(وإِن تأَخر) أي تراخى القبول (عن الإِيجاب، صح ما داما في المجلس (1) ولم يتشاغلا بما يقطعه) عرفا (2) ولو طال الفصل (3) لأَن حكم المجلس حكم حالة العقد (4) (وإِن تفرقا قبله) أي قبل القبول (5) أَو تشاغلا بما يقطعه عرفا (بطل) الإِيجاب (6) للإِعراض عنه (7) .
__________
(1) ذكره الموفق وغيره قولا واحدا.
(2) كما في عقود المعاوضات.
(3) صح عقد النكاح.
(4) بدليل صحة القبض فيما يشترط لصحته قبضه في المجلس، وبدليل ثبوت الخيار في عقود المعاوضات، جزم به الموفق وغيره.
(5) بطل، لأنه لا يوجد معناه، فإن الإعراض قد وجد من جهته بالتفرق، فلا يكون قبولا.
(6) وصار وجوده كعدمه، صححه الشارح وغيره.
(7) أي عن القبول، فأشبه الرد، ولا يثبت في النكاح خيار بلا خلاف، لا خيار مجلس، ولا شرط، لأنه ليس بيعا، ولا في معناه، والعوض ليس ركنًا فيه، ولا مقصودا منه.(6/250)
وكذا لو جن، أَو أُغمي عليه قبل القبول (1) لا إن نام (2) .
__________
(1) أي من صدر منه إيجاب عقد، قبل القبول لما أوجب بطل، ولو لم يحصل تفرق، ولا تشاغل، على الصحيح من المذهب، ويتوجه أن لا يبطل إذا أفاق سريعا، وكذا لو أذنت لوليها أن يزوجها ثم جنت، أو أغمي عليها، أو فسق الولي، أو حضر الأقرب قبله، بطل أيضًا، لأَنه لا بد من استمرار الشرط في الولي حتى يتم العقد.
(2) أي من أوجب عقدا قبل قبوله، وحصل القبول في المجلس، والمراد نوما يسيرا، لا ينقض الوضوء، قاله الشيخ، ولا يصح تعليق النكاح على شرط مستقبل، كزوجتك ما في بطنها. أو: من في هذه الدار. أو: إن وضعت زوجتي بنتا، بخلاف الشروط الحاضرة، كزوجتك ابنتى إن كانت انقضت عدتها. وكذا تعليقه بمشيئة الله، أو: زوجتك ابنتى إن شئت.(6/251)
فصل (1)
(وله شروط) أَربعة (2) (أَحدها تعيين الزوجين) (3) لأَن المقصود في النكاح التعيين، فلا يصح بدونه (4) كزوجتك بنتى، وله غيرها، حتى يميزها (5) .
__________
(1) أي في ذكر شروط النكاح، والشارع اشترط للنكاح شروطا زائدة على العقد، تقطع عنه سبب السفاح، كالإعلان، والولي، ومنع المرأة أن تليه بنفسها، وندب إلى إظهاره، لأن في الإخلال به ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح، وزوال بعض مقاصده، وأثبت له أحكاما زائدة على مجرد الاستمتاع، وجعله وصلة بين الناس، بمنزلة الرحم، فقال (فجعله نسبا وصهرا) .
(2) يعنى بالاستقراء، والشرط في كلامهم على «ثلاثة أوجه» معنوى وهو ما يلزم من عدمه عدم مشروطه، ولا يلزم من وجوده وجوده ولا عدمه، كشروط الصلاة، والبيع، والنكاح في هذا الباب. وشرط لفظى، وهو ما يلزم من وجوده وجود مشروطه، وهل يلزم من عدمه العدم؟ فيه خلاف، وهو الشرط الذي تتعلق عليه العقود والفسوخ، وهو المراد بقولهم: باب تعليق الطلاق بالشروط. وشرط ثالث لا يلزم من وجوده وجود، ولا من عدمه عدم، وهو الشرط في البيع والنكاح وبمعنى هذا الشرط إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما ليس له فيه منفعة.
(3) فإن جهلا، أو أحدهما، لم يصح النكاح.
(4) ولأن النكاح عقد معاوضة، أشبه تعيين المبيع في البيع.
(5) باسمها، كفاطمة، أو صفة لا يشاركها فيها غيرها، كالطويلة، أو البيضاء، ونحو ذلك.(6/252)
وكذا لو قال: زوجتها ابنك. وله بنون (1) (فإِن أَشار الولي إِلي الزوجة (2) أَو سماها) باسمها (3) (أَو وصفها بما تتميز به) (4) كالطويلة، أَو الكبيرة (5) صح النكاح، لحصول التمييز (6) (أو قال: زوجتك بنتى. وله) بنت (واحدة، لا أَكثر، صح) النكاح (7) لعدم الالتباس، ولو سماها بغير اسمها (8) .
__________
(1) لم يصح، حتى يعينه بما يتميز به من اسم، أو صفة.
(2) - وكانت حاضرة - كهذه، صح النكاح، لأن الإشارة تكفي في التعيين، وإن زاد: بنتى هذه فلانة. كان تأكيدا.
(3) كأن قال: زوجتك بنتى فاطمة.
(4) يعنى وصفها بصفة لا يشاركها فيها غيرها من أخواتها.
(5) أو الوسطى، أو البيضاء، أو الحمراء، أو الصفراء، أو السوداء، وإن سماها مع ذلك كان تأكيدا.
(6) باسمها، أو صفتها، أو الإشارة إليها بحضورها.
(7) ولو كانت غائبة، وإن سماها باسمها كان تأكيدا.
(8) لأنه لا تعدد هنا، ولا التباس، وكذا لو سماها بغير اسمها وأشار إليها، بأن قال: زوجتك ابنتى فاطمة هذه. وأشار إلى خديجة، صح العقد على خديجة، لأن الإشارة أقوى.
وإن قال: من له فاطمة وعائشة: زوجتك بنتى عائشة. ونويا فاطمة، أو أحدهما، لم يصح.(6/253)
ومن سمى له في العقد غير مخطوبته، فقبل يظنها إِياها، لم يصح (1) .
__________
(1) لأن القبول انصرف إلى غير من وجد الإيجاب منها فلم يصح، ولو علم الحال بعد ذلك ورضى، ولها الصداق مع الجهل إن أصابها، ومع العلم أنها ليست زوجته، وأنها محرمة عليه، وأمكنته فزانية، لا صداق لها.
وتجهز إليه التي طلبها، بالصداق الأول، وبعد انقضاء عدة التي أصابها إن كانت ممن يحرم الجمع بينهما.(6/254)
فصل (1)
الشرط (الثاني: رضاهما) (2) فلا يصح إِن أُكره أَحدهما بغير حق، كالبيع (3) (إِلا البالغ المعتوه) (4) فيزوجه أَبوه، أَو وصيه في النكاح (5) .
__________
(1) أي في اشتراط رضى الزوجين، أو من يقوم مقامهما.
(2) أي زوج مكلف ولو رقيقًا، وزوجة حرة عاقلة ثيب، لها تسع سنين، كما يأتي. فأما الرجال البالغون الأحرار، المالكون لأمر أنفسهم، والثيب البالغ، فإنهم اتفقوا على اشتراط رضاهم، وقبولهم في صحة النكاح، كما حكاه ابن رشد وغيره.
(3) أي كما لا يصح بيع المكره بغير حق، فإن أكره بحق جاز، كتزويج ابنته الصغيرة البكر من كفو مع كراهيتها.
(4) وهو ناقص العقل، مختلط الكلام، قليل الفهم، فاسد الترتيب، لا يضرب ولا يشتم، والمجنون: من زاد على هذه الأشياء. فيضرب، ويشتم، ومن يخنق في بعض الأحيان، أو زال عقله ببرسام ونحوه، لم يصح إلا بإذنه، فإن دام به فكالمجنون، قاله الشيخ وغيره، فإن من أمكن أن يتزوج لنفسه، لم تثبت ولاية تزويجه، كالعاقل.
(5) نص عليه، وقيل: مع الشهوة. وليس له تزويج ابنه البالغ العاقل بلا إذنه بلا نزاع، وقال الشيخ: ليس للأبوين إلزام الولد بنكاح من لا يريد، فلا يكون عاقا كأكل ما لا يريد.(6/255)
(و) إِلا (المجنونة (1) والصغير (2) والبكر، ولو مكلفة (3) .
__________
(1) لأن ولاية الإجبار انتفت عن العاقلة بخيرة نظرها لنفسها، بخلاف المجنونة.
(2) أي غير البالغ، فلا خلاف أن للأب تزويج ابنه الغلام، العاقل، بغير إذنه، لأن ابن عمر زوج ابنه وهو صغير، ويزوجه بواحدة، صوبه في تصحيح الفروع، وقيل: بأكثر إن رأي فيه مصلحة.
(3) أي وإلا البكر، فللأب أو وصيه تزويج ابنته البكر، التي لها دون تسع، بغير إذنها ورضاها، إذا وضعها في كفء بلا نزاع، وحكاه ابن رشد والوزير وغيرهما اتفاقا، لما ثبت أن أبا بكر: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت ست، قالوا: ولو مكلفة على المشهور، وبه قال أبو حنيفة ومالك، والشافعي، وسائر الفقهاء.
واستثنى مالك - في أظهر الروايتين عنه - المتعنسة، وهي التي طال مكثها في بيت أبيها، حتى بلغت أربعين سنة، وكذا التي تزوجت ولم يدخل بها، وقد باشرت الأمور، وعرفت مصالحها من مضارها، فقال مالك: لا يملك الأب إجبارها، وكذا قال أبو حنيفة: لا يملك الأب إجبارها، وعن أحمد: عدم إجبار المكلفة، اختاره أبو بكر والشيخ، قال في الفائق: وهو الأصح. وقال الزركشى: هو أظهر، لأن مناط الإجبار الصغر.
قال الشيخ: فالصحيح أن البكر البالغة لا يجبرها أحد، لما في الصحيحين «لا تنكح البكر حتى تستأذن» وهو قول أبي عبيد، وأصحاب الرأي. قال ابن القيم: قالت الشافعية: له أن يجبر ابنته البالغة المفتية، العالمة بدين الله، بمن هي أكره الناس له، حتى لو عينت كفوا، وتركوا محض القياس والمصلحة، وتعلقوا بخبر مسلم «والبكر تستأذن» وهو حجة عليهم.
وتركوا ما في الصحيحين «لا تنكح الأيم حتى تستأذن» فنهي أن تنكح بدون استئذانها، وأمر بذلك، وأخبر أنه شرعه وحكمه، فاتفق على ذلك أمره ونهيه، وهو محض القياس والميزان؛ وقال: وهو قول جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو القول الذي ندين الله به.(6/256)
لا الثيب) إِذا تم لها تسع سنين (1) (فإِن الأَب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إِذنهم) (2) .
__________
(1) وهي الراجع، من ثاب: إذا رجع، ويحتمل أنها سميت بذلك، لاجتماعها بالزوج، من قولهم: ثاب الناس. إذا اجتمعوا، والمراد هنا العاقلة التي لها تسع سنين فأكثر، ولم تبلغ، هذا المذهب، ومذهب الشافعي، وعنه: له إجبارها، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، لأنها صغيرة؛ فجاز إجبارها، كالبكر، والغلام.
واختار الشيخ عدم إجبار بنت تسع، بكرا كانت أو ثيبا، وهو رواية عن أحمد؛ وقال بعض المتأخرين: هو الأقوى، ويؤخذ بتعيين بنت تسع فأكثر، لا بتعيين أب أو وصيه؛ قال الشيخ: هذا ظاهر مذهب أحمد، فإن عينت كفوًا فامتنع فيمن عينته فعاضل، وأما الثيب الكبيرة فقال الوزير وغيره: اتفقوا على أنها لا تجبر على النكاح.
(2) جزم به الزركشى، واستظهره في الفروع، وهو مذهب مالك، بمهر المثل وغيره، بغير أمة، ولا معيبة، وليس لهم خيار إذا بلغوا، وتقدم عنه في المكلفة: استئذانها. واختاره الشيخ وغيره، قال أحمد في رواية عبد الله: إذا بلغت الجارية تسع سنين، فلا يزوجها أبوها ولا غيره إلا بإذنها، ويستأذن أمها، بنفسه أو بنسوة ثقات. وأمها أولي، لحديث «آمروا النساء في بناتهن» رواه أبو داود.(6/257)
كثيب دون تسع، لعدم اعتبار إِذنهم (1) و (كالسيد مع إِمائه) (2) فيزوجهن بغير إِذنهن (3) لأَنه يملك منافع بضعهن (4) (و) كالسيد مع (عبده الصغير) (5) فيزوجه بغير إِذنه، كولده الصغير (6) (ولا يزوج باقي الأَولياء) كالجد (7) .
__________
(1) يعنى البالغ المعتوه، وما عطف عليه، كثيب دون تسع، لأنه لا إذن لها، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة لأنها صغيرة لا حق لها، والأخبار في الثيب محمولة على الكبيرة.
(2) بلا فرق بين الكبيرة والصغيرة، والمدبرة، وأم الولد.
(3) قال الموفق: لا نعلم خلافا في السيد، إذا زوج أمته بغير إذنها أنه يصح، ثيبا كانت أو بكرا، صغيرة أو كبيرة.
(4) والنكاح: عقد على منفعة، فأشبه عقد الإجارة، ولذلك ملك الاستمتاع بها، ولهذا فارقت العبد.
(5) فإن له تزويجه بغير إذنه، قال الموفق: في قول أكثر أهل العلم؛ قال: ولا يملك إجبار عبده الكبير إذا كان عاقلا؛ وهو أحد قولي الشافعي، لأنه مكلف، يملك الطلاق، فلا يجبر على النكاح كالحر، وقال أبو حنيفة ومالك: له ذلك، لقوله تعالى: {مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} .
(6) يزوجه بغير إذنه، في قول عامة أهل العلم، وإذا ملك تزويجه فعبده مع ملكه إياه، وتمام ولايته عليه أولي، وكذا الصغير والمجنون.
(7) صغيرة دون تسع، لعموم الأحاديث، ولأنه قاصر عن الأب.(6/258)
والأَخ، والعم (1) (صغيرة دون تسع) بحال (2) بكرا كانت أَو ثيبا (3) (ولا) يزوج غير الأَب، ووصيه في النكاح (صغيرا) (4) إِلا الحاكم لحاجة (5) (ولا) يزوج غير الأَب ووصيه فيه (كبيرة عاقلة) بكرا أَو ثيبا (6) (ولا بنت تسع) سنين كذلك (إِلا بإِذنهما) (7) .
__________
(1) وبنى الأخ، وبنى العم، وإن نزلوا.
(2) من الأحوال، يعنى من دون تسع سنين بإذن أو دونه، مع شهوة أو لا، أو غير ذلك من الأحوال، لأنها ليست من أهل الاستئمار بالإتفاق، فوجب المنع.
(3) لأن قدامة بن مظعون زوج ابنة أخيه من عبد الله بن عمر، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال «إنها يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها» ولأنه لا إذن لها معتبر.
(4) كالجد، والأخ، والعم، وبنيهما، لأنهم ليسوا من أهل الإجبار.
(5) الوطء، أو الخدمة ونحوهما، زوجهما الحاكم، ومع عدمها ليس لها تزويجهما، وكذا المجنون، صرح به الموفق وغيره، واستظهره في الرعاية والفروع وصححه في تصحيحها، وألحق بعضهم الحاكم بجميع الأولياء غير الأب ووصيه، والصحيح من المذهب تخصيصه، ويصح قبول مميز لنكاحه بإذن وليه، خروجا من الخلاف.
(6) إلا بإذنها، عند جماهير العلماء.
(7) أي ولا يزوج - غير الأب ووصيه في النكاح - بنت تسع سنين، إلا بإذنها عند جماهير العلماء، ويزوج المجنونة مع شهوتها كل ولي، الأقرب فالأقرب، لحاجتها إلى النكاح وصيانتها، وغير ذلك، وتعرف شهوتها من كلامها، وتتبعها الرجال.(6/259)
لحديث أبي هريرة مرفوعا: «تستأْمر اليتيمة في نفسها، فإِن سكتت فهو إِذنها، وإِن أَبت لم تكره» رواه أحمد (1) . وإِذن بنت تسع معتبر (2) لقول عائشة: إِذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأَة، رواه أَحمد (3) . ومعناه: في حكم المرأَة (4) . (وهو) أي الإِذن (صمات البكر) (5) .
__________
(1) وفي الصحيحين «ولا البكر حتى تستأذن، وإذنها أن تسكت» وفي لفظ «إذنها صماتها» قال الشيخ: وهو قول عامة أهل العلم. «وإذنها دائر بين القول والسكوت، واكتفي منها بالسكوت، لأنها قد تستحى من التصريح، وحكى ابن رشد وغيره: الإجماع على أن الإذن في حق الأبكار المستأذنات واقع بالسكوت وهو الرضى، وأما الرد فباللفظ، للخبر، وقال ابن المنذر: يستحب أن يعلم أن سكوتها رضى، والأولى أن يرجع إلى القرائن، فإنها لا تخفي، واليتيمة في الشرع: الصغيرة التي لا أب لها.
(2) فيشترط عند ثيوبتها، وفيما إذا كان الولي غير الأب أو وصيه.
(3) وروى عن ابن عمر مرفوعا.
(4) فيشترط إذنها، ولأنها تصلح بذلك النكاح، وتحتاج إليه، أشبهت البالغة.
(5) ففي الصحيحين من حديث عائشة «رضاها صماتها» وإذنها صماتها، في قول عامة أهل العلم.(6/260)
ولو ضحكت أَو بكت (1) (ونطق الثيب) (2) بوطء في القبل (3) لحديث أبي هريرة يرفعه «لا تنكح الأَيم حتى تستأْمر، ولا تنكح البكر حتى تستأْذن» قالوا: يا رسول الله وكيف إِذنها؟ قال: «أَن تسكت» متفق عليه (4) . ويعتبر في استئذان تسمية الزوج، على وجه تقع به المعرفة (5) .
__________
(1) لحديث أبي هريرة مرفوعا «تستأمر اليتيمة، فإن بكت، أو سكتت فهو رضاها، وإن أبت فلا جور عليها» ونطقها أبلغ إذًا، ولا يشترط.
(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها» رواه ابن ماجه وغيره؛ وقال الشيخ وغيره: إذنها الكلام بلا خلاف.
(3) ولو كان بزنا، وقال أبو حنيفة ومالك - في المصابة بالفجور - حكمها حكم البكر في إذنها، وتزويجها، واختاره ابن القيم وغيره.
(4) الأيم من فارقت زوجها بطلاق أو موت، والاستئمار: طلب الأمر، أي لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها، ولا نزاع في أن إذنها الكلام، فيعتبر رضاها لأحقيتها بنفسها من وليها، كما جاء في غير ما حديث، تتأكد به مشاورتها، واحتياج الولي إلى صريح القول، بالإذن منها، في العقد عليها، واكتفي من البكر بالسكوت، لأنها قد تستحى من التصريح، كما تقدم.
(5) بأن يذكر لها نسبه ومنصبه ونحوه، لتكون على بصيرة.(6/261)
فصل (1)
الشرط (الثالث الولي) (2) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نكاح إِلا بولي» رواه الخمسة إلا النسائى، وصححه أَحمد، وابن معين (3) (وشروطه) أي شروط الولي سبعة (4) (التكليف) (5)
__________
(1) أي في اشتراط الولي عند عقد النكاح وشروطه، وتقديمه، وعضله، وغير ذلك.
(2) أي الشرط الثالث من شروط النكاح: الولي. وأنه لا يصح إلا بولي، نص عليه، وهو مذهب مالك، والشافعي، وجماهير العلماء، وولي المرأة هو متولي أمرها.
(3) وذكر المناوى: أنه متواتر، وأخرجه الحاكم من نحو ثلاثين وجها، وللترمذى وغيره وصححه من حديث عائشة «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل» الحديث، فأبطله الشارع سدا لذريعة الزنا، فإن الزانى لا يعجز أن يقول للمرأة: أنكحينى نفسك بعشرة دراهم. ويشهد عليها رجلين من أصحابه أو غيرهم، فمنعها من ذلك سدًا لذريعة الزنا، وقال تعالى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وقال {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} قال الشافعي: هي أصرح آية في اعتبار الولي.
(4) وإن عدمت فيه فوجوده كعدمه.
(5) قال أحمد: لا يزوج الغلام حتى يحتلم، ليس له أمر، وهذا مذهب الشافعي، وأما العقل فهو شرط بلا خلاف، وسواء من لا عقل له لصغره، أو من ذهب عقله بجنون أو كبر، لا إغماء أو من يجن أحيانا.(6/262)
لأَن غير المكلف يحتاج لمن ينظر له، فلا ينظر لغيره (1) (والذكورية) (2) لأَن المرأَة لا ولاية لها على نفسها، ففي غيرها أولى (3) (والحرية) (4) لأَن العبد لا ولاية له على نفسه، ففي غيره أولى (5) (والرشد في العقد) (6) بأَن يعرف الكفء، ومصالح النكاح (7) لا حفظ المال، فرشد كل مقام بحسبه (8) .
__________
(1) ولأن الولاية يعتبر لها كمال الحال.
(2) أي هي شرط من شروط الولاية بالاتفاق، ومنعت، صيانة لها عن مباشرة ما يشعر برعونتها، وميلها إلى الرجال.
(3) ولأنها ولاية يعتبر فيها الكمال، والمرأة ناقصة قاصرة، تثبت الولاية عليها، لقصورها عن النظر لنفسها، فغيرها أولى، وعنه: لها أن تلي نكاح أمتها ومعتقها، والأول المذهب، ويليه وليها، كما يأتي.
(4) أي كمال الحرية، فلا ولاية لعبد، ولا مبعض، في قول جماعة أهل العلم.
(5) إلا المكاتب، فيزوج أمته بإذن سيده.
(6) لقول ابن عباس: لا نكاح إلا بشاهدى عدل، وولي مرشد؛ قال أحمد: أصح شيء في هذا قول ابن عباس رضى الله عنهما.
(7) وهو معنى ما اشترطه بعضهم من كونه عالما بالمصالح، لا شيخا كبيرا، جاهلا بالمصلحة.
(8) قاله الشيخ وغيره.(6/263)
(واتفاق الدين) (1) فلا ولاية لكافر على مسلمة (2) ولا لنصرانى على مجوسية، لعدم التوارث بينهما (3) (سوى ما يذكر) (4) كأُم ولد لكافر أَسلمت (5) وأَمة كافرة لمسلم (6) والسلطان يزوج من لا ولي لها من أَهل الذمة (7) (والعدالة) (8) ولو ظاهرة (9) .
__________
(1) بكون دين الولي والمولي عليها واحدا.
(2) حكاه ابن المنذر، وابن رشد، والموفق، وغيرهم إجماعا.
(3) وفي الاختيارات - على رواية: لا يعقد نصرانى ولا يهودى لمسلم - ظاهره: يقتضى أن لا ولاية للكافر على ابنته الكافرة، في تزويج المسلم، وقال الشيخ - في موضع آخر: لا ينبعى أن يكون متوليا لنكاح مسلم، ولكن لا يظهر بطلان العقد، فإنه ليس على بطلانه دليل شرعى.
(4) استثناء من اشتراط اتفاق الدين.
(5) فيزوجها، لأنها مملوكته.
(6) فله أن يزوجها لكافر، وكذا أمة كافرة لمسلمة.
(7) لعموم ولايته على أهل دار الإسلام.
(8) لما تقدم عن ابن عباس وغيره، وروى «أيما امرأة أنكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل» واتفقوا على أن الولي إذا كان عدلا، فولايته صحيحة، واختلفوا في ولاية الفاسق. وعنه: ليست شرطا، وينعقد بها النكاح؛ وهو قول مالك. وأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، لأنه يلي نكاح نفسه، فصحت ولايته على غيره.
(9) فيكفي مستور الحال، قطع به غير واحد، ولأن في اشتراطها ظاهرا وباطنا، حرجا ومشقة.(6/264)
لأَنها ولاية نظرية فلا يستبد بها الفاسق (1) إِلا في سلطان، وسيد يزوج أَمته (2) إِذا تقرر ذلك (3) (فلا تزوج امرأَة نفسها، ولا غيرها) لما تقدم (4) (ويقدم أَبو المرأَة) الحرة (في إِنكاحها) (5) لأَنه أَكمل نظرا، وأَشد شفقة (6) .
__________
(1) ويضم إليه أمين، كالوصي في رواية.
(2) أي فلا تشترط عدالتهما، للحاجة إلى السلطان، وتصرف السيد في ملكه، ولا يشترط كون الولي بصيرا، ولا كونه متكلمًا إذا فهمت إشارته، ويقدم الولي أصلح الخاطبين، وينبغى أن يختار شابا حسن الصورة.
(3) وفهم ما تقدم من شروط الولي، وأنه لا يصح النكاح بدونه.
(4) أي من الأخبار، ولا توكل غير وليها في تزويجها، فإن فعلت لم يصح، لعدم وجود شرطه، ولأنها غير مأمونة على البضع، لنقص عقلها، وسرعة انخداعها، وروى «لا تزوج المرأة نفسها» وفيه «فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» وإن حكم بصحته حاكم لم ينقض، ويزوج أمتها وليها، بشرط إذنها، وإن كانت محجورا عليها، فوليها في مالها، ويزوج معتقها عصبة المعتقة من النسب، وعتيقتها كأمتها، اختاره الشيخ وغيره.
(5) بخلاف الأمة، فلا ولاية لأبيها عليها، قال الموفق: بغير خلاف.
(6) فوجب تقديمه، ولأنه لا ولاية، لأحد معه، وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أبي حنيفة، وقيل: الابن، لأنه أولى منه بالميراث. والجمهور يقدم الأب، ولأن الولد موهوب لأبيه، وفي الحديث «أنت ومالك لأبيك» ولأنه يقوم على ولده في سفهه، وصغره، وجنونه، فيليه في سائر ما ثبتت الولاية عليه.(6/265)
(ثم وصيه فيه) أي في النكاح، لقيامه مقامه (1) (ثم جدها لأَب وإِن علا) الأَقرب فالأَقرب (2) لأَن له إِيلادا، وتعصيبا فأَشبه الأَب (3) (ثم ابنها، ثم بنوه وإِن نزلوا) الأَقرب فالأَقرب (4) لما روت أُم سلمة: أَنها لما انقضت عدتها، أَرسل إِليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها، فقالت: يا رسول الله ليس أَحد من أَوليائى شاهدا، قال «ليس من أَوليائك شاهد ولا غائب يكره ذلك» فقالت: قم يا عمر، فزوج رسول الله، فزوجه، رواه النسائى (5) .
__________
(1) فيه، فإن كان وليا في المال لم تكن له ولاية في التزويج، لأنه إنما يستفيد بالتصرف بالوصية، فلا يملك ما لم يوص به إليه، ووصي غير الأب لا ولاية له على صبى أو مجنون، لأن الموصي لا يملك ذلك فوصيه أولي.
(2) يعنى أن أبا الأب وإن علت درجته، أحق بالولاية من الابن، وسائر الأولياء، وهو مذهب الشافعي.
(3) ولأن الابن والأخ يقادان بها، والأخ يقطع بسرقة مالها، بخلاف الجد، وغير ذلك.
(4) وفي الاختيارات: لو قيل: إن الابن والأب سواء في ولاية النكاح، كما إذا أوصي لأقرب قرابته، لكان متوجها، ويتخرج لنا أن الابن، أولي، إذ قلنا الأخ أولى من الجد. اهـ. ومذهب أصحاب الرأي: أن الابن وإن نزل أولي.
(5) فدل الحديث على أن الابن يزوج أمه، فكذا ابن الابن، وإن نزل؛ لإثبات النبي صلى الله عليه وسلم له ولاية تزويجها، وقيل لأحمد: أليس كان صغيرًا؟
-يعنى عمر بن أبي سلمة- قال: ومن يقول كان صغيرًا؟ ليس فيه بيان. ولأنه عدل من عصبتها.(6/266)
(ثم أَخوها لأَبوين، ثم لأَب) كالميراث (1) (ثم بنوهما كذلك) وإِن نزلوا (2) يقدم من لأَبوين على من لأَب إِن استووا في الدرجة، الأَقرب فالأَقرب (3) .
(ثم عمها لأَبوين، ثم لأَب) لما تقدم (4) (ثم بنوهما كذلك) على ما سبق في الميراث (5) (ثم أقرب عصبة نسب كالإِرث) (6) فأَحق العصبات بعد الإِخوة بالميراث أَحقهم بالولاية (7) .
__________
(1) أي ثم يقدم - في ولاية النكاح بعد الأب وأبيه وإن علا، والابن وابنه وإن نزل - الأخ، لكونه أقرب العصبات بعدهم؛ قال الموفق: بلا خلاف. ويقدم الأخ لأبوين، ثم الأخ لأب وفاقا، وصححه الموفق وغيره، لأنه حق يستفاد بالتعصيب، فيقدم فيه من لأبوين، كما يقدم في الميراث.
(2) كابن ابن ابن أخ لأبوين، وابن ابن ابن أخ لأب.
(3) وعن أحمد - في الأخوين الصغير والكبير - ينبغى أن ينظر إلى العقل والرأي، وفي رواية: كلاهما سواء، إلا أنه ينبغى أن ينظر في ذلك إلى الفضل والرأي.
(4) أي من أنه يقدم الأخ لأبوين على الأخ لأب.
(5) يقدم ابن العم لأبوين على ابن العم لأب.
(6) كعم الأب، ثم بنيه، ثم عم الجد، ثم بنيه كذلك وإن علوا.
(7) فلا يلي بنو أب أعلى مع بنى أب أقرب منه وإن نزلت درجتهم، وأولى
ولد كل أب أقربهم إليه، قال الموفق: لا نعلم في هذا خلافا، وقال الوزير: اتفقوا على أن الولاية في النكاح، لا تثبت إلا لمن يرث بالتعصيب. انتهي، ولا ولاية لغير العصبات من الأقارب، كأخ لأم أو عم لأم، وهو مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة.(6/267)
لأَن مبنى الولاية على الشفقة والنظر، وذلك معتبر بمظنته وهو القرابة (1) (ثم المولي المنعم) بالعتق (2) لأَنه يرثها، ويعقل عنها (3) .
(ثم أقرب عصبته نسبا) على ترتيب الميراث (4) (ثم) إِن عدموا فعصبة (ولاء) على ما تقدم (5) (ثم السلطان) (6) .
__________
(1) فأقربهم أشفقهم، وفي الفروع: من شروك الولي الإشفاق عليها، ومن لم يعلم أنه نسيب، فهو غير مقدور على استئذانه، فيسقط بعدم العلم، كما يسقط بالبعد.
(2) أي ثم يلي نكاح حرة - عند عدم عصبتها من النسب - المولي المنعم بالعتق.
(3) أي عند عدم عصباتها، فكان له تزويجها، قال الموفق: بغير خلاف نعلمه.
(4) أي فإن عدم المولي أو لم يكن من أهل الولاية فعصباته، الأقرب منهم فالأقرب، على ترتيب الميراث قولاً واحدًا.
(5) أي في الميراث، يليه في الولاية مولي المولي، ثم عصباته من بعده، كالميراث سواء، فإن اجتمع ابن المعتق وأبوه فالابن أولي، لأنه أحق بالميراث، وأقوى في التعصيب.
(6) لقوله صلى الله عليه وسلم «السلطان ولي من لا ولي له» رواه أبو داود
وغيره، وقال الموفق: لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن للسلطان ولاية تزويج المرأة، عند عدم أوليائها أو عضلهم، ولأن له ولاية عامة، فكانت له الولاية في النكاح كالأب.(6/268)
وهو الإِمام أَو نائبه (1) قال أَحمد: والقاضى أَحب إِلي من الأَمير في هذا (2) فإِن عدم الكل زوجها ذو سلطان في مكانها (3) . فإِن تعذر وكَّلت (4) وولي أَمة سيدها ولو فاسقا (5) .
__________
(1) وفي المغني والإنصاف: هو الإمام أو الحاكم، أو من فوضا إليه ذلك، وعنه: عند عدم القاضي، قال الشيخ: لأنه موضع ضرورة، وكذا قاضي البغاة وسلطانهم.
(2) وقال في موضع - إذا لم يكن لها ولي فالسلطان - المسلط على الشيء: القاضى يقضى في الفروج والحدود، وقال: ما للوالي ولاية إنما هو القاضى، وتأول بعضهم أن الوالي أذن له في التزويج، ويحتمل أنه إذا لم يكن في موضع ولايته قاض.
(3) ككبير قرية أو وليها، أو أمير قافلة ونحوه؛ واختاره الشيخ وغيره، وقال: إذا ادعت خلوها من الموانع، وأنها لا ولي لها زوجت، ولو لم يثبت ذلك ببينة. وقال: تزويج الأيامى فرض كفاية إجماعا، فإن أباه حاكم إلا بظلم، كطلبه جعلا لا يستحقه، صار وجوده كعدمه، وفي الاختيارات: وإذا تعذر من له ولاية النكاح انتقلت الولاية إلى أصلح من يوجد، ممن له نوع ولاية في النكاح، كرئيس القرية وهو المراد بالدهقان، وأمير القافلة ونحوه.
(4) أي في ذلك المكان من يزوجها، فعن أحمد ما يدل على أنه يزوجها رجل عدل بإذنها.
(5) أي وولي أمة في إنكاحها سيدها بلا خلاف، إذا كان من أهل ولايته،
لقوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} ولأنه مالكها ولو كان فاسقًا، فله التصرف في ماله، أو مكاتبا إن أذن له سيده في تزويج إمائه، وإن كانت امرأة فوليها ولي سيدتها كما تقدم.(6/269)
ولا ولاية لأَخ من أُم، ولا خال، ونحوه من ذوي الأَرحام (1) (فإِن عضل) الولي (الأَقرب) (2) بأَن منعها كفؤا رضيته ورغب بما صح مهرا (3) ويفسق به إِن تكرر (4) (أَو لم يكن) الأَقرب (أَهلا) لكونه طفلا (5) أَو كافرا، أَو فاسقا، أَو عبدا (6) .
__________
(1) كعم الأم وأبيها ونحوهم، وهو مذهب الشافعي، لقول علي: إذا بلغ النساء نص الحقائق، أي أدركن، فالعصبة أولي، ولا تزول ولاية بالإغماء، ولا بالعمى، ولا بالسفه، وإن جن أحيانا أو أغمى عليه أو أحرم انتظر زوال ذلك، ولا ينعزل الولي بطريان ذلك.
(2) زوج الأبعد، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه ليس للولي أن يعضل وليته، إذا دعت إلى كفء، وبصداق مثلها.
(3) أي ورغب كل منهما في صاحبه، بما صح مهرا، ولو بدون مهر مثلها.
(4) أي العضل، بأن خطبها كفو وآخر، وآخر، فمنع، صار ذلك كبيرة يمنع الولاية لأجل الإضرار والفسق، ذكره الشيخ وغيره؛ وقال: من صور العضل المسقط لولايته، إذا امتنع الخطاب لشدة الولي.
(5) يعنى من لم يبلغ، لأن لفظه صغير، لم يميز، فأطلقه على مطلق الصغير.
(6) ولو مبعضا، لأن الولاية لا تثبت لطفل، ولا عبد، ولا كافر على مسلمة، فعند ذلك يكون وجودهم كعدمهم.(6/270)
(أَو غاب) الأَقرب (غيبة منقطعة، لا تقطع إلا بكلفة ومشقة) (1) فوق مسافة القصر (2) أَو جهل مكانه (3) (زوج) الحرة الولي (الأَبعد) (4) لأَن الأَقرب هنا كالمعدوم (5) (وإِن زوج الأَبعد (6) .
__________
(1) وقال الخرقي: ما لا يصل إليه الكتاب، أو يصل فلا يجيب عنه؛ وقال القاضي: ما لا تقطعه القافلة في السنة إلا مرة؛ وقال الموفق - بعد سياقها - وقول أحمد: إلا أن تكون غيبة منقطعة، لا تقطع إلا بكلفة ومشقة؛ هذا القول إن شاء الله أقربها إلى الصواب، فإن التحديدات بابها التوقيف، ولا توقيف في هذه المسألة فترد على ما يتعارفه الناس بينهم، مما لم تجر العادة بالانتظار فيه، ويلحق المرأة الضرر بمنعها من التزويج في مثله، وقيل: ما تستضر به، اختاره ابن عقيل، وصوبه في الإنصاف.
(2) لا إن كان دون مسافة القصر، ولو وجدت المشقة والكلفة.
(3) أي مكان الولي الأقرب، أو تعذرت مراجعته بحبس أو أسر، أو خوف عدو، ونحوها.
(4) ممن يلي الأقرب من الأولياء دون السلطان، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، لقوله «السلطان ولي من لا ولي لها» وهذه لها ولي، وإنما تعذر لعدم حصول الولي الأقرب، فثبتت الولاية لمن يليه.
(5) فكان التزويج للأبعد الذي يلي الأقرب كالأصل، ما لم تكن أمة غاب سيدها، فيزوجها الحاكم، لأن له نظرا في مال الغائب.
(6) أي من غير عذر للأقرب، لم يصح النكاح، ولو أجازه الأقرب، لأنه لا ولاية له معه.(6/271)
أَو) زوج (أَجنبي) (1) ولو حاكما (من غير عذر) للأَقرب (لم يصح) النكاح (2) لعدم الولاية من العاقد عليها مع وجود مستحقها (3) فلو كان الأقرب لا يعلم أَنه عصبة (4) أَو أَنه صار أَو عاد أَهلا بعد مناف (5) صح النكاح استصحابًا للأَصل (6) ووكيل كل ولي يقوم مقامه، غائبا أَو حاضرا (7) بشرط إِذنها للوكيل بعد توكيله (8) .
__________
(1) لم يصح النكاح، لما تقدم.
(2) ولو أجازه الولي، لفقد شرط النكاح.
(3) فلا تثبت له ولاية كالميراث.
(4) أي فلو كان الأقرب عند تزويج الأبعد أو الحاكم، لا يعلم أنه عصبة، ثم عرف بعد العقد، لم يعد، قاله الشيخ وغيره.
(5) أي أو أنه صار أهلا، بأن بلغ أقرب، أو عاد أهلا بعد مناف من فسق، أو جنون، أو غيره.
(6) ومثله إرث ونحوه. ويلي كتأبي نكاح موليته الكتابية، حتى من مسلم، ويباشره، ويشترط فيه شروط المسلم.
(7) ممن تقدم، مجبرا كان أو غيره، لأنه عقد معاوضة، فجاز التوكيل فيه كالبيع، وقياسا على توكيل الزوج، لأنه صلى الله عليه وسلم، وكل أبا رافع في تزويج ميمونة، وعمرو بن أمية في تزويجه أم حبيبة، وله أن يوكل قبل إذنها أو بدونه، ويثبت لوكيل ماله من إجبار وغيره.
(8) فلا يكفي إذنها لوليها بتزويج، أو توكيل فيه بلا مراجعة وكيلها، وإذنها له فيه بعد توكيله، فلو وكل وليـ ثم أذنت لوكيل صح، ولو لم تأذن للولي.(6/272)
إِن لم تكن مجبرة (1) ويشترط في وكيل ولي ما يشترط فيه (2) ويقول الولي أَو وكيله لوكيل الزوج: زوجت موكلك فلانا فلانة (3) ويقول وكيل الزوج: قبلته لفلان، أَو لموكلي فلان (4) وإِن استوى وليان فأَكثر (5) .
__________
(1) فإن كانت مجبرة لم يشترط إذنها، على ما تقدم.
(2) أي في الولي من ذكورة، وبلوغ، وعقل، وعدالة، ورشد، وغيرها، لأنها ولاية، فلا يصح أن يباشرها غير أهلها، ويصح توكيله مطلقا: كزوج من شئت، ولا يملك أن يزوجها من نفسه، كالوصي. ومقيدا: كزوج فلانا بعينه؛ ومن ولايته بالشرع كالحاكم والولي فله، قاله في الإنصاف وغيره: ويصح توكيل فاسق ونحوه في قبول لموكله، اختاره أبو الخطاب وغيره، وصححه ابن نصر الله.
(3) أي ويشترط أن يقول الولي أو وكيله لوكيل الزوج: زوجت موكلك فلان بن فلان - ويصفه بما يتميز به - فلانة بنت فلان. ونحوه من التعريف بما تتميز به، ولا يقول: زوجتكها. ونحوه.
(4) أي ويشترط قول وكيل الزوج: قبلت هذا النكاح لفلان بن فلان -وينسبه- أو لموكلي فلان؛ لا: قبلته. فقط من غير تصريح بذلك، بخلاف سائر العقود، لأن الإشهاد في النكاح لا يتأتى إلا على ما تسمعه الشهود. ووصي أب أو غيره في نكاح، بمنزلته إذا نص له عليه.
(5) لامرأة في درجة كإخوة لأبوين، صح من كل واحد منهم، قولاً واحدًا.(6/273)
سن تقديم أَفضل، فأَسن (1) فإِن تشاحوا أُقرع (2) ويتعين من أَذنت له منهم (3) ومن زوج ابنه ببنت أَخيه ونحوه (4) صح أَن يتولي طرفي العقد (5) .
__________
(1) أي أفضل علما ودينا، وإن استووا فأسن، لقوله - عليه السلام - «كبر، كبر» أي قدم الأكبر، ولأنه أحوط للعقد في اجتماع شروطه، والنظر في الحظ.
(2) أي أقرع بينهم لتساويهم، فإن سبق غير من قرع، وقد أذنت له صح، لأنه صدر من ولي كامل الولاية، بإذن موليته.
(3) فيزوجها دون غيره، وإن زوج وليان لاثنين، فهي للأول منهما بلا خلاف، وإن جهل السابق مطلقًا، أو علم ثم نسي، أو علم السبق وجهل السابق، فسخها حاكم، نص عليه، ولا يتعين، فلو طلقا أغنى عن فسخه، وهو أحوط، وعنه: يقرع بينهما، وهي للقارع، من غير تجديد عقد وهو ظاهر كلام الجمهور، واختاره الشيخ.
(4) كما لو زوج ابنه الصغير بصغيرة هو وليها، أو زوج وصي في نكاح صغيرا بصغيرة تحت حجره، أو وكل زوج وليا، أو عكسه، أو وكلا واحدا، ونحوه.
(5) لما روى البخاري تعليقا: أن عبد الرحمن بن عوف قال لأم حكيم ابنة قارظ: أتجعلين أمرك إلي؟ قالت: نعم. قال: قد تزوجتك. ولأنه يملك الإيجاب والقبول، فجاز أن يتولاهما، وكما لو زوج أمته عبده الصغير، ولأن وكيله يجوز أن يلي العقد عليها لغيره، فجاز أن يليها عليه له، إذا كانت تحل له، كالإمام
إذا أراد أن يتزوج موليته، ولأنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها.(6/274)
ويكفي: زوجت فلانا فلانة (1) . وكذا ولي عاقلة تحل له (2) إذا تزوجها بإِذنها كفي قوله: تزوجتها (3) .
__________
(1) أي ويكفي في عقد النكاح -ممن يتولي طرفيه- قول: زوجت فلان وينسبه - فلانة. وينسبها، من غير أن يقول: وقبلت له نكاحها.
(2) كابن عم، ومولي، وحاكم.
(3) أي من غير أن يقول: قبلت نكاحها لنفسي، لما تقدم، لأن إيجابه يتضمن القبول، ولغيره يقول: تزوجتها لموكلي فلان، أو لفلان. وينسبه.(6/275)
فصل (1)
الشرط (الرابع الشهادة) (2) لحديث جابر مرفوعًا: «لا نكاح إِلا بولي، وشاهدي عدل» (3) رواه البرقاني (4) وروي معناه عن ابن عباس أَيضًا (5) .
__________
(1) أي في الشهادة على العقد، لأن الغرض إعلان النكاح، احتياطا للنسب، خوف الإنكار، واتفقوا على أنه لا يجوز نكاح السر، وأنه ينعقد بحضور شاهدين مع الولي.
(2) أي الشرط الرابع - من شروط النكاح - الشهادة عليه، وهذا المشهور في المذهب، ومذهب أبي حنيفة، والشافعي، وجماهير العلماء.
(3) وروى عن عمر، وعلي، وابن عباس، وغيرهم - رضي الله عنهم -، ولا يعرف لهم مخالف، وللدارقطني عن عائشة مرفوعا: «لا بد في النكاح من حضور أربعة، الولي، والزوج، والشاهدين» .
(4) في صحيحه، واسمه أحمد، بن محمد، بن غالب، الخوارزمى، الشافعي، ضمن صحيحه ما اشتمل عليه الصحيحان، وحديث الثوري، وشعبة، وطائفة، توفي سنة خمس وعشرين وأربعمائة. اهـ.
(5) رواه الترمذي وغيره بلفظ: «البغايا اللواتي ينكحن أنفسهن بغير بينة» وكذا نحوه عن أبي هريرة، وابن عمر، فدلت السنة والآثار على أن الولي، والشاهدين شرط في صحة النكاح، وقال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم، من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم، من التابغين وغيرهم، قالوا: لا نكاح إلا بشهود، لم يختلف في ذلك من مضى منهم، إلا قوم من المتأخرين من أهل العلم، وعن أحمد: يصح بغير شهود، وهو مذهب مالك، إذا أعلنوه.(6/276)
(فلا يصح) النكاح (إِلا بشاهدين عدلين) (1) ولو ظاهرا (2) لأَن الغرض إِعلان النكاح (3) (ذكرين مكلفين، سميعين، ناطقين) (4) ولو أَنهما ضريران (5) أَو عدوّا الزوجين (6) ولا يبطله تواصٍ بكتمانه (7) .
__________
(1) لما روى الخلال وغيره «لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل» وهو مذهب الشافعي، وعنه: لا تشترط. وفاقا لأبي حنيفة.
(2) في ابتداء النكاح، بحيث لا يظهر فسقهما، دون استدامته، فلا يقبل إلا بشاهدين عدلين ظاهرا وباطنا، ولا ينقض لو بانا فاسقين، غير عمودى نسب الزوجين، أو الولي.
(3) ولذلك يثبت بالاستفاضة.
(4) قال الزهرى: مضت السنة أنه لا تجوز شهادة النساء في النكاح، والصبى والمجنون ليسا من أهل الشهادة، والأصم لا يسمع العقد فيشهد به، والأخرس لا يتمكن من أداء الشهادة.
(5) إذا تيقنا الصوت تيقنا لا شك فيه، كالشهادة بالاستفاضة.
(6) أو عدوَّا أحدهما، أو عدوَّا الولي، لعموم شاهدى عدل، لا متهما برحم، لأنها شهادة تجر نفعا للمشهود عليه.
(7) لأنه لا يكون مع الشهادة عليه مكتوما، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي،
ويكره كتمانه قصدا، قال أبو بكر: من شروط النكاح الإظهار، فإذا دخله الكتمان فسد، وقال مالك: يبطله، وهو رواية عن أحمد، وفي الاختيارات: والذي لا ريب فيه أن النكاح مع الإعلان يصح، وإن لم يشهد شاهدان، وأما مع الكتمان والاشهاد، فهذا ينظر فيه، وإذا اجتمع الإعلان والأشهاد، فهذا لا نزاع في صحته، وإن خلا من الإعلان والإشهاد، فهو باطل عند عامة العلماء.(6/277)
ولا تشترط الشهادة بخلوها من الموانع (1) أَو إِذنها (2) والإِحتياط الاشهاد (3) فإِن أَنكرت الإِذن صدقت (4) قبل دخول، لا بعده (5) (وليست الكفاءة - وهي) لغة: المساواة (6) .
__________
(1) أي المانعة من التزويج، كنسب، أو سبب، أو اختلاف دين، ويأتي في محرماته، ومنها إن لم يعلم لها سابقة تزوج، وإلا اشترط.
(2) أي ولا تشترط الشهادة على إذنها، لوليها أن يزوجها.
(3) أي على خلوها من الموانع، وعلى إذنها لوليها إن اعتبر.
(4) أي وإن ادعى زوج إذنها في التزويج للولي، وأنكرت الإذن صدقت.
(5) أي قبل دخول زوج بها، لأن الأصل عدمه، لا بعد الدخول بها مطاوعة، فلا تصدق، لأن دخوله بها كذلك، دليل كذبها، وإن ادعت الإذن فأنكر صدقت، وإن ادعى نكاح امرأة، فجحدت ثم أقرت، لم تحل له إلا بعقد جديد.
(6) أي وليست الكفاءة في زوج شرطا، والكفاءة لغة: المساواة، والمماثلة، ومنه الحديث «المسلمون تتكافأ دماؤهم» أي تتساوى.(6/278)
وهنا (دين) (1) أي أَداء الفرائض، واجتناب النواهي (2) (ومنصب، وهو النسب، والحرية) (3) وصناعة غير زرية (4) ويسار بحسب ما يجب لها (5) .
__________
(1) أي والكفاءة المعتبرة هنا، خمسة أشياء: أحدها دين، فلا يكون الفاسق والفاجر كفوا لعفيفة، فإنهم اتفقوا - كما حكاه ابن رشد وغيره - أن الدين معتبر في ذلك، أما كونه مسلما وهي مجوسية، فلا يصح اتفاقا.
(2) لأن ذلك نقص في إنسانيته، فلا يكون كفؤًا لعدلٍ، قال تعالى (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا، لا يستوون) ولو زوج الأب من فاسق، فلها أن تمنع نفسها من النكاح، وينظر الحاكم في ذلك، فيفرق بينهما، وكذا لو زوجها ممن ماله حرام، وممن هو كثير الحلف بالطلاق.
(3) فليس العجمى كفؤًا للعربية، وروى عن عمر: لأمنعن أن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء. وليس العبد ولا المبعض كفؤًا للحرة، لأنه منقوص بالرق، ممنوع من التصرف.
(4) أي دنيئة، فلا تزوج بنت بزاز بحجام، ولا بنت صاحب عقار بحائك ونساج ونحوه، لخبر «العرب بعضهم لبعض أكفاء، إلا حائكا أو حجاما» قيل لأحمد: كيف تأخذ به وأن تضعفه؟ قال: العمل عليه عند أهل العرف. أي في عرف الناس فكعيب، وعند الشافعية أن المنتسب إلى العلماء والصلحاء، ليس كفؤا لمن لم ينتسب إليهما، ولا المحترف لبنت العالم، ولا المبتدع لبنت السني، وولد الزنا ليس كفؤا للعربية، والموالي بعضهم لبضع أكفاء، وكذا العجم، فسائر الناس بعد العرب بعضهم لبعض أكفاء.
(5) أي من مهر، ونفقة، وكسوة، ولا يتقدر ذلك بعادتها عند أبيها، لأن الأب قد يكون مسرفا أو مقترا، وقال بعض الشافعية في شرط الكفاءة:
نسب، ودين، صنعة حرية فقد العيوب وفي اليسار تردد.
وروى «الحسب المال» و «إن أحساب الناس بينهم هذا المال» ولأن عليها ضررا في إعساره، وبه تملك الفسخ كما سيأتي.(6/279)
(شرطا في صحته) أي صحة النكاح (1) لأَمر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس (2) أَن تنكح أُسامة بن زيد (3) فنكحها بأَمره، متفق عليه (4) .
__________
(1) أي ليست الكفاءة في زوج - وهي ما تقدم من خمسة الأشياء - شرطا في صحة النكاح، وهذا المذهب عند أكثر المتأخرين، قال الموفق: وهي أصح، وقول أكثر أهل العلم.
(2) أخت الضحاك بن قيس، القرشية، الفهرية، وكانت من المهاجرات الأول، ذات جمال، وفضل، وكمال.
(3) ابن حارثة الحب بن الحب، وهو مولي، ولكن أصله عربى.
(4) وللبخارى عن عائشة: أن أبا حذيفة بن عتبة تبنى سالما، وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة، رواه البخاري، وسالم - رضي الله عنه - مولي لامرأة من الأنصار، وزوج زيد بن حارثة ابنة عمه، زينب بنت جحش الأسدية، وغير ذلك مما يدل على صحة النكاح.
وقال الوفق: الصحيح أن الكفاءة غير مشروطة، وعن أحمد أنها من شروطه، فلو لم ترض المرأة والأولياء لم يصح، وهي المذهب عند أكثر المتقدمين، فتكون حقا لله، ولها، ولأوليائها كلهم، وأوردوا فيه أخبارا، وقال الموفق: ما روي فيد يدل على اعتبارها في الجملة، ولا يلزم منه اشتراطها.(6/280)
بل شرط للزوم (1) (فلو زوج الأَب عفيفة بفاجر (2) أَو عربية بعجمى) (3) أَو حرة بعبد (4) (فلمن لم يرض من المرأة أَو الأَولياء) (5) حتى من حدث (الفسخ) (6) فيفسخ أَخ مع رضى أَب (7) لأَن العار عليهم أَجمعين (8) .
__________
(1) يتوقف على رضى المرأة والأولياء جميعهم، وهو مذهب مالك، والشافعي لأن كل واحد منهم يعتبر رضاه، والعاقد مع غير كفء، متصرف بدونه.
(2) أي فلو زوج الأب ابنته العفيفة عن زنا بفاسق، للآية، ولأنه لا يكون كفؤًا لها، ولا مساويا.
(3) أي: أو زوج الأب أو غيره من الأولياء عربية بعجمى، وهم من عدا العرب، لقول عمر وغيره، ولأن العرب يعدون الكفاءة، ويأنفون من تزوج الموالي، ويرونه عارا.
(4) أي أو زوج حرة - ولو عتيقة - برقيق أو مبعض، لأنه صلى الله عليه وسلم خير بريرة لما عتقت.
(5) أي فلمن لم يرض نكاح غير كفء، من المرأة، والأولياء جميعهم الفسخ، فورا وتراخيا، بحكم حاكم، لأنه من الفسوخ المختلف فيها، وهذا حكمها، ويملكه الأبعد مع رضى الأقرب منهم، ولو زالت الكفاءة بعد عقد فلها الفسخ، كعتقها تحت عبد.
(6) أي حتى من حدث منهم بعد العقد فله الفسخ، لتساويهم في لحوق العار بفقد الكفاءة.
(7) ورضى زوجة، نص عليه.
(8) لأن رجلا لما زوج ابنته من ابن أخيه، ليرفع بها خسيسته، جعل صلى الله
عليه وسلم لها الخيار، وفي الاختيارات: الذي يقتضيبه كلام أحمد، أن الرجل إذا تبين له أنه ليس بكفء فرق بينهما، وأنه ليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء ولا للزوج أن يتزوج، ولا للمرأة أن تفعل ذلك، وأن الكفاءة ليست بمنزلة الأمور المالية، مثل مهر المرأة، إن أحبت المرأة والأولياء طلبوه، وإلا تركوه، ولكنه أمر ينبغى لهم اعتباره، وإن كانت منفعته تتعلق بغيرهم.
وفقد النسب والدين لا يقر معهما النكاح، بغير خلاف عن أحمد، وحيث يثبت الخيار - بفقد الكفاءة - للمرأة أو وليها، يسقك خيارها بما يدل على رضاها، من قول أو فعل، وأما الأولياء فلا يسقط إلا بالقول، ويفتقر الفسخ به إلى حاكم، وإن طلق أغنى عن فسخه، وهو أحوط، ولو كان ناقصا من وجه آخر، مثل أن كان دونها في النسب فرضوا به، ثم بان فاسقا وهي عدل، فهنا ينبغى ثبوت الخيار.(6/281)
وخيار الفسخ على التراخى (1) لا يسقط إلا بإسقاط عصبة (2) أَو بما يدل على رضاها من قول أَو فعل (3) .
__________
(1) ما لم يوجد منها دليل الرضى من قول، أو تمكين منها مع العلم.
(2) وإن حدث عاصب، ولم يرض بالزوج، فله الفسخ، ولو مع إسقاط العصبة، وللعصبة الفسخ، ولو مع ما يدل على رضاها به، إذا لم يرضوا به.
(3) بأن مكنته من نفسها عالمة به، وأما الأولياء فلا يثبت رضاهم به إلا بالقول وأما كفاءة المرأة فليست معتبرة في كفاءة الرجل، فقد تزوج صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيى، وتسرى بالإماء، وإنما اعتبرت في الرجل دون المرأة، لأن الولد يشرف بشرف أبيه دون أمه.(6/282)
باب المحرمات في النكاح (1)
وهن ضربان (2) «أَحدهما» من تحرم إلى الأَبد (3) وقد ذكره بقوله: (تحرم أَبدا الأُم، وكل جدة) من قبل الأُم، أَو الأَب (وإِن علت) (4) لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (5)
__________
(1) وعبر بعضهم بموانع النكاح، وقال الشيخ: موانع النكاح الرحم، والصهر، والرضاع، وجمع الرحم المحرم، وجمع العدد، والكفر، والرق، والنكاح، والعدة، والإحرام، والطلاق الثلاث، واللعان في أشهر الروايتين، والزنا، وتزوجها في العدة في رواية، والخنوثة، والملك من الجانبين، أو ملك الولد، والمكاتب، وفضل المرأة على الرجل، إذا قلنا الكفاءة شرط.
(2) أي صنفان، من يحرم إلى الأبد، ومن يحرم إلى أمد.
(3) أي دائما، وهن خمسة أقسام: قسم يحرم بالنسب، وهن سبع، وسبع بالسبب، قال الوزير وغيره: أجمعوا على أن المحرم في كتاب الله أربع عشرة امرأة، سبع بالنسب، وسبع بالسبب، ويأتي تفصيلهن.
(4) كجدتى أمك، وجدتى أبيك، وجدات جداتك، وجدات أجدادك، وارثات أو غير وارثات، كلهن محرمات.
(5) قال ابن رشد وغيره: اتفقوا على أن الأم ههنا اسم لكل أنثى لها عليك ولادة، من جهة الأم، أو من جهة الأب، لقوله صلى الله عليه وسلم في هاجر أم إسماعيل «تلك أمكم يا بني ماء السماء» .(6/283)
(والبنت، وبنت الابن، وبنتاهما) أي بنت البنت، وبنت بنت الابن (1) (من حلال وحرام (2) وإِن سفلت) وارثة كانت أَو لا (3) لعموم قوله تعالى (وبناتكم) (4) (وكل أُخت) شقيقة كانت أَو لأَب أَو لأُم (5) لقوله تعالى {وَأَخَوَاتُكُمْ} (6) (وبنتها) أي بنت الأُخت مطلقا (7) .
__________
(1) قال ابن رشد: اتفقوا على أن البنت اسم كل أنثى لك عليها ولادة، سواء كانت من قبل الابن، أو من قبل البنت، أو مباشرة.
(2) أي سواء كانت البنت من حلال، زوجة أو سرية، أو من حرام، كزنا أو شبهة، وكذا منفية بلعان، لأنه لا يسقط احتمال كونها خلقت من مائه، ولدخولها في عموم لفظ {وَبَنَاتُكُمْ} وقال الشيخ: ظاهر كلام أحمد أن الشبه يكفي، لقصة سودة، وكذا في الأخوات وغيرهن. وقال غير واحد: تحرم ابنته، وابنة ابنه، وأخته، وبنت أخيه من الزنا، في قول عامة الفقهاء.
(3) كلهن بنات محرمات.
(4) جمع بنت، فشملت بعمومها تحريم نكاح كل بنت لك عليها ولادة.
(5) قال ابن رشد وغيره: اتفقوا على أن الأخت اسم لكل أنثى شاركتك في أحد أصليك، أو مجموعهما، أعنى الأب، أو الأم، أو كليهما.
(6) أي: (وَ) حرمت عليكم {أَخَوَاتُكُمْ} جمع أخت، شقيقة كانت، أو لأب أو لأم.
(7) أي بنت الأخت لأبوين، أو الأخت لأب، أو الأخت لأم.(6/284)
وبنت ابنها (1) (وبنت ابنتها) وإِن نزلت (2) لقوله تعالى (وبنات الأُخت) (3) (وبنت كل أَخ، وبنتها (4) وبنت ابنه) أي ابن الأَخ (وبنتها) أي بنت بنت ابن أَخيه (وإِن سفلت) (5) لقوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (6) (وكل عمة وخالة وإِن علتا) من جهة الأَب، أَو الأُم (7) .
__________
(1) وإن نزل، بلا خلاف.
(2) قال ابن رشد: اتفقوا على أن بنات الأخت اسم كل أنثى، لأختك عليها ولادة مباشرة، أو من قبل أمها، أو من قبل أبيها.
(3) أي: وحرمت عليكم بنات الأخت. وهي شاملة بنات الأخت لأبوين، أو لأب، أو لأم، وبنات أولادها.
(4) وإن سفلت اتفاقا.
(5) قال ابن رشد وغيره: اتفقوا على أن بنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة، من قبل أمها، أو من قبل أبيها، أو مباشرة.
(6) أي: وحرمت عليكم بنات الأخ، وهي شاملة بنات الأخ لأبوين، أو لأب، أو لأَم، وإن نزلن.
(7) كعمة أبيه، وعمة أمه، وكذا تحرم عمة العم لأب، لأنها عمة أبيه، لا عمة العم، لأم، ولا عمة الخالة لأم لأنها أجنبية منه، وتحرم خالة العمة لأم، لا خالة العمة لأب، لأنها أيضًا أجنبية منه، وتحرم عمة الخالة لأب، فتحرم كل نسيبة سوى بنت عم وعمة، وبنت خال وخالة.(6/285)
لقوله تعالى {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} (1) (والملاعنة على الملاعن) (2) ولو أَكذب نفسه (3) فلا تحل له بنكاح، ولا ملك يمين (4) (ويحرم بالرضاع) ولو محرما (5) .
__________
(1) ويدخل في العمات جميع أخوات آبائك، وأجدادك، من قبل الأب، والأم، وإن علوا اتفاقا، فإن العمة اسم لكل أنثى هي أخت لأبيك، أو لكل ذكر له عليك ولادة، ويدخل في الخالات جميع أخوات أمهاتك، وجداتك، وإن علوان اتفاقا، فإن الخالة اسم لكل أخت لأمك، أو أخت كل أنثى لها عليك ولادة، حكاه ابن رشد وغيره.
(2) هذا هو القسم الثاني، من المحرمات في النكاح على الأبد، وروى الجوزجاني عن سهل بن سعد: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدا، وقال الموفق: الملاعنة تحرم على الملاعن على التأبيد، لا نعلم أحدا قال بخلاف ذلك.
(3) فهي باقية على التحريم المؤبد، وهذا المشهور في المذهب، وقال الموفق: العمل عليه.
(4) لأنه تحريم لا يرتفع قبل الجلد والتكذيب، وهو المشهور، ومذهب مالك، والشافعي، أو كان اللعان بعد البينونة، أو في نكاح فاسد، لعموم ما سبق.
(5) أي ويحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، ولو كان الرضاع محرما، والرضاع هنا بمعنى الإرضاع، ففيه استخدام حتى يلائم التمثيل بالإكراه، لأن الرضاع نفسه ليس محرما، وإن كان هو المحرم، كمن أكره امرأة على رضاع طفل، فتحرم عليه، لوجود سبب التحريم، والرضاع هو القسم الثالث، من المحرمات على الأبد.(6/286)
(ما يحرم بالنسب) من الأَقسام السابقة (1) لقوله - عليه السلام -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» متفق عليه (2) (إِلا أُم أَخته) وأُم أَخيه من رضاع (3) (و) إِلا (أُخت ابنه) من الرضاع (4) .
__________
(1) أي وتحريم الرضاع كتحريم النسب، فكل امرأة حرمت بالنسب من الأقسام السابقة، حرم مثلها بالرضاع، كالأمهات، وجداتهن وإن علت، والأخوات لنص {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فكل امرأة أرضعتك أمها، أو أرضعتها أمك، أو أرضعتك وإياها امرأة واحدة، أو ارتضعت أنت وهي من لبن رجل واحد، كرجل له امرأتان، لهما منه لبن، أرضعتك إحداهما، وأرضعتها الأخرى، فهي أختك، محرة عليك، بالآية، والحديث.
(2) وفي لفظ «إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» وقال في ابنة أم سلمة «لو لم تكن ربيبتى ما حلت لي، إنها ابنة أخى من الرضاعة» وقال لعائشة - وكانت امرأة أخى أفلح أرضعتها - «إنه عمك» فالمرتضعون من الرجال والنساء باللبن الواحد، كالمنتسبين منهم إلى النسب الواحد.
وقال ابن رشد: اتفقوا على أن الرضاع بالجملة، يحرم منه ما يحرم من النسب، أعني أن المرضعة تنزل منزلة الأم، فتحرم على المرضع، هي وكل من يحرم على الابن من قبل أم النسب. اهـ. فكل امرأة حرمت من النسب، حرم مثلها من الرضاع، كالعمة، والخالة، والبنت، وبنت الأخ، وبنت الأخت، قال الموفق: لا نعلم في هذا خلافا.
(3) فلا يحرمن بالرضاع، اختاره غير واحد.
(4) فلا تحرم عليه بالرضاع.(6/287)
فلا تحرم المرضعة ولا بنتها على أبي المرتضع، وأَخيه من نسب، ولا أُم المرتضع وأُخته من نسب، على أبي المرتضع وابنه الذي هو أَخو المرتضع، لأَنهن في مقابلة من يحرم بالمصاهرة (1) لا بالنسب (2) (ويحرم) بالمصاهرة (بالعقد) (3) وإن لم يحصل دخول ولا خلوة (4) (زوجة أَبيه) (5) ولو من رضاع (6) .
__________
(1) كأم الزوجة، وبنتها، وحلائل الأبناء، قال الشيخ: لم يقل الشارع: ما يحرم بالمصاهرة. فأم امرأته برضاع، وامرأة ابنه أو أبيه من الرضاعة التي لم ترضعه، وبنت امرأته بلبن غيره، حرمن بالمصاهرة، لا بالنسب، ولا نسب بينه وبينهن، فلا تحريم.
(2) أي لا في مقابلة من يحرم بالنسب.
(3) أي بمجرد العقد، عند أكثر أهل العلم، واللاتى يحرمن بالمصاهرة أربع، وهذا القسم الرابع من المحرمات على الأبد، والأصهار أهل بيت المرأة.
(4) لعموم الآية، فإن المعقود عليها من نسائه، وقال ابن عباس: أبهموا ما أبهم. أي عمموا حكمها، ولا تفصلوا بين المدخول بها وغيرها.
(5) وارثا، أو غير وارث، بإجماع المسلمين، وكذا إن وطئها أبوه بملك يمين، أو شبهة.
(6) قال ابن المنذر: الملك والرضاع في هذا بمنزلة النسب. وقال الموفق: ليس بين أهل العلم في هذا اختلاف فيما نعلم.(6/288)
(و) زوجة (كل جد) وإِن علا (1) لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (2) (و) تحرم أَيضًا بالعقد (زوجة ابنه وإِن نزل) (3) ولو من رضاع (4) لقوله تعالى {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} (5) (دون بناتهن) أي بنات حلائل آبائه وأَبنائه، (و) دون (أُمهاتهن) ، فتحل له ربية والده، وولده، وأُم زوجة والده، وولده (6) .
__________
(1) إجماعا، حكاه ابن رشد وغيره.
(2) فحرم تعالى زوجات الآباء على الأبناء، تكرمة للآباء، وإعظاما، واحتراما أن يطأها ابنه من بعده، وكذا زوجة كل جد وإن علا، قال غير واحد: كان معمولا به في الجاهلية، ولذا قال {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} أي مضى في الجاهلية {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً} وأرسل صلى الله عليه وسلم للذى تزوج امرأة أبيه، أن يضرب عنقه.
(3) بإجماع المسلمين، حكاه غير واحد.
(4) أي وتحرم كل من تزوجها ابنه، أو ابن ولده وإن نزلوا، من أولاد البنين، أو البنات، من نسب، أو رضاع، وارثات أو غير وارثات، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا.
(5) {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} والحلائل الزوجات، سميت الزوجة حليلة لأنها تحل إزار زوجها، ومحللة له، وقيده بـ {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} فأخرج من يتبنونه وليس منهم، ولقوله صلى الله عليه وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
(6) قولا واحدا.(6/289)
لقوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (1) (وتحرم) أَيضًا (أُم زوجته وجداتها) (2) ولو من رضاع (بالعقد) (3) لقوله تعالى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} (4) (و) تحرم أَيضًا الربائب (5) وهن (بنتها) أي بنت الزوجة (6) .
__________
(1) أي ما عدا ما ذكر من المحارم، هن حلال لكم.
(2) وإن علون من النسب، وهذه الثالثة ممن يحرم بمجرد العقد، وهو قول أكثر أهل العلم، من الصحابة، والتابعين، وقال الوزير: اتفقوا على أن نفس العقد على المرأة، يحرم أمها على العاقد على التأبيد، وأنه لا يعتبر الوطء في ذلك، وقال ابن رشد: ذهب الجمهور من كافة فقهاء الأمصار، إلى أن الأم تحرم بمجرد العقد على البنت، دخل بها أو لم يدخل.
(3) قال الموفق: من تزوج امرأة حرم عليه كل أم لها، من نسب، أو رضاع، قريبة أو بعيدة، بمجرد العقد، نص عليه، وهو قول أكثر أهل العلم وبه يقول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي.
(4) والمعقود عليها من نسائه، فتدخل أمها في عموم الآية، كما قال ابن عباس: أبهموا ما أبهم القرآن.
(5) وهي الرابعة من المحرمات على التأبيد، والربائب جمع ربيبة، فتحرم الربيبة مطلقا، سواء كانت في حجر الزوج أولا، عند الجمهور.
(6) أي والربائب المحرمات بنت الزوجة التي دخل بها، دون التي لم يدخل بها.(6/290)
(وبنات أَولادها) الذكور والإناث وإِن نزلن (1) من نسب أو رضاع (بالدخول) (2) لقوله تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (3) .
(فإن بانت الزوجة) قبل الدخول، ولو بعد الخلوة (4) .
__________
(1) أي وتحرم بالدخول بنات ربيبه، وبنات ربيبته، وإن نزلن، فسواء في ذلك القريبات والبعيدات، لدخولهن في الربائب.
وفي الاختيارات: تحرم بنت الربيبة، لأنها ربيبة، وبنت الربيب، نص عليه، وقال الشيخ: لا أعلم في ذلك نزاعا.
(2) وارثات وغير وارثات، في حجره أولا، وهو قول جماهير العلماء، وقال داود: لا تحرم إلا إذا كانت في حجره. وقال ابن المنذر: قد أجمع علماء الأمصار على خلافه.
(3) المراد بالدخول هنا الوطء، وإنما كنى عنه بالدخول، فالعقد على البنات يحرم الأمهات، والعقد على الأمهات لا يحرم البنات، وإنما يحرمن بالدخول الذي هو الوطء، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن الرجل إذا دخل بزوجة، حرمت عليه بنتها على التأبيد، وإن لم تكن الربية في حجره، وقوله {فِي حُجُورِكُمْ} خرج مخرج الغالب لا الشرط، وما خرج مخرج الغالب، لا يصح التمسك بمفهومه.
(4) أبيحت الربائب، قال ابن جرير: في إجماع الجميع أن خلوة الرجل بامرأة لا تحرم ابنتها عليه - إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها، وقبل النظر إلى فرجها بشهوة - ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع، وقال القاضى: إن تجردت الخلوة عن نظر أو مباشرة لم تحرم، وإن وجد معها نظرة،
وقبلة، وملامسة دون الفرج فروايتان.
وقال الشيخ: إن اتصلت بعقد النكاح قامت مقام الوطء.(6/291)
(أَو ماتت بعد الخلوة أُبحن) أي الربائب (1) لقوله تعالى (فإِن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) (2) ومن وطئ امرأة بشبهة (3) أَو زنا، حرم عليه أُمها، وبنتها، وحرمت على أَبيه، وابنه (4) .
__________
(1) قال ابن المنذر: أجمع عوام علماء الأمصار، أن الرجل إذا تزوج امرأة ثم طلقها، أو ماتت، قبل أن يدخل بها، حل له أن يتزوج ابنتها، فإن خلا بها ولم يطأها، لم تحرم ابنتها، فالله أعلم.
(2) أي في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن أو متن، ولا تحرم زوجة ربيبة نص عليه، وقال الشيخ: لا أعلم فيه نزاعا.
ويباح للمرأة ابن زوجة ابنها، وابن زوج ابنتها، وابن زوج أمها، وزوج زوجة أبيها، وزوج زوجة ابنها.
(3) حرم عليه أمها وبنتها، وحرمت على أبيه وابنه، حكاه ابن المنذر والموفق إجماعا.
(4) هذا المذهب، وفاقا لأبي حنيفة، وقيل: الحرام لا ينشر تحريم المصاهرة وروى عن ابن عباس وغيره، وهو مذهب مالك، والشافعي، وظاهر كلام الخرقي، لما روى ابن ماجه «لا يحرم الحرام الحلال» .
ولا يثبت تحريم إن كانت الموطوءة ميتة، أو صغيرة ولا بمباشرتها بما دون الفرج لغير شهوة، قال الموفق: بغير خلاف نعلمه. ولا بنظره إلى فرجها أو
غيره، ولا بخلوة لشهوة، وإن نظر إلى فرجها بشهوة أو لمسها لشهوة، فروايتان، إحداهما ينشر الحرمة، وهو مذهب أبي حنيفة، والثانية لا يتعلق به التحريم، وهو قو الشافعي، قال الموفق: وأكثر أهل العلم. ولا بوطء ذكر.
وقال الشيخ: المنصوص عن أحمد أن الفاعل لا يتزوج بنت المفعول ولا أمه، وقال: هو قياس جيد، وتحرم أخته من الزنا، وبنت ابنه، وبنت أخيه، وبنت أخته، في قول عامة الفقهاء.
وقال: لو قتل رجل آخر ليتزوج امرأته، فإنها لا تحل للقاتل أبدا عقوبة له. ولو خبب رجل امرأة على زوجها، يعاقب عقوبة بليغة، ونكاحه باطل في أحد قولي العلماء، ويجب التفريق بينهما.(6/292)
.........................................................(6/293)
فصل
في الضرب الثاني من المحرمات (1)
(وتحرم إلى أَمد أُخت معتدته (2) وأُخت زوجته (3) وبنتاهما) أي بنت أُخت معتدته، وبنت أُخت زوجته (4) (وعمتاهما، وخالتاهما) وإِن علتا، من نسب أَو رضاع (5) .
__________
(1) أي إلى أمد، وهن نوعان، نوع منهما يحرم لأجل الجمع.
(2) ولو مبانة من خلع، أو طلاق ثلاث، أو على عوض، وكما لو تزوج خامسة في عدة رابعة، وقال الوزير: أجمعوا على أنه لا يجوز أن يتزوج بكل واحدة، ممن يحرم عليه الجمع بينها وبين المعتدة منه، إذا كن معتدات من طلاق رجعى أو بائن.
(3) من نسب، قال ابن رشد: اتفق المسلمون على أنه لا يجمع بين الأختين بعقد نكاح. اهـ. أو رضاع، حرتين كانتا أو أمتين، أو حرة وأمة، قبل الدخول أو بعده، وحكى ابن المنذر الإجماع على القول به، وخالفه الشيخ في الرضاع.
(4) صرح به الموفق وغيره، للخبر الآتي وغيره، فإن معتدته وزوجته خالتاهما.
(5) كعمات آبائها، وخالاتهم، وعمات أمهاتها، وخالاتهن، وإن علت درجتهن من نسب أو رضاع، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به. وقال الوزير: اتفقوا على أن عمة العمة تنزل في التحريم منزلة العمة، إذا كانت
العمة الأولى أخت الأب لأبيه، واتفقوا على أن خالة الخالة تنزل في التحريم منزلة الخالة، إذا كانت الأولى أخت الأم لأمها.(6/294)
وكذا بنت أُختيهما (1) وكذا أُخت مستبرأَته، وبنت أخيها، أَو أُختها، أَو عمتها، أَو خالتها (2) لقوله تعالى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} (3) وقوله - عليه السلام -: «لا تجمعوا بين المرأَة وعمتها، ولا بين المرأَة وخالتها» متفق عليه عن أبي هريرة (4) .
__________
(1) ولا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى، للخبر الآتى، ولما فيه من إلقاء العداوة بين الأقارب، وإفضاء ذلك لقطيعة الرحم المحرم.
(2) لما يأتي، ولقوله صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين» ويحرم الجمع في الاستمتاع، وإن اشترى من يحرم الجمع بينهما في عقد صح بلا خلاف، وله وطء إحداهما.
(3) أي (وَ) حرم عليكم {أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} معا في التزويج، وكذا في ملك اليمين، وأجمع عليه أهل العلم من الصحابة، والتابعين، والأئمة، وسائر السلف.
(4) وفي رواية لأبي داود «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها، لا تنكح الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى» وقال «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» حتى ولو رضيت المرأة بذلك لم يجز، للنهي، ولما فيه من إلقاء العداوة، ويحرم الجمع بين خالتين، أو عمتين، أو عمة وخالة، أو امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا والأخرى أنثى حرم نكاحه لها لقرابة.
قال الشعبي: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: لا يجمع الرجل بين امرأتين، لو كانت إحداهما رجلا لم يصح له أن يتزوجها. رواه أحمد، ويحرم الجمع بين المرأة وأمها في العقد، لما تقدم، ولأن المرأة وأمها أولى من الأختين، ولا يحرم الجمع بين ابنتي العم، وابنتي الخال، في قول عامة أهل العلم، وعنه يكره. وصوبه في تصحيح الفروع.(6/295)
ولا يحرم الجمع بين أُخت شخص من أَبيه وأُخته من أُمه (1) ولا بين مبانة شخص وبنته من غيرها (2) ولو في عقد (3) (فإِن طلقت) المرأَة (4) (وفرغت العدة أُبحن) (5) أي أُختها، أَو عمتها، أَو خالتها (6) .
__________
(1) لأن أخته من أبيه أجنبية من أخته لأمه.
(2) أي المبانة، استثنيت هذه الصورة، من قاعدة تحريم كل امرأتين، لو قدر إحداهما ذكرا لم يصح له نكاح الأخرى.
(3) لأنه لا قرابة بينهما.
(4) أي التي حرم الجمع بينهما وبين أختها، أو عمتها؛ أو خالتها، أو بناتهن، أو أخت مستبرأته، أو عمتها، أو خالتها.
(5) أي وفرغت عدة من حرم الجمع بينها وبين من ذكر، أبحن له، لزوال المانع.
(6) وإلا فلا يجوز أن يتزوج بكل واحدة، ممن يحرم الجمع بينها وبين المعتدة منه، حكاه الوزير وغيره إجماعا، وكذا الجمع بين نكاح الخامسة والرابعة في العدة.(6/296)
أَو نحوهن، لعدم المانع (1) ومن وطئ أُخت زوجته (2) بشبهة أَو زنا، حرمت عليه زوجته (3) حتى تنقضى عدة الموطوءة (4) (فإن تزوجهما) أي تزوج الأُختين ونحوهما (5) (في عقد) واحد لم يصح (6) (أَو) تزوجهما في (عقدين معا بطلا) (7) .
__________
(1) أي نحو أخت معتدته، أو بنتها، أو خالتها، كبناتهن؛ وكمن لو كانت رجلا لم يصح له أن يتزوج بها، لعدم المانع من النكاح بفراغ العدة.
(2) أو أخت أمته، أو عمتها، أو خالتها ونحوهن.
(3) وكذا أمة له.
(4) أي بشبهة أو زنا، وهذه من أربع المسائل التي تجب العدة فيها على الرجل، فلا يجوز له أن يزيد على ثلاث، غير الموطوءة بشبهة أو زنا بعقد أو وطء، لو كان له أربع زوجات، ولا يحل نكاح موطوءة بشبهة في عدتها بلا نزاع، إلا من واطئ لها بشبهة، لا إن لزمتها عدة من غيره، وعنه: تباح مطلقا. أي لمن هي في عدته، ذكرها الشيخ، واختارها هو والموفق، وصححها في النظم، فيكون هذا هو المذهب، وقاله في الإنصاف وغيره.
(5) كامرأة وعمتها، أو خالتها، أو بنت إحداهما، أو بنت أختها، ونحو ذلك مما تقدم.
(6) مثاله لو قال له شخص له أختان، أو ابنتان: زوجتكهما، فيقول: قبلت. لم يصح.
(7) أي تزوجهما في عقدين في وقت واحد معا، بطل العقدان، بمعنى أنهما لم ينعقدا، كما لو زوج كل واحدة من امرأة، ونحو عمتها وليهما، فقبلهما معا، لم يصح.(6/297)
لأَنه لا يمكن تصحيحه فيهما (1) ولا مزية لإحداهما على الأُخرى (2) وكذا لو تزوج خمسا في عقد أَو عقود معا (3) (فإن تأَخر أحدهما) أي أَحد العقدين، بطل متأَخر فقط (4) لأَن الجمع حصل به (5) (أَو وقع) العقد الثاني (في عدة الأُخرى وهي بائن (6) أَو رجعية بطل) الثاني (7) لئلا يجتمع ماؤه في رحم أُختين أَو نحوهما (8) .
__________
(1) أي في نحو ابنتين في عقد، أو امرأة ونحو عمتها في عقدين معا.
(2) حيث أنه جمع بينهما في عقد، أو في عقدين معا، ولم يتأخر عقد إحداهما عن الأخرى.
(3) أي وكذا لو تزوج خمسا فأكثر في عقد واحد، أو في عقود في وقت واحد معا، بطل في الجميع، لأنه لا يمكن تصحيحه في الكل، ولا مزية لواحدة منهن على غيرها.
(4) أي فإن تأخر أحد العقدين على أختين ونحوهما، بطل متأخر فقط، لخبر «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين» .
(5) أي بالمتأخر، فلم ينعقد الثاني، لكونه لم يصادف محلا فبطل.
(6) كالمعتدة من خلع، أو طلاق ثلاث، أو على عوض، وكذا لو تزوج خامسة في عدة رابعة، وهو مذهب أبي حنيفة.
(7) والعقد الأول صحيح، لأنه لا جمع فيه.
(8) كامرأة وعمتها، وخالتها، لقوله - عليه السلام - «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين» والمبانة محبوسة لحقه، فأشبهت الرجعية.(6/298)
وإِن جعل أَسبق العقدين فسخا (1) ولإِحداهما نصف مهرها بقرعة (2) ومن ملك أُخت زوجته ونحوها (3) صح (4) ولا يطؤها حتى يفارق زوجته وتنقضى عدتها (5) ومن ملك نحو أُختين صح (6) وله وطء أَيهما شاء (7) .
__________
(1) أي فسخ النكاحين حاكم، إن لم يطلقهما زوج، دخل بهما، أو بواحدة منهما، أو لم يدخل بهما.
(2) تأخذه من وقعت لها القرعة، لأنها زوجة، ولأن نكاح واحدة منهما صحيح، وقد فارقها قبل الدخول. وإن دخل بإحداهما فللمصابة مهر المثل، وإن وقعت القرعة للمصابة فلا شيء للأخرى. وإن أراد نكاحها لم يجز حتى تنقضي عدة المصابة. وإن كان دخل بهما وأصابهما فلإحداهما المسمى، وللأخرى مهر المثل، يقرع بينهما، وليس له نكاح واحدة منهما حتى تنقضى عدة الأخرى.
(3) كعمتها وخالتها.
(4) أي الشراء، لأن الملك يراد للاستمتاع وغيره، ولذلك صح شراء أخته من الرضاع.
(5) لئلا يجمع ماءه في رحم أختين ونحوهما، وذلك حرام لما تقدم، وهذا أيضًا موضع من مواضع أربعة، تجب على الرجل فيها العدة، ودواعي الوطء مثقله، لأن الوسائل لها حكم المقاصد.
(6) أي العقد، قال الموفق وغيره: لا نعلم في ذلك خلافا.
(7) اتفاقا لأن الأخرى لم تصر فراشا، كما لو كان في ملكه إحداهما وحدها، والقياس: أيتهما. بإثبات التاء.(6/299)
وتحرم به الأُخرى (1) حتى يحرم الموطوءة بإِخراج عن ملكه (2) أَو تزويج بعد استبراء (3) وليس لحر أَن يتزوج بأَكثر من
أَربع (4) .
__________
(1) قال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في استباحة الوطء، بملك اليمين، ولا بعقد النكاح. وقال ابن رشد: الفقهاء على منعه. وقال الشيخ: يحرم الجمع بين الأختين بالوطء بملك اليمين، كقول جمهور العلماء. وأما أن يجعل عن أحمد: أنه لا يحرمه بل يكرهه. فغلط عليه، مأخذه الغفلة عن دلالة الألفاظ، ومراتب الكلام.
(2) بعتق، ولو ببيع لحاجة، أو هبة مقبوضة لغير ولده، لأنه يحرم الجمع في النكاح، ويحرم التفريق، فلا بد من تقدم أحدهما؛ قال الشيخ وابن رجب: كلام الصحابة والفقهاء بعمومه، يقتضى هذا. وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا كان له أمة يطؤها، واشترى أختها، أنه لا يحرم الموطوءة منهما ما لم يقرب الأخرى، فإن وطئها حرمتا معا، ولا يحل الجمع بينهما، ولا يحل له واحدة منهما حتى تحرم الأخرى.
(3) قيد في التزويج، فلا يصح قبله، بخلاف البيع، والهبة، ونحوهما، فإنه يصح قبل الاستبراء، لكن الحل يتوقف على الاستبراء، ولا يكفي في حل الأخرى مجرة تحريم الموطوءة منه، أو كتابة، أو رهن، أو بيعها بشرط الخيار له، وحتى يعلم بعد البيع ونحوه أنها ليست بحامل، وهذا الموضع الرابع مما تجب فيه العدة على الرجل.
(4) أي لا يحل لحر أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات إجماعا، لقوله صلى الله عليه وسلم لغيلان - وكان تحته عشر نسوة - «أمسك أربعا، وفارق
سائرهن» وقال لنوفل وتحته خمس «فارق واحدة منهن» وذكر ابن القيم أن قصر عدد المنكوحات على أربع، وإباحة ملك اليمين بغير حصر، من تمام نعمته، وكمال شريعته، فإن النكاح يراد للوطر؛ ثم من الناس من يغلب عليه سلطان الشهوة فأباح له إلى رابعة، ورحم الضرة بأن جعل انقطاعه عنها ثلاثا، ثم يعود إليها وأيضا قصره على عدد، يكون العدل فيه أقرب، وأما الإماء فبمنزلة سائر الأموال وذكر الموفق: أنه لا يطأ حتى تنقضى العدة، ونظره الشيخ، وقال: ظاهر السنة يخالفه، حيث لم يذكر فيها هذا الشرط، وتأملت كلام أحمد وعامة أصحابه، فوجدتهم قد ذكروا أنه يمسك منهن أربعا، ولم يشترطوا في جواز وطئه انقضاء العدة، لا في جمع العدد، ولا في جمع الرحم، بخلاف ما إذا وطئ أخت امرأته أو زنا بها، وصوبه.(6/300)
ولا لعبد أَن يتزوج بأَكثر من اثنتين (1) (وتحرم المعتدة) من الغير (2) لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} (3) .
__________
(1) وهو قول عمر: وعلي، وغيرهما، ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي. ولا خلاف في جواز الجمع بين اثنتين له، ولمن نصفه حر فأكثر جمع ثلاث، ومن طلق واحدة من نهاية جمعه، حرم عليه تزوج بدلها، حتى تنقضي عدتها، نص عليه، إذا كان الطلاق بائنا أو فسخا. وقال مالك والشافعي: لا يحرم، وإن كان رجعيا فلا يجوز إجماعا.
(2) وقال ابن رشد: اتفقوا على أن النكاح لا يجوز في العدة، سواء كانت عدة حيض، أو عدة حمل، أو عدة أشهر، وهذا النوع الثاني من المحرمات إلى أمد، وهن المحرمات لعارض يزول.
(3) أي لا تحققوا العزم على عقد النكاح حتى تنقضي العدة، وسماها كتابا،(6/301)
(و) كذا (المستبرأة من غيره) (1) لأنه لا يؤمن أن تكون حاملا، فيفضي إلى اختلاط المياه (2) واشتباه الأنساب (3) (و) تحرم (الزانية) على زان وغيره (4) (حتى تتوب (5) وتنقضي عدتها) (6) .
__________
(1) لأنها في معنى المعتدة، وسواء كانت العدة والاستبراء من وطء مباح، أو محرم، أو من غير وطء.
(2) أي ماء المتزوج، بماء الواطئ الأول.
(3) أي نسب المتزوج بنسب الواطئ الأول، ولذلك لا يجوز نكاح المرتابة بالحمل بعد العدة لذلك.
(4) إذا علم زناها، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
(5) نص عليه، وعنه: لا يشترط، وهو مذهب جمهور العلماء، مالك والشافعي، وأبي حنيفة وغيرهم، لما روي أن عمر ضرب رجلا وامرأة في الزنا وحرص أن يجمع بينهما، وقال ابن عباس: يجوز.
(6) من فراغ وطء، كموطوءة بشبهة، أو بوضع الحمل من الزنا، إن حملت منه، لقوله صلى الله عليه وسلم «لا توطأ حامل حتى تضع» وهو قول مالك، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، ولأنها حامل من غيره، فحرم نكاحها، كسائر الحوامل.(6/302)
لقوله تعالى {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} (1) وتوبتها أن تراود فتمتنع (2) (و) تحرم (مطلقته ثلاثا (3) .
__________
(1) وتمام الآية {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي تعاطيه، وهو التزوج بالبغايا أو تزويج العفائف بالرجال الفجار. ولأحمد وغيره: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تزوج امرأة كانت تسافح، فنزلت هذه الآية، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله» وقوله: «المجلود» خرج مخرج الغالب، فتحرم الزانية حتى تتوب، وتنقضي عدتها، للآية والأخبار.
(2) أي بأن يراودها ثقة فتأبى، نص عليه. وروي عن عمر، وابن عباس، وغيرهما. والقصد العلم بأنها تصلح فراشا له أو لغيره. وعنه: توبتها كغيرها، الندم، والاستغفار، والعزم على أن لا تعود، اختاره الموفق وغيره، وقال: لا ينبغي امتحانها بطلب الزنا بها بحال؛ وقدمه في الفروع، فإذا وجد الشرطان، حل نكاحها للزاني وغيره، في قول أكثر أهل العلم، ولا تشترط توبة الزاني بها إذا نكحها.
وإن زنت امرأة رجل قبل الدخول أو بعده، لم ينفسخ النكاح، في قول عامة أهل العلم؛ وحكاه الوزير اتفاقًا، وإذا علم من أمته الفجور، فلا يطؤها حتى تتوب، ويستبرئها، ولا يطؤها وفي بطنها جنين لغيره؛ قال ابن عبد البر: هذا مجمع على تحريمه.
وقال الشيخ: إن كانت المرأة تزني، لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال، بل يفارقها وإلا كان ديوثًا.
(3) والجمهور بكلمة أو كلمات، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى.(6/303)
حتى يطأها زوج غيره) بنكاٍح صحيحٍ (1) لقوله تعالى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) (و) تحرم (المحرمة حتى تحل) من إحرامها (3) لقوله عليه السلام: «لا ينكحُ المحرمُ، ولا ينكح، ولا يخطب» رواه الجماعة إلا البخاري (4) .
__________
(1) لخبر الذي طلق امرأته ثلاثة، وتزوجها آخر، ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فأراد الأول أن يتزوجها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، حتى يذوق الآخر عسيلتها، وتذوق عسيلته» وهو كناية عن المجامعة, وهو تغييب الحشفة في فرج المرأة.
(2) أي فإن طلقها، أي الطلقة الثالثة، بعدما أرسل عليها الطلاق مرتين، فلا تحل له، أي تحرم عليه بعد الطلقة الثالثة، حتى تنكحَ زوجًا غيره، أي غير المطلق، والمراد هنا الوطء، فيجامعها. وتقدم أن النكاحً يتناولُ العقد والوطء جميعًا للخبرِ، فدلت الآية والحديث، على تحريم وطء مطلقته ثلاثًا، حتى يطأها زوج غيره، ولو كافرًا في كتابية.
(3) أي ويحرم على المحرم، أن يعقد النكاح، في حال إحرامه؛ وهو مذهب مالك، والشافعي، وجماهير العلماء، وحكي إجماعًا. وإن فعل، فالنكاح باطل، وهو قول عمر وعلي، وابن عمر، وزيد وغيرهم.
(4) أي لا يعقد المحرم بحج أو عمرة لنفسه، ولا يتولى العقد لغيره، وفرق عمر بين رجل وامرأة، تزوجها وهو محرم، رواه مالك، ولأن الإحرام يمنع الوطء ودواعيه، فمنع صحة عقده، حسما لمواد النكاح عن المحرم. وقوله: ولا يخطب. أي لا يطلب امرأة للنكاح.(6/304)
ولم يذكر الترمذي الخطبة (1) (ولا ينكح كافر مسلمة) (2) لقوله تعالى {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (3) (ولا) ينكح (مسلم ولو عبدًا كافرة) (4) لقوله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (5) (إلا حرة كتابية) (6) أبواها كتابيان (7) .
__________
(1) استثناه إذ لم يذكرها فيما رواه في سننه.
(2) حتى يسلم إجماعًا.
(3) أي لا تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات، حتى يؤمنوا، ولقوله تعالى
{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
(4) قال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز للمسلم نكاح المجوسية، ولا الوثنيات، ولا غيرهن من أنواع المشركات، اللاتي لا كتاب لهن، وسواء في ذلك حرائرهن وإماؤهن، وحكاه ابن رشد: اتفاق المسلمين.
(5) أي لا تنكحوا المشركات من عبدة الأوثان، حتى يؤمن ثم أخبر أن أمة مؤمنة، خير من مشركة ولو أعجبتكم، وقال {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فدلت الآية على تحريم نكاح المشركة.
(6) ولو حربية، قال الموفق: ليس بين أهل العلم اختلاف في حل نساء أهل الكتاب. وقال ابن المنذر: لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك.
(7) فلو ولدت بين كتابي وغيره لم تحل، وكذا لو كان أبواها غير كتابيين، واختارت دين أهل الكتاب.(6/305)
لقوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (1) (ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة (2) إلا أن يخاف عنت العزوبة، لحاجة المتعة (3) .
__________
(1) أي لقوله تعالى في إباحة الكتابية، واستثنائها من المشركات {وَالْمُحْصَنَاتُ} أي العفائف {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ممن دان بالتوراة والإنجيل خاصة، كاليهود، والسامرة، والنصارى، ومن وافقهم من الإفرنج والأرمن وغيرهم، فأما المتمسك بصحف إبراهيم، وشيث، وزبور داود، فليسو بأهل كتاب، فلا تحل مناكحتهم، ولا ذبائحهم، كالمجوس، وأهل الأوثان، وكذا الدروز، والنصيرية ونحوهم.
وتحلُ نساءُ بني تغلب، ومن في معناهن من نصارى العرب ويهودهم، لأنهن كتابيات، وفي الفروع وغيره: الأولى تركه، وكرهه القاضي، وشيخ الإسلام وغيره، وذكر أنه قول أكثر العلماء، كأكل ذبائحهم بلا حاجة، قال القاضي وغيره: يكره نكاح الحرائر الكتابيات، مع وجود الحرائر المسلمات؛ وهو قول أكثر العلماء، كما يكره أن يجعل أهل الكتاب ذباحين، مع كثرة ذباحين مسلمين، ولكن لا يحرم. اهـ.
ولو ولدت بين كتابي وغيره، أو كان أبواها غير كتابيين، واختارت دين أهل الكتاب، فقيل لا تباح كما تقدم، وقال الشيخ: قول أحمد لم يكن لأجل النسب، ومنصوصه: أنها لا تحرم، اعتبارًا بنفسها، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والجمهور، واختاره هو والموفق، رحمهما الله تعالى.
(2) أي يحرم عليه، ولا يصح إلا بشرطين عند جماهير العلماء، ولو كان خصيًا، أو مجبوبًا، إذا كان له شهوة، يخاف معها مواقعة المحظور بالمباشرة.
(3) أي فتباح لحاجة المتعة، إذ مفسدة نكاح الأمة، عارضها مصلحة حفظ الفرج عن الحرام، وهي أرجح عند الشارع من مفسدة رق الولد.(6/306)
أو الخدمة) لكونه كبيرًا أو مريضًا، أو نحوهما (1) ولو مع صغر زوجته الحرة، أو غيبتها، أو مرضها (2) (ويعجز عن طول) أي مهر (حرة (3) أو ثمن أمة) (4) لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} الآية (5) .
__________
(1) فتباح له لحاجة الخدمة.
(2) أي ولو كان خوف عنت العزوبة، مع صغر زوجته، أو غيبتها، أو مرضها بحيث تعجز بذلك عن الخدمة، لأن الحرة التي لا تعفّه كالعدم.
(3) أي ولا يجد مالاً حاضرًا يكفي لنكاح حرة، ولو كتابية، فتحل له الأمة المسلمة، بهذين الشرطين: خوف العنت، وعدم الطول؛ قال الموفق: هو قول عامة العلماء. أو كان له مال، ولكن لم يتزوج لقصور نسبه؛ أو له مال غائب، فله أن يتزوج الأمة بشرطه، وكذا على حرة لم تعفه، إذا لم يجد طول النكاح، لعموم الآية.
(4) أي أو يعجز عن ثمن أمة ولو كتابية، فتحل له الأمة إذًا، وله أن يتزوج مع قيام الشرطين، من الإماء أربعًا، إذا كان الشرطان قائمين، وهو مذهب مالك، وقال هو والشافعي وأحمد: للعبد أن يتزوج أمة مع كونه مستغنيا عن نكاحها وأن يتزوج أمة وتحته حرة، وقال ابن رشد: اتفقوا على أنه يجوز للعبد أن يتزوج أمة، ولمدبر، ومكاتب، ومعتق بعضه نكاح أمة مطلقًا.
(5) أي {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} فضلاً وسعةً، وقدرة {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} الحرائر، {فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أي فيتزوج من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون، ولأن في تزويج الأمة إرقاق ولده، مع الغنى عنه، فلم يجز.(6/307)
واشتراط العجز عن ثمن الأمة، اختاره جمع كثير (1) قال في التنقيح: وهو أظهر؛ وقدم أنه لا يشترط، وتبعه في المنتهى (2) (ولا ينكح عبد سيدته) (3) قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم عليه (4) (ولا) ينكح (سيد أمته) (5) لأن ملك الرقبة يفيد ملك المنفعة، وإباحة البضع، فلا يجتمع معه عقد أضعف منه (6) .
__________
(1) منهم القاضي، وأبو الخطاب، وابن عقيل، والمجد، والموفق في المقنع، والشارح، وصاحب الإقناع وغيرهم.
(2) وهو ظاهر الآية، والصبر عنها مع ذلك، خير وأفضل، ولا يبطل نكاحها إن أيسر ونكح حرة عليها، أو زال خوف العنت ونحوه، صححه في تصحيح الفروع، وإن اشترطا حرية الولد كان حرًا، قاله ابن القيم وغيره.
(3) ولو ملكت بعضه، لأن أحكام الملك والنكاح تتناقض، ولما روى جابر قال: جاءت امرأة إلى عمر، وقد نكحت عبدها، فانتهرها، وهم أن يرجمها، وقال: لا يحل لك.
(4) أي على أن نكاح المرأة عبدها باطل، وحكاه الوزير وغيره، للتنافي بين كونه مملوكها وبعلها. وبين كونها سيدته وموطوءته.
(5) قولاً واحدًا، ولا أمة له فيها ملك، ولا ينكح مكاتبته لأنها مملوكته، ولا أم سيده، ولا أم سيدته، لأنه إذا ملك ولد أحد الزوجين الآخر انفسخ النكاح.
(6) فمنع من ذلك، للتنافي بين كونه سيدها وبعلها، ولأن النكاح يوجب للمرأة حقوقًا، من القسم، والمبيت وغيرها، وذلك يمنعه ملك اليمين، فلا يصح مع وجود ما ينافيه.(6/308)
(وللحر نكاح أمة أبيه) (1) لأنه لا ملك للابن فيها، ولا شبهة ملك (2) (دون) نكاح (أمة ابنه) (3) فلا يصح نكاحه أمة ابنه، لأن الأب له التملك من مال ولده كما تقدم (4) . (وليس للحرة نكاح عبد ولدها) (5) لأنه لو ملك زوجها أو بعضه لانفسخ النكاح (6) وعلم مما تقدم أن للعبد نكاح أمة (7)
__________
(1) قال في الفروع: في الأصح، وحكاه الموفق قولاً واحدًا.
(2) أشبه الأجنبي، وكذلك سائر القرابات، فللحر أن ينكح أمة أخيه، أو عمه، أو جده، لأنه ليس له التملك عليهم، وله أن يزوج ابنته لمملوكه، وإذا مات الأب فورث أحد الزوجين الآخر أو جزءًا منه انفسخ النكاح، وكذلك إن ملكه، أو جزءًا منه بغير الإرث، عند الجمهور.
(3) وهو مذهب مالك، والشافعي، وكذا أمة بنته في الأصح، وهو قول أهل الحجاز.
(4) أي في باب الهبة والعطية، وقال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجب على الأب الحد بوطء أمة ابنه. وأجمعوا على أن المسلم تحل له أمته الكتابية، دون المجوسية، والوثنية، وسائر أنواع الكفار.
(5) لأنه إذا ملك ولد أحد الزوجين الآخر انفسخ نكاحهما.
(6) ولها نكاح العبد، قال ابن رشد: اتفقوا على أن للحرة أن تنكح العبد، إذا رضيت بذلك هي وأولياؤها.
(7) وكذا لمدبر نكاح أمة، ولمكاتب نكاح أمة، ولمعتق بعضه نكاح أمة، ولو فقد فيه الشرطان، ولو على حرة لأنها تساويه.(6/309)
ولو لابنه (1) وللأمة نكاح عبد ولو لابنها (2) (وإن اشترى أحد الزوجين) الزوج الآخر (3) أو ملكه بإرث أو غيره (4) (أو) ملك (ولده الحر (5) أو) ملك (مكاتبه) أي مكاتب أحد الزوجين (6) أو مكاتب ولده (الزوج الآخر، أو بعضه، انفسخ نكاحهما) (7) .
__________
(1) أي وللعبد نكاح أَمة، ولو كانت الأَمة لابنه أو بنته، لأن الرق قطع ولايته على ولده وماله، فهو كالأجنبي منه، وتقدم حكاية الاتفاق على جواز نكاحه للأمة، ويصح للعبد أو الحر بشرطه نكاح أمة من بيت المال، مع أن فيه شبهة تسقط الحد، لكن لا تجعل الأمة أم ولد، ذكره في الفنون.
(2) أي وللأمة نكاح عبد لمساواتها له في الرق، ولو كان العبد لابنها مع رقها، لقطع التوارث بينها وبين ابنها، فكالأجنبي منها.
(3) انفسخ نكاحهما، لأن ملك اليمين أقوى من النكاح، فيزيله.
(4) كهبة ونحوها، انفسخ نكاحهما، وقال الموفق: إن اشترى الحر زوجته، أو جزءًا منها أو ملكه بغير الشراء انفسخ نكاحها، وكذلك إن ملكت المرأة زوجها أو جزءًا منه، ولا نعلم في ذلك خلافًا. وكذا لو ملك الرجل بعض زوجته انفسخ نكاحها، وحرم وطؤها في قول عامة المفتين، حتى يستخلصها، فيحل له وطؤها بملك اليمين.
(5) أي أو ملك ولد أحد الزوجين الزوج الآخر أو بعضه انفسخ النكاح على الأصح، لأن ملكه كملك أصله في إسقاط الحد، فكان كملكه في إزالة النكاح.
(6) بميراث أو غيره انفسخ نكاحهما في الأصح.
(7) والمكاتبة في ذلك كالمكاتب.(6/310)
ولا ينقص بهذا الفسخ عدد الطلاق (1) (ومن حرم وطؤها بعقد) كالمعتدة والمحرمة (2) والزانية، والمطلقة ثلاثًا (3) (حرم) وطؤها (بملك يمين) (4) لأن النكاح إذا حرم لكونه طريقًا إلى الوطء، فلأن يحرم الوطء بطريق الأولى (5) (إلا أمة كتابية) فتحل (6) لدخولها في عموم قوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (7) .
__________
(1) فلو أعتقته ثم تزوجها لم يحسب بتطليقه، وهو قول مالك، والشافعي، وابن المنذر وغيرهم، لأنه لم يلفظ بطلاق صريح، ولا كناية.
(2) أي المحرم نكاحها، من أمهات النساء، وبناتهن، وحلائل الآباء ونحو ذلك، حرم وطؤها بملك اليمين.
(3) إذا كانت أمة فاشتراها مطلقها.
(4) وقال الموفق وغيره: من حرم نكاح حرائرهم من المجوسيات، وسائر الكوافر، سوى أهل الكتاب، لا يباح وطء الإماء منهن، في قول أكثر أهل العلم.
(5) واختار الشيخ وغيره: جوازه؛ لقوله تعالى {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وحديث سبايا أوطاس، وحديث «لا توطأ حامل حتى تضع» وهم عبدة أوثان، وأم محمد بن الحنفية من سبي بني حنيفة، وأخذ الصحابة من سبايا فارس، وهم مجوس، وغير ذلك، مما يدل دلالة ظاهرة على إباحتهن.
(6) قال الموفق: هو قول عامة أهل العلم إلا الحسن.
(7) فأباح تسري ملك اليمين من الإماء مطلقا، فدخل فيهن الكتابيات، ولأنهم ممن يحل نكاح حرائرهم، فحل له التسري بها كالمسلمة، وأما نكاحها فيحرم، لأن فيه إرقاق ولده، وإبقاءه مع كافرة، بخلاف التسري.(6/311)
(ومن جمع بين محللة ومحرمة في عقد، صح فيمن تحل) (1) وبطل فيمن تحرم (2) فلو تزوج أيمًا ومزوجة في عقد، صح في الأَيم، لأنها محل النكاح (3) (ولا يصح نكاح خنثى مشكل قبل تبين أمره) (4) لعدم تحقق مبيح النكاح (5) .
__________
(1) كما لو جمع بين أخته وأجنبية، أو حرة وأمة، صح العقد في الأجنبية وفي الحرة، وهو مذهب مالك، وأصحاب الرأي.
(2) كأخته والأَمة.
(3) أي لأنها محل قابل للنكاح، أضيف إليها عقد صادر من أهله، لم يجتمع معها فيه مثلها فصح، كما لو انفردت به، بخلاف ما لو عقد على أختين، لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى، ومن جمع في عقدين أما وبنتا صح في البنت، لأنه تضمن عقدين يمكن تصحيح أحدهما دون الآخر، فصح فيما يصح، وبطل فيما يبطل. و"الأيم" بالمثناة من تحت، وهي من لا زوج لها.
(4) نص عليه، وذكر مذهبا للشافعي، وقال الخرقي: إذا قال: إنه رجل. لم ينكح إلا امرأة، وعكسه بعكسه فإن عاد عن قوله، فله نكاح ما عاد إليه، فإن كان قد نكح، انفسخ نكاحه من المرأة خاصة.
(5) فغلب الحضر، كما لو اشتبهت أخته بأجنبيات، قال الشيخ: ولا يحرم في الجنة زيادة العدد، ولا يحرم فيها الجمع بين المحارم وغيرها، لأنها ليست دار تكليف، وقد نزع الغل من صدورهم، وإذا أحب امرأة ولم يتزوجها، وتصدق بمهرها، وطلب من الله أن تكون زوجته في الجنة، يرجى له ذلك من الله عز وجل.(6/312)
باب الشروط والعيوب في النكاح (1)
والمعتبر من الشروط ما كان في صلب العقد (2) أو اتفقا عليه قبله (3) وهي قسمان: صحيح (4) وإليه أشار بقوله (إذا شرطت طلاق ضرتها (5) .
__________
(1) أي ما يشترطه أحد الزوجين في العقد على الآخر مما له فيه غرض؛ وما يثبت به الخيار من العيوب، وما لا يثبت به.
(2) أي والصحيح – اللازم ثبوت الخيار عند عدمه – ما كان حالة العقد، كزوجتك بنتي بشرط كذا، ويقبل، وعلم منه أن الشروط إنما تلزم في النكاح الذي وجدت في عقده.
(3) أي أو اتفق الزوجان على الشرط قبل العقد، قاله الشيخ وغيره، وذكر أنه جواب أحمد في الحيل، وأنه ظاهر المذهب، وقول قدماء الأصحاب المحققين من المتأخرين، وصوبه في الإنصاف، وقطع به في المنتهى وغيره، ولا يلزم بعد العقد، ولزومه لفوات محله، وقال ابن رجب: يتوجه صحة الشرط، لاسيما والنكاح تصح الزيادة فيه في المهر بعد عقده.
(4) أي الشروط في النكاح قسمان: صحيح. وهو نوعان: أحدهما ما يقتضيه العقد، كتسليم الزوجة إليه، وتمكينه من الاستمتاع بها، ونحو ذلك، مما هو من مقتضى العقد، والثاني ما تنتفع به المرأة، مما لا ينافي العقد.
(5) قال أبو الخطاب: هو صحيح، لأنه شرط لا ينافي العقد، ولها فيه فائدة، واختار الموفق وغيره بطلان الشرط، لما في الصحيح: نهى صلى الله عليه وسلم
أن تشترط طلاق أختها، لتكفأ ما في صحفتها. وصححه الناظم، وابن رزين، قال الموفق: ولم أره لغير أبي الخطاب، قال في تصحيح الفروع، والإنصاف: هو الصحيح من المذهب للخبر، والنهي يقتضي الفساد، ولأنها شرطت عليه فسخ عقده، وإبطال حقه، وحق امرأته، فلم يصح، ولعله فيما إذا لم يكن هناك سبب يجوز ذلك، لنحو ريبة، أو على سبيل النصيحة المحضة، أو لضرر، أو غير ذلك من المقاصد المسوغة لطلبها ذلك.(6/313)
أو أن لا يتسرى (1) أو أن لا يتزوج عليها (2) أو) أن (لا يخرجها من دارها أو بلدها) (3) .
__________
(1) أي عليها، فيصح الشرط، فإن وفى وإلا فلها الفسخ، لحديث «إن أحق ما وفيتم به من الشروط، ما استحللتم به الفروج» وهو قول عمر، وغيره من الصحابة، ولا يعلم لهم مخالف في عصرهم.
(2) قال الشيخ: فإن تزوج عليها فلها فراقه.
وقال بعضهم: إذا أراد أن يتزوج عليها أو يتسرى، وقد شرط لها عدم ذلك، فقد يفهم من إطلاقهم جوازه بدون إذنها، لكونهم إنما ذكروا أن لها الفسخ، ولم يتعرضوا لمنعه.
وقال الشيخ: وما أظنهم قصدوا ذلك، وظاهر الأثر والقياس يقتضي منعه، كسائر الشروط الصحيحة، اهـ. وإذا فعل ذلك ثم قبل أن تفسخ طلق، فقياس المذهب أنها لا تملك الفسخ.
(3) أو أن لا يسافر بها، قال الشيخ: لو خدعها فسافر بها، ثم كرهته، لم يكن له أن يكرهها بعد ذلك، وهذا ما لم تسقط حقها، وإن شرطت أن يسافر بها إذا أرادت انتقالا لم يصح، كما لو شرطت عليه أن تستدعيه إلى النكاح وقت حاجتها إليه.(6/314)
أو أن لا يفرق بينها وبين أولادها أو أبويها (1) أو أن ترضع ولدها الصغير (2) (أو شرطت نقدًا معينًا) تأْخذ منه مهرها (3) (أو) شرطت (زيادة في مهرها، صح) الشرط (4) وكان لازمًا (5) فليس للزوج فكه بدون إبانتها (6) ويسن وفاؤه به (7)
__________
(1) فإن خالفه فلها الفسخ.
(2) صح الشرط، وكذا لو شرطت نفقته وكسوته مدة معينة، وقال الشيخ: لو شرطت مقام ولدها عندها، ونفقته على الزوج، كان مثل اشتراط الزيادة في الصداق، ويرجع إلى العرف، كالأجير بطعامه وكسوته.
(3) صح الشرط.
(4) وكذا لو شرطت زيادة في النفقة الواجبة، فقياس المذهب وجوب الزيادة وكذا لو شرطت زيادة على المنفعة التي يستحقها بمطلق العقد، مثل أن تشترط أن لا يترك الوطء إلا شهرا، أو أن لا يسافر عنها أكثر من شهر، وقال القاضي وغيره: يلزم الزوج الوفاء به، لأنها شرطت عليه شيئًا لا يمنع المقصود من عقد النكاح ولها فيه منفعة.
(5) بمعنى أنه يثبت لها الخيار بعدمه.
(6) أي الزوجة، فإن بانت منه انفكت الشروط، فلو تزوجها ثانيًا لم تعد الشروط، لأن زوال العقد زوال لما هو مرتبط به.
(7) تقدم قول الشيخ: إن ظاهر الأثر والقياس منعه، كسائر الشروط الصحيحة. وقال ابن القيم: يجب الوفاء بهذه الشروط، التي هي أحق أن يوفى بها، وهو مقتضى الشرع، والعقل، والقياس الصحيح، فإن المرأة. لم ترض ببذل بضعها للزوج إلا على هذا الشرط، ولو لم يجب الوفاء به لم يكن العقد عن تراض، وكان إلزامًا لها بما لم تلتزمه، وبما لم يلزمها الله به ورسوله.(6/315)
(فإن خالفه فلها الفسخ) على التراخي (1) لقول عمر – للذي قضى عليه بلزوم الشرط حين قال: إذًا يطلقننا (2) -: مقاطع الحقوق عند الشروط (3) وإن شرط أن لا يخرجها من منزل أبويها (4) فمات أحدهما بطل الشرط (5) .
__________
(1) لأنه لدفع ضرر، ما لم يوجد منها ما يدل على الرضى، من قول، أو تمكين منها، مع العلم بفعله ما شرطت أن لا يفعله، فإن فعل ثم طلق قبل فسخها لم تملك الفسخ.
(2) وذلك في الرجل الذي شرطت عليه دارها، ثم أراد نقلها، فقال عمر رضي الله عنه: لها شرطها.
(3) ولخبر «المؤمنون على شروطهم» وغيره، وتقدم أنه قول عمر، وغيره من الصحابة، ولا يعلم لهم مخالف، وقال ابن القيم – في قصة ابنة أبي جهل – يؤخذ منها أن المشروط عرفًا كالمشروط لفظًا، وأنه يملك به الفسخ، فقوم لا يخرجون نساءهم من ديارهم عرفا وعادة، أو امرأة من بيت قد جرت عادتهم أن الرجل لا يتزوج على نسائهم، أو يمنعون الأزواج منه، أو يعلم عادة أن المرأة لا تمكن من إدخال الضرة عليها، كان ذلك كالمشروط لفظًا، وهذا عرف مطرد. إلى آخر كلامه، رحمه الله.
(4) فتعذر، بخراب أو غيره، سكن بها حيث شاء، فإن عمر أو صلح عادت الصفة.
(5) لأن المنزل صار لأحدهما، بعد أن كان لهما، فاستحال إخراجها من منزل أبويها، فبطل الشرط، وقال الشيخ: الظاهر أن الشرط يبطل، ويحتمل أن لا يخرجها من منزل أمها إلا أن تتزوج الأم، وقال – فيمن شرط لامرأته أن يسكنها بمنزل أبيه، فسكنت ثم طلبت النقلة عنه، وهو عاجز – لا يلزمه ما عجز عنه، بل لو كان قادرًا فليس لها عند مالك، وأحد القولين في مذهب أحمد وغيرهما غير ما شرط لها.
وقال: لو شرطت نوعًا من السكنى، أو عينًا غير دارها، كالأمصار دون القرى، أو ببلد يغلب على أهله الخير، أو دارًا فيها ماء، أو الدار الفلانية. وذكر نحوًا من ذلك، ثم قال: فينبغي أنه يجب الوفاء بهذا الشرط.(6/316)
القسم الثاني: فاسد (1) وهو أنواع (2) أحدها: نكاح الشغار (3) وقد ذكره بقوله (وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته (4) ففعلا) أي زوج كل منهما الآخر وليته (ولا مهر) بينهما (بطل النكاحان) (5) .
__________
(1) أي القسم الثاني – من الشروط في النكاح – فاسد، وهو نوعان: نوع منهما يبطل النكاح من أصله، ونوع يبطل الشرط وحده، وأفرده بفصل.
(2) أي ثلاثة، نكاح الشغار، ونكاح المحلل، ونكاح المتعة.
(3) بكسر الشين، سمي شغارًا لخلوه عن العوض، ومنه قولهم: شغر المكان. إذا خلا، وقيل: من شغر الكلب. إذا رفع رجله يبول، شبه قبحه بقبح بول الكلب، واستظهرها الشيخ، وفسره أحمد بأنه فرج بفرج، وكما لا تورث، ولا توهب، فلأن لا تعاوض ببضع أولى، وأجمعوا على تحريمه.
(4) أي أن يزوج رجل رجلاً بنته، أو أخته، ونحوهما، على أن يزوجه الآخر بنته، أو أخته.
(5) سواء سكتا عنه، أو شرطا نفيه، قال ابن رشد: اتفقوا على أن صفته
هو أن ينكح الرجل وليته رجلاً آخر، على أن ينكحه الآخر وليته، ولا صداق بينهما، إلا بضع هذه ببضع الأخرى، واتفقوا على أنه نكاح غير جائز، لثبوت النهي عنه.(6/317)
لحديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته، على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق» متفق عليه (1) .
__________
(1) ولمسلم عنه «لا شغار في الإسلام» وللترمذي – وصححه – عن عمران بن حصين نحوه، وأحمد من حديث أبي هريرة، وله أن العباس بن عبد الله أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، فكتب معاوية إلى مروان، ففرق بينهما، وقال معاوية: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحريم ليس مختصا بالبنات، فقد أجمع العلماء على أن غير البنات من الأخوات، وبنات الأخ، وغيرهن، كالبنات، كما حكاه النووي وغيره.
قال الشيخ: وعلته إشغاره عن المهر، فلما اشترطا إشغار النكاحين عن المهر بطلا، وذكر الأخبار وأقوال الناس، ثم قال: وفصل الخطاب أن الله حرم نكاح الشغار، لأن الولي يجب عليه أن يزوج موليته إذا خطبها كفؤ، ونظره لها نظر مصلحة، لا نظر شهوة، والصداق حق لها لا له، وليس للولي ولا للأب أن يزوجها إلا لمصلحتها، وليس له أن يزوجها لغرضه، لا لمصحتها، وبمثل هذا تسقط ولايته، ومتى كان غرضه أن يعاوض فرجها بفرج الأخرى لم ينظر في مصلحتها، وصار كمن زوجها على مال له، وكلاهما لا يجوز.
وعلى هذا فلو سمى صداقًا حيلة، والمقصود المشاغرة لم يجز، كما نص عليه أحمد، لأن مقصوده أن يزوجها بتزوجه بالأخرى، والشرع بين أنه لا يقع هذا
إلا لغرض الولي، لا لمصلحة المرأة، سواء سمي مع ذلك صداق أو لم يسم، كما قاله معاوية وغيره، وأحمد جوزه مع الصداق المقصود دون الحيلة، مراعاة لمصلحة المرأة في الصداق، وقد يصدق صداق المثل، لكن الولي إنما رغب في الخاطب لغرضه لا لمصلحتها، وقد يكون هناك خاطب أصلح منه.
قال: والظاهر أن هذا وإن لم يسم شغارا فهو في معناه، من جهة أن الولي زوجها لغرض يصلح له من الزوج، كما يحصل له إذا زوجه موليته، وذكر أن لها حقين، حقا في مال الزوج وهو الصداق، فإذا أسقط هذا بالشغار صار حراما باطلا، وحقا في بدن الزوج، وهو كفاءته، فلو زوجها الولي بغير كفء لغرض له لم يجز ذلك، وإن أذنت له، لجهلها بحقيقة الأمر، فوجود هذا الإذن كعدمه، ولأنه جعل كل واحد من العقدين سلفا في الآخر، فصار فساده أنه وقفه على شرط فاسد، ولأنه شرط تمليك البضع لغير الزوج، فإنه جعل تزويجه إياها مهرا للأخرى، فكأنه ملكه إياها بشرط انتزاعها منه.(6/318)
وكذا لو جعلا بضع كل واحدة مع دراهم معلومة مهرا للأُخرى (1) (فإن سمي لهما) أي لكل واحدة منهما (مهر) مستقل (2) غير قليل بلا حيلة (صح) النكاحان (3) .
__________
(1) فلا يصح، لما تقدم.
(2) بأن لم يذكر معه البضع، فإن جعل المسمى دراهم وبضع الأخرى لم يصح.
(3) يحتمل أن يفسر القليل بالنقص عن مهر المثل، لهذا الشرط، ويحتمل أن يفسر بأن يكون العوض المقصود هو الفرج الآخر، ويظهر ذلك بأن يكون الصداق لا يزوج به لمثل هذا الرجل قط، لولا ابنته معه، وظاهره: إن كان كثيرًا
صح ولو حيلة؛ وعبارة المنتهى كالتنقيح تقتضي فساده، لبطلان الحيل، وإن كان قليلا، ولم يكن حيلة صح، كما هو ظاهر الإقناع وغيره، وعبارة الفروع: غير قليل حيلة به.(6/319)
ولو كان المسمى دون مهر المثل (1) وإن سمي لإحداهما دون الأُخرى، صح نكاح من سمي لها فقط (2) والثاني: نكاح المحلل (3) وإليه أشار بقوله: (وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها (4) أو نواه) أي التحليل (بلا شرط) يذكر في العقد (5) .
__________
(1) وإن كان قليلا حيلة لم يصح.
(2) لأن فيه تسمية وشرطا، أشبه ما لو سمي لكل واحدة منهن مهر بلا حيلة وإن قال: زوجتك جاريتي هذه، على أن تزوجني ابنتك، وتكون رقبتها صداقا لابنتك؛ لم يصح تزويج الجارية، في قياس المذهب، وإذا زوجه ابنته، على أن يجعل رقبة الجارية صداقا لها صح، لأن الجارية تصلح أن تكون صداقا.
(3) أي النوع الثاني – من الثلاثة أشياء التي يبطل بها النكاح – نكاح المحلل سمي محللا لقصده الحل، في موضع لا يحصل فيه الحل.
(4) أي متى حلل المطلقة ثلاثا للزوج الأول طلقها الثاني، بطل النكاح الثاني، قال الموفق: نكاح المحلل باطل حرام، في قول عامة أهل العلم، منهم مالك، والشافعي، سواء قال: زوجتكها إلى أن تطأها. أو أنه إذا أحلها فلا نكاح بينهما. وقال الشيخ: أجمعوا على تحريم نكاح المحلل، واتفق أئمة الفتوى على أنه إذا شرط التحليل في العقد كان باطلا.
(5) بطل النكاح، وهو قول مالك، وأكثر العلماء، وقال الموفق: هو قول
من سمينا من الصحابة، ولا مخالف لهم، فكان إجماعا، ولأنه قصد به التحليل، فلم يصح، كما لو شرطه، وقال الشيخ: لا يصح نكاح المحلل، ونية ذلك كشرطه وقال: لا يحصل بالتحليل الإحصان، ولا الإباحة للزوج الأول، ويلحق فيه النسب، ومن عزم على تزويجه بالمطلقة ثلاثا، ووعدها، كان أشد تحريما من التصريح بخطبة المعتدة إجماعا، لا سيما إذا أنفق عليها، وأعطاها ما تحلل به.(6/320)
أو اتفقا عليه قبله ولم يرجع، بطل النكاح (1) لقوله عليه السلام «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال «هو المحلل، لعن الله المحلل، والمحلل له» رواه ابن ماجه (2) .
__________
(1) أي اتفق الزوجان على أنه نكاح محلل قبل العقد، ولم يذكر في العقد، ولم يرجع الثاني، بطل النكاح، وقال الشيخ: إن اتفقا عليه قبل العقد، ولم يرجع عن نيته، بطل النكاح، ولو لم يذكر في العقد لم يصح العقد؛ وقال: الصحابة، والتابعون، وأئمة الفتوى، لا فرق عندهم بين الشرط المتقدم والعرف، وهو قول أهل المدينة، وأهل الحديث. اهـ. فإن رجع عن نيته، ونوى حال العقد أنه نكاح رغبة صح، لخلوه عن نية التحليل.
(2) ورواه الحاكم وغيره، وكلهم من حديث عقبة، وللخمسة من حديث ابن مسعود: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل، والمحلل له. وصححه الترمذي وغيره، وقال: العمل عليه عند أهل العلم، منهم عمر، وعثمان، وابن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين، فدل الحديث وغيره: على تحريم التحليل، لأنه لا يكون اللعن إلا على فاعل المحرم، وكل محرم منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد.
ورجح الخلوتي: أن المرأة ووليها، وولي الزوج، كالزوج نية واشتراطا، ووكيل كموكل، وهو ظاهر قول المنقح، وترجيحهم عدم الإحلال في مسألة لم يوجد فيها نية، ولا شرط من الزوج، لكن قال ابن القيم وغيره: إنما تؤثر نيته وشرط الزوج، ولا أثر لنية الزوجة ولا الولي، وإنما التأثير لنية الزوج الثاني، فإنه إذا نوى التحليل كان محللا، فيستحق اللعنة، ويستحق الزوج المطلق اللعنة إذا رجعت إليه بهذا النكاح الباطل، فأما إذا لم يعلم الزوج الثاني ولا الأول، بما في قلب المرأة أو وليها من التحليل، لم يضر ذلك العقد شيئًا، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم من امرأة رفاعة: أنها كانت تريد أن ترجع إليه، ولم يجعل ذلك مانعا من رجوعها إليه، وإنما جعل المانع عدم وطء الثاني، فقال «حتى تذوق عسيلته» .
وإذا ادعى الزوج الثاني: أنه نوى التحليل أو الاستمتاع، فينبغي أن لا يقبل منه في بطلان نكاح المرأة، إلا أن تصدقه، أو تقوم بينة إقرار على التواطيء قبل العقد، ولا ينبغي أن يقبل على الزوج الأول، فتحل في الظاهر بهذا النكاح، إلا أن يصدق على إفساده، أو أن الثاني ممن يعرف بالتحليل، فإن غلب على ظن الأول صدق الزوج الثاني، حرمت عليه فيما بينه وبين الله، ومن المكر والحيل، واتخاذ آيات الله هزوا، من إذا طلق ثلاثا قدح في صحة النكاح، وهو من الكبائر، وأكبر المحرمات، وقد كان صحيحًا لما كان مقيما معها.(6/321)
(أو قال) ولي (زوجتك إذا جاء رأس الشهر (1) أو إن رضيت أمها) أو نحوه (2) .
__________
(1) لم ينعقد النكاح، لتعليقه في ابتدائه على شرط مستقبل غير مشيئة الله.
(2) كإن رضي فلان. أو: أن لا يكره فلان. أو إن وضعت زوجتي ابنة فقد زوجتكها.(6/322)
مما علق فيه النكاح على شرط مستقبل (1) فلا ينعقد النكاح (2) غيره: زوجت أو قبلت إن شاء الله. فيصح (3) كقوله: زوجتكها إذا كانت بنتي (4) أو إن انقضت عدتها (5) وهما يعلمان ذلك (6) أو إن شئت، فقال: شئت وقبلت. ونحوه، فإنه صحيح (7) (أو) قال ولي: زوجتك و (إذا جاء غد) (8)
__________
(1) أي علق النكاح في ابتداء العقد على شرط مستقبل غير مشيئة الله، أو شرط ماض أو حاضر.
(2) لأنه عقد معاوضة كالبيع، فلم يصح تعليقه على شرط، وعنه: يصح. قال الشيخ: والأنص من كلامه جوازه، وقال ابن رجب: رواية الصحة أقوى. وقال في الإنصاف: وهو المختار. لأنه يصح في الجهل بالعوض، فلم يبطل بالشرط الفاسد كالعتق، ويبطل الشرط.
(3) أي غير: زوجت إن شاء الله، أو: قبلت إن شاء الله. فيصح قولا واحدا.
(4) أو كنت وليها. صح النكاح.
(5) صح، والتعليق في الثلاث الصور ونحوها على شرط ماض.
(6) أي والعاقدان يعلمان أنها بنته، وأنه وليها، وأنها انقضت عدتها.
(7) أي أو: إن شئت زوجتكها. فقال: شئت وقبلت النكاح. ونحو ذلك مما هو على شرط حاضر، فإن العقد صحيح، لأنه ليس بتعليق حقيقة، بل توكيد وتقوية.
(8) أي فطلقها، بطل النكاح.(6/323)
أو وقت كذا (فطلقها (1) أو وقته بمدة) (2) بأن قال: زوجتكها شهرا، أو سنة (3) أو يتزوج الغريب بنية طلاقها إذا رجع (4) (بطل الكل) (5) وهذا النوع هو نكاح المتعة (6) قال سبرة «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة (7) .
__________
(1) أي أو شرط الولي على الزوج: إذا جاء وقت كذا فطلقها. ولو مدة مجهولة فكالمتعة.
(2) أي أو وقت نكاحها بمدة معلومة أو مجهولة، وهو نكاح المتعة المنهي عنه.
(3) أو إلى انقضاء الموسم، أو قدوم الحاج، أو يقول: أمتعيني نفسك، أو نوى بقلبه فكالشرط.
(4) أي إلى وطنه، قال أحمد: هو شبيه بالمتعة؛ لا، حتى يتزوجها على أنها امرأته ما حييت، وقال أبو محمد: صحيح لا بأس به، وقال الشيخ: لم أر أحدا من أصحابنا ذكر أنه لا بأس به تصريحا، إلا أبا محمد، وأما القاضي فسوى بين نية طلاقها في وقت بعينه، وبين نية التحليل، وكذا الجد وأصحاب الخلاف.
(5) أي فيما ذكر الماتن، والشارح.
(6) أي وهذا النوع من أنواع الشروط الفاسدة في النكاح هو نكاح المتعة، يعني في الجملة، لأن منه ما هو شبيه بها كما بين، وسميت بذلك لأنه يتزوجها ليتمتع بها إلى أمد، قال الوزير: أجمعوا على أن نكاح المتعة باطل، لا خلاف بينهم في ذلك.
(7) سنة ثمان من الهجرة، وفي رواية: أقمنا بها خمسة عشر، فأذن لنا
في متعة النساء؛ وسبرة -هو ابن معبد- بن عوسجة الجهني، صحابي، نزل المدينة، وشهد الخندق وما بعدها، وتوفي في خلافة معاوية رضي الله عنهما.(6/324)
ثم لم نخرج حتى نهانا عنها» رواه مسلم (1) .
__________
(1) وفي رواية: قال يوم فتح مكة «أيها الناس إني أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة» قال الحافظ: ولا يصح من روايات الإذن في المتعة بغير علة إلا في غزوة الفتح، وحرمت فيه، قال: والإذن الواقع منه منسوخ بالنهي المؤبد.
وقال الشيخ: الروايات المستفيضة المتواترة، متواطئة على أن الله تعالى حرم المتعة بعد إحلالها، والصواب أنها بعد أن حرمت لم تحل، وأنها لما حرمت عام فتح مكة لم تحل بعد ذلك، ولم تحرم عام خيبر، وذكر ابن القيم أن النهي لم يقع عام خيبر، قال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل، وأنه حرم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها، إلا من لا يلتفت إليه من الروافض.(6/325)
فصل (1)
(وإن شرط أن لا مهر لها (2) أو) أن (لا نفقة) لها (3) (أو) شرط (أن يقسم لها أقل من ضرتها، أو أكثر) منها (4) . (أو شرط فيه) أي في النكاح (خيارا (5)
__________
(1) أي في النوع الثاني من الشروط الفاسدة، ويصح معها النكاح.
(2) بطل الشرط، وصح العقد، واختار الشيخ فساد العقد، وأنه قول أكثر السلف.
(3) بطل الشرط، وقال الشيخ: يحتمل صحة شرط عدم النفقة، لا سيما إذا قلنا: إنه إذا أعسر، ورضيت به، أنها لا تملك المطالبة به بعد، وفي الاختيارات لو شرطت زيادة في النفقة الواجبة، فقياس المذهب وجوب الوفاء به.
(4) أو أن يشرطا عدم وطء، أو أن يشترطه أحدهما بطل الشرط، واختار الشيخ الصحة كشرطه ترك ما تستحقه، أو أن يشرط عزله عنها، أو أن لا يكون عندها في الجمعة إلا ليلة، أو شرط لها النهار دون الليل، أو أن تنفق عليه، أو إن فارق رجع بما أنفق، ونحو ذلك، بطل الشرط، وصح العقد.
(5) كزوجتك بشرط الخيار أبدا، أو مدة ولو مجهولة بطل الشرط، وصح العقد، وعنه: أن الشرط والعقد جائزان، لقوله «المسلمون على شروطهم» واختار الشيخ صحة شرط الخيار، وقال: إن بطل الشرط لم يلزم العقد بدونه، فإن الأصل في الشروط الوفاء بها، وشرط الخيار له مقصود صحيح.(6/326)
أو) شرط (إن جاء بالمهر في وقت كذا، وإلا فلا نكاح بينهما) (1) أو شرطت أن يسافر بها (2) أو أن تستدعيه لوطء عند إرادتها (3) أو أن لا تسلم نفسها إلى مدة كذا ونحوه (4) (بطل الشرط) (5) لمنافاته مقتضى العقد (6) وتضمنه إسقاط حق يجب به قبل انعقاده (7) (وصح النكاح) (8) لأن هذه الشروط تعود إلى معنى زائد في العقد، لا يشترط ذكره، ولا يضر الجهل به فيه (9) .
__________
(1) بطل الشرط، وقيل: يصح، وقطع في المغني والشرح بصحة النكاح، وصوبه في الإنصاف، وعنه: يبطل العقد، في ذلك كله، وهو قول الشافعي، ونحوه عن مالك.
(2) أو يسكن بها حيث شاءت، أو شاء أبوها أو غيره.
(3) أو وقت حاجتها، وقال الشيخ: قياس المذهب صحته.
(4) كإنفاقه عليها كل يوم عشرة دراهم مثلا، وكذا لو شرطت عليه أن تنفق عليه، أو تعطيه شيئا ونحوه.
(5) في هذه الصور كلها، وتقدم قول الشيخ: إن قياس المذهب صحة بعض ما تقدم، ويقاس عليه ما هو مثله.
(6) أي لأن الشرط ينافي مقتضى العقد، فبطل.
(7) فلم يصح، كما لو أسقط الشفيع شفعته قبل البيع.
(8) عند الجمهور.
(9) كشرط صداق محرم فيه، ولكونه يصح في المجهول، فلم يبطل بالشرط الفاسد، ومن طلق بشرط خيار وقع، لوقوعه من أهله في محله، ولغى الشرط.(6/327)
(وإن شرطها مسلمة) (1) أو قال وليها: زوجتك هذه المسلمة (2) . أو ظنها مسلمة، ولم تعرف بتقدم كفر (فبانت كتابية) فله الفسخ، لفوات شرطه (3) (أو شرطها بكرا (4) أو جميلة، أو نسيبة (5) أو) شرط (نفي عيب لا ينفسخ به النكاح) (6) .
__________
(1) أي وإن تزوج امرأة وشرطها مسلمة فبانت كتابية، فله الخيار في فسخ النكاح.
(2) فبانت كتابية، فله الخيار في الفسخ.
(3) صححه الموفق وغيره، واختاره ابن عبدوس وغيره، وقيل: لا، قال الناظم: وهو بعيد، وإن عرفت بكفر فلا، لتفريطه، ولا خيار له إن شرطها كتابية، فبانت مسلمة، أو أمة فبانت حرة، لأنه زيادة خير فيها.
(4) أي أو شرطها بكرا فبانت ثيبا فله الخيار، وإن قال: ظننتها بكرًا؛ فلا. وروى الزهري عن عائشة أن الحيضة تذهب بالعذرة، وروي عن الحسن وغيره، وكذا بالوثبة، والتعنس، وحمل الثقيل.
(5) أي أو شرطها فبانت شوهاء، أو شرطها ذات حسب رفيع، أو شرطها بيضاء، أو طويلة، فبانت بخلافه، فله الخيار وقال: الشيخ لو قال: ظننتها أحسن مما هي. أو: ما ظننت فيها هذا. لم يلتفت إلى قوله، وكان هو المفرط، حيث لم يسأل، ولم يرها، ولا أرسل إليها من رآها له، وإذا فرط فله التخلص بالطلاق.
(6) كالعمى، والخرس، والشلل، والعرج، والعور، ونحوه.(6/328)
بأن شرطها سميعة أو بصيرة (فبانت بخلافه، فله الفسخ) لما تقدم (1) وإن شرط صفة فبانت أعلى منها فلا فسخ (2) . ومن تزوج امرأة وشرط أو ظن أنها حرة (3) ثم تبين أنها أمة (4) فإن كان ممن يحل له نكاح الإماء فله الخيار (5) وإلا فرق بينهما (6) وما ولدته قبل العلم حر (7) .
__________
(1) من فوات ما شرطه في هذه الصور، نص عليه أحمد وغيره، واختاره الشيخ وغيره، وصوبه في تصحيح الفروع، لأنه شرط وصفا مقصودا فبانت بخلافه، وإذا عرف أنه لم يرض بها، لاشتراطه صفة فبانت بخلافها وبالعكس، فإلزامه بما لم يرض به لم يأت به شرع ولا عرف، بل هو مخالف للأصول والعقول ولا شيء عليه إن فسخ قبل الدخول، وبعده يرجع بالمهر على الغار، قاله الشيخ وغيره.
(2) كما لو شرطها شوهاء فبانت حسناء، أو قصيرة فبانت طويلة، أو سوداء فبانت بيضاء، لأن ذلك زيادة خير فيها، اختاره وصححه أكثر الأصحاب.
(3) أي حرة الأصل، فإن ظن أنها عتيقة فلا خيار له، لأنه ظن خلاف الأصل المتيقن فيها، وهو الرق، ولا عبرة بظنه المخالف للأصل.
(4) سواء كان هو حر الأصل أو عتيقا.
(5) أي فإن كان حال العقد ممن يحل له نكاح الإماء، لعدم الطول، وخوف العنت، فله الخيار. إن اختار الفسخ، لأنه عقد غر فيه، فثبت به الخيار.
(6) أي وإن كان ممن لا يجوز له نكاح الإماء، بأن يكون غير عادم الطول، خائف العنت، فالنكاح غير صحيح، ويفرق بينهما.
(7) أي حملت به وولدته التي غر بها حيا، لوقت يعيش به، فهو حر، قال
الموفق: بلا خلاف، لأنه اعتقد حريتها، فكان ولده حرا، لاعتقاده ما يقتضي حريته.(6/329)
يفديه بقيمته يوم ولادته (1) وإن كان المغرور عبدا فولده حر أيضًا (2) يفديه إذا عتق (3) ويرجع زوج بالفداء (4) والمهر على من غره (5) ومن تزوجت رجلاً على أنه حر (6) أو تظنه حرا، فبان عبدا، فلها الخيار (7) .
__________
(1) أي يفدي ما ولدته حيا بقيمته، قضى به عمر، وعلي، وابن عباس، وهو قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، ولأنه نماء المملوكة، فسبيله أن يكون مملوكا، وقد فوت رقة باعتقاده الحرية، فلأمه ضمانه. بقيمته يوم ولادته، وهو قول أكثر الفقهاء، لحديث «من أعتق شقصا قوم عليه» .
(2) لأنه وطئها معتقدًا حرية أولادها، فأشبه الحر.
(3) أي يفديه من الأمة التي غر بها، بقيمته يوم ولادته، قضى به عمر وغيره، وهو مذهب الشافعي، وقال ابن القيم: إذا شرط على السيد حرية أولاده صح، وما ولدته فهم أحرار، وإن رضي بالمقام فما ولدت بعد فرقيق.
(4) أي ويرجع زوج – عبدا كان أو حرا – على من غره، إن لم يختر إمضاء النكاح، وشرط رجوعه على الغار: أن يكون قد شرط له أنها حرة، ولو لم يقارن الشرط العقد، حتى مع إبهامه حريتها، ولا يملك مطالبة الغار قبل الغرم.
(5) بشرطه، لأنها مغرورة، إن لم يختر إمضاء النكاح حيث يكون له الإمضاء، وكذا إن غرم أجرة خدمتها.
(6) فبان عبدا فلها الخيار، لاعتقادها أنه حر.
(7) بين الفسخ والإمضاء إن صح النكاح، بأن كملت شروطه، وكان بإذن
سيده، وهو المذهب، ومقتضاه صحة العقد، كما لو تزوج أَمة على أنها حرة، وإن شرطت صفة ككونه نسيبا، أو عفيفا، أو جميلا، فبان أقل فلا فسخ، لأنه ليس بمعتبر في صحة النكاح، إلا بشرط حرية، أو صفة يخل فقدها بالكفاءة، كما لو شرطته عربيا فبان عجميًا.(6/330)
(وإن عتقت أَمة (تحت حر فلا خيار لها) (1) لأنها كافأَت زوجها في الكمال (2) كما لو أسلمت كتابية تحت مسلم (3) (بل) يثبت لها الخيار إن عتقت كلها (تحت عبد) كله (4) لحديث بريرة، وكان زوجها عبدًا أَسود (5) رواه البخاري وغيره، عن ابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم (6) .
__________
(1) أو عتقت كلها وبعضه حر، فلا خيار لها، هذا مذهب الجمهور، وبه قال ابن عمر، وابن عباس والحسن، وغيرهم.
(2) فلم يثبت لها خيار، وعنه: لها الخيار. وهو مذهب أصحاب الرأي، واختاره الشيخ وغيره، لحديث بريرة، ولأنها ملكت رقبتها وبضعها، فلا يملك ذلك عليها إلا باختيارها.
(3) من أنه لا خيار لها، لأنها كافأت زوجها في الدين.
(4) حكاه ابن المنذر، وابن عبد البر، وابن رشد، وغيرهم إجماعا، فإن عتقت قبل فسخها، أو رضيت المقام معه، لم يكن لها فراقه.
(5) لبني المغيرة، يقال له "مغيث". ...
(6) وقالته صفية بنت أبي عبيد، قال أحمد: برواية علماء المدينة وعملهم
ولأن عليها ضررا في كونها حرة تحت عبد، فكان لها الخيار، كما لو تزوج حرة على أنه حر، فبان عبدا، فإن اختارت الفسخ فلها فراقه، وإن رضيت المقام معه لم يكن لها فراقه بعد ذلك، لأنها أسقطت حقها، قال الموفق: وهذا مما لا خلاف فيه.(6/331)
فتقول: فسخت نكاحي. أو اخترت نفسي (1) ولو متراخيا (2) ما لم يوجد منها دليل رضى (3) كتمكين من وطء، أو قبلة ونحوها (4) ولو جاهلة (5) .
__________
(1) أو: أخترت فراقه، ولو قالت: طلقت نفسي، ونوت المفارقة، كان كناية عن الفسخ، وليس فسخها لنكاحها – وإن نوت به الفرقة – طلاقا، لقوله صلى الله عليه وسلم «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» وكما لو أرضعت من ينفسخ به نكاحها.
(2) كخيار عيب.
(3) أي بالمقام معه بعد العتق، فلا خيار لها.
(4) أو كمباشرة بطل خيارها، لما في خبر بريرة: فخيرها، وقال «إن قربك فلا خيار لك» وروي عن ابن عمر وحفصة، وقال ابن عبد البر: لا أعلم لهما مخالفًا في الصحابة.
(5) أي بالعتق، أو ملك الفسخ، نص عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا عتقت الأَمة فهي بالخيار، ما لم يطأها، إن شاءت فارقت، وإن وطئها فلا خيار لها» رواه أحمد، وعنه: العذر بالجهل فيهما، اختاره جماعة من الأصحاب، وقيل: ما يخالفه ظاهر، وصوبه في الإنصاف، ويجوز للزوج الإقدام على الوطء، إذا كانت غير عالمة، ولو بذل لها عوضا على أن تختاره جاز،
ولو شرط المعتق عليها دوام النكاح تحت حر أو عبد – إذا أعتقها – ورضيت، لزمها ذلك، قال الشيخ: وهو الذي يقتضيه مذهب أحمد.(6/332)
ولا يحتاج فسخها لحاكم (1) فإن فسخت قبل دخول فلا مهر (2) وبعده هو لسيدها (3) .
__________
(1) لأنه مجمع عليه، وأما المختلف فيه فلا ينفسخ إلا بفسخ حاكم، وإن أعتق الزوجان معا فلا خيار لها، وقال الموفق: هذا المذهب، وعنه: لها، وعنه: ينفسخ نكاحهما.
قال ابن القيم: وللبطلان وجه، وهو أنه إنما زوجهما بحكم الملك لهما، وقد زال. ويستحب البداءة بعتق الرجل، قاله صلى الله عليه وسلم لعائشة؛ ولمالك زوجين بيعهما، وأحدهما، ولا فرقة بذلك.
(2) لمجيء الفرقة من قبلها، فسقط بذلك مهرها.
(3) لوجوبه بالعقد، وهي ملكه حالته.(6/333)
فصل في العيوب في النكاح (1)
وأَقسامها ثلاثة (2) قسم يختص بالرجال (3) وقد ذكره بقوله (ومن وجدت زوجها مجبوبا) قطع ذكره كله (4) (أو) بعضه و (بقي له ما لا يطأُ به؛ فلها الفسخ (5) وإن ثبتت عنته بإقراره (6)
__________
(1) أي في بيان ما يثبت به الخيار منها، وما لا خيار به، كالعور والخرس.
(2) أي وأقسام المثبتة للخيار ثلاثة: وثبوتها لأحد الزوجين إذا وجد بالآخر عيبا في الجملة، روي عن عمر، وابنه، وابن عباس، وغيرهم، وهو مذهب الشافعي، لأنه يمنع الوطء، فأثبت الخيار، ولأن المرأة أحد العوضين في النكاح، فجاز ردها بعيب كالصداق، ولأن الرجل أحد الزوجين، فيثبت له الخيار بالعيب في الآخر كالمرأة.
(3) وهو ثلاثة أشياء.
(4) فلها الفسخ في الحال.
(5) في الحال، فإن أمكن وطؤها بالباقي، وادعاه وأنكرته، قبل قولها مع يمينها، لأنه يضعف بالقطع، والأصل عدم الوطء، وكذا إن وجدته أشل فلها الفسخ، وأما قطع خصيتيه أو رض بيضتيه فيأتي، وإنما أخره لأنه مما اختلف فيه، وهو الشيء الثاني.
(6) وهو الشيء الثالث، وهو العاجز عن إيلاج ذكره، مأخوذ من: عنَّ
يعن إذا اعترض، لأن ذكره يعن. أي يعترض إذا أراد أن يولجه، فيعجز عن الوطء، وربما اشتهاه ولا يمكنه.(6/334)
أو) ثبتت (ببينة على إقراره (1) أُجل سنة) هلالية (منذ تحاكمه) (2) روي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، والمغيرة بن شعبة (3) لأنه إذا مضت الفصول الأربعة (4) ، ولم يزل، علم أنه خلقه (5) (فإن وطئ فيها) أي في السنة (6) .
__________
(1) أي أو ثبتت عنته ببينة على إقراره، أو بنكوله عن اليمين، وفي المبدع: إن كان للمدعي بينة من أهل الخبرة والثقة عمل بها.
(2) لا من العقد، ولا من الدخول، قال الوزير: اتفاقا. وقال الموفق وغيره: هو قول علماء الأمصار، ولو عبدا، لتمر به الفصول الأربعة، فإن كان من يبس زال في فصل الرطوبة، وعكسه، وإن كان من برودة، زال في فصل الحرارة، وإن كان من احتراق زال في فصل الإعتدال، والمعتبر في التأجيل هي الهلالية، وتعليلهم بالفصول يوهم خلافه، لكن ما بينهما متقارب، فيضرب لها المدة، ولا يضربها غير الحاكم، ولا تعتبر عنته إلا بعد بلوغه.
(3) ولا مخالف لهم، وعليه فتوى فقهاء الأمصار.
(4) فصل الربيع، وفصل الصيف، وفصل الخريف، وفصل الشتاء، فإذا مضت عليه هذه الفصول الأربعة، واختلفت عليه الأهوية.
(5) لا لمرض ونحوه، وذكر بعض أهل الطب: أن الداء لا يستجن في البدن أكثر من سنة، ثم يظهر.
(6) فليس بعنين.(6/335)
(وإلا فلها الفسخ) (1) ولا يحتسب عليه منها ما اعتزلته فقط (2) (وإن اعترفت أنه وطئها) في القبل (3) في النكاح الذي ترافعا فيه، ولو مرة (فليس بعنين) (4) لاعترافها بما ينافي العنة (5) وإن كان ذلك بعد ثبوت العنة فقد زالت (6) .
__________
(1) أي وإن لم يطأ في السنة التي ضربت له المدة ليختبر فيها، ويعلم حاله، فلها الفسخ، قال ابن عبد البر: على هذا جماعة القائلين بتأجيله.
(2) أي ما اعتزلته بنشوز أو غيره، ولو عزل نفسه، أو سافر احتسب عليه ذلك.
(3) ولو في مرض يضرها فيه الوطء، أو في حيض ونحوه، أو في إحرام، أو صائمة، لا في دبر، فلا تزول به العنة، أشبه الوطء فيما دون الفرج، أو وطئها في نكاح سابق، أو وطئ غيرها، لم تزل العنة.
(4) قال الموفق وغيره: أكثر أهل العلم يقولون: متى وطئ امرأته ثم ادعت عجزه لم تسمع دعواها، ولم تضرب له مدة.
(5) وإن كان عجزه لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه، ضربت له المدة، وإن علم أن عجزه لعارض، من صغر، أو مرض مرجو الزوال، لم تضرب له المدة.
(6) أي عنته، لإقرارها بما يتضمن زوالها، وهو الوطءن ومجنون ثبتت عنته كعاقل في ضرب المدة، صوبه في تصحيح الفروع، ومن حدث بها جنون فيها حتى انقضت ولم يطأ فليس لها الفسخ، ويسقط حق زوجة عنين، ومقطوع بعض ذكره بتغييب الحشفة أو قدرها، وصححه في تصحيح الفروع، وقال: هو أقوى وأولى.(6/336)
(ولو قالت في وقت: رضيت به عنينا. سقط خيارها أبدا) (1) لرضاها به (2) كما لو تزوجته عالمة عنته (3) .
__________
(1) ولا يسقط بدون قولها: أسقطت حقي من الفسخ. أو: رضيت به، ونحوه.
(2) لا بتمكينها من وطء، لأنه واجب عليها، لتعلم أزالت عنته أم لا، واستظهر في تصحيح الفروع، من كلام أكثر الأصحاب، بطلان الخيار بما يدل على الرضا، من وطء، أو تمكين، وصرح به الزركشي، وقال الشيخ: لم نجد هذه التفرقة لغير المجد.
(3) فإنه يسقط خيارها، لدخولها على بصيرة.(6/337)
فصل (1)
(و) القسم الثاني يختص بالمرأة (2) وهو (الرتق) (3) بأن يكون فرجها مسدودًا، لا يسلكه ذكر بأَصل الخلقة (4) (والقرن) لحم زائد ينبت في الفرج فيسده (5) (والعفل) ورم في اللحمة التي بين مسلكي المرأة، فيضيق منها فرجها، فلا ينفذ فيه الذكر (6) .
__________
(1) أي في بقية العيوب، التي ينفسخ بها النكاح.
(2) أي القسم الثاني من العيوب الثمانية، المثبتة للخيار، ما يختص بالمرأة، وهو ثلاثة.
(3) بفتح الراء والتاء، والفعل منه كتعب.
(4) أي ملتصقا، فالرتق تلاحم الشفرين خلقه، وقيل: تمكن إزالته، بكسر العظم الملتصق بالعظم، قال الشيخ: فإذا كان زوال هذا العيب ممكنا فينبغي أن لا يثبت الفسخ، إذا زال عن قرب.
(5) قاله صاحب المطلع، والزركشي، وغيرهما.
(6) وفي المطلع: شيء يخرج من الفرج، شبيه بالأدره التي للرجل في الخصية، وحكاه الأزهري وغيره، فهما متغايران، وظاهر كلام القاضي، والخرقي: أن القرن والعفل شيء واحد، وهما بمعنى الرتق، وهو كون فرجها مسدودًا لا بأصل الخلقة، وقيل: هي رطوبة تمنع الرجل لذة الجماع، وعلى كل
الأقوال يثبت به الخيار، لأنه يمنع الوطء المقصود من النكاح، وهو مذهب مالك والشافعي.(6/338)
(والفتق) انخراق ما بين سبيليها (1) أو ما بين مخرج بول ومني (2) (واستطلاق بول (3) ونجو) أي غائط منها، أو منه (4) (وقروح سيالة في فرج) (5) واستحاضة (6) (و) من القسم الثالث وهو المشترك (7) (باسور وناصور) وهما داآن بالمقعدة (8) (و) من القسم الأول (خصاء) أي قطع الخصيتين (9) .
__________
(1) أي القبل والدبر من المرأة، جزم به الموفق وغيره.
(2) أي وقيل: هو الفتق، وكلاهما يمنع لذة الوطء وفائدته.
(3) أي ويثبت الخيار لكل منهما باستطلاق بول.
(4) أي ويثبت الخيار باستطلاق نجو – بموحدتين – من الزوج أو الزوجة.
(5) أي فرج المرأة، لمنع لذة الوطء.
(6) قال الشيخ: يثبت بالإستحاضة الفسخ في أظهر الوجهين، وترد المرأة بكل عيب ينفر عن كمال الإستمتاع.
(7) أي يكون في الزوج أو الزوجة، ويثبت به الخيار لكل منهما.
(8) فالباسور منه ما هو ناتئ كالعدس، أو الحمص، أو العنب، أو التوت ومنه ما هو غائر، داخل المقعدة، وكل من ذلك إما سائل، أو غير سائل، والناصور قروح غائرة، تحدث في المقعدة، يسيل منها صديد، وينقسم إلى نافذة وغير نافذة، وعلامة النافذة: أن يخرج الريح والنجو من غير إرادة.
(9) أي ومن القسم الأول – المثبت للخيار المختص بالرجال – قطع الخصيتين، فإذا وجدته مقطوعهما، فلها الخيار في الفسخ.(6/339)
(وسل) لهما (1) (ووجاء) لهما (2) لأن ذلك يمنع الوطء أو يضعفه (3) (و) من المشترك (كون أحدهما خنثى واضحا) (4) أما المشكل فلا يصح نكاحه، كما تقدم (5) (وجنون ولو ساعة (6) وبرص، وجذام) (7) وقرع رأْس له ريح منكرة (8) .
__________
(1) أي البيضتين من غير قطع الجلدة، فيثبت به لها خيار الفسخ.
(2) أي للبيضتين وهو رضهما، وفي المطلع: رض عرق البيضتين، حتى ينفسخ فيكون شبيها بالخصاء، والوجاء بكسر الواو، والمد.
(3) أي لأن في ذلك نقصا يمنع الوطء، أو يضعف الوطء، وقال عمر لابن سندي – وكان تزوج وهو خصي – أعلمتها؟ قال: لا، قال: أعلمها، ثم خيرها.
(4) أي ومن العيب المشترك بين الزوج والزوجة، المثبت للخيار، كون أحد الزوجين خنثى واضحا، غير مشكل، فللآخر الخيار.
(5) حتى يتضح أمره، وتقدم في باب المحرمات في النكاح.
(6) لأن النفس لا تسكن إلى من تلك حاله، فيثبت به الخيار، وإن زال العقل بمرض فإغماء لا خيار به، فإن زال المرض ودام فجنون.
(7) البرص – بفتح الباء والراء – مصدر: برص. بكسرها ابيض جلده، أو اسود، والجذام داء معروف، تتهافت منه الأطراف، ويتناثر منه اللحم، يثبت بأحدهما الفسخ، فإن اختلفا في بياض بجسده، هل هو بهق أو برص، أو في علامات الجذام من ذهاب شعر الحاجبين هل هو جذام؟ فإن كان للمدعي بينة، وإلا حلف المنكر، والقول قوله.
(8) لما فيه من النفرة، وألحق ابن رجب روائح الإبط المنكرة، التي تثور عند الجماع.(6/340)
وبخر فم (1) (يثبت لكل واحد منهما الفسخ) (2) لما فيه من النفرة (3) .
__________
(1) البخر – بفتحتين – نتن رائحة فم أحدهما، وكذا نتن فرج امرأة يثور بالوطء، ويستعمل للبخر في الفم السواك، وإمساك الذهب فيه، والتغرغر بالصبر، ثم يتمضمض بالخردل.
(2) أي في هذه العيوب المتقدمة، كلها، فأما القطع، والعنة، والرتق، والقرن، والعفل، والفتق، والجنون، والبرص، والجذام، فقولا واحدا، وهو مذهب مالك، والشافعي، واختلف الأصحاب فيما عدا ذلك، كالبخر، واستطلاق البول، والنجو، والباسور، والناصور، والخصاء، وكون أحدهما خنثى، فجزم بثبوت الخيار في الوجيز، وصححه في تصحيح الفروع، واختاره ابن القيم وغيره.
(3) المانعة من الوطء أو خوف أذاه، أو تعدي نجاسته، وقال ابن القيم: كل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح، يوجب الخيار، وإنه أولى من البيع، وقال في الإنصاف: ما هو ببعيد، وعن عمر أنه قال: أعلمتها أنك عقيم؟ وقال شيخ الإسلام: قد علم أن عيوب الفرج المانعة من الوطء، لا يرضى بها في العادة، بخلاف اللون، والطول، والقصر، والعرج، ونحو ذلك مما ترد به الأمة المعيبة.
فإن الحرة لا تقلب كما تقلب الأمة، والزوج قد رضي بها رضى مطلقا، بخلاف البيع، وهو مع هذا لم يشترط فيها صفة فبانت دونها، والشرط إنما يثبت شرطا وعرفا، وما أمكن معه الوطء وكماله فلا ينضبط فيه أغراض الناس، والنساء يرضى بهن في العرف والعادة، مع الصفات المختلفة، والمقصود من النكاح المصاهرة والإستمتاع، وذلك يختلف باختلاف الصفات، فهذا فرق شرعي، معقول في عرف الناس.
وقال: وأما الرجل فأمره ظاهر، يراه من شاء، فليس فيه عيب يوجب الرد، والمرأة إذا فرط الزوج في بصرها أو لا، فله طريق إلى التخلص منها بالطلاق، فإنه بيده دون المرأة.(6/341)
(ولو حدث بعد العقد) والدخول، كالإجارة (1) (أو كان بالآخر عيب مثله) (2) أو مغاير له (3) لأن الإنسان يأْنف من عيب غيره، ولا يأْنف من عيب نفسه (4) .
__________
(1) لأنه عيب في النكاح، يثبت به الخيار مقارنا، فأثبته طارئا كالإعسار، ولأنه عقد على منفعة، فحدوث العيب فيها يثبت الخيار، كما يثبته في الإجارة.
(2) أي مثل العيب الذي فسخ به لوجود سببه.
(3) أي أو كان بالفاسخ عيب مغاير لعيب الذي فسخ به، كالأجذم يجد المرأة برصاء، إلا أن يجد المجبوب المرأة رتقاء فلا، وكذا إن لم يطأ لنضو بها فكرتقاء.
(4) فثبت له الخيار، ولو بان الزوج عقيما، ففي الإختيارات: قياس قولنا بثبوت الخيار للمرأة، أن لها حقا في الولد، ولهذا قلنا: لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، وعن أحمد ما يقتضيه، وتقدم قول عمر: أعلمتها؟ قال: لا. قال فأعلمها، ثم خيرها.
ولا خيار في عيب زال بعد عقد، ولا بغير ما ذكر، ونحوه مما لا يمنع الإستمتاع، ولا يخشى تعديه، كعور، وعرج، وخرس، وطرش، وسمن، وكسح، ونحوها.(6/342)
(من رضي بالعيب) بأن قال: رضيت به (1) (أو وجدت منه دلالته) من وطء، أو تمكين منه (مع علمه) بالعيب، (فلا خيار له) (2) ولو جهل الحكم، أو ظنه يسيرا فبان كثيرًا (3) لأَنه من جنس ما رضي به (4) (ولا يتم) أي لا يصح (فسخ أحدهما إلا بحاكم) (5) .
__________
(1) أي وإن كان أحد الزوجين – الذي لا عيب فيه – عالما بالعيب في الآخر، وقت العقد أو بعده، وقال: رضيت به فلا خيار له، قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه، وكذا إن كان به عيب مثله.
(2) أي أو وجدت دلالة على الرضا بالعيب، من وطء، أو تمكين، من أحد الزوجين، مع العلم بالعيب قبل العقد أو بعده، فلا خيار له، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، وخيار عيب على التراخي، على الصحيح من المذهب، لأنه خيار لدفع ضرر متحقق، فكان على التراخي، كخيار القصاص.
(3) كمن ظن البرص في قليل من جسده فبان كثيرًا، أو زاد العيب بعد العقد، فلا خيار له، وإن كان الزوج صغيرًا، أو به جنون أو برص، أو جذام، فلها الفسخ في الحال، وعلى قياسه الزوجة إذا كانت صغيرة، أو مجنونة، أو عفلاء، أو قرناء، قاله الشيخ، وله الفسخ في الحال، ولا ينتظر إمكان الوطء، لأن الأصل بقاؤه بحاله.
(4) ورضاه به رضى بما يحدث منه، وإن ادعى الجهل بالخيار، ومثله يجهله، كعامي لا يخالط الفقهاء كثيرا، فقال الشيخ: الأظهر ثبوت الفسخ، عملا بالظاهر.
(5) لأنه فسخ مجتهد فيه، أشبه الفسخ للإعسار بالنفقة.(6/343)
فيفسخه الحاكم بطلب من ثبت له الخيار (1) أو يرده إليه فيفسخه (2) (فإن كان) الفسخ (قبل الدخول فلا مهر) لها (3) سواء كان الفسخ منه أو منها (4) لأن الفسخ إن كان منها فقد جاءت الفرقة من قبلها (5) .
__________
(1) ويكون كحكمه، على ما يأتي في كتاب القضاء.
(2) أي أو يرد الفسخ إلى من له الخيار، فيفسخه هو، لأنه مجتهد فيه، وقال الشيخ: ليس هو الفاسخ، وإنما يأذن ويحكم به، فمتى أذن، أو حكم باستحقاق عقد، أو فسخ، لم يحتج ذلك إلى حكم بصحته بلا نزاع، وخرج جواز الفسخ بلا حكم في الرضا، بعاجز عن الوطء، كعاجز عن النفقة.
وخرج أيضًا أن جميع الفسوخ لا تتوقف على حاكم، واختاره، وقال: لو قيل: إن الفسخ بتراضيهما تارة، وبحكم الحاكم أخرى، أو بمجرد فسخ المستحق، ثم الآخر إن أمضاه، وإلا أمضاه الحاكم؛ لتوجه، قال: وهو الأقوى.
ويصح الفسخ من المرأة – حيث ملكته – في غيبة زوج، والأولى مع حضوره، ومتى زال العيب قبل الفسخ فلا فسخ، ولو فسخت بعيب فبان أن لا عيب، بطل الفسخ، واستمر النكاح، والفسخ لا ينقص عدد الطلاق، إلا فرقة اللعان، فتحرم على الأبد.
(3) ولا متعة.
(4) أي من الزوج لأجل عيبها، أو منها لأجل عيبه، وهذا مذهب الشافعي.
(5) فسقط المهر، كما لو فسخته بإرضاع زوجة له أخرى.(6/344)
وإن كان منه فإنما فسخ لعيبها الذي دلسته عليه (1) فكأنه منها (2) (و) إن كان الفسخ (بعده) أي بعد الدخول أو الخلوة (3) فـ (لها) المهر (المسمى) في العقد (4) لأنه وجب بالعقد، واستقر بالدخول، فلا يسقط (5) (ويرجع به على الغار إن وجد) (6) لأنه غره، وهو قول عمر (7) .
__________
(1) أي بإخفائه على الزوج.
(2) أي الفسخ فلم تستحق عليه شيئًا ولم يجعلوه منه، لأن العوض منه في مقابلة منافعها، فإذا اختارت فسخ العقد مع سلامة ما عقد عليه، رجع العوض إلى العاقد معها، وليس من جهتها عوض في مقابلة منافع الزوج، وإنما ثبت لها الخيار، لما يلحقها من الضرر.
(3) ونحوهما مما يقرر المهر، كلمس لشهوة، وتقبيلها بحضرة الناس.
(4) هذا الصحيح من المذهب، لأنه نكاح صحيح، وقيل: مهر المثل. وفاقا للشافعي. وقيل: في فسخ الزوج بعيب قديم، أو بشرط، ينسب قدر نقص المثل لأجل ذلك إلى مهر المثل كاملا، فيسقط من المسمى بنسبته، فسخ أو أمضى، اختاره ابن عقيل، ورجحه الشيخ، وقواه في الإنصاف، قال الشيخ: وكذا إن ظهر الزوج معيبًا، فلها الرجوع عليها بنقص مهر المثل، وكذا في شرطها وهو العدل.
(5) بحادث بعده، ولذلك لا يسقط بردتها، لا بفسخ من جهتها.
(6) أي ويرجع زوج – حيث غرم – بالمهر على الغار، إن وجد الغار، إلا إن أبرئ الزوج.
(7) أي لأنه غر الزوج بالعيب، فكان الغرم عليه، ولقول عمر رضي الله
عنه: أيما رجل تزوج امرأة بها جنون، أو جذام، أو برص فمسها فلها صداقها، وذلك لزوجها على وليها. رواه مالك، ومال إليه أحمد، وكما لو غر بحرية أمة.(6/345)
والغار من علم العيب وكتمه، من زوجة عاقلة (1) وولي، ووكيل (2) وإن طلقت قبل دخول (3) أَو مات أَحدهما قبل الفسخ، فلا رجوع على غار (4) (والصغيرة والمجنونة، والأَمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب) يرد به في النكاح (5) لأَن وليهن لا ينظر لهن إلا بما فيه الحظ والمصلحة (6) .
__________
(1) ظاهره: ولو دون البلوغ، حيث كانت مميزة، بخلاف طفلة ومجنونة.
(2) فأيهم انفرد بالغرر ضمن، لانفراده بالسبب الموجب، وإن كان التغرير من زوجة وولي فالضمان على الولي، ومن المرأة والوكيل الضمان بينهما، ويقبل قول ولي في عدم علمه بالعيب، وكذا قولها إن احتمل، ومثل ذلك – في الرجوع – لو زوج امرأة فأدخلوا عليه غيرها.
(3) أي وإن طلقت المعيبة قبل دخول أو خلوة ونحوهما، ثم علم أنه كان بها عيب يقتضي الفسخ، فعليه نصف الصداق، لا يرجع به على أحد، لأنه قد رضي بالتزامه بطلاقها.
(4) لأن سبب الرجوع الفسخ، ولم يوجد، ولها الصداق كاملاً، لتقرره بالموت.
(5) وكذا ولي حرة مكلفة بلا رضاها، قال الموفق: بلا خلاف نعلمه.
(6) ولا حظ ولا مصلحة في هذا العقد.(6/346)
فإن فعل لم يصح إن علم (1) والأصح، ويفسخ إذا علم (2) . وكذا ولي صغير أو مجنون، ليس له تزويجهما بمعيبة ترد في النكاح (3) فإن فعل فكما تقدم (4) (فإن رضيت) العاقلة (الكبيرة مجبوبا، أو عنينا لم تمنع) (5) لأن الحق في الوطء لها، دون غيرها (6) (بل) يمنعها وليها العاقد (7) (من) تزوج (مجنون، ومجذوم، وأَبرص) (8) .
__________
(1) لأنه عقد لهم عقدا لا يجوز عقده.
(2) أي وإن لم يعلم الولي عيبه صح النكاح، ويجب عليه الفسخ إذا علم، جزم به الموفق، والزركشي، وغيرهما، وليس للولي تزويج كبيرة بغير رضاها بلا خلاف، لأنها تملك الفسخ إذا علمت به بعد العقد، فالإمتناع أولى.
(3) لوجوب نظره لهما بما فيه الحظ والمصلحة، وانتفاء ذلك في هذا العقد.
(4) أي من أنه لا يصح النكاح مع العلم، وإلا صح، وعليه الفسخ، وعند الموفق وغيره: يجب الفسخ.
(5) أي لم يمنعها وليها من نكاحه.
(6) وقال الموفق وغيره: الأولى منعها، قال أحمد: ما يعجبني، وإن رضيت الساعة تكره إذا دخلت عليه، لأن من شأنهن النكاح، ويعجبهن من ذلك ما يعجبنا.
(7) لا البعيد، لأن ذلك غير مخل بالكفاءة.
(8) أي إن اختارت المكلفة أن تتزوج بأحدهم فلوليها منعها منه، كمنعها من تزوجها بغير كفء.(6/347)
لأن في ذلك عارا عليها، وعلى أهلها (1) وضررا يخشى تعديه إلى الولد (2) (ومتى) تزوجت معيبا لم تعلمه، ثم (علمت العيب) بعد عقد، لم تجبر على فسخ (3) (أو) كان الزوج غير معيب حال العقد، ثم (حدث به) العيب بعده (لم يجبرها وليها على الفسخ) إذا رضيت به (4) لأن حق الولي في ابتداء العقد، لا في دوامه (5) .
__________
(1) فكان له منعها منه.
(2) وقال الموفق: ويحتمل أن يملك سائر الأولياء الإعتراض عليها، ومنعها من هذا التزويج، لأن العار يلحق بهم، وينالهم الضرر، فأشبه ما لو كان تزوجها بغير كفء.
(3) من ولي أو غيره، إذا رضيت بذلك العيب.
(4) أي بالعيب الحادث بعد العقد.
(5) لأنها لو دعت وليها أن يزوجها بعبد، لم يلزمه إجابته، ولو عتقت تحت عبد، لم يملك إجبارها على الفسخ، فكذا العيب الحادث.(6/348)
باب نكاح الكفار
من أهل الكتاب وغيرهم (1) (حكمه كنكاح المسلمين) في الصحة (2) ووقوع الطلاق (3) .
__________
(1) كالمجوس، والوثنيين، وما يتعلق به، والمراد: بيان حكمه، وما يقرون عليه، لو أسلموا أو ترافعوا إلينا.
(2) أي حكم نكاح الكفار فيما يجب، ويترتب في الصحة أي النفوذ، وترتب أحكام الزوجية عليه، كحكم نكاح المسلمين، فيحرم عليهم ما يحرم على المسلمين، وجمهور العلماء – كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد – على أن أنكحة الكفار صحيحة، وتتعلق بها الأحكام المتعلقة بأحكام النكاح، لقوله تعالى {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} و {امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} وحقيقة الإضافة تقتضي زوجية صحيحة.
ولقوله صلى الله عليه وسلم «ولدت من نكاح، لا من سفاح» فلو تزوج المرتد كافرة ثم أسلما، فالذي ينبغي أن يقال هنا: أن نقرهم على نكاحهم أو مناكحهم، كالحربي إذا نكح نكاحا فاسدا ثم أسلم، فإن المعنى واحد، وهذا جيد في القياس.
(3) لصدوره من أهله في محله، كطلاق المسلم، فلو طلق كافر ثلاثا، لم تحل له إلا بعد وطء زوج آخر، قال الشيخ: الصواب أن أنكحتهم المحرمة في دين الإسلام حرام مطلقًا، إذا لم يسلموا عوقبوا عليها، وإن أسلموا عفي لهم عنها، لعدم اعتقادهم تحريمها، وأما الصحة والفساد، فالصواب أنها صحيحة من وجه، فاسدة من وجه، فإن أريد بالصحة إباحة التصرف، فإنما يباح لهم بشرط الإسلام وإن أريد نفوذه، وترتب أحكام الزوجية عليه، من حصول الحل به للمطلق ثلاثا، ووقوع الطلاق فيه، وثبوت الإحصان به، فصحيح.(6/349)
والظهار، والإيلاء (1) ووجوب المهر، والنفقة (2) والقسم، والإحصان، وغيرها (3) ويحرم عليهم من النساء من تحرم علينا (4) (ويقرون على فاسده) أي فساد النكاح (5) (إذا اعتقدوا صحته في شرعهم) (6) .
__________
(1) فإذا ظاهر كافر من زوجته، ثم أسلما وقد وطئها، فعليه كفارة الظهار، وكذا الذمي، وأما صحة الإيلاء، فإذا آلى من زوجته، فحكمه كالمسلم.
(2) أي بنكاحهم، كوجوبه بنكاح المسلمين.
(3) كلزوم ما يلزم من الشروط، والفسوخ، لنحو عنة أو إعسار، بواجب نفقة، وإباحة للمطلق ثلاثا، وأما الإحصان به فبشرطه، وهو ما إذا وطئها وهما حران مكلفان.
(4) سواء كان بنسب، أو سبب، أو رضاع، على ما تقدم في باب المحرمات في النكاح.
(5) وإن خالف أنكحة المسلمين، بهذين الشرطين الآتيين.
(6) ولو كانت محرمة في شرعنا، لاعتقادهم صحتها، فنكاح خامسة، وأخت على أختها صحيح، ثم إذا أسلموا يحكم بما لم يمكن الإقرار عليه بعد الإسلام، قال الشيخ: قد يقال، معنى الصحة: هو حل الإنتفاع إذا أسلموا، فيكون الإسلام هو المصحح لها، كما أنه المسقط لقضاء ما وجب عليهم من العبادات، أما إذا كانوا مقيمين على الكفر، فمعنى الصحة إقرارهم على ما فعلوا، وأما كونهم يعاقبون على ذلك فكأكل الربا، فمعنى الصحة في أحكامهم، غير معنى الصحة في عقود المسلمين.(6/350)
بخلاف ما لا يعتقدون حله، فلا يقرون عليه (1) لأنه ليس من دينهم (2) (ولم يرتفعوا إلينا) (3) لأنه عليه السلام أَخذ الجزية من مجوس هجر (4) ولم يعترض عليهم في أَنكحتهم، مع علمه أنهم يستبيحون نكاح محارمهم (5) (فإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا) (6) بإيجاب، وقبول، وولي، وشاهدي عدل منا (7) .
__________
(1) كالزنا والسرقة.
(2) ولا هو من دين الإسلام.
(3) وهو الشرط الثاني، قال تعالى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} فدلت الآية: على أنهم يخلون وأحكامهم إذا لم يجيئوا إلينا.
(4) قدم بها عليه أبو عبيدة، رضي الله عنه.
(5) وأسلم خلق كثير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرهم على أنكحتهم ولم يكشف عن كيفيتها، ولأنا صالحناهم على الإقرار على دينهم، وإذا لم يرتفعوا إلينا لم نتعرض لهم.
(6) أي فإن أتى الكفار إلينا معشر المسلمين، قبل عقد النكاح بينهم، عقدناه على حكمنا، كأنكحة المسلمين.
(7) لأنه لا حاجة إلى عقد يخالف ذلك.(6/351)
قال تعالى {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (1) (وإن أتونا بعده) أي بعد العقد فيما بينهم (2) (أَو أَسلم الزوجان) على نكاح، لم نتعرض لكيفية صدوره، من وجود صيغة، أو ولي، أو غير ذلك (3) (و) إذا تقرر ذلك (4) فإن كانت (المرأة تباح إذًا) أي وقت الترافع إلينا، أو الإسلام (5) كعقد في عدة فرغت (6) أو على أُخت زوجة ماتت (7) .
__________
(1) فدلت الآية على وجوب عقده على حكمنا، وإن كان في إثباته لا يتعرض في كيفية عقدهم، ولا تعتبر له شروط أنكحة المسلمين، بلا خلاف بين المسلمين.
(2) لم نتعرض لكيفية صدوره.
(3) وقد أسلم خلق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم نساؤهم، فأقروا على أنكحتهم، ولم يسألهم صلى الله عليه وسلم عن شروط النكاح، ولا كيفيته، وهذا أمر علم بالتواتر، والضرورة فكان يقينا.
(4) أي ما تقدم من نفوذ نكاحهم، وترتب أحكامه.
(5) فلا يخلو من حالتين، جواز إقرار نكاحها أو عدمه.
(6) أي عقد عليها وهي في العدة، وفي حال الترافع وهي قد فرغت، أقرّا. قال الشيخ: إذا أسلم وتحته معتدة، فإن كان لم يدخل بها، منع من وطئها حتى تنقضي العدة، وإن كان دخل بها لم يمنع من وطئها، وعلى التقديرين لا ينفسخ النكاح.
(7) بأن يعقد على أخت زوجته، ثم تموت قبل الترافع.(6/352)
أو كان وقع العقد بلا صيغة، أو ولي، أَو شهود، (أُقرّا) على نكاحهما (1) لأن ابتداء النكاح حينئذ لا مانع منه، فلا مانع من استدامته (2) (وإن كانت) الزوجة (ممن لا يجوز ابتداء نكاحها) حال الترافع، أو الإسلام (3) كذات محرم (4) أو معتدة لم تفرغ عدتها (5) أو مطلقة ثلاثا قبل أن تنكح زوجا غيره، (فرق بينهما) (6) .
__________
(1) قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معا في حالة واحدة، أن لهما المقام على نكاحهما، ما لم يكن بينهما نسب، أو رضاع.
(2) أي بطريق الأولى.
(3) لم يقرا عليه.
(4) من نسب، أو رضاع، أو مصاهرة، فإن عمر كتب: أن فرقوا بين كل ذي رحم من المجوس.
(5) من غيره، ولو من كافر، أو حبلى، ولو من زنا، أو شرط الخيار فيه مطلقًا، أو مدة لم تمض، قال في الإنصاف: هذا المذهب، وتقدم ذكر صحة النكاح المشروط فيه الخيار، وفساد الشرط، وأن المذهب صحته من مسلم، فهنا أولى، وإن مضت مدة الخيار أقرا، قولا واحدا، لاعتقادهم صحته.
(6) يعني أنه إذا عقد على مطلقته ثلاثا، واستمر معها على ذلك إلى أن أسلما، أو ترافعا إلينا، فإنهما لا يقران على ذلك، بل يفرق بينهما، لتحريم ابتداء نكاحها إذًا، وإن كان طلقها ثلاثا، أو خالعها ولم يفارقها، فلا يتوهم أنه يقر عليه.(6/353)
لأن ما منع ابتداء العقد منع استدامته (1) (وإن وطئ حربي حربية فأَسلما) أَو ترافعا إلينا (وقد اعتقداه نكاحا، أُقرا) عليه (2) لأنا لا نتعرض لكيفية النكاح بينهم (3) (وإلا) يعتقده نكاحا (فسخ) أي فرق بينهما (4) لأنه سفاح، فيجب إنكاره (5) (ومتى كان المهر صحيحًا أخذته) لأنه الواجب (6) (وإن كان فاسدًا) كخمر، أو خنزير، (وقبضته استقر) (7) فلا شيء لها غيره، لأنهما تقابضا بحكم الشرك (8) .
__________
(1) فيفرق بينهما في تلك الصور ونحوها، للمنع منه حال ابتداء العقد.
(2) وكذا ذمي، وتقييده بالحربي والحربية ليس بمراد، وإنما المراد اعتقاد الحل، والحربي وغيره في ذلك سواء، وأما الذمية فلا يتأتى، لعصمتها.
(3) وهو نكاح لهم فيمن يجوز ابتداء نكاحها، فأقرا عليه، كالنكاح بلا ولي.
(4) لأنه ليس من أنكحتهم.
(5) وقال بعضهم: قهر الذمية لا يتأتى لعصمتها، وقال الشيخ: إن قهر ذمي ذمية، لم يقرا مطلقا.
(6) بالعقد، قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(7) لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} فأمر بترك ما بقي، دون ما قبض.
(8) فبرئت ذمة من هو عليه منه، ولأن التعرض للمقبوض إبطاله يشق، لتطاول الزمان، وكثرة تصرفاتهم في الحرام، ففيه تنفيرهم عن الإسلام، فعفي عنه، كما عفي عن ترك ما تركوه من الفرائض.(6/354)
(وإن لم تقبضه) ولا شيئا منه (1) فرض لها مهر المثل (2) لأن الخمر ونحوه لا يكون مهرا لمسلمة، فيبطل (3) وإن قبضت البعض، وجب قسط الباقي من مهر المثل (4) (و) إن (لم يسم) لها مهر، (فرض لها مهر المثل) (5) لخلو النكاح عن التسمية (6) .
__________
(1) بطل، ولم يحكم به.
(2) إن كان قبل الدخول، ونصفه إن وقعت الفرقة قبل الدخول، وهو مذهب الشافعي.
(3) ولا يكون في نكاح مسلم، ولا قيمة له في الإسلام، ويجب لها مهر المثل كالمسلمة.
(4) أي وإن قبضت البعض من الحرام، كالخمر إذا قبضت منه بعضه قبل الإسلام، أو الترافع إلينا، وجب قسط الباقي من مهر مثلها، لاستقرار ما قبضته، وإلغاء ما لم تقبضه، وصوبه في الإنصاف، وصوب رجوعه بنصف المهر لو طلق قبل الدخول.
(5) جزم به أحمد، والشيخ، وغيرهما، ولأنه إنما تقرر تقابض الكفار إذا كان من الطرفين، فإن كان مهر مثلها محرما، مثل أن كان عادتهم التزويج على خمر، أو خنزير، يحتمل وجهين، إما أن يجعل وجوده كعدمه، وينظر في عادة أهل البلد، أو تعتبر قيمة ذلك عندهم، قال: ويتوجه إن كان بعد الدخول فإيجاب مهرها فيه نظر، فإن الذين أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أنكحتهم شغار، ولم يأمر أحد منهم بإعطاء مهر.
(6) فوجب فيه مهر المثل كالمسلمة، لئلا تصير كالموهوبة.(6/355)
فصل (1)
(وإن أَسلم الزوجان معا) (2) بأَن تلفظا بالإسلام دفعة واحدة، فعلى نكاحهما (3) لأَنه لم يوجد منهما اختلاف دين (4) (أَو) أَسلم (زوج كتابية) (5) كتابيا كان أو غير كتابي، (فعلى نكاحهما) (6) لأَن للمسلم ابتداء نكاح الكتابية (7) .
__________
(1) أي في حكم ما إذا أسلم الزوجان معا، أو سبق أحدهما، أو أسلم وتحته أكثر من أربع، أو أختان، وغير ذلك.
(2) قبل الدخول أو بعده، فعلى نكاحهما بلا خلاف، قال الشيخ: ويدخل في المعية لو شرع الثاني قبل أن يفرغ الأول.
(3) قال الموفق وغيره: بلا خلاف، وقيل: هما على نكاحهما إن أسلما في المجلس، وصوبه في الإنصاف، لأن تلفظهما بالإسلام دفعة واحدة فيه عسر، فلو اعتبر لوقعت الفرقة بين كل مسلمين قبل الدخول، إلا في النادر، فبطل الإجماع.
(4) ولأبي داود عن ابن عباس، أن رجلا جاء مسلما، ثم جاءت امرأته بعده، فقال: يا رسول الله إنها كانت أسلمت معي، فردها عليه، ويأتي أنها تحل له ما لم تنكح زوجا غيره.
