لقوله صلى الله عليه وسلم «من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترطه المبتاع» متفق عليه (1) والتأبير التلقيح (2) وإنما نص عليه (3) والحكم منوط بالتشقق لملازمته له غالبا (4) .
__________
(1) أي من اشترى نخلا بعد أن تؤبر، أي تشقق وتلقح، والتأبير التشقيق والتلقيح، وذلك أنه يشق طلع النخلة الأنثى، ليذر فيها شيء من طلع النخلة، الذكر، فالثمرة للبائع، إلا أن يشترطها المشتري، وذلك كأن يقول: اشتريت الشجرة بثمرتها، فدل الحديث على أن من باع نخلة وعليها ثمرة مؤبرة، لم تدخل الثمرة في البيع، بل تستمر على ملك البائع، إلا أن يشترطها المبتاع فتكون له، ودل بمفهومه على أنها إن كانت غير مؤبرة تدخل في البيع، وتكون للمشتري، والبيع صحيح باتفاق أهل العلم، والنهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، المراد بها المستقلة، وهنا الثمرة تابعة للنخل، فتدخل تبعا.
وقال أحمد الذي قد أبر للبائع، والذي لم يؤبر للمشتري، واختار الشيخ، أن الحكم منوط بالتأبير، وهو ظاهر النص، وألحق بالبيع باقي عقود المعاوضات، لأنها في معناه، وكذا الهبة، والرهن، وتترك إلى الجذاذ، لأن تفريغ المبيع بحسب العرف والعادة.
(2) وفي القاموس: أبر النخل يأبره، أصلحه كأبره، وفي النهاية، المأبورة الملقحة، يقال: أبرت النخلة وأبرتها فهي مأبورة ومؤبرة، والاسم الإبار.
(3) أي وإنما نص في الحديث على التأبير، الذي هو التلقيح.
(4) أي والحكم عند بعض العلماء معلق بالتشقق، لملازمة التشقق للتأبير في الغالب، وتقدم أنه قول الجمهور، وقول أحمد: إنه منوط بالتأبير، اختاره الشيخ وغيره، أخذا بظاهر النص.(4/539)
وكذا لو صالح بالنخل (1) أو جعله أجرة (2) أو صداقا، أو عوض خلع (3) بخلاف وقف ووصية، فإن الثمرة تدخل فيهما، أبرت أو لم تؤبر (4) كفسخ لعيب ونحوه (5) (وكذلك) أي كالنخل (شجر العنب، والتوت، والرمان وغيره) كجميز (6) .
__________
(1) أي ومثل من باع في الحكم، لو صالح بنخل تشقق طلعه، ولو لم يؤبر، فثمرته لمعط، ما لم يشترطه آخذ.
(2) ومثله لو جعله جعلا، أو أخذه تبعا للأرض بشفعة.
(3) أي جعل النخل ونحوه صداقا، أو جعله عوض خلع، أو عوض طلاق أو عتق، فثمرة نخل تشقق طلعه لمعط إلى الجذاذ، ما لم يشترطه آخذ وما قبل التشقق لمشتر.
(4) لأن المقصود من وقف ذلك الانتفاع به، فدخلت مطلقا ومثله الوصية، واقتصاره عليهما يفهم أن الإقرار ليس كذلك، كما هو مفهوم شرح الإقناع.
(5) أي كفسخ بيع، وكذا نكاح قبل دخوله لعيب، ومقايلة في بيع، ورجوع أب في هبة وهبها لوالده، حيث لا مانع منه، فتدخل الثمرة في هذه الصور ونحوها، لأنها نماء متصل، أشبهت الثمر في المبيع.
(6) بضم الجيم، وفتح الميم المشددة، التين الحلو، وكذا الجوز وغيره مما فيه ثمر باد، وجعله العنب مما تظهر ثمرته بارزة، لا قشر عليها ولا نور، فيه نظر، بل هو بمنزلة ما يظهر نوره ثم يتناثر، فتظهر قطوفه كحب الدخن، ثم يتفتح ويتناثر كتناثر النور، فيلحق بالتفاح ونحوه.(4/540)
من كل شجر لا قشر على ثمرته (1) فإذا بيع ونحوه بعد ظهور الثمرة كانت للبائع ونحوه (2) (و) كذا (ما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح (3) وما خرج من أكمامه) جمع كم وهو الغلاف (4) (كالورد) والبنفسج (والقطن) (5) الذي يحمل في كل سنة (6) .
__________
(1) أو بدا في قشره وبقي فيه إلى أكله كالرمان والموز، أو في قشريه كالجوز.
(2) كمرتهن ومتهب وغيرهما ممن تقدم، لأن ظهورها من شجرها بمنزلة ظهور ما في الطلع.
(3) والسفرجل واللوز، والخوخ ونحوه، و «نوره» بفتح النون زهره.
(4) كما في النهاية وغيرها وفي القاموس: وعاء الطلع، وغطاء النور، والغلاف الغطاء.
(5) فإنه تظهر أكمامه ثم تفتح، فهو كالطلع، قال في الإنصاف: ما خرج من أكمامه كالورد والقطن للبائع بلا نزاع. اهـ، وكذا الياسمين والبنفسج والنرجس ونحوه، فإن الشجر على خمسة أضرب، ما تكون ثمرته في أكمام، ثم تفتح فتظهر كالنخل ومنه القطن، وما يقصد نوره كالورد، والياسمين والنرجس، والبنفسج، وهو بفتح الباء، والثاني: ما تظهر ثمرته بارزة، كالتين، والجميز، والثالث: ما يظهر في قشره، ثم يبقى فيه إلى حين الأكل كالرمان، والرابع: في قشريه كالجوز واللوز، لأن قشره لا يزول عنه غالبا، والخامس ما يظهر نوره ثم يتناثر، فنظهر الثمرة كالتفاح.
(6) قيده بذلك، لأن قطن الشام ونحوه الذي يحصد في كل سنة بخلافه فحكمه حكم الزرع.(4/541)
لأن ذلك كله بمثابة تشقق الطلع (1) (وما قبل ذلك) أي قبل التشقق في الطلع (2) والظهور، في نحو العنب، والتوت والمشمش (3) والخروج من الأكمام في نحو الورد، والقطن (4) (والورق فلمشتر) ونحوه (5) لمفهوم الحديث السابق في النخل (6) .
__________
(1) فأعطي حكمه، فإن تشقق طلع النخل هو الأصل، وما سواه مقيس عليه.
(2) فلمشتر لمفهوم الخبر المتقدم ومفهومه قوله: قضى أن ثمرة النخل لمن أبرها: وهو مذهب مالك والشافعي.
(3) والرمان، والجميز، والتفاح، والسفرجل، ونحو ذلك مما تقدم لمشتر.
(4) والبنفسج والياسمين ونحوه لمشتر، قياسا على الطلع.
(5) وكذا الأغصان وسائر أجزاء الشجر، لمشتر، ومتهب، ونحوهما لأن ذلك من أجزائها، خلق لمصلحتها، فهو كأجزاء سائر المبيع، ويحتمل أن يكون ورق التوت المقصود أخذه لدود القز للبائع، إذا تفتح، لأنه بمنزلة ما يظهر نوره من الورد وغيره، وذلك إذا كان عادتهم أخذ الورق، لأن القصود في ذلك ونحوه معتبرة.
(6) ولفظه «من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترطها المبتاع» وهو مذهب جمهور العلماء، قال الوزير وغيره: إن كان غير مؤبر فقال مالك، والشافعي، وأحمد: الثمرة للمشتري، وإن كان مؤبرا فللبائع، إلا أن يشترطه المبتاع.(4/542)
وما عداه فبالقياس عليه (1) وإن تشقق أو ظهر بعض ثمره، ولو من نوع واحد، فهو لبائع (2) وغيره لمشتر (3) إلا في شجرة، فالكل لبائع ونحوه (4) ولكل السقي لمصلحة، ولو تضرر الآخر (5) .
__________
(1) أي وما عدا ثمرة النخل الذي وضح الشارع حكمه كما تقدم مقيس عليه، فإن حكم ثمر النخل هو الأصل: وقاس الشيء بالشيء، وقاسه عليه: قدره على مثاله، والقياس في الشرع: حمل فرع على أصل في حكم، يجامع بينهما.
(2) أي وإن تشقق طلع النخل، أو ظهر بعض ثمر الشجر، فما ظهر للبائع ونحوه، ولو كان ما تشقق أو ظهر بعضه من نوع واحد، إلحاقا لما يتشقق بمتشقق لأنا إذا لم نجعل الكل للبائع أدى إلى الإضرار باشتراك الأيدي، وقال الموفق وغيره: هذا في النوع الواحد، لأن الظاهر أنه يتقارب ويتلاحق فيختلط وإلا لم يتبعه النوع الآخر ولم يفرق أبو الخطاب وغيره.
(3) أي وغير ما تشقق وظهر كله أو بعضه فلمشتر لما تقدم.
(4) أي وإلا أن يكون ما ظهر في شجرة، كثمرة النخلة الواحدة إذا تشقق بعضه، فإن الجميع للبائع، قال الموفق: بالاتفاق، ومثل بائع من انتقل إليه بعقد معاوضة كصداق، أولا كهبة كما تقدم، فإن اختلفا: هل بدت الثمرة، أو تشقق الطلع قبل بيع ونحوه أو بعده؟ فقول بائع: قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(5) أي ولبائع سقي ثمرته لمصلحة، ولمشتر سقي ماله إن كان فيه مصلحة، لحاجة وغيرها، ولو تضرر الآخر بالسقي، فلا يمنعان ولا أحدهما من السقي، لأنهما دخلا في العقد على ذلك، ويرجع في ذلك إلى أهل الخبرة، ومن اشترى شجرة أو نخلةفأكثر، لم تتبعها أرضها، وإن لم يشترط قطعها أبقاها في أرض بائع، كثمر على شجر، بلا أجرة، ولا يغرس مكانها لو بادت، لأنه لم يملكه وله الدخول لمصلحتها، لثبوت حق الاجتياز له، ولا يدخل لتفرج ونحوه.(4/543)
(ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه) (1) لأنه عليه السلام نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع، متفق عليه (2) والنهي يقتضي الفساد (3) (ولا) يباع (زرع قبل اشتداد حبه) (4) .
__________
(1) الثمر جمع ثمرة، وهي أعم من الرطب وغيره، و «بدو» بغير همز أي ظهور صلاحه، حمرته، أو صفرته، وبدوه إذا ظهر، ولو في شجرة إذا اتحد البستان، والعقد، والجنس فيتبع ما لم يبد صلاحه ما بدا صلاحه، لأن الله جعل الثمار لا تطيب دفعة واحدة، إطالة لزمن التفكه، ولو اعتبر في طيب الجميع، لأدى إلى أن لا يباع شيء قبل كمال صلاحه، أو الحبة بعد الحبة، وفي كل منهما ضرر.
(2) أما البائع فإنه يريد أكل المال بالباطل، وأما المشتري فإنه يوافقه على حرام، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث، ولهما عن أنس: نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، قيل: وما زهوها؟ قال «تحمار أو تصفار» قال الخطابي: أراد حمرة أو صفرة بكمودة، ولم يرد اللون الخالص، وقال ابن التين: ظهور أوائل الحمرة، وفي حديث زيد بن خالد: كان الناس يتبايعون الثمار، فإذا جذ الناس، وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه أصاب الثمرة الدمان، وهو فساد الطلع، وسواده وقال بعضهم: مراض، قشام، أي تساقط، عاهات يحتجون بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تبتاعوا حتى يبدو صلاح الثمرة» فالضابط أن يطيب أكله، ويظهر نضجه.
(3) أي فساد المنهي عنه، لهذه الأخبار وغيرها، فإنها دالة على المنع من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وأن وقوعه في تلك الحال باطل، كما هو مقتضى النهي.
(4) أي قوته وصلابته، والمراد بدو صلاحه، وهذا إجراء للحكم على الغالب
لأن تطرق التلف إلى البادي صلاحه ممكن، وعدمه إلى غير ما بدا صلاحه ممكن، فأنيط الحكم بالغالب.(4/544)
لما روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع النخل حتى يزهو (1) وعن بيع السنبل حتى يبيض (2) ويأمن العاهة (3) نهى البائع والمشتري (4) (ولا) تباع (رطبة وبقل (5) ولا قثاء ونحوه كباذنجان (6)
__________
(1) وذلك إذا ظهرت حمرته، وفسره بقوله «تحمار وتصفار» وهو دليل على خلاص الثمر من الآفة، وفيه «أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟» .
(2) وفي لفظ «حتى يشتد» وفي الصحيحين، نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب.
(3) يعني الآفة تصيبه فيفسد، فدل الحديث على أن الصلاح في السنبل أن يشتد ويبيض، ويأمن الآفة، فاشتداد الحب هو الغاية لصحة بيعه، كبدو الصلاح في الثمرة.
(4) أما البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وأما المشتري فلئلا يضيع ماله، ويساعد البائع على الباطل، قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا يعدل عن القول بهذا الحديث، وهو قول مالك وأهل المدينة، وأهل البصرة، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي.
(5) الرطبة القت، وفي النهاية: الفصفصة، وهي الرطبة من علف الدواب، والبقل: الكراث، وقيل: كل نبات، اخضرت به الأرض.
(6) وكبطيخ وباميا والقثاء هو الخيار، والواحدة قثاءة، ويسمى الطروح.(4/545)
دون الأصل) أي منفردة عن أصولها (1) لأن ما في الأرض مستور مغيب (2) وما يحدث منه معدوم، فلم يجز بيعه كالذي يحدث من الثمرة (3) فإن أبيع الثمر قبل بدو صلاحه بأصوله (4) .
__________
(1) كثمر دون نخل، وسائر شجر، أو زرع دون أرض، أو قثاء ونحوه دون عروقه، فلم يصح البيع، لما تقدم.
(2) كالمقاثي، أي فلا يجوز بيعها بدون أصولها.
(3) أي كما لا يجوز بيع ما يحدث من الثمرة، لوقوع العقد على معدوم، وقال الشيخ: الصحيح أن هذه لم تدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم بل يصح العقد على اللقطة الموجودة، واللقطة المعدومة إلى أن تيبس المقثاة، لأن الحاجة داعية إلى ذلك، فيجوز بيع المقاثي دون أصولها.
وقال ابن القيم: ليس في كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام، ولا بمعنى خاص، بل صحح الشارع في بعض المواضع بيع الثمر، وإنما نهى عن بيع الثمار التي يمكن تأخير بيعها، حتى يبدو صلاحها، فلم تدخل المقاثي في نهيه، وقال: وإنما نهى عن بيع الغرر، ولا يسمى هذا البيع غررا لا لغة، ولا عرفا، ولا شرعا اهـ.
وأهل الخبرة يستدلون بما ظهر من الورق، على المغيب في الأرض، والمرجع في ذلك إليهم، وأيضا العلم في المبيع شرط، في كل شيء بحسبه، وما احتيج إلى بيع يسوغ فيه ما لا يسوغ في غيره، فيجيزه الشارع للحاجة مع قيام السبب، كما أقام الخرص في العرايا مقام الكيل، وغير ذلك.
(4) وذلك بأن يبيع الثمر مع الشجر صح البيع، قال الموفق وغيره: بالإجماع لأنه دخل تبعا لها.(4/546)
أو الزرع الأخضر بأرضه (1) أو أبيعا لمالك أصلهما (2) أو أبيع قثاء ونحوه مع أصله، صح البيع (3) لأن الثمر إذا أبيع مع الشجر، والزرع إذا أبيع مع الأرض، دخلا تبعا في البيع، فلم يضر احتمال الغرر (4) وإذا أبيعا لمالك الأصل فقد حصل التسليم للمشتري على الكمال (5) .
__________
(1) صح البيع، كالثمر مع الشجر.
(2) أي أو أبيع الثمر والزرع لمالك أصل الشجر والأرض، صح البيع، وهو المشهور عن مالك، وأحد الوجهين للشافعية، واختاره أبو الخطاب وغيره، وذلك أن يبيع الأصل بعد أن أبرت الثمرة، ولم يشترط المبتاع تلك الثمرة، فيبيعها بائع الأصل على المشتري.
(3) أي وإلا أبيع قثاء ونحوه كباذنجان مع أصله صح البيع، ولو لم تبع معه أرضه، لأنه أصل تتكرر ثمرته، أشبه الشجر، وذكر الشيخ وغيره أنه يجوز بيع المقاثي بعروقها، سواء بدا صلاحها أولا، وأن العروق كأصول الشجر، وتقدم أن المأخذ الثاني، وهو الصحيح أنها لم تدخل في النهي، بل يصح العقد على اللقطة الموجودة والمعدومة، وأنه يجوز بيعها دون أصولها.
(4) كما احتملت الجهالة في بيع اللبن في الضرع مع الشاة، والنوى في التمر مع التمر، ولا نزاع في صحته.
(5) أي وإذا أبيع الثمر لمالك الشجر، والزرع لمالك الأرض، فقد حصل بذلك تسليم الجميع للمشتري على الكمال، لملكه الأصل والقرار، فصح البيع، كصحة بيعها معهما، هذا المذهب وعنه: كبيعه لغير مالكه، لانفراد العقد، وهو قول الجمهور، لعموم الخبر.(4/547)
(إلا) إذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها (1) أو الزرع قبل اشتداد حبه (بشرط القطع في الحال) فيصح إن انتفع بهما (2) لأن المنع من البيع لخوف التلف، وحدوث العاهة، وهذا مأمون فيما يقطع (3) .
(أو) إلا إذا باع الرطبة والبقول (جزة) موجودة فـ (جزة) فيصح (4) لأنه معلوم لا جهالة فيه ولا غرر (5) .
__________
(1) يعني بشرط القطع في الحال فيصح، قال الموفق: بالإجماع.
(2) أي بالثمر والزرع، قاله الشيخ وغيره، وذلك لأنه إذا لم ينتفع بهما فهو فساد، وإضاعة المال، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، وإن أراد بذلك نفي الضمان لم ينتف لإثبات الشارع له، ولا يجوز اتخاذ ذلك حيلة لإبطال ما أمر الله به، ونهى عنه، وإن اشترى قصيلا من شعير ونحوه، فقطعه ثم نبت، فلصاحب الأرض، كما لو سقط سنابل من حاصد زرع، ثم نبت من العام المقبل نص عليه، وما لا ينتفع به كثمر الجوز، وزرع الترمس، لا يصح بشرط القطع، لعدم النفع بالمبيع، وكذا ما كان مشاعا، لتعذر قطعه بدون قطع ما لا يملكه.
(3) فيصح بيعه، كما لو بدا صلاحه.
(4) أي البيع إذا، والجزة بالكسر ما جز منه والمرة، وجز الحشيش ونحوه جزا: قطعه.
(5) وهذا مذهب الشافعي، ورخص مالك وغيره في شراء جزتين وثلاث، وتقدم قول الشيخ وابن القيم: أنه لم يرد أن بيع المعدوم لا يجوز، وأنه ليست العلة في المنع العدم، ولا الوجود، وأنه وإن كان معدوما، فليس فيه غرر، لأنه يقدر على تسليمه، فلا غرر فيه، وأما الخشب ونحوه إذا اشتراه من غير شرط القطع.
فالبيع صحيح، والكل للمشتري إلى وقت قطعه المعتبر عند أهله، جزم به الشيخ سليمان بن علي، وفي الإقناع: إن أخر قطع خشب مع شرطه فنما، فالبيع لازم، ويشتركان في الزيادة.(4/548)
(أو) إلا إذا باع القثاء ونحوها (لَقْطَة) موجودة فـ (لقطة) موجودة لما تقدم (1) وما لم يخلق لم يجز بيعه (2) (والحصاد) لزرع، والجذاذ لثمر (3) (واللقاط) لقثاء ونحوها (على المشتري) (4) .
__________
(1) أي من أنه معلوم، لا جهالة فيه ولا غرر، فيصح البيع، واللقطة بفتح اللام: المرة.
(2) وهذا مذهب الشافعي وغيره، وقال ابن القيم: لم جعلوا المعدوم منزلا منزلة الموجود في منافع الإجارة، للحاجة إلى ذلك، وهذا مثله من كل وجه لأنه يستخلف كما تستخلف المنافع، وقد جوزوا بيع الثمرة إذا بدا الصلاح في واحدة منها، ومعلوم أن بقية الأجزاء معدومة، فجاز بيعها، قال: واللقطة لا ضابط لها، فإنه يكون في المقثاة الكبار والصغار وبين ذلك، فالمشتري يريد استقصاءها والبائع يمنعه من أخذ الصغار، فيقع التنازع، فأين هذا من جعل ما لم يوجد تبعا لما وجد، لما فيه من المصلحة، وقد اعتبرها الشارع، ولم يأت عنه أنه نهى عن بيع المعدوم، وإنما نهى عن بيع الغرر، والغرر شيء، وهذا شيء، ولا يسمى هذا البيع غررا، لا لغة، ولا عرفا، ولا شرعا.
(3) يعني إذا بيع -حيث صح- على المشتري، ما لم يكن عرفا مطرد، أو شرط وكذا جز رطبة، ونعناع ونحوه.
(4) إذا بيع حيث صح البيع، ولم يكن هناك شرط، ولا عرف، قال في الإنصاف: بلا نزاع، وإن شرطه على البائع صح، وتقدم أن القثاء هو الخيار ونحوه الباذنجان.(4/549)
لأنه نقل لملكه، وتفريغ لملك البائع عنه فهو كنقل الطعام (1) (وإن باعه) أي الثمر قبل بدو صلاحه، أو الزرع قبل اشتداد حبه (2) أو القثاء ونحوه (مطلقا) أي من غير ذكر قطع ولا تبقية، لم يصح البيع لما تقدم (3) .
