزة ومباحة، إذا كانت طاهرة ولو كانت ثمينة، فلو كان الإناء من الماس أو من الجواهر أو من غيرها من المعادن الثمينة النفيسة، فإنه يباح اتخاذه واستعماله، فلو أن إنساناً شرب في كأسٍ ثمينٍ من معدنٍ ثمين كالجواهر أو غيرها فإنه يباح له ذلك، فالأصل حلّ هذه؛ لأن الله يقول: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13].
فالأصل في هذه الأشياء أنها مسخرةٌ من الله جل وعلا لكي ينتفع بها الإنسان، تكريم من الله لبني آدم، فإذاً: الأصل في الإناء أنه يباح لك استعماله واتخاذه.
والاتخاذ يكون في البيت بأن يحفظ فيه الأشياء أو يجعله للزينة ونحو ذلك، فالأصل جواز ذلك ولا حرج فيه، هذا في الآنية.
وإذا كان الأصل في الآنية حتى الثمينة منها الإباحة فإنه ينتفع بها وعلى هذا يجوز الوضوء بها، فيجوز أن يتوضأ بآنية ولو كانت غالية الثمن، ما خلا ما استثناه الشرع، فالذي يستثنيه الشرع ويحكم بحرمة استعماله واتخاذه لا يجوز أن يتوضأ الإنسان به، ولا أن يستنجي، ولا أن يغتسل.(6/3)
حرمة استعمال أواني الذهب والفضة
[إلا آنية ذهبٍ وفضة ومضبب بهما].
(إلا آنية ذهبٍ) وهو المعدن المعروف، (وفضة ومضببٍ بهما) وآنية المضبب بهما.
أما: آنية الذهب والفضة فلا يجوز للإنسان أن يشرب في كأس ذهبٍ ولا كأس فضة، ولا يجوز له أن يأكل بملعقة ذهبٍ ولا فضة ولو كان أثنى، فإن الأنثى يباح لها الحلي للزينة، أما الاستعمال والأكل والشرب والاتخاذ والاغتسال من آنية الذهب والفضة فمحرم، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) وفي حديث الدارقطني: (الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جنهم) فإذاً من كبائر الذنوب: الأكل أو الشرب في آنية الذهب أو آنية الفضة، وكذلك لو اتخذ صحناً من ذهب أو صحناً من فضة وجعله للزينة في البيت أو نحو ذلك.
والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن حرمة الأكل والشرب من آنية الذهب والفضة مع أن الأكل فيها والشرب فيها من الحاجة، فلأن يحرم ما هو من مقام التحسينيات والكماليات الذي هو الزينة من باب أولى وأحرى.
فكون الشرع يحرم علينا أن نأكل أو نشرب في آنية الذهب والفضة يدلنا على أن اتخاذها دون استعمال أولى بالتحريم، وهذا -كما يقول العلماء رحمةُ الله عليهم- من باب التنبيه بالأعلى على ما هو أدنى منه؛ لأن نصوص الشريعة تنبه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، ولذلك يقولون: حرم النبي صلى الله عليه وسلم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وكلٌ من الأكل والشرب محتاجٌ إليه، فإن الأكل والشرب قد يصل إلى الاضطرار، فإذا منع الإنسان من أن يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة، فوضعها في بيته زينة أشد وأبلغ في التحريم، ولا يجوز له فعل هذا.
قال رحمه الله: [فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها ولو على أنثى].
أي: ولو كان الذي يشرب فيه من الإناث، فإن التحريم للأكل والشرب عام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإنها لهم في الدنيا -أي: للكفار- ولكم في الآخرة).
قال بعض العلماء: لا يؤمن على من أكل وشرب فيهما، وانتفع بالذهب والفضة بالأكل والشرب في صحافهما وآنيتهما أن يحرمه الله جل وعلا في الآخرة، كما حرم شارب الخمر -والعياذ بالله- خمر الآخرة بإدمانه عليها في الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية.
[وتصح الطهارة منها].
هنا مسألة: عند العلماء أن الشرع إذا نهى عن شيءٍ فهل يدل ذلك على نهيٍ فعل متضمن به، مثال ذلك: لو أن إنساناً أخذ إناءً من ذهب أو فضة ثم توضأ منه، أو جاء إلى صنبور فتوضأ منه وهو من الذهب أو الفضة، فهل يصح وضوءه وغسله أو لا؟! بعبارة أوضح: بما أنه لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة، فلو أني توضأت واغتسلت من إناء ذهبٍ أو إناء فضةٍ فللعلماء وجهان مشهوران: الوجه الأول: أن من توضأ من إناء الذهب والفضة صح وضوءه؛ لأن الله أمر بغسل الأعضاء، والوعاء منفصلٌ عن شرط الصحة وهو الوضوء، وهذا قول جمهور العلماء، واختاره غير واحدٍ من العلماء، أنه إذا توضأ أو اغتسل من إناء ذهبٍ أو فضة، فوضوءه وغسله صحيح.
الوجه الثاني: ذهب بعض العلماء -وهو قولٌ في مذهب الحنابلة- إلى أنه إذا توضأ أو اغتسل من إناء ذهبٍ أو فضةٍ فلا يصح وضوءه ولا غسله؛ لأنه فعل ما حرمَ عليه شرعاً، وهذا المحرم لا يوجب ثبوت العبادة الشرعية؛ لأن الشرع يقول له: لا تتوضأ من هذا الإناء فتوضأ من هذا الإناء، فلا تستباح العبادة الشرعية بمنهي عنه شرعاً، والصحيح أن الوضوء صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وهذا قد توضأ، فإن الأعضاء التي أُمِرَ بغسلها قد غسلها، ولكن نقول: هو آثم من جهة استعمال الإناء، وصلاته صحيحة لوقوع العبادة على وجهها المعتبر، فالجهة منفكة، وهذه قاعدة عند الأصوليين: (أنه إذا ورد النهي وانفك عن المنهي عنه في جهته لم يقتضِ ذلك البطلان) فإن الماء الذي توضأ به ماءٌ طهور، والعضو الذي غسله عضوٌ معتبرٌ شرعاً، فإذاً صحت عبادته وصح وضوءه.(6/4)
شروط اتخاذ الإناء المضبب بالفضة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [إلا ضبة يسيرة من فضةٍ لحاجة].
الضبة بالذهب والفضة تكون على أطراف الإناء أو الوعاء، فيكون الإناء محلى في أطرافه، فهذا يعتبر مضبباً كضبة الباب تحيط بعضاده، وكانوا في القديم يستخدمون آنية من الخشب، فيحفرونها في جذوع النخل ويستخلصون منها الأقداح، وهذه إلى الآن لا تزال موجودة في بعض البلاد، حيث يستخدمون هذه الآنية من الخشب بمثابة الأوعية، وهذا الوعاء قد ينكسر فيحتاج إلى جبر الكسر بصب الفضة عليه حتى لا يخرج الماء من هذا الشعب، فيسمونه (مضبباً)، فإذا انكسر الإناء جاز أن يضع الإنسان فيه ضبةً يسيرة من الفضة بشروط: أولاً: أن تكون من الفضة.
ثانياً: أن تكون يسيرة.
ثالثاً: أن لا يباشر الأكل والشرب من نفس المكان الذي فيه الفضة.
هذه ثلاثة شروط: أن تكون ضبةً يسيرة، ومن فضةٍ، ولا يباشر الشرب من مكان الفضة.
لأنه نُهي عن الشرب من آنية الذهب والفضة، فيتقي المكان الذي فيه الفضة ويشرب من غيره إلا أن تكون ضبةً يسيرة فيجوز له، دليل ذلك حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انكسر قدحه سلسله بفضة) قيل: الذي سلسله أنس، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سلسله، والعمل على الثاني.
قال رحمه الله: [وتكره مباشرتها لغير حاجة].
أي: مباشرة الضبة لغير حاجةٍ، فإن وُجدت الحاجة كما أن يكون الموضع الذي انكسر هو موضع الشرب، قالوا: فحينئذٍ لا يستطيع أن يشرب إلا من هذا الموضع الذي فيه الفضة فيجوز له أن يشرب؛ لأن أصل التحريم الانتفاع بالفضة على سبيل الكماليات وهنا قد انتفع بها على سبيل الحاجة، فتخلف فيه المعنى الذي من أجله ورد النهي شرعاً.(6/5)
أحكام أواني الكفار
قال المصنف رحمه الله: [وتباح آنية الكفار].
بعد أن بين رحمة الله عليه أحكام أواني المسلمين، وقال لك: الأواني كلها جائز الانتفاع بها إلا آنية الذهب والفضة، بيّن بعد ذلك حكم آنية الكفار، والكفار على قسمين: كفارٌ من أهل الكتاب وهم الذين لهم في الأصل دينٌ سماوي، وهم اليهود والنصارى.
وكفارٌ على غير دين سماوي كالوثنيين والمشركين والمجوس ونحوهم، فيرد
السؤال
لو أن إنساناً سألك في يومٍ من الأيام وقال لك: وجدتُ إناءً ليهوديٍ فهل يجوز لي أن أتوضأ أو أغتسل منه، أو آكل أو أشرب منه؟! هذا سؤالٌ وارد، ولذلك بينت الشريعة حكم آنية الكفار في أكثر من حديث، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة؛ وتوضيحها: أن آنية الكفار على حالتين: الحالة الأولى: أن تكون جديدةً غير مستعملة، كالأواني التي تأتي منهم جديدة مُصَنّعة، فهذه طاهرةٌ يجوز استعمالها والانتفاع بها بالإجماع ما لم تكن من مادةٍ نجسة؛ فإن كانت من المواد الطاهرة كالحديد والصفر والنحاس ونحوها جاز الانتفاع بها بالإجماع؛ لأن اليقين طهارتها وليس هناك دليل على النجاسة، فنبقى على الدليل الأصلي ونستصحب الأصل من كونها طاهرة.
الحالة الثانية: أن تكون أواني الكفار مستعملة، فإن رأيت استعمالهم للنجاسة فيها، ورأيت الإناء وفيه النجاسة فبالإجماع أنه نجسٌ حتى يطهر، ولا يجوز استعماله بالإجماع حتى يغسل.
فلو وجدت كأساً لهم فيها خمر فإنه لا يجوز استعمالها إلا بعد غسلها وتنظيفها، وأما إذا كانت هذه الأواني مغسولة عندهم ولم يجد الإنسان غيرها، وكانوا قد أكلوا فيها أو شربوا فهذا للعلماء فيه وجهان: منهم من قال: لا تستعمل إلا أن يضطر إليها؛ لما ثبت في الصحيح من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: (يا رسول الله! إني بأرض قومٍ أهل كتاب أفآكل في آنيتهم؟ -وفي رواية أفنأكل في آنيتهم؟ - قال: لا.
إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها ثم كلوا فيها) فدل هذا الحديث على أن آنية الكفار التي يستعملونها لا يؤكل فيها.
ونازع هذا الحديث حديثٌ آخر، وهو أكل النبي صلى الله عليه وسلم من آنية الكفار، ففي حديث رواه أحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استضافه يهودي على خبزٍ وإهالة سنخة، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك) وكذلك أيضاً ثبت في الصحيح عنه: (أن امرأة يهوديةً دعته إلى شاةٍ ووضعت السم فيها، ثم أطعمته عليه الصلاة والسلام فأكل منها).
فدل هذا على أن آنية الكفار يؤكل فيها، قالوا: أما الشرب والوضوء ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما لقي المرأة التي معها المزادة توضأ هو وأصحابه منها) فتوضأ من مزادة مشركة.
قالوا: فهذا يدل على أن أواني الكفار يؤكل فيها ويشرب منها ما لم تُعلم نجاستها، وهذا مذهب بعض العلماء.
وحديث أبي ثعلبة يقتضي أنه لا يؤكل ولا ينتفع بها إلا ألا يجد غيرها فيغسلها ثم يأكل فيها.
وأعدل المذاهب: أن يحتاط الإنسان فيها، فلا يأكل في آنية الكفار ولا يشرب منها إلا ألا يجد غيرها فليغسلها ثم ليأكل فيها، وما ورد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يعارض هذا الأصل؛ لأن الغالب في هذه الآنية طهارتها، ولو كانت نجسةً لما خلا الوحي من تنبيهه صلى الله عليه وسلم على نجاستها.
وعلى هذا فإن التفصيل في أواني الكفار بالصورة التي ذكرناها هو أعدل الأقوال.
الحالة الثالثة: أن لا نعلم أو لا نرى فيها نجاسة، فهل نُعْمِل الأصل الذي هو اليقين أو نُعْمِل الظاهر؟ وقد بسطت هذه المسألة في شرح البلوغ عند حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وأرضاه.
فعند العلماء شيء يُسمى: (اليقين) كما تقدم، وشيء اسمه: (الظاهر)، فقد يقول قائل: نحن قلنا في القاعدة: (أن اليقين لا يزال بالشك)، فاليقين في أواني الكفار: أنها طاهرة في الأصل، فكيف عدلنا عن قاعدة اليقين في هذا الموضوع حتى صرنا نقول: إن أواني الكفار تغسل؟!
الجواب
هناك شيءٌ اسمه: دلالة الظاهر، والظاهر قد يعارض الأصل، فتارةً يُعمِل اليقين، وتارة يُعمل الظاهر، فإن الظاهر في حال الكفار أن أوانيهم نجسة؛ لأنهم يشربون فيها الخمور ويأكلون فيها الميتات، فالظاهر من حالهم أنها نجسة.
ومن أمثلة ذلك: إذا دخل الإنسان أكرمكم الله إلى الحمام، فوجد الماء الذي هو في مجرى النجاسة، فالماء هذا اليقين فيه أنه نجس، والماء الذي خارج الحمام اليقين فيه أنه طاهر، فيبقى الماء الذي بينهما هل نقول: اليقين فيه ما بداخل الحمام أو ما بخارجه؟! قالوا: هذا يعتبر من دلالة الظاهر، فالظاهر دورات قضاء الحاجة أنها نجسة حتى يدل الدليل على طهارتها، وبناءً على ذلك فإن الظاهر من أحوال الكفار النجاسة، فيقدم الظاهر على الأصل، وهذا من المسائل التي يتعارض فيها الظاهر والأصل، وإذا تعارض الظاهر والأصل قُدّم الأصل في مسائل وقدم الظاهر في مسائل أخرى.
وقد تكلم على هذه القاعدة كلاماً نفيساً الإمام الزركشي في كتابه: المنثور في القواعد، وتكلم عليها كذلك القرافي في: الفروق، وغيرهم من أئمة الأصول بحثوا هذه المسألة، وفيها إشكالات مشهورة عند أهل العلم رحمة الله عليهم.
قال المصنف رحمه الله: [وتباح آنية الكفار ولو لم تحل ذبائحهم].
أي: يباح لك استعمال أوانيهم ولو لم تحل ذبائحهم؛ لأن بعض العلماء يقول: تباح آنية أهل الكتاب الذين تحل ذبائحهم، وأما غيرهم ممن لا تحل ذبائحهم فلا تباح آنيتهم.
قال المصنف رحمه الله: [وثيابهم إن جُهِل حالها].
ثياب الكفار لها ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن تكون جديدةً لم تُلبس، كالثياب المصنعة في بلاد الكفار، فحكمها الطهارة يقيناً، فأي ثوبٍ جديد ولو جاء من ديار الشرك والكفر فإنا نقول: اليقين أنه طاهر، والأصل فيها الطهارة حتى ترى النجاسة فيه أو عليه.
الحالة الثانية: أن ترى على ثوب الكافر نجاسة، فحكمه أنه نجس، مثال ذلك: أن تراه قد صب شيئاً نجساً على ثوبه أو عمامته أو نحو ذلك، فتقول: الثوب نجس، والعمامة نجسة.
الحالة الثالثة وهي التي فيها الإشكال: إذا كان ثوباً يستعمله الكافر ولم ترَ نجاسةً عليه، فهل هو نجس أم طاهر؟ قال بعض العلماء: ثياب الكفار يُعمل فيها اليقين من أنها طاهرة حتى تُرى النجاسة عليها، وهو مذهب من يتسامح فيها.
والمذهب الثاني يقول: ثياب الكفار الظاهر فيها النجاسة؛ لأنهم يبولون ويتغوطون ولا يسلمون من وضع النجاسة على ثيابهم وبدنهم ولا يتورعون، فالظاهر نجاستها كلها.
والصحيح: هو المذهب الثالث وهو التفصيل: فإن كانت على موضع يغلب فيه النجاسة فهي نجسة كالثياب التي تلي العورة؛ فإنه إذا استعمل الإنسان ثوب كافرٍ مما يلي العورة كالسراويل ونحوها والأزر فإنه يغسلها قبل أن يستعملها؛ لأن الغالب فيهم أنهم لا يتورعون عن النجاسات، وأنهم لا يتطهرون، فنعمل دلالة الغالب، والنادر لا حكم له، فيفرق في ثيابهم المستعملة بين ما غلبت طهارته وما غلبت نجاسته.(6/6)
أحكام جلد الميتة وما قطع منها حية
قال المصنف رحمه الله: [ولا يطهر جلد ميتة بدباغ].
جلد الميتة للعلماء فيه قولان مشهوران، وأصح هذين القولين: أنه إذا دُبغ جلد الميتة فقد طهر؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) ولما مر على الشاة الميتة قال: (هلا انتفعتم بإهابها؟ -يعني: بجلدها- قالت: يا رسول الله! إنها ميتة، قال: إنما حرُمَ أكلها) فإن هذا الحديث الصحيح يدل دلالة واضحة على أن جلد الميتة يطهر بالدباغ.
وقال بعض العلماء وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد: أن جلد الميتة لا يطهر ولو بالدباغ، لحديث عبد الله بن عكيم عن أشياخ من جهينة أنهم أتاهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهرين: (أن لا تنتفعوا من الميتتة بإهاب ولا عصب) وهذا الحديث مضطرب، حتى أن الإمام أحمد رحمة الله عليه -كما نقل الترمذي ذلك- رجع عن القول به في آخر حياته.
فالصحيح: أن إهاب الميتة على ظاهر الحديث في الصحيحين إذا دُبغَ فقد طهر، فلو أن إنساناً ماتت عنده شاة، فأخذَ جلد الشاة ودبغه فقد طهر، وجاز له أن يضع الماء فيه، وأن ينتفع به، فالمصنف تبنى القول الثاني المرجوح، والصحيح ما ذكرنا بقوله: يطهر بالدباغ.
قال المصنف رحمه الله: [ويباح استعماله بعد الدبغ في يابس من حيوانٍ طاهر في الحياة].
هذا على القول بنجاسته، فإذا كان جلد الميتة نجساً فإنه في هذه الحالة تنتفع به في اليابسات دون المائعات؛ لأن المائعات لو وضعت في جلد الميتة تتنجس، فبين رحمه الله: أن جلد الميتة لا ينتفع به وأنه يأخذ حكم الميتة، والصحيح -كما قلنا- أنه طاهرٌ إذا دبغ.
قال المصنف رحمه الله: [ولبنها وكل أجزائها نجسة].
وهذا بلا إشكال؛ لأن الله عز وجل حرم الميتة، ولم يفرق بين لبنها ولا بين غيره.
قال المصنف رحمه الله: [غير شعرٍ ونحوه].
شعر الميتة للعلماء فيه وجهان مشهوران: فجماهير العلماء على أن شعر الميتة مما لا تحله الحياة، بمعنى: أنه يجوز لك أن تنتفع بشعر الميتة؛ لأنه في حياتها يجز منها ولا يحكم بنجاسته بالإجماع، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا} [النحل:80] فدّل دليل القرآن على طهارة الصوف والوبر، وما يستخلص من شعور بهيمة الأنعام، ومعلوم أن شعور بهيمة الأنعام تؤخذ منها بالحلاقة في حال حياتها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما أبين من حيٍ فهو ميت) فلو كانت الشعور تحلها الحياة لحكم بنجاسة الشعر وعدم جواز الانتفاع به، فدل هذا الدليل على أن شعر الميتة يجوز الانتفاع به ولو بعد موت الميتة؛ لأنه منفصل عنها وليست بمتصلٍ بها.
قال المصنف رحمه الله: [وما أبين من حي فهو كميتته].
فإن كانت ميتته طاهرة فطاهر كالسمك، فلو أن إنساناً قطع ذنب سمكةٍ وهي حية وفرت، فهل يجوز له أن يأكل هذا الذنب؟
الجواب
نعم؛ لأن ميتة السمك نفسها يجوز أكلها: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فيجوز له أن ينتفع بجزء السمك؛ لكن لو أن إنساناً قطع رجل شاةٍ وهي حية.
فحكمها كميتة الشاة، وميتة الشاة نجسة ومحرمة الأكل؛ كذلك رجلها إذا قطعت في حال حياتها فإنه يحكم بنجاستها.(6/7)
الأسئلة(6/8)
جواز التختم بالفضة دون استعمالها
السؤال
قلتم: إنه لا يجوز استخدام آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب والاستعمال، وأنه قول جماهير أهل العلم، فكيف نجمع بين هذا القول والحديث: (العبوا بالفضة لعباً).
الجواب
لا تعارض بين الحديثين، فإن اللعب بالفضة أن يلبسها الرجل وتكون في يده، والغالب أن الإنسان إذا تحلى بالفضة لعب بها، أما المتخذ فإنه لا يلعب بها لعباً، والاستدلال: بحديث: (العبوا بها لعبا) على أن المراد: افعلوا بها ما شئتم، استدلال بالتجوز في العبارة، أما حقيقة اللعب بالفضة فهي ما وردت السنة به من التختم ووضعه في اليد؛ ولذلك ثبت في الحديث عن عثمان رضي الله عنه كما في الحديث في الصحيحين: (أنه لما كان في سني خلافته لعب بخاتمه في بئر أريس، حتى سقط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فطلبوه فلم يجدوه).
فالمقصود أنه كان من عادتهم أنهم يلعبون بالخواتيم الفضة التي أذن الشرع بالتحلي بها، فالمراد حمل اللفظ على الحقيقة، لا على التجوز في العبارة من قوله: (العبوا فيها لعباً) إلا أن المراد بها: التوسع.
والله تعالى أعلم.(6/9)
الجمع بين النهي عن استعمال الذهب والفضة وبين فعل أم سلمة في استعمال الفضة
السؤال
كيف يكون الجمع بين حديثين: الأول: (أن أم سلمة رضي الله عنها كان تضع شعرات للنبي صلى الله عليه وسلم في إناء فضة) والثاني: حديث أم سلمة نفسها في النهي عن الشرب من إناء الفضة، وقد قررنا أن هذا النهي ليس خاصاً بالشرب؟
الجواب
الأصل عند العلماء رحمةُ الله عليهم أن الصحابي إذا اجتهد وكان لاجتهاده وجه فإنه يعذر في اجتهاده، وتبقى دلالة السنة كما فهم من الشرع، وأخذ من أصول الشرع العامة على تلك الدلالة، ولا يعارض فعل أم سلمة رضي الله عنها هذا الأصل الذي قررناه.
ولذلك يعتذر لها بأنه اجتهادٌ منها، ولا يقدح الموقوف على الصحابي في المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النهي عن الأكل والشرب متضمنٌ للنهي عما لا فائدة فيه وهو الاتخاذ.
والله تعالى أعلم.(6/10)
الوسائل المعينة على صدق التوبة والاستقامة
السؤال
إذا منّ الله تعالى على الشاب بالاستقامة، وعلم أنه طريق الحق، وعلم أن الشيطان له بالمرصاد فكيف يقاومه والشيطان يحاربه ببعض ذنوبه السابقة الخطيرة: كالنظر إلى المردان، وحب مجالستهم، بينوا ذلك؟
الجواب
الله المستعان! أحب دائماً أن الإنسان إذا سأل أن لا يمثل، فإذا كان الإنسان في نفسه مبتلى بأشياء فلا يذكرها؛ لأنه ربما سمع إنسان هذا فظن بالصالحين سوءاً، وهم أرفع -إن شاء الله- من هذه الأمور؛ ولذلك أنا لا أحب في المحاضرات والندوات أن تذكر مثل هذه الأمور لئلا يساء الظن بالأخيار، ويظن أن هذا موجود بينهم، وإنما هذه قضايا فردية قد تقع لبعض الإخوان فينبه على هذا، حتى لا يظن بهم ظن السوء.
إذا منّ الله عز وجل على العبد بالاستقامة والتمسك بالدين والالتزام بشريعة الله رب العالمين، فما عليه إلا أن يعض عليها إلى لقاء الله إله الأولين والآخرين، تمسك بحبل الله واعتصم بشريعته ودينه، واجعل الجنة والنار أمام عينيك، وفر من الله إلى الله.
أما ما ذكرت من الذنوب والخطايا والعيوب فإن الله لها، وهو مفرج الهموم والغموم والكروب، إذا ذكرك الشيطان بالماضي فادمع على ما كان دمعة الندم، وأخرجها من القلب بكل شجن وألم، وأحسن الظن بالله جل جلاله؛ فإنه يتوب على التائبين، ويمحو بفضله وإحسانه ذنوب المسيئين.
أقبل على الله إقبال الصادقين المنيبين وأحسن الظن به؛ فإنه الله رب العالمين، لا يخيب من رجاه، ولا من سعى إليه ودعاه، فأحسن الظن به سبحانه وتعالى جل في علاه.
أخي في الله! أوصيك بمجالسة الأخيار، وكثرة تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، فإنها تجلي عن القلوب العمى، وتعينها على التمسك بسبيل الهدى، أوصيك أخي في الله أن تكثر من ذكر الله فإنه حصنٌ حصينٌ من عدو الله، فما ذكر عبدٌ ربه إلا ذكره الله، ومن ذكر الله في ملأٍ ذكره في ملأٍ خير من الملأ الذين ذكره فيهم، فأكثر من ذكر الله، واعتمد على الله وأحسن الظن به، ألا وإن من أعظم الأسباب التي تثبت القلوب على سبيل المنهج والصواب: كثرة ذكر الموت والبلى، وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
اجعل الموت أمام عينيك، وأكثر من ذكر تلك الساعة التي تكون فيها واقفاً على آخر عتبة في الدنيا، أكثر من ذكرها، فوالله إنها تقض مضاجع الصالحين، وتعين على التمسك بالطاعة والدين، وكلما دعتك النفس إلى الشهوات والملهيات والمغريات فذكرها بساعة الموت والسكرات.
واجعل القبر أمام عينيك، واستشعر مثل هذه الساعة وأنت وحيد فريد لا مال ولا بنون، ولا عشيرة ولا أقربون، وأكثر من ذكر الآخرة، فإنها تعين على الثبات وتثبت القلوب إلى الممات.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثبتنا بالقول الثابت، اللهم إنا نسألك الثبات إلى الممات، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان، اللهم منّ علينا بالصحة والغفران، اللهم إنا نعوذ بوجهك العظيم من الانتكاسة بعد الهدى، اللهم إنا نعوذ بوجهك العظيم من الضلال بعد الهدى، ومن العمى بعد البصيرة، ومن الحور بعد الكور، يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا، يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا.
اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا نادمين، ولا مفتونين ولا مبدلين، يا ذا الجلال والإكرام! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(6/11)
شرح زاد المستقنع - باب الاستنجاء [1]
إن باب الاستنجاء باب مهم؛ لأنه يتعلق بطهارة الخبث التي لا يصح وضوء الإنسان ولا صلاته إلا بها، ويذكر العلماء في باب الاستنجاء الآداب الشرعية المتعلقة بقضاء الحاجة على ضوء النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه لحاجته.(7/1)
أحكام الاستنجاء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه أجمعين، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب الاستنجاء].
الاستنجاء: استفعال من النجو، وأصله القطع للشيء، قال العلماء: سُمي قطع البول والغائط بالماء والحجارة استنجاءً؛ لأن المكلف إذا فعله فقد حصلت له الطهارة والنقاء، وبالطهارة والنقاء انقطع أثر النجاسة، فلذلك وصف بكونه استنجاء.
وباب الاستنجاء باب مهم؛ لأنه يتعلق بالنوع الثاني من أنواع الطهارة، وهو طهارة الخبث، فإن الله عز وجل أمر كل من صلى أو أراد أن يصلي بتحصيل الطهارتين: الطهارة من الحدث، والطهارة من الخبث.
فأما طهارة الخبث فيراد بها نقاء الثوب والبدن والمكان، وأما طهارة الحدث فهي الغسل أو الوضوء والبدل عنهما، فالعلماء رحمهم الله يعتنون ببيان الأحكام المتعلقة بمسألة قطع البول والغائط، ولا يصح وضوء الإنسان ولا تكمل طهارته ولا تعتبر ولا تصح صلاته إلا بعد أن يكون طاهر الثوب والبدن والمكان.
وهذا الباب يسميه بعض العلماء بـ (باب الاستنجاء)، ويسميه البعض بـ (باب آداب قضاء الحاجة)، ويسميه بعضهم بـ (باب الخلاء وآداب الخلاء) ومراد العلماء رحمهم الله أن يذكروا فيه الآداب الشرعية المتعلقة بالإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته، سواء كانت بولاً أو غائطاً، وهذا الباب وردت فيه النصوص الصحيحة القولية والفعلية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينت هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضائه لحاجته، ولذلك وصفه العلماء بباب آداب قضاء الحاجة.
فمن يقول من العلماء: باب آداب قضاء الحاجة، استنبط ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قعد أحدكم لحاجته)، ومن سمّاه بباب الاستنجاء راعى فيه الحقيقة، كما ورد في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث سلمان: (نهانا أن نستنجي بروث أو عظم) فقالوا: باب الاستنجاء.(7/2)
آداب الخلاء
وآداب الخلاء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: آداب قبل دخول موضع قضاء الحاجة، وآداب أثناء قضاء الحاجة، وآداب بعد الفراغ من الحاجة.
وكلها قد وردت فيها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأُخذت من أصول الشريعة العامة.
فأما الآداب التي هي قبل قضاء الحاجة: فمنها ما هو قولي، ومنها ما هو فعلي.
فأما الأدب القولي: فيسن للمسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء أن يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، فهذا أدب يسبق قضاء الحاجة.
وأما مثال الآداب التي تكون حال الجلوس لقضاء الحاجة: أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ببول ولا غائط؛ لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا).
وأما الآداب التي تكون بعد الفراغ من قضاء الحاجة: فمنها قوله: (غفرانك) عند الخروج، ونحو ذلك من الأذكار.
فأصبح هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قضاء الحاجة مشتملاً على ثلاثة أنواع من الآداب على حسب الأحوال: آداب قبل دخول الخلاء، وآداب أثناء قضاء الحاجة، وآداب بعد الانتهاء والفراغ من الحاجة.
فالعلماء رحمهم الله يذكرون في هذا الباب ما يسن للمسلم أن يفعله قبل دخول الخلاء، وما يسن له فعله وهو في أثناء قضائه لحاجته، وما يسن له فعله بعد فراغه وانتهائه من قضاء حاجته.(7/3)
التعوذ عند الدخول
يقول المصنف رحمه الله: [باب الاستنجاء] أي: في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام الشرعية المتعلقة بالاستنجاء.
[يستحب عند دخول الخلاء قول: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث].
(يستحب عند دخول الخلاء) أي: قبل أن يدخل الإنسان الخلاء يستحب له أن يقول: (باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث).
والثابت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخُبُثِ -أو الخُبْثِ- والخبائث)، هذا هو الثابت في الصحيحين، وأما لفظة: (باسم الله)، فقد ورد فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن أن الإنسان إذا قال عند رفع ثوبه أو نزعه: باسم الله، فقد ستر عن أعين الجن، وهو حديث متكلم في سنده، ذكره المصنف رحمه الله وذكر معناه واعتبره في هذا الموضع.
(يستحب لمن دخل الخلاء) هذا الكلام يقوله الإنسان إذا كان الموضع الذي يريد أن يقضي حاجته فيه موضعاً نجساً تقضى فيه الحوائج، توضيح ذلك: أن الناس يقضون حاجتهم إما في مكان مهيأ لقضاء الحاجة، وإما في مكان بريٍ ليس مهيأ لقضاء الحاجة، فمثال الأول: ما هو موجود الآن من دورات المياه، فإن هذا المكان معد لقضاء الحاجة وكان يسمى بالكنيف، وأما مثال الثاني: أن تخرج إلى الصحراء أو تكون في سفر فتنزل في موضع طاهر تريد قضاء الحاجة، ف
السؤال
متى يستحب أن يقول الإنسان هذا الذكر في الموضعين؟
الجواب
إذا كان الموضع مهيأً لقضاء الحاجة كدورات المياه، فالسُّنة أن يقول هذا القول قبل الدخول، أي: قبل أن يدخل إلى الكنيف أو إلى الحمام، وأما بعد الدخول فإنه موضع لا يشرع فيه أن يذكر اسم الله أو يذكر الله جل وعلا جهراً وبالنطق كما سيأتي إن شاء الله.
الموضع الثاني: إذا كان الموضع غير مهيأ لقضاء الحاجة، بمعنى: أنه غير مختص بقضاء الحاجة، كالبرية والفضاء ونحوه، فقال العلماء: يسن للإنسان أن يقول هذا الذكر إذا أراد أن يرفع ثيابه، فإذا وقف على الموضع الذي يريد أن يقضي حاجته فيه قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، وهذا الدعاء دعاء نبوي مأثور صحيح، وهو دعاء عظيم يعصم الإنسان به من شرور الشياطين، ومن البلاء الذي قد يصيبه في هذه المواضع، ولذلك قال العلماء: إن أمور الجن والشياطين مغيبة عن الناس -أي: بني آدم-، فإذا كان الإنسان في قضاء حاجته على ذكر لله جل وعلا قبل أن يجلس عصمه الله بعصمته وحفظه من أذيتهم، هذا على القول بأن قوله: (أعوذ بك من الخبث والخبائث) قيل: الخبث: ذكران الشياطين -كما اختاره غير واحد من أهل العلم- والخبائث: إناث الشياطين.
وقيل: الخبث: الشر عموماً، والخبائث: الشياطين عموماً، وكلاهما وجهان لأهل العلم رحمة الله عليهم.
فالمقصود: أن هذا الذكر يشرع للإنسان أن يقوله إذا كان المكان مهيأ لقضاء الحاجة قبل أن يدخل، وإذا كان الموضع غير مهيأٍ لقضاء الحاجة كالبر والفضاء والخلاء، فإنه يقوله عند رفعه لثيابه.(7/4)
الاستغفار عند الخروج
قال المصنف رحمه الله: [وعند الخروج منه غفرانك].
(وعند الخروج منه) أي: بعد أن يخرج؛ لأنه إذا أراد الخروج فلا يشرع له أن يتكلم حتى يجاوز موضع قضاء الحاجة، فإذا جاوز موضع قضاء الحاجة قال: (غفرانك)، وأصله: اغفر غفرانك، أو: أسألك اللهم غفرانك، والغفر أصله الستر ومنه المِغْفَر؛ لأنه يستر رأس الإنسان من ضربات السلاح في الحرب.
قالوا: سميت المغفرة مغفرة؛ لأن الله إذا غفر ذنب العبد صار كأن لم يكن منه ذنب، وأصبح خالياً من ذلك الذنب، وسُتِر عنه ذنبه وكفي مؤنته، كما أن الإنسان إذا لبس المغفر كفي شر السلاح وأذيته.
(غفرانك) قال العلماء: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة عند الخمسة أنه قال: (غفرانك) عند الخروج من الخلاء، وللعلماء رحمة الله عليهم في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم بعد قضائه لحاجته وخروجه أقوال: - قال بعض العلماء: استغفر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان لا يأمن من حصول بعض النظر إلى عورته، فشرع للأمة أن يستغفروا من أجل هذا الوجه.
- وقيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم شُغل عن ذكر الله جل وعلا بقضاء الحاجة فقال: (غفرانك)؛ لضياع هذا الوقت دون ذكر لله جل وعلا -وكما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين- وهذا من كمال عبوديته لله وكمال حبه وتعلقه بالله سبحانه وتعالى، فهو في هذا الوقت مع حاجة الجسم إليه وهو في حالة اضطرار وعذر عن ذكر الله يستغفر من ذهابه دون أن يذكر الله جل وعلا فيه، وهذا فيه تنبيه للمسلم من أنه ينبغي عليه أن يكثر من ذكر الله، واغتنام الحياة في طاعة الله؛ لأنه هو الأصل من خلقه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
- وقال بعض العلماء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غفرانك)؛ لأنه لما خرج الطعام من الجوف أمِنَ الإنسان من كثير من الأضرار وكثير من البلايا فلم يستطع أن يوفّي شكر نعمة الله على هذا الفضل فقال: (غفرانك) أي: غفرانك من التقصير في حمد نعمك، وشكر مننك التي أنعمت وامتننت بها علينا.
قال المصنف رحمه الله: [الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني].
(الحمد لله الذي أذهب عني الأذى) أي: أذهب عني أذى القذر الخارج؛ لأنه لو بقي في الجسم لأضر بالإنسان، ولذلك لو أن إنساناً منع من البول ساعة واحدة لما استقر له قرار، ولو حيل بينه وبين قضاء حاجته، وقيل له: افتدِ بالدنيا لافتدى بالدنيا حتى تخرج حاجته، وقد يبلغ ببعض المرضى كالمشلولين -حمانا الله وإياكم- أن يمكث أربع ساعات أو خمس ساعات لإخراج فضلته من جسده، فهي نعمة من الله عظيمة، ولا يعلم مقدار فضله ورحمته ولطفه بالعبد إلا هو سبحانه وتعالى، فناسب أن يقول عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله)؛ لأنه المحمود على جلب النعم وحصولها، ودفع النقم وزوالها، سبحانه جل جلاله.
(الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) قيل: المعافاة من شرور الشياطين ونحوهم، وقيل: المعافاة من الضرر الموجود في الجسم بحبس ذلك الطعام والشراب، فالله دفعه فاستوجب أن يشكر ويحمد على هذا الفضل.(7/5)
تقديم الرجل اليسرى عند دخول الخلاء واليمنى عند الخروج منه
قال المصنف رحمه الله: [وتقديم رجله اليسرى دخولاً واليمنى خروجاً].
آداب الخلاء على قسمين: القسم الأول: آداب قولية، وقد سبق بيان أدب قولي يقال قبل الدخول وأدب قولي يقال بعد الخروج.
والقسم الثاني: آداب فعلية، ومن الآداب الفعلية أن الإنسان إذا أراد دخول الخلاء قدّم رجله اليسرى وأخّر رجله اليمنى، وإذا أراد الخروج قدّم رجله اليمنى وأخّر اليسرى؛ لأن الشريعة قصدت تكريم اليمين على اليسار، فجهة اليمين مفضلة مشرفة على اليسار، ولذلك دلت نصوص الكتاب والسُّنة على تعظيم جهة اليمين، فجعل الله أصحاب الجنة أصحاب اليمين -جعلنا الله وإياكم منهم-، وكذلك أيضاً جعل السعيد من نال كتابه بيمينه، وكذلك أيضاً أثنى على اليمين ضمناً حينما ذكرها بصيغة الإفراد في مقابل الجمع، كما قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل:48] فقال: (عن اليمين) فأفرد، وقال: (والشمائل) فجمع، والعرب تجمع في مقابل المفرد تعظيماً للمفرد، كما قال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] فجمع الظلمات وأفرد النور، وهو أسلوب عربي يدل على تشريف المفرد على الجمع، فجهة اليمين مشرفة على جهة الشمال بدلالة قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل:48] وجاء في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله)، وفي حديث السنن: (إذا لبستم فتيامنوا) أي: إذا لبس الإنسان ثوباً أو عباءة أو حذاء فإنه يقدم الجهة اليمنى من يد وشق ورجل على الجهة اليسرى، فإذا أراد الخروج من الخلاء قدّم رجله اليمنى وأخر رجله اليسرى؛ تشريفاً لليمين؛ لأن الخروج أفضل من الدخول، ففي الدخول يقدم المفضول على الفاضل، وفي الخروج يقدم الفاضل على المفضول، فيقدم رجله اليمنى ويؤخر رجله اليسرى.
قال المصنف رحمه الله: [عكس مسجد ونعل].
(عكس مسجد) فمن دخل المسجد قدّم رجله اليمنى للدخول وأخّر رجله اليسرى، وإذا أراد الخروج قدّم اليسرى وأخّر اليمنى، وقد ورد فيه حديث عند الحاكم أن من السنة تقديم اليمنى على اليسرى عند دخول المسجد.
واختلف العلماء رحمهم الله في مسألة لطيفة هي: لو أن إنساناً أراد أن يخرج من بيته إلى المسجد -عرفنا أنه إذا أراد دخول المسجد قدّم اليمنى وأخّر اليسرى، ولكن لو خرج من بيته قاصداً المسجد- فهل الأفضل أن يقدم رجله اليمنى؛ لشرف المقصود والغاية، أو يؤخّر اليمنى؛ لفضل المكان الخارج منه؛ لأن الخروج من البيت أدنى منزلة من الدخول، ولذلك إذا أراد أن يخرج يقدم اليسرى، لكن اختلفوا في الخروج إلى المسجد هل يقدم اليمنى؛ لشرف الغاية، أو يقدم اليسرى مراعاة للحال؟ والأقوى: أن يقدم اليسرى مراعاة للحال، فإن الأصل الملتصق بالفعل مقدم على ما انفصل عنه، فالأولى أن يقدم يسراه للخروج من المنزل، ولو خرج لطلب علم ولتعليم ولجهاد ولصلاة ولدعوة ونحو ذلك فكذلك أيضاً.(7/6)
الاعتماد على الرجل اليسرى عند قضاء الحاجة
قال المصنف رحمه الله: [واعتماده على رجله اليسرى].
أي: إذا أراد ذلك، وهذه من الآداب التي تشرع عند فعل الحاجة وقضائها.
قالوا: يعتمد على رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وفيها حديث ضعيف في السنن أن من السُّنة أن الإنسان ينصب رجله اليمنى ويعتمد على رجله اليسرى، وعلل بعض العلماء ذلك بأن الأطباء يقولون: إنه أرفق بالبدن وأيسر لخروج الخارج، فإن صح ما ذكروه كان مشروعاً من جهة الرفق بالبدن ولا يحكى سنة؛ لأن الحديث فيه ضعف، فإذا فعله الإنسان من باب الرفق بالبدن فهو حسن؛ لأن الرفق بالبدن من مقاصد الشريعة، ولا حرج في فعله.(7/7)
البعد والاستتار عند قضاء الحاجة
قال المصنف رحمه الله: [وبعد في فضاء واستتاره].
أي: يشرع ويسن للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته وكان في فضاء -كالأرض الخلاء التي ليس فيها أحد- البعد؛ لأن الفضاء منكشف، والإنسان إذا جلس في الفضاء يمكن أن يُرى شيء من عورته، ولا يأمن خروج الخارج عليه فجأة، فلذلك شرع له أن يبعد وأن يستتر.
فيشرع له أمران: البعد في المذهب وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث المغيرة: (تنح عني)، وكذلك أيضاً يستتر، فإذا كانت الأرض منبسطة بحث عن حفرة أو شاخص، فإن وجد المطمئن من الأرض كالحفرة نزل فيها وقضى حاجته؛ لأنه أبلغ في الاستتار، ما لم يكن فيها ضرر عليه، أو يخشى من الضرر، أو يأتي إلى شاخص، كأن يأتي إلى هضبة أو تل فيستقبله ويقضي حاجته مستقبلاً إياه؛ لأنه أبلغ في الاستتار، ويُوليِّ قفاه للناس، فإذا فعل ذلك كان أبلغ في استتاره.
(أن يبعد وأن يستتر) قالوا: في الفضاء يبعد؛ لأنه إذا بعد شخصه تعذّر على العين الاطلاع على عورته، ويستتر لئلا يداهمه إنسان فجأة؛ فيكون ذلك أبلغ في تحفظه وصيانة عورته، وقد عُظِّم أمر الاستتار في قضاء الحاجة، ومن تساهل في قضاء حاجته فقضاها بجوار الطرقات على مرأىً من الناس وتساهل في ذلك -ما لم يكن مضطراً- فإنه لا يخلو من الإثم والتبعة، حتى قال بعض العلماء: لو فتن أحد بالنظر إليه حمل إثمه ووزره -والعياذ بالله-؛ لأنه تعاطى السبب لحصول الإثم والوزر، فلا يجوز للإنسان أن يتساهل في العورة، حتى ورد في حديث ابن عباس في الصحيحين في قصة الرجلين اللذين يعذبان، قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله)، وفي رواية: (لا يستتر من بوله)، قال بعض العلماء: (لا يستتر) أي: يتساهل في عورته -والعياذ بالله-، فقالوا: إنها من الأمور التي قد تكون سبباً -على هذا الوجه- في عذاب القبر وفتنة القبر، نسأل الله السلامة والعافية.
وأنبه على مسألة يخطئ فيها كثير من الناس أصلحهم الله، خاصة من الجهلة والعوام: فإنهم يأتون إلى أماكن الوضوء ويكشفون عوراتهم ويستنجون فيها دون حياء من الناس، ولا خوف من الله جل وعلا، فأماكن الوضوء المخصصة للوضوء لا يصلح فيها للإنسان أن يكشف عورته فيؤذي عباد الله، وكذلك أيضاً يتسبب في أذيتهم بنتن البول وريحه، وهذه من الأمور الممقوتة التي لا ينبغي للمسلم أن يفعلها، ومن رئي منه فعل ذلك فإنه يُنصح ويُذكّر ويخوف بالله جل وعلا، ويقال له: اتق الله ولا تؤذِ المسلمين، فإن أماكن الوضوء ليست لقضاء الحاجة؛ لما فيه من أذية الناس بالرائحة والنتن، وقد تضافرت نصوص الشريعة على تحريم الضرر، قال بعض العلماء: يحَرُمُ فعل هذا للضرر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار).(7/8)
اختيار الموضع الرخو عند قضاء الحاجة
قال المصنف رحمه الله: [وارتياده لبوله موضعاً رخواً].
(وارتياده): ارتاد الشيء إذا طلبه، ومنه سمّي الرائد رائداً، والرائد في لغة العرب: هو الرجل الذي يرسله الناس إذا كانوا في سفر لكي يطلب الماء لهم، ويسمّى: رائداً، والريادة: الطلب، وارتاد أي: طلب.
قوله: (يرتاد لبوله موضعاً رخواً) أي: إذا أراد المسلم أن يقضي حاجته كالبول فإنه يلتمس الأرض الرخوة؛ لأن الأرض الرخوة أمكن في استيعاب البول، وأبعد من أن تؤدي للطشاش الذي ينجس الثياب والبدن، فشرع له أن يطلب المكان الرخو، وفيه حديث ضعيف ولكن معناه صحيح، فالإنسان يشرع له أن يطلب مكاناً رخواً؛ لأنه يحقق مقصود الشرع من الاستنزاه من البول، فإن الإنسان إذا بال في مكان رخو أمن من طشاش البول.
والأماكن تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: أن تكون صلبة، القسم الثاني: أن تكون رخوة.
فإن كانت صلبة: فإما أن تكون طاهرة، وإما أن تكون نجسة، وإن كانت رخوة: فإما أن تكون طاهرة، أو تكون نجسة.
فأصبحت القسمة مشتملة على أربع حالات: فإن كان المكان طاهراً صلباً جلس، وإن كان نجساً رخواً قام، وإن كان نجساً صلباً امتنع من البول فيه، وإن كان طاهراً صلباً خيّر بين الجلوس والقيام، وقد جمع بعض الفضلاء هذه الصور الأربع في قوله: للطاهر الصلب اجلسِ وامنع برخو نجسِ والنجس الصلب اجتنب واجلس وقم إن تعكس هذه أربع صور.
للطاهر الصلب اجلس: يعني: إذا كان المكان طاهراً صلباً اجلس.
وامنع برخو نجس: يعني: إذا كان مكاناً رخواً نجساً، كما يحدث الآن إذا امتلأ موضع قضاء الحاجة فلا يجلس الإنسان؛ لأنه إذا جلس ربما سقط ثوبه أو تطاير طشاش البول على بدنه أو ثوبه ونحو ذلك.
والنجس الصلب اجتنب: أي إذا كان مكاناً صلباً نجساً فلا تقضِ الحاجة فيه، أعني: البول.
واجلس وقم إن تعكس: يعني: الطاهر الرخو، إن شئت فاجلس فيه وإن شئت فقم فأنت مخيّر.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال قائماً، والسُّنة دالة على جواز البول قائماً.
ومنع بعض العلماء منه، وهو مذهب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد كانت تقول: (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً فلا تصدقوه).
وقد صح في صحيح مسلم من حديث حذيفة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) فدل على جواز البول قائماً.
قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً لعلة، قيل: كان فيه مرض تحت ركبته في المأبض فلا يستطيع أن يجلس ويثني رجليه فيجلس لقضاء حاجته، فبال قائماً للضرورة.
وقيل: بال قائماً؛ استشفاء من مرض الصلب؛ وهي الأمراض التي تصيب صلب الإنسان وظهره، وقد كانت العرب تستشفي من أمراض الظهر بالبول قائماً، فقالوا: إنه بال قائماً استشفاءً من مرض الصلب.
والصحيح: أن هذا جائز ولا حرج فيه، ولكن الهدي الأكمل والأمثل أن يبول جالساً؛ لما في ذلك من بالغ الاستتار، وإمكان التحفظ من طشاش البول، فإن بال قائماً فلا حرج عليه.
وقال بعض العلماء: بال في سباطة القوم قائماً؛ لأن السباطة مكان القذر والنجاسة، فلم يجلس صلوات الله وسلامه عليه من أجل هذا.
(وارتياده لبوله موضعاً رخواً).
الارتياد: الطلب.
(لبوله) أخرج الغائط، فإن الغائط يرتاد له أي موضع كان، وقد استثنى بعض العلماء في الغائط أن يكون هناك مائع نجس، كالحال إذا امتلأ الموضع بنجاسة البول، فإنه إذا تغوط لم يأمن من طشاش النجاسة على ظهره وثيابه، فقالوا: يمنع من قضاء الغائط في مثل هذه المواضع إذا كانت مملوءة.
وقال بعض العلماء: لا حرج عليه أن يقضي حاجته فيها بشرط أن يتحفظ فيزيل ما أصابه من طَشاش ذلك القذر النجس.
(موضعاً رخواً) إذا كان المكان الذي جلس فيه الإنسان صلباً، وعنده آلة يستطيع أن يحك بها الأرض، قالوا: الأفضل له أن يحكها، وحملوا على ذلك حديث أنس قال: (كنت أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة وعنزة)، والعنزة: هي الحربة الصغيرة وفي رأسها الزُّج وهو الحديد.
قالوا: كانت تحُمل لقضاء الحاجة؛ لأن الإنسان إذا مر على صلب نكت الأرض بها ثم قضى حاجة البول فيه، فكان ذلك أدعى لصيانة البدن والثياب من النجاسة.(7/9)
حكم سلت الذكر بعد البول
قال المصنف رحمه الله: [ومسحه بيده اليسرى إذا فرغ من بوله من أصل ذكره إلى رأسه ثلاثاً].
هذا يسمى عند العلماء بالسَّلْت، والسلت أن يضع رأس إصبعه عند أصل الذكر ثم يمره على مجرى البول حتى يُنقّي المجرى من الباقي إذا وجد، والسلت لا أصل له، وليس له دليل صحيح، بل إنه يجلب الوسوسة ويشكك الإنسان، ولذلك قالوا: ينبغي للإنسان أن يقطع حاجته، فإذا غلب على ظنه أن البول انقطع قام، أما أن يوسوس ويبالغ في إزالة الخارج فإنه لا يأمن من وجود الوسوسة والشك، وسيسترسل إلى ما لا تحمد معه العاقبة، ولـ شيخ الإسلام رحمة الله عليه مبحث نفيس في المجموع بيّن فيه أن هذا لم يثبت فيه نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرر العلماء أن الذَّكَرَ كالضرع كلما حلب در، أي: أن المكلف كلما ضغط عليه وأكثر من تعاهده كلما آذاه وأتعبه بالوسوسة، والواجب على المكلف أن يتقي الله قدر استطاعته، فيجلس لقضاء حاجته، فإن غلب على ظنه أن البول انتهى صبّ الماء أو استجمر بالحجارة ثم قام، والله لا يكلفه إلا ما في وسعه، فإن أحس بخروج شيء أو أن شيئاً يتحرك في العضو فذاك من وسوسة الشيطان، حتى يستيقن فيجد البلل على ثوبه أو يجده على فخذه أو رأس عضوه، ولا يلزمه أن يذهب ويبحث ويفتش، فإن الإنسان إذا غلب على ظنه أنه انقطع بوله كفاه ذلك مؤنةً وأجزأ عنه ويكون قد فعل ما أوجب الله عليه والله يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
والسلت لا يشرع إلا في حالة واحدة: وهي لمن به سلس؛ وهو نوع من المرض -حمانا الله وإياكم منه- يصاب به الإنسان، وذلك بأن يقضي بوله ثم تبقى قطرات تضعف الآلة عن دفعها، ولا يمكن خروجها إلا بالسلت، فيمر رأس إصبعه من أصل العضو إلى رأسه حتى يُنْقِي الموضع، وهذا استثناه العلماء، وهي الحالة الوحيدة المستثناة، وأما ما عدا ذلك فإن الإنسان غير مكلف به.(7/10)
حكم نتر الذكر بعد البول
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ونتره ثلاثاً].
كذلك النتر، فإن فيه حديثاً ضعيفاً ولا يعتبر من السُّنة، والسلت والنتر مدعاة للوسوسة والتباس الأمور على صاحبها، ولكن المكلف يتقي الله على قدر استطاعته، وشريعتنا شريعة رحمة وتيسير وليست بشريعة عذاب ولا عنت ولا تعسير: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فإذا قضى الإنسان حاجته قام، فإن خرج منه خارج ولم يتأكد من خروجه فالله لا يكلفه البحث عنه حتى ولو كان خارجاً بالفعل، وعبادته مجزئة، ولا يعتبر مطالباً بشيء غاب عن ذهنه كما قال أهل العلم رحمهم الله.
أي: أن المكلف لو أخذ بغالب ظنه أنه لم يخرج منه شيء فصلى وفي الحقيقة أنه قد خرج منه شيء ولم يعلم إلى الأبد قالوا: إن ذلك يجزئه عند ربه سبحانه وتعالى؛ لأن الله لا يكلف الإنسان إلا ما في وسعه، والذي في وسعه غالب ظنه وقد فعل ذلك، والله لا يكلفه ما وراء ذلك.(7/11)
التحول عن موضع التخلي عند الاستنجاء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتحوله عن موضعه ليستنجي في غيره].
بعض الناس يبقى الخارج في عضوه، فقال العلماء: يخرج هذا الباقي بإحدى ثلاث حالات: إما بالسلت، وإما بالنحنحة وهي الصوت، وإما بالتحول من الموضع، فبعض الناس إذا بقي الباقي في عضوه لا يستطيع إخراجه إلا بالسلت فيشرع له السلت؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فشرع بأصل الشريعة.
النوع الثاني: يكون الدافع عنده ضعيفاً فيحتاج إلى إحداث صوت وهي النحنحة، وهذه من الأمور التي يُبلى بها الإنسان عند قضائه لحاجته، فيتنحنح حتى تقوى آلته على الدفع، قالوا: فيشرع له ذلك.
ومنهم من يخرج منه الخارج بعد حركته، فإذا انتقل من موضع قضاء حاجته ومشى الخطوة والخطوتين قويت الآلة على الدفع فدفعت ما ثمَ، فقالوا: فمثل هذا بعد أن ينتهي من قضاء الحاجة يقوم إلى أقرب موضع فيستنجي فيه؛ حتى يقوى العضو على إخراج ما بقي.
الأمر الثاني الذي من أجله ذكر العلماء القيام من الموضع إلى موضع ثانٍ ليستنجي فيه، قالوا: إنه إذا قضى الحاجة على التراب كما هو الحال في القديم؛ فإنه لا يأمن أثناء صبّ الماء على العضو أن يتطاير شيء من البول على البدن أو الثوب، ولذلك قالوا: يتحول عن موضع قضاء حاجته إلى موضع قريب، حتى إذا صب الماء نزل على أرض طاهرة، فإذا تطاير شيء من ذلك الماء لم يدخله الوسواس، هذا هو سبب الانتقال عند أهل العلم رحمة الله عليهم.
قال رحمه الله: [ليستنجي في غيره إن خاف تلوثاً].
(إن خاف تلوثاً) يعني: إذا كان الموضع غير مهيأ للاستنجاء والاستبراء.(7/12)
حكم دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله تعالى
[ويكره دخوله بشيء فيه ذكر الله تعالى].
الشيخ: ويكره للمسلم أن يدخل الحمام وموضع قضاء الحاجة بشيء فيه ذكر الله كالقرآن، وكتب التفسير، وكتب العلم والرسائل إلا إذا اضطر إلى ذلك، فإذا اضطر الإنسان إلى ذلك كأن يكون اسم الله على النقود ويخاف عليها السرقة ولا يجد لها مكاناً أميناً جاز أن يدخل بها، وكذلك أيضاً إذا كان هناك كتاب كالقرآن ويخشى أنه لو أبقاه في الخارج تلف أو أُهين إهانة أكثر فيجوز له أن يدخله معه، ثم يحوله عن الموضع الذي يقضي فيه حاجته، كأن يضعه على إبريق الماء أو على مفتاح الباب وقضيبه ونحو ذلك.
[إلا لحاجة].
(إلا لحاجة) دليل هذا: أن الله أمر بتعظيم شعائره وعدّ ذلك من تقوى القلوب؛ فقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] أي: تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، وبناءً على ذلك فإن الإنسان يصون هذه الأذكار وهذه الكتب العلمية عن الامتهان، فإن دخول الحمام بها ودخول أماكن قضاء الحاجة بها فيه نوع انتقاص لتعظيمها وإجلالها وتوقيرها، فلا يشرع له فعله، وقد جاء في الحديث -وهو متكلّم في سنده- دخول النبي صلى الله عليه وسلم الحمام بخاتمه وَقَبْضِه على الخاتم، قالوا: ولذلك يشرع لمن دخل الحمام وفي خاتمه ذكر الله أن يجعل فصه إلى بطن الكف ثم يقبض الإصبع الذي فيه الخاتم سواء كان الخنصر أو البنصر أو غيرهما.(7/13)
رفع الثوب قبل الدنو من الأرض عند قضاء الحاجة
[ورفع ثوبه قبل دنوه من الأرض].
ومما ينبغي على المكلف إذا أراد أن يقضي حاجته أن يرفع ثوبه إذا دنا من الأرض، وهي سنة محفوظة كما في حديث الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يرفع ثوبه إذا دنا من الأرض)؛ كل ذلك محافظة على العورة، وصيانة لها من نظر الغير.(7/14)
حكم الكلام في الخلاء
[وكلامه فيه].
أي: ولا يتكلم فيه، وفيه حديث ضعيف: (إن الله يمقت الرجلين يضربان الغائط يحدث أو يكلم كل منهما الآخر)، فهذا حديث ضعيف، ولكن قال العلماء: من جلس يقضي حاجته وكلّم غيره من دون ضرورة؛ فإنه ساقط المروءة، أي: لا مروءة عنده -والعياذ بالله- وساقط المروءة لا تقبل شهادته، فَعُدَّ من خوارم المروءة ونقص الحياء أن يجلس الإنسان لقضاء حاجته ويتحدث مع الغير إلا من ضرورة، كأن يخشى على إنسان أن يموت فيأمر صبياً بفعل شيء ينقذه به، أو نحو ذلك، فإذا وجدت الضرورة جاز أن يتكلم، أما إذا لم توجد الضرورة فإنه لا يجوز له أن يتكلم، ومن الضرورة أن يترك صبياً خارج الحمام فيصيح الصبي ويتساءل عن أبيه فيحتاج إلى جواب منه فيجوز له أن يتكلم خوفاً عليه أو خوفاً من ذهابه أو شروده أو نحو ذلك، وهذه حالات تستثنى، فإذا خاف على نفسه أو خاف على نفس الغير جاز له الكلام.
أما الكلام أثناء قضاء الحاجة من دون حاجة فإنه من خوارم المروءة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فمن الحياء: ألا يتكلم الإنسان أثناء قضاء حاجته.(7/15)
حكم البول في الشقوق ونحوها
[وبوله في شق ونحوه].
أي: ولا يبول الإنسان في الشق ونحوه، والشقوق تكون في الأرض وتكون في الجدران، واختلف العلماء في علة المنع من البول في الشق: فقيل: هي مساكن الجن، فلا يبول الإنسان في الشق حتى لا يؤذيهم فيؤذوه.
وقيل -وهو أقوى-: لخوف خروج الدواب والهوام، فإن الإنسان إذا بال في شق لم يأمن أن تكون به حية أو يكون به ثعبان ونحو ذلك، وقد ذكر بعض العلماء: أن رجلاً نهى ابنه عن ذلك ففعله فبال في شق فخرجت له حية فنهشته فمات من ساعته؛ لأن الإنسان في حال قضاء الحاجة لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، وهي حالة صعبة حرجة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما بال الأعرابي في المسجد: (لا تزرموه)، فإن الإنسان إذا قُطع عليه بوله أو ذُعر أو فُجع أثناء قضائه لبوله لا يأمن من حصول أمراض لا تحمد عقباها، قد تضره نفسياً وجسدياً، فلذلك لا يطلب المواضع التي قد تكون مظنة خروج ما يفجعه أو يفاجئه بضرر.(7/16)
حكم مس الفرج باليمنى
[ومس فرجه بيمينه].
مس الذكر، ومس الأنثيين، ومس الدبر، ومس المرأة لفرجها قبلاً أو دبراً محرم باليمين؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه)، وكذلك ثبت نهيه عليه الصلاة والسلام عن إمساك الذكر باليمين في حديث سلمان رضي الله عن الجميع، فلا يجوز للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته أن يمُسك الذكر باليمين، بل حتى في غير قضاء الحاجة، فلمس الذكر باليمين محرم على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه)، والتخصيص بالبول ذكر لموضع الحاجة، فدخل ما لا حاجة فيه أو ما فيه الحاجة كالجماع ونحوه، فلذلك لا يجوز مس الذكر باليمين، قال عثمان رضي الله عنه: (ما مسست فرجي بيميني منذ أن صافحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكانوا يقولون -والله أعلم بصحة ما قالوا-: ما مس رجل ذكره بيمينه إلا نقص من عقله شيء، فلا يحمدون لمس أو مس الذكر باليمين، ولا يستبعد هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، والنهي عن الشيء قد يتضمن حكماً وأسراراً خفية، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن شيء فيه خير، وعلى الإنسان أن يتقي لمس الذكر باليمين؛ لأنه محرم.
ولمس الذكر باليمين على حالتين: أن يكون بدون حائل وهذا محرم، وأن يكون بحائل، فإن كان بحائل فلا حرج، والأولى تركه؛ لما فيه من تشريف اليمين، واُستثني الأقطع والأشل ونحوهم كالمريض الذي بيده اليسرى جراح، فيجوز له أن يمُسك باليمين.
ولا يجوز مس الذكر، ولا مس الأنثيين، ولا الدبر، ولا قبل المرأة ولا دبرها، سواء كان للإنسان أو لغيره، كالطبيب إذا عالج مريضاً، فإنه لا يمسك عضوه باليمين؛ لأنه محرم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يمسكن أحدكم ذكره باليمين) وقد خرج مخرج الغالب، والقاعدة في الأصول: (أن النص إذا خرج مخرج الغالب لا يعتبر مفهومه)، فلا يجوز لمسه باليمين ويأثم فاعله.(7/17)
حكم الاستنجاء والاستجمار باليمين
[واستنجاؤه واستجماره بها].
أي: باليمين، أما الاستنجاء باليمين فلا إشكال فيه، ولكن الإشكال هو الاستجمار بالحجارة، فإن من المعلوم أن الإنسان إذا أراد أن يصب الماء صبه باليمين ويمكنه باليسار أن يغسل العضو، فالاستنجاء لا إشكال فيه، والإشكال في الاستجمار؛ لأنه يحتاج إلى إمساك الحجر وإمساك العضو، فإن أمسك العضو باليسار احتاج إلى إمساك الحجر باليمين، وإن أمسك العضو باليمين حرم عليه، فإن قلنا له: يستجمر بيساره، فإن معنى ذلك أن يلمس عضوه باليمين وهو محرم، وبناءً على ذلك استشكل العلماء قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه).
وتوضيح ذلك وزوال الإشكال فيه: أنه في الدبر يمسك الحجر باليسار ويُنقّي دون إشكال.
وأما في القبل فإنه يمُسك الحجر باليمين والعضو باليسار ويثبّت اليمين ولا يحركها، فإن حرك اليمين كان متمسحاً باليمين، وهذا هو المراد، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من المكلف أن لا يحرك يمينه، ويكون التحريك للعضو باليسار، فإذا حصل ذلك فإنه يأمن لمس العضو باليمين، ويأمن التمسح باليمين.(7/18)
حكم استقبال النيرين عند قضاء الحاجة
[واستقبال النيرين].
أي: ولا يجوز أن يستقبل الشمس والقمر، وفيه حديث ضعيف.
قال بعض العلماء: المنع من استقبال الشمس والقمر المراد به تعظيمهما لكونهما آيتين من آيات الله، وهذه العلة ضعيفة؛ فإن أي شيء تستقبله وتستدبره آية من آيات الله، حتى الحجر آية من آيات الله، والجبال آيات، والأنهار والأشجار والثمار كلها آيات، وهذه علة ضعيفة.
والأقوى: أن استقبال الشمس والقمر فيه علة قوية وهي انكشاف العورة عند استقبالهما أبلغ مما لو استدبرهما، بمعنى: أنه إذا قضى حاجته في الليل والقمر تجاهه، فإن نور القمر يكشف العورة، فلذلك يكون عدم استقبالهما من باب حفظ العورة، وعلى هذه العلة فإن الإنسان يحفظ عورته ولا إشكال فيها.
أما ما ذكروه من تحريم استقبالهما مطلقاً فمحل نظر؛ لما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروها ولكن شرقوا وغربوا)، فإن التشريق تكون فيه الشمس عند الشروق في الشرق كما هو الحال في المدينة، والتغريب تكون فيه الشمس في الغرب عند الغروب، فدل على أن استقبال الشمس والقمر ليس بمحرم، ولكن الأفضل والأكمل أن الإنسان ينحرف بين الجهتين.(7/19)
حكم استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة
[ويحرم استقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان].
ويحرم على المكلف أن يستقبل القبلة ويستدبرها في غير بنيان.
هذه المسألة فيها أقوال للعلماء: القول الأول: يحرم الاستقبال والاستدبار مطلقاً.
القول الثاني: يجوز الاستقبال والاستدبار مطلقاً.
القول الثالث: يجوز الاستدبار دون الاستقبال.
القول الرابع: يجوز الاستدبار دون الاستقبال في البنيان دون الصحراء.
القول الخامس: يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان دون الصحراء.
القول السادس: يحرم استقبال القبلة ببول أو غائط وكذلك بيت المقدس، وهو قول بعض السلف، فزاد أمراً ثالثاً، وهو بيت المقدس.
وهذه الأقوال هي أشهر أقوال العلماء رحمة الله عليهم في هذه المسألة، وأصح أقوالهم، وقد بسطت هذه المسألة في شرح البلوغ، وذكرت الأقوال مسندة إلى مذاهب العلماء رحمة الله عليهم.
من حرم مطلقاً كالحنفية وهو اختيار شيخ الإسلام وقول ابن حزم.
ومن أجاز مطلقاً كالظاهرية ومن وافقهم، وهو قول بعض السلف.
ومن أجاز في البنيان دون الصحراء كما هو قول الجمهور: من المالكية والشافعية والحنابلة.
ومن أجاز الاستدبار دون الاستقبال في البنيان، كما هو رواية عن الإمام أبي حنيفة.
ومن أجاز الاستدبار دون الاستقبال مطلقاً في بنيان أو صحراء فهو قول بعض السلف، والرواية الثانية عن أبي حنيفة وأحمد.
والقول السادس أنه يحرم استقبال القبلة واستدبارها وكذلك بيت المقدس، وهو قول بعض السلف، ومأثور عن الحسن البصري.
هذه الستة الأقوال ذكرناها بأدلتها ورددنا على هذه الأدلة.
والصحيح: أنه لا يجوز استقبال القبلة واستدبارها لا في بنيان ولا صحراء؛ وذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرقوا أو غربوا).
وأما الاستدلال بحديث ابن عمر فيجاب عنه من وجوه: منها: أن دلالة الفعل لا تعارض دلالة القول الصريحة المخاطب بها جميع الأمة.
الوجه الثاني: أنه يحتمل التخصيص؛ لأن في النبي معنى التعظيم الذي لا يوجد في سائر الأمة.
والجواب الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بيان هذا الحكم وإلا بينه باللفظ.
الوجه الرابع: أنه يحتمل النسخ، إذ يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك قبل النهي.
الوجه الخامس: (أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح قدم الحاظر على المبيح)، كما هي القاعدة.
فالصحيح: أنه لا يجوز الاستقبال والاستدبار مطلقاً لا في البنيان ولا في الصحراء.(7/20)
حكم اللبث في موضع قضاء الحاجة
قال المصنف رحمه الله: [ولبثه فوق حاجته].
أي: لا ينبغي للمكلف أن يلبث في مكان قضاء الحاجة أكثر من الحاجة؛ وذلك أنها مواضع محتضرة، كما هو في حديث ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن بيوت الخلاء: (إن هذه الحشوش محتضرة)، فالشياطين تحب الأماكن القذرة، والملائكة تنفر منها، كما أن الشياطين تنفر من الأماكن الطيبة وتأوي إليها الملائكة، فلذلك ينبغي للمكلف أن يُعَجِّل بالقيام بعد فراغه من حاجته، وأن لا يأنس لدور الخلاء، وأن لا يطيل المكث فيها، لأن المكث فيها قد يدعو إلى الوسوسة والشك، وقد يحصل للإنسان نوع من الأمور التي لا تحمد عقباها؛ فلذلك يشرع له المبادرة بالقيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تعوّذ عند دخول الخلاء، فدل على أنه مكان لا يحمد الجلوس فيه.(7/21)
حكم البول في الطريق والظل النافع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبوله في طريق وظل نافع].
أي: ولا يجوز للمكلف أن يبول في طريق؛ لأنه مكان اللعنة، والطريق سمي طريقاً من الطرْق، قالوا: لأن الناس يطرقونه بنعالهم، وقيل: لأنه يُسمع فيه طرق النعال.
والطريق ينقسم إلى أقسام: الطريق المعين المحدد، وهذا لا إشكال في حرمة قضاء الحاجة فيه سواء كانت بولاً أو غائطاً، ومن فعل ذلك لا يؤمن عليه اللعن؛ لأن الناس تلعنه، فيكون ذلك ضرراً عليه في دينه ودنياه وآخرته؛ أما في دينه فللإثم وحصول أذيته للناس، وحرم البول في الطريق وقضاء الحاجة؛ لأن الناس إذا مرّت تأذّت بالرائحة، وربما لم تعلم بالنجاسة فوطئتها، فكان ذلك ضرراً عليهم في صلاتهم، وضرراً عليهم في ثيابهم وأبدانهم، فاستضروا في دينهم ودنياهم، ولا يجوز للمسلم أن يؤذي إخوانه أو يتسبب في أذيتهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فوصفه بكونه مسلماً؛ لعدم الأذيه، فلا تجوز أذية المسلم، بالبول في الطريق والظل.
النوع الثاني من الطريق: أن يكون له جوانب مهيأة لقضاء الحاجة كطرق السفر، فالإنسان ينتحي منها ناحية، وقد تكون محجوزة لا يستطيع الإنسان أن يذهب في مكان غير أطراف الطريق، فإذا داهمته حاجته واحتاج أن يبول فلا حرج عليه أن يقضي حاجته؛ لبعد جوانب الطريق عن الضرر، وزوال العلة الموجبة للمنع، وقد ورد فيها الحديث: (اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الذي يبول في ظل الناس وفي طريقهم).
أما قضاء الحاجة تحت الظل فإنه أذية بالغة؛ لأن الناس يحتاجون إلى الظل خاصة في الأسفار، كأن وهي الأضرار التي لا يجوز فعلها، ويعتبر آثماً في هذا الفعل إذا قصد الأذية، ولذلك ينبغي عليه أن يطلب مكاناً لا يأوي الناس إلى ظله، ولا يرتفقون بالمشي عليه، وهي الأماكن الخالية.(7/22)
حكم البول تحت الشجر المثمر
[وتحت شجرة عليها ثمرة].
لأن الشجرة تغتذي بالنجاسة.
ومذهب بعض العلماء: أن الثمرة إذا اغتذت بالنجاسة فلا يجوز أكلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الجلاّلة؛ وهي التي تأكل العذرة والنجاسة، فالدجاج ونحوه الذي يأكل العذرة حرّم النبي صلى الله عليه وسلم أكل لحمه حتى يُمْسَك، فدل هذا على أن الشجر إذا اغتذى بالنجاسة لا يجوز أكل ثمره، وهذا أصح أقوال العلماء، ولأن الشجر يستظل الناس بظله، فإذا قضى الحاجة تحته فإنه يمنعهم من المقيل والنزول تحته، والإرتفاق به.(7/23)
الأسئلة(7/24)
كيفية التسمية لمن توضأ داخل الحمام
السؤال
ابتلي كثير من الناس: بأن مغسلة الوضوء توجد داخل الحمام، فكيف يسمي المتوضئ؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمابعد: فلا حرج عليه أن يسمّي في نفسه ويذكر اسم الله في قلبه، ويجزيه ذلك ولا يتلفظ به بلسانه.
والله تعالى أعلم.(7/25)
حكم حديث: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى ... ) من حيث الصحة والضعف
السؤال
قوله عند الخروج: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) هل هذا حديث صحيح؟
الجواب
هذا الحديث متكلّم في إسناده، والصحيح ضعفه، وهو القول الأقوى، ولكن من العلماء من حسن إسناده، فمن كان يرى حُسْنَه، وقاله فلا حرج عليه.(7/26)
الذكر إذا كان التخلي في الصحراء
السؤال
متى يكون الذكر إذا كان الخلاء في الصحراء؟
الجواب
إذا أراد أن يقضي حاجته وكان الخلاء في الصحراء، فإنه يأتي بالذكر عند رفعه للثوب ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، ثم إذا فرغ وجاوز موضع قضاء الحاجة بخطوة ونحوها قال: (غفرانك) ونحوه من الأذكار المشروعة.(7/27)
التفصيل في قاعدة: القول مقدم على الفعل
السؤال
ما قولكم في قاعدة: (القول مقدم على الفعل)، وتطبيقها على مسألة البول جالساً؟
الجواب
قاعدة: (القول مقدم على الفعل) فيها تفصيل: قال بعض العلماء: إذا تعارض القول والفعل قدم القول مطلقاً.
وقال بعض العلماء بالجمع بين القول والفعل، فإذا كان القول تحريماً والفعل يدل على الإباحة حمل النهي على الكراهة، كنهيه عن الشرب قائماً وشربه عليه الصلاة والسلام قائماً، قالوا: يصرف إلى الكراهة، وكذلك أيضاً في الجمع بينهما في الحمل على الندب والاستحباب.
والصحيح: أن معارضة القول للفعل تأتي على صور مختلفة: فتارة يقوى تقديم القول على الفعل، وتارة يقوى الجمع بين القول والفعل، وهذا يحتاج إلى نظر الفقيه ومعرفته بنصوص الشريعة ومعرفة مقاصدها، ومعرفة قوة دلالة الفعل، فإذا كان الفعل لا يقوى على صرف القول تبقى دلالة القول تشريعاً للأمة، ويبقى الفعل إما خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو يصرف على وجه لا يعارض به القول، ولهذا نظائر كثيرة.
من أمثلة ذلك: نهيه عليه الصلاة والسلام أن يَنكح المحرم أو يُنكح أو يخَطب، وقد جاء عنه أنه تزوج ميمونة وهو محرم، كما في حديث ابن عباس في الصحيح.
فقال بعض العلماء: إنه يجمع بينهما بحمل النهي على الكراهة، وهذا قول الإمام أبي حنيفة ومن وافقه، فصرف القول من التحريم إلى الكراهة بالفعل.
والصحيح: أن الفعل هنا لا يقوى على معارضة القول؛ لأن قول ابن عباس: (وهو محرم) يحتمل وجهين: وهو محرم أي في حرم مكة، أو محرم أي: في الأشهر الحرم، والعرب تسمي من كان في الأشهر الحرم محرماً، وتسمى من دخل الموضع الحرام محرماً، ومنه قول حسان في رثاء عثمان: قتلوا الخليفةَ ابن عفان بالمدينةِ محرماً أي: في حرم المدينة، وفي الأشهر الحرم.
فهذا لا يعتبر فيه الفعل معارضاً للقول؛ لأن قول ابن عباس محتمل، وكذلك أيضاً الشرب قائماً منه عليه الصلاة والسلام دلالة الفعل فيه تحتمل التخصيص؛ لأنه حُفِظَ من القرين عليه الصلاة والسلام، وقد أمر من شرب قائماً أن يستقيء.
وكذلك أيضاً: ورد أنه شرب من زمزم قائماً، وزمزم فيها معنى التخصيص، فنقول: يجمع بين القول والفعل، فيمنع من الشرب قائماً في غير زمزم، وزمزم يسن شربها قائماً؛ لأنه شربها على بعيره، ولأن المقصود من زمزم أن يرتوي الإنسان منها، فيكون الأبلغ في ارتوائه أن يشرب قائماً لا جالساً.
فالمقصود: أن تعارض القول مع الفعل يحتاج إلى معرفة الفقيه لأصول الشريعة، وقوة دلالة القول والفعل، مثال ذلك: المسألة التي تقدمت معنا، فإن حديث ابن عمر قوة دلالته على الإباحة محل نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة في مكان لم يره فيه أحد، ولم يقصد اطلاع ابن عمر؛ لأنه لا يعقل أن النبي صلى الله عيه وسلم يريد من ابن عمر أن يطلع عليه، وقد حصل هذا الاطلاع فجأة من ابن عمر، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قصد اطلاع ابن عمر لقال للأمة: استقبلوا في البنيان دون الصحراء، فدل على أن دلالة الفعل هنا ضعيفة كما نبّه عليه الحافظ ابن دقيق، وله بحث نفيس في شرحه على العمدة.
فالمقصود: أن القواعد لا تؤخذ على الإطلاق في تعارض القول والفعل، وإنما ينظر إلى أحوال المسائل واختلاف النصوص.
والله تعالى أعلم.(7/28)
معنى حديث: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت.
ونستغفر الله)
السؤال
أليس في قول الصحابي رضي الله عنه في الحديث الصحيح: (وكنا نتحول عن القبلة ونستغفر الله) إشارة ظاهرة لجواز ذكر الله في الخلاء، نرجو الإفادة؟
الجواب
هذا حديث أبي أيوب الثابت في الصحيحين أنه قال: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل الكعبة فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله)، وفيه كلام للعلماء من جهة دلالته: قال بعض العلماء: (كنا ننحرف عنها) أي: أثناء قضاء الحاجة، (ونستغفر الله) أي: بعد قضاء الحاجة؛ لأنه لم يتنبه أنها على القبلة إلا بعد قضاء شيء من الحاجة.
وقيل: ننحرف عنها ونستغفر الله في أنفسنا، قيل لأصحاب هذا القول: كيف يستغفرون وهم لم يستقبلوا القبلة؟ وأجابوا: أي: نستغفر الله لمن فعل هذا الفعل، فما كان ينبغي له فعله، وهذا على ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من حب الخير بعضهم لبعض، فإذا رأوا الخطأ من الغير وأمكن نصحه نصحوه، وإن كان غائباً مسلماً سألوا الله له العفو والمغفرة إذا كان ممن يُستغفر له أو يُدعى له بالمغفرة، فقالوا: (ونستغفر الله) أي: من هذا الفعل.
وهذه في الحقيقة كلها أوجه محتملة، فالقول: بأنهم يستغفرون بعد الانتهاء من الغائط، لا دليل عليه في هذا الحديث.
وكذلك القول بأنهم يستغفرون في أنفسهم لا دليل عليه أيضاً.
ويبقى الإشكال إذا كانوا يستغفرون أثناء الفعل، وظاهر لفظ (نستغفر) يدل على أنه أثناء الفعل، فنقول في جواب ذلك: إنه فعل من الصحابة، ولو صح أنهم يستغفرون أثناء الفعل، فإننا نقول هذا من فعل الصحابة، والقاعدة: (أنه إذا تعارض هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع فعل الصحابي فالحجة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بما رآه أصحابه رضوان الله عنهم).
وتوضيح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (أتى سباطة قوم فبال، فمر عليه رجل فسلّم فلم يرد عليه السلام، ثم ضرب بيديه الحائط، ثم قال: وعليكم السلام، إني كنت على حالة كرهت أن أذكر الله عليها)، فإذا كان هذا وهو غير متطهر وقد فرغ من قضاء حاجته، فكيف إذا كان على حال قضاء الحاجة وغير متطهر فإنه أبلغ وآكد، فدل هذا على أنه لا يذكر الله جل وعلا أثناء قضاء الحاجة، وإنما يقتصر على الذكر في المواضع التي شرع ذكر الله جل وعلا فيها، وليس فيها امتهان لذكره جل وعلا.
والله تعالى أعلم.(7/29)
وجه الاستغفار بعد الخروج من الخلاء
السؤال
ذكرتم أن من العلماء من قال: أن كلمة (غفرانك) أتت لانحباس الإنسان عن الذكر، مع أن ذلك بأمر الله تعالى كما هو الحال في الحائض عند امتناعها عن الصلاة والصيام، ولم يأتِ أنها تقول مثل ذلك بعد الانتهاء من عادتها، فما قولكم؟
الجواب
أولاً: لا أحب لطالب العلم أن يجتهد في استنباط النصوص وفي فهمها وفي تتبع كلام العلماء، وينبغي لكل طالب علم أن يحفظ قدره وأن يحفظ للعلماء حقهم، ولذلك أنبه على ما شاع وذاع بين كثير من طلاب العلم وخاصةً في هذه الأزمنة وإلى الله المشتكى، ولا أقصد بذلك صاحب السؤال، ولكنها فرصة طيبة أن أنبه على ذلك، فهناك كثير من الأمور التي تحُكى عن أهل العلم ويأتي طالب العلم ويورد سؤاله على سبيل التعقيب والاجتهاد، ويقول: كيف هذا، والأصل كذا؟! ولا مانع من أن يقول ذلك على سبيل الاستشكال، يقول: أشكل عندي كلام العلماء في هذا الأمر، كيف نوفق بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم.
؟ أما أن يورد الشيء على أنه نوع من التعقيب على العلماء أو نوع من المآخذ على كلامهم، فهذا لا ينبغي لطالب العلم وعلى الإنسان أن يعلم أن هؤلاء العلماء كانوا على درجة من الورع وخوف الله جل وعلا ما يمنعهم من أن يقولوا على الله بدون علم.
نظر العلماء إلى حالة النبي صلى الله عليه وسلم عند قضاء حاجته وخروجه من قضاء الحاجة، قال: (غفرانك)، فإن أردت أن تفسّر النصوص، فالأصل عند العلماء أن يُفسر هديه عليه الصلاة والسلام ويُعلل إما بدلالة الظاهر أو بفهم أصول الشريعة حتى تُستنبط العلة.
ومن ذلك الاستغفار: هل هو للخروج نفسه؟ أو لكونه أخرج فضلة؟ أو لانحباسه عن الذكر عليه الصلاة والسلام؟ كل هذا محتمل.
وهل ذلك لوقوع محظور؟ لا محظور منه عليه الصلاة والسلام في الأصل؛ لأنه معصوم صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ما بقي إلا أن يقال: إن هذا الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يذكر الله جل وعلا في هذا الموضع، إنما هو لتخلفه عن ذكر الله، مع أن الثابت عنه في الصحيح من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يفتر عن ذكر الله جل وعلا، (كان يذكر الله على كل أحيانه) كما في حديث السنن.
وهذا هو المحفوظ من هديه والمعروف من حاله عليه الصلاة والسلام.
وحال الكمال إذا قصر فيه العبد ظن نفسه مقصراً، كقيام الليل، فلو أن إنساناً ألفه وتركه ولو مرة واحدة لعد ذلك نوعاً من التقصير، مع أنه ليس بتقصير في أصل الشرع، فكونه عليه الصلاة والسلام على درجة الكمال من ذكر الله جل وعلا والإكثار من ذكره جل وعلا، وفي هذا الموضع يمتنع من ذكر الله عز وجل، فناسب أن يستغفر لمكان تخلفه عن الذكر.
أما قول السائل: (إن الحائض) فأين الحائض من مقام النبوة؟!! وليس سائر الأمة في مقام النبي صلى الله عليه وسلم في الكمال!! ونحن نتكلم على كماله عليه الصلاة والسلام في ذكره لله جل وعلا، أي: أن العلماء استنبطوا العلة من حال النبي صلى الله عليه وسلم من المداومة على ذكر الله، وحال الكمال الذي هو فيه من ذكر الله سبحانه وتعالى، فكونه ينشغل بهذا الأمر الذي هو قضاء الحاجة مع أنه ليس بيده عليه الصلاة والسلام استغفر حتى ينال أجر الاستغفار، وإذا استغفر الإنسان قلبت إساءته حسنة، فما المانع أن يستغفر فيكتب له هذا الحال كحال الذاكر؟!! فيكون استغفاره -مع أنه ليس في حال الذنب- جبراً لنقصان الذكر، هذا الوجه الأول في توجيه كلام العلماء.
أي: أنه استغفر حتى يجبر نقص الذكر في هذه الحالة، ولا يمنع أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر على هذا الوجه، ولكن غيره من الأمة لا يلتحقون به، فكون الحائض من سائر الأمة ولا تلتحق به في درجة الكمال لا يقتضي الاعتراض بها؛ لأن الحائض ليست في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فأين مقام النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره لله واشتغاله بعبادة ربه، وعدم خلو قلبه من استشعار عظمة الله، حتى إذا نام نامت عيناه ولم ينم قلبه، أين هذا المقام من مقام الحائض؟ وهذا من حفظ الله له، وصيانته له واشتغاله بذكر الله سبحانه وتعالى.
ونحن نقول: إن كون العلماء -رحمة الله عليهم- يقولون هذا محتمل، وله وجهه، وهو طريق يعرف عند الأصوليين بطريق السبر والتقسيم، فتُسبر الاحتمالات ثم تقسم إلى احتمال صالح واحتمال غير صالح.
أما الاعتراض بأنه ليس بيده، فليس بذنب حتى يقال: إنه ليس بيده.
يصح الاعتراض من ناحية أصولية بأن تعترض على علة يعلل بها النص إذا كان يتفق التعليل مع ما ذكر، كأن تقول: إنه ذنب، حتى يشرع الاستغفار، فتقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل شيئاً خارجاً عن يده.
فالاعتراض بكونه فاعلاً للشيء الخارج عن يده مركب من وجود الذنب، ونحن لا نقول: إنه ذنب، نحن نقول: استغفر، ولعل هذا الاستغفار أن يُكتب به للعبد لو استغفره على نية أنه لم يذكر الله في هذا الموضع أن يعوض له أجره.
وعلى العموم فلا مانع، والتعليل محتمل، والنص إذا احتمل أكثر من وجه فلكلٍ أن يعلل، هذا الذي انقدح في نفس هذا المجتهد له أن يعلل به، وهذا الذي انقدح في نفسك لك أن تعلل به.
أما أن يُعتب على العلماء أو يحاول الاستدراك عليهم، أو يورد ذلك على سبيل تضعيف أو توهين أقوالهم، فهذا محل نظر لا ينبغي لطالب العلم.
انظروا إلى جهابذة العلماء رحمة الله عليهم شرحوا الأحاديث وفسروا الآيات، وتجدهم يحكون أقوالاً كثيرة لأهل العلم رحمة الله عليهم، ويتأدبون فيها، وبعض الأقوال قد يكون التكلف فيها ظاهراً ويغتفر، كل ذلك رعاية للأدب مع العلماء وصيانة لحرمة العلماء؛ لأن أي إنسان تردّ عليه أو تعقب عليه ولو كان تعقيبك عليه ضعيفاً فإنك قد أنزلت من حقه وقدره.
فلذلك ينبغي للإنسان دائماً أن يحترم أهل العلم، فإن لم يتوجه لك هذا التعليل فخذ بما ترجح عندك من تعليلات، ونحن لا نُلزم بتعليل معين، بل نحكي أقوال العلماء، فيحتمل أن هذا علة ويحتمل أن هذا علة، ولا حرج عليك أن تأخذ بهذه العلة أو بغيرها.
ونسأل الله أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(7/30)
شرح زاد المستقنع - باب الاستنجاء [2]
الأصل في الاستنجاء أن يكون بالماء، ويجوز الاستجمار بالأحجار وما في حكمها، ويشترط فيما يستجمر به أن يكون طاهراً، وهناك أشياء لا يجوز الاستجمار بها؛ إما لأنها محترمة، وإما لأنها نجسة، ويستحب أن يستجمر وتراً.
والاستنجاء واجب من كل ما يخرج من السبيلين إلا الريح، ولا يصح الوضوء ولا التيمم إلا بعد الاستنجاء أو الاستجمار حتى تزول النجاسة.(8/1)
ما يشترط في الشيء الذي يستجمر به
بسم الله الرحمن الرحيم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويشترط للاستجمار بأحجار ونحوها أن يكون طاهراً منقياً].
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: ففي هذه العبارة يتكلم المصنف عن الأمور التي ينبغي توفرها في الشيء الذي يستجمر به، فإذا أراد الإنسان أن يقطع البول أو الغائط بالاستجمار فإنه يشترط في الشيء الذي يستجمر به شرطان: الشرط الأول: أن يكون طاهراً.
والشرط الثاني: أن يكون منقياً.
أما طهارة الشيء الذي يستجمر به فكأن يأخذ حجراً طاهراً وينقي به موضع البول أو موضع الغائط، أو يأخذ ورقاً أو قماشاً -ما لم يكن فيه كتابة أو شيء محترم- فينقي به الموضع.
واشترطت الطهارة لأن الشرع شرع الطهارة بالماء والحجارة لإنقاء الموضع، فإن كان الشيء الذي يتطهر به نجساً لم يحقق مقصود الشرع، فإنه يزيد الموضع نجاسة ولا ينقيه، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى البعرة وقال: (إنها ركس) وهي لغة بعض أهل اليمن، أنهم يبدلون الجيم كافاً: ركس، والأصل: رجس، والرجس: النجس، أو الشيء المستقذر في لغة العرب، فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الإنقاء بالروثة بناءً على أنها رجس، فدل على أن الشيء الذي يتطهر الإنسان به من البول والغائط ينبغي أن يكون طاهراً، وكذلك يكون منقياً، فلو كان لا ينقي الموضع فإنه لا يجزئ، مثال ذلك: لو أن إنساناً تبول فأخذ زجاجة لكي ينقي بها العضو، فإن الزجاج مادته ملساء، وتنساب النجاسة عليها ولا تشربها، فهذا لا ينقي الموضع.
ولذلك نهي عن الاستجمار بالعظم، وأحد الأوجه في المنع من الاستجمار بالعظم أنه أملس، فلا يمكن معه إنقاء الموضع، فخلصنا من هذا أنه لابد من الشرطين: أن يكون طاهراً، فلا يصح الاستجمار بالنجس، وأن يكون منقياً، أي: يتمكن الإنسان به من إنقاء الموضع وتنظفيه.(8/2)
ما يحرم الاستجمار به(8/3)
حكم الاستجمار بالعظم والروث
وقوله: [غير عظم وروث].
(غير عظم): (غير) للاستثناء، والاستثناء إخراج ما يتناوله اللفظ، (غير عظم وروث) لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستجمار بهما كما في حديث سلمان وغيره أما العظم، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنه زاد إخوانكم من الجن) ولذلك لما اجتمع النبي صلى الله عليه وسلم بالجن فسألوه الزاد قال: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً) أي: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الطعام الذي يأكلونه فأجابهم بهذا، ولذلك نهي عن الاستجمار به.
وقال بعض أهل العلم: إن العظام لا تنقي الموضع، مع كونها زاداً لإخواننا من الجن، ففرعوا على هذه العلة حكماً وهو عدم الاستجمار بشيء أملس لا ينقي الموضع كالزجاج.(8/4)
حكم الاستجمار بالطعام
وقوله: [وطعام ومحترم ومتصل بحيوان].
(وطعام) أي: وغير طعام، فإن الطعام لا يجوز الاستجمار به؛ لما فيه من الامتهان، ولأن الطعام يحتاج إليه الإنسان، فإذا استغنى عنه الإنسان احتاج إليه الحيوان، ولذلك نصوا على أنه لا يجوز الاستجمار بالطعام، وهذا بإجماع أهل العلم، وقال بعض العلماء: إنه إذا قصد امتهان النعمة قد يكفر والعياذ بالله، كما لو وطئها بقدمه قاصداً الامتهان والكفر بالنعمة، نسأل الله السلامة والعافية.(8/5)
حكم الاستجمار بالمحترم
وقوله: [ومحترم].
(ومحترم) أي: لا يجوز الاستجمار بالمحترمات ومنها كتب العلم، فقد أمر الله أمر بصيانتها وتعظيمها كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] قال بعض العلماء: الشعائر جمع شعيرة وهي كل ما أشعر الله العباد - أي: أعلمهم- بحرمته ومكانته، فلذلك لا ينبغي أن يستجمر بشيء محترم شرعاً.(8/6)
حكم الاستجمار بالمتصل بالحيوان
وقوله: [ومتصل بحيوان].
كأن يأخذ ذنب البعير أو ذنب البقرة أو نحو ذلك، أو يستجمر بظهر البعير أو البقرة، كل ذلك لا ينبغي له؛ لأنه في حكم الاستجمار بالطعام، ولما فيه من تنجيس الموضع المتصل بذلك الحيوان.
لاحظوا أن هذه المستثنيات على ضربين: ضرب ورد النص به، كالعظم والروثة.
وضرب عرف بأصول الشرع المنع منه، كالمحترم ونحوه.
وضرب يفوت مقصود الشرع، وهو الذي لا ينقي.
وبناءً على ذلك، نفهم أن الفقه تارة يؤخذ مما نص الشرع عليه، وتارة يفهم من أصول الشرع العامة، وما دلت الشريعة عليه بالعمومات أو بالأصول العامة أو كما يقولون: يفهم من مقاصد الشريعة، كأن تقول: مقصد الشريعة احترام كتب العلم وإجلالها لقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32]، وفي الاستنجاء بها مخالفة لمقصود الشرع فتحرم.
وقوله: [ولو بحجر ذي شعب] الحجارة ذات الشعب: هو الحجر يكون له ثلاث أو أربع شعب، على حسب كبره وخلقته التي خلقه الله عليها، فلو أخذ رجل الحجر الذي له ثلاث شعب واستجمر بشعبة، ثم قلبه إلى الشعبة الثانية واستجمر بها، ثم قلبه إلى الشعبة الثالثة واستجمر بها فإنه يجزئ عن الثلاثة الأحجار.(8/7)
استحباب الاستجمار وتراً
وقوله: [ويسن قطعه على وتر].
أي: قطع الخارج على الوتر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة في الصحيحين: (ومن استجمر فليوتر) للعلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (من استجمر فليوتر) قولان: القول الأول: (من استجمر) أي: قطع الخارج من بولٍ أو غائط فليوتر، وسنبين معنى ذلك.
القول الثاني: (من استجمر) أي: من تطيب بالبخور فليوتر؛ لأن البخور يسمى بذلك، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في أهل الجنة -جعلنا الله وإياكم منهم- قال: (مجامرهم الألوة).
فالاستجمار يقال: إن المراد به التطيب، وهذا قول بعض أهل اللغة، ونسب إلى إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمة الله عليه، ولذلك قالوا: يسن إذا أخذ الرجل في تطييب الناس بالبخور أن يطيبهم مرة أو ثلاثاً أو خمساً، وإذا تطيب الإنسان تطيب على وتر، هذا على القول الثاني.
والأفضل أن الإنسان يجمع بين الاثنين، فإن استجمر في بول أو غائط قطع بالوتر، وإن استجمر بطيب قطع بوتر، حتى يكون من السنة على كلا القولين، وهذا هو ما ننبه عليه دائماً في المسائل الخلافية، في تفسير أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي لها فضائل للإنسان، فالمسلم يحاول أن يكسب الفضيلة ولو اختلف العلماء فيها، ويحاول أن يحصل الفضل على أتم وجوهه وأكملها.
الشاهد: أن المصنف هنا قال: (يسن قطعه على وتر) فلو أن إنساناً تبول ثم أراد أن يقطع البول فأخذ الحجر الأول فاستجمر به، ثم أخذ الحجر الثاني فاستجمر به، فانقطع البول عند الحجر الثاني، فعلى القول بأن الثلاث واجبة يلزمه حجر ثالث، وحينئذٍ لا إشكال، لكن لو فرض أنه استجمر بالحجر الأول والثاني والثالث ولم ينقطع البول ثم استجمر بالرابع فانقطع، فإذا انقطع بالرابع فإنه يضيف حجراً خامساً طلباً للسنة، وهذا هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن استجمر فليوتر).
وكذلك أيضاً بالنسبة للغائط، يجعل حجرين لطرفي الصفحتين، وحجراً لحلقة الدبر، ثم إذا انقطع الخارج من حلقة الدبر بالثلاث فلا إشكال، لكن لو انقطع بالرابع فيضيف خامساً للحلقة.(8/8)
حكم الاستنجاء من كل خارج من السبيلين
قال رحمه الله تعالى: [ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الريح].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما حفظ عنه أنه تبول ولا تغوط صلوات الله وسلامه عليه إلا وتطهر، وكان أنس -كما جاء في الصحيحين- يحمل الإداوة معه للنبي صلى الله عليه وسلم ليستنجي بها، وكذلك أيضاً جاء في حديث سلمان وعائشة رضي الله عنهما، وغيرها من أحاديث السنن التي تدل على محافظة النبي صلى الله عليه وسلم على إنقاء الموضع إما باستجمار أو باستنجاء.
أما الاستنجاء فهو: أن ينقي الإنسان الموضع بالماء، كما هو الحال الموجود الآن في البيوت، فإذا فرغ الإنسان من بوله أو غائطه صب الماء على عضوه وأنقاه، وهذا يسمى استنجاء.
أما الاستجمار: فهو أن يأخذ الحجارة، وهذا في الغالب يحصل للذي يكون في سفر أو في بر أو نحو ذلك، وكل منهما مشروع، ولا يجب عليه أن يستنجي بالماء، فلو أن إنساناً دخل إلى الحمام -ولو في المدن- والماء موجود، ولشدة البرد لم يرد أن يغسل عضوه فأخذ مناديله فاستجمر بها لأجزأه ذلك، وهذا بلا خلاف، بل كان بعض السلف لا يرى صب الماء ويقول: هو وضوء النساء، ولكنه قول مرجوح ومردود عليه؛ لأن أنساً حمل للنبي صلى الله عليه وسلم الإداوة، والماء أبلغ وأنظف وأنقى، وكانوا يستحبون أن يبتدئ بالحجارة حتى تنقي الموضع بحيث إذا صب الماء لا يتلطخ بالنجاسة، ثم بعد ذلك يتبعه الماء، وفيه حديث ضعيف في قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108]، والصحيح: أن ذلك الاستحباب هو من أصول الشرع العامة لا من دليل بعينه، أي: لم يرد دليل بعينه يدل على الجمع بين الحجارة والماء، ولكن من باب أصول الشريعة العامة وعلى سبيل المبالغة في التنظيف، وأما لو اقتصر على الماء أو اقتصر على الحجارة فيجزيه، ولا حرج عليه في ذلك، ومقصود الشرع هو إنقاء الموضع.(8/9)
أقسام الخارج من السبيلين من حيث نقض الوضوء
وقوله: [ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الريح].
(كل) من صيغ العموم، وهذا أصل عند الأصوليين، أنه إذا قيل: (كل)، يفهم من ذلك عموم الدلالة، فيشمل ذلك كل ما خرج من البدن، والخارج من البدن يأتي على ضربين: الخارج المعتاد، والخارج غير المعتاد، فالخارج المعتاد: البول والغائط.
والخارج الغير المعتاد: كالدم، كأن يحصل للإنسان نزيف داخلي، أو يخرج منه حصى أو دود، فهذه كلها خوارج غير معتادة، أي: خرجت على سبيل المرض، وللعلماء في الخارج أوجه: منهم من قال: لا ينقض الوضوء إلا ما كان خارجاً معتاداً في الصحة، فلا ينقضه الخارج غير المعتاد.
ومنهم من قال: ينقض الوضوء كل ما خرج.
فالمذهب الأول مذهب التخصيص، والمذهب الثاني مذهب التعميم.
ومنهم من فصَّل، فقال: إن كان نجساً نقض، وإن كان طاهراً لم ينقض، أي: إن كان أصله النجاسة كدود البطن، فإنه يكون مختلطاً بالنجاسات؛ فإذا خرج نقض، وإن كان أصله طاهراً كالحصى فلا ينقض، وهذه أوجه العلماء رحمة الله عليهم في الخارج.
فالمصنف درج على القول الذي يقول: إن كل ما خرج من البدن ينقض، ويستوي في ذلك أن يكون معتاداً أو غير معتاد، وسيأتي -إن شاء الله- بسط هذه المسألة في نواقض الوضوء.
ونريد أن نحدد محل الاتفاق ومحل الخلاف في مسألة الخارج، أما الاتفاق فلو خرج البول ,أو الغائط الذي هو الخارج المعتاد أو المذي أو الودي، فإن كل هذه يجب الاستنجاء منها.(8/10)
حكم الاستنجاء من خروج المني
أما المني: ففيه وجهان مشهوران: الوجه الأول: خروج المني يوجب الاستنجاء.
الوجه الثاني: لا يوجبه.
والذين قالوا: إنه موجب، احتجوا بما ثبت في الصحيحين في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمهات المؤمنين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل العضو وما هنالك) قالوا: لأن المني يعتبر موجباً للاستنجاء.
والذين يقولون: أنه طاهر، وخروج الطاهر لا يضر، فبناءً على الأصل الذي قرروه وهو أن يكون الخارج نجساً، قالوا: والمني طاهر وليس بخارج من المخرج المعتاد؛ لأن له عرقاً يخصه.(8/11)
حكم الاستنجاء من خروج ما يُدخل في السبيلين كالآلات
وقوله: [لكل خارج].
هنا مسألة عصرية تتفرع عن قول المصنف: (كل خارج)، وهي: مسألة المادة التي يحقن بها الإنسان كمواد الأشعة التي من أجل تصوير العضو لمعرفة مرضٍ فيه، فتحقن المادة في العضو ثم تبقى في نفس المجرى، ثم يصور ثم تخرج عن طريق التبول أو أنها تسحب، فإذا خرجت هل يجب الاستنجاء منها أو لا يجب، فإن قيل: العبرة بالعموم -كما درج عليه المصنف- وجب الاستنجاء بخروجها، وإن قيل: العبرة بالخارج المعتاد؛ فلا يجب الاستنجاء منها.
أيضاً: المسألة القديمة التي تفرعت عليها هذه المسألة: لو أن آلة أدخلت في مجرى البول أو مجرى الغائط -كالمناظير- ثم أخرجت، هل يجب أن يستنجي الإنسان بخروجها أو لا يجب؟ من العلماء من قال بالتفصيل، فقالوا: إن خرجت وفيها أثر الرطوبة وجب الاستنجاء، وإلا لم يجب.
والحقيقة أن التعبير بالعموم من حيث أصل الشرع قوي، يعني: ما درج عليه المصنف من إيجاب الاستنجاء من كل ما خرج -بلفظة (كل) - أقوى؛ لأنه مراعٍ لأصل الشرع؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم غسل من المني وهو طاهر، وكذلك غسل من بقية الخوارج، وبناء على ذلك نقول: نعتبر خروج الخارج موجباً للإنقاء.
ويبقى لدينا سؤال وهو: ما دليل من قال بالتفريق بين الطاهر وغير الطاهر؟ قالوا: دليلنا الشرع، فإن الريح يخرج من البدن ولا يجب بالإجماع منا أن يستنجى منه، فلو كان كل خارج يوجب الاستنجاء لوجب الاستنجاء من الريح، فكون الشرع لا يوجب الاستنجاء من الريح يفهمنا أنه لو خرج الطاهر من قبل أو دبر أنه لا يوجب الاستنجاء.
كيف نجيب عن هذا الدليل ونحن قلنا: إن الأرجح هو الوجوب؟ نقول: إن هناك فرقاً بين ما له جرم وما لا جرم له، بدليل أن الإجماع انعقد على عدم الاستنجاء من الريح، وعندنا المني وهو طاهر ويستنجى منه، ففهمنا أن هناك فرقاً بين السائل الذي له جرم والذي لا جرم له وهو الريح، وبناء على ذلك نقول: يستجمر من كل ما له جرم -جامداً أو مائعاً- إلحاقاً بالمني، ولا يجب عليه الاستجمار من الهواء كالريح، ويبقى الأصل على ما هو عليه ولا يستقيم اعتراضهم بالريح.
وربما لو قلت لهم: إن المني يستنجى منه، قيل لك: هذا من باب رد المختلف فيه إلى المختلف فيه؟! فأنا لا أرى أن المني يوجب الاستنجاء منه، هذا إذا كان يقول بطهارته كما هو أحد الأوجه عند الشافعية، فلا يرى الاستنجاء من المني، أما لو كان يقول بنجاسته كالحنفية، فخروجه يوجب الغسل ملحقاً بالبول والغائط، فهذا أصل المسألة أصولياً.
فالخلاصة: أنه يجب الاستنجاء من كل ما خرج من السبيلين ما عدا الريح، وشذ بعض أهل الأهواء فقالوا: إن الريح يستنجى منه وهذا قول مردود؛ لأنه لا دليل عليه، لكن ينبغي أن ينبه على أن الريح له أحوال: فتارة يكون معه سالماً من رذاذ النجس الموجود في الموضع، وتارة يكون مخلفاً لرذاذ نجس كما يذكر بعض العلماء في حالة إسهال أو نحوه، فإن صاحب هذه الريح لزج له جرم من الخارج؛ فإنه يجب إنقاء الموضع للخارج لا لذات الريح.(8/12)
حكم الوضوء والتيمم قبل الاستنجاء
وقوله: [ولا يصح قبله وضوء ولا تيمم].
هذه مسألة ثانية، وقد مرَّ أنه ينبغي على المكلف أن يستنجي وينقي الموضع، وبينا الدليل كما في الحديث: (نهانا أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار) وكذلك قوله في حديث أبي داود عن الثلاثة الأحجار: (فإنها تجزيه) فقوله: (إنها تجزيه) كما يقول الإمام ابن قدامة وغيره: إنها تدل على الوجوب، فإن الإجزاء لا يعبر به إلا في الوجوب.
فيجب على الإنسان أن يستنجي من الخارج عموماً -كما ذكر المصنف- إلا إذا كان ريحاً، فلو أن إنساناً خرج منه الخارج ولم يستنجِ، بل تبول ثم نشف الموضع، ولم يكن عليه ثياب، فلبس ثياباً بعد نشاف الموضع ثم يبس المكان، أو مثلاً: تبول ثم غير ثيابه بعد نشاف الموضع، فالثياب طاهرة، وهو من حيث هو طاهر ما عدا موضع الخارج، ثم جاء وتوضأ أو تيمم وأراد أن يصلي، فنحن قلنا: يجب الاستنجاء، فهل هذا الوجوب شرط في صحة الصلاة بحيث لا نصحح العبادة إلا بعد استنجائه؟ أو نقول: إن صلاته صحيحة؟ للعلماء وجهان مشهوران: منهم من قال: تصح طهارته وتصح صلاته، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ واغسل ذكرك) وفي حديث عمر في الصحيحين: (أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: توضأ واغسل ذكرك) فوجه الدلالة: أنه قال له: توضأ، ثم قال له: اغسل ذكرك، أي: أنه صحح وضوءه مع أنه لم يستنج بعد، لقوله: (واغسل ذكرك) فإن قوله: (اغسل ذكرك) وقع بعد قوله: (توضأ) فدل على أن عبادة الوضوء تصح، وبناء على ذلك قالوا: يصح الوضوء قبل الاستنجاء.
وقد يعترض عليه المعترض ويقول: لو كان حديث عمر على الترتيب: فكيف يلمس ذكره بعد الوضوء؟! وجوابه: أنه وضوء في جنابة، فلا ينتقض بمس الذكر، وهذه مسألة لطيفة يلغزون بها: وضوء لا ينتقض إلا بالجماع أو بجنابة جديدة؟ وهو وضوء الجنب، واحتجوا له بهذا الحديث، وأشار إليها السيوطي بقوله: قل للفقيه وللمفيد ولكل ذي باع مديد ما قلت في متوضئ قد جاء بالأمر السديد لا ينقضون وضوءه مهما تغوط أو يزيد يعني: لا ينقضه بول ولا غائط، فتقول: هو وضوء الجنب.
فقالوا: هذا الحديث يدلنا على أن من خرج منه الخارج ولم يغسل الموضع ثم توضأ فإن وضوءه صحيح.(8/13)
الأدلة على عدم صحة الوضوء قبل الاستنجاء
والصحيح: أنه لا يصح الوضوء كما قال المصنف إلا بعد إنقاء الموضع للأدلة الآتية: أولها: أن الله تعالى أمر بالوضوء عند إرادة القيام إلى الصلاة، وهذا يدل على أنه لا يفصل بينهما بفاصل الاستنجاء، وأنه هو الأصل.
ثانياً: أن المحفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أنه كان يستنجي ثم يتوضأ، وما حفظ عنه في حديث صحيح أنه قدم الوضوء على الاستنجاء.
ثالثاً: أن الدليل الذي استدلوا به مجاب عنه بأن الواو في قوله: (توضأ واغسل ذكرك) هي لمطلق الجمع، فالاستدلال بهذا الدليل على الوجه الذي ذكروه وقالوا: إنه مبني على أن الواو تفيد العطف مع الترتيب، هو مذهب ضعيف.
والصحيح: أن الواو أصل في إفادة مطلق الجمع، بغض النظر عن كون هذا قبل هذا، كأن تقول: جاء محمد وعمر، فلا يستلزم أن محمداً جاء قبل عمر، إنما المراد مطلق الأمرين.
فالمقصود: أن الواو تدل على مطلق الجمع، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ واغسل ذكرك) مراده حصول الأمرين، لا أن يوقع الوضوء قبل غسله لذكره، وبناء على ذلك يستقيم ما ذكره أصحاب هذا القول من تقديم الاستنجاء على الوضوء.
لو قال قائل: قول الذين يقولون بجواز سبق الوضوء للاستنجاء، فكيف يستنجي وهو سيحتاج إلى لمس العضو؟ فأجابوا بقولهم: يلمسه بحائل، أو يتوضأ وبعد أن يتوضأ يصب الماء عليه، كأن يكون في بركة أو عارياً أو نحو ذلك، يعني: المسألة ممكن أن تقع، ولا يشترط فيها لمس العضو حتى يحكم بالنقض.(8/14)
شرح زاد المستقنع - باب السواك وسنن الوضوء [1]
السواك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم التي حث أمته عليها، وهو مطهرة للفم مرضاة للرب، وهو مستحب في كل وقت، ويتأكد استحبابه عند الوضوء والصلاة والقيام من النوم وتغير الفم، ويُطلب في السواك أن يكون منقياً للموضع، وأن يكون طيباً رطباً غير مضر.(9/1)
مشروعية السواك
قال المصنف رحمه الله: [باب السواك وسنن الوضوء].
يقول المصنف رحمه الله: (باب السواك) السواك يطلق ويراد به الآلة التي يتسوك بها، ويطلق ويراد به فعل السواك، فمن إطلاق السواك مراداً به الآلة التي يستاك بها: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه الذي توفي فيه، والسواك على طرف لسانه -فقوله: والسواك، يعني آلة السواك- وهو يقول: أع أع، كأنه يتهوع) صلوات الله وسلامه عليه.
وأما إطلاق السواك والمراد به الفعل، ففيه حديث أبي هريرة الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) أي: بفعل السواك.
وباب السواك المراد به بيان الأحكام والسنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في السواك، وقد شرع الله عز وجل السواك بهدي نبيه صلوات الله وسلامه عليه، القولي والفعلي والتقريري، فكان عليه الصلاة والسلام يستاك ويأمر أصحابه بالسواك، حتى ثبت في الصحيح أنه قال: (أكثرت عليكم في السواك).
وباب السواك يذكره العلماء قبل باب الوضوء، وقبل صفة الوضوء، والسبب في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وفي رواية: (مع كل وضوء وعند كل وضوء).
فقالوا: إن هذا محله، ولذلك يذكرونه في باب الطهارة، ولأن السواك قسم من أقسام الطهارة في الوصف، ففيه إنقاء موضع مخصوص على صفة مخصوصة.
وقوله: (وسنن الوضوء) أي: في هذا الموضع سأبين لك جملة من الأحكام والمسائل الشرعية التي تتعلق بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في السواك وسننه في الوضوء، والسنة ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وهي التي لم يلزم المكلف بها فمن فعلها فقد أحسن ومن لم يفعلها فلا عتبى ولا حرج، تطلب على سبيل الاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب.(9/2)
استخدام العود في السواك
قال رحمه الله تعالى: [التسوك بعود].
(التسوك) صيغة تفعل من السواك أي: فعل السواك (بعود) هذا أحد وجهين عند العلماء رحمة الله عليهم، أن السواك المحمود شرعاً إنما يكون بالعود لا بغير العود، وذهبت طائفة من العلماء إلى أن السواك يحصل بالعود وبكل ما ينقي الموضع، كأن يستاك بخرقة أو بمنديل، قالوا: لأن مقصود الشرع هو إنقاء الموضع، ولهم دليل يدل على صحة قولهم في قوله عليه الصلاة والسلام: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن قوله: (مطهرة للفم) أي: أن السواك من شأنه أن يطهر، فدل على أن كل ما طهر يصدق عليه أنه سواك شرعي، وتوسط بعض المحققين -وهو اختيار بعض العلماء ومنهم الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني- فقالوا: يثاب على قدر ما يصيب من السنة في النقاء، ولا يأخذ فضل السنة كاملة إذا استاك بخرقة أو بمنديل، لكن يكون له فضل، كما لو فقد العود وأراد أن يستاك بمنديل، وهذه المسألة مشهورة ولها نظائر: منها: إذا فقد الإنسان الوصف الكامل في الهدي، وتحصل له بعض الوصف فإنهم يقولون: ينال من الأجر على قدر ما حصل من مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع النقاء والنظافة، فلما حصل النقاء والنظافة تحقق المراد من السواك، قالوا: فيثاب لموافقته للشرع من هذا الوجه، لأنهم قالوا: الأثر وصورة المؤثر، فإذا لم يجد صورة المؤثر -وهو السواك- فقد وجد حقيقة الأثر، فيثاب لحقيقة الأثر دون صورة المؤثر، وبناء على ذلك: ينال من الأجر على قدر ما أنقى ونظف من الموضع، ولهذا الوجه قوته.(9/3)
صفة السواك
قال رحمه الله تعالى: [لين منقٍ غير مضر].
(لين) غير يابس؛ لأن اليابس لا ينقي ولا يحقق مقصود الشرع وقد يضر بالأسنان، والشرع لا يجيز الضرر كما في الحديث -وحسنه غير واحد-: (لا ضرر ولا ضرار) قالوا: إن ما فيه ضرر لا يأمر الشرع به، فإذا كان العود يابساً أضر بالأسنان، وبناء على ذلك قالوا: إنه لا يكون إلا ليناً، ولهذا أصل في حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في مرض الموت -كما في الصحيحين-: (دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعن أبيه، وفي طرف يده سواك، فأبده النبي صلى الله عليه وسلم بصره، فقالت له عائشة: أتحبه؟ فأشار برأسه أن نعم، قالت: فأخذته فقضمته وطيبته، ثم أعطيته النبي صلى الله عليه وسلم) ففي هذا دلالة على أن السواك لا يكون إلا رطباً، وأنه لا يستاك بالأعواد اليابسة مباشرة.
وقوله: (منقٍ غير مضر).
(منقٍ) أي: منظف للموضع، (غير مضر) لأن الشرع -كما قلنا- لا يأمر بالضرر، بل إن الأمر بالسواك دفع لضرر القلح الموجود في الأسنان وتطييب لها، وقد شرع الله عز وجل هذه السنة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم تحصيلاً للمصالح ودرءاً للمفاسد، فلا يؤمر بما فيه مفسدة وفوات مصلحة، إلا في أحوال نادرة في صور مخصوصة وليس هذا منها.
قال رحمه الله: [لا يتفتت].
كونه لا يتفتت هذا الوصف إنما هو من اجتهاد العلماء رحمة الله عليهم، وإلا هو إذا أخذ عوداً من أراك واستاك به أصاب السنة، وكونه لا يتفتت أو كونه ليناً -أي: ليناً طيباً- فهذا كله من الكمالات؛ لأنه يعين على تحقيق مقصود الشرع، حتى أن الأطباء الآن يقولون: كلما كان رطباً وفيه المادة الرطبة كلما كان أبلغ، والمادة هذه تستعمل في معالجة الأسنان ونفع اللثة بخلاف ما إذا تفتت، قالوا: إذا تفتت آذى الفم، فإن فتات العود يؤذي اللسان بالوخز، وهذا الوخز قد يتسبب في أضرار بالإنسان؛ لأنه إذا جرح اللسان ودخل إلى الفم أي شيء مضر سهل نفاذه إلى الدم، وقد يتسمم الإنسان ويهلك، وكذلك يدمي اللثة ويجرح اللثة، وعلى القول بنجاسة الدم كما هو قول الجماهير يزيد الموضع قذراً لا طهارة، فكل هذا من باب النظر إلى مقصود الشرع، فلا يقول قائل: إن هذا كلام من عند العلماء فقط، بل هو مستقى من أصول الشريعة، ودائماً تجدون الفقهاء يتوسعون من باب تحصيل كمالات السنة، وهنا عائشة قالت: (طيبته) ما معنى طيبته؟ قال بعض العلماء: طيبته بإزالة آثاره عند قضمه، وقيل: أي: جعلت فيه طيباً، كماء الورد ونحوه، ولذلك قالوا: يسن أن يكون السواك مطيباً، لكن ما يجعل الطيب الذي يؤثر في العقول، والبعض يظن أنه مطيب، بمعنى: أن يجعله في طيب.(9/4)
حكم التسوك بالأصبع ونحوه
وقوله: [لا بأصبع أو خرقة].
(لا بأصبع أو خرقة) والحقيقة ليس هناك دليل يدل على منع الإنسان من أن ينظف بأصبعه، وهم يقولون: إن الأصبع ليس بسواك لأنه متصل وليس بمنفصل، والسواك منفصل لا متصل.
والصحيح: أنه لا حرج على الإنسان -إذا فقد السواك وإذا لم يجد خرقة، أو كانت غير نظيفة- أن يدخل إصبعه؛ لأن مقصود الشرع تنظيف الموضع، فإذا لم يتمكن الإنسان من إصابة السنة على الكمال فلا حرج عليه في إصابة بعضها، فلو أن إنساناً مثلاً: حديث عهد بالسحور، ثم أذن عليه أذان الفجر وليس عنده سواك ولا خرقة، فإن وذر الطعام يحتاج إلى معالجة، فلو قلنا: أنه يقتصر على العود أو على الخرقة، فسيبقى وذر الطعام وقد يضره وقد يؤثر في صيامه، ولذلك لا حرج عليه أن يعالج بيده، أو بالخرقة، وكما قلنا: إن المصنف نفى الخرقة والأصبع بناءً على الأصل الذي قرره في أول الباب من أن السواك لا يكون إلا بالعود.(9/5)
حكم السواك
قال رحمه الله تعالى: [مسنون كل وقت].
(مسنون) بعد أن عرفنا ما هو السواك يرد
السؤال
ما موقف الشرع منه؟ هل هو مأمور به أو منهي عنه؟ فقال: (مسنون)، أي: هو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على سنيته: قوله عليه الصلاة والسلام: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) هذا على العموم ولم يخصص، ولكنه يتأكد في أحوال كما سيأتي -إن شاء الله- بيانها وبيان أدلتها.
قال جمهور العلماء من السلف والخلف: إن السواك ليس بواجب، وقال بعض العلماء -وهو قول بعض أهل الظاهر-: إن السواك فرض واجب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالسواك) والصحيح: أنه ليس بواجب لما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) فقال: امتنع الأمر بالسواك لوجود المشقة، فدل على أنه ليس بواجب.
وبناءً على ذلك: يعتبر السواك سنة وليس بفرض، ومن استاك أثيب، ومن لم يستك فإنه لا حرج عليه ولا إثم.
وقوله: (كل وقت) هذا على العموم، وهناك أحوال يفضل فيها السواك على غيره، منها عند الوضوء، لحديث أبي هريرة، وعند القيام إلى الصلاة، وكذلك عند القيام من النوم.
أما عند القيام إلى الصلاة؛ فلحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام -أي: إلى صلاة الليل- يشوص فاه بالسواك) يشوص فاه، أي: يدلكه بالسواك.
وكذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (أنها كانت تعد للنبي صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره، فيبعثه الله من الليل ما شاء) صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أنه إذا انتبه الإنسان من النوم شاص فاه بالسواك، وكذلك إذا قام إلى الصلاة، سواء كانت صلاة ليل أو غيرها.
كذلك أيضاً عند تغير الفم بالطعام، قالوا: مع كونه عند قيامه من الليل يشوص فاه بالسواك فنعتبره أصلاً، فكلما تغير الفم فإنه يشوص فاه، ولذلك قالوا: يستحب ذلك.
وكذلك إذا جلس الإنسان مع أهله وزوجه فيستحب أن يبدأ بالسواك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك إذا جلس مع أهله، وكان لا يحب أن يشم منه ريح غير طيبة، فلذلك استحبوا أن يكون الإنسان مستاكاً في مثل هذه الأحوال، وسيأتي -إن شاء الله- بيانها وبيان الأحاديث التي دلت عليها.
قال رحمه الله تعالى: [إلا لغير صائم بعد الزوال].
قال: (إلا)، وهذا استثناء، وهو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فالسواك مستحب أو مسنون في كل هذه الأوقات.
(إلا لغير صائم بعد الزوال) والكلام بهذه الصيغة لا يستقيم.
فنقول: لعل الصواب حذف غير، فتكون العبارة: إلا لصائم، أي: إلا لصائم بعد الزوال.
أحب أن أنبه أنه في بعض الأحيان يعاجل طالب العلم بتخطئة المكتوب، وهناك أدب من آداب مراجعة الكتب: أن الإنسان إذا وجد عبارة واحتمل فيها التصحيف يكتب في الطرف: (لعل الصواب كذا) لاحتمال أن تكون هذه الكلمة صحيحة بوضعها ولكن هناك نقط وضعت في غير موضعها، أو زيدت كلمة أو حرف، أو طمست كلمة أو حرف، فلا يعاجل بالطمس وبالضرب على الكلمة، ولكن يكتب: (لعل الصواب كذا وكذا)، حتى إذا جاء آخر وأحسن النظر فيها ربما عرفها، أو ربما وجدت نسخة أخرى تبين الصحيح، وهذا هو الذي أدركنا عليه أهل العلم رحمة الله عليهم، فهم لا يجرءون على طمس الكتب وتخطئتها والتصحيح من قبل أنفسهم، وإنما يكتبون في طرف الكتاب أو في هامشه: لعل الصواب كذا وكذا، إلا الآيات القرآنية، بشرط أن يكون الذي يصححها عنده إلمام أو علم بالرواية التي يريد أن يصحح بها إذا كان المصنف التزم رواية معينة كرواية حفص، وهو يتقنها، فلا حرج أن يضرب على الخطأ، فالآيات القرآنية لا يتساهل في أخطائها وإنما تبين.(9/6)
الأسئلة(9/7)
حكم دعاء ختم القرآن
السؤال
هل هناك دليل واضح يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا يدعون بعد ختم القرآن الكريم؟
الجواب
ليس هناك حديث معين يدل على أنه إذا ختم القرآن دعا، ولكن حكى بعض العلماء رحمة الله عليهم أن فعل السلف جرى على الدعاء بعد الختم، وأثر عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، وكان ابن عباس يراقب رجلاً يقرأ في المسجد حتى إذا قارب الختم حضر دعاءه، فلا إنكار على الدعاء عند الختم إذا درج عليه فعل السلف، ولم يحصل له نكير، وحبذا لو يرجع في تحرير هذه المسألة إلى الأستاذ الشيخ بكر حفظه الله في جزئه في مرويات ختم القرآن، فقد أجاد فيه وأفاد، وبين أن فعل السلف على الدعاء عند الختم، ولم يرد في الأحاديث الصحيحة -حسب علمي واطلاعي- حديث صحيح في الدعاء عند الختم، لكن لا ينبغي تخصيص دعاء معين للختم، كأن يكون بألفاظ معينة أو بأذكار معينة أو بصيغة معينة، والأفضل والأكمل أن يؤخذ بهدي النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء بجوامع الكلم.
هذا بالنسبة لمسألة الدعاء عند ختم القرآن، فيشرع من حيث الأصل، ولا نكير على الإنسان أن يدعو عند ختم كتاب الله عز وجل، ولكن لا يخصص بدعاء معين أو بصيغة معينة أو بوقت معين أو بزمان معين، كأن يجعل ليلة معينة للختم في كل أسبوع مثلاً، فيحرص على أن يختم في ساعة السحر في الجمعة مثلاً، فهذا لا ينبغي إلا بدليل من الشرع، والله تعالى أعلم.(9/8)
حكم الاعتكاف بدون صيام والأكل والشرب في المسجد
السؤال
هل من شروط الاعتكاف في غير رمضان الصيام؟ وهل يجوز الأكل والشرب في البيت الحرام؟
الجواب
هذه مسألة خلافية: هل يشترط للاعتكاف الصوم أو لا يشترط؟ وفيها حديث: (لا اعتكاف إلا بصيام) وفيها حديث عمر رضي الله عنه حينما نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، وهذه الرواية حجة في إلغاء اشتراط الصوم، فلو كان الصوم واجباً للاعتكاف لأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم.
والصحيح: أنه لا يشترط للاعتكاف الصوم، والحديث يجاب عنه بأنه متكلم في سنده، وعلى القول بتحسينه يجاب بأنه للكمال: (لا اعتكاف إلا بصيام) أي: لا اعتكاف كامل الأجر والثواب إلا بالصيام؛ لأن صاحبه يكون فيه على أبلغ صفات الطاعة، فقد جمع بين عبادة البدن الظاهرة وعبادة البدن الباطنة بالجوع والظمأ والحبس عن الشهوة.
ويدل النظر على صحة هذا القول -الذي هو: حمل (لا اعتكاف) على الكمال- أن الإنسان إذا صام ضاق مجرى الشيطان منه، والاعتكاف المقصود منه المبالغة في الطاعة وحضور القلب في العبادة، ولذلك نهي المعتكف عن الخروج إلا من حاجة، فقالوا: إن هذا يدل على أن المراد باشتراط الصيام في الاعتكاف هو الكمال، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (لا اعتكاف إلا بالمساجد الثلاثة) فإن المراد به أكمل الاعتكاف وأعظم الأجر فيه؛ لأن الصلاة في هذه المساجد أعظم أجراً من غيرها، وإنما حمل على الكمال لعموم قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فالمقصود أن هذا كله محمول على الكمال لا على نفي الصحة، وبناءً على ذلك فلا يشترط الصوم على أصح الأقوال.
أما الأكل والشرب داخل المساجد فإن العلماء رحمهم الله قد فصلوا في ذلك، فقالوا: لا حرج على الإنسان أن يأكل ويشرب في المسجد؛ لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه اعتكف وما خرج لطعام ولا شراب) وهذا في حديث عائشة رضي الله عنها ما خرج إلا لحاجة فقط -وهي البول والغائط- وكان يمر على المريض فلا يعرج عليه، وهذا يدل على أن المعتكف يجوز له أن يأكل ويشرب في المسجد، ولا حرج عليه ولكن بشرط ألا يضر بالمسجد وألا يؤذي المصلين، وأن يكون الطعام الذي يدخله لا تنبعث منه الروائح الكريهة، فيتسبب في أذية المصلين بتغيير رائحة المسجد، فإذا كان الأكل والشرب للمعتكف فلا حرج، أما لغير المعتكفين فالأكمل ألا يأكل في المسجد؛ لأن الله تعالى يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] فمن رفعتها وإكرامها وإجلالها أن تجعل للعبادة فقط، قال عليه الصلاة والسلام: (إن المساجد لم تبنَ لهذا)، وأراد كلام الدنيا ومن باب أولى الطعام؛ لأنه لا يسلم من وجود بعض الضرر من رائحة الأطعمة وأذية المصلين بها.
ولذلك الأكمل والأفضل عدم الأكل والشرب في المسجد، أما لو أكل وشرب بالشروط التي ذكرناها فلا حرج، فلو منع من إدخالها إلى المسجد؛ فإنه يصح المنع لمصلحة عامة، وذلك أن الناس إذا استخفوا وتساهلوا فيشرع زجرهم، وخاصة في المساجد التي تجمع عدداً كبيراً من الناس، كالمساجد الثلاثة.
إذاً: لابد أن يكون الأكل في المسجد محدوداً ومضبوطاً بحدود وضوابط معينة لا يكون فيها ضرر بالمصلين ولا بالمعتكفين، فإذا منع من ذلك فإنه لا يجوز تهريب الطعام إلى داخل المسجد.
وأنا أرى أن دخول بعض الأطعمة كالخضروات والبقول ونحوها المطبوخة فيها أذية للمسجد، فإنك تجد أثر ذلك في المسجد، فإذا كانت المساجد مكتظة بالناس، فإنها تحتاج إلى فترة حتى يذهب ريح تلك الأطعمة.
وقد رأيت بعيني في أيام العيد الصبيان يطئون التمر بأقدامهم، أي: أنه ينتشر بالمسجد، فبعض الناس -أصلحهم الله- يتساهلون في الانضباط، فإذا عمّت البلوى واحتيج إلى صيانة المساجد فلاشك أن هذا أمر مطلوب، خاصة في الحال الذي يحصل فيه الحرج والضيق، وأنتم تعرفون أن بعض المساجد يحصل فيها ضيق بالعامة والخاصة، فينبغي على الإنسان أن يتحسب، وإلا فالأفضل للمعتكف أن يقتصر على الأسودين: الماء والتمر، وخاصة في البلد الحرام الذي أكرمه الله عز وجل بماء زمزم الذي هو (طعام طعم وشفاء سقم) فيشدد على أهل مكة أكثر من غيرهم؛ لأن عندهم: (طعام طعم وشفاء سقم) وأبو ذر جلس أربعين يوماً لا يطعم إلا من زمزم.
فالمقصود: أن إدخال الأطعمة فيه ضرر للناس والأفضل الانضباط ما أمكن، والله تعالى أعلم.(9/9)
حكم ائتمام النساء بالرجال مع عدم رؤيتهم
السؤال
هل يشترط أن يرى النساء المأمومين والإمام أثناء الصلاة المفروضة وفي النوافل كالتراويح مثلاً؟
الجواب
الأصل: أن يرين؛ لأن الأحاديث الصحيحة تدل على هذا، ولذلك نهي النساء أن يرفعن رءوسهن قبل الرجال؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ربما سجد الرجل منهم فبانت عورته؛ لأنهم ما كانوا يجدون الأُزر إلا ما يستر حد الضرورة بسبب ضيق العيش الذي كانوا فيه، فهذا مصعب بن عمير خرج من الدنيا وعليه شملة واحدة هي زاده من الدنيا كلها، إن غطوا بها رأسه بدت قدماه، وإن غطوا قدميه بدا رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: (غطوا بها وجهه، واجعلوا على رجليه إذخراً أو شيئاً من الإذخر) فهذا يدل على أنهن كنَّ يرين الإمام والمصلين.
وفي زماننا لو حصل سهو للإمام أو خطأ فربما لم ينتبه النساء لذلك الخطأ والسهو إذا لم يكن يرين، لذلك يشرع رؤيتهن للإمام؛ لأنه الأصل في المتابعة، فيحتاط بموضع ولو لامرأة واحدة حتى ترى من خلاله الإمام، وإلا اختلت صلاتهن، مثال ذلك: لو أن الإمام سها وقام ولم يجلس للتشهد الأول، فإن النساء سيجلسن، وقد وقع هذا كثيراً، وأذكر أنني ذات مرة صليت بقوم التراويح فلما سلمت سجدت سجدتي السهو البعدية، فقال لي أحد الإخوان بعدما خرجنا: قالت إحدى نسائه: من هو الميت الذي صليتم عليه صلاة الغائب؟ نعم والله؛ لأنها سمعت أربع تكبيرات بتسليمة، لكن فاتتها التسليمة الثانية، فربما ظنت أنها السنة.
فالمقصود: أن عدم الرؤية مدعاة للخطأ، فيحتاط بوضع مكان تكون فيه امرأة كبيرة في السن أو أمينة، ولاشك أن فساد الناس في هذا الزمن يقتضي الستر لهن، لكن لابد من تحقيق أصول الشرع، فيحتاط ولو بنافذة أو بمكان مخصص ترى امرأة واحدة منه ولو بعض الأمور، ولو مأموماً واحداً لأنه يدل على أفعال الإمام، وبهذا يحصل الاحتياط.
وهناك قول ثانٍ: أنه لا تشترط الرؤية، واحتجوا له بحديث أم المؤمنين في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف.
لكن الأصل المعتبر هو الرؤية، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الهدي من بعده في مسجده صلوات الله وسلامه عليه.(9/10)
حكم خروج الدم من الصائم عمداً وبغير عمد
السؤال
هل خروج الدم الكثير يفسد الصوم، وما الحكم إذا تعمد إخراجه؟
الجواب
خروج الدم فيه تفصيل: فبعض العلماء يرى أنه إذا كان من الحجامة ففيه قولان مشهوران: أصحهما: أن الحجامة لا تفطر الصائم، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة بأدلتها والجواب عن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم).
وبناءً على هذا القول فإن خروج الدم لا يوجب الفطر، ويتخرج من القول الذي يرى أن الحجامة تفطر أنه إذا خرج الدم الكثير برعاف أو بنزيف أو بجرح فإن الصيام يبطل، ويجب القضاء، وسيأتي -إن شاء الله- بيان ذلك، فقد ثبت بالحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم) فدل على أن الحجامة لا توجب الفطر، وللبيهقي رحمه الله بحث نفيس في هذه المسألة، بين فيه المرويات وأن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) كان في أول الإسلام ثم نسخ.
وعلى العموم: ثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتجام دليل على أنه لا يفطر، وقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) محمول على أنه عرض نفسه للفطر، فإن الحاجم لا يأمن من دخول الدم أثناء سحب الدم، والمحجوم لا يأمن الفطر من الضعف، وهذا تعرفه العرب، فإن العرب يعبرون بالوقوع في الشيء إذا تعاطى الإنسان أسبابه، يقولون للرجل: هلكت! وهو لم يهلك بعد، أي: أنك على شفا الهلاك.
ويقولون له: أصبحت! كما في الحديث الصحيح: (أصبحت أصبحت) أي: أنك على وشك الإصباح، فهذا يعرف في لغة العرب ولا يعتبر موجباً للفطر -على ما ذكرناه- لثبوت السنة بعدم الفطر فيه، والله تعالى أعلم.(9/11)
أفضلية صلاة المرأة في بيتها
السؤال
إذا كانت المرأة متحجبة حجاباً كاملاً، وتريد أن تصلي التراويح في حرم الله، وهي تعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة صلاتها في بيتها خير من المسجد، ولعلها لو صلت في بيتها لا تدرك ذلك الأجر، فما العمل؟
الجواب
فإن صلاة المرأة في بيتها وفي مخدع بيتها أفضل من صلاتها حتى في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الحرام، وذلك لأمور: منها: بعدها عن الفتن، وكذلك سلامة غيرها من الفتنة، فقد تكون المرأة صالحة وغيرها غير صالح، فإذا رآها فتن بها، ولو لم يكن إلا رؤية الناس للمرأة لكفى بذلك فتنة، حتى ولو كانت متحجبة، فإن المرأة إذا مرت بالرجل انبعثت به غريزته وتحرك الشيطان عليه بالوساوس، ولو كانت في أكمل حجابها، فإن الأسلم لها والأعظم أجراً لها أن تصلي في مخدعها.
ومن أعظم النعم على نساء المؤمنين امتثالهن لأمر الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا أمر النساء بلزوم القرار بأقوى الصيغ في الأمر فقال سبحانه وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ثم لم يقف الخطاب عند هذا بل قال: {وَلا تَبَرَّجْنَ} [الأحزاب:33] فجاء بصيغة الأمر بالشيء والنهي عن ضده، وهذا من أبلغ ما يكون، فحينما تقول للرجل: اجلس ولا تقم! فإنك تكون قد أكدت عليه وألزمته وفرضت عليه الجلوس أكثر مما لو قلت له: اجلس، فإن قولك: اجلس، إلزام، لكن كونك تقول له بعد ذلك: ولا تقم، أي: امكث ولا تتحرك، فهذا أبلغ في الإلزام.
ثم جاء الخطاب بصيغة الأمر وبصيغة النهي مقروناً بالتنفير، فلم يقل: ولا تبرجن، بل قال: {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] فجاء بتلك الصورة الممقوتة، كأنه يقول: إن عدتن إلى التبرج عدتن إلى الجاهلية الأولى، فسلامة الأمة وسلامة أمة الله جل وعلا وسلامة دينها أن تبقى في بيتها.
ولتجرب المرأة، فما مكثت الشهر والشهرين في بيتها لا تخرج ولا ترى الرجال ولا يراها الرجال إلا وجدت لذلك أثراً في نفسها ودينها، ولو خرجت من بيتها -ولو لحلق العلم والدرس والمحاضرات- إلا وجدت نقصاً، ولا نقول: يطعن في دينها، لكن لابد أن تجد نقصاً في الكمال.
إذاً: كمال المرأة وسلامتها وخيريتها في عدم رؤية الرجال وألا يراها الرجال، مهما كانت المرأة صالحة، فقد يمر بها الشاب المفتون، وقد يمر بها الشاب الذي رؤيته فتنة، فمن يسلمها؟! والله عز وجل أعطاها نعمة العافية، فإذا عافى المرأة وألزمها القرار كان ذلك من أعظم نعم الله عليها.
والمرأة الملتزمة التي هي في كمال التزامها لا ترتاح إلا في بيتها، فالمرأة التي لا تعرف إلا بيتها اعلم أنها امرأة صالحة وصاحبة خير، ولذلك قالت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها: (خير للمرأة ألا ترى الرجال ولا يراها الرجال) ويروى مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود: أن سلامة المرأة وأعظم الخير لها في عدم رؤية الرجال لها وعدم رؤيتها للرجال، فإن قيل: إنها صالحة، فغيرها غير صالح، وإن كانت صالحة فإنها مهما بلغت المرأة من الصلاح فهناك فتن لا تقوى القلوب عليها إلا برحمة من الله جل وعلا، خاصة في هذه الأزمنة، فأوصي النساء ما أمكنهن أن يمكثن في القرار، ومع هذا أوصي الرجل الصالح والزوج الصالح أنه إذا رأى امرأته تحب أن تصلي في المسجد الحرام، وهو يعرف ديانتها وخيرها أن يعينها على الخير، فلا يُشَدد ولا يُضَيق عليهن، ولكن نحن نقول للنساء: الأفضل أن يمكثن في بيوتهن، فإذا أرادت أمة الله أن تخرج وتريد الخير، فوسع لها رحمك الله، فإن النساء الصالحات في هذا الزمان لهن حق كبير على الأزواج، فالمرأة الصالحة في هذا الزمان -زوجة أو بنتاً أو أماً- تكرم ولا تهان، وتعز ولا تذل، وترفع ولا توضع، امرأة حياتها بين أربعة جدران، انظر لو مر عليك شهر وأنت بين أربعة جدران كيف يكون حالك؟! ولا يوجد عندها ملهٍ ولا مسلٍ، وهي بعيدة عن الفتن، ذاكرة شاكرة، فمثل هذه إذا قالت لك: إنها تريد أن تخرج للخير، فأحسن الظن بها.
وبعض الإخوان الأخيار يسيء معاملة النساء، فإذا علمت أن أخاك يضيق على أهله فذكره بالله، وخاصة النساء الصالحات الملتزمات الخيرات، فينبغي التوسيع عليهن ولكن في حدود الشرع؛ لأن المرأة الصالحة إذا منعت من الخروج تسلط الشيطان عليها فقال لها: زوجكِ يسيء الظن بك، وقد يكون هدفك صالحاً ونيتك صالحة، ولكن من لك في القلوب التي هي منفذ ومدخل للشيطان، فإذا أرادت أن تخرج إلى مسجد أو إلى محاضرة أو إلى ندوة فذكرها بالأفضل، فإن أصرت فلا تمنعها، ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فبعد أن فرغ من حجه قالت له أم المؤمنين عائشة: (أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج؟ فقال لها: طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحج وعمرة) فأصرت عليه، وفي الرواية: (أنه كان لا يرد سائلاً سأله) صلوات الله وسلامه عليه، فكان كريماً لأهله، فجعلها تخرج ثم تذهب إلى التنعيم ثم ترجع إلى الطواف وتطوف وتسعى ثم تلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى كرم خلقه صلوات الله وسلامه عليه! فأنت دلها على الأفضل؛ لأن بعض الزوجات يشكون من أزواجهن الأخيار، بأنهم يشددون في مثل هذه الأمور، فإن أرادت امرأتك فضيلة فأعنها؛ لأنها تريد طاعة الله ومحبته، فاستوصوا بهن خيراً، ورحم الله الزوج الكريم البر المحسن لزوجته الذي يخرج من هذه الدنيا وقد أحسن إليها ولم يسئ، فأحسن إليها بحسن الظن بها، وبالمعونة لها على الخير، ودائماً أنزل نفسك منزلتها في مكوثها في هذا القرار الذي تكون فيه بعيدة عن الملهيات، وغيرها من النساء في الفتن والشهوات والملهيات فلا يشعرن بالوقت، وكم يعذبن أزواجهن! وهذه أمة صالحة أنعم الله بها عليك فأحسن إليها بارك الله فيك، ووسع عليها وأدخل السرور عليها حتى في الجلوس معها، والتوسعة عليها إذا طلبت بعض الأمور المباحات بحدود وقدر، وإذا كتب الله للإنسان التوفيق فلاشك أنه على خير في حاله ومع أهله ومع الناس، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.(9/12)
النفع المتعدي خير من النفع القاصر
السؤال
فضيلة الشيخ أنا إمام مسجد في إحدى القرى وفيها من الجهل ما الله به عليم، كما أنه لا يوجد إمام للمسجد في التراويح إلا أنا وشخص آخر عامي لا يحسن القراءة، وأريد الاعتكاف في المسجد الحرام، فهل أبقى في القرية أم لا؟
الجواب
على العموم: النفع المتعدي أفضل من النفع القاصر، والأفضل أن للإنسان في مثل هذه الحالة أن يبقى مع الناس فيكتب له أجر المسجد الحرام بالنية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم وادياً، ولا قطعتم شعباً؛ إلا كانوا معكم، إلا شركوكم الأجر قالوا: كيف وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر) فهذا عذر شرعي.