(5) أبواها كتابيان، وهو المذهب، وتقدم أن الإعتبار بها.
(6) قبل الدخول أو بعده، ذكره ابن عبد البر، والشارح، وغيرهما إجماعا.
(7) فملك استدامته بطريق الأولى.(6/356)
(فإن أَسلمت هي) أي الزوجة الكتابية تحت كافر (1) قبل دخول انفسخ النكاح (2) لأن المسلمة لا تحل لكافر (3) (أَو) أَسلم (أحد الزوجين غير الكتابيين) كالمجوسيين يسلم أحدهما (قبل الدخول بطل) النكاح (4) لقوله تعالى {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (5) وقوله {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (6) (فإن سبقته) بالإسلام (فلا مهر) لها، لمجيء الفرقة من قبلها (7) .
__________
(1) كتابي أو غيره.
(2) قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم.
(3) قال تعالى {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} .
(4) لأنه اختلاف دين، يمنع الإقرار على النكاح.
(5) {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فلا تحل المسلمة لكافر، فحرم تعالى نكاح المشركات، وتقدم أن اختلاف الدين سبب العداوة والبغضاء، ومقصود النكاح الإفاق والإئتلاف.
(6) وإذا أسلمت قبله، فاختار الشيخ بقاء نكاحه قبل الدخول وبعده، ما لم تنكح غيره، وقال: الأمر إليها، ولا حكم له عليها، ولا حق لها عليه، لأن الشارع لم يستفصل، وكذا إن أسلم قبلها، وليس له حبسها، ومتى أسلمت – ولو قبل الدخول وبعد العدة – فهي امرأته إن اختار، وكذلك فيما إذا ارتد أحدهما.
(7) أشبه ما لو ارتدت، وعنه: لها نصف المهر، قال في الإنصاف: وهو أولى.(6/357)
(وإن سبقها) بالإسلام (فلها نصفه) أي نصف المهر، لمجيء الفرقة من قبله (1) وكذا إن أسلما وادعت سبقه (2) أو قالا: سبق أَحدنا ولا نعلم عينه (3) (وإن أَسلم أحدهما) أي أحد الزوجين غير الكتابيين (4) أَو أَسلمت كافرة تحت كافر (بعد الدخول، وقف الأمر على انقضاء العدة) (5) لما روى مالك في موطئه، عن ابن شهاب قال: كان بين إسلام صفوان بن أمية وامرأته بنت الوليد بن المغيرة (6) .
__________
(1) بإسلامه كما لو طلقها، وعنه: لا مهر لها، وصوبه في الإنصاف.
(2) أي سبقه لها بالإسلام، وقال الزوج: هي السابقة. فتحلف أنه السابق بالإسلام، وتأخذ نصف المهر، لثبوت المهر في ذمته إلى حين الفرقة، ولا تقبل دعواه بسقوطه، لأن الأصل خلافه.
(3) أي أو قال الزوجان بعد إسلامهما: سبق أحدنا بالإسلام، ولا نعلم عينه. فلها نصف المهر، لأن الأصل بقاؤه في ذمته، وإن قال: أسلمنا معا، فنحن على النكاح. فأنكرت، فقولها، لأنه الظاهر، وهذا المشهور من الوجهين، والثاني: القول قوله. صححه في التصحيح، وتصحيح المحرر، وصوبه في تصحيح الفروع.
(4) وقف الأمر على انقضاء العدة، وأما إن أسلم زوج الكتابية، فتقدم بقاؤهما على نكاحها.
(5) اختاره الموفق والشارح، وصححه في التصحيح، وصوبه في تصحيح الفروع.
(6) أخت خالد بن الوليد، رضي الله عنهما.(6/358)
نحو من شهر، أسلمت يوم الفتح، وبقي صفوان حتى شهد حنينا والطائف وهو كافر، ثم أسلم، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما (1) واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح (2) قال ابن عبد البر: شهرة هذا الحديث أقوى من إسناده (3) . وقال ابن شبرمة: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أَسلم قبل انقضاء العدة فهي امرأته (4) فإن أَسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما (5) .
__________
(1) لكونه أسلم وهي في العدة.
(2) فدل الأثر على بقاء النكاح.
(3) وروى مالك أيضًا قال ابن شهاب: أسلمت أم حكيم، وهرب زوجها عكرمة إلى اليمن، فارتحلت إليه، ودعته إلى الإسلام، فأسلم وقدم، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم، فبقيا على نكاحهما.
(4) وقال الزهري: لم يبلغنا أن امرأة هاجرت وزوجها مقيم بدار الكفر، إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم مهاجرًا، قبل انقضاء عدتها.
(5) وهذا قول الجمهور، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على أبي العاص بنكاحها الأول، رواه أبو داود، واحتج به أحمد، ولما قيل له: أليس يروى أنه ردها بنكاح مستأنف؟ قال: ليس لذلك أصل. وقيل: كان بين إسلامها وردها إليه ست سنين، ولا ذكر
للعدة في حديث، ولا أثر لها في بقاء النكاح، ولم ينجز الشارع الفرقة في حديث، ولا حدد نكاحها.
وقال ابن القيم: اعتبار العدة لم يعرف في شيء من الأحاديث، ولا كان صلى الله عليه وسلم يسأل المرأة، هل انقضت عدتها أم لا؟ وقد دل حكمه على أن النكاح موقوف، فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي زوجته، وإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت، وإن أحبت انتظرته، وإذا أسلم كانت زوجته، من غير تجديد نكاح: ولا نعلم أحدا جدد بعد الإسلام نكاحه ألبته.(6/359)
(فإن أَسلم الآخر فيها) أي في العدة (دام النكاح) بينهما، لما سبق (1) (وإلا) يسلم الآخر حتى انقضت (بان فسخه) أي فسخ النكاح (منذ أَسلم الأول) من الزوج أو الزوجة (2) ولها نفقة العدة إن أسلمت قبله، ولو لم يسلم (3) .
__________
(1) أي من الآثار، وهو قول جماهير العلماء.
(2) لأن سبب الفرقة اختلاف الدين، فوجب أن تحسب الفرقة منه، ولا تحتاج لعدة ثانية، فلو وطئ ولم يسلم الثاني فيها، فلها مهر مثلها، زائدا على المهر الذي وقع عليه العقد، قال الشارح: ويؤدب، لأنه وطئها بعد البينونة.
(3) لتمكنه من الإستمتاع بها، وإبقاء نكاحها بإسلامه في عدتها، أشبهت الرجعية، وإن أسلم قبلها فلا، وإن اختلفا في السابق، أو جهل الأمر فقولها، ولها النفقة، ويجب الصداق بكل حال، لاستقراره بالدخول، وسواء كانا بدار الإسلام أو الحرب، أو أحدهما، وقال الشيخ: قياس المذهب فيما أراه أن الزوجة إذا أسلمت قبل الزوج فلا نفقة لها، لأن الإسلام سبب يوجب البينونة، والأصل عدم إسلامه في العدة، فإذا لم يسلم حتى انقضت العدة تبينا وقوع البينونة بالإسلام، ولا نفقة عندنا للبائن.(6/360)
(وإن كفرا) أي ارتدا (1) (أَو) ارتد (أحدهما بعد الدخول، وقف الأَمر على انقضاء العدة) (2) كما لو أسلم أحدهما (3) فإن تاب من ارتد قبل انقضائها فعلى نكاحهما (4) وإلا تبينا فسخه منذ ارتد (5) (و) إن ارتدا أو أحدهما (قبله) أي قبل الدخول (بطل) النكاح، لاختلاف الدين (6) .
__________
(1) يعني الزوجين معا، فلم يسبق أحدهما الآخر، فكارتداد أحدهما.
(2) وهذا مذهب الشافعي، ويمنع من وطئها عند عامة أهل العلم، لأن الردة اختلاف دين بعد الإصابة، فلا يوجب فسخه في الحال، كإسلام كافرة تحت كافر، وتسقط نفقة العدة بردتها وحدها، وإن انتقل أحدهما إلى دين لا يقر عليه فكردة، وصوبه في تصحيح الفروع.
(3) فإنه يوقف الأمر على انقضاء العدة.
(4) كما لو أسلم أحدهما، وهو مذهب الشافعي.
(5) عند الجمهور، وخرجت بذلك من عصمته.
(6) عند عامة أهل العلم، حكاه الموفق وغيره، لقوله {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} وقوله {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} لأن الإرتداد، واختلاف الدين، وقع قبل الدخول، فأوجب فسخ النكاح، كإسلامها تحت كافر، ولها نصف المهر إن سبقها، أو ارتد وحده، وتقدم كلام الشيخ رحمه الله، وقال: إذا ارتدا ارتدادا يوجب انفساخ النكاح، وأقاما على ذلك، معتقدين بقاؤه، أو أنشآ في الردة عقدًا يعتقدان صحته، فإن الذي ينبغي أن نقرهم بعد الإسلام على هذا النكاح، كما نقر الكافر الأصلي على ما اعتقد صحته من النكاح، وعلى هذا يحمل تقرير الصحابة للمرتدين على مناكحهم بعد الإسلام، فإنه مثل تقرير الكفار الأصليين.(6/361)
ومن أسلم وتحته أكثر من أربع فأَسلمن (1) أَو كن كتابيات، اختار منهم أربعا (2) إن كان مكلفا، وإلا وقف الأمر حتى يكلف (3) وإن أبى الإختيار أجبر بحبس، ثم تعزير (4) وإن أسلم وتحته أُختان، اختار منهما واحدة (5) .
__________
(1) معه، أو كن في العدة، لم يكن له إمساكهن كلهن بلا خلاف، وكذا إن أسلم وتحته إماء أكثر من أربع، فأسلمن معه، أو في العدة، اختار إن جاز له نكاحهن بشرطه.
(2) وليس له إمساكهن كلهن، لما روى أبو داود وغيره، أنه صلى الله عليه وسلم قال لقيس بن الحارث – وكان تحته ثمان - «اختر منهن أربعا» وقاله لغيلان، رواه الترمذي، قال الشيخ: ولا يشترط في جواز وطئهن انقضاء العدة، لا في جمع العدد، ولا في جمع الرحم، لأنه لم يجمع عقدا، ولا وطأ.
(3) وقال الشيخ: يقوم الولي مقامه في التعيين، كما يقوم في تعيين الواجب عليه في المال، من زكاة وغيرها.
(4) لأن الإختيار حق عليه، فألزم بالخروج منه إن امتنع، كسائر الحقوق.
(5) لما روى الخمسة أنه صلى الله عليه وسلم قال لفيروز «طلق إحداهما» وللترمذي «اختر أيهما شئت» وكذا إن كان تحته امرأة وعمتها، أو خالتها، ونحو ذلك.(6/362)
باب الصداق (1)
يقال: أَصدقت المرأَة، ومهرتها، وأَمهرتها (2) وهو عوض يسمى في النكاح أَو بعده (3) (يسن تخفيفه) (4) لحديث عائشة مرفوعا «أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة» رواه أبو حفص بإسناده (5) .
__________
(1) وحكم المسمى، ومهر المثل، والصداق بفتح الصاد وكسرها، وله تسعة أسماء:
صداق، ومهر ونحلة وفريضة وحباء، وأجر، ثم عقر وعلائق والتاسع الصدقة.
(2) قاله الزجاج وغيره، وفي النهاية: لا يقال: أمهرتها. والصداق مأخوذ من الصدق، لإشعاره بصدق رغبة الزوج في الزوجة.
(3) بفرض حاكم، أو تراضيهما، والأولى: وهو العوض في النكاح ونحوه؛ ليدخل وطء الشبهة، والأصل في الصداق: الكتاب، والسنة، والإجماع، واتفقوا على أنه شرط من شروط صحة النكاح.
(4) أي الصداق، وظاهره: تخفيفا لا ينقص عن أربعمائة درهم، وأن لا يزيد على مهر أزواجه وبناته، من أربعمائة، إلى خمسمائة، فهي صريحة في عدم الزيادة لا النقصان، وهو المراد، ومن سماحته صلى الله عليه وسلم أخذ الأقل لبناته، وإعطاؤه الأكثر لزوجاته.
(5) رواه أحمد، والبيهقي، والحاكم، وغيرهم، ولأحمد – وفيه
ضعف - «أعظمه بركة أيسره مؤونة» وقال لرجل من الأنصار «على كم تزوجت؟» قال: على أربع أواق. قال «كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل» أي ناحيته، وقال عمر: لا تغالوا في صداق النساء. ولا نزاع في جوازه بأكثر من خمسمائة، لقوله تعالى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} وأم حبيبة أمهرها النجاشي أربعة آلاف، وبعث بها إلى رسول الله، ولو كره لأنكره.(6/363)
(و) تسن (تسميته في العقد) لقطع النزاع (1) وليست شرطا (2) لقوله تعالى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (3) ويسن أن يكون (من أَربعمائة درهم) من الفضة (4) وهي صداق بنات النبي صلى الله عليه وسلم (5) (إلى خمسمائة) درهم (6) .
__________
(1) لقوله تعالى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} ولفعله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يخلي ذلك من صداق، وقال للذي زوجه الموهوبة «التمس ولو خاتما من حديد» واتفقوا على أنه مشروع، لقوله {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} .
(2) أي تسمية الصداق في العقد.
(3) نزلت في رجل من الأنصار، تزوج امرأة من بني حنيفة، ولم يسم لها مهرا، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يمتعها ولو بقلنسوة.
(4) قال الشيخ: كلام أحمد يقتضي أن المستحب أربعمائة درهم، وهو الصواب مع اليسار، فيستحب بلوغه، ولا يزاد عليه.
(5) فسن الإقتداء به صلى الله عليه وسلم، ويستحب أن لا ينقص عن عشرة دراهم، خروجا من خلاف من قدر أقله بذلك.
(6) أي أن لا يزيد على ذلك.(6/364)
وهي صداق أَزواجه صلى الله عليه وسلم (1) وإن زاد فلا بأْس (2) (و) لا يتقدر الصداق (3) بل (كل ما صح) أن يكون (ثمنا أَو أُجرة صح) أن يكون (مهرا وإن قل) (4) .
__________
(1) رواه مسلم، من حديث عائشة إلا صفية وأم حبيبة، فصفية أصدقها عتقها، وأم حبيبة أصدقها النجاشي أربعة آلاف درهم، وقال عمر: ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من ثنتي عشرة أوقية، والأوقية كانت أربعين درهما.
(2) لقصة أم حبيبة، فلو كره لأنكره صلى الله عليه وسلم، وقال ابن رشد: اتفقوا على أنه ليس لأكثره حد. وقال الشيخ: الصداق المقدم إذا كثر – وهو قادر على ذلك – لم يكره، إلا أن يقرن بذلك ما يوجب الكراهة، من معنى المباهاة ونحو ذلك، فأما إن كان عاجزا عن ذلك كره، بل يحرم إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة، فأما إن كثر وهو مؤخر في ذمته، فينبغي أن يكره، لما فيه من تعريض نفسه لشغل الذمة.
(3) وهو مذهب الشافعي، وعند أبي حنيفة، ومالك: أقله ما تقطع فيه يد السارق.
(4) عند جمهور العلماء أنه ليس لأقله حد، وأنه كل ما جاز أن يكون ثمنا في بيع، أو أجرة في إجارة وقيمة لشيء، جاز أن يكون صداقا، سواء كان من عين، أو دين، أو معجل، أو مؤجل، أو منفعة معلومة، لجواز المعاوضة عليها.
قال الشيخ: وتعليل رواية المنع، لما فيه من كون كل من الزوجين يصير ملكا للآخر، ويجوز أن يكون المنع مختصًا بمنفعة الخدمة خاصة، لما فيه من المهنة، والمنافاة، وأما إن كانت لغيرها فتصح، لقصة شعيب، وإذا لم تصح المنفعة،
فقيمتها، اهـ. ولا يجوز التواطؤ على تركه، لقوله {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} ، {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .(6/365)
لقوله صلى الله عليه وسلم «التمس ولو خاتما من حديد» متفق عليه (1) (وإن أَصدقها تعليم قرآن لم يصح) الإصداق (2) لأن الفروج لا تستباح إلا بالأَموال، لقوله تعالى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (3) وروى النجاد أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا على سورة من القرآن (4) ثم قال «لا تكون لأَحد بعدك مهرًا» (5) .
__________
(1) وهذا مبالغة في التقليل، ولأبي داود «لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا، ملء يده طعاما، كانت له حلالا» وللترمذي وغيره وصححه: أن امرأة تزوجت على نعلين، فقال صلى الله عليه وسلم «أرضيت من مالك ونفسك بنعلين؟» قالت: نعم. فأجازه.
(2) وقالوا: ولو كان ما أصدقها – تعليمه من القرآن – معينا لم يصح الإصداق.
(3) فدلت الآية أن الصداق لا يصح إلا بمال.
(4) وفي الصحيحين من غير وجه، بألفاظ متقاربة، تدل على أنه زوج رجلا على سورة أو سور، أو آيات، أو ما معه من القرآن، يعلمها إياه.
(5) رواه سعيد بن منصور، والنجاد، وعنه: يصح. وفاقا لمالك، والشافعي، لما رواه سهل «زوجتكها بما معك من القرآن» متفق عليه، ولأنها منفعة معينة مباحة، ولما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» .(6/366)
(بل) يصح أَن يصدقها تعليم معين من (فقه، وأَدب) (1) كنحو، وصرف، وبيان، ولغة، ونحوها (2) (وشعر مباح معلوم) ولو لم يعرفه، ويتعلمه ثم يعلمها (3) وكذا لو أَصدقها تعليم صنعة أو كتابة، أَو خياطة ثوبها (4) .
__________
(1) وحديث، كما صرح به في الإقناع، والمنتهى، وغيرهما، وتعيينه، كباب أو بعضه، أو كتاب أو بعضه، والتعليم: تفهيمه إياها وتحفيظه، وإن كان كلما لقنها شيئًا نسيته، لم يعد تعليما.
(2) كمعان، وبديع، أو ما يجوز أخذ الأجرة على تعليمه، وهو معين صح صداقا.
(3) أي بل يصح أن يصدقها تعليم شعر مباح، لا محرم، معلوم لا مجهول لأنها منفعة يجوز أخذ العوض عليها، فهي مال، ولو لم يعرف العمل الذي أصدقها إياه، ويتعلمه ثم يعلمها إياه، لأن التعليم يكون في ذمته، كما لو أصدقها مالا في ذمته.
ويجوز أن يأتيها بمن يعلمه لها، إن كان مثله في التعليم، وإن تعلمته من غيره، أو تعذر عليه تعليمها لزمته أجرة التعليم، ولو جاءته بغيرها ليعلمه، أو جاءها بغيره ليعلمها لم يلزم، لأن الغرض يختلف، وعليه بطلاقها قبل تعليم ودخول نصف الأجرة، وبعد دخول كلها، لأنها بالطلاق أجنبية، فلا يؤمن في تعليمها الفتنة.
(4) هي أو غلامها صح، ولو كان المعلم أخاها، أو ابنها، أو أجنبيًا، وإن لم يحصل لها ما أصدقها لم يكن النكاح لازما، كما صرح به في الإختيارات، وإنما يلزم ما ألزم الشارع به، أو التزمه المكلف، وما خالف هذا القول ضعيف، مخالف للأصول، فإذا لم يقل بامتناع العقد، فلا أقل من أن تملك الفسخ.(6/367)
أَورد قنها من محل معين (1) لأَنها منفعة يجوز أخذ العوض عليها، فهي مال (2) (وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح) (3) لحديث «لا يحل لرجل أن ينكح امرأة بطلاق أُخرى» (4) (ولها مهر مثلها) لفساد التسمية (5) (ومتى بطل المسمى) ككونه مجهولا كعبد (6) .
__________
(1) أو رعاية غنمها مدة معلومة، أو منافعه، أو منافع غيره المعلومة، مدة معلومة، صح النكاح، جزم به أكثر العلماء.
(2) وإن كانت مجهولة كرد آبقها، وخدمتها فيما شاءت، لا المدة، وهو الصواب، ويصح على دين سلم، أو غيره، وآبق، ومغتصب، ومبيع اشتراه ولم يقبضه، ولو مكيلا ونحوه، وعليه تحصيله، فإن تعذر فقيمته، وقيل: إن نكحها على أن يحج بها لم تصح التسمية، وفاقا للشافعي، وقال مالك، وأصحاب الرأي: تصح. ورد ابن القيم عدم الجواز، وقال: إنها بعيدة من أصول أحمد ونصوصه، بل نصوصه على خلافها.
(3) لعموم قوله {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} .
(4) ولما في الصحيح «لا تسأل المرأة طلاق أختها» وقال الشيخ: لو قيل ببطلان النكاح لم يبعد، لأن المسمى فاسد، وحكي عن أبي: تستحق مهر الضرة قال الشيخ: وهو أجود، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفسد النكاح بفساد الصداق، وهو إحدى الروايتين عن مالك وأحمد.
(5) وكل موضع لا تصح التسمية فيه، يجب مهر المثل عند الجمهور.
(6) أو دار أو دابة مطلقا بطل المسمى، صوبه في تصحيح الفروع.(6/368)
أو ثوب، أو خمر أو نحوه (1) (وجب مهر المثل) بالعقد (2) لأن المرأة لا تسلم إلا ببدل ولم يسلم (3) وتعذر رد العوض فوجب بدله (4) ولا يضر جهل يسير (5) فلو أصدقها عبدا من عبيده (6) أو فرسا من خيله ونحوه (7) .
__________
(1) كخنزير، وتعليم التوراة والإنجيل، وكحمل أمة أو شجرة مطلقا، وكالمعدوم والآبق، والعلة في ذلك كثرة الغرر والجهالة، ومثل ذلك لا يحتمل، والنزاع قائم، لأن ذلك لا أصل له يرجع إليه، فإن الدار والدابة والثوب كل واحد منها على أنواع مختلفة، واسم الدابة يقع على كل ما يدب، والشجرة قد لا تثمر، والعبد قد لا يحصل.
وقال الشيخ: ينبغي في سائر أصناف المال كالعبد، والشاة ونحوهما أنه يرجع فيه إلى مسمى ذلك اللفظ في عرفها، وإن كان بعض ذلك غالبًا أخذ به كالبيع، أو كان من عادتها اقتناؤه ولبسه، فهو كالملفوظ به.
(2) وفي كل موضع لا تصح التسمية فيه، أو خلا العقد عن ذكر الصداق فيه، وهو تفويض البضع، يجب مهر المثل بالعقد.
(3) فوجب مهر المثل.
(4) كبيعه سلعة بخمر، فتتلف عند مشتر.
(5) أي في صداق يمكن التعيين فيه.
(6) صح، صححه الأكثر، واختاره القاضي وغيره، وصوبه في تصحيح الفروع.
(7) كجمل من جماله، أو بغل من بغاله، أو بقرة من بقره ونحوه، وكقميص من قمصانه ونحوه.(6/369)
فلها أحدهم بقرعة (1) وقنطارا من نحو زيت (2) أو قفيزا من نحو بر، لها الوسط (3) .
__________
(1) نص عليه، لأن الجهالة فيه يسيرة، وفي لزومها بقيمة الوسط وجهان، صحح الأكثر عدم لزومها، واختاره الموفق وجمع.
وقال الشيخ: نص أحمد فيما إذا أصدقها عبدا من عبيده على قدر ما يخدم مثلها، وهذا تقييد للوسط.
(2) كقنطار من سمن، أو قفيز من ذرة صح.
(3) لأنه العدل، ولا يضر غرر يرجى زواله فيصح.(6/370)
فصل (1)
(وإن أصدقها ألفا إن كان أبوها حيا، وألفين إن كان ميتا (2) وجب مهر المثل) لفساد التسمية، للجهالة إذا كانت حالة الأب غير معلومة (3) ولأنه ليس لها في موت أبيها غرض صحيح (4) (و) إن تزوجها (على: إن كانت لي زوجة بألفين (5) أو لم تكن) لي زوجة (بأَلف، يصح) النكاح (بالمسمى) (6) لأَن خلو المرأَة من ضرة من أَكبر أغراضها المقصودة لها (7)
__________
(1) فيما يشترطه الأب وغيره من الصداق، وما يصح منه، وغير ذلك.
(2) فسد المسمى.
(3) أي يكون مجهولا إذا كانت حالة الأب غير معلومة، وإلا فالتسمية فاسدة مطلقًا، سواء كانت حياة الأب معلومة أو لا.
(4) ومفهومه: لو كان لها غرض صحيح، صحت التسمية كالتي بعدها.
(5) وكذا إن كانت لي سرية.
(6) نص عليه، وقطع به جماعة، وعنه: لا يصح، قال في المقنع: هي قياس التي قبلها، واختارها الشارح، وصوبه في الإنصاف، وقال: القياس أنهما سواء، وهو الصواب.
(7) ولذلك تخفف صداقها لتحصيل غرضها، وتغليه عند فواته.(6/371)
وكذا إن تزوجها على ألفين إن أَخرجها من بلدها أَو دارها، وأَلف إن لم يخرجها (1) (وإذا أَجل الصداق أَو بعضه) كنصفه أو ثلثه (صح) التأْجيل (2) (فإن عين أَجلا) أُنيط به (3) (وإلا) يعينا أَجلا، بل أَطلقا (فمحله الفرقة) البائنة بموت أو غيره، عملا بالعرف والعادة (4) .
__________
(1) وقال في تصحيح الفروع: الصحيح من المذهب عدم الصحة، ومن قال لسيدته: اعتقيني على أن أتزوجك. فأعتقته لم يلزمه شيء، وإن جمع بين نكاح وبين عتق، صح كل منهما.
(2) سواء سمي المؤجل في العقد، أو فرض بعده، لأنه عقد معاوضة، فصح كالثمن.
(3) بخلاف الأجل المجهول، كقدوم زيد.
(4) لأن اللفظ المطلق يحمل عليها، والعرف والعادة ترك المطالبة به إلى الموت أو البينونة، فيحمل عليه، فيصير حينئذ معلوما بذلك، قال ابن القيم: إذا اتفق الزوجان على تأخير المطالبة وإن لم يسميا أجلا، فلا تستحق المطالبة به إلا بموت أو فرقة، هذا الصحيح، ومنصوص أحمد، اختاره قدماء شيوخ المذهب والقاضي أبو يعلى، والشيخ، وهو ما عليه الصحابة، حكاه الليث إجماعًا عنهم، وهو محض القياس والفقه، فإن المطلق من العقود ينصرف إلى العرف والعادة عند المتعاقدين.
وقال الشيخ: إن كان العرف جاريا بين أهل تلك الأرض أن المطلق يكون مؤجلا فينبغي أن يحمل كلامهم على ما يعرفونه؛ ولو كانوا يفرقون بين لفظ المهر والصداق، فالمهر عندهما ما يعجل، والصداق ما يؤجل، كان حكمهم على مقتضى عرفهم.(6/372)
(وإن أَصدقها مالا مغصوبا) يعلمانه كذلك (1) (أَو) أَصدقها (خنزيرًا ونحوه) كخمر، صح النكاح (2) كما لو لم يسم لها مهرا (3) و (وجب) لها (مهر المثل) لما تقدم (4) وإن تزوجها على عبد فخرج مغصوبًا أو حرا، فلها قيمته يوم عقد (5) لأَنها رضيت به، إذ ظنته مملوكا (6) .
__________
(1) أي أنه مغصوب، أو تعلمه هي وحدها.
(2) وهو قول عامة الفقهاء، لأنه عقد لا يفسد بجهالة العوض، فلا يفسد بتحريمه كالخلع، ولأن فساد العوض لا يزيد على عدمه، ولو عدم فالنكاح صحيح، فكذا إذا فسد.
(3) فيصح النكاح، وفي الإختيارات: إذا تزوج بنية أن يعطيها صداقا محرما، أولا يوفيها الصداق، أن الفرج لا يحل له، فإن هذا لم يستحل الفرج بماله، فلو تاب من هذه النية ينبغي أن يقال: حكمه حكم ما لو تزوجها بعين محرمة.
(4) من أن فساد العوض، يقتضي رد عوضه، وقد تعذر لصحة النكاح، فوجب رد قيمته، وهي مهر المثل.
(5) لأن العقد وقع على التسمية، ويقدر حر عبدا، وإن تزوجها على جرة خل، فخرجت خمرا أو مغصوبا، فلها مثله خلا، وقال الشيخ: لا يلزمه فيهن شيء، وكذا في مهر تعذر، وقولهم ضعيف، مخالف للأصول والعقل، وإن لم نقل تعذر العقد، فلا أقل من أن تملك الفسخ.
(6) وكما لو وجدته معيبًا فردته، بخلاف: أصدقك هذا الحر؛ أو المغصوب فكأنها رضيت بلا شيء، ولها مهر المثل، سلمه لها، أو لا.(6/373)
(وإن وجدت) المهر (المباح معيبا) (1) كعبد به نحو عرج (2) (خيرت بين) إمساكه مع (أَرشه (3) و) بين رده وأَخذ (قيمته) إن كان متقومًا (4) وإلا فمثله (5) وإن أصدقها ثوبا، وعين ذرعه فبان أقل (6) خيرت بين أخذه مع قيمة ما نقص (7) وبين رده وأخذ قيمة الجميع (8) والمتزوجة على عصير بان خمرًا مثل العصير (9) .
__________
(1) فلها رده كالمبيع، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، وكذا إن كان ناقصا صفة، شرطتها فيه، فلها الرد، كما ترد في البيع، وكذا إن دلس.
(2) كشلل، أو غيره من العيوب.
(3) كمبيع يجده المشتري معيبا، وتقدم.
(4) أي نحو العبد، ولا ينفسخ برده، فيبقى سبب استحقاقه، فتجب عليه قيمته، كما لو غصبها إياه فأتلفه.
(5) أي وإن لم يكن المهر متقوما، بأن كان مثليا، كمكيل وموزون، فترد مثله، لأنه أقرب إليه، ولها في اثنين بان أحدهما حرا، الآخر وقيمة الحر.
(6) بأن أصدقها عشرة فبان تسعة.
(7) أي من ذرعه.
(8) أي جميع المذروع، لعيبه بالنقص.
(9) لأنه مثلي، والمثل أقرب إليه من القيمة، فإن كان المثل معدوما، فقيمته يوم إعوازه.(6/374)
(وإن تزوجها على ألف لها وألف لأبيها) (1) أو على أن الكل للأب (صحت التسمية) (2) لأن للوالد الأخذ من مال ولده، لما تقدم (3) ويملكه الأب بالقبض مع النية (4) (فلو طلق) الزوج (قبل الدخول وبعد القبض) أي قبض الزوجة للأَلف، وأبيها الألف (رجع) عليها (بالألف) دون أبيها (5) وكذا إذا شرط الكل له، وقبضه بالنية (6) .
__________
(1) صحت التسمية، فروي عن مسروق أنه لما زوج ابنته اشترط لنفسه عشرة آلاف، فجعلها في الحج والمساكين، ثم قال للزوج: جهز امرأتك، وروي عن علي بن الحسين وغيره.
(2) أي أو تزوجها على أن كل الصداق للأب، صحت التسمية، إن صح تملكه من مال ولده، بكونه حرا رشيدا، وأن لا يعطيه لغيرها من أولاده، وأن لا يكون ذلك في مرضهما، وأن لا يجحف بمال البنت، وقال الشيخ: لا يتصور الإجحاف، لعدم ملكها له، وإن لم يكن ممن يصح تملكه من مال ولده فالكل لها.
(3) من بيان شروطه في الهبة، ولقوله «أنت ومالك لأبيك» ، «وإن أولادكم من كسبكم» ولقصة شعيب، فإنه زوج موسى على رعاية غنمه.
(4) أي نية التملك.
(5) لأن الألف الذي قبضته نصف الصداق، والطلاق قبل الدخول يوجب تنصيف الصداق، لقوله تعالى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} دون الألف الذي قبضه أبوها، لأنه أخذ من مال ابنته ألفا، فلا يجوز الرجوع به عليه.
(6) أي نية التملك، وفي الإنصاف: يملك ما اشترطه بنفس العقد، كما تملك هي، لكن يقدر فيه الإنتقال إلى الزوجة، ثم إلى الأب.(6/375)
ثم طلق قبل الدخول، رجع عليها بقدر نصفه (1) (ولا شيء على الأب لهما) أي للمطلق والمطلقة (2) لأنا قدرنا أن الجميع صار لها، ثم أخذه الأب منها، فتصير كأنها قبضته، ثم أخذه منها (3) (ولو شرط ذلك) أي الصداق أو بعضه (لغير الأب) كالجد، والأخ (4) (فكل المسمى لها) أي للزوجة (5) لأنه عوض بضعها، والشرط باطل (6) (ومن زوج بنته ولو ثيبا (7) .
__________
(1) أي نصف ما شرط الأب صداقا لها، وشرطه لنفسه.
(2) من نصف أو كل، إن قبضه بنية التملك، وإن طلق قبل القبض أخذ الأب من الباقي ما شاء بشرطه.
(3) وقيل: يرجع على الأب بنصف ما أخذ، قال في الإنصاف: والنفس تميل إلى ذلك، وهو احتمال للموفق.
(4) ونحوهما من الأولياء أو غيرهم، وكذا الأب إذا لم يصح تملكه صحت التسمية.
(5) أي ما شرط صداقا لها، كما لو جعله لها، نص عليه.
(6) لخبر «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» وكان الصداق لها، كما لو جعله كله لها، فتنتفي الجهالة وليس للغير أن يأخذ شيئًا بغير إذن، فيقع الاشتراط لغوا.
(7) ولعله: ما لم يتعلق إذنها على مهر معين، ويتصور أن تأذن في النكاح، دون قدر المهر، وقد يقال: إذنها في المهر غير معتبر.(6/376)
بدون مهر مثلها صح) (1) ولو كرهت (2) لأنه ليس المقصود من النكاح العوض (3) ولا يلزم أَحدا تتمة المهر (4) (وإن زوجها به) أي بدون مهر مثلها (ولي غيره) أي غير الأب (بإذنها صح) مع رشدها (5) لأن الحق لها، وقد أسقطته (6) (وإن لم تأذن) في تزويجها بدون مهر مثلها لغير الأب (فـ) لها (مهر المثل) على الزوج (7) لفساد التسمية بعدم الإذن فيها (8) .
__________
(1) وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة.
(2) نص عليه، لأن عمر خطب الناس فقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء ... الخ، وكان بمحضر من الصحابة فلم ينكر، فكان اتفاقًا منهم، وإن كان دون صداق المثل، وزوج ابن المسيب ابنته بدرهمين، وهو قرشي، ومعلوم أنهما ليسا مهر مثلها، والظاهر من شفقة الأب، وتمام نظره، أن لا ينقصها من صداق مثلها إلا لتحصيل المعاني المقصودة بالنكاح.
(3) بل المقصود من النكاح السكن، والازدواج، ووضع المرأة في منصب عند من يكفها، ويصونها، ويحسن عشرتها.
(4) لا الزوج، ولا الأب، لصحة التسمية، فليس لها إلا ما وقع عليه العقد.
(5) وليس لأحد من الأولياء الاعتراض عليها.
(6) كما لو أذنت ببيع سلعتها بدون قيمتها.
(7) كما لو تزوجها بمحرم.
(8) لأنه المستوفي لبدله، لكن يضمنها الولي لتفريطه، ذكره الموفق وغيره،
وفائدته لو تعذر أخذ التكملة من الزوج، فترجع على الولي، وعليه إن أخذته من الولي، فله الرجوع به على الزوج، كالضامن سواء، ويحتمل أن لا يلزم الزوج إلا المسمى، والباقي على الولي، كالوكيل في البيع، نص عليه، وصوبه في الإنصاف، واختاره الشيخ وغيره.(6/377)
(وإن زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أكثر صح) لازما (1) لأن المرأة لم ترض بدونه (2) وقد تكون مصلحة الابن في بذل الزيادة (3) ويكون الصداق (في ذمة الزوج) (4) إذا لم يعين في العقد (5) (وإن كان) الزوج (معسرا لم يضمنه الأب) (6) لأن الأب نائب عنه في التزويج، والنائب لا يلزمه ما لم يلتزمه كالوكيل (7) فإن ضمنه غرمه (8)
__________
(1) ومثله المجنون.
(2) أي بدون الأكثر من مهر المثل، فلا ينقص منه.
(3) على مهر المثل، وغبطته، والأب أعلم بمصلحته في ذلك.
(4) لأن العقد له، فكان بدله عليه، كثمن المبيع.
(5) كأن يقول: على هذه الدابة ونحوها.
(6) أي لا يضمن الأب المهر مع عسرة الابن، قال القاضي: وهذه الرواية أصح، وأما الموسر فقولا واحدا.
(7) أي فأشبه الوكيل في شراء سلعة لا يضمن، وقيل: يضمنه للعرف، وهو رواية عن أحمد، اختاره ابن عبدوس وغيره، وجزم به في الوجيز.
(8) كأن قيل له: ابنك فقير، فقال: عندي؛ لزمه المهر، ولو قضاه عن
ابنه ثم طلق ولم يدخل، فنصفه للابن دون الأب، لأن الابن ملكه من غير أبيه، وقال ابن نصر الله: محله ما لم يكن زوجه لوجوب الإعفاف عليه، فإنه للأب.(6/378)
ولأب قبض صداق محجور عليها (1) لا رشيدة ولو بكرًا إلا بإذنها (2) وإن تزوج عبد بإذن سيده صح (3) وتعلق صداق، ونفقة، وكسوة، ومسكن بذمة سيده (4) وبلا إذنه لا يصح (5) فإن وطئ تعلق مهر المثل برقبته (6) .
__________
(1) لصغر، أو جنون، أو سفه، لأنه يلي مالها، فكان له قبضه، كثمن مبيعها.
(2) أي لا يقبضه لها إلا بإذنها، لأنها المتصرفة في مالها، فاعتبر إذنها في قبضه، كثمن مبيعها، فلا يبرأ الزوج، وإذا غرم رجع على الأب، فإن اشترطه الأب أو بعضه لنفسه فله ذلك، كما تقدم.
(3) بغير خلاف، وله نكاح أمة، لأنها تساويه، ولو أمكنه نكاح حرة.
(4) ضمن ذلك أو لم يضمنه، مأذونا له في التجارة، أو محجورا عليه، لأنه حق تعلق بالعقد برضا سيده، فتعلق به.
(5) إجماعا، لقوله صلى الله عليه وسلم «أيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر» وقال ابن المنذر وغيره: أجمعوا على أن نكاحه باطل.
(6) لأنه قيمة البضع الذي أتلف بغير حق، أشبه أرش الجناية.(6/379)
فصل (1)
(وتملك المرأة) جميع (صداقها بالعقد) كالبيع (2) وسقوط نصفه بالطلاق لا يمنع وجوب جميعه بالعقد (3) (ولها) أي للمرأة (نماء) المهر (المعين) (4) .
__________
(1) أي في قبض المرأة الصداق، وما يتعلق به.
(2) أي تملك المرأة الحرة – وكذا سيد الأمة – جميع الصداق بالعقد، كما يملك البيع، لحديث «إن أعطيتها إزارك، جلست ولا إزار لك» وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ولأن النكاح عقد يملك فيه المعوض بالعقد، فملك به العوض كاملا، حالا كان أو مؤجلا.
(3) فلو ارتدت سقط جميعه، وإن كانت قد ملكت نصفه، وعنه: لا تملك إلا نصفه، وحكي عن مالك. وقال ابن عبد البر: اختلف فيه السلف والآثار، وأما الفقهاء اليوم فعلى أنها تملكه، وقال ابن رشد: اتفق العلماء على أن الصداق يجب كله بالدخول أو بالموت، أما وجوبه كله بالدخول فلقوله تعالى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} الآية، وأما وجوبه بالموت فلانعقاد الإجماع على ذلك. اهـ.
ويتقرر المسمى للحرة والأمة بالموت، ولو بقتل نفسه أو غيره، وبوطئه في فرج، وبالخلوة ولو ادعى عدم العلم، لأن العادة أنه لا يخفى عليه ذلك، قاله شيخ الإسلام، لا بلمس ونحوه، ونظر، أو تحمل بماء الزوج، وصوبه في تصحيح الفروع.
(4) أي نماء المهر المتصل والمنفصل، المعين، المتميز، لا المتعين، الصادق بعبد من عبيده، فإنه كقفيز من صبرة.(6/380)
من كسب، وثمرة، وولد، ونحوها (1) ولو حصل (قبل القبض) لأنه نماء ملكها (2) (وضده بضده) أي ضد المعين كقفيز من صيرة، ورطل من زبرة (3) بضد المعين في الحكم (4) فنماؤه له، وضمانه عليه، ولا تملك تصرفًا فيه قبل قبضه كمبيع (5) (وإن تلف) المهر المعين قبل قبضه (فمن ضمانها) (6) .
__________
(1) أي ككسب عبد معين، وكثمرة شجرة معينة، وكولد جارية معينة، ونحوها كمنفعة دار.
(2) فكان لها ذلك، كسائر أملاكها.
(3) حديد ونحوه، ودن زيت ونحوه، ومائة من هذه الغنم ونحوها.
(4) لا يدخل في ضمانها إلا بقبضه، وتملكه بالعقد، وإن لم يدخل بها، ولا تملك تصرفا فيه إلا بقبضه.
(5) أي كما لو باع قفيزًا من صبرة ونحوه، فإنه لا يدخل في ضمان مشتر، ولا يملك تصرفا فيه إلا بقبضه، وتقدم ما لا يجوز التصرف فيه في البيع، وقال الموفق: قياس المذهب أن ما جاز لها التصرف فيه فهو من ضمانها إن تلف أو نقص وما لا تصرف لها فيه فهو من ضمانه، إلا أن يمنعها من قبضه، فمن ضمانه بكل حال، كالغاصب، وذكر القاضي أن ما لم ينتقض العقد بهلاكه كالمهر، وعوض الخلع، يجوز التصرف فيه قبل قبضه، كالوصية، والميراث.
(6) أي وإن تلف المهر المعين أو نقص، كالعبد والدار، والماشية المعينة قبل قبضها أو بعده، فمن ضمانها، لتمام ملكها عليه.(6/381)
فيفوت عليها (1) (إلا أن يمنعها زوجها قبضه فيضمنه) (2) لأنه بمنزلة الغاصب إذًا (3) (ولها التصرف فيه) أي في المهر المعين (4) لأنه ملكها، إلا أن يحتاج لكيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع، فلا يصح تصرفها فيه قبل قبضه، كمبيع بذلك (5) (وعليها زكاته) أي زكاة المعين، إذا حال عليه الحول من العقد (6) .
__________
(1) لأنه ملكها بالعقد، لها التصرف فيه، ونماؤه.
(2) إن تلف بغير فعلها، وعليه نقصه إن تعيب أو نقص، والزيادة لها.
(3) فيضمنه ضمان غصب كما تقدم، وكل موضع الضمان فيه على الزوج إذا تلف، لا يبطل الصداق بتلفه، بل يضمنه بمثله، أو قيمته، وهو قول أبي حنيفة، والقديم من قولي الشافعي، والجديد: يرجع إلى مهر المثل، فالتالف في يد الزوج لا يخلو من أربعة أحدها: بفعل الله، فعلى ما مر، أو بفعلها فضمانه عليها أو بفعله فعليه ضمانه، أو بفعل أجنبي فلها الخيار في الرجوع على الأجنبي أو الزوج، ويتنصف قبل تقرره بكل فرقة جاءت من أجنبي أو منه، كخلع، وتعليق طلاقها على فعلها، وتوكيلها، ويسقط بفسخه لعيب، أو شرط، أو حرمة جمع، أو تخيير بسؤالها، صححه في تصحيح الفروع، أو اشترته في الأصح، وقيل: يتنصف، وقواه، وكذا من اشتراها أو تخالعا.
(4) من بيع ونحوه.
(5) أي بالكيل، أو الوزن، أو العد، أو الذرع، وتقدم.
(6) وترجع بها عليه، إن منعها قبضه.(6/382)
وحول المبهم من تعيين (1) (وإن طلق) من أَقبضها الصداق (قبل الدخول أو الخلوة فله نصفه) أي نصف الصداق (2) (حكما) أي قهرا كالميراث (3) لقوله تعالى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (4) (دون نمائه) أي نماء المهر (المنفصل) قبل الطلاق (5) فتختص به، لأنه نماء ملكها (6) والنماء بعد الطلاق لها (7) .
__________
(1) تستقبل به حولا بشرطه.
(2) أي نصف عينه، إن كان باقيا بحاله لم يتغير، ولم يتعلق به حق غيره، بغير خلاف، للآية، والمحجور عليها، لا تعطيه إلا نصف القيمة، حال عقد.
(3) ولو لم يختر تملكه، فما يحدث من نمائه بعد طلاقه. فبينهما، فلو أصدقها صيدا ثم طلق وهو محرم، دخل في يده ضرورة، فله إمساكه.
(4) أي لكم أو لهن، فاقتضى أن النصف له، والنصف لها بمجرد الطلاق، إن بقي بصفته، ولو النصف، فقط، مشاعا كان، أو معينا، ولو طلقها على أن المهر كله لها لم يصح الشرط، وإن طلق ثم عفا صح.
(5) كحمل بهائم عندها، وولادتها.
(6) فيرجع في نصف الأمات، والزيادة لها، ولو ولد أمة، لأن الولد زيادة منفصلة.
(7) فما حصل من نمائه كله بعد دخول نصفه في ملكه، فبينهما نصفين، لأن النماء تابع للأصل، ويفارق نماء المبيع المعيب، لأن سبب الفسخ العيب، وهو سابق على الزيادة، وسبب تنصيف الصداق الطلاق، وهو حادث بعدها.(6/383)
(وفي) النماء (المتصل) كسمن عبد، أَمهرها إياه (1) وتعلم صنعة، إذا طلق قبل الدخول والخلوة (له نصف قيمته) أي قيمة العبد (بدون نمائه) المتصل (2) لأنه نماء ملكها، فلا حق له فيه (3) وإن اختارت رشيدة دفع نصفه زائدا، لزمه قبوله (4) وإن نقص بنحو هزال (5) خير رشيد بين أخذ نصفه بلا أرش، وبين نصف قيمته (6) وإن باعته (7) أو وهبته وأقبضته، أو رهنته (8) .
__________
(1) وكبره، له نصف قيمته، دون نمائه.
(2) أي السمن، وتعلم الصنعة ونحوهما.
(3) وإنما صير إلى نصف القيمة، لأن الزيادة لها، ولا يلزمها بذلها، ولا يمكنها دفع الأصل بدون زيادته.
(4) أي مع نمائه، والمحجور عليها لا تعطيه إلا نصف القيمة حال العقد، إن كان متميزًا، لأنه لا يصح تبرعها، وإلا فيوم الفرقة.
(5) كعبد عمي، أو نسي صنعة، أو طلعت لحيته.
(6) يوم عقد إن كان متميزًا، وغيره يوم الفرقة على أدنى صفة من عقد إلى قبض، وإنما اعتبرت قيمة المتميز يوم العقد لأنه يدخل في ضمانها بمجرد العقد، وإن نقص من وجه، وزاد من وجه، فلكل الخيار، وإن كان تالفًا، أو مستحقًا بدين، أو شفعة فله قيمته، وفي المثلي نصفه.
(7) أي ولو مع خيارها.
(8) والمراد الرهن المقبوض، كما صرح به في شرح المنتهى وغيره.(6/384)
أو أعتقته، تعين له نصف القيمة (1) وأيهما عفا لصاحبه عما وجب له، وهو جائز التصرف، صح عفوه (2) وليس لولي العفو عما وجب لمولاه، ذكرا كان أو أُنثى (3) (وإن اختلف الزوجان) أو ولياهما (أو ورثتهما) أو أحدهما، وولي الآخر أو ورثته (في قدر الصداق (4) أو عينه (5) أو فيما يستقر به) من دخول أو خلوة، أو نحوهما (6) .
__________
(1) لتصرفها في عين الصداق بما ينقل الملك، فتعين له نصف القيمة إن لم يكن مثليا، فيأخذ نصف قيمة المتقوم، أو نصف قيمة المثل في المثلي، لا بإجارة، وتدبير، وتزوج رقيق، لأنها لا تنقل الملك لكن يخير.
(2) بغير خلاف، وبريء منه صاحبه، سواء كان المعفو عنه عينا أو دينا، لقوله تعالى {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} .
(3) ولو كان الأب، لقوله تعالى {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} والذي بيده عقدة النكاح الزوج، وهو مذهب أبي حنيفة، وجماعة، لحديث عمرو بن شعيب «ولي العقد الزوج» ولتمكنه من قطعه وإمساكه، وليس إلى الولي منه شيء، ولقوله {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي عفو الزوج عن حقه، وعفو الولي ليس أقرب للتقوى، وعنه: الأب. اختاره الشيخ، وهو مذهب مالك، وأحد القولين في مذهب الشافعي وقول طائفة، وقيل: رجع أحمد من قوله بجواز عفو الأب.
(4) بأن قال: تزوجتك على عشرة. فتقول: على ثلاثين.
(5) بأن قال: على هذا العبد. فتقول: بل على هذه الأمة.
(6) كلمس، أو نظر إلى فرجها بشهوة، أو تقبيلها بحضرة الناس، وغير ذلك مما يأتي.(6/385)
(فقوله) أي قول الزوج أو وليه أو وارثه (1) بيمينه، لأنه منكر، والأصل براءة ذمته (2) وكذا لو اختلفا في جنس الصداق، أو صفته (3) (و) إن اختلفا (في قبضه فـ) ـالقول (قولها) ، أو قول وليها، أو وارثها مع اليمين، حيث لا بينة له، لأن الأصل عدم القبض (4) .
__________
(1) وعنه: القول قول من يدعي مهر المثل منهما، جزم به الخرقي وجماعة، واختاره عامة الأصحاب، وهو مذهب أبي حنيفة.
(2) لحديث «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» وعلى القول الثاني لو ادعى أقل، وادعت أكثر من مهر المثل، رد إليه بلا يمين، في الأحوال كلها عند القاضي، وتجب اليمين عند أبي الخطاب، وصوبه في تصحيح الفروع، ومن حلف من الورثة على الإثبات يحلف على البت، ومن يحلف على النفي فعلى نفي العلم، لأنه على نفي فعل الغير، وإن كان حاضرا تلك الحال فعلى البت، ومن حلف على فعل نفسه، من الزوجين والولي، حلف على البت، وعلى فعل غيره على نفي العلم، كالورثة.
(3) بأن قال: على فضة: فتقول: على ذهب. أو قال: على زنجي. فقالت: بل أبيض، فالقول قول الزوج، أو وليه، أو وارثه.
(4) وفي تسمية مهر مثل فقوله بيمينه، جزم به في الإقناع، وصوبه في تصحيح الفروع، وعنه: قولها. جزم به في المنتهى، وعلى كلا الروايتين لها مهر المثل إن وجد ما يقرره، وإلا فعلى ما في الإقناع، لها المتعة وإلا فنصف مهر المثل، وإن أنكر أن يكون لها عليه صداق فقولها، فيما يوافق مهر مثلها.(6/386)
وإن تزوجها على صداقين، سر وعلانية (1) أخذ بالزائد مطلقا (2) وهدية زوج ليست من المهر (3) فما قبل عقد إن وعدُوه ولم يفوا، رجع بها (4) .
__________
(1) بأن عقدا سرا على صداق، وعلانية على صداق.
(2) سواء كان الزائد صداق السر أو العلانية، وإن اتفقا قبل عقد على مائة، وعقداه بأكثر تجملا، فالمهر على ما عقداه، قال أحمد: تفي بما وعدته وجوبا. وصوبه في الإنصاف، وقال الشيخ: لا يحل أن تغدر به، بل يجب الوفاء بالشرط.
وقال ابن القيم: والمقصود أن المتعاقدين وإن أظهرا خلاف ما اتفقا عليه في الباطن، فالعبرة بما أسراه، واتفقا عليه، وقصداه بالعقد، وقد أشهدا الله على ما في قلوبهما، فلا ينفعهما ترك التكلم به حالة العقد، وهو مطلوبهما، ومقصودهما، فالقصد روح العقد، ومصححه، ومبطله، فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ.
(3) وتثبت الهدية لها مع تقرر للمهر أو لنصفه، وترد في كل فرقة اختيارية مسقطة للمهر، كفسخ لعيب ونحوه، وكذا في فرقة قهرية، كفسخ لفقد كفاءة قبل الدخول.
(4) فما أهداه زوج قبل عقد، إن وعدوه ولم يفوا – بأن زوجوها غيره – رجع بها، قاله الشيخ وغيره، وقال: إذا اتفقوا على النكاح من غير عقد، فأعطى أباها لأجل ذلك شيئًا، فماتت قبل العقد، ليس له استرجاع ما أعطاهم،
وإن كان الإعراض منه فلا رجوع أيضًا، وقال: ما قبض بسبب نكاح ككسوة لأبيها أو أخيها فكمهر، وسبب العقد، كدلال يرده عند فسخ لفقد كفاءة، أو عيب، لا لردة، ورضاع، ومخالعة.
وقال: كتبت عن أحمد: إذا أهدى لها هدية بعد العقد فإنما ترد ذلك إليه، إذا زال العقد الفاسد، فهذا يقتضي أن ما وهبه لها سببه النكاح، فإنه يبطل إذا زال النكاح، وهذا المنصوص جار على أصول المذهب، لموافقته أصول الشرع وهو أن كل من أهدي أو وهب له شيء بسبب، يثبت بثبوته، ويزول بزواله، ويحرم بحرمته.(6/387)
.......................................................................(6/388)
فصل (1)
(يصح تفويض البضع (2) بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة) بلا مهر (3) (أو تأْذن المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر) فيصح العقد (4) ولها مهر المثل (5) لقوله تعالى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (6)
__________
(1) أي في أحكام المفوضة، والتفويض اصطلاحا نوعان، تفويض بضع، وهو الذي ينصرف إليه التعريف، وتفويض مهر، والتفويض لغة الإهمال، كأن المهر أهمل، حيث لم يسم.
(2) أي رد أمر المهر، أو التزوج، أو عقد النكاح، إلى الزوج أو غيره، ويطلق البضع على عقد النكاح، والجماع معا، وعلى الفرج.
(3) أو يزوج الأب غيرها بإذنها، وسواء سكت عنه، أو شرط نفيه، فيصح، ويجب مهر المثل، لأن المقصود من النكاح الوصلة، والاستمتاع، دون الصداق.
(4) سواء سكت عن الصداق، أو شرط نفيه، فيصح من غير ذكره، ولا فرق بين أن يسكت عنه، أو يقول: زوجتك بلا مهر. أو بلا مهر، لا في الحال ولا في المآل، إذ المعنى واحد، وقال ابن رشد: أجمعوا على أن نكاح التفويض جائز، وهو النكاح دون صداق.
(5) يفرضه الحاكم، أو يتراضيان عليه.
(6) أي أو ما لم تفرضوا لهن فريضة، ولحديث ابن مسعود في رجل تزوج
امرأة، ولم يفرض لها صداقا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال «لها صداق نسائها، ولا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث» وقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت، رواه الترمذي وغيره وصححه.(6/389)
(و) يصح أيضًا (تفويض المهر (1) بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما) أي أحد الزوجين (أو) يشاء (أجنبي فـ) ـيصح العقد (2) . و (لها مهر المثل بالعقد) (3) لسقوط التسمية بالجهالة (4) ولها طلب فرضه (5) .
__________
(1) وهو النوع الثاني، بأن يجعل المهر إلى رأي أحد الزوجين، أو غيرهما، أو حكمها، أو حكمك، أو حكم فلان.
(2) في جميع هذه الصور، للآية، والحديث.
(3) أي وللزوجة المفوضة مهر المثل، في قول عامة أهل العلم، لأنها لم تأذن في تزويجها إلا على صداق، لكنه مجهول، فوجب مهر المثل بالعقد، فلو فرض مهر أمته، ثم باعها، أو أعتقها، ثم فرض المهر، فهو لسيدها الأول، لوجوبه بالعقد وهي في ملكه، ولو فوضت امرأة نفسها، ثم طالبته فرض مهرها بعد تغير مهر مثلها، أو دخوله بها، وجب مهر المثل حالة العقد.
(4) فوجب مهر المثل بطلبه.
(5) وفي كل موضع فسدت فيه التسمية، كأن تزوجها على نحو خمر، أو خنزير، فلها طلب فرضه قبل دخول وبعده، فإن امتنع أجبر عليه، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، ولها المطالبة به، قاله جماعة، وقطع به الموفق وغيره، وصححه في تصحيح الفروع.(6/390)
(ويفرضه) أي مهر المثل (الحاكم بقدره) بطلبها (1) لأن الزيادة عليه ميل على الزوج، والنقص منه ميل على الزوجة (2) (وإن تراضيا قبله) أي قبل فرض الحاكم ولو على قليل (جاز) (3) لأن الحق لا يعدوهما (4) (ويصح) أيضًا (إبراؤها من مهر المثل قبل فرضه) (5) .
__________
(1) لفرضه، ولأنه إنما يفرض بدل البضع، فيقدر بقدره، كقيمة متقوم، وإن فرض لها غير الزوج والحاكم مهر مثلها فرضيته، لم يصح فرضه، ويلزمهما فرض الحاكم كحكمه، ومتى صح الفرض كان كالمسمى في العقد، في أنه ينتصف بالطلاق، ولا تجب المتعة معه، وعليه الأصحاب.
(2) فيعتبر معرفة مهر المثل، ليتوصل إلى فرضه، وذلك بمن يساويها من جميع أقاربها، لخبر «لها مهر نسائها» كما سيأتي، وإن كانت عادتهم التخفيف على عشيرتهم، دون غيرهم، اعتبر ذلك، لأن العادة لها أثر في المقدار، فكذا في التخفيف، وإن كان عادتهم تسمية مهر كثير لا يستوفونه قط، فوجوده كعدمه، قاله الشيخ وغيره.
(3) أي ما اتفقا عليه، وصار حكمه حكم المسمى في العقد.
(4) فلها ما تراضيا عليه، عالمين كانا أو جاهلين بمهر مثل، لأنه إذا فرض لها كثيرا، فقد بذل لها من ماله فوق ما وجب عليه، وإن فرض لها يسيرا، فقد رضيت بدون ما وجب لها، وليس لولي محجور بذل أكثر من مهر مثل، ولا لوليها الرضى بأقل.
(5) قبل الدخول وبعده، مفوضة البضع، ومفوضة المهر، وكذا من سمي
لها مهر فاسد، كالمجهول، لأنه واجب في هذه المواضع، وإنما جهل قدره، والبراءة من المجهول صحيحة.(6/391)
لأنه حق لها، فهي مخيرة بين إبقائه وإسقاطه (1) (ومن مات منهما) أي من الزوجين (2) (قبل الإصابة) والخلوة (والفرض) (3) لمهر المثل (ورثه الآخر) (4) لأن ترك تسمية الصداق لا يقدح في صحة النكاح (5) (ولها مهر) مثلها (6)
__________
(1) وإن عفت المرأة عن صداقها الذي لها على زوجها، أو عن بعضه، أو وهبته إياه بعد قبضه، وهي جائزة التصرف في مالها، جاز بلا خلاف، لقوله تعالى {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} وقوله {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} .
(2) يعني في نكاح التفويض.
(3) منهما، أو من حاكم، كما تقدم.
(4) سواء كان الميت الزوج أو الزوجة، لحديث ابن مسعود، ولثبوت عقد الزوجية، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا.
(5) فثبت الميراث.
(6) أي ولها مع موت أحدهما – وكذا سائر ما يقرر الصداق – مهر مثلها، صححه الأكثر، وعنه: أنه يتنصف بالموت، ورده شيخ الإسلام، وقال: هذه تخالف السنة، وإجماع الأمة، وغلط الناقل، وقال: لا خلاف عن أحمد أنه لا يجوز.(6/392)
من (نسائها) أي قراباتها (1) كأُم، وخالة، وعمة (2) فيعتبره الحاكم بمن تساويها منهن، القربى فالقربى، في مال، وجمال، وعقل، وأدب، وسن، وبكارة أو ثيوبة (3) فإن لم يكن لها أقارب فبمن تشابهها من نساء بلدها (4) (وإن طلقها) أي المفوضة (5) أو من سمي لها مهر فاسد (قبل الدخول) والخلوة (6) (فلها المتعة (7)
__________
(1) ممن يماثلها، لحديث ابن مسعود: ولها صداق نسائها. فإن المرأة تنكح لحسبها للأثر، والحسب يختص أقاربها، ويزاد المهر لذلك، ويقل لعدمه.
(2) وأخت، اختاره الأكثر.
(3) وبلد، وصراحة نسب، وكل ما يختلف لأجله المهر، فإن لم يكن إلا دونها، زيدت بقدر بفضيلتها، كنقصها.
(4) فيما تقدم، فإن عدمن فبأقرب النساء شبها بها، من أقرب البلاد لها، وتعتبر عادة في تأجيل وغيره، كفي جنسه، وكالتخفيف عن عشيرتهن، أو لشرف زوج ويسار.
(5) قبل الدخول والخلوة، فلها المتعة، وكذا لو فارقها بما ينصف الصداق، فلها المتعة، نص عليه، وفاقا لأبي حنيفة والشافعي، وعليه أكثر الأصحاب، وصححه في الإنصاف وغيره.
(6) ونحو ذلك مما يقرر المهر.
(7) اختاره القاضي، والمجد، وغيرهما، وعنه: يجب نصف مهر المثل قال في الإنصاف: وهو الصواب. واختاره الموفق، والشيخ، وجزم به الخرقي، وصححه في تصحيح الفروع، وقدمه في الإقناع.(6/393)
بقدر يسر زوجها وعسره) (1) لقوله تعالى {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} (2) فأَعلاها خادم (3) وأَدناها كسوة تجزئها في صلاتها (4) .
__________
(1) عوضًا لما فاتها من المهر، وتعتبر بحال الزوج.
(2) {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} والأمر يقتضي الوجوب، وأداء الواجب من الإحسان، ولما خص بالآية من لم يفرض لها ولم يمسها، دل على أنها لا تجب لمدخول بها، ولا لمفروض لها.
(3) أي أعلى المتعة في حق موسر خادم.
(4) وهي درع وخمار، ونحو ذلك، لقول ابن عباس: أعلى المتعة خادم، ثم دون ذلك النفقة، ثم دون ذلك الكسوة، وقيده بما يجزئها في صلاتها، لأنه أقل الكسوة، ولا تسقط إن وهبته مهر المثل قبل الفرقة، ولا يصح إسقاطها قبل الفرقة.
وكل فرقة ينتصف بها المسمى، توجب المتعة إذا كانت مفوضة، وكل فرقة تسقطه – كاختلاف دين، وفسخ لرضاع من قبلها – لا تجب به متعة، لقيامها مقام المسمى، فتسقط في كل موضع يسقط فيه.
وذكر في الكافي عن أحمد رواية: لكل مطلقة متاع. لقوله تعالى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وقوله {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ} وقال أبو بكر: العمل عليه عندي، لولا تواتر الروايات بخلافها. فتعين حمل هذه الرواية على الاستحباب، جمعا بين دلالة الآيات، وجزم به في الإقناع وغيره، فأما المتوفى عنها فلا متعة لها، لأن الآيات لم تتناولها، ولا هي في معنى المنصوص.(6/394)
(ويستقر مهر المثل) للمفوضة ونحوها (1) (بالدخول) والخلوة (2) ولمسها، ونظره إلى فرجها بشهوة، وتقبيلها بحضرة الناس (3) وكذا المسمى يتقرر بذلك (4) .
__________
(1) كمن سمي لها مهر المثل، والمفوضة بالكسر على نسبة التفويض إلى المرأة على أنها فاعلة، والفتح على نسبته إلى وليها.
(2) وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال مالك، والشافعي: بالوطء. إلا أن عند مالك إذا طالت مدته استقر ولو لم يطأ، ونص أحمد على أنهما لو اتفقا على أنه لم يطأ في الخلوة لزم المهر والعدة، لأن كلا منهما يفر مما لزمه، فالخلوة مقررة للمهر، لمظنة الوطء، وقيل: إما لإجماع الصحابة وهو حجة، وإما لأن طلاقها بعد الخلوة، وردها ابتذال وكسر، فوجب جبره بالمهر، وقال الشيخ: يتوجه أن يستقر المهر بالخلوة وإن منعته الوطء.
(3) هذا المنصوص أنه يكمل به الصداق، لأنه مسيس واستمتاع، والوجه الآخر: لا يكمل به. وهو قول أكثر أهل العلم، لقوله تعالى {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} إن أريد به في الظاهر الجماع، ويدخل في عمومها، لإجماع الصحابة، وقال أحمد: إذا أخذها وعنده نسوة، فمسها، وقبض عليها، ونحو ذلك، من غير أن يخلو بها، وقال: إذا نال منها شيئا لا يحل لغيره، فعليه المهر.
(4) أي بالدخول والخلوة وإن لم يطأ، روي عن الخلفاء الأربعة، وزيد، وابن عمر، وبه قال علي ابن الحسين، وأصحاب الرأي، والقديم للشافعي، وروى أحمد وغيره عن زرارة: قضى الخلفاء الراشدون أن من أغلق بابا، أو أرخى سترا، فقد وجب المهر، فكان إجماعًا.(6/395)
ويتنصف المسمى بفرقة من قبله (1) كطلاقه، وخلعه، وإسلامه (2) ويسقط كله بفرقة من قبلها (3) كردتها، وفسخها لعيبه (4) واختيارها لنفسها، بجعله لها بسؤالها (5) (وإن طلقها) أي الزوجة، مفوضة كانت أو غيرها (بعده) أي بعد الدخول (فلا متعة) لها (6) .
__________
(1) أي إذا كان قبل الدخول، كمن سمي لها مهر فاسد، أما إذا كان بعده فيستقر المهر كله مطلقا.
(2) وردته، أو من أجنبي كالرضاع ونحوه، فينتصف بها المهر بينهما، لقوله تعالى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ثبت في الطلاق، وقيس عليه سائر ما استقل به الزوج، وفرقة الأجنبي يرجع عليه الزوج.
(3) أي قبل الدخول والخلوة، ونحوهما مما يقرر المهر.
(4) أو لعيبها، أو إسلامها، أو إرضاعها من ينفسخ النكاح برضاعه، أو ارتضاعها وهي صغيرة.
(5) وغير ذلك، ومن صور الفسخ الذي يسقط به المهر والمتعة ما لو فسخ الزوج لفوات شرط فيها، بأن شرطها مسلمة فبانت كتابية، ونحو ذلك من الشروط المذكورة في «باب الشروط والعيوب في النكاح» .
(6) أي فلا تجب لها متعة، لأنها كالبدل عن مهر المثل، وتقدم استحباب المتعة لكل مطلقة، للآية، واختاره الشيخ، وقال: لكل مطلقة متعة إلا التي لم يدخل بها، وقد فرض لها، نص عليه، وهو قول عمر وغيره، ومتعة الأمة لسيدها.(6/396)
بل لها المهر كما تقدم (1) (وإذا افترقا في) النكاح (الفاسد) المختلف فيه (2) (قبل الدخول والخلوة فلا مهر) ولا متعة (3) سواء طلقها، أو مات عنها، لأَن العقد الفاسد وجوده كعدمه (4) (و) إن افترقا (بعد أَحدهما) أي الدخول أو الخلوة (5) .
__________
(1) في قوله: ويستقر المهر بالدخول ... الخ؛ ويجوز الدخول بالمرأة قبل إعطائها شيئًا، لحديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئا. رواه أبو داود، ويستحب إعطاؤها قبل الدخول بها، لقوله لعلي «أعطها درعك» رواه أبو داود، وقال الزهري: مضت السنة أن لا يدخل بها حتى يعطيها شيئًا. وأما المتوفي عنها فلا متعة لها بلا خلاف.
(2) أي وإذا افترق الزوجان بطلاق، أو موت، أو غيرهما، كاختلاف دين، ورضاع، في النكاح الفاسد، والمراد به عندهم هنا المختلف فيه، ومع فساده ينعقد، ويترتب عليه أكثر أحكام الصحيح، من وقوع الطلاق، ولزوم عدة الوفاة، والاعتداد بعد المفارقة في الحياة، ووجوب المهر المسمى فيه بالعقد، وتقرره بالخلوة، على المذهب، وغير ذلك.
(3) لأن المهر إنما يجب بالعقد، وكذا المتعة، فتسقط في كل موضع يسقط فيه كل المهر، وتجب في كل موضع يتنصف فيه المسمى.
(4) فلم يستحق مهرا، ولا متعة.
(5) أي فيجب بها المسمى، قاله بعض الأصحاب، واختار الموفق والشارح: أنه لا يستقر بالخلوة، وروي عن أحمد، وهو قول أكثر العلماء، لأن الصداق لم يجب بالعقد.(6/397)
أو ما يقرر الصداق مما تقدم (1) (يجب المسمى) لها في العقد (2) قياسا على الصحيح (3) وفي بعض ألفاظ حديث عائشة «ولها الذي أعطاها، بما أصاب منها» (4) (ويجب مهر المثل من وطئت) في نكاح باطل مجمع على بطلانه، كالخامسة، والمعتدة (5) أَو وطئت (بشبهة (6)
__________
(1) كلمسها بشهوة، ونحوه مما تقدم.
(2) نص عليه، وعنه: مهر المثل، وهي أصح، اختاره الموفق، والشارح، وغيرهما، لقوله «فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها» .
(3) أي على النكاح الصحيح، لاتفاقهما على أنه المهر، واستقراره بالخلوة.
(4) قال القاضي: حدثناه أبو بكر البرقاني، وأبو محمد الخلال، بإسنادهما.
(5) إن جهلت التحريم، أما إن كانت الخامسة أو المعتدة عالمة، مطاوعة فلا مهر لها، لأنه زنا يوجب الحد، وقيد شارح الإقناع المعتدة من غير زنا، وإلا فمختلف فيه.
(6) إن لم تكن حرة عالمة مطاوعة، كمن ظنها زوجته، قال الموفق وغيره: بغير خلاف علمناه، وظاهر كلام الشيخ: لا يجب، لأنه قال: البضع إنما يتقوم على زوج أو شبهه، فيملك به. اهـ.
والشبهة ثلاثة أقسام، شبهة عقد، وشبهة اعتقاد، وشبهة ملك، فأما عقد النكاح فلا ريب فيه لا المشتراة، ولا في الاشتباه عليه، وينبغي في الاشتباه عليها، ومكاتبته والمشتركة تضمن بالقيمة، وإن تكرر الوطء في نكاح الشبهة فمهر واحد.(6/398)
أو زنا كرها) (1) لقوله صلى الله عليه وسلم «فلها المهر بما استحل من فرجها» (2) أي نال منه، وهو الوطء (3) ولأنه إتلاف للبضع بغير رضى مالكه، فأَوجب القيمة وهي المهر (4) (ولا يجب معه) أي مع المهر (أَرش بكارة) لدخوله في مهر مثلها (5) لأنه يعتبر ببكر مثلها، فلا يجب مرة ثانية (6)
__________
(1) في ظاهر المذهب، ولو من مجنون إن كان الوطء في قبل، ولو ميتة، قال في الفروع: في ظاهر كلامهم. وهو متجه.
(2) رواه أبو داود وغيره، والمكرهة مستحل لفرجها، فإن الاستحلال: الفعل في غير موضع الحل.
(3) فحيث وقع، وجب المهر.
(4) ويتعدد المهر بتعدد الزنا، إذا كانت مكرهة كل مرة، وكذا إن كانت أمة لا بتعدد الوطء، كنكاح فاسد، وقال القاضي: لا مهر. وعنه: للبكر خاصة.
وعنه: لا يجب مطلقا. اختاره الشيخ، وقال: هو خبيث، فلا يجب للمكرهة على الزنا، وأوجب أرش البكارة للبكر، يعني المكرهة.
(5) نص عليه، لأنه وطء ضمن بالمهر، فلم يجب معه أرش، كسائر الوطء.
(6) ولأن المهر بدل المنفعة المستوفاة بالوطء، ويدخل فيه الأرش، ومهر البكر يزيد على مهر الثيب ببكارتها، فكانت الزيادة في المهر مقابلة لما أتلف من البكارة، ولا يجب عوضها مرة ثانية.(6/399)
ولا فرق فيما ذكر بين ذات المحرم وغيرها (1) والزانية المطاوعة لا شيء لها (2) إن كانت حرة (3) ولا يصح تزويج من نكاحها فاسد قبل طلاق أو فسخ (4) فإن أباهما زوج فسخه حاكم (5) (وللمرأَة) قبل دخول (منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال) (6) مفوضة كانت أو غيرها (7) .
__________
(1) وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، لأن ما ضمن للأجنبي ضمن للقريب كالمال، وإن اشتبهت عليه بأنها زوجته فوطئها، ثم تبين له أنها غيرها، ثم ظنها إياها فوطئها، تعدد المهر.
(2) لأنه إتلاف بضع برضا مالكه، فلم يجب له شيء، كسائر المتلفات، سواء كان الوطء في قبل أو دبر.
(3) وإن كانت أمة فلسيدها، لأن الحق له، قال في تصحيح الفروع: وهو الصحيح من المذهب، قطع به في المغني والشرح، وهو الصواب الذي لا يعدل عنه.
(4) لغير من تزوجها، لأنه يفضي إلى تسليط زوجين عليها، كل واحد يعتقد صحة نكاحه، ولأنه يسوغ فيه الاجتهاد، فاحتاج إلى إيقاع فرقة، كالصحيح المختلف فيه.
(5) أي فإن أبي الطلاق أو الفسخ زوج، فسخه حاكم، نص عليه، لقيامه مقام الممتنع مما وجب عليه.
(6) حكاه ابن المنذر وغيره إجماعا، أو تقبض الحال منه.
(7) أي سواء كانت مفوضة تفويض بضع، أو تفويض مهر، أو غير مفوضة، ممن سمي لها مهر صحيح، أو فاسد.(6/400)
لأن المنفعة المعقود عليها تتلف بالاستيفاء (1) فإذا تعذر استيفاء المهر عليها لم يمكنها استرجاع عوضها (2) ولها النفقة زمنه (3) (فإن كان) الصداق (مؤجلا) ولم يحل (4) (أَو حل قبل التسليم) لم تملك منع نفسها (5) لأنها رضيت بتأْخيره (6) (أو سلمت نفسها تبرعا) أي قبل الطلب بالحال (فليس لها) بعد ذلك (منعها) أي منع نفسها (7)
__________
(1) فلها منع نفسها.
(2) أي المنفعة إن صلحت للاستمتاع، ولو كان معسرا بالصداق، وقيل: لها المطالبة ولو لم تصلح للاستمتاع، اختاره ابن حامد وغيره، ورجح الموفق خلافه، وقال الشيخ: الأشبه عندي أن الصغيرة تستحق المطالبة لها بنصف الصداق، لأن النصف يستحق بإزاء الحبس، وهو حل بالعقد، والنصف الآخر بإزاء الدخول فلا تستحقه إلا بالتمكين.
(3) أي زمن منع نفسها لتقبض حالَّ مهر، لأن الحبس من قبله، نص عليه؛ ولها زمنه السفر بلا إذنه، وبقاء درهم كجميع، ومتى سافرت بلا إذنه فلا نفقة لها، كما بعد الدخول، ولو قبضته وسلمت نفسها، ثم بان معيبا، فلها منع نفسها.
(4) لم تملك منع نفسها قبل قبضه، لأنها لا تملك الطلب به.
(5) لأن التسليم قد وجب عليها، فاستقر قبل قبضه، فلم يكن لها أن تمتنع منه.
(6) أي ورضاها بتأخيره، رضى منها بتسليم نفسها قبل قبضه، كالثمن المؤجل.
(7) على الإطلاق، وهو قول مالك، والشافعي، وصاحبي أبي حنيفة،
واختاره ابن بطة وغيره، فإن وطئها مكرهة لم يسقط حقها من الامتناع بعد، لحصوله بغير رضاها، كالمبيع إذا أخذه المشتري كرها.(6/401)
لرضاها بالتسليم، واستقرار الصداق (1) ولو أبى الزوج تسليم الصداق حتى تسلم نفسها، وأَبت تسليم نفسها حتى يسلم الصداق، أُجبر زوج ثم زوجة (2) ولو أَقبضه لها، وامتنعت بلا عذر، فله استرجاعه (3) (فإن أَعسر) الزوج (بالمهر الحال فلها الفسخ) (4) إن كانت حرة مكلفة (5) (ولو بعد الدخول) لتعذر الوصول إلى العوض بعد قبض المعوض، كما لو أَفلس المشتري (6) .
__________
(1) فلم يكن لها أن تمنع نفسها بعد ذلك.
(2) وهذا بخلاف البيع، لأن في إجبارها على تسليم نفسها أولاً خطر إتلاف البضع، والامتناع من بذل الصداق، ولا يمكن الرجوع في البضع، وإن بادر أحدهما ببذل ما وجب عليه، أجبر الآخر.
(3) أي استرجاع مهر قبض منه، فمن خرجت منه بغير اختياره بإفسادها، أو بإفساد غيرها، أو بيمينه لا تفعل شيئًا ففعلته، فلها مهرها، نص عليه.
(4) هذا المذهب، ومذهب مالك، والشافعي، واختاره أبو بكر، كما لو أعسر المشتري بالثمن قبل تسليم المبيع، وفيه وجه: لا فسخ لها. اختاره ابن حامد، وقال الموفق: هو الصحيح، لأنه دين، فلم يفسخ بالإعسار به، كالنفقة الماضية.
(5) لأن الحق لها، فخيرت، بخلاف أمة وصغيرة، ويأتي.
(6) جزم به في الإقناع وغيره، وقال الموفق: ينبني على منع نفسها، كما
قبله، وفيه وجه ثالث: إن كان بعد الدخول لم تملك الفسخ، لأن المعقود عليه قد استوفي، فأشبه ما لو أفلس المشتري بعد تلف المبيع.(6/402)
ما لم تكن تزوجته عالمة بعسرته (1) ويخير سيد الأَمة، لأَن الحق له (2) بخلاف ولي صغيرة ومجنونة (3) (ولا يفسخه) أي النكاح لعسرته بحال مهر (إلا حاكم) (4) كالفسخ لعنّة ونحوها، للاختلاف فيه (5) ومن اعترف لامرأة أن هذا ابنه منها، لزمه لها مهر مثلها، لأَنه الظاهر، قاله في الترغيب (6) .
__________
(1) أي الزوج حال العقد، لرضاها بذلك، أو رضيت بالمقام عنده مع عسرته، فيمتنع الفسخ، لرضاها به.
(2) أي في الفسخ وعدمه، لأنه مالك نفعها، والصداق عوض منفعتها، فهو ملكه دونها.
(3) لأنه لا حق له في المهر، فليس له الفسخ حتى تكبر صغيرة، وتفيق مجنونة، لأن المهر عوض منفعة البضع، وقد ترضى بتأخيره.
(4) جزم به في الإقناع وغيره، وصححه الموفق وغيره.
(5) فإنه لو فسخ بغير حكم اعتقدت أن النكاح انفسخ، وأبيح لها أن تتزوج والزوج يعتقد أنها زوجته، فيصير لها زوجان، كل واحد يعتقد حلها له، وتحريمها على الآخر، وهذا لا يجوز في الإسلام.
(6) للفخر ابن تيمية رحمه الله، ويقال: امرأة استحقت في يوم واحد مهرين ونصفا، وحلت فيه لثلاثة أزواج، مات أو طلق المدخول بها، والصداق مؤجل فوضعت في يومها ثم تزوجت فيه، وطلقت قبل دخوله بها، ثم تزوجت من يومها ذلك.(6/403)
باب وليمة العرس (1)
أَصل الوليمة: تمام الشيء واجتماعه (2) ثم نقلت لطعام العرس خاصة، لاجتماع الرجل والمرأَة (3) .
__________
(1) وآداب الآكل والشرب، وما يتعلق بها، والعرس بالضم وبضمتين، طعام الوليمة، والنكاح، وبالكسر: امرأة الرجل ورجلها، كما في القاموس وغيره. وقيل: بضم العين الزفاف، وهو إهداء العروس إلى زوجها، وعرس الرجل: امرأته، والعروس يطلق على الذكر والأنثى أيام الدخول.
(2) قال ابن الأعرابي: يقال: أولم الرجل. إذا اجتمع عقله وخلقه، ويقال للقيد: ولم. لأنه يجمع إحدى الرجلين إلى الأخرى.
(3) أي ثم نقل اسم الوليمة لطعام العرس خاصة، لا يقع على غيره، قاله أهل اللغة والفقهاء، لاجتماع الرجل والمرأة، وهو صريح في الأحاديث الصحيحة، وأما الاجتماع نفسه فليس هو الوليمة، وقيل: يقع على كل طعام لسرور حادث، إلا أن استعمالها في طعام العرس أكثر.
والأطعمة كثيرة، منها "حذاق" لطعام عند حذاق صبي أي ختمه القرآن، و"عذيرة وإعذار" لطعام ختان، و"خرسية وخرس" بالضم لطعام ولادة، و"وكيرة" لدعوة بناء، و"نقيعة" لقدوم غائب، و"عقيقة" الذبح لمولود، و"مأدبة" بضم الدال لكل دعوة بسبب وغيره، و"وخيمة" لمأتم و"تحفة" لقادم، فالتحفة منه، والنقيعة له، و"شندخية" لإملاك، و"مشداخ" لختم قارئ، وكلها جائزة غير مأتم فتكره.(6/404)
(تسن) الوليمة بعقد (1) ولو (بشاة فأَقل) من شاة (2) لقوله عليه السلام لعبد الرحمن بن عوف – حين قال له تزوجت - «أَولم ولو بشاة» (3) وأَولم النبي صلى الله عليه وسلم على صفية بحيس (4) وضعه على نطع صغير (5) .
__________
(1) أي تسن وليمة العرس بلا خلاف بين أهل العلم، مندوب إليها، ومرغب فيها وفيها فضيلة، وليست واجبة عند أكثرهم، وقيل: واجبة، وهو أظهر القولين للشافعي، لأمره صلى الله عليه وسلم بها، ووجوب الإجابة إليها، وقال الموفق: لا خلاف في أنها لا تجب، وما ذكروه لا أصل له، والخبر محمول على الاستحباب.
وكونها بالعقد قال ابن الجوزي، واقتصر عليه في الفروع والمبدع، وقال الشيخ: تستحب بالدخول، وفي الصحيح: بنى بامرأة، فدعوت رجالا إلى الطعام. وفي الإنصاف: الأولى أن يقال: وقت الاستحباب موسع، من عقد النكاح، إلى انتهاء أيام العرس، لصحة الأخبار في هذا وهذا، وكمال السرور بعد الدخول.
(2) لأنه صلى الله عليه وسلم، أولم على بعض نسائه، بمدين من شعير.
(3) متفق عليه، وأولم على زينب بشاة، وقال أنس: ما أولم على أحد من نسائه ما أولم على زينب، جعل يبعثني أدعو له الناس، فأطعمهم لحما وخبزا، حتى شبعوا، بل أولم على ميمونة بنت الحارث في عمرة القضية بمكة، وطلب من أهل مكة أن يحضروا وليمتها، فلعله أكثر من شاة.
(4) وهو الدقيق والسمن والأقط، يخلط بعضها في بعض، على هيئة "المفروكة" ولمسلم: جعل في وليمتها التمر والأقط والسمن.
(5) النطع: بساط من أديم.(6/405)
كما في الصحيحين عن أنس (1) لكن قال جمع: يستحب أن لا تنقص عن شاة (2) (وتجب في أول مرة) أي في اليوم الأول (إجابة مسلم (3) يحرم هجره) (4) بخلاف نحو رافضي، ومتجاهر بمعصية (5) إن دعاه (إليها) أي إلى الوليمة (6)
__________
(1) أنه صلى الله عليه وسلم أقام بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبني بصفية، قال أنس: فدعوت المسلمين إلى وليمته، ما كان فيها من خبز، ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت، فألقي عليها التمر، والأقط، والسمن فدل على إجزاء الوليمة بغير ذبح شاة.
(2) لحديث عبد الرحمن بن عوف، والأولى الزيادة عليها، لمفهوم قوله «ولو بشاة» وإن نكح أكثر من واحدة في عقد أو عقود أجزأت وليمة واحدة إن نواها للكل، وقيل: المستحب أنها على قدر حال الزوج.
(3) قال ابن عبد البر: لا خلاف في وجوب الإجابة لمن دعي إليها إذا لم يكن فيها لهو، وقيل: مستحبة. اختاره الشيخ، وهي حق للآدمي يسقط بعفوه، والمرأة كالرجل إلا مع خلوة محرمة.
(4) بحيث لم يكن من أهل المعاصي، ومكسبه طيب.
(5) ومنع ابن الجوزي من إجابة ظالم، أو فاسق، أو مبتدع، أو مفاخر بها، أو فيها مبتدع يتكلم ببدعة، إلا لراد عليه، وكذا إن كان فيها مضحك بفحش أو كذب.
(6) وهي الطعام في العرس خاصة، كما صرح به في بعض الروايات عند ابن ماجه، وهو قول الخليل، وثعلب وغيرهما من أهل اللغة.(6/406)
(إن عينه) الداعي (1) (ولم يكن ثم) أي في محل الوليمة (منكر) (2) لحديث أبي هريرة يرفعه «شر الطعام طعام الوليمة (3) يمنعها من يأْتيها، ويدعى إليها من يأْبها (4) ومن لا يجب فقد عصى الله ورسوله» رواه مسلم (5) .
__________
(1) أي إنما تجب إجابة دعوة المسلم إلى الوليمة إن عين رجلا بعينه أو جماعة معينين، ولو كان المدعو عبدا يأذن سيده، أو مكاتبًا لم تضر بمكسبه.
(2) كزمر، وخمر، وآلة لهو، والفرق بينها وبين الجنازة – كما قال الشيخ – أن الحق في الجنازة للميت، فلا يترك حقه لما فعله الحي من المنكر، والحق في الوليمة لصاحب البيت، فإذا أتى فيها بالمنكر فقد أسقط حقه من الإجابة.
(3) سماه شرا لما ذكر، فكأنه قال: شر الطعام الذي شأنه كذا. أو شر الطعام الذي من شأنه كذا، وبين شريته فقال: «بمنعها من يأتيها» .
(4) «يدعى إليها من يأباها» وهم الأغنياء «ويمنعها من يأتيها» وهم الفقراء، وفي رواية «تدعى لها الأغنياء، وتترك الفقراء» وكان من عادة أهل الجاهلية، ولم يرد أن كل وليمة طعامها شر الطعام، فإنه لو أراد ذلك لما أمر بها، ولا ندب إليها، ولا أوجب الإجابة إليها، ولا فعلها صلى الله عليه وسلم.
(5) ولحديث ابن عمر «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة، فليأتها» رواه البخاري، ولهما عنه مرفوعا «أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم إليها» فدلت هذه الأحاديث وغيرها على تأكد الإجابة، وإن كان المدعو مريضا – أو ممرضا، أو مشغولاً بحفظ مال، أو في شدة حر أو برد، أو مطر يبل الثياب، أو وحل، أو كان أجيرًا ولم يأذن له المستأجر – لم تجب الإجابة.
وقال بعض أهل العلم: يكره لأهل العلم والفضل الإسراع إلى الإجابة،
والتسامح فيه، لأن فيه بذلة ودناءة وشرها، لا سيما القاضي، لأنه ربما كان ذريعة للتهاون به، وعدم المبالاة، وفي الترغيب: إن علم حضور الأراذل، ومن مجالستهم تزري بمثله لم تجب، وقال الشيخ: لم أره لغيره، وهذا الشرط لا أصل له، وهذه شبهة الحجاج بن أرطاة، وهو نوع من التكبر، فلا يلتفت إليه، نعم: إن كانوا يتكلمون بكلام محرم، فقد اشتملت على محرم، وإن كان مكروها فقد اشتملت على مكروه.(6/407)
(فإن دعاه الجفلى) بفتح الفاء (1) كقوله: يا أيها الناس هلموا إلى الطعام (2) لم تجب الإجابة (3) (أو) دعاه (في اليوم الثالث) كرهت إجابته (4) لقوله عليه السلام «الوليمة أَول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة» رواه أبو داود وغيره (5) .
__________
(1) كرهت الإجابة، وهو ظاهر الإقناع، والمنتهى، وصححه في تصحيح الفروع.
(2) وكقول رسول رب الطعام: أمرت أن أدعو كل من لقيت أو من شئت.
(3) وقال الموفق: لم تجب، ولم تستحب، لأنه لم يعينه، وتسمى الدعوة العامة «الجفلى» والخاصة «النقرى» بالتحريك، قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر
أي يخصص، بل تباح، لقوله صلى الله عليه وسلم «ادع فلانا وفلانا، ومن لقيت» متفق عليه.
(4) وفاقا للشافعي.
(5) فدل على كراهته في اليوم الثالث، وقال الشيخ: يحرم الأكل
والذبح الزائد على المعتاد، في بقية الأيام، ولو العادة فعله، أو لتفريح أهله، ويعزر إن عاد.(6/408)
وتسن في ثاني يوم، لذلك الخبر (1) (أَو دعاه ذمي) (2) أَو من في ماله حرام (كرهت الإجابة) (3) لأن المطلوب إذلال أهل الذمة (4) والتباعد عن الشبهة، أو ما فيه الحرام، لئلا يواقعه (5) وسائر الدعوات مباحة (6) .
__________
(1) لمن عينه داعي الوليمة، وفي حديث ابن مسعود «وطعام يوم الثاني سنة» رواه الترمذي.
(2) كرهت إجابته، جزم به في الإقناع وغيره.
(3) كأكله منه، ومعاملته، وقبول هديته وهبته، ونحوه، جزم به الموفق وغيره، لحديث «فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه» .
(4) تعليل لكراهة إجابة دعوتهم، ولما فيه من إكرامهم، وقال بعضهم: تجوز من غير كراهة، وهو ظاهر كلام أحمد، وصوبه في الإنصاف، لأنه صلى الله عليه وسلم دعاه يهودي فأجابه، ذكره أحمد، وقيل لأحمد: تجيب دعوة الذمي؟ قال: (نعم) ، قال الشيح: قد يحمل كلامه على الوجوب.
(5) أي الحرام، وتقوى الكراهة، وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته وقيل: يحرم مطلقا، كما لو كان كله حراما، وإن لم يعلم أن في المال حراما فالأصل الإباحة، فتجب الإجابة، ولا تحرم بالاحتمال، استصحابا للأصل، والأولى صرف الشبهات في الأبعد عن المنفعة، فالأقرب ما يدخل في الباطن من الطعام والشراب ونحوه، ثم ما ولي الظاهر من اللباس.
(6) أي وسائر الدعوات المتقدم ذكرهن – غير وليمة عرس – فمباحة،
فلا تكره ولا تستحب، لأنها لم تكن تفعل في عهده صلى الله عليه وسلم، وعهد أصحابه، ولحديث عثمان بن أبي العاص، لما دعي إلى ختان فأبى، وقال: كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الموفق: إذا قصد فاعلها شكر نعمة الله عليه، وإطعام إخوانه، وبذل طعامه، فله أجر ذلك.(6/409)
غير عقيقة فتسن (1) ومأتم فتكره (2) والإجابة إلى غير الوليمة مستحبة (3) غير مأْتم فتكره (4) (ومن صومه واجب) – كنذر، وقضاء رمضان – إذا دعي للوليمة حضر وجوبا (5) .
__________
(1) وتقدمت في الهدي والأضاحي.
(2) وتقدم في الجنائز، والمأتم في الأصل: مجتمع الرجال والنساء في الغم والفرح، ثم خص به اجتماع النساء في الموت.
(3) وفاقا، لحديث «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، عرسا كان أو غير عرس» رواه مسلم، قال الزركشي: وجوابه حمله على الاستحباب، ولحديث البراء: أمر بإجابة الداعي. متفق عليه، ولما فيها من جبر قلب الداعي، وتطييب خاطره، وأما الوليمة: فتقدم وجوب الإجابة إليها بشرطه.
(4) وهو ما يصنعه أهل الميت بعد الموت، وكذا مفاخر بدعوته، ولأبي داود: نهى عن طعام المتبارزين أن يؤكل، والمتبارزان هما المتعارضان بفعلهما، ليتعجز أحدهما الآخر بصنيعه، وذكر الشيخ أنه لا ينبغي أن يسلم على من لا يصلي، ولا يجيب دعوته. اهـ. وإن دعاه أكثر من واحد أجاب الأسبق قولا، وصوبه في الإنصاف، فالأدين، فالأقرب رحما، فجوارا، ثم قرعة.
(5) لوجوب إجابة دعوة المسلم، كما تقدم، ولم يأكل، لأنه يحرم قطع
الصوم الواجب، لقوله تعالى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ولحديث أبي هريرة، ويسن الإخبار بصومه، لذلك ولفعل ابن عمر، ليعلم عذره.(6/410)
و (دعا) استحبابا (وانصرف) (1) لحديث أبي هريرة يرفعه «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائما فليدع، وإن كان مفطرا فليطعم» رواه أبو داود (2) (و) الصائم (المتنفل) إذا دعي أَجاب (3) و (يفطر إن جبر) قلب أخيه المسلم (4) وأَدخل عليه السرور (5) .
__________
(1) ومنه «أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وذكركم الله فيمن عنده» .
(2) فدل الحديث على أن من كان صائما لا يعتذر بالصوم، بل يجيب، وليدع لأهل الطعام بالبركة والمغفرة.
(3) ظاهره: وجوبا. لما تقدم.
(4) إن كان في تركه الأكل، كسر قلب أخيه المسلم.
(5) بفطره وأكله، فاستحب له ذلك، وإلا كان تمام الصوم أولى من الفطر، قال الشيخ: وهذا أعدل الأقوال، وقال: لا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاح في الطعام للمدعو، إذا امتنع من الفطر في التطوع، أو الأكل إن كان مفطرا، فإن كلا الأمرين جائز.
وإذا ألزمه بما لا يلزمه كان من نوع المسألة المنهي عنها، ولا يحلف عليه ليأكل، ولا ينبغي للمدعو إذا رأى أنه يترتب على امتناعه مفاسد أن يمتنع، فإن فطره جائز، وإن كان ترك الجائز مستلزما لأمور محذورة، فينبغي أن يفعل ذلك الجائز، وربما يصير واجبا.(6/411)
لقوله صلى الله عليه وسلم لرجل اعتزل عن القوم ناحية، وقال: إني صائم. «دعاكم أخوكم، وتكلف لكم (1) كل يوما، ثم صم يوما مكانه إن شئت» (2) (ولا يجب) على من حضر (الأَكل) ولو مفطرا (3) لقوله عليه السلام «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن شاء أكل، وإن شاء ترك» قال في شرح المقنع: حديث صحيح (4) ويستحب الأكل لما تقدم (5) (وإباحته) أي إباحة الأَكل (متوقفة على صريح إذن (6) أو قرينة) (7) .
__________
(1) بصنع الوليمة.
(2) ولعله: كل ثم صم يوما مكانه إن شئت، وإن أحب تمام الصيام دعا لهم، وأخبرهم بصيامه، ليعلموا عذره.
(3) إذ الواجب الإجابة إلى الدعوة، لأنه الذي أمر به، وتوعد على تركه، لا الأكل.
(4) فدل الحديث، على عدم وجوب الأكل.
(5) من قوله «كل ثم صم يوما مكانه» ولما فيه من جبر قلب أخيه، وإدخال السرور عليه، ولأن له الخروج من الصوم، وإن أحب إتمام الصيام جاز.
(6) فيحرم الأكل بلا إذن صريح من رب الطعام، لأن أكل مال الغير بغير إذنه محرم.
(7) تدل على إذنه، كتقديم طعام، ودعاء إليه.(6/412)
ولو من بيت قريب أو صديق لم يحرزه عنه (1) لحديث ابن عمر «من دخل على غير دعوة، دخل سارقا، وخرج مغيرا» (2) والدعاء إلى الوليمة، وتقديم الطعام إذن فيه (3) ولا يملكه من قدم إليه (4) .
__________
(1) فيباح الأكل من بيت القريب والصديق، من مال غير محرز عنه، إذا علم أو ظن رضى صاحبه بذلك، نظرا إلى العادة والعرف، قال في الآداب: هذا هو المتوجه، وما يذكر عن أحمد من الاستئذان، محمول على الشك في رضى صاحبه، أو الورع، وجوزه ابن الجوزي، واستظهره في الفروع، واختاره الشيخ.
(2) رواه أبو داود، وقال ابن عدي: هذا حديث منكر، لا يعرف إلا بابن طارج، وقوله «دخل سارقا» لأنه دخل بغير إذن و «خرج مغيرا» من: أغار. نهب مال غيره، شبهه به.
(3) أي الدعاء إلى الوليمة إذن في الطعام، وتقديمه إذن فيه، فالواو هنا بمعنى "أو" كما عبر بها غير واحد، فأحدهما إذن في الأكل صحيح، لحديث أبي هريرة «إذا دعي أحدكم إلى طعام، فجاء مع الرسول، فلذلك إذن» رواه أحمد، وأبو داود، فلا يشترط إذن ثان للأكل.
وقال في الإنصاف: «الدعاء إلى الوليمة إذن فيه، هذا المذهب، نص عليه، وعليه الأصحاب، وكذا تقديم الطعام إليه بطريق الأولى» اهـ. وهذا فيما إذا وضعه ولم يلحظ انتظار من يأتي، وينظر إلى العرف والعادة في ذلك البلد، وجزم به في الغنية.
(4) أي لا يملك الطعام من قدم إليه، ولا يملك التصرف فيه بغير إذنه،
وفي الفروع: يحرم أخذه. فإن علم بقرينة رضى مالكه، فيتوجه: يباح. ويكره مع ظنه رضاه.(6/413)
بل يهلك على ملك صاحبه (1) (وإن علم) المدعو (أن ثم) أي في الوليمة (منكرا) كزمر وخمر (2) وآلات لهو (3) وفرش حرير، ونحوها (4) فإن كان (يقدر على تغييره حضر وغيره) (5) لأنه يؤدي بذلك فرضين إجابة الدعوة، وإزالة المنكر (6) .
__________
(1) لأنه لم يملكه شيئًا، وإنما أباحه الأكل، قال في القواعد: أكل الضيف إباحة محضة، لا يحصل الملك، على المشهور عندنا.
(2) حضر وغيره، بكسر عود الزمر، وإراقة الخمر.
(3) كالعود، والطبل، والجنك، والرباب.
(4) كآنية ذهب وفضة، وفي الاختيارات: الخلاف في كسوة الحيطان، إذا لم تكن حريرا وذهبا، فأما الحرير والذهب فيحرم، كما تحرم سيور الحرير والذهب على الرجال، والحيطان، والأبواب التي يشترك فيها الرجال والنساء، ينبغي أن تكون كآلة الرجال، وأما الحيطان، والأبواب التي تختص بالمرأة، ففي كون ستورها وكسوتها كفرشها نظر، إذ ليس هو من اللباس.
ولا ريب في تحريم فرش الثياب تحت دابة الأمير، ويكره تعليق الستور على الأبواب من غير حاجة، لوجود غيرها من أبواب الخشب ونحوها وما زاد عن الحاجة فهو سرف.
(5) أي لزمه الحضور إجابة للدعوة، والإنكار لمنكر يشاهده، وينكره بحسبه.
(6) أي لأنه يؤدي بحضوره الدعوة، إجابة الدعوة المأمور بإجابتها، ويؤدي بحضوره، فرضية إزالة المنكر، المأمور بإنكاره.(6/414)
(وإلا) يقدر على تغييره (أَبى) الحضور (1) لحديث عمر مرفوعا «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر» رواه الترمذي (2) (وإن حضر) من غير علم بالمنكر (ثم علم به أَزاله) لوجوبه عليه، ويجلس بعد ذلك (3) (فإن دام) المنكر (لعجزه) أي المدعو (عنه انصرف) (4) لئلا يكون قاصدا لرؤيته، أو سماعه (5) .
__________
(1) بل يحرم عليه الحضور مع مشاهدة المنكر.
(2) ولأحمد، وأبي داود، والنسائي، وغيرهم نحوه، من حديث جابر، وابن عمر، ولابن ماجه عن علي: صنعت طعاما، فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في البيت تصاوير فرجع، ولحديث «من رأى منكم منكرا فليغيره» الحديث.
وإن رأى ستورا معلقة، فيها تصاوير حيوان، لم يجلس إلا أن تزال، وهو مذهب الجمهور، وقال ابن عبد البر: هذا أعدل المذاهب، ولأنه يكون قاصدًا لرؤية المنكر أو سماعه، بلا حاجة.
(3) أي بعد إزالة المنكر، لما تقدم، ولأبي داود عن ابن عمر، أنه سمع زمارة راع، فوضع إصبعيه في أذنيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخرج أحمد من وليمة فيها آنية فضة، فقال الداعي: نحولها. فأبى أن يرجع.
(4) وهذا مذهب الشافعي، وغيره.
(5) فيكون سببا لحضور الزور، وشهود الباطل، وظاهر كلام جماعة أنه يحرم
دخول بيعة، وكنيسة مع وجود صورة، قاله الشيخ وغيره، وأنها كالمسجد على القبر، وقال: يحرم حضور أعياد المشركين، وأن يفعل كفعلهم، والتشبه بهم منهي عنه إجماعًا، وتجب عقوبة فاعله، ولا ينبغي إجابة هذه الدعوة، ولا نزاع في النهي عن وضع الرأس عند الكبراء، وتقبيل الأرض، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير الله منهي عنه، ولما صلوا خلفه صلى الله عليه وسلم قياما، أمرهم بالجلوس، فكيف بما فيه السجود، ووضع الرؤوس، وتقبيل الأيدي.
والقيام، والقعود، والركوع، والسجود، حق للواحد المعبود، وما كان حقا له لم يكن لغيره فيه نصيب، قال: وتقبيل الأرض ووضع الرأس قدام الملك لا يجوز، بل الانحناء كالركوع لا يجوز، ومن فعله قربة وتدينا يبين له، فإن تاب وإلا قتل، ومن فعل لقصد فضول الرياسة والمال، كره.(6/415)
(وإن علم) المدعو (به) أي بالمنكر (ولم يره ولم يسمعه، خير) بين الجلوس والأكل، والانصراف (1) لعدم وجوب الإنكار حينئذ (2) (وكره النثار، والتقاطه) (3) .
__________
(1) لإسقاط الداعي حرمة نفسه، بإيجاد المنكر.
(2) وهو كونه لم ير المنكر، ولم يسمعه، والذي يظهر أنه إذا علم بالمنكر وجب إنكاره، كما قرره الشيخ وغيره، فترجح ترك الحضور إذا لم ينكر المنكر، بل يأثم بترك الإنكار مع القدرة.
(3) النثار: شيء يطرح في أيام التزويج، من دراهم أو غيرها، فيكره فعله، وسئل أحمد عن الجوز ينثره، فكرهه، وقال: يعطون، أو يقسم عليهم، وفي رواية: لا يعجبني انتهاب الجوز، وأن يؤكل، والسكر كذلك، وكره التقاطه في عرس أو غيره.(6/416)
لما يحصل فيه من النهبة، والتزاحم (1) وأَخذه على هذا الوجه فيه دناءة، وسخف (2) (ومن أَخذه) أي أَخذ شيئا من النثار (3) (أو وقع في حجره) منه شيء (فـ) ـهو (له) قصد تملكه أولا، لأنه قد حازه (4) ومالكه قصد تمليكه لمن حازه (5) .
__________
(1) والقتال عليه، وفي حديث زيد بن خالد: نهى عن النهبة والخلسة. رواه أحمد، وحديث عبد الله بن زيد، عند البخاري: نهى عن المثلة والنهبى. وبه قال مالك، والشافعي، وقال القاضي: يكره الأكل مما التقط من النثار، سواء أخذه، أو أخذه ممن أخذه.
وعنه: ليس بمكروه، والخلاف في الكراهة، وأما الإباحة والالتقاط فلا خلاف فيهما، وقال أحمد: هذه نهبة تقتضي التحريم، وهو قوي، وأما الرخصة المحضة فتبعد جدًا، كما حكاه في الاختيارات، وهو ظاهر الأحاديث.
(2) بالسين المهملة، والخاء المعجمة، إسقاط مروءة، والله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها.
(3) ملكه، لأن مالكه قصد تمليكه لمن أخذه.
(4) كالصيد إذا أغلق عليه داره أو خيمته، وإن لم يقصده، فلا يجوز لغيره أخذه منه.
(5) فليس لأحد أخذه منه، وإن قسمه على الحاضرين لم يكره، وكذا إن وضعه بين أيديهم، وأذن لهم في أخذه، على وجه لا يقع فيه تناهب، وتباح المناهدة، وهي أن يخرج كل واحد من الرفقة شيئًا من النفقة، ويدفعونه إلى من ينفق عليهم منه، ويأكلونه جميعا، فلو أكل بعضهم أكثر، أو تصدق جاز، ولم يزل الناس يفعلونه.(6/417)
(ويسن إعلان النكاح) (1) لقوله عليه السلام «أعلنوا النكاح» وفي لفظ «أَظهروا النكاح» رواه ابن ماجه (2) (و) يسن (الدف) أي الضرب به (3) إذا كان لا حلق به، ولا صنوج (4) (فيه) أَي في النكاح (للنساء) (5) وكذا ختان، وقدوم غائب، وولادة، وإملاك (6) لقوله عليه السلام «فصل ما بين الحلال والحرام الصوت، والدف في النكاح» رواه النسائي (7) .
__________
(1) أي إظهاره، وإشاعته.
(2) من حديث عائشة، وفي المسند: كان يكره نكاح السر. وجاء غير ذلك مما يدل على سنية إعلان النكاح، وتقدم.
(3) على ضربة غير ملهية كدف العرب، على شكل الغربال.
(4) قطع من نحاس، تجعل في إطار الدف، من النحاس المدور.
(5) خاصة، قاله الشيخ، وظاهر نصوص أحمد وأصحابه: التسوية.
(6) بكسر الهمزة، والمراد به عقد التزويج، حتى يعرف ويشتهر، أي يسن الضرب بالدف المباح فيها، قيل لأحمد: ما ترى الناس اليوم، تحرم الدف في إملاك أو بناء بلا غناء؟ فلم يكره ذلك. وقيل له: يكون فيه جرس؟ قال: لا. وقال الموفق وغيره أصحابنا كرهوا الدف في غير العرس وكرهه القاضي وغيره في غير عرس وختان.
(7) ورواه أحمد، والترمذي وحسنه، وفي المسند: يكره نكاح السر حتى يضرب بدف. ولابن ماجه عن عائشة «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغربال» وظاهره سواء كان الضارب رجلا أو امرأة.(6/418)
وتحرم كل ملهاة سوى الدف كمزمار، وطنبور، وجنك، وعود (1) ؛ قال في المستوعب والترغيب: سواء استعمل لحزن أو سرور (2) .
"تتمة"
في جمل من أدب الأكل، والشرب (3)
تسن التسمية جهرا على أكل، وشرب (4) .
__________
(1) ورباب، وناي ومعزفة، وزمارة الراعي ونحوها، وقضيب، قال في تصحيح الفروع: الصواب يحرم.
(2) فيحرم استعمال تلك الملاهي، واللعب بالشطرنج على عوض قمار لا يجوز، حكاه ابن عبد البر إجماعًا، ولذلك لو اشتمل اللعب بها على ترك واجب، أو فعل محرم، حرم بالإتفاق، وكذا لو شغل عن واجب، من مصلحة النفس، أو الأهل، أو الأمر بالمعروف، وصلة الرحم، أو ما يجب فعله من نظر في ولاية، أو إمامة، أو غير ذلك، أو استعملت في محرم، أو اشتملت على محرم.
(3) أوردها الشارح، تكميلا للفائدة.
(4) أي تسن التسمية، بأن يقول: بسم الله، وقال الشيخ: لو زاد «الرحمن الرحيم» عند الأكل، لكان حسنا، فإنه أكمل، بخلاف الذبح، وقيل بوجوبها، اختاره ابن أبي موسى، وكونها جهرا تنبيها للغافل على أكل، لحديث «يا غلام سم الله» وحديث «إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر في أوله، فليقل: بسم الله أوله وآخره» وعلى الشرب، للعموم، وقياسًا على الأكل.(6/419)
والحمد إذا فرغ (1) وأكله مما يليه، بيمينه (2) بثلاث أصابع (3) وتخليل ما علق بأسنانه (4) .
__________
(1) أي ويسن أن يحمد الله تعالى إذا فرغ من أكله وشربه، لحديث «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها» رواه مسلم، ولغير ذلك، وينبغي أن يقول «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وآوانا، وجعلنا مسلمين» ويسن الدعاء لصاحب الطعام، ومنه «أفطر عندكم الصائمون» وتقدم.
(2) أي ويسن أكله مما يليه، إن لم يكن أنواعا، أو فواكه، أو يأكل وحده، ويسن بيمينه، لحديث عمر بن أبي سلمة: كانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي «يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» متفق عليه، ولحديث ابن عمر «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه» الحديث، وغيره، وكره أكله بشماله بلا ضرورة، لأنه تشبه بالشيطان، وذكره النووي في الشرب إجماعًا، لخبر «فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله» متفق عليه.
(3) ويكره بما دونها، وبما فوقها، ما لم تكن حاجة، أو يتناول عادة وعرفا بإصبع أو أصبعين أو أكثر، فإن العرف يقتضيه، كما في الآداب، ولا يكره الأكل بالملعقة، والسنة أن يأكل بيده، ولا يمسح يده حتى يلعقها، لحديث كعب: كان صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، ولا يمسح يده حتى يلعقها؛ وإذا صادف قوما يأكلون فدعوه، لم يكره له الأكل، وقيل لأحمد: الإناء يؤكل فيه، ثم تغسل فيه اليد، قال: لا بأس به. وقيل: تغسل اليد بالنخالة؟ قال: لا بأس به. واستدل الخطابي بقوله للمرأة «اجعلي مع الماء ملحا» في غسل الحيضة.
(4) مما لا يأخذه اللسان، وقيل: لا يبتلعه.(6/420)
ومسح الصحفة (1) وأكل ما تناثر (2) وغض طرفه عن جليسه (3) وشربه ثلاثا مصا (4) ويتنفس خارج الإناء (5) وكره شربه من فم سقاء (6) وفي أثناء طعام بلا عادة (7) .
__________
(1) التي أكل فيها، لخبر «تستغفر له الصحفة» رواه الترمذي.
(2) أي من الطعام، وأكله عند حضور رب الطعام وإذنه.
(3) أي يسن لمن أكل مع غيره غض طرفه عن جليسه، لئلا يستحي منه، وإيثاره على نفسه، لقوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
وقال أحمد: يأكل بالسرور مع الإخوان، وبالإيثار مع الفقراء، وبالمروءة مع أبناء الدنيا، ومع العلماء بالتعلم.
(4) لما روي «مصوا الماء مصا، ولا تعبوه عبا، فإن الكباد من العب» ويعب اللبن لأنه طعام.
(5) لئلا يعود إليه شيء فيقدّره، ولخبر «ولا يتنفس في الإناء» لأن النفس يخرج كرب القلب، وكدر البدن، فكره الشارع أن يعود في الماء، فيؤذي الشارب، ولا ينفخ فيه للخبر.
(6) للنهي عنه، ولأنه قد يخرج من فم القربة ما ينغصه، ومن ثلمة الإناء، واختناث الأسقية، هو قلبها إلى خارج.
(7) لأنه مضر، إلا إذا صدق عطشه، فينبغي من جهة الطب، يقال: إنه دباغ المعدة.(6/421)
وإذا شرب ناوله الأَيمن (1) ويسن غسل يديه قبل طعام (2) متقدما به ربه، وبعده، متأخرًا به ربه (3) وكره رد شيء من فمه إلى الإناء (4) وأكله حارا (5) أو من وسط الصحفة أو أعلاها (6) وفعله ما يستقذره من غيره (7) .
__________
(1) ولو صغيرًا، أو مفضولاً، للخبر، ولا يكره شربه قائما، نص عليه، وعنه: يكره لغير حاجة. اختاره الشيخ، وكذا الأكل، اختاره الشيخ.
(2) لخبر رواه ابن ماجه، ولا بأس بتركه، لفعله صلى الله عليه وسلم، وعنه: يكره. اختاره القاضي، وفاقًا لمالك، والشافعي.
(3) أي متقدمًا رب الطعام بغسل يديه قبل الضيف، وبعد الطعام، متأخرًا رب الطعام بغسل يديه، حتى يغسل الضيف يديه، ثم يغسل رب الطعام يديه.
(4) من طعام أو شراب، لأنه يقذره، ولا يمسح يده بالخبز، ولا يستبذله، ولا يخلط طعاما بطعام، لأنه يستقذره غيره.
(5) أي وكره أكله الطعام حارا، وفي الإنصاف: عند عدم الحاجة، لأنه لا بركة فيه، وكره نفخه ليبرد، وكذا الشراب، وقال الآمدي: لا يكره، والطعام حار. وصوبه في الإنصاف، إن كان ثم حاجة للأكل.
(6) لما روى ابن ماجه «إذا جاء أحدكم طعاما، فلا يأكل من أعلى الصحفة، ولكن من أسفلها، فإن البركة تنزل من أعلاها» وقوله «كلوا من جوانبها، ودعوا ذروتها، يبارك فيها» .
(7) أي يكره فعل ما يستقذره من غيره كتمخط، وذكر قذر رديء، أو كلام يضحكهم أو يحزنهم.(6/422)
ومدح طعامه، وتقويمه (1) وعيب الطعام (2) وقرانه في تمر مطلقًا (3) وأن يفجأ قوما عند وضع طعامهم تعمدا (4) وأكله كثيرًا بحيث يؤذيه (5) أو قليلا، بحيث يضره (6) .
__________
(1) لأنه دناءة، ويشبه المن به، وحرمهما في الغنية، ولا بأس بمدح الطعام من غيره، ولغير ضيف، وقد يصير من التحدث بالنعمة.
(2) أي ويكره عيب الطعام، واحتقاره، بل إن اشتهاه أكله، وإلا تركه للخبر.
(3) أي وكره قرانه في تمر ونحوه، مما جرت العادة بتناوله أفرادا، لما فيه من الشره، وحرمه في الغنية، وقوله: مطلقًا. أي سواء كان وحده أو مع غيره صححه في تصحيح الفروع، وقيل: يكره مع شريك لم يأذن، قاله في الرعاية، لا وحده، ولا مع أهله، ولا مع من أطعمهم ذلك، قال الشيخ: ومثله قران ما العادة جارية بتناوله أفرادا، واختلف كلامه في أكل الإنسان حتى يتخم: هل يكره أو يحرم: وجزم في موضع آخر بتحريم الإسراف، وفسره بمجاوزة الحد.
(4) لقوله تعالى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} وكذا من غير أن يدعى، وهو الطفيلي، وفي الشرح: لا يجوز. وإن فجأهم بلا تعمد أكل، نص عليه، وقيل: إلا ممن عادته السماحة.
(5) أي وكره أكله كثيرًا، بحيث يؤذيه، فيبلغ به حد التخمة ونحوها، فإن لم يؤذه جاز، وكره الشيخ أكله حتى يتخم، وصوبه في الإنصاف، ويحرم الإسراف، وهو مجاوزة الحد، لعموم الآيات.
(6) أي وكره أكله قليلا، بحيث يضره، سواء أكل مع غيره أو وحده،
لحديث «لا ضرر ولا ضرار» وليس من السنة ترك أكل الطيبات، والسنة أثلاثًا، لقوله صلى الله عليه وسلم «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولا بد فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» ومن السرف أن يأكل كل ما اشتهى ومن أذهب طيباته في حياته الدنيا، واستمتع بها، نقصت درجاته في الآخرة، للأخبار.
وكره نفض يده في القصعة، وأن يقدم إليها رأسه عند وضع اللقمة في فمه، وأن يغمس اللقمة الدسمة في الخل، أو الخل في الدسم، فقد يكرهه غيره، وينبغي أن يحول وجهه عند السعال والعطاس عن الطعام، أو يبعد عنه، أو يجعل على فيه شيئًا، لئلا يخرج منه ما يقع في الطعام، ويكره أن يغمس بقية اللقمة التي أكل منها في المرقة.
ويستحب للآكل أن يجلس على رجله اليسرى، وينصب اليمنى، أو يتربع، وينبغي لمن أكل مع جماعة أن لا يرفع يده قبلهم حتى يكتفوا، وأن يخرج مع ضيفه إلى باب الدار، ويحسن أن يأخذ بركابه، وينبغي للضيف – بل لكل أحد – أن يتواضع في مجلسه، وإذا حضر أن لا يتصدر، وإن عين له صاحب البيت مكانا لم يتعده.(6/423)
.......................................................................(6/424)
باب عشرة النساء (1)
العشرة بكسر العين الاجتماع (2) يقال لكل جماعة: عشرة ومعشر (3) وهي هنا: ما يكون بين الزوجين، من الأُلفة والانضمام (4) (يلزم) كلا من (الزوجين العشرة) أي معاشرة الآخر (بالمعروف) (5) فلا يمطله بحقه (6) ولا يتكره لبذله (7) ولا يتبعه أذى ومنة (8) .
__________
(1) والقسم، وما يتعلق بهما، وقوله: عشرة النساء. أي عشرة النساء الرجال، أو عشرة الرجال النساء، ليصح تفسيره بقوله: وهي ... الخ.
(2) والمخالطة، وعاشره معاشرة؛ وتعاشروا تخالطوا.
(3) كمسكن، وعشرة بكسر العين، وفي الآية الكريمة {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} وقال عليه الصلاة والسلام «يا معشر قريش» .
(4) الألفة بالضم، أي والعشرة المبوب لها: هي ما يكون بين الزوجين من الائتلاف، والاجتماع، وقال الحارث المحاسبي: ثلاثة أشياء قليلة، أو معدومة حسن الوجه مع الصيانة، وحسن الخلق مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة.
(5) من الصحبة الجميلة, وكف الأذى.
(6) مع قدرته على أدائه.
(7) أي بما عليه من حق الآخر، بل ببشر وطلاقه.
(8) لأن هذا من المعروف المأمور به.(6/425)
لقوله تعالى {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) وقوله {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وينبغي إمساكها مع كراهته لها، لقوله تعالى {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (3) .
__________
(1) أي طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم، قال صلى الله عليه وسلم «خيركم خيركم لأهله» وكان من أخلاقه أنه جميل العشر، دائم البشر. وقال ابن زيد: تتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله فيكم.
(2) قال ابن عباس: إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي، وحقه عليها أعظم من حقها عليه، لقوله تعالى {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} وقوله صلى الله عليه وسلم «لو كنت آمرا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» لعظم حقه عليها؛ وقال «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح» .
ويسن لكل منهما تحسين الخلق لصاحبه، والرفق به، واحتمال أذاه، لقوله تعالى {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قيل: هو كل واحد من الزوجين، ولقوله صلى الله عليه وسلم «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان عندكم» وقوله «خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمه كسرته» .
وقال ابن الجوزي: معاشرة المرأة بالتلطف، مع إقامة هيبة، ولا ينبغي أن يعلمها قدر ماله، ولا يفشي إليها سرًا، يخاف إذاعته، ولا يكثر من الهبة لها، وليكن غيورا من غير إفراط، لئلا ترمى بالشر من أجله. اهـ. وعليها أن تبدي له كل ما يدعوه إليها، ويزيدها في مودته، وتصطاد به قلبه.
(3) أي فعسى أن يكون صبركم، في إمساككم لهن مع الكراهة، فيه خير
كثير لكم، في الدنيا والآخرة، ندب تعالى إلى إمساك المرأة مع الكراهة، لأن الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح، فرب مكروه عاد محمودا، أو محمود عاد مذموما، ولا تكاد تجد محبوبًا ليس فيه ما تكره، فليصبر على ما يكره لما يحب.(6/426)
قال ابن عباس: ربما رزق منها ولدا فجعل الله فيه خيرًا كثيرًا (1) (ويحرم مطل كل واحد) من الزوجين (بما يلزمه لـ) لمزوج ا (لآخر (2) والتكره لبذله) أي بذل الواجب، لما تقدم (3) (وإذا تم العقد لزم تسليم) الزوجة (الحرة التي يوطأُ مثلها) (4) وهي بنت تسع (5) ولو كانت نضوة الخلقة (6)
__________
(1) وفي الصحيح «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي منها آخر» .
(2) المطل الدفع عن الحق، بوعد، وبابه قتل.
(3) أي من وجوب المعاشرة بالمعروف، وعدم التكره لبذله، للآيات والأخبار.
(4) إن طلبه، لأنه بالعقد يستحق الزوج تسليم العوض، كما تستحق تسليم الصداق إن طلبته، ونصه: التي يمكن الاستمتاع بها. واعتبار الحرية، لما يأتي في الأمة.
(5) لأنه صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة وهي ابنة تسع، وليس على التحديد، وإنما ذكروه لأنه الغالب، وفي هذا الوقت لا يمكن تقييدها بالتسع، بل التي يوطأ مثلها.
(6) أي مهزولة الجسم، لكن إن خافت على نفسها بالإفضاء من عظمه، فلها منعه من جماعها، وعليه النفقة، ولا يثبت له خيار الفسخ.(6/427)
ويستمتع بمن يخشى عليها، كحائض (1) (في بيت الزوج) متعلق بتسليم (2) (إن طلبه) أي طلب الزوج تسليمها (3) (ولم تشترط) في العقد (دارها، أو بلدها) فإن اشترطت عمل بالشرط، لما تقدم (4) ولا يلزم ابتداء تسليم محرمة، ومريضة، وصغيرة، وحائض، ولو قال لا أطأ (5) وإن أنكر أن وطأه يؤذيها، فعليها البينة (6) .
__________
(1) أي يستمتع بها كما يستمتع من الحائض بما دون الفرج، ويقبل قول امرأة ثقة في ضيق فرجها، وعبالة ذكره، ونحو ذلك، ويجوز أن تنظرهما وقت اجتماعهما للحاجة.
(2) أي وإذا تم العقد، لزم تسليم الزوجة الحرة، في بيت الزوج.
(3) لأن الحق له، فلا يجب بدون طلبه.
(4) أي في الشروط في النكاح، ولم يكن له طلبها إلى بيته، وفي المبدع: فإن شرطته لزم الوفاء به، وإنما يلزم على قول الشيخ، وعليه فله طلبها، ولها الفسخ بمخالفته، ويجب تسليم نفسها في دارها، ويلزم الزوج تسلمها إن بذلته إذا كانت ممن يجب تسليمها، وتلزمه النفقة، تسلمها أو لا.
(5) لم يقبل قوله، وذلك لأن هذه الأعذار تمنعه الاستمتاع بها، ويرجى زوالها، وإن كانت غير مرجوة الزوال وجب التسليم، لئلا يؤدي إلى عدم التسليم، بخلاف ما لو كانت عنده أولا، ثم مرضت، أو حاضت، فإنه يلزم تسليمها إليه، ويلزمه تسليمها إذا طلبته.
(6) لأن الأصل عدم ذلك، أشبه سائر الدعاوي، وهذا فيما إذا كانت ممن يجب تسليمها.(6/428)
(وإذا استمهل أَحدهما) أي طلب المهلة ليصلح أَمره (أُمهل العادة وجوبًا) (1) طلبا لليسر والسهولة (2) (لا لعمل جهاز) بفتح الجيم وكسرها (3) فلا تجب المهلة له (4) لكن في الغنية: تستحب الإجابة لذلك (5) (ويجب تسليم الأَمة) مع الإطلاق (ليلا فقط) (6) لأنه زمان الاستمتاع للزوج (7) وللسيد استخدامها نهارا، لأنه زمن الخدمة (8) وإن شرط تسليمها نهارًا، أو بذله سيد، وجب على الزوج تسلمها نهارا أيضًا (9) .
__________
(1) كاليومين والثلاثة، كذا ذكره في الإقناع وغيره، والمرجع في ذلك إلى العرف، لأنه لا تقدير فيه، فيرجع فيه إلى العادة.
(2) لأن ذلك من حاجتهما، فإذا منعا منه كان تعسيرا، فوجب إمهالهما.
(3) ما تجهز به إلى بيت الزوج.
(4) أي لعمل الجهاز، وكذا لو سأل هو ذلك.
(5) إن استمهلت هي أو أهلها ما تتهيأ به، من شراء جهاز وتزين، أو استمهل هو وولي من به صغر أو جنون مثله، إذا طلب المهلة، على التفصيل السابق.
(6) حيث لم يكن هناك شرط.
(7) أي لأن الليل هو زمن الاستمتاع في الغالب.
(8) ولأنها مملوكته، عقد الزوج على إحدى منفعتيها، فلم يجب تسليمها في غير وقتها، كما لو آجرها لخدمة النهار.
(9) لأن الزوجية تقتضي وجوب التسليم والتسلم مع البذل ليلاً ونهارًا، وإنما منع منه في حق الأمة نهارا لحق السيد، فإذا بذله فقد ترك حقه، فعاد إلى الأصل في الزوجية.(6/429)
(ويباشرها) أي: للزوج الاستمتاع بزوجته في قبل، ولو من جهة العجيزة (1) (ما لم يضر) بها (2) (أو يشغلها عن فرض) باستمتاعه (3) ولو على تنور، أو ظهر قتب (4) (وله) أي للزوج (السفر بالحرة) مع الأَمن (5) لأنه عليه السلام وأصحابه كانوا يسافرون ينسائهم (6) (ما لم تشترط ضده) أي أن لا يسافر بها، فيوفي لها بالشرط (7) .
__________
(1) لقوله تعالى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فجاز كل وقت، على أي صفة كانت، وإنما التحريم مختص بالدبر دون ما سواه.
(2) أي باستمتاعه بها، لأنه ليس من المعاشرة بالمعروف، ومن زاد عليها في الجماع صولح على شيء، لأنه غير مقدر، فرجع إلى اجتهاد الحاكم، قال الشيخ: فإن تنازعا فينبغي أن يفرضه الحاكم، كالنفقة وكوطئه إذا زاد. اهـ. وجعل ابن الزبير أربعا بالليل، وأربعا بالنهار، وصالح أنس رجلا على ستة.
(3) فليس له ذلك، وحيث لم يضرها، ولم يشغلها عن فرض، فله الاستمتاع بها، ولا يجوز لها تطوع بصوم، ولا صلاة، وهو شاهد إلا بإذنه.
(4) أي وله الاستمتاع بها، ما لم يضرها أو يشغلها، ولو كانت على تنور، لما رواه أحمد وغيره «أو كانت على ظهر قتب» يعني راكبة.
(5) بلا إذنها إذا كان الطريق، أو البلد الذي يريده غير مخوف.
(6) كما هو مستفيض عنه صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه رضي الله عنهم.
(7) لقوله صلى الله عليه وسلم «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» .(6/430)
وإلا فلها الفسخ كما تقدم (1) والأَمة المزوجة ليس لزوجها ولا سيدها سفر بها بلا إذن الآخر (2) ولا يلزم الزوج لو بوأَها سيدها مسكنا أن يأتيها فيه (3) ولسيد سفر بعبده المزوج، واستخدامه نهارا (4) (ويحرم وطؤها في الحيض) (5) لقوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} الآية (6) وكذا بعده قبل الغسل (7) (و) في (الدبر) (8) لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله لا يستحي من الحق، لا تأْتوا النساء في أَعجازهن» رواه ابن ماجه (9) .
__________
(1) أي فيما إذا شرطت بلدها.
(2) لما في ذلك من تفويت حقه عليه.
(3) أي الزوج في ذلك المسكن، لأن السكنى للزوج، لا لها.
(4) ولو منعه من التكسب، لتعلق المهر والنفقة بذمة سيده.
(5) وكذا نفاس إجماعًا، وتقدم في باب الحيض.
(6) فدلت الآية على تحريم وطء الحائض حال جريان دم الحيض، وهو إجماع.
(7) لقوله تعالى {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي اغتسلن أو تيممن لعدم الماء، أو عجز عن استعماله.
(8) أي ويحرم وطؤها في الدبر، بالإجماع.
(9) وله عن أبي هريرة «لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها»
وعنه «من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد» قال الشيخ: وطء المرأة في الدبر حرام، بالكتاب والسنة، وقول جماهير السلف والخلف، بل هو اللوطية الصغرى، وقوله تعالى {أَنَّى شِئْتُمْ} أي في صمام واحد كما تقدم، فإن فعل عزر إن علم تحريمه، وإن تطاوعا فرق بينهما، قال الشيخ: كما يفرق بين الرجل الفاجر، وبين من يفجر به من رقيقه.(6/431)
ويحرم عزل بلا إذن حرة (1) أو سيد أمة (2) (وله إجبارها) أي للزوج إجبار زوجته (على غسل حيض) ونفاس (3) وجناية، إذا كانت مكلفة (4) .
__________
(1) قال الوزير وغيره: أجمعوا على أنه ليس له العزل عن الحرة إلا بإذنها، ولأحمد: نهى أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها. وثبت عن ابن عباس نحوه، ولمسلم عن عائشة قال «ذلك الوأد الخفي» ولأن لها في الولد حقا، وعليها في العزل ضرر، فلم يجز إلا بإذنها، والجماع من حقها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل، ومعناه أن ينزع إذا قرب الإنزال، فينزل خارجا عن الفرج.
(2) أي ويحرم عزل عن أمة، إلا بإذن سيدها عند الجمهور، لأن الحق في الولد له، وله أن يعزل عن سريته بلا إذنها، ويعزل وجوبا عن الكل بدار حرب بلا إذن.
(3) سواء كانت زوجة، أو أمة، أو سرية، لأنه يمنع الاستمتاع الذي هو حق له، فملك إجبارها على إزالة ما يمنع حقه.
(4) لا إجبار من دون البلوغ، ولا ذمية كما سيأتي، لأن الوطء لا يقف عليه، لإباحته بدونه، جزم به في الإقناع، وصحح في الإنصاف إجبار الذمية المكلفة، وهو مقتضى المنتهى.(6/432)
(و) غسل (نجاسة) (1) واجتناب محرمات (2) وإزالة وسخ ودرن (وأَخذ ما تعافه النفس من شعر وغيره) كظفر (3) ومنعها من أكل ما له رائحة كريهة، كبصل وكراث (4) لأنه يمنع كمال الاستمتاع (5) وسواء كانت مسلمة أو ذمية (6) ولا تجبر على عجن، أو خبز، أو طبخ، أو نحوه (7) (ولا تجبر الذمية على غسل الجنابة) في رواية (8) .
__________
(1) أي وللزوج إجبار زوجته، على غسل نجاسة، لأنه واجب عليها.
(2) أي وله إجبارها على اجتناب المحرمات، وأداء الواجبات، فلو امتنعت عن الصلاة أدبها، فإن صلت وإلا حرم عليه الإقامة معها، كما سيأتي.
(3) فإن احتاجت إلى شراء الماء فثمنه عليه، لأنه لحقه.
(4) وثوم، ونتن، إذا تأذى به.
(5) فكان له منعها منه.
(6) فهما سواء في حقه.
(7) كطحن، وكنس بيت، وغير ذلك، وقال الشيخ: يجب على المرأة خدمة زوجها بالمعروف، من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة، وقاله طائفة من الأصحاب.
(8) وهو ما جزم به في الإقناع، وقدمه غير واحد.(6/433)
والصحيح من المذهب له إجبارها عليه، كما في الإنصاف وغيره (1) وله منع ذمية من دخول بيعة، وكنيسة (2) وشرب ما يسكرها (3) لا ما دونه (4) ولا تكره على إفساد صومها، أو صلاتها، أو سبتها (5) .
__________
(1) وهو مقتضى المنتهى وغيره.
(2) فلا تخرج إلا بإذن الزوج.
(3) لأنه محرم عليها، وله منعها من تناول محرم.
(4) أي ولا تمنع من دون ما يسكرها، لاعتقادها حله في دينها، وأقرت عليه، وله إجبارها على غسل فمها من سائر النجاسات، لأنه يمنع من القبلة.
(5) بوطء أو غيره، لأنه يضر بها، ولأنها بذلت الذمة، وعقدت على إقرارها على دينهم، ولا يشتري لها ولا لأمته الذمية زنارا، لأنه إعانة على إظهار شعارهم، بل إن أرادت فتشتري هي لنفسها.(6/434)
فصل (1)
(ويلزمه) أي الزوج (أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع) ليال، إذا طلبت (2) لأن أكثر ما يمكن أن يجمع معها ثلاثا مثلها (3) وهذا قضاء كعب بن سوار عند عمر بن الخطاب واشتهر ولم ينكر (4) .
__________
(1) في أحكام الميت، والجماع، ولزومها المنزل، وما يتعلق بذلك.
(2) ذلك، لأن الحق لها، ولم يكن ثم عذر.
(3) هذا التعليل نظره الشيخ، كما يأتي.
(4) وذلك في امرأة أثنت على زوجها، بقيام الليل، وصيام النهار، فقال إنها جاءت تشكوه. وأرى أنها امرأة عليها ثلاث نسوة، وهي رابعتهن، فأقضي له بثلاثة أيام ولياليهن، يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة، فقال نعم القاضي أنت، رواه سعيد، ولم ينكر، فكان كالإجماع، وهكذا ذكر الأصحاب رحمهم الله.
وفي الاختيارات: يتوجه أن لا يقدر قسم الابتداء الواجب، كما لا يتقدر الوطء، بل يكون بحسب الحاجة، فإنه قد يقال: التزوج بأربع لا يقتضي أنه إذا تزوج بواحدة، يكون حال الإنفراد كحال الاجتماع، وعلى هذا فتحمل قصة كعب، على أنه تقدير شخص لا يراعى.
وقول أصحابنا: يجب على الرجل المبيت عند امرأته ليلة من أربع. هذا المبيت يتضمن شيئين، أحدهما المجامعة في المنزل، والثاني في المضجع؛ وقوله تعالى {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} مع قول صلى الله عليه وسلم «ولا يهجر إلا في المضجع» دليل على وجوب المبيت في المضجع، ودليل على أنه لا يهجر المنزل، ونص أحمد في الذي يصوم النهار، ويقوم الليل، يدل على وجوب المبيت في المضجع، وكذا ما ذكروه في النشوز، إذا نشزت هجرها في المضجع، دليل على أنه لا يفعله بدون ذلك.(6/435)
وعند الأَمة ليلة من سبع (1) لأَن أكثر ما يجمع معها ثلاث حرائر، وهي على النصف (2) (و) له أَن (ينفرد إذا أراد) الإنفراد (في الباقي) (3) إذا لم يستغرق زوجاته جميع الليالي (4) فمن تحته حرة، له الإنفراد في ثلاث ليال من كل أربع، ومن تحته حرتان له أَن ينفرد في ليلتين، وهكذا (5)
__________
(1) أي ويلزمه أن يبيت عند الزوجة الأمة ليلة من سبع ليال، فلها ليلة وللحرة ليلتان، هذا فيما إذا تزوج أمة بحيث أبيح له، بخلاف سريته.
(2) أي والزوجة الأمة على النصف من الزوجة الحرة، ومحله إن طلبت ذلك، لأن الحق لها، فلا يجب بدونه.
(3) بنفسه، أو مع سريته، وقال أحمد: لا يبيت وحده، وتقدم تقرير الشيخ وجوب المبيت في المضجع، وأنه لا يهجر المنزل، وفي الصحيحين «وإن لزوجك عليك حقا» .
(4) الأربع، على ما قرروه، رحمهم الله.
(5) ومن تحته حرة وأمة، قسم لهن ثلاث ليال من ثمان، وله الإنفراد في خمس، وإن كانت تحته حرتان وأمة، فلهن خمس، وله ثلاث، وهكذا،
وأما العبد فقياس قولهم: أن يقسم للحرة ليلة من ليلتين، والأمة ليلة من ثلاث وأربع، ولا يتصور أن يجمع عنده أربعا عند الجمهور، وفي الاختيارات: يأثم إن طلق إحدى زوجتيه وقت قسمها، وتعليلهم يقتضي أنه إذا طلقها قبل مجيء نوبتها، كان له ذلك.
ويتوجه أن له الطلاق مطلقا، لأن القسم إنما يجب ما دامت زوجة، كالنفقة، فليس هو شيء مستقر في الذمة قبل مضي وقته، حتى يقال: هو دين، نعم: لو لم يقسم لها حتى خرجت الليلة التي لها، وجب عليه القضاء، فلو طلقها قبله كان عاصيًا.
قال الشيخ: وقياس المذهب جواز أخذ العوض، عن سائر حقوقها من القسم وغيره، لأنه إذا جاز للزوج أن يأخذ العوض عن حقه منها، جاز أن تأخذ العوض عن حقها منه، لأن كلا منهما منفعة بدنية.(6/436)
(ويلزمه الوطء إن قدر) عليه (كل ثلث سنة مرة) (1) بطلب الزوجة، حرة كانت أَو أَمة، مسلمة أو ذمية (2) لأن الله تعالى قدر ذلك في أربعة أَشهر في حق المولي، فكذلك في حق غيره (3) .
__________
(1) ولم يكن ثم عذر، وإن تنازعا فينبغي أن يفرضه الحاكم، كما تقدم، واختار الشيخ وجوبه بقدر كفايتها، ما لم ينهك بدنه، أو يشغله عن معيشة من غير تقدير مدة.
(2) لأن الحق لها في ذلك، فلا يجب بدون طلبه.
(3) أي غير المولي، فلا يلزمه إلا في كل ثلث سنة مرة.(6/437)
لأَن اليمين لا توجب ما حلف عليه، فدل أَن الوطء واجب بدونها (1) (وإن سافر فوق نصفها) أي نصف سنة، في غير حج أَو غزو واجبين، أو طلب رزق يحتاجه (2) (وطلبت قدومه وقدر لزمه) القدوم (3) (فإن أبى أحدهما) أي الوطء في كل ثلث سنة مرة (4) أو القدوم إذا سافر فوق نصف سنة وطلبته (فرق بينهما بطلبها) (5) وكذا إن ترك المبيت، كالمولي (6) .
__________
(1) ولأنه لو لم يكن واجبا، لم يصر باليمين على تركه موليا، كسائر ما لا يجب، ولأن النكاح شرع لمصلحتهما، ودفع الضرر عنهما، فكان حقا لهما جميعا.
(2) لم يلزمه القدوم، لأن صاحب العذر يعذر من أجل عذره.
(3) إن لم يكن عذر من تلك الأعذار ونحوها.
(4) فرق بينهما، قال الشيخ: وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتض للفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، ولو مع قدرته وعجزه، كالنفقة وأولى، للفسخ بتعذره في الإيلاء إجماعًا.
(5) والأولى بعد مراسلة الحاكم إليه، وهو المفتى به، لأنه ترك حقا عليه، تضرر به، أشبه المولي، وقال أبو محمد المقدسي: القول في امرأة الأسير والمحبوس – ونحوهما ممن تعذر انتفاع امرأته به – إذا طلبت فرقته، كالقول في امرأة المفقود بالإجماع.
(6) أي وكذا إن ترك الزوج المبيت عندها، من الليالي المتقدم ذكرها فكالمولي.(6/438)
ولا يجوز الفسخ في ذلك كله (1) إلا بحكم حاكم، لأَنه مختلف فيه (2) (وتسن التسمية عند الوطء (3) وقول الوارد) (4) لحديث ابن عباس مرفوعا «لو أَن أحدكم حين يأْتي أهله، قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا (5) فولد بينهما ولد، لم يضره الشيطان أَبدا» متفق عليه (6) .
__________
(1) أي في ترك الوطء، أو المبيت، أو القدوم.
(2) وهذه قاعدة ما اختلف فيه، لا يفسح العقد إلا بحاكم، يرتفع به الخلاف، ويمنع التلاعب بالعقود.
(3) أي يسن قول: بسم الله. حال مجلس الرجل من امرأته، قال ابن نصر الله: وتقوله المرأة أيضًا.
(4) من الدعاء المأثور.
(5) وفي رواية: إذا أراد أن يأتي أهله، يقول ذلك، طلبا للبركة والعصمة من الشيطان، وقال عطاء في قوله تعالى {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} : هو التسمية عند الجماع.
(6) ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود «إذا أنزل يقول: اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيبا» واستحسنه في الإنصاف، وينبغي أن يلاعبها قبل الجماع، لتنهض شهوتها، وكلام القاضي يقتضي أن التمكين من القبلة ليس بواجب عليها.
وقال الشيخ: ما أراه صحيحًا، بل تجبر على تمكينه من جميع أنواع الاستمتاع المباحة. اهـ. وقيل: تتخذ خرقة تناولها الزوج بعد فراغه، سوى التي تمسح بها فرجها، وأنه لا بأس بالنخر حالته، وقاله مالك.(6/439)
(ويكره) الوطء متجردين (1) لنهيه صلى الله عليه وسلم عنه في حديث عتبة بن عبد الله، عند ابن ماجه (2) وتكره (كثرة الكلام) حالته (3) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تكثروا الكلام عند مجامعة النساء، فإن منه يكون الخرس والفأْفأَة» (4) (و) يكره (النزع قبل فراغها) (5) لقوله صلى الله عليه وسلم «ثم إذا قضى حاجته فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها» (6) (و) يكره (الوطء بمرأَى أَحد) أَو مسمعه، أَي بحيث يراه أَحد أَو يسمعه (7) .
__________
(1) أي عاريين، حال الجماع.
(2) ولفظه «إذا أتى أحدكم أهله فليستتر، ولا يتجردا تجرد العيرين» شبههما بهما تنفيرا عن تلك الحالة.
(3) أي حالة الجماع.
(4) رواه أبو حفص، والخرس انعقاد اللسان عن الكلام، والفأفاء مردد الكلام، ومكثر الفاء في كلامه، وتقدم.
(5) أي فراغ شهوتها.
(6) رواه أبو حفص من حديث أنس، ولأن في ذلك ضررا عليها، ومنعا لها من قضاء شهوتها.
(7) أي يسمع حسهما.(6/440)
غير طفل لا يعقل، ولو رضيا (1) (و) يكره (التحدث به) أي بما جرى بينهما (2) لنهيه عليه السلام عنه، رواه أبو داود وغيره (3) وله الجمع بين وطء نسائه أو مع إمائه بغسل واحد (4) .
__________
(1) أي الزوجان، قال أحمد: كانوا يكرهون الوجس، يعني سمع الصوت الخفي، هذا إذا كانا مستوري العورة، وإلا حرم مع رؤيتهما، لحديث «احفظ عورتك» وتقدم.
(2) والأولى التحريم، وقطع به جماعة، واستظهره في الفروع، وصوبه في الإنصاف.
(3) وذلك لما قيل له: إنهم يفعلون ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم «إن مثل من فعل ذلك، مثل شيطان وشيطانة، لقي أحدهما صاحبه بالسكة، فقضى حاجته منها، والناس ينظرون إليه» ولمسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال «شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة، وتفضي إليه، فينشر سرها، وتنشر سره» فدل الحديثان على تحريم إفشاء أحد الزوجين، لما يقع بينهما من أمور الجماع ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري فيه بينهما من قول أو فعل، وأما مجرد ذكر الجماع فإذا لم يكن لحاجة فمكروه.
وإن كان لحاجة كذكر إعراضها عنه، أو تدعي عليه العجز عن الجماع، ونحو ذلك فلا، لقوله «إني لأفعله أنا وهذه» يعني الكسل، وقوله لجابر «الكيس الكيس» والتي ادعت عليه العنة: إنه لينفضها نفض الأديم، ونحو ذلك، ويكره أن يقبلها أو يباشرها عند الناس، لأنه دناءة.
(4) كما أنه له إتمام الجماع، وإعادته.(6/441)
لقول أنس: سكبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه غسلا واحدا، في ليلة واحدة (1) (ويحرم جمع زوجتيه في مسكن واحد بغير رضاهما) (2) لأَن عليهما ضررا في ذلك، لما بينهما من الغيرة، واجتماعهما يثير الخصومة (3) (وله منعها) أي منع زوجته (من الخروج من منزله) (4) ولو لزيارة أبويها أو عيادتهما (5) أو حضور جنازة أحدهما (6)
__________
(1) ولأحمد، والنسائي، وغيرهما: طاف على نسائه في ليلة، بغسل واحد.
(2) فإن رضيا جاز، أو رضيا بنومه بينهما في لحاف واحد جاز، لأن الحق لهما، وليس المراد الدار التي فيها منازل، كل واحدة منهما في منزل منها، إذا كان مسكن مثلها، لأنه لا جمع في ذلك.
(3) فكره لأجل ذلك، لأن كل واحدة منهما تسمع حسه إذا أتى الأخرى، أو ترى ذلك، قال الشيخ: وتهجر زوجها في المضجع لحق الله، بدليل قصة الذين خلفوا، وينبغي أن تملك النفقة في هذه الحال، لأن المنع منه، كما لو امتنع من أداء الصداق.
(4) إلى ما لها منه بد، قال الشيخ: ولا تترك المرأة تذهب حيث شاءت، بالاتفاق.
(5) قال أحمد في امرأة لها زوج، وأم مريضة: طاعة زوجها أوجب عليها من أمها، إلا أن يأذن لها.
(6) وفي الاختيارات: للزوج منع الزوجة من الخروج من منزله، فإذا
نهاها لم تخرج لعيادة مريض محرم لها، أو شهود جنازته، فأما عند الإطلاق، فهل لها أن تخرج لذلك إذا لم يأذن ولم يمنع؟ كعمل الصناعة أو لا تفعل إلا بإذن، كالصيام؟ تردد فيه أبو العباس رحمه الله.(6/442)
ويحرم عليها الخروج بلا إذنه، لغير ضرورة (1) (ويستحب إذنه) أي إذن الزوج لها في الخروج (إن تمرض محرمها) (2) كأَخيها وعمها (3) أَو مات لتعوده (وتشهد جنازته) (4) لما في ذلك من صلة الرحم (5) وعدم إذنه يكون حاملا لها على مخالفته (6) وليس له منعها من كلام أبويها (7) .
__________
(1) كاضطرارها لمطعم ومشرب، لعدم من يأتيها به، لأن حق الزوج واجب، فلا يجوز تركه، لما ليس بواجب.
(2) بكسر الهمزة، وفتح التاء والميم والراء.
(3) وأختها، وعمتها، وغيرهم من محارمها.
(4) أي أو مات محرمها، فيستحب إذنه لتعوده إن مرض، وتشهد جنازته إن مات.
(5) وفي منعها من ذلك قطيعة رحم.
(6) وينبغي مداراتها، والتغافل إلا فيما يضر، قال أحمد: العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل.
(7) لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.(6/443)
ولا منعهما من زيارتها (1) (وله منعها من إجارة نفسها) لأَنه يفوت بها حقه، فلا تصح إجارتها نفسها إلا بإذنه (2) وإن أَجرت نفسها قبل النكاح صحت ولزمت (3) (و) له منعها (من إرضاع ولدها من غيره (4) إلا لضرورته) أي ضرورة الولد، بأن لم يقبل ثدي غيرها (5) .
__________
(1) إن لم يخف ضررا، ويعرف ذلك بقرائن الأحوال، وقال بعضهم: إن لم يفسداها عليه بسبب زيارتهما، فله منعهما إذًا من زيارتها، دفعا للضرر، ولا يلزمها طاعة أبويها في فراقه، ولا في زيارة ونحوها، بل طاعة زوجها أحق، لوجوبها عليها.
ولأحمد وغيره: أن عمة حصين أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال «أذات زوج أنت؟» قالت نعم. قال «انظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك» ولا يستحب له أن يأذن لها في الخروج، لزيارة أبويها مع عدم المرض، لعدم الحاجة إليه، ولئلا تعتاده.
(2) ولأنه عقد يفوت به حق من ثبت له الحق بعقد سابق، فلم يصح، كإجارة المؤجر، فأما مع إذن الزوج فإن الإجارة تصح، ويلزم العقد، لأن الحق لهما، لا يخرج عنهما.
(3) أي صحت الإجارة، ولزم عقدها، ولم يملك الزوج فسخها، لأن منافعها ملكت بعقد سابق على نكاحه.
(4) ومن ولد غيرها، لأن اشتغالها بذلك، يفوت عليه كمال الاستمتاع بها.
(5) أو لا توجد مرضعة سواها، أو تكون قد شرطته عليه.(6/444)
فليس له منعها إذًا، لما فيه من إهلاك نفس معصومة (1) وللزوج الوطء مطلقا، ولو أضر بمستأْجر أو مرتضع (2)
__________
(1) فوجب بذله، وليس له منعها من إرضاع ولدها منه، لأنه حق لها، فلا يمنعها، كسائر حقوقها.
وقال الوزير: اتفقوا على أن الأم لا تجبر على إرضاع ولدها بحال، إلا مالك، فإنه قال: يجب على الأم إرضاع ولدها، ما دامت في زوجية أبيه، إلا أن يكون مثلها لا ترضع، لشرف وغيره، أو ليسار، أو سقم، أو لقلة لبن، فحينئذ لا يجب عليها.
(2) أي سواء أضر الوطء بالمرتضع أو لا، لأنه يستحقه بعقد التزويج، وليس له فسخ النكاح، إن لم يعلم أنها مؤجرة.(6/445)
فصل في القسم (1)
(و) يجب (عليه) أي على الزوج (أن يساوي بين زوجاته في القسم) (2) لقوله تعالى {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) وتمييز إحداهما ميل (4) ويكون ليلة وليلة، إلا أن يرضين بأكثر (5) ولزوجة أمة مع حرة ليلة من ثلاث (6) (وعماده) أي القسم (الليل لمن معاشه النهار (7)
__________
(1) أي بين زوجاته، وهو توزيع الزمان عليهن، إن كن اثنتين فأكثر.
(2) في المبيت، والنفقة، وغير ذلك، مما يأتي تفصيله.
(3) وقال تعالى {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي لا تتبعوا أهواءكم وأفعالكم، فتذروها كالملعقة، إذا ملتم إلى واحدة منهن.
(4) يدع الأخرى كالمعلقة، قال ابن عباس: لا ذات بعل، ولا مطلقة، فدلت الآيتان وغيرهما على وجوب التسوية بين الزوجات في المبيت، واختار الشيخ: وفي الكسوة والنفقة.
(5) أي من ليلة ليلة، كليلتين ليلتين، أو ثلاث ثلاث، ونحو ذلك.
(6) لأن الأمة على النصف من الحرة.
(7) لأن الليل يأوي فيه الإنسان إلى منزله، ويسكن إلى أهله، وينام على
فراشه مع زوجته عادة، قال تعالى {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} يخرج فيه إلى قضاء حوائجه وحقوق الناس، وما جرت العادة به، ولصلاة العشاء، والفجر، ولو قبل طلوعه، كصلاة النهار، لكن لا يعتاد الخروج قبل الأوقات، إذا كان عند واحدة دون الأخرى، لأنه غير عدل بينهما إلا لعارض ولو تعذر عليه المقام عندها ليلا، لشغل ونحوه، قضاه لها، ويدخل النهار تبعا لليلة الماضية.(6/446)
والعكس بالعكس) فمن معيشته بليل كحارس، يقسم بين نسائه بالنهار (1) ويكون النهار في حقه، كالليل في حق غيره وله أَن يأْتيهن (2) وأَن يدعوهن إلى محله (3) وأَن يأتي بعضا ويدعو بعضا، إذا كان مسكن مثلها (4) (ويقسم) وجوبا (لحائض ونفساء (5) .
__________
(1) لأنه محل سكنه، ويكون الليل تبعا للنهار في حقه.
(2) أي وللزوج أن يأتي نساءه في محالهن.
(3) إن اتخذ مسكنا غير مساكن زوجاته، والأولى أن يكون لكل واحدة منهن مسكنا يأتيها فيها، لفعله صلى الله عليه وسلم، ولأنه أصون لهن، وأستر، حتى لا يخرجن من بيوتهن، وإن أقام عند واحدة، ودعا الباقيات إلى بيتها، لم تجب عليهن الإجابة.
(4) لأن له أن يسكن كل واحدة منهن حيث شاء.
(5) لأنه للأنس، ولإباحة المباشرة من وراء الإزار، كما تقدم.(6/447)
ومريضة ومعيبة) بنحو جذام (1) (ومجنونة مأْمونة وغيرها) (2) كمن آلى أو ظاهر منها (3) ورتقاء، ومحرمة، ومميزة (4) لأَن القصد السكن والأُنس، وهو حاصل بالمبيت عندها (5) وليس له بداءة في قسم (6) ولا سفر بإحداهن بلا قرعة، إلا برضاهن (7) .
__________
(1) كبرص، ويجب الوطء إذا لم يجز الفسخ، وكذلك يجب عليها تمكين الأبرص والأجذم، وإلا فلا نفقة لها، وإذا لم يستمتع بها فلها الفسخ، ويكون المثبت للفسخ هنا عدم الوطء، فهذا يقوده إلى وجوبه.
(2) كزمنه، وأما المجنونة غير المأمونة، فلا قسم لها.
(3) أي يقسم لمن ذكر، كما يقسم لمن آلى منها، ولمن ظاهر منها.
(4) يمكن وطؤها، ويقسم المريض، والمجنون، والعنين، والخصي، كالصحيح، وقال صلى الله عليه وسلم في مرضه «أين أنا غدا؟» رواه البخاري.
(5) ولو لم يطأ.
(6) بإحداهن بلا قرعة إلا برضاهن، لأن البداءة بها تفضيل لها، والتسوية واجبة، ولأنهن متساويات في الحق، ولا يمكن الجمع بينهن، فوجب المصير إلى القرعة إن لم يرضين.
(7) ولا بأكثر من واحدة منهن إلا بقرعة، أو رضاهن ورضاه، لأنه صلى الله عليه وسلم، إذا أراد السفر أقرع بين نسائه، فمن خرج سهمها خرج بها معه وسئل أحمد عن الرجل يكون له امرأتان، وهو يريد أن يخرج بإحداهما، قال: يقرع بينهما، فتخرج إحداهما، أو تخرج برضى الأخرى، ولا يريد القرعة، قال: إذا خرج بها فقد رضيت. وإلا أقرع بينهما. وقال الأصحاب: يأثم إن سافر بإحداهن بغير قرعة ولا رضى، ويقضي، وفي الاختيارات: الأقوى أنه لا يقضي، وهو مذهب الحنفية، والمالكية.(6/448)
(وإن سافرت) زوجته (بلا إذنه، أو بإذنه في حاجتها (1) أو أبت السفر معه، أو) أَبت (المبيت عنده في فراشه، فلا قسم لها، ولا نفقة) لأَنها عاصية كالناشز (2) وأما من سافرت لحاجتها ولو بإذنه فلتعذر الاستمتاع من جهتها (3) ويحرم أن يدخل إلى غير ذات ليلة فيها إلا لضرورة (4) وفي نهارها إلا لحاجة (5) .
__________
(1) سقط حقها، من قسم ونفقة.
(2) أما الممتنعة من السفر، أو المبيت معه فلأنها عاصية، وكذا من سافرت بغير إذنه، وإن كان له زوجات، واستدعاهن أو بعضهن إلى مسكنه، ولم يخله من الضرة، لم تجب إجابته، ولا يسقط حق الممتنعة من القسم والنفقة، وإن أمكنته من الوطء فقط فلا نفقة لها.
(3) لأن القسم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع، وقد تعذر ذلك بسبب من جهتها، فسقط كما قبل الدخول بها، وإن بعثها لحاجته، أو انتقلت من بلد إلى بلد بإذنه، لم يسقط حقها من نفقة، ولا قسم، لأن تعذر استمتاعه بسبب من جهته.
(4) مثل أن تكون منزولا بها، أو توصي له، أو ما لا بد منه، عرفا، لأن ذلك حال ضرورة، فأبيح به ترك الواجب، لإمكان قضائه في وقت آخر.
(5) كدفع نفقة، وعيادة، أو سؤال عن أمر يحتاجه، أو زيارتها لبعد عهده
بها، وإن لم يلبث مع ضرورة أو حاجة لم يقض، لأنه لا فائدة فيه لقلته، ولو قبل أو باشر ونحوه، لم يقض ذلك لذات الليلة.(6/449)
فإن لبث أو جامع لزمه القضاء (1) (ومن وهبت قسمتها لضرتها بإذنه) أي بإذن الزوج جاز (2) (أو) وهبته (له، فجعله لـ) زوجة (أُخرى جاز) (3) لأَن الحق في ذلك للزوج والواهبة، وقد رضيا (4) (فإن رجعت) الواهبة (قسم لها مستقبلا) (5) لصحة رجوعها فيه، لأنها هبة لم تقبض (6) بخلاف الماضي فقد استقر حكمه (7) .
__________
(1) لأن التسوية واجبة، ولا تحصل إلا بذلك.
(2) فسودة وهبت قسمها لعائشة، فكان يقسم لها يومين، ومن وهبته لضرائرها بإذنه جاز، ويجعله من شاء منهن.
(3) ولو أبت الموهوب لها.
(4) والحق لا يخرج عنهما، وحق الزوج في الاستمتاع، ثابت في كل وقت، على كل واحدة منهن، وإنما منعته المزاحمة في حق صاحبتها، فإذا زالت المزاحمة بهبتها، ثبت حقه في الاستمتاع بها وإن كرهت، كما لو كانت منفردة.
(5) ولو في بعض ليلة، ويقضيه إن علم قبل فراغها، وإلا فلا، لتفريطها.
(6) فجاز الرجوع فيها.
(7) لأنه قد اتصل به القبض.(6/450)
ولزوجة بذل قسم ونفقة لزوج ليمسكها (1) ويعود حقها برجوعها (2) وتسن تسوية زوج في وطء بين نسائه، وفي قسم بين إمائه (3) (ولا قسم) واجب على سيد (لإمائه، وأُمهات أَولاده) (4) لقوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (5) (بل يطأُ) السيد (من شاء) منهن (متى شاء) (6) .
__________
(1) لقوله {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} قالت عائشة: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، فيريد طلاقها، تقول: أمسكني، ولا تطلقني، وأنت في حل من النفقة علي والقسم. وسودة حين أسنّت، وخشيت أن يفارقها، قالت: يومي لعائشة، رضي الله عنهما.
(2) في المستقبل، لأنها هبة لم تقبض، بخلاف الماضي.
(3) ليكون أطيب لنفوسهن، وأما المودة، وميل القلب، فأمر غير مقدور للعبد، بل هو من الله تعالى، وكان صلى الله عليه وسلم يساوي بين نسائه في البيتوتة، ويقول «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني القلب.
(4) بل إن شاء ساوى بينهن، وإن شاء فضل، وإن شاء استمتع ببعضهن دون بعض.
(5) يعني السراري، لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق ما يلزم في الحرائر، فلا قسم لهن، ولا وقف في عددهن، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم مارية وريحانة، فلم يكن يقسم لهما، ولأن الأمة لا حق لها في الاستمتاع.
(6) أي لا يستمتع بهن كيف شاء، كالزوجات، أو أقل، أو أكثر.(6/451)
وعليه أن لا يعضلهن، إن لم يرد استمتاعا بهن (1) (وإن تزوج بكرا) ومعه غيرها (2) (أقام عندها سبعا) ولو أمة (3) (ثم دار) على نسائه (4) (و) إن تزوج (ثيبا) أقام عندها (ثلاثا) ثم دار (5) لحديث أبي قلابة عن أنس: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب، أقام عندها سبعا وقسم (6) وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم (7) .
__________
(1) فلا يمنعهن من التزوج، إن لم يرد الاستمتاع بهن، وإن احتجن إلى النكاح وجب عليه إعفافهن، إما بوطئهن، أو تزويجهن، أو بيعهن، لأن إعفافهن وصونهن عن احتمال الوقوع في المحظورات واجب.
(2) حرائر أو إماء، أو تزوج أمة ومعه غيرها، حرائر أو إماء.
(3) لعموم ما يأتي، ولأنه يراد للأنس، وإزالة الاحتشام، والأمة والحرة سواء في الاحتياج إلى ذلك، فاستويا فيه كالنفقة.
(4) أي بعد السبع، ولا يحتسب عليها بما أقام عندها.
(5) أي على نسائه، بعد انتهاء مدة إقامته عند الجديدة، ثم يعود إلى القسم بين زوجاته، كما كان قبل أن يتزوج الجديدة، ودخلت الجديدة بينهن، فصارت آخرهن نوبة.
(6) خص الشارع البكر بالسبع، لأن حياءها أكثر.
(7) وللدارقطني عن أنس مرفوعا «للبكر سبع، وللثيب ثلاث» ولما تزوج
صلى الله عليه وسلم أم سلمة أقام عندها ثلاثا، كما سيأتي، وقال النووي: يستحب إذا لم يكن عنده غيرها، وإلا فيجب، والإيثار يكون بالمبيت، والقيلولة، لا استغراق ساعات الليل والنهار، وتجب الموالاة في السبع والثلاث. فلو فرق وجب الاستئناف.(6/452)
قال أبو قلابة: لو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رواه الشيخان (1) (وإن أحبت) الثيب أن يقيم عندها (سبعا، فعل وقضى مثلهن) أي مثل السبع (للبواقي) من ضراتها (2) لحديث أُم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها، أقام عندها ثلاثة أيام، وقال «إنه ليس بك هوان على أهلك، فإن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي» رواه أحمد، ومسلم وغيرهما (3) .
__________
(1) ورواه جماعة عن أنس: وقالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عبد البر: الأحاديث المرفوعة على ذلك، وليس مع من خالف حديث مرفوع، والحجة مع من أدلى بالسنة، ويكره أن تزف إليه امرأة في حق امرأة زفت إليه قبلها، وعليه أن يتمم للأولى، ثم يقضي حق الثانية.
(2) سبعا سبعا، ثم يبتدي القسم، ليلة ليلة، أو ليلتين ليلتين كما تقدم.
(3) فدل الحديث على جواز التسبيع للثيب بشرط القضاء لضراتها، ولو سافر بإحدى زوجتيه بقرعة أو رضى، ثم تزوج في سفره بأخرى وزفت إليه، فعليه تقديمها بأيامها، ثم يقسم بينها وبين ضرتها كما تقدم.(6/453)
فصل في النشوز (1)
وهو (معصيتها إياه فيما يجب عليها) (2) مأْخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض (3) فكأنها ارتفعت وتعالت، عما فرض عليها من المعاشرة بالمعروف (4) (فإذا ظهر منها أَماراته (5) بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع (6) أو تجيبه متبرمة) متثاقلة (7) (أو متكرهة (8) وعظها) أي خوفها من الله تعالى (9) .
__________
(1) وهو كراهة كل من الزوجين صاحبه، وسوء عشرته، يقال: نشزت المرأة على زوجها، فهي ناشزة وناشز. إذا عصت عليه، وخرجت عن طاعته، ونشز عليها زوجها، جفاها وأضر بها.
(2) من المعاشرة بالمعروف.
(3) وما ارتفع من الأرض يسمى "نشزا" كما في الأثر "أو علا نشزا كبر" ورجل ناشز الجبهة مرتفعها.
(4) فسمي عصيانها نشوزا.
(5) أي علامات النشوز.
(6) كأن تمتنع من إجابته إلى الفراش.
(7) متدافعة إذا دعاها إلى الاستمتاع.
(8) ويختل أدبها في حقه، أو تخرج من بيته بغير إذنه، ونحو ذلك.
(9) إذا عصته، فإن الله تعالى قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحرم
عليها معصيته، لما له عليها من الفضل، والوعظ بالقول، قال تعالى {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} .(6/454)
وذكرها ما أوجب الله عليها من الحق والطاعة (1) وما يلحقها من الإثم بالمخالفة (2) (فإن أصرت) على النشوز بعد وعظها (هجرها في المضجع) أي ترك مضاجعتها (ما شاء (3) و) هجرها (في الكلام ثلاثة أيام) فقط، لحديث أبي هريرة مرفوعًا «لا يحل لمسلم أن يهجر أَخاه فوق ثلاثة أيام» (فإن أصرت) بعد الهجر المذكور (ضربها) ضربا (غير مبرح) أي شديد (4)
__________
(1) لزوجها.
(2) أي وذكرها ما يلحقها من الإثم، كقوله صلى الله عليه وسلم «إذا باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة» وقوله «ثلاثة لا تصعد لهم إلى السماء حسنة، منهم المرأة الساخط عليها زوجها» .
وذكرها ما يسقط بذلك من النفقة والكسوة، وما يباح له من هجرها وضربها، فإن رجعت إلى الطاعة والأدب حرم الهجر والضرب، لزوال مبيحه.
(3) لقوله تعالى {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} أي يوليها ظهره في الفراش، ولا يكلمها، وقال ابن عباس: لا تضاجعها في فراشك، وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فلم يدخل عليهن شهرا، ولم يقيد بمدة.
(4) لا تحتمله النفوس، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه يجوز للزوج أن يضرب زوجته إذا نشزت، بعد أن يعظها، ويهجرها في المضجع.(6/455)
لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يضاجعها في آخر اليوم» (1) ولا يزيد على عشرة أسواط (2) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يجلد أحدكم فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله» متفق عليه (3) ويجتنب الوجه والمواضع المخوفة (4) وله تأْديبها على ترك الفرائض (5) .
__________
(1) متفق عليه، وللبخاري «ضرب الفحل» فدل على جواز ضربها ضربا خفيفًا، لا يبلغ ضرب الحيوانات والمماليك، ولا ريب أن عدم الضرب، والاغتفار والسماحة، أشرف، كما هو خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي داود «ولا تضرب ضعينتك ضرب أمتك» ولعل علة النهي أن ضرب من يجامعها لا يستحسن، لأن الجماع والمضاجعة، إنما تليق مع ميل النفس، والرغبة في العشرة، والمجلود غالبا ينفر عمن جلده، بخلاف التأديب المستحسن، فإنه لا ينفر الطباع، ولا يلزمه ذلك، ولا يسن له. بل يباح له ذلك، فإن تركه فهو أولى.
(2) وقيل: يضربها بدرة أو مخراق منديل ملفوف، لا بسوط، ولا بخشب.
(3) والمراد هنا التأديب، والزجر عن النشوز، فيبدأ بالأسهل فالأسهل.
(4) والمستحسنة، للنهي عنه، ولئلا يشوهها، فإن تلفت من ذلك فلا ضمان عليه، لأنه مأذون فيه شرعا، والأولى ترك ضربها، إبقاء للمودة كما سبق.
(5) كالصلاة والصوم الواجبين، قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} قال: علموهم، وأدبوهم. وروي «رحم الله
امرأ علق في بيته سوطا، يؤدب به أهله» فإن لم تصل فقال أحمد: أخشى أن لا يحل للرجل أن يقيم مع امرأة لا تصلي، ولا تغتسل من الجنابة، ولا تتعلم القرآن.(6/456)
وإن ادعى كل ظلم صاحبه (1) أسكنهما حاكم قرب ثقة، يشرف عليهما (2) ويلزمهما الحق (3) فإن تعذر وتشاقا، بعث الحاكم عدلين، يعرفان الجمع والتفريق (4) والأولى من أهلها (5) .
__________
(1) بأن ادعت أنه لم يؤد حقها الواجب لها عليه، وادعى أنها لم تؤد حقه الواجب له عليها مثلا.
(2) ويكشف حالهما، كما يكشف عن عدالة وإفلاس من خبرة باطنة، وليس مختصا بالحكم.
(3) والإنصاف، وفي الاختيارات: نصب المشرف لم يذكره الخرقي والقدماء، ومقتضى كلامه رحمه الله: إذا وقعت العداوة، وخيف الشقاق، بعث الحكمان، من غير احتياج إلى نصب مشرف.
(4) لأنه يفتقر إلى الرأي والنظر، وعليهما أن يستطلع كل واحد رأي من بعث إليه، إن كان رغبته في الصلح أو في الفرقة، ثم يجتمعان فينظران في أمرهما، واشترط كونهما حرين، ذكرين، مكلفين، مسلمين، وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا وقع الشقاق بين الزوجين، وخيف عليهما، أن يخرجهما ذلك إلى العصيان، أن يبعث الحاكم حكما من أهله، وحكما من أهلها.
(5) لقوله تعالى {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} قال الشيخ: وهذا يقتضي وجوب كونهما من الأهل، وهو مقتضى قول الخرقي، فإنه اشترطه؛ كما اشترط الأمانة، وهذا أصح، فإنه نص القرآن، ولأن الأقارب أخبر بالعلل الباطنة، وأقرب إلى الأمانة، والنظر في المصلحة، وأيضًا فإنه نظر في الجمع والتفريق، وهو أولى من ولاية عقد النكاح، لا سيما إن جعلناهما حكمين، كما هو الصواب، ونص عليه أحمد، وهو قول علي، وابن عباس، ومذهب مالك، وعليهما أن ينويا الإصلاح، لقوله {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا} وأن يلطفا القول، وينصفا، ويرغبا، ويخوفا، ولا يخصا بذلك أحدهما دون الآخر، ليكون أقرب للتوفيق بينهما.(6/457)
يوكلانهما في فعل الأصلح، من جمع وتفريق، بعوض أو دونه (1) .
__________
(1) قال تعالى {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا} يعني الحكمين {يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا} يعني الزوجين، والتوفيق: أن يخرج كل واحد منهما من الوزر، وذلك تارة يكون بالفراق، وتارة بصلاح حالهما، وقيل: فلا يرسلان إلا برضاهما، وتوكيلهما، لأنه حق لهما، فلم يجز لغيرهما التصرف إلا بالوكالة، وفي الإنصاف وغيره: اختار الشيخ أنهما حكمان، يفعلان ما يريان، من جمع وتفريق، وغير ذلك، كما تقدم.
وقال مالك والشافعي في أحد قوليه: إن رأيا الأصلح الطلاق بعوض، أو بغير عوض جاز، وإن رأيا الخلع جاز، وإن رأى الذي من جهة الزوج الطلاق طلق، ولا يحتاج إلى إذن الزوج في الطلاق، قال الوزير: وهذا ينبني من قولهما إنهما حكمان؛ لا وكيلان، وهو الصحيح عندي، لأن الله سماهما ذلك، فقال {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} فسماهما حكمين بنص القرآن، وأجمعوا على أنه إذا اختلف قولهما، فلا عبرة بقول الآخر، وأن قولهما نافذ في الجمع وفي التفرقة.(6/458)
باب الخلع (1)
وهو فراق الزوجة بعوض (2) بألفاظ مخصوصة (3) سمي بذلك لأن المرأة تخلع نفسها من الزوج، كما تخلع اللباس (4) قال تعالى {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (5) (من صح تبرعه) وهو الحر، الرشيد، غير المحجور عليه (من زوجة وأجنبين صح بذله لعوضه) (6) .
__________
(1) الأصل في جواز وقوعه الكتاب، والسنة، والإجماع، قال تعالى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقصة ثابت، وإجماع الأئمة، كما حكاه غير واحد.
(2) أي: والخلع فراق الزوج امرأته، بعوض يأخذه الزوج، من امرأته أو غيرها.
(3) أي فلا يحصل بمجرد بذل المال وقبوله، من غير لفظ الزوج، قال القاضي: هذا الذي عليه شيوخنا، وقدمه في المغني، والشرح، والفروع، وغيرها.
(4) أي فأصل الخلع من خلع الثوب.
(5) شبه باللباس، لاشتمال كل على صاحبه، اشتمال اللباس على اللابس.
(6) فمن الزوجة للآية والحديث، ومن والأجنبي: بأن يسأل الزوج أن يخلع زوجته، بعوض يبذله له، وهو مذهب الجمهور، كما في الاختيارات وغيرها، من أنه يجوز أن يختلعها، كما يجوز أن يفتدي الأسير، وكما يجوز أن يبذل الأجنبي لسيد العبد عوضا لعتقه، ولهذا ينبغي أن يكون ذلك مشروطا، بما إذا كان قصده تخليصها من رق الزوج، لمصلحتها في ذلك.(6/459)
ومن لا فلا (1) لأنه بذل مال، في مقابلة ما ليس بمال، ولا منفعة، فصار كالتبرع (2) (فإذا كرهت) الزوجة (خلق زوجها أو خلقه) أُبيح الخلع (3) والخلع – بفتح الخاء – صورته الظاهرة، وبضمها: صورته الباطنة (4) (أَو) كرهت (نقص دينه (5) أو خافت إثما بترك حقه، أُبيح الخلع) (6) .
__________
(1) أي ومن لم يصح تبرعه من زوجة وأجنبي، لم يصح بذله لعوض في الخلع.
(2) فلم يصح، وشروط الخلع تسعة، بذل العوض ممن يصح تبرعه، وزوج يصح طلاقه، غير هازل، وعدم عضلها إن بذلته، ووقوعه بصيغته، وعدم نية طلاق، وتنجيزه، ووقوعه على جميع الزوجة، وعدم حيلة كما يأتي.
وفائدته: تخلصها منه، على وجه لا رجعة له عليها إلا برضاها، وعقد جديد، وعدم نقص عدد الطلاق.
(3) على عوض، تفتدي به نفسها منه.
(4) فالأولى لقصة بنت أبي بن سلول وغيرها، والثانية لما تقدم، من الحث على حسن الخلق، والعشرة، وقوله «خيركم خيركم لنسائه» الحديث.
(5) أو لكبره، أو ضعفه، ونحو ذلك، أبيح لها الخلع.
(6) على عوض تفتدي به، وفي الاختيارات: اختلف كلام أبي العباس في وجوب الخلع، لسوء العشرة بين الزوجين.(6/460)
لقوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) وتسن إجابتها إذًا (2) إلا مع محبته لها، فيسن صبرها، وعدم افتدائها (3) (وإلا) يكن حاجة إلى الخلع، بل بينهما الاستقامة (كره، ووقع) (4)
__________
(1) أي إلا أن يعلم الزوج أو الزوجة أن لا يقيما حدود الله، يخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها، وتخاف المرأة أن تعصي الله في أمر زوجها، فلا جناح عليهما، فيما افتدت به المرأة نفسها منه، قال ابن عبد البر: لا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا المزني، فإنه زعم أنها منسوخة بقوله {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} .
(2) لما في الصحيح أن امرأة ثابت بن قيس قالت: يا رسول الله ما أعيب عليه من دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام. أي كفران العشير المنهي عنه، والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له، فقال «أتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم، فأمرها بردها، وأمره بفراقها، رواه البخاري، فتستحب إجابتها فيما تقدم من الصور.
(3) قال أحمد: إن كانت تبغضه وهو يحبها، لا آمرها بالخلع، وينبغي لها أن تصبر، وحمله القاضي على الاستحباب لا الكراهة، لنصه على جوازه في مواضع، وفي الاختيارات: إن كانت مبغضة له لخلقه، أو غير ذلك من صفاته، وهو يحبها، فكراهة الخلع في حقه تتوجه، وقال الشيخ: إذا أبغضته وهو محسن إليها، فإنه يطلب منه الفرقة، من غير أن يلزم بذلك، فإن فعل، وإلا أمرت المرأة بالصبر، إذا لم يكن هناك ما يبيح الفسخ.
(4) أي كره الخلع منه ومنها في هذه الحالة، ووقع، قال الوزير وغيره:
اتفقوا على أنه يصح الخلع، مع استقامة الحال بين الزوجين، وقال ابن رشد: الجمهور أنه جائز مع التراضي، إذا لم يكن سبب رضاها بما تعطيه إضراره بها.(6/461)
لحديث ثوبان مرفوعا «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق، من غير ما بأْس، فحرام عليها رائحة الجنة» رواه الخمسة إلا النسائي (1) (فإن عضلها ظلما للإفتداء) أي لتفتدي منه (2) (ولم يكن) ذلك (لزناها، أو نشوزها، أو تركها فرضا (3) ففعلت) أي افتدت منه، حرم ولم يصح (4) .
__________
(1) والحديث ظاهره التحريم، للوعيد الشديد، وقال الشيخ: إذا كان كل منهما مريدا لصاحبه، فالخلع محدث في الإسلام، والخلع الذي جاءت به السنة: أن تكون المرأة مبغضة للرجل، فتفتدي نفسها منه كالأسير.
(2) أي فإن عضلها، بأن ضارها بالضرب، والتضييق عليها، أو منعها حقوقها، من القسم، والنفقة، ونحو ذلك، كما لو نقصها شيئًا من ذلك، ظلما لتفتدي نفسها منه.
(3) أي ولم يكن فعل ذلك – يعني الضرب، والتضييق، والمنع من الحقوق – لزناها، أو نشوزها، أو تركها فرضا من صوم، أو صلاة، ونحو ذلك.
(4) أي حرم ما أخذ منها، وقاله الشيخ وغيره، ولم يصح الخلع، قال في الإقناع: الخلع باطل، والعوض مردود، والزوجية بحالها، وفي الاختيارات: لو عضلها لتفتدي نفسها منه، ولم تكن تزني، حرمت عليه، وقال ابن عقيل: العوض مردود، والزوجة بائن، قال أبو العباس: وله وجه حسن، ووجه قوي، إذا قلنا: الخلع يصح بلا عوض، فإنه بمنزلة من خلع على مال مغصوب، أو خنزير ونحوه، وتخريج الروايتين هنا قوي جدًا.(6/462)
لقوله تعالى {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) فإن كان لزناها، أو نشوزها، أو تركها فرضا جاز وصح، لأَنه ضرها بحق (2) (أو خالعت الصغيرة، والمجنونة، والسفيهة) ولو بإذن ولي (3) (أو) خالعت (الأَمة بغير إذن سيدها، لم يصح الخلع) (4) لخلوه عن بذل عوض ممن يصح تبرعه (5) .
__________
(1) أي لا تضاروهن في العشرة، لتترك بعض ما أصدقتها، أو كله، أو حقا من حقوقها عليك، أو شيئًا من ذلك، على وجه القهر لها والإضرار، قال ابن عباس: هذا في الرجل تكون له المرأة، وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضرها لتفتدي به، فنهى تعالى عن ذلك، ثم قال {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} يعني الزنا، فله أن يسترجع منها الصداق الذي أعطاها، ويضاجرها حتى تتركه له، ويخالعها، وقال بعضهم: النشوز ومعصيتها، والآية تعم ذلك كله.
(2) وإن لم يعضلها ليذهب ببعض مالها صح، ولكن عليه إثم الظلم، ولا بأس به في الحيض، والطهر الذي أصابها فيه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل المختلعة عن حالها.
(3) لم يصح الخلع، لأنه تصرف في المال، ممن ليس بأهل للتصرف، ولا إذن للولي في التبرعات، وقال في المبدع: الأظهر الصحة مع الإذن لمصلحته، وبدونه فلا، لصدوره ممن ليس بأهل للتصرف، فلم يصح.
(4) سواء كان على شيء معين، أو في ذمتها.
(5) والرقيق ليس بأهل للتصرف بدون إذن سيده، فلم يصح منه كالمجنون، وبإذنه يصح كالبيع، ويكون العوض في ذمته.(6/463)
(ووقع الطلاق رجعيًا إن) لم يكن تم عدده (1) و (كان) الخلع المذكور (بلفظ الطلاق، أو نيته) (2) لأنه لم يستحق به عوضا (3) فإن تجرد عن لفظ الطلاق ونيته فلغو (4) ويقبض عوض الخلع زوج رشيد، ولو مكاتبا، أو محجورا عليه لفلس (5) وولي الصغير ونحوه (6) ويصح الخلع ممن يصح طلاقه (7)
__________
(1) أي ثلاثا، لأن الثلاث لا رجعة معها إلا بعد نكاح زوج، كما في الآية.
(2) وقع الطلاق، ولم يصح الخلع.
(3) أي لأنه لم يستحق بذلك الخلع عوضًا، لصدوره ممن ليس بأهل للتصرف.
(4) لخلوه عن العوض.
(5) لأهليتهم للقبض.
(6) كالصغير، والسفيه، وإن كان الزوج محجورًا عليه لغير فلس، كعبد، وصغير، ومميز، وسفيه، دفع المال إلى سيد العبد، وولي الصغير، والسفيه، لعدم أهليتهم لقبضه.
(7) وأن يتوكل فيه، مسلما كان أو ذميا، لأنه إذا صح طلاقه صح خلعه، وفي الاختيارات: التحقيق أنه يصح ممن يصح طلاقه، بالمالك، والوكالة، أو الولاية، كالحاكم في الشقاق، وكذا لو فعله الحاكم في الإيلاء أو العنة أو الإعسار، وغيرها من المواضع التي يملك الحاكم فيها الفرقة. قال: والأظهر أن المرأة إذا كانت تحت حجر الأب، أن له أن يخالع بمالها، إذا كان لها فيه مصلحة، ويوافق ذلك بعض الروايات عن مالك، وتخرج على أصول أحمد.(6/464)
فصل (1)
(والخلع بلفظ صريح الطلاق (2) أو كنايته) أي كناية الطلاقة (وقصده) به الطلاق (طلاق بائن) (3) لأنها بذلت العوض لتملك نفسها، وأجابها لسؤالها (4) (وإن وقع) الخلع (بلفظ الخلع، أو الفسخ، أو الفداء) بأن قال: خلعت، أو فسخت، أو فاديت (5) .
__________
(1) أي فيما يقع به الخلع، من لفظ أو عوض.
(2) طلاق بائن، لا يملك رجعتها.
(3) أي وقصده بكناية الطلاق: الطلاق، كأبرأتك، وأبنتك؛ طلاق بائن، لا يملك رجعتها، لكن له أن يتزوجها بعقد جديد، ولو لم تنكح زوجا غيره، ما لم يوقع عليها ثلاث تطليقات، وله أن يتزوجها في العدة.
(4) فخرجت من قبضته، لقوله تعالى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وإنما يكون فداء إذا خرجت من قبضته وسلطانه، ولو لم يكن بائنًا لملك الرجعة، وكانت تحت حكمه وقبضته، ولأن القصد إزالة الضرر عنها، فلو جازت الرجعة لعاد الضرر.
(5) فصريح، يقع به الخلع من غير نتيه، وإن قلنا: هو فسخ أو طلاق، وقال ابن القيم: كل ما دخله المال فهو فدية، بأي لفظ كان، والألفاظ لم ترد لذواتها، ولا تعبدنا بها، وإنما هي وسائل إلى المعاني.(6/465)
(ولم ينوه طلاقا، كان فسخا، لا ينقص عدد الطلاق) (1) روي عن ابن عباس (2) واحتج بقوله تعالى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ثم قال {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (3) ثم قال {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4) .
__________
(1) أي ولم ينو بلفظ الخلع، أو الفسخ، أو الفداء طلاقا، كان فسخا، لأنها صريحة فيه، ومفهومه: إن نواه طلاقا فطلاق لسرايته، وجزم به غير واحد، وعنه: هو فسخ ولو نوى به الطلاق؛ اختاره الشيخ، وقال: ولو أتى بصريح الطلاق، وليس من الطلاق الثلاث، وهذا هو المنقول عن ابن عباس في أصحابه، وعن أحمد، وقدماء أصحابه: لم يفرق أحد من السلف، ولا أحمد بن حنبل، ولا أحد من أصحابه في الخلع بين لفظ ولفظ، لا لفظ الطلاق، ولا غيره، بل ألفاظهم كلها صريحة في أنه فسخ بأي لفظ كان.