(أو) باعه ذلك (بشرط البقاء) لم يصح البيع لما تقدم (4) (أو اشترى ثمرا لم يبد صلاحه بشرط القطع، وتركه حتى بدا) صلاحه، بطل البيع بزيادته (5) .
__________
(1) أي من دار بائع على المشتري، وهذا بخلاف كيل، ووزن فعلى بائع، لأنها من مؤنة تسليم المبيع، وهو على البائع، وهنا حصل التسليم بالتخلية بدون القطع لجواز بيعها، والتصرف فيها، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا.
(2) أي من غير ذكر قطع ولا تبقية، لم يصح البيع، قال الموفق: إذا باعها مطلقا، ولم يشترط قطعا ولا تبقية، فالبيع باطل، وبه قال مالك: والشافعي، وذكره ابن القيم من الحيل الباطلة وأنه نفس ما نهى عنه الشارع.
(3) أي من الأدلة على اشتراط بدو الصلاح في الثمرة، واشتداد الحب في الزرع ونحوه، فكذا القثاء ونحوه، وقالوا: لما فيه من الغرر، وتقدم بيانه.
(4) أي أو باعه الثمر، أو الزرع، أو القثاء ونحوه بشرط البقاء، لم يصح البيع، لما تقدم من الأدلة على ذلك، وتقدم حكاية الموفق الإجماع على عدم جواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط التبقية، للنهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وكذا الزرع الأخضر للخبر، وقول ابن المنذر: لا أعلم أحد يعدل عن القول به، وبيع القثاء ونحوه هذا المذهب، وتقدم ما ذهب إليه الشيخ، وابن القيم، وهو مذهب مالك، ومقتضى الأصول الشرعية.
(5) هذا المذهب واختاره الخرقي، وقال القاضي والشارح: هي أصح
وعليه: يرد المشتري الثمرة إلى البائع، ويأخذ الثمن، وإن أراد الحيلة لم يصح بحال، فعن أحمد صحته على من لم يرد حيلة، قال الموفق وغيره: وهو قول أكثر الفقهاء، لأن أكثر ما فيه أن المبيع اختلط بغيره، فأشبه ما لو اشترى ثمرة فحدثت أخرى ونحو ذلك.(4/550)
لئلا يجعل ذلك ذريعة إلى شراء الثمرة قبل بدو صلاحها، وتركها حتى يبدو صلاحها (1) وكذا زرع أخضر بيع بشرط القطع، ثم ترك حتى اشتد حبه (2) (أو) اشترى (جزة) ظاهرة من بقل، أو رطبة (3) (أو) اشترى (لقطة) ظاهرة، من قثاء ونحوها، ثم تركهما (فنمتا) بطل البيع (4) .
__________
(1) ووسائل الحرام حرام، كبيع العينة، قال ابن القيم: إذا باعها بشرط، القطع في الحال، ثم اتفقا على بقائها إلى حين الكمال، فهو عين ما نهى الله عنه، لما يفضي إلى التشاجر، والتشاحن، فإن الثمار تصيبها العاهات كثيرا، فيفضي بيعها قبل إكمالها إلى أكل مال المشتري بالباطل، كما علل به الشارع.
(2) أي يبطل بزيادته، لئلا يجعل ذريعة إلى ما نهى عنه الشارع، وإن أريد به الحيلة لم يصح بحال، وإذا بطل البيع فالأصل والزيادة للبائع، إلا أنه يعفى عن يسير الزيادة عرفا.
(3) لاشتراطهم بيعه جزة جزة.
(4) وذلك بأن طالت جزة الرطبة، ونحوها، وكبرت اللقطة من القثاء ونحوها، وتقدم أن مذهب مالك واختيار الشيخ وتلميذه الصحة.(4/551)
لئلا يتخذ حيلة على بيع الرطبة ونحوها -والقثاء ونحوها- بغير شرط القطع (1) (أو اشترى ما بدا صلاحه) من ثمر (وحصل) معه (آخر واشتبها) بطل البيع، قدمه في المقنع وغيره (2) والصحيح أن البيع صحيح (3) وإن علم قدر الثمرة الحادثة دفع للبائع، والباقي للمشتري، وإلا اصطلحا (4) ولا يبطل البيع، لأن المبيع اختلط بغيره، ولم يتعذر تسليمه (5) .
__________
(1) هذا على ما ذهب إليه متأخروا الفقهاء، من أنه لا يجوز بيعه إلا جزة، أو لقطة في الحال، وجوز الشيخ وتلميذه وغيرهما بيعه وإن كان معدوما، وذكروا أنه لا غرر فيه، وفي الإنصاف: أو خشبا بشرط القطع، فأخر قطعه فزاد، فالبيع لازم والزيادة للبائع، قدمه في الفائق، وقيل: الزيادة لهما، وذكروا أنه المنصوص.
(2) وفي المغنى: شبهه بحنطة انثالت عليها أخرى، أو ثوبا اختلط بغيره.
(3) أي والصحيح فيما إذا اشترى ما بدا صلاحه، وحصل آخر واشتبها أن البيع صحيح، وصوبه الزركشي، وقال الشارح فيما إذا حدثت ثمرة أخرى: هما شريكان فيهما، كل بقدر ثمرته، ولا يبطل العقد في ظاهر المذهب، لأن المبيع لم يتعذر تسليمه وإنما اختلط بغيره.
(4) أي وإلا يعلم قدرها اصطلحا على الثمرة، لدعاء الحاجة لذلك، إذ لا طريق لمعرفة كل منهما.
(5) فيصح، أشبه ما لو اشترى صبرة واختلطت بغيرها، ولم يعرف قدر كل منهما.(4/552)
والفرق بين هذه والتي قبلها تخاذه حيلة على شراء الثمرة قبل بدو صلاحها كما تقدم (1) (أو) اشترى رطبا (عرية) وتقدمت صورتها في الربا (2) فتركها (فأتمرت) أي صارت تمرا (بطل) البيع (3) لأنه إنما جاز للحاجة، إلى أكل الرطب، فإذا أتمر تبينا عدم الحاجة، سواء كان الترك لعذر أو لا (4) (والكل) أي الثمرة وما حدث معها على ما سبق (للبائع) لفساد البيع (5) (وإذا بدا) أي ظهر (ما له صلاح في الثمرة، واشتد الحب (6) .
__________
(1) أي في بطلانه إذا كان حيلة على شراء الثمرة قبل بدو صلاحها، ويفارق أيضا مسألة العرية.
(2) أي في باب الربا، في كلام الشارح، مستوفاة، بشروطها.
(3) هذا المذهب، واختاره الخرقي وغيره، لقوله صلى الله عليه وسلم «يأكلها رطبا» .
(4) أي لا فرق بين كون تركه لها لغناه عنها، أو مع حاجته إليها، وإن أخذها رطبا فتركها عنده فأتمرت، أو شمسها حتى صارت تمرا جاز، لأنه قد أخذها.
(5) بمجرد الزيادة، والذي سبق هو قوله: وحصل معه آخر واشتبها. وتقدم مفصلا.
(6) تقدم أن بدو الصلاح في الثمر أن يحمار ويصفار، واشتداد الحب أن يبيض ويصلب.(4/553)
جاز بيعه) أي بيع ما ذكر من الثمرة والحب (مطلقا) أي من غير شرط (1) (و) جاز بيعه (بشرط التبقية) أي تبقية الثمر إلى الجذاذ، والزرع إلى الحصاد، لأمن العاهة ببدو الصلاح (2) (وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ) (3) وله قطعه في الحال (4) وله بيعه قبل جذه (5) (ويلزم البائع سقيه) بسقي الشجرة الذي هو عليها (إن احتاج إلى ذلك) أي إلى السقي (6) .
__________
(1) أي شرط قطع أو تبقية، لأن النهي عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، والزرع حتى يشتد، غاية للمنع من بيعه، فيدل على الجواز بعده، وهو في الثمر إجماع لأن ظاهر النصوص أن البيع بعد ظهور الصلاح صحيح، وفي الزرع إذا اشتد هو قول الجمهور.
(2) فإن تعليل الشارع بأمن العاهة يدل على التبقية، لأن ما يقطع في الحال لا تخاف العاهة عليه، وإذا بدا الصلاح فقد أمنت العاهة، فيجب أن يجوز بيعه، لزوال علة المنع، وكذا الزرع إذا اشتد الحب يجوز كالثمرة.
(3) لاقتضاء العرف ذلك.
(4) أي ولمشتر قطع الثمر والزرع المبيع في الحال.
(5) أي ولمشتر بيع الثمر الذي بدا صلاحه، والزرع الذي اشتد حبه قبل جذه، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، لأنه مقبوض بالتخلية، فجاز التصرف فيه كسائر المبيعات.
(6) وعليه حراسته ليستلم المشتري الثمرة كاملة.(4/554)
وكذا لو لم يحتج إليه، لأنه يجب عليه تسليمه كاملا، فلزمه سقيه (1) (وإن تضرر الأصل) بالسقي (2) ويجبر عليه إن أبى (3) بخلاف ما إذا باع الأصل وعليه ثمر للبائع، فإنه لا يلزم المشتري سقيها (4) لأن البائع لم يملكها من جهته (5) (وإن تلفت) ثمرة أبيعت بعد بدو صلاحها دون أصلها، قبل أوان جذاذها (6) (بآفة سماوية) وهي ما لا صنع لآدمي فيها، كالريح والحر، والعطش (7) .
__________
(1) ولا يمكن التسليم كاملا بدون السقي.
(2) فيلزم البائع سقي الشجرة التي عليها الثمر المبيع.
(3) أي ويجبر بائع على سقي الثمر بسقي الشجر إن أبى السقي، لدخوله عليه.
(4) ولا يجب عليه تسليم الثمرة، بل يختص بالبائع، لكن لو قال البائع، لا تسق ثمري، لم يلزمه للمشتري شيء، لسقيه الأصل، وانتفاع الثمرة به.
(5) بل ملكه باق عليه، وهذا ما لم تبع الثمرة مع أصلها، فإن أبيعت معه فمن ضمان مشتر، وكذا لو أبيعت لمالك أصلها، لتسلمها التسلم التام، وكذا لو يؤخرها عن وقت أخذها المعتاد.
(6) متعلق بأبيعت، أو قبل بدو صلاحها بشرط القطع، قبل التمكن منه، و «ثمرة» نكرة تعم كل ثمر على أصوله، تلف قبل أوان جذاذه، وكذا ما أصله يتكرر حمله، كقثاء وخيار، وفي الكافي وغيره: تثبت أيضا في الزرع.
(7) وكمطر، وثلج وبرد، وجليد، وصاعقة، وجراد ونحوه، وفي
الاختيارات ولو من جراد، أو جيش لا يمكن تضمينه، فمن ضمان بائعه، إن لم يفرط المشتري.(4/555)
(رجع) ولو بعد القبض (على البائع) (1) لحديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، رواه مسلم (2) ولأن التخلية في ذلك ليست بقبض تام (3) .
__________
(1) أي رجع مشتري الثمرة بعد بدو صلاحها على البائع، ولو بعد القبض، وهو هنا بالتخلية، فـ (لو) إشارة إلى خلاف أبي حنيفة وغيره، قالوا: التخلية يتعلق بها جواز التصرف، فتعلق بها الضمان، والقول بضمان الثمرة على البائع مذهب الجمهور، والمراد ما لم تبع الثمرة مع أصلها، أو يؤخر أخذها عن عادته.
(2) الجوائح جمع جائحة، وهي الآفة تصيب الثمار فتهلكها، من الجوح، وهو الاستئصال، ولا خلاف أن البرد، والعطش جائحة، وكذا كل آفة سماوية وأن تلفها من مال البائع، وأنه لا يستحق على المشتري في ذلك شيئا، والجمهور من غير فرق بين القليل والكثير، وبين البيع قبل بدو الصلاح وبعده، عملا بظاهر الحديث، ولقوله «بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟» وغيره، ولأن مؤونته على البائع إلى تتمة صلاحه، فوجب كونه من ضمان.
واختار الشيخ ثبوت الجائحة في زرع مستأجر، وحانوت نقص نفعه عن العادة، وقال: قياس نصوص أحمد وأصوله إذا عطل نفع أرض بآفة، انفسخت فيما بقي، كانهدام الدار، ولأنه لا جائحة فيما تلف من زرعه، لأن المؤجر لم يبعه إياه، ولا ينازع في هذا من فهمه.
(3) أي فوجب كونه على بائع، كما لو لم يقبض، ويرجع على بائع الثمرة بثمنها إن تلفت كلها، أو ببعض الثمن إن تلف البعض، وهو مذهب الجمهور، ويقبل قول بائع في قدر تالف لأنه غارم.(4/556)
وإن كان التالف يسيرا لا ينضبط، فات على المشتري (1) (وإن أتلفه) أي الثمر المبيع على ما تقدم (آدمي) ولو البائع (خير مشتر بين الفسخ) ومطالبة البائع بما دفع من الثمن (2) (والإمضاء) أي البقاء على البيع (ومطالبة المتلف) بالبدل (3) (وصلاح بعض) ثمرة (الشجرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان) (4) .
__________
(1) فلا يرجع بقسطه من الثمن لقلته، قال يحيى بن سعيد: لا جائحة فيما دون ثلث رأس المال، وذلك في سنة المسلمين اهـ. ولأنه لا يؤثر في العادة ولا يسمى جائحة، ولا يمكن التحرز منه، كما لو أكل منه الطير، أو تساقط في الأرض، ونحو ذلك.
(2) أي وإن أتلف الثمر المبيع -على ما تقدم في قوله: أبيعت بعد بدو صلاحها إلخ -آدمي معين، ولو كان المتلف البائع، بنحو حرق، خير مشتر بين الفسخ للبيع، ومطالبة متلف بائع أو غيره بما دفع من الثمن، ويرجع بائع على متلف.
(3) كالمكيل إذا أتلفه آدمي قبل القبض، وقال ابن القيم: من غير مال غيره، بحيث يفوت مقصوده عليه، يخير المالك بين أخذه وتضمين النقص، والمطالبة بالبدل، وهذا أعدل الأقوال، وأقواها، اهـ. وأصل ما يتكرر حمله، من قثاء ونحوه كشجر، وثمره كثمر في جائحة ونحوها.
(4) أي وصلاح بعض ثمرة الشجرة صلاح لجميعها، فيباح بيع جميعها بذلك، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، ولسائر النوع الذي في البستان، فيجوز بيعه، وهو مذهب الشافعي وغيره.(4/557)
لأن اعتبار الصلاح في الجميع يشق (1) (وبدو الصلاح في ثمر النخل أن تحمر أو تصفر) (2) لأنه عليه السلام نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو، قيل لأنس: وما زهوها؟ قال: تحمار أو تصفار (3) .
__________
(1) فيؤدي إلى الاشتراك، واختلاف الأيدي، وكذا اشتداد بعض حب، فيصح بيع الكل تبعا، لا إفراد ما لم يبد صلاحه بالبيع، قال ابن رشد: الأنواع المتقاربة الطيب، يجوز بيع بعضها بطيب البعض، لأن الثمرة التي تنجو فيه في الغالب من العاهات، هو إذا بدا الطيب في الثمرة ابتداء متناسقا، غير منقطع وقال ابن القيم: إذا بدا الصلاح في بعض الشجر جاز بيعها جميعها، وكذلك يجوز بيع ذلك النوع كله في البستان.
وقال شيخنا: يجوز بيع البستان كله، تبعا لما بدا صلاحه، سواء كان من نوعه أو لم يكن، تقارب إدراكه وتلاحقه، أو تباعد اهـ، وهو مذهب مالك، لأنهما يتقاربان في الصلاح، ولأن المقصود الأمن من العاهة، وقد وجد، وذكره الموفق احتمالا، وفي الاختيارات، إذا بدا صلاح بعض الشجرة جاز بيعها، وبيع ذلك الجنس، وهو رواية عن أحمد، وبقية الأجناس الذي بان حمله، وقال: صلاح جنس من الحائط صلاح لسائر أجناسه، فيتبع الجوز التوت، والعلة عدم اختلاف الأيدي على الثمرة، وفي الفروع، واختار شيخنا بقية الأجناس التي تباع عادة كالتفاح، إلا أن يشترطه المبتاع، بلا نزاع في الجملة.
(2) أي يظهر في بلح النخل لون الحمرة أو الصفرة، بكمودة، أو أوائل ذلك، وليس المراد اللون الخالص كما تقدم.
(3) بالمد فيهما للمبالغة، والحمرة والصفرة هما بدو الصلاح في ثمر النخل، وبذلك يطيب الأكل منه، لقوله «حتى يطيب أكله» .(4/558)
(وفي العنب أن يتموه حلوا) (1) لقول أنس: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب حتى يسود، رواه أحمد، ورواته ثقات، قاله في المبدع (2) (وفي بقية الثمر) كالتفاح والبطيخ (3) (أن يبدوا فيه النضج، ويطيب أكله) (4) لأنه عليه السلام نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب، متفق عليه (5) والصلاح في نحو قثاء أن يؤكل عادة (6) .
__________
(1) أي يصفر لونه، ويظهر ماؤه، وتذهب عفوصته، من الحلاوة، فإن كان أبيض حسن قشره، وضرب إلى البياض، وإن كان أسود فحين يظهر فيه السواد.
(2) فقوله «حتى يسود» دليل لبدو الصلاح فيه، وغاية لجواز بيعه، وذلك بأن يبدو فيه الماء الحلو، ويلين، ويصفر لونه، ولأنه بذلك يطيب أكله.
(3) وكالرمان، والمشمش، والخوخ، والجوز، ونحو ذلك مما يظهر فمًا واحدا، وغير ذلك من سائر الثمار.
(4) وكذا قال جماعة في بدو الصلاح في الثمر، أن يطيب أكله، ويظهر نضجه، وفي الإنصاف: أن هذا الضابط أولى، والظاهر أن مراد غيرهم، وما ذكروه علامة على هذا.
(5) وفي لفظ: «حتى يطيب أكله» ولهما من حديث ابن عباس: نهى عن بيع النخل حتى يؤكل منه، والأحاديث في ذلك كثيرة، تدل على هذا المعنى.
(6) أي والصلاح فيما لا يتغير لونه ويؤكل طيبا، في نحو قثاء كخيار، فصلاحه بلوغه أن يؤكل عادة كالثمر.(4/559)
وفي حب أن يشتد أو يبيض (1) (ومن باع عبدا) أو أمة (له مال، فماله لبائعه، إلا أن يشترطه المشتري) (2) لحديث ابن عمر مرفوعا «من باع عبدا وله مال، فماله لبائعه، إلا أن يشترطه المبتاع» رواه مسلم (3) (فإن كان قصده) أي المشتري (المال) الذي مع العبد (4) (اشترط علمه) أي العلم بالمال (وسائر شروط البيع) (5) .
__________
(1) أي والصلاح في حب أن يصلب ويقوى، كما تقدم، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل اشتداد الحب غاية لصحة بيعه، كبدو الصلاح في الثمرة.
(2) أي ومن باع عبدا أو أمة، له مال ملكه سيده إياه، أو خصه به، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع أو بعضه في العقد، وهذا مذهب مالك، والشافعي.
(3) ورواه البخاري وغيره، وعن عبادة قضى أن مال المملوك لمن باعه، إلا أن يشترطه المبتاع، فدل على أن مال العبد لا يدخل في المبيع، حتى ثياب الجمال، ونسبه الماوردي لجميع الفقهاء، وصححه النووي، ولاختصاص البيع بالعبد دون غيره، كما لو كان له عبدان، فباع أحدهما، ولأن العبد وماله للبائع، فإذا باع العبد بقي المال، وسواء قلنا: العبد يملك بالتمليك، أولا، وقوله: المملوك ظاهر في التسوية بين العبد والأمة فهو في الدلالة أشمل.
(4) وذلك بأن لم يقصد تركه للرقيق، وعدم القصد تركه في يده له.
(5) من العلم به، وأن لا يشارك الثمن في علة ربا الفضل، ونحوه، كما يعتبر في العينين المبيعتين.(4/560)
لأنه مبيع مقصود، أشبه ما لو ضم إليه عينا أخرى (1) (وإلا) يكن قصده المال (فلا) يشترط له شروط البيع (2) وصح شرطه ولو كان مجهولا (3) لأنه دخل تبعا، أشبه أساسات الحيطان (4) وسواء كان مثل الثمن، أو فوقه، أو دونه (5) .
__________
(1) وباعهما، أي فإنه يشترط علمه بهما، وسائر شروط البيع، فكذلك المال مع العبد إذا كان مقصودا.
(2) أي وإلا يكن قصد المبتاع القن بالمال، أو ثياب جماله أو حليه، وقصد ترك ذلك للرقيق لينتفع به وحده، لم يشترط علمه بالمال، ولا غيره من شروط البيع.
(3) أي وصح شرط مال العبد، ولو كان مجهولا وقت البيع، وهو مذهب الشافعي وغيره، وسواء كان المال من جنس الثمن، أو من غير جنسه، عينا كان أو دينا.
(4) أي لأن مال العبد دخل في البيع تبعا غير مقصود، فأشبه أساسات الحيطان المستورة عن المشتري، في دخولها في البيع تبعا، وأشبه التمويه بالذهب في السقوف، والحمل في البطن، وأشباه ذلك، حتى قيل: إن المال ليس بمبيع هنا، وإنما استبقاه المشتري على ملك العبد، لايزول عنه إلى البائع.