ولذلك أرى أن تبقى مع أهلك ومع أهل قريتك، وأن تنوي في قلبك أنه لولا وجود هذا الواجب لذهبت إلى المسجد الحرام وأعتكف فيه.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(9/13)
شرح زاد المستقنع - باب السواك وسنن الوضوء [2]
للوضوء سنن كثيرة منها: السواك، ويتأكد استعماله عند القيام من النوم، وعند القيام إلى الصلاة، وعند تغير رائحة الفم بطعام أو غيره، ومن سنن الوضوء كذلك غسل الكفين، والمضمضة والاستنشاق، والتثنية والتثليث في غسل الأعضاء، وكذلك أخذ ماء جديد للأذن.(10/1)
أحكام السواك
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:(10/2)
الأدلة على عدم وجوب السواك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [مسنون كل وقت إلا لصائم بعد الزوال].
هذه الجملة مراد المصنف بها أن يبين حكم السواك فقال رحمه الله: (مسنون) ومراده بذلك: أنه ليس بواجب ولا بلازم.
وقال بعض العلماء -كما تقدم في المجلس الماضي-: إن السواك واجب, ولكن هذا القول يعتبر مرجوحاً؛ وذلك لمعارضته للسنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة).
فهذا الحديث يدل على أن السواك ليس بواجب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من إيجابه على الأمة خوف المشقة عليهم, ولذلك يعتبر القول بالوجوب مرجوحاً من هذا الوجه.
ويعتبر السواك مسنوناً لا واجباً ولا لازماً, بمعنى: أن الإنسان يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه.
(مسنون) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سنّه بقوله وفعله، أما بقوله: فكما تقدم في حديث أبي هريرة وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث البخاري معلقاً بالجزم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) فهذا الثناء من النبي صلى الله عليه وسلم على السواك يدل على أنه سنة.
وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه أكد السواك وندب إليه حتى قال في الحديث الصحيح: (أكثرت عليكم في السواك) وهذا يدل على حبه صلوات الله وسلامه عليه وحرصه على هذه الخصلة المحمودة، وقد جاء كذلك عنه عليه الصلاة والسلام أنه رغب في السواك في آخر حياته وهو في مرض موته صلوات الله وسلامه عليه، ففي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة: (أن عبد الرحمن رضي الله عنه -أعني: أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعن أبيه- دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده سواك، قالت أم المؤمنين: فأبّده النبي صلى الله عليه وسلم بصره) وقد كان عليه الصلاة والسلام عفيفاً، لا يسأل الناس شيئاً، ولكن لفضل السواك وعظيم مكانته أبّده بصره، ففهمت رضي الله عنها وأرضاها حب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا السواك.
فالسواك بالإجماع سنة إلا من خالف وقال بوجوبه, أي: يكاد يكون قول الجماهير، إلا أن بعض أهل الظاهر قالوا بالوجوب، والصحيح: أنه ليس بواجب.(10/3)
حكم السواك بعد الزوال للصائم
وقوله: (إلا لصائم بعد الزوال)، قوله: (لصائم) عام, فيشمل الصائم فرضاً, والصائم نفلاً، وهذا هو أحد قولي العلماء رحمة الله عليهم، وهو قول موجود في مذهب الحنابلة والشافعية: أن السواك لا يستحب بعد الزوال، واحتجوا لذلك بأدلة: أولها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم امتدح الخلوف، وأخبر أنه أطيب عند الله من ريح المسك، قالوا: فلو قلنا بمشروعية السواك في هذا الوقت -أعني: بعد الزوال- لأذهب فضل الخلوف وهو مقصود في العبادة بذاتها، فلا تشرع إزالته بالسواك، كما لا تشرع إزالة دم الشهيد بالغسل إذا قتل في المعركة, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشهداء أحد أن يلفوا في ثيابهم وأن يكفنوا فيها دون أن يغسلوا رضوان الله عليهم أجمعين.
فقالوا: لا تشرع إزالة أثر الصيام كما لا يشرع إزالة أثر الشهادة بجامع أن الخلوف ودم الشهيد كل منهما أثر لعبادة شرعية.
وحاصل أدلتهم أحاديث ضعيفة احتجوا بها, وأقوى ما استدلوا به: أولاً: السنة في قوله: (لخلوف فم الصائم).
وثانياً: القياس، حيث قاسوا خلوف فم الصائم على دم الشهيد، فقالوا بعدم مشروعية إزالة هذا الأثر، كما لا تشرع إزالة ذلك الأثر.
وأصح القولين -والعلم عند الله- القول بمشروعية السواك، وذلك على العموم ولو كان للصائم بعد الزوال، وذلك لما يلي: أولاً: لعموم الأدلة في فضل السواك، قال صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ولم يقل: إلا بعد الزوال، وقد قال لـ لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فلم يستثنِ صلى الله عليه وسلم السواك، وأمر بالسواك يوم الجمعة، وأكثر فيه عليه الصلاة والسلام ولم يقل: إلا أن يكون صائماً.
وكما هو معلوم عند الجميع أن رمضان لا يخلو من جمع, ومعلوم أن الإنسان لا يمضي للجمعة غالباً إلا ما يقارب الزوال, وبناء على هذا كله فإن الذي يترجح هو القول بسنية السواك مطلقاً ولو كان للصائم بعد الزوال.
أما الجواب عن أدلة من قال بالمنع أو بكراهيته بعد الزوال: أولاً: استدلالهم بقوله: (لخلوف فم الصائم) نقول: جوابه أن الخلوف ناشئ من المعدة, وليس من نتن الفم، فإن الخلوف بخار يتصاعد من جوف الإنسان لا من فمه، وأما السواك فإنه يذهب أثر الفم وليس أثر الجوف, وهذا معلوم ومدرك ومشاهد بالحس أن السواك لا يؤثر على فضل الخلوف الذي ينشأ عن الجوف، وبناء على ذلك: يكون قوله: (لخلوف فم الصائم) غير دال على المنع من السواك بعد الزوال.
ثم الأمر الثاني: أن قولهم: إنه أثر فضلة عبادة لا تشرع إزالته, نقول: إن الذي يزيله السواك هو وسخ الأسنان الذي أمر الشرع بتطهيره، كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) وبهذا كله يترجح القول بأن السواك يشرع ولو للصائم بعد الزوال؛ لعموم الأدلة الثابتة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [بعد الزوال].
(الزوال) كما هو معلوم مأخوذ من زال الشيء إذا تحرك, والزوال يكون بعد انتصاف الشمس في كبد السماء، فمن سنة الله عز وجل الكونية أن الشمس تسير من المشرق إلى المغرب، فإذا بلغت منتصف النهار وصارت في كبد السماء وقفت لحظة، وهذه اللحظة لا يتحرك فيها الظل لا إلى جهة المشرق ولا إلى جهة المغرب، وهي التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (حين يقوم قائم الظهيرة) أي: يقوم الظل فلا يتحرك, فإذا وقف الظل هذه اللحظة وهي من أربع دقائق إلى خمس دقائق تقريباً، تبدأ الشمس بعد ذلك بالتحرك إلى جهة الغروب، فإذا تحركت تحرك الظل إلى جهة المشرق بعد أن كان في جهة المغرب؛ لأن الشمس تشرق من المشرق فيكون الظل في المغرب, فإذا انتصفت في كبد السماء وقف الظل ثم إذا تحركت إلى المغرب تحرك الظل إلى جهة المشرق, ولذلك يقولون: زالت, أي: تحركت, فهذا هو الزوال، وهو الدلوك ودحض الشمس, وهو الدلوك الذي عناه الله بقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] والدحض الذي عناه أبو بردة رضي الله عنه بقوله: (كان يصلي الهجيرة التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس)، فالمقصود: أن الزوال تحرك ظل الشمس إلى المشرق.(10/4)
أوقات يتأكد فيها استعمال السواك
قال رحمه الله تعالى: [متأكد عند صلاة وانتباه وتغير فم].(10/5)
السواك عند الصلاة
(متأكد) أي: هذه السنة النبوية -أعني: السواك- يتأكد فعلها (عند صلاة) لثبوت النص: (لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وهنا للعلماء وجهان: قال الجمهور: يشرع قبل الصلاة أن يستاك الإنسان ولو كان في المسجد.
وقال طائفة من العلماء -وهو مذهب بعض المالكية- بكراهية السواك عند الصلاة مباشرة, وحملوا الحديث: (عند كل صلاة) على أن المراد به عند الوضوء، كما في الرواية الأخرى، وقالوا: إننا لو قلنا: إن الإنسان يستاك عند الصلاة لحصلت محاذير: أولها: أنه ربما جرح اللثة؛ لأن السواك لا يؤمن أن يكون ناشفاً، فيجرح اللثة أو يدميها فيسيل الدم, والدم نجس وهو قول الجماهير.
الأمر الثاني: أن الإنسان إذا استاك عند الصلاة، إما أن يتفل في المسجد وهذا ممنوع عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البصاق في المسجد خطيئة) وإما أن يبلع الوسخ والقذر الذي أخرجه السواك من أسنانه، فيكون منظفاً لظاهره ومفسداً لباطنه بدخول هذه الفضلة إلى الباطن وربما أضرت بالجسد، قالوا: فلا يشرع فعلها عند الصلاة مباشرة، والصحيح: أنه يشرع، أما ما ذكروه من إدماء اللثة فإنه يحتاط بالسواك الرطب, وكذلك أيضاً يحتاط بإجراء السواك على العظم دون اللثة إذا كان السواك ناشفاً.
وأما ما ذكروه من البصاق في المسجد فليس على كل حال، فبإمكان الإنسان أن يبصق في منديل أو في ثوبه، أو إذا كان المسجد غير مفروش بصق تحت قدمه اليسرى ثم دفن بصاقه، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيمن يبصق في المسجد: (فلا يبصق عن يمينه فيؤذي بها الذي عن يمينه, ولا يبصق عن شماله فيؤذي الذي عن شماله, ولكن عن يساره تحت قدمه) هذه هي السنة إذا كان المسجد غير مفروش, أما إذا كان مفروشاً فإنه يبصق في منديل ونحو ذلك, (متأكد عند صلاة) من الأدلة على تأكده عند الصلاة: حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن أبيه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) يشوص: بمعنى: يدلك، شاصه وماصه إذا دلكه, وهذا الحديث يدل على مشروعية السواك عند الصلاة سواء كانت فريضة أو كانت نافلة.
وورد في حديث ولكن تكلم العلماء في سنده في فضل السواك عند الصلاة وأنها أفضل من سبعين صلاة بدون سواك، ولكنه حديث ضعيف، وقال بعض العلماء: إنه يستحب عند الصلاة لمكان دنو الملك من قراءة القارئ للقرآن، حتى ورد في الخبر أنه يدني إلى فم القارئ لفضل قارئ القرآن، ولذلك قالوا: يستحب للإنسان أن يحرص على نظافة فمه بالسواك.(10/6)
السواك عند القيام من النوم
قال رحمه الله تعالى: [وانتباه] أي: انتباه من النوم؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها ذكرت أنها كانت تعد للنبي صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره, فيبعثه الله من الليل ما شاء, ولذلك كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا قام يشوص فاه بالسواك كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في الصحيحين: (كان إذا قام من الليل يشوص فاه) قال بعض العلماء: هذا يتضمن السواك على الوجهين: عند الصلاة؛ لأنه قائم من أجل الصلاة, وعند الانتباه من النوم لأنه لما انتبه من النوم؛ تغيرت رائحة فمه فشرع له أن يزيل تلك الرائحة بالسواك.(10/7)
السواك عند تغير الفم
قال رحمه الله: [وتغير فم] قالوا: حديث حذيفة دل على مشروعية السواك عند الانتباه من النوم, فيكون بلفظه دليلاً على السنية عند الانتباه من النوم، ويكون بمعناه دليلاً على أن السنة أن يستاك عند تغير رائحة الفم, فيكون الحديث فيه لفظ ومعنى.
أما لفظه: فيدل على سنية السواك في هذا الوقت.
وأما معناه: فهو العلة؛ لأنهم قالوا: ما فعل ذلك عند قيامه من النوم إلا لأن النوم يغير رائحة الفم, فيستنبط من ذلك أنه يشرع عند تغير رائحة الفم.
وتتغير رائحة الفم على أوجه: منها: الطعام وخاصة إذا كانت له زهومة, ومنها: أن تتغير رائحة الفم بنوم, أو تتغير بطول صمت, أو بجوع, أو بشدة ظمأ فكل ذلك يشرع فيه أن يستاك الإنسان, وكذلك إذا أكل الإنسان شيئاً له رائحة فيستحب له أن يزيلها بالسواك.(10/8)
كيفية الاستياك
قال رحمه الله: [ويستاك عرضاً] وفيه الحديث: (استاكوا عرضاً، وادهنوا غباً، واكتحلوا وتراً) وهو حديث ضعيف.
والاستياك عرضاً للعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: المراد بالعرض أن يأخذ من طرف فمه الأيمن إلى طرف فمه الأيسر, فيبدأ باليمين إلى اليسار, فيكون استياكه على عرض السن.
وقيل: العرض عرض الفم وذلك يكون بطول السن، أي: في ذلك وجهان: إما أن تقول: العرض عرض الفم فيكون الاستياك بطول الأسنان, وإما أن تقول: العرض عرض الأسنان فيكون الاستياك بطول الفم، فعرض الأسنان طول الفم وطول الأسنان عرض الفم, وهما وجهان في تفسير هذا الحديث.
فمنهم من يقول: (استاكوا عرضاً) أي: أنه يأخذ من طرف فمه الأيمن إلى طرف فمه الأيسر، على الصفة المشهورة، وقيل: (استاكوا عرضاً) أي: أن يأخذ كل سن على حده فيبدأ بشقه الأيمن؛ لأن المراد بأن يستاكوا عرضاً أن يبالغ في تنظيفها, فإذا أخذ كل سن على حدة، فيكون العرض هو عرض الفم لا عرض السن، فيستاك على طول السن الذي هو عرض الفم قالوا: إن هذا أبلغ في تطهير وتنظيف الأسنان وهو المقصود من السواك.
والصحيح: أن صفة السواك يشرع فيها فقط في السنية التيامن, أن يكون بالتيامن، أي: يبدأ بشقه اليمين، أما الصفة والطريقة التي يزيل بها فهذا موسع فيه, والإنسان فيه مخير، إن شاء أخذ بعرض الفم وطول الأسنان أو بطول الفم وعرض الأسنان، فالحال يختلف، وبناء على ذلك: ليس فيه سنة معينة غير البداءة بالشق الأيمن.
وقوله: [مبتدئاً بجانب فمه الأيمن] لظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في كل شيء: في طهوره، وتنعله، وترجله وفي شأنه كله) ونص العلماء على أن السنة أن يبدأ بالشق الأيمن وينتهي بشقه الأيسر، ويكون السواك على هذه الصفة مسنوناً لما فيه من التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.(10/9)
حكم ترجيل الشعر ودهنه
قال رحمه الله: [ويدهن غباً].
الادهان يكون للشعر، ويشمل ذلك شعر الرأس وشعر اللحية، وهذا كما قلنا أورده المصنف لأن الحديث قال: (استاكوا عرضاً، وادهنوا غباً، واكتحلوا وتراً) ولذلك أدخل هذه الجزئية في باب السواك وراعى هذا تأدباً مع الحديث, وهذا منهج الفقهاء أنهم يذكرون الشيء بما قاربه تأسياً بآية أو حديث، فذكر أحكام الادهان.
والسنة أن الإنسان يدهن شعر رأسه وشعر لحيته إذا أمكنه ذلك, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجل شعره, والدليل على مشروعية ذلك: حديث أم المؤمنين وقولها: (وترجله) أي: ترجيله لشعره, ولذلك قالوا: يسن.
قال بعض العلماء: ترجيل الشعر أن يدهن الشعر ثم يسرحه, فالترجيل في مذهب بعض العلماء أن يجمع بين تسريح الشعر مع وجود الدهن.
وقال بعض العلماء: الترجيل هو مطلق التسريح بغض النظر عن كونه بدهن أو بدون دهن.
ومن سماحة الشريعة أنه يشرع للإنسان أن يضع الدهن في شعر رأسه ولحيته، وذلك على الوسط فلا يترك الشعر أشعث أغبر, ولا يبالغ في الادهان والتسريح، بل يكون وسطاً أما كونه لا يتركه شعثاً فحتى لا يتشبه بأهل الرهبنة وأهل البدع والأهواء الذين هم غلاة أهل الطرق والذين يبالغون في التزهد والتقشف، فلا يتشبه بهم.
وكذلك أيضاً لا يتشبه بمن يتأنث ويبالغ في تجميل نفسه, بل يكون وسطاً، وهذا هو القوام الذي جعل الله عز وجل شريعة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، بلا إجحاف ولا غلو، وهو العدل الذي أمر الله به في كتابه وجعله هدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة على أنه لا يداوم على الترجيل: حديث النسائي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الصحابة أن يمتشطوا كل يوم) ولذلك ينبغي للإنسان -إذا كان ولابد- أن يمتشط يوماً ويترك يوماً، وهذا أبلغ في الرجولة وأبلغ في الفحولة مع الاعتدال دون غلو ودون إسراف أو إجحاف، ولذلك يشرع تسريح الشعر وتسريح اللحية، ولكن ينبغي أن يكون التسريح على غير مشابهة لأهل الخنا والفجور, وإنما يكون على قصد القربة والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في إكرام الشعر.
السنة أنه إذا ادهن أن يبدأ بشقه الأيمن, فيضع الزيت على لحيه الأيمن, وكذلك شق شعره الأيمن, ثم يبدأ بتسريح شعر رأسه ولحيته، وكذلك الحال بالنسبة لشقه الأيسر بعد أن يفرغ من شقه الأيمن.(10/10)
الاكتحال وكيفيته
(ويكتحل وتراً) لما تقدم في الحديث وقلنا: إنه ضعيف, والاكتحال أن يضع الكحل في العين, والكحل لا حرج فيه, وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر) والإثمد هو: الحجر الأسود، وهذا هو المحفوظ في لغة العرب, وفيه شاهد: خارجي من سواد الإثمد.
وكذلك نبه عليه غير واحد، ومنهم: الإمام ابن مفلح رحمة الله عليه في الآداب الشرعية أنه الحجر الأسود، وهو أقوى وأنفع وأبلغ في تنظيف العين وقوة البصر, ويليه الحجر إذا وضع معه شيء من الحديد بصفة يعرفها الأطباء.
وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الحجر لما فيه من العلة التي ذكرها من أنه يجلو البصر وينبت الشعر، أي: يجلو بصر الإنسان فينظف العين ويجعل فيها حدة, وكذلك ينبت الشعر.
(فيكتحل وتراً) للعلماء في معناه وجهان: قال بعض العلماء: يبدأ بعينه اليمنى فيضع فيها المرود ثم ينتقل إلى اليسرى، ثم يرجع إلى اليمنى ثم يكحل اليسرى, ثم يرجع إلى اليمنى ثم يكحل اليسرى، وقال بعض العلماء: بل إنه يبدأ باليمنى حتى ينتهي من تثليثها، ثم ينتقل إلى اليسرى ويثلثها، والأمر واسع، فإن شاء فعل هذا، وإن شاء فعل هذا والناس متفاوتون, فقد يكون من المشقة على الإنسان أن يأخذ المرود باليمنى ثم يقلبه لليسرى، لكن يستحب الإيتار لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله وتر يحب الوتر) وقال بعض العلماء: إن في هذا الحديث استحباب الوتر مطلقاً, لعموم قوله: (إن الله وتر يحب الوتر)، أي: جنس الوتر بغض النظر عن كونه في عبادة أو شأن آخر.(10/11)
حكم التسمية قبل الوضوء
قال رحمه الله: [وتجب التسمية في الوضوء].
بعد أن فرغ رحمه الله من بيان السواك وأحكامه شرع في بيان واجبات الوضوء فقال رحمه الله: (وتجب) الواجب مأخوذ من قولهم: وجب إذا سقط, ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] أي: سقطت واستقرت على الأرض.
ومنه ما ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا وجبت الشمس) بمعنى: سقطت وغاب قرصها، فالواجب في اللغة يطلق بمعنى: الساقط، ويطلق بمعنى: اللازم، تقول: هذا واجب عليك بمعنى: أنه لازم وحتم, ومنه قول الشاعر: أطاعت بنو عوف أميراً نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب أي: أول لازم عليهم أن يفعلوه.
ومراد الشرع بالواجب: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فإذا قال العلماء: هذا واجب, أي: أنه يلزم المكلف أن يقوم به, فإن فعل ذلك أثيب وإن تركه فإنه يعاقب.
(وتجب التسمية) أي: من أراد أن يتوضأ فإنه يجب عليه أن يسمي, وهذا هو أحد قولي العلماء في هذه المسألة, وهي مسألة التسمية عند الوضوء، فقال بعض العلماء -وهو اختيار بعض المحدثين-: تجب التسمية للوضوء؛ لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (لا وضوء لمن لم يسمِّ)، وهذا الحديث اختلف العلماء في إسناده، والجماهير على أنه ضعيف، وقد قال الإمام أحمد: لا يثبت فيه شيء، أي: لا يثبت في التسمية شيء، وإن كان القول بتحسينه له وجه, وقد اختار بعض المتقدمين وبعض العلماء المتأخرين أن حديث التسمية حسن.(10/12)
أدلة عدم وجوب التسمية في الوضوء
يبقى الإشكال في مذهب الجمهور, فإنهم يرون أن التسمية ليست بواجبة، وعندهم أدلة: أولاً: دليل الكتاب, وثانياً: دليل السنة, ولهم جواب عن هذا الحديث.
أما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ولم يأمر بالتسمية، ولو كانت واجبة لأوجبها، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118] وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] فلم يأمر بالتسمية في الوضوء في كتابه, وجاءت السنة تؤكد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي: (توضأ كما أمرك الله) فلو كانت التسمية واجبة لذكرها الله عز وجل.
الدليل الثاني من السنة: حديث عثمان وعبد الله بن زيد -رضي الله عن الجميع- في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث علي، فإنه لم يذكر واحد منهم التسمية, ولو كانت واجبة لما تركها النبي صلى الله عليه وسلم ولسمّى قبل وضوئه حتى تسمع تسميته وتنقل؛ لأنه في معرض البيان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا) الحديث.
وبناء على ذلك: قالوا: إن هذه السنة تدل على عدم وجوب التسمية، أما حديث: (لا وضوء لمن لم يسمِّ) فأجابوا عنه سنداً ومتناً, أما سنداً: فالضعف الذي فيه, وكذلك أيضاً من وجه السند أنه معارض بما هو أصح منه, فإنه حسن، والحديث الذي لم يذكر التسمية في الصحيحين بل من أعلى الصحيحين، والحسن إذا تعارض مع الصحيح سقط اعتباره, كما أشار إلى ذلك بعض الفضلاء بقوله في الحديث الحسن: وهو -أي: الحديث الحسن- في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح أي: أن الحديث الحسن يحتج به, ولكن إذا عارض الصحيح فإنه يسقط الاحتجاج به، هذا من جهة السند.
أما من جهة المتن فقوله: (لا وضوء لمن لم يسمِّ) نفي مسلط على الحقيقة الشرعية، وهي مسألة أصولية معروفة بقولهم: إذا تسلط النفي على الحقيقة الشرعية هل يحمل على الصحة أو على الكمال؟ وجهان: فإذا انتفى حمله على الصحة وجب حمله على الكمال, فإذا كان حمله على الصحة يعارض النصوص فيجب صرفه إلى الكمال.
وما معنى هذه القاعدة؟ النفي بقوله: (لا) مسلط على الحقيقة الشرعية -وهي الوضوء- فهل يحمل على الصحة أو يحمل على الكمال؟ قلنا: يحمل على الصحة ما لم يتعارض مع الدليل، فيجب صرفه إلى الكمال، فيكون هذا النفي بسبب معارضته للأحاديث الأخرى محمولاً على نفي الكمال, أي: لا وضوء كامل لمن لم يسمِّ، أو لمن لم يذكر اسم الله عليه كما في الرواية الثانية, وبهذا يجمع بين النصوص وتكون التسمية مستحبة لا واجبة.
ومع هذا ينبغي للمسلم أن يحتاط وأن يأخذ بالأكمل، فإن أولى الناس بقبول عمله الصالح هو من كان أقرب إلى الكمال باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وينبغي على طلاب العلم دائماً أن يأخذوا بأحوط الأقوال لما في ذلك من الأخذ بالكمالات, ولما فيه من بالغ تقوى الله عز وجل وحب الخير والحرص عليه, فيحرص الإنسان على ذكر اسم الله عز وجل.(10/13)
صيغة التسمية عند الوضوء
يبقى النظر (التسمية): التسمية تفعيلة من اسم الله, فما هي التسمية؟ التسمية الكاملة هي: (بسم الله الرحمن الرحيم) ولكنها هنا: باسم الله, فيقف عند قوله باسم الله, ويكون معتبراً؛ لأن قوله: (لمن لم يذكر اسم الله)، أن المراد به اسم الله فقط, بدليل أن الله قال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (باسم الله).
وبناءً على ذلك: فإن التسمية تكون باسم الله, واختلف العلماء هل يحل غير لفظ الجلالة محله، كأن يقول: باسم الرحمن, أو باسم الرحيم, أو باسم الملك, أو باسم القدوس, أو باسم العزيز؟ الصحيح: أنه ينبغي الاقتصار في الأذكار على الوارد دون تغيير ولا تبديل ولا يجتهد فيها, فكما قال: (لمن لم يذكر اسم الله) فإنه يؤتى باسم الله ولفظ الجلالة؛ وذلك لشرف هذا الاسم وفضله على سائر الأسماء وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] قيل: هل بمعنى: (لا)، أي: لا تعلم له سمياً, قيل: أي: اسم الله، فإن اسم الله لم يتسم به أحد, وهذا لشرفه، حتى قال طائفة من العلماء: إنه هو الاسم الأعظم الذي إذا سأل العبد به ربه حاجة خالصة من قلبه استجاب دعاءه؛ ولذلك يقتصر على هذا الاسم بعينه وهو قوله: باسم الله، ولا يؤذن في قول: باسم الرحيم ولا باسم الرحمن.
أما قوله: (في الوضوء) ليست الظرفية على ظاهرها، أي: ليس مراده في داخل الوضوء, وإنما قوله: (يجب التسمية في الوضوء) بمعنى: أن يبتدئ عبادة الوضوء، بذكر اسم الله عز وجل.
وقال بعض العلماء: تذكر التسمية عند أول فرض, فإن كان مستيقظاً من نومه كانت اليد، فيقولها قبل غسل الكفين, وإن كان مستيقظاً -يعني: أثناء النهار- قالوا: يسمي الله عز وجل عند المضمضة والاستنشاق على القول بوجوبها, أو عند غسل الوجه على القول بعدم وجوب المضمضة والاستنشاق, والأكمل أن الإنسان يسمي عند ابتداء الوضوء.(10/14)
حكم ترك التسمية نسياناً
قال رحمه الله: [مع الذكر].
أي: أنها تسقط عند النسيان، فلا يطالب الإنسان بإعادتها, وقال بعض العلماء: إنه إذا لم يذكر اسم الله جل وعلا وجب عليه الرجوع وإعادة الوضوء.
فعلى القول الذي اختاره المصنف أنها واجبة, ولكن ليست شرطاً في صحة الوضوء, وعلى قول إسحاق وبعض أهل الحديث أنها شرط في صحة الوضوء ويلزمه أن يعود إلى ابتداء الوضوء ويسمي من جديد.(10/15)
حكم الختان للرجال والنساء
قال رحمه الله تعالى: [ويجب الختان].
الختان: مصدر ختن يختن ختاناً، وهو خاتن، وفلان مختون.
والختان بالنسبة للرجال: إزالة أعلى حشفة الجلد التي على رأس الذكر.
وأما بالنسبة للنساء: فهي إزالة أعلى الجلدة التي على الفرج، وشبهها العلماء رحمهم الله بعرف الديك بياناً لمحل الفرض والواجب على القول بوجوبه على النساء.
والختان مكرمة وسنة جليلة, وأول من اختتن إبراهيم إمام الحنيفية، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، اختتن وهو ابن ثمانين سنة امتثالاً لأمر الله عز وجل، ولذلك عُد هذا من ابتلاء الله واختباره له، فإن الختان مع تقدم السن وكبرها لا شك أن فيه أمراً شديداً ومشقة عظيمة، ولكنه امتثل أمر الله؛ ولذلك قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس قال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:124] أصل التقدير ابتلى رب إبراهيم إبراهيم بكلمات فأتمهن, وذكر منها: الختان، أنه ابتلاه وهو في كبر سنه فاختتن عليه الصلاة والسلام.(10/16)
مشروعية الختان
والختان شرعه الله للرجال لما فيه من إزالة هذا الموضع الذي تكمن فيه النجاسة, ولذلك إذا أزاله كان ذلك أبلغ في الطهارة والنقاء والبعد عن الدنس, والدين دين طهارة حساً ومعنىً, كما قال تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] فهذه من الطهارة، وطهر الله عز وجل المؤمنين حساً ومعنىً وشرفهم بهذه الطهارة {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].
فشرع هذا الختان طهارة للرجل, وكذلك تخفيفاً من الشهوة في المرأة, فإن المرأة إذا تركت على حالها اشتدت شهوتها, ولذلك كما ذكر شيخ الإسلام رحمة الله عليه يقول: يوجد في نساء الكفار من الشدة لطلب الفساد والحرام ما لا يوجد في نساء المؤمنين، وذلك لمحل الختان.
وجعل الله في الختان مصلحة الدين والدنيا, فلذلك يحصل به العفة للمرأة والرجل, وتحصل به العفة للمرأة والطهارة للرجل، ولذلك المرأة إذا اجتثت هذه الجلدة ذهبت شهوتها كما يقول الأطباء والحكماء من المتقدمين والمتأخرين، وإذا تركت اشتدت غلمتها, ولذلك ورد في حديث ابن عطية كما أشار إليه الإمام ابن القيم في التحفة: (أشمي ولا تنهكي) والاشمام يكون من أعلى الشيء، والإنهاك اجتثاثه من أصله، وهو حديث متكلم في سنده, ولكن معناه صحيح عند العلماء، أن الخاتنة ينبغي عليها ألا تأخذ الجلدة بكاملها ولا تستأصلها؛ لأنه استئصال للشهوة وذهاب لها، وكذلك أيضاً لا تترك الجلدة, فشرع الله هذا لما فيه من اعتدال الشهوة للمرأة.
كذلك يختن الرجل لطهارته ونقائه, والغريب أنهم وجدوا أن من الحكم والفوائد التي تترتب على الختان أنه قلّ أن يصاب المختتن بسرطان القضيب, وهذا معروف عند الأطباء، وهذا من رحمة الله عز وجل، وإنما يعرف السرطان -والعياذ بالله- الذي يصيب العضو لمن لم يختتن, وذكر بعض الأطباء -وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام وفضائل السنة النبوية التي جاءت عنه عليه الصلاة والسلام ومنها: الختان- أنه يوجد نسبة 1% من المختتنين ممن يصاب بسرطان القضيب.
ومن القصص الغريبة التي تحكى للاتعاظ والاعتبار حدثني بها بعض الأطباء: أنه كان في بعض البلاد الإسلامية، وكان معهم طبيب نصراني, وكان تخصص هذا المسلم مع النصراني في المسالك البولية, فكان يهزأ هذا النصراني من الختان ويستخف به كثيراً, حتى أراد الله عز وجل أنه ابتلي -والعياذ بالله- بسرطان القضيب، وحصل له ما حصل من أذية هذا البلاء بسبب استهزائه وسخريته من هذه الشعيرة التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم.
الختان يشرع للرجال وللنساء والصحيح: وجوبه على الاثنين، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (خمس من الفطرة) وذكر الختان دون أن يفرق بين الرجال والنساء؛ لأن المرأة تحتاج إليه طلباً للعفة, والعفة مطلوبة وواجبة, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولما كان اعتدال شهوة المرأة يحصل به مقصود الشرع كان الختان من هذا الوجه أقرب للوجوب منه للاستحباب والندب.
وينبغي أن ينبه على تساهل كثير من الآباء ومنعهم بعض النساء من الختان وهذا لا ينبغي بل ينبغي إحياء هذه الشعيرة بين النساء وذلك لما ذكرناه من الحكم والفوائد، وقد ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى وجوبه على الجميع.
وأما ما ورد من حديث ابن كليب: (أن الختان واجب للرجال ومكرمة للنساء) فهو حديث ضعيف, والصحيح أنه للرجال والنساء, وفيه ما ذكرناه من الحكم, ويجب على المسلم إذا قارب البلوغ والأفضل أن يختن الذكر صبياً وتختن الانثى صبية, وينبغي على كل من الخاتن والخاتنة مراعاة حدود الله في الختان، فلا يجوز ويحرم كما نبه الإمام ابن قدامة في المغني في الجزء السادس عند كلامه على الإجارة: يحرم على الخاتن أن يختن إلا إذا كان بصيراً بالختان, عارفاً له.
وإذا ختن غير عارف وتجاوز -أو ختن وهو عالم- وتجاوز حدود الختان فإنه يضمن ويأثم شرعاً، أما ضمانه إذا لم يكن عالماً فلقوله عليه الصلاة والسلام في حديث السنن: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) وأجمع العلماء على أنه يأثم، وإذا قصد الإضرار فإنه يقتص منه ولو كان طبيباً, لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] فيختن كلاً من الرجال والنساء وتراعى حدود الله عز وجل من عدم ختن الرجال للنساء إذا وجد النساء, وعدم النظر إلى العورة أكثر من الوقت المحتاج إليه, وعدم الزيادة على الحد المعتبر في الختان.
قال رحمه الله تعالى: [ما لم يخف على نفسه].
ككبير السن, الشيخ الهرم، أو يكون هناك التهابات أو أمراض بحيث لو اختتن زادت عليه واستفحل شرها فيرخص له في ترك الختان.(10/17)
حكم القزع
قال رحمه الله: [ويكره القزع].
القزع: هو حلق بعض الشعر وترك بعضه, والقزع نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في المراد منه, فقال بعض العلماء: أن يحلق وسط الرأس, وقال بعضهم: أن يحلق أطرافه، كأن يحلق الشق الأيمن والأيسر والقفا ويبقي وسطه، كما هو شأن أهل الفساد وصنيع السفلة الرعاع، نسأل الله السلامة والعافية.
وقيل: أن يحلق نصف الرأس ويترك نصفه, وقيل: أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره أو العكس, ولكن لا مانع من اعتبار هذه الصور كلها؛ لأنه يحتملها النص, والأصل: أنه إذا احتمل النص وجوهاً متعددة ولم يرد الشرع تقييد وجه منها أن تبقى دلالته على العموم.(10/18)
علة تحريم القزع
وللعلماء في تعليل تحريم القزع وجوه: قال بعض العلماء: لأنه مشابهة لليهود، فقد كان اليهود يحلقون بعض الشعر ويتركون بعضه.
وقال بعضهم: إن فيه ظلماً للإنسان لنفسه، والله أمر الإنسان بالعدل حتى مع نفسه, وتوضيح ذلك: أنه إذا حلق شقه الأيمن وترك شقه الأيسر ظلم شقه الأيمن إذا كان الزمان برداً، وظلم شقه الأيسر إذا كان الزمان حاراً؛ ولذلك نهي أن ينتعل بإحدى رجليه ويترك الأخرى لأنه ظلم للرجل التي لم تنتعل, وأيضاً نهي عن الجلوس بين الشمس والظل؛ لأنه إذا كان الزمن صيفاً ظلم النصف الذي في الشمس, وإذا كان الزمن شتاء ظلم النصف الذي في الظل، فلذلك قالوا: نهي عن القزع لئلا يكون الإنسان ظالماً حتى مع نفسه, والصحيح: أن كل هذه علل وفيه ظلم وفيه تشبه بأهل الفساد.
ومن يقصر أطراف الشعر ويجعل الشعر كثيفاً في منتصف الرأس فإنه يشمله هذا؛ لأن فيه تشبهاً بأهل الفساد, وقد أشار إلى ذلك بعض العلماء رحمة الله عليهم، وكنا نعهد مشايخنا رحمة الله عليهم من الأولين أنهم كانوا يشددون في تخفيف الشعر بعضه دون بعضه وكانوا يعدون ذلك من القزع, وقالوا: إما أن يخفف كله أو يحلق كله، وهذا هو الأصل الذي عليه العمل عند أهل العلم؛ أن السنة في الرأس أن يحلق كله أو يخفف كله، لا أن يفعل ببعضه ويترك بعضه لما فيه من مشابهة أهل الفساد.
وإذا كان القزع حراماً حرم للحلاق أن يفعله بالغير، فإن فعل أثم؛ لأنه معين على الإثم والعدوان, وحرمت الإجارة وحرم الثمن، يعني: المال الذي يدفع في مقابل ذلك الشيء ويعتبر حراماً، وهذا على الأصل المقر: أن الإجارة على المحرم محرمة.(10/19)
سنن الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [ومن سنن الوضوء السواك].
يقول رحمه الله: (ومن سنن الوضوء) السنة: أصلها الطريقة، وسن الشيء: إذا شرعه، والمراد بها: من سنن النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة الوضوء, والمراد بالسنة: ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
ويشمل ذلك السنن القولية والفعلية والتقريرية, أي: التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم أو فعلها أو فعلت وأقرها, فكل ذلك يوصف بكونه سنة ولا يطلب من المكلف طلب إلزام.
(من سنن الوضوء) يعني: من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي ينبغي للمكلف ويستحب للمكلف أن يحرص عليه ويحافظ عليه.
وهنا أنبه على أمور: أولاً: أن بعض طلاب العلم يفهم من السنن أنها أمور سهلة ويسيرة؛ فيتساهل في تركها, وكم سمعنا من بعض المنتسبين للعلم من يقول: هذا سنة لا حرج فيه! فإذا جاءه السائل قال له: هذه سنة وخفف من أمرها، ولا حرج أن يبين له عند الحكم إذا ظن السائل وجوبها أن تقول له: سنة لا حرج, لكن الحرج أن يستخف بالسنن ويعتبر قول العلماء: إنه سنة طريقاً للترك, فأخذ بعض طلاب العلم أنه إذا قيل: سنة، يعني: أنه يترك ولا حرج في تركه, لكن أهل الفضل والكمال وأقرب الناس للخير وأحبهم إلى الله وأقربهم نجاة وسلامة وعلو شأن في دينه من كان محافظاً على هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو بكر صديق هذه الأمة رضي الله عنه وأرضاه: (والله لا يبلغني شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه إلا فعلته, إني أخاف إن تركت شيئاً من هديه أن أضل) ولذلك ينبغي للإنسان الموفق دائماً في أي عبادة أن يسأل عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ويحرص على تطبيقه، وأخشع الناس في العبادة، وأكثرهم توفيقاً لها وأكثرهم شعوراً بلذتها وحصولاً لثوابها وثمرتها وحسن عاقبتها هو أكثرهم متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك طريقه طريق إلى الجنة, وسبيله سبيل الرحمة: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] فمن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وحرص على اقتفاء أثره والسير على نهجه فهو أقرب الناس إلى الخير.
وكان العلماء رحمهم الله يقولون: إن أقرب الناس لقبول العبادة من كان موفقاً في إصابة السنة فيها، فأي عبادة تسمعها أو تعلمها وتريد أن تطبقها فاسأل كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها، وقد كان السلف الصالح رحمة الله عليهم -مع جلالة علمهم وعلو قدرهم- كانوا يجلسون مع الصحابة ويسألون عن كيفية فعل النبي صلى الله عليه وسلم لكثير من الأعمال، وربما سألوا عن أوضح الأشياء، قال أحدهم: شهدت عمر بن الحسن سأل عبد الله بن زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ للصلاة؟ سبحان الله! الوضوء الذي كان يعرفه صغار التابعين قبل كبارهم، فيدخل هذا العالم الجليل على هذا الصحابي ويقول له: كيف كان يتوضأ عليه الصلاة والسلام؟ فكانوا يحبون السنة ويحبون التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فينبغي أن يعلم أن قوله: (ومن سنن) أنه ليس المراد به أن نتساهل ونترك, وإنما المراد الدلالة حتى نعلم ونعمل بها وندعو إليها, علماً وعملاً، ونسأل الله العظيم أن يجعلنا من هداتها ودعاتها.(10/20)
السواك سنة من سنن الوضوء
قال رحمه الله: [السواك] من السنن التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم عند الوضوء: السواك، والحديث التي تقدمت الإشارة إليه: (عند كل وضوء) ولذلك قالوا: قبل أن يتوضأ يستاك.(10/21)
حكم غسل الكفين عند ابتداء الوضوء
قال رحمه الله: [وغسل الكفين ثلاثاً].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث حمران مولى عثمان عن عثمان , وحديث علي بن أبي طالب وعبد الله بن زيد: (أنه استفتح وضوءه فغسل كفيه ثلاثاً) قال بعض العلماء: إنما حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على غسل الكفين ثلاثاً؛ لأن الكفين آلة الوضوء وهي التي تنقل الماء؛ فينبغي أن تكون على نقاء وطهارة حتى يكون ذلك أدعى لوصول المقصود من الوضوء.
وقوله: [ويجب من نوم ليل ناقض لوضوء].
غسل الكفين على حالتين: إما أن يكون للمستيقظ من النوم, وإما أن يكون لغير المستيقظ من النوم, فإن كان الإنسان مستيقظاً من نوم سواء كان نوم ليل أو نهار فإنه يجب عليه غسلهما ثلاثاً؛ لظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) فدل هذا الحديث الصحيح على أنه يجب على من استيقظ من النوم أن يغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلها في الإناء، أما إذا كان لغير المستيقظ من النوم كأن يكون الإنسان قد بقي مستيقظاً من بعد الفجر إلى صلاة الظهر, وحضرت عليه صلاة الظهر وأراد أن يتوضأ، فلا تخلو كفاه من أحوال: الحالة الأولى: أن يتيقن نجاستها، فيجب عليه أن يغسلها قبل أن يتوضأ.
الحالة الثانية: أن يتيقن طهارتها أو يشك في الطهارة, فإن تيقن الطهارة فإنه يسن له غسلها ولا يجب, وإن شك في طهارتها استحب له غسل الكفين كذلك ولا يجب.
فإذاً: هنا ثلاث حالات: إن تيقن نجاسة الكفين وجب الغسل، وإن تيقن الطهارة سن الغسل، وإن شك في الطهارة استحب الغسل؛ لأن اليقين طهارتها والشك نجاستها، فيلغى الشك ويبقى على اليقين, هذا بالنسبة لغسل الكفين والكفان مثنى كف، وضابط الكف: من أطراف الأصابع إلى الزندين، وهما العظمان البارزان عند طرف الكف، وسمي الكف كفاً لأنه تكف به الأشياء.(10/22)
البدء بالمضمضة والاستنشاق في الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [والبداءة بمضمضة].
أي: يسن البداءة بالمضمضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن غسل كفيه تمضمض واستنشق ثلاثاً، والمضمضة مأخوذة من قولهم: مضمضت الحية إذا تحركت في جحرها، فأصل المضمضة: التحريك, ولذلك قالوا: يتفرع على قولنا إن المضمضة هي التحريك مسألة لطيفة وهي: لو أن إنساناً أدخل الماء في فمه ثم ألقاه مباشرة هل يعتبر متمضمضاً؟ على القول بأن المضمضة هي التحريك لا يكون متمضمضاً ومصيباً للسنة إلا إذا حرك الماء في فمه.
ثم اختلفوا: هل المضمضة مجرد تحريك الماء ولا يستلزم طرحه أو لابد من طرحه؟ وجهان: قال بعض العلماء: المضمضة التحريك والطرح, فلو مضمض ولم يطرح لم يكن متمضمضاً.
توضيح ذلك: لو وضع الماء فحركه ثم شربه, فبناء على القول بأنه لابد من طرح فلا يكون متمضمضاً, وعلى القول بأنه لا يلزم الطرح يكون متمضمضاً.
قال رحمه الله: [ثم استنشاق].
الاستنشاق من النشق, والنشق: جذب الشيء بالنفس إلى أعلى الخياشيم, ومنه: النشوق، ويكون عن طريق الأنف, والاستنشاق سمي بذلك لأن الإنسان يجذب الماء إلى أعلى الخياشيم بالنفس, وهي سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم التي حافظ عليها ولم يتركها في الوضوء، صلوات الله وسلامه عليه.
والسنة أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق بكف واحدة, فيضع نصف الكف في الفم، ثم يرفع النصف الباقي للأنف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما توضأ قسم كفه في حديث عبد الله بن زيد فمضمض واستنشق ثلاثاً من ثلاث غرفات, أي: أن كل غرفة بين المضمضة والاستنشاق وهذا هي السنة.
وقوله: [والمبالغة فيهما لغير صائم].
والمبالغة في المضمضة والمبالغة في الاستنشاق، المبالغة مفاعلة من بلغ الشيء يبلغه بلوغاً, إذا وصل غايته تقول: بلغت إذا وصلت الغاية, فقول المبالغة أي: أن الإنسان يصل غاية الاستنشاق وغاية المضمضة وذلك عن طريق المبالغة في جلب الماء بالنفس بالاستنشاق والمبالغة في الإدارة والتحريك في المضمضة.
(لغير صائم) هذا الاستثناء لحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) وقد دل هذا الحديث على أنه لا يسن للإنسان أن يبالغ في استنشاقه, وهذا من باب التنبيه بالنظير على نظيره بالاستنشاق على الفم.
وذكر الاستنشاق على أن الغالب في الاستنشاق ألا يتحكم الإنسان عند مبالغته بخلاف المضمضة فإن الغالب أنه يتحكم؛ فنبه بالاستنشاق وإلا فالمضمضة آخذة حكم الاستنشاق.
وقوله: (وبالغ في الاستنشاق) فيه تنبيه على قاعدة وأصل عند العلماء: أنه لا يشرع تضييع الفرائض بالسنن, أو ارتكاب المحرمات لطلب السنن، وتوضيح ذلك: إذا بالغ في الاستنشاق فإنه ضيع الواجب وهو الصيام, وكذلك أيضاً لا يبالغ في إصابة سنة إذا كان ذلك سيؤدي للوقوع في محظور, كما لو كان على الحجر الأسود طيب، فإنه إذا بالغ وأصر على لمسه أو تقبيله في عمرته أو حجه فإنه سيصيب الطيب، وذلك تحصيل للسنة يؤدي للوقوع في محظور ولذلك قالوا: يتركه حتى يقبله الغير ثم يقبله من بعده, أو يلمسه الغير فيلمسه من بعده, ولا يضر الأثر وإنما يضره العين مع القصد, ولذلك لا ينبغي تفويت الواجب وارتكاب المحظور طلباً للسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هنا نهى الصحابي أن يبالغ في الاستنشاق حتى لا يفوت الواجب تحصيلاً للسنة.(10/23)
تخليل اللحية والأصابع
قال رحمه الله: [وتخليل اللحية الكثيفة].
التخليل: تفعيل من الخلل، وخلل الشيء: أجزاؤه والمناسم التي فيه, تقول: رأيته من خلل الباب, أي: من المناسم الموجودة فيه وهي الفتحات الصغيرة, وقالوا: سمي التخليل تخليلاً؛ لأن الإنسان يوصل الماء إلى الشعر من خلاله أي: يخلل الماء بين الشعر, فيدخل الماء في خلل الشعر وفي خلل اللحية, وكذلك الأصابع؛ لأنه يدخل خنصره بين الأصابع، فقالوا: خَلَّل، كأن الأصابع شيء واحد وقد دخلت الخنصر في خلل ذلك الشيء.
وتخليل اللحية فيه حديث عثمان رضي الله عنه وأرضاه, وقيل: لا يصح في التخليل شيء، وحسن بعض العلماء إسناد حديث التخليل.
فاللحية إذا كانت كثيفة كثة تخلل؛ لأن الله أمر بغسل الوجه، فإذا كانت كثيفة فإن صاحبها يواجه الناس باللحية فكانت من الوجه فتخلل، أي: يجب إدخال الماء في خللها, وهذا على وجهين: إما أن يدخل الماء في خللها بالكف كما ورد في الحديث أنه أخذ كفاً من ماء وألقمه لحيته، وإما أن يكون بغسل الوجه حتى إذا بلغ لحيته خللها بإجراء الماء في المناسم بالأصابع، وكل منهما لا حرج فيه.
قال رحمه الله: [والأصابع].
تخليل أصابع اليدين: هو أنه إذا كان الإنسان يريد أن يتوضأ فصب الماء لكي يغسل يده اليمنى فإنه يجعل كفه اليسرى عند المرفق، ثم إذا سكب الماء مر الماء على ظهر يده اليمنى حتى ينتهي إلى المرفق، فتجمع اليسرى الماء الذي نزل من اليد ثم يقلبه على اليمنى مخللاً.
وقيل: أن يغسل اليد أولاً حتى إذا انتهى خلل كلاً منهما، والمراد: أن يتأكد من وصول الماء إلى الخلل، وشرع التخليل وفيه حديث عن المستورد بن شداد ولكن تكلم العلماء في سنده، وإن كان بعض العلماء يحسن إسناده، ولكن الضعف فيه من القوة بمكان، لكن يخلل الإنسان على هذه الصورة وذلك بإدخال أصابع اليسرى في اليمنى, وإدخال أصابع اليمنى في اليسرى على الظاهر.
وكذلك أيضاً بالنسبة لتخليل القدمين، وذلك بالخنصر كما ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام على القول بثبوته, وإلا فالأمر واسع، قال بعض العلماء في تخليل أصابع القدمين: أن يخللها بجميع الأصابع وقيل: بأصبع واحدة حتى يكون أبلغ في وصول الماء.
والتخليل في الحقيقة ليس مراداً لذاته، وإنما المراد: هو أثره، وهو التأكد من وصول الماء إلى ما بين الأصابع؛ لأنه -كما هو معلوم- لو سكب الماء والأصابع ملتصقة ربما لم يتخلل، خاصة في القديم حيث كانوا يتوضئون بالأواني والماء قليل، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكفيه مغراف من الماء لوضوئه, وهذا يحتاج إلى نوع من التحري والتحفظ, ولذلك اعتبر التخليل واجباً إذا توقف وصول الماء للبشرة عليه, وليس وجوبه لذاته ولكن من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, وإلى ذلك قد أشار بعض الفضلاء بقوله: خلل أصابع اليدين وشعر وجه إذا من تحته الجلد ظهر أي: (خلل أصابع اليدين وشعر وجه) وهو اللحية, (إذا من تحته الجلد ظهر) يعني: إذا كانت اللحية تبدو معها البشرة.(10/24)
التيامن في الوضوء
قال رحمه الله: [والتيامن].
والتيامن: تفاعل من اليمين، وهي الجهة التي شرفها الشرع كما هو محفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك يكون في الأعضاء المثناة، ويشمل ذلك: اليدين والرجلين, فإنه يتيامن فيها، فيبدأ بغسل يده اليمنى قبل يده اليسرى, ورجله اليمنى قبل رجله اليسرى, ولكن لا يشرع التيامن في الأعضاء المنفردة، فلا يأتي إنسان ويأخذ الكف ويغسل شق وجهه الأيمن ثم يغسل شقه الأيسر؛ لأن هذا تنطع وتكلف في العبادة، وقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغسل وجهه غسلاً واحداً ويمسح رأسه مسحة واحدة, فمن فعل ذلك فإنه يعتبر مبتدعاً؛ لأن ذلك لو كان له فضل لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فيشرع التيامن في الأعضاء المثناة كاليدين والرجلين, وأما بالنسبة للوجه والرأس فإنه لا يشرع فيها التيامن.
فقال: رحمه الله: (التيامن) والتيامن سنة، وبناء على ذلك: لو أن إنساناً غسل يده اليسرى قبل يده اليمنى فوضوءه صحيح، لكنه فوت الأكمل والأفضل، والدليل على صحته أن الله عز وجل يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6] فأمر بغسل اليد مطلقاً، ومن غسل اليسرى قبل اليمنى فقد امتثل ما أمر الله به، غير أنه فوت الفضيلة بتقديم اليسار على اليمين.(10/25)
مسح الأذنين بماء جديد
قال رحمه الله: [وأخذ ماء جديد للأذنين].
في حديث عبد الله عند الترمذي وفيه ابن لهيعة، والترمذي يحسن روايته.
(وأخذ ماء جديد) أي: أن الإنسان يمسح رأسه مقبلاً مدبراً, ثم يأخذ ماء جديداً لأذنيه, بأن يأخذ كفاً ثم يجعلها لأذنيه ويمسح بها أذنيه على الصفة التي وردت في الحديث بأن يجعل إبهامه خلف الأذن ثم السبابة في داخل الأذن ويمرها على ما ثم.(10/26)
غسل كل عضو مرتين أو ثلاثاً
قال رحمه الله: [والغسلة الثانية والثالثة].
أي: ليست بواجبة إنما هي سنة, والدليل على عدم وجوبها: أن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] والغسل يتحقق بالمرة، فمن غسل مرة فقد امتثل، وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان أنه توضأ مرة مرة, ومرتين مرتين, وثلاثاً ثلاثاً, فدل على أنه لا تجب التثنية ولا يجب التثليث, وأن الغسلة الثانية والثالثة سنة وليست بواجبة.(10/27)
الأسئلة(10/28)
حكم الاستياك باليد اليسرى
السؤال
هل يستاك باليد اليمنى أم باليد اليسرى؟ وهل من السنة وضع السواك بين الأصابع؟
الجواب
باسم الله, والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد اختلف العلماء رحمهم الله في السواك, فمنهم من يقول: يجعله باليسرى؛ لأنه إزالة قذر، فلا ينبغي أن تليه اليمنى على الأصل المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جعل يمينه لما فيه شرف, ويسراه لما فيه قذر ونحو ذلك؛ قالوا: فلذلك يستحب له أن يستاك بيسراه.
وقال بعض العلماء: يستاك بما شاء, إن شاء باليمين وإن شاء باليسار, ولا يعتبر السواك باليسار سنة، وهذا هو الصحيح؛ لأن إزالة الأذى إن وليت اليد الإزالة مباشرة كانت باليسرى, وإن كانت بحائل فإنه لا حرج في اليمنى, وتوضيح ذلك: أنه إذا استاك باليمنى فإن الذي يلي القذر هو السواك وليست اليد, فلا غضاضة, ودليلنا على أن إزالة الأذى باليمين بدون مباشرتها الأذى لا يقدح في فضل اليمين: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمسك الإنسان ذكره بيمينه, وأن يستجمر بيمينه، قالوا: إنه لابد أن يمسك الحجر باليمين, فدل على أنه إذا وجد الفاصل الذي هو المزيل بين المحل الذي يراد تنظيفه واليمين التي تلي التنظيف فإنه لا حرج ولا غضاضة.
ومن الأدلة أيضاً: أن الناس يختلفون، فربما لو استاك بيساره أدمى لثته وجرح نفسه, وربما أنه لا ينقي كما لو استاك بيمينه, ولذلك قالوا: إنه يترك الناس على التخيير، وهذا هو الأقوى، ولكن مع هذا إذا تأول الإنسان السنة واستحب أن يجعل سواكه بيسراه فإنه يثاب إن شاء الله، ولا حرج عليه.(10/29)
حكم الاستياك للاستيقاظ من نوم النهار
السؤال
هل يستاك من قام من نوم النهار؟
الجواب
من قام من نوم النهار فإنه في حكم القائم من نوم الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام من نوم الليل استاك, والمعنى واحد في نوم الليل ونوم النهار, والقاعدة: أنه إذا اختلف الزمان واتحدت العلة فلا تأثير في اختلاف الزمان, فالزمان هو: ليل ونهار والعلة: هي الإنقاء, فلذلك يطلب من الإنسان أن ينقي الفم عند وجود نتن الفم الناشئ عن النوم، وهذا موجود في نوم النهار كنوم الليل، فيشرع للإنسان أن يستاك من نوم النهار كما يشرع له أن يستاك من نوم الليل، والله أعلم.(10/30)
حكم التكحل بالإثمد وغيره
السؤال
هل يعتبر التكحل بالإثمد سنة، وهل التكحل بغيره سنة أم لا؟
الجواب
الاكتحال بالإثمد سنة, ولا حرج في الإنسان أن يكتحل، ولكن كره بعض السلف أن يصبح وفي عينيه كحل؛ لأنه ربما يكون فيه تشبه ببعض أهل الفساد, ولكن ليس هناك دليل يدل على تحريم ذلك, والنبي صلى الله عليه وسلم نص على الاكتحال فقال: (عليكم بالإثمد) وهذا في صيغة الجمع (عليكم) كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] وهذا الشأن للرجال والنساء، وإذا كان الإنسان محتاجاً إلى الكحل في عينيه لضعف في البصر فإنه يشرع له على العموم، حتى ولو كان أمام الناس, ولا حرج في ذلك، وإن كان بعض السلف قد شدد فيه، إلا أن الأصل التوقيف في مثل هذا، أي: في نهي الناس عن الأمور التي وسع فيها الشرع، فيوقف على النص مادام أنه ليس هناك نص يمنع، فلا حرج أن يكتحل ولو أمام الناس.
وأما كون بعض العادات تمقت ذلك أو تمنعه فإن العادات ليست شريعة ولا ديناً, وإنما يترك الشرع والحكم لله جل وعلا، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] فالحكم لله جل وعلا, وليس للعادات ولا للتقاليد.
فإذا أراد الإنسان أن يصيب السنة واكتحل وتأسى بقوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالإثمد) فلا حرج عليه ولو كان أمام الناس, وإن أحب ألا يساء الظن به وأن يسلم من أذية الناس فلا حرج عليه, لكن أن يمنع الناس ويشدد عليهم، أو يستخف بمن يفعل ذلك فليس ثم دليل يدل على هذا التشديد أو هذا المنع.
وقد ورد عن ابن عباس أنه اكتحل وسرح شعره في حضرة أصحابه وقال: (إني أحب أن يرى مني أهلي ما أحب أن أرى منهم) , وهذا كله يدل على سماحة الشريعة، وفيه أيضاً ترفع عن غلو أهل الزهد في زهدهم وتنطعهم في التشديد في مثل هذه الأمور التي فيها السماحة والرفق بالنفس.(10/31)
حكم الإبر والمغذيات للصائم
السؤال
ما حكم أخذ الإبر التي في العضل أو في الوريد للصائم؟ وما حكم المغذيات أيضاً؟
الجواب
الذي أحفظه قول جمهور العلماء فيها أنه يستوي فيها المغذي وغير المغذي وأنها مفطرة، والعبرة بالوصول للجوف، والدليل على ذلك ما يلي: أولاً: هذه المسألة للعلماء فيها وجهان: منهم من يقول: أعتبر المدخل ولا أعتبر صفة الدخول, يعني: العبرة عندي بالفم والأنف, فما جاء عن طريق الفم والأنف يفطر, وما جاء من عداهما لا يفطر, وصاحب هذا القول أشكل عليه حكم الإبر المغذية، فإنه حين يقول: العبرة عندي بالفم والأنف، فإن الإبر المغذية ينتفع بها الجسم ويرتفق بها كارتفاقه بالطعام الواصل من الحلق سواء كان عن طريق الأنف أو الفم.
وقال بعض العلماء: نفرق -خروجاً من هذا الإشكال- بين الإبر المغذية والإبر غير المغذية، وهذا التفريق بدون دليل؛ لأنه إما أن يقول: إنني أعتبر الوصول إلى داخل الجسد بغض النظر عن كونه مغذياً أو غير مغذٍ، بدليل أن الفم الذي هو مدخل للطعام لو أدخل منه الدواء، لأفطر, كذلك الإبر إذا قلت: إن الدخول إلى البدن من سائر الأعضاء فيستوي في ذلك أن يكون مغذياً أو دواءً, كما أن الفم استوى فيه أن يكون مغذياً أو دواءً.
ولذلك الذي عليه الجمهور والمنصوص عليه في فتاوى العلماء المتقدمين أنه يستوي الدخول إلى البدن أياً كان, فلو قال قائل: إن الإبر في العضل لا ينتفع بها كانتفاع الطعام والشراب، فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فالإنسان عندما يستنشق وتذهب قطرة واحدة إلى حلقه فإنه يفطر إجماعاً, وهذه القطرة قد لا ينتفع بها الجسم, بل ربما أنها قبل أن تصل إلى الجسم تشربها الأمعاء بمجرد وصولها إلى الجدار كما هو معلوم طبياً, بل إنها لا تصل إلى الجوف أصلاً, وبناء على ذلك -وهو كلام جمهور العلماء- فإن العبرة بالوصول إلى الجوف سواءً كان مغذياً أو غير مغذٍ، وهذا هو الأقوى والأبرأ للذمة، بل إن بعض إبر العضل إذا ضربت وجد طعمها في الحلق, وهذا من أظهر الدلائل على انتفاع الجسم وارتفاقه.
ففقه المسألة: إما أن نقول: العبرة بالفم ولا عبرة بغيره؛ فيستوي في ذلك الإبر المغذية وغير المغذية.
وإما أن نقول: العبرة بالفم وبما وصل إلى الجوف بغض النظر عن كونه مغذياً أو غير مغذٍ كالحال في الفم، وهذا من ناحية أصولية أقوى وهو أسلم وأقوى من ناحية الاستنتاج، ومن أخذ هذه الإبر وتأول فيها قول من يقول: إنها لا تفطر؛ فلا حرج عليه؛ فإنه في هذه الحالة لا يعتبر مفطراً, ولكن الحقيقة أنه يفطر.
وننبه على مسألة وهي أن البعض يقول: ليس هناك دليل على اعتبار ما يصل إلى الجوف عن غير طريق الفم والأنف أنه مفطر, والواقع أن هناك دليلاً، وهو حديث لقيط بن صبرة؛ لأن فقه المسألة: أن حديث لقيط بن صبرة فيه دلالة على اعتبار الوصول إلى الجوف بغض النظر عن طريق الوصول، توضيح ذلك: أن الأكل والشرب والمفطر الأصل فيه أنه يصل عن طريق الفم, قالوا: فنبه الشرع باعتبار ما يدخل من الأنف مفطراً على أن العبرة بالوصول إلى الجوف بغض النظر عن طريق الوصول؛ لأن الأنف ليس طريقاً لوصول الطعام إلا في حالات الاضطرار, فلو قال قائل: هو يكون طريقاً للتداوي، فنقول: إذاً: ما وصل إلى الجوف تداوياً يفطر.
فأقول: من ناحية أصولية الأقوى أنها مفطرة, سواء كانت مغذية أو غير مغذية ومن قال: إنها لا تفطر إذا كانت في العضل ولم تكن مغذية فيلزمه أن يقول بأنها لا تفطر إذا كانت مغذية, وأما القول بالتفصيل بأنه يرتفق أو لا يرتفق فليس عندنا دليل في الشرع يقول: إن ما نفع الجسم غذاءً أفطر، وما ينفعه دواءً لا يفطر, بل إن الإجماع قائم على أن من تعاطى الدواء بالفم والأنف أنه يفطر، فيستوي في ذلك غير الفم من سائر المنافذ بداخل البدن, والله تعالى أعلم.(10/32)
حكم خروج المذي من الصائم عند المداعبة
السؤال
ما حكم خروج السائل من المرأة أو المذي من الرجل أثناء المداعبة، وهل ذلك يضر بالصوم؟
الجواب
إذا كان مذياً -وهو الذي يخرج عند بداية الملاعبة والشهوة- فإنه لا يوجب الفطر على أصح أقوال العلماء، وهو قول الجمهور.
وقال بعض العلماء: إنه يوجب الفطر, والصحيح: أن المذي لا يوجب الفطر؛ لأن الذين قالوا بأنه يوجب الفطر قاسوه على المني, وهذا القياس منتقض لأنه قياس مع الفارق, وهو أحد قوادح القياس الأربعة عشر, وتوضيح الفارق: أن المني كمال الشهوة, والمذي جزء الشهوة واللذة، ولذلك أوجب كمال الشهوة الفطر دون بعضها، فلو قال قائل: أنا أنقض بجزء الشهوة كما أنقض بكلها؛ رد عليه بأن النظر إلى المرأة بالشهوة لا يفطر إجماعاً, مع أن فيه لذة، فدلّ على أن جزء اللذة لا يوجب الفطر.
فيقوي القول بأن خروج المذي لا يوجب الفطر، وأنه يصح الصوم ولو أمذى الإنسان، لكن كما يقول بعض العلماء: لا يؤمن أن ينقص أجر الإنسان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي يرويه عن ربه: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل) والرفث هو ما يكون عند النساء، ولذلك قالوا: ينبغي للإنسان أن يتحامى حتى يكون أكمل في صومه وأبلغ في طاعته لربه؛ لأن المراد ترويض النفس وتعويدها على الامتثال لأمر الله والبعد عن الشهوة، والله تعالى أعلم.(10/33)
حكم اغتسال الصائم بعد الزوال وبلع الريق
السؤال
ما حكم الاغتسال بعد الزوال للصائم، وما حكم بلع الريق القليل أو الكثير المتجمع؟
الجواب
أما بالنسبة لاغتسال الصائم فلا حرج فيه ولا مانع منه, وليس هناك دليل يمنع من الاغتسال للصائم لا قبل الزوال ولا بعده.
وأما بالنسبة لبلع الريق فلا حرج فيه، ولا حرج على الإنسان أن يجمع ريقه ويبتلعه؛ لأنه مما يوسع الله فيه على العباد؛ ولأنه لو فتح باب عدم بلع الريق لوقع الناس في حرج ومشقة ووسوسة لا يعلمها إلا الله.
وإنما الممتنع هو النخامة، وهي البلغم الذي يخرج من الصدر أو يسحبه الإنسان من أنفه إلى فمه, وأما بالنسبة للعاب والريق الذي يكون في الفم فلا حرج فيه ولا عتب على الإنسان أن يبلعه ولو جمعه، والله تعالى أعلم.(10/34)
حكم مسح الوجه بعد الدعاء
السؤال
ما حكم مسح الوجه بعد دعاء القنوت؟
الجواب
مسح الوجه بعد الدعاء فيه حديث عمر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه) , وهو حديث ضعيف الإسناد, وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إن مجموع طرقه تقويه حتى يرتقي إلى درجة الحسن، بمعنى: إلى درجة الثبوت.
وبناءً على ذلك: لا ينكر على من مسح وجهه خارج الصلاة، أما داخل الصلاة فلا, ففي خارج الصلاة الصحيح: أنه لا يمسح؛ لضعف الحديث, لكن لو مسح شخص فلا ينكر عليه؛ لأنه قد يكون عاملاً بالحديث على قول من يعتد بتحسينه وتصحيحه، وهو الحافظ ابن حجر.
وقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على أن المكلف لو أخذ بتصحيح حديث أو تضعيف حديث من عالم يعتد بتصحيحه وتضعيفه فإنه يجزئه، كما أشار إلى ذلك بعض الفضلاء بقوله: واقبل لإطلاق بصحة السند أو حسنه إن كان ممن يعتمد أي: إذا كان من أهل العلم والفن الذين يعتمد تصحيحهم وتضعيفهم، والإمام الحافظ ابن حجر إمام في التصحيح والتضعيف, وبناء على ذلك: من مسح في خارج الصلاة فلا حرج عليه, وأما في داخل الصلاة فقد جاء في رفع اليدين في القنوت حديث أنس، ذكره الحافظ ابن الملقن في تحفة المحتاج وحسنه، ولكن المسح زيادة عمل, والأصل: أن يسكن الإنسان في الصلاة لظاهر حديث مسلم: (اسكنوا في الصلاة) ولذلك لا يشرع المسح بها بعد الانتهاء من القنوت في الوتر، لكن لو مسح في خارج الصلاة وتأول حديث عمر فلا حرج عليه في ذلك، وإن كان الأولى والأقوى ألا يمسح، والله تعالى أعلم.(10/35)
حكم قراءة القرآن من المصحف في التراويح
السؤال
هل تصح قراءة القرآن من المصحف في التراويح لمن لا يحفظ القرآن؟
الجواب
الأولى أن يتقدم الناس حافظ القرآن ويصلي بهم القيام أو التراويح, فإن لم يوجد وأراد الناس أن يصلوا بإمام يستطيع القراءة من المصحف فلا حرج, وهو فعل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين أمرت خادمها أن يصلي بها أو يقوم بها في رمضان بالمصحف.
ولذلك الفتوى عند أهل العلم على أنه لا حرج في إمساك المصحف والقراءة منه, حتى ولو كان الإنسان حافظاً وأراد أن تكون ختمته للقرآن في مأمن من الخطأ والخلل، أو كان يخشى في مواضع التشابه وأراد أن يجل القرآن من الخطأ، فهذا أكمل له وأعظم أجراً، ولا حرج عليه في ذلك، والله تعالى أعلم.(10/36)
نصيحة بخصوص قدوم شهر رمضان
السؤال
هل من كلمة حول رمضان؛ فإن بعض الشباب يضيعون أوقاتهم في هذا الشهر الكريم فيما لا ينفع؟
الجواب
أقبل رمضان وهو شهر الرحمة والغفران, أقبل رمضان والله أعلم كم في جنباته من حلم وصفح ورحمة وغفران! أقبل شهر قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة) وهو شهر الخيرات والمنافسة في الطاعات, اختاره الله جل وعلا من بين الشهور فجعله شهر العبادة والرحمة, والتلاوة والتسبيح، والتهجد والتراويح، كم دخله من بعيد فقربه الله! وكم دخله من مسيئ مذنب فتاب الله عليه فيه! وكم لله فيه من نفحات! وكم لله فيه من رحمات ومغفرات! وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وكم من صائم صام يومه وآذنته الشمس بالغروب, فغيبت معها الخطايا والذنوب.
وهو الشهر الذي فضل الله قيامه، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فطوبى لتلك الأحشاء التي ظمئت لوجه الله! وطوبى لتلك الأمعاء التي جاعت لوجه الله! وطوبى لتلك الأقدام التي انتصبت في جوف الليل بين يدي الله! وطوبى لتلك العيون التي سحت بالبكاء من خشية الله! هذا شهرها وهذا أوانها, ينادي منادي الله: يا باغي الخير! أقبل ويا باغي الشر! أقصر، تسلسل فيه الشياطين، وتفتح أبواب النفحات والرحمات من الله رب العالمين.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة) فما أعظمه من شهر! وما أجلها من غنيمة وذخر! وطوبى لمن خرج من رمضان فخرج عنه رمضان بصفح وغفران! وما يدريك فلعلك أن تخرج من ذنوبك منه كيوم ولدتك أمك.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل لنا فيه أوفر حظ ونصيب, وأن يجعلنا ممن صام الشهر واستكمل الأجر وأدرك ليلة القدر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل لنا من هذا الشهر أوفر حظ ونصيب من كل رحمة ينزلها, ومن كل مغفرة يسبغها، ونسأله أن يسبغ علينا الرحمات وعلى جميع الأموات من المسلمين والمسلمات الذين لم يدركوه, وأن يجبر كسرهم، وأن يعظم أجرهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(10/37)
شرح زاد المستقنع - باب فروض الوضوء وصفته [1]
اهتم الشارع الحكيم بتطهير المسلم ظاهراً وباطناً، حيث شرع الوضوء عند الصلاة، وهذا الوضوء طهارة حسية للظاهرة، وطهارة معنوية تكفر به السيئات، وهو يتم بغسل الأعضاء المأمور بغسلها من الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس، وهذه من منن الله التي امتن بها على عباده.(11/1)
مشروعية الوضوء وتعريفه لغةً وشرعاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب فروض الوضوء وصفته]: الفروض: جمع فرض، والفرض يطلق بمعنى الحز والقطع، ومنه الفريضة: وهي النصيب الذي جعله الله عز وجل من تركة الميت للحي من بعده، سميت بذلك؛ لأن مال الميت يُقْتَطَع منه لكل وارث نصيبه، فقيل لها: فريضة.
وأما في اصطلاح الشرع: فإن العلماء رحمهم الله إذا قالوا: هذا الأمرُ فرضٌ فإنهم يعنون به ما يثاب فاعله ويعاقَب تاركه، وقد تستعمل الفرائض بمعنى الواجبات، وهذا هو مذهب جمهور العلماء: أن الفرض والواجب في الشريعة معناهما واحد، خلافاً للحنفية رحمة الله عليهم، فإنهم يرون أن الفرض آكد من الواجب.
والصحيح: أن الفريضة والواجب كل منهما بمعنى الآخر، وخص الحنفية رحمة الله عليهم الفريضة والفرض بما ثبت بدليل قطعي، أي: أنه ليس من الواجبات على العموم.
والصحيح: أن ما ثبت من الواجبات بدليل قطعي أو بدليل ظني كله يوصف بكونه فرضاً وواجباً.
يقول المصنف رحمه الله (باب فروض) جَمَعَ الفرائض؛ لأن الواجبات التي ألزم الشرعُ المكلفين بها في الوضوء متعددة، ففرض الله غسلَ الوجه، وفرض غسلَ اليدين إلى المرفقين، ومسحَ الرأس كله، وغسلَ الرجلين إلى الكعبين، فلما تعددت فرائض الوضوء وَصَفَها بالجمع فقال: (باب فروض الوضوء) والوضوء: مأخوذ من الوضاءة، وهي: الحسن والبهاء والجمال، وُصِف بذلك؛ لأن صاحبه يبيضُّ وجهُه في الدنيا والآخرة حساً ومعنىً: أما حساً: فلإزالة القذر من الوجه.
وأما معنىً: فلأن صاحبَه يشرق وجهه، كما ثبت في الحديث الصحيح أن أمته عليه الصلاة والسلام: (يدعَون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء)، وهو طهارة معنوية كما ثبت في الصحيح من حديث الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المصلي بكونه: (لا يبقى من درنه شيء)، وكذلك ثبت في الحديث الصحيح أنه: (ما من مسلم يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق ويغسل وجهه إلا خرجت خطايا وجهه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى تخرج من تحت أظفار أصابعه)، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تمام ذلك في أعضاء الوضوء.
إذاً: تحصَّل من هذه النصوص أن الوضوء يفضي إلى جمال الحس والمعنى، فلهذا سمي وضوءاً.
وتعريف الوضوء شرعاً: هو الغسل والمسح لأعضاء مخصوصة حددها الشرع، وذلك بغسل الوجه واليدين والرجلين، والمسح يختص بالرأس، وقد يُمسح في مفروض يجب غسله -وهو الرجلان- إذا حل البدل محلهما، وذلك في المسح على الخفين.(11/2)
فروض الوضوء والأحكام المتعلقة بها
يقول رحمه الله: (باب فروض الوضوء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي يُعرف بها ما أوجبه الله وفرضه في عبادة الوضوء؛ ذلك أن أعضاء الوضوء التي غسلها النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يجب غسله، ومنها ما لا يجب غسله، وإنما فعله على سبيل السُّنِّيَّة والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب، فانقسمت أعضاء المكلف في عبادة الوضوء إلى: ما يَلزَم غسلُه ومسحُه وما لا يَلزَم غسلُه، ومن ثَمَّ ناسب أن يقول: وسُنَنِه، أي: سأبين لك الأعضاء التي يُثاب غاسلها ولا يعاقب تاركُها وهي أعضاء مخصوصة.
مناسبة هذا الباب: أن من عادة العلماء رحمة الله عليهم أنهم يبتدئون بآداب قضاء الحاجة، ثم يثنُّون بفرائض الوضوء؛ لأن المكلف إذا فرغ من قضاء حاجته تهيأ لعبادة الصلاة، وذلك بالوضوء، ثم بعد ذلك يصلي، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] الآية.
ولذلك يقولون: تقديم باب آداب قضاء الحاجة على باب الوضوء إنما هو من باب الترتيب المناسب للحال، فالغالب في حال المكلف أن يقضي حاجته أولاً، ثم يتهيأ لعبادة الصلاة، وقد أدخل المصنف باب السواك؛ لأن السواك يكون قبل الوضوء.
يقول رحمه الله: [فروضه ستة]: الضمير في قوله: (فروضه) عائد إلى الوضوء، أي: الفروض التي أوجب الله على المكلف في الوضوء ستة.
وقوله: (ستة) هذا يسميه العلماء: الإجمال قبل البيان والتفصيل، وهو أسلوب محمود، ومن منهج الكتاب والسُّنة أن إيراد الشيء إجمالاً ثم تفصله، وفي ذلك فوائد: منها: تهيئة السامع والمخاطَب لفَهم المراد، فإنه لو جاء مباشرة وقال: فروض الوضوء: غسل الوجه، وغسل اليدين.
إلخ، لما كان في ذلك من المناسبة واللطف مثل ما يوجد في قوله: (فروض الوضوء ستة)؛ لأنه عندما يقول: إنها ستة، ينشأ
السؤال
ما هي هذه الستة؟ فيحدث التشويق للسامع والمخاطَب أن يعرف تفصيل هذا الإجمال، وهو أسلوب القرآن، كما في قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 3]، وكان بالإمكان أن يقول: (الحاقة كذبت ثمود)، وكذلك قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3] فأحدث بالسؤال وبالإجمال الشوق إلى معرفة البيان والتفصيل، وهكذا هنا.
(فروضه ستة) أي: الفروض التي أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها في الوضوء: ستة.(11/3)
الفرض الأول: غسل الوجه وجوبه وكيفيته
قال رحمه الله: [غَسل الوجه] الغسل: هو صب الماء على الشيء، تقول: غسلتُ الإناءَ، إذا صببتَ الماء عليه فأصاب أجزاء الإناء، وغسلتُ الوجه، إذا صببت الماء عليه فأصاب الماءُ أجزاءه، وبناء على ذلك قالوا: الغسل لا يتحقق إلا بوصول الماء إلى البشرة.
فلو أن إنساناً بلل يده ثم دلكها على وجهه دون أن يجري الماء على الوجه لم يكن غاسلاً، وإنما هو ماسح، وفرق بين الغَسل وبين المسح.
والوجه: مأخوذ من المواجهة، وهو الشيء الذي يأتي قُبُلَ الإنسان مقابلاً له، تقول: واجهتُه، إذا صرتَ قِبَلاً للإنسان، أي: جئت من وجهه، ويقال لها: مواجهة، ويقال لها: مقابلة، ومنه قوله تعالى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} [الأنعام:111] أي: أمامهم ينظرون إليه.
والوجه سيأتي -إن شاء الله- ضابطه.
أما الدليل على إيجاب غسل الوجه فقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، فقوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) أمر، والقاعدة في الأصول: (أن الأمر يدل على الوجوب إلا إذا صرفه صارف عن ذلك)، فلما قال: (فَاغْسِلُوا) أي: فرضٌ عليكم ولازمٌ عليكم أن تغسلوا وجوهكم.
كذلك أيضاً دلت السُّنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نُقِل عنه الوضوء، ولم يثبت عنه في حديث صحيح أنه توضأ وترك غسل وجهه.
ففي الصحيحين من حديث حمران مولى عثمان، عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وأرضاه أنه (دعا بوضوء فأكفأ على كفيه فغسلهما ثلاثاً ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً ثم غسل وجهه ... ) إلى آخر الحديث.
وكذلك حديث عبد الله بن زيد في الصحيح.
وحديث علي بن أبي طالب في السنن، كلها وصفت وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عنه أنه ترك غسل وجهه.
ولذلك أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن غسل الوجه فرض من فرائض الوضوء، فلو توضأ إنسان ولم يغسل الوجه بَطَل وضوءُه بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.(11/4)
أقوال العلماء في المضمضة والاستنشاق والراجح منها
قال رحمه الله: [والفم والأنف منه].
بعد أن بيَّن أن الوجه يجب غسله أشار إلى الخلاف الحاصل بين العلماء في مسألة: هل الأنف والفم من الوجه أو ليسا من الوجه؟ وجهان للعلماء: فقال طائفة من أهل العلم -وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وقول بعض أصحاب الحديث، وبعض أهل الظاهر-: أن الفم والأنف من الوجه، وبناءً على ذلك يجب على المكلف إذا توضأ أن يتمضمض ويستنشق، فلو غَسَل ظاهر الوجه ولم يتمضمض ولم يستنشق لم يكن غاسلاً للوجه، ثم هل يصح وضوءه أم لا؟ قيل: لا يصح وضوءه، وقيل: يأثم بترك المضمضة والاستنشاق ووضوءه معتبر.
فهذا هو القول الأول: أن المضمضة والاستنشاق يعتبر كل منهما فرضاً من فرائض الوضوء؛ لأنه من الوجه.
والذين قالوا بالوجوب استدلوا بظاهر القرآن: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ).
فلما قيل لهم: كيف فهمتم أن الفم والأنف يعدان من ظاهر الوجه وخارجه لا من باطنه؟ قالوا: عندنا دليل يدل على أن الأنف والفم من خارج البدن لا من داخله، وهو: أن الإنسان لو كان صائماً ثم أخذ الماء فتمضمض واستنشق أيبطل صومه أو لا يبطل؟ قيل: لا يبطل.
قالوا: فدل هذا على أنهما من خارج البدن لا من داخله، إذ لو كانا من داخله لأفطر من تمضمض واستنشق وهو صائم.
الدليل الثاني: قالوا: لو أن إنساناً استقاء، فأخرج الطعام إلى فمه ثم رد الطعام وهو صائم، ألا يبطل صومُه؟ قيل: يبطل صومه.
قالوا: فلو كان الفم من داخله لما بطل صومه؛ لأنه في هذه الحالة يكون الفم في حكم المريء، ولا يوجب وصول الطعام إليه وازدراده بطلانَ الصوم.
لهذا قالوا: يجب عليه أن يتمضمض وأن يستنشق.
واحتجوا أيضاً بالسُّنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأت فمضمض) وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه، فدل على أنهما من فرائض الوضوء، وليسا من السنن.
هذه أدلة من يرى وجوب المضمضة والاستنشاق.
والمذهب الثاني -وهو مذهب الجمهور-: أنهما ليسا من الوجه، وأن المراد بالوجه في الآية الكريمة هو البشرة الخارجية، وليس الفم والأنف من خارج الوجه، بل هما من داخل البدن، وعلى هذا فلا يجب على المكلف أن يمضمض ويستنشق في الوضوء، واحتجوا بأدلة من الكتاب والسُّنة.
أما دليلهم من الكتاب: فالآية نفسها، قالوا: إن الله عز وجل قال في كتابه: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)، ولا شك أن القرآن جاء بلسان العرب، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، فيجب تفسيره بدلالة ذلك اللسان، والذي يدل عليه لسان العرب: أن الوجه ظاهر البشرة، ولا يعتبر الفمَ والأنفَ من الوجه، أي: داخلهما، ولفظ الوجه مأخوذ من المواجهة، قالوا: إن الإنسان إذا واجه الغير فالمواجهة إنما تحصل بالبشرة الظاهرة لا بباطن فمٍ ولا بباطن أنفٍ.
هذا بالنسبة لدلالة لفظ الوجه في اللغة.
وأما دليلهم من السُّنة: قالوا: أكدت السنة هذا المعنى، فقد جاء في حديث الترمذي (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! كيف أتوضأ؟ -أي: صف لي الوضوء الذي أصلي به وأستبيح الصلاة به- فقال عليه الصلاة والسلام: توضأ كما أمرك الله) أي: اقرأ كتاب الله، وما وجدت في آية المائدة فافعله، قالوا: فرد النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي إلى ظاهر القرآن، وهذا أعرابي لا يعرف الوضوء؛ إذ لو كان عارفاً بالوضوء عالماً به لما سأل، فردُّه إلى ظاهر القرآن صريحُ الدلالة على أن المرادَ ظاهرُ الآية.
وأما ما استدل به الفريق الآخر: فأولاً: ما استنبطوه من كون الفم يعد من خارج الوجه، هذا من المسائل التي لا يدركها إلا الفقيه، ويعسُر على أعرابي في بداية الإسلام وهو يسأل عن كيفية الوضوء أن يدرك المسائل الفقهية الخفية.
ثانياً: قولكم: إن اعتباره من داخلٍ وخارجٍ بالصفة التي ذكرتموها في الصوم؛ إنما هو اعتبار حكمي، والاعتبار الحكمي في العبادة المخصوصة لا يطرد في غيرها، أي: كون الشرع حكم بكون الفم من خارجٍِ في عبادة مخصوصة لا يقتضي اطراد ذلك على العموم، إذ لو قيل بذلك لَلَزم منه غسل باطن العين.
وقد كان يُحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرى وجوب غسل داخل العينين، حتى قيل: إنه هو السبب في عمى بصره في آخر عمره.
الشاهد أن الجمهور قالوا: إن ظاهر الكتاب وظاهر السُّنة لا يساعدان على القول بوجوب المضمضة والاستنشاق.
وبناءً على ذلك: فالقول بأن العبرة بظاهر البشرة قوي، ويؤيد ذلك: أن الإنسان لو وجد ماءً لا يكفي إلا لغسل وجهه ويديه ومسح رأسه وغسل رجليه لقيل بوجوب الوضوء عليه، ولما قوي أن يقال له: اعدل إلى التيمم، فدل على أن المراد بغسل الوجه غسل ظاهر البشرة.
وهذا القول هو أقوى الأقوال وأقربها إلى الصواب؛ لظاهر القرآن وظاهر السُّنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما لو قال قائل: إن النبي عليه الصلاة والسلام داوم على المضمضة والاستنشاق.
فجوابه أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد داوم على السنن من باب التعليم لا من باب الإلزام، ألا تراه عليه الصلاة والسلام -بإجماع الروايات عنه- أنه ما توضأ إلا غسل كفيه قبل أن يتوضأ؟! والذين قالوا بوجوب المضمضة والاستنشاق يسلِّمون بأن غسل الكفين قبل الوضوء لغير المستيقظ من النوم مستحب وليس بواجب، فدل على أن المداومة تكون لما هو واجب ولما هو غير واجب، فيقوى القول بعدم وجوبها.
ولكن ينبغي على المكلف أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن لا نأخذ من القول بسُنِّيَّة المضمضة والاستنشاق الاستهتار بفعلها، فإن التساهل في السنن لا ينبغي للمسلم، خاصةً لطالب العلم القدوة، ولذلك قد يتعلَّم البعضُ الفقهَ، فيكون نقصاناً في أجره، وحرماناً للخير له، وذلك بأن يتعلم السنن فيفرِّط فيها من باب أنها سنة، وقد تجد طالب علم يقول لك: اترك هذا إنه سنة!! وقد كان ينبغي على طالب العلم أن يقول: احرص عليه؛ لأنه سنة وهدي من النبي صلى الله عليه وسلم.
فلذلك ينبغي الحرص والمداومة على هذه السُّنة، ولا يعني القول بسُنِّيَّتها أن الإنسان يفرِّط فيها؛ وإنما يحرص على ذلك لسنيته، ولما فيه من الخروج من خلاف العلماء رحمة الله عليهم.
يقول رحمه الله: (منه) أي: من الوجه الذي يجب غسله: الفم، والأنف.
الفم: يتحقق غسله بالمضمضة بإدارة الماء فيه.
وكذلك الأنف: يتحقق غسله بإدخال الماء فيه إلى الخياشيم وجذبه بالنَّفَس ثم طرحه.(11/5)
الفرض الثاني: وجوب غسل اليدين مع المرفقين
قال رحمه الله: [وغَسل اليدين].
الفرض الثاني: غَسل اليدين، واليدان: مثنى يد، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على حدهما.
واليدان أَمَر الله بغسلهما في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]، فأمر بغسل اليدين، والأمر دال على الوجوب حتى يأتي الصارف الذي يصرفه إلى ما دون ذلك، ولا صارف هنا.
والنبي صلى الله عليه وسلم غسل كلتا يديه إلى المرفقين، والواجب الغَسل من أطراف الأصابع إلى المرفقين، والمرفقان داخلان في الغَسل، فلو غسل اليدين ولم يغسل المرفقين لم يصح وضوءه في قول الجماهير، وذهب داوُد بن علي الظاهري -رحمة الله على الجميع- إلى القول بأن المرفقين ليسا بداخلين في الغَسل، قال: إن قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] (إلى) فيه للغاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فإن الليل لا يجب صيامه، والقاعدة في الأصول: أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، ولذلك قالوا: لا يجب غَسل المرفقين، والمرفقان هما: مفصل الساعد مع العضد، وسُمِّيا بذلك من الارتفاق؛ لأن الإنسان إذا جلس ارتفق عليهما، فسُمِّيا مرفَقين بسبب ذلك.
والصحيح أن المرفقين داخلان في الغسل لأمور: الأمر الأول: ظاهر القرآن في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] فإن (إلى) تأتي في لغة العرب بمعنى: (مع)، ومنه قوله تعالى: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران:52] أي: مع الله، فـ (إلى) بمعنى: (مع)، فيكون قوله تعالى: (إِلَى الْمَرَافِقِ)، أي: مع المرافق.
الأمر الثاني: أن قولهم: إن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، محل نظر، فإن الغاية إذا جاءت فلها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون من جنس المُغَيَّا.
والحالة الثانية: أن تكون من غير جنس المُغَيَّا.
فإن كانت الغاية من جنس المُغَيَّا دخلت.
وإن كانت من غير جنس المُغَيَّا لم تدخل.
وتوضيح ذلك: أن المرفقين من جنس اليد، بل إن اليد تمتد إلى المنكب، فلما قال: (إِلَى الْمَرَافِقِ) دخلت؛ لأنها من جنس اليدين.
وأما {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فالليل ليس من جنس النهار المأمور بصومه، فلم يدخل الليل الذي هو الغاية في المُغَيَّا؛ لأنه ليس من جنسه.
وبهذا يترجح قول الجمهور أنه يجب غَسلها.
ومما يدل على ترجيح قول الجمهور ما ورد في السُّنة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، فغسل يديه حتى شرع في العضد) يعني: كاد يغسل عضده، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غسل المرفقين.
واليد تشمل: اليد الصحيحة، واليد المشلولة، واليد المقطوعة.
فلو أن إنساناً كانت يده شلَّاء وجب عليه غسلها، فيصب الماء عليها.
ولو قُطِعت وبقي من الفرض شيء، فإنه يجب غسل ما بقي بعد القطع.
ويجب غَسل اليد بكامل ما فيها، سواءً كانت على أصل الخِلقة بأن يكون فيها خمسة أصابع، أو زائدةً عن الخِلقة كما لو كان فيها ستة أصابع ونحو ذلك؛ لأن الله عز وجل أمر بغسلها على الإطلاق كما في قوله: (وَأَيْدِيَكُمْ)، ولاشك أن المكلف إذا زادت خِلقته في اليد أو خالفت الفطرة، فإنها داخلة في الوصف من كونها يداً له مأمور بغسلها.(11/6)
الفرض الثالث: مسح الرأس والقدر الواجب منه
قال رحمه الله: [ومسح الرأس ومنه الأذنان].
الفرض الثالث: مسح الرأس، والمسح: هو إمرار اليد على الشيء، تقول: مسحتُ برأس اليتيم، إذا أمررتَ يدك عليه، والمراد بالمسح هنا: أن يُمِرَّ يدَه المبلولة على الرأس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سكب الماء على يده، ثم مسح برأسه صلوات الله وسلامه عليه.
والرأس الذي يجب مسحه حدُّه: من الناصية إلى القفا، وهذا بالنسبة للطول، ثم من السالفة أو من عظم الصدغ إلى عظم الصدغ عرضاً، هذا يجب مسحه كله، والدليل على الوجوب قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] فإن قوله: (امْسَحُوا) أمر، والقاعدة في الأصول: (أن الأمر للوجوب حتى يدل الدليل على ما دون الوجوب)، ولا دليل هنا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه، ولم يترك المسح في وضوء البتة.
والإجماع من العلماء منعقد على أنه يجب مسح الرأس، وأن من توضأ ولم يمسح رأسه بطل وضوءه.
المسألة الثانية: ما هو الحد الذي يجب مسحه من الرأس؟ اختلفت أقوال العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: فقال المالكية في المشهور -وهي أشهر الروايات عن مالك، وإن كان بعضهم رجَّح غيرها أيضاً-: إنه يجب مسح الرأس كله، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وشهَّرها غيرُ واحد من أصحابه: أن الفرض الذي أمر الله بمسحه من الرأس هو جميع الرأس لا بعضه.
القول الثاني: أن الواجب مسح ربع الرأس، وبه قال الإمام أبو حنيفة وأصحابه رحمة الله على الجميع.
القول الثالث: أن الواجب مسح ثلاث شعرات، وأن ما زاد عليها ليس بواجب، وبه قال الشافعية رحمة الله على الجميع.
وهناك رواية عند المالكية: أن الواجب مسح ثلث الرأس.
هذا محصل أقوال العلماء في مسألة مسح الرأس.
فيَرِدُ
السؤال
ما هي أدلة العلماء على هذه الأقوال؟ من قال بوجوب مسح الرأس كله: احتج بظاهر القرآن في قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) قالوا: إن قوله: (بِرُءُوسِكُمْ) الباء للإلصاق، كأنه قال: امسحوا رءوسكم، وليس المراد بها التبعيض كما يقول الذين يرون أن مسح أجزاء الرأس مجزئ.
وقيل: إن الباء تأتي زائدة، واختار بعض المفسرين ممن يرجح هذا القول أنها زائدة وليست للإلصاق، فيقولون: إن قوله: (امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) أي: امسحوا رءوسكم، وهذا مثل قوله تعالى في قراءة: {تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون:20] (تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ) أصلها: تُنْبِتُ الدهنَ، والباء زائدة.
وهنا ننبه على مسألة في قول العلماء: الباء زائدة، أو مِنْ زائدة! وهي: أنه ليس مراد العلماء بقولهم: إنه حرف زائد، أنه لا معنى له في كتاب الله، فإن بعض المتأخرين يسيء الأدب مع أهل العلم المتقدمين دون التفات إلى مصطلحاتهم ومقصودهم.
فليس مراد العلماء رحمة الله عليهم بكونها زائدة إلغاء كونها من القرآن؛ وإنما المراد: أن المعنى: إرادة الكل لا إرادة البعض، مثل قولنا هنا في قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) أنها لم تأت للتبعيض، فيقولون: هي زائدة.
وحملُها على الزيادة الحقيقية بمعنى أنها مُلغاة من القرآن يقتضي الكفر، فإن من أنكر من كتاب الله حرفاً ثابتاً بالتواتر يكفر والعياذ بالله، وهذا لا يقوله جاهل من عوام المسلمين، فضلاً عن علماء الأمة الذين هم أهل العلم والدراية والرواية.
فلا ينبغي للإنسان أن يكون بسيط الفهم ساذجاً ينكر على العلماء رحمة الله عليهم دون تروٍّ، ودون فَهم مقصودهم من الكلام، فإذا قالوا: هذه قراءة شاذة أو هذا حرف زائد، فليس مرادهم الشذوذ بمعنى: الانتقاص والتحقير، ولا الزيادة بمعنى: الإلغاء؛ وإنما هو معنىً موجود في هذه الحروف بأصل اللغة، والقرآن جاء باللغة، ولذلك تأتي الباء بقرابة عشرة معانٍ جمعها بعض الفضلاء بقوله: تَعَدَّ لُصوقاً واستعِنْ بتسبُّب وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلا وزِدْ بعضَهم يميناً تحز معانيها كلها تَعَدَّ: التعدية.
لصوقاً: الإلصاق.
واستعن: الإستعانة، مثل: باسم الله.
بتسبُّب: مثل: {فَكُلَّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40].
إلى قوله: (وزِدْ) أي: أنها تأتي زائدة، وهذا هو موضع الشاهد، وقوله: (وزِد بعضَهم) أي: تأتي زائدة وللتبعيض.
فالمقصود: أن من معانيها أنها تأتي زائدة، وهذا في لغة العرب باستقراء كلامهم وألفاظهم، هذا بالنسبة للقول الأول، قالوا: إن قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) أي: امسحوا رءوسكم.
الدليل الثاني لمن أوجب مسح جميع الرأس: من السُّنة، هو (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح جميع رأسه) ولم يُحفَظ عنه في حديث صحيح أنه اقتصر على بعض الرأس، أو جزء من الرأس، أو على ثلاث شعرات من الرأس، فلو كان الاقتصار على البعض جائزاً لفعله ولو مرة واحدة، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا بالنسبة لأدلة من قال بوجوب مسح الرأس كله.
أما دليل من قال: إنه يجب مسح ربع الرأس -وهم الحنفية رحمة الله عليهم-: فاحتجوا، أولاً بالآية: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) وقالوا: إن الباء للتبعيض، وليس المراد بها الكل، وهذا معروف في لغة العرب، كما قال تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150] فليس المراد أنه أخذ الرأس كله، ولكن أخذ البعض، فَنُزِّل منزلة الكل، وتقول: أخذتُ برأس اليتيم، وليس المراد أنك أخذت الرأس كله؛ وإنما أخذت جُزْأَه، فكأنك أخذت الكل؛ لأنه بمجرد شدك لجزء من الرأس ينشدُّ جميع الإنسان، فيقال: أخذ برأسه.
قالوا: فقوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ): للتبعيض.
الدليل الثاني: احتجوا بحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ في غزوة تبوك، قال: فمسح بناصيته وعلى العمامة) قالوا: والناصية تُقَدَّر بربع الرأس، ولذلك يقدرونها بأربعة أصابع، قالوا: قدر أربعة أصابع من مُقَدَّم الرأس يجزئ في المسح، بشرط أن يكون بأربعة أصابع، فلا يمسح بما دونها.
وهذا أصل عند الحنفية: أن أكثر الشيء مُنَزَّل منزلة الكل، وهذا أصل طردوه في مسائلَ لا تحصى كثرةً في العبادة والمعاملة، ولذلك تجدهم يصححون طواف من طاف أربعة أشواط بالبيت؛ لأن أكثر الطواف أربعة أشواط، فلو ترك الثلاثة قالوا: يصح ويلزمه الجبران، وهكذا سعيه، وهكذا في المبيت في الليل قالوا: لو أمسك أكثره فإنه يُنَزَّل منزلة الكل.
فهذا أصل عندهم: أن أكثر الشيء مُنَزَّلٌ منزلة الكل.
فقالوا: إن ربع الرأس إذا مُسح بأكثر الأصابع وهي الأربعة فإن هذا يجزئ، ويكفي في هذا الفرض الذي أمر الله عز وجل بمسحه.
دليل أصحاب القول الثالث الذين قالوا: إنه يمسح ثلاث شعرات: احتجوا بقوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) قالوا: الباء للتبعيض، وبناءً على ذلك يكون قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ): أي: بعض رءوسكم، ولا يجب مسح كل الرأس، وهذا البعض الذي يصدُق عليه أكثر الجمع أنه من الرأس إنما هو الثلاث فأكثر، وهي قاعدة في المذهب الشافعي وغيره، في مسائل: أن أقل الجمع ثلاثة، وبناءً على ذلك قالوا: أقل الرأس ثلاثُ شعرات، فإذا مسح الثلاث صَدَق عليه أنه مسح برأسه، وهكذا لو حلق في الحج ثلاث شعرات أو قَصَّر ثلاث شعرات أجزأه، وهذا أصل عند الشافعي رحمة الله عليه.
هذا حاصل أدلة مَن قال بالتبعيض.
تبقى أدلة القول الأخير الذي حكيناه رواية عن الإمام مالك: أن الثلث من الرأس يجزئ، وهذا أصل عند المالكية أيضاً: أن الثلث يُنَزَّل منزلة الكل في مسائل، منها: مسألة المساقاة، والمزارعة، إذا كان بالأرض بياض يعدل ثلث الذي سُقِي عليه لحق المساقاة، وجاز أن يتعامل مع العامل على إحيائه، قالوا: لحديث سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والثلث كثير) فمن مسح ثلث رأسه فقد مسح الكثير فيجزئه، وهذا قول طائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله عليه.
هذا محصل حجج العلماء في مسألة المسح على الرأس.
وأصحها -والله أعلم- في نظري: القول بوجوب مسح الرأس كله، وذلك لما يأتي: أولاً: لظاهر القرآن؛ فإن حمل الباء على التبعيض تجوُّز، والأصل حملها على ما ذكر من الإلصاق؛ لأنه أقرب إلى معنى المسح، فإن قولك: مسحتُ برأسه على أنه للإلصاق أقرب من قولك: إنه للتبعيض؛ لأن التبعيض خلاف الأصل، ولذلك يأتي غالباً في المعاني المجازية.
ثانياً: أن السُّنة التي احتُجَّ بها على التبعيض -وهو دليل القول الثاني الذي قال: يجب مسح ربع الرأس- يجاب عنها: بأن الحديث فيه: (مَسَحَ بناصِيَتِه وعلى العمامة) فيَصح الاستدلال بهذا الحديث فيما لو اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على مسح الناصية، ونحن نقلب هذا الحديث ونقول: هو حجة لنا لا علينا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتبع مسح الناصية بالمسح على العمامة.
لكن هنا إشكال أورده الحنفية رحمة الله عليهم، قالوا: لو قلتم: إن مسحه للعمامة المراد به مسح فرض لبطلت أصولكم؛ لأنه لا يصح في الأصل أن يُجْمع بين البدل وبين المبدل، فإن الرأس إما أن يمسح عليه أو يمسح على العمامة.
فإما أن تقولوا: مسح الناصية هو الفرض، ويكون مسحه على العمامة لاغٍ فيستقيم دليلُنا، أو تقولوا: مسح العمامةِ هو الفرض، والناصيةُ ملغاةٌ، وهذا خلاف الظاهر.
فكيف الجواب عن هذا الإشكال؟
الجواب
أن يقال: إن المسح على العمامة في هذا الحديث هو الأصل؛ ولكن يجوز في العمامة أن يُكشف ما جرت العادة بكشفه، بدليل أن من تعمَّم العمامة المعروفة فإن السوالف تخرج، والخارج المعتاد مغتفر في المسح على العمامة؛ ولكنه يُمْسح إبقاءً على الأصل، وكشف الناصيةُ صنيع أهلِ الفضل، وهذه من السنن: أن الإنسان لا يبالغ في إرخاء ستر الوجه إلى حواجبه، لأنه صنيع أهل الكبر والخيلاء، ولذلك قالوا: إنه يُكشَف عن الناصية، ويكون كشف النبي صلى الله عليه وسلم عنها في هـ(11/7)
كيفية مسح من طال شعره
مسألة: لو أن إنساناً طال شعره حتى استرسل، وبلغ -مثلاً- إلى القفا، فهل يجب عليه المسح لجميع الشعر؟ قال بعض العلماء: يَمسح جميع الشعر حتى يأتي من قفاه ويرده إلى مُقَدَّمِه، فيتأتى له التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض العلماء: يجب عليه مسح ما حاذى الفرض، بمعنى أنه يمسح حتى يبلغ آخر الرأس، ثم لا يجب عليه مسح ما استرسل، وفرَّعوا على هذا المرأة، فقالوا: إنها تمسح ما حاذى الرأس، ولا يجب عليها مسح ما استرسل.
والحقيقة: الأحوط والأكمل أن الإنسان يمسح الكل؛ لأنه حالٌّ محل الأصل، فإن الشعر حال محل جلدة الرأس، وقد تعذر مسح الجلدة، فوجب إنزال البدل منزلة الأصل، فيجب مسح الشعر، ويحتاط الإنسان بكماله.(11/8)
كيفية مسح الرأس
والسُّنَّة في مسحه لشعره: أن يبدأ من مُقَدَّمِه حتى يبلغ قفاه، ثم يَرُدَّه إلى مُقَدَّمِه، هكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه وأرضاه قال: (بدأ بمُقَدَّم رأسه حتى بلغ قفاه ثم ردهما إلى الموضع الذي بدأ منه).
وقال بعض العلماء: بل يبدأ من القفا حتى يَقْدُم إلى المُقَدَّم، ثم يعود إلى القفا، واحتجوا بقوله: (أقْبَلَ بهما وأدْبَرَ) قالوا: أقْبَلَ بهما، أي: من القفا إلى المُقَدَّم، وأدْبَرَ، أي: ردهما إلى القفا.
والصحيح: أن قوله: (أقْبَلَ بهما وأدْبَرَ) مجمل، وأن قوله: (بدأ بمُقَدَّم رأسه) مفصِّل مبيِّن، والقاعدة: (أن المفصِّل والمبيِّن مُقَدَّمٌ على المجمل).
الأمر الثاني: أن قوله: (أقْبَلَ بهما) استقام استدلالهم به على أن (أقْبَلَ) على الحقيقة؛ ولكن المعروف في لغة العرب أنهم يقولون: أقْبَلَ وأدْبَرَ، ومرادهم: أدْبَرَ ثم أقْبَلَ، وهذا معروف، ومنه قول امرئ القيس يصف جواده: مِكَرٍّ مِِفَرٍّ مُقْبِلٍِ مُدْبِرٍ معاً كجلمود صخرٍ حطَّه السيل مِن عَلِ (مِكَرٍّ مِفَرٍّ) فالكَرَّ لا يكون إلا بعد الفِرار، يفِر الإنسان أولاً ثم يكُر، فالفارس أول ما يفعل: يفِر، ثم بعد ذلك يكر، فلذلك قال: (مِكَرٍّ مِفَرٍّ) فقدَّم كونَه يَكُرُّ على العدو على فِراره.
كذلك قوله: (مُقْبِلٍِ مُدْبِرٍ معاً) فإن الأصل: أنه أدْبَرَ أولاً ثم أقْبَلَ على العدو.
وهذا معروف في اللغة.
فيكون قول الصحابي: (أقْبَلَ بهما وأدْبَرَ) على هذا المعنى؛ أنه أدْبَرَ ثم أقْبَلَ.
وعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به على الوجه الذي ذكروه.
وهناك وجه ثالث قال: نجمع بين الحديثين: (أقْبَلَ بهما وأدْبَرَ) أي: معاً، فيضع يديه في منتصف الرأس، فيُقْبِل باليمنى ويُدْبِر باليسرى.
والصحيح: ما ذكرناه؛ من أن قوله: (أقْبَلَ بهما وأدْبَرَ) المراد به: أدْبَرَ بهما ثم أقْبَلَ للرواية المبيِّنة.(11/9)
الفرض الرابع: غسل الرجلين والرد على من قال بالمسح
قال رحمه الله: [وغسل الرجلين].
هذا هو الفرض الرابع الذي أمر الله بغسله، وقد انعقدت كلمة أهل السنة والجماعة على أن غسل الرِّجْلين فرضٌ.
وخالف بعض أهل الأهواء ممن لا يُعْتَدُّ بخلافه؛ فقالوا: إن الرِّجْلين يجب مسحهما ولا يجب غَسلهما.
والصحيح والمعتبر والذي عليه العمل: أنه يجب الغَسل، وذلك لما يلي: أولاً: أن قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] المراد به: اغسلوا أرجلكم، والذين قالوا: إنه يجب مسح الرِّجْلين قالوا: إن قوله: (وَأَرْجُلَكُمْ) فيه قراءة: (وَأَرْجُلِكُمْ) عطفاً على قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6]، وبناءً على ذلك قالوا: المعنى: امسحوا أرجلَكم.
وهذه القراءة يُجاب عنها بأن قوله تعالى: (وَأَرْجُلِكُمْ) الجر فيه للمجاورة، ومنه قول الشاعر: لَعِبَ الزمانُ بها بعدُ وغيَّرها سوافي المَور والقطرِ فإن الأصل: والقطرُ أي: غيَّرها القطرُ، ولكن عندما قال: (سوافي المَور) فأضاف المور مضاف إلى السوافي -المَور: الذي هو الرياح، والسوافي: جمع سافية، وهي الريح- قال: (والقطرِ) فراعى المجاورة في قوله: (المَور) وإلا فالأصل في التقدير أن يقول: والقطرُ، ولا يقول: والقطرِ.
وهذه لغة معروفة جاءت عليها القراءة التي ذُكِرت من قوله: وأرجلِكم.
وأما قراءة النصب فهي قوية واضحة في الدلالة على الوجوب، وأن الرِّجْلين فرضهما الغَسل لا المسح.
ثم يجب غَسل الرِّجْلين من أطراف الأصابع إلى الكعبين، والكعبان داخلان في الغاية، والخلاف فيهما كالخلاف في المرفقين، ولذلك قالوا: إنه يجب غسل الكعبين لحديث أبي هريرة (أنه توضأ فغسل رجليه حتى شرع في الساق وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ).
فالمقصود أنه يجب غسل الكعبين، والكعبان هما العظمان الناتئان في آخر الساق، ويجب غسلهما، فلو غسل رجليه ولم يغسل الكعبين لم يصح وضوءه؛ لأن الله أمر بغسلهما وقال: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] أي: مع الكعبين؛ لأن الغاية داخلة في المُغَيَّا إذ هي من جنسها، فإن الكعبين ليسا من الساق وإنما هما من القدم، والقدم تعتمد في الظاهر عليهما؛ لأن حركتَها ووضعَها في رفعِها ووضعِها قائم على الكعبين، فهما من القدم وليسا من الساق، فذلك يجب غسل الكعبين.
وبهذا نكون قد انتهينا من أربع فرائض، والفرض الأخير هذا ثبت وجوبه بدليل الكتاب كما قلنا في الآية، وبدليل السُّنة من مواظبته عليه الصلاة والسلام، والإجماع.
وليس هناك أحد من أهل السنة والجماعة يقول: إن الرِّجْلين لا يجب غسلهما.
يُستثنى من ذلك المسح على الخفين، فإنه إذا غَطَّى قدميه بالخفين نُزِّل المسح منزلة الغَسل؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث المتواترة، وقد ورد عن أكثر من ستين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه، ولذلك تجد أن أهل السنة والجماعة إذا ذكروا عقيدة أهل السنة والجماعة أدخلوا فيها سُنَِّّية المسح على الخفين؛ مبالغة في رد قول أهل البدع والأهواء الذين لا يرون المسح على الخفين؛ لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث المتواترة، كما قال بعض الفضلاء: ثم من المشهور ما تواترا وهو ما يرويه جمعٌ حُظِرَا كذبهم عرفاً كمسح الخفِّ رفعُ اليدين عادمٍ للخُلفِ وقد روى حديثَه مَن كتبا أكثر مِن ستين ممن صَحِبا أي: أن المسح على الخفين، ورفع اليدين في تكبيرة الإحرام وَرَدَ عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر من ستين من أصحابه صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين، فيُنَزَّل المسح على الخفين منزلة غسل الرجلين لإذن الشريعة به، ولذلك قال بعض المفسرين في قوله تعالى: (وَأَرْجُلِكُمْ)، على قراءة الجر، قال: إنها محمولة على حالة المسح على الخفين، ويُنَزَّل الجوربان منزلة الخفين على أصح أقوال العلماء.(11/10)
وجوب الترتيب في الوضوء والرد على من قال بعدمه
قال رحمه الله: [والترتيب].
يقال: رتَّبَ الأشياء إذا جعل كل شيء منها في موضعه وجعلها تِلْو بعضها.
والترتيب: أن يوقع الغَسل والمسح على الترتيب الذي جاءت به آية المائدة، فيبدأ بغسل وجهه، ثم غسل يديه، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه، فلو قدَّم مسح الرأس على غسل الوجه لم يُجزئه، ولو قدَّم غسل الرجلين على مسح الرأس لم يجزئه، وهكذا.
وهذا الترتيب دل عليه دليل الكتاب، فإن الله عز وجل أمر بغسل الوجه، ثم أتبع الوجه باليدين، ثم أتبعهما بمسح الرأس، ثم أتبع الجميع بغسل الرجلين، والواو هنا يُفهم منها الترتيب لقرينه، فإن الواو في لغة العرب لا تقتضي الترتيب إلا عند وجود القرائن، فإذا قلت -مثلاً-: جاء محمد وعلي، فلا يستلزم ذلك أن يكون محمد جاء أولاً ثم مِن بعده علي، إذ يجوز أن تقول: جاء محمد وعلي، مع أن علياً هو الذي جاء أولاً، ويجوز أن تقول: جاء محمد وعلي، وقد جاءا مع بعضهما لا يسبق أحدهما الآخر.
إذاً: الواو في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6]، وقوله بعد ذلك: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] (الواو) في هذه الأربع لا تفيد الترتيب نصاً؛ لكن فُهِم الترتيب من سياقها، وذلك أنه لا معنى لإدخال الممسوح بين المغسولَين إلا إرادة الترتيب، فإن الله عز وجل أدخل الرأس وهو ممسوح بين مغسولَين وهما: اليدان والرجلان، فلو كان الترتيب ليس بلازم لذكر المغسولات أولاً ثم أتبع بالممسوح، أو ذكر الممسوح أولاً ثم أتبع بالمغسولات، فلا وجه لإدخال المسح بين الغَسلَين على هذه الصورة، إلا إرادة الإيقاع على الطريقة أو على الصورة التي وردت في الكتاب.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: (توضأ كما أمرك الله) أي: على الصفة التي وردت في كتاب الله جل وعلا.
ثالثاً: أنه لم يُحفَظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ فقدَّم عضواً على عضو مخالفاً للترتيب.
لكن هنا إشكال في الحديث الذي ورد مِن كونه عليه الصلاة والسلام تمضمض بعد أن غسل وجهه، فكيف نجيب عن هذا الإشكال؟ جوابنا: أن الترتيب في أعضاء الوضوء يقع على الصورة التالية: أولاً: الترتيب بين مفروض ومفروض.
ثانياً: الترتيب بين مسنون ومسنون.
ثالثاً: الترتيب بين مفروض ومسنون.
فأما الترتيب بين مفروض ومفروض: فكَغَسل اليدين بعد غَسل الوجه.
وأما الترتيب بين مسنون ومسنون: فكالترتيب بين المضمضة والاستنشاق، بأن يوقع المضمضة أولاً ثم يستنشق بعدها.
وأما الترتيب بين مفروض ومسنون: فكالمضمضة مع غَسل الوجه، فيبدأ بالمضمضة أولاً ثم الاستنشاق، ثم يغسل وجهه.
والذي ورد في الحديث من كونه غَسَل وجهه ثم مضمض؛ إنما هو بين مسنون ومفروض، ومحل الكلام فيما بين المفروضات.
وبناءً على ذلك: يكون هذا الحديث خارجاً عن موضع الكلام الذي نتكلمه، وهذا أمر يُغْفِله بعضُ طلاب العلم؛ فيحتج بهذا الحديث على إلغاء الترتيب، وليس في الحديث دلالة؛ وإنما يستقيم الاستدلال بالحديث فيما لو غَسل عليه الصلاة والسلام يديه قبل وجهه، أو -مثلاً- قدَّم مسح رأسه على غسل اليدين، أما أن يخالف في الترتيب بين السنن فأمر السنن واسع ليس كالفرائض.
تنبيه: هذا الترتيب إنما هو في الفرائض، بأن يكون الترتيب بين فرض وفرض آخر، أما الفرض بذاته فالترتيب فيه ليس بلازم، وذلك في الأعضاء الثنائية كاليدين والرِّجْلين، فيجوز لك أن تغسل اليمنى قبل اليسرى، وأن تغسل اليسرى قبل اليمنى، ولا يشترط الترتيب بين اليمنى واليسرى، فلو غسل يده اليسرى قبل اليمنى لصحَّ؛ لأن الله عز وجل أمر بغسل اليدين مطلقاً، وهذا قد غسل يديه، وفِعْل النبي صلى الله عليه وسلم هو على سبيل الكمال؛ لقول عائشة: (يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره وفي شأنه كله).
وبناءً على ذلك: لا يجب الترتيب بين المسنونات.(11/11)
حقيقة الموالاة في الوضوء
قال رحمه الله: [والموالاة].
وهي: أن تقع هذه الفروض على الولاء، بعضُها يلي بعضاً، دون وجود فاصل مؤثر.
وتوضيح ذلك: أن يغسل وجهَه، ثم يقوم بغسل يديه قبل أن ينشف وجهُه، ثم يمسح رأسه قبل أن تنشف يداه، ثم يغسل رجليه قبل أن ينشف الماء الذي مَسح به رأسَه، هذا مراد العلماء بالموالاة، ولذلك قال العلماء: ضابطها: أن لا ينشف العضو المفروض قبل أن يبدأ بالفرض الذي يليه، مثال ذلك: لو أن إنساناً توضأ في بيته، وكان قد غسل وجهه، وقبل أن يغسل يديه انقطع الماء أو انتهى الماء الذي عنده، فقام من موضعه إلى موضع آخر فيه الماء، ومشى حتى بلغ الماء، فحينئذٍ ننظر: فإن كان الفاصل الذي بين انقطاع الماء وغَسله للعضو الثاني فاصلاً مؤثراً بحيث ينشف العضو الأول فيه، وذلك في الزمان المعتدل الذي هو ليس بشديد البرد ولا بشديد الحر؛ لأن الحر فيه نوع من الرطوبة، خاصةً إذا كان الإنسان في الظل فيبقى العضو طرياً إلى أمد أكثر، والبرد مع الهواء والريح ينشف العضو بسرعة، فلو قُدِّر أن العضو في الزمان المعتدل ينشف إلى سبع دقائق فنقول: إذا مضت سبع دقائق ما بين غَسله لوجهه وغسله ليديه بعد عثوره على الماء بطل وضوءه، وإن كان دون ذلك صح وضوءه ولم يؤثر وجود هذا الفاصل.
والولاء أصل في ظاهر الآية لأمور: الأمر الأول: أن الله عز وجل أمر بغسل ومسح الأعضاء في الوضوء، وهذا يقتضي أن تكون في موضع واحد.
الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى على رِجْلِ الرَّجُل قدر لمعة لم يصبها الماء أمره صلوات الله وسلامه عليه أن يعيد وضوءَه، فدل هذا على أن الولاء شرط؛ لأن أمره بإعادة الوضوء إنما هو مبني على وجود فاصل الوقت، فدل على أن الولاء معتبر.
وهذا هو الذي يعبر عنه العلماء بقولهم: تجب الموالاة، أي: يلزم المكلف أن يوقع غسل ومسح هذه الأعضاء على الولاء.
والله تعالى أعلم.
قال رحمه الله: [وهي أن لا يؤخر غَسل عضوٍ حتى ينشف الذي قبلَه].
هذا تعريف الموالاة، وقد يسميه بعض العلماء: ضابط الموالاة.
يعني: كأن سائلاً سأل: ما هي الموالاة؟ فقال: (هي أن لا يؤخر غَسل عضوٍ حتى ينشف الذي قبله).
وهذا كما قلنا: إن الضابط الذي ذكرناه هو أن لا يؤخر غَسل عضوٍ أو مسح عضوٍ من الأعضاء التي أُمِر بمسحها حتى ينشف الذي قبلَه.
إذاً: العبرة بنَشَاف العضو.(11/12)
الأسئلة(11/13)
الخلاف في دخول الأذنين في الرأس
السؤال
هل من الممكن أن توضحوا لنا قول المصنف رحمه الله: [ومسحُ الرأس ومنه الأُذُنان]؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أما بعد: فقوله رحمه الله: [ومسحُ الرأس ومنه الأُذُنان]: الأُذُنان: مُثَنَّى أُذُن، وهي الجارحة المعروفة، وأصل الأذن قيل: الإعلام، ومنه قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:3] أي: إعلام، وقد يُطْلَق بمعنى: الإباحة، ومنه قولهم: أَذِن للضيف، أي: أباح له الدخول.
وقوله: [ومنه الأُذُنان]: أي: مِن الرأس، أي: يجب مسحُهما مع الرأس، وفيه حديث عن ابن عباس اختُلِف في إسناده، وضعفه الحافظ ابن حجر والنووي والزيلعي وغيرهم وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (الأُذُنان من الرأس) وقد رواه الترمذي، ورواه أيضاً البيهقي والدارقطني وفي بعض أسانيده المتروكُ والضعيفُ، ولذلك استبعد العلماء جَبْر هذا الحديث بالطرق؛ لأنه -كما تعلمون- من ضوابط المتابعة التي يُحَسَّن بها الحديث: ألاَّ يكون المتابِع منكَراً ولا كذَّاباً ولا وضَّاعاً، فلا يُحْكَم بانجبار السند بكذَّاب ولا وضَّاع، كما أشار إلى ذلك صاحب الطلعة، بقوله رحمه الله: وحيث تابعَ الضعيفَ معتبرْ فحَسَنٌ لغيره وهو نظرْ إن لم يكن لتهمةٍ بالكذبِِ أو الشذوذِ فانجبارُه أُبِي هذا الذي مِن غِمده قد انتضى مَن حقَّق الحسنى وجا بالمرتضى أي: أنه لا يُحكَم بانجبار الحديث وصيرورته إلى كونه حسناً لغيره، إذا كانت الطُّرُقُ طُرُقَ كذَّابين ووضَّاعين، فمثل هؤلاء لا يجْبرُ بعضُهم بعضاً، بل يزيدُ الحديثَ توهيناً وضعفاً.
فبعضُ العلماء يرى أن هذا الحديث ضعيف؛ لأن الانجبار فيه متعذر، ولا يرون أنه يُجْبَرُ مثلُه.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يُجْبَر، واعتمدوا خلافاً بين العلماء في إحدى الطرق، اختُلِف في السماع فيها، فرجح هؤلاء العلماء أن السماع بين ابن عباس ومن روى عنه معتبر، وحكم بتحسين الحديث.
وبناءً على هذا: يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (الأُذُنان من الرأس) حجةً لمن يرى أن الأُذُنَين تُمْسَحان مع الرأس.
وقد اختُلِف في الأُذُنين: فقال بعض العلماء: يجب غسلهما مع الوجه.
وقال بعضُهم: تُمسحان مع الرأس.
وقال بعضهم: إنهما ليستا من الوجه ولا من الرأس.
والقول بأنهما تُغسلان مع الوجه -وهو قول بعض أهل الحديث- كنتُ أتعجب منه، وأقول: كيف يقول الإمام الزهري -رحمة الله عليه وهو ديوان من دواوين العلم في السُّنَّة- إن الأُذُنَين تغسلان مع الوجه؟! فذكرتُ ذلك للوالد رحمة الله عليه، فقال لي: دليله من السُّنة: قوله عليه الصلاة والسلام: (سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره وشق سمعه وبصره) فقال: (وجهي) ثم قال: (شق سمعه) فأضاف السمع إلى الوجه، فقال: هذا يدل على أن الأُذُنَين من الوجه، وليستا من الرأس.
وعلى هذا: ما دام أن حديث: (الأذنان من الرأس) ضعيف، فيجب غسل الأُذُنين مع الوجه.
والحقيقة: أن الإضافة في الحديث في قوله: (وسمعه) ليست على ظاهرها؛ وإنما هي -كما يسميها العلماء- بالمجاورة، أي: ما جاور الشيء أخذ حكمه، وهذا لأنه في مقام التضرع والابتهال لله عز وجل.
وهناك قول رابع يقول: الأُذُنان ما أقبل منهما من الوجه فيغسل، وما أدبر منهما من الرأس فيمسح، وهذا القول يأخذ بالتفصيل.
والحقيقة أن الأقوى: أنهما من الرأس.
وبناءً على ذلك: يقوى القول بأنهما يمسحان ولا يغسلان.
وبناءً عليه: في حال مسحه للرأس -على القول بوجوب مسحهما- أنه لو مسح رأسه ولم يمسحهما لم يكن ماسحاً لرأسه، فيمُسح ظاهرهما وباطنهما، وقد جاءت أحاديث تُكُلِّم فيها، منها: أنه (وضع عليه الصلاة والسلام إبهامه خلف أُذُنِه، ثم أدار المسبِّحة في داخل الأُذُن) صلوات الله وسلامه عليه.(11/14)
حكم البسملة في الوضوء
السؤال
هل البسملة فرضٌ من فروض الوضوء؟ وما حكم من نسيها؟
الجواب
قد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: فمنهم من يرى لزومها ووجوبها لحديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه).
وقال طائفة من العلماء وهو مذهب الجمهور: أن البسملة ليست بواجبة في الوضوء وذلك: أولاً: لأن الله تعالى لم يأمر بها، وقد أمر الله بالبسملة في الذبح فقال: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118]، ونهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه فقال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121].
فلو كانت البسملة في الوضوء واجبةً لذكرها في بداية الوضوء.
ثانياً: أن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء في الصحيحين لم يثبت في واحد منها أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر التسمية قبل الوضوء.
ولذلك لا يجب ذكرها عند ابتداء الوضوء.
والحديثُ مُتَكَلَّمٌ في سنده، وإن كان مذهب بعض المحققين من المتأخرين أنَّه يُحَسِّن إسناده.
ولكن يُجاب: بأن قوله: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) نفي مُسَلَّط على الحقيقة الشرعية.
والقاعدة في الأصول: (أن كل نفي تسلَّط على الحقيقة الشرعية، وتعذَّر حملُه على نفي الصحة وَجَبَ صرفُه إلى الكمال)، كقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له) أي: لا إيمان كامل، فإنه نفي مسلَّط على الحقيقة الشرعية، فلا يستقيم نفي صحة الإيمان ووجود الإيمان؛ لوجود الأدلة التي تدل على أن ارتكاب الكبيرة نقصانٌ في الإيمان وليس ذهاباً لحقيقته.
وبناءً على ذلك: يكون قوله: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) أي: لا وضوء كامل، وهذا هو الأولى والأقوى.
والله تعالى أعلم.(11/15)
حكم تخليل الأصابع في الوضوء
السؤال
ما حكم تخليل الأصابع في الوضوء؟
الجواب
فيه حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم خلَّل أصابعه، رآه يُخَلِّل بخنصره) ولكن الحديث مُتَكَلَّم فيه.(11/16)
معنى قاعدة الأحناف: أكثر الشيء يغني عن كله
السؤال
قاعدة الأحناف: أن أكثر الشيء يغني عن كله، فهل إذا غسل شخص ثلاثة أرباع يده يكون ذلك مجزئاً في المذهب؟
الجواب
لا، الأحناف ليسوا مغفلين حتى يستدرك عليهم مثلك، الأحناف أئمة وعلماء وجهابذة، هذا -بارك الله فيك- في المعدودات، وفي أجزاء الشيء الذي يقبل التبعيض، أما اليد فما تقبل التبعيض، والمعدودات: كأشواط الطواف بالبيت، وأشواط السعي بالمسعى.
وأما بالنسبة لجزء الشيء المتحد فلا تدخله القاعدة عندهم، وإن كان بعضهم يطْرِد ذلك في مسائل في الجزء المتحد؛ لكن هذا أمر مشكل حتى عند فقهائهم، وكل قاعدة لها شواذ.
على العموم: ليس مرادهم الإطلاق، وإنما مرادهم أن الأجزاء التي ورد الشرع بتجزئتها يعتبر فيها الأكثر.(11/17)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتون غراً محجلين)
السؤال
هل ورد أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يزيد في غسل أعضائه بعد سماعه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتون غُرَّاً محجَّلين)؟ وما معنى: (غُرَّاً محجَّلين)؟
الجواب
نعم، ورد عنه رضي الله عنه أنه كان يبالِغ حتى يغسل كثيراً من الساق، وكثيراً من العضد، وكان يتأول قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي يُدْعون يوم القيامة غُرَّاً محجَّلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّته فليفعل) قيل: إن قوله: (من استطاع) مُدْرَج من كلام أبي هريرة؛ لأنه كان يتأول ذلك.
والصحيح: أن معنى (الغُرَّة والتحجيل): هو البياض الذي يوجد في قوائم وجبين الفرس، إذاً الغُرَّة في الجبين، والتحجيل في القوائم.
وهذا الوصف الذي ورد المراد به من أسبغ وضوءه، أي: دائماً يتوضأ ثلاثاً، وأيضاً يُكْثِر من الوضوء، فالذي يُكْثِر من الوضوء يَعْظُم نورُه ويَعْظُم أثرُ وضوئه، ويكون محمولاً على هذا الفضل في قوله: (إن أمتي يُدْعون يوم القيامة غُرَّاً محجَّلين) والدليل على أنه ليس المراد به الزيادة على المحل: أن قوله: (غُرَّاً محجَّلين) منحصر في الموضع، وما انحصر في الموضع لا يقبل الزيادة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث لما توضأ وأتم وضوءه وغسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين، قال: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد فقد أساء وظلم) ولذلك لا تشرع الزيادة، وإنما يُقْتَصر على الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
واجتهادُ أبي هريرة رضي الله عنه مأجورٌ عليه غيرُ مأزور؛ ولكن الصحيح: أن التحجيل والبياض والغُرَّة إنما تكون لمن أدمن الوضوء وحافظ عليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) فمن فضائل الأعمال وطيِّبها وأحبها إلى الله: كثرة الوضوء، فإنه إذا أكثر من الوضوء تحاتت عنه ذنوبه، وذهب أثر المعصية من جوارحه، فكان ذلك أدعى أنه إذا بُعث وحُشر أن يدعى على أكمل ما يكون من نور وبهاء.
جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل.
والله تعالى أعلم.(11/18)
حكم نسيان الترتيب في الوضوء
السؤال
على القول بأن الترتيب فرض فهل يسقط الترتيب بالسهو أو الجهل؟
الجواب
لا يسقط الترتيب بالسهو والجهل، وقد اختار الإمام مالك رحمة الله عليه -وهو اختيار بعض الفقهاء- أنه واجب عند الذكر ساقط عند النسيان، واحتجوا بقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان).
والصحيح أنه يُرفع الإثم بالنسيان، ويجب ضمان الحق، حتى إن الإمام مالك رحمة الله عليه في فرائض الحج وواجباتها لم يسقطها بالنسيان، وأوجب ضمانها وجبرها، وقال: سقط الإثم لمكان النسيان ووجب الضمان لمكان الحق.
وهذا أصل في الشرع، فيقوى مطالبته بالضمان والإعادة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحابي وعليه اللمعة لم يسأله: أنسيت؟ وإنما أمره بالإعادة مطلقاً.
والله تعالى أعلم.(11/19)
تتابع صيام الست من شوال
السؤال
هل الأفضل صيام الست من شوال متفرقة أم متتابعة؟
الجواب
الأمر واسع؛ ولكن تتابعها من باب المبادرة إلى الخير أفضل وأكمل ما لم يُعْتَقد في الأيام المتتابعة، ولذلك شدد الإمام مالك رحمة الله عليه في صيام الست؛ لأن الناس صاروا يصومونها من اليوم الثاني من الفطر، فخشي أن يُزاد في العبادة ما ليس منها؛ لأن من قواعد مذهبه رحمة الله عليه -وكان يشدد في هذا حيطةً للدين وصيانةً له من البدع والأهواء- أنه كان يمنع من صيام الست، ومراده من ذلك أن لا يعتقد أنها من رمضان؛ لأن الناس بالغوا فيها، فكان الرجل بمجرد فطره يصوم في اليوم الثاني، وقد يفوت زيارته للناس، وحصول الأنس بإصابة شرابهم وطعامهم في أيام العيد، فشدَّد من هذا الوجه، وكانت النصارى تزيد في أعداد الأيام المفروضة عليهم، ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الشك) لئلا يُعتَقد أنه من رمضان فيُزاد في عدده، ولذلك شدد الإمام مالك فيما بعد رمضان إعمالاً لهذا الأصل، وهو خوف اعتقاد الوجوب، وأنها من رمضان، وقد كانوا يقولون: أتممتَ رمضان أو لم تتمَّه؟ ومقصودُهم: أتممت العدد ستاً وثلاثين حتى يُكتب الصيام بعدد أيام العام أو لم تتمه؟ فصارت الست كأنها من رمضان، وكأنها من تمام العدة، فاحتاط رحمه الله لذلك سداً للذريعة.
والله تعالى أعلم.(11/20)
تقديم صيام الست من شوال على القضاء
السؤال
ماذا يفعل من كان عليه قضاء من رمضان وأراد أن يصوم الست من شوال؟
الجواب
أما من كان عليه قضاء من رمضان فلا حرج عليه أن يصوم ستاً من شوال ثم يؤخر قضاء رمضان، وذلك لحديث أم المؤمنين عائشة الثابت في الصحيح أنها قالت: (إن كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان، لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني) فقد كانت تصوم الست، وكانت تصوم عرفة، كما ثبت في الموطأ، وكانت تصوم يوم عاشوراء، ولذلك قالوا: إنه يجوز تأخير القضاء.
ومَنَعَ بعض العلماء، واحتجوا بأنه كيف يَتَنَفَّل وعليه الفرض؟ وهذا مردود؛ لأن التَّنَفُّل مع وجود الخطاب بالفرض فيه تفصيل: فإن كان الوقت واسعاً لفعل الفرض والنافلة ساغ إيقاع النفل قبل الفرض بدليل: أنك تصلي راتبة الظهر قبل صلاة الظهر وأنت مخاطب بصلاة الظهر، فإن الإنسان إذا دخل عليه وقت الظهر وزالت الشمس وجب عليه أن يصلي الظهر، ومع ذلك يؤخرها فيصلي الراتبة، ثم يصلي بعدها الظهر، فتنفل قبل فعل الفرض بإذن الشرع، فدل على أن النافلة قد تقع قبل الفرض بإذن الشرع، فلما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة أن تؤخر القضاء دل على أن الوقت موسع.
وأما قوله: (من صام رمضان ثم أتبعه) فهذا خارج مخرج الغالب، والقاعدة: (أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومُه).
فليس لقائل أن يقول: إن مَن عليه قضاء فلا يصم رمضان.
ثم نقول: لو كان الأمر كما ذُكِر لم يشمل الحديث مَن أفطر يوماً من رمضان؛ فإنه لو قضى في شوال لم يصدُق عليه أنه صام رمضان حقيقةً؛ وإنما صام قضاءً ولم يصم أداءً.
ولذلك: الذي تميل إليه النفس ويقوى: أنه يصوم الست، ولا حرج أن يقدِّمها على قضائه من رمضان.
وهذا هو الصحيح، فإن المرأة النفساء قد يمر بها رمضان كلُّه وهي مفطرة، وتريد الفضل، فتصوم الست، ثم تؤخر قضاء رمضان إلى أن يتيسر لها.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(11/21)
شرح زاد المستقنع - باب فروض الوضوء وصفته [2]
النية شرط لصحة العبادات بإجماع أهل العلم، ولذلك ينبغي على المسلم أن يراعي النية في وضوئه، وأن يستصحبها، ويعرف أحكامها وما يترتب عليها حتى تصح عبادته لله تعالى.(12/1)
حقيقة النية وأهميتها في قبول الأعمال
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والنية شرط لطهارة الأحداث كلها].
النية مأخوذة من قولهم: نوى الشيء ينويه نِيَّةً ونِيَةً بالتخفيف والتشديد.
والنيَّة في لغة العرب معناها: القصد، تقول: نويتُ الشيء، إذا قصدتَه، سواءً كان ذلك في القول أو في الفعل.
وقول العلماء رحمهم الله: النية شرط في طهارة الأحداث.
مرادهم بذلك: أن يقصد المكلف العبادة، ويكون قصده مشتملاً على التقرب لله جَلَّ وعَلا.
والأصل في وجوب النيَّة ولزومها في العبادات قول الله تعالى مخاطباً نبيه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2].
فقوله تعالى: (فَاعْبُدِ) أمر.
وقوله: (مُخْلِصَاً) أي: حال كونك مخلصاً.
وقوله: (لَهُ الدِّيْنَ) أي: لتكن عبادتك خالصة لله جَلَّ وعَلا.
ومن المعلوم أنه لا يتحقق الإخلاص إلا بتجريد النية لله.
وبناءً على ذلك: يتوقف اعتبار العبادة على نية القربة، فلو أن إنساناً وقف يصلي، وأثناء وقوفه لم يستشعر العبادة لله جَلَّ وعَلا، أو فعل أفعال الصلاة وقصد بها رياضة البدن، فإنها لا تعتبر عبادة مجزئة.
إذاً: لابد في العبادة من قصد القربة لله سبحانه وتعالى، فلو أن إنساناً أعطى غيره مالاً، فإن قصد به الزكاة كان زكاة، وإن قصد به المحاباة كان محاباة، وإن قصد به الهبة والهدية كان هبة وهدية.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن العبادات لا تصح إلا بنية، وقد قرر الشاطبي رحمه الله مبحثاً نفيساً، ينبغي على طالب العلم أن يرجع إليه -وهو يعتبر إماماً في المقاصد والنيات-، في كتابه: الموافقات، في الجزء الأول في كتاب المقاصد، عقد فصلاً كاملاً لتقرير وجوب النية ولزومها في العبادات، وبيَّن وجه اعتبار الشرع لها، ووجه التزام المكلف بها.
الشاهد من هذا: أنه لا يصح إيقاع الوضوء ولا الغسل من الجنابة على الوجه المعتبر شرعاً، إلا إذا نوى الإنسان به الغسل والوضوء، فلو أن إنساناً اغتسل وغسل جميع بدنه قاصداً التبرد أو نظافة البدن، وكانت عليه جنابة، لم يجزئه ذلك الغسل، إلا إذا نوى رفع الجنابة.
وكذلك الحال فيما لو أن إنساناً كانت عليه جنابة أو امرأة طهُرت من حيضها، ثم انغمس كل منهما في بركة، وكان قصدهما التبرد في فصل الصيف مثلاً، فإن هذه النية لا تجزئهما عن رفع حدث الحيض وكذلك حدث الجنابة.
إذاً: فلا بد من نية الوضوء ونية الغسل، ويستوي في ذلك الطهارة الصغرى والكبرى.
وهذا الذي عبر عنه المصنف رحمه الله بقوله: (لطهارة الأحداث)، والأحداث تقدم تعريفها لغةً واصطلاحاً.
وقول المصنف رحمه الله: (والنية شرط) الشرط في اللغة: العلامة.
وأما في اصطلاح العلماء: فهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود ولا العدم لذاته.
مثال ذلك: عندما نقول: الوضوء شرط لصحة الصلاة، فإنه يلزم من عدم الوضوء عدم صحة الصلاة؛ لأن الوضوء شرط لصحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الوضوء وجود الصلاة، فإن الإنسان قد يتوضأ ولا يصلي.(12/2)
حكم النية في الوضوء
هذا معنى قولهم: الشرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود.
وقوله: (والنية شرط لطهارة الأحداث كلها) هذه مسألة خلافية، اختلف فيها جمهور العلماء مع الإمام أبي حنيفة وأصحابه.
فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية يرون أن الوضوء والغسل لا يصح إلا بالنية، فمن اغتسل للنظافة أو للتبرد وكان عليه حدث جنابة أو حيض لم يجزئه، وكذلك من توضأ وكان عليه حدث أصغر، فإنه لا يجزئه إذا نوى بوضوئه التبرد في الصيف مثلاً.
وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول بعض السلف إلى أن الوضوء والغسل يصح كل منهما بدون نية، ولو كان قاصداً النظافة، فإنه يجزئه ويصح.
واحتج الجمهور بدليل الكتاب والسنة والعقل: أما دليل الكتاب: فقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، وجه الدلالة: أن الوضوء عبادة وديانة، فلا يصح إلا بإخلاصه ونيته.
وكذلك قوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، قالوا: الوضوء عبادة، والدليل على كونه عبادة: أنه غسل لأعضاء على صفة مخصوصة، ولذلك أمر بغسل بعض الأعضاء ومسح بعضها، ولو كان عبادة معقولة المعنى لما تأتى فيه ذلك، فقالوا: إنه عبادة لا يُعقل معناها، فلا تصح بدون نية.
وأما دليل السنة: فحديث عمر في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ووجه الدلالة: أن الوضوء عمل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن صحة الأعمال موقوفة على النية، والوضوء عمل، فلا يصح إلا بنية.
وأما دليلهم من النظر الصحيح: قالوا: تجب النية في الوضوء كما تجب في التيمم، وتجب النية في الغُسل كما تجب في التيمم، لجامعِ كونِ كلٍّ منهما طهارة من حدث.
هذا حاصل ما استدل به الجمهور من دليل النقل والعقل.
أما الإمام أبو حنيفة -رحمة الله عليه- وأصحابه فدليلهم العقل: قالوا: إن الوضوء أو الغسل كل منهما عبادة معقولة المعنى، وهو وسيلة وليس بغاية، والوسائل لا تشترط لها النية، ولذلك قالوا: يصح الوضوء بدون نية.
ومعنى قولهم: لا يشترط في الوسائل النية أنك لو أردت أن تذهب إلى المسجد -مثلاً- وركبت السيارة، فإنه لا يلزمك في هذه الوسيلة التي تتوصل بها إلى العبادة أن تنوي بها الوصول للعبادة، فلو ركبت السيارة مجرداً عن النية، ثم بلغت بها المسجد، لصح خروجك ذلك عبادةً وطاعةً لله جل وعلا، فقالوا: هو من الوسائل، ومن العبادات المعقولة المعنى.
والصحيح: مذهب الجمهور، أن الوضوء لا يصح إلا بالنية، وكذلك الغسل من الجنابة؛ لما ذكرنا من دليل النقل والعقل.(12/3)
ضوابط النية وحالاتها
هذه النية لها ضوابط:(12/4)
تقدم النية على العبادة
أولاً: أنه ينبغي أن تقع قبل البداءة بالعبادة، أو عند البداءة بها مصاحبة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وغسل الوجه لا يتأتى إلا بعد نيته، ويكون مصاحباً لأول مفروض، فإذا قام الإنسان من النوم كانت بداية النية عند غسله لكفيه، وإن كان في النهار فيلزمه وجود النية عند غسله لوجهه، أي: باعتبار كونها شرطاً لصحة الوضوء، فلو عَزَبَت عنه قبل ذلك لصح وضوءه؛ لأنها تجب عند أول مفروض.
ولكن بالنسبة لما قبل المفروض الأول فلا يتحقق فيه الثواب، على الأصل الذي قرره العلماء رحمة الله عليهم.(12/5)
أحوال اندراج النية في الوضوء
ثانياً: النية في الوضوء لها أحوال: إما أن ينوي الأعلى، ويندرج تحته الأدنى.
أو ينوي الأدنى، فلا يندرج تحته الأعلى.
وإما أن ينوي المساوي.
وفيه تفصيل: فالحالة الأولى: أن ينوي الأعلى ويندرج تحته الأدنى، وهذا يتأتى في نية رفع الحدث المطلقة، كأن يأتي إنسان إلى مكان ما أو يُحضِر الماء للتطهر، ناوياً به رفع الحدث الذي تلبس به، فينوي الطهارة الصغرى والكبرى، فيجزئه أن يصلي جميع الصلوات، وأن يستبيح جميع العبادات التي يُشترط الوضوء لصحتها: من طواف بالبيت، وصلاة على الجنائز، ومس للمصحف، وغير ذلك مما تشترط له الطهارة.
هذا إذا نوى رفع الحدث، بمعنى أن يكون رافعاً للحدث الذي هو متلبس به.
ويتأتى اندراج الأدنى تحت الأعلى أيضاً فيما لو نوى عبادةً بعينها، كأن ينوي أن يتوضأ لصلاة الظهر، أو يتوضأ لصلاة العصر، وهي صلاة مفروضة، فإذا نوى الفرض اندرجت تحته النوافل، وصح منه أن يصلي الرواتب القبلية والبعدية وسائر النوافل.
الحالة الثانية: وهي نية الأدنى، وتكون بنية النافلة أو ما دون النافلة، ينوي النافلة كأن يتوضأ من أجل أن يصلي ركعتي الضحى، أو يتوضأ من أجل أن يصلي ركعتين فيستخير الله جل وعلا، فينوي وضوءه من أجل هذه الصلاة، فيكون نوى بوضوئه الأدنى، وهكذا لو نوى ما هو أدنى من النافلة، كأن يتوضأ من أجل أن يمس المصحف، كما لو رأى مصحفاً فأراد أن يرفعه أو يحفظه، فتذكر أنه محدث، فقام فتوضأ من أجل أن يستبيح مس هذا المصحف ليرفعه، فقد نوى الأدنى، الذي هو أدنى من الفرض والنافلة.
فإن نوى الأعلى، أو نوى النية المطلقة لرفع الأحداث، فإنه يجزئه أن يصلي ما شاء.
وإن نوى الأدنى، الذي هو النافلة، فلا يصلي فرضاً.