وقال ابن القيم: قال أحمد: الخلع فرقة، وليس بطلاق؛ وقيل له: تذهب إلى حديث ابن عباس؟ فقال: ابن عباس يتأول الآية، وكان يقول: هو فداء، ذكر الله الطلاق في أول الآية، والفداء في وسطها، وذكر الطلاق بعد الفداء، ليس هو طلاق، وإنما هو فداء. فجعل ابن عباس وأحمد الفداء فداء لمعناه، لا لفظه وهذا هو الصواب، فإن الحقائق لا تتغير بتغير الألفاظ.
(2) أنه كان يقول: هو فداء.
(3) أي افتدت به المرأة نفسها منه.
(4) أي ثم قال تعالى بعد أن ذكر الفداء {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} أي الطلاق الثلاث {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وهذا مما لا نزاع فيه.(6/466)
فذكر تطليقتين والخلع، وتطليقة بعدهما (1) فلو كان الخلع طلاقا لكان رابعا (2) وكنايات الخلع: باريتك، وأبرأتك، وأبنتك (3) لا يقع بها إلا بنية (4) أو قرينة، كسؤال، وبذل عوض (5) ويصح بكل لغة من أهلها (6) لا معلقا (7) .
__________
(1) أي فذكر تعالى تطليقتين في قوله {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} والخلع في قوله {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وذكر تطليقة بعد أن ذكر التطليقتين والخلع، فكان الطلاق المذكور ثلاثا.
(2) فليس هو طلاقا، وإنما هو فداء، ولأنه فرقة، فكان فسخا، كسائر الفسوخ.
(3) وذلك لأن الخلع أحد نوعي الفرقة، فكان له صريح وكناية كالطلاق.
(4) أي فلا يقع الخلع بالكناية إلا بنية ممن تلفظ به منهما، ككنايات الطلاق.
(5) فإذا طلبت، وبذلت العوض، صح من غير نية، لأن دلالة الحال صارفة إليه، فأغنى عن النية.
(6) التي يفهم منها أنه سأل الإبراء على أن يطلقها، أو أنها أبرأته على أنه يطلقها، قاله الشيخ، وقال: إن كانت أبرأته براءة لا تتعلق بالطلاق، ثم طلقها بعد ذلك فهو رجعي. اهـ. لخلوه عن العوض لفظا ومعنى، وتصح ترجمة الخلع بكل لغة من أهلها.
(7) أي على شرط، كإن بذلت لي كذا فقد خلعتك. وإن تخالعا هازلين فلغو، ما لم يكن بلفظ الطلاق أو نيته.(6/467)
(ولا يقع بمعتدة من خلع طلاق، ولو واجهها) الزوج (به) (1) روي عن ابن عباس، وابن الزبير (2) ولأنه لا يملك بضعها، فلم يلحقها طلاقه كالأجنبية (3) (ولا يصح شرط الرجعة فيه) أي في الخلع (4) ولا شرط خيار (5) ويصح الخلع فيهما (6) (وإن خالعها بغير عوض) لم يصح (7) لأنه لا يملك فسخ النكاح لغير مقتض يبيحه (8) (أو) خالعها (بمحرم) يعلمانه (9)
__________
(1) كقوله: أنت طالق.
(2) ولا يعرف لهما مخالف في عصرهما.
(3) ولأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد، فلم يلحقها طلاق كالمطلقة قبل الدخول أو كالتي انقضت عدتها.
(4) لمنافاته الخلع.
(5) أي ولا يصح شرط الخيار في الخلع، لمنافاته له أيضًا.
(6) أي في شرط الرجعة فيه، وشرط الخيار فيه، لأنه لا يفسد بالعوض الفاسد فلا يفسد بالشرط الفاسد، بل يقع الخلع، ويلغو شرط الرجعة، أو شرط الخيار، وقياس المذهب: لو شرط الرجعة في الخلع صح الشرط، كما لو بذلت له مالا على أن تملك أمرها، نص عليه، لأن الأصل جواز الشرط في العقود.
(7) أي الخلع، هذا المذهب، جزم به في الإقناع وغيره.
(8) وإذا لم يكن صحيحًا لم يترتب عليه شيء، وعنه: يصح، وهو اختيار الخرقي، وقول مالك.
(9) أي المتخالعان.(6/468)
كخمر، وخنزير، ومغصوب (لم يصح) الخلع (1) ويكون لغوا، لخلوه عن العوض (2) (ويقع الطلاق) المسؤل على ذلك (رجعيا (3) إن كان بلفظ الطلاق، أو نيته) لخلوه عن العوض (4) وإن خالعها على عبد فبان حرا، أو مستحقا، صح الخلع، وله قيمته (5) ويصح على رضاع ولده، ولو أطلقا (6)
__________
(1) لأن الخلع على ذلك – مع العلم بتحريمه – يدل على رضى فاعله بغير شيء.
(2) وإن كانا يجهلانه صح الخلع، وكان له بدله، وإن خالعته على الإبراء مما يعتقدان وجوبه اجتهادًا أو تقليدًا، مثل أن يخالعها على قيمة كلب أتلفته، معتقدين وجوب القيمة، فينبغي أن يصح، حكاه، في الاختيارات، وإن أطلقا الخلع، فقال الشيخ: يصح بالصداق، كما لو أطلقا النكاح، ثبت صداق المثل فكذا الخلع أولى.
(3) ولا شيء عليها، لأنه رضى بغير شيء.
(4) ولأنه يصلح كناية عن الطلاق، فإن لم يكن بلفظ الطلاق أو نيته لم يكن شيئًا.
(5) إن كانت هي الباذلة له، وإلا فعلى باذله، وإن خالعها على خل فبان خمرا، رجع عليها بمثله خلا، وإن كان العوض مثليا وبان مستحقا فله مثله، وصح الخلع، وإن كان معيبا فكبيع.
(6) أي ويصح الخلع على رضاع ولده، منها أو من غيرها، مدة معلومة، ويصح ولو أطلقا المدة.(6/469)
وينصرف إلى حولين، أو تتمتهما (1) فإن مات رجع ببقية المدة، يوما فيوما (2) ، (وما صح مهرا) من عين مالية (3) ومنفعة مباحة (صح الخلع به) (4) لعموم قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (5) (ويكره) خلعها (بأكثر مما أعطاها) لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جميلة «ولا يزداد» (6) .
__________
(1) أي وينصرف المطلق إلى حولين إن كان الخلع عقب الوضع أو قبله، أو تتمة الحولين إن كان الخلع في أثناء الحولين، حملا للمطلق على المقيد، وكذا لو خالعته على كفالته، ونفقته مدة معينة، ولو لم توصف النفقة، والأولى ذكر مدة الرضاع، وصفة النفقة، وإلا رجع إلى العرف والعادة.
(2) لأنه ثبت منجمًا، فلا يستحقه معجلا، وكذا النفقة، وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا خالعها على رضاع ولدها سنتين، جاز ذلك، فإن مات قبل الحولين، فقال أبو حنيفة وأحمد: يرجع بقيمة الرضاع المشروط، وهو أحد القولين لمالك والشافعي.
(3) كعبد ودار، صح الخلع به.
(4) أي وما صح المهر به من منفعة مباحة كتعليم علم، صح الخلع به، لا الغناء المحرم، فمحرم عند أبي حنيفة، ومالك، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وكذا آلات اللهو، قال الشيخ؛ الأئمة متفقون على تحريم الملاهي التي هي آلات اللهو، كالعود ونحوه، ويحرم اتخاذها، ولم يحك عنهم نزاع في ذلك، أي فلا يصح الخلع عليها.
(5) وقال أبو بكر: لا يجوز، وترد الزيادة، وهو رواية عن أحمد.
(6) هذا المذهب.(6/470)
ويصح الخلع إذًا (1) لقوله تعالى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (2) (وإن خالعت حامل بنفقة عدتها صح) (3) ولو قلنا: النفقة للحمل لأَنها في التحقيق في حكم المالكة لها مدة الحمل (4) (ويصح) الخلع (بالمجهول) كالوصية (5) ولأنه إسقاط لحقه من البضع وليس بتمليك شيء (6) والإسقاط يدخله المسامحة (7) .
__________
(1) ويحمل النهي على الكراهة، وعنه: لا يكره؛ وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي.
(2) أي افتدت به المرأة نفسها من الزوج ولو كثر، وقالت الربيع: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي، فأجاز ذلك عثمان. واشتهر ولم ينكر، فكان كالإجماع، وقال مالك: لم أر من منع من ذلك؛ إلا أنه ليس من مكارم الأخلاق.
(3) وسقطت النفقة، وإن لم يعلم قدرها، كنفقة الصبي.
(4) بل مستحقة لها، فصح الخلع بها، وكذا لو خالعها وأبرأته من نفقة حملها، أو خالعته على شيء ثم أبرأته من نفقة حملها، ويبرأ إلى فطامه، فإذا فطمته فلها طلبه بنفقته، وإن مات فلا شيء عليها.
(5) أي كما أن الوصية تصح بالمجهول.
(6) أي فيشترط فيه ما يشترط في التمليك.
(7) ولذلك جاز بغير عوض، ويصح أيضًا بالمعدوم الذي ينتظر وجوده.(6/471)
(فإن خالعته على حمل شجرتها، أو) حمل (أمتها (1) أو ما في يدها، أو بيتها من دراهم أو متاع (2) أو على عبد) مطلق ونحوه (صح) الخلع (3) وله ما يحصل، وما في بيتها أو يدها (4) (وله مع عدم الحمل) فيما إذا خالعها على نحو حمل شجرتها (5) (و) مع عدم (المتاع) فيما إذا خالعها على ما في بيتها من المتاع (6) (و) مع عدم (العبد) لو خالعها على ما في بيتها من عبد (أقل مسماه) أي أقل ما يطلق عليه الاسم من هذه الأشياء (7) .
__________
(1) أو بقرتها، أو غنمها، صح الخلع.
(2) أو خالعها على ما في ضروع ماشيتها، ونحوه من كل مجهول، أو معدوم ينتظر وجوده صح.
(3) أي أو خالعها على عبد غير معين ولا موصوف، أو خالعها على بعير، أو بقرة، أو شاة، أو ثوب، ونحو ذلك من المبهمات، صح الخلع.
(4) أي وله ما يحصل من حمل شجرتها، أو حمل أمتها، وما في بيتها أو يدها، قليلا كان أو كثيرًا، لأنه المخالع عليه، ولو كانت الدراهم أقل من ثلاثة.
(5) أقل مسمى حمل شجرتها.
(6) أقل مسماه.
(7) يعني حمل الشجرة، والأمة، وما في اليد، أو البيت، ومع عدم العبد.(6/472)
لصدق الاسم به (1) وكذا لو خالعها على عبد مبهم أو نحوه (2) له أقل ما يتناوله الاسم (3) (و) له (مع عدم الدراهم) فيما إذا خالعها على ما بيدها من الدراهم (ثلاثة) دراهم، لأنها أقل الجمع (4) .
__________
(1) كالوصية.
(2) كبقرة، أو شاة.
(3) من عبد ونحوه، وكذا لو قال: إن أعطيتني عبدا فأنت طالق. طلقت بأي عبد أعطته إياه، وإن أعطته إياه فبان حرا ونحوه لم تطلق.
(4) كما لو وصى له بدراهم، ولأنه أقل ما يقع عليه اسم الدراهم حقيقة.(6/473)
فصل (1)
(وإذا قال) الزوج لزوجته أو غيرها (2) (متى) أعطيتني ألفا (أو إذا) أعطيتني ألفا (3) (أو إن أعطيتني ألفا فأنت طالق. طلقت) بائنا (بعطيته) الألف (4) (وإن تراخى) الإعطاء، لوجود المعلق عليه (5) ويملك الألف بالإعطاء (6) وإن قال: إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق. فأعطته إياه طلقت (7) .
__________
(1) في تعليق طلاقها أو خلعها بعوض، أو تنجيزه به.
(2) كأن يقول لزيد: إذا أعطيتني ألفا فزوجتي طالق.
(3) فأنت طالق. طلقت إذا أعطته الألف.
(4) ولا رجعة له عليها، لأن القصد إزالة الضرر عنها، ولو جازت الرجعة لعاد الضرر.
(5) كسائر التعاليق هذا المذهب، واختار الشيخ: لا يلزم إلا على شرط محض، كإن قدم زيد.
(6) وقال بعضهم: الأولى أن يحمل الإعطاء على الإقباض مع التمليك.
(7) لوجود الصفة وكذا لو قال: إن أعطيتني عبدا.(6/474)
ولا شيء له إن خرج معيبا (1) وإن بان مستحق الدم فقبل فأرش عيبه (2) ومغصوبا، أو حرًا هو أو بعضه، لم تطلق لعدم صحة الإعطاء (3) وإن قال: أنت طالق وعليك ألف أو بألف. ونحوه (4) فقبلت بالمجلس، بانت واستحقه (5) وإلا وقع رجعيًا (6) ولا ينقلب بائنا لو بذلته بعد (7) .
__________
(1) لأنه شرط لوقوع الطلاق، أشبه ما لو قال: إن ملكته فأنت طالق. ثم ملكه، ولا يستحق غيره.
(2) عليها، فينظر كم قيمته مستحق الدم، وغير مستحقه، ويكون الأرش ما بين القيمتين.
(3) المعلق عليه الطلاق، قال الشيخ: إذا قال لزوجته، إن أبرأتني فأنت طالق. فقالت: أبرأك الله مما تدعي النساء به على الرجال، فقال: أنت طالق. وظن أنه يبرأ من الحقوق، فإنه يبرأ مما تدعي به النساء على الرجال، إذا كانت رشيدة.
(4) كقوله: أنت طالق على ألف.
(5) أي الألف، لأنه طلاق على عوض، وقد التزم فيه العوض فصح، كما لو كان بسؤالها.
(6) أي وإن لم تقبل في المجلس وقع الطلاق رجعيا، وله الرجوع قبل قبولها.
(7) أي بعد ردها، كما لو بذلته بعد المجلس.(6/475)
(وإن قالت: اخلعني على ألف، أو) اخلعني (بألف، أو) اخلعني (ولك ألف (1) . ففعل) أي خلعها (2) ولو لم يذكر الألف (بانت (3) واستحقها) من غالب نقد البلد (4) إن أجابها على الفور (5) لأن السؤال كالمعاد في الجواب (6) (و) إن قالت: (طلقني واحدة بألف؛ فطلقها ثلاثا استحقها) (7) .
__________
(1) أو قالت: طلقني على ألف، أو طلقني بألف، أو على ألف، أو ولك ألف إن طلقتني أو خلعتني. ونحو ذلك ولو قالت: طلقني بألف. فقال: خلعتك ينوي به الطلاق، صح الطلاق، واستحق الألف، حيث أجابها إلى ما استدعته منه، لأنه من كناياته، وإن لم ينو به الطلاق لم يصح الخلع، لخلوه عن العوض، وإن قالت: اخلعني بألف. فقال: طلقتك. لم يستحقه، لأنه أوقع طلاقا لم تطلبه ويقع رجعيا.
(2) بأن قال: خلعتك أو طلقتك. ونحوه.
(3) لأن الباء للمقابلة، و"على" في معناها.
(4) كالبيع، لأنه فعل ما جعلت الألف في مقابلته.
(5) بأن قال: خلعتك أو طلقتك. ولها أن ترجع قبل أن يجيبها، لأن قولها ذلك إنشاء، على سبيل المعاوضة، فلها الرجوع قبل تمامه كالبيع.
(6) أي لأن قوله: خلعتك، أو طلقتك. جواب لما استدعته منه، والسؤال كالمعاد في الجواب، فأشبه ما لو قالت: بعني عبدك بألف. فقال: بعتك إياه ولو لم يذكر الألف.
(7) أي الألف، وكذا: على ألف، أو: ولك ألف. ونحوه، فطلقها ثلاثا، استحق الألف، وكذا لو طلقها اثنتين.(6/476)
لأنه أوقع ما استدعته وزيادة (1) (وعكسه بعكسه) فلو قالت: طلقني ثلاثا بألف؛ فطلق أقل منها، لم يستحق شيئًا، لأنه لم يجبها لما بذلت العوض في مقابلته (2) (إلا في واحدة بقيت) من الثلاث، فيستحق الألف ولو لم تعلم ذلك، لأنها كملت، وحصلت ما يحصل بالثلاث، من البينونة، والتحريم حتى تنكح زوجا غيره (3) (وليس للأَب خلع زوجة ابنه الصغير) والمجنون (ولا طلاقها) (4) لحديث «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» رواه ابن ماجه، والدارقطني (5) (ولا) للأب (خلع ابنته بشيء من مالها) (6) .
__________
(1) فإن كان قال: أنت طالق، وطالق، وطالق؛ بانت بالأولى، وإن كان ذكر الألف عقب الثانية، بانت بها، والأولى رجعية، وعقب الثالثة طلقت ثلاثا، وقيل: تطلق ثلاثا كالجملة الواحدة.
(2) ووقعت رجعية.
(3) فوجب العوض كما لو قال: أنت طالق ثلاثا، وإن قالت: طلقني عشرا بألف. فطلقها واحدة، أو اثنتين، لم يستحق شيئًا، وثلاثا، استحق الألف، لأن ما زاد عليها لغو.
(4) ولا لوصيه، ولا لولي من أوليائهما بطريق الأولى.
(5) وحديث «لا طلاق فيما لا يملك» والخلع في معناه، وكذا سيد الصغير والمجنون.
(6) وكذا المجنونة والسفيهة بشيء من مالهما، ولا طلاقهن بشيء من مالهن.(6/477)
لأنه لاحظ لها في ذلك (1) وهو بذل للمال في غير مقابلة عوض مالي، فهو كالتبرع (2) وإن بذل العوض من ماله صح كالأجنبي (3) ويحرم خلع الحيلة ولا يصح (4) (ولا يسقط الخلع غيره من الحقوق) (5) .
__________
(1) بل فيه إسقاط حقهن الواجب لهن، والأب وغيره في ذلك سواء.
(2) أي من مالها، هذا المذهب، وقال ابن القيم: منع الأب من خلع ابنته الصغيرة بشيء من مالها، ليست مسألة وفاق، وإذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب، وأن له أن يعفو عن صداق ابنته قبل الدخول – وهو الصحيح لبضعة عشر دليلا – فخلعها بشيء من مالها أولى، لأنه إذا ملك إسقاط مالها مجانا، فلأن يملك إسقاطه ليخلصها من رق زوج، ليزوجها خيرًا لها منه، أولى وأحرى، وهذه رواية عن أحمد، اختارها شيخنا. اهـ. وتقدم عنه نحوه.
(3) أي كما لو بذله أجنبي، وهو يصح، وذلك بأن يسأل الزوج أن يخلع زوجته بعوض بذله له.
(4) كأن يطلقها ثلاثًا، ويعلقه على دخول رمضان مثلا، ثم يخلعها قبل دخوله على عوض، حذرا من وقوع الطلاق، فإذا خرج رمضان عقد عليها، وفي الاختيارات: خلع الحيلة لا يصح، كما لا يصح نكاح المحلل، لأنه ليس المقصود به الفرقة، وإنما يقصد به بقاء المرأة مع زوجها، كما يقصد بنكاح المحلل أن يطلقها لتعود إلى الأول، والعقد لا يقصد به نقيض مقصوده، وإذا لم يصح، لم تبن به الزوجة.
(5) أي ولا يسقط الخلع ما بين الزوج والزوجة من الحقوق، كمهر، ونفقة، وقرض، وغير ذلك.(6/478)
فلو خالعته على شيء، لم يسقط مالها من حقوق زوجية وغيرها، بسكوت عنها (1) وكذا لو خالعته ببعض ما عليه، لم يسقط الباقي، كسائر الحقوق (2) (وإن علق طلاقها بصفة) كدخول الدار (ثم أبانها (3) فوجدت) الصفة حال بينونتها (4) (ثم نكحها) أي عقد عليها بعد وجود الصفة (5) (فوجدت) الصفة (بعده) أي بعد النكاح (طلقت) (6) .
__________
(1) فيتراجعان بما بينهما من الحقوق، لأن ذلك لا يسقط بلفظ طلاق، فلا يسقط بالخلع.
(2) كما لا يسقط بفرقة الطلاق، كبقية عدة حمل، أو إرضاع.
(3) بفسخ أو غيره.
(4) أي فوجدت الصفة التي علق طلاقها عليها، كدخول الدار حال بينونتها.
(5) وهي دخولها الدار.
(6) ولو كانت الصفة وجدت حال بينونتها، على الأصح، ووجهه أن عقد الصفة وعودها وجد في النكاح فيقع، كما لو لم تتخلله بينونة، أو كما لو بانت بدون الثلاث، عند مالك، وأبي حنيفة، ولم تفعل الصفة، وفي الإنصاف وكذا الحكم لو قال: إن بنت مني، ثم تزوجتك، فأنت طالق. فبانت ثم تزوجها، قال في الفروع: وفي التعليق احتمال لا يقع، كتعليقه بالملك.
وفي المقنع: ويتخرج أن لا تطلق. يعني فيما إذا علقه بصفة، بناء على الرواية في العتق، واختاره أبو الحسن التميمي، قال في شرح المقنع: وأكثر أهل العلم يرون الصفة لا تعود، إذا أبانها بطلاق ثلاث.(6/479)
وكذا لو حلف بالطلاق (1) ثم بانت، ثم عادت الزوجية ووجد المحلوف عليه، فتطلق، لوجود الصفة (2) ولا تنحل بفعلها حال البينونة (3) ولو كانت الأداة لا تقتضي التكرار (4) لأنها لا تنحل إلا على وجه يحنث به (5) لأن اليمين حل وعقد، والعقد يفتقر إلى الملك، فكذا الحل (6) والحنث لا يحصل بفعل الصفة حال البينونة، فلا تنحل اليمين به (7) .
__________
(1) وهو ما قصد به حث على شيء، أو منع منه، أو تصديق خبر، أو تكذيبه.
(2) لأن عقد الصفة المحلوف عليها وعودها، وجد في النكاح فوقع الحنث، نص عليه، والأكثر على عدم عود الصفة.
(3) وهذا ظاهر المذهب.
(4) كمتى، ونحوها من أدوات الشرط.
(5) وهو وجود الصفة حال كونها في عصمته.
(6) أي يفتقر إلى وجود الصفة حال ملكه عصمتها.
(7) وقاسه الموفق على بناء عدد الطلاق على الأول، وأنه يفعل حيلة على إبطال الطلاق المعلق، وأكثر أهل العلم يرون أن الصفة لا تعود، إذا أبانها بطلاق ثلاث، وإن لم توجد حال البينونة، فإن أبانها بدون الثلاث، فوجدت الصفة انحلت يمينه، وإن لم توجد الصفة في البينونة ثم نكحها، لم تنحل عند الجمهور.(6/480)
(كعتق) فلو علق عتق قنه على صفة، ثم باعه فوجدت، ثم ملكه ثم وجدت، عتق لما سبق (1) (وإلا) توجد الصفة بعد النكاح والملك (فلا) طلاق، ولا عتق بالصفة حال البينونة، وزوال الملك (2) لأنهما إذًا ليسا محلا للوقوع (3) .
__________
(1) من أن اليمين لا تنحل إذا وجدت حال البينونة.
(2) أي وإلا توجد الصفة بعد النكاح الثاني والملك، مثل أن قال: إن أكلت هذا الرغيف فأنت طالق ثلاثا، وعبدي حر؛ ثم أكلته، ثم نكحها، وملك العبد، فلا طلاق، ولا عتق بالصفة حال البينونة، وزوال الملك.
(3) إذ لا يمكن إيقاع الطلاق بأكلها له حال البينونة، لأن الطلاق لا يلحق البائن، وكذا الملك، لأن حنثه بوجود الصفة حال الملك.(6/481)
كتاب الطلاق (1)
وهو في اللغة التخلية، يقال: طلقت الناقة؛ إذا سرحت حيث شاءت (2) والإطلاق الإرسال (3) وشرعا: حل قيد النكاح أو بعضه (4) (يباح) الطلاق (للحاجة) كسوء خلق المرأة، والتضرر بها مع عدم حصول الغرض (5) (ويكره) الطلاق (لعدمها) أي عند عدم الحاجة (6) .
__________
(1) الأصل في جوازه الكتاب، والسنة، والإجماع، قال تعالى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وقال {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقال صلى الله عليه وسلم «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» وغير ذلك، والإجماع حكاه جماعة.
(2) وقال الأزهري: طلقت المرأة فطلقت، وأطلقت الناقة فانطلقت. هذا الكلام الجيد. وقال غيره: الطلاق والطلقة مصدر: طلقت المرأة. بفتح اللام وضمها، بانت من زوجها، والجمع طلقات، بفتح اللام، فهي طالق، وطلقها زوجها، فهي مطلقة.
(3) وحبس الإنسان في السجن بغير قيد.
(4) أي والطلاق شرعا: حل قيد النكاح بإيقاع نهاية عدده، أو حل بعض قيده، بإيقاع ما دون النهاية.
(5) أي بالزوجة.
(6) بأن كانت حال الزوجين مستقيمة، قال الوزير: أجمعوا على أن الطلاق في حال استقامة الزوجين مكروه، إلا أبا حنيفة قال: هو حرام مع استقامة الحال.(6/482)
لحديث «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» (1) ولاشتماله على إزالة النكاح، المشتمل على المصالح المندوب إليها (2) (ويستحب للضرر) أي لتضررها باستدامة النكاح في حال الشقاق (3) وحال تحوج المرأة إلى المخالعة، ليزول عنها الضرر (4) وكذا لو تركت صلاة، أو عفة، أو نحوهما (5) وهي كالرجل، فيسن أن تختلع إن ترك حقا لله تعالى (6) (ويجب) الطلاق (للإيلاء) على الزوج المولي، إذا أبى الفيئة (7) .
__________
(1) رواه أبو داود، وابن ماجه، ورجاله ثقات، وفي رواية «ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق» وإنما يكون مبغوضا من غير حاجة إليه، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حلالا.
(2) فيكون مكروها.
(3) بينهما، وعبر بعضهم: بـ"يسن".
(4) كبغضها لزوجها.
(5) أي ويستحب الطلاق لو تركت صلاة، بتأخيرها عن وقتها، ولا يمكنه إجبارها عليها، أو تركت عفة، أو فرطت في حقوق الله تعالى، قال الشيخ: إذا كانت تزني، لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال، وإلا كان ديوثًا، ويجب فراقها، وله عضلها في هذه الحال، والتضييق عليها لتفتدي منه، وتقدم.
(6) أي والزوجة كالزوج، فيسن لها أن تختلع منه إن ترك حقا لله تعالى، كصلاة، وصوم، وعفة، ونحو ذلك.
(7) أي الوطء بعد الأربعة الأشهر، ويأتي.(6/483)
(ويحرم للبدعة) (1) ويأتي بيانه (2) (ويصح من زوج مكلف (3) و) زوج (مميز يعقله) أي الطلاق (4) بأن يعلم أن النكاح يزول به (5) لعموم حديث «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» وتقدم (6) (ومن زال عقله معذورا) كمجنون، ومغمى عليه (7)
__________
(1) كفي الحيض، والنفاس، وطهر وطئ فيه، ويجب إذا أمره به أبوه لمصلحة وإن أمرته به أمه فقال أحمد: لا يعجبني طلاقه. قال الشيخ: وكلام أحمد – في وجوب طلاق الزوجة بأمر الأب – مقيد بصلاح الأب.
(2) في هذا الباب، قريبًا إن شاء الله تعالى.
(3) بلا نزاع، لأنه عقد معاوضة، فصح منه كالبيع.
(4) ولو دون عشر، هذا المذهب.
(5) وأن زوجته تبين منه، وتحرم عليه، فليس مبنيا على التكليف، بل هو من قبيل ربط الأحكام بأسبابها، كالزكاة ونحوها.
(6) أي في باب الخلع، وتقدم أنه يسوى فيه بين العقد والفسخ، وأن كل من ملك العقد ملك الفسخ، وذكر الشيخ أنه موجب شهادة الأصول، وأنه يندرج فيه الوصي المزوج، والأولياء إذا زوجوا المجنون، ومن حاكم ... الخ، ومن زوج عبده أمته، ثم أراد أن يفرق بينهما لم يقع طلاقه، ويعضد الخبر {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} وقوله {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} .
وعن أحمد: لا يقع طلاق مميز وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأما السفيه فيقع طلاقه في قول أكثر أهل العلم، ويعتبر لوقوع الطلاق إرادة لفظه لمعناه، فلا طلاق لفقيه يكرره، وحاك ولو عن نفسه.
(7) ومن به غشي، والإغماء: امتلاء بطون الدماغ، من بلغم بارد غليظ أو
سهو يلحق الإنسان، مع فتور الأعضاء لعلة، والغشي: تعطل القوى المتحركة، لضعف القلب، بوجع شديد، أو برد، أو جوع مفرط، وقيل الغشي الإغماء.(6/484)
ومن به برسام (1) أو نشاف، ونائم (2) ومن شرب مسكرا كرها (3) أو أكل بنجا ونحوه، لتداو أو غيره (4) (لم يقع طلاقه) (5) لقول علي رضي الله عنه: كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه. ذكره البخاري في صحيحه (6) .
__________
(1) وهو ورم حار، يعرض للحجاب الذي بين الكبد والمعاء، ثم يتصل بالدماغ.
(2) وأجمعوا على أنه لا يقع من مجنون، ولا نائم، لأنه غير فاهم ما يقوله، وقال الموفق وغيره: من كان جنونه النشاف، أو كان مبرسما، فإن ذلك يسقط حكم تصرفه، مع أن معرفته غير ذاهبة بالكلية، فلا يضر ذكره للطلاق.
(3) قال ابن عباس: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز، ذكره البخاري وذكر عن عثمان أنه قال: ليس لمجنون، ولا سكران طلاق.
(4) ممن لا يعقله، لعدم المناط الذي تدور عليه الأحكام، فلا يعتد بطلاقه، والبنج، كفلس: نبات له حب يخلط العقل، ويورث الخبال، أي الفساد أو الجنون وربما أسكر إذا شربه الإنسان بعد ذوبه، وقيل: إنه يورث النسيان.
(5) وقيس عليه الباقي، لزوال التكليف، فلا يصح من غير مكلف، ولا ممن زال تكليفه، وغير المكلف غير فاهم، والفهم شرط التكليف، كما هو مقرر في الأصول.
(6) وروي عن أبي هريرة، مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه «والمغلوب على عقله» وحكى الطحاوي الإجماع، على أن طلاق المعتوه لا يقع.(6/485)
(وعكسه الآثم) (1) فيقع طلاق السكران طوعا (2) ولو خلط في كلامه (3) أو سقط تمييزه بين الأعيان (4) .
__________
(1) أي بشربه ما يسكره، من نحو خمر، مما يحرم استعماله، كالحشيشة المسكرة، وألحقها الشيخ بالشراب المسكر، حتى في الحد، وفرق بينها وبين البنج بأنها تشتهى وتطلب.
(2) بخلاف من أكره عليه.
(3) أي هذي في كلامه؛ وقيل: هو الذي يختل في كلامه المنظوم، ويبيح بسره المكتوم.
(4) قيل: فلا يعرف متاعه من متاع غيره؛ أو لا يعرف السماء من الأرض، ولا الذكر من الأنثى، هذا المذهب، وعنه: لا يقع. وقد فرق بعض أهل العلم بين السكر المحرم وغيره، والقائلون بعدم وقوع طلاق السكران احتجوا بزوال التكليف، والله تعالى نهى عن قربان الصلاة، وقال {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} والسكران لا يعلم ما يقول، ومن كان كذلك فكيف يكون مكلفا وهو غير فاهم ما يقول، فالأحكام لا تختلف بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته، أو من جهة غيره، وليس إسقاطًا منهم لحكم المعصية، بل لعدم مناط التكليف، وحمزة لما ثمل، وقال: ما أنتم إلا عبيد أبي؛ لم يلزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم تلك الكلمة، وقال ابن المنذر: ثبت عن عثمان، ولا نعلم أحدًا من الصحابة خالفه.
وقال الشيخ: لا يقع طلاق السكران، ولو بسكر محرم، وهو رواية عن أحمد. قال الزركشي: ولا يخفى أن أدلة هذه الرواية أظهر. ونقل الميموني الرجوع عما سواها، فقال: كنت أقول: يقع طلاق السكران. حتى تبينته فغلب علي أنه لا يقع.
وقال ابن القيم: زائل العقل إما بجنون، أو إغماء أو شرب دواء أو شرب مسكر؛ لا يعتد به، واختلف المتأخرون فيه، والثابت عن الصحابة – الذي لا يعلم فيه خلاف بينهم – أنه لا يقع طلاقه، وثبت في الصحيح عن عثمان، وابن عباس في السكران ونحوه، ولا يعرف عن رجل من الصحابة أنه خالفهما في ذلك، وذكر رجوع أحمد كما قال الشيخ، وقال عقبه: لا يجوز طلاق الموسوس.(6/486)
ويؤاخذ بسائر أقواله (1) وكل فعل يعتبر له العقل (2) كإقرار، وقذف، وقتل، وسرقة (3) (ومن أُكره عليه) أي على الطلاق (ظلما) أي بغير حق (4) بخلاف مول أبي الفيئة، فأَجبره الحاكم (5) .
__________
(1) أي من حق وباطل، كطلاقه لأن المعنى في الجميع واحد.
(2) ويؤاخذ به العاقل، يؤاخذ به السكران، وروي عن عمر أنه قال: استقرؤه القرآن، أو ألقوا رداءه في الأردية، فإن قرأ أم القرآن، أو عرف رداءه، وإلا فأقم عليه الحد.
(3) وزنا، وظهار، وإيلاء، وبيع، وشراء، وإسلام ونحوه، كوقف، وعارية، وقبض أمانة، وهذا على المذهب.
(4) فطلق، لم يقع طلاقه عند جمهور العلماء، وقال الموفق: لأنه قول من سمينا من الصحابة، ولا مخالف لهم في عصرهم، فكان إجماعًا، وقال ابن القيم: قد أتى باللفظ المقتضي للحكم، ولم يثبت عليه حكمه، لكونه غير قاصد له، وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه، فانتفى الحكم، لانتفاء قصده، وإرادته لموجب اللفظ.
(5) فيقع طلاقه، وبخلاف اثنين زوجهما وليان، ولم يعلم السابق منهما، فأكرههما الحاكم على الطلاق، لأنه إكراه بحق.(6/487)
(بإيلام) أي بعقوبة من ضرب (1) أو خنق، أو نحوهما (2) (له) أي للزوج (أو لولده (3) أو أخذ مال يضره (4) أو هدده بأحدها) أي أحد المذكورات من إيلام له، أو لولده، أو أخذ مال يضره (قادر) على ما هدده به (5) بسلطة، أو تغلب، كلص ونحوه (6) (يظن) الزوج (إيقاعه) أي إيقاع ما هدده (به (7) .
__________
(1) شديد، لا يسير في حق من لا يبالي به، بخلاف ذي المروءات، فهو كالضرب الكثير.
(2) أي أو هدده بخنق، ولا يرفع عنه ذلك حتى يطلق، أو نحو الضرب أو الخنق، كعصر ساق، وغط في الماء، وكالحبس والقيد الطويل، والإخراج من الديار.
(3) أو والده، قال ابن رجب: ويتوجه: أو بقية أقاربه.
(4) أي أخذه منه، ضررا كثيرًا، وإلا فليس بإكراه.
(5) أي خوفه به، فالوعيد المذكور إكراه.
(6) كقاطع طريق، وفي الاختيارات: إن سحره ليطلق فإكراه.
(7) ويظن عجزه عن دفعه، والهرب منه، والاختفاء، فهو بشروطه إكراه، وقال مالك، والشافعي، وأحمد: لا يقع التوعد في الجملة إكراها. وقال الشيخ: الإكراه يحصل إما بالتهديد، أو بأن يغلب على ظنه أنه يضره في نفسه، أو ماله بلا تهديد. وقال: كونه يغلب على ظنه تحقق تهديده، ليس بجيد، بل الصواب أنه لو استوى الطرفان لكان إكراها.(6/488)
فطلق تبعا لقوله، لم يقع) الطلاق (1) حيث لم يرفع عنه ذلك حتى يطلق (2) لحديث عائشة مرفوعا «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه (3) والإغلاق الإكراه (4) ومن قصد إيقاع الطلاق، دون دفع الإكراه، وقع طلاقه (5) .
__________
(1) أي فطلق المكره، تبعا لقول المكره بكسر الراء، لم يقع الطلاق، وتجب الإجابة إذا كان التهديد بقتله، أو قطع طرف، لئلا يلقي بيده إلى التهلكة المنهي عنها، وروى سعيد وغيره: أن رجلا تدلى على حبل يشتار عسلا فأقبلت أمرأته فجلست على الجبل وقالت: ليطلقها ثلاثًا وإلا قطعت الحبل، فذكرها الله والإسلام، فأبت، فطلقها ثلاثا ثم خرج إلى عمر، فذكر ذلك له، فقال: ارجع إلى أهلك، فليس هذا طلاقا. وكذا قال مالك، والشافعي: لا يقع إذا نطق به دافعا عن نفسه. وتقدم قول ابن القيم في أن المكره إنما قصد دفع الأذى عن نفسه، فانتقى الحكم.
(2) وإلا فما فات منه لا إكراه به، لانقضائه.
(3) وأبو يعلى، والحاكم وصححه، ولحديث «عفي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» وفي الآية الكريمة {إِلا مَنْ أُكْرِهَ} والكفر أعظم من الطلاق.
(4) أي والإغلاق – بكسر الهمزة – الإكراه، وقيل: الغضب. وقال أبو عبيدة: الإغلاق: التضييق. فكأنه يغلق عليه، ويحبس، ويضيق عليه، حتى يطلق، فدل الحديث على أن طلاق المكره لا يقع، قال الشيخ: وهو قول جماهير العلماء كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم.
(5) وقاله الشيخ وغيره، ونص عليه أحمد.(6/489)
كمن أُكره على طلقة، فطلق أكثر (1) (ويقع الطلاق) بائنا لا الخلع (2) (في نكاح مختلف فيه) كبلا ولي (3) ولو لم يره مطلق (4) ولا يستحق عوضا سئل عليه (5) ولا يكون بدعيا في حيض (6) (و) يقع الطلاق (من الغضبان) ما لم يغم عليه، كغيره (7) .
__________
(1) وقع، لأنه لم يكره على الثلاث، وإن اكره على طلاق امرأة، فطلق غيرها وقع، لأنه غير مكره عليه.
(2) فلا يقع في نكاح فاسد، لخلوه عن العوض، وذلك أنه لو أعادها بعد ذلك إلى نكاحه، كانت معه على بقية عدده، ولو أوقع في النكاح المذكور ثلاثا، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره.
(3) أو بولاية فاسق، أو شهادة فاسقين، أو نكاح الأخت في عدتها، أو في نكاح الشغار، والمحلل، أو بلا شهود، ونحو ذلك.
(4) أي ولو لم ير المطلق صحة النكاح، نص عليه، فإن كان يرى صحة النكاح المختلف فيه، وقع طلاقه رجعيا، واستحق العوض في الخلع، ولا يقع الطلاق في نكاح باطل إجماعًا، كمعتدة، وخامسة، ولا في نكاح فضولي قبل إجازته.
(5) أي ولا يستحق عوضا، سئل المطلق عليه الطلاق، في نكاح مختلف فيه.
(6) ولا نفاس، ولا طهر وطئ فيه، لأن استدامة هذا النكاح غير جائزة.
(7) قال الشيخ: إن لم يزل عقله، ويغيره الغضب لم يقع، وتقدم خبر «لا طلاق في إغلاق» قال الشيخ: هو ما أغلق عليه قلبه، فلا يدري ما يقول،
وأما مجرد الغضب فقل من يطلق حتى يغضب، والغضب على ثلاثة أقسام، ما يزيل العقل، فلا يشعر صاحبه ما يقول، فهذا لا يقع طلاقه، أو يستحكم الغضب ويشتد به، فلا يزيل عقله بالكلية، ولكن يحول بينه وبين نيته، بحيث يندم على ما فرط منه، فهذا محل نظر، وعدم وقوعه أقوى، أو يكون الغضب في مبادئه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول، فيقع طلاقه.
وأما طلاق الهازل، فقال الشيخ: واقع، لأنه قصد التكلم بالطلاق، وإن لم يقصد إيقاعه. وقال ابن القيم: يقع عند الجمهور، ونكاحه صحيح، كما صرح به النص، وهو المحفوظ عن الصحابة، والتابعين، وقول الجمهور.(6/490)
(ووكيله) أي الزوج في الطلاق (كهو) (1) فيصح توكيل مكلف، ومميز يعقله (2) (ويطلق) الوكيل (واحدة) فقط (3) (و) يطلق في غير وقت بدعة (متى شاء (4) .
__________
(1) لأنه إزالة ملك، فصح التوكيل فيه كالعتق.
(2) أي فيصح توكيل مكلف، في طلاق زوجته ولو كافرا، لصحته لنفسه، أو امرأة، لأنه يصح توكيلها في العتق، وهذا مذهب جمهور العلماء ويصح توكيل مميز يعقل الطلاق، هذا المذهب، وينبني على صحة طلاقه لنفسه، وتقدم، وأما الطفل والمجنون، فلا يصح توكيلهما بلا نزاع.
(3) لأن الأمر المطلق يتناول ما يقع عليه الاسم، ولو وكله في ثلاث فطلق واحدة، أو وكله في واحدة فطلق ثلاثا، طلقت واحدة، قال في الإنصاف: بلا خلاف أعلمه.
(4) لأن لفظ التوكيل يقتضي ذلك، لأنه وكله توكيلا مطلقا.(6/491)
إلا أن يعين له وقتا وعددا) فلا يتعداهما (1) ولا يملك تعليقا إلا بجعله له (2) (وامرأته) إذا قال لها: طلقي نفسك (كوكيله في طلاق نفسها) (3) فلها أَن تطلق نفسها طلقة متى شاءت (4) ويبطل برجوع (5) .
__________
(1) لأن الأمر إلى الموكل في ذلك، لكون الحق له، والوكيل نائبه، فتنسب له الوكالة، على ما يقتضيه لفظ الموكل.
(2) أي إلا أن يجعل الزوج للوكيل التعليق، فيملكه، والتعليق كأن يقول الوكيل: إن دخلت الدار فأنت طالق.
(3) فإن نوى عددًا، فهو على ما نوى، وإن أطلق من غير نية، لم تملك إلا واحدة، قال أحمد: لو نوى ثلاثا، فطلقت نفسها ثلاثا، فهي ثلاث، وإن كان نوى واحدة، فواحدة.
(4) لأنه مقتضى اللفظ والإطلاق، إلا أن يعين لها وقتا وعددا، وصفة طلاقها نفسها، أن تقول: طلقت نفسي.
(5) أي ويبطل توكيل الزوج في الطلاق برجوعه عنه، ويصدق في رجوعه، وقيل: لا يملكه إلا ببينة كسائر الوكالات، واختاره الشيخ وغيره، وقال: وكذا دعوى عتقه ورهنه.(6/492)
فصل (1)
(إذا طلقها مرة) أي طلقة واحدة (في طهر لم يجامع فيه (2) وتركها حتى تنقضي عدتها (3) فهو سنة) أي فهذا الطلاق موافق للسنة (4) .
__________
(1) أي في سنة الطلاق وبدعته، وسنته: إيقاعه على الوجه المشروع، وبدعته: إيقاعه على الوجه المحرم المنهي عنه، وقال علي رضي الله عنه: لو أن الناس أخذوا بما أمر الله به من الطلاق، ما أتبع رجل نفسه امرأة أبدًا، يطلقها تطليقة، ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثا، فمتى شاء راجعها.
(2) أي في الطهر، فهو سنة.
(3) أي وتركها، بأن لا يطلقها حتى تنقضي عدتها من الأولى، إذ المقصود فراقها، وقد حصل بالأولى.
(4) وهو ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقال أحمد: طلاق السنة واحدة، ثم تركها حتى تحيض ثلاث حيض، وقال ابن رشد: أجمع العلماء على أن المطلق للسنة في المدخول بها هو الذي يطلق امرأته في طهر لم يسمها فيه، طلقة واحدة، وأن المطلق في الحيض، أو الطهر الذي مسها فيه غير مطلق للسنة.
فصارت السنة في حقها من وجهين، من جهة العدد، وهو أن يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، وأن يطلقها في طهر لم يصبها فيه، وذكره ابن المنذر، وابن عبد البر إجماع العلماء.(6/493)
لقوله تعالى {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال ابن مسعود: طاهرات من غير جماع (1) لكن يستثنى من ذلك: لو طلقها في طهر متعقب لرجعة من طلاق في حيض فبدعة (2) (فتحرم الثلاث إذًا) أي يحرم إيقاع الثلاث، ولو بكلمات، في طهر لم يصبها فيه (3) لا بعد رجعة أو عقد (4) روي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر (5) .
__________
(1) ونحوه عن ابن عباس، ولما يأتي من حديث ابن عمر.
(2) لحديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فتغيظ، وفيه: وقال «ليراجعها» الخ.
(3) لقوله «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم» وكان عمر إذا أتى برجل طلق ثلاثا، أوجعه ضربا، وفي الإنصاف: لو طلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار، كان حكم ذلك حكم الثلاث في طهر واحد. اهـ. ويتجه أنه ليس بحرام، لقوله «أمسكها حتى تطهر ثم تحيض» وإلا لكان يمسكها وجوبا، لئلا يقع في الحرام.
(4) أي لا يحرم الطلاق بعد رجعة، إذا راجعها، ثم طلقها، ثم راجعها، أو بعد عقد، بأن طلقها، ثم عقد عليها، ثم طلقها، ثم عقد عليها، قال في الإنصاف: فلو طلق ثانية، أو ثالثة، في طهر واحد بعدهما، لم يكن بدعة، على الصحيح من المذهب، وقدم في الانتصار تحريمه حتى تفرغ العدة. وجزم في الروضة فيما إذا رجع قال: لأنه طول العدة وأنه معنى نهيه {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} .
(5) وهو قول مالك، وأبي حنيفة، قال علي: لا يطلق أحد للسنة فيندم.(6/494)
فمن طلق زوجته ثلاثا بكلمة واحدة، وقع الثلاث (1)
__________
(1) أو بكلمات، في طهر لم يصبها فيه، أو في أطهار قبل رجعة، وقعت الثلاث، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وجماهير العلماء، على أن الثلاث تقع ثلاثا وحكى ابن رشد: إجماع علماء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث، حكمه حكم الطلقة الثالثة، وثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس، أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة.
ولأحمد وغيره عن ابن عباس: طلق ركانة امرأته ثلاثا، فقال صلى الله عليه وسلم «راجع امرأتك» فقال، إني طلقتها ثلاثا. قال «قد علمت، راجعها» وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وغيرهما، وأصحاب ابن عباس، وبعض أصحاب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، واختاره الشيخ وغيره، قال ابن عباس رضي الله عنه: فقال عمر – بعد ما مضى صدر من خلافته -: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناءة، فلو أمضيناه عليهم. أي ألزمناهم الثلاث، إذا صار الغالب عليهم قصدها، فأمضاه عليهم، أي ألزمهم الثلاث.
قال ابن القيم: وعمر رضي الله عنه لم يخالف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ما كان في عصر الخليفة الراشد، ولا ما في صدر في أول عصره، بل رأى رضي الله عنه إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم، وتابعه على ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيدوا رأيه، لما علموا أن إرسال الثلاث حرام، وتتابعوا فيه؛ قال: ولا ريب أن هذا سائغ للأئمة أن يلزموا الناس ما ضيقوا به على أنفسهم، ولم يقبلوا فيه رخصة الله عز وجل، وتسهيله، بل اختاروا الشدة والعسر، فكيف بأمير المؤمنين، وكمال نظره للأمة، وتأديبه لهم.
ولكن العقوبة تختلف باختلاف الأزمنة، والأشخاص، والتمكن من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه وخفائه، وعمر لم يقل: إن هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما هو رأي رآه مصلحة للأمة، يكفهم بها عن التسارع إلى إيقاع الثلاث؛ قال: وهذا موافق لقواعد الشريعة، بل هو موافق لحكمة الله في خلقه قدرا وشرعا؛ قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: يكفيك ما أفتى به المحدث الملهم، ثاني الخلفاء الراشدين.(6/495)
وحرمت عليه، حتى تنكح زوجا غيره (1) قبل الدخول كان ذلك، أو بعده (2) (وإن طلق من دخل بها في حيض، أو طهر وطئ فيه) ولم يستبن حملها (3) وكذا لو علق طلاقها على نحو أكلها مما يتحقق وقوعه حالتيهما (4) (فبدعة) أي فذلك الطلاق بدعة محرم، و (يقع) (5) .
__________
(1) لقوله تعالى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .
(2) قال الموفق: في قول أكثر أهل العلم من التابعين، والأئمة بعدهم.
(3) فبدعة محرم ويقع، غير رجعية، أما فيها فلا بدعة، لعدم تأثيره في تطويل العدة، لأنها تبنى على ما مضى، وفي المبدع: ونفاس كحيض.
(4) أي الحيض، والطهر الذي وطئ فيه.
(5) أي طلاق البدعة، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن الطلاق في الحيض بمدخول بها، وفي الطهر المجامع فيه، محرم إلا أنه يقع، وقال ابن المنذر: لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال، ولأنه عليه الصلاة والسلام أمر عبد الله بن عمر بالمراجعة، وهي لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق. اهـ. ويباح الطلاق والخلع بسؤالها، زمن البدعة، لأن المنع لحقها.(6/496)
لحديث ابن عمر: أَنه طلق امرأته وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها. رواه الجماعة إلا الترمذي (1) (وتسن رجعتها) إذا طلقت زمن البدعة لحديث ابن عمر (2) (ولا سنة ولا بدعة) في زمن، أَو عدد (لصغيرة، وآيسة (3) وغير مدخول بها، ومن بان) أي ظهر (حملها) (4) .
__________
(1) ولفظ الصحيحين وغيرهما: أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيط، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» ولمسلم وقرأ {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وله «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» .
وللنسائي «فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى، فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء أن يمسكها فليمسكها» فدل الحديث على أن الطلاق في حيض لمدخول بها، أو طهر وطئ فيه، ولم يستبن حملها، بدعة ويقع.
(2) لأمره بمراجعتها، وعنه: أنها واجبة، وإذا راجعها وجب إمساكها حتى تطهر، فإذا طهرت سن أن يمسكها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها قبل أن يصيبها، فإذا فعل ذلك فهو طلاق السنة.
(3) أي ولا سنة ولا بدعة لطلاق صغيرة، لأنها لا تعتد بالأقراء، فلا تختلف عدتها، وآيسة كذلك، فلا تحصل الريبة.
(4) أي ولا سنة ولا بدعة في طلاق زوجة غير مدخول بها، لأنها لا عدة لها،
فتضر بتطويلها، ولا سنة ولا بدعة في طلاق من بان حملها، لأن عدتها بوضع الحمل، وقيل: طلاق الحامل طلاق سنة. وهو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال: أذهب إلى حديث سالم عن أبيه، وفيه «فليطلقها طاهرا أو حاملا» وتقدم.(6/497)
فإذا قال لإحداهن: أَنت طالق للسنة طلقة، وللبدعة طلقة، وقعتا في الحال (1) إلا أن يريد في غير الآيسة إذا صارت من أهل ذلك (2) وإن قاله لمن لها سنة وبدعة، فواحدة في الحال (3) والأُخرى في ضد حالها إذًا (4) (وصريحه) أي صريح الطلاق، وهو ما وضع له (لفظ الطلاق، وما تصرف منه) (5) .
__________
(1) لأن الطلاق لا يتصف بذلك، فتلغو الصفة، ويبقى الطلاق، ما لم تكن الأولى على عوض، أو لغير مدخول بها، فتبين بالأولى.
(2) كأن حاضت الصغيرة مثلا، وكذا غيرها ممن ذكر، ويدين قائل ذلك، فيما بينه وبين الله، إذا ادعى أنه أراد إذا صارت من أهل ذلك الوصف، لأن ادعاءه محتمل، ويقبل منه حكما، لأنه فسر كلامه بما يحتمله، وهو أعلم بينته، وأما الآيسة فلا يمكن فيها غير ذلك.
(3) لأن حالها لا تخلو، إما أن تكون في زمن السنة، فتقع طلقة على السنة، أو زمن البدعة، فتقع على البدعة.
(4) فتقع الطلقة الأخرى إذا وجدت الحالة الأخرى، وإن قال: أنت طالق للسنة. وهي في طهر لم يصبها فيه، طلقت في الحال، وإن كانت حائضًا فإذا طهرت.
(5) مما لا يحتمل غيره، من كل شيء وضع له اللفظ، من طلاق وغيره.(6/498)
كطلقتك، وطالق، ومطلقة، اسم مفعول (1) (غير أَمر) كاطلقي (2) (و) غير (مضارع) كتطلقين (3) (و) غير: (مطلقة اسم فاعل) (4) فلا يقع بهذه الألفاظ الثلاثة طلاق (5) (فيقع) الطلاق (به) أي بالصريح (6) (وإن لم ينوه، جاد أو هازل) (7) . لحديث أبي هريرة يرفعه «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد، النكاح، والطلاق، والرجعة» رواه الخمسة
__________
(1) فهو صريح فيه، موضوع له على الخصوص، ثبت له عرف الشرع والاستعمال.
(2) لم يقع.
(3) لم يقع أيضًا، لأنه غير صريح فيه، وكذا لو قال: أطلقك. لم يقع.
(4) بكسر اللام.
(5) لأنه لا يدل على الإيقاع، وذكر الشيخ – في البيوع – أنه لا ينعقد بما كان من هذه الألفاظ محتملا، فإنه يكون كناية، حيث تصح الكناية كالطلاق ونحوه، ويعتبر دلالات الأحوال.
(6) أي بصريح الطلاق، الذي لا يحتمل غيره، بحسب الوضع العرفي، كلفظ الطلاق، وما تصرف منه، كما تقدم، غير حاك له أو نحوه.
(7) أي وإن لم ينو بصريح الطلاق الطلاق، فيقع باطنا وظاهرا، لأن الصرائح لا تفتقر إلى نية، ولو كان الآتي بالصريح جادا، ضد الهازل، أو كان هازلا لاعبًا، حكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه.(6/499)
إلا النسائي (1) (فإن نوى بطالق) طالقا (من وثاق) بفتح الواو أي قيد (2) (أو) نوى طالقا (في نكاح سابق، منه أو من غيره (3) أو أراد) أن يقول (طاهرًا فغلط) أي سبق لسانه (لم يقبل) منه ذلك (حكما) (4) .
__________
(1) وروي عن عبادة مرفوعًا «لا يجوز اللعب في ثلاث» وذكر الطلاق، وقال «فمن قالهن فقد وجبن» فدل على وقوع الطلاق من الهازل، وأنه لا يحتاج إلى النية في الصريح، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وحكى غير واحد اتفاق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق، إذا جرى على لسان البالغ العاقل، فإنه مؤاخذ به، وإن قال: كنت هازلا، قال ابن القيم: يقع عند الجمهور. وكذلك نكاحه، صحيح، كما في الحديث.
قال: وذلك أن الهازل قاصد للقول، مريد له، مع علمه بمعناه وموجبه، وقصد المعنى، المتضمن للمعنى، قصد لذلك المعنى، لتلازمهما، وليس للعبد مع تعاطي السبب أن لا يترتب عليه موجبه، وقال الشيخ: هذه صيغ إنشاء، من حيث أنها تثبت الحكم، وبها تم، وهي إخبار، لدلالتها على المعنى الذي في النفس.
(2) وهو ما يوثق به الشيء من حبل وغيره، دين ولم يقبل حكما، وإن صرح باللفظ، فقال: من وثاقي، أو وثاق. لم تطلق، لأن ما يتصل بالكلام يصرفه عن مقتضاه.
(3) لم يقبل حكما.
(4) أو أنه أراد أن يقول: طلبتك. فسبق لسانه، فقال: طلقتك. لم يقبل حكما.(6/500)
لأنه خلاف ما يقتضيه الظاهر (1) ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه أعلم بنيته (2) (ولو سئل: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم؛ وقع) الطلاق (3) ولو أراد الكذب، أو لم ينوه (4) لأن "نعم" صريح في الجواب، والجواب الصريح، للفظ الصريح صريح (5) (أو) سئل الزوج (ألك امرأة؟ فقال: لا (6) وأراد الكذب) أو لم ينوبه الطلاق (فلا) تطلق، لأنه كناية، تفتقر إلى نية الطلاق، ولم توجد (7) .
__________
(1) إذ يبعد إرادة ذلك عرفا، ويتخرج أن يقبل قوله، إذا صرف لفظه إلى ممكن، وكان عدلا، وعن أحمد: يقبل حكما. واختاره الشيخ وغيره، إلا في حال غضب، أو سؤالها، فلا يقبل قولا واحدا.
(2) إن لم يترافعا، هذا المذهب، ويوكل إلى دينه باطنا، فإن كان كاذبا لم يقع عليه.
(3) أو قيل له: امرأتك طالق؟ فقال: نعم. وقع الطلاق.
(4) بخلاف ما لو كتب على حصير بإصبعه، ونحو ذلك.
(5) فلا يحتاج إلى نية، إذ لو قيل له: ألزيد عليك ألف؟ فقال: نعم؛ كان إقرارا.
(6) أو قال: ليس لي امرأة، أو لا امرأة لي.
(7) ومن أراد الكذب لم ينو الطلاق، وكذا لو حلف بالله أنه لا امرأة له، ولم يرد به الطلاق، وإن أراد بهذا اللفظ طلاقها طلقت، لأنها كناية صحبتها النية، وقال الشيخ: يجب أن يفرق بين قول الزوج: ليست لي بامرأة، وما أنت لي بامرأة وبين قوله: ليست لي امرأة، وبين قوله، إذا قيل: ألك امرأة؟ فقال: لا. فإن الفرق ثابت بينهما، وصفا، وعددا، إذ الأول نفي لنكاحها، ونفي النكاح عنها كإثبات طلاقها، يكون إنشاء، ويكون إخبارًا، بخلاف نفي المنكوحات عموما، فإنه لا يستعمل إلا إخبارًا.(6/501)
وإن أَخرج زوجته من دارها، أو لطمها، أو أطعمها ونحوه (1) وقال: هذا طلاقك، طلقت، وكان صريحا (2) . ومن طلق واحدة من زوجاته، ثم قال عقبه لضرتها: أنت شريكتها، أو مثلها. فصريح فيهما (3) وإن كتب صريح طلاق امرأته بما يبين، وقع وإن لم ينوه (4) لأنها صريحة فيه (5) .
__________
(1) كأن ألبسها ثوبا، أو قبلها، ونحو ذلك.
(2) لأن هذا اللفظ جعل هذا الفعل طلاقا منه، كأنه قال: أوقعت عليك طلاقا، هذا الفعل من أجله، لأن الفعل بنفسه لا يكون طلاقا، فلابد من تقديره فيه، ليصح لفظه به، فيكون صريحا فيه من غير نية، وقدم الموفق وغيره: أن هذا كناية ونصره. وقال أكثر الفقهاء: ليس بكناية، ولا يقع به طلاق.
(3) أي في كونها شريكة ضرتها في الطلاق، أو في كونها مثلها في الطلاق، لا يحتاج إلى نية، لأنه جعل الحكم فيهما واحدا، إما بالشركة في لفظه، أو بالمماثلة، ولا يحتمل غير ما فهم منه، فكان صريحا، كما لو أعاده عليها بلفظه.
(4) أي خطه، بأن يقرأ في العرف وقع، على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وفي الفروع: يتخرج أنه لغو. وفي الإنصاف: النفس تميل إلى عدم الوقوع. أما لو خط بإصبعه على فخذه، أو في الهواء مثلا، ونحو ذلك، لم يسم خطا، وفي الإنصاف: لم يقع، بلا خلاف عند أكثر الأصحاب.
(5) لأن الكتابة حروف يفهم منها الطلاق، أشبهت النطق، هذا المشهور
في المذهب، وعنه: أنه كناية فلا يقع من غير نية، جزم به في الوجيز، وصوبه في الإنصاف، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، ومنصوص الشافعي، وذكره غير واحد قول الجمهور.(6/502)
فإن قال: لم أُرد إلا تجويد خطي، أَو غم أهلي قبل (1) وكذا لو قرأ ما كتبه، وقال: لم أقصد إلا القراءة (2) وإن أتى بصريح الطلاق من لا يعرف معناه، لم يقع (3) .
__________
(1) لأنه إذا نوى تجويد خطه، أو تجربة قلمه، أو غم أهله، ونحو ذلك، فقد نوى غير الطلاق، ولو نوى باللفظ غير الإيقاع لم يقع، ويقبل منه ذلك حكما.
(2) قبل منه، كلفظ الطلاق، إذا قصد به الحكاية ونحوها.
(3) لأنه لم يقصد الطلاق، لعدم علمه معناه، كما لو نطق أعجمي بلفظ الطلاق بالعربية، ولا يفهمه، لم يقع، ولا يقع بغير لفظ، إلا في موضعين، إذا كتبه ونواه كما تقدم، ومن لا يقدر على الكلام كالأخرس، إذا طلق زوجته بالإشارة، لقيامها مقام خطه، وهو مذهب الشافعي، وأصحاب الرأي، قال الموفق: ولا نعلم عن غيرهم خلافهم.(6/503)
فصل (1)
(وكنايته) نوعان، ظاهرة وخفية (2) فـ (الظاهرة) هي الألفاظ الموضوعة للبينونة (3) (نحو: أنت خلية، وبرية (4) وبائن، وبتة (5) وبتلة) أي مقطوعة الوصلة (6) (وأَنت حرة (7)
__________
(1) في بيان حكم كنايات الطلاق – وكناياته: ما يحتمل غيره، ويدل على معنى الصريح فيه – وبيان ما لا يحتمل الطلاق، وغير ذلك.
(2) أي وكناية الطلاق نوعان، ظاهرة، معنى الطلاق فيها أظهر، وخفية، هي أخفى في الدلالة على الطلاق من الظاهرة.
(3) لأن معنى الطلاق فيها أظهر من الخفية، وهي خمس عشرة، ولا يقع الطلاق بها، إلا أن ينويه.
(4) الخلية في الأصل الناقة تطلق من عقالها، ويخلى عنها، والخلية من النساء الخالية من الزوج، ويقال للمرأة: خلية، كناية عن الطلاق، و"برية" بالهمز وتركه، فيقتضيان الخلو من النكاح، والبراءة منه.
(5) "بائن" من البين، وهو الفراق، أي منفصلة و"بتة" من البتر وهو القطع، أي مقطوعة.
(6) من البتل وهو قطع الوصلة، ويقال: منقطعة، وسميت "مريم" البتول، لانقطاعها عن النكاح بالكلية.
(7) لأن الحرة هي التي لا رق عليها، ولا ريب أن النكاح رق، لقوله «فإنهن عوان عندكم» أي أسيرات، وليس للزوج على الزوج إلا رق الزوجية، فإذا أخبر بزوال الرق، فهو الرق المعهود في حقها، وهو رق الزوجية.(6/504)
وأنت الحرج) (1) وحبلك على غاربك (2) وتزوجي من شئت، وحللت للأزواج (3) ولا سبيل لي، أو لا سلطان لي عليك (4) وأعتقتك (5) وغطي شعرك، وتقنعي (6) (و) الكناية (الخفية) موضوعة للطلقة الواحدة (7) (نحو: اخرجي، واذهبي (8) .
__________
(1) بفتح الراء، يعني الحرام والإثم.
(2) أي خليت سبيلك، كما يخلى البعير في الصحراء، وزمامه على غاربه، فأنت مرسلة، مطلقة، غير مشدودة، ولا ممسكة بعقد النكاح.
(3) أي لأنك بنت مني، فهما كنايتان ظاهرتان عند بعض الأصحاب، تبين بإحداهما مع النية، وإذا قيل: إنها واحدة. فالمراد أي: بعد انقضاء عدتك. قال الموفق: وكذا سائر الألفاظ، يتحقق معناها بعد انقضاء عدتها.
(4) قال الموفق: إنما يكون في المبتوتة، أما الرجعية فله عليها سبيل، وسلطان؛ وقال الشيخ وغيره في: أنت طالق، لا رجعة لي عليك. صريحة في طلقة، كناية ظاهرة فيما زاد، فهي مركبة من صريح وكناية.
(5) كناية ظاهرة، تقتضي ذهاب الرق عنها، والرق ههنا النكاح.
(6) وزاد في الإقناع: وأمرك بيدك.
(7) ما لم ينو أكثر، وهو المذهب عند جماهير الأصحاب، وهي عشرون، سميت خفية لأنها أخفى في الدلالة على الطلاق من الكنايات الظاهرة.
(8) إذا نوى أنها طالق، طلقت واحدة.(6/505)
وذوقي، وتجرعي (1) واعتدي) ولو غير مدخول بها (2) (واستبرئي، واعتزلي (3) ولست لي بامرأة (4) وألحقي بأهلك (5) وما أشبهه) كلا حاجة لي فيك، وما بقي شيء (6) وأغناك الله (7) وإن الله قد طلقك (8) .
__________
(1) أي مرارة الطلاق، فتطلق مع النية.
(2) أي واعتدي، لأني طلقتك، وقاله صلى الله عليه وسلم لسودة، وكانت واحدة بالنية، ولو كانت غير مدخول بها، لأنها محل للعدة في الجملة.
(3) أي استبرئي رحمك، من استبراء الإماء ويأتي، و"اعتزلي": كوني وحدك في جانب.
(4) إذا نوى الطلاق وقع، فما عني به الطلاق فهو على ما عني به.
(5) بكسر الهمزة، وفتح الحاء، وقيل بالعكس، وسواء كان لها أهل أو لا، وصحح الموفق: أنها واحدة، لقوله لابنة الجون «ألحقي بأهلك» .
(6) إذا نوى به الطلاق.
(7) أي بالطلاق، واختاري، ونحو ذلك، من الألفاظ الموضوعة للطلقة الواحدة، إذا نواه.
(8) هذا المذهب، وقال ابن القيم: الصواب أنه إن نوى وقع الطلاق، وإلا لم يقع، لأنه إن أراد: شرع طلاقه وأباحه، لم يقع، وإن أراد: وقع عليك الطلاق وشاءه، فيكون طلاقا، وإذا احتمل الأمرين لم يقع إلا بالنية.(6/506)
والله قد أراحك مني (1) وجرى القلم (2) ولفظ فراق، وسراح، وما تصرف منهما (3) غير ما تقدم (4) (ولا يقع بكناية ولو) كانت (ظاهرة طلاق (5) إلا بنية مقارنة للفظ) (6) لأنه موضوع لما يشابهه ويجانسه (7) فيتعين لذلك، لإرادته له، فإن لم ينو لم يقع (8) .
__________
(1) قال ابن عقيل، وكذا: فرق الله بيني وبينك في الدنيا والآخرة. وتقدم قول الشيخ، إذا قال: إن أبرأتني فأنت طالق. فقالت: أبرأك الله مما يدعي النساء على الرجال. فظن أنه برئ فطلق، فقال: يبرأ. ونظير ذلك: إن الله قد باعك. أو: قد أقالك؛ ونحو ذلك.
(2) إذا نواه؛ جرى بطلاقها.
(3) كفارقتك، وسرحتك، وكفراق، وسراح، ومفارقة، ومسارحة، وأمر الله نبيه أن يخير أزواجه، قالت عائشة: فاخترناه. ولم يعد ذلك طلاقا.
(4) أي استثناؤه في صريح الطلاق، من أمر، ومضارع، واسم فاعل.
(5) لقصور رتبة الكناية عن الصريح، ولأنها لفظ يحتمل الطلاق وغيره، فلا يتعين لها بدون النية، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وقال مالك: يقع بمجردها. فـ"لو" إشارة إلى خلافه.
(6) أي يشترط: أن تكون النية مقارنة للفظ الكناية، وإن تلفظ بها غير ناوٍ، ثم نوى بعد ذلك، لم يقع، كما لو نوى الطهارة بالغسل بعد فراغه منه.
(7) أي لأن لفظ الكنايات الظاهرة وكذا الخفية، لما يشابه الطلاق ويجانسه، فأعطي حكمه مع النية.
(8) لأنه ظاهر في غير الطلاق، فلم ينصرف إليه عند الإطلاق، قال الشيخ:
لا يقع الطلاق بالكناية إلا بنية، مع قرينة إرادة الطلاق، فإذا قرن الكنايات بلفظ يدل على أحكام الكلام، مثل أن يقول: فسخت النكاح، وقطعت الزوجية، ورفعت العلاقة بيني وبين زوجتي. ثم قال: فإنهم مهدوا في كتاب الوقف، أنه إذا قرن بالكناية بعض أحكامه كانت كالصريح. اهـ. وإذا صرف الزوج لفظه إلى ممكن، يتخرج أن يقبل قوله إذا كان عدلا، كما قاله أحمد فيمن أخبر بالثمن إذا ادعى الغلط، وغير ذلك.(6/507)
(إلا حال خصومة (1) أو) حال (غضب (2) أو) حال (جواب سؤالها) (3) فيقع الطلاق في هذه الأحوال بالكناية (4) ولو لم ينوه، للقرينة (5) (فلو لم يرده) في هذه الأحوال (6) (أو أراد غيره في هذه الأحوال، لم يقبل) منه (حكما) (7) .
__________
(1) بينهما فيقع، للقرينة الدالة على مراده الطلاق، هذا المذهب، وعنه: ليس بطلاق. وهو قول أبي حنيفة، والشافعي.
(2) لقوة الظن أن المراد به الطلاق، وعنه: لا تطلق. وفاقا لمالك، والشافعي.
(3) أي سؤال الزوجة الطلاق، اكتفاء بدلالة الحال عليه، قال الموفق: والأولى في الألفاظ التي يكثر استعمالها لغير الطلاق، نحو: اخرجي. لا يقع بها طلاق حتى ينويه.
(4) الظاهرة أو الخفية، لقيامها مقام نية الطلاق.
(5) وقالوا: لأن دلالة الحال كالنية، وعنه: لا يقع في هذه الأحوال إلا بنية؛ جزم به أبو الفرج وغيره، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة.
(6) أي حال خصومة، أو غضب، أو سؤالها الطلاق.
(7) قال في الإنصاف: في أصح الروايتين.(6/508)
لأنه خلاف الظاهر من دلالة الحال (1) ويدين فيما بينه وبين الله تعالى (2) (ويقع مع النية بـ) الكناية (الظاهرة ثلاث، وإن نوى واحدة) (3) لقول علماء الصحابة، منهم ابن عباس، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم (4) .
__________
(1) ودلالة الحال كالنية، تغير الأقوال والأفعال، وعنه: يقع بها ما نواه فقط، وقال ابن قندس: الذي يظهر أنه لا بد من النية في حال الغضب، وسؤال الطلاق، وقولهم دلالة الحال تقوم مقام النية في هذا المقام. معناه أن دلالة الحال تدل على النية، وليس مرادهم سقوط النية بالكلية، وفي كلام الزركشي ما يدل على ذلك، وكونه إذا ادعى عدم إرادته دين كما يأتي.
(2) لاحتمال صدقه، وهذا يدل على اعتبار النية، وعليه فلو كان وقوع الطلاق بها لا يحتاج إلى إرادة الطلاق، لم يصح ذلك، كما صرح به الزركشي وغيره.
(3) لأنه لفظ يقتضي البينونة في الطلاق، فوقع ثلاثا.
(4) وعلي، وابن عمر، وزيد بن ثابت، في وقائع مختلفة، وهو قول مالك، وظاهره: لا فرق بين المدخول بها وغيرها، لأنهم لم يفرقوا، وكان أحمد يكره الفتيا في الكنايات الظاهرة، وعنه: يقع بالكناية الظاهرة ما نواه. اختاره جماعة، منهم أبو الخطاب، لما روى الترمذي وغيره وصححه، أن ركانة طلق امرأته ألبتة، فقال صلى الله عليه وسلم «ما أردت إلا واحدة؟» قال: ما أردت إلا واحدة. فردها إليه.
وقال لابنة الجون «ألحقي بأهلك» وهو صلى الله عليه وسلم لا يطلق ثلاثا فإن لم ينو عددا فواحدة وهو مذهب الشافعي وعند أصحاب الرأي إن نوى اثنتين فواحدة، ويقبل منه حكما.(6/509)
(و) يقع (بالخفية ما نواه) من واحدة أو أكثر (1) فإن نوى الطلاق فقط فواحدة (2) وقول: أنا طالق، أو بائن (3) أو: كلي، أو اشربي، أو اقعدي (4) أو بارك الله عليك ونحوه (5) لغو، ولو نواه طلاقا (6) .
__________
(1) أي ويقع بالكناية الخفية ما نواه من العدد، في الغضب والرضى، لأن اللفظ لا دلالة له على العدد.
(2) رجعية، كما لو أتى بصريح الطلاق، إن كانت مدخولا بها، وإلا وقعت واحدة بائنة.
(3) أي وقوله لزوجته: أنا طالق؛ أو: أنا منك طالق؛ أو: أنا بائن؛ أو أنا منك بائن؛ أو حرام؛ أو بريء. لا يقع الطلاق بإضافته إليه.
(4) أو قومي، ونحو ذلك مما لا يدل على الطلاق، لا تطلق به.
(5) كأنتِ مليحة، أو قبيحة.
(6) لأنه لا يحتمل الطلاق، فلو وقع به لوقع بمجرد النية.(6/510)
فصل (1)
(وإن قال) لزوجته (أَنت علي حرام (2) أَو كظهر أمي؛ فهو ظهار، ولو نوى به الطلاق) (3) لأنه صريح في تحريمها (4) .
__________
(1) أي فيما لا يصح أن يكون كناية في الطلاق، وما يكون كناية فيه مع نية أو قرينة، وما يكون يمينا، أو لغوا.
(2) فهو ظهار، ولو نوى به الطلاق، أو قال: أعني به الطلاق. هذا المذهب.
(3) لأن الظهار تشبيه بمن يحرم على التأبيد، والطلاق يفيد تحريما غير مؤبد، ولو صرح به فقال – بعد قوله: كظهر أمي – أعني به الطلاق. لم يصر طلاقا، لأنه لا تصلح الكناية عنه، ذكره الموفق وغيره.
(4) فلم يحتمل سواه، والله تعالى قال {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم أمته على نفسه، وقال ابن عباس: إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، لغو باطل، لا يترتب عليه شيء؛ وفي لفظ: ليس بشيء. وقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وهو قول أصحاب الحديث وغيرهم، ورجحه جماعة من العلماء.
وقال الشيخ: إذا قال لزوجته: أنت علي حرام؛ أو لسريته: أنت علي حرام. أو لطعامه، أو شرابه، فهذا التحريم يتضمن منعه لنفسه، وأنه التزم هذا الامتناع، التزاما جعله لله، لأن التحريم إنما يكون لله، وهو إذا قاله لم يرد أن الله حرمه عليه ابتداء، فإن هذا كذب، لا يقصد إلا أنه ممتنع منه، من جنس ما حرمه الله عليه، وهذا هو معنى اليمين.(6/511)
(وكذلك: ما أَحل الله علي حرام) (1) أو الحل علي حرام (2) وإن قاله لمحرمة بحيض أو نحوه (3) ونوى أنها محرمة به فلغو (4) (وإن قال: ما أَحل الله علي حرام، أعني به الطلاق. طلقت ثلاثا) (5) لأن الألف واللام للاستغراق (6) .
__________
(1) أي ظهار، ولو نوى به الطلاق.
(2) أي أو قال لزوجته: الحل علي حرام. فهو ظهار، لأنه صريح فيه، قال ابن القيم: ذهب جمهور العلماء إلى جواز التجوز، لعلاقة مع قرينة في جميع الألفاظ، إلا ما خص، فما يمنعه في باب الطلاق، وقد نواه، وإن لم ينو، فيمين مكفرة.
وقال الشيخ: المناكح، والمطاعم، التي يباح الانتفاع بها، هي مما سماها الله حلالا، ومن جعل ما أحله الله حراما فقد أتى منكرًا من القول وزورا، وهو كلام لا يمكن تحقيق موجبه، ولا يحل التكلم به، فلا يجعل سببًا لما أباحه الله من الطلاق الذي فيه إرسال المرأة.
وإن قصد به الطلاق، فليس له أن يقصد الطلاق بمثل هذا الكلام، كما لو قال زواجي بك حرام، وقصد به الطلاق، فإن هذا كلام باطل في نفسه، فلا يحصل به ثبوت ملك، ولا زواله، ولكنه يمين، لأنه امتنع به من المباح امتناعًا بالله؛ قال وهذا هو الثابت عن أكثر الصحابة، وأفضلهم، أنهم جعلوا تحريم الحلال يمينا، وجعلوا النذر يمينا، وكلاهما يدل عليه النص.
(3) كنفاس، أو صيام، أو إحرام.
(4) لا يترتب عليه حكم، لمطابقته الواقع.
(5) فقوله: أعني به الطلاق. تفسير للتحريم، فدخل فيه الطلاق كله.
(6) قاقتضى استغراق الطلاق.(6/512)
لعدم معهود يحمل عليه (1) (وإن قال: أَعني به طلاقًا؛ فواحدة) (2) لعدم ما يدل على الاستغراق (3) (وإن قال) : زوجته (كالميتة، والدم، والخنزير؛ وقع ما نواه من طلاق، وظهار (4) ويمين) بأن يريد ترك وطئها، لا تحريمها ولا طلاقها (5) فتكون يمينا، فيها الكفارة بالحنث (6) (وإن لم ينو شيئًا) من هذه الثلاثة (فظهار) لأن معناه: أنت علي حرام، كالميتة والدم (7) .
__________
(1) ويمكن أن تكون الألف واللام للحقيقة والجنس، فلم يتعين أن تكون للاستغراق، إذ لا قرينة، ويقع به واحدة فقط.
(2) لأنه صريح في الطلاق، لكن لا يقع ثلاثا.
(3) وليس بصريح في الظاهر، وإنما هو صريح في التحريم، فإذا بين بلفظه إرادة صريح الطلاق صرف إليه، وتقدم قول الشيخ: إن من جعل ما أحل الله حراما، فقد أتى منكرا من القول وزورا، وأنه كلام لا يمكن تحقيق موجبه، وأنه كلام باطل في نفسه، فلا يحصل به ثبوت ملك ولا زواله، ولكنه يمين.
(4) لأنه يصلح أن يكون كناية في الطلاق، فإن اقترنت به النية انصرف إليه، وإن نوى عددًا وقع، وإلا فواحدة، وكناية في الظهار إذا نواه، بأن يقصد تحريمها عليه، مع بقاء نكاحها، كأنت علي حرام.
(5) وأقام ذلك مقام: والله لا وطئتك.
(6) لترتب الحنث والبر، ثم ترتب الكفارة بالحنث، وفي المبدع: إن قوله كالميتة ليس صريحا في اليمين، فلا تلزمه الكفارة.
(7) فإن تشبيهها بهما يقتضي التشبيه بهما في الأمر الذي اشتهرا به، وهو
التحريم، والوجه الثاني: يكون يمينا. لأن الأصل براءة الذمة، فإذا أتى بلفظ محتمل، ثبت فيه أقل الحكمين، لأنه اليقين.(6/513)
(وإن قال: حلفت بالطلاق (1) وكذب) لكونه لم يكن حلف به (لزمه) الطلاق (حكما) (2) مؤاخذة له بإقراره (3) ويدين فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى (4) (وإن قال) لزوجته (أمرك بيدك (5) ملكت ثلاثا، ولو نوى واحدة) (6) لأنه كناية ظاهرة (7) .
__________
(1) أو قال: حلفت بالله لأفعلن كذا، أو لا فعلته؛ ونحو ذلك.
(2) أي حكم بطلاقه، لأنه حق إنسان معين، فلا يقبل رجوعه، ولو قال: حلفت بالطلاق الثلاث. فقال: لم أحلف إلا بواحدة. أو قالت: علَّقت طلاقي على قدوم زيد. فقال: بل على قدوم عمرو. فالقول قوله، لأنه أعلم بحال نفسه.
(3) وعنه: هي كذبة؛ ليس عليه يمين، وذلك لأن قوله: حلفت؛ ليس بحلف، وإنما هو خبر عن الحلف، فإذا كان كاذبا فيه، لم يصر حالفًا.
(4) أي يوكل إلى دينه فيما نواه، فلا يقبل ظاهرًا، لمخالفته مقتضى اللفظ، ويعمل بما نواه باطنا، إن كان صادقًا، بأن يراجعها ويطلبها، ولها تمكينه إذا ظنت صدقه بقرينة، وإن ظنت كذبه فلا، وإن استوى الأمران كره لها تمكينه.
(5) وكذا لو جعله في يد غيرها، وهو توكيل منه في الطلاق.
(6) لأنه اسم جنس مضاف، فتناول الطلقات الثلاث، أِشبه ما لو قال: طلقي نفسك ما شئت.
(7) وتحتاج أيضًا إلى نية.(6/514)
وروي ذلك عن عثمان، وعلي، وابن عمر، وابن عباس (1) (ويتراخى) فلها أن تطلق نفسها متى شاءت (2) ما لم يحد لها حدًا (3) أو (ما لم يطأْ أو يطلق، أو يفسخ) ما جعله لها (4) أو ترد هي (5) لأن ذلك يبطل الوكالة (6) (ويختص) قوله لها (اختاري نفسك بواحدة (7) وبالمجلس المتصل (8) .
__________
(1) وروي عن فضالة، وغيره من الصحابة والتابعين.
(2) لقول علي، ولا يعرف له مخالف في الصحابة، ولأنه نوع تمليك في الطلاق، فملكه المفوض إليه، في المجلس وبعده، وكما لو جعله لأجنبي، وصفته أن تقول: طلقت نفسي؛ أو: أنا منك طالق. وإن قالت: أنا طالق. لم يقع شيء.
(3) أي يقيده بوقت، فإلى وقته.
(4) فلا تطلق نفسها بعد، لأن ذلك وكالة، فتبطل إذا فسخها بالقول، أو أتى بما يدل على فسخها، والوطء يدل على الفسخ، وإن جعله بيد غيرها فكذلك الحكم.
(5) بطل خيارها.
(6) أي لأن ردها جعل أمرها بيدها، يبطل وكالته إياها.
(7) لأن "اختاري" تفويض معين، فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم، وهو طلقة رجعية، لأنها بغير عوض، نص عليه، وقاله جماعة من الصحابة، ونصره الشارح.
(8) أي ويختص قوله لها: اختاري لنفسك؛ بالمجلس المتصل، ويصح جعله لها بعد المجلس، ومتى شاءت، وبجعل منها أو من غيرها، ولا يكون الجعل عوضا في الطلاق.(6/515)
ما لم يزدها فيهما) بأن يقول لها: اختاري نفسك متى شئت (1) أو أي عدد شئت؛ فيكون على ما قال (2) لأن الحق له، وقد وكلها فيه (3) ووكيل كل إنسان يقوم مقامه (4) واحترز بالمتصل عما لو تشاغلا بقاطع قبل اختياريها، فيبطل به (5) .
__________
(1) فلها أن تطلق نفسها متى شاءت، أو جعل لها الخيار اليوم كله، أو أكثر من ذلك، فلها الخيار في تلك المدة.
(2) من عدد ووقت، وكذا لو جعله بنيته، بأن ينوي عددًا أو وقتا، فيرجع إلى نيته.
(3) فرجع إلى قوله ونيته، ولفظ: أمرك بيدك. والخيار، كناية في حقهما، ويفتقر إلى نية كل منهما، فإن نواه أحدهما لم يقع، فلفظ الأمر كناية ظاهرة، ولفظ الخيار كناية خفية، فإن نوى بهما الطلاق في الحال وقع، ولم يحتج وقوعه إلى قبولها، وإن لم ينو وقوعه في الحال، بل نوى تفويضه إليها، فإن قبلته بلفظ الكناية، نحو: اخترت نفسي، افتقر وقوعه إلى نيتها، وإن قبلته بلفظ الصريح، نحو: طلقت نفسي. وقع من غير نية.
(4) في صريح، وكناية، وعدد، إن جعل إليه، وغير ذلك، فيقع بإيقاعه الصريح، أو بكناية بنيته.
(5) نص عليه، فإن قاما، أو أحدهما من المجلس، أو خرجا من الكلام الذي كانا فيه إلى غيره، بطل خيارهما، أو كان أحدهما قائمًا، فركب أو مشى، لا إن قعد، أو كانت قاعدة فانكبت أو عكسه، أو تشاغلا بصلاة، لا إن كانت
في صلاة فأتمتها، فإن أضافت إليها ركعتين بطل، وإن كان يسيرا، أو قالت: باسم الله؛ أو سبحت يسيرا، أو قالت: ادع لي شهودًا أشهدهم. لم يبطل خيارها.(6/516)
وصفة اختيارها: اخترت نفسي (1) أو أبوي أو الأزواج (2) فإن قالت: اخترت زوجي، أو اخترت؛ فقط، لم يقع شيء (3) (فإن ردت) الزوجة (أو وطئـ) ـها (4) (أو طلقـ) ـها (أو فسخ) خيارها قبله (5) (بطل خيارها) كسائر الوكالات (6) .
__________
(1) فيقع الطلاق، مع نيتها له.
(2) أو أن لا تدخل علي؛ ونحوه، فطلقة رجعية مع النية، لأنه فوض إليها الطلاق، وقد أوقعته.
(3) لقول عائشة: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه، ولم يعد ذلك طلاقا. ومتى اختلف الزوجان في نية، فقول موقع، وفي رجوع، فقول زوج، ولو بعد إيقاع، ونص على أنه لا يقبل بعده إلا ببينة، وجزم به الشيخ وغيره.
(4) قبله، بطل خيارها.
(5) أي قبل اختيارها نفسها، أو أبويها، أو الأزواج، ونحو ذلك.
(6) لأنه توكيل، وقد رجع فيه قبل إيقاعها.(6/517)
ومن طلق في قلبه لم يقع (1) وإن تلفظ به، أَو حرك لسانه وقع (2) ومميز ومميزة يعقلانه، كبالغين فيما تقدم (3) .
__________
(1) لخبر «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل، أو تكلم» ومن شرط وقوع الطلاق النطق به كما تقدم، إلا في موضعين، إذا كتب صريحه بما يبين،، وإذا طلق الأخرس بالإشارة.
(2) أي وإن تلفظ بالطلاق، أو حرك به لسانه وقع.
(3) أي وحكم مميز ومميزة، يعقلان الطلاق، كحكم بالغين فيما تقدم، وتقدم قول الجمهور في أول كتاب الطلاق.(6/518)
باب ما يختلف به عدد الطلاق (1)
وهو معتبر بالرجال (2) روي عن عمر، وعثمان، وزيد، وابن عباس (3) فـ (ـيملك من كله حر، أو بعضه) حر (ثلاثا (4) و) يملك (العبد اثنتين (5) .
__________
(1) أي هذا باب في حكم من يختلف به عدد الطلاق، و"ما" هنا مستعملة فيمن يعقل، لأن المراد ممن يختلف به العدد، بالحرية والرق.
(2) في عدد الطلاق، وخالص حق الزوج، لمالكه لها حال الوقوع، قال تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقال صلى الله عليه وسلم «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» .
(3) رضي الله عنهم، وهو مذهب مالك، والشافعي.
(4) أي ثلاث تطليقات، وإن كان تحته أمة، وكذا المبعض، لأن الطلاق لا يتبعض، فكمل في حقه، ولأن الأصل إثبات الثلاث في حق كل مطلق، وإنما خولف فيمن كمل فيه الرق.
(5) رواه الدارقطني من حديث عائشة مرفوعًا، ونحوه من حديث ابن عمر، وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحكى قوم أنه إجماع، وخالف فيه جماعة من أهل الظاهر، والجمهور قاسوه على الحدود، وقد أجمعوا على أن الرق مؤثر فيها، فيملك اثنتين،
ولو طرأ رقه، فلو علق عبد ثلاثا بشرط، فوجد بعد عتقه وقعت، أفتى به ابن عباس، وغيره.(6/519)
حرة كانت زوجتاهما أو أمة) (1) لأن الطلاق خالص حق الزوج، فاعتبر به (2) (فإذا قال) حر (أنت الطلاق أو) أنت (طالق (3) أو) قال (علي) الطلاق (4) (أو) قال (يلزمني) الطلاق (وقع ثلاثا بنيتها) (5) لأن لفظه يحتمل ذلك (6) .
__________
(1) أما الزوج الذي زوجته حرة، فطلاقه ثلاث، والعبد الذي تحته أمة، طلاقه اثنتان، قال الموفق؛ بلا خلاف. وإنما الخلاف فيما إذا كان أحد الزوجين حرا، والآخر رقيقا، وفي الحديث «المكاتب عبد، ما بقي عليه درهم» فهذه أحكام العبيد، وروي أن مكاتب أم سلمة طلق حرة طلقتين، فقال عثمان وزيد: حرمت عليك.
(2) حرًا كان أو عبدًا، عند الجمهور.
(3) فصريح، لا يحتاج إلى نية، ويقع ثلاثا بنيتها، وقوله: أنت طالق أو مطلقة، وما شاكل ذلك من الصيغ، إن شاء، من حيث إنها إثبات للحكم، وشهادة به، وإخبار لدلالتها على المعنى الذي في النفس.
(4) وسكت، وقع، ما لم يقل: أردت الحلف ثم سكت.
(5) منجزا، أو معلقا بشرط، أو محلوفا به.
(6) ومع عدمها واحدة، وقال ابن القيم: قوله الطلاق يلزمني، لا أكلم فلانا؛ يمين، لا تعليق، وقد أجمع الصحابة على أن قصد اليمين في العتق يمنع من وقوعه، وحكى غير واحد: إجماع الصحابة أيضًا؛ على أن الحالف بالطلاق، لا يلزمه الطلاق إذا حنث.
قال ابن بزيزة: قال علي، وشريح، وطاوس، في اليمين بالطلاق والعتق، والشرط، وغير ذلك: لا يلزم من ذلك شيء، ولا يقضى بالطلاق على من حلف به، فحنث، ولم يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة.(6/520)
(وإلا) ينو بذلك ثلاثا (فواحدة) عملا بالعرف (1) وكذا قوله: الطلاق لازم لي، أو علي. فهو صريح، منجز، ومعلقا، ومحلوفًا به (2) وإذا قاله من معه عدد، وقع بكل واحدة طلقة (3) ما لم تكن نية، أو سبب يخصصه بإحداهن (4) .
__________
(1) لأن أهل العرف لا يعتقدونه ثلاثا، ولا يعلمون أن "أل" فيه للاستغراق وينكر أحدهم أن يكون طلق ثلاثا، ولا يعتقد إلا أنه طلق واحدة.
(2) فمنجزا، كأنت طالق. ونحوه، ومعلقا بشرط، كأنت طالق إن دخلت الدار ونحوه؛ ومحلوفا به، كأنت طالق لأقومن، لأنه مستعمل في عرفهم قال الشيخ: قوله هو يهودي إن فعلت كذا، والطلاق يلزمني؛ ونحوه، يمين باتفاق العقلاء، والفقهاء، والأمم.
وقال: سئلت عمن قال: الطلاق يلزمني ما دام فلان في هذا البلد؟ فأجبت أنه إن قصد به الطلاق إلى حين خروجه، فقد وقع، ولغا التوقيت، وهذا هو الوضع اللغوي، وإن قصد: أنت طالق إن دام فلان. فإن خرج عقب اليمين لم يحنث، وإلا حنث، وهذا نظير: أنت طالق إلى شهر.
(3) أي إذا قال: علي الطلاق، أو الطلاق لازم لي، أو علي.
(4) أي وقع بكل واحدة طلقة، ما لم تكن له نية بأكثر من طلقة، فيقع ما نواه، أو يكن سبب يخصص الطلاق بإحداهن، كالمشاجرة مع بعضهن، والتعميم، كالمشاجرة معهن، فيقع لمشاجر معها.(6/521)
وإن قال: أنت طالق. ونوى ثلاثا، وقعت (1) بخلاف: أنت طالق واحدة؛ فلا يقع به ثلاثا، وإن نواها (2) (ويقع بلفظ) أنت طالق (كل الطلاق (3) أو أكثره، أو عدد الحصى، أو الريح، أو نحو ذلك (4) ثلاث ولو نوى واحدة) (5) لأنها لا يحتملها لفظه (6) .
__________
(1) هذا المذهب، وعنه: واحدة. وهو المذهب عند أكثر المتقدمين، اختاره الخرقي، والقاضي، وقال: عليها الأصحاب، ومذهب أبي حنيفة. اهـ. وإن قال: أنت طالق طلاقًا؛ تطلق ثلاثا إذا نوى، قال في الإنصاف بلا خلاف أعلمه. وأنت طالق واحدة بائنة أو واحدة بتة، فرجعية في مدخول بها، ولو نوى أكثر، وكذا: أنت طالق واحدة، تمليكن بها نفسك.
(2) وكذا لو أوقع طلقة ثم قال: جعلتها ثلاثا؛ فواحدة، وأنت طالقة واحدة ثلاثا، أو ثلاثا واحدة، ولو قال: طالقا بائنًا؛ أو طالقًا ألبتة؛ أو بلا رجعة؛ فثلاث، لتصريحه بالعدد، أو وصفه الطلاق بما يقتضي الإبانة، وإن قال: طالق هكذا. وأشار بثلاث أصابع، فثلاث، وإن أراد الإصبعين المقبوضتين فثنتان، ويصدق.
(3) طلقت ثلاثا، وإن نوى واحدة لأن اللفظ لا يحتمله.
(4) كجميعه، أو منتهاه، أو غايته، أو عدد القطر، أو الرمل، أو التراب ونحو ذلك.
(5) وهو مذهب مالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة: واحدة تبين بها.
(6) أي لأن قوله: كل الطلاق؛ وما عطف عليه، لا يحتمل لفظه الواحدة فوقع ثلاثا، وصحح في الإنصاف: أقصاه واحدة، فكذا منتهاه، وغايته.(6/522)
كقوله: يا مائة طالق (1) . وإن قال: أنت طالق أغلظ الطلاق؛ أو أطوله، أو أعرضه؛ أو ملء الدنيا (2) أو عظم الجبل؛ فطلقة (3) إن لم ينو أكثر (4) (وإن طلق) من زوجته (عضوا) ك يد، أو إصبع (5) (أو) طلق منها (جزءا مشاعا) ، كنصف، وسدس (6) (أو) جزءًا (معينا) ، كنصفها الفوقاني (7) (أو) جزءًا (مبهما) بأن قال لها: جزؤك طالق (8) .
__________
(1) فتطلق ثلاثا، عند الجمهور.
(2) لأن هذا الوصف لا يقتضي عددا، والطلقة الواحدة، توصف بأنه يملأ الدنيا ذكرها، وأنها أشد الطلاق، وأعرضه.
(3) لأن هذا اللفظ لا يقتضي عددًا، فهو راجع للكيف لا للكم، قال الموفق: في: أنت طالق ملء البيت؛ إذا لم ينو، تقع واحدة، لا نعلم فيه خلافًا.
(4) فيقع ما نواه، اثنتان، أو ثلاث، عند الجمهور.
(5) ولها يد أو إصبع، طلقت، قال الوزير: قال مالك، والشافعي، وأحمد: إذا قال لزوجته: يدك، أو رجلك، أو أصبعك، من جميع الأعضاء المتصلة. وقع الطلاق على جميعها. اهـ. وإن لم يكن لها يد، أو رجل، أو إصبع، لم تطلق، لإضافة الطلاق إلى ما ليس منها.
(6) وربع، طلقت، لأن ذكر ما لا يتبعض في الطلاق، كذكر جميعه.
(7) أو التحتاني، طلقت، لأنه أضاف الطلاق إلى جزء ثابت، استباحه بعقد النكاح، فأشبه الجزء الشائع.
(8) أو: جزء منك طالق؛ طلقت، كما لو كان معينا، ومتى طلق جزءا من أجزائها الثابتة، طلقت كلها، شائعا كان أو معينا.(6/523)
(أو قال) لزوجته: أنت طالق (نصف طلقة (1) أو جزءًا من طلقة؛ طلقت) لأن الطلاق لا يتبعض (2) (وعكسه الروح، والسن، والشعر، والظفر، ونحوه) (3) فإذا قال لها: روحك (4) أو سنك، أو شعرك، أو ظفرك (5) أو سمعك، أو بصرك، أو ريقك طالق؛ لم تطلق (6) وعتق في ذلك كطلاق (7) (وإذا قال لـ) زوجة (مدخول بها (8) .
__________
(1) أو ثلث طلقة، طلقت طلقة عند الجمهور، وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا قال: أنت طالق نصف تطليقة. وقعت تطليقة.
(2) فذكر بعضه ذكر لجميعه، وحكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه.
(3) كالدمع، والمني، والحمل، والطول، والقصر.
(4) أي طالق، لم تطلق، لأنها ليست عضوا، ولا يستمتع بها، قال أبو بكر: لا يختلف قول أحمد: أنه لا يقع طلاق بذكر الشعر، والسن، والظفر، والروح؛ وهو وجه، والمذهب: تطلق بتطليق الروح؛ مشى عليه في الإنصاف، والإقناع والمنتهى، وغيرها، ولأن الحياة لا تبقى بدون روحها.
(5) لأنها أجزاء تنفصل حال السلامة، فلم تطلق.
(6) قال الموفق: إن أضافه إلى الريق، والحمل، والدمع، والعرق، لم تطلق، لا نعلم فيه خلافًا.
(7) أي وعتق فيما تقدم من الصور، حكمه كحكم طلاق، فإن أضيف العتق إلى ما تطلق به المرأة، كيدها، وقع، وإلا فلا، كشعرها.
(8) أخرج غير المدخول بها، فإنها تبين بواحدة لما يأتي، والمدخول بها إما بوطء، أو خلوة في عقد صحيح.(6/524)
أنت طالق؛ وكرره) مرتين، أو ثلاثا، (وقع العدد) أي وقع الطلاق بعدد التكرار (1) فإن كرره مرتين، وقع اثنتان (2) وإن كرره ثلاثًا، وقع ثلاث، لأنه أتى بصريح الطلاق (3) (إلا أن ينوي) بتكراره (تأْكيدًا يصح) بأن يكون متصلاً (4) (أو) ينوي (إفهاما) فيقع واحدة، لانصراف ما زاد عليها عن الوقوع، بنية التأكيد المتصل (5) فإن انفصل التأكيد وقع أيضًا، لفوات شرطه (6) .
__________
(1) إن لم ينو بالتكرار تأكيدًا، أو إفهامًا.
(2) قال الموفق: بلا خلاف.
(3) وذلك أن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؛ عند الجمهور، وحكي اتفاقًا.
(4) فيقع واحدة، والتأكيد تكرير اللفظ بصورته، أو مرادفه، فإن قال: أنت طالق، وطالق، وطالق. فثلاث معا، ويقبل حكما تأكيد ثانية بثالثة، لا أولى بثانية، وكذا "الفاء" و"ثم" وإن غاير الحروف لم يقبل، ويقبل حكما في أنت مطلقة، أنت مطلقة، أنت مسرحة، أنت مفارقة. لا مع واو، أو فاء، أو ثم.
(5) فإذا قال: أنت طالق، أنت طالق؛ وقال: نويت بالثانية التأكيد. فإنه يقبل منه، رواية واحدة.
(6) وهو الاتصال، وظاهره أنه لا يشترط الاتصال في الإفهام، وقال بعضهم الأظهر أنه يشترط فيه كالتأكيد.(6/525)
(وإن كرره ببل) بأن قال: أنت طالق، بل طالق (1) . (أو بثم) بأَن قال: أنت طالق، ثم طالق (2) (أو بالفاء) بأَن قال: أنت طالق، فطالق (3) (أو قال) طالق طلقة (بعدها) طلقة (4) (أو) طلقة (قبلها) طلقة (أو) طلقة (معها طلقة؛ وقع اثنتان) في مدخول بها (5) لأن للرجعية حكم الزوجات في لحوق الطلاق (6) (وإن لم يدخل بها، بانت بالأولى، ولم يلزمه ما بعدها) لأن البائن لا يلحقها طلاق (7) .
__________
(1) أو أنت طالق طلقة بل طلقتين، وقع اثنتان لأن حروف العطف تقتضي المغايرة، و"بل" من حروف العطف، إذا كان بعدها مفرد.
(2) وقع اثنتان، وإن قال: أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق؛ وأكد الثانية بالثالثة قبل، لا الأولى بالثانية.
(3) وقع اثنتان، وإن قال: أنت طالق، فطالق، فطالق؛ وأكد الثانية بالثالثة قبل، كالتي عطفها بالواو، وإن غاير بين الحروف، فقال: أنت طالق، وطالق، ثم طالق، لم يقبل في شيء منها إرادة التأكيد.
(4) أو بعد طلقة؛ وقع اثنتان.
(5) وغيرها، كما نبه عليه الشارح، وكذا لو قال: قبل طلقة. أو مع طلقة؛ لإيقاعه الطلاق بلفظ يقتضي وقوع طلقتين، فوقعتا معا، كما لو قال: أنت طالق طلقتين.
(6) فتأتي الطلقة الثانية، فتصادفها محل نكاح فتقع، وكذلك الثالثة.
(7) لأن غير المدخول بها لا عدة عليها، فتصادفها الطلقة الثانية بائنا،
فلا يقع الطلاق بها، لأنها غير زوجة، قال الموفق – بعد حكاية جماعة من الصحابة – لا نعلم مخالفًا في عصرهم، فيكون إجماعًا.(6/526)
بخلاف: أنت طالق طلقة معها طلقة، أو فوق طلقة، أو تحت طلقة، أو فوقها، أو تحتها طلقة فثنتان، ولو غير مدخول بها (1) (والمعلق) من الطلاق (كالمنجز في هذا) الذي تقدم ذكره (2) فإن قال: إن قمت فأنت طالق، وطالق، وطالق؛ فقامت وقع الثلاث (3) ولو غير مدخول بها (4) وإن قمت فأنت طالق، فطالق، أو ثم طالق؛ وقامت، وقع ثنتان في مدخول بها (5)
__________
(1) خالف الماتن الإقناع، والمنتهى، وغيرهما، ونبه عليه الشارح بقوله: بخلاف، إلى آخره، وقال في الإنصاف: وقوع طلقتين بقوله: أنت طالق طلقة، معها طلقة؛ لا نزاع فيه، في المدخول بها وغيرها.
(2) في قوله: وإن كرره؛ وما عطف عليه.
(3) لأن الواو لمطلق الجمع.
(4) قال الموفق: وهو قول مالك، والأوزاعي، وحكي عن الشافعي، لأن الواو تقتضي الجمع، ولا ترتيب فيها، فيكون موقعا للثلاث جميعا، فيقعن عليها.
(5) ولو قال: إن دخلت فأنت طالق، إن دخلت فأنت طالق؛ فدخلت،
طلقت طلقتين بكل حال، وهذا المذهب، وعليه الأصحاب، وإن كرره ثلاثا، طلقت ثلاثا، وقال الموفق: في قول الجميع، لأن الصفة وجدت، فاقتضى وقوع الطلاق الثلاث، دفعة واحدة.(6/527)
وتبين غيرها بالأُولى (1) .
__________
(1) وكل طلاق مرتب في الوقوع، يأتي بعضه بعد بعض، لا يقع بغير المدخول بها منه أكثر من واحدة، ويقع بالمدخول بها ثنتان إن أوقعها، وثلاث كذلك.(6/528)
فصل
في الاستثناء في الطلاق (1)
(ويصح منه) أي من الزوج (استثناء النصف فأقل، من عدد الطلاق و) عدد (المطلقات) (2) فلا يصح استثناء الكل، ولا أكثر من النصف (3) (فإذا قال: أنت طالق طلقتين إلا واحدة؛ وقعت واحدة) (4) لأنه كلام متصل، أبان به أن المستثنى غير مراد بالأول (5) .
__________
(1) الاستثناء لغة الثني، وهو الرجوع، يقال: ثنى رأس البعير؛ إذا عطفه إلى ورائه، فكأن المستثني رجع في قوله، إلى ما قبله، واصطلاحا: إخراج بعض الجملة بلفظ "إلا" وما قام مقامها، من متكلم واحد، وقال الشيخ: وعند أصحابنا إخراج ما لولاه لوجب دخوله معه؛ وهو إخراج لفظ بيان لمعنى، لأن رفع الواقع لا يصح، وهو محال.
(2) كأنت طالق ثلاثا إلا واحدة، وهن طوالق إلا فلانة. والمذهب أنه يصح استثناء ما دون النصف، ولا يصح فيما زاد عليه.
(3) وأجاز الجمهور استثناء الأكثر، وقال الموفق: إذا استثنى في الطلاق بلسانه، صح استثناؤه، وهو قول جماعة أهل العلم.
(4) هذا مذهب الجمهور.
(5) فهو يمنع أن يدخل فيه ما لولاه لدخل.(6/529)
قال تعالى حكاية عن إبراهيم {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} يريد به البراءة من غير الله عز وجل (1) (وإن قال) أنت طالق (ثلاثا إلا واحدة؛ فطلقتان) لما سبق (2) وإن قال: إلا طلقتين إلا واحدة؛ فكذلك (3) لأنه استثنى ثنتين إلا واحدة من ثلاث، فيقع ثنتان (4) وإن قال: ثلاثا إلا ثلاثا؛ أو إلا ثنتين؛ وقع الثلاث (5) .
__________
(1) ومقتضاه أنه لم يتبرأ من الله عز وجل، وقال تعالى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} وهو عبارة عن: تسعمائة وخمسين عامًا.
(2) من الدليل، والتعليل، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، أنها تطلق طلقتين.
(3) أي فيقع اثنتان، كما لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة. لأنه استثنى الواحدة مما قبلها، فيبقى واحدة، وهي مستثناة من الثلاث، ولأنه لم يسكت عليها، بل وصلها، بأن استثنى منهما طلقة، فصارتا عبارة عن واحدة.
(4) وقال الموفق وغيره: لا يصح الاستثناء من الاستثناء في الطلاق إلا في هذه المسألة، فإنه يصح إذا أجزنا النصف، وإن قلنا: لا يصح؛ وقع الثلاث.
(5) لأن استثناء أكثر من النصف لا يصح، وقيل: يرجع الاستثناء إلى ما تلفظ به، فإذا قال: أنت طالق أربعا إلا اثنتين؛ يقع اثنتان، لصحة استثناء النصف، والمشهور أن الاستثناء يرجع إلى ما يملك، لا إلى ما تلفظ به.(6/530)
(وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات) بأن قال: نساؤه طوالق؛ ونوى إلا فلانة (صح) الاستثناء (1) فلا تطلق، لأن قوله: نسائي طوالق؛ عام، يجوز التعبير به عن بعض ما وضع له (2) لأن استعمال اللفظ العام في المخصوص، سائغ في الكلام (3) (دون عدد الطلقات) (4) فإذا قال: هي طالق ثلاثا ونوى إلا واحدة؛ وقعت الثلاث، لأن العدد نص فيما يتناوله فلا يرتفع بالنية (5) لأن اللفظ أقوى من النية (6) وكذا لو قال: نسائي الأربع طوالق؛ واستثنى واحدة بقلبه، فتطلق الأربع (7) .
__________
(1) فيشترط أن تكون النية مقارنة للفظ، وهو أن يقول: نسائي طوالق. يقصد بهذا اللفظ بعضهن.
(2) وأكثر نصوص القرآن، والسنة العامة أريد بها الخصوص.
(3) والمذهب ما لم يستثن من سألته طلاقها، فيدين، ولا يقبل حكما، لأن طلاقه جواب سؤالها لنفسها، فدعواه صرفه عنها خلاف الظاهر.
(4) فإذا استثنى بقلبه واحدة أو أكثر، لم يصح، جزم به الموفق وغيره.
(5) أي لأن العدد نص فيما يتناوله، لا يحتمل غيره، فلا يرتفع بالنية ما ثبت بنص اللفظ، لأن النية أضعف منه.
(6) واسم عدد الثلاث لا يجوز التعبير به عن عدد غيرها، ولا يحتمل سواها، والنية إنما تعمل في صرف اللفظ المحتمل.
(7) على الصحيح من المذهب، وقطع به الأكثر، وإن لم يقل: الأربع؛
لم تطلق المستثناة، والفرق في ذلك أن قوله "نسائي" من غير ذكر عدد، اسم عام، يجوز التعبير به عن بعض ما وضع له، وقد يستعمل العموم، ويراد به الخصوص كثيرًا.(6/531)
(وإن قال) لزوجاته (أربعكن إلا فلانة طوالق؛ صح الاستثناء) (1) فلا تطلق المستثناة لخروجها منهن بالاستثناء (2) (ولا يصح استثناء لم يتصل عادة) (3) لأن غير المتصل يقتضي رفع ما وقع بالأول، والطلاق إذا وقع لا يمكن رفعه، بخلاف المتصل، فإن الاتصال يجعل اللفظ جملة واحدة، فلا يقع الطلاق قبل تمامها (4) ويكفي اتصاله لفظا (5) أو حكما، كانقطاعه بتنفس، أو سعال ونحوه (6) (فلو انفصل) الاستثناء (وأمكن الكلام دونه، بطل) الاستثناء، لما تقدم (7) .
__________
(1) وإن قالت إحداهن: طلق نساءك. فقال: نسائي طوالق؛ طلقت بغير خلاف، إلا ما حكي عن مالك، ما لم يستثنها.
(2) لأن خصوص السبب، يقدم على عموم اللفظ.
(3) فشرط فيه اتصال معتاد، لفظًا أو حكمًا، عند الجمهور، ويأتي.
(4) يعني الجملة الواحدة، فإذا وصلت بالاستثناء، صح الاستثناء.
(5) بأن يأتي به متتابعًا.
(6) كعطاس، بخلاف انقطاعه بكلام معترض، أو سكوت طويل، لا يسير، أو طول كلام متصل.
(7) من التعليل قريبا.(6/532)
(وشرطه) أي شرط صحة الاستثناء (النية) أي نية الاستثناء (قبل كمال، ما استثنى منه) (1) فإن قال: أنت طالق ثلاثا؛ غير ناوٍ للاستثناء، ثم عرض له الاستثناء (2) فقال: إلا واحدة؛ لم ينفعه الاستثناء، ووقعت الثلاث (3) وكذا شرط متأخر ونحوه (4) لأنها صوارف اللفظ عن مقتضاه، فوجب مقارنتها لفظا ونية (5) .
__________
(1) هذا المذهب، قطع به جمع.
(2) أي بعد كمال ما استثني منه.
(3) إلا إن نواه قبل تمام قوله: أنت طالق ثلاثا.
(4) أي وكالنية قبل كمال ما استثني منه شرط متأخر، كأنت طالق إن قمت ونحوه كتخصيص، ووصف، وإبدال، ونحو ذلك، كعطف مغاير، نحو: أنت طالق أو لا.
(5) فاعتبروا للاستثناء ونحوه الاتصال، جزم به في المحرر، والنية قبل تكملة ما ألحق به، وقيل: وبعده؛ قطع به الموفق، واختاره ابن القيم، وشيخ الإسلام وقال: عليه كلام أحمد، وعليه متقدمو أصحابه؛ وقال: للعلماء في الاستثناء النافع قولان، "أحدهما": لا ينفع حتى ينويه قبل فراغ المستثنى منه؛ وهو قول الشافعي، والقاضي، ومن تبعه، و"الثاني" ينفعه وإن لم يرده إلا بعد الفراغ، حتى لو قال له بعض الحاضرين: قل إن شاء الله؛ فقال: إن شاء الله؛ نفعه ذلك، وهو مذهب أحمد، الذي يدل عليه كلامه، وعليه متقدمو أصحابه، وهو مذهب مالك، وهو الصواب.
وقال: لا يضر فصل يسير بالنية، ولا الاستثناء، واستدل بالأخبار الواردة في الأيمان، وفي القرآن جمل قد فصل بين أبعاضها بكلام آخر، كقوله {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا} إلى قوله {هُدَى اللهِ} وقال: تصح نية الاستثناء بعد كمال ما استثني منه بيسير، لقصة سليمان، وقول الملك: قل إن شاء الله؛ فلو قالها كان كما قال.
قال: والفصل بين المستثنى والمستثنى منه بكلام الغير، والسكوت، لا يكون فصلا مانعا من صحة الاستثناء. اهـ. ومن شك في الاستثناء، ومن عادته الاستثناء، فهو كما لو علم أنه استثنى.(6/533)
.......................................................................(6/534)
باب حكم إيقاع الطلاق
(في) الزمن (الماضي و) وقوعه في الزمن (المستقبل) (1)
(إذا قال) لزوجته (أنت طالق أمس (2) أو) قال: أنت طالق (قبل أن أنكحك؛ ولم ينو وقوعه في الحال، لم يقع) الطلاق، لأنه رفع للاستباحة، ولا يمكن رفعها في الماضي (3) وإن أراد وقوعه الآن، وقع في الحال، لأنه مقر على نفسه بما هو أغلظ في حقه (4) .
__________
(1) ووقوعه في الحال كأنت طالق اليوم؛ أو في هذا الشهر. وحكم المستحيل، وغير ذلك.
(2) ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع، فروي عن أحمد فيمن قال لزوجته: أنت طالق أمس؛ وإنما تزوجها اليوم؛ ليس بشيء. ولأن أمس لا يمكن وقوع الطلاق فيه.
(3) فلم يقع، كما لو قال: أنت طالق قبل قدوم زيد بيومين، فقدم ليوم، قال الموفق: فإن أصحابنا لم يختلفوا في أن الطلاق لا يقع، وهو قول أصحاب الشافعي. قال ابن القيم: إذا قال: أنت طالق في الشهر الماضي، أو قبل أن أنكحك؛ فإن كلا الوقتين ليس بقابل للطلاق، لأنها في أحدهما لم تكن محلا، وفي الثاني لم تكن فيه طالقا قطعا، فإن قوله: أنت طالق في وقت قد مضى؛ ولم تكن فيه طالقا، إخبار كاذب، أو إنشاء باطل.
(4) جزم به الموفق وغيره.(6/535)
(وإن أراد) أنها طالق (بطلاق سبق منه، أو) بطلاق سبق (من زيد، وأمكن) بأن كان صدر منه طلاق قبل ذلك (1) أو كان طلاقها صدر من زيد قبل ذلك (قبل) منه ذلك (2) لأن لفظه يحتمل، فلا يقع عليه بذلك طلاق (3) ما لم تكن قرينة، كغضب، أو سؤال طلاق (4) (فإن مات) من قال: أنت طالق أمس؛ أو قبل أن أنكحك؛ (أو جن، أو خرس قبل بيان مراده لم تطلق) عملا بالمتبادر من اللفظ (5) (وإن قال) لزوجته: أنت (طالق ثلاثا، قبل قدوم زيد بشهر) لم تسقط نفقتها بالتعليق (6) .
__________
(1) لأن لفظه محتمل له.
(2) أي احتمل صدقه، يعني وجوده منه، أو من الزوج الذي قبله، وقيل: محل هذا إذا وجد.
(3) أي لأن لفظه: طالق أمس؛ أو: قبل أن أنكحك؛ يحتمل أنه سبق منه، أو من زيد، فلا يقع عليه، فهذا راجع إلى قوله: وإن أراد أنها طالق ... إلخ.
(4) فلا يقبل منه ذلك، لأنه خلاف الظاهر، و"قرينة" راجع لقوله: وإن أراد أنها طالق ... إلخ؛ فإن كان ثم قرينة، لم يقبل قولا واحدًا.
(5) ولأن العصمة ثابتة بيقين، فلا تزول مع الشك، فيما أراده، و"خرس" بكسر الراء أي ذهب نطقه.
(6) بل تستمر إلى أن يتبين وقوع الطلاق، لأنها محبوسة لأجله.(6/536)
ولم يجز وطؤها، من حين عقد الصفة إلى موته (1) لأن كل شهر يأْتي يحتمل أن يكون شهر وقوع الطلاق (2) جزم به بعض الأصحاب (3) (فـ) ـإن (قدم) زيد (قبل مضيه) أي مضي شهر، أو معه (لم تطلق) (4) كقوله: أنت طالق أمس (5) (و) إن قدم (بعد شهر وجزء تطلق فيه) أي يتسع لوقوع الطلاق فيه (يقع) أي تبينا وقوعه، لوجود الصفة (6) فإن كان وطئ فيه فهو محرم، ولها المهر (7) .
__________
(1) أي من حين التلفظ بالطلاق، إلى موت المطلق إن كان يبينها.
(2) فوجب اعتزالها.
(3) وقال الشيخ: تأملت نصوص أحمد، فوجدته يأمر باعتزال الرجل زوجته، في كل يمين حلف الرجل عليها بالطلاق، وهو لا يدري أبار هو أو حانث؟ حتى يستيقن أنه بار، فإذا لم يعلم أنه بار، اعتزلها أبدا، وإن علم أنه بار في وقت، وشك في وقت، اعتزلها وقت الشك، ثم ذكر فروعا من ذلك.
(4) لأنه تعليق للطلاق على صفة ممكنة الوجود، فوجب اعتبارها، ولا بد من مضي جزء يقع فيه الطلاق، بعد مضي شهر.
(5) وتقدم ما روي عن أحمد أنه قال: ليس بشيء.
(6) أي تبينا وقوع الطلاق في ذلك الجزء، عقب التعليق، قال في الإنصاف: بلا نزاع، لوجود شرطه.
(7) إن كان الطلاق بائنًا، لأنها كالأجنبية، وإن كان رجعيا فلا تحريم، ولا مهر، وحصلت به رجعتها، وفي القواعد وغيرها: يحرم عليه وطؤها من
حين عقد هذه الصفة، إلى حين موته، فإن كل شهر يأتي، يحتمل أن يكون شهر وقوع الطلاق فيه.(6/537)
(فإن خالعها بعد اليمين بيوم) مثلا (1) (وقدم) زيد (بعد شهر ويومين) مثلا (صح الخلع) (2) لأنها كانت زوجة حينه (3) (وبطل الطلاق) المعلق (4) لأنها وقت وقوعه بائن، فلا يلحقها (5) (وعكسهما) (6) أي يقع الطلاق، ويبطل الخلع (7) وترجع بعوضه، إذا قدم زيد في المثال المذكور (8) (بعد شهر وساعة) من التعليق، إذا كان الطلاق بائنا (9) .
__________
(1) ولم يكن الخلع حيلة، لإسقاط يمين الطلاق.
(2) إن لم يكن حيلة.
(3) أي: الخلع.
(4) قال في الإنصاف: هذا صحيح، لا خلاف فيه.
(5) أي الطلاق، احترازًا من الرجعي، فإنه يصح قبل وقوع الطلاق وبعده، ما لم تنقض عدته.
(6) أي عكس وقوع الخلع، وبطلان الطلاق.
(7) أي يقع الطلاق البائن، وإن كان المعلق رجعيًا، صح الخلع قبل وقوع الطلاق وبعده، لأن الرجعية زوجة، يصح خلعها ما لم تنقض عدتها.
(8) لأنا تبينا أنها كانت حينه بائنا بالطلاق.
(9) احترازًا من الطلاق الرجعي، قال في الإنصاف: بلا خلاف.(6/538)
لأن الخلع لم يصادف عصمة (1) (وإن قال) لزوجته: هي (طالق قبل موتي) أو موتك، أو موت زيد (طلقت في الحال) لأن ما قبل موته من حين عقد الصفة (2) وإن قال: قبيل موتي؛ مصغرًا (3) وقع في الجزء الذي يليه الموت (4) لأن التصغير دل على التقريب (5) (وعكسه) إذا قال: أنت طالق (معه) أي مع موتي (أو بعده) فلا يقع، لأن البينونة حصلت بالموت، فلم يبق نكاح يزيله الطلاق (6) وإن قال: يوم موتي؛ طلقت أوله (7) .
__________
(1) فبطل، وجزم به الموفق وغيره.
(2) ولا مقتضى للتأخير، أو قال: أنت طالق قبل قدومه، أو قبل دخولك الدار؛ طلقت في الحال، قولا واحدا.
(3) أو قبيل قدوم زيد، أو قبيل دخولك الدار؛ لم يقع في الحال.
(4) أو القدوم، أو الدخول.
(5) واقتضى أن الذي يبقى جزء يسير.
(6) بلا خلاف عند الأصحاب، لأن الموت سبب الحكم بالبينونة، فلا يجامعه، وقوع الطلاق، كما أنه لا يجامع البينونة.
(7) أي أول يوم يموت فيه، لأن كل جزء من ذلك اليوم يصلح لوقوع الطلاق فيه، ولا مقتضى لتأخيره عن أوله، وقياس ما تقدم عن شيخ الإسلام: أنه يحرم وطؤها في كل يوم، من حين التعليق، لأن كل يوم يحتمل أن يكون يوم الموت.(6/539)
فصل (1)
(و) إن قال (أنت طالق إن طرت، أو صعدت السماء (2) أو قلبت الحجر ذهبا؛ ونحوه من المستحيل) لذاته (3) . أو عادة، كإن رددت أمس؛ أو جمعت بين الضدين (4) أو شاء الميت؛ أو البهيمة (لم تطلق) (5) .
__________
(1) في استعمال الطلاق استعمال القسم، في غير المستحيل، والطلاق في زمن مستقبل، وغير ذلك.
(2) أو لا طرت، أو لا صعدت السماء؛ لم تطلق، ومراده التشبيه على تعليق الطلاق، على عدم فعل المستحيل، كأنت طالق إن تصعدي إلى السماء، ونحوه.
(3) كأنت طالق لا صعدت السماء، أو لا قلبت الحجر ذهبا، وعبر بعضهم أنه مستحيل عادة، وهو ما لا يتصور في العادة وجوده، وإن وجد خارقا للعادة، قال ابن القيم: إذا علق الطلاق بأمر يعلم العقل استحالته، لم يقع ... إلى آخره ويأتي.
(4) أو حملت الجبل ونحوه، لم تطلق، وعبر بعضهم أنه ونحوه مستحيل لذاته، وهو ما لا يتصور في العقل وجوده، وقال الشيخ، لو قال: لا نزلت، ولا صعدت، ولا قمت في الماء، ولا خرجت؛ يحنث بكل حال، لمنعه لها من الأكل ومن تركه، فكأن الطلاق معلق بوجود الشيء وبعدمه، فوجود بعضه وعدم البعض، لا يخرج عن الصفتين، بخلاف ما إذا علقه بمحال الوجود فقط، أو العدم فقط.
(5) أو لا شاء الميت، أو لا شاءت البهيمة؛ لم تطلق.(6/540)
لأنه علق الطلاق بصفة لم توجد (1) (وتطلق في عكسه فورا) (2) لأنه علق الطلاق على عدم فعل المستحيل، وعدمه معلوم (3) (وهو) أي عكس ما تقدم تعليق الطلاق على (النفي في المستحيل، مثل) : أنت طالق (لأقتلن الميت (4) أو لأَصعدن السماء (5) ونحوهما) كلأشربن ماء الكوز؛ ولا ماء به (6) .
__________
(1) ولأن ما يقصد بتقييده يعلق على المحال، قال تعالى {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} وقال الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب
أي لا آتيهم أبدًا؛ وقال ابن القيم: إذا علق الطلاق بأمر يعلم العقل استحالته، كقوله: إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار فأنت طالق؛ فقال محمد بن الحسين: لا يقع، وهو الصواب، واختاره ابن عقيل وغيره، فإن المستحيل عادة، كالمستحيل في نفسه، كما لو قال: إن كنت تعتقدين أن الجمل يدخل في خرق الإبرة فأنت طالق؛ فقالت: أعتقده؛ لم تطلق، وهذا في غاية القوة والصحة.
(2) أي عكس المستحيل عادة، أو لذاته، ويستعمل طلاق ونحوه، استعمال القسم بالله تعالى.
(3) في الحال، فوقع الطلاق، ولأن الحالف على فعل الممتنع كاذب حانث، لتحقق عدم الممتنع، فوجب أن يتحقق الحنث.
(4) أي إن لم أقتل الميت، أو لا قتلت الميت.
(5) أي إن لم أصعد السماء، أو لا صعدت السماء.
(6) أو إن لم أشربه.(6/541)
أو لا طلعت الشمس (1) أو لأطيرن، فيقع الطلاق في الحال، لما تقدم (2) وعتق، وظهار، ويمين بالله، كطلاق في ذلك (3) (وأنت طالق اليوم إذا جاء غد) كلام (لغو) (4) لا يقع به شيء، لعدم تحقق شرطه، لأن الغد لا يأتي في اليوم، بل بعد ذهابه (5) وإن قال: أنت طالق ثلاثا، على سائر المذاهب؛ وقعت الثلاث (6) .
__________
(1) أو لا غاب القمر.
(2) من أنه علق الطلاق على عدم فعل المستحيل، وعدمه معلوم.
(3) أي فيما سبق تفصيله، فإذا علق العتق، أو الظهار، أو اليمين بالله على مستحيل عادة، أو لذاته، لم يقع، ويقع بالعكس.
(4) مطرح.
(5) وذهاب محل الطلاق، قال الشيخ: يقع على ما رأيته، لأنه ما جعل هذا شرطا يتعلق وقوع الطلاق به، فهو كما لو قال: أنت طالق قبل موتي بشهر؛ فإنه لم يجعل موته شرطا، يقع به الطلاق عليها، قبل شهر، وإنما رتبه، فوقع على ما رتب ومن علق الطلاق على شرط، أو التزمه، لا يقصد بذلك إلا الحظ، أو المنع، فإنه يجزئه فيه كفارة يمين إن حنث، وإن أراد الجزاء بتعليقه طلقت، كره الشرط أو لا، وكذا الحلف بعتق، وظهار، وتحريم، وعليه يدل كلام أحمد في نذر اللجاج، والغضب.
(6) وإن قال: أنت طالق ثلاثا، على مذهب السنة، والشيعة، واليهود، والنصارى. طلقت ثلاثا.(6/542)
وإن لم يقل: ثلاثا؛ فواحدة (1) (وإذا قال) لزوجته: (أنت طالق في هذا الشهر؛ أو) هذا (اليوم؛ طلقت في الحال) (2) لأنه جعل الشهر أو اليوم ظرفا له (3) فإذا وجد ما يتسع له وقع، لوجود ظرفه (4) (وإن قال) : أنت طالق (في غد؛ أو) يوم (السبت، أو) في (رمضان؛ طلقت في أَوله) (5) وهو طلوع الفجر من الغد، أو يوم السبت، وغروب الشمس من آخر شعبان، لما تقدم (6) (وإن قال: أردت) أن الطلاق إنما يقع (آخر الكل) أي آخر هذه الأوقات التي ذكرت (7)
__________
(1) في كلتا المسألتين، لعدم ما يقتضي التكرار، إن لم ينو أكثر.
(2) أو قال: أنت طالق في هذا الحول، ونحو ذلك، طلقت في الحال.
(3) ولأن "أو" لأحد الشيئين، ولا مقتضى لتأخيره.
(4) كما لو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق؛ فإذا دخلت أول جزء منها طلقت.
(5) وهو قول أبي حنيفة وغيره.
(6) أي من التعليل واختاره الأكثر، وله وطء معلق طلاقها، قبل وقوع طلاق، لبقاء النكاح.
(7) وهو قوله: أنت طالق في هذا الشهر؛ أو اليوم؛ أو في غد، أو يوم السبت، أو في رمضان.(6/543)
(دين وقبل) ذلك منه حكما (1) لأن آخر هذه الأوقات، ووسطها منها (2) فإرادته لذلك، لا تخالف ظاهر لفظه (3) بخلاف: أنت طالق غدا؛ أو يوم كذا؛ فلا يدين، ولا يقبل منه أنه أراد آخرهما (4) (و) إن قال: (أنت طالق إلى شهر) مثلا (5) (طلقت عند انقضائه) (6) .
__________
(1) صححه الموفق.
(2) كأولها، وليس أولها أولى في ذلك من غيره.
(3) إذا لم يأت بما يدل على استغراق الزمن للطلاق، لصدق قول القائل: صمت في رجب؛ حيث لم يستوعبه.
(4) أو وسطها ونحوه، لأنه مخالف مقتضى اللفظ، إذا مقتضاه الوقوع في كل جزء منه، ليعم جملته، وفي الإنصاف: إذ قال: أنت طالق غدا؛ أو السبت طلقت بأول ذلك، بلا نزاع. اهـ. والفرق أنه إذا قال: في غد؛ جعل الغد طرفا لوقوع الطلاق، لا أنه يقع في جميعه، بل في جزء منه، فهو كقوله: علي أن أصوم في رجب، فإنه يجزئه يوم منه، بخلاف قوله: غدا؛ فإنه يستغرق جميع الغد، ليعم جملته، ولا يعم جملته إلا أن يقع في أول جزء منه، لسبقه، وأما قوله: في شهر كذا، أو يوم كذا؛ إذا قال: أردت آخره؛ فيفرق بين ما إذا أتى بالفاء، وعدمها.
(5) أو إلى حول.
(6) يعني الشهر، أو الحول ونحوه، وعليه الأكثر.(6/544)
روي عن ابن عباس، وأبي ذر (1) فيكون توقيتا لإيقاعه (2) ويرجع ذلك أنه جعل للطلاق غاية، ولا غاية، لآخره، وإنما الغاية لأوله (3) (إلا أن ينوي) وقوعه (في الحال، فيقع) في الحال (4) (و) إن قال أنت (طالق إلى سنة؛ تطلق بـ) انقضاء (اثني عشر شهرا) (5) لقوله تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} (6) أي شهور السنة (7) وتعتبر بالأهلة (8) ويكمل ما حلف في أثنائه بالعدد (9) .
__________
(1) رضي الله عنهم، وهو قول الشافعي وغيره.
(2) كقوله: أنا خارج إلى سنة؛ أي بعد سنة.
(3) ولأنه عمل باليقين، والطلاق لا يقع بالشك.
(4) لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ، ولفظه يحتمله، وهو المذهب، وعليه الأصحاب.
(5) بالأهلة، تامة كانت، أو ناقصة.
(6) {فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} ووجه الدلالة منه، ما يأتي من قوله.
(7) أي هي المعتبرة في عدد أشهر السنة.
(8) أي من حلفه، إلى كمال اثني عشر شهرا، لقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} .
(9) ثلاثين يوما، حيث كان الحلف في أثناء شهر، فإذا مضى أحد عشر
شهرا بالأهلة، أضاف إلى ما مضى من الشهر الأول، قبل حلفه، تتمة ثلاثين يومًا، وإنما اعتبرت الأهلة حيث أمكن اعتبارها، لأنها المواقيت التي جعلت للناس بالنص، فإن أراد "بسنة" إذا انسلخ ذو الحجة، قبل، لأنه مقر على نفسه بما هو الأغلظ.(6/545)
(فإن عرفها) أي السنة (باللام) كقوله: أنت طالق إذا مضت السنة (طلقت بانسلاخ ذي الحجة) (1) لأن "أَلْ" للعهد الحضوري (2) وكذا: إذا مضى شهر فأَنت طالق؛ تطلق بمضي ثلاثين يوما (3) وإذا مضى الشهر؛ فبانسلاخه (4) وأنت طالق في أول الشهر؛ تطلق بدخوله (5) وفي آخره؛ تطلق في آخر جزء منه (6) .
__________
(1) من السنة المعلق فيها.
(2) والسنة المعروفة آخرها ذو الحجة، وإن قال: أردت بالسنة اثني عشر شهرا؛ دين وقبل، لأن السنة اثنا عشر شهرا حقيقة.
(3) كما مر.
(4) أي تطلق لما سبق.
(5) أي بدخول الشهر المعلق الطلاق في أوله.
(6) قدمه في الفروع، وصوبه في الإنصاف، وقيل: بفجر آخر يوم منه؛ اختاره الأكثر، وجزم به في الهداية، وقدمه في المحرر، وصححه في الشرح، وقال في الفروع: تطلق بفجر أول يوم منه في الأصح؛ قال في الإنصاف: هذا المذهب. وقيل: في آخر أول يوم منه؛ قال الموفق، والشارح: هذا أصح فالله أعلم.(6/546)
باب تعليق الطلاق بالشروط (1)
أي ترتيبه على شيء حاصل (2) أو غير حاصل، بـ"ـإن"، أو إحدى أخواتها (3) و (لا يصح) التعليق (إلا من زوج) يعقل الطلاق (4) فلو قال: إن تزوجت امرأة، أو فلانة فهي طالق؛ لم يقع بتزوجها (5) .
__________
(1) الشروط جمع شرط، وتقدم معناه، والمراد هنا الشرط اللغوي، لأن أنواع الشرط ثلاثة، "عقلي" كالحياة للعلم، و"شرعي" كالطهارة للصلاة، و"لغوي" كإن دخلت الدار فأنت طالق. والمعلق للطلاق على شرط هو إيقاع له عند الشرط، كما لو تكلم به عند الشرط، ولهذا يقول بعض الفقهاء: التعليق يصير إيقاعًا في ثاني حال.
(2) أي ربط الجزاء بالشرط على شيء حاصل في الحال، كإن كنت حاملا فأنت طالق؛ فيوجد بوجوده، ويعدم بعدمه، وهذا الربط يسمى شرطا أيضًا.
(3) أي أو ترتيبه على شيء غير حاصل بإن، أو إحدى أخواتها، كإن دخلت الدار فأنت طالق، وإذا علق شيء على شرط، فليس ذلك الشيء المعلق جائز الوقوع، فضلا عن أن يكون واقعا، أو يرجى، أو يلزم وقوعه.
(4) فلا يصح من الأجنبي، وشملت عبارته المميز الذي يعقله، كالمنجز، وتقدم الكلام فيه.
(5) هذا المشهور، وهو قول أكثر أهل العلم.(6/547)
لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعا «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك (1) ولا عتق فيما لا يملك (2) ولا طلاق فيما لا يملك» (3) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وحسنه (4) .
__________
(1) فلو نذر ذبح شاة غيره، أو الصدقة بمال غيره، ونحو ذلك لم يصح، ما لم يقل: إن ملكت ذلك؛ ونحوه.
(2) حملوا معناه أن يعتق الإنسان عبد غيره، فلو قال: إن ملكت غلام فلان فهو حر؛ فيعتق على المذهب، بخلاف الطلاق.
(3) وروي عن علي، وابن عباس، وغيرهما، وهو مذهب الشافعي، وغير واحد من فقهاء التابعين.
(4) وفي نسخ: وصححه؛ وقال البخاري: هو أصح شيء فيه وأشهره، وله شواهد، منها ما رواه أبو يعلى، من حديث جابر «لا طلاق إلا بعد نكاح» وصححه الحاكم، وقال: أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه، وقد صح على شرطهما من حديث ابن عمر، وعائشة، وعبد الله بن عباس، ومعاذ بن جبل.
وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} قال ابن عباس، ولم يقل: إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن، فإذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، مطلق لأجنبية، فهو كما لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق؛ فدخلت وهي زوجته، لم تطلق إجماعًا، فدلت الآية والأحاديث على أنه لا يقع الطلاق على الأجنبية، فإن كان منجزا فإجماع، وإن كان معلقا فهو قول الجمهور، ورواه البخاري عن جماعة من الصحابة.(6/548)
(فإذا علقه) أي علق الزوج الطلاق (بشرط) متقدم أو متأخر، كإن دخلت الدار فأنت طالق (1) أو أنت طالق إن قمت (لم تطلق قبله) أي قبل وجود الشرط (2) (ولو قال عجلته) أي عجلت ما علقته، لم يتعجل (3) لأن الطلاق تعلق بالشرط، فلم يكن له تغييره (4) فإن أراد تعجيل طلاق سوى الطلاق المعلق وقع (5) فإذا وجد الشرط الذي علق به الطلاق وهي زوجته وقع أيضًا (6) (وإن قال) – من علق الطلاق بشرط – (سبق لساني بالشرط ولم أُرده؛ وقع) الطلاق
__________
(1) أو إن دخلت الدار فأنت خلية، بنية الطلاق، قال في الإنصاف: يقع بوجود الشرط، وهو صحيح، وليس فيه خلاف.
(2) لأنه إزالة ملك، بني على التغليب والسراية، أشبه العتق، قال الشيخ: وتأخر القسم، كأنت طالق لأفعلن، كالشرط أولى.
(3) أي ولو قال – بعد تعليقه الطلاق بشرط – عجلت ما علقته؛ لم يتعجل الطلاق، أو قال: أوقعته؛ لم يتعجل.
(4) وذكروه قولاً واحدًا، وقيل: يتعجل إذا عجله؛ وهو ظاهر بحث الشيخ، فإنه قال: فيما قاله جمهور الأصحاب نظر؛ ونظره في الاختيارات، فإنه يملك تعجيل الدين المؤجل، وحقوق الله تعالى، وحقوق العباد في الجملة سواء، تأجلت شرعا، أو شرطا.
(5) بها طلقة.
(6) أي الطلاق المعلق، لوجود شرطه.(6/549)
(في الحال) لأنه أقر على نفسه بما هو أغلظ من غير تهمة (1) (وإن قال) لزوجته (أنت طالق؛ وقال: أردت إن قمت (2) لم يقبل) منه (حكما) لعدم ما يدل عليه (3) وأنت طالق مريضة رفعا ونصبا (4) يقع بمرضها (5) (وأدوات الشرط) المستعملة غالبا (6) .
__________
(1) وهو يملك إيقاعه في الحال، فلزمه.
(2) أي أردت في نفسي إن قمت. دين، لأنه أعلم بنيته، وما ادعاه محتمل، فأشبه ما لو قال: أنت طالق. ثم قال: من وثاقي.
(3) ولأنه خلاف الظاهر، وقال في الكافي: يخرج على روايتين، إحداهما: لا يقبل، لما تقدم، والثانية: يقبل، لأنه محتمل، أشبه ما لو قال: أنت طالق؛ ثم قال: أردت من وثاقي، وهذا مثله.
(4) فالفرع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة في محل نصب على الحال، تقديره: وأنت مريضة، والنصب على الحال.
(5) لأنه بمعنى إذا مرضت، فإن كانت مريضة حال الخطاب، وإلا كان كاذبًا والطلاق واقع في الحالين، وإن فصل بين الشرط وحكمه بكلام منتظم، كأنت طالق يا زانية إن قمت؛ لم يضر، ويقطعه سكوته، وتسبيحه ونحوه، كأنت طالق – استغفر الله، أو سبحان الله – إن قمت؛ فيقع الطلاق منجزا.
(6) أي الألفاظ التي يؤدي بها معناه غالبًا: ست، وهي من جهة إفادة التكرير وعدمه قسمان، ما يفيده، وهي "كلما" فقط، وما لا يفيده وهو باقي الأدوات ومن جهة التراخي والفورية قسمان، ما يكون للتراخي، بشرطين، عدم نية الفورية، وعدم قرينتها، ويكون للفورية بشرط نية الفورية أو قرينتها، وهو "إن" فقط، وثانيهما ما يكون للتراخي بثلاثة شروط، عدم "لم" وعدم نية الفورية، وعدم قرينتها، ويكون للفورية بشرط واحد، وجود "لم" أو نية فور، أو قرينة، وهو باقي الأدوات، وقوله "غالبًا" إشارة إلى أن هنا أدوات تستعمل في طلاق وعتق، كـ"حيثما" و"مهما" و"لو" وما أشبهها من أدوات الشرط، لكن يغلب استعمالها فيهما.(6/550)
(إن) بكسر الهمزة، وسكون النون، وهي أُم الأَدوات (1) (وإذا، ومتى، وأيّ) بفتح الهمزة وتشديد الياء (2) (ومن) بفتح الميم وسكون النون (3) (وكلما وهي) أي "كلما" (وحدها للتكرار) (4) لأنها تعم الأوقات فهي بمعنى: كل وقت (5) وأما "متى" فهي اسم زمان بمعنى: أي وقت (6) وبمعنى "إذا" فلا تقتضي التكرار (7) .
__________
(1) لكثرة استعمالها.
(2) المضافة إلى الشخص.
(3) وهي و"أي" من صيغ العموم.
(4) لأن موضوعها للتكرار، قال تعالى {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا.
(5) فمعنى: «كلما قمتَ قمتُ» كل وقت تقوم فيه أقوم فيه.
(6) فلا تقتضي التكرار.
(7) صححه الموفق وغيره، وكونها تستعمل للتكرار في بعض الأحيان، لا يمنع استعمالها في غيره، مثل "إذا" و"أي" فإنهما يستعملان في الأمرين، فلا يحملان على التكرار إلا بدليل.(6/551)
(وكلها) أي كل أدوات الشرط المذكورة (1) (ومهما) وحيثما (بلا لم) أي بدون لم (2) (أو نية فور، أو قرينته) أي قرينة الفور (للتراخي (3) و) هي (مع "لم" للفور) (4) إلا مع نية التراخي أو قرينته (5) (إلا إن) فإنها للتراخي حتى مع "لم" (مع عدم نية فور، أو قرينة (6) فإذا قال) لزوجته (إن قمت) فأنت طالق؛ (أو إذا) قمت فأنت طالق؛ (أو متى) قمت فأنت طالق؛ (أو أي وقت) قمت فأنت طالق (7) .
__________
(1) على التراخي، إذا تجردت عن "لم" وكذا إن تجردت عن نية الفورية أيضا، أو قرينة.
(2) للتراخي، نحو: مهما أطلقك، أو حيثما أطلقك فأنت طالق؛ فهما للتراخي.
(3) لأنها لا تقتضي وقتا بعينه دون غيره، فهي مطلقة في الزمان كله، ولأنها تخلص الفعل للاستقبال، ففي أي وقت منه وجد، فقد حصل الجزاء.
(4) أي وكل الأدوات مع "لم" للفور إلا "إن" كما نبه عليه.
(5) تدل على التراخي، فهي على التراخي، ولو مع "لم".
(6) لأن حرف "إن" موضوع للشرط، لا يقتضي زمنا، ولا يدل عليه إلا من حيث إن الفعل المعلق به من ضرورته الزمان، فلا يتعلق بزمان معين، فإن كانت نية فور، أو قرينة كانت للفور.
(7) أو أيتكن قامت، فهي طالق.(6/552)
(أو من قامت) منكن فهي طالق (أو كلما قمت فأنت طالق (1) فمتى وجد) القيام (طلقت) عقبه (2) وإن بعد القيام عن زمان الحلف (3) (وإن تكرر الشرط) المعلق عليه (لم يتكرر الحنث) لما تقدم (4) (إلا في كلما) فيتكرر معها الحنث عند تكرر الشرط، لما سبق (5) (و) إن قال: (إن لم أطلقك فأنت طالق؛ ولم ينو وقتا، ولم تقم قرينة بفور، ولم يطلقها، طلقت في آخر حياة أولهما موتا) (6)
__________
(1) أو أنت طالق لو قمت.
(2) قال في الإنصاف: بلا نزاع؛ لأن وجود الشرط يستلزم وجود الجزاء وعدمه، إلا أن يعارض معارض، ولو قام الأربع في مسألة: من قامت فهي طالق؛ طلقن كلهن.
(3) إن لم يكن نية فور، أو قرينة، وسماه حلفا لأن الحلف عندهم ما قصد به منعا، أو حملا، أو تصديقا، أو تكذيبا.
(4) من أنها لا تقتضي التكرار، لانحلال التعليق بالأولى، بخلاف ما إذا كرره المطلق، فإنه يقع بقدر التكرار للشرط، فإذا كان المعلق طلاقا بائنًا، ورثته إن مات قبلها، ولم يرثها إن ماتت قبله.
(5) من أنها وحدها للتكرار، قال في الإنصاف: وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا "كلما" بلا نزاع، وكلما أكلت رمانة فأنت طالق؛ وكلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق؛ فأكلت رمانة طلقت ثلاثا، قال في الإنصاف: بلا نزاع، وقال الشيخ: لا تطلق إلا واحدة.
(6) إذا بقي من حياة الميت ما لا يتسع لإيقاعه، وهو مذهب الجمهور،
أبي حنيفة، والشافعي، قال الموفق: لا نعلم فيه بين أهل العلم خلافًا، لأن كل زمن يمكن أن يفعل فيه ما حلف عليه، فلم يفت الوقت.(6/553)
لأنه علق الطلاق على ترك الطلاق، فإذا مات الزوج فقد وجد الترك منه (1) وإن ماتت هي فات طلاقها بموتها (2) (و) إن قال: (متى لم) أُطلقك فأَنت طالق (أَو إذا لم) أطلقك فأنت طالق (أو أي وقت لم أُطلقك فأنت طالق؛ ومضى زمن يمكن إيقاعه فيه ولم يفعل، طلقت) لما تقدم (3) . (و) إن قال (كلما لم أُطلقك فأَنت طالق؛ ومضى ما يمكن إيقاع ثلاث) طلقات (مرتبة) أي واحدة بعد واحدة (فيه) أي في الزمن الذي مضى (4) .
__________
(1) ولم يقع قبل ذلك، لأن "إن" و"لو" مع "لم" للتراخي، فله تأخيره ما دام وقت الإمكان، فإذا ضاق عن الفعل تعين، وإن نوى وقتا معينًا تعلق به، أو قامت قرينة بفور تعلق به.
(2) ولم يرثها، كما لو أبانها عند موتها، وترثه هي إن مات، لأنه يقع بها الطلاق في آخر حياته، فهو كالطلاق في مرض موته، فهو متهم بقصد حرمانها.
(3) أي إن هذه الأدوات مع "لم" للفور حيث لا نية، ولا قرينة تراخ، وتقع واحدة، لأنها لا تقتضي التكرار.
(4) وهو ما يمكن إيقاع ثلاث طلقات مرتبة فيه.(6/554)
(طلقت المدخول بها ثلاثا) لأَن "كلما" للتكرار (1) (وتبين غيرها) أي غير المدخول بها (بـ) ـالطلقة (الأُولى) فلا تلحقها الثانية، ولا الثالثة (2) (و) إن قال (إن قمت فقعدت) (3) لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد (4) (أَو) قال: إن قمت (ثم قعدت) لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد (5) (أَو) إن قال (إن قعدت إذا قمت) لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد (6) (أو) قال (إن قعدت إن قمت فأَنت طالق، لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد) (7) .
__________
(1) ومع "لم" للفورية، ويدل لاقتضاء تكرار الطلاق بتكرار الصفة – وهي عدم طلاقه لها – قوله {كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} وغيرها.
(2) لأن البائن لا يقع عليها طلاق.
(3) أي فأنت طالق.
(4) عند جماهير الأصحاب، وهو إلحاق شرط بشرط، كما في هذه الأمثلة، ولا تطلق بوجود أحدهما، قال الموفق: لا خلاف بينهم في أنه إذا علق الطلاق على شرطين مرتبين، في مثل قوله: إن قمت فقعدت؛ أنه لا يقع بوجود أحدهما.
(5) لأن الفاء، و"ثم" حرفا ترتيب.
(6) وكذا إن قال: إن قمت متى قعدت؛ أو إن قمت إن قعدت.
(7) وكذا: إن أكلت إذا لبست، أو إن أكلت إن لبست، أو إن أكلت متى لبست، لم تطلق حتى تلبس ثم تأكل.(6/555)
لأن لفظ ذلك يقتضي تعليق الطلاق على القيام مسبوقا بالقعود (1) ويسمي نحو: إن قعدت إن قمت، اعتراض الشرط على الشرط، فيقتضي تقديم المتأخر، وتأْخير المتقدم، لأنه جعل الثاني في اللفظ شرطا للذي قبله، والشرط يتقدم المشروط (2) فلو قال: إن أعطيتك، إن وعدتك، إن سألتني (3) لم تطلق حتى تسأله، ثم يعدها، ثم يعطيها (4) (و) إن عطف (بالواو) كقوله: أنت طالق إن قمت وقعدت (تطلق بوجودهما) أي القيام والقعود (5) (ولو غير مرتبين) أي سواء تقدم القيام على القعود، أَو تأَخر، لأَن الواو لا تقتضي ترتيبا (6) .
__________
(1) وصوابه: تعليق الطلاق على القعود مسبوقًا بالقيام.
(2) ومنه {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} .
(3) أي فأنت طالق.
(4) لما تقدم من أنه جعل الثاني شرطا للأول، وكذا الثالث شرط لهما، والشرط يتقدم المشروط، للآية ونحوها.
(5) ولو من غير عالم بالعربية، عند الجماهير.
(6) فلا تطلق بوجود أحدهما، لأنها للجمع، فلم يقع قبل وجودهما جميعا، وعنه: بوجود أحدهما، وقال الموفق: هذه الرواية بعيدة جدًا، تخالف
الأصول، ومقتضى اللغة والعرف، وعامة أهل العلم، وأصول الشرع: تشهد بأن الحكم المعلق بشرطين لا يثبت إلا بهما.(6/556)
(و) إن عطف (بأو) بأن قال: إن قمت أو قعدت فأنت طالق؛ طلقت (بوجود أحدهما) أي بالقيام، أو القعود، لأن "أَو" لأحد الشيئين (1) وإن علق الطلاق على صفات فاجتمعت في عين، كأن رأيت رجلا فأَنت طالق؛ وإن رأيت أسود فأنت طالق؛ وإن رأيت فقيها فأنت طالق، فرأت رجلا أسودًا فقيها، طلقت ثلاثا (2) .
__________
(1) وكذا: إن أكلت، أو إن لبست؛ أو لا أكلت ولا لبست، لأن "أو" تقتضي تعليق الجزاء على واحد من المذكور، كقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
(2) لأن الطلاق علق على كلٍ من هذه الصفات، وقد وجدت، أشبه ما لو وجدت في ثلاثة أعيان، وقال الشيخ: لا تطلق إلا واحدة مع الإطلاق، لأنه الأظهر في مراد الحالف، والعرف يقتضيه، إلا أن ينوي خلافه.(6/557)
فصل في تعليقه بالحيض (1)
(إذا قال) لزوجته (عن حضت فأنت طالق طلقت بأول حيض متيقن) (2) لوجود الصفة (3) فإن لم يتيقن أنه حيض، كما لو لم يتم لها تسع سنين (4) أو نقص عن اليوم والليلة لم تطلق (5) (و) إن قال (إذا حضت حيضة) فأنت طالق (تطلق بأول الطهر من حيضة كاملة) لأنه علق الطلاق بالمرة الواحدة من الحيض (6) فإذا وجدت حيضة كاملة فقد وجد الشرط (7) ولا يعتد بحيضة علق فيها (8) .
__________
(1) أي في حكم تعليق الطلاق بالحيض أو الطهر.
(2) فتطلق حين ترى الدم.
(3) كما أنه حيض، في المنع من الصلاة، والصيام.
(4) أو كانت حاملا، على القول به، أو كانت آيسة، لم تطلق.
(5) لأنه تبين أن الصفة لم توجد.
(6) وذلك بأن تحيض ثم تطهر، لأنها لا تحيض حيضة إلا بذلك.
(7) وهي الحيضة الكاملة، ويقع الطلاق سنيا.
(8) لأنها ليست حيضة كاملة، بل يعتبر ابتداء الحيضة وانتهاؤها بعد التعليق.(6/558)
فإن كانت حائضًا حين التعليق، لم تطلق حتى تطهر، ثم تحيض حيضة مستقبلة، وينقطع دمها (1) (وفيـ) ـما إذا قال (إذا حضت نصف حيضة) فأَنت طالق (تطلق) طاهرا (في نصف عادتها) (2) لأن الأحكام تتعلق بالعادة، فتعلق بها وقوع الطلاق، لكن إذا مضت حيضة مستقرة، تبينا وقوعه في نصفها، لأن النصف لا يعرف إلا بوجود الجميع، لأن أيام الحيض قد تطول، وقد تقصر، فإذا طهرت تبينا مدة الحيض، فيقع الطلاق في نصفها (3) ومتى ادعت حيضا وأنكر، فقولها (4) .
__________
(1) لأنه لا يشترط في وقوع الطلاق غسلها، بل مجرد ما تطهر تطلق مطلقا، وعليه الأصحاب.
(2) جزم به غير واحد، وصححه الشارح.
(3) فإذا كانت عادتها ستة أيام مثلا، تطلق طاهرا، وإذا مضت الستة وطهرت، تبينا أن طلاقها بعد مضي ثلاثة، وإن طهرت بعد ثمان، تبينا طلاقها بعد أربعة أيام، وعلقت عليه أحكامه باطنا وظاهرًا.
(4) أي ومتى ادعت حيضا من علق طلاقها على الحيض، وأنكر الزوج فقولها، أي بلا يمين، وفي الإقناع، بيمين؛ قال عثمان: وهو أولى في هذه الأزمنة، لاحتمال صدقه، وحيث قبل وقع الطلاق المعلق عليه، كما لو ثبت ببينة، وعنه: لا يقبل، وتختبر بإدخال قطنة في الفرج، زمن دعواها الحيض، فإن ظهر دم فهي حائض، اختاره أبو بكر، وصوبه في الإنصاف، لأنه يمكن التوصل إلى معرفته من غيرها، فلم يقبل فيه مجرد قولها.(6/559)
كإن أضمرت بغضي فأنت طالق؛ وادعته (1) بخلاف نحو قيام (2) وإن قال: إذا طهرت فأنت طالق؛ فإن كانت حائضا طلقت بانقطاع الدم (3) وإلا فإذا طهرت من حيضة مستقبلة (4) .
__________
(1) فقولها، لأنه لا يعلم إلا من جهتها، ويقع الطلاق.
(2) أي فلا يقبل إلا ببينة، وكذا قولها في نحو دخول الدار، مما يمكن إقامة البينة عليه.
(3) لقوله {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي ينقطع دمهن، ولأنه ثبت لها حكم الطاهرات. وإن لم تغتسل، لوجود الطهر.
(4) أي وإلا تكن حائضًا حين التعليق، فإذا طهرت، يعني انقطع دمها من حيضة مستقبلة، طلقت، لأنه علقه بإذا، وهي لما يستقبل، فلا تطهر إلا بطهر مستقبل، وظاهره: ولو قبل تمام عادتها؛ لأنه بحصول النقاء تثبت لها أحكام الطاهرات، من وجوب صلاة، وصوم، وغيرهما، لكن لو عاد الدم بقية العادة، تبينا عدم وقوعه، لأن الظاهر أنه أراد طلاقها بعد حيضة كاملة نظرًا للعرف، أو لا، نظرًا للطهر الشرعي، قال بعضهم: الظاهر الأول، لأن الطلاق من قبيل الأيمان، ومبناها على العرف.(6/560)
فصل في تعليقه بالحمل (1)
(إذا علق بالحمل) كقوله إن كنت حاملا فأنت طالق (2) (فولدت لأقل من ستة أشهر) من زمن الحلف (3) سواء كان يطأ أم لا (4) أو لدون أربع سنين، ولم يطأ بعد حلفه، (طلقت منذ حلف) لأنا تبينا أنها كانت حاملا، وإلا لم تطلق (5) ويحرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة (6) (وإن قال) لزوجته: (إن لم تكوني حاملا فأنت طالق؛ حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة) موجودة، أو مستقبلة، أو ماضية
__________
(1) أي في حكم تعليق الطلاق بالحمل، أو عدمه.
(2) فتبين أنها كانت حاملا في زمنه، وقع الطلاق من حين اليمين، وإلا فلا.
(3) مرادهم: ويعيش؛ وقع الطلاق، زمن الحلف، لوجود الصفة.
(4) لأنا علمنا أنه ليس من الوطء.
(5) أي وإلا يتبين أنها كانت حاملاً حين حلفه بأن ولدت لأكثر من ستة أشهر أو أكثر من أربع سنين من حلفه لم تطلق، لعدم وجود الصفة.
(6) ليستبين عدم حملها، وحكي إجماعًا إن كان قد وطئها قبل اليمين، وأما الآيسة والصغيرة، فإن الواجب: أن تستبرأ بمثل الحيضة، أو يقال: يجوز وطؤها قبل الاستبراء، إلا أن تكون حاملا، هذا هو الصواب، كما حكاه في الاختيارات، وكل موضع يكون الشرط فيه عدميا، يستبين فيما بعد.(6/561)
لم يطأ بعدها (1) وإنما يحرم وطؤها (في) الطلاق (البائن) دون الرجعي (2) (وهي) أي مسألة إن لم تكوني حاملا فأنت طالق (عكس) المسألة (الأُولى) وهي: إن كنت حاملا فأَنت طالق (في الأحكام) (3) فإن ولدت لأكثر من أربع سنين طلقت، لأنا تبينا أنها لم تكن حاملا، وكذا إن ولدت لأكثر من ستة أشهر وكان يطأُ، لأَن الأصل عدم الحمل (4) وإن قال: إن حملت فأَنت طالق؛ لم يقع إلا بحمل متجدد (5) ولا يطؤها إن كان وطئ في طهر حلف فيه قبل حيض، ولا أكثر من مرة كل طهر (6) .
__________
(1) في صورتي النفي والإثبات، وأن يكون الطلاق وقع، لأن المقصود معرفة براءة رحمها.
(2) لأن وطء الرجعية مباح، ويحصل به الرجعة.
(3) التي تقدم توضيحها، ويحرم وطؤها إذا كان الطلاق بائنًا، على ما تقدم وذكر الجواز في البعض.
(4) فتطلق، والوجه الثاني: لا تطلق؛ لأن الأصل بقاء العصمة، فلا تزول بالشك، وتقدم أنه يوجد من ولدت لأكثر من أربع سنين.
(5) جزم به الأصحاب، واختاره المجد، لكن قدم أنها إذا بانت حاملاً تطلق، في ظاهر كلامه، ولم يعرج عليه الأصحاب، قاله في الإنصاف.
(6) يعني إذا كان الطلاق بائنًا، لجواز أن تحمل منها.(6/562)
(وإن علق طلقة إن كانت حاملا بذكر، وطلقتين) إن كانت حاملاً (بأُنثى فولدتهما، طلقت ثلاثا) بالذكر واحدة، وبالأُنثى اثنتين (1) (وإن كان مكانه) أي مكان قوله: إن كنت حاملا بذكر فأنت طالق طلقة، وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق اثنتين (إن كان حملك، أو ما في بطنك) ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن كان أُنثى فأَنت طالق ثنتين؛ وولدتهما (لم تطلق بهما) (2) لأن الصيغة المذكورة تقتضي حصر الحمل في الذكورية، أو الأنوثية، فإذا وجدا لم تتمحض ذكوريته، ولا أنوثيته، فلا يكون المعلق عليه موجودا (3) .
__________
(1) قولا واحدًا، وقال في الإنصاف: تطلق ثلاثا بلا نزاع.
(2) وعليه الجمهور، مالك، وأصحاب الرأي، وغيرهم.
(3) قال في القواعد الأصولية: قال الأصحاب: لا تطلق؛ وعللوه بأن حملها ليس بذكر ولا أنثى.(6/563)
فصل في تعليقه بالولادة (1)
يقع ما علق على ولادة بإلقاء ما تبين فيه بعض خلق الإنسان (2) لا بإلقاء علقة ونحوها (3) (إذا علق طلقة على الولادة بذكر، وطلقتين) على الولادة (بأُنثى) بأن إن ولدت ذكرا فأَنت طالق طلقة؛ وإن ولدت أُنثى فأنت طالق طلقتين (فولدت ذكرا، ثم) ولدت (أُنثى، حيا) كان المولود (أَو ميتا (4) طلقت بالأَول) ما علق به، فيقع في المثال طلقة (5) وفي عكسه ثنتان (6) (وبانت بالثاني ولم تلطق به) (7) .
__________
(1) أي في حكم تعليق الطلاق بالولادة.
(2) وهو ما تصير به الأمة أم ولد، لأنها ولدت ما يسمى ولدا.
(3) كمضغة، لأنها لا تسمى ولدا، ويجوز أن لا تكون مبدأ خلق الإنسان، فلا يقع الطلاق بالشك.
(4) لأن الشرط ولادة ذكر أو أنثى، وقد وجدت.
(5) وهو تعليق طلقة على الولادة بذكر.
(6) وهو تعليق طلقتين على الولادة بأنثى.
(7) هذا المذهب، وعليه الأصحاب.(6/564)
لأن العدة انقضت بوضعه، فصادفها الطلاق بائنا، فلم يقع (1) كقوله: أنت طالق مع انقضاء عدتك (2) وإن ولدتهما معا طلقت ثلاثا (3) (وإن أشكل كيفية وضعهما) بأَن لم يعلم أوضعتهما معا، أو متفرقين (فواحدة) أي فوقع طلقة
__________
(1) ونقل ابن منصور عن أحمد: هذا على نية الرجل، إذا أراد بذلك تطليقه، قال ابن رجب: ورواية ابن منصور أصح، وهو المنصوص، واختاره الشيخ، لأن الحالف إنما حلف على حمل واحد، وولادة واحدة، والغالب أنه لا يكون إلا ولدا واحدًا، لكنه لما كان ذكرًا مرة، وأنثى أخرى نوع التعليق عليه، فإذا ولدت هذا الحمل ذكرًا وأنثى لم يقع به المعلق بالذكر والأنثى جميعا، بل المعلق بأحدهما فقط، لأنه لم يقصد إلا إيقاع أحد الطلاقين وإنما ردده لتردد كون المولود ذكرًا أو أنثى، وينبغي أن يقع أكثر الطلاقين إذا كان القصد تطليقها بهذا الوضع، سواء كان ذكرًا أو أنثى، لأنه أوقع بولادة أحدهما أكثر من الآخر، فيقع به أكثر المعلقين.
وفي الاختيارات: ونص أحمد فيمن قال لامرأته: أنت طالق طلقة إن ولدت ذكرا، وطلقتين إن ولدت أنثى. أنه على ما نواه، إن أراد ولادة واحدة وأنكر قول سفيان أنه يقع عليها بالأول ما علق به، وتبين بالثاني، ولا تطلق به.
(2) فلا يقع، لمصادفته بينونتها.
(3) أي إن ولدتهما دفعة واحدة، بحيث لا يسبق أحدهما الآخر طلقت واحدة بالذكر، واثنتين بالأنثى، ولا تنقضي عدتها إذًا بذلك، لأن الطلاق يقع عقب الولادة.(6/565)
واحدة (1) لأنها المتيقنة، وما زاد عليها مشكوك فيه (2) .
__________
(1) ولغا ما زاد، هذا المذهب، واستظهره في القواعد، وجزم به، وقدمه غير واحد.
(2) والورع التزامهما، وإن قال: إن ولدت ذكرين أو أنثيين؛ فولدت ذكرا وأنثى، لم يحنث، لأن الصفة لم توجد.(6/566)
فصل في تعليقه بالطلاق (1)
(إذا علقه على الطلاق) بأن قال: إن طلقتك فأَنت طالق (2) (ثم علقه على القيام) بأن قال: إن قمت فأَنت طالق (3) (أو علقه على القيام ثم) علقه (على وقوع الطلاق) بأن قال: إن قمت فأَنت طالق ثم قال: إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق (فقامت، طلقت طلقتين فيهما) أي في المسألتين، واحدة بقيامها (4) وأخرى بتطليقها الحاصل بالقيام في المسألة الأولى، لأن طلاقها بوجود الصفة تطليق لها (5) . وفي الثانية طلقة بالقيام، وطلقة بوقوع الطلاق عليها بالقيام (6) .
__________
(1) أي في أحكام تعليق الطلاق بالطلاق.
(2) ثم أوقع الطلاق عليها، بائنًا، بأن كان على عوض، أو غير مدخول بها، لم يقع ما علق من طلاق، لأنه لم يصادف عصمة، كما لا يقع معلق على خلع، وإن أوقعه رجعيا، وقع اثنتان.
(3) فقامت، طلقت طلقتين، قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(4) لتعليقه الطلاق به.
(5) فوقع به الطلاق.
(6) فوقع بها طلقتان، وقال المجد: إذا قال: إذا طلقتك فأنت طالق؛ لم يحنث في يمينه إلا بتطليق ينجزه، أو يعلقه بعدها بشرط، فيؤاخذ؛ وقال
الشيخ: يتوجه إذا كان الطلاق المعلق قبل عقد هذه الصفة أو معها، معلقًا بفعله ففعله باختياره، أن يكون فعله له تطليقًا، يفتقر إلى أن تكون الصفة من فعله أيضًا، فإذا علقه بفعل غيره، ولم يأمره بالفعل، لم يكن تطليقًا.(6/567)
وإن كانت غير مدخول بها فواحدة فقط (1) (وإن علقه) أي الطلاق (على قيامها) بأن قال: إن قمت فأنت طالق (ثم) علق الطلاق (على طلاقه لها (2) فقامت فواحدة) بقيامها ولم تطلق بتعليق الطلاق، لأنه لم يطلقها (3) (وإن قال) لزوجته: (كلما طلقتك) فأنت طالق (أو) قال (كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق؛ فوجدا) أي الطلاق في الأولى، أو وقوعه في الثانية (طلقت في الأولى) وهي قوله:
__________
(1) لبينونتها بالأولى، ولا تقع الثانية، لأنه لا عدة عليها، ولا يمكن رجعتها فلا يقع طلاقها إلا بائنًا، ولا يقع الطلاق بالبائن.
(2) بأن قال: إن طلقتك فأنت طالق.
(3) أي بعد تعليقه طلاقها بالقيام، ولو كانت مدخولاً بها، والفرق بين الحالتين أنه في الصورة الأولى تطلق طلقة بالتعليق الثاني، لوجود صفته، وهي القيام، وطلقة بالتعليق الأول، لوجود صفته أيضًا، وهي التطليق، لأن تعليق الطلاق على صفة حيث وجدت، تطليق وإيقاع لا وقوع فقط، لتأخير إنشائه عن التعليق الأول، وهذا بخلاف ما لو قال لها: إن قمت فأنت طالق؛ فقامت، لأنه لا يقع عليها إلا طلقة بالقيام، لأنه لا يوجد – بعد قوله لها: إن طلقتك؛ أو أوقعت عليك طلاقي – إنشاء طلاق، لا منجز، ولا معلق، وإنما وجد على هذا التعليق.(6/568)
كلما طلقتك فأنت طالق (طلقتين) طلقة بالمنجز، وطلقة بالمعلق عليه (1) (و) طلقت (في الثانية) وهي قوله: كلما وقع عليك طلاقي فأَنت طالق (ثلاثا) (2) إن وقعت الأُولى والثانية رجعيتين (3) لأن الثانية طلقة واقعة عليها، فتقع بها الثالثة (4) . وإن قال: إن وقع عليك طلاقي فأَنت طالق قبله ثلاثا؛ ثم قال: أنت طالق؛ فثلاث، طلقة بالمنجز، وتتمتها من المعلق (5) ويلغو قوله: قبله (6) وتسمى السريجية (7) .
__________
(1) إن كانت مدخولا بها، وغير المدخول بها طلقة واحدة، وهي المنجزة.
(2) سواء كان طلاقه الموقع عليها بمباشرة، أو سبب، أو بصفة عقدها بعد ذلك التعليق، أو قبله.
(3) إذ البائن لا يلحقها طلاق.
(4) ذكره الموفق وغيره، قولا واحدا.
(5) ويقع بغير المدخول بها واحدة، وهي المنجزة.
(6) لأنه وصف المعلق بصفة يستحيل وصفه بها، ولأنه طلاق من زوج مختار، في محل نكاح صحيح، فوجب أن يقع، وقال الشيخ: تعليقه باطل، ولا يقع سوى المنجزة، وكذا قال ابن عقيل: تطلق بالمنجز، والتعليق باطل، لأنه طلاق في زمن ماض، أشبه قوله: أنت طالق أمس.
(7) نسبه إلى ابن سريج، أبي العباس الشافعي، أول من قال بها، فإنه قال:
لا تطلق أبدًا، لأن وقوع الواحدة يقتضي وقوع ثلاث قبلها، وذلك يمنع وقوعها فإثباتها يؤدي إلى نفيها، فلا تثبت، ولأنه يفضي إلى الدور، فيمتنع وقوعها.
وقال الشيخ: ما قاله محدث في الإسلام، لم يفت به أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا أحد من الأئمة الأربعة، وأنكر جمهور العلماء على من أفتى بها، ومن قلد شخصًا فيها، وحلف بعد ذلك بالطلاق، معتقدًا أنه لا يقع عليه بها، لم يقع، في أظهر قولي العلماء، كمن أوقعه فيمن يعتقدها أجنبية، وكانت في الباطن امرأته، فإنها لا تطلق على الصحيح.(6/569)
.......................................................................(6/570)
فصل في تعليقه بالحلف (1)
(إذا قال) لزوجته (إذا حلفت بطلاقك فأَنت طالق ثم قال) لها: (أَنت طالق إن قمت) (2) أو إن لم تقومي (3) أو إن هذا القول حق (4) أو كذب ونحوه (5) مما فيه حث، أو منع (6) أو تصديق خبر، أو تكذيبه (7) .
__________
(1) أي في حكم تعليق الطلاق بالحلف؛ والحلف بالطلاق تعليق في الحقيقة، لأنه ترتيب للطلاق على المحلوف عليه، وذلك حقيقة التعليق، وحقيقة الحلف: القسم، والمعنى المتعارف من الحلف الحث على فعل أو المنع منه، أو تصديق خبر، أو تكذيبه، لا نحو إن شئت فأنت طالق فإنه تمليك، ويأتي اختيار الشيخ: أن العمل بعرف المتكلم.
(2) طلقت في الحال.
(3) أي وإذا قال لزوجته: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق؛ ثم قال: أنت طالق إن لم تقومي؛ طلقت في الحال.
(4) أي أو: أنت طالق إن هذا القول حق.
(5) أي: كأنت طالق إن هذا القول كذب، ونحو ذلك، كإن لم يكن هذا القول حقًا، أو إن لم يكن هذا القول كذبًا.
(6) كإن لم أدخل الدار فأنت طالق، أو أنت طالق لأقومن، أو إن قمت فأنت طالق.
(7) كأنت طالق لقد قمت، أو قام زيد، أو إن هذا القول لصدق، أو أنت طالق إن لم يكن هذا القول كذبا، أو لم يقدم زيد ونحو ذلك.(6/571)
(طلقت في الحال) (1) لما في ذلك من المعنى المقصود بالحلف (2) من الحث أو الكف، أو التأْكيد (3) (لا إن علقه) أي الطلاق (بطلوع الشمس ونحوه) كقدوم زيد، أو بمشيئتها (4) (لأنه) أي التعليق المذكور (شرط لا حلف) لعدم اشتماله على المعنى المقصود بالحلف (5) (و) من قال لزوجته (إن حلفت بطلاقك فأنت طالق (6) أو) قال لها (إن كلمتك فأنت طالق؛ وأعاده مرة أُخرى طلقت) طلقة (واحدة) (7) .
__________
(1) لوجود الحلف بطلاقها، واختار الشيخ العمل بعرف المتكلم وقصده.
(2) أي الحلف بالطلاق، لا مطلق الحلف، فإن حقيقة الحلف القسم، والحلف بالطلاق حقيقة تعليق، ليس حلفا حقيقة، وإنما عبر بالحلف لمشاركته القسم في المعنى المشهور، المتعارف كما ذكره من الحث ... إلخ.
(3) أشبه قوله: والله لأفعلن، أو لا أفعل، أو قد قدم زيد، أو لم يقدم، وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصح تسميته حلفا، وهذا مذهب الشافعي، وفي الإنصاف: والأصح أو تصديق خبر، أو تكذيبه، سوى تعليقه بمشيئتها، أو حيض، أو طهر، تطلق في الحال طلقة في مرة، ومن الأصحاب من لم يستثن غير هذه الثلاثة، ذكره الشيخ في مسمى اليمين، وأنه موجب نصوص أحمد وأصوله.
(4) أو مشيئة غيرها، كحيض، أو طهر، وكنزول المطر، والكسوف، وهبوب الريح، قبل وجوده، ونحو ذلك.
(5) فهو شرط محض، ليس بحلف، لأن حقيقة الحلف القسم.
(6) وأعاده مرة أخرى طلقت واحدة، لأنه حلف بطلاقها.
(7) لأنه كلمها، وقد علق طلاقها بكلامه لها.(6/572)
لأن إعادته حلف وكلام (1) (و) إن أعاده (مرتين فـ) ـطلقتان (ثنتان و) إن أعاده (ثلاثا فثلاث) طلقات (2) لأن كل مرة موجود فيها شرط الطلاق (3) وينعقد شرط طلقة أُخرى، ما لم يقصد إفهامها في: إن حلفت بطلاقك (4) وغير المدخول بها تبين بالأولى (5) ولا تنعقد يمينه الثانية، ولا الثالثة في مسألة الكلام (6) .
__________
(1) حلف في تعليق طلاقها بالحلف، وكلام في تعليق طلاقها بكلامه لها.
(2) إن كانت مدخولا بها.
(3) وهو الحلف بطلاقها.
(4) وإن ادعاه قبل ولم تطلق، بخلاف: إن كلمتك فأنت طالق؛ فإنها تطلق ولو ادعى إفهامها.
(5) أي غير المدخول بها تبين في مسألة الكلام بالأولى.
(6) لأنه بشروعه في الكلام تبين منه، فلا يحصل الجواب إلا وهي قد بانت منه، بخلاف الحلف، فإنها إذا بانت بالأولى انعقد شرط أخرى، فلو تزوجها بعد، ثم قال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق. طلقت بمجرده.(6/573)
فصل في تعليقه بالكلام (1)
(إذا قال) لزوجته (إن كلمتك فأنت طالق فتحققي (2) أو قال) زجرا لها: (تنحي؛ أو اسكتي؛ طلقت) اتصل ذلك بيمينه أولاً (3) وكذا لو سمعها تذكره بسوءٍ فقال: الكاذب عليه لعنة الله؛ ونحوه حنث، لأنه كلمها (4) ما لم ينو كلاما غير هذا، فعلى ما ينوي (5) .
__________
(1) أي في حكم تعليق الطلاق بالكلام.
(2) ذلك، أو قال: أعلمي ذلك. قاله متصلا بيمينه طلقت، هذا المذهب لأنه علق طلاقها على كلامها وقد وجد، إلا أن يريد بعد انفصال كلامي هذا. فلا يقع بالمتصل.
(3) أو: إن قمت فأنت طالق؛ طلقت، جزم به المجد وغيره، وصححه في النظم، وقال الموفق: يحتمل أن لا يحنث بالكلام المتصل بيمينه، لأن إتيانه به يدل على إرادته الكلام المنفصل عليها، وصوبه في الإنصاف.
(4) نص عليه، ولو جامعها ولم يكلمها لم يحنث، إلا أن تكون نيته هجرانها.
(5) في جميع ما تقدم، مثل أن ينوي محادثتها، أو الاجتماع بها ونحوه، وقال ابن القيم: إذا قال: أنت طالق لا كلمتك؛ وأعاده مرة أخرى، فإن أراد إفهامها بالثاني لم يقع، وإن قصد الابتداء وقع، وهو الصواب.(6/574)
(و) من قال لزوجته (إن بدأْتك بكلام فأنت طالق فقالت) له (إن بدأتك به) أي بكلام (فعبدي حر؛ انحلت يمينه) (1) لأنها كلمته أولاً، فلم يكن كلامه لها بعد ذلك ابتداء (ما لم ينو عدم البداءة في مجلس آخر) فإن نوى ذلك فعلى ما نوى (2) ثم إن بدأته بكلام عتق عبدها (3) وإن بدأها به انحلت يمينها (4) وإن قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق؛ فكلمته حنث، ولو لم يسمع زيد كلامها لغفلة، أو شغل، ونحوه (5) أو كان مجنونا، أو سكرانا، أو أصم يسمع لولا المانع (6) .
__________
(1) هذا المذهب، قال في الفروع: انحلت يمينه؛ قال في الإنصاف: وهذا احتمال للمصنف، وهو قوي جدًا.
(2) ولا تنحل يمينه بذلك الكلام لها، وتبقى يمينها معلقة.
(3) لوجود الصفة.
(4) أي وإن بدأها بالكلام بعد قولها: إن بدأتك به فعبدي حر؛ انحلت يمينها، وحنث هو، لما تقدم.
(5) كخفض صوتها، أو صياح، وكانت منه بحيث لو رفعت صوتها سمعها المحلوف عليه.
(6) حنث، اختاره وقدمه جمع، لأن الطلاق معلق على الكلام، وقد وجد، وكذا إن كلمت صبيا وكان يسمع، وهو يعلم أنه مكلم، حنث الحالف، لوجود الكلام.(6/575)
وكذا لو كاتبته، أو راسلته، إن لم ينو مشافهتها (1) وكذا لو كلمت غيره وزيد يسمع، تقصده بالكلام (2) لا إن كلمته ميتا، أو غائبًا، أو مغمى عليه، أو نائمًا (3) أو وهي مجنونة أو أشارت إليه (4) .
__________
(1) أي وكمثل، إن كلمت زيدا فأنت طالق. لو كاتبت زيدا، أو راسلته حنث، إن لم يعلق الطلاق على مشافهتها له بالكلام، لأن ذلك كلام، لقوله {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} ولأن ظاهر يمينه هجرانها لزيد، ولا يحصل مع مواصلته بالكتابة والمراسلة.
(2) حنث لأنها قصدته، وأسمعته كلامها، أشبه ما لو خاطبته، وفي الإقناع لو حلف ليكلمن زيدا، لم يبرأ بمكاتبته ولا مراسلته، لأن ذلك ليس كلامًا حقيقة. فما الفرق؟
(3) لأن التكليم فعل يتعدى إلى المتكلم، فلا يكون إلا في حال يمكنه الاستماع فيها، وقال الموفق وغيره: إذا كان الأصم والسكران ونحوهما لا يعلم واحد منهم أنها تكلمه، لم يحنث، وكذا المجنون إن لم يسمع.
(4) أي أو كلمت زيدا وهي مجنونة، فلا حنث عليها، لأنه لا قصد لها، أو أشارت إليه، لأن الإشارة ليست كلاما شرعًا.(6/576)
فصل في تعليقه بالإذن (1)
(إذا قال) لزوجته: (إن خرجت بغير إذني (2) أو) إن خرجت (إلا بإذني، أو) إن خرجت (حتى آذن لك (3) . أو) قال لها (إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق (4) فخرجت مرة بإذنه ثم خرجت بغير إذنه) طلقت لوجود الصفة (5) .
__________
(1) أي في تعليق الطلاق بالإذن، منه أو من غيره، بالخروج أو نحوه.
(2) أي فأنت طالق؛ طلقت إن خرجت.
(3) فخرجت طلقت، لوجود الصفة.
(4) طلقت إن خرجت لغير الحمام، لأن «خرجت» نكرة في سياق الشرط وهي تقتضي العموم، فصدق أنها خرجت بغير إذنه؛ ولم تطلق إن خرجت ثانيًا، لأن "إن" لا تقتضي التكرار، فإن نوى الإذن مرة، أو قاله بلفظه، لم يحنث، وأما إن قال: إن خرجت مرة بغير إذني، فأنت مطالق؛ ثم أذن لها في الخروج، ثم خرجت بغير إذنه، حنث، لأن خروجها إذًا، غير مأذون فيه، وهو محلوف عليه، أشبه ما لو خرجت ابتداء، بغير إذنه، وإن أذن لها في الخروج، ثم نهاها ثم خرجت، ولم يأذن بعد نهيه، طلقت، لخروجها بعد نهيها بلا إذنه، لأن هذا الخروج، بمنزلة خروج ثان.
(5) وهو فيما إذا قال: إن خرجت بغير إذني، أو إلا بإذني، أو حتى آذن لك، فأنت طالق، ثم أذن لها.(6/577)
(أو أذن لها) في الخروج (ولم تعلم) بالإذن وخرجت طلقت، لأن الإذن هو الإعلام ولم يعلمها (1) (أو خرجت) من قال لها: إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق (تريد الحمام وغيره) أو عدلت منه إلى غيره (طلقت في الكل) (2) لأنها إذا خرجت للحمام وغيره، فقد صدق عليها أنها خرجت إلى غير الحمام (3) (لا إن أذن) لها (فيه) أي في الخروج (كلما شاءت) فلا يحنث بخروجها بعد ذلك، لوجود الإذن (4) (أو قال) لها: إن خرجت (إلا بإذن زيد؛ فمات زيد، ثم خرجت) فلا حنث عليه (5) .
__________
(1) ولأنها قصدت بالخروج، مخالفته وعصيانه؛ أو أذن لها وعلمت، وخرجت، ثم خرجت ثانيًا بلا إذنه، طلقت، لخروجها بلا إذنه.
(2) من أمثلة ما تقدم، وظاهر يمينه: المنع من غير الحمام، فكيفما سارت إليه حنث، كما لو خالفت لفظه.
(3) سواء عدلت إلى الحمام، أو لم تعدل، لأنها خرجت إلى غير الحمام، بغير إذنه؛ قال الشيخ: وإن قال إن عصيت أمري فأنت طالق، ثم أمرها بشيء أمرًا مطلقًا، فخالفته، حنث؛ وإن تركته ناسية، أو جاهلة، أو عاجزة، ينبغي أن لا يحنث، لأن هذا الترك، ليس عصيانًا، قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وقال صلى الله عليه وسلم «إن الله تجاوز لأمتي، عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» واختاره في غير موضع.
(4) فلا تطلق في شيء مما تقدم، للإذن العام، ما لم يجدد حلفًا، أو ينهاها.
(5) قال في الإنصاف وغيره: على الصحيح من المذهب؛ وحنثه القاضي، وجعل المستثنى مخلوفًا عليه؛ وجزم به في الرعاية، فالله أعلم.(6/578)
فصل في تعليقه بالمشيئة (1)
(إذا علقه) أي الطلاق (بمشيئتها "بإن" أو غيرها من الحروف) (2) أي الأدوات، كإذا، ومتى، ومهما (3) (لم تطلق حتى تشاء) (4) فإذا شاءت طلقت (5) (ولو تراخى) وجود المشيئة منها كسائر التعاليق (6) فإن قيد المشيئة بوقت كإن شئت اليوم فأنت طالق؛ تقيدت به (7) .
__________
(1) أي في حكم تعليق الطلاق، بالمشيئة منها أو غيرها.
(2) حملا على الغالب، ولهذا عبر الشارح بالأدوات.
(3) وكـ"من" بفتح الميم "وأي" و"كلما"، وغيرها مما تقدم وغيره، كأن يقول: أنت طالق إن شئت، أو إذا شئت، أو متى شئت؛ أو كلما شئت، أو كيف شئت، أو حيث شئت؛ أو أنى شئت.
(4) هي، إن علق الطلاق بمشيئتها، أو غيرها، ممن علق طلاقها بمشيئته.
(5) أي فإذا قالت: قد شئت. بلفظها لا بقلبها، لأن ما في القلب لا يعلم حتى يعبر عنه اللسان، فيعلق الحكم به دون ما في القلب، وسواء شاءت راضية أو كارهة، لوجود المشيئة، لا مكرهة، لأن فعل المكره ملغى.
(6) هذا المذهب، ويحتمل أن يقف على المجلس، كالاختيار، ولو رجع قبل مشيئتها، لم يصح رجوعه، على الصحيح من المذهب، كبقية التعاليق.