(5) أي سواء كان المال مع العبد -غير المقصود للمشتري مثل الثمن- كأن باع عبدا بألف درهم، ومعه ألف درهم، أو أقل أو أكثر، فالبيع جائز، إذا كان رغبة المبتاع في العبد، لا في الدراهم، وذلك لأنه دخل في المبيع تبعا غير
مقصود، ونص أحمد على أن الشرط -الذي يختلف الحكم به- قصد المشتري دون غيره، وقال الموفق: هو أصح.(4/561)
وإذا شرط مال العبد ثم رده بإقالة أو غيرها، رده معه (1) (وثياب الجمال) التي على العبد المبيع (للبائع) (2) لأنها زيادة على العادة، ولا يتعلق بها حاجة العبد (3) (و) ثياب لبس (العادة للمشتري) (4) .
__________
(1) أي وإذا شرط المشتري مال العبد، ثم رد الرقيق بإقالة أو غيرها -كخيار، أو عيب، أو تدليس، ونحو ذلك- رد ماله مع الرقيق، لأنه عين مال أخذه المشتري به، فيرده بالفسخ كالعبد، ولأن قيمته تكثر به وتنقص مع أخذه فلا يملك رده حتى يدفع ما يزيل نقصه، فإن تلف ماله، ثم أراد رده، فكعيب حدث عند مشتر، يرد قيمته، ولا يفرق بين العبد المبيع وبين امرأته ببيعه، بل النكاح باق.
(2) وكذا شيء يزينه به، إلا أن يشترطه المبتاع، أو يطرد عرف.
(3) وإنما يلبسها إياه لينفقه بها، وهذه حاجة السيد، لا حاجة العبد، قال الموفق وغيره، ولم تجر العادة بالمسامحة بها، فجرت مجرى الستور في الدار، والدابة التي يركب عليها، ولأنه لم يتناولها لفظ البيع، ولا جرت العادة ببيعها معه، أشبه سائر مال البائع.
(4) أي وثياب عبد مبيع، أو أمة مبيعة مما هو لبس العادة للمشتري، إذ لا غناء له عنها، قال أحمد: ما كان يلبسه عند البائع للمشتري، اهـ. لأنه مما تعلق به حاجة المبيع أو مصلحته.(4/562)
لجريان العادة ببيعها معه (1) ويشمل بيع دابة كفرس لجاما، ومقودا ونعلا (2) .
__________
(1) قال الموفق وغيره: الثياب التي يلبسها عادة للخدمة والبذلة تدخل في المبيع.
(2) اللجام بكسر اللام ما يجعل في فم الدابة، والمقود بكسر الميم الرسن، وكل أسماء الآلات، بكسر أوله، والنعل للدابة ما وقيت به الأرض، ويجعل من حديد وغيره، فيدخل ذلك ونحوه في مطلق البيع، لجريان العادة به، فالعمل في الغالب بالعرف في ذلك ونحوه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
آخر المجلد الرابع من حاشية «الروض المربع»
ويليه المجلد الخامس وأوله «باب المسلم»(4/563)
بسم الله الرحمن الرحيم
باب السلم (1)
هو لغة أهل الحجاز (2) والسلف لغة أهل العراق (3) وسمي سلمًا لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفًا لتقديمه (4)
__________
(1) أي هذا باب يذكر فيه أحكام السلم، والتصرف في الدين، وما يتعلق بذلك، والسلم بفتحتين السلف وزنا ومعنى، وقيل: السلف تقديم رأس المال، والسلم تسليمه في المحل، فالسلف أعم.
(2) أي السلم في شيء معلوم، إلى أجل معلوم، هو لغة أهل الحجاز السائرة عندهم، لكن قال صلى الله عليه وسلم «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم» .
(3) أي والسلف بالفاء - وهو الإعطاء في سلعة إلى أجل معلوم - هو لغة أهل العراق، المعروفة عندهم، حكاه عنهم الماوردي وغيره، وقال الأزهري: السلم والسلف واحد، يقال: سلم، وأسلم، وسلف، وأسلف، بمعنى واحد، هذا قول جميع أهل اللغة إلا أن السلف يكون قرضًا.
(4) أي فيما أسلف فيه، واسم من الإسلاف، والتسليف التقديم، وأما إن كان الثمن مؤجلاً فبيع لا سلم، وباء البدلية مميز للثمن من المثمن، فما دخلت عليه ثمن لا مثمن.(5/3)
(وهو) شرعًا (عقد على موصوف) ينضبط بالصفة (1) (في الذمة) فلا يصح في عين كهذه الدار (2) (مؤجل) بأَجل معلوم (3) (بثمن مقبوض بمجلس العقد) (4) وهو جائز بالإجماع (5) لقوله عليه السلام «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» متفق عليه (6) .
__________
(1) أي والسلم شرعًا: عقد على شيء يصح بيعه، موصوف منعوت، وذلك الشيء ينضبط بالصفة.
(2) لقوله «أما في حائط بني فلان فلا» والذمة وهي لجائز التصرف: وصف يصير به المكلف أهلاً للإلزام والالتزام. واتفقوا على امتناعه فيما لا يثبت في الذمة كالدور والعقار.
(3) أي الموصوف مؤجل بأجل معلوم غير مجهول.
(4) "بثمن" متعلق "بعقد" مقبوض ذلك الثمن بمجلس العقد، وإلا لم يصح، إذ لو تأخر الثمن لحصل شغل الذمتين بغير فائدة، ودخل في حكم الكاليء بالكاليء على ما تقدم، وهذا التعريف لصاحب المبدع وغيره، واعترض بأن قبض الثمن شرط من شروط السلم، لا أنه داخل في حقيقته، فالأولى أنه بيع موصوف في الذمة، إلى أجل مسمى، كما عرفه الموفق وغيره، وقيل: يرد عليه أن الأجل شرط من شروطه.
(5) حكاه ابن المنذر وغيره، بل بالكتاب، والسنة، لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى، قد أحله الله في كتابه، وأذن فيه. ثم قرأ هذه الآية، وهذا اللفظ يصلح للسلم، ويشمله بعمومه.
(6) وصدر الحديث: قال ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنة، والسنتين، والثلاث، فقال «من أسلف في شيء» وفي لفظ «في ثمر فليسلف» أي يسلم "في كيل معلوم" فيعتبر تعيين الكيل، فيما يسلم فيه من المكيل اتفاقًا "ووزن معلوم" إذا كان مما يوزن اتفاقًا، وإن كان مما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم، وحكاه ابن بطال إجماعًا، والذرع كذلك، والجمهور على أنه جائز في العروض التي تنضبط بالصفة، والواو في قوله "ووزن" بمعنى "أو" فلا يلزم الجمع بين الكيل والوزن إجماعًا "إلى أجل معلوم" فيعتبر الأجل في السلم، وهو مذهب الجمهور، للآية وهذا الخبر، فدل الحديث على جواز السلم بهذه الشروط، ولحاجة الناس إليه، هذا يرتفق بتعجيل الثمن، وهذا يرتفق برخص المثمن.(5/4)
(ويصح) السلم (بألفاظ البيع) (1) لأنه بيع حقيقة (2) (و) بلفظ (السلم، والسلف) (3) لأنهما حقيقة فيه (4) إذ هما اسم للبيع الذي عجل ثمنه، وأجل مثمنه (5) (بشروط سبعة) زائدة على شروط البيع (6) .
__________
(1) كما بتعت منك ما صفته كذا، وكيله كذا، إلى كذا، وبكل ما ينعقد به البيع، كتملكت ونحوه، ويشترط له ما يشترط للبيع لكن إلى أجل فشمله اسمه.
(2) إلا أن السلم لا يجوز إلا في المعدوم، لما يأتي، بخلاف البيع فإنه يجوز في الموجود، وفي المعدوم بالصفة كما تقدم، والمراد بالمعدوم هنا الموصوف في الذمة، وإن كان جنسه موجودًا.
(3) كأسلمتك هذا الدينار في كذا من القمح، أو أسلفتك كذا في كذا.
(4) أي في السلم والسلف.
(5) فينعقد السلم بكل ما دل أحد اللفظين عليه.
(6) أي السبعة المتقدمة في البيع، إذ هي معتبرة هنا، قال الوزير وغيره:
اتفقوا على أن السلم يصح بستة شروط، أن يكون في جنس معلوم، وصفة معلوم، ومقدار معلوم، وأجل معلوم، ومعرفة مقدار رأس المال، وزاد أبو حنيفة: تسمية المكان الذي يوفيه فيه، إذا كان له حمل ومؤونة، وهذا الشرط السابع لازم عند الباقين.(5/5)
والجارُّ متعلق بيصح (1) . (أحدها انضباط صفاته) التي يختلف الثمن باختلافها، اختلافًا كثيرًا ظاهرًا (2) لأن ما لا يمكن ضبط صفاته يختلف كثيرًا، فيفضي إلى المنازعة والمشاقة (3) (بمكيل) أي كمكيل من حبوب وثمار، وخل ودهن ولبن ونحوها (4) .
__________
(1) وكذا المجرور في قوله: بشروط، ففيه حذف.
(2) هذا أحد الشروط السبعة، التي لا يصح السلم بدونها بالاتفاق.
(3) المطلوب عدمها شرعًا، وهذا بخلاف ما ليس كذلك، فالثمر إذا كان نوع منه يختلف بالسواد والحمرة، يذكر كونه أسود أو أحمر، للاختلاف المذكور، بخلاف ما إذا كان كل ذلك النوع أحمر، إلا أن بعضه زاد في الحمرة قليلاً، على البعض الآخر، فإن مثل ذلك لا يختلف به الثمن اختلافًا كثيرًا ظاهرًا، يفضي إلى المنازعة.
(4) أي من كل مكيل، وقول الشارح: كميكل من حبوب. إصلاح للعبارة، لأن ظاهرها أن ضبط الصفات بمكيل ونحوه، وليس كذلك، ولو قال: من مكيل لكان أبين، لأنه لم يثبت أن الباء تأتي بمعنى الكاف، بخلاف "من" ويدخل في الحبوب الأرز وغيره مما يسمى حبًا مما تقدم وغيره، وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم، على أن السلم في الطعام جائر.(5/6)
(وموزون) من قطن وحرير وصوف ونحاس (1) وزئبق وشب وكبريت (2) وشحم ولحم نيء ولو مع عظمه إن عين موضع قطع (3) (ومذروع) من ثياب وخيوط (4) (وأما المعدود المختلف كالفواكه) المعدودة كرمان (5) فلا يصح السلم فيه، لاختلافه بالصغر والكبر (6) .
__________
(1) وذهب وفضة وحديد، ورصاص وكتان، ونحو ذلك، فيصح في الفلوس، لأنها إما عرض أو ثمن.
(2) وإبريسم وشهد، وقنب ونحوها، وهذا مذهب مالك والشافعي.
(3) لأن العظم كالنوى في التمر، وقيل لأحمد: إنه يختلف. فقال: كل سلف يختلف. أي فيصح السلم في اللحم ولو مع عظمه، إن عين محل يقطع منه، كظهر، وفخذ، ونحوه، ويلزم قبوله بعظامه، لأن اتصاله بها اتصال خلقة، كالنوى في التمر، ويعتبر قوله إذا أسلم، في نحو ضأن ذكر أو أنثى، خصي أو غيره، سمين أو هزيل، ونحو ذلك مما يختلف به الثمن، وعلم منه أنه لا يصح في مطبوخ ومشوي، ولا في لحم بعظمه إن لم يعين محل قطع لاختلافه.
(4) وكمعدود من حيوان يتأتى ضبطه كما يأتي، وغير حيوان مما لا تتفاوت آحاده، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن السلم جائز في المكيلات، والموزونات، والمذروعات التي يضبطها الوصف، واتفقوا على أن السلم في المعدودات التي لا تتفاوت آحادها، كالجوز والبيض، جائز إلا في رواية عن أحمد.
(5) وكمثرى، وخوخ، واجاص، وكبطيخ.
(6) وهذا أحد القولين، وعنه: يجوز عددًا، ومذهب أبي حنيفة: وزنًا وعددًا، ومذهب الشافعي: وزنًا، ومالك على الإطلاق.(5/7)
(و) كـ (البقول) لأنها تختلف، ولا يمكن تقديرها بالحزم (1) (و) كـ (الجلود) لأنها تختلف، ولا يمكن ذرعها، لاختلاف الأطراف (2) (و) كـ (الرؤوس) والأكارع لأن أكثر ذلك العظام والمشافر (3) (و) كـ (الأواني المختلفة الرؤوس، والأوساط كالقماقم (4) .
__________
(1) لأنه يمكن في الصغير والكبير، فلم يصح السلم فيه، كالجواهر، وعنه: يجوز السلم في الفواكه، والموز والخضراوات ونحوها، قال الموفق: لأن كثيرًا من ذلك يتقارب، وينضبط بالكبر والصغر، وما لا يتقارب ينضبط بالوزن، كالبقول ونحوها، فيصح السلم فيه، كالمذروع وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
(2) وتقدم أن ما لا ينضبط – بكيل ولا وزن ولا عد ولا ذرع ونحوه – لا يجوز السلم فيه، وقال الموفق: وفي الجلود من الخلاف ما في الرؤوس والأطراف، أي فحيث أمكن ضبطه صح السلم فيه.
(3) جمع مشفر وهو شفة الحيوان، وأن اللحم فيها قليل وليست موزونة، وذكر الموفق وغيره عن أحمد وغيره جوازه، وهو مذهب مالك والشافعي، قال: ولنا أن التفاوت في ذلك معلوم، فلم يمنع صحة السلم فيه كالحيوان، فإنه يشتمل على الرأس والجلد، والأطراف والشحم، وما في البطن، كذلك الرأس يشتمل على لحم الخدين، والأذنين، والعينين، ويختلف، ولم يمنع صحة السلم فيه كذلك ههنا.
(4) جمع قمقم، وهو ما يسخن فيه الماء، لأن الصفة لا تأتي عليها، وفيه وجه: يصح إذا أمكن ضبط صفة الإناء، بارتفاع حائطه ودور أسفله وأعلاه، ونحو ذلك، بحيث لا تختلف رؤوسها ولا أوساطها، لأن التفاوت في ذلك يسير.(5/8)
والأَسطال الضيقة الرؤوس) لاختلافها (1) (و) كـ (الجواهر) واللؤلؤ والعقيق ونحوه (2) لأنها تختلف اختلافًا متباينًا، بالصغر والكبر، وحسن التدوير، وزيادة الضوء والصفا (3) (و) كـ (الحامل من الحيوان) كأمة حامل (4) لأن الصفة لا تأتي على ذلك، والولد مجهول غير محقق (5) وكذا لو أسلم في أَمة وولدها، لندرة جمعهما الصفة (6) (وكل مغشوش) (7) .
__________
(1) أي الأسطال، جمع سطل بفتح السين، قال في المحيط: طست صغيرة أو طست لها عروة، وإن أمكن ضبطها صح السلف فيها كما تقدم.
(2) أي وكالجواهر كلها، من اللؤلؤ والدر والياقوت، والمرجان والزبرجد والفيروزج، والبلور ونحوه، فلا يصح السلم فيها، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم، واختاره الموفق وغيره.
(3) ولا يمكن تقديرها ببيض عصفور أو نحوه، ولا بشيء معين، فتختلف أثمانها اختلافًا متباينًا.
(4) أي بأن أسلم في أمة حامل أو فرس حامل ونحوهما.
(5) أي فلا يجوز السلم فيها حيث لم تنضبط بالوصف، وحكي الإجماع على أنه لا يجوز السلم في مجهول، من مكيل أو موزون أو غيرهما.
(6) وكذا أيضًا لو أسلم في أمة وأختها أو عمتها، أو خالتها ونحوها، من أقاربها، أو دابة وولدها، أو شاة ذات لبن، لأنه كالحمل، وفيه وجه يصح، لأنه إذا صح البيع صح السلم، لأنه بيع.
(7) يعني لا يمكن ضبطه كاللبن المشوب بالماء، فإن كان أثمانًا ففيه مانعان، كونه لا يمكن ضبطه، وكونه لا يجوز إسلام أحد النقدين في الآخر.(5/9)
لأن غشه يمنع العلم بالقدر المقصود منه (1) فإن كانت الأثمان خالصة صح السلم فيها (2) ويكون رأس المال غيرها (3) ويصح السلم في فلوس (4) ويكون رأس المال عرضًا (5) (وما يجمع أخلاطًا) مقصودة (غير متميزة كالغالية) والند (6) (والمعاجين) التي يتداوى بها (7) (فلا يصح السلم فيه) لعدم انضباطه (8) .
__________
(1) ويكون مجهولاً، فلا يصح السلم فيه، ولما فيه من الغرر، وتقدم النهي عن بيع الغرر.
(2) لانتفاء الغرر.
(3) لأنه قد كان لها شبه بالنقدين، ولا يجوز أن يسلم الأثمان بعضها في بعض، لما تقدم، وإذا كان رأس المال غيرها انتفي المحذور.
(4) وزنا وعدا، ولا نزاع في ذلك، قال شيخنا، وعليه: فالأنواط لا تصح بحال، ولا يظهر تمشيها على أصول الشرع، ولا تجرى على قواعد البيع.
(5) وصوب ابن فيروز: ولو كان رأس المال أثمانًا، لأنها عرض، وفي الإقناع: ويصح في عرض بعرض.
(6) فلا يصح السلم فيها، لعدم انضباطها، والغالية: نوع من الطيب، مركب من مسك وعنبر وعود ودهن، تقول: تغليت بالغالية، قيل: إن أول من سماها بذلك سليمان بن عبد الملك، والند: بفتح النون طيب مخلوط من مسك وكافور، قيل: إنه ليس بعربي، وقيل: هو العنبر.
(7) إذا كانت مباحة، وقسي ونحو ذلك، مما يجمع أشياء مختلفة، للجهالة بقدره.
(8) وتمييز ما فيه من الأخلاط، فيكون مجهولاً، وهذا مذهب مالك
والشافعي، واختاره الموفق وغيره، وفي الإنصاف: لا يصح فيما يجمع أخلاطًا غير متميزة كالغالية والمعاجين، والند ونحوها بلا نزاع أعلمه.(5/10)
(ويصح) السلم (في الحيوان) ولو آدميًا (1) لحديث أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرًا رواه مسلم (2) (و) يصح أيضًا في (الثياب المنسوجة من نوعين) كالكتان، والقطن، ونحوهما (3) لأن ضبطها ممكن (4) وكذا نشاب، ونبل مريشان (5) وخفاف، ورماح (6) .
__________
(1) أي ويصح السلم في الحيوان، الذي يتأتى ضبطه بالسن، والوصف والأجل، ونحو ذلك، ولو كان المسلم فيه آدميًا، وهو مذهب مالك والشافعي، وغيرهما من السلف.
(2) ولأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أمرني أن ابتاع البعير بالبعيرين، وبالأبعرة إلى مجيء الصدقة، وقوله «من لم تطب نفسه فله بكل فريضة ست فرائض» ولأنه يثبت في الذمة صداقًا، فيثبت في السلم كالثياب، وتقدم أن السلم في المعدود الذي ينضبط، جائز عند الجمهور.
(3) كإبريسم.
(4) وقال الشارح: الصحيح جواز السلم فيها.
(5) النشاب: السهم الفارسي، والنبل: السهم العربي، ومريشان: بفتح الميم وكسر الراء، أي مجعول لهما ريشًا، يقال: راش السهم يريشه. ألزق عليه الريش، فيصح السلم فيهما، لإمكان ضبطهما بالصفات التي لا يتفاوت الثمن معها غالبًا.
(6) "الخفاف" جمع خف، ما يلبس في الرجل، ولو كانت مستورة،
"والرماح" معروفة، فيصح السلم فيها، كالقصب، والخشب، وما فيه من غيره متميز، يمكن ضبطه، والإحاطة به، ولا يتفاوت كثيرًا.(5/11)
(و) يصح أيضًا في (ما خلطه) بكسر الخاء (غير مقصود كالجبن) فيه الإنفحة (1) (وخل التمر) فيه الماء (2) (والسكنجبين) فيه الخل (3) (ونحوها) كالشيرج، والخبز، والعجين (4) . الشرط (الثاني ذكر الجنس، والنوع) أي جنس المسلم فيه نوعه (5) .
__________
(1) تستخرج من بطن الجدي الراضع، فخلط الجبن بها غير مقصود بالمعاوضة لمصلحة المخلوط، ويسير غير مؤثر.
(2) وكزبيب فيه ماء، فإذا كان الماء يسيرًا لم يؤثر.
(3) السكنجبين معرب، مركب من السكر والخل ونحوه، والخل ما حمض من عصير العنب وغيره.
(4) "الشيرج" دهن السمسم، لأن الخلط يسير، غير مقصود بالمعاوضة لمصلحة المخلوط، فلم يؤثر، والخبز والعجين يوضع فيهما الملح، وكدهن ورد، وبنفسج، وكل ما يضبطه الوصف ولا يتفاوت كثيرًا، قال في الإنصاف: بلا نزاع، فالذي يجمع أخلاطًا أربعة أقسام خلط مقصود متميز، كالثياب من نوعين، وما خلطه لمصلحة، وليس بمقصود في نفسه، كالإنفحة في الجبن، فيصح السلم فيهما، وأخلاط مقصودة غير متميزة كالغالية، وما خلطه غير مقصود ولا مصلحة فيه، كاللبن المشوب بالماء، فلا يصح فيهما.