وهل يتأقت ذلك بالنافلة نفسها بعينها، فلا يصلي من النوافل، أو لا يتأقت في النوافل -وهو أقوى-؟ وجهان للعلماء.
وإن نوى الأدنى وهو مس المصحف فلا يستبيح به الصلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
قال العلماء: إن هذا الحديث دليل لهذا التفصيل، فمن نوى رفع الحدث ارتفع حدثه، ومن نوى نافلةً خُصَّ رفع الحدث بالنافلة، أي: أنه يستبيح فعل النافلة، فيُنَزَّل منزلة التيمم، وقد عهدنا من الشرع طهارةً يستباح بها فعل العبادات: من مس للمصحف، وطواف بالبيت، وصلاة ونحوها، وهي التيمم.
وبناءً على ذلك: لا تصح الصلاة إذا نوى الأدنى، وكانت الصلاة التي يُراد أداؤها صلاةَ فرض ونحوها.(12/6)
ضرورة نية رفع الحدث الأصغر أو الأكبر
قال رحمه الله: [فينوي رفع الحدث].
أي: أن الإنسان إذا انتقض وضوءه ببول أو غائط أو ريح أو نوم فإنه يوصف بكونه محدِثاً، فينوي رفع هذا الحدث، فإن نام أو بال، أو خرج منه ريح، فإنه ينوي رفع الحدث الأصغر، وإذا خرج منه مَنِي، فإنه ينوي رفع الحدث الأكبر، وهكذا.(12/7)
تحديد النية في الطهارة
قال رحمه الله: [أو الطهارة لما لا يباح إلا بها].
قوله: (أو الطهارة) أي: ينوي الطهارة.
قوله: (لما) أي: لشيء.
قوله: (لا يباح إلا بها) أي: لا يباح هذا الشيء إلا بالطهارة، مثل: الصلاة، والطواف بالبيت، وكذلك مس المصحف؛ على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم.(12/8)
النية فيما تسن له الطهارة
قال رحمه الله: [فإن نوى ما تُسَنُّ له الطهارة كقراءةٍ أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدثه ارتفع].
قوله: (فإن نوى) الفاء: للتفريع، فبعد أن قرر الأصل بدأ يفرِّع على ذلك الأحكامَ.
قوله: (ما تُسُنُّ له الطهارة) أي: لا تجب، بمعنى: أن ينوي شيئاً ضعيفاً.
فهذا على سبيل النفل لا على سبيل الوجوب، فتكون نيتُه نيةً ضعيفة، بخلاف ما إذا نوى الذي تقدم من الصلاة المفروضة، والطواف بالبيت، فهذه نيةٌ لواجب.
فالوضوء: إما أن يكون لمسنون.
وإما أن يكون لواجب.(12/9)
حكم الاكتفاء بالمسنون عن الواجب في الطهارة
قال رحمه الله: [وإن نوى غسلاً مسنوناً أجزأ عن واجب].
أي: إن نسي حدثه ارتفع الحدث لوقوع الوضوء بعد حدث سابق؛ لأنه لما نوى المسنون وجدت فيه نية العبادة، وهي نية الوضوء، فصح إيقاع الوضوء، ووقع الوضوء بعد حدث، فيزول ذلك الحدث بوجود موجب زواله.
وقال بعض العلماء: إنما يعتبر مبيحاً لا رافعاً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئ ما نوى) فيستبيح المحظور الذي يُسَنُّ له الوضوء، ولا يعتبر حدثُه مرتفعاً، وهذا اختيار بعض العلماء رحمة الله عليهم، وهو أحوط كما قلنا، وسبق بيان دليلهم من حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين.
فعندنا للعلماء في هذه المسألة وجهان: بعض العلماء يقول: إذا وقع الوضوء المسنون والأدنى ناسياً حَدَثَه ارتفع الحدث، ويستبيح بذلك ما شاء من الصلوات المفروضة والنافلة.
ومنهم من يحدد ويقول: إذا نوى المسنون صار وضوءه للاستباحة، كالتيمم، وإن نوى الفرض أو نوى رفع الحدث فإنه يعتبر وضوءه مبيحاً لسائر العبادات التي يشترط لها الوضوء، سواءً كانت واجبة أو كانت نافلة.
وهذا القول الثاني قلنا: إنه أقوى، كما أشار إليه بعض الفضلاء بقوله: ولينوِ رفعَ حَدَثٍ أو مفترَض أو استباحةً لممنوعٍِ عَرَض وهي ثلاثة أحوال: ينوي رفعَ حَدَثٍ: وهي أعلاها.
أو مفترَض: في حكم الأعلى.
أو استباحةً لممنوعٍِ عَرَض.
فجعل المسنون في حكم الاستباحة، وهذا هو المذهب الأقوى، أنه يُنَزَّل منزلة التيمم، فيستبيح به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئ ما نوى)، فهذا نوى الأدنى، فلا يصح حمله على الأعلى؛ لأن ظاهر السنة التي احتُج بها على وجوب النية في الوضوء مقيدة للنية على حسب ما نوى، سواءً كان الأدنى أو الأعلى.(12/10)
صحة اندراج الحدث الأدنى تحت الأعلى
قال رحمه الله: [وكذا عكسُه] يعني: لو نوى الأعلى لاندرج تحته الأدنى، قولاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.
الخلاف: فيما إذا نوى الأدنى، فهل يرفع الحدث فيستبيح الأعلى أو لا؟ قلنا: الصحيح: أنه لا يستبيح.
وإن نوى الأعلى واندرج تحته الأدنى صح له أن يصلي ما دونه، كأن ينوي صلاة الظهر، فيجوز له أن يأتي بالنوافل قبلها وبعدها.(12/11)
ارتفاع سائر الأحداث بارتفاع أحدها
قال رحمه الله: [وإن اجتمعت أحداث توجب وضوءاً أو غُسلاً فنوى بطهارته أحدَها ارتفع سائرُها].
هذا على الأصل عند بعض العلماء حيث يرى وجود الطهارة بعد الحدث رافعاً للحدث، ولا يفصِّل، يقول: المهم أن الله أمرنا بالوضوء بعد الحدث، فإذا وقع الوضوء بعد الحدث رفع الحدث، ولا يفصِّل بين كونه يبيح أو كونه يرفع.
والحقيقة أن هذا المذهب وسط بين من ألغى النية بالكلية، وبين من اعتبر النية واعتبر معها صفة النية، ولا شك أن الدليل الذي دل على لزوم النية في الوضوء: (إنما الأعمال بالنيات) دل بمقطعه الأول على أن صحة الوضوء موقوفة على النية، ودل بمقطعه الثاني على الحصر: (وإنما لكل امرئ ما نوى) يقول العلماء: مفهومه أن من لم ينوِ شيئاً لا يكون له، فهذا نوى الأدنى، فكيف نقول: يستبيح به الأعلى؟ ومنطوقه: أن من نوى شيئاً كان له.
هذا هو وجه من يقول بأن الأدنى لا يجزئ في استباحة الأعلى، وهو كما قلنا: أقوى القولين.
إن اجتمعت أغسالٌ، مثل: المرأة يكون عليها الحيض وتكون عليها الجنابة، فجاءت ونوت الغسل للحيض، فإنها ترتفع الجنابة، أما لو كان جنس الحدث مكرراً وقصد رفع الحدث نفسه، بغض النظر عن كونه يستبيح صلاة مفروضة أو غير مفروضة، صح الرفع في حالة نية رفع الحدث وهي الحالة العليا، فتشمل هذه النية ما عيَّن وما لم يعيِّن، مثال ذلك: رجل بال وتغوط وخرج منه الريح ونام، أربعة أحداث، فإن هذا لا نقول له: إن نويت رفع البول ارتفع، وبقي عليك حدث النوم والغائط، إنما نقول: نيتك لواحد منها كنيتك لسائرها.
وهكذا لو تعددت الأحداث من جنس واحد، كأن ينام مرات متتابعة، ينام ويستيقظ، ثم ينام ويستيقظ، ثم ينام ويستيقظ، فهو حدث واحد؛ لأن الحدث لا يتجدد ولا يوصف بالتعدد، وإنما يعتبر حكماً واحداً، فينتقض الوضوء بالأول منه، ويرتفع هذا الحدث بالوضوء بعده، هذا هو وجهُ إذا لم ينوِ الأحداث بعينها، فقال: أنا أريد أن أرفع هذا الحدث عني، فتوضأ أو اغتسل صح وضوءه وغُسله، ويعتبر ذلك موجباً لارتفاع جنابته وأحداثه الصغرى.(12/12)
وجوب النية عند أول واجبات الطهارة
قال رحمه الله: [ويجب الإتيان بها عند أول واجبات الطهارة] بعد أن بين نوعية النية، والشيء الذي تقع له النية، شرع رحمه الله في بيان موضع النية ومكان النية، فقال رحمه الله: (ويجب الإتيان بها) أي: يجب الإتيان بالنية.
قوله: (عند أول واجبات الطهارة) فأول واجبات الوضوء: إن كان مستيقظاً من النوم فأول واجب عليه أن يغسل كفيه ثلاثاً، فيجب عليه أن يأتي بالنية عند أول هذا الواجب.
وإن قلنا بوجوب المضمضة والاستنشاق، فإنه في حالة ما إذا كان مستيقظاً تكون نيته عند إرادته المضمضة والاستنشاق.
وإن قلنا بعدم وجوب المضمضة والاستنشاق، فإن أول مفروض واجب بالإجماع هو الوجه، فيكون إتيانه للنية واستحضاره لها عند غسله للوجه.
فإن سبقت النية هذا الواجب، فلا يخلو سبقُها من أمور: إما أن يكون بفاصل يسير غير مؤثر.
وإما أن يكون بفاصل مؤثر.
وتوضيح ذلك: لو استيقظ إنسان من نومه، ثم نوى أن يتوضأ، وأحضر الإناء، وصحِبت نيتُه سكبَ الماء في الإناء، ثم غسل يديه وشرع في وضوئه، فإن هذا الفاصل: إحضار الإناء ووضع الماء فيه، فاصل يسير، فهذا الفاصل غير مؤثر، فهو مع أنه أثناء غسله لكفه لم يستحضر نية الوضوء صح وضوءه؛ لأن الفاصل غير مؤثر، أما لو كان الفاصل بين الواجب وبين النية فاصلاً مؤثراً، فإنه يلزمه أن يعيد وضوءه، كمن لم ينوِِ؛ لأن الفاصل إذا طال اعتبرت النية لاغيةً بسببه، كالحال في الصلاة ونحوها من العبادات.
قال رحمه الله: [وهو التسمية] أي: تجب النية عند التسمية، ونحن قلنا: إن الصحيح أن التسمية ليست بواجبة، لكن المصنف اختار وجوبها.
وبناءً على القول بوجوب التسمية، تكون النية عند التسمية.
وهناك قول في وجوب التسمية يفصِّل بين نسيانها وعدم نسيانها، فإن نسيها عند غسله لكفيه صح وضوءه، على القول بأن نسيانه يسقط المطالبة والمؤاخذة.
إذاً: للنية حالتان: تجب عند أول واجب، ويختلف ذلك باختلاف العلماء: فإن قلتَ: التسمية واجبة عند الوضوء، فينظر: فإن كان بين التسمية والوضوء فاصل مؤثر لم تعتبر نيته ولا تسميته، وإن كان الفاصل غير مؤثر اعتبرت تسميته ونيته.
وإن قلنا: أن أول الواجبات هو المضمضة والاستنشاق، فتكون نيته عند إرادة المضمضة والاستنشاق.
وإن قلنا: إن أول واجب هو غسل الوجه، كانت نيته واجبة عند ابتدائه بغسل وجهه.(12/13)
سنية النية عند أول مسنونات الطهارة
قال رحمه الله: [وتُسَنُّ عند أول مسنوناتها إن وجد قبل واجب] كيف يتأتى هذا؟ يتأتى هذا في غسل الكفين لغير المستيقظ من نومه، فإنه إذا لم يسمِّ إلا عند المضمضة والاستنشاق، تكون قد وقعت التسمية -التي هي أول الواجبات- بعد غسل الكفين وهو أول المسنونات.
وبناءً على ذلك: يُسَنُّ له أن ينوي عند ابتداء غسل كفيه، فإن عزبت عنه النية، لزمه أن ينوي عند ابتداء المضمضة.(12/14)
استصحاب النية في الطهارة
قال رحمه الله: [واستصحاب ذكرها في جميعها ويجب استصحاب حكمها].
الاستصحاب للنية بمعنى: أنه أثناء غسله ليده وعند صبه للماء يستشعر أن هذا الغسل يُقصد به رفع الحدث، ثم إذا تمضمض وأراد إدخال الماء استشعر نية التعبد؛ لأنه قد يُدْخل الماء إلى فمه لنظافته ونقائه، ولذلك قالوا: لا بد أن يكون عنده نوع من الاستصحاب، وهذا الاستصحابُ في الحقيقة يفتح باباً عظيماً من الوسوسة، ولذلك لا ينبغي على الإنسان أن يشدد فيه، فالأمر وسط والدين دين يُسر ورحمة.
ولذلك بمجرد كون الإنسان يبتدئ وضوءه وهو مستشعرٌ لهذه العبادة، فإنه يجزئه ذلك إلى ختم عبادته، ويُعتبر فقط -على ما ذكره المحققون من العلماء- أن لا يأتي عارض يرفع النية، بمعنى: أن لا تختلف النية، أو يختلج في نفسه ما يوجب رفع نيته، كأن يكون أثناء غسله ليده أراد التنظيف، فيخرج عن كونه متوضئاً، وتكون هنا المصاحَبة لازمة، ويعتبر ملزماً بإعادة غسله ليده؛ لكن كوننا نقول: يلزمه عند كل عضو أن يكون مستشعراً، فهذا الأمر يفتح باباً عظيماً من الوسوسة.
ولذلك فإن المعتبر أن لا يُدخِل ما ينقض النية، وهذا سهل؛ لأن الإنسان بمجرد إحضاره للماء عُرِف أنه يقصد الوضوء، وبمجرد بداءته بغسل كفيه، ومراعاته لأمر الشرع يعتبر هذا دليلاً على المصاحبة.
ولذلك فإن العلماء سلكوا مسلكين: منهم من يقول: أعتبر دلالة الحال مغنية وكافية.
ومنهم من يقول: لا، بل لا بد أن تصحبه النية؛ ولا تكفي دلالة الحال.
ولذلك فإن المعتبر أن لا يأتي الناقض لهذه النية والرافع لها، كأن يكون أثناء غسله لوجهه أعجبه برد الماء في الصيف فقصد بذلك التبرُّد، فهذا يعتبر ناقضاً لنيته للعبادة، أما إذا لم يوجد الناقض فهو متوضئ، ولا حاجة إلى التشديد في هذا؛ لأنه يفتح باباً من الوسوسة ويعظُم معه البلاء على كثير من الناس.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/15)
شرح زاد المستقنع - باب فروض الوضوء وصفته [3]
اهتم العلماء ببيان صفة الوضوء الشرعي، سواء كانت الصفة الكاملة أو الصفة المجزئة، وكلها مأخوذة من النصوص الشرعية الواردة في بيان هذه العبادة وصفتها.(13/1)
بيان صفة الوضوء وأحكامه
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله: [وصفة الوضوء] بعد أن بين لنا رحمه الله فرائض الوضوء شروط صحته شرع في بيان صفة الوضوء.
وللفقهاء في هذا مسلكان: - بعضهم يبدأ بصفة الوضوء الكاملة، ثم يبين فرائض الوضوء وشرائط صحته ومسنوناته، فيقول لك: والواجب من ذلك: غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين.
وهذا مسلك الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في كتابه: العمدة، حيث قدم الصفة الكاملة ثم أتبعها ببيان الواجبات.
وهذا المنهج الذي سلكه ابن قدامة في العمدة أفضل؛ لأن افتتاح باب الوضوء بصفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم الكاملة أفضل وأبلغ في التأسي، وأدعى لتطبيق الناس وعملهم به، ولذلك فالأفضل أن يُذكر الوضوء بكماله، ثم يُبَيَّن الواجب، فيقول: الواجب: غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين، ثم يُسَنُّ له أن يغسل كفيه إذا لم يكن مستيقظاً من النوم، وأن يتمضمض، وأن يستنشق.
إلخ.
هذه الطريقة أفضل؛ لما فيها من الاستفتاح بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد فعلها ابن قدامة رحمه الله في كتابه: العمدة.
أما في كتابه المقنع فقد ذكر الواجبات والفرائض أولاً، ثم أتبعها بالصفة الكاملة.(13/2)
الفرق بين الكمال والإجزاء
قوله: (وصفة الوضوء) صفة الشيء: حِليته وما يتميز به، ولما كان الوضوء قد أمر الشرع فيه، بغسل ومسح أعضاء مخصوصة، فإن له صفتين: الصفة الأولى: يسميها العلماء: صفة الكمال.
والثانية: يسميها العلماء: صفة الإجزاء.
أما صفة الكمال: فهي الصفة التي توضأ بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أكمل ما يكون عليه إيقاع هذه العبادة، مثل البداءة بالمسنونات، سواء كانت قولية أو فعلية، والمحافظة على وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في الوضوء كاملاً، فهذا يعتبر صفة كمال؛ لأن المكلف حصَّل فيه أعلى درجات هذه العبادة.
وأما صفة الإجزاء: فهي الصفة التي إذا فعلها أجزأه وضوءه، كأن يكون ماؤه قليلاً، ويخشى أنه لو فعل المسنونات أنه لا يستطيع غسل المفروضات، فيقتصر على صفة الإجزاء.
هذا وجه تقسيم الوضوء إلى صفة إجزاء وكمال.
والسبب في هذا التقسيم: أنه يستفاد منه في الحكم بصحة الوضوء، وعدم صحته في حال ترك شيء من الوضوء.
فإذا قلنا: إن غسل اليدين يعتبر من فرائض الوضوء، فتوضأ ولم يغسل يديه لم يصح وضوءه.
وإذا قلنا: إن المضمضة والاستنشاق ليس كل منهما من فرائض الوضوء، فتوضأ ولم يتمضمض ولم يستنشق، لحكمنا بصحة وضوئه.
هذا الفرق بين كونه مجزئاً وكونه كاملاً.
قال رحمه الله: [أن ينوي ثم يسمي] تقدم الكلام على النية، وعلى التسمية.(13/3)
حالات غسل الكفين وحدهما
قال رحمه الله: [ويغسل كفيه ثلاثاً].
ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث عثمان وعبد الله بن زيد، وكذلك في السنن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أنه عليه الصلاة والسلام افتتح جميع وضوئه بغسل كفيه ثلاثاً).
ولذلك فإن هذه هي أول المسنونات إذا لم يكن الإنسان مستيقظاً من النوم.
وغسل الكفين له ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون الإنسان مستيقظاً من نومه، سواءً كان نوم ليل أو نوم نهار، فإذا استيقظ الإنسان من نوم الليل أو نوم النهار وجب عليه غسل كفيه ثلاثاً، وذلك لحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده!).
الحالة الثانية: أن يكون في حال يقظته وأراد أن يتوضأ؛ ولكنه على يقين وعلم بأن كفيه طاهرتان، ففي هذه الحالة يُسَنُّ له غسل الكفين ولا يجب عليه ذلك، ودليل هذه السنية مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
الحالة الثالثة: أن يشك في كونها طاهرة أو نجسة، فيقال: يستحب غسلها، يعني: يتأكد الغسل؛ ولكن لا يصل إلى درجة الوجوب؛ لأن اليقين لا يُزال بالشك.
فهذه ثلاث حالات لغسل الكفين.
والكفان: حدهما من أطراف الأصابع إلى الزندين.
وبناءً على ذلك: سمي الكف كفاً؛ لأنه تُكَفُّ به الأشياء.
ويجب عليه غسلهما إذا كان مستيقظاً من النوم، لمكان جوَلان اليد عند نوم الإنسان.(13/4)
صفة المضمضة
قال رحمه الله: [ثم يتمضمض] المضمضة: مأخوذة من قولهم: مضمضت الحية إذا تحركت في جُحرها، فالمضمضة في لغة العرب: الحركة.
ولذلك يرد
السؤال
لماذا وصف غسل هذا الموضع من الجسم بكونه مضمضة؟ قالوا: لأن السنة في المتمضمض أن يحرك الماء في فمه، ثم اختلفوا: فقال بعض العلماء: حقيقة المضمضة: أن يُدخل الماء ويُحركه فقط دون أن يمج.
وقال بعضهم: بل لا يتحقق كونه متمضمضاً إلا إذا حرك الماء ولفظه.
إذاً: المضمضة عند العلماء فيها وجهان: الأول: أن يدخل الماء ويحركه فقط.
الثاني: أن يدخله ويحركه ثم يلفظه.
فوائد الخلاف: الفائدة الأولى: لو أن إنساناً كان عنده ماءٌ وكان عطشان، فابتدأ الوضوء فمضمض ثم بلع الماء.
فإن قلنا: المضمضة لا تتحق إلا بالطرح، لم يكن محققاً للمضمضة؛ لأنه ينبغي أن يخرج الماء إلى خارج البدن لا إلى داخله، ويقولون: وجه اعتبار المضمضة بالتحريك واللفظ هو السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم مضمض ولَفَظ، ولذلك يقتدى به عليه الصلاة والسلام في هديه، فيتمضمض ويحرك الماء ويلفظه.
الفائدة الثانية: أن قولهم: المضمضة: تحريك الماء، ينبني عليه: أنه لو أدخل الماء ولم يحركه في فمه ثم لَفَظَه، فلا يعتبر متمضمضاً على الصفة المعتبرة شرعاً؛ لأنه لا بد من التحريك، إذ بالتحريك يحصل النقاء، فلو اقتصر على كون الماء يصل إلى فمه ثم يلفظه، لم يكن ذلك مضمضة على الوجه المعتبر.(13/5)
صفة الاستنشاق
قال رحمه الله: [ويستنشق].
الاستنشاق: هو استفعال من النَّشَق، وأصل النَّشَق: جذب الشيء إلى الخياشيم بالنَّفَس، ومنه سمي النَّشُوق نَشُوقاً؛ لأنه يُستعط ويُجذب بالنَّفَس.
ودل عليه ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه).
ولذلك قال بعض العلماء: إذا جذب الماء تحقق الاستنشاق، ولا يلزمه الاستنثار يعني: الطرح؛ والصحيح أن تعبير العلماء بالاستنشاق متضمن للاستنثار؛ لأن الإنسان إذا استنشق فلا يصبر على بقاء الماء حتى ينثره.
وفائدة اشتراط النثر: أن الإنسان إذا عصر أنفه دون أن ينثر لم يكن محققاً للاستنشاق على أكمل صوره، وذلك لا بد من النثر، لقوله عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً -هذا الاستنشاق- ثم لينتثر)، فقوله: (ثم لينتثر) أي: ليطرح، ولينثر الماءَ الذي جذبه بنَفَسِه إلى خياشيمه، ولذلك لا بد من النثر؛ لأن المقصود من إدخال الماء تطهير هذا الموضع، فإذا كان يعصره دون أن يكون منه نثر، لم يتحقق به كمال التطهير لهذا الموضع.(13/6)
بيان حد الوجه من حيث الطول والعرض
قال رحمه الله: [ويغسل وجهه من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً ومن الأذن إلى الأذن عرضاً] قوله: (ويغسل وجهه): الوجه تقدم أنه من المواجهة، وبينَّا كلامَ العلماء في الوجه، ودليلَ وجوب غسله.
والآن نبين حد الوجه: -أما طولاً: فقالوا: إنه من منابت الشعر الذي يكون في ناصية الإنسان إلى ما انحدر من اللحيين، وهو اللحية السفلى، فيشمل الوجه الشق الأيمن والأيسر إلى ما انحدر.
والسبب في تعبير المصنف بقوله: (إلى ما انحدر)؛ لأن الوجه يحصل بهذا القسط من العضو، فحتى يكون كاملاً في غسله لهذا القسط لا بد أن يمسك جزءاً يسيراً مما جاوره، كالصائم لا يتحقق كمال صومه إلا بإمساك جزء يسير من الليل، حتى يتحقق غروب الشمس.
ولذلك يقول العلماء: إلى ما انحدر؛ لأنه إذا غسل المنحدِر من العظم فقد كمُل غسل هذا الوجه، سواءً كان في الشق الأيمن أو الشق الأيسر، فلا بد أن يغسله إلى ما انحدر، هذا إذا كان الإنسان أجرداً أو أمرداً، أما إذا كان ذا لحية فالشعر يقوم مقام المنحدِر، ويكون غسله على الصفة التي ذكرناها في التخليل.
هذا بالنسبة للطول: أنه من منابت الشعر إلى ما انحدر من اللحيين، وبه يتحقق كمال الوجه طولاً.
- أما عرضاً: فإنه قال: (ومن الأذُن إلى الأذُن عرضاً).
قال بعض العلماء: إن الوجه كمالُه من الأذُن اليمنى إلى الأذن اليسرى عرضاً.
وقال بعضهم: بل إن حده إلى العذار، فإذا غسل العذار، وهو الشعر الذي يكون مقابلاً للأذُن فقد تم غسله للوجه.
وفائدة الخلاف: الحكم في البياض الذي بين الشعر والأذُن.
وهذا يقوى في الملتحي، ولذلك قالوا: إنه إذا كان ملتحياً، فإن المواجهة تحصل باللحية، فيغيب البياض فلا يعتبر من الوجه، ولذلك قال بعض العلماء: لا يجب غسل هذا البياض.
وبناءً على هذا القول: لا يقال: من الأذُن إلى الأذُن؛ ولكن المصنف اختار أحوط القولين، والعمل عليه: أنه يغسل البياض الذي بين الأذُن والشعر؛ لأن وجود الشعر إنما هو مختص بالملتحي دون غير الملتحي، فيجب غسله لكمال غسل الوجه، فإن الذي لا لحية له يعتبر من وجهه وجود ذلك البياض.(13/7)
وجوب غسل شعر الوجه
قال رحمه الله: [وما فيه من شعر خفيف والظاهر الكثيف مع استرسل منه].
أي: يجب عليه غسل الشعر الخفيف الموجود في الوجه؛ لأن البشرة تُرى من تحته، وإذا كانت البشرة تُرى من تحته، فإنه يجب غسل هذا الشعر، كأن يكون شاربه أو لحيته صغيرة في بداية نبتها، وتُرى البشرة من تحتها، فإنه يجب عليه غسل الشعر وغسل ما تحته؛ لأن المواجهة تتحقق بالشعر وبما تحت الشعر من البشرة، فيجب غسل الجميع.
قال بعض الفضلاء في هذه المسألة: خلِّل أصابعَ اليدين وشَعَر وجهٍ إذا مِن تحتِه الجلدُ ظَهَر والمصنف قال: إذا كان الشعر خفيفاً، بمعنى أنك ترى البشرة من تحته، فإذا رأيت البشرة من تحت الشعر، فإن المواجهة تكن بالشعر وبالبشرة، فهذا وجه المطالبة بغسل كل منهما.(13/8)
وجوب غسل اليدين مع المرفقين
قال رحمه الله: [ثم يديه مع المرفقين].
وهنا ننبه إلى خطإٍ شائع عند كثير من العامة: فإنهم إذا توضئوا غسل الواحد منهم الكفين، ثم يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه، فإذا جاء يغسل يديه يبدأ من آخر الكف، فتراه يغسل ساعده ويغفل عن الكفين، ومن فعل ذلك لا يصح وضوءه، وتلزمه إعادة الوضوء والصلاة، ولذلك ينبغي التنبيه على هذا، فالإنسان إذا غسل يديه فيجب أن يكون غسله من أطراف الأصابع إلى المرفقين، والغاية داخلة في المُغيَّا.
فالكثير أو البعض يغفل الكفين؛ لأنه قد غسلهما في بداية وضوئه، فيترك غسلهما عند غسله ليديه، فهذا لا يصح ولا يجزئه.
وقد تقدم دليل وجوب غسل اليدين؛ لأنه من فرائض الوضوء، وبينا الحد وبينا خلاف العلماء رحمة الله عليهم.(13/9)
وجوب مسح الرأس مع الأذنين
قال المصنف رحمه الله: [ثم يمسح كل رأسه مع الأذُنين مرةً واحدة].
شرع المصنف رحمه الله في بيان الفرض الذي يلي غسل اليدين، وهو مسح الرأس، فقال: (يمسح كل رأسه)، وهذا على الصحيح، وقد تقدم بيان دليل مسح الرأس، وخلاف العلماء في القدر الذي يجب مسحه، وأدلة كلٍّ، والراجح من أقوالهم.
قوله: (مع الأذُنين مرة واحدة) لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الترمذي: (الأذُنان من الرأس)، وقد تقدم الكلام على مسح الأذُنين مع الرأس، وبينا ذلك، وبينا مذاهب العلماء رحمة الله عليهم فيه.(13/10)
وجوب غسل الرجلين مع الكعبين
قال رحمه الله: [ثم يغسل رجليه مع الكعبين].
وهذا الفرض الأخير، غسل الرجلين، أو مسحهما إذا كان لابساً للخفين أو الجوربين.
والكعبان يجب غسلهما مع القدمين، لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، وقد تقدم بيان دليل وجوب غسل الرجلين إلى الكعبين، وهل الكعبان يجب غسلهما أو لا يجب؟ وذكرنا الأقوال، والأدلة، والراجح في هذه المسألة، بما يغني عن الإعادة.(13/11)
كيفية غسل الأقطع لأعضائه
قال رحمه الله: [ويغسل الأقطع بقية المفروض فإن قطع من المفصل غسل رأس العضد منه].
قوله: (ويغسل الأقطع بقية المفروض)؛ لأن الله أمره بغسل الجميع، فإذا سقط عنه البعض لمكان العذر، فلا يقتضي سقوط الكل؛ لأن ما جاز لحاجة يقدر بقدرها، فالخطاب متوجه عليه أن يغسل يديه كاملتين، فإذا قطعت يده وبقي ساعده، فإن الساعد داخل في المأمور، فيجب عليه غسل الساعد الذي بقي بعد القطع.
قوله: (غسل رأس العضد منه) على الأساس الذي ذكرناه، من كون الكعبين والمرفقين داخلين في المغيَّا.(13/12)
حكم رفع النظر إلى السماء بعد الوضوء
قال رحمه الله: [ثم يرفع نظره إلى السماء ويقول ما وَرَدَ].
قوله: (ثم يرفع نظره إلى السماء) لم يصح بذلك حديث، وذكره العلماء -رحمة الله عليهم-، والصحيح: أنه يقتصر على القول من ذكر الشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام: (أن من قال عند تمام وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء).
نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.(13/13)
حكم الاستعانة على الوضوء
قال رحمه الله: [وتباح معونته].
المباح: هو ما استوى طرفاه، أي: لا يؤمر به ولا يُنهى عنه.
قوله: (تباح معونته) يعني: تجوز معونة المتوضئ؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنتُ أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم أنا وغلام نحوي أحمل إداوةً وعَنَزَة)، فهذا يدل على مشروعية خدمة الأحرار بعضهم لبعض، وخاصةً إذا كانوا من أهل الفضل، وكبار السن، والوالدين.
فأما إذا كانوا من الوالدين فإن خدمتهم عبادة وقربة لله جل وعلا، وتجب عند الحاجة، وأما إذا كانوا من أهل العلم والفضل خاصةً إذا كانوا من كبار السن، فإن خدمتهم قربة.
وأما إذا كان صغير السن وأردت أن تخدمه فلا حرج إذا قُصِد بذلك وجهُ الله لا رياءً ولا سمعةً؛ لكن الأفضل لطالب العلم أن لا يمكن الناس من خدمته في بداية طلبه للعلم، أو عند صغر سنه؛ لما في ذلك من الفتنة، والإنسان في مقتبل عمره لا يأمن الفتنة، بخلاف كبار السن، فإن الخشوع فيهم أكبر وقربهم من الموت يبعدهم من قصد هذا في الناس، مع ما لهم من حق؛ بسبب كِبَر السن.
فلذلك يستحب بعض العلماء للإنسان إذا كان صغير السن ولو كان من العلماء أن يتورع عن خدمة الناس له، حتى يكون ذلك أبلغ في إخلاصه، وأبلغ في طاعته لله جل وعلا.
وأُثِر عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إن صحبتَ رفقة في السفر فلا تكن صائماً، إنك إن أخبرتهم بصيامك، قالوا: أنزلوا الصائم، أكرموا الصائم، احملوا الصائم، حتى يذهب أجرك)، أي: لا يزالون يكرمونك ويكرمونك حتى يذهب أجرك؛ بما يكون منهم من إكرام.
ولذلك فالأكمل للإنسان والأفضل له أن يتورع عن ذلك.
وقد عهدنا علماء أجلاء رحمة الله عليهم بلغوا من العلم شأواً عظيماً، كانوا يتورعون عن خدمة الناس لهم، خاصة في هذه الأزمنة التي قل أن يوجد فيها المخلص، وإن وُجد المخلص قد يوجد المغالي، وكثير من البدع والأهواء والغلو في الصالحين نشأ بسبب الخدمة، ولذلك لا ينبغي أن يُتخذ الدين طريقة لإهانة عباد الله جل وعلا، فإن الله أخرج الناس بالإسلام من العبودية لغيره إلى العبودية له سبحانه وتعالى.
وقد تكلم الإمام ابن القيم رحمة الله عليه كلاماً نفيساً في الفوائد حيث قال: إن كثيراً من الفساق يغترون بصحبة الصالحين، حتى يكونوا جريئين على المعاصي؛ بسبب اغترارهم بصحبة الصالحين وخدمتهم لهم، فتجد الواحد من هؤلاء يجرؤ على حدود الله، ولا يُصْلِح من حاله، وتصبح صحبتُه للعالِم صحبةً شكلية للخدمة، لكن أن ينتفع بعلمه ويستفيد من ورعه ومن تقواه لا تجد لذلك أثراً، حتى -والعياذ بالله- يفْسُدَ عليه دينُه.
إذاً ينبغي أن يحمل الإنسان نفسَه على أتم الوجوه، وأقربها إخلاصاً لله جلَّ وعَلا، وقد خرج عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من المسجد فخرج معه أصحابه يشيعونه، فقال: (ما لكم؟ قالوا: رأيناك تسير وحدك، فأردنا أن نشيعك.
قال: إليكم عني، إنها فتنة للتابع والمتبوع).
هذا ابن مسعود في عصر الخيرية وزمان الخيرية.
(إنها فتنة للتابع) أي: أن الإنسان إذا صار مع العالِم دون أن يسأله ودون أن يستفيد من علمه، فذلك فتنة له.
(وفتنة للمتبوع) أي: أن العالم ربما دخله غرور برؤية مَن حوله.
ولذلك فالأسلم والأكمل أن الإنسان يتورَّع، وإذا نظر الله إليك -وقد حباك العلم، وحباك الفضل- لا تهين عباده، ولا تأخذ منهم أجراً ولا جزاءً ولا شكوراً، كمُل أجرُك عند الله جل وعلا، ولذلك قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86].
لكن لا يعني هذا: التحريم والمنع؛ ولكن نقول: إن الإنسان إذا خشي الفتنة لنفسه أو لمن معه، فإنه ينبغي عليه أن يتورع، وهذه المسألة أحب أن أنبه عليها؛ لأنه حصل فيها كثير من الدَّخَن، فلقد رأينا كثيراً من طلاب العلم يصحبون العلماء، ويكون في بداية صحبته للعالم كأحسن ما أنت راءٍ؛ أدباً، وخُلقاً، واستفادةً من العالم، وكثرةَ سؤالٍ ومُدارسةٍ له؛ ولكن ما إن يدخل إلى مقام خدمته، والقيام على شأنه، ويداخله في أموره الخاصة، حتى تنزل منزلتُه، فيصبح كأن العَالِمَ شيء معتاد بالنسبة له، فيخرج عن حد الأدب، ولربما يأتي وقت -وقد رأينا ذلك بأعيننا في بعض ضعاف النفوس- يجرؤ فيه على أن يفتي بحضرة العالم، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من المزالق الخطيرة.
فإذا صحبتَ أهل العلم فلا حرج أن تخدمهم وأنت تريد وجه الله؛ ولكن اعلم أن صحبة العلماء للعلم والفائدة، وليست للمظاهر وللأمور التي قد تكون فتنة على الإنسان في دينه ودنياه وآخرته.
إذاً: معنى قوله رحمه الله: (تباح معونته) أي: يجوز أن يعاونه الغير على وضوئه، فيصب الوضوء له، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث المغيرة بن شعبة في الصحيح: (أنه دخل الشعب فبال، ثم صب عليه المغيرة رضي الله عنه وأرضاه الوضوء) صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عن المغيرة وأرضاه.(13/14)
حكم التنشف بعد الوضوء
قال رحمه الله: [وتنشيف أعضائه].
الأفضل والأعظم أجراً أن لا ينشف الأعضاء بعد الوضوء،؛ لِمَا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يقرب وضوءه، فيمضمض، ويستنشق، ويغسل وجهه، إلا خرجت كل خطيئة نظرت إليها عيناه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء -وكذلك قال في اليدين- حتى تخرج من تحت أظفار أصابعه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء)، فاستحب طائفة من العلماء ألَّا ينشف الأعضاء من ماء الوضوء.
وكذلك ثبت في السنة تأكيد هذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما اغتسل وجاءته أم المؤمنين بمنديل، قالت: (فلم يُرِدْه، وجعل ينفض الماء بيديه).
لكن يجوز للإنسان أن يتنشف، خاصةً إذا وُجدت الحاجة؛ كشدة البرد، أو نحو ذلك؛ لكن الذي استحبه العلماء أنه يُبقي الأعضاء مبلولة، حتى يكون ذلك أدعى لخروج خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، على ظاهر الحديث.(13/15)
الأسئلة(13/16)
حكم التلفظ بالنية والمواضع التي يجوز التلفظ فيها
السؤال
ما حكم رفع الصوت بالنية عند الوضوء وعند الصلاة؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالتلفظ بالنية يعتبر بدعة، سواءً كان عند الصلاة أو عند الوضوء، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه توضأ وصلى، ولم يُحفظ عنه في حديث واحد أنه تلفظ بنيته، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
ولذلك ينبغي ترك هذا الأمر والبقاء على السنة، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم من كون النية بالقصد في القلب، وذلك كافٍ، إلا في ما ورد الشرع بالتلفظ به، وذلك في موضعين فقط: الموضع الأول: عند ذبح النُّسُك؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحى بالكبشين قال في أحدهما: (اللهم! هذا منك ولك، اللهم هذا عن محمد وآل محمد.
وقال في الثانية: اللهم! هذا عمن لم يضحِّ من أمة محمد).
الموضع الثاني الذي تلفظ فيه النبي صلى الله عليه وسلم بنيته: عند نُسُك الحج والعمرة، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال -كما في صحيح البخاري من حديث عمر -: (أتاني الليلةَ آتٍ من ربي فقال: أَهِلَّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرةً في حجة) فقوله: (قل) أي: تلفَّظ، والقول لا يكون إلا بصوت مجتمع الحروف، ولذلك دل هذا الحديث على سنية التلفظ بالنية في هذا الموضع.
وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (لقد كنتُ تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها فسمعته يقول: لبيك عمرة وحجة).
هذا الذي ورد استثناؤه في الشرع.
والله تعالى أعلم.(13/17)
معنى قول العلماء: (لذاته) في تعريف الشرط
السؤال
ما معنى قول العلماء -رحمهم الله تعالى -في تعريف الشرط: لذاته؟
الجواب
لذاته، أي: أن انعدامه ليس لذات الشرط، فلو أن إنساناً لم يكن متوضئاً، فإنه لا يصلي؛ لكن ليس لانعدام الوضوء وحده؛ ولكن قد يكون ذلك لسبب آخر، لفقد شرط آخر غير الوضوء، كما هو الحال -مثلاً- في الصلاة، لو أن إنساناً لم يتوضأ، فإن الوضوء شرط لصحتها، فعدم وجود الوضوء يوجب عدم الصلاة؛ ولكن ليس لذات الوضوء، قد يكون ذلك مع مصاحبة شرط آخر، كما هو الحال فيما إذا كان قبل دخول الوقت، فإن الصلاة لا تصح.
وبناءً على ذلك: عبَّروا بالذات؛ لوجود الانتفاء بالشرط المصاحب، كما هو الحال في دخول الوقت ونحوه.(13/18)
حكم إدراج الأعلى تحت الأدنى في الوضوء
السؤال
ذكرتم أن مَن نوى الأدنى لم يندرج فيه الأعلى، كمن توضأ لصلاة الضحى ثم صلى بهذا الوضوء الظهر، فما حكم من فعل ذلك جهلاً، هل تجب عليه إعادة الصلوات المفروضة، وإن كان لا يعرف عددها فما الحكم؟
الجواب
الوضوء الأمر فيه واسع؛ لوجود الخلاف، فلو نوى بوضوئه أن يصلي الضحى ثم صلى به الظهر، فهناك خلاف: فقد أفتى طائفة من أهل العلم -رحمة الله عليهم- بجوازه، وأن هذا ليس فيه حرج؛ ولكنه مستقبلاً يبتدئ بهذه النية؛ لأنه ربما تعلم الوضوء عند من يرى أن نية الأدنى مجزئة عن نية الأعلى، ولذلك لا يُلْزَم في مثل هذا بالإعادة.(13/19)
إجزاء غسل الجنابة عن غسل الجمعة
السؤال
لو اجتمع على المكلف يوم الجمعة غسل الجمعة وغسل الجنابة، فما يفعل؟ هل يغتسل مرتين أو يجزئ أحدهما عن الآخر؟ وإن كان كذلك فماذا ينوي غسل الجمعة أم غسل الجنابة؟
الجواب
إذا نوى غسل الجنابة فإنه ينوي تحته غسل الجمعة، فيُجزئه غسل الجنابة عن غسل الجمعة؛ لأن قاعدة الاندراج: أنه يندرج المساوي مع نظيره، بشرط تحقق مقصود الشرع، فلما كان مقصود الشرع من غسل الجمعة أن تحصل النظافة لمكان الاجتماع؛ لما ثبت عند الترمذي في سننه من حديث عائشة، فإنه في هذه الحالة إذا اغتسل للجنابة تحقق مقصود الشرع بالنقاء، ولذلك تجزئه الجنابة عن غسل الجمعة بالنية.
أما لو نوى الجمعة فإنها لا تندرج تحتها الجنابة، ولذلك يجب عليه أن يعيد إذا كان قد نوى الجمعة أصالةً ونوى اندراج الجنابة تحتها؛ فالصحيح أن ينوي الجنابة أصلاً والجمعة تحتها؛ لأن صورة الاندراج شرطها تحقق مقصود الشرع، وهكذا الحال بالنسبة للواجبات في الأفعال، كالحال في طواف الإفاضة وتحته طواف الوداع.
وبناءً على ذلك يصح منه إذا جعل النية لغسل الجنابة أصلاً، وغسل الجمعة تبعاً.
والله تعالى أعلم.(13/20)
الفرق بين الواجب والشرط
السؤال
ذَكَرَ ابن قدامة رحمه الله تعالى في عمدة الفقه أن النية واجبة، وذكر هنا رحمه الله أنها شرط، فهل بينهما فرق؟
الجواب
أولاً: قولك: (ذَكَرَ ابن قدامة) هذه ما أقبلها منك، ينبغي التأدب مع أهل العلم رحمة الله عليهم، ابن قدامة ليس من طلاب العلم أو رجلاً عادياً، بل يقال: ذَكَرَ الإمام ابن قدامة، فهو علم من أعلام المسلمين، يقول الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما دخل الشام بعد الأوزاعي أعلم من الموفق.
كان آيةً في العلم والصلاح والورع، وشهد له أقرانه من العلماء بأنه جمع بين العلم والعمل رحمه الله برحمته الواسعة.
فمثل هذا لا يليق أن يقال فيه: ذَكَرَ فلان، وينبغي لطالب العلم أن يتعلم الأدب مع العلماء، وإجلال أهل العلم بذكرهم بالألقاب والألفاظ التي تليق بهم، فيقول: ذَكَرَ الشيخُ، ذَكَرَ الإمامُ.
ثانياً: جواب السؤال: الشرط أرفعُ من الواجب؛ لأن شرط الصحة لا تصح العبادة بدونه، وأما الواجب فقد تصح بدونه، ويكون الإثم على الترك، فإذا عُبِّر في الواجب على أنه شرط للصحة كان ذلك أبلغ، ولذلك لما اختُلف في الطهارة والوضوء، قال بعضهم: هي واجبة وشرطٌ في صحة الصلاة، أي: دل الدليل على أن فقد هذا الواجب يؤدي إلى بطلان الصلاة، فهناك فرق بين قولهم: واجب، وبين قولهم: شرط؛ إلَّا أن بعض العلماء -رحمة الله عليهم- يعبرون بالواجبات وبالشروط، وبناءً على ذلك فقوله رحمة الله عليه في العمدة: والواجب من ذلك، بمعنى: اللازم الذي ينبغي الإتيان به، وليس المراد به إسقاط معنى الشرطية، بدليل أنه ذكر بعد قوله: والواجب من ذلك أركان الوضوء، وهذا لا شك أنه أرفع من درجة الواجب؛ لأن الركن أعظم من الواجب، كما هو معلوم ومقرر أن ركن الصلاة أعظم من واجباتها.
والله تعالى أعلم.(13/21)
حكم الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر
السؤال
هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين في الحضر بدون عذر ولا خوف؟ وما الفرق بين العذر والحاجة؟
الجواب
هذه المسألة مفرعة على حديث ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما، وفيه يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم في غير مطر ولا مرض ولا سفر -ولما سئل عن ذلك؟ قال ابن عباس -: أراد أن لا يحرج أمَّته) وقد وقع ذلك في خطبة ابن عباس كما في صحيح مسلم: (أنه خطب إبَّان إمارته على الكوفة لـ علي رضي الله عنه، وأطال الخطبة في وقت صلاة الظهر، فقام له أعرابي وقال: الصلاة، فلم يجبه ابن عباس، ثم استمر في خطبته، فقام الرجل وقال: الصلاة، ثم استمر ابن عباس في خطبته، فقام الرجل، فقال له ابن عباس: أتعلمنا بالصلاة لا أمَّ لك؟ جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين ... ) إلى آخر الحديث.
هذا الحديث للعلماء فيه وجهان: الوجه الأول: منهم من أخذ بظاهره، وقال: دل هذا الحديث على جواز أن تجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ولو لم يكن هناك مطر ولا مرض ولا سفر، وهذا القول هو مذهب بعض أصحاب الحديث -رحمة الله عليهم- وبعض أهل الظاهر.
والقول الثاني: أن هذا الحديث ليس على ظاهره، وإنما المراد به الجمع الصوري، وهذا واضح من سياق الحديث؛ لأن الرجل لا زال يكرر في أول الوقت؛ لأنه عَهِد من ابن عباس أنه يصليها في أول وقتها، وما زال ابن عباس يستمر في خطبته، فلما قارب وقت الظهر من الانتهاء أقام لصلاة الظهر، فصلاها، فبمجرد انتهائه دخل وقت العصر، فأقام لها فصلى العصر، ثم صلى الاثنتين في صورة الجمع، والحقيقة أن كل صلاة في موضعها.
يقول جمهور العلماء: لو أخذنا بهذا الحديث على ظاهره، لألغينا دلالة الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103]، وقال في آية المواقيت: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78]، فحددها بالوقت، فلو قيل: إن الظهر يُجمع مع العصر، ولا حرج أن تؤخر الظهر إلى وقت العصر، لما كان للظهر وقت محدد، إنما يكون الظهر والعصر بمثابة الصلاة الواحدة؛ لأنه جمع من غير عذر، فيجوز للناس أن يؤخروا الظهر والعصر، ولا حرج أن يوقعوا الظهر في آخر وقت العصر، وهكذا يجوز لهم أن يوقعوا المغرب في وقت العشاء، فنُلغي دلالة الكتاب في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103].
وأما دلالة السنة: فهي في قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (قم فصلِّ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (ما بين هذين الوقتين وقت).
إذاً: لا يستقيم حمل الحديث على ظاهره، والقاعدة في الأصول: (أنه لو تردد الحديث بين وجهين: وجهٍ يوافق النصوص من الكتاب والسنة، ووجهٍ يخالف، وجب صرفه إلى الوجه الذي يوافق، لا إلى الوجه الذي يخالف).
وبناءً على ذلك: الصحيح أن الصلاة لها ثلاثة أحوال: الأولى: إيقاعُها في وقتها.
الثانية: جمعُها صورةً ويكون إيقاعها أيضاً في وقتها.
الثالثة: الجمع الحقيقي.
فاكتملت القسمة العقلية على ثلاثة أقسام: الأول: أن توقع الصلاتين كلاً في وقتها.
الثاني: أن توقع الصلاة في غير وقتها مجموعة مع الأولى أو مع الثانية، الذي هو جمع التقديم أو التأخير.
الثالث: أن توقع الصلاة على صورة الجمع، والحقيقة أنها في وقتها.
وبناءً على ذلك يَرِد إشكالٌ: ليس هناك دليل يقوى على اعتبار الجمع الحقيقي إلا قول ابن عباس: (أراد أن لا يحرج أمَّته).
وهذا ليس فيه دليل، فإن من تأمل هذه العبارة يجد أن معناها: أن الناس وخاصة في بعض الأزمنة كشدة الحر، أو يحتاج الخطيب -مثلاً- أن يخطب في حادثة وقعت، فقام الإمام ينبه الناس على هذه الحادثة فأطال في خطبته، واحتاج إلى بيان وتفصيل، فأخذ وقتَ الظهر إلى آخره ثم صلى بهم الظهر، ودخل وقت العصر فأقام للعصر وصلاها، فيكون قد أخذ بقول ابن عباس: (أراد أن لا يحرج أمَّته) أي: أنهم لو قاموا بعد انتهائهم من صلاة الظهر سيرجعون إلى بيوتهم، ثم يعودون مرة ثانية إلى صلاة العصر، فأسقط الحرج بالجمع بين الصلاتين صورةً، في خروج واحد دون ذهاب وإياب متكررين، وهذا واضح جلي، ولذلك فمذهب جماهير العلماء على أن هذا الحديث ليس على ظاهره، وأن المراد به الجمع الصوري.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(13/22)
شرح زاد المستقنع - باب مسح الخفين
من رحمة الله تعالى بعباده أن خفف عنهم في عباداتهم ومعاملاتهم، فكان من صور هذا التخفيف أن رخص لهم في المسح على الخفين وما في حكمهما عوضاً عن غسل الرجلين دفعاً للمشقة، ويشبه هذا المسح على العمائم، والمسح على الجبائر، والمسح على الخمر للنساء، وكل هذا مضبوط في الشرع بأحكام وضوابط.(14/1)
مشروعية المسح على الخفين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب مسح الخفين] تقدم في مباحث الوضوء: أن المسح: هو إمرار اليد على الشيء، تقول: مسحتُ الكتاب، إذا أمررتَ يدك عليه، ومسحتُ برأس اليتيم، إذا أمررت يدك عليه.
وقوله رحمه الله: (باب مسح الخفين) الخفان: مثنى خُف، وهو النعل من الجلد أو الأدم الذي يكون للقدم.
والأصل فيه في الشرع أن يكون ساتراً لموضع الفرض، وذلك من أطراف الأصابع إلى الكعبين، وهما داخلان.
كأنه يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة برخصة المسح على الخفين.
أما مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله: فقد تكلم المصنف رحمه الله على صفة الوضوء الشرعية، فلما فرغ من بيانها وذِكْرِ المواضع التي أمر الله عز وجل بغسلها أو مسحها ناسب أن يذكر ما يتعلق بآخر عضو من أعضاء الوضوء وهما الرجلان؛ حيث رخَّص الله جل وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمسح المكلفُ على ساترٍ مخصوصٍ لهما، فناسب بعد الفراغ من باب الوضوء أن يذكر باب المسح على الخفين؛ لأنه متعلق بآخر فرض من فرائض الوضوء وهو غَسل الرجلين.
والمسح على الخفين رخصة من رخص الشرع، وهذه الرخصة ثبتت مشروعيتها بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى بلغت مبلغ التواتر.
قال الإمام أحمد رحمه الله: فيه -أي: في المسح على الخفين- أربعون حديثاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض العلماء: إنها بلغت سبعين حديثاً.
ولذلك قال بعض الفضلاء -يشير إلى أن المسح على الخفين مما تواترت النصوص بالدلالة على جوازه- عن الحديث المشهور: ثم من المشهور ما تواترا وهو ما يرويه جمع حُظِرا كَذِبُهم عُرْفاً كمسح الخُفِّ رفعُ اليدين عادمٌ للخُلْفِ وقد روى حديثه مَن كتبا أكثر من ستين ممن صَحِبا أي: أكثر من ستين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم روَوا هاتين الحادثتين عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: الأولى: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، ففيها أكثر من ستين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: المسح على الخفين.
والأحاديث التي وردت في المسح على الخفين: منها ما هو قولي.
ومنها ما هو فعلي، أي: ما يدل على فعل النبي صلى الله عليه وسلم إياه.
ولذلك لا إشكال في مشروعيته.
وكان السلف الصالح -رحمة الله عليهم- عندهم خلاف في الصدر الأول.
وقال بعض العلماء ومنهم الحافظ ابن عبد البر: لا يوجد صحابي ينكر المسح إلا رُوي عنه عكسُه، أي: إثبات المسح، ولذلك اتفقت الكلمة على مشروعية هذه الرخصة.
وأُثِر عن بعض السلف من العلماء أنه خصها بالسفر؛ لكنه قال بأصلها، وهو إحدى الروايات الثلاث عن الإمام مالك رحمة الله عليه.
وسنبين أن الصحيح: أنها رخصة لا تختص بالسفر؛ لحديث حذيفة في الحَضَر، وهو حديث في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بال عند سُباطة قوم قال: فصببتُ عليه الوضوء، فتوضأ ومسح على خفيه) وذلك في الحضر.(14/2)
المسح على الخفين
فالمسح على الخفين ثابت، وثبوته اعتبره السلف ومَن بعدهم، حتى كان بعض العلماء يُدْخل في عقيدة أهل السنة والجماعة القول بمشروعية المسح على الخفين، مبالغةً في الرد على أهل البدع والأهواء الذين لا يقولون بمشروعيته، فكانوا يُدْخلونه من جملة العقائد، فيقولون: ونرى المسح على الخفين؛ والسبب في ذلك أنه ثبت بالتواتر، فأصبح من الأمور التي ثبتت مشروعيتها بدليل القطع، وما ثبتت مشروعيته بدليل القطع وأنكره مَن اعتقد قطعه فقد كفر، -والعياذ بالله- لأنه يكذب الشريعة، وكل قطعي ثابت في الشريعة -في الكتاب أو في السُّنة- فإن إنكاره لمن اعتبر قطعيته وثبوته يُعتبر إنكاراً وتكذيباً للشرع، فيكفر بذلك كما هو مقرر في العقيدة.
فبالغ العلماء رحمة الله عليهم في إثبات هذه السُّنة، والرد على أهل البدع والأهواء الذين لا يرونها.
والمسح على الخفين ثابت في الحَضَر وثابت في السفر، فالإنسان يُرَخَّص له إذا كان في حَضَر أو كان في سفر أن يمسح على خفيه، ما دام لابساً لهما، وذلك على صورة مخصوصة، سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
وهذا المسح يعتبر رخصةً غير لازمة، أي: من الرخص غير الواجبة، وليس بلازم على الإنسان أن يمسح على خفيه.
واختلف العلماء رحمهم الله: هل الأفضل المسح أو الغسل للقدمين؟ وهي مسألة أقوى الأقوال فيها -وهو اختيار بعض العلماء من المحققين-: أنه يختلف باختلاف حال الإنسان، فإذا كان الإنسان لابساً لخفيه فالأفضل أن يمسح وألاَّ ينزعهما؛ لأنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كانت الرجلان مكشوفتين فإنه لا يتكلف لُبس الخفين من أجل أن يمسح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف لبس الخفين، وإنما كان عليه الصلاة والسلام إن كانت رجلاه مكشوفتين غَسَلهما -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- وإن كانتا مستورتين بالخفين مَسَحَ عليهما.
وقال بعض العلماء: الأفضل بل قد يجب على طالب العلم وعلى العالِم إن عاش بين قوم ينكرون المسح أن يلبس الخفين ويمسح عليهما لِيَرُدَّ القولَ بعدم المشروعية وهذا قول صحيح من جهة النظر، وهو يرجع إلى أصلٌ معتبرٌ عند العلماء: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن توقف إحياء السنن على إظهارها وإعلانها لزم أهلَ السُّنة أن يُظهِروها وأن يعلنوها إحياءً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وبياناً لسنن الشرع، ولا يمكن لسَنَنِ الشرع أن يقوم أوْدُه وينتصب عمودُه إلا بالإحياء والدلالة قولاً وعملاً، مهما كان في ذلك من الكَلَفة على الإنسان.(14/3)
بعض أحكام المسح على الخفين
يقول رحمه الله: (باب مسح الخفين) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة بالمسح: أولاً: مشروعيته؛ أنه مشروع أو غير مشروع.
ثانياً: هل مشروعيته على سبيل اللزوم أو غير اللزوم؟ ثالثاً: متى يمسح الإنسان على خفيه؟ رابعاً: ما هي شروط المسح على الخفين؟ خامساً: ما هما الخفان المعتبران للمسح؟ سادساً: ما هي صفة المسح؟ هل لِأَعلى الخف ولِأَسفله، أو لِلْأَعلى دون الأسفل، أو لِلْأَسفل دون الأعلى؟ سابعاً: ما هي مواقيت المسح على الخفين؟ وما حكم الصور التي يختلف فيها حال الإنسان في تلك المواقيت؟ هذا بالنسبة لما يتعلق بمبحث المسح على الخفين.
ثم من عادة الفقهاء -رحمة الله عليهم- أنهم يعتنون بذكر حكم النظير مع نظيره، فيُدخلون المسح على العمامة -إذا قالوا بمشروعيتها- في باب المسح على الخفين، فيذكرون أحكام المسح على العمامة، ويُتْبِعُونها بأحكام المسح على الجبائر والعصائب، وقد يُتْبِعُونها كذلك بالمسح على الخُمُر بالنسبة للنساء على القول بمشروعيتها.
وكل ذلك سيبيِّنه المصنف -رحمة الله عليه- في هذا المبحث.(14/4)
مدة المسح على الخفين
قال رحمه الله: [يجوز يوماً وليلةً لمقيمٍ] (يجوز) أي: المسح على الخفين جائز، ولما قال: جائز، فهمنا منه أنه مشروع، وأن مشروعيته ليست بإلزام للمكلف، أي: أنه لا يجب على الإنسان أن يمسح على الخفين، وإنما ذلك مباح له وجائز، فإن ترتبت مصالح من قصد إحياء السُّنة ودلالة الناس عليها فإنه يُثاب ويعتبر مندوباً في حقه، وقد يصل إلى الوجوب على التفصيل الذي ذكرناه.
ومن عادة العلماء أنهم إذا بوَّبوا باباً أو ذكروا أمراً ما متعلقاً بالعبادة أو بالمعاملة، فإنهم يتكلمون أولاً على موقف الشرع من هذا الشيء، ثم يفصلون بعد ذلك في جوازه؛ هل هو على سبيل الإطلاق أو على سبيل التقييد؟ فقال رحمه الله: (يجوز) أي: المسح على الخفين.
(يجوز يوماً وليلةً لمقيم) الإقامة ضد السفر، وتتحقق الإقامة حقيقةً إذا كان الإنسان في موضعه الذي هو نازلٌ فيه، سواءً كان في باديةٍ أو حاضِرة، وتتحقق الإقامة أيضاً حكماً، وهي الإقامة الحكمية، كأن يكون الإنسان ناوياً أن يمكث في بلد أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمهاجرين أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام.
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أنه أجاز لهم أن يبقوا بمكة مع أنهم هاجروا منها.
والإجماع منعقد على أن من ترك أرضاً مهاجراً منها فإنه لا يجوز له أن يرجع إليها وأن يسكن فيها؛ لأن رجوعه إليها نقض لهجرته، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ مات بمكة)، ثم قال كما في صحيح مسلم: (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم) فدل هذا على أن المهاجر لا يبقى بموضعه، فلما أجاز لهم البقاء ثلاثة أيام فهِمْنا أن من مكث في موضع ثلاثة أيام فإنه لا يأخذ حكم أهله، ودل على أنهم في اليوم الرابع يُعتَبَرون في حكم المقيم.
وعلى هذا يُعْتَبَر الناس على ثلاثة أصناف: مسافر.
مقيم.
في حكم المقيم.
وأخذ العلماء من هذا الحديث أصلاً في تحديد مدة السفر بأربعة أيام غير يومي الدخول والخروج، ولا يُشْكِل على هذا الحكم قصة تبوك، حيث قصر عليه الصلاة والسلام للصلاة سبعة عشر يوماً أو واحداً وعشرين يوماً، فإن ذلك لعدم علمه بالمدة التي سيبقاها في ذلك الموضع.
وقال بعض العلماء: بل هو عالِم، وهذا محل نظر، فإن المقرر عند العلماء في شرحهم لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم غير عالِم، وهذا صحيح؛ لأنه نزل على تخوم الشام لأجل أن الروم أعدت له، فلا يدري أهم قادمون أو غير قادمين؟ وقد بَعَثَ العيون لتأتيه بأخبارهم، فلا يدري أهم قريبون أم بعيدون؟ فقول العلماء رحمة الله عليهم عند بيانهم للحديث: إنه غير عالِم بمدة إقامته بتبوك صحيح، من جهة سياق الحديث ودلالته.
وكذلك أيضاً ما ورد عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أنهم مكثوا يقصُرون الصلاة مدة طويلة، كـ أنس في فتح أذربيجان، فقد مكث ستة أشهر، وكانوا على الرباط الذي لا يُدرَى متى ينتهي وينقضي.
فالمقصود أنه إذا أقام الإنسان إقامةً حُكْمية أو إقامةً حقيقية فإنه يمسح على خفيه، ويمسح إذا كان مسافراً، وأراد المصنف أن يثبت بهذا القول مشروعية المسح حَضَراً وسفراً.
وللعلماء أقوال في هذه المسألة: فمنهم من يقول: المسح مختص بالسفر، وهو إحدى الروايات عن الإمام مالك رحمة الله عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح في السفر، والسفر يناسبه التخفيف، وذلك أن حديث المغيرة في إثبات المسح كان في سفره عليه الصلاة والسلام بغزوة تبوك، فقال أصحاب هذا القول: إن المسح يختص بالسفر.
وقال الجمهور: إن المسح لا يختص بالسفر، بل يشمل السفر والحَضَر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم من حديث علي: (يمسح المسافر ثلاثة أيام، والمقيم يوماً وليلة) فدل على أنه مشروع للمسافر ومشروع للمقيم، وهذه دلالة السُّنة القولية، وقد دلت السُّنة الفعلية أيضاً على مشروعية المسح في حال الحَضَر، كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً، قال: ثم قال لي: ادنُ، فدنوتُ، ثم قال لي: ادنُ، حتى كنتُ عند عقبيه، قال: فلما فرغ صببتُ عليه وضوءه -حتى قال- ثم مَسَحَ على خُفَّيه) وهذا في الحَضَر، فدل على مشروعية المسح في الحَضَر كما هو مشروع في السفر، وفي حديث صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه في السنن قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم) فأثبت مشروعية المسح حضراً وسفراً.
وبناءً على ذلك: يترجح قول الجمهور بأن المسح يُشرع حضراً وسفراً، وعلى هذا: فلا تتقيد رخصته بالسفر كما هو قول من يقول: إنه متقيد بالسفر؛ لأن ورود المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة من كونه مسح في السفر لا يقتضي تخصيص الحكم بالسفر؛ لثبوت الحكم الشرعي بالسنة القولية والفعلية.
قال رحمه الله: [ولمسافرٍ ثلاثةً بلياليها] يجوز المسح للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: هل المسح على الخفين يتأقت أو لا يتأقت؟ ولذلك يُعَنْوِنون لهذه المسألة بقولهم: توقيت المسح على الخفين، ومرادهم إذا مَسَحْت على الخفين وأنت مقيم فهل أنت ملزمٌ بزمان معين أو غير ملزم؟ - فذهب الجمهور إلى أن المسح على الخفين مؤقت، كما ورد في الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها: ثلاثةُ أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وحجتهم ما سبق من حديث علي في صحيح مسلم، وحديث صفوان بن عسال المرادي في السنن، قالوا: إنها نصت على أن المسح مؤقت.
- القول الثاني: أن المسح على الخفين غير مؤقت، وهذا هو مذهب المالكية رحمة الله عليهم، وقد احتج المالكية على عدم التأقيت بحديث أبي بن عمارة -وكان ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم- أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسح على الخفين: (يوماً؟ قال: يوماً، قال: ويومين؟ قال: ويومين، قال: وثلاثة؟ قال: نعم، وما شئتَ) قالوا: إن هذا الحديث أصل في عدم تأقيت المسح على الخفين، فإذا لبستَ الخفين فامسح ما بدا لك، وينتهي الوقت عند نزعك للخفين، وعند أصحاب هذا القول أن المسح لا يتأقت في السفر ولا في الحَضَر، فالإنسان يمسح مدة لُبسه للخفين.
وأصح القولين في نظري -والله أعلم-: أن المسح يتأقت: أولاً: لصحة دلالة السُّنة على ذلك.
ثانياً: أن حديث أبي بن عمارة ضعيف، قال ابن معين رحمه الله: إسناده مظلم، وضعَّفه البخاري أيضاً، ولذلك لا يعارِض السُّنة الصحيحة التي أثبتت التوقيت في المسح.
فلا بد للإنسان إذا مسح على خفيه أن يلتزم التأقيت الذي صحت به النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.(14/5)
العبرة في بداية توقيت المسح على الخفين
قال رحمه الله: [مِن حَدَثٍ بعد لُبسٍ على طاهر] (مِن حَدَثٍٍ) (مِن) للابتداء، فتبدأ الثلاثة الأيام إذا كان الإنسان مسافراً، واليوم والليلة إذا كان الإنسان مقيماً مِن الحَدَث بعد لبسه، صورةُ ذلك: أن الإنسان إذا أراد أن يمسح على خفيه فيجب عليه أن يتوضأ وضوءه للصلاة حتى إذا فرغ من غَسل كلتا الرجلين، فإنه يُشرع له أن يلبس الخفين، فلو غسل إحدى القدمين ولم يغسل الثانية وأدخل الرجل التي غسلها في الخف لم يصح ذلك منه.
والدليل على اشتراط الطهارة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن المغيرة رضي الله عنه وأرضاه أنه لَمَّا صب الوضوء على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين) ولا تتحقق الطهارة في (طاهرتين) إلا للرجلين، لأنهما كالعضو الواحد، ولذلك جاز تقديم اليمنى على اليسرى، وأجزأ، وصح ذلك في الوضوء-، ولا يُصْدَق عليهما كونهما طاهرتين إلا إذا تمت طهارتُهما معاً، فلو غسل إحداهما وأدخلها قبل الأخرى لم يَصْدُق عليه أنه طهَّر الرجلين؛ لأن طهارة إحداهما متوقفة على طهارة الأخرى.
وبناءً على ذلك: فلا بد أن يكون قد أتم الوضوء، ويستوي في هذا أن يتوضأ ويلبس الخفين بعد الوضوء مباشرة، أو يتوضأ ويلبس الخفين بعد انتهاء الوضوء ولو بساعات طويلة، مثال ذلك: لو أن إنساناً توضأ عند شروق الشمس وبقي على وضوئه إلى منتصف النهار، ثم لبس الخفين وهو على الوضوء صح له أن يمسح عليهما؛ لأنه لبس الخفين وهو على طهارة، فصَدَق عليه وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين) إذا ثبت هذا فعندنا في الخف: أولاً: وقت اللبس.
ثانياً: ثم بعد لُبسه وهو على وضوء يأتي الحدث، وهو أول ناقض للوضوء.
ثالثاً: إذا أحدث فإنه يتوضأ ويأتي المسح، ولذلك اختلفت أقوال العلماء رحمة الله عليهم في المسح على الخفين سواءً كان يوماً وليلة أو ثلاثة أيام: هل يبدأ من بداية الحدث؛ لأنه سبب للكل، أو يبدأ من عند مسحه بعد الحدث؟ فلو فرضنا -مثلاً- أنه أحدث الساعة الثالثة، ثم لم يتوضأ إلا الساعة الرابعة، فيقع مسحه في الساعة الرابعة، فهل العبرة بالحدث الذي هو في الساعة الثالثة، أم العبرة بالمسح بعد الحدث والذي يكون في الساعة الرابعة؟ فقال بعض العلماء: العبرة بالحدث؛ لأنه سبب لما بعده، والأسباب مُنَزَّلة منزلة مسبباتها، وهي المؤثرة في مسبباتها، فيعتبر السبب، وأكدوا هذا بأنه لما أحدث شُرِع له أن يمسح؛ لأنه لما انتقض وضوءه بعد اللبس شُرِع له أن يبتدئ المسح، فكونه يؤخر هذا لا يعنينا، وإنما الذي يعنينا هو وجود الرخصة من الشرع، فقالوا: يبتدئ مِن الحَدَث إلى مثلِه من اليوم القادم، فلو لَبِس الخف الساعة الثانية ظهراً، وأحدث الساعة الثالثة ظهراً، ومسح في أول وضوء الساعة الرابعة، فنقول: العبرة بالساعة الثالثة التي وقع فيها الحدث، ولا نعتبر وقت لُبْسه للخفين، ولا نعتبر وقت مسحه الأول على الخفين، وهذا هو أصح الأقوال؛ لما ذكروه؛ لأن الشرع لما قال: يمسح المسافر ويمسح المقيم، كما في حديث علي رضي الله عنه: (يمسح المسافر ثلاثة أيام، والمقيم يوماً وليلة) شرع أن نستبيح الرخصة بالمسح، واستباحة الرخصة إنما تقع بعد وجود موجب الرخصة وهو الحدث.
ولذلك يترجح هذا القول الذي اختاره المصنف رحمة الله عليه.
- وقال بعض السلف: العبرة باللُّبس، أي: الساعة الثانية.
- ومنهم من قال: العبرة بالمسح؛ لأنه يتم بالمسح العددُ، وهذا مرجوح؛ لأن إتمام المسح بالعدد يكون من المكلف، وجواز المسح من الشارع، واعتبار رخصة الشارع أبلغ من اعتبار ما يكون من المكلف؛ لأن الأحكام الشرعية ترتبط بإذن الشارع، فإذن الشارع: مِن الساعة الثانية -مثلاً- يأذن له أن يتوضأ وأن يمسح، وكونه يؤخر فهذا لا يعنينا، فيُسْقط اعتبارُ المسح ويبقى اعتبارُ موجِبِ المسح أو المؤثر في المسح حقيقةً.
وبناءً على ذلك: قال العلماء: وقت المسح مِن الحَدَث إلى مثلِه، أي: الحَدَث الذي وقع بعد اللبس.
وبناءً على هذا: فلو أنه أحدث الساعة الواحدة ظهراً فيمتد وقت المسح إلى مثلها من الغد، أو إلى مثلها إلى ثلاث، في الأولى: إذا كان مقيماً، وفي الثانية: إذا كان مسافراً.
(بعد لُبس): أي: من الحدث، بعد لُبسه.(14/6)
شروط الخف
قال رحمه الله: (على طاهرٍ مباحٍ): يشترط في الخف: - أولاً: أن يكون طاهراً.
- ثانياً: أن يكون مباحاً.
أن يكون طاهراً: فلا يمُسح على نجس؛ لأن الخف النجس: أولاً: لا تصح الصلاة به، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نزع نعليه لَمَّا أخبره جبريل أنهما ليستا بطاهرتين، فدل على أن حذاء المصلي لا بد أن يكون طاهراً، فلا يتأتى أن يمسح على هذا النوع وهو النجس.
ثانياً: أنه بالمسح يتنجس ولا تتحقق طهارة الموضع، فلا بد وأن يكون طاهراً.
وأن يكون مباحاً: أي: يكون ذلك الخف مباحاً، ويخرج بقوله: (مباحاً) ما كان حراماً، وهو كالمغصوب، أو يكون من جلد ميتة غير مدبوغ، أو من جلد ميتة لا يُدْبَغ مثلُه، بأن يكون مِن جلد ما لا يُذَكى، إذا قيل: بأنه لا تؤثر الدباغة فيه، كالسباع مثلاً، على القول بأنها لا تطهر جلودوها بالدباغ، فإن هذا في حكم المحرم؛ لأنه نجس وغير مأذون بالانتفاع به.
وبناء على هذا: فلا بد من تحقق الطهارة وكونه مباحاً.
واختلف العلماء: لو لبس خفاً مغصوباً، أي: أخَذَ خف إنسان ظلماً ثم لبسه وأراد أن يمسح عليه، فهذه المسألة للعلماء فيها وجهان مشهوران مفرَّعان على مسألة أصولية وهي: هل النهي يفيد فساد المنهي عنه أو لا يفيد؟ أو هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه؟ وتوضيح ذلك: - أنك إذا قلت: إن الخف المغصوب منهي عنه، والنهي عنه يقتضي فساد الصلاة به وكذلك فعل العبادة به، فيبطل المسح عليه، وهذا قول الحنابلة.
- وقال جمهور العلماء: يصح مسحه ويأثم باللبس.
ففرع المصنف على هذا الأصل، فقال: [على طاهرٍ مباحٍٍ]؛ لأن غير المباح لا يجوز له ولا يصح أن يمسح عليه.
ومذهب الجمهور أنه يصح المسح ويأثم، وهو كالصلاة في الدار المغصوبة، وعلى الأرض المغصوبة، فإنه تصح الصلاة؛ لأنه مأمور بها شرعاً وقد تمت أركانها وشرائط صحتها، ويأثم؛ لأن الجهة منفكة، والقاعدة: أن النهي لا يقتضي الفساد إلا إذا اتحد المحل بأن ينصبَّ إلى الذات -ذات الشيء- أو إلى الوصف اللازم له.
وبناءً على هذا: لا يعتبر مسحه على الخف المغصوب موجباً لعدم صحة وضوئه.
فالصحيح: أنه يأثم بلبس الخف ويصح مسحه.
قال رحمه الله: [ساترٍ للمفروض يَثْبُتُ بنفسه].
(ساترٍٍ) هذا الشرط الثالث: - أن يكون ساتراً للمفروض.
لأن البدل يأخذ حكم المبدل، والمسح بدل عما أمر الله بغسله وهو الرجلان، فوجب أن يستر جميع الرجلين اللتين أمر الله بغسلهما، أي: محل الفرض، فلا بد أن يكون ساتراً من أطراف الأصابع إلى الكعبين، والكعبان داخلان كما قررناه في آية الوضوء.
فلو كان الخف إلى نصف القدم، فإنه لا يجوز أن يمسح عليه؛ لأنه غير ساتر لمحل الفرض، ولو انكشف الكعبان أو انكشفت رءوس الأصابع، فإنه لا يصح أن يمسح عليه؛ لأنه أيضاً غير ساتر لمحل الفرض.
(يثبت بنفسه) هذا الشرط مبني على أنه إذا وردت الرخصة في الشرع فينبغي تقييدها بالوصف الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالخفاف التي كانت موجودة ومعروفة تثبت بنفسها، فيخرج ما لا يثبت؛ لأن الذي لا يثبت بنفسه عرضة لأن يكشف محل الفرض، وبناءً عليه: فإنه لا يمُسح عليه ولا يعتبر على صفة الخف الذي هو الأصل أو الذي ورد دليل الشرع باستباحة المسح عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خفه مشدوداً، ولو كان مما يُشَد أو كان مما ينزل عن الموضع لبَيَّن ذلك، ولكان ظاهراً من الأحاديث التي جاءت بذكر مسحه صلوات الله وسلامه عليه على خفيه.(14/7)
حكم المسح على الجوربين
قال رحمه الله: [مِن خُفٍّ وجوربٍ صفيقٍ ونحوِهما] (مِن خُفٍّ) أي: سواءً مَسَحَ على خف أو جورب، فيستوي في ذلك أن يكون من الخفاف وهي التي تكون من الجلد، أو الجوارب، والجوارب: جمع جورب، والجورب الأصل فيه أن يكون من القماش؛ ولكن له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون من القماش، أي: كله من القماش، كجورب صوف، وجورب قطن، فهذا يعتبر جورباً من القماش الخالص.
الصورة الثانية: أن يكون من القماش المنعَّل، وصورته: أن يكون أعلاه من الصوف، وأسفلُه جلداً، فهذا يسمونه: (الجورب المنعَّل)، فهو من القماش؛ لكن بطانته التي تلي موضع الأرض أو موطئ القدم تعتبر من الجلد، وهو موجود إلى الآن.
أما الجوارب ففيها مسألتان: المسألة الأولى: هل يجوز أن يُمسح على الجوارب كما يُمسح على الخفاف؟ المسألة الثانية: هل ذلك شامل لكل جورب؟(14/8)
الخلاف في مشروعية المسح على الجورب
أما المسألة الأولى: وهي هل يُمسح على الجورب كما يُمسح على الخف؟ ففيها قولان مشهوران: القول الأول: يُمسح على الجورب كما يُمسح على الخف، وبه قال الإمام أحمد وأهل الحديث.
القول الثاني: أنه لا يُمسح على الجورب، وهو مذهب الجمهور.
فالذين قالوا بمشروعية المسح على الجورب احتجوا بحديثٍ رواه الترمذي وأحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين).
والذين قالوا بعدم جواز المسح على الجوربين، وأنه لا يُمسح إلا على الخفاف التي هي من الجلد، احتجوا بأن الأصل: الغَسل أو المسح على الخفين، وأما الجوارب فقالوا: أولاً: لم تصح أحاديثها كأحاديث الخفين.
ثانياً: أنه يحتمل أن قول الصحابي: (على الجوربين) المراد به: الخفاف التي ورد ذكرها في الأحاديث الصحيحة.
هذان وجهان لهم.
والذي يظهر -والله أعلم- جواز المسح على الجوربين: أولاً: لصحة الحديث، فقد صحَّحه غير واحد من أئمة الحديث، منهم الإمام الترمذي والإمام أحمد رحمة الله عليهما.
ثانياً: أن حمل الحديث على الخفين خلاف الظاهر، والمعروف أن إطلاق الجورب له معنى، وإطلاق الخف له معنى، وليس الصحابي بجاهل بدلالة الألفاظ، فإنه عبر بلغة صحيحة، قالوا: إن رواية: (مُنَعَّلَين) تدل على الجلد، ويمكن أن يجاب عنها بأن (المُنَعَّلَين) المراد بها بعض أنواع الجوارب، وهي الجوارب التي لها بطانة من الجلد، فإذا ثبتت رواية: (مُنَعَّلَين) فتحمل على الجلد، مع أنه أجيب: بأنه مسح على الجورب ومعه نعله، فمسح صلى الله عليه وسلم على جورب بنعل، أي: كان النعل موجوداً، فمسح على ظاهر الجورب، والنعل لا يلزم مسحه؛ لأنه من باطن كالخف، فاقتصر على مسح الجورب، فقال الصحابي: (جوربٍ مُنَعَّل) أي: أن قصده أنه مسح مع وجود النعل.
وعلى هذا يصح القول بالمسح على الجوربين.(14/9)
صفة الجورب الذي يمسح عليه
وإذا ثبت هذا فلا بد في الجورب من أن يكون صفيقاً، وعلى ذلك كلمةُ جماهيرِ مَن يرى المسحَ على الجوربين؛ لأن الجوارب الخفيفة الشفافة هذه لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إنما كانوا يلبسون الجوارب ويمشون بها، ولذلك كانوا يلفون الخرق على أقدامهم، وهذا يدل على ما اعتبره العلماء من اشتراط الصفاقة أي: كونه صفيقاً.
وأيضاً فالنظر يقتضيه، فإن الجورب مُنَزَّل منزلة الخف، والخف صفيق، ولا يمكن للجورب أن يُنَزَّل منزلة الخف إلاَّ بالثخانة والصفاقة.
وعلى هذا: فإنه يصح المسح عليه -كما نص العلماء- إذا كان صفيقاً ثخيناً، فالذي يشف البشرة لا يُمسح عليه؛ لأنه غير معروف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال بجوازه بالقياس، أي: يقول: أقيس هذا الشفاف على الجورب الموجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: أن القياس على ما هو خارج عن الأصل لا يطَّرِد، ولذلك الأصل: غسل الرجلين، والمسح خلاف الأصل، فلا يطَّرِد القياس على الرخص.
الوجه الثاني: أن المسح على الجورب إذا كان شفافاً لا يُنَزَّل منزلة الثخين؛ لأن الفرق بين الشفاف والثخين ظاهر، ومن شرط صحة القياس: ألاَّ يوجد الفارق بين الأصل والفرع، فالفرع -وهو (الشُّرَّاب) الشفاف- خفيف، والأصل المقيس عليه -وهو الجورب- ثخين، وإنما جاز المسح على الجورب الثخين لمشابهته الخفين، فيُمنع في الخفيف لعدم وجود وصف الأصل، وهو: كونه ثخيناً، وعلى هذا فالذي نص عليه من يقول بمشروعية المسح على الجوربين اشتراط كونه صفيقاً، كما نبَّه عليه غير واحد من الأئمة، منهم الإمام ابن قدامة -رحمة الله عليه- في المغني، وكذلك المتون المشهورة في المذهب: كالإقناع للحجاوي، والمنتهى للنجار، كلهم نصوا على كونه صفيقاً، إخراجاً للشُّرَّاب الخفيف الذي يمكن أن يصف البشرة أو يكون غير صفيق.
(مِن خُفٍّ وجوربٍ صفيقٍ ونحوٍهما).
(وجوربٍ صفيقٍ) كما ذكرنا، أي: ثخين.
(ونحوِهما): أي: نحو الخف أو الجورب الثخين، حتى قالوا: لو وُجِد نعال من الخشب جاز أن يُمسح عليها، فقد يوجد إنسانٌ -مثلاً- يَصْنَع له نعالاً من خشب، فيقولون: لا حرج أن يمسح عليها، المهم أن يكون ساتراً للقدم أي: أن الحكم لا يختص بالجلد ولا بالقماش، فلو صُنِّع الآن نوعٌ من (الشَّراريب) من غير القماش ومن غير الجلد لجاز أن يُمسح عليها؛ لكن بشرط أن تكون في حكم الخفين أو الجوربين.(14/10)
العمامة وأحكام المسح عليها
قال رحمه الله: [وعلى عمامةٍ لرجل] بعد أن فرغ رحمه الله من الخفين، شرع في العمامة.
والعمامة: مأخوذة مِن عَمَّ الشيءَ إذا شملَه، ووصفت العمامة بكونها عمامةً؛ لأنها تشمل الرأس بالغطاء، فهي تستر الرأس، فيقال لها: عمامة.(14/11)
أنواع العمائم
والعمامة تأتي على صور: - الأولى: العمامة التي لها ذؤابة ومحنَّكة.
- الثانية: العمامة التي لها ذؤابة وغير محنَّكة.
- الثالثة: العمامة التي لا ذؤابة ولا عَذَبَة لها.
هذه ثلاث صور للعمائم.
أما العمامة التي لها ذؤابة ومحنكة فهي موجودة إلى الآن عند بعض المسلمين، تكون غطاءً للرأس يلف بها الساتر على الرأس، ثم تبقى فضلة من الملفوف يؤتى بها من تحت الحنك، حتى إنهم بعض الأحيان كانوا يسافرون في البر على الإبل وربما آذاهم التراب أو الغبار، فترى الرجل يضع ما تحت الحنك من العمامة على أنفه فلا ترى منه إلا عينيه، هذه العمامة هي على أكمل صورتها؛ تكون ساترة للرأس ومحنكةً من تحت الحنك، فالأصل في العمائم أن تكون إما محنكة أو لها عَذَبَة، وقد كانت عمائم المسلمين على هذه الصفة، إما لها عذبة وإما محنكة، ولذلك قال حسان بن ثابت رضي الله عنه يصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار: إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بيَّنوا سُنَناً للناس تُتَّبَعُ يرضى بها كلُّ من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا فقوله: (إن الذوائب) أي: أهل الذوائب التي كانوا يلبسونها، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عمم عبد الرحمن بن عوف، وأرسل العَذَبة بين كتفيه، وقال: (هكذا فاعتمَّ يا ابن عوف).
فالعمامة تكون لها عذبة، إما محنكة وإما غير محنكة.
وغير المحنكة: هي العذبة المرسلة؛ التي تكون مرسلة إلى الوراء بين الكتفين، أو يرسلها على جهة كتفه الأيمن تفضيلاً للأيمن على الأيسر.
هذا بالنسبة لعمائم المسلمين.
وهناك نوع ثالث من العمائم: وهي العمامة المقطوعة التي لا عذبة لها ولا ذؤابة، وكانوا يُلْبِسُونها أهلَ الذمة؛ لأن أهل الذمة إذا كانوا مع المسلمين فإنهم لا يشابهونهم، وهي سُنَّة عمرية سَنَّها الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، ولها أصل في السُّنة: أن الكفار إذا دخلوا بلاد المسلمين فإنهم لا يشابهونهم في اللباس، فلذلك كان يلزمهم بعمائم مخصوصة، وشَدِّ الزُّنَّار في وسطهم، حتى يكون علامةً لهم، فإذا ساروا بين المسلمين تكون لهم ذلةً وصغاراً، فيلبسون هذه العمائم تمييزاً لهم، حتى لا يكون لهم فضل المساواة ولا الفضل على المسلمين.
فهذا النوع من العمائم يختص بأهل الذمة، وقد منع المسلمون من لبسه، وشدد العلماء رحمهم الله فيه؛ لأن فيه مشابهةً بأهل الذمة.
ولذلك قال المصنف: [محنكةٍ أو ذات ذؤابة] وتجد كذلك في كتب الفقهاء اشتراط أن تكون العمامة لها عذبة؛ لأن عمامة النبي صلى الله عليه وسلم وعمائم الصحابة -كما هو معروف وسبقت الإشارة إليه- كانت لها عذبة وليست بعمامة مقطوعة، ولذلك قالوا: إذا لبس العمامة فإنه لا بد أن تكون على الصفة الشرعية؛ لأنه إذا لبسها على صفة أهل الذمة فإنه لا يستباح بمثلها الرخصة، خاصةً على مذهب الحنابلة الذين يرون أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، فهو منهي عن مشابهة أهل الذمة، فلا يمسح على مثل هذا.(14/12)
حكم العمامة للمرأة
(وعلى عمامةٍ لرجلٍ محنكةٍ أو ذاتِ ذؤابة) (وعلى عمامةٍ لرجلٍ) فالمرأة لو اعتمت فإن اعتمامها يكون على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون بدون حاجة، فتكون -والعياذ بالله- ملعونة؛ لأنها تتشبه بالرجال، وقد يفعل هذا بعض المسترجلات من النساء، نسأل الله السلامة والعافية.
الحالة الثانية: أن تحتاج إلى العمامة لشد رأسٍ من وجعٍ أو ألَمٍ أو نحوِ ذلك، فهذا أمر مستثنى، فتعصب الرأس فيكون كالعمامة، فمثل هذا لا يُمسح عليه، والمرأة ليست لها عمامة، فليست بمحل للرخصة.(14/13)
دليل جواز المسح على العمامة
والأصل في مشروعية المسح على العمامة حديث المغيرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وعلى العمامة)، وورد أيضاً أمره عليه الصلاة والسلام بالمسح عليها، وحسَّنه بعضُ أهل الحديث.
والحديث المتقدم أصلٌ في جواز المسح على العمامة، ويُشترط فيها أن تكون كما قال المصنف: (محنكةٍ أو ذاتِ ذؤابة) أي: موضوعة تحت الحَنَك، وقد كانوا يستحبونها لأهل الفضل، ويعتبرونها نوعاً من كمال الرزانة والحلم؛ لأنه كلما تعاطى الإنسان كمال الستر كلما كان ذلك أهيب، وإلى عهد قريب ترى كثيراً من الأخيار لا يستحبون أن تكون نواحي الصدر مكشوفة، وكانوا يسترونه بطرف العمامة، حتى ولو كانت من العمائم المعروفة الآن، ولا يزال هذا الآن نوعَ شعارٍ لأهل الخير؛ وما ورد في السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من كشفه لصدره هو حالة مخصوصة، دخل فيها الصحابي عليه فوجد أزراره قد فتح منها حتى بدا صدرُه عليه الصلاة والسلام، وهذا لا حرج فيه، أن يبدو الصدر، والعلماء يقولون: قد يفعل النبي صلى الله عليه وسلم الشيء للجواز ونفي الحرج؛ لكن الكمال مطلوب، ولذلك قالوا: الأكمل للإنسان أن يراعي ستر هذا الموضع، وهذا معروف، فإن المشاهد بالحس والطبع أن الناس تحب وتجل من الإنسان إذا عرف منه ذلك؛ لأنه أبلغ في الاحتشام وأبلغ في السكينة والوقار.
فالمقصود: أن المحنكة تكون تحت الحنك؛ ولكن لا يشترط في العذبة -كما قلنا- أن تكون تحت الحنك، فلو كانت العذبة طويلة وأرسلها من ورائه شرع له أن يمسح.(14/14)
الفرق بين المسح على العمامة والمسح على الخفين
والمسح على العمامة يخالف المسح على الخفين، وذلك من وجوه: - منها: ظهور بعض المحل المفروض، فإن العمامة يظهر فيها أطراف الرأس الأيمن والأيسر كالسوالف ونحوها، فهذه تغتفر ويجوز كشفها، وكذلك الناصية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وعلى العمامة، وكانوا يكشفونها، وكان ذلك يعتبر من شعار أهل الصلاح والخير، أنهم يكشفون النواصي، فإذا كشف شيئاً من ناصيته فلا حرج، ولا يعتبر ستر جميع محل الفرض شرطاً، فقالوا: تغتفر الناصية مُقَدَّمُ شعر الرأس، والقفا؛ لأنه لا بد إذا تعَمَّم أن يظهر شيءٌ قليل مِن آخِرِ الرأس وأطراف الوجه، فهذا يُغتفر ولا حرج في كشفه، ولا يلزم بالمسح عليه؛ لكن قالوا: يستحب المسح عليه كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على ناصيته وعلى العمامة، فاستحب بعض أهل العلم أن يجمع بين الناصية والعمامة، ومن ذلك أيضاً الأُذُنان؛ لأن الأُذُنين تكونان خارجتين عن الموضع الذي يُعَمَّم به الرأس عادةً.(14/15)
مسح المرأة على الخمار
قال رحمه الله تعالى: [وعلى خُمُرِ نساءٍ مُدارةٍ تحت حُلُوقهن في حدث أصغر].
(وعلى خُمُر نساءٍ): هذا فيه أثر عن أم سلمة رضي الله عنها، والخَمْر: أصله التغطية، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (خَمِّروا الآنية) أي: غَطُّوها، وسميت الخَمْر خَمْراً -والعياذ بالله- لأنها تغطي العقل، فكأن الإنسان لا عقل عنده، ووُصِف الخمار بكونه خماراً؛ لأنه يستر المرأة ويغطيها، مما يكون من رأسها، فيجوز لها أن تمسح عليه، وهذا على اختيار بعض العلماء لأثر أم سلمة رضي الله عنها، وفيه حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(مُدارةٍِ تحت حُلُوقهن) قالوا: إنه ينبغي أن يكون ذلك الخمار مُداراً، مثل: المسفع ونحوه، ويكون تحت الحلق كالحال في المحنك.
(في حَدَثٍ أصغر) بعد أن بيَّن -رحمه الله- ما الذي يُمسح عليه، ووقت المسح، شرع في بيان محل المسح.
فيختص المسح على الخفين وعلى العمامة وعلى الخمار بالحَدَث الأصغر دون الأكبر، فلا يجوز للإنسان أن يمسح على خفيه إذا اغتسل من الجنابة، بل يجب عليه نزع الخفين وغسل القدمين، والأصل في هذا ما ثبت في الحديث الصحيح وهو حديث صفوان بن عسال المرادي قال رضي الله عنه وأرضاه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننزع خفافنا من بولٍِ أو نومٍ أو غائطٍ لكن من جنابة) فقوله: (من بولٍ) أي: بسبب بولٍ (أو نومٍ) أي: بسبب نومٍ (أو غائطٍ) أي: بسبب غائط، فكل هذه لا ننزع منها، ثم قال: (لكن من جنابة) أي: ننزع من الجنابة، فدل على أن الجنب باحتلامٍ أو إنزالٍ أو جماعٍ عليه أن ينزع خفيه وكذلك النفساء والحائض من جماع ونحوه، فإنه يلزمها أن تغتسل ولا تمسح على الخفين.(14/16)
أحكام المسح على الجبائر
قال رحمه الله: [وعلى جبيرةٍ لم تتجاوز قدر الحاجة].
بعد أن بيَّن -رحمه الله- المسح على الخفين، وعلى العمائم، وعلى الخُمُر، قال: (وعلى جبيرة).(14/17)
الفرق بين المسح على الجبيرة والمسح على العمامة
وهنا يَرِد
السؤال
أليست الجبيرة يُمسح عليها كما يُمسح على العمامة، فهذه من قماش وهذه من قماش، وهذه ساترة لمحل فرض وهذه ساترة لمحل فرض، فلماذا أفردها؟
و
الجواب
أن الجبيرة تخالف ما تقدَّم في كونها يمسح عليها في الحدث الأصغر والأكبر، فإن الإنسان إذا جَبرَّ كسراً ووضع الجبيرة، فإنه يحتاج إلى بقائها مدةً معينة، فسببُ الرخصةِ قائم، بخلاف المسح على الخفين، والمسح على العمامة، وعلى الخُمُر، فإنه ليس مرتباً على سبب ولا علة، وإنما هي رخصة مطلقة، وبناءً على ذلك أفرد المسح على الجبائر بهذا.(14/18)
دليل مشروعية المسح على الجبائر
والأصل في المسح على الجبائر: حديث ذي الشجة الذي رواه الدارقطني وغيره: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سافر مع أصحابه فأصابته شجاج أو كانت به جراح، فأجنب فسأل أصحابه: هل من رخصة؟ قالوا: لا رخصة واغتسل -أي: يلزمك الغسل- فاغتسل فمات، فقال صلى الله عليه وسلم: قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ جهلوا، إنما شفاء العِيِّ السؤال -وفي بعض الروايات-: قد كان يكفيه أن يعصب جرحه) فأخذوا منه مشروعية المسح على العصائب والجبائر، وهذا الحديث مُتَكَلَّمٌ في سنده، والقول بضعفه في رواية الجبائر أقوى؛ ولكن أصول الشريعة وقواعدها العامة تدل على مشروعية المسح على الجبائر، ولذلك اتفقت كلمة العلماء وأجمعوا على أنه يجوز المسح على الجبيرة؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فإذا كان بإمكان المكلف أن يفعل كُلِّف، وإن لم يكن بإمكانه لم يُكَلَّف، فهذا الذي أصابه الكسر في يده أو ساعده أو زنده أو كفه ليس بإمكانه أن ينزع الجبيرة حتى يغسل، وذلك يترتب عليه ضرر عظيم؛ ولأن الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه، فلما أذنت الشريعة له أن يتداوى فقد أذنت بلازم التداوي من بقاء الجبيرة، فتبقى الجبيرة على ما هي عليه، ويمسح.(14/19)
شروط المسح على الجبائر
ويحل هذا الساتر محل الأصل بشروط: أولاً: وجود الحاجة، أي: أن يتحقق من وجود الكسر الذي يُحتاج به إلى الجبر ويتعين الجبر.
ثانياً: أن يشد بقدر الحاجة، فلو فُرض أن موضع الكسر الذي يُحتاج بسببه إلى الجبر محدد بخمسة أصابع، ويحتاج الطبيب إلى إصبع قبل وبعد، أي: من البداية والنهاية -وهذا يسمونه في الطب: الاحتياط- فإنه لا يوضع على نفس الموضع؛ وإنما يزيد قدراً لكي يتماسك، أو يكون في الخشبة الموضوعة في الجبيرة التي تعين على التحام العظم، فهذا الزائد الذي هو الإصبع السابق واللاحق في حكم الأصل فيُشرع ولا حرج؛ لكن لو زاد إصبعين أو ثلاثه أو أربعة، فإنها ليست بداخلة في الإذن، وبناءً عليه يُحكم عليه بما يلي: أن يُؤمر بإزالة الجبيرة وإعادتها إلى الموضع الذي يُحتاج إليه بقدر الضرورة، فإن وَسِعه ذلك -أي: كان بإمكانه أن يعيد الجبيرة مرة ثانية، بأن تُفَك وتُعاد- دون ضرر لَزِم.
وإن ترتب الضرر ففيه خلاف بين العلماء: فمنهم من قال: يبقيها والرخصة قائمة له لمكان الضرر اللاحق، ويأثم الطبيب بالزيادة ولا حرج على المكلف.
ومنهم من قال: يبقيها ويتيمم لما زاد.
ومنهم من قال: يبقيها ويعيد الصلاة إذا برئ.
هذه كلها أوجه للعلماء رحمة الله عليهم.
ولكن الحقيقة القول بأنه يبقيها إذا عَلِم أن النزع يتسبب في الضرر من القوة بمكان، وتُنَزَّل منزلة الضرر بنفسه؛ لأنه لما تعدى الضرر بإزالته نُزِّل هذا الزائد منزلة المحتاج؛ لأن زوال الضرر بإزالتها موقوف على إبقاء هذا الزائد فيُنَزَّل منزلة الحاجة، وعلى هذا: فيقوى القول بأنه يبقيها ويصح منه المسح عليها مع الزيادة على الموضع.
(لم تتجاوز قدر الحاجة) للقاعدة الشرعية: (أن ما أبيح للضرورة يُقَدَّر بقدرها) المتفرعة عن قاعدة من القواعد الخمس المعروفة: (الأمور بمقاصدها).
(اليقين لا يُزال بالشك).
(الضرر يُزال).
(المشقة تجلب التيسير).
(العادة مُحَكَّمة).
هذه الخمس القواعد التي انبنت عليها مسائلُ الفقه الإسلامي.
والقاعدة الرابعة: (المشقة تجلب التيسير)، تفرعت عنها قواعد كثيرة، منها: (الضرورات تبيح المحظورات)، فيصبح في هذه الحالة من اضطر إلى شيء أبيح له فعله ولو كان محظوراً، ويتفرع على هذه القاعدة (أن ما أبيح للضرورة يُقَدَّر بقدرها)، فهي مفرعة على هذا الأصل الذي تفرع عن القاعدة العامة.
وبناءً على هذا: ييسر على المكلف بتغطية هذا الموضع الذي أمر بغسله مباشرة، ثم يَمسح على ما ستر؛ ولكن يتأقت المسح بقدر الحاجة، فقال المصنف: إذا لم يتجاوز بشدها موضع الحاجة، على التفصيل الذي ذكرناه.(14/20)
المسح على الجبائر في الحدث الأكبر
قال رحمه الله: [ولو في أكبرَ إلى حَلِّها] (ولو في أكبرَ): أي: ولو وقع المسح عليها في حدث أكبر، فإنه يجوز له أن يمسح عليها ولو كان في جنابة، ولا يلزمه الفك؛ لأن الرخصة التي تبيح له المسح في الحدث الأصغر تبيح له في الحدث الأكبر.
(إلى حَلِّها) أي: إلى أن يحل هذا الرباط أو هذه الجبيرة؛ ولكن يرجع ذلك إلى قول أهل الخبرة، فإن قال الأطباء: تبقى شهراً، فإنها تؤقت بالشهر، وإن قالوا: تبقى شهرين، فكذلك، فلا يتجاوز القدر الذي حكم الأطباء بالحاجة إليه، فإذا زاد عليه فإنه لا يصح له أن يمسح في ذلك الزائد من الزمان.
قال رحمه الله: [إذا لَبِس ذلك بعد كمال الطهارة] يتوضأ قبل شدها، ثم تُلَف، أي: يقوم الطبيب بوضع ما يريد ويَلُف، وهذا إذا وسع الوقت للوضوء، أما لو أنه فُجِئ بالمرض أو كان مُغْمَىً عليه، واضطُّرَّ إلى هذا الشد، واحتيج إلى جبر كسره قبل أن يتوضأ، فقول طائفة من العلماء أن الجبيرة يمسح عليها ولو لم يمكن ذلك على وضوء، لوجود الحاجة والضرورة.(14/21)
أحكام اختلاف ابتداء المسح وانتهائه
قال رحمه الله: [ومن مسح في سفر ثم أقام أو عَكَسَ، أو شَكَّ في ابتدائه، فمَسْح مقيم] هذه المسألة مفرعةٌ على الأصل، فقد عرفنا أن المقيم يمسح يوماً وليلةً على الخف، ويمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن على الخف، فلو فرضنا أنك كنت مسافراً فمسحت اليوم الأول، ثم رجعت إلى البلد في اليوم الثاني، فأصبحت مقيماً في اليوم الثاني، فهل نقول: العبرة بالابتداء فتتم مسحك مسح مسافر، أو العبرة بالانتهاء فتقطع مسحك لأنك أتممت مسح المقيم؟ والعكس، فلو كان مقيماً فلبس الخف -مثلاً- الساعة الثانية ظهراً وهو على طهارة، ثم انتقض وضوءه في الساعة الثالثة ظهراً، ومسح في الساعة الرابعة، ثم سافر في المغرب، فإنه في الأصل مقيم، وطرأ عليه السفر، فهل نقول: العبرة بالابتداء أو العبرة بالانتهاء -أي: ما انتهى إليه حاله-؟ فللعلماء في هذه المسألة أوجه: منهم من قال: في كل هذه الصور يُرَد إلى اليقين، والقاعدة: أن (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)، فالمسح رخصة، فنشُك إذا كان مسافراً وأقام: هل يتم مسح مسافر؟ فنرده إلى اليقين وهو اليوم والليلة، ولما كان مقيماً ثم سافر نشك: هل يطرأ عليه التوسع أو لا يطرأ؟ أو نبقيه على اليقين، فنرده إلى اليقين وهو اليوم والليلة، وهذا اختيار الشافعية والحنابلة.
وقال بعض العلماء: إنه يعتبر المآل، فيمسح مسح المسافر، ولو طرأت عليه الإقامة، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه.
والأقوى والأحوط: أنه يتم مسح مقيم في جميع الصور، للقاعدة: أن (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل) خاصةً وأنه في عبادة الوضوء التي ينبني عليها الحكم بصحة صلاته، وهذا هو أعدل الأقوال إن شاء الله تعالى.
قال رحمه الله: [وإن أحدث ثم سافر قبل مسحه فمسح مسافر] بناهُ على قوله: (يمسح المسافر)، وإن كان أصل المذهب أن العبرة بالحدث، فكان يلزم إعمالاً لأصل المذهب أن يقول: إن العبرة بالحدث، فإن وقع حدثه في السفر أو في الحضر فالعبرة بالحدث، فقال: لا، بل نُعمل ظاهر الحديث في قوله: (يمسح المسافر) فيتحقق فيه موجب الرخصة، ويجوز له أن يتم مسح مسافر إذا وقع سفرُه قبل المسح، فلو أحدث الثانية ظهراً ثم خرج للسفر، فتوضأ ومسح في الثالثة ظهراً، فإنه يمسح ثلاثة أيام كاملة، واضح؟ وبصورة أخرى: لو أن إنساناً طرأ عليه سفر وهو مقيم، فتوضأ عند صلاة الظهر، ثم صلى الظهر، وبعد أن صلى الظهر لبس الخف أو قبل صلاة الظهر لبس الخف، المهم أنه لبس الخف بعد وضوئه هذا، ثم أحدث بعد صلاة الظهر وهو لابس للخف، ثم سافر بعد الحدث ولم يتوضأ، وفي السفر توضأ لصلاة العصر ومسح، فقال المصنف: أعتبرُ مسحه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمسح المسافر)، فأعتبره مسافراً.
ثم لو كان في السفر، مثلاً: أنت قادم على مكة، وقبل وصولك إلى مكة بساعات لبستَ الخفين وأنت على طهارة، ثم حصل الحدث الساعة الثانية ظهراً قبل دخول مكة، ثم دخلت مكة، وتوضأت ومسحت بمكة فتتم مسح مقيم.
إذاً: في حال اختلاف الهيئة من سفر إلى حضر يتم مسح مقيم في جميع الصور، إلا إذا وقع مسحُه بعد الحدث الأول في حال سفر أو حال حضر فالعبرة بالمسح لا بالحدث الذي يقع بعد اللبس.(14/22)
ما لا يمسح عليه(14/23)
حكم المسح على القلانس واللفائف
قال رحمه الله: [ولا يمسح قلانس ولفافة].
شرع -رحمه الله- في بيان ما لا يُمسح عليه، والقلنسوة واللفافة لا يعتبر كل واحد منهما من جنس ما يُمسح عليه، ولذلك لا يصح المسح عليهما، ولا يُمسح على طاقية ونحوها، لعدم استيعابها لمحل الفرض؛ ولأن الرخصة ثبتت في العمامة، والقلنسوة ليست بعمامة ولا في حكم العمامة، وأما اللفافة: فهي ما يُلَف على الشيء أي: يُدار عليه، ولا يمسح على شيء يحيط بالعضو من القماش إلا ما ورد الاستثناء فيه، وهو الجبيرة، وأما ما عدا ذلك من اللفافات ونحوها فإنها لا تأخذ حكم الرخصة.
يتفرع على هذا الحكم: لو أن إنساناً أصابه جرح، ثم غطَّى هذا الجرح بما يسمى في العرف اليوم بـ (الشاش)، ولم يكن ذلك على وجه الرخصة وهي الجبيرة، فإنه لا يُمسح على هذه اللفائف، وتختص الرخصة بما ورد الشرع به من العمامة، وفي حكمها الجبيرة لمكان الإجماع، كما بينا ذلك سابقاً.(14/24)
حكم المسح على ما لا يثبت ولا يستر محل الفرض
قال رحمه الله: [ولا ما يسقط من القدم، أو يُرى منه بعضُه] يتأتى ذلك فيما إذا لبس الخف ولم يكن ساتراً لمحل الفرض لتساقطه، وقد ذكرنا أن من شرط المسح على الخف: أن يثبت بنفسه، فلا ينكشف من محل الفرض شيئ، فإذا كان الخف على هذه الصورة التي ذكر، فإنه ليس بمحل للرخصة، أعني: رخصة المسح.(14/25)
كيفية المسح على الجرموق
قال رحمه الله: [فإن لَبِسَ خفاً على خفٍٍ قبل الحدث فالحكم للفوقاني] اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة المسح على خف فوق خف: فقال بعض العلماء: الرخصة تختص بالخف إذا باشر القدم.
وقال بعضهم: يجوز المسح على خف فوق خف، أي: لا يشترط أن يكون الخف قد وَلِي البشرة أو وَلِي القدم.
فدرج المصنف -رحمه الله- على القول الثاني، والقول الأول أقوى، وذلك أن الرخَص يُقتصر فيها على صورة ما أذن به الشرع، والذي ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم: مسحه على خف يلي محل الفرض، وعلى هذا: لا يقوى القول بالمسح على خف فوق خف؛ لأنه يلي ما حكمه المسح، ولا يلي عضواً يختص الحكم بغسله.
وبناءً على القول الذي اختاره المصنف رحمه الله: إن لبس خفاً فوق خف فإن الحكم يكون (للفوقاني) أي: الأعلى منهما.(14/26)
مقدار المسح
قال رحمه الله: [ويَمسح أكثرَ العمامةِ] لأن مسح كل العمامة من الصعوبة بمكان، وذلك يخالف موجب الرخصة، وقد ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على عمامته، كما في حديث المغيرة، ولم يحكِِ المغيرة رضي الله عنه تكلُّف النبي صلى الله عليه وسلم في تتبعه المسح لكل العمامة، بل قال: (ومسح على ناصيته وعلى العمامة)، فدل هذا على أنه إذا مسح على العمامة فإنه يمسح أكثرها، ولا يشترط في صحة المسح: الاستيعاب.(14/27)
مقدار المسح على الخف
قال رحمه الله: [وظاهر قدمِ الخُفِّ]: للعلماء في المسح على الخُفين أقوال: فقالت طائفة من أهل العلم: يُمسح أعلى الخف وأدناه، وفيه رواية في حديث المغيرة: (ومسح على أعلى خفه وأسفله).
ومنهم من قال: يَمسح الأعلى ولا يمسح الأدنى، وذلك لقوله: (ثم مسح على خفيه) وهذا يقتضي أنه للأعلى، وأيد ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره؛ ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) فدل هذا على أنه لا يُمسَح الباطن، وهو الذي يلي الأرض، وقوله: (لو كان الدين بالرأي -أي: بالاجتهاد- لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره) لأن الإنسان إنما يطأ الأرض بباطن قدمه، فباطن الخف الذي يلي الأرض أحوج لِأَنْ يُنَظَّف ويُمسح عليه من ظاهر الخف، فلما قال ذلك رضي الله عنه وأرضاه، دل على أن باطن الخف لا يُمسح.
وقال بعضهم -وهي الرواية الثالثة عن مالك -: أنه يُمسح باطن الخف ولا يُمسح ظاهره.
وهو قول ضعيف.
فهذه ثلاثة أوجه لأهل العلم رحمة الله عليهم، أصحها وأقواها: ما اختاره المصنف -رحمة الله عليه- من أنه يُمسح الظاهر ولا يجب مسح الباطن، بل لو قال قائل بعدم استحبابه لصح قوله على ظاهر الحديث الذي ذكرنا، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام في السنن أنه: (مسح على خفه، فخط الخطوط) كما سيأتي -إن شاء الله- بيانه عند ذكر صفة المسح.
قال رحمه الله: [مِن أصابعه إلى ساقه، دون أسفله وعَقِبِه] (مِن) للابتداء.
(أصابعه) أي: أصابع القدمين، (إلى ساقه) يُمِرُّ كفَّه مفرقة الأصابع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال العلماء: يجعل طرف الزند على رأس الأصابع، ثم يُمِرُّها، فإذا فعل ذلك فلا يلزمه مسح العقب، ولا يلزمه كذلك مسح ما هو أسفل القدمين.(14/28)
مقدار المسح على الجبيرة
قال رحمه الله: [وعلى جميع الجبيرة] هذا من الفوارق بين الخفين والجبيرة، ووجه ذلك: أن المسح على الجبيرة حل محل الغَسل للعضو على سبيل الاضطرار، وإذا تعذر الغَسل للعضو وأمكن مسحه بمسح الجبيرة، تعين المسح؛ لأنه مقدور عليه، والقاعدة في الشرع: أن (البدل يأخذ حكم المُبْدَل إلا ما استثنى الشرع)، فلما كانت الجبيرة التي على ساعده -مثلاً- وُضِعت لجبر كسر، والأصل غَسل الساعد، فتعذر غَسله لمكان الحائل وتعذر غَسل الحائل فإنه يَمسح على ذلك الحائل بتمامه؛ لأنه بدل عن أصل، فالمسح بدل عن الغسل، فأصبحت الجبيرة بدلاً عن المحل، وهو البشرة، وأصبح المسح بدلاً عن الغَسل، واستثنى العلماء الخفين لورود النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يستوعب الخف، فبقيت الجبيرة على الأصل من أن البدل يأخذ حكم مُبْدَلِه.(14/29)
ما ينقض المسح
قال رحمه الله: [ومتى ظهر بعض محل الفرض بعد الحدث أو تمت مدته، استأنف الطهارة] (ومتى ظهر بعض محل الفرض): هذا يوجب انتقاض المسح، وذلك لعلة ذكرها أهل العلم -رحمة الله عليهم- يستوي فيها أن يكون في الجبائر أو يكون في الخفين: وهي أنه إن ظهر جزءٌ من المستور الذي مُسح عليه بدل غسله فقد توجه الخطاب في الشرع بغسله، ولا يستطيع أن يغسله؛ لأن شرط الموالاة قد فُقِد، فإن مُضِي المدة بين وضوئه الذي مَسَح فيه، وبين انكشاف العضو، يقتضي بطلان شرط الموالاة، وإذا بطل شرط الموالاة تعذر أن يغسل، فيُرجع إلى الأصل من وجوب الوضوء عليه.
توضيح ذلك: لو فرضنا أن إنساناً توضأ ثم نزع من خفه ما بان به محل الفرض، فحينئذٍ نقول: إنه في الأصل مطالَب بغسل رجليه، الذي هو محل الفرض، ورُخِّص له في المسح على خفيه، بشرط أن يبقى على الصورة التي أذن الشرع بها من استتمام المدة والخف ساتر لمحل الفرض، ويمسح المقيم يوماً وليلة، فإذا نزع أو انكشف جزء من محل الفرض فقد توجه خطاب الشرع بغسل الموضع؛ لأنه فَقَدَ شرط المسح، فلما توجه الخطاب بالأصل وهو: غسل الموضع، وقد مضت فترة لا يمكنه فيها أن يحقق شرط الموالاة، حُكِم بانتقاض طهارته وبطلانها، وكل ذلك مبني على شرط الموالاة، ولذلك فالمذهب الذي نص عليه المحققون: أنه لو انكشف جزءٌ من محل الفرض في الخفين، وكان قريب العهد بمسح الرأس، كأن يكون مسح برأسه ثم مسح على خفيه، وبعد دقيقة أو دقيقتين كشف عن جزء من محل الفرض أو خَلَعَ خُفَّه، فإنه يمكنه أن يغسل رجليه وتصح طهارته؛ لأن شرط الموالاة لم يُفْقَد؛ لكن صورة المسألة التي يحكم فيها بالبطلان: إذا فُقِد شرط الموالاة، كما نبه على ذلك الإمام الموفق -رحمة الله عليه- في المغني.(14/30)
الأسئلة(14/31)
حكم المسح على الحذاء
السؤال
ما حكم المسح على ما يسمى بـ (الجزمة) عندما يُلبس تحتها (الشُّرَّاب)؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أما بعد: فما يسمى بـ (الجِزَم) -أكرمكم الله- أو (الكنادر) الموجودة الآن، هذه على حالتين: الحالة الأولى: أن تكون ساترة لمحل الفرض.
الحالة الثانية: أن تكون غير ساترة لمحل الفرض.
فإن كانت ساترة لمحل الفرض فلا يخلو حالها من صورتين: إما أن تستر محل الفرض، ولا يكون تحتها حائل.
وإما أن تستر ويكون تحتها حائل كالشُّرَّاب ونحوه.
فإن سترت ولم يكن تحتها حائل فيُمسح عليها قولاً واحداً؛ لأنها في حكم الخفين، أي: إذا كانت (الكنادر) أو (الجِزَم) -أكرمكم الله- ساترة لمحل الفرض، ولو كانت طويلة كـ (الجراميق) فإنه يَمسح عليها، بشرط أن لا يكون بينها وبين الرجل حائل من (شُرَّاب) أو غيره.
الصورة الثانية: أن يكون بينها وبين القدم (الشُّرَّاب)، وحينئذٍ تقع هذه المسألة مفرَّعةً على الخلاف المشهور في مسألة: من لبس خفين هل يَمسح على الأعلى أو الأدنى؟ والصحيح: أنه لا يَمسح إلا على الأدنى؛ لأنه هو الذي يلي محل الفرض، وأن الأعلى لا يقوم مقام الأدنى، وتختص الرخصة بالصورة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد عنه أنه مسح على خفٍ فوق خف.
وبناءً على ذلك: إذا لبس تحتها (شُرَّاباً)، وكان (الشُّرَّاب) من جنس ما يَمسح عليه امتنع المسح؛ لكن لو كان من جنس ما لا يمسح عليه كالشفاف جاز المسح وصح؛ لأنه ليس بحائل مؤكَّد، ووجوده وعدمه على حد سواء.
أما إذا لم تكن ساترة لمحل الفرض فإنه لا يُمسح عليها؛ للأصل الذي قررناه من اشتراط ستر محل الفرض.
والله تعالى أعلم.(14/32)
حكم المسح على الخف الذي لا يثبت بنفسه
السؤال
في قول المصنف رحمه الله تعالى: [يثبت بنفسه من خف] قلتَ: إنه لا بد أن يثبت بنفسه لا واسعاً فضفاضاً ولا ضيقاً صغيراً على القدم، فلو قال قائل: إن النصوص الواردة في المسح على الخفين مطلقة، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
لا.
ليس بصحيح، فالخف الذي هو خف يثبت بنفسه، أما خف يتهلهل ويسقط فهذا لا يسمى خفاً، ولماذا أُمر بأن يبقي هذا الخف يوماً وليلة إن كان لا يستر محل الفرض، فما الداعي لتحديد المدة؟! إذاً: لا بد أن يكون ساتراً لمحل الفرض.
ولماذا خُصَّت الخفاف؟ لأنها تستر محل الفرض.
فلذلك: الشروط قد تكون ظاهرة ومعروفة من النصوص، وقد تكون جلية في المعنى، أي: بالمفهوم إذا نظر أو سَبَر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو تدل دلالة الحال على هذا الشرط، فإذا كان الخف يتساقط أو فضفاضاً كما مثل العلماء -رحمة الله عليهم- مثل الإمام ابن قدامة وغيره، فإنه لا يعتبر خفاً متعارَفاً عليه؛ لأن الخف جلد، وتعرفون أن الجلد لا ينزل وإنما يتماسك، أما إذا كان من القماش الذي يتهلهل ويسقط مع المشي فهذا كـ (البُلْغَة) أكرمكم الله، و (البُلْغَة) تكون لنصف القدم، وليست بساترة للقدم حقيقةً.
وعلى هذا: أيَّاً ما كان، فعندك أصول: أولاً: انظر -رحمك الله- إلى من يقول بهذا القول، فتجيبه بالأصل وتقول له: هذا الخف أليس هو بدلاً عن القدمين؟ فيقول: نعم.
فتقول: إذا كان يتساقط عن القدمين فهل يُشرع أن يُمسح عليه؟ فيقول: لا يشرع.
فتقول: ما الدليل؟ فيقول لك: لأن الخف مُنَزَّل منزلة القدم.
فتقول: إذاً: يبقى مُنَزَّلاً منزلة القدم مدة المسح، حتى يأخذ حكم المسح، أما إذا كان أحياناً يستر وأحياناً لا يستر فليس مُنَزَّلاً منزلة القدم حتى يُمسح عليه.(14/33)
حكم لبس العمامة، وحكم قطع الدرس للأذان
السؤال
هل لُبس العمامة من السنن أو من العادات التي كان يفعلها صلى الله عليه وسلم؟ وهل يدخل في ذلك ما يلبسه الناس مما يسمى بـ (الغُتْرة)؟ وهل لِلُبس العمائم وقتٌ للمقيم والمسافر كالخف؟
الجواب
أما لبس العمامة فيعتبر من السُّنَّة، ومَن لبس العمامة وتأسَّى بالنبي صلى الله عليه وسلم فالذي أدركنا عليه أهل العلم رحمة الله عليهم وعليه فتاويهم أنها من السنن، وهذا موجود في كتب العلماء رحمهم الله.
- الأذان.
- يا إخوان! لاحظوا أنني أنبه على قضية الإلزام؛ أن يكون الأذان في وقت معين! أي: في حِِلَق العلم لَمَّا نتكلم على مسألة أو على حكم فيُقاطع المحاضر أو المدرس فلا أرى أن هذا من السنة، وأنا أقول -وهذه وجهة نظري-: أنني أرى أنه في المرة الثانية لا يُقاطع؛ ففي بعض الأحيان لَمَّا نقطع حكماً شرعياً لأجل الأذان فالأذان لو أُخِّر دقيقة أو دقيقتين فما فيه إشكال.
أما بالنسبة للعمامة فإن الإنسان إذا وضعها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه مُثاب، وتعتبر من السنن على هذا الوجه، إذا قصد التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أما الإنكار على مَن وضعها، والتشديد عليه أو اعتباره غير مؤتسٍ بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد نبه العلماء على أنه لا يصح للإنسان أن يُلْزِم غيره برأيه.
فإذا كنت ترى أن العمامة فَعَلها النبي صلى الله عليه وسلم وتتأسى به بفعلها فلا حرج عليك في ذلك وأنت مأجور.
والأصل: التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى يدل الدليل على عدم التأسي، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وقد رأى أنس بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدُّبَّاء في القصعة، قال: (فما زلت أحبها منذ أن رأيته يتتبعها)، فإذا كان هذا في الدُّبَّاء والطعام، فكيف بالهيئة والحال والشارة، ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام جعل الله له أكمل الهيئات وأشرفها، وقد ثبت في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وعليه عمامة سوداء) كما في الصحيح، صلوات الله وسلامه عليه.
فالمقصود: أن من فعلها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يُنْكر عليه، وبعض طلاب العلم الآن ينكرون على بعض من يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم بوضع العمامة، وهذا لا ينبغي، فإذا كنت ترجح القول بأنها ليست بسنة فلا تُلْزم غيرك ممن يرى التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الصحابة يتأسون به في الطعام والشراب فضلاً عن الهيئة والشارة.
وأما الخلاف بين سنن العادات وسنن العبادات، فهذا مسلك عقلي معروف عند الأصوليين لا يقدح في التأسي، وكون الإنسان يحب أن تكون هيئته كهيئة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج في هذا، إلا في حالة واحدة: وهو أن يكون شيئاً مشتهراً يلفت النظر، أما إذا قصد إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج، وقد كان الناس إلى عهد قريب، قبل عشرين أو ثلاثين سنة يعرفون هذا، وكانت العمامة موجودة، وكان العلماء يتعممون، وكانوا علماء أجلاء ممن يُشار إليهم بالبنان، وكانوا يحافظون عليها في المواسم تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ترجح عند الإنسان أنها عادة فلا يُنْكِر على مَن يفعلها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض العلماء: إن لها أوصافاً محمودة، فإنه قل أن تجد إنساناً يتعمم ويتعاطى رذائل الأمور، وقد يوجد بعض السَّفَلة من يفعل هذا؛ وقالوا: إنها كاللحية، فإن الإنسان إذا التحى تجده يتعاطى كمالات الأمور؛ لكن إذا كان حليقاً ربما جارى صغار السن والأحداث في بعض الأمور، أما إذا كان ملتحياً فتجده ينكف ويتورع، ولو وضع العمامة فسيجد لذلك أثراً، فليجرِّب من أراد أن يجرب، فإنه سيبتعد عن سفاسف الأمور، وسيجد من نفسه نوعاً من تعاطي الكمالات؛ لأنه يشعر أنه يخالف الناس بهذه الهيئة، وقلَّ أن تجد الناس ينظرون إلى إنسان تعمم إلا أجلُّوه وشعروا نحوه بالاحترام والتقدير، هذا إذا قصد التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أما بالنسبة لهذا الموجود الآن فهذا يعتبر كغطاء، أما أنه عمامة كما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا تخريج إلى الآن لم يتبين وجهه؛ لكن -إن شاء الله- فيه خير، أي: ما دام أنه يستر ويحمل الإنسان على الكمال، أما بالنسبة للأكمل والأفضل فهو ما ذكرناه.
والله تعالى أعلم.
وأما بالنسبة للتأقيت فقد ذكر بعض العلماء التأقيت، ففي بعض الشروح أنها تتأقت، ومنهم من يقول: إنها تطلق كالجبيرة.(14/34)
الفرق بين الخف المخرق والخف غير الساتر لمحل الفرض
السؤال
ما هو قولكم فيمن يقول: إنه لا يُشترط في المسح على الخف أن يكون ساتراً للمفروض؛ لأن النصوص الواردة في المسح على الخفين مطلقة؛ ولأن كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا فقراء، وغالب الفقراء لا تخلو خفافهم من خروق، وقد كانوا يمسحون عليها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينبههم على ذلك عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
أولاً: ينبغي أن يُفَرَّق بين الخف المخروق، والخف غير الساتر لمحل الفرض، فهاتان قضيتان مختلفتان، فالساتر لمحل الفرض شيء، والمخَرَّق شيء آخر، والغالب في الخروق في الخفين أنها تكون من أسفل الخف والذي يُمسح الأعلى، فما الذي أدخل هذا في هذا؟! فهذا شيء وهذا شيء.
ولذلك ينبغي التفريق، فالسلف -رحمة الله عليهم- والعلماء الأولون الذين اشترطوا ذلك ليسوا من الغفلة حتى يلزموا الناس بشيء لا أصل له في الشرع.
فالخف اسم له حقيقة، إن حملت على الكمال فتبقى على الكمال حتى يدل الدليل على ما دونه، وإن حملت على الأقل فهذا خلاف الأصل.
فالخف الأصل فيه أنه غير مخرق، والأصل فيه أنه ساتر.
هذا المعروف في لغة العرب: أن الخف يقال لشيء ساتر، أما إذا بدت الرجلُ فلا يقال: خف.
فينبغي للإنسان أن يفقه، فالنص جاء للخفين، فإذا كان الإنسان يجتهد ويقول: إن الغالب أن خفاف الصحابة إلخ، فهذا تعليل ووجهة نظر، وليست بصريح نص ولا بدلالة نص، و (مَسَحَ على خفيه) دلالةُ نص حقيقية، والخف ساتر.
فإذا أردت أن تحتاط وتستبرئ لدينك فابقَ على الأصل، حتى يدل الدليل صراحةً على خلاف الأصل.
فإذا اجتهد أحد وقال: الغالب فيها أن تكون مخرقة، والغالب فيهم أنهم كانوا فقراء.
فنقول: هَبْ أن خفاف الصحابة كانت مخرقة، فلِضرورة أم لغير ضرورة؟ ونقول: افرض أنهم كانوا فقراء، فهل نحن فقراء؟ النقطة الثانية: أوضح من هذا أنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن الصحابة كانوا إذا سجد أحدهم بدت عورتُه، ولذلك نهيت النساء عن رفع رءوسهن قبل الرجال.
الآن: لو جاء شخص يصلي، فإذا سجد بدت عورته، فما حكم صلاته؟ إذاً: تلك حالات اضطرار.
فينبغي الفقه، فليست المسألة أن الإنسان يعلل في مقابل أصل، نحن عندنا حقيقة: (خف)، فتستبرئ لدينك، وتؤدي عبادة ربك على وجه تبرأ به الذمة، وتقول: يمسح على خفين -كما قال العلماء رحمة الله عليهم- ساترَين لمحل الفرض.
أما أن تقول: هؤلاء كانت خفافهم لا تسلم من الخرق، هؤلاء كانوا كذا.
إلخ.
فهذا تعليل، لكن هل الإنسان رأى خفافهم حتى يحكم عليها؟ فربما كانت خفافهم مخرَّقة؛ لكنها مخرَّقة من غير مكان المسح، وفرقٌ بين أن يكون الخرق في مكان المسح أو يكون في غير مكان المسح، وهذا الذي جعل بعض العلماء يخفف في الخرق إذا كان من أسفل الخف دون أعلاه.
فأنا أقول: إن الأصل بقاء الألفاظ على أكمل دلالتها، حتى يدل الدليل على ما دونها.
وهذا أبرأ وأسلم وأدعى لأداء العبادة على الوجه المعتبر.
والله تعالى أعلم.(14/35)
قاعدة (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)
السؤال
نرجو منكم توضيح قاعدة: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل).
الجواب
( الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل) عندنا أصل وعندنا رخصة، والرخصة تخفيف، وغالب الرخص استباحة محظور، وتأتي على خلاف الأصل الشرعي، فمثلاً: تقول: قصرُ الصلاة رخصة؛ لأن الأصل في الصلاة أربع ركعات، والمسح على الخفين رخصة؛ لأن الأصل وجوب غسل الرجلين.
وهذا منصوص عليه: أن المسح على الخفين رخصة، فعندنا أصل وهو: غَسل الرجلين، وعندنا رخصة، وهي: المسح على الخفين، فإن انقدح دليل الرخصة وموجبها قلت: يرخص له، وإن لم ينقدح تقول: الأصل البقاء على الأصل وهو: الغسل.
فهم يقولون: هذه قاعدة لفظية؛ لكنها مستندة إلى أصل شرعي.
نقول: يتوجه الخطابان: خطاب بالأصل: اغسل رجليك.
وخطاب بالرخصة: إن شئت فامسح عليهما إن كان عليهما خفان.
فإذا توجه خطاب الرخصة يتوجه بحالة مقيدة وهي: إن كنت مسافراً فثلاثة أيام، ثم ترجع إلى الغَسل، وإن كنت مقيماً فيوم وليلة ثم ترجع إلى الغَسل.
فرع: إذا مسحت يوماً وأنت مسافر، ثم أقمت، فشككت، هل تبقى على حالك مسافراً فتتم الثلاث، ولا زال خطاب موجهاً لك، أو ترجع إلى الأصل؟ فنقول: الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل.
ما هو الأصل؟ أنه يغسل رجليه، فنقول: يتم مسح مقيم، فإن تمت مدة الإقامة غََسَل، وإن لم تتم أتمها، ثم غسل بعد هذا الإتمام.
فهذا معنى قولهم: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل).(14/36)
الخلاف في تنزيل المصاهرة منزلة النسب من جهة تأثير الرضاع عليه
السؤال
رضع أخي الأصغر من زوجتي، فصار ابناً لي من الرضاعة، ثم تزوج، فهل تكون زوجته محرماً لي؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: هل المحرمات بالمصاهرة تختص بالنسب أو يأخذ الرضاعُ حكمَها؟ وتوضيح ذلك: أم الزوجة من الرضاع، هل يكون الزوج محرماً لها كالأم من النسب؟ وكذلك أبو الزوج من الرضاع هل يكون محرماً بناءً على ما يحصل في النسب للزوجة؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمة الله عليهم: فالذي نص عليه طائفة: أن الحكم في التحريم بالمصاهرة مختص بالنسب.
وظاهر السُّنة من قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) تنزيل الرضاع منزلة النسب في التأثير؛ لكنهم قالوا: لا يشمل ذلك المصاهرة؛ لأنه لم يدخل في ظاهر قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فلم تُنَزَّل المصاهرة منزلة النسب.
فإن كان الإنسان ترجح عنده القول بالرخصة، أو سأل مَن يرى أن المصاهرة تُنَزَّل منزلة النسب في حال الرضاع عمل بفتواه، وإذا سأل مَن يرجِّح القول بأنها لا تنزل عَمِل بفتواه، وإن كان الأقوى أنه لا يُنَزَّل منزلة الرضاع، بمعنى: أن التحريم من الرضاع في المصاهرة لا يسري كسريان التحريم من الرضاع في النسب، وعلى هذا يحتاط، على قاعدة: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)؛ لأننا هنا نشك في تأثير الرضاعة، والأصل أنها ليست بمحرم، وأنها أجنبية، فيبقى على الأصل حتى يقوى تأثير الرضاعة على العموم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(14/37)
بطلان الوضوء بانتهاء مدة المسح
السؤال
إذا انتهت مدة المسح للمقيم أو المسافر، فهل تبطل طهارته؟
الجواب
إذا انتهت المدة للمسح بطلت الطهارة؛ لأن الشرع أجاز لك أن تمسح هذه المدة، فإذا انتهت المدة رجعت إلى حكم الأصل وهو: وجوب غسل الرجلين، ولذلك يجب عليه أن يتوضأ وأن يلبس الخفين على طهارة، وهو ظاهر حديث المغيرة: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) ولذلك أجمعوا على أنه إذا انتهت المدة لا يمسح، فدل على أنه ليس بمحل للرخصة، وإذا انتفى محل الرخصة انتفى وصفها، فرُجِع إلى الأصل من كونه منتقض الوضوء.
والله تعالى أعلم.(14/38)
شرح زاد المستقنع - باب نواقض الوضوء [1]
شرع الله الوضوء، وجعله شرطاً لصحة الصلاة، وطهارة للإنسان، إلا أن هناك أشياء تفسد هذا الوضوء، وتعرف عند العلماء باسم: نواقض الوضوء، وهي من المهمات التي ينبغي للمسلم معرفتها حتى لا يعرض صلاته وطهارته للفساد.(15/1)
نواقض الوضوء وأحكامها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب نواقض الوضوء] النواقض: جمع ناقض، يقال: نقضتُ الشيء إذا فككت طاقاته، فالنقض ضد الإبرام.
ويكون النقض في المحسوسات، ويكون في المعنويات.
يكون في المحسوسات فتقول: نقضتُ البناء، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} [النحل:92] فنفض الغزل نقض حسي.
ويكون النقض معنوياً كأن تقول: نقضتُ حجتَه، ونقضتُ دليلَه، أي: أوردتُ عليه ما يوجب بطلان الحجة وكذلك دفع الدليل.
ومعنى: (نواقض الوضوء) أي: مفسدات الوضوء ومبطلاته، ولما كانت هذه المفسدات والمبطلات متعددة، قال -رحمه الله-: نواقض، ولم يقل: باب ناقض، وإنما قال: باب نواقض الوضوء، أي: نواقض الطهارة الصغرى، ومفهوم ذلك أنه لا يتحدث عن نواقض الغُسل، كالجنابة والنفاس والحيض، وإنما يختص الكلام هنا على نواقض الطهارة الصغرى.
سؤال: إذا عرفنا معنى قوله: (باب نواقض الوضوء)، فلماذا ذكر المصنف -رحمه الله- باب نواقض الوضوء بعد باب مسح الخفين؟
و
الجواب
أن باب المسح على الخفين متمِّمٌ لباب الوضوء، وذَكَرَه بعد باب الوضوء؛ لأنه يتعلق بعضو من أعضاء الوضوء وهما الرجلان، فبعد أن فرغ -رحمه الله- من بيان حكم المسح على الخفين المتعلق بالوضوء، شرع في بيان مبطلات الوضوء، وهذا كما يصفه العلماء: الترتيب في الأفكار؛ لأن نقض الوضوء لا يكون إلا بعد وجوده، فناسب أن يجعل نواقض الوضوء بعد باب الوضوء، كأنه يقول لك: ابقَ على حكم الوضوء إلا إذا طرأ أو حدث ناقض من هذه النواقض، ولذلك يقولون: النقض يكون لِمَا وُجِد، لا لما لم يوجد، فالشخص عندما يقول: نقضتُ البيت، إنما يكون هذا بعد وجود البيت لا قبل وجوده، فالشيء غير الموجود لا يُنقض، ولذلك بيَّن لنا حقيقة الوضوء، فكأنه وُجِد، ثم بعد بيانه وَرَدَ
السؤال
متى يُحكم بانتقاض هذه الطهارة؟ وتعبير المؤلف -رحمة الله عليه- بقوله: (نواقض الوضوء) أدق من تعبير بعض العلماء بقولهم: باب نواقض الطهارة، كتعبير الخِرَقي -مثلاً-، فإنه يعتبر نوعاً من التعميم؛ لأنه يشمل نواقض الوضوء ونواقض الغُسل، فلذلك يحتاج إلى قيد؛ لكن لما يقول: باب نواقض الوضوء، فإن ذلك أبلغ في الدلالة على المراد.(15/2)
انتقاض الوضوء بما خرج من أحد السبيلين
قال رحمه الله: [ينقض ما خرج من سبيل] أي يُفْسد الوضوء الشرعي ما خرج من سبيل.
ما: إما بمعنى شيء.
أو أنه اسم موصول بمعنى: الذي، أي: الذي خرج من سبيل.
وقوله: (ما خرج من سبيل) ما هو الشيء الذي عبَّر عنه بقوله: ما؟ إن الشيء الذي يخرج من السبيل، لا يخلو: إما أن يكون طاهراً.
أو يكون نجساً.
وفي كلتا الحالتين: إما أن يكون معتاداً.
أو غير معتاد.
وأيضاً لا يخلو: إما أن يكون سائلاً.
أو جامداً.
أو ريحاً.
وبناءً على ذلك: فالنواقض تجمع ما يلي: أولاً: البول، وهو ناقض بالإجماع، ويخرج من القُبُل.
ثانياً: الغائط، وهو ناقض بالإجماع، ويخرج من الدُّبُر.
فهذان ناقضان متفق على أن خروج أي واحد منهما من القبل أو الدبر مما يوجب انتقاض الطهارة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43]، فإنه كَنَّى به عن ما يخرج من الإنسان إذا ذهب إلى الخلاء.
ثم الخارج من القُبُل يكون على النحو التالي: مَذْياً.
ووَدْياً.
وكذلك دَمَ استحاضة.
ويكون ريحاً سواء كان من قُبُل امرأة أو قُبُل رجل، على المسألة التي ذكرها العلماء رحمة الله عليهم.
ويكون غير معتادٍ: كأن يخرج الحصى من القُبُل.
أو الدُّود.
فنبدأ في تفصيل هذه الأمور المتعلقة بالقُبُل:(15/3)
انتقاض الوضوء بالبول
أولاً: البول: ناقض بالإجماع، والدليل على كونه ناقضاً: حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوماً وليلةً للمقيم، من بولٍِ أو نومٍ أو غائطٍ؛ لكن من جنابةٍ) فقوله: (من بولٍ) مِن: للسببية، أي: بسبب بولٍِ، فدل على أن البول ناقض للوضوء.
وقوله: (أو غائطٍ) دل على أن الغائط ناقض للوضوء.(15/4)
انتقاض الوضوء بالمذي
ثانياً: المَذْي: ناقض على قول الجماهير، وحَكَى البعضُ الإجماعَ على أنه ينقض الوضوء، وهو الصحيح؛ لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث علي رضي الله عنه أنه قال: (كنتُ رجلاً مَذَّاءً، فاستحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد أن يسأله، فقال: فيه الوضوء.
وفي رواية: توضأ واغسل ذكرك) فدل على أن المَذْي يعتبر ناقضاً للوضوء.
والمَذْي: هو ماء أو سائل لَزِج يخرج عند بداية الشهوة، كالملاعبة، فالسائل الرقيق الذي يخرج عند بداية الشهوة، يُعتبر مَذْياً، وإذا خرج فإنه لا يوجب الغُسل، وإنما يوجب ما يوجبه الوضوء من غَسل العضو والوضوء.
هذا الناقض الثاني وهو المَذْي.(15/5)
انتقاض الوضوء بالودي
الناقض الثالث: الوَدْي، ويعتبر ناقضاً للوضوء، وحكمه حكم البول، وهو ماء لَزِج يخرج على قطرات عَقِب البول.
والفرق بينه وبين المَذْي: أولاً: أنه أخف من المَذْي.
ثانياً: أن المَذْي يكون عند الشهوة، وهو يكون عقب البولِ.
فهذه الثلاثة كلها نواقض وتعتبر نجسة: البول والمَذْي والوَدْي، ويشمل ذلك الرجال والنساء، كل منهم إذا خرج منه ذلك فإنه يُحكَم بكونه قد انتقض وضوءُه، ويلزم غَسل ما أصابه ذلك الخارج الذي هو: البول، أو المَذْي، أو الوَدْي.(15/6)
انتقاض الوضوء بدم الاستحاضة
رابعاً: كذلك أيضاً يعتبر من نواقض الوضوء ما يختص بالنساء وهو: دم الاستحاضة: فدم الاستحاضة يعتبر موجباً لانتقاض الوضوء.
والاستحاضة: استفعالٌ مِن الحيض، والمرأة المستحاضة: هي المرأة التي ينتهي أمد حيضها ويستمر الدم معها، كأن تكون عادتُها خمسة أيام، فإذا انتهت الخمسة الأيام استمر الدم معها ولا ينقطع، فيقال عنها: استحاضت، أي: استمر معها دم الحيض، فهذا الاستمرار يأخذ حكم البول؛ لكن للمرأة رُخَص رَخَّصها لها الشرع؛ نظراً لوجود الضيق والحرج عليها؛ لأن هذا الدم كلما خرج أوجب انتقاض الوضوء، فتصلي في وقت كل صلاةٍ الفريضةَ ونوافلها القبلية والبعدية والسنن المطلقة، حتى ينتهي الوقت، فإذا انتهى الوقت غَسَلت الموضع؛ لأن حكمَه حكمُ الخارجِ النجس، وتوضأتْ للصلاة المستقبَلة.
هذا بالنسبة لِمَا يخرج من المرأة بعد انتهاء مدة الحيض.(15/7)
حكم خروج الحصى والدود من القبل
يبقى النظر في الحصى والدود: لو أن رجلاً خرج من قُبُله حصى، أو خرج من قُبُله دود، كأن يكون مريضاً أو مبتلىً بالدود، فيخرج من قُبُله، فهل يوجب ذلك انتقاض وضوئه؟ للعلماء أقوال في هذه المسألة: أقواها وأصحها: التفصيل: إن خَرَج الحصى وفيه رطوبة وندى، حُكِم بانتقاض الوضوء، وإلا لم يحكم بانتقاضه، فينقض لا بذاته ولكن بما صاحبه من النجاسة، فهو وإن كان طاهر الأصل؛ لكنه متنجس بالوصف، فيُحكم بكونه ناقضاً للوضوء كخروج النجس، كما لو خرجت منه قطرة بول، هذا بالنسبة للحصى والدود.
أما الخارج من الدُّبُر:(15/8)
انتقاض الوضوء بخروج الغائط
- فيخرج منه: الغائط، وهو ناقض بالإجماع.(15/9)
انتقاض الوضوء بخروج الريح
- ويخرج منه الريح: وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فلما سئل أبو هريرة رضي الله عنه عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: إذا أحدث؟ قال: إذا خرج منه الريح، ففسره بخروج الريح.
فقال العلماء: إن هذا يدل على أن الريح ناقض، وهذا بالإجماع.
لكن يُنتبه إلى مسائل: الأولى: وهي أن الريح إنما يُعتبر ناقضاً إذا خرج حقيقةً لا توهُّماً وظناً، وفي ذلك صور، منها: أنه لو أحس بحركة في دبره دون أن يسمع الصوت أو يشم الرائحة، فإنه يبقى على الطهارة، ولو أحس بتحرُّك الدبر، لما جاء عنه عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان ينفُخ في مقعدة الرجل؛ فيظن أن وضوءه انتقض وليس بذاك، إنما يريد به أن يلبِّس عليه في طهارته).
المسألة الثانية: أنه لو سمع الصوت ولم يشم الرائحة، حُكِم بانتقاض الوضوء، ولو شم الرائحة ولم يسمع الصوت، حُكِم بانتقاض الوضوء.
المسألة الثالثة: أن العبرة في انتقاض الوضوء بالريح إنما هو إذا خرج فعلاً، خلافاً لمن يقول: إنه لو سمع الصوت من بطنه، فإنه يُحكم بانتقاض وضوئه، فهذا قول ضعيف؛ لأن العبرة بالخروج لا بوجود الصوت قبل المخرج، وبناءً على ذلك: فلو سمع الأصوات في بطنه، كأن يكون به ما يسمى الآن في عرف الناس بـ: (الغازات)، لو كان مبتلى، بها أو سَمِعها أو سمع صوتها في بطنه، فذلك لا يؤثر في الوضوء شيئاً، ما لم يكن صوتاً من خارج، أو مصحوباً بدليل من شم رائحة، وأما ما عدا ذلك فليس بناقض.
ثم قول العلماء -رحمة الله عليهم-: لا بد من سماع الصوت أو شم الرائحة، يستوي فيه: أن يكون شكُّ الإنسان في الريح قبل الصلاة أو أثناء الصلاة، وهذا مذهب الجمهور، خلافاً للمالكية -رحمة الله عليهم- الذين يقولون: إنما يُعْمِل قاعدة اليقين في الريح إذا كان في الصلاة، لورود الرواية المقيِّدة، وقد أجيب عنها بأن ذكر أحد أفراد العام لا يقتضي تخصيص الحكم به؛ لأن عبد الله بن زيد كما في الصحيحين قال: (شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلُ يُخَيَّلُ إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً) فهذا حكمٌ مطلق، وكونه جاء في الصلاة فلأن صورة الصلاة هي التي يحصل بها عامة البلوى أو أكثر البلوى؛ لأن الشيطان تشتد وسوسته عند الصلاة، فلا يقتضي ذلك تخصيص الحكم بالصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) فلما قال عليه الصلاة والسلام ذلك فَهِمْنا أن السر هو تيقُّن الخارج، فألغينا كونه في الصلاة أو غير الصلاة، ما دام أن المهم هو أن يتيقن، فيستوي في ذلك أن يكون داخل الصلاة أو خارج الصلاة، تكون صورة السؤال في قوله: (شُكي إليه الرجلُ يُخَيَّلُ إليه أنه يجد الشيء في الصلاة) إنما هو سبب النص، ولا يقتضي ذلك تخصيص الحكم به؛ لأن العلةَ مُشْعِرَةٌ بالعموم.