(7) أي تقيدت المشيئة بذلك الوقت، فلا يقع بمشيئتها بعده.(6/579)
(فإن قالت) من قال لها: إن شئت فأنت طالق (قد شئت إن شئت؛ فشاء لم تطلق) (1) وكذا إن قالت: قد شئت إن طلعت الشمس؛ ونحوه، لأن المشيئة أمر خفي، لا يصح تعليقه على شرط (2) (وإن قال) لزوجته: (إن شئت وشاء أبوك) فأنت طالق (3) (أو) قال: إن شئت وشاء (زيد) فأنت طالق (لم يقع) الطلاق (حتى يشاءا معا) أي: جميعا (4) فإذا شاءا وقع (5) ولو شاء أحدهما على الفور، والآخر على التراخي، لأن المشيئة قد وجدت منهما (6) .
__________
(1) نص عليه، وذكره الموفق قول سائر أهل العلم، ونقل ابن المنذر الإجماع عليه، لأنه لم يوجد منها مشيئة، وإنما وجد منها تعليق مشيئتها بشرط، وليس بمشيئة.
(2) ووجه الملازمة: إذا صح التعليق.
(3) لم تطلق حتى يشاءا، هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وجزم به الموفق وغيره، وقيل: بمشيئة أحدهما، واستبعده في الإنصاف.
(4) أو قال لها: أنت طالق إن شاء زيد وعمرو؛ لم تطلق حتى يشاءا.
(5) أي إذا شاءت، وشاء زيد؛ قولاً، لا نية فقط، وقع الطلاق المعلق، لوجود الصفة.
(6) أي جميعا لفظا، ولو تأخرت مشيئة أحدهما عن الآخر.(6/580)
(وإن شاء أحدهما) وحده (فلا) حنث، لعدم وجود الصفة وهي مشيئتهما (1) (و) إن قال لزوجته: (أنت طالق) إن شاء الله (أو) قال (عبدي حر إن شاء الله) أو إلا أن يشاء الله أو ما لم يشأ الله، ونحوه (2) (وقعا) أي الطلاق والعتق، لأنه تعليق على ما لا سبيل إلى علمه، فبطل (3) كما لو علقه على شيء من المستحيلات (4) .
__________
(1) جميعًا، لأن الصفة مشيئتهما، فلا تطلق بمشيئة أحدهما، لعدم وجود الشرط.
(2) كإن لم يشأ الله.
(3) وطلقت، وعتق العبد، لما روي عن ابن عباس: إذا قال أنت طالق، إن شاء الله؛ فهي طالق. اهـ. وهو المذهب؛ وروى ابن عمر وأبو سعيد، قال: كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نرى الاستثناء جائزًا في كل شيء، إلا في الطلاق، والعتاق. ذكره أبو الخطاب، وقال الموفق: هذا نقل للإجماع؛ ولتضاد الشرط والجزاء، فلغى تعليقه.
(4) فطلقت، ولم تنفعه المشيئة من غير تفصيل، كقوله: أنت طالق إن لم تصعدي السماء، ونحوه، فكل شرط مغيب، لا يدرك، يقع الطلاق المعلق به؛ وعن أحمد: ما يدل على أن الطلاق لا يقع؛ وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، لأنه علقه على مشيئة لم يعلم وجودها. وقال الشيخ: لا يقع به الطلاق عند أكثر العلماء؛ وإن قصد أنه يقع به الطلاق، وقال إن شاء الله تثبيتًا لذلك، وتأكيدًا لإيقاعه، وقع عند أكثر العلماء؛ وهذا هو الصواب. وقال أيضًا: معناه: هي طالق، إن شاء الله الطلاق بعد هذا، والله لا يشاؤه، إلا بتكلمه بعد ذلك.
وقال: فإذا طلق بعد ذلك، فقد شاء الله وقوع طلاقها حينئذ، وكذا إن
قصد بقوله «إن شاء الله» أن يقع هذا الطلاق الآن، فإنه يكون معلقًا أيضًا على المشيئة، فإذا شاء الله وقوعه فيقع حينئذ، ولا يشاء الله وقوعه، حتى يوقعه هو ثانيًا.(6/581)
(و) من قال لزوجته: (إن دخلت الدار فأَنت طالق إن شاء الله؛ طلقت إن دخلت) الدار لما تقدم (1) إن لم ينو رد المشيئة إلى الفعل (2) فإن نواه لم تطلق، دخلت أو لم تدخل، لأن الطلاق إذًا يمين، إذ هو تعليق على ما يمكن فعله وتركه، فيدخل تحت عموم حديث «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله؛ فلا حنث عليه» رواه الترمذي وغيره (3) .
__________
(1) أي من قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق. طلقت إن دخلت، وكذا أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء الله. وفي التصحيح: لا تطلق من حيث الدليل، قال: وهو قول محققي الأصحاب، وهو ظاهر كلام الشيخ المتقدم.
(2) أي فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله فإذا قال: أنت طالق لتدخلن الدار إن شاء الله. لم تطلق، دخلت أو لم تدخل، لأنها إن دخلت فقد فعلت المحلوف عليه، فإن لم تدخل علمنا أن الله لم يشأ دخولها، لأنه لو شاءه لوجد.
(3) فرواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، من حديث ابن عمر، وللترمذي أيضًا، وابن ماجه من حديث أبي هريرة «من حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث» وقال «فله ثنياه» وتعليق الطلاق إن كان تعليقًا محضًا، ليس فيه تحقيق خبر، ولا حض على فعل، كقوله: إن طلعت الشمس. فهذا يفيد فيه الاستثناء، وتوقيته بحادث، يتعلق بالطلاق معه غرض، كإن مات أبوك فأنت طالق، أو إن مات أبي فأنت طالق؛ فقياس المذهب أن الاستثناء لا يؤثر في مثل هذا، فإنه
لا يحلف عليه بالله، والطلاق فرع اليمين بالله، وإن كان المحلوف عليه، أو الشرط خبرا عن مستقبل، لا طلبا، كقوله: ليقدمن الحاج. فكاليمين، ينفع فيه الاستثناء وإن كان الشرط أمرًا عدميا، كإن لم أفعل كذا فأنت طالق إن شاء الله. فينبغي أن يكون كالثبوت في اليمين بالله.(6/582)
(و) إن قال لزوجته: (أنت طالق لرضى زيد، أو) أنت طالق (لمشيئته طلقت في الحال) لأن معناه: أنت طالق لكون زيد رضي بطلاقك (1) أو لكونه شاء طلاقك (2) بخلاف: أنت طالق لقدوم زيد. ونحوه (3) (فإن قال: أردت) بقولي: لرضى زيد؛ أو لمشيئته (الشرط) أي تعليق الطلاق على المشيئة أو الرضى (قبل حكما) (4) .
__________
(1) قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه. وكذا: أنت طالق لقيامك؛ أو سوء خلقك. يقع في الحال، لأنه إيقاع معلل بعلة، قال وإن قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، فمات، أو جن، طلقت بلا نزاع.
(2) لكون اللام للتعليل، ولا يقع إلا بمشيئتة إذا لم ينو غيره، ويتوجه أن تعود المشيئة إليهما جميعا، وإما مطلقا، بحيث لو شاء أحدهما وقع ما شاء، حكاه في الاختيارات، وقال القاضي: أنت طالق إن لم يشأ زيد؛ قد علق الطلاق بصفة، هي عدم المشيئة، فمتى لم يشأ وقع، لوجود شرطه، وقال الشيخ: القياس إنها لا تطلق حتى تفوت المشيئة، إلا أن تكون نية، أو قرينة تقتضي الفورية.
(3) كأنت طالق لغد أو لحيضتك. وهي طاهرة، لم تطلق حتى يأتي الغد أو حتى تحيض.
(4) عند الجمهور، من الأصحاب وغيرهم.(6/583)
لأن لفظه يحتمله، لأن ذلك يستعمل للشرط (1) وحينئذ لم تطلق حتى يرضى زيد أو يشاء (2) ولو مميزا يعقلها أو سكران (3) أو بإشارة مفهومة من أخرس (4) لا إن مات، أو غاب، أو جن قبلها (5) (و) من قال لزوجته: (أنت طالق إن رأيت الهلال (6) فإن نوى) حقيقة (رؤيتها) أي معاينتها إياه (لم تطلق حتى تراه) (7) .
__________
(1) ولأن اللام وإن كانت للتعليل، لكنها في هذا المقام، الظاهر فيها الشرط، فحملناها عليه.
(2) أي حتى يرضى زيد؛ في مثال تعليق الطلاق برضاه، أو حتى يشاء؛ في مثال تعليق الطلاق بمشيئته.
(3) مراده إذا كان آثما بسكره، ووجهه أنه حينئذ مؤاخذ بأقواله، وأفعاله، فإذا شاء مع سكره الآثم، وقع الطلاق به تغليظًا، ورده الموفق، والشارح، بأنه غير عاص، وهذا واضح، وتقدم.
(4) فوقع الطلاق لصحته ممن ذكر، هذا المذهب في الجملة.
(5) أي المشيئة، وعليه الجمهور، لأن الشرط لم يوجد، وبعد عقد الحلف لم يقع الطلاق، لفوات شرطه، ولو قال: إلا أن يشاء زيد أو غيره؛ فمات، أو جن أو أبى المشيئة وقع، قال في الإنصاف: بلا نزاع، لأنه أوقع الطلاق، وعلق رفعه بشرط لم يوجد.
(6) أو عند رأسه؛ طلقت إن رؤي الهلال، أو تمت العدة بتمام الشهر، لأن رؤيته في الشرع عبارة عما يعلم به دخوله، لقوله «صوموا لرؤيته» .
(7) هلالا، قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه، ويدين بلا نزاع.(6/584)
ويقبل منه ذلك حكما، لأن لفظه يحتمله (1) (وإلا) ينو حقيقة رؤيتها (طلقت بعد الغروب برؤية غيرها) (2) وكذا بتمام العدة (3) إن لم ينو العيان (4) لأن رؤية الهلال – في عرف الشرع – العلم في أول الشهر، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا» (5) .
__________
(1) هذا الصحيح من المذهب، وجزم به الموفق وغيره، ويقبل قوله في ذلك، لأنها رؤية حقيقة.
(2) وهو مذهب الشافعي، قال الموفق وغيره: ويحتمل أن تطلق برؤيته قبل الغروب، لأنه يسمى رؤية، والحكم متعلق به في الشهر.
(3) ثلاثين يوما، لأنه قد علم طلوعه.
(4) بكسر العين، مصدر "عاين" أي نوى معاينة، وهي رؤيته بحاسة البصر، فلا تطلق حتى تراه وهو هلال.
(5) وقوله «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» ونحو ذلك، والمراد به رؤية البعض، وحصول العلم، فانصرف لفظ الحالف إلى عرف الشرع، وإن قال: إن رأيت زيدا فأنت طالق؛ فرأته حيا، أو ميتا، أو في ماء، أو زجاج شفاف طلقت، إلا مع نية أو قرينة، وإن رأت خياله في مرآة، أو ماء فلا، وفي مجالستها وهي عمياء وجهان، ولو قال: إن كانت امرأتي في السوق فعبدي حر. ثم قال: إن كان عبدي في السوق فامرأتي طالق. وكانا في السوق عتق ولم تطلق، لأن العبد عتق باللفظ الأول.(6/585)
فصل في مسائل متفرقة (1)
(وإن حلف لا يدخل دارا، أو لا يخرج منها، فأدخل) الدار بعض جسده (2) (أو أخرج) منها (بعض جسده) لم يحنث، لعدم وجود الصفة (3) إذ البعض لا يكون كلا، كما أن الكل لا يكون بعضا (4) (أو دخل) من حلف لا يدخل الدار (طاق الباب) لم يحنث، لأنه لم يدخلها بجملته (5) .
__________
(1) أي متنوعة، من تعليق الطلاق بالشروط.
(2) لم يحنث، لأنه لم يدخلها بجملته، نص عليه فيمن حلف على امرأته: لا تدخل بيت أختها؛ لم تطلق حتى تدخل كلها، ألا ترى أن عوف بن مالك قال: كلّي أو بعضي.
(3) ومن حلف لا يفعل شيئًا، ولا نية، ولا سبب، ولا قرينة، ففعل بعضه لم يحنث.
(4) ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه وهو معتكف إلى عائشة، فترجله وهي حائض، والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد.
(5) هذا المذهب، وقدمه الموفق وغيره، وعنه: يحنث إلا أن ينوي بجملته، وحكي عن مالك، واختاره الخرقي، لأن اليمين تقتضي المنع من تخلف فعل المحلوف عليه، فاقتضت المنع من فعل شيء منه، فمن أدخل بعضه لم يكن تاركًا لما حلف عليه، فكان مخالفًا، كالنهي عن الدخول، والخلاف إنما هو في اليمين المطلقة، فأما إن نوى الجملة أو البعض، فيمينه على ما نوى، وكذا إن اقترنت به قرينة تقتضي أحد الأمرين، تعلقت يمينه به.(6/586)
(أو) حلف (لا يلبس ثوبا من غزلها، فلبس ثوبا فيه منه) أي من غزلها لم يحنث، لأنه لم يلبس ثوبا كله من غزلها (1) (أو) حلف (لا يشرب ماء هذا الإناء، فشرب بعضه لم يحنث) لأنه لم يشرب ماءه، وإنما شرب بعضه (2) بخلاف ما لو حلف لا يشرب ماء هذا النهر، فشرب بعضه فإنه يحنث (3) لأن شرب جميعه ممتنع، فلا تنصرف إليه يمينه (4) وكذا لو حلف لا يأْكل الخبز، أو لا يشرب الماء، فيحنث ببعضه (5) (وإن فعل المحلوف عليه) مكرها (6) .
__________
(1) بخلاف ما لو حلف لا يلبس من غزلها، فلبس ثوبًا فيه منه، حنث، لأنه من غزلها.
(2) وقال الموفق في نحوها: يخرج على الروايتين أنه يحنث، إلا أن ينوي جميعه.
(3) قال الموفق: وجها واحدا.
(4) فحنث بشرب البعض.
(5) أي بأكل أو شرب البعض، وكذا نحوه مما علق على اسم جنس، أو على اسم جمع، وغالب هذا الفصل بني على قاعدة أصولية، وهي أن من حلف بالطلاق ليفعلن شيئًا، لم يبر حتى يفعل جميعه، قال الشيخ: ولو طلق لا شاركت فلانا ففسخا الشركة، وبقيت بينهما ديون مشتركة، أو أعيان مشتركة، انحلت يمينه بانفساخ عقد الشركة.
(6) لم يحنث، لعدم إضافة الفعل إليه.(6/587)
أو مجنونا، أو مغمى عليه، أو نائمًا لم يحنث مطلقًا (1) . و (ناسيا، أو جاهلا، حنث في طلاق وعتاق فقط) (2) لأنهما حق آدمي، فاستوى فيهما العمد، والنسيان، والخطأ كالإتلاف (3) بخلاف اليمين بالله سبحانه وتعالى (4) .
__________
(1) أي لم يحنث في طلاق، وعتاق، ويمين بالله، كما هو مفهوم من قيد لاحق، وذلك لكونه مغطى على عقله في هذه الأحوال.
(2) أي وإن فعل المحلوف عليه ناسيا، أو جاهلاً وجود الحنث بفعله، أو ناسيًا أو جاهلاً أنه الفعل المحلوف عليه، كمن حلف لا يدخل دار زيد، ثم دخلها ناسيا، أو جاهلاً أنها داره، حنث في طلاق وعتاق فقط، لوجود شرطهما، وإن لم يقصده.
(3) أي كما يستوي في الإتلاف العمد، والنسيان، والخطأ، هذا المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وعنه: لا يحنث في الجميع، بل يمينه باقية، واختاره الشيخ وغيره، واستظهره في الفروع، وصوبه في الإنصاف، لقوله تعالى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وقوله صلى الله عليه وسلم «عفي لأمتي الخطأ والنسيان» وفي لفظ «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» .
قال الشيخ: ويدخل في هذا من فعله متأولاً، إما تقليدًا لمن أفتاه، أو مقلدًا لعالم ميت مصيبًا كان أو مخطئًا، ويدخل في هذا إذا خالع، وفعل المحلوف عليه معتقدًا أن الفعل بعد الخلع لم تتناوله يمينه، أو فعل المحلوف معتقدًا زوال النكاح، ولم يكن كذلك.
(4) فلا يحنث فيها مع الجهل والنسيان، لأن الكفارة تجب لدفع الإثم، ولا إثم إذا.(6/588)
وكذا لو عقدها يظن صدق نفسه (1) فبان خلاف ظنه، يحنث في طلاق وعتاق، دون يمين بالله تعالى (2) (وإن فعل بعضه) أي بعض ما حلف لا يفعله (لم يحنث إلا أن ينويه) أو تدل عليه قرينة (3) كما تقدم فيمن حلف لا يشرب ماء هذا النهر (4) (وإن حلف) بطلاق أو غيره (ليفعلنه) أي شيئا عينه (لم يبرأْ إلا بفعله كله) (5) فمن حلف ليأْكلن هذا الرغيف، لم يبرأْ حتى يأْكله كله (6) .
__________
(1) كما لو حلف: ما فعلت كذا. ظانًا أنه لم يفعله.
(2) هذا المذهب عند الأكثر، وعنه: لا يحنث. واستظهره في الفروع، وصوبه في الإنصاف، وقال الشيخ: رواتها بقدر رواة التفريق، وهو أظهر قولي الشافعي، وقال الشيخ: لو حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه، فتبين بخلافه، فهذه المسألة أولى بعدم الحنث، من مسألة المحلوف عليه ناسيًا أو جاهلاً، وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا حلف بالطلاق يحنث قولا واحدًا، وهذا خطأ بل الخلاف في مذهب أحمد.
(3) أي فإنه يحنث.
(4) فشرب بعضه، فإنه يحنث لما علله به.
(5) قال الموفق: لا يختلف المذهب في ذلك، ولا نعلم بين أهل العلم فيه خلافًا. اهـ. لأن ذلك حقيقة اللفظ، ولأن مطلوبه تحصيل الفعل، وهو كالأمر، ولو أمره الله بشيء لم يخرج من العهدة إلا بفعل جميعه، فكذا هنا.
(6) أو حلف ليدخلن الدار، لم يبرأ إلا بدخول جملته فيها.(6/589)
لأن اليمين تناولت فعل الجميع، فلم يبرأ إلا بفعله (1) وإن تركه مكرها، أو ناسيا لم يحنث (2) ومن يمتنع بيمينه، كزوجة وقرابة، إذا قصد منعه كنفسه (3) ومن حلف: لا يأْكل طعاما طبخه زيد؛ فأَكل طعاما طبخه زيد وغيره حنث (4) .
__________
(1) ولأن اليمين في فعل شيء، إخبار بفعله في المستقبل، مؤكد بالقسم، والخبر بفعل شيء يقتضي فعله كله.
(2) لعدم إضافة الفعل إليه، وعفو الشارع عن الناسي، وصوبه في تصحيح الفروع، وقطع به في التنقيح، والمنتهى.
(3) أي في الجهل، والنسيان، والإكراه، فمن حلف على زوجته أو نحوها لا تدخل دارا، فدخلتها مكرهة، لم يحنث مطلقا، وإن دخلتها جاهلة، أو ناسية، فلا يحنث في غير طلاق وعتاق، وإن حلف على غيره ليفعلن كذا، أو لا يفعلنه، فخالف حنث الحالف، وقال الشيخ: لا يحنث إن قصد إكرامه، لا إلزامه به، أي بالمحلوف عليه، لأن الإكرام قد حصل.
وقال: من حلف على ابن أخت زوجته أن لا يعمل عند إنسان لكونه يظلمه، ثم بلغ الصبي، فأجر نفسه لذلك الرجل، لم يحنث الحالف. اهـ. وإن لم يقصد منعه، بأن قال: إن قدمت بلد كذا فهي طالق، ولم يقصد منعها، فهو تعليق محض، يقع بقدومها كيف كان، كمن لا يمتنع بيمينه.
(4) لأن شركة غيره معه لا تمنع نسبته وإضافته إليه، لأنها تكون لأدنى ملابسة، إلا أن تكون له نية، والفرق أن لبس الثوب من غزلها ربما يتميز، والطبخ لا يتميز.(6/590)
باب التأويل في الحلف بالطلاق أو غيره (1)
(ومعناه) أي معنى التأويل (أن يريد بلفظه ما) أي معنى (يخالف ظاهره) أي ظاهر لفظه (2) كنيته بنسائه طوالق بناته ونحوهن (3) (فإذا حلف وتأول) في (يمينه نفعه) التأْويل فلا يحنث (4) (إلا أن يكون ظالما) بحلفه، فلا ينفعه التأْويل (5) .
__________
(1) كالعتاق، واليمين المكفرة، وبيان ما يجوز منه، وما لا يجوز، ولا يخلو من ثلاثة أحوال، إما أن يكون مظلومًا فله تأويله، أو ظالمًا فلا ينفعه، أو لا ظالمًا ولا مظلومًا، فله تأويله في الجملة ويأتي.
(2) وفي الفروع: يجوز التعريض في المخاطبة لغير ظالم بلا حاجة، اختاره الأكثر وقيل: لا؛ ذكره شيخنا، واختاره، لأنه تدليس كتدليس المبيع، ونص أحمد: لا يجوز التدليس مع اليمين، فلو حلف: لا يطأ نهار رمضان. ثم سافر ووطيء، قال: لا يعجبني. لأنه حيلة، ومن احتال بحيلة فهو حانث، وذكر ابن حامد وغيره أنه لا تجوز الحيلة في اليمين، وأنه لا يخرج منها إلا بما ورد به سمع، كنسيان، وإكراه، واستثناء، وأنه لا يجوز التحلل لإسقاط حكم اليمين، ولا تسقط، واستدلوا بلعن المحلل.
(3) كأخواته، وعماته، لم يحنث.
(4) في نحو ما تقدم.
(5) كالذي يستحلفه الحاكم على حق عنده، قال في المبدع وغيره: بغير خلاف نعلمه؛ وصارت يمينه منصرفة إلى ظاهر الذي عنى المستحلف.(6/591)
لقوله عليه الصلاة والسلام «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» رواه مسلم وغيره (1) (فإن حلفه ظالم: ما لزيد عندك شيء؛ وله) أَي لزيد (عنده) أي عند الحالف (وديعة بمكان فـ) ـحلف و (نوى غيره) أي غير مكانها، أو نوى غيرها (2) (أو) نوى (بما: الذي) لم يحنث (3) .
__________
(1) وفي لفظ «على نية المستحلف» فدل الحديث على أنه إذا حلف ظالما بحلفه يأثم، ولا ينفعه التأويل، قال ابن القيم: استعمال المعاريض، إذا كان المقصود به رفع ضرر غير مستحق، فهو جائز، وقد يكون واجبا، إذا تضمن رفع ضرر يجب دفعه، ولا يندفع إلا بذلك، والضابط أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام، لأنه كتمان وتدليس، وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز، بل واجب، إذا أمكن، وإن كان جائزًا فجائز. اهـ. وإن لم يكن ظالمًا ولا مظلومًا فقيل: ينفعه تأويله؛ اختاره الموفق وغيره، وقيل: لا؛ اختاره الشيخ، وقال: ظاهر كلام أحمد المنع من اليمين به.
(2) أو استثنى بقلبه، بأن يقول في نفسه: غير وديعة كذا؟ لم يحنث، لأنه صادق ولأبي داود عن سويد قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل، فأخذه عدو له فحلفت أنه أخي، فقال «كنت أبرهم وأصدقهم المسلم أخو المسلم» .
(3) أي أو نوى بـ"ما" الذي، أي الموصولة فكأنه قال: لفلان عندي وديعة. أو نوى بحلفه: ما لفلان عندي وديعة غير الوديعة التي عنده، ونحو ذلك، فإن لم يتأول، أثم، لكذبه، وحلفه عليه متعمدًا، وهو دون إثم إقراره بها، لعدم تعدي ضرره إلى غيره، بخلاف الإقرار، فإنه يتعدى ضرره لرب المال فتفوت عليه، ويكفر لحنثه إن كانت اليمين مكفرة.(6/592)
(أو حلف) من ليس ظالما بحلفه: (ما زيد ههنا؛ ونوى) مكانا (غير مكانه) (1) بأن أشار إلى غير مكانه لم يحنث (2) (أو حلف على امرأته: لا سرقت مني شيئًا (3) فخانته في وديعة ولم ينوها) أي لم ينو الخيانة بحلفه على السرقة (لم يحنث في الكل) (4) للتأْويل المذكور (5) ولأَن الخيانة ليست سرقة (6)
__________
(1) أو عين موضعًا ليس فيه، لم يحنث، لأنه صادق.
(2) وطرق رجل الباب على الإمام أحمد، فسأله عن المروذي، فقال: ليس ههنا؛ وأشار إلى راحته، وفي الإنصاف: إذا نفعه فينوي باللباس الليل، وبالفراش والبساط الأرض، والأوتاد الجبال، وبالسقف والبناء السماء، وبالأخوة أخوة الإسلام، وما ذكرت فلانا، أي ما قطعت مذاكيره، وما رأيته، ما ضربت رئته، وبنسائي طوالق، أي نسائي الأقارب منه، وبجواري أحرار، سفنه، وما كاتبت فلانا، مكاتبة الرقيق، وبما عرفته، ما جعلته عريفا، ونحو ذلك.
(3) أي: إن سرقت مني شيئًا فأنت طالق؛ مثلا.
(4) أي في كل أمثلة ما تقدم.
(5) وهو غير مكان الوديعة أو غيرها، أو بما الموصولة، أو غير مكان زيد، أو غير السرقة، ونحو ذلك.
(6) لعدم الحرز، قال الشيخ: ما يسأل عنه كثير، مثل أن يعتقد أن غيره أخذ ماله، فيحلف ليردنه، أو يقول: إن لم يرده فامرأتي طالق؛ ثم تبين أنه لم يأخذه، أو يقول: ليحضرن زيد؛ ثم يتبين موته، أو لتعطيني من الدراهم التي معك. ولا دراهم معه، وذلك لعلة لا يثبت الطلاق بدونها.
ثم هو قسمان، ما يتبين حصول غرضه بدون فعل المحلوف عليه، مثل إذا
ظن أنها سرقت له مالا، فيحلف لتردنه، فوجدها لم تسرقه، والثاني ما لم يحصل معه غرضه، مثل: لتعطيني من هذا الكيس. ثم يتبين أنه ليس فيه شيء، فالأول يظهر فيه جدًا أنه لا يحنث، لأن مقصوده: لتردنه إن كنت أخذته، والثاني وإن لم يحصل فيه غرضه، لكن لا غرض له مع وجود المحلوف عليه، فيصير كأنه لم يحلف عليه.(6/593)
فإن نوى بالسرقة الخيانة (1) أو كان سبب اليمين الذي هيجها الخيانة، حنث (2) .
__________
(1) حنث، لأن اللفظ صالح لأن يراد به ذلك.
(2) لأن السبب يقوم مقام النية، لدلالته عليها.(6/594)
باب الشك في الطلاق (1)
أي: التردد في وجود لفظه، أو عدده أو شرطه (2) (من شك في طلاق (3) أو) شك في (شرطه) أي شرط الطلاق الذي علق عليه (4) وجوديا كان أو عدميا (5) (لم يلزمه) الطلاق (6) .
__________
(1) الشك لغة: ضد اليقين، وعند الأصوليين: التردد بين أمرين لا مرجح لأحدهما على الآخر. واصطلاحا: تردد على السواء.
(2) أي الشك في الطلاق وغيره: هو التردد بين أمرين، لا ترجيح لأحدهما على الآخر؛ وهو هنا: مطلق التردد، بين وجود المشكوك فيه؛ من طلاق، أو عدده، أو شرطه، وعدمه؛ فيدخل فيه الظن، والوهم.
(3) لم تطلق بلا نزاع، لأن النكاح يقين فلا يزول بالشك، ولم يعارض يقين النكاح إلا شك محض، فلا يزول به النكاح، وهذا قول الجمهور.
(4) كأن يقول إذا دخلت الدار فأنت طالق، فيشك أنها دخلتها، فلا تطلق بمجرد الشك، على الصحيح من المذهب، وقيل يلزمه مع شرط عدمي، نحو لقد فعلت كذا، أو إن لم أفعله اليوم، فمضى وشك في فعله؛ وأفتى الشيخ: أنه لا يحنث، لأنه عاجز عن البر.
(5) كإن قام زيد فامرأتي طالق، أو إن لم يقم زيد اليوم، فامرأتي طالق.
(6) وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، والأصل فيه حديث «فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن» وحديث «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وحديث «لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» وغير ذلك.(6/595)
لأنه شك طرأ على يقين فلا يزيله؛ قال الموفق: والورع التزام الطلاق (1) (وإن) تيقن الطلاق و (شك في عدده فطلقة) عملا باليقين وطرحا للشك (2) (وتباح) المشكوك في طلاقها ثلاثا (له) أي للشاك، لأن الأصل عدم التحريم (3) . ويمنع من حلف لا يأْكل ثمرة معينة – أو نحوها اشتبهت بغيرها – من أكل ثمرة مما اشتبهت به (4) وإن لم نمنعه بذلك من الوطء (5) (فإذا قال لامرأتيه إحداكما طالق) ونوى معينة (طلقت المنوية) (6) لأنه عينها بنيته، فأَشبه ما لو
__________
(1) فإن كان المشكوك فيه رجعيا، راجعها إن كان مدخولا بها، وإلا جدد نكاحها، وإذا لم يطلقها فيقين نكاحها باق. وقال ابن القيم وغيره: الأولى استبقاء النكاح؛ بل يكره أو يحرم إيقاعه لأجل الشك، فإن الطلاق بغيض إلى الرحمن حبيب إلى الشيطان. وأيضًا النكاح دوامه آكد من ابتدائه.
(2) قال ابن القيم وغيره: ولو شك هل طلق واحدة أو ثلاثا؟ لم يقع ثلاثا، لأن النكاح متيقن، فلا يزول بالشك، وهو الصحيح، وقول الجمهور.
(3) فلا يزول بالشك، كسائر أحكام النكاح، ولأن النكاح باق حكمه، فأثبت الحل، كما لو شك هل طلق أو لا.
(4) فلو حلف بالطلاق، لا يأكل تمرة واحدة بعينها، فاشتبهت بثلاث تمرات مثلا، فله أكل ثلاث تمرات، ويبقى واحدة لا يأكلها، قد تكون هي المحلوف عليها.
(5) لاحتمال أن المأكول غيرها، ويقين النكاح ثابت، فلا يزول بالشك.
(6) قال في الإنصاف: بلا خلاف.(6/596)
عينها بلفظه (1) (وإلا) ينو معينة طلقت (من قرعت) (2) لأنه لا سبيل إلى معرفة المطلقة منهما عينا، فشرعت القرعة لأنها طريق شرعي، لإخراج المجهول (3) (كمن طلق إحداهما) أي إحدى زوجتيه (بائنا ونسيها) فيقرع بينهما لما تقدم (4) .
__________
(1) نص عليه، وذكره الموفق قولا واحدا، وجزم به غير واحد.
(2) قال علي رضي الله عنه -في رجل له أربع نسوة، طلق إحداهن ثم مات، لا يدري الشهود أيتهن طلق- أقرع بين الأربع، وأمسك منهن واحدة، ويقسم بينهن الميراث، ونحوه عن ابن عباس، قال الموفق: ولا مخالف لهما من الصحابة، وقال أحمد -في رجل له نسوة، طلق إحداهن، ولم تكن له نية في واحدة بعينها- يقرع بينهن، فأيتهن أصابتها القرعة فهي المطلقة؛ قال: والقرعة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء بها القرآن.
(3) جعلها الله طريقا إلى الحكم الشرعي في كتابه، وفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بها، وحكم بها، وكل قول غير هذا القول، فإن أصول الشرع وقواعده ترده، قال ابن القيم: فإن التعيين إذا لم يكن لنا سبيل إليه بالشرع، فوض إلى القضاء والقدر، وصار الحكم به شرعيا قدريا، شرعيا في فعل القرعة، قدريا فيما تخرج به، وذلك إلى الله، لا إلى المكلف، فلا أحسن من هذا، ولا أبلغ في موافقته شرع الله وقدره.
(4) من أنه لا سبيل إلى معرفة المطلقة منهما عينا ... إلخ. واختار الموفق: أن القرعة لا مدخل لها ههنا، وأن حديث علي في الميراث لا في الحل، وأنه لا يعلم بالقول بها في الحل من الصحابة قائلا، والقول الأول عليه أكثر الأصحاب، فالله أعلم. فإن أمكن إقامة البينة على ذلك، وشهدت أن المطلقة غير المخرجة بقرعة، ردت إليه، ولو تزوجت، أو حكم بقرعة، لأن حكم الحاكم لا يغير الشيء عن صفته باطنا.(6/597)
وتجب نفقتهما إلى القرعة (1) وإن مات أقرع ورثته (2) .
(وإن تبين) للزوج بأن ذكر (أن المطلقة) المعينة المنسية (غير التي قرعت (3) ردت إليه) أي الزوج، لأنها زوجته، لم يقع عليها منه طلاق بصريح ولا كناية (ما لم تتزوج) فلا ترد إليه، لأنه لا يقبل قوله في إبطال حق غيره (أو) ما لم (تكن القرعة بحاكم) لأن قرعته حكم فلا يرفعه الزوج (4) .
(وإن قال) لزوجته (إن كان هذا الطائر غرابا ففلانة) أي هند مثلا (طالق وإن كان حماما ففلانة) أي حفصة مثلا طالق.
(وجهل) الطائر (لم تطلقا) لاحتمال كون الطائر ليس غرابا ولا حماما (5) .
__________
(1) على القول بها، لأنهما محبوستان لأجله، وكل واحدة من حيث هي الأصل بقاء نكاحها، فلا تسقط نفقتها بالشك.
(2) بينهما، فمن قرعت لم ترث، وإن ماتتا أو إحداهما، وكان نوى المطلقة حلف لورثة الأخرى أنه لم ينوها وورثها، أو للحية ولم يرث الميتة، وإن لم ينو إحداهما، أقرع بينهما، كما سبق.
(3) بأن أخبر الزوج بذلك، أو تذكر من وقع بها الطلاق.
(4) بإخباره، ولا ينقض به حكم حاكم.
(5) ولأنه متيقن الحل، وشاك في الحنث، فلا يزول عن يقين النكاح بالشك
واختار ابن عقيل والشيخ وغيرهما: وقوع الطلاق؛ وجزم به في الروضة فيقرع؛ وذكره القاضي منصوص أحمد؛ وذكر بعض الأصحاب: احتمالا يقتضي وقوع الطلاق بهما؛ وقال الشيخ: وهو ظاهر كلام أحمد ومال إليه أبو عبيدة وغيره.
وقال الشيخ: كل موضع يكون فيه الشرط أمرا عدميا يتبين فيما بعد، مثل إن لم يقدم زيدٌ، أو وكل في طلاق زوجته، أو أنت طالق ليلة القدر، أو قبل موتي بشهر، أو إن كان الطائر غرابا فامرأتي طالق، وقال الآخر: إن لم يكن غرابا وطار ولم يعلم، يعتزل فيها حتى يتيقن.(6/598)
وإن قال: إن كان غرابا ففلانة طالق، وإلا ففلانة (1) ولم يعلم وقع بإحداهما، وتعين بقرعة (2) (وإن قال لزوجته وأجنبية اسمها هند إحداكما) طالق طلقت امرأته (أو) قال لهما (هند طالق طلقت امرأته) (3) لأنه لا يملك طلاق غيرها (4) وكذا لو قال لحماته -ولها بنات- بنتك طالق؛ طلقت زوجته (5) .
__________
(1) أي وإن لم يكن غرابا، ففلانة طالق.
(2) لأنه لا سبيل إلى معرفة المطلقة منهما عينا، فهما سواء، والقرعة طريق شرعي لإخراج المجهول، فشرعت القرعة، كالمبهمة والمنسية.
(3) أو قال: سلمى طالق، واسم امرأته والأجنبية سلمى، طلقت امرأته.
(4) ولأنه امرأته، هي محل طلاقه.
(5) لأن الأصل اعتبار كلام المكلف، دون إلغائه، فإذا أضافه إلى إحدى امرأتين، وإحداهما زوجته، أو إلى اسم، وزوجته مسماة بذلك، وجب صرفه إلى امرأته، لأنه لو لم يصرف إليها لوقع لغوا.(6/599)
(وإن قال أردت الأجنبية) دين (1) لاحتمال صدقه لأن لفظه يحتمله (2) و (لم يقبل) منه (حكما) لأنه خلاف الظاهر (3) (إلا بقرينة) دالة على إرادة الأجنبية، مثل أن يدفع بذلك ظالما، أو يتخلص به من مكروه، فيقبل لوجود دليله (4) . (وإن قال لمن ظنها زوجته، أنت طالق طلقت الزوجة) (5) لأن الاعتبار في الطلاق بالقصد دون الخطاب (6) (وكذا عكسها) بأن قال لمن ظنها أجنبية: أنت طالق؛ فبانت زوجته طلقت (7) لأنه واجهها بصريح الطلاق (8) .
__________
(1) أي وإن قال في المسألتين: أردت بالطلاق الأجنبية دين فيما بينه وبين الله.
(2) ولم تطلق امرأته، لأنه لم يصرح بطلاقها، ولا لفظ بما يقتضيه ولا نواه، فوجب بقاء نكاحها على ما كان عليه.
(3) وهذا فيما إذا ترافعا, وقال أحمد -في رجل له امرأتان، فقال: فلانة أنت طالق، فالتفت فإذا هي غير التي حلف عليها، قال- تطلق التي نوى.
(4) أي فيقبل منه حكما، لوجود دليله الصارف له إلى الأجنبية، فإن لم ينو زوجته، ولا الأجنبية طلقت زوجته.
(5) لأنه قصدها بلفظ الطلاق.
(6) هذا المذهب، وقال الشافعي: لا تطلق؛ وذكره الموفق وغيره: احتمالا لأنه خاطب بالطلاق غيرها، فلم يقع.
(7) جزم به في المنتهى، وقال في شرحه: على الأصح.
(8) كما لو علمها زوجته، ولا أثر لظنها أجنبية، لأنه لا يزيد على عدم إرادة الطلاق، وفي الإقناع: لا تطلق، ونصره في الشرح، وصححه في الاختيارات.(6/600)
باب الرجعة (1)
وهي: إعادة مطلقة غير بائن، إلى ما كانت عليه بغير عقد (2) ، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق دون الثلاث، والعبد دون اثنتين، أن لهما الرجعة في العدة. (3) (من طلق بلا عوض زوجته) بنكاح صحيح (4) .
__________
(1) قال الزهري: الرجعة بعد الطلاق أكثر ما يقال بالكسر، والفتح جائز، ويقال: جاءتني رجعة الكتاب، أي جوابه؛ قال الخلوتي: ولعله إنما قيلت بالكسر لكون المرتجعة باقية في حال الارتجاع بعد الطلاق، فهي كالرجعة والجلسة، وأما بالنظر إلى أنها فعل المرتجع من واحدة، فهي بالفتح، فلهذا اتفق الناس على الفتح؛ وقال الجوهري: الفتح أفصح. والرجعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
(2) أي بغير عقد نكاح، لقوله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} إلى قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، وقال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «مره فليراجعها» وطلق حفصة ثم راجعها.
(3) وحكاه الوزير وغيره: اتفاق أهل العلم أنه إذا طلق الحر زوجته ثلاثا، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وإذا طلق العبد اثنتين، لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
(4) احترازًا من النكاح الفاسد.(6/601)
(مدخولا بها أو مخلوا بها (1) دون ماله من العدد) بأن طلق حر دون ثلاث، وعبد دون ثنتين (فله) أي للمطلق حرا كان أو عبدا (2) ولوليه إذا كان مجنونا (رجعتها) ما دامت (في عدتها ولو كرهت) (3) لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (4) .
__________
(1) فله رجعتها، لأن غيرها لا عدة عليها، فلا تمكن رجعتها، هذا ظاهر كلام الخرقي؛ قال في الإنصاف: نص عليه؛ وهو المذهب، وعليه جماهير الأصحاب. وقال أبو بكر: لا رجعة بالخلوة من غير دخول، وهو قول أبي حنيفة، وجديدة قولي الشافعي، وأما المدخول بها يعني الموطوءة، فقولا واحدا.
(2) رجعتها، ما دامت في العدة، إجماعا.
(3) على الأصح، لأنها حق للمجنون، يخشى فواته بانقضاء العدة، فملك استيفاءه له كبقية حقوقه، وكذا الصبي، والمرتد أولى، فشرط المرتجع أهلية النكاح بنفسه، فخرج بالأهلية المرتد، وبنفسه الصبي والمجنون.
(4) أي أولى برجعتهن في حال العدة بوطئها، أو بلفظ: راجعت امرأتي؛ ونحوه، وإذا راجع فعليه أن يطأ عقب هذه الرجعة، إذا طلبت ذلك منه؛ إن أرادا إصلاحا؛ وقال بعضهم: لا يشترط أن يريدا إصلاحا، للدلالة الآية على التحضيض على الإصلاح، والمنع من الإضرار.
وقال الشيخ: لا يمكن من الرجعة إلا من أراد إصلاحا وإمساكا بمعروف، فلو طلق إذا ففي تحريمه الروايات، وقال: القرآن لا يدل على أنه لا يملكه، وأنه لو أوقعه لم يقع، كما لو طلق البائن؛ ومن قال: إن الشارع ملك الإنسان ما حرمه عليه فقد تناقض.(6/602)
وأما من طلق في نكاح فاسد (1) أو بعوض أو خالع (2) أو طلق قبل الدخول والخلوة فلا رجعة (3) بل يعتبر عقد بشروطه (4) ومن طلق نهاية عدده (5) لم تحل له حتى تنحك زوجا غيره (6) وتقدم ويأتي (7) .
__________
(1) فلا رجعة لكونها تبين بالطلاق، فلا تمكن رجعتها. وقال الشيخ من أخذ ينظر بعد الطلاق في صفة عقد النكاح فهو من المعتدين، فإنه يريد أن يستحل محارم الله، قبل الطلاق وبعده.
(2) فلا رجعة، لأن العوض في الطلاق إنما جعل لتفتدي به المرأة نفسها من الزوج، ولا يحصل ذلك مع ثبوت الرجعة.
(3) حيث لا عدة عليها، فلا يمكن رجعتها، فللرجعة أربعة شروط، الدخول والخلوة، وكون الطلاق عن نكاح صحيح، وكونه دون ما يملك، وكونه بلا عوض، فإذا وجدت هذه الشروط، كان له رجعتها ما دامت في العدة، لما تقدم وللإجماع، فإن فقد بعضها لم تصح.
(4) رضاهما، وولي، وشاهدين.
(5) بأن طلق الحر ثلاثا، والعبد اثنتين.
(6) إجماعا، لقوله تعالى: {فإن طلقها} يعني الثالثة {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} أي من بعد الثلاث، بل تحرم عليه {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أي حتى يطأها زوج آخر، في نكاح صحيح.
(7) أي تقدم في كتاب الطلاق، إذا طلق ثلاثا حرمت عليه، حتى تنكح زوجا غيره، ويأتي أيضًا في الفصل الأخير.(6/603)
وتحصل الرجعة (بلفظ راجعت امرأتي ونحوه) كارتجعتها، ورددتها، وأمسكتها، وأعدتها (1) و (لا) تصح الرجعة بلفظ (نكحتها ونحوه) كتزوجتها، لأن ذلك كناية والرجعة بلفظ (نكحتها ونحوه) كتزوجتها، لأن ذلك كناية (2) والرجعة: استباحة بضع مقصود؛ فلا تحصل بالكناية (3) (ويسن الإشهاد) على الرجعة، وليس شرطا فيها (4) لأنها لا تفتقر إلى قبول، فلم تفتقر إلى إشهاد (5) .
__________
(1) لأن أكثر هذه الألفاظ، ورد بها الكتاب والسنة، وألحق بها ما هو بمعناها فالرد والإمساك ورد بهما القرآن؛ والرجعة وردت بها السنة، واشتهر هذا الاسم فيما بين أهل العرف، وقد يكون لفظها هو الصريح، لاشتهاره دون غيره وقال يوسف: أعدتها كناية، فلا تحصل الرجعة بالكناية على المذهب، ونظر حصول الرجعة بقول: وأعدتها.
(2) أي في الرجعة.
(3) كالنكاح، وقيل تحصل الرجعة بنكحتها ونحوه؛ قال في الشرح: أومأ إليه أحمد، واختاره ابن حامد.
(4) وعليه جماهير الأصحاب، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، لما رواه أبو داود وغيره، عن عمران بن حصين أنه قال -لمن طلق ثم يراجع ولا يشهد- طلقت لغير السنة، وراجعت لغير السنة، أشهد على طلاقها ورجعتها، ولا تعد؛ وزاد الطبراني: واستغفر الله.
(5) وهذا مذهب الجمهور، لوقوع الإجماع على عدم وجوبه في الطلاق، والرجعة قرينته، وعنه: يشترط لقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وظاهره الوجوب، فتأكد السنة.(6/604)
وجملة ذلك: أن الرجعة لا تفتقر إلى ولي، ولا صداق، ولا رضى المرأة، ولا علمها (1) ، (وهي) أي الرجعية (زوجة) يملك منها ما يملكه ممن لم يطلقها (2) و (لها) ما للزوجات، من نفقة وكسوة ومسكن (وعليها حكم الزوجات) من لزوم مسكن ونحوه (3) (لكن لا قسم لها) (4) فيصح أن تطلق وتلاعن ويلحقها ظهاره وإيلاؤه (5) ولها أن تتشرف له وتتزين (6) .
__________
(1) إجماعا: لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في العدة، ولأن حكم الرجعية حكم الزوجات، والرجعة إمساك، لقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ، وعن أحمد: يشترط لصحتها الإشهاد عليها؛ وقال: يفرق بينهما، ولا رجعة له عليها؛ وقال الشيخ: لا تصح الرجعة مع الكتمان بحال. وعليه: فتبطل إن أوصى الشهود بكتمانها، لما روي عن علي: أنه أمر بجلد الشاهدين واتهمهما، ولم يحصل له عليها رجعة.
(2) فيملك منها ما يملك من التي في صلب نكاحه.
(3) مما يجب على الزوجات في الجملة.
(4) صرح به الموفق وغيره؛ قال في الإقناع: ولعله مراد من أطلق؛ وفي الإنصاف: ظاهر قوله: والرجعية زوجة، أن لها القسم؛ وهو ظاهر كلام أكثر الأصحاب.
(5) ويرث كل منهما صاحبه إجماعا، وإن خالعها صح خلعه.
(6) أي ولها أن تتعرض لمطلقها دون الثلاث، وتريه نفسها، ولها أن تتزين له، كما تتزين النساء لأزواجهن، لإباحتها له.(6/605)
وله السفر والخلوة بها ووطؤها (1) (وتحصل الرجعة أيضا بوطئها) ولو لم ينو به الرجعة (2) (ولا تصح معلقة بشرط) كإذا جاء رأس الشهر فقد راجعتك (3) أو كلما طلقتك فقد راجعتك (4) بخلاف عكسه فيصح (5) .
(فإذا طهرت) المطلقة رجعيا (من الحيضة الثالثة، ولم تغتسل، فله رجعتها) (6) روي عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم (7) لوجود أثر الحيض، المانع للزوج من الوطء (8) .
__________
(1) لأنها في حكم الزوجات، كما قبل الطلاق.
(2) وظاهر الخرقي: لا تحصل إلا بالقول، وفاقا للشافعي، ومذهب مالك وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد تحصل بالوطء مع النية، فيبيح وطء الرجعية إذا قصد به الرجعة، وقال الشيخ: هذا أعدل الأقوال، وكلام ابن أبي موسى في الأصول يقتضيه.
(3) أو إن قدم أبوك فقد راجعتك، أو إن شئت فقد راجعتك.
(4) قال في الإنصاف بلا نزاع، لأن الرجعة استباحة فرج مقصود، أشبهت النكاح.
(5) أي بخلاف عكس تعليق الرجعة بشرط، كقوله كلما راجعتك فقد طلقتك فيصح التعليق، وتطلق كلما راجعها، لأنه طلاق معلق بصفة.
(6) حتى قيل قبل تمام الغسل، واختاره أبو الخطاب، قال الزركشي: وهو ظاهر كلام الخرقي وجماعة. وعنه: ليس له رجعتها بعد انقطاع الدم.
(7) وعن أبي بكر رضي الله عنه.
(8) كما يمنعه الحيض، ولم تبح للأزواج، وظاهره: ولو فرطت في الغسل
مدة طويلة، وإن أشهد على رجعتها، ولم تعلم حتى اعتدت، ونكحت من أصابها، ثم جاء وأقام بينة بذلك ردت إليه، لأن النكاح الثاني فاسد، ولا يطؤها إن أصابها الثاني حتى تعتد، وكذا لو لم يصبها الثاني، احتياطا للأنساب، وهذا الصحيح من المذهب، وقول أكثر الفقهاء.(6/606)
فإن اغتسلت من حيضة ثالثة، ولم يكن ارتجعها، لم تحل إلا بنكاح جديد (1) .
وأما بقية الأحكام من قطع الإرث (2) والطلاق، واللعان، والنفقة وغيرها (3) فتحصل بانقطاع الدم (4) .
(وإن فرغت عدتها قبل رجعتها (5) بانت وحرمت قبل عقد جديد) (6) بولي وشاهدي عدل (7) لمفهوم قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ
__________
(1) بشروطه، وتعود على ما بقي من طلاقها.
(2) فلا ترث إذا انقطع الدم، ولا تورث.
(3) من حقوق الزوجية.
(4) رواية واحدة، قاله القاضي والمجد، وغيرهما.
(5) أو طلقها قبل الدخول، والخلوة.
(6) وتعود على ما بقي من طلاقها، سواء رجعت بعد نكاح زوج غيره أو قبله، وطئها الثاني أو لم يطأها، وعليه أكثر العلماء.
(7) ورضاها، كما تقدم.(6/607)
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في العدة (1) .
(ومن طلق دون ما يملك) بأن طلق الحر واحدة أو ثنتين (2) أو طلق العبد واحدة (ثم راجع) المطلقة رجعيا (3) (أو تزوج) البائن (لم يملك) من الطلاق (أكثر مما بقي) من عدد طلاقه (4) (وطئها زوج غيره أو لا) (5) لأن وطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول، فلا يغير حكم الطلاق، كوطء السيد (6) .
__________
(1) فمفهوم الآية: أنها إذا فرغت عدتها لم تبح، إلا بعقد جديد بشرطه
وإن لم تثبت رجعته وأنكراه رد قوله، وإن صدقه الثاني بانت منه، وعليه مهرها إن دخل بها، ولا تسلم إلى المدعي، لأن قول الثاني لا يقبل عليها، بل في حق نفسه، والقول قولها، وإن صدقته لم تقبل على الثاني، لكن متى بانت منه عادت إلى الأول بلا عقد جديد.
(2) لم يملك من الطلاق أكثر مما بقي، اثنتين إن طلق واحدة، أو واحدة إن كان طلق اثنتين.
(3) لم يملك أكثر من طلقة ثانية.
(4) فمتى عادت إليه برجعة، أو نكاح جديد قبل زوج، لم يملك أكثر مما بقي له، إجماعًا.
(5) في قول أكابر الصحابة، منهم عمر وعلي.
(6) أي أمته، إذا طلقها زوجها، فإنه إذا زوج أمته، ثم طلقها زوجها ثلاثا، أو اثنتين، ثم استبرأها السيد ووطئها، فإنها لا تحل للزوج الذي طلقها بوطء سيدها، بل لا بد من وطء زوج آخر، لا يملك يمين.(6/608)
بخلاف المطلقة ثلاثا، إذا نكحت من أصابها، ثم فارقها، ثم عادت للأول، فإنها تعود على طلاق ثلاث (1)
__________
(1) إجماعا، فلا تخلو من أحد أحوال ثلاثة، أن يطلقها الحر دون الثلاث، أو العبد دون اثنتين، ثم تعود إليه برجعة، أو نكاح جديد قبل زوج ثان، فتعود إليه على ما بقي من طلاقها بلا خلاف. أو يطلقها ثلاثا فتنكح زوجا غيره، ويصيبها ثم يتزوجها الأول، فتعود بطلاق ثلاث إجماعا.
والثالث طلقها دون الثلاث، فقضت عدتها، ثم نكحت غيره، ثم تزوجها الأول، فروايتان؛ قال الموفق وغيره: أظهرها أنها تعود إليه على ما بقي من الثلاث، وهو قول الأكثر من الصحابة، ومالك والشافعي وغيرهم، والثانية عن أحمد، أنها ترجع إليه على طلاق ثلاث، وهو قول ابن عمر وغيره، والمذهب الأول، لما تقدم.(6/609)
فصل (1)
(وإن ادعت) المطلقة (انقضاء عدتها، في زمن يمكن انقضاؤها) أي عدتها (فيه (2) أو) ادعت انقضاء عدتها (بوضع الحمل الممكن وأنكره) أي أنكر المطلق انقضاء عدتها (فقولها) (3) لأنه أمر لا يعرف إلا من قبلها، فقبل، قولها فيه (4) (وإن ادعته) أي انقضاء العدة (الحرة بالحيض في أقل من تسعة وعشرين يوما ولحظة) (5)
__________
(1) في بيان حكم ما إذا ادعت انقضاء عدتها منه وإنكاره، وما يتعلق بذلك.
(2) فقولها: قال في الإنصاف بلا نزاع، ولا فرق بين المسلمة والكافرة والفاسقة، والصحيحة والمريضة، لأن ما يقبل قول الإنسان فيه على نفسه، لا يختلف باختلاف حاله، كإخباره عن نيته فيما تعتبر فيه، وإن لم يمكن انقضاء عدتها فيما ادعته، ومضى ما يمكن صدقها فيه، نظرنا، فإن بقيت على دعواها المردودة لم تسمع، وإن ادعت انقضاءها في المدة كلها، أو فيما يمكن، قبلت، وإن سبقها، فقال: ارتجعتك؛ فقالت: قد انقضت عدتي؛ فالقول قوله.
(3) بلا يمين، لقوله تعالى {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} وقيل هو الحيض والحمل، ولولا أن قولهن مقبول، لم يحرجن بكتمانه.
(4) كالنية من الإنسان، فيما تعتبر فيه النية، أو أمر لا يعرف إلا من جهته.
(5) اللحظة هنا لتحقيق انقطاع الدم، وحيث اعتبر الغسل اعتبر له لحظة أيضًا.(6/610)
أو ادعته أمة في أقل من خمسة عشر ولحظة (لم تسمع دعواها) (1) لأن ذلك أقل زمن يمكن انقضاء العدة فيه، فلا تسمع دعوى انقضائها فيما دونه (2) وإن ادعت انقضاءها في ذلك الزمن، قبل ببينة (3) وإلا فلا (4) لأن حيضها ثلاث مرات فيه، يندر جدا (5) (وإن بدأته) أي بدأت الرجعية مطلقها (فقالت: انقضت عدتي) وقد مضى ما يمكن انقضاؤها فيه (6) (فقال) المطلق (كنت راجعتك) فقولها، لأنها منكرة ودعواه للرجعة بعد انقضاء العدة، لا تقبل إلا
__________
(1) ولم يصغ إلى بينتها.
(2) لأنا نعلم كذبها، وإن مضى ما يمكن صدقها فيه، ثم ادعته، فإن بقيت على دعواها المردودة لم تقبل، وإن ادعت انقضاء عدتها في المدة كلها، أو فيما يمكن منها قبلت، وتقدم.
(3) نص عليه، لقول شريح؛ إذا ادعت أنها حاضت ثلاث حيض في شهر، وجاءت ببينة من النساء العدول، من بطانة أهلها، ممن يرضى دينه وعدالته، أنها رأت ما يحرم عليها الصلاة من الطمث، وتغتسل عند كل قرء وتصلي، فقد انقضت عدتها، وإلا فهي كاذبة.
(4) أي وإن لم تأت ببينة على انقضاء عدتها في ذلك، لم تقبل دعواها والمسلمة والكافرة في ذلك سواء.
(5) فلم يقبل قولها إلا ببينة، وإلا فلا، وإن ادعت انقضاء عدتها في أكثر من شهر، قبل بلا بينة، لعدم ندرة ذلك.
(6) كأكثر من شهر.(6/611)
ببينة أنه كان راجعها قبل (1) وكذا لو تداعيا معا (2) ومتى رجعت قبل، كجحد أحدهما النكاح ثم يعترف به (3) (أو بدأها به) أي بدأ الزوج بقوله: كنت راجعتك؛ (فأنكرته) وقالت: انقضت عدتي قبل رجعتك (فقولها) قاله الخرقي (4) . قال في الواضح -في الدعاوى- نص عليه (5) وجزم به أبو الفرج الشيرازي (6) وصاحب المنور (7) .
__________
(1) وخبرها بانقضاء عدتها مقبول، لإمكانه، فصارت دعواه الرجعة، بعد الحكم بانقضاء عدتها، فلم تقبل.
(2) قدم قولها، لأن خبرها بانقضاء عدتها، يكون بعد انقضائها، فيكون قوله بعد العدة، فلا يقبل؛ وصححه غير واحد. وقال الموفق وغيره: إن قال بعد انقضاء عدتها، كنت راجعتك في عدتك، فأنكرت، فالقول قولها بإجماعهم، لأنه ادعاها في زمن لا يملكها، والأصل عدمها وحصول البينونة.
(3) أي ومتى رجعت عن قولها: انقضت عدتي قبل رجوعها، كما يقبل اعتراف أحدهما بالنكاح بعد جحده، كما لو لم يسبقه إنكار.
(4) وتمام كلامه: ما ادعت من ذلك ممكنا.
(5) أي قال ابن عقيل -في كتابه الواضح، في أحكام الدعاوى- نص عليه أحمد.
(6) عبد الواحد بن محمد المقدسي، صاحب المبهج، المتوفى: سنة ست وثمانين وأربعمائة.
(7) تقي الدين، أحمد بن محمد الآمدي، البغدادي.(6/612)
والمذهب في الثانية (1) القول قوله كما في الإنصاف (2) وصححه في الفروع وغيره، وقطع به في الإقناع المنتهى (3) .
__________
(1) وهي ما إذا بدأها بقوله: كنت راجعتك.
(2) قال متى قلنا: القول قولها، فمع يمينها، عند الخرقي والمصنف، وقدمه في الرعايتين والحاوي. وقال القاضي قياس المذهب: لا يجب عليها اليمين، وهي رواية عن أحمد، ذكرها في الرعايتين، والزركشي، وكذا لو قلنا: القول قول الزوج، فعلى الأول، لو نكلت لم يقض عليها بالنكول؛ قال القاضي وغيره، وظاهر كلامهم: أنها لو لم تنكر ولم تقر، بل قالت: لا أدري أنه لا يقبل قوله.
(3) فعبارتهما: وإن سبق فقال: ارتجعتك، فقالت: قد انقضت عدتي قبل رجعتك، فأنكرها، فقوله، اهـ، وإذا ادعى في عدتها، أنه كان راجعها أمس، أو منذ شهر، فقال الموفق وغيره: يقبل قوله، لأنه لما ملك الرجعة، ملك الإقرار بها، كالطلاق، وبهذا قال الشافعي، وأصحاب الرأي وغيرهم.(6/613)
فصل (1)
(إذا استوفى) المطلق (ما يملك من الطلاق) بأن طلق الحر ثلاثا (2) والعبد اثنتين (3) (حرمت عليه، حتى يطأها زوج) غيره بنكاح صحيح (4) لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (5) بعد قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (6) .
__________
(1) في بيان أحكام ما إذا استوفى ما يملك من الطلاق، وأراد استرجاعها، وما يحلها له، بوطء زوج غيره.
(2) والمذهب وقول الأكثر، ولو في مجلس واحد؛ وغير المدخول بها تبين بواحدة، ولا رجعة له عليها إلا برضاها، وترجع إلى الحر بطلقتين، فإن طلقها اثنتين ثم تزوجها، رجعت إليه بواحدة بلا خلاف.
(3) ولو عتق، قبل انقضاء عدتها، حتى تنكح زوجا غيره، هذا المذهب، وقول الأكثر.
(4) وتقدم ذكر شروطه، قال الوزير: اتفقوا على أنه إنما يقع الحل، بالوطء في النكاح الصحيح، وقال الموفق وغيره: يشترط لحلها للأول ثلاثة شروط أن تنكح زوجا غيره، وأن يكون نكاحا صحيحا، وأن يطأها في الفرج.
(5) أي حتى يطأها زوج آخر، في نكاح صحيح، قال العلماء: كل موضع في القرآن، ذكر فيه النكاح فالمراد به العقد، إلا هذه الآية، فالمراد بها الوطء واتفقوا على أنه شرط في جواز عودها إلى الأول.
(6) أي فإذا طلقها التطليقة الثالثة، حرمت عليه، ولا نزاع في ذلك، وإنما
تنازعوا فيما إذا طلقها ثلاثا بكلمة واحدة، أو كلمات في طهر واحد، وتقدم ترجيح أنها ثلاث.(6/614)
(في قبل) (1) فلا يكفي العقد، ولا الخلوة، ولا المباشرة دون الفرج (2) ، ولا يشترط بلوغ الزوج الثاني، فيكفي (ولو) كان (مراهقا) (3) أو لم يبلغ عشرا، لعموم ما سبق (4) (ويكفي) في حلها لمطلقها ثلاثا (تغييب الحشفة) كلها من الزوج الثاني (5) .
__________
(1) لأن الوطء المعتبر شرعا، لا يكون في غير القبل مع الانتشار، لحديث العسيلة.
(2) فقد اتفق العلماء، على أن النكاح ههنا، هو الإصابة، وقال الشبخ: النكاح الذي يبيحها له، هو الذي يقران عليه بعد الإسلام، والمجيء به إلينا للحكم صحيح، فعلى هذا يحلها النكاح بلا ولي ولا شهود، وكذلك لو تزوجها على أختها، ثم ماتت الأخت، قبل مفارقتها، فأما لو تزوجها في عدة، أو على أختها، ثم طلقها، مع قيام المفسد، فموضع نظر، فإن هذا النكاح لا يثبت به التوارث، ولا نحكم فيه بشيء من أحكام النكاح، فينبغي أن لا تحل له.
(3) وهو قول أبي حنيفة والشافعي، لأنه وطء من زوج، في نكاح صحيح.
(4) من قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: «حتى تذوق العسيلة» وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وذلك إذا وطئ في نكاح صحيح.
(5) وإن لم ينزل لأن أحكام الوطء، تتعلق بذوق العسيلة، وحكى ابن المنذر: أنها كانت نائمة، أو مغمى عليها فلا تحل، وفي المبدع؛ يحتمل حصول الحل، للعموم، فالله أعلم.(6/615)
(أو قدرها مع جب) أي قطع للحشفة (1) لحصول ذوق العسيلة بذلك (2) (في فرجها) أي قبلها (3) (مع انتشار وإن لم ينزل) (4) لوجود حقيقة الوطء (5) (ولا تحل) المطلقة ثلاثا (بوطء دبر (6) و) وطء (شبهة (7) و) وطء في (ملك يمين (8)
__________
(1) أي ويكفي في حلها، تغييب قدر الحشفة، إذا كان مجبوبا بقي من ذكره قدرها، فأولجه، لأنه جماع يوجب الغسل، أشبه تغييب الذكر، وإلا فلا.
(2) أي بإيلاج الحشفة أو قدرها، ولأنه بمنزلة الحشفة من غيره.
(3) لأن الوطء المعتبر في الزوجة شرعا، لا يكون في غير القبل.
(4) لحديث العسيلة، ولا توجد إلا مع انتشار وإن لم ينزل، لوجود العسيلة وهي الجماع، وأحكام الوطء تتعلق به.
(5) بإيلاج الحشفة أو قدرها؛ قال ابن القيم: وإباحتها له بعد زوج من أعظم النعم، وكانت شريعة التوراة ما لم تتزوج، وشريعة الإنجيل المنع من الطلاق ألبتة، وشريعتنا أكمل وأقوم بمصالح العباد، فأباح له أربعا، وأن يتسرى بما شاء، وملكه أن يفارقها، فإن تاقت نفسه إليها وجد السبيل إلى ردها، فإذا طلقها الثالثة لم يبق له عليها سبيل، إلا بعد نكاح ثان رغبة.
(6) لأن الحل متعلق بذوق العسيلة، ولا يحصل به.
(7) كأن يطأها رجل ظنها زوجته.
(8) كأن تملك ويطؤها سيدها ولو كانت أمة، فاشتراها مطلقها، لم تحل.(6/616)
و) وطء في (نكاح فاسد) (1) لقوله تعالى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) (ولا) تحل بوطء (في حيض، ونفاس، وإحرام، وصيام فرض) (3) لأن التحريم في هذه الصور، لمعنى فيها، لحق الله تعالى (4) وتحل بوطء محرم، كمرض (5) أو ضيق وقت صلاة، أو في مسجد ونحوه (6) (ومن ادعت مطلقته المحرمة) وهي المطلقة ثلاثا (وقد غابت) عنه (7) .
__________
(1) قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن الوطء في النكاح الفاسد، لا تحصل به الإباحة إلا في أحد قولي الشافعي، وما لا يثبت به التوارث، ولا نحكم فيه بشيء من أحكام النكاح، لا تحل له به.
(2) في نكاح صحيح بإجماع أهل العلم، كما هو موضح في غير موضع.
(3) هذا المنصوص عند بعض الأصحاب.
(4) وقال ابن رجب: لا عبرة بحل الوطء ولا عدمه، يعني في حصول الرجعة به، فلو وطئها في الحيض أو غيره كان رجعة، اهـ؛ وهو مذهب جمهور أهل العلم، أبي حنيفة ومالك، واختاره الموفق والشارح وغيرهما، وهو ظاهر قوله {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وهذه قد نكحت زوجا؛ وقوله: «حتى تذوق عسيلته» وقد وجد، ولأنه وطء في نكاح صحيح.
(5) أي كمرض الزوجة، لتضررها بوطئه.
(6) كفى حال منع نفسها، لقبض مهر حال، وكقصد إضرارها بوطء، لعبالة ذكره، وضيق فرجها.
(7) ثم حضرت، وكذا لو غاب عنها ثم حضر، فادعت ذلك.(6/617)
(نكاح من أحلها) بوطئه إياها (1) (و) ادعت (انقضاء عدتها منه) أي من الزوج الثاني (فله) أي للأول (نكاحها إن صدقها) فيما ادعته (وأمكن) ذلك، بأن مضى زمن يتسع له (2) لأنها مؤتمنة على نفسها (3) .
__________
(1) في نكاح صحيح.
(2) قال الموفق: في قول عامة أهل العلم، منهم الحسن، والأوزاعي والثوري والشافعي، وأبو عبيد، وأصحاب الرأي.
(3) وعلى ما أخبرت به عن نفسها، ولا سبيل إلى معرفة ذلك حقيقة إلا من جهتها، فوجب الرجوع إليه، وإن لم يعرف ما يغلب على ظنه صدقها، لم يحل له نكاحها، لأن الأصل التحريم، ولم يوجد ما ينقله عنه.
وقال الشيخ: ومحله هذه المسألة: إذا لم تعينه، إذ النكاح لم يثبت لمعين، بل لمجهول، كما لو قال: عندي مال لفلان، وسلمته إليه؛ فإنه لا يكون إقرارًا بالاتفاق، فكذلك قولها: كان لي زوج فطلقني، أو سيد فأعتقني، بخلاف قولها: تزوجني فلان وطلقني؛ لأنه كالإقرار بالمال، وادعاء الوفاء، والمذهب أنه لا يكون إقراراً. وقال: أما من كان لها زوج، وادعت أنه طلقها، لم تتزوج بمجرد دعواها، باتفاق المسلمين.(6/618)
كتاب الإيلاء (1)
بالمد، أي: الحلف (2) مصدر آلى يولي (3) والألية اليمين (4) (وهو) شرعًا: (حلف زوج) يمكنه الوطء (5) (بالله تعالى (6) أو صفته) كالرحمن الرحيم (7) .
__________
(1) وأحكام المولي، وهو محرم، لأنه حلف على ترك واجب، ويشترط لصحته أربعة شروط، أن يكون من زوج يمكنه الوطء، وأن يحلف بالله أو بصفة، صفاته، لا بنذر أو عتق، أو طلاق أو ظهار، أو صدقة أو حج، أو تحريم مباح، وأن يحلف على ترك الوطء، في القبل لا فيما دونه، والرابع أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر، صريحا أو كناية، ويؤخذ من تعريفهم شرط خامس، وهو: أن تكون الزوجة يمكن وطؤها.
(2) لغة، وهو إفعال، من الألية بتشديد الياء
(3) إيلاء وألية، وجمع الألية ألايا، يقال: آليت من امرأتي أولي إيلاء، إذا حلف لا يجامعها.
(4) يؤلون من نسائهم) يحلفون ويقال تألى يتألى، وفي الحديث القدسي «من ذا الذي يتألى علي» .
(5) لا عنين، ولا مجبوب، ولا هي رتقاء ونحوها.
(6) أي: تعاظم وتقدس، والاسم الشريف أعرف المعارف، وتقدم.
(7) ورب العالمين، والخالق الرازق، وغيرها من أسمائه وصفاته، التي سمى
بها نفسه، أو سماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أنه لا قسم بغير ذلك، ولا يكون إيلاء.(6/619)
(على ترك وطء زوجته في قبلها) (1) أبدا، أو (أكثر من أربعة أشهر) (2) قال تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية (3) وهو محرم (4) ولا إيلاء بحلف بنذر (5) أو عتق، أو طلاق (6) .
__________
(1) بلا نزاع في الجملة، سواء كانت حرة أو أمة، مسلمة، أو كافرة، عاقلة أو مجنونة، صغيرة، أو آيسة يمكن وطؤها، لا أمته أو أجنبية، وهو قول الجمهور.
(2) أو يطلق مصرحا بذلك، أو ينويه في حال رضى أو غضب، والزوجة مدخول بها أولا، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه إذا حلف بالله تعالى، أن لا يجامع زوجته أكثر من أربعة أشهر، كان موليا، فإن حلف أن لا يقربها أقل من أربعة أشهر، لم يتعلق به أحكام الإيلاء، وإذا حلف أن لا يقربها أربعة أشهر، فقال مالك والشافعي وأحمد -في المشهور عنه- لا يكون موليا.
(3) أي قال تعالى للأزواج الذين {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} أي يحلف أحدهم على ترك وطء زوجته، مدة تزيد على أربعة؛ {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فلا يتعرض له قبل مضيها، وبعد مضيها يوقف، ويؤمر بالفيء أو الطلاق، بعد مطالبة المرأة؛ نزلت فيما كان أهل الجاهلية يطيلونه من مدة الإيلاء.
(4) في ظاهر كلام الأصحاب، لأنه يمين على ترك واجب.
(5) فلو قال: إن وطئتك فلله علي صوم شهر، أو فعبدي حر، لم يكن موليا.
(6) أو صدقة مال، أو حج، أو ظهار، أو تحريم مباح من أمة أو غيرها،
فليس بمول، لأنه لم يحلف بالله، ولأنه تعليق بشرط، فيسمى حلفا تجوزا، لمشاركته القسم في الحث على الفعل، أو المنع منه، والإيلاء المطلق، هو القسم؛ هذا المشهور، وقول الشافعي في القديم، وعن أحمد: هو مول؛ وهو قول الأكثر مالك وأبي حنيفة، والشافعي وغيرهم، لأنها يمين منعت جماعها، فكانت إيلاء، كالحلف بالله.(6/620)
ولا بحلف على ترك وطء سريته (1) أو رتقاء (2) (ويصح) الإيلاء (من) كل من يصح طلاقه من مسلم و (كافر و) حر و (قن (3) و) بالغ و (مميز (4) وغضبان وسكران (5) ومريض مرجو برؤه (6) وممن) أي زوجة يمكن وطؤها، ولو (لم يدخل بها) (7) .
__________
(1) لقوله {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وليست هذه من نسائه.
(2) أو قرناء، فلا يصح الإيلاء منهما، لأن الوطء متعذر دائما، فلم تنعقد اليمين على تركه.
(3) لقوله {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} .
(4) يعقله، لإمكان الوطء منهما، وينبغي أن يقال: يصح الإيلاء من المميز، ولا يطالب بالفيئة حتى يبلغ، لعدم تكليفه قبل، ولا كفارة عليه بالوطء، لعدم تكليفه.
(5) كالطلاق، لعموم الأدلة، وتقدم استيفاء الكلام فيه.
(6) لعموم {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ولأنه مرجو القدرة على الوطء، فصح منه وإلا فلا لأنها يمين على ترك مستحيل، فلم تنعقد.
(7) وهو قول مالك والشافعي، وغيرهما.(6/621)
لعموم ما تقدم (1) و (لا) يصح الإيلاء (من) زوج (مجنون (2) ومغمى عليه) لعدم القصد (3) (و) لا من (عاجز عن وطء لجب كامل أو شلل) (4) لأن المنع هنا ليس لليمين (5) (فإذا قال) لزوجته (والله لا وطئتك أبدًا (6) أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر) كخمسة أشهر (7) (أو) قال: والله لا وطئتك (حتى ينزل عيسى) ابن مريم عليهما السلام (8) (أو) حتى (يخرج الدجال (9)
__________
(1) من عموم الآية وغيرها، ولأنه ممتنع من جماع زوجته بيمينه، فأشبه ما بعد الدخول، ويصح من الصغيرة والمجنونة، إلا أنه لا يطالب بالفيئة في حال الصغر والجنون.
(2) وكذا صبي غير مميز، لأن القلم مرفوع عنهما، ولأنه قول، يجب بمخالفته كفارة أو حق، فلم ينعقد منهما كالنذر.
(3) فلا يدري ما يصدر منه.
(4) أو غيرهما للذكر، ولو آلى ثم جب، بطل إيلاؤه.
(5) فلا يطلب منه الوطء، لامتناعه، لعجزه عنه.
(6) فهو مول، تضرب له مدة الإيلاء.
(7) فهو مول، لأن الله جعل له تربص أربعة أشهر، فإذا حلف على أكثر منها فمول ودونها ليس بمول، لأن مدة الإيلاء تنقضي قبلها، أو مع انقضائه.
(8) فمول، لغلبة الظن بعدم وجوده في أربعة أشهر.
(9) أو حتى تخرج الدابة، أو غير ذلك، من أشراط الساعة الكبرى فمول.(6/622)
أو) غياه بمحرم (1) أو ببذل مالها (2) كقوله: والله لا وطئتك (حتى تشربي الخمر (3) أو تسقطي دينك (4) أو تهبي مالك (5) ونحوه) أي نحو ما ذكر (6) (فـ) هو (مول) تضرب له مدة الإيلاء (7) (فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه (8)
__________
(1) كحتى تتركي صلاة الفرض، أو تسقطي ولدك، أو حتى تزني ونحو ذلك مما مثل وغيره.
(2) كحتى تسقطي صداقك، ونحوه.
(3) أو تأكلي لحم خنزير ونحوه، من كل فعل محرم، جعله غاية له فمول لأنه علقه بممتنع شرعا، أشبه الممتنع حسا.
(4) أو حتى تكفلي ولدك، أو يسقط أبوك عني دينه.
(5) كتهبيني دارك، أو يبيعني أبوك داره.
(6) من فعلها محرما أو بذلها مالها عن غير رضاها، لكونه محرما أشبه شرب الخمر ونحوه.
(7) للآية، وفي الصحيح أن ابن عمر قال: إذا مضى أربعة أشهر ممن حلف على مدة تزيد عليها، فهو مول، يوقف حتى يطلق، ولا يقع به الطلاق حتى يطلق، وذكره البخاري عن بضعة عشر صحابيا، وقال سليمان بن يسار: أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يوقفون المولي، وهو مذهب جماهير العلماء، وظاهر الآية.
(8) ولا يفتقر إلى ضرب حاكم، كمدة العدة لأنها ثبتت بالنص والإجماع. ويحسب عليه زمن عذره لا عذرها، ولا تضرب له مدة مع عذرها.(6/623)
ولو) كان المولي (قنا) لعموم الآية (1) (فإن وطئ ولو، بتغييب حشفة) أو قدرها عند عدمها في الفرج (فقد فاء) (2) لأن الفيئة الجماع، وقد أتى به (3) ولو ناسيا أو جاهلا (4) أو مجنونا (5) أو أدخل ذكر نائم (6) لأن الوطء وجد (7) (وإلا) يف بوطء من آلى منها، ولم تعفه (8) (أمره) الحاكم (بالطلاق) إن طلبت ذلك منه (9) .
__________
(1) أي: فلا فرق في المدة، بين الحر والعبد.
(2) ولو كان وطأ محرما، كفي حيض، أو صيام فرض، لأن يمينه انحلت فزال حكمها، وزال عنها الضرر، وإن كان عصى بذلك.
(3) قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه، أن الفيء الجماع، وأصل الفيء الرجوع إلى فعل ما تركه، أي من الوطء ووجد، واستوفت المرأة حقها منه.
(4) أي أنها زوجته، أو نائما.
(5) لوجود الوطء، أشبه ما لو فعله قصدا.
(6) لوجود الوطء، لكن لا تنحل يمينه مع النسيان، وما عطف عليه.
(7) فانحلت يمينه بذلك.
(8) بسكون العين، أي تسقط عنه المرأة حقها.
(9) أي الطلاق، أو الفيئة وأبى الفيئة، ومفهومه: أنها لا تطلق بمضي المدة، وهو قول الجمهور.(6/624)
لقوله تعالى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) (فإن أبى) المولي أن يفيء، وأن يطلق (2) (طلق حاكم عليه، واحدة أو ثلاثا (3) أو فسخ) (4) لقيامه مقام المولي عند امتناعه (5) (وإن وطئ) المولي من آلى منها (في الدبر أو) وطئها (دون
__________
(1) أي فإن حلف لا يجامع، أكثر من أربعة أشهر، ولم يف بل عزم، وحقق إيقاع الطلاق وقع، وفيه أنها لا تطلق إلا بقول يسمع.
(2) بعد مضي الأربعة أشهر، فقال الوزير: اتفقوا على أنه لا يقع عليه الطلاق، ولا يوقف، حتى يمضي عليه أربعة أشهر، فإذا مضت فقال مالك، والشافعي، وأحمد: لا يقع بمضي المدة، حتى يوقف ليفيء أو يطلق؛ وقال مالك وأحمد: إن امتنع يطلق عليه الحاكم.
(3) وكونه مباحا للحاكم فيه نظر، لأن إيقاع الثلاث بكلمة واحدة محرم، وقال الشافعي: ليس له أن يطلق إلا واحدة، قالوا: ولا يتأتى من الحاكم على الزوج رغما عنه، إلا في الإيلاء فقط، فإنه يقع من الحاكم، أو من الزوج، فإن أتيا بصيغة الطلاق، فيحسب من عدد الطلقات، قال الشيخ: وإن لم يف وطلق بعد المدة، أو طلق الحاكم عليه، لم يقع إلا طلقة رجعية، وهو الذي يدل عليه القرآن، ونص عليه أحمد.
(4) أي فسخ عليه الحاكم، لأن الطلاق تدخله النيابة، وقد تعين مستحقه فقام الحاكم فيه مقام الممتنع، كأداء الدين، وإن أتيا بصيغة الفسخ، أو التفريق فإنه والحال هذه لا ينقص به عدد الطلاق، لكن تبين منه، ولا يصح رجوعه عليها إلا بعقد جديد، بشروطه.
(5) فملك ما يملكه، والخيرة في ذلك للحاكم، فيفعل ما فيه المصلحة.(6/625)
الفرج فما فاء) لأن الإيلاء يختص بالحلف على ترك الوطء في القبل (1) والفيئة: الرجوع عن ذلك (2) فلا تحصل الفيئة بغيره كما لو قبلها (3) (وإن ادعى) المولي (بقاء المدة) أي مدة الإيلاء، وهي الأربعة أشهر، صدق، لأنه الأصل (4) (أو) ادعى (أنه وطئها وهي ثيب، صدق مع يمينه) (5) لأنه أمر خفي، لا يعلم إلا من جهته (6) (وإن كانت) التي آلى منها (بكرا، أو ادعت البكارة (7) وشهد بذلك) أي ببكارتها (امرأة عدل صدقت) (8) وإن لم يشهد ببكارتها ثقة، فقوله بيمينه (9) .
__________
(1) والدبر ما دون الفرج، ليس بمحلوف عليه فالدبر محرم، وما دون الفرج لا يسمى وطأ يفيء به المولي.
(2) أي عن اليمين على ترك الوطء في القبل، وسمي الفيء رجوعا، لأنه رجع إلى فعل ما تركه بحلفه.
(3) ولأن ذلك أيضًا، لا يزول به ضرر المرأة.
(4) فقبل قوله مع يمينه، كما لو اختلفا في أصل الإيلاء.
(5) في الصورتين، وفي الأخيرة كما لو ادعى الوطء في العنة.
(6) فقبل قوله فيه مع يمينه كالدين، وكقول المرأة في حيضها
(7) واختلفا في الإصابة، بأن ادعى أنه وطئها وأنكرته.
(8) لأن قولها اعتضد بالبينة، ولأنه لو كان وطئها زالت بكارتها.
(9) كما لو كانت ثيبا كما مر، وكنظائره، للخبر.(6/626)
(وإن ترك) الزوج (وطأها) أي وطء زوجته (إضرارًا بها بلا يمين) على ترك وطئها (1) (ولا عذر) له (فكمول) (2) وكذا من ظاهر ولم يكفر (3) فيضرب له أربعة أشهر (4) فإن وطئ وإلا أمر بالطلاق (5) فإن أبى طلق عليه الحاكم، أو فسخ النكاح، كما تقدم في المولي (6) وإن انقضت مدة الإيلاء، وبأحدهما عذر يمنع الجماع (7) أمر أن يفيء بلسانه، فيقول: متى قدرت جامعتك (8)
__________
(1) أكثر من أربعة أشهر.
(2) تضرب له مدة الإيلاء، ويحكم له بحكمه، لأنه تارك لوطئها إضرار بها وأشبه المولي، ويحلف لدعواه ترك الإضرار أو عدمه، مع قرينة ظاهرة، وظاهره: أنه لو تركه من غير إضرار لا يحكم له بحكم الإيلاء. قال في الإنصاف: وهو المذهب، وقطع به الأكثرون، وإن تركه لعذر، من مرض أو غيبة أو نحوه، لم تضرب له مدة، قولا واحدا.
(3) أي لظهاره فكمول.
(4) مدة الإيلاء ويثبت له حكمه.
(5) إن طلبت ذلك منه كما تقدم في الإيلاء.
(6) إذا أبى الفيئة والطلاق، وتقدم موضحا.
(7) كإحرام ونفاس، لم تملك الفيئة.
(8) لأن القصد بالفيئة، ترك ما قصده من الإضرار بالإيلاء، واعتذاره يدل على ترك الإضرار.(6/627)
ثم متى قد وطئ أو طلق (1) ويمهل لصلاة فرض، وتحلل من إحرام، وهضم ونحوه (2) ومظاهر لطلب رقبة، ثلاثة أيام (3) .
__________
(1) لزوال عجزه الذي أخر لأجله، كالدين يوسر به المعسر
(2) كفطر من صوم واجب، ودخول خلاء، ورجوع إلى بيته، لأنه العادة، فإن كفر بالصيام لم يمهل، لأن مدته تطول.
(3) أي ويمهل مظاهر لطلب رقبة، ثلاثة أيام، لأنه يسير، لا لصوم لأنه كثير، ومتى لم يبق لمول عذر، طلبت الفيئة وهي الجماع، ولزم القادر مع حل وطئها.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر المجلد السادس، من حاشية الروض المربع
ويليه المجلد السابع
وأوله: كتاب الظهار(6/628)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الظهار (1)
مشتق من الظهر (2) وخص به من بين سائر الأعضاء، لأنه موضوع الركوب (3) ولذلك سمي المركوب ظهرا (4) والمرأة مركوبة إذا غشيت (5) (وهو محرم) (6) .
__________
(1) الأصل في الظهار: الكتاب والسنة والإجماع؛ فالكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآية؛ والسنة: حديث خولة وسلمة بن صخر، والإجماع، حكاه غير واحد من أهل العلم.
(2) خلاف البطن، مذكر، وجمعه أظهر وظهور وظهران.
(3) من البعير وغيره.
(4) وفي الحديث قالت: ما لنا من ظهر، أي مركوب سوى هذا البعير.
(5) فسمي بذلك، لتشبيه الزوجة بظهر الأم، فقوله: أنت علي ظهر أمي، أي ركوبك للنكاح حرام علي، كركوب أمي للنكاح، فأقام الظهر مقام المركوب وأقام الركوب مقام النكاح، لأن الناكح راكب.
(6) بالكتاب والسنة والإجماع، حكاه ابن المنذر وغيره.(7/3)
لقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (1) (فمن شبه زوجته أو) شبه (بعضها) أي بعض زوجته (ببعض) من تحرم عليه (2) (أو بكل من تحرم عليه أبدا بنسب) كأمه وأخته (3) (أو رضاع) كأخته منه (4) أو بمصاهرة، كحماته (5) أو بمن تحرم عليه إلى أمد (6) كأخت زوجته وعمتها (7) (من ظهر) بيان للبعض (8) .
__________
(1) أي كلاما فاحشا باطلا، لا يعرف في الشرع، بل كذبا بحتا، وحراما محضا، منكر من القول في الإنشاء، وزورا في الخبر أبطله الشارع، وجعله منكرا، لأنه يقتضي تحريم ما لم يحرم الله، وزورا لأنه يقتضي أن زوجته تكون مثل أمه، وهذا باطل، فإن الزوجة ليست كالأم في التحريم.
(2) كظهر أو بطن أو رأس، أو وجه، أو يد.
(3) وكجدته وبنت أخيه أو أخت، وكعمته وخالته وكزوجة ابنه.
(4) أي من الرضاع، وأمه منه، وجدته، وبنته، وغيرها مما يحرم منه.
(5) أي من الرضاع، وأمه منه، وجدته، وبنته، وغيرها مما يحرم منه.
(6) أي إلى غاية ينتهي التحريم إليها.
(7) وخالتها أو أجنبية ممن يحرم عليه تحريما مؤقتا، وهذا قول أصحاب مالك.
(8) من قوله: ببعض من تحرم عليه.(7/4)
كأن يقول: أنت علي كظهر أمي (1) أو أختي (2) (أو) أنت علي كـ (بطن) عمتي (3) (أو عضو آخر لا ينفصل) كيدها أو رجلها (4) (بقوله) متعلق بشبه (5) (لها) أي لزوجته (أنت) أو ظهرك أو يدك (6) (علي أو معي أو مني كظهر أمي (7) أو كيد أختي، أو وجه حماتي، ونحوه (8) .
__________
(1) فهو ظهار إجماعا، حكاه الموفق وغيره، كابن المنذر، وقال الوزير وابن رشد، وغيرهما: اتفقوا على أنه إذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي؛ فإنه مظاهر، لا يحل له وطؤها، حتى يقدم الكفارة.
(2) أو قال أنت علي كظهر أختي، أو بنتي، أو خالتي، أو حماتي، أو غيرهن ممن تحرم عليه على التأبيد، فهو ظهار، في قول أكثر أهل العلم، وحكي إجماعا، لأنهن محرمات بالقرابة، أشبهن الأم.
(3) أو خالتي أو حماتي، أو غيرهن ممن تحرم عليه على التأبيد، فهو مظاهر في قول أكثر أهل العلم، للآية والأخبار.
(4) أي أو شبه زوجته بعضو آخر لا ينفصل، ممن تحرم عليه على التأبيد، كيدها أو رجلها، وكرأسها أو عينها فهو مظاهر.
(5) زوجته أو بعضها ببعض، أو كل إلى آخره.
(6) أو بطنك أو رأسك أو عينك، أو غيره من عضو لا ينفصل
(7) فهو مظاهر في قول أكثر أهل العلم، وكذا إن قال عندي، لأن قوله معي، أو مني، أو عندي، بمعنى علي.
(8) من أمثلة ما سبق، وكذا إن شبه عضوا من امرأته، كرأس أو ظهر، أو بطن، أو غير ذلك بظهر أمه فظهار، عند الأكثر، مالك والشافعي.(7/5)
أو أنت علي حرام) فهو مظاهر (1) ولو نوى طلاقا أو يمينا (2) (أو) قال أنت علي (كالميتة والدم) أو الخنزير (فهو مظاهر) جواب «فمن» (3) كذا لو قال: أنت علي كظهر فلانة الأجنبية (4) أو ظهر أبي أو أخي أو زيد (5) وإن قال: أنت علي أو عندي كأمي، أو مثل أمي، وأطلق فظهار (6) .
__________
(1) صح عن ابن عباس وغيره، وذلك لأن الله جعل التشبيه بمن تحرم عليه ظهارا، فالتصريح منه بالتحريم أولى، يؤيده أن الله لم يجعل التحريم والتحليل إليه، فإذا قال: أنت علي كظهر أمي؛ أو أنت علي حرام، فقد قال المنكر من الزور، وكذب على الله، وقد أوجب أغلظ الكفارتين عليه، وهي كفارة الظهار.
(2) وكان الظهار والإيلاء طلاقا في الجاهلية، وذكره جماعة في ظهار المرأة من زوجها، وقال الموفق وغيره: أكثر الفقهاء على أن التحريم إذا لم ينوبه الظهار فليس بظهار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي.
(3) أي فمن شبه زوجته، أو بعضها ببعض، أو كل من تحرم عليه، فهو مظاهر.
(4) أو كظهر أخت زوجتي، أو عمتها، أو خالتها، ونحو ذلك، فهو مظاهر لأنه شبهها بظهر من تحرم عليه، أشبه ظهر الأم.
(5) أو كظهر غيرهم، من الرجال الأقارب، أو الأجانب فهو مظاهر.
(6) لأنه المتبادر من هذه الألفاظ ونحوها.(7/6)
وإن نوى في الكرامة ونحوها، دين وقبل حكما (1) وإن قال: أنت أمي؛ أو كأمي؛ فليس بظهار، إلا مع نية أو قرينة (2) وإن قال: شعرك أو سمعك، ونحوه، كظهر أمي؛ فليس بظهار (3) (وإن قالته لزوجها) أي قالت له نظير ما يصير به مظاهرا منها (فليس بظهار) (4) لقوله تعالى {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} فخصهم بذلك (5) (وعليها) أي على الزوجة، إذا قالت ذلك لزوجها (6) .
__________
(1) أي وإن نوى بقوله: أنت علي، أو عندي كأمي، أو مثل أمي في الكرامة، أو المحبة قبل منه حكما، لاحتماله، وهو أعلم بمراده
(2) تدل على إرادة الظهار، وإن كان ثم قرينة قدمت عليها النية، لأن النية تعين اللفظ في المنوي، ويتعين حمله على الكرامة، أو المحبة، ونحوهما مع الإطلاق لأنه ليس بصريح في الظهار، وغير اللفظ المستعمل فيه.
(3) أي وإن قال لزوجته: شعرك أو سمعك ونحوه، كبصرك، وظفرك، وريقك، ولبنك ودمعك وروحك علي كظهر أمي، وكذا نحوه فليس بظهار، لأن المراد به الإدراك لا العضو.
(4) أي إن قالت الزوجة لزوجها، أنت علي كظهر أبي، ونحوه، مما يصير به مظاهر إذا قاله لها، فليس بظهار، رواية واحدة، وقال الموفق: هو قول أكثر أهل العلم، مالك، والشافعي وغيرهما. ,
(5) فإن معنى الآية، يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي، ونحو ذلك، وهو منها قول يوجب تحريما، يملك الزوج رفعه، فاختص به، والحل فيها حق للزوج، فلم تملك إزالته، كسائر حقوقه.
(6) أي إذا قالت: أنت علي كظهر أبي أو أخي ونحوه(7/7)
(كفارته) أي كفارة الظهار، قياسا على الزوج (1) وعليها التمكين قبل التكفير (2) ويكره نداء أحد الزوجين الآخر، بما يختص بذي رحم محرم، كأبي وأمي (3) (ويصح) الظهار (من كل زوجة) (4) لا من أمة أو أم ولد (5) .
__________
(1) أوجبوه تغليظا، وعنه: كفارة يمين؛ قال الموفق: هذا أقيس وأشبه بأصول أحمد، وعنه: لا تجب عليها كفارة ظهار، وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي.
(2) لأنه حق للزوج، فلا تمنعه، كسائر حقوقه، ولأنها لا تثبت لها أحكام الظهار من كل وجه؛ قالوا: وليس لها ابتداء القبلة، والاستمتاع ونحو ذلك.
(3) لخبر: أن رجلا قال لامرأته يا أختي، فقال - صلى الله عليه وسلم - «أختك هي؟» رواه أبو داود، فكره ذلك، ونهى عنه، ولأنه لفظ يشبه لفظ الظهار، ولا تحرم به، ولا يثبت به حكم الظهار، لأنه ليس بصريح فيه، ولا نواه فلا يثبت به التحريم، وجاء أن الخليل قال: إنها أختي، ولم يعد ظهارا.
(4) كبيرة كانت أو صغيرة، مسلمة، أو ذمية، يمكن وطؤها أو لا؛ وهو قول مالك، والشافعي، وحكى الوزير وغيره: الاتفاق على الزوج من الزوجة التي في عصمته، وعلى أنه يصح من العبد، وأنه يكفر بالصوم، وبالإطعام عند مالك، إن ملكه السيد اهـ، وإن قال لأجنبية: أنت علي حرام، يريد في كل حال، فكزوجته، وإن أراد بتلك الحال فلا شيء عليه، لأنه صادق، وكذا إذا أطلق.
(5) وهو مذهب مالك والشافعي لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} وهما ليستا نساء ولأنه لفظ تعلق به تحريم الزوجة، فلا تحرم به الأمة، كالطلاق.(7/8)
وعليه كفارة يمين (1) ولا يصح ممن لا يصح طلاقه (2) .
__________
(1) إذا ظاهر من أمته، أو أم ولده، لأن كل حلال حرم، لم يلزمه فيه إلا كفارة يمين، سوى الزوجة لقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} حين قال: «لن أعود إلى شرب العسل»
وقال الوزير: في الرجل يحرم طعامه، وشرابه وأمته، قال أبو حنيفة وأحمد: هو حالف، وعليه كفارة يمين بالحنث، والحنث يحصل بفعل جزء منه وكذا قال الشافعي: إن حرم أمته فكفارة يمين.
(2) كالطفل، والمكره والزائل العقل، والمجنون، والمغمى عليه، والنائم، والسكران، لأنهم لا حكم لقولهم.(7/9)
فصل (1)
(ويصح الظهار معجلا) أي منجزا، كأنت علي كظهر أمي (2) (و) يصح الظهار أيضا (معلقا بشرط) كإن قمت فأنت علي كظهر أمي (3) (فإذا وجد) الشرط (صار مظاهرا) لوجود المعلق عليه (4) (و) يصح الظهار (مطلقا) أي غير مؤقت، كما تقدم (5) (و) يصح (مؤقتا) كأنت علي كظهر أمي شهر رمضان (6) (فإن وطئ فيه كفر) لظهاره (7) .
__________
(1) في حكم تعجيل الظهار، وتعليقه، وتوقيته، وكفارته، وحظر الوطء قبل التكفير، وغير ذلك.
(2) كما سبق مفصلا.
(3) أو إن شاء زيد، أو إن دخلت الدار، فأنت علي كظهر أمي.
(4) من قيام ونحوه، مما علق الظهار عليه.
(5) من قوله: إن قال أنت علي كظهر أمي؛ ولا يقال: هذا تكرار مع قوله معجلا، لأن مراده: أن يقابل كل بما بعده؛ فالمعجل يقابله المعلق، والمطلق يقابله المؤقت، ولا يضر ذلك، ولو رجع المعجل إلى المعنى المطلق، فإن اللفظ الواحد، قد يكون له جهتان، تراعى كل واحدة منهما على جهة.
(6) أو شهرا، أو عشرا، ونحو ذلك، لحديث سلمة بن صخر، وكالإيلاء.
(7) لأمره صخرا بالكفارة، ولأن منع نفسه منها يمين لها كفارة(7/10)
(وإن فرغ الوقت زال الظهار) بمضيه (1) (ويحرم) على مظاهر ومظاهر منها (2) (قبل أن يكفر) لظهاره (وطء (3) ودواعيه) كالقبلة، والاستمتاع بما دون الفرج (ممن ظاهر منها) (4) لقوله عليه السلام «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به» صححه الترمذي (5) (ولا تثبت الكفارة في الذمة) أي في ذمة المظاهر (إلا بالوطء) اختيارا (6) .
__________
(1) أي: وإن لم يطأ في الشهر الذي عينه حتى انقضى، زال حكم الظهار، لأن الله إنما أوجب الكفارة، على الذين يعودون لما قالوا، ومن ترك الوطء في الوقت الذي ظاهر فيه، لم يعد لما قال، فلا تجب عليه الكفارة.
(2) أي ويحرم على زوج مظاهر، وزوجة مظاهر منها، بفتح الهاء.
(3) من ظاهر منها إذا كان التكفير بالعتق، أو الصيام قال الموفق: بلا خلاف لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وأكثر أهل العلم، على أن التكفير بالإطعام مثل ذلك؛ قال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز المسيس حتى يكفر، وعبارة ابن رشد: يحرم عليه الوطء.
(4) هذا المذهب، وأحد القولين للشافعي، وقول مالك وأصحاب الرأي.
(5) وفسر القربان بالوطء، ولأن ما حرم الوطء من القول، حرم دواعيه، كالطلاق، والإحرام، وعن أحمد: لا يحرم، وهو قول أبي حنيفة، وقال ابن رشد: الجمهور لا يحرم ما عدا الوطء، فالله أعلم.
(6) لا مكرها، فلو وطئ مكرها، لم تجب عليه الكفارة.(7/11)
(وهو) أي الوطء (العود) (1) فمتى وطئ لزمته الكفارة (2) ولو مجنونا (3) ولا تجب قبل الوطء (4) لأنها شرط لحله، فيؤمر بها من أراده، ليستحله بها (5) (ويلزم إخراجها قبله) أي قبل الوطء (عند العزم عليه) (6) لقوله تعالى في الصيام والعتق {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (7) .
__________
(1) المذكور في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قال ابن رشد: الجمهور أنها لا تجب الكفارة دون العود.
(2) ولا يسقط التكفير، ولا يتضاعف، وللترمذي في المظاهر، يواقع قبل أن يكفر، قال: كفارة واحدة؛ والعمل عليه عند أهل العلم.
(3) بأن ظاهر ثم جن، وكذا لو بانت منه ثم زنا بها، إلا من مكره، فإنه معذور بالإكراه.
(4) وإنما لم تجب إذا، لأن هذه الكفارة، لا تجب بالمعدوم.
(5) كالأمر بالطهارة لمن أراد النافلة، والأمر بالنية لمن أراد الصيام، ولأن الظهار يمين مكفرة، فلا تجب الكفارة إلا بالحنث فيها، وتقديم الكفارة قبل الوجوب، تعجيل لها قبل وجوبها، لوجود سببها.
(6) فإن وطئ عصى واستقرت عليه الكفارة، ولا تسقط بعد ذلك بموت ولا طلاق.
(7) والمماسة هنا: الجماع، فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها، ما لم يكفر، سواء كان التكفير بالإعتاق، أو الصيام، وكذا الإطعام، فدلت الآية على أنها تجب كفارة الظهار بالوطء، ويلزم إخراجها قبله، عند العزم عليه، وأن تحريم زوجته باق عليه حتى يكفر، وهو قول أكثر أهل العلم.(7/12)
وإن مات أحدهما قبل الوطء سقطت (1) (وتلزمه كفارة واحدة بتكريره) أي الظهار (2) ولو كان الظهار بمجالس (قبل التكفير من) زوجة (واحدة) (3) كاليمين بالله تعالى (4) (و) تلزمه كفارة واحدة (لظهاره من نسائه بكلمة واحدة) (5) بأن قال لزوجاته: أنتن علي كظهر أمي، لأنه ظهارا واحدا (6) (وإن ظاهر منهن) أي من زوجاته (بكلمات) بأن قال: لكل منهن: أنت علي كظهر أمي (فـ) عليه (كفارات بعددهن (7)) .
__________
(1) ولو كان قد عزم على الوطء.
(2) ولو أراد بتكرير استئنافا نص عليه وتقدم الخبر، لأن تكريره لا يؤثر في تحريم الزوجة، لتحريمها بالقول الأول.
(3) نص عليه وهو قول مالك، والقديم للشافعي.
(4) فإنها لا تجب بتكريرها قبل التكفير كفارة ثانية، فكذا الظهار، ولأنه قول لم يؤثر تحريما في الزوجة، فلم تجب به كفارة.
(5) قال الموفق: بغير خلاف في المذهب، وقول مالك، وأحد قولي الشافعي، وهو قول عمر وعلي، وقال: لا نعلم لهما في الصحابة مخالفا، فكان إجماعا.
(6) ولأن الظهار كلمة تجب بمخالفتها الكفارة، فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله.
(7) لكل يمين كفارة ترفعها أو تكفر إثمها.(7/13)
لأنها أيمان متكررة، على أعيان متعددة فكان لكل واحدة كفارة (1) كما لو كفر ثم ظاهر (2) .
__________
(1) قال ابن حامد: رواية واحدة.
(2) فإنه تلزمه كفارة ثانية للظهار الثاني، قال في المبدع بغير خلاف ولأنها أيمان، لا يحنث في إحداها بالحنث في الأخرى، فلا يكفرها كفارة واحدة، كالأصل ولأن الظهار معنى يوجب الكفارة فتتعدد الكفارة بتعدده في المحال المختلفة كالقتل.(7/14)
فصل (1)
(وكفارته) أي كفارة الظهار على الترتيب (2) (عتق رقبة (3) فإن لم يجد صام شهرين متتابعين (4) فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا) (5) لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا (6) .
__________
(1) في بيان أحكام كفارة الظهار، وغيرها مما هو في معناها، والكفارة الستر؛ من قولهم كفرت الشيء إذا غطيته وسترته، فكأنها تكفر الذنوب، أي تسترها، وكذا الغفر أيضا، معناه: الستر.
(2) بلاخلاف، حكاه الموفق وغيره، إذا كان المظاهر حرا، وكذا كفارة وطء نهار رمضان، في ظاهر المذهب.
(3) مؤمنة تجب على من ملكها، وأمكنه ذلك.
(4) أي فإن لم يجد رقبة يعتقها، على ما سيأتي صام شهرين متتابعين.
(5) أي فإن لم يستطع الصيام، لمرض أو سفر أو فرط شهوة، أطعم ستين مسكينا، فتجب الكفارة على هذا الترتيب، بلا نزاع، وإن عجز سقطت.
(6) أي: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} بأن يقول أحدهم لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وما أشبه ذلك، {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قال أحمد ومالك وغيرهما من السلف: هو أن يعود المظاهر إلى الجماع، فيحرم قبل أن يكفر، ولا تحل له حتى يكفر بما ذكر الله في هذه الآية، وقاله غيره واحد من أهل التفسير، هو أن يعود إلى الجماع، الذي قد حرمه على نفسه، فإن وطئ فيه كفر لظهاره إجماعا.(7/15)
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} الآية (1) والمعتبر في الكفارات وقت وجوب (2) فلو أعسر موسر قبل تكفير لم يجزئه صوم (3) ولو أيسر معسر لم يلزمه عتق (4) ويجزئه (5) (ولا تلزم الرقبة) في الكفارة (إلا لمن ملكها أو أمكنه ذلك) أي ملكها (6) (بثمن مثلها) أو مع زيادة لا تجحف بماله (7) .
__________
(1) وتمامها: (من قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) فقدم تعالى تحرير الرقبة، وثنى بصيام شهرين متتابعين على من لم يجد الرقبة، وثلث بإطعام ستين مسكينا، على من لم يستطع الصيام، فدلت الآية الكريمة، على ترتيب الكفارات ولا نزاع في ذلك.
(2) وهو في المظاهرة، من وقت العود لا وقت المظاهرة، وفي وطء نهار رمضان وقته، وفي القتل وقت زهوق، وفي اليمين من الحنث، لا وقت اليمين.
(3) لأنه غير ما وجب عليه وتبقى الرقبة في ذمته إلى يساره.
(4) لأن الاعتبار بوقت الوجوب، قال الوزير: إذا شرع في الصيام ثم وجد الرقبة، فقال مالك والشافعي وأحمد: لا يلزمه الخروج منه والعتق، بل إن شاء بنى على صومه، وإن شاء أعتق، إلا أن مالكا فرق، إن كان شرع في الصيام اليوم واليومين إلى الثلاث، عاد إلى العتق، وإن كان قد مضى في صومه أتمه.
(5) أي العتق، لأنه الأصل في الكفارات، فوجب أن يجزئه كسائر الأصول.
(6) بنقد أو غيره، وقت الوجوب.
(7) لزمه العتق، قال في المبدع: إجماعا، ولو كثرت، لعدم تكرارها، بخلاف ماء الوضوء.(7/16)
ولو نسيئة وله مال غائب أو مؤجل (1) لا بهبة (2) ويشترط للزوم شراء الرقبة، أن يكون ثمنها (فاضلا عن كفايته دائما (3) و) عن (كفاية من يمونه) من زوجة ورقيق وقريب (4) (و) فاضلا (عما يحتاجه) هو ومن يمونه (من مسكن وخادم) صالحين لمثله (5) إذا كان مثله يخدم (6) (ومركوب وعرض بذلة) يحتاج إلى استعماله (وثياب تجمل (7) .
__________
(1) لأنه لا ضرر عليه فيهن ويجوز أن يأخذ قرضا لثمن الرقبة، وله ما يفي به، وفي الغاية: ومن له فوق ما يصلح مثله، من خادم ونحوه، وأمكنه بيعه، وشراء صالح لمثله، ورقبة بالفاضل، لزمه فلو تعذر، أو كان له سرية يمكن بيعها وشراء سرية ورقبة بثمنها لم يلزمه.
(2) بأن وهبت له هي أو ثمنها، للمنة عليه في قبولها، وذلك ضرر في حقه.
(3) مرادهم سنة كاملة.
(4) كأب، أو أم، أو ولد، أو أخ، وغيرهم، ممن تجب نفقتهم عليه، على ما يأتي.
(5) فلا يأخذ من رأس المال، الذي يقوم كسبه بمؤونته، وقال الموفق وغيره: من ملك رقبة، أو أمكنه تحصيلها، فاضلا عن كفايته، وكفاية من يمونه على الدوام، وغيرها من حوائجه الأصلية، بثمن مثلها، لزمه العتق، أجمع أهل العلم على ذلك، وأنه ليس له الانتقال عنه إلى الصيام، إذا كان حرا مسلما.
(6) عادة، أو لكبر، أو مرض، أو زمانه، أو عظم خلق، ونحوه مما يعجز عن خدمته، ولا يجد رقبة فاضلة عن خدمته لم يلزمه العتق وهو قول الشافعي.
(7) أي وأن يكون ثمنها فاضلا عن مركوب يحتاج إلى استعماله وعرض بذلة، كفرشه، وأوانيه وآلة حرفته، وثيابه التي يلبسها دائما، وغير ذلك مما يحتاج إلى استعماله، وفاضلا عن ثياب تجمل كلباسه الذي يتجمل به، ولا يزيد على ملبوس مثله، لم يلزمه العتق بثمنها.(7/17)
و) فاضلا عن (مال يقوم كسبه بمؤونته) ومؤونة عياله (1) (وكتب علم) يحتاج إليها (ووفاء دين) (2) لأن ما استغرقته حاجة الإنسان، فهو كالمعدوم (3) (ولا يجزئ في الكفارات كلها) ككفارة الظهار، والقتل، والوطء في نهار رمضان، واليمين بالله تعالى (إلا رقبة مؤمنة) (4) .
__________
(1) كعقار يحتاج إلى غلته، أو عرض للتجارة، ولا يستغني عن ربحه، في مؤونته ومؤونة عياله، وحوائجه، الأصلية، لم يلزمه العتق، لأنه غير فاضل عن حاجته.
(2) أي وفاضلا عن كتب علم يحتاج إليها، ووفاء دين الله، أو لآدمي حال أو مؤجل، لم يلزمه العتق قولا واحدا.
(3) في جواز الانتقال إلى بدله، وإن استغنى عن شيء من ذلك، مما يمكنه أن يشتري به رقبة لزمه العتق، لقدرته عليه بلا ضرر، فلو كان له خادم يمكن بيعه، ويشتري بثمنه رقبتين يستغني بخدمة أحدهما ويعتق الآخر لزمه، أوله دار فوق ما يحتاجه يمكنه بيعها، أو صنعة يفضل منها عن كفايته ما يمكنه به شراء رقبة، أو له ثياب فاخرة، تزيد على ملابس مثله يمكنه بيعها، وإن كان له مال غائب، أو دين يرجو الوفاء، وأمكنه شراء رقبة نسيئة، لزمه، لأنه قادر بمالا مضرة فيه.
(4) أي مطلق الإيمان، ذكره شيخ الإسلام، وهو مذهب مالك والشافعي.(7/18)
لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (1) وألحق بذلك سائر الكفارات (2) (سليمة من عيب يضر بالعمل ضررا بينا) (3) لأن المقصود تمليك الرقيق منافعه، وتمكينه من التصرف لنفسه، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررا بينا (كالعمى (4) والشلل ليد، أو رجل، أو اقطعهما) أو اليد والرجل (5) (أو اقطع الأصبع الوسطى، أو السبابة، أو الإبهام (6) أو الأنملة من الإبهام) أوأنملتين من وسطى، أو سبابة (7) .
__________
(1) وهو في القتل إجماع، حكاه ابن المنذر وغيره، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - «أعتقها فإنها مؤمنة» .
(2) قياسا عليه، وحملا للمطلق على المفيد، وهو ظاهر المذهب، وقول مالك والشافعي، وغيرهما.
(3) وهو مذهب الجمهور، مالك والشافعي، وأصحاب الرأي.
(4) لأن الأعمى لا يمكنه العمل، في أكثر الصنائع.
(5) لأن اليد آلة البطش، والرجل آلة المشي، فلا يتهيأ له كثير من العمل، مع شلل إحداهما أو قطعها.
(6) لأن نفع اليد يزول بذلك.
(7) لا واحدة لبقاء نفع اليد.(7/19)
(أو اقطع الخنصر والبنصر) معا (من يد واحدة) لأن نفع اليد يزول بذلك (1) وكذا أخرس لا تفهم إشارته (2) (ولا يجزئ مريض ميئوس منه (3) ونحوه) كزمن ومقعد، لأنهما لا يمكنهما العمل في أكثر الصنائع (4) وكذا مغصوب (5) (ولا) تجزئ (أم ولد) (6) لأن عتقها مستحق بسبب آخر (7) .
__________
(1) ويجزئ من قطعت خنصره فقط، أو بنصره فقط، أو قطعت إحداهما من يد واحدة، وقطعت الأخرى من اليد الأخرى، لأن نفع الكفين باق ومفهومه أنه يجزئ من قطعت أصابع قدمه كلها، وجزم به في الإقناع، واختاره الموفق وغيره وهو مذهب الشافعي.
(2) أي وكذا لا يجزئ عتق أخرس، لا تفهم إشارته لأن منفعته زائلة، أشبه زوال العقل، ولا أصم أخرس، ولو فهمت إشارته لفقد حاستين، فإن كان أخرس فقط، وفهمت إشارته أجزأ، لأن الإشارة تقوم مقام الكلام، ولا يجزئ مجنون مطبق، لأنه معدوم النفع.
(3) كمرض السل، لعدم تمكنه من العمل، وإن رجي برؤه كحمى وصداع، أجزأ، لأن ذلك لا يمنعه من العمل.
(4) فلم يجز عتقه في كفارة ظهار، أو غيره.
(5) أي لا يجزئ عتق عبد مغصوب، وإذا أعتقه مالكه، لعدم تمكنه من منافعه، وكذا عبد غصب منه حال كونه في يد غاصب، وكذا غائب لا يعلم خبره.
(6) ولا يجزئ عتق رحم محرم.
(7) وهو إيلاد السيد لها، ولا يجزئ أيضا ولد أم ولده، الذي ولدته بعد كونها أم ولد.(7/20)
(ويجزئ المدبر) (1) والمكاتب إذا لم يؤد شيئا (2) (وولد الزنا والأحمق (3) والمرهون والجاني) (4) والصغير والأعرج يسيرا (5) (والأمة الحامل ولو استثنى حملها) (6) لأن ما في هؤلاء من النقص لا يضر بالعمل (7) .
__________
(1) صرح به في المنتهى وغيره، لقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولأنه عبد كامل المنفعة لم يحصل عن شيء منه عوض، ولأنه يجوز بيعه، وهذا قول الشافعي وقال بعضهم: لا يجزئ عتق المدبر، وهو مذهب مالك، وأصحاب الرأي، لأن عتقه مستحق في غير الكفارة، فلم يجزئه، كالذي استحق عليه الإطعام في النفقة، فدفعه في الكفارة فالله أعلم.
(2) من كتابته لأنه رقبة كاملة، سالمة، لم يحصل عن شيء منها عوض، وإن أدى منها شيئا لم تجز، لحصول العوض عن بعضه، كما لو أعتق بعض رقبة.
(3) أي: ويجزئ عتق ولد الزنا، وهو قول الأكثر، وفي الإنصاف: لا اعلم فيه خلافا؛ قال الشيخ: ويحصل له أجره كاملا، فإنه يشفع مع صغره لأمه لا لأبيه اهـ ويجزئ عتق الأحمق، وهو الذي يعمل القبيح والخطأ على بصيرة لقلة مبالاته بما يعقبه من المضار.
(4) سواء كان الراهن معسرا أولا، وسواء كانت الجناية موجبة لقتله، أولا.
(5) أي ويجزئ الصغير لا الجنين، في قول أكثر أهل العلم، ويجزئ الأعرج عرجا يسيرا، لأنه قليل الضرر بالعمل، فإن كان فاحشا كثيرا لم يجز، وكذا يجزئ مجبوب، وخصي وأجدع أنف، وأذن ومن يخنق في بعض الأحيان والمعلق عتقه بصفة قبل وجودها.
(6) أي من العتق، لكمالها من دونه وتجزئ الأمة المزوجة.
(7) ضررا بينا، ومالا يضر بالعمل، لا يمنع تمليك السيد العبد منافعه، وتكميل أحكامه، فأجزأ عتق أحدهم في الكفارة، كالسالم من العيوب.(7/21)
فصل (1)
(يجب التتابع في الصوم) (2) لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (3) وينقطع بصوم غير رمضان (4) ويقع عما نواه (5) (فإن تخلله رمضان) لم ينقطع التتابع (6) .
__________
(1) في بيان حكم الصوم في الكفارة، والإطعام وما يتعلق بذلك.
(2) في جميع الشهرين، بأن لا يفرقه إجماعا، ومعناه: الموالاة بين صوم أيامهما ويبيت النية من الليل، لا نية التتابع بل يكفي حصوله بالفعل.
(3) أي {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} رقبة، كما تقد {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} إذا قدر عليه، حرا كان أو عبدا بلا خلاف، ولا يجوز أن يفطر فيهما، ولا أن يصوم فيهما من غير الكفارة.
(4) فلو صام أثناء الشهرين تطوعا، أو قضاء، أو عن نذر، أو غير ذلك، غير ما استثني، انقطع التتابع، أو أفطر ناسيا، لوجوب التتابع، أو أفطر لغير عذر، انقطع التتابع، وفي الإنصاف: بلا نزاع، اهـ لأنه فرقه بشيء يمكنه التحرز منه.
(5) من قضاء، أو كفارة، أو نذر، أو غير ذلك، لأنه زمان لم يتعين لكفارة.
(6) أي فإن تخلل صومهما صوم شهر رمضان، بأن يبتدئ الصوم من أول شعبان مثلا، فيتخلله رمضان، لم ينقطع التتابع، لتعين رمضان للصوم الواجب فيه.(7/22)
(أو) تخلله (فطر يجب كعيد وأيام تشريق (1) وحيض) ونفاس (2) (وجنون ومرض مخوف (3) ونحوه) كإغماء جميع اليوم لم ينقطع التتابع (4) (أو أفطر ناسيا أو مكرها (5) أو لعذر يبيح الفطر) كسفر (6) (لم ينقطع) التتابع، لأنه فطر لسبب لا يتعلق باختيارهما (7) .
__________
(1) أي أو تخلل صوم الكفارة فطر يجب، كفطر العيدين وأيام التشريق، بأن يبتدئ مثلا من ذي الحجة، فيتخلل يوم النحر، وأيام التشريق، لم ينقطع التتابع، لتعين الفطر فيه، لأنه زمن منعه الشرع عن صومه في الكفارة.
(2) أي: أو تخلله فطر، لحيض أو نفاس، لم ينقطع التتابع، وهو في الحيض إجماع، وقيس عليه النفاس، ويجوز أن يبتدئ صوم الشهرين، من أول شهر ومن أثنائه بغير خلاف.
(3) أو تخلل فطر لجنون، لم ينقطع التتابع، أو تخلله فطر لمرض مخوف، لم ينقطع التتابع، تبع في ذلك المنتهى وغيره، وفي الإقناع، ولو غير مخوف.
(4) على الصحيح من المذهب، كالجاهل جزم به غير واحد من الأصحاب لأنه أفطر بسبب لا صنع له فيه.
(5) أو مخطئا، كآكل يظنه ليلا فبان نهارا، وأما الناسي والمكره فلبقاء صومهما لخبر «عفي لأمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» لا جاهل بوجوب التتابع وتقدم.
(6) وكفطر حامل، ومرضع، لضرر ولدها بالصوم أفطرتا خوفا على أنفسهما.
(7) لأنه أفطر لعذر يبيح الفطر في رمضان، فلم ينقطع التتابع.(7/23)
ويشترط في المسكين المطعم من الكفارة: أن يكون مسلما حرا، ولو أنثى (1) (ويجزئ التكفير بما يجزئ في فطرة فقط) (2) من بر وشعير، وتمر وزبيب، وأقط (3) ولا يجزئ غيرها ولو قوت بلده (4) .
__________
(1) كالزكاة فيشترط في المساكين، ثلاثة شروط: الإسلام، والحرية، وأن يكون قد أكل الطعام، والمساكين، هم الذين تدفع إليهم الزكاة لحاجتهم، ويدخل فيهم الفقراء، ولا يجوز دفعها إلى كافر، ولو ذميا، عند الجمهور، مالك والشافعي، وغيرهما، ولا يجوز دفعها إلى عبد، بلا خلاف، ولا إلى أم ولد، وهو قول مالك والشافعي، ولا إلى مكاتب، لأنه ليس بمسكين، حيث أنه إن لم يكن له كسب رجع إلى سيده.
(2) سواء كان قوت بلده، أولا، هذا المذهب.
(3) فإن عدم الأصناف الخمسة، أجزأ مما يقتات من حب وثمر، كما ذكروه في الفطرة.
(4) مع وجود أحدها، واختار أبو الخطاب وغيره: إجزاء غير الأصناف الخمسة مطلقا، واختار الشيخ: إنما يخرج في الكفارة، المطلقة غير مقيد بالشرع، بل العرف قدرا أو نوعا، من غير تقدير ولا تمليك، وهو قياس المذهب، في الزوجة والأقارب، والمملوك والضيف، والأجير المستأجر بطعامه، وأن الإدام يجب إن كان يطعم أهله بإدام، وإلا فلا وعادة الناس تختلف في ذلك، في
الرخص والغلاء، واليسار والإعسار، وتختلف بالشتاء والصيف، وفي الإنصاف: إن كان قوت بلده غير ذلك أجزأه لقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} وصوبه.(7/24)
(ولا يجزئ) في إطعام كل مسكين (من البر أقل من مد (1) ولا من غيره) كالتمر والشعير (أقل من مدين (2) لكل واحد ممن يجوز دفع الزكاة إليهم) لحاجتهم، كالفقير، والمسكين وابن السبيل، والغارم لمصلحته (3) ولو صغيرا لم يأكل الطعام (4) والمد: رطل وثلث، بالعراقي، وتقدم في الغسل (5) (وإن غدى المساكين، أو عشاهم لم يجزئه) لعدم تمليكهم ذلك الطعام (6) .
__________
(1) لما روى الإمام أحد: جاءت امرأة من بني بياضة، بنصف وسق شعير، فقال - صلى الله عليه وسلم - للمظاهر «أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مدبر» وهو قول ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما، وقال الموفق: لم نعرف لهم في الصحابة خلافا، فكان إجماعا، وقال سليمان بن يسار، أدركت الناس إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة.
(2) لخبر أوس بن الصامت، أن خولة قالت: سأعينه بعرق من تمر، وقد أعطاه - صلى الله عليه وسلم - عرقا، والعرقان ثلاثون صاعا، فكان لكل مسكين نصف صاع.
(3) أي لمصلحة نفسه ومفهومه: إن كان لمصلحة غيره، كالغارم لإصلاح ذات البين لم يجزئه، واقتصر ابن القيم، على الفقراء والمساكين، لظاهر القرآن.
(4) إذا كان من أهلها، لأنه حر مسلم، محتاج أشبه الكبير، ولدخوله في عموم الآية، وكذا الزكاة وأكله في الكفارة ليس بشرط.
(5) وتقدم أن المد في الماء والطعام سواء.
(6) لأن الإعطاء هو المنقول عن الصحابة، وعنه: يجزئ إذا أطعمهم القدر الواجب لهم وهو قول أبي حنيفة، واختيار الشيخ وغيره، لقوله {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وهذا قد أطعمهم.(7/25)
بخلاف ما لو نذر إطعامهم (1) ولا يجزئ الخبز ولا القيمة (2) وسن إخراج أدم مع مجزئ (3) (وتجب النية في التكفير من صوم وغيره) (4) فلا يجزئ عتق، ولا صوم، ولا إطعام بلا نية (5) لحديث «إنما الأعمال بالنيات» (6) .
__________
(1) فيجزئ إطعامهم بلا خلاف، لأنه وفى بنذرة.
(2) هذا المذهب عند بعض الأصحاب، وقال غير واحد، يجزئ رطلان بالعراقي، وهو بالدمشقي ستمائة درهم خمس أواق وسبع أوقية، هذا إذا أخرج من البر، ومن الشعير ضعفه لما تقدم من قوله: {فَإِطْعَامُ} وهذا إطعام، وصوبه في الإنصاف، وعنه: يجزئ إذا كان قدر الواجب، واختار الشيخ، قدر الإجزاء، ولم يعتبر القدر الواجب، قال أحمد: أشبعهم، قال: ما أطعمهم؟ قال خبزا ولحما إن قدرت أو من أوسط طعامكم، وأما القيمة، فالمذهب ومذهب مالك والشافعي لا تجزئ، وأجازه أصحاب الرأي، وقال الموفق: الأولى، أولى لظاهر الآية.
(3) استحبه بعضهم، خروجا من خلاف من أوجبه، إذ هو المعتاد في الأغلب.
(4) لتميز الكفارة من غيرها.
(5) ومحل النية في الصوم الليل، وفي العتق والإطعام معه أو قبله.
(6) ولأن العتق والإطعام والصيام يقع متبرعا به، وعن كفارة أخرى أو نذر فلم ينصرف إلى هذه الكفارة إلا بنية.(7/26)
ويعتبر تبييت نية الصوم، وتعيينها جهة الكفارة (1) (وإن أصاب المظاهر منها) في أثناء الصوم (ليلا أو نهارا) (2) ولو ناسيا أو مع عذر يبيح الفطر (انقطع التتابع) (3) لقوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (4) (وإن أصاب غيرها) أو غير المظاهر منها (ليلا) (5) .
__________
(1) فيعين بنيته أنه صوم كفارة ظهار، وكذا كفارة يمين، وغير ذلك، فلا تكفي نية التقرب إلى الله فقط دون نية الكفارة، لتنوع التقرب إلى واجب ومندوب.
(2) انقطع التتابع، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، قال الوزير: والصحيح أن الوطء في هذه المدة عامدا، سواء كان ليلا أو نهارا، يوجب الاستئناف، لنص القرآن، وعن أحمد، لا ينقطع إن وطئ ليلا، وهو مذهب الشافعي، وارتكاب المحرم لا يمنع صحة التتابع، وإجزاءه فالله أعلم.
(3) هذا المذهب وعنه لا يفطر، ولا ينقطع إذا وطئها ناسيا، وهو قول الشافعي، وابن المنذر؛ وظاهر اختيار الشيخ؛ لأنه فعل المفطر ناسيا، أشبه ما لو أكل ناسيا.
(4) فأمر تعالى بالكفارة قبل الوطء، وهو لم يأتبه على ما أمر، فلم يجزئه فأما إن وطئ نهارا في الشهرين عامدا، أو أفطر، انقطع التتابع إجماعا، إذا كان غير معذور.
(5) لم ينقطع التتابع، قال الموفق وغيره: بغير خلاف نعلمه.(7/27)
أو ناسيا أو مع عذر يبيح الفطر (لم ينقطع) التتابع بذلك لأنه غير محرم عليه، ولا هو محل للتتابع (1) ولا يضر وطء مظاهر منها، في أثناء إطعام مع تحريمه (2) .
__________
(1) لأنه فعل المفطر ناسيا، أشبه ما لو أكل ناسيا، ومع العذر لا أثر له في قطع التتابع.
(2) نص عليه، وكذا أثناء عتق، كما لو أعتق نصف عبد، ثم وطء، ثم اشترى باقية وأعتقه، فلا يقطعهما وطؤه، إلا انه محرم للنهي عنه قبل أن يكفر، ويبني على ما قدمه من الإطعام أو العتق ويتمه.(7/28)
كتاب اللعان (1)
مشتق من اللعن (2) لأن كل واحد من الزوجين، يلعن نفسه في الخامسة، إن كان كاذبا (3) وهو: شهادات، مؤكدات بأيمان، من الجانبين (4) مقرونة بلعن وغضب (5) و (يشترط في صحته: أن يكون بين زوجين) مكلفين (6) .
__________
(1) وما يلحق من النسب؛ حكم اللعان ثابت بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، وجوزه الجمهور بمجرد القذف، للآية، وجوز الأصحاب وغيرهم: ان يلاعن امرأته، إذا رأى رجلا يعرف بالفجور، يدخل عليها، ويخرج من عندها، نظرا إلى الأمارات والقرائن، وذلك لأنه يلحقه بزناها من العار والمسبة، وفساد الفراش، وإلحاق ولد غيره به ما يحوجه إلى قذفها، وتخلصه من العار، لكونه زوج بغي، ولا يمكنه إقامة البينة على زناها في الغالب، وهي لا تقربه، وقوله عليها غير مقبول، فلم يبق سوى تحالفهما، بأغلظ الأيمان، ثم يفسخ.
(2) مصدر لاعن يلاعن لعانا، إذا فعل ما ذكر، أو من لعن كل واحد منهما الآخر.
(3) ذكره الموفق وغيره، فتحصل اللعنة عليه، واللعن: الطرد والإبعاد، يقال لعنه الله، أي: أبعده، ويقع باللفظ، والتعن الرجل إذا لعن نفسه من قبل نفسه.
(4) وهو قول بالله، في قول: أشهد بالله.
(5) قائمة مقام حد قذف، أو تعزير في جانبه، أو حد زنا في جانبها.
(6) ولو قنين، أو فاسقين، أو ذميين، أو أحدهما، والشرط الثاني: سبق قذفها بزنا، والثالث: أن تكذبه ويستمر إلى انقضاء اللعان، وقال الوزير: أجمعوا على أن من شرط صحته، أن يكون بحكم حاكم.(7/29)
لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (1) فمن قذف أجنبية حد ولا لعان (2) (ومن عرف العربية، لم يصح لعانه بغيرها) لمخالفته للنص (3) (وإن جهلها) أي العربية (فبلغته) أي لا عن بلغته ولم يلزمه تعلمها (4) (فإذا قذف امرأته بالزنا) في قبل أو دبر ولو في طهر وطئ فيه (5) (فله إسقاط الحد) إن كانت محصنة (6) والتعزير إن كانت غير محصنة (باللعان) (7) .
__________
(1) أي يقذفون نساءهم بالزنا، فدلت الآية، على أنه إنما يكون اللعان بين الرجل وزوجته، فكان ذلك شرطا لصحته، مدخولا بها أولا، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه لظاهر الآية.
(2) أي لا يقع بينهما لعان، وإنما عليه الحد، ويأتي في بابه إن شاء الله تعالى، ولو نكحها بعد قذفه لها، ولا لعان بقذف أمته، ولا تعزير.
(3) فإن الشرع ورد بالعربية، فلم يصح بغيرها، كأذكار الصلاة.
(4) كأركان النكاح.
(5) بأن قال: زنيت في قبلك، أو دبرك، فكذبته.
(6) أي فله إسقاط ما لزمه، من الحد، بقذفها، إن كانت محصنة يعني عفيفة، باللعان، بلا خلاف، لقوله - صلى الله عليه وسلم -، لهلال ابن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سحماء البينة أوحد في ظهرك فنزلت الآية.
(7) أي: وله إسقاط التعزير عنه أيضا، حيث لزمه بقذمها إن كانت غير عفيفة، باللعان، أو كانت ذمية، أو كانت رقيقة، وإن لم يلاعن زوجته حد لقذفها، إن كانت محصنة، وإلا عزر إن كانت غير محصنة، بلا نزاع.(7/30)
لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} الآيات (1) (فيقول) الزوج (قبلها) أي قبل الزوجة (2) (أربع مرات: أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه (3) ويشير إليها) إن كانت حاضرة (4) (ومع غيبتها يسميها وينسبها) بما تتميز به (5) .
__________
(1) أي والذين يقذفون نساءهم (ولم يكن لهم شهداء) يشهدون على صحة ما قالوه {إِلا أَنْفُسُهُمْ} أي غير أنفسهم، إلى آخر الآيات، فلهم إسقاط الحد باللعان، وصفته، كما قال ابن رشد وغيره، متقاربة عند جمهور العلماء، ليس بينهم في ذلك اختلاف، على ظاهرها تقتضيه ألفاظ الآيات الكريمة.
(2) قدم لأن جانبه أرجح من جانب الزوجة قطعا، فإن إقدامه على إتلاف فراشه، ورميها بالفاحشة على رءوس الأشهاد، وتعريض نفسه لعقوبة الدنيا والآخرة، وفضيحة نفسه وأهله مما تأباه العقلاء، وتنفر عنه نفوسهم، لولا أن الزوجة اضطرته إلى ذلك، والله جعل له فرجا، باللعان، فصار جانبه أقوى.
(3) لقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أمية، قم فاشهد أربع شهادات بالله، فيعيد قوله: أشهد بالله ... إلخ، مرة بعد أخرى، حتى يكمل ذلك أربع مرات، وذلك في مقابلة أربعة شهداء.
(4) ولا يحتاج مع حضورها، والإشارة إليها، إلى تسميتها وبيان نسبها، كما لا يحتاج إلى ذلك في سائر العقود، اكتفاء بالإشارة.
(5) حتى تنتفي المشاركة بينها وبين غيرها، وفي المبدع: لا يبعد أن يقوم وصفها بما هي مشهورة به، مقام الرفع في نسبها، ومقتضاه: عدم اشتراط اجتماعهما حال اللعان؛ كما اختار في عيون المسائل، وفي الإنصاف: المذهب لا بد من اجتماعهما، حالة التلاعن.(7/31)
(و) يزيد (في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين (1) ، ثم تقول هي أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا (2) ، ثم تقول في الخامسة: وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) (3) .
__________
(1) أي ويزيد في الشهادة الخامسة قوله: {أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي عليها فيما رماها من الزنا، وفي الاختيارات: ولو لم يقل: فيما رميتها به؛ قياس المذهب صحته، وقال الوزير: لا أراه يحتاج إليه.
(2) وذلك حيث أنه لا شاهد له إلا نفسه، مكنت المرأة أن تعارض أيمانه بأيمان مكررة مثله، تدرأ بها الحد عنها واستحسن بعضهم، قولها: فيما رماني به من الزنا خروجا من خلاف من أوجبه، ولا يجب ولا يشترط، للآية والأخبار، وإذا تم اللعان سقط عنه الحد، وإن نكلت صارت أيمانه مع نكولها، بينة قوية لا معارض لها.
قال ابن القيم: وهو الذي يقوم عليه الدليل، ومذهب مالك والشافعي، وأحمد وغيرهم: فيحكم بحدها إذا نكلت، وهو الصحيح، ويدل عليه القرآن وجزم به الشيخ وغيره.
(3) فيما رماها به من الزنا، وخصها بالغضب لأن المغضوب عليه، هو الذي يعرف الحق ويحيد عنه، ولعظم الذنب، بالنسبة إليها، واختير في حقه اللعن، لأنه قول، وهو الذي بدأ به.(7/32)
وسن تلاعنهما قياما (1) بحضرة جماعة أربعة فأكثر (2) بوقت ومكان معظمين (3) وأن يأمر حاكم من يضع يده على فم زوج وزوجة عند الخامسة (4) ويقول: اتق الله فإنها الموجبة (5) وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة (6) .
__________
(1) لقوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية «قم فاشهد أربع شهادات» ولأنه أبلغ في الردع.
(2) لحضور ابن عباس، وابن عمر، وسهل بن سعد؛ وليس حضور أربعة واجبا بلا خلاف، والصبيان إنما يحضرون تبعا للرجال.
(3) كبعد العصر يوم الجمعة، وبين الركن والمقام بمكة، وعند الصخرة ببيت المقدس، وعند منبر في سائر المساجد، لأن ذلك أبلغ في الردع، وتقف الحائض عند باب المسجد، للعذر، يبدأ الزوج فيلتعن وهو قائم، فإذا فرغ قامت المرأة فالتعنت.
(4) فيأمر رجلا يضع يده على فم الزوج، ويأمر امرأة تضع يدها على فم المرأة.
(5) أي: للعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، أو غضب الله عليها إن كان من الصادقين، لالتزامهما ذلك فيها.
(6) لما روى الجوزجاني، من حديث ابن عباس: يشهد أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين، ثم أمر به فأمسك على فيه، فوعظه، وقال: ويحك كل شيء أهون عليك من لعنة الله، ثم أرسله، فقال: عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين، ثم أمر بها فأمسك علي فيها، فوعظها، وقال، ويحك: كل شيء أهون عليك من غضب الله؛ وعذاب الدنيا ينقطع وعذاب الآخرة دائم، والسر التخويف، ليتوب الكاذب منهما ويرتدع، وفي حديث أنس وغيره: فلما كانت
عند الخامسة وقفوها، وقالوا: إنها موجبة، فتلكأت ونكصت، حتى ظننا أنها ترجع.(7/33)
(فإن بدأت) الزوجة (باللعان قبله أي قبل الزوج لم يصح (1) (أو نقص أحدهما شيئا من الألفاظ) أي الجمل (الخمسة) لم يصح (2) (أو لم يحضرهما حاكم أو نائبه) عند التلاعن، لم يصح (3) (أو أبدل) أحدهما (لفظه، أشهد، بأقسم، أو أحلف) لم يصح (4) (أو) أبدل الزوج (لفظة اللعنة بالإبعاد) أو الغضب ونحوه، لم يصح (5) (أو) أبدلت لفظة (الغضب بالسخط لم يصح) اللعان، لمخالفته النص (6) وكذا إن علق بشرط (7) أو عدمت موالاة الكلمات (8) .
__________
(1) لأنه خلاف المشروع، ولأن لعانه بينة الإثبات، ولعانها بينة الإنكار، فلم يجز تقديمها، وكذا إن أتى به قبل طلبها لم يصح، إن لم يكن ولد يريد نفيه.
(2) لأن الله تعالى علق الحكم عليها، ولأن نص القرآن أتى بها على خلاف القياس بعدد، فكان واجبا، كسائر المقدرات بالشرع، ولأنها بينة، فلم يجز النقص من عددها، كالشهادة.
(3) لأنه يمين في دعوى، فاعتبر فيه أمر الحاكم، كسائر الدعاوي.
(4) لأن اللعان يقصد فيه التغليظ، ولفظ الشهادة أبلغ فيه.
(5) أو قدم اللعنة فيما قبل الخامسة لم يصح، لمخالفة النص.
(6) أو أتى به أحدهما قبل إلقائه عليه من الإمام أو نائبه لم يصح، كما لو حلف قبل أن يحلفه الحاكم.
(7) أي وكذا الحكم إن علق أحدهما اللعان بشرط، كأن يقول: لقد زنت زوجتي هذه، إن صدقني فلان، لم يصح.
(8) أي في اللعان عرفا، لم يصح اللعان، لأنه ورد في القرآن على هذا الترتيب فوجب أن يتقيد بلفظه، فمذهب جماهير العلماء، على ما يقتضيه لفظ القرآن.(7/34)
فصل (1)
(وإن قذف زوجته الصغيرة (2) أو المجنونة بالزنا عزر ولا لعان) (3) لأنه يمين فلا يصح من غير مكلف (4) (ومن شرطه قذفها) أي الزوجة (بالزنا لفظا) قبله (5) (كـ) قوله (زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين في قبل أو دبر) (6) لأن كلا منهما قذف يجب به الحد (7) ولا فرق بين الأعمى والبصير (8) .
__________
(1) في بيان شروط اللعان، وما يثبت به من الأحكام.
(2) أي التي لا يوطأ مثلها بالزنا، عزر ولا لعان.
(3) أي: أو قذف زوجته المجنونة، حال جنونها بالزنا، عزر ولا لعان بينهما.
(4) أي: لأن اللعان يمين، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «لولا الإيمان لكان لي ولها شأن» فلا يصح اللعان من غير مكلف، إذ لا عبرة بقوله: فلا يوجب حدا واللعان إنما وجب لإسقاط الحد.
(5) أي ومن شرط صحة اللعان: قذف زوجته بالزنا، قبل اللعان.
(6) وكذا قال مالك، والشافعي، يكون قاذفا بقوله ذلك.
(7) فجاز اللعان درءا للحد عنه، فإن لم يقذفها فلا لعان.
(8) نص عليه.(7/35)
لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية (1) (فإن قال) لزوجته (وطئت بشبهة أو) وطئت (مكرهة أو نائمة (2) أو قال لم تزن، ولكن ليس هذا الولد مني (3) فشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه) (4) لقوله - صلى الله عليه وسلم - «الولد للفراش» (5) (ولا لعان) بينهما (6) لأنه لم يقذفها بما يوجب الحد (7) .
__________
(1) فدلت الآية بعمومها، على جواز اللعان من الأعمى كالبصير، إذ لا فرق بينهما في ذلك، وعموم اللفظ يقدم على خصوص السبب.
(2) أو قال: وطئت مع إغماء، أو جنون، فلا لعان بينهما لأنه لم يقذفها بما يوجب الحد، ولحقه الولد للخبر الآتي، وإن قال: وطئك فلان بشبهة، وكنت عالمة، فقال الموفق وغيره: له اللعان ونفي الولد، وصوبه في الإنصاف، وقال القاضي: لا يلاعن فالله أعلم.
(3) أو قال: لم أقذفك، ولكن ليس هذا الولد مني.
(4) أي فشهدت ببينة وتكفي امرأة ثقة، أنه ولد على فراشه، وهي فراشه، أي في عصمته، لحقه نسبه، إذ الولد للفراش.
(5) فدل الحديث على لحوق النسب، إذا ثبت الفراش.
(6) أي في قوله، وإن قال لزوجته، وطئت بشبهة، وما عطف عليه، وإذا قذفها ثم مات قبل لعانها، أو قبل إتمام لعانه، سقط اللعان، ولحقه الولد، وورثه إجماعا.
(7) ولو كان بينهما ولد، فلا يلاعن لنفيه، ويلحقه نسبه للخبر.(7/36)
ومن شرطه أن تكذبه الزوجة (1) (وإذا تم) اللعان (سقط عنه) أي عن الزوج (الحد) إن كانت محصنة (والتعزير) إن كانت غير محصنة (2) (وثبتت الفرقة بينهما) أي بين الزوجين بتمام اللعان (بتحريم مؤبد) (3) ولم لم يفرق الحاكم بينهما (4) أو أكذب نفسه بعد (5) وينتفي الولد إن ذكر في اللعان صريحا (6) .
__________
(1) ويستمر ذلك إلى انقضاء اللعان، وإن صدقته أو ثبت زناها، أو قذف خرساء ونحوها، لحقه النسب، ولا حد ولا لعان.
(2) أي حرة عفيفة بلعانه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لهلال «البينة أو حد في ظهرك» ، فنزلت الآية، وشهد كما في الآية، ولأن شهادته أقيمت مقام بينة وهي تسقط الحد، فكذا لعانه، وإن نكل عن اللعان، أو تمامه، فعليه الحد، وإن قذفها برجل بعينه، ولم يلاعن، فلكل منهما المطالبة بالحد.
(3) ولم يحتج إلى طلاق، أو فسخ، لما في الصحيحين «ذلكم التفريق بين كل متلاعنين» ، ولأبي داود وغيره؛ ثم لا يجتمعان أبدا، وقال ابن مسعود وغيره، مضت السنة بذلك وهو مقضتى حكم اللعان، ومذهب جماهير العلماء.
(4) وهو مذهب الجمهور أن الفرقة تقع بنفس اللعان، لما في صحيح مسلم ذلك التفريق بين كل متلاعنين، وقوله «لا سبيل لك عليها» وغير ذلك، مما هو ظاهر في أن الفرقة وقعت بينهما، بنفس اللعان.
(5) أي بعد اللعان، ثبتت الفرقة بينهما بتحريم مؤبد.
(6) كقوله: أشهد بالله لقد زنت، وما هذا ولدي، وتقول هي: أشهد بالله لقد كذب، وهذا الولد ولده.(7/37)
أو تضمنا (1) بشرط أن لا يتقدمه إقرار به، أو بما يدل عليه (2) كما لو هنئ به فسكت (3) أو أمن على الدعاء (4) أو أخر نفيه مع إمكانه (5) ومتى أكذب نفسه بعد ذلك لحقه نسبه (6) وحد لمحصنة، وعزر لغيرها (7) .
__________
(1) كأن يقول: أشهد بالله، لقد زنت في طهر لم أصبها فيه، واعتزلتها حتى ولدت.
(2) أي وينتفي بشرط أن لا يتقدم اللعان إقرار بالمنفي، أو إقرار بما يدل على الإقرار به، كما لو نفاه وسكت عن توأمه.
(3) لم ينتفت لأن السكوت صلح، دال على الرضى.
(4) كأن يقول: بارك الله عليك، أو رزقك الله مثله، ونحوه، لم ينتف وهو قول أبي حنيفة، لأنه جواب الراضي في العادة.
(5) أي إمكان النفي بلا عذر، أو أخره رجاء موته، لأنه خيار لدفع ضرر، فكان على الفور، كخيار الشفعة، وإن قال: لم أعلم به، أو لم أعلم أن لي نفيه، أو أنه على الفور، وأمكن صدقه قبل، ولعذر كحبس ومرض، ونحو ذلك لم يسقط نفيه.
(6) أي نسب الولد الذي أقر به، لتكذيبه لنفسه بعد نفيه، إذا كان حيا، غنيا كان أو فقيرا، قال الموفق: بغير خلاف بين أهل العلم، وكذا إن كان ميتا.
(7) كذمية أو رقيقة، سواء كان لاعن أولا، لأن اللعان يمين أو بينه درأت عنه الحد، أو التعزير، فإذا أقر بما يخالفه بعده سقط حكمه، قال الموفق، يلزمه الحد إذا أكذب نفسه، قبل لعانها أو بعده، وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا.(7/38)
والتوأمان المنفيان أخوان لأم (1) .
__________
(1) لانتفاء النسب من جهة الأب، كتوأمي زنا، ومن نفى من لا ينتفي، كمن أقر به ونحوه، وقال: إنه من زنا حد، إن لم يلاعن لنفي الحد، لقذفه محصنة، وله درء الحد باللعان.(7/39)
فصل
فيما يلحق من النسب (1)
(من ولدت زوجته من) أي: ولدا (أمكن كونه منه لحقه) نسبه (2) لقوله - صلى الله عليه وسلم - «الولد للفراش» (3) وإمكان كونه منه (بأن تلده بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤه) إياها (4) ولو مع غيبة فوق أربع سنين (5) (أو) تلده (دون أربع سنين منذ أبانها) زوجها (6) .
__________
(1) من زوجة أو سرية وغيرهما، وما لا يلحق منه.
(2) أي من ولدت زوجته ولدا فأكثر، أمكن كون الولد من الزوج، لحقه نسبه، ما لم ينفعه باللعان.
(3) أي الولد لصاحب الفراش، وتمامه «وللعاهر» أي الزاني «الحجر» يعني الرجم بالحجارة، فدل الحديث: أن من أمكن كونه ولد على فراشه، لحقه نسبه وهو إجماع في الجملة.
(4) أو اجتماعه بها، ولا تكون فراشا إلا بالدخول، وهو قول أحمد في رواية حرب.
(5) أي ويلحقه نسبه، ولو مع غيبة الزوج، أكثر من أربع سنين، لإمكان كونه منه، وقال الموفق: ولو عشرين سنة، وعليه نصوص أحمد، ولعل المراد: ويخفي سيره.
(6) ولم تخبر بانقضاء عدتها بالقروء.(7/40)
(وهو) أي الزوج (ممن يولد لمثله كابن عشر) (1) لقوله - صلى الله عليه وسلم - «واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» (2) ولأن تمام عشر سنين يمكن فيه البلوغ، فيلحق به الولد (3) و (لا يحكم ببلوغه إن شك فيه) لأن الأصل عدمه (4) وإنما ألحقنا الولد به، حفظا للنسب واحتياطا (5) وإن لم يمكن كونه منه، كأن أتت به لدون نصف سنة، منذ تزوجها وعاش (6) .
__________
(1) وذلك فيما إذا أتت به لستة أشهر، منذ أمكن اجتماعه بها، أو لدون أربع سنين منذ أبانها.
(2) فأمر بالتفريق، يدل على إمكان الوطء، وهو سبب الولادة، وأما مقطوع الذكر والأنثيين، فقال الموفق: لا يلحق به الولد في قول عامة أهل العلم، لأنه يستحيل منه الإيلاج، والإنزال، وإن قطعت أنثياه دون ذكره، فكذلك، لأنه لا ينزل ما يخلق منه الولد عادة، ولا وجد ذلك، وهو قول الجمهور.
(3) كالبالغ وروي أن عمر بن العاص وابنه، لم يكن بينهما إلا اثنا عشر عاما.
(4) فلا يكمل به مهر، ولا تثبت به عدة، ولا رجعة لعدم ثبوت موجبها، ولأن الحكم بالبلوغ يستدعي يقينا، لترتب الأحكام عليه من التكاليف، ووجوب الغرامات فلا يحكم به مع الشك.
(5) كنظائره مما ينبغي الاحتياط له، وذلك ما لم يخالف المشروع.
(6) أي مدة يمكن إلحاقه الأحياء فيها، ولو بقدر الاستهلال، ولم يلحقه نسبه، لأنها مدة لا يمكن أن تحمل وتلد فيها، فعلم أنها كانت حاملا به، قبل تزوجها به.(7/41)
أو لفوق أربع سنين منذ أبانها، لم يلحقه نسبه (1) وإن ولدت رجعية بعد أربع سنين منذ طلقها، وقبل انقضاء عدتها (2) أو لأقل من أربع سنين من انقضاء عدتها، لحقه نسبه (3) (ومن اعترف بوطء أمته في الفرج أو دونه) (4) أو ثبت عليه ذلك (5) (فولدت لنصف سنة أو أزيد (6) لحقه) نسب (ولدها) لأنها صارت فراشا له (7) (إلا أن يدعي الاستبراء) بعد الوطء بحيضة فلا يلحقه، لأنه بالاستبراء تيقن براءة رحمها (8) .
__________
(1) لأنا علمنا أنها حملت به بعد النكاح، ولا يعتبر الإمكان إلا مع بقاء الزوجية أو العدة.
(2) لحقه نسبه.
(3) بأن حاضت ثلاث حيض، واغتسلت من الثالثة، لأنها إنما تبين بعد الحيضة الثالثة، فهو أول مدة الأربع سنين، لحقه نسبه، لأن الرجعية في حكم الزوجات، في السكنى والنفقة، ووقوع الطلاق، والحل، فأشبهت ما قبل الطلاق.
(4) لأنه قد يجامع في غير الفرج، فيسبق الماء إلى الفرج.
(5) أي أو ثبت وطؤه أمته ببينة.
(6) من وطئه.
(7) قال الوزير: اتفقوا على أن الأمة تصير فراشا بالوطء، فإذا أقر السيد بوطئها، فما أتت به من ولد، لحق سيدها، إلا ما روي عن أبي حنيفة.
(8) فيتيقن أنه من غيره، والقول قوله في حصول الاستبراء، لأنه أمر خفي، لا يمكن الاطلاع عليه إلا بعسر ومشقة.(7/42)
(ويحلف عليه) أي على الاستبراء (1) لأنه حق للولد لولاه لثبت نسبه (2) (وإن قال) السيد (وطئتها دون الفرج أو فيه) أي في الفرج (ولم أنزل، أو عزلت لحقه) نسبه لما تقدم (3) (وإن أعتقها) السيد (أو باعها بعد اعترافه بوطئها، فأتت بولد لدون نصف سنة) وعاش (لحقه) نسبه، لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإذا أتت به لدونها وعاش، علم أن حملها كان قبل عتقها وبيعها، حين كانت فراشا له (4) (والبيع باطل) لأنها صارت أم ولد له (5) .
__________
(1) إذا ادعاه، لأن الاستبراء غير مختص به، أشبه سائر الحقوق.
(2) فينتفي الولد عن السيد بذلك، ثم تلد لنصف سنة بعد الاستبراء، وإلا فلا استبراء، ولحقه الولد.
(3) ولقول عمر: ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يعزلون، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها، أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها، فاعزلوا بعده أو أنزلوا، رواه الشافعي، ولأنها ولدت على فراشه، ما يمكن كونه منه، لاحتمال كونه أنزل ولم يحس به، أو أصاب بعض الماء فم الرحم، وعزل باقيه.
(4) بلا نزاع، ومفهومه، أنه إذا لم يعش، لم يكن لاحقا به، وهذا حيث أمكن تصوير الولد بعد البيع، بأن مضى للبيع أقل مدة التصوير، وهو أحد وثمانون يوما، أما إذا لم تمض للبيع هذه المدة، كأن مضى له شهر مثلا، وأتت بولد تام الخلق لحق الأول، لعدم إمكانه كونه من الثاني، هذا مقتضى تعليلهم.
(5) لكونها حملت به في ملكه والعتق صحيح.(7/43)
ولو كان استبرأها، لظهور أنه دم فساد، لأن الحامل لا تحيض (1) وكذا إن لم يستبرئها وولدته لأكثر من نصف سنة، ولأقل من أربع سنين، وادعى مشتر أنه من بائع (2) وإن استبرئت، ثم ولدت لفوق نصف سنة، لم يلحق بائعا (3) ولا أثر لشبه مع فراش (4) .
__________
(1) وتقدم الكلام فيه مستوفى، وأن اختيار الشيخ وغيره إمكان ذلك.
(2) لحقه، قال في الإنصاف: سواء ادعاه البائع أولا، بلا نزاع، لكن لو ادعاه، فقيل: يلحقه، جزم به الموفق وغيره، وقيل: يرى القافة وصوبه.
(3) وكذا لو لم تستبرأ المبيعة، وولدت لفوق نصف سنة من بيع، ولم يقر مشتر بما ولدته لبائع، لم يلحق بائعا، قال في الإنصاف: بلا نزاع، فإن ادعاه بائع في هذه الصورة، وصدقه مشتر، لحق الولد البائع، وبطل البيع؛ وقال الشيخ: إن ادعاه البائع فلم يصدقه المشتري، فهو عبد للمشتري، هذا المذهب، وظاهر كلام الموفق: أنه يكون عبدا للمشتري، مع عدم لحوق النسب بالبائع.
وقال الشيخ: إذا ادعى البائع أنه ما باع حتى استبرأ، وحلف المشتري، أنه ما وطئها، فإن أتت به بعد الاستبراء لأكثر من ستة أشهر، فقيل: لا يقبل قوله: ويلحقه النسب، قال القاضي: وهو ظاهر كلام أحمد، وقيل: ينتفي النسب اختاره القاضي، وأبو الخطاب، وابن عقيل: وغيرهم، فعلى هذا، هل يحتاج إلى اليمين على الاستبراء؟ فيه وجهان، المشهور لا يحلف، قال: ويلحق النسب بوطء الشبهة، كعقد إجماعا.
(4) كأن يدعيه سيد، وواطئ بشبهة، فهو لسيد، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» واختار الشيخ، تبعيض الأحكام لقوله «واحتجبني منه يا سودة» .(7/44)
وتبعية نسب لأب، ما لم ينفه بلعان (1) وتبعية دين لخيرهما (2) .
__________
(1) إجماعا لقوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} لا ولد الزنا، فولد قرشي قرشي، وله من غير قرشية.
(2) كأن يتزوج نصراني مجوسية أو بالعكس، فيكون الولد تبعا للنصراني، أو النصرانية وتبعية حرية وملك لأم، إلا مع شرط أو غرر، وتبعية نجاسة وحرمة أكل، لأخبثهما، فالبغل من الحمار الأهلي محرم نجس تبعا للحمار، دون طيبهما وهو الفرس.
قال الشيخ: وإن استلحق ولده من الزنا، ولا فراش لحقه، وهو مذهب الحسن، وابن سيرين والنخعي، وإسحاق، ولو أقر بنسب، أو شهدت به بينه فشهدت بينة أخرى، أن هذا ليس من نوع هذا، بل هذا رومي وهذا فارسي، فهذا من وجه، يشبه تعارض القافة أو البينة، ومن وجه كبر السن، فهذا المعارض النافي للنسب هل يقدح في المقتضى له؟
قال فالتغاير: بينهما إن أوجب القطع بعدم النسب، فهو كالسن، مثل أن يكون أحدهما حبشيا والآخر روميا، ونحو ذلك، فهنا ينتفي النسب، وإن كان أمرا محتملا لم ينفه، لكن إن كان المقتضي للنسب الفراش، لم يلتفت إلى المعارضة، وإن كان المثبت له مجرد الإقرار، أو البينة فاختلاف الجنس معارض ظاهر، وإن وطئ المرتهن الأمة المرهونة، بإذن الراهن وظن جواز ذلك، لحقه الولد، وانعقد حرا.(7/45)
كتاب العدد (1)
واحدها عدة بكسر العين (2) وهي التربص المحدود شرعا (3) مأخوذة من العدد لأن أزمنة العدد محصورة مقدرة (4) (تلزم العدة كل امرأة) حرة أو أمة أو مبعضة (5) .
__________
(1) الأصل في وجوبها: الكتاب والسنة والإجماع، في الجملة والقصد منها: استبراء رحم المرأة من الحمل، لئلا يطأها غير المفارق لها، قبل العلم ببراءة رحمها فيحصل الاشتباه وتضيع الأنساب، بل فيها عدة حكم، كما ذكر ابن القيم وغيره منها براءة الرحم، وأن لا تختلط الأنساب، وتعظيم خطر هذا العقد، وتطويل زمن الرجعة، وقضاء حق الزوج، وإظهار تأثير فقده في المنع، من التزين والاحتياط، لحقه ومصلحتها، وحق الولد، والقيام بحق الله، وليست العدد من باب العبادات المحضة، فرعاية حق الزوج ظاهر، والصواب أنها حريم لانقضاء النكاح لما كمل.
(2) قال الجوهري وغيره: عدة المرأة أيام أقرائها، والمرأة معتدة.
(3) أي والعدة هي: مدة التربص المحدود، شرعا يعني مدة معلومة تتربص فيها المرأة لتعرف براءة رحمها، وذلك يحصل بوضع حمل، أو مضي أقراء أوأشهر، على ما سيأتي.
(4) بعدد الأزمان والأحوال، كالحيض والأشهر وعبارة المطلع: العدد جمع عدة بكسر العين فيهما، وهي ما تعده المرأة من أيام أقرائها، أو أيام حملها، أو أربعة أشهر وعشر.
(5) ولو ذمية من الذمي، أو المسلم، لعموم الأدلة، ولأنهم مطالبون بفروع، الإسلام ولو لم تكن العدة من دينهم.(7/46)
بالغة أو صغيرة يوطأ مثلها (1) (فارقت زوجها) بطلاق أو خلع أو فسخ (2) (خلا بها مطاوعة مع علمه بها (3) و) مع (قدرته على وطئها (4) ولو مع ما يمنعه) أي الوطء (منهما) أي من الزوجين كجبه ورتقها (5) (أو من أحدهما حسا) كجبه أو رتقها (6) (أو) يمنع الوطء (شرعا) كصوم وحيض (7) .
__________
(1) كبنت تسع، ولا تجب على صغيرة ولا يوطأ مثلها، كبنت دون تسع لتيقن، براءة الرحم من الحمل.
(2) بسبب قصور نفقة أو غيرها، مما يوجب الفسخ.
(3) أي بشرط كونه خلا بها، مطاوعة لا مكرهة، وبشرط علمه بها، فلو خلا بها أعمى لا يعلم بها، أو بمحل بحيث لا يراها البصير، فلا عدة عليها.
(4) لم يذكر هذه العبارة في الإقناع، ولا في المنتهى، فحيث وجدت شروط الخلوة وجبت العدة لقضاء الخلفاء بذلك.
(5) أي قطع ذكر الزوج، دون الخصيتين، فلو كان مقطوع الذكر والخصيتين لم يلحق به ولد، فلا تجب العدة، ورتق فرجها، حيث لا يمكن الوطء.
(6) أو مرض فتلزم العدة، لما روى أحمد وغيره، عن زرارة بن أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون، أن من أغلق بابا، أو أرخى سترا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة، وروي عن عمر وزيد بن ثابت، واشتهر ولم ينكر، فكان كالإجماع.
(7) ونفاس وكإحرام، واعتكاف وظهار وإيلاء، فتلزمها العدة مطلقا بشرط، هذا المذهب، وعليه جمهور الأصحاب.(7/47)
(أو وطئها) أي تلزم العدة زوجة وطئها ثم فارقها (1) (أو مات عنها) أي تلزم العدة متوفي عنها مطلقا (2) (حتى في نكاح فاسد فيه خلاف) (3) كنكاح بلا ولي (4) إلحاقا له بالصحيح (5) ولذلك وقع فيه الطلاق (6) (وإن كان) النكاح (باطلا وفاقا) أي إجماعا، كنكاح خامسة أو معتدة (7) (ولم تعتد للوفاة) (8) .
__________
(1) قال الشيخ: تجب بعد المسيس بالاتفاق، لقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} قال: وفيها حق للزوجة، وهو استحقاقها النفقة والسكنى، ما دامت في العدة، واحتياط للولد في ثبوت نسبه، وأن لا يسقي الزوج الثاني ماءه زرع غيره، ولله بامتثال أمره، وامتثال زمن الرجعة.
(2) كبيرا كان الزوج، أو صغيرا يمكنه وطء، أولا، كبيرة كانت الزوجة أو صغيرة، لعموم قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} الآية.
(3) بين أهل العلم، هل يصح أولا، لأنه ينفذ بحكم الحاكم.
(4) تمثيل للفاسد، أو بلا شهود.
(5) المجمع عليه، لكمال شروطه.
(6) أي في النكاح المختلف فيه.
(7) سواء فارقها حيا، أو مات عنها.
(8) إلا بوطء لا بالخلوة، لأن وجود صورته كعدمها، فإن وطئ لزمت العدة كالزانية.(7/48)
إذا مات عنها (1) ولا إذا فارقها في الحياة قبل الوطء، لأن وجود هذا العقد كعدمه (2) (ومن فارقها) زوجها (حيا قبل وطء وخلوة) بطلاق أو غيره فلا عدة عليها، لقوله تعالى (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ (3) فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) (4) .
(أو) طلقها (بعدهما) أي بعد الدخول والخلوة (أو) طلقها (بعد أحدهما (5) وهو ممن لا يولد لمثله) كابن دون عشر (6) وكذا لو كانت لا يوطأ مثلها كبنت دون تسع فلا عدة، للعلم ببراءة الرحم (7) .
__________
(1) للإجماع على بطلانه.
(2) بإجماع أهل العلم، وفي الإنصاف بلا نزاع، وأن لها أن تذهب من فورها، وتتزوج من شاءت.
(3) أي تجامعوهن، وقوله: {الْمُؤْمِنَاتِ} خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق بين المؤمنة، والكتابية في ذلك، باتفاق أهل العلم.
(4) أي تحصونها، بالأقراء والأشهر، فدلت الآية: على أنه لا عدة عليها، ولا خلاف في ذلك.
(5) أي الدخول، أو الخلوة.
(6) لتيقن براءة الرحم.
(7) حيث أنها ممن لا يولد لمثله.(7/49)
بخلاف المتوفى عنها فتعتد مطلقا (1) تعبدا لظاهر الآية (2) (أو تحملت بماء الزوج) ثم فارقها قبل الدخول والخلوة فلا عدة للآية السابقة (3) وكذا لو تحملت بماء غيره (4) وجزم في المنتهى في الصداق بوجوب العدة للحوق النسب به (5) (أو قبلها) أي قبل زوجته (أو لمسها) ولو لشهوة (بلا خلوة) ثم فارقها في الحياة (فلا عدة) للآية السابقة (6) .
__________
(1) سواء كبيرا أو صغيرا، أو الزوجة كبيرة كانت أو صغيرة.
(2) وهي: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} فدخلا في عموم الآية.
(3) وهي قوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} وفي المبدع فيما إذا تحملت ماء زوجها، لحقه نسب من ولدته منه، وفي العدة والمهر، وجهان.
(4) ومشى عليه في الإقناع، فقال: لا تجب بتحملها ماء الرجل.
(5) قال فيه؛ ويثبت به عدة ونسب، ومصاهرة، ولو من أجنبي، وفي المبدع، إن كان حرا ما أو ماء من ظننته زوجها، فلا نسب ولا مهر ولا عدة.
(6) لأن العدة في الأصل، إنما وجبت لبراءة الرحم، وهي هنا متيقنة واللمس في الآية، محمول على الوطء.(7/50)
فصل (1)
والمعتدات ست أي ستة أصناف (2) أحدها (الحامل وعدتها من موت وغيره إلى وضع كل الحمل) واحدا كان أو عددا (3) حرة كانت أو أمة، مسلمة كانت أو كافرة (4) لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (5) .
__________
(1) في بيان عدد أصناف المعتدات، وبيان أحكامهن وما يتعلق بذلك.
(2) تأتي مفصلة، وإن كانت الآيسات من المحيض صنفا، واللائي لم يحضن صنفا فلاستواء عدتهن.
(3) لما يأتي من قوله: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وقبل وضع كل الأخير لم تضع حملها بل بعضهن فلا تنقضي عدتها إلا بوضع كل الحمل، في قول جماعة أهل العلم، إلا خلاف شاذ، وظاهره ولو مات ببطنها، ولو تقطع الولد في بطنها، فوضعت بعض أعضائه في حياة زوجها، وبعضها بعد موته، فاستظهر بعضهم انقضاء عدتها بذلك.
(4) طلاقا كان أو فسخا، فرقة الحياة أو الممات، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن عدة الحامل، المتوفى عنها زوجها، أو المطلقة الحامل أن تضع حملها.
(5) فدلت الآية، على أن العدة بوضع الحمل، ووضع الحمل هو مقدم الأجناس كلها، فإذا وجد فالحكم له، ولا التفات إلى غيره، وحصل نزاع بين السلف في المتوفى عنها، أنها تتربص أبعد الأجلين، ثم حصل الاتفاق، على انقضائها بوضع الحمل.(7/51)
وإنما تنقضي العدة (بـ) وضع (ما تصير به أمة أم ولد) وهو ما تبين فيه خلق الإنسان (1) ولو خفيا (2) (فإن لم يلحقه) أي يلحق الحمل الزوج (لصغره، أو لكونه ممسوحا (3) أو) لكونها (ولدته لدون ستة أشهر منذ نكحها) أي وأمكن اجتماعه بها (4) (ونحوه) بأن تأتي به لفوق أربع سنين منذ أبانها (5) (وعاش) من ولدته لدون ستة أشهر (6) .
__________
(1) كرأس ورجل فتنقضي به العدة، حكاه ابن المنذر وغيره إجماعا وقال الموفق: بغير خلاف بينهم لأنه علم أنه حمل فيدخل في عموم النص.
(2) بأن ألقت مضغة لم تتبين فيها الخلقة، فشهدت ثقات من القوابل: أن فيه صورة خفية، بان بها أنها خلقة آدمي، فهذا في حكم ما تقدم، وإن ألقت مضغة لا صورة فيها، فشهدت ثقات من القوابل: أنها مبتدأ خلق آدمي، فقال بعض الأصحاب: تنقضي به العدة، وهو ظاهر مذهب الشافعي، ونقل أبو طالب: لا تنقضي به؛ وهو قول للشافعي، واختيار أبي بكر، لأنه لم يصر ولدا، أشبه العلقة، وإن ألقت نطفة، أو دما، أو مضغة لا صورة فيها، لم تنقض به، قال الموفق: لا نعلم فيه مخالفا.
(3) أي لصغر الزوج، أو لكونه مقطوع الذكر والأنثيين، ويسمى مسموحا، خلاف المجبوب، فهو مقطوع الذكر فقط.
(4) وعاش لم تنقض به عدتها.
(5) أو مات، أو منذ انقضاء عدتها، إن كانت رجعية.
(6) إذ أقل مدة الحمل، التي يعيش فيها ستة أشهر، لمفهوم {حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} مع قوله: {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} .(7/52)
(لم تنقض به) عدتها من زوجها (1) لعدم لحوقه به لانتفائه عنه يقينا (2) (وأكثر مدة الحمل أربع سنين) لأنها أكثر ما وجد (3) (وأقلها) أي أقل مدة الحمل (ستة أشهر) (4) لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} (5) والفصال: انقضاء مدة الرضاع، لأن الولد ينفصل بذلك عن أمه (6) وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فإذا سقط الحولان، التي هي مدة الرضاع، من ثلاثين شهرا، بقي ستة أشهر، فهي مدة الحمل (7) .
__________
(1) جزم به الموفق وغيره، وتعتد عدة وفاة، أو عدة فراق، حيث وجدت وتنقضي عدتها، بوضع الحمل، من الوطء الذي غلقت به منه، ملحقا به أولا لأنها تجب من كل وطء.
(2) فلا تعتد بوضعه، كما لو ظهر بعد موته.
(3) هذا ظاهر المذهب، وقول الشافعي، والمشهور عن مالك، وقيل سنتان وقال الموفق وغيره: ما لا نص فيه، يرجع فيه إلى الوجود، ونقل ابن القيم: أنه وجد لخمس وأكثر إلى سبع، ووجد في عصرنا لثلاث عشرة وعاش.
(4) وهو قول الجمهور، مالك والشافعي، وأصحاب الرأي، وغيرهم لما روي عن علي، وابن عباس، وغيرهما.
(5) فدلت الآية: على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر.
(6) ولا ينفصل إلا بعد كمال مدة الرضاع.
(7) وما دون ستة أشهر، فقال غير واحد: لم يوجد من يعيش لدونها.(7/53)
وذكر ابن قتيبة في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر (1) (وغالبها) أي غالب مدة الحمل (تسعة أشهر) لأن غالب النساء يلدن فيها (2) .
(ويباح) للمرأة (إلقاء النطفة قبل أربعين يوما، بدواء مباح) (3) وكذا شربه لحصول حيض (4) إلا قرب رمضان لتفطره (5) ولقطعه (6) لا فعل ما يقطع حيضها بها من غير علمها (7) .
__________
(1) واعتبر أكثر الفقهاء: ستة الأشهر أقل المدة، وبنوا عليه الأحكام وفرعوا عليه.
(2) وهذا أمر معروف بين الناس.
(3) بإذنه زوجها، وقيل: هو الموؤدة الصغرى، وأقل ما يتبين فيه خلق الولد، أحد وثمانون يوما، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه، أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك» فالنطفة لا يتبين فيها خلق آدمي، وإنما يتبين ابتداء خلقة مضغة، وأول ما يتبين به الولد، أحد وثمانون يوما، وهو أقل ما تنقضي به العدة من الحمل، وهو أن تضعه بعد ثمانين يوما، منذ أمكن وطؤها.
(4) أي فيباح لها، وجزم به الشيخ، كما يأتي.
(5) فرارا من صيامه.
(6) أي الحيض.
(7) أي: لا أن يفعل غيرها بها، ما يقطع حيضها.(7/54)
فصل (1)
(الثانية) من المعتدات (المتوفى عنها زوجها (2) بلا حمل منه) لتقدم الكلام على الحامل (3) (قبل الدخول وبعده) وطئ مثلها أولا (4) (للحرة أربعة أشهر وعشرة) أيام بلياليها (5) لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (6) .
__________
(1) أي: في بيان أحكام بقية أصناف المعتدات، وما يتعلق بذلك.
(2) ولو طفلا أو طفلة لا يولد لمثلهما ولو قبل الدخول، كما تقدم.
(3) في الفصل قبل هذا موضحا.
(4) قال ابن القيم: عدة الوفاة بالموت، دخل بها، أو لم يدخل بها لعموم القرآن والسنة، واتفاق الناس، وليس المقصود من عدة الوفاة، استبراء الرحم، ولا هي تعبد محض، لأنه ليس في الشريعة حكم واحد، إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقلهن ويخفى على من خفي عليه.
(5) إجماعا، فلا تنقضي عدتها، حتى تغيب شمس اليوم العاشر، صوبه ابن القيم وغيره، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن عدة المتوفى عنها زوجها ما لم تكن حاملا، أربعة أشهر وعشر، ولا يعتبر فيها وجود حيض، إلا مالك في حق المدخول بها، إذا كانت ممن تحيض، وجود حيضة في كل طهر في هذه المدة.
(6) أي ينتظرون بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا، ذكر العشرة مؤنثة لإرادة الليالي، والمراد مع أيامها عند الجمهور، فلا تحل حتى تدخل الليلة الحادية عشرة.(7/55)
(وللأمة) المتوفى عنها زوجها (نصفها) أي نصف المدة المذكورة (1) فعدتها شهران وخمسة أيام بلياليها (2) لأن الصحابة رضي الله عنهم، أجمعوا على تنصيف عدة الأمة في الطلاق، فكذا عدة الموت (3) وعدة مبعضة بالحساب (4) (فإن مات زوج رجعية، في عدة طلاق سقطت) عدة الطلاق (5) (وابتدأت عدة وفاة منذ مات) (6) لأن الرجعية زوجة كما تقدم (7) .
__________
(1) وهي أربعة أشهر وعشر للآية.
(2) قال الموفق: في قول عامة أهل العلم، منهم مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي.
(3) وفي المبدع: أجمع الصحابة على أن عدة الأمة، على النصف من عدة الحر، وإلا فظاهر الآية العموم.
(4) ويتوجه في المعتق بعضها، إذا كان الحر ثلثيها فما دون أن لا تجب الأقراء، فإن تكميل القرأين من الأمة إنما كان للضرورة، فيؤخذ للمعتق بعضها، بحساب الأصل ويكمل، كما في الاختيارات وغيرها.
(5) لأنها تعتد للوفاة، فلا يجتمع معها غيرها.
(6) قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه على ذلك، وقال الموفق: لا خلاف فيهن وما حكي: أنها تعتد أطول الأجلين، فبعيد.
(7) في حكم عدة الزوجة المتوفى عنها، فيلحقها طلاقه، وينالها ميراثه.(7/56)
فكان عليها عدة الوفاة (1) (وإن مات) المطلق (في عدة من أبانها في الصحة لم تنتقل) عن عدة الطلاق (2) لأنها ليست زوجة، ولا في حكمها (3) لعدم التوارث (4) .
(وتعتد من أبانها في مرض موته، الأطول من عدة وفاة وطلاق) (5) لأنها مطلقة فوجبت عليها عدة الطلاق، ووارثة، فتجب عليها عدة الوفاة (6) ويندرج أقلهما في أكثرهما (7) .
__________
(1) كغير المطلقة، لدخولها في عموم {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الآية.
(2) قال في الإنصاف: بلا نزاع، بل تبني على عدة الطلاق مطلقا، ولا تعتد للوفاة للآية.
(3) لأنها أجنبية منه في النظر إليها، ولحوقها طلاقه ونحوه.
(4) فلا تعتد لوفاته، كما لو انقضت عدتها.
(5) صححه المجد وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة، والمراد مرض موته المخوف، إضرارا وعنه: تبني على عدة الطلاق، وهو قول مالك والشافعي.
(6) فوجب أن تعتد أطول الأجلين ضرورة، حيث إنها لا تخرج عن العهد يقينا إلا بذلك.
(7) فإن كان ما بقي من عدة الطلاق، أكثر من عدة الوفاة بنت، وإلا انتقلت لعدة الوفاة، احتياطا، قال ابن القيم: وأما المتوفى عنها، فدل قوله (يَتَرَبَّصْنَ) الآية على الاكتفاء بذلك، وإن لم تحض، وهذا قول الجمهور، وعن مالك، رواية إذا كانت عادتها تحيض في كل سنة مرة، انتظر بها تمام تسعة أشهر.(7/57)
(ما لم تكن) المبانة (أمة أو ذمية (1) أو) من (جاءت البينونة منها (2) فـ) تعتد (لطلاق لا) لـ (غيره) لانقطاع أثر النكاح بعدم ميراثها (3) ومن انقضت عدتها قبل موته، لم تعتد له ولو ورثت (4) لأنها أجنبية تحل للأزواج (5) (وإن طلق بعض نسائه (6) مبهمة) كانت (أو معينة ثم أنسيها
__________
(1) فلا يلزمهما غير عدة الطلاق قولا واحدا.
(2) بأن سألته الطلاق أو الفسخ، أو فعلت ما يفسخ نكاحها بطلاق، أو خلع، أو لعان، أو رضاع، أو عتاق، أو اختلاف دين أو غيره.
(3) أشبهت المبانة في الصحة، ولو أسلمت امرأة كافرة، ثم مات قبل انقضاء العدة، انتقلت، ذكره الشيخ قياسا.
(4) وذلك بأن تكون مسلمة حرة تحت حر، فإن كانت ذمية تحت مسلم، أو أمة تحت عبد، أو حرة تحت عبد، لم ترثه بحال.
(5) لأنها ليست زوجة، ولا في حكمها، وتحل للأزواج، بخلاف التي مات في عدتها، وعنه: تعتد للوفاة إن ورثت منه اختارها جماعة من الأصحاب وقال الموفق وغيره: الصحيح الأول، لعموم الآيات التي لا يجوز تخصيصها بالرأي.
(6) طلاقا بائنا، فإن كان رجعيا، اعتدت كل واحدة عدة وفاة.(7/58)
ثم مات) (1) . المطلق (قبل قرعة (2) اعتد كل منهن) أي من نسائه (سوى حامل الأطول منهما) أي من عدة طلاق ووفاة (3) لأن كل واحدة منهن يحتمل أن تكون المخرجة بقرعة (4) والحامل، عدتها وضع الحمل، كما سبق (5) وإن ارتابت متوفى عنها، زمن عدتها أو بعدهن بأمارة حمل كحركة، أو رفع حيض (6) لم يصح نكاحها حتى تزول الريبة (7) (الثالثة) من المعتدات (الحائل ذات الأقراء وهي) جمع قرء بمعنى (الحيض) (8) .
__________
(1) كإحداهن طالق أو فاطمة، وله غيرها، ثم نسي هل هي فاطمة، أو زينب أو دعد.
(2) بين نسائه، المبهم تعيينها، أو المعينة المنسية.
(3) كما إذا كانت عادة حيضها، بعد كل شهرين مرة، فتعتد عدة طلاق؛ هذا إذا كان الطلاق بائنا، وإن كان رجعيا، اعتدت كل واحدة عدة وفاة.
(4) ولأن كل واحد منهن، يحتمل أنها المطلقة، وأنها المتوفى عنها، فلا تخرج عن العهدة بيقين، إلا بالقرعة، وابتداء القرء من حين طلق، وابتداء عدة الوفاة من حين مات.
(5) في حكم عدة المتوفى عنها موضحا.
(6) وكانتفاخ بطن، ونزول اللبن في ثديها، وغير ذلك.
(7) بانقطاع الحركة، أو زوال الانتفاخ، أو عود الحيض، أو مضي زمن لا يمكن أن تكون فيه حاملا، للشك في انقضاء عدتها، وتغليبا لجانب الحظر، وزوال الريبة، ولا يعتبر وجود الحيض في عدة الوفاة، في قول عامة الفقهاء.
(8) أي والأقراء: هي الحيض.(7/59)
روي عن عمر، وعلي، وابن عباس رضي الله عنهم (1) (المفارقة في الحياة) بطلاق (2) أو خلع أو فسخ (فعدتها إن كانت حرة أو مبعضة، ثلاثة قروء كاملة) (3) لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} (4) .
__________
(1) وأصحاب الرأي وغيرهم، قال القاضي: الصحيح عند أحمد: أن الأقراء الحيض، وإليه ذهب أصحابنا، ولأنه المعهود في لسان الشرع، كحديث إذا أتى قرؤك فلا تصلي.
(2) فعدتها ثلاثة قروء، بغير خلاف بين أهل العلم.
(3) هذا المذهب، وجزم به غير واحد، لأن عدة الأمة بالقروء، قرآن فأدنى ما يكون فيها من الحرية يوجب قرءا ثالثا لأنه لا يتبعض.
(4) أي والمطلقات: ينتظرن بأنفسهن، وتمكث إحداهن بعد طلاق زوجها {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} أي حيض، ثم تزوج إن شاءت، فدلت الآية: على اعتداد المطلقة ثلاثة قروء، وأما اعتداد المفارقة بخلع، أو فسخ، فلم تدخل في حكم الآية ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المختلعة قط، أن تعتد بثلاثة حيض، بل روي أهل السنن، من حديث الربيع، أنه أمرها أن تتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها، ولأبي داود وغيره، من حديث ابن عباس: أمرت أن تعتد بحيضة، وقال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة، وقال ابن القيم: محال أن يكون الآمر غير النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياتهن والصريح يفسره، وقال النحاس: هو إجماع من الصحابة.
وقال الشيخ: أصح الروايتين دليلا عن أحمد، أنها تعتد بحيضة، وهو مذهب عثمان وابن عباس، وقد حكي إجماع الصحابة، ولم يعلم لهما مخالف ودلت عليه السنة الصحيحة، وعذر من خالفها، أنها لم تبلغه، وهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر.
قال ابن القيم: وأما النظر، فإن المختلعة لم تبق لزوجها عليها عدة، فلها أن تتزوج بعد براءة رحمها، كالمسبية، والمهاجرة، وكذا الزانية، والموطوءة بشبهة، اختاره الشيخ، وهو الراجح أثرا ونظرا.(7/60)
ولا يعتد بحيضة طلقت فيها (1) (وإلا) بأن كانت أمة فعدتها (قرآن) (2) روي عن عمر وابنه وعلي رضي الله عنهم (3) (الرابعة) من المعتدات (من فارقها) زوجها (حيا ولم تحض لصغر أو إياس فتعتد حرة ثلاثة أشهر) (4) .
__________
(1) قال في الإنصاف: بلا نزاع، وإن ادعت انقضاء عدتها بالأقراء، قبل قولها، إذا كان ممكنا إلا أن تدعيه بالحيض في شهر، فلا يقبل إلا ببينة نص عليه، وقال الشيخ: المذهب المنصوص، أنها إذا ادعت ما يخالف الظاهر كلفت البينة، لا سيما إذا أوجبنا عليها البينة، فيما إذا علق طلاقها بحيضها فقالت حضت فإن التهمة في الخلاص من العدة كالتهمة في الخلاص من النكاح فيتوجه أنها إذا ادعت الانقضاء، في أقل من ثلاثة أشهر، كلفت البينة.
(2) لما روي (قرء الأمة حيضتان) وهو مخصص لعموم الآية، وكان القياس أن تكون عدتها حيضة ونصف حيضة، كحدها إلا أن الحيض لا يتبعض.
(3) أي أن عدة الأمة حيضتان، ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة، فكان إجماعا، وقال الوزير وغيره: اجمعوا على أن عدة الأمة بالأقراء، قرآن واتفقوا على أن عدتها بالأقراء ممن تحيض.
(4) قال الموفق وغيره: أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة الآيسة، والصغيرة التي لم تحض ثلاثة أشهر.(7/61)
لقوله تعالى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ (1) وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} أي كذلك (2) (و) عدة (أمة) كذلك (شهران) (3) لقول عمر رضي الله عنه: عدة أم الولد حيضتان (4) ولو لم تحض كانت عدتها شهرين، رواه الأثرم، واحتج به أحمد (5) .
(و) عدة (مبعضة بالحساب) (6) فتزيد على الشهرين من الشهر الثالث، بقدر ما فيها من الحرية (7) .
__________
(1) {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي شككتم فلم تدرءوا ما عدة الآيسات {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}
(2) أي {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهر.
(3) أي: وعدة أمة، صغيرة أو آيسة، شهران.
(4) والأمة والمدبرة والمكاتبة، كأم الولد وأولى.
(5) وهو أحد قولي الشافعي، لأن الأشهر بدل من القروء، وعنه، شهر ونصف وهو قول علي، وأبي حنيفة ومالك لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة، وعدة الحرة ثلاثة أشهر.
(6) من عدة حرة وأمة.
(7) أي: فتزيد على الشهرين على القول به من الشهر الثالث، بقدر ما فيها من الحرية فمن ثلثها حر، تعتد بشهرين وعشرة أيام، وهكذا، وعلى القول الثاني: تزيد على الشهر والنصف، بقدر ما فيها من الحرية.(7/62)
يجبر الكسر) فلو كان ربعها حرا، فعدتها شهران وثمانية أيام (1) (والخامسة) من المعتدات (من ارتفع حيضها ولم تدر سببه) أي سبب رفعه (2) فعدتها إن كانت حرة (سنة تسعة أشهر للحمل) (3) لأنها غالب مدته (4) .
(وثلاثة) أشهر (للعدة) (5) قال الشافعي: هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منهم منكر علمناه (6) ولا تنقض العدة بعود الحيض بعد المدة (7) .
(وتنقص الأمة) عن ذلك (شهرا) (8) .
__________
(1) وعلى القول الثاني: شهر ونصف، وأحد عشر يوما.
(2) وقد كانت قبل معتادة.
(3) قال ابن عباس: لا تطولوا عليها الشقة، كفاها تسعة أشهر.
(4) أي مدة الحمل، فإذا مضت فقد علم براءة رحمها ظاهرا.
(5) وهي عدة الآيسات كما تقدم.
(6) وهو قول مالك، ولأن الغرض بالاعتداء براءة رحمها، وهذا يحصل به براءة رحمها، فاكتفي به، ولما عليها في تطويل العدة من الضرر، وأما العدة بعد التسعة، فلأن عدة الشهور، إنما تجب بعد العلم ببراءة الرحم من الحمل.
(7) لأن عدتها انقضت، وحكم بصحة نكاحها، فلم تبطل، كما لو اعتدت الصغيرة بثلاثة أشهر، وتزوجت ثم حاضت.