(5) باتفاق أهل العلم، وكذا الجودة والرداءة، فإنه لا بد من ذلك في كل مسلم فيه، قال الشيخ وغيره: يذكر جنسه كالحب مثلاً، ونوعه كالسلموني مثلاً، وذكر النوع مستلزم لذكر الجنس.(5/12)
(وكل وصف يختلف به) أي بسببه (الثمن) اختلافًا (ظاهرًا) (1) ، كلونه، وقدره وبلده (2) (وحداثته وقدمه) (3) ولا يجب استقصاء كل الصفات، لأنه قد يتعذر (4) ولا ما لا يختلف به الثمن، لعدم الاحتياج إليه (5) .
__________
(1) لأن المسلم فيه عوض في الذمة فلا بد من العلم به كالثمن، ولأن العلم بالمبيع شرط في البيع، وطريقه الرؤية أو الوصف، والرؤية متعذرة هنا، فتعين الوصف.
(2) فيذكر لونه إن اختلف، كأحمر أو أبيض، ويذكر قدره ككبار مثلاً، متطاول، أو مدور، ويذكر بلده، أي الثمر أو الحب، فيقول: من بلد كذا. بشرط أن تبعد الآفة فيها.
(3) فيقول: حديث أو قديم، وإن أطلق العتيق، ولم يقيده بعام أو أكثر، أجزأ أي عتيق كان، ما لم يكن متغيرًا، ويذكر سن حيوان، وغيره مما يميز به مختلفه، فيقول: ذكرًا وسمينًا أو معلوفًا، وكبيرًا، أو ضدها، ويذكر في عسل جنسه كنحل، أو قصب، وبلده، وزمنه ولونه، وفي سمن نوعه، كسمن بقر، ولونه كأصفر، ويذكر في اللبن النوع، والمرعى، وفي ثوب النوع، والبلد، واللون، والطول، والعرض، والخشونة، والصفاقة، وضدها، وفي غزل كاغدًا ونحو ذلك، وسائر ما يجوز فيه السلم بما يختلف به.
(4) وقد ينتهي الحال فيها إلى أمر يتعذر التسليم فيه، فيكتفي بالأوصاف الظاهرة، التي يختلف بها الثمن ظاهرًا، ولو استقصى، حتى انتهى إلى حال يندر وجود المسلم فيه بتلك الأوصاف، بطل السلم.
(5) أي ولا يجب ذكر وصف لا يختلف به الثمن اختلافًا ظاهرًا، لعدم الاحتياج إلى ذلك الوصف.(5/13)
(ولا يصح شرط) المتعاقدين (الأردأ أو الأجود) لأنه لا ينحصر (1) إذ ما من رديء أو جيد إلا ويحتمل وجود أردأ أو أجود منه (2) (بل) يصح شرط (جيد ورديء) (3) ويجزئ ما يصدق عليه أنه جيد أو رديء (4) فينزل الوصف على أقل درجة (5) (فإن جاء) المسلم إليه (بما شرط) للمسلم، لزمه أخذه (6) (أو) جاءه بـ (ـأجود منه) أي من المسلم فيه (من نوعه (7) .
__________
(1) أي الأردأ، لأن أفعل التفضيل لا ينضبط، ولتعذر الوصول إلى الأجود، وإن قدر عليه كان نادرًا.
(2) أي فلا يصح اشتراط الأردإ أو الأجود، وقال الموفق في الأردإ: يحتمل أن يصح، لأنه يقدر على تسلم ما هو خير منه، فإنه لا يسلم شيئًا إلا كان خيرًا مما شرطه، فلا يعجز إذًا عن تسليم ما يجب قبوله، بخلاف الأجود.
(3) أي بل يصح للمسلم شرط جيد من تمر أو حب، أو غيرهما مما يصح السلم فيه بلا نزاع، وشرط رديء حال العقد، لإمكان الحصول عليه.
(4) عرفًا، وإن وجد أجود منه أو أردأ.
(5) أي في الجودة أو الرداءة.
(6) كالمبيع المعين، سواء تضرر بقبضه أولا، لأن على المسلم إليه ضررًا في بقائه في يده، فإن امتنع قيل: إما أن تقبض حقك أو تبرئ منه، وكذا لو أحضره بعد محل الوجوب، فهو كما لو أحضر المبيع بعد تفرقهما.
(7) لزمه قبوله، لأنه أتى بما تناوله العقد، وزيادة تنفعه ولا تضره، قاله الشارح، وصاحب المبدع، وغيرهما.(5/14)
(ولو قبل محله) أي حلوله (ولا ضرر في قبضه، لزمه أخذه) (1) لأنه جاءه بما تناوله العقد، وزيادة تنفعه (2) وإن جاءه بدون ما وصف (3) أو بغير نوعه من جنسه، فله أخذه ولا يلزمه (4) وإن جاءه بجنس آخر لم يجز له قبوله (5) .
__________
(1) وذلك كالحديد، فإنه يستوي قديمه وحديثه، وكالزيت، والعسل، ما لم يكن في قبضه ضرر لخوف، ولا يحمل مؤنة، فعليه قبضه.
(2) حيث أنه جاءه بأجود منه، وعجل تسليمه، وإن كان في قبضه قبل المحل ضرر، إما لكونه مما يتغير، كالفاكهة والأطعمة كلها، أو كان قديمه دون حديثه، كالحبوب ونحو ذلك، لم يلزم المسلم قبوله، لأن له غرضًا في تأخيره، بأن يحتاج إلى أكله أو طعامه في ذلك الوقت، وكذا الحيوان، لأنه لا يأمن تلفه، وكذا إن كان يحتاج في حفظه إلى مؤنة، كالقطن ونحوه، أو كان الوقت مخوفًا، يخشى على ما يقبضه، فلا يلزمه قبضه قبل محل أجله.
(3) أي من العوض حال العقد، فله أخذه، لأن الحق له، وقد رضي بدونه، ولا يلزمه أخذ دون ما وصف له.
(4) كتمر معقلي فجاء ببرني، وكمعز عن ضأن، وجواميس عن بقر، لأنهما كالشيء الواحد، ولا يلزمه أخذه، ولو أجود منه، لأن العقد تناول ما وصفاه على شرطهما، ولا يجبر على إسقاط حقه، والنوع صفة، فأشبه مالوفات غيره من الصفات.
(5) لأنه صرفه إلى غيره وهو ممنوع، لما رواه أبو داود وغيره «من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره» وللدارقطني «فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه» بخلاف القرض، أو ثمن المبيع، فإنه يجوز أن يعتاض عنه بغير جنسه، بشرط قبضه في المجلس.(5/15)
وإن قبض المسلم فيه فوجد به عيبًا فله رده (1) وإمساكه مع الأَرش (2) الشرط (الثالث ذكر قدره) أي قدر المسلم فيه (3) (بكيل) معهود فيما يكال (4) (أو وزن) معهود فيما يوزن (5) لحديث «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» متفق عليه (6) (أَو ذرع يعلم) عند العامة (7) .
__________
(1) كسائر المبيعات، وله المطالبة بالبدل، كالمبيع المعيب إذا كان غير عالم بعيبه.
(2) كمبيع غير سلم على ما تقدم، ويجوز لمسلم إليه أخذ عوض زيادة قدر دفعه كما لو أسلم إليه في قفيز، فجاءه بقفيزين، لا أخذ عوض جودة أو رداءة، لعدم إفراد الجودة أو الرداءة بالبيع.
(3) فلا يصح السلم بدون ذكر قدر المسلم فيه، باتفاق أهل العلم، للخبر الآتي وغيره.
(4) أي من الحبوب وغيرها من كل مكيل.
(5) كحديد، وصفر، ونحاس، وقطن، وإبريسم، وكتان، وصوف وغير ذلك من كل موزون.
(6) فدل الحديث على أنه يعتبر تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل، وتعيين الوزن فيما يسلم فيه من الموزون، وما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم، وحكاه ابن بطال إجماعًا.
(7) ويتعارف بينهم، ليرجع إليه عند التخالف، وتقدم ذكر الاتفاق على
اعتبار معرفة مقدار المسلم فيه، وحكى ابن المنذر الإجماع على أن السلم جائز في الثياب بذرع معلوم، وقال الموفق: لا بد من تقدير المذروع بالذرع، بغير خلاف نعلمه.(5/16)
لأنه إذا كان مجهولاً تعذر الاستيفاء به عند التلف، فيفوت العلم بالمسلم فيه (1) فإن شرطا مكيالاً غير معلوم بعينه (2) أو صنجة غير معلومة بعينها لم يصح (3) وإن كان معلومًا صح السلم دون التعيين (4) (وإن أسلم في المكيل) كالبر، والشيرج (وزنًا (5) أو في الموزون) كالحديد (كيلا لم يصح) السلم، لأنه قدره بغير ما هو مقدر به، فلم يجز (6) .
__________
(1) فيبطل العقد، لفقدان الشرط المجمع عليه.
(2) أي فإن شرط المتعاقدان مكيالا بعينه، غير معلوم عند العامة لم يصح، لأنه يهلك فيتعذر المسلم فيه، وهذا مذهب الجمهور.
(3) أي السلم بلا نزاع، لأنها لو تلفت فات العلم به، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه على أن السلم في الطعام لا يجوز بقفيز لا يعرف عياره، ولا في ثوب بذرع فلان، لأن المعيار لو تلف أو مات فلان بطل السلم.
(4) أي وإن كان المكيال معلومًا عند العامة، أو الميزان أو الذراع صح العقد، ولو عين رطل فلان، أو ميزانه المعلومين المعروفين عند العامة، صح، للعلم بهما، دون التعيين، فلا يختص بهما، لأنه التزام لما لا يلزم.
(5) لم يصح السلم، هذا المذهب في كل ما الأصل فيه الكيل.
(6) وقالوا: لأنه مبيع يشترط معرفة قدره، فلم يجز بغير ما هو مقدر به.(5/17)
كما لو أسلم في المذروع وزنًا (1) ولا يصح في فواكه معدودة كرمان، وسفرجل، ولو وزنًا (2) الشرط (الرابع ذكر أجل معلوم) للحديث السابق (3) .
__________
(1) أي وذلك لا يصح بالإجماع، وعن أحمد: يصح السلم في المكيل وزنا، وفي الموزون كيلا، لأن الغرض معرفة قدره، وإمكان تسليمه من غير تنازع، فبأي قدر قدره جاز. اختاره الموفق وغيره، وقال الأثرم: الناس ههنا لا يعرفون الكيل في التمر، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي.
وأفتى الشيخ محمد بن عبد الوهاب بجواز أخذ الثمر خرصا بلا وزن، إذا كان أقل مما في الذمة بيقين، لحديث جابر، وأفتى فيمن له آصع معلومة، فاستوفى سنبلا عرفوا قدره كيلا، فأخذ باقيه وزنا، وقال: الاستيفاء أوسع من غيره، وأنه من باب أخذ الحق، والإبراء عما بقي، وقال أحمد في اللبن: يجوز إذا كان كيلا أو وزنا، وتقدم أنه قول الجمهور. بخلاف الربويات فإن التماثل فيها شرط.
(2) وقال الموفق وغيره: يسلم فيه وزنًا، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، لأنه يختلف كثيرًا، ويتباين جدًا، فلم يمكن تقديره بغير الوزن، فيتعين تقديره به، وهذا المذهب عند الأكثر، ويسلم في الجوز، والبيض، ونحوهما عددًا، لأن التفاوت يسير، ويذهب ذلك باشتراط الكبر، والصغر، أو الوسط، وإن بقي شيء يسير عفي عنه، كسائر التفاوت في المكيل، والموزون المعفو عنه، قال الموفق: وهو أظهر الروايتين، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره.
(3) ونصه «إلى أجل معلوم» وهو قول جمهور العلماء، ولقوله (إلى أجل مسمى) والأمر يقتضي الوجوب، ولأن الأمر في الخبر بتلك الشروط تبيين لشروط السلم، ومنع منه بدونها.(5/18)
ولأن الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه (1) ويعتبر أن يكون الأجل (له وقع في الثمن) عادة (2) كشهر (فلا يصح) السلم إن أسلم (حالاًّ) لما سبق (3) (ولا) إن أسلم إلى أجل مجهول (4) .
__________
(1) فإنه سمي سلما وسلفًا لتعجل أحد العوضين، وتأخر الآخر، ومعناه: تأجيل مسلم فيه، وتعجيل رأس ماله، وبالحلول يكون بيعًا، لأن الشارع إنما رخص فيه من أجل الحاجة الداعية إليه، ومع حضور ما يبيعه حالا لا حاجة إلى السلم، فلا يثبت عند الجمهور.
(2) أي أثر في زيادته لأن اعتبار الأجل ليتحقق الرفق الذي شرع من أجله السلم، ولا يحصل بمدة لا وقع لها في الثمن، وأيضًا السلم إنما يكون لحاجة المفاليس، الذين لهم ثمار أو زروع أو تجارات ينتظرون حصولها، ولا يحصل ذلك في المدة اليسيرة غالبًا.
(3) أي من الخبر والتعليل بأن الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه، وقال الزركشي: كثير من الأصحاب يمثل بالشهر والشهرين، فمن ثم قال بعضهم: أقله شهر، ولا خلاف في السلم إلى وقت يعلم بالأهلة، لعموم قوله {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} وذلك نحو أول الشهر، أو أوسطه، أو آخره، أو يوم معلوم منه، ونحو ذلك، ويجوز بغيرها مما يعرفه المسلمون، ويكون مشهورًا عندهم لا يختلف، وعند الشيخ: يصح حالاً إن كان في ملكه، وإلا فلا.
(4) فلا يصح السلم عند الجمهور، وكذا إن أسلم مطلقًا، ولم يغيه بغاية، لم يصح السلم، فلا بد أن يكون الأجل مقدرًا بزمن معلوم، قال الموفق: لا خلاف أنه لو جعل الأجل إلى الميسرة لم يصح، ويصح البيع، ويكون الثمن حالاً، كما لو شرط فيه الخيار، أو يفسخ البيع والخيار للمشتري.(5/19)
كـ (إلى الحصاد والجذاذ) وقدوم الحاج، لأنه يختلف، فلم يكن معلومًا (1) (ولا) يصح السلم (إلى) أجل قريب كـ (ـيوم) ونحوه، لأنه لا وقع له في الثمن (2) (إلا) أن يسلم (في شيء يأخذه منه كل يوم) أجزاءً معلومة (3) (كخبز ولحم ونحوهما) من كل ما يصح السلم فيه (4) إذ الحاجة داعية إلى ذلك (5) .
__________
(1) أي فلم يصح السلم، لاختلاف هذه الأشياء، وهذا أحد القولين، والقول الثاني: يصح إلى الحصاد والجذاذ، ويتعلق بأولهما عند الأكثر، وإن منع في المجهول، لأنه في العادة لا يتفاوت كثيرًا، قال في الإنصاف: وهو الصواب.
قال عبد الله بن الشيخ محمد: إذا باع إلى الحصاد والجذاذ – وهو القطع في نخل وغيره – فهذا لا بأس به لازم، للأجل المعلوم عند بعض أهل العلم، واختلافه يسير، وهو مذهب مالك وغيره من أهل العلم، وكان ابن عمر يبتاع إلى العطا، وذلك أنه أجل تعلق بوقت من الزمن، يعرف في العادة، لا يتفاوت تفاوتًا كثيرًا، أشبه ما لو قال: إلى رأس السنة.
(2) فلم يصح السلم لفوات شرطه، وعنه: يصح حالاً. اختاره الشيخ، واستدلوا بخبر «ما ليس عندك» لأنه لو لم يجز السلم حالا لقال: لا تبع هذا، سواء كان عندك أو لا.
(3) فيصح السلم نص عليه، وهو مذهب مالك، لأن كل بيع جاز إلى أجل، يجوز إلى أجلين وآجال، كبيوع الأعيان.
(4) كعسل، ودقيق، ورطب، سواء بين ثمن كل قسط أو لا.
(5) ولأجل الحاجة رخص الشارع في السلم، المسلم يرتفق برخص المثمن، والمسلم إليه بتعجيل الثمن.(5/20)
فإن قبض البعض وتعذر الباقي، رجع بقسطه من الثمن (1) ولا يجعل للباقي فضلاً على المقبوض، لتماثل أجزائه، بل يقسط الثمن عليهما بالسوية (2) الشرط (الخامس أن يوجد) المسلم فيه (غالبًا في محله) بكسر الحاء أي وقت حلوله (3) لوجوب تسليمه إذًا (4) فإن كان لا يوجد فيه (5) أو يوجد نادرًا – كالسلم في العنب والرطب إلى الشتاء – لم يصح (6) .
__________
(1) أي فلا يجعل له زيادة، وذلك بأن لا يأخذ عن الباقي أكثر من القسط.
(2) أي على الباقي المتعذر قبضه، وعلى المقبوض، من غير تفاضل بين المقبوض وغيره، كما لو اتفق أجله.
(3) قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا، لأنه إذا كان كذلك أمكن تسليمه، وقيده "بغالبا" لأنه قد يكون ثم مانع يمنع وجوده في ذلك الوقت، كهلاك الثمار، ونحو ذلك.
(4) أي وقت حلوله، وإذا لم يكن عام الوجود، لم يكن موجودًا عند المحل بحكم الظاهر، فلم يمكن تسليمه، فلم يصح، كبيع الآبق.
(5) أي وقت حلوله الذي جعلاه له لم يصح، لأنه لا يؤمن انقطاعه، فلا يغلب على الظن القدرة على تسلميه عند وجوب التسليم.
(6) قال في الإنصاف: بلا نزاع. لأن السلم احتمل فيه أنواع من الغرر للحاجة، فلا يحتمل فيه غرر آخر لئلا يكثر الغرر، فلا يمكن تسليمه غالبًا عند وجوبه، أشبه بيع الآبق.(5/21)
(و) يعتبر أيضًا وجود المسلم فيه في (مكان الوفاء) غالبًا (1) فلا يصح إن أسلم في ثمرة بستان صغير معين (2) أو قرية صغيرة (3) أو في نتاج من فحل بني فلان، أو غنمه (4) أو مثل هذا الثوب، لأنه لا يؤمن تلفه، وانقطاعه (5) .
__________
(1) لم أرهم ذكروا هذه العبارة، لا في الفروع، ولا في الإنصاف، ولا في الإقناع، ولا في المنتهى، واستغربه غير واحد من الأصحاب.
(2) عباراتهم مطلقة، لم يقيدوا البستان بالصغر، قال ابن المنذر: إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه، كالإجماع من أهل العلم، ولابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أما في حائط بني فلان فلا» أي لا يجوز السلم، وقد كانوا في المدينة حين قدم عليهم يسلمون في ثمار النخيل بأعيانها، فنهاهم عن ذلك، لما فيه من الغرر، إذ قد تصاب تلك النخيل بعاهة، فلا تثمر شيئًا.
وقوله «في كيل معلوم، ووزن معلوم» احترازًا عن السلم في الأعيان، قال ابن القيم: إذا شرطه دخل في حد الغرر، لأنه قد يتخلف فيمتنع التسليم. اهـ. وإن أسلم في ذمته، واشترط عليه أن يعطيه من ثمرة نخله أو زرعه، فقال الشيخ وغيره: يجوز.
(3) أي أو أسلم في قرية صغيرة لم يصح، لأنه لا يؤمن تلفه وانقطاعه، ومفهومه أن القرية إن كانت كبيرة صح، كما لو عين مسلم فيه من ناحية تبعد فيها آفة، كتمر المدينة مثلاً.
(4) أي أو أسلم في بعير من نتاج فحل بني زيد مثلاً، أو في شاة من غنمه، أو في عبد مثل هذا العبد، ونحو ذلك لم يصح، أشبه ما لو أسلم في شيء قدره بمكيال معين، أو صنجة معينة، لأنه لا يؤمن تلفه وانقطاعه.
(5) فلم يصح السلم، وهذا مذهب الجمهور.(5/22)
و (لا) يعتبر وجود المسلم فيه (وقت العقد) (1) لأنه ليس وقت وجوب التسليم (2) (فإن) أَسلم إلى محل يوجد فيه غالبًا فـ (تعذر) المسلم فيه، بأن لم تحمل الثمار تلك السنة (3) (أو) تعذر (بعضه فله) أي لرب السلم (الصبر) إلى أن يوجد فيطالب به (4) (أو فسخ) العقد في (الكل) إن تعذر الكل (5) .
__________
(1) بل يجوز أن يسلم في الرطب في أوان الشتاء، وفي كل معدوم إذا كان يوجد عند المحل، وهذا مذهب مالك، والشافعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم وهم يسلفون في الثمار السنة والستين، فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم» الحديث، ولم يذكر الوجود، ولو كان شرطًا لذكره، ولنهاهم عن السلف سنتين، ولأنه يثبت في الذمة، ويوجد في محله غالبًا، أشبه الموجود.
(2) أي حتى يعتبر وجود المسلم فيه حال العقد، بل يصح السلم، سواء كان المسلم فيه موجودًا حال العقد أو معدومًا.
(3) أو غاب المسلم إليه، أو عجز عن التسليم حتى عدم المسلم فيه، خير بين الصبر أو الفسخ، وهذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، لأن العقد وقع على موصوف في الذمة، فهو باق على أصله، وليس من شرط جوازه أن يكون من ثمار هذه السنة، وإنما هو شيء شرطه المسلم فيه، فهو في ذلك بالخيار، قال ابن رشد: وهذا المعتمد عليه.
(4) لبقاء العقد على أصله، كمن اشترى عبدين فأبق أحدهما قبل القبض.