هذا بالنسبة للخارج الثاني: الريح، والريح ليس بنجس، فلا يوجب غَسل الثوب، ولا غَسل الموضع، خلافاً لبعض أهل البدع ممن لا يُعْتَد بخلافهم، الذين قالوا: إذا خرج الريح وجب عليه أن يستجمر أو أن يستنجي، وهذا قول ضعيف، فإن العبرة في الغسل إنما هي بالبول والغائط وما في حكمهما، وليس الريح في حكم البول والغائط.(15/10)
حكم دم البواسير
الخارج الثالث من الدبر: دم البواسير: ودم البواسير يأتي على صور: إن كانت ثآلِيله أو جروحه على الحلقة نفسها فهذا ليس بخارج؛ لأنه ليس من الموضع، ويقع الخلاف فيه في مسألة وهي: إذا خرج الدم من غير القُبُل والدُّبُر، هل ينقض الوضوء؟ وسنبينها إن شاء الله.
والصحيح: أنه إذا كانت البواسير قروحها أو دماملها على الحلقة أو على أطرف الحلقة الخارجية، فخروج الدم لا يوجب انتقاض الوضوء.
- أما إذا كانت من الداخل، وينبعث دمها إلى الخارج، فإنه يأخذ حكم دم الاستحاضة، فإن غلب الإنسان حتى استرسل معه في وقت الصلاة، فإنه يغسل الموضع ويضع قطنة، ويتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، وأما إذا كان الدم يسيراً ويمكن التحرز منه وجب غسله كالبول والغائط سواء بسواء.
إذاً دم البواسير له حالتان: الحالة الأولى: أن يسترسل ويصبح آخذاً الوقت أو أكثرَ الوقت، فهذا إذا دخل عليه الوقت غَسَل الموضع ثم شَدَّه بقطنة -إذا أمكن- كالمستحاضة، وذلك للمشقة، ثم يصلي ولو جرى معه الدم، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286].
الحالة الثانية: أن يكون دم البواسير يخرج نَزْراً قليلاً، بحيث يتأتى منه أنه لو أنقى موضعه استقام له أن يصلي دون أن يخرج شيء، فهذا يجب عليه إنقاء الموضع واللباس الذي يليه، ثم يتوضأ ويصلي.
هذا بالنسبة لدم البواسير.(15/11)
حكم خروج الدود أو الحصى من الدبر
يبقى النظر في الخارج من غير البول والغائط والريح: وهو الخارج من دود، أو حصى: فلو خرج من الدُّبُر دودٌ أو حصى، فالقول فيه كالقول في القُبُل؛ أنه إذا صحبه ندى أو رطوبة حُكِم بالانتقاض، لا للذات؛ ولكن لما صاحبه من النجاسة.
لكن هنا مسألة ينبغي التنبيه عليها: وهو أنه ينبغي الاحتياط، فلو خرج الدود أو خرج الحصى فإنه يحتاط بالوضوء، وبإعادة ذلك الوضوء.
ومسألة خروج الحصى أو الدود تتفرع عليها مسائل، منها: هل خروج الطاهر من القُبُل والدُّبُر يوجب انتقاض الوضوء أو لا يوجبه؟ قال بعض العلماء: خروج الطاهر من القُبُل أو الدُّبُر يوجب انتقاض الوضوء، بدليل المَنِي، فقد قال عليه الصلاة والسلام لـ عمر لما سأله: (أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: توضأ واغسل ذكرك)، قالوا: إن المَنِي طاهر، فأمره بالوضوء وغَسل العضو، فدل على أن الطاهر إذا خرج أخذ حكم النجس، هذا وجه من يقول: إن الحصى والدود وكل طاهر يخرج من القُبُل والدُّبُر ينقض الوضوء.
لكن أجيب بأن الأمر من النبي -صلى الله عليه وسلم- لـ عمر: بقوله: (توضأ واغسل ذكرك) ليس لذات الخارج، وإنما هو لعلة طبية، حتى قال بعض الأطباء: إن مرضَ البروستاتا ينشأ عن عدم غسل العضو بعد خروج المني، لكن إذا صبَّ الماء على العضو بعد خروج المَنِي فإنه أبلغ في الوقاية -بإذن الله عز وجل- من مرضها، فأصبحت علةً طبية أبلغ منها شرعية، ويؤكد هذا: أن مجرى البول ليس بمجرى المَنِي، فدل على أنه لا يجري على مسألتِنا؛ لأن مسألتَنا أن يجري الطاهر في مجرى البول وأن يخرج من مخرجه، والمَنِيُّ ليس مخرجه من مجرى البول، كما هو ثابت طبياً.
وبناءً على ذلك إذا قلت: إن خروج الطاهر يوجب انتقاض الوضوء، سواءً كان من قُبُل أو دُبُر، فالعلماء يقولون: لو أدخل الطبيب آلةً في الدبر وسحبها انتقض الوضوء، مثل المناظير الموجودة الآن التي تتفرع عليها مسائل منها: أنها توجب انتقاض الطهارة، فإذا سمعتَ من يفتي بانتقاضها، فهو قول مخرَّج على القول بأن مجرد خروج الطاهر -بغض النظر عن كونه أُدخِل وأُخرِج، أو كونه خَرَج من الجوف- يوجب انتقاض الطهارة.
وقوله: (ما خرج).
الخروج ضد الدخول، ويرد
السؤال
ما ضابط تقييده بوصف الخروج؟ الخروج يتحقق بمجاوزة حلقة الدبر بالنسبة لما يخرج من الدبر، أو يكون على رأس مجرى الإحليل في الحشفة، بالنسبة للقُبُل.
ويتفرع على هذا مسائل: منها: المسألة اللطيفة: لو أن إنساناً دهمه البول -كما يقع لبعض المرضى- وهو في التشهد، فأمسك العضو وقد احتقن مجرى البول حتى سَلَّم، ثم خرج بعد سلامه، صحَّت صلاته، ولا عبرة بكونه في المجرى المقارب للمخرج.
إذاً: لا بد في الحكم بكون الوضوء منتقضاً أن يكون قد خرج من رأس العضو سواءً كان للرجل أو للمرأة.
فلابد من المجاوزة، فلو شعر به في المجرى لم يكن شعورُه بجريانه في المجرى موجباً للحكم بالانتقاض.(15/12)
معنى السبيل والفرق بينه وبين الطريق
ومعنى قوله: (من سبيل) السبيل: هو الطريق.
وقال بعض العلماء: إن هناك فرقاً بين السبيل والطريق، فالسبيل يكون في المعنويات: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] أي: ضلالهم وبُعدهم عن الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] أي: سبيل الخير من هداية وصلاح، فقالوا: السبيل يختص بالمعنويات، كالهداية والضلالة، وتقول: سبيلي طاعة الله عز وجل، وسبيلي اتباع الكتاب والسنة، هذا في المعنويات.
وأما الطريق فيكون في المحسوسات، فلا يقال: طريق، للمعنويات، ولا يقال: سبيل، للمحسوسات، إلا على سبيل التجوُّز.
هذا قول اختاره بعض المفسرين في الفرق بين تعبير القرآن بالسبيل وتعبيره بالطريق؛ لكن قول المصنف هنا: (ما خرج من سبيل) يخالف هذا الفرق؛ لأنه جعل السبيل في المحسوسات، وقلنا: إن بعض المفسرين يجعل السبيل في المعنويات، فيكون فعل المصنف ضرباً من التجوُّز؛ لأنه لو قال: (ما خرج من طريق) لَأَوْهَمَ؛ لكن لما قال: (سبيل) كان فيه نوعٌ من انحصار الذهن في الموضع المعروف.
قوله: (من سبيل) للإنسان سبيلان: القُبُل.
والدُّبُر.
وهذان السبيلان هما الأصل اللذان إذا خرج منهما شيء فإنه يوجب نقض الوضوء، وهذا ما قرره العلماء.(15/13)
حكم خروج البول والغائط من فتحة غير السبيلين
هنا مسألة: لو أن إنساناً فُتِحت له فتحةٌ يخرج منها الخارج، من بول أو غائط، سواءً وقعت فوق القُبُل أو فوق الدُّبُر، فهل نحكم بكون الخارج من هذه الفتحة خارجاً من السبيل، ويأخذ حكم ما قرره العلماء -رحمة الله عليهم- من كونه ناقضاً؟ أو نقول: نقتصر على السبيل المعتبر، وكل فتحة سواءً كانت لقُبُلٍ أو دُبُر، لا تؤثر؟ وجهان للعلماء: أصحهما: أن الفتحة تُنَزَّل منزلة الأصل، فمن انسدت مقعدته، أو مرض فغُيِّر مجرى بوله وغائطه، فإن هذا يقتضي أخذ حكم الأصل، والبدل آخذٌ حكم مُبْدَله.
لكن من العلماء من أطلق في حكمها فقال: كل فتحة خرج منها الخارج فإن الوضوء ينتقض بخروج الخارج منها.
ومنهم من قال: أفصِّل في الفتحة، وأُفصل في الحكم، فقالوا في الفتحة: لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون أسفل المعدة، أي: تحت السرة.
الحالة الثانية: أن تكون فوق السرة، يعني: أعلى المعدة.
قالوا: فإن كانت أسفل المعدة نقضت.
وإن كانت فوق المعدة لم تنقض.
فالذين قالوا: عموم الفتحة ينزل منزلة الأصل فينقض الخارج منه، نظروا إلى أنها مجرى الخارج، فأخذت حكم المخرج الأصلي؛ لأن البدل يأخذ حكم مُبْدَله.
والذين فصَّلوا نظروا إلى أن الخارج إنما هو ناقض إذا استوعبته المعدة واستهلكته، حتى صار بولاً أو غائطاً، ويتأتى ذلك بنزوله من الأدنى، فإن نزل من الأعلى فذلك ليس بخارج على الصورة المعتبرة، فنعتبره أشبه بالقَلْس ولا يوجب انتقاض الوضوء ولا الطهارة.
هذا بالنسبة لمن يقول: إنه يفرَّق بين الفتحة من أسفل ومن أعلى.
والذي يقوى: أنها إذا أُخْرِجت الفضلة من فوق المعدة أو من أسفل المعدة، فإنها ناقضة.
ثم يبقى النظر في مسائل تتعلق بنقض هذه الفتحة من جهة لمسها، هل تُنَزَّل منزلة العضو من كل وجه، أو من بعض الوجوه؟ سيأتي -إن شاء الله- في اللمس.
هنا مسألة: وهي إذا قلنا في المسألة الأخيرة: إن الخارج من الفتحة ناقض للوضوء، ووُجِد كحالِ بعضِ المرضى اليوم، حين يوضع كيس البول -أكرمكم الله- في وعائه؛ لأنه يتقاطر منه باستمرار، فهل يُحْكَم بانتقاضه مطلقاً أم ماذا؟
الجواب
أنه إذا فتحت الفتحة، واسترسل الخارج أخذ حكم دم الاستحاضة، ويتوضأ عند دخول كل صلاة، ويعتبر وضوءه موجباً لأداء الصلاة ونوافلها القبلية والبعدية، على ما ذكره العلماء رحمة الله عليهم.(15/14)
حكم الخارج من غير القبل والدبر
قال رحمه الله: [وخارج من بقية البدن إن كان بولاً أو غائطاً] (وخارج) أي: ينقض الوضوء كل ما خرج من بقية البدن، سواءً كان بولاً أو غائطاً، هذا يرجع إلى مسألة الفتحة، وآخذة حكم الخروج من المخرج المعتاد.
وهذا هو الذي نص عليه فقهاء الحنابلة ودرجوا عليه، وعند الشافعية التفصيل كما قرره الشيرازي في المهذب، وفصله الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه وفي الروضة.
فالمقصود: أنهم فصلوا فيه بحسب أحوال الفتحات.
ومن العلماء من أطلق.
ومذهب الحنابلة وقاعدتهم، أنهم يرون خروج النجس من أي موضع من البدن ناقضاً، حتى لو خرج الدم من جرح، ويقولون: بمجرد ما يخرج الدم فإنه ينقض الوضوء، دليلهم على ذلك: قالوا: إنه يُنَزَّل منزلة المستحاضة، فإن المستحاضة خرج منها الدم -وهو نجس-، من غير مجرى البول وهو مجرى الفرج، فأوجب انتقاض الوضوء، مع أنه من غير مجرى البول، وليس ذلك إلا لعلة، وهو كونه نجساً، ففرعوا عليه: أن كل خارجٍ نجِسٍ من سائر البدن ينقض؛ لأن الشرع اعتبر خروج دم الاستحاضة النجس من الموضع المعروف موجباً لانتقاض الوضوء، فكذلك مثله كل نجس خارج.
وهذا فيه نظر، فإن خروج دم الاستحاضة يكون من القبل، فاجتمع فيه المخرج والخارج، المخرج: الذي هو القُبُل، بغض النظر عن كونه موضع الجماع أو موضع البول، والخارج: كونه نجساً، ولذلك نقول: إنه إذا خرج من سائر البدن لم ينقض؛ لأنه إذا خرج من سائر البدن وُجِد فيه وصف واحد، وهو: كونه نجساً ولكنه ليس من الموضع.
بعبارة أخرى: يقولون: دم الاستحاضة نَقَضَ الوضوء لأنه نجس، وخرج من غير القُبُل والدُّبُر، إذاً نقيس عليه كل نجس من سائر البدن، فعندهم: أي نجس يخرج من سائر البدن كالرعاف، فإنه ينقض الوضوء؛ لأنه نجس وخرج من البدن كدم الاستحاضة.
كيف يُجاب عن هذا؟ يجاب عنه: بأن دم الاستحاضة اشتمل على وصفين: كونه نجساً، لقوله: (اغسلي عنك الدم).
وكونه من الموضع.
وأما النجس الخارج من سائر البدن كالرعاف، فقد حصل فيه وصف واحد، وهو كونه نجساً؛ ولكنه ليس من موضعٍ مؤثر، فنقض الأول وهو: دم الاستحاضة، ولم ينقض الثاني، هذا بالنسبة لمسألة: أن كل خارج نجس من سائر البدن يوجب انتقاض الوضوء.
وهناك أدلة على أنه لا ينقض الوضوء أقواها: حديث عباد بن بشر رضي الله عنه، لما قام على الشِّعب يحرس، وجاءه السهم الغارب، فنزف وهو يصلي، فلولا أنه خشي على صاحبه لما قَطَعَ صلاته، فأُقِرَّ على ذلك، فدل على أن خروج الدم لا يوجب انتقاض الوضوء.(15/15)
خروج النجس من غير السبيلين
قال رحمه الله: [أو كثيراً نجِساً غيرَهما] أي: غير البول والغائط، وهو الدم مثلاً.
وقوله: (كثيراً نجساً) يشمل أموراً: أولها: الدم.
ثانيها: الصديد.
ثالثها: القيح.
رابعها: القيء.
كل ذلك يعتبر من النجس الخارج من غير السبيلين، وهو من غير البول والغائط.
فمن قاء فقد انتقض وضوءه -على هذا الأصل-؛ لأنه نجس خارج من البدن.
ومن رعف انتقض وضوءه؛ لأن الدم نجس، فيوجب انتقاض الوضوء.
ومن خرج منه الصديد أو القيح انتقض وضوءه؛ لأن الصديد والقيح، متولد من الدم، والفرع يأخذ حكم أصله، وما تولد من نجس فهو نجس، والصديد: يقولون: من الماء الذي يخالط الجراح، وقيل: يكون مختلطاً بين الدم والماء الذي يخالط الجراح، فقالوا: أخذ حكم النجس لمكان تنجسه بالموضع.
هذه الأمور كلها إذا خرجت أوجبت انتقاض الوضوء، على الأصل الذي قررناه من كون الخارج النجس يوجب انتقاض الوضوء.
وقلنا: إن الصحيح: أن الخارج النجس من غير السبيلين لا يُعتبر ناقضاً للوضوء.
لكن هنا شرط ذكره المصنف عبَّر عنه بالوصف في قوله: (كثيراً)، فمفهوم قوله: (كثيراً) أنه لو كان قليلاً فلا ينقض الوضوء.
تفصيل ذلك: قالوا: إذا خرج من الإنسان دم يسير كالبثرة التي تسمى في عرف الناس بـ: الحَبَّة، تكون على الإصبع أو تكون على الساعد، فينزف الدم منها قليلاً، أو يعصرها الإنسان فيخرج منها الدم اليسير، فهذا يسير.
ومن أمثلته أيضاً: لو استاك فأدمى لثته، فخرج دم قليل من طرف اللثة، فهذا قليل.
أو جُرِح جرحاً صغيراً، وخرج دم يسير، فهذا يوصف بكونه قليلاً.
لكن لو كان كثيراً، كجرحٍ يَثْعُبُ دماً، أو رعف، فإنهم يقولون: انتقض وضوءه.
إذاً: هم يفرقون بين القليل والكثير من النجاسات الخارجة.
ويقولون: لو كان الخارج النجس كثيراً نقض، وإذا كان الخارج النجس قليلاً لم ينقض، فيرد
السؤال
ما هو الضابط الذي نفرِّق به بين القليل والكثير؟ لهم أقوال متعددة: منها ما اختاره غير واحد ومنهم: الإمام الموفق ابن قدامة كما في المغني، واختاره في العمدة، وكذلك اختاره الزركشي، وغيرهم من أئمة الحنابلة وفقهائهم -رحمة الله عليهم- يقولون: إن الكثير ما لا يتفاحش في النفس، فإذا رأيته لم تره كثيراً، ولا تستكثر هذا اليسير؛ لكن لو أنك نظرت إليه فاعتبرته كثيراً، فإنه يعتبر كثيراً.
لكن نقول لهم: الناس يختلفون، فقد يكون الكثير عندي يسيراً عندك! قالوا: ما اعتبره أوساط الناس وعقلاؤهم ونحوهم من الحكماء الذين لهم عقل، قالوا: فيخرج الموسوس، والقصاب.
أما الموسوس: فلأن أقل شيء عنده يعتبر كثيراً -نسأل الله السلامة والعافية- ويستعظم كل شيء، فهذا القليل عنده لا يعتبر فاحشاً، ومِثْلِه ليس له تأثير.
وأما النوع الثاني: فالجزار أو القصاب فإنه لا عبرة بقوله؛ لأنه يستهين بالدماء، فالذي يتفاحش عنده الشيء الكثير جداً، فربما يرى ما يملأ الكوب، فيقول: هذا ليس من المتفاحش وإنما يقاربه؛ لأنه معتاد للدماء.
فقالوا: يخرج هذان النوعان: القصاب، والموسوس، فجعلوا أعلى الشيء: القصاب، وأدناه: الموسوس، قالوا: فلا نلتفت لمن يعظِّم الأمر ولمن يحقِّره، وإنما يُنظر إلى الحكيم العاقل وعقلاء الناس وأوساطهم.
ومنهم من يحدُّه بالقطرة والقطرتين.
لكن كل هذا -كما قلنا- على غير المشهور، والذي اختاره بعض المحققين: أن العبرة فيه بتفاحش النفس، فقالوا: إذا كان الدم كثيراً عندك نقض، وأما إذا كان يسيراً لم ينقض.
كل هذا نحن في عافية منه؛ لأنه عندنا لا ينقض الوضوء؛ وإنما نحن نفرِّع على كلام المصنف، ويرد السؤال: لماذا استثنوا القليل؟ استثنوه لعلة، وهي: أنه ثبت عن الصحابة أنهم عصروا البُثَر، وأنهم اغتفروا اليسير، كما جاء عن ابن عباس وابن عمر، فقد عصر ابن عمر بثرةً ثم صلى ولم يرَ في ذلك بأساً، قالوا: فهذا يدل على أن القليل لا يؤثر، وبناءً على ذلك قالوا: نستثني اليسير، فإن كان يسيراً لم ينقض، ولم يُحكم بانتقاض الوضوء.(15/16)
الأسئلة(15/17)
اشتباه المني بالمذي
السؤال
ما الحكم إذا اشتبه على الإنسان المَذْي والمَنِي؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أما بعد: هذا الاشتباه كما ذكره العلماء له صور منها: - أن يستيقظ الإنسان من نومه، فيجد بلَلاً أو أثر البلل، فيقع في شك، هل هو مَنِي فيغتسل، أو مَذْي فلا يجب عليه الغسل؟ فما الحكم؟ أولاً: يراعي أوصاف المَنِي والمَذْي: فالمَنِي: ماء أبيض ثخين بالنسبة للرجل، وأصفرُ رقيق بالنسبة للمرأة.
ثانياً: الرائحة: المَنِي رائحته ليست كالمَذْي، فإن المَنِي له رائحة كرائحة طلع النخل، كما عبر عنه بعض العلماء، وطلع النخل هو الوبار الذي يكون في فحول النخل، ويقول بعض العلماء: كرائحة العجين إذا عُجِن واشتد، فإذا وجد رائحة المَنِي فيه، أو وجد ثِخَن المَنِي فيه، فإنه يَحكم بكونه مَنِيَّاً يوجب الغُسل.
لكن لو أنه لم يستطع التمييز، والتبست عليه الأوصاف، ولم يجد ما يحسم الأمر له، هل هو مَنِي أو مَذْي فما الحكم؟ فالذي عليه جماهير العلماء -رحمة الله عليهم-: أنه مَذْي حتى يتيقن أنه مَنِي؛ لأن اليقين أنه مَذْي، والشك هل هو مَنِي فيجب الغُسل أو لا، فيبقى على اليقين وهو المَذْي، ولا يجب عليه الغسل حتى يستيقن أنه مَنِي.
والله تعالى أعلم.(15/18)
حكم غسل الأنثيين عند خروج الودي والمذي
السؤال
هل يلزم الرجل إذا خرج منه وَدْي أو مَذْي غسل الأنثيين؟
الجواب
نعم، وهو ظاهر حديث علي: (وليغسل مذاكيره) فدل على أنه يغسل العضو والأنثيين، وهذا هو أصح الأقوال في هذه المسألة، خلافاً لمن قال: يغسل موضع الخروج، وهو رأس الإحليل، والصحيح أنه يجب غسل العضو والأنثيين، لقوله: (وليغسل مذاكيره).
والله تعالى أعلم.(15/19)
حكم من يخرج منه المذي قبل الصلاة وفي أثنائها
السؤال
لقد ذكرتم -حفظكم الله- في المَذْي أنه يُتَوَضَّأ منه إن وُجد؛ ولكن ربما يتَوَضَّأ منه ويشرع في الصلاة ويعاوده مرة أخرى أثناء الصلاة، فماذا يجب عليه؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: من بُلِي بالمَذْي فاسترسل معه، بحيث لا يستطيع إمساكه فترةً يستطيع أن يصلي فيها، فهذا حكمه حكم الاستحاضة، فكلما دخل عليه الوقت توضأ وصلى، ولو خرج منه المَذْي.
الحالة الثانية: أن يكون خروجُه بالقطرة والقطرتين، فيخرُج في المرة الأولى عند الملاعبة، ثم إذا مضى وقت قليل خرج مرة ثانية، فهذا يجب عليه غسل العضو وإعادة الوضوء كالحال في البول.
والله تعالى أعلم.(15/20)
نجاسة المذي
السؤال
هل كون المَذْي ينقض الوضوء دليل على أنه نجس؟
الجواب
أمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم بغسله وغسل العضو حيث يقول: (انضح فرجك) والنضح يستعمل بمعنى الغَسل، هذا كله دال على أنه آخذ حكم البول، فهو نجس، وهذا هو المعتبر والذي عليه الفتوى.
والله تعالى أعلم.(15/21)
خروج الطاهر من أحد السبيلين
السؤال
هل خروج الطاهر من أحد السبيلين يوجب الاستنجاء؟
الجواب
هذا ذكرناه وقلنا: إن الصحيح: أن خروج الطاهر لا يوجب انتقاض الوضوء، وبناءً عليه فإنه لا يلزم منه الاستنجاء ولا يأخذ حكم النجس الخارج، وذلك للفرق بينه وبين النجس الخارج، فإن النجس الخارج يؤثر في المحل، والطاهر لا يؤثر.
والله تعالى أعلم.(15/22)
الأصل بقاء الوضوء ما لم يسمع صوتاً أو يجد ريحاً
السؤال
يتأكد لي أحياناً خروج الريح؛ ولكن بدون ريح ولا صوت، فهل الوضوء هنا يكون باطلاً؟
الجواب
أيتأكد بدون رائحة ولا صوت؟! هذا ليس بصحيح، هذا من الشيطان، ولذلك لا تلتفت إلى مثل هذا، وابقَ على اليقين، حتى تسمع صوتاً أو تجد ريحاً، فإن سمعت الصوت أو وجدت الرائحة أعدت الوضوء، وإلا فلا.
والله تعالى أعلم.(15/23)
حكم الاغتسال لمن رأى في نومه أن يستمني
السؤال
لو أن رجلاً نام على طهارة ورأى في منامه أنه استمنى فما حكم طهارته؟
الجواب
من نام ورأى أنه احتلم أو أنه استمنى فإن العبرة بالحقيقة، فإن استيقظ ووجد الماء وجب عليه الغُسل، وإن استيقظ ولم يجد الماء لم يجب عليه غسل، وهكذا لو رأى موجب الغُسل مناماً كالجماع، فإنه لا عبرة بذلك كله والعبرة بحقيقة الخروج، أما دليل اعتبار الخروج نفسه وإلغاء اعتبار المنام: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد في الصحيح: (إنما الماء من الماء)، (إنما الماء) وهو: الغُسل، (من الماء) (من) سببية، أي: بسبب الماء وهو: خروج المَنِي، فدل على أن العبرة بالخروج، وأنه إذا خُيِّل له وهو نائم أنه خرج مني، واستيقظ ولم يجد شيئاً فإنه لا يجب عليه الغسل، والعكس: لو أنه نام ولم يذكر احتلاماً ثم استيقظ ووجد أثر الماء وجب عليه الغُسل؛ لأن العبرة بوجود الماء، وكونه يذكر أو لا يذكر هذا لا تأثير له؛ لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) وهذا أصل عند جماهير العلماء -رحمة الله عليهم-: أن العبرة بالحقيقة، ولذلك قالوا: لا يؤثر ذكره للاحتلام، ففي الحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رُفِع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: النائم حتى يستيقظ) فدل على أنه لا عبرة بما خُيِّل له في نومه من أنه احتلم أو أنه جامع أو أنه أنزل، ما دام أنه في الحقيقة لم يكن منه شيء، ولذلك يعتبر العلماء وجوب الغسل مربوطاً بوجود الحقيقة لا بوجود الصورة في المنام.
والله تعالى أعلم.(15/24)
حكم الصلاة في الثوب الذي احتلم فيه
السؤال
إذا احتلم الرجل ثم اغتسل؛ ولكنه صلى بالثياب التي احتلم فيها، فما حكم صلاته؟ وإذا كانت باطلة فماذا يفعل؟
الجواب
هذه المسألة مفرعة على خلاف العلماء -رحمة الله عليهم- في المَنِي، هل هو طاهر أو نجس؟ وأصح الأقوال: أنه طاهر، وقد جاء في حديث ابن عباس (إنما هو بمنزلة المخاط)، وجاء عن أم المؤمنين رضي الله عنها أنها كانت تفركه من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يصلي فيه، وإن أثره لباقٍ فيه، فدل هذا على أنه ليس بنجس، وقد ثبت عنها رضي الله عنها أنها أنكرت على من أصبح وقد غسل ثوبه، فقالت: (إنما كان يكفيه أن يحُتَّه، لقد كنتُ أفعل ذلك بمَنِيِّ النبي صلى الله عليه وسلم) فدل هذا على أن المَنِيَّ ليس بنجس وأنه طاهر، وأنه يكفي فيه الحَتُّ والقرص، فمن صلى في ثوب فيه مَنِيٌّ فصلاته صحيحة ولا حرج عليه.
والله تعالى أعلم.(15/25)
حكم انتقال المني مع عدم خروجه
السؤال
من أيقن وصول المَنِي إلى مخرجه ثم حبسه، هل يجب عليه الغسل أم لا بد من خروجه حقيقة؟
الجواب
هذه المسألة للعلماء فيها وجهان، وهي: لو أن إنساناً تحركت شهوته، وأحس بانفصال المَنِي من صلبه، ثم تأخر خروج المَنِيِّ ثم قذفه، فهل العبرة بوقت التحرك، أم العبرة بوقت الخروج؟ - فمن أهل العلم -رحمة الله عليهم- من يقول: العبرة بالخروج، وهذا هو الصحيح، والذي عليه العمل والفتوى، وصورة هذه المسألة: لو كان في الصلاة، فأحس بتحرُّك شهوته، ثم أمسك العضو، وقد بلغ المَنِيُّ العضوَ، ولم يخرج منه إلا بعد استتمام سلامه، قالوا: صلاته صحيحة، ولا يؤثر خروجُه من الصلب، ومسألة خروج المَنِي من الصلب، أو شعوره بتهيئه للخروج، كل ذلك لا تأثير له، والعبرة بالفضخ والخروج، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا فضخت الماء فاغتسل) فقال: (إذا فضخت) ولم يعتبر مجاوزته للصلب، فدل على أن العبرة بخروجه لا بانتقاله، ولا يشكل على هذا إيراد العكس، فيما لو بقي منه شيء، فخرج بعد غُسله، فهذا فضلة باقية غير ما نحن فيه من كونه ماءً بأصله.(15/26)
من عوامل الاستمرار في طلب العلم
السؤال
لقد قدمت إلى هذه البلاد لطلب العلم، وأسأل الله أن يجعل نيتي ونية كل مسلم خالصة صادقة، وما إن أحضر إلى حلق العلم والدروس حتى يأتيني الشيطان ويرغبني عن العلم، ويصرفني عنه، ويضعف عزيمتي، ويشغلني بما لا يفيد، فقسا قلبي، وانشغلت عن كتاب الله، وعن الاجتهاد في الطلب، واجتمعت عليَّ هموم وغموم، وأشعر بضيق شديد، فاشدُد من أزري بنصح منك -حفظك الله-، أسأل الله أن ينفعني وإخواني بما تقول.
الجواب
أما الوصية التي أوصيك بها أخي في الله! أن تعتمد على الله، فإنه نعم المولى ونعم النصير، وما نزل بك ما هو إلا بلاء من الله، إما بسبب ذنب بينك وبين الله، أو أن الله يريد أن يرفع درجتك، فسلَّط البلاء عليك، فإن كنت تريد النجاة فاستدِم الاستغفار، لعل الله أن يرحمك إن كنت عاصياً، وربما كان ذلك بسبب غرور في نفسك، فإن طالب العلم قد يبدأ طلب العلم فيُصاب بالغرور، أو يزل لسانه بكلمة، أو يحدث منه أمر يُغْضِب اللهَ عليه، فيسلب نعمة العلم والرغبة عنه على قدر ما أصاب من ذنب، قال سفيان رحمه الله: أذنبتُ ذنباً فحُرِمْتُ قيام الليل أربعة أشهر.
وأما الأمر الثاني فهو: أن تحسن الظن بالله، فلعل الله يريد أن يبلغك مرتبة لا تصل إليها إلا بامتحان وابتلاء، وقلَّ أن تجد طالبَ العلم طَلَبَ العلم إلا وجاءه ما ذكرتَ، بل وأشد مما ذكرتَ، والله يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] فالله يجعل العبد إماماً إذا صبر، ولذلك قال العلماء: إن الله عز وجل لَمَّا أوحى إلى نبيه أخذه جبريل فغطه حتى رأى الموت، ثم أرسله، ثم غطه، ثم أرسله، ثلاث مرات، قالوا: لكي يبين أن العلم لا يأتي إلا بعد امتحان وابتلاء.
فضاق قلبُك، ولعل هذا الضيق يكون ابتلاء كما ابتلي الحبيب صلوات الله وسلامه عليه عند الوحي، هذا إذا أحسنت الظن بالله، واشدد عزيمتك بالله، واستعن الله، فإنه نعم المولى ونعم النصير.
وكثير من طلاب العلم يأتيهم الهم ويأتيهم الغم ويأتيهم التثبيط من الناس، فمنهم من يقول: إلى متى تنتهي من دروسك، ولربما تجلس العشر سنوات والعشرين سنة وأنت في هذه الحلقة، أو عند العالم الفلاني، ولا تنتهي! كل ذلك ابتلاء، فإن صَدَقَ مع الله صَدَقَ معه، وكم وجدنا من المثبِّطين والمخذِّلين حتى خَذَّلَهم الله عز وجل عنا.
فتعلق بالله، واعلم أنك في جنة، وروضة من رياض الجنة، وهي العلم، فاستَدِم سؤال الله جل وعلا أن يثبت قدمك، وأن يحسن العاقبة لك.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا من العلم حلاوته وطلاوته، وأن يجعل لنا موجبات رحمته، وعلو درجاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(15/27)
شرح زاد المستقنع - باب نواقض الوضوء [2]
للوضوء نواقض ذكرها العلماء رحمهم الله، وقد دلت عليها النصوص الصحيحة، إلا أن العلماء قد اختلفوا في بعضها هل ينقض أم لا؟ ومما اختلفوا فيه: مس الذكر بدون حائل، وأكل لحم الجزور، والنوم.(16/1)
انتقاض الوضوء بزوال العقل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمة الله عليه: [وزوال العقل].
أي: من نواقض الوضوء زوال العقل سواءً كان بسبب مباح أو بسبب محرم، كأن يسكر الإنسان -والعياذ بالله- على وجه يعذر به، أو وجه لا يعذر به، فالوجه الذي يعذر به في السكر أن يشرب شراباً يظنه ماءً فيسكر، فإنه معذور في سكره للجهل، والوجه الذي لا يعذر كأن يشرب المسكر -والعياذ بالله- والمخدر عالماً به، ففي كلتا الحالتين لو شرب ما يزيل عقله من المسكرات والمخدرات -أعاذنا الله وإياكم منها- فإنه يحكم بانتقاض وضوئه.
والسكر له ثلاث مراتب ينبغي على طلاب العلم أن ينتبهوا لها: المرتبة الأولى: يسميها العلماء: الهزة والنشاط والطرب، وهي أول ما يكون لمن شرب الخمر والعياذ بالله! والمرتبة الثانية: أقصى درجات السكر، وهي أن يسقط كالمغشي عليه لا يعرف الأرض من السماء، ولا يعي ما يقول ولا ما يُقال له فهو كالمجنون.
والمرتبة الثالثة: وسط بين المرتبتين.
فاعلم -رحمك الله- أنه إذا بلغ السكران بداية السكر وهي الهزة والنشاط، فإنه مكلف إجماعاً؛ لأنه في حكم المستيقظ، فإذا فعل أي فعل في بداية سكره عند هزته ونشاطه، كأن يطلق امرأته أو يفعل أي فعلٍ فإنه يحكم بمؤاخذته؛ لأن الأصل فيه أنه مكلف حتى يؤثر فيه المؤثر، ولم يبلغ درجة يؤثر السكر فيها عليه.
أما إذا بلغ منه السكر غايته، كأن يسقط كالمجنون فهذا لا يؤاخذ إجماعاً من جهة طلاقه، وإذا طلق فيها فإنه كالمجنون لا ينفذ طلاقه.
وأما الحالة الثالثة المترددة بين الحالتين، فهي التي فيها الخلاف بين العلماء في السكران، هل هو مكلف أو غير مكلف؟ فإذا سكر -والعياذ بالله- المتوضىء، فإنه يحكم بانتقاض وضوئه، ويلزمه أن يعيد الوضوء.(16/2)
حكم تأثير النوم اليسير على الوضوء
قال رحمه الله: [إلا يسير نوم من قاعدٍ أو قائم] (إلا): استثناء، أي: إذا زال العقل بيسير النوم -وهو القول الثاني في مسألة النقض بالنوم، وهو الفرق بين اليسير والكثير- واليسير كاللحظات ولو كان مذهباً للشعور، والكثير كأن ينام ساعة أو ساعة إلا ربعاً وهو يخفق رأسه، أو نصف ساعة وهو يخفق رأسه، فهذا يحكم بانتقاض وضوئه.
قوله: (من قاعد) استثنوا القاعد لحديث أنس: (كان الصحابة ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم، ثم يصلون ولا يتوضئون).
قوله: (أو قائم) لأن اليسير من القائم في حكم اليسير من القاعد لا فرق بينهما، كما اختاره صاحب المقنع رحمه الله، وانتصر له في المغني.(16/3)
ما ينقض الوضوء من المس(16/4)
الخلاف في نقض الوضوء بمس الذكر
قال رحمه الله: [ومس ذكر متصل] أي: من مس الذكر فإنه ينتقض وضوءه، سواءً قصد الشهوة ووجد اللذة، أو لم يقصد الشهوة ولم يجد اللذة، فمن مس الذكر وجب عليه أن يعيد الوضوء؛ لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مس ذكره فليتوضأ) وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء من مس الذكر مطلقاً.
وقال بعض العلماء: من مس ذكره فلا ينتقض وضوءه؛ لحديث طلق بن علي رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد فسأله عن مس الذكر؟ فقال عليه الصلاة والسلام يجيب طلقاً: (وهل هو إلا بضعة منك) قالوا: إن هذا الحديث يدل على أن مس الذكر لا يوجب انتقاض الوضوء.
والصحيح أنه يوجب انتقاض الوضوء، ويجاب عن حديث طلق بن علي من وجهين: الوجه الأول: أنه منسوخ؛ لأن طلق بن علي قدم عند بناء المسجد كما جاء في الرواية، وحديث: (من مس ذكره فليتوضأ) رواه المتأخرون إسلاماً من الصحابة: كـ أبي هريرة رضي الله عنه، والقاعدة: أن تأخر إسلام الراوي مع تقدم المعارض يدل على النسخ أو يشعر بالنسخ.
الوجه الثاني: أن يجُمع بين حديث طلق بن علي وبين حديث: (من مس ذكره فليتوضأ) بأن سؤال طلق بن علي رضي الله عنه عن مس الذكر من فوق الثوب فقال له: (وهل هو إلا بضعة منك) أي: إذا مسسته بحائل كأنك لمست يداً أو نحو ذلك من الأعضاء.
وأما إذا لمسه مباشرة فإنه يحُمل عليه حديث: (من مس ذكره فليتوضأ).
وقد صحح غير واحد من أهل العلم حديث الأمر بالوضوء من مس الذكر منهم: الإمام أحمد، وأبو زرعة واستصوبه الإمام البخاري رحمه الله، فلذلك يقوى الحكم بأن مس الذكر يوجب انتقاض الوضوء.
إذا ثبت أن مس الذكر يوجب انتقاض الوضوء فيستوي في ذلك أمور: أولاً: أن يكون بشهوة أو بدون شهوة.
ثانياً: أن المراد بالمس باطن الكف، فلو أنه وقع على ظاهر الكف لم ينتقض الوضوء لقوله: (من مس) والمس: هو الإفضاء بباطن الكف.
واختلف العلماء فيما لو إذا مسه بين أصابعه، هل الذي بين الأصابع يأخذ حكم باطن الكف أو يأخذ حكم ظاهره؟ والأقوى أنه يأخذ حكم الباطن؛ للقاعدة: (أن ما قارب الشيء يأخذ حكمه).
ثالثاً: أن قوله: (من مس ذكره) أصل، ويُلحق به مس الدبر، فإذا مس حلقة الدبر انتقض وضوءه؛ وذلك لعموم قوله: (من مس فرجه) والفرج: يشمل القبل والدبر.
رابعاً: أن هذا الحكم يشمل الرجل والمرأة، فحُكِمَ به للرجال والنساء تبع، وكم من أحكام ترد في الرجال أصلاً والنساء فيها تبع، كما في قوله: (من مس فرجه) وهذا من صيغ العموم، فإن قوله: (مَنْ) من صيغ العموم عند الأصوليين، وقوله: (فرجه) يشمل الرجل والمرأة.
خامساً: أن هذا الحكم يستوي فيه أن يمس من نفسه أو يمس من غيره، ولذلك يعم الحكم بالنسبة للماس، سواءً كان لنفسه أو لغيره، بشرط أن يكون متصلاً بالغير.
سادساً: يشمل الصغير والكبير، فلو مست المرأة فرج صبيها أو صبيتها انتقض وضوءُها ولو تكرر ذلك؛ وذلك لعموم الخبر من جهة المعنى.
سابعاً: يخرج من هذا مس المنفصل، فقال بعض العلماء: لو قُطِعَ العضو فَمُسَّ لم يأخذ هذا الحكم.
ثامناً: أنه لو مس فرج الخنثى المشكل فإنه يأخذ حكم المرأة، فلو مس ذكره لم ينتقض وضوءُه؛ لأنه زائد، ولا دليل على إثبات كونه عضواً مؤثراً، فَيُبْقَى على الأصل وهو بقاء الطهارة.
وقال بعض العلماء بالانتقاض مطلقاً.
تاسعاً: قد علمنا حكم من مس، فهل الممسوس يأخذ حكم الماس؟ فقال بعض العلماء: إنه يأخذ حكم الماس من جهة المعنى، والذي اختاره بعض العلماء: أنه إذا وجد الممسوس الشهوة واللذة انتقض وضوءه وإلا فلا.(16/5)
مس الذكر بظاهر الكف
قال رحمه الله: [أو قُبلٍ بظهر كفه أو بطنه] قوله: (أو قبل) للعموم، فهو يشمل الأنثى والخنثى.
قوله: (بظهر كفه أو بطنه) وهذا اختيار بعض العلماء، وإن كان الأقوى أن التأثير بباطن الكف؛ لأن الإفضاء يكون بباطن الكف لا بظاهر الكف، وفي قوله: (من مس) إشعار بالقصد، بخلاف ظاهر الكف، فإنه لا يمس العضو بظاهر الكف إلا على سبيل غير مقصود، ولذلك الذي عليه العمل عند بعض أهل العلم: أن العبرة بباطن الكف لا بظاهر الكف.(16/6)
مس أعضاء الخنثى
قال رحمه الله: [ولمسهما من خنثى مشكل] أي: لمس العضوين من خنثى مشكل، فهذا يوجب انتقاض الوضوء كما ذكرنا.
قال رحمه الله: [ولمس ذكرٍ ذكره أو أنثى قبله] لما ذكرناه.
قال رحمه الله: [لشهوة فيهما] سواءً مَسّ أو مُسّ؛ لكن هنا في الحالة الأخيرة قال: (لشهوة) فجعل الحكم مرتبطاً بالشهوة، فإن لم توجد الشهوة فإنه لا يحكم بالانتقاض بالنسبة للممسوس.(16/7)
الخلاف في نقض الوضوء بلمس المرأة
قال رحمه الله: [ومسه امرأة بشهوة] أي: ومن نواقض الوضوء أن يمس الرجل المرأة بشهوة، وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة: فمنهم من قال: لمس النساء كله ينقض الوضوء، سواءً كانت محرماً أو غير محرم، وسواءً وجد الشهوة أو لم يجد الشهوة، وصاحب هذا القول احتج بظاهر قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] قالوا: إن الله عز وجل حكم بانتقاض الوضوء بلمس النساء.
وقالت طائفة من العلماء: إن لمس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يصلي بالليل وعائشة رضي الله عنها معترضة بين يديه، قالت: فإذا سجد غمزني) ولما ثبت أيضاً في الحديث الصحيح أنها قالت: (افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم فجالت يدي فوقعت على قدمه وهو ساجد، يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) قالوا: فهذا يدل على أن لمسها له ولمسه لها لا يوجب انتقاض الوضوء؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت أبي العاص في الصلاة وهي في حكم المرأة، فكان إذا أراد أن يسجد وضعها، وإذا أراد أن يرفع حَمَلَها وَرَفَعَها قالوا: ولم ينتقض وضوءه، ولما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من تقبيله بعض نسائه قبل خروجه إلى الصلاة، كما في حديث عائشة، واختلف في إسناده، قالوا: فمجموع هذه النصوص يدل على أن لمس النساء لا يوجب انتقاض الوضوء.
وجمع بعض العلماء بين القولين فقالوا: إن لمس النساء يوجب انتقاض الوضوء، إذا وجد الشهوة أو قصدها، ولا يوجب انتقاض الوضوء إذا لم يجد الشهوة وهذا هو الأقوى، ولذلك يحمل قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] على الجماع، والسباق والسياق محكم، وسباق الآية وسياقها يدل على أن المراد بـ (لامَسْتُمُ): الجماع؛ للقاعدة في اللغة: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى؛ ولأن السُّنة تصرف (لامَسْتُمُ) من ظاهرها إلى هذا المعنى الذي يقويه السياق والسباق مع قرينة اللغة.
إذاً لمس المرأة فيه تفصيل: إنْ لَمَسَ المرأة فوجد الشهوة انتقض وضوءُه، وإن لمس المرأة ولم يجد الشهوة لم ينتقض وضوءه، وبناءً على ذلك قالوا: وجود الشهوة والإحساس بها مظنة الحدث، فينزل منزلة الحدث.
وفرَّع بعض العلماء على هذا تفريعات، ولكن لا يقوى الدليل عليها، كقول بعضهم: إن مجرد النظر إلى المرأة -كزوجته- بشهوة ينقض الوضوء، بل هناك قول بأن النظر إلى الأمرد بشهوة يوجب انتقاض الوضوء، والحقيقة أن هذا محل نظر، والصحيح والأقوى أن العبرة بالانتقاض المؤثر، أو ما هو قريب من المؤثر لظاهر السُّنة: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فنبقى على الأصل من طهارته، وأما مظنات الحدث الضعيفة فإنه لا يقوى اعتبارها، وإن احتاط الإنسان بالوضوء فهو أولى.
أي: على الوجه الذي ذكرناه، فإذا مسته المرأة بشهوة فإنه يحكم بانتقاض وضوئها.(16/8)
نقض الوضوء بمس حلقة الدبر
قال رحمه الله: [ومس حلقة دبر] لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم المؤمنين: (من مس فرجه) قالوا: والدبر منزل منزلة القبل، ولذلك يحكم بانتقاض الوضوء بمسه، وظاهر قولهم أن القبل والدبر يختص بالآدمي، فلو مس فرج حيوان فإنه لا ينتقض وضوءه، وقال بعض السلف: إنه لو مس فرج بهيمة فإنه يحكم بانتقاض وضوئه، ولكنه مذهب ضعيف، والجماهير على أن النقض بمس الفرج يختص بالآدمي دون غيره.(16/9)
لمس الشعر والظفر من المرأة
قال رحمه الله: [لا مس شعر وظفر] إذا قلنا: إن مس المرأة يوجب انتقاض الوضوء، فأعضاء المرأة تنقسم إلى قسمين عند العلماء: ما هو متصل، وما اختلف فيه هل هو في حكم المتصل أو المنفصل.
فإذا تقرر أن اللمس يؤثر، فيرد السؤال عن الأعضاء التي اختلف فيها العلماء كالشعر والظفر؟ فقال بعض العلماء: شعر المرأة في حكم المنفصل وليس في حكم المتصل، وهي قاعدة تكلم عليها الأئمة، ومنهم الإمام ابن رجب في القواعد الفقهية، في القاعدة الخامسة أو السادسة تقريباً.
فإذا قلت: إن شعر المرأة في حكم المتصل فإنه ينتقض الوضوء بلمسه من المرأة، وإن قلت: إن شعر المرأة في حكم المنفصل فلا ينتقض وضوء الرجل إذا لمسه من امرأة.
وتتفرع على هذا مسائل: إن قلت: إن شعر المرأة في حكم المنفصل، فلو غطت به وجهها في الإحرام وجبت عليها الفدية؛ لأنه منفصل عنها وليس بمتصل، ويتفرع عليه إن قلت إنه منفصل: ما لو لمسه المتوضئ فإنه لا يحكم بانتقاضه؛ لأنه في حكم المنفصل، أما لو قلت: إنه في حكم المتصل، وسدلت شعرها على وجهها حتى غطته عن الشمس، فإنه لا يوجب الفدية عليها، وإن قلت: إنه في حكم المتصل ولمسه الرجل، فإن اللمس يوجب انتقاض الوضوء، هذه فائدة كلامهم على الشعر: هل هو في حكم المتصل أو في حكم المنفصل، فدرج المصنف -وهو اختيار جمع من العلماء- على أن الشعر في حكم المنفصل وليس في حكم المتصل، ودليل الحس دال على ذلك: وهو لو أن إنساناً أحرق طرف الشعر لم يشعر بالألم في طرفه، ولذلك الشعر لا ينقل الإحساس، فإذا كان اللمس مركَّباً على الشهوة، فإن لمس شعر المرأة لا توجد به الشهوة، والرجل يراه منفصلاً فلا يجد به أثر الشهوة، ولذلك قالوا: إن لمس شعر المرأة -إذا قيل بانتقاض الوضوء بلمسها- يستثنى من ذلك لكونه منفصلاً لا متصلاً بها.
قوله: (وظفر) كذلك الظفر؛ لأن كلاً من الشعر والظفر الحياة فيهما حياة نمو وليست بحياة روح؛ لأن أعضاء الإنسان فيها ما حياته حياة روح كاليد والرجل، وفيها ما حياته حياة نمو كالشعر والظفر، فالشعر في الإنسان حياته حياة نمو وليست بحياة روح، ولذلك قالوا: إن لمس الظفر كلمس الشعر، فلو أحرقت ظفراً فإنه لا يسري الألم إلا بعد فترة، فدل على أنه ليست حياته حياة روح وإنما هي حياة نمو كالشعر.(16/10)
لمس الأمرد وتأثيره في الوضوء
قال رحمه الله: [وأمرد] وكذلك الأمرد قالوا: إنه لا ينتقض وضوء من لمسه، وهذا أقوى من جهة الأصل لما ذكرنا؛ لأن الأصل طهارته حتى يدل الدليل على انتقاضها ولا دليل، وأما ما ذكروه من مظنة الحدث فيقوى اعتبارها إن قويت الشهوة وإلا فلا.(16/11)
لمس المرأة مع وجود حائل
قال رحمه الله: [ولا مع حائل] أي: إذا وضعت الكف على المرأة وبينك وبينها حائل، كلباسها أو قفاز في اليد فلا يحكم بانتقاض الوضوء.(16/12)
حكم وضوء الملموس بدنه مع الشهوة
قال رحمه الله: [ولا ملموس بدنه ولو وجد منه شهوة] وهو القول الثاني خلاف ما ذكرناه، والنظر إلى اعتبار العلة أقوى.(16/13)
حكم وضوء من غسل ميتاً
قال رحمه الله: [وينقض غسل ميت] أي: من غسل ميتاً فإنه ينتقض وضوءُه؛ وذلك للحديث الذي في السنن عند البيهقي والدارقطني بسند ضعيف، ولا يصح فيه حديث كما قاله الإمام أحمد وغيره من أئمة الجرح والتعديل: ليس في انتقاض الوضوء بغسل الميت حديث صحيح، والصحيح أنه لو غسل ميتاً فإنه لا ينتقض وضوءه، وأنه يبقى على الأصل من كونه طاهراً.(16/14)
حكم وضوء من أكل لحم الجزور
قال رحمه الله: [وأكل اللحم خاصةً من الجزور] كان في أول الإسلام إذا أكل الإنسان اللحم وجب عليه أن يتوضأ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (توضئوا مما مست النار) فأمر بالوضوء من كل شيء طُبِخَ في النار، ثم نسخ ذلك وبقي في الجزور؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، قيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) فنص عليه الصلاة والسلام على وجوب الوضوء من لحوم الإبل دون غيرها.
وذهب طائفة من العلماء إلى أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل منسوخ، وهو مذهب مرجوح، واحتجوا له بحديث جابر (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) وهذا الحديث الذي ذكروا أنه ناسخ محل نظر؛ لأن فيه علة في إسناده أشار إليها ابن أبي حاتم رحمة الله عليه في كتابه العلل في الجزء الثاني، وهو أن هذا الحديث أصله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ) فرواه الراوي بالمعنى، ولذلك يبقى الحكم أن من أكل لحم الجزور فإنه يجب عليه أن يعيد الوضوء، وهذا الحكم خاص بلحم الجزور.
ويرد
السؤال
هل إذا شرب لبن الجزور يجب عليه أن يعيد وضوءه؟
الجواب
لا.
وحديث الأمر بالوضوء من لبن الجزور ضعيف، والصحيح أنه خاص بلحم الجزور.
واختلف في الكبد والسنام؟ فقال بعض العلماء: إنه يتوضأ منها وهو أحوط، وقيل: إنه لا يتوضأ منها، وهو أقوى من جهة النص، فإن السؤال ورد على النبي صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ فنص على اللحوم ولم يذكر الكبد ولا بقية أجزاء الإبل كالسنام ونحوه، فإنه ليس بلحم وإنما هو شحم، فمن أكل سنام البعير لا يدخل في هذا الحكم، وهكذا من شرب لبن الإبل فإنه لا يحكم بانتقاض وضوئه؛ لأن الأصل الطهارة حتى يدل الدليل على انتقاضها ولا دليل، والدليل إنما ورد في اللحم فيبقى الحكم مقصوراً عليه.
وهنا مسألة: قال بعض العلماء: يجب الوضوء من لحوم الإبل؛ لأن فيها زهومة وفيها قوة، فلو أكل لحم السباع وجب عليه أن يتوضأ؛ لأن فيها ما في الإبل من القوة.
وقد يرد السؤال: كيف يأكل لحم السبع وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم أكل كلِّ ذي ناب من السباع؟ والجواب: تتأتى صورة المسألة فيما لو كان الإنسان في سفر فأصابته مخمصة أي: مجاعة، فاضطر إلى أكل لحم أسد أو سبع، فحينئذٍ يرد السؤال: هل انتقض وضوءه كالحال في لحم الإبل أو لم ينتقض؟ وأصح الأقوال: أنه لا ينتقض وضوءه.(16/15)
موجبات الغسل موجبات للوضوء إلا الموت
قال رحمه الله: [وكل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً إلا الموت] هذا قول بعض العلماء: إن انتقاض الطهارة الكبرى يوجب انتقاض الطهارة الصغرى، ومن ذلك خروج المني، قالوا: يوجب انتقاض الوضوء، ولو جامع أهله انتقض وضوءه وأوجب عليه الغسل، فكل ما أوجب الطهارة الكبرى يوجب الطهارة الصغرى، وبناءً على ذلك قالوا: يجب عليه الوضوء من موجبات الغسل، إلا الموت فإنه لا يوجب الوضوء، فإذا مات الميت فلا يجب أن يُوضّأ؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الرجل الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماءٍ وسدر وكفنوه في ثوبيه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) قالوا: فدل هذا على أنه لا يجب أن يُوضّأ الميت، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غسل ابنته زينب: (ابدأن بميامنها وبأعضاء الوضوء منها) وهذا يدل على الاستحباب لا على الحتم والإيجاب.(16/16)
حكم من تيقن الطهارة وشك في الحدث أو العكس
قال رحمه الله: [ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث أو بالعكس بنى على اليقين] من تيقن الطهارة وشك في الحدث، مثلاً: لو توضأت قبل صلاة المغرب ثم شككت هل خرج خارج من ريح أو لم يخرج؟ أو هل دخلت بعد المغرب لقضاء الحاجة أو لم تدخل؟ تقول: إني على يقين أني متوضئ، ولا عبرة بالشك حتى أَستيقِنَ انتقاض الوضوء كما استيقنت وجوده، فتبقى على الوضوء.
وهنا مسألة: اليقين والشك، فاليقين هو الأصل، والشك هو الذي يكون مستوي الطرفين، هل خرج أو لم يخرج؟ هل دخلت إلى الدورة فقضيتُ الحاجة أو لم أدخل؟ فهذا شك.
دليل هذا الحكم: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن زيد: (شُكي إليه الرجل يخيّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) فمن رحمة الله عز وجل بالعباد أنه قطع الوساوس وقطع الشكوك، ولو فتح باب الوسوسة والشك لتعذب الناس، ولحصل من الضرر ما الله به عليم، فلو أن الإنسان بمجرد الوسوسة ينتقض وضوءه لما استطاع أحد أن يصلي؛ لأنه بمجرد أن يدخل في العبادة أو يتلبس بالوضوء يتسلط عليه الشيطان بوساوسه، ولذلك جزم الشرع باعتبار الأصل وألغى الشك، وتفرع على هذا قاعدة مشهورة عند أهل العلم وهي قولهم: (اليقين لا يزال بالشك)، وهذه القاعدة هي إحدى القواعد الكلية الخمس.
وتفرع على هذه القاعدة قاعدة تختص بمسألتنا وهي قولهم: (الأصل بقاء ما كان)، فأنت إذا شككت في الحدث فالأصل بقاء الوضوء على ما كان عليه، فتقول: أنا متوضئ حتى أستيقن انتقاض وضوئي، والعكس فلو أن إنساناً قضى حاجته قبل صلاة المغرب، وشك هل توضأ بعد ما قضى حاجته أو لم يتوضأ؟ فنقول: اليقين أنه محدث والشك أنه متوضئ فيطالب بفعل الوضوء؛ لأن اليقين أنه محدث.(16/17)
تيقن الطهارة والحدث مع جهل السابق منهما
هنا مسألة: وهي لو أنك تيقنت الوضوء وشككت في الحدث فتعتبر نفسك متوضئاً، ولو تيقنت الحدث وشككت في الوضوء فإنك تعتبر نفسك محدثاً، فلو أن إنساناً قال لك: أنا متأكد أنني توضأت، ومتأكد أنني أحدثت، ولكن لا أدري أيهما السابق؟ أهو الوضوء السابق أم الحدث؟ فما الحكم؟ إذا كانت القاعدة تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، وأنا على يقين أنني توضأت قبل المغرب وعلى يقين أنني دخلت لقضاء حاجتي وأحدثت، وأشك هل الذي سبق هو الوضوء والآن أنا محدث، أو الذي سبق هو الحدث وأنا الآن متطهر؟ هذه المسألة أصح الأقوال فيها: أننا نطالبه بالتذكر قبل الحدث والوضوء، فإذا تذكر شيئاً جزم بعكسه، فنقول له: قبل أن تدخل وقبل أن تقضي حاجتك وتتوضأ ما الذي تذكر؟ قال: أذكر أنني قضيت الحاجة.
إذاً تيقنا حدثاً قبل الاثنين، وتيقنا بعد ذلك الحدث طهارة، فنقول: أنت على يقين من كونك متطهراً حتى نجزم بأن الحدث المصاحب لاحق لا سابق.
توضيح أكثر: الرجل يقول: قبل الظهر تيقنت بأنني دخلت لقضاء الحاجة، وقبل الظهر أذكر أنني توضأت وانتهيت من طهارتي، إذاً هو يجزم بكونه متوضئاً ويجزم بكونه محدثاً، فإذا جئت تقول له: الأصل بقاء ما كان على ما كان، يقول لك: أي الأصلين أعتبر؟ أنا على يقين من الطهارة وعلى يقين من الحدث؟ ولكن لا أدري أيهما السابق؟ نقول له: ما الذي كنت عليه قبل هذا الشك، أي: قبل الحدث والوضوء المتأخر؟ ماذا كنت عليه وقت الضحى؟ قال: في الضحى أجزم بأنني كنت متوضئاً لصلاة الضحى.
إذاً: معنى ذلك أنه في الضحى كان على طهارة، ثم حصل عندنا وضوء وحدث، فتيقنا حدثاً بعد طهارة الضحى، إذاً نحن على يقين من أن طهارة الضحى قد انتقضت بالحدث المصاحب للطهارة، ونشك في كون الطهارة وقعت بعد الحدث الثاني أو لا فنلغيها، ونبقى على اليقين.
هذا معنى قولهم: يؤمر بالتذكر قبل الحدث والطهارة فيأخذ بالعكس، ولو قال: أتذكر قبلهما حدثاً وطهارة أيضاً، أي: أنا على يقين أنني قبل الظهر قضيت الحاجة وتوضأت، ولا أدري السابق، وعلى يقين أنني توضأت للضحى وأنني أحدثت، ولكن لا أدري أقبل صلاة الضحى أو بعد صلاة الضحى، نقول: يأخذ نفس الحكم، فيؤمر بالتذكر قبل الاثنين، أي: قبل الشك الأول وقبل الشك الثاني ثم يأخذ بالمثل، فإذا كان قبلهما قد تيقن وقال: كنت عند شروق الشمس على طهارة صلاة الفجر وصليت ركعتي الإشراق، فنقول: قد تيقنت بعد ذلك الوضوء حدثاً، وهو الحدث الأول، وتيقنت طهارة في الشك الثاني، وشككت في تأثير الحدث عليها، إذاً: فأنت الآن متطهر، ومن ثم قالوا: في الأوتار يأخذ بالعكس، وفي الأشفاع يأخذ بالمثل، أي: يؤمر بالتذكر، فإن كانت الحالات شفعية يأخذ بالمثل، وإن كانت وترية يأخذ بالعكس، فلو قال: أتذكر وضوءاً وحدثاً قبل الآن، نقول له: أنت على عكس ما تذكر قبل الوضوء والحدث، هذا في الوتر، وإن قال: أذكر اثنين: وضوءاً وحدثاً ثم وضوءاً وحدثاً، فنقول: تذكر ما قبلهما وخذ بالمثل؛ لأنه تذكر أنه متطهر فثبت له حكم الانتقاض بالشك الأول، وحكم الطهارة بالشك الثاني، فيأخذ بالمثل في الأشفاع ويأخذ بالضد في الأوتار، ولو بلغت أربعاً كأن يقول: أنا متأكد أنني في الضحى كنت على حدث وطهارة، وكذلك أيضاً عند الإشراق كنت على حدث وطهارة، وكذلك عند الفجر كنت على حدث وطهارة، فإنه يأخذ بالعكس كما قلنا في الأوتار، وبالمثل في الأشفاع، وهذا معنى قولهم: (الأصل بقاء ما كان على ما كان).(16/18)
ما يحرم على المحدث حدثاً أصغر(16/19)
حكم مس المصحف للمحدث
قال رحمه الله: [ويحرم على المحدث مس المصحف] ويحرم على المحدث مس المصحف وهو القرآن، ودليل ذلك ظاهر القرآن -على نزاع- في قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] وإن كان الصحيح: أن المراد به اللوح المحفوظ، وأنه لا يمسه إلا الملائكة، لكي ينفي الله جل وعلا تسلط الشياطين على الوحي كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء:210 - 211] فالصحيح: أن الآية محمولة على اللوح المحفوظ، لكن فيها وجه عند أهل العلم بحملها على المصحف.
أما الدليل الثاني: فحديث عمرو بن حزم وقد تلقته الأمة بالقبول، وفيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أن لا يمس القرآن إلا طاهر) وقوله: (إلا طاهر) أي: إلا متوضئ، وقال بعض العلماء: (إلا طاهر) يعني: مسلم وليس بمشرك، وهذا قول ضعيف، وحجتهم أنهم قالوا: إن المسلم متطهر، فلا يقال: إن قوله: (طاهر) المراد به: المسلم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (إن المسلم لا ينجس)، وأصحاب هذا القول التبس عليهم الأمر؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المسلم لا ينجس) لا يقتضي التطهير؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إني كنت على غير طهارة) وقال لـ أم سلمة -كما في الصحيح في غسل الجنابة-: (ثم تفيضين الماء على جسدك فإذا أنت قد طهرت) وقال الله في التنزيل: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] معنى ذلك: أن الطهارة ما كانت موجودة، ولذلك فرق بين قوله: إنه طاهر، وبين قوله: إنه لا ينجس، فالنفي الذي ورد في حديث أبي هريرة (فانتجست) (فانبجست) (فانخنست) كلها روايات ظن فيها أبو هريرة أنه نجس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) أي أنه إذا أجنب لا يحكم بكونه نجساً، هذا أمر منفصل عن حديث عمرو بن حزم فليتنبه طلاب العلم إلى ذلك، فإن بعضاً من شراح الحديث عتبوا على جمهور العلماء، وقالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (أن لا يمس القرآن إلا طاهر) المراد به أن لا يمسه كافر، وأن الطاهر هو المسلم، وهذا ليس بصحيح؛ وأما الحديث الوارد من أنه: (لا ينجس) ففرق بين نفي النجاسة وبين إثبات وصف الطهارة، فإن النصوص في الكتاب والسُّنة تدل على جواز نفي الطهارة عن المؤمن، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله).
الدليل الثالث -وهو من القوة بمكان-: هدي السلف الصالح فقد روى مالك في الموطأ: أن ابناً لـ سعد بن أبي وقاص كان يقرأ عليه القرآن والمصحف بين يديه، فيقول ابنه: (فتحسّست أو تحككت، فقال لي أبي: لعلك لمست -أي: لمست العضو- قال: نعم.
قال: قم فتوضأ)، فدل على أنه كان معروفاً ومعهوداً عند الصحابة أن مس المصحف لا يكون إلا لمتوضئ، ولذلك يعتبر التطهر من أجل مس المصحف من الأمور التي يختص بها كتاب الله تشريفاً له وتكريماً.(16/20)
حكم الصلاة لمن كان محدثاً
قال رحمه الله: [والصلاة] لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وأصله في التنزيل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6].(16/21)
حكم طواف المحدث
قال رحمه الله: [والطواف] والطواف بالبيت يجب له الوضوء؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف بالبيت صلاة) فأعطاه حكم الصلاة، فدل على أنه يجب له الوضوء، وهو مذهب جمهور العلماء في أن الطواف بالبيت تشترط له الطهارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه حكم الصلاة، فيؤمر بالوضوء له كما يؤمر للصلاة.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا تشترط الطهارة للطواف، وهو مذهب مرجوح.
ومن الأدلة على اشتراط الطهارة، ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عائشة لما حاضت: (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) فدل على أن الطواف بالبيت تشترط له الطهارة.(16/22)
الأسئلة(16/23)
حكم مس المصحف من غير وضوء
السؤال
ما حكم مس المصحف من غير وضوء؟
الجواب
ما شاء الله! ما أدري أعاتب من؟ يحكون أن رجلاً أفلس فأمر القاضي أن يحمل على دابة -وكان في القديم إذا أفلس الرجل وحكم بالحجر عليه، يأمر القاضي بأن يُركب على دابة ثم يطاف به في الأسواق، حتى لا يعامله أحد فيعذر القاضي إلى الناس- فُحِمل ذلك الرجل على دابة وطيف به في الأسواق، وقال منادي القاضي: إن القاضي يأمركم أن لا تعاملوا فلان بن فلان، فمن عامله بعد اليوم فلا يلومنَّ إلا نفسه، فلما انتهى من الطواف به في آخر اليوم وأنزله عند بيته، قال له صاحب الدابة: أعطني الأجرة، قال: سبحان الله! ما الذي كنا فيه من اليوم؟! فنحن نتحدث عن مس المصحف للمحدث، والسؤال عن مس المصحف!!(16/24)
حكم دفن الشعر والأظفار بعد القص
السؤال
هل يستحب دفن الأظافر والشعر إذا قيل بأنهما جزء من الإنسان بعد إبانتهما؟
الجواب
أظفار الإنسان جزء منه، وإذا أُبينت منه قالوا: يستحب دفنها؛ لأن الله عز وجل يقول: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] والأصل في أجزاء الإنسان أنها إذا قطعت أو بترت أو فصلت أنها تدفن، فلو قطع من إنسان يده أو نحو ذلك فإن هذه اليد تدفن تكريماً من الله لبني آدم، ولذلك قالوا: إذا قلَّم الأظفار دفن أظفاره، وورد في بعض الأحاديث أنه فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قيل: إن ذلك خوفاً من السحر؛ ولكن الأصل في الأمر بدفن الأظفار إنما هو من أجل أنها جزء من الإنسان فتدفن لما ذكرناه، والله تعالى أعلم.(16/25)
إلحاق الممسوس بالماس إن وجدت شهوة
السؤال
هل كون الممسوس ينتقض وضوءُه إذا وجد شهوة، مستنده القياس أم له دليل آخر؟
الجواب
نعم.
هو القياس، إذ اتحدت فيه العلة ووجدت في الفرع كما هي في الأصل، فالحكم مستو من جهة المعنى، والشرع ينبه بالنظير على نظيره لكي تلحق الأشياء بأشباهها كما قال عمر لـ أبي موسى الأشعري: (عرف الأشباه والنظائر)، أي: لأجل أن تقيس، فالقياس الصحيح حجة شرعية عند جماهير أهل العلم -رحمة الله عليهم-، فعندما يجد الممسوس الشهوة يكون في حكم الماس نفسه، وقوي إلحاقه بمن مس نفسه، والله تعالى أعلم.(16/26)
اندراج الوضوء تحت غسل الجنابة
السؤال
إذا اغتسل الإنسان من الجنابة وأراد أن يصلي، فهل يجب عليه أن يتوضأ أم يكفيه الغسل؟
الجواب
إذا اغتسل الإنسان من الجنابة فإنه لا يجب عليه أن يتوضأ، خاصةً إذا توضأ أثناء غسله، وقد ثبت من حديث عائشة أنه: (أنه عليه الصلاة والسلام ما توضأ بعد غسل) ولذلك لا يجب الوضوء بعد الغسل إلا إذا لمس العضو بعد غسله، وأما إذا كان قد بقي على طهارته، فإن الطهارة الصغرى تندرج تحت الطهارة الكبرى، والله تعالى أعلم.(16/27)
حكم مس المحدث للمصحف لأجل إبعاده عن الإهانة
السؤال
ما حكم إخراج المصحف من الجيب عندما يريد الإنسان دخول الخلاء وهو محدث؟
الجواب
استثنى بعض العلماء مس المحدث للمصحف لإكرامه أو خوف إهانته، فقالوا: لو رأى المصحف وخشي عليه أن يحترق جاز له أن يأخذه ولو كان محدثاً، ولو رآه ساقطاً فمد يده حتى لا يسقط على الأرض إكراماً له وهو محدث جاز له ذلك، فوضعه أيسر من حمله عند قضاء الحاجة، والأصل في الشريعة أنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما، والله تعالى أعلم.(16/28)
معنى: الشك، والظن، والوهم
السؤال
ما معنى قول العلماء: ما استوى طرفاه فشك، وما اختلفا فالراجح ظن والمرجوح وهم؟
الجواب
مراتب العلم أربعة يحفظها طلاب العلم وينبغي التركيز عليها: المرتبة الأولى: تسمى عند العلماء: اليقين.
المرتبة الثانية: وهي الظن.
المرتبة الثالثة: وهي الشك.
المرتبة الرابعة: وهي الوهم.
فهذه أربع مراتب للعلم: فمرتبة اليقين (100 %)، وهي المرتبة التي يصل فيها علمك بالشيء إلى درجة لا يدخلك فيها أي شك البتة، كأن ترى رجلاً في المسجد تعرفه باسمه ولونه ووصفه فتقول: محمد في المسجد الآن، وأنت تراه أمامك، فهذا يعتبر علم يقين لا يدخل الإنسان فيه أي شك.
ومرتبة الظن: أن يكون ما بين (51 %) إلى (99 %)، والغاية داخلة في المغيا، فإذا بلغ علمك بالشيء إلى درجة أن واحداً بالمائة يحتمل الضد، فحينئذٍ يقال: غالب الظن، أو يقال: الظن، أو يقال: الراجح.
مثال ذلك: عهدك بأخيك محمد أنه في البيت، ثم سألك سائل بعد ما خرجت من البيت بنصف ساعة أو بربع ساعة، وقال لك: محمد في البيت؟ وأنت تجزم بأن محمداً في البيت؛ ولكن يحتمل أنه خرج بعد خروجك، والاحتمال ضئيل، فتقول: غالب ظني أنه موجود، والمراد بذلك: غلبة العلم بوجوده مع وجود احتمال أنه غير موجود أو أنه خرج بعد خروجك، فهذه يسمونها: مرتبة الظن أو الراجح أو غالب الظن، وكله بمعنى.
ومرتبة الشك هو (50 %) فيكون علمك بالشيء إثباتاً ونفياً بمرتبة واحدة سألك سائل: زيد في مكتبه؟ وأنت لا تدري أهو في مكتبه أم لا، فتقول: يمكن أن يكون موجوداً ويمكن أن لا يكون موجوداً، هذا يسمونه: الشك، أي: يحتمل أنه موجود ويحتمل أنه غير موجود.
ومرتبة الوهم تبدأ من (1 %) إلى (49 %) فإذا كان غالب ظنك أنه موجود فضده النادر، وهو أنه غير موجود، فالنادر يسمى: وهماً، وغالب الظن يسمى: ظناً راجحاً.
هذا معنى ما ذكره السائل من قولهم: ما استوى طرفاه شك، وما رجح أحد الطرفين فالراجح ظن والمرجوح وهم.(16/29)
حكم وضوء من شرب مرق الجزور
السؤال
ما حكم مرق لحم الجزور، هل ينقض الوضوء أم لا؟
الجواب
مرق لحم الجزور فيه خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم: منهم من يقول: زهومة اللحم في المرق وقوتها قوة اللحم نفسه.
ومنهم من يقول: أعتبر لفظ الحديث: (أنتوضأ من لحوم الإبل؟) فما كان من اللحم نفسه نقض وما كان من مرقه لم ينقض، والأقوى أن الإنسان يتوضأ منه.(16/30)
وضوء المصاب بسلس الريح
السؤال
أنا مصاب بمرض سلس الريح فهل يلزم علي أن أتوضأ عند كل صلاة؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: إذا استمر خروج الريح مع الإنسان بحيث لا يبقى له وضوء بقدر ما يصلي، فإنه يتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، ثم يصلي ولو خرج الريح معه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك المستحاضة.
أما لو كان الريح يخرج ثم يبقى ثلث ساعة أو ربع ساعة أو عشر دقائق لا يخرج، بحيث يمكنه أن يصلي، فحينئذٍ يتوضأ ثم يصلي حتى يتدارك ما قبل خروجه، ولو أدى ذلك إلى تركه للجماعة في المسجد فلا حرج عليه؛ لأن مراعاة شرط الطهارة مقدم على الواجب المنفصل من شهود الجماعة، وهذه الحالة يستثنى فيها وجوب الجماعة فيحكم بسقوطها عن الإنسان إذا كان معه سلس، بحيث يستطيع أن يصلي؛ ولكن في وقت ضيق لا يسعه معه أن يمكث في المسجد {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
والله تعالى أعلم.(16/31)
الجمع بين الأحاديث الواردة في الوضوء من مس الذكر
السؤال
كيف الجمع بين الحديثين الصحيحين: (من مس ذكره فليتوضأ) و: (وإنما هو بضعة منك) هل الأول يكون فيمن مس ذكره بشهوة والثاني فيمن مسه بدون شهوة؟
الجواب
ما سألت عنه من تعارض حديث طلق بن علي، وحديث أبي هريرة وبسرة بنت صفوان رضي الله عنها، فأنسب الأجوبة أن حديث طلق منسوخ؛ لأنه قال: (قدمت والنبي صلى الله عليه وسلم يبني مسجده).
والأمر الثاني: أنه سأل عن مس الذكر فيحمل على وجود الحائل، والحديث الآخر يحمل على المباشر، وهذا الجمع أقوى من التفريق بين المس بشهوة وبدون شهوة؛ لأنك لو جمعت بين الحديثين بالتفصيل في وجود الشهوة وفقد الشهوة أشكل عليك العموم في قوله: (من مس) ولكن حملك على مس بوصف وهو عدم وجود الحائل، ومس بدون وصف وهو وجود حائل أقوى وأبلغ، ثم وجود الشهوة وعدم وجود الشهوة في الحائل وبدون حائل فيه اعتبار، فدخل هذا الجمع تحت الجمع الذي ذكرناه، من كونه بحائل أو بدون حائل، فإن الإنسان إذا مس بحائل يضعف تأثير الشهوة، بخلاف ما إذا لو مسه بدون حائل، والله تعالى أعلم.(16/32)
الفرق بين علم اليقين وعين اليقين
السؤال
ما الفرق بين علم اليقين وبين عين اليقين؟
الجواب
علم اليقين متعلق بالإدراك، وأما عين اليقين فمتعلق بالحاسة التي تُوِصِّلَ بها إلى الإدراك، قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7] أي: ترونها على وجه لا يمكن أن يدخل الإنسان فيه شك؛ لأن الكفار امتروا وكذّبوا بالآخرة، فأخبر الله جل وعلا: أن الفصل بين من صدق بالآخرة وكذب بها أن يرى الناس ذلك في عرصات يوم القيامة، حيث قال سبحانه: {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7] فالمقصود: أن هذا متعلق بالإحساس وهذا متعلق بالإدراك وكل منهما له معناه.(16/33)
حكم مس المصحف لمن به سلس
السؤال
ما حكم مس المصحف لمن كان مصاباً بمرض السلس؟ من كان به سلس البول فإنه يجوز له أن يتوضأ في بداية دخول الوقت ثم يمس المصحف حتى ينتهي الوقت، ويتوضأ من جديد، ولا حرج عليه أن يمس المصحف ولو خرج منه الخارج؛ لأنه معذور في انتقاضه، والله تعالى أعلم.(16/34)
حكم الوضوء من مس الخصية
السؤال
هل مس الخصية ينقض الوضوء؟
الجواب
هذه المسألة للعلماء فيها قولان: فجماهير السلف والخلف على أن مس الأنثيين لا يوجب انتقاض الوضوء.
وذهب عروة بن الزبير -رحمه الله- إلى القول بأن مس الأنثيين يوجب انتقاض الوضوء.
والصحيح أن مسهما لا يوجب انتقاض الوضوء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الحكم بالذكر دون الأنثيين.
وأما قوله من: (من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه) فهي زيادة مدرجة من قول عروة لأنها مذهبه، والله تعالى أعلم.(16/35)
حكم الوضوء من غسل الميت
السؤال
هل من الممكن إعادة القول في غسل الميت هل ينقض الوضوء أم لا؟
الجواب
للعلماء -رحمهم الله تعالى- في غسل الميت قولان: منهم من يرى أنه ينقض.
ومنهم من لا يرى انتقاض الوضوء به.
فالذين قالوا بعدم انتقاض الوضوء قالوا: إن الأصل طهارة الغاسل حتى يدل الدليل على الانتقاض، وليس ثَمَّ دليل صحيح يدل عليه، ولذلك نبقى على هذا الأصل ونستصحب حكم الطهارة، وهو أولى القولين بالصواب، وقد تكلم الإمام الدارقطني -رحمه الله- في كتابه العلل على علة حديث الأمر بالغسل والوضوء من غسل الميت وحمله، والله تعالى أعلم.(16/36)
معنى: (مذهب راجح) و (مذهب مرجوح)
السؤال
قولكم: هذا مذهب راجح وهذا مذهب مرجوح، ما معنى ذلك؟
الجواب
إذا قوي دليل أحد القولين فإنه يحكم برجحانه؛ لوجود القوة إما سنداً أو متناً، فإن قويت دلالة النص فالرجحان من جهة المتن، وإن قوي سنده فالرجحان من جهة الثبوت، فإذا قوي الاثنان ثبوتاً ودلالة فحينئذٍ لا إشكال، فإذا قيل: إنه الراجح، فالمراد: أنه أقوى القولين دليلاً، إما من جهة الثبوت وإما من جهة الدلالة، وإما من جهتهما، والله تعالى أعلم.(16/37)
مسافة القصر بين جدة ومكة والمشاعر وما يترتب عليها من أحكام
السؤال
هل المسافة من جدة إلى مكة مسافة قصر؟ وإذا كانت ليست مسافة قصر فهل من أحرم بالعمرة في أشهر الحج وهو من أهل جدة متمتع؟ وهل يصح له القصر في مكة ومنى وعرفة ومزدلفة؟
الجواب
أما بالنسبة للمسافة بين جدة ومكة فقد كانت في القديم تبلغ مسيرة اليوم والليلة، ولذلك لما سئل ابن عباس عن قصر الصلاة للجموم قال رضي الله عنه: (لا، وإنما إلى جدة وعسفان)، فأثبت القصر في هذين الموضعين، ولكن عندما اتصل العمران -كما هو الحال الآن- قصرت المسافة عن حد السفر، ولا تبلغ الحد المعتبر للحكم بالقصر، ولذلك إذا قصد من جدة إلى مكة فإنه لا يأخذ حكم المسافر؛ ولكن إذا نوى الحج من جدة فإنه يحكم بكونه مسافراً؛ لأنه قاصد إلى المشاعر، والمشاعر تتمِّم النقص في المسافة، فيقصر الصلاة ويأخذ حكم المسافر؛ لأن عرفات تبعد عن البيت بأكثر من (8 كم)، وهذا يجبر النقص الموجود في المسافة التي بين جدة ومكة، وبناءً على ذلك تبلغ المسافة غاية السفر، فغايته إذا حج من جدة إلى عرفات، فيحكم بكونه مسافراً، فيقصر الصلاة إذا قصد الحج، وأما إسقاط الدم عن أهل جدة إذا رجعوا فإنه مبني على الاجتهاد، والأقوى أنهم ليسوا من حاضري المسجد الحرام؛ وإنما هم في حكم الخارج عن الحرم وآخذون حكم الآفاقيين، ويجب عليهم دم إن تمتعوا؛ لأنهم ليسوا في حكم حاضري المسجد الحرام، والله تعالى أعلم.(16/38)
علة القصر في المشاعر
السؤال
هل القصر من أجل السفر أم من أجل النسك؟
الجواب
القصر من أجل السفر، وأما أهل مكة فأصح الأقوال أنهم لا يقصرون؛ وذلك أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن القصر لا يقتضي الحكم بكونهم مسافرين، فقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالقصر، وإذا ثبت هذا فإنه يجاب عن سكوته بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أهل مكة بقوله: (أتموا الصلاة فإنا قوم سفر) وسكت في المشاعر عن أمرهم بالإتمام؛ لسبق التنبيه لهم على ذلك.
وقال بعض العلماء: بل القصر من أجل النسك، وأنه يشرع لهم أن يقصروا من أجل النسك، ولذلك يَجْمَعون؛ وعلى هذا القول فلا إشكال إذا خرج المكي أن يقصر ولا حرج عليه في ذلك، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(16/39)
شرح زاد المستقنع - باب الغسل [1]
حرص الشرع على طهارة الإنسان ونقائه، وأمره بالتخلي عن الأقذار والتطهر من الأحداث، إلا أن بعض الأحداث يكون تأثيرها كبيراً على البدن، فلهذا أمر الشرع بالاغتسال منها؛ كالجنابة والحيض والنفاس، ولم يكتفِ فيها بمجرد الوضوء.(17/1)
تعريف الغسل وحكمه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الغسل]: الغسل في اللغة: هو صبّ الماء على الشيء، واختلف العلماء -رحمهم الله- هل من شرط الغسل أن تمر يدك على الشيء، أم ليس من شرطه؟ فقال بعض أئمة اللغة: كل من صب الماء على الشيء وأصاب ذلك الشيء فقد صدق عليه أنه قد غسله.
وقال بعضهم: لا بد من إمرار اليد على الشيء المغسول.
وأصح الأقوال: أن الغسل لا يشترط فيه أن تمر يدك على المغسول، وأن الشيء إذا صببت عليه الماء فقد غسلته.
والمراد بالغسل في الشرع: تعميم البدن بالماء مع نية مخصوصة، وهي: قصد القربة لله جل وعلا، فخرج من عمَّم بدنه بالماء بقصد النظافة أو السباحة والاستحمام، فإنه لا يعتبر غسلاً شرعياً.
والغسل عبادة شرعية، شرعها الله جل وعلا وأوجبها على الجنب والحائض والنفساء ومن في حكمهم ممن هو مأمور بالغسل، والعلماء -رحمهم الله- من عادتهم أنهم يذكرون باب الغسل في كتاب الطهارة؛ والسبب في ذلك: أن الغسل طهارة كبرى، فبعد أن بين -رحمه الله- الوضوء -وهو الطهارة الصغرى- شرع في بيان أحكام الطهارة الكبرى وهي الغسل.
وقد يسأل سائل ويقول: أليس الغسل طهارة كبرى، والوضوء طهارة صغرى؟ فنقول: نعم، فيقول: إذا كان الغسل طهارة كبرى والوضوء طهارة صغرى فقد كان الأنسب أن يبدأ بالكبرى قبل الصغرى؛ لأن الصغرى قد تندرج تحت الكبرى.
وأُجيب عن ذلك بأن الوضوء أكثر من الغسل، بمعنى: أنك تتوضأ في اليوم أكثر من مرّة والغسل لا يقع إلا عند موجبه من جنابة أو غيرها.
وقد يجلس الأعزب سنة كاملة لا يجنب ولا يغتسل إلا مرة واحدة، فلما كان الوضوء أكثر وقوعاً، أو كما يقول العلماء: أعم بلوى، ابتدأ العلماء رحمهم الله بالوضوء ثم ثنّوا بالغسل، هذا من جهة النظر.
وبعبارة مختصرة نقول: قُدم الوضوء لعموم البلوى به وشدة الحاجة إليه، وأُخّر الغسل لندرة وقوعه أو قلة وقوعه بالنسبة للوضوء.
الأمر الثاني: أن الفقهاء والمحدثين -رحمة الله عليهم- يقدمون الوضوء على الغسل مراعاة لترتيب القرآن، فإن الله عز وجل في آية المائدة بيّن حكم الوضوء ثم أتبعه بالغسل.
أما مناسبة الغسل للطهارة: فلأنه نوع من أنواعها، فمن المناسب أن يذكر ما يتعلق به من أحكام.(17/2)
موجبات الغسل(17/3)
الغسل من خروج المني
قال رحمه الله: [وموجبه: خروج المني دفقاً بلذة].
(وموجبه) الموجب هو: المتسبب، أي: أن هذا الغسل يوجبه أو يتسبب في لزومه على المكلف خروج المني دفقاً بلذة، أي: إذا خرج المني من الإنسان دفقاً وبلذة لزمه الغسل.
أما الخروج: فهو ضد الدخول كما هو معلوم، ومراد العلماء بخروج المني أن يجاوز رأس الإحليل وهو المجرى من العضو، فإذا بلغ المني ذلك الموضع -بمعنى: أنه قذفه العضو- فقد وجب الغسل، فهذا المراد بالخروج، ولما قال المصنف: (خروج) فهمنا من ذلك: أنه لو لم يخرج وإنما حصل الانتقال، بأن شعر به قد خرج من صلبه ولكن لم يقذف، فهل يجب عليه الغسل؟
الجواب
لا، لأن الغسل مرتبط بالمجاوزة، ففائدة تعبير الفقهاء بكلمة: (خروج)، أنك لو سئلت عن رجل حصل منه تحرك الشهوة ونزع المني من الصلب أثناء الصلاة فأمسك العضو حتى سلّم فصلاته صحيحة ولا يحكم عليه بوجوب الغسل إلا بعد تحقق الخروج، فإذاً: الوصف بالخروج معتبر، ومفهومه: أنه إذا لم يخرج لم يجب الغسل، وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء) أي: إنما الماء -وهو الغسل- (من) سببية، أي: بسبب الماء، وهو خروج المني، فإذا خرج المني وجب الغسل، فإذا لم يحصل الخروج لم يحصل الماء، ولذلك لا يجب الغسل.
قال رحمه الله: (خروج المني) المني: هو الماء الأبيض الثخين بالنسبة للرجل، والأصفر الرقيق بالنسبة للمرأة، ورائحته كطلع النخل، يخرج دفقاً عند وجود الشهوة أو اللذة الكبرى.(17/4)
حكم الغسل من المني الخارج بغير تدفق
(دفقاً) والدفق: وصف معتبر اشترطه الفقهاء -رحمهم الله- لقوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] فوصف الله جل وعلا مني الإنسان بكونه دافقاً، ولذلك قالوا: إذا خرج المني دفقاً وجب الغسل.
وهنا مسألة: لو أن إنساناً خرج منه المني على قطرات دون أن يخرج دفقاً، فهل يجب عليه الغسل؟ قولان للعلماء: القول الأول: إذا خرج المني دفقاً وجب الغسل، وإن خرج بدون دفق فلا غسل عليه؛ لأن الله وصف المني بكونه دافقاً، فإن خرج على هيئة قطرات فهو مرض واعتلال في الصّحة لا يوجب الغسل، ولذلك لا يجب من مثله غسل.
القول الثاني: إنه يجب الغسل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء).
وأصح القولين -والعلم عند الله-: أنه إن خرج المني على قطرات مع الشهوة وقصدها أوجب الغسل؛ لوجود المعنى الموجب، وإن خرج قطرات على سبيل المرض أو الاعتلال لم يوجب الغسل؛ لأن العلة التي ذكروها من كونه خارجاً عن وصف القرآن بسبب المرض لا تتحقق إلا في آحاد الصور، وإذا كانت العلة لا تتحقق إلا في آحاد الصور فيجب تخصيصها بما ذكر، ولذلك نقول: الأصل في خروج المني أنه يوجب الغسل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) فإن حصل للإنسان مرض وخرج منه قطرات، أو أصاب العضو مرض وأخرج منيه على هيئة قطرات دون قصد الشهوة ولم يكن ذلك بها فإنه لا يوجب الغسل، وهذا هو أعدل الأقوال في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية: تجد عند بعض المرضى -كمن استؤصلت منه البروستات أو ما يجري في مسألة غدة المسالك- يخرج المني مع البول، وقد يخرج بكثرة وهو دافق، فهل نعطيه الحكم؟ فنقول: مثله لا يوجب الغسل؛ لأنه ليس في حكم الغالب المعتاد، وهو نادر، ويحصل بسبب اعتلال الصّحة؛ فيأخذ حكم المرض، وبالنظر للأصول العامة في الشريعة: فإننا لو أوجبنا الغسل على مثل هذا لكان فيه حرج ومشقة، والشريعة لا حرج فيها ولا مشقة، وهذا حاصل ما ذكر في قولهم: خروج المني دفقاً.
(بلذّة) اللذّة: وصف معتبر، قالوا: إنه يخرج دفقاً مصحوباً باللذّة، وهي اللذّة الكبرى، وخرج بقولهم: اللذة الكبرى، ما يخرج باللذّة الصغرى وهو الذي يسمى: المذي، وهو قطرات يسيرة لزجة تخرج عند بداية الشهوة، فمثل هذه القطرات لا تأخذ حكم المني، والمني يختص باللذّة الكبرى والشهوة الكبرى، وهذا هو الموجب الأول.
يقول المصنف رحمه الله: (خروج المني دفقاً بلذّة) أي: إذا خرج المني من المكلّف بهذه الصورة الجامعة للوصفين: دفقاً وبلذّة، وجب الغسل.
والدليل على ما سبق: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا فضخت الماء فاغتسل) فدل على وجوب الغسل من خروج المني بالصفة التي ذكرناها، وظاهر قول المصنف: (خروج المني) العموم، أي: سواء خرج المني في يقظة أو خرج في منام، فإن خرج في اليقظة فيستوي فيه أن يكون بجماع أو بغير جماع، وإن خرج في المنام فيستوي فيه أن يتذكر الاحتلام أو لم يتذكر الاحتلام.
أما الدليل على وجوب الغسل بمجرد خروج المني في يقظة أو منام على هذا الإطلاق فحديث صحيح مسلم، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الماء من الماء) فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن وجوب الغسل من الجنابة مبني على وجود الماء وهو المني، فكلما وجدنا الماء -وهو المني- حكمنا بوجوب الغسل، وعلى هذا لو أن إنساناً نام ثم استيقظ فوجد أثر المني في ثوبه، فهل يجب عليه الغسل حتى وإن لم يتذكر الاحتلام؟
الجواب
نعم؛ لظاهر الحديث، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب الغسل دون نظر إلى كونه ذاكراً أو غير ذاكر، وبناءً على ذلك فالعبرة بوجود المني سواءً شعر بكونه احتلم أو لم يشعر.(17/5)
الشك في البلل الموجود على الثوب
الأمر الأخير الذي نريد أن ننبه عليه: لو شك الإنسان في ماءٍ فاستيقظ من نومه فوجد بللاً في ثوبه ثم لم يدر هل هو مني فيغتسل، أو مذي حكمه حكم البول؟ نقول: يميز هذا الماء، فإن وجد علامة المني وهي رائحة المني التي هي كطلع النخل، أو وصف المني بيبسه إذا كان طال عهده بالمنام، كأن ينام بعد صلاة الفجر ثم يستيقظ بعد شروق الشمس ويسهو عن نفسه، ثم لما أراد أن يصلي الظهر وجد الماء في ثيابه يابساً، فحينئذٍ يعمل بالأوصاف من ثخن المني ورقة المذي، فإن وجد ثخن المني أو رائحته -لأنه إذا طال وقته كانت رائحته كرائحة البيض، وإن كان طرياً تكون رائحته كطلع النخل، وطلع النخل هو الوبار الذي تُؤبَّر به النخل- فإذا وجده بصفة المني حكم بكونه منياً واغتسل، وإن لم يجد الصفة أو وجد قطرات يسيرة فمثلها ليس بمني؛ لأن المني كثير، وحينئذٍ يبني على أنها مذي وهو الذي يكون عند بداية الشهوة، فإن وجد علامة المني أو علامة المذي حكم بما وجد من علامة، وإن لم يستطع التمييز رجع إلى اليقين من كونه مذياً حتى يستيقن أنه مني فيجب عليه الغسل.
فنقول لمن شك في هذا الماء الموجود في الثوب هل هو مني فيغتسل، أو مذي فيغسله ويتوضأ؟ نقول: هو مذي حتى تستيقن أنه مني، ولا يجب عليك الغسل بالشك.
قال رحمه الله: [لا بدونهما من غير نائم].
(لا بدونهما): لا: نافية، أي: لا يجب الغسل بمني خرج بدون دفق أو بدون لذة أو بدونهما، وقيل بالترابط بين الدفق واللذة لأنه لا توجد اللذة إلا مع الدفق، وبناءً على ذلك قلنا: هذان الوصفان إذا لم يوجدا لم يحكم بوجوب الغسل من المني.(17/6)
حكم الغسل من خروج المني من النائم
قال رحمه الله: [من غير نائم].
(من غير نائم) وهو المستيقظ، فلو أن إنساناً كان مستيقظاً وخرج منه المني بدون دفق ولا لذة، فما الحكم؟ نقول: لا يجب عليه؛ لظاهر القرآن على التفصيل الذي بيناه، لكن لو كان نائماً فلم يشعر بلذة ولا بتدفق فما الحكم؟ قالوا: يجب عليه الغسل؛ لعموم قوله: (إنما الماء من الماء) والسبب في استثناء النائم أن النائم لا شعور عنده ولذلك لا يشعر باللذة، والنائم قد يحتلم ويستيقظ ولا يذكر أثر الاحتلام من وجود الشعور باللذة، وبناءً على ذلك أسقطت اللذة في حكمه وأُعمل عموم النص في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء) ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام: (عن المرأة ترى ما يرى الرجل، فهل عليها من غسل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، إذا رأت الماء، إنما هن شقائق الرجال).(17/7)
حكم الغسل من انتقال المني دون خروجه
قال رحمه الله: [وإن انتقل ولم يخرج اغتسل له].
هذا هو الوجه الثاني الذي أشرنا إليه، فقد قال بعض العلماء: إذا شعر بانتقاله دون أن يقذفه فإن العبرة بالانتقال لا بالخروج.
قال رحمه الله: [فإن خرج بعده لم يعده].
وهذا على صورتين: الصورة الأولى: التي ذكرناها، والصورة الثانية: أن يخرج المني من جماع أو من احتلام ثم تبقى قطرات فيغتسل الرجل، وبعد أن يغتسل إذا بهذه القطرات أو فضلة المني قد نزلت ولو دفقاً، فهل العبرة بالسابق الذي هو الأصل أم العبرة باللاحق؟ إن قلت: العبرة بالسابق، فإن هذا اللاحق لا يؤثر في إيجاب الغسل، ولذلك قال: التابع تابع، فيعتبر تابعاً لما قبله، وإن قلنا: إن العبرة باللاحق؛ فحينئذٍ يجب عليه أن يعيد غسله؛ لأن الحكم مترتب على اللاحق لا على السابق، والصحيح: أن العبرة بالسابق، وأنه إذا اغتسل للأول فلا يجب عليه إعادة الغسل لفضلة المني الباقية التي خرجت بعد غسله، وهو اختيار طائفة، وهو مذهب الحنابلة والمالكية ومن وافقهم.(17/8)
الغسل من إيلاج الفرج في فرج
قال رحمه الله: [وتغييب حشفة أصلية في فرج أصلي قبلاً كان أو دبراً].
السبب الثاني الذي يجب به على المكلف أن يغتسل: تغييب حشفة أصلية، والتغييب: هو المواراة، تقول: غَيَّبَ الشيء في التراب إذا واراه فيه، والغائب هو: المتواري عن الأنظار، وتغييب الحشفة: الحشفة هي رأس الذكر، والمراد بالتغييب: أن يحصل الإيلاج، فبعض العلماء يقول: إيلاج، وبعضهم يقول: تغييب، والمعنى واحد، فلما قال: (تغييب الحشفة) فهمنا من ذلك: أنه لو ألزق رأس العضو برأس العضو فلا يجب الغسل، سواء كان من قبل أو دبر فإنه لا يترتب عليه الحكم الشرعي المترتب على الإيلاج، وهذا يكاد يكون بالإجماع.
فالتغييب شرط معتبر، ولذلك أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا ألزق الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل) فكنى صلوات ربي وسلامه عليه عن الإيلاج بقوله: (إذا ألزق) فإن هذا لا يحصل إلا بإيلاج رأس العضو، قالوا: لا يحصل ذلك إلا إذا وقع الإيلاج، وبناءً على ذلك فشرط هذا الموجب الثاني أن يحصل تغييب لرأس العضو أو قدر رأس العضو من مقطوع رأس العضو، فلو سئلت عن حكم مواراة رأس عضو مقطوع، فتقول: بتغييب قدر رأس العضو أي: حشفته.
(تغييب الحشفة في فرج أصلي) في الفرج: يشمل ذلك الأنثى والذكر، والحي والميت، والحيوان والإنسان، فإذا حصل إيلاج على هذه الصورة في فرج آدمي ذكراً كان أو أنثى، أو كان من بهيمة، أو كان من حي أو ميت وجب الغسل، وهذا فيه أصل وفيه مقيس على الأصل: أما الأصل في إيجاب الغسل بالإيلاج فهو الجماع، وهذا بنصوص الأحاديث كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: (إذا ألزق الختان الختان ... ) وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مس الختان الختان ... )، وقوله: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) فهذه النصوص الصحيحة تدل على أن العبرة بإيلاج رأس العضو، وهذا منصوص جماهير السلف والخلف من أهل العلم رحمة الله عليهم.
أما بالنسبة للملحق بهذا الأصل ففرج الدبر سواء كان من امرأة أو من رجل أو كان من بهيمة -وهو محرم وطؤه- فإن كل ذلك يعتبر آخذاً حكم ما ذكرناه بالقياس؛ لأن الشرع ينبه بالنظير على نظيره، وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وخالف بعض أهل العلم فقال: لا يجب إلا إذا حصل الإيلاج في عضو الأنثى بالجماع، وأما غيرها فلا يجب فيه غسل، ولكن الصحيح ما ذكرناه.
(تغييب حشفة في فرج أصلي) هذا التغييب ظاهره سواء كان في يقظة أو منام، فإن التكليف بوجوب الغسل مبني على الحكم الوضعي لا الحكم التكليفي، بمعنى: أنه متى ما حصل الإيلاج فالحكم بوجوب الغسل حاصل بغض النظر عن كونه في يقظة أو منام.
(تغييب حشفة في فرج أصلي) خرج من هذا الفرج الغير الأصلي، ومثل له العلماء بالخنثى المشكل، فقال بعض العلماء -رحمهم الله- وهو يكاد يكون مذهب الجمهور: إنه إذا جامع الخنثى وكان مشكلاً فإنه لا يحكم بوجوب الغسل عليه، وهي مسألة فيها خلاف، وأنا متوقف فيها، فبعض العلماء يرى أن العبرة بالفرج الأصلي؛ قالوا: لأن الخنثى إذا لم يتبين أهو ذكر أم أنثى فإننا نعمل بقاعدة: (اليقين لا يزال بالشك)، فاليقين أن المجامع يعتبر طاهراً، وشككنا في هذا الفرج: هل الخنثى رجل فيكون بمثابة وطء فرج غير أصلي فحينئذٍ لا يجب الغسل، أو هو أنثى فيكون جماعاً صحيحاً موجباً للغسل؟ فرجعنا إلى اليقين، هذا وجه إسقاط الغسل، يقولون: إن المجامع الأصل فيه الطهارة وشككنا في هذا الجماع: أيوجب الغسل أو لا يوجبه؟ والأصل براءة الذمة، فلا يجب غسل بجماع خنثى مشكل، هذا بالنسبة لكلام العلماء رحمة الله عليهم.
قال رحمه الله: [قبلاً أو دبراً].
(قبلاً أو دبراً) هذا للتنويع، سواء وقع في قبل أو دبر، يخرج من هذا الفرج غير الأصلي كما ذكرنا في الخنثى المشكل، أو يكون مصنّعاً، فكل ذلك لا يوجب الغسل.
قال بعض العلماء: الإيلاج يوجب الغسل للمولج فيه، سواء كان المولَج عضواً أو غيره، وهو أحد الأوجه في مذهب الشافعية وغيرهم، ومنها: ومسألة المناظير الطبية الموجودة التي تولج من الدبر، فإذا احتاج المريض لكشف مرض جراحي أو للتأكد من وجود قرحة أو القسطرة التي تكون -مثلاً- في الإحليل، فقال بعض العلماء: إيلاج أي شيء في الفرج سواءً كان مخلوقاً حياً أو كان غير حيّ كالآلات الحديديّة الموجودة الآن من مناظير ونحوها يوجب الغسل، فيتفرّع على هذا لو سأل سائل عن إدخال المناظير أيوجب الغسل أم لا؟ فحينئذٍ نقول على هذا القول: يجب عليه أن يغتسل، والصحيح: أنه لا يجب الغسل بإيلاج غير الأعضاء المعتبرة.
قال رحمه الله: [ولو من بهيمة أو ميت].
أي: لو وقع الإيلاج في بهيمة أو ميت.(17/9)
حكم الغسل لمن جامع زوجته ولم ينزل
وبالنسبة للإيلاج ففيه مسألتان: المسألة الأولى: كان بعض السلف يقول: إذا جامع الرجل ولم يُنزل لا يجب الغسل، أي: أنهم لا يرون أن مجرد الإيلاج يوجب الغسل، وذهب الجماهير من الصحابة رضوان الله عليهم إلى أنه يجب الغسل، سواء حصل الإنزال في الجماع أو لم يحصل، إنما هذا كان في أول التشريع في الإسلام، أن الرجل إذا جامع ولم ينزل فلا يجب عليه الغسل، وفيه أحاديث صحيحة، منها: ما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) أي: إنما الماء -وهو الغسل- بسبب الماء -وهو المني-، فإذا جامع أهله ولم ينزل فلا غسل عليه، هذا مفهوم الحديث.
ومما دل عليه أيضاً: ما ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم زار رجلاً من الأنصار، فقرع عليه الباب فخرج الرجل مسرعاً كأنه كان مع أهله، فقال عليه الصلاة والسلام: لعلنا أعجلناك، إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك) (أعجلت) بمعنى: أن الإنسان نزع قبل أن ينزل في الجماع، (أو أقحطت) أي: لم يحصل إنزال أثناء الجماع (فلا غسل عليك)، فظاهر هذا النص أن العبرة بحصول المني.
وجاء في الحديث الثالث أيضاً ما يؤكد هذا في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا فضخت الماء فاغتسل) فكانت هذه رخصة في أول الإسلام، أنه لا يجب الغسل بمجرد الجماع، ثم جاء الأمر من الله عز وجل بإيجاب الغسل بالجماع في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل) وفي رواية: (أنزل أو لم ينزل).
وعندما اختلف الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه كان بعض الصحابة يحفظ الفتوى الأولى ويحفظ التشريع الأول، وكان بعضهم يحفظ النسخ، فاختلفوا واختصموا إلى عمر رضي الله عنه، فبعث عمر رضي الله عنه إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها فأخبرته بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من ورع الصحابة وكمال عقلهم وفضلهم أنهم كانوا ينزلون العلم بأهله.
فانظر إلى عمر رضي الله عنه الخليفة الراشد والإمام العدل رضي الله عنه وأرضاه، لما أعْيَته المسألة ما حكم وبتّ الأمر واختار أحد القولين وحسم، بل رجع إلى أم المؤمنين، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن نافلته عليه الصلاة والسلام في السفر قالت: (سل عبد الله بن عمر فإنه أعلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره مني) فهذا هو شأن أهل الفضل، والمنبغي بين طلاب العلم وأهله، أنك إذا علمت أن هناك من هو أعلم منك في فن أو علم فعليك أن تحيل إليه المسألة، فلما اختلفوا في هذه المسألة رجعوا إلى أمهات المؤمنين، وقد كانوا إذا خفي عليهم شيء من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور البيت والنساء وأحكامها رجعوا إلى أمهات المؤمنين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، فأخبرته أم المؤمنين بالحديث فقال عمر رضي الله عنه: (من خالف بعد اليوم جعلته نكالاً للعالمين) أي: عزرته، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نسخ الحكم الذي كان في أول الإسلام بالتخفيف، فوجب الغسل سواء حصل الإنزال أو لم يحصل الإنزال.
وجاء أبو سلمة رضي الله عنه -الإمام المشهور تلميذ ابن عباس - إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -وحصل تشكيك في هذه المسألة في عهد التابعين- وذكر القول الذي يقول بإسقاط الغسل عن من جامع ولم ينزل، فسأل أم المؤمنين فقالت: (يا أبا سلمة! إنما مثلك مثل الفُرُّوج سمع الديكة تصيح فصاح بصياحها) أي: ما أنت إلا تبع للناس، وينبغي أن يؤخذ العلم عن أهله، ثم ذكرت له الحديث، فهذا يدل على شدة أم المؤمنين رضي الله عنها في المسألة، وأن الأمر منسوخ ومنتهٍ، ولذلك يقول بعض العلماء: حصل الإجماع بعد الصحابة على أن مجرد الجماع يوجب الغسل سواء حصل الإنزال أو لم يحصل.(17/10)
حكم الغسل من الإيلاج بحائل
المسألة الثانية: ذكرنا أن الإيلاج يوجب الغسل، فالإيلاج يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون بدون حائل، وهذا بالإجماع معتبر بالأوصاف التي ذكرناها.
الصورة الثانية: أن يكون بحائل، فلو حصل الإيلاج بالحائل فهل يجب الغسل، أو لا يجب؟ فللعلماء ثلاثة أوجه: الوجه الأول: قال بعض العلماء: لا يجب الغسل إذا وجد الحائل.
الوجه الثاني: وقال بعضهم: يجب الغسل سواء وجد الحائل أو لم يوجد.
الوجه الثالث: وقال بعضهم: إن كان الحائل رقيقاً وجب الغسل، وإن كان ثخيناً لم يجب الغسل.
والأقوى: أن الحائل لا يجب معه الغسل، وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مس الختانُ الختانَ) فعبّر بالمس، ولا يكون المس مع وجود الحائل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من مس ذكره فليتوضأ) وقد قالوا: إنه لا بد أن يكون بإفضاء دون وجود حائل، فأصح الأوجه -والعلم عند الله-: أن وجود الحائل لا يجب الغسل معه، لكن الاحتياط والأورع أن يغتسل سواء وجد الحائل أو لم يوجد.(17/11)
الغسل عند الدخول في الإسلام
قال رحمه الله: [وإسلام كافر].
أي: إذا أسلم الكافر وجب عليه الغسل، وفيه حديث قيس -واختلف في إسناده وحسنه بعض العلماء، وقال به بعض أئمة السلف- حيث قال عليه الصلاة والسلام: (ألق عنك شعر الكفر واغتسل) وقالوا: إن الكافر يجب عليه الغسل، وللعلماء أوجه في هذه المسألة: فقال بعضهم: يجب الغسل على الكافر مطلقاً.
وقال بعضهم: يجب الغسل على الكافر إن كانت منه جنابة في حال كفره، ولا يجب إذا لم تكن منه جنابة.
وقال بعضهم: لا يجب الغسل على الكافر مطلقاً، وهذا مذهب الجمهور، أما القول الثاني فهو مذهب الحنفية، والقول الأول هو قول الحنابلة وطائفة من أهل الحديث، والحقيقة أن مدار هذه المسألة يتوقف على صحة الحديث.(17/12)
وجوب غسل الميت
قال رحمه الله: [وموت وحيض ونفاس].
(وموت) أي: إذا حصل الموت وجب غسل الميت، لكنه متعلق بالمكلفين، والدليل على ذلك: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما وقف بعرفة وأُخبر بخبر الرجل الذي وقصته دابته، قال عليه الصلاة والسلام: اغسلوه بماء وسدر وكفّنوه في ثوبيه، ولا تحنّطوه ولا تخمروا وجهه ولا تغطّوا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) ومحل الشاهد قوله: (اغسلوه) فوجّه الخطاب للمكلفين؛ فدل على وجوب غسل الميت، ولكن هذا متعلق بالمكلفين.
الدليل الثاني: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما توفيت ابنته زينب رضي الله عنها وأرضاها، قال عليه الصلاة والسلام: (اغسلنها بماء وسدر) فهذا يدل على وجوبه أيضاً على الأنثى، فالأول للذكر، والثاني للأنثى، وبناءً على ذلك يجب غسل الميت من المسلمين ذكراً كان أو أنثى.
وهنا مسائل: لو أن الميت مات وليس هناك ماء؟ قالوا: يسقط الغسل، واختار بعض العلماء أن يُيمم.
والمسألة الثانية: لو حكمنا بوجوب غسل الميت، فهل هذا الوجوب مطلق أم مقيد؟ نقول: هو مقيد بالحالات الاستثنائية، فلو أن الميت كان محروقاً أو به مرض الجدري -والعياذ بالله- فكان غسله فيه ضرر على الميت كالمحروق، أو فيه ضرر على مغسله كالمريض بالجدري، فحينئذ إذا وجد ضرر يتعلق بالميت أو يتعلق بالحي سقط تغسيله، فلا يجب تغسيله، مثله الذي به جراحات كبيرة، كما يقع في بعض الحوادث -أعاذنا الله وإياكم- فترى الجسد مجروحاً أو مخدوشاً خدشاً شبه كلي، فمثل هذا لو غسل حصل له من الضرر ما الله به عليم، والتغسيل تكريم له، ولكنه على هذا الوجه يكون أذّيةً وإضراراً به، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً في الإثم) فلا ينبغي أن يتسبب في إتلاف أجزاء الميت والإضرار به، ولذلك قالوا: حتى لو قص من شعره فإنه يوضع في كفنه حفاظاً على كمال جثته التي توفي بها، فبناءً على ذلك: لو كان الميت محروقاً أو به أمور تمنع من تغسيله جاز تكفينه دون أن يغسل وسقط هذا الحكم بتغسيله.(17/13)
الغسل من الحيض والنفاس
قال رحمه الله: [وحيض ونفاس].
أي: أن الحيض والنفاس يوجبان الغسل، أما الحيض فبالإجماع، والأصل فيه حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها -في المرأة المستحاضة- فإذا هي خَلّفت ذلك -يعني: أيام العادة- فلتغتسل ثم لتصلي) فقوله عليه الصلاة والسلام: (لتغتسل) أمر، فدل على أن الحيض يوجب الغسل، والله عبّر عن ذلك في قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] فقال: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] فنسب الطهر إليهن، ووصفهن بكونهن طاهرات أي: بعد انقطاع (فإذا تطهرن) فنسب التطهر إليهن، أي: فعلن الاغتسال، فالأصل في الحائض أنها تغتسل، ويجب عليها الاغتسال عند انقطاع دمها.
(ونفاس) وكذلك النفاس، وهذا كله بالإجماع، ويكون النفاس بأن يجري معها الدم ثم ينقطع سواء طال أمده أو قل.(17/14)
حكم الولادة من غير دم
قال رحمه الله: [لا ولادة عارية عن دم].
أي: لو أنها وضعت جنينها دون دم لم يجب عليها الغسل؛ لأن العبرة بالدم، وقد يقول لك قائل: العبرة بخروج الولد، فنقول: لو كانت العبرة بخروج الولد لكان الغسل يجب بمجرد الولادة، لكن كون المرأة النفساء تنتظر حتى ينتهي وينقطع الدم ثم تغتسل بعد انقطاع الدم دلّ على أن حكم وجوب الاغتسال معلق بوجود الدم، والأصل أن الحكم يدور مع موجبه، وما دام أن الدم موجب للغسل، فلا يجب الغسل إذا لم يكن هناك دم، وهي ولدت بدون دم، وهذا موجود الآن، فإذا ولدت امرأة بعملية قيصرية، وأُخرج الجنين منها ولم يجر معها دم لم يجب عليها الغسل.(17/15)
ما يحرم على من يلزمه الغسل
قال رحمه الله: [ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءة القرآن].
الشيخ: (ومن لزمه الغسل) أي: من كانت عليه جنابة أو حيض أو نفاس حرم عليه قراءة القرآن، وفيه حديث علي رضي الله عنه وحديث عائشة رضي الله عنها: (أما الجنب فلا ولا آية)، وقوله: (كان لا يمنعه من القرآن إلا الجنابة) والحديثان مختلف في ثبوتهما، ومن أهل العلم من حسن الحديثين، لكن ثبت في الحديث الصحيح عند النسائي وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر عليه الرجل وكان قد قضى حاجته أو بوله فسلّم عليه، تيمم على الجدار، وقال: إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله عز وجل) فدل هذا الحديث على أن الأصل في الذكر أن يكون على طهارة، ولذلك ينبغي صيانة القرآن عن تلاوة الجنب، وهذه من الأمور التي يفرق فيها بين القرآن وبين الحديث القدسي كما قال بعض الفضلاء بقوله: ومنعه تلاوة الجنب في كل حرفٍ منه عشراً أوجبِ أي: أن القرآن يمنع الجنب من تلاوة القرآن الذي في كل حرف منه عشر حسنات، بخلاف الحديث القدسي.
قال رحمه الله: [ويعبر المسجد لحاجة ولا يلبث فيه بغير وضوء].
(ويعبر المسجد لحاجة)؛ لقوله تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] وقوله: (إلا عابري سبيل) فيه تقدير وهو: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وهذا أحد الأقوال.
وقال بعض العلماء: إن قوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] راجع إلى التيمم في السفر، وبناءً على هذا الاستثناء قالوا: يجوز للجنب أن يمر بالمسجد، وهو قول طائفة من السلف رحمة الله عليهم، ولكن ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ المساجد طرقات، ولذلك لا يعبر المسجد ولا يتخذ طريقاً.
وأقول بهذا القول لظاهر السنة بالمنع، فلعل هذا كان في أول الإسلام، وهناك آثار عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يعبرون من المساجد، ولكن يحمل الحديث على أنه متأخر، والأصل: (أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح قدم الحاظر على المبيح)، ولا شك أن النفس تميل إلى أن النهي متأخر؛ لأن الأشبه في مثل هذا -كما هو معلوم في مسالك الأصوليين-: أن الحظر فيه متأخر عن الإباحة، فيقوى القول بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد طرقات حتى للطاهر، ولو كانت لك حاجة في طرف المسجد وأنت في الطرف الآخر فتستطيع أن تأتي من خارج المسجد، ويحظر أن تجتاز من داخل المسجد، وكان يقول الإمام أحمد -رحمة الله عليه- وبعض السلف: لا يتُخذ المسجد طريقاً، وهذا الذي تميل النفس إليه، والأحوط أنه لا يمر ولو كان عبوراً.(17/16)
من يسن لهم الغسل
قال رحمه الله: [ومن غسل ميتاً أو أفاق من جنون أو إغماء بلا حلم سُن له الغسل].(17/17)
حكم الغسل لمن غسل ميتاً
(ومن غسل ميتاً) أي: قام بتغسيله، ويكون ذلك على صورتين: الصورة الأولى: أن ينفرد بتغسيله.
والصورة الثانية: أن يكون مع غيره، فإن انفرد بتغسيله فقول واحد -عند من يقول بوجوب الغسل عليه أو باستحبابه- وهو: أن عليه أن يغتسل، أما لو كان مع غيره فإنه يأخذ حكم الأصل؛ لأنه يصدق عليه أنه غسله؛ وبناءً على ذلك فإنه إذا غسل الميت منفرداً أو مشتركاً مع غيره فيجب عليه أن يغتسل على قول من يقول بالوجوب، لكن المصنف يميل هنا إلى القول بالسُّنية والاستحباب، وهو أصح الأقوال في هذه المسألة، وفي ذلك حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يثبت في هذا شيء، والحديث ضعيف، وقد تكلم عليه الإمام الدارقطني -رحمه الله- في العلل، وتكلم عليه الحفاظ، والصحيح عدم ثبوته، وإن كان بعض العلماء قد يحسنه، لكن الضعف فيه من القوة بمكان، ويكاد يكون الجماهير على ضعفه، وخاصة المتقدمين منهم، فإنهم يقولون: إنه ضعيف، لكن على القول بثبوته أو أنه حسن فيحمل على الندب والاستحباب والأفضل، أي: من غسّل ميتاً فله أن يغتسل على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب.(17/18)
حكم غسل من أفاق من جنون أو إغماء
قال رحمه الله: [أو أفاق من جنون أو إغماء].
اختلف العلماء في المجنون: فقال بعض العلماء: المجنون إذا أفاق وجب عليه أن يغتسل، وكذلك المغمى عليه.
وقال بعضهم: لا يجب على المجنون غسل، والقول بوجوب الغسل على المجنون من القوة بمكان إذا تأتى منه خروج المني، أما إذا لم يتأتَّ منه خروج المني فيقوى القول بعدم الوجوب؛ لأنه لم يثبت فيه نص صحيح بالوجوب، ولذلك يقولون: إن المجنون إذا جنّ أو فقد عقله لم يأمن أن يخرج منه مني وهو لا يشعر، كما أن النائم إذا نام لم يأمن أن يخرج منه ريح وهو لا يشعر، فكما أن الشرع طالب النائم بإعادة وضوئه لوجود النوم الذي هو مظنة أن يكون فيه حدث، كذلك أيضاً الجنون أخذ حكم النوم في الإيجاب، هذا في الطهارة الصغرى وهذا في الطهارة الكبرى، لكن لماذا فرقنا بين كونه يتأتى منه أم لا؟ هذا مبني على نفس الدليل الذي استدل به، فإنك إذا قست الجنون على النوم في إيجاب الطهارة الكبرى قياساً على الإيجاب بالطهارة الصغرى فإنه يتعذر في النائم العلم بعلامة الريح، فلو خرج منه ريح لم يعلم، فوجب عليه الوضوء مطلقاً إذا نام، بخلاف المجنون فإن الخارج وهو: المني، له علامة وأمارة، ولذلك يفرق بين من كان يتأتى منه خروج المني ومن لا يتأتى فيه خروج المني، ويُنَزَّل المغمى منزلة المجنون.
قال رحمه الله: [بلا حلم سن له الغسل].
(بلا حلم) أي: بلا احتلام، (سن له الغسل) أي: لا يجب عليه، وهذا كما تقدم أن المجنون يغتسل -على القول بأنه يغتسل- فينزل السكران منزلة المجنون، فإذا قلنا: إن المجنون يغتسل فالسكران كذلك عليه الغسل، وفي حكم السكران من خُدِّر التخدير العام؛ لكن التخدير الموضعي لا يأخذ حكمه، والعلة في هذا كله زوال العقل.(17/19)
الأسئلة(17/20)
حكم وضوء من أمسك ذكره خوف نزول المني
السؤال
ذكرتم أن المصلي إذا أمسك ذكره خوفاً من نزول المني أن صلاته صحيحة، فهل إذا أمسك الرجل ذكره في حالة الانتصاب ينتقض الوضوء أم لا؟
الجواب
إمساك العضو على الصورة التي وردت في السؤال لا يجب بها الوضوء، وإن كان بعض المتأخرين يقول: إذا وجد اللذة والشهوة فيجب عليه أن يتوضأ، لكنه قول شاذ لا أعرف له أصلاً، والصحيح أنه لا يجب الوضوء بمجرد إمساكه الذكر، لما ثبت في حديث طلق بن عدي أنه لما سئل عليه الصلاة والسلام عن لمس الذكر -على القول بأن هذا إذا كان بحائل- قال: (وهل هو إلا بضعة منك) قالوا: إنه محمول على وجود الحائل، وبناءً على ذلك فلا يجب عليه الوضوء سواءً وجد اللذة أو لم يجدها.
والله تعالى أعلم.(17/21)
حكم من احتلم ولم يجد بللاً
السؤال
إذا رأى الرجل ما يوجب الغسل في نومه ولكنه لم يخرج شيئاً، فهل عليه غسل؟
الجواب
من رأى ما يوجب الغسل أو تهيأ له أنه احتلم ثم استيقظ ولم يجد أثر الاحتلام فلا يجب عليه الغسل؛ لما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) فقد دل هذا الحديث على أن وجود الماء يوجب الغسل، ومفهومه: أنه إذا لم يوجد الماء فلا يجب الغسل، والله تعالى أعلم.(17/22)
حكم وضوء المستحاضة لكل صلاة
السؤال
هل المستحاضة تتوضأ لكل صلاة؟ وهل هذا الوضوء على الاستحباب أم على الوجوب؟
الجواب
المستحاضة إذا جرى معها الدم فإنها تتوضأ لكل صلاة، فإذا خرج وقت الصلاة الأولى توضأت لدخول وقت الصلاة الثانية؛ والسبب في ذلك حديث تكلم العلماء في سنده، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (توضئي لكل صلاة) وفي رواية: (تغتسل) لكنها ضعيفة، والقول بضعفها هو المعتبر، واختلف في قوله صلى الله عليه وسلم: (توضئي لكل صلاة) فيقولون: المعذور يُعذر في حد الوقت، فإذا انقطع الوقت عنه طولب بالعبادة بدليل مستأنف، وسقطت الرخصة بالصلاة السابقة، فيجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة عند دخول وقتها، وهذه مسألة فيها خلاف، لكن الصحيح: أنها تتوضأ لكل صلاة -وهكذا من به سلس البول- لكن بشرط: أن يجري معها الدم، أما لو انقطع عنها الدم ثم جرى معها الدم في صلاة الظهر، ثم انقطع، فتوضأت وصلت الظهر ولم يجر معها الدم حتى دخل وقت العصر فوضوؤها معتبر، فمحل الكلام إذا جرى معها الدم، وهذا ينبني على مسألة فقهية قالوا: إنها بمجرد أن يخرج منها الدم ينتقض وضوؤها كالبول، فلما خرج منها الدم مستمراً رخص لها في الوقت، فإذا انتهى الوقت طولبت بدليل جديد أن تتوضأ وتصلي؛ لأنه بدخول الوقت يأتي الخطاب بالصلاة المستأنفة الجديدة فيسقط الترخيص في السابقة.(17/23)
إعادة مسألة الغسل من الإيلاج بحائل
السؤال
يا حبذا لو تعيد مسألة: (بلا حائل)؟
الجواب
أما بالنسبة لما سألت عنه وهو قوله: (بلا حائل) فالحائل هو الفاصل بين الشيئين، والمراد بالحائل الذي ذكرناه: أن يكون بين العضو المولج والعضو المولجَ فيه حائل من قماش، سواءً كان ثخيناً أو رقيقاً، فإن قيل بقول التفصيل فيختلف الحكم باختلاف نوعية الحائل، لكن قلنا: الصحيح أن الحائل سواءً كان رقيقاً أو ثخيناً فإنه لا يوجب حكماً، ولذلك يعتبر شبهة، فلو أن رجلاً أولج في امرأة بحائل قد يعتبر شبهة توجب درء الحد عنه، وسنتكلم على هذا في باب الزنا، ولكن المنصوص عند العلماء -رحمة الله عليهم- تعليق الحكم بالإيلاج، ولم يفصلوا هل هو بحائل أو بدونه، والذي اختاره بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم-: أن الحائل مؤثر، قال عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فلذلك قالوا: لا يأخذ حكم المتصل.(17/24)
حكم غسل من أسقطت جنيناً
السؤال
إذا أسقطت المرأة، فهل يجب عليها غسل السقط؟
الجواب
إذا أسقطت المرأة الجنين فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون الجنين الذي أسقطته فيه خلقة أو صورة الخلقة، فإن أسقطت جنيناً كامل الخلقة أو فيه جزء من الخلقة كالوجه أو صورة الوجه أو الرأس أو الرجل أو اليد، فالأصح عند المحققين أنها تأخذ حكم النفاس، وحينئذٍ إن جرى معها الدم أخذت حكم النفساء.
الحالة الثانية: أن تسقط قطعة لحمٍ لا خلقة فيها، فحينئذٍ لا يجب عليها الغسل، ولا تأخذ حكم النفساء؛ بل تعتبر استحاضة، وتأخذ حكم الاستحاضة، وهذا تجعله أصلاً عندك، لأن هذه المسألة أشكلت عند العلماء.
فالضابط المعتبر عند بعض المحققين أن العبرة بوجود صورة الخلقة، فإن وُجِدَت حُكِمَ وإلا فلا.(17/25)
حكم الغسل من العادة السرية
السؤال
هل يجب الغسل في العادة السرية، رغم أن الذكر لم يلج في فرج أصلي؟
الجواب
العادة السرية إذا حصل بها إنزال، أي: أمنى وجب الغسل، وإن لم يمن لم يجب الغسل، فمقصود السائل: أنه إذا وضع العضو بين أصابعه أو في موضع مثلاً ليس بفرج ولم يمن فلا يجب عليه الغسل، لكن لو حصل منه إمناء وجب عليه الغسل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الماء من الماء) ولم يفرق بين كونه يخرج بحلال أو بحرام، والعادة محرمة سواء كانت بيدٍ أو بغيرها، والله تعالى أعلم.(17/26)
حكم التنفل في المسجد الحرام
السؤال
هل الانتقال في المسجد الحرام يعتبر من المرور في المسجد؟
الجواب
لا، الحكم واحد، فإذا أراد -مثلاً- أن يقطع المسجد من الشرق إلى الغرب لحاجة ما وهو لا يريد أن يصلي فيه، فلا يجوز له ذلك، لكن لو مر وصلى فيه -ولو ركعتين- ثم يمر فلا حرج عليه، لكن أن يتخذه طريقاً فلا، والنهي عام في المساجد، والمسجد الحرام أحقها وأشرفها وأكرمها عند الله عز وجل.
وأظن أن السائل قد يقصد: أن ينتقل من جهة الصفا إلى جهة أخرى في الحرم فهل يعتبر ماراً أم لا؟ أما بالنسبة للصفا فكنت أقول: إنها من الحرم، لكن ظهر لي أخيراً أنها ليست من الحرم، وهو اختيار بعض العلماء من المتأخرين ومن مشايخنا -رحمة الله عليهم- ولذلك إذا انتقل من الصفا من جهة المسعى ودخل إلى داخل المسجد فيعتبر آخذاً لحكم من دخل المسجد، وإذا كان العكس، مثلاً خرج من الحرم إلى الصفا، فالصفا خارج المسجد ويجوز فيها المرور، كأن يقطع من طرفي الأشواط، والله تعالى أعلم.(17/27)
حكم منع تدفق المني
السؤال
إذا أحس الشخص بالتدفق فقام من نومه ولم يجعله يتدفق ولم يخرج سوى بعض القطرات، فهل يغتسل أم لا؟
الجواب
هذا لا يجوز؛ لأن الأطباء ينصون على أنه ضرر وأذية، ولذلك لا يجوز للإنسان أن يفعل هذا، ولا يشك أن الشريعة تحرم على المكلف أن يتعاطى أسباب الضرر بنفسه؛ ولذلك حرمت العادة السرية -مع وجود ظاهر القرآن الذي يدل على تحريمها- لوجود الأضرار بشهادة الأطباء.
فالمقصود: أن كونه يمنع خروج المني هذا فيه ضرر بالغ، وقد قرأت بعض البحوث الطبية وتقول هذه البحوث: إنه يضر ضرراً بالغاً، ولربما يبقى ضرره معه إلى الأبد، فمسألة حبس المني والتلاعب به أثناء خروجه لا تجوز، والله يقول: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6]، فعليه أن يتركه على خلقة الله عز وجل حتى لا يضر بنفسه، وهذا أصل في الشريعة: أنه لا يجوز للمسلم أن يتعاطى الأسباب التي تتسبب في الإضرار بنفسه أو بجسده، فلو حصل هذا وخرج منه المني فإن الصفة الأصلية له: التدفق، واعتبار العارض بتعاطي أسباب عدم تدفقه احتيال على الشرع، والقاعدة أن مثل هذا يعامل بنقيض قصده، فلا يعتد بتلاعبه ويعتبر منياً؛ لوجود الإمناء وهو الكثرة، وصورة التدفق، والتحكم فيها لا يؤثر ولا يلغي حكم الشرع بوجوب الغسل، والله تعالى أعلم.(17/28)
خروج مني الرجل من فرج المرأة بعد غسلها
السؤال
قد يخرج من المرأة بعد الغسل قطرات وهي تصلي، وقد تكون هذه القطرات مني الرجل، فما الحكم؟
الجواب
بالنسبة للخارج من الفرج، هذه مسألة اختلف العلماء -رحمة الله عليهم- فيها وهي مسألة رطوبة فرج المرأة: فمن أهل العلم من يقول: إن الخارج منها نجس ويوجب انتقاض الوضوء.
ومنهم من يقول: إنه طاهر.
والذي دلت عليه السُّنة أنه نجس، أي: بالنسبة للخارج -أي: الرطوبة- سواءً كانت قطرات أو كانت سائلة، حتى إن كانت من مني الرجل، فإنها تعتبر آخذة حكم الرطوبة بالكثرة والمغالبة؛ لأنه إذا كان منياً غلبه رطوبة الفرج الموجودة، ودل على نجاسة رطوبة فرج المرأة ما ثبت في الحديث الصحيح -عندما كانت الرخصة في أول الإسلام أن الرجل إذا جامع امرأته ولم ينزل فلا يجب عليه غسل- الذي قال عليه الصلاة والسلام فيه: (ليغسل ما أصابه منها) فقوله: (ليغسل ما أصابه منها) يدل على أن الرطوبة نجسة، وهذا لا شك أنه أقوى الأقوال، ودليله صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشار إليه الإمام النووي -رحمة الله عليه- في المجموع، وبناءً على هذا فإن هذه القطرات آخذة حكم الناقض سواءً بسواء، ويجب عليها أن تتوضأ عند خروجها، فإن غلبتها واستمرت مع المرأة طيلة وقت الصلاة فلتتلجم كما ثبت في المستحاضة (تلجمي) فتضع قطعة قطن، أو تتلجم وتشد الموضع، فإن غلبها مع التلجم والقطن فتصلي على حالتها كالمستحاضة سواءً بسواء، وتتوضأ بدخول وقت كل صلاة، والله تعالى أعلم.(17/29)
حكم تنبيه المستيقظ للنائم لشيء حدث منه في نومه
السؤال
لو رأى الإنسان شخصاً ما يحتلم، فهل يجب عليه إخباره بذلك بعد استيقاظه أم يسكت عنه خشية الإحراج؟
الجواب
هذه مسألة أشكلت عند العلماء -رحمة الله عليهم- يقولون: أحدهم مكلف، والثاني غير مكلف، فإذا نُظر -مثلاً- إلى الشخص النائم لو استيقظ وصلى فصلاته صحيحة وعبادته معتبرة؛ لأن الله كلّفه بالعلم وبما وسعه ولم يكلفه ما ليس بوسعه، وهذا ليس بوسعه؛ لأنه ليس بوسعه أن يعلم ما لم يكن.
وقال بعض العلماء: يعلمه من اطلع على ذلك واختلفوا هل يجب أم لا؟ فقال بعضهم: يجب؛ لأنه لو لم يخبره لأدى إلى الإخلال بالشرع باستباحة الصلاة على غير طهارة، وقال آخرون: هذا ليس بمستبيح للصلاة على غير طهارة؛ لأنه معذور في حكم الله جل وعلا، مثل الإمام الذي يقع منه الخلل بما يفسد الصلاة ولا يعلم المأمومون بذلك، فإن صلاتهم صحيحة؛ لأن الله ما كلفهم علم ما لم يعلموا، وهذا وجه من يقول بأنه لا شيء عليه إذا سكت.
والذين يقولون: يجب عليه أن يخبره، يستدلون بقولهم: عهدنا من الشرع أنه يربط التكليف بالمكلف مع سقوطه عن غير المكلف، ألا تراه أمر أن يؤمر الصبي بالصلاة، والذي يأمره وليه، مع أن الصبي غير مكلف، قالوا: فكلف المكلف بغير المكلف، فلزم أو وجب عليه أن يعلمه؛ صيانة للشرع، لكن لو سكت عنه فهل يأثم أم لا؟ فعلى القول بأنه يجب عليه: يأثم، وعلى القول بأنه لا يجب عليه: لا يأثم، لكن الأحوط أن يخبره، ثم ليس هناك إحراج لو أخبر أخاه بما فيه من خلل، أما بالنسبة للعبادة فهي صحيحة، وبالنسبة للمكلف فغير مؤاخذ.(17/30)
حكم مقابلة المرأة لأبناء زوجها من الرضاعة
السؤال
هل يجوز لزوجتي مقابلة أبناء زوج أمها من الرضاعة، وكذلك أبناء هذا الزوج من زوجة أخرى؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف: هل التحريم بالمصاهرة -مثل: أم الزوجة وكذلك زوجة الأب من الرضاعة- هل يأخذ حكم التحريم بالنسب؟ الاحتياط ألا تقابلهم، وقد كنت أقول: لها أن تقابلهم؛ لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) لكن في الأخير قوي القول بأن تحتاط فيها؛ لأن التغليب لجانب المحرمية وأصول الشرع يقتضي تقوية عدم الإلحاق.
والله تعالى أعلم.(17/31)
حكم تناول الرياضي للمنشطات
السؤال
ما هو حكم استعمال الرياضي للبروتينات والمنشطات التي تساعده في البروز بسرعة في المجال الذي يمارسه؟
الجواب
استعمال المنشطات والمقويات فيها شبهة؛ لأن بعض التركيبات الموجودة فيها قد تعتمد على بعض المواد المخدرة، وبعض تركيبات المخدرات، والدكتور محمد علي البار له بحث جيد في المخدرات، نبّه فيه على أن بعض المنشطات فيها نسبة من المواد المخدرة، ولذلك مثل هذا يقتضي الحظر والتحريم، إلا إذا وجدت الضرورة والحاجة للاستعمال، وهذه ليست بضرورة وليست بحاجة، وعلى العموم: يبقى على الأصل من عدم جواز استعمال مثل هذه المنشطات التي فيها شبهة والتي فيها نسبة من المخدرات، ويرجع هذا الأمر إلى أهل الخبرة والذين لهم علم بتركيبات الأدوية في هذا، والله تعالى أعلم.(17/32)
حكم ترك المبيت في منى
السؤال
امرأة حجت هذا العام، وخرجت من منى بعد رمي جمرة العقبة، وذلك بتوكيل أحد الأشخاص، وطافت طواف الإفاضة مع طواف الوداع، فماذا عليها بتركها الإقامة بمنى؟
الجواب
أولاً: أوصي السائلة ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأنه لا ينبغي لمن حج بيت الله الحرام أن يتلاعب أو يتساهل في الواجبات والأنساك، فمن حج فعليه أن يتقي الله عز وجل، ولذلك قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] (أتموا الحج) يعني: إذا حججتم فليكن حجكم كاملاً، أتموه لله بفعل أركان الحج وواجباته وأدائها على الوجه المعتبر.
أما أن يتساهل الإنسان في الواجبات والفرائض ويوكّل غيره في الرمي ويترك المبيت، فهذا لا يجوز، وبناءً عليه: فالذي يظهر من السائلة أنه لا عذر لها في ترك المبيت وترك الرمي، وعليها دم بترك هذه الواجبات، وكل واجب منها عليها فيه دم، واختلف العلماء: قال بعضهم كل مبيت ليلة نسك، وقال بعضهم: المبيت كله نسك، وأصح الأقوال: أن كل ليلة فيها دم -وهو القول بالتجزئة- وكذلك الحال في الرمي، فعليها دم لمبيت ليلة إحدى عشر، وليلة الثاني عشر وعليها أيضاً دم برمي الحادي عشر ورمي الثاني عشر، ويكون عليها أربعة دماء.
والله تعالى أعلم.(17/33)
الإشارة للحجر الأسود عند الانتهاء من آخر شوط
السؤال
إذا انتهى الرجل من الشوط الأخير من الطواف فهل يشير ويكبر أم لا؟
الجواب
هذه مسألة خلافية، وفيها وجهان: قال بعض العلماء: يشير، وقال بعضهم: لا يشير.
والسبب في الخلاف: أنهم اختلفوا: هل هذه الإشارة والتكبير من أجل محاذاة الحجر، أم من أجل استفتاح الطواف؟ فمن قال: إنها من أجل محاذاة الحجر يقول: يكبر في الآخر ويشير؛ لأنه حاذى الحجر، ومن قال: إنها لاستفتاح الطواف قال: ليس هناك شوط ثامن حتى يستفتح فلا يشير.
وأصح القولين -والعلم عند الله-: إنها لمحاذاة الحجر؛ لأن جابر رضي الله عنه قال: (استلمه فإن عجز أشار إليه)، فدل على أن العبرة بالمحاذاة وليس من أجل الاستفتاح.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.(17/34)
شرح زاد المستقنع - باب الغسل [2]
جاءت النصوص الشرعية مبينة لكيفيات العبادات، ومن ذلك: الغسل، فقد بينت النصوص كيفيته وصفته، سواء كان هذا على سبيل الكمال أو على سبيل الإجزاء، وفصَّل العلماء في أحكامه بناءً على هذه النصوص.(18/1)
صفة الغسل الكامل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [والغسل الكامل أن ينوي ثم يسمي].
كان الحديث عن موجبات غسل الجنابة، أي: الأسباب التي توجب الغسل من الجنابة، وهنا -إن شاء الله- سيكون الحديث عن صفة غسل الجنابة، وهذا الترتيب يعتبر مراعياً للأفكار -أي: ترتيب الأفكار- فبعد أن تنتهي من الأسباب تصف الشيء، وبعد أن تبين للمكلف ما هي الأمور التي تتسبب في غُسل الجنابة يأتيك
السؤال
كيف أغتسل من الجنابة؟ فأولاً: نبين موجبات الغسل وأسبابه، ثم نتبع بعد ذلك بالحديث عن صفة الغسل.
فقال رحمه الله: [والغسل الكامل] الواو: للاستئناف، والغسل له حالتان عند العلماء: الحالة الأولى: يسميها العلماء حالة الإجزاء.
والحالة الثانية: يسمونها حالة الكمال.
والفرق بين الإجزاء والكمال: أن الإجزاء يتحقق به المأمور شرعاً، بمعنى: أنك إذا أوقعت الغسل على صفة الإجزاء عليه فقد أديت ما أوجب الله عليك، وأما بالنسبة للكمال فإنه يراعى فيه ما فوق الواجب واللازم، بمعنى: أن يصف لك الغسل وصفاً على أتم وجوهه وأكملها، وبناءً على ذلك: انقسم الغسل إلى غسل إجزاء وغسل كمال، فلو أخل المكلف بغسل الإجزاء فقد يحكم بعدم صحة غسله، لكن لو أخل بغسل الكمال في غير الإجزاء تقول: فاته الأفضل والأكمل، وغسله صحيح.
يقول رحمة الله: (والغسل الكامل) أي: الغسل الذي هو على أعلى مراتب الغسل هو أن ينوي ثم يسمي، ومن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يذكروا حالة الإجزاء وحالة الكمال، والمصنف هنا ابتدأ بصفة الكمال، وغيره ابتدأ بصفة الإجزاء، فطريقة المصنف رحمه الله حينما ابتدأ بغسل الكمال تدرج فيها من الأعلى إلى الأدنى، وطريقة غيره ممن ابتدأ بالأجزاء ثم أتبعه بالكمال تدرج من الأدنى إلى الأعلى، وكلتا الطريقتين لها وجه.
أما طريقة المصنف بأن يبتدئ بالكمال ثم يبين لك غسل الإجزاء فهي أنسب؛ لأنه إذا فعل ذلك ترك التكرار، فإنك إذا ذكرت الغسل الكامل ثم قلت: والواجب منه كذا وكذا، أفضل مما لو قلت: الغسل الواجب كذا، ثم أتبعت صفة الكمال وذكرت ضمنها الواجبات، فطريقة المصنف في ذكر الكمال ثم إتباعه بالإجزاء أولى من طريقة غيره ممن ابتدأ بالإجزاء ثم أتبعه الكمال.
هذه الصفة التي يسميها العلماء: صفة الكمال، ثبتت بها أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وحديث ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، وكلا الحديثين ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، فقد وصفت كل منهما غسل النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهما من فصلت في شيء وأجملت في شيء، ومنهما من فصلت في شيء آخر وأجملت في غيره، وقد راعى العلماء رحمهم الله في صفة الكمال ما تضمنه حديث عائشة وحديث أم المؤمنين ميمونة رضي الله عن الجميع.
يقول رحمه الله: (أن ينوي) أي: ينوي الغسل، والنية: القصد، والمراد بها كما يقول العلماء: العزم على فعل الشيء تقرباً إلى الله تعالى، كما ذكر هذا التعريف البعلي في المطلع، وكذلك غيره، ومعنى (العزم على فعل الشيء تقرباً إلى الله تعالى): أن تعزم على عبادة أو معاملة، والهدف من ذلك والقصد من ذلك وجه الله عز وجل، سواءً كانت عبادة أو معاملة، فالعبادة: كأن تصلي فتفعل القيام والركوع والسجود وغيره من أفعال الصلاة وفي نيتك وجه الله جل وعلا، أما المعاملة: كأن تعطي ابنك المال قاصداً بذلك مرضاة الله عز وجل، فإنها عادة ولكنها صارت عبادة بالقصد.
بعض العلماء يقول: العزم على فعل الشيء، وبعضهم يقول: قصد فعل الشيء قربة لله، والتعبير بالقصد أنسب من التعبير بالعزم؛ لأن من العلماء من فرق بين القصد والعزم فقال: القصد: ما يكون عند توجه النية، والعزم: يكون متراخياً عن ذلك التوجه، ولذلك قالوا: التعبير بالقصد أدق، خاصة وأن الحقيقة اللغوية للنية عرفوها بالقصد، فيكون فيه اشتراك بين التعريف اللغوي والشرعي من هذا الوجه.(18/2)
حكم النية في الغسل
(أن ينويه) يعني: أن ينوي الغسل، صورة ذلك: أن يدخل الإنسان مكان الاغتسال وفي نيته أن يعمم بدنه لرفع الجنابة، وهكذا المرأة لإزالة الجنابة، فإذا حصل هذا القصد فقد نوى العبادة وقصدها تقرباً لله عز وجل، وخرج من هذا أن ينوي فعل الشيء لغرض غير وجه الله، مثل أن يدخل مستحمه للتبرد أو للسباحة، فلو غسل جسمه كاملاً للسباحة لم يكن غسلاً شرعياً، وإنما هو غسل عادة وليس بغسل عبادة، ولذلك قالوا: النية تفرق بين العادة والعبادة.