(8) بناء على أن عدتها شهران، وأما مدة الحمل، فتساوى فيها الحرة والأمة.(7/63)
فعدتها أحد عشر شهرا (1) (وعدة من بلغت ولم تحض) كآيسة (2) لدخولها في عموم قوله تعالى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} (3) (و) عدة (المستحاضة الناسية) لوقت حيضها كآيسة (4) (و) عدة (المستحاضة المبتدأة) الحرة (ثلاثة أشهر (5) والأمة شهران) (6) لأن غالب النساء يحضن في كل شهر حيضة (7) .
__________
(1) وعلى القول بأن عدتها نصف عدة الحرة، فتكون عدتها عشرة أشهر ونصفا، وإن عتقت الأمة الرجعية بنت على عدتها حرة، وإن كانت بائنا بنت على عدة أمة؛ قال في الإنصاف: بلا نزاع.
وإن عاد الحيض في السنة، لزم الانتقال إلى القرء، لأن الأصل، وبطل حكم البدل، وبعد مضيها فلا، للحكم بصحة انقضاء العدة.
(2) أي كعدة آيسة ثلاثة أشهر.
(3) وهذه من اللائي لم يحضن، ولأن الاعتبار بحال عادتها، ولا تمييز لها.
(4) أي كعدة آيسة، والناسية لوقته، كمن جهلت، هل تأتيها حيضتها في الشهر مرة أو مرتين، فإن كانت عادتها، تأتيها في الشهر مرتين، واستحيضت فعدتها شهر ونصف، وإن كان لها عادة، أو تمييز عملت به، إن صلح حيضا.
(5) لأمره - صلى الله عليه وسلم - لحمنة «أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة» ، فجعل لها حيضة من كل شهر.
(6) وعلى القول الثاني: المرجح شهر ونصف نصف عدة الحرة.
(7) كما هو معلوم من حالهن، ويؤيده قصة حمنة.(7/64)
(وإن علمت) من ارتفع حيضها (ما رفعه من مرض، أو رضاع، أو غيرهما (1) فلا تزال في عدة، حتى يعود الحيض فتعتد به) وإن طال الزمن، لأنها مطلقة لم تيأس من الدم (2) (أو تبلغ سن الإياس) خمسين سنة (فتعتد عدته) أي عدة ذات الإياس (3) .
__________
(1) كنفاس، قال الشيخ: في المرضعة، تبقى في العدة حتى تحيض ثلاث حيض فإن أحبت أن تسترضع، لولدها، لتحيض هي، أو تشرب دواء، أو نحوه تحيض به، فلها ذلك.
(2) فلا تزال في عدة، حتى يعود الحيض، فتعتد به هذا المذهب.
(3) وقالوا: لأنها آيسة، أشبهت سائر الآيسات، وقال الموفق: الصحيح أنها متى بلغت الخمسين فانقطع حيضها عن عادتها مرات لغير سبب فقد صارت آيسة، وعنه: تنتظر زواله، ثم إن حاضت اعتدت بهن وإلا اعتدت سنة ذكره المروزي، عن مالك ومن تابعه، منهم الإمام أحمد، وصوبه في الإنصاف وعنه: إذا زال المانع ولم تحض، فتعتد سنة، كالتي ارتفع حيضها، ولم تدر سببه اختاره الشيخ: واختاره أيضا أنها إن علمت عودة فكآيسة، وإلا اعتدت سنة.
وإن آيست ذات الأقراء في عدتها، انتقلت إلى عدة الآيسة، وإن رأت الدم بعد الخمسين على العادة، التي كانت تراه فيها، فهو حيض، لأن دليل الحيض، الوجود في زمن الإمكان، وهذا يمكن وجود الحيض فيه، وإن كان نادرا، قال في الإنصاف: وهذا الصواب الذي لا شك فيه، وتقدم قول الشيخ: لأحد لأكثر سن الحيض.(7/65)
ويقبل قول زوج: أنه لم يطلق إلا بعد حيض، أو ولادة، أو في وقت كذا (1) .
(السادسة) من المعتدات (امرأة المفقود (2) تتربص) حرة كانت أو أمة (ما تقدم في ميراثه) (3) أي أربع سنين من فقده (4) إن كان ظاهر غيبته الهلاك (5) .
__________
(1) حيث لا بينة لها، لأنه يقبل قوله في أصل الطلاق، وعدده، فكذا في وقته، ولان ذلك يرجع إلى الاختلاف، في بقاء العدة، وهو الأصل.
(2) حرة كانت أو أمة، وهو من انقطع خبره، فلم تعلم حياته ولاموته أما من عرف خبره ويأتي كتابه، فليس لامرأته أن تتزوج إجماعا، إلا أن يتعذر الإنفاق عليها من ماله، فلها أن تطلب فسخ النكاح، وأما من انقطع خبره، ولم يعلم له موضع، فيأتي.
(3) أي في حكم ميراثه، في كتاب الفرائض.
(4) ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر عشرا.
(5) كمن غرق مركبه، أوفقد من بين أهله، أو في مفازة مهلكة ونحو ذلك، لما روى مالك وغيره، عن عمر في امرأة المفقود، تربص أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا، وهو مذهب الجمهور.
وقال ابن القيم: حكم الخلفاء في امرأة المفقود، كما ثبت عن عمر، وقال أحمد: ما في نفسي شيء منه، خمسة من الصحابة، أمروها أن تتربص، قال ابن القيم وقول عمر: هو أصح الأقوال، وأحراها بالقياس، وقال الشيخ: هو الصواب، ولو مضت المدة تزوجت، واختاره ابن عبدوس، وصوبه في الإنصاف.(7/66)
وتمام تسعين سنة من ولادته، إن كان ظاهر غيبته السلامة (1) (ثم تعتد للوفاة) أربعة أشهر وعشرة أيام (2) (وأمة) فقد زوجها (كحرة في التربص) أربع سنين، أو تسعين سنة (3) .
(و) أما (في العدة) للوفاة بعد التربص المذكور، فعدتها (نصف عدة الحرة) لما تقدم (4) .
(ولا تفتقر) زوجة المفقود (إلى حكم حاكم بضرب المدة) أي مدة التربص (وعدة الوفاة) (5) كما لو قامت البينة (6) وكمدة الإيلاء (7) ولا تفتقر أيضا إلى طلاق ولي زوجها (8) .
__________
(1) وذلك كسفر التاجر في غير مهلكة، وطلب العلم، والسياحة، وسفر الفرجة، ونحو ذلك، لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر منها.
(2) لما تقدم عن الصحابة، وغيرهم، وصوبه الشيخ وغيره.
(3) لمساواتها الحرة في التربص فقط، لأن تربص المدة المذكورة، ليعلم حاله من حياة وموت، وذلك لا يختلف بحال زوجته.
(4) أي ن أن عدتها، نصف عدة الحرة.
(5) قال الشيخ: على الأصح، وصوبه في الإنصاف، لأنها فرقة تعقبها عدة الوفاة، فلا تتوقف على ذلك.
(6) أي بوفاته، فلا تحتاج زوجته، إلى ضرب مدة التربص، وعدة الوفاة.
(7) وتقدم أنها لا تفتقر إلى ضرب المدة.
(8) بعد اعتدادها للوفاة، وصوبه في الإنصاف، وقال، ظاهر كلام الموفق: أنه لا يشترط أن يطلقها ولي زوجها، بعد اعتدادها للوفاة، وصوبه وقال الشيخ: هي زوجة الثاني، باطنا وظاهرا.(7/67)
(وإن تزوجت) زوجة المفقود، بعد مدة التربص والعدة (1) (فقدم الأول قبل وطء الثاني، فهي للأول) (2) لأنا تبينا بقدومه بطلان نكاح الثاني (3) ولا مانع من الرد (4) .
(و) إن قدم الأول (بعده) أي بعد وطء الثاني فـ (له) أي للأول (أخذها زوجة بالعقد الأول، ولو لم يطلق الثاني (5) ولا يطؤ) ها الأول (قبل فراغ عدة الثاني (6)) .
__________
(1) وتقدم بيانهما، وفرق ما بين الحرة والأمة في العدة دون التربص.
(2) ترد إليه بلا تخيير، لبقاء نكاحه، ويدفع للثاني ما أعطاها من مهر.
(3) وإنما أبيح لها التزوج، لأن الظاهر موته، فإذا بان حيا انخرم ذلك الظاهر، وكان النكاح بحاله، كما لو شهدت البينة بموته فبان حيا، ولأنه أحد المالكين فأشبه مالك المال.
(4) بالعقد الأول بلا تخيير، وهو المذهب.
(5) لأن نكاحه كان باطلا في الباطن، قال الشيخ: بعد أن ذكر: أن الصواب في امرأة المفقود، مذهب عمر، وغيره من الصحابة: وهو أنها تتربص أربع سنين، ثم تعتد للوفاة، ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك، وهي زوجة الثاني ظاهرا، وباطنا، ثم إذا قدم زوجها الأول بعد تزوجها، خير بين امرأته وبين مهرها، ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده، وهو ظاهر مذهب أحمد، ثم قال: والتخيير فيه بين المرأة والمهر، هو أعدل الأقوال، وشبهه باللقطة، وأن المجهول في الشرع كالمعدوم، وإذا علم بعد ذلك، كان التصرف في أهله وماله موقوفا، على إذنه، ووقف التصرف في حق الغير على إذنه، يجوز عند الحاجة عندنا، بلا نزاع.
(6) بلا نزاع.(7/68)
وله) أي للأول (تركها معه) أي مع الثاني (1) (من غير تجديد عقد) للثاني (2) وقال المنقح: الأصح بعقد اهـ (3) .
قال في الرعاية: وإن قلنا يحتاج الثاني عقدا جديدا، طلقها الأول لذلك، اهـ (4) وعلى هذا فتعتد بعد طلاق الأول (5) ثم يجدد الثاني عقدا (6) لأن زوجة الإنسان، لا تصير زوجة لغيره بمجرد تركه لها، وقد تبينا بطلان عقد الثاني بقدوم الأول (7) .
(ويأخذ) الزوج الأول (قدر الصداق الذي أعطاها من) الزوج (الثاني) إذا تركها له (8) .
__________
(1) لقول عمر وعثمان وعلي، وقضى به ابن الزبير، قال الموفق: ولم يعرف لهم مخالف، فكان إجماعًا.
(2) وهذا المشهور من المذهب، وظاهر كلام الشيخ، لصحة عقده ظاهرا، قال الموفق: ولم يذكروا يعني الصحابة لها عقدا جديدا.
(3) وفي المغني: الصحيح أنه يجب أن يستأنف لها عقدا، لأنا تبينا بطلان عقده بمجيء الأول، ويحمل قول الصحابة على هذا، لقيام الدليل عليه.
(4) وقال القاضي: قياس قول أحمد أنه يحتاج إلى طلاق، لأن هذا نكاح مختلف في صحته، فكان مأمورا بالطلاق، ليقطع حكم العقد الثاني، كسائر الأنكحة الفاسدة.
(5) عدة المطلقة، على ما تقدم.
(6) واختاره الموفق، وهو القياس.
(7) قال القاضي: ويحتمله قول الصحابة.
(8) وهو قول مالك وغيره من السلف.(7/69)
لقضاء علي وعثمان، أنه يخبر بينها وبين الصداق، الذي ساق إليها هو (1) (ويرجع الثاني عليها بما أخذه) الأول (منه) (2) لأنها غرامة لزمته بسبب وطئه لها، فنرجع بها عليها، كما لو غرته (3) ومتى فرق بين زوجين لموجب (4) ثم بان انتفاؤه فكمفقود (5) .
__________
(1) وقال الموفق وغيره: لإجماع الصحابة، وتقدم: أن عمر خيره بين امرأته ومهرها، وقال ابن القيم: هو أصح الأقوال وأحراها بالقياس، وقال: الصواب أنه يرجع بما مهرها هو، فإنه هو الذي يستحقه، اهـ ولأنه حال بينه وبينها بعقده عليها ودخوله بها، وأتلف عليه المعوض، فرجع عليه بالعوض.
(2) هذا المذهب عند بعض الأصحاب.
(3) بأن قالت: مالي زوج مثلا، فأخذها مصدقا لها، فبان خلافه، بطل العقد، ورجع عليها بالصداق، وعنه: لا يرجع، وقال الموفق وغيره: الأظهر لا يرجع لأن الصحابة لم يقضوا بالرجوع عليها، لأنه لا تغرير منها.
(4) كأخوة من رضاع، وتعذر نفقة من جهة زوج، وكعنة.
(5) قدم بعد تزوج امرأته فترد إليه قبل وطء ثان، ويخير بعده، كما تقدم قال الشيخ: وكل صورة فرق فيها بين الرجل وامراته، بسبب يوجب الفرقة، ثم تبين انتفاء ذلك السبب، فهو شبيه المفقود، ولو ظنت أن زوجها طلقها فتزوجت، فهو كما لو ظنت موته، ولو اعتقدت أنه عاجز عن حقها، وأنه يجوز لها الفسخ والتزويج بغيره، فتشبه امرأة المفقود، وإن علمت التحريم فزانية لكن المتزوج بها، كالمتزوج بامرأة المفقود.(7/70)
فصل (1)
(ومن مات زوجها الغائب) اعتدت من موته (2) (أو طلقها) وهو غائب (اعتدت منذ الفرقة (3) وإن لم تحد) أي وإن لم تأت بالإحداد في صورة الموت (4) لأن الإحداد ليس شرطا لانقضاء العدة (5) (وعدة موطوءة بشبهة أو زنا (6))
__________
(1) أي: في بيان حكم العدة من الغائب، والموطئوة بشبهة، أو زنا، أو عقد فاسد، أو في العدة، وما تنقضي به العدة وغير ذلك.
(2) كما لو كان حاضرا.
(3) أي احتسبت بما مضى قبل العلم، وكان ابتداء عدتها من حين الفرقة، روي عن ابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، ولأن القصد غير معتبر في العدة بدليل الصغيرة والمجنونة.
(4) بأن تجتنب ما تجتنبه المعتدة.
(5) لظاهر النصوص، وإن أقر أنه طلقها من مدة تزيد على العدة ولم يكن عدلا، لم يقبل قوله، صرح به الشيخ وغيره، وإن كان عدلا غير متهم قبل.
(6) أي وعدة موطوءة بشبهة، عدة مطلقة، لأن الوطء في ذلك من شغل الرحم، ولحوق النسب، كالوطء في النكاح الصحيح، وكذا المزني بها، لأنه وطء يقتضي شغل الرحم، كوطء الشبهة، ولأنه لو لم تجب العدة لاختلط ماء الواطئ والزوج، فلم يعلم لمن الولد منهما، هذا المذهب.(7/71)
أو موطوءة (بعقد فاسد كمطلقة) (1) حرة كانت أو أمة مزوجة (2) لأنه وطء يقتضي شغل الرحم، فوجبت العدة منه كالنكاح الصحيح (3) وتستبرأ أمة غير مزوجة بحيضة (4) ولا يحرم على زوج، وطئتا زوجته، بشبهة أو زنا، زمن عدة، غير وطء في فرج (5) .
و (إن وطئت معتدة بشبهة، أو نكاح فاسد، فرق بينهما) أي بين المعتدة الموطوءة والواطئ (6) (وأتمت عدة الأول) (7) .
__________
(1) فتعتد كما تعتد المطلقة على ما تقدم.
(2) فتعتد الحرة عدتها كحرة، وتعتد الأمة عدة الأمة، سواء كان عن وطء شبهة أو زنا، أو عقد فاسد.
(3) أي فأوجب العدة كعدة المطلقة، هذا المذهب، وعنه: تستبرأ بحيضة، اختاره الحلواني وابن رزين وغيرهما، وقال ابن القيم: تعتد بحيضة، ولها أن تتزوج بعد براءة رحمها، كالمسية والمهاجرة، والزانية، والموطوءة بشبهة، واختاره الشيخ، وهو الراجح أثرا ونظرا.
(4) لأن المقصود العلم ببراءة الرحم من الحمل، وذلك حاصل بالحيضة.
(5) لأن تحريمها لعارض يختص الفرج، فأبيح الاستمتاع منها بما دونه، كالحيض ولا ينفسخ نكاحها بزنا نص عليه.
(6) لأن العقد الفاسد، وجوده كعدمه.
(7) لأن سببها سابق على الوطء المذكور.(7/72)
سواء كانت عدته من نكاح صحيح أو فاسد، أو وطء بشبهة (1) ما لم تحمل من الثاني، فتنقضي عدتها منه بوضع الحمل، ثم تعتد للأول (2) .
(ولا يحتسب منها) أي من عدة الأول (مقامها عند الثاني) بعد وطئه، لانقطاعها بوطئه (3) .
(ثم) بعد اعتدادها للأول (اعتدت للثاني) (4) لأنهما حقان اجتمعا لرجلين، فلم يتداخلا (5) وقدم أسبقهما كما لو تساويا في مباح غير ذلك (6) .
__________
(1) يجب أن تتم عدة الأول، لأن عدته وجبت عن وطء في نكاح صحيح.
(2) وإنما انقضت عدتها من الثاني، من أجل وضع الحمل، كما لو وضعت من الأول.
(3) وإنما ابتداؤها من التفريق بينهما.
(4) لخبر مالك، عن عمر: أنه ضربهما وفرق بينهما، وقال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوجها، لم يدخل بها، يفرق بينهما ثم تعتد بقية عدتها من زوجها الأول، ثم تعتد من الآخر، ولا ينكحها أبدا ولمالك عن علي أنه قضى في التي تزوج في عدتها، أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتكمل ما أفسدت من عدة الأول، وتعتد من الآخر، قال الموفق: لم يعرف لهما في الصحابة مخالف.
(5) كالدينين واليمينين، ولأنه حبس يستحقه الرجال على النساء، فلم يجز أن تكون المرأة في حبس رجلين، كالزوجة.
(6) أي فإنه يقدم الأسبق، إذ هو الأحق للنصوص في ذلك وتقدم.(7/73)
(وتحل) الموطوءة في عدتها بشبهة أو نكاح فاسد (له) أي لواطئها بذلك (بعقد بعد انقضاء العدتين) (1) لقول علي رضي الله عنه: إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب (2) .
(وإن تزوجت) المعتدة (في عدتها لم تنقطع) عدتها (حتى يدخل بها) أي يطأها (3) لأن عقده باطل (4) فلا تصير به فراشا (5) (فإذا فارقها) الثاني (بنت على عدتها من الأول (6) ثم استأنفت العدة من الثاني) لما تقدم (7) .
__________
(1) قالوا: هو قياس المذهب.
(2) أي فتحرم على الواطئ وغيره في العدة، وقال الموفق: الأولى حل نكاحها، لمن هي معتدة منه، إن كان يلحقه نسب ولدها، لأن العدة لحفظ مائة، وصيانة نسبه، ولا يصان ماؤه المحترم عن مائه المحترم، ولا يحفظ نسبه عنه، كالمطلقة البائن وإلا فلا.
(3) متزوجها، ويحرم إجماعا لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} ولأن العدة إنما اعتبرت لبراءة الرحم، لئلا يفضي إلى اختلاط المياه، ويجب أن يفرق بينهما.
(4) لأنها ممنوعة من النكاح، لحق الزوج الأول، فكان نكاحا باطلا.
(5) والعدة بحالها، لا تنقطع بالعقد الثاني، لأنه باطل لا تصير المرأة به فراشا، ولا يستحق عليه بالعقد شيء، فإذا دخل بها انقطعت العدة، لأنها حينئذ صارت فراشا له، سواء علم بالتحريم أو جهله.
(6) لأن حقه أسبق، وعدته وجبت عن وطء في نكاح صحيح، كما تقدم.
(7) ولا تتداخل العدة، كما تقدم، وقال في الإنصاف: لا أعلم فيه خلافا.(7/74)
(وإن أتت) الموطوءة بشبهة في عدتها (بولد من أحدهما) بعينه (1) (انقضت منه عدتها به) أي بالولد (2) سواء كان من الأول أو من الثاني (3) .
(ثم اعتدت للآخر) بثلاثة قروء (4) ويكون الولد الأول، إذا أتت به لدون ستة أشهر، من وطء الثاني (5) ويكون للثاني، إذا أتت به لأكثر من أربع سنين، منذ بانت من الأول (6) وإن أشكل عرض على القافة (7) .
__________
(1) أي الزوج أو الواطئ بشبهة، أو الزوج الأول، أو الثاني الذي تزوجته في عدتها.
(2) يعني بوضعه ممن لحق به الولد.
(3) لا فرق، فإن التي تزوجت في عدتها، إذا كانت حاملا تنقضي عدتها بوضعه لقوله: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
(4) كمطلقة، وتقدم.
(5) وتنقضي عدتها به منه، وأربع سنين فما دونها من فراق الأول، وقال الوزير: اتفقوا على أن أقل مدة الحمل، ستة أشهر.
(6) وتنقضي عدتها به منه، وقال الوزير: في أكثر مدة الحمل، قال الشافعي: أربع سنين، وعن مالك وأحمد كذلك، وهي المشهورة عنه.
(7) إذا أمكن أن يكون ممن ألحقته به، بأن تأتي به لنصف سنة فأكثر من وطء الثاني، ولأربع سنين فأقل من بينونة الأول، لحقه، وانقضت عدتها به ممن ألحقته القافة به، لأنه حل وضعته فانقضت عدة أبيه به، دون غيره ثم اعتدت للآخر الذي لم يلحق به الولد، لبقاء حقه من العدة، وإن ألحقته بهما لحق بهما، وانقضت عدتها به منهما، لثبوت نسبه منهما.
وإن نفته القافة عنهما فكما لو أشكل أمره، فتعتد بعد وضعه بثلاثة قروء، ولا ينتفي الولد عنهما لقول القافة، لأن عملها ترجيح أحد صاحبي الفراش، لا في النفي عن الفراش كله، وإن ولدت لدون ستة أشهر من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من فراق الأول على القول بذلك، لم يلحق بواحد منهما، ولا تنقضي عدتها منه، لأنه من وطء آخر، فتنقضي عدتها من ذلك الوطء، ثم تتم عدة الأول وتستأنف عدة الثاني.(7/75)
(ومن وطئ معتدتة البائن) في عدتها (بشبهة استأنفت العدة بوطئه (1) ودخلت فيها بقية) العدة (الأولى) لأنهما عدتان من واحد لوطئين، يلحق النسب فيهما لحوقا واحدا، فتداخلا (2) وتبني الرجعية إذا طلقت في عدتها، على عدتها (3) وإن راجعها ثم طلقها استأنفت (4) .
__________
(1) لأن الوطء قطع العدة الأولى، وهو موجب للاعتداد، للاحتياج إلى العلم ببراءة الرحم من الحمل.
(2) كما لو طلق الرجعية في عدتها.
(3) كأن يطلقها فتحيض حيضة ثم يطلقها أخرى، فتبني على عدتها بلا نزاع، ويكون الباقي عليها حيضتين، لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء، أشبه الطلقتين في وقت واحد
(4) عدة الطلاق الثاني، ولو لم يدخل بها، قال في الإنصاف: بلا نزاع، لأن الرجعة أزالت شعث الطلاق الأول، وأعادت المرأة إلى النكاح الذي كانت فيه.(7/76)
(وإن نكح من أبانها في عدتها، ثم طلقها قبل الدخول) بها (بنت) على ما مضى من عدتها، لأنه طلاق في نكاح ثان، قبل المسيس والخلوة، فلم يوجب عدة (1) بخلاف ما إذا راجعها، ثم طلقها قبل الدخول (2) لأن الرجعة إعادة إلى النكاح الأول (3) .
__________
(1) كما لو لم يتقدمه نكاح لعموم {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} .
(2) فتستأنف العدة.
(3) فالطلاق في عدتها طلاق من نكاح واحد، فكان استئناف العدة في ذلك أظهر، لأنها مدخول بها، ولولا الدخول لما كانت رجعية، وفي البائن بعد النكاح طلاق عن نكاح متجدد، لم يتصل به دخول وإن انقضت قبل طلاقه فلا عدة له.(7/77)
فصل (1)
يحرم إحداد فوق ثلاث، على ميت غير زوج (2) و (يلزم الإحداد مدة العدة (3)
__________
(1) أي في بيان حكم الإحداد، وما يجب عليها تجنبه، وغير ذلك مما يتعلق به.
(2) أي يحرم إحداد فوق ثلاثة أيام بلياليها، للخبر الآتي وغيره، والإحداد المنع، إذ المرأة تمنع نفسها مما تتهيأ به لزوجها، من تطيب وتزين.
(3) قال ابن القيم: هذا من تمام محاسن هذه الشريعة، وحكمتها ورعايتها على أكمل الوجوه، فإن الإحداد على الميت، من تعظيم مصيبة الموت، التي كان أهل الجاهلية يبالغون فيها أعظم مبالغة، وتمكث المرأة سنة في أضيق بيت وأوحشه لا تمس طيبا، ولا تدهن، ولا تغتسل إلى غير ذلك، مما هو تسخط على الرب وأقداره، فأبطل الله بحكمته سنة الجاهلية، وأبدلنا به الصبر والحمد.
ولما كانت مصيبة الموت، لا بد أن تحدث للمصاب من الجزع، والألم، والحزن، ما تتقاضاه الطباع، سمح لها الحكيم الخبير، في اليسير من ذلك، وهو ثلاثة أيام تجد بها نوع راحة، وتقضي بها وطرا من الحزن، وما زاد فمفسدته راجحة فمنع منه، والمقصود: أنه أباح لهن الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام، وأما الإحداد على الزوج، فإنه تابع للعدة بالشهور، وأما الحامل فإذا انقضى حملها سقط وجوب الإحداد، وذكر أنه يستمر إلى حين الوضع، فإنه من توابع العدة، ولهذا قيد بمدتها، وهو حكم من أحكام العدة، وواجب من واجباتها، فكان معها وجودا وعدما.
وقال: وهو من مقتضياتها، ومكملاتها، وهي إنما تحتاج إلى التزين، لتحبب إلى زوجها، فإذا مات وهي لم تصل إلى آخر، فاقتضى تمام حق الأول، وتأكيد المنع من الثاني، قبل بلوغ الكتاب أجله أن تمنع مما تصنعه النساء لأزواجهن مع ما في ذلك من سد الذريعة إلى طمعها في الرجال، وطمعهم فيها بالزينة.(7/78)
كل) امرأة (متوفى عنها زوجها، في نكاح صحيح) (1) لقوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال (2) إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» متفق عليه (3) .
وإن كان النكاح فاسدا، لم يلزمها الإحداد، لأنها ليست زوجة (4) .
__________
(1) بلا نزاع بين أهل العلم، إلا عن الحسن شذبه عن أهل العلم، وخالف فيه السنة، وقال ابن رشد: أجمع المسلمون على أن الإحداد واجب، على النساء الحرائر المسلمات، في عدة الوفاة، إلا الحسن وحده.
(2) أي تمنع نفسها الزينة، وبدنها الطيب، على ميت من قريب ونحوه، فوق ثلاث فما دونها، وذلك أنه أبيح لأجل حفظ النفس، ومراعاتها وغلبة الطباع البشرية.
(3) ولمسلم إلا المرأة فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا، وفي رواية «كل امرأة متوفى عنها زوجها» فدل الحديث: على جواز إحداد المرأة على قريب ونحوه، ثلاث ليال فما دونها، ووجوبه على المتوفى عنها زوجها، أربعة أشهر وعشرا، بلا نزاع.
(4) شرعا، فلم يجب عليها الإحداد، وهو مذهب مالك، وقال الشافعي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله» الحديث، وهذه عدة الوفاة، فدل على أن الإحداد إنما يجب في عدة الوفاة.(7/79)
ولا يعتبر للزوم الإحداد كونها وارثة أو مكلفة فيلزمها (ولو ذمية أو أمة أو غير مكلفة) (1) فيجنبها وليها الطيب ونحوه (2) وسواء كان الزوج مكلفا أولا، لعموم الأحاديث (3) ولتساويهن في لزوم اجتناب المحرمات (4) .
(ويباح) الإحداد (لبائن من حي) (5) ولا يسن لها، قاله في الرعاية (6) (ولا يجب) الإحداد (على) مطلقة (رجعية (7) و) لا على (موطوءة بشبهة أو زنا) (8) .
__________
(1) وهو مذهب الجمهور، مالك والشافعي، لعموم الأحاديث، واستثنى أصحاب الرأي الذمية والصغيرة، لأنهما غير مكلفتين، ولا مخصص.
(2) أي فيجنب ولي غير المكلفة، الطيب والزينة وغيرهما، مما تجنبه الحرة المسلمة.
(3) الآتية فيما يجب على الزوجة من الإحداد.
(4) فاستوين فيما يجب من الإحداد.
(5) بالإجماع كمطلقة ثلاثا، والمختلعة ولا يجب، لأنها معتدة من غير وفاة، فلا يجب عليها الإحداد لظاهر الأحاديث، كالرجعية والموطوءة بشبهة، ولأن الإحداد في عدة الوفاة، لإظهار الأسف على فراق زجها وموتها.
(6) ونص أحمد: أنه لا إحداد عليها، وهو مذهب مالك.
(7) أي لا يجب على المطلقة الرجعية، أن تحد على زوجها الحي، بلا خلاف، بل ولا يسن، لأنها في حكم الزوجات، لها أن تتزين لزوجها، وتستشرف له ليرغب فيها.
(8) لأن العدة في حقهما لحفظ النسب، كما تقدم.(7/80)
أو في نكاح فاسد (1) أو نكاح (باطل (2) أو ملك يمين) لأنها ليست زوجة متوفى عنها (3) .
(والإحداد: اجتناب ما يدعو إلى جماعها، ويرغب في النظر إليها (4) من الزينة والطيب (5) والتحسين) باسفيذاج ونحوه (6) (والحنا (7)
__________
(1) لأنها ليست زوجة على الحقيقة ولا لها من كانت تحل له، وتحزن على فقده.
(2) وإنما العدة لحفظ النسب.
(3) لمفهوم إلا على زوج، قال ابن رشد: وأما الأمة فلا إحداد عليها وبه قال فقهاء الأمصار.
(4) ويحسنها ويحرك الشهوة، ويدعو إلى المباشرة.
(5) مما يتزين ويتطيب به، من سائر أنواع الطيب، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «ولا تمس طيبا» متفق عليه، ولمسلم «ولا تتطيب» فدل على تحريم الطيب للمعتدة، وهو كل ما يسمى طيبا، ولا نزاع في ذلك.
(6) مما يشبه الوجه ويزينه أو يحمره، كالكلكون، والإسفيذاج، شيء يعمل من الرصاص، إذا دهن به الوجه، يربو ويبرق ويبيض، وإنما منعت منه في الوجه، لأنه يصفره ويبيضه فيشبه، كالخضاب، ولا تجعل عليه صبرا يصفره، وأن تنقش وجهها أو بدنها، وأن تحفف وجهها، وما أشبهه مما يحسنها.
(7) لقوله - صلى الله عليه وسلم - «ولا تختضب» رواه أبو داود، وفي السنن ولا تمتشطي بالطيب، ولا بالحنا، فإنه خضاب، لأنه يدعو إلى الجماع، يشبه الحلي وأولى.(7/81)
وما صبغ للزينة) قبل نسج أو بعده، كأحمر وأصفر (1) وأخضر وأزرق صافيين (2) .
(و) ترك (حلي (3) وكحل أسود) بلا حاجة (4) (لا توتيا ونحوها (5) ولا) ترك (نقاب (6) و) لا ترك (أبيض ولو كان حسنا) كإبريسم (7) .
__________
(1) وكذا المطرز، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «ولا تلبس ثوبا مصبوغا، إلا ثوب عصب» متفق عليه، ولأبي داود، «ولا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة» أي المصبوغة بالمغرة، قال ابن المنذر: أجمع العلماء، على أنه لا يجوز للمحادة لبس الثياب المعصفرة، ولا المصبغة، ورخص بعضهم فيهما صبغ بسواد، لأنه لم يتخذ للزينة.
(2) بخلاف الأحمر والأصفر، ولو غير صافين.
(3) ولأبي داود «ولا الحلي» فيحرم كله، حتى الخاتم والحلقة، سواء كان من ذهب أو فضة، لعموم النهي.
(4) إليه تكتحل به ليلا وتمسحه نهارا، لأن الكحل من أبلغ الزينة، والزينة تدعو إليها، وتحرك الشهوة فهي كالطيب وأبلغ منه، فإن كان بها حاجة إليه جاز قال ابن رشد: تمنع عند الفقهاء بالجملة، من الزينة الداعية الرجال إلى النساء وذلك كالحلي والكحل، لثبوته بالسنة، إلا ما لم تكن فيه زينة، ولباس الثياب المصبوغة إلا السواد، ورخصوا في الكحل عند الضرورة.
(5) كعنزروت فلا بأس بهما لأنهما لا زينة فيهما.
(6) أو برقع لأنهما ليسا منصوصا عليهما، ولا في معنى المنصوص عليهما والمحرمة منعت منهما، لمنعها من تغطية وجهها.
(7) نوع من الحرير أبيض، وسواء كان الأبيض من قطن، أو كتان أو صوف.(7/82)
لأن حسنه من أصل خلقته، فلا يلزم تغييره (1) ولا تمنع من لبس ملون لدفع وسخ ككحلي (2) ولا من أخذ ظفر ونحوه (3) ولا من تنظيف وغسل (4) .
__________
(1) وظاهره: ولو كان معدا للزينة، كما أن المرأة إذا كانت حسنة الخلقة، لا يلزمه أن تغير لونها وتشوه نفسها، وقيل: يحرم الأبيض المعدة للزينة، قال في الإنصاف: وما هو ببعيد فإن بعضها أعظم مما منعت منه من غيره.
(2) كأخضر صاف، لأنه في معنى ثوب العصب، وهو مستثنى في الخبر، وثياب العصب يمنية فيها بياض وسواد، يصبغ غزلها ثم ينسج، وصحح في الشرح: أنه نبت يصبغ به، ولأنه لا يراد للزينة.
(3) كأخذ عانة، ونتف أبط، وحلق الشعر المندوب إلى حلقه.
(4) بسدر ونحوه، والامتشاط به، لأنه لا يراد للزينة، ولا طيب فيهن ولها تزيين في نحو فرش، لأن الإحداد في البدن فقط.(7/83)
فصل (1)
(وتجب عدة الوفاة في المنزل) الذي مات زوجها وهي به (حيث وجبت) (2) فلا يجوز أن تتحول منه بلا عذر (3) روي عن عمر وعثمان وابن عمر، وابن مسعود، وأم سلمة (4) .
__________
(1) أي في بيان سكنى المتوفى عنها، والرجعية والبائن، وما يتعلق به.
(2) العدة فيه، وفي الإنصاف: تجب إلى أن تدعو ضرورة إلى خرجها بلا نزاع، وهي من الموت، سواء كان المسكن لزوجها، أو بإجارة أو عارية لقوله لفريعة «امكثي في بيتك» ، ولم تكن في بيت يملكه زوجها، وفي لفظ «اعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك» وفي لفظ «حيث أتاك الخبر» وإن أتاها في غير مسكنها، رجعت إلى مسكنها.
وإن أذن لها في النقلة، فمات قبل مفارقة البنيان، لزمها العود إلى منزلهن قال في الإنصاف بغير خلاف أعلمه، وبعده، لها الخيار بين البلدين، قال: ويتجه الأقرب، وكذا من دار إلى دار.
(3) بأن تخشى على نفسها ونحوه.
(4) وجماعة من الصحابة، بمحضر من المهاجرين والأنصار، وقال ابن عبد البر: وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار، وفي السنن عن فريعة أن زوجها قتل، وهي في دار شاسعة، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ترجع إلى أهلها، فإنه لم يترك لها سكنى، ولا نفقة، فقال: «امكثي في بيتك الذي أتاك نعيه فيه حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، وهو مذهب جماهير العلماء إلا لضرورة.(7/84)
(فإن تحولت خوفا) على نفسها أو مالها (1) .
(أو) حولت (قهرا (2) أو) حولت (بحق) يجب عليها الخروج من أجله (3) أو بتحويل مالكه لها (4) أو طلبه فوق أجرته (5) أو لا تجد ما تكتري به إلا من مالها (6) (انتقلت حيث شاءت) للضرورة (7) ويلزم منتقلة بلا حاجة العود (8) .
__________
(1) من نحو هدم، أو غرق، أو عدو، أو غير ذلك.
(2) كأن حولها سلطان أو ظالم، أو منعها صاحب المسكن من السكنى فيه، تعديا عليها بغير حق.
(3) كلحق عليها، أو تحول لأذاها، لا تحول من حولها دفعا لأذاها، ومنه يؤخذ تحويل الجار السوء، ومن يؤذي غيره.
(4) أي مالك المنزل للمعتدة، للوفاة، قيل: ويتجه لا يحرم عليه، كما دل عليه قولهم، أوتبرع ورثته، أو أجنبي.
(5) المعتادة، تحولت حيث شاءت.
(6) وقالوا: لأن الواجب السكنى، لا تحصيل المسكن، وفيه نظر، لأنه يفضي إلى إسقاط العدة في المنزل رأسا، وظاهر الحديث يخالفه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها «أمكثي في بيتك» مع قولها، إنه لم يتركها في منزل يملكه، ولا نفقة وعامة الأصحاب يقولون: لا تخرج من منزلها إلا لضرورة، فيجب عليها بذل الأجرة من مالها إن قدرت، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
(7) لسقوط الواجب، ولم يرد الشرع بالاعتداد في معين غيره، لكن في بلدها، على الصحيح من المذهب.
(8) لتتم عدتها فيه تداركا للواجب.(7/85)
وتنقضي العدة بمضي الزمان حيث كانت (1) (ولها) أي للمتوفى عنها زمن العدة (الخروج لحاجتها نهارا (2) لا ليلا) لأنه مظنة الفساد (3) (وإن تركت الإحداد) عمدا (أثمت (4) وتمت عدتها بمضي زمانها) أي زمان العدة، لأن الإحداد ليس شرطا في انقضاء العدة (5) ورجعية في لزم مسكن كمتوفى عنها (6) .
__________
(1) لأن المكان ليس شرطا للاعتداد.
(2) لنحو بيع وشراء، ونحوهما، ولو كان لها من يقوم بمصالحها، ولا تخرج لحوائج غيرها، ولا لعيادة وزيارة ونحوهما، وهو المذهب عند الأكثر، قال الزركشي: اشترط كثير من الأصحاب لخروجها الحاجة، وأحمد وجماعة لم يشترطوا ذلك، فلا حاجة في التحقيق إلى اشتراطه، لأن المرأة وإن لم تكن متوفى عنها، تمنع من خروجها من بيتها، لغير حاجة مطلقا.
(3) لقوله - صلى الله عليه وسلم - «تحدثن عند إحداكن، حتى إذا أردتن النوم، فلتأت كل واحدة إلى بيتها» وإنما أبيح لها أن تخرج لضرورة، كانهدام المنزل ونحوه.
(4) لمخالفتها الأوامر.
(5) فإذا انقضى الزمان تمت به عدتها، قولا واحدا، والأمة كالحرة في الإحداد والاعتداد في منزلها، والبدويةكالحضرية في لزوم الموضع، الذي مات وهي به، فإن انتقلت الحلة انتقلت معهم، للضرورة، وإن انتقل أهلها، انتقلت معهم للحاجة.
(6) أي ورجعية حكمها في لزوم مسكن مطلقا، كمتوفى عنها لا في إحداد لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ} والفاحشة تشمل الزنا، والنشوز على الزوج، والبذاء على أهل الرجل، وأذيتهم في الكلام، والفعال، وإن خشيت أن يقتحم عليها، تحولت، لقصة فاطمة بنت قيس، عند مسلم وغيره.(7/86)
وتعتد بائن بمأمون من البلد حيث شاءت (1) ولا تبيت إلا به (2) ولا تسافر (3) وإن أراد إسكانها بمنزلة أو غيره، تحصينا لفراشه، ولا محذور فيه، لزمها (4) .
__________
(1) ولا تجب عليها العدة في منزله لحديث فاطمة بنت قيس، قالت: طلقني زوجي ثلاثا فأذن لي - صلى الله عليه وسلم - أن اعتد في أهلي رواه مسلم.
(2) أي بالمسكن المأمون، لما في البيتوتة بغير منزلها، من التبرج والتعرض للريبة.
(3) قبل انقضاء عدتها، لما في سفرها إلى غير بلدها، من التبرج والتعرض للريبة.
(4) كأن يفعله ليتحقق حملها، لأن الحق له فيه وضرره عليه، فكان إلى اختياره، كسائر الحقوق، وقال الشيخ: يلزمه ذلك إن أنفق عليها، وإلا فلا اهـ وليس له الخلوة بامرأته البائن، إلا مع زوجته أو أمته، ومحرم أحدهما وأصله النسوة المفردات، هل لهن السفر مع أمن بلا محرم؟ وهل له الدخول على البائن منه، مع أجنبية ثقة؟ وجهان؛ قال الشيخ: ويحرم سفره بأخت زوجته ولو معها، وقال في ميت عن امرأة شهد قوم بطلاقه ثلاثا مع علمهم عادة بخلوته بها، لا تقبل لأن إقرارهم يقدح فيهم.(7/87)
باب الاستبراء (1)
مأخوذ من البراءة، وهي: التمييز والقطع (2) وشرعا: تربص يقصد منه العلم ببراءة رحم ملك يمين (3) (من ملك أمة يوطأ مثلها) (4) ببيع أو هبة أو سبي أو غير ذلك (5) (من صغير وذكر وضدهما) وهو الكبير والمرأة (6) .
__________
(1) بالمد: طلب براءة رحم الإماء، خص بالإماء، للعلم ببراءة رحمهن من الحمل، وإن كانت الحرة شاركت الإماء في ذلك، فهي مفارقة لها في التكرار، فلذلك يستعمل فيها لفظ العدة، وإنما خص الاستبراء بهذا الاسم، لتقديره بأقل ما يدل على البراءة من غير تكرار ولا تعدد.
(2) يقال: بري اللحم من العظم، إذا قطع منه وفصل.
(3) أي من شأنه أن يقصد به ذلك، من قن ومكاتبة ومدبرة وأم ولد، ومعلق عتقها عند حدوث الملك، أو زواله.
(4) أخرج الصغيرة التي لا يواطأ مثلها، وهو قول مالك، وقال الموفق: وهو الصحيح لأن سبب الإباحة متحقق.
(5) كإرث أو وصية أو عوض في إجارة أو جعالة، أو صلح وغير ذلك، فجمهور العلماء، على وجوب الاستبراء على المشتري، والمتهب، ونحوهم بجامع تجدد الملك.
(6) ولو كان مجبوبا، أو ملكها من رجل قد استبرأها وعنه: لا يلزم الاستبراء إذا ملكها من طفل، أو امرأة، وهو مقتضى قواعد الشيخ.(7/88)
(حرم عليه وطؤها (1) ومقدماته) أي مقدمات الوطء من قبلة ونحوها (2) (قبل استبرائها) (3) لقوله عليه السلام «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يسقي ماءه زرع غيره» (4) رواه أحمد والترمذي وأبو داود (5) .
__________
(1) حتى يستبرئها بكرا كانت أو ثيبا، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم مالك والشافعي، وأصحاب الرأي.
(2) كالنظر والاستمتاع بما دون الفرج، وعليه جماهير الأصحاب، وعنه: الوطء فقط؛ واختاره ابن القيم، والنهي إنما جاء عن الوطء، ومفهومه: جواز الاستمتاع بدونه، وفعله ابن عمر وغيره، واحتج ابن القيم بجواز الخلة والنظر؛ وقال: لا أعلم في جواز هذا نزاعا.
(3) هذا المذهب، قال الشيخ: لا يجوز لمن اشترى جارية وطؤها قبل استبرائها باتفاق العلماء اهـ.
وإن وطئ الجارية التي يلزمه استبراؤها، قبل استبرائها، أثم، والاستبراء باق بحاله، لأنه حق عليه، فلا يسقط بعدوانه وذهب جماعة من العلماء إلى أن الاستبراء إنما يكون في حق من لم يعلم براءة رحمها وأما من علم براءة رحمها، فلا استبراء عليها.
قال الشيخ: لا يجب استبراء الأمة البكر، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، وهو مذهب ابن عمر، واختيار البخاري، وكذا الآيسة، ومن اشتراها من رجل صادق، وأخبره أنه لم يطأها، أو وطئ واستبرأ.
(4) يعني إتيان الحبالى، وفي لفظ ولد غيره.
(5) وله مرفوعا، «لا توطأ حامل حتى تضع» ولأحمد «لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره» ولها شواهد.(7/89)
وإن أعتقها قبل استبرائها، لم يصح أن يتزوج قبل استبرائها (1) وكذا ليس لها أن تتزوج غيره إن كان بائعها يطؤها (2) ومن وطئ أمته ثم أراد تزويجها، أو بيعها حرما حتى يستبرئها (3) فإن خالف صح البيع دون التزويج (4) .
وإن أعتق سريته أو أم ولده أو أعتقت بموته، لزمها استبراء نفسها، إن لم يكن استبرأها (5) .
__________
(1) وهو قول الشافعي، وقيل إن الرشيد اشترى جارية، فقيل، أعتقها وتزوجها، وروي عن المهدي كذلك، فقال أحمد: ما أعظم هذا، أبطلوا الكتاب والسنة، إن كانت حاملا كيف يصنع.
(2) أي ليس لها أن تتزوج غير سيدها، لما تقدم، ولأنها ممن يجب استبراؤها فلم يجز أن تتزوج، كالمعتدة ولخبر «لا توطأ حائل حتى تستبرأ» ومفهومه: إن كان البائع لم يطأها، جاز لها أن تتزوج غيره، مع الرق، والعتق وكذا إن كان البائع وطئ ثم استبرأها قبل البيع، وصححه غير واحد.
(3) وفهم منه أنه لو لم يطأها، أو كانت آيسة لم يلزمه استبراؤها، إذا أراد بيعها لكن يستحب.
(4) لأن الزوج لا يلزمه استبراء، فيفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، ولأن عمر أنكر على عبد الرحمن بن عوف بيع جارية، كان يطؤها قبل استبرائها، ولأن المشتري يجب عليه الاستبراء، لحفظ مائه، فكذا البائع.
(5) لتعلم براءة رحمها، لأنها فراش لسيدها، وقد فارقها بالعتق أو الموت، فلم يجز أن تنتقل إلى فراش غيره بلا استبراء، لا إن استبرأها قبل، لحصول العلم ببراءة الرحم.(7/90)
(واستبراء الحامل بوضعها) كل الحمل (1) .
(و) استبراء (من تحيض بحيضة) (2) لقوله عليه السلام في سبي أوطاس (3) «لا توطأ حامل حتى تضع (4) ولا غير حامل حتى تحيض حيضة» رواه أحمد وأبو داود (5) .
(و) استبراء (الآيسة والصغيرة بمضي شهر) (6) .
__________
(1) بلا خلاف لقوله تعالى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وللخبر الآتي وغيره، سواء كان بعد طلاق أو موت، بفواق ناقة عند الجمهور.
(2) تامة وهو مذهب الأئمة الأربعة، وغيرهم.
(3) واد في بلاد هوازن بحنين.
(4) ولأحمد وغيره أيضا «لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره» وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أيلم بها؟» قالوا: نعم، فقال: «لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه في القبر، كيف يستخدمه وهو لا يحل له، كيف يورثه وهو لا يحل له» فدلت هذه الأحاديث، وما في معناها، على أنه يحرم على الرجل أن يطأ الأمة المسبية وغيرها، إذا كانت حاملا، حتى تضع حملها.
(5) وله شواهد كثيرة، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وجماهير العلماء، واتفقوا على أنه يحرم وطؤها زمن الاستبراء، وفيه جواز وطء السبايا بعد الاستبراء، وإن لم يدخلن في الإسلام، وعمل به الصحابة، وجواز الاستمتاع قبل الاستبراء، بدون جماع، ولفعل ابن عمر وغيره.
(6) أي إذا كان يوطأ مثلها ولم تحض، وأما إذا لم يوطأ مثلها لصغرها، فقد تقدم عدم استبرائها، إذا اشتراها آخر، وقال المازري: القول الجامع في ذلك، أن كل أمة أمن عليها الحمل، فلا يلزم فيها الاستبراء، وكل من غلب على الظن كونها حاملا، أو شك في حملها، أو تردد فيه، فالاستبراء لازم فيها، والأحاديث تشير إلى أن العلة الحمل، أو تجويزه.(7/91)
لقيام الشهر مقام حيضة في العدة (1) واستبراء من ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه عشر أشهر (2) وتصدق الأمة إذا قالت حضت (3) وإن ادعت موروثة، تحريمها على وارث بوطء مورثه (4) أو ادعت مشتراه أن لها زوجا صدقت، لأنه لا يعرف إلا من جهتها (5) .
__________
(1) أي عدة الحرة والأمة، ولذلك تختلف الشهور باختلاف الحيض، وإن حاضت في الشهر، فبحيضة.
(2) تسعة للحمل، وشهر للاستبراء، لما تقدم في العدة.
(3) فيحل له وطؤها بعد تطهرها، فلو أنكرته فقال: أخبرتني به، صدق.
(4) كأبيه وابنه، صدقت.
(5) ولعلها ما لم تكن مكنته قبل، ولمشتر الفسخ.(7/92)
كتاب الرضاع (1)
وهو لغة مص اللبن من الثدي (2) وشرعًا: مص من دون الحولين لبنا ثاب عن حمل (3) أو شربه أو نحوه (4) .
(يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) (5) لحديث عائشة مرفوعًا: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» رواه
الجماعة (6) .
__________
(1) أي هذا كتاب يذكر فيه أحكام ما يحرم من الرضاع، والأصل في التحريم بالرضاع: الكتاب والسنة، والإجماع.
(2) وشربه، مصدر رضع الثدي إذا مصه، بفتح الضاد وكسرها، وقيل الكسر أفصح.
(3) أي اجتمع عن حمل، أو ولو قبل وضع، أو لم يبن فيه خلق إنسان من ثدي امرأة.
(4) كأكله بعد تجبينه، وسعوط به ووجور.
(5) باتفاق أهل العلم، وحكمه حكم التناكح، وجواز النظر والخلوة، والمسافرة بشرطين، أن يكون قبل استكمال المولود حولين، وأن يوجد خمس رضعات.
(6) وفي الصحيحين أيضًا، عن ابن عباس مرفوعًا، «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» قال الشيخ: هو حديث صحيح، متلقى بالقبول، متفق على صحته وقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فسماها تعالى أما وسمى الأخوات من الرضاعة أخوات، وحكم بتحريمهن.(7/93)
(والمحرم) من الرضاع (خمس رضعات) (1) لحديث عائشة قالت: أنزل في القرآن «عشر رضعات معلومات يحرمن» فنسخ من ذلك خمس رضعات، وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك؛ رواه مسلم (2) .
وتحرم الخمس إذا كانت في الحولين (3) لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (4) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا يحرم من الرضاع، إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام» قال الترمذي: حديث حسن صحيح (5) .
__________
(1) هذا هو المشهور عن أحمد، ومذهب الشافعي.
(2) وكان بعض الناس يقرأ (خمس رضعات) ويجعلها قرآنا متلوا، لكونه لم يبلغه النسخ، لقرب عهده، فلما بلغهم رجعوا، وأجمعوا على أنه لا يتلى، وهذا من نسخ التلاوة دون الحكم، وهو مبين لما أجمل من الآية، والأحاديث، ويشهد له حديث سهلة، فإنها أرضعت سالما خمس رضعات.
(3) حكاه الوزير وغيره اتفاقا، واختار الشيخ ثبوت الحرمة بالرضاع إلى الفطام ولو بعد الحولين، أو قبلهما، وفي الاختيارات، الارتضاع بعد الفطام، لا ينشر الحرمة، وإن كان دون الحول.
(4) فدلت الآية على أن الرضاع المعتبر، في الحولين.
(5) أي: لا يحرم من الرضاع إلا ما وصل إلى الأمعاء ووسعها، فلا يحرم القليل الذي لم ينفذ إليها ويوسعها، ولا يحرم إلا ما كان قبل الفطام، يعني في زمن الصغر وقام مقام الغذاء، قبل الفطام، ولو كان قبل كمال الحولين، ولأبي داود «إلا ما أنشز» ، أي شد وقوي، «العظم، وأنبت اللحم» ، ولا يكون إلا في سن الصغر، وهو مذهب جمهور العلماء.
وذهبوا إلى أنه مهما كان في الحولين، فإن رضاعه يحرم، ولا يحرم ما كان بعدهما، وفي الصحيحين «إنما الرضاعة من المجاعة» ، أي الواقعة في زمن الإرضاع فالذي تثبت به الحرمة، حيث يكون الرضيع طفلا، يسد اللبن جوعه، وينبت لحمه، فيكون ذلك جزءا منه.
وفي صحيح مسلم أن سهلة قالت: يا رسول الله إن سالما مولى أبي حذيفة، معنا في بيتنا، وقد بلغ ما يبلغ الرجال، فقال: «أرضعيه تحرمي عليه» ولهذا كانت عائشة تأمر أختها، وبنات أخيها، يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال، ويروى عن علي، ولما قالت أم سلمة: إنه خاص بسالم، قالت عائشة: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة، فدل الحديث أنه يحرم عند الحاجة، وقال الشيخ: ينشر الحرمة، بحيث يبيح الدخول والخلوة، إذا كان قد تربى في البيت بحيث لا يحتشمون منه، للحاجة.(7/94)
ومتى امتص ثم قطعه لتنفس (1) أو انتقال إلى ثدي آخر ونحوه فرضعه (2) فإن عاد ولو قريبا فثنتان (3) .
__________
(1) أو شبع أو ملة، فرضعة.
(2) كانتقاله من امرأة إلى امرأة غيرها، أو أخرج الثدي من فمه، إذ المرجع فيها إلى العرف، لأن الشرع ورد بها مطلقا، ولم يحددها بزمن ولا مقدار، فإذا ارتضع ثم قطع باختياره، أو قطع عليه فرضعة.
(3) لأن العود ارتضاع، والشارع لم يحدد الرضعة بزمان، فوجب أن يكون القريب كالبعيد، بشرط وصولهما إلى الجوف.(7/95)
(والسعوط) في أنف (والوجور) في فم محرم كرضاع (1) (ولبن) المرأة (الميتة) كلبن الحية (2) .
(و) لبن (الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد) كالموطوءة بنكاح صحيح (3) (أو باطل) أي الموطوءة بنكاح باطل إجماعا (4) (أو بزنا محرم) (5) .
__________
(1) الوجور والسعوط إذا أريد به المصدر ضم سينه، وإذا أريد به الدواء فبالفتح، والوجور: أن يقطر في فم الرضيع من غير الثدي، السعوط، أن يصب اللبن في أنفه من إناء أو غيره، فيدخل حلقه، لأنه يحصل بهما ما يحصل بالرضاع من الفم، لخبر «إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم» رواه أبو داود.
وقال الوزير: اتفقوا على أنه يتعلق التحريم بالسعوط والوجور، إلا في إحدى الروايتين عن أحمد، وكذا الحقنة باللبن واتفقوا على أن الخالص يحصل به الرضاع، وقال الشافعي وأحمد: يتعلق بالمشوب، اهـ وكذا جبن عمل منه، لأنه واصل من الحلق، يحصل به إنبات اللحم، وذلك بأن يحصل من تلك الثلاثة خمس، لأنها فرع عن الرضاع فيعطى حكمه.
(2) إذا حلب أو ارتضع من ثديها بعد موتها، لأنه ينبت اللحم.
(3) محرم منه خمس رضعات في الحولين، والمرتضع ابن لهما، لثبوت نسب ولدها من الواطئ بشبهة أو بنكاح فاسد، قال في الفروع: وإن أرضعت بلبن اثنين وطئاها بشبهة طفلا، فإن ألحقته قافة بأحدهما فهو ابنه، وإن ألحقته بهما أو مات ولم يثبت نسبه فهو ابنهما، وإن تزوج امرأة لها لبن من زوج قبله، فحملت من الثاني، وزاد أو لم يزد، ولم ينقص حتى ولدت، فقال الشيخ: للثاني.
(4) محرم منها.
(5) أي منها.(7/96)
لكن يكون مرتضع ابنا لها من الرضاع فقط في الأخيرتين (1) لأنه لما لم تثبت الأبوة من النسب لم يثبت ما هو فرعها (2) (وعكسه) أي عكس اللبن المذكور لبن (البهيمة (3) و) لبن (غير حبلى (4) ولا موطوءة) فلا يحرم (5) .
__________
(1) وهما مسألة الموطوءة بنكاح باطل أو بزنا، فأما المرضعة فإن الطفل المرتضع محرم عليها ومنسوب إليها، بخلاف الواطئ، وكذا الولد المنفي باللعان يحرم لبنه ولا ينسب إليه.
(2) وهذا مذهب الشافعي، قال الموفق: لأن من شرط ثبوت الحرمة، بين المرتضع وبين الرجل الذي ثاب اللبن بوطئه، أن يكون لبن حمل ينسب إلى الواطئ، كالوطء في نكاح، أو وطء بملك يمين أو شبهة.
(3) فلو ارتضع طفلان من بهيمة، لم ينشر الحرمة.
(4) وفي الإقناع والمنتهى، وإن ثاب لامرأة لبن من غير حمل تقدم، لم ينشر الحرمة، لأنه ليس بلبن حقيقة، بل رطوبة متولدة، لأن اللبن ما أنشز العظم وأنبت اللحم، وهذا ليس كذلك، وهو قول جماعة من الأصحاب وإحدى الروايتين عن أحمد.
(5) وفي الرعايتين: ولا يحرم لبن غير حبلى، ولا موطوءة على الأصح، وحكاه في الفروع عن جماعة من الأصحاب، وعنه: يحرم صححه الموفق وغيره، وقال الوزير: اتفقوا على أن تحريم الرضاع، إنما يجب به التحريم إذا كان من لبن الأنثى، سواء كانت بكرا أو ثيبا، موطوءة أو غير موطوءة، إلا أحمد فإنه قال: إنما يقع التحريم عنده، بلبن المرأة التي ثاب لها من الحمل.(7/97)
فلو ارتضع طفل وطفلة من بهيمة (1) أو رجل أو خنثى مشكل (2) أو ممن لم تحمل لم يصيرا أخوين (3) (فمتى أرضعت امرأة طفلا) دون الحولين (4) (صار) المرتضع (ولدها في) تحريم (النكاح (5) و) إباحة (النظر والخلوة و) في (المحرمية) (6) دون وجوب النفقة والعقل والولاية وغيرها (7) .
__________
(1) لم يصيرا أخوين في قول عامة أهل العلم، وقال الوزير: اتفقوا على أن تحريم الرضاع مقصور على الآدميات، ولو أن طفلين ارتضعا من لبن بهيمة، لم يثبت بينهما أخوة الرضاع.
(2) أي فلو ارتضع طفل وطفلة من رجل لم يصيرا أخوين؛ قال الوزير: اتفقوا على أنه لو در لرجل لبن، فارتضع منه، لم يثبت بذلك التحريم، والخنثى المشكل لا يثبت كونه امرأة، فلا يثبت التحريم مع الشك.
(3) نص عليه، وعنه: يحرم ذكره ابن أبي موسى، وهو قول ابن حامد، وجمهور الأئمة وتقدم.
(4) فلو ارتضع بعدهما، ولو قبل فطامه، لم يثبت التحريم، لأن شرط التحريم كونه في الحولين.
(5) لقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} وللأخبار.
(6) لأن ذلك فرع عن التحريم بسبب مباح.
(7) كالإرث والعتق، وولاية النكاح والمال، لأن النسب أقوى من الرضاع، فلا يساويه إلا فيما ورد النص فيه، وهو التحريم وما يتفرع عليه من المحرمية والخلوة.(7/98)
(و) صار المرتضع أيضا فيما تقدم فقط (1) (ولد من نسب لبنها إليه (2) بحمل) أي بسبب حملها منه، ولو بتحملها ماءه (3) (أو وطء) بنكاح أو شبهة (4) بخلاف من وطئ بزنا، لأن ولدها لا ينسب إليه (5) فالمرتضع كذلك (6) .
(و) صارت (محارمه) أي محارم الواطئ اللاحق به النسب (7) كآبائه وأمهاته، وأجداده وجداته (8) وإخوته وأخواته وأولادهم (9) وأعمامه وعماته، وأخواله وخالاته (10) .
__________
(1) أي من أنه يحرم، دون غيره مما فصل.
(2) باتفاق أهل العلم.
(3) لكونه خلق منه، وصح نسبته إليه.
(4) للحوق نسبه به، وتحريم الرضاع فرع عنه.
(5) ولو أقر الزاني أن هذا ولده من الزنا.
(6) لا ينسب إليه، وإنما ينسب إلى أمه، كما تقدم.
(7) دون من لم يلحق نسبه به، كما تقدم.
(8) محارم للمرتضع، بلا خلاف بين أهل العلم.
(9) وإن سفلوا، محارم للمرتضع، لأنهم إخوته من الرضاع، والرضاع كالنسب.
(10) لأنه ولد أخ الأعمام والعمات، وولد أخت الأخوال والخالات من الرضاع، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.(7/99)
(محارمه) أي محارم المرتضع (1) (و) صارت (محارمها) أي محارم المرضعة (2) كآبائها وأخواتها، وأعمامها ونحوهم (3) (محارمه) أي محارم المرتضع (4) (دون أبويه وأصولهما وفروعهما) فلا تنتشر الحرمة لأولئك (5) (فتباح المرضعة لأبي المرتضع وأخيه من النسب (6) و) تباح (أمه وأخته من النسب لأبيه وأخيه) من رضاع إجماعا (7) كما يحل لأخيه من أبيه أخته من أمه (8) .
__________
(1) قال الوزير: اتفقوا على أن لبن الفحل محرم، وهو أن ترضع المرأة صبية فتحرم هذه الصبية، على زوج المرضعة، وآبائه، وأبنائه، ويصير الزوج الذي در اللبن عن علاقه أبا للمرضعة.
(2) بشرطه، وهو خمس رضعات في الحولين، كما تقدم.
(3) ممن تقدم ذكرهم، في تعريف محارم الواطئ.
(4) بلا خلاف بين أهل العلم، للآية والأخبار.
(5) أي فلا تنتشر الحرمة إلى من هو أعلى من المرتضع، من آبائه وأمهاته، وأعمامه وعماته، وأخواله، وخالاته، كما لا تنتشر إلى من هو في درجته، من إخوته وأخواته.
(6) وعمه وخاله من النسب.
(7) قال أحمد: لا بأس أن يتزوج الرجل أخت أخيه من الرضاع، ليس بينهما رضاع ولا نسب وقد قيل:
أخت أخيك ثم ابن ابنك ... وجدة ابنك، وأم أمك
وأخت أبنك وأم خالك ... حل من الرضاع، فاعلم ذلك.
(8) أي ما يحل لأخيه من النسب، أخته من أمه من النسب.(7/100)
(ومن حرمت عليه بنتها) كأمه وجدته وأخته (فأرضعت طفلة حرمتها عليه) أبدا (1) .
(وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجة) له (2) لما تقدم من أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (3) ومن أرضع خمس أمهات أولاده بلبنه زوجة له صغرى، حرمت عليه، لثبوت الأبوة (4) دون أمهات أولاده، لعدم ثبوت الأمومة (5) .
(وكل امرأة أفسدت نكاح نفسها بـ) سبب (رضاع قبل الدخول فلا مهر لها) (6) .
__________
(1) كبنتها من النسب، لأنها تصير ابنتها من الرضاع، فإذا كانت المرضعة أمه، فالمرتضعة أخته، وإذا كانت المرضعة جدته، فالمرتضعة عمته، أو خالته، وإن كانت المرضعة أخته، فالمرتضعة ابنة أخته.
وكذا كل رجل تحرم ابنته، كأخيه وأبيه وابنه، إذا أرضعت امرأته بلبنه طفلة حرمتها عليه، لأنها تصير ابنته، وفي الحديث «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة» .
(2) لتحريمها على التأبيد، وإن أرضعتها امرأة أحد هؤلاء، بلبن غيره، لم تحرم عليه.
(3) وهؤلاء يحرمن من النسب، بلا نزاع.
(4) لأنها ارتضعت من لبنه خمس رضعات.
(5) لأن الخمس الأمهات لبنهن من لبنه، وأمهات أولاده، كل واحدة أرضعت مرة، فلا تثبت الأمومة بالمرة.
(6) كأن أرضعت زوجة له صغيرة، وهو قول الأئمة الثلاثة وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا.(7/101)
لمجيء الفرقة من جهتها (وكذا إن كانت) الزوجة (طفلة فدبت فرضعت من) أم أو أخت له (نائمة) انفسخ نكاحها (1) ولا مهر لها، لأنه لا فعل للزوج في الفسخ (2) (و) إن أفسدت نكاح نفسها (بعد الدخول) فـ (مهرها بحاله) لاستقرار المهر بالدخول (3) (وإن أفسده) أي نكاحها (غيرها (4) فلها على الزوج نصف المسمى قبله) أي قبل الدخول (5) .
__________
(1) فسقط صداقها، كما لو ارتدت، وإن أرضعت الكبرى الصغرى، فانفسخ نكاح الصغرى، فعلى الزوج نصف صداق الصغرى، يرجع به على الكبرى لأنها أتلفت عليه ما في مقابلته، وهو قول الشافعي.
(2) وإنما فسخ نكاحها بسبب من جهتها، فسقط صداقها، كما لو ارتدت قال في المغني: بغير خلاف نعلمه.
(3) وقالوا: يجب إذا صداقها على زوجها، وقال الموفق: إن أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول لم يسقط مهرها، لا نعلم بينهم في ذلك خلافا، وأن الزوج لا يرجع عليها بشيء، وعنه: يسقط واختار الشيخ: أنه يسقط مهرها، كما لو أفسده غيرها وقال ابن القيم: يتوجه سقوطه بإفسادها، وكان الشيخ يذهب إليه، وهو منصوص أحمد، وأقوى دليلا ومذهبا فالله أعلم.
(4) كأن أرضعت أخته زوجة له صغيرة أو يكون له زوجة صغيرة، فتدب على الكبيرة، فترضع من لبنها ما يحرمها، في حال نوم الكبيرة.
(5) قال الشيخ: لو أفسد مفسد نكاحها بعد الدخول، استقر المهر على الزوج، وهو المنصوص على أحمد.(7/102)
لأنه لا فعل لها في الفسخ (1) (و) لها (جميعه بعده) أي بعد الدخول، لاستقراره به (2) (ويرجع الزوج به) أي بما غرمه من نصف أو كل (على المفسد) لأنه أغرمه (3) فإن تعدد المفسد وزع الغرم على الرضعات المحرمة (4) (ومن قال لزوجته) : أنت أختي لرضاع بطل النكاح، حكما، لأنه أقر بما يوجب فسخ النكاح بينهما، فلزمه ذلك (5) (فإن كان) إقراره (قبل الدخول وصدقته) أنها أخته (فلا مهر) لها، لأنهما اتفقا على أن النكاح باطل من أصله (6) (وإن كذبته) في قوله إنها أخته قبل الدخول (7) .
__________
(1) وجزم به الشيخ؛ فيرجع به الزوج على ولي الصغيرة مثلا، ولها الأخذ من المفسد، لاستقراره عليه.
(2) أي بالدخول، فوجب إذا على زوجها.
(3) ولها الأخذ من المفسد، لاستقراره عليه، كما تقدم في الرجوع على الغار.
(4) على قدر رضعاتهن المحرمة، كل واحدة بقدر ما أتلفت، لتسببهن في استقراره عليه.
(5) وهو قول الشافعي، كما لو أقر بالطلاق، أو أن أمته أخته من النسب، وينفسخ نكاحه فيما بينه وبين الله تعالى، إن كان صادقا.
(6) لا تستحق فيه مهرا، أشبه ما لو ثبت ذلك منه ببينة.
(7) ولم يثبت ذلك ببينة.(7/103)
(فلها نصفه) أي نصف المسمى، لأن قوله غير مقبول عليها في إسقاط حقها (1) و (يجب) المهر (كله) إذا كان إقراره بذلك (بعده) أي بعد الدخول ولو صدقته (2) ما لم تكن مكنته من نفسها مطاوعة (3) (وإن قالت هي ذلك) أي قالت لزوجها: أنت أخي من الرضاع (وأكذبها فهي زوجته حكما) أي ظاهرا، لأن قولها لا يقبل عليه، في فسخ النكاح، لأنه حقه (4) وأما باطنا فإن كانت صادقة فلا نكاح (5) وإلا فهي زوجته أيضا (6) .
__________
(1) وقد جاءت الفرقة من جهته.
(2) أي أنه أخوها، لأن المهر يستقر بالدخول.
(3) عالمة بالتحريم، فلا مهر لها، لأنها إذا زانية مطاوعة، هذا إذا كانت حرة، وأما الأمة فيجب المهر لها، وإن قال: هي عمتي، أو خالتي، أو ابنة أخي، أو أمي من الرضاع، وأمكن صدقه، فالحكم كما لو قال: هي أختي من الرضاع.
(4) كأن أقرت بذلك قبل الدخول، فلا مهر لها، لإقرارها بأنها لا تستحقه.
(5) فإنها إن علمت صحة ما أقرت به، لم يحل لها مساكنته، ولا تمكنه من وطئها، ولا من دواعيه، لأنها محرمة عليه، وعليها أن تفتدي منه تفر عنه.
(6) أي: وإلا فإن كانت كاذبة في قولها، أنه أخوها من الرضاع، فهي زوجته أيضا، ظاهرا وباطنا.(7/104)
(وإذا شك في الرضاع (1) أو) شك في (كماله) أي كونه خمس رضعا (2) (أو شكت المرضعة) في ذلك (3) (ولا بينة فلا تحريم) (4)
لأن الأصل عدم الرضاع المحرم (5) وإن شهدت به امرأة مرضية ثبت (6) .
__________
(1) أو شك في وقوعه في العامين.
(2) حيث أن ما دون الخمس الرضعات لا يحرم، لما تقدم.
(3) أي في الرضاع، هل أرضعته أولا، وإن كانت أرضعته فشكت أنها خمس رضعات.
(4) أي ولا بينة على ثبوت خمس الرضعات، فلا تحريم بينهما.
(5) وقد شك فيه، والأصل عدمه، فلا تحريم.
(6) أي حكم الرضاع، والمذهب أنه يقبل في الشهادة بالرضاع واحدة، بشرط أن تكون مرضية في دينها، بحيث تقبل شهادتها، ولو المرضعة، قال الشيخ: إذا كانت معروفة بالصدق، وذكرت أنها أرضعت طفلا خمس رضعات، قبل على الصحيح، ويثبت حكم الرضاع.
وقال ابن القيم: إذا شهدت المرأة بأنها قد أرضعته وزوجته، فقد لزمته الحجة من الله في اجتنابها، ونوجب عليه مفارقتها، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «دعها عنك» ، وليس لأحد أن يفتي غيره، وهذا والله أعلم ما لم يتقدم شهادتها دعوى من الزوج ولا من الزوجة، فإنه إذا ادعى أحد الزوجين، أنه أقر أنه أخوه بالرضاع، فأنكر فإنه لا يقبل في ذلك شهادة النساء منفردات، لأنه شهادة على الإقرار، والإقرار مما يطلع عليه الرجال، فلم يحتج فيه إلى شهادة النساء المنفردات، ولم يقبل ذلك، بخلاف الرضاع نفسه، كما صرح به الموفق وغيره.(7/105)
وكره استرضاع فاجرة (1) وسيئة الخلق وجذماء وبرصاء (2) .
__________
(1) ومشركة لقول عمر وابنه، وكذا ذمية.
(2) لنهيه - صلى الله عليه وسلم - أن تسترضع الحمقاء) رواه أبو داود، لأن للرضاع تأثيرا في الطباع، فيختار من لا حماقة، ونحوها فيها، وسيئة الخلق، ونحو ذلك في معنى الحمقاء، فدل الحديث على كراهة ذلك.
وحكى القاضي، أن من ارتضع من امرأة حمقاء خرج الولد أحمق، ومن ارتضع من سيئة الخلق تعدى إليه، ومن ارتضع من بهيمة كان بليدا كالبهيمة.(7/106)
كتاب النفقات (1)
جمع نفقة (2) وهي كفاية من يمونه (3) خبزا وأدما، وكسوة ومسكنا وتوابعها (4) (يلزم الزوج نفقة زوجته (5) قوتا) أي خبزا وأدما (وكسوة وسكنى بما يصلح لمثلها) (6) .
__________
(1) أي هذا كتاب يذكر فيه بيان ما يجب على الإنسان من نفقات الزوجات والقرابة، والمماليك وغيرهم، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على ذلك.
(2) وتجمع على نفاق، كثمرة وثمار، وهي لغة: الدراهم ونحوها من الأموال.
(3) أي والنفقة شرعا، هي كفاية من يمونه بالمعروف، ويختلف باختلاف الأحوال.
(4) كماء شرب وطهارة، وإعفاف من يجب إعفافه، ممن تجب نفقته، وأجمعوا على وجوب نفقة الرجل على من تلزمه نفقته، كالزوجة والولد الصغير، والأب، وقال ابن المنذر، أجمع كل من نحفظ عنه، على أن على العبد نفقة زوجته.
(5) بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وللخبر الآتي وغيره، والإجماع حكاه ابن رشد وغيره.
(6) عند جمهور العلماء.(7/107)
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولهن عليكم زرقهن، وكسوتهن بالمعروف» رواه مسلم وأبو داود (1) (ويعتبر الحاكم) تقدير (ذلك بحالهما) أي يسارهما أو إعسارهما (2) أو يسار أحدهما وإعسار الآخر (عند التنازع) بينهما (3) (فيفرض) الحاكم (للموسرة تحت الموسر (4) قدر كفايتها من أرفع خبز البلد وأدمه) (5) .
__________
(1) فدل الحديث على وجوب النفقة والكسوة، للزوجة بالمعروف، ولا نزاع في ذلك، وفي السنن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسبت قال الشيخ: ويدخل في {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} جميع الحقوق التي للمرأة وعليها، وأن مرد ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم، ويجعلونه معدودا ويتكرر، وقال: لا يلزم الزوج تمليك الزوجة النفقة والكسوة، بل ينفق ويكسو، بحسب العادة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إن حقها عليك أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت» كما قال في المملوك.
(2) وهو مذهب مالك، وأصحاب أبي حنيفة.
(3) فيرجع في تقدير الواجب للزوجة إلى اجتهاد الحاكم أو نائبه، إن لم يتراضيا على شيء.
(4) نفقة الموسرين، وهو من يقدر على النفقة بماله أو كسبه وعكسه المعسر الذي لا شيء له والمتوسط: هو الذي يقدر على بعض النفقة بماله أو كسبه.
(5) الذي جرت عادة أمثالها بأكله، ومن الأرز واللبن وغيرهما، وما يطبخ به اللحم، مما لا تكرهه عرفا، لأنه عليه الصلاة والسلام: جعل ذلك بالمعروف، وإن تبرمت من أدم جعل لها غيره.(7/108)
و) يفرض لها (لحما عادة الموسرين بمحلهما (1) و) يفرض للموسرة تحت الموسر من الكسوة (ما يلبس مثلها (2) من حرير وغيره) كجيد كتان وقطن، وأقل ما يفرضه من الكسوة قميص، وسراويل، وطراحة، ومقنعة، ومداس، ومضربة للشتاء (3) .
(وللنوم فراش ولحاف (4) وإزار) للنوم في محل جرت العادة فيه (5) (ومخدة (6) .
__________
(1) أي بلد الزوجين، لاختلافه بحسب المواضع، ويفرض لها حطبا وملحا لطبخه، والأولى المعتاد لمثلها، وقدم جماعة: لا يقطع اللحم فوق أربعين، وقال عمر: إياكم واللحم، فإن له ضراوة كضراوة الخمر، أي فمن اعتاده أسرف في النفقة.
(2) مما جرت به عادة مثلها، من الموسرات بذلك البلد.
(3) لأن ذلك أقل ما تقع به الكفاية، الشخص لا بد له من شيء يواري جسده، وهو القميص، ومن شيء يستر عورته، وهو السراويل، ومن شيء على رأسه وهو الطراحة، يعني الخمار فوق المقنعة، تغطي المرأة رأسها بها، ومن شيء في رجله، وهو المداس، ومن شيء يدفئه، وهي المضربة كساءان بينهما قطن أو كساء ملبد جبة تلبس في الشتاء.
(4) إذ لا بد من شيء ينام عليه فللنوم فراش ولحاف يحشى بالقطن إذا كان عرف البلد وملحفة للحاف.
(5) أي تنام فيه، إذا كانت العادة جارية بالنوم فيه.
(6) بكسر الميم، معروفة تجعل عليها الخد عند النوم.(7/109)
وللجلوس حصير جيد (1) وزلي) أي بساط (2) ولا بد من ماعون الدار (3) ويكتفي بخزف وخشب (4) والعدل ما يليق بهما (5) ولا يلزمه ملحفة وخف لخروجها (6) (و) يفرض الحاكم (للفقيرة تحت الفقير (7) من أدنى خبز البلد و) من (أدم يلائمها) (8) .
__________
(1) الحصير: البساط الصغير من النبات، أو المنسوج من القصب، أو الخوص جيد، أي: من رفيع الحصر، لأن ذلك مما لا غنى عنه.
(2) من صوف، نوع من الطنافس، وتزاد من عدد الثياب، ما جرت العادة بلبسه مما لا غنى عنه لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} والكسوة بالمعروف، هي التي جرت عادة أمثالها بلبسه.
(3) مما يليق بهما، وما اعتيد في بلادهما أولى.
(4) الخزف: هو ما شوي من الطين فصار فخارا، وقيل: خابية الطين قبل أن يطبخ وهو الصلصال.
(5) وما اعتيد لأمثالهما.
(6) الملحفة: نحو العباءة، وما يلتحف به يسمى ملحفة، والخف: معروف، وتقدم، وذلك لأنها لم يبن أمرها على الخروج، وممنوعة منه لحق الزوج، فلا مؤونة عليه لما هي ممنوعة منه.
(7) وعبر بعضهم للمعسرة تحت المعسر، وتقدم تعريف الفقير والمعسر.
(8) كخشكار بأدمه الملائم له عرفا، كالباقلا، والخل، والبقل، ودهنه ولحمه عادة، ومما جرت عادة أمثالهما في بلدهما.(7/110)
وتنقل متبرمة من أدم إلى آخر (1) (و) يفرض للفقيرة من الكسوة (ما يلبس مثلها ويجلس) وينام (عليه (2) و) يفرض (للمتوسطة مع المتوسط، والغنية مع الفقير وعكسها) كفقيرة تحت غنى (ما بين ذلك عرفا) لأن ذلك هو اللائق بحالهما (3) (وعليه) أي على الزوج (مؤونة نظافة زوجته) (4) من دهن وسدر، وثمن ماء ومشط (5) وأجرة قيمة (6) .
__________
(1) أي وتنقل متمللة من أدم إذا ملته إلى نوع آخر، لأنه من المعروف.
(2) من غليظ القطن والكتان، وللنوم فراش بصوف وكساء، أو عباءة للغطاء، وللجلوس بارية ونحوها.
(3) ولأن إيجاب نفقة الموسر على المعسر، وإنفاق المعسر نفقة الموسر ليس من المعروف، وفيه إضرار بصاحبه، فكان اللائق بحقهما هو التوسط، وفي المبدع: الموسر من يقدر على النفقة بماله أو كسبه، وعكسه المعسر، والمتوسط من يقدر على البعض فينبغي أن تكون المتوسطة تحت الفقير، أعلى من رتبة الفقيرة تحت الفقير، وكذا الفقيرة تحت المتوسط.
(4) كما أن على المستأجر كنس الدار وتنظيفها.
(5) أي وعليه مؤونة نظافتها، من الدهن لرأسها والسدر، وكذا الصابون وثمن ماء لشرب، ووضوء وغسل من حيض، ونفاس، وجنابة، ونجاسة، وغسل ثياب، وثمن مشط، ونحو ذلك مما يعود بنظافتها.
(6) مضاف إلى الأجرة، بتشديد الياء، أي التي تغسل شعرها، وتسرحه وتضفره، ونحو ذلك ككنس الدار وتنظيفها، لأن ذلك من حوائجها المعتادة.(7/111)
(دون) ما يعود بنظافة (خادمها) (1) فلا يلزمه، لأن ذلك يراد للزينة، وهي غير مطلوبة من الخادم (2) و (لا) يلزم الزوج لزوجته (دواء وأجرة طبيب) إذا مرضت لأن ذلك ليس من حاجتها الضرورية المعتادة (3) وكذا لا يلزمه ثمن طيب، وحناء وخضاب، ونحوه (4) وإن أراد منها تزينا به، أو قطع رائحة كريهة (5) وأتى به لزمها (6) وعليه لمن يخدم مثلها خادم واحد (7) وعليه أيضا مؤنسة لحاجة (8) .
__________
(1) من دهن وسدر ومشط، ونحو ذلك.
(2) فلم يلزمه ذلك، قولا واحدا، وأما نفقة الخادم وكسوته فعليهن كنفقة فقيرة تحت فقير، مع خف وملحفة لحاجة، والأولى الرجوع في ذلك إلى عادة أمثالهما.
(3) وكذا أجرة حجام وفاصد، وكحال لأن ذلك يراد لإصلاح الجسم، كما لا يلزم المستأجر بناء ما وقع من الدار.
(4) كاسفيذاج، لأن ذلك من الزينة، فلم يجب عليه،، كشراء الحلي، إلا أن يريد منها التزين به، أو قطع رائحة كريهة منها.
(5) لزمه ما يراد لقطع رائحة كريهة منها، ذكره الموفق وغيره.
(6) وقال الشيخ: ويلزمها ترك حناء وزينة نهاها عنه.
(7) وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وإحدى الراويتين عن مالك، ولا يلزم أن يملكها إياه، وإن قالت: أخدم نفسي وأخذ ما يلزمك لخادمي، لم يلزمه، وإن قال: أخدمك بنفسي، لم يلزمها لأنها تحتشمه، وفيه غضاضة عليها.
(8) والقول قولها في احتياجها إليها.(7/112)
فصل (1)
(ونفقة المطلقة الرجعية، وكسوتها وسكناها كالزوجة) (2) لأنها زوجة، بدليل قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (3) (ولا قسم لها) أي للرجعية وتقدم (4) .
(والبائن بفسخ أو طلاق) ثلاثا أو على عوض (5) (لها ذلك) أي النفقة والكسوة والسكنى (إن كانت حاملا) (6) .
__________
(1) في بيان حكم نفقة الرجعية وغيرها، ووقت دفع قوت الزوجة، وكسوتها وغير ذلك.
(2) فيما تقدم سواء.
(3) ولأنه يلحقها طلاقه، وظهاره، وإيلاؤه، فأشبه ما قبل الطلاق، وللأدلة الدالة على وجوب نفقة الزوجة، من الكتاب والسنة والإجماع.
(4) قريبا لا بما يعود لنظافتها فكالزوجة.
(5) أي أو طلاق على عوض، لا نفقة لها ولا سكنى، لما في الصحيحين أنه لقال لفاطمة وكان زوجها طلقها ألبتة، «لا نفقة لك ولا سكنى» ، قال ابن القيم: المطلقة البائن لا نفقة لها ولا سكنى، بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة، بل موافقة لكتاب الله، وهي مقتضى القياس، ومذهب فقهاء الحديث اهـ إلا أن تكون حاملا.
(6) قال الموفق وغيره: بإجماع أهل العلم.(7/113)
لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1) ومن أنفق يظنها حاملا فبانت حائلا رجع (2) ومن تركه يظنها حائلا فبانت حاملا لزمه ما مضى (3) ومن ادعت حملا وجب انفاق ثلاثة أشهر (4) فإن مضت ولم يبن رجع (5) .
__________
(1) وقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ولقوله - صلى الله عليه وسلم - ن لفاطمة بنت قيس «لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا» ، ولأن الحمل ولد المبين فلزمه الإنفاق عليه، ولا يمكنه ذلك إلا بالإنفاق عليها، فوجب، كأجرة الرضاع، والكسوة داخلة في عموم النفقة.
(2) لتبين عدم استحقاقها، أشبه ما لو قضاها دينا، ثم تبين براءته منه، وعنه: لا يرجع وإن كانت كتمته رجع قولا واحدا.
(3) لأنا تبينا استحقاقها له، فرجعت به عليه كالدين، وهذه مستثناة من قاعدة المذهب، كما أشار إليه في الإقناع، لأن نفقة الحامل للحمل، فسقط بمضي الزمان، لأنها نفقة قريب، وعنه: أن النفقة للحامل لأجل الحمل، ويتوجه أنهم إنما خصوا هذه المسألة بعدم السقوط، لأن الحامل هي التي تأكلها، لا الحمل نفسه كما نبه عليه بعض المتأخرين.
(4) لأن الحمل يتبين بعد ثلاثة أشهر، إلا أن تظهر براءتها من الحمل، بحيض أو غيره، كما لو قالت القوابل، ليست حاملا، ويرجع بما أنفق، لأنها أخذت منه ما لا تستحقه.
(5) أي عليها بنظير ما أنفق، سواء دفع بحكم حاكم، أو بغيره، شرط أنها نفقة أولا.(7/114)
(والنفقة) للبائن الحامل (للحمل) نفسه (لا لها من أجله) لأنها تجب بوجوده وتسقط بعدمه (1) فتجب لحامل ناشز (2) ولحامل من وطء بشبهة أو نكاح فاسد (3) أو ملك بيمين ولو أعتقها (4) وتسقط مبضي الزمان (5) قال المنقح: ما لم تستدن بإذن حاكم (6) أو تنفق بنية رجوع (7) (ومن) أي: أي زوجة (حبست ولو ظلما (8) أو نشزت (9) .
__________
(1) فدل على أنها تجب له، وعنه: تجب لها من أجله، لأنها تجب مع اليسار والإعسار، فكانت لها، كنفقة الزوجات، والتفريع على الأولى.
(2) لأنه ولده، فلزمته نفقته، ولا تسقط بنشوز أمه.
(3) فتجب على الواطئ، لأنه ولده، فلزمته نفقته، كما بعد الوضع.
(4) لأنه ملكه، وإن كان رقيقا، فعلى سيدها لأنه ملكه.
(5) كنفقة الأقارب.
(6) فترجع لتفويتها بإذن حاكم.
(7) إذا امتنع من الإنفاق من وجبت عليه، لكونها قامت عنه بواجب.
(8) أي حبست عن زوجها، ولو كان حبسها ظلما، سقطت نفقتها، لفوات التمكين، المقابل للنفقة، وله البيتوتة معها في حبسها.
(9) سقطت نفقتها، قال الموفق: في قول عامة أهل العلم، والناشز غير ممكنة، وتقدم أن النشوز معصيتها إياه، فيما يجب عليها كمن امتنعت من فراشه أو من الانتقال معه إلى مسكن مثلها، أو خرجت من منزله بغير إذن، أو أبت السفر معه، ولم تشترط بلدها، ونحو ذلك مما تقدم، لأن النفقة في نظير تمكينها من الاستمتاع.(7/115)
أو تطوعت بلا إذنه بصوم أو حج (1) أو أحرمت بنذر حج (2) أو) نذر (صوم (3) أو صامت عن كفارة، أو عن قضاء رمضان مع سعة وقته) بلا إذن زوج (4) (أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه سقطت) نفقتها (5) لأنها منعت نفسها عنه بسبب لا من جهته، فسقطت نفقتها (6) بخلاف من أحرمت بفريضة من صوم أو حج (7) أو صلاة ولو في أول وقتها بسننها (8) .
__________
(1) سقطت نفقتها، صححه الموفق وغيره، لمنع نفسها بسبب لا من جهته، إلا أن يكون مسافرا معها، متمكنا من استمتاعه بها، فلا وله تفطيرها في صوم التطوع، ووطؤها فيه، لأن حقه واجب، وهو مقدم على التطوع، وإن امتنعت فناشز.
(2) ولو كان بإذنه فلا نفقة لها، لتفويت حقه من الاستمتاع.
(3) باختيارها بالنذر الذي لم يوجبه الشرع عليها ولا ندبها إليه، وإنما صدر النذر من جهتها.
(4) سقطت نفقتها لأنها منعت نفسها عنه، بسبب لا من جهته.
(5) لأنها ناشز أو سافرت لنزهة أو لزيارة ولو بإذنه.
(6) ولتفويتها التمكين لحظ نفسها، وقضاء إربها، إلا أن يكون معها متمكنا منها، وكذا لو سافرت لتغريب لعدم التمكين، وإن اعتكفت فكما لو سافرت.
(7) لفعلها ما أوجب الشرع عليها، وندب إليه.
(8) لفعلها ما وجب وندب إليه، وسننها تابعة لها.(7/116)
أو صامت قضاء رمضان في آخر شعبان، لأنها فعلت ما أوجب الشرع عليها (1) وقدرها في حجة فرض كحضر (2) وإن اختلفا في نشوز أو أخذ نفقة فقولها (3) (ولا نفقة ولا سكنى) من تركة (لمتوفى عنها) ولو حاملا، لأن المال انتقل عن الزوج إلى الورثة (4) ولا سبب لوجوب النفقة عليهم (5) فإن كانت حاملا فالنفقة من حصة الحمل من التركة إن كانت (6) .
__________
(1) لأنه مضيق بأصل الشرع، أشبه أداء رمضان، فلم تسقط نفقتها.
(2) أي كنفقة حضر، وما زاد عليها، ولا بد من إشهاد، على النفقة بنية رجوع.
(3) وقالوا: لأن الأصل عدم ذلك، للخبر، إذ هو يدعي النشوز ووصول النفقة وهي تنكر فقبل قولها، لأنه يعارض الأصل، والظاهر، والغالب أنها تكون راضية، وإنما تطالبه عند الشقاق، وقال الشيخ: قول من يشهد له العرف، وهو مذهب مالك، ويخرج على مذهب أحمد في تقديمه الظاهر على الأصل.
وقال ابن القيم: قول أهل المدينة أنه لا يقبل قول المرأة أن زوجها لم يكن ينفق عليها ويكسوها فيما مضى، هو الصواب، لتكذيب القرائن الظاهرة لها، وقولهم هو الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه، والعلم الحاصل بإنفاق الزوج وكسوته في الزمن الماضي، اعتمادا على الأمارات الظاهرة، أقوى من الظن الحاصل باستصحاب الأصل.
(4) ولا حق لها على الورثة.
(5) لا شرعا ولا عرفا فعلى نفسها، أو من يمونها بشرطه.
(6) أي إن كانت له تركة، لأن الموسر، لا تجب نفقته على غيره.(7/117)
وإلا فعلى وارثه الموسر (1) (ولها) أي لمن وجبت لها النفقة من زوجة (2) ومطلقة رجعية (3) وبائن حامل، ونحوها (4) (أخذ نفقة كل يوم من أوله) يعني من طلوع الشمس، لأنه أول وقت الحاجة (5) فلا يجوز تأخيره عنه (6) والواجب دفع قوت من خبز وأدم لا حب (7) و (لا قيمتها) أي قيمة النفقة (ولا) يجب (عليها أخذها) أي أخذ قيمة النفقة (8) .
__________
(1) أي وإن لم تكن ثم تركة، ينفق على الحمل من نصيبه منها، وجبت نفقة الحمل، على وارثه الموسر.
(2) أخذ نفقة كل يوم من أوله، لأنه أول وقت الحاجة، فإن اتفقا على تأخيرها، أو تعجيلها جاز، وقال الموفق وغيره: بلا خلاف بين أهل العلم.
(3) لها أخذها كذلك، كالزوجة قولا واحدا.
(4) كحمل موطوءة بشبهة، ولحمل ملاعنة لم ينتف من الولد.
(5) إلى النفقة عرفا وعادة.
(6) لتضرر من وجبت له بالتأخير.
(7) أي والواجب لمن وجبت له النفقة، دفع قوت من خبز وأدم، ونحوه، لزوجة وخادمها، ولكل من وجبت له نفقته، لا دفع حب، لاحتياجه إلى كلفة ومؤونة، ولا يلزم قبوله، قال ابن عباس وغيره: في قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قال: الخبز والزيت، والخبز والتمر، وإن رضيت الزوجة الحب، لزمه أجرة طحنه وخبزه، وكذا غيرها ممن وجبت له.
(8) من نقد أو فلوس، لأنه ضرر عليها، لحاجتها إلى من يشتريه لها وغير ذلك.(7/118)
لأن ذلك معاوضة، فلا يجبر عليه من امتنع منهما (1) ولا يملك الحاكم فرض غير الواجب، كدراهم، إلا بتراضيهما (2) (فإن اتفقا عليه) أي على أخذ القيمة (3) (أو) اتفقا (على تأخيرها، أو تعجيلها مدة طويلة أو قليلة جاز) لأن الحد لا يعدوهما (4) (ولها الكسوة كل عام مرة (5) في أوله) أي أول العام من زمن الوجوب، لأنه أول وقت الحاجة إلى الكسوة (6) فيعطيها كسوة السنة، لأنه لا يمكن ترديد الكسوة شيئًا فشيئًا، بل هو شيء واحد، يستدام إلى أن يبلى (7) .
__________
(1) ولا يلزمها قبوله بغير رضاها.
(2) ولا يجبر من امتنع منهما، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند «خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف» يدل على أن الواجب الكفاية، من غير تقدير النفقة، وهو مذهب جمهور العلماء، وقال ابن القيم: فرض الدراهم، لا أصل له في كتاب لا سنة، ولا نص عليه أحد من الأئمة، لأنها معاوضة بغير الرضا، عن غير مستقر، قال في الفروع: وهذا متجه مع عدم الشقاق، وعدم الحاجة، فأما مع الشقاق والحاجة، كالغائب مثلا فيتجه الفرض، للحاجة إليه على ما لا يخفى.
(3) جاز لأن الحق لا يعدوهما.
(4) ولكل منهما الرجوع عنه في المستقبل لعدم استقراره.
(5) لأنه العادة.
(6) فوجبت على الفور للحاجة إليها.
(7) وقال الحلواني وغيره: في أول الصيف كسوة، وفي أول الشتاء كسوة؛ وقال الشيخ: تجب بقدر الحاجة، وهو المفتى به، لموافقته الأدلة والعادة.(7/119)
وكذا غطاء ووطاء، وستارة يحتاج إليها (1) واختار ابن نصر الله: انها كماعون الدار ومشط، تجب بقدر الحاجة (2) ومتى انقضى العام والكسوة باقية فعليه كسوة للجديد (3) (وإذا غاب) الزوج أو كان حاضرا (ولم ينفق) على زوجته (لزمته نفقة ما مضى) وكسوته (4) ولو لم يفرضها الحاكم (5) ترك الإنفاق لعذر أولا (6) .
__________
(1) أي تجب كل عام، ككسوة.
(2) أي الذي يلزمه لها، من أثاث الدار، والغطاء والوطاء، ونحو ذلك مما ذكر، فهو كماعون الدار، بقدر الحاجة، واختاره الشيخ، والعمل عليه، ومرادهم بخلاف الكسوة ففي أول العام، واختيار الشيخ، والمفتى به: أن الكسوة أيضا بقدر الحاجة، كما تقدم.
(3) أي كما أنها لو بليت قبل ذلك، لم يلزمه بدلها، ومشى عليها في المنتهى وغيره، ولا ريب أنه يختلف باختلاف الأحوال، والأزمان، كما هو المتعارف بين الناس.
(4) وهو مذهب مالك والشافعي وحكي إجماع الصحابة عليه.
(5) فإن فرضها لزمت اتفاقا، وكذا إن اتفقا على قدر معلوم، فتصير دينا باصطلاحهما.
(6) لما روى الشافعي وغيره: أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد، في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن يأخذوهم، بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى، وقال ابن المنذر: هذه نفقة وجبت، بالكتاب والسنة والإجماع، ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها.(7/120)
لأنه حق يجب مع اليسار والإعسار، فلم يسقط بمضي الزمان كالأجرة (1) (وإن أنفقت) الزوجة (في غيبته) أي غيبة الزوج (من ماله فبان ميتا غرمها الوارث) للزوج (ما أنفقته بعد موته) لانقطاع وجوب النفقة عليه بموته (2) فما قبضته بعده لا حق لها فيه، فيرجع عليها ببدله (3) .
__________
(1) أي كما أن الأجرة لا تسقط بمضي الزمان، وفارقت نفقة الأقارب، فإنها صلة يعتبر فيها اليسار من المنفق.
(2) فلا تستحق ما قبضته من النفقة بعد موته، قال الشيخ: على قياسه كل من أبيح له شيء، وزالت الإباحة، بفعل الله أو بفعل المبيح، كالمعير إذا مات، أو رجع والمانح وأهل الموقوف عليه.
(3) وإن فارقها بائنا في غيبته، فأنفقت من ماله، ورجع عليها بعد الفرقة.(7/121)
فصل (1)
(ومن تسلم زوجته) التي يوطأ مثلها (2) وجبت عليه نفقتها (3) (أو بذلت) تسليم (نفسها) (4) أو بذله وليها (5) (ومثلها يوطأ) بأن تم لها تسع سنين (6) (وجبت نفقتها) وكسوتها (7) .
__________
(1) أي في بيان متى تجب نفقة الزوجة، وحكم ما إذا أعسر بها، أو تعذرت أو امتنع من دفعها، وغير ذلك.
(2) أطلقه بعض الأصحاب، وأناطه بعضهم ببنت تسع، كما سيأتي.
(3) كبيرا كان الزوج أو صغيرا، يمكنه الوطء أولا، وفي الإقناع حتى ولو تعذر وطؤها، لمرض أو حيض، أو نفاس أو رتق أو قرن، أو لكونها نضرة الخلق، أو حدث بها شيء من ذلك عنده، لكن لو امتنعت من التسليم، ثم حدث لها مرض فبذلته، فلا نفقة لها ما دامت مريضة، عقوبة عليها بمنعها نفسها في حالة، يتمكن من الاستمتاع بها فيها، وبذلتها في ضدها.
(4) البذل التام، ابتداء أو بعد نشوز.
(5) أي أو بذل التسليم وليها، أو تسلم من يلزمه تسلمها.
(6) نص عليه، وسئل متى تؤخذ من الرجل نفقة الصغيرة؟ فقال: إذا كان مثلها يوطأ كبنت تسع سنين، ويمكن حمل إطلاق بعضهم على هذا، لقول عائشة (إذا بلغت الجارية تسعا، فهي امرأة) .
(7) وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وأحد قولي الشافعي، ولمسلم «اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف» .(7/122)
(ولو مع صغر زوج (1) ومرضه وجبه وعنته) (2) ويجبر الولي مع صغر الزوج، على بذل نفقتها، وكسوتها من مال الصبي، لأن النفقة كأرش جناية (3) ومن بذلت التسليم وزوجها غائب، لم يفرض لها (4) ، حتى يراسله حاكم (5) ويمضي زمن يمكن قدومه في مثله (6) (ولها) أي الزوجة (منع نفسها) من الزوج (حتى تقبض صداقها الحال) (7) لأنه لا يمكنها استدراك منفعة البضع، لو عجزت عن أخذه بعد (8) .
__________
(1) وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي.
(2) لأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع، وقد أمكنته من ذلك، كالمؤجر إذا سلم العين المؤجرة، أو بذلها.
(3) يجبر الولي على بذلها، والولي ينوب عنه في أداء الواجبات، كالزكاة، وكذا السفيه والمجنون.
(4) أي الحاكم شيئا، لأنه لا يمكن زوجها تسلمها إذا.
(5) وفي الغاية ويتجه أو غيره، بأن يكتب حاكم أو غيره إلى حاكم البلد الذي هو به، فيعلمه ويستدعيه.
(6) فإن سار الزوج إليها، أو وكل من يتسلمها فوصل فتسلمها هو أو نائبه، وجبت النفقة بالوصول، فإن لم يفعل، فرض الحاكم عليه نفقتها، من الوقت الذي كان يمكنه، أو نائبه فيه الوصول إليها وتسلمها، وإن غاب بعد تمكينها فالنفقة واجبة عليه في غيبته.
(7) وكذا لو حل قبل الدخول، لا المؤجل، لأنها أدخلت الضرر على نفسها، حيث رضيت بتأخيره فإن فعلت فلا نفقة لها.
(8) فتسليمها نفسها، قبل تسلم صداقها، يفضي إلى تسليم منفعتها المعقود عليها بالوطء.(7/123)
ولها النفقة في مدة الإمتناع لذلك لأنه بحق (1) (فإن سلمت نفسها طوعا) قبل قبض حال الصداق (ثم أرادت المنع لم تملكه) (2) ولا نفق لها مدة الإمتناع وكذا لو تساكتا بعد العقد (3) فلم يطلبها ولم تبذل نفسها فلا نفقة (4) (وإذا أعسر) الزوج (بنفقة القوت (5) أو) أعسر بـ (الكسوة) أي كسوة المعسر (6) (أو) أعسر بـ (بعضها) أي بعض نفقة المعسر، أو كسوته (7) (أو) أعسر بـ (المسكن) أي مسكن معسر (8) أو صار لا يجد النفقة إلا يوما دون يوم (فلها فسخ النكاح من زوجها المعسر (9) .
__________
(1) وذلك أنها فعلت مالها أن تفعل، وهو حفظ منفعتها، التي لا يمكنها الرجوع فيما إذا استوفى منها، بخلاف المبيع إذا تسلمه المشتري ثم أعسر بثمنه فإنه يمكنه الرجوع فيه.
(2) كما لو سلم المبيع، ثم أراد منعه منه.
(3) لعدم التمكين بلا عذر من قبله.
(4) وإن طال مقامها على ذلك، لأن البذل شرط لوجوب النفقة ولم يوجد.
(5) فلها فسخ النكاح، وهو مذهب مالك والشافعي.
(6) وتقدم أنها من أدنى خبز البلد، وما يلبس مثلها، من غليظ القطن، ونحوه.
(7) فلها الفسخ.
(8) وهو ما يصلح لمثلهما عادة.
(9) وهو مذهب مالك والشافعي، وجمهور السلف.(7/124)
لحديث أبي هريرة مرفوعا في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: «يفرق بينهما» رواه الدارقطني (1) فتفسخ فورًا أو متراخيا بإذن الحاكم (2) ولها الصبر مع منع نفسها وبدونه (3) ولا يمنعها تكسبا ولا يحبسها (4) (فإن غاب) زوج موسر (ولم يدع لها نفقة، وتعذر أخذها من ماله و) تعذرت (استدانتها عليه (5) فلها الفسخ بإذن الحاكم) (6) .
__________
(1) ولقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وليس الإمساك مع ترك النفقة إمساكا بمعروف، ولخبر: «تقول امرأتك أطعمني أو فارقني» سئل ابن المسيب، عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما؟ قال: نعم، وذكر أنه سنة، ولأثر عمر المتقدم، وغيره.
(2) وكذا امرأة المفقود لها الفسخ إذا لم يكن له مال، ينفق على زوجته منه.
(3) قال الموفق وغيره: تخير بين الصبر عليه، وبين فراقه، وذكروه قول جمهور العلماء، وذلك لأن الحق لها، ولا يلزمها إذا التمكين من الاستمتاع لأنه لم يسلم إليها عوضه، فلم يلزمها تسليمه، كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع.
(4) ومع عسرته، إذا لم يفسخ، بل يدعها تكتسب، ولو كانت موسرة، لأنه لم يسلم إليها عوض الاستمتاع، وإنما يملك حبسها إذا كفاها المؤونة وأغناها عما لا بد لها منه.
(5) وتعذر الأخذ من وكيله، إن كان له وكيل.
(6) فروى سعيد بن منصور، أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد، في رجال غابوا عن نسائهم، أن يأخذوهم، بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا، وحكي إجماع الصحابة على ذلك، للزوم نفقة ما مضى، ولو لم يفرضها حاكم، كما تقدم.(7/125)
لأن الإنفاق عليها من ماله متعذر فكان لها الخيار، كحال الإعسار (1) وإن منع موسر نفقة أو كسوة أو بعضهما، وقدرت على ماله، أخذت كفايتها، وكفاية ولدها، وخادمها بالمعروف بلا إذنه (2) فإن لم تقدر أجبره الحاكم (3) فإن غيب ماله وصبر على الحبس فلها الفسخ، لتعذر النفقة عليها من قبله (4) .
__________
(1) وعلم منه أنه إذا ترك لها نفقة، أو قدرت له على مال، أو على الاستدانة عليه، أنه لا فسخ لها، لأن الإنفاق عليها من جهته غير متعذر.
(2) لما في الصحيحين: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهند «خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف» قال الشيخ: من كان له عند إنسان حق، ومنعه إياه، جاز له الأخذ من ماله بغير إذنه، إذا كان سبب الحق ظاهرا، لا يحتاج إلى إثبات، مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها، واستحقاق الأقارب النفقة على أقاربهم، واستحقاق الضيف الضيافة، على من نزل به، وإن كان سبب الحق خفيا، يحتاج إلى إثبات لم يجز، وهذه الطريقة المنصوصة عن أحمد، وهي أعدل الأقوال.
(3) أي فإن لم تقدر زوجة موسر، منعها ما وجب لها على الأخذ من ماله، فلها رفعه إلى الحاكم، فيأمره بدفعه لها، فإن امتنع أجبره حاكم عليه، فإن أبى حبسه، أو دفعها من مال الزوج.
(4) كالمعسر بل أولى، ولو فسخ الحاكم نكاح الزوجة، لفقد مال لزوجها الغائب، ينفق عليها منه، ثم تبين له مال صح الفسخ، استظهره ابن نصر الله، لأن نفقتها تتعلق بما يقدر عليه من مال زوجها، وأما ما كان غائبا عنها، لا علم لها به، فلا تكلف الصبر لاحتماله.(7/126)
باب نفقة الأقارب
والمماليك من الآدميين والبهائم (1)
(تجب) النفقة كاملة، إذا كان المنفق عليه لا يملك شيئا (2) (أو تتمتها) إذا كان لا يملك البعض (3) (لأبويه وإن علوا) (4) لقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ومن الإحسان الإنفاق عليهما (5) (و) تجب النفقة أو تتمتها (لولده وإن سفل) ذكرا كان أو
أنثى (6) .
__________
(1) المراد بالأقارب هنا من يرثه بفرض، أو تعصيب، ويدخل فيهم العتيق.
(2) ولم يكن مع المنفق من يشركه في الإنفاق.
(3) وهذا أحد شروط الإنفاق: أن يكون المنفق عليهم فقراء لا مال لهم، ولا كسب يستغنون به عن إنفاق غيرهم.
(4) قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم، أن نفقة الوالدين الفقيرين، الذين لا كسب لهما ولا مال، واجبة في مال الولد.
(5) بل من أعظم الإحسان بالوالدين، إذا كانا أو أحدهما، لا يملك نفقة أن ينفق عليه؛ قال الشيخ: على الولد الموسر أن ينفق على أبيه المعسر، وزوجة أبيه، وعلى إخوته الصغار، وفي الحديث «وابدأ بمن تعول، أمك وأباك» إلخ، وفي الصحيح، ذكر الأم ثلاثا.
(6) قال الموفق: الأصل في وجوب نفقة الوالدين، والمولودين، الكتاب والسنة والإجماع، وتقدم حكاية ابن المنذر، الإجماع على وجوبها للوالدين
وقال: أجمع كل من نحفظ عنه، على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم، ولأن ولد الإنسان بعضه، وهو بعض والده، كما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله، كذلك على بعضه وأصله.(7/127)
لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} (1) (حتى ذوي الأرحام منهم) أي من آبائه وأمهاته (2) كأجداده المدلين بإناث (3) وجداته الساقطات (4) ومن أولاده كولد البنت (5) سواء (حجبه) أي الغني (معسر) فمن له أب وجد معسران، وجبت عليه نفقتهما، ولو كان محجوبا من الجد بأبيه المعسر (6) .
__________
(1) أي {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} وهو الأب (رِزْقُهُنَّ) أي طعام الوالدات {وَكِسْوَتُهُنَّ} أي لباسهن {بِالْمَعْرُوفِ} أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن، على قدر الميسرة، من غير إسراف، ولا إقتار، وأول الآية: {وَالْوَالِدَاتُ} أي المطلقات (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) الآية، وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - «خذي من ماله ما يكفيك، وولدك بالمعروف» .
(2) لعموم الآية، سواء كانوا وارثين أو محجوبين، وفاقا للشافعي، لأن قرابتهم قرابة جزئية، وبعضية، تقتضي رد الشهادة، وتمنع جريان القصاص على الوالد بقتل الولد وإن سفل، فأوجب النفقة، كقرابة الأب الأدنى.
(3) كأبي الأم، وأبي أم الأم.
(4) كأم أب الأم.
(5) وولد بنت الابن.
(6) وكابن معسر مع ابن ابن موسر، فتجب النفقة في المثالين على الموسر ولا أثر لكونه محجوبا، لأن بينهما قرابة، توجب العتق ورد الشهادة، كما تقدم فأشبه القريب.(7/128)
(أولا) بأن لم يحجبه أحد، كمن له جد معسر ولا أب له، فعليه نفقة جده، لأنه وارثه (1) (و) تجب النفقة أو إكمالها لـ (كل من يرثه) المنفق (2) (بفرض) كولد لأم (3) (أو تعصيب) كأخ وعم لغير أم (4) (لا) لمن يرثه (برحم) كخال وخالة (5) (سوى عمودي نسبه) كما سبق (6) .
__________
(1) لقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وكذا جد مع ابن بنته.
(2) يعني الغني، للآية والأخبار، ولأن بين المتوارثين قرابة، تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس، فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم، قال الشيخ: والأوجه وجوبها مرتبا، وإن كان الموسر القريب ممتنعا فينبغي أن يكون كالمعسر، كما لو كان للرجال مال، وحيل بينه وبينه، لغصب أو بعد، لكن ينبغي أن يكون الواجب هنا، القرض رجاء الاسترجاع، وعلى هذا متى وجبت عليه النفقة وجب عليه القرض، إذا كان له وفاء.
(3) وكالأم، والجدة.
(4) وكابن أخ، وابن عم لغير أم.
(5) أي فلا تجب نفقته، قالوا: لعدم النص فيهم، ولأن قرابتهم ضعيفة، واختار الشيخ الوجوب، لأنه من صلة الرحم، وهو عام، وفي الاختيارات: وتجب النفقة لكل وأرث، ولو كان مقاطعا من ذوي الأرحام وغيرهم، لأنه من صلة الرحم، وهو عام، كعموم الميراث في ذوي الأرحام، وهو رواية عن أحمد.
(6) الوارثين منهم بفرض، أو تعصيب أولا، كجد موسر مع أب فقير، فتلزم الجد الموسر، نفقة ابن ابنه المعسر.(7/129)
(سواء ورثه الآخر كأخ) للمنفق (أولا كعمة وعتيق) (1) وتكون النفقة على من تجب عليه (بمعروف) (2) لقوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ثم قال: {وعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (3) فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم أوجب مثل ذلك على الوارث (4) وروى أبو داود: أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبر؟ قال: «أمك، وأباك، وأختك وأخاك» (5) .
__________
(1) وكبنت أخيه وبنت عمه، فإن العمة لا ترث ابن أخيها، بفرض ولا تعصيب، وهو يرثها بالتعصيب، وكذا العتيق، لا يرث مولاه، هو يرثه، فتجب النفقة على الوارث.
(2) عند جمهور أهل العلم.
(3) أي وعلى وارث الولد الذي لو مات الصبي وله مال ورثه مثل ما على الأب، من الإنفاق على الطفل وكسوته، وعلى والدة الطفل والقيام بحقوقها، وعدم الإضرارا بها، وهو قول جمهور العلماء، واستدلوا بهذه الآية، وقوله {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} وغير ذلك من الأحاديث، على وجوب نفقة الأقارب، بعضهم على بعض، وقالوا: إذا لم يكن للصبي ونحوه، مال ينفق منه عليه، أجبرت ورثته.
(4) فيدخل وجوب نفقة الطفل وكسوته، ونفقة مرضعته، على كل وارث قريب أو بعيد، كل منهم على قدر ميراثه منه، نساء كانوا أو رجالا.
(5) وللنسائي، وصححه الحاكم من حديث طارق المحاربي «وابدأ بمن تعول، أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك» ، وهو مفسر لما تقدم، من قوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} فيجب الإنفاق بشرطه لهذه الأحاديث وغيرها.(7/130)
وفي لفظ: «ومولاك الذي هو أدناك، حقا واجبا ورحما موصولا» (1) ويشترط لوجوب نفقة القريب، ثلاثة شروط، الأول: أن يكون المنفق وارثا لمن ينفق عليه، وتقدمت الإشارة إليه (2) الثاني: فقر المنفق عليه، وقد أشار إليه بقوله: (مع فقر من تجب له) النفقة (وعجزه عن تكسب) (3) لأن النفقة إنما تجب على سبيل المواساة، والغني بملكه، أو قدرته على التكسب، مستغن عن المواساة، ولا يعتبر نقصه (4) فتجب لصحيح مكلف لا حرفة له (5) الثالث: غنى المنفق وإليه الإشارة بقوله (إذا فضل) ما ينفقه عليه (عن قوت نفسه، وزوجته ورقيقه يومه وليلته و) عن (كسوة وسكنى) لنفسه وزوجته ورقيقه (من حاصل) في يده (أو متحصل) من صناعة أو تجارة أو أجرة عقار.
__________
(1) فهو أحق من الذي هو أبعد منه.
(2) في قوله وتجب لمن يرثه بفرض، أو تعصيب.. إلخ والمراد غير عمودي. النسب فتجب لهم وعليهم مطلقا، وتقدم.
(3) يستغنون به عن إنفاق غيرهم عليهم.
(4) يعني المنفق عليه في خلقة، كزمن أو حكم، كصغر وجنون.
(5) لأنه فقير سواء كان زمنا أو صحيحا، مكلفا أو غير مكلف، من الوالدين أو غيرهما.(7/131)
أو ريع وقف ونحوه (1) لحديث جابر مرفوعا «إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن كان فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى قرابته» (2) و (لا) تجب نفقة القريب (من رأس مال) التجارة (3) (و) لا من (ثمن مالك و) لا من (آلة صنعة) لحصول الضرر بوجوب الإنفاق من ذلك (4) ومن قدر أن يكتسب أجبر لنفقة قريبه (5) (ومن له وارث غير أب) واحتاج للنفقة (فنفقته عليهم) أي على وارثيه (على قدر إرثهم) منه (6) .
__________
(1) فإن لم يفضل عنده شيء عمن ذكر فلا شيء عليه.
(2) ولقوله لمن قال: عندي دينار، قال: «أنفقه على نفسك» قال عندي آخر، قال: «أنفقه على زوجتك» قال: عندي آخر، قال: «أنفقه على ولدك» الحديث
(3) التي يتجر بها، لنقص الربح بنقص رأس ماله، وربما أعنته النفقة، فيحصل له الضرر وهو ممنوع شرعا.
(4) وفوات ما يتحصل منه قوته، وقوت زوجته ونحوها، ولما تقدم من الأخبار وثبت قوله - صلى الله عليه وسلم - «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» .
(5) أي ومن قدر أن يكتسب بحيث يفضل عن كسبه ما ينفقه على قريبه، أجبر عليه، لنفقة قريبه لأن تركه مع قدرته عليه، تضييع لمن يعول، وهو منهي عنه.
(6) أي من المنفق عليه.(7/132)
لأن الله تعالى رتب النفقة على الإرث بقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فوجب أن يترتب مقدار النفقة على مقدار الإرث (1) (فـ) من له أم وجد (على الأم) من النفقة (الثلث، والثلثان على الجد) لأنه لو مات لورثاه كذلك (2) (و) من له جدة وأخ لغير أم (على الجدة السدس، والباقي على الأخ) لأنهما يرثانه كذلك (3) (والأب ينفرد بنفقة ولده) (4) لقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند «خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف» (5) .
__________
(1) وذلك: أن الله أوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم عطف الوارث عليهن وأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد، إلا أن الأب ينفرد، كما يأتي فالصبي إذا لم يكن له والد، فنفقته على وارثيه، على قدر إرثهم.
(2) وهذا مذهب أبي حنيفة وعنه: على الجد، والمذهب الراجح الأول، للآية ولأن الأم وارثة، فكان عليها بالنص.
(3) وأم وبنت بينهما أرباعا، كما يرثانه فرضا وردا، وابن وبنت، بينهما أثلاثا، لأنهما يرثانه كذلك للآية فإنه رتب فيها النفقة على الإرث، فيجب أن تترتب في المقدار عليه.
(4) لا يشركه فيها من يشركه في ميراث، إذا كان موسرا.
(5) فدل على انفراده بالنفقة وتقدم قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} وقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فأوجب عليه نفقة الرضاع دون أمه، وقال الموفق: لا خلاف في هذا نعلمه، وإن ذهبت به إلى بلد آخر، فقال الشيخ: إذا تزوجت المرأة ولها ولد، فغصبت الولد، وذهبت به إلى بلد آخر، فليس لها أن تطالب الأب بنفقة الولد.(7/133)
(ومن له ابن فقير، وأخ موسر، فلا نفقة له عليهما) أما ابنه فلفقره، وأما الاخ فلحجبه بالابن (1) (ومن) احتاج لنفقة و (أمه فقيرة، وجدته موسرة، فنفقته على الجدة) ليسارها، ولا يمنع ذلك حجبها بالأم، لعدم اشتراط الميراث، في عمودي النسب، كما تقدم (2) (ومن عليه نفقة زيد) مثلا لكونه ابنه، أو أباه، أو أخاه ونحوه (3) (فعليه نفقة زوجته) لأن ذلك من حاجة الفقير، لدعاء ضرورته إليه (4) (كـ) نفقة (ظئر) من تجب نفقته (5) فيجب الإنفاق عليها (لحولين) كاملين (6) .
__________
(1) وتقدم: أن النفقة لا تجب مع الفقر، وغير الوارث لا تجب عليه للآية.
(2) أي قوله: في عمودي النسب، سواء حجبه وارث أولا، لقوة قرابتهم.
(3) ممن تجب نفقته عليه.
(4) لأنه لا يتمكن من الإعفاف إلا بها، وكذا يجب عليه إعفاف من وجبت له نفقته، إذا احتاج إلى النكاح.
(5) أي كما تجب نفقة ظئر، أي مرضعة من تجب نفقته، يعني الطفل، قولا واحدا، بإضافة ظئر، إلى من الموصولة.
(6) أي فيجب الإنفاق على الظئر، لمدة حولين كاملين، قولا واحدا، ولا تجب بعد الحولين، لانقضاء مدة الحاجة إلى الرضاع.(7/134)
لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ (1) وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} إلى قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (2) والوارث إنما يكون بعد موت الأب (3) (ولا نفقة) بقرابة (مع اختلاف دين) (4) ولو من عمودي نسبه لعدم التوارث إذا (5) (إلا بالولاء) فتلزم النفقة المسلم لعتيقه الكافر (6) وعكسه لإرثه منه (7) .
__________
(1) ولا يجوز أن يفطم قبل الحولين، إلا بإذن أبويه، وبعدهما، إن انضر الصغير، فلا ولو رضيا، لخبر: «لا ضرر ولا ضرار» ، قال ابن القيم: يجوز أن تستمر الأم على رضاعه بعد الحولين إلى نصف الثالث أو أكثره.
(2) ولقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ولأن الولد إنما يتغذى بما يتولد في المرضعة من اللبن، فوجبت النفقة لها، لأنها في الحقيقة له.
(3) فدلت الآية على وجوبها على الوارث، مع عدم الأب.
(4) أي إذا كان دين القريبين مختلفا، فلا نفقة لأحدهما على الآخر، لأنه لا توارث بينهما ولا ولاية أشبه ما لو كان أحدهما رقيقا، وفي الإنصاف: لا تجب نفقة الأقارب مع اختلاف الدين، هذا المذهب مطلقا.
(5) أي ولو كان من تلزمه نفقته، لو كان على دينه من عمودي نسبه، فلا نفقة له لعدم التوارث بينهما إذا وهو كونهما مختلفي الدين.
(6) لثبوت إرثه من عتيقه، مع اختلاف الدين.
(7) فتلزم الكافر لعتيقه المسلم، لإرثه منه، ومن ترك الإنفاق مدة لم يلزمه عوضها قال ابن القيم: وتسقط النفقة بمضي الزمان، عند الأكثر في نفقة الأقارب، واتفقوا عليه في نفقة العبد، والحيوان البهيم.(7/135)
(و) يجب (على الأب أن يسترضع لولده) إذا عدمت أمه، أو امتنعت (1) (لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} أي فاسترضعوا له أخرى) (2) (ويؤدي الأجرة) لذلك (3) لأنها في الحقيقة نفقة، لتولد اللبن من غذائها (4) (ولا يمنع) الأب (أمه إرضاعه) أي إرضاع ولدها (5) لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (6) وله منعها من خدمته لأنه يفوت حق الاستمتاع في بعض الأحيان (7) .
__________
(1) بلا خلاف، قالوا: ولا تجبر ولو كانت في حبال الزوج.
(2) فدلت الآية على وجوب الاسترضاع لولده، وإذا اختلفا فقد تعاسرا.
(3) أي للظئر، المرضعة لولده.
(4) بتلك النفقة، فكانت النفقة للطفل، الواجب الإنفاق عليه، بالنص والإجماع.
(5) إذا طلبت ذلك، وإن طلبت أجرة مثلها، ووجد من يتبرع برضاعه فهي أحق، سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة.
(6) وهذا خبر يراد به الأمر، وهو عام في كل والدة لقوله {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ولأنها أشفق وأحق بالحضانة، ولبنها أمرأ كما يأتي، وإن طلبت أكثر من أجرة مثلها فلا.
(7) ويقذرها ولا ينافي ذلك أنها أحق بحضانته، إذ لا يلزمها مباشرة الخدمة بنفسها، بل تخدمه خادمتها ونحوها عندها، فلم يفتها رضاعه ولا حضانته.(7/136)
(ولا يلزمها) أي لا يلزم الزوجة إرضاع ولدها، دنيئة كانت أو شريفة (1) لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (2) (إلا لضرورة كخوف تلفه) أي تلف الرضيع، بأن لم يقبل ثدي غيرها ونحوه (3) لأنه إنقاذ من هلكة (4) ويلزم أم ولد إرضاع ولدها مطلقا (5) فإن عتقت فكبائن (6) (ولها) أي للمرضعة (طلب أجرة المثل) لرضاع ولدها (7) .
__________
(1) وقالوا: سواء كانت في حبال الزوج أو لا، إلا أن يضطر كما يأتي.
(2) فدلت الآية، على أن الأم إذا امتنعت من إرضاع ولدها لم تجبر، فإنهما إذا اختلفا فقد تعاسرا، وقوله: {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} محمول على حال الإتفاق وعدم التعاسر.
(3) كأن لا يوجد مرضعة سواها، فيجب عليها إرضاعه.
(4) وحال ضرورة كما لو لم يكن له أحد غيرها، وإن وجد غيرها وامتنعت وجب عليها أن تسقيه اللبن لتضرره بعدمه، بل يقال: لا يعيش إلا به.
(5) أي سواء كان ضرورة بأن خيف على الولد، أو لم يخف عليه، وسواء كان الولد من سيدها أو من غيره، لأن نفعها لسيدها.
(6) أي فكحرة بائن، لا تجبر على إرضاعه، فإن فعلت فلها أجر مثلها.
(7) وقال الشيخ: لا تستحق شيئا إذا كانت تحته، وقال الشيرازي: لو استأجرها لرضاع ولده لم يجز، لأنه استحق نفعها، وكذا قال القاضي وغيره، ويأتي أيضا كلام الشيخ.(7/137)
(ولو أرضعه غيرها مجانا) (1) لأنها أشفق من غيرها (2) ولبنها أمرأ (3) (بائنا كانت) أم الرضيع في الأحوال المذكورة (4) (أو فحته) أي زوجة لأبيه (5) لعموم قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (6) .
__________
(1) أي بلا أجرة، بأن تبرعت بإرضاعه.
(2) كما هو معروف، ومثل به في غير ما حديث، وأحق بالحضانة.
(3) على الولد من غيرها، فكانت أحق به من غيرها، ولأن في رضاع غيرها تفويتا لحق الأم من الحضانة، إضرارا بالولد، ولا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب، والإضرار بالولد، لغرض إسقاط حق أوجبه الله على الأب.
(4) فإنها تستحق أجرها بلا ريب، جزم به الشيخ وغيره، للآية، وقال الموفق: لا نعلم في عدم إجبارها إذا كانت مفارقة خلافا، اهـ وإذا كانت قليلة اللبن، فله أن يكتري مرضعة لولده، وإذا فعل ذلك، فلا فرض للمرأة بسبب الولد، ولها حضانته.
(5) هذا المذهب، عند بعض الأصحاب.
(6) أي فدلت الآية، على وجوب دفع أجرة رضاع أم الطفل، ولو كانت زوجة أبيه، والصواب أن هذا الأجر هو النفقة والكسوة، وقال الشيخ: إرضاع الطفل واجب على الأم، بشرط أن تكون مع الزوج، وهو قول غير واحد من السلف، ولا تستحق أجرة المثل، زيادة على نفقتها وكسوتها، وهو اختيار القاضي، وقول الحنفية لقوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} الآية، ولم يوجب لهن إلا الكسوة والنفقة، وهو الواجب بالزوجية، كما قال في الحامل، فدخلت نفقة الولد في نفقة أمه، وكذا المرتضع، فتكون النفقة هنا واجبة بشيئين حتى لو سقط الوجوب بأحدهما ثبت الآخر.(7/138)
(وإن تزوجت) المرضعة (آخر (1) فله) أي للثاني (منعها من إرضاع ولد الأول (2) ما لم) تكن اشترطته في العقد (3) أو (يضطر إليها) بأن لم يقبل ثدي غيرها (4) أو لم يوجد غيرها، لتعينه عليها إذا لما تقدم (5) .
__________
(1) أي غير أبي الطفل المرتضع.
(2) لأنه يفوت حقه من الاستمتاع بها، في بعض الأحيان.
(3) بأن شرطت في العقد أن لا يمنعها رضاع ولدها، فلها شرطها.
(4) فيجب عليه التمكين من إرضاعه، لأنه حال ضرورة وحفظ نفس.
(5) أي قريبا، وهو قوله إلا لضرورة كخوف تلفه.. إلخ، فيجب عليها إرضاعه.(7/139)
فصل في نفقة الرقيق (1)
(و) يجب (عليه) أي على السيد (نفقة رقيقه) (2) ولو آبقا أو ناشزا (3) (طعاما) من غالب قوت البلد (4) (وكسوة وسكنى) بالمعروف (5) (وأن لا يكلفه مشقا كثيرًا) (6) .
__________
(1) أي: في بيان أحكام نفقة الرقيق، وتزويجه، وتأديبه وغير ذلك.
(2) قال الموفق: نفقة المملوكين على ملاكهم، ثابتة بالسنة والإجماع.
(3) أي ولو كان رقيقه آبقا أو مريضا، أو انقطع كسبه، أو كان أمة ناشزا، أو كان ابن أمته من حر، لأنه تابع لأمه، حيث لا شرط ولا غرور.
(4) سواء كان قوت سيده، أو دونه أو فوقه، وأدمه مثله، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الواجب إطعام الخادم، من غالب قوت البلد، الذي يأكل منه مثله في تلك البلد؛ ولمسلم «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» أي كفى به عن كل إثم سواه.
(5) ويلزمه غطاء ووطاء وماعون غنيا، كان المالك، أو فقيرا أو متوسطا، من غالب الكسوة لأمثاله من العبيد، بذلك البلد وحكاه ابن المنذر وغيره إجماعا، وما يأتي مما يأكل ويلبس فلعله للندب، أو أنه خطاب مع من ألبستهم وأطعمتهم غليظة وخشنة، قال الشيخ: ولا يجب التمليك للمملوك إجماعا، وإن قيل إنه يملك بالتمليك.
(6) وهو ما يشق عليه مشقة كثيرة، بحيث يقرب من العجز عنه.(7/140)
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «للملوك طعامه وكسوته بالمعروف (1) ولا يكلف من العمل ما لا يطيق» (2) رواه الشافعي في مسنده (3) (وإن اتفقا على المخارجة) وهي: جعله على الرقيق كل يوم، أو كل شهر شيئا معلوما له (جاز) (4) .
__________
(1) أي للمملوك، وكذا المملوكة على المالك، طعامه من غالب قوت البلد، وكسوته من غالب كسوة البلد، وكذا سكناه بالمعروف.
(2) أي لا يكلف عملا مشقا كثيرا، وفي الصحيحين من حديث أبي ذر «إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم» أي ما لا يطيقون الدوام عليه.
(3) كتاب مشهور له رحمه الله تعالى، المسند في اصطلاحهم هو الذي يأتي فيه بأحاديث الرجل المروية عنه متتابعة، ثم بالآخر بعده، وهذا الخبر رواه مسلم وغيره، من حديث أبي هريرة، وفيه وغيره: دليل على وجوب نفقة الرقيق، ولا نزاع في ذلك وقال تعالى: {وَمَوَالِيكُمْ} فهذا في التسمية عوضا عما فاتهم من النسب وقال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي ما أوجبنا من الأحكام، في ملك اليمين، غير ذلك من الأصول الشرعية، الدالة على وجوب النفقة للمملوك.
(4) وما فضل للعبد، ذلك لأن لهما به نفع، فالعبد يحرص على الكسب، وربما فضل معه شيء يزيده في النفقة ويتسع به، قال ابن القيم: وللعبد التصرف بما زاد على خراجه.(7/141)
إن كانت قدر كسبه فأقل بعد نفقته (1) روي أن الزبير كان له ألف مملوك على كل واحد كل يوم درهم (2) (ويريحه سيده) وقت القائلة، وهي وسط النهار (و) وقت (النوم (3) و) وقت (الصلاة) المفروضة لأن عليهم في ترك ذلك ضررا (4) وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «لا ضرر لا ضرار» (5) (ويركبه السيد) (في السفر عقبة) (6) لحاجة لئلا يكلفه ما لا يطيق (7) .
__________
(1) وإن كانت أكثر من كسبه بعد نفقته لم يجز، وكذا إن كلف من لا كسب له، لأنه إذا كلف ذلك كان قد كلفه ما يغلبه، وفي الخبر «لا تكلفوهم ما يغلبهم» وربما حمله أن يأتي به من غير وجهه.
(2) وروي أن أبا طيبة حجم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه أجرة، وأمر مواليه أن يخففوا عنه من خراجه، وروي أن كثيرا من الصحابة، يضربون على رقيقهم خراجهم، وجاء أبو لؤلؤة إلى عمر، يسأله أن يسأل المغيرة يخفف عنه من خراجه.
(3) لأنها العادة.
(4) وتركا لما أوجب الله عليهم، ولا يحل الإضرار بهم، ولأن العادة جارية بذلك.
(5) فدل عمومه، على تحريم الإضرار بالمملوك.
(6) بوزن غرف أي يركبهم تارة ويمشيهم أخرى.
(7) لما تقدم من الأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك، روي عن أحمد أنها ستة أميال، والمعتبر العرف.(7/142)
(وإن طلب) الرقيق (نكاحا زوجه) السيد (أو باعه (1)) لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (2) .
(وإن طلبته) أي التزويج (أمة وطئها) السيد (أو زوجها، أو باعها) (3) إزالة لضرر الشهوة عنها (4) ويزوج أمة صبي، أو مجنون، من يلي ماله إذا طلبته (5) وإن غاب سيد عن أم ولده، زوجت لحاجة نفقة أو وطء (6) وله تأديب رقيقه، وزوجته، وولده ولو مكلفا مزوجا، بضرب غير مبرح (7) .
__________
(1) وهذا أحد قولي الشافعي.
(2) والأمر يقتضي الوجوب، ولا يجب إلا عند الطلب، ولأنه مكلف محجور عليه، دعا إلى تزويجه، فلزمت إجابته، والنكاح مما تدعو الحاجة إليه غالبا، ويتضرر بفواته، فأجبر عليه، كالنفقة، لأنه يخاف من ترك إعفافه، الوقوع في المحظور.
(3) فهو مخير في ذلك بين تزويجها إذا طلبت ذلك، وبين الاستمتاع بها، فيغنيها باستمتاعه عن غيره.
(4) لأن المقصود قضاء الحاجة وإزالة ضرر الشهوة، وذلك يحصل بأحدهما فلم يتعين الآخر.
(5) للآية، ولما يخاف من ترك إعفافها من الوقوع في المحظور.
(6) اختاره أبو الخطاب وجزم به غير واحد.
(7) أي وللسيد تأديب رقيقه إذا أذنب بالتوبيخ، وله تأديب زوجته وولده، ولو كان مزوجا مكلفا، ويسن العفو أولا مرة أو مرتين، وله تأديبه بضرب غير مبرح وليس له ضربه على غير ذنب، ولا أن يضربه ضربا مبرحا وإن أذنب ولا لطمه في وجهه، وروي أن أبا مسعود ضرب غلاما له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك على هذا الغلام» وقد دلت الأحاديث على جواز الزيادة في الرقيق على الزوجة، ويؤدبه على ترك الفرائض، وعلى ما إذا كلفه ما يطيق، فامتنع من امتثاله.(7/143)
ويقيده إن خاف إباقه (1) ولا يشتم أبويه ولو كافرين (2) ولا يلزمه بيعه بطلبه مع القيام بحقه (3) وحرم أن تسترضع أمة لغير ولدها إلا بعد ريه (4) ولا يتسرى عبد مطلقًا (5) .
__________
(1) نص عليه، وقال: يباع أحب إلي.
(2) قال أحمد لا يعود لسانه الخناء، ولا يدخل الجنة سيء الملكة، هو الذي يسيء إلى مماليكه.
(3) وإلا لزمه، لما رواه أحمد وغيره: عن أبي هريرة مرفوعا: «جاريتك تقول: أطعمني، واستعملني، وإلا فبعني» وروي من حديث أبي ذر «من لاءمكم من مملوككم فأطعموهم مما تأكلون، وأكسوهم مما تكتسون ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه، ولا تعذبوا خلق الله» .
(4) أي: وحرم أن تسترضع أمة لها ولد، لغير ولدها، لأن فيه إضرارا بالولد، لنقصه عن كفايته، ومؤونته، إلا بعد ري ولدها، فيجوز بما زاد، لاستغناء ولدها عنه، كالفاضل من كسبها.
(5) أي سواء قلنا يملك بالتمليك أولا، وسواء أذن له سيده، أولا: وعنه: يجوز بإذن سيده، نقلها جماعة، واختاره أكثر المحققين، وصححه في الإنصاف وجعله المذهب فإذا قال تسرها وأذنت لك في وطئها، أو ما دل عليه أبيح له؛ ولا يملك السيد الرجوع بعد التسري، نص عليه.(7/144)
فصل في نفقة البهائم (1)
(و) يجب (عليه علف بهائمه، وسقيها وما يصلحها) (2) لقوله عليه السلام: «عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا،
فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض»
متفق عليه (3) (و) يجب عليه (أن لا يحملها ما تعجز عنه) لئلا يعذبها (4) .
__________
(1) أي في بيان وجوب نفقة البهائم، وتحميلها، والانتفاع بها، وحلبها ووسمها، وغير ذلك.
(2) قال الوزير: للإمام أن يجبره على نفقتها، أو بيعها عند مالك والشافعي وأحمد.
(3) من حديث ابن عمر وأبي هريرة، فدل على تحريم تعذيبها، بمثل هذا الفعل من دون طعام، ولا شراب لأن ذلك من تعذيب خلق الله، وقد نهى الشارع عنه، ودل على وجوب النفقة على الحيوان المملوك، لأن السبب في دخول تلك المرأة النار، ترك الهرة عن الإنفاق عليها، وحبسها، وإذا كان ثابتا في مثلها، فثبوته في مثل لحيوانات التي تملك أولى، لأنها محبوسة، مشغولة بمصالح المالك، وهذا مذهب جمهور العلماء.
(4) لأن الشارع منع تكليف العبد ما لا يطيق، والبهيمة في معناه، فاللإمام أن يمنعه من أن يحملها ما لا تطيق وهو مذهب مالك.(7/145)
ويجوز الانتفاع بها في غير ما خلقت له، كبقر لحمل وركوب (1) وإبل وحمر لحرث ونحوه (2) ويحرم لعنها (3) وضرب وجه ووسم فيه (4) (ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها) لقوله عليه السلام «لا ضرر ولا ضرار» (5) (فإن عجز) مالك البهيمة (عن نفقتها أجبر على بيعها، أو إجارتها، أو ذبحها إن أكلت) لأن بقاءها في يده مع ترك الإنفاق عليها ظلم، والظلم تجب إزالته (6) .
__________
(1) وإن لم يكن المقصود منها ذلك، ولما في الصحيحين «بينما رجل يسوق بقرة، أراد أن يركبها، إذ قالت: إني لم أخلق لذلك، إنما خلقت للحرث» أي هو معظم النفع، ولا يلزم منه منع غيره.
(2) لأن مقتضى الملك، جواز الانتفاع بها فيما يمكن، وهذا منه، كالذي خلقت له، وبه جرت عادة بعض الناس.
(3) لقصة المرأة التي لعنت ناقة فقال - صلى الله عليه وسلم - «خذوا ما عليها، ودعوها مكانها، ملعونة» وحديث أبي برزة «لا تصحبنا ناقة عليها لعنة» رواهما مسلم وغيره.
(4) أي في وجه للعنه - صلى الله عليه وسلم - من وسم أو ضرب الوجه ويجوز في غير الوجه، لغرض صحيح كالمداوة.
(5) فدل الحديث بعمومه: على النهي عن الإضرار بولد البهيمة، ولأن لبنه مخلوق له أشبه ولد الأمة.
(6) لأن ذلك واجب عليه، فيجبر عليه، كما يجبر على سائر الواجبات، وعن سهل بن الحنظلية، قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة» ولما تقدم من النهي عن تعذيبها، ولا يجوز قتلها، ولا ذبحها للإراحة كالآدمي المتألم بالأمراض الصعبة، وإن كانت مما لا يؤكل أجبر على الإنفاق عليها كالعبد الزمن.(7/146)
فإن أبى فعل حاكم الأصلح (1) ويكره جز معرفة وناصية وذنب (2) وتعليق جرس أو وتر (3) ونزو حمار على فرس (4) وتستحب نفقته على ماله غير الحيوان (5) .
__________
(1) من بيعها، أو ذبحها أو إجاراتها، أو اقترض عليه، وأنفق عليها.
(2) لأنه تشويه بالدابة، وإذهاب لمنفعتها به.
(3) أي ويكره تعليق جرس على دابة، أو وتر، للنهي عنه، وظاهره التحريم للوعيد الشديد على ذلك.
(4) لأنه لانسل فيهما.
(5) أي وتستحب نفقته على ماله، كالنخل والبيوت، وقيل تجب للنهي عن إضاعة المال، وأما الحيوان فتجب، وتقدم.(7/147)
باب الحضانة (1)
من الحضن، وهو: الجنب، لأن المربي يضم الطفل، إلى حضنه (2) وهي: حفظ صغير ونحوه عما يضره، وتربيته بعمل مصالحه (3) (تجب) الحضانة (لحفظ صغير (4) ومعتوه) أي مختل العقل (ومجنون) لأنهم يهلكون بتركها ويضيعون فلذلك وجبت إنجاء من الهلكة (5) (والأحق بها أم) (6) .
__________
(1) أي بيان أحكام حضانة الطفل ونحوه، ومن تجب له، وذكر الأولى بها، وعكسه وغير ذلك.
(2) والحاضنة: هي التي تربي الطفل، سميت به لأنها تضم الطفل إلى حضنها، والحضانة، مصدر حضنت الصغير حضانة، أي: تحملت مؤونته وتربيته.
(3) أي والحضانة حفظ صغير ونحوه، كمجنون ومعتوه عما يضرهم، وتربيتهم بعمل مصالحهم، كغسل أبدانهم وثيابهم، ودهنهم، وتكحيلهم وربط طفل بمهد وتحريكه، لينام، ونحو ذلك مما يتعلق بمصالحه.
(4) لأنه يهلك بتركه، فيجب حفظه عن الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه، وإنجاؤه من المهالك، ويتعلق بها حق لقرابته، لأن فيها ولاية على الطفل، واستحقاقا له فيتعلق بها الحق ككفالة اللقيط.
(5) ذكره الموفق وغيره، قولا واحدا.
(6) قال الموفق: إذا افترق الزوجان، ولهما ولد طفل، أو معتوه، فأمه أولى الناس بكفالته، إذا كملت الشرائط فيها، وذكرا كان أو أنثى، وهو قول
مالك والشافعي، وأصحاب الرأي، ولا نعلم أحدا خالفهم وفي المبدع: لانعلم فيه خلافا، وقال الوزير: اتفقوا على أن الحضانة للأم، ما لم تتزوج واتفقوا على أنها إذا تزوجت دخل بها الزوج، سقطت حضانتها، وأنها إذا طلقت بائنا، تعود حضانتها إلا في إحدى الروايتين عن مالك، وقال الشيخ: تقدم الأم على الأب في حق الصغير متفق عليه(7/148)
لقوله عليه السلام: «أنت أحق به ما لم تنكحي» رواه أبو داود (1) ولأنها أشفق عليه (2) (ثم أمهاتها القربى فالقربى) لأنهن في معنى الأم، لتحقق ولادتهن (3) .
__________
(1) وذلك أنها قالت يا رسول الله: إن ابني هذا، كان بطني له وعاء وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينزعه مني، فقال: «أنت أحق به، ما لم تنكحي» ورواه أحمد، والحاكم وصححه، فدل على أن الأم أحق بحضانة ولدها، إذا أراد الأب انتزاعه منها، وأنها إذا نكحت سقط حقها من الحضانة، وذلك مع طلب من تنتقل إليه الحضانة ومنازعته، وإلا فللأم المزوجة أن تقوم بولدها بالاتفاق، فإن خالة بنت حمزة مزوجة، وولد أم سلمة في كفالتها، وأنس وغيرهم، وقضى به أبو بكر وعمر.
(2) وأقرب إليه، ولا يشاركها في القرب إلا أبوه، وليس له مثل شفقتها ولا يتولى الحضانة بنفسه، وإنما يدفعه إلى امرأته، وأمه أولى به من امرأة أبيه، وقال ابن عباس: ريحها وفراشها وحجرها خير له منك، حتى يشب ويختار لنفسه وقال الشيخ: الأم أصلح من الأب، لأنها أوثق بالصغير، وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله، وأصبر وأرحم به، فهي أقدر وأخبر وأرحم وأصبر في هذا الموضع، فتعينت في حق الطفل غير المميز بالشرع.
(3) فقد من حيث أشبهن الأم، والأقرب أكمل شفقة من الأبعد.(7/149)
(ثم أب) لأنه أصل النسب (1) .
(ثم أمهاته كذلك) أي القربى فالقربى، لأنهن يدلين بعصبة قريبة (2) .
(ثم جد) كذلك الأقرب فالأقرب، لأنه في معنى أبي المحضون (3) .
(ثم أمهاته كذلك) القربى فالقربى (4) .
(ثم أخت لأبوين) لتقدمها في الميراث (5) .
__________
(1) وأقرب من غيره، أحق بولاية المال، وليس لغيره كمال شفقته فرجح بها.
(2) وقدمن على الجد لأن الأنوثة مع التساوي، توجب الرجحان، كما قدمت الأم مع الأب، وقدمن على الخالة، لأنهن وارثات، فقدمن على الخالة كأم الأم، لأن لهن ولادة ووراثة، فأشبهن أم الأم.
(3) بل هو أب وبمنزلته.
(4) لأنهن يدلين بمن هو أحق، وقدمن على الأخوات مع إدلائهن بالأب، لما فيهن من وصف الولادة، وكون الطفل بعضا منهن، وذلك مفقود في الأخوات، ثم جد الأب، ثم أمهاته كذلك، ثم جد الجد، ثم أمهاته كذلك وهلم جرا، ومتى وجد جدة وارثة، فهي أولى ممن هو من غير عمودي النسب بكل حال، وإن علت درجتها لفضيلة الولادة والوراثة، حتى لو اجتمع أم أم، وأم أب فعن أحمد أم الأب، أحق وإن علت درجتها، لأنها تدلي بعصبة مع مساواتها للأخرى في الولادة، فوجب تقديمها، كتقديم الأخت من الأب، على الأخت من الأم.
(5) أي ثم الأخوات، لأنهن يشاركن في النسب وقدمن في الميراث، وتقدم منهن أخت لأبوين، لقوة قرابتها، ولتقدمها في الميراث.(7/150)
(ثم) أخت (لأم) كالجدات (1) (ثم) أخت (لأب (2) ثم خالة لأبوين ثم) خالة (لأم ثم) خالة (لأب) لأن الخالات يدلين بالأم (3) (ثم عمات كذلك) أي تقدم العمة لأبوين ثم لأم ثم لأب لأنهن يدلين بالأب (4) .
__________
(1) أي ثم الحضانة مع عدم الأخت لأبوين، تكون للأخت للأم، مقدمة على الأخت لأب، لأنها مدلية بالأمومة، والأم مقدمة على الأب، كالجدات أي كما أن أم الأم تقدم على أم الأب، فكذلك الأخت لأم، تقدم على الأخت لأب ويأتي كلام الشيخ.
(2) والأولى تقديمها على الأخت لأم، لأن الولاية للأب، وأقوى في الميراث ولا يخفى قوتها، فإنها أقيمت مقام الأخت لأبوين، عند عدمها وتكون عصبة مع البنات.
(3) لما في الصحيحين «الخالة بمنزلة الأم» ، وابنة حمزة لم يكن لها أم ولا جدة، وأبوها قتل، فدل على ثبوت الحضانة للخالة، وأنها كالأم، وأن المرأة المزوجة، أولى من الرجال، فإن عصبة ابنة حمزة طالبون للحضانة، وقضى بها للخالة زوجة جعفر، وإنما سقطت حضانة الأم وحدها، حيث كان المنازع لها الأب، ويؤيده أنها قد يشتد بغضها، للمطلق ومن يتعلق به.
(4) وعللوا بتأخيره عن الأم، وإنما أخر عنها، لأنه لا يقوم مقامها، قال الشيخ: العمة أحق من الخالة، وكذا نساء الأب أحق، يقدمن على نساء الأم، لأن الولاية للأب، وكذا أقاربه، وإنما قدمت الأم على الأب، لأنه لا يقوم مقامها هنا في مصلحة الطفل.
وإنما قدم الشارع خالة بنت حمزة على عمتها صفية لأن صفية لم تطلب
وجعفر طلب نائبا، عن خالتها فقضي لها بها في غيبتها، وقال مجموع أصول الشريعة تقديم أقارب الأب على أقارب الأم، فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف الأصول والشريعة.(7/151)
(ثم خالات أمه) كذلك (ثم خالات أبيه) كذلك (1) (ثم عمات أبيه) كذلك (2) .
(ولا حضانة لعمات الأم مع عمات الأب، لأنهن يدلين بأبي الأم، وهو من ذوي الأرحام، وعمات الأب يدلين بالأب، وهو من أقرب العصبات (3)) (ثم بنات إخوته) تقدم بنت أخ شقيق ثم بنت أخ لأم، ثم بنت أخ لأب (4) (و) مثلهن بنات (أخواته (5) ثم بنات أعمامه) لأبوين، ثم لأم، ثم لأب (و) بنات (عماته) كذلك (6) .
__________
(1) وقالوا لإدلائهن بالأم، فقدموهن على عمات الأب.
(2) أي لأبوين: ثم لأم، ثم لأب، قالوا: لإدلائهن بالأب، وهو مؤخر في الحضانة عن الأم، وتقدم أن نساء الأب يقدمن على نساء الأم.
(3) قال الشيخ: ولا حضانة إلا لرجل من العصبة، أو لامرأة وارثة، أو مدلية بعصبة، أو بوارث.
(4) على ما قرروه من قاعدة، تقديم المدلي بأم، على المدلي بأب.
(5) تقدم من لأبوين، ثم لأم، ثم لأب.
(6) تقدم من لأبوين، ثم لأم، ثم لأب على ما رتبوه.(7/152)
(ثم بنات أعمام أبيه) كذلك (وبنات عمات أبيه) كذلك على التفصيل المتقدم (1) (ثم) تنتقل (لباقي العصبة الأقرب فالأقرب) (2) فتقدم الأخوة، ثم (3) ثم الأعمام، ثم بنوهم (4) ثم أعمام أب، ثم بنوهم وهكذا (5) (فإن كانت) المحضونة (أنثى فـ) يعتبر أن يكون العصبة (من محارمها) ولو برضاع أو مصاهرة إن تم لها سبع سنين (6) .
__________
(1) تقدم من لأبوين، ثم لأم، ثم لأب، فتقدم أخت من أم على أخت من أب، وخالة على عمة، وخالة أم على خالة أب، وخالات أبيه على عماته، ومن يدلي بعمات وخالات بأم فقط، على من يدلي بأب وحده لأن المدلي بالأم عندهم مقدم على المدلي بالأب وأما من يدلي بالأبوين منهما فمقدم على من يدلي أحدهما.
(2) لأن لهم ولاية وتعصيبا بالقرابة، فتثبت لهم الحضانة كالأب، قال الشيخ: وجنس النساء مقدم في الحضانة على جنس الرجال، كما قدمت الأم على الأب، قال: وتقديم أخواته على إخوته، وعماته على أعمامه، وخالاته على أخواله هو القياس الصحيح، وأما تقديم جنس نساء الأم على نساء الأب، فمخالف للأصول والمعقول.
(3) أي: فتقدم الإخوة لأبوين، ثم لأب، ثم بنوا الإخوة لأبوين، ثم بنوا الإخوة لأب وهكذا.
(4) أي ثم الأعمام الأشقاء، ثم لأب، ثم بنوا الأعمام الأشقاء، ثم بنوا الأعمام لأب، وهكذا.
(5) أي ثم أعمام جد، ثم بنوهم وهكذا.
(6) وقبل السبع له الحضانة عليها، وإن لم يكن محرما، لأنه لا حكم لعورتها وليست محلا للشهوة جزم به غير واحد.(7/153)
فإن لم يكن لها إلا عصبة غير محرم سلمها لثقة يختارها أو إلى محرمه (1) وكذا لو تزوجت أم وليس لولدها غيرها (2) (ثم) تنتقل الحضانة (لذوي أرحامه) من الذكور والإناث غير من تقدم (3) وأولاهم أبو أم ثم أمهاته (4) فأخ لأم فخال (5) (ثم) تتنقل (للحاكم) لعموم ولايته (6) .
__________
(1) أي وإن لم يكن لبنت سبع فأكثر عصبة، كابن عمها ونحوه، غير محرم، سلمها ابن عمها ونحوه غير المحرم، لثقة يختارها هو أو العصبة، أو سلمها إلى محرمه، لأنه أولى من أجنبي وحاكم.
(2) أي فتسلم ولدها إلى ثقة تختاره، أو محرمها، وإن اجتمع أخ وأخت، أو عم وعمة، أو ابن أخ وبنت أخ، أو ابن اخت وبنت أخت، قدمت الأنثى على من في درجتها من الذكور.
(3) لأن لهم رحما وقرابة، يرثون بها عند عدم من هو أولى منهم، أشبهوا البعيد من العصبة، اختاره الموفق وغيره.
(4) لأن أبا الأم يدلي إليها بالأبوة، والأخ يدلي بالبنوة، والأب يقدم على الابن في الولاية، فيقدم في الحضانة، لأنها ولاية.
(5) أي لأم، لأن الأخ من الأم يرث بالفرض، ويسقط ذوي الأرحام فخال ويقدمون على الحاكم، لأنهم أولى منه.
(6) والحضانة ولاية، وهو له الولاية على من لا أب له، ولا وصي، فيسلمه الحاكم إلى من يحضنه من المسلمين ممن فيه أهلية وشفقة ويتوجه عند العدم أن تكون لمن سبقت إليه اليد، كاللقيط، فإن كفال اليتامى لم يكونوا يستأذنون الحاكم، كما في الاختيارات وغيرها.(7/154)
(وإن امتنع من له الحضانة) منها (1) (أو كان) من له الحضانة (غير أهل) للحضانة (2) (انتقلت إلى من بعده) يعني إلى من يليه كولاية النكاح (3) لأن وجود غير المستحق كعدمه (4) (ولا حضانة لمن فيه رق) ولو قل (5) لأنها ولاية وليس هو من أهلها (6) (ولا) حضانة (لفاسق) لأنه لا يوثق به فيها (7) ولا حظ للمحضون في حضانته (8) (ولا) حضانة (لكافر) على مسلم (9) .
__________
(1) أي من حضانة الطفل، ونحوه.
(2) لرق أو فسق، أو غيرهما مما يشترط في الحاضن.
(3) أي كما تنتقل ولاية النكاح، ممن ليس بأهل إلى من يليه.
(4) فتعين انتقال الولاية، إلى من يليه الاستحقاق.
(5) أي ولا حضانة لطفل ونحوه، لرقيق لعجزه عنها بخدمة سيده، وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي، ولا لمن فيه رق ولو قل، هذا المذهب.
(6) ولا يملك منافعه التي تحصل الكفالة بها، فلم يكن له حضانة، وقال ابن القيم: لا دليل على اشتراط الحرية.
(7) أي في أداء الواجب من الحضانة.
(8) لأنه ينشأ على طريقته.
(9) كولاية النكاح، والمال، وهو قول مالك والشافعي.(7/155)
لأنه أولى بعدم الاستحقاق من الفاسق (1) (ولا) حضانة (لمزوجة بأجنبي من محضون من حين عقد) (2) للحديث السابق، ولو رضي زوج (3) (فإن زال المانع) بأن عتق الرقيق، وتاب الفاسق، وأسلم الكافر، وطلقت المزوجة ولو رجعيا (رجع إلى حقه) (4) لوجود السبب، وانتفاء المانع (5) .
__________
(1) فإن ضرره أكثر، فإنه يفتنه عن دينه، ويخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر، وتزيينه وتربيته عليه، وهذا أعظم الضرر، والحضانة إنما تثبت لحظ الولد فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه، وهلاك دينه.
(2) لأن الزوج يملك منافعها بمجرد العقد، يستحق منعها من الحضانة، أشبه ما لو دخل بها، والأجنبي هنا: هو من لم يكن من عصبات المحضون، فإن كانت تزوجت بقريب محضونها، ولو كان غير محرم له، لم تسقط حضانتها.
(3) فلا يعتبر رضاه، لئلا يكون الطفل في حضانة أجنبي، والحديث هو قوله «أنت أحق به مالم تنكحي» وتقدم أنه مع طلب من تنتقل إليه الحضانة، وإلا فيجوز لها بالاتفاق، لقصة خالة بنت حمزة، وأم سلمة وغيرهما، ولا حضانة لمجنون، ولا معتوه، ولا طفل، ولا عاجز عنها، كأعمى ونحوه، قال الشيخ: ضعف البصر، يمنع من كمال ما يحتاج إليه المحضون من المصالح.
(4) أي الكل ممن زال المانع منه.
(5) فإنه إذا زال المانع، عاد الحق بالسبب السابق الملازم، وكذا رجوع ممتنع من حضانة يعود الحق له في الحضانة لقيام سببها مع زوال المانع.(7/156)
(وإن أراد أحد أبويه) أي أبوي المحضون (سفرًا طويلاً) لغير الضرار، قاله الشيخ تقي الدين وابن القيم (إلى بلد، بعيد) مسافة قصر فأكثر، (ليسكنه (1) وهو) أي البلد (وطريقه آمنان فحضانته) أي المحضون (لأبيه) (2) .
__________
(1) قال ابن القيم: لو أراد الإضرار والاحتيال على إسقاط حضانة الأم فسافر ليتبعه الولد فهذه حيلة مناقضة لما قصده الشارع، فإنه جعل الأم أحق بالولد من الأب، مع قرب الدار وإمكان اللقاء كل وقت لو قضي به للأب، وقضى أن لا توله والدة على ولدها، وأخبر أن من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة، ومنع أن تباع الأم دون ولدها، والولد دونها، وإن كانا في بلد واحد، فكيف يجوز مع هذا التحيل، على التفريق بينها وبين ولدها، تفريقا تعز معه رؤيته ولقاؤه، ويعز عليها الصبر عنه وفقده، وهذا من أمحل المحال، بل قضاء الله ورسوله أحق أن الولد للأم سافر الأب أو أقام.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنت أحق به ما لم تنكحي» فكيف يقال أنت أحق به، ما لم يسافر الأب، وأين هذا في كتاب الله؟ أو في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أو فتاوى أصحابه؟ أو القياس الصحيح؟ فلا نص ولا قياس، ولا مصلحة، قال في المبدع: هو مراد الأصحاب، وفي الإنصاف، صورة المضارة لا شك فيه، وأنه لا يوافق على ذلك.
(2) سواء كان المقيم هو الأب، أو المتنقل وإن كان البلد والطريق مخوفان، أو أحدهما، فمقيم أولى، لأن في المسافرة بالطفل إضرارا به، مع عدم الحاجة إليه، ولو اختار الولد السفر في تلك الحال لم يجب، لأن فيه تغريرا به وهو قول مالك والشافعي.(7/157)
لأنه الذي يقوم بتأديبه وتخريجه وحفظ نسبه (1) فإذا لم يكن الولد في بلد الأب ضاع (2) (وإن بعد السفر) وكان (لحاجة) لا لسكنى فمقيم منهما أولى (3) (أو قرب) السفر (لها) أي لحاجة ويعود، فالمقيم منهما أولى، لأن في السفر إضرارا به (4) (أو) قرب السفر وكان (للسكنى فـ) الحضانة (لأمه) لأنها أتم شفقة (5) وإنما أخرجت كلام المصنف عن ظاهره ليوافق ما في المنتهى وغيره (6) .
__________
(1) وقد تكون الحال بالعكس.
(2) لأن الأب أولى لمراعاة حال ولده، وهذا فيما إذا لم يقصد المسافر به مضارة الآخر، وإلا فالأم أحق، كما ذكره ابن القيم وغيره.
(3) إزالة لضرر السفر عن الطفل ونحوه.
(4) وفي الخبر «لا ضرر ولا ضرار» .
(5) وإن قال الأب: سفري للإقامة وقالت الأم: بل لحاجة وتعود، فقوله مع يمينه، وإن انتقلا جميعا إلى بلد واحد، فالأم باقية على حضانتها.
(6) أخرج كلامه في المسألتين، جعل صورة السفر للحاجة، قرب أو بعد، لمقيم منهما أولى، مع أن ظاهر المتن، أن الأم أولى به والحالة هذه، وعبارة المنتهى، ومتى أراد أحد أبوين، نقلة إلى بلد آمن، وطريقه مسافة قصر فأكثر، ليسكنه، فأب أحق وقريب لسكنى فأم، ولحاجة بعد أو لا فمقيم.(7/158)
فصل (1)
(وإذا بلغ الغلام سبع سنين) كاملة (عاقلا (2) خير بين أبويه (3) فكان مع من اختار منهما) (4) قضى بذلك عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما (5) وروى سعيد والشافعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير غلاما بين أبيه وأمه (6) .
__________
(1) في تخيير الغلام بعد سبع السنين، بين أبويه، واختصاص الأب بالجارية إذا كان أصلح لها، وما يتعلق بذلك.
(2) فإن اتفق أبواه على أن يكون عند أحدهما جاز، لأن الحق في حضانته لا يعدوهما وإن تنازعا في حضانته فقد وضحه بقوله: خير.. إلخ.
(3) أي خيره الحاكم بين أبويه، قال الشيخ: تخيير شهوة، حيث كل من الأبوين نظير الآخر، ولا يمكن أن يعتبر أحدهما، فإنه قد يكون أحدهما أصلح له من الآخر، اهـ فيقدم من هو أشفق فإنه إذا بلغ الغلام حدا، يعرب عن نفسه ويميز بين الإكرام وضده، فمال إلى أحد الأبوين، دل على أنه أرفق به، وأشفق عليه، فقدم لذلك، ولا يخير إلا بشرطين، أن يكونا جميعا من أهل الحضانة، وأن لا يكون معتوها، فلو زال عقله رد إلى الأم، لأنها أشفق عليه، وأقوم بمصالحه، كما يأتي.
(4) أي من أبويه، وهذا مذهب الشافعي.
(5) فخير عمر غلاما بين أبيه وأمه، وكذا علي، وأبو هريرة، وقال الموفق: هذه قصص في مظنة الشهرة، ولم تنكر فكانت إجماعا.
(6) وللترمذي وغيره: وصححه من حديث أبي هريرة جاءت امرأة
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجي يريد أن يذهب بابني فقال: «يا غلام هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت» فأخذ بيد أمه فانطلقت به، فدل الحديث على أنه بعد استغنائه بنفسه، يخير بين أبويه، وقال ابن القيم: تخيير الولد بين أبويه بالسنة، الصحيحة الصريحة المحكمة، والأصول الصحيحة.(7/159)
فإن اختار أباه كان عنده ليلا ونهارا (1) ولا يمنع زيارة أمه (2) وإن اختارها كان عندها ليلا، وعند أبيه نهارا (3) ليعلمه ويؤدبه (4) وإن عاد فاختار الآخر نقل إليه ثم إن اختار الأول نقل إليه وهكذا (5) فإن لم يختر أو اختارهما أقرع (6) (ولا يقر) محضون (بيد من لا يصونه ويصلحه) لفوات المقصود من الحضانة (7) .
__________
(1) ليحفظه ويعلمه ويؤدبه.
(2) لأن فيه إغراء له بالعقوق، وقطيعة الرحم، فيزورها على العادة.
(3) أي كان الغلام عند أمه ليلا، لأنه وقت السكن، وانحياز الرجال إلى المساكن وكان عند الأب نهارا، لأنه وقت التصرف في الحوائج، وعمل الصنائع.
(4) لأن ذلك هو القصد في حفظ الولد.
(5) لأن هذا اختيار تشه، وقد يشتهي أحدهما في وقت دون آخر، فاتبع فيما يشتهيه.
(6) لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، ثم إن اختار غير من قدم بالقرعة رد إليه، كما لو اختاره ابتداء، ولا يخير إذا كان أحد أبويه ليس من أهل الحضانة وتعين أن يكون عند الآخر، لأن من ليس من أهل الحضانة وجوده كعدمه.
(7) أي يصونه عما يفسد أخلاقه، ويصلح تربيته بعمل مصالحه، قال:
الشيخ وابن القيم، وغيرهما التخيير والقرعة، لا يكونان إلا إذا حصلت به مصلحة الولد، وكون كل من الوالدين نظير الآخر، فلو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه، قدمت عليه، ولا التفات إلى قرعة، ولا اختيار الصبي في هذه الحالة، فإن الصبي ضعيف العقل، يؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك، فلا التفات إلى اختياره، وكان عند من هو أنفع له، ولا تحتمل الشريعة غير هذا.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» والله يقول: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فإذا كانت الأم تتركه في المكتب، أو تعلمه القرآن والصبي يؤثر اللعب، ومعاشرة أقرانه، وأبوه يمكنه من ذلك فإنها أحق به، ولا تخيير ولا قرعة، وكذلك العكس.(7/160)
(وأبو الأنثى أحق بها بعد) أن تستكمل (السبع (1) ويكون الذكر بعد) بلوغه، و (رشدة حيث شاء) (2) لأنه لم يبق عليه ولاية لأحد (3) ويستحب له أن لا ينفرد عن أبويه (4) .
__________
(1) ولو تبرعت الأم بحضانتها، لأن الغرض من الحضانة الحفظ، والأب أحفظ لها.
(2) سواء كان عند أبيه، أو عند أمه، أو منفردا بنفسه.
(3) ولقدرته على إصلاح أموره، إلا أن يكون أمرد يخاف عليه الفتنة، فيمنع من مفارقتهما.
(4) لأنه أبلغ في برهما وصلتها.(7/161)
(والأنثى) منذ يتم لها سبع سنين (عند أبيها) وجوبًا (حتى يستلمها زوجها) (1) لأنه أحفظ لها وأحق بولايتها من غيره (2) ولا تمنع الأم من زيارتها إن لم يخف منها (3) ولو كان الأب عاجزا عن حفظها أو يعملها لاشتغاله عنها، أو قلة دينه، والأم قائمة بحفظها قدمت، قاله الشيخ تقي الدين (4) .
__________
(1) هذا المذهب، قال الموفق: لأن الغرض بالحضانة الحظ، والحظ للجارية بعد السبع في الكون عند أبيها.
(2) أي: لأن الأب أحفظ لها من الأم، والأم تحتاج إلى من يحفظها ويصونها، ولأنها إذا بلغت السبع، قاربت الصلاحية للتزويج، والأب وليها، والمالك لتزويجها، وأعلم بالكفاءة، وأقدر على البحث، والجمهور عند الأم، وهو مذهب أبي حنيفة، وبه قال مالك، وقال ابن القيم: هي الأشهر عند أحمد، وأصح دليلا.
(3) إفسادها، وأولى من ذلك الخلوة بها، إن خيف منها الفتنة بينها، وبين زوجها والإضرار به، وإن لم يخف لم تمنع، لما فيه من الحمل على قطيعة الرحم، والغلام كذلك، وكذا الأب، إن كانت عند الأم أو الغلام.
(4) رحمه الله، وقال: رجح أن المميزة عند الأب، ومن عين الأم وهم الجمهور، لا بد أن يراعوا مع ذلك صيانتها لها، فإذا لم تكن في موضع حرز وتحصين، أو كانت غير مرضية فللأب أخذها منها بلا ريب، لأنه أقدر على حفظها وصيانتها من الأم، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد، الأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم.
قال: وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب، إذا لم يكن عليها في ذلك ضرر
فلو قدر أنه عاجز عن حفظها وصيانتها، ويهملها لاشتغاله عنها، والأم قائمة بحفظها وصيانتها، فإنها تقدم في هذه الحال، فمع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى بها بلا ريب.(7/162)
وقال: إذا قدر أن الأب تزوج بضرة، وهو يتركها عند ضرة أمها لا تعمل مصلحتها، بل تؤذيها، وتقصر في مصلحتها (1) وأمها تعمل مصلحتها، ولا تؤذيها (2) فالحضانة هنا للأم قطعا (3) ولأبيها وباقي عصبتها منعها من الانفراد (4) والمعتوه ولو أنثى عند أمه مطلقا (5) .
__________
(1) وهو الغالب في الأكثر.
(2) وشفقة الأم معلومة.
(3) نظرا لصالح المحضون، إذ هو المقصود من الحضانة.
(4) خشية الفساد، ولحوق العار بهم، ومنعها من المحرمات، فإن لم تمتنع إلا بالحبس حبسوها، وإن احتاجت إلى القيد قيدوها، وما ينبغي للمولود أن يضرب أمه ولا يجز لهم مقاطعتها بحيث تتمكن من السوء، بل يلاحظونها بحسب قدرتهم، وإن احتاجت إلى رزق وكسوة كسوها، وليس لهم إقامة الحد عليها.
(5) صغيرا كان أو كبيرا ذكرا أو أنثى، لحاجته إلى من يخدمه، ويقوم بأمره، والنساء أعرف بذلك.(7/163)
كتاب الجنايات (1)
جمع جناية (2) وهي لغة: التعدي على بدن أو مال أو عرض (3) واصطلاحا التعدي على البدن بما يوجب قصاصا أو مالا (4) ومن قتل مسلما عمدًا عدوانا فسق (5) وأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له (6) .
__________
(1) أجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق، والأصل فيه الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ} وقال صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم» الحديث والإجماع حكاه غير واحد، ولولا عقوبة الجناة والمفسدين، لأهلك الناس بعضهم بعضا، ولفسد نظام العالم ولا تتم إلا بمؤلم يردعهم، ويجعل الجاني نكالا وعظة، لمن يريد أن يفعل مثل فعله.
(2) فمن ارتكب ذنبا فهو جان.
(3) وفي العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان.
(4) أو كفارة أي سماها الفقهاء بذلك، وسموا الجناية على الأموال غصبا ونهبا، وسرقة، وخيانة، وإتلافا.
(5) لاقترافه كبيرة من كبائر الذنوب بالإجماع، خلافا للخوارج الذين كفروه بذلك.
(6) لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فهو داخل تحت المشيئة بل كل ذنب دون الشرك تحت المشيئة إذا لم يتب منه.
وأما إذا تاب، فقد قال تعالى: في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ} وليس القتل بأعظم من الكفر، وإذا صحت من الكفر فمن القتل أولى وآية النساء تدل على شدة الوعيد.(7/164)
وتوبته مقبولة (1) و (هي) أي الجناية ثلاثة أضرب (2) (عمد يختص القود به) (3)
__________
(1) عند جمهور العلماء، لعموم الأدلة، خلافا للمعتزلة الذين يقولون: من ارتكب هذا الذنب لم تقبل توبته، لكن لا يسقط حق المقتول في الآخرة، بمجرد التوبة، كسائر حقوقه، بل يأخذ المقتول من حسنات القاتل، بقدر مظلمته، أو يعطيه الله من عنده، وكذا القصاص أو العفو، لا يكفر ذنب القاتل بالكلية وإن كفر ما بينه وبين الله، بل يبقى حق المقتول.
وقال ابن القيم: التحقيق أن القتل، تتعلق به ثلاثة حقوق، حق لله، وحق للمقتول، وحق للولي، فإذا أسلم القاتل نفسه طوعا إلى الولي، وندما وخوفا من الله، وتاب توبة نصوحا، سقط حق الله بالتوبة، وحق الأولياء بالاستيفاء أو الصلح، أو العفو، وبقي حق المقتول، يعوضه الله يوم القيامة، عن عبده التائب، ويصلح بينه وبينه.
(2) أكثر أهل العلم يرون القتل ينقسم إلى ثلاثة عمد وخطأ، وهذان مجمع عليهما، والثالث وهو: شبه العمد، قال به جمهور العلماء، ويأتي تفصيل ذلك.
(3) فلا يثبت في غيره، قال ابن رشد: اتفقوا على أن الذي يجب به القصاص هو العمد، وقال الوزير: اتفقوا على أن من قتل نفسا مؤمنة، مكافئة له في الحرية، ولم يكن المقتول ابنا للقاتل، وكان قتله متعمدا، متعديا بغير تأويل، واختار الولي القتل، فإنه يجب لقوله {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .(7/165)
والقود: قتل القاتل بمن قتله (1) (بشرط القصد) أي أن يقصد الجاني الجناية (2) (و) الضرب الثاني (شبه عمد (3) و) الثالث (خطأ) (4) روي ذلك عن عمر وعلي، رضي الله عنهما (5) (فـ) القتل (العمد أن يقصد من يعلمه آدميا معصوما (6) فيقتله بما يغلب على الظن موته به) (7) .
__________
(1) مأخوذ من قود الدابة، لأنه يقاد بحبل ونحوه إلى القتل بمن قتله، فيمكن أولياء المقتول من القاتل، فإن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية.
(2) فإن لم يقصد القتل فلا قصاص، لقوله صلى الله عليه وسلم «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» .
(3) ويسمى بخطأ العمد، وعمد الخطأ ويأتي.
(4) أي في الفعل، أو بدار حرب من يظنه حربيا، ونحو ذلك، وهذا تقسيم أكثر أهل العلم.
(5) أي أن الجناية ثلاثة أضرب، فالعمد والخطأ اثنان، مجمع عليهما كما تقدم، والثالث شبه العمد، قال ابن رشد: اختلفوا هل بينهما وسط، وهو الذي يسمونه شبه العمد، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار، وبإثباته قال عمر، وعلي، وعثمان، وغيرهم، ولا مخالف لهم من الصحابة.
(6) أي والقتل، وهو فعل ما يكون سببا لزهوق النفس العمد، فهو الذي يختص به القود بلا نزاع، وأخرج الخطأ في الحكم، ويشترط في القتل العمد، القصد في الفعل، وعصمة الآدمي المقتول.
(7) قال في الإنصاف: بلا نزاع سواء كان المقتول به محددا، أو غير محدد، وقال الخرقي أن يقصد ضربه بمحدد، أو شيء الغالب أن يتلف.(7/166)
فلا قصاص إن لم يقصد قتله، ولا إن قصده بما لا يقتل غالبا (1) وللعمد تسع صور (2) إحداها: ما ذكره بقوله (مثل أن يجرحه بما له مور) أي نفوذ (في البدن) كسكين وشوكة (3) ولو بغرزه بإبرة ونحوها (4)
__________
(1) لأن عدم القصد لا يوجب القود، وحصول القتل بما لا يغلب على الظن موته به، يكون اتفاق لسبب أوجب الموت غيره.
(2) معلومة بالاستقراء وتأتي مفصلة.
(3) أي: مثل أن يجرحه، بما له دخول وتردد في البدن، من حديد وغيره، كسكين وحربة وسيف، ونحو ذلك أو يغرزه بمسلة ونحوها، من الحديد والنحاس، والرصاص، والزجاج، والذهب والفضة، والخشب، والعظام مما يحدد ويجرح، إذا جرح به جرحا كبيرا فمات، فهو قتل عمد، قال الموفق: لا اختلاف فيه بين العلماء فيما علمناه، والنفوذ وهو المروق ليس بمراد، إذ لو دخلت الحديدة ونحوها في البدن، فقد حصل المور ولو لم تنفذ.
(4) كشوكة من كل محدد صغير، أو جرحه جرحا صغيرا في غير مقتل، فمات في الحال فقتل عمد فيه القصاص، لأن المحدد، لا يعتبر فيه غلبة الظن، في حصول القتل به، وهو مذهب أبي حنيفة، والوجه الثاني: لا قصاص قاله ابن حامد، لأن الظاهر أنه لم يمت منه، ولأنه لا يقتل غالبا أشبه العصا، والسوط.
وقال الأصحاب: إن بقي متألما بغرز الجاني، بنحو إبرة، من كل محدد صغير، في مقتل كالفؤاد، والخاصرة، والخصيتين، حتى مات، ففيه القود، لأن الظاهر أنه مات بفعل الجاني، وقيل: لا يجب به القصاص، لأنه لما احتمل حصول الموت بغيره ظاهرا، كان شبهة في درء القصاص، فالله أعلم.(7/167)
ولو لم يداو مجروح قادر جرحه (1) الثانية: أن يقتله بمثقل (2) كما أشار إليه بقوله (أو يضربه بحجر كبير ونحوه) كلت وسندان (3) ولو في غير مقتل (4) فإن كان الحجر صغيرا فليس بعمد (5) إلا إن كان في مقتل (6) .
__________
(1) أي ولو لم يداو المجروح جرحه، في حال قدرته على مداواته، حتى يموت أو يموت في الحال، لأن الظاهر موته بفعل الجاني، وكذا لو فصده، فترك شد فصاده، ذكره الموفق محل وفاق، ومن قطع أو بط سلعة خطرة من مكلف، بلا إذنه فمات، فعليه القود.
(2) أي كبيرة فوق عمود الفسطاط، أو بما يغلب على الظن موته به لثقله.
(3) وعقب فاس أو كوذين، واللت بضم اللام نوع من أكبر السلاح، أو هو الذي يقال له الدبوس، و «السندان» الآلة المعروفة من الحديد الثقيلة، التي يعمل عليها الحداد صناعته، فيموت به، فعمد.
(4) أي ولو كان ضربه بحجر كبير ونحو، في غير مقتل، فمات فعمد، لأن ذلك مما يقتل غالبا.
(5) وكذا لو كانت الخشبة صغيرة، أو لكزه باليد في غير مقتل، ولا في حال ضعف، ففيه الدية، لكونه لا يقتل غالبا، وإن صغر جدا، كالضربة بالقلم، أو الإصبع في غير مقتل ونحوه، أو مسه بالكبير ولم يضربه به، فلا قود ولا دية.
(6) أي إلا إن كان ضربه بالحجر الصغير، ونحو، في مقتل، أو لكزه في مقتل، فعمد فيه القود، لأن ذلك الفعل يقتل غالبًا.(7/168)
أو حال ضعف قوة من مرض، أو صغر، أو كبر، أو حر أو برد ونحوه (1) أو يعيده به (2) (أو يلقي عليه حائطا) أو سقفا ونحوهما (3) (أو يلقيه من شاهق) فيموت (4) الثالثة أن يلقيه بجحر أسد، أو نحوه (5) أو مكتوفا بحضرته (6) أو مضيق بحضرة حية (7) .
__________
(1) أي إلا إن كان ضربه بالحجر الصغير، ونحوه، في حال ضعف قوة المجني عليه، ومن مرض أو صغر، أو كبر، أو حر مفرط، أو برد شديد ونحوه كإعياء فمات، ففيه القود، لأن ذلك الفعل يقتل غالبا.
(2) أي أو يعيد الضرب بما لا يقتل غالبا، كالعصا، والحجر الصغير، حتى يموت، فعمد فيه القود.
(3) كصخرة أو خشبة عظيمة فيموت، فعمد فيه القود، وإن لم يلقه عليه أحد فهدر.
(4) ففيه القود لأنه يقتل غالبا، وإن قال: لم أقصد قتله، لم يصدق، لأنه خلاف الظاهر.
(5) كنمر، وعبر بعضهم بزبية أسد، وهي حفرة يصاد فيها الأسد وغيره، فيفعل به الأسد ونحوه ما يقتل مثله، فعليه القود، لأنه إذا تعمد الإلقاء فقد تعمد قتله بما يقتل غالبا، وإن فعل به فعلا لو فعله الآدمي لم يكن عمدا فلا قود لأن السبع صار آلة للآدمي فكان فعله كفعله.
(6) أي أو يلقيه مكتوفا بحضرة أسد ونحوه فيقتله، لأن الأسد يأخذ الآدمي المطلق فكيف بالمكتوف.
(7) أي أو يلقيه في مضيق بحضرة حية، فنهشته فمات، لأنها تمنع عن نفسها بالنهش عادة.(7/169)
أو ينهشه كلبا أو حية (1) أو يلسعه عقربا من القواتل غالبا (2) الرابعة ما أشار إليها بقوله (أو) يلقيه (في نار أو ماء يغرقه، ولا يمكنه التخلص منهما) لعجزه أو كثرتهما (3) فإن أمكنه فهدر (4) الخامسة: ذكرها بقوله (أو يخنقه) بحبل أو غيره (5) .
__________
(1) ينهشه بالمعجمة والمهملة كلبا أو سبعا، وهو الحيوان المفترس، أو ينهشه حية من القواتل فمات.
(2) أي أو يلسعه بضم أوله، عقربا من العقارب القواتل غالبا فيموت، فعليه القود، لأن ما ذكر مما يقتل غالبا، فكان عمدا محضا، وإن كان ما ذكر من إنهاش الكلب، أو الحية ونحو ذلك، لا يقتل غالبا كثعبان الحجاز، أو سبع صغير، أو كلب صغير، أو كتفه وألقاه في أرض غير مسبعة، فأكله سبع، أو نهشته حية فمات، فشبه عمد، يضمنه بالدية على عاقلته.
(3) أي يلقيه في ماء يغرقه، أو نار تحرقه، ولا يمكنه التخلص من الماء والنار، لعجزه عن التخلص منهما، لمرض أو ضعف أو صغر، أو لكثرتهما أو لكونه مربوطا، أو منعه الخروج كونه في حفرة لا يقدر على الصعود منها ونحو ذلك فمات فعمد وكذا لو حبسه في بيت وأوقد فيه نارا، وسد المنافذ حتى ضاق به النفس، أو دفنه حيا ونحو ذلك فعمد.
(4) أي فإن أمكنه التخلص من الماء، ولبث فيه اختيارا حتى مات فهدر، أو أمكنه التخلص من النار، ولبث فيها حتى مات فلا قود.
(5) في عنقه ثم يعلقه فيموت في الحال، أو بعد زمن، كما يفعل بنحو اللصوص أو وهو على الأرض أو يخنقه بيديه أو غير ذلك، مما يمنع خروج نفسه، أو شيء يضعه على فيه وأنفه فيموت.(7/170)
أو يسد فمه وأنفه (1) أو يعصر خصيتيه زمنا يموت في مثله (2) السادسة: أشار إليها بقوله (أو يحبسه ويمنع عنه الطعام أو الشراب، فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالبا) بشرط تعذر الطلب عليه (3) وإلا فهدر (4) السابعة ما أشار إليها بقوله (أو يقتله بسحر) يقتل غالبا (5) .
__________
(1) زمنا يموت في مثله عادة فيموت، أو يغمه بوسادة.
(2) أي يعصر خصيتيه عصرا يقتله غالبا، فمات في مدة يموت في مثلها غالبا فعمد، لأنه يقتل غالبا، فيقتل به في نحو تلك الصور، وإن كان في مدة لا يموت مثله فيها غالبا فشبه عمد، إلا أن يكون يسيرا إلى غاية، بحيث لا يتوهم الموت فيه فمات فهدر.
(3) فعليه القود، وكذا لو منعه الدفاء، في الشتاء ولياليه الباردة حتى مات، لأن هذا يقتل غالبا، وهذا يختلف باختلاف الناس، والزمان، والأحوال فإذا عطشه في شدة الحر مات في الزمن القليل، وإن كان ريان والزمن بارد أو معتدل، لم يمت إلا في زمن طويل، فيعتبر هذا فيه.
(4) أي وإن لم يتعذر عليه الطلب، وتركه حتى مات فهدر، لأنه المهلك لنفسه، وإن كان منعه الطعام أو الشراب، أو التدفئة في مدة لا يموت فيها غالبا فعمد الخطأ وكذا إن شككنا لم يجب القود، ومن أخذ طعام إنسان أو شرابه في برية، وكان لا يقدر فيه على طعام وشراب، أو أخذ دابته فهلك بذلك، أو هلكت دابته فعليه ضمان ما تلف.
(5) فهو عمد إذا كان الساحر يعلم ذلك أشبه ما لو قتله بمحدد، وإن
قال: لم أعلمه قاتلا، لم يقبل قوله، فهو كسم حكما، وإذا وجب قتله بالمسحر وقتل، كان قتله به حدا، قاله ابن البناء، وصححه في الإنصاف، وقدم الموفق وغيره، يقتل قصاصا، لتقديم حق الآدمي، وتجب دية المقتول في تركة الساحر.
وأما المعيان الذي يقتل بعينه، فقال ابن نصر الله: ينبغي أن يلحق بالساحر، الذي يقتل بسحره غالبا، فإذا كانت عينه يستطيع القتل بها، ويفعله باختياره وجب به القصاص لأنه فعل به ما يقتل غالبا، وإن فعله بغير قصد الجناية، فيتوجه أنه خطأ، وقال ابن القيم: إن كان ذلك بغير اختياره، بل غلب على نفسه، لم يقتص منه، وعليه الدية، وإن عمد ذلك، وقدر على رده، وعلم أنه يقتل به، ساغ للوالي أن يقتله، بمثل ما قتل به، فيعينه إن شاء، كما أعان هو المقتول، وأما قتله بالسيف فلا، لأنه غير مماثل للجناية.