(5) ويرجع برأس المال إن كان موجودًا أو عوضه إن كان معدومًا لتعذره.(5/23)
(أو) في (البعض) المتعذر (1) (ويأْخذ الثمن الموجود (2) أو عوضه) أي عوض الثمن التالف (3) لأن العقد إذا زال وجب رد الثمن (4) ويجب رد عينه إن كان باقيًا (5) أو عوضه إن كان تالفًا (6) أي مثله إن كان مثليًا، أو قيمته إن كان متقومًا (7) هذا إن فسخ في الكل (8) فإن فسخ في البعض فبقسطه (9) الشرط (السادس أن يقبض الثمن تامًا) (10) .
__________
(1) دون الموجود، لأن الفساد طرأ بعد صحة العقد، فلا يوجب الفساد في الكل، كما لو باعه صبرتين، فتلفت إحداهما قبل القبض، وعلم مما تقدم أنه لو تحقق بقاء المسلم فيه لزم المسلم إليه تحصيله ولو شق، كبقية الديون.
(2) أي يأخذ المسلم رأس ماله الذي أسلمه إن كان موجودًا.
(3) لتعذر رده، وعوضه مثل مثلي، وقيمة متقوم.
(4) أي على صاحبه بلا نزاع.
(5) أي المسلم، لأنه عين مال المسلم، فوجب رده إليه.
(6) أي عوض رأس مال السلم إن كان رأس المال تالفًا.
(7) مثليا كمكيل وموزون، أو متقومًا كالجواهر.
(8) أي رد عين الثمن كله أو عوضه إن فسخ العقد في الكل.
(9) أي من الثمن من عينه أو عوضه.
(10) أي أن يقبض المسلم إليه أو وكيله الثمن تامًا في مجلس العقد، هذا مذهب الجمهور.(5/24)
لقوله صلى الله عليه وسلم «من أسلف في شيء فليسلف» الحديث أي فليعط (1) قال الشافعي: لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أَسلفه قبل أن يفارق من أسلفه (2) ويشترط أن يكون رأس مال السلم (معلومًا قدره ووصفه) كالمسلم فيه (3) فلا يصح بصبرة لا يعلمان قدرها (4) ولا بجوهر ونحوه مما لا ينضبط بالصفة (5) .
__________
(1) فاستنبطوا اشتراط قبض الثمن في المجلس من هذا الحديث، ولئلا يصير بيع دين بدين كما تقدم.
(2) ولأنه عقد معاوضة لا يجوز فيه تأخير العوض المطلق، فلا يجوز التفرق فيه قبل القبض كالصرف.
(3) أي كما أنه يشترط أن يكون قدر المسلم فيه ووصفه معلومًا، فكذا رأس مال السلم، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وأحد قولي الشافعي، لأنه قد يتأخر تسليم المعقود عليه، ولا يؤمن انفساخه، فوجب معرفة رأس ماله ليرد بدله، قال الموفق: ولا خلاف في اشتراط معرفة صفته إذا كان في الذمة، لأنه أحد عوضي السلم، فإذا لم يكن معينًا اشترط معرفة صفته كالآخر، إلا أنه إذا أطلق، وفي البلد نقد واحد، انصرف إليه، وقام مقام وصفه، وقيل: لا يشترط. بل تكفي المشاهدة، وهو مذهب الشافعي، ومال إليه في المغني والشرح.
(4) فإن فعلا بطل، لفوات شرطه.
(5) أي ولا يصح السلم إن جعل رأس ماله بجوهر ونحوه، من سائر ما لا يجوز السلم فيه، مما لا يمكن ضبطه بالصفة التي هي شرط في صحة العقد، ويرده إن كان موجودًا، وإلا رد قيمته.(5/25)
ويكون القبض (قبل التفرق) من المجلس (1) وكل مالين حرم النساء فيهما لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر (2) لأن السلم من شرطه التأجيل (3) (وإن قبض البعض) من الثمن في المجلس (ثم افترقا) قبل قبض الباقي (بطل فيما عداه) أي عدا المقبوض (4) وصح في المقبوض (5) ولو جعل دينًا سلمًا لم يصح (6) وأمانة، أو عينًا مغصوبة، أو عارية يصح، لأنه في معنى القبض (7) .
__________
(1) وإلا لم يصح العقد عند الجمهور.
(2) كمكيل مطعوم بمكيل مطعوم وأحد النقدين بالآخر، لقوله في الربوي «إلا يدا بيد» ويجوز جعل رأس مال السلم عرضا من العروض وتقدم.
(3) أي عند جمهور العلماء، وكل مالين حرم النساء فيهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر مؤجلا.
(4) نص عليه، وهو مقتضى مذهب الشافعي وغيره.
(5) أي بقسطه من الثمن، بناء على تفريق الصفقة.
(6) كثمن مبيع، وقرض، وقيمة متلف، ونحوها، بأن يكون لزيد على عمرو عشرة دراهم مثلاً، فيجعلها رأس مال سلم في طعام ونحوه، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وذلك لأن المسلم فيه دين، فإذا جعل الثمن دينًا كان بيع دين بدين، وحكي أنه لا يصح إجماعًا، وهذه مسألة: بيع الواجب بالساقط. وتقدم.
(7) أي لو جعل المسلم ما عند المسلم إليه – سواء كان أمانة موجودة لا تالفة، أو عينًا مغصوبة، أو عارية موجودة، ونحو ذلك – سلما في طعام أو غيره، صح السلم بتلك، لأنه في معنى القبض، لصحة تصرف مالكه فيه والحالة ما ذكر.(5/26)
(وإن أسلم) ثمنًا واحدًا (في جنس) كبر (إلى أجلين) كرجب وشعبان مثلاً (1) (أو عكسه) بأن أسلم في جنسين، كبر وشعير إلى أجل، كرجب مثلاً (صح) السلم (2) (إن بين) قدر (كل جنس وثمنه) في المسألة الثانية، بأن يقول: أسلمتك دينارين، أحدهما في إردب قمح، صفته كذا، وأجله كذا (3) والثاني في إردبين شعيرًا، صفته كذا والأجل كذا (4) (و) صح أيضًا إن بين (قسط كل أجل) في المسألة الأولى (5) .
__________
(1) أي كبر بعضه إلى رجب، وبعضه إلى شعبان، صح السلم، لشرطه الآتي، لأن كل بيع جاز إلى أجل جاز إلى أجلين وآجال، كبيوع الأعيان.
(2) لأنه لما جاز أن يسلم في شيء واحد إلى أجلين جاز هنا بشرطه، رواية واحدة كبيوع الأعيان.
(3) أي صفة القمح كذا، وأجل المحل كذا، والإردب – بكسر الهمزة وتضم، وفتح الدال – مكيال ضخم بمصر، أربعة وعشرون صاعًا.
(4) أي فيجوز قولاً واحدًا، وعنه: لا يلزم تبيين كل جنس، فلو أسلم عشرة دنانير، في مائتي صاع بر أو شعير، ولم يبين ثمن الشعير من البر، جاز، وهو مذهب مالك.
(5) وهي ما إذا أسلم في جنس إلى أجلين، لأن الأجل الأبعد له زيادة وقع على الأقرب، فما يقابله أقل مما يقابل الآخر، فاعتبر معرفة قسطه وثمنه.(5/27)
بأن يقول: أسلمتك دينارين، أحدهما في إردب قمح إلى رجب، والآخر في إردب وربع مثلاً إلى شعبان (1) فإن لم يبين ما ذكر فيهما لم يصح، لأن مقابل كل من الجنسين أو الأجلين مجهول (2) الشرط (السابع أن يسلم في الذمة (3) فلا يصح) السلم (في عين) كدار وشجرة (4) لأنها ربما تلفت قبل أوان تسليمها (5) .
__________
(1) أي فيصح لأنه بذلك يحصل التمييز للثمن الآخر، وعنه: يجوز وإن لم يبين، والمذهب الأول.
(2) كما لو عقد عليه مفردًا بثمن مجهول، ولأن فيه غررًا يؤثر في السلم، لا يعلم بكم يرجع أحدهما، وذكر الموفق وجها في معرفة صفة الثمن أنه لا يشترط وقال: فيخرج ههنا مثله، لأنه في معناه، والجواز ههنا أولى. وعلله بأنه إذا انفسخ هنا يرجع بقسطه من رأس مال السلم، وأنه كما لو باع عبده وعبد غيره بثمن واحد، وأنه أيضًا لما جاز أن يسلم في شيء واحد إلى أجلين، ولا يبين ثمن كل واحد منهما ينبغي أن يجوز ههنا، فالله أعلم.
(3) بالاتفاق، ولم يذكر بعضهم هذا الشرط استغناء عنه بذكر الأجل، إذ المؤجل لا يكون إلا في ذمة.
(4) وقرية صغيرة كما تقدم، وبستان بعينه، ونحو ذلك، لقوله «أما في حائط بني فلان فلا» .
(5) أي لأن الدار أو الشجرة ونحو ذلك ربما تتلف قبل أوان التسليم، ولأنه يمكن بيعه في الحال، فلا حاجة إلى السلم فيه، قال ابن القيم: إذا شرطه دخل في حد الغرر، فمنع أن يشترط فيه كونه من حائط معين، لأنه قد يتخلف، فيمتنع التسليم.(5/28)
(و) لا يشترط ذكر مكان الوفاء (1) لأنه عليه السلام لم يذكره (2) بل (يجب الوفاء موضع العقد) (3) لأن العقد يقتضي التسليم في مكانه (4) وله أخذه في غيره إن رضيا (5) ولو قال: خذه وأُجرة حمله إلى موضع الوفاء. لم يجز (6) (ويصح شرطه) أي الوفاء (في غيره) أي غير مكان العقد (7) .
__________
(1) نص عليه، وهو قول طائفة من أهل العلم.
(2) أي في قوله «من أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» ولو كان شرطًا لذكره، وكذا قوله «أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى، إلى أجل مسمى» ولم يذكر مكان الإيفاء، ولأنه عقد معاوضة أشبه بيوع الأعيان، وقيل: إن كان لحمله مؤونة وإلا فلا.
(3) إن عقدا في محل يصلح للإقامة، ويمكن الوفاء فيه عادة، وكذا كل عوض ملتزم في الذمة.
(4) فاكتفي بذلك عن ذكره، وينبغي العمل بالعرف، فقد أجرى الشارع الشرط العرفي كاللفظي، فكذلك وجوب المسلم فيه في مكان العقد، كما قال ابن القيم وغيره، إن لم يشترطه لفظًا بناء على الشرط العرفي.
(5) أي للمسلم أخذ المسلم فيه في غير مكان العقد بلا أجرة حمل إن رضيا بذلك لأن الحق لا يعدوهما.
(6) لأنه معاوضة عن بعض السلم.
(7) يعني موضع العقد، إذ في تعيين المكان غرض ومصلحة، فيصير كتعيين الزمان.(5/29)
لأنه بيع، فصح شرط الإيفاء في غير مكانه، كبيوع الأعيان (1) وإن شرطا الوفاء موضع العقد كان تأكيدًا (2) (وإن عقدا) السلم (ببر) ية (أو بحر شرطاه) أي مكان الوفاء لزومًا (3) وإلا فسد السلم، لتعذر الوفاء موضع العقد (4) وليس بعض الأماكن سواه أولى من بعض، فاشترط تعيينه بالقول كالكيل (5) ويقبل قول المسلم إليه في تعيينه مع يمينه (6) .
__________
(1) ولأنه شرط ذكر مكان الإيفاء فصح، كما لو ذكره في مكان العقد، وقيل: لا يصح. لأنه شرط خلاف مقتضى العقد، ورجح جماعة الصحة، لأنه نفي للجهالة وقطع للتنازع.
(2) لأنهما شرطا مقتضى العقد بالقول، كاشتراط تعيينه بالكيل قولاً واحدًا، وكما لو شرطا الحلول في ثمن المبيع.
(3) لأنهما إن تركا ذكر مكان الوفاء كان مجهولاً، وأفضى إلى التنازع.
(4) أي وإن لم يشترطا مكان الوفاء – حيث عقداه ببر أو بحر أو دار حرب، ونحو ذلك، مما لا يمكن التسليم فيه – فسد السلم، لتعذر الوفاء موضع العقد، ببر ونحوه قطعًا.
(5) أي فاشتراط تعيين مكان الوفاء والحالة هذه بالقول، كاشتراط تعيينه بالكيل قولاً.
(6) أي ومع الاختلاف في تعيين مكان الوفاء، يقبل قول المسلم إليه مع يمينه، لأنه كالغارم.(5/30)
(ولا يصح بيع المسلم فيه) لمن هو عليه (1) أو غيره (قبل قبضه) (2) لنهيه عليه السلام «عن بيع الطعام قبل قبضه» (3) (ولا) تصح أيضًا (هبته) لغير من هو عليه، لعدم القدرة على تسليمه (4) .
__________
(1) قبل قبضه، قال الموفق وغيره: لا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه بغير خلاف علمناه، وروي أنه يجوز لبائعه، واختاره الشيخ، وقال: هو قول ابن عباس. لكن يكون بقدر القيمة فقط، لئلا يربح فيما لم يضمن، وقال ابن القيم: نهى عن ربح ما لم يضمن، المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى سلم آخر، أو يبيعه بمعين مؤجل، لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين، من جنس ما نهي عن بيع الكاليء بالكالئ، والذي يجوز منه هو من جنس ما أذن فيه، من بيع النقد لمن هو في ذمته بغيره من غير ربح، وقال: النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، إنما هو في المعين أو المتعلق به حق توفية، وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته لا حدوث ملك له.
(2) أي ولا يصح بيع المسلم فيه على غير من هو عليه قبل قبضه إجماعًا.
(3) متفق عليه، وفي لفظ "حتى يستوفيه" وفي لفظ "حتى يكتاله" ولنهيه عن ربح ما لم يضمن، فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على عدم صحة بيع الدين قبل قبضه.
(4) أي ولا تصح هبة المسلم فيه قبل قبضه لغير من هو عليه، لعدم القدرة على تسليمه قبل قبضه، ولأن الهبة تنقل الملك كالبيع، وعنه: تصح هبته لغير من هو عليه؛ اختارها في الفائق، قال في الإنصاف: وهو مقتضى كلام الشيخ تقي الدين.(5/31)
(ولا الحوالة به) لأنها لا تصلح إلا على دين مستقر، والسلم عرضة للفسخ (1) (ولا) الحوالة (عليه) أي على المسلم فيه (2) أو رأس ماله بعد فسخ (3) (ولا أخذ عوضه) (4) لقوله عليه السلام «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» (5) .
__________
(1) أي ولا تصح الحوالة بالمسلم فيه، بأن يحيل المسلَمُ إليه المسلِمَ بالمسلَمِ فيه على آخر، ليأخذه منه، وتعليله ينبغي أن يكون تعليلا لقوله "ولا عليه" وتعليل الحوالة به بأنها معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه، فلم تجز كالبيع.
(2) أي بأن يحيل المسِلمُ آخر، له عليه دين من جنس المسلَمِ فيه، بذلك الدين، على المسلَمِ إليه، ليأخذه منه.
(3) أي ولا تصح الحوالة على رأس ماله بعد فسخ، وقبل قبض، إلحاقًا له بدين السلم، وذلك لأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فأشبه المسلم فيه، والوجه الثاني يصح، قال في تصحيح المحرر: وهو أصح على ما يظهر لي، وجوزهما الشيخ، وعليه لا يجوز للمحال بيعه قبل قبضه من نفسه.
(4) أي ولا يصح أخذ المسلِمِ عوضًا عن المسلَمِ فيه، وجزم الموفق وغيره بتحريمه، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
(5) أي "من أسلم في شيء" من مكيل، أو موزون، أو غيرهما مما يصح السلم فيه «فلا يصرفه إلى غيره» أي إلى شيء آخر قبل قبضه، وهو قول الجمهور، وأخذ العوض صرف له إلى غيره، رواه أبو داود، وللدارقطني «فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه» وجوزه مالك والشيخ بقدر القيمة، قال ابن عباس: إذا أسلمت في شيء فخذ عوضًا أنقص، ولا تربح مرتين. قال ابن المنذر: وهذا قول صحابي ثبت عنه، وهو حجة ما لم يخالف.
قال ابن القيم: فثبت أنه لا نص فيه، ولا إجماع، ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة. وقال: ثبت عن ابن عمر: إني أبيع الإبل بالبقيع الخ. فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه، وقال: إذا فسخ العقد بإقالة أو غيرها جاز أن يأخذ عن دين السلم عوضًا من غير جنسه، وهو اختيار القاضي، وشيخنا، ومذهب الشافعي، وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة، فجازت المعاوضة عليه، كسائر الديون، ولا نص في المنع، ولا إجماع، ولا قياس.(5/32)
وسواء فيما ذكر إذا كان المسلم فيه موجودًا أو معدومًا (1) والعوض مثله في القيمة، أو أقل، أو أكثر (2) وتصح الإقالة في السلم (3) (ولا يصح) أخذ (الرهن والكفيل به) أي بدين السلم (4) رويت كراهيته عن علي وابن عباس، وابن عمر (5) .
__________
(1) أي فلا يصح أخذ عوضه.
(2) لم يصح لما تقدم، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع له، فلم يجز كبيعه لغيره، عند الجمهور، لعموم الأخبار، وبيع الصكاك، وهي الديون الثابتة على الناس تكتب في ورق ونحوه، فإن كان الدين نقدًا، وبيع بنقد، فقال في الإنصاف: لا يجوز بلا خلاف، لأنه صرف بنسيئة، وإن بيع بعرض فروايتان، وقال أحمد: هو غرر.
(3) لأنها فسخ، وليست بيعا، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة، وتجوز في بعضه، عند الجمهور، وبرد الثمن في المجالس إن كان باقيًا، أو مثله إن كان مثليا، أو قيمته.
(4) قالوا: ولا بثمن رأس مال السلم بعد فسخه.
(5) والحسن، وسعيد بن جبير، والأوزاعي، وغيرهم.(5/33)
إذ وضع الرهن للاستيفاء من ثمنه، عند تعذر الاستيفاء من الغريم، ولا يمكن استيفاء المسلم فيه من عين الرهن، ولا من ذمة الضامن، حذرًا من أن يصرفه إلى غيره (1) ويصح بيع دين مستقر – كقرض، أو ثمن مبيع – لمن هو عليه (2) بشرط قبض عوضه في المجلس (3) .
__________
(1) أي إلى غير المسلم فيه، ونظَّره المجد وغيره، وعنه: يجوز ويصح، فيشتري ذلك من ثمن الرهن ويسلمه، ويشتريه الضامن ويسلمه، لئلا يصرفه إلى غيره، وعليه أكثر الأصحاب، وهو مذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم، لقوله {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} واللفظ يدخل فيه السلم، ولأنه أحد نوعي البيع فجاز أخذ الرهن بما يسلم في الذمة، والكفالة وثيقة، أشبهت الرهن، فيجوز شرطهما اختاره الشيخ، والموفق، والمجد، وغيرهم، وصححه في التصحيح وغيره، وصوبه الزركشي، وهو المفتى به.
(2) فقط، وكذا مهر بعد دخول أو نحوه مما يقرره، وأجرة استوفى نفعها أو فرغت مدتها، وأرش جناية، وقيمة متلف، وكجعل بعد عمل، وعوض نحو خلع.
(3) هذا مذهب الجمهور، لخبر: كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدنانير، ونأخذ عنها الدراهم، فقال «لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء» فدل على جواز بيع ما في الذمة من أحد النقدين بالآخر، وغيره مقاس عليه، فأما إن باعه بما لا يباع به نسيئة أو عكسه، أو باعه بموصوف في الذمة، فيشترط قبضه في المجلس، لا إن باعه بمعين يباع به نسيئة، كذهب ببر معين، فلا يشترط قبضه في المجلس، ولا يصح بيعه لغير من هو عليه مطلقًا، لأنه غير قادر على تسليمه، ولا بيع دين غير مستقر، كدين كتابة ونحوه.(5/34)
وتصح هبة كل دين لمن هو عليه، ولا يجوز لغيره (1) وتصح استنابة من عليه الحق للمستحق (2) .
__________
(1) أي ولا يجوز هبة كل دين لغير من هو عليه، لأن الهبة تقتضي وجود معين، وهو منتف هنا، وإنما صحت لمن هو عليه من سلم أو غيره لأنها غير هبة حقيقة، بل بمعنى الإسقاط، وعنه: تصح لغير من هو عليه، اختاره في الفائق، وهو مقتضى كلام الشيخ.
(2) ثبتت هذه العبارة في بعض النسخ، وقد تقدمت في آخر باب الخيار، وهي أن يقول لغريمه: اقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك، ومفهومه عدم صحة عكسه، بأن يقول لغريمه: اقبض سلمي لنفسك.
وقال ابن القيم: يكفي قبضه من نفسه لرب المال، وإذا تصدق عنه بالذي قال كان عن الآمر، هذا هو الصحيح وهو تخريج بعض أصحابنا، وفي الإنصاف: عن قبضه جزافًا فالقول قوله في قدره بلا نزاع، وإن قبضه كيلا ووزنا وادعى غلطًا لم يقبل قوله، والوجه الثاني: يقبل إذا ادعى غلطًا ممكنًا عرفًا، صححه غير واحد، قال في الإنصاف: والنفس تميل إليه مع صدقه وأمانته.(5/35)
باب القرض (1)
بفتح الكاف وحكي كسرها (2) ومعناه لغة القطع (3) واصطلاحًا دفع مال لمن ينتفع به، ويرد بدله (4) وهو جائز بالإجماع (5) .