فقوله: (أن ينوي الغسل) أي: ينوي رفع الحدث، فإذا نواه فقد أجزأه، والأصل في النية أن تكون مقاربة لزمان الفعل فلو أنه قال: أريد أن أغتسل من الجنابة وجلس من الساعة الثانية ظهراً إلى الساعة الثالثة، ثم عزبت عنه هذه النية، ثم دخل إلى مستحمه وسبح وقد عزبت عنه النية، فنقول: إن هذا لا يجزئ، إنما المعتبر أن تكون النية مصاحبة، قال بعض العلماء: حتى ولو في طريقه إلى السباحة جرى في نفسه أن يغتسل من الجنابة أجزأه؛ لكن لو كانت النية للنظافة أو للتبرد في الصيف فكل ذلك لا يجزئه.
وهذه النية واجبة وفرض في قول جماهير العلماء خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، والصحيح مذهب الجمهور؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وجه الدلالة: أن الله أمر بإخلاص الدين والعبادة، ولا إخلاص إلا بنية، إذاً: النية واجبة، والغسل عبادة؛ إذاً: النية فيه واجبة، كذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) فقد علق صحة الأعمال على النية والغسل من الجنابة عمل، فلا غسل إلا بنية.
(أن ينويه) هذا هو الأصل؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يغتسل فإنه يبتدئ أول شيء بنية القلب، ثم بعد ذلك يكون منه الفعل المأمور شرعاً.(18/3)
حكم التسمية عند الغسل
قال رحمه الله: [ثم يسمي].
(ثم) للعطف مع التراخي، أي: يقول: باسم الله، وهذه التسمية استحبها بعض العلماء، ومن العلماء من قال بوجوبها في الغسل، وسيأتي الكلام عليها -إن شاء الله- وأن الصحيح: عدم وجوبها، ولكن قال بعض العلماء: تستحب التسمية في العبادات وفي مبتدئها؛ لإطلاق الشرع.
ويسمي إذا كان المكان مهيأ لذكر الله، كأن يكون في بركة أو يكون في حمام معد للاغتسال لا لقضاء الحاجة، أما لو كان المكان مهيأ لقضاء الحاجة فإنه لا يذكر اسم الله عز وجل فيه، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني كنت على حالة كرهت أن أذكر اسم الله عليها) فإذا امتنع أن يذكر اسم الله في حال حدثه فمن باب أولى أن يمتنع في مكان الحدث، ولذلك لا يسمي جهرة في أماكن قضاء الحاجة، وهذا هو المعهود شرعاً من عموم قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] واسم الله عز وجل لا شك أنه من أكبر الأشياء وأعظمها كما قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] فالإجلال لاسم الله عز وجل من شعائر الله، فلا يذكر اسم الله جهرة، ولكن يسمي في نفسه على قول بعض العلماء، أي: أنه يجري في نفسه ذكر التسمية دون أن يتلفظ باللسان.(18/4)
محل غسل الكفين في الغسل
قال رحمه الله: [ويغسل يديه ثلاثاً وما لوثه].
أولاً: ينوي، ثم يسمي، ثم يغسل يديه ثلاثاً، واليدان مثنى يد، والمراد بهما: الكفان، واليد تطلق ويراد بها جميع اليد إلى المنكب، وقد يراد بها إلى المرفق، وقد يراد بها إلى الزندين، وأقل ما يصدق عليه اليدان: الكفين، وسمي الكف كفاً؛ لأنه تكف به الأشياء، فالمراد أن يغسل كفيه ثلاثاً، والمصنف هنا قال: (يغسل يديه ثلاثاً) ثم أجمل، والحقيقة أن غسل اليدين أو الكفين في الغسل من الجنابة له حالتان: الحالة الأولى: غسل الكفين قبل تعميم البدن.
والحالة الثانية: غسل الكفين بعد غسل الفرج تهيأً للوضوء، فأما الحالة الأولى: وهي غسل الكفين عند الابتداء بالغسل، فقد ثبت في الصحيحين كما في حديث أم المؤمنين عائشة التصريح بهذا: (بدأ فغسل كفيه) وفي رواية مسلم: (يغسل كفيه) لكن ليس فيه التصريح بالتثليث، وفهم التثليث من مطلق هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل كقوله: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً) وكذلك حديث حمران مولى عثمان عن عثمان، وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عن الجميع في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وكلهم ذكر التثليث قبل ابتداء الوضوء، أي: عند غسل الكفين في ابتداء الوضوء.
قال العلماء: التثليث مناسبته: أنك إذا أزلت الأذى بالغسلة الأولى، فالغسلة الثانية تبرئ الموضع، بمعنى: أنك ربما تغسل ويكون الشيء عالقاً باليد، فالغسل الثاني آكد في إزالة العين، والغسلة الثالثة آكد وأبلغ للاستبراء، فلذلك قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل ثلاثاً، ولكن لم يرد التصريح في حديث أم المؤمنين عائشة وميمونة في ابتداء الغسل، ولكن ورد التثليث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل ثلاثاً في حديث ميمونة لما غسل فرجه صلوات الله وسلامه عليه، فإنها قالت: (مرتين أو ثلاثاً)، على الشك لا على الجزم بالثلاث.
والغسل للكفين في ابتداء الغسل من الجنابة مناسبته -كما يقول العلماء- أن اليدين ناقلتان للماء ولما كان الماء هو الذي يقصد به الطهارة فينبغي أن يكون طهوراً، وينبغي أن تكون آلته محافظة على الطهورية، فإذا كانت اليد نظيفة بقي الماء على أصل الطهورية، وإذا كانت اليد ليست بنظيفة فإن ذلك أدعى لخروج الماء عن وصفه بالطهورية، خاصة وأن الكف تنقل ماءً يسيراً، ولذلك أُمر بغسلها قبل الوضوء لمن استيقظ من نومه، أما الغسلة الثانية للكفين فإنها تكون بعد غسل الفرج.
قال المصنف: (يغسل يديه ثلاثاً وما لوثه) اللوث يطلق بمعنى: التلطيخ، يقال: لوث الماء إذا لطخه، وقد يطلق بمعنى: المرض والعاهة في العقل، ومنه قولهم: اللوثة الحمق وذهاب العقل -نسأل الله السلامة والعافية- وقد يطلق بمعنى: حاجة الإنسان.
فالتلويث في قوله: (وما لوثه) يعني: ما أصاب يده من القذر، وهذا يدل على أن المراد بغسل الكفين ما يكون بعد إزالة الأذى عن الفرج، فكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبتدئ فيصب الماء على يمينه ثم يفرغ على يساره، وبعد غسل كفيه صلوات الله وسلامه عليه يفرغ بيمينه على يساره ويأخذ الإناء بيمينه ويفرغه على يساره، ثم يغسل فرجه صلوات الله وسلامه عليه ومواضع الأذى، كما في حديث ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، فابتدأ بغسل الكفين ثم ثنى بغسل الأذى على الفرج وما جاوره كالفخذين ونحوهما.
ولما انتهى عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين من حديث ميمونة -: (من غسل فرجه وأزال الأذى، دلك يديه في الأرض دلكاً شديداً) كما قالت أم المؤمنين رضي الله عنها، ولذلك قال العلماء: يبتدئ بغسل الكفين، ثم يثني بالفرج، ثم يدلك يديه للغسلة الثانية، وهذه الغسلة الثانية آكد من الأولى، فإن الأولى قد تكون اليدان طاهرتين ولا يحتاج فيها إلى تجديد غسل، ولكن في الثانية لمكان الأذى وتلطخ اليدين بما هناك من الكدر ناسب أن يدلكها عليه الصلاة والسلام، قال العلماء: السنة لمن اغتسل في أرض ترابية أن يدلك يديه على الأرض الترابية، فالتراب يطهر يابساً أو مخلوطاً بالماء، أما يابساً فدليله: التيمم، وأما مخلوطاً بماء فدليله: حديث ولوغ الكلب، وقد ثبت ذلك طبياً، فناسب أن يدلك عليه الصلاة والسلام يده بالأرض، وورد في الحديث أنه ضرب بها الحائط، ولذلك قال بعض العلماء: إذا كانت الأرض صلبة وكان الحائط من طين فإنه يضرب بيديه الحائط.
وللعلماء في ضربه عليه الصلاة والسلام على الأرض وضربه الحائط في غسله من الجنابة وجهان: الوجه الأول: أنها عبادة معللة تكون إذا وجدت علتها، بمعنى: أن الإنسان يضرب الحائط ويدلك الأرض إذا كان الحائط أو كانت الأرض ترابية أو من طين، لكن لو كانت الأرض صلبة وكان الحائط صلباً -كما هو موجود- فإنه على هذا القول تكون السنة الغسل بالصابون وما يحل محل الطين، قالوا: لأن العلة التنظيف، فكما أنه تحصل الطهارة بالطين فعند فقده تحصل بما يناسبه مثل الصابون.
الوجه الثاني: أنها عبادة، ويقتصر فيها على الصورة، فيكون وجود التطهير بالطين تبعاً لا أصلاً، وعلى هذا القول فإنه يسن للإنسان ولو كان الجدار أملس أن يضرب به يده -كما يقول بعض العلماء رحمة الله عليهم- وإذا كانت الأرض ليس فيها من فضلات النجاسة أو القذر فإنه يضرب يده أو يدلكها بها.
والصحيح: أنه عبادة معللة، فيضرب الجدار إذا كان من طين، وتدلك الأرض إذا كانت ترابية، وأما على حال اليوم فإنه لا يتأتى لقول أم المؤمنين: (دلك بيده الأرض دلكاً شديداً) والدلك الشديد لا يقصد به إلا الإزالة والتنظيف، ولذلك قالوا: إنها عبادة معللة، وهذا هو أصح الأوجه، ويكاد يكون قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم.(18/5)
محل الوضوء عند الغسل وكيفيته
قال رحمه الله: [ويتوضأ] إذا فرغ من غسل يديه وأنقاها بالطين أو بالصابون فإنه يتوضأ وضوءه للصلاة، ولكن يؤخر غسل رجليه، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، قالت أم المؤمنين عائشة: (ثم توضأ وضوءه للصلاة) وذكرت مثلها أم المؤمنين ميمونة، لكن صرحت بتأخيره لغسل رجليه، فمن العلماء من قال: يتوضأ وضوءاً كاملاً ويغسل رجليه، ومنهم من قال: يتوضأ ويؤخر غسل الرجلين، ومنهم من قال بالتفصيل، فقال: إن كان المكان طاهراً نقياً كالموجود الآن من البلاط، فإنه يتوضأ وضوءه للصلاة كاملاً، وإن كان المكان فيه طين فإنه يحتاج فيه إلى تجديد غسله لرجليه بعد غسله لبدنه مع تطاير الطين فقالوا: يؤخر غسل الرجلين حتى لا يكون ضرباً من الإسراف في استعماله للماء، ومنهم من فصل من وجه ثانٍ فقال: إن كان الماء كثيراً غسل رجليه، وإن كان قليلاً فإنه يؤخر غسل الرجلين على ظاهر حديث أم المؤمنين ميمونة.
والذي يظهر -والعلم عند الله- أن الأقوى والأشبه أن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم لغسل الرجلين قصد به الأذى، وهذا يعرفه كل من اغتسل في مكانٍ ترابي، فإنه مهما فعل وغسل رجليه فإنه بمجرد أن يفيض الماء على بدنه فإن رذاذ الطين يتطاير على الرجل، وأيضاً ثبوت الرجلين على الطين يحتاج به إلى غسل جديد للرجلين، فالأشبه أنه أخر وضوءه عليه الصلاة والسلام لمكان الطين في الموضع.(18/6)
الخلاف في الوضوء عند الغسل هل هو مقصود أم لا
المسألة الثانية: لو أن إنساناً أراد أن يتوضأ، فهل هذا الوضوء مقصود للغسل أو مقصود لذاته؟ للعلماء وجهان: منهم من قال: يتوضأ وضوءه للصلاة وهو عبادة مقصودة، أي: أنها طهارة مقصودة، ومنهم من قال: لا، وضوءه للصلاة لشرف أعضاء الوضوء، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما اغتسل من الجنابة وبدأ بالوضوء راعى فضل أعضاء الوضوء، وأقوى الوجهين القول الثاني: أنه توضأ لشرف أعضاء الوضوء فقدمها على غسل سائر البدن، يشهد لذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ أم عطية في غسلها لابنته غسل الموت قال: (ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها) وذلك لما أمر بتوضئتها، يعني: إعطاء أعضاء الوضوء الأسبقية، ففهمنا أن هذا لشرف أعضاء الوضوء وليس وضوءاً مقصوداً.
فائدة الخلاف: إن قلنا: إنه وضوء مقصود أو وضوء غير مقصود تتفرع عليه مسائل، فمن العلماء الذين قالوا: إنه وضوء مقصود، قالوا: إن خروج المني يؤدي إلى الحدث الأصغر والأكبر فيكون وضوءه لرفع الحدث الأصغر ويكون غسله لرفع الحدث الأكبر، فيصبح خروج المني يؤدي إلى انتقاض الطهارة الصغرى والكبرى، وفائدة معرفة ذلك في القياس، فلو أن إنساناً خرجت منه حصاة فالذين يقولون: إن خروج الحصاة يوجب انتقاض الوضوء يقولون: الحصاة طاهرة، فتنقض الوضوء كما أن المني طاهر وينقض الوضوء، ولذلك وجب الوضوء والغسل.
فيستفاد مما سبق في الأقيسة في اعتبار الأصل الشرعي، فإذا اعتبرت أن هذا الوضوء للطهارة الصغرى وأن المجنب بخروج المني عليه طهارتان فيتفرع منها: أن خروج الطاهرات يوجب انتقاض الحدث كما ذكرنا في باب نواقض الوضوء.(18/7)
إيصال الماء إلى أصول الشعر في الغسل
قال رحمه الله: [ويحثي على رأسه ثلاثاً ترويه] ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد أن انتهى من وضوئه حثا على رأسه ثلاث حثيات، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وحديث ميمونة -وهذان الحديثان يعتبران أصلاً عند العلماء رحمة الله عليهم في باب الغسل من الجنابة- وقد ذكرت ميمونة التعميم وذكرت عائشة رضي الله عنها كذلك التعميم في موضع والتفصيل في موضع ثانٍ، فقد بينت أن هذه الثلاث حثيات كانت من النبي صلى الله عليه وسلم؛ الأولى منها: لشقه الأيمن صلوات الله وسلامه عليه، والثانية: لشقه الأيسر، ولذلك فالسنة لمن توضأ في الغسل من الجنابة أن يبدأ فيأخذ حثية إلى شق رأسه الأيمن، فيحثي عليه، ويروي بهذه الحثية الأولى شعر رأسه قالت أم المؤمنين عائشة: (حتى إذا ظن أنه روى أصول شعره).
فالمقصود من هذه الثلاث حثيات: أن الشعر يكون كثيفاً، وخاصة أن شعر النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيفاً، وربما إذا رجّله وصل إلى منكبه، وكانوا في القديم قليلي الحلاقة، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج قال: (سيماهم التحليق) فكانت الحلاقة قليلة في ذلك الزمان، فكان الإنسان إذا اغتسل من الجنابة يخاف من الشعر؛ لأن إنقاء البشرة مقصود في الجنابة، ولذلك قال علي رضي الله عنه: (فمن ثم عاديت شعري)، يعني: خوفاً من الجنابة عاديت الشعر، فكان يحلق رضي الله عنه ويكثر منه، وكل ذلك خوفاً من التقصير في تروية أصول الشعر أو البشرة في الغسل من الجنابة.
فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ الحفنة الأولى ويروي بها أصول الشعر، فإذا بلغ الماء أصول الشعر في الشق الأيمن والشق الأيسر حثا عليه الصلاة والسلام الحثية الثالثة التي يقصد بها التعميم، فإذا عمم رأسه تفرغ لبدنه، قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (ثم أفاض على جسده)، وفي رواية: (على سائر جسده الماء).
قال بعض العلماء: يستحب قبل التعميم أن يتفقد الإنسان المواضع الخفية في البدن كالإبطين فيبدأ بإيصال الماء إليها، كما أوصل عليه الصلاة والسلام الماء لشئون رأسه؛ لأنه عند تعميم الماء لسائر الجسد قد يغفل عن هذه المواضع، ولذلك قالوا: تفقد عليه الصلاة والسلام شعر رأسه، وهذا أصل في تفقد المواضع التي قد تكون بعيدة عن الماء إذا عمم.(18/8)
تعميم البدن ثلاثاً أثناء الغسل
قال رحمه الله: [ويعم بدنه غسلاً ثلاثاً] (يعم البدن) بمعنى: أن يصب على جسده الماء صبة يعممه بها، وهذا التعميم قال فيه عليه الصلاة والسلام لـ أم سلمة: (ثم تفيضين الماء على جسدكِ فإذا أنتِ قد طهرتِ) والإفاضة: التعميم، والأصل في تعميم البدن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] وكذلك حديث أم سلمة (ثم تفيضين الماء على جسدك) وقول عائشة رضي الله عنها: ثم غسل سائر جسده، فيعمم البدن بالماء.
وقال المصنف: (ثلاثاً) أي: ثلاث مرات، وهذا فيه خلاف بين العلماء، فمن أهل العلم من قال: السنة أن يعم البدن بغسلة واحدة، ولا يزيد إلى الثلاث، وهو قول طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وممن روي عنه هذا القول الإمام مالك، وكذلك جاءت عن الإمام أحمد رواية بهذا، وشددوا في الغسلة الثانية والثالثة، وقالوا: لأنه يفعلها معتقداً الفضل ولم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه ثلث في الوضوء، ومن ثم قالوا: التثليث في الغسل بدعة، وشددوا في أن يغسل ثلاثاً بقصد العبادة.
لكن لو أنه غسل الغسلة الأولى قاصداً رفع الجنابة، ثم غسل المرة الثانية والثالثة للمبالغة في التنظيف كما هو الحال الآن، فالإنسان قد يغتسل بالصابون فيحتاج إلى صبة ثانية وثالثة، فلا حرج؛ لأنها خرجت إلى قصد النظافة لا إلى قصد العبادة وفرق بين قصد العبادة وبين قصد النظافة، أما لو ثلث بدنه قاصداً العبادة فهذه بدعة في قول طائفة من السلف كما ذكرنا، وهذا القول هو الصحيح، فإن الناظر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في غسله كلها يجد أنها نصت على أنه أفاض إفاضة واحدة عليه الصلاة والسلام، ولم يثنِ ولم يثلث -بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام- ولو كان الفضل في التثنية والتثليث لما تركه عليه الصلاة والسلام، وهناك رواية عن الإمام أحمد -وهو قول لبعض الشافعية رحمة الله عليهم وبعض العلماء- تقول: إنه يستحب التثليث في الغسل، ولكن الاستحباب حكم شرعي يحتاج إلى دليل، ولا دليل.(18/9)
حكم الدلك عند الغسل
قال رحمه الله: [ويدلكه] أي: يدلك البدن مبالغة في الإنقاء والتطهير وإيصال الماء إلى البدن، والدلك للعلماء فيه قولان: فمن أهل العلم رحمة الله عليهم من يقول: الدلك واجب، ومن اغتسل ولم يدلك بدنه لم يصح غسله، والقول الثاني: أن الدلك مستحب وليس بواجب، وهو قول الجمهور، والقول الأول لـ مالك رحمة الله على الجميع، والصحيح: مذهب الجمهور، وهو أن الدلك ليس بواجب وإنما هو مستحب، والدليل على عدم الوجوب ما ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات) انظر قوله: (إنما يكفيكِ -أي: يجزئك) وهذا الإجزاء لا يكون إلا في الواجبات، (إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدكِ فإذا أنتِ قد طهرتِ -وفي رواية: فإذا أنتِ تطهرين-) ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالتعميم ولم يبين لها وجوب الدلك وقال لها: (تفيضين) والإفاضة: الصب، ولذلك صح قول من قال: إن المقصود صب الماء دون الدلك، ولذلك يظهر أن هذا القول هو أعدل الأقوال وأولاها بالصواب.
لكن الإمام مالك رحمة الله عليه انتزع وجوب الدلك من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل بالصاع، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربعة من الرجال، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وكان عليه الصلاة والسلام وسطاً من الرجال، فالإمام مالك يقول: لا يعقل أن الصاع يغسل هذا القدر إلا بالدلك، وهو من ناحية الاستنباط صحيح، والأعدل أن يقال: الدلك ليس بواجب، لكن إذا كان الماء قليلاً وتوقف وصول الماء لجميع البدن على الدلك فإنه واجب من جهة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
والاستثناء بالصور المخصوصة لا يقتضي التعميم في جميع الأفراد، وبناءً على ذلك: فإنه ينظر في الماء الذي تغتسل به، فإن كان هذا الماء تستطيع إيصاله إلى جميع البدن دون أن يكون منك دلك فإن هذا هو القدر الذي أوجب الله عليك، وإن كان هذا الماء لا تستطيع إيصاله إلى جميع البدن إلا إذا دلكت فحينئذٍ يلزمك الدلك من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لا أنه واجب أصالة، وهذا هو أعدل الأقوال، وعلى قول المالكية بالوجوب يحصل إشكال في الموضع الذي لا تستطيع أن توصل إليه يدك، كأن يكون مثلاً: وراء الظهر، فقالوا: إذا شق عليه الدلك استخدم الليفة وحك بها ظهره.
وصل لما عسر بالمنديل ونحوه كالحبل والتوكيل أي: الذي يعسر عليك الوصول إليه باليد فإنك تستخدم واسطة، حتى لو تأخذ قطعة من القماش وتضعها في خشبة وتحك بها الظهر؛ لأنهم يرونه واجباً على جميع أجزاء البدن، والذي يظهر أن الواجب هو تعميم البدن، فلو أنك انغمست في بركة دون أن تمر يدك على سائر البدن أجزأك ذلك.(18/10)
التيامن أثناء الغسل
قال رحمه الله: [ويتيامن] يعني: يبدأ باليمين قبل اليسار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في غسل الميت: (ابدأن بميامنها وبأعضاء الوضوء منها) قال رحمه الله: [ويغسل قدميه مكاناً آخر].
هذا الذي سبقت الإشارة إليه، وقلنا: التفصيل هو أعدل الأقوال، فإن كان الموضع نظيفاً فلا حاجة إلى تأخير غسل الرجلين، وإن كان غير نظيف فإنه يؤخر غسل رجليه إلى آخر الغسل، إصابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.(18/11)
صفة الغسل المجزئ
قال رحمه الله: [والمجزئ أن ينوي ويسمي ويعم بدنه بالغسل] قوله: (والمجزئ) أي: من هذا الذي تقدم، وهذه فائدة تقديم الكمال قبل الإجزاء: أنه يأتيك بعد الكمال ويقول: المجزئ كذا وكذا فيأمن التكرار، لكن لو قدم الإجزاء وأتبعه بالكمال لكرر.
(المجزئ) أي: الذي ذكرته لك من الصفة الماضية الواجب عليك منه والفرض هو كذا وكذا؛ وينبغي أن يتنبه طالب العلم إلى أن الإجزاء يقوم وعلى الواجبات على الفرائض والأركان، وقد يدخل في الإجزاء أيضاً شروط الصحة، فقال: (والمجزئ) أي: الغسل الذي إذا فعلته كفاك وأجزأك لعبادتك.
(أن ينوي) يعني: النية.
(ويسمي) هذا على القول بوجوب التسمية، والصحيح: أنها ليست بواجبة، فليس هناك حديث صحيح يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب التسمية، وإنما أوجبها من أوجبها في الغسل قياساً على الوضوء، وهذا القياس فيه نظر، إذ يعترض عليه أولاً: بفساد الاعتبار، وهو أحد القوادح الأربعة عشر في القياس، وفساد الاعتبار: أن يكون القياس في مقابل نص من الكتاب والسنة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص أنه قال: (إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات) ولم يذكر التسمية، وقال الله في كتابه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ولم يأمر بالتسمية، وقد أمر بالتسمية للأكل: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118]، فهذا القادح الأول: فساد الاعتبار.
القادح الثاني: أن هذا القياس يعتبر من باب رد المختلف فيه إلى المختلف فيه، فلك أن تقول لمن يستدل بهذا القياس: أنا أنازعك في الأصل الذي تحتج به -وهو وجوب التسمية في الوضوء- فكيف تقيس على أصل اختلفنا فيه؟ أي: أنا لا أسلم لك أن الوضوء تجب فيه التسمية، فكيف تلزمني بالغسل قياساً على الوضوء؟ ويقولون: هذا من باب رد المختلف فيه -وهو الفرع الذي هو الغسل- إلى المختلف فيه -وهو الأصل-، ومن شرط صحة القياس بالنسبة للإلزام أن يكون المحتج عليه بالقياس مسلماً بحكم الأصل، فإن كان الأصل مختلفاً في حكمه فيكون القياس من باب الالتزام لا الإلزام، أي: أنه يلزم من يحتج به لنفسه؛ لأنه يرى وجوب التسمية في الوضوء، فيقول: أنا أوجب التسمية في الغسل كما أوجبها في الوضوء من باب إلحاق النظير بنظيره.
وقوله: (ويعم بدنه بالغسل مرة).
إذا حصل في الغسل ثلاثة أمور، أولها: النية، ثانيها: التعميم للبدن، وثالثها: المضمضة والاستنشاق إذا اعتبرناهما من جنس واحد وإلا كانت أربعة أمور، فهذه هي الواجبة واللازمة، فمن دخل إلى بركة -مثلاً- وانغمس فيها غمسة واحدة قاصداً الطهارة من الجنابة، أو قصدت المرأة طهارتها من حيض أو نفاس ثم تمضمض واستنشق أجزأه وتم غسله؛ لأنه عمم البدن ومضمض واستنشق، والفم والأنف من خارج البدن، فيجزئه هذا.(18/12)
مقدار الماء الذي يغتسل به
قال رحمه الله: [ويتوضأ بمد ويغتسل بصاع] بعد أن بين رحمه الله صفة الغسل الكاملة والمجزئة، انتقل ليبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدر الماء الذي يغتسل به فقال رحمه الله: (ويتوضأ بمدٍ ويغتسل بصاع).
فقوله: (يتوضأ بمد) المد: هو ضرب من المكاييل التي كانت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، والمد أصغرها، وضابطه عند العلماء: ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، أي: أوسط الرجال لو حفن حفنة ملأت هذا المد، وهذا المد لازال موجوداً إلى الآن في المدينة، ويتوارثه الناس جيلاً فجيل، ويعتبر حجة؛ لأنه من نقل الكافة عن الكافة، وهو ربع صاع بالنسبة لمد المدينة، وعرف المدينة باقٍ على الأصل، وقد حررت ذلك بنفسي على كبار السن، وعندهم أنه إذا صنع الصانع المد فلابد أن يحرر، والتحرير: أنهم يأخذون صاعاً قديماً حرر على أقدم منه وهكذا حتى يضبطونه؛ لأنه في بعض الأحيان الصانع يوسع المد، فلم تكن عندهم المعايير منضبطة مثل ما هو الآن في المصانع، فالصانع ربما وسعه وربما ضيقه، ففي بعض الأحيان يقول لك: هذا المد مسح، بمعنى: إذا امتلأ الطعام فيه فمسحته تم المد، وبعض الأحيان يقول لك: حتى يتساقط، يعني: تملأه بالطعام حتى يتناثر، وبعض الأحيان يقول لك: نصف ملء، بمعنى: أنك تملؤه ولا يتناثر كمال التناثر ولكن إلى نصفه وهكذا، فالمد هذا يعدل ربع الصاع، وصاع النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أمداد، أي: من المد الذي هو ملء اليدين المتوسطتين، فلو ملأت بها أربع مرات أو حثيت بها أربع مرات طعاماً أو تراباً ملأت الصاع، وهذا الصاع كما قيل: إنه وحدة من الكيل فوق المد.
وأحياناً يقولون للمد الصغير هذا: صاعاً نبوياً، ولكن المشهور أن الصاع هو الكبير، وهذا الصغير يعد ربع صاع، وكذلك أيضاً هناك وحدة ثالثة وهي: المد الكبير، والمد الكبير ثلاثة أضعاف الصاع، أي: ثلاثة آصع تملأ المد الكبير، فأصبح المد الكبير فيه اثنا عشر مداً صغيراً، فيفرق بينهما، وفي الأعراس قد تسمعهم يقولون: هذا مد كبير أو هذا مد صغير فتفرق بينهما بهذا.
يقول: (يتوضأ بمدٍ) وهو المد الصغير، (ويغتسل بصاع)، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة، وورد عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه اغتسل بإناء قدر الحلاب) والمراد بقدر الحلاب أي: الإناء الذي يسع حليب الناقة، فلو حُلبت ملأته، وهذه ضوابط العرب؛ لأنهم في القديم ما كان عندهم وحدات، فأحياناً يقدرون بمثل هذا وأحياناً يقدرون بشيء تقريبي، وورد عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه اغتسل إلى خمسة أمداد) من المد الذي ذكرناه، وكل هذا على التخيير.
وهدي النبي صلى الله عليه وسلم ليس ملزماً؛ لأنه دلالة فعل، بمعنى: لا يلزمك ولا يجب عليك أن تغتسل بالصاع، بل إن في بعض الأحيان لو اغتسل الإنسان بالصاع ربما أخل، فلا تُطلب السنة بضياع الفرض، وإنما يغتسل بالصاع من يضبط الماء، ويحسن صبه على البدن وحفظه، وهذا موجود، وإن كان بعض العلماء يقول: كان الشيء مباركاً فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمانه، ثم نزعت البركة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه: (إذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام -كما في صحيح مسلم وغيره من أحاديث الرقائق- أنه توضع البركة، حتى أن الشاة يطعمها أربعون) الشاة الواحدة تكفي أربعين شخصاً من البركة، وقد نزعت البركة من الأشياء، فربما لو قلت لإنسان الآن: اغتسل بصاع، قد لا يستطيع، بل حتى في عصر التابعين، قال ابن الحنفية: (ما يكفيني)، فرد عليه الراوي: (قد كان يكفي من هو أكبر منك جسداً وأوفر شعراً)، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود: إذا تيسر للإنسان أن يصيب هذه السنة فليصبها، وإذا لم يتيسر له فإنه لا حرج عليه.(18/13)
حكم الغسل بأقل من صاع
قال رحمه الله: [فإن أسبغ بأقل أو نوى بغسله الحدثين أجزأ].
قوله: (فإن أسبغ بأقل) (أسبغ) بمعنى: عمم أو استوعب أعضاء الفرض، فمثلاً: الصبي الذي هو في الخامسة عشرة من عمره أو الإنسان صغير الحجم، قد يستطيع بأقل من الصاع أو بقدر يقارب الصاع أن يعمم بدنه، فليس مراده أن يغتسل بالصاع إلزاماً، فجاء بهذه العبارة حتى يفيد أنه للندب والاستحباب لا للحتم والإيجاب.(18/14)
حكم من نوى بغسله رفع الحدثين
وقوله: (أو نوى بغسله الحدثين أجزأ) إذا اغتسل الإنسان من أجل أن يصلي فإنه يستبيح الصلاة مباشرة، وقال بعض العلماء: إنه يجزئه مطلقاً سواءً نوى أو لم ينو، والأقوى أنه إذا نوى يجزئه، وهذا بالإجماع: أن من اغتسل فإن هذا يجزئه لكلا العبادتين، وإذا وقع الوضوء في الغسل أجزأه قولاً واحداً، لكن عند أبي ثور أنه يجب عليه أن يتوضأ أثناء الغسل، وهذا قول يعتبر من مفردات أبي ثور -وهو الإمام الفقيه إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي رحمة الله عليه، كان من أصحاب الشافعي ثم اجتهد، وكان له مذهب مستقل، يقول عنه الإمام أحمد: أعرفه بالسنة منذ ثلاثين عاماً رحمة الله عليه- فهذا الإمام الجليل يرى أن الوضوء في الغسل واجب، ولكنه قول مرجوح لظاهر القرآن: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ولم يوجب الله الوضوء، وما ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة الذي ذكرناه: (إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات) وهذا الحديث من أهم أحاديث الغسل، ولذلك أقول: رضي الله عن أم سلمة وأرضاها، ونسأل الله العظيم أن يعظم أجرها بهذا الحديث، وهذا الحديث دفع إشكالات كثيرة في الغسل من الجنابة، وأزال اللبس في كثير من الأمور التي قيل بوجوبها وهي ليست بواجبة، وما كان هناك مخرج إلا بهذا الحديث، وهذه هي فائدة سؤال العلماء، فقد سألت أم سلمة رضي الله عنها وقالت: (يا رسول الله! إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي، أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات، ثم تفيضين الماء على جسدكِ فإذا أنتِ قد طهرتِ) وهذا الحديث يستفاد منه فيما لا يقل عن عشرين مسألة من مسائل الغسل من الجنابة، رضي الله عنها وأرضاها.
قال رحمه الله: [ويسن لجنب غسل فرجه].
إذا وقعت الجنابة من جماع أو استيقظ وهو جنب فيسن له أن يغسل فرجه، لظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وحديث عمر في الصحيحين، أما حديث عائشة فقالت:: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً وأراد أن ينام أو يأكل غسل فرجه وتوضأ)، وأما حديث عمر في الصحيحين قال: (يا رسول الله! أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: توضأ واغسل فرجك ثم نم) فقالوا: (اغسل فرجك) دل على مشروعية غسل الفرج، حتى أن بعض الأطباء يعتبره من الأمور الطيبة، ويقولون: إنه لا يؤمن أنه إذا تأخر المني في موضعه أن تتولد منه بعض الجراثيم، وقد ينشأ منها بعض الأمراض، ولذلك قالوا: ربما لو يبس على العضو ربما حدث بعض الضرر، فلذلك كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يغسل موضع الجنابة.
وقوله: (لجنب).
يشمل الذكر والأنثى، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: توضأ واغسل فرجك).(18/15)
حكم وضوء الجنب لأكل ونوم ومعاودة جماع
قال رحمه الله: [والوضوء لأكل ونوم] قد ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة عند أحمد ومسلم في صحيحه رحمة الله عليهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً وأراد أن ينام أو يأكل توضأ) ومن العلماء من قال: هذا الوضوء وضوء الجنب، وهذا الوضوء لا ينتقض، فلو توضأ ثم خرج منه ريح فإنهم يقولون: لا ينتقض وضوءه بل يبقى على وضوئه، وهو الوضوء الذي يلغز به بعض الفقهاء فيقولون: متوضئ لا ينتقض وضوءه لا ببول ولا غائط ولا ريح، فقد تقول: المستحاضة، فيقال: هذه معذورة، لكن هذا غير معذور، فيكون
الجواب
هو وضوء الجنب، كما أشار إلى ذلك السيوطي بقوله: قل للفقيه وللمفيدِ ولكل ذي باعٍ مديدِ ما قلت في متوضئٍ قد جاء بالأمر السديدِ لا ينقضون وضوءه مهما تغوط أو يزيدِ فهذه من ألغاز الفقهاء، فلو أن إنساناً أراد أن ينام فغسل فرجه ثم توضأ، وقبل أن ينام خرج منه ريح، فيقول: ما دام النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتوضأ في الجنابة قبل النوم، إذاً فقد انتقض الوضوء، مع أنه يكاد يكون إجماعاً أنه لا ينتقض هذا الوضوء بخروج الخارج؛ لأن المراد به -كما يقولون-: أنه أرفق بالأعضاء، والغالب أن الإنسان إذا حصل منه الإنزال ضعف بدنه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الغسل عند معاودة للوطء: (فإنه أنشط للعود) وسبحان الله! ما أكرم الله علينا بهذه الشريعة! فنحمد الله تبارك وتعالى على هذه النعم الظاهرة والباطنة، ولهذا فالخير الكثير والرحمة المهداة والنعمة المسداة التي أكرمنا الله عز وجل بها في هذه الشريعة السمحاء، نسأل الله العظيم أن يحيينا عليها وأن يرزقنا طهارتها وأن يميتنا عليها.
وعندما تنظر إلى الكفار ترى الواحد منهم ربما أقبل عليك فلا تستطيع أن تتحمل نتنه وقذارته؛ لأنهم لا يغتسلون ولا يزيلون الحدث، حتى ذكر بعض المؤرخين والمتأخرين أن أوروبا عاشت إلى قرون قريبة -إلى قبل القرن العاشر بيسير- وهم لا يعرفون الغسل، ولا يحسنون تنظيف أبدانهم، وهم الذين يقولون: إنهم أهل الحضارات، وما عرفوا الحضارة إلا من الإسلام، ولا عرفوا الطهارة ولا النقاء إلا من هذه الأحاديث النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم التي ما تركت قليلاً ولا كثيراً، والحمد لله الذي جعلنا مسلمين؛ والله أخبر أنه يريد أن يطهرنا، فطهرنا سبحانه حساً ومعنى، وهذا من سماحة الشريعة ومن يسرها وفضلها.
وقوله: (والوضوء لأكل) لحديث عائشة.
(ونوم) لحديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين، وكذلك في حديث عائشة [(ومعاودة وطء) أي: معاودة الجماع، فلو أن إنساناً جامع أهله ثم أراد أن يعود فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا جامع أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ) فعندنا الآن: الوضوء للنوم، والوضوء للأكل، والوضوء لمعاودة الجماع.
وظاهر الأحاديث الأمر: (فليتوضأ) (توضأ واغسل فرجك ثم نم) كلها أوامر، فهل هذا الوضوء واجب؟ وجهان للعلماء: وأصحهما قول الجمهور: أن الوضوء ليس بواجب على الجنب، لا للأكل ولا للنوم ولا للجماع، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أمرت بالوضوء للصلاة) وهذا هو ظاهر القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] فدل على أن لزوم الوضوء إنما يكون عند إرادة الصلاة، وفرع من هذا عدم الوجوب لغير الصلاة، وفيه حديث عمار أنه رخص للجنب، يعني: في ترك وضوئه عند إرادته الأكل أو النوم، ولكنه متكلم في سنده، لكن الأقوى: (إنما أمرت بالوضوء للصلاة).
إذا ثبت هذا: فالأمر بالوضوء للجنب على الاستحباب والندب لا على الوجوب والحتم، فلو أنه ترك هذا الوضوء لم يجب عليه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم سنية الوضوء لمعاودة الجماع، وقال عليه الصلاة والسلام في بيان العلة: (فإنه أنشط للعود) فقوله: (إنه أنشط للعود) يخرج النص عن الوجوب إلى الندب والاستحباب، وهي قرينة تصرف الحديث من الأمر إلى الندب، ففي هذا الحديث ذكرها العلماء، لكن أظهرها قولهم: أنه للندب والاستحباب لا للحتم والإيجاب.(18/16)
الأسئلة(18/17)
حكم المضمضة والاستنشاق عند الغسل
السؤال
إذا اغتسل الإنسان غسل إجزاء ولم يتمضمض ولم يستنشق، فهل غسله باطل؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: اختلف العلماء رحمهم الله في المضمضة والاستنشاق للغسل من الجنابة على قولين: فقال الإمام أبو حنيفة وأحمد رحمة الله عليهما بوجوب المضمضة والاستنشاق، وقال غيرهم بالاستحباب، والصحيح: أنهما واجبان ولا يصح الغسل بدونهما؛ لأن الله أمر بتطهير ظاهر البدن، والفم والأنف من ظاهر البدن لا من داخله، بدليل أن الصائم إذا تمضمض أو استنشق لم يفطر من صومه، وبناءً على ذلك: فإن أصح الأقوال: أن المضمضة والاستنشاق لازمتان للغسل من الجنابة، فمن لم يتمضمض ولم يستنشق يكون كأنه ترك عضواً من الأعضاء التي أمر بغسلها.
والله تعالى أعلم.(18/18)
حكم من أحدث أثناء الغسل
السؤال
إذا أحدث الشخص أثناء الغسل، هل يعود ويبتدئ من الأول أم يستمر؟
الجواب
إذا أحدث الإنسان أثناء الغسل فحدثه على ضربين: إذا أحدث حدثاً أصغر فإنه لا يؤثر في غسله من الجنابة، ولكن لا يستبيح به الصلاة إلا إذا عمم بدنه بالماء بعد خروج ذلك الخارج، مثال ذلك: لو أن إنساناً -أثناء اغتساله- بعد أن غسل كفيه وتوضأ وضوءه للصلاة وغسل شقه الأيمن خرج منه ريح أو مس فرجه، فحينئذٍ إذا غسل باقي البدن وعمم -بعد انتهائه من الجزء الأيسر- على سائر البدن وتمضمض واستنشق فإنه يجزئه، ويعتبر تعميم البدن بعد خروج الخارج بمثابة الوضوء بعده، أما لو أنه خرج منه الخارج بعد تعميم البدن، كأن يكون مثلاً: عمم بدنه بالماء وقبل أن يغسل رجليه خرج منه الريح أو بال، فإنه في هذه الحالة يعتبر منتقضاً لوضوئه، وأما غسل الجنابة فلا يؤثر فيه الحدث الأصغر.
أما لو خرج منه مني فعلى حالتين: إما أن يكون فضلة مني سابقة، كأن يكون مثلاً: خرج منه المني وبقي شيء في المجاري لم يقوَ خروجه إلا عند برود جسده، فلما برد جسده بالماء قويت القوة الدافعة على إخراج ما تم، فخرجت فضلة المني الأول على شكل قطرات فإن هذه تنقض الوضوء ولا تنقض الغسل -على القول بأن خروج المني ناقض للوضوء- وبناءً على ذلك: فإن هذا المني يعتبر لاحقاً للمني الأول، والتابع تابع، لكن لو أن هذا المني كان منياً مستأنفاً فحينئذٍ يلزمه أن يعيد غسله من الجنابة، ولا يصح منه إلا بعد أن يعمم بدنه بالماء، والله تعالى أعلم.(18/19)
حكم الاغتسال بالماء والصابون في غسل الجنابة
السؤال
إذا اغتسل الإنسان بالماء والصابون ونوى به غسل الجنابة، فهل يجزئه ذلك أم أن الماء يعتبر طاهراً؟
الجواب
لا ما يمكن؛ لأنه إذا اغتسل بالماء والصابون، وعمم بدنه بالصابون، ثم صب الماء، فالماء طهور، فورود الطهور على الطاهر يطهر، لكن لو كان الماء مخلوطاً بصابون واغتسل بماء وصابون فهل يبقى بالماء والصابون على بدنه؟ ما يمكن هذا، وما يتأتى، فلابد أنه بعد الصابون سيصب صبة مستقلة، فإذا صب الطهور بعد الطاهر أجزأه، أما أن يغتسل بالماء والصابون ويخرج فما أظن هذا حاصلاً؛ لأنه لا يستطيع أن يصبر على أذى الصابون، وبناءً على ذلك: فالمسألة فرضية أكثر من أنها حقيقية، وهي سؤال جيد كمسلك فقهي، أي: هل يؤثر أو لا؟ وهي مفرعة على قوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلنها بماء وسدر) قالوا: هل ينفصل، أو يكون مع الماء الطهور، أو يغسل بالماء أولاً ثم يدلك بالسدر ثم يصب الماء الطهور بعد ذلك؟ فالأحوط دائماً: أن تجعل بعد الصابون غسلة مستقلة.
فلو كان الماء فيه رائحة الصابون وطعم الصابون فهو طاهر وليس بطهور، وفي هذه الحالة لا يرفع حدثاً أصغر ولا حدثاً أكبر، لأنه طاهر غير طهور.(18/20)
عصر الذكر عند الغسل من الجنابة
السؤال
هل يجب على الإنسان عند غُسله من الجنابة أن يعصر ذكره حتى يخرج ما تبقى من المني؟
الجواب
لا، تكلف عصر العضو في الخارج سواءً كان منياً أو كان غير مني هذا لا أصل له، ولكن ذكر العلماء أنه إذا حصل عند إنسان مرض ولم تستطع القوة على إخراج الفضلة وتوقف على السلت، قالوا: يسلت من باب: مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولكنها حالة مستثناة، والأفضل والأولى أن لا يفعلها الإنسان ولا يعتاد هذا، وأما هل يجب عليه؟ فلا يجب على أحد أن يعصر ولا أن يتكلف ذلك، وقد يدخل الإنسان على نفسه الوسوسة، وقد يتسلط عليه الشيطان ويقول له: بقي شيء، ويقولون: إن العضو كالضرع كلما حلب در، ولذلك قالوا: كلما اشتغل المكلف بعضوه من ناحية نقاء البول أو المني أو المذي فإنه يدخل على نفسه باباً من الوسوسة يتعب منه كثيراً، ولذلك استحبوا أن الإنسان يقتصر على رحمة الله به ولطفه، فما كلف الله المكلف إلا ما أمامه، فإذا غسل العضو غسلاً عادياً دون أن يتكلف فيه فقد أجزأه وبرئت ذمته، والله تعالى أعلم.(18/21)
كيفية الاغتسال وفق السنة تحت الدش
السؤال
كيف يتحقق غسل الجنابة على السنة مع ما يسمى هذه الأيام بالدش؟
الجواب
يبدأ الإنسان بغسل كفيه أولاً، ثم يغسل فرجه ومواضع الأذى، ثم يفرغ بيمينه على يساره، فإذا كان عنده صنبور فإنه يفتح الصنبور ويأخذ باليسرى، ويغسل الفرج ومواضع الأذى، ثم يرجع ثانية ويفتح الصنبور ويغسل كفيه حتى يظن أنه أنقاها بالصابون أو نحوه، فإذا حصل النقاء للكفين فإنه يبدأ ويتوضأ وضوءه للصلاة، وبعد أن ينتهي من مسح رأسه -على القول بتأخير الرجلين- يغسل رجليه، ثم يقوم ويقف -وهذا أفضل- ويجعل شقه الأيمن للدُش.
فإذا أصاب الشق الأيمن فإنه يدلك شعره، ويبدأ أول شيء بدلك الشعر بحيث يروي أصوله، ثم يجعل شقه الأيسر للدُش، ثم يعمم سائر بدنه، والسنة والأولى -على القول بالتفصيل في غسل الرأس- أن يبدأ بغسل الكفين ثم بغسل الفرج ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ كفاً من ماء ويصبها على رأسه ويروي بها أصول الشعر اليمنى، ثم يروي أصول الشعر ثم يقف، ويصب على شقه الأيمن ثم الأيسر، لكن التيامن والتياسر مشكلة في البركة.
فقد يكون الإنسان حريصاً على السنة، فكيف، يفعل في البركة؟ ممكن أن الإنسان، يبدأ بنفس الطريقة، ثم يفيض على شقه الأيمن ثم شقه الأيسر، بل حتى لو وقف في البركة وأصاب الماء منتصف جسده أو إلى صدره ثم أفاض -وهو واقف- يبدأ ويفيض على شقه الأيمن ثم على شقه الأيسر ثم ينغمس في البركة فإن هذا يجزئه.(18/22)
حكم نقض المرأة شعرها في غسل الجنابة والحيض والنفاس
السؤال
هل يجب على المرأة أن تنقض شعر رأسها في الغسل من الجنابة أم هو خاص في الحيض والنفاس فقط؟
الجواب
ظاهر حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي، أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات، ثم تفيضين الماء على جسدكِ؛ فإذا أنتِ قد طهرتِ) قال بعض العلماء: لا يلزمها نقض شعرها مطلقاً، لا في غسل جنابة ولا في غسل حيض أو نفاس، ووجه ذلك أنهم قالوا: إنها سألت عن الجنابة، والسؤال عن الجنابة منبهٌ على النظير وهو: الحيض والنفاس، وقال بعض العلماء: يكون الحكم خاصاً بالجنابة، ويبقى الحيض والنفاس على ظاهر القرآن من الأمر بالتطهير، والأقوى: أن الحكم عام وشامل للجنابة والحيض والنفاس.
ولذلك: السؤال عن أحد أفراد العام لا يقتضي التخصيص به إذا كان المعنى يقتضي التعميم، وإن كان بعض العلماء ينازع في هذا ويقول: إنه قد يخفف من جهة الجنابة للكثرة ويكون الحيض والنفاس باقٍ على الأصل للقلة، أي: لقلة الحيض والنفاس، حيث يكون مرة في الشهر، ولكن الجنابة قد تكون مرة في اليوم وقد تكون مرات، فقالوا: خفف عليها في الجنابة، وبقي الحيض والنفاس على الأصل الموجب لسائر البدن، والذي يظهر أنه يجزئها في الحيض والنفاس، ولكن الأحوط والأفضل: أن تنقض شعرها في غسلها من الحيض والنفاس، وتبقى في الجنابة على الرخصة، ولكن لو عملت بالرخصة في الجميع أجزأها، والله تعالى أعلم.(18/23)
حكم مسح الجسم بالماء دون إفاضة الماء
السؤال
هل يجزئ مسح الجسم بالماء بدل الإفاضة بسبب قلة الماء أو برودته؟
الجواب
المسح لا يجزئ، لكن لو صب الماء ثم دلك الجسد والماء عليه أجزأ، وهناك فرق بين المسح وبين الغسل، فإن الله أمر بالتطهر بالماء، ولا يتحقق ذلك إلا بالغسل، والفرق بين المسح وبين الغسل: أن مادة الماء موجودة على الجسم أثناء إمرارك لليد، لكن المسح يكون بفضلة الماء الموجودة على الكف الذي تمسح به، ويكون ظاهر البشرة لا ماء فيه، فإن كان الماء موجوداً في اليد الماسحة دون اليد الممسوحة فهذا مسح، وأما إذا كان الماء موجوداً على اليد المغسولة ومر نفس الماء على يده فإن هذا غسل وليس بمسح، وهي مسألة تشكل على الكثير، وقد تحدث بسببها وسوسة للإنسان، فخذ هذا الضابط: إذا كان الماء جارياً على البدن، وجرفت الماء بجريان أصابع يدك عليه، والماء موجود على نفس العضو الذي جرت عليه اليد فهذا غسل، أما إذا كان الماء موجوداً في اليد التي تجري دون اليد التي تُغسل فإنه يكون مسحاً ولا يكون غسلاً، والله تعالى أعلم.(18/24)
حكم استباحة فريضة بوضوء نافلة
السؤال
إذا توضأت لصلاة نافلة وبقيت على ذلك الوضوء حتى دخل وقت فريضة، فهل أصلي بذلك الوضوء، علماً أنني نويت بوضوئي صلاة النافلة فقط؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فمن أهل العلم من يقول: من توضأ لنافلة صلى ما شاء الله، ولا يفرق بين النافلة والفريضة، ومنهم من قال: إن من توضأ لنافلة فلا يصلي بها ما هو أعلى منها وهي الفريضة؛ لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمر: (إنما لكل امرئ ما نوى) فمن نوى الأقل لا يستبيح به الأعلى، كمن صلى نافلة وأراد أن يقلبها ظهراً فبالإجماع أنها لا تنقلب، ولذلك قالوا: إذا نوى أن هذا الوضوء للنافلة فإنه يستبيح صلاة النافلة دون الفرض، وهذا هو الأحوط لظاهر قوله: (إنما لكل امرئ ما نوى) فقال العلماء قوله: (إنما لكل امرئ ما نوى) يدل على أن من نوى الشيء حصل له، وأن من لم ينوه -من باب المفهوم- لا يحصل له، وهذا هو الأحوط، فيعيد وضوءه، والأفضل والأحسن أن الإنسان إذا أراد أن يتوضأ أو يغتسل أن ينوي رفع الحدث، ولا ينوي صلاة معينة، فإنه إذا نوى رفع الحدث الأصغر والأكبر أجزأه، وقد أشار بعض الفضلاء إلى هذا المعنى في قوله: ولينوِ رفع حدثٍ أو مفترض أو استباحة لمن معاً عرض فهذه ثلاثة أحوال للنية، (ولينوِ رفع حدثٍ) أي: ينوي مطلق رفع الحدث، وهذا بالإجماع أنه يستبيح به ما شاء مما يمنعه الحدث.
(أو مفترض) يعني: صلاة فرضها الله كالظهر والعصر، (أو استباحة لمن معاً عرض) أي: هو محدث فيمتنع عليه أن يطوف فتوضأ للطواف، أو يمتنع عليه حمل القرآن فتوضأ لحمل القرآن، والأولى والأحسن للإنسان أن ينوي رفع الحدث، وإذا نوى رفع الحدث الأصغر والأكبر فإنه يستبيح ما شاء الله أن يستبيح، والله تعالى أعلم.(18/25)
حكم جمع صلاة العصر مع صلاة الجمعة للمسافر
السؤال
هل يجوز للمسافر أن يجمع بين العصر والجمعة جمع تقديم كما يجمع بينه وبين الظهر؟
الجواب
هذه المسألة فيها إشكال عند العلماء، ومذهب طائفة من أهل العلم أنه لا يجمع بين الجمعة والعصر، وذلك لأن الجمعة لا تكون للمسافر، والجمع إنما يتأتى إذا قُصرت الصلاة مع الصلاة الثانية، وإن كانت قضية القصر ليست هي العلة الأقوى في هذا؛ لظاهر حديث المناسك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين صلاتين: الأولى تامة والثانية مقصورة وهما: المغرب والعشاء، فإن الأولى تامة والثانية مقصورة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه يصح الجمع بين الجمعة والعصر، وقال بعضهم بعدم صحة الجمع بين العصر والجمعة، والأحوط أن الإنسان لا يجمع، لكن لو احتاج وجمع فيقوى القول بأنه يجوز له ذلك ولا حرج عليه، والله تعالى أعلم.(18/26)
الخلاف في تحريم زوجة الأب من الرضاع
السؤال
قال تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22] هل زوجة الأب من الرضاع تحرم على ابنه من الرضاع فتكون داخلة في عموم هذه الآية؟
الجواب
هذا التحريم يسمى التحريم بالمصاهرة في الرضاع والتحريم بالمصاهرة اختلف العلماء فيه، هل يستوي النسب والمصاهرة في التحريم بسبب الرضاع أو لا يستويان؟ والحقيقة أن هذه المسألة أنا متوقف فيها، وكنت أقول: إن التحريم بالمصاهرة في الرضاع ينزل منزلة التحريم بالنسب في الرضاع لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ولكن الإشكال أن التحريم هنا بالمصاهرة، وهي مسألة توقف فيها عدد من العلماء رحمة الله عليهم من المتقدمين، وأنا أرى أن الإنسان يحتاط، فلا يتزوجها ولا يختلي بها، أي: يحتاط في الذي هو مسلك الشبهة، فأقل درجاتها الشبهة، فلا يتزوجها ولا يختلي بها إعمالاً للأصل في الاستبراء في كلا الأمرين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(18/27)
شرح زاد المستقنع - باب التيمم [1]
شرع الله سبحانه التيمم في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء كذلك على مشروعيته، وهو رخصة من الله سبحانه لعباده المسلمين؛ ليزيل عنهم المشقة والضرر، وله أسباب تبيح الأخذ برخصته، وكذلك له ضوابط نص عليها العلماء وبينوها حتى تكون الرخصة في محلها.(19/1)
تعريف التيمم لغة واصطلاحاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب التيمم].
التيمم مأخوذ من قولهم: تيمم الشيء إذا قصده، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] أي: ولا تقصدوا رديء التمر والخارج من الأرض لتنفقوا منه زكاة أموالكم، ومن ذلك قول الشاعر: تيممتها من أذرعات وأهلُها بيثرب أدنى دارها نَظَرٌ عالي أي: قصدتها.
فالتيمم القصد.
وأما في الاصطلاح: فإنه القصد إلى الصعيد الطيب بضرب اليدين ومسح الوجه والكفين بنية استباحة الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة.
والمراد بالصعيد الطيب: ما على وجه الأرض، سواءً كان تراباً أو غيره، وسواء كان جامداً -كالحجارة ونحوها- أو كان غير جامد.
فقولهم: القصد إلى الصعيد الطيب، المراد به كل ما صعد على وجه الأرض، والعلماء -رحمهم الله- اختلفوا في هذه المسألة، فمنهم من يقول: لا يقصد إلا إلى شيء مخصوص، وهو التراب إذا كان له غبار، وأما إذا لم يكن له غبار فإنه لا يتيمم به.
وقالت طائفة من العلماء: إنه يتيمم بكل ما على وجه الأرض، من الجامد، وغير الجامد كالنباتات التي تغتذي بالماء، قالوا: يجوز أن يتيمم بها ما دامت متصلة بالأرض، كما هو مذهب مالك رحمه الله.
ومنهم من خصّ التيمم بكل ما على وجه الأرض، لكن خصه بما كان من جنس الأرض، فيشمل الحجارة والطين والجصّ والنورة وغير ذلك.
(بضرب اليدين) أي: يقصد إلى الصعيد الطيب مع ضربه اليدين على ذلك الصعيد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لـ عمار: (إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا) ثم ضرب عليه الصلاة والسلام بكفيه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه، فدل هذا على أنه يشرع التيمم على هذه الصفة، فقولهم: القصد إلى الصعيد الطيب بمسح الوجه والكفين: المراد به قصد مخصوص، وقولهم: بنية استباحة الصلاة، هو أحد أقوال العلماء، والقول الثاني: بنية رفع الحدث، والقول بنية استباحة الصلاة هو الأقوى؛ لأن التيمم مبيح وليس برافع.(19/2)
أدلة مشروعية التيمم
شرع الله التيمم في كتابه بقوله سبحانه وتعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43] في آيتي النساء والمائدة، وشرعه عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن عماراً لما خرج في السرية -وكانت في زمان بارد- وأصابته الجنابة قال: فتمعكت كما تمعك الدابة -وكان يخشى على نفسه لو اغتسل أن يموت- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ما صنع.
فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ومسح بهما وجهه وكفيه).
وثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على رجل لم يصلِّ في القوم، فقال: ما منعك أن تصلي في القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء.
فقال عليه الصلاة والسلام: عليك بالصعيد الطيب، فإنه يكفيك) وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين) وفي الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي -ومنها قوله:- وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فدلت هذه الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أن التيمم مشروع.
وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية التيمم.
أما بالنسبة لمناسبة هذا الباب لما قبله: فقد كان المصنف رحمه الله في باب الغسل ثم شرع في باب التيمم، فما هو الرابط بين باب الغسل وباب التيمم؟ تكلم المصنف رحمه الله في الباب السابق عن الغسل والوضوء ونواقض الوضوء، فجمع بذلك بين الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى، ولكن كان حديثه عن الطهارة بالماء التي هي أصل، ثم شرع هنا في طهارة التراب التي هي بدل، ولذلك قالوا: إن الكلام عن البدل مفرّع عن الكلام على المبدل منه، فبعد أن بين رحمه الله حكم الطهارة بالأصل -وهو الماء- شرع في بيان حكم الطهارة بالبدل، وهو التراب.(19/3)
التيمم بدل عن الطهارة الصغرى والكبرى وطهارة الخبث
قال رحمه الله: [وهو بدل طهارة الماء إذا دخل وقت فريضة].
(وهو) أي: التيمم.
(بدل طهارة الماء) أي: أنه ليس بأصل، وإنما شرع على صورة مخصوصة، وفي أحوال مخصوصة، ولذلك يمكن للفقيه أن يقول للمكلف: تيمم إذا وجد موجبات الرخصة، وممكن أن يقول له: لا تتيمم إذا لم تتوفر موجبات الرخصة، ولذلك قال: وهو بدل، والبدل يحتاج منك إلى أن تعرف شروطه والقيود التي وضعها الشرع لجواز هذا البدل عن المبدل منه، فالتيمم بدل عن طهارة الماء، وهذه البدلية تشمل الطهارة الصغرى -وهي الوضوء- والطهارة الكبرى -وهي الغسل من الجنابة- فيقع التيمم بدلاً عن الوضوء ويقع بدلاً عن الغسل من الجنابة، وللمكلف إذا تيمم أن يستبيح الصلاة مباشرة، ويقع التيمم بدلاً عن طهارة الخبث كما هو قول طائفة من العلماء، فمن وقعت عليه نجاسة ولم يجد ماء يغسل به تلك النجاسة يتيمم لوجود النجاسة ببدنه، فجعلوا التيمم بدلاً عن الطهارة بنوعيها: طهارة الحدث وهذا بالإجماع، فيقع بدلاً عن الطهارة الصغرى وهي الوضوء والطهارة الكبرى وهي الغسل وطهارة الخبث، فإذا سئلت عن بدليته فقل: عن ثلاثة: عن الوضوء والغسل وطهارة الخبث.
أما على القول الثاني الذي يقول: إن من لم يجد الماء ووقعت عليه النجاسة فإنه لا يتيمم، فيصبح التيمم بدلاً عن الطهارة الصغرى والكبرى فقط.(19/4)
أسباب الأخذ برخصة التيمم
قال رحمه الله: [وهو بدل طهارة الماء إذا دخل وقت فريضة].
وقوله: (وهو بدل طهارة الماء) عمم المصنف فقال: هذا التيمم بدل عن طهارة الماء، فشمل طهارة الحدث -أي: طهارة الوضوء وطهارة الغسل- وشمل طهارة الخبث، فأصبح بدلاً على العموم.(19/5)
حكم التيمم للفريضة قبل دخول وقتها
(وهو بدل عن طهارة الماء إذا دخل وقت فريضة) إذا دخل: هذا شرط، والشروط في المتون الفقهية يعتبر مفهومها، وإن كان بعض العلماء له مصطلح في المفاهيم التي يذكرها في متنه.
ومعنى قولنا: إن الشروط تعتبر مفاهيمها، أنه مثلاً: إذا قال لك: إذا دخل وقت فريضة، فمفهومه أنه إذا لم يدخل وقت الفريضة فإنه لا يتيمم لها، لكن لو تيمم لغير الفريضة كأن يتيمم لمس مصحف إذا كان جنباً أو يتيمم للطواف بالبيت فلا حرج عليه.
إذاً: قوله: (إذا دخل وقت فريضة) أي: أنك تتيمم وتستبيح رخصة التيمم للفريضة بشرط أن يدخل وقتها، فلو أن إنساناً سألك وقال: لم أجد الماء فتيممت قبل أذان الظهر ثم دخل وقت الظهر فصليت؟ فتجيب: لا يصح التيمم ولا يستباح بهذا التيمم فعل الصلاة؛ لأن شرط التيمم أن يدخل وقت الفريضة.
هذا بالنسبة لمعنى العبارة.
أما الدليل الذي يدل على اشتراط دخول الوقت للتيمم، فقالوا: إنه الأصل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] إلى أن قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] هذه الآية وجه دلالتها على اشتراط دخول الوقت -وهذا يحتاج إلى دقة في الفهم والتركيز- أنه في أول الإسلام كان يجب على المكلف إذا دخل وقت الفريضة أن يتوضأ، حتى ولو كان متوضئاً، وكانوا يصلون كل فريضة بعد دخول وقتها بوضوئها، أي: في الوقت، ثم نسخ ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أهل العلم من قيّد النسخ بفعله عليه الصلاة والسلام في غزوة الخندق، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه لم يصلِّ العصر حتى غربت الشمس، كما في الصحيحين من حديث عمر: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! والله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال عليه الصلاة والسلام: والله ما صليتها، قوموا بنا إلى بطحان، قال: فتوضأ ثم صلى العصر والمغرب والعشاء) قالوا: هذا نسخ وجوب الوضوء عند دخول الوقت، ودل على أنه يشرع للمكلف أن يجمع بوضوء واحد بين عدة صلوات ولا حرج عليه في ذلك، فأصبح الوضوء رافعاً للحدث، وبناءً على ذلك قالوا: نُسخ الحكم في الوضوء وبقي التيمم على الأصل من كونه مطالباً بالتيمم عند دخول الوقت، وهذا صحيح؛ لأنه إن ورد النص على العموم إلا أن سياق الآية يقيد الطهارة بدخول الوقت {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] ولا يقام لفعل الصلاة المفروضة إلا بعد دخول وقتها، فلما جاء الناسخ في الوضوء بقي غيره على الأصل، قالوا: فبقي التيمم على الأصل، ومن هنا لا يتيمم إلا عند دخول وقت الفريضة، وتفرّع على هذا أن التيمم مبيح لا رافع، أي: أن التيمم يبيح لك فعل الصلاة لا أنه يرفع الحدث، إذ لو كان رافعاً للحدث لما احتجت بعد تيممك الأول إلى تجديده بدخول وقت الفريضة الثاني.(19/6)
مسألة: التيمم رافع أم مبيح
وهذه مسألة خلاف: هل التيمم مبيح أم رافع؟ أصح القولين عند العلماء رحمهم الله: أن التيمم مبيح، ويشهد لذلك -كما قلنا- ظاهر التنزيل، وأيضاً ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى رجلاً لم يصلِّ -وفي رواية: أنها صلاة الفجر، كما في حديث عمران في الصحيحين- فقال: ما منعك أن تصلي في القوم؟ قال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك) وفي رواية: (ثم وجد الماء فبعث به إلى الرجل) فوجه الدلالة: أن الرجل حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بالصعيد الطيب) سيتيمم للصلاة مباشرة، ولا شك أن تيممه قد وقع قبل وجود الماء؛ لأن الوقت الذي وقع بين وجود النبي صلى الله عليه وسلم للماء وبين فراقه للرجل وقت كافٍ للتيمم قطعاً، وقد توجّه عليه الحكم أن يتيمم، فتيمم الرجل لإدراك الفريضة الواجبة عليه، فلما تيمم قال: (فبعث به إلى الرجل) وجه الدلالة: أن هذا يدل على أن التيمم يبيح فعل الصلاة لا أنه رافع للحدث فيصح فعل الصلاة مطلقاً.(19/7)
التيمم لأداء نافلة
قال رحمه الله: [أو أبيحت نافلة].
عندنا صلاتان: الصلاة المفروضة، والصلاة النافلة، فإن قلت: إن التيمم لا يكون إلا عند دخول وقت الصلاة، فقيده بصلاة الفريضة بوقتها، فتقول: يتيمم لصلاة الظهر بعد زوال الشمس، ويتيمم لصلاة المغرب بعد غروب الشمس.
إلخ، وإن كانت الصلاة نافلة اعتبرت فيها الأوقات المنهي عنها، فتقول: يتيمم في وقت تباح فيه النافلة، فلو أنه تيمم بعد صلاة الصبح أو بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس لِفِعْلِ نافلة مطلقة؛ فإنه لا يصح تيممه لوقوعه في غير الوقت المعتبر لإجزاء التيمم في الصلاة.(19/8)
التيمم عند انعدام الماء
قال رحمه الله: [وعَدِمَ الماء أو زاد على ثمنه].
(وعدم الماء) هذا شرط؛ دل عليه قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] فمن عدم الماء كأن يسافر سفراً ثم ينتهي الماء الذي معه ولا يجد ماء لا لغسل جنابة ولا لوضوء، فإنه في هذه الحالة يعتبر فاقداً للماء.
(عَدِمَ الماء) للعلماء في عدْم الماء قولان: منهم من يقول: عدم الماء يبيح التيمم كلياً، أي: على العموم سواءً وقع ذلك العدم في سفر أو وقع في حضر، فكل من لم يجد الماء في سفر أو حضر أبيح له أن يتيمم، ومنهم من قيده بالسفر، والصحيح: أن الحكم عام يشمل من كان عادماً للماء في السفر أو في الحضر.
وعدم الماء يتحقق بأمرين: الأمر الأول: إما يقين تقطع فيه بعدم وجود الماء، وهذا بلا إشكال أنه يعتبر مبيحاً لك أن تتيمم، مثال ذلك: أن يخرج الإنسان إلى مكان يعلم أنه لا يوجد فيه ماء أصلاً، ولا يشك أبداً أن الماء غير موجود، فهذا يقين من المكلف بفقد الماء، فيستبيح التيمم مباشرة.
الأمر الثاني: أن يغلب على ظنه الفقد، بمعنى: أن يكون احتمال وجود الماء ضئيلاً، فإذا كان احتمال وجود الماء ضئيلاً فإن العبرة بغالب الظن لا بنادر الظنون؛ لأن الشريعة معلقة على الغالب لا على النادر، ومن قواعدها: (النادر لا حكم له)، ومن قواعد الفقه: (الغالب كالمحقق)، فلما كان غالب ظنك أن الماء غير موجود في هذا الموضع أو في هذا المكان؛ فإنه يعتبر كالقطع بعدم وجوده، فينزل غالب ظنك منزلة يقين عدم الوجود؛ وبناءً على ذلك تستبيح التيمم باليقين وبغلبة الظن، وتبقى لدينا حالة وهي: أن تشك في وجوده، أي: يستوي عندك احتمال وجوده وعدم وجوده، مثال ذلك: نزلت في موضع وأنت مسافر، ولا تدري هل الموضع هذا فيه ماء أو لا ماء فيه، فإن مثل هذه يعتبر شكاً، حيث إن احتمال وجود الماء كاحتمال فقد الماء، ففي هذه الحالة تطالب بالبحث والتحري حتى تصل إلى غالب الظن بالفقد، أو إلى القطع بالفقد فحينئذٍ تأخذ حكم الرخصة ويباح لك أن تترخص بالتيمم.(19/9)
التيمم عند تعسر شراء الماء
قال رحمه الله: [أو زاد على ثمنه كثيراً أو ثمن يعجزه].
(أو زاد على ثمنه) أما إذا لم يجد الماء فقول واحد عند العلماء أنه يتيمم، وإن كان هناك خلاف في التفريق بين السفر والحضر، لكنه خلاف ضعيف، فإذا فقد الماء فإنه يتيمم لدليلين: الدليل الأول: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] وكذلك من السنة: (الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين) فهذان النصان من الكتاب والسنة نصّا على استباحة رخصة التيمم عند فقد الماء.
الدليل الثاني: أنه إذا فقد الماء تعذّر عليه أن يغتسل أو أن يتوضأ، والتكليف إنما يكون بما يمكن، أي: أن الله يكلف المكلف بما في وسعه لا بما ليس في وسعه، فلما كان ليس بوسعه أن يوجد ما ليس بموجود سقط عنه التكليف بطلب الماء، وأصبح مرخصاً له أن يتيمم.
وقوله: (أو ثمن يعجزه).
في هذه المسألة: الماء موجود، ولكنه لا يبذل للمكلف إلا بمبلغ كبير، كأن يقال له: هذه الزجاجة من الماء ثمنها مائة ريال، فإن المائة قد تعجزه، ولا يستطيع دفع هذا المبلغ الذي هو قيمتها، أو يستطيع دفع المبلغ لكنه يعتبر ثمناً كثيراً في مقابل الماء، فعندنا حالتان في قيم الماء: الحالة الأولى: أن يكون الماء موجوداً وقيمته باهظة، ولكن عنده القدرة على الشراء كأن يكون ثرياً غنياً.
الحالة الثانية: أن يكون الماء موجوداً، ولكن القيمة التي يباع بها هذا الماء سواءً كانت باهظة أو غير باهظة ليست موجودة عنده، فإن فقد القيمة وكانت غير موجودة عنده فهو كالفقد الحسي للماء، ويسمونه الفقد الحكمي، قالوا: فلما كان عاجزاً عن شرائه فكأنه ليس بيده، فهذا لا إشكال في أنه يتيمم ويعدل إلى التيمم.
أما الحالة الأولى لو قال له البائع: لا أعطيك هذا الماء أو هذه الزجاجة من الماء إلا بمبلغ كبير، فقال بعض العلماء: إن إجحافه بالمال ينزل منزلة الفقد، وهذا قول مرجوح، والصحيح: أنه إذا كان ثرياً قادراً على دفع المال فيجب عليه دفعه، فإن أمر الصلاة أمر عظيم، ولا يستكثر أن يدفع المكلف مقابل ركن من أركان دينه هذا المبلغ من المال، ولذلك تقدّم مصلحة الصلاة على مصلحة المال، ولا يعتبر هذا الإجحاف عذراً شرعياً؛ لأن الله عز وجل قال: {فَلَمْ تَجِدُوا} [المائدة:6] وهذا ليس بفاقد للماء، لا حكماً ولا حقيقة.(19/10)
التيمم عند خوف الضرر من استعمال الماء
قال رحمه الله: [أو خاف باستعماله أو طلبه ضرر بدنه].
(أو خاف باستعماله ضرر بدنه) صورة ذلك: أن يكون الإنسان مريضاً، فإذا اغتسل أصابته الأمراض أو زاد عليه مرضه، أو أن يكون في زمان شديد البرد، فلو اغتسل خاف على نفسه المرض أو الموت أو الهلاك؛ ففي هذه الحالة يرخص له أن يعدل من الغسل إلى التيمم، وهكذا لو كان الوضوء يضر به وينتهي به إلى تلف نفسه أو حصول ضرر بجسمه جاز له أن يعدل إلى التيمم، وهذا اختيار المحققين، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية فقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لو زاد به الزكام أو حصل له الزكام فمن حقه أن يعدل إلى التيمم؛ لما فيه من وجود الضرر، والله عز وجل كلّف العباد بما لا ضرر فيه، لا بما ينتهي بهم إلى ضرر أنفسهم أو أجسادهم، ولذلك قالوا: إذا كان استعماله للماء يفضي إلى تلف النفس أو حصول ضرر بالنفس أو زيادة سقم ومرض جاز له أن يعدل إلى الرخصة ويتيمم، وقال بعض العلماء: إنه لا يجوز له ذلك إلا إذا خاف الهلاك على نفسه.
فأما دليل الترخص عند خوفه على نفسه وخوفه على جسده فحديث عمار رضي الله عنه وأرضاه وفيه: (أنه كان في زمان برد قال: فخفت على نفسي أو خشيت على نفسي فتيممت) فلذلك قالوا: إن هذا يدل على مشروعية التيمم للبرد الشديد، وظاهر الروايات أنه لم يجد الماء.
والضرر يتحقق بنشوء المرض، سواءً كان نشوء المرض ابتداءً أو بالزيادة فيه، كأن يكون مريضاً بالزكام مثلاً، فلو اغتسل زاد عليه زكامه، فحينئذٍ قالوا: إذا كان مفضياً إلى الزيادة فيستبيح به رخصة التيمم.(19/11)
التيمم عند خوف الضرر على الرفقة في حال استعمال الماء
قال رحمه الله: [أو على رفيقه].
كذلك أيضاً إذا خاف على رفيقه من استعمال أو طلب، مثال ذلك: أن يكون الإنسان عنده ماء وهو محدث، وهذا الماء لو توضأ به احتاج إليه رفيقه لشرب، فحينئذٍ قالوا: لو قلنا له: توضأ بهذا الماء أو اغتسل بهذا الماء هلك رفيقه، أو تضرر رفيقه بعدم وجود الماء، فقالوا: يحل له إذا خاف على رفيقه الهلاك أن يعدل عن الاغتسال بالماء والوضوء به إلى التيمم، وهذا يسمى: فقداً حكمياً، فإن الماء موجود، ولكنه في حكم المفقود؛ نظراً لما يترتب على استعماله من وجود الضرر بالنفس المحرمة.
وكذلك أيضاً إذا خفت على رفقتك، كأن تكون معك جماعة، وهذا الماء الموجود هو سقاؤهم، فلو أنك اغتسلت بهذا الماء الموجود فإن غالب ظنك أن رفاقك سيتعرضون للهلاك؛ فحينئذٍ نقول: تعدل عن اغتسالك أو وضوئك إلى تيممك؛ لأن خوف هلاك الأنفس المحرمة كخوف الإنسان هلاك نفسه، ولذلك يباح له أن يترخص.
وقوله: (أو طلبه).
الماء قد يكون موجوداً، ولكن يحتاج منك إلى أن تبحث عنه، وعندك رفاق -سواء كانوا من الرجال أو النساء أو الصبيان الضعفة، ولو غبت عنهم خشيت عليهم الضرر، كأن تكون في أرض لا تأمن فيها عدواً أو فاسقاً، فحينئذٍ يكون الخوف على العرض أو على الأطفال من الضرر يوجب الرخصة التي تعدل بها إلى التيمم.
فلو غلب على ظنه أن طلب هذا الماء يحتاج إلى أربع ساعات أو خمس ساعات يغيب فيها عن أهله أو حتى يحتاج إلى ساعة أو نصف ساعة والأرض غير مأمونة الضرر بسبب السباع أو الهوام أو ما شابه ذلك؛ فحينئذٍ يتحقق العذر الذي يبيح للمكلف أن يترخص بالتيمم.(19/12)
التيمم عند العجز عن تحصيل الماء خوفاً على العرض والمال
قال رحمه الله: [أو حرمته أو ماله].
يكون الماء موجود، ولكن يحتاج إلى أن يذهب لجلبه، ويترك سيارته أو صندوقه أو غنمه، حيث لا يستطيع أن يأخذها معه إلى مكان الماء، فحينئذٍ نقول: الخوف على المال يبيح له أن يعدل إلى رخصة التيمم.
قال رحمه الله: [بعطش أو مرض أو هلاك ونحوه].
كل هذه رخص، فإذا خِفت عليهم الهلاك، أو اعتداء مفسد أو سارق، أو خفت عليهم الضرر من السباع والهوام، فكل هذه من الرخص التي تبيح لك أن تعدل إلى رخصة التيمم.
(ونحوه) أي: أن هذه أصول، ويمكن أن تقيس عليها صوراً من النظائر، فالفقهاء رحمة الله عليهم أعطوك الأصل الذي هو: خوف الضرر على النفس أو على الرفقة أو على المال، وبناءً على ذلك: يجوز للإنسان أن يعدل إلى رخصة التيمم لوجود هذه الأعذار، سواء كانت بالصور الموجودة في زمان العلماء أو بصور جديدة في زماننا هذا.(19/13)
التيمم عند عدم وجود ما يكفي من الماء للطهارة
قال رحمه الله: [ومن وجد ماء يكفي بعض طهره تيمم بعد استعماله].
هذه المسألة من المسائل التي اختلف العلماء رحمهم الله فيها، وهي: عندك ماء لا يكفي لغسل جميع البدن في طهارة الغسل أو لا يكفي لغسل جميع أعضاء الوضوء في طهارة الوضوء، فالماء موجود ولكنه غير كافٍ لاستيعاب محل الفرض، فقال بعض العلماء: من كان الماء عنده قليلاً بحيث لا يمكن استيعاب محل الفرض به فإنه يعدل إلى التيمم مباشرة.
وقال بعض العلماء: من كان عنده ماء يكفي لبعض الأعضاء دون بعضها؛ غسل البعض ثم تيمم بنية ما بقي، وهذان قولان مشهوران عند أهل العلم.
فالذين قالوا بالعدول إلى التيمم مباشرة، قالوا: لا نعرف في الشريعة الإسلامية الجمع بين الوضوء والتيمم وبين الغسل والتيمم، فالله عز وجل أمرنا بغسل أو تيمم، وأمرنا بوضوء أو تيمم، أما الجمع بينهما فلا نعهده شرعاً، وليس في نصوص الكتاب والسنة ما يدل على الجمع بينهما، ولا يصح لنا أن نجزّئ أعضاء المأمور به، فنقول: يغتسل لبعض ويتيمم لبعض؛ لأن الشريعة جاءت بغسل للجميع وبتيمم عن الجميع، ولا يستطيع أن يحدث الفقيه صورة تجمع بين الأصلين، فيقال له: اغتسل للبعض وتيمم للبعض، ثم قالوا: إن الدليل الذي استدل به على الجمع بينهما إما ضعيف كحديث الشجّة التي تكلم عليه الحافظ الدارقطني في الرجل الذي أصابته شجة، فأشار عليه البعض بأن يغتسل، فمات من ذلك الغسل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ جهلوا) ثم بيّن عليه الصلاة والسلام أنه كان عليه أن يجمع بين غسله لما استطاع أن يغسل من بدنه وتيممه على جراحه، قالوا: هذا يدل على الجمع بينهما، لكنه حديث ضعيف، ثم أيضاً قالوا: العمومات التي استدل بها لا تصلح أن تكون دليلاً في صور الطهارة المخصوصة، فإن صور الطهارة المخصوصة إما تيمم وإما غسل أو وضوء، فاستحداث صورة ثالثة بالعموم لا يتأتى، ومن العمومات التي استدل بها قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] قالوا: إن هذا بإمكانه أن يغسل بعض الأعضاء ويتيمم للبعض، فيتقي الله بغسل ما استطاع غسله ويتيمم لما بقي.
والذين قالوا بمشروعية الجمع بين التيمم وبين الغسل -كما درج عليه المصنف رحمه الله- يستدلون بظاهر الحديث الذي تكلم في سنده، ثم أيضاً قالوا: إن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وهذا باستطاعته أن يمس بدنه الماء ويتيمم لما عجز، وقالوا أيضاً: إن الله عز وجل يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] فإذا تيمم مع وجود الماء لم يتحقق فيه الشرط الشرعي لاستباحة الرخصة، فنقول: لا بد -أولاً- أن يستعمل الماء حتى يتحقق فيه شرط فقده.
هذه أوجه من قال بالجمع بين التيمم والغسل على ما درج عليه المصنف، وإن كان كلا القولين له وجهه، فإن القول بالجمع بينهما له وجه، ويمكن الجواب عن دليل المخالف، والقول بأنه لا يجمع ويقتصر على التيمم له وجه أيضاً.
فالقول الذي يقول بأنه يجمع بينهما تقويه الأصول، ووجه ذلك: أنه إذا توجه الخطاب بمأمور ولم يتأتّ في الكل توجه بقدر ما يستطيع المكلف، وهذا ظاهر قوله تعالى:: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ثم يبقى ما لا يستطاع تحت موجب الرخصة، فتستباح الرخصة، وتكون الصورة الغير معهودة خارجة لندرة الوقوع، يعني: أن الشريعة لم تنص على هذه المسألة -وهي أن يجد ماء لا يكفيه لبعض أجزائه- لندرة وقوعها وأما بالنسبة للقول الذي يقول بأنه لا يجمع فيقويه أن الطهارة عبادة متصلة لا تتجزأ، وبناءً على ذلك يقوى أصلهم بأنه يتيمم مباشرة ويلغي الماء الموجود.
والأحوط أنه يغسل الأعضاء حتى يخرج من تبعة ترك الغسل للمأمور بغسله ثم يتيمم لما بقي بنية استباحة الصلاة.(19/14)
التيمم للجروح
قال رحمه الله: [ومن جُرح تيمم له وغسل الباقي].
(ومن جرح تيمم له) الضمير في (له) عائد إلى الجرح، (وغسل الباقي) أي: باقي جسده، ووجه ذلك: أنه يستطيع غسل باقي جسده فبقي على الأصل، والجرح لا يمكنه أن يغسله فرخص له بالتيمم من أجله.
وهذه المسألة يصفها العلماء بالجمع بين البدل والمبدل، ويقول بها فقهاء الحنابلة ويوافقهم الشافعية وغيرهم، ويلغز العلماء فيها فيقولون: ما هي صور الجمع بين البدل والمبدل؟ لأن الأصل في البدل والمبدل ألا يجتمعا؛ لأن الضدين لا يجتمعان، فما تستطيع أن تقول: هذا حلو مر، فإما أن تقول: هذا حلو، وإما أن تقول: هذا مر، وبناءً على ذلك قالوا: إن البدل والمبدل كالضدين، فالتيمم لا يستباح إلا عند عدم الماء أو عدم طهارة الماء، وبناءً على ذلك قالوا: لا يجمع بين البدل والمبدل على القاعدة المقرَّرة، إلا في صور تخرج من هذا الأصل، منها هذه المسألة، أي: أن يكون مجروحاً.
وقال بعض العلماء: إذا أمكنه أن يبلّ يده ويمرها على الجرح مبلولة، فإنه يجزئه ذلك ولا حرج عليه فيه، ولا يطلب منه أن يتيمم للجرح إذا أمكنه إمرار يده مبلولة.(19/15)
حكم طلب الماء للطهارة
قال رحمه الله: [ويجب طلب الماء في رحله وقربه].
بعد أن بيّن رحمه الله التيمم من كونه بدلاً عن الماء، ومتى يرخص للإنسان أن يستبيح التيمم، شرع في بعض الأحكام المفرّعة على تقرير هذا الأصل، من قوله: (ويجب طلب الماء) أي: أنه يلزم المكلف عند دخول الوقت أن يطلب الماء للفريضة، وهذا بناءً على الأصل؛ لأن الأمر بالشيء أمر بلازمه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فقد يقول قائل: إن الله أوجب علينا أن نتوضأ ونغتسل، فما الدليل على إيجابكم على المكلف أن يطلب الماء؟ قالوا: الدليل على ذلك أنه مأمور بالطهارة بالماء، وهذه الطهارة بالماء تفتقر أو تحتاج إلى طلب، فتوقف تحقيق المأمور -وهو الوضوء والغسل- على طلب هذا الماء؛ فكان مما لا يتم الواجب إلا به، والقاعدة تقول: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
(في رَحْلِه) لو أن إنساناً سافر فإنه يطلب الماء في رَحْلِه ويبحث عنه، فإن لم يجده في رحله طلبه في رفقته الذين معه، فإنه إذا لم يكن عنده ماء وجب عليه أن يسأل من معه.
(وقربه) يعني: قرب الرحل، أي: يطلبه في ما كان قريباً منه، وهذا بناء على القاعدة المعروفة: (أن ما قارب الشيء أخذ حكمه)، فلما كان مطالباً أن يبحث في رحله وفي جماعته والمكان الذي هو نازل فيه، صار ما قرب منه داخلاً في حكم الأصل من وجوب الطلب، فيلزمه أن يطلبه في قرب المكان النازل فيه، لكن لو كان بعيداً ففيه تفصيل: إن كان طلبه للماء البعيد لا يضر طَلَبَه، ووجب عليه طَلَبُه، وأما إذا كان وقت الصلاة لا يسع، كأن يكون -مثلاً- بعد غروب الشمس ويخشى ذهاب وقت المغرب، فإنه حينئذٍ لا يجب عليه الطلب ولو كان ذلك قريباً؛ لأنه قد يفوت وقت الفريضة.
قال رحمه الله: [وبدلالة].
أي: عليه أن يسأل الناس، فيسأل أهل القرية التي نزل بها، ولذلك يقولون: من آداب السفر: أن الإنسان إذا نزل في موضع فعليه أن يسأل عن مكان الماء حتى يتوضأ ويغتسل، وأن يسأل عن اتجاه القبلة، ويسأل كذلك عن موضع قضاء حاجته، قالوا: هذه من الأمور التي يراعيها المسافر، وكانوا يستحبون للضيف إذا نزل أن يدله مضيفه على هذه الأمور قبل أن يبتدئ بالسؤال عنها، فكانوا يعدون ذلك من إكرام الضيف، فينبغي عليه أن يشعره بتعظيم شعائر الله عز وجل، فيبتدئه بقوله: القبلة بهذا الاتجاه، وقضاء الحاجة هنا، والماء إذا أردته هنا.
فقوله: (وبدلالة) مأخوذة من الدليل، والدلالة، أي: الأمارة والعلامة، والدلالة: أن يسأل الناس أن يدلوه، ويتفرع على هذا أنه إذا ثبت وجوب طلب الماء فيجب على الإنسان أن يبحث ويسأل عنه؛ والعلماء نصوا على هذه الجمل؟ نصوا على هذه الجمل لوقوعها، فإذا سئلت -وأنت طالب علم- فسألك سائل وقال: نزلت بقرية ولم يكن عندي ماء، ثم انتظرت لعلهم أن يأتوني بالماء حتى كاد الوقت أن يخرج، فتيممت قبل خروج الوقت وصليت، فما الحكم؟ فعليك أن تسأله بقولك: هل طلبت الماء؟ فإن أجاب وقال: لا، لم أطلب الماء؟ فتقول له: أنت آثم، فقد كان ينبغي عليك أن تطلب الماء؛ لأن الله عز وجل أوجب عليك أن تتطهر بالماء أصلاً، وتطهرك بالماء يفتقر إلى وجوده، ووجوده يفتقر إلى طلبه، فأنت بذلك مأمور بطلبه، وبناءً على ذلك أنت آثم بتفريطك في سؤال الناس عنه، وكذلك قال العلماء: لو أن إنساناً في قرية وهو في طريق سفره، وكان بإمكانه أن يسأل عن جهة القبلة ولكنه لم يسأل وصلى، ثم تبين له أنه على غير القبلة، لزمه أن يعيد الصلاة؛ لأن بإمكانه أن يسأل عن القبلة ويعرف اتجاهها، وكذلك هنا كان بإمكانه أن يجد الماء، فلما فرط؛ أُلزم بعاقبة تفريطه، وحكم بإثمه وتحمله لتبعة ذلك التفريط.(19/16)
حكم تيمم من كان قادراً على تحصيل الماء ونسي قدرته
قال رحمه الله: [فإن نسي قدرته عليه وتيمم أعاد].
(فإن نسي قدرته عليه) لو أن إنساناً -مثلاً- نزل في موضع، وكان بالإمكان أن يذهب إلى بئر قريب من الموضع الذي نزل فيه، ثم سأل نفسه: هل أستطيع الذهاب أم لا؟ فأجاب على نفسه بقوله: لا أستطيع، وحكم بأنه لا يقدر؛ لأنه تصور أن هذا المكان قد يكون بعيداً، ثم تذكر أن المكان قريب، فهو قد نسي أنه قادر على أن يأتي لهذا الموضع، فاختلق لنفسه الأعذار وقال: الماء بعيد، ولذلك أتى المصنف بصورة النسيان؛ لأن صورة النسيان تتفرع منها صورة الأعذار، ودائماً الفقهاء يذكرون حكم الأصل ويتبعونه بالأعذار، فلو قال لك قائل: قد عرفنا أنه يجب عليه أن يطلبَ الماء ولم يطلبه؟ قلنا: يأثم.
فإن قال: إذا كان قادراً على طلبه ونسي قدرته على الطلب ثم تبين بعد تيممه أنه كان بإمكانه أن يطلب الماء وأن يتحصل عليه، فما الحكم؟ نقول له: يعيد الصلاة، لأنه لا يستباح له أن يتيمم؛ لأن الماء في حكم الموجود، وكان ينبغي عليه أن يطلبه، فيلزم بعاقبة تفريطه، والعلماء الذين يفرعون ذلك يفرعونه من قاعدة معروفة أشار إليها ابن نجيم والسيوطي رحمة الله عليهما في الأشباه والنظائر وهي: (لا عبرة بالظن البين خطؤه)، فما معنى هذه القاعدة؟ يعني: إذا ظننت أمراً ثم تبين لك خلافه وأنك أخطأت في ظنك وجب عليك الضمان، ولها فروع، ومنها هذه المسألة، ومن فروعها: لو أنك قمت في آخر الليل وأنت تظن أن الفجر لم يطلع فأكلت وشربت، ثم تبين أنه طلع، فلا عبرة بالظن البين خطؤه، أيضاً: ظننت أنك لا تستطيع الوصول إلى الماء، ثم تبين لك أنك تستطيع، وأنك كنت ناسياً قدرتك، أو كنت ظاناً أنك لا تستطيع الوصول إليه فتبين خطؤك؛ قالوا: يلزم بالضمان لحق الشرع.(19/17)
حكم رفع عدة أحداث بتيمم واحد
قال رحمه الله: [وإن نوى بتيممه أحداثاً].
هذا مثل ما يقع في طهارة الماء، يجمع بين حدثين في طهارة واحدة، فإنه يجزئه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فبين صلى الله عليه وسلم أن من نوى شيئاً كان له، وقد نوى فصحت نيته.
قال رحمه الله: [أو نجاسة على بدنه تضره إزالتها].
من أمثلتها عند العلماء: الدم إذا تجلط على موضع الجرح، وقال الأطباء: إن البدن يتضرر بإزالته -كما في بعض الجراحات التي يصعب فيها إزالة هذا الدم المتجلط- فعلى قول الجماهير بنجاسة الدم فإن هذا الدم لا يمكن أن يغسله، فطهارة الماء شبه متعذرة فيه، وبناءً على ذلك قالوا: ينتقل إلى التيمم، وينزل طهارة الخبث منزلة طهارة الحدث، فيتيمم من أجل هذه النجاسة.
قال رحمه الله: [أو عدم ما يزيلها].
كما قلنا في الماء.
قال رحمه الله: [أو خاف برداً].
(أو خاف برداً) إذا اغتسل يخاف البرد.
قال رحمه الله: [أو حبس في مصر فتيمم].
الأمصار والمدن يمكن أن يوجد فيها الماء، وقال بعض العلماء: إنه إذا تيمم في المدن يلزمه أن يُعيد؛ وذلك لأن فقد الماء فيها نادر، ورُخَص الشرع لا تتعلق بالصور النادرة، وهذا أصل لبعض العلماء.(19/18)
صلاة فاقد الطهورين
قال رحمه الله: [أو عَدِمَ الماء والتراب صَلّى ولم يعد].
قال بعض العلماء: يصلي متيمماً ويعيد، وقال بعضهم: لا يصلي ولا يعيد.
وقال بعضهم: يصلي ولا يعيد، وقال بعضهم: يقضي ولا يصلي.
هذه المسألة تسمى مسألة فاقد الطهورين، فمثلاً: رجل حبس في غرفة، وكتفت يداه ورجلاه، فلا يستطيع أن يتوضأ ولا أن يتيمم، فهذه المسألة تسمى: مسألة فاقد الطهورين، إما أن يفقده حقيقة، مثل نزوله في موضع ليس فيه ماء ولا تراب، كأن يكون في طائرة والموجود بداخلها ليس من جنس ما يتيمم به -أي: ليس من جنس ما هو على الأرض- وقد ضاق الوقت بحيث أنه لو انتظر إلى النزول فسوف يخرج وقت الصلاة، فالقول الأول: أنه لا يصلي، وإنما ينتظر إلى أن يجد الماء أو يتمكن من استعماله فيعيد الصلاة؛ لأن الصلاة تكون بوضوء أو بتيمم، وهذا دليلهم، فيقولون: إنه لا يصلي إنما عليه الإعادة فقط، ولو استمر على ذلك أياماً أو أسابيع أو شهوراً؛ لأن الله أمره باستباحة الصلاة إما بوضوء أو غسل أو تيمم، وهذا لم يتحقق فيه لا الوضوء ولا الغسل ولا التيمم، فلا يصح منه أن يصلي ولا يطالب بالصلاة في وقتها؛ لأنه غير مكلف بها، ثم يتأخر الحكم في حقه إلى ما بعد القدرة على الاستعمال أو بعد الوجود، وهذا هو القول الأول: أنه لا يصلي وتلزمه الإعادة.
القول الثاني: يصلي ولا يعيد، وأصحاب هذا القول ينظرون إلى عمومات الشريعة ورخصها؛ مثل: قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقوله جل وعلا: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6] فقالوا: دخل عليه وقت الصلاة وتوجه الخطاب إليه، وبالإجماع أنه مطالب بفعل الصلاة، وليس بوسعه لا أن يتوضأ ولا أن يغتسل ولا أن يتيمم، وإنما الذي باستطاعته فعل الصلاة، فيفرعونها على تجزؤ المأمور، فهو لا يجد الطهور، ولكنه يستطيع فعل الصلاة، فنأمره بفعل الصلاة؛ لأنه جزء من المأمور به، وبإمكانه أن يفعل الصلاة ويسقط عنه التكليف بالوضوء وبالغسل وبالتيمم؛ لعدم القدرة على الوضوء والغسل والتيمم، وهذا هو القول الثاني، فالقول الأول: أنه يعيد ويقضي ولا يصلي، والقول الثاني عكسه: أنه يصلي ولا يعيد.
القول الثالث: أنه لا يصلي ولا يعيد، أي: أن الصلاة سقطت عنه؛ لأن الصلاة بأدلة الشرع لا تستباح إلا بطهور: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وهذا ليس بمتوضئ ولا في حكم المتوضئ فلا يطالب بالصلاة، ثم سقطت عنه الإعادة؛ لأن الإعادة شرطها أن يكون مكلفاً بالأصل، فلما جاء وقت الأصل وهو غير مكلف بالصلاة سقطت الإعادة، فالقول الثالث: أنه لا يصلي ولا يعيد.
القول الرابع: أنه يصلي ويعيد، وهذا القول عكس القول الثالث، أما كونه يصلي الصلاة: فلأنه قادر على أفعال الصلاة، وإنما سقطت عنه الطهارة لعدم القدرة، وبقي فعل الصلاة فهو مطالب به، وتلزمه الإعادة؛ لأنه لما وجد الماء نقض حكم الرخصة ووجب عليه أن يعيد الصلاة.
وأقوى الأقوال: أنه يصلي على حالته ولا يعيد؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته -وقيل: إنها غزوة المريسيع- ونزل بذات الجيش -وهي الأرض التي تلي البيداء التي بعد ميقات ذي الحليفة من جهة مكة- فُقِدَ عقد لـ عائشة وأصله لـ أسماء -من جذع ظفار- فطلبه بعض الصحابة فانحبس الناس) وهذا قبل التيمم، بمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب هذا العقد الذي لـ عائشة، فأخذ الناس يبحثون عنه فانحبس الجيش من أجل البحث عن هذا العقد، ففي هذا الحديث: أن أناساً طلبوا العقد فانقطعوا ولا ماء معهم، فحضرتهم الصلاة فصلوا في موضعهم، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروج الوقت، فلم يأمرهم بالإعادة، وَصَوَّب فعلهم.
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن هؤلاء فاقدون لطهارة الماء وفاقدون للتيمم -لأن التيمم لم يشرع بعد- فيكون فقد الماء أصالة، وفي حكمه فقد التيمم، فكون النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على صلاتهم بدون طهارة ولم يأمرهم بالإعادة بعد الوقت، يدل على أن من فقد الطهورين لا يلزم بالإعادة وأنه يصلي على حالته، وبناءً على ذلك: لو كُتِّفَ إنسان أو رُبِطَ أو كان الرجل مقطوع اليدين، فلم يستطع أن يتيمم ولا أن يتوضأ فيصلي على حالته ولا حرج عليه ولا تلزمه إعادة الصلاة.(19/19)
الأسئلة(19/20)
حكم نفخ الغبار بعد ضرب اليد على الأرض في التيمم
السؤال
هل يشرع نفخ الغبار بعد ضرب اليد في الأرض؟
الجواب
النفخ سنة جاء ذكرها في حديث عمار رضي الله عنه، ولا حرج في فعله.(19/21)
حكم التيمم للنافلة
السؤال
قال المصنف رحمه الله: (إذا دخل وقت فريضة) فمفهومه: أنه إذا لم يدخل وقت الفريضة لم يبح له التيمم، فهل يعني ذلك أن التيمم يكون للفرائض ولا يباح للنوافل؟
الجواب
نعم، هذا بالنسبة لهذه العبارة، فقد ذكرها في الفرائض، ثم أتبعها بالنوافل، فكلامه متصل، يعني: أنه ذكر الفرائض أولاً ثم أتبعها بالنوافل، فليس مراده التقييد بالفرائض، ولكن قيد الحكم بالفرائض إذا كنت تريد أن تتيمم لفريضة، أما بالنسبة للتيمم للنافلة فقد بين أنه يباح إذا كان غير وقت منهي عنه، وقد بينا ذلك، ولا يتقيد التيمم بالفرائض، وإنما هو للفرائض والنوافل وغيرها كلمس المصحف عند من يشترط الطهارة للمسه.(19/22)
تعريف السبخة وكيفية التيمم بها
السؤال
ذكر الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في الزاد أن التيمم يكون بالسبخة، فما هي السبخة؟ وكيف يتيمم بها؟
الجواب
السباخ -عادة- هي الأرض المالحة، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف المدينة بكونها سبخة، وجاء في حديث الدجال: (أنه ينزل بالسبخة من الجرف) ففي بعض المناطق إذا نزل المطر بها -خاصة في البرد- يعلوها مثل الملح الأبيض، فهذه هي السباخ، وبعضهم يتجوز في السباخ ويقول: إنها مطلق الأرض حتى ولو كان يُزرع عليها، لكن السبخة هي الأرض التي لا تنبت، بمعنى: أنك لو وضعت فيها البذر لا ينبت.
وهذه السبخة اختلف العلماء فيها: فمن العلماء من يقول بمشروعية التيمم بها، وهذا هو الصحيح، وقد استنبط العلماء دليلاً عجيباً في إثباتها، قالوا: إن الله تعالى يقول: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43] فوصف الصعيد بكونه طيباً، والمدينة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (أُريت دار هجرتكم أرضاً سبخة) ثم قال في حديث الدجال: (هذه طابة هذه طابة) فوصفها بالطيب مع كونها سبخة، وفي الآية أمر بالتيمم من الصعيد الطيب؛ فدل على مشروعية التيمم بالسباخ، وهو قول صحيح واستنباط وارد، وقد أشار إليه الماوردي في كتابه النفيس: الحاوي للأحكام.(19/23)
حكم تيمم من لم يستطع نزع الماء من البئر
السؤال
ماذا لو وجدت الماء في بئر ولكن ليس لديّ ما أنزع به هذا الماء، ووقت الصلاة قد دخل، فهل أتيمم أم أنتظر من يأتي حتى أجد معه ما أنزع به الماء؟
الجواب
هذا يعتبر في حكم الفقد، فإذا كان الوصول إلى الماء يؤدي إلى ضرر أو لا يتمكن الإنسان منه أصلاً، قالوا: يعدل إلى التيمم، لكن يجلس إلى أن يغلب على ظنه عدم وجود الآلة والوسيلة، ومن صور هذه المسألة: لو أنه كان على البئر حية، ويغلب على ظنك أنك لو جئت لتأخذ الماء أنها ربما أضرت بك، فيجوز أن تعدل إلى التيمم، وكذلك أيضاً: لو فقد الحبل الذي يجلب به الماء من البئر أو فقد الدلو الذي يغرف به الماء، فهذا كله في حكم الفقد للماء، لكن يرجع إلى غالب ظنه بالفقد أو بعدم وجود ما يستخرج به ذلك الماء، والله تعالى أعلم.(19/24)
حكم التيمم مع سهولة الوصول إلى أماكن الماء
السؤال
أرى في زماننا هذا من يكون مسافراً -مثلاً- من مكة إلى الرياض أو المدينة ويستطيع أن يقف عند أي مسجد أو محل تجاري على الطريق ليأخذ الماء، فهل يلزمه الشراء أو يتيمم؟
الجواب
لا يصح التيمم مع إمكان الوصول إلى المحطات، سواء كان بالتوضؤ في دورات مياهها، أو التوضؤ بالمياه التي في المحلات التجارية، فإن هذا لا يبيح للإنسان أن يعدل إلى الرخصة؛ لأن الماء موجود، وبناءً على ذلك: فلا يرخص له إلا إذا فقد الماء أو تعذر الوصول إليه على التفصيل الذي ذكرناه، أما كون الإنسان بمجرد سفره يستبيح التيمم فلا، لكن هنا مسألة: لو أن إنساناً سافر وخرج حتى نزل في أرض برية ثم أكل فيها وجبة العشاء -مثلاً- وليس عنده ماء يتوضأ به، وأراد أن يصلي نافلة أو يمس مصحفاً، ففي هذه الحالة يرخص له أن يتيمم؛ لحديث الجدار: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سَلَّم عليه الرجل، وكان عليه الصلاة والسلام يقضي حاجته، قال: ثم ضرب بيديه الجدار ورد عليه السلام، قال: إني كنت على حال كرهت أن أذكر الله عليها) قالوا: فقد تيمم عليه الصلاة والسلام من أجل ورد السلام، رد السلام ذكر، وهو أخف من الفرائض، وهكذا لمس المصحف، وتلاوة القرآن إذا كانت عليه جنابة، فيخفف عنه ولا حرج عليه في هذه الحالة، وأما بالنسبة للفرائض فلا.(19/25)
حكم من عجز عن الغسل مع قدرته على الوضوء
السؤال
إذا وقعت على الشخص -مثلاً- جنابة فلم يستطع الغسل، لكنه يستطيع الوضوء، فهل يتوضأ بدلاً من الغسل، أم يتيمم ويكفيه ذلك عن الغسل والوضوء؟
الجواب
ظاهر النصوص أن من تيمم وعليه جنابة فإنه يرتفع الحدث الأصغر والأكبر؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام لـ عمار: (إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا) ولم يقل له: ثم توضأ، فدل هذا على أن التيمم وحده كافٍ لاستباحة الصلاة، وأنه لا يلزم بالوضوء بعد تيممه، وقال بعض العلماء: إذا كان عاجزاً عن الغسل وقادراً على الوضوء، فإنه يتيمم للغسل ثم يتوضأ، ولكن القول الأول هو الأقوى بناءً على ظاهر حديث عمار رضي الله عنه وأرضاه، والله تعالى أعلم.(19/26)
حكم التيمم على الفراش
السؤال
هل يجوز التيمم على أرض مفروشة أو على أرض (مبلطة) وليس لها غبار؟
الجواب
أما إذا كان الفراش له غبار فإنه يجوز؛ لأنه قد تيمم، ويحصل تيممه بالغبار، وهكذا إذا كان على الجدار غبار وضرب بيديه فإنه يجزئه ويصح تيممه، وأما إذا لم يكن عليه غبار فإنه لا يتيمم، وكذلك الفرش لا يتيمم عليها إذا لم يكن عليها غبار.(19/27)
مسألة خروج الذنوب بالتيمم
السؤال
وردت أحاديث في الوضوء تفيد بأن الذنوب تخرج مع قطر الماء، فهل يكون ذلك في التيمم أيضاً؟
الجواب
ثبت النص بالوضوء، وأما التيمم فقد سكت النص عن ذلك، فالله أعلم بخروج الخطايا بالتيمم أو عدم خروجها.(19/28)
أسباب ضعف الإيمان وعلاجه
السؤال
إني كنت أجد الأنس بالله عز وجل وبذكره، وكنت لا أحب أن أتكلم مع الناس في أي شيء لا يعنيني، وأما الآن فلا أجد تلك الطمأنينة في الذكر والأنس بالله عز وجل، وأصبحت أتكلم كثيراً في الأشياء التي لا تعنيني، ولا أستطيع حفظ كلام الله ولا حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حفظ كلام أهل العلم، مع أنني كنت قبل ذلك مجداً في ذلك؟
الجواب
هذه فتنة أصابتك، وبلية نزلت بك، ولا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، فتب إلى الله واستغفره، فإن الله تعالى يقول: {وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] لعلكم ترحمون، فمن كان على استقامة وهداية وصلاح ثم سلب شيئاً منها فإن الله يسلبه ذلك الخير والصلاح حتى ينيب إليه ويتوب إليه، فما سلب الخير إلا بسبب ذنب، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فتب وأنب إلى الله، وأعد لهذه الفتنة كثرة الاستغفار البكاء والندم، ولعلّ الله إذا نظر إلى دمعة من عينك وخشوع من قلبك، وندم من نفسك أن يبلغك منازلك التي كنت فيها، فلربما فقد الإنسان حلاوة المناجاة ولذة العبادة من صيام وقيام، فتقطع قلبه على تلك الساعات، ولهفت نفسه على تلك اللحظات المباركات؛ فكتب الله له الأجرين: كتب الله له أجر العمل الصالح بتلهفه وتألمه، وكتب له أجر صبره على الفتنة التي هو فيها.
فعليك أن تسأل الله، فإن الله هو أرحم الراحمين، وهو المجيب لدعاء المضطرين، سله وتملق له، ثم أوصيك بالنظر في الأسباب، فلعلك عققت أحد أبويك، أو قطعت رحماً، ولعل أخاً قد آذيته، أو مسلماً قد ظلمته فرفع كفه إلى ربه واشتكى إلى خالقه، فنزلت بك هذه البلية، فتفقد نفسك في حقوق الوالدين والأرحام والأقارب، وأصلح لعل الله أن يصلح ما بك.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيذنا من الحور بعد الكور، ومن النقص بعد الزيادة، ومن الضلال بعد الهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.(19/29)
شرح زاد المستقنع - باب التيمم [2]
التيمم رخصة شرعية، شرعها الله ورسوله، وأجمع عليه على ذلك العلماء، وله شروط وأركان ومبطلات، شأنه في ذلك شأن بقية العبادات، وهذه كلها قد نص عليها العلماء وبينوها.(20/1)
حكم التيمم بتراب ليس له غبار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويجب التيمم بتراب طهور له غبار] قصد المصنف رحمه الله أن يبين بهذه العبارة الشيء الذي يَتيمم به المكلف، وهذا مناسب لما قبله؛ لأنك إذا بينت الحالات التي يجوز فيها التيمم والحالات التي لا يجوز فيها التيمم؛ سيسألك السائل إن كان من أهل التيمم بماذا يكون التيمم؟ فناسب بعد بيان حالات التيمم أن يبين الشيء الذي يحصل به التيمم، وتتحقق به طهارة التيمم وهو المتيمم به.
فقال رحمه الله: (ويجب التيمم بتراب له غبار) خص المصنف رحمه الله التيمم بالتراب على ظاهر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (جعلت لي الأرض مسجداً، وتربتها طهوراً) أي: جعلت التربة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم طهوراً.
قالوا: دل هذا الحديث على أن التراب يُتَيمم به، وهذا مستفاد من ظاهر آيتي النساء والمائدة {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6].
وإذا ثبت أن التراب يُتيمم به بدلالة نص الكتاب والسُّنة؛ فإن العمل عند أهل العلم على ذلك، وليس هناك خلاف بين أهل العلم رحمهم الله في أن التراب يُجزئ في التيمم، ولكن الخلاف بينهم في مسألتين: الأولى: هل يشترط له غبار؟ والمسألة الثانية: هل ينحصر التيمم في التراب الذي له غبار؟ فأما بالنسبة لكونه يتيمم بالتراب الذي له غبار؛ فهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم رحمة الله عليهم، وذلك على ظاهر نص الكتاب ونص السُّنة، وأجمع عليه العلماء رحمة الله عليهم، وأما اشتراط أن يكون له غبار أو لا يكون، فهذه مسألة خلافية بين أهل العلم رحمهم الله: أصحها أنه لا يشترط أن يكون له غبار، وذلك لعدم ثبوت دليل في الكتاب والسُّنة يدل صراحة على اشتراط أن يكون التراب له غبار.
والذين اشترطوا أن يكون التراب له غبار قالوا: إن قوله تعالى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] الوصف بالطيب يقتضي أن يكون على ذلك، وهذا مردود، فإن الوصف بالطيب المراد به طهارته من النجاسة، فلا يُتيمم بتراب نجس، ثم إننا نقول: إنه لو خُص التراب بما له غبار لخالف ذلك مقتضى الرخصة، فإن كثيراً من الأرض فيها أماكن رمال لا غبار لها كما قرر العلماء ذلك، فلو قلنا: إن التيمم لا يحصل إلا بتراب له غبار لأجحف بالناس، ففي بعض الصحاري ربما تسير يوماً كاملاً ولا ترى أرضاً لها غبار.
والمسألة الثانية -وهي: حصر التيمم في التراب- فأصح الأقوال: أنه يجوز التيمم بكل ما على وجه الأرض، فيجوز لك أن تتيمم بتراب له غبار، وبتراب لا غبار له، وكذلك أيضاً تتيمم بالحجر ونحوه مما هو من جنس الأرض كالجص والنورة ونحو ذلك، فلا حرج أن تتيمم به؛ وذلك على ظاهر قوله تعالى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] والصعيد كل ما صعد على وجه الأرض، فلو أن إنساناً أراد أن يتيمم ولم يجد التراب، وإنما وجد حجراً صح له أن يتيمم بالمسح عليه؛ وذلك أن الله تعالى قال: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] والنبي صلى الله عليه وسلم وصف المدينة بكونها طَيْبَة مع أن أكثرها حِرَار، وهذا الدليل انتزعه الإمام ابن خزيمة رحمه الله -كما أشار إليه في صحيحه- من ظاهر السُّنة، فإن الله وصف المُتَيمم به بكونه صعيداً طيباً، والنبي صلى الله عليه وسلم وصف المدينة بكونها طيبة مع أن أكثر أرضها (حرار)، وقد ثبت في الحديث (أُريت دار هجرتكم أرضاً ذات نخل بين حرتين) إذا ثبت هذا فيجوز لك أن تتيمم بالتراب وبغير التراب مما صعد على وجه الأرض؛ لكن يشترط أن يكون طاهراً، فلا يتيمم بنجس، فلو كان التراب نجساً لم يصح أن يتيمم به؛ والسبب في التعميم -كما قلنا-: أن قوله تعالى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] يعتبر دالاً على العموم، فالصعيد كل ما صعد على وجه الأرض والأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه.
والذين قالوا بتخصيص التيمم بالتراب؛ استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (جعلت لي الأرض مسجداً، وتربتها لنا طهوراً) والاستدلال بهذا الحديث يُردُّ من وجهين: الوجه الأول: أنه استدلال بمفهوم اللقب، ومفهوم اللقب ضعيف على القول الراجح عند الأصوليين، وتوضيح ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (جعلت تربتها لنا طهوراً) فمفهوم قوله: (تربتها) أن غير التربة لا يعتبر طهوراً، وهذا كما قلنا من مفهوم اللقب؛ لأن مفهوم المخالفة عشرة أنواع: الصفة، والشرط، والعلة، واللقب، والاستثناء، والعدد، وظرف الزمان، وظرف المكان، والحصر، والغاية، وقد جمعها ابن عاصم رحمه الله في قوله: صف واشترط علل ولقب ثنيا وَعُدَّ ظرفين وحصر إغيا فقال: صف واشترط علل ولقب (لَقِّب) مفهوم اللقب.
فقوله: (تربتها) الاستدلال به على التخصيص من باب الاستدلال بمفهوم اللقب، وهو ضعيف عند الأصوليين.
أما بالنسبة للوجه الثاني في رد هذا الاستدلال: فهو مسلك بعض العلماء حيث قالوا: إن ذكر أحد أفراد العام.
وثبوت الحكم له لا يقتضي تخصيص الحكم به، فإن النصوص التي في الكتاب عامة {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] وهذا الحديث ذكر فرداً من أفراد العام وهو التراب، والقاعدة: (أن ذكر بعض أفراد العام لا يقتضي تخصيص الحكم به) فنقول: نص النبي صلى الله عليه وسلم على التربة، وذلك من باب ذكر أفراد العام الذي لا يقتضي تخصيص الحكم بذلك الفرد.
ومن أدلتهم على تخصيص التيمم بالتراب الذي له غبار حديث: (ضرب بيديه الأرض ومسح بهما وجهه وكفيه)، فقالوا: لا معنى للضرب إلا لطلب الغبار، وهذا كما قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في بعض ما يُجزئ التطهر به وهو التراب، فإذا كان التراب له غبار؛ فالسُّنة أن يُضْرَب بالكفين عليها.
أما إذا كان غير التراب كالحجر ونحوه فيُجزئ الإنسان أن يمسح عليه.
قالوا: فكيف يُجاب عن هذا الحديث الذي ضرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم كفيه على الأرض، وقال لـ عمار: (إنما يجزيك أن تقول بيديك هكذا، قال: ثم ضرب بكفيه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه)؟ والجواب على ذلك: بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام في السنن: (أنه لما قضى حاجته عند سباطة قوم -والحديث أصله في الصحيح- مر رجل فسلَّم فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده على الحائط) قال: فضرب على الحائط، ومن المعلوم أن الحائط لا غبار له، فدل هذا الحديث على أنه لا يشترط وجود الغبار فيما يتيمم به؛ إذ لو كان شرطاً لضرب على الأرض ولم يضرب على الحائط، فدل على أن كل ما صعد على وجه الأرض يُجزئ التيمم به كأن يضرب على حائط طين أو حائط حجر، أو يضرب على صخر ونحو ذلك، فذلك كله يعتبر مجزئاً على ظاهر قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6].(20/2)
فروض التيمم
قال رحمه الله: [وفروضه: مسح وجه، ويديه إلى كوعيه] بعد أن فرغ رحمه الله من بيان الحالات التي يجوز لك أن تتيمم فيها، وبيان من الذي يحق له أن يتيمم والذي لا يحق له أن يتيمم، وكذلك بيان الشيء الذي يُتيمم به؛ شرع في بيان فروض التيمم.
الفروض: جمع فرض، وأصل الفرض في اللغة: الحز والقطع، تقول: فَرَضتُ الشيء، أي: قطعته، ومنه الفَرْضَة التي تكون على النهر؛ لأن الإنسان يقطع بها النهر من شِقِّه إلى شِقِّه.
وأما بالنسبة للفرض في اصطلاح العلماء: فجمهور العلماء من الأصوليين -ومنهم: المالكية والشافعية والحنابلة- على أن الفرض والواجب معناهما واحد، فإذا قلت: فرض، أو قلت: واجب، فالمعنى واحد، وذهب الحنفية إلى أن الفرض أعلى من الواجب -وإن كان بعض العلماء يُرجح أن الخلاف لفظي- فالفرض عند الحنفية: هو ما ثبت بدليل قطعي، والواجب عندهم: هو ما ثبت بدليل ظني، فيفرقون في مراتب الإلزامات من الشرع، فما ألزمك الشرع به بدليل لا احتمال فيه فهذا فرض، وما ألزمك الشرع به بدليل فيه احتمال فإنه يعتبر واجباً.
وفي قوله: [فروضه] الضمير عائد إلى التيمم، أي: الذي أوجب الله عليك فعله في التيمم.(20/3)
مسح الوجه في التيمم
قال رحمه الله: [مسح وجهه] قال تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة:6] والوجه ما تحصل به المواجهة، وقد تقدم ضابط الوجه: أنه من منابت الشعر عند ناصيته إلى ما انحدر من ذقنه، وكذلك -أيضاً- ما انحدر من اللحيين طولاً، وأما عرضاً: فمن طرف الأذن إلى طرف الأذن الأخرى على تفصيل عند العلماء وسبقت الإشارة إليه في باب الوضوء.
فبعد أن يضرب بيديه على الأرض يمسح بهما وجهه؛ لظاهر التنزيل في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة:6] وظاهر السُّنة في حديث عمار: (فمسح بهما وجهه) والمسح بالوجه يقع بالكفين، فلا يقع بكف دون أخرى، ويستثنى من ذلك أن يكون أقطع اليد أو مشلول اليد أو تكون بيده الثانية عاهة، فيجزئه أن يمسح بيدٍ دون أخرى؛ ولكن هل إذا مسح بيدٍ واحدة يجزيه عن تكرار الضرب؟ وجهان للعلماء: قال بعض العلماء: إن كانت له يد واحدة ضرب بها الضربة الأولى ومسح شقه الأيمن، ثم يضرب الضربة الثانية ويمسح بها شقه الأيسر؛ والسبب في هذا القول أنهم يقولون: إنه إذا مسح المسحة الأولى ذهب ما في يده، فلا يجوز أن يمسح بما فضل من طهوره الشق الثاني، والصحيح: أنه يجزيه ضربة واحدة من اليد يمسح بها الوجه كله، وهم قالوا بهذا الحكم قياساً على الوضوء، فإنك إذا توضأت بماء لم يجز لأحد أن يتوضأ به، وقد قررنا هذه المسألة أن الصحيح: أن الماء إذا توضأت به أو اغتسلت جاز للغير وجاز لك أن تعيد به وضوءاً ثانياً وغسلاً ثانياً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الماء لا يجنب) وبينا أن الأصل في الماء أنه طهور لا ينجّسه شيء -على دلالة السُّنة- إلا ما تغير فيه اللون أو الرائحة أو الطعم، فإذا ثبت أن الأصل أنك إذا اغتسلت بماء أو توضأت به جاز للغير أن يعيد الوضوء به، وكذلك التيمم أيضاً، فيعتبر قياسهم التيمم هنا بالمسح المكرر في الكف على الوضوء والغسل من باب رد المختلف فيه إلى المختلف فيه، ويعتبر دليلهم دليل التزام لا دليل إلزام.(20/4)
مسح اليدين إلى الكوعين في التيمم
قال رحمه الله: [ويديه إلى كوعيه] يمسح يديه إلى كوعيه، وذلك لقوله تعالى: {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] والأصل في اليد أنها تُطلق من أطراف الأصابع إلى المنكب، فكله يد إلاّ ما خص، فتخص بالكفين بالدليل كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] حيث جاءت فجاءت السُّنة وبينت محل القطع، فخصصت اليد بالكف، ولذلك قالوا: إنما خصصنا الكفين بالمسح؛ لظاهر حديث عمار: (فمسح بهما وجهه وكفيه).
وقال بعض العلماء: يمسح في التيمم اليد كاملة، وهو قولٌ لطائفة من السلف، وقال بعض السلف: يمسح حتى إلى الإبط على ظاهر قوله: {وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6] وقال بعضهم: إلى المرفقين إلحاقاً بالوضوء.
والصحيح أن الكفين هما المعتبران في المسح، وأنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسح أكثر من الكفين، والقاعدة: أن بيان المجمل الواجب واجب، فما دام أن القرآن قال: {وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6] واحتمل ذلك الكفين واحتمل إلى المرفقين واحتمل إلى المنكب؛ وجاءت السُّنة ببيانه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث مسح إلى كفيه، صار البيان واجباً كما في الحج؛ ولذلك يقولون في الأصول: بيان الواجب واجب.(20/5)
الترتيب في التيمم
قال رحمه الله: [وكذا الترتيب] وجوب الترتيب قول لبعض العلماء، فكما قلنا في الوضوء نقول في التيمم، فالواو في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] قالوا: تقتضي الترتيب كما اقتضته في الوضوء في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] وقالوا أيضاً: إن البدل يأخذ حكم مبدله، فلما وقعت عبادة التيمم بدلاً عن الوضوء، والترتيب شرط في الوضوء، كذلك هو شرط في التيمم، وهو أعدل الأقوال وأحوطها، فيحتاط الإنسان ويراعي الترتيب.
فائدة هذا: أننا لو قلنا: إنه لا يجب الترتيب ومسح الإنسان كفيه قبل أن يمسح وجهه أجزأه على القول بعدم اشتراط الترتيب، أما إذا قلنا باشتراط الترتيب؛ فإنه لا يجزيه إلا إذا قدم وجهه ثم مسح كفيه بعد الوجه.(20/6)
الموالاة في التيمم من الحدث الأصغر
قال رحمه الله: [والموالاة في حدث أصغر] والمولاة، أي: أن الموالاة واجبة، فبمجرد أن ينتهي من مسح وجهه فعليه أن يمسح كفيه، فلا يقع الفاصل بين مسح العضوين، فإذا وقع الفاصل أثر كما يؤثر في الوضوء، ودليل الموالاة في التيمم هو دليله في الوضوء، قالوا: إنه كما أن عبادة الوضوء -وهي الأصل- تشترط الموالاة لصحتها كذلك عبادة التيمم، فلو أن إنساناً ضرب بكفيه على الأرض، ثم مسح وجهه وجلس ساعة، وبعد ساعة ضرب مرة ثانية ومسح كفيه؛ فعلى القول باشتراط الموالاة لا يجزيه؛ لوجود الفاصل، فكما لم يجزئه في الوضوء كذلك لا يجزئه في التيمم، وعلى القول بعدم الاشتراط يجزئه ويصح منه ذلك.
وقوله: [في حدث أصغر] في: للظرفيّة، أي: أن التيمم يكون في حدث أصغر وهو الوضوء، فلو أن إنساناً انتقض وضوءه ببول أو غائط أو ريح؛ فإنه يجزيه أن يتيمم إذا استوفى شروط الرخصة.
فالتيمم يشمل الحدث الأصغر والحدث الأكبر، فلك أن تتيمم لحدث أصغر ولك أن تتيمم لحدث أكبر؛ وذلك لأن الله جل وعلا جعل التيمم بدلاً عن الطهارتين فقال بعد ذكره طهارة الحدث الأصغر في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] فدل على أن التيمم يكون بدلاً عن الطهارة الصغرى -وهي: الوضوء- والطهارة الكبرى -وهي الغسل-؛ لأنه قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] والماء يستخدم للطهارة الصغرى وللطهارة الكبرى، فإذا فقد الماء علمنا أن قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] أي لطهارة صغرى أو لطهارة كبرى فتيمموا، فعلمنا أنه بدل عنهما.(20/7)
اشتراط النية في التيمم
قال رحمه الله: [وتُشترط النية لما يُتيمم له من حدث أو غيره] (وتشترط النية لما يتيمم له) تشترط النية لصحة التيمم، وهذا يكاد يكون بالاتفاق، حتى إن الحنفية -وقد سبق معنا في الوضوء والغسل أنهم لا يرون النية، ويقولون بصحة الوضوء أو الغسل بدون نية -قالوا: لابد من النية في التيمم؛ وذلك لأنها رخصة لابد من وجود النية فيها.
والدليل على اشتراط النية: أن التيمم عبادة، والله أمر بإخلاص العبادة، ولا إخلاص إلا بنية.
وكذلك الدليل من السُّنة: قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) والوضوء والتيمم عمل، فتشترط النية لصحة التيمم.(20/8)
حالات النية في التيمم
وقوله: (من حدث أو غيره) إذا جئت -مثلاً- تريد أن تتيمم، فيكون في قلبك أنك تقصد استباحة الصلاة، سواء كان ذلك في حدث أصغر أو في حدث أكبر، ومثاله: لو أن إنساناً استيقظ لصلاة الفجر وهو جنب وأراد أن يصلي ولا ماء عنده أو عنده ماء ولا يستطيع استعماله، فقد وجد فيه مقتضى الرخصة، فإنه عند قصده إلى الصعيد الطيب -وهو التراب أو الحجر- ينوي في نفسه بهذه العبادة -وهي التيمم- استباحة الصلاة، فإذا وجدت هذه النية في حدث أصغر أو في حدث أكبر صح تيممه وأجزأه، أما لو عزبت عنه النية وضرب يده دون أن يستحضر أو تكون منه النية؛ فإنه لا يجزئه ذلك.
قال رحمه الله: [فإن نوى أحدها لم يجزئه عن الآخر] إن نوى التيمم عن الجنابة لم يجزئه ذلك عن الوضوء، وقال العلماء: لو كانت عليه جنابة وقصد رفع الجنابة دون أن يقصد بها استباحة الصلاة؛ فإنه لا يجزئه، والصحيح: أن المنبغي على المكلف إذا أراد أن يتيمم أن يقصد استباحة الصلاة المفروضة أو النافلة، فإن كانت مفروضة تقيد بالفرض حتى يخرج وقتها، وصلى بذلك التيمم الذي قصد به الاستباحة، وإن كانت نافلة كذلك أيضاً صلى به النافلة، وإن كانت غير فرض ونافلة مثل: الطواف بالبيت أو لمس المصحف؛ فإنه يتقيد بذلك الذي تيمم من أجله، فيجعل في نفسه عند ضربه لكفيه، أو يستحضر في نفسه عند ضربه لكفيه استباحة هذا المحظور الذي لا يجوز فعله إلا بطهارة.
قال رحمه الله: [وإن نوى نفلاً أو أطلق لم يصل به فرضاً] وإن نوى نفلاً لم يصل به فرضاً؛ لأن نية الأدنى لا تبيح الأعلى، فكما أنه إذا توضأ لنفل لا يصلي فريضة، كذلك في التيمم؛ والدليل على هذا: ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: (إنما لكل امرئ ما نوى) فقوله: (إنما لكل امرئ ما نوى) يقتضي التخصيص، فما دام أنه نوى النفل فلا يستبيح الفرض، ولذلك لو أن إنساناً أحرم بالصلاة ناوياً النافلة، وأراد أن يقلبها إلى الفرض لم يصح إجماعاً، كذلك أيضاً لو تيمم ناوياً النافلة لم يصح له أن يستبيح الفريضة.
قال رحمه الله: [وإن نواه صلى كل وقته فروضاً ونوافل] وإن نوى الفرض (صلى كل وقته) أي: وقت الفرض، (فروضاً ونوافل)، ويشمل ذلك الفروض إذا كان الوقت يسع فرضين مثل: المسافر، فلو كنت مسافراً ثم أخرت صلاة الظهر حتى دخل وقت العصر ولم تجد ماءً وأردت أن تجمع بين الظهر والعصر في وقت العصر فإنك تصلي الظهر والعصر بتيمم واحد، وهكذا لو أخرت المغرب إلى صلاة العشاء، وهذا بالنسبة للفروض المتعددة.(20/9)
مبطلات التيمم(20/10)
خروج الوقت يبطل التيمم
قال رحمه الله: [ويبطل التيمم بخروج الوقت] وقد ذكرنا هذا في المجلس الماضي، وذكرنا أنه مبني على ظاهر آية المائدة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] فإن الله سبحانه وتعالى قصر على المكلفين الوضوء لكل صلاة، ثم نُسخ ذلك في الوضوء، فبقي التيمم على الأصل؛ لعدم ورود الدليل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيمم وصلى أكثر من صلاة، ثم وجدنا هذا الحكم -وهو أن التيمم يبطل بخروج الوقت- قد أفتى به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الزركشي رحمه الله هذه المسألة في شرحه للمختصر وقال: إنه قضاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وممن قضى به: ابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو رضي الله عن الجميع، وأما ابن عباس فعنه روايتان في هذا؛ لكن قالوا -خاصة على مذهب من يرى أن قول الصحابي حجة-: إن هذا يعتبر مقيداً بالفرض، ولذلك أفتوا بأنه إذا خرج وقت الفريضة فإنه يتيمم لما بعدها من فريضة، فلو تيمم لصلاة الظهر وخرج وقتها وأراد أن يصلي العصر استأنف تيممه، ويكون التيمم الأول باطلاً بمجرد انتهاء وقت صلاة الظهر.(20/11)
مبطلات الوضوء مبطلات للتيمم
قال رحمه الله: [وبمبطلات الوضوء] يعني: يبطل التيمم بمبطلات الوضوء، كأن يخرج منه ريح أو بول أو غائط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فجعل الحدث في الوضوء ناقضاً، وكذلك يعتبر الحدث ناقضاً للتيمم؛ لأن البدل يأخذ حكم مبدله.(20/12)
حضور الماء يبطل التيمم
قال رحمه الله: [وبوجود الماء] بهذا أصبح التيمم زائداً على الوضوء في نواقضه، فينتقض التيمم بما ينتقض به الوضوء -وهذا ما يشترك فيه مع الوضوء- وينتقض زيادة على ذلك بأمرين زائدين على الوضوء هما: خروج الوقت، ووجود الماء.
أما وجود الماء فلأن ما شرع مقيداً بعلة يزول بزوالها، وقد شرع الله التيمم مقيداً بعلة فقد الماء أو عدم القدرة عليه كما على ظاهر السُّنة في حديث عمار، فلما أمكن المكلف أن يستعمل الماء أو وجده؛ زال الحكم بزوال علته، ولذلك يقولون: إنه إذا وجد الماء انتقض تيممه ولزمه أن يغتسل ويتوضأ؛ ودل على هذا الحكم دليل الكتاب والسُّنة: أما دليل الكتاب: فقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] فجعل التيمم معلقاً على عدم وجود الماء، فإن وجد الماء دل على بطلان التيمم وعدم الاعتداد به.
وأكد ذلك دليل السُّنة في حديث عمران في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه صلى بالناس الفجر، فلما صلى عليه الصلاة والسلام الفجر رأى رجلاً لم يصلِّ مع الناس، فقال: عليَّ به، فلما أُتي به قال: ما منعك أن تصلي في القوم؟؟ قال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء -أي: أصابتني الجنابة ولا أجد ماءً أغتسل به فأرفع الجنابة- فقال عليه الصلاة والسلام: عليك بالصعيد فإنه يكفيك) وفي الرواية الثانية: (فلما مضى عليه الصلاة والسلام وجد الماء فبعث به إليه).
وجه الدلالة: أنه جعل الحكم بتيممه والاعتداد بالتيمم موقوفاً على عدم وجود الماء، فدل على أنه إذا وجد الماء سقطت الرخصة لاستباحة الصلاة.
الدليل الثاني أيضاً من السُّنة: ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته)، الفاء تقتضي العطف على الولاء، يعني: بسرعة، ولا تقتضي تراخياً، ولذلك قال: (فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسَّه بشرته) فدل ذلك -أولاً- على أن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يبيح فعل الصلاة، ودل -ثانياً- على أنه إذا وجد الماء لزم على المكلف أن يمسه بشرته، فيزول موجب الرخصة؛ وحينئذ نحكم ببطلان تيممه ووجوب وضوئه وغسله.
قال رحمه الله: [وبوجود الماء ولو في الصلاة لا بعدها] (ولو في الصلاة) لو: -كما هو معلوم في المتون الفقهية- إشارة خلافٍ، كما ذكر خليل في المختصر في مقدمته أنه يشير بلو للخلاف، فإذا قال العلماء: ولو قائماً، فُهِمَ أن حالة القيام فيها خلاف، وأن هناك قولاً يقول بالعكس قال: (ولو في الصلاةٍ) قال بعض العلماء: نحكم بكون الماء عند وجوده موجباً لبطلان التيمم مطلقاً سواء وجده وهو فارغ من الصلاة منتهٍ منها أو وجده أثناء فعله للصلاة، فإن وجده بعد انتهائه من الصلاة؛ فهذا فيه قول واحد عند من يرى أن وجود الماء موجب لبطلان التيمم.
أما إن وجده وهو في أثناء الصلاة فعلى أصح الأقوال أنه ولو كان في أثناء الصلاة فإنه يحكم عليه ببطلان التيمم، ووجه ذلك أننا نُلزم القائلين بكون وجود الماء -على ظاهر دليل الكتاب والسُّنة- موجباً للبطلان، ونلزمهم بكونه مبطلاً حتى في الصلاة لمكان الإطلاق في الشرع: (فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) فلم يفرق بين كونه وجده أثناء الصلاة أو وجده بعد الصلاة، ولذلك نقول: إن وجود الماء موجب لبطلان التيمم مطلقاً، سواءً كان وجوده أثناء الصلاة أو بعد فعل الصلاة والفراغ منها.
وهنا مسألة خلافية: لو أن إنساناً صلى ثم وجد الماء قبل انتهاء الوقت؛ فقال بعض العلماء بالإجزاء وأنه لا يلزمه أن يعيد الصلاة، وذلك لأن صلاته وقعت معتبرة صحيحة وأجزأته على الحالة التي كان معذوراً فيها.
وقال بعض العلماء: يلزمه أن يعيد الصلاة بعد غسله ووضوئه، فإذا وجد الماء أثناء الوقت تلزمه الإعادة.
وتوسط آخرون بين القولين فقالوا: تستحب له الإعادة ولا تجب عليه، وإن كان أقوى الأقوال أن صلاته صحيحة ولا تلزمه الإعادة.(20/13)
استحباب تأخير التيمم إلى آخر وقت الصلاة
قال رحمه الله: [والتيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى] إذا دخل وقت الفريضة على المكلف فإن غلب على ظنه أنه سيجد الماء فحينئذٍ ينتظر وجوده خروجاً من خلاف العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان لا يدري هل يمكنه أن يجد الماء أم لا، أو يُرجّي وجوده بحيث لم يكن هناك غالب ظن؛ فحينئذٍ قالوا: ينتظر، وذلك من باب الاستحباب، فإذا تيمم وصلى أجزأه ذلك ولا تلزمه الإعادة على ما ذكرنا فيمن وجد الماء قبل خروج الوقت.(20/14)
صفة التيمم
قال رحمه الله: [وصفته أن ينوي ثم يسمي] (وصفته) أي: صفة التيمم، وهذا كله من الترتيب في الأفكار، فميزة العلماء والفقهاء أنهم لا يأتون بالأحكام هكذا مخلوطة دون ترتيب لها وحسن وضع لأحكامها بما يتناسب مع حال المكلفين، فإنك إذا درست باباً من الأحكام فأول ما يأتيك من الأحكام: من الذي يجوز له أن يتيمم ومن الذي لا يجوز له أن يتيمم؟ وبعد أن تعرف الحالات التي يباح فيها أن يتيمم الإنسان لابد أن تعرف بأي شيء يتيمم، ثم ما هي كيفية التيمم؟ ومن هنا ترى دقة الفقهاء في ترتيب هذه الأحكام وتسلسلها على هذا النحو، ومن ذلك يستفيد طالب العلم أنه إذا خاطب الناس أو أراد أن يبين حكماً لهم فعليه أن يراعي ترتيب الأفكار وتسلسلها، إما أن تُسَلْسَل على حسب مناسبة شرعية أو على حسب الطبيعة والواقع.
قال رحمه الله: (وصفته): صفة الشيء: حليته والأمور التي يتميز بها عن غيره، فإذا وصفت شيئاً فقد ميزته عن غيره.
والضمير في قوله: وصفته، عائد إلى التيمم، أي: صفة التيمم الشرعية.
وقوله: (أن ينوي) النية شرط في صحة التيمم.
وقوله: (ثم يسمي) يقول: باسم الله، والصحيح: أنه لا يجب عليه أن يسمي؛ وإنما العلماء يستحبون في مثل هذه العبادات البداءة بالتسمية لمطلقات الشرع في فضل ذكر اسم الله عز وجل، وقد قال الله عز وجل: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن:78] فيقولون: من أراد البركة في الأشياء ذكر اسم الله فيها، وأحق ما تكون فيه البركة الوضوء، ولذلك قالوا: يسمي قبل وضوئه، وأما قبل تيممه فلم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بذكر التسمية في التيمم، ولو أن إنساناً تيمم دون أن يسمي؛ فإن ذلك قد يكون أقرب إلى السُّنة.
قال رحمه الله: [ويضرب التراب بيديه] لأن عماراً وصف تيمم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ثم ضرب بهما) أي: ضرب بيديه الأرض وهذه هي السُّنة، فإن كانت الأرض، صلبة كالحجر ونحوه مسح عليها.
قال رحمه الله: [مفرجتي الأصابع]: قالوا: لوصف عمار لتيمم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ضرب) والضرب لا يكون إلا في الأرض التي لها غبار، فدل على أنه قاصدٌ للغبار، وإذا قصد الغبار فإنه يفرج بين أصابعه حتى يتخلل ما بينها، فيحصل الإجزاء بعبادته.
قال رحمه الله: [يمسح وجهه بباطنهما].
يجعل باطن الكفين للوجه.
قال رحمه الله: (وكفيه براحتيه (للعلماء رحمة الله عليهم في صفة التيمم كلام، فقالوا: يبدأ باليمنى فيجعل طرف الراحة عند رءوس الأصابع، ثم يمرها على الظاهر، ثم يشبك بإدخال أو إنزال أطراف الأصابع حتى يكون ما بين الأصابع قد أصابه المسح، وكما أنك مطالب بالشرع في الوضوء أن تغسل ما بين الأصابع فكذلك أنت مطالب في التيمم أن تمسح ما بين الأصابع، وهذا عند من يقول بعدم التفريج؛ لأنه إذا فرج لم يحتج للتخليل، فيمرها على هذه الصفة، فيمسح بكفه اليمنى على كفه اليسرى بهذه الصفة حتى يبلغ كوعه، فإذا انتهى منه يقلب إلى راحته ويمسحهما بها.
وقال بعض العلماء -وهو الصحيح- يمسح على ظاهر كفيه، قالوا: إنه يمسح بالظاهر فيكون الباطن قد مسح، فيكون المسح على ظاهره.
قال رحمه الله: [ويخلل أصابعه] على الصفة التي ذكرناها، بحيث إذا بدأ باليمين يقلب اليسرى عليها ويولجها بين الأصابع؛ لأنه إذا أمرَّ بهذه الصفة لا يبقى ما بين الأصابع، قالوا: كما أنه أُمر في الوضوء بغسله فالله أمر في التيمم بمسحه، وهذا لا يتحقق إلا بالتخلل، والقاعدة: (أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، فلما كان الأصل في هذه الكف أنها تُمسح كاملةً كما أنها في الوضوء تغسل كاملة فيخلل الأصابع كما هو في الوضوء.(20/15)
الأسئلة(20/16)
ازدحام شرط الوقت وشرط الطهارة في الصلاة
السؤال
لو أدركت مقدار ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها وأنا متيمم، فهل تبطل صلاتي لبطلان تيممي بخروج الوقت؟
الجواب
هذه مسألة مفرعة على المسألة التي ذكرناها وهي: إذا وجد الماء أثناء صلاته، والحكم يستوي فيه أن تبقى ركعة أو لا يكون في الوقت متسع لأن يتوضأ أو يغتسل، بمعنى: أن الحكم عام، فلذلك نقول: إذا وجد الماء وأمكنه أن يستعمله وخشي خروج الوقت فإنه لا يجزئه أن يتيمم؛ لأن الله عز وجل اشترط في التيمم فقد الماء، وقال بعض العلماء -وهو قول مرجوح وضعيف- إنه إذا خشي خروج الوقت فإنه يتيمم ويصلي، والصحيح: أنه يتوضأ؛ لأن الوضوء والغسل مشترط لصحة الصلاة، ولذلك لا يعتبر فعله للصلاة -مع إمكانه للوضوء والغسل على هذا الوجه مع تيممه- صحيحاً، ولا بد أن يتوضأ ويغتسل ولو خرج الوقت، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم.
وهذه المسألة يجعلها الأصوليون من مسائل ازدحام الشروط، بمعنى: أن الشرع اشترط لصحة الصلاة الوقت، فلا يجوز للمكلف أن يُخْرِج الصلاة عن وقتها، واشترط لها الوضوء إذا كان الإنسان محدثاً حدثاً أصغر، والغسل إذا كان محدثاً حدثاً أكبر، فإذا كان في آخر الوقت بحيث لو قلنا له: توضأ، خرج الوقت، فهل نقدم شرط الطهارة ونقول: يتوضأ ولو خرج الوقت، أو نقدم شرط الوقت ونقول: تسقط طهارة الماء وينتقل إلى البدل لإدراك الوقت؟ فبعض العلماء يقول: أنا أُغلِّب وأُقوّي شرط الوقت على شرط الطهارة، فما دام أن جلوسه للوضوء، يخرجه عن الوقت فعليه أن يتيمم مباشرة ويقوم إلى الصلاة، فيدرك الوقت وتسقط عنه طهارة الماء، وهذا عند من يقول: إن طهارة التراب قائمة مقام طهارة الماء.
الوجه الثاني يقول: هذا مكلف، واشترط الشرع في إسقاط طهارة الماء العجز أو الفقد، وهذا ليس بعاجز ولا فاقد، ولذلك نقول: يتوضأ ولو خرج الوقت؛ لأن مثله في الأصل يقضي ولا يؤدي، كما لو استيقظ بعد خروج الوقت، فما دام أنه توضأ واشتغل بالوضوء فهو معذور شرعاً، وهذا القول الثاني أعدل الأقوال وأقواها؛ لأن إسقاط الوضوء شرطه الفقد أو العجز، وهنا ليس بعاجز ولا فاقد، ولا في حكم العاجز ولا الفاقد، وبناءً على ذلك يلزمه أن يتوضأ ولو خرج الوقت، وتكون صلاته مقضية لا مؤداة.
وبعض العلماء عنده مخرج فقهي عجيب يقول: ما دام أننا لو قلنا له: توضأ، خرج الوقت، فنقول له الآتي: تيمم وصل وأدرك الوقت، ثم احتط بالوضوء بعد الصلاة، وأعد الصلاة مرة ثانية؛ لأن الصلاة بالوضوء سيوقعها بعد خروج الوقت، فنقول له احتياطاً: أدرك الوقت بالتيمم -وهذا من ناحية أصولية فقط، إعمالاً للقواعد- فيتيمم ويصلي، لكن هذا فيه مشقة، ولو أراد المكلف أن يحتاط بهذه الطريقة فهذا أفضل: فيتيمم ثم يصلي ثم بعد ذلك يتوضأ ويصلي الصلاة المفروضة على الصفة التي ذكرناها، والله تعالى أعلم.(20/17)
حكم التيمم بالتراب المحترق
السؤال
في بعض النسخ زيادة مثل قوله: (ويجب التيمم بتراب طهور غير محترق)؟
الجواب
هذا تنبيه جيد، فأما قوله: (غير محترق) فيقصد بذلك إخراج ما أصابته الصنعة من نار ونحوه كالإسمنت، فإن التراب إذا أصابته الصنعة وَحُرِق خرج عن كونه تراباً إلى مادة أخرى، قالوا: فلا يجزئ أن يتيمم به، وهذا أحوط؛ لأنه خرج عن أصل المادة المعتبرة للحكم الشرعي من كونها صعيداً، فعلى المكلف أن يحتاط بعدم التيمم بمثل هذا.