قال: وسألت شيخنا عن القتل بالحال، هل يوجب القصاص؟ فقال: للولي أن يقتله بالحال، كما قتل به، وقال: في الولي والصوفي إذا قتلا معصوما، بحالهما المحرمة المكروهة لا المباحة ونحوها، المبيحين لذلك، كحال غيبوبة عن إدراك أحوال الدنيا، فعليهما القود، بمثل حالهما، القاتل له منها كهما من مثلهما، كقتل العائن بعين مثله، بخلاف الساحر، فبالسيف لكفره به في مفصل عنقه، فإن لم يوجد عائن، ولا صوفي كذلك، فهل يحبسان حتى يموتا، كالممسك أو يوجد مثلهما احتمالات، ذكر نحوه في الإنصاف.(7/171)
الثامنة: المذكورة في قوله (أو) يقتله بـ (سم) (1) بأن سقاه سما لا يعلم به (2) .
__________
(1) أي قاتل، والسم بفتح السين، عند الأكثر، وبضمها وكسرها قيل عامية.
(2) فمات فعليه القود، إن كان ذلك السم، مثله يقتل غالبا.(7/172)
أو يخلطه بطعام ويطعمه له (1) أو بطعام أكله فيأكله جهلا (2) ومتى ادعى قاتل بسم، أو بسحر عدم علمه أنه قاتل لم يقبل (3) .
التاسعة: المشار إليها بقوله: (أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله) من زنا أو ردة لا تقبل معها التوبة (4) أو قتل عمد (ثم رجعوا) أي الشهود بعد قتله.
(وقالوا: عمدنا قتله) فيقاد بهذا كله (5) .
__________
(1) فمات، فعليه القود، إن كان مثله يقتل غالبا.
(2) أي أو يخلط السم بطعام أكله، فيأكله جهلا فمات، فقود، لأن اليهودية التي أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، وبشر بن البراء فمات، فاعترفت بخلطها بالسم، فقتلها رواه أبو داود وغيره، وإن علم آكل السم، أو شاربه ونحوه، وهو بالغ عاقل، فلا ضمان، وإن خلطه بطعام نفسه، فأكله إنسان بغير إذنه فلا ضمان.
(3) لأن السم يقتل غالبا، كما لو جرحه، وقال: لم أعلم أنه يموت، وإن كان ما سقاه له، أو أطعمه ونحوه، لا يقتل غالبا، فشبه عمد.
(4) كأن شهد اثنان فأكثر على ردة شخص، حيث امتنعت التوبة، هذا المذهب ونظره في الاختيارات بأن المرتد إنما يقتل، إذا لم يتب، فيمكن المشهود عليه التوبة، كما يمكنه التخلص إذا ألقي في النار، ولعل المراد، بأن ارتد بسب الله ورسوله، ونحو ذلك، بخلاف ما تقبل فيه التوبة، إذ يمكنه دفعها بالتوبة، وكأن يشهد عليه أربعة فأكثر بزنا محصن، ونحو ذلك مما يوجب القتل، فيقتل بشهادتين.
(5) أي برجوع شهود ما يوجب قتله، من زنا أو ردة، أو قتل عمد أو
يقول الحاكم: علمت كذبهما، وعمدت قتله، أو يقول ذلك الولي، فكل ذلك عمد محض، موجب للقصاص، إذا كملت شروطه، وهو مذهب الشافعي، لقول علي لرجلين شهدا على رجل أنه سرق، فقطعه، ثم رجعا، فقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وغرمهما دية يده، وعمدنا بفتح الميم كقصدنا.(7/173)
(ونحو ذلك) (1) لأنهم توصلوا إلى قتله بما يقتل غالبا (2) ويختص بالقصاص مباشر للقتل، عالم بأنه ظلم (3) ثم ولي عالم بذلك (4) فبينه وحاكم علموا ذلك (5) .
__________
(1) أي مما يوجب القتل، فقتل بذلك، ثم ندم ورجع، واعترف بتعمد ما يوجب القتل، فعليه القصاص.
(2) أي لأن من تقدم ذكرهم، توصلوا إلى قتل ذلك الشخص، بما يقتل غالبا فوجب القصاص، عند جمهور العلماء.
(3) وتعمد القتل ظلما، فاختص لمباشرته القتل عمدا ظلما بلا إكراه، واختار الشيخ: أن الدال على المقتول ليقتل ظلما، يلزمه القود إن تعمد وعلم الحال، ولعل المراد إذا تعذر تضمين المباشر، وإلا فهو الأصل، وإن لم يتعمد الدال فعليه الدية، واختار أن الآمر بالقتل بغير حق، لا يرث من المقتول شيئا، لأن له تسببا في القتل.
(4) أي ثم يختص بالقصاص، ولي عالم بأن قتله ظلم، لأنه باشر القتل عمدا عدوانا، وإن وكل فباشر وكيله عالما، فعليه القصاص، وإلا فعلى الوالي.
(5) أي فتختص بينة شهدت بقتله، واعترفت بأنه ظلم، وحاكم علم كذبهما وحكم بقتله، لتسبب الجميع في القتل ظلما، حيث علموا ذلك، ونص ابن عقيل في مناظرته، أن الحاكم لا قصاص عليه.(7/174)
(وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالبا، ولم يجرحه بها (1) كمن ضربه في غير مقتل، بسوط أو عصى صغيرة) ونحوها (2) (أو لكزه ونحوه) بيده (3) أو ألقاه في ماء قليل (4) أو صاح بعاقل اغتفله (5) أو بصغير على سطح فمات (6) .
__________
(1) أي والضرب الثاني: شبه العمد، ويسمى خطأ العمد، وعمد الخطأ وذلك أن يقصد جناية إما لقصد العدوان عليه، أو قصد التأديب له، فيسرف فيه بما لا يقتل غالبا، ولم يجرحه بها فيقتله، قصد قتله أو لم يقصده، سمي بذلك لأنه قصد الفعل، وأخطأ في القتل، قال ابن رشد: من قصد ضرب رجل بعينه بآلة لا تقتل غالبا، كان حكمه مترددا بين العمد والخطأ فشبهه للعمد من جهة قصد ضربه، وشبهه للخطأ من جهة ضربه بما لا يقصد به القتل.
(2) كحجر صغير، إلا أن يصغر جدا، كقلم وإصبع، في غير مقتل، أو يمسه بالكبير بلا ضرب، فلا قصاص ولا دية.
(3) أي أو لكز شخصا بيده، في غير مقتل، أو لكمه في غير مقتل فمات.
(4) فمات أو سحره بما لا يقتل غالبا فمات، وكذا سائر ما لا يقتل غالبا.
(5) فمات، وإن لم يغتفله فلا شيء عليه.
(6) أو ذهب عقله، أو صاح بمعتوه فمات، فشبه عمد، تجب في كل من تلك الأمثلة ونحوها الكفارة، في مال الجاني، للآية والدية على عاقلته للآية أيضا، وخبر الهذليتين المتفق عليه، وهو مذهب جماهير أهل العلم، ولأبي داود وغيره: عقل شبه العمد مغلظ، مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه.(7/175)
(و) قتل (الخطأ: أن يفعل ما له فعله (1) مثل أن يرمي ما يظنه صيدا أو) يري (غرضا (2) أو) يرمي (شخصا) مباح الدم، كحربي، وزان محصن (فيصيب آدميا) معصوما (لم يقصده) بالقتل فيقتله (3) وكذا لو أراد قطع لحم أو غيره مما له فعله، فسقطت منه السكين على إنسان فقتله (4) .
(و) كذا (عمد الصبي والمجنون) لأنه لا قصد لهما، فهما كالمكلف المخطئ (5) .
__________
(1) أي والضرب الثالث: قتل الخطأ؛ وهو نوعان، أحدهما: أن يفعل ماله فعله، فيؤول إلى إتلاف إنسان معصوم.
(2) فيقتل إنسان معصوم الدم، فعليه الكفارة، والدفع على العاقلة، قال الموفق: بغير خلاف نعلمه، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره، لا أعلمهم يختلفون فيه؛ وقال صلى الله عليه وسلم «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان» .
(3) وفي الإقناع: أو شخصا، ولو معصوما أو بهيمة، ولو محترمة، فيصيب آدميا معصوما، لم يقصده بالفعل، فهو خطأ وقدمه الموفق وغيره، وهو مفهوم المنتهى، كما هو مفهوم قوله: أن يفعل ماله فعله، وقوله: أن يرمى شخصا مباح الدم، فإنه إذا فعل ما ليس له فعله، أو غير معصوم الدم كأن رمي شخصا معصوما أو بهيمة محترمة، فعمد نص عليه، وما مشي عليه الموفق والمجد أظهر، لأنه لم يقصده بالفعل، والله أعلم.
(4) فعليه الكفارة، وعلى عاقتله الدية، لما تقدم.
(5) في الحكم بخلاف السكران، اختيارا على القول به وتقدم واتفقوا
على أن القاتل الذي يقاد منه يشترط فيه باتفاق أن يكون عاقلا بالغا، مختارا للقتل فخرج ما تقدم، وفي الإنصاف: أما الصبي والمجنون، فلا قصاص عليهما، بلا نزاع، وأما إن قتله وهو عاقل ثم جن، لم يسقط عنه، سواء ثبت ذلك ببينة أو إقرار، ويقتص منه في حال جنونه.(7/176)
فالكفارة في ذلك في مال القاتل، والدية على عاقلته، كما يأتي (1) ويصدق إن قال: كنت يوم قتلته صغيرا أو مجنونا وأمكن (2) ومن قتل بصف كفار من ظنه حربيا فبان مسلما (3) أو رمى كفارا تترسوا بمسلم، وخيف علينا إن لم نرمهم ولم يقصده فقتله، فعليه الكفارة فقط لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ولم يذكر الدية (4) .
__________
(1) في باب الديات قريبا، موضحا، إن شاء الله تعالى، والفرق بين هذين: أن الدية مغلظة في شبه العمد، مخففة في الخطأ والفاعل آثم في شبه العمد، غير آثم في الخطأ، فافترقا لذلك، وإن كانا اشتركا في وجوب الكفارة، في مال الجاني، ووجوب الدية على العاقلة.
(2) وذلك بأن احتمل أن يكون القتل حال صغره، أو عهد له حال جنون.
(3) وجبت الكفارة فقط، للآية.
(4) وترك ذكرها في هذا القسم، مع ذكرها في الذي قبله، والذي بعده، ظاهر في أنها غير واجبة، وهذا ظاهر المذهب، وعنه: تجب، وهو قول مالك
والشافعي لقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} ولأنه قتل مسلما خطأ فوجبت ديته.
قال الشيخ: هذا في المسلم الذي هو بين الكفار معذور، كالأسير والمسلم، الذي لا تمكنه الهجرة، والخروج من صفهم، فأما الذي يقف في صف قتالهم باختياره، فلا يضمن بحال، لأنه الذي عرض نفسه للتلف بلا عذر.(7/177)
............................................................(7/178)
فصل (1)
(تقتل الجماعة) أي الاثنان فأكثر (بـ) الشخص (الواحد) إن صلح فعل كل واحد لقتله (2) .
__________
(1) أي في حكم القصاص من المشتركين في القتل، ومن المنفرد به، أو المتسبب أو الممسك لغيره، وغير ذلك، وحكمة القصاص زجر النفوس عن العدوان، وشفاء غيظ المجني عليه، وحفظ النفوس والأطراف وطهرة للمقتول، وعدل بين القاتل والمقتول، وحياة للنوع الإنساني.
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} أي ولكم في هذا الجنس من الحكم، الذي هو القصاص، حياة عظيمة. لمنعه عما كانوا عليه، من قتل جماعة بواحد متى اقتدروا، أو نوع من الحياة، وهو الحاصل للمقتول والقاتل بالارتداع عن القتل، للعلم بالاقتصاص، فإن الإنسان إذا هم بالقتل، تذكر الاقتصاص فارتدع، فسلم صاحبه من القتل وهو من القود، فيسبب لحياة نفسين، ومن المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين، لا تتم إلا بمؤلم يردعهم، ويجعل الجاني نكالا، وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله، فلولا القصاص لفسد العالم، وأهلك الناس بعضهم بعضا، ابتداء واستيفاء.
وقالت العرب: في جاهليتها القتل أنفى للقتل، وبسفك الدماء تحقن الدماء، والمقصود الزجر والنكال، والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحا، وأن يذكر ذلك بعقوبة الآخر إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.
(2) وعبارة الموفق: إذا كان فعل كل واحد منهم، لو انفرد أوجب القصاص
عليه واشتراط الفقهاء المباشرة للقتل من الجميع، وأن يكون فعل كل واحد يصلح للقتل، حملا منهم قول عمر الآتي على التعاون فقط، لا على التشاور، وقال غير واحد وإن تفاضلت الجراحات، حيث كان لها دخل في الزهوق، وفي الفروع: ظاهر كلامهم أن المريض الذي لا يرجى برؤه، كصحيح في الجناية منه وعليه، واعتبار كلامه، إلا أن يختل عقله، فلا اعتبار لكلامه كصحيح.(7/179)
لإجماع الصحابة (1) وروى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به جميعًا (2) .
__________
(1) حكاه الموفق وغيره، وذلك أنه ثبت عن جماعة منهم، ولم يعلم لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعا، وقال ابن القيم: اتفق الصحابة وعامة الفقهاء، على قتل الجميع بالواحد، وإن كان أصل القصاص يمنع ذلك، لئلا يكون عدم القصاص، ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء.
(2) وروي عن علي أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلا، وعن المغيرة أنه قتل سبعة بواحد، وعن ابن عباس أنه قتل جماعة بواحد، ولم يعلم لهم مخالف، وهو مذهب مالك والشافعي، وأصحاب الرأي، وقال مالك والشافعي وأحمد: تقطع الأيدي باليد، ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد، فوجبت للواحد على الجماعة، ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك أدى إلى التسارع إلى القتل به، فيؤدي إلى إسقاط حكم الردع والزجر.
قال ابن رشد: فإن مفهومه أن القتل إنما شرع لنفي القتل، كما نبه عليه القرآن فلو لم تقتل الجماعة بالواحد، لتذرع الناس إلى القتل، بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة، ولأن التشفي والزجر لا يحصل إلا بقتل الكل.(7/180)
وإن لم يصلح فعل كل واحد للقتل فلا قصاص (1) ما لم يتواطؤوا عليه (2) .
(وإن سقط القود) بالعفو عن القاتلين (أدوا دية واحدة) (3) لأن القتل واحد فلا يلزم به أكثر من دية كما لو قتلوه خطأ (4) وإن جرح واحد جرحا وآخر مائة فهما سواء (5) .
__________
(1) أي وإن لم يصلح فعل كل واحد من الجماعة للقتل، كما لو ضربه كل واحد منهم بحجر صغير، فمات بمجموع الضربات فلا قصاص عليهم، لأنه لم يحصل من أحدهم ما يوجب القود.
(2) أي على ذلك الفعل ليقتلوه به، كأن قالوا: نقتله بما لا يقتل غالبا، فإن قصدوا إسقاط القصاص، فضرب كل واحد منهم بما لا يقتل غالبا، فمات بمجموع تلك الضربات، فعليهم القصاص، لما تقدم من قول عمر وغيره، وجزم به البغوي وغيره، لئلا يتخذ ذريعة إلى درء القصاص، وتفويت حكمة الردع والزجر عن القتل، وإن لم يصلح فعل أحدهم، كأن يضربه بعضهم بعصا ونحوها، مما لا يقتل غالبا، وبعضهم بما يقتل، فالقصاص على الثاني دون الأول.
(3) وإن بذلوا أكثر.
(4) فإنه لا يجب إلا دية واحدة، بلا نزاع.
(5) في القصاص أو الدية، وفي الإنصاف: بلا نزاع لصلاحية كل واحد منهما للقتل لو انفرد، وزهوق نفسه حصل بفعل كل منهما، والزهوق، لا يتبعض ليقسم على الفعل، وكذا لو أوضحه أحدهما، وشجه الآخر أو أمه، أو جرحه أحدهما وأجافه الآخر، فمات فهما سواء في القصاص أو الدية.(7/181)
وإن قطع واحد حشوته، أو ودجيه ثم ذبحه آخر فالقاتل الأول ويعزر الثاني (1) (ومن أكره مكلفا على قتل) معين (مكافئه (2) فقتله فالقتل) أي القود إن لم يعف وليه (3) (أو الدية) إن عفا (عليهما) أي على القاتل ومن أكره (4) لأن القاتل قصد استبقاء نفسه بقتل غيره، والمكره تسبب إلى القتل بما يفضي إليه غالبا (5) .
__________
(1) لأنه حينئذ في حكم المقتول بقطع حشوته، أي أمعائه وإبانتها بما لا يعيش معه، كما اعتبره الخرقي، أو ودجيه، أي العرقين في العنق، ويعزر الثاني، يعني الذابح له، لأنه كجان على ميت، ولا يضمنه ولو كان عبدا، فالتصرف فيه كميت، وإن شق الأول بطنه، أو قطع يده، ثم ضرب الثاني عنقه، فالثاني هو القاتل، لأنه المفوت النفس، فعليه القصاص في النفس، أو الدية إن عفي عنه، لأنه لم يخرج بجرح الأول من حكم الحياة، وعلى الأول ضمان ما أتلف بالقصاص، أو الدية، وفي الإنصاف، لو خرق حشوته ولم يبنها، ثم ضرب آخر عنقه فصوب أنهما قاتلان.
(2) في الدين، والحرية والرق.
(3) على المكره والمكره، هذا المذهب، جزم به وقدمه غير واحد، لأن المكره تسبب إلى قتله، والمكره قتله ظلما.
(4) كالشريكين، ولا يقال المكره ملجأ، لأنه يتمكن من الامتناع ولهذا يأثم قال الشيخ: عليهما جميعا عند أكثر العلماء كأحمد ومالك، والشافعي في أحد قوله.
(5) فوجب عليه القصاص، كما لو أنهشه حية، وأما المأمور فقاتل، كما لو لم يؤمر، وإن كان غير معين، كأحد هذين فليس إكراها، فإن قتل أحدهما قتل به.(7/182)
وقول قادر: اقتل نفسك وإلا قتلتك إكراه (1) (وإن أمر) مكلف (بالقتل غير مكلف) كصغير أو مجنون، فالقصاص على الآمر (2) لأن المأمور آلة له لا يمكن إيجاب القصاص عليه، فوجب على المتسبب به (3) (أو) أمر مكلف بالقتل (مكلفا يجهل تحريمه) أي تحريم القتل، كمن نشأ بغير بلاد الإسلام (4) ولو عبدا للآمر فالقصاص على الآمر لما تقدم (5) (أو أمر به) أي بالقتل (السلطان ظلما، من لا يعرف ظلمه فيه) أي في القتل، بأن لم يعرف المأمور أن المقتول لم يستحق القتل (فقتل) المأمور (فالقود) إن لم يعف مسحقه (6) .
__________
(1) أي على القتل فيقتل به، أو قتل نفسه، كما لو أكره عليه غيره فيقتل به.
(2) هذا المذهب وعليه الأصحاب.
(3) ولأن حكمة القصاص الزجر والردع، ولا يحصل ذلك لهما، لعدم التصور.
(4) فقتل، لزم الآمر القصاص، لاعتقاد المأمور إباحة القتل، وذلك شبهة تمنع القصاص، كما لو اعتقده صيدا، فرماه فقتل إنسانا، ولأن القاتل هنا كالآلة، كما تقدم.
(5) أي لو كان المأمور عبدا للآمر يجهل التحريم، فالقصاص على الآمر، لما تقدم من قوله لأن المأمور آلة لا يمكن إيجاب القصاص عليه، فوجب على المتسبب.
(6) على الآمر بالقتل دون المباشر، لعذر المأمور، لوجوب طاعة الإمام في غير المعصية.(7/183)
(أو الدية) إن عفا عنه (على الآمر) بالقتل دون المباشر (1) لأنه معذور، لوجوب طاعة الإمام في غير المعصية (2) والظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بالحق (3) .
(وإن قتل المأمور) من السلطان أو غيره (المكلف) حال كونه (عالما تحريم القتل فالضمان عليه) بالقود أو الدية (4) .
__________
(1) ظاهره: سواء علم المأمور تحريم القتل من حيث هو أم لا، حيث لم يعلم أن القتل بغير حق، كما في الإقناع.
(2) لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» «وقوله إلا أن يأمر بمعصية» .
(3) وظاهر المنتهى: أن المأمور إذا علم التحريم فعليه القصاص، سواء كان الآمر سلطانا أو غيره، وقال بعضهم: معنى علم التحريم مختلف، ففي مسألة غير السلطان، علمه بالتحريم أن يعلم أن القتل من حيث هو محرم، وفي مسألة السلطان أن يعلم أن قتل ذلك الشخص، الذي أمر بقتله، محرم، بغير حق، ويدل عليه ما عبروا به.
وقال الشيخ: هذا بناء على جوب طاعة السلطان، وفيه نظر، بل لا يطاع حتى يعلم جواز قتله، وحينئذ فتكون الطاعة له معصية، لا سيما إذا كان معروفا بالظلم، فهنا الجهل بالحرمة، كالعلم بالحرمة، وقياس المذهب، أنه إن كان المأمور ممن يطيعه غالبا في ذلك، أنه يجب القتل عليهما، وهو أولى من الحاكم والشهود فإنه سبب يقتضى غالبا، بل هو أقوى من المكره.
(4) وكذا قال مالك والشافعي وجماعة: القتل على المباشر دون الآمر، ويعاقب الآمر، وذلك ما لم يكن هناك إكراه، ولا سلطان للآمر مع المأمور
ففيه خلاف، فقال الموفق وغيره: إن أمر كبيرا عاقلا عالما بتحريم القتل، فقتل فالقصاص على القاتل، لا نعلم فيه خلافا، وإن أمر السلطان عالما بتحريم القتل، فالضمان عليه بالقود، أو الدية عند الجمهور.(7/184)
لمباشرته القتل مع عدم العذر، لقوله عليه الصلاة والسلام «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (1) .
(دون الآمر) بالقتل فلا ضمان عليه (2) لكن يؤدب بما يراه الإمام من ضرب أو حبس (3) ومن دفع إلى غير مكلف آلة قتل ولم يأمره به فقتل، لم يلزم الدافع شيء (4) .
__________
(1) فإذا قتل من أمره السلطان بقتله، مع علمه بتحريم قتله، فقد أطاع السلطان، وعصى الله عز وجل، بقتل مسلم، وعد الله على قتله بالنار، وغضبه ولعنته، نعوذ بالله من موجبات غضبه.
(2) لعدم مباشرته القتل، ولأن غير السلطان لو أمره بذلك، كان القصاص على المباشر، علم أو لم يعلم، فالسلطان أولى بعدم الضمان، وتقدم كلام الشيخ رحمه الله.
(3) لارتكابه معصية، ولينكف عن العود.
(4) لأنه ليس بآمر، ولا مباشر، وإن دل فقال الشيخ: يلزم الدال القود، إن تعمد، وإلا الدية، وأن الآمر لا يرث، ويقال: الفرق بين دفع آلة القتل، وآلة الصيد، أن آلة الصيد لا ينتفع بها في غيره غالبا، فالدفع كالتصريح بالأمر بالصيد بخلاف آلة القتل، فإنه قد ينتفع بها في غيره عادة، لقطع شجر، أو ذبح شاة، فلم يكن الدفع كالتصريح بالأمر، فافترقا، من أجل ذلك، ومن أمسك إنسانا لآخر حتى قتله، قتل قاتل وحبس ممسك، حتى يموت، وشرط الموفق أن يعلم أنه يقتله، لأنه فعل به فعلا أوجب الموت، كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات.(7/185)
(وإن اشترك فيه) أي في القتل (اثنان لا يجب القود على أحدهما) لو كان (منفردا لأبوة) للمقتول (أو غيرها) (1) من إسلام أو حرية (2) كما لو اشترك أب وأجنبي في قتل ولده، أو حر ورقيق في قتل رقيق، أو مسلم، وكافر في قتل كافر (فالقود على الشريك) للأب في قتل ولده (3) وعلى شريك الحر والمسلم، لأنه شارك في القتل العمد العدوان، وإنما امتنع القصاص عن الأب والحر والمسلم لمعنى يختص بهم، لا لقصور في السبب (4) .
__________
(1) مما فصله وغيره، وبيان ما أجمله الماتن.
(2) أو خاطئ وعامد، أو مكلف وغير مكلف، أو ولي قصاص، وأجنبي، أو مكلف وسبع، أو مكلف ومقتول اشتركا في قتل نفسه، وغير ذلك مما لا يجب القود على أحدهما.
(3) لمشاركته في القتل العمد العدوان، فيمن يقتل به لو انفرد، فوجب عليه القصاص، وهو مذهب مالك والشافعي.
(4) الموجب فلم يمنع عمله في المحل الذي لا مانع فيه، فأما امتناعه عن الأب، فلما خصه الله به، وعن المسلم لإسلامه، وعن الحر لحريته وانتفاء مكافأة المقتول له، وهذا المعنى لا يتعدى إلى فعل شريكه، فلم يسقط القصاص عنه.(7/186)
بخلاف ما لو اشترك خاطئ وعامد (1) أو مكلف وغيره (2) أو ولي قصاص وأجنبي (3) أو مكلف وسبع (4) أو مقتول في قتل نفسه فلا قصاص (5) .
(فإن عدل) ولي القصاص (إلى طلب المال) من شريك الأب ونحوه (لزمه نصف الدية) كالشريك في إتلاف مال (6) وعلى شريك قن نصف قيمة المقتول (7) .
__________
(1) أي اشتركا في قتل أو قطع فلا قصاص، قال الموفق: في قول أكثر أهل العلم، لأنه لم يتمحض عمدا، فلم يجب به القصاص.
(2) أي غير مكلف في قتل أو قطع، فلا قصاص، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي.
(3) لا حق في القصاص، شارك في قتل من وجب عليه القود، فلا قصاص.
(4) كأن يجرحه أسد أو نمر فلا قصاص، لأنه شارك من لا قصاص عليه، فلم يلزمه القصاص، كشريك الخاطئ.
(5) كأن جرحه إنسان، ثم جرح هو نفسه عمدا، فلا قصاص فيما تقدم، من قوله: «بخلاف ما لو اشترك خاطئ» إلى آخره، قال أبو حنيفة: لأنها شبهة، والقتل لا يتبعض، وقال مالك والشافعي، على العامد القصاص، وعلى المخطئ والصبي ونحوهما نصف الدية، لكن قال ابن رشد: فيه ضعف في القياس.
(6) أي كما يلزم الشريك في إتلاف المال قسط ما أتلفه، وعلى شريك الذمي، وشريك الخاطئ، وشريك السبع نصف الدية.
(7) إذا كان قنا، لأنه شارك في إتلافه، فكان عليه قسطه، فعلى كل من الحر والقن نصف دية القن.(7/187)
باب
شروط وجوب القصاص (1)
(وهي أربعة) (2) أحدها (عصمة المقتول) بأن لا يكون مهدر الدم (3) (فلو قتل مسلم) حربيا أو نحوه (4) (أو) قتل (ذمي) أو غيره (حربيا أو مرتدا) (5) أو زانيا محصنا، ولو قبل ثبوته عند حاكم (لم يضمنه بقصاص ولا دية) (6) .
__________
(1) أي القود، فإذا فقد شرط من شروطه سقط.
(2) بالاستقراء، وعدها في الإقناع خمسة، فذكر الأربعة الآتية، وزاد: أن تكون الجناية عمدا، يعني محضا، بخلاف شبه العمد والخطأ فلا قصاص فيهما إجماعا.
(3) ولو كان مستحقا دمه بقتل لغير قاتله، لأنه لا سبب فيه يبيح دمه لغير مستحقه، والقصاص إنما شرع حفظا للدماء المعصومة، ومهدر الدم غير معصوم.
(4) ممن يباح قتله، كمرتد قبل توبته، إن قبلت ظاهرا، قال الموفق لا يجب القصاص بقتل حربي، لا نعلم فيه خلافا، ولا يجب بقتله دية، ولا كفارة لأنه مباح الدم على الإطلاق، أشبه الخنزير، ولأن الله أمر بقتله فقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} .
(5) لا يجب بقتله قصاص، ولا دية، ولا كفارة، لأن من لا يضمنه المسلم لا يضمنه الذمي.
(6) لأنه مباح الدم متحتم قتله، والقتل صادف محله.(7/188)
ولو أنه مثله (1) الشرط (الثاني التكليف) بأن يكون القاتل بالغا عاقلا (2) لأن القصاص عقوبة مغلظة (فلا) يجب (قصاص على صغير و) لا (مجنون) أو معتوه (3) لأنه ليس لهم قصد صحيح (4) الشرط (الثالث المكافأة) بين المقتول وقاتله (5) حال جنايته (6) .
__________
(1) كأن يقتل زان محصن مثله زانيا محصنا أو مرتد مرتدا، أو حربي حربيا، لكن يعزر فاعل ذلك، لافتياته على الإمام.
(2) قاصدا للقتل، كما تقدم.
(3) كالحدود، لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق» وقال الموفق: لا خلاف بين أهل العلم، في أنه لا قصاص على صبي، ولا مجنون وكذلك كل زائل العقل، بسبب يعذر فيه، كالنائم والمغمى عليه، ونحوهما.
(4) فهم كالقاتل خطأ، لا قود عليه، قال الشيخ: لا قصاص بين الصبيان والمجانين، وكل من زال عقله بسبب يعذر فيه، إلا السكران، ففيه روايتان: وليس في ذلك إلا الدية اهـ، والمذهب عند الشافعية وغيرهم: وجوب القصاص، لتعديه بفعل ما يحرم عليه، كما يوقع عليه الطلاق وغيره من المؤاخذات، ولأنه لو لم يوجب عليه القصاص بذلك، لأدى إلى التمادي في ذلك، فإن من رام قتل شخص لا يعجز أن يسكر، حتى لا يقتص منه.
(5) لأن المجني عليه إذا لم يكافئ الجاني، كان أخذه به أخذا لأكثر من الحق.
(6) لأنه وقت انعقاد السبب، والمكافأة من أول الفعل إلى الزهوق فلو
أسلم بعد جنايته، أو عتق قتل به، لأن القصاص قد وجب، فلا يسقط بما طرأ كما لو جن، فالعصمة حال الزهوق والجناية عليه معتبرة حال الجناية للقود، غير معتبرة له، ولا للدية من باب أولى حال الزهوق، وكل جرح وجد أوله غير مضمون، لا ينقلب مضمونا بتغير الحال في الانتهاء، وما ضمن فيهما يعتبر قدر الضمان فيه بالانتهاء، وكل جرح وقع مضمونا، لا ينقلب غير مضمون.(7/189)
(بأن يساويه) القاتل (في الدين، والحرية، والرق) يعني بأن لا يفضل القاتل المقتول بإسلام، أو حرية أو ملك (1) (فلا يقتل مسلم) حر أو عبد (بكافر) كتابي أو مجوسي، ذمي أو معاهد (2) لقوله عليه الصلاة والسلام «ولا يقتل مسلم بكافر» رواه البخاري وأبو داود (3)
__________
(1) بأن يكون القاتل مالكا للمقتول.
(2) وهو قول مالك والشافعي: أنه لا يقتل المسلم بذمي، أو معاهد، وقال الموفق: هو قول أكثر أهل العلم.
(3) وظاهره: أي كفر كان، وهو مذهب جمهور العلماء قال أحمد فيمن قال يقتل به، أي شيء أشد من هذا؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يقتل مسلم بكافر» وهو يقول: يقتل بكافر، وقال ابن القيم: قياس الكافر الذمي والمعاهد على المسلم في قتله به، بعيد، وقياسه على الحربي أشبه قطعا، لأن الله سوى بين الكفار في جهنم، وفي قطع الموالاة، وغير ذلك.
وفي الاختيارات: لا يقتل مسلم بذمي، إلا أن يقتله غيلة، لأخذ ماله، وهو مذهب مالك اهـ فيشترط أن يكون مكافئا له، في الإسلام، والحرية، والرق ولو مجدع الأطراف، معدوم الحواس، والقاتل صحيح سوي الخلق، كعكسه وكذا لو تفاوتا في العلم والشرف، والغنى والفقر، والصحة والمرض، ونحوها(7/190)
(ولا) يقتل (حر بعبد) (1) لحديث أحمد عن علي «من السنة أن لا يقتل حر بعبد» (2) وروى الدارقطني عن ابن عباس يرفعه «لا يقتل حر بعبد» (3) وكذا لا يقتل حر بمبعض (4) ولا مكاتب بقنه، لأنه مالك لرقبته (5) .
__________
(1) وحكى إجماعا: أنه لا يقتل السيد بعبده، إلا ما روي عن النخعي، وقال الوزير: اتفقوا على أن السيد إذا قتل عبد نفسه، فإنه لا يقتل به، ولو كان متعمدا، وقال مالك والشافعي، وأحمد: ولا يقتل بعبد غيره، وحكي أنه ليس بين العبد والحر قصاص، لا في النفس، ولا فيما دون النفس، وهو مذهب جمهور العلماء.
(2) ورواه البيهقي وغيره، ولأحمد أيضا: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن أبا بكر وعمر، كانا لا يقتلان الحر بالعبد.
(3) ورواه البيهقي، وأخرج هو وابن عدي عن عمر مرفوعا «لا يقاد مالك بمملوك» وفيهما ضعف، وإن كان فيهما مقال، فهو قول جمهور العلماء، استنادا لأصول شرعية، وتأولوا ما روي عن الحسن عن سمرة، «من قتل عبده قتلناه» بالأحاديث القاضية بأنه لا يقتل حر بعبد فإنها قد رويت من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا، وبمفهوم قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ، وبالإجماع على أنه لا يقتص من الحر بأطراف العبد، فكذا النفس، ولأنه إنما تجب فيه قيمته لو قتل خطأ، وهو منقوص بالرق، فلا يقتل به، وللبيهقي، وإن قتله عمدا وعليه العقل.
(4) ولا يقتل مبعض بأقل منه حرية، لأن القاتل فضل المقتول بالحرية على المبعض المنقوص بما فيه من الرق.
(5) ففضله بالملك، أشبه الحر، ويقتل مكاتب بقن غيره.(7/191)
(وعكسه) بأن قتل كافر مسلما (1) أو قن أو مبعض حرا (يقتل) القاتل (2) ويقتل القن بالقن، وإن اختلفت قيمتهما (3) كما يؤخذ الجميل بالذميم، والشريف بضده (4) (ويقتل الذكر بالأنثى (5) والأنثى بالذكر) (6) والمكلف بغير المكلف، لعموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (7) .
__________
(1) فيقتل به إجماعًا.
(2) وحكي إجماعًا، وقال الوزير: اتفقوا على أنه يقتل العبد بالحر، والعبد بالعبد، وأنه يجري القصاص بين العبيد، بعضهم على بعض، إلا ما يروى عن أبي حنيفة، وقال ابن المنذر: إلا ما روي عن علي والحسن، وهو شاذ، لعموم {النفس بالنفس} .
(3) لعموم قوله تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} .
(4) وهو الوضيع، وكذا العالم بالجاهل، فلا أثر لتفاوت الصفات، ولا الفضائل إجماعا، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية، من المفاضلة، وعدم المساواة.
(5) وهو قول عامة أهل العلم، حكاه الموفق وغيره.
(6) بلا نزاع، لأنها دونه، ويقتل كل واحد منهما بالخنثى، ويقتل الخنثى بكل واحد منهما، لعموم الآية.
(7) وقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} مع عموم سائر النصوص، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يهوديا رض رأس جارية من الأنصار، وفي السنن من حديث عمرو بن حزم أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن «أن الرجل يقتل بالمرأة، ولأنهما شخصان، يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه» ، فقتل كل واحد منهما بالآخر، كالرجلين، ولا يجب مع القصاص شيء، بدليل أن الجماعة يقتلون بالواحد، والمكلف وغيره سواء، كالإرث وغيره.(7/192)
الشرط (الرابع عدم الولادة) بأن لا يكون المقتول ولدا للقاتل (1) وإن سفل، ولا لبنته وإن سفلت (2) (فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل) (3) لقوله عليه الصلاة والسلام «لا يقتل والد بولده» قال ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم (4) (ويقتل الولد بكل منهما) أي من الأبوين وإن علوا (5) .
__________
(1) عند جماهير العلماء.
(2) هذا المذهب، وعليه الأكثر.
(3) فلا يقتل الجد بولد ولده، لأنه والد، فيدخل في عموم النص، ولا جدة بولد ابنتها، لما تقدم في الجد، وقال الشيخ: وأما دخول الجد والجدة تحت النص، فالسنة إنما جاءت لا يقتل والد بولده، فإلحاق الجد بذلك وأبي الأم بعيد.
(4) يستغنى بشهرته، وقبوله، والعمل به، عن الإسناد فيه، ولقوله صلى الله عليه وسلم «أنت ومالك لأبيك» ، ولأنه سبب إيجاده، فلا ينبغي أن يتسلط بسببه على إعدامه، وبهذا ونحوه تخص العمومات، والصحيح من المذهب، أن الأم في ذلك كالأب، لأنها أحد الأبوين، فأشبهت الأب، ولأنها أولى بالبر، فكانت أولى بنفي القصاص عنها.
(5) قال الموفق: هذا قول جماعة أهل العلم، منهم مالك الشافعي، وأصحاب الرأي، وقال الوزير: اتفقوا على أن الابن إذا قتل أحد أبويه، قتل به، وهذا مع المكافأة بالإجماع، وبقية المحارم من باب الأولى.(7/193)
لعموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (1) وخص منه ما تقدم بالنص (2) ومتى ورث قاتل أو ولده بعض دمه فلا قود (3) فلو قتل أخا زوجته فورثته، ثم ماتت فورثها القاتل أو ولده فلا قصاص، لأنه لا يتبعض (4) .
__________
(1) فدل عموم الآية، وغيرها من الآيات والأحاديث: على قتل الابن بأحد أبويه.
(2) أي خص من عموم الآية، قتل الأب والأم بالنص، قال الشيخ: وهو ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا يقتل الوالد بالولد» اهـ ولموافقة القياس، وقياسه على الأب ممتنع لتأكد حرمته.
(3) هذا المنصوص، وعليه الأكثر.
(4) أشبه ما لو عفا أحد الشريكين، وكذا لو قتلت أخا زوجها، فصار القصاص أو جزء منه لابنها، سقط القصاص، ولو قتل أحد الزوجين صاحبه، ولهما ولد، لم يجب القصاص، لأنه لو وجب لوجب لولده، ولا يجب لولد قصاص على أبيه، كما تقدم، وسواء كان الولد ذكرا، أو أنثى، ولو كان له من يشاركه في الميراث، لأنه لو ثبت القصاص لثبت له جزء منه، وإن لم يكن له ولد منهما وجب القصاص، قال الموفق: في قول أكثر أهل العلم، لعموم النصوص.
وإن وجد من يفجر بأهله، فقال الشيخ: له قتله، وظاهر كلام أحمد: أنه لا فرق بين كونه محصنا، أو غير محصن، وقال الشافعي، له قتله فيما بينه وبين الله تعالى، إذا كان محصنا وللمالكية قولان في اعتبار إحصانه، وتقدم نحوه.(7/194)
باب استيفاء القصاص (1)
وهو فعل مجني عليه (2) أو فعل وليه بجان مثل فعله أو شبهه (3) (يشترط له) أي استيفاء القصاص (ثلاثة شروط (4) أحدها كون مستحقه مكلفا) أي بالغا عاقلا (5) .
__________
(1) وحكمته التشفي ودرك الغيظ، الذي لا يحصل إلا به، فقد يكون الجاني ذا مال، وله غرض في أذى المجني عليه، ويبقى بغبنه وغيظه، وحكمة الشريعة تأبى ذلك، فشرع القصاص زجرا عن العدوان، واستدراكا لما في النفوس، وإذاقة الجاني ما أذاقه المجني عليه، وتجريعه ما جرعه، هو شفاء غيظه وأوليائه وكان من الممكن أن يوجب الدية، استدراكا لظلامة المجني عليه بالمال، ولكن ما شرع أكمل وأصلح للعباد، وأشفى وأحفظ للنفوس، وفيه طهرة للمقتول، وحياة للنوع الإنساني، وعدل بين القاتل والمقتول.
وكانت العرب في جاهليتها، تعيب على من يأخذ الدية، ويرضى بها من درك ثأره، والجناية على النفوس، تدخل من الغيظ ما لا تدخله الجناية على المال، وتدخل من عدم احتمال الضيم والحمية على المجني عليه وأوليائه لأخذ الثأر، ما لا يجبره المال، حتى إن أعقابهم ليعيرون بأخذ المال.
(2) إن كانت الجناية على ما دون النفس، بجان عامد، مثل ما فعل الجاني.
(3) أي واستيفاء القصاص أيضا: فعل ولي مجني عليه بجان عامد، إن كانت على النفس، كفعل الجاني، أو شبه فعل الجاني.
(4) تعلم بالاستقراء.
(5) وهذا مذهب الشافعي.(7/195)
(فإن كان) مستحق القصاص أو بعض مستحقه (صبيا أو مجنونا لم يستوفه) لهما أب، ولا وصي، ولا حاكم (1) لأن القصاص ثبت لما فيه من التشفي والانتقام، لا يحصل ذلك لمستحقه باستيفاء غيره (2) (وحبس الجاني) مع صغر مستحقه (إلى البلوغ (3) و) مع جنونه إلى (الإفاقة) (4) لأن معاوية حبس هدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل (5) وكان ذلك في عصر الصحابة فلم ينكر (6) .
__________
(1) لأن غير المكلف، ليس أهلا للاستيفاء لعدم تكليفه، إذ هو لا يصح إقراره ولا تصرفه.
(2) بخلاف الدية، فإن الغرض يحصل باستيفاء الأب، واتفقوا على أنه ليس للأب أن يستوفي القصاص لولده الكبير، وقال الشافعي وأحمد: وكذا الصغير، في النفس أو الطرف.
(3) أي بلوغ مستحق القصاص ولو أقام كفيلا بنفسه، ليخلي سبيله، لان الكفالة لا تصح في القصاص، لانه لا يمكن استيفاؤه من غير القاتل، وربما خلي سبيله فهرب فضاع الحق.
(4) أي إفاقة مستحق القصاص، وكذا قدوم غائب.
(5) أي لأن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، حبس هدبة بن خشرم، في قصاص إلى أن بلغ ابن القتيل.
(6) فكان إجماعا من الصحابة، الذين في عصر معاوية وبذل الحسن والحسين، وسعيد بن العاص، سبع ديات لابن القتيل، فلم يقبلها، ولم يجبر على قبولها، ولو جاز لأجبروه.(7/196)
وإن احتاجا لنفقة فلولي مجنون فقط العفو إلى الدية (1) الشرط (الثاني: اتفاق الأولياء المشتركين فيه) أي في القصاص (على استيفائه (2) وليس لبعضهم أن ينفرد به) (3) لأنه يكون مستوفيا لحق غيره بغير إذنه، ولا ولاية له عليه (4) (وإن كان من بقي) من الشركاء فيه (غائبًا أو صغيرًا، أو مجنونًا انتظر القدوم) للغائب (5) (والبلوغ) للصغير (والعقل) للمجنون (6) .
__________
(1) قال في الإنصاف: وهو المذهب، وذلك لأنه ليس له حالة معتادة، ينتظر فيها إفاقته، ورجوع عقله، بخلاف الصبي، قال بعض المتأخرين، ذكروا أن اللقيط المجني عليه أن لوليه العفو مع صغره، والفرق أنه ما دام مجهول النسب، ليس له من ينفق عليه، ولامال ينفق عليه منه فيحتاج إلى المال، فالعفو من الإمام فيه حظ، بخلاف الصغير، فإنه قد يكون له مال أو يتجد له، أو له من ينفق عليه، فالعفو إلى مال تصرف بما ليس له فيه حظ، وإن لم يحتاجا فليس له العفو على مال، قولا واحدا.
(2) وإلا فلا قصاص، حكاه الموفق وغيره، قولا واحدا، لأن الاستيفاء حق مشترك، لا يمكن تبعيضه، فلم يجز لأحد التصرف فيه، بغير إذن شريكه.
(3) أي بالاستيفاء دون البعض الآخر، قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(4) ولأنه لا تدخله النيابة، ولا يحصل التشفي للمستحق.
(5) قال الموفق: ولم يجز للحاضر الاستقلال بالاستيفاء، بغير خلاف علمناه.
(6) وليس للبالغ العاقل الاستيفاء، وهو ظاهر المذهب ومذهب الشافعي، وجزم به الخرقي وغيره، لأنه قصاص غير متحتم، ثبت لجماعة معينين فلم يجز لأحد استيفاؤه استقلالا، كما لو كان لحاضر وغائب، لتجويز العفو منه، وأما إذا كان ولي الدم صغيرا، انتظر بلوغه إجماعا.(7/197)
ومن مات قام وارثه مقامه (1) وإن انفرد به بعضهم عزر فقط (2) ولشريك في تركة جان حقه من الدية (3) ويرجع وارث جان على مقتص بما فوق حقه (4) وإن عفا بعضهم سقط
القود (5) .
__________
(1) لأنه حق يستحقه الوارث، من جهة مورثه، فأشبه المال.
(2) لافتياته على الانفراد، ولا قصاص عليه، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، لأنه قتل نفسا يستحق بعضها، فلم يجب قتله بها، لأن النفس لا تؤخذ ببعض نفس، ولأنه مشارك في استحقاق القتل، فلم يجب عليه قود، كالشريك في الجارية إذا وطئها.
(3) لأن حق الذي لم يقتص من القصاص سقط، بغير اخيتاره، فأشبه ما لو مات القاتل فوجب له قسطه من الدية.
(4) من الدية، والحاصل، أنه إذا انفرد بعض الورثة باستيفاء القصاص بلا إذن البقية، كان لمن لم يأذن من الورثة الرجوع، بقدر نصيبه من دية مورثه، كما في تركة الجاني الذي اقتص منه البعض بلا إذن، ثم لوارث الجاني الرجوع على المقتص، بما زاد على ما يستحقه، من دم الجاني، سواء كانت دية الجاني مثل دية المقتول، أولا، أو أقل، فلو كان الجاني أقل دية من قاتله، كامرأة قتلت رجلا له ابنان، فقتلها أحدهما بغير إذن الآخر، فلمن لم يأذن نصف دية أبيه، في تركة المرأة القاتلة، ويرجع ورثتها على من اقتص منها بنصف ديتها.
(5) أي وإن عفا بعض مستحقي القصاص، سقط القصاص، قال في الإنصاف وإن قتله الباقون عالمين بالعفو، وسقوط القصاص، فعليهم القود، وإلا فلا قود عليهم، وعليهم ديته بلا نزاع، انتهى، وتقدم الإجماع على جواز العفو وأنه أفضل والقصاص حق لجميع الورثة، من ذوي الأنساب والأسباب، والرجال والنساء، الكبار والصغار، ومن عفا منهم صح عفوه عند أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة والشافعي، لقوله «فأهله بين خيرتين» والزوجة من أهله، قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا عفا أحد الأولياء، من الرجال، سقط القصاص، وانتقل الأمر إلى الدية، وإن عفت امرأة فقال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد: يسقط القود، واختلفت الرواية عن مالك، والمشهور عنه أنه للعصبات خاصة، وهو رواية عن أحمد واختاره الشيخ.(7/198)
الشرط (الثالث: أن يؤمن في الاستيفاء أن يتعدى الجاني) إلى غيره (1) ، لقوله تعالى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (2) .
(فإذا وجب) القصاص (على) امرأة (حامل أو) امرأة (حائل فحملت، لم تقتل حتى تضع الولد، وتسقيه اللبأ) (3) لأن قتل الحامل يتعدى إلى الجنين (4) .
__________
(1) قال الموفق وغيره: لا نعلم فيه خلافا، وسواء كان القصاص في النفس، أو في الطرف.
(2) وإذا أفضى القتل إلى التعدي، ففيه إسراف، فدلت الآية على أن المستوفي للقصاص، إذا تعدى عن مماثلة فعل الجاني، فقد أسرف وحرم إذا كقتل الحامل.
(3) وذكره الموفق وغيره: إجماع أهل العلم، و «اللبأ» أول اللبن عند الولادة.
(4) فصار في القصاص منها قتلا لغير الجاني، وهو حرام إذ هو جناية على بريء.(7/199)
وقتلهما قبل أن تسقيه اللبأ يضره، لأنه في الغالب لا يعيش إلا به (1) (ثم) بعد سقيه اللبأ (إن وجد من يرضعه) أعطي الولد لمن يرضعه وقتلت (2) لأن غيرها يقوم مقامها في إرضاعه (3) (وإلا) يوجد من يرضعه (تركت حتى تفطمه) لحولين (4) لقوله عليه الصلاة والسلام «إذا قتلت المرأة عمدا، لم تقتل حتى تضع ما في بطنها، إن كانت حاملا، وحتى تكفل ولدها، وإذا زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها، إن كانت حاملا وحتى تكفل ولدها» رواه ابن ماجه (5) .
__________
(1) صرح به في الكافي، أو يتضرر لتركه ضررا كبيرا.
(2) لأن تأخير قتلها للخوف على ولدها، وقد زال بوجود مرضعة راتبة، أو مرضعات يتناوبنه، ولو غير رواتب، لأنه لا يخاف على الولد إذا، وكذا إن وجد لبن شاة ونحوها يسقى منه راتبا، لزوال الضرر، أو تخفيفه، ينبغي تأخير قتلها حينئذ إلى الفطام دفعا، لضرر الولد.
(3) فيقتص منها، إذا لاستغناء الولد بغيرها.
(4) وذكر غير واحد إجماع العلماء: أنها لا تقتل حتى تضع وتسقيه اللبأ، وترضعه مع عدم وجود من يرضعه، لعموم الآية وغيرها.
(5) ولقوله صلى الله عليه وسلم للغامدية المقرة بالزنا «ارجعي حتى تضعي ما في بطنك» ثم قال لها «ارجعي حتى ترضعيه» فدل الحديثان، ومفهوم الآية، والإجماع: على تأخير القصاص لذلك.(7/200)
(ولا يقتص منها) أي من الحامل (في طرف) كاليد والرجل (حتى تضع) وإن لم تسقيه اللبأ (1) (والحد) بالرجم إذا زنت المحصنة الحامل، أو الحائل وحملت (في ذلك كالقصاص) (2) فلا ترجم حتى تضع وتسقيه اللبأ، ويوجد من يرضعه (3) وإلا فحتى تفطمه (4) وتحد بجلد عند الوضع (5) .
__________
(1) صرح به في الفروع وغيره، وجزم به في المنتهى، وقال الموفق وغيره: حتى تسقيه اللبأ واستظهره في المبدع، وقال في الإقناع، فإذا وضعت الولد، وانقطع النفاس، وكانت قوية يؤمن تلفها، ولا يخاف على الولد الضرر من تأثر اللبن، أقيم عليها الحد من قطع الطرف والجلد، لعدم المانع، وإن تأثر لبنها بالجلد، ولم يوجد مرضع، أخر القصاص.
(2) للخبر، والقياس.
(3) لما تقدم، من أن تأخيره للخوف على ولدها.
(4) أي وإلا يوجد من يرضعه، أخر الرجم حتى تفطمه قال في المبدع: بلا خلاف دفعا لضرر الولد.
(5) تبع في ذلك المنتهى وغيره، وفي المغني، وتسقيه اللبأ وفي المستوعب وغيره: ويفرغ نفاسها، دفعا لضرر الولد.(7/201)
فصل (1)
(ولا) يجوز أن (يستوفى قصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه) (2) لافتقاره إلى اجتهاده خوف الحيف (3) (و) لا يستوفى إلا بـ (آلة ماضية) (4) وعلى الإمام تفقد الآلة، ليمنع الاستيفاء بآلة كالة، لأنه إسراف في القتل (5) وينظر في الولي، فإن كان يقدر على استيفائه، ويحسنه مكنه منه (6) .
__________
(1) أي في ذكر من يستوفى القصاص بحضرته، بيان حكم ما يستوفي به، موضع ما يستوفى فيه، من بدن الجاني.
(2) وحكي عن أبي بكر، وهو مذهب الشافعي، وعليه أكثر الأصحاب، وإذا كان القصاص في النفس، جاز اختاره الشيخ، ويستحب أن يحضر شاهدان.
(3) أي مع قصد التشفي، فلو خالف وفعل وقع الموقع، وللإمام أو نائبه تعزيره، قال الموفق وغيره: ويحتمل أن يجوز إذا كان في النفس، لما رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اذهب فاقتله» واشتراطه لم يثبت بنص، ولا إجماع.
(4) أي ويجب على المقتص أن يستوفي القصاص بآلة، كسيف وسكين ماضية، لحديث: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» ، وفيه «وليحد أحدكم شفرته» .
(5) ومنها ما هو ضرر وعذاب على المقتول، فلا يجوز الاستيفاء به، فإن كانت كالة أو مسمومة منعه من الاستيفاء بها، وإن عجل الولي واستوفى بها عزر، لفعله ما لا يجوز.
(6) وخيره بين مباشر الاستيفاء أو التوكيل لقوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} ، ولأمره عليه الصلاة والسلام بقتل رجل اعترف بقتله، وإن ادعى أنه يحسنه فضرب عنقه، فقد استوفى حقه، إن أصاب غير العنق، وأقر بتعمد ذلك عزر، ومنع إن أراد العود؛ وإن قال: أخطأت، والضربة قريبة من العنق قبل قوله، وإن بعدت بأن نزلت على المنكب، لم يمكن من العود.(7/202)
وإلا أمره أن يوكل (1) وإن احتاج إلى أجرة فمن مال جان (2) (ولا يستوفى) القصاص (في النفس إلا بضرب العنق، بسيف، ولو كان الجاني قتله بغيره) (3) .
__________
(1) أي وإن لم يقدر الولي على الاستيفاء، أو لم يحسنه أمره بالتوكيل، لعجزه عن الاستيفاء بنفسه، فيوكل فيه من يحسنه، لأنه قائم مقامه، وفي الإنصاف: يتعين التوكيل في الطرف.
(2) لأنها أجرة لاستيفاء ما عليه من الحق فكانت لازمة له، كأجرة الكيال، وقال بعضهم: يرزق من بيت المال رجل يستوفي الحدود والقصاص، لأنه من المصالح العامة، وإلا فعلى الجاني، ورد بأن عليه التمكين لا الفعل وهو الأظهر، وإن كان الاستيفاء لجماعة لم يجز أن يتولاه جميعهم، وأمروا بتوكيل واحد منهم، أو من غيرهم ليستوفيه، فإن تشاحوا وكان كل واحد منهم يحسنه، قدم أحدهم بقرعة، ووكله الباقون.
وقال الشيخ: إما أن يثبت لكل واحد بعض الاستيفاء، فيكونون كالمشتركين في عقد أو خصومة وتعيين الإمام قوي، والقرعة إنما شرعت في الأصل، إذا كان كل واحد مستحقا، أو كالمستحق، ويتوجه: أن يقدم الأكثر حقا، أو الأفضل، لقوله «كبر، كبر» وكالأولياء في النكاح بإذن الباقين، لأن القرعة قدمته، ولم تسقط حقوقهم.
(3) قال القاضي: رواية واحدة: لأن القصد من القصاص إتلاف النفس
وقد أمكن بضرب العنق، ولأن القصاص أحد بدلي النفس، فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية.(7/203)
لقوله عليه الصلاة والسلام «لا قود إلا بالسيف» رواه ابن ماجه (1) ولا يستوفي من طرف إلا بسكين ونحوها لئلا يحيف (2) .
__________
(1) والدارقطني، والبيهقي، وكان المعهود في القتل ضرب العنق، يقول أحدهم: دعني أضرب عنقه، وعن أحمد أنه قال: إن الأصل أن يفعل به كما فعل، يعني أن للمستوفي، أن يقطع أطرافه ثم يقتله، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة واختاره الشيخ وغيره لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر برض رأس يهودي، لرضه رأس جارية من الأنصار، قال الترمذي، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، من جواز القود بمثل ما قتل به، وهو مذهب الجمهور، إذا كان مما يجوز فعله، لا بنحو إيجاره الخمر، واللواط، ولأن القصاص موضوع على المماثلة، ولفظه مشعر به، فيجب أن يستوفى منه مثل ما فعل.
قال ابن القيم: والكتاب والميزان، على أنه يفعل بالجاني، كما فعل بالمجني عليه، كما فعل صلى الله عليه وسلم قال: وقد اتفق على ذلك الكتاب والسنة، وآثار الصحابة، وقال الزركشي، هي أوضح دليلا، فعلى هذا، لو قطع يديه ثم قتله، فعل به ذلك، وإن قتله بحجر أو غرقه أو غير ذلك، فعل به ذلك، والحديث قال فيه أحمد: ليس إسناده بجيد، وإن أحب أن يقتصر على ضرب عنقه فله ذلك، وهو أفضل، وإن قتله بمحرم في نفسه، قتل بالسيف، قال الموفق: رواية واحدة، ولا تجوز الزيادة على ما أتى به رواية واحدة.
(2) ويأتي فيما يجب القصاص فيما دون النفس، إن شاء الله كيفية الاستيفاء.(7/204)
باب العفو عن القصاص (1)
أجمع المسلمون على جوازه (2) (يجب بـ) القتل (العمد القود، أو الدية، فيخير الولي بينهما) (3) لحديث أبي هريرة مرفوعا «من قتل له قتيل، فهو بخير النظرين، إما أن يؤدي وإما أن يقاد» رواه الجماعة إلا الترمذي (4) .
__________
(1) العفو: المحو والتجاوز والإسقاط، وكان القصاص حتما على اليهود، ومحرم عليهم العفو والدية، وكانت الدية حتما على النصارى، وحرام عليهم القصاص، فخيرت هذه الأمة تخفيفا ورحمة، والأصل في العفو، الكتاب والسنة والإجماع.
(2) حكاه الموفق وغيره: وفيه فضل عظيم، جاء به الكتاب والسنة.
(3) هذاالمشهور في المذهب، وقول الشافعي، ورواية عن مالك، والخيرة في ذلك إلى الولي، إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفا إلى غير شيء، وهو أفضل كما يأتي، وقال الشيخ مطالبة المقتول بالقصاص توجب تحتمه، فلا يمكن الورثة بعد ذلك من العفو، وقال: استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل، والعفو عنه إحسان، والإحسان هنا، أفضل، لكن هذا الإحسان، لا يكون إحسانا إلا بعد العدل، وهو أن لا يحصل بالعفو ضرر، وإلا كان ظلما إما لنفسه وإما لغيره، قال في الإنصاف: وهو عين الصواب.
(4) من قتل له قتيل أي قريب كان حيا، فصار قتيلا بذلك القتل فهو أي ولي المقتول، بخير النظرين، يعني القصاص، والدية، أيها اختار كان له.
وقال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أوجب تعالى
الاتباع بمجرد العفو، ولو وجب بالعمد القصاص عينا لم تجب الدية عند العفو المطلق، فدلت الآية والحديث: على أنه يخير الولي بينهما، فإن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية.(7/205)
(وعفوه) أي عفو ولي القصاص (مجانا) أي من غير أن يأخذ شيئا (أفضل) (1) لقوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (2) ولحديث أبي هريرة مرفوعًا: «ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا» رواه أحمد، ومسلم والترمذي (3) .
__________
(1) بلا نزاع.
(2) وقوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} وقوله: {فمن عفي وأصلح فأجره على الله} .
(3) ولأحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه صلى الله عليه وسلم أقسم على ثلاث منها «ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزا يوم القيامة» ولأبي داود عن أنس: لا يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمر في القصاص إلا أمر فيه بالعفو، فدلت هذه الأحاديث وما في معناها، على مشروعية العفو في الجملة، والترغيب فيه، واستحبابه، والجمهور على أنه أولى من الترك.
قال ابن رشد: ومن لهم العفو بالجملة فهم الذين لهم القيام بالدم، والذين لهم القيام بالدم، هم العصبة عند مالك، وعند غيره كل من يرث، وعمدتهم اعتبارهم الدم بالدية اهـ ولأبي داود، على المقتتلين يعني أولياء القتيل أن ينحجروا الأول فالأول أي الأقرب فالأقرب، وإن كان امرأة قال الموفق: وأكثر أهل العلم، على أن عفو المرأة جائز كالرجل، اهـ.
وأما قتل الغيلة، فاختار الشيخ، أن العفو لا يصح في قتل الغيلة لتعذر
الاحتراز منه، كالقتل مكابرة، ذكر القاضي وجها في قاتل الأئمة يقتل حدا، لأن فساده عام، وذكر ابن القيم على قصة العرنيين أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا، فلا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة، وهو مذهب أهل المدينة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، واختيار الشيخ، وأفتى به رحمه الله، وأما ولي الصغير، والمجنون، فليس له العفو على غير مال، لأنه لا يملك إسقاط حقه.(7/206)
ثم لا تعزير على جان (1) (فإن اختار) ولي الجناية (القود أو عفا عن الدية فقط) أي دون القصاص (2) (فله أخذها) أي أخذ الدية (3) لأن القصاص أعلى، فإذا اختاره لم يمتنع عليه الانتقال إلى الأدنى (4) (و) له (الصلح على أكثر منها) أي من الدية (5) .
__________
(1) لأنه إنما عليه حق واحد، وقد سقط كعفو عن دية قاتل خطأ، وتقدم قول الشيخ: إن العفو إحسان، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانا، إلا بعد العدل إلى الدية.
(2) لأن الواجب أحد شيئين لا بعينه، سواء عفا عن القصاص مطلقا، أو إلى الدية.
(3) لما فيه من المصلحة له وللجاني، حيث أن الواجب غير معين، فإذا ترك أحدهما تعين الآخر، فإن اختار القصاص تعين لذلك، وإن اختار بعد ذلك العفو، إلى الدية فله ذلك، جزم به القاضي وغيره، وهو المشهور في المذهب، وقول غير واحد من السلف.
(4) وهو الدية لأنها أقل من حقه، وتكون بدلا عن القصاص.
(5) أي لمن وجب له القصاص، الصلح على أكثر من الدية، وتقدم في باب الصلح.(7/207)
وله أن يقتص لأنه لم يعف مطلقا (1) .
(وإن اختارها) أي اختار الدية فليس له غيرها (2) فإن قتله بعد قتل به، لأنه أسقط حقه من القصاص (3) (أو عفا مطلقا) بأن قال: عفوت: ولم يقيده بقصاص ولا دية فله الدية (4) لانصراف العفو إلى القصاص، لأنه المطلوب، الأعظم (5) .
__________
(1) أي عن القصاص والدية، فله أحدهما، لما تقدم، وإن مات الجاني، أو قتل، فاختار الشيخ أن يسقط القصاص بموته وبقتله، وبكل ما يثبت عنهما
وسواء كان معسرا أو موسرا، وسواء قلنا: الواجب القصاص عينا، أو أحد شيئين.
(2) لتعينها باختياره، وسقوط القود، قال أحمد: إذا أخذ الدية فقد عفا عن الدم، ولا يملك طلبه بعد اختيار الدية، لأنه إذا سقط لا يعود.
(3) فصار قتله عمدا عدوانا، حيث قتله بعد اختيار الدية، وقال الشيخ: فمن قتل بعد العفو، أو أخذ الدية، فهو أعظم جرما ممن قتل ابتداء، قال بعض الفقهاء، إنه يجب قتله حدا، ولا يكون أمره إلى أولياء المقتول قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وفي الحديث «لا أعفي» أي لا أدع ولا أتركه، بل أقتص منه، يؤيده لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية.
(4) أو عفا عن القود مطلقا، ولم يقل على مال أو بلا مال، ولو كان العفو على يد المجني عليه، أو رجله ونحوهما، فله الدية، ولا تسقط الدية، ما لم يصرح بها حيث يعفو عن القود.
(5) وفي مقابلة الانتقام، والانتقام إنما يكون بالقتل، وإن قال: عفوت عن جنايتك أو عفوت عنك، برئ من الدية، كالقود قولا واحدا، لأن عفوه
عن ذلك يتناولهما، وإن عفا أولياء المقتول عن القاتل، بشرط أن لا يقيم في هذا البلد، ولم يف بهذا الشرط، فقال الشيخ: لم يكن العفو لازما، بل لهم أن يطالبوه بالدية، في قول أكثر العلماء، وقال: ولاية القصاص والعفو عنه، ليست عامة لجميع الورثة، بل تختص بالعصبة، وهو مذهب مالك، وتخرج رواية عن أحمد.(7/208)
(أو هلك الجاني فليس له) أو لولي الجناية (غيرها) أي غير الدية من تركة الجاني، لتعذر استيفاء القود، كما لو تعذر في طرفه (1) (وإذا قطع) الجاني (إصبعا عمدا فعفا) المجروح (عنها ثم سرت) الجناية (إلى الكف أو النفس، وكان العفو على غير شيء فـ) السراية (هدر) (2) لأنه لم يجب بالجناية شيء، فسرايتها أولى (3) .
__________
(1) أي طرف الجاني، بأن قطع يدا، وتعذر قطع يده لشللها، أو ذهابها ونحوه، فإن لم يخلف جان عمدا تركة، ضاع حق المجني عليه، ولا تحمله العاقلة لأنها لا تحمل العمد المحض.
(2) قدمه في المقنع، وجزم به في الوجيز، وتبعه في المنتهى.
(3) واختار الموفق والشارح: أنه له تمام الدية، وفي الإنصاف، وهو المذهب وجزم به في الإقناع، وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: تجب كاملة، ويقال: سقطت ديتها بعفوه عنها، فاختص السقوط بما عفا عنه، دون غيره والمعفو عنه عشر الدية، وإن قال: عفوت عن هذه الجناية فلا شيء له، رواية واحدة، كما تقدم، بخلاف ما لو قال: عفوت عن هذا الجرح، وكل عفو عما أوجب المال عينا، كالخطأ فمن الثلث، وإن كان عما أوجب قودا فمن أصل التركة.(7/209)
(وإن كان العفو على مال فله) أي للمجروح (تمام الدية) أي دية ما سرت إليه (1) بأن يسقط من دية ما سرت إليه الجناية أرش ما عفا عنه، ويجب الباقي (2) .
و (إن وكل) ولي الجناية (من يقتص) له (ثم عفا) الموكل عن القصاص (فاقتص وكيله ولم يعلم) بعفوه (فلا شيء عليهما) لا على الموكل لأنه محسن بالعفو (3) .
و {ما على المحسنين من سبيل} (4) ولا على الوكيل لأنه لا تفريط منه (5) وإن عفا مجروح عن قود نفسه أو ديتها صح كعفو وارثه (6) .
__________
(1) وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وحكي عن مالك وجوب القصاص، وإذا لم يجب فيها قصاص مع إمكانه، فلأن لا يجب في سرايتها أولى.
(2) لأن حق المجني عليه، فيما سرت إليه الجناية، لا فيما عفا عنه، وإن ادعى عفوه عن قود ومال، أو عنها وعن سرايتها، فقال: بل إلى مال، أو دون سرايتها، فقول عاف بيمينه لأن الأصل عدم العفو.
(3) ولا يقتضي وجوب الضمان.
(4) فدل عموم الآية، أن الإحسان بالعفو، يقتضي عدم الرجوع عليه.
(5) فإن العفو حصل على وجه، لا يمكن الوكيل استدراكه، فلم يلزمه ضمان.
(6) أي كما يصح عفو وارثه، لأن الحق له، قال في الإقناع، وإن عفا عن قاتله بعد الجرح صح، سواء كان بلفظ العفو أو الوصية، أو الإبراء، أو غير ذلك، وإن طالب المقتول، بالقصاص، فتقدم قول الشيخ: مطالبة المقتول بالقصاص توجب تحتمه، فلا يمكن الورثة بعد ذلك من العفو.(7/210)
(وإن وجب لرقيق قود (1) أو) وجب له (تعزير قذف فطلبه) إليه (وإسقاطه إليه) أي إلى الرقيق دون سيده، لأنه مختص به (2) (فإن مات) الرقيق بعد وجوب ذلك له (فلسيده) طلبه وإسقاطه، لقيامه مقامه، لأنه أحق به، ممن ليس له فيه ملك (3) .
__________
(1) فطلبه وإسقاطه إلى الرقيق، لأنه مختص به، والقصد منه التشفي.
(2) ولا حق للسيد فيه إلا أن يموت العبد.
(3) فاختص به السيد، لاختصاصه بمنافعه، وفواتها عليها بالجناية عليه، وقيامه مقامه، وهو ماله فإتلافه عليه، كسائر متلفاته.(7/211)
باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس
من الأطراف والجراح (1)
(من أقيد بأحد في النفس) لوجود الشروط السابقة (2) (أقيد به في الطرف والجراح) (3) لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية (4) (ومن لا) يقاد بأحد في النفس كالمسلم بالكافر (5) والحر بالعبد (6) .
__________
(1) قال شيخ الإسلام وغيره: القصاص في الجراح ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، بشرط المساواة.
(2) الأربعة المتقدمة العصمة، والتكليف، والمكافأة، وعدم الولادة.
(3) لأن النفس أعلى، فإذا أقيد في الأعلى، ففي الأدنى بطريق الأولى، فمن جرى بينهما في النفس، جرى بينهما في الطرف والجراح.
(4) وتمامها وهو الشاهد للترجمة قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وفي الصحيحين في قصة كسر ثنية الربيع، قال صلى الله عليه وسلم «كتاب الله القصاص» .
(5) لا يقاد به في طرف ولا في جراح، فكما لا يجري القصاص بينهما في النفس، لا يجري بينهما في الطرف هذا المذهب، وعليه الأصحاب.
(6) فلا تقطع يد الحر بيد العبد، ولا يكسر سنه بسنه، لعدم المكافأة.(7/212)
والأب بولده (فلا) يقاد به في طرف ولا جراح، لعدم المكافأة (1) (ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس (2) وهو) أي القصاص فيما دون النفس (نوعان (3) أحدهما في الطرف (4) فتؤخذ العين) بالعين (والأنف) بالأنف (5) (والأذن) بالأذن (والسن) بالسن (6) .
__________
(1) فكونه لا يقاد به في النفس، ففي الطرف والجراح، من باب أولى.
(2) وهو العمد المحض، فلا قود في الخطأ إجماعا، ولا في شبه العمد عند الجمهور، قال ابن رشد: أما إن ضربه بلطمة، أو سوط، أو ما أشبه ذلك، مما الظاهر منه، أنه لم يقصد إتلاف العضو، مثل أن يلطمه فيفقأ عينه، فالذي عليه الجمهور، أنه شبه العمد، ولا قصاص فيه، وفيه الدية مغلظة في ماله.
(3) في أطراف وجروح بشروط تأتي مفصلة.
(4) وهو حرف الشيء، ومنتهى كل شيء، وحكى الموفق وغيره، الإجماع على جريان القصاص في الأطراف.
(5) أي تفقأ عين الجاني بعين المجني عليه، اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى إجماعا، ولا يشترط التساوي في الصغر والكبر، والصحة والمرض، ويجدع أنف الجاني بأنف المجني عليه، والمراد المارن وهو مالان منه، دون القصبة كما يأتي ويؤخذ الكبير بالصغير، والأشم بالأفطس.
(6) أي وتقلع أذن الجاني بأذن المجني عليه، بالإجماع بشرطه، لأنها تنتهى إلى حد، والكبيرة بالصغيرة، ويقلع أو يكسر سن الجاني، بسن المجني عليه، للآية المتقدمة والحديث، والإجماع، ولا يقتص إلا ممن سقطت رواضعه ثم نبتت لأنها تعود بحكم العادة.(7/213)
(والجفن) بالجفن (1) (والشفة) بالشفة العليا بالعليا، والسفلى بالسفلى (2) (واليد) باليد، اليمنى، باليمنى، واليسرى باليسرى (3) (والرجل) بالرجل كذلك (4) و (الإصبع) بالإصبع تماثلها في موضعها (5) (والكف) بالكف المماثلة (6) (والمرفق) بمثله (7) .
__________
(1) بفتح الجيم، وحكي كسرها، معروف، وهو غطاء العين من أعلى وأسفل لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهي إلى مفصل، وهو مذهب الجمهور.
(2) وهما ما جاوز الذقن والخدين علوا وسفلا، فإن الشفة من الإنسان ما ينطبق على فمه ويستر أسنانه، لقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن لها حدا تنتهي إليه، فلا تؤخذ إحداهما بالأخرى، بل تؤخذ العليا من الجاني بالعليا من المجني عليه.
(3) فإن قطعها من اللوح فله القود منه، وإن قطعها من المرفق، فله القصاص منه، وإن قطع من الكتف، أو خلع عظم المنكب، فله القود إذا لم يخف جائفة للآية، وقال الشارح: بلا نزاع.
(4) أي تؤخذ اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى، كما مر في أخذ اليد.
(5) وفي اسمها، وإن قطع الأصابع من مفاصلها فله القود من المفصل، لأمن الحيف، ومن الكوع، فمنه وتؤخذ العليا بالعليا، والسفلى بالسفلى، من أنملة يد ورجل.
(6) اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى.
(7) الأيمن بالأيمن، والأيسر بالأيسر، لإمكان المماثلة(7/214)
(والذكر والخصية والإلية والشفر) بضم الشين، وهو أحد اللحمين المحيطين بالفرج، كإحاطة الشفتين على الفم (كل واحد من ذلك بمثله) للآية السابقة (1) (وللقصاص في الطرف شروط) ثلاثة (2) (الأول الأمن من الحيف) (3) وهو شرط جواز الاستيفاء (4) .
__________
(1) وهي قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وهو قول جماهير العلماء، فيجري القصاص في الذكر، لأن له حدا ينتهي إليه، ويمكن القصاص فيه من غير حيف، فوجب فيه القصاص، كالأنف، وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، ويستوي فيه ذكر الصغير والكبير، والشيخ والشاب، والذكر الكبير والصغير، والصحيح والمريض لأن ما وجب فيه القصاص من الأطراف لا يختلف في هذه المعاني.
وأما الخصية فإن قطع إحداهما وقال أهل الخبرة، يمكن أخذها مع سلامة الأخرى جاز وإن قالوا: لا يؤمن تلف الأخرى، فلا، ويجب فيها نصف الدية، وكلاهما يجري القصاص فيهما، قال الموفق: لا نعلم فيها خلافا، وأما الإلية الناتية، بين الفخذ والظهر، فيجري فيها القصاص، في ظاهر المذهب، للآية ولأن لها حدا تنتهي إليه، فيجري القصاص فيها، كالذكر، وكذا الشفر، لأن انتهاءه معروف، أشبه الشفتين.
(2) تعلم بالاستقراء، وهي زيادة على شروط القصاص المتقدمة.
(3) لأن الحيف جور وظلم، وإذا لم يمكن القصاص إلا به، لم يجز فعله.
(4) وفي نفس الأمر هو واجب، إذ لا مانع منه، لوجود شرطه، وهو العدوان، على من يكافئه عمدا، مع المساواة في الاسم، والصحة والكمال، لكن الاستيفاء غير ممكن لخوف العدوان على الجاني.(7/215)
ويشترط لوجوبه إمكان الاستيفاء بلا حيف (1) (بأن يكون القطع من مفصل (2) أو له حد ينتهي إليه) أي إلى حد (كمارن الأنف، وهو ما لان منه) دون القصبة (3) .
__________
(1) والأمن من الحيف، أخص من إمكان الاستيفاء بلا حيف، قال في الأصناف: الأمن من الحيف شرط لجواز الاستيفاء وهو التحقيق وقال الفتوحي: النسبة بين إمكان الاستيفاء بلا حيف والأمن من الحيف العموم المطلق فكلما وجد الأمن من الحيف أمكن الاستيفاء بلا حيف وليس كلما أمكن الاستيفاء بلا حيف وجد الأمن من الحيف، فالعام شرط لوجوب القود، والخاص شرط لجواز الاستيفاء، والعام الإمكان، والخاص الأمن، ومتى وجد الخاص، وجد العام، ولا يلزم من وجود العام، وجود الخاص.
(2) لأن المماثلة في غير ذلك غير ممكنة، ولا يؤمن أن يستوفي أكثر من الحق، والمفصل موضع اتصال عضو بعضو على منقطع عظمين، برباطات واصلة بينهما، مع تداخل كمرفق وركبة، أو تواصل كأنملة وكوع.
(3) أي أو يكون القطع ينتهي إلى حد، كمارن الأنف، وهو ما لان منه، فهو الذي يجب فيه القصاص، أو الدية دون قصبة الأنف، لأن للمارن حدا ينتهي إليه، أشبه اليد، فإن قطع القصبة فلا قصاص، وله الدية، جزم به في الإقناع والمنتهى، ولابن ماجة: أن رجلا ضرب رجلا، على ساعده بالسيف، فقطعها من غير مفصل، فأمر له صلى الله عليه وسلم بالدية فقال: إني أريد القصاص فقال: «خذها بارك الله لك فيها» ولأن القطع ليس من مفصل فلا يؤمن فيه من الحيف.(7/216)
فلا قصاص في جائفة (1) ولا كسر عظم غير سن (2) ولا بعض ساعد ونحوه (3) ويقتص من منكب ما لم يخف جائفة (4) الشرط (الثاني: المماثلة في الاسم والموضع (5) فلا تؤخذ يمين) من يد ورجل وعين وأذن ونحوها (6) (بيسار ولا يسار بيمين (7) .
__________
(1) أي جرح واصل إلى باطن الجوف، لأنها ليس لها حد ينتهي القطع إليه.
(2) لإمكان برد سن الجاني، مثل ما كسره، إذا أمن قلعها أو سوادها. لإمكان الاستيفاء بلا حيف، فإن لم يأمن ذلك سقط القصاص.
(3) كساق وكف، وعضد وورك، أو قطع يد من الكوع، ثم تأكلت إلى نصف الذراع فلا قصاص، لأنه لا يمكن الاستيفاء منها بلا حيف، وله الدية، لما تقدم، وقال الموفق: إن كان من غير مفصل، فلا قصاص فيه من موضع القطع بغير خلاف نعلمه.
(4) بلا نزاع لأنه مفصل، وله أن يقتص من مرفقه وإن اختار الدية، فله دية اليد، وحكومة لما زاد.
(5) قياسا على النفس، ولأن القصاص يعتمد المماثلة، ولأنها جوارح مختلفة المنافع، والأماكن فلم يؤخذ بعضها ببعض، كالعين بالأنف.
(6) من المنخرين، والثديين والإليتين والأنثيين، والشفتين، والأجفان، وكل ما انقسم إلى يمين ويسار، وأعلى وأسفل.
(7) قال الموفق: هذا قول أكثر أهل العلم، الأئمة الأربعة وغيرهم، وحكاه الوزير اتفاقا، لأن كل واحدة منهما تختص باسم، فلا تؤخذ إحداهما بالأخرى، كاليد مع الرجل، وتؤخذ كل منها بمثلها.(7/217)
ولا) يؤخذ (خنصر ببنصر ولا) عكسه (1) لعدم المساواة في الاسم (2) ولا يؤخذ (أصلي بزائد (3) وعكسه) فلا يؤخذ زائد بأصلي، لعدم المساواة في المكان والمنفعة (4) (ولو تراضيا) على أخذ أصلي بزائد أو عكسه (5) (لم يجز) أخذه به، لعدم المقاصة (6) ويؤخذ زائد بمثله موضعا وخلقة (7) .
__________
(1) فلا يؤخذ بنصر بخنصر.
(2) وتؤخذ الخنصر بالخنصر، والبنصر بالبنصر، والأنملة بمثلها، في الاسم والموضع.
(3) لأن الزائد دونها، قال في الإنصاف: وإن تراضيا على أصلي بزائد، لم يجز بلا نزاع.
(4) فلم يجز أخذها بها، لعدم المماثلة.
(5) كأخذ زائد بأصلي.
(6) لأن مالا يجوز أخذه مقاصة، لا يجوز بتراضيهما، لأن الدماء لا تستباح بالإباحة والبذل، فلو قطع يسار جان من له القود، في يمينه بتراضيهما، أو خنصرا ببنصر، أو قال: أخرج يمينك فأخرج يساره عمدا، أو غلطا، أو ظنا أنها تجزئ فقطعها، أجزأت قال في الإنصاف: وهو المذهب، ولم يبق قود ولا ضمان جزم به في الإقناع وغيره.
(7) ولو تفاوتا قدرا، كالأصلي بالأصلي، إذا اتفقا في الموضع والخلقة، واختلفا في القدر، وإن اختلفا في غير القدر، بأن اختلفا في الموضع، أو الخلقة، لم يؤخذ أحدهما بالآخر.(7/218)
الشرط (الثالث استواؤهما) أي استواء الطرفين المجني عليه، والمقتص منه (في الصحة والكمال (1) فلا تؤخذ) يد أو رجل (صحيحة بـ) يد أو رجل (شلاء (2) ولا) يد أو رجل (كاملة الأصابع) أو الأظفار (بناقصتـ) هما (3) (ولا) تؤخذ (عين صحيحة بـ) عين (قائمة (4)) وهي التي بياضها وسوادها صافيان، غير أن صاحبها لا يبصر بها قاله الأزهري (5) ولا لسان ناطق بأخرس ولو تراضيا، لنقص ذلك (6) .
__________
(1) لاعتماد القصاص على المماثلة.
(2) لأنه لا نفع فيها سوى الجمال، فلا تؤخذ بما فيه نفع، قال الموفق: لا نعلم أحدا من أهل العلم قال بوجوب قطع يد أو رجل، صحيحة بشلاء، إلا ما حكي عن داود.
(3) فلو قطع من له خمس أصابع، من يد أو رجل، يد أو رجل من له أربع أو ثلاث أصابع، لم يجز، قولا واحدا لأنها فوق حقه.
(4) قولا واحدا.
(5) فليستا بمتساويتين، فلا تؤخذ الصحيحة بالناقصة.
(6) وزيادة المأخوذ على المفوت، فلا يكون مقاصة، قال الموفق: لا يؤخذ لسان ناطق بأخرس، لا نعلم فيه خلافا، ولا يؤخذ ذكر صحيح بأشل، ولا ذكر فحل بذكر خصي أو عنين، لأنه لا نفع فيهما، فيكون قد أخذ أكثر من حقه، وهذا مذهب مالك وغيره.(7/219)
(ويؤخذ عكسه) فتؤخذ الشلاء، وناقصة الأصابع، والعين القائمة بالصحيحة (1) (ولا أرش) لأن المعيب من ذلك كالصحيح في الخلقة، وإنما نقص في الصفة (2) وتؤخذ أذن سميع بأذن أصم شلاء، ومارن الأشم الصحيح بمارن الأخشم الذي لا يجد رائحة شيء، لأن ذلك لعلة في الدماغ (3) .
__________
(1) وإن شاء أخذ الدية، بلا خلاف، لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص فله الدية، وهو مذهب الجمهور.
(2) فلم يكن له أرش، اختاره القاضي، وصححه الموفق وغيره، وتؤخذ الشلاء بالشلاء، إذا أمن في الاستيفاء الزيادة، لأنهما متماثلين في ذات العضو وصفته فجاز أخذ إحداهما بالأخرى، كالصحيحة بالصحيحة.
(3) والأنف صحيح، وذهاب السمع نقص في الرأس لأنه محله، وليس بنقص في الأذن، ويؤخذ الصحيح بالمخروم، لقيامه مقام الصحيح، وإن قطع بعض لسانه، أو مارنه، أو شفته، أو حشفته، أو أذنه، أخذ مثله، يقدر بالأجزاء كالنصف والثلث.(7/220)
فصل
(النوع الثاني) من نوعي القصاص فيما دون النفس (الجراح (1) فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم) (2) لإمكان استيفاء القصاص من غير حيف ولا زيادة (3) وذلك (كالموضحة) في الرأس والوجه (4) .
__________
(1) قال شيخ الإسلام: القصاص في الجراح، ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بشرط المساواة، فإذا شجه فله شجه كذلك، فإذا لم تمكن مثل أن يكسر عظما باطنا، أو شجة دون الموضحة، فلا يشرع القصاص، بل تجب الدية، وأما القصاص في الضرب بيده، أو بعصا أو سوط، ونحو ذلك، فقالت طائفة لا قصاص فيه، بل فيه التعزير.
والمأثور عن الخلفاء وغيرهم، من الصحابة والتابعين: أن القصاص مشروع في ذلك، وهو نص أحمد وغيره من الفقهاء، وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصواب، وقال عمر: إني ما أرسل عمالي ليضربوا أبشاركم، فوالذي نفسي بيده، من فعل لأقصنه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه، رواه أحمد، ومعناه: أن ضرب الوالي رعيته ضربا غير جائز، فأما الضرب المشروع، فلا قصاص فيه، بالإجماع.
(2) وهذا شرط لجواز القصاص، زيادة على ما سبق.
(3) لانتهائه إلى العظم، أشبه قطع الكف من الكوع.
(4) واتفق أهل العلم على جواز القصاص فيها بشرطه، وقال الوزير: أجمعوا على أن الموضحة فيها القصاص، إذا كانت عمدا، وفي الإنصاف: يوضحه بالمساحة بلا نزاع.(7/221)
(وجرح العضد و) جرح (الساق و) جرح (الفخذ و) جرح (القدم (1)) لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (2) (ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج) (3) .
__________
(1) قياسا على جرح الموضحة، المتفق عليها.
(2) وهو نص على القصاص في الجروح بشرطها، ولو لم يجب القصاص في كل جرح، ينتهي إلى عظم، لسقط حكم الآية.
(3) أي ولا يقتص في أي نوع من الشجاج، غير المذكورة، المنتهية إلى عظم، كالموضحة وجرح العضد والساق، والقدم، كما دون الموضحة كالباضعة، أو أعظم منها، كما مثل، واختار الشيخ: القصاص في كل شيء من الجراح والكسر، يقدر على القصاص منه للأخبار، وقال: ثبت عن الخلفاء الراشدين، وتقدم نحوه.
وقال ابن القيم: قالت الشافعية، والحنفية، والمالكية، ومتأخروا الأصحاب، لا قصاص في اللطمة والضربة، وحكى بعضهم الإجماع، وخرجوا عن محض القياس، وموجب النصوصن وإجماع الصحابة، وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} فالواجب للملطوم، أن يفعل بالجاني عليه كما فعل به، فلطمة بلطمة، وضربة بضربة في محلهما، بالآلة التي لطمه بها، أو مثلها، أقرب إلى المماثلة المأمور بها، حسا وشرعا، من تعزيره بغير جنس اعتدائه وصفته، وهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه ومحض القياس، ونصوص أحمد.(7/222)
كالهاشمة والمنقلة والمأمومة (1) (و) لا في غير من (الجروح) كالجائفة (2) لعدم أمن الحيف والزيادة (3) ولا يقتص في كسر عظم (غير كسر سن) (4) .
__________
(1) الهاشمة هي: التي تهشم العظم، والمنقلة هي التي تنقل العظام، والمأمومة هي: التي تصل إلى جلدة الدماغ، فجلدة الرأس يليها لحم، ويلي اللحم جلدة رقيقة، تسمى السمحاق، ويليها عظم يسمى القحف، وبعد العظم خريطة، مشتملة على دهن، وذلك الدهن يسمى الدماغ، ويسمى أيضا أم الرأس، والجناية الواصلة إلى الخريطة المذكورة، المسماة أم الرأس، تسمى مأمومة فلا قصاص فيها، عند الأئمة الأربعة، قال الموفق، ولا نعلم أحدا أوجب القصاص، فيما فوق الموضحة، إلا ما روي عن ابن الزبير، أنه أقاد من المنقلة، وليس بثابت عنه، وقال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا خالف ذلك، لأنه ليس له حد ينتهي إليه، ولا يمكن الاستيفاء من غير حيف.
(2) وهي التي تنفذ إلى جوف، كبطن وصدر، وثغرة نحر، وجبين وخاصرة ونحوها، فلا قصاص في نحوها، لما تقدم.
(3) ولابن ماجه مرفوعا «لا قود في المأمومة، ولا في الجائفة، ولا في المنقلة» وقال ابن رشد: القصاص فيما أمكن القصاص فيه منها، وفيما وجد منه محل القصاص، ولم يخش منه تلف النفس، وإنما صاروا لهذا، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع القود في المأمومة، والمنقلة، والجائفة فرأى مالك ومن قال بقوله: أن هذا حكم ما كان في معنى هذه من الجراح التي هي متالف مثل كسر عظم الرقبة، والصلب والصدر، والفخذ وما أشبه ذلك، ولأنه لا تؤمن الزيادة فلم يجب القصاص، ككسر العظام.
(4) تقدم أنه لا قصاص في كسر عظم، بغير خلاف، غير كسر سن.(7/223)
لإمكان الاستيفاء منه بغير حيف، كبرد ونحوه (1) (إلا أن يكون) الجرح (أعظم من الموضحة كالهاشمة، والمنقلة والمأمومة فله) أي للمجني عليه (أن يقتص موضحة) لأنه يقتصر على بعض حقه، ويقتص من محل جنايته (2) (وله أرش الزائد) على الموضحة (3) فيأخذ بعد اقتصاصه من موضحة في هاشمة خمسا من الإبل (4) وفي منقلة عشرا (5) وفي مأمومة ثمانية وعشرين وثلثا (6) ويعتبر قدر جرح بمساحة، ودون كثافة اللحم (7) .
__________
(1) أي كبر سن الجاني، وتقدم.
(2) قولا واحدا، وهو مذهب الشافعي، فإنه إنما وضع نحو السكين، في موضع وضعها الجاني فيه، ولأن سكين الجاني، وصلت العظم وتجاوزته.
(3) فيجب له إذا اقتص موضحة والجناية فوقها، ما بين دية الموضحة، ودية تلك الشجة، لأنه تعذر فيه القصاص، فوجب الأرش، كما لو تعذر في جميعها.
(4) لأنه التفاوت بينها وبين الموضحة.
(5) أي ويأخذ في المنقلة عشرا من الإبل، لأنه ما بين الموضحة والمنقلة.
(6) لأن الواجب فيها ثلث الدية، فإذا سقط منها دية موضحة، وهي خمس من الإبل، بقي ذلك المذكور.
(7) أي ويعتبر قصاص جرح طولا وعرضا، دون كثافة اللحم لأن حده العظم، والناس يختلفون في كثرة اللحم وقلته، فلا يمكن اعتباره فيعمد المقتص إلى موضع الشجة من رأس المشجوج، فيعلم طولها وعرضها، بنحو خيط، ويضعها على رأس الشاج، ويعلم طرفيه بنحو سواد، ويأخذ حديدة، عرضها كعرض الشجة فيضعها في أول الشجة ونحوها، إلى آخرها فيأخذ مثل الشجة طولا عرضا، ولا يراعي العمق، لأن حده العظم، ولو روعي لتعذر الاستيفاء.(7/224)
(وإذا قطع جماعة طرفا) يوجب قودا كيد (أو جرحوا جرحا يوجب القود) كموضحة ولم تتميز أفعالهم، كأن وضعوا حديدة على يد، وتحاملوا عليها حتى بانت (فعليهم) أي على الجماعة القاطعين أو الجارحين (القود) (1) لما روي عن علي أنه شهد عنده شاهدان على رجل بسرقة، فقطع يده، ثم جاءا بآخر فقالا: هذا هو السارق، وأخطأنا في الأول، فرد شهادتهما على الثاني، وغرمهما دية يد الأول، وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما (2) وإن تفرقت أفعالهم (3) .
__________
(1) في أشهر الروايتين، وهو مذهب مالك، وكذا لو أكرهوا إنسانا، على قطع طرف، أو ألقوا صخرة على طرف إنسان فقطعه، او قلعوا عينا بضربة واحدة، ونحو ذلك.
(2) رواه البخاري وغيره، ودل على أن القصاص على كل منهما لو تعمدا، ولأنه أحد نوعي القصاص، فتؤخذ الجماعة بالواحد، كالأنفس.
(3) أي القاطعين لليد ونحوها، فلا قود عليهم.(7/225)
أو قطع كل واحد من جانب فلا قود عليهم (1) (وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها) (2) فلو قطع إصبعا فتآكلت آخرى أو اليد، وسقطت من مفصل فالقود (3) وفيما يشل الأرش (4) (وسراية القود مهدرة) (5) فلو قطع طرفا قودا فسرى إلى النفس فما دونها فلا شيء على قاطع، لعدم تعديه (6) .
__________
(1) قولا واحدا إن لم يتواطؤوا، وكذا لو ضرب كل واحد على اليد ونحوها، حتى انفصلت، ونحو ذلك، فلا قود عليهم، وإن كان فعل كل واحد يمكن الاقتصاص منه بمفرده، اقتص منه، وهذا مذهب الشافعي.
(2) قال الموفق: سراية الجناية مضمونة بغير خلاف، لأنها أثر جناية والجناية مضمونة فكذا أثرها.
(3) وهذا مذهب أبي حنيفة، لأنه أحد نوعي القصاص، وإن سرت الجناية إلى النفس، أو ما لا يمكن مباشرته بالإتلاف، مثل أن هشمه في رأسه فمات، أو ذهب ضوء عينيه، وجب القصاص بلا خلاف في النفس.
(4) وهو قول مالك والشافعي، لعدم إمكان القصاص في الشلل، وهو فساد العضو وذهاب حركته بالسراية.
(5) وهو مذهب مالك، والشافعي، وقال الوزير: اتفقوا على أن الإمام إذا قطع يد السارق، وسرى إلى نفسه، فلا ضمان عليه.
(6) وروى البيهقي وغيره، عن عمر وعلي، أنهما قالا: في الذي يموت في القصاص لا دية له، ولأنه قطع بحق، فكما أنه غير مضمون، فكذا سرايته، كقطع السارق المتفق عليه.(7/226)
لكن إن قطع قهرا مع حر أو برد (1) أو بآلة كالة، أو مسمومة ونحوها (2) لزمه بقية الدية (3) .
(ولا) يجوز أن (يقتص من عضو وجرح قبل برئه) (4) لحديث جابر أن رجلا جرح رجلا، فأراد أن يستقيد فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح، رواه الدارقطني (5) (كما لا تطلب له) أي للعضو أو الجرح (دية) قبل برئه، لاحتمال السراية (6) فإن اقتص قبل فسرايتها بعد هدر (7) .
__________
(1) بلا إذنه، ولا إذن الإمام أو نائبه، لزمه بقية الدية.
(2) كحرقه طرفا يستحق القصاص فيه، فيموت جان، أو في حال لا يؤمن فيها الخوف من السراية.
(3) أي يضمن دية النفس، منقوصا منها دية العضو، الذي وجب له فيها القصاص، فإن وجب في يده، فعليه نصف الدية، أو جفن فثلاثة أرباعها وهكذا.
(4) عند أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة مالك، وقال ابن المنذر: كل من أحفظ عنه من أهل العلم، يرى الانتظار بالجرح متى يبرأ.
(5) ورواه أحمد وغيره، من حديث عمرو بن شعيب، ولأنه باقتصاصه قبل الإندمال، رضي بترك ما يزيد عليه بالسراية، فبطل حقه منه، وقال أحمد: لأنه قد دخله العفو بالقصاص.
(6) أي لا يقتص من عضو وجرح قبل البرء، كما أنه لا تطلب له دية، لاحتمال السراية، فتسقط عن المجني عليه.
(7) لأنه استعجل ما لم يمكن له استعجاله فبطل حقه، لحديث عمرو
رواه أحمد، فإن قيل: ما الفرق بين هذا وما قبله، حيث ضمن السراية في الأول دون الثاني؟ قيل: إنه إنما منع من الاقتصاص في الطرف قبل برئه، لمصلحة المجني عليه، إذ قد تسري الجناية إلى طرف آخر، أو إلى النفس، بخلاف منعه من القصاص في الحر أو البرد، فإنه لمصلحة الجاني، فلذلك ضمن السراية، فيما إذا كانت مصلحة التأخير للجاني، ولم تضمن إذا كانت المصلحة للمجني عليه.(7/227)
ولا قود ولا دية لما رجي عوده من نحو سن، ومنفعة، في مدة تقولها أهل الخبرة (1) فلو مات تعينت دية الذاهب (2) .
__________
(1) أي أن السن أو المنفعة، تعود وتسقط المطالبة به، فوجب تأخيره، وإن عاد فلا شيء على الجاني، لأن المتلف عاد، فلم يجب به شيء، كإن كانت شماء مثلا فلا دية ولا قود، إن رجي عوده، وإن مضى زمن يمكن عودها فيه، فلم تعد، خير بين القصاص والدية، كسائر الجنايات، واختار الموفق في سن الكبير ونحوها القود في الحال، وصوبه في الإنصاف، ولعله مراد الأصحاب: فإن سن الكبير إذا قلعت يئس من عودها غالبا.
(2) لأنه لا يتأتى العود بعد موته.(7/228)
كتاب الديات (1)
جمع دية (2) وهي المال المؤدى (3) إلى مجنى عليه أو وليه بسبب جناية (4) يقال: وديت القتيل، إذا أعطيت ديته (5) (كل من أتلف إنسانا بمباشرة (6) أو سبب) بأن ألقى عليه أفعى، أو ألقاه عليها (7) .
__________
(1) الأصل في وجوبها: الكتاب والسنة والإجماع، في مال القاتل، أو على عاقلته وسيأتي مفصلا.
(2) مخففة، وأصلها ودي والهاء بدل من الواو، كالعدة من الوعد.
(3) أي والدية في الأصل مصدر، مسمى به المال المؤدى.
(4) شبه عمد، أو خطأ أو عمد عفي فيه عن القصاص إلى الدية.
(5) أي فهي مصدر: وديت القتيل أديه دية، إذا أديت ديته، وائتديت إذا أخذت الدية ويقال الدية مصدر، ودي القاتل المقتول، إذا أعطى وليه المال، الذي هو بدل النفس.
(6) أي لإتلافه.
(7) أي أتلف إنسانا، بأن ألقى عليه حية فقتله، أو ألقاه على حية فقتله، فعليه ضمانه، لأنه تلف بعدوانه، كالمباشرة، وكذا لو طلبه بسيف مجرد، ونحوه، فتلف في هربه، أو روعه، بأن شهره في وجهه، فمات أو ذهب عقله، فعليه ضمانه، لأنه تلف بعدوانه، فأشبه ما لو جنى عليه.(7/229)
أو حفر بئرا محرما حفره (1) أو وضع حجرا، أو قشر بطيخ، أو ماء بفنائه أو طريق (2) أو بالت بهما دابته ويده عليها (3) ونحو ذلك (لزمته ديته) (4) سواء كان مسلمًا، أو ذميًا، أو مستأمنًا أو مهادنا (5) .
__________
(1) أي حفر الحافر للبئر، بأن يكون في فنائه، أو فناء غيره، أو طريق ضيق، وكذا في واسع لغير مصلحة المسلمين، أو ملك غيره بغير إذنه، فعليه ضمانه فإن حفرها بحق، كفي ملكه، أو موات، أو طريق واسع، لمصلحة المسلمين لم يضمن.
(2) أي أو وضع حجرا في طريق فتلف به إنسان، أو وضع قشر بطيخ، أو خيار، أو باقلا ونحوه في طريق، أو وضع ماء بفنائه، وهو ما اتسع حول داره، أو وضعه بطريق فتلف به إنسان، لزمته ديته، وهو مذهب الشافعي، وعليه جمهور الأصحاب، وفي الترغيب، إن رش الطريق لذهاب الغبار، فمصلحة عامة، يعني فلا يضمن ما تلف به.
(3) أي أو بالت دابته بفنائه، أو بطريق ويده عليها، راكبا كان أو ماشيا، أو قائدا فتلف به إنسان ضمنه، وقال الموفق وغيره: قياس المذهب أنه لا يضمن ما تلف ببول الدابة في الطريق، وصوبه في الإنصاف، كما لو سلم على غيره، أو أمسك يده حتى مات، لعدم تأثيره، ولأنه لا يمكنه التحرز منه، كما لو أتلفت برجلها لا ما أتلفت بيدها أو فمها، لأنه يمكنه حفظها.
(4) أي ونحو ما تقدم ما لو رمى شخص من منزله، أو من غيره، حجرا أو غيره، مما يمكن التلف به، أو حمل بيده رمحا، جعله بين يديه، أو خلفه، أو وقع على نائم بفناء جدار فأتلف إنسانا، لزمته ديته فيما تقدم، ونحوه.
(5) وحكي الموفق وغيره: إجماع العلماء على ذلك في الجملة.(7/230)
لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (1) (فإن كانت) الجناية (عمدا محضا فـ) الدية (في مال الجاني) (2) لأن الأصل يقتضي أن بدل المتلف يجب على متلفه (3) وأرش الجناية على الجاني (4) وإنما خولف في العاقلة لكثرة الخطأ (5) والعامد لا عذر له، فلا يستحق التخفيف (6) وتكون (حالة) غير مؤجلة (7) كما هو الأصل في بدل المتلفات (8) .
__________
(1) فعبر تعالى عن الذمة بالميثاق، ولكتابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، وذكره الدية.
(2) حالة، قال في الإنصاف: بلا نزاع، وقال الموفق: أجمع أهل العلم على أن دية العمد، تجب في مال القاتل، لا تحملها العاقلة، وهذا يقتضيه الأصل، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
(3) ولأن موجب الجناية أثر فعل الجاني، فيجب أن يختص بضررها.
(4) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يجني جان إلا على نفسه» .
(5) فإن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة، فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة، على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفا، لأنه معذور.
(6) أي عنه بتحمل عاقلته، وهو قد وجب عليه القصاص، فمع العفو عنه اختص بتحمل الدية، ودون عاقلته، فداء عن نفسه، أو طرفه، أو جرحه.
(7) كالقصاص، وأرش أطراف العبد.
(8) فتجب حالة، كما يجب بدل المتلفات حالا، ولأن القاتل، عمدا عدوانا غير معذور، بخلاف شبه العمد.(7/231)
(و) دية (شبه العمد، والخطإ على عاقلته) أي عاقلة الجاني (1) لحديث أبي هريرة: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على عاقلتها، متفق عليه (2) ومن دعا من يحفر له بئرا بداره فمات بهدم لم يلقه أحد عليه فهدر (3) (وإن غصب حرا صغيرا) أي حبسه عن أهله (فنهشته حية) فمات (4) .
__________
(1) أما دية شبه العمد، فهو ظاهر المذهب، ومذهب الشافعي، وأصحاب الرأي وغيرهم: للخبر الآتي، ولأنه نوع قتل لا يوجب قصاصا، فوجبت ديته على العاقلة، كالخطأ وأما دية الخطأ فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أنها على العاقلة، وقال الموفق وغيره: لا نعلم خلافا أنها على العاقلة، اهـ وكذا ما جرى مجرى الخطأ كانقلاب النائم على إنسان فيقتله، وحفر البئر تعديا، فيقع فيه فيموت به، كل ذلك ونحوه على العاقلة، مؤجلة بلا خلاف ثلاث سنين كما يأتي.
(2) فدل الحديث: على أن شبه العمد والخطأ على العاقلة، وقضى عمر وعلي بها على العاقلة، في ثلاث سنين، قال الموفق: ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعا.
(3) لعدم التعدي عليه، وكذا لو أمره يصعد شجرة، فسقط منها ومات فهدر.
(4) وجبت الدية، جزم به في الإقناع والمنتهى، وغيرهما.(7/232)
(أو أصابته صاعقة) وهي نار تنزل من السماء فيها رعد شديد، قاله الجوهري (1) فمات وجبت الدية (2) (أو مات بمرض) وجبت الدية (3) جزم به في الوجيز، ومنتخب الآمدي، وصححه في التصحيح (4) وعنه لا دية عليه، نقلها أبو الصقر، وجزم بها في المنور، وغيره (5) وقدمها في المحرر وغيره (6) قال في شرح المنتهى: على الأصح (7) وجزم بها في التنقيح، وتبعه في المنتهى والإقناع (8) .
__________
(1) أي أو حبس حرا صغيرا، فأصابته صاعقة.
(2) جزم به غير واحد، لأنه منعه من الهرب، ومثل الصغير المجنون، وقال الشيخ: ومثل نهش الحية وإصابة الصاعقة، كل سبب يختص البقعة، كالوباء، وانهدام سقف عليه، ونحوهما.
(3) أي: أو مات المغصوب بمرض، أو مات فجأة، وجبت الدية في أحد الوجهين، لأنه تلف في يده العادية.
(4) لابن نصر الله.
(5) أي لا دية على من غصب حرا صغيرا فنهشته حية، أو أصابته صاعقة، أو مات بمرض، ويدخل فيها ما مثل به الشيخ، وظاهر كلام الشيخ وجوبها.
(6) أي قدمها المجد في المحرر، وغيره من الأصحاب.
(7) أي قاله صاحب المنتهى في شرحه له، وأما شرح منصور، فذكر فيه أنه نص عليه، وعلله بأن الحر لا يدخل تحت اليد، وأنه لا جناية إذا.
(8) وعبارته: وإن مات بمرض أو فجأة، لم يضمن، والمنتهى أو غصب صغيرا فتلف بحية، أو صاعقة فالدية، لا إن مات بمرض، أو فجأة.(7/233)
(أو غل حرا مكلفا وقيده، فمات بالصاعقة، أو الحية وجبت الدية) (1) لأنه هلك في حال تعديه، بحبسه عن الهرب من الصاعقة، والبطش بالحية أو دفعها عنه (2) .
__________
(1) وهو قول الجمهور.
(2) وظاهره: أنه لو غله من غير قيد، أو قيده من غير غل، لا يضمن، وعبر في الفروع بـ «أو» وهي أظهر، وأقرب إلى تعليلهم في القيد، فإنه يحبس عن الهرب، سواء كان مغلولا، أولا.(7/234)
فصل (1)
(وإذا أدب الرجل ولده) ولم يسرف لم يضمنه (2) وكذا لو أدب زوجته في نشوز (3) (أو) أدب (سلطان رعيته (4) أو) أدب (معلم صبيه ولم يسرف لم يضمن ما تلف به) أي بتأديبه (5) لأنه فعل ماله فعله شرعا، ولم يتعد فيه (6) وإن أسرف أو زاد على ما يحصل به المقصود (7) .
__________
(1) أي في حكم ما إذا أدب ولده، أو السلطان رعيته، وغير ذلك.
(2) قولا واحدًا، فإن أسرف الوالد فمات ولده، فعلى الوالد الدية لكن لا يطالب بها في حياته، بل تؤخذ من تركته بعد موت الوالد، هذا إذا كان غير عمد محض، وأما إذا كان عمدا محضا، وكان ضربه بشيء يقتل غالبا، فلا دية عليه ولا قصاص.
(3) ولم يسرف لم يضمن لقوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم «واضربوهن ضربا غير مبرح» .
(4) ولم يسرف لم يضمن، لأنه مأذون فيه شرعا، فلم يضمن ما تلف به كالحد.
(5) نص عليه.
(6) بأن يزيد على الضرب المعتاد فيه، لا في عدد ولا في شدة.
(7) أي وإن أسرف المؤدب، والدا كان أو زوجا، أو سلطانا، أو معلما، بأن زاد فوق المعتاد، أو زاد على ما يحصل به المقصد، ضمن لتعديه بالإسراف، أو الزيادة، على المقصود من التأديب.(7/235)
أو ضرب من لا عقل له من صبي أو غيره، ضمن لتعديه (1) (ولو كان التأديب لحامل، فأسقطت جنينا (2) ضمنه المؤدب) بالغرة (3) لسقوطه بتعديه (4) (وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى) (5) فأسقطت (6) (أو استعدى عليها رجل) أي طلبها لدعوى عليها (بالشرط (7) .
__________
(1) أي أو ضرب المؤدب، ممن تقدم ذكرهم على شخص، لا عقل له، من صبي غير مميز، أو غيره كمجنون ومعتوه ضمن ما تلف، لتعديه إلى ما لم يأذن الشرع فيه، بتأديب من لا عقل له، لأنه لا فائدة في تأديبه.
(2) وهو الولد في بطن أمه، من الاجتنان هو الستر، لأنه أجنه بطن أمه أي ستره قال تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} .
(3) وهي عبد أو أمة، لما في الصحيحين، «أنه صلى الله عليه وسلم قضي في إملاص المرأة بعبدًا، أو أمة» ، هو قول أكثر أهل العلم.
(4) أي لسقوط الجنين بتعدي الضارب لأمه.
(5) من حد أو تعزير، أولكشف حق آدمي.
(6) جنينا ميتا ضمنه، وفاقا للشافعي، وفي الإنصاف: بلا نزاع، لما روي عن عمر، أنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها، فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر، فبينا هي في الطريق، إذ فزعت فضربها الطلق، فألقت ولدا، فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ليس عليك شيء، فقال علي: إن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك أن ديته عليك، لأنك أفزعتها فألقته، وأقسم عليه عمر أن لا يبرح حتى يقسمها على قومه.
(7) أي استغاث عليها، برجال السلطان.(7/236)
في دعوى له فأسقطت) جنينا (1) (ضمنه السلطان) في المسألة الأولى لهلاكه بسببه (2) (و) ضمن (المستعدي) في المسألة الثانية، لهلاكه بسببه (3) (ولو ماتت) الحامل في المسألتين (فزعا) بسبب الوضع أولا (4) (لم يضمنا) أي لم يضمنها السلطان في الأولى، ولا المستعدي في الثانية (5) لأن ذلك ليس بسبب لهلاكها في العادة (6) جزم به في الوجيز وقدمه في المحرر والكافي (7) .
__________
(1) ضمنه لأنه تلف بفعله، فأشبه مالو اقتص منها.
(2) أي ابتداء بلا استعداء أحد، وتصويرهم بطلب السلطان، قد يقتضي اشتراط كون الطالب مرهوبا، فإن كان غير مرهوب، فلا ضمان، ويلحق بالسلطان القاضي، ومن له سطوة يرهب منه.
(3) ظاهره: ولو كانت ظالمة، وقال الموفق وغيره: إن كانت هي الظالمة، فأحضرها عند القاضي، فينبغي أن لا يضمنها، وقال ابن قندس: سواء أحضرها بنفسه إو بإذن الحاكم وطلبه.
(4) أي ولو ماتت الحامل، في المسألتين، إحداهما بطلب السلطان، لكشف حق الله تعالى، والثانية باستعداء رجل بالشرط، فماتت فزعا، بسبب وضعها، أو ماتت فزعا بغير وضع، أو ذهب عقلها من الفزع.
(5) وهو أحد الوجهين في المذهب.
(6) وهو قول الشافعي.
(7) أي أن السلطان، والمستعدي لايضمنان المرأة، إن ماتت فزعا، لأجل ذلك.(7/237)
وعنه: أنهما ضامنان لها كجنينها (1) لهلاكه بسببهما (2) وهو المذهب، كما في الإنصاف وغيره (3) وقطع به في المنتهى وغيره (4) ولو ماتت حامل، أو حملها، من ريح طعام ونحوه (5) ضمن ربه، إن علم ذلك عادة (6) .
__________
(1) أي كما أنهما يضمنان جنينها، إذا أسقطت فزعا، وفي الإنصاف، يضمن إذا ماتت بوضعها، وأنه المنصوص فيهما، كإسقاطها بتأديب أو قطع يد، لم يأذن سيد فيهما.
(2) فضمناها، كما لو ضرباها فماتت، قال الموفق: وقوله: يعني الشافعي إن موتها ليس بسبب عادة، قلنا: ليس كذلك، فإنه سبب للإسقاط، والإسقاط سبب للهلاك عادة، ثم لا يتعين في الضمان، كونه سببا معتادا، فإن الضربة والضربتين بالسوط، ليست سببا للهلاك في العادة، ومتى أفضت إليه وجب الضمان.
(3) قال: إذا ماتت فزعا، من إرسال السلطان إليها، فجزم الموفق: أنه يضمنها، وهو أحد الوجهين: والمذهب منهما، جزم به في الهداية والخلاصة والمغني والشرح، ونصراه في موضع، وقدمه في الرعاية والحاوي الصغير.
(4) ففي الإقناع وشرحه، أو ماتت بوضعها من الفزع، أو ماتت من غير وضع فزعا، أو ذهب عقلها من ذلك، أو استعدى إنسان عليها إلى السلطان، ضمن السلطان ما كان بطلبه ابتداء وضمن المستعدي ما كان بسببه، من موتها فزعا أو إلقاء جنينها لحصول الهلاك بسببه.
(5) ككبريت وعظم.
(6) أي علم أنها تموت، أو يموت حملها، من ريح ذلك عادة، أي بحسب المعتاد، وأن الحامل هناك ماتت لتسببه فيه، وكذا إن علم أن عنده من يتضرر بذلك عادة، وإلا فلا إثم ولا ضمان.(7/238)
(ومن أمر شخصا مكلفا، أن ينزل بئرا أو) أمره أن (يصعد شجرة) ففعل (1) (فهلك به) أي بنزوله، أو صعوده (لم يضمنه) الآمر (2) (ولو أن الآمر سلطان) لعدم إكراهه له (3) (وكما لو استأجره سلطان أو غيره) لذلك وهلك به (4) لأنه لم يجن، لم يتعد عليه (5) وكذا لو سلم بالغ عاقل، نفسه أو ولده، إلى سابح حاذق، ليعلمه السباحة، فغرق، لم يضمنه السابح (6) .
__________
(1) فهلك لم يضمنه سواء كان الآمر مكلفا أو غير مكلف.
(2) قولا واحدا، لأنه لم يجن ولم يتعد عليه، فلم يلزمه ضمانه، أشبه ما لو أذن له ولم يأمره.
(3) هذا أحد الوجهين، والوجه الثاني: يضمنه السلطان، لأنه يخاف منه إذا خالفه وهو مأمور بطاعته.
(4) صححه في التصحيح، وجزم به في الوجيز، وقدمه في المحرر والفروع، وغيرهما.
(5) فلم يلزمه ضمانه، كما لو أذن له في ذلك، ولم يأمره به، وإن أمر غير مكلف ضمنه، لأنه تسبب في إتلافه جزم به في التنقيح، وقال الموفق: إذا كان المأمور صغيرا لا يميز فعليه، وإن كان مميزا لا ضمان، قال في الفروع: ولعل مراد الشيخ، ما جرى به عرف وعادة، كقرابة وصحبة، وتعليم ونحوه، فهذا متجه وإلا ضمنه وقد كان ابن عباس يلعب مع الصبيان، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاوية: قال النووي: لا يقال هذا تصرف في منفعة الصبي، لأنه قدر يسير ورد الشرع بالمسامحة به، واطرد به العرف وعمل المسلمين.
(6) لأنه فعل ما جرت العادة به لمصلحته، كضرب المعلم الصبي الضرب المعتاد، ما لم يفرط السابح، بأن غفل عنه، أو لم يشد ما يسبحه عليه شدا جيدا، أو جعله في ماء كثير جار، أو واقف لا يحمله، أو عميق معروف بالغرق، ضمنه.(7/239)
باب المقادير ديات النفس (1)
المقادير جمع مقدار، وهو مبلغ الشيء وقدره (2) (دية الحر المسلم مائة بعير (3) أو ألف مثقال ذهبا، أو اثنا عشر ألف درهم فضة (4) أو مائتا بقرة أو ألفا شاة) (5) لحديث أبي داود عن جابر رضي الله عنه (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدية على أهل الإبل، مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتين بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة) .
__________
(1) تختلف مقادير ديات النفس، بالإسلام والحرية والذكورة وضدها، وكذا بكونه موجودا للعيان، أو جنينا، كما يأتي تفصيله.
(2) والمقدار القدرة: مبلغ الشيء، وهو ما يعرف به قدر الشيء، من معدود وغيره.
(3) بإجماع أهل العلم ويأتي أنها الأصل عند الجمهور، وقال الموفق لا نعلم خلافا بين أهل العلم، أن الإبل أصل في الدية، وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل وقد دلت عليه الأحاديث.
(4) من دراهم الإسلام، التي كل عشرة منها سبعة مثاقيل.
(5) قال القاضي: لا يختلف المذهب، أن أصول الدية: الإبل، والذهب والورق، والبقر، والغنم، وقال الموفق: لا يختلف القائلون بهذه الأصول في قدرها، إلا الورق، فقال أبو حنيفة عشرة آلاف، وروي عن بعض السلف.(7/240)
رواه أبو داود (1) وعن عكرمة عن ابن عباس، أن رجلا قتل، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ديته اثني عشر ألف درهم (2) وفي كتاب عمرو بن حزم وعلى أهل الذهب ألف دينار (3) .
(هذه) الخمس المذكورات (أصول الدية) دون غيرها (4) (فأيها أحضر من تلزمه) أي الدية (لزم الولي قبوله) (5) سواء كان ولي الجناية من أهل ذلك النوع، أو لم يكن (6) لأنه أتى بالأصل في قضاء الواجب عليه (7) .
__________
(1) فاستدل بعض أهل العلم بهذا الحديث، على أن هذه الخمسة أصول الدية، واعتضدوا بما يأتي وغيره.
(2) رواه أبو داود، وابن ماجه.
(3) رواه النسائي وغيره، وإلى هذه ذهب جماعة من أهل العلم.
(4) أي دون ما روي من ذكر الحلل وعنه: هي أصل، لخبر عمر، قال الموفق: وكان بمحضر من الصحابة، فكان إجماعا.
(5) أي لزم مستحق الدية قبول الأصل، الذي أحضر من وجب عليه، لما تقدم وهو من مفردات المذهب.
(6) من جنس ماله، فالخبرة إلى من وجبت عليه، كخصال الكفارة.
(7) أي: من أي صنف من الأصناف الخمسة المذكورة، وعنه: أن الإبل هي الأصل فإن قدر عليها أخرجها، ومتى وجدت على الصفة المشروطة، وجب أخذها قلت قيمتها أو كثرت، لقوله صلى الله عليه وسلم «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» وهو مذهب جمهور العلماء.
وقال ابن منجا: هذه الرواية هي الصحيحة، من حيث الدليل، وقال الزركشي هي أظهر دليلا، وهي ظاهر كلام الخرقي، ومذهب الشافعي، لقوله صلى الله عليه وسلم «ألا إن في قتيل عمد الخطأ مائة من الإبل» فحديث عمرو بن شعيب، ظاهر في أن الإبل هي الأصل في الوجوب، وقال أبو حنيفة والشافعي: هي من الإبل للنص، ومن النقدين تقويما، وما سواهما صلح.
ولأبي داود: أن عمر قام خطيبا، فقال: ألا إن الإبل قد غلت: فقوم علي أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، ولأنه غلظ بها دية العمد، وخفف بها دية الخطأ وأجمع عليه أهل العلم، فلا يتحقق في غير الإبل فهي الأصل، وغيرها معتبر بها ولمرجحات أخر.(7/241)
ثم تارة تغلظ الدية وتارة تخفف (فـ) تغلظ (في قتل العمد وشبهه) (1) فيؤخذ (خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة) (2) .
__________
(1) لأنه صلى الله عليه وسلم فرق بين دية العمد والخطأ، فغلظ بعضها وخفف بعضها، ولا نزاع في ذلك، إلا ما روي عن أبي ثور، والسنة تخالف قوله فلا يعول عليه.
(2) نص عليه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وغيرهم من السلف، لما روى الزهري عن السائب بن يزيد، قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعا خمسا وعشرين جذعة، وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنت لبون، وخمسا وعشرين بنت مخاض، وعن أحمد: أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، لما رواه الترمذي، ونحوه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا قال: «عقل شبه العمد مغلظ، مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه» وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فتكون دماء في غير ضغينة، ولا حمل سلاح رواه أحمد وغيره.(7/242)
ولا تغليظ في غير إبل (1) (و) تكون الدية (في الخطإ) مخففة (2) فـ (تجب أخماس، ثمانون من الأربعة المذكورة) أي عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة (وعشرون من بني مخاض) (3) هذا قول ابن مسعود (4) .
__________
(1) بلا نزاع إذ لم يرد الشرع به.
(2) بلا نزاع في المذهب.
(3) لما رواه أهل السنن وغيرهم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بني مخاض، وعشرون بنت لبون» .
(4) رضي الله عنه، وأصحاب الرأي، وقال مالك والشافعي: بني لبون بدل بني مخاض، وقال ابن القيم: روي من وجوه متعددة، وذكر الاختلاف في الأسنان، ثم قال: كل هذا يدل على أنه ليس في الأسنان شيء مقدر، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أقوال التابعين، ثم قال: قول صحابي من فقهاء الصحابة أولى من قول التابعين.(7/243)
وكذا حكم الأطراف (1) وتؤخذ من بقر مسنات، وأتبعة (2) ومن غنم ثنايا، وأجذعة نصفين (3) (ولا تعتبر القيمة في ذلك) أي أن تبلغ قيمة الإبل، أو البقر أو الشياه، دية نقد (4) لإطلاق الحديث السابق (5) (بل) تعتبر فيها (السلامة) من العيوب (6) .
__________
(1) فتغلظ دية طرف، وجرح كدية قتل، لاتفاقهما، في السبب، مثل أن يوضحه عمدا، أو شبه عمد فإنه يجب أرباعا، والخامس من أحد الأنواع الأربعة قيمته ربع قيمة الأربع، وخطأ يجب من الأنواع الخمسة.
(2) لأن ذلك هو العدل، فلو أخذ الكل مسناة، كان إجحافا بالجاني، أو أتبعة كان إجحافا على المجني عليه.
(3) أي يجب أن يدفع ألفا من الثنايا، وألفا من الأجذعة، والثنايا يجوز كونها من الضأن أو المعز، أو منهما، وأما الأجذعة فمن الضأن، لأنه يجب في الدية، ما يجب في الزكاة، من الأسنان المقدرة، قياسا على الإبل.
(4) وصححه الموفق وغيره، فمتى وجدت على الصفة المشروطة، وجب أخذها سواء قلت قيمتها، أو كثرت، وهو ظاهر مذهب الشافعي.
(5) لقوله صلى الله عليه وسلم «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» وهو مطلق، ولأنها كانت تؤخذ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقيمتها ثمانية آلاف وقول عمر: إنها قد غلت فقومها على أهل الورق اثني عشر ألفا دليل على أنها في حال رخصها، أقل قيمة من ذلك.
(6) في كل الأنواع، وفي الرعاية: لا يجزئ مريض، ولا عجيف ولا معيب، ولا دون دية الأثمان على الأصح.(7/244)
لأن الإطلاق يقتضي السلامة (1) (ودية) الحر (الكتابي) الذمي، أو المعاهد، أو المستأمن (نصف دية المسلم) (2) لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضي بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين) رواه أحمد (3) وكذا جراحه (4) (ودية المجوسي) الذمي أو المعاهد، أو المستأمن (5) (و) دية (الوثني) المعاهد أو المستأمن (ثمان مائة درهم) كسائر المشركين (6) .
__________
(1) أي من العيوب، وذكره غير واحد قولا واحدا.
(2) هذا ظاهر المذهب، وقال أبو بكر رواية واحدة، ومذهب مالك، والذمي: هو من يؤدي الجزية من المشركين، والمعاهد: هو الذي يعاهده السلطان، وهو في بلده، والمستأمن، هو الذي يعطي أمانا، أو يسافر إلينا تاجرا، أو زائرا أو نحوهما.
(3) ورواه أبو داود وغيره، وفي لفظ: «دية المعاهد نصف دية المسلم» قال الخطابي: ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا، ولا بأس بإسناده.
(4) أي الكتابي فتعتبر بالنسبة من ديته،، لأن الجرح تابع للقتل.
(5) بدارنا أو غيرها ثمان مائة درهم، في قول عمر وعثمان، وابن مسعود، وغيرهم، وذهب إليه أكثر أهل العلم، وقال في الإنصاف بلا نزاع، لما روى ابن عدي، عن عقبة بن عامر مرفوعا، «دية المجوسي ثمان مائة درهم» قال أحمد: ما أقل من اختلف في دية المجوسي.
(6) من الدهرين، ومن لا كتاب لهم، كالترك ومن عبد ما استحسن ومن لم تبلغه الدعوة إن وجد، وإن لم يكن لهم أمان ولا عهد، فلا دية لهم، لأن دماءهم مهدرة.(7/245)
روي عن عمر وعثمان، وابن مسعود (1) وجراحه بالنسبة (2) (ونساؤهم) أي نساء أهل الكتاب، والمجوس، وعبدة الأوثان، وسائر المشركين (على النصف) من دية ذكرانهم (3) (كـ) دية نساء (المسلمين) (4) لما في كتاب عمرو بن حزم: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» (5) .
__________
(1) أي أنهم أفتوا به في المجوسي، قال الموفق: ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا، فكان إجماعا، وألحق بالمجوسي باقي المشركين، لأنهم دونه، وهو مذهب مالك والشافعي.
(2) أي وجراح كل واحد منهم بالنسبة من ديته، قيل لأحمد: جني على مجوسي في عينه، وفي يده، قال: يكون بحساب ديته.
(3) قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم، على أن دية المرأة نصف دية الرجل، ولأنه لما كان دية نساء المسلمين، على النصف من دياتهم، كذلك نساء أهل الكتاب، قياسا عليهم.
(4) أي المجمع عليها، كما حكاه ابن المنذر، وابن عبد البر، وغيرهما، وقال الوزير وغيره: أجمعوا على أن دية المرأة الحرة في نفسها، على النصف من دية الرجل الحر المسلم.
(5) قال في الإنصاف: بلا نزاع، قال ابن القيم: لما كانت المرأة أنقص من الرجل والرجل أنفع منها، ويسد ما لا تسد المرأة، من المناصب الدينية، والولايات وحفظ الثغور، والجهاد وعمارة الأرض، وعمل الصنائع، التي لا تتم مصالح العالم إلا بها، والذب عن الدنيا والدين، ولم تكن قيمتها مع ذلك متساوية، وهي الدية، فإن دية الحر، جارية مجرى قيمة العبد، وغيره من الأموال فاقتضت حكمة الشارع، أن جعل قيمتها على النصف من قيمته لتفاوت ما بينهما.(7/246)
ويستوي الذكر والأنثى، فيما يوجب دون ثلث الدية (1) لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا «عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته» أخرجه النسائي (2) ودية خنثى مشكل، نصف دية كل منهما (3) (ودية قن) ذكرا كان أو أنثى، صغيرا أو كبيرا (4) .
__________
(1) قال ابن عبد البر: هذا قول فقهاء المدينة، وروي عن عمر وغيره، وهو مذهب مالك، وحكي عن الشافعي في القديم.
(2) وقال سعيد بن المسيب: إنه السنة، وقال ابن القيم: وإن خالف فيه أبو حنيفة، والشافعي وجماعة، وقالوا: هي على النصف في القليل والكثير، ولكن السنة أولى، والفرق فيما دون الثلث، ما زاد عليه، أن ما دونه قليل، فجبرت مصيبة المرأة فيه، بمساواتها للرجل ولهذا استوى الجنين الذكر والأنثى في الدية، لقلة ديته، وهي الغرة فنزل ما دون الثلث منزلة الجنين.
(3) أي نصف دية رجل، ونصف دية امرأة، وذكره في الإنصاف، بلا نزاع، وذلك ثلاثة أرباع دية الذكر، لأنه يحتمل الذكورية، والأنوثية، وهذا مذهب أصحاب الرأي.
(4) قيمته بالغة ما بلغت، هذا المذهب وقول مالك والشافعي وأبي يوسف، قال الموفق: أجمع أهل العلم، على أن في العبد الذي لا تبلغ قيمته دية الحر قيمته، فإن بلغت قيمته دية الحر، أو زادت فذهب أحمد في المشهور عنه إلى أن فيه قيمته بالغة ما بلغت.(7/247)
ولو مدبرا أو مكاتبا (قيمته) (1) عمدا كان القتل، أو خطأ (2) لأنه متقوم فضمن بقيمته، بالغة ما بلغت، كالفرس (3) (وفي جراحه) أي جراح القن إن قدر من حر، بقسطه من قيمته (4) ففي يده نصف قيمته، نقص بالجناية أقل من ذلك، أو أكثر (5) .
__________
(1) لقوله صلى الله عليه وسلم «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» وقال الخطابي: أجمع عوام الفقهاء على ان المكاتب عبد، ما بقي عليه درهم في جنايته والجناية عليه إلا إبراهيم النخعي، فإنه قال: يؤدي بقدر ما أدى من كتابته، دية الحر، ولأحمد وأبي داود عن ابن عباس: «قضى صلى الله عليه وسلم في المكاتب يقتل، إنه يؤدي ما أدى من كتابته دية الحر، وما بقي دية العبد» قال الخطابي: وإذا صح الحديث وجب القول به، إن لم يكن منسوخا، أو معارضا بما هو أقوى منه.
(2) ضمن باليد، أو بالجناية، وهو مذهب جمهور العلماء.
(3) أو مضمون بقيمته، فكانت جميع القيمة مضمونة، كما ضمنه باليد، ويخالف الحر، فإنه ليس مضمونا بالقيمة، وإنما ضمن بما قدره الشرع، فلم يتجاوز.
(4) بعد التئامه قالوا: ولو زاد على أرش الموضحة لأن قيمته كدية الحر.
(5) لأنه ساوى الحر في ضمان الجناية بالقصاص والكفارة، فسواه في اعتبار ما دون النفس، كالرجل والمرأة وعنه: أنه يضمن بما نقص مطلقا، اختاره الخلال والموفق الشارح، وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين، وغيرهم، وجزم به في الوجير، وصوبه في الإنصاف، لأن الواجب إنما وجب جبرا لما فات بالجناية، ولا تجبر إلا بإيجاب ما نقص من القيمة، فيجب ذلك، كما لو كانت الجناية على غيره من الحيوانات.(7/248)
وفي أنفه قيمته كاملة (1) وإن قطع ذكره ثم خصاه، فقيمته لقطع ذكره، وقيمته مقطوعة (2) وملك سيده باق عليه (3) وإن لم يقدر من حر (4) ضمن بـ (ما نقصه) بجنايته (بعد البرء) أي التئام جرحه، كالجناية على غيره من الحيوانات (5) .
(ويجب في الجنين) الحر (ذكرا كان أو أنثى) إذا سقط ميتا بجناية على أمه، عمدا أو خطأ (عشر دية أمه غرة) أي عبدا أو أمة (6) .
__________
(1) وكل ما أوجب الدية في الحر، وهو قول الشافعي.
(2) أي فعليه قيمته صحيحا، لقطع ذكره، وعليه قيمته أيضا مقطوعة، أي ناقصا بقطع ذكره، لقطع خصيته، لأنه لم يقطعهما إلا وقد نقصت قيمته بقطع الذكر، فلو كانت قيمته مثلا كاملة مائة، وقيمته وهو مقطوع الذكر، ثمانون، لزم الجاني مائة وثمانون، بخلاف ما لو قطعهما معا، أو أذهب سمعه وبصره، بجناية واحدة، فعليه قيمته مرتين، هذا على ما جرى عليه، في الإقناع والمنتهى وغيرهما.
(3) لأنه لم يوجد سبب يقتضي الزوال، فوجب بقاؤه على ملكه، عملا باستصحاب الحال، لأن قطع بعض أعضائه بمنزلة تلف بعض ماله.
(4) كالحارصة والبازلة، فإن فيهما من الحر حكومة لا تقدر.
(5) أي لأن ما ضمن من جنايته جبر لما فات بالجناية، وقد انجبر بذلك، وإن لم تنقصه بعد البرء، قدرت حال جريان الدم.
(6) وفاقا، والأحسن تنوين غرة، وعبد أو أمة بدل فالغرة اسم للعبد، سميا
بذلك، لأنهما من أنفس الأموال، والأصل في ذلك قصة الهذليتين
رمت إحداهما الأخرى فقتلتها وما في بطنها، فقضي صلى الله عليه وسلم «أن دية جنينها عبد، أو أمة» وتورث الغرة عنه، كأنه سقط حيا، لأنها دية له، وهو مذهب الجمهور.(7/249)
قيمتها خمس من الإبل، إن كان حرا مسلما (1) .
(و) يجب في الجنين (عشر قيمتها) أي قيمة أمه (إن كان) الجنين (مملوكا (2) وتقدر الحرة) الحامل برقيق (أمة) (3) ويؤخذ عشر قيمتها، يوم جنايته عليها، نقدا (4) وإن سقط حيا لوقت يعيش لمثله، وهو نصف سنة فأكثر، ففيه إذا مات ما فيه مولودا (5) .
__________
(1) قيمتها.. إلخ، صفة للبدل، لا للمبدل، منه، لئلا يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بالبدل، وأنث الضمير إما رعاية لأقرب مذكور، أو بتأويل النفس أو غلط، والخمس نصف عشر الدية، روي ذلك عن عمر وغيره، ولأنه أقل ما قدره الشرع في الجناية، وظاهره أن ذلك معتبر، سواء قيل: إن الإبل هي الأصل في الدية أو واحد الأصول.
(2) وهو مذهب مالك والشافعي، كما لو جنى عليها موضحة، ولأنه جنين آدمية وقيمة الأمة بمنزلة دية الحرة، كما تقدم.
(3) كما لو أعتق الحامل، واستثنى حملها، قومت رقيقة.
(4) اعتبارا بحال الجنين، ولا يجب مع الغرة، ضمان نقص الأم، وحكم ولد المدبرة ونحوها من غير سيدها، حكم ولد الأمة، لأنه مملوك.
(5) فإن كان ذكرا حرا مسلما فديته، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه،
أن في الجنين يسقط حيا من الضرب، دية كاملة، لأنه مات بجنايته أشبه
ما لو باشر قتله، وإن لم يكن سقوطه لوقت يعيش لمثله، كدون نصف سنة، فكميت لأن العادة لم تجر بحياته، قال الموفق: في قول عامة أهل العلم، وإن اختلفا فقول جان، لأنه منكر، وتتعدد الغرة أو الدية بتعدد الجنين، فإن اختلفا حياة وموتا ففي كل حكمه ففي الحي ديته بشرطه، وفي الميت غرة.(7/250)
وفي جنين دابة ما نقص أمه (1) (وإن جنى رقيق خطأ أو) جنى (عمدا لا قود فيه) كالجائفة (2) (أو) جنى عمدا (فيه قود واختير فيه المال، أو أتلف) رقيق (مالا) وكانت الجناية والإتلاف (بغير إذن السيد تعلق) ما وجب بـ (ذلك برقبته) (3) لأنه موجب جنايته فوجب أن يتعلق ذلك برقبته، كالقصاص (4) (فيخير سيده بين أن يفديه بأرش جنايته) إن كان قدر قيمته فأقل (5) .
__________
(1) كقطع بعض أجزائها، ولأنه إنما يجب بالجناية عليها نقصها، فكذا في جنينها.
(2) والمأمومة، أو كالباضعة.
(3) أي تعلق ما وجب بالجناية أو الإتلاف، برقبة العبد الجاني، لأنه لا يمكن تعلقها بذمته، لأنه يفضي إلى إلغائها، أو تأخير حق المجني عليه، إلى غير غاية، ولا بذمة السيد، لأنه لم يجن، فتعين تعليقها برقبة العبد.
(4) ثم لا يخلو أرش الجناية، من أن يكون بقدر قيمتها، أو أقل أو أكثر، فإن كان بقدرها فما دون.
(5) أو قيمة متلفه إن كان أقل من قيمته.(7/251)
وإن كان أكثر منها، لم يلزمه سوى قيمته، حيث لم يأذن في الجناية (1) (أو يسلمه) السيد (إلى ولي الجناية فيملكه (2) أو يبيعه) السيد (ويدفع ثمنه) لولي الجناية إن استغرقه أرش الجناية، وإلا دفع منه بقدره (3) وإن كانت الجناية بإذن السيد أو أمره (4) فداه بأرشها كله (5) وإن جنى عمدا فعفا الولي على رقبته، لم يملكه بغير رضى سيده (6) .
__________
(1) فيخير بين تسليمه، أو أن يفديه بقيمته، أو أرش جنايته، لأنه إذا أدى قيمته فقد أدى قدر الواجب عليه، فلم يلزمه أكثر من ذلك، ولأن الشرع قد جعل له فداءه، فكان الواجب قدر قيمته، بالغة ما بلغت، وهو مذهب مالك والشافعي، كسائر المتلفات.
(2) لأنه قد أدى المحل الذي تعلق الحق به، ولأن حق المجني عليه، لا يتعلق بأكثر من الرقبة وقد أداها، وإن طالب الجنى عليه السيد بتسليمه إليه، لم يجبر عليه السيد.
(3) أي وإن لم يستغرقها بأن كان الأقل الأرش، دفع من ثمنه بقدر أرش الجناية لأنه الذي وجب له.
(4) أي وإن كانت الجناية بأمر السيد، قال علي وأبو هريرة: إذا أمر عبده أن يقتل فإنما هو سوطه، يقتل المولى ويحبس العبد.
(5) قال أحمد: إذا أمر عبده فجنى، فعليه ما جني، وإن كان أكثر من ثمنه، وإن قطع يد حر، فعليه يد الحر، وإن كان ثمنه أقل، وإن أمره سيده أن يجرح رجلا، فما جنى فعليه قيمة جنايته، وإن كان أكثر من ثمنه.
(6) لأنه إذا لم يملكه بالجناية، فلأن لا يملكه بالعفو أولى، ولأنه إذا عفا عن القصاص، انتقل حقه إلى المال، فصار كالجاني جناية موجبة للمال.(7/252)
وإن جنى على عدد، زاحم كل بحصته (1) وشراء ولي قود له عفو عنه (2) .
__________
(1) وإن كان بعضهم بعد بعض، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي، لأنهم تساووا في سبب تعلق الحق، فتساووا في الاستحقاق، كما لو جنى عليهم دفعة واحدة، ذلك حيث كان ذلك خطأ أو شبه عمد، وأما إذا كانت جنايته عمدا، واختار بعضهم القود، فمن عفا فلا شيء له.
(2) أي عن القود، فيطالب البائع بالدية، وقياسه: لو أخذه عوضا، في نحو إجارة وجعالة لا إن ورثه.(7/253)
باب ديات الأعضاء ومنافعها
أي منافع الأعضاء (1) (من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف) (2) ولو من أخشم أو مع عوجه (3) (واللسان والذكر) ولو من صغير (4) (ففيه دية) تلك (النفس) التي قطع منها على التفصيل السابق (5) .
__________
(1) التالفة بالجناية عليها، والمنافع جمع منفعة، اسم مصدر، من نفعني كذا نفعا، ضد الضر، قال ابن العماد: في الآدمي خمسة وأربعون عضوا، منها ما يذكر ومنها ما يؤنث، ومنها ما يجوز فيه التأنيث والتذكير.
(2) ففيه دية نفسه كاملة، فإن كان من حر مسلم، ففيه ديته، وإن كان من حرة مسلمة، ففيه ديتها، وهكذا على التفصيل السابق.
(3) حكاه الوزير وغيره إجماعا.
(4) يحركه بالبكاء، هذا مذهب مالك والشافعي، فيما إذا قطع لسان صبي، لم يبلغ حد النطق، فيه الدية كاملة، وكذا شيخ فان لأن في إتلاف الأنف واللسان والذكر الذي لم يخلق الله منه في الإنسان إلا شيئا واحدا، إذهاب منفعة الجنس وإذهابها كالنفس، فوجبت دية النفس، وهو إجماع وسواء كان من صغير أو كبير.
(5) أي ففي ما في الإنسان منه شيء واحد، كالأنف، واللسان، والذكر، دية تلك النفس، التي قطع منها، على التفصيل السابق، سواء كان ذكرا، أو أنثى حرا أو عبدا، أو ذميا، أو غيره، ممن تقدم، عند جمهور العلماء.(7/254)
لحديث عمرو بن حزم مرفوعا وفي الذكر الدية (1) وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية (2) وفي اللسان الدية) (3) رواه أحمد والنسائي واللفظ له (4) (وما فيه) أي في الإنسان (منه شيئان كالعينين) (5) ولو مع حول أو عمش (6) (و) كـ (الأذنين) ولو أصم (7) .
__________
(1) وإن قطع نصفه بالطول، ففيه الدية كاملة، لأنه ذهب بمنفعة الجماع، وصوبه في الإنصاف وعن أحمد في ذكر العنين كمال ديته وصوبه أيضا.
(2) أي إذا أوعب قطعا، وحكاه الوزير إجماعا، وإن قطع المارن وشيء من القصبة فعليه دية واحدة، ويندرج ما قطع من القصبة في دية الأنف، كما لو قطع اليدين مما فوق الكوع.
(3) سواء كان ينطق به كبير، أو يحركه صغير ببكائه، ففيه دية نفسه، وفي لسان الأخرس حكومة، إذا لم يذهب الذوق بقطعة، أو قد ذهب قبل، فإن ذهب بقطعه فالدية.
(4) وصححه أحمد وابن حبان الحاكم والبيهقي، وصححه غيرهم من حيث الشهرة.
(5) ففيهما دية نفسه، إذا أذهب بصرهما إجماعا، سواء كان من ذكر أو أنثى، أو خنثى مسلم أو كافر على ما تقدم.
(6) أي فيهما الدية، ولو مع حول العينين أو عمش بهما والحول في العينين، أن تكون كأنها تنظر إلى الحجاج، وفيهما أيضا: القبل؛ وهو أن تكون: كأنها تنظر إلى عرض الأنف، ومرض وبياض لا ينقص النظر وإلا بقدره.
(7) إذا أتلفهما ففيهما الدية وفاقا، لأن فيهما جمع الصوت، ودفع الهوام وقال الوزير: أجمعوا على أن في أشراف الأذنين، وهي الجلد القائم بين العذار، والبياض الذي حولها الدية، إلا في إحدى الروايتين عن مالك.(7/255)
(و) كـ (الشفتين (1) و) كـ (اللحيين) وهما: العظمان اللذان فيهما الأسنان (2) (و) كـ (ثديي المرأة و) كـ (ثندوتي الرجل) بالثاء المثلثة، فإن ضممتها همزت، وإن فتحتها لم تهمز (3) وهما للرجل بمنزلة الثديين للمرأة (4) (و) كـ (اليدين والرجلين (5) والإليتين والأنثيين (6) .
__________
(1) إذا أتلفهما الدية، عند جماهير العلماء، وقال الموفق: لا نعلم فيهما مخالفا.
(2) إذا أتلفهما ففيهما الدية، لأن فيهما نفعا وجمالا، وليس في البدن مثلهما، فإن قلعهما بما عليهما من الأسنان، فديتهما ودية الأسنان.
(3) وهي مفرز الثدي، ففيهما الدية.
(4) وقال الجوهري: الثدي للرجل والمرأة وهو أصح في اللغة، وفي ثديي المرأة الدية بالإجماع، قاله في المبدع، وكذا في ثندوتي الرجل، لأنه يحصل بهما الجمال، وليس في البدن غيرهما من جنسهما.
(5) ففي اليدين الدية، سواء قطعهما من الكوع، أو المنكب، أو مما بينهما، لأن اليد اسم للجميع، لأنه لما نزلت آية التيمم، مسح الصحابة إلى المناكب، وفي الرجلين الدية، ومفصل الكعبين مثل مفصل الكفين، وقال الوزير وغيره: في اليدين الدية، وفي الرجلين الدية إجماعا.
(6) أي وفي الإليتين الدية، وهما ما علا وأشرف من الظهر عن استواء الفخذين، وإن لم يصل إلى العظم الذي تحتهما وفي الأنثيين الدية إجماعا سواء رضهما، أو سلهما، أو قطعهما.(7/256)
وإسكتي المرأة) بكسر الهمزة وفتحها (1) وهما شفراها (2) (ففيهما الدية (3) وفي أحدهما نصفها) أي نصف الدية لتلك النفس (4) (وفي المنخرين ثلثا الدية (5) وفي الحاجز بينهما ثلثها) (6) لأن المران يشمل ثلاثة أشياء، منخرين وحاجزا (7) .
__________
(1) وهما اللحمتان المحيطتان بالفرج من جانبيه، إحاطة الشفتين.
(2) بضم الشين، وقال أهل اللغة، الشفران حاشية الإسكتين.
(3) لأن فيهما منفعة وجمالا وليس في البدن غيرهما من جنسهما، قال الموفق وغيره: ما في الإنسان منه شيئان ففيهما الدية، كالعينين، والأذنين، والشفتين واللحيين وثديي المرأة، وثندوتي الرجل، واليدين والرجلين، والخصيتين والإليتين، وفي أحدهما نصفها، لا نعلم فيه مخالفا.
وفي كتاب عمرو بن حزم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له «وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية» قال ابن عبد البر: كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء، وما فيه متفق عليه، إلا قليلا.
(4) تقدم قول الموفق أنه لا يعلم فيه مخالفا، وحكاه الوزير وغيره إجماعا.
(5) المنخر كمسجد قد تكسر اتباعا للخاء.
(6) استظهره الموفق وغيره.
(7) وما في الإنسان منه ثلاثة أشياء، وزعت الدية على جميعها، كما وزعت الدية أرباعا، على ما هو أربعة أشياء.(7/257)
فوجب توزيع الدية على عددها (1) (وفي الأجفان الأربعة الدية (2) وفي كل جفن ربعها) أي ربع الدية (3) (وفي أصابع اليدين) إذا قطعت (الدية (4) كأصابع الرجلين) ففيها دية إذا قطعت (5) (وفي كل أصبع) من أصابع اليدين أو الرجلين (عشر الدية) (6) لحديث ابن عباس مرفوعا «دية أصابع اليدين والرجلين، عشر من الإبل لكل أصبع» رواه الترمذي وصححه (7) .
__________
(1) كما وزعت على الأصابع، وعلى ما فيه منه اثنان، كاليدين، والرجلين، ونحوها مما تقدم، وإن قطع أحد المنخرين ونصف الحاجز، ففي ذلك نصف الدية.
(2) إجماعا حكاه الوزير وغيره، ولو من أعمى.
(3) كغيرها مما وزعت على ما فيه منه اثنان فأكثر، ولأن فيها جمال ظاهر، ونفع كامل تكن العين وتحفظها من الحر والبرد، فوجبت فيها الدية، ووجب في كل واحد منها ربعها، وإن قطعها بأجفانها، لم يجب أكثر من الدية، لأن الشعر زال تبعا لزوال الأجفان، فلم يجب فيه شيء كالأصابع مع اليدين.
(4) قولا واحدا.
(5) كأصابع اليدين.
(6) لأن عشر الدية على عددها، كما قسمت على عدد الأجفان، وغيرها.
(7) وللبخاري عنه مرفوعا «هذه وهذه سواء» ، يعني الخنصر والإبهام، فدل الحديثان على وجوب الدية، في أصابع اليدين، والرجلين، وأن في كل أصبع عشرها.(7/258)
(وفي كل أنملة) من أصابع اليدين أو الرجلين (ثلث عشر الدية) لأن في كل أصبع ثلاث مفاصل (1) (والإبهام) فيه (مفصلان (2) وفي كل مفصل) منهما (نصف عشر الدية (3) كدية السن) يعني أن في كل سن، أو ناب أو ضرس، ولو من صغير ولم يعد، خمسا من الإبل (4) لخبر عمرو بن حزم مرفوعًا: «في السن خمس من الإبل» رواه النسائي (5) .
__________
(1) فتقسم دية الأصبع عليها، كما قسمت دية اليد على الأصابع بالسوية.
(2) فتقسم دية الأصبع عليهما.
(3) وهو خمس من الإبل، وقيل في الظفر إذا قلعه ولم يعد، خمس دية الإصبع وروي عن ابن عباس، وقال ابن المنذر: لم يعلم له مخالف من الصحابة، وقال الموفق وغيره: فيه حكومة كسائر الجراح التي ليس فيها مقدر.
(4) قال الموفق: لانعلم خلافا في أن دية الأسنان، خمس، خمس، في كل سن، ولو من صغير ولم يعد، أو عاد أسود واستمر، أو عاد أبيض ثم أسود بلا علة.
(5) وعن عمرو بن شعيب مرفوعا «في الأسنان خمس، خمس» رواه أبو داود، وكونها سواء، هو قول أكثر أهل العلم، متأيد بقوله صلى الله عليه وسلم «الأصابع سواء، والأسنان سواء، هذه وهذه سواء» رواه أبو داود وغيره، وهذا إذا قلعت ممن ثغر بلا خلاف، وأما من لم يثغر، فلا يجب بقلعها في الحال شيء وفاقا، وقال الموفق: لا أعلم فيه مخالفا، لأن العادة عود سنه، وينبغي أن ينتظر عودها، فإن مضت مدة يئس من عودها، وجبت ديتها، وإن نبت مكانها أخرى فلا، لكن إن عادت قصيرة أو مشوهة ففيها حكومة، وكذا إن كان فيها ثلمة، أو نبتت أطول، لأن ذلك شيء حصل بسبب الجناية، فأشبه نقصها،
قال بعضهم:
يرى في فم الإنسان ثنتان بعدها ... ثلاثون سنا نصفها ذكر يعلو
فمنها الثنايا أربع ورباعيا ... بها أربع والناب أربعة مثل
وأضراسه عشرون منها ضواحك ... للأربعة الأولى التي نابه تتلو
وثنتان بعد العشر تدعى طواحنا ... والأربعة القصوى النواجذ قد تخلو(7/259)
.......................................................(7/260)
فصل في دية المنافع (1)
(و) تجب (في كل حاسة دية كاملة (2) وهي) أي الحواس (السمع والبصر (3) والشم والذوق) (4) لحديث «وفي السمع الدية» (5) .
__________
(1) من سمع وبصر وشم، وفي كلام ومشي، ونكاح ونحوها.
(2) عند أهل العلم في الجملة، على ما يأتي تفصيله، والحاسة القوة الحساسة يقال: حس وأحس، أي: علم وأيقن.
(3) فتجب الدية في إذهاب السمع، قال الوزير: أجمعوا وقال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم، على أن في السمع الدية، وقال الموفق: لا خلاف في وجوب الدية، بذهاب السمع، وفي البصر الدية، لوجوبها بذهاب العينين، فوجبت بإذهاب نفعهما.
(4) أي وفي الشم الدية، لانه حاسة يختص بمنفعة فكان في ذهابها الدية، قال الموفق: لا نعرف في هذا خلافا، وذكر القاضي في كتاب عمرو بن حزم، وفي المشام الدية، وأما الذوق فقيل فيه الدية، لأنه حاسة، فأشبه الشم، وقال الموفق: الصحيح إن شاء الله، أنه لا دية فيه، لأن في إجماعهم على أن لسان الأخرس، لا تكمل الدية فيه، إجماعا على أنها لا تكمل في ذهاب الذوق بمفرده قال الشارح: القياس لا دية فيه.
وأما اللمس، فقد اكتفوا بالشلل عنه مع كونه من الحواس، ولأن فيه تفصيلا.
(5) ذكره في التلخيص عن معاذ.(7/261)
ولقضاء عمر رضي الله عنه، في رجل ضرب رجلا، فذهب سمعه وبصره، ونكاحه وعقله، بأربع ديات، والرجل حي (1) (وكذا) تجب الدية كاملة (في الكلام و) في (العقل (2) و) في (منفعة المشي و) في منفعة (الأكل و) في منفعة (النكاح (3) و) في (عدم استمساك البول أو الغائط) (4) لأن في كل واحد من هذه، منفعة كبيرة، ليس في البدن مثلها (5) .
__________
(1) فدل على أن كل منفعة، من هذه المنافع الأربع، فيها الدية مفردة كانت أو معها غيرها، والأثر ذكره الإمام أحمد، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، ولأن كلا منها مختص بنفع، أشبه السمع المجمع عليه.
(2) بأن جني عليه فخرس، فتعلقت الدية بإتلاف تلك المنفعة، لأنه سلبه أعظم منافعه، وإنما تؤخذ إذا قال أهل المعرفة، لا يعود نطقه، وكذا تجب كاملة، في ذهاب العقل، وذكره بعضهم إجماعا، لما في كتاب عمرو بن حزم، وروي عن عمر وغيره، ولأنه أكبر المنافع، إذ به يتميز الإنسان من البهيمة، ولا يجري فيه القصاص للاختلاف في محله.
(3) أي وكذا تجب كاملة في ذهاب منفعة الأكل، لأنها منفعة مقصودة، وتجب في ذهاب منفعة النكاح كأن كسر صلبه، فذهب نكاحه لأنه منفعة مقصودة أشبه المشي.
(4) أي ففي كل واحدة منهما دية كاملة، وذلك بأن ضرب مثانته، فلم يستمسك البول، أو بطنه فلم يستمسك الغائط، قال الموفق: لا نعلم فيه مخالفا، إلا رواية أن فيها ثلث الدية، والصحيح الأول.
(5) فوجب بتفويت منفعته دية كاملة، كسائر الأعضاء المذكورة.(7/262)
كالسمع والبصر (1) وفي ذهاب بعض ذلك، إذا علم بقدره (2) ففي بعض الكلام بحسابه، ويقسم على ثمانية وعشرين حرفا (3) وإن لم يعلم قدر الذاهب، فحكومة (4) (و) يجب (في كل واحد من الشعور الأربعة الدية (5)) .
__________
(1) أي فتجب الدية كاملة في كل منفعة من تلك المنافع المذكورة، كما تجب في ذهاب السمع والبصر، المجمع على وجوبها في ذهاب أحدهما.
(2) لأن ما وجب فيه الدية، وجب بعضها في بعضه، كالأصابع واليدين.
(3) سوى «لا» فإن مخرجها مخرج اللام والألف، فمهما نقص من الحروف نقص من الدية بقدره.
(4) لما حصل من نقص، لأنه لا تقدير فيه، ففي نقص سمع وبصر، وشم ومشي، وانحناء قليلا، أو بأن صار مدهوشا، أو في كلامه تمتمة، أو عجلة، أو ثقل أولا يلتفت، أو لا يبلع ريقه إلا بشدة، أو أسود بياض عينيه، أو أحمر، أو تقلصت شفته، او احمرت فعليه حكومة، ويقبل قول مجني عليه، فينقص نحو بصره وسمعه، وإن اختلفا أري أهل الخبرة، ويمتحن بتقريب شيء إلى عينيه، وقت غفلته، فإن حركهما فهو يبصر، ويمتحن بمنتن في ذهاب شمه، ويمتحن بإطعام المر في ذهاب ذوقه، ونحو ذلك.
قال شيخ الإسلام: في رجل ضرب رأسه فادعى انه ذهب ضوء إحدى عينيه، وجفف خياشيمه وأخرس لسانه، يقام في الشمس، فإن لم يطرق فهو صادق، ويشم الحراق، فإن لم يؤثر عليه فهو صادق، ويغرز لسانه بإبرة فإن سال منه دم أسود، فهو صادق.
(5) كاملة، وفاقا لأبي حنيفة.(7/263)
وهي أي الشعور الأربعة (شعر الرأس و) شعر (اللحية و) شعر (الحاجبين وأهداب العينين) (1) روي عن علي، وزيد بن ثابت، رضي الله عنهما: في الشعر الدية (2) ولأنه أذهب الجمال على الكمال (3) وفي حاجب نصف الدية (4) وفي هدب ربعها (5) وفي شارب حكومة (6) (فإن عاد) الذاهب من تلك الشعور (فنبت سقط موجبه) (7) فإن كان أخذ شيئا رده (8) .
__________
(1) أي أحد الشعور الأربعة، شعر الرأس، خفيفا كان أو كثيفا، والثاني: شعر اللحية، وهو ما نبت على الحدين والذقن، والثالث: شعر الحاجبين، كثيفا كان أو خفيفا، والرابع شعر أهداب العينين، وإن قلع الأجفان بأهدابها، فدية واحدة.
(2) وهو قول سعيد بن المسيب، وشريح، والحسن وقتادة.
(3) فوجبت الدية كاملة، كأذن الأصم، وأنف الأخشم.
(4) لأن كل شيئين فيهما الدية، في أحدهما نصفها كاليدين.
(5) لأن الدية إذا وجبت في أربعة أشياء، وجب في كل واحد ربعها، كالأجفان، وفي بعض ذلك، بقسطه من الدية، وسواء كانت هذه الشعور، خفيفة أو كثيفة من صغير أو كبير.
(6) إن لم يعد، نص عليه، لأنه لا مقدر فيه، وتابع لغيره.
(7) وإن رجي عوده، انتظر ما يقوله أهل الخبرة.
(8) أي وإن عاد الذاهب، وكان المجني عليه، قد أخذ أرش الجناية، رده على صاحبه.(7/264)
وإن ترك من لحية أو غيرها ما لا جمال فيه، فدية كاملة (1) (و) يجب (في عين الأعور الدية كاملة) (2) قضى به عمر، وعثمان وعلي، وابن عمر، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم (3) ولأن قلع عين الأعور يتضمن إذهاب البصر كله لأنه يحصل بعين الأعور، ما يحصل بالعينين (4) وإن قلع صحيح عين أعور أقيد بشرطه (5) وعليه معه نصف الدية (6) .
__________
(1) لأنه أذهب المقصود منه كله، أشبه ما لو ذهب ضوء العينين، ولأنه ربما احتاج بجنايته، لإذهاب الباقي، لزيادته في القبح، على ذهاب الكل، ولا قصاص في هذه الشعور، لأن إتلافها إنما يكون بالجناية على محلها، وهو غير معلوم المقدار، ولا تمكن المساواة فيه.
(2) وهو مذهب مالك، والقياس نصفها، لولا ما روي عن الصحابة كما قال الموفق وغيره، ولو كان خطأ وهو من المواضع التي تغلظ فيها الغرامة بتضعيفها.
(3) فكان إجماعا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متأيد بقوله «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين» غير منسوخ، ولا مؤول، عمدته الشرع.
(4) لأنه يرى الأشياء البعيدة، ويدرك الأشياء اللطيفة، ويعمل أعمال البصير، والنقص الحاصل لم يؤثر في تنقيص أحكامه.
(5) وهو المكافأة والعمد المحض، ومماثلة عينه.
(6) لأنه لما ذهب بقلع عين الأعور جميع بصره، ولم يمكن إذهاب بصر القالع بقلع عينه الأخرى، لما فيه من أخذ عينين بعين واحدة، فله أخذ عينه الواحدة بنظيرتها، وأخذ نصف الدية، لنصف البصر الذي لا يمكنه استيفاؤه.(7/265)
(وإن قلع الأعور عين الصحيح) العينين (المماثلة لعينه الصحيحة عمدا، فعليه دية كاملة ولا قصاص) (1) روي عن عمر، وعثمان، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة (2) ولأن القصاص يفضي إلى استيفاء جميع البصر من الأعور (3) وهو إنما أذهب بصر عين واحدة (4) وإن كان قلعها خطأ فنصف الدية (5) (و) يجب (في قطع يد الأقطع) أو رجله ولو عمدا (نصف الدية كغيره) أي كغير الأقطع (6) وكبقية الأعضاء (7) ولو قطع يد صحيح أقيد بشرطه (8) .
__________
(1) وإن قلع عيني صحيح عمدا، فأكثر أهل العلم على أن له القصاص، ونصف الدية للعين الأخرى، قال الموفق، والشارح، وصاحب الفروع، هذا مقتضى الدليل.
(2) فكان إجماعا قضي به بدلا عن القصاص الذي أسقط عنه رفقا به.
(3) فوجبت الدية كاملة هنا، لأنها بدل الواجب.
(4) فلا قصاص، ولو كان عمدا.
(5) كصحيح العينين، وكسائر الأعضاء.
(6) وهو كونه ليس فيها إلا نصف الدية بالإجماع.
(7) فلو قطعت أذن من قطعت أذنه، أو منخر من قطعت منخره، لم يجب فيه أكثر من نصف الدية، قال الموفق: رواية واحدة ولأن أحد ذينك العضوين لا يقوم مقامهما بخلاف عين الأعور، فإنها قائمة في الإدراك مقام العينين فوجب فيها دية كاملة.
(8) وهو العمد والمماثلة، وذلك لوجوب الموجب، وانتفاء المانع.(7/266)
باب الشجاج وكسر العظام (1)
(الشج) : القطع (2) ومنه: شججت المفازة، أي: قطعتها (3) (الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة) (4) سميت بذلك، لأنها تقطع الجلدة (5) فإن كان في غيرهما، سمي جرحا لا شجة (6) (وهي) أي الشجة باعتبار تسميتها، المنقولة عن العرب (7) (عشر)
مرتبة (8) .
__________
(1) أي: باب بيان ما يجب في الشجاج، وما يجب في كسر العظام، إذا رجع في العمد إلى الدية، وما يجب فيها، في شبه العمد، والخطأ.
(2) قال في القاموس: شج رأسه يشج ويشج، كسره، وبينهم شجاج، أي: شج بعضهم بعضا.
(3) وشج البحر، أي: شقه.
(4) أي: وفي غيرهما الجرح فقط، فهو أعم من الشجة، والشجة: أخص من الجرح.
(5) أي سميت شجة، لأنها تقطع الجلدة من الرأس، أو الوجه.
(6) أي فإن كان الجرح في غير الرأس والوجه، سمي جرحا لا شجة، لاختصاص الشج بالرأس، والوجه.
(7) كما حكاه الأصمعي وغيره، من اللغويين، والفقهاء.
(8) معلومة بالاستقراء، مبدوءة بالأخف، خمس منها لا مقدر فيها، عند أكثر الفقهاء.(7/267)
أولها (الحارصة) بالحاء والصاد المهملتين (1) (التي تحرص الجلد، أي تشقه قليلا ولا تدميه) أي لا يسيل منه دم (2) والحرص الشق، يقال: حرص القصار الثوب، إذا شقه قليلا (3) وتسمى أيضا: القاشرة والقشرة (4) (ثم) يليها (البازلة (5) وهي الدامية، والدامعة) بالعين المهملة، لقلة سيلان الدم منها، تشبيها بخروج الدمع من العين (6) (وهي التي يسيل منها الدم (7) ثم) يليها (الباضعة، وهي: التي تبضع اللحم) أي تشقه بعد الجلد، ومنه سمي البضع (8) (ثم) يليها (المتلاحمة، وهي: الغائصة في اللحم) ولذلك اشتقت منه (9) .
__________
(1) قاله الأصمعي وغيره، وقيل: هي الحرصة.
(2) أي تقشر شيئا يسيرا من الجلد، ولا يظهر منه دم.
(3) ويقال لباطن الجلد، الحرصات، فسميت بذلك، لوصول الشق إليه.
(4) لقشرها الجلدة، وقال القاضي: والملطاة.
(5) والبازلة، الحارصة من الشجاج، ويقال بزل الشيء، إذا سال وبزله يبزله بزلا، وبزله تبزيلا شقه، وانبزل، انشق.
(6) أي فسميت دامعة لأجل ذلك.
(7) كما نقل عن العرب.
(8) وبضع الشيء فانبضع، قطعه شقه بالمبضع.
(9) أي الداخلة فيه، دخولا فوق الباضعة، ودون السمحاق.(7/268)
(ثم) يليها (السمحاق (1) وهي) التي (ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة) تسمة السمحاق، سميت الجراحة الواصلة، إليها بها (2) لأن هذه الجراحة، تأخذ في اللحم كله، حتى تصل إلى هذه القشرة (3) (فهذه الخمس لا مقدر فيها بل) فيها (حكومة) (4) لأنه لا توقيف فيها في الشرع، فكانت كجراحات بقية البدن (5) .
__________
(1) كقرطاس.
(2) وقيل هي الشجة، التي تبلغ تلك القشرة.
(3) أي الرقيقة التي سميت سمحاقا.
(4) قال الوزير: هذه الخمس ليس فيها تقدير شرعي، بإجماع الأئمة الأربعة إلا ما روي عن أحمد، من أنه ذهب إلى حكم زيد في ذلك، قال: وأجمعوا على أن في كل واحدة منها حكومة بعد الاندمال، وحكاه ابن رشد، وقال: وذلك لأن الأصل في الجراح الحكومة، إلا ما وقتت فيه السنة حدا اهـ.
والحكومة: أن يقوم المجني عليه قبل الجناية، كأنه كان عبدا، ويقال: كم قيمته قبل الجناية؟ وكم قيمته بعدها؟ فيكون بقدر التفاوت من ديته، والجمهور: لا يبلغ بشيء منها أرش الموقت.
(5) أي فكانت هذه الخمس المذكورة، حكمها كبقية جراحات البدن، التي لا مقدر فيها، وعن أحمد: أنه ذهب إلى حكم زيد بن ثابت، وروي عن علي وغيرهما، وحكم زيد في الدامية، بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة، وفي السمحاق أربعة قال أحمد: وأنا أذهب إليه.(7/269)
(وفي الموضحة، وهي ما توضح اللحم) هكذا في خطه، والصواب، العظم (وتبرزه) (1) عطف تفسير على توضحه، ولو أبرزته بقدر إبرة لمن ينظره (2) (خمسة أبعرة) (3) لحديث عمرو بن حزم (وفي الموضحة خمس من الإبل) (4) فإن عمت رأسا ونزلت إلى وجه فموضحتان (5) .
__________
(1) والوضح البياض، يعني أبدت بياض العظم، ولا يشترط وضوحا للناظر.
(2) أي علم وصولها بقدر رأس إبرة، لأن ذلك قد حصل به الإبراز، فلا فرق بين الصغيرة والكبيرة، والبارزة والمستورة بالشعر، لأن اسم الموضحة يشمل الجميع.
(3) بالإجماع، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن أرشها مقدر، وذلك في موضحة الحر المسلم، ولو أنثى.
(4) تقدم الكلام على حديث عمرو بن حزم، وفي السنن وحسنه الترمذي، من حديث عمرو بن شعيب، في المواضح خمس خمس، وتقدم أن المراد موضحة الحر.
(5) لأنه أوضحه في عضوين، فلكل حكم نفسه، وكذا لو لم تعمه، ونزلت إلى الوجه فموضحتان، وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز، فعشرة أبعرة، وإن ذهب الحاجز بفعل جان، أو سراية فواحدة، وإن أندملتا، ثم أزال الحاجز بينهما فثلاث، وقال ابن القيم: ومن الحيل الباطلة والمحرمة، إذا أوضح رأسه في موضعين، وجب عليه عشرة، فإذا أراد جعلها خمسة، فليوضحه ثالثة تخرق ما بينهما، وهذه الحيلة، مع أنها محرمة، فإنها لا تسقط ما وجب عليه، فإن العشرة، لا تجب عليه بالإندمال، فإذا فعل ذلك بعده، فهي موضحة ثالثة.(7/270)
(ثم) يليها (الهاشمة، وهي: التي توضح العظم وتهشمه) أي تكسره (1) (وفيها عشرة أبعرة) (2) روي عن زيد بن ثابت، ولم يعرف له في عصره مخالف من الصحابة (3) .
(ثم) يليها (المنقلة، وهي: ما توضح العظم وتهشمه، وتنقل عظامها (4) ، وفيها خمس عشرة من الإبل) (5) لحديث عمرو بن حزم (6) (وفي كل واحدة من المأمومة) وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ، وتسمى الآمة، وأم الدماغ (7) .
__________
(1) سميت هاشمة، لهشمها العظم.
(2) قال الموفق: لم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها تقدير، وأكثر من بلغنا قوله، من أهل العلم، على أن أرشها مقدر بعشر من الإبل.
(3) وهو قول الشافعي، ونحوه لأصحاب الرأي، لأنهم قدروها بعشر الدية من الدراهم ولأنها شجة فوق الموضحة تختص باسم فكان فيها مقدر، كالمأمومة ولو ضربه بمثقل فهشمه من غير أن يوضحه، فحكومة قال الموفق: بغير خلاف، ولو أوضحه موضحتين، هشم العظم في كل واحدة منهما اتصل في الباطن فهما هاشمتان، بخلاف الموضحة، لأنها ليست تبعا لغيرها فافترقا.
(4) وهي زائدة على الهاشمة فإنه يحتاج إلى نقل العظم ليلتئم.
(5) قال ابن المنذر: بإجماع أهل العلم.
(6) الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم قال: وفي المنقلة خمس عشرة من
الإبل.
(7) وهي جلدة الدماغ، أي تسمى الجلدة أم الدماغ، لا أن الشجة المذكورة
تسمى أم الدماغ، فهو من باب اللف والنشر، قال ابن عبد البر: أهل العراق يقولون لها: الآمة وأهل الحجاز: المأمومة، وهي الجراحة التي تصل إلى أم الدماغ، وأم الدماغ جلدة فيها الدماغ.(7/271)
(والدامغة) بالغين المعجمة، التي تخرج الجلدة (ثلث الدية) (1) لحديث عمرو بن حزم، «وفي المأمومة ثلث الدية» (2) والدامغة أبلغ (3) وإن هشمه بمثقل ولم يوضحه (4) أو طعنه في خده، فوصل إلى فمه فحكومة (5) كما لو أدخل غير زوج إصبعه في فرج
بكر (6) .
__________
(1) أي في كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية، قال الموفق وغيره: في المأمومة ثلث الدية، في قول عامة أهل العلم، فالدامغة أولى، وحكاه الوزير وغيره: إجماعا فيهما.
(2) وعن ابن عمر مرفوعا: نحو ذلك.
(3) أي من المأمومة، وقال القاضي: لم يذكر أصحابنا الدامغة، لمساواتها المأمومة في أرشها، وقيل فيها مع ذلك حكومة، لخرق جلدة الدماغ، ويحتمل أن ترك بعضهم لها، لكونها لا يسلم صاحبها غالبا.
(4) فحكومة حيث أنما دون الموضحة فيه حكومة.
(5) لأن باطن الفم حكمه حكم الظاهر، والمراد من غير كسر عظم، فإن كسر العظم ونفذ إلى الفم، ففيه دية منقلة.
(6) فإنه يجب فيه حكومة، لأنه لا تقدير فيه، وليس بجائفة، لأن ذلك ليس
بجوف.(7/272)
(وفي الجائفة ثلث الدية) (1) لما في كتاب عمرو بن حزم «وفي الجائفة ثلث الدية» (2) و (هي) أي الجائفة (التي تصل إلى باطن الجوف) كبطن ولو لم تخرق أمعاء (3) وظهر (4) وصدر وحلق (5) ومثانة، وبين خصيتين ودبر (6) وإن أدخل السهم من جانب فخرج من آخر، فجائفتان (7) .
__________
(1) قال الموفق: في قول عامة أهل العلم، منهم أهل المدينة، وأهل الكوفة وأهل الحديث، وأصحاب الرأي.
(2) وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، ولأنها جراحة فيها مقدر شرعي، ليس في جرح البدن، الخالية عن قطع الأعضاء، وكسر العظام غيرها.
(3) وذكر ابن عبد البر: اتفاق الفقهاء، على أن الجائفة لا تكون إلا في الجوف، وهو ما لا يظهر منه للرائي، وقال ابن القاسم: ما أفضى إلى الجوف، ولو بغرز إبرة.
(4) ففي الرعاية: هي ما وصل جوفا فيه قوة، يحيله الغذاء، من ظهر أو بطن وإن لم تخرق أمعاء.
(5) أو نحر، أو دماغ، وإن لم تخرق الخريطة، كما في الرعاية.
(6) فكل واحدة مما تقدم، جائفة، وإن جرحه في وركه، فوصل الجرح، إلى جوفه، أو أوضحه، فوصل الجرح إلى قفاه، فعليه دية جائفة، وحكومة في الأولى، وموضحة، وحكومة في الثانية، لجرح القفا والورك.
(7) وفاقا، وقال ابن عبد البر: لا أعلمهم يختلفون في ذلك.(7/273)
رواه سعيد بن المسيب عن أبي بكر (1) ومن وطئ زوجة لا يوطأ مثلها (2) فخرق ما بين مخرج بول ومني (3) أو ما بين السبيلين فعليه الدية إن لم يستمسك بول (4) وإلا فثلثها (5) وإن كانت ممن يوطأ مثلها لمثله فهدر (6) .
__________
(1) رضي الله عنه، وذلك أن رجلا رمى رجلا بسهم فأنفذه، فقضي فيه بثلثي الدية، وروي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن عمر قضى في الجائفة إذا نفذت إلى الجوف، بأرش جائفتين، ولا مخالف لهما، فكان إجماعا ولو التحمت الجائفة، أو الموضحة، وما فوقها من غير شين لم يسقط موجبها رواية واحدة.
(2) كصغيرة أو نحيفة، لا يوطأ مثلها لمثله.
(3) فلم يستمسك البول، فعليه الدية.
(4) وعليه المهر المسمى، لأن للبول مكانا في البدن، يجتمع فيه للخروج، فعدم استمساك البول إبطال لنفع ذلك المحل فوجبت الدية كما لو لم يستمسك الغائط، وهذا مذهب أبي حنيفة، وإن كان عمدا محضا، وهو أن يعلم أنها لا تطيقه، وهذا وأن وطأه يفضيها فأرش الجناية في ماله، وإن علم أنها لا تطيقه، وكان وطؤه مما يحتمل أن لا يفضيها فالأرش على العاقلة، لأنه شبه عمد.
(5) أي وإلا إن استمسك بول، مع خرق ما بين السبيلين، أو ما بين مخرج بول ومني، فعليه مع المهر ثلثها، وأرش البكارة.
(6) أو كانت أجنبية مطاوعة ولا شبهة، فوقع ذلك، فهدر، لحصوله من فعل مأذون فيه ولها مع شبهة أو إكراه المهر.(7/274)
(و) يجب (في الضلع) إذا جبر كما كان بعير (1) (و) يجب في (كل واحدة من الترقوتين بعير) (2) لما روى سعيد عن عمر رضي الله عنه: في الضلع جمل وفي الترقوة جمل (3) والترقوة: العظم المستدير حول العنق من النحر إلى الكتف، ولكل إنسان ترقوتان (4) وإن انجبر الضلع، أو الترقوة غير مستقيمين فحكومة (5) (و) يجب (في كسر الذراع، وهو: الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد (6) و) في (الفخذ و) في (الساق) والزند (إذا جبر ذلك مستقيما بعيران) (7) .
__________
(1) أي بأن لم تتغير صفته، والضلع: بكسر الضاد المعجمة، وفتح اللام أو إسكانها.
(2) إذا جبرت كما كانت وهو مذهب الشافعي.
(3) وكذا عن سعيد بن المسيب ومجاهد، وإسحاق وغيرهم، وقيل حكومة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وابن المنذر: لأن التقدير إنما يكون بتوقيف أو قياس صحيح، فالله أعلم، وحيث وجب بعير أو بعيران، فيجوز دفع قدره من غيره، من بقية الأصول المتقدم ذكرها، على ما تقدم.
(4) وجمعها: تراقي، قال تعالى: {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} .
(5) ويأتي بيانها.
(6) إذا جبر مستقيما بعيران.
(7) وعنه: في الزند الواحد أربعة أبعرة، لأنه عظمان، ويروى عن عمر
وفيما سواه بعيران، اختاره القاضي، والزند، مفصل طرف الذراع في الكف، وهما زندان يعرفان، بالكوع والكرسوع، وهو طرف الزند الذي يلي الخنصر، وهو الناتئ عن الرسغ.(7/275)
لما روى سعيد عن عمرو بن شعيب، أن عمرو بن العاص، كتب إلى عمر في أحد الزندين إذا كسر، فكتب إليه عمر، أن فيه بعيرين، وإذا كسر الزندان، ففيهما أربعة من الإبل، ولم يظهر له مخالف من الصحابة (1) (وما عدا ذلك) المذكور (من الجراح وكسر العظام) كخرزة صلب (2) وعصعص، وعانة (3) (ففيه حكومة (4) والحكومة: أن يقوم المجني عليه، كأنه عبد لا جناية به، ثم يقوم وهي) أي الجناية (به
__________
(1) فكان إجماعا، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: فيه حكومة.
(2) وهي فقاره، لكن إن أريد بها كسر الصلب، ففيه الدية.
(3) قال الموفق: لا نعلم فيها مخالفا، والعصعص، كقنفذ وعلبط عجب الذنب، وهو: العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز، ويقال: عظم لطيف، كحبة خردل، عند رأس العصعص، مكان الذنب، من ذوات الأربع، وعانة، قال الأزهري وجماعة، هي منبت الشعر، فوق قبل المرأة، وذكر الرجل، وقال الجوهري: هي شعر الركب.
(4) لأنه لم يرد فيه تقدير، وقال الموفق: الصحيح أنه لا تقدير في غير الخمس، الضلع والترقوتين، والزندين، لأن التقدير، إنما يثبت بالتوقيف، ومقتضى الدليل وجوب الحكومة، في هذه العظام الباطنة كلها، يعني سوى هذه الخمس، لقضاء عمر.(7/276)
قد برئت فما نقص من القيمة فله) أي للمجني عليه (مثل نسبته من الدية (1) كأن) أي لو قدرنا أن (قيمته) أي قيمة المجني عليه لو كان (عبدا سليما) من الجناية (ستون، وقيمته بالجناية خمسون ففيه) أي في جرحه (سدس ديته) لنقصه بالجناية سدس قيمته (2) (إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدر) من الشرع (فلا يبلغ بها) أي بالحكومة (المقدر) (3) كشجة دون الموضحة، لا تبلغ حكومتها أرش الموضحة (4) .
__________
(1) وذكره ابن المنذر، والموفق وغيرهما قول أهل العلم.
(2) لأن الناقص بالتقويم، واحد من ستة، وهو سدس قيمته فيكون للمجني عليه سدس ديته، لأن الواجب مثل ذلك من الدية، وإنما كان كذلك، لأن جملته مضمونة بالدية فأجزاؤه مضمونة منها، ويقدر الحر عبدا ليمكن تقويمه، ويجعل العبد أصلا للحر فيما لا موقت فيه، والحر أصلا للعبد فيما فيه توقيت، على المشهور في المذهب وغيره، وإنما جعل الحر عبدا، ليمكن تقويمه، إذ الحر ليس بمال، وغير المال لا يقوم.
(3) قال الموفق وغيره: هذا قول أكثر أهل العلم.
(4) لأن الجراحة لو كانت موضحة، لم يزد على خمس، مع أنها سمحاق، وزيادة عليها فلأن لا يجب في بعضها زيادة على خمس أولى.(7/277)
وإن لم تنقصه الجناية حال برء، قوم حال جريان دم (1) فإن لم تنقصه أيضا، أو زادته حسنا، فلا شيء فيها (2) .
__________
(1) لأنه لا بد من نقص، للخوف عليه، ولنقص الجناية.
(2) أي فإن لم تنقصه الجناية حال جريان الدم، أو زادته الجناية حسنا، كما لو قطع سلعة، أو ثؤلولا، أوبط جراحا، وإن لطمه في وجهه فلم يؤثر فلا ضمان لأنه لم يحصل نقص ويعزر، كما لو شتمه لأنه معصية وعند الشيخ وغيره: يقتص منه.(7/278)
باب العاقلة وما تحمله (1)
(عاقلة الإنسان) ذكور (عصباته كلهم، من النسب والولاء (2) قريبهم) كالإخوة (3) (وبعيدهم) كابن بن بن عم جد الجاني (4) (حاضرهم وغائبهم (5))
__________
(1) العاقلة: العصبة، لغة وشرعا، وسميت أقاربت القاتل عاقلة، لأنهم يعقلون عنه، ويقال لأن الإبل تعقل بفناء أولياء المقتول، ولذا سميت الدية عقلا، وقيل: لأنها تعقل لسان أولياء المقتول.
(2) كالمعتق وأبنائه، قال ابن رشد: عند الجمهور، إذا عجزت عنه العصبة، وقال الموفق: سائر العصبات من العاقلة، بعدوا أو قربوا من النسب، والمولى وعصبته، وهو قول عمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي، ولا أعلم عن غيرهم خلافهم، ولأن الموالي من العصبة.
(3) مثل بهم، لما روي عن أحمد أنهم ليسوا من العاقلة، كما هو ظاهر الخرقي، وغيره يجعلونهم من العاقلة بكل حال، وقال الموفق: لا نعلم عن غيرهم خلافهم.
(4) لأنهم عصبته، يرثون المال إذا لم يكن وارث أقرب منهم فيدخلون في العقل كالقريب لقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على العصبة، وإن لم يرثوا وقال الشيخ الإسلام: أمر عمر أهله أن يقضوا دينه من أموال عصبة عاقلته بني عدي وقريش فإن عاقلة الرجل هم الذين يحملون كله.
(5) وهو قول أبي حنيفة، للخبر، ولاستوائهم في العصب، فاستووا في التحمل.(7/279)
حتى عمودي نسبه وهم آباء الجاني وإن علوا، وأبناؤه وإن نزلوا (1) سواء كان الجاني رجلا أو امرأة (2) لحديث أبي هريرة «قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة من بني لحيان، سقط ميتا، بغرة عبد أو أمة (3) ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة، توفيت فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ميراثها لزوجها وبنتيها، وأن العقل على عصبتها» متفق عليه (4) .
__________
(1) وهو قول جمهور العلماء حكاه الموفق وغيره: وقال الشيخ: أبو الرجل وابنه من عاقلته، عند الجمهور، كأبي حنيفة، مالك، وأحمد في أظهر الروايتين عنه، ولأنهما أحق بنصرته من غيرهما فوجب أن يحملا عنه، كالإخوة.
(2) بلا نزاع.
(3) الجنين: حمل المرأة ما دام في بطنها، سمي بذلك لاستتاره، فإن خرج حيا فولد، وإلا فسقط، والغرة أصلها البياض في وجه الفرس، وكأنه عبر بالغرة عن الجسم كله، كما قالوا اعتق رقبته، وأقل ما يجزئ من العبد والأمة ما سلم من العيوب، التي يثبت بها الرد في المبيع.
(4) في لفظ: وقضى بدية المرأة على عاقلتها، أي قرابتها من قبل الأب وهم عصبته، وهم الذين يعقلون الإبل على باب المقتول.
فدل الحديث على أن دية الخطأ على العاقلة، وأجمع العلماء على ذلك، وفي رواية عن جابر: جعل دية المقتول على عاقلتها، وبرأ زوجها وولدها، ورواه أبو داود، وهو رواية عن أحمد فإذا خرج الولد قيس عليه الوالد، لأنه في معناه، ويشهد لما فرعوا عليه، ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئا، إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، ولأنهم عصبة فأشبهوا سائر العصبات، لأن العقل مبناه على التناصر وهم من أهله، وتقدم أنه قول الجمهور، واختيار الشيخ وغيره.
وتقدم اتفاق العلماء، على أن الدية في قتل الخطأ على عاقلة القاتل، وأنها إنما تحمل الخطأ لا العمد بلا نزاع، وأن في شبه العمد نزاع، الأظهر أنها لا تحمله، وأن إيجاب الدية في مال المخطئ ضرر عظيم به، من غير ذنب تعمده، ولا بد من إيجاب بدل المقتول، فالشارع أوجب على من عليهم موالاته ونصرته، أن يعينوه على ذلك، فكان كإيجاب النفقات وفكاك الأسير، قال ابن القيم: ومعلوم أن هذا من أصول الشرائع، التي بها قيام مصلحة العالم.(7/280)
يقال عقلت عن فلان، إذا غرمت عنه دية جنايته (1) ولو عرف نسبه من قبيلة، ولم يعلم من أي بطونها، لم يعقلوا عنه (2) ويعقل هرم، وزمن وأعمى أغنياء (3) .
__________
(1) وبعبارة أخرى، يقال عقلت فلانا إذا أعطيت ديته، وعقلت عنه إذا أديت عنه دية جنايته، وغير ذلك مما تقدم.
(2) لأنهم لا يرثونه، كما لو قتل قرشي، ولم يعلم من أي بطون قريش، لم تعقل قريش عنه، لأن كل قوم منهم ينتسبون إلى أب يتميزون به، ولا يعقل مولى الموالاة، ولا الحليف، وهو مذهب الشافعي.