__________
(1) أي هذا باب يذكر فيه فضل القرض، وأحكامه، وما يتعلق بذلك.
(2) حكاه صاحب القاموس وغيره.
(3) مصدر قرض الشيء يقرضه – بالكسر – قطعه فسمي به لأنه يقطع من ماله شيئًا يعطيه، ليرجع إليه مثله، وأقرضه أعطاه قرضا، واسم مصدر بمعنى الإقراض، وما أسلفت من إساءة أو إحسان.
(4) وهو شرع كذلك، فلا يملك المقرض استرجاعه، وله طلب بدله، قال في الإنصاف: بلا نزاع، وقوله: دفع مال. شمل العارية والهبة، فأخرجهما بقوله: ويرد بدله، أو يفسر قوله "مال" فتخرج، لأنها إباحة المنافع، وتخرج الهبة بالقيد المذكور، والقرض نوع من المعاملات، على غير قياسها، لاحظها الشارع رفقًا بالمحاويج.
وقال ابن القيم: القرض من باب الإرفاق والتبرع، لا من باب المعاوضات، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم منيحة، لينتفع بما يستخلف منه، ثم يعيده إليه بعينه، إن أمكن، وإلا فنظيره أو مثله، وهو نوع من السلف، لارتفاق المقرض به، وإن كان المقرض ينتفع بالقرض، كما في مسألة السفتجة، ولهذا كرهها من كرهها، والصحيح أنها لا تكره، لأن المنفعة لا تخص المقرض، بل ينتفعان بها جميعًا.
(5) حكاه غير واحد، بل بالكتاب والسنة، لعموم {وَأَقْرَضُوا اللهَ} ، «من نفس عن مسلم كربة» الحديث، وغير ذلك.(5/36)
(وهو مندوب) (1) لقوله عليه السلام في حديث ابن مسعود «ما من مسلم يقرض مسلمًا قرضًا مرتين، إلا كان كصدقة مرة» (2) وهو مباح للمقترض (3) وليس من المسألة المكروهة، لفعله عليه السلام (4) (وما يصح بيعه) من نقد أو عرض (صح قرضه) مكيلاً كان أو موزونًا، أو غيرهما (5) .
__________
(1) أي والقرض مندوب إليه في حق المقرض، لما فيه من الأجر العظيم، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن القروض قربة ومثوبة.
(2) رواه ابن ماجه، وله عن أنس مرفوعًا «الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر» حتى قيل: إنه أفضل من الصدقة، إذ لا يقترض إلا محتاج، ففي هذه الأحاديث وغيرها من العمومات، ما يدل على فضيلة القرض، ولأن فيه تفريجًا، وقضاء لحاجة أخيه المسلم، وليس بواجب، قال أحمد: لا إثم على من سئل فلم يقرض، وذلك لأنه من المعروف، أشبه صدقة التطوع.
(3) وينبغي أن يعلم المقرض بحاله، ولا يغره من نفسه، ولا يستقرض إلا ما يقدر أن يوفيه، إلا الشيء اليسير الذي لا يتعذر مثله عادة، لئلا يضر بالمقرض، ولا لغيره ممن هو معروف بعدم الوفاء، لكونه تغريرًا بمال المقرض، وإضرارًا به.
(4) من أنه استسلف بكرًا، وغير ذلك، ولو كان مكروهًا لكان أبعد الناس منه.
(5) مما يضبط بالذرع، أو العد، أو الوصف، أما قرض المكيل والموزون فقال الموفق وغيره: يجوز بغير خلاف. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه على أن استقراض ما له مثل من المكيل، والموزون، والأطعمة جائز، ومذهب مالك، والشافعي، وغيرهما: يجوز قرض الخبز. وفي الاختيارات. يجوز قرضه،
ورد مثله عددًا بلا وزن، من غير قصد الزيادة. وجوز الشيخ قرض المنافع، مثل أن يحصد معه يومًا، ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه داره، ليسكنه الآخر داره بدلها، ولو أقرضه في بلد ليستوفي منه في بلد آخر، جاز على الصحيح.(5/37)
لأنه عليه السلام استسلف بكرًا (1) (إلا بني آدم) فلا يصح قرضهم، لأنه لم ينقل، ولا هو من المرافق (2) ويفضي إلى أن يقترض جارية يطؤها ثم يردها (3) ويشترط معرفة قدر القرض، ووصفه (4) .
__________
(1) وهو الفتى من الإبل، ويأتي أن الحديث متفق عليه، فدل على جواز قرض الحيوان، وهو مذهب الجمهور.
(2) وقال أحمد: أكره قرضهم، قال الموفق: فيحتمل كراهية تنزيه ويصح، لأنه مال يثبت في الذمة سلما، فصح قرضه، كسائر الحيوان، قال: وعدم نقله ليس بحجة، فإن أكثر الحيوانات لم ينقل قرضها وهو جائز، قال: ويحتمل صحة قرض العبيد دون الإماء، وهو قول مالك، والشافعي، إلا أن يقرضهن من ذوي محارمهن.
(3) هذا المذهب، واختاره القاضي، ورجح الموفق أن القرض عقد ناقل للملك، فاستوى فيه العبيد والإماء، كسائر العقود، وقولهم "ثم يردها" ممنوع، فإنا إذا قلنا: الواجب رد القيمة. لم يملك المقترض رد الأمة، وإنما يرد قيمتها، وإن سلمنا ذلك، لكن متى قصد المقترض هذا، لم يحل له فعله، ولا يصح اقتراضه، كما لو اشترى أمة ليطأها ثم يردها بالمقايلة، أو بعيب فيها، وإن وقع هذا بحكم الاتفاق، لم يمنع الصحة، كما لو وقع ذلك في البيع.
(4) أي قدر القرض، بمقدر معروف، بمكيال معلوم، وذراع معلوم، وعدد معلوم، ووزن معلوم، فلا يصح قرض دنانير ونحوها عددًا، إن لم يعرف
وزنها، إلا إن كانت يتعامل بها عددًا فيجوز، ويرد بدلها عددًا، ويشترط معرفة وصفه، ليتمكن من رد بدله.(5/38)
وأن يكون المقرض ممن يصح تبرعه (1) ويصح بلفظه، وبلفظ السلف (2) وكل ما أدى معناهما (3) وإن قال: ملكتك. ولا قرينة على رد بدل فهبة (4) (ويملك) القرض (بقبضه) كالهبة، ويتم بالقبول (5) وله الشراء به من مقرضه (6) (فلا يلزم رد عينه) للزومه بالقبض (7) .
__________
(1) فلا يقرض نحو ولي يتيم من ماله، ولا مكاتب، وناظر وقف منه.
(2) أي ويصح القرض بلفظ القرض، وبلفظ السلف، لورود الشرع بهما، وبلفظ السلم.
(3) نحو: ملكتك هذا على أن ترد على بدله. أو: خذ هذا، انتفع به، ورد لي بدله. ونحوه، أو توجد قرينة، دالة على إرادته كأن سأله قرضًا فليس بهبة.
(4) لأنه صريح في الهبة، فيحكم أنه هبة، إذا ترافعا، وقد اتفقا على لفظ التمليك، فإن اختلفا، فالقول قول الآخذ أنه هبة، لأن الظاهر معه، لأن التمليك من غير عوض هبة.
(5) أي يتم عقد القرض بالقبول كالبيع، ويملك ويلزم بقبضه، سواء كان مكيلاً أو نحوه، أو معينا كثوب ونحوه، فلا يفهم من تمام العقد الملكية.
(6) أي وللمقترض الشراء بما اقترضه من المقرض بلا كراهة، لأنه ملكه،
فكان له التصرف فيه بما شاء.
(7) أي فلا يلزم المقترض رد عين ما اقترضه، للزومه من جهته، وملكه
له ملكًا تامًا بالقبض، ما لم يفلس القابض، ويحجر عليه، فله الرجوع به، كما يأتي في الحجر.(5/39)
(بل يثبت بدله في ذمته) أي ذمة المقترض (حالاً ولو أجله) المقرض (1) لأنه عقد منع فيه من التفاضل، فمنع الأجل فيه كالصرف (2) قال الإمام: القرض حال، وينبغي أن يفي بوعده (3) (فإن رده المقترض) أي رد القرض بعينه (لزم) المقرض (قبوله) إن كان مثليًا (4) لأنه رده على صفة حقه، سواء تغير سعره أو لا (5) .
__________
(1) أي فله طلبه كسائر الديون الحالة، والحال لا يتأجل بالتأجيل.
(2) قضية تشبيهه بالصرف عدم جواز التأجيل في القرض، وعنه: صحة تأجيله، ولزومه إلى أجله، وهو مذهب مالك، وصوبه في الإنصاف، وقال الشيخ: الدين الحال يتأجل بتأجيله، سواء كان الدين قرضًا أو غيره، لقوله «المسلمون عند شروطهم» وقال ابن القيم: هو الصحيح لأدلة كثيرة.
(3) لأن الوفاء بالوعد مستحب، واختار الشيخ لزومه إلى أجله، وفي الإنصاف: اختار الشيخ صحة تأجيله، ولزومه إلى أجله، سواء كان قرضًا أو غيره، وذكره وجهًا وهو الصواب، ومذهب مالك والليث، وذكره البخاري عن بعض السلف.
(4) مكيلا كان أو موزونًا بلا نزاع، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه على أن من أسلف سلفًا مما يجوز أن يسلف، فرد عليه مثله، أن ذلك جائز، وأن للمسلف أخذ ذلك، ولأن المكيل والموزون يضمن في الغصب والإتلاف بمثله، فكذا هنا.
(5) أي بزيادة أو نقص، فيلزمه أخذه كالسلم.(5/40)
حيث لم يتعيب (1) وإن كان متقومًا (2) لم يلزم المقرض قبوله (3) وله الطلب بالقيمة (4) (وإن كانت) الدراهم التي وقع القرض عليها (مكسرة (5) أو) كان القرض (فلوسًا، فمنع السلطان المعاملة بها) أي بالدراهم المكسرة أو الفلوس (6) (فله) أي للمقرض (القيمة وقت القرض) (7) .
__________
(1) أي القرض، كحنطة ابتلت، أو عفنت، فلا يلزمه قبولها، لأن عليه فيه ضررًا، لكونه دون حقه.
(2) أي وإن كان القرض متقومًا، وهو ما عدا المكيل والموزون، مما لا مثل له، كالثياب، والحيوان، ونحوها، ورده المقترض، ولو لم يتغير سعره، ولم يتعيب.
(3) إن أخذ مثله جاز، وإن شاء طالب بالقيمة، لأن الذي وجب له بالقرض قيمته، فلا يلزمه الاعتياض عنها.
(4) لأنه لا مثل له، فضمن بقيمته، كما في الإتلاف والغصب، والوجه الثاني يجب رد مثله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فرد مثله، وجوز الشيخ وغيره رد المثل بتراضيهما، لأن الحق لا يعدوهما، ولأن ما ثبت في الذمة في السلم ثبت في القرض كالمثلي، ويعتبر مثل صفاته تقريبًا، فإن حقيقة المثل إنما توجد في المكيل والموزون، وتعتبر حين القرض، لأنها حينئذ تثبت في الذمة.
(5) أي مثلاً، فيشمل الدراهم المقصوصة وغيرها.
(6) أو منع نائبه فكذلك، وسواء اتفق الناس على المعاملة بها أو لا.
(7) وهو وقت ثبوتها في ذمته، لاختلاف القيم في الزمن اليسير، بكثرة الرغبة وقلتها، قال أحمد: يقومها كم تساوي يوم أخذها، ثم يعطيه.(5/41)
لأنه كالعيب، فلا يلزمه قبولها (1) وسواء كانت باقية أو استهلكها (2) وتكون القيمة من غير جنس الدراهم (3) وكذلك المغشوشة إذا حرمها السلطان (4) (ويرد) المقترض (المثل) أي مثل ما اقترضه (في المثليات) (5) .
__________
(1) أي لأن منع السلطان لها كالعيب، منع نفاقها، وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها، فلا يلزمه قبولها معيبة، وليس المراد عيب الشيء المعين، فإنه ليس هو المستحق، وإنما المراد عيب النوع، والأنواع لا يعقل عيبها إلا نقصان قيمتها، قال الشيخ: فإذا أقرضه طعامًا فنقصت قيمته، فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصًا، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل.
(2) أي سواء كانت الدراهم المكسرة أو الفلوس باقية بعينها في ملك المقترض أو استهلكها، فلا يملك ردها، وإنما يملك القيمة، سواء نقصت قليلاً أو كثيرًا.
(3) كذهب إذا كان القرض دراهم، فإن كان دنانير فالقيمة تكون فضة، وكذا لو اقترض حليًا، لئلا يؤدي إلى الربا، ونص أحمد عليه كما يأتي.
(4) له القيمة وقت القرض، وعلم منه أن الفلوس إن لم يحرمها السلطان وجب رد مثلها، غلت أو رخصت، واختار الشيخ القيمة وقت القرض فيما إذا كسدت مطلقًا.
(5) أي ويجب على مقترض رد مثل قرض من فلوس، أو مكيل، أو موزون، لا صناعة فيه مباحة، يصح السلم فيه، قاله في المبدع: إجماعًا، ولأنه يضمن في الإتلاف ونحوه بمثله، فكذا هنا.(5/42)
لأن المثل أقرب شبهًا من القيمة (1) فيجب رد مثل فلوس غلت، أو رخصت، أو كسدت (2) (و) يرد (القيمة في غيرها) من المتقومات (3) وتكون القيمة في جوهر ونحوه يوم قبضه (4) .
__________
(1) أي مع أن المثل في المثليات أقرب شبهًا بالقرض من القيمة، فيتأكد وجوب رد المثل، لوجود حقيقة المثلية فيها.
(2) "رخصت" بالضم ضد غلت، و"كسدت" بالفتح فلم تنفق، والمراد نقصت قيمتها، وهذا مع بقاء التعامل بها، وعدم تحريم السلطان لها، عند أكثر الأصحاب، لأن علو القيمة ونقصانها لا يسقط المثل عن ذمة المقترض، فلا يوجب المطالبة بالقيمة، واختار الشيخ وابن القيم: رد القيمة، كما لو حرمها السلطان، وجزم به الشيخ في شرح المحرر، فقال: إذا أقرضه طعامًا فنقصت قيمته، فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصًا، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل.
قال عبد الله بن الشيخ محمد: هو أقوى، فإذا رفع إلينا مثل ذلك، وسطنا بالصلح بحسب الإمكان، هيبة الجزم بذلك، وألحق الشيخ سائر الديون بالقرض وتابعه كثير من الأصحاب، وذكره الشيخ منصوص أحمد، وأنه سئل عن رجل له على آخر دراهم مكسرة أو فلوس، فسقطت المكسرة قال: يكون له بقيمتها من الذهب.
(3) أي ويجب رد القيمة في غير المثليات المكيل والموزون من المتقومات، وهي ما لا يصح السلم فيه، لأنه لا مثل له، فضمن بقيمته، قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب، كما في الإتلاف ونحوه.
(4) أي وتكون القيمة في جوهر ونحوه مما لا يضبط بالصفة يوم قبضه،
سواء قبضه وقت الاستقراض، أو لم يقبضه إلا بعده، لأنها تختلف قيمتها في الزمن اليسير.(5/43)
وفيما يصح سلم فيه يوم قرضه (1) (فإن أَعوز) أي تعذر (المثل فالقيمة إذًا) أي وقت إعوازه (2) لأنها حينئذ تثبت في الذمة (3) (ويحرم) اشتراط (كل شرط جر نفعًا) (4) كأن يسكنه داره، أو يقضيه خيرًا منه (5) .
__________
(1) لأنها حينئذ تثبت في الذمة، ويوم القرض هو يوم الطلب من المقرض، جزم بذلك الموفق وغيره، وهذا التفصيل على ما في المنتهى، وظاهر الإقناع عدم التفصيل، قال: فإن أعوز المثل فقيمته يوم إعوازه، وما سواه يوم قبضه.
(2) وهو عدم وجوده، وعوز من باب تعب، عز فلم يوجد، وأعوزه كأعجزه، لفظا ومعنى.
(3) أي تثبت قيمة القرض يوم إعواز المثل في ذمة المقترض.
(4) قال الموفق: كل قرض شرط فيه الزيادة فهو حرام بغير خلاف، وكذلك المواطأة عليها، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أنه إذا شرط عليه زيادة فأخذها فهو ربا، واستفاضت الآثار عن السلف أن الهدية إذا كانت لأجل التنفيس ونحوه، أو منفعة في مقابلة دينه فهو محرم، لأنه إما نوع ربا أو رشوة، وكلاهما حرام بالنصوص المستفيضة، وإن كان لأجل عادة جارية قبل فلا بأس، والجمهور على أنه إذا أقرض لا ينتفع لأجله.
(5) أي كأن يسكنه داره مجانًا أو رخيصًا، أو يقضيه خيرًا مما أقرضه، مثل أن يقرضه مكسرة فيعطيه صحاحا ونحوه، أو أن يقضيه ببلد آخر ولحمله مؤونة، وعنه: يجوز. اختاره الموفق، والشيخ، وعنه: يجوز على وجه المعروف. ويأتي «إذا أقرض أحدكم أخاه قرضًا، فأهدى إليه، أو حمله على الدابة فلا يركبها، ولا يقبله» وثبت عن عبد الله بن سلام: إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن فلا تأخذه، فإنه ربا.
وقال ابن مسعود: كل قرض جر نفعًا فهو ربا، وثبت النهي عن سلف وبيع، وحكاه الوزير اتفاقًا، لئلا يحابيه في الثمن من أجل القرض، فكذا إذا أسكنه داره، أو أقرضه على أن يقضيه خيرًا منه، أو يهدي له، أو يعمل له عملاً، ونحو ذلك، كان أبلغ في التحريم، وقال الشيخ: لو أقرض أكَّاره بذرًا – كما يفعله الناس – فهو فاسد. وقال: إن أقرض فلاحه في شراء بقر أو بذر بلا شرط، حرم، وإن أمره ببذره وأنه في ذمته، كالمعتاد في فعل الناس ففاسد، له تسمية المثل، ولو تلف لم يضمنه لأنه أمانة.(5/44)
لأَنه عقد إرفاق وقربة (1) فإذا شرط فيه الزيادة أَخرجه عن موضوعه (2) (وإن بدأ به) أي بما فيه نفع، كسكنى داره (بلا شرط) ولا مواطأة بعد الوفاء جاز، لا قبله (3) (أَو أَعطاه أجود) بلا شرط جاز (4) .
__________
(1) أي إلى الله تعالى، وطلب مثوبة، قال ابن عمر: سلف تسلفه تريد به وجه الله، فلك وجه الله، وسلف تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك، وسلف لتأخذ به طيبًا بخبيث، فذلك الربا.
(2) وهو القربة بإرفاق المقترض ونفعه، إلى الربح على المقترض، فيدخل في باب المعاوضة، فلا يصير قرضًا، ولا معاوضة شرعية، لأن لها شروطًا معروفة.
(3) أي لا قبل الوفاء، فإنه لا يجوز مطلقًا، بخلاف ما بعده، لأنه لم يجعله عوضًا في القرض، ولا وسيلة إليه، فكما لو لم يكن قرض.
(4) كما لو أعطاه صحاحًا عن مكسرة، أو أعطاه نقدًا أجود مما اقترض،
أورد نوعًا خيرًا مما أخذ، قال الموفق: تجوز الزيادة في القدر والصفة، يعني بلا شرط، ولا مواطأة.(5/45)
لأنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكرًا فرد خيرًا منه (1) وقال «خيركم أحسنكم قضاءً» متفق عليه (2) (أو) أعطاه (هدية بعد الوفاء جاز) (3) لأنه لم يجعل تلك الزيادة عوضًا في القرض، ولا وسيلة إليه (4) .
__________
(1) وذلك أنه استقرض من رجل بكرا، ولما قدمت عليه إبل الصدقة أمر أبا رافع أن يعطي الرجل بكره، فقال: لا أجد إلا خيارًا رباعيًا، فقال «أعطه إياه» أي أعطه الخيار الرباعي بدل البكر، وهو الفتى من الإبل، بمنزلة الغلام من الذكور، والرباعي هو ما استكمل ست سنين، ودخل في السابعة، فهو خير من البكر، وللترمذي وصححه: فأعطى سنا خيرا من سنه. فدل على جواز الزيادة على مقدار القرض من المستقرض، حيوانا كان أو غيره، وفي الصحيحين عن جابر: كان لي عليه دين، فقضاني وزادني. وسواء كانت الزيادة في القدر أو الصفة.
(2) فدل على استحبابه، وأن ذلك من مكارم الأخلاق المحمودة عرفًا وشرعًا، ولا يدخل في القرض الذي يجر نفعًا، لأنه لم يكن مشروطًا من المقرض، ولا متواطأ عليه، وإنما ذلك تبرع من المستقرض.
(3) أي بلا شرط، ولا مواطأة.
(4) فجاز أخذ تلك الزيادة أو الهدية، لما تقدم، وكذا إن علمت زيادته لشهرة سخائه، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.(5/46)
(وإن تبرع) المقترض (لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به) قبل القرض (لم يجز (1) إلا أن ينوي) المقرض (مكافأته) على ذلك الشيء (2) (أو احتسابه من دينه) فيجوز له قبوله (3) لحديث أنس مرفوعًا قال «إذا أَقرض أَحدكم قرضًا، فأهدى إليه، أَو حمله على الدابة، فلا يركبها، ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك» رواه ابن ماجه، وفي سنده جهالة (4) .