ويدخل في التراب المحترق الطوب المحروق ونحوه، وكل هذا لا يتيمم به، لكن يتيمم على الصخر والحجر والتراب والرمال ونحوها.(20/18)
حكم أداء الفريضة بتيمم النافلة
السؤال
قال المصنف رحمه الله: (وإن نوى نفلاً أو أطلق لم يصل بها فرضاً) فما معنى قوله: (لم يصل بها فرضاً)؟
الجواب
يقولون: (إذا نوى نفلاً) كأن ينوي راتبة الظهر فلا يصلي بها الظهر، وهكذا لو نوى الراتبة القبلية في الصبح وخص نيته بالراتبة القبلية، فلا يصلي بهذا التيمم، غير ما نوى التيمم لاستباحته، وأما بالنسبة للإطلاق: إذا قصد به الاستباحة للصلاة مطلقاً فهذا يتأتى في طهارة الماء، كما أشار إليه بعض العلماء في قوله: ولينو رفع حدث أو مُفْتَرَض أو استباحة لممنوع عَرَضْ ولينو رفع الحدث: هذه النية العامة في طهارة الماء من وضوء وغسل، وأما بالنسبة للتيمم فحين كان مبيحاً لا رافعاً لم يكن بالقوة التي عليها طهارة الماء، ولذلك خُص بهذا الوجه وأصبح من الفوارق بين طهارتي التراب والماء، والله تعالى أعلم.(20/19)
تقديم الوجه على الكفين في التيمم
السؤال
كيف نجمع بين حديث عمار: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه) ففي هذا الحديث تقديم اليدين على الوجه، وفي رواية البخاري تقديم الوجه على اليدين، وهل هذا يدل على عدم وجوب الترتيب؟
الجواب
إن من العلماء من أجاب عنه بأن حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم المراد بها مطلق الجمع بحصول مسحه عليه الصلاة والسلام لكفيه ثم مسحه لوجهه، وليس المراد بها مراعاة الترتيب، وإن كان ظاهر السُّنة يدل على مراعاة الترتيب، والأحوط نظراً لمكان الرخصة وتقيد هذه العبادة بكونها رخصة أن يخرج الإنسان من الخلاف، واخترنا القول الذي يقول بمراعاة الترتيب؛ لوجود الشبيه والنظير مع اختلاف الروايات، واختلاف ظاهر السُّنة والتنزيل مع الاحتمال الوارد في ظاهر السُّنة، فرجعنا إلى الأحوط ورجعنا إلى الأصل، فوجدنا الأحوط يقتضي صيانة عبادة المكلف من الخلل، فقلنا يراعي الترتيب، ووجدنا الأصل -وهو طهارة الماء التي وقع التيمم بدلاً عنها- يراعى فيها الترتيب، فحكمنا بالترتيب من هذه الوجوه، وغلبنا ظاهر القرآن {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أبدأ بما بدأ الله به) وفي رواية (ابدأوا) بالأمر، لكن هذه الرواية متكلم فيها، فلما بدأ الله عز وجل بمسح الوجه قبل مسح الكفين راعينا هذا الترتيب مع ما ذكرناه من وجود الأصل، ولذلك من المسالك الأصولية تستطيع أن تقدم القول الذي يقول بمراعاة الترتيب لظاهر الكتاب وظاهر السُّنة، فعندما رجعنا إلى الأصل كان المعارض، وهو الكتاب والسُّنة أبلغ في القبول من قبول سنة منفردة، ثم مراعاة الأصل الذي ذكرناه في عبادة الوضوء، والبدل يأخذ حكم مبدله، وكل ذلك اقتضى تقديم القول الذي يقول بمراعاة الترتيب، والله تعالى أعلم.(20/20)
حكم إمامة المتيمم بالمتوضئ
السؤال
إذا كان هناك رجل متوضئ وآخر متيمم، فمن يقدم للصلاة؟
الجواب
هذه مسألة ذكرها العلماء رحمة الله عليهم في آداب الإمامة، فقالوا: إن من آداب الإمامة ومسائل التقديم فيها أنه إذا اجتمع متيمم ومتوضئ فلا يصلي المتيمم بالمتوضئ، وهذا في الحقيقة محل نظر، وأما دليلهم فقالوا: إن المتيمم مرخص له، والقاعدة في الأصول: أن الرخص لا يتجاوز بها محالها، وبناءً على ذلك قالوا: لا يستبيح بالتيمم أن يصلي بغيره، خاصة على المذهب الذي يقول: إن الإمام يحمل الفاتحة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الإمام ضامن) وإن كان الصحيح: أنه لا يحمل.
والذي تدل عليه السُّنة -وهو أقوى وأقرب إلى الصواب إن شاء الله- أنه يجوز أن يصلي المتيمم بالمتوضئ، ولكن بشرط أن يكون إماماً راتباً أو أميراً أو نحو ذلك؛ والدليل على ذلك حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، فإن عمرو قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال: فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً)، فقالوا: هذا يدل على جواز إمامة المتيمم بالمتوضئ، ولكن محل ذلك أن يكون إماماً راتباً، كأمير السرية أو أمير السفر أو قائد الجند إذا كان يصلي بهم وهو إمامهم ثم أصابته جنابة، فيصلي بهم ولو كان جنباً؛ لظاهر حديث عمرو.
أما لو أن اثنين استويا في المرتبة ووجدنا متوضئاً ووجدنا متيمماً فلا شك أن الخروج من الخلاف أولى، فنقول للمتوضئ: صل بالمتيمم؛ لأنه إذا صلى المتيمم بالمتوضئ شككنا في الصلاة، ولكن إذا صلى المتوضئ بالمتيمم صحت الصلاة قولاً واحداً، ولذلك ينبغي صيانة الصلاة من هذا الخلل، فنقول يصلي المتوضئ بالمتيمم إن استويا، أو كانوا بلا إمام راتب في الناس فلا يتقدم عليهم المتيمم، وإنما يقدم المتوضئ، وهذا من آداب الإمامة، وعلى الإمام ألا يعرض صلاة من وراءه للخلل أو الخلاف، بل عليه أن يحتاط لهم.(20/21)
حكم من وجد الماء بعد صلاته بالتيمم
السؤال
إذا كنت في سفر وحان وقت الصلاة ولم يكن معي ماء فتيممت، مع العلم أني لو سرت مسافة معينة فإنني سأجد محطة، فهل فعلي صحيح؟ وإن لم يكن صحيحاً فكيف أفعل في تلك الصلاة مع العلم أنه مضى عليها ما يقارب شهراً؟
الجواب
إذا كان هذا الشخص في سفر ولا يعرف المحطات ولا المنازل، فإنه في هذه الحالة يتيمم ويصلي، فلو مشى -وهو لا يدري- فوجد الماء ولو بعد كيلو ولو بعد نصف كيلو؛ فإنه في هذه الحالة لا يعيد الصلاة، بل صلاته صحيحة؛ لأنها وقعت مجزئه ولا حرج عليه في ذلك، أما لو كان يغلب على ظنه أنه سيجد الماء فصلاته مشبوهة والأحوط له أن يعيدها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(20/22)
شرح زاد المستقنع - باب إزالة النجاسة [1]
لقد أمر الدين الإسلامي بالطهارة من الحدث والخبث والنجاسة، والطهارة من النجاسة تشمل البدن والثوب والمكان، فإذا وقعت النجاسة في شيء من ذلك وجب إزالتها، والأصل في الطهارة هو الماء، فإن كانت النجاسة في الأرض صب عليها الماء، وإن كانت في غيرها غسلت حتى تطهر، إلا إذا كانت نجاسة كلب إحداهن بالتراب.(21/1)
إزالة النجاسة وأحكامها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب إزالة النجاسة] الإزالة: المحو، وزوال الشيء: ذهابه.
(النجاسة) النجاسة: مأخوذة من النجس، وهو الشيء المستقذر، والمراد بها: النجاسة الشرعية، أي: التي حكم الشرع بقذارتها ووجوب أو لزوم إزالتها لعبادة الصلاة ونحوها كالطواف بالبيت.
ما مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله؟
الجواب
تكلمنا عن الوضوء ونواقضه، ثم عن الغسل، ثم تكلمنا عن التيمم، فنلاحظ في هذه الأبواب الماضية أنها اشتملت على عبادة الوضوء والغسل، ثم على البدل عنهما وهو التيمم، ثم بعد ذلك شرع رحمه الله بقوله: (باب إزالة النجاسة) وهذا نوع جديد من الطهارة، فالنوع الأول الذي هو الوضوء والغسل والتيمم هو طهارة الحدث، والنوع الثاني الذي معنا الآن هو طهارة الخبث، فعلى المكلف أن يعتني بهذا الباب؛ لأمر الشرع بإزالة النجاسة للصلاة ونحوها مما يشترط له الطهارة كالطواف بالبيت، والأصل في هذا الباب دليل الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة.(21/2)
الأدلة على وجوب إزالة النجاسة
أما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل قال لنبيه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] فأمره بتطهير ثيابه عند قيامه للصلاة أو إرادته القيام للصلاة، قالوا: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] أمر، والأمر للوجوب، فدل على وجوب تطهير الثياب والملبوس للعبادة وهي الصلاة، هذا بالنسبة لطهارة الثوب.
وكذلك إزالة النجاسة دل عليها دليل السُّنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلي عنك الدم وصلي) وقال في بول الأعرابي: (أريقوا عليه سَجْلاً من ماء) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً) فهذه النصوص كلها قصد منها إزالة النجاسة، وإزالة النجاسة إما من ثوب أو من بدن أو من مكان، فالشرع ألزم المكلف إذا أراد أن يصلي أن يكون طاهر الثوب والبدن والمكان، ولذلك يَنْصَب كلام العلماء ومسائل الناس في النجاسات على نجاسة الثوب أو البدن أو المكان.
أما نجاسة البدن: فدل على لزوم إزالتها قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه -لشبهة- فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) فأمر بتطهير البدن والثوب: دليله ظاهر قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وقوله عليه الصلاة والسلام: (حُتيه ثم اقرصيه بماء) يدل على تطهير الثوب، وكذلك يدل على تطهير الملبوس من حذاء ونحوه، أنه لما صلى النبي عليه الصلاة والسلام في النعلين ثم قام بخلعهما أثناء الصلاة قال: (أتاني جبريل فأخبرني أنهما -أي: النعلين- ليستا بطاهرتين) فدل على أنه لا يُصلى إلا في حذاء طاهر.
وثبت أيضاً في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإن جاء إلى المسجد فليصل فيهما -يعني: في نعليه- فإن وجد بهما أذى فليدلكهما بالأرض ثم ليصل فيهما) فهذا يدل على تطهير الملبوس، ولكنه بنوع آخر من الطهارة وهي الطهارة الترابية الجامدة.
أما تطهير المكان الذي يصلي عليه الإنسان: فيدل على لزوم طهارته قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث أبي هريرة لما بال الأعرابي في المسجد: (أريقوا عليه سَجلاً من ماء) فأمر بتطهير المكان، فهذه النصوص تدل على إزالة النجاسة في الثلاثة المواضع: البدن، والثوب، والمكان.(21/3)
الماء أصل في إزالة النجاسة
أصل الطهارة بالماء، وتكون إزالة النجاسة إما بالماء أو بما في حكم الماء في صور مخصوصة، فإزالة النجاسة بالماء هي الأصل؛ لأن الله تعالى بيّن في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن الماء أصل المطهرات؛ فقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] أي: طاهراً في نفسه مطهراً لغيره، وقال عليه الصلاة والسلام في ماء البحر: (هو الطهور ماؤه) فدل هذا على أن الماء هو الأصل في التطهير، ويدل على ذلك جلياً قوله عليه الصلاة والسلام: (واغسله بماء وثلج وبرَد) فجعل حتى التطهير بالماء مقدماً على غيره، فدل على أن التطهير في الأصل بالماء، ثم قد يكون التطهير بشيء في حكم الماء في صور مخصوصة، ومثال ذلك: طهارة الخارج من السبيلين تكون بالتراب أو بالحصى، أو تكون بالمنديل، وذلك في الاستجمار، فإن الإنسان إذا قعد فبال أو تغوط جاز له أن يأخذ منديلاً ويزيل ما ثمّ، فإذا فعل ذلك طَهُرَ الموضع؛ لأن طهارته بغير الماء في هذه الصورة المخصوصة أذن الشرع بها، فعلى العموم: الطهارة إما أن تكون بماء، وإما أن تكون بما في حكم الماء في صوره المخصوصة.(21/4)
إزالة النجاسة من الأرض بغسلة واحدة
قال رحمه الله: [يجزئ في غسل النجاسات كلها إذا كانت على الأرض غسلة واحدة تذهب عين النجاسة] (يجزئ) أي: يكفي المكلف وتعتبر ذمته بريئة إذا فعل ذلك، ويجزئه هذا في تطهير النجاسة إذا كانت على الأرض، مثال ذلك: لو وقع بول على أرض مسجد وكانت الأرض من تراب، فإنه يجزئ في إزالة تلك النجاسة أن يصب المكلف صبة من ماء تكون أكثر من النجاسة، أما إذا كانت مثلها أو دونها فإنها لا تجزئ، وإنما تزال النجاسة بالمكاثرة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أريقوا عليه سَجلاً من ماء) أي: على بول الأعرابي، وفي رواية: (دلواً من ماء) فوجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: أريقوا عليه ماءً ولكن قال: (سجلاً) فدل على أن المكاثرة مطلوبة، وأنه لا يكفي أن تصب أي ماء، فلو بال إنسان -مثلاً- في مسجد، وجاء رجل بمغراف من ماء، فإن المغراف إذا صب على النجاسة فإنه سيتأثر بملاقاتها، ولذلك لا يعتبر مجزئاً في تطهير هذه النجاسة، بل لا بد أن يكون الماء أكثر من النجاسة المصبوب عليها، ووجه ذلك في قوله: (سجلاً) فإن السجل هو الدلو، وقال بعضهم: إنه دلو كبير، وإن كان ظاهر الحديث أن السجل هو الدلو المعتاد، فإن الدلو إذا صببته على بول سيكون أضعاف البول، وهذا يدل على أن النجاسة تزال بالمكاثرة وليس بمجرد صبة واحدة مطلقاً، بل لابد أن تكون مكاثرة بحيث يغلب على ظنك أنها تزيل النجاسة، وهذا من سماحة الشريعة ويسرها ورحمة الله عز وجل بالعباد، فإنك إذا نظرت إلى النجاسة وقد أصابت الأرض الترابية في مسجد أو في غرفة والأرض ترابية فلا يمكن للمكلف أن يقتلع الأرضية ويغسلها كما يغسل ثوبه، فإن في ذلك مشقة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أريقوا عليه سجلاً من ماء) فدل هذا على سماحة الشريعة ويسرها، وهذا النوع من النجاسات يجزئ فيها صب الماء صبة واحدة، لكن بشرط أن يكون على سبيل المكاثرة.
وقوله: (غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة).
(غسلة واحدة) لقوله عليه الصلاة والسلام: (أريقوا عليه سجلاً من ماء) فلم يشترط سجلين أو ثلاثة.
(تذهب بعين النجاسة) فلو صب أقل من النجاسة أو مثلها بحيث لا يغلب على الظن زوالها، فيلزمه أن يزيد حتى تكون أكثر من صبة؛ لأن الشرع قصد إزالة النجاسة، فإن بقي أثرها كان صب الماء وعدمه على حد سواء، ولذلك لابد أن يكون الماء المصبوب أكثر من النجاسة حتى تحصل غلبة الظن، وهذا كله إذا كانت الأرض ترابية، أما لو كانت الأرض من القماش فإنه لابد من إزالة النجاسة مثل إزالتها من الثوب، فيرفع القدر الذي أصابته النجاسة، ويصب عليه الماء على نفس الطريقة، ثم يعصره إذا أمكن عصره، وإذا لم يمكن عصره مثل ما هو موجود الآن من السجاد فحينئذٍ نقول: يصب الماء على البساط ثم يسحب ويشفط ثم يصب مرة أخرى ويجفف حتى يغلب على الظن أن النجاسة قد زالت، لأن مكاثرة الصب تذهب عين النجاسة وأثرها.(21/5)
كيفية تطهير الإناء إذا ولغ فيه كلب
قال رحمه الله: [وعلى غيرها سبع، إحداها بتراب في نجاسة كلب وخنزير].
عندنا النجاسات إما مخصوصة وإما عامة، فالنجاسة التي تقع على أرض المسجد صورة مخصوصة يصب عليها الماء صباً، ولا يشترط عصر ذلك كما ذكرناه.
ثم يليها من المخصوصات نجاسة الكلب والخنزير: أما نجاسة الكلب؛ فورد فيها حديثا أبي هريرة وعبد الله بن مغفل الثابتان في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات) في رواية (إحداهن) وفي رواية: (أولاهن بالتراب) وفي رواية: (وعفروه الثامنة بالتراب) وهذا الحديث دل على مسائل: المسألة الأولى: إذا ولغ الكلب في الإناء -والولوغ: هو إدخال رأسه وشربه من الإناء- وشرب منه، وكذلك لو لم يكن في الإناء ماء وجاء كلب ولحس والرطوبة موجودة بلسانه فنقول: لقد ولغ فيه، فطهارة الإناء بفعل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب) وفي رواية: (إحداهن) وفي رواية: (وعفروه الثامنة بالتراب) ثلاث روايات.
أما رواية: (أولاهن) فصورتها: فإن تأخذ كفاً من تراب وترميه في هذا الإناء الذي أدخل الكلب رأسه وولغ فيه، ثم إذا رميت هذا الكف من التراب صببت الصبة الأولى من الماء ثم الثانية ثم الثالثة.
إلى السابعة، فبذلك يطهر الإناء.
أما رواية: (إحداهن) فهي مطلقة، فإن شئت صببت الماء في الأولى ثم رميت التراب في الثانية وصببت الصبة الثانية من الماء.
أما رواية: (عفروه الثامنة) فهي محل إشكال، فقال بعض العلماء: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (عفروه الثامنة) معناه: أنه بعد غسله سبع مرات يصب التراب ثم يحتاج إلى ماء بعد التراب، وهذا قول شاذ قال به بعض السلف، والصحيح: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (عفروه الثامنة بالتراب) أنها ليست غسلة ثامنة في الترتيب، وإنما هي ثامنة من حيث العدد، فإنك إذا وضعت التراب في الأولى ثم صببت الماء سبع مرات، فإن حسبت وضع التراب صبة مستقلة صارت ثامنة، وهذا هو الصحيح، وليس المراد بالثامنة أنها تقع في الترتيب ثامنة، وبناءً على ذلك أخذنا من الحديث أموراً: الأمر الأول: وجوب غسل الإناء سبعاً وتعفيره الثامنة بالتراب على الصفة التي ذكرناها، وذلك عند حصول الولوغ، أما لو أن كلباً أدخل رأسه فقط ولم يحرك لسانه، فإنه لا يجب الغسل ويبقى الإناء على أصله من كونه طاهراً، أي: ليست القضية أن يدخل رأسه فقط، لا بل لا بد من أن يلغ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ) فقيّد ذلك بوجود الولوغ، وبناءً على ذلك: إذا أدخل رأسه ولم يحرك لسانه فهذا لا يعتبر ولوغاً ولا يوجب الغسل سبعاً والثامنة بالتراب.
إذا ثبت أن الكلب يجب غسل ما ولغ فيه سبعاً والثامنة بالتراب، فهنا يرد
السؤال
هل الحكم مخصوص بالكلب فقط أو يقاس عليه غيره؟ قال بعض العلماء: يقاس على الكلب غيره، فلو أن خنزيراً أدخل رأسه وولغ في الإناء فإنه يغسل سبعاً والثامنة بالتراب، وهذا مذهب الحنابلة وهو قول مرجوح، والصحيح: أن الحكم -كما يقول الجمهور- يختص بالكلب، وأما الخنزير فإنه لا يأخذ هذا الحكم، والمصنف عمل بالقول المرجوح، والراجح أن الحكم ورد في الكلب، وأما الخنزير فلا يأخذ حكمه، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم -رغم أن الخنزير كان موجوداً في زمانه- قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب) وما قال: والخنزير وإنما قال: الكلب، وهذا يدل على أن الحكم يختص بالكلاب ولا يقاس عليها غيرها.(21/6)
حكم استخدام الأشنان في التطهير من ولوغ الكلب
قال رحمه الله: [ويجزئ عن التراب أشنان ونحوه] (ويجزئ عن التراب) قد قررنا أنه لا بد من التراب في الغسل، فلو أنه لم يجد تراباً، كمن يكون في أرض جبلية، وأراد أن ينتفع من هذا الإناء المولوغ فيه وليس عنده تراب، فما هو الحكم في ذلك؟ الحكم: أن يُنَزَّل الأُشنان منزلة التراب، فيغسله بالأُشنان مع الماء، وهذا على القول بأن الحكم معلل، فإن في الكلب جراثيم يبالغ في تطهيرها على هذا الوجه، ولذلك قالوا: إن الأشنان يقتل الجراثيم كقتل التراب لها وإن كان هناك فرق بين قتل التراب وقتل الأشنان، فإن التراب أبلغ وأقوى في قتل الجراثيم، ولذلك يقولون: إن تخصيص الشرع به أقوى، حتى أن الأطباء الآن يعتبرون التطهير مع الماء من إعجاز الشرع؛ لأن التراب معرض للشمس، وطهارة التراب ونقاؤه من الجراثيم من أكثر الموجودات على سطح الأرض، فإن التراب أبلغ طهارة والماء أقل منه، ولذلك تجد الشرع قد جعل التراب أبلغ في تطهير أو قتل الجراثيم من الماء، وهذا من إعجاز الشرع.
وللعلماء في تنزيل الأشنان منزلة التراب ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يُجزئ عن التراب غيره سواءً وجد التراب أو لم يوجد، وبهذا القول قال طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، وهو قول في مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع.
القول الثاني: يُجزئ عن التراب غيره من سائر المنظفات، فلو أردت أن تغسله بماء وصابون أجزأت غسلة الصابون -وكذلك بقية المطهرات- عن التراب كما ذكر المصنف رحمه الله: (الأُشنان) بالضم، والأشنان المراد به: نوع من المنظفات، وفي حكمه المطهرات الموجودة الآن، فعند أصحاب هذا القول أنه يُجزئ أن تغسل الإناء سبع مرات بالماء، وأن تكون ضمن هذه الغسلات غسلة بمنظف، سواءً كان صابوناً أو غيره من المنظفات، وهذا القول هو الوجه الثاني عند الشافعية، وكذلك عند الحنابلة رحمة الله عليهم، وقد درج عليه المصنف حيث قال: (يُجزئ عن التراب أُشنان وغيره).
والقول الثالث: أنه إن وجد التراب فلا يُجزئ غيره عنه، وإن لم يوجد فإنه يُجزيء غيره عنه، وهو أعدل الأقوال وأولاها بالصواب -إن شاء الله تعالى- وهو وجه عند الشافعية رحمة الله عليهم، فإذا ثبت هذا فيستوي في الحكم بالمطهر سائر المنظفات سواء كانت من صابون أو أُشنان قديم، فما دام أنه يُنظف ويُنقي؛ فإنه يُجزئ عن التراب إذا فُقد التراب، وهذا محصل أقوال العلماء رحمة الله عليهم في إجزاء غير التراب عن التراب في مسألة ولوغ الكلب.(21/7)
كيفية إزالة النجاسة غير الكلب والخنزير
قال رحمه الله: [وفي نجاسة غيرهما سبع بلا تراب] أي: غير الكلب والخنزير، فلو أن إنساناً كان عنده ثوب فوقعت عليه نجاسة من غير كلب أو خنزير؛ فكيف يتم تطهير هذه النجاسة؟ للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول يقول: كل شيء وقعت عليه النجاسة من غير الكلب والخنزير فيجزئ أن تصب عليه صبةً واحدة تذهب عين النجاسة وأثرها ويجزئك ذلك، وهذا القول اختاره غير واحد من أهل العلم، ونُسب إلى جمهور العلماء واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع أن العبرة في إزالة النجاسة إذا وقعت على الشيء من غير الكلب أن تصب صبةً واحدة منقية منظفة؛ فحينئذٍ يجزئك ذلك.
القول الثاني: لا يجزئ أقل من ثلاث غسلات، وهذا القول اختاره جمع من العلماء وهو وجه عند الحنابلة، واختاره الإمام الموفق ابن قدامة كما هو ظاهر عمدته، وأصحاب هذا القول يقولون: إذا وقعت النجاسة على الثوب وأردت أن تطهره فلابد من ثلاث غسلات: تصب الغسلة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فإذا أتممت الثلاث حكم بطهارة المحل، بشرط أن يذهب عين النجاسة وأثرها.
القول الثالث يقول: لابد في التطهير من سبع غسلات، فلو غسلت بأقل فإن المحل يبقى نجساً، وهذا كما درج عليه صاحب الزاد هنا، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد: أنك تغسل كل شيء تنجس سبع مرات.
ولكن عند النظر في أدلة هذه الأقوال الثلاثة يتخلص ما يلي: الذين قالوا: تجزئ صبة واحدة، احتجوا بحديث بول الأعرابي، فإن الأعرابي لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام: (أريقوا على بوله سجلاً من ماء) فأمر بصبة واحدة، فقالوا: إنه إذا صب صبةً واحدة على الماء كان كمثل صب الماء على بول الأعرابي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: صبوا عليه ثلاثاً ولم يقل: صبوا عليه سبعاً، وبناءً على ذلك يبقى المطلق على إطلاقه، فيجزئ في سائر النجاسات أن يصب عليها صبةً واحدة.
كذلك أيضاً استدلوا بدليل العقل، قالوا: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فنحن نحكم بنجاسة الثوب لوجود النجاسة، فإذا صببت صبة واحدة وذهبت النجاسة؛ فقد زالت العلة التي من أجلها حكم بتنجس الثوب، فينبغي أن يزول الحكم، ونقول: الثوب طاهر بصبة واحدة.
والذين قالوا: لابد من الثلاث لهم دليلان: الدليل الأول: وهو حديث أبي هريرة: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلها في الإناء) كما هي رواية مسلم في صحيحه، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء؛ فدل على أن النجاسة لا تزول إلا بثلاث غسلات، ويقولون: الغسلة الأولى تذهب عين النجاسة، والغسلة الثانية توجب الاستبراء لذهاب الأثر، والغسلة الثالثة استبراء للمحل، والحق أنك إذا غسلت ثلاثاً فإنك ترى أن النجاسة قد زالت في غالب الأحوال، والحكم في الشرع إنما يناط بالغالب.
أما الذين قالوا بالسبع فاحتجوا بحديث أيوب بن جابر -وهو حديث ضعيف- (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل النجاسة سبعاً).
وعند النظر نجد أنه لاشك أن القول الذي يقول بالتثليث في الغسل من القوة بمكان: أولاً: لظاهر حديث أبي هريرة، فإنك إذا نظرت في حديث أبي هريرة مع أن النجاسة مشكوك فيها، يقول: (فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء).
أما حديث الأعرابي الذي فيه صبة واحدة، فإنك إذا نظرت فيه فإنه ليس من قبيل الإزالة بالعصر، والإزالة في النجاسات التي يزال فيها عين النجاسة وأثرها بالعصر إنما يكون بالتثليث، أما في الأرض فإنه لا يتأتى فيها التكرار بمعنى: أنه إذا صب فكاثر الماء على البول؛ فإنه حينئذٍ يكون قد أزال النجاسة وأزال أثرها، فنستثني هذا الخاص من العام.
ومما يقوي دليل التثليث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من ذهب إلى الغائط أن يأخذ ثلاثة أحجار، وهذا يقوي الأصل الذي ذكرناه من التثليث، مع أن الذين يقولون بالصبة الواحدة فيهم من يقول: إنه يجب التثليث عند غسل اليدين وعند الاستيقاظ من النوم، فإذا كان التثليث واجباً في نجاسة مشكوكة، فمن باب أولى أن يكون واجباً في نجاسة متيقنة، ثم وجدنا النظير في الاستنجاء، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستجمار بثلاثة أحجار، فهذا يقوي أن النجاسة تزول بثلاث غسلات، ثم إن شاهد الحس يشهد أن الغالب زوال النجاسة بالثلاث، وأن الصبة الواحدة لا تزيل النجاسة في الغالب إلا بالكثرة، فما دام أنها لا تزيل إلا بالكثرة؛ فالأفضل للإنسان أن يحتاط ويجعل الصبات متكررة؛ فبدلاً من أن يصب بكثرة صبة واحدة؛ فإنه يحتاط بالثلاث لورود الأمر بها، ثم وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أسبغ الوضوء غسل كفيه ثلاثاً، فكان هذا أدعى للمداومة على التثليث في إزالة القذر والنجس.
هنا تنبيه: إذا قلنا: إن النجاسة تزول بمرة واحدة أو بثلاث أو بسبع؛ فاعلم رحمك الله أن الحكم محله ألا يبقى أثر للنجاسة، فلو فرض أن إنساناً غسل النجاسة ثلاث غسلات وما زالت باقية فعند ذلك تجب الزيادة، إذاً: ليس قول من قال: إنها مرة واحدة أو ثلاث أو سبع معناه أن الإنسان يصب دون أن يراعي زوال النجاسة من المحل.
والنجاسة تزال كليةً فلا يبقى لها عين ولا أثر، وقد تزال ويبقى أثرها، وقد تزول العين ويزول الأثر وتبقى الرائحة، ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: إما أن تزيل النجاسة فيذهب عينها، وتذهب رائحتها، ويذهب لونها الذي هو الأثر.
الحالة الثانية: إما أن تزيل النجاسة، فيذهب عينها دون رائحتها.
الحالة الثالثة: إما أن تزيل ويذهب عينها دون لونها.
فإذا أزال النجاسة ولم يبق منها عين ولا لون ولا رائحة؛ فبالإجماع أنه قد طهر المحل، لكن يبقى اشتراط التثليث والتسبيع عند من يقول به، ومعنى عين النجاسة: أي: لو أن إنساناً وقع على ثوبه جرم من عذرة آدمي -أكرمكم الله- فإن العين المراد بها: الجرم نفسه، وكذلك الدم، فإن عِلَقَ الدم هذه هي عين النجاسة.
أما اللون فهو حمرة الدم، أما الرائحة فهي رائحة الدم التي توجد فيه، ولكن يقول العلماء بعض النجاسات لونها أبلغ من ريحها، وبعضها ريحها أبلغ من لونها، وبعضها يجتمع فيها التأثير بأن تكون قوية الرائحة قوية اللون.
بناءً على ما سبق: فإنه ينبغي للمكلف أن يزيل عين النجاسة وأثرها ورائحتها، فلو بذل الوسع في التطهير كما هو الحال في الدم المتجلط أو اليابس الذي يكون على الثوب ربما بالغت بحكه ولكن يبقى شيء من الأثر وهو الصفرة المتحللة، وهي آخر الدم ولا تخرج إلا بصعوبة؛ فهذا مما يعفى عنه.
إذاً: بقايا الدم من الصفرة التي يصعب إزالتها حتى مع شدة العصر والفرك لا تضر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به الصحابية أن تحته وأن تقرصه بماء وأنه لا يضرها أثر ذلك الدم، وبناءً على هذا تبين عندنا أن النجاسة فيها مسائل: المسألة الأولى: هل يشترط التكرار في تنظيفها؟ وقلنا في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول بأن العبرة بصب الماء دون التفات إلى عدد، وقول بالتثليث، وقول بالتسبيع، وأن الأقوى التثليث.
الأمر الثاني الذي نبهنا عليه في هذه المسألة: أن محل الخلاف ألا يبقى أثر للنجاسة، فإذا كان صب الثلاث وصب السبع وصب الواحدة يُبقي شيئاً من النجاسة فبالإجماع أنه مطالب بإزالة ذلك الأثر ولو بلغ إلى عشر صبات.
الأمر الثالث: أن النجاسة إما أن تكون قوية اللون والرائحة والعين، وهذه الحالة يجب فيها إزالة العين واللون والرائحة فإن بقي شيء من الرائحة أو اللون فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مما يشق زواله.
الحالة الثانية: أن يكون مما لا يشق زواله.
فإن كان مما يشق زواله عُذر المكلف فيه؛ وإلا فلا.(21/8)
شرح زاد المستقنع - باب إزالة النجاسة [2]
تختلف النجاسات في أثرها وشدتها، ومن ثم يختلف ما تزال به بعض النجاسات عن بعض، فقد تزال نجاسة بشيء لا تزال به نجاسة أخرى، وهذا يؤدي إلى اختلاف وسائل إزالة النجاسات، على خلاف بين العلماء في بعضها.(22/1)
ما لا يجزئ في تطهير المتنجس
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:(22/2)
حكم زوال النجاسة بالشمس
فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يطهر متنجس بشمس ولا ريح ولا دلك].
(ولا يطهر متنجس بشمس) صورة المسألة: لو أنك رأيت النجاسة قد أصابت طرفاً من الأرض الذي تصلي عليه، ثم هذا الموضع أصابته الشمس أياماً أو فترة من الزمن، وجئت ووقفت عليه فلم ترَ أثراً للنجاسة فهذا يسميه العلماء: (المكان المتطهر بالشمس) أي: زال أثر النجاسة عنه بالشمس، وللعلماء فيه قولان: قال بعض العلماء: إذا زالت النجاسة بالشمس ولم يبقَ لها أثر في الموضع؛ فإنه يحكم بطهارة ذلك المكان، ويرجع إلى أصله.
وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
والقول الثاني يقول: إنه لابد من صب الماء ولو زال أثر النجاسة بالشمس، وبه قال جمهور العلماء، ويستوي في ذلك أن يكون أرضاً أو يكون ثوباً، فلو أن إنساناً أصابت النجاسة ثوبه ثم عرض ثوبه للشمس، وجاء بعد أيام فلم يجد لا لون النجاسة ولا ريحها ولا أثرها، فقال أصحاب القول الأول: نحكم بالطهارة، وهم الحنفية.
والقول الثاني يقول: لا نحكم بالطهارة بل لابد من الغسل، وهو مذهب الجمهور.
والذين قالوا: إنه يحكم بطهارة الموضع، استدلوا بدليل العقل، فقالوا: القاعدة في الشرع: (أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً)، فلما كان حكمنا بنجاسة الثوب مبنياً على وجود النجاسة في الثوب؛ فإنه ينبغي أن يزول هذا الحكم بزوال النجاسة، وقد زالت بالشمس، فيستوي عندنا أن تزول بالشمس أو بغير الشمس.
وأصحاب القول الثاني -الذين قالوا بعدم طهارة الموضع بالشمس- استدلوا بما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة من قصة الأعرابي، أنه لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام: (أريقوا على بوله سَجلاً من ماء) قالوا: لو كانت الأرض تطهر بالشمس إذا زال أثر النجاسة أو ذهب ما يدل عليها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بأن يتكلفوا صب الماء على الموضع.
والقول الراجح في هذه المسألة والأقوى والأقرب للأصول: أنه لابد من صب الماء؛ وذلك لأمرين: الأمر الأول: أنه إذا اختلف في شيء هل هو لازم أو غير لازم؟ فإنه يرجع إلى الأصل، فهل الأصل في النجاسة أنها تغسل أو تشمس؟ الأصل أنها تغسل، وبناءً على ذلك: نحن شككنا في زوالها بالشمس: هل هو موجب لرجوعها إلى كونها طاهرة أو نبقى على اليقين من كونها نجسة؟ فكان هذا بمثابة القرينة على رجحان القول الذي يعتمد الغسل لإزالة تلك النجاسة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بصب الماء على ذلك الموضع، وقد كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم منه ما هو في الشمس ومنه ما هو في الظل.
فلو قال قائل: يحتمل أن هذا الموضع الذي أُمر بصب الذنوب عليه كان في الظل، لقلنا: هذا مردود؛ لأن الأعرابي -كما في الصحيح- دخل والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في الحلقة، ومما هو معلوم أنه لو أراد أن يقضي حاجته فإنه سيتلمس أبعد المواضع عن الجلاس، وهذا أمر واضح بدليل الاستقراء للعرف، فإنه لن يأتي ويبول قريباً منهم، ومن عادته عليه الصلاة والسلام أن يكون في أقرب المواضع للظل أو في الظل، وبناءً على ذلك: فإن الغالب من صورة الحال أن يكون بوله في موضع لا ظل فيه، وهذا هو الأرفق والأقرب، وإذا ثبت هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصب الماء عليه، فلو كانت إصابة الشمس تطهر الموضع، لما أمر الصحابة أن يتكلفوا إحضار السجل وصبه على ذلك الموضع ولتركه للشمس تطهره؛ ولذلك لا شك أن الأصل هو كون الماء مطهراً لم يرد دليل صحيح يدل على أن الشمس تطهر، فنبقى على دلالة الأصل خاصةً على مسلك الجمهور الذين يقولون: إن تطهير النجاسة في بعض المواضع فيه شبهة التعبد، فتطهير النجاسة في بعض المواضع ألفنا من الشرع فيه شبهة التعبد، ومثل هذا يقوى فيه البقاء على الأصل، وإلغاء الأوصاف المعللة بالقياس والنظر.(22/3)
حكم زوال النجاسة بالريح
وقوله: (ولا ريح، ولا دلك).
أي: إذا أصابت النجاسة موضعاً وحكمت بنجاسته؛ فإنه إذا طهر بالريح لابد من غسله (ولا ريح) أي: لا يطهر الموضع بالريح، وصورة ذلك: لو أن إنساناً أصاب ثوبه نجاسة فنشره، فجاءت الريح وعبثت بالثوب حتى لم يبق للنجاسة أثر في الثوب؛ فحينئذٍ نقول: إن جريان الريح لا يوجب زوال الوصف المستيقن كونه نجساً، بل لابد من الغسل.(22/4)
حكم زوال النجاسة بالدلك
وقوله: (ولا دلك) الدلك له حالتان: الحالة الأولى: ثبت الشرع باعتباره مطهراً فيها.
الحالة الثانية: البقاء على الأصل من كون الموضع لا يطهر إلا بالغسل.
أما الحالة التي ثبت الشرع باعتبار الدلك فيها مطهراً: فهي في نجاسة الحذاء وثوب المرأة؛ ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالصلاة بالنعال ومخالفة اليهود فقال: (صلوا في نعالكم) ثم قال: (فإن وجد أحدكم فيها أذى -يعني: نجاسة- فليدلكهما بالأرض ثم ليصلِّ فيهما) فدل هذا على أن النجاسة تطهر بالدلك.
ومن السُّنة للمرأة إذا لبست العباءة -وهذه سنة أضاعها كثير من نساء المؤمنين خاصةً في هذا الزمان- أن تجر عباءتها في الأرض، وألا تكون هذه العباءة مرتفعة؛ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء المؤمنات بجر الثوب؛ وسئل عما يصيبه ذلك الثوب من النجاسة فقال: (يطهره ما بعده) يعني: لو مرت المرأة بعباءتها على نجاسة ثم مرت على موضع يابس أو على تراب يابس؛ فإن احتكاك هذا الثوب بالتراب يعتبر منظفاً له كما لو صب الماء عليه، والصحابة يعلمون أن الثوب سيمر على تراب، ولكنهم واستنكروا بقاء هذه النجاسة مع كونه يمر على تراب، فدل ذلك على أن الأصل في النجاسات أنها تُغسل، إِذْ لو كانت تزول بكل طاهر لما استشكل الصحابة كون المرأة تمر بعباءتها وتجرها على الأرض اليابسة، فإذا ثبت هذا فإن الدلك لا يطلق أنه غير مزيل للنجاسة بل يفصل فيه، فما ورد الشرع باعتبار الدلك فيه مزيلاً للنجاسة؛ فيحكم بكونه مطهراً، وما لم يرد فيه دليل فلا يعتبر مطهراً.
لكن بعض العلماء يقول: أنا أسلم بكون حذاء الرجل وثوب المرأة إذا مر على النجاسة ثم على الأرض فإنه يطهر، ولكن من باب الرخصة لا من باب الأصل، فيقول: هذا الثوب نجس؛ ولكن الشرع حكم بزوال النجاسة لا حقيقة وإنما اعتباراً من جهة الشرع، ولا أرى الدلك مطهراً.
لأنه وإن كان هنا بمثابة المطهّر لكنه لا يحُكم بحقيقة زوال النجاسة، وإنما يرتفع حكمها، وفرق بين ارتفاع حكم النجاسة وبين ارتفاع النجاسة بذاتها وزوال عينها.(22/5)
حكم زوال النجاسة بالاستحالة
قال رحمه الله: [ولا استحالة غير الخمرة] لو أن هذه النجاسة الموضوعة في الإناء تغيرت واستحالت فإنه لا يحكم بطهارتها.
واستحالة النجس إلى طاهر لها أحوال: الحالة الأولى: أن يُكاثر بطاهر.
والحالة الثانية: أن يستحيل بنفسه، فالظاهر من إطلاق المصنف العموم.
لكن الأمر فيه تفصيل: فإن كانت استحالة النجس بتكثير، كأن يكون عندك سطل من الماء وقع فيه بول، فتغير لون الماء، فجئت بثلاثة سطول وصببتها على هذا السطل حتى ذهب عين النجاسة وأثرها فلم يبق لها أثر، لا طعم ولا رائحة ولا لون، فحينئذٍ نقول: إن الماء قد أصبح طاهراً، وإذا كان الماء الذي صب طهوراً فقد حكمنا باستحالة هذا الماء من كونه نجساً إلى كونه طاهراً أو طهوراً بحسب ما خالطه، وهذا لا يعنيه المصنف هنا، وإن كان الإطلاق يدل عليه؛ لكن المراد الاستحالة الذاتية، والاستحالة المؤثرة بنفسها، وصورة ذلك كما قلنا: أن يكون في إناء أو وعاء شراب، وهذا الشراب تنجس بنجاسة، وبعد أيام تبخرت هذه النجاسة أو وضعت في موضع فأصابته الشمس وبخرت ما فيه من النجاسة وأصبح ماءً نقياً، أو بالتقطير كما هو موجود الآن، فهل يحكم بكونه طاهراً بناءً على أنه رجع إلى أصله أو لا يحكم؟ للعلماء قولان في ذلك: القول الأول: يحكم بكونه طاهراً.
القول الثاني: لا يحكم بكونه طاهراً، واختار المصنف الحكم بعدم كونه طاهراً، أي: يبقى على أصله من كونه نجساً، فإن النجاسة قد تتحلل في أجزاء الشيء، فتخفى بعض الخفاء، ولما كان الأصل واليقين أنه نجس، فنبقى على هذا الأصل واليقين حتى يُستحال بمكاثرة الطهور عليه.(22/6)
القول في نجاسة الخمر
وقوله: (غير الخمرة).
(غير) استثناء (الخمرة) والخمر أصله: التغطية، ومنه الخمار؛ لأنه يغطي الوجه، وسميت الخمر خمراً؛ لأنها -والعياذ بالله- تغطي عقل الإنسان وتذهب إدراكه وشعوره، والخمرة تكون مائعة في الأصل، ولكن يلتحق بها كل ما كان مؤثراً في العقل ولو كان جامداً، سواء كان مصنعاً كما هو الموجود الآن في بعض حبوب المخدرات، أو كان طبيعياً كبعض النباتات كالشيكران، فإنه إذا أكل أثر في العقل، أو الخشخاش الذي هو أصل الأفيون، فكل ذلك يعتبر في حكم الخمر، لكن العلماء إذا أطلقوا الخمر فمرادهم به: الشراب المائع الذي يكون من العنب أو من التمر أو من الزبيب أو من غيرها من سائر الثمار، فهذه الخمرة محكوم بنجاستها، وقد تكلمنا على هذه المسألة غير مرة، وفصلنا القول فيها في شرح بلوغ المرام، فإن الذين قالوا بنجاستها -وهم جماهير العلماء- حكموا بالنجاسة لظاهر القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90] والرجس: هو القذر في أصل اللغة، والقذر في الشرع أصله النجس، وقالوا: خرجت الأزلام، أما الأنصاب فإنها نجسة؛ لأنها كانت حجارة يذبح عليها، فيكون الدم المسفوح النجس قد أصابها فهي بذلك نجسة بلا إشكال.
أما الأزلام فقال العلماء: خرجت بدلالة الحس وبقي ما عداها على الأصل، وأما بالنسبة للخمر فليس هناك دلالة حس على طهارتها، فإنها مستقذرة، فتبقى على وصف الرجس في الشرع من كونها نجسة، وهذا الدليل نوزع بإراقة النبي صلى الله عليه وسلم لوعاء الخمر كما في قصة المزادتين، فإنه أمر الصحابي أن يريق الخمر من المزادتين، قالوا: ولم يأمره بغسلهما، وهذا استدلال فيه نظر كما نبه عليه غير واحد من أهل العلم، فإن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمره بغسل مزادة الخمر إنما هو للعلم به بداهة، فإنك إذا وضعت في هذه المزادة لبناً وأرقت اللبن فمعلوم بداهة أنك ستغسلها، فسكت عليه الصلاة والسلام لعلم الصحابي بذلك بداهة.
وقال بعض العلماء في جوابه: لو قيل: إن ظاهر سكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على طهارتها لاحتج بذلك محتج وقال: يجوز لمن أخذ مزادة الخمر بعد تفريغها أن يصب فيها لبناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسلها، فيكون الجواب بأنه سكت عن الأمر بغسلها للعلم به بداهة، وكما أننا في المشروبات نقول: سكت عنه للعلم به بداهة، كذلك في العبادات نقول: سكت عنه للعلم به بداهة، فهي نجسة، وأما صبها في سكك المدينة فقد بين العلماء أن هذا لا يدل على طهارتها؛ وذلك لأن الصحابة إذا صبوها في سكك المدينة ومشوا عليها بالنعال، فإن المشي على الأرض اليابسة يطهر النعال كما ذكرنا، ولو أن امرأة جرّت ثوبها على خمرة مراقة ثم مضت بعد ذلك إلى أرض يبسة؛ فإنها تطهره بذلك الجر، وبناءً على ذلك: لا يعتبر هذا دليلاً قوياً كما نبه عليه الشيخ الأمين رحمة الله عليه، وله فيه بحث نفيس في تفسير آية المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة:90] فأقوى الأقوال وأعدلها القول بنجاستها.
وقال بعض العلماء مستدلاً على طهارة الخمر: إن الله تعالى يقول: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21] فوصف الخمر بكونها طهور؛ وقد فاته أن الله حكم بأن خمر الآخرة لا غول فيها، والغَول: هو أساس نجاسة الخمر في الدنيا، فنجاسة الخمر في الدنيا مبنية على وجود هذه المادة التي تستحيل عند الخل، ولذلك لما استحالت هذه المادة في الخمر حكمنا بطهارتها، ولما كانت خمر الآخرة طاهرة من جهة عدم وجود الغول فيها قال تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21] وقلب بعض العلماء هذا الاستدلال فقال: بل هو دليل على نجاستها؛ لأنه لو كانت خمر الدنيا والآخرة مستويان لما قال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21].(22/7)
حكم تخلل الخمر
قال رحمه الله: [فإن خُلّلت أو تنجس دهن مائع لم يطهر].
لو أن إنساناً علم أن هذا الوعاء فيه خمر، فتخللت هذه الخمر -بمعنى: استحالت وصارت خَلاً- فلا تخلو صيرورتها إلى الخَل من حالتين: الحالة الأولى: أن تتخلل بنفسها.
والحالة الثانية: أن تتخلل بفعل المكلف.
فإن تخللت بنفسها؛ فإنها تطهر وتعتبر طاهرة؛ لدليل الشرع، كما في الصحيح من حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الإدام الخَل) فأثنى عليه، والثناء يدل على أصل الإباحة، فأجاز لك أن تأتدم بالخل، والخل أصله خمر، وإذا ثبت هذا فإنها إذا تخللت بنفسها طهرت على ظاهر هذا الحديث.
وقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على الخل مطلقاً، سواء تخلل بنفسه أو تخلل بفعل المكلف؛ فجوابه ما رواه أحمد وأبو داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تخليل الخمر، فإنه لما سُئل عن تخليلها نهى عن ذلك، وقال: لا) وأمر أبا طلحة في خمر الأيتام أن يريقها وأن يكسر الدِّنَّان -وهي: أوعية الخمر- ومعلوم أن هذا مال أيتام، فلو كانت الخمر تتخلل بفعل المكلف لقال له: خللها؛ لأنه مال يتيم يحفظ ولا يراق إذا أمكن استصلاحه، فإذا ثبت هذا فيقال في الخمر في تخللها: إنها لا تخلو من حالتين: إن تخللت بنفسها حكم بطهارتها على ظاهر السُّنة، وإن تخللت بفعل المكلف فلا يحكم بطهارتها ولا بجواز الانتفاع بها على ظاهر حديث السنن.(22/8)
حكم وقوع النجاسة في الدهون
(أو تنجس دهن مائع لم يطهر) الدهن له حالتان: إما أن يكون مائعاً أو جامداً، والدهن: مثل: السمن أو الزيت، فالسمن: كسائر ما يكون من بهيمة الأنعام، والزيت: كأن يكون زيتاً نباتياً، مثل: زيت الزيتون، والدهن إذا جمد -كالسمن- إن وقعت فيه نجاسة، فالحكم أنك تأخذ النجاسة وما حولها؛ لظاهر حديث الفأرة في الصحيح، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلقائها وما حولها، أي: في السمن، فدل هذا على أنه -أي: الدهن- إن كان جامداً طهر بزوال عين النجاسة وما حولها، أو ما قاربها.
وأما إذا كان الدهن مائعاً تسري فيه النجاسة وتتخلل فيه فللعلماء في نجاسة المائع قولان: القول الأول: يقول: نجاسة الدهون نجاسة مجاورة لا نجاسة عين، ومرادهم بنجاسة المجاورة أنك حينما ترى القطرة من البول وقعت في السمن فإنها تنحاز وتتميز عن السمن، قالوا: فنجاسته نجاسة مجاورة، ونجاسة المجاورة ليست كنجاسة العين، أي: ليست مثل وقوع البول في الماء؛ فإنه يتحلل فيه، وتصير طاقات الماء وطاقات البول ممتزجة، فصارت نجاسة ممازجة، ففرق العلماء بين نجاسة المجاورة التي يكون فيها جرم النجس منفصلاً، أو ترى فيه انحيازه وعدم ممازجته للعين التي أصابها، وبين النجاسة التي تمازج، والسبب في إفراد العلماء للدهون بالكلام في كتب الفقهاء وجود هذا الإشكال، وهو: أن النجاسة إذا وقعت فيها يقول بعض العلماء: إنه يمكن إزالة هذه النجاسة، لأنها نجاسة مجاورة وليست بنجاسة عين، والنجاسة إذا ضعفت عن التأثير بقي حكم الأصل من كونه طاهراً.
فإذا علمنا أن عندنا قولين فما هو أقواهما؟ هل هي نجاسة عين أو نجاسة مجاورة؟ فالذي يقوى ورجحه غير واحد من المحققين: أن نجاسة الزيوت والدهون -إلا في بعض الصور المستثناة، وهذا يختلف باختلاف أنواع الزيوت- نجاستها نجاسة مجاورة وليست نجاسة ممازجة، فإن دليل الحس ظاهر، حتى إنك في بعض الأحيان تحكم بأن النجس قد صار إلى هذا الركن أو هذا الجانب من المائع، فنجاسة هذه المائعات أو الدهون نجاسة مجاورة وليست بنجاسة ممازجة.
وإذا ثبت في مسألة نجاسة الدهون أنها نجاسة مجاورة، فيرد هنا سؤال وهو: هل يمكن تطهير الزيوت أو لا يمكن؟ هذه مسألة تكلم عليها العلماء في المذاهب الأربعة كلاماً مستفيضاً، ويترتب عليها مباحث مهمة ومسائل عظيمة في العبادات كالطهارات، وفي المعاملات كالبيع والشراء، فإنك إذا قلت: السمن يمكن تطهيره والزيت المتنجس يمكن تطهيره جاز بيعه، كالثوب يباع وفيه نجاسة؛ لأنه يمكن تطهيره، أما لو قلت: إن الزيت قد أصبح متنجساً، فإنه لا يجوز بيع النجس؛ لأنه لا يمكن تطهيره، فتحكم بعدم جواز البيع، فاختلف العلماء الذين قالوا بأن النجاسة فيه نجاسة مجاورة: هل يحكم بتطهيره أو لا؟ وأصح الأقوال وأقواها: أن فيه شبهة التطهير، يعني: يقوى القول بأنه نجس ويصعب تطهيره، لكن إذا تيسر في هذه الأزمنة وجود بعض المواد التي يمكن بها سحب هذه المادة النجسة فيحكم بالطهارة، قالالذين يرون تطهيره: إنه إذا تنجس الزيت بوقوع بول فيه، فنصب من الماء قدراً يغلب على ظننا أنه لو مازج البول كاثره حتى تذهب مادة النجاسة، فلو كان البول قطرة، وصببت كأساً من الماء، فإن القطرة إذا صب عليها الكأس من الماء أذهب نجاستها، قالوا: فنصب هذا الماء على الزيت، ثم لهم طريقة في استخلاص الماء مع البول، فإن البول ينحاز عن السمن، فإذا صببت الماء في هذه الحالة فإن الماء يختلط بالبول؛ لأن البول يمتزج مع الماء، ولا يختلط الماء مع الزيت -كزيت الزيتون ونحوه- فيبقى الماء في ناحية والزيت في ناحية أخرى، فيقومون باستخلاص الماء بطريقة معينة، قالوا: حتى لو بقي شيء من هذا الماء فقد بقي مكاثراً للنجس، فيحكم بطهارته، وهذا وجه من يقول بتطهير الزيت.
أما الطريقة الثانية لهم في التطهير: أن يُغلى بالماء، فإذا غلي بالماء تبخرت النجاسة وبقي الزيت؛ لأن الزيت إذا غلى انقدح، ولكن الشيء الذي فيه يتأثر بهذا الغليان، فمن شدة الحرارة على البول أو على الماء المتنجس الذي وقع يزول مع الغليان.
وقد ذكر المصنف رحمه الله أن الدهن لا يطهر؛ لأنه يرى أن النجاسة نجاسة ممازجة، وهذا مبني على حديث الفأرة -وهو حديث ضعيف- حيث جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان مائعاً فلا تقربوه) ولو صح حديث الفأرة لقطع النزاع في هذه المسألة.(22/9)
حكم النجاسة التي خفي موضعها
قال رحمه الله: [وإن خفي موضع نجاسةٍ غُسل حتى يجزم بزواله] عرفنا كيف نزيل النجاسة، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يتكلمون على الصور المعروفة، ثم بعد ذلك يتكلمون على فرائد الأحوال وبعض الصور الغريبة، وأنت الآن قد علمت أنك إذا أردت تطهير النجاسة غسلتها ثلاثاً، وعلمت كون غير الغسل من دلك وريح وتشميس أنه لا يؤثر.
فيرد السؤال الآن: عن نجاسة لم تعلم موضعها؟ مثال ذلك: لو أن إنساناً مر على موضع، فتطاير من ذلك الموضع النجس ذرّات من نجاسة، وتحقق أنها أصابت ثوبه، ولكن لا يعلم أين المكان الذي هو محل تلك النجاسة بعينه، فهذه صورة.
والصورة الثانية: أن يعلم موضع النجاسة ثم ينسى ذلك الموضع، وإن كان عنده غلبة ظن أنه أسفل الثوب -مثلاً- لكن يخفى عليه هل هو في جانب الثوب الأيمن أو في جانبه الأيسر، فما الحكم؟ هذه المسألة التي ذكرها العلماء مرادهم: أن المكلف يصل إلى درجة لا يستطيع أن يميز فيها، أي: إذا ذكروا مسائل الشكوك فمرادهم بها أنك قد وصلت إلى درجة لا تستطيع أن تجتهد، بمعنى: أن موضع النجاسة خافٍ تماماً، أما لو أمكنك الاجتهاد مثل: من مر على بول فأصابه طشاش بول والثوب أبيض، ويمكنه أن ينظر في موضع النجاسة؛ فالقاعدة تقول: (القدرة على اليقين تمنع من الشك) ولذلك قالوا: من قدر على اليقين فلا يطالب بالشك، فإذا أمكن الإنسان أن يتحرى ويجتهد فهذا لا إشكال فيه، فعليه أن يتحرى ويجتهد، ولكن الكلام إذا لم يمكنك أن تتحرى وتجتهد، فتعلم أن هذا الثوب أصابته نجاسة، وعندك يقين بأنها لا تجاوز الربع الأسفل من الثوب، ولكن لا تدري أهي في اليمين أم هي في اليسار أم هي وسط بين اليمين واليسار أم أهي في وجه الثوب أم هي في قفاه، فأنت تعلم أن أسفل الثوب متنجس، ولكن لا تعلم أين موضع النجاسة، فما الحكم؟ قالوا: يغسل القدر الذي يجزم معه أن النجاسة قد زالت، فنقول لك: ما رأيك لو أخذت هذا القدر؟ تقول: لا.
أشك.
نقول: خذ هذا القدر.
تقول: نعم.
إذا بلغ هذا القدر فإني أتيقن أن هذه المساحة لم تجاوز النجاسة قدرها، فنقول: اغسل هذا الموضع، وهكذا لو أصابت النجاسة اليد ولكن لا تدري موضعها، تجزم بأن نصف اليد الأسفل فيه النجاسة، ولكن أهي في أوله أم في الربع الثاني؛ فحينئذٍ نقول: تغسل نصف اليد، وهكذا يغسل ما يجزم معه أنه قد طَهَّرَ موضع النجاسة بغسله.(22/10)
كيفية تطهير بول الغلام الذي لم يأكل طعاماً
قال رحمه الله: [ويَطهُر بول غلامٍ لم يأكل الطعام بنضحه] لما قال: (بول غلام) عرفنا أن عذرته لا تطهر إلا بالغسل، فمفهومه أن العذرة لا تطهر إلا بالغسل.
[غلام]: فهمنا أن الأنثى والصبية لابد فيها من الغسل؛ ودليل هذه المسألة ما ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة لما جاءت أم قيس بصبيها ورفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره، وكان صلوات الله وسلامه عليه يؤتى بالمولود فيحنكه ويدعو له بالخير صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من مكارم خلقه صلوات الله وسلامه عليه، فأجلسه في حجره كأنه ابنه، فلما أجلسه في حجره بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما بال فيه قالت أم المؤمنين: (فأخذ ماءً فرشه) وفي رواية: (فنضحه ولم يغسله) كما هي رواية السنن، فهذا الحديث يدل على أن بول الغلام يرش وينضح، والنضح: أن تأخذ كفاً من ماء وترش به، وأما الغسل فإنك تصب وتعمم الموضع بالماء، فالرش والنضخ أخف والغسل أثقل، فخُفف في نجاسة بول الغلام، وجاء حديث علي رضي الله عنه يؤكد هذا المعنى، فكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا وقاله بلسانه: (يُغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام) وهذا القول هو قول الجمهور من العلماء، وممن قال به أيضاً: أهل الحديث.
وهنا مسائل: المسألة الأولى: أن الحكم يختص بالغلام الذي لم يأكل الطعام، أي: مدة الرضاعة، فإن فُطِمَ فإنه يجب غسله؛ وحديث علي نص في الغلام الذي لم يأكل الطعام، ولذلك يقولون: إذا فطم وانتهت مدة الرضاع فيجب غسل بوله كالجارية سواءً بسواء، وهنا يرد السؤال عن مسألة: لماذا فرق بين الغلام وبين الجارية؟ أولاً: ينبغي على المكلف أن يسلم بالشرع، وألا يتكلف البحث عن العلل، وأن يتعبد الله عز وجل بما ثبت به دليل الكتاب والسُّنة؛ وقال الإمام الشافعي رحمه الله: على الله الأمر وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم، ولذلك من كمال إيمان المكلف أنه إذا جاءه الحكم قال: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، وأثنى الله على هؤلاء الذين يسلمون، ولا يتكلفون في بحث العلل والتقصي فيها؛ لكن العلماء ذكروا العلة هنا لكي يقيسوا عليها حكماً آخر، أي: أنهم يحتاجون لهذا التعليل فإن وجدت الحاجة للتعليل فلا حرج.
وللعلماء في التحليل أوجه: قال بعض العلماء: خفف في بول الغلام وشدد في بول الجارية لذات البول، فإن بول الجارية أثقل من بول الغلام؛ ولذلك خفف فيه أكثر من بول الجارية، فبقي بول الجارية لمكان حرارته، فقالوا: إنه يجب غسله وأما بول الغلام فإنه ينضح.
الوجه الثاني: خفف فيهما لصورة البول.
فالأول قال: لذات البول، والثاني يقول: لصورة البول، قالوا: لأن بول الغلام لا ينتشر وبول الجارية ينتشر، وهاتان العلتان ضعيفتان، فأما علة من قال: إن بول الجارية أثقل من بول الغلام، فهذا محل نظر، حتى أن بعض الأطباء تكلم على هذا، وأما من قال: إن بول الغلام لا ينتشر وإنما يكون منحصراً، وبول الجارية ينتشر فهذا أمر عجيب؛ لأن الغلام حينما يؤتى غالباً إنما يوضع في لفافة أو خرقة، فلما وضع في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بال، فلو قال قائل: يمكن أنه كان عارياً، فنقول: هذا بعيد؛ لأنه من المعلوم أن الغلام إذا ذهب به إلى أهل فضل أو نحوه فإنه يكون ملفوفاً في لفافة أو نحوها، ولذلك نقول: هب أنه على النادر كان منكشف العورة، فإنه إذا بال سينتشر بوله؛ لأن الثوب يسمح بالانتشار كبول الجارية في الموضع، فالتعليل بكونه لا ينتشر أضعف من التعليل بكونه أخف وأثقل.
وأقوى العلل هو القول الثالث: أن الشرع خفف في بول الغلام أكثر من الجارية؛ لأنهم كانوا يحملون الغلمان أكثر من الجواري في محضر الناس، وكانوا يتعاطون الكمال في إخفاء المرأة، فكانوا يحملون الصبيان ويحضرونهم إلى المجالس أكثر، وقد يحضرون الفتاة -كما في حديث أمامة لما حملها النبي صلى الله عليه وسلم- ولكن هذا في النادر فخفف من أجل هذا، هذا بالنسبة لقضية بول الغلام وبول الجارية.
وكما قلنا الحكم يختص بالبول، فلا يسري إلى دمه، فلا يقال مثلاً: في دم الغلام ينضح وفي دم الجارية يغسل؛ لأن الحكم خرج من صورة الأصل؛ والقاعدة: (أنه إذا ورد الحكم مستشنىً من الأصل فإنه يبقى على الصورة التي ورد بها الشرع ولا يقاس عليها غيرها).(22/11)
حكم الدم نجاسة وطهارة
قال رحمه الله: [ويعفى في غير مائعٍ ومطعوم عن يسير دم نجس من حيوان طاهر] الدم نجس، وهو قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلي عنك الدم) وكذلك قوله في دم المرأة المستحاضة: (إنما ذلك عرق) قالوا: فكما أن دم المستحاضة خرج من عرق فسائر دم الإنسان خارج من عرق، ولذلك قالوا: إن الدم نجس، وظاهر القرآن يقويه في قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] والدم المسفوح يكون من البهيمة عند قتلها وتذكيتها ويكون كذلك من الآدمي، فهو الدم الذي يراق في حال الحياة، ولذلك أجمعوا على أن الدم الذي يراق عند ذبح الشاة أو نحر البعير أنه نجس، وهذا بالإجماع كما حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع، حيث نقل إجماع العلماء على أن الدم المسفوح عند التذكية نجس، وذلك لظاهر قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] فالجماهير لما قالوا بنجاسة الدم قالوا: إن القرآن أطلق، فوصف كل دم مسفوح بكونه رجساً، والدم المراق في الحياة هو دم مسفوح؛ لأن الدم المسفوح هو الذي خرج عند الذكاة والبهيمة حية، ولذلك إذا سكنت البهيمة وماتت بالتذكية فسائر الدم الذي في أجزائها يعتبر طاهراً.
والذين قالوا بطهارة الدم احتجوا بحديث الجزور، أي: لما نحر عليه الصلاة والسلام الجزور ثم سلخه وصلى ولم يغسل أثر الدم فيه.
وهذا محل نظر، فإن الدم الذي يكون عند السلخ لا يعتبر نجساً حتى يكاد يكون عليه الإجماع، ألا ترى أنك تأخذ كتف البهيمة ويطبخ ويشوى وفيه أثر الدم، فالاستدلال بهذا الحديث استدلال بما هو خارج عن موضع النزاع.
واستدلوا كذلك بحديث عباد بن بشر لما جاءه السهم وهو قائم يحرس، فنزعه فنزف، فقالوا: لو كان نجساً لقطع صلاته، وهذا يعارض المنطوق الذي ذكرناه: (اغسلي عنك الدم) وجوابه كما نبه عليه شراح الحديث في غير ما موضع أن حديث الصحابي في النزيف، والنزيف سواءً كان بسهم أو كان باستحاضة -كالمرأة المستحاضة- فإنه متفق على أنه يعتبر رخصة، يعني: يصلي الإنسان ولو جرى معه الدم، كما صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب؛ لأنه لا يستطيع الإنسان أن يوقف النزف؛ وإنما يستقيم الاستدلال بهذه الأدلة أن لو كان الدم فيها قليلاً بمعنى: أنه يرقأ، فلو كان الدم يرقأ لعارض ظاهر ما ذكرناه من النصوص ولكنه في مسائل مستثناة، ولذلك لا يعتبر حجة على الجمهور؛ لأن الجمهور يقولون: من نزف جرحه أو رعف أنفه أو المرأة المستحاضة غلبها الدم فهذه تصلي على حالتها ولو خرج منها الدم، وكذلك الذي رعف لو غلبه الرعاف فإنه يصلي على حالته ولو كان على ثوبه ولو كان على بدنه؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، فليس هذا دليلاً في موضع النزاع.
وكذلك قصة عمر لأنها في النزف؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اغسلي عنك الدم) قالوا: إن هذا دم حيض، ولا شك أن صورة السؤال تقتضي أنه دم حيض، ولا فرق بين دم الحيض وغيره.
قالوا: لا.
هناك فرق فإن دم الحيض يخرج من الموضع ولذلك حكم بنجاسته، فنقول: الموضع لا تأثير له، ألستم تقولون: إن مني المرأة طاهر وهو خارج من الموضع؟! فلو كان خروجه من الموضع -أي: دم الحيض- هو المقتضي لنجاسته لكان المني الخارج من الموضع نجساً، ولذلك فخروجه من الموضع لا يقتضي نجاسته بدليل أن الولد يخرج من الموضع وهو ليس بنجس، والولد أصله علقة ودم ومع هذا لم نحكم بنجاسته، فدل على أنه نجس لذات الدم، وانتفى في الولد لاستحالته؛ فإنه بعد العلقة خُلِّق فاستحال من كونه دماً إلى كونه مخلوقاً، فلم يكن نجساً من هذا الوجه.
وبناءً على ذلك أمر عليه الصلاة والسلام المرأة الحائض أن تغسل الدم، ويُشعر هذا بأن العلة معلقة على كونه دماً لا كونه دم حيض، وإذا ثبت كونه دماً استوى أن يكون دم حيض أو يكون من غيره؛ ويقوى هذا بحديث المستحاضة فإنهم يقولون: إن المستحاضة تغسل الدم أيضاً، فأمروها بغسل الدم، وقالوا: نحكم بنجاسته لورود الشرع به وهو مستثنى، فنقول: إن دم المستحاضة قيل فيه كما في الحديث الصحيح: (إنما ذلك عرق) وجاء في الحديث الآخر: (إنه العاذل) والعاذر، والعاند وكلها أسماء لهذا العرق كما يقول بعض العلماء، فما دام أنه قال: (إنما ذلك عرق) أي: دم خرج من عرق فسائر الدماء التي تخرج من البدن إنما هي من عرق، ولذلك قال جمهور العلماء: إن الدم نجس، ولم يخالف في ذلك إلا بعض أهل الظاهر وبعض أهل الحديث، والأقوى في هذه المسألة أن الدم نجس، وبناءً عليه فإنه يفرق بين كثيره وقليله، فقد أجمع العلماء على أن يسير الدم معفو عنه، وفيه حديث ضعيف وهو حديث الدرهم البغلي، والصحيح: أنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء هذا القدر؛ وإنما استثني بالإجماع.(22/12)
مقدار الدم الذي يعفى عنه
يبقى
السؤال
ما الفرق بين الدم القليل الذي يعفى عنه والدم الكثير؟ الدم القليل والدم الكثير للعلماء في ضابطه وجهان: قال بعض العلماء: يسير الدم ما كان قدر الدرهم البغلي.
وقال بعضهم وهو الوجه الثاني: يسير الدم: هو الذي لا يتفاحش في النفس.
والسؤال: ما الفرق بين القولين؟ أولاً: الذين قالوا: يسير الدم هو مقدار الدرهم البغلي، فما هو الدرهم البغلي؟ الدرهم البغلي على قدر الهللة القديمة، أي: القرش الموجود الآن ينقص منه قليلاً، فهذا هو الدرهم البغلي، فلو خرج من الجرح دم على قدر هذا البياض؛ فإن هذا معفو عنه، ولو نقص عنه فهو معفو عنه أيضاً، فإن جاوزه وكان أكثر من هذا القدر فلابد من غسله، ولابد من إزالة تلك النجاسة إلا إذا وجد ضرراً.
ثانياً: الذين قالوا: ما لا يتفاحش في النفس، قالوا: هو الذي إذا نظرت إليه احتقرته، وقلت: هذا قليل، ولاشك أن القول الأول -أي: أنه بمقدار الدرهم البغلي- هو الذي عليه قول المحققين من العلماء رحمة الله عليهم.
ثم الذي يتفاحش في النفس، لو قلنا: إنه هو الضابط، لاختلف الناس، فقد يكون اليسير عندي كثيراً عند غيري، ثم يدخل باب الوسوسة، فتجد الموسوس لو عثرت بثرة صغيرة لقال: هذا من الدم الكثير الذي لا يغتفر؛ لأنه موسوس لا يستطيع أن يفرق بين القليل والكثير، ولذلك فالقول بأنه ما لا يتفاحش في النفس يؤدي إلى اختلاف الأحكام؛ فقد يصلي الرجلان أحدهما عليه بقعة دم كبيرة، فيقول هذه قليلة وليست متفاحشة، ويصلي الآخر بجواره وعليه ما هو أقل ويحكم على نفسه بعدم صحة صلاته؛ فتختلج الأحكام، والأقوى أنه قدر الدرهم البغلي.
السؤال الأخير: إذا علمنا أن يسير الدم معفو؛ فهل يشترط فيه الانحصار أو يستوي فيه الانحصار والانتشار؟ مثال ذلك: لو أن إنساناً عنده بثرة في يده، وبثرة في وجنته، وبثرة في يده الثانية، فلو أن كل واحدة من هذه البثرات أخرجت قليلاً من الدم، بحيث لو جمعت هذه الثلاث فإنها لا تصل إلى قدر الدرهم، فتقول: الحكم يستوي فيه أن يكون منتشراً أو يكون منحصراً، وبناءً على ذلك يرخص للإنسان إذا كان الدم قدر الدرهم فما دون أن يصلي؛ ولكن محل هذا كله كما قال المصنف: (في غير مائع) بحيث ما يقع في المائع؛ والسبب في هذا: قضية القلتين؛ فإنهم يرون أن المائع إذا وقع فيه النجاسة أثرت فيه سواءً كانت قليلة أو كثيرة، وقد قلنا: إن الصحيح: أن العبرة بالتغير والتأثر، وهذا هو الذي اختاره العلماء ودلت عليه السُّنة كما بيناه في موضعه.(22/13)
الأسئلة(22/14)
إباحة الصلاة في مرابض الغنم لا يعارض منع التطهير بالشمس
السؤال
كيف نجمع بين القول بأن تطهير النجاسة بالشمس غير جائز والقول بجواز الصلاة في مرابض الغنم وعدم جوازها في مرابض الإبل؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل لا يعارض قولنا: بأن الشمس لا تطهّر؛ بل هو دليل على ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الصلاة في معاطن الإبل، وعلل العلماء ذلك بكونها -أي: الإبل- خلقت من الشياطين، قيل: إنها على الحقيقة، وقيل: إن فيها شبهاً من الشياطين، ولذلك أُمر بالوضوء من لحمها، ولم يؤمر بالوضوء من لحم غيرها، وبقي الحكم في الشرع على أنه يجب الوضوء من لحم الجزور دون غيره.
الشاهد: أن كونه يحكم بجواز الصلاة في مرابض الغنم لا يدل على نقض المسألة التي معنا من كون الشمس لا تطهّر، فليس هناك تشابه بين المسألتين، فهذا حكم له علاقة بمسألة طهارة فضلة الحيوان، وهذا حكم له علاقة بتأثير النجاسة، فالأول يتعلق بوجود النجاسة في معاطن الإبل ومرابض الغنم أم لا، والذي نبحثه نحن هو زوال النجاسة بالشمس، فالاعتراض ليس وارداً؛ لأن شرط الاعتراض والتناقض بين الحكمين: أن يتحد المورد، فإذا كان الحكم الأول يتعلق بكون هذا يؤثر في إزالة النجاسة أو لا يؤثر، والثاني يتعلق بكون هذا يُصلى فيه أو لا يصلى فيه ولا علاقة له بالنجاسة، فلا تشابه بين الموضعين، فهذه مسألة وهذه مسألة، والإشكال إنما يكون إذا اتحد مورد المسألتين، فهذا الاعتراض ليس فيه وجاهة، والاستشكال ليس بوارد أصلاً؛ لأن الصلاة أجيزت في مرابض الغنم لطهارتها، ومُنعت في معاطن الإبل إما تعبداً وإما لعلة -وهي كما قلنا- وجود الشياطين فيها، والله تعالى أعلم.(22/15)
حكم صلاة الجزار بثوبٍ عليه دم
السؤال
ما حكم الصلاة في الثوب الذي يلبسه الجزار وفي معظم ثيابه دم؟
الجواب
الجزارون على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الدم الذي يخرج هو دم البهيمة فهذا نجس؛ الحالة الثانية: أن تأتيه البهيمة وقد ذكيت؛ فالبهيمة التي أمامه مذكاة، وبناءً على ذلك: ما يكون منها من الدم أثناء ضرب الأعضاء وتفصيلها وتقطيعها دم طاهر، وحتى لو وقفت عند الجزار فطار عليك طشاش دم من تفصيل الأعضاء، فإنه ليس بنجس؛ لكن النجس هو موضع الرقبة، وينتبه إلى هذا الموضع الذي هو موضع الذكاة فإنه يعتبر متنجساً، والدم الذي يخرج عند الذكاة هو النجس، وأما لو أراد أن يبين الظهر أو يبين اليد أو يقطعها أو يُفصّل الأعضاء أو يَفْصِل اللحم عنها وتطاير منه دم؛ فهو طاهر ولا يؤثر، والله تعالى أعلم.(22/16)
حكم إزالة النجاسة بماء زمزم
السؤال
ما الحكم في استخدام ماء زمزم في إزالة النجاسة من الاستنجاء وغيره؟
الجواب
إزالة النجاسة بالمطعوم مشدد فيها، وبالنسبة لماء زمزم وإن كان أصله مشروباً لكنه لوجود احترامه شرعاً وإمكان إزالة النجاسة بالبديل عنه وهو الماء المطلق شدد العلماء في ذلك، وكان العباس رضي الله عنه صاحب السقاية -كما ثبت في الصحيح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص له أن يبيت في مكة من أجل السقاية- يقول: (لا أحلها -يعني: زمزم لا أحلها- لمغتسل وهي لشارب حلّ وبل) أي: لا أحل ماء زمزم لمغتسل أن يغتسل به، وفي القديم كان نزحه صعباً، ولذلك كان الاغتسال به يحتاج إلى أن يأخذ منه دلواً أو نحو ذلك، فيضر بالناس التي تريد منه ولو شربة واحدة فكان يقول: (لا أحله لمغتسل وهو لشارب) أي: لمن يريد أن يشربه (حل وبِل)، قيل: (حل)، حلال، وبِل أي: (بِلٌ) لحرارة قلبه أو حرارة جسده من العطش، وقيل: (بِل): إنها للاتباع ولا يراد معناها كقولهم: حيص بيص، وكقولهم: حياك وبياك، فإن بياك ليس لها معنىً، فقالوا: إن بِلّ بهذا المعنى، والمقصود: أنهم كانوا يكرهون الاغتسال بماء زمزم، وهذه الكراهة لغسل ظاهر الجسد مع طهارته فكيف بغسل النجاسة، والمحفوظ من فتاوى أهل العلم رحمة الله عليهم أنهم كانوا يشددون في هذا الأمر ولا يستحبون تطهير النجاسات به، والله تعالى أعلم.(22/17)
حكم قيء الغلام
السؤال
هل يُعتبر ما يخرج من طفلي من القيء نجساً، وما الحكم إذا صليت ثم علمت بوجوده في ثوبي؟
الجواب
الذي يخرج من الطفل لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون متغيراً وقد وصل إلى جوفه، فهذا يعتبر في حكم القيء وهو نجس، كأن تسقيه لبناً فيخرج اللبن وفيه صفرة قد تغيرت مادته وتغيرت رائحته فهذا يحكم بتنجسه.
الحالة الثانية: أن يكون الذي خرج لم يتغير وصفه، كأن يكون حديث عهد برضاعة، فلما جاءت تحمله قلس عليها، وهو القلس، فالذي يدفعه الصبي أو الصبية عند الشبع والري من اللبن ونحوه يعتبر طاهراً، فالأول: نجس، والثاني: طاهر، فإذا كان الذي خرج عند استفراغه طاهراً فلا إشكال، وإن كان نجساً قد تغيرت مادته فهو نجس يجب غسله.
المسألة الثانية: لو أنها حملت صبياً فقاء عليها، وكان قيئاً متغير اللون والرائحة فعلمت بنجاسته، ثم نسيت أن تغسل الموضع فصلت الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء ثم انتبهت؛ فلا تجب عليها الإعادة في أصح أقوال العلماء؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه صلى بأصحابه في نعليه، ثم خلعهما أثناء الصلاة؛ فخلع الصحابة نعالهم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ما شأنكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين) فدل هذا على أن من نسي النجاسة أو لم يتذكرها أنه لا يحكم بوجوب الإعادة عليه؛ بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره جبريل بنى ولم يقطع الصلاة، فلو كان ذكر النجاسة يوجب الإعادة لقطع النبي صلى الله عليه وسلم صلاته ولاستأنف؛ لأنه أوقع تكبيرة الإحرام -وهي أقل ما يمكن أن يكون قد أوقعه- وهي ركن، ولربما يكون قد صلى بعض الصلاة، فكونه عليه الصلاة والسلام لم يعد دل على أن من نسي النجاسة ثم بعد الصلاة رآها، أو لم يعلم بها أصلاً ثم بعد السلام نظر فإذا النجاسة في ثوبه أو بدنه، فحينئذٍ لا تجب الإعادة في أصح أقوال العلماء، والله تعالى أعلم.(22/18)
حكم حرمان الزوجة من صلة أبويها
السؤال
زوجي ملتزم ومتدين ولله الحمد، ولكن -يا شيخ- أشتاق إلى رؤية أبواي وإخواني، فعندما أطلب من زوجي أن أذهب لزيارتهم مرة كل عام فإنه يرفض، وأحياناً يغضب غضباً شديداً، وذلك يحزنني كثيراً فماذا أفعل؟
الجواب
لا يخلو والدا المرأة من حالتين: أن يكونا في نفس الموضع الذي فيه الزوج، أو يكونا في غير الموضع، فإن كانا في الموضع الذي فيه الزوج والزوجة فإنه تنبغي الزيارة بالمعروف، فيجعل وقتاً يستطيع أن يصل فيه رحمه ويقوم فيه بحق الله وتقوم المرأة أيضاً بحق أبويها، فإن منعها وأبواها في نفس المدينة والسائلة تقصد ذلك، فلا أشك أنه -نسأل الله السلامة والعافية- قد قطع رحمه وأعان على القطيعة وعقوق الوالدين والعياذ بالله؛ والسبب في ذلك: أن زيارة الوالدين والقرابة الذين هم ملتصقون كالإخوان ونحوهم لا تشق على الزوج مع اتحاد المكان، فكونه يقصر ويمنعها لا شك أنه مخالف لأمر الله عز وجل بصلة الرحم والإحسان إلى القرابة والله يقول في كتابه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] وهذه والله مصيبة عظيمة، إذا كان الزوج يبلغ به أن يمر العام الكامل ولا يري زوجته أبويها فوالله بئس ما فعل، ووالله إنه لمن اللؤم بمكان، ولا شك أنه إنسان لئيم، فإن لئيم الطبع هو الذي يمتنع.
إن والدي المرأة أكرما الإنسان وقبلانه زوجاً لعورة من عوراتهما، وفلذة من فلذات أكبادهما؛ لكي يكون لها ستراً، ويكون لها زوجاً فتنعم عينها بزواجها منه وعشرتها له، ثم تمكث سنة كاملة -والعياذ بالله- لا ترى أبويها! لقد ثبت في الأحاديث الصحيحة دخول فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم سواءً دخلت لحاجة أو دخلت زائرة، حتى قالت عائشة رضي الله عنها -كما في حديث الترمذي - (كانت إذا دخلت عليه، قام لها، فأجلسها في موضعه)، وفي الصحيحين: قالت: (جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما تخالف مشيتها مشيته) فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ارجعي إلى بيتك، وكان يزورها صلوات الله وسلامه عليه في بيتها، فقضية كون الزوج يبلغ به أن يمر عام كامل ولا ترى زوجته أهلها، والله لا أشك أن هذا من اللؤم بمكان، فإن النفس الكريمة إذا أحسنتَ إليها ملكتها بالإحسان، وأصبحت كأنك ملكت رقبة تلك النفس المؤمنة الكريمة.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (حفظ العهد من الإيمان) فلوالدي الزوجة عهد عند الزوج، بل المنبغي على الزوج الكريم أنه هو الذي يفاتح امرأته بزيارة أهلها، وخاصةً إذا كان ملتزماً ديناً، وكثير من النساء يشكين من بعض الأزواج الذين فيهم خير وفيهم صلاح؛ لأن كثيراً منهم لا ينتبه لمشاعر الزوجة ولا لمشاعر القرابة، فيجلس أحياناً شهوراً وهو غافل عن صلة الرحم، مع أن حقيقة الالتزام هي القيام بمثل هذه الواجبات، فلا تنتظر من الزوجة أن تقول لك: اذهب بي إلى أبي وأمي، بل أنت الذي تبدأ بهذا؛ لأنك تعلم أنك إذا أمرتها بهذا أمرتها بطاعة الله، وأمرتها بمرضاته، وكان لك أجرها، وكان لك أجر صلتها لوالديها، بل إذا بلغ بالإنسان الخير وكان إنساناً كريماً يريد مرضاة الله عز وجل وجدته هو الذي يعرض عليها، ووجدته يذهب إلى أبي الزوجة وأمها، ولا ترضى نفسه إلا أن يذهب إلى أبي زوجته، فيسلم عليه ويجلس معه، ولقد حكى لي بعضهم فقال: قد يكون عندي الظرف الذي لا أستطيع أن أتركه، وتركه من المشقة بمكان، ولكن لا ترضى نفسي أن آتي وأنزلها عند بيتها دون أن أذهب وأقبل رأس أبيها وهو كبير السن، وأدخل على أمها وأحييها، وأدخل السرور عليها؛ فلكونهم اختاروني زوجاً لابنتهم ينبغي أن أرد هذا المعروف.
إن هذا أقل ما يرد به المعروف، الزيارة فيها جلب للمحبة والمودة، ثم إن الإنسان بهذه الزيارة يترجم عن الوفاء للجميل، وهذه من الأمور المهمة في المشاكل الزوجية، فالزوجة إذا رأت الزوج غافلاً لا يبالي بقرابتها، ولربما تأتي وتقول له: أريد أن أزور أمي أو أبي، فيضايقها ويتأخر عنها ويماطلها ويؤخرها، بدلاً من أن يكون كريماً، فيدخل الشيطان عليها، فيقول: زوجك لا يحب والديك، زوجك كذا وكذا؛ فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والخطأ ليس من الزوجة أن تسيء الظن، ولكن الخطأ من الزوج أن ينسى المعروف والفضل، ولذلك يعاقبه الله عز وجل فلربما تتنكر عليه الزوجة، وكم من مشاكل زوجية عرضت عليَّ فوجدت من الأسباب الخفية التي كانت سبباً في فساد الزوجة على زوجها وتأثرها في معاملة زوجها: تقصيره في الوفاء لوالديها، وهي في هذا معها حق، ولا شك أن الزوج إذا كان بهذه المثابة فإنه ضعيف الإيمان؛ لأن من كمال الإيمان كمال الوفاء والعشرة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان).
لقد كان عليه الصلاة والسلام وفياً لزوجته خديجة رضي الله عنها حتى بعد وفاتها، فكان إذا ذبح شاة يقول: (هل أهديتم لصويحبات خديجة منها شيئاً؟) صلوات الله وسلامه عليه، حتى أن النساء يغرن من خديجة وهي ميتة ومتوفاة رضي الله عنها وأرضاها، فلا يزال ذاكراً وحافظاً لها العهد، ولما دخلت المرأة العجوز الكبيرة السن الضعيفة الحال على النبي عليه صلوات الله وسلامه ما أن سمع صوتها حتى قام يجر رداءه لها، فقالت عائشة: (يا رسول الله! من هذه العجوز التي تقوم لها هذا القيام؟ قال: إنها هالة، إنها هالة، أخت خديجة) صلوات الله وسلامه عليه، فالوفاء والبر والخير في صلة الأرحام، وفي بر الوالدين والإعانة على ذلك، وينبغي على الزوج أن يكون عنده الإحساس والشعور، ويحاول أن يكرم امرأته وأهلها، وخاصةً إذا كانت المرأة صالحة، فالمرأة الصالحة في هذا الزمان نعمة عظيمة ينبغي على الزوج أن يدخل السرور عليها، ودائماً إذا جلس معها ذكر فضل أهلها وذكر أهلها بخير، والله إن من الأزواج الأخيار من يقول: لقد أوذيت من رحمي ومن أهل زوجتي، ومع ذلك لا أذكر أني في يومٍ من الأيام قد ذكرتهم بسوء؛ لأني لا أريد أن أكسر خاطر هذه المرأة المؤمنة حينما أتذكر التزامها وديانتها واستقامتها، وهذا هو شأن الأخيار، فالمرأة إذا رأيتها صالحة فأكرمها وأسكنها في قلبك، وأدخل عليها من المودة والرحمة ما تلتمس به رضوان الله عز وجل، وصل الرحم يصلك الله، فإنها تعلقت بحقوي الرحمن وقالت: (هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك؟) فرضيت بذلك، فطوبى لمن وصلها فوصله الله، وويل ثم ويل لمن قطعها وأعان على قطيعتها، وقد قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] نسأل الله السلامة والعافية، فقد يكون الشاب ملتزماً صائم النهار وقائم الليل، وتأتيه لعنة بسبب قطيعة رحم أو عقوق والدين أو منعه الزوجة من أن تصل رحمها أو تبر والديها، فيحرم -والعياذ بالله- من خشوع في عبادته، أو يحرم من بكاء، أو يحرم من قيام ليل أو صيام نهار، ويقول: ما أدري ما الذي أصابني؟ وكثير من الشباب الأخيار يصاب بنكسة في التزامه أو ضعف إيمان ولا يدري من أين أُتي، وقد يكون هذا من قبل حقٍ لمظلوم دعا عليه فحرمه الله عز وجل هذا الخير، فنسأل الله العظيم أن يُحيي قلوبنا بطاعته، وأن يرزقنا الوفاء لعباده بما يرضيه عنا، ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأدواء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(22/19)
شرح زاد المستقنع - باب إزالة النجاسة [3]
من قواعد الشريعة: التخفيف فيما تعم به البلوى، وتكون فيه المشقة، ولهذا خُفِّف في يسير بعض النجاسات التي يشق اجتنابها، على خلاف بين العلماء في نجاسة بعض الأشياء وطهارتها.(23/1)
المعفو عنه من النجاسات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(23/2)
العفو عن يسير الدم
قال المصنف رحمه الله: [ويعفى في غير مائع ومطعوم عن يسير دم نجس من حيوان طاهر، وعن أثر استجمار بمحله].
لا زال الحديث في أحكام النجاسات، ولما ذكر رحمه الله الأحكام المتعلقة بإزالة النجاسة والشيء الذي تزال به النجاسة، شرع رحمه الله في محل الرخصة، وهو الشيء المعفو عنه، فقال: (يعفى في غير مائع ومطعوم عن يسير دم من حيوان) هذه المسألة الأصل فيها حديث ضعيف روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (أنه يعفى في الدم عن قدر الدرهم البغلي)، ثم تأيد هذا الحديث الضعيف بعمل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما أُثر عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عن الجميع، أنهم كانوا لا يرون في قليل الدم شيئاً، فربما عصر الواحد منهم البثرة -وهي الحبة الصغيرة التي تكون في الوجه أو في اليد أو في الساعد- فخرج منها يسير الدم فلا يتطهر ولا يغسل الموضع، فأخذ العلماء رحمهم الله من هذا دليلاً على مسألتين: المسألة الأولى: أن يسير الدم النجس معفو عنه.
المسألة الثانية: هل يلتحق بالدم غيره؟ فمن العلماء من قال: أقصر الرخصة على محلها، فأعفو عن الدم وحده، لأنه هو الذي ورد به الخبر، وهو الذي فعله الصحابة رضوان الله عليهم، ويبقى غيره على الأصل.
وقال بعض العلماء: ما دامت العلة التخفيف وأن اليسير لا يأخذ حكم الكثير، فنطرد ذلك في كل ما وافقه، فنقول: يسير النجاسة معفو عنه، ثم استثنى وقال: (في غير مائع ومطعوم) والصحيح المذهب الأول: أن الذي يعفى فيه عن يسير النجاسة هو الدم وحده، فلو سألك سائل عن مذي قليل خرج من الإنسان بشهوة لنظر أو فكر وشعر بخروجه منه، فهل نحكم بنجاسة الثوب الذي أصابه هذا الذي أو لا نحكم؟ إن قلنا: يعفى عن اليسير، حكمنا بجواز وضوئه وصلاته دون أن يغسل الموضع الذي أصابه المذي، وإن قلنا: إنه لا يعفى عنه؛ فحينئذٍ يكون حكمه حكم النجاسة الكثيرة سواء بسواء، فعند ذلك يجب غسله والوضوء بعده، وهذا بالنسبة للمسألة التي ذكرها المصنف مفرّعة على هذا الأصل، والصحيح: ما ذكرنا من أن الحكم يختص بالدم، وأن ما عدا الدم من النجاسات قليلها وكثيرها لا يشمله الرخصة، على ما تقرر من اعتبار الدم نجساً، وقد سبق بيان دليل ذلك، وكلام العلماء رحمة الله عليهم فيه.(23/3)
العفو عن أثر النجاسة بعد الاستجمار
وقوله: (وعن أثر استجمار بمحله) أي: يعفى عن أثر الاستجمار في محله، ومن المعلوم أن الإنسان إذا قضى حاجته؛ فإنه ربما غسل بالماء، وربما استجمر بالحجارة، أما لو غسل بالماء فبالإجماع أنه يجب عليه غسل الموضع وإنقاؤه، وأما لو كان بالحجارة فمن المعلوم أن الحجارة لا تنقي الموضع على سبيل القطع كما يحصل في الماء، بل لابد من بقاء أثر للنجاسة في الموضع، وهنا يرد
السؤال
لو فرضنا أن هذا الموضع هو الدبر، فلو أن إنساناً قضى حاجته ثم استجمر بالحجارة فأنقى الموضع بالحجارة، فإن الموضع -الذي هو الدبر- سيبقى فيه يسير نجاسة، وهذا اليسير يقولون: إنه معفو عنه، ولكن لا يعفى إلا بما هو في موضع النجاسة، أما لو تعدى موضع النجاسة فإنه لا يعفى عنه قولاً واحداً، كما لو كان على صفحة الإلية ونحو ذلك فإنه لا يعفى عنه.
إذا تقرر أنه يعفى عن يسير النجاسة في الدبر أو القبل إذا استجمر الإنسان، فما الدليل على هذا القدر الذي يعفى عنه؟ الدليل: ثبوت السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتزاء بالحجارة، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من استجمر وأنقى الموضع -بمعنى: أنه حصل منه الإنقاء بالحجر الأخير دون وجود أثر- فإنه يحكم بكونه متطهراً، وإنما تأتي النجاسة؛ لأن هذا الموضع وإن وضعت الحجر عليه وخرج نقياً فإن الموضع لا يزال متغذياً بالنجاسة، فإذا عرق الإنسان أو جالت يده بالعرق فلابد وأن تصيب الموضع، فإذا عرق المكان الذي يلي الموضع وسرى هذا العرق إلى الثوب أو إلى السروال الذي يلي الموضع فهذا معفو عنه؛ لأننا لو حكمنا بنجاسته لدخل الناس في حرج لا يعلمه إلا الله عز وجل، وهذا صحيح؛ ولذلك قالوا: إنه أمر الشارع بغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء -كما يقول الإمام الشافعي - قالوا: لأن الحجاز كانت حارة، كان الناس في الغالب لا يستجمرون إلا بالحجارة ولا يغسلون، وكانوا يعتبرون غسل الفرجين وضوء النساء كما أثر عن بعض السلف، فكان الغالب منهم الاستجمار، قالوا: ومع هذا فإن الشرع لم يأمر بغسل الموضع، وإنما اكتفى بالحجارة، فدل على أنه إذا عرق الموضع أو جالت اليد في الموضع فإنه يعفى عن هذا اليسير.(23/4)
أشياء مختلف في نجاستها(23/5)
حكم جثة الآدمي بعد موته
قال رحمه الله: [ولا ينجس الآدمي بالموت].
(لا ينجس) أي: لا يحكم بكونه نجساً، بل هو طاهر، وهذا أحد قولي العلماء رحمة الله عليهم أن الآدمي لا ينجس بالموت.
وقال بعض العلماء: الأصل في الميتة أنها نجسة، واستثني الآدمي المسلم لقوله عليه الصلاة والسلام: (المؤمن لا ينجس) فبقي الآدمي المشرك على الأصل، وأكدوا هذا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] قالوا: لما كانت الميتة في أصل حكم الشرع نجسة كما نص الله عز وجل في غير موضع؛ فإننا نقول: إن كل ميتة نجسة إلا ما ورد الشرع بإخراجه، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) وهو عام، والقاعدة: (أن الأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه)، قالوا: نحكم بكونه نجساً إلا ما استثناه الشرع من الميتات، وقد استثنى الشرع المسلم المؤمن بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن لا ينجس) واستثنى ميتة البحر بقوله: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فلم يحكم بنجاسة ميتة البحر، قالوا: فبقي الكافر والمشرك على الأصل من كونه نجساً، وهذا بالنسبة للمذهب الثاني عند العلماء رحمة الله عليهم.
وهناك مذهب ثالث: أن المشرك نجس حياً وميتاً -والمذهب الثاني وسط بين المذهبين- قالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) يؤكد أن الكافر ينجس، لأنه لو كان الآدمي طاهراً؛ لقال: إن الآدمي لا ينجس، لكن كونه يقول: (إن المؤمن) يدل على أن الكافر ينجس، قالوا: إما نجاسة موت بمفارقة روحه -ولذلك يعتبر من الجيفة والميتات- وإما بالعموم سواء كان حياً أو كان ميتاً.
واعترض عليهم باعتراضات وجيهة منها: قالوا: إن نساء أهل الكتاب حل لنا نكاحهن، وإذا جاز لنا نكاحهن فإنه لابد من مخالطة.
واعترض عليهم بقصة ثمامة بن أثال الحنفي، فإنه رضي الله عنه أخذته خيل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ماضٍ إلى العمرة فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وربطه في المسجد، قالوا: ولو كان نجساً لما أدخله النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، هذا بالنسبة للاعتراضات التي اعترضت عليهم.
وأجيب عنها أما كون نساء أهل الكتاب حل لنا؛ فإن قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] اختلف هل المشركون يدخل فيهم أهل الكتاب أو لا؟ فنقول: إن الآية وردت في المشركين ولم ترد في عموم الكفار، إذ لو كان أهل الكتاب داخلين فيها لقال: إنما الكفار نجس، لكن قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:28] ووجدنا أن القرآن يفرق بين المشركين وأهل الكتاب {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] فلما فرق بينهم علمنا أن قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] هم عبدة الأوثان والذين لا دين لهم سماوي، فهؤلاء يحكم بكون الواحد منهم نجساً، هذا من الأجوبة.
وأما بالنسبة للأجوبة على قيمة ثمامة بن أثال فقالوا: إنه خارج عن الأصل لمكان الحاجة، والقاعدة: أن ما خرج عن الأصل لا يعترض به، ولا يرد به الاعتراض في الاستدلال.
وهذا حاصل ما ذكر في مسألة: نجاسة الآدمي، فقال المصنف: (وميتة الآدمي)، أي: لا يحكم بنجاستها، وهذا -كما قلنا- قول طائفة من العلماء رحمة الله عليهم ولما قال: (الآدمي) فهمنا أنه يستوي في ذلك الكافر والمسلم.(23/6)
حكم ما لا نفس له سائلة
قال رحمه الله: [وما لا نفس له سائلة متولد من طاهر] أي: أن ما كان مما لا نفس له سائلة وكان متولداً من طاهر فيعتبر طاهراً.
(ما لا نفس له سائلة) النفس تطلق بمعنى الدم، قالوا: سمي الحيض نفاساً لمكان الدم الخارج، كما في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (مالك أنفست؟) وسمي النفاس نفاساً لوجود الدم فيه.
فالنفس تطلق بمعنى الدم، وتطلق بمعنى الروح، واختلف هل هي والروح شيء واحد أو لا؟ وهو خلاف معروف، لكن المقصود: أن من إطلاقات النفس: الدم، فيقولون: كل دابة ليس لها نفس، أي: ليس لها دم كالبراغيث، والصراصير، وبنات وردان، وكذلك البعوض وما كان مثل هذه الدواب، أو كان من الهوام، فكل ما لا دم له قالوا: يحكم بكونه طاهراً؛ لأنه إذا مات فلا يعتبر من الميتات المتنجسة بالدم؛ قالوا: لأن الميتة ما حكم بنجاستها إلا لمكان احتباس الدم فيها، بدليل أنها لو ذكيت كانت طاهرة، فهذا مستنبط من مفهوم حكم الشرع، قالوا: لما كان الحيوان الذي يذكى بالذكاة يطهر ويحل أكله ويعتبر طاهر الأجزاء، والميتة التي ماتت حتف أنفها وانحبس الدم فيها يحكم بنجاستها، عرفنا أن ما يذكى طاهر، وما لا يذكى نجس، فإن كان الميت مما لا دم له فإنه يخرج عن هذا الوصف، فليس له دم يراق، فيعتبر من الميتة الطاهرة التي لا يحكم بنجاستها، هذا وجه من يقول بطهارة ما لا دم له.
مثال ذلك: الصراصير ونحوها، لكن يستثنى من هذا إذا خرجت من مكان نجس، فيقال: متنجسة، وفرق بين المتنجس والنجس، فالنجس بذاته، والمتنجس بعارض، ويمكن تطهيره، فلو خرجت من مكان نجس وهي رطبة حكم بكونها نجسة.
والدليل على أن ما تولد من طاهر يحكم بطهارته: أن السوس كان يصيب التمر، ولم يأمر الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم باتقاء ما كان فيه سوس، وكان يوجد في الأطعمة، ويوجد في التمور، ويوجد في الحبوب، ويوجد في الدقيق ومع هذا كان يؤكل ولا ينكر على أحد ولا يحكم بكونه ميتة، وهذا يكاد -بالإجماع- يكون دليلاً على أنه طاهر؛ وبناءً على ذلك: فكل ما تولد من طاهر فهو طاهر، فمثلاً: لو كان هناك طعام وتولد من الطعام دود والطعام طاهر؛ فنقول: إنه طاهر، فلو مات هذا الدود في مكان، وجاء الماء على المكان الذي فيه الدود وأصبح متشرباً به ثم أصاب الثوب؛ فنقول: إن الماء طاهر؛ لأن هذه الميتة ميتة طاهرة ولا تعتبر نجسة.(23/7)
حكم بول وروث ما يؤكل لحمه
قال رحمه الله: [وبول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه ومني الآدمي] (وبول ما يؤكل لحمه وروثه): الحيوانات تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أذن الشرع بأكل لحمه.
القسم الثاني: لم يأذن الشرع بأكل لحمه، ثم كل من هذين القسمين منه ما أجمع على حكمه ومنه ما اختلف فيه.
يقول المصنف رحمه الله: (وبول ما يؤكل لحمه وروثه) التقدير: طاهر، أي: آخر الكلام أو الحكم فيه أنه طاهر.(23/8)
الأدلة على طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه
أما الأدلة على أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر فهي: أولاً: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه أقوام من عكل وعرينة واجتووا المدينة أي: أصابهم الجوى، والجوى نوع من الأمراض مثل الحمى؛ لأن مناطق أهل البادية تكون نقية ونافعة، فإذا دخلوا المدن يحصل عندهم نوع من الأمراض؛ لأنهم ألفوا المكان الطلق النظيف، والجوى سببه -كما يقول الإمام النووي رحمه الله-: اختلاف الموضع عليهم.
لأنهم ألفوا طلاقة الجو ونظافة ما يؤكل وما يشرب، بخلاف المدن التي تكون وخيمة بسبب كثرة الناس بها وضيق أماكنها، فأصابهم الجوى، والعلة في ذكر الجوى هي: معرفة طب النبي صلى الله عليه وسلم كيف عالج الشيء بمألوفه، حتى أن الأطباء يعتبرون هذا من الطب النبوي، فبعض الأمراض يكون علاجها بِرَد الإنسان إلى مكانه الذي نشأ فيه، قالوا: إنه يتأثر بأرضها وهوائها ومائها، وكان بعض الأطباء يداوي بالماء الذي يكون في الموضع الذي ولد فيه الإنسان، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلذلك اختلف العلماء: فقال بعض العلماء: إنما أمرهم أن يشربوا من الأبوال والألبان؛ لأنهم مرضى، مع أن البول أصله نجس، فكأنه يقول: إنما أجاز لهم شرب بول البعير لكونهم مرضى ومضطرين لذلك، وهذا مذهب الشافعية، أي: أنهم يرون أن بول البعير وما يؤكل لحمه نجس.
وقال الحنابلة ومن وافقهم: إنما أجاز لهم شرب البول؛ لأن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر، فأجاز لهم شرب البول لا من جهة المرض ولكن من جهة طهارة الذي يتداوى به.
فقول الشافعية: إن البول نجس وإنما جاز لهم شربه للتداوي، شددوا فيه في باب الطهارة، وخففوا في باب التداوي.
أما الحنابلة فقالوا: البول طاهر ولا يجوز التداوي بالنجس، فخففوا في باب الطهارة، وشددوا في باب التداوي، وهذا من مرونة الشريعة! فقد تجد القول في مكان شديد ولكنه في مكان آخر يسر ورحمة، وقد تجده في موضع يسراً ورحمة، وفي موضع آخر شدة وابتلاء.
فالمقصود: أن الحنابلة رحمهم الله يقولون: البول طاهر وجاز لهم شربه لكونه طاهراً.
ونحتاج إلى منهج أصولي في الاستنباط حتى نعرف أي المذهبين أرجح، فهؤلاء يقولون: هم مرضى وجاز لهم التداوي به لكونها ضرورة، وهؤلاء يقولون: لا.
بل هو طاهر ولا يجوز التداوي بالنجس على الأصل الذي قرروه: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فنريد أن نعرف الراجح من القولين.
القول الذي يقول: إن بول الإبل والبقر والغنم ونحوها مما يؤكل لحمه نجس هو قول الشافعية، فيقولون: لأن في الحديث وصفاً وهو قوله: (فأصابهم الجوى)، وفي رواية في الصحيح: (فاجتووا المدينة) أي: أصابهم الجوى، قالوا: فالوصف المذكور في الحديث -وهو الجوى والمرض- مشعر بالحكم وهو التخفيف والرخصة، هذا بالنسبة لمسلك الشافعية.
الحنابلة قالوا: قولنا أقوى وأرجح؛ لأننا وجدنا أدلة أخرى من السُّنة تدل على أن البول طاهر، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر على بعيره وطاف على بعيره، فلو كان بول البعير نجساً لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على البعير؛ لأنه إذا بال أصابه طشاش بوله، ولابد أن البعير يصيبه شيء من الطشاش أو يبقى شيء في الموضع، قالوا: فكونه عليه الصلاة والسلام يصلي ويوتر ويطوف على البعير -وكلها عبادات تشترط لها الطهارة- يدل ذلك على الطهارة.
الشافعية يجيبون عن هذا ويقولون: إن هذا من باب الرخصة والتيسير وهو خارج عن الأصل، ويقولون: قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل، فلو كان روث البعير طاهراً لما منع من الصلاة في معاطن الإبل.
الحنابلة يقولون: إنه منع عن الصلاة في معاطن الإبل لعلة غير النجاسة، وهي كونها أماكن الشياطين، والإبل خلقت من شياطين كما ورد في بعض روايات السنن.
فالمقصود: أن أصح الأقوال وأقواها: أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، فقد ركب النبي صلى الله عليه وسلم بعيره، وطاف على البعير، وأوتر على البعير، وهذا كله ظاهر الدلالة على طهارته.
وأما بالنسبة للقول بأن هذه رخص فنقول: إنه أجاز الصلاة في مرابض الغنم، فلو كانت الفضلة نجسة لما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في مرابض الغنم، ولاشك أن أقوى القولين هو: القول بأن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ومذهب الشافعية رحمة الله عليهم في أن فضلة ما يؤكل لحمه نجسة فيه من المشقة شيء كثير، ولذلك من أشق ما يكون إذا كانوا في المساجد وجاء الحمام والطير، فإنهم يعتبرون ذرقه نجساً، وبمجرد ما يصيب الثوب لابد أن يذهب ويغسل ثوبه، فيجدون من الحرج والمشقة ما الله به عليم، حتى إن بعض متأخريهم أفتى بأن ذرق الطيور والحمام في المساجد معفو عنه لمكان الحرج والمشقة، فإنه ربما يكون هناك زحام -كأيام الحج- فيقوم من بين الناس من أجل أن يغسل موضع النجاسة ويطهر المكان.
إذا تقرر هذا فإن أصح الأقوال: أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ويستنبط هذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم أدى الصلاة والطواف على ظهر البعير، وأجاز الصلاة في مرابض الغنم، ففهمنا من الصلاة على ظهر البعير أن فضلته طاهرة، وفهمنا من إجازة الصلاة في مرابض الغنم أن فضلتها طاهرة، ثم نستنبط معنى آخر للقياس ونقول: قد حكم صلوات الله وسلامه عليه بنجاسة لحم الحمر الأهلية لكونها محرمة الأكل، فإنه لما نزل تحريمها أمر بإكفاء القدور وقال: (إنها رجس) فحكم بكونها نجسة لما نزل تحريم اللحم، فأخذوا من هذا دليلاً -وهذا من أنفس ما يكون في الاستنباط- على نجاسته ونجاسة الفضلة تبعاً، وإذا ثبت هذا فنقول: الفاصل في الحكم بنجاسة الفضلات والخارج هو أنه إما أن يكون من المأذون بأكله أو غير مأذون بأكله، فإن كان من جنس ما أذن بأكله فهو طاهر، وإن كان من غير ما أذن بأكله فهو نجس.(23/9)
حكم مني ما يؤكل لحمه
وقوله: (ومنيه ومني الآدمي) (ومنيه) أي: مني ما يؤكل لحمه فإنه يعتبر طاهراً، وقد ذكر هنا مني الدواب؛ لأن كثيراً من المسائل تترتب عليها أحكام، فمثلاً: مني الدواب يباع، وهذا موجود في مختلف أنواع الحيوانات، وقد تقرر في الشرع -ويكاد يكون قول الجماهير خلافاً للحنفية- أن النجس لا يجوز بيعه؛ لحديث جابر بن عبد الله: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) فإذا ثبت أن النجس لا يجوز بيعه، وحكمت على المني الخارج من الحيوان الذي يؤكل لحمه أنه طاهر، ففي هذه الحالة لو سألك سائل عن بيع مني الحيوان كما يفعل بالحقن وتحقن به الإناث من أجل أن تخصب وتنجب، هل يجوز أو لا يجوز؟ فعلى القول بنجاسة فضلته: لا يجوز بيعه؛ لأنه لا يجوز بيع النجس، وعلى القول بطهارتها: يجوز بيعه؛ لأنه طاهر أشبه بسائر الطاهرات.(23/10)
حكم رطوبة فرج المرأة
قال رحمه الله: [ورطوبة فرج المرأة] الرطوبة: سائل يخرج من الموضع من المرأة، وسواء خرج عند الجماع أو خرج في غير وقت الجماع، أي: سواء خرج عند الشهوة أو في غير وقت الشهوة، فهذا السائل للعلماء فيه وجهان مشهوران: القول الأول: أن هذا السائل طاهر.
القول الثاني: أنه نجس، وهذا وجه عند الحنابلة وقيل: إنه المذهب، ووجه عند الشافعية.
والأقوى -واختاره غير واحد من المحققين- والصحيح: أنه نجس، وقد دلت السُّنة على نجاسته، ويحتاج إلى تأمل حتى يتبين هذا الدليل.
ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليغسل ما أصابه منها) وكان في أول الإسلام إذا جامع الرجل أهله ولم ينزل لا يجب عليه الغسل، وفيه حديث صحيح حيث قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) وجاء في الحديث الصحيح أنه طرق على رجل من الأنصار كان يريده في حاجة، فلما خرج الرجل خرج كأنه منزعج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك؟ إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك) يعني: إذا لم تنزل فلا غسل عليك، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولكن ليغسل ما أصابه منها) فالذي يصيب الفرج عند الجماع من غير المني هو الرطوبة، فكونه يأمر بالغسل منه يدل على كونه نجساً، وهذا نص صحيح صريح قوي في اعتبار الرطوبة نجسة، وقد أشار إليه بعض المحققين، ومنهم الإمام النووي رحمه الله في المجموع، وبين أن الرطوبة نجسة، ثم القياس والنظر الصحيح يدل على نجاسته، فإن رطوبة فرج المرأة منزلته منزلة المذي من الرجل، قالوا: إنها مذي المرأة، فكما أن مذي الرجل يكون منه فكذلك المرأة، وإذا كان المذي نجساً فإن الرطوبة تكون نجسة؛ لأن النظير يأخذ حكم نظيره، فلو لم يدل الأثر لدل النظر على نجاسته، والسُّنة حاكمة على كل قول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين أنه مأمور بغسله دل على نجاسته.(23/11)
حكم المرأة المبتلاة بكثرة رطوبة الفرج
وقد تعم البلوى بهذه الرطوبة، فمن النساء من تجلس ساعات وهي مبتلاة بهذه الرطوبة، فنقول: إن هذا أمر يسير لأنها كالمستحاضة، فكما أن المرأة يصيبها دم الاستحاضة ويستمر معها أحياناً شهوراً، والشريعة تحكم بكون هذا الدم نجس، فكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله ويكاد يكون بالإجماع أن دم الاستحاضة نجس، لكن إذا غلبها فإنها تضع قطنة تشد بها الموضع، وتصلي على حالتها وتتوضأ لدخول كل وقت، فالمرأة التي تغلبها الرطوبة وتصل بها إلى درجة المشقة تأخذ حكم الاستحاضة سواء بسواء، وهذا لا حرج فيه ولا مشقة فيه؛ لأن القاعدة في الشريعة: أن الأمر إذا ضاق اتسع، فمادام أنه يضيق على المرأة ويحرجها فإنها تتعبد الله عز وجل على قدر وسعها وطاقتها {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
وقوله: (ورطوبة فرج المرأة) هذا تخصيص، فدل على أن الرطوبة من سائر بدن المرأة تعتبر طاهرة ولا يحكم بنجاستها، فالرطوبة والعرق من سائر البدن طاهر، سواء من ذكر أو من أنثى، ولكن المراد الرطوبة في موضع مخصوص.(23/12)
حكم سؤر الهرة وما دونها في الخلقة
قال رحمه الله: [وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر] (وسؤر الهرة) وهي: القط، ويستوي في ذلك ذكرانها وإناثها، والسؤر: الفضلة، واحد الآسار، وهذا السؤر صورته: أن تأتي الهرة وتشرب من إناء أو وعاء ثم تبقى فضلة، فهذه الفضلة يحكم بطهارتها؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي قتادة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصغى لها الإناء ثم قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) وهذا يدل على أنها طاهرة، إذ لو كانت نجسة لبين النبي صلى الله عليه وسلم نجاستها، وفيه تيسير ورحمة بالناس؛ لأن الهرة تخالطهم وتكون معهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام مشيراً لهذه العلة: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات).
ولذلك يقول العلماء: هي نجسة ولكن حكم بتخفيف الحكم فيها لمكان المشقة؛ وذلك بقوله: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) قالوا: إذ لو كانت طاهرة في الأصل لقال: إنها طاهرة، لكن كونه يقول: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) كأنه يقول: إن هذا فيه حرج وفيه مشقة، فخفف من أجل الحرج ومن أجل المشقة، وهذا مسلك بعض العلماء، ولذلك قالوا: كل ما كان في حكم الهرة فسؤره طاهر، حتى قالوا بالتخفيف في السباع فإذا طاف على الإنسان وكان معه، كما لو أنه ربى أسداً للصيد أو نمراً أو نحو ذلك من السباع وخالطه كثيراً، قالوا: يعفى عن فضلته وسؤره.
قال: (وما دونها في الخلقة) (دونها) يعني: أقل منها، وإنما قال: دونها؛ لأن القياس يأتي على ثلاثة أوجه: الأول: قياس الأعلى على الأدنى.
الثاني: وقياس الأدنى على الأعلى.
الثالث: وقياس المساوي.
هذه ثلاثة أحوال للقياس.
ضابط كونه أعلى أو أدنى أو مساويه هو: العلة، فإن كان الفرع الذي تقيسه أولى بالحكم من الأصل فهذا يسمى قياس أعلى، أي: أنك ألحقت المستحق للحكم أكثر مما ورد به النص، مثال ذلك: الله عز وجل يقول: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] نهى عن قول: (أف) فتقول: يحرم السب والشتم كما يحرم التأفف بجامع كون كل منهما أذية للوالدين، وقد تقول بصورة أخرى تنبه على كونه قياساً أعلى.
التأفف للوالدين حرام فسبهما أولى بالحرمة لما فيه من بالغ الضرر، أو بجامع الضرر في كلٍ، وهذا بالنسبة لما يكون أعلى، أو مساوياً: كأن تقيس ما مثل الهرة في الحجم والقدر والتطواف على الهرة.
أو دون: أي ما يكون متخلفاً فيه بعض أوصاف العلة، فيكون الأصل أولى بالحكم فيه من الفرع عكس الأول، فلو قست شيئاً علته أدون من علة الأصل، يعني: توجد فيه ولكنها أخف من علة الأصل فتقول: إن هذا قياس أدنى.
الشاهد: أنه قال: (وما دونها في الخلقة) وهذا من دقة المصنف، لأن الأصل لما قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) قالوا: إن هذا مبني على التطواف ولذلك يقولون: الأصل نجاسة السباع وما في حكم السباع مما يأكل الحشرات ويغتذي بها، فقال: هذا الأصل يقتضي المنع والحكم بالنجاسة، فإذا جئنا نقيس شيئاً على المرخص عليه فإننا نبحث عما هو دونه حتى يكون أبلغ في اللحوق، وأما إذا كان مثله فإنه يقوى رده إلى الأصل، وإذا كان أعلى منه فهو أولى أن يبقى على الأصل.
فالهرة سؤرها طاهر ويستثنى مما سبق مسألة ينبغي التنبيه عليها وهي: أن تراها قد أصابت نجساً ورأيته على فمها؛ فإن سؤرها نجس إذا تغير بذلك النجس، صورة ذلك: لو رأيتها اغتذت بميتة، ورأيت فضلة اللحم الذي نهشته أو النجاسة التي أصابتها على فمها، فجاءت إلى الإناء فشربت منه وأفضلت، وقد وجدت طعم ذلك التي أكلت أو شربت منه من النجس في الماء فحينئذٍ تحكم بكونه نجساً، وهذا التنجيس لعارض لا لأصل، لكن نبه العلماء رحمة الله عليهم على هذا، ولذلك قال بعض الفقهاء -كما هو موجود عند المالكية وغيرهم-: وإن رئيت على فمه عمل عليها، (وإن رئيت) يعني: رأيت النجاسة (على فمه) يعني: فم الهر أو السبع، (عمل عليها) يعني: حكم بحكمها إن أثرت في الماء فالماء نجس، وإن لم تؤثر فالماء طهور.(23/13)
حكم سباع البهائم والطيور
قال رحمه الله: [وسباع البهائم والطير] سباع البهائم كالأسود والنمور ونحوها وهي العادية، فالسبع العادي: هو الذي يعدو على الناس وعلى الدواب.
والطيور تنقسم إلى قسمين: منها ما هو من السباع، ومنها ما هو من غير السباع، والغالب في سباع الطيور أن تكون من ذوات المخالب، ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم أكل كل ذي ناب من السباع يدل على نجاسته؛ لأننا نلاحظ في حديث الحمر أنها كانت جائزة وكان أكلها جائزاً فلما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور، فهي لما كان أكلها حلالاً كانت طاهرة، ولما حرِّم أكلها أصبحت نجسة، قال العلماء: وهذا دليل واضح -وهذا استنباط العلة- على أن تحريم اللحم يدل على نجاسة ذلك المحرم إلا ما استثناه الشرع.
وإذا ثبت هذا: فعندنا سباع البهائم لا يجوز أكل لحمها، وإذا لم يجز أكل لحمها فإنها نجسة؛ لأن تحريم اللحم ذاته يدل على نجاسته، ومن ثم يكون سؤره وفضلته في حكم أصله المتولد منه، وهذا يقوي أنه نجس، ولذلك قالوا: إن سؤر السبع نجس، وشاهد الحس قوي، فإن السباع تغتذي بالميتات وتغتذي بالنجاسات، بل قَلَّ أن تغتذي بطاهر، ولذلك يقولون: إنه حكم بنجاستها لدلالة الشرع والطبع، فإن العادة والاستقراء تدلان على مخالطتها للأقذار والنجاسات في غالب أحوالها.
وسباع الطيور: كالنسور والشواهين، وكذلك الصقور العادية والباشق، ونحوها من الطيور العادية، كلها يحكم على فضلاتها وسؤرها بالنجاسة.(23/14)
حكم الحمر
قال رحمه الله: [والحمار الأهلي والبغل منه نجسة].
والحمار الأهلي: الحمار ينقسم إلى قسمين: أهلي، ومتوحش، فأما الحمار الوحشي: فهو الذي يكون في البر، ويختلف، ففي بعض الأحيان يكون مختلط الألوان، وهذا يكاد يكون القول واحداً على طهارته وحل أكله، وأما بالنسبة للذي يكون له لون واحد وهو الباهت القريب إلى الأكحل فهذا مختلف فيه: فقال بعضهم: إنه يأخذ حكم الأهلي.
وبعضهم يقول: يأخذ حكم البري.
وبعضهم يقول: إن وجد في البر أخذ حكم البري، وإن وجد في القرى والمدن أخذ حكم الأهلي، أي: أنه ينظر إلى موضعه، فحمار الوحش جائز أكله، وهو طاهر، وأما الحمار الأهلي فكان أكله ولحمه طاهرًا في أول الأمر، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه في عام خيبر، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور، فأكفئت وهي تغلي بلحمها، وأمر بغسلها، فدل على أنه نجس، ولكن استثني من ذلك ركوبه، كأن يكون منه عرق أو نحوه، فهذا مستثنى لمكان الحرج والمشقة، ولذلك قالوا: البردع التي تكون عليه إذا أصابها عرق لا يحكم بنجاستها، وذلك لفتوى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثر عن أنس رضي الله عنه أنه لما لقيه ابن سيرين بعين التمر وهو مستقبل الشام مستدبر الكعبة ووجهه من ذا الجانب، يعني: على غير القبلة وسأله، فقال: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته) وكان قد صلى على حمار، فدل هذا على أن عرقه وما يخالط الإنسان عند الركوب من العرق والفضلة أنه يغتفر ويعفى عنه، هذا بالنسبة للحمار الأهلي؛ لأنه نجس، ويستثنى منه ما ذكرنا، أما الحمار المتوحش فهو طاهر ولحمه طاهر وسؤره طاهر أيضاً.(23/15)
حكم البغل المتولد من الحمار والفرس
يبقى النظر في شيء متولد من الحمار ومن غير الحمار وهو البغل؛ لأن الحيوانات تنقسم إلى قسمين: منها ما هو منتزع من ذكر وأنثى من جنسه، ومنها ما هو مختلط، يجتمع فيه ماء ذكر من نوع من الحيوان وأنثى من نوع آخر، وهذا الذي يحصل في البغال، فإنه ربما نزى الحمار على المهرة التي هي أنثى الفرس فأولدها بغلاً، ولذلك إذا خرج هذا البغل، فهنا يرد الإشكال: هل نعطيه حكم الأب، أم نقول: الولد للفراش وللعاهر الحجر؟! قال بعض العلماء: الشرع يغلب جانب الأنثى؛ بدليل قوله: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) وهذا باب عظيم في الطهارات وفي اللحوم؛ لأنك إذا حكمت بكونه يتبع للأنثى فتقول: الفرس يجوز أكل لحمه -عند من يقول بجواز أكل لحمه- فإن تولد البغل من الحمار الأهلي والمهرة من الأفراس فيحكم بكونه طاهراً يجوز أكله، وإن قلت: إني أغلب جانب الأب أو الذكر فتقول بحرمته، لكن الصحيح: أن هذا الباب ينظر فيه إلا أصل آخر، وهو: (أنه إذا اجتمع حاظر ومبيح قدم الحاظر على المبيح) وخاصة في باب المطعومات؛ لثبوت السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا كان في الطعام جانب حظر وإباحة؛ غلب جانب الحظر؛ دليل ذلك حديث عدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (وإن وجدت مع كلبك كلاب غيرك؛ فلا تأكل) مع أنه يحتمل أن الذي صاده كلبه فيحل له أكله ويحتمل أن الذي صاده كلاب غيره فلا يحل، فقال: لا تأكل.
وقال له: (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه) فبين النبي صلى الله عليه وسلم تردد الحظر والإباحة، فالكلب إذا أرسلته وأكل من الفريسة فيحتمل أنه أمسك لك فيحل، ويحتمل أنه أمسك لنفسه فلا يحل، فقال: (فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف -ليس بيقين- أن يكون إنما أمسك لنفسه) أخذ العلماء من هذا أصلاً عظيماً وهو: تقديم الحظر على الإباحة، واستنبطوا ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا) فجعلوا مرتبة الحظر أقوى من مرتبة الإباحة؛ ولذلك القاعدة تقول: (إذا اجتمع حاظر ومبيح فإنه يقدم الحاظر على المبيح)، وهنا عندنا البغل إن قلنا: نقدم فيه جانب الحظر فإنه يحرم وهو نجس، وإن قلنا: إنه يقدم فيه جانب الإباحة؛ فيحلّ ويكون سؤره طاهراً؛ إعمالاً للأصل الذي يقتضي طهارته، والمصنف رحمه الله ألحقه بما ذكرناه.
وقوله: (والبغل منه) لم يقل: (البغل) بإطلاق، ولكن قال: والبغل منه، أي: من الحمار الأهلي، فمفهوم ذلك أنه إذا كان من غيره وهو الحمار المتوحش فإنه لا يعتبر سؤره نجساً.(23/16)
الأسئلة(23/17)
حكم مني الآدمي
السؤال
هلا فصّلتم أكثر في قول المصنف: (وبول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه ومني الآدمي.
طاهر)؟
الجواب
باسم الله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: في الحقيقة أن السائل متأدب؛ لأننا نسينا الكلام على مني الآدمي، وجزاه الله خيراً.
اختلف العلماء: هل مني الآدمي طاهر أو نجس؟ وذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول يقول: إن مني الآدمي طاهر، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
والقول الثاني يقول: إن المني نجس سواءً من الرجل أو المرأة وهو مذهب المالكية.
والقول الثالث يقول: إن المني نجس، ولكن خُفف في طهارته، وهو قول الحنفية، فقالوا: إن كان يابساً يحك، وإن كان مائعاً رطباً يغسل، وهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم، أصحها وأقواها: أن المني طاهر؛ وذلك لثبوت السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه وإن بقع المني وأثرها في الثوب، ولذلك القول بطهارته قوي، وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقد اختلف في رفعه ووقفه: (إنما هو بمنزلة المخاط) فنزّل النبي صلى الله عليه وسلم المني منزلة المخاط بجامع كون كل منهما فضلة عن البدن، والمخاط طاهر بالإجماع، فكذلك المني طاهر، إلحاقاً للفرع بالأصل، هذا بالنسبة لمسألة المني، ولذلك لما نزل الضيف على أم المؤمنين عائشة وأصبح وقد احتلم، وإذا به قد غسل ثوبه أنكرت عليه عائشة، وقالت: (كنت أحتّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فيه وإن أثره في ذلك الثوب).
فالأقوى: أن المني طاهر، والقول بنجاسته محل نظر، ولهم أدلة تكلمنا عليها في شرح بلوغ المرام، فمن أراد التفصيل والإسهاب فليرجع إلى شرح عمدة الأحكام أو بلوغ المرام، فقد ذكرنا فيه المسألة بالأقوال والأدلة والردود والمناقشات، والصحيح كما ذكرنا: أنه طاهر، ويجزئ فيه الحك إذا كان يابساً، ولا حرج عليك أن تصلي ولو كان في الثوب، والله تعالى أعلم.(23/18)
حكم الطائر الذي يصاد بالحجارة
السؤال
هل الطائر الذي يتم اصطياده بالرمي بالحجارة حلال، وكذلك الذي يصطاد بإطلاق النار عليه ويموت دون نزول الدم منه هل يجوز أكله؟
الجواب
الذي يرمى بالحجارة، أو بما يسمى في العرف بـ (النبال)، الذي يصيب الطيور ونحوها، هذا فيه تفصيل: إذا كان الحجر قد أصاب الصيد، ولهذا الحجر سن بحيث جرحت الطير وخزقته؛ فإنه يحل أكله، وهذا نادر ويكاد يكون شبه مستحيل في الرمي، لكن في بعض الصور قد يقع.
وأما إذا أصابه بالحجر ومات الصيد بضغط الحجر، سواء رماه بيده أو بالنبال أو بالمعراض؛ فإنه وقيذ، والوقيذ: هو الذي يموت بفعل الرض بالحجر أو نحوه، ولذلك لا يجوز أكله إذا كان وجده ميتاً، والدليل على اشتراط الخزق: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عدي بن حاتم فقال: (يا رسول الله! إني أصيد بهذه البزاة وأصيد بكلبي المعلم وبكلبي غير المعلم ثم ذكر له المعراض، فقال صلى الله عليه وسلم: إن خزق فكل، وما أصاب بعرضه فلا تأكل).
فالمعراض هو السهم الذي يكون بدون سن، ومعلوم أن السهام كانت توضع لها حديدة تسمى: الزج، مثلثة في رأس السهم، وهذه الحديدة المثلثة التي في رأس السهم ذكر العلماء رحمة الله عليهم الحكمة منها -كما ذكر ذلك القلقشندي في كتابه: (صبح الأعشى) والدميري في (نهاية الأرب) - يقولون: إن هذه تعين على عدم تذبذب السهم، فهذه الحديدة في العادة إذا أصابت فريسة فإنها إما أن تقتلها أو تعقرها، ولذلك إذا أصابها السهم ثم نزعته أضر ذلك بالفريسة، ففي بعض الأحيان تكون الحديدة غير موجودة، ويكون السهم غير مزجج -أي: ليس فيه الزج الذي هو من الحديد- فهذا السهم الذي يصيد يصيد بالعرض؛ لأنه إذا أصاب بالخزق يكون مثل الحديدة، فسأل أبو ثعلبة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن صيده بالمعراض، لأن المعراض يأتي ويضرب الفريسة بالعرض، كأن تكون الفريسة طائراً أو نحوه فيترنح السهم فيضرب الفريسة، فمع الخوف وشدة الضربة تسقط الفريسة ميتة، فسأل عن هذا؛ لأنه ليس فيه إنهار للدم ولا خزق للفريسة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن أصاب بعرضه؛ فلا تأكل، وإن خزق فكل) فركب الأمر على وجود الخزق، فالحجر في حكمه، إن أنهر الدم دخل في قوله: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه؛ فكل) وإن لم ينهر دماً ولم يخزق؛ فإنه لا يجوز أكله وهو الوقيذ؛ ولذلك قال الله تعالى في المحرمات: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة:3] فالموقوذة محرمة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فالطيور التي تصاد بالحجارة دون أن تخزق هذه محرمة ولا يجوز أكلها، وهكذا بالنسبة للطلقات النارية، إن كانت الطلقة لم تخزق؛ فإنه لا يحل أكل الصيد، وأما إذا خزقت ودخلت فيه وأنهرت دمه؛ فإنه صيد حلال، ويجوز أكله، والله تعالى أعلم.(23/19)
حكم شرب لبن الحمر الأهلية للتداوي
السؤال
هل يجوز شرب لبن الحمر الأهلية لعلاج بعض الأمراض أم لا؟
الجواب
لبن الحمار الأهلي ينفع للسعال، وهذا من غرائب الأطباء القدماء، فإن السعال يأتي في الصدر وفي الصوت فيمنع الإنسان حتى من صوته، وخاصة السعال الديكي، فنظروا إلى أقوى الحيوانات صوتاً ونفساً فوجدوا الحمار، فأدركوا أن الغالب أن لبنه تكون فيه هذه الخاصية، ولذلك يرضع صغيره كبيره كما قال تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19].
فالمقصود: أن هذا قد نبه عليه ابن خلدون -ويقولون: إن الطب اكتشافه كان بالاستقراء والتتبع؛ لأن الله وضع الدلائل والعلامات والأمارات- فاستنبطوا من خصائص الحمار وقوة صوته أن يكون لبنه نافعاً في هذا، ولذلك يستثنون لبن الحمار إذا أعيت الحيلة- عند من يقول بجواز التداوي بالنجس عند الضرورة- ويقولون: إذا أعيت الحيلة في المريض بالصدر جاز استخدامه، وهذا يقع، خاصة في بعض الأطفال -أجارنا الله وإياكم- أن يحصل لهم هذا، وأذكر بعض القرابة أنه سقط كالميت ما وجد له علاج، حتى جاء طبيب شعبي -وهذا قبل قرابة ثلاثين سنة- وقال: لا علاج له إلا قطرات يسيرة من لبن الحمار في أنفه، وفعلاً -سبحان الله العظيم! - لما نقطت شفي بإذن الله عز وجل، وقد أشار إلى هذا بعض العلماء بقوله: وجاز الانتفاع بالأنجاس في مسائلاً نظم بعدها يفي في جلد ميتة إذا ما دبغا ولحمها للاضطرار سوغا وشحمها تدهن منه البكرة عظامها بها تصفى الفضة ولبن الأتن للسعال والجلد للرئمان فيه جالي (لبن الأتن) الأتان: هي أنثى الحمار (للسعال) أي: الديكي ونحوه، (والجلد للرئمان فيه جالي)، في بعض الأحيان تموت الناقة أو البقرة فيمتنع صبيها أو صغيرها من الأكل، فماذا يفعلون له؟ يأتون بجلد أمه ويضعون فيه العلف، فإذا شم رائحة أمه أقبل على الطعام، وهذا من غريب ما يذكرونه.
فقال: (والجلد للرئمان فيه جالي)، الرئمان: صغار البقر.
(جالي) يعني: واضح من الجلاء، فهذه كلها مسائل تستثنى من الأنجاس؛ لأن الجلد نجس، ولو دبغ جلد البقرة لخرج ما ينتفع به صغيرها؛ لأن الصغير يريد أن يشم رائحة أمه ودمها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(23/20)
شرح زاد المستقنع - باب الحيض [1]
جاء الإسلام مبيناً لأحكام كثيرة مما يتعلق بالمرأة، ومن هذه الأحكام: أحكام الحيض، فقد جاء الشرع ببيانها، وذكر تفاصيلها، كبداية سن الحيض ونهايته، وأقل مدة الحيض وأكثرها، وأقل مدة الطهر وأكثره، والأشياء التي يحرم على الحائض القيام بها وغيرها من المسائل الكثيرة المتعلقة بهذا الباب.(24/1)
أهمية دراسة باب الحيض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب الحيض].
الحيض باب عظيم، وتتفرع عليه مسائل عظيمة تتعلق بعبادات الناس ومعاملاتهم، ولذلك اعتنى المحدثون والفقهاء رحمة الله عليهم بهذا الباب، وما من كتاب يتكلم على أحكام الشريعة في العبادات إلا وعقد لهذا المبحث موضعاً خاصاً أورد فيه الأحاديث والأحكام الخاصة به، وهو باب عظيم، وإتقانه ليس من السهولة بمكان بل هو عسير إلا على من يسره الله عليه، ولذلك قال الإمام النووي رحمه الله: إنه من عويص المسائل ومن عويص الأبواب، يعني: من أشدها وأعظمها، ولا شك أن الذي يتقنه يسد ثغرة من ثغور الإسلام، والسبب في ذلك: أن المرأة تلتبس عليها صلاتها، وصيامها، وعمرتها، وحجها، وغير ذلك من عباداتها التي تشترط لها الطهارة، ويلتبس على الرجل حل طلاقه وكذلك إباحة إصابته لامرأته، واستمتاعه بها، وجواز تطليقه وعدم جوازه، وانقضاء العدة وعدم انقضائها، وكل هذه المسائل تتفرع على إتقان باب الحيض، ولذلك لاشك أن طالب العلم ينبغي عليه أن يعتني به، وأن يوليه من العناية والرعاية ما هو خليق به.
وقد ألف العلماء رحمة الله عليهم فيه تآليف مفيدة، وجمعها الإمام الدارمي في كتاب مستقل، وجمعها الإمام النووي رحمه الله فيما لا يقل عن مائتي صفحة، وقال: إنه لم يستوعب شتاتها مع هذا كله، وكتب فيها بعض العلماء خمسمائة ورقة، أي: قرابة ألف صفحة في هذه المسائل، وهو أمر دقيق.
وقد يقول قائل: كيف يكون عسيراً والأحاديث فيه قليلة، وربما أن الإنسان إذا تفرغ له وأتقن أصوله أَلَمَّ به؟ نقول: الواقع بخلاف ذلك، وأحب أن أنبه على مسألة: وهي أن الحيض حينما يبحث فإنه يبحث من وجهين: الوجه الأول: أصول باب الحيض.
والوجه الثاني: الفروع المتعلقة بهذه الأصول فأما الأصول فهي منحصرة ومحدودة، ويمكن للإنسان أن يضبط أحاديثها ولا إشكال فيها، ولكن الإشكال في الفروع، وقد يقول قائل: من أين جاءتنا هذه الفروع التي عُقِّد بها باب الحيض أو وُسّع فيه؟
الجواب
أنه ينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى أن الحوادث والنوازل والفروع لا تتقيد، ولذلك قد تكون المسائل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة منحصرة، ثم إذا جاءت من بعد ذلك القرون تعددت المسائل؛ لأن مسائل الحيض في القديم -على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى قرابة عصور الخلفاء الراشدين- تجدها على بيئة واحدة، وهي بيئة الجزيرة، فتجدها منحصرة، لكن لما اختلفت البيئات وفتحت الفتوح ووجدت الأجناس، أصبحت مسائل الحيض واسعة، حتى إن بعض أئمة الحديث يقول: في الحيض ما يقرب من مائة حديث، ولهذه الأحاديث ما يقرب من مائة وخمسين طريقاً، وقد جمَعتُ فيها ما لا يقل عن خمسمائة ورقة، ولذلك قال الإمام ابن العربي المالكي رحمة الله عليه: وهي مسائل تأكل الكبد، وتنهض الكتد، ولا يتقنها منكم أحد، فباب الحيض باب عظيم، يقول الإمام أحمد رحمة الله عليه عن هذا الباب: إنه جلس فيه تسع سنوات حتى فهمه.(24/2)
التحذير من الاستهزاء بالعلماء لاهتمامهم بباب الحيض
وللأسف نجد من يُثَرّب على العلماء ويقول: إنهم علماء الحيض والنفاس، ووالله الذي لا إله إلا هو، لو أمست امرأته حائضاً وهو لا يعرف أحكام الحيض والنفاس لما أحسن جوابها، ولعرف قدر علماء الحيض والنفاس، ولذلك لا يجوز لأحد أن يستخفّ بهذا الباب، والاستخفاف به يدل على هوى صاحبه.
فلو أن إنساناً استخف بالعلماء وقال: علماء الحيض والنفاس! فقد يخشى عليه الكفر؛ لأنه يستهزئ بعلماء الدين، وهذه كلمة كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، ولذلك ما جاء الأمة البلاء إلا من الغلو، فتجد العابد الصائم القائم يحتقر طلاب العلم ويحس أن الدين هو الصيام والقيام، وتجد طالب العلم يحتقر العابد ويقول: هذا جالس يصلي ويصوم ويحتقر عبادته؛ وذلك لأن طالب العلم يغلو في طلب العلم، والعابد يغلو في العبادة، وهذا لا يجوز؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أهلك من كان قبلكم الغلو) فلا يجوز الغلو في الدين.
والإنسان إذا أراد أن يمسك باباً فلا يحتقر غيره، فكلٌ على ثغرة، والله يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] فأنبه على هذا؛ لأنها مسألة عارضة، وهي خطيرة جداً أن يستهزأ بالعلماء، ومسألة الاستهزاء بالفقهاء -أي: الاستخفاف بالفقه- وذكر مسائل الحيض والنفاس قديمة وليست وليدة اليوم، ولكن ينبغي على طلاب العلم أن يتنبهوا لهذه الآفة من آفات اللسان، نسأل الله أن يعصمنا وإياكم من الهوى والردى، والمقصود: أن هذا الباب باب عظيم وينبغي على طالب العلم أن ينتبه له.(24/3)
حالات المرأة في الحيض
الإشكال في هذا الباب أن المرأة لا تخلو من أن تكون مبتدأة، أو معتادة، أو مميزة، أو متحيرة.
أربع حالات: إما أن تكون مبتدأة: والمبتدأة هي التي ابتدأها الحيض، أي: جاءها لأول مرة.
وإما أن تكون معتادة: وهي التي عاودها الحيض ثلاث مرات فأكثر على وتيرة واحدة.
أو تكون مميزة: وهي المرأة التي تعرف دم الحيض، وتميزه بلونه، ورائحته، وغلظه، ورقته، والألم وعدمه.
أو تكون متحيرة، والمتحيرة والمحيرة قالوا: متحيرة: في نفسها لا تستطيع أن تميز، ومحيرة: لأنها حيرت العلماء؛ لأن مسائلها تتداخل، فتارة ينظر إلى التمييز، وقد لا تستطيع أن تميز، وتارة ينظر إلى الأمد والزمان فتردها إلى أقل الحيض، وتارة ترد إلى أكثر الحيض، فاحتار العلماء فيها.
فأكثر مسائل الحيض وإشكالاته في المميزة والمتحيرة، وأعقدها في المتحيرة، وقد تكون هناك مسائل متداخلة في الحيض، كأن يدخل الحيض على النفاس، فتكون المرأة نفساء ثم لا تشعر إلا وقد طهرت، فتطهر يوماً كاملاً وترى النقاء، ثم يدخل الحيض على النفاس.
المقصود: أن باب الحيض باب دقيق، وهذه الفروع ينبغي أن لا تحتقر، بمعنى: إذا مرت علينا مسائل أو فروع للعلماء فينبغي على طالب العلم أن ينتبه لها، وكان بعض طلاب العلم إبان الطلب يستخفون بهذه المسائل ويقولون: هذه التفريعات ما أنزل الله بها من سلطان، والواقع أننا لما قرأناها وجدناها من ألذ ما يكون في دراستها وضبطها وينفع الله بك المسلمين خيراً كثيراً، فكم من إشكالات وعويص مسائل تزال بإتقان هذا الباب، وهي بسيطة -إن شاء الله- إذا يسر الله على طالب العلم بحيث يعرف أصول كل نوع من النساء وضابطه، أي: يعرف أصل كل حكم يريد أن يقرره، فيستطيع أن يعرف ما تفرع عنه.
ويحتاج كتاب الحيض إلى إلمام وإتقان، ولا تزال الأمة بحاجة إلى الإتقان من طلاب العلم، بل إن الإمام النووي في القرن السابع يقول: وقد غلط فيه العلماء.
وهذا في القرن السابع، واليوم قلَّ -إلا من رحم الله- من يتقن مسائل الحيض، فقد تجد الواحد يقول: الأمر يسير! ويقفل الباب من بدايته، وقد يرد المرأة إلى عادة أمثالها أو أضرابها، ويقول: تنظر عادة أمها أو أختها وتعمل على ذلك وينتهي الإشكال، لكن لا يستطيع أن يعطيك أصلاً أو حجة تدل على أنه قد فهم هذا الباب وأَلَمّ بأصوله، ولذلك ينبغي على طلاب العلم أن ينتبهوا، وأنبه هنا على أنه لو ترجح عندنا -مثلاً- أن المرأة تبني على الغالب فنقول لها: تحيّضي خمساً أو ستاً أو سبعاً في علم الله عز وجل وينتهي الإشكال، فهذا راجح بالنسبة لظننا، والحديث في هذا حسن ولا يقتضي أن غيره مرجوح من كل وجه، وأنه هو الحق الذي لا مرية فيه، فقد تكون التفريعات التي ذكرها العلماء فيها الصواب وفيها ما يوافق الحق في بعض الصور وهي خارجة عن هذا الحديث، فلذلك نقول: ينبغي على طالب العلم أن يتقن هذا الباب ويلمّ به ويوليه من العناية ما هو خليق به.
والكتاب الذي معنا مباحث الحيض فيه مختصرة، ولكن لا شك أن فيها إلماماً بأصول جيدة في باب الحيض، وقد ننبه على بعض الفروع، ونسأل الله عز وجل التوفيق والرعاية.(24/4)
تعريف الحيض لغة وأحكامه
الحيض في اللغة: السيلان.
يقال: حاض الوادي إذا سال ماؤه، وحاضت السمرة -وهي نوع من الشجر- إذا سال منها سائل كالصمغ، فيقولون لها: حاضت.
ويقال: المرأة حائض وحائضة، ونُوزع في الثاني؛ لأن الذي لا يشترك فيه الذكر والأنثى لا يؤنث.
قالوا: فيقال: امرأة حائض، كما يقال: امرأة طالق؛ لأن الرجل لا يَطْلُق، وكذلك الرجل لا يحيض، ولا يقال: امرأة طالقة أو حاملة؛ لأن هذا مما يختص به الإناث فلا حاجة للتأنيث؛ لأن الأصل في التأنيث أن يكون فيما يفصل فيه بين الذكر والأنثى مما يدخله الاشتراك.