(3) الهرم أقصى الكبر، والزمن المقعد، فيعقل الثلاثة كشاب، وصحيح، وبصير، كذا غائب كحاضر، لكونهم من أهل المواساة، والوجه الثاني: لا يعقل الشيخ الفاني، ولا المريض إذا بلغ حد الزمانة، ولا الأعمى لأنهم ليسوا من أهل النصرة، كالصبي فالله أعلم.(7/281)
(ولا عقل على رقيق) لأنه لا يملك، ولو ملك فملكه ضعيف (1) (و) لا على (غير مكلف) كصغير ومجنون (2) لأنهما ليسا من أهل النصرة (3) .
(ولا) على فقير لا يملك نصاب زكاة عند حلول الحول فاضلا عنه (4) كحج وكفارة ظهار، ولو معتملا، لأنه ليس من أهل المواساة (5) (ولا أنثى) (6) .
__________
(1) ولأنه أسوأ حالا من الفقير، وهو قول جمهور العلماء.
(2) ولا امرأة قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ، لا يعقلان مع العاقلة.
(3) ولأن الحمل إنما هو للتناصر، وهما ليس من أهله، فلا عقل عليهما.
(4) قال الموفق وغيره: أجمعوا على أن الفقير لا يلزمه شيء من العقل، وهو قول مالك والشافعي، وأصحاب الرأي.
(5) أي كما أن الفقير لا يلزمه حج ولا كفارة ظهار، فلا يلزمه عقل ولو كان معتملا أي: صاحب حرفة، لأن حمل العاقلة مواساة، والفقير ليس من أهل المواساة، فلا يلزمه عقل، لأنه وجب على العاقلة تخفيفا عن القاتل، فلا يجوز التثقيل على الفقير، لأنه كلفة ومشقة، ومن صار عند الحول أهلا من العاقلة، كصبي بلغ، ومجنون عقل، لزمهما ما كان يلزمه، لو كان كذلك جميع الحول.
(6) أي: ولا عقل على أنثى، وهو مذهب الجمهور، وتقدم قول ابن المنذر: إن المرأة والصبي الذي لم يبلغ لا يعقلان، ولأن فيها معنى التناصر، وليست المرأة من أهل النصرة.(7/282)
ولا مخالف لدين الجاني (1) لفوات المعاضدة والمناصرة (2) ويتعاقل أهل ذمة اتحدت مللهم (3) وخطأ إمام وحاكم في حكمهما، في بيت المال (4) ومن لا عاقلة له، أو له وعجزت، فإن كان كافرا فالواجب عليه (5) وإن كان مسلما فمن بيت المال، حالا إن أمكن، وإلا سقطت (6) .
__________
(1) فلا يعقل يهودي عن نصراني، ولا نصراني عن يهودي، لأنهم أهل ملتين مختلفتين فلا تعاقل بينهم، كما لا توارث، ولا يعقل المرتد أحد، لا مسلم ولا ذمي، لأنه لا يقر، فخطؤه في ماله، وكذا كل من لا تحمل عاقلته جنايته، يكون موجبها في ماله، كسائر الجنايات التي لا تحملها العاقلة.
(2) أي من المرأة، ومن مخالف لدين الجاني، فلا تعقل المرأة لذلك، ولا يعقل عن الجاني من باين دينه، وظاهر كلامه، أنه لا فرق بين الولاء وغيره، هنا، ومقتضى قوله في الكافي، بناء على ثوريثهم أن المباين في الدين، يعقل في الولاء دون النسب، كما يرث ذو الولاء، مع مباينة الدين دون النسب
(3) كما يتوارثون، ولأنهم من أهل النصرة، كالمسلمين، وإن كان أحدهما ذميا والآخر حربيا فلا تعاقل، ولو اتحدت مللهم، كما صرحوا به.
(4) فلا تحمله عاقلتهما لأنه يكثر فيجحف بالعاقلة، ولأن الحاكم والإمام نائبان عن الله، فيكون أرش خطئهما في مال الله، وأما خطؤهما في غير حكم، كرميهما صيدا فيصيب آدميا، فعلى عاقلتهما، كخطأ غيرهما.
(5) في ماله، حالا لأن بيت المال لا يعقل عنه.
(6) أي وإن كان الجاني خطأ مسلما، لا عاقلة له أوله، وعجزت عن الكل أو البعض فأرش جنايته من بيت المال حالا، لأنه صلى الله عليه وسلم ودى الأنصاري الذي قتل بخيبر من بيت المال، وروي عن عمر وعلي، ولأنه إذا لم يكن له وارث، صرف ماله لبيت المال، وهذا مذهب الشافعي.
وقوله: وإلا سقطت أي وإن لم يكن له عاقلة، أو عجزت ولم يصرف من بيت المال، سقطت ديته، وتقدم قول الشيخ: وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة، في أصح قولي العلماء، اهـ وهو في غاية القوة، ولأنها تجب على القاتل ابتداء، ثم تتحملها العاقلة عنه، ولو قيل بوجوبها عليهم ابتداء لكن مع وجودهم، أما مع عدمهم فلا يمكن القول بوجوبها عليهم.
وقال الموفق: يحتمل أن تجب في القاتل، إذا تعذر حملها عنه، وهو القول الثاني للشافعي لعموم قوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ولأن قضية الدليل وجوبها على الجاني، جبرا للمحل الذي فوته، وإنما سقط عن القاتل، لقيام العاقلة مقامه في جبر المحل، فإذا لم يوجد ذلك بقي واجبا عليه بمقتضى الدليل اهـ.(7/283)
(ولا تحمل العاقلة عمدا محضا) (1) ولو لم يجب به قصاص كجائفة ومأمومة (2) .
__________
(1) قال ابن القيم وغيره: بلا نزاع، وقال الموفق: لا خلاف في أنها لا تحمل دية ما يجب فيه القصاص، وأكثر أهل العلم أنها لا تحمل العمد بحال، وروي عن ابن عباس، ولا نعرف له في الصحابة مخالفا، فيكون إجماعا اهـ وللدارقطني عن عمر نحوه، وفي الموطأ عن الزهري، مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد إلا أن تشاء.
(2) للعموم ولأنها جناية عمد، فلا تحملها العاقلة كالموجبة للقصاص، لأن حمل العاقلة إنما يثبت في الخطأ.(7/284)
لأن العامد غير معذور، فلا يستحق المواساة (1) وخرج بالمحض شبه العمد فتحمله (2) (ولا) تحمل العقل أيضا (عبدا) أي قيمة عبد، قتله الجاني، أو قطع طرفه، ولا تحمل أيضا جنايته (3) (ولا) تحمل أيضا (صلحا) عن إنكار (4) (ولا اعترافا لم تصدق به) بأن يقر على نفسه بجناية، وتنكره العاقلة (5) .
__________
(1) ولا التخفيف، ولا يوجد فيه المقتضي للحمل عنه، فوجبت جنايته في ماله.
(2) صرح به في الإقناع وغيره، لأنه لا يوجب قصاص، كالخطأ وذكره الموفق: قول أكثر أهل العلم، وقال ابن القيم: وفي شبه العمد نزاع، الأظهر أنها لا تحمله فالله أعلم.
(3) قال ابن القيم: لأنه سلعة من السلع، ومال من الأموال، فلو حملت بدله، لحملت بدل الحيوان والمتاع.
(4) لأنه إنما يثبت بفعله واختياره، فلم تحمله العاقلة، وذلك: أن يدعى عليه ويصالح عن ذلك، ويأتي أثر ابن عباس: أنها لا تحمل عمدا، ولا اعترافا ولا صلحا في عمد، وأنه لا مخالف له.
(5) وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، وهو قول الأئمة الأربعة وغيرهم، وقال ابن القيم: وذلك أن المدعي والمدعى عليه، قد يتواطآن على الإقرار بالجناية ويشتركان فيما تحمله العاقلة، ويتصالحان على تغريم العاقلة، فلا يسري إقراره ولا صلحه فلا يجوز إقراره في حق العاقلة، ولا يقبل قوله فيما يجب عليها من الغرامة، اهـ ويصح إقراره ويضمن ما اعترف به.(7/285)
روي ابن عباس مرفوعا: «لا تحمل العاقلة عمدا، ولا عبدا، ولا صلحا، ولا اعترافا» ، وروي عنه موقوفا (1) (ولا) تحمل العاقلة أيضا (ما دون ثلث الدية التامة) أي دية ذكر حر مسلم (2) لقضاء عمر: أنها لا تحمل شيئا، حتى يبلغ عقل المأمومة (3) إلا غرة جنين مات بعد أمه (4) أو معها بجناية واحدة، لا قبلها (5) .
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي وهو المشهور، قال الموفق وغيره: لم نعرف له في الصحابة مخالفا، فيكون إجماعا.
(2) وهو قول مالك وغيره من السلف.
(3) ولقلته، واحتمال الجاني حمله، ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني، لأنه موجب جنايته، وبدل متلفه، فكان عليه كسائر الجنايات والمتلفات وإنما خولف في الثلث تخفيفا عنه، لكونه كثيرا يجحف به.
(4) بجناية واحدة، لأن الجناية واحدة، فتبعها مع زيادتها على الثلث، فحملتها العاقلة، كالدية الواحدة، لخبر المغيرة، وحديث أبي هريرة.
(5) أو إلا دية جنين، مات مع أمه، بجناية واحدة، فتحملها العاقلة، أيضا، لا إن مات الجنين قبل أمه، مع اتحاد الجناية، فلا تحملها العاقلة، لنقصه عن الثلث، ولا تبعية لموته قبلها، نص عليه.
فالعمد المحض، والعبد وصلح الإنكار والاعتراف، وما دون ثلث الدية في مال الجاني حالا، لأن الأصل وجوبها عليه حالا، لأنه بدل متلفه، وكذا الغرة إن مات قبل أمه، وعمد الصبي المجنون خطأ، تحمله العاقلة.(7/286)
ويؤجل ما وجب بشبه العمد والخطأ، على ثلاث سنين (1) ويجتهد الحاكم في تحميل كل منهم، ما يسهل عليه (2) ويبدأ بالأقرب فالأقرب (3) لكن تؤخذ من بعيد، لغيبة قريب (4) .
__________
(1) لقول عمر وعلي، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، فكان إجماعا وحكى الوزير وابن رشد: اتفاقهم على أن دية الخطأ، مؤجلة على العاقلة ثلاث سنين، وأن دية العمد حالة إلا أن يصطلحا على التأجيل، وقال الشيخ: لا تؤجل على العاقلة، إذا رأى الإمام المصلحة فيه، ونص على ذلك أحمد رحمه الله.
(2) قال الموفق: لا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة لا تكلف من العقل ما يجحف بها ويشق عليها، اهـ فيجتهد الحاكم في تحميل كل من العاقلة ما يسهل عليه لأن ذلك مواساة للجاني، وتخفيف عنه، فلا يشق على غيره، فيفرض على كل واحد قدرا يسهل، ولا يؤذي، وهو مذهب مالك، وذلك حيث أنه لا نص فيه، فرجع إلى اجتهاد الحاكم، كتقدير النفقات، وعن أحمد: يتحمل الغني زيادة على المتوسط، وقاله مالك والشافعي.
(3) أي ويبدأ الحاكم بقسمة الدية، بين العاقلة، الأقرب فالأقرب، فيقسم على الآباء والأبناء، ثم الإخوة، ثم بنيهم، ثم الأعمام ثم بنيهم، وهكذا كالميراث.
(4) فإن اتسعت أموال الأقربين لها، لم يتجاوزهم وإن لم يتسعوا دخل من هو أبعد منهم، وهكذا حتى يدخل فيهم أبعدهم درجة، على حسب الميراث وهذا مذهب الشافعي.(7/287)
فصل في كفارة القتل (1)
(من قتل نفسا محرمة) ولو نفسه (2) .
__________
(1) سميت بذلك من الكفر بفتح الكاف، وهو الستر، لأنها تستر الذنب وتغطية والأصل في وجوبها: الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، على القاتل خطأ وكذا شبه عمد، لأنه في معناه، ولما رواه أبو داود والنسائي: «اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار» لا القتل العمد العدوان فلا كفارة، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} فلم يذكر فيه كفارة.
ولما روي أن سويد بن الصامت قتل رجلا، فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القود، ولم يوجب كفارة وعمرو بن أمية الضمري، قتل رجلين عمدا فوداهما صلى الله عليه وسلم ولم يوجب عليه كفارة، ولأنها وجبت في الخطأ فتمحو إثمه، لكونه لا يخلو من تفريط، فلا تلزم في موضع عظم الإثم فيه، بحيث لا يرتفع بها.
وقال الشيخ: لا كفارة في قتل العمد، ولا في اليمين الغموس، كقول أحمد، وليس ذلك تخفيفا عن مرتكبهما، اهـ وذكر الموفق وغيره: أن الخطأ لا يوصف بتحريم ولا إباحة، لأنه كقتل المجنون، لكن النفس الذاهبة به، معصومة محرمة، فلذلك وجبت الكفارة فيها.
(2) فكفارة كاملة في ماله، وأما قتل نفسه فصوب الموفق وغيره، أنه لا كفارة في ماله، فإن عامر بن الأكوع، قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بكفارة، وقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} إنما أريد به إذا قتل غيره.(7/288)
أو قنه، أو مستأمنا (1) أو جنينا (2) أو شارك في قتلها (خطأ) أو شبه عمد (3) (مباشرة أو تسببا) كحفره بئرا (4) (فعليه) أي على القاتل ولو كافرا، أو قنا، أو صغيرا، أو مجنونا (الكفارة) (5) .
__________
(1) أي أو قتل نفسا محرمة، ولو كان قنه، لعموم الآية، أو كان مستأمنا، لأنه آدمي قتل ظلما أشبه السلم لعموم {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فتجب بقتل الكافر المضمون عند أكثر أهل العلم، وأما المسلم الحر فباتفاقهم.
(2) أي أو قتل جنينا، بأن ضرب بطن حامل، فألقت جنينا ميتا، أو حيا ثم مات، وهذا مذهب مالك والشافعي.
(3) أي أو شارك في قتل قنه، أو مستأمنا خطأ، أو شبه عمد، فيلزمه كفارة، قال الموفق: يلزم كل واحد من شركائه كفارة، هذا قول أكثر أهل العلم، منهم مالك والشافعي، وأصحاب الرأي، وأما قتل الخطأ فبلا نزاع، وأما شبه العمد، فذكر الموفق وغيره، أنه مقتضى الدليل، ولأنه أجري مجرى الخطأ في نفي القصاص وحمل العاقلة، وتأجيلها، فجرى مجراه في عدم وجوب القصاص.
(4) أي سواء كان قتله منفردا مباشرة، أو تسببا، أو شارك في قتله مباشرة، أو تسببا كحفر بئر متعديا، وكنصب سكين، ووضع حجر بحيث لا يجوز له، وشهادة زور ونحو ذلك.
(5) وهذا قول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: إلا المتسبب، لأنه ليس بقتل، وهو كالمباشرة في الضمان، فكان كالمباشرة في الكفارة، قال القاضي: ويلزم الشهود الكفارة، سواء قالوا أخطأنا، أو عمدنا؛ فدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال، وأما الصبي والمجنون، إذا قتلا، فقال الوزير وغيره: اتفقوا أنها تجب عليهما الكفارة، إلا أبا حنيفة.(7/289)
عتق رقبة (1) فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين (2) ولا إطعام فيها (3) وإن كانت النفس مباحة، كباغ (4) أو القتل قصاصا، أو حدا (5) أو دفعا عن نفسه، فلا كفارة (6) .
__________
(1) مؤمنة بنص القرآن، سواء كان القاتل أو المقتول مسلما، أو كافرا، قال الوزير: اتفقوا على أن كفارة القتل الخطأ، عتق رقبة مؤمنة، فاضلة، كما تقدم.
(2) بنص القرآن، وحكاه الوزير وغيره، اتفاقا، وتقدم حكمها عند كفارة الظهار.
(3) أي وإن لم يستطع الصوم، ثبت في ذمته، ولم يجب عليه الإطعام، لأن الله لم يذكره، وهذا أحد القولين للشافعي، لأن الإبدال في الكفارات، موقوف على النص دون القياس وعنه: يجب إطعام ستين مسكينا، عند العجز عن الصوم، ككفارة الظهار، والوطء في رمضان، وإن عجز عنه ثبت في ذمته، حتى يقدر عليه، والله أعلم.
(4) ومرتد وزان محصن، ومن تحتم قتله للمحاربة، فلا كفارة.
(5) أي أو كان القتل قصاصا، أو كان القتل حدا، فلا كفارة أيضا، لأنه قتل مأمور به، والكفارة لا تجب، لمحو المأمور به.
(6) أي أو كان القتل دفعا عن نفسه، كصائل عليه، فلا كفارة، وكل قتل مباح، لا كفارة فيه، وأما قتل نساء أهل الحرب، وصبيانهم، فلا كفارة فيه أيضا، لأنهم ليس لهم إيمان ولا أمان، وإنما منع من قتلهم لانتفاع المسلمين بهم لكونهم يصيرون بالسبي رقيقا، وكذا قتل من لم تبلغه الدعوة، لشبههم بمن قتله مباح.(7/290)
ويكفر قن بصوم (1) ومن مال غير مكلف وليه (2) وتتعدد بتعدد القتل (3) .
__________
(1) لأنه لا مال له يعتق منه، ولو مكاتبا، لأن ملكه ضعيف وكذا يكفر سفيه ومفلس بصوم.
(2) أي ويكفر من مال غير مكلف، كصغير ومجنون وليه، فيعتق منه رقبة، لعدم إمكان الصوم منه، ولا تدخله النيابة، لأن المميز ليس أهلا لأداء الواجب وإن صح صومه، والمجنون لا يصح صومه، كغير مميز وإنما وجبت الكفارة عليهما، لأنها حق مالي يتعلق بالقتل، أشبه الدية، ولأنها عبادة مالية، أشبهت الزكاة، ونفقة الأقارب، وبفعلهما، وفعلهما متحقق، فأوجب الضمان عليهما.
(3) أي وتعدد الكفارة بتعدد قتل، كتعدد الدية بذلك، لقيام كل قتيل بنفسه، وعدم تعلقه بغيره.(7/291)
باب القسامة (1)
وهي لغة: اسم القسم (2) أقيم مقام المصدر، من قولهم: أقسم إقساما وقسامة (3) وشرعًا (أيمان مكررة في دعوة قتل معصوم) (4) روى أحمد ومسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر القسامة، على ما كانت عليه في الجاهلية (5) .
__________
(1) القسامة: مشروعة بالسنة والإجماع، وهي: أصل مستقل، وقال الوزير: اتفقوا على أن القسامة مشروعة في القتيل إذا وجد، ولم يعلم قاتله.
(2) والجماعة يقسمون على الشيء، ويأخذونه.
(3) وأقسم إقساما أي حلف حلفا فالقسامة هنا، هي الإيمان إذا كثرت على وجه المبالغة وقال الأزهري: هم القوم يقسمون في دعواهم على رجل أنه قتل صاحبهم، سموا قسامة باسم المصدر، كعدل ورضا، وأي الأمرين كان فهو من القسم الذي هو الحلف.
(4) أما العمد فبلا نزاع، وأما شبه العمد والخطأ فظاهر كلام الخرقي: أنها لا تشرع، معصوم، لا نحو مرتد، ولو جرح مسلما.
(5) قال ابن عباس: أول قسامة كانت فينا بني هاشم رجل منا قتله رجل من قريش، فقال أبو طالب إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، أو يحلف خمسون من قومك، وإلا قتلناك به، فحلفوا وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار، في قتيل ادعوه على اليهود.
ففي الصحيحين عن سهل بن أبي حثمة، أن عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود، خرجا إلى خيبر، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل، وهو يتشحط في دمه، فأتى يهود، فقال: أنتم قتلتموه فقالوا لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» وفي رواية «تأتون بالبينة» قالوا: ما لنا بينة، فقال: «أتحلفون؟» قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر، فقال: تبرئكم يهود بخمسين يمينا، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار، فوداه بمائة من الإبل.
فدلت هذه الأحاديث، وما في معناها، على مشروعية القسامة، وأنها أصل من أصول الشرع، مستقل بنفسه وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، بها أخذ كافة الأئمة، فتخصص بها الأدلة العامة، وروى ابن عبد البر عن عمرو بن شعيب مرفوعا «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر إلا في القسامة» قال الموفق: وهذه الزيادة يتعين العمل بها، لأن الزيادة من الثقة مقبولة.(7/292)
ولا تكون في دعوى قطع طرف ولا جرح (1) و (من شروطها) أي القسامة (اللوث (2) وهو العداوة الظاهرة (3) .
__________
(1) أي: فلا تكون القسامة في دعوى قطع طرف، ولا في دعوى جرح لأنها ثبتت، على خلاف الأصل في النفس لحرمتها فاختصت بها، قال الموفق، بلا خلاف.
(2) وعدها بعضهم عشرة شروط، لصحة القسامة، أحدها: اللوث، من التلوث، وهو التلطخ، يقال: لاثه في التراب، ولوثه ولو كان خطأ أو شبه عمد.
(3) والشر: والمطالبات بالأحقاد، ومقتضاه، أن اللوث مختص بهذه الصورة وهو قول أكثر الأصحاب، وعن أحمد: ما يدل على أن اللوث ما يغلب على الظن صحة الدعوى.(7/293)
كالقبائل التي يطلب بعضها بعضا بالثأر) (1) وكما بين البغاة وأهل العدل (2) .
__________
(1) وكما كان بين الأنصار، وأهل خيبر، وما بين أحياء العرب، وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب.
(2) وما بين الشرط، واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغن، يغلب على الظن أنه قتله، وللأولياء أن يقسموا على القاتل، إذا غلب على ظنهم أنه قتله، وإن كانوا غائبين لما تقدم، واختار الشيخ وغيره، أن اللوث ما يغلب على الظن صحة الدعوى كتفرق جماعة عن قتيل، وشهادة من لا يثبت القتل بشهادتهم ونحو ذلك وصوبه في الإنصاف.
وقال أحمد: أذهب إلى القسامة، إذا كان ثم لطخ، وإذا كان ثم سبب بين، وإذا كان ثم عداوة، وإذا كان مثل المدعى عليه، يفعل مثل هذا، قال الشيخ: فذكر أربعة أمور، اللطخ، وهو: التكلم في عرضه، كالشهادة المردودة والسبب البين، كالتفرق عن قتيل، والعداوة، وكون المطلوب من المعروفين بالقتل، وهذا هو الصواب.
وقال ابن القيم: وهذا من أحسن الاستشهاد فإنه اعتماد على ظاهر الأمارات، المغلبة على الظن، بصدق المدعي، فيجوز له أن يحلف، بناء على ذلك، ويجوز للحاكم، بل يجب عليه، أن يثبت له حق القصاص، أو الدية، مع علمه أنه لم ير ولم يشهد اهـ.
ولا يشترط مع العداوة الظاهرة، أن لا يكون بالموضع الذي به القتيل غير العدو ولا ينبغي أن يحلفوا إلا بعد الاستيثاق في غلبة الظن، وينبغي للحاكم أن يعظهم ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة.(7/294)
وسواء وجد مع اللوث أثر قتل أولا (1) (فمن ادعى عليها لقتل من غير لوث، حلف يمينا واحدة وبرئ) حيث لا بينة للمدعي كسائر الدعاوي (2) فإن نكل قضي عليه بالنكول، إن لم تكن الدعوى بقتل عمد (3) فإن كانت به، لم يحلف وخلي سبيله (4) ومن شرط القسامة أيضا: تكليف مدعى عليه القتل (5) .
__________
(1) أي أو لم يوجد أثر القتل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار هل بقتيلهم أثر أم لا، مع أن القتل يحصل بمالا أثر له، كغم الوجه والخنق.
(2) يحلف المدعى عليه يمينا ويبرأ فكذا دعوى القتل بغير لوث، لقوله صلى الله عليه وسلم «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» .
(3) أي فإن نكل المدعي عليه القتل خطأ أو شبه عمد، قضي عليه بالنكول، لأنه نكول عن وجوب مال عليه، فثبت كسائر الدعاوي، كما سيأتي.
(4) أي فإن كانت الدعوى بقتل عمد بدون لوث، لم يحلف المدعى عليه، ويخلى سبيله لأنه ليس بمال، وعنه: يحلف اختاره الموفق وغيره، وهي أشهر، وقدمها في الفروع وغيره، فإن نكل لم يقض عليه بغير الدية، لأن القود كالحد، يدرأ بالشبهة ولا يجب القصاص بالنكول، لأنه حجة ضعيفة فلا يناط بها الدم.
(5) لتصح الدعوى عليه، لأنها لا تصح على صغير ولا مجنون.(7/295)
وإمكان القتل منه (1) ووصف القتل في الدعوى (2) وطلب جميع الورثة (3) واتفاقهم على الدعوى (4) وعلى عين القاتل (5) وكون فيهم ذكور مكلفون (6) وكون الدعوى على واحد معين (7) .
__________
(1) أي المدعى عليه، وإن لم يمكن منه قتل، لنحو زمانة، لم تصح عليه الدعوى، كبقية الدعاوي، التي يكذبها الحس، وكذا إن لم يمكن القتل منه، لبعده من بلد المقتول، ولا يمكنه مجيئة منه إليه.
(2) بأن يصفه المدعي في الدعوى، كأن يقول جرحه بسيف، أو سكين ونحوه، في محل كذا من بدنه، أو خنقه أو ضربه، بنحو لت في رأسه.
(3) فلا يكتفي بطلب بعضهم، لعدم انفراده بالحق.
(4) أي: ويشترط اتفاق جميع الورثة على الدعوى للقتل، لأنها دعوى قتل، فاشترط اتفاقهم فيها كالقصاص، ويشترط اتفاقهم على القتل، فإن أنكر بعض الورثة فلا قسامة. لأن الأيمان أقيمت مقام البينة، ويقبل تعيينهم بعد قولهم لا نعرفه.
(5) أي واتفاق جميع جميع الورثة على عين القاتل فلو قال بعض الورثة قتله زيد وقال بعضهم قتله عمرو فلا قسامة أو قال البعض لا أعمل قاتله، فلا قسامة لأن الأيمان أقيمت مقام البينة ويقبل تعينيهم بعد قولهم: لا نعرفه.
(6) لحديث «يقسم خمسون منكم» ولو واحدا ولا يقدح غيبة بعضهم، ولا عدم تكليفه، ولا نكوله، لأن القسامة حق له ولغيره، فقيام المانع بصاحبه لا يمنع حلفه، واستحقاقه لنصيبه كالمال المشترك.
(7) أي ويشترط كون الدعوى على واحد لا أكثر، معين لا مبهم، فلو قال: قتله هذا مع آخر، أو أحدهما فلا قسامة، لأنها دعوى على غير معين، فلم تسمع، كسائر الدعاوي وكذا من غير وجود قتل، ولا عداوة، فكسائر الدعاوي في اشتراط تعيين المدعى عليه، وأن القول قوله، قال الموفق لا نعلم فيه خلافا، وعاشرها، اتفاقهم على القتل، بحضرة حاكم.(7/296)
ويقاد فيها إذا تمت الشروط (1) (ويبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم (2) فيحلفون خمسين يمينا) (3) وتوزع بينهم بقدر إرثهم (4) ويكمل كسر (5) ويقضى لهم (6) .
__________
(1) العشرة، وشروط القود، لقوله صلى الله عليه وسلم «يحلف خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته» ، وفي لفظ لمسلم «ويسلم إليكم» مع ما تقدم، وثبوت القود بالقسامة، كالبينة، وقال ابن القيم: وليس إعطاء بمجرد الدعوى، وإنما هو بالدليل الظاهر، الذي يغلب على الظن صدقه، فوق تغليب الشاهدين، وهو اللوث، والعداوة الظاهرة، والقرينة الظاهرة، فقوي الشارع هذا السبب، باستحلاف خمسين من أولياء المقتول، الذين يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدم ليس منه، وقوله صلى الله عليه وسلم «لو يعطى الناس بدعواهم» لا يعارض القسامة بوجه، فإنما نفى العطاء بدعوى مجردة.
(2) أي ويبدأ في القسامة بأيمان الرجال، لا النساء، ولا غير المكلف من ورثة الدم، ولا غيرهم، لعدم استحقاقه من الدية.
(3) لحديث عبد الله بن سهل، بحضرة الحاكم أنه قتله.
(4) أي وتوزع الأيمان بين الرجال، من ذوي الفروض والعصبات، بقدر إرثهم منه، إن كانوا جماعة لأن موجبها الدية، وهي تقسم كذلك.
(5) كزوج وابن، أو ثلاثة بنين، ومن لا قسامة عليه كالنساء سقط حكمه.
(6) أي ويقضى لأولياء المقتول، إذا حلفوا خمسين يمينا، بعد أن كملت الشروط العشرة، وشروط القود بالقود أو الدية لما تقدم.(7/297)
ويعتبر حضور مدع ومدعى عليه (1) وسيد قن وقت حلف (2) ومتى حلف الذكور، فالحق حتى في عمد لجميع الورثة (3) .
(فإن نكل الورثة) عن الخمسين يمينا، أو عن بعضها (أو كانوا) أي الورثة كلهم (نساء حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ) إن رضي الورثة (4) وإلا فدى الإمام القتيل من بيت المال (5) .
__________
(1) أي وقت حلف كبينة على المدعى عليه، فلا تسمع إلا بحضرة كل من مدع، ومدعى عليه.
(2) أي ويعتبر حضور سيد قن، وقت حلف، في عمد أو خطأ سواء كان مدعيا، أو مدعى عليه.
(3) أي ومتى حلف الذكور من ورثة القتيل، عددا كانوا أو واحدا، خمسين يمينا، وصفة اليمين، كوالله، لقد قتل فلان بن فلان الفلاني، ويشير إليه فلانا ابن أو أخي، ونحوه منفردا بقتله عمدا، أو شبه عمد، أو خطأ بسيف أو بما يقتل غالبا، ونحو ذلك، فالحق حينئذ حتى في عمد لجميع الورثة لانه حق ثبت للميت، فصار لورثته كالدين.
(4) بأيمان مدعى عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحلف اليهود، حين قال الأنصار: كيف نأخذ أيمان قوم كفار، وصفة اليمين كوالله ما قتلته، ولا شاركت في قتله، ولا فعلت شيئا مات منه، ولا كنت سببا في موته، ولا معينا على موته، وإن نكل لزمته الدية، وإن نكل الورثة بعد الرضى بيمينه لم يحبس ولزمته الدية ولا قصاص.
(5) أي وإن لم يرض الورثة بيمين المدعى عليه، فدى الإمام القتيل من بيت
المال بلا نزاع وخلي عن المدعي عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم ودى الأنصاري لما لم ترض الأنصار بيمين اليهود، لأنه لم يبق سبيل إلى الثبوت، ولم يوجد ما يوجب السقوط، فوجب الغرم من بيت المال، لئلا يضيع المعصوم هدرا.(7/298)
كميت في زحمة جمعة وطواف (1) .
__________
(1) فيفدي من بيت المال، لما روي عن عمر، وعلي، ففي سنن سعيد بن منصور، عن إبراهيم، قال: قتل رجل في زحام الناس بعرفة، فجاء أهله إلى عمر، فقال: بينتكم على من قتله، فقال علي: يا أمير المؤمنين، لا يطل دم امرئ مسلم، إن علمت قاتله، وإلا فأعط ديته من بيت المال.(7/299)
كتاب الحدود (1)
جمع حد، وهو لغة المنع (2) وحدود الله محارمه (3) واصطلاحا عقوبة مقدرة شرعا في معصية (4) لتمنع الوقوع في مثلها (5) (لا يجب الحد إلا على بالغ عاقل) (6) .
__________
(1) الأصل في مشروعيتها: الكتاب والسنة والإجماع، وقال شيخ الإسلام، الحدود صادرة عن رحمة الخلق، وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم، أن يقصد بذلك الإحسان إليهم، والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض.
(2) ومنه يقال للبواب حداد، لأنه يمنع الناس من الدخول.
(3) قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} ولحديث «ألا وإن حمى الله محارمه» وما حده الشارع، فلا يجوز فيه الزيادة، ولا النقصان والحدود بمعنى العقوبات المقدرة، وما حده الله قدره، فلا يجوز أن يتعدى، وحدوده أيضا ما حده وقدره من مواريث وغيرها.
(4) من زنا، وقذف، وشرب، وقطع طريق، وسرقة.
(5) وزواجر للنفوس، ونكال وتطهير، فهي عقوبة مقدرة لأجل حق الله تعالى أوجبها تعالى على مرتكبي الجرائم، التي تتقاضاها الطباع، وليس عليها، وازع طبيعي، فهي من أعظم مصالح العباد، في المعاش والمعاد، بل لا تتم سياسة ملك من ملوك الأرض، إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم وهي واجبة، ولو كان من يقيمها شريكا لمن يقيمها عليه، أو عونا له، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يجمع بين معصيتين جزم به الشيخ وغيره.
(6) فالحد أولى بالسقوط من العبادة لعدم التكليف لأنه يدرأ بالشبهة.(7/300)
لحديث: «رفع القلم عن ثلاثة» (1) (ملتزم) أحكام المسلمين (2) مسلما كان أو ذميا (3) بخلاف الحربي والمستأمن (4) (عالم بالتحريم) (5) لقول عمر وعثمان وعلي: لا حد إلا على من علمه (6) (فيقيمه الإمام أو نائبه) (7)
__________
(1) رواه أهل السنن وغيرهم، وفي قصة ماعز «أبك جنون؟» ولأنه إذا سقط عنه التكليف في العبادات، فالحد أولى.
(2) في ضمان النفس، والمال، والعرض وإقامة الحدود، وغير ذلك.
(3) لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} وغير ذلك.
(4) فإنه يؤاخذ بحد لآدمي، كحد قذف، وسرقة، لا بحد لله تعالى كزنا.
(5) فلا حد على من جهل تحريم الزنا أو عين المرأة، كمن زفت إليه غير امرأته لخبر «ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» .
(6) ولم يعلم لهم مخالف في الصحابة، وقال الموفق: هو قول عامة أهل العلم.
(7) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود، ثم خلفاؤه من بعد، ويقوم نائب الإمام مقامه، لقوله: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» وأمر برجم ماعز، ولم يحضره، قال في سارق: «اذهبوا به فاقطعوه» .(7/301)
أو مطلقا سواء كان الحد لله، كحد الزنى، أو لآدمي كحد القذف (1) لأنه يفتقر إلى اجتهاد، ولا يؤمن من استيفائه، الحيف، فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه (2) ويقيمه (في غير مسجد) (3) ويحرم فيه (4) لحديث حكيم بن حزام: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستقاد بالمسجد، وأن تنشد الأشعار (5) .
__________
(1) لفعله صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، سوى ما يأتي في الرقيق، وقال الشيخ: الحقوق التي ليست لقوم معينين، تسمى حدود الله، وحقوق الله مثل قطاع الطريق، والسراق والزناة، ونحوهم، ومثل الحكم في الأموال السلطانية، والوقوف، والوصايا التي ليست لمعين، فهذه من أهم أمور الولايات، يجب على الولاة البحث عنها، وإقامتها من غير دعوى أحد بها، وتقام الشهادة فيها، من غير دعوى أحد بها، وتجب إقامتها على الشريف، والوضيع والقوي
والضعيف اهـ.
وفي الدرر، للحنفية: الخليفة لا يحد، ولو قذف، لأن الحد له وإقامته إليه، دون غيره، ولا يمكنه على نفسه ويقتص ويؤخذ بالمال لأنهما من حقوق العباد، ويستوفي ولي الحق، إما بتمكينه أو الاستعانة بمنعة المسلمين.
(2) وهذا المذهب في الجملة، عليه الأصحاب، واختاره الشيخ وغيره، وأنه لا يجوز إلا لقرينة كتطلب الإمام له ليقتله، فيجوز لغير الإمام أو نائبه قتله.
(3) جلدا كان، أو غيره.
(4) بلا نزاع.
(5) إلا ما كان مثل شعر حسان رضي الله عنه.(7/302)
وأن تقام فيه الحدود) (1) وتحرم شفاعة وقبولها، في حد الله تعالى، بعد أن يبلغ الإمام (2) ولسيد مكلف، عالم به وبشروطه، إقامته بجلد (3) .
__________
(1) وروي أن عمر أتى برجل زنا، فقال: أخرجوه من المسجد، فاضربوه، وعن علي أنه أتي بسارق، فأخرجه من المسجد، وقطع يده، ولأنه لا يؤمن أن يحدث فيه شيء فينجسه ويؤذيه، فإن أقيم فيه سقط الفرض.
(2) أي: وتحرم شفاعة في حد من حدود الله، لقوله: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره» .
وكذا يحرم قبول شفاعة في حد من حدود الله، لقوله: «فهل قبل أن تأتيني به» قال الشيخ: ولا يحل تعطيله، لا بشفاعة، ولا هدية، ولا غيرها، ولا تحل الشفاعة فيه، ومن عطله لذلك، وهو قادر على إقامته، فعليه لعنة الله، وقال: ولا يجوز أن يؤخذ من السارق، والزاني، والشارب، وقاطع الطريق، ونحوه، مال يعطل به الحد، لا لبيت المال، لا لغيره، وهذا المال المأخوذ ليتعطل الحد، سحت خبيث، وإذا فعل ولي الأمر ذلك، جمع بين فسادين عظيمين، تعطيل الحد وأكل السحت، وترك الواجب وفعل المحرم.
وأجمعوا: على أن المال المأخوذ من الزاني، والسارق، والشارب، والمحارب، ونحو ذلك، وتعطيل الحد سحت خبيث، وهو أكثر ما يوجد من إفساد أمور المسلمين وهو سبب سقوط حرمة المتولي، وسقوط قدره وانحلال أمره.
(3) خاصة لأنه تأديب، والسيد يملك تأديب رقيقه، قال الموفق: في قول أكثر أهل العلم، منهم علي وغيره من الصحابة، والتابعين، وهو قول مالك، والشافعي وغيرهما لقوله صلى الله عليه وسلم «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» وقوله «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها، فليجلدها» الحديث وأما القتل في الردة، والقطع في السرقة فإلى الإمام، قال: وهذا قول أكثر أهل العلم، وكونه بالغا عاقلا، عالما بشروطه، قولا واحدا.(7/303)
وإقامة تعزير على رقيق كله له (1) (ويضرب الرجل في الحد قائما) (2) لأنه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب (3) (بسوط) وسط (لا جديد ولا خلق) بفتح الخاء (4) لأن الجديد يجرحه، والخلق لا يؤلمه (5) .
__________
(1) سواء كان تعزيره لحق الله تعالى، أو لحق نفسه، ولو كان الرقيق مكاتبا أو مرهونا، أو مستأجرًا لعموم الخبر، ولتمام ملكه عليه، وإن كان بعضه حرا، فلا يملك السيد إقامته عليه، لقصور ولايته، ولا على أمته المزوجة، لقول ابن عمر: إذا كانت الأمة ذات زوج، رفعت إلى السلطان، وإلا جلدها سيدها نصف ما على المحصن، قال: ولا نعلم له مخالفا في عصره.
(2) هذا المذهب، وعليه الأصحاب وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وقال علي: لكل موضع من الجسد حظ، إلا الوجه والفرج.
(3) لما ناله كل عضو، من اللذة المحرمة.
(4) بين القضيب والعصا، فعن زيد بن أسلم، «أن رجلا اعترف فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتى بسوط مكسور، فقال «فوق هذا» فأتى بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال «بين هذين» ، فأتى بسوط قد لان وركب به، فأمر به فجلد» رواه مالك وغيره.
(5) روي عن علي وغيره، والخلق هو البالي، فيكون وسطا، لا شديدا فيقتل، ولا ضعيفا فلا يردع، لكن إن رأى الإمام الجلد في حد الخمر، بالجريد والنعال، والأيدي فله ذلك للخبر.(7/304)
(ولا يمد ولا يربط (1) ولا يجرد) المحدود من ثيابه عند جلده (2) لقول ابن مسعود: ليس في ديننا مد ولا قيد، ولا تجريد (3) (بل يكون عليه قميص أو قميصان) (4) وإن كان عليه فرو، أوجبة محشوة نزعت (5) (ولا يبالغ بضربه، بحيث يشق الجلد) (6) لأن المقصود تأديبه لا إهلاكه (7) ولا يرفع ضارب يده بحيث يبدو إبطه (8) .
__________
(1) أي ولا يمد المحدود على الأرض، ولا يربط في رجله، أو غيرها، ولا تشديده.
(2) خشية شق جلده، وإتلافه.
(3) قال الموفق: ولم نعلم عن أحد من الصحابة خلافه وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينقل عن أحد منهم مد، ولا قيد، ولا تجريد، ولم يأمر الله تعالى بتجريده، وإنما أمر بجلده، ومن جلد فوق الثياب فقد جلد. ,
(4) صيانة له عن التجريد، مع أن ذلك لا يمنع ألم الضرب، ولا يضر بقاؤهما عليه.
(5) لأنه لو ترك عليه ذلك، لم يبال بالضرب، قال أحمد: لو تركت عليه ثياب الشتاء، ما بالى بالضرب.
(6) كما أنه لا يجلد إلا بسوط، قد لان وركب به.
(7) والمبالغة تؤدي إلى ذلك.
(8) أي لا يرفع يده حال الضرب، بحيث يبدو إبطه، لأن ذلك مبالغة في الضرب.(7/305)
(و) سن أن (يفرق الضرب على بدنه) ليأخذ كل عضو منه حظه (1) ولأن توالي الضرب على عضو واحد يؤدي إلى القتل (2) ويكثر منه في مواضع اللحم، كالأليتين والفخذين (3) ويضرب من جالس ظهره وما قاربه (4) (ويتقي) وجوبا (الرأس والوجه والفرج (5) والمقاتل) كالفؤاد، والخصيتين، لأنه ربما أدى ضربه على شيء من هذه، إلى قتله، أو ذهاب منفعته (6) (والمرأة كالرجل فيه) أي فيما ذكر (7) .
__________
(1) لقول علي، لكل موضع من الجسد حظ.
(2) أو إلى شق الجلد، وإن فعل أجزأ.
(3) لأنهما أشد تحملا.
(4) رجلا كان أو امرأة.
(5) لأن ما عدا الأعضاء الثلاثة والبطن، ليس بمقتل، فأشبه الظهر، أما الرأس فمقتل، لأنه ربما أدى في رأسه، إلى ذهاب سمعه أو بصره، أو عقله، أو قتله، والمقصود تأديبه، لا قتله، والوجه نهى صلى الله عليه وسلم عن ضربه، والفرج لا يتحمل الضرب وإن قل.
(6) وهو لم يؤمر بقتله، بل بتأديبه.
(7) أي من اتقاء الرأس، والوجه، والفرج، والبطن، والمقاتل في الضرب وكونه بسوط، لا جديد ولا خلق، ولا تمد، ولا تجرد، ولا تشد يداها، ولا يبالغ بضربها، وغير ذلك من صفة الجلد سوى ما استثني.(7/306)
(إلا أنها تضرب جالسة) (1) لقول علي تضرب المرأة جالسة والرجل قائما (2) (وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها لئلا تنكشف) (3) لأن المرأة عورة (4) وفعل ذلك بها أستر لها (5) وتعتبر لإقامته نية، لا موالاة (6) (وأشد الجلد) في الحدود (جلد الزنا (7) ثم) جلد (القذف ثم) جلد (الشرب (8) .
__________
(1) وفاقا، وهو مفهوم ما تقدم.
(2) وهو قول أبي حنيفة، ومالك والشافعي.
(3) ويضرب منها الظهر، وما قاربه.
(4) إجماعا، لقوله صلى الله عليه وسلم «المرأة عورة» صححه الترمذي.
(5) أي وضربها جالسة، مشدودة عليها ثيابها، ممسكة يداها أستر، لئلا تنكشف.
(6) أي وتعتبر لإقامة الحد نية، بأن ينويه، ليصير قربة، لحديث «إنما الأعمال بالنيات» فيضربه لله ولما وضع الله ذلك لأجله، كالزجر، وتقدم قول الشيخ: على المقيم للمحدود، أن يقصد بها النفع والإحسان اهـ.
ويجزئ بلا نية، على المشهور، فلو حد للتشفي أثم، ولا يعيد، واستظهره في الفروع، وقوله: لا موالاة، أي لا يعتبر موالاة، في الجلد، ونظره الشيخ، لأنه لا يحصل منه حينئذ ألم، ولا يقتضي ردعا، ولا زجرا، واستظهره في الفروع.
(7) مائة جلدة للبكر الحر، ونصفها للرقيق، ثم جلد قذف ثمانون، ونصفها للرقيق.
(8) أي شرب الخمر ثمانون، أو أربعون، كما يأتي.(7/307)
ثم) جلد (التعزير) (1) لأن الله تعالى خص الزنا بمزيد تأكيد بقوله {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} (2) وما دونه أخف منه في العدد، فلا يجوز أن يزيد عليه في الصفة (3) ولا يؤخر حد لمرض (4) ولو رجي زواله (5) .
__________
(1) عشر أو بما يردعه، كما سيأتي.
(2) ولم يذكر نحوه، فيما سواه من الحدود، فدل على أنه الأشد، لمزيد التأكيد.
(3) فهو دليل، على أن ما خف في عدده، كان أخف في صفته، وهو قوة الضرب، وأنه لا يجوز أن يزيد عليه، في إيلامه ووجعه لأنه يفضي إلى التسوية أو زيادة القليل على ألم الكثير.
(4) لأنه يجب على الفور، ولا يؤخر ما أوجبه الله بغير حجة، ولأن عمر أقامه على ابن مظعون في مرضه، كذا قاله الأصحاب، أما إن كان الحد رجما لم يؤخر، لأنه لا فائدة فيه، إذا كان قتله متحتما، وإن كان جلدا، فإن كان لا يرجى برؤه، أقيم عليه الحد في الحال، بسوط يؤمن معه التلف.
(5) أي لا يؤخر الحد، ولو رجي زواله، قاله الأصحاب، وعنه: يؤخر وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك والشافعي، لفعله صلى الله عليه وسلم، وفعل علي في التي هي حديثة عهد بنفاس، ولأن في تأخيره إقامة له على الكمال، من غير إتلاف، قال الموفق، فكان أولى، وحديث عمر في جلد قدامة، يحتمل أنه كان مرضا خفيفا، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم، يقدم على فعل عمر، وهو اختيار علي وفعله.(7/308)
ولا لحر أو برد ونحوه (1) فإن خيف من السوط لم يتعين (2) فيقام بطرف ثوب ونحوه (3) ويؤخر لسكر حتى يصحو (4) (ومن مات في حد فالحق قتله) (5) ولا شيء على من حده، لأنه أتى به على الوجه المشروع، بأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - (6) .
__________
(1) كضعف وفي خبر الجهنية، التي أمر بالإحسان إليها حتى تضع، وخبر الأمة التي قال لعلي إذا تعالت من نفاسها، إمهال البكر ونحوها، حتى تزول شدة الحر، والبرد والمرض المرجو زواله، وحكي الإجماع على ذلك، بخلاف الرجم، لأنه لقصد الإتلاف.
(2) أي جلده بالسوط المتقدم وصفه، وفي الإقناع، يقام عليه بسوط يؤمن معه التلف.
(3) كشمراخ النخل، فإذا أخذ ضغثا، وهو: عذق النخل، فيه مائة شمراخ، وضربه به واحدة، أو ضربة مرتين بخمسين أجزأ، لما رواه أحمد وغيره، وحسنه الحافظ، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اضربوه بعثكال فيه مائة شمراخ» وللآية.
(4) ليحصل المقصود من إقامة الحد، وهو الزجر، وإن أقيم سقط، إن أحسن بالضرب، وإلا لم يسقط، لأنه لم يحسن بالضرب، فلم يوجد ما يزجره.
(5) أي ومن مات في حد، بقطع أو جلد، وكذا بجلد في تعزير، لم يلزم تأخيره، فهو هدر عند جمهور العلماء، مالك، وأصحاب الرأي، والشافعي، إلا فيما زاد على الأربعين في الخمر عنده، والجمهور على خلافه، كالتعزير.
(6) وكسراية القصاص، وقال الموفق: لا نعلم بين أهل العلم خلافا في سائر الحدود، أنه إذا أتى بها على الوجه المشروع، من غير زيادة لا يضمن من مات بها.(7/309)
ومن زاد ولو جلدة، أو في السوط أو بسوط لا يحتمله فتلف المحدود، ضمنه بديته (1) (ولا يحفر للمرجوم في الزنا) رجلا كان أو امرأة (2) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفر للجهنية، ولا لليهودي (3) لكن تشد على المرأة ثيابها، لئلا تنكشف (4) ويجب في إقامة حد الزنا، حضور إمام أو نائبه (5) .
__________
(1) لأنه تلف بعدوانه، فأشبه ما لو ضربه في غير الحد فوجب الضمان، قال الموفق: بغير خلاف نعلمه.
(2) أما الرجل فبالإتفاق، حكاه الوزير وغيره، وسواء ثبت ببينة، أو إقرار قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، وأما المرأة، فمذهب مالك والشافعي، إن ثبتت بالبينة، وقال أبو حنيفة: الإمام بالخيار، وإن ثبت بإقرارها، فلا خلاف، لتترك على حال، لو أرادت الهرب تركت.
(3) كما هو معلوم عند أهل العلم، بالحديث.
(4) لما روى أبو داود: أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن تشد عليها ثيابها لئلا تنكشف وذلك أستر لها.
(5) أو من يقوم مقامها، وكذا في كل حد لله، أو لآدمي كما في استيفاء القصاص، وصححه في الإنصاف، ومن أذن له الإمام، فهو نائبه، ويكفي حضوره لقوله «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» .(7/310)
وطائفة من المؤمنين ولو واحدا (1) وسن حضور من شهد، وبداءتهم برجم (2) .
__________
(1) أي ويجب في إقامة حد الزنا، حضور طائفة من المؤمنين، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ولو واحدا مع من يقيمه، لأن من يقيمه حاضر ضرورة، وهذا القول، روي عن ابن عباس، وفي المبدع: منقطع، والطائفة قيل: أقلها أربعة، وقيل ثلاثة، وقيل اثنان، وقيل واحد، وهو قول لأحمد.
(2) وبإقراره بداءة إمام أو نائبه، ثم الناس، لما روي عن علي، ولأن فعل ذلك أبعد من التهمة في الكذب عليه، ومتى رجع مقر قبل أن يقام عليه، أو في أثنائه، أو هرب ترك وببينة فلا، وإن اجتمعت حدود لله، وفيها قتل، استوفي وسقط سائرها، ومن جنس تتداخل، لا إن أقيم ثم حدث آخر، ومن أجناس تستوفى كلها قال في المبدع بغير خلاف، ومن قتل أو سرق خارج الحرم، ثم لجأ إليه، لم يعامل حتى يخرج، ليستوفى منه، وفيه يستوفى منه فيه، بلا خلاف، ولقوله: {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} الآية.
قال الشيخ: وإن تعدى أهل مكة على الركب دفع الركب، كما يدفع الصائل، وللإنسان أن يدفع معهم، بل يجب إن احتيج إليه، قال ابن القيم: والطائفة الممتنعة به من المبايعة لا تقاتل لا سيما إن كان لها تأويل، وأما حرم المدينة، وسائر البقاع، والأشهر الحرم، وغيرها، كرمضان، فلا يمتنع فيها إقامة حد، ولا قصاص، قال الشيخ: وغلظ المعصية وعقابها، بقدر فضيلة الزمان والمكان.(7/311)
باب حد الزنا (1)
وهو فعل الفاحشة، في قبل أو دبر (2) (إذا زنى) المكلف (المحصن رجم حتى يموت) (3) .
__________
(1) الزنا بالقصر، في لغة أهل الحجاز، والمد عند تميم، وزنا زني: فجر، وهو حرام، بالكتاب والسنة والإجماع، ومن أكبر الذنوب بعد الشرك، والقتل، قال أحمد: لا أعلم بعد القتل ذنبا أعظم من الزنا، ويتفاوت فزنا بذات زوج، أو محرم أعظم، وإن كان زوجها جارا، انضم سوء الجوار، أو قريبا انضم له قطع الرحم.
ولما كانت أعظم أمهات الجرائم، وكبار المعاصي، لما فيه من اختلاط الأنساب، الذي يبطل معه التعارف، والتناصر على إحياء الدين، وفيه هلاك الحرث والنسل، زجر عنه بالقتل أو الجلد، ليرتدع عن مثل فعله من يهم به، فيعود ذلك بعمارة الدنيا، وصلاح العالم، الموصل لإقامة العبادات.
(2) وقال ابن رشد: هو كل وطء وقع على غير نكاح صحيح، ولا شبهة نكاح، ولا ملك يمين، وهذا متفق عليه بالجملة، من علماء الإسلام، وإن كانوا اختلفوا فيما هو شبهة، يدرأ الحد أولا.
(3) رجلا كان أو امرأة بشرطه، في قول أهل العلم، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار، في جميع الأعصار، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج، ويكون الرجم بالحجارة المتوسطة، كالكف، فلا ينبغي أن يثخن بصخرة كبيرة، ولا أن يطول عليه بحصاة خفيفة، ويتقي الوجه، ثم يغسل، ويكفن ويصلى عليه، ويدفن.(7/312)
لقوله عليه الصلاة والسلام وفعله (1) ولا يجلد قبله ولا ينفى (2) (والمحصن: من وطئ امرأته المسلمة، أوالذمية) أو المستأمنة (في نكاح صحيح) في قبلها (3) .
__________
(1) ففي الصحيحين أنه قال للذي اعترف عنده «هل أحصنت؟» قال: نعم، قال «اذهبوا به فارجموه» وفيهما أنه قال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» وتقدم انه رجم الجهنية واليهوديين، والأخبار بذلك تشبه التواتر، وكان في القرآن مما نسخ لفظه وبقي حكمه «والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله، والله عزيز حكيم» .
(2) أي ولا يجلد الثيب الزاني وهو مذهب مالك والشافعي، وأصحاب الرأي لأنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية وغيرهما ولم يجلدهم، وهم آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم ولأنه حد فيه قتل، فلم يجتمع معه جلد كالردة، ولأن الحدود إذا اجتمعت، وفيها قتل سقط ما سواه، فالحد الواحد أولى، وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة وغيرهم، ولا ينفى المرجوم قبل رجمه.
وخص الثيب بالرجم، لكونه تزوج، فعلم ما يقع به من العفاف، عن الفروج، المحرمة، واستغنى عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنا، فزال عذره من جميع الوجوه في تخطية ذلك إلى الحرام، وأجمع المسلمون: على أن الثيب الأحرار المحصنين، حدهم الرجم، لثبوت أحاديث الرجم، فخصصوا الكتاب بالسنة، حكاه ابن رشد وغيره.
(3) أي: والمحصن المستحق للرجم: من وطئ امرأته لا سريته، فلا إحصان إجماعا، بل زوجته المسلمة إجماعا أو الذمية، أو المستأمنة قال أحمد والشافعي: ليس من شرائطه الإسلام، لرجمه اليهودين، في نكاح صحيح لا باطل ولا فاسد، عند أكثر أهل العلم، في قبلها، ولا خلاف في اشتراطه لا في دبرها ولو في حيض، أو صوم أو إحرام ونحوه.(7/313)
(وهما) أي الزوجان (بالغان عاقلان حران (1) فإن اختل شرط منها) أي من هذه الشروط المذكورة (في أحدهما) أي أحد الزوجين (2) (فلا إحصان لواحد منهما) (3) ويثبت إحصانه بقوله: وطأتها، ونحوه (4) لا بولده منها مع إنكار وطئه (5) .
__________
(1) وفي الإقناع: ملتزمان، فهما محصنان، يرجم من زنا منهما بشروطه قال الوزير: أجمعوا على أن من شرائط الإحصان، الحرية، والبلوغ، والعقل، وأن يكون تزوج امرأة على مثل حاله، تزويجا صحيحا، ودخل بها، وهو على هذه الصفات.
(2) بأن كان أحدهما غير بالغ، أو غير عاقل أو غير حر.
(3) قال الوزير: أجمعوا على أن من كملت فيه شرائط الإحصان، فزنا بامرأة مثله في شرائط الإحصان، وهي: أن تكون حرة بالغة عاقلة، متزوجة تزويجا صحيحا، مدخولا بها في التزويج الصحيح، بالإجماع قال: فإنهما زانيان محصنان، عليهما الرجم حتى يموتا اهـ ومذهب أبي حنيفة والشافعي، وأحمد: أنه يقام الحد على الذمي في الجملة، لما تقدم.
(4) كجامعتها أو باضعتها، لأن المفهوم منه الوطء وبقولها ذلك، بخلاف لفظ المباشرة، أو المسيس لأنه يستعمل فيما دون الوطء في الفرج.
(5) لأن الولد يلحق بإمكان الوطء، والإحصان لا يثبت إلا بحقيقة الوطء، وكذا لو كان لها ولد منه، وأنكرت أن يكون وطئها، لم يثبت إحصانها.(7/314)
(وإذا زنى) المكلف (الحر غير المحصن، جلد مائة جلدة) (1) لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (2) (وغرب) أيضا مع الجلد (عاما) (3) لما روى الترمذي عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب) (4) .
__________
(1) لا خلاف في وجوب الجلد على الزاني، إذا لم يكن محصنا، وقال الوزير: اتفقوا على أن البكرين الحرين، إذا زنيا، أنهما يجلدان، كل واحد منهما مائة جلدة، وحكاه ابن رشد إجماع المسلمين، وخفف عنه القتل، لما حصل له من العذر ما أوجب له التخفيف، فحقن دمه وزجر بإيلام جميع بدنه، بأعلى أنواع الجلد، ردعا من المعاودة بالاستمتاع بالحرام.
(2) أي و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} فيما فرض عليهم {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} والجلد ضرب الجلد، وهذا مطلق، محمول على الحر البالغ العاقل، الذي لم يجامع في نكاح صحيح، ثم قال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} أي رحمة {فِي دِينِ اللهِ} بإقامة الحد {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فإن الإيمان يقتضي الصلابة في الدين، والاجتهاد في إقامة أحكامه، فعلق كمال الإيمان بذلك، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه.
(3) فيجب تغريب البكر عاما، عند جمهور العلماء، من الصحابة والتابعين وغيرهم.
(4) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما على ابنك جلد مائة، وتغريب عام» وقال «البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام» قال الموفق: وثبت عن الخلفاء الراشدين فلم ينكر فكان إجماعا.(7/315)
(ولو) كان المجلود (امرأة) فتغرب مع محرم (1) وعليها أجرته (2) فإن تعذر المحرم فوحدها، إلى مسافة القصر (3) ويغرب غريب إلى غير وطنه (4) (و) إذا زنى (الرقيق) جلد (خمسين جلدة) (5) .
__________
(1) باذل نفسه معها، لعموم نهيها عن السفر بلا محرم، وتغريبها بدونه إغراء لها بالفجور وتضييع لها.
(2) أي أجرة المحرم، لصرفه نفعه لأداء ما وجب عليها، فإن تعذرت أجرته منها فمن بيت المال.
(3) أي: فإن تعذر المحرم، بأن أبى أن يسافر معها، أو لم يكن لها محرم، فتغرب وحدها إلى مسافة قصر للحاجة، وهذا مذهب الشافعي، وقال مالك، لا تغرب وهو وجه لأصحاب الشافعي.
وقال الموفق وغيره: يحتمل أن يسقط النفي إذا لم تجد محرما، كما يسقط سفر الحج، إذا لم يكن لها محرم، فإن تغريبها على هذه الحال، إغراء لها بالفجور، وتعريض لها للفتنة، وعموم الحديث، مخصوص بعموم النهي بغير محرم، وقال: قول مالك أصح الأقوال، وأعدلها، وفي الإنصاف: قد يخاف عليها أكثر من قعودها وقوى سقوط النفي.
(4) وإن زنى في البلد الذي غرب إليه، غرب عنه، لأن الأمر بالتغريب حيث أنه قد أنس بالبلد الذي يسكنه فيبعد عنه.
(5) في قول أكثر أهل العلم، وقال الوزير: اتفقوا على أن العبد والأمة لا يكمل حدهما إذا زنيا، وأن حد كل واحد منهما إذا زنى خمسون جلدة، وأنه لا فرق بين الذكر والأنثى، وأنهما لا يرجمان، وأنه لا يعتبر في وجوب الجلد عليهما أن يكونا تزوجا، بل يجلدان، سواء تزوجا أو لم يتزوجا.(7/316)
لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (1) ، والعذاب المذكور في القرآن، مائة جلدة لا غير (2) (ولا يغرب) الرقيق لأن التغريب إضرار بسيده (3) ويجلد ويغرب مبعض بحسابه (4) .
__________
(1) أي وعلى المماليك من العذاب {نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} أي الحرائر الأبكار، إذا زنين (من العذاب) .
(2) فدلت على أن الرقيق إذا زني يجلد خمسين جلدة، ولا نزاع بين العلماء، أنه لا رجم على مملوك ومفهوم الآية، أن غير المحصنة لا حد عليها وقال الجمهور: لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم، وقد وردت أحاديث عامة، فيها إقامة الحد على الإماء، ولا تفريق فيها بين من أحصن، ومن لم يحصن، فقدموها على المفهوم.
وقال الشيخ: إذا زنا الرقيق علانية، وجب على السيد إقامة الحد عليه، وإن كان سرا فينبغي أن لا يجب عليه إقامته، بل يخبر بين سترة واستتابته، بحسب المصلحة في ذلك، كما يخير الشهود على من وجب عليه الحد، بين إقامتها عند الإمام وبين الستر عليه، واستتابته بحسب المصلحة، فإنه يرجح أن يتوب إن ستره وإن كان في ترك إقامة الحد عليه ضرر على الناس، كان الراجح فعله.
(3) وعقوبة له دون رقيقه، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الأمة إذا لم تحصن «إذا زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها» ولم يذكر تغريبها، ولأمره صلى الله عليه وسلم عليها بجلدها، ولم يذكر تغريبها، ولو كان واجبا لذكره، وقال الشيخ: يجب على السيد بيع الأمة إذا زنت، في المرة الرابعة.
(4) فمن نصفه حر فجلده خمس وسبعون، ويغرب نصف عام، ويكون زمن التغريب محسوبا على العبد، وما زاد أو نقص بحسابه.(7/317)
(وحد لوطي) فاعلا كان أو مفعولا (كزان) (1) فإن كان محصنا فحده الرجم (2) وإلا جلد مائة وغرب عاما (3) .
__________
(1) تحريم اللواط، معلوم بالكتاب والسنة، والإجماع، قال تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} وسماهم معتدين ومسرفين، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاعل والمفعول به، وقوله: حده كزان، هو رواية عن أحمد، وقول للشافعي وغيره، لما روي «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» .
(2) امتثالا لقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} فيفعل به مثل ما فعل الله بقوم لوط، قالوا: ولأنه فرج مقصود، أشبه فرج المرأة.
(3) أي وإن لم يكن الفاعل والمفعول به محصنا، وكان حرا، جلد مائة جلدة، وغرب عاما، ورقيقا نصف ذلك، جزم بذلك بعض الأصحاب، وعن أحمد: حده الرجم، بكرا كان أو ثيبا، وهو قول مالك وغيره، وأحد قولي الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه أبو داود، وفي رواية (فارجموا الأعلى والأسفل) .
قال الموفق: ولأنه إجماع الصحابة فإنهم أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في صفته، واحتج أحمد بعلي أنه كان يرى رجمه، ولأن الله عذب قوم لوط بالرجم، فينبغي أن يعاقب من فعل فعلهم، بمثل عقوبتهم، وقال الوزير وابن رجب: الصحيح قتله محصنا أو غير محصن، لقوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} .
وقال الشيخ: الصحيح الذي عليه الصحابة، أنه يقتل الاثنان، الأعلى والأسفل، إن كانا محصنين أو غير محصنين، قال: ولم يختلف الصحابة في قتله وبعضهم يرى: أنه يرفع على أعلى جدار في القرية، ويتبع بالحجارة والثانية: يرجم وعليه أكثر السلف، فيرجم الاثنان سواء كانا حرين أو مملوكين أو أحدهما مملوكا، والآخر حرا إذا كانا بالغين، وإلا عوقب بما دون القتل، ولا يرجم إلا البالغ.(7/318)
ومملوكه كغيره (1) ودبر أجنبية كلواط (2) (ولا يجب الحد) للزنا (إلا بثلاثة شروط (3) أحدها تغييب حشفة أصلية كلها) أو قدرها لعدم (4) (في قبل أو دبر أصليين) من آدمي حي (5) فلا يحد من قبل أو باشر دون الفرج (6) .
__________
(1) في الحد، لأن الذكر ليس محلا للوطء، فلا يؤثر ملكه له.
(2) في الحد على ما سبق، وأما زوجته وسريته فيعزر، وتقدم في عشرة النساء، وكذا من أتى بهيمة عزر، وقتلت البهيمة، للخبر، وهو أحد قولي الشافعي، وحرم أكلها لأنها قتلت لحق الله تعالى، جزم بذلك في الإقناع والمنتهى.
(3) تعلم بالاستقراء، وفي الإقناع: أربعة وهو أن يكون الزاني مكلفا، فلا حد على صغير ومجنون.
(4) أي لعدم الحشفة الأصلية، لأن أحكام الوطء تتعلق به.
(5) قال الموفق: لا خلاف بين أهل العلم في أن من وطئ امرأة في قبلها حراما لا شبهة له في وطئها، أنه يجب عليه حد الزنا، إذا كملت شروطه، والوطء في الدبر مثله، في كونه كالزنا، لأنه وطء في فرج امرأة لا ملك له ولا شبهة ملك فكان زنا كالوطء في القبل اهـ وتأتي بقية محترزاته.
(6) لأن أحكام الوطء، إنما تتعلق بالوطء في الفرج، لا بما دونه، فلا حد عليه، وإنما عليه التعزير، لأنه معصية ليس فيها حد، أشبه ضرب الناس، والتعدي عليهم.(7/319)
ولا من غيب بعض الحشفة ولا من غيب الحشفة الزائدة (1) أو غيب الأصلية في زائد (2) أو ميت (3) أو في بهيمة، بل يعزر وتقتل البهيمة وإنما يحد الزاني إذا كان الوطء المذكور (حراما محضا) أي خاليا عن الشبهة (4) وهو معنى قوله الشرط (الثاني: انتفاء الشبهة) (5) لقوله عليه الصلاة والسلام «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» (6) (فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك) (7) .
__________
(1) وهل يحد إذا غيب بعض الأصلية؟ ظاهر كلامهم: لا حد عليه، إلا بتغييب الحشفة الأصلية، أو قدرها عند عدمها.
(2) لأنه وطء في غير فرج، ومن شروطه، الوطء في فرج.
(3) لم يحد، لأنه لا يقصد، فلا حاجة إلى الزجر عنه، وهو الصحيح من المذهب وصححه في التصحيح.
(4) فهو أحد الشروط الثلاثة، التي لا يجب الحد إلا بها.
(5) فلا حد مع الشبهة، قال الموفق وغيره: هذا قول أكثر أهل العلم، لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
(6) ومعناه، في الترمذي، وابن ماجه، والبيهقي، وغيرهم فدل على درء الحد بالشبهة، وقال ابن المنذر، أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أن الحدود تدرأ بالشبهات.
(7) فلا حد لشبهة ملك الواطئ، وهو قول مالك والشافعي، وأصحاب الرأي، وكذا إن كان لبيت المال فيها شرك، لأن لكل مسلم فيه حقا، فيدرأ عنه، الحد قال ابن رشد: هو الأشبه.(7/320)
أو محرمة برضاع ونحوه (1) (أو لولده) فيها شرك (2) (أو وطئ امرأة) في منزله (ظنها زوجته (3) أو) ظنها (سريته) فلا حد (4) (أو) وطئ امرأة (في نكاح باطل اعتقد صحته (5) أو) وطئ امرأة في (نكاح) مختلف فيه كمتعة، أو بلا ولي ونحوه (6) .
__________
(1) أي: أو وطئ أمته المحرمة أبدا برضاع، أو أخته من رضاع، إذا ملكها أو وطئ موطوءة أبيه، أو ابنه، أو أم زوجته إذا ملك إحداهن، أو وطئ أمته المزوجة أو المعتدة، أو المرتدة أو المجوسية.
(2) أو لمكاتبة فيها شرك، لتمكن الشبهة في ملك ولده، وفاقا، لخبر «أنت ومالك لأبيك» ، وإجماعهم على عدم القطع فيما سرق من مال ولده، أو لشبهة ملك مكاتب الواطئ.
(3) أو امرأة وجدها على فراشه، ظنها زوجته، أو ظن له أو لولده فيها شرك، فلا حد.
(4) أي: أووطئ امرأة ظنها سريته، أو دعا ضرير امرأته أو سريته، فأجابه غيرها فوطئها، فلا حد لاعتقاده إباحة الوطء، بما يعذر فيه مثله أشبه من أدخل عليه غير امرأته، وقيل: هذه زوجتك، فوطئها يعتقدها زوجته، فإنه لا حد عليه قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا.
(5) أي: أو وطئ امرأة في نكاح باطل إجماعا، كنكاح خامسة اعتقد صحته، ومثله يجهله فلا حد للعذر.
(6) كبلا شهود، ونكاح شغار أو محلل، ونحو ذلك، قال الموفق: هذا قول أكثر أهل العلم، لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.(7/321)
(أو) وطئ أمة في (ملك مختلف فيه) بعد قبضه (1) كشراء فضولي ولو قبل الإجازة (2) و (نحوه) أي نحو ما ذكر (3) كجهل تحريم الزنا، من قريب عهد بالإسلام (4) أو ناشئ ببادية بعيدة (5) (أو أكرهت المرأة) المزني بها (على الزنا) فلا حد (6) .
__________
(1) أي المبيع: أما قبل القبض فيحد على الصحيح من المذهب، كما صرح به في الإنصاف.
(2) قدمه في الإنصاف وغيره، وقال: ولو وطئ في ملك مختلف فيه، كشراء فاسد بعد قبضه، فلا حد عليه على الصحيح من المذهب، وقدمه في الفروع وغيره.
(3) مما تقدم، حيث كانت الشبهة قائمة، فيدرأ عنه الحد.
(4) قال عمر وعثمان وعلي: لا حد إلا على من علمه وقال الموفق وغيره: هو قول عامة أهل العلم.
(5) عن دار الإسلام، ويقبل منه ذلك لأنه يجوز أن يكون صادقا، فإن عمر قبل قول مدعي الجهل، بتحريم النكاح في العدة، وفي الإنصاف: لو وطئ جارية له فيها شرك، أو لولده أو وجد امرأة على فراشه، ظنها امرأته، أو جاريته، أو دعا الضرير امرأته أو جاريته، فأجابه غيرها، فوطئها، أو وطئ امرأته في دبرها، أو حيضها أو نفاسها، أو لم يعلم بالتحريم، لحداثة عهده بالإسلام، أو نشوه ببادية بعيدة فلا حد عليه، بلا نزاع في ذلك، اهـ وإن كان مثله لا يجهل تحريمه، فعليه الحد، وإن كان نشأ بين المسلمين، وادعى جهل تحريم ذلك، لم يقبل منه لأنه لا يخفى على من هو كذلك.
(6) قال ابن رشد: لا خلاف بين أهل الإسلام، أن المستكرهة لا حد عليها.(7/322)
كذا ملوط به، أكره بإلجاء، أو تهديد (1) أو منع طعام أو شراب، مع إضرار فيهما (2) الشرط (الثالث ثبوب الزنا (3) ولا يثبت) الزنا (إلا بأحد أمرين، أحدهما: أن يقر به) أي بالزنا مكلف (4) ولو قنا (أربع مرات) (5) لحديث ماعز (6) .
__________
(1) بأن غلبهما الواطئ على أنفسهما او هددهما بنحو قتل أو ضرب.
(2) أي في الزنا واللواط، لما روي: أن امرأة استقت راعيا، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت، فرفع ذلك إلى عمر، فقال لعلي: ما ترى فيها؟ قال: إنها مضطرة فأعطاها عمر شيئا وتركها، قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب، نص عليه، وعليه الأصحاب.
(3) من ذكر أو أنثى.
(4) فلا يثبت بإقرار صغير ولا مجنون، قال الموفق: لا خلاف في اعتبار ذلك، في وجوب الحد وصحة الإقرار، ولأن غير المكلف مرفوع عنه القلم، وقال بعضهم: ولا مكره لأن المكره معفو عنه، واختاره الموفق وجمع، للخبر، ولأن الإكراه شبهة، وكما لو استدخل ذكره وهو نائم، وأما المكره على الإقرار بالزنا، فقال الموفق: لا نعلم خلافا بين أهل العلم، في أن إقرار المكره لا يجب به حد.
(5) أي ولو كان المقر بالزنا قنا، أو مبعضا، محدودا في قذف أولا، ذكرا كان أو أنثى، وتقدم: أن الرقيق يجلد خمسين، بكرا كان أو ثيبا ويعتبر إقرار الزاني أربع مرات.
(6) ابن مالك، فإنه اعترف عند النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات، الأولى ثم الثانية، ثم الثالثة ورده، فقيل له، إنك إن اعترفت عنده الرابعة رجمك فاعترف فأمر برجمه.(7/323)
وسواء كانت الأربع (في مجلس أو مجالس (1) و) يعتبر أن (يصرح بذكر حقيقة الوطء) (2) فلا تكفي الكناية لأنها تحتمل ما لا يوجب الحد (3) وذلك شبهة تدرأ الحد (4) (و) يعتبر أن (لا ينزع) أي يرجع (عن إقراره حتى يتم عليه الحد) (5) فلو رجع عن
إقراره (6) .
__________
(1) قال أبو حنيفة: لا يثبت إلا في أربعة مجالس، وقال أحمد: أما الأحاديث فلا تدل إلا على مجلس واحد، قال الموفق: ولأنه أحد حجتي الزنا، فاكتفى به في مجلس واحد، كالبينة وقال: سواء كان في مجلس واحد، أو مجالس متفرقة، اهـ، وذلك لأن ماعزا أقر في مجلس، والغامدية في مجالس، رواه مسلم وغيره.
(2) لتزول الشبهة، ولقوله صلى الله عليه وسلم (لماعز «لعلك قبلت أو غمزت؟» قال: لا، قال: «أفنكتها؟» قال: نعم، قال: «حتى غاب ذاك منك، في ذاك منها» ، قال: نعم، قال: «كما يغيب المرود في المكحلة، والرشاء في البئر» قال: نعم، قال: «أتدري ما الزنا؟» قال: نعم أتيت منها حراما، ما يأتي الرجل من امرأته حلالا) الحديث.
(3) فلا يعتبر في وجوب إقامة الحد، إلا التصريح الذي لا يحتمل سوى الوطء في الفرج مع كمال شروطه.
(4) فلا تكفي فيه الكناية.
(5) لأن من شروط إقامة الحد بالإقرار البقاء عليه إلى تمام الحد.
(6) كف عنه، قال الوزير وغيره، اتفقوا على أنه إذا أقر بالزنا ثم رجع عنه، فإنه يسقط الحد عنه، ويقبل رجوعه، إلا مالكا، إن كان بشبهة قبل وإلا فروايتان، قال ابن رشد: وإنما صار الجمهور إلى تأثير الرجوع في الإقرار لما ثبت، من تقريره صلى الله عليه وسلم ماعزا وغيره، مرة بعد مرة، لعله يرجع، ولقوله لما هرب «فهلا تركتموه لعله يتوب، فيتوب الله عليه» .(7/324)
أو هرب كف عنه (1) ولو شهد أربعة على إقراره، به
أربعًا فأنكر (2) أو صدقهم دون أربع (3) فلا حد عليه ولا عليهم (4) الأمر.
(الثاني) مما يثبت به الزنا (5) (أن يشهد عليه في مجلس واحد (6) بزنا واحد يصفونه) (7) .
__________
(1) لما تقدم بخلاف ثبوته بالشهادة، فلا يكف عنه، قال في الإنصاف: وإن رجم ببينة فهرب، لم يترك بلا نزاع، وإذا ثبت بالإقرار، استحب أن يبدأ الإمام، قال في الإنصاف: بلا نزاع، ويجب حضوره هو، أو من ينوب عنه.
(2) فلا حد عليه.
(3) بأن قالوا: أقر عندنا أربع مرات، فقال: بل ثلاثا.
(4) لأن تصديقه لهم دون أربع رجوع منه، فلا حد عليه ولا عليهم لكمالهم في النصاب وإن صدقهم أربعا حد.
(5) وهو الشهادة عليه به، واشترط بعضهم في الشهود عليه سبعة شروط تعلم بالاستقراء.
(6) من مجالس الحاكم أربعة، لا في مجلسين فأكثر، فإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم من مجلسه، فهم قذفة عليهم الحد، ولأن عمر جلد أبا بكرة ونافعا وشبل بن سعيد لما شهدوا على المغيرة، ولم يشهد زياد، ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم، لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر.
(7) أي الزنا: ويجوز لهم النظر إليهما حال الجماع، لإقامة الشهادة عليهما.(7/325)
فيقولون: رأينا ذكره في فرجها، كالمرود في المكحلة (1) والرشاء في البئر (2) لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقر عنده ماعز، قال له «أنكتها؟» لا يكني قال: نعم، قال «كما يغيب المرود في المكحلة، والرشاء في البئر» قال: نعم (3) .
وإذا اعتبر التصريح في الإقرار فالشهادة أولى (4) (أربعة) فاعل يشهد (5) لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (6) ويعتبر أن يكونوا (ممن تعتبر شهادتهم فيه) أي في الزنا، بأن يكونوا رجالا عدولا (7) .
__________
(1) أي رأوه داخلا في فرجها، دخول المرود الذي يكتحل به في المكحلة، لكونه وصفا لا يحتمل سوى الزنا.
(2) هذا تأكيد ويكفي إذا شهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها، لحصول العلم بالزنا.
(3) ولأن الزنا يعبر به عما ليس بموجب للحد، فلا بد من نحو هذا التصريح.
(4) أي من التصريح بالإقرار، كما مر.
(5) من قوله: أن يشهد عليه.. إلخ، فيشترط في ثبوت الحد، أن يشهد عليه به أربعة، قال الموفق: ليس فيه اختلاف بين أهل العلم، وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا لم يكن شهود الزنا أربعة، فإنهم قذفة يحدون، إلا ما روي عن الشافعي في أحد قوليه.
(6) ولقوله: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ولقوله: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} .
(7) أي يشترط أن يكونواكلهم رجالا، فلا تقبل فيه شهادة النساء بحال
قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، إلا ما روي عن عطاء وحماد أنه يقبل فيه ثلاثة وامرأتان، وهو قول شاذ، لايعول عليه، ويشترط أن يكونوا عدولا، قال: ولا خلاف في اشتراط العدالة، فإنها تشترط في سائر الشهادات، فهنا مع مزيد الاحتياط فيها أولى، فلا تقبل شهادة الفاسق، ولا مستور الحال، الذي لا تعلم عدالته.(7/326)
ليس فيهم من به مانع، من عمى أو زوجية (1) (سواء أتوا الحاكم جملة، أو متفرقين) (2) .
فإن شهدوا في مجلسين فأكثر (3) أو لم يكمل بعضهم الشهادة (4) أو قام به مانع، حدوا للقذف (5) .
__________
(1) أي ليس في الشهود الأربعة مانع، كفسق، أو عمى أو زوجية، قبلت، وإن قام بهم أو ببعضهم مانع من فسق حدوا، أو مانع من عمى أو زوجية، حدوا دون الزوج إن لاعن، قال الموفق وغيره: عليهم الحد في إحدى الروايات عن أحمد، وهو قول مالك، قال القاضي وهو الصحيح، لأنها شهادة لم تكمل، فأما العميان فمعلوم كذبهم، لكونهم شهدوا بمالم يروه يقينا، وأما الفساق فعن أحمد يجوز صدقهم وقد كمل عددهم، فأشبهوا مستوري الحال، فلا حد عليهم، وأما الزوج فقال الموفق وغيره، لا تقبل شهادته على امرأته، لأنه بشهادته مقر بعداوته لها، فلا تقبل شهادته عليها.
(2) واحد بعد واحد، في مجلس واحد، لم يقم قبل شهادتهم، فعليه الحد.
(3) أو جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم من مجلس الحكم، فهم قذفة، وعليهم الحد، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، لقصة المغيرة المتقدمة.
(4) فهم قذفة وعليهم الحد، قال الموفق: في قول أكثر أهل العلم، منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي.
(5) أي أو قام ببعض الشهود مانع، كفسق أو غيره مما يمنع قبول شهادته
حدوا للقذف، لعدم قبول شهادتهم، كما لو لم يكمل العدد، وكما لو بان مشهود عليه بالزنا، مجبوبا أو رتقاء، فيحدون لظهور كذبهم.(7/327)
كما لو عين اثنان يوما أو بلدا، أو زاوية من بيت كبير وآخران آخر (1) (وإن حملت امرأة، لا زوج لها ولا سيد، لم تحد بمجرد ذلك) الحمل (2) ولا يجب أن تسأل (3) لأن في سؤالها عن ذلك إشاعة الفاحشة، وذلك منهي عنه (4) .
__________
(1) أي كما يحد شهود الزنا، لو عين اثنان منهم يوما، وعين آخران في شهادتهما يوما آخر، وكما لو عين اثنان بلدا، وعين اثنان بلدا آخر، وهذا مذهب مالك والشافعي، ولا حد عليهم وفاقا، أو عين اثنان زاوية من بيت كبير عرفا، وآخران زاوية، لأن الأربعة قذفة لشهادة كل اثنين منهم بزنا، غير الذي شهد به الآخران، ولم تكمل الشهادة في واحد منهما، وإن كان البيت صغيرا عرفا، وعين اثنان زاوية منه، وآخران أخرى منه، كملت شهادتهم، لإمكان صدقهم، لاحتمال أن يكون ابتداؤه في إحدى الزاويتين، وتمامه في الأخرى، بخلاف البيت الكبير، لتباعد ما بينهما، وتجوز الشهادة بالحد، من غير مدع، بلا خلاف.
(2) لأنه يحتمل أنه من وطء إكراه أو شبهة، وعنه: تحد إن لم تدع شبهة، اختاره الشيخ؛ وقال: هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، وهو الأشبه بالأصول الشرعية، ومذهب أهل المدينة، فإن الاحتمالات الباردة لا يلتفت إليها، وقال ابن القيم: وحكم عمر برجم الحامل، بلا زوج ولا سيد، وهو مذهب مالك، وأصح الروايتين عن أحمد، اعتمادا على القرينة الظاهرة.
(3) بل ولا يستحب.
(4) أو تقوت دعواها بقرينة، أو كانت معلومة بالعفاف لم تحد.(7/328)
وإن سئلت وادعت أنها مكرهة (1) أو وطئت بشبهة (2) أو لم تعترف بالزنا أربعا لم تحد (3) لأن الحد يدرأ بالشبهة (4) .
__________
(1) لم تحد لأن عمر أتى بامرأة حامل، فادعت أنها أكرهت، فقال: خل سبيلها ورفعت إليه امرأة، فقالت: إنها ثقيلة الرأس، لم تستيقظ حتى فرغ، فدرأ عنها الحد، وروي عن ابن مسعود وغيره: أنهم قالوا: إذا اشتبه عليك الحد، فادرأ ما استطعت.
(2) لإمكان صدقها.
(3) لأن من شرط إقامة الحد الاعتراف.
(4) قال الموفق: لا خلاف أن الحد يدرأ بالشبهات وهي متحققة ههنا.(7/329)
باب حد القذف (1)
وهو الرمي بزنا أو لواط (2) (إذا قذف المكلف) المختار (3) ولو أخرس بإشارة بالزنا (محصنا) (4) ولو مجبوبا، أو ذات محرم، أو رتقاء (5) .
__________
(1) القذف في الأصل: رمي الشيء بقوة، ثم استعمل في الرمي بالزنا ونحوه، من المكروهات، والقذف محرم بالكتاب والسنة والإجماع، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية وقوله صلى الله عليه وسلم «اجتنبوا السبع الموبقات» وعد منها قذف المحصنات، وأجمع المسلمون على تحريمه، بل عدوه من الكبائر.
(2) أو شهادة بأحدهما، ولم تكمل البينة، كما تقدم، واللواط عمل قوم لوط، اشتق الناس من اسمه فعلا لمن عمل عمل قومه، واللوطية من عمل عملهم.
(3) محصنا حد، لا المكره، وإن أذن له في قذفه، فمن قال: هو حق لله حد، ومن قال لآدمي: لم يجب عليه عنده الحد: ويعزر لفعل المحرم.
(4) أي ولو كان القاذف أخرس، بإشارة مفهومه بالزنا حد، إذا قذف محصنا.
(5) أي ولو كان قذف مجبوبا، أي مقطوع الذكر بالزنا، أو قذف ذات محرم منه بالزنا، أو قذف رتقاء بالزنا، أو قذف قرناء، وكذا إن قذف مريضا أو
مريضة.(7/330)
(جلد) قاذف (ثمانين جلدة إن كان) القاذف (حرا) (1) لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (2) (وإن كان) القاذف (عبدا) أو أمة ولو عتق عقب قذف، جلد (أربعين) جلدة كما تقدم في الزنا (3) (و) القاذف (المعتق بعضه) يجلد (بحسابه) (4) فمن نصفه حر يجلد ستين جلدة (5) .
__________
(1) قال الموفق غيره: قد أجمع العلماء على وجوب الحد، على من قذف محصنا، وأن حده ثمانون إن كان حرا.
(2) أي والذين يقذفون بالزنا، المحصنات، الحرائر العفائف، العاقلات، ثم لم يأت القذفة بأربعة شهداء على ما رموهن به، فاجلدوهم ثمانين جلدة، أي فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة، ولا فرق بين الذكر والأنثى، وإنما خصهن لخصوص الواقعة، ولأن قذفهن أغلب وأشنع، ثم قال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقال ابن رشد: اتفقوا على انه يجب على القاذف مع الحد سقوط شهادته، ما لم يتب، واتفقوا على أن التوبة لا ترفع الحد.
(3) إذا جلد فيه، لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وقال ابن رشد وغيره: اتفقوا على أن حد القذف ثمانون جلدة للقاذف الحر، والعبد على النصف، للآية وغيرها، ولأن الله لم يجعله كالحر من كل وجه، لا قدرا ولا شرعا.
(4) أي بحساب ما عتق منه، كالحر، وما بقي كالعبد.
(5) ومن ربعه حر يجلد خمسين، وهكذا، لأنه حد يتبعض، فكان على القن فيه من العذاب، نصف ما على الحر.(7/331)
(وقذف غير المحصن) ولو قنه (يوجب التعزير) على القاذف (1) ردعا عن أعراض المعصومين (2) (وهو) أي حد القذف (حق للمقذوف) (3) فيسقط بعفوه ولا يقام إلا بطلبه، كما يأتي (4) لكن لا يستوفيه بنفسه، وتقدم (5) (والمحصن هنا) أي في باب القذف (6) هو (الحر المسلم العاقل العفيف) عن الزنا ظاهرا، ولو تائبا منه (7) .
__________
(1) يعني لنحو مشرك وذمي وقن، ولو كان القاذف سيده، وكذا القاذف لمسلم دون تسع سنين، ومن ليس بعفيف.
(2) وكفا له عن أذاهم، فحيث انتفى الحد وجب التعزير.
(3) كالقود.
(4) أي يسقط حق المقذوف، بعفوه عن القاذف، ولو بعد طلبه، ولا يستحلف المنكر فيه، ولا يقبل رجوعه عن القذف، كسائر حقوقه، ولا يقام حد القذف، إلا بطلبه، كما سيأتي قريبا، ولا يجوز أن يعرض له إلا بطلبه، وذكره الشيخ إجماعا.
(5) في أول كتاب الحدود، وهو قوله: فيقيمه الإمام أو نائبه مطلقا، لأنه يفتقر إلى اجتهاد، ولا يؤمن من استيفائه الحيف، فإن فعل لم يعتد به، قال ابن رشد: لا خلاف أن الإمام يقيمه في القذف.
(6) من وصفه، بخلاف الإحصان في باب النكاح.
(7) أكثر الفقهاء، يشترط للإحصان، خمسة شروط، أحدها: الحرية، ورجحه الموفق وغيره، وكذا الإسلام، وأما العقل فاتفاق، وكذا العفاف ظاهرا، ولو كان تائبا من الزنا، لأن التوبة تمحو الذنب، والخامس من يجامع مثله.(7/332)
(الملتزم (1) الذي يجامع مثله) وهو ابن عشر، وبنت تسع (ولا يشترط بلوغه) (2) لكن لا يحد قاذف غير بالغ، حتى يبلغ ويطالب (3) ومن قذف غائبا لم يحد، حتى يحضر، ويطالب (4) أو يثبت طلبه في غيبته (5) .
__________
(1) كذا في الرعاية والوجيز، ولم يذكر في الفروع، ولا في الإقناع، ولا في المنتهى، ولا المغني ولا الشرح، لأن المتلزم، يراد به، ما قابل الحربي وغيره، فيدخل فيه الذمي مع أنه خارج بقوله: المسلم، وقيل: إذا قذف ذمية لها ولد مسلم، حد وقال الموفق: ما لا يحد قاذفه إذا لم يكن له ولد، لا يحد وله ولد كالمجنونة.
(2) أي والمحصن: هو الحر المسلم العاقل، العفيف الذي يجامع مثله، وقال ابن رشد: اتفقوا على أن من شرط المقذوف، أن يجتمع فيه خمسة أوصاف، البلوغ والحرية والعفاف، والإسلام وأن يكون معه آلة الزنا، فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف لم يجب الحد والجمهور بالجملة، على اشتراط الحرية في المقذوف اهـ وعن أحمد: أن البلوغ شرط، وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي، وما مشى عليه فقال الموفق: لأنه حر عاقل عفيف، أشبه الكبير، وهو قول مالك، وعليه: ولا بد أن يكون كبيرا يجامع مثله، وأدناه أن يكون للغلام عشر، وللجارية تسع.
(3) أي بالحد بعد بلوغه، لعدم اعتبار كلامه قبل البلوغ، وليس لوليه المطالبة عنه بالحد، حذرا من فوات التشفي، وكذا لو جن المقذوف، أو أغمي عليه قبل الطلب.
(4) لأنه حق له أشبه سائر حقوقه.
(5) فيحد القاذف، لوجود شرطه، وإن كان القاذف مجنونا، أو مبرسما أو نائما، أو صغيرا، فلا حد عليه.(7/333)
ومن قال لابن عشرين: زنيت من ثلاثين سنة لم يحد (1) (وصريح القذف) قوله (يا زاني يا لوطي (2) ونحوه) كيا عاهر (3) أو قد زنيت أو زنى فرجك (4) ويا منيوك ويا منيوكة، إن لم يفسره بفعل زوج أو سيد (5) .
__________
(1) للعلم بكذبه، وإن قال لمسلمة، زنيت وأنت نصرانية، أو وأنت أمة، ولم تكن كذلك، حد للعلم بكذبه، وأما شرط القاذف، فقال ابن رشد: اتفقوا على أنه البلوغ، والعقل، سواء كان ذكرا أو أنثى، حرا أو عبدا، مسلما، أو غير مسلم.
(2) ألفاظ القذف، تنقسم إلى صريح وكناية، وصريح القذف هو ما لا يحتمل غيره، كقول القاذف يا زاني، يا لوطي، لأن اللوطي في العرف، من يأتي الذكور، وإن قال: أردت بزاني، زاني العين ونحوه، أو أنك من قوم لوط، أوأنك تعمل عملهم، غير إتيان الذكور لم يقبل.
(3) وأصل العهر، إتيان الرجل المرأة ليلا، للفجور بها، ثم غلب على الزنا، سواء جاءها أو جاءته، ليلا أو نهارا.
(4) أو رأيتك تزنين، أو أنت أزنى الناس، ونحو ذلك، مما لا يحتمل غيره.
(5) أي وصريح القذف، إن قال: يا منيوك، ويا منيوكة حد إن لم يفسره بفعل زوج أو سيد، فإن فسره بذلك، فليس قذفا، وذلك إذا قاله لها بعد عتقها. وفسره بفعل السيد قبل عتقها، وفسره بفعل الزوج قبل فراقها، إذ لا بد من تقييده بذلك.(7/334)
(وكنايته) أي كناية القذف (يا قحبة) و (يا فاجرة) و (يا خبيثة) (1) و (فضحت زوجك، أو نكست رأسه (2) أو جعلت له قرونا (3) ونحوه) كعلقت عليه أولادا من غيره، أو أفسدت فراشه (4) ولعربي: يا نبطي ونحوه (5) وزنت يدك، أو رجلك ونحوه (6) .
__________
(1) أي وكناية القذف والتعريض به، ما يحتمل غير الزنا، فإذا فسره بغيره لم يحد، قال أحمد: لا أرى الحد إلا على من صرح بالقذف والشتيمة، فإذا قال القاذف: يا قحبة، إذا فسره بأنها تصنع للفجور قبل، قال السعدي: قحب البعير والكلب سعل، وهي في زماننا المعد للزنا، أو قال: يا فاجرة أي مخالفة لزوجها فيما يجب طاعتها فيه، أو قال يا خبيثة من خبث الشيء، فهو خبيث، إن فسر بغير القذف، قبل اختاره الموفق وغيره.
(2) إن فسره بغير القذف، قبل، لأنه يحتمل أن يكون فضحته بشكواك، وأن يكون نكست رأسه حياء من الناس، وكذا غطيت رأسه.
(3) إن فسره بغير القذف، قبل، لأنه يحتمل أنه مسخر منقاد لك، كالثور.
(4) إن فسره أيضا بغير القذف قبل، لأنه يحتمل أولادا من زوج آخر، أو وطء بشبهة، وكذا إن فسر إفساد فراشه بالنشوز، أو الشقاق، او التخريق، قبل.
(5) كيا زنجي، أو يا فارسي، أو يا رومي، إن فسره بمحتمل غير القذف قبل بأن قال: أردت بالنبطي نبطي اللسان، ونحوه وبالرومي رومي الخلقة، وعزر لارتكابه معصية لا حد فيها، ولا كفارة.
(6) كزنت عيناك لأن زنا هذه لا يوجب الحد، لحديث «العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان، وزناهما البطش، والرجلان تزنيان، وزناهما المشي» .(7/335)
(وإن فسره بغير القذف قبل) وعزر (1) كقوله: يا كافر، يا فاسق، يا فاجر، يا حمار، ونحوه (2) (وإن قذف أهل بلد (3) أو) قذف (جماعة لا يتصور منهم الزنا عادة عزر) لأنه لا عار عليهم به، للقطع بكذبه (4) كذا لو اختلفنا في أمر، فقال أحدهما الكاذب ابن الزانية، عزر ولا حد (5) .
__________
(1) أي قبل مع يمينه، لأنه يحتمل غير الزنا، وعزر، لارتكابه المعصية، وإن فسر ما تقدم من الكناية بالزنا، فهو قذف، لأنه أقر على نفسه بما هو الأغلظ عليه، وإن كان نوى الزنا بالكناية، لزمه الحد باطنا، ويلزمه إظهار نيته.
(2) أي كما أنه يعزر بقوله يا كافر يعزر بنحوه كياتيس، يا خنزير يا كلب يا رافضي يا عدو الله، يا كذاب يا خائن، يا شارب يا مخنثة يا قواد يا ديوث، ونحوها.
(3) لا يتصور الزنا منهم عادة عزر، ولا حد، لأنه لا عار عليهم به، للقطع بكذبه.
(4) وعزر على ما أتى به من المعصية، ولو لم يطلب أحد منهم، وقال ابن رشد فيما إذا قذف جماعة، قالت طائفة ليس عليه إلا حد واحد، جمعهم في القذف، أو فرقهم وبه قال مالك وأبو حنيفة، والثوري وأحمد وجماعة، وقال قوم: بل عليه لكل واحد حد، وبه قال الشافعي، وحجة الجمهور، قصة هلال بن أمية، لاعن بينهما، ولم يحد لشريك، وذلك إجماع.
(5) ولو شتم شخصا فقال: أنت ملعون ولد زنا، وجب عليه التعزير، على مثل هذا الكلام، يجب عليه حد القذف، وإن لم يقصد بهذه الكلمة ما يقصده كثير من الناس، أن المشتوم فعله خبيث كفعل ولد الزنا.(7/336)
(ويسقط حد القذف بالعفو) أي عفو المقذوف عن القاذف (1) .
(ولا يستوفى) حد القذف (بدون الطلب) أي طلب المقذوف لأنه حقه، كما تقدم (2) ولذلك لو قال المكلف: اقذفني فقذفه لم يحد، وعزر (3) وإن مات المقذوف، ولم يطالب به سقط (4) وإلا فلجميع الورثة (5) ولو عفا بعضهم حد للباقي كاملا (6) ومن قذف ميتا حد بطلب وارث محصن (7) .
__________
(1) ويبقى ما كان لله، فيعزر بما يردعه عن التمادي في القذف المحرم، المتوعد عليه باللعن، والعذاب الأليم.
(2) وقال الشيخ: لا يحد القاذف إلا بالطلب إجماعا وإن قذف شخصا مرارا، فحد واحد، إذا لم يحد لواحد منها، حكاه ابن رشد وغيره اتفاقا، وأنه إن قذفه فحد، ثم قذفه ثانيا حد حدا ثانيا.
(3) أي لفعله المعصية، ولم يحد، لأن الحد حق للمقذوف وقد أسقطه بالإذن فيه.
(4) كالشفيع إذا مات، قبل الطلب بالشفعة.
(5) أي وإلا فإن طالب مقذوف قبل موته لم يسقط، للعلم بقيامه على حقه. فلجميع الورثة بصفة ما كان للموروث لأنه تعيير له، وطعن في نسبه.
(6) للحوق العار بكل واحد منهم على انفراده، ولا يرث الولد حد القذف على أبويه لأنه لا يملك إقامته عليهما، كما لو وجب عليهما قود أيضا ولا يلزم الوالد الحد إذا قذف ولده.
(7) خاصة لما فيه من التعيير، ولو كان الميت غير محصن فالإحصان
هنا معتبر للوارث فقط، وإن كان الوارث غير محصن، بأن كان عبدا أو كافرا ونحوه فلا حد كما لو قذفه ابتداء.(7/337)
ومن قذف نبيا كفر (1) وقتل ولو تاب (2) أو كان كافرا فأسلم (3) .
__________
(1) أو قذف أمه كفر، لأنه ردة عن الإسلام، وخروج عن الملة، وكذلك السب بغير القذف، يسقط الإسلام، قال الشيخ: وقذف نساء النبي صلى الله عليه وسلم كقذفه، لقدحه في دينه، وإنما لم يقتلهم، لأنهم تكلموا قبل علمه ببراءتها.
(2) لأنه حد قذف، فلا يسقط بالتوبة، لأن قذف غيره لا يسقط بالتوبة، فقذفه أولى بعدم السقوط، وقال الشيخ: في القاذف إذا تاب قبل علم المقذوف، هل تصح توبته، الأشبه أنه يختلف باختلاف الناس، وقال: قال أكثر العلماء إن علم به المقذوف، لم تصح توبته، وإلا صحت، ودعا له، واستغفر وعلى الصحيح من الروايتين: لا يجب له الاعتراف لو سأله فعرض، ولو مع استحلافه، لأنه مظلوم وتصح توبته، وفي تجويز التصريح بالكذب المباح هنا نظر، ومع عدم توبته وإحسانه تعريضه كذب، ويمينه غموس، واختيار أصحابنا: لا يعلمه، بل يدعو له في مقابلة مظلمته.
(3) أي كافرا ملتزما، لا إن سبه بغير القذف ثم أسلم، كما تقدم، قال في الإنصاف ويسقط سبه بالإسلام، كسب الله تعالى.(7/338)
باب حد المسكر (1)
أي الذي ينشأ عنه السكر، وهو اختلاط العقل (2) (كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام (3) وهو خمر من أي شيء كان) (4) لقوله عليه الصلاة والسلام «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» (5) .
__________
(1) أي هذا باب يذكر فيه حد متناول المسكر، والمسكر: اسم فاعل، من أسكر الشراب، فهو مسكر: إذا جعل صاحبه سكرانا، أو كان فيه قوة تفعل ذلك، والسكران خلاف الصاحي، والخمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
(2) أي والسكر: هو اختلاط العقل، وقال الشافعي وأحمد: هو أن يخلط في كلامه خلاف عادته، وقال مالك: إذا استوى عنده الحسن والقبيح فهو سكران.
(3) حده بحد يتناول كل فرد من أفراد المسكر لقوله صلى الله عليه وسلم «ما أسكر كثيره فقليله حرام» رواه أبو داود وغيره.
قال الوزير: اتفقوا على أن كل شراب يسكر قليله فكثيره حرام، ويسمى خمرا، وفيه الحد، وقال: اتفقا على أن الخمر حرام، قليلها وكثيرها، وفيها الحد، وكذلك اتفقوا على أنها نجسة، وأجمعوا على أن من استحلها حكم بكفره.
(4) وسواء كان ذلك من عصير العنب النيئ، أو مما عمل من التمر والزبيب، والحنطة والشعير، والذرة، والأرز، والعسل والجوز، ونحوها، مطبوخا كان ذلك أو نيئا، إلا أبا حنيفة فيسمى عنده نقيعا ونبيذا.
(5) وقال عمر: الخمر ما خامر العقل، وقال الراغب وغيره: كل شيء يستر
العقل يسمى خمرا، لأنها سميت بذلك لمخامرتها للعقل، وسترها له، وهو قول جمهور أهل اللغة، وحكى ابن عبد البر عن أهل الحجاز، وأهل الحديث، وغيرهم أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، بإجماع المسلمين، قال الشيخ: والحشيشة نجسة في الأصح، وهي حرام، سواء سكر منها، أو لم يسكر، والمسكر منها حرام باتفاق المسلمين، وضررها من بعض الوجوه أعظم من ضرر الخمر، وظهورها في المائة السادسة.(7/339)
رواه أحمد وأبو داود (1) (ولا يباح شربه) أي شرب ما يسكر كثيره (للذة ولا لتداو (2) ولا عطش ولا غيره (3) إلا لدفع لقمة غص بها، ولم يحضره غيره) أي غير الخمر، وخاف تلفا، لأنه مضطر (4) ويقدم عليه بول (5) .
__________
(1) وهو في الصحيحين من غير وجه، بهذا اللفظ، وبلفظ «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، وكل شراب أسكر فهو حرام» ، فكل مسكر يقال له خمر، ويحكم بتحريمه، قال أحمد: في تحريم المسكر عشرون وجها، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «إنه ليس بدواء، ولكنه داء» رواه مسلم، وقال ابن مسعود، إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم.
(3) أي غير ما ذكر، للذة أو لتداو، أو عطش، فإنه لا يحصل به ري، بل فيه من الحرارة ما يزيد العطش.
(4) بحيث لم يجد ما يسيغها، فيجوز له تناوله، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} حفظا للنفس.
(5) أي يقدم على الخمر لدفع لقمة غص بها، بول لوجوب الحد باستعمال المسكر دون البول.(7/340)
وعليهما ماء نجس (1) (وإذا شربه) أي المسكر (المسلم) (2) أو شرب ما خلط به ولم يستهلك فيه (3) أو أكل عجينا لت به (4) (مختارا عالما أن كثيره يسكر، فعليه الحد (5) ثمانون جلدة مع الحرية) (6) لان عمر استشار الناس في حد الخمر (7) .
__________
(1) أي: ويقدم على المسكر والبول ماء نجس، لأن الماء مطعوم، بخلاف البول، وإنما منع من حل استعماله نجاسته، وإن شرب الخمر لعطش، فقال الموفق: إن كانت ممزوجة بما يروي من العطش أبيحت لدفعه عند الضرورة، وصرفا، لم تبح، وعليه الحد.
(2) فعليه الحد بشرطه، لقوله صلى الله عليه وسلم «من شرب الخمر فاجلدوه» رواه أبو داود وغيره، ولا نزاع في ذلك.
(3) حد، فإن استهلك فيه ثم شرب لم يحد لأنه باستهلاكه في الماء لم يسلب اسم الماء عنه.
(4) أو طبخ به لحما فأكل من مرقة، حد، لأن عين الخمر موجودة في ذلك.
(5) مختارا لا مكرها، عالما أن كثيره يسكر، سواء كان من عصير العنب، أو غيره من المسكرات، ولو لم يسكر حد لما سبق.
(6) لإجماع الصحابة، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة.
(7) وذلك أن غالب الناس قد انهمكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة، وكان عنده المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم، فلم ينكره منهم أحد، وقال السائب: حتى إذا عتوا في شرب الخمر وفسقوا، جلد عمر ثمانين.(7/341)
فقال عبد الرحمن: اجعله كأخف الحدود ثمانين (1) فضرب عمر ثمانين (2) وكتب به إلى خالد، وأبي عبيدة في الشام، رواه الدارقطني وغيره (3) فإن لم يعلم أن كثيره يسكر فلا حد عليه، ويصدق في جهل ذلك (4) (و) عليه (أربعون مع الرق) عبدا كان، أو أمة (5) .
__________
(1) ولأبي داود، فأجمعوا أن يضرب ثمانين.
(2) قال ابن القيم: ألحق عمر حد الخمر بحد القذف، وأقره الصحابة، وقال الشيخ: حد الشرب ثابت بالسنة، وإجماع المسلمين، أربعين والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة، إذا أدمن الناس الخمر، وكانوا لا يرتدعون بدونها ونحو ذلك.
(3) ولأبي داود عن ابن أزهر، ثم أثبته معاوية رضي الله عنه، ولم ينكر عليه، وهذا والله أعلم لتهالك أكثر الناس في شربها، ولم يرتدعوا قال الشيخ: الصحيح أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين، ليست واجبة على الإطلاق، ولا محرمة على الإطلاق، بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه، بالجريد والنعال وأطراف الثياب، بخلاف بقية الحدود، ومع قلة الشاربين، وقرب أمر الشارب، قال الشيخ: تكفي الأربعون، وهذا أثبت القولين اهـ، ولا ينعقد الإجماع على ما خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم فالزيادة تعزير إذا رآها الإمام.
(4) فيشترط لوجوب الحد، علمه بالتحريم، قال الموفق: في قول عامة أهل العلم، وقال عمر وعثمان، لا حد إلا على من علمه.
(5) وأجمعوا على أنهم على النصف من حد الأحرار على أصل كل من أهل العلم، الأئمة الأربعة، وغيرهم، للآية وغيرها.(7/342)
ويعزر من وجد منه رائحتها (1) أو حضر شربها (2) لا من جهل التحريم (3) لكن لا يقبل ممن نشأ بين المسلمين (4) ويثبت بإقراره مرة، كقذف (5) أو بشهادة عدلين (6) .
__________
(1) وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وعن أحمد: أنه يحد بوجود الرائحة إذا لم يدع شبهة، وهو قول مالك، واختيار الشيخ، وقال: من قامت عليه شواهد الحال بالجناية، كرائحة الخمر، أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادة به أو إخباره عن نفسه، التي تحتمل الصدق والكذب، وهذا متفق عليه بين الصحابة وقال ابن القيم: حكم عمر وابن مسعود بوجوب الحد برائحة الخمر في الرجل أو غيره، ولم يعلم لهما مخالف، ومن وجد سكران، أو تقيأه حد لأنه لم يسكر ولم يتقيأ إلا وقد شربها.
(2) عزر، نص عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه» رواه أبو داود.
(3) قال الشيخ: إذا شك في المطعوم والمشروب، هل يسكر أم لا، لم يحرم بمجرد الشك، ولم يقم الحد على شاربه، ولا ينبغي إباحته للناس، إذا كان يجوز أن يكون مسكرا، لأن إباحة الحرام، مثل تحريم الحلال.
(4) لأنه لا يكاد يخفى على مثله، فلا تقبل دعواه فيه.
(5) لأن كل منهما لا يتضمن إتلافا، بخلاف السرقة، ومتى رجع قبل منه لانه حق الله تعالى.
(6) أي: أو يثبت حد المسكر، بشهادة رجلين عدلين يشهدان أنه شرب مسكرا، ولا يحتاج إلى بيان نوعه، ولا أنه شربه مختارا عالما أنه مسكر، عملا بالظاهر.(7/343)
ويحرم عصير غلا (1) أو أتي عليه ثلاثة أيام بلياليها (2) ويكره الخليطان كنبيذ تمر مع زبيب (3) لا وضع تمر أو نحوه وحده في ماء لتحليته (4) ما لم يشتد (5) أو تتم له ثلاثة أيام (6) .
__________
(1) أي يحرم عصير عنب أو قصب أو رمان أو غيره، غلا كغليان القدر، بأن قذف بزبده، ولو لم يسكر، لأن علة التحريم: الشدة الحادثة، وهي توجد بوجود الغليان، قال الموفق: لا خلاف في تحريمه، وهو ظاهر حديث أبي هريرة: تحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به، فإذا هو ينش فقال: «اضرب بهذا الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر» رواه أبو داود.
(2) حرم ولو لم يوجد منه غليان، لما روي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشربه إلى مساء ثالثة، ثم يأمر به فيسقى الخادم، أو يهراق.
(3) لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين وقال أخمد: الخليطان حرام، وفي الصحيحين نهى أن يجمع بين التمر والزهو، والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدة وقال القاضي: قول أحمد هو حرام، إذا اشتد وأسكر، وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم لعلة إسراعه إلى السكر المحرم.
(4) أي لا يكره وضع تمر وحده في ماء لتحليته، أو وضع نحو التمر، كزبيب أو مشمش أو عناب، كل منها وحده، في ماء لم يكره، لما تقدم، ولما رواه مسلم وغيره: نهانا أن نخلط بسرا بتمر، أو زبيبا بتمر، وقال: من شربه منكم فليشربه زبيبا فردا، أو تمرا فردا، أو بسرا فردا.
(5) أي: يغل، كما تقدم.
(6) أي ولو لم يغل، لأن الشدة تحصل في الثلاث، غالبا، وهي خفية تحتاج إلى ضابط، فجعلت الثلاث ضابطا لها، ولا يكره فقاع حيث لم يشتد، ولم يغل، لأنه نبيذ يتخذ لهضم الطعام، ولا انتباذ في دباء، ونحوه.(7/344)
باب التعزير (1)
(وهو) لغة المنع (2) ومنه التعزير بمعنى النصرة، لأنه يمنع المعادي من الإيذاء (3) واصطلاحا (التأديب) لأنه يمنع مما لا يجوز فعله (4) (وهو) أي التعزير (واجب في كل معصية، لا حد فيها ولا كفارة (5) .
__________
(1) لما ذكر العقوبات المقدرة، ذكر ما ليست مقدرة، وتسمى التعزير، تختلف باختلاف الجرائم، وحال المذنب، والتعزير، كما قال الشيخ وغيره، منه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي من الوطن، ومنه ما يكون بالضرب، وإذا كان على ترك واجب، فإنه يضرب مرة بعد مرة، حتى يؤديه، وعلى جرم ماض، فعل منه بقدر الحاجة، وليس لأقله حد، واختلف في أكثره ويأتي.
(2) واللوم، وضرب دون الحد، أو هو أشد الضرب، سمي تعزيرا لأنه يمنع من الجناية.
(3) قال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} لمنع الناصر المعادي والمعاند لمن ينصره.
(4) وقال السعدي: يقال عزرته، وقرته، وأيضا أدبته وهو من الأضداد وهو طريق إلى التوقير لأنه إذا امتنع به، وصرف عنه الدناءة، حصل له الوقار، والنزاهة.
(5) فيجب فيما شرع فيه إذا رآه الإمام وهو قول مالك وأبي حنيفة، وما لم
يكن منصوصا إذا رآه الإمام مصلحة، أو علم أنه لا ينزجر إلا به، وإن رأى
العفو جاز، ولحق آدمي تجب إجابته، وحيث كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة، غير منضبطة، في الشدة، والضعف، والكثرة والقلة، جعلت عقوبتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور، بحسب المصلحة، في كل زمان ومكان.
وقوله: «في كل معصية» قال الشيخ: إن عني به فعل المحرمات، وترك الواجبات، فاللفظ جامع، وإن عنى به فعل المحرمات فقط، فغير جامع، بل التعزير على ترك الواجبات أيضا، وقال: لا نزاع أن غير المكلف كالصبي المميز، يعاقب على الفاحشة، تعزيرا بليغا، وكذا المجنون يضرب على ما فعل، لينزجر، لكن لا عقوبة عليه بقتل أو قطع، اهـ، وأما ما فيه حد أو كفارة، كالزنا والسرقة، والظهار، والإيلاء فلا تعزير.(7/345)
كاستمتاع لا حد فيه) أي: كمباشرة دون فرج (1) (و) كـ (سرقة لا قطع فيها) لكون المسروق دون نصاب (2) أو غير محرز (3) (و) كـ (جناية لا قود فيها) كصفع ووكز (4) (و) كـ (إتيان المرأة المرأة (5) والقذف بغير الزنا) (6) .
__________
(1) ففيه التعزير بما يراه الأئمة، وولاة الأمور.
(2) فلم يجب فيه قطع، ففيه التعزير.
(3) أي: أو كسرقة من غير محرز، فلا قطع، وفيه التعزير.
(4) أي دفع، وضرب بجميع الكف، وتقدم: إن كان عمدا ففيه القصاصن وإلا فالتعزير.
(5) أي وكمساحقة المرأة المرأة، فيه التعزير.
(6) ونحوه، كاللواط، أو كيا حمار أو كلب، ونحو ذلك ففيه التعزير.(7/346)
إن لم يكن المقذوف ولدا للقاذف، فإن كان، فلا حد ولا تعزير (1) (ونحوه) أي نحو ما ذكر كشتمه بغير الزنا (2) وقوله: الله أكبر عليك (3) أو خصمك (4) ولا يحتاج في إقامة التعزير إلى مطالبة (5) (ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات) (6) .
__________
(1) وكذا إن نزل فلا حد، ولا تعزير، لأبوين وإن علوا، ويعزر الولد لحق الوالد، كما يحد لقذفه، ويقاد به، لكن بمطالبة الولد.
(2) فيجب التعزير، ومقتضى كلام الشيخ في موضع لا يلعن من لعنه اهـ، وعليه، فلا يدعو عليه، ولا يشتمه بمثله، بل يعزر، وقال في موضع: له أن يقول له مثل ذلك، وقال ابن القيم: وإن سبه أو سخر به أو هزأ به، أو بال عليه أو بصق عليه، فله أن يفعل به نظير ما فعل، وهذا أقرب إلى الكتاب والسنة، والميزان، وآثار الصحابة من التعزير المخالف للجناية، قال: ولا يكذب عليه، ولا يقذفه، ولا يسب والديه اتفاقا.
(3) قال الشيخ: كالدعاء عليه، وشتمه بغير فرية، نحو: يا كلب، فله قوله له، أو تعزيره.
(4) أي وقوله: الله خصمك، أو خصمك الله، دعاء عليه أيضا، فيعزر وقال الشيخ: من دعا عليه ظلما فله أن يدعو على ظالمه، بمثل ما دعا به عليه.
(5) لأنه مشروع للتأديب، فيعزر من سب صحابيا، ولو كان له وارث، ولم يطالب بالتعزير، وفي الانتصار، في قذف مسلم كافرا، التعزير لله، فلا يسقط بإسقاطه.
(6) هذا أحد أقوال أهل العلم، ونص عليه أحمد، وهو قول إسحاق.(7/347)
لحديث أبي بردة مرفوعًا: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله» متفق عليه (1) وللحاكم نقصه عن العشرة حسبما يراه (2) .
__________
(1) أي إلا ما عين فيه الشارع عددا من الضرب، فالمراد مقدر فيه الحد، فليست الحدود، المقدر فيها حد، بل المحرمات، فحدود الله محارمه، وقال الشيخ: معنى حد، أي معصية الله، وهو مذهب أحمد، وعليه أكثر الأصحاب وعنه تجوز الزيادة، وهو مذهب مالك، والشافعي، فيعزر بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة، واختاره الشيخ وغيره.
وإن كان التعزير فيه مقدر، لم يبلغ به المقدر، فلا يبلغ على المباشرة حد الزنا، ولا السرقة من غير قطع حد القطع، ونحو ذلك وما اقتضته المصلحة فيجوز مثل قتل الجاسوس المسلم، والمفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى غير كتاب الله وسنة نبيه، وغير ذلك مما لا يندفع إلا بالقتل.
قال الشيخ وغيره وهذا أعدل الأقوال، وعليه دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، فقد أمر بضرب الذي أحلت له امرأته جاريتها مائة، وأبو بكر وعمر أمرا بضرب رجل وامرأة وجدا في لحاف واحد، مائة مائة، وضرب عمر صبيغا ضربا كثيرا، وقال: إذا كان المقصود دفع الفساد، ولم يندفع إلا بالقتل قتل، وحينئذ فمن تكرر منه جنس الفساد، ولم يرتدع بالحدود المقدرة بل استمر على الفساد، فهو كالصائل الذي لا يندفع إلا بالقتل، فيقتل.
(2) لأنه أقله ليس مقدرا، فيرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم، وذلك لتفاوت الجرائم، بالشدة والضعف، واختلاف الأحوال، والأزمان فجعلت العقوبات على بعض الجرائم، راجعة إلى اجتهاد الأئمة، وولاة الأمور، بحسب الحاجة، والمصلحة، ولا تخرج عما أمر الله به ونهى عنه، وكما يكون التعزير بالضرب
يكون بالحبس والصفع، والتوبيخ، والعزل عن الولاية، ونحو ذلك.
قال الشيخ: وقد يكون التعزير بالنيل من عرضه، كيا ظالم يا معتدي، وبإقامته من المجلس اهـ، وإن عزر الإمام رجلا فمات، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد لا ضمان عليه.(7/348)
لكن من شرب مسكرا في نهار رمضان، حد للشرب، وعزر لفطره بعشرين سوطا (1) لفعل علي رضي الله عنه (2) ومن وطئ أمة امرأته حد (3) ما لم تكن أحلتها له فيجلد مائة، إن علم التحريم فيهما (4) ومن وطئ أمة له فيها شرك، عزر بمائة إلا سوطا (5) .
__________
(1) ذهب إليه الإمام أحمد، ورأى أن من شرب الخمر في نهار رمضان يحد ثم يعزر، لجنايته من وجهين.
(2) وروي عن عمر: أنه كتب إلى أبي موسى، أن لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا، فيجتمع الحد والتعزير في هذه الصورة.
(3) لخبر النعمان بن بشير، ورواه أبو داود وغيره، ولأنه وطء في فرج من غير عقد ولا ملك، فوجب عليه الحد، كوطء أمة غير زوجته.
(4) أي فيما إذا شرب مسكرا في نهار رمضان، أو وطئ أمة أمراته التي أحلتها له، وإن ولدت منه لم يلحقه نسبه، لانتفاء الملك والشبهة، وقال الشيخ: إن ظن جوازه لحقه وإلا فروايتان، ويكون حرا على الصحيح، وإن ظن حلها بذلك اهـ ولا يسقط حد بإباحة، إلا في هذا الموضع.
(5) لفعل عمر فيمن وطئ جارية، له فيها شرك، احتج به أحمد، وكذا وطء أمته المزوجة، ولخبر النعمان، لأنها في معناها، وكذا لو وجد مع امرأته رجلا في لحافها، لما روي أن عليا ضربه مائة.(7/349)
ويحرم تعزير بحلق لحية (1) وقطع طرف أو جرح (2) أو أخذ مال أو إتلافه (3) .
__________
(1) لما فيه من المثلة، وأجمعوا على تحريم حلق اللحية، حكاه الشيخ وغيره، فيحرم التعزير به، للنهي عنه، ولأنه مثلة ومحرم لذاته، كقطع إصبع، وكما لا يجوز أن يعزر بحرام، كسقيه خمرا يشربها لا بتسويد وجه، ولا بأن ينادى عليه بذنبه ويطاف به مع ضربه.
(2) لأنه مثلة أيضا، ولأن الواجب أدب، والأدب لا يكون بالإتلاف.
(3) قالوا: لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عمن يقتدى به، وقال الشيخ وابن القيم: وغيرهما، يجوز بأخذ مال وإتلافه، فالتعزير بالعقوبات المالية مشروع في مواضع منصوصة، كسلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده، وكسر دنان الخمر، وشق ظروفه، وكهدم مسجد الضرار، وتضعيف العزم على من سرق من غير حرز، وحرمان القاتل سلبه، لما اعتدى على الأمير، وتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، وتحريق قصر ابن أبي وقاص، لما احتجب فيه عن الرعية، وإراقة اللبن المشوب، ونظائرها.
ولم يرو أنه حرم جميع العقوبات المالية، بل أخذ الخلفاء الراشدين، وأكابر الصحابة بذلك بعد موته، دليلا على أن ذلك غير منسوخ، ومدعي النسخ ليس معه حجة شرعية، من كتاب ولا سنة، والعين والتأليف المحرم، فإزالته وتغييره متفق عليها بين المسلمين، كإراقة الخمر وتغيير الصورة، قال: وهو جائز على أصل أحمد، لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في المال غير منسوخة كلها، وقول أبي محمد المقدسي: ولا يجوز أخذ ماله، يعني المعزر، فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة.(7/350)
(ومن استمنى بيده) من رجل أو امرأة (بغير حاجة عزر) لأنه معصية (1) وإن فعله خوفا من الزنا، فلا شيء عليه، إن لم يقدر على نكاح، ولو لأمة (2) .
__________
(1) بالإجماع، فوجب تعزيره.
(2) قال ابن القيم وغيره: من استمنى بيده بغير حاجة عذر، إذا قدر على التزوج أو التسري، وقال الشيخ: يحرم عند عامة العلماء، لكن إن اضطر إليه، مثل أن يخاف الزنا، أو المرض إن لم يفعله، فرخص فيه في هذه الحال طوائف من السلف، وقال ابن عقيل: إذا كان بغير شهوة حرم عليه، لأنه استمتاع بنفسه، والآية تمنع منه، وإن كان مترددا بين الفتور والشهوة، كره، وإن كان مغلوبا يخاف العنت، كالأسير والمسافر والفقير، جاز نص عليه أحمد، وروي أن الصحابة كانوا يفعلونه، في غزواتهم وأسفارهم اهـ.
وقياس الرجل في ذلك المرأة إذا لم يرغب أحد في نكاحها، ومن عرف بأذى الناس وأذى مالهم حتى بعينه، حبس حتى يموت، أو يتوب وقال ابن القيم: يحبس وجوبا، ذكره غير واحد من الفقهاء، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف لأنه من نصيحة المسلمين، وكف الأذى عنهم.
وقال: العمل في السلطنة بالسياسة، هو الحزم، فلا يخلو منه إمام ما لم يخالف الشرع، فإذا ظهرت أمارات العدل، وتبين وجهه بأي طريق، فثم شرع الله، فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة، لما جاء به بل جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة، تبعا لمصطلحكم، وإنما هي شرع حق، فقد حبس صلى الله عليه وسلم في التهمة، وعاقب في التهمة لما ظهرت آثار الريبة فمن
أطلق كلا منهم وخلى سبيله، أو حلفه مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض
فقوله مخالف للسياسة الشرعية، بل يعاقبون أهل التهم، ولا يقبلون الدعوى التي تكذبها العادة والعرف.
وقال الشيخ: يعزر من يمسك الحية، ويدخل النار ونحوه، ومن ينتقص مسلما بأنه مسلما في، ومن قال لذمي: يا حاج، أو سمى من زار القبور والمشاهد حاجا، ونحو ذلك، وإذا ظهر كذب المدعي بما يؤذي به المدعى عليه عزر، ويلزمه ما غرم بسببه ظلما، لتسببه في ظلمه بغير حق.(7/351)
..........................................................(7/352)
باب القطع في السرقة (1)
وهي: أخذ مال على وجه الاختفاء، من مالكه أو نائبه (2) (إذا أخذ) المكلف (الملتزم) مسلما كان أو ذميا، بخلاف المستأمن ونحوه (3) (نصابا من حرز مثلهن من مال معصوم) بخلاف حربي (4) .
__________
(1) أي هذا باب في بيان حكم القطع في السرقة، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقال صلى الله عليه وسلم «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا» وأجمع المسلمون: على وجوب قطع السارق في الجملة.
(2) كوكيله من حرز مثله، واتفق أهل العلم: على وجوب قطع السارق، والسارقة في الجملة، إذا جمع أوصافا، منها الشيء المسروق، الذي يقطع في جنسه، ونصاب السرقة، وأن يكون السارق على أوصاف مخصوصة، وأن تكون السرقة على أصاف مخصوصة، أن يكون المسروق منه مخصوصا، كما سيأتي.
(3) قال الموفق وغيره: أما قطع المسلم بالسرقة من مال الذمي، وقطع الذمي بالسرقة، من مال المسلم، فلا نعلم فيه خلافا، قالوا: وأما الحربي إذا دخل إلينا مستأمنا فسرق، فإنه يقطع أيضا، قال: لأنه حد يطالب به، فوجب كحد القذف، وكذا المسلم يقطع بسرقته ماله، لأنه سرق مالا معصوما، لا شبهة له فيه من حزر مثلهن فوجب قطعه، كسرقة مال الذمي، ويقطع المرتد إذا سرق، فإن أحكام الإسلام جارية عليه.
(4) غير المستأمن، لجواز قتله إذا دخل بدون أمان، أو دخل مسلم دار حرب بدون أمان.(7/353)
(لا شبهة له فيه، على وجه الاختفاء قطع) (1) لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2) ولحديث عائشة «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا» (3) (فلا قطع على منتهب) وهو الذي يأخذ المال على وجه الغنيمة (4) (ولا مختلس) وهو الذي يخطف الشيء ويمر به (5) .
__________
(1) بهذه الشروط، وهي: التكليف والنصاب والحرز، وكون المال محترما، لا شبهة له فيه، وثبوتها بشهادة أو إقرار، ومطالبة المسروق منه، على ما يأتي تفصيله.
(2) وقرأ ابن مسعود {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} قال الشيخ: وبذلك مضت السنة والحكم عند جميع أهل العلم، موافق لهذه القراءة لا بها، فالقراءة عند الجمهور {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فدلت الآية: على وجوب قطع يد السارق والسارقة، إذا جمع الأوصاف المعروفة، عند أهل العلم.
(3) متفق عليه، ولأحمد «ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم وأتى عثمان بسارق أترجة قومت بثلاثة دراهم، فقطعه وعلي قطع في ربع دينار، ولذلك اشترط الجمهور نصاب السرقة، ربع دينار من الذهب، وثلاثة دراهم من الفضة.
(4) من النهبة، وهي: الغارة والسلب، والمراد هناك هو ما كان على جهة الغلبة والقهر، ومرأى من الناس فيمكنهم الأخذ على يديه وتخليص حق المظلوم ولأبي داود مرفوعا ليس على المنتهب قطع، وهو اتفاق.
(5) والاختلاس: نوع من الخطف والنهب، من اختلسه إذا سلبه لكن
من غير غلبة ولا يخلو من نوع تفريط، فربما استخفى في ابتداء اختلاسه، دون آخره، وإلا فمع كمال التحفظ لا يمكنه الاختلاس، وسمي مختلسا تصويرا لقبح تلك الفعلة.(7/354)
(ولا غاصب ولا خائن في وديعة، أو عارية أو غيرها) (1) لأن ذلك ليس بسرقة (2) لكن الأصح: أن جاحد العارية يقطع، إذا بلغت نصابا (3) .
__________
(1) الغاصب: تقدم والخائن، هو آخذ المال خفية من مالكه، مع إظهاره له النصيحة والحفظ، ولأبي داود والترمذي ليس على الخائن والمختلس قطع، وقال الموفق: لا يقطع جاحد الوديعة ولا غيرها، من الأمانات، لا نعلم فيه خلافا.
(2) أي لأنه هذه الخصال المذكورة، ليست بسرقة يجب القطع فيها، للأخبار واتفاق الأئمة، قال الوزير: اتفقوا على أن المختلس والمنتهب والغاصب، على عظم جنايتهم وآثامهم لا قطع على واحد منهم اهـ ويسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال، والسجن الطويل، والعقوبة بأخذ المال.
وقال ابن القيم: إنما قطع السارق، دون المنتهب، والمغتصب، لأنه لا يمكن التحرز منه، فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز، ويكسر القفل، فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضا، وعظم الضرر، واشتدت المحنة ولهذا قطع النباش.
وقال: قصر طائفة في لفظ السارق، حيث أخرجوا منه نباش القبور، ولو أعطوا لفظ السارق حقهن لرأوا أنه لا فرق في حده ومسماه، بين سارق الأثمان وسارق الأكفان، وأن إثبات هذا ونحوه بالنصوص، اهـ، وقطع النباش هو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وقال: يجب على من سرق من أستار الكعبة، ما يبلغ ثمنه نصابا.
(3) قطع به في الإقناع، وغيره.(7/355)
لقول ابن عمر: «كانت مخزومية، تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها» رواه أحمد والنسائي وأبو داود، وقال أحمد: لا أعرف شيئا يدفعه (1) (ويقطع الطرار) وهو (الذي يبط الجيب أو غيره ويأخذ منه) (2) أو بعد سقوطه، إن بلغ نصابا، لأنه سرقة من حرز (3) (ويشترط) للقطع في السرقة ستة شروط (4) .
__________
(1) ورواه مسلم من حديث عائشة قالت: «كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها» وكانت تستعير الحلي، وجحدته فقال صلى الله عليه وسلم «تجدوه تحت فراشها، فأخذوه، وأمر بها فقطعت» فدل على أنه يجب القطع على جاحد العارية، وإن كان الجمهور على خلافه، فقد قال ابن القيم: الجحد داخل في اسم السرقة، وهو الصحيح، لموافقة القياس والحكمة فلا يمكن المعير الإشهاد، ولا الإحراز، بمنع العارية شرعا وعادة، وعرفا.
ولا فرق بين من توصل إليه بالسرقة، أو العارية وجحدها، وقال: ضرره مثل ضرر السارق، أو أكثر، وترتيب القطع على جاحدها، طريق إلى حفظ أموال الناس، وفي رواية الميموني عن أحمد: هو حكم من النبي صلى الله عليه وسلم ليس يدفعه شيء.
(2) خفية، لأنه سارق من حرز، وكذا لو سرق من كمه، أو صفنه بعد بطه أو أدخل يده في الجيب، فأخذ ما فيه.
(3) أي أو بطه وأخذ ما فيه بعد سقوطه، إن بلغ المسروق نصابا، لأنه سرقة، من حرز، فوجب القطع، قدمه الموفق وغيره، وجزم به في الإقناع، وغيره.
(4) وعدها بعضهم سبعة، وبعضهم ثمانية، ومنها ما هو مختلف في اشتراطه.(7/356)
أحدها (أن يكون المسروق ما لا محترما) (1) لأنه ما ليس بمال لا حرمة له (2) ومال الحربي، تجوز سرقته بكل حال (3) (فلا قطع بسرقة آلة لهو) لعدم الاحترام (4) (ولا) بسرقة (محرم كالخمر) (5) وصليب (6) وآنية فيها خمر (7) .
__________
(1) سواء كان مما يسرع إليه الفساد، كالفاكهة أولا، وسواء كان ثمينا كالمتاع والذهب، أولا، كالخشب والقصب، ويقطع بسرقة الأحجار والصيد، والجص والزجاج وغيره، وهو قول مالك والشافعي.
(2) ولا يساوي المال، فيلحق به.
(3) أي بكل طريق يتوصل به إليه، وجواز الأخذ منه ينفي وجوب القطع، فليس بملك لهم حقيقة، ولا قطع بسرقة وقف أو غلته على غير معين، ككتب علم وسلاح على طلبة وغزاة، أو على مساجد، لأنه تعيين صفة، لا تعيين أشخاص، لا وقف على معين، وليس من مستحقيه، لأنه مال محترم لغيره، ولا شبهة له فيه.
(4) آلة اللهو: كطنبور ومزمار، وشبابة وعود، لأنه معصية إجماعا، فلم يقطع بسرقته كالخمر.
(5) والخنزير والميتة والصنم.
(6) لأنه مجمع على تحريمه، ولأن للسارق شبهة في أخذه ليكسره، وقال صلى الله عليه وسلم «لا تدع صورة إلى طمستها» وأمر بكسر الصليب، ومحق الأصنام، وهذا مذهب الشافعي، وأصحاب الرأي.
(7) للأمر بشق دنان الخمر، ولا تصالها بما لا قطع فيهن وهو وجه، وقول أكثر الأصحاب، ومذهب أبي حنيفة.(7/357)
ولا بسرقة ماء (1) أو إناء فيه ماء (2) ولا بسرقة مكاتب وأم ولد (3) ومصحف (4) وحر ولو صغيرا، ولا بما عليهما (5) .
__________
(1) وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، ولأن أصله الإباحة، وهو غير متمول عادة.
(2) قالوا: لاتصاله بما لا قطع فيه، فأشبه ما لو سرق مشتركا بينه وبين غيره، والوجه الثاني: يقطع، لأنه سرق نصابا، من حرز، لا شبهة له فيه أشبه ما لو سرقه فارغا، وهو أظهر.
(3) أي: ولا قطع بسرقة مكاتب ذكرا كان أو أنثى، لأن ملك سيده ليس تاما عليه لكونه لا يملك منافعه، ولا قطع بسرقة أم ولد، لأنه لا يحل بيعها، ولا نقل الملك فيها، فأشبهت الحرة، بخلاف المدبر، فحكمه حكم القن، لجواز بيعه، ولا قطع بأخذ القن الكبير، لأنه لا يسرق، وإنما يخدع بشيء، وأما القن الصغير فيقطع بسرقته، قال الموفق في قول عامة أهل العلم، وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه، من أهل العلم، والصغير: هو الذي لا يميز، فإن كان كبيرا فلا إلا أن يكون نائما أو مجنونا، أو أعجميا لا يميز بين سيده وغيره في الطاعة فيقطع سارقه.
(4) أي ولا يقطع بسرقة مصحف، لأن المقصود منه كلام الله تعالى، وهو لا يجوز أخذ العوض عنه، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال الخطابي وغيره: يقطع، وهو ظاهر كلام أحمد، وقول مالك والشافعي، لعموم الآية، وكسرقة كتب الفقه، وسائر كتب العلم، ولا خلاف فيه بين الأصحاب.
(5) أي ولا قطع بسرقة حر، قولا واحدا، قال: ولو كان الحر صغيرا، وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي، لأنه ليس بمال، فلا يقطع بسرقته، كالكبير وعن أحمد يقطع بسرقة الصغير، وهو قول مالك، لأنه غير مميز أشبه العبد
ومشى على الأول في الإقناع وغيره، وفي الإنصاف: ولا قطع بسرقة ما عليهما، أي الحر، والمصحف ونحوه، كثوب صغير وكيس مصحف، ولو بلغت قيمته نصاب السرقة، لأنه تابع لما لا قطع فيه، أشبه ثياب الكبير.(7/358)
الشرط الثاني: ما أشار إليه بقوله (ويشترط) أيضا (أن يكون) المسروق (نصابا (1) وهو) أي نصاب السرقة (ثلاثة دراهم) خالصة، أو تخلص من مغشوشة (2) (أو ربع دينار) أي مثقال، وإن لم يضرب (3) (أو عرض قيمته كأحدهما) أي ثلاثة دراهم، أو ربع دينار (4) فلا قطع بسرقة ما دون ذلك (5) .
__________
(1) عند جماهير العلماء، وقال مالك والشافعي وأحمد، يجب القطع، لو فيما يسرع إليه الفساد، إذا بلغ الحد الذي يقطع في مثله بالقيمة.
(2) واتفق أهل العلم: على أن من سرق نصابا ثلاثة دراهم فما فوق، وجب قطعه بشرطه، وأن يكون النقد المسروق خالصا من الغش، وإلا لم يجب القطع، حتى يبلغ ما فيه من النقد الخالص نصابا، وسواء كان النقد مضروبا، أو تبرا أو حليا، أو مكسرا للعموم، أو تخلص النقد من دراهم مغشوشة، بنحو نحاس فبلغ نصابا خالصا، وعند الشيخ مطلق الدراهم.
(3) لأنه يقال له دنيار قراضة ومكسور، أو دينار خلاص، لأنه لا يمكنه سرقة ربع دينار مفرد في الغالب، إلا مكسورا، وقد أوجب عليه النبي صلى الله عليه وسلم القطع بذلك.
(4) صحاحا، لا مكسرة، لأن إطلاقها ينصرف إلى المضروب، دون المكسر.
(5) عند عامة الفقهاء المعتد بقولهم، ولإجماع الصحابة.(7/359)
لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا» رواه أحمد مسلم وغيرهما (1) وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم (2) والدينار اثنا عشر درهما، رواه أحمد (3) .
(وإذا نقصت قيمة المسروق) بعد إخراجه لم يسقط القطع (4) .
__________
(1) وهو في الصحيح أيضًا، فدل الحديث على وجوب القطع في السرقة، إذا بلغ المسروق ربع دينار فأكثر، ولأحمد ولا تقطعوا فيما دون ذلك، وفي تخصيص القطع بهذا القدر، حكمة ظاهرة، فإنها كفاية المقتصد في يومه، له ولمن يمونه غالبا، ولأنه لا بد من مقدار يجعل ضابطا لوجوب القطع، وقطعها في ربع دينار، وجعل ديتها خمس مائة دينار، من أعظم المصالح والحكم، فاحتاط للموضعين للأموال والأطراف، قالوا: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت قال الشافعي:
هناك مظلومة غالبت بقيمتها ... وههنا ظلمت هانت على الباري
(2) وثبت في الصحيحين: أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم، وفي لفظ ثمنه، ودل على أن العرض يقوم بالدراهم، لأن المجن قوم بها، ولأن ما كان الذهب فيه أصلا، كان الورق فيه أصلا.
(3) ولعله في تساويهما ذلك الوقت، أو في عرف الراوي، أو باعتبار الغلبة وإلا فالمعتبر القيمةن وكلاهما أصل.
(4) أي وإذا نقصت قيمة المسروق، وهو ما ليس بذهب ولا فضة، بعد إخراج المسروق من الحرز، إذ الاعتبار بوقت السرقة، لأنه وقت الوجوب، لوجوب السبب فيه، لم يسقط القطع، وهو مذهب مالك والشافعي.(7/360)
لأن النقصان وجد في العين بعد سرقتها (1) (أو ملكها) أي العين المسروقة (السارق) ببيع أو هبة، أو غيرهما (2) (لم يسقط القطع) بعد الترافع إلى الحاكم (3) (وتعتبر قيمتها) أي قيمة العين المسروقة (وقت إخراجها من الحرز) (4) لأنه وقت السرقة، التي وجب بها القطع (5) (فلو ذبح فيه) أي في الحرز (كبشا) فنقصت قيمته (أو شق فيه ثوبا، فنقصت قيمته عن نصاب) السرقة (ثم أخرجه) من الحرز
__________
(1) فلم يمنع القطع، كما لو حدث باستعماله، والنصاب شرط لوجوب القطع فلا تجب استدامته.
(2) كإرث ووصية.
(3) وهو مذهب مالك الشافعي، لقوله صلى الله عليه وسلم لصفوان: لما قال: ردائي عليه صدقة، «هلا كان قبل أن تأتيني به» ، وقال ابن القيم: إذا سرق العين، ثم ملكها إياه بعد ثبوت القطع، لم يسقط، لأنه صلى الله عليه وسلم، لم يسقط القطع عن سارق الرداء، بعدما وهبه إياه صفوان اهـ لا قبل الترافع إلى الحاكم، لتعذر شرط القطع، وهو المطلب، ولخبر صفوان فإنه يدل على أنه لو وجد قبل رفعه إليه لقبل ذلك، ولم يقطعه، وهو مذهب مالك والشافعي، وأصحاب الرأي، وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، ولما تقدم من قوله: «إذا بلغت الحدود السلطان، فلعن الله الشافع والمشفع» وغيره.
(4) حكاه الموفق وغيرهن قولا واحدا.
(5) فاعتبرت القيمة وقته، لا بعد الإخراج.(7/361)
فلا قطع لأنه لم يخرج من الحرز نصابا (1) (أو أتلف فيه) أي في الحرز (المال لم يقطع) لأنه لم يخرج منه شيئا (2) (و) الشرط الثالث (أن يخرجه من الحرز (3) فإن سرقه من غير حرز) كما لو وجد بابا مفتوحا (4) أو حرزا مهتوكا (فلا قطع) عليه (5) (وحرز المال: ما العادة حفظه فيه) (6) إذ الحرز معناه الحفظ، ومنه: احترز أي: تحفظ (7) (ويختلف) الحرز (باختلاف الأموال والبلدان وعدل
__________
(1) فلم يسرق نصابا، ولم يوجد الشرط، فسقط القطع.
(2) فسقط القطع، وأما ضمان ما أتلف، فتقدم حكمه.
(3) عند جماهير العلماء، وقال الوزير: أجمعوا على أن الحرز معتبر في وجوب القطع، وسواء حمله إلى منزله أو تركه خارج الحرز، فعليه القطع.
(4) فأخرج منه نصابا فلا قطع عليه، وإن كان فيها خزائن مغلقة، فالخزائن حرز، لما فيها، وما خرج عنها فليس بمحرز.
(5) أي أو وجد حرزا مهتوكا، فأخرج منه نصابا، فلاقطع عليه، لفوات شرطه كما لو أتلفه داخل الحرز بأكل أو غيره.
(6) فإنه لما ثبت اعتباره في الشرع، من غير تنصيص على بيانه، عرف أنه رد ذلك إلى أهل العرف، وهو مذهب الجمهور لأنه لا طريق إلى معرفته إلا من جهته فرجع إليه، كما رجع إليه في معرفة القبض وغيره.
(7) أي ومنه قول العرب: احترز بالشيء، أي: احتفظ به.(7/362)
السلطان وجوره وقوته وضعفه) لاختلاف الأحوال باختلاف المذكورات (1) (فحرز الأموال) أي النقود (والجواهر والقماش، في الدور والدكاكين (2) والعمران) أي: الأبنية الحصينة (3) والمحال المسكونة من البلد (وراء الأبواب، والأغلاق الوثيقة) والغلق اسم للقفل (4) خشبا كان أو حديدا (5)
__________
(1) أي فيختلف الحرز باختلاف جنس المال، وباختلاف البلد، كبرا وصغرا، لخفاء السارق بالبلد الكبيرن لسعة أقطاره أكثر منه في البلد الصغير، ويختلف الحرز أيضا، باختلاف عدل السلطان وجوره، وقوته وضعفه، فإن العدل القوي يقيم الحدود، فتقل السراق، خوفا من الرفع إليه فيقطع، فلا يحتاج الإنسان إلى زيادة حرز، وضعفه بالعكس، وجوره يشارك من التجأ إليه ويذب عنه، فتقوى صولتهم، فيحتاج أرباب الأموال إلى زيادة التحفظ، قال الوزير: قال مالك والشافعي وأحمد، الحرز يختلف باختلاف الأموال، والعرف معتبر في ذلك.
(2) للأمن على ما في الدور بوجود السكان، والدكاكين بالحرس.
(3) لعدم تمكن السراق من الأخذ منها.
(4) فهي حرز، قال الموفق وغيره: أما البيوت التي في البساتين، والطرق والصحراء، إن لم يكن فيها أحد، فليست حرزا، مغلقة كانت أو مفتوحة، وإن كان فيها أهلها، أو حافظ ملاحظ، فهي حرز مغلقة كانت أو مفتوحة، وإن كان فيها نائم، وهي مغلقة فهي حرز، وإلا فلا.
(5) وكذا خيمة وخركاة وبيت شعر إن كان فيها أحد، ولو نائما فهي محرزة مع ما فيها، لأنها هكذا، تحرز في العادة، وإن لم يكن فيها أحد، فإن كان عندها حافظ، فهي محرزة أيضا، وإن لم يكن عندها حافظ، وليس فيها أحد فلا قطع على سارقها، ولا السارق منها، لأنها ليست بمحرزة في العادة جزم به في الإقناع وغيره.(7/363)
وصندوق بسوق وثم حارس حرز (1) (وحرز البقل، وقدور الباقلاء ونحوهما) كقدور طبيخ وخزف (وراء الشرائج) وهي ما يعمل من قصب ونحوه، يضم بعضه إلى بعض بحبل أو غيره (إذا كان في السوق حارس) لجريان العادة بذلك (2) (وحرز الحطب والخشب الحظائر) جمع حظيرة بالحاء المهملة والظاء المعجمة، ما يعمل للإبل والغنم من الشجر، تأوي إليه فيعبر بعضه في بعض ويربط (3) (وحرز المواشي الصير) جمع صيرة، وهي حظيرة الغنم (4) (وحرزها) أي المواشي (في المرعى بالراعي ونظره إليها غالبا) (5) فما غاب عن مشاهدته غالبا فقد خرج عن الحرز (6) .
__________
(1) صندوق مبتدأ خبره: حرز، أي: وصندوق مقفل وضع بسوق، وثم حارس حرز، لأنه العادة، فمن أخذ من الصندوق نصابا قطع وإن لم يكن ثم حارس فليس الصندوق حرزا
(2) حكاه الموفق وغيره: قولا واحدا.
(3) بحبل أو غيره: بحيث يعسر أخذ شيء منه، وأصل الحظر المنع.
(4) وإن كانت بخان مغلق فهو أحرز.
(5) لأن الراعية هكذا تحرز.
(6) فلا قطع لفقد الشرط.(7/364)
وحرز سفن في شط بربطها (1) وإبل باركة معقولة بحافظ حتى نائم (2) وحمولتها بتقطيرها مع قائد يراها (3) ومع عدم تقطيرها، بسائق يراها (4) وحرز ثياب في حمام ونحوه بحافظ (5) كقعوده على متاع (6) .
__________
(1) بالرباط على العادة.
(2) لأن عادة ملاكها عقلها إذا ناموا، وإن لم تكون معقولة، وكان الحافظ ناظرا إليها، بحيث يراها فهي محرزة، وإن كان نائما أو مشغولا عنها، فليست محرزة، ولا قطع على السارق منها.
(3) أي: وحرز حمولة إبل ونحوها، سائرة بتقطيرها، مع قائد يراها، بحيث يكثر الالتفات إليها، ويراعيها، وزمام الأول بيده، لأنها هكذا تحرز عرفا، والحافظ الراكب فيما وراءه، من الإبل السائرة ونحوها، كقائد.
(4) أي الإبل المحملة ونحوها، وسواء كانت مقطرة أولا، لأنه العادة في حفظها، وإن سرق الجمل بما عليه، وصاحبه نائم عليه، لم يقطع لأنه في يد صاحبه.
(5) وهو قول مالك والشافعي وغيرهما، وكذا ثياب في أعدال، وغزل في سوق أو خان، وما كان مشتركا في الدخول إليه بحافظ يراها.
(6) وتوسده، وقال الموفق وغيره: وإن كان لابسا ثوبا، أو متوسدا له، نائما أو مستيقظا، أو مفترشا أو متكئا عليه، في أي موضع كان من بلد أو برية أو نائما على مجر فرسه لم يزل عنه، أو نعله في رجله فحرز، فإن تدحرج عن الثوب زال الحرز، وإن كان الثوب أو غيره من المتاع بين يديه، كبز البزازين، وخبز الخباز، بحيث يشاهده وينظر إليه فحرز.(7/365)
وإن فرط حافظ حمام بنوم، أو تشاغل ضمن (1) ولا قطع على سارق إذا (2) وحرز باب ونحوه: تركيبه بموضعه (3) (و) الشرط الرابع (أن تنتفي الشبهة) عن السارق (4) لحديث «ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» (5) (فلا يقطع) سارق (بالسرقة من مال أبيه وإن علا (6) ولا) بسرقة (من مال لده وإن سفل) (7) .
__________
(1) ما ضاع بتفريطه لو لم يستحفظه رب المال صريحا، عملا بالعرف.
(2) لأنه لم يسرق من حرز، وإن حفظ المتاع بنظره إليه، وقربه منه، فسرق لم يضمنه، وعلى السارق القطع.
(3) مغلقا كان أو مفتوحا، لأنه هكذا حفظه عادة إذا كانت الدار في عمران أو في صحراء وفيها حافظ، وإلا فلا، وكذا الجدار وخشبه.
(4) عند جماهير العلماء، على ما يأتي تفصيله.
(5) وتقدم فكل ما فيه شبهة مما يأتي، وغيره يدرأ عنه الحد، وهو مذهب الجمهور في الجملة.
(6) وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي، وتحرم سرقته من مال أبيه.
(7) قال الموفق وغيره: في قول عامة أهل العلم، منهم مالك والشافعي، وأصحاب الرأي، لقوله صلى الله عليه وسلم أنت ومالك لأبيك، وقوله «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» وقال الوزير: اتفقوا على أنه لا قطع على الوالدين وإن علوا، فيما سرقوه من مال أولادهم.(7/366)
لأن نفقة كل منهما تجب في مال الآخر (1) (والأب والأم في هذا سواء) لما ذكر (2) (ويقطع الأخ) بسرقة مال أخيه (3) .
(و) يقطع (كل قريب بسرقة مال قريبه) (4) لأن القرابة هنا، لا تمنع قبول الشهادة من أحدهما للآخر، فلم تمنع القطع (5) .
(ولا يقطع أحد من الزوجين، بسرقته من مال الآخر، ولو كان محرزا عنه) (6) روي ذلك سعيد، عن عمر بإسناد جيد (7) .
__________
(1) ولأن بينهما قرابة، تمنع قبول شهادة أحدهمالصاحبه، فلا يقطع بسرقته من ماله.
(2) من تعليله: أن نفقة كل منهما تجب في مال الآخر، قال الموفق وغيره: سواء في ذلك الأب والأم، والابن والبنت، والجد، والجدة، من قبل الأب والأم، هذا قول عامة أهل العلم، لكن مع الحرمة على السارق منهما.
(3) لأبوين أو لأب، وكذا الأخوات.
(4) هذا المذهب المنصوص، ومذهب الشافعي.
(5) ولأن الآية والأخبار: تعم كل سارق، خرج منه عمودا النسب لما تقدم فبقي ما عداهما على الأصل.
(6) هذا المذهب ومذهب أبي حنيفة وغيره من السلف.
(7) لما سرق غلام الحضرمي مرآة زوجته، قال: لا قطع عليه، خادمكم أخذ متاعكم قال الموفق: وإذا لم يقطع عبده بسرقة مال زوجته فهو أولى، ولأن كلا منهما يرث صاحبه بغير حجب، ويتبسط في مال الآخر عادة، فأشبه الوالد والولد، وأما إن لم يكن مال أحدهما محرزا، عن الآخر لم يقطع، رواية
واحدة.(7/367)
(وإذا سرق عبد) ولو مكاتبا (من مال سيده (1) أو سيد من مال مكاتبه) فلا قطع (2) (أو) سرق (حر مسلم) أو قن (من بيت المال) فلا قطع (3) (أو) سرق (من غنيمة لم تخمس) فلا قطع (4) لأن لبيت المال فيها خمس الخمس (5)
__________
(1) فلا قطع عند الجمهور، لقصة عمر ونحوه عن ابن مسعود، أن رجلا جاءه فقال: عبد لي سرق قباء عبد لي آخر، فقال: لا قطع، مالك سرق مالك، ولابن ماجه مرفوعا: إن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس، فقال: مال الله، سرق بعضه بعضا، قال الموفق: وهذه قضايا اشتهرت، ولم يخالفها أحد، فتكون إجماعا، وهذا يخص عموم الآية، ولأن هذا إجماع من أهل العلم، لأنه قول من سمينا من الأئمة، ولم يخالفهم في عصرهم أحد، فلا يجوز خلافه بقول من بعدهم، كما لا يجوز ترك إجماع الصحابة، بقول واحد من التابعين، قال: وأم الولد والمدبر، والمكاتب كالقن في هذا، وهو قول أصحاب الرأي.
(2) لأنه يملك تعجيزه في الجملة، ولأنه عبد ما بقي عليه درهم.
(3) وهو مذهب الشافعي، وأصحاب الرأي، لما رواه ابن ماجه وهو قول عمر وعلي وغيرهما ولأن له في المال حقا، فيكون شبهة تمنع وجوب القطع.
(4) لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «مال الله سرق بعضه بعضا» وقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وبعض أصحاب مالك.
(5) فكما لو سرق من مال له فيه شركة، هذا إذا كان من أهله، وإلا فقال الوزير وغيره: إذا سرق من المغنم، وهو من غير أهله أنه يقطع.(7/368)
(أو) سرق (فقير من غلة موقوفة، على الفقراء) فلا قطع لدخوله فيهم (1) .
(أو) سرق (شخص من مال له فيه شركة (2) أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه) كأبيه وابنه وزوجه، ومكاتبه (لم يقطع) للشبهة (3) .
__________
(1) كالمسكين يسرق من مال وقف المساكين، أو من قول معينين عليهم وقف، فلا قطع، لأنه شريك، وأسقط عمر القطع زمن المجاعة، وأسقط القطع عن غلمان حاطب، لما سرقوا ناقة لرجل من مزينة، قال: إنكم تستعملونهم، وتجيعونهم وأضعف قيمتها، ووافق أحمد على سقوط الحد في المجاعة، قال ابن القيم، وهو محض القياس، ومقتضى قواعد الشرع، وهي شبهة قوية، تدرأ القطع عن المحتاجين، وأسقط عمر القطع في الغزو.
وقال ابن القيم: نهى أن تقطع الأيدي في الغزو، ورواه أبو داود، خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله، من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين وقد نص العلماء: على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وحكى أبو محمد المقدسي إجماع الصحابة، وكتب عمر إلى الناس: أن لا يجلد أمير جيش ولا سرية، ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلا.
(2) كالمال المشترك بينه وبين شريكه، لأنه إذا لم يقطع الأب بسرقة، مال ابنه، لكون أن له فيه شبهة، فلأن لا يقطع من مال له فيه شركة، من باب أولى.
(3) لأن له فيه شركة، ولا يقطع من غنيمة لأحدهم فيها شركة، لأن ذلك شبهة، فيدرأ بها الحد، وإن ادعى السارق أن ما أخذه من الحرز ملكه، بعد قيام البينة، على أنه سرق من حرز نصابا، فقال أحمد، وأبو حنيفة والشافعي لا يقطع
وسماه السارق الظريف، وقال أحمد: إذا لم يكن معروفا بالسرقة وإن ملكه بشراء أو هبة أو غير ذلك، قبل الترافع، أو بعده، فقال مالك والشافعي وأحمد لا يسقط القطع.(7/369)
الشرط الخامس: ثبوت السرقة (1) وقد ذكره بقوله (ولا يقطع إلا بشهادة عدلين) (2) يصفانها بعد الدعوى، من مالك أو من يقوم مقامه (3) (أو بإقراره) السارق (مرتين) بالسرقة (4) .
__________
(1) ولا تثبت إلا بأحد شيئين ببينة أو إقرار لا غير، قولا واحدا.
(2) رجلين مسلمين حرين، سواء كان السارق مسلما أو ذميا.
(3) أي ويشترط أن يصفا السرقة والحرز، وجنس النصاب وقدره، ليزول الاختلاف فيه، فيقولان: نشهد أن هذا سرق كذا، قيمته كذا من حرز، ويصفان الحرز، وذلك بعد الدعوى، من مالك للمال المسروق، أو دعوى من يقوم مقام المالك فإن كان المسروق منه غائبا فحضر وكيله وطالب بالسرقة، احتاج الشاهدان أن يرفعا في نسبه فيقولان، من حرز فلان بن فلان، بحيث يتميز عن غيره، فإذا اجتمعت هذه الشروط، فقال الموفق وغيره: يجب القطع في قول عامتهم، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه، على أن قطع السارق، يجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان، ووصفا ما يوجب القطع.
(4) لما روى أبو داود: أنه صلى الله عليه وسلم أتى بلص قد اعترف، فقال له: «ما إخالك سرقت؟ قال: بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع» ولقول علي: شهدت على نفسك مرتين، ومثله يشتهر فلم ينكر، ولأنه يتضمن إتلافا في حد، فكان من شرطه التكرار، وعنه: مرة وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك، يقطع باعترافه مرة، لأنه حق يثبت بالإقرار، فلم يعتبر فيه التكرار، فالله أعلم.(7/370)
ويصفها في كل مرة، لاحتمال ظنه القطع، في حال لا قطع فيها (1) (ولا ينزع) أي يرجع (عن إقراره حتى يقطع) (2) ولا بأس بتلقينه الإنكار (3) .
(و) الشرط السادس (أن يطالب المسروق منه) السارق (بماله) (4) فلو أقر بسرقة من مال غائب (5) أو قامت بها بينة، انتظر حضوره ودعواه (6) فيحبس وتعاد الشهادة (7) .
__________
(1) أي ويشترط أن يصف السرقة، فيذكر شروطها من النصاب والحرز، وإخراجها منه، لاحتمال ظنه القطع في حالة لا قطع فيها لفقد بعض شرطها.
(2) قال الموفق: هذا قول أكثر الفقهاء، لقوله صلى الله عليه وسلم للسارق «ما إخالك سرقت؟» يعرض له ليرجع، ولأنه إنما ثبت بالاعتراف، فقبل رجوعه، كحد الزنا.
(3) ليرجع عن إقراره، نص عليه، وقال الموفق: هذا قول عامة الفقهاء، وقال مالك: إن لم يعرف بشر، وأجمعوا على أنه إذا بلغ الإمام لم تجز الشفاعة فيه، لما تقدم.
(4) وهو قول أبي حنيفة والشافعي، ونصره الموفق وغيره.
(5) انتظر حضوره ودعواه لاحتمال أن يكون أباحه إياه.
(6) لأن المال يباح بالبذل والإباحة، فيحتمل أن مالكه أباحه إياه، أو وقفه على المسلمين، أو على طائفة السارق منهم، أو أذن له في دخول حرزه، فاعتبرت المطالبة لتزول هذه الشبهة.
(7) أي فيحبس السارق، لغيبة المالك، لتعلق حق الله به، وحق الآدمي، فحبس لما عليه من حق الله، وإن كانت العين في يده أخذها الحاكم وحفظها
للغائب، وإلا فإذا جاء فهو الخصم فيها.
قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا كانت العين قائمة، فإنه يجب ردها، وإن كانت تالفة وجب الغرم، والقطع عند الشافعي وأحمد اهـ.
وعن أحمد: لا يشترط مطالبة المسروق منه بماله، لظاهر الآية واختاره أبو بكر والشيخ، وهو مذهب مالك، كإقراره بالزنا بأمة غيره، قال: واللص الذي غرضه سرقة أموال الناس، ولا غرض له في شخص معين فإن قطع يده واجب، ولو عفا عنه رب المال اهـ.
وإذا وجد المال المسروق مع المتهم، فقال ابن القيم: لم يزل الخلفاء والأئمة يحكمون بالقطع، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نص صريح، لا يتطرق إليه شبهة، وذكر في قصة حيي إقرار المكره، إذا ظهر معه المال، وأنه إذا عوقب وظهر عنده قطعت يده، قال: وهو الصواب بلا ريب لوجود المال، اهـ.
وقال الشيخ في تقديم القيافة مثل أن يدعي أنه ذهب من ماله شيء ويثبت ذلك فيقص القائف أثر الوطء، من مكان إلى آخر فشهادة القائف: أن المال دخل إلى هذا الموضع، توجب أحد أمرين، إما الحكم، وإما أن يكون لوثا، يحكم به مع يمين المدعي، وهو الأقرب، فإن هذه الأمارة ترجح جانب المدعي، واليمين مشروعة في أقوى الجانبين.(7/371)
(وإذا وجب القطع) لاجتماع شروطه (1) (قطعت يده اليمنى) لقراءة ابن مسعود (فاقطعوا أيمانهما) (2) .
__________
(1) المتقدم ذكرها مفصلا.
(2) قال الشيخ: وبذلك مضت السنة، وقال الوزير: أجمعوا على أن السارق إذا وجب عليه القطع، وكان ذلك أول سرقة، وهو صحيح الأطراف، أنه يبدأ بقطع يده اليمنى، من مفصل الكف، ثم يحسم.(7/372)
ولأنه قول أبي بكر وعمر (1) ولا مخالف لهما من الصحابة (2) (من مفصل الكف) (3) لقول أبي بكر وعمر: تقطع يمين السارق من الكوع ولا مخالف لهما من الصحابة (4) (وحسمت) وجوبا (5) يغمسها في زيت مغلي (6) لتستد أفواه العروق، فينقطع الدم (7) فإن عاد قطعت رجله اليسرى، من مفصل كعبه (8) .
__________
(1) رضي الله عنهما، قال: إذا سرق السارق، فاقطعوا يمينه من الكوع.
(2) حكاه الموفق وغيره.
(3) قال في المبدع: بلا خلاف.
(4) وبذلك استمر عمل المسلمين، ولأن البطش بها أقوى، فكانت البداءة بها أردع، ولأنها آلة السرقة غالبا، فناسب عقوبته بإعدام آلتها، واقتصر في القطع إلى الكوع، لأن اليد تطلق عليها إلى الكوع والمرفق، وإلى المنكب، وإرادة ما سوى الأول مشكوك فيه، فلا يقطع مع الشك.
(5) لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال في سارق «اقطعوه واحسموه» رواه الحاكم وغيره.
(6) ويقوم الودك مقام الزيت، إن لم يوجد الزيت، وعليه أجرة قطعه، لأنه حق وجب عليه الخروج منه، فكانت مؤونته عليه، وعليه ثمن زيت حسم، حفظا لنفسه.
(7) إذ لو ترك بلا حسم لنزف الدم، فأدى إلى موته، وفي السنن أمر بها فعلقت في عنقه، وذكر الراوي: أنه من السنة.
(8) ويترك له عقبا يمشي عليه، وأجمعوا، على أن من لم يكن له الطرف
المستحق قطعه، قطع ما بعده، وكذلك إن كان أشل، من الطرف المستحق قطعه، بحيث لا يقطع فيه، قطع ما بعده، إلا أبا حنيفة، فقال: تقطع والشافعي: إن لم يرق دمها، وإلا قطعت.(7/373)
بترك عقبه، وحسمت (1) فإن عاد، حبس حتى يتوب وحرم أن يقطع (2) .
__________
(1) وجوبا بغمسها في زيت مغلي لئلا ينزف الدم، وروي عن علي أنه كان يقطع من شطر القدم من معقد الشراك، والأصل في قطع الرجل في المرة الثانية: ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: «إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» رواه الدارقطني، وهو قول أبي بكر وعمر، ولا مخالف لهما من الصحابة فكان إجماعا، ولا نزاع في ذلك يعتد به.
وكونه اليسرى لقوله في المحاربة (من خلاف) وأرفق لأن المشي على اليمنى أسهل، فوجب قطع اليسرى، لئلا تتعطل منه منفعة بلا ضرورة وكونه من مفصل الكعب قول أكثر أهل العلم، وفعل عمر، لأنه أحد العضوين المقطوعين في السرقة، فيقطع من المفصل، كاليد، قال الوزير: أجمعوا على أنه إن عاد فسرق ثانيا، ووجب عليه القطع، أنه تقطع رجله اليسرى من مفصل الكعب، ثم تحسم اهـ.
(2) هذا المذهب، ومشى عليه في الإقناع والمنتهى، وغيرهما، لما روي عن علي أنه أتى برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه، ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: أقتله إذا، وما عليه القتل، بأي شيء يأكل، ويتوضأ ويغتسل، وعن أحمد: تقطع يده اليسرى في الثالثة، ورجله اليمنى في الرابعة، وفي الخامسة، يعزر ويحبس، وهو قول مالك والشافعي، وروي عن أبي بكر، وعمر، وفي الفروع قياس قول الشيخ: أن السارق كالشارب
في الرابعة يقتل عنده إذا لم يتب، قال في الإنصاف، بل هذا أولى عنده وضرره أعظم اهـ.
وينبغي في قطع السارق أن يقطع، بأسهل ما يمكن، بأن يجلس ويضبط لئلا يتحرك، فيجني على نفسه، وتشديده بحبل، وتجر حتى يتعين المفصل، ثم يوضع نحو سكين، ويجر بقوة، ليقطع في مرة واحدة، وكذا يفعل في الرجل وإن علم قطع أوحى من هذا، قطع به، لأن الغرض التسهيل عليه.(7/374)
(ومن سرق شيئا من غير حرز، ثمرا كان أو كثرا) بضم الكاف وفتح المثلثة طلع الفحال (1) (أو غيرهما) من جمار أو غيره (2) (أضعفت عليه القيمة) أي ضمنه بعوضه مرتين (3) .
__________
(1) أضعفت عليه القيمة، وقال الوزير: أجمعوا على أنه يسقط القطع عن سارق الثمر، المعلق على رءوس النخل، إذا لم يكن محرزا، اهـ وكذا الكثر، وحرزهما نحو شجرة في دار محرزة، أو بعد أن أوى الثمر الجرين قطع.
(2) أي ومن سرق غير الثمر والكثر، من جمار، وهو شحم النخلة، أو غير الجمار، كالماشية من غير حرز، لقوله: «وليس في شيء من الماشية قطع إلا فيما آواه المراح» الحديث.
(3) لقوله صلى الله عليه وسلم في الثمر المعلق (من أصاب منه بفيه، من ذي حاجة، غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه، ومن خرج منه بشيء، فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤيه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع) رواه أبو داود وغيره، وقال أحمد: لا أعلم شيئا يدفعه، واحتج أيضا: بأن عمر أغرم حاطب بن أبي بلتعة، حين نحر غلمانه، ناقة رجل من مزينة مثلي
قيمتها.(7/375)
قاله القاضي، واختاره الزركشي، وقدم في التنقيح: أن التضعيف خاص بالثمر، والطلع والجمار، والماشية، وقطع به في المنتهى غيره (1) لأن التضعيف ورد في هذه الأشياء على خلاف القياس، فلا يتجاوز به محل النص (2) (ولا قطع) لفوات شرطه، وهو الحرز (3) .
__________
(1) فقال: ولا تضعف في غير ما ذكر، قال في الإقناع، وما عداهن، أي الثمر والكثر والماشية، يضمن بقيمته مرة واحدة، أو بمثله إن كان مثليا.
(2) فيها إلى سواها، وإنما يضمن مرة واحدة بقيمته، إن كان متقوما، أو بمثله إن كان مثليا، لأن الأصل وجوب المثلي بمثله، والمتقوم بقيمته، بدليل المتلف والمغصوب والمنتهب، وسائر ما تجب غرامته، خولف فيما تقدم للآثار.
(3) وتقدم الإجماع: على أن الحرز معتبر في وجوب القطع.(7/376)
باب حد قطاع الطريق (1)
(وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح) ولو عصا أو حجرا (2) (في الصحراء أو البنيان) أو البحر (3) .
__________
(1) وعبر بعضهم بالمحاربين، والأصل في حكمهم: الكتاب والسنة، والإجماع في الجملة.
(2) أي وقطاع الطريق المكلفون، الملتزمون من المسلمين، وأهل الذمة، الذين يعرضون للناس مجاهرة بالسلاح، الذي يأتي على النفس والطرف، ولو كان السلاح عصا أو حجرا، قال الشيخ: أو المقذوفة بالأيدي، والمقاليع ونحوها فالصواب ما عليه جماهير المسلمين، على أن من قاتل على أخذ الأموال، بأي نوع من أنواع القتال، فهو حربي، وأما إذا كان يقتل سرا، لأخذ المال، أو يدعو إلى منزله، لخياطه أو طب ونحوه، فيقتله ويأخذ ماله، فذكر قولين للفقهاء أحدهما أنهم كالمحاربين، وأنه أشبه بأصول الشريعة.
(3) لعموم آية المحاربين واختاره الشيخ، وهو قول مالك في المشهور عنه، والشافعي وأكثر الأصحاب، وقال القاضي: المذهب على ما قال أبو بكر، في عدم التفرقة، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء، أما في الصحراء فقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن من أبرزوا شهر السلاح، مخيفا للسبيل خارج المصر بحيث لا يدركه الغوث، فإنه محارب قاطع طريق، جارية عليه أحكام المحاربين
قال شيخ الإسلام: ولو شهروا السلاح في البنيان، أو الصحراء فواحد، وهو قول مالك والمشهور عند الشافعية، وأكثر أصحاب أبي حنيفة، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء، لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة لا محل تقاتل الناس وتعاديهم، وإقدامهم عليه، يقتضي شدة المحاربة والمغالبة لأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، وذكر أن هذا القول هو الصواب.(7/377)
(فيغصبونهم المال) المحترم (مجاهرة لا سرقة) (1) ويعتبر ثبوته ببينة، أو إقرار مرتين (2) والحرز ونصاب السرقة (3) (فمن) أي: فأي مكلف ملتزم، ولو أنثى أو رقيقا (منهم) أي من قطاع الطريق (قتل مكافئا) له (4) (أو غيره) أي غير مكافئ (كالولد) يقتله أبوه (5) .
__________
(1) فخرج بذلك من يعرض لنحو صيد، أو يعرض للناس بلا سلاح، لأنهم لا يمنعون من قصدهم، وخرج من يغصب نحو كلب، أو سرجين نجس، أو مال حربي ونحوه، ومن يأخذ خفية، لأنه سارق، وأما المحارب، فيعتصم بالقتال دون الخفية.
(2) كالسرقة، فيشترط لوجوب حد المحاربة، ثلاثة شروط، هذا أحدها.
(3) أي: والشرط الثاني: الحرز بأن يأخذ من يد مستحقه، وهو بالقافلة، والثالث: النصاب الذي يقطع به السارق، فلو وجد المال مطروحا، أو أخذه من سارقه أو غاصبه، أو منفردا عن قافلة لم يكن محاربا أو أخذ دون النصاب الذي يقطع به السارق لم يقطع.
(4) فخرج بـ (مكلف) صبي ومجنون وبـ «ملتزم» حربي، والأنثى تقطع في السرقة فلزمها حكم المحاربة، كالرجل، وهو قول مالك والشافعي، أنه إذا كان مع الرجال، في قطع الطريق، امرأة فقتلت هي وأخذت المال، تقتل حدا، وكذا الرقيق، فأي شخص من هؤلاء قتل مكافئا له، قتل إجماعا، لوجوبه لحق الله تعالى، كالقطع في السرقة، وحكم الردء حكم المباشر، وهو قول مالك وأبي حنيفة، لأنه حكم يتعلق بالمحاربة فاستوى فيه الردء وكذا الطليع والمباشر، كاستحقاق في الغنيمة.
(5) قتل ولم يصلب، عند الأكثر.(7/378)
(و) كـ (العبد) يقتله الحر (و) كـ (الذمي) يقتله المسلم (1) (وأخذ المال) الذي قتله لقصده (2) (قتل) وجوبا لحق الله تعالى (3) ثم غسل وصلي عليه (4) (ثم صلب) قاتل من يقاد به في غير المحاربة (حتى يشتهر) أمره (5) ولا يقطع مع ذلك (6) .
__________
(1) قتل وجوبا، ولم يصلب، هذا المذهب وعليه الأكثر.
(2) أي لقصد أخذ المال، لا لعداوة بينهما، أو خصومة، ونحو ذلك من أسباب المخاصمة كما يأتي.
(3) قال الشيخ: لا يجوز العفو عنه، بإجماع العلماء، حكاه ابن المنذر.
(4) لأنه مسلم، ولا نزاع في تغسيله والصلاة عليه ودفنه مع المسلمين.
(5) أي بعد تغسيله، والصلاة عليه، وقال الموفق وغيره: يقتل ثم يصلب، حتى يشتهر أمره، ثم يدفع إلى أهله، فيغسل ويصلي عليه، ثم يدفن، ومشى عليه في الإقناع، وهو ظاهر المنتهى.
(6) أي مع القتل والصلب، لأنه لم يذكر معهما في أثر ابن عباس، والجمهور كما قال الشيخ وغيرهن أن من شرب الخمر، وزنا وسرق ووجب قتله في المحاربة أو غيرها أنه يقتل، ولا يقطع ولا يجلد، لأنها حقوق لله عز وجل، وأتى عليها القتل فغمرها، ولو قذف وقطع يدا وقتل وقطع وجلد، وقتل لأن هذه حقوق الآدميين وهي مبنية على التضييق، لعلم الله سبحانه، بما أحضرت الأنفس من الشح، ولا تتداخل، قال: من شرب الخمر وقذف لا يتداخلان.(7/379)
(وإن قتل) المحارب (ولم يأخذ المال، قتل حتما ولم يصلب) لأنه لم يذكر في خبر ابن عباس الآتي (1) . (وإن جنوا بما يوجب قودا في الطرف) كقطع يد أو رجل ونحوهما (2) (تحتم استيفاؤه) كالنفس (3) صححه في تصحيح المحرر، وجزم به في الوجيز، وقدمه في الرعايتين وغيرهما (4) وعنه: لا يتحتم استيفاؤه (5) قال في الإنصاف: وهو المذهب: وقطع به في المنتهى، وغيره (6) .
__________
(1) وقال الموفق وغيره: وهي الأصح، لأن الخبر المروي فيهم قال فيه: ومن قتل ولم يأخذ المال قتل، ولم يذكر صلبا، ولأن جنايتهم بأخذ المال مع القتل، تزيد على الجناية بالقتل وحده، فتكون عقوبتهم أغلظ.
(2) مما يجري في مثله القصاص.
(3) ولو عفا المجني عليه، لم يسقط القطع، لأن الجراح تابعه للقتل، فيثبت فيها مثل حكمه.
(4) قال في الإنصاف: ولا يسقط تحتم القود في الطرف، إذا كان قد قتل على الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب.
(5) حزم به في الإقناع، قال الموفق: لأن الشرع لم يرد بالحد في حقه بالجراح، والقتل إنما يتحتم لأنه حد المحارب إذا كان قاتلا، فأما الطرف فإنما يستوفي هنا قصاصا لا حدا، فعليه لو عفا مقطوع طرفه ونحوه سقط القطع.
(6) قال في التنقيح: ولا يتحتم استيفاء جناية، توجب القصاص فيما دون النفس اهـ وحكمها على ما قدمه فيما دون النفس، حكم الجناية في غير المحاربة
فإن جرح إنسانا وقتل آخر اقتص منه، للجراح ثم قتل للمحاربة حتما فيهما وعلى القول الثاني، يتحتم القصاص في النفس، وولي الجراح بالخيار، والله أعلم.(7/380)
(وإن أخذ كل واحد) من المحاربين (من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق) من مال لا شبهة له فيه (1) (ولم يقتلوا، قطع من كل واحد، يده اليمنى، ورجله اليسرى، في مقام واحد) وجوبا (2) (وحسمتا) بالزيت المغلي (3) .
__________
(1) بخلاف نحو: أب وسيد، ومن حرز، وهو نحو القافلة في الصحراء وما في البنيان، فتقدم ذكر الحرز فيه، في باب السرقة وعبارته، موهمة أنه لا بد أن يأخذ كل واحد من المال، قدر ما يقطع به السارق، كما هو قياس قول الشافعي، وأصحاب الرأي، ولعل كل سبق قلم فالمذهب، ولو اشتركوا في أخذ نصاب، أو ما تبلغ قيمته نصابا، ولو لم تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا، ويأتي قوله: ولا مالا يبلغ نصاب السرقة، فإنه إذا أخذ بعضهم نصاب السرقة، تحتم قطع جميعهم، ولو لم يأخذ إلا واحد منهم، وأولى من ثبوت القتل، في حق جميعهم إذا قتل بعضهم، فتحتم قطعهم، بأخذ أحدهم النصاب، أولى من تحتم قتلهم، إذا قتل بعضهم.
(2) يبدأ بيده اليمنى، ثم برجله اليسرى، ولا ينتظر اندمال اليد في قطع الرجل، بل يقطعان معا.
(3) يبدأ بيمينه فتقطع وتحسم، ثم برجله، وتحسم كلاهما بالزيت المغلي، لينقطع الدم ويؤمن التلف، وبدئ باليد، لأن الله تعالى بدأ بذكر الأيدي، قال الموفق: ولا خلاف في أنه لا يقطع منه غير يد ورجل، إذا كانت يداه رجلاه صحيحتين.(7/381)
(ثم خلي) سبيله (1) (فإن لم يصيبوا نفسا ولا مالا، يبلغ نصاب السرقة، نفوا بأن يشردوا) متفرقين فلا يتركون يأوون إلى بلد) حتى تظهر توبتهم (2) لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} (3) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا قتلوا وأخذوا المال، قتلوا وصلبوا (4) وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قتلوا ولم يصلبوا (5) .
__________
(1) لاستيفاء ما لزمه فلا يحبس، ولا ينفى قال الشيخ: وهذا الفعل أحجز من القتل، فإن الأعراب وفسقه الجند وغيرهم، إذا رأوا دائما بينهم من هو مقطوع اليد والرجل، تذكروا بذلك جزمه فارتدعوا بخلاف القتل، فإنه قد ينسى، قد تؤثر بعض النفوس الأبيه قتله، عن قطع يده ورجله من خلاف، فيكون هذا أشد تنكيلا لأمثاله.
(2) عن قطع الطريق، تحسن سيرتهم، وإليه ذهب بعض أهل العلم، ولم تقدر مدته ويحتمل عاما كزان.
(3) هذه الآية نزلت في قطاع الطريق، عند أكثر السلف، وهي الأصل في حكمهم.
(4) قال الموفق وغيره: أجمع على هذا كل أهل العلم.
(5) قال: وهي الأصح، لأن الخبر المروي فيهم، قال: ومن قتل ولم يأخذ المال، قتل لم يذكر صلبا.(7/382)
وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف (1) وإذا أخافوا السبيل، ولم يأخذوا مالا، نفوا من الأرض، رواه الشافعي (2) ولو قتل بعضهم ثبت حكم القتل في حق جميعهم (3) وإن قتل بعض، وأخذ المال بعض تحتم قتل الجميع وصلبهم (4) .
(ومن تاب منهم) أي من المحاربين (قبل أن يقدر عليه سقط عنه ما كان) واجبا (لله) تعالى (من نفي وقطع) يد ورجل (وصلب وتحتم قتل) (5) .
__________
(1) تقطع يمنى يديه، ثم يسرى رجليه في مقام واحد، وحسمتا بنحو زيت مغلي، لينقطع الدم، ولا خلاف أنه لا يقطع منه إلا يد ورجل، إذا كانتا صحيحتين.
(2) وروي عن ابن عباس: قال: وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة الأسلمي، فجاء ناس يريدون الإسلام، فقطع عليهم أصحابه، فنزل جبرئيل بالحد فيهم: أن من قتل وأخذ المال، ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وقيل: إنه رواه أبو داود، وهو كالمسند، وإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا من حرز يبلغ نصاب السرقة شردوا متفرقين فلا يتركون يأوون إلى بلد حتى تظهر توبتهم، وهذا مذهب جمهور العلماء.
(3) كما لو فعل ذلك كل منهم، وكالردء والطليع، عند جمهور العلماء.
(4) كما لو فعل ذلك الكل، والقتل متحتم لا يدخله عفو إجماعا، الصلب هو ظاهر المذهب وتقدم.
(5) أي ومن تاب من قطاع الطريق، قبل أن يقدر عليه لا بعده، سقط عنه من الحدود، ما كان واجبا لله تعالى، من نفي عن البلد، وقطع يد ورجل
من خلاف وصلب، ومن تحتم قتل، قال الموفق وغيره: بغير خلاف نعلمه، وعليه عمل الصحابة، اختاره الشيخ وغيره، للأخبار.(7/383)
لقوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) (وأخذ بما للآدميين، من نفس وطرف ومال (2) إلا أن يعفى له عنها) من مستحقها (3) ومن قبل وجب عليه حد سرقة، أو زنا أو شرب، فتاب منه قبل ثبوته عند حاكم، سقط (4) .
__________
(1) أما من الشرط فظاهر، وأما المحاربون المسلمون، فإذا تابا من قبل القدرة عليهم، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب، وقطع الرجل، والجمهور واليد، وأما من تاب بعد القدرة عليه، فلا يسقط عنه شيء.
قال الشيخ: اتفقوا على أن قاطع الطريق، واللص ونحوهما، إذا رفعوا إلى ولي الأمر، ثم تابوا بعد ذلك، لم يسقط الحد عنهم، بل تجب إقامته، وإن تابوا وإن كانوا صادقين في التوبة، فاستثناء التوبة قبل القدرة عليهم فقط، فالتائب بعد القدرة عليه، باق فيمن وجب عليه الحد، للعموم والمفهوم والتفصيل ولئلا يتخذ ذريعة إلى تعطيل حدود الله، إذ لا يعجز من وجب عليه الحد، أن يظهر التوبة، ليتخلص من العقوبة.
(2) قال الموفق: بغير خلاف نعلمه، ولأنها حقوق عليهم ومبناها على المشاحة، فلم تسقط.
(3) وقال الوزير: اتفقوا على أن حقوق الآدميين من الأموال، والأنفس والجراح، يؤخذ بها المحاربون، إلا أن يعفى لهم عنها اهـ ولما تقدم من الآية، فإن الله تعالى أوجب عليهم الحد، ثم استثنى التائبين قبل القدرة عليهم.
(4) كحد المحاربة، ونصه على اعتبار توبة المحارب، قبل القدرة عليه
من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره، بطريق الأولى، فإذا دفعت توبته مع شدة ضرره وتعديه فلأن تدفع توبة بطريق الأولى، وفي الصحيحين في قصة الذي قال: أصبت حدا، فأقمه عليه، قال: «أليس قد صليت معنا؟ قال نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك» قد رفع الله العقوبة، عن التائب شرعا قدرا، فليس في شرع الله، ولا في قدره عقوبة تائب ألبتة، وذكر قصة توبة ماعز، وتقدم.(7/384)
ولو قبل إصلاح عمل (1) (ومن صال على نفسه أو حرمته) كأمه وبنته وأخته وزوجته (أو ماله آدمي أو بهيمة فله) أي للمصول عليه (الدفع عن ذلك، بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به) (2) فإذا اندفع بالأسهل، حرم الأصعب، لعدم الحاجة إليه (3) .
__________
(1) يعني ولو قبل مضي مدة، يعلم بها صدق توبته، وإصلاح نيته، للآيات ولقوله صلى الله عليه وسلم «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وتصح التوبة، من ذنب، مع الإصرار على غيره، إذا كان المقتضى للتوبة منه، أقوى من المقتضى للتوبة من الآخر، إذا كان المانع من أحدهما أشد، قال الشيخ: هذا هو المعروف عن السلف والخلف.
(2) لأنه لو منع من ذلك لأدى إلى تلفه، وأذاه في نفسه، وحرمته وماله، ولأنه لو لم يجز ذلك لتسلط الناس بعضهم على بعض.