__________
(1) وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وجمهور السلف، لأنه إذا أقرض لا ينتفع به، فيجر نفعًا محظورًا، فإنه لم يتبرع له إلا من أجل القرض، وإن لم يتواطآ عليه، وإنما وسيلته أنه قد اقرضه، فلم يجز، ما لم تكن جرت العادة بينهما بذلك قبل القرض، فيجوز لما يأتي.
(2) بأن يفعل معه مثل ما فعل، مما فيه نفع، فيجوز له قبوله، نص عليه.
(3) أي قبول ما تبرع به المقترض للمقرض من هدية ونحوها قبل الوفاء، فلو استضافه حسب له ما أكل عنده، أو كافأه عليه، إن لم تكن جرت العادة بينهما به قبل القرض، وأما في الدعوات فكغيره ممن لا دين له.
(4) والحديث وإن كان في إسناده متكلم فيه، فله شواهد كثيرة، منها ما في صحيح البخاري، عن عبد الله بن سلام نحوه موقوفًا، وله حكم الرفع، وورد غيره من الآثار والأصول الشرعية ما يعضد ذلك، فلا يجوز لمقرض قبول هدية، ولا غيرها من المنافع، للنهي عن ذلك، لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأخذ هدية عليه، أو أي منفعة، فيكون ربا، لأنه يعود إليه ماله، مع أخذ الفضل الذي استفاده.(5/47)
(وإن أَقرضه أَثمانًا، فطالبه بها ببلد آخر (1) لزمته) الأَثمان أي مثلها (2) لأنه أمكنه قضاء الحق من غير ضرر فلزمه (3) ولأن القيمة لا تختلف، فانتفى الضرر (4) (و) يجب (فيما لحمله مؤونة قيمته) ببلد القرض (5) لأنه المكان الذي يجب التسليم فيه (6) ولا يلزمه المثل في البلد الآخر، لأنه لا يلزمه حمله إليه (7) .
__________
(1) أي غير بلد القرض، ومثل ذلك ثمن في ذمته ونحوه.
(2) أي لزم المستقرض دفع تلك الأثمان لا عينها، ما لم يكن لحملها مؤونة، ومثل الأثمان ما لا مؤونة لحمله، لأن تسليمه إليه في بلده وغيره سواء.
(3) أي لزم المقترض قضاء الحق الذي عليه، وهو بدل القرض، أو ثمن ما في ذمته ونحوه، لأنه ليس لحمل ذلك مؤونة في الغالب.
(4) لاتفاق القيمة في البلدين، فلزمه قضاء ما عليه، حيث لا ضرر في حمله، ولا زيادة قيمته.
(5) أي ويجب على مستقرض ما لحمله مؤونة – كحديد، وقطن، وبر – قيمته يدفعها لمقرض ببلد الطلب، لأنه لما تعذر المثل تعينت القيمة، لكن ببلد القرض.
(6) أي لأن بلد القرض هو المكان الذي يجب تسليم بدل القرض فيه، فاعتبرت القيمة فيه.
(7) فصار كالمتعذر، وإن كانت قيمة القرض في البلدين سواء لزمه أداء المثل في المثليات، لأنه أمكنه بلا ضرر عليه في أدائه، وكذا إن كانت قيمته في بلد القرض أكثر من قيمته في بلد المطالبة.(5/48)
(إن لم تكن) قيمته (ببلد القرض أنقص) (1) صوابه: أكثر (2) . فإن كانت القيمة ببلد القرض أكثر، لزم مثل المثلي، لعدم الضرر إذًا (3) ولا يجبر رب الدين على أخذ قرضه ببلد آخر (4) .
__________
(1) أي من قيمته في بلد الطلب، فيلزمه أداؤه بها، لإمكانه من غير ضرر، وعلم منه أنه لو طالبه بقيمته في بلد المطالبة وكانت قيمته ببلد القرض أكثر لم تلزمه، لأنه لا يلزمه حمله إليها.
(2) لا ريب أنه سهو من الشارح رحمه الله، فإن الصواب: أنقص. كما ذكر الماتن.
(3) بل لو كان كما ذكر لما كان هناك فائدة، لأنه يصير إذا كانت القيمة في بلد القرض أنقص لم تجب القيمة في بلد الطلب، والأمر بالعكس كما عرفت، قال عثمان: البدل المطلوب بغير بلد القرض إما أن يكون لحمله مؤونة أو لا، وعلى كلا التقديرين إما أن تكون قيمة البدل ببلد القرض أزيد أو أنقص أو مساوية لقيمته ببلد الطلب، فهذه ست صور، يلزم بذل البدل ببلد الطلب في خمس صور منها، وهي ما إذا لم يكن لحمل البدل مؤونة بصوره الثلاث، أو كانت له مؤونة تمكن قيمته ببلد نحو القرض أزيد، أو مساوية، ويلزم بذل قيمة البدل ببلد الطلب في صورة واحدة، وهي ما إذا كان لحمله مؤونة، وقيمته ببلد نحو القرض أنقص، فتلزم قيمته ببلد نحو القرض، حتى مع وجود المثل ببلد الطلب.
(4) يعني إذا كان لحمله مؤونة، أو البلد والطريق غير آمن، وكذا ثمن وأجرة وغيرهما، ولو تضرر المقترض، لأن الضرر لا يزال بالضرر، قال الشيخ: يجب على المقترض أن يوفي المقرض في بلد القرض، ولا يكلفه مؤونة السفر والحمل.(5/49)
إلا فيما لا مؤونة لحمله (1) مع أَمن البلد والطريق (2) وإذا قال: اقترض لي مائة، ولك عشرة. صح، لأنها في مقابلة ما بذله من جاهه (3) ولو قال: اضمني فيها ولك ذلك. لم يجز (4) .
__________
(1) كأثمان، فيلزم المقرض ونحوه قبوله.
(2) فيلزمه قبوله لانتفاء الضرر، قال أحمد: وإذا اقترض دراهم ثم اشترى منه بها، فخرجت زيوفًا، فالبيع صحيح، وله على المشتري بدل ما أقرضه بصفته زيوفًا.
(3) فقط، وتقدم أنه لا ينبغي أن يقترض لغير معروف بالوفاء.
(4) لأنه ضامن، فيلزمه الدين، وإذا أداه وجب له على المضمون عنه، فصار كالقرض، فإذا أخذ عوضًا، صار القرض جارا لمنفعة فلم يجز، فالفرق بينهما أنه في الضمان يكون كقرض جر نفعًا، بخلاف الاقتراض له، ومنعه بعضهم.(5/50)
باب الرهن (1)
هو لغة: الثبوت والدوام (2) يقال: ماء راهن. أي راكد (3) ونعمة راهنة أي دائمة (4) وشرعًا: توثقة دين بعين (5) يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها (6) .
__________
(1) أي هذا باب يذكر فيه الرهن وأحكامه وما يتعلق به.
(2) والاحتباس، وفي القاموس، ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك، ورهنه الشيء، وأرهنه: جعله رهنا، وارتهنه منه أخذه، وكل ما احتبس به شيء فرهينه ومرتهنه.
(3) أي لا يجري.
(4) أي لا تزول، وهو المراد هنا، من قولهم: رهن الشيء. إذا ثبت ودام، ومنه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي محبوسة، والدائم والمحبوس هو الثابت، أو هو الحبس في مكان لا يزول منه.
(5) أي جعل عين مالية وثيقة بدين، ووثقت بالشيء، اعتمدت عليه، فالمرتهن معتمد على الاستيفاء من الرهن عند التعذر، وظاهره عدم صحة رهن الدين، وعنه: يجوز عند من عليه الحق له، قال في الإنصاف: الأولى الجواز، وهو قول كثير من الأصحاب وغيرهم وتقدم. وقال الزركشي: توثقة دين بعين، أو بدين على قول.
(6) أي يمكن استيفاء الدين، أو استيفاء بعضه منها، إن كانت من جنس الدين أو استيفاؤه أو بعضه من ثمنها، إن كانت من غير جنس الدين، وقوله: يمكن استيفاؤه. أخرج أم الولد ونحوها مما لا يصح بيعه.(5/51)
وهو جائز بالإجماع (1) ولا يصح بدون إيجاب وقبول، أو ما يدل عليهما (2) ويعتبر معرفة قدره وجنسه وصفته (3) وكون راهن جائز التصرف، مالكًا للمرهون، أو مأذونًا له فيه (4)
__________
(1) بل بالكتاب والسنة وبالإجماع، قال تعالى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وتوفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة، وأجمعوا على جوازه في السفر، والجمهور على جوازه في الحضر، وحكي اتفاقًا، مع وجود كاتب فإن الكل في الآية خرج مخرج الأعم الأغلب، لا على سبيل الشرط، للسنة المستفيضة في ذلك، وليس بواجب إجماعًا، لأنه وثيقة بالدين، فلم يجب كالضمان، وإنما جاز حفظًا للأموال وسلامة من التنازع.
(2) أي ولا يصح الرهن بدون إيجاب، كرهنتك هذا الشيء. وقبول كقبلت هذا الشيء، أو ارتهنته، أو ما يدل على الإيجاب، والقبول كمعاطاة، وأركانه أربعة: الصيغة، والمرهون، والمرهون به، والمتعاقدان.
(3) أي ويشترط للرهن ستة شروط، أحدها معرفة قدر الرهن، ومعرفة جنسه وصفته، لأنه عقد على مال، فاشترط العلم به، وجعل وثيقة بحق، ولا يحصل التوثيق بدون معرفته.
(4) أي ويعتبر كون راهن جائز التصرف بلا نزاع، لأنه نوع تصرف في المال فلم يصح بدونه، قال ابن رشد: لا خلاف أن من صفة الراهن، أن يكون غير محجور عليه من أهل السداد، وكل من صح أن يكون راهنًا صح أن يكون مرتهنًا. اهـ. وذلك بأن يكون مالكًا للمرهون ولو لمنافعه، ومقتضاه: أن المرهون لا يطلق عليه اسم الرهن، ونص الآية {فَرِهَانٌ} وهو جمع رهن بمعنى مرهون، والمرهون كل عين معلومة جعلت وثيقة في حق، ويجوز أن يرهن مال نفسه على دين غيره، ولو بغير رضاه كإعارته شيئًا للمرتهن، صرح به الشيخ، وأن يكون المرهون مأذونًا له فيه، كأن استعار أو استأجر ما يصح رهنه ليرهنه، ولو لم يبين قدر الدين، لكنه ينبغي أن يبين له ذلك، والمرتهن والجنس الذي يرهنه به ومدته، فإن شرط له شيئًا فخالفه لم يصح، حكاه ابن المنذر إجماعًا، إلا إذا أذن في رهنه بقدر فزاد عليه، فيصح في المأذون فيه.(5/52)
و (يصح) الرهن (في كل عين يجوز بيعها) (1) لأن القصد منه الاستيثاق بالدين، ليتوصل إلى استيفائه من ثمن الرهن (2) عند تعذره من الراهن (3) وهذا متحقق في كل عين يجوز بيعها (4) .
__________
(1) من غير استثناء، وأخرجت العين المنافع، فإنه لا يصح رهنها مع صحة بيعها، ولو كانت العين نقدًا أو مؤجرًا أو جعلا، ويسقط ضمان العارية لانتقالها للأمانة، وإن لم يستعملها المرتهن، فإذا استعملها صارت مضمونة عليه.
(2) أي المرهون، وكثيرًا ما يطلق الرهن ويراد به المرهون، من إطلاق المصدر على اسم المفعول.
(3) أي عند تعذر استيفاء الدين، من الغريم الراهن للعين، ودين الآدمي واجب قضاؤه على الفور عند المطالبة وإلا فقيل: لا. وقال ابن رجب إن لم يكن عين وقتا للوفاء، فأما إن عين وقتا للوفاء كيوم كذا، فلا ينبغي أن يجوز تأخيره، لأن تعيين الوفاء فيه كالمطالبة. اهـ. وإذا لم يكن يعلم به فيجب إعلامه، وفيه وجه: يجب على الفور من غير مطالبة. وذكره القاضي والموفق محل وفاق.
(4) أي الاستيثاق الموصل للدين، متحقق في كل عين مرهونة يجوز بيعها، سواء كانت مما يبقى إلى حلول الأجل أولا، كالبطيخ، ويباع ويكون ثمنه رهنًا مكانه، لأن حفظه متعين في بيعه، فيحمل عليه مطلق العقد.(5/53)
(حتى المكاتب) (1) لأنه يجوز بيعه، ويمكن من الكسب (2) وما يؤديه من النجوم رهن معه (3) وإن عجز ثبت الرهن فيه وفي كسبه (4) وإن عتق بقي ما أَداه رهنًا (5) ولا يصح شرط منعه من التصرف (6) والمعلق عتقه بصفة إن كانت توجد قبل حلول الدين لم يصح رهنه (7) .
__________
(1) أي يجوز رهنه، وهو مذهب مالك، وقال الشارح: إذا قلنا استدامة القبض شرط في الرهن لم يصح، والصحيح أنه شرط، فلا يصح رهنه، وهذا مذهب الشافعي، لأن استدامة القبض غير ممكنة في حق المكاتب، لمنافاتها مقتضى الكتابة.
(2) أي فيمكن إيفاء الدين من ثمنه أو كسبه "ويمكن" بالبناء للمفعول، أي يمكن المكاتب من الكسب، لأنه ملكه بالكتابة، وهي سابقة، وكما كان قبل أن يرهن.
(3) لأنه كنمائه، وكما لو كسب القن ثم مات.
(4) أي وإن عجز عن أداء ما بقي من الكتابة، وثبت الرق، ثبت الرهن فيه، وفي كسبه بالدين.
(5) كقن مات بعد كسبه، سواء عتق بأداء أو إعتاق.
(6) أي ولا يصح إذا رهن المكاتب منعه من التصرف، حتى لا يعتق، لمخالفته مقتضى عقد الكتابة.
(7) لكونه لا يمكن بيعه عند حلول الحق، ولا استيفاء الدين من ثمنه، مثاله: هو حر إذا دخل رمضان. وحلول الدين بعد ظهوره.(5/54)
وإلا صح (1) ويصح الرهن (مع الحق) (2) بأن يقول: بعتك هذا بعشرة إلى شهر، ترهنني بها عبدك هذا؛ فيقول: اشتريته منك ورهنته (3) لأن الحاجة داعية إلى جوازه إذًا (4) (و) يصح (بعده) أي بعد الحق بالإجماع (5) ولا يجوز قبله، لأنه وثيقة بحق، فلم يجز قبل ثبوته (6) .
__________
(1) أي وإن لم تكن توجد قبل حلول الدين، صح الرهن، لإمكان بيعه، فإن كانت تحتمل الأمرين، كقدوم زيد، صح رهنه كالمدبر عتقه، وإن حصلت قبل، فيمكن أن يبقى حتى يستوفي الدين من ثمنه، وهذا مذهب أبي حنيفة.
(2) أي في صلب العقد، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، وجماهير العلماء.
(3) ونحو ذلك، فيصح الرهن.
(4) بل إلى ثبوته، فإنه لو لم يعقده مع ثبوت الحق، ويشترطه فيه، لم يتمكن من إلزام المشتري عقده، وكانت الخيرة إلى المشتري، والغالب أنه لا يبذله، فتفوت الوثيقة بالحق.
(5) حكاه غير واحد، لقوله {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} بعد قوله {وَلَمْ تَجِدُواكَاتِبًا} فجعله بدلاً عن الكتابة، فيكون في محلها، ومحلها بعد وجوب الحق، وفي الآية أيضًا ما يدل على ذلك، ولأنه دين ثابت، تدعو الحاجة إلى الوثيقة به، فجاز أخذها به كالضمان.
(6) أي قبل ثبوت الحق كالشهادة نص عليه، وهو مذهب الشافعي.(5/55)
ولأنه تابع للحق فلا يسبقه (1) ويعتبر أن يكون (بدين ثابت) (2) أو مآله إليه (3) حتى على عين مضمونة كعارية (4) ومقبوض بعقد فاسد (5) ونفع إجارة في ذمة (6) لا على دين كتابة (7) .
__________
(1) أي لا يسبق الحق، كالثمن لا يتقدم البيع، واختار أبو الخطاب: يصح، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، فإذا قال: رهنتك هذا الشيء بعشرة تقرضينها غدا. وسلمه إليه، ثم أقرضه الدراهم، لزم الرهن، لأنه وثيقة بالحق، فجاء عقدها قبل وجوبه كالضمان.
(2) أي ويعتبر الرهن أن يكون بدين ثابت، كقرض وقيمة متلف.
(3) أي إلى الثبوت، كثمن في مدة خيار، وأجرة دار.
(4) أي حتى إنه يصح الرهن على عين مضمونة كعارية، وإن لم تكن دينًا، لمشابهتها له من حيث أنه إذا تعذر أداؤها استوفي له من ثمن الرهن، قال القاضي: هذا قياس المذهب. قال في تصحيح الفروع: وهو أولى.
(5) وهو ما اختل فيه شرط من شروط البيع، ويصح أخذ الرهن على المقبوض بسوم، لأن مقصود الرهن الوثيقة بالحق، وهذا حاصل، فإن الرهن بها يحمل الراهن على أدائها، وإن تعذر أداؤها استوفي بدلها من ثمن الرهن، فأشبهت ما في الذمة.
(6) أي ويصح أخذ الرهن على نفع إجارة في الذمة، كمن استؤجر لخياطة ثوب، أو بناء دار ونحو ذلك، فإنه إذا لم يعمله الأجير بيع الرهن واستؤجر منه من يعمله.
(7) استثناء مما يصح رهنه، لعدم ثبوته، لأن للمكاتب أن يعجز نفسه أو يعجز فلا يصح أخذ الرهن عليه، صححه في تصحيح المحرر والفروع.(5/56)
أو دية على عاقلة قبل الحلول (1) ولا بعهدة مبيع (2) وثمن وأُجرة معينين (3) ونفع نحو دار معينة (4) (ويلزم) الرهن بالقبض (في حق الراهن فقط) (5) لأَن الحظ فيه لغيره، فلزم من جهته، كالضمان في حق الضامن (6) (ويصح رهن المشاع) (7) .
__________
(1) لعدم ثبوته، لأنه لو تموت العاقلة أو يصيبها جنون ونحو ذلك قبل الحلول، لم يلزمها شيء، وبعد الحلول يصح لوجوبه إذًا.
(2) أي تبعة مبيع، لأن البائع إذا وثق على عهدة المبيع فكأنه ما قبض الثمن، ولا ارتفق به، وليس له حد ينتهي إليه، فيعم ضرره بمنع البائع التصرف فيه.
(3) لكونهما غير ثابتين في الذمة.
(4) وكعبد معين زمنا معينا، ودابة معينة، لحمل شيء معين، إلى مكان معلوم، لأن الذمة لم يتعلق بها حق واجب في هذه الصور ونحوها، ولا يؤول إلى الوجوب، لأن الحق في أعيان هذه الأشياء، وينفسخ عقد الإجارة عليها بتلفها.
(5) وهذا مذهب مالك والشافعي.
(6) أي من أنه يلزم في حق الضامن فقط، لأن الحظ فيه لغيره، فكذا الرهن لا يلزم إلا في حق الراهن، بخلاف المرتهن، فإن الحظ فيه له وحده، فكان له فسخه كالمضمون له، ولا لزوم في حقهما بحال.
(7) من الشريك ومن الأجنبي، ولو بعض نصيبه منه، أو من عين في مشاع، كأن يكون له نصف دار، فيرهن نصيبه من بيت منها بعينه لشريكه أو غيره.(5/57)
لأنه يجوز بيعه في محل الحق (1) ثم إن رضي الشريك والمرتهن بكونه في يد أحدهما أو غيرهما جاز (2) وإن اختلفا جعله حاكم بيد أمين أمانة أو بأُجرة (3) (ويجوز رهن المبيع) قبل قبضه (4) (غير المكيل والموزون) والمذروع والمعدود (5) .
__________
(1) أي زمن حلوله: يجوز أن يباع ذلك الجزء، ويوفى منه الدين، فصح رهنه، أشبه المفرز، وهذا مذهب الجمهور، وقال أصحاب الرأي: إلا لشريكه أو هما لواحد، وتظهر صحة قول الجمهور بإمكان استيفاء الدين من ثمنه، عند تعذره من غيره، لأن المشاع قابل لذلك.
(2) لأن الحق لا يعدوهما، والعبارة فيها إجمال، وعبارة الإقناع وشرحه: ثم إن كان المرهون بعضه مما لا ينقل – كالعقار – خلى الراهن بينه وبينه، وإن لم يحضر الشريك ولم يأذن، إذ ليس في التخلية تعد على حصة الشريك، وإن كان المرهون بعضه مما ينقل، كالثياب، فرضي الشريك والمرتهن بكونه في يد أحدهما أو غيرهما جاز.
(3) لأن المالك لا يلزمه تسليم ما لم يرهنه، والمرتهن لا يلزمه ترك الرهن عند المالك، فقام الحاكم مقامهما في حفظه لهما، ويجعله بيد أمين، ولو بأجرة عليهما، لأن أحدهما ليس أولى به من الآخر، ولا يمكن جمعهما فيه فتعين ذلك.
(4) لأنه يجوز بيعه قبل قبضه، يعني على القول به، فصح رهنه، كما بعد القبض.