وأما بالنسبة للاصطلاح فاختلفت تعاريف العلماء للحيض اصطلاحاً، لكن عند النظر فيها تستطيع أن تستجمع منها قولهم: دم يرخيه رحم المرأة عادة، وبعضهم يقول: دم يرخيه رحم المرأة لغير مرض أو ولادة.
فقولهم: (يرخيه) أي: يسيل منه، وقولهم: (رحم المرأة) قال بعضهم: فرج المرأة، ولكن التعبير بالرحم أدق.
وقولهم: (رحم المرأة) وخرج من هذا الرجل، وقولهم: (رحم المرأة) على التغليب، ولذلك يقولون: يشترط فيه ألا يكون لمرض أو لولادة، فإن كان لمرض: فهو استحاضة، وإن كان لولادة: فهو نفاس.
فإذا كان لمرض فهو استحاضة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلك عرق)؛ وسميت الاستحاضة استحاضة؛ لأن الأصل الحيض، فإذا استمر الدم معها فوق أمد الحيض قالوا: استحاضة، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أي: زاد عن قدره المألوف المعروف.
وأما قولهم: (لغير ولادة) فهو إخراج لدم النفاس.
وبعض العلماء يقول: دم جبلة وطبيعة يرخيه رحم المرأة لغير ولادة، وهذا أيضاً تعبير دقيق.
فقولهم: (دم طبيعة وجِبِلة) يُخْرج دم الاستحاضة؛ لأنه لغير طبيعة وهو عارض.
وقولهم: (لغير ولادة) يُخْرج دم النفاس والمعنى كله متقارب.
أما بالنسبة للحيض فذكره المصنف رحمه الله في هذا الموضع لتعلقه بمباحث الطهارة؛ حيث يحكم بكون المرأة طاهراً، وبكونها يحل وطؤها ويحل طلاقها كما سيأتي -إن شاء الله- في الفروع المتعلقة بالحيض.
وأما بالنسبة لمناسبة ذكره بعد إزالة النجاسة: فدم الحيض دم نجس بالإجماع، وهو نوع من أنواع النجاسات، ويُحَبّب لطالب العلم -لو أمكنه- أن يقرأ بعض كلام الأطباء في هذا الدم الذي يرخيه الرحم، وينظر إلى بديع صنع الله عز وجل وعظيم حكمته، وجليل علمه سبحانه وتعالى، فلو قرأت عن الحِكَم التي توجد في هذا الدم.
في كيفية خروجه، وكيفية إرخاء الرحم له، وكيف يتهيأ ذلك الرحم لإخراجه وإفرازه، ثم كيف ينقبض بإذن الله عز وجل عند الخروج؛ لأن هذا الدم يتهيأ الرحم بعده للحمل، وتفرز الهرمونات التي تعين على الحمل، حتى إذا شعر المبيض أنه ليست هناك ولادة امتنع من إفراز هرمون الحمل، فأخذت الأوعية تتقلص، ثم أخذت تفرز ذلك الدم، فإذا به يتجلط في ذلك الموضع، ثم يرسل الله عز وجل له كالخميرة تفكك هذا التجلط، فلو مكث سنوات فإنه لا يتجلط في ذلك المكان -سبحان الله! - وهذا من عظمة الله جل جلاله.
ويوجد كلام جيد في الموسوعة الطبية التي ألفها مجموعة من الأطباء، وأيضاً للدكتور محمد بن علي البار كلام طيب في دورة الأرحام، وينبغي على طالب العلم أن يُّلم بهذه الأشياء، وبعضها قد تنبني عليه أحكام فقهية، وأرى أن طالب العلم ينبغي أن يجمع بين الفقه وفهم بعض الحِكَم والأسرار حتى يكون الفقه معيناً له على العبادة، ولذلك أخبر الله عز وجل أنه لا أحسن منه حُكماً لقوم يوقنون، أي: عندهم اليقين وعندهم الإيمان؛ لأن الإنسان إذا تأمل الأحكام الشرعية ونظر فيها أدرك عظمة الله جل جلاله وحكمته، ولو جاء بعكسها لعلم عظمة هذا الحُكم، وأنه ليس أسلم منه ولا أحسن منه ولا أكمل، وكذلك عندما تقرأ بعض الحِكم الموجودة في خلق دم الحيض وتكوينه، وكيف يخرج، وصفة خروجه، ربما أنك تستعين بها في بعض المواضع للتدليل على عظمة الله وعلى قدرته سبحانه وتعالى.
فالفقيه ينبغي أن يجمع بين مادة الفقه والحِكم والمعاني المستفادة من الفقه، ففي هذين الموضعين -في الموسوعة الطبية ودورة الأرحام- كلام جيد حبذا لطالب العلم أن يقرأه ويلمّ به، ويقولون: إن السائل الذي يفرز مع دم الحيض يقتل الجراثيم، أي: فيه من القوة على قتل الجراثيم والمكروبات الشيء العجيب، ولو نظر الإنسان إلى أن الله عز وجل لو ترك هذا الموضع دون وجود مثل هذا الشيء لربما أصيبت المرأة بكثير من الأمراض، بل إن الرجل بحكم ما يحصل من الاتصال بينهما ربما يصاب بهذه الأمراض، فالحمد لله على لطفه ورحمته بالعباد.
وهذا الباب كما قلنا باب من أبواب الطهارة، ووردت نصوص في الكتاب ونصوص في السُّنة تبين بعض مسائله والأحكام المتعلقة به، ولذلك سنبين بعضها -إن شاء الله- عند ذكر العبارات التي يذكرها المصنف، وقد نتوسع في هذه العبارات، فيحبذ لطالب العلم أن يلم بالأصل الذي نذكره، والفروع التي تنبني على ذلك الأصل.(24/5)
أسماء الحيض
الحيض له أسماء ومنها: النفاس، والإكبار، والإعصار، والطمث، والضحك، فكل هذه أسماء للحيض.
فالحيض: اسمه في الكتاب والسُّنة، والنفاس: جاء فيه حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في حجة الوداع لما حاضت: (مالك أنفست؟ ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم) (أنفست؟) أي: أصابك الدم، فسمى الحيض نفاساً، ويسمى أيضاً الحيض بالضحك؛ ومنه قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] فقول طائفة من المفسرين أن قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود:71] أي: أصابها الحيض حتى تتأهل به للحمل، وإن كان بعض العلماء ينازع في هذا الإطلاق، ولكن في لغة العرب يوجد هذا المعنى وفيها ما يدل عليه.(24/6)
بداية زمن الحيض
قال رحمه الله: [لا حيض قبل تسع سنين ولا بعد خمسين]: يقول المصنف رحمه الله: (لا حيض قبل تسع سنين) أي: لا حيض للمرأة إذا كان عمرها دون تسع سنين، وهذه المسألة تُعرف عند العلماء ببداية زمن الحيض، ونظيرها: نهاية زمن الحيض.
والعلماء يبحثون مسألة بداية الحيض ونهاية الحيض؛ لأن المرأة ربما يصيبها الدم وهي بنت ثمان سنوات -فرضاً- فهل نحكم بكونها حائضاً، أو نقول: إن الدم دم استحاضة؟ فإن جعلت للحيض زماناً يُبتدأ فيه الحكم بكون المرأة حائضاً فتقول: ما قبله استحاضة، وأي دم يصيب المرأة قبل هذا الأمد تحكم بكونه استحاضة، ولا تحكم بكونه حيضاً، فلو أن المرأة أصابها الدم وهي بنت ثمان سنوات ثم سألت، فإن قلت: الحيض يأتي قبل التاسعة وكان على أمد الحيض وجاوز إلى أمد الحيض فتقول: إنها بالغة وحكمها حكم الحائض.
أما لو قلت: التسع سنوات أمد؛ فإنك تحكم بكونها مستحاضة ولم تبلغ بعد، وهي في حكم الطفلة، والدم الذي معها دم عارض وليس بدم طبيعة ولا جبلة.
ومسألة أقل زمان الحيض فيها أقوال: قال بعض العلماء: أقله تسع سنوات، ويكاد يكون هذا القول للجمهور.
والقول الثاني: أن أقل زمن تحيض فيه المرأة ست سنوات.
والقول الثالث: أنه اثنتا عشرة سنة، هذه ثلاثة أقوال.
القول الرابع: أنه سبع سنوات.
فالقول الست هو لبعض فقهاء الحنفية، والسبع أيضاً مثلها، والاثنا عشر لبعض فقهاء الشافعية، ولكن الجمهور على التسع وهو الصحيح والأقوى، والسبب في صحته وقوته: أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة وهي بنت ست سنوات، ونكحها ودخل بها وهي بنت تسع سنوات، فدل على أن التاسعة تتأهل بها المرأة للحيض، وأيضاً دلالة العرف، ولذلك قالوا: قلّ أن تحيض المرأة قبل التسع، وأُثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إذا بلغت الجارية تسع سنوات فهي امرأة)، أي: أنها بالتسع السنوات تتهيأ لكونها امرأة، وأعجل النساء حيضاً اللاتي يكن في المناطق الحارة، ولذلك قال الإمام الشافعي: أعجل من رأيت من النساء في الحيض نساء تهامة، وجدت جدة ابنة تسع عشرة سنة.
أي: تزوجت وهي بنت تسع سنوات، فأنجبت حملها وهي بنت عشر، ثم هذه البنت في التسع سنوات أيضاً تزوجت مثل أمها، وأنجبت وهي على آخر التسع، فتكون أمها على أواخر التسع عشرة سنة، ولذلك يقولون: هذا من أغرب ما يكون في النساء، فالتسع تكاد تكون هي الغالب، والقاعدة: أن النادر لا حكم له، وأن الحكم للغالب، هذا بالنسبة لأقل زمان يمكن للمرأة أن تحيض فيه.(24/7)
نهاية الحيض
وأما بالنسبة لأكثره: فقال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق:4]، وهو نهاية الحيض، ولذلك قال العلماء: (آخر سنّ ينقطع فيه دم الحيض هو خمسون عاماً) على ما ذكر المصنف، وقال بعض أهل العلم: ستون، وقال بعضهم -وهو القول الثالث والأقوى والأقرب للصواب إن شاء الله- أن هذا يختلف باختلاف البيئات والنساء، وطبيعة الأرض التي فيها المرأة، فالبلاد الحارّة تختلف عن البلاد الباردة في طبائع النساء، ولذلك يرد إلى العرف، ويضبط بضابطه.
فإذا تقرر أن آخر أو أكثر الحيض أو نهاية سن الحيض هي الخمسون -بناءً على ما ذكر المصنف- فينبني على هذا أن المرأة لو بلغت الخمسين ودخلت -مثلاً- في إحدى وخمسين ورئي معها الدم فيعتبر استحاضة، ولا يعطى حكم دم الحيض، وينبني عليه أيضاً أنها تعتد بالأشهر ولا تعتد بالحيض؛ لأن الدم الذي معها أُلغي، فهذه فائدة معرفة آخر زمن للحيض، فإنك إذا أثبت أنه يتأقّت، فببلوغ المرأة لهذا الأمد المؤقت يحكم بكونها منقطعة من الحيض آيسة منه فتعتد بالأشهر.(24/8)
اختلاف العلماء في اجتماع الحيض والحمل
قال رحمه الله: [ولا مع حمل].
لأن الله جعل عدة الحوامل إلقاء الحمل، فإذا ولدت خرجت من عدتها: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فلو كانت الحامل تحيض لجعل عدتها بالأقراء إعمالاً للأصل، ولذلك قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: كان الحمل يعرف بانقطاع الدم.
أي: أن الحمل من طبيعته ومن شأنه أنه يعرف بانقطاع دم الحيض، فدلّ على أنه لا يجتمع الحيض والحمل، وقال طائفة من العلماء: إنه يجتمع الحيض والحمل، وهو مذهب بعض أهل العلم، منهم المالكية، وعندهم تفصيل في ضوابط الحيض في الحمل، لكن الذي يقويه الطب: أن الحامل لا تحيض.
فائدة الخلاف: أنه لو حملت المرأة وجرى معها دم، فإن قلنا: إن الحامل تحيض وجاء في أمد الحيض حكم بكونه دم حيض، ومنعت من الصلاة والصيام، وإن قلنا: إن الحامل لا تحيض، ففي هذه الحالة يحكم بكونه دم فساد وعلة على الصحيح الذي ذكرناه.(24/9)
أقل مدة الحيض
قال المصنف رحمه الله: [وأقلّه يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً].
بعد أن بين لك -رحمه الله- من هي المرأة التي تحيض -وهذا تسلسل في الأفكار- وبين لك أن أقل سن تحيض فيه تسع سنوات، وأن أقصى أمد الحيض هو الخمسون، وأن هذا الحيض شرطه أو محله أن لا تكون المرأة حاملاً، إذا ثبت هذا وعرفت من هي المرأة التي تحيض، يرد السؤال الآتي: ما هو أقل أمد للحيض؟ وما هو أكثره؟ لأنك إذا عرفت المحل الذي هو للحيض، يرد السؤال عن نفس الحيض، فتتدرج في الأفكار: فتعرف أول شيء من هي المرأة التي يمكن أن يحكم بكونها من أهل الحيض، والتي يمكن أن يحكم بأنها ليست من أهل الحيض، فإذا عرفت المرأة التي هي من أهل الحيض يرد
السؤال
ما هي الضوابط المعتبرة لهذا الدم؟ ومتى نحكم بكونه دم حيض؟ وما هو أقل أمده، وما هو أكثره؟ فقال رحمه الله: (وأقله) أي: أقل الحيض (يوم وليلة) هذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: قال بعض العلماء: لا حد لأقل الحيض، كما هو مذهب المالكية واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع.
القول الثاني: أن أقله يوم وليلة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، كما درج عليه المصنف رحمة الله على الجميع.
القول الثالث: أن أقله ثلاثة أيام، وهو مذهب الحنفية.
هذه ثلاثة أقوال، والأقوى والأصح: أن أنه لا حدّ لأقله.
فائدة هذا الخلاف كالآتي: الذي يقول: إنه لا حد لأقل الحيض يقول: إذا رأت المرأة دم الحيض في زمان الحيض وإمكانه، واستمر ولو ساعة من نهار فإنه يحكم بكونها حائضاً، والذي يقول: إن أقله يوم وليلة، يقول: إن جرى الدم من المرأة واستمر يوماً كاملاً -أربعاً وعشرين ساعة- فهو دم حيض، وإن استمر ثلاثاً وعشرين ساعة، ولم يتم الأربع والعشرين فهو دم استحاضة، لا يمنع صوماً ولا صلاةً.
ومن قال: وأن أقله ثلاثة أيام فكاليوم والليلة.
فإذاً: عندنا ثلاثة أقوال؛ قول يقول: الحيض لا أقل له، حتى إنه بالإمكان أن يحكم بكونها حائضاً ولو للحظة من نهار، ولو بدفعة واحدة، ويسمونها: دفعة الدم، فإذا دفعت دفعة واحدة من الدم في وقتها أو في ما يعتبر إمكاناً للحيض فيقولون: هذا حيض.
أما أصحاب القول الثاني فيقولون: العبرة باليوم والليلة، فلو أنها دفعت دماً لأقل من يوم وليلة فهو دم استحاضة وليس بدم حيض، فلا يمنع صوماً ولا صلاة، ولا يأخذ حكم دم الحيض.
والذين يقولون بالثلاثة الأيام، يقولون: إن قل عن الثلاثة الأيام ولو ساعة واحدة؛ فهو دم استحاضة وليس بحيض.
وأصح هذه الأقوال -والعلم عند الله-: أن أقله لا حدّ له؛ وذلك لأنه لم يثبت دليل صحيح باعتبار التحديد، ولاشك أن البلاد مختلفة والبيئات مختلفة؛ ولذلك ما دام أن الزمان زمان حيض، فالأصل في هذا الدم -ما دام أنه يمكن أن يكون دم حيض- أنه دم حيض، وليس في الشرع دليل يدل على إلغائه، فنبقى على الأصل الموجب لاعتبار هذا الدم ما دام أنه في زمنه.
هذا بالنسبة لأقل الحيض.(24/10)
أكثر مدة الحيض
قوله: (وأكثره خمسة عشر يوماً).
إذا عرفنا من هي المرأة التي تحيض، وعرفنا ما هو أقل الدم الذي يمكن أن نحكم بكونه حيضاً، وأنّ الصحيح أنه لا حدّ له؛ يرد
السؤال
فيقول لك قائل: هب أن هذه المرأة عمرها تسع سنوات، وجرى معها الدم، سواءً قلنا بمذهب من يقول: إن جرى معها الدم ولو دفعة فهو حيض، أو قلنا بمذهب من يقول: أقله يوم وليلة؛ فهو دم حيض على الأقوال كلها إذا استمر أكثر من ثلاثة أيام، فهل إذا استمر هذا الدم حتى بلغ أياماً، هل نقول: إنها تبقى حائضاً ما جرى معها دم الحيض، أم أن دم الحيض مؤقّت؟
الجواب
أن دم الحيض بالإجماع مؤّقت؛ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضها)، وأخبر الله عز وجل في كتابه عن دم الحيض أنه منقطع: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]، فأخبر أن للحيض غاية، فإذا ثبت أن للحيض نهاية وغاية، فيرد السؤال: ما هي هذه الغاية التي إذا بلغها الدم وجاوزها حكمنا بكونها مستحاضة؟ وما هي هذه الغاية التي يمكن -في حالة ما لو استمر الدم وانقطع لأقلها وعاودها- أن نثبت لها بها العادة؟ هذا سؤال وارد، ولذلك هذه المسألة تعرف بضدّ المسألة الأولى، المسألة الأولى: أقل الحيض، وهذه المسألة: أكثر الحيض.
ما هو أكثر الحيض؟ فالمرأة قد يجري منها دم الحيض ويستمر، وتكون أحياناً مبتدأة صغيرة يجري منها دم الحيض لأول مرة، فتفاجأ، ففوجئت بدم الحيض وقد استمر معها عشرين يوماً أو ثلاثين يوماً أو شهراً، فلا بد أن تحدد ما هي الحيض، وما هو الاستحاضة، وقد يستمر عشرة أيام، أو ثمانية أيام، أو تسعة أيام، وهكذا فإذًا: تحتاج إلى تأقيت أكثر الحيض، فقال لك: (خمسة عشر يوماً) وهذا على قول الجمهور، وفيه حديث: (تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلّي)، ولكنه متكلّم في سنده، لكن العمل عليه عند أهل العلم رحمة الله عليهم.
وهذا أكثر الحيض.
وفائدة معرفة أكثر الحيض: أنه إذا نزف معها الدم واستمر وجاوز أكثر الحيض، علمت أنها مستحاضة.(24/11)
أغلب عادة النساء في الحيض
قال المصنف رحمه الله: [وغالبه ست أو سبع].
النساء إذا حضن لا بد أن تعرف القليل والكثير، وبيناه.
لكن يرد
السؤال
نحن علمنا أن أقل الحيض لا حد له، وأن أكثره خمسة عشر يوماً، فما هو غالب النساء؟ فقال: (غالبه ست أو سبع)، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (تحيّضي في علم الله ستاً أو سبعاً)، أي: أن الغالب في النساء أن يستمر دم الحيض وتكون عادتها إما ستة أيام أو سبعة أيام، وللعلماء في قوله: (تحيّضي في علم الله ستّاً أو سبعاً) وجهان: قيل: التخيير؛ يعني: إن شئت أضفت اليوم السابع وإن شئت ألغيتيه.
وقيل -وهو الصحيح والأقوى-: إنه للجمع أي: (ستاً وسبعاً)؛ لأن (أو) تطلق في لغة العرب بمعنى الجمع، ومنه قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147] أي: ويزيدون؛ لأن الله لا يشك، وكقوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9] أي: وأدنى؛ لأن الله لا يشك.
وفي لغة العرب: كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية؛ أي: كانوا ثمانين وزادوا ثمانية.
فالمقصود أن قوله: (أو سبعاً) المراد به: الجمع.
فغالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام، ولكنه قد يختل هذا الغالب، فتكون المرأة عادتها خمسة أيام، وقد يختل بما هو أكثر وتكون عادتها تسعة أيام أو عشرة أيام، هذا بالنسبة لغالب الحيض.(24/12)
أقل الطهر بين حيضتين
قال المصنف رحمه الله: [وأقلّ طهر بين حيضتين ثلاثة عشر يوماً].
عندنا شيئان: شيء يسمى: الحيض، وشيء يسمى: استحاضة، وهناك شيء يسمى: الطهر، والطهر هو: النقاء، وأصل الطهر: النظافة؛ طهر الشيء إذا نظف، فمن حكمة الله جل وعلا في خلقه أن المرأة يجري معها دم الحيض، وينقطع عند أمد معيّن، وهذا في الغالب، فإذا انقطع تكون هناك علامتان على الانقطاع: العلامة الأولى: القَصّة البيضاء، وهي ماء كالجير يخرج من الموضع، ويعرفه النساء.
وهذه القَصّة البيضاء، هي التي عنتها أم المؤمنين رضي الله عنها بقولها كما في صحيح البخاري: (انتظرن، لا تعجلِنّ حتى ترين القصة البيضاء).
العلامة الثانية: الجفوف، والجفوف: أن تضع المرأة القطن في الموضع فيخرج نقياً لا دم فيه، أي: يجف الموضع، وهذه مختلف فيها: هل هي علامة طهر، أو لا؟ فمن حكمة الله جل وعلا أن المرأة يجري معها الدم، ثم ينقطع بعلامة تدل على الطهر، فتبقى طاهراً أمداً، وهذا الأمد يقل ويكثر، ولذلك يحتاج العالم والفقيه وطالب العلم أن يعرف ما هو أقل هذا الطهر بين الحيضة والحيضة؛ لأن المرأة إذا انتهت حيضتها الأولى دخلت في الطهر، ثم أتبعت الطهر بحيضة ثانية، فما بين الحيضتين يسمى: طهراً ونقاءً، وهذا الطهر والنقاء مهم جداً لمعرفة بعض الأحكام الشرعية، خاصة في المرأة المتحيرة، أي: التي ليست عندها عادة، ولا تستطيع أن تميز حينما يجري معها الدم دائماً؛ فحينئذٍ: عندما تعرف أكثر الحيض، وأقل الطهر بين الحيضتين، تحكم بأقل الحيض وأقل الطهر، وتحكم بدخولها في الحيضة الثانية بعد مجاوزة أقل الطهر.
توضيح ذلك: مثلاً: لو قلنا بقول المصنف: إن أقل الحيض يوم وليلة، فلو أن امرأة استمر معها دم الحيض يوماً وليلةً، واستمر معها وجاوز أكثر الحيض، فبمجاوزة الدم لأكثر الحيض -وهي لم يأتها الحيض قبل وليست عندها عادة- يحصل الإشكال خاصة في المبتدأة والمتحيرة، فالمرأة التي ابتدأها الحيض -كالصغيرة التي يأتيها الحيض لأول مرة- نحكم بكون اليوم والليلة حيض -على قول المصنف ومن وافقه من الشافعية- فإذا جاوزت أكثر الحيض حُكم برجوعها إلى أقل الحيض، وتقول: هذه المرأة لما جاوزت أكثر الحيض تعتبر مستحاضة، إلا في اليقين الذي هو اليوم والليلة، فأعتبرها حائضاً يوماً وليلة، وما بعد اليوم والليلة تعتبر مستحاضة، فتصوم وتصلي، وتقضي صلواتها وصيامها، ثم إذا استمر الدم بها ستسأل وتقول: عرفت أن اليوم والليلة من الشهر الفلاني عليَّ فيه قضاء الصوم، لكن الدم استمر معي، فهل أبقى مستحاضة إلى الأبد، أم أني سأدخل في حيضة ثانية؟ ف
الجواب
أنها -طبعاً- ستدخل في حيضة ثانية، فكيف تحكم بدخولها في الحيضة الثانية؟ تنظر إلى أقلّ الطهر الذي ذكرناه، الذي هو -مثلاً- ثلاثة عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً على القول الثاني، فتضيف الثلاثة عشر يوماً إلى اليوم والليلة، فيكون اليوم الرابع عشر هو يوم دخولها في الحيضة الثانية حكماً، هذا إذا لم تكن لها عادة ولم يكن لها تمييز.
إذًا: معرفة أقل الطهر يستعان به في معرفة دخولها في الحيضة الثانية إذا اختلط عليها الأمر، كأن تكون متحيرة أو تكون مبتدأة لا عادة لها ولا تمييز.
هذا بالنسبة لمسألة أقلّ الطهر.
إذًا: عندنا أقل الحيض، وأكثر الحيض، فأقل الحيض نستفيد منه في الحكم بكون المرأة حائضاً أو ليست بحائض، فمن يؤقت يقول: ما دونه ليس بحيض، وما كان مثله وزاد فهو حيض، وأكثر الحيض قلنا: نستفيد منه في أنه إذا جاوزه الدم حكمنا بكونه استحاضة، ثم يبقى النظر: هل تردها إلى اليقين من أنها حائض يوماً وليلة عند من يقول بالتأقيت، أو تردها إلى أكثر الحيض أو إلى غالب الحيض؟ كلها أوجه للعلماء سنبينها إن شاء الله.(24/13)
أكثر مدة للحيض
قال المصنف رحمه الله: [ولا حدّ لأكثره].
عرفنا أن أقل الحيض لا حد له، وأن أكثره خمسة عشر يوماً، وأن أقل الطهر ثلاثة عشر يوماً.
فيرد
السؤال
ما هو الحد الأكثر للطهر؟ قال: لا حد لأكثره.
فالمرأة بالإمكان أنها تحيض ثم تطهر وتبقى طاهراً شهوراً، وقد تبقى طاهرا أمداً بعيداً؛ فلا حد لأكثر الطهر.
فلو سئلت: ما الفرق بين الطهر والحيض بالنسبة للتقدير؟ تقول: إن الحيض لا حد لأقله، وله حد لأكثره على الصحيح، والطهر لا حد لأكثره وله حد لأقله، فهو عكس للحيض تماماً.(24/14)
ما يحرم على الحائض
قال المصنف رحمه الله: [وتقضي الحائض الصوم لا الصلاة].
بعد أن بيَّن مقدمات كتاب الحيض، شرع رحمه الله في بيان مسألة مهمة وهي: الأشياء التي يمنع منها الحيض، والحيض يمنع عشرة أمور، ذكر المصنف رحمه الله أشهرها وأهمها.(24/15)
منع الحائض من الصوم والصلاة
فقال رحمه الله: (وتقضي الصوم لا الصلاة) أي: هذه المرأة التي أصابها الحيض يحكم بمنعها من الصيام ومن الصلاة، فإذا انتهى الحيض وجب عليها قضاء الصوم دون الصلاة.
أما الدليل على هذا الحكم: فحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والذي روته عمرة بنت عبد الرحمن أنها سألت أم المؤمنين: (ما بال الحائض -ما بال، أي: ما الشأن والحال- تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟) عمرة رحمها الله فقيهة من فقهاء التابعين رحمة الله عليهم أجمعين، فهذه الفقيهة الفاضلة سألت أم المؤمنين لماذا أمر الشرع المرأة الحائض أن تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ لماذا سألت؟
الجواب
لأن الصلاة في حكم الشرع أهم من الصوم، فالصلاة عماد الدين، وهي الركن الذي يلي الشهادتين.
(فقالت لها أم المؤمنين: أحرورية أنتِ؟) أي: هل أنت من الخوارج الذين يكثرون التشدق في الدين والتنطع فيه؟ وحرورية: نسبة إلى حروراء؛ وهو موضع كان فيه الخوارج.
(فقالت: لا، بل سائلة) أي: أستشكل فأسأل.
فقالت رضي الله عنها: (كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)، فدل على أن الحائض لا تصوم ولا تصلي، وأنه يلزمها قضاء الصوم ولا يلزمها قضاء الصلاة.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يصحّان منها، بل يحرمان].
فلو أن امرأة علمت أنها حائض وصامت، فلا يصح صيامها، فإذا علمت بالتحريم وصامت فهي آثمة شرعاً، لكن لو كانت لا تدري أن هذا الدم دم حيض وكانت تظنه دم استحاضة، وصامت أو صلت ظانة أنها طاهر، ثم تبين أن هذا الدم دم حيض؛ فإنه لا إثم عليها ولا يحكم بصحة صومها ولا بصحة صلاتها، وهي غير مطالبة بالصلاة.(24/16)
المنع من وطء الحائض في الفرج
قال المصنف رحمه الله: [ويحرم وطؤها في الفرج].
أي: يحرم على الرجل أن يجامع امرأته الحائض في فرجها، والدليل على ذلك: ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، وقد نص الله عز وجل في التنزيل على تحريم وطء الحائض في قوله سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، وقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] والمحيض: اسم مكان كالمقيل، أي: مكان الحيض، وفائدة هذا التحديد في الكتاب بكونه في المحيض أنها لا تُعتزل في غيره، وفي ذلك رد على اليهود، فقد كان اليهود -عليهم لعائن الله- إذا حاضت المرأة عندهم لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها، فجاء الإسلام بالسماحة واليسر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عائشة رضي الله عنها الإناء فتشرب وهي حائض ويشرب من الموضع الذي شربت منه، كل هذا مبالغة في الرد على اليهود، وإبطال ما كانوا عليه من أذية النساء بذلك.
فالمقصود: أن الذي حرمه الله عز وجل هو الوطء.
قوله: (الوطء في الفرج) يشمل ذلك القبل والدبر، أما الدبر فيحرم العموم، سواء كان في حيض أو غيره، وأما بالنسبة للقبل فهذا يتأقت بحال الحيض.
فيمنع الوطء في الفرج، لكن هل يستمتع بغير الفرج؟ هذه المسألة خلافية عند العلماء، والأصل عندهم أنه يجوز للرجل أن يستمتع بالمرأة إذا كانت حائضاً بغير الجماع، لكن يأمرها فتتّزر، وتلبس إزارها من ثوب ونحوه مما يغطي الموضع المحرم، وبعضهم يحدده بما بين السرة والركبة؛ لأن ما قارب الشيء أخذ حكمه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)، فلذلك قالوا: تتحدد الأزرة بما بين السرة والركبة، وأكدوا ذلك بقولها: (كان يأمر إحدانا فتتّزر فيباشرها وهي حائض) والأزرة: لا تكون أزرة إلا إذا غطت هذا الموضع، فالإزار الغالب فيه أن يكون بهذا القدر، فقال هؤلاء العلماء -وهو مذهب الاحتياط-: إنه يترك عليها من اللباس ما يكون غطاء للفرج وما حوله، ثم شأنه بما دون ذلك.
وقال بعضهم: المحرم عليه الفرجان، ولا مانع من أن يستمتع بغير الفرجين ولو كان بالمباشرة، يعني: أن المراد بالاتزار: أن تشد الموضع فقط، ثم لو لامس غير هذا الموضع -الذي هو موضع الجماع- فلا حرج عليه، على ظاهر القرآن: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض} [البقرة:222].
وهذا المذهب الثاني أقوى من جهة النص -ظاهر القرآن-: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض} [البقرة:222] وهذا تأقيت.
والمذهب الأول أحوط وأسلم، وأبرأ للذمة، وأبعد عن الشبهة.
وفرّق بعض العلماء -وهو قول ثالث- بين الذي يستطيع أن يضبط نفسه، والذي لا يستطيع أن يضبط.
فقالوا: يباشر بما دون الفرج قريباً من الفرج إذا كان يملك نفسه، والغالب عليه السلامة، وإلا فلا.
وتحريم الله وطء الحائض رحمة بالعباد، فقد ذكر الأطباء أن هذا -وطء الحائض- فيه أضرار، أي: أن هذا الحكم من الحكمة بمكان؛ لما فيه من دفع الضرر عن الزوج والزوجة، حتى أن بعض الأطباء في العصور المتأخرة يقول: أنه كان في إحدى الاجتماعات الطبية، فقالت امرأة طبيبة أنها وصلت إلى أمر هام في الطب وهو: أن من يجامع المرأة وهي حائض فإنه يلتهب عنده البروستات -غدة من غدد الجسم-.
فقال أحد الأطباء المسلمين: هذا الذي توصلتِ إليه اليوم عرفه المسلمون من أكثر من ثلاثة عشر قرناً؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] (قل هو أذىً) فأخبر أنه أذى، والأذية قد تكون بالضرر في الجسد؛ كما قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111]، فهو يشمل أذى الحس وأذى المعنى، فكان هذا من إعجاز القرآن، وإعجاز هذه الشريعة، فالمسلمون يعرفون أن هذا الشيء يفضي إلى الضرر، ويستوي في ذلك عوامهم وعلماؤهم.
فمن رحمة الله أنه حرم الجماع في هذا الوقت، وذكر بعض الأطباء أنه يؤدي إلى الإضرار بالمرأة أيضاً، وقالوا: حتى إنه ربما يؤدي إلى أضرار في نفسية المرأة، وعلى هذا فينبغي على طالب العلم أن يكون على إلمام بهذا، وللدكتور محمد علي البار بحث جيد في دورة الأرحام؛ نبه على الأخطار الطبية المترتبة على وجود الجماع في هذا الوقت الذي حرمه الله عز وجل، فينبغي لطالب العلم أن يطلع على هذه الأمور إن تيسر له ذلك؛ لأنها تؤكد حكم الشريعة، وزيادة في اليقين.
قوله: (يمنع) وهذا بالإجماع أنه لا يجوز الجماع؛ وذلك على ظاهر الكتاب وظاهر السُّنة.(24/17)
كفارة جماع الزوجة الحائض
قال المصنف رحمه الله: [فإن فعل فعليه دينار أو نصفه كفارة].
(فإن فعل) أي: المكلف، تجاوز حدود الله عز وجل وجامع امرأته وهي حائض (فعليه دينار أو نصفه) الأصل في هذا حديث ابن عباس -اختلف في رفعه ووقفه- أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت هذا، وهو رواية أبي داود، وحسنه غير واحد من أهل العلم، ومنهم من صححه فقال: إنه صحيح لغيره، ومنهم من ضعفه، والقول بتحسينه أقوى، فهذا الحديث أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بدينار أو نصف دينار.
ثم اختلف في هذه الصدقة، فقال بعض العلماء: إن قوله (دينار أو نصف دينار) للتنويع، فإن شاء تصدق بدينار وإن شاء تصدق بنصف دينار، وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، أنه مخير بين أن يتصدق بالنصف وبين أن يتصدق بالدينار.
واستشكل بعض العلماء: كيف يؤمر بالأقل والأكثر في كفارة واحدة؟! وهذا ليس بإشكال؛ فإن الله عز وجل أمر من أفطر كالشيخ الكبير أو من لا يطيق الصوم بالفدية؛ وهي: إطعام مسكين، وهذا أقل شيء، ثم قال: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184] فذلك يدل على أنه قد يرد في الكفارة الجمع بين الأقل وبين الأكثر، وكذلك أيضاً: لا ضرر في هذا التخيير، إذ قد يجمع بين الشيء ونصفه، وقد يجمع بين الكامل ونصف الكامل، وذلك على سبيل الوجوب، فنقول: لا مانع أن الشرع يأمر بالدينار ونصف الدينار، ولا يتجه اعتراضهم بأنه جمع بين الكامل ونصف الكامل؛ لأن الله أباح قصر الصلاة في السفر، وثبت في السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرباعية تقصر إلى ركعتين، ومع هذا لو أتم صلاته -كأن يصلي وراء حاضر- فلا حرج عليه، فجمع بين النقص للنصف وبين كمال العبادة.
والمقصود: أنه إذا جاءت السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي حَكَم على كل قول، وبناءً على ذلك يتصدق بدينار أو نصف دينار على التخيير.
وقال بعض السلف -وهي فتوى ابن عباس رضي الله عنهما- سبب التخيير بين الدينار ونصف الدينار سببه: أن الجماع في الحيض يختلف، فإن كان في أول الحيض فدينار، وإن كان في آخره فنصف دينار.
وقال بعضهم -وهو قول ثان لبعض السلف أيضاً-: دينار إن كان في أول الحيض، ونصفه إن كان في أوسط الحيض أو آخره.
وتقسيم الحيض إلى أول ووسط وآخر يكون إما بالزمان وإما بالتمييز، مثال ذلك بالزمان: أن تكون عادة المرأة ستة أيام، فأوله: اليومان، وأوسطه: الثالث والرابع، وآخره: الخامس والسادس.
أما تأقيته بالصفات: فكأن يجري معها دم الحيض في الأيام الأول -يومان مثلاً- أحمر شديد الحمرة قريب إلى السواد، ثم يجري معها في اليومين الأوسطين أحمر شديد الحمرة، ثم في اليومين الأخيرين يجري معها أقل حمرة أو قريباً إلى الصفرة، فبناءً على هذا تؤقت إما بالزمان وإما بالصفة.
فإذا وقع في زمان شدة الدم وحمرته واشتداده في أوله فدينار، وإن كان في آخره فنصف.
وفتوى ابن عباس تقوي التفصيل؛ إن كان في أوله فدينار، وإن كان في آخره فنصف، وهو قول من القوة بمكان.
أما بالنسبة لقدر الدينار: فالدينار الإسلامي القديم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده إلى عهد الخلفاء وكذلك دينار عبد الملك بن مروان يعادل مثقالاً، والمثقال: يعادل بالجنيه السعودي الموجود الآن جنيهين إلا ربعاً، فيتلخص أن أربعة أسباع الجنيه السعودي تعادل قدر الواجب، فلو فرضنا أن الجنيه السعودي تقدر قيمته بسبعين ريالاً -مثلاً- فيصير أربعة أسباعه كم؟ تقسم السبعين على عشرة، وتخرج نسبتها فيكون السُبع عشرة، فأربعة أسباعه: أربعون ريالاً، أي: بما يجاوز نصف الجنيه بقليل.
قال المصنف رحمه الله: [ويستمتع منها بما دونه].
قوله رحمه الله: (ويستمتع) من المتعة وهي: اللذة.
وقوله: (بما دونه) أي: بما دون الموضع الذي حرم الله الجماع فيه، وظاهر كلام المصنف أنه سواء وُجد حائل أو لم يوجد حائل، وهي المسألة التي تعرف عند العلماء بـ (مسألة المفاخذة ونحوها).
فقال بعض العلماء -كما تقدم-: يجوز، وهو المفهوم من ظاهر كلام المصنف؛ ودليله حديث عائشة: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) وهذا عام، (وكل) -كما يقول الأصوليون-: من ألفاظ العموم، فله أن يستمتع بكل شيء ما لم يصل إلى الحرمة؛ كالوطء في الدبر، فهذا مما حرم الله، ولكن يبقى ما عداه على الأصل؛ لأن الله جعل المرأة عفة للرجل، وجعل الرجل عفة للمرأة.(24/18)
ما يباح للمرأة عند انقطاع الدم
قال المصنف رحمه الله: [وإذا انقطع الدم ولم تغتسل لم يبح غير الصيام والطلاق].
المرأة إذا طهرت من الحيض، ورأت علامة الطهر، فهذه مرحلة أولى، تليها مرحلة ثانية وهي: تطهرها بنفسها، وذلك بالغسل من الحيض، فعندنا طهارتان: طهر للموضع بانقطاع الدم وبدوّ علامة الطهر، وطهر للمرأة، فالأول ليس بيدها، والثاني بيدها.
فإذا طهرت المرأة وتطهّرت -اغتسلت- فتخرج بالإجماع من أحكام الحيض ولا إشكال، لكن الإشكال لو طهرت من حيضها ولم تطهّر نفسها بالغسل؛ فهل يجوز أن يأتيها الرجل، أو لا يجوز أن يأتيها؟ وهل يجوز أن تتلبس بالمحظورات من الصيام ونحوه؟ قال رحمه الله: (لم يبح) يعني: لا يجوز له أن يجامعها إذا خرجت من حيضتها ولم تتطهّر، فلم يبح له أن يجامعها إلا بعد غسلها.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان رحمة الله عليه وعليهم، فقال: إذا انقطع دم الحيض جاز للرجل أن يجامع امرأته ولو لم تغتسل.
والصحيح: أنه لا يجوز أن يجامع إلا بعد اغتسالها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222].
فالإمام أبو حنيفة يقول: (لا تقربوهن حتى يطهرن) فإذاً الجماع مؤقت بوجود الحيض، وما شرع لعلة يبطل بزوالها كما هي القاعدة في الأصول، فلما زال دم الحيض زال المانع، فجاز له أن يجامع، هذا بالنسبة لقول الإمام أبي حنيفة.
لكن الجمهور قالوا: إن في الآية غاية وشرطاً؛ فالغاية في قوله: (حتى يطهرن)، والشرط في قوله: (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله).
قال الإمام أبو حنيفة: العبرة بالغاية؛ لأن القاعدة في الأصول: أن ما بعد الغاية يخالف ما قبلها في الحكم؛ لأنه لو كان الذي بعد الغاية كالذي قبلها فأي فائدة للغاية؟ فإذاً فائدة وجود الغاية أن تعرف أن ما بعدها يخالف ما قبلها في الحكم.
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: (حتى يطهرن) وقّت الله عز وجل به القربان، وهو الكناية عن الجماع، ففهمنا أنها إذا طهرت جاز أن يأتيها.
ولكن الصحيح مذهب الجمهور: أن في الآية غاية وشرطاً، وهذا له نظائر: فإن الله عز وجل يقول: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فقال: (حتى إذا بلغوا النكاح) فهذه غاية؛ وقوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} هذا الشرط، فلا مانع أن تثبت الغاية مع عدم ثبوت الشرط.
فنقول: إن آية الحيض فيها غاية وفيها شرط، والقاعدة: أنه إذا تخلف الشرط تخلف المشروط، وإذا وجد الشرط حكم بالمشروط.
فإذًا نقول: إذا وجد الاغتسال صح منه أن يجامع، وإلا فلا.
الدليل الثاني على رجحان مذهب الجمهور: أن الله عز وجل قال: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] ثم عقب بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] فأسند الطهر لأنفسهن بقوله: (فإذا تطهرن) أي: فعلن الطهر، وهناك قراءة: (حتى يطهرن) بالتشديد، وتصلح أن تكون دليلاً كما أشار غير واحد من أهل العلم، واختاره الإمام الماوردي في جوابه في الحاوي.
فالمقصود أن أصح الأقوال: أنه لا بد في جماع المرأة من أن تطهر وتغتسل، فإذا طهرت ولم تغتسل فلا يجوز جماعها، وإنما يتريث حتى يتم الشرط الذي أمر الله عز وجل به.
قال: (حل لها الصيام والطلاق) يباح لها الصيام، وأيضاً يجوز تطليقها، فالحيض يمنع الطلاق؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ابن عمر لما أخبر عمر -والده- النبي صلى الله عليه وسلم أنه طلق امرأته وهي حائض، قال: (مره فليراجعها -ونهاه عن أن يطلقها- ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)، إذاً: لا يجوز تطليق المرأة الحائض؛ ولذلك يأثم من يطلقها، ثم هل يقع الطلاق، أو لا يقع؟ محله -إن شاء الله- كتاب الطلاق.
المقصود: أنه لا يجوز أن تطلق المرأة حال حيضها، فلو انقطع دمها ولم تغتسل، ووقع الطلاق بعد انقطاع الدم وقبل الغسل، فما الحكم؟ قال: وقع الطلاق؛ لأن الطلاق لا يتأقت باغتسال، أما بقية الممنوعات فلا بد فيها من الاغتسال كما قلنا: كالجماع ودخولها المسجد، كذلك أيضاً مرورها به، ولبثها فيه ونحو ذلك من ممنوعات الحيض.(24/19)
الأسئلة(24/20)
الدخول على المرأة قبل سن الحيض
السؤال
هل معنى دخول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة وهي بنت تسع أنه لا يستحب الدخول على المرأة قبل أن تحيض؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: لا شك أن فعل النبي والتأسي به صلى الله عليه وسلم فيه خير، ولو أن هذا من أمور النكاح لكنها من الأمور التي يشرع التأسي به فيها، ولذلك نص العلماء رحمة الله عليهم على استحباب الزواج في شهر شوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بنا فيه بنسائه صلوات الله وسلامه عليه، فلا مانع من أن يحكم بكون المستحب والأفضل أن يدخل بها بعد التسع، أي: بعد أن تبلغ التسع، وأما إذا كانت قبل التسع ولا ضرر في دخول الزوج عليها؛ فلا حرج في دخوله عليها ولا يحكم بتحريمه.
والله تعالى أعلم.(24/21)
حكم تركيب اللولب المانع للحمل والإفرازات التي تكون بسببه
السؤال
امرأة كانت عادتها سبعة أيام حيض، ثم قامت بتركيب شيء اسمه (لولب) لمنع الحمل، فصار ينزل قبل عادتها المعتادة إفرازات لمدة أربعة أيام، ثم سبعة أيام حيض، ثم بعدها أربعة أيام إفرازات، فهل هذه المدة كلها تعتبر حيضاً، أفتونا مأجورين؟
الجواب
هذا السؤال فيه مسألتان: المسألة الأولى: اللولب؛ وهو عازل يوضع في الموضع من أجل ألا تحمل المرأة، هل يجوز وضعه، أو لا يجوز؟ الحقيقة أن هذه المسألة نظرت فيها إلى أقوال المجوزين، والعلل الطبية والشرعية التي يتذرع بها لوضع هذا الشيء، فلم أجد عذراً شرعياً يبيح وضع هذا الشيء؛ ولذلك: الذي يظهر ويتبين أنه لا يجوز وضعه، وذلك لأمور: أولاً: لما فيه من استباحة النظر إلى الفرج دون وجود ضرورة.
ثانياً: أن فيه لمساً للفرج دون وجود ضرورة.
ثالثاً: أن فيه إيلاجاً في الفرج، وتكرار للإيلاج ونظر، خاصةً إذا كان من الرجل فهو أشد وأشنع وأعظم.
فهذه الثلاثة الأمور محظورة، حتى لو كان الواضع له طبيبة، فلا يجوز لها أن يحصل منها الإيلاج، أو النظر إلى عضو المرأة أو استباحة وضع العازل فيه.
هذه الثلاثة محاذير شرعية، ولم أجد مبرراً شرعياً يجيز وضع اللولب حسب علمي وحسب ما نظرت من أقوال الأطباء، وأقوال من يجيز، فلم أر وجهاً شرعياً لوضعه.
أضف إلى هذا تكرار الكشف، والأدهى والأمر أنه يربك عادة المرأة، فلا يستقيم لها أمر، فبمجرد ما تضعه يختلط عليها حيضها، فيتقدم ويتأخر، ويختلط عليها دمها، وقد تلتبس عليها صلاتها وعبادتها بسبب وضعها لمثل هذا، مثل ما ذكرت السائلة، وهذا أهون ما يكون، وإلا فقد مرت عليَّ قضايا من أعجب القضايا في حصول الإرباك للعادة بسبب هذا الأمر، وما ينشأ منه من الأمور التي لا تحمد عقباها؛ ولذلك الذي يظهر عدم جواز وضعه.
وأما العذر الذي يتذرع به كخوف حمل المرأة، فإما أن يكون هذا بسبب خوف الضرر مثل أن يكون عندها أمراض أو أعراض فهذه علاجها العزل، أن يعزل الرجل عنها، أو وضع الكيس الذي يمنع القذف في الموضع، وأما بالنسبة لقضية وضع اللولب فالقاعدة عند العلماء: (أنه لا يحكم بالحاجة مع وجود البديل)، وهذا أصل عند أهل العلم، فإن العازل الذي يوضع أخف محظوراً وأخف ضرراً من وضع اللولب.
النقطة الأخيرة التي أنبه عليها في هذا الأمر، وهي: مسألة الإفرازات السابقة واللاحقة لأمد العادة، فهذه لا تعتبر من العادة؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة فاطمة: (لتنظر الأيام التي كانت تحيض فيهن قبل أن يصيبها الذي أصابها)، فترجع إلى عادتها، وتحكم بكونها حائضاً على قدر تلك الأيام.
والله تعالى أعلم.(24/22)
زيادة مدة الحيض على خمسة عشر يوماً
السؤال
إذا كانت المرأة لها عادة مستمرة مستقرة وهي سبعة عشر يوماً، فهل تعتبر هذه المدة كلها حيضاً، أم ما زاد على خمسة عشر يوماً يعتبر استحاضة؟
الجواب
ما زاد على الخمسة عشر يوماً لا يعتبر حيضاً، وإنما هو استحاضة، فلا يحكم بكونها امرأة معتادة سبعة عشر يوماً فأكثر؛ لأن أقصى الحيض خمسة عشر يوماً على ما ذكرناه، وبناءً على ذلك يحكم بكونها حائضاً، إما على أقل الحيض وهو يوم وليلة عند من يرى التأقيت باليوم والليلة، أو بالثلاث عند من يرى التأقيت بالثلاث، أو تتحيض ستاً أو سبعاً عند من يرى عموم دلالة الحديث، أو يحكم بكونها حائضاً أكثر الحيض وهو أحد الوجهين عند الشافعية والحنابلة.
والله تعالى أعلم.(24/23)
علامات دم الحيض
السؤال
هل لدم الحيض علامة؟ وإذا كان كذلك فلماذا لا يُحدَّد أكثره وأقله بهذه العلامة، وكذلك الطهر ودم الاستحاضة؟
الجواب
أما بالنسبة للحيض فله علامة، من جهة لون الدم: حيث تختلف ألوانه، فهناك لون السواد، والحمرة، والصفرة، والكدرة، والتُربية، أو الخضرة، هذه ستة ألوان سنتكلم عليها -إن شاء الله- في مبحث المرأة المميزة.
وهذه إحدى الضوابط التي يتميز بها دم الحيض -اللون- وفيها الستة الألوان التي ذكرناها، وسنبين أيها أقوى وأيها أضعف، وما الذي يعتد به وما الذي لا يعتد به، وخلاف العلماء فيه -إن شاء الله-، والصحيح من تلك الأقوال التي اختلفوا فيها.
وأما بالنسبة للنوع الثاني من التمييز: التمييز بالرائحة -رائحة دم الحيض- فإن المرأة قد تستطيع تمييز حيضها برائحته، وقد يميز بغلظه ورقته، وقد يميز بتجلط الدم، فإن دم الحيض لا يتجلط؛ لأنه يتجلط في الرحم ثم تسلط عليه مادة مثل الخميرة تمنع تجلطه ولو بقي سنوات، وهذا من عجائب ما يكون، ولذلك قالوا: إنه يتميز بالغلظ والرقة والتجلط، وقد جمع بعض العلماء هذه العلامات بقوله: باللّون والرّيح وبالتألمّ وكثرة وقلّة ميزُ الدم وقال بعضهم: باللون والريح وبالتألمّ وغلظ ورقّة ميزُ الدم وهذه الأمور التي يميز بها دم الحيض، سنتكلم عليها -إن شاء الله- بالتفصيل.
لكن اعلم رحمك الله أن هذه الأمور ليست في كل حال يمكن أن تميز بها، فقد تأتيك المرأة مبتدأة لأول مرة، لا تعرف دم الحيض، ولا قد رأت دم الحيض، ولا تستطيع أن تميز، فتميز بأي شيء؟ هذا بالنسبة للمبتدأة، وقد تأتيك وتقول لك: نعم، أنا عندي دم يأتيني اليوم الأول أحمر، وفي اليوم الثاني ينقلب لونه إلى أحمر باهت، وفي اليوم الثالث أصفر، وفي اليوم الرابع أكدر، وفي اليوم الخامس أحمر، وفي اليوم السادس أحمر، وهكذا، فتحتاج إلى ضوابط معينة لا بد من دراستها، ولا بد من معرفة متى يحكم بكونها حائضاً، ومتى يحكم بكونها طاهراً، هذا بالنسبة لقضية الحيض، فلم يختلف العلماء، ولم يضعوا هذه الضوابط عبثاً، والسبب في هذا: اختلاف بيئات النساء وأحوالهن وأوضاعهن، واختلاف البلدان التي تعيش فيها النساء، فالبلاد الحارة ليست كالبلاد الباردة، فهذا أمر دعا العلماء رحمة الله عليهم أن يفصّلوا في مسائل الحيض، وأن يبينوها وأن يتكلموا عليها.(24/24)
تحول دم الحيض إلى غذاء للجنين عند الحمل
السؤال
أين يذهب الدم وقت الحمل؟ وهل صحيح أن هذا الدم وقت الحمل يتحول إلى غذاء للجنين عن طريق حبل السر؟
الجواب
نعم ذكروا هذا، وأشار إلى ذلك الإمام القرافي رحمه الله في (الذخيرة)، وأشار إليه الإمام ابن قدامة كذلك في (المغني)، وغير واحد من أهل العلم ذكروا هذا، وذكروه عن الأطباء القدماء، وأنه يتحول إلى غذاء للطفل، ثم أصفاه وأطيبه يتحول إلى لبن بعد الولادة، ويكون غذاء للطفل، وأخبثه وأردأه يخرج في النفاس مع الطفل.
هذا بالنسبة لما ذكروه من أحوال دم الحيض، وما يكون له أثناء حملها وأثناء وضع جنينها، إذ ينقلب بإذن الله عز وجل إلى كونه لبناً وغذاءً للطفل بإذن الله عز وجل وقدرته.
والله تعالى أعلم.(24/25)
حكم تكفير المرأة إذا جامعها زوجها وهي حائض
السؤال
إذا جامع الرجل زوجته وهي حائض، فهل الكفارة على الرجل فقط، أم على الرجل والمرأة معاً؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: إن كانت المرأة طاوعت ورضيت بالجماع، ومكنته من جماعها فالكفارة عليهما، وهكذا إذا أغرته أو رضيت بذلك، فهي في حكم الفاعل، وأما إذا مانعت وغلبت أو أكرهت على الجماع فلا شيء عليها، والكفارة على الزوج وحده، كالحال في كفارة المجامع في نهار رمضان.
والله تعالى أعلم.(24/26)
حكم الإفرازات أثناء الحمل
السؤال
ما حكم الإفرازات التي تخرج من الحامل؟
الجواب
الإفرازات التي تخرج من الحامل استحاضة على الصحيح من أقوال العلماء رحمة الله عليهم، لكن إن أفرزت دماً قبل الولادة بيوم أو يومين أو ثلاثة فإنها تعطى حكم دم النفاس، كما اختاره غير واحد من المحققين، ونص عليه الإمام ابن قدامة وغيره، وهذا مبني على القاعدة: (أن ما قارب الشيء أخذ حكمه).
يقولون: ابتدرها دم النفاس، فإن عاجلها قبل الولادة بيوم أو يومين أو ثلاثة فيعتبر داخلاً في حكم دم النفاس، من كونه يمنع الصوم ويمنع الصلاة، وحكمه حكم دم الحيض.
هذا بالنسبة لها إذا كانت حاملاً.
والله تعالى أعلم.(24/27)
حكم دخول الحائض المسجد
السؤال
هل يجوز دخول الحائض المسجد؟ وهل يجوز أن تجلس في الصفا والمروة من الحرم؟
الجواب
أما بالنسبة لدخولها المسجد، فأصح أقوال العلماء أنها لا تدخل؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم المؤمنين عائشة: (ناوليني الخمرة.
قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك) (ناوليني) أي: مُدي يدك إليَّ في المسجد بالخمرة.
(قالت: إني حائض) فدل على أنه كان معروفاً ومعهوداً أن الحائض لا تدخل المسجد؛ إذ لو كانت تدخل المسجد لأنكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم كونها تقول: (إني حائض)، فكونها رضي الله عنها تقول: (إني حائض) يدل على أن الحائض ليس مما كان يعرف أنها تدخل المسجد.
وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم على امتناعها دال على أنها لا تدخل المسجد، وإلا كان قال: ادخلي المسجد.
كما قال لـ أبي هريرة: (إن المؤمن لا ينجس) لكنه لم ينكر على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وقد تكلف بعض العلماء في الجواب على هذا الحديث، فقال: إن قوله: (إن حيضتك ليست في يدك) المراد به: أنك لا تملكين رفعها، فهو عذر ليس بيدك، وهذا مجاز، والحقيقة أن تقول: (ليست في يدك) أي: على الحقيقة، أي: ليست في يدك التي تناوليني بها الخمرة، فظنت عائشة أنها لما منعت من المسجد أن الجزء يأخذ حكم الكل، وهذا من فقهها رضي الله عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن حيضتك ليست في يدك) أي: إنما منعت من دخول المسجد لما يتعلق بالموضع، والكل له حكم والجزء له حكم، ولذلك ليس اعتراض الجزء كاعتراض الكل، فقد كانت تنام بين يديه معترضة، وتقبض رجلها، وقد نهى عن مرور المرأة بين يدي المصلي، فدلّ على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، فدل هذا على أن الحائض لا تدخل المسجد، ويقوى هذا بما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة: (أنها لما خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأصابها الحيض قالت: فانسللت -كما في صحيح مسلم، أي: خرجت من الفراش- فقال صلى الله عليه وسلم: مالكِ؟ -أي ما شأنك وما حالك؟ - أنفست؟ -أي: هل أصابك الحيض؟ - قالت: نعم.
قال: ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) فمنعها من الطواف ولم يمنعها من السعي، والسعي كان خارج المسجد، فدل على أن امتناعها من دخول المسجد أصل مقرر شرعاً، ولذلك لا تدخل المرأة الحائض المسجد، وهو قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم.
وأما بالنسبة للصفا فالصحيح أنها ليست من المسجد، ولا حرج عليها في جلوسها فيه.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(24/28)
شرح زاد المستقنع - باب الحيض [2]
من الضرورة بمكان معرفة أحوال النساء في الحيض، وتنزيل الحكم بمقتضى حال كل امرأة؛ فالمبتدأة لها حكمها، وكذلك المعتادة، والمتحيرة، والمميزة، ومعرفة الضوابط لكل واحدة منهن، وحكم زيادة الحيضة أو نقصها، وكيفية التعامل مع ذلك، وحكم ما يسمى بالصفرة والكدرة، وأقوال العلماء فيها.(25/1)
أحكام المبتدأة في الحيض
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المؤلف عليه رحمة الله: [والمبتدأة تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي].
شرع المصنف رحمه الله بهذه العبارة في ذكر أحوال النساء، فالمرأة الحائض إذا جاءها الحيض لا تخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الحيض قد ابتدأها؛ بمعنى: أنها لأول مرة يأتيها دم الحيض.
والحالة الثانية: أن تكون معتادة؛ بمعنى: أن دم الحيض عاودها حتى ثبتت لها عادة معينة فيه.
الحالة الثالثة: أن تكون المرأة متحيرة؛ بمعنى: أنه لا يمكنها أن تعرف عادتها لمكان النسيان، سواء نسيت قدر العادة أو مكان العادة.(25/2)
المرأة التي يحكم بكونها مبتدأة
هذه الثلاثة الأحوال هي التي ينصبّ عليها كلام العلماء رحمة الله عليهم في مسائل الحيض.
ومن عادة أهل العلم أنهم يبدءون بالنوع الأول، وهذا فيه مراعاة لأحوال النساء.
فالمبتدأة: هي التي ابتدأها دم الحيض، والمرأة توصف بكونها مبتدأة إذا كان الحيض قد جاءها لأول مرة، هذا أول شرط.
والأمر الثاني: أن يكون سنها سن المرأة التي تحيض، فإذا كان سنها دون ذلك؛ فإنه لا يحكم بكون هذا الدم دم حيض -كما تقدم معنا-، فمن شرط أن تكون مبتدأة أن يكون دم الحيض جاءها لأول مرة، ولا يعني هذا إلغاء المرأة التي جاءها الدم قبل تسع سنوات، كأن يكون عمرها سبع سنوات أو ثمان سنوات وجاءها الدم، فإن هذا الدم الذي يأتيها دم استحاضة، لكن إذا كان لأول مرة يأتيها بعد بلوغها لتسع سنوات فإننا نحكم بكونه دم حيض؛ لأن الزمان زمان دم الحيض.
إذن: المرأة المبتدأة هي: المرأة التي بلغت سن الحيض، وجاءها الدم في هذا السن لا قبله.
والشرط الثالث: أن لا يكون عاودها أكثر من مرة، وهي المعتادة أو التي اختلت عادتها، فلا بد عند حكمنا بكونها مبتدأة أن يكون الدم لأول مرة يأتيها، أعني: دم الحيض.(25/3)
حكم المبتدأة
المرأة التي جاءها دم الحيض لأول مرة لا نردها إلى عادتها؛ لأنها ليس لها عادة.
فإذاً: لا بد أن يكون لها حكم خاص، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: كل امرأة مبتدأة فإننا نردها إلى عادة أمهاتها وأخواتها.
وقال بعض العلماء: كل امرأة مبتدأة فإننا نردها إلى عادة لِدَاتها أو أترابها -كما يعبر العلماء- واللدة والتريبة هي التي تكون في سن المرأة ومثلها، وقال بعض العلماء: المبتدأة تجلس أقلّ الحيض ونحكم بكونها حائضاً بذلك القدر الذي هو أقلّ الحيض، ثم تغتسل وتصوم وتصلي، حتى يعاودها الدم ثلاث مرات على وتيرة واحدة.
فعندنا ثلاثة أوجه: أما الوجه الذي يقول: نردها إلى أترابها -لداتها وأمثالها، أو أمهاتها وأخواتها- فهذا وجه معروف، أي: دليله واضح، وهو: (أن الشيء إذا شابه الشيء أخذ حكمه) أنا لا أقول إن هذه المبتدأة تجلس أقل الحيض، ولكن أقول: تنظر إلى أمثالها، فإن كان عادة أمها ستة أيام، فكل امرأة ابتدأها الحيض وعمرها تسع سنوات فإن عادتها ستة أيام حتى تثبت لها عادة جديدة.
فالقول الأول والقول الثاني -اللذات يعتبران والأمهات اللاتي هن القريبات- قولان مرجوحان هذا قول مرجوح عند أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأن الرجوع إلى ذات المرأة أو أصل الحيض أقوى من الرجوع إلى العرف، هذا بالنسبة للقول الأول والثاني، فيلغى النظر فيه.
يبقى عندنا القول الثالث، وهو معارض لقول قررناه، فإننا حينما تكلمنا على أقل الحيض قلنا: قال بعض العلماء: ليس لأقل الحيض حد، وهذا مذهب المالكية واختاره شيخ الإسلام، وقلنا: هو الراجح.
وقال بعض العلماء: أقلُّ الحيض يوم وليلة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
وقال بعضهم: أقله ثلاثة أيام.
إذن: عندنا قول يقول: لا حد لأقله، فقليل الدم وكثيره حيض.
وقول يقول: اليوم والليلة، وما دونها ليس بحيض، وما أصابها وجاوزها حيض.
وقول يقول: الثلاثة الأيام حيض وما دونها استحاضة.
إذا نظرت إلى هذه الثلاثة المذاهب، فالحكم في مسألة المبتدأة مفرّع على هذه الثلاثة المذاهب، فينبغي أن تتنبه إلى أن من يقول: للحيض حد أقلي، سواء يوم وليلة كما يقول الشافعية والحنابلة، أو ثلاثة أيام كما يقول الحنفية، يقول: كل مبتدأة لا أحكم بكونها حائضاً إلا إذا جاوزت أقلّ الحيض، فالشافعية والحنابلة يقولون: كل امرأة بلغت تسع سنوات، وجاءها الدم -دم الحيض- فإنها تجلس يوماً وليلة، وإن استمر هذا الدم معها يوماً وليلة فهي حائض، وإن نقص عن اليوم والليلة فهي مستحاضة والدم دم فساد ومرض، هذا المذهب الأول، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمة الله عليه.
والحنفية يقولون: المبتدأة التي يستمر معها الدم ثلاثة أيام، فحينئذٍ تكون حائضاً، وإن نقص عن الثلاثة الأيام تعتبر مستحاضة، والدم الذي معها دم فساد وعلة.
هذا بالنسبة لقضية أقل الحيض.
وعلى القول الذي رجحناه من أنه لا حد لأقله، فيقال: تبقى المرأة إذا بلغت تسع سنوات قدر ما أصابها من دم، فلو مكث معها ساعة فهي حائض، ولا تصوم ولا تصلي في الساعة هذه.
إذن: نحن رجحنا هذا المذهب الذي يقول: لا يعتد بأقل الحيض، فعلى هذا المذهب بمجرد ما يصيبها الدم بعد تسع سنوات فهو حيض إن كانت فيه أمارات الحيض، وقويت القرائن باعتباره حيضاً.
هذا بالنسبة لما رجحناه.
فلما قال المصنف رحمة الله عليه: للحيض حد أقلي، قال: ما نقص عن هذا الحد الأقلي فليس بحيض؛ فلابد أن يشترط في المبتدأة شرطاً ثالثاً؛ وهو: كونها تصيب الحد الأقلي أو أكثره.
فتبينت مذاهب العلماء رحمة الله عليهم في مسألة المرأة المبتدأة وصار عندنا اتجاهان: اتجاه يقول: هي حائض ولو كان دفعة واحدة، وهو الذي رجحناه.
المسلك الثاني يقول: تجلس أقلّ الحيض، إما يوم وليلة على قول، وإما ثلاثة أيام على القول الثاني.
فإذا استمر معها يوماً وليلة، أو استمر معها ثلاثة أيام على القول بالتثليث، فلا يخلو إما أن ينقطع لأقل الحيض، وإما أن ينقطع على أكثر الحيض، أو ينقطع بعد أكثر الحيض.
فيصير عندنا ثلاث حالات.
وعرفنا الحكم إذا ما انقطع لما دون أقل من اليوم والليلة أو أقل من الثلاث، وكلام العلماء فيه، فلو جاءتك امرأة وقالت: إنه أصابها الدم وعمرها تسع سنوات، فما الحكم؟ تقول: على القول الراجح، هذا الدم الذي أصابك دم حيض؛ لأنه في زمان الإمكان، فتمتنعين عن الصوم وعن الصلاة على القدر الذي يجري معك فيه الدم، فلو استمر معها ثلاثة أيام أو أربعة أيام، فعلى هذا المذهب لا تصوم ولا تصلي في هذه الأيام وهي حائض، وهذا المذهب هو الراجح كما ذكرناه، لكن الإشكال أين؟ الإشكال على المذهب الثاني الذي يرى اليوم والليلة، أو الذي يرى الثلاثة الأيام، إذا انقطع لأقل من خمسة عشر يوماً أو الخمسة عشر يوماً، فيقولون: نعتبر اليوم والليلة -أو الثلاثة أيام- حيضاً، والزائد استحاضة، ثم نترك المرأة ثلاثة أشهر، فإذا انقطع في الثلاثة الأشهر بعدد واحد بمعنى: جاءها في الشهر الأول خمسة أيام وانقطع، وجاء في الشهر الثاني خمسة أيام وانقطع، وجاء في الشهر الثالث خمسة أيام وانقطع، الحكم؟ قالوا: تثبت عادتها خمسة أيام، ثم تطالب بقضاء الأربعة الأيام من الشهر الأول، ومن الشهر الثاني، ومن الشهر الثالث؛ لأننا تيقنا أن الأربعة الباقية حيض وليست باستحاضة.
فصاحب القول الذي يقول: للحيض عندي حد أقلي، يقول: إن انقطع لأقل من أكثر الحيض بمعنى: انقطع لعشرة أيام، أو ستة أيام، أو خمسة أيام، فإنها تمسك عن الصلاة يوماً وليلة؛ لأنه هو اليقين بأنه حيض، ثم بعد اليوم والليلة يقولون: تغتسل وتصوم وتصلي، فإذا استمر معها خمسة أيام في الشهر الأول والثاني والثالث، فما الحكم؟ يقولون لها: اجلسي يوماً وليلة لا تصومين ولا تصلين، فإذا انتهى اليوم والليلة فاغتسلي ولو جرى معك الدم، ثم تصومين وتصلين، فإن عاودك في الشهر الثاني فالحكم كذلك، وإن عاودك في الشهر الثالث بنفس الوتيرة ثبتت العادة، وتمكثين الخمسة أيام كاملة، ثم تطالبين بقضاء ما مضى، هذا على مذهب الشافعية والحنابلة، واختاره المصنف، لكن الصحيح: فيما إذا انقطع دون أكثر الحيض -أنها تجلس القدر الذي تجلسه، فإذا انقطع عن ستة أيام فهي حائض بالست، وإن انقطع عن سبعة أيام فهي حائض بالسبع وهكذا، فتجلس الأمد الذي يجري معها فيه الدم، والمذهب الثاني الذي فصلنا فيه؛ مذهب مرجوح، والذي ذكره المصنف مذهب مرجوح.
فعلى قول المصنف لو استمر معها الدم وجاوز أكثر الحيض فهو دم فساد وعلة، فتبقى على اليقين اليوم والليلة أنها حائض والزائد استحاضة، والشهر الثاني كذلك، والشهر الثالث كذلك، حتى تثبت لها عادة بوتيرة معينة، أو تميز دمها، وسنبين كيف يكون التمييز.
فبالنسبة للمبتدأة، عندنا فيها مذاهب، والجميع متفقون على أنه إذا جرى معها الدم ثلاثة أيام فبالإجماع أنها تعتبر حائضاً، ولكن الخلاف إذا جرى لأقل؛ عند من يضع للحيض حداً أقلياً، فإن جرى أقل من يوم وليلة فالمالكية وحدهم يعتبرونه حيضاً، وإن جرى يوماً وليلة فالجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة- يعتبرونه حيضاً، والحنفية لا يعتبرونه حيضاً حتى يبلغ ثلاثة أيام، هذا بالنسبة لمسألة المبتدأة.
فيشترط فيها أول شيء: أن يكون سنها سن حيض.
وثانياً: أن تجاوز أقلّ الحيض عند من يقول أن للحيض حداً أقلياً.
قال المصنف رحمه الله: (والمبتدأة تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي).
(والمبتدأة تجلس أقله) أقله: الضمير عائد إلى الحيض، وأقله: قال: أقله يوم وليلة على ما اختاره المصنف رحمه الله.
(ثم تغتسل وتصلي) يعني: نحكم بكونها حائضاً، لكن بشرط أن تجاوز أقلّ الحيض على مذهب المصنف.
قال رحمه الله: [فإن انقطع لأكثره فما دون اغتسلت عند انقطاعه].
هذه مسألة ثانية، نحن قررنا أن ما دون أكثر الحيض يُعتبر فيه اليوم والليلة، لكن هناك أمر آخر، قالوا: إذا جرى معها الدم لأول مرة واستمر يوماً وليلة حكمنا بكونها حائضاً، ثم تغتسل بعد اليوم والليلة وتصوم وتصلي، فإن انقطع لأقل من أكثر الحيض -مثلاً- خمسة أيام، سبعة أيام، ثمانية أيام، تسعة أيام، عشرة أيام، أحد عشر يوماً، اثني عشر يوماً، ثلاثة عشر يوماً، أربعة عشر يوماً، لكن ما بلغ أكثر الحيض، فيقولون: عند انقطاعه لأقل من خمسة عشر تغتسل غسلاً ثانياً؛ لاحتمال أن يكون الكل حيض؛ لأنها إلى الآن ما ثبتت لها عادة، فاحتاطوا باحتياطين: أولاً قالوا: نرجع إلى اليقين من أنها حائض يوماً وليلة، فنأمرها بالاغتسال بعد اليوم والليلة؛ لأنها بيقين حائض، ثانياً: قالوا: نأمرها بالاغتسال إن انقطع الدم لأقل الحيض؛ لأنه قد تثبت لها عادة بهذا الأقلي، فإذا انقطع بعد خمسة أيام، ما الحكم؟ تقول: تغتسل غسلاً ثانياً، ثم إذا جاء الشهر الثاني مدة خمسة أيام، والشهر الثالث مدة خمسة أيام، علمنا أن هذا الأمد هو أمد الحيض وهو عادتها.(25/4)
الحكم باستقرار عادة المرأة
قال رحمه الله: [فإن تكرر ثلاثاً فحيض وتقضي ما وجب فيه].
قوله: [فإن تكرر] أي: الدم الذي معها ثلاث مرات، هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة العادة، فبم تثبت عادة الحيض؟ أو كيف تعلم المرأة أنها معتادة، أو بم تثبت عادتها؟ للعلماء وجهان: قال بعض العلماء: العادة من العود، فيشترط أن يعاودها مرتين، فإذا جاءها في الشهر الأول خمسة أيام، وفي الشهر الثاني خمسة أيام، فعادتها خمسة أيام ثبتت بالشهر الثاني، وهذا مذهب الحنفية ومن وافقهم، وأخذوا هذا من اشتقاق اللفظ أنه من العود.
أما الحنابلة ومن وافقهم من الشافعية والمالكية فيقولون: لا بد أن يمر عليها ثلاث مرات، فلا بد من الشهر الأول، والشهر الثاني، والشهر الثالث.
وينبغي أن يتنبه إلى أنه لا بد أن يمر عليها متتابعاً، فلو مر عليها الشهر الأول خمسة أيام، والشهر الثاني خمسة أيام ثبتت عادتها عند الحنفية، ولم تثبت عند الجمهور، فإذا جاء الشهر الثالث ستة أيام بطل الاعتداد بالشهرين الأولين عند الجمهور، وأصبحت ترجع إلى خمسة أيام عند الحنفية.
فتثبت عادتها عند الحنفية بعد الشهر الثاني، ولا تثبت عند الجمهور إلا بعد ثبوتها في الشهر الثالث، ولابد أن يأتي كله على وتيرة واحدة، فلو جاءها في الشهر الأول خمسة أيام، وفي الشهر الثاني ستة أيام، وفي الشهر الثالث خمسة أيام، وفي الشهر الرابع ستة أيام، فلا عادة لها، قولاً واحداً؛ لأنه لم يعاودها على وتيرة واحدة.(25/5)
أحكام المعتادة
بينا حكم المرأة المبتدأة فيما مضى، وبعد المبتدأة تأتي المعتادة، فأشار إليها رحمة الله عليه فقال: (فإن تكرر) أي: المبتدأة، ثلاث مرات على وتيرة واحدة.
فانتقل إذن إلى صنف ثانٍ من النساء، وهي المرأة المعتادة التي لها عادة في الحيض، والمرأة المعتادة، قلنا: تثبت عادتها بالعود ثلاث مرات على وتيرة واحدة، ودليل العادة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها) فردها إلى العادة، وهذا يدل على أن العادة محكمة ومعتبرة في الشرع، فإذا جاءتك امرأة وسألتك وقالت لك: إن الدم أصابني هذا الشهر واستمر معي عشرين يوماً فماذا أفعل؟ كم الأيام التي أترك فيها الصلاة والصوم؟ وكم أصلي وأصوم من الأيام؟ ومتى أحكم بكوني طاهرةً فأصوم وأصلي؟ ومتى أحكم بكوني غير طاهرة فلا أصوم ولا أصلي؟ فتقول لها: هل كان الدم قبل هذا الاختلال الذي جاءك لك فيه عادة؟ فإذا قالت: نعم، كان من قبل يأتيني خمسة أيام وينقطع.
فتقول: امكثي خمسة أيام، ثم إذا مضت الخمسة الأيام فاغتسلي وصلي وصومي.
فنردها إلى العادة، سواء كانت عادتها قريبة أو بعيدة، فلو أن امرأة -مثلاً- كانت عادتها خمسة أيام ثم حملت ثم نفست، وبعد النفاس اضطرب الدم معها، فصار يجري معها الدم عشرين يوماً، فاضطربت عليها العادة، يجري يوماً وينقطع يوماً، أو يجري يومين وينقطع ثلاثة، أو أربعة، والتبس أمرها، فتقول لها: كم كنت تمكثين قبل أن يصيبك الذي أصابك؟ فقالت: ستة أيام، فتقول: إذاً عادتك ستة أيام، فاجلسي ستة أيام يجري فيها الدم، ثم احكمي بكونك طاهرةً بعد انتهاء أمد هذه الست.
ففائدة معرفة العادة؛ أنه يحتكم إليها عند اختلال دم المرأة، فإذا اختل وضع المرأة إما لجراحة، أو لمرض، أو لولادة، أو غير ذلك، فحينئذٍ ترده إلى العادة، وكما قلنا: العادة بإجماع العلماء مردود إليها.
قال المصنف رحمه الله: (وتقضي ما وجب فيه).
يعني: في ذلك الأمد، فتقضي الذي وجب فيه من الصوم والصلاة، فإن كانت في رمضان فالواجب عليها الصوم، وإن كانت في غير رمضان فالواجب عليها الصلاة، فتقضي ما وجب فيه، أي: في ذلك الأمد الذي كانت لا تصلي فيه.
وقد مرَّ أن المبتدأة تجلس أقلّ الحيض، ثم تغتسل ثم تصوم وتصلي، هذا بالنسبة للمبتدأة، فإذا مكثت يوماً من الشهر الأول، وأفطرت أربعة أيام، ثم مكثت يوماً من الشهر الثاني وأفطرت أربعة أيام، ثم ثبتت عادتها في الشهر الثالث أنها خمسة أيام، فعليها أن تقضي ما وجب عليها فيه، وهو الصوم، أما الصلاة فإن الحائض لا يجب عليها أن تصلي، فتقول: الأربعة الأيام التي كنت تصومين فيها بحجة أنك طاهرة بعد اليوم والليلة تقضينها ويلزمك قضاؤها كما قررناه سابقاً.(25/6)
حكم الدم الخارج بعد انقضاء أكثر مدة للحيض
قال المصنف رحمه الله: [وإن عبر أكثره فمستحاضة].
قوله: (وإن عبر أكثره) يعني: عبر أكثر الحيض (فمستحاضة) مستحاضة بعد أكثر الحيض بالإجماع، أي: إذا جاوزت أكثر الحيض، والمرأة المبتدأة إما أن ينقطع الدم عنها -كما قلنا- لأقل من أكثر الحيض، أو ينقطع على الأكثر، أو ينقطع بعد الأكثر، أي: إما أن ينقطع دون خمسة عشر يوماً، أو على الخمسة عشر يوماً، أو بعد الخمسة عشر يوماً، فإذا انقطع لأقل من خمسة عشر يوماً، فالحكم أنها تنظر في تكراره على وتيرة واحدة على ما اختاره المصنف، وعلى القول الراجح: تمكث كل الذي دون الخمسة عشر يوماً لا تصوم فيه ولا تصلي على أنها حائض حتى تثبت لها العادة.
وإن عبر أكثر الحيض قال: (فمستحاضة)،
و
السؤال
هل نحكم بكونها مستحاضة بمجرد مجاوزتها للخمسة عشر يوماً، أو بعد اليوم والليلة؟
الجواب
مستحاضة بعد اليوم والليلة، فاليوم والليلة حيض، فلما استمر معها الدم أكثر من خمسة عشر يوماً عرفنا أن هذا المستمر دم فساد وليس بدم حيض، وحتى نفهم كلام المصنف ونفهم ما اخترناه على القول الراجح نقول: كلام المصنف ينبني على الآتي: إن كانت المرأة مبتدأة، وانقطع دمها لأقل من أكثر الحيض، أو مساوياً لأكثر الحيض الذي هو خمسة عشر يوماً، فحينئذٍ: تعتبر نفسها حائضاً ليوم وليلة، وتعتبر نفسها حائضاً في الشهر الأول وفي الشهر الثاني، والشهر الثالث تحكم بكونها معتادة إذا جاءها على وتيرة واحدة، هذا بالنسبة لمذهب المصنف رحمه الله، وهذا إذا انقطع لأقل من أكثر الحيض أو مثله، وأما لو انقطع فوقه فالحكم أن الحيض يوم وليلة وما زاد فهو استحاضة، هذا على مذهب المصنف.
وعلى المذهب الذي رجحناه نقول: بمجرد ما يأتيها الدم تمسك، حتى ولو استمر عشرة أيام، وهي حائض؛ لأنه زمن حيض وأمد حيض، ولا تقدير من الشرع لأقله، فالأصل واليقين أنها حائض، فإن جاوزت أكثر الحيض قالوا: ما زاد استحاضة وما دونه حيض، وهذا أعدل الأقوال وأولاها بالصواب إن شاء الله تعالى.(25/7)
أحكام المميزة
قال المصنف رحمه الله: [فإن كان بعض دمها أحمر وبعضه أسود، ولم يعبر أكثره ولم ينقص عن أقله؛ فهو حيضها تجلسه في الشهر الثاني، والأحمر استحاضة].
النوع الثالث: المميزة.
والمميزة من التمييز، وتمييز الشيء: أن تكون له حلية وأوصاف يتميز بها عن غيره، وهذا النوع يعتبر عند بعض العلماء أقوى من العادة، أي: رجوع المرأة التي تعرف طبيعة دمها إلى تمييزه أقوى عنده من رجوعها إلى العادة، فيردها إلى التمييز قبل أن يردها إلى العادة، وإن كان الصحيح أن العادة أقوى من التمييز لحديث عائشة في الصحيح لما سألت فاطمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لتنظر الأيام)، وقال في الحديث الآخر: (دعي الصلاة أيام أقرائك) وما قال لها: هل تميزين دم الحيض عن غيره أم لا؟ لكنهم يجيبون عن هذا الحديث قائلين: إنها لو ميزت ما سألت، فالمقصود: أن بعض العلماء يرى أن التمييز أقوى.
وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان رحمة الله عليه فضعف التمييز، والصحيح: أن التمييز حجة ومعتبر.(25/8)
دليل العلماء في اعتبار التمييز
ما الدليل على أن التمييز يعتبر في الحيض؟ قوله عليه الصلاة والسلام لـ فاطمة في إحدى الروايات في السنن: (إن دم الحيض دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة)، الشاهد: (إن دم الحيض دم أسود يعرف) فردها إلى ضابطه وإلى لونه الذي يتميز به، أما اللون الأسود فهو أقواها، ثم يليه الأحمر وهو الطبيعة في دم النساء، ولكنهم قالوا: أحمر محتدم، أي: شديد الحمرة حارق، ويسميه العلماء (القاني) وتعرفه النساء بوصفه، ثم الذي أخف منه هو المشرق، ويسميه بعضهم: الأشقر أو الأشيقر من الشقرة، وقيل: إن الأشقر هو الصفرة التي وردت في حديث أم عطية، ثم يليه الأصفر، ثم يليه الأكدر، والأكدر: كالماء الكدر، ويكون كالماء المتعكر ضارباً إلى شيء من الخضرة، ثم التربي، هذا بالنسبة لألوان دم الحيض، والمرأة تميز باللون وبالرائحة وبالكثرة والقلة وبالألم وبالغلظ والرقة، هذه ضوابط التمييز، ثم سنفصل فيها.(25/9)
التمييز باللون
تميز المرأة دم الحيض باللون كالآتي: إن جاءتك امرأة تسأل وقالت لك: جرى معي دم الحيض ثلاثة أيام أسود، ثم ثلاثاً أحمر، ثم ثلاثاً أسود، وعادتي ستة أيام؟ فتقول: الثلاثة الأُول حيض، والثلاثة الحمراء استحاضة، والتي بعدها حيض، فأنت طاهر في الثلاث الوسطى، حائض في الأولى والأخيرة، ويحكم بخروجك من الحيض في اليوم التاسع.
فهذه قضية التمييز باللون.
وإذا قالت لك: جرى معي يومين؛ يوم أحمر شديد الحمرة، ثم يوماً خفيف الحمرة، أو يومين آخرين خفيف الحمرة، ثم يومين شديد الحمرة، ثم يومين خفيف الحمرة، وعادتي ستة أيام؟ فتقول: اليومان الأولان حيض فلا تصومي ولا تصلي، واليوم الثالث والرابع اللذان يليانهما استحاضة فصومي وصلي، ثم اليومان اللذان اشتدت فيهما حمرة الدم فهذه علامة الحيض فأنت حائض، فتضيفين اليومين هذين إلى اليومين الأولين، فهذه أربعة أيام، ثم تحكمين بطهارتك بانقضاء اليوم الرابع، وتدخلين في الاستحاضة في اليوم الخامس والسادس، ثم في اليوم السابع تدخلين في اليوم الخامس من حيضك، واليوم الثامن هو اليوم السادس من الحيضة، فيحكم بانتهاء حيضك في اليوم الثامن، هذا بالنسبة للأحمر.
وإذا قالت: جاءني أحمر مع اختلاف الأوصاف، فجاءني: يومان أحمر، ويومان أصفر، ويومان أحمر، ثم يومان أصفر، ثم يومان أحمر، ويومان أصفر، ثم يومان أحمر، وعادتي ثمانية أيام؟ فتقول لها: أيام الحمرة حيض، وأيام الصفرة استحاضة.
هذا بالنسبة لمسألة اختلاف ألوان الدم، وهذا التمييز باللون.(25/10)
التمييز بالرائحة
دم الحيض له رائحة شديدة النتن، بخلاف دم الاستحاضة فهو أخف منه، فإذا استطاعت أن تعرف دم حيضها برائحته، فقالت: جاءني دمٌ أحمر عشرين يوماً، ففي الحالة الأولى -التمييز باللون- لا بد أن تختلف الألوان، لكن التمييز بالرائحة يكون اللون فيه واحداً وتختلف الرائحة، فتقول: جاءني عشرين يوماً دم أحمر، فهل كله حيض؟ فتقول: لا، ليس بحيض، وتسألها: هل لك عادة؟ فإذا قالت: ما لي عادة، أو قالت: عادتي ستة أيام، فتقول: هل تستطيعين تمييزه بالرائحة؟ فإذا قالت: نعم، رائحته في الستة الأُول كرائحة دم الحيض، وفي الأربع عشرة الباقية ليست فيه رائحة الحيض، فتحكم بكونها حائضاً في الستة الأول دون ما بقي.
ولو قالت: بقي يومين برائحته، ثم أربعاً بدونها، ثم يومين برائحته، ثم أربعاً بدونها، ثم يومين برائحته.
فما الحكم؟ تقول: تلفقين -وهذا يسمى: مذهب التلفيق- فاليومان اللذان فيهما رائحة دم الحيض فهو حيض، والأربعة الأيام التي ليست فيها رائحة دم الحيض فهي استحاضة، ثم بعدها دخلت في اليوم السابع في ثالث أيام العادة، وفي اليوم الثامن في رابعه، وقس على هذا.
فإذاً: تميَّز بالرائحة.(25/11)
التمييز بالألم
الضابط الثالث للتمييز: التمييز بالألم، فإذا كان اللون واحداً -جاءها أحمر- وقالت: لا أستطيع أن أميز بالرائحة، كأن لا يكون عندها حاسة الشم، أو أنها مزكومة مثلاً، أو أن دم حيضها ليس له ضوابط في الرائحة، فيكون التمييز بالألم، فإذا قالت: جاءني عشرين يوماً، ولكن في الستة الأيام الأول كان مؤلماً حارقاً -وعادتي ستة أيام- فتقول: كونه في هذه الأيام بهذه الصفة، فهو دم حيض، والأيام الباقية دم استحاضة.(25/12)
التمييز بالقلة والكثرة
الضابط الرابع في التمييز: الكثرة والقلة، قالوا: إن دم الاستحاضة تثجه ثجاً ويكون نازفاً بخلاف دم الحيض، فقالوا: إنه يتميز بكثرته وقلته، وبعضهم يضع بدل الكثرة والقلة علامة أخرى وهي: الرقة والغلظ، فإذا قالت لك امرأة: جاءني دم الحيض شهراً كاملاً، فاسألها: هل تستطيعين أن تميزي باللون؟ فإذا قالت: لونه واحد، فاسألها عن الرائحة؟ فإن قالت: ما أستطيع، فاسألها عن الألم؟ فإذا قالت: لا أستطيع أن أميز، لكن ألاحظ أن الستَّةَ الأول كان الدم فيها ثقيلاً غليظاً، والأربعة عشر الباقية من العشرين، أو الأربعة عشر يوماً الباقية من الثلاثين كان رقيقاً، فتقول: الست الثخينة والغليظة حيض، والباقي استحاضة، فهذه ضوابط التمييز: اللون، الريح، الألم، الكثرة والقلة، والغلظ والرقة، وقد جمعها بعض العلماء بقوله: باللون والريح وبالتألم وكثرة وقلة ميز الدم هذا على المذهب الذي يقول بالكثرة والقلة.
وبعضهم يرى دخول الغلظ والرقة فيقول: باللون والريح وبالتألم وغلظ ورقة ميز الدم أي: ميز الدم بهذا، هذا بالنسبة لقاعدة التمييز، فالمرأة التي ابتدأها الحيض لو جاءها الدم اليومين الأولين بلون أحمر، ثم اليومين اللذين يليان بلون أصفر، ثم يومين أحمر، ثم يومين أصفر، فنحكم بكونها حائضاً في اللون الذي هو أثقل -الذي هو الأحمر دون الأصفر- هذا بالنسبة لقضية تمييز الدم ورجوع المبتدأة إليه، وهكذا بالنسبة لغير المبتدأة.
قال المصنف رحمه الله: (فإن كان بعض دمها أحمر وبعضه أسود).
هذه المبتدأة، والكلام الأول إذا كان الدم على وتيرة واحدة، وانظر هنا إلى دقة المصنف حيث جاءك بجميع أحوال النساء، فقال لك: (المبتدأة تجلس أقل الحيض)، ثم قال: (فإن تكرر ثلاثاً) فانتقل إلى العادة وأثبت لها العادة، ثم قال: (فإن كان بعض دمها أحمر وبعضه أسود) فانتقل إلى التمييز.
قال المصنف رحمه الله: [ولم يعبر أكثره ولم ينقص عن أقله فهو حيضها تجلسه في الشهر الثاني والأحمر استحاضة].(25/13)
التي لا تستطيع أن تميز ترجع إلى غالب الحيض
قال رحمه الله: [وإن لم يكن دمها متميزاً جلست غالب الحيض من كل شهر].
ما حكم امرأة جرى معها الدم، وليس لها عادة، وليس لها تمييز؟ قال: إذا استمر حتى جاوز أكثر الحيض فنردها إلى غالب الحيض، فاستفدنا الآن من الثلاث النقاط التي كنا نبحثها: أقل الحيض، وأكثر الحيض، وغالب الحيض، ففهمنا أقل الحيض في المبتدأة ووضعناه شرطاً وقيداً لها، وأكثر الحيض إذا جاوز أو وازى، وعرفنا حكم كلٍ منهما، ثم إذا كانت لا تستطيع أن تميز ولا تستطيع أن تضبط بضابط فإنها ترد إلى غالب الحيض، أي: غالب الأيام التي تجلسها النساء، وما هو الغالب في النساء إذا أصابهن الحيض؟ قالوا: الغالب أن المرأة إذا أصابها الحيض يمكث ستة أيام إلى سبعة، ودليلنا على ذلك السنة، من قوله عليه الصلاة والسلام: (تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً)، فردها إلى الغالب، فقال العلماء: الست والسبع هي غالب حيض النساء، فالمرأة إذا التبس عليها واستمر معها الدم، ولم يمكن معرفة الحيض لا بالتمييز ولا بالعادة، فإنها ترد إلى غالب الحيض، وقد تأتيك المرأة معتادة ولكن نسيت عادتها ولا تستطيع أن تميز، فتردها إلى غالب الحيض، فإن فقدت العادة وفقدت التمييز فإنها ترجع إلى غالب الحيض.(25/14)
أحكام المرأة المستحاضة المعتادة
قال رحمه الله: [والمستحاضة المعتادة ولو مميزة تجلس عادتها].
(المستحاضة المعتادة) المستحاضة: استفعال من الحيض، أي: استمر معها دم الحيض، فالمرأة إذا استمر معها الدم ثلاثين يوماً -كما قررنا - فليس كله حيضاً، بل بعضه حيض وبعضه طهر -الذي هو الاستحاضة- والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام لما سألته السائلة وهي حمنة رضي الله عنها قالت له: (يا رسول الله! إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟) فهذه امرأة استمر معها الحيض خمس سنوات والدم يجري معها، وهذا يقع في بعض النساء: (إني أستحاض فلا أطهر)، وفي رواية: (حيضة شديدة فلا أطهر)، أي: لا أرى نقاء ولا طهراً، فهذه المرأة مستحاضة، وكانت لها عادة، فتردها إلى العادة وتقول لها: اجلسي قدر الأيام التي كنت تحيضينها، فلو قالت: عادتي خمسة أيام، فقل لها: هي حيضك، والزائد استحاضة، فإذا قالت: ما عندي عادة، فتقول: ميزي الدم؛ إما بلون، أو رائحة، أو ألم، أو كثرة أو قلة، فإذا قالت: لا أستطيع التمييز، تقول: حينئذٍ أردك إلى غالب حيض النساء، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً)، والباقي استحاضة، ثم احكمي بدخولك في الحيضة الثانية بعد انتهاء الاستحاضة وهكذا.(25/15)
الحكم في حال نسيان المرأة المميزة لعادتها
قال رحمه الله: [وإن نسيتها عملت بالتمييز الصالح].
قوله: (وإن نسيتها) أي: نسيت عادتها، (عملت بالتمييز الصالح)، ولكن في بعض الأحيان تنسى العادة وزمانها، والمرأة المعتادة ينبغي أن تفهم فيها أمرين: أولاً: أن تعرف قدر العادة الذي هو الستة الأيام أو السبعة الأيام، أي: قدر ما يجري معها دم الحيض.
والأمر الثاني: أن تعرف هل عادتها في أول الشهر، أو آخر الشهر أي: كونك تعلم أن حيضها ستة أيام، لا يكفي؛ لأنه قد يرد
السؤال
هل تحسب ستة أيام من أول الشهر أو من وسط الشهر أو من آخره؟ فقد تجد امرأة تأتيها عادتها ستة أيام من أول الشهر، وتجد امرأة ثانية تأتيها عادتها ستة أيام من وسط الشهر، وتجد امرأة ثالثة تأتيها عادتها ستة أيام من آخر الشهر، فليست قضية قدر الحيض هي المعتبرة فقط، بل ينبغي أن تعرف في المعتادة أمرين: الأمر الأول: قدر العادة، وهو قدر الأيام التي تحيضها.
والأمر الثاني: زمان العادة -أول الشهر، وسط الشهر، آخر الشهر- لأنه لا تسألك إلا امرأة استمر معها الدم، وقد يستمر معها ستين يوماً، فلو قلت لها: تحيضي ستة أيام، مباشرة ستقول لك: رحمك الله، أستاً من أول الشهر، أم من وسط الشهر، أم من آخر الشهر؟ لأنها التبس عليها الأمر، ونسيت زمان العادة.
والمرأة أحياناً تنسى قدر الحيض ومكانه، أي: موضعه من الشهر: أوله، أوسطه، آخره.
وقد تعلم الموضع وتنسى القدر، أو تنسى القدر وتعلم الموضع.
فالحالة الأولى: أن تنسى القدر ولكن تعلم الموضع، فتقول: كانت لي عادة، ولكن نسيت الآن هل هي خمسة أيام، أو ستة أيام، أو سبعة أيام؟ لكني أعلم أنها دائماً تأتيني في أول الشهر.
الحالة الثانية: أن تنسى الموضع وتعلم القدر، فتقول: حيضي ستة أيام، ولكن لا أدري: أهي في أول الشهر، أم في وسطه، أم في آخره؟ الحالة الثالثة: أن تنسى القدر وتنسى الموضع.
وهذه الثالثة يسمونها: المتحيرة.
وأحياناً يقولون: المحيرة، وكلاهما صحيح.
قالوا: متحيرة في نفسها، ومحيرة؛ لأنها حيّرت العلماء رحمة الله عليهم؛ فنسيت قدر أيامها ونسيت موضع حيضها، فإن كانت نسيت قدر الأيام وعلمت المكان، فتقول لها: تحيضي ستاً أو سبعاً، وتردها إلى الغالب، بشرط: أن لا يكون لها تمييز صالح، وإن نسيت الموضع وعلمت القدر فتردها إلى أول الشهر؛ لأنه الأصل، فإذا قالت لك: أنا أعلم أن حيضي ستة أيام، ولكن نسيت هل هي في أول الشهر أو وسطه أو آخره؟ كما لو أغشي على امرأة -والعياذ بالله- بغيبوبة أو إغماء، ثم أفاقت ونزفت وقالت: أنا أذكر أني أحيض ستة أيام، ولكن نسيت أهي في أول الشهر أم في منتصفه أم في آخره؟ فتردها إلى أول الشهر؛ لأنه الأصل، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً) ثم يحكم بطهارتها بعد ذلك؛ لأن الأصل أنه لما جرى معها دم الحيض أنها حائض بمجرد جريانه، فلما دخل عليها أول يوم في الشهر فاليقين أنها حائض، ولذلك يقولون: إذا نسيت موضع عادتها ردت إلى أول شهرها.
ثم أيضاً هذه التي نسيت القدر، في بعض الأحيان تقول لك: أنا متأكدة أنه في وسط الشهر، أو أنا متأكدة أنه في النصف الأول من الشهر، لكن لا أدري أفي النصف الأول منه أم في النصف الثاني؟ أي: في السبعة الأيام الأول أو السبعة الأيام الثانية، ثم إذا قالت لك: أنا متأكدة أنه في آخر الشهر، ولكن ما أدري أفي نصف نصفه الأول الذي هو الربع الثالث، أم في الربع الرابع من الشهر؟ فيلتبس عليها، فهذه صورة ثانية من التي يلتبس عليها موضع العادة.
فبعض العلماء يقول -كما نبه المصنف عليه-: نردها إلى أول الشهر مطلقاً، سواء استيقنت الموضع ونسيت تحديده، أو نسيت الأمرين.
فإذا قالت لك: حيضي في النصف الثاني من الشهر، لكن لا أدري أيبدأ من خمسة عشر، أم يبدأ من ثلاثة وعشرين مثلاً فتقول: اليقين عندي أن تبدأ بأول الشهر كما يقول المصنف، والأقوى أن يقال: تبدأ من نصف الشهر الذي هو من يوم خمسة عشر، كما اختاره بعض العلماء رحمة الله عليهم؛ قالوا: لأننا على يقين أن النصف الأول هي طاهرة فيه، والشك إنما وقع في النصف الثاني، فينبغي أن يقصر الشك على موضع التردد ولا يلحق إلى موضع اليقين، وهذا لا شك أنه أقوى الأقوال، فيقال لها: اعتبري الست من أول منتصف الشهر الثاني، هذا إذا كانت لا تعلم موضعه.
إذن: لو قالت لك: أنا أعلم أن حيضتي في نصف الشهر الأول، ولكن لا أدري أفي أول الشهر يبدأ، أم من اليوم السابع، فتقول: اليقين أنك تبدئين من أول الشهر، فهي من أول الشهر حائض، وهكذا بالنسبة لنصفه الثاني.(25/16)
الحكم في نسيان غير المميزة لعادتها
قال المصنف رحمه الله: [فإن لم يكن لها تمييز، فغالب الحيض؛ كالعالمة بموضعه الناسية لعدده].
قوله: (كالعالمة بموضعه الناسية لعدده) سبحان الله العظيم! من دقة الفقهاء رحمة الله عليهم أنه من الممكن أن يجمعوا لك ثلاث مسائل في أصل وشبهه.
فالآن لما بين لك حكم المرأة الناسية، أدخل عليها كاف التشبيه، فقال: [كالعالمة بموضعه] فالآن أدخل لك صورتين: صورة الأصل التي نتكلم عليها، ومسألة النسيان.
قوله: [فإن لم يكن لها تمييز] لو قالت لك امرأة: العادة ليست لي عادة أو نسيت العادة بالكلية؟ فتقول: إذاً ميزي بلون او برائحة الدم؟ فإذا قالت: لا أستطيع أن أميز فإذا كان لا عادة لها ولا تمييز، رجعت إلى غالب الحيض.
فالدرجات عندنا كالآتي: أولاً: العادة، ثم يليها التمييز، ثم يليها الحكم بغالب الحيض.
هذا بالنسبة لأحوال المرأة المستحاضة.
قال المصنف رحمه الله: [كالعالمة بموضعه الناسية لعدده].
ردها إلى غالب الحيض، ثم أدخل مسألة العالمة بموضعه الناسية لقدره، وأيضاً العالمة بقدره الناسية لموضعه، أو الناسية لكلا الأمرين.
قال المصنف رحمه الله: [وإن علمت عدده ونسيت موضعه من الشهر].
كأن تقول: أنا أعلم أني أحيض ستة أيام، ولكن نسيت هل في أول الشهر أو في آخر الشهر.
(وإن علمت عدده، ونسيت موضعه من الشهر ولو في نصفه جلستها من أوله كمن لا عادة لها).
قوله: (ولو من نصفه) كما قدمنا الإشارة إلى الخلاف في ذلك.
قوله: (ولو من نصفه جلستها من أوله) فلو قالت لك: أنا أعلم أن القدر ستة أيام، ولكن لا أعلم الموضع؛ فإنها: ترد إلى أول الشهر مطلقاً.
والصحيح كما قلنا مذهب التفصيل: فإذا جهلت هل هو في النصف الأول أو الثاني فإننا نردها إلى أول الشهر، ما الدليل؟ أنه بدخولها في أول الشهر والدم معها فالأصل فيها أنها حائض، فنبقى على اليقين؛ لأن اليقين لا يزول بالشك.
فالأصل في الدم أنه دم حيض، وبناءً على ذلك قالوا: نحكم بكونها حائضاً بدخول أول الشهر، لكن قال: (ولو في نصفه) يعني: ولو وقع الشك في النصف الثاني، قال: (جلستها من أوله).
وقلنا: هذا مذهب مرجوح، والصحيح: أنها يفصل فيها على نصفه الثاني دون أوله.(25/17)
حكم المعتادة إذا اختلت عادتها
قال المصنف رحمه الله: [ومن زادت عادتها أو تقدمت أو تأخرت فما تكرر ثلاثاً حيض].
هنا مسألة أخرى، عرفنا المبتدأة والمعتادة والمميزة والمتحيرة، وعرفنا حكمهن، لكن هناك
السؤال
مثلاً عندنا المرأة معتادة لها سنة كاملة وهي تحيض ثمانية أيام على وتيرة واحدة، فلما حملت ووضعت جاءها دم الحيض بعد انتهائها من النفاس والوضع ولكنه أقلّ من الأمد الذي كانت تجلسه، فقد كان حيضها ثمانية أيام، ولكن بعد النفاس جاءها سبعة أيام، أو ستة أيام، أو خمسة أيام، وانقطع وبقيت طاهراً إلى أن جاء الشهر الثاني، فجاءها خمسة أيام وانقطع، ثم بقيت طاهراً، وفي الشهر الثالث جاءها خمسة أيام وانقطع، فما الحكم؟ نقول: انتقلت عادتها من الثمانية أيام إلى الخمسة، هذا إذا كان العدد أقل، لكن الإشكال هنا: لو أن عادتها خمسة أيام، ثم حملت وولدت، وبعد النفاس وانقطاع الدم دخلت في الحيض، فجاءها الحيض سبعاً بالزيادة، أو ثمانياً أو تسعاً، فما الحكم؟ مذهب الجمهور على أنها تجلس أيام الحيضة الأولى وهي الخمس، والزائد استحاضة، حتى يمر عليها ثلاثة أشهر بوتيرةٍ واحدةٍ، أو شهران عند الحنفية.
فنفصل الأقوال على هذه المذاهب: الحنفية يقولون: إذا اختلت عادتها بالزيادة، فجاءها في الشهر الأول ستة أيام بزيادة يوم، والشهر الثاني جاءها ستة أيام بزيادة يوم، فهذا اليوم في الشهر الأول نقول لها: صومي وصلي فيه.
ثم في الشهر الثاني بعد النفاس جاءها ستة أيام، فتثبت عادتها عند الحنفية ويطالبونها بقضاء اليوم السادس الذي مضى؛ لأنه ثبت أنه من الحيض.
عند الحنابلة والشافعية -وهو ما اختاره المصنف- يقولون كالآتي: لا بد من أن تمر عليها ثلاثة أشهر بعد النفاس: في الشهر الأول ستة أيام، وفي الشهر الثاني ستة أيام، وفي الشهر الثالث ستة أيام، ففي الشهر الأول تصوم وتصلي في اليوم السادس، وفي الشهر الثاني تصوم وتصلي فيه كذلك، وفي الشهر الثالث يثبت أنه حيض، فتطالب بقضاء اليومين: الأول: الذي هو السادس من الشهر الأول، والثاني: اليوم السادس من الشهر الثاني.
فالخلاصة أنهم يقولون: كل مختلة اختلت عادتها بالزيادة فإننا نحكم بصيامها وصلاتها في الشهر الأول، وفي الشهر الثاني تثبت عادتها عند الحنفية، وعند الشافعية والحنابلة لا تثبت إلا في الشهر الثالث.
أما المالكية فيقولون: كل امرأة اختلت عادتها بالزيادة فإنها تستظهر بثلاثة أيام، أي: كل زيادة بلغت ثلاثة أيام وأقل فهي حيض، ففي الشهر الأول بعد النفاس، يلحق المالكية اليوم السادس -الزائد- بالحيض، ثم إذا جاء الشهر الثاني، فإنهم يلحقون اليوم السادس أيضاً بالحيض، وفي الشهر الثالث يحكمون بكونه حيضاً، وبكونها قد صارت عادتها ستة أيام، فلا يطالبونها بالقضاء، فأصبح الخلاف بينهم وبين الشافعية والحنابلة والحنفية في هذا اليوم: أن أولئك يحكمون بصيامها وصحة صلاتها، وهؤلاء يلحقونها بالحائض ما دام أن الزيادة ثلاثة أيام فدون.
أما دليل المالكية على هذا الاستظهار فقالوا: إن الثلاث مهلة في الشرع؛ ولذلك قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] قالوا: عهدنا من الشرع أن الشيء إذا أراد الإنسان أن يمهل فيه فإنه يمهل بثلاث، فتأخذ بهذا بدل أن نضع ضابطاً من عندنا، وهذه المرأة التي اختل وضعها، يحتمل أنه حيض ويحتمل أنه ليس بحيض، فتحتاط بالثلاثة الأيام، وهذا الاستظهار مردود، ولذلك رده حتى أئمة المالكية، وقالوا: إنه باطل، وممن انتصر لرده الإمام الحافظ ابن عبد البر وقال: إنه لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة، ولذلك نبقى على ما ذكرناه من أن الأصل فيها أنها طاهر، ودليلنا على بطلان هذا الاستظهار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها) فردها إلى العادة ولم يستظهر، فدل على بطلان الاستظهار؛ ولذلك لا اعتداد بهذا الاستظهار، فإذا سمعت -مثلاً- عالماً يفتي بالثلاث فتعلم أنه قد درج على مذهب من يقول بالاستظهار، والصحيح عدم الاعتداد به.
قال المصنف رحمه الله: [وما نقص عن العادة طهر، وما عاد فيها جلسته].
هناك فرق بين اختلال عادة المرأة بالزيادة وبين اختلالها بالنقص، فإذا كانت عادتها ستة أيام وزادت عليها فإنها تنتظر ثلاثة أشهر عند الجمهور وشهرين عند الحنفية، هذا في حالة الزيادة، أما إذا كان الاختلال بالنقص فيحكم بكونها طاهراً بمجرد انقطاع الدم عنها.(25/18)
حكم الكدرة والصفرة
قال المصنف رحمه الله: [والصفرة والكدرة في زمن العادة حيض].
الصفرة والكدرة: الصفرة مأخوذة من اللون الأصفر، كما يقول العلماء رحمة الله عليهم: الصفرة التي تكون من المرأة كالصديد -كلون القيح- فيها خلاف للعلماء على ثلاثة أقوال: القول الأول: إلغاؤها مطلقاً، كما هو عند الظاهرية ومن وافقهم.
والقول الثاني: الاعتداد بها مطلقاً.
والقول الثالث: التفصيل، وهو أعدل المذاهب، فإن كانت الصفرة والكدرة في زمان الحيض فهي حيض، وإن كانت بعد انقضاء الحيض فليست بحيض.
والدليل على ذلك: قول أم عطية رضي الله عنها كما في البخاري وغيره: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الحيض شيئاً).
والدليل على الاعتداد بها: (أن أم المؤمنين عائشة كان النساء -كما في البخاري - يبعثن لها بالدّرجة فيها الصفرة والكدرة من دم الحيض، فتقول: انتظرن لا تعجلنّ حتى ترينّ القصة البيضاء)، الدُرْجة: مثل الخرقة (فيها الكرسف) الذي هو القطن، فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض.
فحكمت بكونها حائضاً، مع أن ذلك صفرة وليس بحمرة ولا غيرها من ألوان الحيض؛ فدل على أن الصفرة والكدرة في زمان الحيض حيض.(25/19)
تقطع الحيضة
قال المصنف رحمه الله: [ومن رأت يوماً دماً ويوماً نقاءً؛ فالدم حيض والنقاء طهر ما لم يعبر أكثره].
هذه المسألة فيها إشكال؛ لو أن امرأة قالت: يجري مني دم الحيض يوماً وينقطع يوماً، ثم يجري يوماً وينقطع يوماً وهكذا، فما الحكم؟ أولاً: مسائل الانقطاع هذه ينبغي أن يتنبه فيها للقاعدة التي ذكرناها في أقلّ الحيض، فعلى مذهب من يقول إنه لا حد لأقله -كالمالكية ومن اخترنا قوله- فإنه إذا مضى نصف يوم ثم كان اليوم الثاني طهر يوماً كاملاً، ثم خرج نصف يوم، ثم جاء طهر يوماً كاملاً فيرون أن ذلك من الحيض، فأيام الدم أيام حيض.
أما من يقول بالأقل فيشترط في هذه المسألة -عند الشافعية والحنابلة- أن يكون يوماً وليلة، مثال ذلك: أن ترى يوماً وليلة دماً، ويوماً وليلة طهراً وهكذا، لكن لو جئت تسأل شافعياً أو حنبلياً أو من يرجح مذهب الشافعية والحنبلية في امرأة جرى منها الدم نصف يوم، ثم انقطع يوماً ونصف، ثم نصف يوم، ثم انقطع يوماً ونصف، فإنه سيقول هذا ليس بحيض وإنما هو استحاضة.
فهذه فائدة معرفة أقلّ الحيض، فلا بد عند هؤلاء الذين يقولون بالأقل من أن يكون بلغ أقل الحيض، ولا يحكمون بكونه حيضاً إلا إذا بلغ الأقل، ولذلك قال المصنف: (ومن رأت يوماً دماً ويوماً طهراً).
والحنفية يقولون: يكون ثلاثة أيام دماً، ويوماً طهراً، وثلاثة أيام دماً، ويوماً طهراً؛ لأن الأقل عندهم ثلاثة أيام.
إذًا: فرض المسألة على المذاهب بهذا الشكل، عند الحنفية: تكون ثلاثة أيام دم؛ لأنهم يعتبرون الثلاث حداً أقلياً.
والمالكية لا يحددون ويقولون: أن ترى الدم، وعند الشافعية: أن يكون يوماً وليلة، والحنابلة مثلهم.
فقال المصنف رحمه الله: [ومن رأت يوماً دماً ويوماً نقاء فالدم حيض والنقاء طهر].
هذه مسألة خلافية: لو أن امرأة جاءتك وقالت: مكثت شهراً؛ أرى يوماً دماً ويوماً طهراً وهكذا فما الحكم؟ وعادتها خمسة أيام.
للعلماء فيها قولان: قال بعض العلماء: تجلس خمسة أيام من أول ما يأتيها الدم، فيصبح اليوم الأول الذي رأت فيه الدم حيضاً، وكذلك الثاني والثالث والرابع والخامس، ويصبح اليومان اللذان هما متخللان للخمسة أيام -اليوم الثاني والرابع- عند أصحاب هذا القول مع كونهما طهراً حيضاً.
هذا مذهب القول الأول.
القول الثاني يقول: اليوم الذي رأت فيه الدم يصير حيضاً، واليوم الذي رأت فيه النقاء يصير طهراً، ثم تعد بحسب أيام الدم، فاليوم الأول حيض، والثاني طهر، والثالث حيض، والرابع طهر، وهكذا حتى تبلغ الخمسة الأيام، والمذهب الثاني يسمى: مذهب التلفيق، وقال به فقهاء الشافعية والحنابلة والمالكية، وهو الأقوى والأرجح إن شاء الله.
فللعلماء وجهان: مذهب يقول: كل أيامها حيض بقدرها، فإذا كانت عادتها ستاً فإنها تعتبر بتمام اليوم السادس، وهذا المذهب مرجوح كما قلنا.
المذهب الثاني يقول: إنها تعتبر طاهراً في اليوم الذي فيه نقاء، حائضاً في اليوم الذي فيه دم، وبناءً على ذلك: إذا كانت عادتها ستة أيام فمتى يحكم بخروجها من عادتها على القول الثاني؟ يقولون: اليوم الأول حائض، واليوم الثاني طاهر فتصوم وتصلي، واليوم الثالث والخامس والسابع والتاسع والحادي عشر حائض؛ إذًا: تخرج بتمام الحادي عشر.
وهذا يسميه العلماء: مذهب التلفيق؛ لأنها تلفق أيامها، وقال به جمهور العلماء، وهو موجود عند المالكية والشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم، وهو أقوى الأقوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علّق الحيض على وجود الدم، وهو أصل في الشرع، فإن تخلّف الدم ورأت النقاء فإنها طاهر، ولا يحكم بكونها حائضاً.(25/20)
فائدة في مسألة سؤال الشيخ لتلاميذه أمام الناس
هنا اقتراح يقول: لو كان هناك بعض الأسئلة من قبل الشيخ في نهاية كل درس؛ وذلك لأمرين: حتى يعرف مدى فهم الطلاب وإدراكهم للدرس، ولتمرين الطلاب على المسائل وحلّها ومعرفتها، وجزاكم الله خيراً.
أقول: جزاك الله خيراً على هذا، والاقتراحات- شيء طيب حقيقةً وإذا كان أحد يريد أن يرى رأياً في أمر فيه مصلحة للجميع فهذا لا شك أنه من النصيحة، وجزى الله الأخ الفاضل على هذا الاقتراح خيراً، لكن عسى الله أن يعيننا عليه.
هذا الاقتراح محل نظر، أولاً: تعرفون أن الدرس نصف شهري، والوقت ضيق جداً.
والأمر الثاني: أنا أمتنع من السؤال لأمور؛ أولاً: أنه فتنة للمسئول، فقل أن تجد طالباً يقوم يجيب أمام إخوانه، ويسلم من الرياء وحظوظ النفس ووساوس الشيطان، وأنا أقول: قلّ؛ لأن أكثر النفوس ضعيفة، ولعل أن يكون هناك نوادر، لكن هذا أمر آخر، أما الغالب: الفتنة، ولا يجيب أحد غالباً إلا ويفتن، فلو أن إنساناً سلم، يبقى الإشكال في أمر آخر وهو: لو أني اخترت أحداً يجيب، فسألته فلم يستطع أن يجيب فماذا تتوقعون؟ قد تضعف همته، وتنكسر نفسيته، وقد يقول: الشيخ ينظر إليّ نظرة أخرى، ولن أحضر الدرس مرة أخرى، وقد وقع من ذلك شيء لزملاء أعرفهم.
الأمر الثالث: الطالب حينما تقيمه فيجيب، يحتاج عشر دقائق -الله المستعان- حتى يتهيأ للسؤال، فتصتك القدمان، ويتلعثم اللسان، ويبلع ريقه، ويجلس فترة حتى يستطيع مواجهة الجمهور، وهذا أمر صعب، وخاصة أن الإنسان قد يكون لأول مرة يجيب في محضر، ويضيع الوقت، ثم قد تكون إجابته ناقصة، وأنا حقيقة أراعي ما كنا عليه على أيام مشايخنا، فقد كانوا يستحبون أن لا يتكلم الطالب في مجالس العلم؛ لأن ذلك أدعى للهيبة، وأحفظ لحرمة الدرس، ولكم عليّ -إن شاء الله- ما أخرج من هنا حتى أجيب آخر سائل، وأنا أقول: هذه الطريقة اجتهاداً مني، وقد يكون العلماء والمشايخ والفضلاء لهم طريقة أخرى للمناقشة، لكن الذي أراه: أن نلقي الدروس ونلقي الفوائد، فيذهب الطالب إلى بيته مخلصاً لوجه الله عز وجل، يضع كتابه ودفتره أمامه ويراجع ويحرر، ويرى اثنين من طلاب العلم يسهر معهم أو يراجع معهم أسبوعياً، وإذا به بإذن الله عز وجل قد ضبط العلم وأتقنه.
أما أن يحُرَج أو يجيب أمام الناس فهي في الحقيقة تذهب الحرمة، وأنا أقول من باب الفائدة: لا أذكر أني تكلمت خلال أكثر من عشر سنوات بين يدي أبي إلا مرة أو مرتين، سألت سؤالاً فقط، وأما غيره فلا ولله الحمد؛ لأنه أدعى للحرمة وأدعى للهيبة، والإنسان الذي هو طالب علم يركز، ويتعود على الفهم بالإلقاء، ولذلك يقولون: درجات الفهم أعلاها وأرقاها: أن يكون الإنسان عنده استيعاب من نفسه، لا من خارج؛ لأن قضية المناقشات والحوار صحيح أنها تحرك الطالب، لكن تحركه متى ما كان الحوار موجوداً، لكن إذا كان طالب العلم الكامل تحركه العلوم وتحركه الفوائد والحكم، وكان متفاعلاً مع ذات العلم لا لمناقشة، فهذه أصالة في الفهم، وقوة في شخصية طالب العلم، وهذا رأي ووجهة نظر، وقد تختلف آراء العلماء، وكلٌ له وجهة نظر، وصحيح أن الحوار فيه فوائد؛ منها: أن الطالب يكمّل نقصه، كما يقولون: يتشجع على مواجهة الناس، وهذه عليها ملاحظة؛ لأن كل ما كان طالب العلم ينتظر من الله أن يفتح عليه فهذا أفضل، والله ما كنا نستطيع أن نقف أمام شخص أو شخصين، وكان يقال: المفروض أنك تتهيب أن تقف أمام الناس، وكان الوالد يقول لي كلمة واحدة، وأقول لكل طالب علم: اصبر، فإن كان عندك علم يراد به وجه الله فسيخرجك الله ولو بعد حين، وسيقبض لك من يأخذ عنك العلم، ويقيض لك من ينتفع بك، ويقيض لك من يحبك ويصدق حتى في علمه وتعليمه والأخذ عنه، هذا أمر يرجع إلى معاملة الإنسان مع الله عز وجل، وهي أسباب، قد تختلف فيها وجهات النظر، لكن أنا أرى الأخذ بالاحتياط والسلامة، هذا في وجهة نظري، خاصة أن الوقت ضيق جداً، وتصوروا لو أننا جلسنا نصف ساعة نناقش لذهب نصف وقت الدرس، وقد يكون الطالب في بعض الأحيان يحب أن يناقش، يعني تأتي تسأله وإذا هو الذي يسألك، وتأتي تستذكر معه -مثلاً- وإذا هو الذي يذاكرك، فقضية المناقشة لها سلبيات عديدة، وقالوا أيضاً عنها: إنها تجرئ بعض طلاب العلم الذين لا يحسنون وتبرزهم في الناس، فعندما يتعود الإنسان على الجرأة ويفتح له المجال في حلق العلم، قد يتجرأ على الفتوى، وقد يتجرأ على العلم، ولذلك تجد بعض النوعيات التي تكون بهذه المثابة تضر بنفسها وتضر بغيرها.
على العموم: هذه وجهة نظر، لكن لو ترجح عندك أنك تناقش وتناظر، فكل له مشربه.
ونسأل الله العظيم أن يرينا الصواب وأن يوفقنا له.
والله تعالى أعلم.(25/21)
الأسئلة(25/22)
انقطاع الدم لمدة عام بسبب المرض
السؤال
امرأة انقطع عنها الدم لمدة عام كامل أو يزيد، فهل هي في طهر طوال هذه المدة؟ وما الحكم إن كان سبب الانقطاع مرضاً؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: مسألة الطهر بحثنا فيها من جانبين: أقل الطهر، وأكثر الطهر.
أقل الطهر: وهي لا تسأل عن أقلّ الطهر، إذ أن أقلّ الطهر تستفيد منه لما تكون المرأة يجري معها الدم، فتقول: إن عادتها -مثلاً- ستة أيام، فستة أيام هي الحيض، وطهرها هو الباقي إذا كان لها عادة، أما إذا لم يكن لها عادة فتعطيها أقلّ الطهر في جريان الدم، لكن لو أن المرأة استمر معها الطهر أكثر من سنة أو سنتين أو ثلاث فلا حد لأكثر الطهر فقد تبقى المرأة طاهرة خمس سنوات أو ست سنوات ويحكم بكونها طاهرة؛ لأن الشرع علّق الحكم على وجود الدم، والدم غير موجود، فهي طاهرة طيلة انقطاع الدم عنها، ولا يحكم بكونها حائضاً بالتقدير والأمد ما دام أن الدم غير موجود.
والله تعالى أعلم.(25/23)
استمناء الرجل بيد الزوجة أثناء حيضها
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تستمني لزوجها بيدها وهي حائض؟
الجواب
قد يستغرب البعض من هذا السؤال، لكن اعذروا أخاكم، والحقيقة أن مسائل الدين قد يكون بعضها محرجاً، لكن هذا ديننا وهذه شريعتنا، وافرض أنك طالب علم ويوماً من الأيام سئلت هذا السؤال، فبماذا ستجيب؟ قال بعض العلماء: أحل الله المرأة للرجل، فله أن يستمني بيدها، وله أن يستمني بالمفاخذة، وله أن يستمني بأي وضع ما لم يكن في الموضع المحرم؛ لأن الله يقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، وقال: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223]، فلما كان ضرباً من الشهوة، والناس يختلفون في انقطاع وانكفاف شهوتهم؛ فإن الأصل حِل الاستمتاع حتى يدل الدليل على المنع، فاستمناء الرجل بيد المرأة أو بالفخذ كل ذلك جائز، ولا حرج فيه حتى يدل الدليل على التحريم والمنع، وقد يجوز الشيء منفصلاً ولا يجوز متصلاً، ولذلك يحرم الاستمناء متصلاً -بيد نفسه- ويحل منفصلاً -بيد غيره كالزوجة مثلاً-؛ لأن الشرع أذن بالاستمتاع بالموضع المنفصل، ولم يأذن بالاستمتاع بالموضع المتصل، فكان محرماً في الاتصال حلالاً في الانفصال، فلا حرج أن يستمني بيد المرأة، ولا إثم عليه ولا عليها في ذلك؛ لأن الرجال يختلفون في الشهوة، والمقصود من زواج الرجل من المرأة أن تطفئ شهوته، وأن تعفه عن الحرام، فالأصل في الاستمتاع الحلّ حتى يدل الدليل على التحريم، ولا دليل هنا على التحريم.
والله تعالى أعلم.(25/24)
حكم استعمال اللولب
السؤال
ذكرتم في الدرس الماضي أن استعمال ما يسمى باللولب غير جائز، فهل يعني أنه محرم؟ وماذا تفعل المرأة التي اضطرت إلى تركيبه؛ نظراً لعدم قدرتها على الحمل بكثرة، وهل يلزم عليها إخراجه؟
الجواب
اللولب لا يجوز، وقد بحثت جميع المبررات التي ذكرت له فلم أر مسوغاً لوضعه.
أولاً: فيه استباحة النظر إلى الفرج، وقد يكون الطبيب رجلاً، وهذا معلوم أن الأصل حرمته.
ثانياً: فيه استباحة الإيلاج في الموضع، ويتكرر ذلك مرات وكرات؛ أولاً: لوضعه، ثم للكشف عليه، وتهيئة وضعه ومناسبته للمكان، وكل ذلك يحصل فيه الإيلاج الذي حرم الله عز وجل، فأصبح فيه النظر، وأصبح فيه الإيلاج، مع ما فيه من مفاسد على الموضع، ومفاسد على العادة، فقلّ أن تضعه امرأة -بشهادة أهل الخبرة والأطباء والحس والتجربة- إلا اختلت عادتها، واضطرب عليها حيضها، وأصبح عندها ارتباك حتى تلتبس عليها صلاتها، ويلتبس عليها صيامها، وفيه من المفاسد أنه يمنع النسل، ويحول بين النسل الذي هو مقصود الزواج؛ قال صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا، فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة) فمقصود الشرع: التناسل والتكاثر.
والحقيقة أن كثيراً من النساء -أصلحهن الله- لا يرغبن في الحمل إلا من رحم الله، وهذا لا شك أنه مخالف للشرع، وفيه تفويت لكثير من المصالح الشرعية، وعلى المرأة أن تتوكل على الله، وأن تحسن اليقين بالله، وقد كان النساء إلى عهد قريب من الزمان تلد المرأة أربعة عشر ولداً وفيهم البركة وفيهم الخير، وهي من أحسن ما يكون وما وقع لها شيء، واليوم تجد المرأة بمجرد ما تضع الابن والبنت إذا بها لا تريد الحمل، وتختلق المبررات والأسباب لكي تقطع الحمل، وهذا من محق البركة، نسأل الله السلامة والعافية.
يذكرون عن طبيب هندي وثني أنه جاءه رجل مسلم وقال له: أريد أن تربط لزوجتي، فقال له: لماذا؟ قال له: لا أريد النسل، الذي عندي يكفي، فبكى الطبيب، فسأله: ما الذي يبكيك؟ قال له: كان لي أربعة من الولد، ثم لما أنجبت زوجتي الأربعة قالت: لا أريد الحمل، الأربعة يكفون، فعملت العملية لها، ثم شاء الله أن الأربعة ذهبوا في حادث واحد، وبقي هو وامرأته، لا تنجب ولا يستطيع أن ينجب منها.
فالإنسان إذا حمد نعمة الله بارك الله له فيها، وإذا كفر نعمة الله عز وجل محق الله بركته، وأي بركة في الزواج أعظم من أن تخلف وراءك، وما يدريك أن هؤلاء الأبكار الذين جاءوك قد يكون لا خير فيهم، وقد تكون ذرية غير صالحة، وأن الخير يكون لك في آخر ولد، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلعق اليد ولعق الإناء وقال: (إنك لا تدري في أي طعامك البركة)، فقد تكون آخر لقمة من الطعام هي التي فيها البركة، وقد يكون آخر ابن أو آخر بنت تنجبها هي التي فيها البركة.
ونسأل الله العظيم أن يرزقنا السداد والصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(25/25)
شرح زاد المستقنع - باب الحيض [3]
التفريق بين المتشابهات من المهمات في الشريعة، ولهذا بحث العلماء الفرق بين الحيض والاستحاضة وما يترتب على هذا من أحكام، وبحثوا كذلك أوجه الشبه بين الاستحاضة وبعض المسائل القريبة منها، حتى يلحق النظير بنظيره.(26/1)
أحكام المستحاضة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والمستحاضة].
شرع المصنف رحمه الله بهذه العبارة في بيان أحكام المستحاضة، والمستحاضة نوع من النساء تتعلق بها أحكام في صلاتها وصيامها مفرعة على الحكم بطهارتها.(26/2)
تعريف الاستحاضة
يقال: استحاضة، أي: استفعال من الحيض، أي: أن الدم استمر معها، فالأصل أن دم الحيض يقف عند أمد معين، كأن تمر العادة على المرأة ثمانية أيام أو سبعة أيام أو ستة، وإذا بها في هذا الشهر استمر معها الدم عشرين يوماً أو شهراً كاملاً أو شهرين أو ثلاثة، ولربما يستمر معها الدم سنة كاملة.
فالمستحاضة إما أن يكون دمها قد جاء قبل أمد الحيض، أو يكون جاء بعد أمد الحيض، وربما يستمر فيتصل بين الحيضتين، كأن تجلس شهرين أو ثلاثة أو أربعة والدم يجري معها.
ولا شك أن الكلام على مسائل الحيض يتضمن الكلام على حكم الاستحاضة.
وقال بعض العلماء في تعريفها: إنها دم فساد وعلة يرخيه الرحم من أدناه لا من قعره، أو من أعلاه لا من قعره، كله واحد.
وبعضهم يقول: دم فساد وعلة لا في حيض ولا نفاس، أي: لا في أمد الحيض ولا في أمد النفاس؛ لأن دم الاستحاضة يخرج عن كونه حيضاً وعن كونه نفاساً، ففي النفاس يكون جريان الدم مع المرأة أربعين يوماً، فإذا زاد إلى خمسين أو إلى ستين أو إلى سبعين، فحينئذٍ تقول: النفاس أربعون، وما زاد فهو استحاضة ما لم يكن له علاقة دم الحيض.(26/3)
أصل الاستحاضة
الاستحاضة أصلها عرق؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سألته فاطمة عن استحاضتها قال عليه الصلاة والسلام: (إنما ذلك عرق)، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (إنها ركضة من الشيطان) قال بعض العلماء: ركضة حقيقية، أي: أن الشيطان يركض ويضرب هذا الموضع ضرباً حقيقياً كالركض الذي يكون من الفارس أو من الرجل، وقال بعض العلماء: بل إنه ركض معنوي، بمعنى: أن الشيطان يتذرّع بجريان الدم مع المرأة على هذه الصورة، فيلبّس عليها صلاتها، ويدخلها في متاهة، فلا تدري أهي حائض فلا تصلي ولا تصوم، أو ليست بحائض فيجب عليها الصوم وتجب عليها الصلاة.
قالوا: فوصف النبي صلى الله عليه وسلم الاستحاضة بكونها ركضة لمكان التلبيس الذي يكون من الشيطان.
هذا من جهة المعنى.
أما بالنسبة لحقيقة هذا العرق فقد وردت له أسماء، فالثابت في السنن أن اسمه: العاذل، وفي الرواية الثانية -كما أشار إليها ابن الأثير ورواها بعضهم-: العاذر، فالرواية الأولى باللام: العاذل، والرواية الثانية بالراء: العاذر، وذكر الإمام الحافظ العيني رحمه الله صاحب العمدة أن هناك اسماً له وهو: العادل، بالدال بدل الذال.
وهناك اسم رابع رواه الإمام أحمد في مسنده أنه: العاند، فهذه أربعة أسماء: العاذل، والعاذر، والعادل، والعاند.
قالوا: سمي عاذلاً: وليس على الحقيقة، فليس هناك عرق في الجسد اسمه: عاذل؛ والسبب في ذلك: أن بعض الفقهاء سأل بعض الأطباء عن عرق اسمه العاذل فلم يعرفوه، والواقع أن العلماء قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بكونه عاذلاً من العذل واللوم؛ لأنه يوجب عذل المرأة ولومها، وقيل: إنه يتسبب في العذل واللوم، لا أن اسمه: عرق العاذل.
وأما تسميته بالعادل؛ فالعادل عن الشيء هو الجائر عنه، تقول: عدلت عن الطريق إذا جرت عنه وحدت عنه؛ لأنه بخروج المرأة عن عادتها بالحيض ودخولها في الاستحاضة تكون عدلت عن الدم الطبيعي لها، وهو دم الجبلة والطبيعة والصحة -دم الحيض- إلى دم الفساد والعلة والمرض، فعدلت عن الأصل؛ لأن الأصل في الدم أن يجري معها على الصحة فجرى معها على سبيل المرض.
وأما العاذر قالوا: لأن المرأة تعذر بوجوده.
وأما العاند: فلمكان استمرار الدم كأنه عنيد، وكأنه كالممتنع والصعب على الإنسان.
هذا بالنسبة لأسماء عرق دم الاستحاضة.(26/4)
الفرق بين الحيض والاستحاضة
وهناك فوارق بين الحيض وبين الاستحاضة، فيفرق بين الحيض وبين الاستحاضة بأمور: أولاً: من جهة المكان، فدم الحيض يخرج من قعر الرحم، وأما دم الاستحاضة فإنه يخرج من أعلى الرحم وأدناه، هذا بالنسبة لمكان الدمين.
أما بالنسبة لأوصاف الدمين: فإن دم الحيض أشد سواداً من دم الاستحاضة؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن دم الحيض دم أسود يعرف) فأعطاه الوصف من كونه دماً أسود يعرف، فقالوا: يعرف بالسواد والحمرة الشديدة، وقد جاء في بعض الأحاديث وصفه بكونه محتدم وبحراني، ولكنها أحاديث ضعيفة، كما نبه عليه الحافظ ابن الملقن في خلاصة البدر المنير.
الفارق الثالث: وجود الألم، فإن دم الحيض يكون فيه حرارة وألم للمرأة، بخلاف دم الاستحاضة فإنه لا يكون فيه الألم الموجود في دم الحيض، وقد تقدم معنا ضوابط التمييز التي هي: اللون، والريح، والألم، والكثرة والقلة، والغلظ والرقة، فهذا بالنسبة لما يميز به بين دم الحيض ودم الاستحاضة.
وتقدم معرفة أقلّ الحيض وأكثر الحيض، وأقلّ الطهر وأكثر الطهر، وبينا خلاف العلماء رحمة الله عليهم.
فيرد السؤال بعد أن عرفنا من هي المرأة الحائض؟ ومتى يحكم للمرأة بكونها حائض، أو بكونها غير حائض؟ فتقول المرأة: إذا حكمت عليَّ بكوني مستحاضة، فما الذي يلزمني من جهة الطهارة، وكيفية أداء الصلوات؟ وماذا يترتب على الحكم بكوني مستحاضة من جهة الوطء؟ وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالمرأة المستحاضة.
فشرع المصنف رحمه الله في بيان هذه الأحكام بقوله: [والمستحاضة ونحوها] أي: المرأة إذا حكم بكونها مستحاضة.
وقوله: (ونحوها) نحا الشيء نحواً: إذا قصده ومال إليه وطلبه.
وقد يطلق النحو بمعنى: الجهة، تقول: وجهت وجهي نحو القبلة، أي: جهة القبلة.
وقد يطلق النحو بمعنى: المثيل والشبيه؛ كما في الصحيحين من حديث عثمان لما توضأ وأسبغ الوضوء ثم قال: إن النبي صلوات الله وسلامه عليه قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا) أي: مثل وشبه وضوئي هذا.
فهذه إطلاقات النحو، فمراد المصنف بقوله: (والمستحاضة ونحوها) يعني: شبهها.
أولاً: نريد أن نعرف ما الذي يلزم المستحاضة؟ ثم بعد ذلك نعرف من يشبه المستحاضة؟ ثم نعرف ما هو الحكم المشترك بين المستحاضة وغير المستحاضة؟(26/5)
ما ينبغي على المستحاضة
المستحاضة فيها أمور: أولاً: أجمع العلماء على أن المرأة إذا حكم بانتهاء حيضها ودخولها في الاستحاضة فإنه يجب عليها أن تغتسل، وهذا الحكم دلّ عليه ظاهر التنزيل والنصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل ثم لتصل) والمرأة المستحاضة في الأصل أنها حائض، ثم لما انتهت أيام حيضها دخلت في الوصف بكونها مستحاضة؛ فلا نتكلم عن امرأة حاضت وانقطع دمها عند انتهاء حيضها، إنما نتكلم عن امرأة حاضت واستمر معها الدم فوق عادتها وأكثر من أمد عادتها، فلو كانت المرأة التي تسألك يستمر معها الحيض ستة أيام، وكان من عادتها أن ترى علامة الطهر بجفاف الموضع أو ترى القصة البيضاء، ولكنها فوجئت بالدم يستمر زيادة على اليوم السادس ولا يرقأ لها، فاستمر معها اليوم السابع والثامن والتاسع والعاشر إلى آخر الشهر، فبمجرد مرور اليوم السادس الذي هو آخر أيام العادة، سيرد السؤال عن حكم هذه المرأة، فتقول مباشرة: هذه المرأة أصبحت مستحاضة عند انتهاء أمد حيضها، سواء انتهى بالزمان أو انتهى بالوصف؛ فانتهاء زمانه بانتهاء زمان حيضها وهو: ستة أيام، وانتهاؤه بالوصف: كأن يكون دمها أحمر شديد الحمرة، فإذا به بعد السادس يصير أحمر مشرقاً أو أصفر أو أكدر كما ذكرنا.
فإذا دخلت المرأة في اليوم السابع أعطيناها وصف الاستحاضة، فأول ما يجب عليها: أن تغتسل عند انتهاء أمد الحيض، وهذا بالإجماع.
ثانياً: يلزمها طهارة موضعها -أي: موضع الاستحاضة- لأنه خارج نجس من موضع معتبر؛ لأن الخارج النجس له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون من الموضع المعتبر الذي هو القبل أو الدبر.
الحالة الثانية: أن يكون من موضع غير معتبر كسائر الجسد، واختلف في الفم كما ذكرناه في القيء.
فالمرأة المستحاضة يجب عليها غسل فرجها؛ لأن هذا الدم خارج نجس من الموضع المعتبر، فكما أن المرأة يجب عليها الاستنجاء أو الاستجمار إذا خرج منها البول، كذلك يجب عليها أن تغسل الموضع إذا خرج منها الدم؛ لأنه خارج نجس -كالبول- من الموضع المعتبر.
وغسلها لهذا الموضع، للعلماء فيه مسلكان: بعض العلماء يقول: غسل هذا الموضع أوجبناه على المستحاضة بدليل النقل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (اغسلي عنك الدم ثم صلي) للمرأة المستحاضة، قوله: (لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فإذا هي خلّفت ذلك فلتغتسل ثم لتصلي) فهذه الرواية نثبت بها الغسل.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (اغسلي عنك الدم) أمر بغسل الموضع، قال بعض العلماء: أمرها أن تغسل الدم، والأصل أنه دم الحيض، فقوله: (اغسلي عنك الدم) المراد به: دم الحيض، وهذا ضعيف، وإنما المراد به (اغسلي عنك الدم) أي: الدم الذي يجري معك؛ لأنها قد حكم بكونها مستحاضة، فدل على أن دم الاستحاضة يعتبر نجساً كدم الحيض.
وهناك طبعاً مسلك ثانٍ: وهو مسلك القياس، فيقولون: الدم نجس كسائر الفضلات الخارجة من الموضع الذي هو القبل.
فنخلص من هذا إلى أن الحكم هو غسل الموضع؛ والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لـ فاطمة رضي الله عنها: (اغسلي عنك الدم)، فعرفنا أنه يلزمها غسل الفرج.(26/6)
أحوال المستحاضة
يرد
السؤال
إذا كنت تقول بأنه يجب غسل الموضع لأجل الدم فما قولك في المستحاضة؛ لأنها يجري معها الدم باستمرار، وقد يستمر معها الدم اليوم كاملاً، فكيف تصلي وتؤدي عبادتها مع جريان الدم منها؟ قالوا: إن المستحاضة لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون استحاضتها خفيفة، بمعنى: أنها لو وضعت قطناً أو قماشاً انحبس الدم وانكف، فيلزمها وضع هذا القطن، ثم تصلي والدم مستمسك معها لمكان خفته، والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام لـ حمنة بنت جحش رضي الله عنها لما قالت: (يا رسول الله! إني أستحاض حيضة شديدة فلا أطهر، فقال عليه الصلاة والسلام: أنعت لك الكرسف) (أنعت) من النعت وهو: الوصف.
(الكرسف): هو القطن، اسم من أسماء القطن، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنعتِ لك الكرسف) أي: أصف لك علاجاً لهذا الدم الذي لا يرقأ: أن تضعي في الموضع أو تسدي الموضع بالقطن، قالت: (يا رسول الله! هو أكثر من ذلك) موضع الشاهد في قوله: (أنعت لك الكرسف) قال العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (أنعت لك الكرسف:) فيه دليل على أن المرأة المستحاضة التي يجري معها دم الاستحاضة تغسل الموضع أولاً لما ذكرنا، ثم تضع القطن؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما كان نقاء الموضع واجباً عليها من أجل صلاتها وعبادتها، وهذا الواجب يفتقر إلى وضع حائل وحاجز -القطن- وجب وضعه، هذا بالنسبة للحالة الأولى: أن يكون دم المستحاضة خفيفاً، بحيث لو وضعت قطعة من قماش أو قطن رقأ الدم وسكن.
الحالة الثانية: أن يكون الدم شديداً أو ثجّاجاً، ففي هذه الحالة تغسل الموضع؛ لما ذكرنا في النص، ثم تضع القطن وتشدّ الموضع، أو تشد الموضع دون وجود حائل من قطن أو قماش.
وشد الموضع يكون إما يجمع حافتي الفرج، أو بوضع الحبل أو الذي يشد على نفس الموضع على حسب ما ترى المرأة أنه يسد أو يكف عنها الدم، وهذا هو الذي عبّر عنه المصنف بقوله: (وتعصب فرجها) والعصب والعصابة مأخوذة من الإحاطة، سميت العصابة عصابة؛ لأنها تحيط بالشيء، وسمي قرابة الإنسان عصبة؛ لأنه إذا نزلت به ضائقة أو شدة أحاطوا به بإذن الله عز وجل وكانوا معه، فالعصابة أصلها الإحاطة، فلما قال: (تعصب) بمعنى: أنها تحيط، وبناءً على هذا التعبير قالوا: تشد طرفي الموضع، والدليل على أنه يلزمها هذا الشد ظاهر، هو حديث حمنة؛ فإنها لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أستحاض حيضة شديدة فلا أطهر، قال عليه الصلاة والسلام: أنعت لك الكرسف، قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك -وفي رواية: هو أكثر من ذلك- فقال عليه الصلاة والسلام: تلجّمي) والتلجم مأخوذ من اللجام، واللجام في الأصل يكون حائلاً كما يقال: لجام الدابة؛ لأنه يلجمها فيمنعها، فهو حائل ومانع، ولذلك فقوله عليه الصلاة والسلام: (تلجّمي) قال العلماء: معناه اعصبي الفرج؛ لأن عصبه لجام وحائل ومانع يقي من خروج الخارج، أو يحفظ الموضع من إخراج الخارج، وبناءً على ذلك: استنبط العلماء من قوله عليه الصلاة والسلام: (تلجمي) دليلاً على أن السنة أن المرأة تشد الموضع إذا غلبها الدم.
هذا بالنسبة لأحوال المستحاضة إذا حكم بانتهاء حيضها ودخولها في الاستحاضة.
ودم الاستحاضة دم نجس محكوم بنجاسته؛ لأن قوله: (اغسلي عنك الدم) يدل على أن الدم نجس؛ لأن الغسل يكون لغير الطاهر، ولما كان هذا الدم لا يرقأ خفف في حكمه، فأُلزم المكلف بما في وسعه وسقط عنه ما ليس في الوسع.
وتوضيح ذلك: أن المرأة تضع القطن وتشد الموضع، وإن غلبها الدم صلت ولو جرى معها، أي: لو غلبها بعد اللجام والعصب وجرى معها فلا تكلف أكثر مما فعلت؛ لأن هذا حد التكليف.(26/7)
ما يلحق بالمستحاضة
قول المصنف: (ونحوها) يعني: نحو المستحاضة، والنحو بمعنى: المثل والشبيه، فمن هو شبيه المستحاضة ومن هو مثيلها؟ قالوا: شبيه المستحاضة ومثيلها: خارج نجس لا يرقأ، أو خارج طاهر لا يرقأ؛ لأن عندنا في الاستحاضة أموراً: أولاً: أنه خارج، وأنه نجس، وأنه يوجب انتقاض الطهارة، أي: أنه حدث، والذي يكون مثل الاستحاضة إما أن يكون نحوها، بمعنى أن يكون شبيهاً للمستحاضة من كل وجه، وهذه حالة، أو شبيهاً لها من بعض الوجوه ويأخذ حكمها من بعض الوجوه، وهذه حالة ثانية.(26/8)
حكم من به سلس البول
ونبدأ بالشبيه الذي يشبه المستحاضة من كل الوجوه: وذلك مثل: المصاب بسلس البول، أو سلس المذي، فإذا نظرت إلى كون المستحاضة قد خرج معها الدم، تقول: هذا الدم -أعني: دم الاستحاضة- دم نجس من خارج معتبر غلب بكثرة خروجه، وكذلك من به سلس بول، فإن البول خارج نجس يوجب انتقاض الوضوء كما توجبه الاستحاضة؛ وبناءً على ذلك يقولون: يأخذ حكم الاستحاضة؛ لأنه نجس كالدم، وخارج من الموضع كالدم، فمن كان به سلس بول أو سلس مذي فحكمه حكم الاستحاضة؛ لأن المذي نجس والبول نجس.