(3) إذ المقصود دفعه، فإذا اندفع بقليل، فلا حاجة إلى أكثر منه، فإن علم أنه يخرج بالعصا، لم يكن له ضربه بالحديد، فإن خاف أن يبتدره فله الدفع بالأصعب، وصوبه في الإنصاف.(7/385)
(فإن لم يندفع) الصائل (إلا بالقتل فله) أي للمصول عليه (ذلك) أي قتل الصائل (لا ضمان عليه) لأنه قتله لدفع شره (1) (وإن قتل) المصول عليه (فهو شهيد) لقوله عليه الصلاة والسلام «من أريد ماله بغير حق، فقاتل فقتل، فهو شهيد» رواه الحلال (2) (ويلزمه الدفع عن نفسه) في غير فتنة (3) لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (4) .
__________
(1) ودمه هدر، كالباغي، ولأنه اضطره إلى قتله، فصار كالقاتل لنفسه، لكن لا بد من إقامة بينة على أنه لا يندفع إلا بالقتل، وإن لم يقم بينة ضمنه.
(2) ولمسلم وغيره عن أبي هريرة جاء رجل فقال يا رسول الله: أرأيت عن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه، قال أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال أرأيته إن قتلته؟ قال: هو في النار.
(3) أي: ويلزم من صال عليه آدمي الدفع عن نفسه لما تقدم، وكما أنه يحرم عليه قتل نفسه، يحرم عليه إباحة قتلها، وقال أحمد في اللصوص يريدون نفسك ومالك، قالتهم تمنع نفسك ومالك، وقال ابن سيرين: ما أعلم أحدا ترك قتال الحرورية، واللصوص تأثما، إلا أن يجبن وغير ذلك، وهذا في غير الفتنة بل له التولي عنهم لأنه صلى الله عليه وسلم قال في الفتنة: «اجلس في بيتك فإن خفتك أن يبهرك شعاع السيف، فغظ وجهك» ، وفي لفظ فكن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل، وفي لفظ «كن كخير ابني آدم» ولأن عثمان لم يدفع عن نفسه واختاره الموفق وغيره.
(4) استدلوا: بعموم الآية، على الدفع عن المال والنفس.(7/386)
وكذا يلزمه الدفع في غير فتنة، عن نفس غيره (1) (و) عن (حرمته) وحرمة غيره (2) لئلا تذهب الأنفس (3) (دون ماله) فلا يلزمه الدفع عنه (4) ولا حفظه عن الضياع والهلاك (5) .
__________
(1) أي: وكما يلزمه الدفع عن نفسه، يلزمه الدفع عن نفس غيره، لأنه لا يتحقق منه إيثار الشهادة، كإحيائه ببذل طعامه، وذلك في غير فتنة، فإن كان ثم فتنة، لم يجب الدفع عن نفس غيره، كما لا يجب عن نفسه وأولى، لما تقدم.
(2) أي: ويلزمه الدفع عن حرمته، فلو وجد مع أمه أو امرأته ونحوها، أو مع ابنه ونحوه، رجلا يزني بها، أو يلوط به، وجب عليه قتله، إن لم يندفع إلا به لقصة عمران وكذا يلزمه الدفع عن حرمة غيره.
(3) ولقوله صلى الله عليه وسلم «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» ، وللقدرة على إحيائها فوجب فعل ما يتقي به، وأما إن كان الدفع عن النساء، فلما فيه من حقه، وحق الله تعالى، وهو المنع من الفاحشة.
(4) قالوا: لأنه يجوز له بذله، وذكروا: أن ترك قتاله عليه أفشل، كمال غيره، وعنه: يلزمه الدفع عن ماله، قال في التبصرة على الأصح، وأطلق الشيخ وغيره: لزومه عن مال الغير، وجزم في المنتهى بلزوم الدفع، مع ظن السلامة، وقدمه في الإنصاف، وفي الاختيارات يلزم الدفع عن مال الغير.
وقال الشيخ: في جند قاتلوا عربا، نهبوا أموال تجار، ليردوها إليهم، فهم مجاهدون في سبيل الله، ولا ضمان عليهم بقود ولا دية ولا كفارة.
(5) أي: ولا يلزمه حفظ ماله عن الضياع، ولا يلزمه حفظه عن الهلاك، وفي التبصرة، يلزمه حفظه عن الضياع، فكذا الهلاك، وفي الحديث نهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، وفي المنتهى: ويجب عن حرمة غيره وكذا عن ماله مع ظن سلامتها، وإلا حرم، ويسقط بإياسه، لا بظنه أنه لا يفيد.(7/387)
فإن فعل فلا ضمان عليه (1) (ومن دخل منزل رجل متلصصا، فحكمه كذلك) (2) أي يدفعه بالأسهل فالأسهل (3) فإن أمره بالخروج فخرج لم يضربه (4) وإلا فله ضربه بأسهل ما يندفع به (5) فإن خرج بالعصا، لم يضربه بالحديد (6) ومن نظر في بيت غيره، من خصاص باب مغلق ونحوه (7) .
__________
(1) أي فإن دفع عن نفسه، أو حرمته أو نفس غيره أو حرمته أو ماله، أو مال غيره، فلا ضمان عليه لأنه إنما فعل لدفع شر الصائل، حيث لم يندفع إلا بما فعل.
(2) أي كحكم من صال على نفسه، أو ماله، وتلصص الشخص: طلب السرقة.
(3) مما يغلب على ظنه دفعه به، وهذا ما لم يخف أن يبدره بالقتل، لأنه لو منع من ذلك، لأدى إلى تلفه.
(4) لاندفاع شره، بدون ضربه بشيء.
(5) أي بأسهل ما يظن أن يندفع به، كدفع بيده.
(6) لأن الحديد آلة القتل، وإن ولي هاربا، لم يكن له قتله، ولا اتباعه، وإن ضربه وعطله، لم يكن له أن يثني عليه.
(7) أي: وأي شخص رجل أو امرأة، ولو مراهقا، لكونه لدفع المفسدة نظر في بيت غيره، ولو كان مستأجرا مستعيرا من خصاص باب مغلق، وهي الفروج والخلل التي تكون فيه، سواء كانت واسعة أو ضيقة، ونحو الباب المغلق الكوة والنقب ونحوها، مما يتوصل به إلى النظر، وقف الناظر في شارع أو سكة، أو ملك نفسه، ولو على سطح بيته، أو منارة وظاهر كلامه: جواز رميه ابتداء
من غير نظر إلى ما دونه، من دفعه بالتدريج، من القول إلى الفعل، للأخبار، وهو قول الجمهور، وبيت الخص والشعر والأدم، والخيمة ونحوها سواء.(7/388)
فخذف عينه أو نحوها، فتلفت، فهدر (1) بخلاف مستمع قبل إنذاره (2) .
__________
(1) فخذف بالخاء والذال المعجمتينن رماها بحصاة ونحوها، وتقدم، وكذا لو طعنه بعود، لخبر من اطلع في بيت ففقئت عينه، فلا دية ولا قصاص، ولأنه في معنى الصائل، بخلاف ما لو رماه بحجر كبير، أو رشقه بسهم أو طعنه بحديد، ما لم ينزجر إلا بذلك فله، وإلا فهدر، ولو قصد غير العين فأصابها ضمن، بخلاف ما لو قصدها فأخطأها، وأصاب غيرها، فلا ضمان، ونحو العين: الحاجب.
(2) لأن النظر أبلغ من السمع، واقتصارا على مورد النص، فإن أنذره فأبى، فله طعنه، كدفع الصائل، وبخلاف ناظر من باب منفتح، لترك ربه له مفتوحا، وإن عض يده إنسان عضا محرما، فانتزع المعضوض يده من فيه، فسقطت ثناياه، فهدر لقوله صلى الله عليه وسلم «يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل؟ اذهب لا دية لك» وإن كان العض مباحا كأن يمسكه في موضع يتضرر بإمساكه، كخصيته، أو يعصر يده ونحو ذلك، مما لا يقدر على التخلص منه، إلا بعضه، فما سقط من أسنانه ضمنه المعضوض.(7/389)
باب قتال أهل البغي (1)
أي: الجور والظلم والعدول عن الحق (2) (إذا خرج قوم لهم شوكة (3) ومنعة) بفتح النون جمع مانع، كفسقة وكفرة، وبسكونها بمعنى: امتناع يمنعهم (4) (على الإمام بتأويل سائغ) (5) ولو لم يكن فيهم مطاع (6) .
__________
(1) والأصل فيه: الكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} فأوجب تعالى قتال الباغين على أهل الإيمان، وقال صلى الله عليه وسلم «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه» رواه مسلم، وله أنه قال: «من خرج على أمتي وهم جميع، فاضربوا عنقه بالسيف، كائنا من كان» وغير ذلك، وأجمع الصحابة على قتال الباغي.
(2) أي أهل البغي: هم أهل الجور، يقال: جار يجور، مال عن القصد، وجار عن الطريق، وهم أيضا أهل الظلم العلو على المسلمين، والعدول عن الحق، وما عليه أئمة المسلمين.
(3) أي بأس ونكاية، وسلاح وعدد وعدة.
(4) قوة وشدة وكثرة، بحيث يحتاج في كفهم إلى جمع جيش.
(5) أي خرجوا على الإمام، وباينوه، وراموا خلعه، أو مخالفته، بتأويل سائغ صوابا كان أو خطأ.
(6) جزم به في الإقناع والمنتهى، وكذا لو كانوا في طرف ولايته، أو في موضع متوسط تحيط به ولايته.(7/390)
(فهم بغاة) ظلمة (1) فإن كانوا جمعا يسيرا لا شوكة لهم (2) أو لم يخرجوا بتأويل (3) أو خرجوا بتأويل غير سائغ، فقطاع طريق (4) ونصب الإمام فرض كفاية (5) .
__________
(1) وهم المقصودون بالترجمة، وسموا بغاة لعدولهم عن الحق، وما عليه أئمة المسلمين.
(2) أي لا بأس لهم، ولا نكاية، كالإثنين والثلاثة، والعشرة ونحوهم، وخرجوا عن قبضة الإمام، فهم قطاع طريق، هذا قول أكثر الأصحاب ومذهب الشافعي، وتقدم حكمهم، لأنه لو أثبت للعدد اليسير حكم البغاة، أفضى إلى إتلاف أموال الناس.
(3) أي أو لم يخرجوا عن قبضة الإمام بتأويل، أي شبهة، فهم قطاع طريق ساعون في الأرض بالفساد.
(4) تجري عليهم أحكام قطاع الطريق، وتقدم.
(5) لأن بالناس حاجة إلى ذلك، لحماية البيضة والذب عن الحوزة، وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال الشيخ يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس، من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين، ولا الدنيا، إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصالحهم إلا باجتماع الجماعة، بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، وقد أوجبه الشارع في الاجتماع القليل العارض، تنبها بذلك على أنواع الاجتماع.
وقال: من المعلوم أن الناس، لا يصلحون إلا بولاة، ولو تولى من الظلمة، فهو خير من عدمهم، كما يقال: سنة من إمام جائر، خير من ليلة واحدة بلا إمارة، اهـ ويخاطب بذلك من توجد فيه شرائط الإمامة، حتى ينتصب أحدهم لها، تأتي شروطها، وأهل الاجتهاد حتى يختاروا.(7/391)
ويجبر من تعين لذلك (1) وشرطه أن يكون حرا، ذكرا عدلا (2) قرشيا (3) عالما كافيا ابتداء ودواما (4) (و) يجب (عليه) أي على الإمام (أن يراسلهم) أي البغاة (5) (فيسألهم) عن (ما ينقمون منه (6) .
__________
(1) لأنه لا بد للمسلمين من حاكم لئلا تذهب الحقوق، وتعتبر إمامته بالإجماع عليه، كأبي بكر، أو بنص عليه كفعله، أو شورى في عدد، كفعل عمر، أو بقهر الناس بسيفه حتى تثبت له.
(2) أي وشرط الإمام، أن يكون حرا، لا عبدا ولا مبعضا، لأن له الولاية العامة فلا يكون مولا عليه، ذكر فلا ولاية لأنثى، كالقاضي وأولى، وللخبر، واشترطوا كونه عدلا لاشتراط ذلك في ولاية القضاء، وأولى، إلا أن يقهر الناس غير عدل فهو إمام.
(3) للأخبار لقول المهاجرين للأنصار إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي، وقال ابن القيم: لعل السر والله أعلم، في خروج الخلافة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن عليا لو تولى بعده، لأوشك أن يقول المبطلون: إنه ملك ورث ملكه أهل بيته، فصان الله منصب رسالته عن هذه الشبهة، وحين وليها أبو بكر، لم يكن فيهم أولى منه، وعلم أنما هي خلافة نبوة تستحق بالسبق، والتقدم.
(4) أي عالما بالأحكام الشرعية، لاحتياجه إلى مراعاتها، في أمره ونهيه، كافيا، أي: قائما بأمر الحرب والسياسة، وإقامة الحدود، والذب عن الأمة ابتداء في ذلك، ودواما ولا يمنع الإغماء نحوه.
(5) فلا يجوز له قتالهم، حتى يبعث إليهم من يسألهم، ويكشف لهم الصواب، إلا أن يخاف كلبهم فلا يمكن ذلك في حقهم، فأما إن أمكن تعريفهم عرفهم ذلك.
(6) لأن ذلك طريق إلى الصلح، ورجوعهم إلى الحق، وهو فعل علي رضي الله عنه.(7/392)
فإن ذكروا مظلمة أزالها (1) وإن ادعوا شبهة كشفها) (2) لقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (3) والإصلاح إنما يكون بذلك (4) فإن كان ما ينقمون منه، مما لا يحل، أزاله (5) وإن كان حلالا،
لكن التبس عليهم، فاعتقدوا أنه مخالف للحق، بين لهم دليله، وأظهر لهم وجهه (6) (فإن فاءوا) أي رجعوا عن البغي وطلب القتال، تركهم (7) .
__________
(1) لإن إزالة المظلمة، وسيلة إلى الصلح المأمور به.
(2) ليرجعوا إلى الحق، وذلك هو المطلوب، بل لا يجوز له قتالهم قبل ذلك إلا ان يخاف شرهم، كما تقدم.
(3) وأول الآية: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} .
(4) أي بإزالة المظلمة إن كانت، أو كشف الشبهة.
(5) ليرجعوا إلى الطاعة، وهو المقصود.
(6) كما فعل علي رضي الله عنه، فإنه بعث ابن عباس إلى الخوارج، لما تظاهروا بالعبادة والخشوع، وحمل المصاحف، ليسألهم عن سبب خروجهم وبين لهم الحجة التي تمسكوا بها.
(7) فإذا أبوا الرجوع، وعظهم وخوفهم القتال، لأن المقصود كف شرهم لا قتلهم، فإذا أمكن بمجرد القول كان أولى من القتال، لما فيه من الضرر بالفريقين.(7/393)
(وإلا) يرجعوا (قاتلهم) وجوبا (1) وعلى رعيته معونته (2) يحرم قتالهم بما يعم إتلافهم (3) .
__________
(1) لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا خرج على إمام المسلمين طائفة، ذات شوكة، بتأويل مشتبه، فإنه يباح قتالهم، حتى يفيئواإلى أمر الله اهـ والأفضل ترك قتال أهل البغي، حتى يبدءوا الإمام، وهو مذهب مالك، وله قتل الخوارج ابتداء أو متممة تخريجهم، وجمهور العلماء، يفرقون بين الخوارج، والبغاة المتأولين وهو المعروف عن الصحابة.
وقال الشيخ: في الخوارج: أهل السنة متفقون على أنهم مبتدعة ضالون، وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة، بل قد اتفق الصحابة على قتالهم، ولا خلاف بين علماء السنة، أنهم يقاتلون مع أئمة العدل، وهل يقاتلون مع أئمة الجور؟ نقل عن بعض أهل العلم أنهم يقاتلون، وكذلك من نقض العهد من أهل الذمة، وهو قول الجمهور.
وقالوا: يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا، إذا كان الغزو الذي يفعله جائزا، فإذا قاتل الكفار، أو المرتدين، أو ناقضي العهد، أو الخوارج، قتالا مشروعا، قوتل معه، وإن قاتل قتالا غير جائز لم يقاتل معه.
(2) لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ولقوله صلى الله عليه وسلم «من فارق الجماعة فمات، فميتته جاهلية» متفق عليه، وقال «من فارق الجماعة شبرا، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» رواه أبو داود وغيره، ولما تقدم من الآية والإجماع، على قتالهم بشرطه.
(3) أي المقاتلة وغيرهم، والأموال، لكونه يعم من يجوز قتله، ومن لا يجوز.(7/394)
كمنجنيق ونار إلا لضرورة (1) وقتل ذريتهم ومدبرهم، وجريحهم، ومن ترك القتال (2) ولا قود بقتلهم بل الدية (3) ومن أسر منهم حبس، حتى لا شوكة ولا حرب (4) .
__________
(1) لأن إتلاف أموالهم، وغير المقاتلة لا يجوز إلا لضرورة تدعو إليه، كأن يحتاج بهم البغاة، ولا يمكنهم التخلص إلا بذلك، كما في دفع الصائل.
(2) أي ويحرم قتل ذريتهم، لأنهم معصومون لا قتال منهم ولا بغي، ويحرم قتل مدبرهم، ولا يستعين بمن يراه، لما فيه من التسليط له، على قتل من لا يجوز قتله، إلا لضرورة، كأن يعجز أهل العدل عن قتالهم، ويحرم قتل جريحهم، ولو من نحو خوارج، إن لم نر كفرهم، ويحرم قتل من ترك القتال، لما روى سعيد: صرخ صارخ لعلي يوم الجمل، لا يقتلن مدبر، ولا يذفف على جريح ومن ألقى السلاح فهو آمن، وللبزار مرفوعا، لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيئهم.
(3) أي ولا قود في قتل من يحرم قتله منهم، للشبهة، بل يضمن بالدية، لأنه معصوم الدم، ويكره قصد رحمه الباغي بالقتل، لقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وكف النبي صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة بن عتبة، عن قتل أبيه.
(4) أي ومن أسر من البغاة، وظاهره: رجلا كان أو امرأة أو صبيا حبس حتى لا شوكة لهم لا حرب، فإن بطلت شوكتهم، وانقضت الحرب خلي سبيله، وإن توقع اجتماعهم لم يرسل، كما أنه لا يرسل ما دامت الحرب قائمة، لأن في إطلاقه ضررا على أهل العدل، وفي حبسه كسر قلوب البغاة، ويجوز فداء أسارى أهل العدل، بأسارى البغاة، لكن إن قتل أهل البغي الأسرى عندهم لم يجز لأهل العدل قتل ما بيدهم.(7/395)
وإذا انقضت فمن وجد منهم ماله بيد غيره، أخذه (1) وما تلف حال حرب غير مضمون (2) وإن أظهر قوم رأي الخوارج ولم يخرجوا عن قبضة الإمام، لم يتعرض لهم (3) .
__________
(1) لأن أموالهم كأموال غيرهم من المسلمين، لا يجوز اغتنامها، لبقاء ملكهم عليها، وقال علي: من عرف شيئا من ماله مع أحد فليأخذه، وقال الموفق: ولا يغنم لهم مال، ولا يسبي لهم ذرية، لا نعلم في تحريمه بين أهل العلم، خلافا، وقال الوزير: اتفقوا على أن أموالهم لهم، وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يجوز أن يستعان بسلاحهم وكراعهم، على حربهم.
(2) سواء أتلفه أهل العدل، أو أهل البغي، وسواء كان المتلف نفسا أو مالا ولا كفارة فيه، قال الزهري: هاجت الفتنة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أنه لا يقاد أحد، ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن، إلا ما وجد بعينه.
وقال الوزير: اتفقوا على أن ما يتلفه أهل العدل، على أهل البغي، فلا ضمان فيه، وما يتلفه أهل البغي كذلك، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وظاهر كلام الشيخ: أن من قتل باغيا في غير حرب، متأولا، فلا شيء فيه، وأن قتل الباغي للعادل كذلك، وقال: الأمة يقع منها التأويل، في الدم والمال والعرض، وذكر قصة أسامة، وخبر المقداد وخالد، ومع ذلك لم يضمن المقتول بقود ولا دية ولا كفارة، لأنه كان متأولا، وقال: هذا قول أكثرهم، كالشافعي وأحمد وغيرهما، قال: فالمتأول المخطئ، مغفور له خطؤه بالكتاب والسنة.
(3) أي: وإن أظهر قوم من المسلمين، رأي الخوارج كتكفير مرتكبي الكبائر، واستحلال دماء المسلمين، وسب الصحابة، فخوارج بغاة فسقة، وقال الشيخ: نصوص أحمد صريحة، على عدم كفر الخوارج، والقدرية والمرجئة
وغيرهم وإنما كفر الجهمية لا أعيانهم، وعنه: كفار، واستظهره في التنقيح وصوبه في الإنصاف، وأما الرافضة، فقال الشيخ: هم شر من الخوارج.
وقوله: ولم يخرجوا عن قبضة الإمام، أي: لم يجتمعوا للحرب، لم يتعرض الإمام لهم، حيث لم يخرجوا عن قبضته، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء.(7/396)
وتجري الأحكام عليهم، كأهل العدل (1) (وإن اقتتلت طائفتان، لعصبية (2) أو) طلب (رئاسة فهما ظالمتان (3) تضمن كل واحدة) من الطائفتين (ما أتلفت) على (الأخرى) (4) قال الشيخ تقي الدين، فأوجبوا الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يعلم عين المتلف (5) ومن دخل بينهما لصلح فقتل وجهل قاتله (6) .
__________
(1) في ضمان نفس ومال، ووجوب حد لأنهم ليسوا ببغاة، فكأهل العدل، فيما لهم وعليهم، وإن سبوا الإمام، أو أهل العدل، عزرهم الإمام.
(2) وهي شدة ارتباطه، بقبيلته أو جماعته، والجد في نصرتهم.
(3) لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى.
(4) قال الشارح: هذا إذا لم تكن واحدة منهما في طاعة الإمام، فإن كانت تقاتل بامره فهي محقة، وحكم الأخرى حكم من يقاتل الإمام.
(5) وإن تقابلا تقاصا، لأن المباشر والمعين سواء عند الجمهور، وإن جهل قدر ما نهبته كل طائفة من الأخرى تساوتا، كمن جهل قدر الحرام المختلط بماله، فإنه يخرج النصف والباقي له.
(6) أي من الطائفتين ضمنتاه على السواء(7/397)
وما جهل متلفه، ضمنتاه على السواء (1) .
__________
(1) أي وكذا ما جهل متلفه من الطائفتين، ضمنتاه على السواء، وإن علم كون متلفه من طائفة بعينها وجعل عينه، ضمنته وحدها، بخلاف مقتول في زحام جامع أوطواف لأنه ليس فيهما تعد.
وأما الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام، فقال شيخ الإسلام: أجمعوا على ان كل طائفة ممتنعة عن شريعة متواترة، من شرائع الإسلام يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله كالمحاربين وأولى.(7/398)
باب حكم المرتد (1)
وهو لغة: الراجع (2) قال تعالى: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} (3) واصطلاحا (الذي يكفر بعد إسلامه) (4) طوعا ولا مميزا (5) أو هازلا (6) بنطق أو اعتقاد، أو شك أو فعل (7) .
__________
(1) والأصل في حكمه، وجوب قتله، الكتاب والسنة والإجماع.
(2) يقال: ارتد فهو مرتد: إذا رجع.
(3) أي ترجعوا وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أي يرجعوكم إلى الشرك.
(4) أي والمرتد اصطلاحا، هو الذي يكفر بعد إسلامه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وفي الصحيح من بدل دينه فاقتلوه، وأجمع العلماء على وجوب قتل المرتد، إن لم يتب.
(5) أي سواء كان كفره بعد إسلامه طوعا لا كرها لقوله تعالى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} ولو كان مميزا فتصح منه الردة، كما يصح إسلامه ويأتي.
(6) أي أومستهزئا، لعموم الآية والأخبار ولقوله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} فقال تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وقال الموفق: ينبغي أن لا يكتفى من الهازل بذلك، بمجرد الإسلام، حتى يؤدب أدبا يزجره عن ذلك.
(7) بعد إسلامه، ولو كان إسلامه كرها بحق كمن أكره على
النطق بالشهادتين فنطق بهما ثم ارتد وسواء كان رجلا أو امرأة لقصة أم رومان.(7/399)
(فمن أشرك بالله) تعالى، كفر (1) لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (2) (أو جحد ربوبيته) سبحانه (3) (أو) جحد (وحدانيته (4) أو) جحد (صفة من صفاته) كالحياة والعلم، كفر (5) (أو اتخذ لله) تعالى (صاحبة أو ولدا (6))
__________
(1) إجماعا وقال الشيخ: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا.
(2) أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} ولأحمد كل ذنب عسى أن يغفره إلا الرجل يموت كافر، وفي الصحيح، ومن لقيه يشرك به دخل النار، ولا نزاع في كفر من مات على الشرك، وقال الموفق: من أقر بالإسلام، ثم أنكره، أو أنكر الشهادتين أو إحداهما كفر بغير خلاف.
(3) كفر، وقال الشيخ: القائل: ما ثم إلا الله، إن أراد ما يقوله، أهل الاتحاد، أنه ما ثم موجود إلا الله، أو الذي يقول: إن الله بذاته في كل مكان، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع جل وعلا، كفر، لتكذيبه الكتاب والسنة، وإجماع الأمة.
(4) كفر، لأن جاحد ذلك مشرك به سبحانه.
(5) إجماعا وفي الفصول، شرطه، أن تكون متفقا على إثباتها وقال الشيخ، من شك في صفة من صفات الله تعالى، ومثله لا يجهلها، فمرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد، واستدل بقصة الشاك في قدرة الله.
(6) كفر إجماعا قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} فنزه نفسه سبحانه عن ذلك ونفاه عنه، ومتخذه مخالف له، ومكذب بما أخبر به.(7/400)
أو جحد بعض كتبه (1) أو جحد بعض (رسله (2) أو سب الله) سبحانه وتعالى (3) (أو) سب (رسوله) أي رسولا من رسله (4) أو ادعى النبوة (فقد كفر) (5) لأن جحد شيء من ذلك، كجحده كله (6) .
__________
(1) أو شيئا منها، لأن جحد شيء منها كجحدها كلها، إذ الكل من عند الله جل وعلا.
(2) لأنه مكذب لله، جاحد لرسول من رسله، أو جحد الملائكة، أو من ثبت أنه ملك، كفر لتكذيبه القرآن، أو جحد البعث، كفر، لتكذيبه الكتاب والسنة والإجماع.
(3) كفر لأنه لا يسبه إلا وهو جاحد له.
(4) كفر، أو كان مبغضا لرسوله، أو لما جاء به كفر، أو قذفه أو قذف أمه كفر.
(5) أو صدق من ادعاها، بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر، لأنه مكذب لقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ولقوله صلى الله عليه وسلم لا نبي بعدي.
(6) قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} قال الشيخ ومن أطلق لعن التوارة يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان ممن يعرف أنها منزلة من عند الله وأنه يجب
الإيمان بها، فيقتل بشتمه لها وأما إن لعن دين اليهود، الذي هم عليه في هذا الزمان، فلا بأس عليه وكذا إن سب التوراة التي عندهم، مما يبين أن قصده ذكر تحريفها مثل أن يقول: نسخ هذه التوراة مبدلة، لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل بشرائعها المبدلة، أو المنسوخة فهو كافر، فهذا ونحوه، لا شيء على
قائله.(7/401)
وسب أحد منهم، لا يكون إلا من جاحده (1) (ومن جحد تحريم الزنا أو) جحد (شيئا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها) أي على تحريمها (2) أو جحد حل خبزه ونحوه، مما لا خلاف فيه (3) أو جحد وجوب عبادة من الخمس (4) .
__________
(1) قال الشيخ: ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين، وباتفاق جميع المسلمين، أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض، وقال: ومن سخر بوعد الله أو بوعيده، أو لم يكفر من دان بغير دين الإسلام، كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعا، وقال: من سب الصحابة أو أحدا منهم، أو اقترن بسبب دعوى، أن عليا إله أو نبي، أو أن جبرئيل غلط، فلا شك في كفره.
(2) كلحم خنزير وخمر، كفر، وقال الشيخ: من استحل الحشيشة المسكرة كفر بلا نزاع.
(3) كلحم مذكاة بهيمة الأنعام، والدجاج وغيره، مما أجمع على حله كفر.
(4) أي من العبادات الخمس، المشار إليها في الحديث الصحيح، بقوله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإتياء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، كفر، ومثل ذلك جحد وجوب الطهارة وضوءًا كان، أو غسلاً أو تيممًا.(7/402)
أو حكما ظاهرا مجمعا عليه، إجماعا قطعيا (1) (بجهل) أي بسبب جهله وكان ممن يجعل مثله ذلك (2) (عرف) حكم (ذلك) ليرجع عنه (3) (وإن) أصر أو (كان مثله لا يجهله كفر) لمعاندته للإسلام، وامتناعه من الإلتزام لأحكامه وعدم قبوله لكتاب الله وسنة رسوله، وإجماع الأمة (4) وكذا لو سجد لكوكب ونحوه (5) .
__________
(1) أي أو جحد حكما ظاهرا بين المسلمين، مجمعا عليه، إجماعا قطعيا، لا سكوتيا ولا ظنيا، بل قطعيا لا شبهة فيه، نحو استحلال الخوارج دماء المسلمين وأموالهم، فإن أكثر الفقهاء لا يكفرونهم، لادعائهم أنهم يتقربون إلى الله بذلك.
(2) أي تحريم شيء من المحرمات الظاهرة، كالزنا ولحم الخنزير، أو حل شيء مما لا خلاف في حله.
(3) لأن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة جزم به الشيخ وغيره وقال: لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم الشاك في قدرة الله وإعادته، لأنه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، وقال نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد، والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام، حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له.
(4) ولا نزاع في كفره.
(5) أي ومثل من جحد عبادة.. إلخ، لو سجد لكوكب شمس أو قمر، أو نجم، ونحو ذلك، كصنم، كفر إجماعا.(7/403)
أو أتى بقول أو فعل، صريح في الاستهزاء بالدين (1) أو امتهن القرآن (2) أو أسقط حرمته (3) لا من حكى كفرا سمعه وهو لا يعتقده (4) .
__________
(1) كفر إجماعا لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ولا نزاع في ذلك.
(2) أي احتقره وكذا لو ادعى اختلافه أو اختلاقه أو القدرة على مثله والله منع قدرتهم، كفر , ومن زعم أن القرآن نقص منه شيء وكتم، أو أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك فلا خلاف في كفره.
(3) أي مهابته وما يجب من القيام به من حقوقه، وما لا يحل انتهاكه كفر، وإن أنكر الإسلام أو الشهادتين أو أحدهما كفر.
(4) أي لا يكفر من حكى كفرا سمعه وهو لا يعتقده، قال في الفروع: ولعل هذا إجماع، وفي الانتصار، من تزيا بزي كفر، من لبس غيار، وشد زنار، وتعليق صليب بصدره حرم، ولم يكفر اهـ وكذا من نطق بكلمة الكفر، ولم يعلم معناها، ولا من جرى على لسانه سبقا من غير قصد لشدة فرح أو دهش، أو غير ذلك، لحديث «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان» وخبر الذي أخطأ من شدة الفرح.(7/404)
فصل (1)
(فمن ارتد عن الإسلام، وهو مكلف مختار رجل أو امرأة (2) دعي إليه) أي إلى الإسلام واستتيب (ثلاثة أيام وجوبا (3) (وضيق عليه) وحبس (4) لقول عمر رضي الله عنه: فهلا حبستموه ثلاثا، فأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه لعله يتوب، أو يراجع أمر الله، اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني رواه مالك في
الموطأ (5) .
__________
(1) في استتابة المرتد، ومن تقبل توبته، وصفتها وغير ذلك.
(2) لعموم من بدل دينه فاقتلوه «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» منها «التارك لدينه» وقال الوزير: اتفقوا على أن المرتد عن الإسلام يجب عليه القتل، ولأنه فعل يوجب الحد فاستوى فيه الرجل والمرأة، كالزنا وشرطه أن يكون مكلفا فلا يقتل غير المكلف إلا بعد البلوغ، والمختار أخرج المكره، لقوله تعالى: إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} وخبر «عفي عن أمتي الخطا والنسيان، وما استكرهوا عليه» .
(3) جزم به: في الإقناع والمنتهى، وقال الموفق: لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا، هذا قول أكثر أهل العلم، منهم مالك وأصحاب الرأي.
(4) أي: فينبغي أن يضيق عليه، في مدة الاستتابة، ويحبس، لعله ينعطف قلبه فيراجع دينه.
(5) وذلك: أن رجلا كفر بعد إسلامه، فضربت عنقه فقال ذلك عمر.
ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن تستتاب أم رومان، ولأن الردة إنما تكون لشبهة، ولا تزول في الحال، فوجب أن ينتظر مدة يرتئ فيها، وأولى ذلك ثلاثة أيام وهي مدة قريبة.(7/405)
ولو لم تجب الاستتابة، لما برئ من فعلهم (1) (فإن) أسلم لم يعزر (2) وإن (لم يسلم قتل بالسيف) (3) ولا يحرق بالنار (4) لقوله عليه الصلاة والسلام «من بدل دينه فاقتلوه، ولا تعذبوه بعذاب الله» يعني النار، أخرجه البخاري، وأبو داود (5) .
__________
(1) ولأنه أمكن استصلاحه، فلم يجز إتلافه قبل استصلاحه، كالثوب المتنجس.
(2) ولو بعد مدة الاستتابة، لأن فيه تنفيرا له عن الإسلام، وقال الشيخ: إذا أسلم المرتد، عصم دمه وماله، وإن لم يحكم بصحة إسلامه حاكم، باتفاق الأئمة بل مذهب أحمد المشهور عنه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، أن من شهد عليه بالردة فأنكر، حكم بإسلامه، ولا يحتاج أن يقر بما شهد عليه به، وقد ذكر تعالى: أنه يتوب على أئمة الكفر، الذين هم من أعظم أئمة البدع.
(3) أي: وإن لم يسلم المرتد قتل، عند عامة الفقهاء، بالسيف، لأنه آلة القتل، ولقوله صلى الله عليه وسلم إذا قتلتم فأحسنوا القتلة.
(4) وروي عن أبي بكر رضي الله عنه: أنه أمر بتحريق المرتدين، وفعل ذلك بهم خالد رضي الله عنه، قال الموفق: والأول أولى، وما فعله أبو بكر وخالد، لما ارتد أكثر العرب، وخيف على بيضة الإسلام وعظم الأمر على الخليفة الراشد، رأي التنكيل بهم، ليرجعوا إلى الإسلام.
(5) فدل الحديث وغيره على القتل بالسيف.(7/406)
إلا رسول كفارة فلا يقتل (1) ولا يقتله إلا الإمام أو نائبه (2) ما لم يلحق بدار حرب، فلكل أحد قتله، وأخذ ما معه (3) (ولا تقبل) في الدنيا (توبة من سب الله) تعالى (4) (أو) سب (رسوله) سبا صريحا أو تنقصه (5) .
__________
(1) أي إذا كان مرتدا، بدليل رسولي مسيلمة، وقوله: لو أن الرسل تقتل لقتلتكما.
(2) قال الموفق: في قول عامة أهل العلم، إلا الشافعي في أحد الوجهين في العبد؛ وعن أحمد: نحوه، والأول قول الجمهور، لأنه قتل لحق الله، فكان إلى الإمام كقتل الحر، ولا يعارض ما تقدم من قوله: أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم لأن قتل المرتد لكفره لا حدا، فإن قتل المرتد غير الإمام، بغير إذنه، أساء وعزر، لإساءته وافتياته على الإمام، ولم يضمن، سواء قتله قبل الاستتابة أو بعدها.
(3) لأنه صار حربيا، وأما ما تركه بدارنا فمعصوم.
(4) أي: لا تقبل في أحكام الدنيا، كترك قتل، وثبوت أحكام توريث ونحوها، توبة من سب الله تعالى، أو تنقصه لعظم ذنبه، لأن سبه يدل على فساد عقيدته، واستخفافه بالله تعالى، وعن أحمد: تقبل توبته، لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ولأن من زعم أن لله ولدا، فقد سب الله تعالى، لخبر «شتمني ابن آدم، فزعم أن لي ولدا» ، وتوبته مقبولة بغير خلاف.
(5) لا ستخفافه برسول الله صلى الله عليه وسلم أو سب ملكا من الملائكة سبا صريحا، أو تنقصه وإذا قبلت توبة من سب الله تعالى فتوبة من سب رسوله أو ملكا من ملائكته أولى.(7/407)
(ولا) توبة (من تكررت ردته) (1) ولا توبة زنديق، وهو المنافق الذي يظهر الإسلام، ويخفي الكفر (2) (بل يقتل بكل حال) (3) .
__________
(1) أي ولا تقبل في الدنيا، توبة من تكررت ردته لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} وغيرها، وهذا مذهب مالك، وعن أحمد تقبل توبته، وهو مذهب الشافعي، واختيار أبي بكر الخلال، وقال: إنه الأولى على مذهب أحمد لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ولقصة مخشي ابن حمير وغيره، وظاهر عبارته، الاكتفاء بمرتين، وفي الإنصاف: ثلاثا فأكثر وقيل: لأن الآية تشعر به، وظاهر اللغة مرتين.
(2) فلا يبين منه ما يظهر رجوعه، إلى الإسلام وتوبته، وقد قال تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} فإذا أظهر التوبة لم يزد على ما كان منه قبلها وهو إظهار الإسلام، وعنه تقبل، وهو مذهب الشافعي لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ثم قال: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} ولأنه صلى الله عليه وسلم كف عنهم بما أظهروا من الإسلام، ولقصة ابن مسعود، مع بني حنيفة، فإنه قبل توبتهم، إلا ابن النواحة لظهور كذبه، والخلاف في أحكام الدنيا من ترك القتل، وثبوت أحكام الإسلام من توريث وغيره، وأما في الآخرة فإن صدقت توبته قبلت، بلا خلاف.
(3) أي من تقدم ذكرهم، وهم الزنديق، ومن تكررت ردته، ومن سب الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم وكالزنديق، الحلولية، والإباحية، ومن يفضل متبوعه على محمد صلى الله عليه وسلم أو أنه إذا حصلت له المعرفة سقط عنه الأمر، أو أنه إذا حصلت له، جاز له التدين بدين اليهودي والنصارى، وأمثالهم من الطوائف، المارقين من الإسلام.(7/408)
لأن هذه الأشياء تدل على فساد عقيدته وقلة مبالاته بالإسلام (1) ويصح إسلام مميز يعقله، وردته (2) لكن لا يقتل حتى يستتاب بعد البلوغ، ثلاثة أيام (3) (وتوبة المرتد) إسلامه (و) توبة (كل كافر إسلامه (4) بأن يشهد) المرتد، أو الكافر الأصلي (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول لله) (5) .
__________
(1) أي لأن من قامت به هذه الأشياء، من سب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتكرر الردة والزندقة والحلولية، والإباحية وأمثالهم، لا مبالاة لهم بالإسلام.
(2) أي ويصح إسلام مميز يعقل الإسلام ومعناه: أن يعلم أن الله ربه، لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، قال الموفق: وهذا لا خلاف في اشتراطه وتصح ردته، لأن من صح إسلامه صحت ردته.
(3) قال الموفق: سواء قلنا بصحة ردته، أولا، لأن الغلام لا يجب عليه عقوبة، بدليل أنه لا يتعلق به حكم الزنا والسرقة، وسائر الحدود، ولا يقتل قصاصا فإذا بلغ وثبت على ردته، ثبت حكم الردة حينئذ فيستتاب فإن تاب وإلا قتل، سواء قلنا إنه مرتد قبل بلوغه، أو لم نقل، وسواء كان مسلما أصليا فارتد، أو كافر فأسلم صبيا ثم ارتد، اهـ ومن ارتد وهو سكران، صحت ردته، ولا يقتل حتى يصحو، وتتم له ثلاثة أيام، ليستتاب فيها، وهو بخلاف المجنون، فإنه لا يصح إسلامه، ولا ردته قولا واحدا.
(4) أي وتوبة من ثبتت ردته بإقرار أو بينة، إسلامه وتوبة كل كافر أصلي، من كتابي وغيره، إسلامه.
(5) ولا يكشف عن صحة ما شهد به عليه، ويخلى سبيله، ولا يكلف الإقرار بما نسب إليه، قال ابن القيم: بل ولا يكلف أن يقول أشهد بل
لو قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، كان مسلمًا باتفاق، فإذا تكلم بلا إله إلا الله محمد رسول الله، حصلت له العصمة.(7/409)
لحديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكنيسة (1) فإذا هو بيهودي، يقرأ عليهم التوراة (2) فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته (3) فقال: هذه صفتك وصفة أمتك أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «آووا أخاكم» رواه أحمد (4) (ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه) كتحليل حرام، أو تحريم حلال (5) أو جحد نبي أو كتاب (6) .
__________
(1) متعبد لليهود، وكذا النصارى مشهورة كنائسهم.
(2) التي أنزلت على موسى عليه السلام.
(3) يعني في التوراة وكذا في الإنجيل.
(4) أي حيث أنه شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ولقوله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، وقوله، «حتى يؤمنوا بي وبما جئت به» .
(5) مجمع عليهما.
(6) من كتب الله، أو آية من كتاب الله، أو ملك من ملائكته الذين ثبت أنهم ملائكة الله.(7/410)
أو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير العرب (1) (فتوبته مع) إتيانه بـ (الشهادتين إقراره بالمجحود به) من ذلك (2) لأنه كذب الله سبحانه بما اعتقده من الجحد، فلا بد في إسلامه من الإقرار بما جحده (3) .
(أو قوله أنا) مسلم أو (برئ من كل دين يخالف) دين (الإسلام) (4) ولو قال كافر: أسلمت، أو أنا مسلم، أو أنا مؤمن، صار مسلما، وإن لم يلفظ بالشهادتين (5) .
__________
(1) وأنه إنما أرسل إلى العرب خاصة وقد قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وقال صلى الله عليه وسلم والله لا يسمع بي يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار.
(2) أي مما تقدم، من تحليل، أو جحد فرض، أو جحد نبي أو كتاب، فلا بد مع الشهادتين من إقراره بذلك.
(3) فإذا لم يف بما جحده، بقي الأمر على ما كان عليه وإن كانت ردته بجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير العرب، فلا بد أن يشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق أجمعين، ولا بد أن يقول مع ذلك كلمة الشهادتين، ولا يكفي فيه مجرد إقراره بما جحده.
(4) أي أو توبته، مع قوله: أنا مسلم، أو توبته مع قوله أنا بريء من كل دين، يخالف دين الإسلام، إقراره بالمجحود به، من فرض ونحوه.. إلخ.
(5) فهو توبته أيضا للمرتد، ولكل كافر، لأنه إذا أخبر عن نفسه بما تضمن الشهادتين، كان مخبرا بهما، لما روى المقداد، أنه قال يا رسول الله أرأيت
لو لقيت رجلا من الكفار يقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذمني بشجرة، فقال: أسلمت أفأقتله، بعد أن قالها؟ قال: «لا تقتله» رواه مسلم.
قال الموفق: يحتمل أن هذا في الكافر الأصلي، أو من جحد الوحدانية أما من كفر بجحد نبي، أو كتاب أو فريضة، ونحو هذا فلا يصير مسلما بذلك، لأنه ربما اعتقد أن الإسلام ما هو عليه، فإن أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون، ومنهم من هو كافر اهـ، وهذا معلوم في النصيرية والباطنية والدروز وغيرهم.(7/411)
ولا يغني قوله: محمد رسول الله عن كلمة التوحيد (1) وإن قال: أنا مسلم، ولا أنطق بالشهادتين، لم يحكم بإسلامه، حتى يأتي بالشهادتين (2) ويمنع المرتد من التصرف في ماله (3) وتقضى منه ديونه (4) وينفق منه عليه وعلى عياله (5) .
__________
(1) لأن من جحد شيئين لا يزول جحده، إلا بالإقرار بهما ما، ولأن الشهادة بأن محمدا رسول الله، لا تتضمن الشهادة بالتوحيد.
(2) قال أبو يعلي الصغير: لا خلاف في ذلك، ولقوله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله» الحديث.
(3) من بيع وهبة ووقف وإجارة، ونحو ذلك، لتعلق حق الغير به، كمال المفلس، واختار الموفق أنه يترك عند ثقة، وقال: لا يحكم بزوال ملك المرتد بردته، في قول اكثر أهل العلم.
(4) لأنها حقوق، لا يجوز تعطيلها.
(5) ومن تلزمه نفقته لجوبه عليه شرعا وكالدين.(7/412)
فإن أسلم، وإلا صار فيئا من موته مرتدا (1) ويكفر ساحر يركب المكنسة فتسير به في الهواء، ونحوه (2) لا كاهن ومنجم، وعراف وضارب بحصى ونحوه (3) إن لم يعتقد إباحته (4) وأنه يعلم به الأمور المغيبة (5) ويعزر ويكف عنه (6) .
__________
(1) أي فإن أسلم المرتد، أخذ ماله أو بقيته، ونفذ تصرفه وإن مات أو قتل مرتدا، صار ماله فيئا من حين موته، لأنه لا وارث له، وبطل تصرفه.
(2) كمن يدعي أن الكواكب تخاطبه والمكنسة بكسر الميم، آلة الكنس والسحر عقد ورقى، وكلام يتكلم به فاعله، أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، وله حقيقة فمنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، كما في الآية الكريمة، وتعلمه وتعليمه وفعله، حرام، بلا نزاع ومعتقد حله كافر إجماعا، ويقتل الساحر، إن كان مسلما، ومعتقد حله لا ذميا إلا أن يقتل بسحره.
(3) أي لا يكفر كاهن، وهو من له رئي من الجن، يأتيه بالأخبار، ولا يكفر منجم، وهو من ينظر في النجوم، يستدل بها على الحوادث، ولا يكفر عراف، وهو الذي يحدس ويحرص ولا يكفر ضارب بحصى، ونحوه كشعير وقداح.
(4) أي إباحة الكهانة، وما عطف عليها فيكفر.
(5) أي: وأنه يعلم بما تقدم الأمور الغيبية.
(6) أي: ويعزر ساحر تعزيرا بليغا، لينكف هو وأمثاله عن السحر وتعاطيه، وللترمذي عن عمر، حد الساحر ضربه بالسيف، وكتب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، رواه البخاري، وقال الشيخ: التنجيم كالاستدلال بالأحوال الفلكية، على الحوادث الأرضية، من السحر، ومحرم إجماعا.(7/413)
ويحرم طلسم، ورقية بغير العربي (1) ويجوز الحل بسحر ضرورة (2) .
__________
(1) الطلسم خطوط أو كتابة يستعملها الساحر، ويزعم أنه يدفع الأذى، والكلمة دخيلة، والرقية: ما يرقى به المريض، من آيات وأدعية معلومة، قال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول، فليس لأحد أن يرقى به، فضلا عن أن يدعو به، ولو عرف معناه، لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارا، فليس من دين الإسلام.
قال غير واحد: أجمع أهل العلم، على جواز الرقي، بثلاثة شروط، أن تكون بكلام الله، أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، وما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى.
(2) أي لأجل الضرورة، وتوقف أحمد، وعن الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر، وقال ابن القيم، النشرة، حل السحر عن المسحور، وهي نوعان، حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يجب، فيبطل عمله عن المسحور، والثاني النشرة بالرقية، والتعوذات والأدوية المباحة، فهذا جائز(7/414)
كتاب الأطعمة (1)
جع طعام (2) وهو ما يؤكل ويشرب (3) و (الأصل فيها الحل) (4) لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (5) .
__________
(1) أي هذا كتاب يذكر فيه أجناس، ما يجوز أكله وشربه من الأطعمة وما لا يجوز.
(2) وما ضيه طعم.
(3) وقال الجوهري: هو ما يؤكل، وربما خص به البر، وقال تعالى {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} .
(4) أي والأصل في الأطعمة الحل، لنصوص الكتاب والسنة، إلا ما استثنى بهما، وقال الشيخ: الأصل فيها الحل لمسلم عمل صالحا، لأن الله تعالى إنما أحل الطيبات لمن يستعين بها على طاعتهن لا على معصيته لقوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} ولهذا لا يجوز أن يستعان بالمباح على المعصية، كمن يعطي اللحم والخبز من يشرب عليه الخمر، ويستعين به على الفواحش ومن أكل الطيبات ولم يشكر فمذموم قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أي عن الشكر عليه.
(5) لكي تنتفعوا بما خلقه لكم فيها وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا} وقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم «ما سكت عنه فهو عفو» ، فكل ما لم يبين الله ولا رسوله تحريمه، من المطاعم والمشارب والملابس، فلا يجوز تحريمها فإن الله قد فصل علينا ما حرم، فإن كان شيء منها حراما، فلا بد أن يكون تحريمه مفصلا، كما أنه لا يجوز إباحة ما حرم الله، فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا الله عنه ولم يحرمه.(7/415)
(فيباح كل) طعام (طاهر) بخلاف متنجنس ونجس (1) (لا مضرة فيه) احتراز عن السم ونحوه (2) حتى المسك ونحوه كالعنبر (3) (من حب وثمر وغيرهما) من الطاهرات (4) (ولا يحل نجس كالميتة والدم) (5) .
__________
(1) أي فيباح كل طعام، من الحبوب والثمار والنبات، طاهر لا نجس ولا متنجس قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} أي من المطاعم، والمشارب، والملابس والفروج، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} كالدم والميتة، ولحم الخنزير والزنا، وغير ذلك من المحرمات، وقال الوزير: اتفقوا على أن ما لا يحتاج من الأطعمة إلى ذكاة كالنبات وغيره، من الجامدات والمائعات، فإنه يحل أكله، ما لم يكن نجسا بنفسه، أو مخالطا لنجس أو ضار.
(2) وكذا ما فيه مضرة مما يقتل غالبا، وفي الإنصاف، الصحيح من المذهب، أن السموم نجسة محرمة، والسم المحرم أكله، هو هذا السم القاتل، المعروف.
(3) وقشر بيض وقرن حيوان مذكي، إذا دق ونحوه ونحو فاكهة مسوسة بدودها لا استقلالا والمسك طيب معروف، يستخرج من دم دابة تسمى غزال المسك، وتقدم؛ والعنبر من الطيب، روث دابة بحرية أو نبع مائة.
(4) لما تقدم من الآيات، وغيرها.
(5) والرجيع والبول، قيل: ولو طاهرين، لا ستقذارهما بلا ضرورة، وتقدم جواز التداوي ببول الإبل، ولا يحل أكل الحشيشة المسكرة لخبر كل مسكر خمر، وكل خمر حرام.(7/416)
لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} الآية (1) (ولا) يحل (ما فيه مضرة كالسم ونحوه) (2) لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (3) .
__________
(1) ويأتي فحرم تعالى الميتة، وهي: ما فارقه الروح حتف أنفه، من غير سبب خارج عنه، لما فيها من خبث التغذية، والغاذي شبيه بالمغتذي، ومن محاسن الشريعة تحريمه، فإن اضطر إليه أبيح له، وانتفى وجه الخبث منه، حال الاضطرار لأنه غير مستقل بنفسه في المحل المتغذي به، بل هو متولد من القابل والفاعل، فإن ضرورته تمنع قبول الخبث، الذي في المتغذي به، فلم تحصل تلك المفسدة، لأنها مشروطة بالاختيار، الذي به يقبل المحل، خبث التغذي، فإذا زال الاختيار، زال شرط القبول، فلم تحصل المفسدة أصلا.
وأما الدم فالمراد المسفوح منه، وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر، ويشوونه ويأكلونه فأما ما يبقى في خلل اللحم بعد الذبح، وما يبقى في العروق فمباح، حتى لو مسه بيده فظهر عليها، أو مسه بقطنة لم ينجس، ونص عليه أحمد، وقال الشيخ: الصحيح أنما حرم الله الدم المسفوح، المصبوب المهراق، فأما مايبقى في عروق اللحم، فلم يحرمه أحد من العلماء.
(2) كالعقاقير القتالة، فما لم يكن فيه دواء منها، كالحيات ونحوها، تحرم مطلقا، وما كان فيه دواء، كالبلاذر والسقمونيا، والأينون ونحوها، فيحرم تناولها واستعمالها، على وجه يضر، ويجوز على وجه لا يضر، لقلته وإضافة ما يصلحه، مما يضاد طبعه، ومفهوم كلامه، أن السم ليس بنجس، وفي الواضح المشهور أنه نجس.
(3) فدلت بعمومها، على تحريم أكل ما فيه مضرة، كالسم ونحوه، من العقاقير القتالة.(7/417)
(وحيوانات البر مباحة (1) إلا الحمر الأهلية) (2) لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل» متفق عليه (3) (و) إلا (ما له ناب يفترس به) أي ينهش بنابه (4) لقول أبي ثعلبة الخشني نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، متفق عليه (5) .
__________
(1) كالظباء، والحمر الوحشية، لعموم النصوص، الدالة على الإباحة.
(2) فأكثر أهل العلم يرون تحريمها، وقال ابن المنذر: لا خلاف بين أهل العلم اليوم في تحريمها.
(3) وللترمذي وصححه، أطعمنا لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر فدل الحديث على تحريم لحوم الحمر الأهلية، وتقدم أنه إجماع، ودل على حل لحوم الخيل، وهو مذهب الجمهور، وفي الصحيحين نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه.
(4) الناب السن خلف الرباعية، والنهش العض والأخذ بالأسنان.
(5) وهو مفسر ومبين لما حرم من السباع، ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا «كل ذي ناب من السباع حرام» وله من حديث أبي هريرة نحوه، قال ابن عبد البر: هذا حديث صحيح، ثابت مجمع على صحته، وهو نص صريح يخص عموم الآيات، والسباع، جمع سبع، وهو المفترس من الحيوان.
قال ابن الأثير: نهى عن كل ذي ناب من السباع، وهو ما يفترس من الحيوان ويأكل قهرا وفسرا كالأسد والذئب، والنمر ونحوه، وهذا مذهب جماهير العلماء، أبي حنيفة والشافعي، وغيرهما.(7/418)
(غير الضبع) (1) لحديث جابر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكل الضبع احتج به أحمد (2) والذي له ناب (3) كالأسد والنمر (4) والذئب الفيل (5) .
__________
(1) وهو حيوان معروف، مؤنثة وتطلق على الذكر والأنثى، وقد يقال للأنثى ضبعة وهو مباح، هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، ومذهب الشافعي.
(2) وصححه البخاري وغيره، وفيه: قلت: صيد هو؟ قال: نعم، وفي لفظ: هو صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم، ورواه أبو داود، وفي السنن، قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما تقدم: من قوله صلى الله عليه وسلم في الضبع كبش، ولعموم الرخصة فيه عن ابن عمر وأبي هريرة، وقال عروة ابن الزبير، ما زالت العرب تأكل الضبع، لا ترى بأكله بأسا.
وقال ابن القيم: إنما حرم ما له ناب، ومن السباع العادية بطبعها، كالأسد، وأما الضبع، فإنما فيها أحد الوصفين، وهو كونها ذات ناب، وليست من السباع العادية، والسبع: إنما حرم، لما فيه من القوة السبعية، التي تورث للمغتذي بها شبها، ولا تعد الضبع من السباع العادية، لا لغة ولا عرفا، وقال الشيخ: مباحة عند الجماهير.
(3) أي يفترس به من الحيوان قهرا.
(4) الأسد: نوع من السباع، يقع على الذكر والأنثى، جمعه أسد وأسود والأنثى لبوة والنمر: ضرب من السباع أيضا، جمعه نمر ونمور، وهو أصغر من الأسد منقط الجلد.
(5) الذئب حيوان يشبه الكلب، معروف والفيل حيوان من أضخم
الحيوان له خرطوم طويل، يدفع به العلم والماء إلى فمه، ويضرب به جمعه أفيال، وهو محرم على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب وجمهور العلماء قال أحمد: هو سبع، ويعمل بأنيابه، كالسبع، وقال: ليس هو من أطعمة المسلمين، ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وهو من أعظمها نابا.(7/419)
والفهد والكلب (1) والخنزير (2) وابن آوي وابن عرس (3) والسنور مطلقا (4) (والنمس والقرد (5) .
__________
(1) الفهد: نوع من السباع، بين الكلب والنمر، وقوائمه أطول من قوائم النمر، منقط بنقط سود، جمعه أفهد، وفهود، والكلب، كل سبع يعض، وغلب على الحيوان النابح المعروف.
(2) فيحرم بالنص والإجماع، وهو حيوان معروف، وجمعه خنازير، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} وله ناب يفرس به.
(3) نوع من الكلاب البرية، يشبه الكلب، ورائحته كريهة تسميه العامة الواوين وابن عرس بالكسر دويبة تشبه الفأرة بعض الشبه، أصلع الأذنين مستطيل الجسم، أهليا كان أو بريا، ومن أنواعه التفه، فيحرمان، وهو مذهب أبي حنيفة، لأنهما من السباع، فيدخلان في عموم النهي، ولأنهما مستخبثان.
(4) أي ويحرم السنور وفاقا، وهو القط، سواء كان أهليا أو بريا، على الصحيح من المذهب، وصححه واختاره غير واحد، لما روى الترمذي وأبو داود وغيرهما أنه «نهى عن أكل الهر» ، ولمسلم «نهى عن أكل ثمن السنور» ، وقال الشيخ: ليس في كلام أحمد إلا الكراهة، وجعله أحمد قياسا، وأنه قد يقال يعمها اللفظ، ولأنه من ذوات الأنياب.
(5) النمس: حيوان في حجم القط، قصير اليدين والرجلين يصيد الفأر
والحيات، وقيل: دويبة بمصر تقتل الثعبان، والقرد بالضم حيوان معروف، ويحرم سواء كان كبيرا له ناب، أو صغيرا قبل نبات نابه، قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافا بين علماء المسلمين، في أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه.(7/420)
والدب) والفنك (1) والثعلب والسنجاب (2) والسمور (3) (و) إلا (ماله مخلب من الطير يصيد به (4)) .
__________
(1) الدب: هو نوع من السباع، يشبه الضأن، قصير الأذنين، مدور الرأس، كثيف الشعر، والفنك: جنس من الثعالب الردية، ذات ناب، فروتها أطيب أنواع الفراء، وأشرفها وأعدلها، وهو محرم على الصحيح من المذهب مطلقا، وقال أحمد: إن لم يكن له ناب فلا بأس، وهو بفتح الفاء وقيل نوع من ولد الثعلب التركي وله ناب أصغر من الثعلب المعروف.
(2) الثعلب: حيوان معروف بالتحايل، والروغان، يقال: أروغ من ثعلب ويحرم على الصحيح من المذهب وفاقا لمالك وأبي حنيفة، وقال أحمد: لا أعلم أحدا أرخص فيه، إلا عطاء، وصححه في التصحيح، والسنجاب أكبر من الجرذ، قال القاضي: لأنه ينهش بنابه، ومال الموفق وغيره إلى إباحته، لأنه يشبه اليربوع، قال: ومتى تردد بين الإباحة والتحريم غلبت الإباحة، لأنها الأصل، وعموم النصوص يقتضيها.
(3) حيوان بري، يشبه ابن عرس، يتخذ من جلده فراء ثمينة، ليس في الحيوان أجرى منه على الإنسان، ببلاد الأرمن، وراء بلاد الترك، ومنه أسود لامع، وأحمر مائع إلى السواد وأشقر.
(4) فيحرم، قال الموفق وغيره: هذا قول أكثر أهل العلم، والمخلب الظفر، خصوصا من سباع الطير، الذي يصيد به الحيوانات.(7/421)
كالعقاب والبازي والصقر (1) والشاهين والباشق (2) والحدأة بكسر الحاء وفتح الدال والهمزة (3) (والبومة) (4) لقول ابن عباس «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطيور» رواه أبو داود (5) .
__________
(1) البازي: طير من الجوارح، يصاد به، وهو أنواع، والصقر: كل طائر يصاد به، ماخلا النسر والعقاب.
(2) الشاهين: طائر من جنس الصقر، طويل الجناحين، وجمعه شواهين، والباشق، طائر من أصغر الجوارح، جمعه بواشق.
(3) طائر من الجوارح، والعامة تسميه، الحدية وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، لكونها لها مخلب قوي، تعدو به وتصيد به.
(4) طائر يسكن الخراب معروف، وحرمت لكونها تأكل الجيف، لا لكونها تفرس، وهدهد وصرد وخطاف، وأخيل، وذكر الموفق وغيره: في الصقر والشاهين، والحدأة والبومة، وأشباهها تحريمها، قول أكثر أهل العلم، منهم أحمد والشافعي، وأصحاب الرأي.
(5) ورواه مسلم وغيره: من غير وجه، والمخلب بكسر الميم لما يصيد من الطير وتحريمه، مذهب الجمهور قال ابن القيم: قد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وصحت صحة لا مطعن فيها، من حديث علي وابن عباس، وأبي هريرة.(7/422)
(و) إلا (ما يأكل الجيف) من الطير (1) (كالنسر والرخم (2) واللقلق والعقعق) وهو القاق (3) (والغراب الأبقع (4) والغداف وهو) طائر (أسود صغير أغير (5) والغراب الأسود الكبير) (6)
__________
(1) أي فيحرم، وهو الصحيح من المذهب، نص عليه لقوله «خمس فواسق ... » الحديث وذكر منها الغراب وغيره كهو لمشاركة بينهما في أكلها الجيف، وجعل الشيخ فيه روايتي الجلالة.
(2) النسر: طائر حاد البصر، من أشد الطيور، وأرفعها طيرانا وأقواها جناحا، تخافه كل الجوارح، له منقار منعقف في طرفه وظفور، والرخم طائر من الجوارح الكبيرة.
(3) اللقلق طائر نحو الأوزة، طويل العنق، يأكل الحيات، والعقعق، بوزن جعفر، طائر نحو الحمامة طويل الذنب، فيه بياض وسواد، وهو نوع من الغربان وهو القلق والغاق بالغين الغراب، وسئل أحمد، عن العقعق، فقال: إن لم يكن يأكل الجيف فلا بأس به، وقال الأصحاب: هو يأكل الجيف.
(4) هو: نوع من الغربان، يوجد به بقعة بيضاء في رأسه، أو في بقية حسمه، وهو يعتدي على بعض الحيوانات، وخاصة في أعينها.
(5) أي يشبه الغبار، ويقال: إنه غراب القيظ، ويقال: كبير ضخم الجناحين أو طائر كالنسر كثير الريش، فيحرم جزم به في الوجيز، ونسبه الخلال إلى الإمام أحمد، وقال أبو بكر لا يؤكل.
(6) يأكل الجيف غالبا، ويأكل غيرها، ولحديث «خمس فواسق» ، وذكر منها الغراب، قال عروة وأحمد: ومن يأكل الغراب؟ وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقا، والله ما هو من الطيبات؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم أباح قتله في الحرم، ولا يجوز قتل صيد مأكول في الحرم.(7/423)
و) إلا (ما يستخبثه العرب) ذووا اليسار (1) كالقنفذ والنيص (2) والفأرة والحية (3) والحشرات كلها والوطواط (4) .
__________
(1) أي الغنى، من أهل القرى والأمصار، ولا عبرة بأهل البوادي، وهذا على الصحيح من المذهب، قال الشيخ: وعند أحمد وقدماء الأصحاب، لا أثر لاستخباث العرب، وإن لم يحرمه الشرع حل، واختاره، وقال: أول من قال تحرم، الخرقي، وأن مراده ما يأكل الجيف، لأنه تبع الشافعي، وهو حرمة بهذه العلة.
(2) القنفذ: دويبة ذات ريش حاد، في أعلاه، يقي به نفسه، أي فيحرم، وقاله أبو هريرة: ولأبي داود عنه، قال: ذكر القنفذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خبيثة من الخبائث» ولأنه يشبه المحرمات، ويأكل الحشرات، فأشبه الجرذ، والنيص: هو القنفذ الضخم، ويسمى الدلدل، على ظهره شوك، أكثره طويل، نحو ذراع.
(3) الفأرة: دويبة في البيوت، معروفة، والحية: هي الأفعى، والحيات أنواع كثيرة، وكلها سامة، فيحرم أكلهما لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتل الفأرة والحية في الحرم، ولا يجوز قتل صيد مأكول في الحرم، وكذا العقارب، وهو مذهب الجمهور، وقال الشيخ: أكل الحيات والعقارب حرام مجمع عليه فمن أكلها مستحلا لها استتيب، ومن اعتقد التحريم وأكلها فهو فاسق، عاص لله ورسوله.
(4) الحشرات: الهوام، ودواب الأرض الصغار، كجعلان وبنات وردان وديدان لأنها من الخبائث، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
وخفاش ويسمى الوطواط خفاشا، وقال أحمد: من يأكل الخفاش؟ وقال الوزير: اتفقوا على أن حشرات الأرض محرمة، إلا مالكا فإنه كرهها في رواية
وقال ابن عبد البر: الوزغ مجمع على تحريمه، وأوزاغ وصراصر ونحل، وزنابر ونمل، وذباب وبراغيث على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب، ولأحمد وأبي داود نهى عن قتل النملة والنحلة، والهدهد والصرد.(7/424)
و) إلا (ما تولد من مأكول وغيره كالبغل) من الخيل والحرم الأهلية (1) والسمع، وهو: ابن الذئب والضبع (2) وما تجهله العرب، ولم يذكر في الشرع: يرد إلى أقرب الأشياء شبهابه (3) ولو أشبه مباحا ومحرما، غلب التحريم (4) .
__________
(1) بلا نزاع، وظاهره ولو تميز، كحيوان من نعجة، نصفه خروف، ونصفه كلب، وقال الشيخ: تغليبا للتحريم، وكذا حمار متولد بين حمار أهلي ووحشي لا بغل تولد بين خيل، وحمر وحشية ونحوه.
(2) سريع العدو، وكذا العسبار، وهو ولد الذئب من الذيخ، يقال: إنه نوع من الضبع، ويقال له الضبعان، بكسر الضاد، وهو ذكر الضباع تغليبا للتحريم، وفي الإنصاف، بلا نزاع وسئل الشيخ: عن رجل له عنز ولدت عناقا، وماتت العنز، فأرضعت امرأته العناق، فقال يجوز له أكلها، وشرب لبنها.
(3) فإنه أشبه محرما ألحق به، وإن أشبه حلالا ألحق به، وهو قول جماعة من الأصحاب.
(4) احتياطا، لقوله صلى الله عليه وسلم «دع ما يريبك إلى مالا يريبك» وقال أحمد: كل شيء اشتبه عليك، فدعه وإن لم يشتبه فمباح، لعموم (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه، إلا أن يكون ميتة) الآية ولخبر
ماسكت عنه فهو عفو، ويحرم ما ليس ملكا لآكله، ولا أذن فيه ربه، ولا الشارع.(7/425)
ودود جبن وخل، ونحوها، يؤكل تبعا (1) .
__________
(1) فما تولد من مأكول طاهر، كدود جبن، ودود خل، ونحوهما من سائر دود الأطعمة، كذباب باقلاء، ودودنبق يؤكل تبعا، لا منفردا، وقال أحمد: في الباقلاء المدودة تجنبه أحب إلي، وإن لم يتقذره فأرجو، وقال: عن تفتيش التمر المدود، لا بأس به.(7/426)
فصل (1)
(وما عدا ذلك) الذي ذكرنا أنه حرام (فحلال) على الأصل (2) (كالخيل) لما سبق من حديث جابر (3) (وبهيمة الأنعام) وهي الإبل، والبقر، والغنم (4) لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} (5) (والدجاج (6) والوحشي من الحمر (7)
__________
(1) أي في حكم ما أحل من مطعوم ومشروب، وما يكره، وحكم من اضطر إلى محرم، ومن تجب ضيافته وغير ذلك.
(2) لعموم نصوص الإباحة.
(3) نهى عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل، فتباح كلها، عرابها وبراذينها، وهذا الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب، لهذا الحديث المتفق على صحته، ولحديث اسماء نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة متفق عليه.
(4) أي الإبل بأنواعها، والبقر بأنواعها، والغنم ضأنها ومعزها.
(5) فدلت الآية على حل بهيمة الأنعام، ولا نزاع في ذلك.
(6) على اختلاف أنواعه، فحلال بلا نزاع، لفعله صلى الله عليه وسلم المتفق
عليه.
(7) ولو تأنست وأعلفت، فحلال بالإجماع، كما يحرم الأهلي ولو توحش.(7/427)
و) من (البقر) كالإبل (1) والتيتل والوعل والمها (2) (و)
كـ (الظباء والنعامة والأرنب (3) وسائر الوحش) كالزرافة (4) والوبر، واليربوع (5) .
__________
(1) أي وكالبقر الوحشية على اختلاف أنواعها قال: كالإبل، حيوان من ذات الظلف، للذكور منه قرون متشعبة، لا تجويف فيها، وأما الإناث فلا
قرون لها.
(2) فحلال إجماعا، والتيتل: جنس من بقر الوحش، أو ذكر الأروي أو الوعل، والوعل: تيس الجبل، له قرنان منحنيان، والمها، والمهاة، البقرة الوحشية، يشبه بهافي حسن العينين.
(3) الظباء: هي الغزال، للذكر والأنثى، والظبية، الأنثى ولو تأنست فحلال إجماعا، والنعامة: حيوان فيها من الطير، والبعير، وجمعها نعام، فحلال لقضاء الصحابة فيها بالفدية، ولأنها مستطابة، ليس لها ناب، أشبهت الإبل، والأرنب دويبة معروفة تشبه العناق، رجلاها أطول من يديها، قال النووي: أكلها حلال عند الأئمة الأربعة، والعلماء كافة، والضب حلال، أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) بفتح الزاي وضمها، وتشدد الفاء وتخفف: دابة تشبه البعير، إلا أن عنقها أطول من عنقه، وجسمها ألطف من جسمه، ويديها أطول من رجليها، فحلال نص عليه وعليه جماهير الأصحاب، وجزم به الموفق وصححه الشارح، لعموم النصوص المبيحة واستطابتها وليس لها ناب، ولا هي من المستخبثات، أشبهت الإبل.
(5) الوبر: قصير الذنب والأذنين، مباح لأنه يفدى في الإحرام، والحرم ومستطاب وهو كالأرنب، يأكل النبات والبقول، وليس له ناب، ولا هو من المستخبثات واليربوع قصير اليدين طويل الرجلين، نص عليه، لحكم عمر
فيه بجفرة ومستطاب أيضا، وفي الإنصاف: الصحيح من المذهب، أنهما مباحان وصححه في التصحيح.(7/428)
وكذا الطاووس، والببغاء (1) والزاغ، وغراب الزرع (2) لأن ذلك مستطاب (3) فيدخل في عموم قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (4) .
__________
(1) الطاووس: حسن الشكل قال في الإنصاف: لا أعلم فيه خلافا يتناول ما يأكل برجليه، كأكل الإنسان بيديه والببغاء بموحدتين مشدد طائر يسمى بالدرة، على قدر الحمامة، يتخذها الناس للانتفاع بصوتها، وأكثر ما تكون عند الملوك والرؤساء ترنم بما تسمع من الأخبار.
(2) وغراب البين، والزاغ، غراب نحو الحمامة أسود برأسه غبرة وغراب الزرع: أحمر المنقار والرجل، يأكل الزرع ويطير مع الزاغ، لأن مرعاهما الزرع والحبوب، ويقال: غراب الزرع والزاغ، شيء واحد، فهما مباحان، وهو المذهب وعليه الأصحاب.
(3) أي جميع ما ذكر، مما هو حلال على الأصل، حيث لم يرد تحريمه في الشرع، أو لم تستخبثه العرب، على المذهب وكالحمام بأنواعه من فواخت وقماري، وجوازل ورقطي، ودباس وحجل، وقطا وحباري، وكعصافير وقنابر، وكركي وبط، وأوز، وما أشبه ذلك، مما يلتقط الحب، أو يفدي في الإحرام، للعموم، واستطابة أكله ولأبي داود: أن سفينة أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم لحم حبارى، وكذا الغرانيق والطواويس، وطير الماء، كله، وأشباه ذلك، وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافا.
(4) وعموم {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا} ولمسلم، يقول الله كل ما منحته عبادي فهو لهم حلال.(7/429)
(ويباح حيوان البحر كله) (1) لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} (2) (إلا الضفدع) لأنها مستخبثة (3) (و) إلا (التمساح) لأنه ذو ناب يفترس به (4) (و) إلا (الحية) لأنها من المستخبثات (5) وتحرم الجلالة، التي أكثر علفها النجاسة (6) .
__________
(1) والمراد بالبحر جميع المياه، الحلوة والمالحة، والأنهار.
(2) وهو ما يصاد منه طريا، مما لا يعيش إلا في الماء، في جميع الأحوال، ولقوله صلى الله عليه وسلم أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان، فالجراد والحوت، وأما الدمان، فالطحال والكبد، ولقوله: لما سئل عن ماء البحر قال «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» .
(3) ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتلها، والتداوي بها، وفي الإنصاف: محرمة بلا خلاف أعلمه، ونص عليه أحمد.
(4) وهو حيوان، يكون في نيل مصر، وبعض أنهار البلاد الحارة، فليس مباحا، على الصحيح من المذهب، لأنه يأكل الناس.
(5) جزم به الموفق وغيره، وهو المذهب، وما عدا الضفدع، والتمساح والحية، من حيوان البحر، فمباح على الصحيح من المذهب، وأما الجري، فقال أحمد: أكره الجري، ورخص فيه مالك والشافعي، وأصحاب الرأي، وسائر أهل العلم.
(6) هذا المذهب وعليه الأصحاب، لما روى أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث ابن عمر «نهى عن أكل الجلالة وألبانها» ، ومن حديث عمرو بن شعيب نهى عن لحوم الحمر الأهلية، وعن ركوب الجلالة وأكل لحمها، وسواء في ذلك بهيمة الأنعام، أو الدجاج، ونحوه، مما يلتقط الحب.(7/430)
ولبنها وبيضها نجس (1) حتى تحبس ثلاثا وتطعم الطاهر فقط (2) ويكره أكل التراب، وفحم وطين (3) وغدة، وأذن قلب (4) .
__________
(1) هذا المذهب لما روى الترمذي وغيره، وصححه نهى عن شرب لبن الجلالة.
(2) نص عليه، لأن ابن عمر إذا أراد أكلها، حبسها ثلاثا، وأطعمها الطاهرات، وقال ابن القيم: أجمع المسلمون على أن الدابة، إذا علفت بالنجاسة ثم حبست، وعلفت بالطاهرات، حل لبنها ولحمها، وكذا الزرع والثمار إذا سقيت بالماء النجس، ثم سقيت بالطاهر حلت، لاستحالة وصف الخبث، وتبدله
بالطيب اهـ.
ولأن النجاسة تستحيل في بطنها، فتطهر بالاستحالة، كالدم يستحيل في أعضاء الحيوان لحما، ويصير لبنا، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي، يباح أكل لحم الجلالة، وشرب لبنها، وأكل بيضها، وإن لم تحبس مع استحبابهم حبسها، وكراهيتهم لأكلها بدون حبسها، وكذا عند الجميع، أكل الزرع والثمار، والبقول، إذاكان سقيها بالماء النجس.
وقال ابن عقيل: ليس بنجس، ولا محرم، بل يطهر بالاستحالة، كالدم يصير لبنا، وهو اختيار شيخ الإسلام، وكان سعد بن أبي وقاص يدمل أرضه بالعذرة، ويقول مكتل منها بمكتل بر.
(3) لأنه مضر بالبدن، ويكره أكل طين وهو: التراب المبلول بالماء، ولا يتداوى به لضرره بخلاف الأرمني للدواء، وأكل الطين عيب في المبيع، لأنه لا يطلبه إلا من به مرض.
(4) أي ويكره أكل غدة، وهي الصعارير في الغنم، التي كالشحم، وقال أبو الفرج: يحرم، وأذن القلب، وهي الزنمة في أعلاه.(7/431)
وبصل وثوم ونحوهما (1) ما لم ينضج بطبخ (2) لا لحم منتن، أو نيء (3) (ومن اضطر إلى محرم) بأن خاف التلف إن لم يأكله (غير السم حل له) (4) .
__________
(1) ككراث وفجل، قال الخلوتي: كدخان، ما لم يضر، فإن ضر حرم إجماعا، وقال بحرمته جماعة من أتباع الأئمة وأهل الطب.
(2) لتضعف أو تزول رائحته، وكرهه أحمد، لمكان الصلاة وقت الصلاة، وكذا كل ماله رائحة كريهة، لحديث «من أكل من هذه الشجرة، فلا يقربن مصلانا» .
(3) أي لا يكره أكل لحم منتن، لخبث رائحته، وقد يضر، ولا أكل لحم نيء لم يصل ولم يطبخ، وقيل: يكره، وذكره في الانتصار اتفاقا وفي الإنصاف: الكراهة في اللحم المنتن أشد، ونقل عن الأصحاب، يكره مداومة أكل اللحم.
(4) أي ومن اضطر إلى أكل محرم، كميتة، ولا نزاع في تحريم أكل الميتة والخنزير، بلا ضرورة، بأن خاف التلف إما من جوع، أو خاف إن ترك الأكل عجز عن المشي، وانقطع عن الرفقة فيهلك، أو يعجز عن الركوب، فيهلك إن لم يأكله، ولا يتقيد بزمن مخصوص، حل له الأكل، وقال الشيخ: المضطر يجب عليه أكل الميتة، في ظاهر مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، لا السؤال.
وقوله: غير السم، أي فلا يحل له أكله، وكذا نحو مما فيه مضرة، ويحرم الترياق، وهو دواء يعالج به من السمم، فيه لحوم الحيات، ويعجن بالخمر، والخالي منهما مباح، وكذا التداوي بمحرم، كألبان الأتان، ولحم شيء من المحرمات أو شرب مسكر، وتقدم.(7/432)
إن لم يكن في سفر محرم (1) (منه ما يسد رمقه) أي يمسك قوته، ويحفظها (2) لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} (3) وله التزود إن خاف (4) .
__________
(1) كقاطع طريق وآبق، أي: فلا يحل له أكل المحرم، كالميتة.
وقال الشيخ: ليس في الشرع ما يدل على أن العاصي في سفره لا يأكل الميتة، ولا يقصر ولا يفطر، بل نصوص الكتاب والسنة عامة، مطلقة، كما هو مذهب كثير من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر، وهو الصحيح.
(2) أي حل للمضطر من الميتة ونحوها من المحرم، غير نحو السم، ما يسد رمقه، ويأمن معه الموت، وهو إجماع، وضبطه بعضهم بالشين المعجمة أي يمسك قوته عليه ويحفظها، وفي الصحاح: بقية روحه، وعلم منه أنه ليس له الشبع، وقال الموفق وغيره: إن كانت الضرورة مستمرة، جاز الشبع، قال الشيخ: وليس له أن يعتقد تحريمها حينئذ ولا يكرهها.
(3) وقوله: {لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فسبب الإباحة حفظ النفس عن الهلاك، والباغي والعادي، قد قيل إنهما صفة للشخص مطلقا، وقد قيل: إنهما صفة لضرورته، فالباغي الذي يبغي المحرم، مع قدرته على الحلال، والعادي الذي يتجاوز قدر الحاجة كما قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} قال الشيخ: وهذا قول أكثر السلف، وهو الصواب بلا
ريب اهـ.
ودلت الآية على إباحة المحرمات، حال الإضطرار حضرا وسفرا، لأنها مطلقة غير مقيدة، ولأن الاضطرار يقع في الحضر والسفر فقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} لفظ عام في كل مضطر.
(4) أي التلف، وفي الترغيب، جوز جماعة التزود منه مطلقا، وصوبه في الإنصاف: وهو قول مالك، لما رواه أبو داود، أنه قال للذي سأله عن ناقة
نفقت وقالت امرأته: أسلخها، حتى نقد شحمها ولحمها، ونأكله هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا، قال: فكلوها، ولأنه لا ضرر في استصحابه، ولا في إعداده لدفع ضرورته.(7/433)
ويجب تقديم السؤال على أكله (1) ويتحرى في مذكاة اشتبهت بميتة (2) فإن لم يجد إلا طعام غيره، فإن كان ربه مضطرا، أو خائفا أن يضطر، فهو أحق به (3) وليس له إيثاره (4)
__________
(1) أي المحرم كميتة، نص عليه، وقال الشيخ: لا يجب، ولا يأثم، وأنه ظاهر المذهب اهـ وهو ظاهر كلام الموفق وجماعة.
(2) لأنه غاية مقدوره، حيث لم يجد غيرها، ويقدم ميتة مختلفا فيها، على مجمع عليها، وميتة وهو محرم على صيد حي، لا إن ذبحه محرم، وطعاما يجهل مالكه، على صيد حي، بشرط ضمانه، ويقدم ميتة على طعام لا يعرف مالكه، مع إمكان رده إليه بعينه، لأن أكل الميتة منصوص على إباحته، ومال الآدمي مجتهد فيه، فكان العدول إلى المنصوص أولى، قال الشيخ: أما إذا تعذر رده إلى مالكه، بحيث أنه يجب أن يصرف إلى الفقراء، كالغصوب، والأمانات التي لا يعرف مالكها، فإنه يقدم ذلك على الميتة.
(3) أي صاحب الطعام أحق بطعامه، بلا نزاع لمساواته الآخر في الاضطرار وانفراده بالملك أشبه غير حالة الاضطرار، وإن اشتدت المخمصة، في سنة المجاعة، وأصابت الضرورة خلقا كثيرا، وكان عند بعض الناس قدر كفايته، لم يلزمه بذل ما معه، للمضطرين لأن بذله يفضي إلى هلاك نفسه وعياله فلم يلزمه، كما لو أمكنه إنجاء الغريق بتغريق نفسه، اختاره الموفق وغيره.
(4) أي ليس لرب الطعام المضطر إليه، إيثار غيره به، لئلا يلقي بيده إلى التهلكة، وقال ابن القيم: يجوز، وأنه غاية الجود لقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ولقول جماعة من الصحابة، ولعله لعلمهم من أنفسهم حسن التوكل والصبر.(7/434)
وإلا لزمه بذل ما يسد رمقة فقط بقيمته (1) فإن أبى رب الطعام أخذه المضطر منه بالأسهل فالأسهل، ويعطيه عوضه (2) (ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينة) كثياب (لدفع برد (3) أو) حبل أو دلو (استقاء ماء ونحوه (4)
__________
(1) أي وإن لم يكن رب الطعام مضطرا، ولا خائفا أن يضطر، لزمه بذل ما يسد رمق المضطر فقط، بقيمة الطعام، نص عليه ولو لم يبذله ربه إلا باكثر من قيمته، لم يلزم المضطر إلا قيمته فقط، وقال الشيخ: وإن كان فقيرا، فلا يلزمه عوض، إذ إطعام الجائع، وكسوة العاري، فرض كفاية، ويصيران فرض عين على المعينن إذا لم يقم به غيره اهـ، وإن بادر رب الطعام فباعه، أو وهبه قبل الطلب صح، ويستحق المضطر أخذه من المشتري أو المتهب، وبعد الطلب لا يصح البيع قال في القواعد في الأظهر.
(2) أي فإن أبي رب الطعام بذله للمضطر بقيمته، أخذه المضطر من ربه بالأسهل فالأسهل كبشراء أو استرضاء، فإن أبى أخذه المضطر قهرا، ويعطيه عوضه يوم أخذه أو مثله فإن منعه فله قتاله، فإن قتل المضطر ضمنه رب الطعام، بخلاف عكسه وفي الإرشاد عن أحمد: لا يقاتله فإن الله سيرزقه، ومتى وجد مضطر من يطعمه ويسقيه، لم يبح له الامتناع، ولا العدول إلى الميتة، إلا أن يخاف أن يسم فيه، أو كان الطعام مما يضر أكله.
(3) أو حر، وكذا مقدحة ونحوها.
(4) كفأس وقدر، ومنخل، وإبرة، والجامع لذلك: المعاونة، بمال أو منفعة.(7/435)
وجب بذله له) أي لمن اضطر إليه (مجانا) مع عدم حاجته إليه (1) لأن الله تعالى ذم على منعه، بقوله: (ويمنعون الماعون) (2) وإن لم يجد المضطر إلا آدميا معصوما فليس له أكله (3) ولا أكل عضو من أعضاء نفسه (4) (ومن مر بثمر بستان في شجر (5) أو تساقط عنه (6) ولا حائط عليه) أي على البستان (7) .
__________
(1) على الصحيح من المذهب، وقيل يجب العوض كالأعيان.
(2) قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، الماعون هو: ما يتعاطاه الناس بينهم، ويتعاونونه من الفأس والقدر، والدلو وأشباه ذلك، وقال بعضهم الماعون المعروف، وفي الحديث: «كل معروف صدقة» وفيه أحاديث مرفوعة.
(3) مسلما كان أو ذميا أو مستأمنا، لأن المعصوم الحي مثل المضطر، فلا يجوز له إبقاء نفسه، بإتلاف غيره، وإن كان مباح الدم، كالحربي والمرتد، والزاني المحصن، والقاتل في المحاربة، حل للمضطر قتله وأكله لأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع، وكذا بعد موت المعصوم، عند أكثر الأصحاب وهو ظاهر إطلاقهم.
(4) واختار الموفق وغيره: له أكله، وفاقا للشافعي وذكره في الإنصاف: المذهب.
(5) أي فله الأكل منه، وظاهره: إن كان مجموعا فليس له الأكل منه، إلا أن يكون مضطرا كما صرح به.
(6) أي فله الأكل منه، نص عليه، واختاره الأكثر، وليس له رمية، كما يأتي.
(7) فإن كان ثم حائط، فليس له الأكل، ولا الدخول بلا إذن صاحبه.(7/436)
(ولا ناظر) أي حافظ له (1) (فله الأكل منه مجانا من غير حمل) (2) ولو بلا حاجة (3) روي عن عمر وابن عباس وأنس ابن مالك وغيرهم (4) وليس له صعود شجرة، ولا رمية بشيء (5) ولا الأكل من مجموع، إلا لضرورة (6) .
__________
(1) ويسمى الناطور، ويروى الناطر بالمهملة معرب، لأن إحرازه بذلك يدل على شح صاحبه.
(2) واستحب جماعة: أن ينادي قبل الأكل ثلاثا، يا صاحب البستان فإن أجابه وإلا أكل للخبر الآتي.
(3) هذا المذهب المشهور.
(4) وفعله عبد الرحمن بن سمرة، وأبو برزة، وروى أحمد وغيره إذا أتيت حائط بستان، فناد صاحب البستان، فإن أجابك، وإلا فكل، ومن حديث سمرة نحوه، وعنه: لا يحل له ذلك، إلا لحاجة وقال أكثر الفقهاء: لا يباح الأكل إلا لضرورة لما ثبت «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» ، وترك العمل به مع الحاجة، لما روى عمرو بن شعيب مروفعا، سئل عن الثمر المعلق، فقال: «ما أصاب منه من ذي الحاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن أخرج منه شيئا فعليه غرامة مثليه والعقوبة» حسنه الترمذي: ولأبي داود، من حديث العرباض «لا يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم» .
(5) ولا ضربة به، لأنه يفسده.
(6) أي وليس للمار، الأكل من ثمر مجموع، أي: مجني لإحرازه، إلا لضرورة بأن يكون مضطرا فيأكل للضرورة.(7/437)
وكذا زرع قائم (1) وشرب لبن ماشية (2) (وتجب) على المسلم (ضيافة المسلم، المجتاز به في القرى) دون الأمصار (3) (يوما وليلة) قدر كفايته مع آدم (4) .
__________
(1) كبر يؤكل فريكا عادة، لأن العادة جارية بأكله رطبا، أشبه الثمر.
(2) إذا لم يجد صاحبها فهي كالثمرة ولما روى الترمذي وصححه إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه وإن لم يجد أحدا فليحتلب وليشرب ولا يحمل، وحملوا قوله: «لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» ، على ما إذا كان عليها حائطا، أو حافظا، جمعا بين الأخبار، والأولى عدم الأكل، خروجا من خلاف أكثر العلماء، وحيث جوز الأكل ونحوه، فالأولى تركه إلا بإذن.
(3) أي ويجب على المسلم، فأخرج الذمي، لقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» فتجب عليه ضيافة المسلم وهذا المذهب، وعنه: هو كالمسلم، وقال ابن رجب: هو المنصوص فيجب لخبر ليلة الضيف حق واجب، فإن أصبح بفنائه فهو دين عليه، إن شاء اقتضى وإن شاء ترك رواه أبو داود وصححه الشارح.
المجتاز بالقرى: أخرج الحاضر، وعليه الأكثر والأمصار، على الصحيح من المذهب، عليه الأصحاب، لأنه يكون فيها السوق والمساجد، فلا يحتاج مع ذلك إلى الضيافة، بخلاف القرى، فإنه يبعد فيها البيع والشراء، فوجبت ضيافة المجتاز بها، وإيواؤه لوجوب حفظ النفس.
(4) على الصحيح من المذهب، وأوجب الشيخ: المعروف عادة وفي الواضح ولفرسه تبن لا شعير.(7/438)
لقوله عليه الصلاة والسلام «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه جائزته» قالوا: وما جائزته يا رسول الله قال: «يومه وليلته» متفق عليه (1) .
ويجب إنزاله ببيته مع عدم مسجد ونحوه (2) فإن أبى من نزل به الضيف فللضيف طلبه به عند حاكم (3) فإن أبى فله الأخذ من ماله بقدره (4) .
__________
(1) أي من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، الإيمان الكامل، فليكرم ضيفه، وهو القادم من السفر، النازل عند المقيم ويطلق على الواحد والجمع، والذكر والأنثى، وذكر أن جائزته: يومه وليلته، فدل الحديث على وجوبها، لتأكده بقوله: من كان يؤمن بالله ... إلى آخره، ثم علقه بإكرامه فدل مع غيره على لزومها وفيه: «والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة» أي معروف، إن شاء فعل، وإن شاء ترك، فقال: ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه، قال النووي: وهذامحمول على ما إذا أقام بعد الثلاثة من غير استدعائه.
(2) كخان ورباط، ينزل فيه لحاجته، إلى الإيواء، كالطعام الشراب.
(3) قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(4) لما في الصحيحين: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا وإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له، ولأحمد وأبي داود:
من نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه، فله أن يعقبهم بمثل قراه وعبارة المنتهي فإن تعذر، جاز له الأخذ من ماله يعني بقدر ما وجب له،
وقصة ضيف إبراهيم، وتقديمه العجل، يدل على أن من إكرام
الضيف، أن يقدم له أكثر مما يأكله وأن لا يوضع بموضع ثم يدعي إليه.
وتستحب الضيافة ثلاثا، وما زاد فصدقة لما تقدم، وللضيف الشرب من ماء رب البيت، والاتكاء على وسادته، وقضاء الحاجة بمرحاضه.
ومن امتنع من الطيبات فمبتدع لقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .(7/439)
...........................................................(7/440)
باب الزكاة (1)
يقال: ذكي الشاة ونحوها تذكية، أي: ذبحها (2) فهي ذبح (3) أو نحر الحيوان المأكول البري، بقطع حلقومه ومريئه (4) أو عقر ممتنع (5) و (لا يباح شيء، من الحيوان المقدور عليه، بغير ذكاة) (6) لأن غير المذكي ميتة (7) .
__________
(1) الذكاة تمام الشيء، ومنه الذكاة في السن، أي تمامه، وسمي الذبح ذكاة، لأنه إتمام الزهوق ومنه قوله: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} أي أدركتموه، وفيه حياة فأتممتموه، ثم استعمل في الذبح، سواء كان بعد جرح سابق، او ابتداء، والأصل في الذكاة: الكتاب والسنة والإجماع.
(2) والاسم الذكاة، فالمذبوح ذكي، فعيل بمعنى مفعول.
(3) أي فالذكاة شرعا، ذبح حيوان مقدور عليه، بقطع حلقوم ومرئ كما يأتي.
(4) الحلقوم: هو الحلقن وحلقمه: قطع حلقومه، والمريء مجرى الطعام والشارب، وهو رأس المعدة والكرش، اللاصق بالحقوم.
(5) بما يجرحه في أي موضع، من بدنه، بسهم أو غيره.
(6) أي ولا يباح شيء، من الحيوان المباح أكله، المقدور عليه، من بهيمة الأنعام، والصيد والطير، بغير ذكاة قال الوزير: في الحيوان البري، أجمعوا على أن ما أبيح أكله منه لا يستباح إلا بالذكاة.
(7) وأجمع أهل العلم على أن الميتة حرام، إلا المضطر كما تقدم.(7/441)
وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (1) (إلا الجراد والسمك (2) وكل ما لا يعيش إلا في الماء) فيحل بدون ذكاة لحل ميتته (3) لحديث ابن عمر يرفعه: «أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان الحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» رواه أحمد وغيره (4) وما يعيش في البر والبحر، كالسلحفاة وكلب الماء، لا يحل إلا بالذكاة (5) وحرم بلع سمك حيا (6) .
__________
(1) وهي ما مات حتف أنفه من الحيوان، من غير ذكاة ولا اصطياد لما فيها من المضرة اللاحقة للبدن والدين.
(2) فيحل بدون ذكاة، بالاتفاق، وكذا ما طفى منه على الماء عند الجمهور، صاده مجوسي أو غيره، وكذا دبا وجندب، فيحل بدون ذكاة، وسواء مات الجراد بسبب الجدب، أو كبسه أو تغريقه، وهو قول عامة أهل العلم.
(3) أي وإلا كل ما لا يعيش إلا في الماء، من حيوانات البحر، سواء صاده إنسان، أو نبذه البحر، أو جزر الماء عنه، أو حبس في الماء بحضيرة حتى يموت أو طفا على الماء.
(4) ولقوله صلى الله عليه وسلم في البحر «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» فتحل جميع حيتان البحر، بدون ذكاة بالاتفاق، وكذا ما طفى منه عند الجمهور.
(5) السلحفاة دابة برية وبحرية، لها أربع قوائم، والبحرية منها أعظم، وكلب الماء، ويقال كلب البحر، بينه وبين كلب البر بعض الشبه، وهو طويل الذنب قصير القوائم والأذنين أحمر، وكذا سرطان ونحوها، لا يحل إلا بالذكاة لانه لما كان يعيش في البر، ألحق بحيوان البر، احتياطا.
(6) وذكره ابن حزم إجماعا.(7/442)
وكره شبه حيا (1) لا جراد، لأنه لا دم له (2) (ويشترط للذكاة أربعة شروط) (3) :
أحدها (أهلية المذكي، بأن يكون عاقلا) (4) فلا يباح ما ذكاه مجنون، أو سكران أو طفل لم يميز لأنه لا يصح منه قصد التذكية (5) (مسلما) كان (أو كتابيا) أبواه كتابيان (6) .
__________
(1) أي شيء السمك حيا، لأن له دما، ولا حاجة إلى إلقائه في النار، لإمكان تركه حتى يموت، لأنه يموت بسرعة، ولا يكره أكله إذا ألقي في النار وإنما كره تعذيبه بالنار.
(2) أي لا يكره شيء جراد، وعلل بأنه لا دم له، ولأنه لا يموت في الحال، بل يبقى مدة طويلة، وأما تعذيبهما بالنار فلا يجوز، لخبر، لا يعذب بالنار إلا رب النار.
(3) سواء كانت نحرا، أو ذبحا أو عقرا.
(4) قال الوزير: أجمعوا على أن الذبائح المعتد بها، ذبيحة المسلم العاقل، والمسلمة العاقلة، القاصدين للتذكية، الذين يتأتى منهم الذبح، قال: اتفقوا على أن ذكاة المجنون وصيده، لا يستباح أكله.
(5) فقصد التذكية، وهو الشرط في الحقيقة، وكونه عاقلا شرط في وجوده ولا يعتبر في التذكية، قصد الأكل اكتفاء بنية التذكية، وتقدم قول الشيخ: لو لم يقصد الأكل، وقصد حل يمينه لم يبح، وكذا لو ضرب إنسانا بسيف، فقطع عنق شاة.
(6) قال الوزير: أجمعوا على أن ذبائح أهل الكتاب العقلاء، مباحة، معتد بها، اهـ وكون أبويه كتابين أو تغلبيين فقال الشيخ: كل من تدين
بدين أهل الكتاب، فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده، قد دخل في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله بعد النسخ والتبديل، أو قبل وهو المنصوص الصريح عن أحد، وإن كان بين أصحابه خلاف معروف، وهو الثابت عن الصحابة بلا نزاع بينهم، ذكر الطحاوي أنه إجماع قديم.(7/443)
لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) قال البخاري، قال ابن عباس: طعامهم ذبائحهم (2) (ولو) كان المذكي (مميزا) أو (مراهقا (3) أو امرأة أو أقلف) لم يختن (4) ولو بلا عذر (5) (أو أعمى) أو حائضا أو جنبا (6) .
__________
(1) أي ذبائح أهل الكتاب، من اليهودي والنصارى، حل لكم أيها المسلمون، وهذا بإجماع المسلمين أن ذبائحهم حلال للمسلمين، وذلك: لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، ولا يلزم منه إباحة كل ما لم يذكر اسم الله عليه، ولا ما ذبحوه لعيدهم، أو لشيء يعظمونه.
(2) وقال ابن مسعود: لا تأكلوا من الذبائح، إلا ما ذبح المسلمون وأهل الكتاب رواه سعيد.
(3) أي ولو كان المذكي، المسلم أو الكتابي، مميزا ولو دون عشر، لأن له قصدا صحيحا أو كان مراهقا، أي مقاربا الحلم.
(4) أي: ولو كان المذكي امرأة مسلمة كانت أو كتابية، أو كان أقلف لم يختن، لأنه مسلم أشبه سائر المسلمين، وكذا إن كان كتابيا.
(5) أي ولو كان المذكي ممن تقدم ذكرهم بلا عذر، كعدم بالغ أو امتناعه.
(6) عدلا أو فاسقا، لعموم الأدلة وعدم المخصص.(7/444)
(ولا تباح ذكاة سكران ومجنون) لما تقدم (1) (و) لا ذكاة (وثني ومجوسي ومرتد) (2) لمفهوم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) الشرط (الثاني الآلة (4) فتباح الذكاة بكل محدد) ينهر الدم بحده (5) (ولو) كان (مغصوبا من حديد وحجر وقصب وغيره) (6) كخشب له حد، وذهب وفضة وعظم (7) .
__________
(1) أي: لأنه لا يصح منه قصد التذكية، وهو الشرط في الحقيقة.
(2) وكذا زنديق ودرزي، وتيامني، وقرمطي، ونصيري، وإسماعيلي، قال الوزير: أجمعوا على أن ذبائح الكفار، من غير أهل الكتاب غير مباحة.
(3) فمفهومه: تحريم طعام غيرهم من الكفار، ويؤكل طعامهم، غير اللحم والشحم، وسائر أجزاء ذبائحهم، لأنها وسائر أجزائها ميتة.
(4) وهي ما اعتمل به من أداة.
(5) يقطع أو يخرق، لا بثقله ولا بعرضه.
(6) لحديث كعب بن مالك، قال: فكسرت يعني الجارية حجرا فذبحتها به، فأمر صلى الله عليه وسلم بأكلها، رواه البخاري، لأن المقصود إنهار الدم، وقد وجد، وسواء كان المغصوب لربه أو لغيره، سهوا أو عمدا، طوعا أو كرها، وقال العمروي المالكي، بندق، الرصاص أقوى من كل محدد، يحل به الصيد,.
(7) قال الوزير: أجمعوا على أن الذكاة تصح بكل ما ينهر الدم، ويحصل به القطع جرحا، كالمحدد من السيف، والسكين والرمح، والخشية والزجاج، والحجر، والقصب الذي له حد، كصنع المحدود اهـ وأما العظم فعنه: لا يباح الذبح به، وهو اختيار ابن القيم وغيره.(7/445)
(إلا السن والظفر) (1) لقوله عليه الصلاة والسلام «ما أنهر الدم فكل (2) ليس السن والظفر» متفق عليه (3) الشرط (الثالث قطع الحلقوم) وهو مجرى النفس (4) .
(و) قطع (المريء) بالمد، وهو: مجرى الطعام والشراب (5) ولا يشترط إبانتهما (6) ولا قطع الودجين (7) .
__________
(1) فلا تباح الذكاة بهما، وهو مذهب جمهور العلماء، وقال الوزير: اتفقوا على أن الذكاة، بالسن والظفر المتصلين، لا يجوز، وقال مالك والشافعي، وأحمد: والمنفصلين لا يجوز أيضا.
(2) أي أساله وصبه بكثرة فيباح أكله.
(3) قال ابن القيم: هذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام، إما لنجاسة بعضها، أو لتنجيسها على مؤمني الجن، وتمامه وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، أي ذلك عظم، فلا يحل الذبح به، وأما الظفر فمدى الحبشة، أي فسكين الحبشة، فلا يحل الذبح به.
(4) قال الشيخ: سواء كان القطع فوق الغلصمة، وهي الموضع الثاني من الحلق أو كان القطع دون الغلصمة، وهي اللحم بين الرأس والعنق، أو العجرة على ملتقى اللهاة والمريء، أو رأس الحلقوم بشواربه وحرقدته.
(5) عرق أحمر، تحت الحلقوم، ويسمى البلعوم، قال عمر: النحر في اللبة والحلق لمن قدر، واحتج به أحمد، وللدارقطني مرفوعا ألا إن الذكاة في الحلق واللبة.
(6) أي الحلقوم والمريء وإبانتهما أكمل، خروجا من الخلاف.
(7) أي: ولا يشترط قطع الودجين وهما الوريدان قال الشيخ:
وتقطع الحلقوم والمريء والودجان، والأقوى أن قطع ثلاثة من الأربع يبيح سواء كان فيهما الحلقوم، أو لم يكن، فإن قطع الودحين أبلغ من قطع الحلقوم وأبلغ من إنهار الدم.(7/446)
ولا يضر رفع يد الذابح، إن أتم الذكاة على الفور (1) والسنة نحر إبل، بطعن بمحدد، في لبتها (2) وذبح غيرها (3) (فإن أبان الرأس بالذبح لم يحرم المذبوح (4) وذكاة ما عجز عنه، من الصيد والنعم، المتوحشة (5) و) النعم (الواقعة في بئر ونحوها (6) بجرحه، في أي موضع كان من بدنه) (7) .
__________
(1) يعني: ولو كان رفع يده قبل الإتمام، واعتبر في الترغيب قطعا تاما وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر.
(2) وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر.
(3) أي غير الإبل، لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وثبت أنه صلى الله عليه وسلمضحى بكبشين ذبحهما بيده، من عكس أجزأ تقدم واختص الذبح بالمحل المذكور، لكونه مجمع العروق، فتخرج بالذبح فيه الدماء السيالة، ويسرع زهوق الروح فيكون أطيب للحم، وأخف على الحيوان وقد قال صلى الله عليه وسلم «إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» الحديث.
(4) لما يأتي وروي عن علي وعمران بن حصينن ولا مخالف لهما.
(5) بجرحه في أي موضع من بدنه، هذا مذهب الجمهور.
(6) كنهر وبركة، سواء كانت النعم من إبل أو بقر، أو غنم أو حمار وحش ونحو ذلك.
(7) بأن يطعن في سنامه، أو عقره، فتنتقل ذكاته من الذبح والنحر، إلى العقر.(7/447)
روي عن علي وابن مسعود، وابن عمر وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم (1) (إلا أن يكون رأسه، في الماء ونحوه) مما يقتله لو انفرد (فلا يباح) أكله لحصول قتله بمبيح وحاظر، فغلب جانب الحظر (2) وما ذبح من قفاه ولو عمدا، إن أتت الآلة على محل ذبحه، وفيه حياة مستقرة، حل (3) وإلا فلا (4) ولو أبان رأسه، حل مطلقا (5) .
__________
(1) وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وجماهير العلماء، وقول مالك، لا يجوز إلا أن يذكي، قال أحمد، لعله لم يسمع حديث رافع، ولفظه «ند بعير، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه، فقال صلى الله عليه وسلم ما ند عليكم فاصنعوا به هكذا» متفق عليه.
(2) كما لو ذبحه مسلم، ومجوسي أو وثني أو جرحاه.
(3) أي: ما أتت الآلة على محل ذبحه وفيه حياة مستقرة، وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك، وقال أبو حنيفة: متى أدركت ذكاتها قبل أن تموت حلت.
(4) أي وإلا تأت الآلة على محل الذبح، وفيه حياة مستقرة، فلا يحل، وتعتبر بالحركة القوية، وقال الشيخ: إن خرج منه دم، كعادة المذبوح حل.
(5) أي سواء كان مبدأ القطع، من جهة وجهه أو قفاه، أو غيرهما، مريدا تذكيته وسواء أبانه بسكين، أو بسيف يريد به الذبيحة أبيحت، وأفتى به علي وعمران بن حصين، ولا مخالف لهما، ولأنه قطع ما لا يعيش معه، في محل الذبح، فحل.(7/448)
والنطيحة ونحوها (1) إن ذكاها، وحياتها تمكن زيادتها على حركة مذبوح، حلت (2) والاحتياط مع تحرك، ولو بيد أو رجل (3) وما قطع حلقومه، أو أبينت حشوته، فوجد حياته كعدمها (4)
__________
(1) أي من حيوان مأكول، كالمنخنقة والموقوذة، والمتردية، أكيلة سبع، والمريضة، ما صيد بشبكة، أو شرك أو أحبولة، أو فخ، أو أنقذه من مهلكة.
(2) واختار الموفق بأن تعيش زمنا يكون موتها بالذبح أسرع منه، أو أن تحرك المريضة ويسيل دمها، اهـ ومفهومه، إن لم تمكن زيادتها على حركة مذبوح بطول المدة، فلا وقال الشيخ: لما ذكر شروطهم الأظهر: أنه لا يشترط شيء من هذه الأقوال، بل متى ذبح فخرج الدم الأحمر، الذي يخرج من المذكي في العادة، ليس هو دم الميت، فإنه يحل أكله، وإن لم يتحرك في أظهر قولي العلماء، وفي المنتهى وشرحه: حل أكله ولو مع عدم تحركه بيد، أو رجل أو طرف عين، أو مصع ذهب، ونحو ذلك في الأصح.
(3) أو طرف عين، أو مصع ذنب، ونحو ذلك.
(4) أي: وما قطع حلقومه، من حيوان مباح، قبل تذكيته، أو أبينت حشوته، أي أزيلت وليس المراد ظهرت، فوجود حياته كعدمها، فلا يحل بذكاة، وكذا نحو ذلك، مما لا تبقى معه حياة، وما ذبح فغرق، أو تردى من علو، أو وطئ عليه، بثقيل يقتل مثله، فقال الموفق وغيره: يحل، وهو رواية عن أحمد، قال في الفروع: اختارها الأكثر، وصوبه الزركشي، وفي المنتهى وغيره: هو قول الفقهاء.(7/449)
الشرط الرابع: أن يقول الذابح (عند) حركة يده بـ (الذبح بسم الله) (1) لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (2) و (لا يجزئه غيرها) (3) كقوله: باسم الخالق، ونحوه (4) لأن إطلاق التسمية، ينصرف إلى بسم الله (5) وتجزئ بغير عربية ولو أحسنها (6) .
__________
(1) وذكر جماعة: وعند الذبح قريبا منه، ولو فصل بكلام كالتسمية على الوضوء وكذا عند النحر، أو العقر.
(2) أي خبيث حرام، قال ابن القيم: ولا ريب أن ذكر اسم الله على الذبيحة يطيبها، ويطرد الشيطان عن الذابح والمذبوح، فإذا أخل به، لا بس الشيطان الذابح والمذبوح، فأثر خبثا في الحيوان، وكان صلى الله عليه وسلم إذا ذبح سمى فدلت الآية، أن الذبيحة لا تحل، إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلما، وهو رواية عن مالك، وقيل: مستحبة، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وجماعة السلف الخلف، سقوط التسمية سهوا لا عمدا.
(3) أي ولا يجزئ الذابح، غير قول بسم الله.
(4) كالرازق وكالتسبيح، ونحوه.
(5) كقوله {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} وقوله صلى الله عليه وسلم «يا غلام سم الله» وغيرهما يطلق على قول «بسم الله» شرعا وعرفا.
(6) أي: ولو أحسن التسمية بالعربية، لأن المقصود ذكر الله، قد حصل، بخلاف التكبير والسلام، فإن المقصود لفظه، ويجزئ أن يشير أخرس بالتسمية برأسه، أو طرفه إلى السماء، وقال ابن المنذر، أجمع كل من نحفظ عنه، على إباحة ذبيحة الأخرس.(7/450)
(فإن تركها) أي التسمية (سهوا أبيحت) الذبيحة لقوله عليه الصلاة والسلام: «ذبيحة المسلم حلال، وإن لم يسم إذا لم يتعمد» رواه سعيد (1) (لا) إن ترك التسمية (عمدا) (2) ولو جهلا فلا تحل الذبيحة، لما تقدم (3) ومن بداله ذبح غير ما سمى عليه، أعاد التسمية (4) ويسن مع التسمية التكبير، لا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (5) .
__________
(1) فدل الحديث على حل الذبيحة، إذا نسي اسم الله عليها.
(2) أي فلا تحل الذبيحة لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} ولهذا الخبر.
(3) أي لمن ترك التسمية جهلا، هذا المذهب، عند بعض الأصحاب، وجاء خبر: «إن قوما يأتوننا باللحمان فلا ندري أذكروا اسم الله عليه أولا، فقال صلى الله عليه وسلم سموا أنتم وكلوا» ، قالت عائشة: وكانوا حديثي عهد بكفر.
وهذا والله أعلم ما لم يعلم عنهم، أنهم لا يذكرون اسم الله عند الذبح.
(4) بأن سمى على شاة مثلا ثم أراد ذبح غيرها، أعاد التسمية، سواء ذبح الأولى أو أرسلها، لأنه لم يقصد الثانية بتلك التسمية، فإن ذبحها بتلك التسمية عمدا، لم تبح وكذا لو رأى قطيعا فسمى، وأخذ شاة فذبحها، لم تبح، لأنه لا يقصدها بتلك التسمية.
(5) أي: ويسن مع قول: «بسم الله» قول «والله أكبر» لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح، قال: بسم الله والله أكبر، ولا خلاف في أن قول «بسم الله» يجزئه ولا تسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع التسمية على الذبيحة، لعدم ورودها، ولأنها لا تناسب المقام، كزيادة الرحمن الرحيم.(7/451)
ومن ذكر مع اسم الله اسم غيره، حرم ولم يحل المذبوح (1) (ويكره أن يذبح بآلة كالة) (2) لحديث: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة (3) وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة (4) وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» رواه الشافعي وغيره (5) .
(و) يكره أيضًا (أن يحدها الحيوان يبصره) (6) لقوله ابن عمر «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم» رواه أحمد وغيره (7) (و) يكره أيضا (أن يوجهه) أي الحيوان (إلى غير القبلة) (8) .
__________
(1) ولو كان الذابح كتابيا.
(2) لئلا يعذب الحيوان.
(3) بكسر القاف.
(4) قال الشيخ: وفي هذا دليل على أن الإحسان واجب على كل حال، حتى في إزهاق النفس، ناطقها وبهيمها، فعلى الإنسان أن يحسن القتلة، للآدميين، والذبحة للبهائم.
(5) بآلة غير كالة، ويحدها كما يأتي، ويسرع إزهاقها لإراحتها.
(6) أو يذبح شاة، وأخرى تنظر إليه.
(7) فرواه ابن ماجه، فدل على مشروعية حد الشفرة، لإراحة البهيمة، وأن توارى حال حدها عن البهائم.
(8) كالأذان لأنه قد يكون قربة، وكالأضحية.(7/452)
لأن السنة توجيهه إلى القبلة، على شقه الأيسر (1) والرفق به (2) والحمل على الآلة بقوة (3) .
(و) يكره أيضا (أن يكسر عنقه) أي عنق ما ذبح (4) (أو يسلخه قبل أن يبرد) أي قبل زهوق نفسه (5) لحديث أبي هريرة: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل بن ورقاء الخزاعي، على جمل أورق، يصيح في فجاج منى بكلمات، منها، لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق» رواه الدارقطني (6) .
وإن ذبح كتابي ما يحرم عليه، حل لنا، إن ذكر اسم الله عليه (7) .
__________
(1) لأنه صلى الله عليه وسلم لما ضحى، وجه أضحيته إلى القبلة، وقال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. وكونه على شقه الأيسر، ليتمكن من الذبح بيمناه، ويمسك رأسه بيسراه.
(2) لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة.
(3) وإسراع القطع، لإسراع زهوق النفس.
(4) حتى تزهق نفسه، للخبر الآتي وكسر العنق تعذيب، واستعجال قبل أن يبرد.
(5) ولا خلاف في ذلك، لما فيه من تعذيب الحيوان، قبل تكامل خروج نفسه.
(6) أي لا تشرعوا في شيء من الأعمال، المتعلقة بالذبيحة، قبل أن تموت، فإن فعل، بأن كسر عنقه، أو سلخه قبل أن يبرد أساء، وأكلت لأن الذكاة تمت بالذبح، وما بعده غير معتبر.
(7) أي وإن ذبح يهودي، أو نصراني، حيوانا يحرم عليه أكله كذي
الظفر، ومنفرج الأصابع، والبط والنعام، وما ليس بمشقوق الأصابع، حل لنا معشر المسلمين أكله، إن ذكر اسم الله عليه، ومفهومه: ولو ذبح لعيده، أو ليقربه إلى شيء يعظمه، لم يحرم علينا، إذا ذكر اسم الله عليه فقط، قال في الإنصاف: هذا المذهب.
وعنه: يحرم اختاره الشيخ: وقال ابن عقيل: يكون ميتة، لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} وقال ابن حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: لا يؤكل ما ذبح لأعيادهم وكنائسهم لأنه أهل به لغير الله، قال الشيخ: هذا أشهر نصوص أحمد، إذا نوى بها التقرب إلى غير الله، وإن سمى الله عليها.(7/453)
وذكاة جنين مباح بذكاة أمه، إن خرج ميتا (1) أو متحركا كمذبوح (2) .
__________
(1) أي: ذكاة الأم ذكاة للجنين، إن خرج ميتا، فإنه جزء من أجزائها والذكاة قد أتت على جميع أجزائها.
(2) أي أو خرج الجنين متحركا، كحركة مذبوح، حل؛ وحكى الوزير وغيره: الاتفاق على أن الجنين إن خرج ميتا فذكاته بذكاة أمه، وكذغإن خرج متحركا كحركة مذبوح، إذ له حكم الميت، وقد اتفق النص، وهو: قوله صلى الله عليه وسلم ذكاة الجنين ذكاة أمه رواه الخمسة والأصل والقياس، والاتفاق؛ إلا ما روي عن أبي حنيفة، واتفقوا على أنه خرج حيا يعيش مثله، لم يبح إلا بالذبح.(7/454)
باب الصيد (1)
وهو: اقتناص حيوان حلال (2) متوحش طبعا (3) غير مقدور عليه (4) ويطلق على المصيد (5) و (لا يحل المصيد المقتول في الاصطياد، إلا بأربعة شروط، أحدها: أن يكون الصائد من أهل الذكاة) (6) .
__________
(1) والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع، واتفقوا على أن قوله {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} أمر إباحة لا أمر وجوب.
(2) أي الصيد بالمعنى المصدري، وإلا فهو في الأصل: مصدر صاد بصيد صيدا فهو صائد، ثم أطلق بمعنى المفعول، يعني اقتناص المصيد، تسمية للمفعول بالمصدر.
(3) فاقتناص نحو ماند، من إبل وبقر، وما تأهل من نحو غزلان، أو ملك منها ليس صيدا.
(4) بدون اقتناص كمتأهل.
(5) فالمصيد: حيوان مقتنص حلال، متوحش طبعا، غير مملوك ولا مقدور عليه فخرج الحرام كالذئب والإنسي كالإبل ولو توحشت والمملوك والمقدور عليه، لكسر شيء منه ونحوه.
(6) أي ممن تحل ذبيحته، لقوله صلى الله عليه وسلم فإن أخذ الكلب ذكاة، متفق عليه، والصائد بمنزلة المذكي، فيشترط فيه الأهلية، إلا ما لا يفتقر إلى ذكاة، كحوت وجراد، فيباح إذا صاده من لا تحل ذبيحته.(7/455)
فلا يحل صيد مجوسي، أو وثني نحوه (1) وكذا ما شارك فيه (2) الشرط (الثاني الآلة (3) وهي نوعان) أحدهما (محدد (4) يشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح (5) و) يشترط فيه أيضا (أن يجرح) الصيد (فإن قتله بثقله لم يبح) (6) لمفهوم قوله عليه الصلاة والسلام «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل» (7) .
__________
(1) كدرزي أو متولد بينه وبين كتابي، كولد مجوسية من كتابي.
(2) أي نحو مجوسي: كتابيا في قتل الصيد، سواء وقع سهمهما فيه، دفعة واحدة، أو وقع فيه سهم أحدهما قبل الآخر، لقوله «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن وجدت معه غيره فلا تأكل، فإنك إن سميت على كلبك ولم تسم على غيره» متفق عليه، ولأنه اجتمع في قتله مبيح ومحرم، فغلب جانبا الحظر وإن كان أصابه سهم من كان من أهل الذكاة دون الآخر، فالحكم له وبالعكس.
(3) أي التي يقتل بها الصيد.
(4) ينهر الدم بحده.
(5) لأن جرحه قائم مقام ذكاته، فاعتبر له ما يعتبر في آلة الذكاة، وهي أن يكون بمحدد غير السن والظفر.
(6) كشبكة وفخ وعصى، وحجر لا حد له، وإن كان له حد فكمعراض إن قتله بحده حل، وإن قتله بعرضه لم يحل، والمعراض: يشبه السهم، بحذف به الصيد، فإن قتل بحده، بأن خرق وقتل حل، بلا نزاع للخبر، وربما أصاب بعرضه فوقيذ وفاقا.
(7) فدل على أن ما ليس بمحدد، لا يحل ما قتل، سواء كان بعرضه أو ثقله.(7/456)
(وما ليس بمحدد، كالبندق (1) والعصا والشبكة (2) والفخ لا يحل ما قتل به) ولو مع قطع حلقوم، ومريء، لما تقدم (3) وإن أدركه وفيه حياة مستقرة، فذكاه حل (4) وإن رمى صيدا بالهواء، أو على شجرة فسقط فمات، حل (5) .
__________
(1) وهو ما يرمي به، وقيل: من الرصاص وهو المعروف الآن، وفي شرح الغاية؛: وهو حصى صغار، يرمى به، وكان فيما سبق حصى صغار يرمى به من القوس، أي فلا يحل ما قتل به، وأما بندق الرصاص، فقال بعض المالكية هو أقوى من كل محدد، فيحل به الصيد، وقال عبد القادر:
وما ببندق الرصاص صيدا ... ... جواز أكله قد استفيدا
أفتى به والدنا الأواه ... ... وانعقد الإجماع من فتواه.
(2) وهي شركة الصياد، فلا يحل ما قتل به.
(3) من أنه لا بد أن يكون بمحدد، يجرح الصيد، والفخ آلة يصاد بها، غير محدد يجرح وإنما يقتل بثقله.
(4) لحصول إزهاقه بالذبح، وإن أدركه وإنما فيه حركة كحركة مذبوح حل، ولم يحتج إلى ذكاة، وكذا إن كان فيه حياة مستقرة، فوق حركة المذبوح ولكن لم يتسع الوقت لتذكيته حل، فعند الجمهور، مالك والشافعي، وأحمد وغيرهم أنه إذا لم يقدر على ذبحه، من غير تفريط، حتى مات، أبيح أكله على الإطلاق، وإن اتسع الوقت لتذكيته لم يبح إلا بها، لأنه حيوان لا يباح بغير التذكية.
(5) وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي، لأن سقوطه بالإصابة، وزهوق روحه بالرمي، لا بالوقوع، وإن غاب ما عقره، أو أصيب يقينا ولو ليلا، ثم وجده، ولو بعد يوم ميتا حل لقوله «وإن تغيب عنك ما لم تجد فيه غير سهمك» رواه أبو داود.(7/457)
وإن وقع في ماء ونحوه لم يحل (1) (والنوع الثاني: الجارحة (2) فيباح ما قتلته) الجارحة (إن كانت معلمة) (3) سواء كانت مما يصيد بمخلبه من الطير (4) أو بنابه من الفهود والكلاب (5) .
__________
(1) أي: وإن وقع الصيد المرمى في الهواء، في ماء، أو وقع المرمي على شجرة في ماء، أو على ما يقتله مثله أو تردى من جبل، أو تردى ترديا يقتله مثله، لم يحل أكله، وحكاه الوزير إجماعا، لجواز أن يكون نحو الماء أو الجبل، هو الذي قتله وإن وقع في ماء ورأسه خارجه، أو كان من طير الماء، أو كان التردي لا يقتل مثل ذلك الحيوان، حل قال في المبدع: لا خلاف في إباحته، لأن التردي والوقوع إنما حرم خشية أن يكون قاتلا، أو معينا على القتل وهذا منتف هنا.
(2) أي والنوع الثاني من نوعي الآلة الجارحة، أي المفترسة، من السباع والطير.
(3) للصيد قال الوزير: اتفقوا على أنه يجوز الاصطياد بالجوارح المعلمة، إلا الأسود البهيم، هذا المذهب، والجمهور أبو حنيفة ومالك والشافعي، على جازه لإطلاق الشارع.
(4) أي سواء كانت الجارحة المعلمة، مما يصيد بمخلبه، أي ظفره، من الطير، كالبازي والصقر، والعقاب والشاهين، ونحوها.
(5) أي: أو سواء كان مما يصيد بنابه، من الفهود جمع فهد، وهو نوع من السباع، بين الكلب والنمر، قوائمه أطول من قوائم النمر، وهو منقط بنقط سود لا يتكون منها حلق كالنمر، أو من الكلاب، وهي أقبل للتأديب، وكلما أمكن الاصطياد به.(7/458)
لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ (1) تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} (2) إلا الكلب الأسود البهيم، فيحرم صيده (3) واقتناؤه ويباح قتله (4) .
__________
(1) أي وأحل لكم صيد {مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} وهن الكلاب المعلمة، والبازي وكل طير يعلم للصيد، والجارح هي الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها والمراد الكواسب من سباع البهائم، والطير، مكلبين أي: في حال تكليبكم هذه الجوارح، أي إغرائكم إياها على الصيد بها.
(2) أي تؤد بونهن آداب أخذ الصيد، من العلم الذي علمكم الله، وذلك أنه إذا أرسله استرسل، وإذا أشلاه استشلى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه، حتى يجيء إليه، ولا يمسكه لنفسه، ثم قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ} وتقدم.
(3) لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتله، وقال: «إنه شيطان» ، رواه مسلم قال الموفق: وأباح صيده مالك والشافعي، وأبو حنيفة لعموم الآية والخبر، والقياس على غيره من الكلاب فالله أعلم.
(4) أي ويحرم اقتناء الكلب الأسود البهيم، قولا واحدا، وتعليمه الصيد للأمر بقتله، وعبارة الإقناع، ويسن قتله، للأمر به، وعبارة المنتهى، يباح؛ وروي عنه لا بأس به، وكان الأمر بقتله الابتداء، قال النووي: وهو الآن منسوخ؛ وقال أبو المعالي: الأمر بقتل الكلاب منسوخ؛ وصح أنه أمر به ثم نهى عنه، واستقر الشرع على التفصيل، مثل أن كان عقورا، ويجب قتل كل عقور.
وقال غير واحد: اتفقوا على أنه يحرم اقتناء الكلب لغير حاجة، مثل أن يقتني كلبا إعجابا بصورته، أو للمفاخرة به، فهذا حرام بلا خلاف، والترخيص لثلاثة الزرع, والماشية والصيد، وهذا جائز بلا خلاف.(7/459)
وتعليم نحو كلب وفهد: أن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر (1) وإذا أمسك لم يأكل (2) وتعليم نحو صقر (3) أن يسترسل إذا أرسل ويرجع إذا دعي، لا بترك أكله (4) الشرط (الثالث: إرسال الآلة قاصدا) للصيد (5) .
__________
(1) لا في حال مشاهدته الصيد.
(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أنما أمسك على نفسه» متفق عليه؛ وقال الموفق: لا أحسب هذه الخصال تعتبر في غير الكلب، والفهد لا يجيب داعيا، وإن عد متعلما، فيكون التعليم في حقه بترك الأكل خاصة أو بما يعده أهل العرف متعلما.
وقال الشيخ: التحقيق أن المرجع في تعليم الفهد إلى أهل الخبرة، فإن قالوا إنه من جنس تعليم الصقر بالأكل ألحق به، وإن قالوا: إنه يعلم بترك الأكل كالكلب، ألحق به، وإذا كان الكلب بعد تعلمه، لم يحرم ما تقدم من صيده، ولم يبح ما أكل منه.
(3) وعقاب وشاهين، وباشق.
(4) أي: فاشتراط ترك الأكل في الكلب خاصة، وقال الوزير: اتفقوا على أن من شرط تعليم سباع البهائم، إذا أرسله استرسل، وإذا زجره انزجر، واشترط الجمهور، أبو حنيفة والشافعي وأحمد ترك الأكل، ولم يشترطه مالك، واتفقوا على أن سائر الجوارح سوى الكلب، لا يعتبر في حد تعليمه ترك الأكل مما صاده، وإنما تعليمه هو: أن يرجع إلى صاحبه إذا دعاه.
(5) وفاقا، فلو سقط السيف من يده، فعقر الصيد، لم يحل، لأن قصده شرط في إباحته.(7/460)
(فإن استرسل الكلب، أو غيره بنفسه لم يبح) ما صاده (1) (إلا أن يزجره فيزيد في عدوه بطلبه، فيحل) الصيد (2) لأن زجره أثر في عدوه، فصار كما لو أرسله (3) ومن رمى صيدا فأصاب غيره
حل (4) الشرط (الرابع: التسمية عند إرسال السهم أو) إرسال (الجارحة (5)
__________
(1) لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل» ، متفق عليه، فدل على أن إرسال الجارحة بمنزلة الذبح، وإن زجره ولم يزد عدوه لم يحل، لأن الزجر لم يزد شيئا عن استرسال الجارح بنفسه.
(2) أو زجره ولم يقف، لكنه زاد في عدوه باشلائه فيحل الصيد.
(3) لأن فعل الآدمي إذا انضاف إلى فعل البهيمة، كان الاعتبار بفعل الآدمي.
(4) أو رمى صيدا فقتل جماعة، حل الجميع قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه، وكذا إذا أرسل كلبه على صيد فصاد غيره، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي: أو وقع سهمه في حجر، فرده على الصيد فقتله، حل وإن قصد صيدا بعينه فرماه بسهم فأصابه فاتفقوا على أنه يحل، وإن أرسل كلبه، أو سهمه إلى هدف فقتل صيدا، أو رمى حجرا ونحوه، يظنه صيدا أو بهيمة، فأصاب صيدا لم يحل لما تقدم من أن قصد الصيد شرط في إباحته.
ووعد الشارح في باب الآنية، بذكر الطريدة، في الصيد وأنسيها، وهي: الصيد يقع بين قوم، لا يقدرون على ذكاته، ويقطع كل واحد منه حتى يؤتى عليه وهو حي، قال الحسن: لا بأس بالطريدة، كان المسلمون يفعلون ذلك في مغازيهم واستحسنه أحمد، وكذا الناد، من إبل ونحوها، توحشت ولم يقدر على تذكيتها.
(5) وهو مذهب الجمهور لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} .
وللأخبار لأن إرسال الآلة من نحو سهم، أو معراض، وكذا نصب نحو منجل وإرسال الجارحة، هو الفعل الموجود من المرسل، فاعتبرت التسمية عنده كما اعتبرت عند الذبح، لكن لا بد من إشارة أخرس لقيامها مقام نطقه وتصح التسمية ولو بغير العربية.(7/461)
فإن تركها) أي التسمية (عمدا أو سهوا لم يبح) الصيد (1) لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل» متفق عليه (2) .
ولا يضر إن تقدمت لتسمية بيسير (3) وكذا إن تأخرت بكثير، في جارح، إذا زجره فانزجر (4) ولو سمى على صيد فأصاب غيره حل (5) لا على سهم ألقاه ورمى بغيره (6) بخلاف ما لو سمى على سكين ثم ألقهاها وذبح بغيرها (7) .
__________
(1) وكذا جهلا، فلا تسقط بحال، بخلاف الذكاة، فإن التسمية تسقط فيها سهوا، والفرق بينهما: كثرة الوقوع وتكرره، بخلاف الصيد.
(2) فمفهومه: إذا لم تذكر اسم الله عليه فلا تأكل.
(3) أي ولا يضر تقديم التسمية عند إرسال السهم، أو الجارحة بزمن يسير عرفا، كالعبادات، وكذا لو تأخرت بزمن يسير عرفا.
(4) عند التسمية إقامة لذلك مقام ابتداء إرساله.
(5) أي المصاب ولو كانت التسمية على غيره.
(6) فلا يحل المصيد، لأنه لما لم يمكن اعتبار التسمية على صيد بعينه، اعتبرت على آلته.
(7) فيحل لأن التسمية في جانب الصيد واقعة على السهم، لا على الصيد
لعدم حضوره بين يديه، بل قد لا يصاب وفي جانب الذكاة، التسمية واقعة على الذبيحة نفسها، لا على السكين فلا يضر الذبح بغيرها.(7/462)
(ويسن أن يقول معها) أي مع باسم الله (الله أكبر كـ) ما في (الذكاة) (1) لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح يقول «بسم الله والله أكبر» وكان ابن عمر يقوله (2) ويكره الصيد للهو (3) وهو أفضل مأكول (4) والزراعة أفضل مكتسب (5) .
__________
(1) أي كما يسن مع التسمية عند الذكاة قول الله أكبر.
(2) أي ويسن أن يقول عند إرسال الآلة، أو الجارحة بسم الله والله أكبر كما يسن ذلك عند الذبح، قياسا عليه، وتقدم في الهدي والأضاحي.
(3) لأنه عبث، وإن كان فيه ظلم للناس، بالعدوان على زروعهم، وأموالهم فحرام، والصيد لحاجة الإنسان جائز، وتقدم، أن الله حرم صيد الحرم، وأن المحرم لا يباح له أن يصيد، ولا يحل له أكل ما صيد لأجله.
(4) لأنه حلال، لا شبهة فيه.
(5) لأنها أقرب إلى المتوكل من غيرها، وأقرب للحل، وفيها عمل اليد، والنفع العام، لابد أن يؤكل منها بلا عوض، وقيل: عمل الرجل بيده، لحديث «أفضل الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور» ، وتقدم، وقيل التجارة، ولعله يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، ويسن التكسب، ومعرفة أحكامه ويباح كسب الحلال، لزيادة المال والجاه، والترفه والتنعم، والتوسعة على العيال، مع سلامة الدين والعرض، والمروءة وبراءة الذمة، ويجب على من لا قوت له، وعلى من تلزمه مؤونته، ويكره تركه، والاتكال على الناس.
وقال بعض أهل العلم: الكسب الذي لا يقصد به التكاثر، وإنما يقصد به التوسل إلى طاعة الله من الصلة والتعفف، فهو أفضل، حتى من التفرغ للعبادة، ويستحب الغرس والحرث، واتخاذ الغنم، للخبر.(7/463)
كتاب الإيمان (1)
جمع يمين (2) وهي الحلف والقسم (3) (واليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث) فيها (هي اليمين) التي يحلف فيها (بـ) اسم (الله) الذي لا يسمى به غيره، كالله، والقديم الأزلي (4) والأول الذي ليس قبله شيء (5) .
__________
(1) أي هذا كتاب يذكر فيه أحكام الإيمان، وكفاراتها، والأصل فيها، الكتاب والسنة والإجماع.
وأصل اليمين: اليد المعروفة، سمي الحلف بها، لأن الحالف يعطي يمينه فيه، ويضرب بها على يمين صاحبه، كما في العهد والمعاقدة.
(2) أي: والأيمان جمع يمين، واليمين: توكيد الحكم المحلوف عليه، بذكر معظم على وجه مخصوص.
(3) بفتح القاف والسين، وكذا الإيلاء، بألفاظ مخصوصة، تأتي أمثلتها.
(4) فالأسم الشريف، علم على ربنا تبارك وتعالى، لا يسمى به غيره، وهو سبحانه القديم بأسمائه وصفاته، الأزلي، لم يزل ولا يزال سبحانه وتعالى.
(5) كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه أنت الأول فليس قبلك شيء.(7/464)
والآخر الذي ليس بعده شيء (1) وخالق الخلق (2) ورب العالمين (3) والرحمن (4) ، أو الذي يسمى به غيره، ولم ينو الغير (5) كالرحيم والخالق (6) والرازق والمولى (7) (أو) بـ (صفة من صفاته) تعالى كوجه الله، وعظمته، وكبريائه، وجلاله وعزته (8) .
__________
(1) كما في الخبر، والحي الذي لا يموتي قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} .
(2) وفاطر السموات والأرض.
(3) ورازق العالمين، والعالم بكل شيء، ومالك يوم الدين.
(4) لقوله {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} فجعل اللفظين سواء في الدعاء فكانا سواء في الحلف، ونحو ذلك، مما لا يسمى به غيره، تبارك وتعالى.
(5) بل أطلق فإطلاقه ينصرف إلى الله تعالى، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن اليمين بالله تعالى، منعقدة بأسماء الله الحسنى، كالرحمن والرحيم والحي، وغيرها.
(6) والعظيم والرب قال تعالى عن نبيه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وقال في حق عيسى {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} .
(7) والقادر، قال تعالى: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} وقولهم: المولى المعتق، والقادر باكتسابه فإن نوى به الحلف بالله تعالى، أو أطلق ولم ينو سوى الله تبارك وتعالى، كان يمينا لأنه بإطلاقه ينصرف إلى الله جل وعلا، فإن نوى به غيره، فليس بيمين لأنه يستعمل في غيره.
(8) وعلوه، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن اليمين منعقدة بجميع صفات الله تعالى كعزة الله وجلاله، إلا أبا حنيفة استثنى علم الله، فلم يره يمينا.(7/465)
وعهده وأمانته (1) وإرادته (2) (أو بالقرآن أو بالمصحف) (3) أو بسورة أو آية منه (4) ولعمر الله يمين (5) .
__________
(1) عهد الله يمين، قال ابن عبد البر، لا خلاف في ذلك، إلا عمن لا يعتد بقوله، وكذا ميثاقه وكذا علي عهد الله وميثاقه، والحلف بأمانة الله يمين، وفاقا لمالك وأبي حنيفة، وقال الشافعي، لا تنعقد اليمين بأمانة الله، إلا أن ينوي الحلف بصفة الله، لأن الأمانة يراد بها: الفرائض والودائع.
(2) وقدرته جبروته، ونحو ذلك، مما هو صريح في مقصوده ولا يفتقر إلى نية.
(3) أي: أو حلف بالقرآن أو بكلام الله، فيمين لأنه صفة من صفات الله أو حلف بالمصحف، فيمين لأنه عبارة عما في دفتي المصحف، بالإجماع.
(4) أو بحق القرآن أو بالتوراة أو الإنجيل أو الزبور، أو صحف إبراهيم أو موسى، لأنه حلف بصفة من صفات الله، فوجبت الكفارة مع الحنث.
(5) بفتح العين وضمها، الحياة والبقاء، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وقول لعمرك، جري على رسم اللغة، وذكر صورة القسم، لتأكيد مضمون الكلام وترويجه فقط، لأنه أقوى من سائر المؤكدات، وأسلم من التأكيد بالقسم بالله لوجوب البر به، وليس الغرض اليمين الشرعي، فصورة القسم على الوجه المذكور: لا بأس به، ولهذا شاع بين المسلمين، وقال صلى الله عليه وسلم أفلح وأبيه.
وعنه: ليست يمينا إن لم ينو، وهو قول الشافعي، لأنها لا تكون يمينا إلا بتقدير محذوف، نحو: لعمر الله ما أقسم به، وأيم الله يمين وفاقا لأبي حنيفة ومالك كقوله: وايمن الله، وقال الكوفيون: أيمن جمع يمين، وحق الله يمين، وفاقا لمالك والشافعي.(7/466)
وما لا يعد من أسمائه تعالى، كالشيء والموجود (1) وما لا ينصرف إطلاقه إليه ويحتمله، كالحي والواحد، والكريم (2) إن نوى به الله فهو يمين، وإلا فلا (3) والحلف بغير الله سبحانه وصفاته (محرم) (4) لقوله عليه الصلاة والسلام «من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت» متفق عليه (5) ويكره الحلف بالأمانة (6) .
__________
(1) ولا اللفظ ظاهر، في إرادته.
(2) والشاكر ونحو ذلك، مما لا ينصرف إطلاقه إليه، ويحتمله.
(3) أي: إن نوى بنحو هذه الألفاظ: الله تعالى فيمين يترتب عليه ما يترتب على الحلف بالله وإن لم ينو به الله تعالى، أو نوى به غيره، لم يكن يمينا لأن الحلف الذي تجب به الكفارة لم يقصده، ولا اللفظ ظاهر في إرادته، فلم يترتب عليه ما يترتب على اليمين بالله تعالى.
(4) قال ابن عبد البر: هذا أمر مجمع عليه وقال الشيخ: يحرم الحلف بغير الله، وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبا، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا، قال الشيخ: لأن حسنه التوحيد أعظم من حسنه الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك.
(5) وقال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» فدلت على تحريمه، وعدم انعقاد اليمين به، وإن حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تنعقد يمينه، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والشافعي.
(6) والمراد: كراهة التحريم، لقوله: «ليس منا من حلف بالأمانة» ، رواه أبو داود، وهذا وعيد شديد، يوجب تحريم الحلف بها.(7/467)
(ولا تجب به) أي بالحلف بغير الله (كفارة) إذا حنث (1) (ويشترط لوجوب الكفارة) إذا حلف بالله تعالى (ثلاثة شروط (2) الأول أن تكون اليمين منعقدة (3))
__________
(1) لأنها إنما وجبت في الحلف بالله، صيانة لأسمائه تعالى، وغيره لا يساويه في ذلك، وقال بعضهم: وكذا الحلف بعتق أو طلاق، وفي الاختيارات اختلف كلام أبي العباس، في الحلف بالطلاق، فاختار في موضع التحريم وتعزيره وهو قول مالك، ووجه لنا.
واختار في موضع آخر: أنه لا يكره، وأنه قول غير واحد من أصحابنا، لأنه لم يحلف بمخلوق، ولم يلتزم لغير الله شيئا، وإنما التزم به كما يلتزم بالنذر، والالتزام لله، أبلغ من الإلتزام به، بدليل النذر واليمين، ولهذا لم تنكر الصحابة على من حلف بذلك، كما أنكروا على من حلف بالكعبة.
وقال ابن القيم في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الآية فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة فهذا كفارتها، وقد أدخلت الصحابة في هذا النص، الحلف بالتزام الواجبات، والحلف بأحد القربات المالية إلى الله، وهو العتق كما ثبت ذلك عن ستة منهم، ولا مخالف لهم من بقيتهم، وأدخلت فيه الحلف، بالبغيض إلى الله، وهو الطلاق كما ثبت ذلك عن علي، ولا مخالف له منهم، فالواجب تحكيم هذا النص العام، والعمل بعمومه، حتى يثبت إجماع الأمة إجماعا متيقنا على خلافه، فالأمة لا تجتمع على خطأ البتة.
(2) أن تكون اليمين منعقدة وأن يحلف مختارا، وأن يحنث في يمنيه ويأت مفصلا.
(3) لأن غير المنعقدة، إما غموس أو نحوها، وإما لغو، ولا كفارة في واحد منهما، وأما اليمين المنعقدة، فهي التي يمكن فيها البر والحنث، لكونها للحث والمنع.(7/468)
وهي اليمين (التي قصد عقدها على) أمر (مستقبل ممكن (1) فإن حلف على أمر ماض كاذبا عالما فهي) اليمين (الغموس) (2) لأنها تغمسه في الإثم، ثم في النار (3) (ولغو اليمين) هو (الذي يجري على لسانه بغير قصد (4) كقوله) في أثناء كلامه (لا والله، وبلى والله) (5) .
__________
(1) قال الوزير: أجمعوا على أن اليمين المتعمدة المنعقدة، هو أن يحلف بالله على أمر في المستقبل أن يفعله ولا يفعله، وإذا حنث وجبت عليه الكفارة اهـ لأن العقد إنما يكون فيه دون الماضي، قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} .
فدلت الآية على أن وجوب الكفارة في الأيمان المنعقدة، ولا يكون إلا في المستقبل من الزمان، دون الماضي لعدم إمكان البر والحنث، وغير الممكن كلا شربت ماء الكوز، ولا ماء به، لأنه لغو.
(2) وهي التي يحلف بها على الماضي، كاذبا عالما.
(3) ولا كفارة فيها، لأنها أعظم من أن تكفر، وهو مذهب الجمهور، فروى البيهقي عن ابن مسعود: كنا نعد اليمين التي لا كفارة فيها، اليمين الغموس، وهي من الكبائر للخبر الصحيح.
(4) وظاهره: ولو في الزمن المستقبل، لظاهر الخبر الآتي، ولا كفارة فيها لظاهر {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} .
(5) أي في عرض حديثه.(7/469)
لحديث عائشة مرفوعا: «اللغو في اليمين كلام الرجل في بيته: لا والله، وبلى والله» رواه أبو داود، وروي موقوفا (1) (وكذا يمين عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافه (2) فلا كفارة في الجميع) (3) لقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (4) وهذا منه (5) ولا تنعقد أيضا من نائم وصغير ومجنون ونحوهم (6) .
__________
(1) رواه الزهري وغيره: عن عطاه عنها.
(2) فلغو، غير منعقدة وقال الشيخ: وكذا عقدها على زمن مستقبل، ظانا صدقه فلم يكن، كمن حلف على غيره يظن أنه يطيعه فلم يفعل، أو ظن المحلوف عليه خلاف نية الحالف، ونحو ذلك.
(3) أي اليمين الغموس، لما تقدم، ولغو اليمين، وما يظن صدقه فيها حكاه ابن عبد البر إجماعا.
(4) أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الإيمان، التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة، واللغو: المطرح من الكلام، لا يعتد به، وإنما يقع من غير قصد ولا عقد.
(5) أي ما ذكر من لغو اليمين، كلا والله، وبلى والله، أو ما يظن صدق نفسه، أو أن غيره يطيعه فيما حلف عليه، ونحو ذلك ولأنه يكثر فلو وجبت به كفارة لشق وحصل الضرر، وهو منتف شرعا.
(6) كزائل العقل بشرب دواء، أو محرم لأنه قول لا يتعلق به حق، فلم يصح منهما، لحديث رفع القلم عن ثلاثة، نائم حتى يستيقظ، ومجنون حتى يفيق، وصغير حتى يبلغ.(7/470)
الشرط (الثاني: أن يحلف مختارا (1) فإن حلف مكرها لم تنعقد يمينه) (2) لقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» (3) الشرط الثالث: الحنث في يمينه بأن يفعل ما حلف على تركه (4) كما لو حلف أن لا يكلم زيدا، فكلمه مختارا (5) أو يترك ما حلف على فعله كما لو حلف ليكلمن زيدا اليوم، فلم يكلمه (مختارا ذاكرا) ليمينه (6) (فإذا حنث مكرها، أو ناسيا فلا كفارة) (7) لأنه لا إثم عليه (8) .
__________
(1) لليمين.
(2) كمن حلف لا يدخل دارا، فحمل مكرها فادخلها، أو خالف ما حلف عليه جاهلا، أو ناسيا المحلوف عليه، فلا كفارة لأنه غير آثم.
(3) فدل الحديث على أن المكره على ما حلف عليه، وكذا الناسي، والجاهل معفو عنه.
(4) فيحنث بذلك الفعل، وإن لم يفعل لم يحنث، ومن لم يحنث لم يهتك حرمة القسم.
(5) ذاكرا ليمينه حنث وأثم، وتجب عليه الكفارة.
(6) حنث، وأثم.
(7) لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
(8) وكذا جاهل حلف لا يدخل دار زيد، فدخلها جاهلا أنها داره.(7/471)
(ومن قال في يمين مكفرة) أي تدخلها الكفارة، كيمين بالله تعالى (1) ونذر وظهار (إن شاء الله، لم يحنث) في يمينه (2) فعل أو ترك إن قصد المشيئة (3) واتصلت بيمينه، لفظا أو حكما (4) لقوله عليه الصلاة والسلام «من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث» رواه أحمد وغيره (5) (ويسن الحنث في اليمين إذا كان) الحنث (خيرا (6)) .
__________
(1) أو صفة من صفاته: إن شاء الله، لم يحنث.
(2) قدم الاستثناء، أو أخره.
(3) أي: إن قصد تعليق الفعل، على مشيئة الله وإرادته، بخلاف من قاله تبركا، أو سبق لسانه بلا قصد.
(4) كقطع بنفس أو سعال، أو عطاس، أو قيء أو تثاؤب، وعنه: ينفعه الاستثناء وإن لم يرده إلا بعد الفراغ، حتى لو قال له بعض الحاضرين: قال إن شاء الله، نفعه قال الشيخ: وهو مذهب أحمد الذي عليه متقدموا أصحابه، واختيار أبي محمد وغيره، وهو مذهب مالك، وهو الصواب، اهـ ويعتبر نطقة به، فلا ينفعه بالقلب، إلا من مظلوم كمتأول.
(5) فرواه النسائي والترمذي وحسنه، وقال: رواه غير واحد عن ابن عمر مرفوعا، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، من الصحابة وغيرهم، ولأنه متى قال: لأفعلن إن شاء الله فقد علمنا أنه متى شاء الله فعل، ومتى لم يفعل لم يشأ الله.
(6) لقوله صلى الله عليه وسلم «ماحلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني» وقال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه.(7/472)
كمن حلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب (1) وإن حلف على فعل مندوب، أو ترك مكروه، كره حنثه (2) وعلى فعل واجب، أو ترك محرم، حرم حنثه (3) وعلى فعل محرم أو ترك واجب وجب حنثه (4) ويخير في مباح (5) وحفظها فيه أولى (6) ولا يلزم إبرار قسم (7) كإجابة سؤال بالله تعالى (8) .
__________
(1) مثل ما تتعلق به مصلحة، كصلح ودفع شر، وقال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يجعل اسم الله عز وجل عرضة للأيمان، يمنع من بر أو صلة، وإن كان قد حلف، فالأولى له أن يحنث، إذا حلف على ترك البر، ويكفر.
(2) كأن حلف على فعل ما ندب إليه الشرع، أو ترك ما يكره شرعا، كالحلف في البيع والشراء، كره حنثه فيه، واستحب بره، لما يترتب على بره من الثواب الحاصل بفعل المندوب، وترك المكروه.
(3) ووجب حل اليمين، لما في الحنث من الإثم بفعل المحرم، أو ترك الواجب وتلزمه الكفارة في هذه الصورة.
(4) لما في بره من الإثم بفعل المحرم، أو ترك الواجب.
(5) أي ويخير في حنثه إذا حلف على فعل مباح، أو تركه، أو حل يمينه، وكذا على الخبر بشيء هو صادق فيه، أو يظن صدقه فيه.
(6) أي: وحفظ يمينه في المباح، أولى من الحنث لقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وإن أفرط كره.
(7) أي: ولا يلزم محلوفا عليه إبرار قسم.
(8) أي: كما لا يلزم إجابة سؤال بالله تعالى، لأن الإيجاب بالتوقيف
ولا توقيف فيه، وقال الشيخ: إنما يجب على معين، فلا تجب إجابة سائل يقسم على الناس.(7/473)
بل يسن (1) ومن حرم حلالا سوى زوجته (2) لأن تحريمها ظهار، كما تقدم (3) سواء كان الذي حرمه (من أمة (4) أو طعام أو لباس أو غيره) (5) كقوله: ما أحل الله علي حرام؛ ولا زوجة له (6) أو قال: طعامي علي كالميتة (لم يحرم) عليه (7) لأن الله تعالى سماه يمينا بقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (8) .
__________
(1) أي إبرار القسم، كإجابة سؤال بالله لقوله صلى الله عليه وسلم «من سألكم بالله فأعطوه» ، ولا يسن تكرار حلف، فإن أفرط كره.
(2) لم يحرم عليه.
(3) في باب الطلاق، وباب الظهار، وتقدم الكلام فيه موضحا.
(4) له، لم تحرم عليه بذلك.
(5) أو قال: علي حرام إن فعلت كذا، أو إن أكلت هذا الطعام، فهو علي حرام، أو قال: حرام علي هذا الطعام.
(6) فإن كانت له زوجة، فتقدم حكم ذلك موضحا في بابه.
(7) أو قال: هذا الطعام علي كالدم، أو كلحم الخنزير، لم يحرم عليه، قال الشيخ: ولا يجوز التعريض لغير ظالم، وهو قول جماعة، وهو تدليس كتدليس المبيع، نص عليه.
(8) وروي عن ابن عباس، وابن عمر: انه صلى الله عليه وسلم جعل تحريم الحلال يمينا.(7/474)
واليمين على الشيء لا تحرمه (1) .
(وتلزمه كفارة يمين إن فعله) (2) لقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي التكفير (3) وسبب نزولها: أنه صلى الله عليه وسلم قال «لن أعود إلى شرب العسل» متفق عليه (4) ومن قال هو يهودي، أو كافر (5) أو يعبد غير الله (6) أو برئ من الله تعالى، أو من الإسلام، أو القرآن (7) .
__________
(1) ولأنه لو كان محرما، لتقدمت الكفارة عليه، كالظهار.
(2) أي إن فعل ما حرم على نفسه، من طعام أو شراب، أو لباس أو نحوه وقال الوزير: اتفقوا على أن الكفارة تجب عند الحنث في اليمين، على أي وجه كان، من كونه طاعة أو معصية، أو مباحا.
(3) قال ابن القيم: لكن يمين منعقدة، وقال: إذا حلف ليفعلن كذا، فهو حظ منه لنفسه، وليس إيجاب، ولكن عقد اليمين ليفعلن، فأباح الله له حل ما عقده بالكفارة، وسماها تحلة، وليست رافعة لإثم الحنث.
(4) وذلك لما قال له بعض نسائه، أكلت مغافير قال بل شربت عسلا.
(5) لم يكفر وفعل محرما، قال ابن القيم: اتفق الناس أنه إن قال: إن فعلت كذا فهو يهودي، أنه لا يكفر إن قصد اليمين.
(6) أي: أو قال هو يعبد غير الله، أو يكفر بالله، أو يعبد الصليب ليفعلن كذا.
(7) أو لا يراه الله في موضع كذا، إن فعل كذا.(7/475)
أو النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك (1) ليفعلن كذا أو إن لم يفعله، أو إن كان فعله فقد فعل محرما (2) وعليه كفارة يمين بحنثه (3) .
__________
(1) كأن يستحل الزنا، أو شرب الخمر، أو ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج.
(2) لما في الصحيحين: «من حلف على ملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال» ولأحمد: من قال إنه برئ من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال، وإن كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما.
(3) لما روي أنه سأل عن الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو برئ من الإسلام في اليمين يحلف بها، فيحنث عليه كفارة يمين، ولأنه قول يوجب هتك الحرمة، فكان يمينا كالحلف بالله، بخلاف: هو فاسق ونحوه، وتقدم كلام ابن القيم.(7/476)
فصل في كفارة اليمين (1)
(يخير من لزمته كفارة يمين، بين إطعام عشرة مساكين) لكل مسكين مدبر أو نصف صاع من غيره (2) (أو كسوتهم) أي العشرة مساكين، للرجل ثوب يجزئه في صلاته، وللمرأة درع وخمار كذلك (3) (أو عتق رقبة (4) فمن لم يجد) شيئا مما تقدم ذكره (5) (فصيام ثلاثة أيام) (6) .
__________
(1) وفيها تخيير وترتيب، فالتخيير بين الإطعام والكسوة والعتق والترتيب فيما بين ذلك وبين الصيام.
(2) سواء كان المطعم واحدا، أو عددا وسواء أطعم البعض برا، والبعض شعيرا أو تمرا أو زبيبا للآية.
(3) أي يجزئها في صلاتها، وأي جنس كساهم خرج به من العهدة، ويجزئ الجديد واللبيس، ما لم تذهب قوته، ويجزئ أن يطعم بعضا، وأن يكسوا بعضا لأن الله خير بين الإطعام والكسوة لا بعض الطعام وبعض الكسوة.
(4) حكاه الوزير وغيره اتفاقا، وأن الحالف مخير في أي ذلك شاء، وأنهم أجمعوا على أنه لا يجزئ فيه إلا عتق رقبة مؤمنة، سليمة من العيوب، خالية من شركة أو عقد عتق، أو استحقاقه، إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا يشترط الإيمان.
(5) أي من الإطعام، أو الكسوة أو العتق قيل: كعجز عن فطرة، وقيل: كثمن الرقبة في الظهار.
(6) قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن من لم يجد شيئا مما تقدم، انتقل إلى صيام ثلاثة أيام اهـ، وإن قدر بعد شروعه في الصوم فكهدي وتقدم.(7/477)
لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ (1) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} (متتابعة) وجوبا (2) لقراءة ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعة (3) .
وتجب كفارة نذر فورا بحنث (4) ويجوز إخراجها قبله (5) (ومن لزمته أيمان قبل التكفير، موجبها واحد) ولو على أفعال (6) .
__________
(1) أي فكفارة ما عقدتم الأيمان إذا حنثتم {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي: من خير وأمثل قوت عيالكم، أو كسوتهم ما يصح أن يصلي فيه، أو عتق رقبة ويشترط أن تكون مؤمنة وهو قول الجمهور بدأ تعالى بالأسهل فالأسهل، مخيرا الحالف، فأي هذه الخصال فعل أجزأ بالإجماع.
(2) إذا عجز عن أحد ثلاث الخصال المتقدمة، والجمهور على أنها متتابعا.
(3) فدلت هذه القراءة على مشروعية التتابع.
(4) لأنه الأصل في الأمر المطلق.
(5) أي الحنث، فتكون الكفارة محللة لليمين، وإن شاء بعده، فتكون مكفرة، وفي الصحيحين إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك ولأبي داود فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير، فجاءت الأحاديث بالتأخير وبالتقديم، وإن كان الحنث حراما كفر بعده مطلقا، ولا تجزئ كفارة قبل حلف إجماعا، وفي الصحيحين أيضا: الأمر بإبرار القسم، والجمهور أنه على الندب.
(6) متغايرة كما مثل.(7/478)
كقوله: والله لا أكلت، والله لا شربت، والله لا أعطيت والله لا أخذت (فعليه كفارة واحدة لأنها كفارات من جنس واحد، فتداخلت كالحدود من جنس (1) .
و (إن اختلف موجبها) أي موجب الإيمان، وهو الكفارة (كظهار ويمين بالله) تعالى (لزماه) أي الكفارتان (ولم يتداخلا) لعدم اتحاد الجنس (2) ويكفر قن بصوم (3) وليس لسيده منعه منه (4) ويكفر كافر بغير صوم (5) .
__________
(1) كما لو زنا ثم زنا، فلا يحد إلا مرة، هذا المذهب وعنه: لكل يمين كفارة، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وإن قال: والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست وحنث في واحدة وكفر، انحلت في البقية، لأنها يمين واحدة، قال في المبدع: بغير خلاف، وإن قال: والله لا أكلت، والله لا شربت، فحنث بإحداهما وكفر، ثم حنث في الثاني، لزمته كفارة ثانية.
(2) بل لكل يمين كفارتها، قال الشيخ: من كرر أيمانا قبل التكفير فروايات ثالثها، وهو الصحيح إن كانت على فعل فكفارة وإلا فكفارات ومثل ذلك الحلف بنذور مكفرة وطلاق مكفر.
(3) لا بمال لأنه لا مال له، ومرادهم لا يجزئه غيره، ولو أعطاه سيده ما يكفي في الكفارة.
(4) أي من الصوم سواء كان الحلف والحنث بإذن أولا، وسواء أضر به، أولا.
(5) لأنه لا يصح من الكافر، ويتصور عتقه للمسلم، كأعتق عبدك عني، وعلي ثمنه، أو يدخل في ملكه بإرث.(7/479)
باب جامع الأيمان المحلوف بها (1)
(يرجع في الأيمان، إلى نية الحالف، إذا احتملها اللفظ) (2) لقوله عليه الصلاة والسلام: «وإنما لكل امرئ ما نوى» (3) فمن نوى بالسقف أو البناء السماء (4) أو بالفراش أو البساط الأرض (5) قدمت على عموم لفظه (6) ويجوز التعريض في مخاطبة لغير ظالم (7) .
__________
(1) أي مسائلها.
(2) أي احتمل لفظ الحالف نيته، فتتعلق يمينه بما نواه، دون ما لفظ به اتفاقا.
(3) فيرجع في كلام المتكلم على ما أراده، ويقبل منه حكما، مع قرب الاحتمال من الظاهر، لا مع بعده، فتقدم نيته على عموم لفظه.
(4) يرجع فيها إلى نيته وقدمت على عموم لفظه، حيث احتملها اللفظ قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} وقال: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} .
(5) أي فمن نوى بالفراش أو البساط الأرض قدمت على عموم لفظه، فيرجع فيها إلى نيته، حيث احتملها اللفظ قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} وقال: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا} .
(6) حيث احتملها اللفظ، ونوى ذلك به.
(7) للحاجة على الصحيح عندهم من المذهب، وقيل: لا يجوز ذكره
الشيخ، واختاره لأنه تدليس كتدليس المبيع اهـ فإنه كان ظالما لم يجز قولا واحدا، والمنصوص: أنه لا يجوز التعريض مع اليمين.(7/480)
(فإن عدمت النية، رجع إلى سبب اليمين، وما هيجها) (1) لدلالة ذلك على النية (2) فمن حلف ليقضين زيدا حقه غدا، فقضاه قبله، لم يحنث إذا اقتضى السبب، أنه لا يتجاوز غدا (3) وكذا ليأكلن شيئا، أو ليفعلنه غدا (4) وإن حلف لا يبيعه إلا بمائة، لم يحنث إلا إن باعه بأقل منها (5) .
__________
(1) أي: لأن السبب يدل على النية، وعنه: يقدم عموم لفظه على سبب اليمين احتياطا وقال الزركشي، اعتمد عامة الأصحاب تقديم النية على السبب.
(2) أي لدلالة سبب اليمين، وما هيجها على النية، وقال ابن القيم: من عرف مراد المتكلم، بدليل من الأدلة، وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده، ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة ... إلخ.
(3) أو كان السبب يقتضي التعجيل فإن عدما لم يبرأ إلا بالقضاء في الغد.
(4) كأشتريه غدا، أو لأبيعنه غدا، وقال الشيخ: إذا حلف على غيره ليفعلنه فخالفه، إذا قصد إكرامه، لا إلزامه به، لا حنث عليه، لأنه كالأمر، ولا يجب الأمر إذا فهم منه الإكرام، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر بالوقوف في الصف ولم يقف.
(5) لمخالفته ما حلف عليه، وإن حلف لا يبيعه بمائة، حنث إن باعه بها، وبأقل منها.(7/481)
وإن حلف لا يشرب له الماء من عطش، ونيته أو السبب: قطع منته حنث بأكل خبزه، واستعارة دابته، وكل ما فيه منه (1) (فإن عدم ذلك) أي النية وسبب اليمين الذي هيجها (رجع إلى التعيين) لأنه أبلغ من دلالة الاسم على المسمى، لأنه ينفي الإبهام بالكلية (2) (فإذا حلف لا لبست هذا القميص فجعله سراويل أو رداء، أو عمامة ولبسه، حنث (3) أولا كلمت هذا الصبي، فصار شيخا) وكلمه حنث (4) .
__________
(1) قال ابن القيم: ولو من عليه غيره بإحسانه، فقال: والله لا أكلت له لقمة، ولا شربت له ماء، يريد خلاصه من منته عليه، ثم قبل منه الدراهم والدنانير والشاء، ونحوها لعدة العقلاء واقعا فيما هو أعظم مما حلف عليهن ومرتكبا لذروة سنامه، ولولامه عاقل على كلامه، لمن لا يليق به محادثته، ومن امرأة أو صي، فقالك والله لا كلمته، ثم رآه خاليا به، يؤا كله ويشاربه ويعاشره ولا يكلمه، لعدوه مرتكبا لأشد مما حلف عليه وأعظم وهذا ما فطر الله عليه عباده.
(2) أي: لأن التعيين بالإشارة ينفي الإبهام فهو مقدم على الاسم والصفة، والإضافة كأن يشهد على عين شخص، ثم ذكر ما لو تغيرت صفة التعيين.
(3) لفعله المحلوف عليه، لأنه لبسه.
(4) لأنه كلم الشخص المحلوف على عدم تكليمه، فحنث، عملا بالتعيين، قال الشيخ: فلو حلف لا أكلم هذا الصبي فتبين شيخا، أولا أشرب من هذا الخمر فتبين خلا فالأشبه أنه لا يحنث، إذ الاعتبار بما قصد في قلبه، وهو قصد معينا موصوفا ليس هو هذا العين.(7/482)
(أو) حلف لا كلمت (زوجة فلان) هذه (أو صديقة فلانا) هذا (أو مملوكة سعيدا) هذا (فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم) حنث (1) .
(أو) حلف (لا أكلت لحم هذا الحمل، فصار كبشا) وأكله حنث (2) .
(أو) حلف لا أكلت (هذا الرطب) فصار تمرا أو دبسا أو خلا وأكله حنث (3) .
(أو) حلف لا أكلت (هذا اللبن فصار جبنا، أو كشكا ونحوه، ثم أكله حنث في الكل) (4) لأن عين المحلوف عليه باقية (5) كحلفه لا لبست هذا الغزل، فصار ثوبا (6) .
__________
(1) لأنه إذا قدم التعيين على الاسم فلأن يقدم على الإضافة أولى.
(2) إذا لم يكن له نية، ولا سبب يخص الحالة الأولى، والحمل، بفتح الحاء المهملة والميم.
(3) ما لم يكن له نية ولا سبب يخص حالته الأولى، لبقاء عين المحلوف عليه.
(4) مما رجع فيه إلى التعيين ونحو الكشك الأقط وغيره، مما يعمل من اللبن.
(5) فحنث بفعل ما حلف على تركه.
(6) فهو يحنث بذلك، للبسه عين ما حلف على ترك لبسه.(7/483)
وكذا حلفه لا يدخل دار فلان هذه، فدخلها وقد باعها، أو وهي فضاء أو مسجد، أو حمام ونحوه (1) (إلا أن ينوي) الحالف (2) أو يكون سبب اليمين يقتضي (ما دام) المحلوف عليه (على تلك الصفة) فتقدم النية وسبب اليمين على التعيين كما تقدم (3) .
__________
(1) كخان حنث.
(2) بيمينه في شيء من هذه الأشياء، ما دام على تلك الصفة والإضافة، أو ما لم يتغير.
(3) أي من قوله: فإن عدمت النية وسبب اليمين الذي هيجها رجع إلى التعيين.(7/484)
فصل (1)
(فإن عدم ذلك) أي النية والسبب، والتعيين (رجع) في اليمين (إلى ما يتناوله الاسم (2) وهو) أي الاسم (ثلاثة شرعي، وحقيقي، وعرفي) (3) وقد لا يختلف المسمى، كالأرض والسماء والإنسان والحيوان، ونحوها (4) (فالشرعي) من الأسماء (ماله موضع في الشرع وموضوع في اللغة) كالصلاة والصوم (5) والزكاة والحج، والبيع والإجارة (6) (فـ) الاسم (المطلق) في اليمين سواء كانت على فعل أو ترك (7) .
__________
(1) فيما يتناوله الاسم، الدال على إرادة المسمى إذ لا معارض له، فوجب الرجوع إليه.
(2) لأنه مقتضاه ولا صارف عنه.
(3) ويقدم عنه الإطلاق، إذا اختلف الأسماء، شرعي فعرفي فلغوي.
(4) كرجل فينصرف اليمين إلى مسماه بلا خلاف.
(5) فإذا قال الشارع: صل تعين فعل الصلة، المشتملة على الأفعال، وكذا الصوم وأما الطواف فقال: المجد والقاضي وغيرهما، ليس بصلاة في الحقيقة ولأنه أبيح فيه الكلام والأكل.
(6) وكالوضوء والغسل، والتيمم والاعتكاف.
(7) من صلاة أو صوم، أو بيع أو نكاح أو غيرها.(7/485)
(ينصرف إلى الموضوع الشرعي الصحيح) لأن ذلك هو المتبادر، أي المفهوم عند الإطلاق (1) إلا الحج والعمرة، فيتناول الصحيح والفاسد (2) لوجوب المضي فيه، كالصحيح (3) (فإذا حلف لا يبيع، أو لا ينكح، فعقد عقدا فاسدا) من بيع أو نكاح (لم يحنث) (4) لأن البيع والنكاح لا يتناول الفاسد (5) .
(وإن قيد) الحالف (يمينه بما يمنع الصحة) أي بما لا تمكن الصحة معه (كأن حلف لا يبيع الخمر، أو الخنزير حنث بصورة العقد) (6) لتعذر حمل يمينه على عقد صحيح (7) .
__________
(1) ولذلك حمل علي كلام الشارع، حيث لا صارف له عن موضوعه الشرعي.
(2) فإذا حلف لا يحج، فحج حجا فاسدا، حنث وكذا العمرة.
(3) أي فيما يحل ويحرم، ويجب من الفدية وغيرها.
(4) وكذا إن حلف، ما بعت ولا نكحت وقد فعله فاسدا، لم يحنث لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} وإنما أحل الصحيح منه وكذا النكاح.
(5) فلا يحنث إلا بالبيع الصحيح، والنكاح الصحيح، إذا حلف لا يفعل ذلك ففعله.
(6) وكذا لو حلف لا يبيع الحر، أو ما باع الخمر، أو الخنزير أو ما باع الحر، حنث بصورة العقد.
(7) فتعين كون صورة ذلك محلا له.(7/486)
وكذلك إن قال: إن طلقت فلانة الأجنبية، فأنت طالق، طلقت بصورة طلاق الأجنبية (1) .
(و) الاسم الحقيقي: هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته كاللحم (2) فإذا حلف لا يأكل اللحم، فأكل شحما أو مخا، أو كبدا أو نحوه ككلية وكرش وطحال، وقلب ولحم ولسان (لم يحنث) (3) لأن إطلاق اسم اللحم، لا يتناول شيئًا من ذلك (4) إلا بنية اجتناب الدسم (5) (ومن حلف لا يأكل أدما، حنث بأكل البيض، والتمر والملح، والخل والزيتون ونحوه) كالجبن واللبن (6) .
__________
(1) لتعين زوجته بتلك الصورة، لتعذر حمل يمينه على طلاق واقع، فتعين كون صورة ذلك محلا له.
(2) أي: والثاني من أقسام الاسم الثلاثة، الحقيقي وهو اللغوي، وهو الذي لم يغلب مجازه عندهم، أي العرفي، على حقيقته اللغوية، كاللحم، فهو اسم حقيقة والحقيقة: اللفظ المستعمل في وضع أول.
(3) أي بأكل شيء من الشحم وما عطف عليه، لأن مطلق اللحم لا يتناول شيئا من ذلك، وكذا لا يحنث بأكل إليه، ومصران ومرق لحم، ونحو ذلك.
(4) كما أنه لو حلف لا يأكل شحما، لم يحنث بأكل لحم أحمر.
(5) فيحنث بذلك كله، وكذا لو اقتضاه السبب، فيحنث لما فيها من الدسم ويحنث بأكل لحم سمك، ولحم محرم لدخوله في مسمى اللحم.
(6) سواء كان من بهيمة الأنعام، أو من الصيد، أو لبن آدمية، حليبا كان أو رائبا أو مائعا أو مجمدا حنث لأن الجميع لبن.(7/487)
(وكل ما يصطبغ به) عادة (1) كالزيت والعسل، والسمن واللحم، لأن هذا معنى التأدم (2) .
(و) إن حلف (لا يلبس شيئا فلبس ثوبا أو درعا أو جوشنا)
أو عمامة أو قلنسوة (أو نعلا، حنث) (3) لأنه ملبوس حقيقة وعرفا (4) .
(وإن حلف لا يكلم إنسانا، حنث بكلام كل إنسان) (5) لأنه نكرة في سياق النفي، فيعم (6) حتى ولو قال: تنح أو اسكت (7) .
__________
(1) أي من كل ما يغمس فيه الخبز قال تعالى: {وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} .
(2) وكذا كل ما جرت العادة بأكل الخبز ونحوه به، للأخبار، فمنها ما رواه ابن ماجه: «سيد إدامكم اللحم» وله ائتدموا بالزيت، وحديث نعم الإدام الخل، وغير ذلك.
(3) الجوشن: الصدر، والدرع، وقيل: الدرع، وقيل: الذي يجعل على الصدر، ولا يدخل العقيق، والسبح في مطلق الحلف، على لبس الحلي، إلا من عادته التحلي به، وكيفما لبس الثوب، أو تعمم به، أو ارتدى بسراويل حنث لا بطيه أو افتراشه.
(4) كالثياب، وقيل: لابن عمر إنك تلبس هذه النعال، قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها.
(5) ذكرا كان أو أنثى صغيرا أو كبيرا، حرا أو رقيقا.
(6) وقد فعل المحلوف عليه.
(7) أو زجره بكل لفظ، لأنه كلام فيدخل فيما حلف على عدمه.(7/488)
أولا كلمت زيدا، فكاتبه أو راسله حنث (1) ما لم ينو مشافهته (2) .
(و) إن حلف (لا يفعل شيئا فوكل من فله حنث) (3) لأن الفعل يضاف إلى من فعله عنه (4) قال تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} وإنما الحالق غيرهم (5) (إلا أن ينوي مباشرته بنفسه) فتقدم نيته لأن لفظه يحتمله (6) .
__________
(1) لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} وحديث ما بين دفتي المصحف كلام الله، وصحح في الشرح والمبدع، أن هذا ليس بتكليم، لكن إن نوى ترك مواصلته، أو سبب يمينه يقتضي هجرانه حنث.
(2) أي بالكلام، فلا يحنث بالمكاتبة، ولا المراسلة، لعدم المشافهة فيهما.
(3) أي الحالف، إذا فعل الوكيل ذلك الشيء، المحلوف على تركه.
(4) المحلوف على تركه، وأمر به، كما لو حلف لا يحلق رأسه، فأمر من حلقه.
(5) أي فدلت الآية: على أن فعل من وكله، كفعله.
(6) وإلا ففعل وكيله كفعله، وقال ابن القيم: ومن الحيل الباطلة، ما لو حلف لا يفعل شيئا، ومثله لا يفعله بنفسه أصلا، كالسلطان لا يبيع كذا، ولا يحرث هذه الأرض، ولا يزرعها، ولا يخرج هذا من بلده، ونحو ذلك، فالحيلة أن يأمر من يفعل ذلك، ويبر في يمينه إذا لم يفعله بنفسه، وهذا من أبرد الحيل وأسمجها وأقبحها وفعل ذلك، هو الحنث الذي حلف عليه بعينه، ولا يشك في أنه حانث أحد من العلماء، ولا أحد من العقلاء.(7/489)
(و) الاسم (العرفي ما اشتهر مجازه فغلب) على (الحقيقة (1) كالرواية) في العرف للمزادة، وفي الحقيقة: الجمل الذي يستقى عليه (2) (والغائط) في العرف للخارج المستقذر، وفي الحقيقة لفناء الدار، وما اطمأن من الأرض (ونحوهما) (3) كالظعينة، والدابة والعذرة (4) (فتتعلق اليمين بالعرف) (5) دون الحقيقة لأن الحقيقة في نحو ما ذكر صارت كالمهجورة، ولا يعرفها أكثر الناس (6) .
__________
(1) أي اللغوية حيث أنه لا يعلمها أكثر الناس، فاللفظ قد يكون حقيقة في معنى، ثم يغلب على معنى عرفي.
وقال الشيخ: اللفظ المطلق الذي له حد في العرف، وقد علم أنه لم يزدد
فيما يتناوله الاسم، فإنه ينزل على ما وقع من استعمال الشرع، وإن كان اتفاقيا.
(2) ذكره في المبدع وغيره، وقال الشارح في موضع، اسم لما يستقى عليه من الحيوانات، والمزادة في العرف: شكل الرواية.
(3) مما غلب العرف فيه على حقيقته.
(4) أي في العرف، وفي الحقيقة فناء الدار، قال علي: ما لكم لا تنظفون عذراتكم يريد أفنيتكم، والظعينة في العرف، المرأة، قال الجوهري: الظعينة المرأة ما دامت في الهودج، وفي الحقيقة: الناقة التي يظعن عليها، والدابة لغة، كل ما دب ودرج وعرفا، الخيل والبغال والحمير.
(5) لأن الحالف لا يريد غيره، فصار كالمصرح به.
(6) فيرجع فيما ذكر إلى العرف، كما بنى عليه فيما مثل.(7/490)
(فإذا حلف على وطء زوجته أو) حلف على (وطء دار، تعلقت يمينه بجماعها) أي جماع من حلف على وطئها لأن هذا هو المعنى الذي ينصرف إليه اللفظ في العرف (1) .
(و) تعلقت يمينه (بدخول الدار) التي حلف لا يطؤها لما ذكر (2) (وإن حلف لا يأكل شيئا، فأكله مستهلكا في غيره (3) كمن حلف لا يأكل سمنا، فأكل خبيصا فيه سمن، لا يظهر فيه طعمه) لم يحنث (4) .
(أو) حلف (لا يأكل بيضا، فأكل ناطفا لم يحنث) (5) لأن ما أكله لا يسمى سمنا، ولا بيضًا (6) .
(وإن ظهر طعم شيء من المحلوف عليه) فيما أكله (حنث)
__________
(1) وكذا لو حلف على ترك وطء زوجته، أكثر من أربعة أشهر، كان موليا.
(2) أي من أن هذا المعنى: هو الذي ينصرف إليه اللفظ في العرف، ويفرق بين أن يكون المقصود، تحريم البقعة على الرجل، فيحنث بإدخال بعض جسده إلى بعضها، لمباشرته بعض المحرم، وبين أن يكون مقصوده، التزام بقعته فإذا خرج بعضه لم يحنث كما في المعتكف.
(3) لم يحنث، حيث أن المستهلك، لا يظهر فيه طعم المحلوف عليه.
(4) أو حلف لا يأكل لبنا فأكل زبدا، لا يظهر فيه طعم اللبن لم يحنث.
(5) أو حلف لا يأكل شحما، فأكل اللحم الأحمر، لم يحنث.
(6) ولا شحما فلم يحنث، لأن المستهلك في الشيء وجوده كعدمه.(7/491)
لأكله المحلوف عليه (1) .
__________
(1) كما لو أكله منفردا وذلك كظهور السمن في الخبيص أو البيض في الناطف ونحو ذلك، ولو حلف لا يشارك فلانا، ففسخا الشركة، وبقيت بينهما ديون مشتركة، أوأعيان فقال الشيخ: تنحل اليمين بانفساخ عقد الشركة.
وإن حلف لا يشم وردا، ولا بنفسجا، فشم دهنهما أو ماء الورد، فقال الشيخ: يتوجه أن يحنث بالماء دون الدهن، وكذلك ماء البان، والينوفر، لأن الماء، هو الحامل لرائحة الورد، ورائحته فيه، بخلاف شجره، فإنه يضاف إلى الورد، ولا تظهر فيه الرائحة كثيرا.(7/492)
فصل (1)
(وإن حلف لا يفعل شيئا، ككلام زيد (2) ودخول دار ونحوه (3) ففعله مكرها، لم يحنث) (4) لأن فعل المكره، غير منسوب إليه (5) (وإن حلف على نفسه، أو غيره ممن) يمتنع بيمينه و (يقصد منعه، كالزوجة والولد، أن لا يفعل شيئا، ففعله ناسيا أو جاهلا، حنث في الطلاق والعتاق) بفتح العين (فقط) أي دون اليمين بالله تعالى، والنذر والظهار، لأن الطلاق والعتاق حق آدمي، فلم يعذر فيه بالنسيان والجهل (6) .
__________
(1) أي في حكم من فعل شيئا، ناسيا أو مكرها، أو فعل بعض المحلوف عليه، أو على من لا يمتنع بيمينه وغير ذلك.
(2) ففعله مكرها، لم يحنث ولو حلف لا يعامل زيدا، فعامل وكيله، أو باعه حنث.
(3) كقرية أو بستان أو حمام.
(4) أي ففعل ما حلف على تركه، مكرها بضرب، أو أخذ مال يضره أو تهديد بقتل ونحوه، لم يحنث.
(5) ويحنث بالاستدامة بعد الإكراه، أشبه ما لو دخل مختارا، ولو حلف لا يزوج ابنته، فزوجها الأبعد، أو الحاكم، حنث إن تسبب في التزويج، وإن لم يتسبب فلا، وإن كان المقصود أنها لا تتزوج، حنث بكل حال.
(6) قال الشيخ: إذا حلف على إنسان قاصدا إكرامه، لا يحنث مطلقا إلا
إن كان قاصدا إلزامه، فإنه يحنث اهـ وأما إذا لم يقصد منعه، كما لو قال لزوجته، إن دخلت دار فلان، فأنت طالق، ولم يقصد منعها، وإنما قصد مجرد التعليق، فيقع الطلاق بدخولها، حيث كان، كمن لا يمتنع بيمينه.(7/493)
كإتلاف المال والجناية (1) بخلاف اليمين بالله تعالى، فإنها حق الله تعالى، وقد رفع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان (2) (و) إن حلف (على من لا يمتنع بيمينه من سلطان وغيره) كالأجنبي لا يفعل شيئا (ففعله حنث) الحالف (مطلقا) سواء فعله المحلوف عليه، عامدا أو ناسيا، عالما أو جاهلا (3)
__________
(1) أي: كما لا يعذر بإتلاف المال، على الآدمي، والجناية عليه بالنسيان والجهل، وقال الشيخ، وغيره: إذا حلف لا يفعل شيئا، ففعله ناسيا، أو جاهلا، بأنه المحلوف عليه، فلا حنث عليه، ولو في الطلاق والعتاق، وغيرهما، ويمينه باقية، نص عليه، ويدخل في ذلك من فعله متأولا، أو تقليدا لمن أفتاه، أو مقلدا لعالم ميت، مصيبا أو مخطئا.
قال: وقد ظن طائفة أنه إذا حلف بالطلاق، على أمر يعتقده، كما حلف، فتبين بخلافه، أنه يحنث، قولا واحدا، وهذا خطأ بل الخلاف في مذهب أحمد، ولو حلف على نفسه أو غيره، ليفعلن شيئا، فجهله أو نسيه، فلا حنث عليه، إذ لا فرق بين أن يتعذر المحلوف عليه، لعدم العلم، أو عدم القدرة.
(2) قال تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وفي الحديث قال قد فعلت، وحديث «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان» .
(3) لإمكان فعل المحلوف عليه.(7/494)
(وإن فعل هو) أي الحالف لا يفعل شيئًا، أو من لا يمتنع بيمينه، من سلطان أو أجنبي (أو غيره) أي غير من ذكر (ممن قصد منعه) كزوجة وولد (بعض ما حلف على كله) (1) كما لو حلف لا يأكل هذا الرغيف، فأكل بعضه (لم يحنث) لعدم وجود المحلوف عليه (ما لم تكن له نية) أو قرينة كما لو حلف لا يشرب ماء هذا النهر، فشرب منه، فإنه يحنث (2) .
__________
(1) لم يحنث، قال الشيخ: لأن ما لا يمكن التحرز منه، لا يراد، ولا تقع اليمين عليه.
(2) قال ابن القيم: ومن الحيل الباطلة لو حلف لا يأكل هذا الرغيف أو لا يسكن في الدار هذه السنة، أو لا يأكل هذا الطعام، قالوا: يأكل الرغيف ويدع منه لقمة واحدة، ويسكن السنة كلها إلا يوما واحدا، ويأكل الطعام كله، إلا القدر اليسير منه، ولو أنه لقمة وهذه حيلة باطلة باردة.
ومتى فعل ذلك فقد أتى بحقيقة الحنث، وفعل نفس ما حلف عليه، ثم يلزم هذا المتحيل أن يجوز للمكلف، كل ما نهى الشارع عن جملته، فيفعله إلا القدر اليسير منه، فإن البر والحنث في الإيمان، نظير الطاعة والمعصية في الأمر والنهي، ولذلك لا يبرأ إلا بفعل المحلوف عليه جميعه، لا بفعل بعضه، كما لا يكون مطيعا إلا بفعله جميعه، ويحنث بفعل بعضه، كما يعصي بفعل بعضه.(7/495)
باب النذر (1)
(لغة الإيجاب) (2) يقال: نذر دم فلان، أي أوجب قتله (3) وشرعا: إلزام مكلف مختار نفسه لله تعالى، شيئا غير محال بكل قول يدل عليه (4) .
__________
(1) يعقده العبد على نفسه، يؤكد به ما ألزمها به، من الأمور لله عز وجل، وهي تعظيم للخالق، ولأسمائه ولحقه، وأن تكون العقود به وله، وهذا غاية التعظيم فلا يعقده بغير اسمه، ولغير القرب إليه، فإن حلف فباسمه تعظيما وتبجيلا، وتوحيدا وإجلالا، وإن نذر فله توحيدا وطاعة، ومحبة وعبودية والأصل فيه: الكتاب والسنة والإجماع.
(2) أي وإيجاب المرء على نفسه شيئا لم يكن واجبا قبل.
(3) النذر، كعلي لله، أو نذرت لله، ولا يختص بذلك ونحوه، ولا ينعقد بغير القول، ولا بمحال، وفي الشرح، لا يستحب النذر، للنهي عنه، وتوقف شيخ الإسلام في تحريمه، وحرمه طائفة من أهل الحديث، قال: وما وجب بالشرع إذا نذره العبد، أو عاهد عليه الله، أو بايع عليه الرسول، أو الإمام، أو تحالف عليه جماعة، فإن هذه العهود والمواثيق، تقتضي له وجوبا ثانيا، غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول، فيكون واجبا من وجهين، ويكون تركه موجبا لترك الواجب بالشرع، والواجب بالنذر، هذا هو التحقيق، نص عليه أحمد، وقاله طائفة من العلماء.
(4) وقال ابن القيم: الملتزم الطاعة لله، لا يخرج عن أربعة أقسام، إما أن يكون بيمين مجردة، أو بنذر مجرد، أو بيمين مؤكدة بنذر، أو بنذر مؤكد
بيمين كقوله {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} فعليه أن يفي به، وإلا دخل في قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} وهو أولى باللزوم من أن يقول: لله علي كذا، وقال: فرق بين ما التزم لله، وما التزم بالله، فالأول ليس فيه إلا الوفاء، والثاني يخير بين الوفاء والكفارة.(7/496)