هذا مثال واحد؛ وهو من به سلس البول وسلس المذي -وأوصيكم بالشمولية في التمثيل، أي: لا تنحصر على مثال أو مثالين، بل نوع في التمثيل-(26/9)
حكم من به ناسور أو باسور
فإذا ثبت أن الذي به سلس البول أو سلس المذي يشبه المستحاضة من كل وجه؛ لأن هذا خارج نجس من قُبل وهذا خارج نجس من قُبل، فهل هناك شبيه للمستحاضة في خارج من غير القُبل؟ نقول: نعم، مثل الذي به الناسور -أعاذنا الله وإياكم منه- فإن النواسير تكون في داخل الفرج، وتستطيع أن تعطيها حكم الاستحاضة، ولماذا فرقنا بين الناسور والباسور؟
الجواب
لأن البواسير تارة تكون على فتحة العضو -فتحة الشرج- وتارة تكون منحازة، بحيث إنه إذا خرج منها الدم يخرج من الخارج، لا من الفتحة نفسها ولا من الداخل، فهناك فرق بين الناسور والباسور، فإن الناسور إذا خرج من الداخل كان دماً كعرق الاستحاضة الذي يخرج الدم من داخل، والباسور يخرج دماً لكنه ليس من الموضع، فشابه الاستحاضة من جهة النجاسة لكنه لم يشابه من جهة التأثير في نقض الطهارة، ولذلك فالبواسير لا توجب انتقاض الوضوء، ولكن الناسور إذا كان داخل الدبر فإنه يوجب انتقاض الوضوء، وبناءً على هذا تقول: من به سلس المذي وسلس البول يشبه المستحاضة من كل وجه؛ لأن العضو واحد من جهة كون هذا قبلاً وهذا قبلاً، والخارج موصوف بأوصاف مكتملة، فيكتمل القياس من كل الوجوه، وهناك خارج مع اختلاف النوع، مثل من به بواسير أو نواسير من داخل الفرج لا من خارجه.
ومن به ناسور أو من به سلس البول ومن به سلس المذي فإنه يفصل فيه كالمستحاضة؛ فإن كان هذا الناسور يخرج قطرات يسيرة، ويمكن للشخص أن يعيد الوضوء، وأن يغسل الموضع، وأن يغسل الثوب دون حرج شديد فحينئذٍ نقول: أنت باقٍ على الأصل؛ لأن غسل المرة والمرتين ليس فيه حرج، لكن لو أن هذا الناسور -والعياذ بالله- نزف وغلب صاحبه، خاصة في أيام مثل أيام الشتاء التي يصعب معها الغسل ويصعب معها إصابة الموضع مع وجود الجروح، وقد ينصح الأطباء في بعض الأحيان بعدم الغسل؛ لخوف الالتهاب أو نحو هذا، فحينئذٍ نقول: حكمه حكم المستحاضة، فإن استطاع أن يغسل الموضع غسله، وإذا لم يستطع فعند بداية وقت الصلاة يطهر الموضع إما بحجر وإما بمنديل أو ورق أو نحوه من الطاهرات، ثم إذا كان الدم يتقاطر فنقول: احشه بقطنة أو احشه بمنديل، ثم بعد ذلك يصلي كالمستحاضة سواء بسواء، هذا بالنسبة لمن به الناسور أو الباسور.
أما من به سلس البول أو سلس المذي فننظر فيه، فإن كان سلس البول قليلاً يخرج معه قطرة أو قطرتين، بحيث إن بإمكانه أن يذهب إلى مكان قضاء الحاجة وأن يغسل الموضع، ويغسل البول الذي يصيب الثوب، نقول له: يجب عليك فعل ذلك؛ لأنه لا يصل إلى درجة المشقة، والتكليف أصلاً فيه كلفة، وهذا ابتلاء من الله عز وجل يعظم به أجرك ويعظم به ثوابك، فالذي ينتقض وضوءه بقطرات من البول -مثلاً- مرة أو مرتين بحيث لا يوجب حرجاً؛ فهذا تُلزمه بالأصل، فلو قال لك قائل: أدخل الحمام الساعة الرابعة إلا ربعاً على أذان العصر، ثم إني بعد أن أقضي بولي أقوم فأتوضأ، فتخرج مني القطرة والقطرتان بعد الوضوء، فتسأله: ثم ماذا بعد ذلك؟ فهذا لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إن قال: تخرج قطرة أو قطرات وينتهي كل شيء، فنقول: اذهب واغسل العضو والموضع، واغسل ما أصاب الثوب من نجاسة ثم أعد الوضوء؛ لأنه تكليف بما في إمكان الإنسان وفي وسعه.
الحالة الثانية: أن يقول: أستطيع أن أذهب وأتوضأ، ولكني لو أعدت الوضوء فإنه يحصل نفس الشيء بعد أن أتوضأ بعشر دقائق فتخرج قطرة، نقول له: فلو أعدت مرة أخرى؟ فلو قال: نفس الشيء حتى بعد المرة الثالثة والرابعة.
فهذا به سلس، والسلس لا بد أن يكون مستمراً، وبناءً على ذلك نقول: حكمه حكم المستحاضة، فيجب عليه أن يبدأ فيغسل العضو، ثم بعد غسله للعضو يضع في رأس العضو القطنة ونحوها، قال بعض العلماء: مع شد العضو، أي: يضع لفافة على رأس العضو تحبس، ولكن الأطباء يرون أن هذا فيه ضرر، وأن فيه عواقب وخيمة، فإذا ثبت قولهم: فلا يكلف به؛ لأن قبل الرجل ليس كقبل المرأة، فأمرت المرأة بالعصب لعدم وجود الضرر، والرجل لا يؤمر بالعصب لمكان الضرر؛ لأن الشريعة لا تأمر بالضرر، ولذلك من قواعدها الخمس المتفق عليها: (الضرر يزال)، وهي إحدى القواعد الخمس التي يقوم عليها الفقه الإسلامي، فلا يؤمر الإنسان بما فيه ضرر.
هذا بالنسبة لمن به سلس البول ومن به سلس المذي والنواسير.(26/10)
حكم من به سلس الريح
فهذه الأمثلة الأربعة التي ذكرناها تشبه المستحاضة من كل وجه، لكن هناك مثال آخر يشبه المستحاضة من بعض الوجوه؛ ولذلك يعطى بعض الأحكام دون بعضها، مثال ذلك: من به سلس الريح، فإن الذي به سلس الريح يشبه المستحاضة من جهة خروج الخارج الناقض للطهارة دون وصف الخارج، فإن وصف الخارج في المستحاضة: دم نجس، ووصف الخارج في الريح ريح طاهر وليس بنجس، وقال بعض العلماء: إن الريح يعتبر نجساً إذا خرج من الدبر، ولذلك في مذهب بعض الفرق -بعض أهل الأهواء- التي لا يعتد بخلافها أنهم يوجبون على من خرج منه الريح أن يستنجي، وهذا مذهب ضعيف وليس بصحيح، فإن الريح لا يجب منه استنجاء ولا استجمار، وإذا ثبت أنه لا يجب منه استنجاء ولا استجمار، فعلى هذا يكون سلس الريح يأخذ حكم المستحاضة في بعض الأحكام لا في كلها، وبناءً على ذلك: يجب أن نحكم بأن الذي به سلس ريح يجب عليه وضع قطنة أو نحوها على الموضع حتى تمنع خروج الريح، إذا لم يكن في ذلك ضرر عليه، أو أن يعصر بطنه؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، هذا بالنسبة لما يقاس على المستحاضة.
وقد يقاس على المستحاضة من جهة خروج النجس وتأثيره، صور أخرى؛ منها: لو أن إنساناً أصابه جرح ونزف -وقد قررنا أن الدم نجس كما تقدم معنا في باب إزالة النجاسات وبينا دليل ذلك- وثبت أن الدم نجس فما القول في هذا الرجل؟ هل نقول: إنه لا يصلي بناءً على أنه غير طاهر، أو نوجب عليه الصلاة ونأمره بالتطهر مع وجود المشقة عليه، أو نتوسط ونقول إنه يصلي على حالته؟
الجواب
من به نزيف فإنه يأخذ نفس حكم المستحاضة، فإذا أمكن رقء النزيف بأن توضع قطنة كالمستحاضة، بأن يكون النزيف خفيفاً، بحيث لو وضع في الموضع قطنة سكن نزيفه؛ فحينئذٍ يجب رقء الدم بوضع حائل من قطن أو قماش أو نحوه ولو بالشد وبالرباط.
الحالة الثانية: أن يكون النزيف قوياً لا يرقأ، فإن كان قوياً لا يرقأ فإنه يصلي ولو خرج معه ذلك الدم النجس، والدليل على ذلك: أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب، كما في صحيح البخاري، وكذلك أيضاً: ما جاء عن عباد بن بشر لما أصابه السهم الغائر حينما كان حارساً على فم الشعب، ومع ذلك صلى وجرحه يثعب دماً؛ لأن نزيف السهام نزيف قوي مستحكم، فمثله لا يرقأ؛ ولذلك تعتبر هاتان الحالتان مستثنيين من الأصل الذي يوجب غسل الموضع النجس.
ويلتحق بالنزيف: الرعاف، فلو أن إنساناً سألك وقال: أرعفت -خرج الدم من أنفه- فتقول: هذا فيه تفصيل: إن كان الرعاف خفيفاً فلا تصلِّ حتى تغسل الموضع ويسكن الرعاف وتصلي على طهارة؛ لأنه الأصل الذي أمرك الله بفعله.
الحالة الثانية: أن يكون الرعاف خفيفاً لا يرقأ من نفسه، وإنما يرقأ بالسبب كالاستحاضة، بأن يضع قطناً أو يسد الأنف، فنقول: حينئذٍ يكون حكمه أن يغسل أنفه قبل الصلاة، فيتطهر ويتوضأ ويغسل الموضع، ثم بعد ذلك يضع فيه القطن الذي يمسكه أو المنديل الذي يستمسك به ثم يصلي.
الحالة الثالثة: أن يكون الرعاف قوياً بحيث لا يستمسك، فحينئذٍ نقول: إن دهمه في الوقت وأخذ وقت الصلاة، صلى ولو رعف، ولا يكلفه الله إلا بما في وسعه.
هذا بالنسبة للصور التي يقاس فيها غير المستحاضة على المستحاضة.(26/11)
الخلاف في غسل أو وضوء المستحاضة عند كل صلاة
قال المصنف رحمه الله: (وتتوضأ لكل وقت صلاة، وتصلي فروضاً ونوافل).
قوله: (وتتوضأ لكل صلاة) ذكرنا حكم الموضع، وكل الأحكام التي كنا نبحثها سابقاً في موضع المستحاضة، بقي السؤال عن طهارتها؟ فالمستحاضة نظراً إلى أن خارجها -وهو الدم- يوجب انتقاض الطهارة، فإنه يرد
السؤال
متى تتطهر؟ وكيف تكون طهارتها من الحدث؟ فتقول: طهارتها من الحدث تستلزم عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وهي مسألة خلافية فيها ما يقرب من أربعة أقوال للسلف رحمة الله عليهم.
فقال بعض العلماء: المستحاضة يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة، فتغتسل إذا انقطع الحيض وانتهى، ثم بعد ذلك تتوضأ عند دخول وقت كل صلاة.
هذا القول الأول، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وبهذا القول قال فقهاء الحنفية -في المشهور- والشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم.
القول الثاني: يستحب لها الوضوء عند كل صلاة ولا يجب عليها، وبهذا القول قال المالكية، وقال به أيضاً الظاهرية، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن إمام المدينة، والذي يسمى: ربيعة الرأي رحمة الله على الجميع، فقالوا: لا يجب عليها أن تتوضأ، ولكن يستحب لها الوضوء عند دخول وقت كل صلاة.
القول الثالث: يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة، وهذا أشد الأقوال، وهو مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ ابن عباس رضي الله عنهما، وإحدى الروايات عن علي رضي الله عنه وأرضاه، وأفتى به سعيد بن المسيب إمام المدينة.
القول الرابع: أنه يجب عليها أن تغتسل في اليوم مرة واحدة دون تعيين، وهو قول علي رضي الله عنه وأرضاه، سواء كان في أول اليوم أو في وسطه أو في آخره، قالوا: ولا يجب عليها إلا غسل واحد في اليوم وحده، وهذه هي أشهر الأقوال في المستحاضة.
وأصح هذه الأقوال وأقواها: أنه يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة؛ وذلك لأمره عليه الصلاة والسلام لـ أم حبيبة رضي الله عنها بذلك.
وللفائدة: كان هناك ثلاث من بنات جحش رضي الله عنهن وأرضاهن مستحاضات: الأولى منهن: زينب أم المؤمنين - زينب بنت جحش - رضي الله عنها وأرضاها، ولكن زينب كانت استحاضتها قليلة، كما أفاده الحافظ ابن الملقن رحمة الله عليه، قال: إنها كانت تستحاض، ولكن كانت حيضتها قليلة.
والثانية من بنات جحش: حمنة بنت جحش رضي الله عنها، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنها وعنه.
والثالثة من بنات جحش: أم حبيبة، وكانت أشدهن، وهي زوجة لـ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه؛ أحد المبشرين بالجنة.
فهؤلاء النسوة كن يستحضن، وكانت أشدهن -كما قلنا- حمنة وأم حبيبة رضي الله عنهما، حتى أثر عن إحداهن أنها مكثت خمس سنوات وهي تستحاض، وأثر عن إحداهن أنها كانت تصلي والطست تحتها يجري بالدم.
ومن النساء أيضاً فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها ثابت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
الذين قالوا: يجب عليها أن تتوضأ؛ استدلوا بما ثبت في الرواية -واختلف في ثبوتها، ولكن الصحيح أنها حسنة ومعتضدة بشواهد متعددة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة: (وتوضئي لكل صلاة) فقالوا: توضئي (أمر)، والأصل في الأمر أنه للوجوب، وبناءً على ذلك: يجب على المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، هذا القول الأول.
أما دليل العقل: فلأنها إذا خرج منها الخارج انتقض وضوءها، وإذا انتقض وضوءها بخروج الخارج؛ فإن الأصل أنها مطالبة بالوضوء، فإذا خفف الشرع عنها مدة الوقت بقي ما عداه على الأصل من كونه فرضاً، هذا بالنسبة لدليل العقل، فاجتمعت دلالة النقل ودلالة العقل على وجوب وضوئها لكل صلاة، وبناءً على هذا: إذا أذن أذان الظهر توضأت، لكن لو توضأت قبل أذان الظهر، كما لو توضأت في الساعة الثانية عشرة والظهر يؤذن في الثانية عشرة والنصف أو وربع فحينئذٍ تستبيح الصلاة إلى أذان الظهر، فإن دخل وقت الظهر فإنها حينئذٍ تستقبله بوضوء جديد، هذا بالنسبة لوضوئها لكل صلاة.
أما الذين قالوا بغسلها لكل صلاة، فالروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالغسل، ولا يوجد إلا دليل واحد لهم وهو حديث فاطمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل، قال -كما في الصحيح-: (وكانت تغتسل لكل صلاة) قال بعض العلماء الذين يقولون بوجوب الغسل لكل صلاة: وهذا يدل على وجوب غسل المستحاضة لكل صلاة، وهو مذهب من ذكرنا من الصحابة.
والصحيح أنه لا يجب، وأن اغتسال فاطمة رضي الله عنها كان اجتهاداً منها، وليس بنص النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أمره لها أن تغتسل إنما هو عند انقطاع دم الحيض، ولم يكن أمراً بالاغتسال عند كل صلاة، فبقيت الذمة على الأصل من كونها بريئة من المطالبة بالطهارة الكبرى، والأصل أنها مطالبة بالطهارة الصغرى.
أما الذين قالوا: إنه يجب عليها غسل واحد في اليوم، فهناك أحاديث ضعيفة وآثار استدلوا بها.
وأصح الأقوال في هذه المسألة: أنه يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة على ظاهر ما ذكرناه من حديث أبي داود والترمذي وأحمد والبيهقي والحاكم وصححه غير واحد، وسئل الإمام البخاري رحمه الله عن هذا الحديث فحسن إسناده، والقول بتحسينه من القوة بمكان، وإن كان بعض العلماء يرى أنه صحيح لغيره.
فهذا حاصل ما يقال في حكم المستحاضة من جهة طهرها: هل تتوضأ لكل صلاة أو تغتسل؟ وهناك مسألة ثانية: إذا ثبت أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة وأنه لا يجب عليها الغسل، فهل يستحب لها الغسل؟ أعدل الأقوال: أنه يستحب لها الغسل لكل صلاة، ولكن لا يجب؛ لورود ذلك من فعل السلف، وهو فهم الصحابية، ولذلك نقول يستحب لها أن تغتسل ولا يجب.
قال المصنف رحمه الله: [وتصلي فروضاً ونوافل].
تصلي الفروض في الوقت، فتصلي فرض العصر، وفرض الظهر، والمغرب والعشاء والفجر كلاً بحسب وقته.
فإذا توضأت لصلاة الفجر صلت بهذا الوضوء الفروض والنوافل، فابتدأت بركعتي الرغيبة فصلتها، ثم ثنت بصلاة الفجر، ثم إذا طلعت الشمس وأرادت أن تصلي الضحى صلت الضحى، ولا يلزمها أن تجدد وضوءها؛ لأنها على أصلها من كونها طاهرة.(26/12)
وطء المستحاضة
قال المصنف رحمه الله: [ولا توطأ إلا مع خوف العنت].
بقيت مسألة متعلقة بالمعاملة، وهي: هل يجوز وطء المرأة إذا كانت مستحاضة؟ الجمهور على أنه لا حرج في وطء المرأة المستحاضة، ولم يصح حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالمنع أو التحريم، والله عز وجل حرّم وطء المرأة الحائض، ولم يحرم وطء المستحاضة.
قالوا: والأصل في المرأة أن يستمتع بها، وهذا على ظاهر التنزيل في قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، فإذا ثبت أن الأصل حل الاستمتاع وحل الوطء، فدم الحيض عارض نقلنا عن الأصل؛ والناقل يتقيد بزمانه وبمدة وجوده، فإذا انقطع دم الحيض رجعنا إلى الأصل الموجب لحل الوطء، فهذا مسلك الجماهير في تجويز الوطء، لكن كرهوا ذلك للإنسان.
وقال بعض العلماء: إنه لا يطأها إلا إذا خشي العنت، والعنت هو الزنا، يعني: إذا خشي الوقوع في الزنا فله أن يطأ الزوجة ولا حرج عليه في ذلك.
والصحيح: أنه لا حرج في وطئها، لكن الأفضل والأولى أن يتقيه.
قال المصنف رحمه الله: [ويستحب غسلها لكل صلاة].
يعني: إذا دخل عليها وقت كل صلاة فإنه يستحب لها أن تغتسل، أي: تغسل البدن، ولا يجب عليها ذلك؛ لظاهر ما ذكرناه من فعل فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وأما الوجوب فإنه لا يجب وإنما يستحب لها، والمستحب يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه ومخالفه.(26/13)
أحكام النُفساء
قال المصنف رحمه الله: [وأكثر مدة النفاس أربعون يوماً] النفاس: تطلق النفس على معان، يقال: نفس الشيء بمعنى: ذاته، ومنه قولهم: رأيت محمداً نفسه.
وتطلق النفس بمعنى: الروح، وتطلق النفس بمعنى: الأخ، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، وتطلق النفس بمعنى: الدم، ومنه قول العلماء: النفاس، وما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (مالكِ أنفست) أي: هل أصابك الدم؟ فلما كان الدم من أسمائه النفس؛ سمي النفاس نفاساً لذلك، من باب تسمية الشيء بسببه، والنفاس: هو الدم الذي يخرج عقيب الولادة، وقال بعض العلماء: إن ما سبق الولادة باليوم واليومين والثلاثة آخذ حكم دم النفاس، فلو أن امرأة أوشكت على الوضع وقبل وضعها بيوم أو يومين أو ثلاثة جرى معها الدم وهي حامل قالوا: تأخذ حكم النفاس؛ للقاعدة: (أن ما قارب الشيء أخذ حكمه)، هذا بالنسبة لدم النفاس، والفرق بينه وبين دم الحيض: أن ذاك دم معتاد وهذا دم مخصوص لوجود الولد.(26/14)
الخلاف في أكثر النفاس
قال المصنف رحمه الله: [وأكثر مدة النفاس أربعون يوماً].
ذكر رحمه الله أكثر النفاس وأنه أربعون يوماً، ونحتاج إلى معرفة أكثر النفاس في المرأة التي يستمر معها الدم؛ لأنها قد تنزف، وقد تتسبب ولادتها بنزيف، فيستمر معها الدم شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، وقد تبقى سنة كاملة وهي تنزف بعد ولادتها، على حسب ما يكون للنساء من اضطراب في عاداتهن بعد ولادتهن، وبناءً على ذلك: يحتاج الفقيه إلى معرفة أكثر النفاس حتى يحكم بطهارة المرأة، أو يحكم بدخولها في الحيض، أو يحكم بدخولها في الاستحاضة.
فقال رحمه الله: (أكثر النفاس أربعون يوماً) وهذه مسألة خلافية، وللعلماء فيها قولان مشهوران: القول الأول: أن أكثر النفاس أربعون يوماً وما زاد فهو استحاضة، وهذا قول الجمهور، واستدلوا بما ثبت في الصحيح: (كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً).
القول الثاني: تجلس النفساء ستين يوماً، وهو مذهب المالكية، وقول عبد الرحمن الأوزاعي فقيه الشام رحمة الله على الجميع، يقولون: النفساء لا بد أن تجلس ستين يوماً، وما جاوز الستين فهو استحاضة وليس بدم نفاس.
هذا بالنسبة لقوله: (أكثر النفاس أربعون يوماً)، وفهمنا من هذا أن النفاس لا حد لأقله، وبناءً على ذلك: لو أن امرأة ولدت ثم جرى معها الدم لحظة واحدة، فأخرجت دفعة واحدة من الدم ثم انقطع، حكمنا بكونها طاهرة؛ لأنه ليس عندنا حد معتبر لأقل النفاس، وإذا لم يكن هناك حد معتبر فإنه بمجرد انقطاع الدم عنها نحكم بكونها طاهرة، هذا بالنسبة لأقل النفاس وأكثره.
والصحيح: أن أكثر النفاس هو أربعون يوماً، تجلسها المرأة، ثم إذا أتمت هذا العدد فإنها تخرج عن كونها نفساء.
قال المصنف رحمه الله: [ومتى طهرت قبله تطهرت وصلت].
قوله: (ومتى طهرت قبله) يعني: قبل أكثر النفاس، (تطهرت وصلت) مثال ذلك: امرأة ولدت في أول الشهر، واستمر معها دم النفاس عشرين يوماً ثم طهرت، أي: رأت علامات الطهر، إما جف موضعها، بأن ينقطع الدم، أو خرجت معها قصة بيضاء هي نهاية دم النفاس، فبخروج القصة البيضاء، أو وجود الجفوف تحكم بكونها قد طهرت، فإذا طهرت المرأة أثناء الأربعين يوماً بعد الولادة -مثلاً: طهرت بعد عشرين يوماً أو بعد ثلاثين يوماً أو بعد خمسة وعشرين يوماً- تقول: هي طاهرة، تصوم وتصلي وحكمها حكم الطاهرة.(26/15)
كراهة وطء المرأة النفساء إذا طهرت قبل مرور الأربعين
قال المصنف رحمه الله: [ويكره وطؤها قبل الأربعين بعد التطهير].
هذه المسألة فيها كلام للعلماء: بعض العلماء يقول: المرأة النفساء إذا طهرت قبل الأربعين لا توطأ، وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.
ومنهم من قال: إنه محمول على الكراهية.
ومن أهل العلم من قال: توطأ المرأة إذا انقطع دم نفاسها قبل الأربعين.
ولكن في الأمر علة خفية، يقول بعض الأطباء -وهذه فائدة، وأنا دائماً أقول: ينبغي لطلاب العلم ألا يقتصروا فقط على مسألة الأحكام، فلا مانع أن الإنسان يستفيد من بعض الأمور الطبية، وإذا جالس طبيباً خبيراً بمثل هذه الأشياء يستفيد منه- يقول بعض الأطباء: إن هذا يضر بالعضو، وأنه لا يرجع إلى طبيعته قبل الأربعين، ولذلك قالوا: إن الأفضل أن لا يحصل جماع، وهذا يدل على بعد نظر السلف الصالح رحمة الله عليهم في زمان كانت إمكانيات الطب قليلة، والعلوم الطبية قليلة، لكنهم كانوا لا تنزل بهم مسألة إلا رجعوا لأهل الفن والاختصاص فيها، فإن كانت مسألة طبية رجعوا إلى الأطباء واستفادوا منهم، وبعض العلماء يعلل فيقول: لخوف رجوع الدم، ويكون انقطاع الطهر عندها مؤقتاً ليوم أو يومين، وهذا يحدث، فإن المرأة تكون نفاساً ثم تطهر بعد عشرين يوماً، ثم في اليوم الحادي والعشرين لا ترى شيئاً وكذلك في اليوم الثاني والعشرين وفي الثالث والعشرين يعود عليها الدم، ولذلك قالوا: لا نأمن ما دام أنها داخل الأربعين أن دم النفاس يعود إليها بعد أن انقطع.
فتوسط المصنف رحمه الله وقال: (يكره)، وإذا ثبت كلام الأطباء من أنه قد يضر بالعضو؛ فيشتد المنع ويكون المنع آكد، لكن إذا لم يكن فيه ضرر فحينئذٍ يطأ الإنسان ولا حرج عليه، إلا أنه يستثنى الشخص الذي يخاف الوقوع في الحرام، فإن الناس تختلف شهواتهم، خاصة وأن الرجل قد حملت امرأته ومكثت زماناً منه، فلذلك قد يقع في المحظور، وقد لا يأمن الوقوع في الفتنة، وفي هذا الحال قالوا: له في ذلك سعة إذا خشي العنت.(26/16)
انقطاع دم النفاس ثم معاودته
قال المصنف رحمه الله: [فإن عاودها الدم فمشكوك فيه].
قوله: [فإن عاودها الدم] يعني: عاود المرأة النفساء وصورة المسألة: أن يكون عندنا امرأة نفست وجرى معها دم النفاس عشرين يوماً وانقطع دون الأربعين، فحينئذٍ قال بعض العلماء: إذا استمر معها بعد انقطاع العشرين حتى جاوزت الأربعين ولم يعد لها دم فلا إشكال، وهي امرأة طاهرة قولاً واحداً عند العلماء.
لكن المشكلة لو جرى معها ثلاثين يوماً، ثم انقطع عنها يوماً، ثم رجع لها، ثم انقطع يوماً، ثم رجع لها، وهذا يحدث، وقد ينقطع عنها خمسة أيام، ثم يعود خمسة أيام، ثم ينقطع خمسة أيام وهكذا، ويختلف ذلك على حسب أحوال النساء وما معهن من النزيف، ولذلك يصعب تمييز الاستحاضة من النفاس، ويصعب تمييز الاستحاضة من الحيض، حتى إن بعض الأطباء المعاصرين يقولون: هذا أمر مشكل؛ لأن كلاً منها انفجار في جدار الرحم المبطن، فقد يكون عرقاً مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الاستحاضة، وقد يكون حيضاً على أصله؛ ولذلك التمييز صعب.
فالمشكلة الآن: أنها إذا انقطع عنها دم النفاس، ورأت علامة الطهر -وهذا شرط- فلا يحكم بكون النفساء قد طهرت إلا بعد أن ترى علامة الطهر: الجفوف أو القصة البيضاء كما ذكرنا في الطهر، فلو انقطع عنها الدم عشرين يوماً أو ثلاثين يوماً، ثم هذا الدم الذي انقطع عاودها بعد يومين أو بعد ثلاثة أيام، فلا يخلو من صور: الصورة الأولى: أن يعاودها بصفة دم الحيض وفي زمانه، كأن يكون من عادتها قبل الحمل أن الحيض يأتيها في أول الشهر، فبعد أن انقطع عنها في آخر الشهر من محرم رأت علامة الطهر، وبقيت خمسة أيام طاهراً، ثم جاءها في أول صفر دم يشابه دم الحيض، فنقول: انتقلت من كونها نفاساً إلى كونها حائضاً، وهذا الدم دم حيض، ثم تعطيه حكم دم الحيض فإذا كان عندها عادة قبل الحمل أنها تمكث في الحيض خمسة أيام، فتمكث خمسة أيام، لكن لو قلنا: إن هذا الدم ليس بدم حيض، ماذا نفعل؟ نضيفه إلى عدد النفاس، ثم بعد ذلك نحكم بخروجها من النفاس على قدر أمده، هذا قول.
والقول الثاني الذي اختاره المصنف: أنه إذا لم يأتِ بأوصاف دم الحيض وزمانه، فإنه يحكم بكونه مشكوكاً فيه، وإذا كان مشكوكاً فيه فالأصل: أنه استحاضة، والأصل: أنها مطالبة بالصوم والصلاة، فنأمرها بالصيام والصلاة، حتى يحكم بانتقالها ودخولها في الحيض، هذا مذهب المصنف رحمة الله عليه، والحقيقة أن الأقوى هو التفصيل: أنه إذا عاودها في زمان حيض بصفات حيض حكم بانتقالها من نفاس إلى حيض، وإن عاودها بغير أوصاف الحيض قريباً من أوصاف نفاسها فإنه لاحق بما قبله آخذ حكمه، وتلفق في العدد فتضيف الأيام الأخيرة إلى الأيام الأولى حتى تتم عدة النفاس.
قال المصنف رحمه الله: [تصوم وتصلي وتقضي الواجبة].
وهذا بناءً على الأصل واليقين من أنها طاهر والدم مشكوك فيه -كونه حيضاً أو نفاساً- فنلغي الشك ونبقى على اليقين؛ للقاعدة المشهورة.(26/17)
مشابهة النفاس للحيض في غير العدة والبلوغ
قال المصنف رحمه الله: [وهو كالحيض فيما يحل ويحرم ويجب].
قوله: (وهو) أي: النفاس (كالحيض فيما يحل ويحرم ويجب) أي: أن النفاس يمنع ما يمنع منه الحيض وقد تقدم.
فالمرأة النفاس لا تصوم، ولا تصلي، ولا تدخل المسجد، ولا تلمس المصحف -عند من يقول بمنعها من لمس المصحف- ولا يحل وطؤها كما ذكرنا في الحائض، ويستثنى من ذلك ما ذكره المؤلف رحمه الله.
قال المصنف: (ويُسْقِط غير العدة والبلوغ).
قوله: (ويسقط) أي: النفاس، يسقط عن المرأة التكاليف، فما يسقطه دم الحيض يسقطه دم النفاس سواءً بسواء، ولذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحيض نفاساً؛ وذلك لمكان وجود العذر، لكن يستثنى من ذلك: العدة والبلوغ، فإنه لا يحكم باعتداد المرأة بدم النفاس، بخلاف دم الحيض فإنه يعتد به، ولذلك قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فردهن إلى دم الحيض، قيل: قروء؛ أطهار، وقيل: حيضات، كما سنبينه في باب الطلاق إن شاء الله تعالى.
وأما بالنسبة للبلوغ فقالوا: لا يثبت البلوغ بدم لنفاس؛ لأنها بحملها يثبت البلوغ، ولذلك يرى العلماء أن الحمل دليل على البلوغ: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثماني عشرة حولاً ظهر وإن كان الصحيح أن خمسة عشر توجب البلوغ.(26/18)
الاختلاف في أول النفاس وآخره إذا ولدت توأمين
قال المصنف رحمه الله: [وإن ولدت توأمين فأول النفاس وآخره من أولهما].
امرأة ولدت ولدين: الولد الأول ولدته في العشر الأولى من الشهر، والولد الثاني ولدته في الخامس عشر أو في السادس عشر.
فيرد الإشكال: من أين يبدأ دم النفاس هل نبدأ من العشر الأولى التي حصلت فيها الولادة، أو نبدأها من العشر الثانية التي حصلت فيها الولادة الثانية؟ قال الجمهور: إنها تبدأ من الولادة الأولى؛ لأنها الأصل، والولادة الثانية ملحقه بهذا الأصل.
وقال الظاهرية ومن وافقهم: العبرة بالولد الثاني، فتبدأ النفاس من الولد الثاني، وهذا في الظاهر.
والقول بأن العبرة بالولد الثاني من القوة بمكان، لكن لما كان التوأمان في الأصل أنهما حمل واحد قالوا: إنه يعطى حكمه، ولذلك بعض العلماء يختار التفصيل باختلاف طول الزمان وقرب الزمان بين التوأمين.
ولكن كلام العلماء إنما هو في التوأمين المتقاربين في الولادة، في المتقارب، ولذلك يقوى مذهب الظاهرية الذين يرون أن العبرة بالوضع الثاني.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(26/19)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الصلاة
لقد عظم الشرع من شأن الصلاة فجعلها الركن الثاني من أركان الإسلام؛ بل هي عمود الدين، فلا يستقيم دين العبد إلا بها، وهي الفارق بين المسلم والكافر، ولأهميتها يجب على المسلم أن يتعلم أحكامها من شروط وواجبات وأركان، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالصلاة.(27/1)
من أحكام الصلاة(27/2)
تعريف الصلاة لغةً وشرعاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الصلاة].
قوله: (كتاب) مراد العلماء رحمهم الله بكلمة (كتاب) التعبير بها للدلالة على عِظم المبحث وسعة مسائله، ولذلك يقسمونه إلى فصول، ويقسمون الفصول إلى مباحث ومسائل، وكل مذهب بحسبه.
والصلاة في اللغة تستعمل بمعانٍ، أولها: الدعاء، ومنه قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] فقوله: (صلّ عليهم) أي: ادع لهم، ومنه قول الشاعر: تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا ومعنى البيت: أن هذا الشاعر لما أراد أن يسافر قالت بنته: يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا فقال رداً عليها: عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فقوله: (عليك مثل الذي صليت) أي: لك مثل ما دعوت لي من السلامة والعافية من البلاء.
ومن معاني الصلاة: البركة، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، أي: بارك لهم فيما رزقتهم.
وتطلق الصلاة بمعنى: الرحمة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] أي: إن صلاة الله على نبيه رحمته، ومنه قول الشاعر: صلى المليك على امرئٍ ودعته وأتم نعمته عليه وزادها فهذه معاني الصلاة في اللغة.
أما في اصطلاح العلماء فإنهم إذا قالوا: (الصلاة) فمرادهم بها أنها عبادةٌ مخصوصة مشتملة على أقوال وأفعال مفتتحةٌ بالتكبير ومختتمة بالتسليم، فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث علي: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) أي: الصلاة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير) هي التكبيرة الأولى، ولذلك قالوا: إن التكبيرة الأولى تسمى تكبيرة الإحرام؛ لأن المكلف بهذه التكبيرة يدخل في حرمات الصلاة، فلا يتكلم ولا يعبث ولا يفعل أي فعلٍ يعارض الصلاة أو يخالف مقصودها، ولذلك قالوا: مفتتحةٌ بالتكبير.
وقالوا: (ومختتمة بالتسليم)؛ لأنه إذا أنهى صلاته خرج بالسلام، أي أن خاتمتها تكون بالسلام، ولذلك اعتبر من أركانها.
وأما كونها (عبادةً مخصوصة) فقد أجمع العلماء على وصفها بكونها عبادة مشتملة على أقوال وأفعال؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح وذكر الله وقراءة القرآن) كما في صحيح مسلم.
فهذا التعريف الاصطلاحي نفهم منه أن الصلاة عند العلماء -أعني الفقهاء- لها معنىً مخصوص، وأن معناها في اللغة أعم من معناها في الاصطلاح، والسبب الذي جعل العلماء يجعلون تعريفاً لغوياً وتعريفاً شرعياً أن الحقائق الشرعية ربما أطلقت بمعنىً أخص من إطلاقها اللغوي، ولذلك تجد معنى الصلاة في اللغة أعمّ من معناها في الاصطلاح، ولذلك يعتنون بذكر التعاريف الاصطلاحية؛ لهذه الحقائق الشرعية المخصوصة.(27/3)
أهمية الصلاة في القرآن والسنة
الصلاة عبادةٌ عظيمة مفروضة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي من أعظم شعائر الإسلام بعد الشهادة، ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه لليمن قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلة) أي أن الله أوجب عليهم هذه الصلوات الخمس، وفرضها عليهم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بيان وجوب الصلاة تابعاً لفرضية الشهادتين، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: إن أهم ما يعتنى بالدعوة إليه، وأمر الناس به، وحثهم عليه، وحضهم على فعله هو الصلاة بعد الشهادتين، فهي أهم المهمات بعدها، وآكد الفرائض والواجبات بعد قول: (لا إله إلا الله)، شهادة التوحيد، وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عمود الإسلام، ومن المعلوم أن العمود إذا سَقط سقط ما بُني عليه، وهذا يدل دلالة عظيمة على فضل هذا الركن العظيم وعظيم شأنه.
وثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أنها آخر ما يفقد الناس من دينهم) وأنه إذا فقدت الصلاة فقد ذهب الدين، وثبت في الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره: (أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة، فإن صلحت نظر في بقية عمله، وإن كان لها مضيعاً فإنه لما سواها أضيع).
فهذه الصلاة فرضها الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وورد ذكرها في القرآن في أكثر من موضع، يأمر الله بها تارة، وتارةً يرغب فيها، وتارةً يبين فضل أهلها ويثني عليهم، ويبين عواقبهم من دخول الجنة وحصول رضوان الله تعالى عليهم بفعلها.
وقد أمر الله بها عموماً فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وأمر بها خصوصاً فقال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45].
وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطابٌ لأمته، وأمر سبحانه أن تؤمر بها الذرية والأبناء والأهل والأزواج والزوجات، فقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وأخبر سبحانه وتعالى عن فضل أهلها الآمرين بها، فأثنى على نبيه إسماعيل فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55] قال بعض العلماء في قوله تعالى: (وكان عند ربه مرضياً) أي: بأمره لأهله بالصلاة؛ لأنه أمرهم بأعظم شعائر الدين وأجلّها عند الله عز وجل.
وأجمع المسلمون على وجوب الصلاة وفرضيتها، وأنها ركنٌ من أركان الإسلام؛ لما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة)، فأجمعوا على أنها ركنٌ من أركان الإسلام، وأنه لو جحد إنسانٌ وجوبها كفر، إلا أن يكون جاهلاً فيعلم، كما سيأتي إن شاء الله بيانه للمصنف رحمه الله.
ولما كان من عادة العلماء رحمهم الله أن يقولوا: (كتاب الصلاة)، والمقصود بهذا الكتاب بيان الأحكام والمسائل المتعلقة بعبادة الصلاة، استلزم ذلك بيان ما يشترط لصحة الصلاة من الوقت واستقبال القبلة، ففي المواقيت يتكلمون عن أفراد المواقيت، أعني: مواقيت الصلوات الخمس، وفي استقبال القبلة يتكلمون عن مسائل استقبال القبلة، ومتى يسقط هذا الواجب -كما هو الحال في السفر- ويقوم على الاجتهاد والظن؛ لثبوت السنة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يتكلمون على ستر العورة وأخذ الزينة، وما يتبع ذلك من مباحث، كصلاة العراة ونحوهم.
ثم يتكلمون في الصلاة على صفتها، ويتضمن ذلك بيان الأركان والواجبات والسنن التي هي من هيئات الصلاة، فيبدأون ببيان أركانها التي فرضها الله عز وجل، وإذا لم يقم المكلف بها فلا تصح صلاته.
ثم بيان الواجبات التي إذا فعلها أثيب، وإذا تركها عوقب وأثم ولا يحكم ببطلان صلاته إلا إذا تركها متعمداً، فهي أخف مرتبةً من الأركان، ثم السنن التي يرغب في فعلها ولا حرج في تركها.
ثم بعد ذلك يتكلمون على ما يطرأ على الصلاة، كما هو الحال في باب سجود السهو، فيتكلمون على حال المكلف إذا أخلّ بالأركان أو بالواجبات أو السنن، ثم يتكلمون على أفراد الصلاة الواجبة، ثم المسنونة التي لا تجب على الأعيان وقد تجب على الكفاية، فيتكلمون على صلاة الجمعة وصفتها وشروطها وما يلزم لها، ثم يتكلمون على الصلوات النوافل التي تشترط لها الجماعة، كصلاة التراويح وصلاة العيدين على القول بأنها سنة مؤكدة، وما يتبع ذلك من صلاة الاستسقاء ونحوها.
ثم يتكلمون على مطلق النوافل بصلاة التطوع، فيذكرون المباحث المتعلقة بالسنن الراتبة والوتر -على القول بعدم وجوبه- فهذه المباحث كلها متشعبة ومتعددة، فمن العلماء من يختصر، ومنهم من يسهب، ونظراً إلى تعددها حتى في المختصرات فإن من عادة العلماء أن يقولوا: (كتاب الصلاة) دون قولهم: (باب الصلاة)؛ لسعة هذا المبحث، وكثرة مسائله، وتشعب أحكامه.
وقد ذكر المصنف رحمه الله كتاب الصلاة عقب كتاب الطهارة، والمناسبة في هذا لطيفة، وهي أن الطهارة وسيلةٌ إلى الصلاة، وقد أمر الله عز وجل بالطهارة قبل الصلاة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، فمن المناسب أن يتكلم على الوسائل قبل الكلام على المقاصد، ولذلك أتبع المصنف رحمه الله كتاب الطهارة بكتاب الصلاة.(27/4)
من تجب عليه الصلاة
قال المؤلف رحمه الله: [تجب على كل مسلم مكلف].
الوجوب في أصل اللغة: السقوط، يقال: وجب الشيء، إذا سقط، ومنه قولهم: وجبت الشمس، إذا سقطت، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] أي: سقطت واستقرت على الأرض.
ويطلق الواجب في لغة العرب بمعنى اللازم، ومنه قول الشاعر: أطاعت بنو عوفٍ أميراً نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب أي: أول لازمٍ عليهم أن يفعلوه.
والواجب في الاصطلاح: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فالواجب أعلى مراتب الأوامر، والحنفية يجعلون أعلى مراتب الأوامر الفرض، ثم يليه الواجب، ويفرقون بين الفرض والواجب بأن الفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني سواءٌ في الدلالة أم في الثبوت، كما هو مفصل في مباحث الأصول.
قوله رحمه الله: (تجب) أي: الصلاة.
أراد المصنف بهذه العبارة أن يبين حكم الصلاة، ولذلك ينبغي على طلاب العلم والفقه أن يبتدئوا أولاً ببيان موقف الشريعة من العبادة، وعادةً إذا قال العلماء: (كتاب الزكاة)، أو (كتاب الصلاة)، أو (كتاب الصوم)، يقولون عقبه: (تجب الصلاة)، أو: (تجب الزكاة)، أو: (يجب الصوم)؛ لأن أول ما يحتاج إليه بيان حكم الشريعة في هذا المبحث من مباحث الفقه، ولذلك قال المصنف: (تجب)، أي: الصلاة، فالأصل فيها اللزوم والوجوب.
قوله: [على كل مسلم].
أي: تجب هذه الصلاة على كل مسلم، و (كل) من ألفاظ العموم عند الأصوليين إذا جاءت في صيغ الكتاب أو السنة، وقد درج العلماء على ذلك.
فأول ما يخاطب به من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، ولذلك قدم شرط الإسلام؛ لأنه لا تصح الصلاة من كافر، فيطالب المسلم أولاً بالإتيان بالشهادتين، ثم بعد ذلك يتوجه عليه الخطاب بفعل الصلاة.
فلابد من وجود الإسلام أولاً، ثم توجه الخطاب ثانياً، وهذا مفرع على حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات).
فلا يخاطب أحد بالصلوات إلا بعد أن يحقق الشهادتين، ولذلك قال المصنف: (على كل مسلم)، وهذا الوجوب محل إجماع، إلا أنَّ بعض العلماء يقولون: الصلاة واجبة، وبعضهم يقول: الصلاة فرضٌ، والتعبير بهما على مسلك الجمهور واحد، ولكن الحنفية يقولون: إنها فريضة، ويرون أنها أعلى مراتب الوجوب، والخلاف بين الحنفية والجمهور في هذا عند بعض المحققين من أهل الأصول خلاف لفظي.
فالحاصل من هذا أن العلماء رحمهم الله قالوا: إنها واجبة، ونستفيد من هذا أن تَرْكها إثمٌ، وأن فعلها قربة وطاعة.
ولما كانت واجبة ويرد
السؤال
على من تجب؟ قال: (على كل مسلم)، والمراد هنا: جنس المسلم، فيشمل الذكر والأنثى، ولا فرق بين ذكرٍ وأثنى في الأحكام إلا ما خص الدليل به الرجال دون النساء، أو النساء دون الرجال.
وقوله: [مكلفٍ].
التكليف: مأخوذٌ من الكلفة، والشيء الذي فيه كلفة هو الذي فيه مشقة وتعب وعناء، والعلماء رحمهم الله يعبرون عن أوامر الشرع ولوزامها بأنها تكاليف؛ لأنه لا بد في الشرع من ابتلاء، والدليل على ذلك قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فدل على أنه يكلف، لكنه يكلف بما في الوسع لا بما هو خارج عنه، والسبب في هذا أنه لو كانت الأوامر خاليةً من التكليف والمشقة لعريت عن الابتلاء، ولاستوى المطيع والعاصي؛ لأنه لا يظهر فرق بين المطيع والعاصي إلا بوجود الابتلاء، ولذلك قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ} [الملك:2] أي: ليختبركم.
وهذا يدل على أن تكاليف الشرع فيها ابتلاء، ومن الأدلة على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره)، والمكاره: ما يكون في التكاليف سواءٌ أكانت أوامر أم نواهي، فإن كانت أوامر فالمشقة في تحصيلها، وإن كانت نواهي فالمشقة في تركها والاجتناب عنها.
والتكليف ينقسم إلى قسمين: إما تكليفٌ بمشقةٍ مقدور عليها، وإما تكليفٌ بمشقة غير مقدورٍ عليها، كان التكليف يتضمن مشقةً غير مقدور عليها فهذا لا يكلف به ولا يرد به التكليف؛ لأن النص في الكتاب دلّ على أنه لا يكلف بما فيه مشقة؛ لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)، فدلّ هذا على أن تكاليف الشرع ليس فيها مشقةٌ غير مقدور عليها.
وإن كان التكليف بالمشقة المقدور عليها، فهذه يكلف بها، ولكن هناك ضوابط عند العلماء؛ إذ قد يخفف على الإنسان، كالحال في مشقة الصوم في السفر، فأنت تقدر على الصوم في السفر ولكن بمشقة فيها حرج، فخيّرك الله عز وجل بين أن تصوم وبين أن تفطر.
والتكليف يكون بالأمر والنهي.
والتكلف في قوله: (على مسلمٍ مكلف) يتضمن شرطين، وقيل ثلاثة شروط: الشرط الأول: العقل، والشرط الثاني: البلوغ، كما قيل: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل فلا بد في التكليف أن يكون هناك عقلٌ، وأن يكون هناك بلوغ، فلا تكليف على مجنون، ولا على صبيّ دون البلوغ.
وقال بعض العلماء: يضاف إليهما أمرٌ ثالث وهو الاختيار وعدم وجود الإكراه.
لكن هذا في مسائل مخصوصة، فقد يسقط التكليف لعدم وجود الاختيار كما في المنهيات، فلو أن إنساناً اضطر إلى حرامٍ فإنه يسقط عنه التكليف ولا يكلف، ولذلك يقتصر بعض العلماء على الشرطين الأولين في ثبوت الأهلية، ويرون أن الشرط الثالث يتقيد بأحوال مخصوصة.
أما الدليل على أنه لا يخاطب بالصلاة غير العاقل فهو ما جاء في حديث علي عند أبي داود وأحمد في المسند بسندٍ صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رُفِع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون عن يفيق)، فدلّ على أن من كان مجنوناً لا يكلف، لقوله: (رفع القلم)، وفرّع العلماء عليه أن من شرط وجوب الصلاة أن يكون عاقلاً، وهذا بالإجماع، وأما بالنسبة لكونه بالغاً فللحديث نفسه، وأما أمره عليه الصلاة والسلام في حديث أحمد وأبي داود أن يؤمر الصبيان بالصلاة لسبع، وأن يضربوا عليها لعشر، فهذا من باب التعويد والترويض، لا من باب التكليف.
وعند العلماء خلاف فيما إذا أمر إنسانٌ أن يأمر غيره، فهل الأمر للأول أو للثاني؟ فعلى القول بأن الأمر للأول فإن هذا الحديث دلّ على أن لا تكليف أصلاً؛ لأن الخطاب لم يتوجه إلى صبي، وبناءً على هذا نأخذ من هذين الحديثين دليلاً على المسألتين، وهو أنه يشترط في إيجاب الصلاة البلوغ والعقل.
وعند بعض العلماء الصّبي فيه تفصيل: فإذا بلغ العاشرة فإنه يؤمر بالصلاة ويلزم بها، ويعتبرونه نوع تكليف واستثناء من عموم الخطاب الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم برفع القلم عن الصّبي، حتى قال بعض العلماء: إنه يثاب ولا يعاقب لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم الصّبي، وقال: إن حديث: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع) يدل على أنه يثاب ولا يعاقب، ويبقى الثواب معلقاً على بلوغه، فإذا بلغ جرى القلم بكسب ثوابه، وهذا مذهبٌ فيه تكلّف، وهو مذهب لبعض الأصوليين، وهو رواية عن الإمام أحمد أيضاً، ولكن الصحيح أن ظاهر السنة عدم تكليفه، وأن الأمر متوجهٌ إلى الآباء من باب الترويض والتعويد، كما ثبت مثله في الصوم من أمر الصحابة أبناءهم بالصيام، كما في أثر أنس رضي الله عنه وأرضاه-، وإعطائهم اللعب والدمى من العهن يعبثون بها حتى ينشغلوا عن طلب الطعام والإخلال بصيامهم.
قال رحمه الله: [لا حائضاً ونفساء].
أي: لا تجب الصلاة على حائض ولا على نفساء، وقد يقال: إنها واجبة على كل مسلمٍ بالغٍ عاقل إلا أن يكون حائضاً أو نفساء.
والمراد بالحائض والنفساء: من كانت متلبسةً بالحيض أو بالنفاس، وليس المراد به الوصف؛ لأن المرأة قد توصف بكونها حائضاً، كما تقول: تجب الصلاة على كل حائض، أي: على كل امرأة بلغت المحيض، أو يجب الستر على المرأة الحائض، والمراد: التي بلغت سن المحيض، والعرب تسمي الشيء بما يقارنه.
فالمقصود أن قوله: (لا حائضاً) أي أن الحائض لا تجب عليها الصلاة أثناء الحيض، وللعلماء في هذه المسألة قولان: فبعض الأصوليين يقول: الخطاب متوجب على الحائض والنفساء، وسقط عنهما الفعل لمكان العذر في الصوم والصلاة، ثم إذا طهرتا فإنهما تقضيان صومهما، ولا تعتبران موديتين له.
وبعضهم يقول: لا يتوجه عليهما الخطاب أصلاً إلا بعد طُهرهما، فيتوجه عليهما الخطاب بفعل الصوم دون فعل الصلاة، والفرق بين القولين في الأداء والقضاء، فإنك إذا قلت: إن الحائض والنفساء أثناء الحيض والنفاس يتوجه عليهما الخطاب فإنك تقول: تكلف الحائض والنفساء بالصلاة وسقطت عنهما بعذر، فالتكليف باقٍ أصلاً.
إذا ثبت هذا فيصبح قوله: (لا حائض ونفساء) أي أنه لا يتوجه عليهما الخطاب، فهذا اختيار صاحب الزاد، وهو أيضاً اختيار صاحب المقنع نفسه الإمام ابن قدامة رحمة الله تعالى عليهما، وقد تكلم على هذه المسألة وبيّنها في كتابه النفيس: (روضة الناظر)، وأشار إلى مذاهب العلماء فيها من ناحية توجه الخطاب على الحائض والنفساء أو عدم توجهه عليهما.
فإن قلنا: إنه لا يتوجه عليهما، ففي هذه الحالة بعد انتهاء أمد الحيض والنفاس يتوجه الخطاب بالصوم دون الصلاة، وهذا يعارضه حديث عائشة أنها قالت: (كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر قضاء الصلاة).
فقول(27/5)
من يجب عليهم قضاء الصلاة لعذر(27/6)
من زال عقله بنوم
قال رحمه الله تعالى: [ويقضي من زال عقله بنوم].
قوله هذا دلّ على أن النائم مكلف أثناء نومه، أي أن الخطاب متوجهٌ عليه أثناء النوم، واختلف العلماء: هل النائم والناسي والساهي والسكران مكلفون أثناء السكر والنسيان والنوم، ثم يطالبون بالفعل بعد الإفاقة، كالحال في مسألة الحائض والنفساء؟ فقال بعض العلماء: النائم والناسي والساهي مكلفون، ولكن لا يؤاخذون وقت العذر، فإذا زال عنهم العذر فإنهم يطالبون بالفعل، وبناءً على هذا يقال: يؤمرون بالقضاء ويثبت عليهم؛ لأنه إذا تعذّر عليهم الأداء لعذرٍ فالقضاء مفرعٌ على وجود الأداء، وقالوا: إن النائم يؤمر بقضاء الصلاةِ، وهذا بالإجماع؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة له إلا ذلك)، فدل على أنه مطالبٌ بالقضاء، ودل على أن نومه وخروج الوقت عليه وهو نائم لا يوجب سقوط التكليف عنه، ولذلك يؤمر بقضاء هذه العبادة، والأصل: أن ذمته مشغولةٌ بفعل هذه العبادة حتى يدل الدليل على سقوطها، ولا دليل، فيبقى مطالباً بفعل الصلاة، فيؤمر بها بعد استيقاظه من النوم.
لكن هنا مسألة: فقد قال بعض العلماء: من نام عن الصلاة وخرج وقتها، فإنه يؤمر بالفعل مباشرةً، وإن تأخر أثم؟ وقال بعض العلماء: يؤمر بفعلها ما لم يدخل وقت الثانية التي بعدها، ويخرج وقت الصلاة التي هو فيها، وقالوا: يجوز له أن يؤخر.
وتوضيح هذه المسألة ما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما الثابت في الصحيح أنه قال: (عرّس النبي صلى الله عليه وسلم وسار إلى آخر الليل، قال: فوقعنا وقعةً ألذ ما تكون على المسافر -لأنهم كانوا يسيرون في الليل في مقدمهم من غزوة تبوك رضي الله عنهم وأرضاهم- فلما صار إلى آخر الليل وقرب وقت الفجر أعياهم المسير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: اكلأ لنا الليلة -أي: يا بلال! ارقب لنا الفجر وانتبه له، حتى إذا تبين الصبح فأيقظنا للصلاة- فنام بلال، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يستيقظوا إلا بحرِّ الشمس، فاستيقظ عمر وصاح في الناس، وصار يكبر، ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إلى القوم قال عليه الصلاة والسلام: يا بلال: ما شأنك؟ -أي: ما الذي دعاك أن تضيع علينا الصلاة؟ - فقال: يا رسول الله: أخذ بعيني الذي أخذ بعينك) أي: أنت متعب وأنا متعب، فكما نمتَ نمتُ، وهذا من لطف الصحابة رضي الله عنهم وحسن أدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: (ارتحلوا إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان.
فارتحلوا عن الوادي، ثم توضأ عليه الصلاة والسلام، وتوضأ أصحابه فصلّى راتبة الفجر -كما في الصحيح في رواية أنس -، ثم أمر بلالاً فأقام فصلى الفجر).
فالمسافة ما بين انتقاله من الوادي إلى الوادي فيها تأخيرٌ للصلاة، ولذلك قالوا: دلّ هذا على أنه إذا استيقظ لا يؤمر بالفعل مباشرة، وأنه لو أخّر ليسير الوقت فلا حرج، وقالوا: إنَّ له أن يؤخر إلى قرب الظهر، فهذا مذهب من يقول: إنه لا يطالب بالفعل مباشرةً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخّر الصلاة فانتقل من الوادي الذي هو فيه إلى واد آخر.
وأجاب الأولون بأن فعله صلى الله عليه وسلم عذرٌ خاصٌ بهذه الصورة أو ما في حكمها، ويبقى الأصل بتوجه الخطاب عليه بالفعل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصليها إذا ذكرها).
فجعل الأمر عند الذكر، فدل على أنه مطالبٌ بالفعل فوراً، خاصةً على مذهب من يقول: إن الأمر يقتضي الفور، فهذا حاصل ما ذكره العلماء.
والحقيقة أنَّ الأحوط أن الإنسان يبادر، ويفعل الصلاة بمجرد الاستيقاظ ما أمكنه.(27/7)
من زال عقله بإغماء
قال رحمه الله: [أو إغماء].
المغمى عليه إما مغمىً عليه باختياره كأن يتعاطى أمراً يفضي به إلى الإغماء، أو مغمى عليه بغير اختياره كمن به صرع أو نحو ذلك، فهذه أحوال المغمى عليه، فعمم المصنف فقال: (أو إغماء).
فكل من أغمي عليه داخل في هذا العموم، والمغمى عليه للعلماء فيه قولان: قال بعض العلماء: كل من أغمي عليه فهو مكلف، ويبقى إلى أن يفيق فيطالب بقضاء الصلوات وقضاء الأيام التي فرض الله عليه فيها الصيام.
والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وقال به بعض السلف رحمة الله عليهم: أنَّ المغمى عليه ليس بمكلف، وإذا زال إغماؤه لا يطالب بقضاءٍ ولا بأداء.
وفائدة الخلاف: أن من أغمي عليه حتى فاتته الصلوات، أو أغمي عليه وفاته مع الصلاة الصيام، فعلى القول بأنه مكلف يطالب بالقضاء ولو طالت المدة، وعلى القول بأنه غير مكلف لا يطالب بالقضاء، ويقولون: إنه كالمجنون.
والحقيقة أنّ المغمى عليه فيه شبه بالمجنون، وفيه شبهٌ بالنائم، ففيه شبهٌ بالمجنون من جهة أنه إذا أوقظ لا يستيقظ، وفيه شبهٌ بالنائم من جهة أن الأصل فيه أنه مكلف، وأن الذي يعتريه من الإغماء إنما هو أشبه بالغطاء على عقله كالغطاء الذي على النائم فليس فيه زوال العقل بالكلية، ولذلك قال بعض العلماء: هو كالنائم، وقال بعضهم: هو كالمجنون، فمن يقول: إن المغمى عليه كالمجنون لا يطالبه بقضاء الصلوات، ويقول: هو كمن جنّ وأفاق، ومن يقول: إنه كالنائم يطالبه بالقضاء، وهذه المسألة يتفرع عليها ما يسمّى بالموت السريري عند الأطباء -أعاذنا الله وإياكم منه ولطف بنا وبكم في كل حال-، فهذا الموت السريري الذي يكون الإنسان فيه عديم الحركة حتى يشاء الله عز وجل بزوال المانع عنه، إما بجلطة أو بسبب آخر يؤدي إلى تعطله، فيصبح كالنائم في سبات، فإذا كلمه الإنسان لا يعي ولا يجيب، حتى يشاء الله له الإفاقة فيستيقظ بعد شهور، وقد يستمر الإغماء إلى سنوات.
فعلى القول بأن المغمى عليه مكلف يصبح في هذه الحالة يطالب مثل هذا بالقضاء، وعلى القول: بأنه غير مكلف لا يطالب بالقضاء.
وعند النظر في المسألة من جهة الأصول يترجح القول الذي يقول: إنه كالنائم، والشبه فيه بالنائم أقوى من الشبه بالمجنون؛ فإن الإغماء لا يؤثر في عقل الإنسان من جهة الزوال، ولكنه أشبه بالنائم من جهة السبات والخدر، والنائم حقيقته أنه مخدر، أي: لا يستطيع أن يتكلم ولا يفهم الكلام، فالمغمى عليه أقرب إلى النائم منه إلى المجنون، والقاعدة عندنا في الأصول: (إذا تعارض القولان ينظر إلى أقربهما شبهاً بالأصل).
فنحن نسلّم أن المغمى عليه فيه وجه شبه بالمجنون، وفيه وجه شبه بالنائم، فانظر رحمك الله أيهما أقرب إلى الأصل، فإذا نظرت إلى أن الأصل وجوب الصلاة عليه وتكليفه احتطت للشارع، وقلت: هو مكلف وأنا أشك في عذره هل يسقط التكليف أو لا، فيبقى على الأصل من كونه مكلفاً، وإن جئت تنظر إلى الأصل الآخر الذي يغلب فيه جانب الجنون فالأصل براءة الذمة.
وعند النظر إلى الأصلين نجد أن أصل التكليف ألصق من أصل براءة الذمة؛ لأن توجه الخطاب عليه في الأصل قد ثبت، وأصل براءة الذمة إنما يقوى في المسائل التي لم يتوجه فيها خطاب، أي: لم يوجد فيها أصل يوجب توجه الخطاب، ولذلك يقوى قول من يقول: إنه يطالب بالقضاء.
لكن السؤال هنا: لو قلنا: إنه يطالب بالقضاء فأغمي عليه شهرين أو ثلاثة أو أربعة، فكيف يقضي؟ قالوا: إن طالت المدة رتب الصلوات، فكل صلاةٍ مع فرضها، فلو كانت أربعة أشهر فإنه يبدأ من حين إفاقته، ويصلي كل فرض مع فرضه، ويبدأ بالمقضي أولاً ثم بالمؤداة، حتى تتم له أربعة أشهر بهذه الحالة.
أما لو أغمي عليه ثلاثة أيام أو أربعة أيام أو خمسة أيام فإن هذا يطالب بالقضاء مباشرةً.
وإسقاط التكليف عنه لمكان المشقة -كما يقوله بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه ليس بصحيح، فإنهم يسلمون أنه يطالب بالقضاء ثم يقولون: إن طالت المدة سقطت عنه.
وهذا غير صحيح؛ لأن مشقة القضاء يمكن اغتفارها بمطالبته بتسلسل الأوقات بالفرض مع نظيره، وهذا أقوى، واعتبار الأصل فيه أبلغ من اعتبار براءة الذمة الذي سبقت الإشارة إليه.(27/8)
من زال عقله بسكر
قال رحمه الله تعالى: [أو سكرٍ أو نحوه].
السكر قد يكون بسببٍ مباح أو بسبب غير مباح، فالسكر بسبب مباح كأن يشرب خمراً يظنها ماءً، فهذا معذور، أو أكره على شرب الخمر عند من يرى أن الإكراه مسقط للتكليف، فهذا معذور، أو أعطي (البنج) لإجراء عملية جراحية فزال عقله، فهذا السكر يعذر العلماء صاحبه، ويخصونه بأحكام في مسائل العبادات والمعاملات.
وأما السكر المحرم فالمراد به ما يزيل العقل سواءٌ أكان شراباً أم كان جامداً، وسواءٌ كان قديماً أم حديثاً، كما يوجد الآن في بعض المركبات كالمخدرات ونحوها، فكل ذلك يأخذ حكم السكر في باب الفقه.
فإذا ثبت أن السكر يؤثر فإن السكران غير مكلف بالصلاة أثناء سكره، ويطالب بقضائها بعد الإفاقة؛ لأن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، فدل على أنه أثناء السكر لا يطالب بالصلاة، وبناءً على ذلك فإذا أفاق فإنه يخاطب بفعلها، ويكون فعله لها قضاءً لا أداءً.
وقوله: [أو نحوه].
أو نحو السكر، كمثل ما يقع في بعض المخدرات والمركبات التي تكون في حكم السكر.(27/9)
من تصح منه الصلاة ومن لا تصح منه
قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح من مجنون ولا كافر].
أي: ولا تصح الصلاة من مجنونٍ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة)، والصحة تستلزم وجود أو ثبوت الثواب، إلا على القول في الصبي في حده وصلاته.
وقوله: [ولا كافر].
أي: ولا تصح الصلاة من كافر؛ لأنه مخاطبٌ بالأصل، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يؤمر بالصلاة وتصح منه بعد الشهادتين، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يرتب الصلاة على وجود الشهادتين يدل على أن الكافر لا تصح منه الصلاة قبل الشهادتين؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم ... ) الحديث، فدل على أن توجه الخطاب عليهم بالصلاة وصحتها منهم متوقفٌ على تحصيل الأصل وهو الشهادتان، فقد قال تعالى في الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فدل على أن الكافر لا تصح منه قربةٌ ولا طاعة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعجل للكافر دنياه بحسناته، حتى إذا وافى الله يوم القيامة وافاه وليست له حسنة واحدة)، فلذلك لا تصح منه صلاته ولا تقبل منه عبادته.
قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى فمسلم حكماً].
قوله: (فإن صلى) أي: هذا الكافر في الظاهر، وقوله: (فمسلم حكماً) يشير به إلى أنَّ عند العلماء ما يسمونه القضاء وما يسمونه الديانة، والقضاء يعبرون عنه أحياناً بقولهم: (حكماً)؛ لأنه يتصل بحكم الحاكم وهو القاضي، وهذا ينبغي أن يتنبه له طلاب العلم، فالشريعة رتبت الأحكام على الظاهر، ولم ترتبها على السرائر في حكم القضاء، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكلْ سرائرهم إلى الله)، والسبب في ذلك أنه لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقيقة الشيء من الإنسان سواءٌ أكان في عبادةٍ أم معاملة، فلا يستطيع أن يعلم قصده ولا نيته، ولذلك أُمِر من زكى إنساناً أن يقول: أحسبه والله حسيبه.
ولا يمكن أن تنكشف حقيقة الإنسان أو ينجلي صلاحه من عدمه إلا في يومٍ يبعثر فيه ما في القبور، ويحصل فيه ما في الصدور، وهذا هو الفصل في معرفة حقائق الناس، فلما كانت معرفة حقائق الناس متعذرة بالاطلاع على قلوبهم أخذ بالظاهر، فأحكام الشريعة مبنية على الظاهر، فلو أن إنساناً جاء وصلى مع الناس، وفعل الصلاة في الظاهر، فليس لأحدٍ أن يقول: هذا منافق؛ لأنه يحتاج إلى أن يطلع إلى حقيقة قلبه، ما لم تظهر منه أفعال المنافقين التي تدل على نفاقه، والأصل فيها أنه يحكم على ظاهره، وتوكل سريرته إلى الله عز وجل.
فمن دخل المسجد وصلى مع المسلمين، واستقبل قبلتهم، وصلّى صلاتهم، وتأثر بكلامهم في ظاهره فهذا من المسلمين، وحكمه حكم المسلمين، والحقيقة ترد إلى الله سبحانه وتعالى.
فعندنا شيء في الظاهر، وعندنا شيء في الباطن، فإن قالوا: (مسلمٌ حكماً) أي: في الظاهر، وأما حقيقته فأمرها إلى الله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي معه المنافقون وهو يعلم أنهم منافقون، والقرآن ينزل عليه، وسمى المنافقين لـ حذيفة بن اليمان، وقال عمر لـ حذيفة: (أناشدك الله: أكنتُ فيمن سمى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً)، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يعرفون المنافق من المسلم إذا رأوا حذيفة يصلي على الرجل، فإذا رأوا حذيفة يصلي على الرجل علموا أنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رأوا حذيفة اعتزل جنازة علموا أنه منافق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه من خبره شيئاً.
فالذي ينبغي على الحاكم أن يحكم على الظاهر، وهذا هو الأصل، لظاهر حديث مسلم الذي ذكرنا: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، وأما النيات والمقاصد فأمرها إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن قد توجد قرائن تدل على المقصد فيغلب على الظن، فهذا أمر آخر يحكم به في مسائل في القضاء.
ومن أمثلة الديانة والحكم أو القضاء: لو أن إنساناً قال لامرأته: أنتِ طالق، ولم يدر في خلده أن يطلقها، وإنما كان قصده: أنت طالق من الوثاق، أي: أنك غير مربوطة، فإذا رفع إلى القضاء حكم بكونه مطلقاً زوجته، ولكن بينه وبين الله لا تطلق عليه زوجته؛ لأن لفظ الطلاق في قوله: (أنت طالق) لا يقع ديانةً؛ لأنه لم يقصد الطلاق فيه أصلاً، وبناءً على ذلك قالوا: ينفذ الطلاق حكماً -أي: في ظاهر الأحكام- لا ديانةً.
ولها نظائر أيضاً في المعاملات، فإن الإنسان قد يتلفظ بلفظٍ يكون فيه احتمال غالب يؤخذ بظاهره، وإن كان قصده أمراً آخر.
لكن لو كان الأمر محتملاً لمعنيين على السواء فلا بد فيه من سؤاله عن قصده ونيته، فتجد الفقهاء يقولون: (ينوّى) أي: يسأل عن نيته، فلو قال لفظاً يحتمل الطلاق، ثم رفع إلى القاضي، فقال له القاضي: ما الذي نويت في هذا اللفظ المتردد بين المعنيين؟ قال: نويت المعنى الذي لا طلاق فيه، وحلّفه القاضي فحلف، فحينئذٍ يحكم بكون الطلقة غير واقعة قضاءً، ولكن ديانةً بينه وبين الله قد طلقت عليه زوجته.
ولو أن إنساناً ادعى مال إنسان أو اغتصب أرضه، وليس عند الشخص الذي أخذت منه الأرض الدليل، فإنه إذا حكم القاضي بكون الأرض للغاصب دون المغصوب منه بناءً على اليد ففي الباطن لا يحل له من ذلك المال شيءً، فالمال ماله قضاءً لا ديانةً.
فهنا يقول المصنف رحمه الله: (فإن صلى) أي: هذا الكافر الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فدخل المسجد وصلى مع المسلمين (فمسلمٌ حكماً) أي: أعطه حكم المسلمين بناءً على ظاهره، وأما سريرته فتوكل إلى الله عز وجل.(27/10)
متى يؤمر الصبي بالصلاة ويضرب عليها
قال رحمه الله تعالى: [ويؤمر بها صغير لسبع، ويضرب عليها لعشر].
هذا هو ظاهر السنة للحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) فاشتمل هذا الحديث على ثلاثة أحكام: أولها: أمرهم بالصلاة لسبع، ولا يضربون إذا تركوها ولم يصلوا، والثاني: إذا بلغوا العاشرة يؤمرون بالصلاة ويضربون عليها إن لم يصلوا.
والثالث: التفريق بين الذكر والأنثى في المضجع، وكلام المصنف موافق لظاهر السنة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) للعلماء وجهان في قوله: (لسبع) وقوله: (لعشر): قال بعض العلماء: يؤمر في السبع عند ابتدائها، ويؤمر بالضرب إن عصى في العشر عند ابتدائها.
وقال بعضهم: يؤمر في السبع عند تمامها، ويؤمر ويضرب إن عصى في العشر عند تمامها.
والفرق بين القولين أنه على القول بأنه يؤمر بالسبع عند ابتدائها يؤمر بعد السادسة ودخوله في أول السابعة، فلو بلغ ست سنوات يؤمر في اليوم الذي هو زائدٌ على الست؛ لأنه بهذا اليوم قد دخل في السابعة، وهكذا في العشر تضربه إذا بلغ تسعاً وزاد يوماً واحداً، فبدخوله اليوم الواحد يدخل في العشر.
وعلى القول الثاني إنما يؤمر بعد تمام السبع أو يؤمر ويضرب إن عصى بعد تمام العشر، وهذا أقوى؛ لأن الأصل عدم أمره وعدم ضربه؛ لأنه غير مكلف في الأصل، فإذا شككنا فهذا ينبني على مسألة أصولية عند العلماء أو قاعدة فقهية لطيفة وهي: (هل العبرة بالابتداء، أو بالتمام والكمال)؟ فإن قلت: العبرة بالابتداء تقول: لأول يومٍ من السبع ولأول يومٍ من العشر، وإن قلت: العبرة بالتمام والكمال تقول: إذا تمت له السبع أو تمت له العشر.
قال رحمه الله تعالى: [فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها أعاد].
أي: إذا بلغ الصبي أثناء فعله للصلاة، كما لو أن صبياً دخل في الصلاة وأحرم بها الصلاة وهو غير بالغ، ثم بلغ وهو في أثناء وقت الصلاة، زالت الشمس وليست عليه أمارة بلوغه، ثم لما مضت ساعة أو ساعتان احتلم، فباحتلامه دخل في التكليف، فيؤمر بفعل الصلاة وإن كان عند دخول الوقت غير مكلف بها، وهكذا بالنسبة للمرأة الحائض والنفساء، فإنها لو طهرت قبل انتهاء الوقت ولو بركعة واحدة فإنها تؤمر بفعل الصلاة، وهذا مبنيٌ على حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) فدل على أن إدراك الوقت ولو بركعة واحدة يوجب الحكم والمطالبة بالفعل.
فلو أن هذا الصبي صلى صلاة الظهر وهو صبي، ثم نام واحتلم قبل دخول وقت العصر، فحينئذٍ تأكدنا بلوغه بعد الاحتلام، فتكون صلاته الأولى غير مجزية، ويطالب بأداء الصلاة في وقتها؛ لأن الخطاب توجه عليه بعد البلوغ والاحتلام.(27/11)
حرمة تأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر
قال رحمه الله تعالى: [ويحرم تأخيرها عن وقتها].
قوله: (ويحرم) أي: يأثم من فعل ذلك، أعني التأخير عن وقتها، ووقت الصلاة سيأتي إن شاء الله في باب المواقيت، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يخصون المواقيت في باب مستقل، ويذكرون فيه مواقيت الصلوات الخمس.
وإذا أخّر المكلف الصلاة عن وقتها فإما أن يكون معذوراً أو غير معذور، فالمصنف رحمه الله يقول: (ويحرم تأخيرها عن وقتها) أي: لا يجوز للإنسان أن يؤخرها عن وقتها، فإن كان هناك عذرٌ يسقط التكليف عنه -كما تقدم في النائم والمغمى عليه- فهذا لا إشكال فيه، وإن كان بعناء ومشقة لا يعذر بها كالقتال ونحوه، فإنه يطالب ولو كان على حال المقاتل، ودليل ذلك آية النساء، أعني آية المسايفة في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]، فأمر الله عز وجل بالصلاة ولو حال القتال، فدل على أن الصلاة لا تسقط بحال، وإن كان بعض الفقهاء رحمة الله عليهم -وهو مذهب بعض السلف- يجوز للإنسان إذا عظم عليه الخوف أن يؤخر الصلاة، واستدل بذلك لبعض الآثار عن الصحابة.
والصحيح والأقوى أنه يصلي على حاله؛ لأن الله قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239] وعمم في الخوف، فدلّ على أن الأصل مطالبته بالفعل، ولذلك يبقى مكلفاً ولو دفن؛ لأن الله لا يكلف الإنسان إلا ما في وسعه، فيقاتل ولو كان راكباً ولو كان ماشياً، كما يقع الآن في الحالات الشديدة التي تقع في القتال فإنه يصلي على حاله، ولو كان على جهاز، ولو كان على آلة أو على دبابة فليصل على حاله، وهذا من سماحة الإسلام، ومن عظم شأن الصلاة؛ لأنه لا يأمن الإنسان أن يقتل أو تزهق روحه، ولذلك يبرئ ذمته ويصلي على قدر استطاعته فيلقى الله عز وجل وقد أدى هذه الصلاة، ولا تسقط في شدة الخوف ولا بشدة ذهول، بناءً على الأصل من كونه مطالباً بفعلها مأموراً بأدائها.(27/12)
حالات جواز تأخير الصلاة عن وقتها(27/13)
من نوى الجمع في السفر
قال رحمه الله تعالى: [إلا لناوي الجمع].
هذا استثناء، والاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فلما ذكر أن الأصل أنه مطالب استثني من ذلك من نوى الجمع، وصورة ذلك: لو أذّن عليك أذان الظهر وأنت في السفر فقلت: أؤخر الظهر إلى وقت العصر، جاز لك أن يخرج عليك وقت الظهر وأنت لم تصلها؛ لكونك معذوراً بنية الجمع، وهكذا لو أذن عليك أذان المغرب وأردت أن تجمع مع العشاء فلا حرج عليك، وبناءً على ذلك يعتبر هذا مستثنىً مما ذكرناه؛ لأن الجمع بين الصلاتين رخصة من رخص السفر فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هديه في ذلك ثابتاً عنه عليه الصلاة والسلام.(27/14)
من اشتغل بشرط الصلاة عنها
قال رحمه الله تعالى: [ولمشتغل بشرطها الذي يحصله قريباً].
مثال ذلك: شخص قام قبل طلوع الشمس بوقت يسير يريد أن يتوضأ فيه أو يغتسل من الجنابة، فقد قال بعض العلماء: يتيمم ويصلي، وقال بعضهم: يغتسل ويتوضأ ولو خرج الوقت، وعلى هذا القول الثاني درج المصنف، فهذه الحالة تستثنى من المنع من تأخير الصلاة إلى خروج الوقت، قالوا: يرخص لشخصين: أحدهما: من نوى الجمع، والثاني: من اشتغل بتحصيل شرط الصلاة، فإن الطهارة من الحدث من شروط صحة الصلاة، فلو أراد أن يسخن الماء، أو أراد أن يغتسل وليس عنده إلا قدر ما يصلي، فإنه يغتسل ولو خرج الوقت، وهو في حكم المصلي لاشتغاله بشرط صحة صلاته.(27/15)
حكم جاحد وجوب الصلاة وتاركها تهاوناً
قال رحمه الله تعالى: [ومن جحد وجوبها كفر].
من جحد وجوب الصلاة كفر إجماعاً؛ لأن الله أمر بها في كتابه، وإذا قال هو: ليست بواجبة: فإنه يكفر، ودليل كفره: أنه كذّب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كذّب الله ورسوله فقد كفر، فالله عز وجل يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، وهو يقول: لا تقيموا الصلاة، وليست بواجبة.
لأن قول الله: (أقيموا) أمرٌ تضمن الوجوب والإلزام، وهو يكذّب الله فيقول: ليست بواجبة -والعياذ بالله-، ولذلك قال العلماء: من استحل ما حرم الله في كتابه وعلم بتحريمه سبحانه لذلك فإنه يكفر، فلو قال: الزنا حلال لا شيء فيه، أو: شُرْبُ الخمر حلال لا شيء فيه -والعياذ بالله- كفر؛ لأنه يستحل ما حرم الله، ويكون مكذّباً لله عز وجل بالاستحلال.
وكذلك رد الواجبات، بشرط أن يكون على علمٍ بوجوبها، أي: أن تقام عليه الحجة، ومفهوم هذا الشرط أن يكون جاهلاً، فلو أن إنساناً -كما مثل العلماء- في بادية ولا يعلم بشرائع الإسلام قيل له: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلما أسلم جاءه رجل وقال له: صلّ، قال: ليس هناك صلاة! لكونه جاهلاً لا يعلم، فهذا لا يكفّر، وهي من المسائل التي يعذر فيها بالجهل الذي يدل على عدم وجود التكذيب؛ لأن الأصل في الحكم بكفره تكذيبه لله، ولذلك قالوا: شرطه أن يكون عالماً حتى يوجد فيه السبب الموجب للكفر، وقد تكلم في هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام عند كلامه على مرتكب الكبيرة عند اعتقاده لكونها كبيرة أو عدم اعتقاده لكونها كبيرة، فليرجع إليه.
قال رحمه الله تعالى: [وكذا تاركها تهاوناً].
من ترك الصلاة تهاوناً كفر، ولكن للعلماء تفصيلٌ في كفره: فمنهم من يقول: يكفر مطلقاً.
ومنهم من يقول: يكفر إذا لم يصل أبداً، بمعنىً أنه يترك الصلاة بالكلية، وهذا ظاهر النص، واختاره شيخ الإسلام رحمة الله عليه جمعاً بينه وبين حديث عبادة رضي الله عنه: (خمس صلواتٍ كتبهن الله في اليوم والليلة، فمن حفظهن وحافظ عليهن كان له عند الله عهدٌ أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له)، فإن تركها كليةً كفر، وإن صلى أحياناً وترك أحياناً لا يحكم بكفره جمعاً بين النصين، ولأن قوله: (فمن تركها) أي: ترك الصلاة، أي أنه لم يصل بالكلية، وفرقٌ بين قولك: ترك الصلاة، وبين قولك: ترك صلاةً، ولذلك اختار رحمه الله هذا، ولا شك أنه يوفق بين النصوص ويجمع بينها.
قال رحمه الله تعالى: [وكذا تاركها تهاوناً، ودعاه إمامه أو نائبه فأصر].
هذا شرط عند من يقول: إن تارك الصلاة تهاوناً يكفّر.
قالوا: بشرط أن يدعوه الإمام، وظاهر النصوص ليس فيها هذا الشرط، ولذلك اختار جمعٌ من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه عدم اشتراط دعوة الإمام، وقال الذين قالوا باشتراطها: إن ذلك أبلغ في وجود العذر حتى يحكم بكونه كافراً.
قال رحمه الله تعالى: [وضاق وقت الثانية عنها].
أي: أن يضيق وقت الثانية عن فعلها.
قال رحمه الله تعالى: [ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً فيهما].
أي: أننا إذا حكمنا بكونه كافراً بترك الصلاة فإنه لا ينفذ عليه حد القتل إلا إذا استتيب ثلاثاً، فجمهور العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة على أن تارك الصلاة يُدعى إليها ثلاثاً ثم يقتل إذا أبى، وقرر شيخ الإسلام رحمه الله أنه إذا دُعي إليها ثلاثة أيام وهو يصر على تركها أنه كافرٌ بإجماع المسلمين؛ لأنه إذا قيل له: صلّ، وهو يقول: لا أصلي.
ثلاثة أيامٍ، فإنه في هذه الحالة لا يحكم بكونه مسلماً، وقال: إنه في حكم من جحد، ويحكي الإجماع على ذلك في غير ما موضع من المجموع.
فبعض العلماء على أنه يستتاب ثلاثاً، وهذا مبني على مسألة استتابة المرتد، واستتابة المرتد فيها قولان للعلماء رحمة الله عليهم: فمنهم من يوجب الاستتابة لأثر عمر رضي الله عنه، ولا مخالف له، وقد أمرنا بالأخذ بسنن الخلفاء الراشدين، وأثر عمر: هو (أن أبا موسى رضي الله عنه قدم عليه فقال له عمر: هل من مغربة خبر؟ -أي: هل هناك خبرٌ غريب- قال: نعم يا أمير المؤمنين! رجلٌ ترك دين الإسلام ورجع إلى النصرانية أو اليهودية، فتهود أو تنصر فقتلناه، فقال عمر رضي الله عنه: هلا أطعمتموه وسقيتموه ثلاثاً؟!! اللهم إني أبرأ إليك لم أشهد ولم آمر، اللهم إني أبرأ إليك لم أشهد ولم آمر)، فبرئ رضي الله عنه من فعلهم، قالوا: ولا يبرأ إلا بضياع واجب أو ارتكاب محرم.
فقوله: (هلا أطعمتموه وسقيتموه ثلاثاً) دل عند من يقول بوجوب الاستتابة ثلاثاً على وجوبها.
والذين يقولون بعدم الوجوب استدلوا بما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة وجدت مقتولةً ليلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: أحرّج على رجل يعلم من خبر هذه إلا أخبرنا، فقام زوجها وهو أعمى وقال: يا رسول الله! إنها كانت تسبك وتشتمك وتسمعني فيك ما أكره، فما هو إلا أن عديت عليها البارحة بمعولي فقتلتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدوا أن دمها هدر) قالوا: هذا يدل على عدم وجوب الاستتابة، فإن الرجل قتلها مباشرة دون أن يستتيبها.
واستدلوا بحديث ابن عباس الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، فأمر بالقتل بوجود الشرط وهو تبديل الدين، فدل على عدم وجود وصفٍ زائد وهو الاستتابة.
وبعض العلماء -وهو رواية عن الإمام أحمد - يجمع بين القولين فيقول: إن الكفر والارتداد يكون على أحوال: فتارة يحكم فيها بالكفر مطلقاً ويتفق فيها دلالة الظاهر والباطن كمن يستهزئ بالإسلام والدين، فهذا كفره لا شبهة فيه، بخلاف من يكون كفره دون ذلك أو ارتداده دون ذلك لشبهة أو نحوها فإنه يستتاب حتى يعذر إليه، وهذا جمعٌ لطيف لا شك أن فيه جمعاً بين الأخبار والنصوص، وسنفصل هذه المسألة أكثر إن شاء الله في باب الردة وأحكامها.
وعند الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه وأصحابه أن من ترك الصلاة يسجن إلى أن يموت أو يصلي.
والجمهور على أنه يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل.(27/16)
شرح زاد المستقنع - باب الأذان والإقامة [1]
الأذان شعيرة من شعائر الإسلام العظيمة، وهو مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، والغاية منه تعظيم الله، وتنبيه الناس بأوقات الصلاة، وللعلماء في شعيرة الأذان أقوال وتفاصيل في صفته وصيغته، وحكمه، ومن يقوم به، وشروط صحته، ومبطلاته، وحكم أخذ الأجرة عليه، وغير ذلك من الأحكام والمسائل المتعلقة به.(28/1)
أحكام الأذان والإقامة(28/2)
تعريف الأذان والإقامة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الأذان والإقامة].
الأذان في اللغة: الإعلام، ومنه قولهم: آذنه.
إذا أعلمه، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27]، والمراد بذلك أعلِمهم به.
وقال الشاعر: آذنتنا ببينها أسماءُ رب ثاوٍ يمل منه الثواء أي: أعلمتنا وأخبرتنا.
فأصل الأذان: الإعلام، وأما في الاصطلاح: فهو الإعلام بدخول وقت الصلاة بلفظٍ مخصوص.
فقولهم: (الإعلام بدخول وقت الصلاة) المراد به: الصلاة المفروضة، وقولهم: (بلفظٍ مخصوص): هو اللفظ الذي حدّده الشرع لهذه العباده وعيّنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقرّه كما في قصة عمر وعبد الله بن زيد رضي الله عن الجميع.
والأذان مشروعٌ بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، شرعه الله في كتابه بقوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:58]، أي: أذَّنتم بها وأعلنتم بها، وكذلك شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما أراد مالك بن الحويرث وصاحبه أن يسافرا إلى قومهما، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا حضرت الصلاة فأذِّنا)، ووجه الدلالة في قوله: (فأذِّنا)؛ حيث دل على مشروعية الأذان بالسنة القولية، وكذلك أجمعت الأمة على مشروعية الأذان.
والحكمة من مشروعية الأذان: تنبيه الناس وإعلامهم بفريضة الله عز وجل.
ويكون بعد دخول الوقت، ولا يصح الأذان قبل دخول الوقت إلا أذان الصبح الذي يكون في السدس الأخير من الليل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من هذا الأذان؛ إذ إن المقصود به أن يرد القائم وينبه النائم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم)، وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن أذان بلال بالسحر، وهو الأذان الأول يُقصد منه أن يرد القائم أي: أن الإنسان إذا كان في قيام الليل قد لا ينتبه لدخول الفجر، فربما استمر في قيامه وصلاته بالليل حتى يفاجأ بأذان الفجر وهو لم يوتر بعد، ولذلك شرع الله عز وجل هذا الأذان كما في الحديث السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما وصف وقت الأذان الأول بكونه في ليل دلَّ على أنه قبل وقت الصبح، فهذه هي الحالة التي يُشرع فيها أن يكون الأذان قبل دخول الوقت، وهي حالةٌ مخصوصة، ومن أهل العلم من قصره على رمضان بناءً على ورود الأخبار فيه من أجل الصيام.
والمقصود أن حكمة مشروعية الأذان تنبيه الناس، كما أن فيه إعلاءً لذكر الله عز وجل، ولذلك قال بعض السلف في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، قال: المراد بهذا المؤذن، فإنه يدعو إلى الله، ويعمل صالحاً بدعوته إلى الصلاة، ويقول: إنه من المسلمين؛ لأنه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: أشهد أن محمداً رسول الله، فهذا خيرٌ كثير للقائل، وخيرٌ للناس لما فيه من إعلاء كلمة الله عز وجل.
فقال العلماء: إن من حكمة مشروعية الأذان، إعلاء ذكر الله عز وجل، ووجود الشهادة لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة) أي: حينما تقول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) فإن الله يُشهِد الحيوان والجامد على شهادتك تلك، وتكون خيراً للعبد بين يدي الله عز وجل.
والإقامة: مصدر: أقام الشيء يقيمه، وإقامة الشيء المراد بها أن يؤدِّيه الإنسان على وجهه المعتبر، ولذلك أمر الله بإقام الصلاة، بمعنى أن يُؤديها المكلف على أتم وجوهها وأكمل صفاتها.
والإقامة المراد بها: الإعلام بالقيام إلى الصلاة بلفظٍ مخصوص، وهو اللفظ الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة كما سيأتي إن شاء الله بيانه في موضعه.
فكأن المصنف رحمه الله يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بالأذان والإقامة، ومناسبة هذا الباب لما قبله أنه بعد أن فرغ من بيان حكم الصلاة شَرَع في بيان مشروعية الأذان، والسبب في هذا أن الفقهاء رحمهم الله، يبتدئون في كتاب الصلاة ببيان حكم الشرع في الصلاة، وعلى من تجب، ومن المخاطب بها.
فبعد أن بين لك من الذي يخاطب بالصلاة، ومن الذي يؤمر بها، ومتى يؤمر، شرع في بيان ما ينبغي أن يكون قبل الصلاة من النداء لها، والإعلام بدخول وقتها، فقال رحمه الله: (باب الأذان والإقامة).(28/3)
حكم الأذان والإقامة، ومن تلزمان ومحلهما من الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [هما فرضا كفاية] قوله: (هما): أي: الأذان والإقامة فرض كفاية.
فأول ما يعتني به الفقهاء -رحمهم الله- في الأبواب الفقهية أن يبينوا موقف الشارع من هذه العبادة، فيقولون: هل هذا الشيء شرعه الله أو لم يشرعه؟ ثم إذا شرعه فهل شرعه على سيبل اللزوم، أو على سبيل الاختيار، أو على سبيل الندب والاستحباب؟ وحكم الأذان والإقامة مسألة خلافية بين العلماء، قال بعضهم: الأذان واجب والإقامة واجبة، وهذا القول قال به فقهاء الظاهرية رحمة الله عليهم.
والقول الثاني يقول: الأذان والإقامة فرض كفايةٍ إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وهذا مذهب الحنابلة ويميل إليه بعض الحنفية وبعض الشافعية رحمة الله على الجميع.
والقول الثالث -وينسب للجمهور- أن الأذان والإقامة كل منهما سنةٌ مؤكدة.
وهناك قول رابع لبعض السلف وهو وجوب الأذان دون الإقامة.
وقول خامس وهو وجوب الإقامة دون الأذان.
وأقوى هذه الأقوال وأولاها بالصواب -والعلم عند الله- الوجوب، والدليل على ذلك أحاديث، منها: حديث مالك بن الحويرث، وهو حديث صحيح، وكان مالك بن الحويرث قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة الوفود، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، ومكث عنده سبع عشرة ليلة، أو تسع عشرة ليلة، قال رضي الله عنه وأرضاه: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبيبة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلينا فسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقاً فقال: ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكبركم) وفي رواية: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وصلوا كما تروني أصلي).
فالشاهد في قوله: (إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وليؤمكما أكبركم)، ووجه الدلالة أنه أمر، والأصل في الأمر أنه يدل على الوجوب حتى يقوم الدليل على ما دونه، ولذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أمر إلزام، وبناءً على هذا نبقى على هذا الأصل الذي دل عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول بوجوب الأذان.
وأكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت).
وأما الفرق بين قولنا: إنه واجب وقولنا: إنه فرض كفاية فهو أن القول بالوجوب يجعل كل جماعة يلزمها التأذين إلا في المساجد العامة، وأما على القول بالفرضية على الكفاية فيسقط هذا الوجوب عند قيام بعض المصلين بهذا المأمور به، فهذا الفرق بين القول بالوجوب والقول بالكفاية، والقول بالوجوب أقوى لما ذكرناه من دلالة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفرض الكفاية عند العلماء رحمة الله عليهم معناه أنه إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، كأن يقصد الشرع وجود هذا الشيء ولو من بعض الناس، كصلاة الجنازة، فإذا صلى على الجنازة من تحصل به الكفاية سقط الإثم عن الباقين، وكذا تغسيل الميت وتكفينه، وتعليم العلم، وغيره من الأمور التي تعتبر من أصول الشرع ولا تصل إلى حظ فرض العين، فتُعتبر من فروض الكفايات، فإذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين.
قال رحمه الله تعالى: [على الرجال المقيمين].
بعد أن بيَّن أن الأذان والإقامة كلٌ منهما فرض كفاية، يرد
السؤال
من الذي يُفرض عليه الأذان، وتُفرض عليه الإقامة؟ فقال رحمه الله: (على الرجال).
فأخرج النساء، والنساء لا يجب عليهن أذان ولا إقامة، ولا تجب عليهن جمعة ولا جماعة، فإذا سقطت الجماعة سقط الأذان والنداء الموجب للجماعة.
وأما لو أن نساءً اجتمعن وأراد رجلٌ أن يؤذن لجماعة النساء، ويصلي النساء جماعة فلا حرج، والدليل على ذلك حديث أم ورقة الثابت في سنن أبي داود، وكانت امرأة صالحة من نساء الأنصار رضي الله عنها وأرضاها، وهذه المرأة الصالحة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته أن يدعو الله أن تكون شهيدة، فبشَّرها بالشهادة، فشاء الله عز وجل أنها مكثت إلى خلافة عثمان فأتاها عبدان كانا عندها، فمكرا بها وغطاها بقطيفةٍ حتى ماتت، فصدقت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تسمى أم ورقة الشهيدة، وتوصف بهذا الاسم قبل وفاتها رضي الله عنها وأرضاها.
فهذه المرأة الصالحة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته أن تقيم الجماعة لأهل دارها، قال الراوي: فأذِن لها أن يؤذَّن لها وأن تصلي بهم.
قال: فلقد رأيت مؤذنها قد سقط حاجباه من الكبر -أي: رجلٌ كبير كان يؤذِّن لها، فتجمع النساء وتصلي بهن في بيتها.
فدل هذا الحديث على مسائل: منها: أولاً: مشروعية الأذان لجماعة النساء، لكن من الرجال لا من النساء.
ثانياً: مشروعية الجماعة للنساء، أي أن تصلي النساء جماعة، وهو قول الحنابلة والشافعية، خلافاً للمالكية والحنفية رحمة الله على الجميع، حيث دلّ هذا على مشروعية الجماعة للنساء، ومَنَع منه من ذكرنا، والصحيح مشروعيته على ظاهر هذه السنة.
ويؤخذ من مفهوم قول المصنف: (على الرجال) أن النساء لا يلزمهن الأذان، لكن لو أذن رجلٌ للنساء صح ذلك.
وهل تؤذن المرأة؟
الجواب
لا؛ لأن صوت المرأة عورة، وهذا أمر قد يُدرك دليله بالشرع، وقد يُدرك بالحس، فقد أُمِرَ النساء أن لا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، فدل على وجود الفتنة في صوت المرأة، وأيضاً دليل الحس، فإن من الرجال من يتأثر بسماع صوت المرأة ولو لم تخضع بالقول، ولا مكابرة في دليل الحس، وقد يُستند حكم الشرع إلى دليل الحس إذا وجدت مفسدة يَنهى عنها الشرع، فالنساء لا يؤذِّنّ، ولا يُشرع لهن أذان بناءً على ما يكون من المفسدة المترتبة على ندائهن، ولأن النداء إنما شرع للجماعة ولا جماعة تلزمهن.
وقوله: (المقيمين) مفهوم ذلك أنهم إذا كانوا في سفر فلا يجب عليهم الأذان، ولذلك رتبوا الفرضية على الأمصار دون حالة الأسفار، فقالوا: إذا سافر القوم لا يلزمهم أن يؤذنوا، وما ذكرناه من ظاهر النصوص يدل على أن الإنسان يؤذن ولو نزل في برية، وذلك أن مالك بن الحويرث وصاحبه أمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤِّذنا، فقال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما)، وهذا إنما يكون في السفر؛ لأنه لو كان المراد قدومهم على قومهم لقال لهم عليه الصلاة والسلام: إذا حضرت الصلاة فأذنوا بأهليكم.
ولكن قال: (فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبر كما)، فدل على أنهما في السفر، وهذا يؤكِّد على أن الوجوب على الإطلاق سواءٌ في السفر أم الحضر.
قال رحمه الله تعالى: [للصلوات الخمس المكتوبة].
قوله: (للصلوات) اللام للاختصاص، أي أن الوجوب واللزوم والفرضية على الرجال المقيمين مختصة بالصلوات، فخصَّص المصنف رحمه الله الحكم بفرضية الكفاية على المكلَّفين فقال: (على الرجال المقيمين)، وخصه بالصلوات فقال: (للصلوات الخمس المكتوبة).
وهذا هو الأصل المعروف، فالنداء بالأذان يختص بالصلوات الخمس، وهي التي يُشرع التجمع لها، وأما ما عداها من الصلوات فقد يُشرع النداء لها بلفظ مخصوص كقولهم: (الصلاة جامعة) في صلاة الخسوف ونحوها، وقد لا يشرع لها لا أذان ولا إقامة، كصلاة العيدين، فإن صلاة العيدين لا يشرع أن يؤذن ولا أن يُقام لهما.
قال رحمه الله تعالى: [يقاتل أهل بلد تركوهما] أي: يُقاتل أهل بلدٍ تركوا الأذان والإقامة؛ لأن الأذان شعيرة من شعائر الإسلام، ولذلك قال بعض العلماء: يُحكم على البلد بالإسلام إذا وُجِد فيه الأذان، وهذا يسمونه الحكم بالظاهر، والدليل على أنه من شعائر الإسلام وأن البلد الذي يُقام فيه الأذان لا يُقَاتل أهله ما ثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم).
وكما جاء في حديث أنس في الموطأ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على أهل خيبر، وكان ذلك عند الفجر، انتظر عليه الصلاة والسلام إلى وقت الصلاة، وصبّح يهود وهم خارجون إلى الحرث والزراعة فصاحوا: محمدٌ والخميس.
محمدٌ والخميس -أي: محمدٌ والجيش، والخميس: هو الجيش، فأصابهم الرعب- فقال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
، فقاتلهم صلوات الله وسلامه عليه.
والشاهد أن من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا حضر وقت الصلاة انتظر، فإذا سمع النداء كف، وإن لم يسمعه قاتل أهل البلد.(28/4)
حكم أخذ الأجرة على الأذان
قال رحمه الله تعالى: [وتحرم أجرتهما] أي: تحرم أُجرة الأذان والإقامة، وللعلماء في هذه المسألة قولان: قال بعض أهل العلم: لا يجوز للمؤذن أن يأخذ أُجرة على الأذان أو الإقامة، واستدلوا بحديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى الطائف أميراً على الطائف، قال: فكان آخر ما أوصاني به أن قال لي: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)، وكذا استدلوا بهدي السلف الصالح رحمةُ الله عليهم، فإن ابن عمر رضي الله عنه لما قال له المؤذن: إني أحبك في الله.
قال له أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر: وإني أبغضك في الله.
قال: ولم؟ قال: إنك تأخذ على أذانك أجراً.
فهذه أدلة من قال بعدم جواز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة.
وأما الذين قالوا بجواز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة فاستدلوا بما جاء في حديث أبي محذورة -وهو حديث حسن بمجموع طرقه- وفيه أنه قال: (ألقَى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفاظ الأذان ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة).
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم كافأه على الأذان، فدل على مشروعية أخذ الأجرة على الأذان.
والقول بالتحريم قول الحنفية والحنابلة، والقول بالجواز قول المالكية والشافعية، وأصح هذين القولين -والعلم عند الله- التفصيل: فإذا كانت الأجرة من بيت مال المسلمين فإنه لا حرج؛ لأن أبا محذورة أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت مال المسلمين، وأما نهيه عليه الصلاة والسلام لـ عثمان، فالمراد به أن يستشرف الإنسان، كأن يقول: أنا لا أؤذن حتى تعطوني الأجرة، فأصبح أذانه للمال لا لله، وهكذا الإمامة، فلو كان الإمام يأخذ من بيت مال المسلمين فلا حرج ولا حرمة عليه، ولكن إذا قال: أنا لا أصلي ولا أؤم حتى تعطوني الأجرة فهذا هو المحرم، ولذلك لما سئل الإمام أحمد رحمة الله عليه عن رجل يقول لقومه: لا أصلي بكم صلاة التراويح حتى تعطوني كذا وكذا.
قال: أعوذ بالله.
مَن يصلي وراء هذا؟! أي: من يصلي وراء إنسانٍ يستشرف لأجر الدنيا دون أجر الآخرة؟! نسأل الله السلامة والعافية.
فأصح القولين -والعلم عند الله- أن نجمع بين النصوص، فنحمل حديث عثمان بن أبي العاص: (اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)، على مَن يطلب، وأما حديث: (أعطاني صرة فيها شيء من فضة)؛ فإن أبا محذورة أذن، فلما أذن وفرغ أعطاه، فكان أشبه ما يكون بالرضخ، والرضخ والعطايا من بيت مال المسلمين، وهذا هو أنسب الأوجه.
قال رحمه الله تعالى: [لا رزق من بيت المال لِعَدَمِ متطوع] استثنى المصنف رحمه الله الأجرة إذا كانت من بيت المال، وهو الذي ذكرناه، ولكنه اشترط أيضاً وقال: (لعدم متطوع)، فهناك شيء يسمى المذهب، وهناك شيء يسمى الفتوى المختلفة باختلاف العصر والزمان، فأما المذهب فحرمة الأجرة، وأما الفتوى بالجواز لاختلاف الزمان والمكان فهي مقيدة بالحاجة، ولهذا أمثلة، فهم في الأصل يقولون: يحرم أن يأخذ الأجرة، لكن لما قل المحتسبون، وقل من يوجد من يقوم بالأذان حسبة لخفة الدين عند كثير من الناس، خاصة في آخر الزمان -نسأل الله السلامة والعافية- قالوا: يجوز؛ لأننا لو لم نقل بهذا ما وجدنا أحداً يُقيم للناس أذاناً، ولذلك وجود المصالح العظيمة على إعطاء الأجرة بمثل هذا تخفف معها مفسدة ارتكاب المحظور باتخاذ المؤذن الذي يأخذ على أذانه الأجر.
ومن هذا أيضاً أنك تجد فقهاء الحنفية والحنابلة يقولون بعدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لما ثبت في الحديث الصحيح أن أبياً حينما أهدى له الأنصاري قوساً وكان يعلمه القرآن، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام: (إن أردت أن يقلدك الله قوساً من نارٍ فخذها)، فقالوا: هذا يدل على التحريم، فمنع فقهاء الحنفية والحنابلة أخذ الأجرة على تعليم القرآن، قالوا: ولما فسد الزمان وخُشي على القرآن أن لا يُحفظ، وأن أبناء المسلمين سيضيعون القرآن، ولا يجدون من يحفظهم أفتوا بالجواز في العصور المتاخرة، وهذا يسمونه: (الاختلاف بالزمان لا بالحجة والبرهان)، فتجد صاحب القول المخالف يعدل عن قوله إلى قول من خالفه لا بأصل المسألة وهي الحجة والبرهان، ولكن باختلاف الزمان لوجود المفاسد، ولها نظائر في الفقه، وهذه المسألة معروفة؛ لكنها مقيدة بضوابط، وتحتاج إلى أصلٍ يُبنى عليه هذا، كما ذكرنا أنهم قالوا: إننا لو تركنا المساجد وليس لها مؤذنون يحفظون الأذان في الأوقات المعتبرة لضاع على الناس صيامهم، وضاعت عليهم صلاتهم، ولذلك قالوا: نُفتي بالجواز لعظيم المفسدة المترتبة على القول بالتحريم.
ويُلاحظ قوله: (لا زرق من بيت المال)، أي: فإن لم يوجد المحتسب، فكأن المصنف يقول: نُجيز للمؤذن أن يأخذ الأجرة من بيت المال بشرط عدم وجود المحتسب، أما لو وُجد المحتسب فإنه لا يجوز أخذ الأجرة؛ لأن القاعدة في الفقه تقول: (ما شرع لحاجة يبطل بزوالها)، فلما كان حكمهم بجواز الرَّزق من بيت المال مبنياً على وجود الحاجة، وهي عدم وجود المحتسب بطل بزوالها إذا وجد.(28/5)
صفات المؤذن(28/6)
أن يكون صيتاً
قال رحمه الله تعالى: [ويكون المؤذن صيتا أمينا].
بعد أن فرغ رحمه الله من حكم الأذان، والذي يؤذن وهو المحتسب، وأن لا يكون صاحب أجرة شرع رحمه الله في الأوصاف التي ينبغي توفرها في المؤذن.
فقال رحمه الله: (ويكون المؤذن صيتاً أميناً).
قوله: (صيتاً) أي: قوي الصوت؛ لأن المقصود من الأذان الإعلام، والقاعدة في الشريعة: (الولايات العامة والخاصة يرشح لها المكلفون بحسب وجود مصالح الولاية).
فإذا كانت الولاية تعليم الناس فإنه يرشح لها العالِم الفطن، وإذا كانت قضاءً يُرشح لها العالم -لأن القضاء يحتاج إلى علم- الحازم الذكي الذي يعرف ملابسات القضايا وكذب الخصوم وغشهم وتدليسهم، الداهية الذي يعرف الأمور بدلائلها، أو يتفرس في الخصمين بأقوالهما.
فقد قرر العلماء رحمة الله عليهم، ومنهم الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية، وكذا شيخ الإسلام في غير ما موضع من المجموع أن كل ولاية شرعية يُنظر فيها إلى الصفات التي يتحقق بها مقصود الشرع، فلما كان المقصود من الأذان شرعاً إعلام الناس وحصول الإعلام قال المصنف: (ويكون المؤذن صيتاً)، فابتدأ بالصوت؛ لأنه هو المعول في إعلام الناس، فلم يقل: ذا صوت وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أي أنه أرفع صوتاً من غيره، والشخص يكون ذا صوت على أحوال، فأعلاها وأسماها وأسناها رفعة الصوت مع النداوة والطراوة، وهو الذي يسمونه ندي الصوت؛ فإنه قد يكون صوته عالياً لكنه مؤذٍ، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، فإن كان صيتاً، مؤذياً بصوته فيُعدل عنه إلى من هو أندى صوتاً ولو كان أضعف صوتاً منه.
والسبب في هذا أن المؤذن يؤذِّن والناس في ضجعتهم وفي نومهم وفي راحتهم، فإن كان مزعج الصوت آذاهم بهذا الأذان، وربما أزعج الضعفاء من الأطفال والصبية، فحينما يكون ندي الصوت يكون ذلك أدعى لذهاب هذه المفسدة، ويدل على هذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن عمر لما أُرِي الأذان قال له عليه الصلاة والسلام: (فألق على بلال ما رأيت فليؤذن فإنه أندى صوتاً)، أي: ألق ألفاظ الأذان على بلال، (فإنه أندى صوتاً)، والجملة تعليلية، أي: أمرتك بهذا لعلةٍ وهي كونه أندى صوتاً.
فطراوة الصوت ونداوته مطلوبةٌ في الأذان؛ لأنه أرفق بالناس، خاصةً في أذان الفجر والعصر، فلذلك قالوا: يُشرع أن يكون صيتاً وفي صوته نداوة.
وننبه على أمور: فلو كان المؤذن صوته ضعيفاً فوَّت مقصود الشرع؛ لأنه بضعف صوته لا يبلغ أذانه المبلغ، ولذلك ينبغي أن يعدل إلى من هو أقوى منه صوتاً، وقد يكون صوته رقيقاً مبالغاً في النداوة حتى يصل إلى رقة النساء، فيصرف عنه الأذان إلى غيره إجلالاً لهذا المنصب ورعايةً له؛ لأن الناس تجل هذه المناصب الشرعية بحسب أشخاصها، فإذا وضع في الأذان من هو أهل عظم الناس الأذان، والعكس بالعكس، ولذلك ينبغي أن يكون صوته بعيداً عن طراوة النساء ونداوتهن، وكذا بعيداً عن الخشونة المؤذية.(28/7)
أن يكون أميناً
قوله: [أميناً].
مأخوذ من الأمانة وهي الحفظ.
والدليل على اشتراط أن يكون المؤذن أميناً ما ثبت في حديث أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)، فقوله: (المؤذن مؤتمن) خبرٌ بمعنى الإنشاء، أي: ينبغي أن يكون المؤذن أميناً.
قال العلماء: وصف النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن بكونه أميناً لأمور، منها: أنه يؤتمن على ركن من أركان الإسلام وهو الصلاة، وهو أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فإن المؤذن مؤتمن على دخول الوقت، فينبغي أن يكون أميناً حتى لا يغش ولا يكذب في أذانه، فإذا كان متساهلاً أو فاسقاً غير عدلٍ فإنك لا تأمن منه أن يبتدر بالأذان قبل الوقت فيفوت على الناس صلاتهم.
كذلك المؤذن مؤتمن على ركنٍ ثانٍ وهو الصوم؛ لأن تأذينه في الفجر إعلامٌ بدخول وقت الإمساك، وتأذينه في المغرب إعلام بانتهاء الصيام، فلو كان إنساناً لا أمانة عنده، أو يتساهل ولا يحفظ هذا الأمر العظيم فإن ذلك يؤدي إلى ضياع صيام الناس، وهذا هو الواقع والحال، فإنك إذا وجدت المؤذن لا يتقي الله عز وجل فإنه يضيع على الناس صيامهم، فتجده يقوم في صلاة الفجر متأخراً، ويؤذن بعد دخول الوقت بوقت، ولربما أمسك على أذانه الناسُ، فيضيِّع عليهم صيامهم، ويحمل بين يدي الله وزرهم؛ لأن الناس تأتمنه، ولذلك في يوم الإثنين والخميس الواجب أن يكون أذانه عند أول بزوغ الفجر حتى يحفظ للناس صيامهم، وكذا في الأيام البيض، وينبغي أن يُنصح المؤذنون بهذا، وأن يُنبه ويُؤكد عليهم، بل قال بعض العلماء: الأصل في أذان الفجر أن يكون عند أول الوقت.
كل ذلك حفظاً لفريضة الصيام؛ لأنه قد تكون هناك امرأةٌ تريد أن تقضي صيامها، وقد يكون هناك رجل يريد أن يقضي صيامه، فليس له من أمارة أو دليل أو علامة إلا أذان المؤذن، بل لو وُجِدت عنده الساعة فقد لا يعرف متى يكون الإمساك، فلذلك يبني على أذان المؤذن، فاشتراط المصنف رحمه الله للأمانة مبني على السنة، ولما ذكرناه من كون المؤذن مؤتمناً على ركنين من أركان الإسلام: الصلاة والصيام.
قال بعض العلماء: اشتُرِطت الأمانة أيضاً في المؤذن لأنهم كانوا في القديم يؤذنون على ظهور المساجد، وربما بنوا المنائر فكان المؤذن يؤذن على المنارة، ولذلك قال بعض أئمة السلف لأحد المؤذنين: (يا بني: إنك ترقى على المسجد، فإذا رقيته فاتق الله في بصرك)؛ لأنه سيرقى على السطح فلربما اطلع على عورات المسلمين، ولربما رأى أموراً من عورات المسلمين، فقال له: احفظ بصرك.
فقالوا: هذا من الأمانة، ولذلك قالوا: ينبغي أن لا يُختار لهذا الأمر إلا من كان معروفاً بالعدالة والاستقامة، ولذلك اختلفوا في أذان الفاسق وصحته واعتباره.(28/8)
أن يكون عالماً بالوقت
قال رحمه الله: [عالماً بالوقت].
ذلك لأن كل ولاية -كما قلنا- يشترط لها ما يحقق مقصودها، فلما كان الأذان إعلاماً بالوقت وجَب أن يكون المؤذن عالماً بالوقت، فيعرف وقت الزوال، ويعرف دلائل غروب الشمس، ويعرف متى يصير ظل كل شيء مثله، ومتى يصير ظل كل شيءٍ مثليه، وكيف يضبط ذلك، ويعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، حتى يكون ضابطاً لوقت الفجر، وقس على هذا بقية أوقات الصلاة.(28/9)
تقديم الفاضل على المفضول في الأذان
قال رحمه الله تعالى: [فإن تشاحَّ فيه اثنان قدم أفضلهما فيه].
بعد أن بين لك من الذي يؤذن، وما هي الأوصاف التي ينبغي أن تكون في المؤذن قال: (فإن تشاحَّ فيه اثنان قدم أفضلهما)، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يذكرون الأوصاف المعتبرة للشيء، ثم يذكرون ازدحام الناس فيه كأن يقولوا: من صفة القاضي كذا وكذا، فإن تشاح في ذلك اثنان كل منهما أهل للقضاء (قُدِّم أفضلهما)، والفضل في اللغة: الزيادة، والمراد به في الشرع: الزيادة في الطاعة والخير، ويُعرف فضل الإنسان باستمساكه بالأصل، أي: حفظه للواجبات وبعده عن المحرمات، فإذا حصلت منه المحافظة على فرائض الله، والتقوى عن محارم الله عز وجل كان له أصل الفضل، فإذا أرادت أن تصفه بزيادة الفضل وصفته بالمحافظة على الطاعات.
فكذلك الأذان إن تشاحَّ فيه اثنان قُدِّم أفضلهما، فلو حفظ عن أحدهما أنه محافظ على التبكير للمسجد والثاني يتأخر قُدِّم الذي يبكر.
ولو عُرِف أن أحدهما طالب علم والثاني مؤذن يعرف الأوقات وفيه أوصاف المؤذن، لكنه ليس بطالب علم، ولا يحرص على طلب العلم، يقدم طالب العلم؛ لأن طلب العلم زيادة فضلٍ ونبل في الإنسان تؤهله لشرف المرتبة، فيُقَدَّم على من هو دونه، ولا يُقدَّم من هو دونه عليه.
وكذلك يكون الفضل بالمحافظة على الطاعات، كأن يُعرف أحدهما بصيام النوافل كصيام الإثنين والخميس، والثاني لا يصوم، فيقدم الذي يصوم على الذي لا يصوم، ويُنظر إلى الأوصاف الشرعية التي تدل على زيادة الخير في أحدهما؛ لأنهما إذا استويا في الأوصاف المعتبرة رُشِّح أحدهما على الآخر بزيادة الخير، فإن زيادة الخير تزيد في قدر الإنسان؛ والعكس بالعكس، كما قال الله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام:124]، فدل على أن أهل المعاصي في صغار.
ومفهوم الآية أنه إذا كان أهل المعاصي يصيبهم الصغار، فأهل الطاعة يصيبهم العلو والفضل، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].
قال رحمه الله تعالى: [ثم أفضلهما في دينه وعقله].
أي: أفضلهما من ناحية السمت والوقار، وأفضلهما من جهة الدين.
فلو كانا طالبي علم، حافظين لكتاب الله، وكل واحد منهما محافظ على طاعته، وكلاهما على مرتبة واحدة في الدين، ولا يستطاع اختيار أحدهما ينظر إلى العقل، فإن من الناس من علمه أَكبر من عقله، ومنهم من عقله أكبر من علمه، ومنهم من علمه وعقله على كبر، فقد تجد العالم لكنه لا يتعقَّل في الأمور، ومنهم من عنده عقل وليس عنده علم، فتجد عقله أكبر من علمه، فإذا نزلت به النوازل، أو أحاطت به الكروب أحسن إدارتها، وأحسن التخلص منها، ومنهم من جمع الله له بين العقل والعلم، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولذلك قالوا: من جُمِع له بين العقل والدين فقد أعطي النورين، كما قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35].
فالعقل نورٌ داخلي، والوحي نور خارجي، والإنسان يرى بنور داخلي ونور خارجي، فإذا كان الاثنان من ناحية الدين على مرتبة واحدة، ولكن أحدهما أعقل يتريث في الأمور ولا يتعجل، ويُعرف بسداد رأيه وصواب رشده، وأنه إنسان لا تستجره العواطف قُدّم؛ لأن العقل زيادة فضل، ويدل على حب الله للعبد، فإذا كمل عقله مع دينه فهذا نعمة من الله عز وجل تدل على إرادته الخير بهذا العبد، فيُقدَّم العاقل.
قال رحمه الله تعالى: [ثم من يختاره الجيران].
إذا كان كلاهما على دين وعقل، ولا تستطيع أن تفضل أحدهما من جهة الدين ولا من جهة العقل، فتقدم من يختاره الجيران؛ لأن الإنسان إذا كان محبوباً بين الناس في علمه أو أذانه أو ولايته الشرعية كان أدعى لقبول ذلك منه، فإذا كان الناس يحبونه ويختارونه ويرتاحون له، فهذه تزكية له، فلو قالوا: نحب فلاناً، فهذه تزكية خير كما في الحديث: (يا رسول الله! كيف أعلم أني محسن؟ قال: سل جيرانك، فإن قالوا: إنك محسن فأنت محسن، وإن قالوا: إنك مسيء فأنت مسيء).
فالناس شهداء لله عز وجل في الأرض كما ثبت في حديث عمر في الصحيح، فإذا قال الجيران: نحب فلاناً ورشحوه قُدم، وتكون هذا تزكية زائدة على فضله ودينه وعقله.
قال رحمه الله تعالى: [ثم قرعة].
وهذا فعله بعض السلف من الصحابة رضوان الله عليهم، كما حكى بعض أهل العلم أن سعد بن أبي وقاص لما فتح إيوان كسرى تشاحّ الناس في الأذان كلٌ منهم يريد أن يؤذن، فأقرع بينهم سعد رضي الله عنهم وأرضاهم، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا محبين للخير، فكادوا أن يقتتلوا؛ إذ كلٌ منهم يريد أن يؤذن في ذلك المكان الذي أعز الله فيه الإسلام، فأحيا فيه الحنيفية وطمس فيه معالم الجاهلية، فتشاحّ الناس حتى كادوا أن يقتتلوا، فهدأهم سعد، ثم أقرع بينهم وأعطى الأذان لمن خرجت له القرعة.
والقرعة حلٌ شرعي يصار إليه عند تعذر الترشيح، فلو اجتمعت الأوصاف في الأشخاص لإمامة أو قضاء أو فتوى أو تعليم، واستووا في الفضل والصفات الشرعية يُقرع بينهم.
قالوا: والأصل في القرعة أنها اختيار من الله عز وجل، فلو كانوا كلُّهم في مرتبة واحدة وأُقرِع بينهم، فكأن الله اختار هذا الشخص؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى شاء أن يكون هذا الشخص دون غيره، مع أنهم كلهم في الفضل على سواء، فلا يضرنا أن تخرج القرعة على واحد منهم.
ثم قالوا أيضاً: إن القرعة ثبت اعتبارها في أصل الشرع، كما في قصة يونس بن متى {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] فهو لما كان في الفلك مع القوم، ولم تكن نجاتهم إلا بإلقاء واحدٍ منهم، فاقترعوا فخرجت على يونس من الله سبحانه وتعالى ابتلاءً ليونس، فدل على أن الله يختار، فوقع الخيار على يونس بالقرعة، ولذلك اعتبر العلماء القرعة من وسائل الإثبات في بعض المسائل، خاصة عند الازدحام، قد فعلها بعض السلف في الأذان فيُعتبر هذا أصلاً للفقهاء في التقديم بالقرعة، والقرعة تكون بوضع أوراق فيها أسماء هؤلاء المرشحين، ثم يختار الإمام أو يختار واحد من الحي ورقةً منها، فيخرج فيها اسم واحد منهم، فيقدم دون من شاحَّه من بقية المؤذنين.(28/10)
شرح زاد المستقنع - باب الأذان والإقامة [2]
لقد وردت ألفاظ الأذان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يزاد عليها أو ينقص منها أبداً، وهي خمس عشرة جملة، ويستحب أن يكون المؤذن متطهراً مستقبل القبلة، وأن يلتفت عند الحيعلتين، وأن يقول في أذان الصبح: (الصلاة خير من النوم).
والفاظ الإقامة إحدى عشرة جملة، ويستحب أن يقيم من المكان الذي أذن فيه، وللأذان شروط لابد على المؤذن أن يعلمها، ويسن متابعة المؤذن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة له بعد الأذان.(29/1)
ألفاظ الأذان وأقوال أهل العلم فيها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وهو خمس عشرة جملة] أي: الأذان خمس عشرة جملة.
قال رحمه الله تعالى: [يرتلها على علو] هذا أحد أقوال العلماء رحمة الله عليهم، وألفاظ الأذان فيها أقوال لأهل العلم، فمن العلماء من قال: الأذان أن يثنِّي التكبير ويربع الشهادتين، ويثني ما بعده إلا التهليل الذي هو الخاتمة فيفرد، وهذا القول هو قول فقهاء أهل المدينة رحمة الله عليهم، وعليه درج إمام دار الهجرة مالك بن أنس عليه رحمة الله، واختار أصحابه المتأخرون الترجيع في الأذان، والترجيع صفته أنه بعد أن يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) يرجع ويقول بصوت خافت: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فيذكر الشهادتين سراً ثم يرجع إليهما جهراً، وهذا يسمى الترجيع.
فهذا القول الأول في المسألة، وله أصل من حديث أبي محذورة (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان بمكة فرجّع في أذانه) أي: أمره أن يقول الشهادة سراً يُسمع نفسه، ثم يرجع ويُعلي بها صوته، وهذا هو الذي يسميه العلماء الترجيع في الأذان.
القول الثاني: يربع التكبير الذي في أول الأذان، ويربع الشهادتين، ويثنى ما بعد ويفرد التهليل، وهذا مذهب أهل مكة من السلف رحمة الله عليهم، وبه قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ويرى أنه يرجِّع في الأذان، والفرق بين الأول والثاني، أن القول الأول يثني في التكبير، فيبدأ المالكي ويقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله (بصوت منخفض) ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله (بصوت مرتفع) إلى آخره.
القول الثاني: يربع في التكبير (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر)، ثم يرجِّع في الشهادتين، فيجمع بين التربيع للأول وللشهادتين.
ولهذا القول أيضاً أصل من أذان أبي محذورة في مكة مثل ما ذكره المالكية، وهي رواية المالكية لكن فيه زيادة تكلم عليها بعض العلماء كما أشار إليها الحافظ ابن عبد البر رحمة الله عليه.
القول الثالث: أنه يربِّع في التكبير، ويثني في كل شهادة ولا يرجِّع، على الأذان المعروف الموجود، وهذا قال به أهل الكوفة، وهو مذهب الحنفية والحنابلة رحمة الله على الجميع، وهو أذان بلال رضي الله عنه، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية.
وهناك قول رابع لبعض السلف تختلف صورته يرى أنه يربع التبكير، ثم يثني الشهادتين حتى يبلغ: (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، فإذا انتهى من الحيعلتين رجع ثانيةً إلى الشهادتين، وهو قول الحسن البصري ومحمد بن سيرين من أئمة السلف، وفيه حديث ضعيف تكلَّم عليه العلماء، وأشار إلى ضعفه الحافظ ابن عبد البر رحمة الله عليه.
والذي يظهر والله أعلم أنه لا معارضة بين القول الأول والثاني والثالث، فلا حرج أن تؤذن بأذان الترجيع، ولا حرج أن تؤذن بأذان لا ترجيع فيه، فأذان الترجيع الذي لقَّنه النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة، والذي اعتمده العلماء نوع، وأذان بلال وعبد الله بن زيد هو الأصل، ولذلك بعض العلماء يقولون: أذان أبي محذورة ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم على أبي محذورة في مكة حينما فُتِحت، فيحتمل لقرب أبي محذورة من الجاهلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتشهد حتى لا يسبق لسانه إلى ما اعتاده في الجاهلية.
وهذا الجواب ضعيف، والأفضل والأولى كما اختاره بعض المحققين وأشار إليه شيخ الإسلام في القواعد النورانية، وارتضاه الحافظ ابن عبد البر.
أنه اختلاف تنوع، وليس باختلاف تضاد، فهذا نوعٌ من الأذان، وهذا نوعٌ من الأذان، ولا حرج أن تؤذن بهذا أو ذاك، ولا إنكار على من أذن بالترجيع، ولا إنكار على من أذن بغير ترجيع، وكلٌ على سنة وخير.(29/2)
حكم التطهر واستقبال القبلة للمؤذن
قال رحمه الله تعالى: [متطهراً مستقبل القبلة] قوله: (متطهراً) هذا على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض، وقوله: (مستقبل القبلة)؛ لأن هذا هو المحفوظ من أذان بلال رضي الله عنه، ولم يحفظ أنه كان مستدبر القبلة أو منحرفاً عن القبلة، ولذلك يبقى هذا على الأصل، ولأنها أشرف الجهات في الطاعات.
قال رحمه الله تعالى: [جاعلاً إصبعيه في أذنيه] لأنه أبلغ في قوة الصوت، وجاء فيه الحديث.(29/3)
حكم الاستدارة والالتفات في الحيعلتين
قال رحمه الله تعالى: [غير مستدير ملتفتا في الحيعلة يميناً وشمالاً].
أي: أنه لا يستدير بجذعه، ولكن يحرف وجهه يمنةً ويسرةً ولا حرج في ذلك، والدليل على أنه في الحيعلتين يلتفت يميناً وشمالاً ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم، فخرج بلال بوضوئه فمن نائل وناضح قال: وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يميناً وشمالاً حي على الصلاة حي على الفلاح).
وفي هذا الالتفات وجوه، قال بعض العلماء: يلتفت عند بداية الحيعلة، ويختم الالتفات عند ختم الحيعلة يمنةً، مثال ذلك: أن يقول: (حي على الصلآة)، فينتهي من آخر اللفظ عند بلوغ كتفه ملتفتاً.
فهذا وجه.
والوجه الثاني: أن يقول: (حي على الصلاة) ويرجع إلى الاستقامة.
والفرق يين القول الأول والثاني زيادة الثاني بالرجوع إلى القبلة عند انتهاء الحيعلة.
وأما في الالتفات فقال بعض العلماء: ينادي (حي على الصلاة) يميناً (حي على الصلاة) شمالاً، (حي على الفلاح) يميناً، (حي على الفلاح) شمالاً.
وهذا اختيار بعض العلماء رحمة الله عليهم، وهناك قول ثانٍ أنه يحيعل على الصلاة يميناً، وعلى الفلاح شمالاً، وكلٌ منهما له وجه؛ لأن الحديث أطلق، وكلٌ على سنة سواءً، أفعل هذا أم هذا، ولكن الأقوى أن يجمع بين الاثنين؛ لأن المراد الإعلان.
وشرع الالتفات مع الحيعلة ولو وجد المكبر؛ لأنها عبادة، والعبادة توقيفية لا يُنظر إلى إسقاطها عند اختلال المعنى، فلا يستطيع الإنسان أن يجزم أن المراد بذلك علة معينة، فيبقى على الأصل من كونه عبادة، فإذا كانت عبادة استوى في ذلك وجود مكبر الصوت وعدم وجود مكبر الصوت، فيلتفت على كل حال.
قال رحمه الله تعالى: [قائلاً بعدهما في أذان الصبح: (الصلاة خير من النوم) مرتين] بعد الحيعلتين في أذان صلاة الصبح يقول: (الصلاة خيرٌ من النوم) وهو توجيه وإرشاد، وكلمةٌ عظيمة تشحذ الهمم تناسب الحال، فهي من المقال المناسب للحال؛ فإن الإنسان تعلوه سكرة النوم، فإذا سمع نداء الله عز وجل أن الصلاة خيرٌ من النوم تلهَّفت نفسه، واشتاقت لإيثار مرضاة الله عز وجل على هوى النفس، وقد جاء في مشروعيتها حديث سعيد بن المسيب في روايته عن بلال رضي الله عنه، وتكون بعد الحيعلتين.(29/4)
أقوال العلماء في ألفاظ الإقامة
قال رحمه الله تعالى: [وهي إحدى عشرة يحدرها].
كان المفروض أن يقول: (والإقامة إحدى عشرة)، ولكن لا مانع لأنَّه قال: (وهو) في الأول إشارة إلى المذكر منهما، فقوله: (وهي) إشارة إلى المؤنث، وهي مفهومة من السياق، إلا أنَّ الأولى التصريح: (والإقامة إحدى عشرة كلمة يحدُرها).
وللعلماء في الإقامة عدة أوجه، قال بعض العلماء: تُشفَع ويوتر قوله: (قد قامت)، كما هو مذهب المالكية والحنفية.
فيقول: (الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله).
القول الثاني: أنه يوتِر الألفاظ الأول فالتربيع يجعله مثنى، والمثنى يجعله واحدة، ويُشفَع قد قامت، كما ورد في الحديث، وعلى هذا تكون الإقامة المعروفة: (الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)، وكلٌ على سنة، سواءٌ أوتَر أم شفَع، ولكن الأقوى من جهة النص الإيتار، والسبب في الخلاف قوله: (أُمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة)، فقوله: (يوتر الإقامة)، فَهِم بعضهم عنه أنه يوتِر كلمة (قد قامت) ويبقى النداء على الأصل على نداء بلال وعبد الله الذي ذكرناه.
ومنهم من يقول: (ويوتر الإقامة)، أي: في الألفاظ، فيكون الإيتار في الجميع، ويكون قوله: (قد قامت) باقٍ على المثنى كما في الرواية.(29/5)
استحباب الإقامة في المكان المؤذن فيه
قال رحمه الله تعالى: [ويُقِيم من أذن في مكانه إن سَهُل].
كانوا في القديم يؤذنون خارج المسجد، وقد فعل ذلك بلال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أذَّن على سطح بيت الأنصارية، كما جاء في رواية السنن أنه كان يؤذن الفجر على بيت الأنصارية، وكان يؤذن على باب المسجد كما يدل عليه حديث: (لا تسبقني بآمين)، فقد قال بلال للنبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبقني بآمين)، قالوا: لأنه كان يؤذن ويقيم خارج المسجد، فإذا أذن وأقام داخل المسجد لم يُسمع أذانه ولم تُسمع إقامته، ولذلك قال: ويقيم من أذن في مكانه إن سهل).
لكن إن عسُر عليه أن يُقيم في مكان الأذان أقام داخل المسجد، ولكن السنة أن يقيم في مكان الأذان كما ذكرنا في حديث بلال، ووجه دلالة حديث: (لا تسبقني بآمين) أنه كان يقيم خارج المسجد، فيكبر النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، فلا يستطيع أن يدرك آمين في بعض الأحيان، وذلك للمكان الفاصل، خاصةً على القول أنه عليه الصلاة والسلام كان يكبر عند قوله: (قد قامت)، فلربما بلغ آخر الإقامة مع مشيه من موضع الإقامة إلى داخل المسجد وقد فاتته الفاتحة، وقد كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم مرتلة، ولذلك قال له: (لا تسبقني بآمين)، فإنه ربما فاته التأمين لفاصل المكان.
ومن أذن فيقيم، قال بعض العلماء: لا يقيم إلا من أذَّن كما هو موجود في مذهب الحنابلة ودرج عليه المصنف، وقال بعضهم: يجوز أن يقيم غير المؤذن، وفي هذا حديث ابن ماجة: (أن أخا صداء قد أذن ومن أذن فهو يقيم)، وهو حديث ضعيف؛ لأن فيه عبد الرحمن بن أبي زياد الأفريقي.
وقال بعض العلماء: إن الأمر واسع لو أراد أن يُقيم أحد غير المؤذن.
وهذا فيه نظرٌ، فإن كان الذي أذَّن موجوداً فإنه أحق بالإقامة؛ لأنه تولى الأمر من بدايته، فليس من حق أحد أن يدخل عليه لكنهم استثنوا المؤذن الراتب إذا تأخر عن الأذان وحضر عند الإقامة بقي حقه في الإقامة، وإن كان قد سقط حقه في التأذين بسبب التأخير فيقيم، فهو أحق بالإقامة.(29/6)
شروط صحة الأذان(29/7)
الترتيب والتوالي
قال رحمه الله تعالى: [ولا يصح إلا مرتباً متواليا].
شرع رحمه الله في شروط صحة الأذان.
قوله: (ولا يصح) أي: الأذان.
(إلا مرتباً) أي: مرتباً بترتيب الشرع؛ لأن القاعدة في الأذكار والألفاظ الشرعية أنه يُتقَيد فيها بالوارد، فكما أنها جاءت واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الترتيب يُرتبها على هذا الوجه.
وقوله: (متوالياً) أي: دون وجود فاصل مؤثر، فلو فصل بينهما بفاصل مؤثر فإنه يستأنف الأذان، ولا يَبني على ما كان عليه.(29/8)
العدالة في المؤذن
قال رحمه الله تعالى: [من عدلٍ ولو ملحنا أو ملحونا].
قوله: (من عدلٍ) أي: من إنسان عدل، فهذا الأذان لا يصح إلا من عدل، قالوا: لأنه خبر وإعلام بدخول الوقت، ولا يُقبل خبر الفاسق؛ لأن الفاسق إذا أَخبر بدخول الوقت لا يُوثق بخبره، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، فقالوا: لا يصح أذان الفاسق والحنابلة رحمهم الله شددوا في الأذان وفي الإمامة فقالوا: لا يصح الأذان من فاسقٍ، ولا تصح إمامة الفاسق، ولذلك يرون إعادة الصلاة إذا صُلِّي وراء الفاسق، وإن كان الصحيح صحة إمامة الفاسق لدلالة السنة على ذلك كما سيأتي.
وأما الأذان فقالوا: إنه خبر وقد أمر الله بالتثبت في أخبار الفساق، فكيف نقبل خبر هذا بدخول وقت الصلاة، وكيف نقبل خبره في انتهاء وقت الصيام، أو دخول وقت الصيام، فمثل هذا لا تقبل شهادته، فمن باب أولى في أمور الصلاة والعبادة أن لا يُقبل خبره.(29/9)
حكم اللحن في الأذان
قال رحمه الله تعالى: [ولو ملحّنا أو ملحونا].
اللحن: أن يكون الصوت فيه نداوة وطراوة، وإذا كان اللحن على وجه التغني الذي لا يخرج الألفاظ عن حقائقها فالأذان صحيح، أما لو كان يخرج الكلمات عن معانيها والألفاظ عن دلائلها فإنه يُبطل الأذان، واللحن في القراءة والأذان للعلماء فيه ضابط التأثير، فقالوا: إن أثَّر فأخرج اللفظ عن مدلوله فحينئذٍ يحكم بعدم اعتباره، وأما إذا لم يُخرج عن مدلوله فإنه لا يؤثر.
وسُئِل الإمام أحمد رحمه الله عن رجلٍ يتغنى في الأذان، فقال للسائل: ما اسمك؟ قال: محمد.
قال: أترضى أن يُقال لك: (يا موحامد)؟ قال: لا.
قال: كيف ترضاه لنبيك؟ -صلوات الله وسلامه عليه-.
فالمقصود أنه لا يصح الأذان إلا على هذا الوجه، وهو أن يؤدى بألفاظٍ صحيحة بعيدةٍِ عن الألحان المخرجة للألفاظ عن دلائلها.
ومن اللحن المبالغة في المدود، فعلى الإنسان أن يكبر ويتشهد بعيداً عن التكلف؛ لأن الإسلام لا تكلف فيه، والتطريب والتمطيط في الأذان ليس من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم، ولذلك نص العلماء رحمة الله عليهم على اختلاف المذاهب على أنه بدعةٌ في الأذان، وإنما يؤذن الإنسان أذاناً لا يُخرِج ألفاظ الأذان عن مدلولاتها، بعيداً عن التكلف وإطالة المدود والترانيم ونحوها، فكل ذلك مما لا أصل له، فاللحن والصوت الجميل والتغني بالأذان والقراءة شرطه أن لا يخرج الألفاظ عن مدلولاتها، كما قيل: اقرأ بلحن العُرب إن تجوّد وأجز الألحان إن لم تعتد فمعنى: (أجز الألحان إن لم تعتدِ) أنه لا مانع أن يكون هناك لحن في الأذان أو في القراءة، لكن بشرط أن لا يعتدي القارئ أو المؤذن فيخرج الألفاظ عن مدلولاتها، فلا يجوز أن يقول: (أشهد أن موحامداً) فيمطها حتى يخرج اللفظ عن مدلوله، فإن قال: (موحامداً) أخرج لفظ الاسم الذي هو (محمد) عن وضعه في أصل اللغة، فإنه ليس بين الميم والحاء مد، وليس بين الميم والدال مد، ولأنه إذا مد أصبح اسماً آخر غير الاسم الذي شهد أنه نبي الله صلوات الله وسلامه عليه.
وكذلك إذا كان اللحن بالإخلال بالحركات كأن يقول: أشهد أن (محمداً رسولَ الله) بفتح رسول، وهذا كثير وشائع في هذا الزمان، بل قال بعض العلماء ببطلان أذانه.
ولذلك ينبغي أن يُنبَّه على ذلك بعض الجهال الذين لا يفرقون بين الضم والفتح في مثل هذا، فينبَّهون على أنه: (أشهد أن محمداً رسولُ الله) -بالضم-، ولا يجوز أن يقول: (أشهد أن محمداً رسولَ الله)؛ لأنه إخراج للشهادة عن مدلولها.
فينبه على مثل هذا ونحوه من الألحان التي تخرج الألفاظ عن دلائلها، أو تفسد المعنى في التركيب اللغوي.(29/10)
حكم أذان الصبي المميز
قال رحمه الله تعالى: [ويجزئ من مميز] أي: يجزئ الأذان من صبيّ مميز.
قالوا: كما صحّت صلاته صح أذانه، ولذلك إذا أذن الصبي المميز صح أذانه.
وقال بعض العلماء: لا يصح أذان الصبي ولو كان مميزاً، وقالوا: لأنه خبر، والخبر شهادة ولا تصح من الصبي؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، فالشهادة لا تكون إلا من البالغ العاقل، والصبي ليس ببالغ ولا بعاقل، فلا يوثق بأذانه ولا يوثق بخبره.(29/11)
مبطلات الأذان والإقامة(29/12)
الفاصل الكبير والكلام المحرم وإن كان يسيراً
قال رحمه الله تعالى: [ويبطلهما فصلٌ كثير ويسير محرم] أي: يبطل الأذان والإقامة فصلٌ كثيرٌ وكلامٌ محرَّم، كأن يشرع في الأذان فيقول: (اللهُ أكبر)، ثم يجلس وقتاً طويلاً، كما يحدث بعض الأحيان حين ينقطع جهاز الصوت فيحاول إصلاحه، وربما يأخذ منه خمس دقائق أو عشر دقائق، فهذا فاصل مؤثر، وحينئذٍ يستأنف ولا يبني لكن لو أنه كبر ثم انشغل يسيراً ثم رجع إلى أذانه فإنه يبني ولا يستأنف، فيصح أن يبني على الألفاظ الأُوَل إذا كان الفاصل غير كثير.
وكذلك الكلام المحرم، كأن يؤذن ويتشهد ثم يسب رجلاً، فقالوا: يبطل أذانه؛ لأن السب ليس من الأذان، فحينئذٍ يُحكم ببطلان أذانه ويبتدئ من جديد.
أما لو كان كلاماً مباحاً فقال بعض العلماء: لا يبطل، والاحتياط أن يعيد ويستأنف؛ لأنه أدخل في ألفاظ الأذان ما ليس منها.
فقوله: (ويسير محرم) أي: وكلامٍ يسير محرم.(29/13)
الأذان قبل دخول الوقت
قال رحمه الله تعالى: [ولا يجزئ قبل الوقت إلا الفجر بعد نصف الليل] أي: ولا يجزئ الأذان قبل الوقت، إلا الفجر فيجوز أن يؤذن له قبل دخول الوقت لثبوت السنة بذلك، فيؤذن قبل دخول الوقت ولا حرج، ثم اختلف العلماء، فقال بعض العلماء: الأذان الأول لا يجاوز السدس الأخير من الليل، وهو ما يقارب ساعة ويختلف بالصيف والشتاء، فيؤذن الأذان الأول قبل الفجر بحدود ساعة أو تزيد، بحسب الصيف والشتاء، وبحسب طول الليل وقصره.
وقال بعضهم: إنما يؤذن الأذان الأول بفاصلٍ يسير بينه وبين الأذان الثاني، بحيث أنه بمجرد ما ينتهي من الأذان الأول يدخل وقت الفجر فيؤذن الأذان الثاني، وهذا ارتضاه بعض فقهاء الظاهرية رحمة الله عليهم بناءً على حديث: (ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا)، ولكن هذه اللفظة عند بعض العلماء فيها نظر؛ لأن بلالاً كان عندما يؤذن يمتطي على ظهر بيت الأنصارية، حتى إذا قرب بزوغ الفجر صعد ابن أم مكتوم وأذن، وليس المراد به أنه ينزل ويطلع مباشرة، كما أفاده بعض العلماء رحمة الله عليهم.
والمصنف أخذ بالقول الثالث، وهو أن يؤذن الأذان الأول من بعد نصف الليل، وهذا في الحقيقة محل نظر، والأقوى أن يؤذن في السدس الأخير، ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم)، فلما تُوقِظ النائم في نصف الليل فليس هناك مصلحة، وما دام أن الحديث جاءنا بعلة الأمر فنتقيد بالعلة الواردة؛ لأن العلل المنصوص عليها محكومٌ بها، فلما جاءنا الحديث أن العلة في الأذان الأول رد القائم وتنبيه النائم، فذلك أنسب ما يكون في حدود السدس الأخير، كما هو وجهٌ عند الشافعية وبعض العلماء رحمة الله عليهم.(29/14)
استحباب صلاة ركعتين بعد أذان المغرب
قال رحمه الله تعالى: [ويسن جلوسه بعد أذان المغرب يسيرا] يسن ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين)، وفي رواية: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم قال عند الثالثة: لمن شاء)، قال أنس رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح: (فلقد رأيت كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري حتى إن الرجل لو دخل ظن أن الصلاة قد أقيمت) أي أنه إذا أذن وانتهى يصلون هذه الركعتين، ويبتدرون السواري يجعلونها سُتراً، وهذا يدل على حرصهم على هذه السنة.
ووجه الشاهد أن كون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بصلاة الركعتين بين الأذان والإقامة يدل على أن مِن السنة الفصل بين الأذان والإقامة، خلافاً لمن قال بالتعجيل، وهو موجود في بعض المذاهب، كما هو موجود في مذهب المالكية رحمة الله عليهم، فهم يرون سنية التعجيل؛ لأنهم لا يرون التنفل بين الأذان والإقامة، وهو وجهٌ أيضاً عند بعض الحنفية، والصحيح ما ذكرناه بدلالة السنة من حديث مسلم في صحيحه.(29/15)
حكم الأذان في الجمع أو قضاء الفوائت
قال رحمه الله تعالى: [ومن جمع أو قضى فوائت أذّن للأولى ثم أقام لكل فريضة] هذا على حديث المزدلفة أنه عليه الصلاة والسلام أذن للأولى وأقام إقامتين: إقامة للأولى، وإقامة للثانية، فأصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم أن يؤذِّن الذي جَمَع جَمْع تقديم أو تأخير أذاناً واحداً ويقيم إقامتين.(29/16)
استحباب متابعة المؤذن
قال رحمه الله تعالى: [ويسن لسامعه متابعته سراً] من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمن سمع النداء أن يُتابع المؤذن سراً، أي: لا يرفع صوته، بل سراً بقدر ما يُسمع نفسه، وإن كان هناك عوام ويريد تعليمهم إن كان من العلماء والقضاة ونحوهم ممن يقتدى بهم فله أن يرفع صوته قليلاً حتى يتعلم الناس، فقد رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه الصحابة كما في حديث معاوية، فيشرع الرفع قليلاً من باب التنبيه للناس والتعليم لهم، ولا حرج في ذلك.(29/17)