(5) وكذا ما بيع بصفة أو رؤية متقدمة قبل قبضه، واستثناؤه لعدم جواز بيعه قبل قبضه، واختار الشيخ جواز رهن المكيل والموزون ونحوهما قبل قبضهما، وحكاه القاضي وابن عقيل عن الأصحاب.(5/58)
(على ثمنه وغيره) (1) عند بائعه وغيره، لأَنه يصح بيعه (2) بخلاف المكيل ونحوه (3) فإنه لا يصح بيعه قبل قبضه، فكذلك رهنه (4) (وما لا يجوز بيعه) كالوقف وأم الولد (لا يصح رهنه) (5) لعدم حصول مقصود الرهن منه (6) (إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع)
__________
(1) أي وغير ثمنه قولاً واحدًا، وعلى ثمنه نص عليه، لأن ثمنه في الذمة دين، والمبيع ملك للمشتري، فجاز رهنه كغيره من الديون.
(2) أي يصح رهن المبيع عند بائعه وغير بائعه، لأنه يصح بيعه قبل قبضه، وما صح بيعه قبل قبضه صح رهنه.
(3) أي من معدود ومذروع، ومبيع بصفة أو رؤية متقدمة، ونحو ذلك.
(4) سواء كان على ثمنه أو غيره، أو دين آخر، وسواء رهنه من البائع أو شخص آخر، واختار القاضي والشيخ الجواز، وقال في الرعاية: في أصح الوجهين، لأن قبضه مستحق، فيمكن المشتري أن يقبضه ثم يقبضه، وإنما لم يجز بيعه لأنه يفضي إلى ربح ما لم يضمن.
(5) وكالحر والآبق والكلب والمجهول ونحو ذلك، وكالعين المرهونة، لا يصح رهنه.
(6) أي باستيفاء الدين من ثمنه عند التعذر، وما لا يجوز بيعه لا يمكن فيه ذلك، ولا يجوز رهن العبد المسلم لكافر إلا عند بعضهم، بشرط كونه في يد مسلم، ككتب حديث وتفسير، اختاره الموفق والشيخ وغيرهما، ولا يصح رهن المصحف، لأنه وسيلة إلى بيعه، هذا المذهب، وعنه يصح وفاقًا.(5/59)
فيصح رهنهما (1) مع أنه لا يصح بيعهما بدونه (2) لأن النهي عن البيع لعدم الأَمن من العاهة (3) ولهذا أمر بوضع الحوائج (4) وبتقدير تلفهما لا يفوت حق المرتهن من الدين (5) لتعلقه بذمة الراهن (6) ويصح رهن الجارية دون ولدها (7) وعكسه، ويباعان (8) .
__________
(1) أي الثمرة والزرع قبل بدو الصلاح، استثناء من قوله: وما لا يجوز بيعه، الخ. فمتى حل الحق بيعا بشرط القطع في الحال، وإن اختار المرتهن تأخير بيعهما فله ذلك.
(2) أي بدون شرط القطع في الحال.
(3) كما تقدم في قوله: ويأمن العاهة. ولأن الغرر يقل فيه، لاختصاصه بالوثيقة.
(4) وقال «بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟» وهذا مفقود هنا.
(5) إذ مقصوده إمكان استيفاء الدين، وهو ممكن هنا.
(6) وتمكنه من عوده إلى حقه فيها، وإن شرط قطعها عند خوف اختلاطها بغيرها جاز، وإن اختلطت لم يبطل، لا إن رهنها إلى محل تحدث فيه أخرى لا تتميز، لأنه مجهول.
(7) أو أخيها ونحوه، وكذا رهن الأب دون ولده، وهذا أيضًا استثناء من قوله: وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه.
(8) أي ويصح عكس ذلك، بأن يرهن ولدها دونها، ويرهن الولد دون أبيه ونحوه، لأن النهي عن بيع ذلك، إنما هو لأجل التفريق بين ذي الرحم
المحرم، وذلك مفقود هنا، فإذا استحق بيع الرهن يباعان الجارية وولدها، والأب وولده ونحوه، والأخوان ونحوهما، إذا حل الحق ولم يحصل وفاء.(5/60)
ويختص المرتهن بما قابل الرهن من الثمن (1) (ولا يلزم الرهن) في حق الراهن (إلا بالقبض) (2) .
__________
(1) ويوفي دينه منه، والباقي من ثمن المرهون للراهن، وإن لم يف بالدين، فما بقي مرسل في ذمة الراهن، وإذا كانت الجارية هي المرهونة مثلاً، وكانت قيمتها مائة مع كونها ذات ولد، وقيمة الولد خمسين، فحصتها ثلث الثمن، وصحح جمع أنها تقوم مع ولدها لتحريم التفريق.
(2) قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: الراجح – الذي عليه كثير من العلماء أو أكثرهم – أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وقبض كل شيء هو المتعارف، وقبض الدار والعقار: هو تسلم المرتهن له، ورفع يد الراهن عنه، هذا هو القبض بالإجماع. قال: فإذا أراد صاحبها أن يأكل أموال الناس بالباطل، ويخون في أمانته لمسألة اختلف فيها، فالرجوع إلى الفتوى بقول الجمهور، وكان أفتى بالقول الثاني لضرورة، فإن رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله في إيجاب العدل، وتحريم الخيانة، فهذا هو الأقرب قطعًا، وإن رجعنا إلى كلام غالب العلماء فهم لا يلزمون ذلك إلا برفع يد الراهن، وكونه في يد المرتهن.
وقال حفيده الشيخ عبد الرحمن: وهذا الذي أشار إليه من الخروج عن العدل رأيناه عيانًا، وسببه الإفتاء بخلاف قول الجمهور في هذه المسألة، وذلك أن الشيخ أبا بطين وغيره قالوا: الذي حملنا على عدم اشتراط القبض قلة ما في أيدي الناس، واضطرارهم إلى ذلك، إذ لا يمكن صاحب العقار أن يرفع يده عن عقاره، لأن معيشته فيه. وقال سليمان بن عبد الله: إذ لو قيل لمرتهن الدور والعبيد، والزروع والثمار والدواب: اقبضها. ما أراد ذلك، وكان عليه من المشقة ما لا يخفى،
ولو قيل للراهن: قبضها. لم يستطع لأنه إنما يستدين فيما رهنه، فلا تمتنع الفتيا باللزوم، لأنها من طرق الترجيح، فالله أعلم.(5/61)
كقبض المبيع (1) لقوله تعالى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2) ولا فرق بين المكيل وغيره (3) وسواء كان القبض من المرتهن أو من اتفقا عليه (4) والرهن قبل القبض صحيح، وليس بلازم (5) فللراهن فسخه، والتصرف فيه (6) .
__________
(1) هذا تمثيل للقبض، لا تشبيه، لأن البيع يلزم إذا لم يكن ثم خيار، وإن لم يقبض المبيع، ويكون تشبيهًا على القول الثاني بلزوم الرهن بالقبض كالبيع.
(2) أي فارتهنوا ممن تدينونه رهونا مقبوضة، لتكون وثيقة لكم بأموالكم، قال ابن رشد: اتفقوا في الجملة على أن القبض شرط في الرهن، للآية، ولأنه عقد إرفاق، يفتقر إلى القبول، فافتقر إلى القبض، كالقرض.
(3) من أن القبض شرط في لزومه، وصفة قبضه كقبض مبيع.
(4) أي وسواء القبض للرهن، من المرتهن نفسه بإذن راهن، فإنهم اتفقوا على أن من شرطه: أن يكون إقراره في يد مرتهن من قبل راهن. أو كان القبض ممن اتفق الراهن والمرتهن على أن يكون الرهن بيده، فيلزم الرهن بذلك القبض، في حق راهن دون مرتهن.
(5) لعدم وجود شرط اللزوم، وهو القبض عند الجمهور. ويعتبر في القبض إذن ولي أمرٍ، لمن جن ونحوه.
(6) أي فللراهن قبل الإقباض، الرجوع في الرهن، ولو كان الراهن أذن في القبض، لعدم لزوم الرهن، وله التصرف في الرهن بما شاء لعدم لزومه، مكيلا كان أو غيره، وإن امتنع من إقباضه لم يجبر.(5/62)
فإن تصرف فيه بنحو بيع أو عتق بطل (1) أو بنحو إجارة، أو تدبير لا يبطل (2) لأنه لا يمنع من البيع (3) (واستدامته) أي القبض (شرط) في اللزوم للآية، وكالابتداء (4) .
__________
(1) أي فإن تصرف الراهن في الرهن قبل إقباضه، بنحو بيع، من أي عقد كان يخرج به عن ملكه، بطل الرهن. أو تصرف فيه بعتق بطل الرهن، وكذا لو رهنه ثانيًا، بطل الرهن الأول، سواء أقبض الثاني أو لا، لخروجه عن إمكان استيفاء الدين من ثمنه، ثم البائع مخير، بين إمضاء البيع بلا رهن، أو الفسخ.
(2) أي وإن تصرف الراهن في الرهن، تصرفا لا يخرجه عن ملكه، بنحو إجارة قبل إقباضه، لم يبطل الرهن، أو بنحو تدبير وكتابة وتزويج الأمة قبل القبض، لا يبطل الرهن بذلك.
(3) أي فلم تمتنع صحة الرهن، ولأنه لا يمنع ابتداء الرهن، فلا يقطع استدامته.
(4) أي استدامة قبض رهن من مرتهن، أو من اتفقا عليه، شرط لبقاء لزوم عقده، لقوله {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وكابتداء لزومه بالقبض، فإن الأولى بمن يشترط القبض في لزومه أن يشترط الاستدامة، وهو المذهب، وقول أبي حنيفة ومالك، وذلك لأن الرهن يراد للوثيقة، ليتمكن من بيعه، واستيفاء دينه، فإذا لم يكن في يده زال ذلك.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: مثل هذه الرهون- يعني العقارات والثمار والمواشي – لا تقبض أو لا يستديم الراهن قبضها، كما هو الواقع في هذه الأقطار، فعلى القول الصحيح: لا يقع على الراهن إضرار لزوال اللزوم، وله أن يتصرف فيه برهن وغيره، فإذا تصرف، بطل الرهن الأول، وصح الثاني، ولا يلزم إلا بشرطه المتقدم، ولا يسع الناس إلا هذا. اهـ. وفيه قول آخر نصره بعض الأصحاب، وأجابوا عن قوله {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} أنه وصف أغلبي، وأن الحاجة داعية إلى ذلك في المعين، لا سيما في قرى نجد، لقلة ما في أيديهم، قالوا: فلا تمتنع الفتيا باللزوم، للاضطرار إلى ذلك، والله أعلم.(5/63)
(فإن أَخرجه) المرتهن (إلى الراهن باختياره) (1) ولو كان نيابة عنه (زال لزومه) (2) لزوال استدامة القبض (3) وبقي العقد كأنه لم يوجد فيه قبض (4) ولو آجره أو أعاره لمرتهن أو غيره بإذنه فلزومه باق (5) .
__________
(1) زال لزومه، لأخذ الراهن الرهن باختيار المرتهن، وإذنه للراهن في أخذه، ولو كان إخراجه له بإجارة أو إعارة أو غير ذلك.
(2) أي ولو كان أخذ الراهن الرهن نيابة للمرتهن، كأن يؤمنه إياه، أو يودعه عنده، زال لزوم الرهن.
(3) التي هي شرط اللزوم، والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه.
(4) لأن استدامة القبض شرط في اللزوم، وقد زالت، ولكن ينبغي أن يدفع الرهن إذا طلبه المرتهن، لعموم قوله {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وهذا عقد، ولعموم «المؤمنون عند شروطهم» وخروجًا من خلاف من قال بلزومه بمجرد العقد، وفي التلخيص: هو أشهر الروايتين.
(5) أي ولو آجر الرهن راهن لمرتهن، أو غيره بإذن المرتهن، أو أعار الرهن لمرتهن، أو غيره بإذن مرتهن، فلزوم الرهن باق، لأن هذا التصرف لا يمنع البيع، فالقبض بحاله، لكن بشرط كونه ليس في يد الراهن، فيما إذا آجره غير المرتهن، وإن وهبه ونحوه بإذن مرتهن صح وبطل الرهن.(5/64)
(فإن رده) أي رد الراهن الرهن (إليه) أي إلى المرتهن (عاد لزومه إليه) (1) لأنه أقبضه باختياره، فلزم كالابتداء (2) ولا يحتاج إلى تجديد عقد لبقائه (3) ولو استعار شيئًا ليرهنه جاز (4) ولربه الرجوع قبل إقباضه لا بعده (5) .
__________
(1) أي إلى المرتهن: بحكم العقد السابق، وكذا يعود لزوم الرهن برده إلى من اتفقا عليه.
(2) وكذا يعود لزوم الرهن في عصير تخمر ولم يرق، ثم تخلل، بحكم العقد السابق، لأنه يعود ملكا بحكم الأول.
(3) حيث لم يطرأ عليه ما يبطله، أشبه ما لو تراخى القبض عن العقد، وإن أزيلت يد المرتهن بغير حق، فلزوم الرهن باق، لثبوتها عليه حكما.
(4) قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه، أن الرجل إذا استعار من الرجل شيئًا، يرهنه على دنانير معلومة، عند رجل سماه، إلى وقت معلوم ففعل، أن ذلك جائز، وينبغي أن يذكر المرتهن، والقدر الذي يرهنه به، وجنسه، والمدة، لأن الضرر يختلف بذلك، فاحتيج إلى بيانه كأصل الرهن. قال: وأجمع أهل العلم على أنه متى شرط شيئًا من ذلك، فخالف ورهنه بغيره، لم يصح الرهن، وإن رهنه بأقل مما قدره صح، وبأكثر، يصح في المقدر، ويبطل في الزائد، وإن أطلق فقال القاضي وغيره: يصح بما شاء، وإلى أي وقت شاء، وممن شاء.
(5) أي وللمعير الرجوع عن إذنه في الرهن، قبل اقباض المستعير، لا بعده، فليس له الرجوع بعد الإقباض، لتعلق حقهما به، وكذا مؤجر، لأنه لا يلزم إلا بالقبض.(5/65)
لكن له مطالبة الراهن بفكاكه مطلقًا (1) ومتى حل الحق ولم يقضه، فللمرتهن بيعه، واستيفاء دينه منه (2) ويرجع المعير بقيمته، أو مثله (3) وإن تلف ضمنه الراهن وهو المستعير، ولو لم يفرط المرتهن (4) (ولا ينفذ تصرف واحد منهما) أي من الراهن والمرتهن (فيه) أي في الرهن المقبوض (بغير إذن الآخر) (5) .
__________
(1) أي سواء عين مدة الرهن، أو العارية أو لا، حالاً كان الدين أو لا، في محل الحق أو قبله، لأن العارية لا تلزم، وأما المؤجر فلا رجوع له قبل مضي الإجارة، للزومها.
(2) لأن هذا هو مقتضى الرهن.
(3) أي يرجع المعير على المستعير بقيمة المعار، إن كان متقومًا، أو مثله إن كان مثليًا يوم بيعه، وإلا يكن مثليًا رجع بأكثر الأمرين من قيمته أو ما بيع به، صوبه في الإنصاف وغيره.
(4) أي وإن تلف المعار ضمنه الراهن، لأن العارية مضمونة مطلقًا، لا المؤجر، لأن المؤجر أمانة، إن لم يتعد أو يفرط، وفي هذه الصورة العارية مستمرة حتى بعد الرهن، لانتفاع المستعير بها في ذلك.
(5) أما المرتهن فالرهن أمانة في يده، وأما الراهن فإذا تصرف في الرهن المقبوض بغير إذن المرتهن، ببيع، أو هبة أو وقف أو رهن ونحوه، فتصرفه باطل قولاً واحدًا، وفي الوقف وجه أنه يصح، وقال الموفق وغيره: الصحيح أنه لا يصح.(5/66)
لأنه يفوت على الآخر حقه (1) فإن لم يتفقا على المنافع لم يجز الانتفاع، وكانت معطلة (2) وإن اتفقا على الإجارة أو الإعارة جاز (3) ولا يمنع الراهن من سقي شجر وتلقيح (4) ومداواة، وفصد (5) .
__________
(1) فلم يصح تصرف أحدهما فيه، وذلك أن تصرف الراهن يبطل حق المرتهن من الوثيقة، كفسخ الرهن، وتصرف المرتهن تصرف في ملك الغير، وإن أذن للراهن في بيع الرهن صح إجماعًا، وبطل الرهن بلا نزاع في الجملة، إلا أن يأذن له في بيعه، بشرط أن يجعل ثمنه رهنا، وذكر الشيخ صحة الشرط، أو يجعل دينه من ثمنه، ويجوز للمرتهن الرجوع في كل تصرف أذن فيه، قال في الإنصاف: بلا نزاع، وإن ادعى أنه رجع قبل البيع، فصوب في الإنصاف أنه لا يقبل، وإن باعه بعد حلول الدين صح، وصار ثمنه رهنًا، بمعنى أنه يؤخذ منه.
(2) فإن كانت دارًا أغلقت، وإن كان عبدًا أو غيره تعطلت منافعه، حتى يفك الرهن، ولم ينفرد أحدهما بالتصرف، لأنه لا ينفرد بالحق، لأن الرهن عين محبوسة كالمبيع المحبوس عند البائع على قبض ثمنه، وقال مالك والشافعي: للراهن إجارته وإعارته، مدة لا يتأخر انقضاؤها عن حلول الدين.
(3) لأن المقصود بالرهن الاستيثاق بالدين، واستيفاؤه من ثمنه، عند تعذر استيفائه من ذمة الراهن، وهذا لا ينافي الانتفاع به، ولا إجارته وإعارته، فجاز كانتفاع المرتهن، ولأن تعطيل منفعته إضاعة للمال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته.
(4) أي ولا يمنع المرتهن الراهن، من سقي شجر مرهون، وتلقيحه، لأن ذلك من مصلحة الرهن.
(5) وكتشريط وفتح رهصة التبزيع، وغير ذلك من إصلاح الرهن، ودفع
الفساد عنه. وله تعليم قن صناعة، ودابة السير، ونحو ذلك مما فيه صلاح الرهن، والرهن مع ذلك بحاله.(5/67)
وإنزاء فحل على مرهون (1) بل من قطع سلعة خطرة (2) (إلا عتق الراهن) المرهون (فإنه يصح مع الإثم) (3) لأنه مبني على السراية والتغليب (4) (وتؤخذ قيمته) حال الإعتاق، من الراهن، لأنه أبطل حق المرتهن من الوثيقة (5) .
__________
(1) لأن فيه مصلحة الرهن وزيادته، وذلك زيادة في حق المرتهن من غير ضرر، وإن كانت فحولا لم يكن للراهن إطراقها بغير رضى المرتهن، لأنه انتفاع لا مصلحة للرهن فيه، إلا أن يتضرر بترك الإطراق، فله ذلك، لأنه كالمداواة، وليس له تزويج الأمة المرهونة على المذهب، وهو قول مالك والشافعي.
(2) أي بل يمنع الراهن من قطع "سلعة" بالكسر، زيادة تحدث في الجسد كالغدة، تتحرك إذا حركت، إذا كان فيها خطر، لأنه يخاف عليها من قطعها، وكذا يمنع من قطع إصبع زائدة، لا من ختان لا يخاف عليه منه، يبرأ عادة قبل الأجل، ولا يمنع من قطع أكلة يخاف عليه من تركها.
(3) لما فيه من إبطال حق المرتهن من الوثيقة، وإنما نفذ مع التحريم لأنه إعتاق من مالك تام الملك، فنفذ كعتق المستأجر.
(4) بدليل أنه ينفذ في ملك الغير، ففي ملكه أولاً "والسراية" هي أنه إذا أعتق الموسر جزءًا من عبد له فيه شرك، سرى إلى جميعه "والتغليب" أن يقول مثلا: عبدي حر. فإنه إذا لم تكن نية ولا تخصيص عتق كل عبد له.
(5) فأشبه ما لو أتلفه.(5/68)
وتكون (رهنًا مكانه) لأنها بدل عنه (1) وكذا لو قتله (2) أو أحبل الأمة بلا إذن المرتهن (3) أو أقر بالعتق وكذبه (4) (ونماء الرهن) المتصل والمنفصل، كالسمن، وتعلم الصنعة (5) .
__________
(1) ونائبه عن الرهن، وكبدل أضحية ونحوها، وكما لو أبطله أجنبي، هذا إن كان المعتق للرهن موسرًا، وإن كان معسرًا عتق، ويكون الدين مسرحًا إلى أن يوسر، فعليه قيمته تكون رهنًا مكانه، وبعد حلول الدين يطالب بالدين فقط، وعن أحمد: لا ينفذ عتق المعسر. وهو مذهب مالك، لأنه يسقط حقه من الوثيقة، فلم ينفذ، لما فيه من الإضرار بالمرتهن، وعنه: لا ينفذ وإن كان موسرًا وهو أحد قولي الشافعي، واختاره الشيخ وغيره، لإبطاله حق الوثيقة من الرهن، أشبه البيع.
(2) أي وكالعتق لو قتل المرهون، في أنه يجعل قيمته رهنا مكانه.
(3) أي وكالعتق أيضًا لو أحبل الأمة المرهونة بلا إذن المرتهن، يجعل قيمتها رهنًا مكانها، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمرتهن منع الراهن من وطء أمته المرهونة. اهـ. وإن أولدها خرجت من الرهن، وعليه قيمتها حين أحبلها، وإن كان أذن خرجت من الرهن، ولا شيء للمرتهن، لأنه أذن في سبب ما ينافي حقه، فكان إذنًا فيه، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا.
(4) أي فيلزمه قيمته رهنًا مكانه لأنه عتق بإقراره، وإن كان أعتقه بإذن مرتهن، نفذ العتق إجماعًا، لإسقاطه حقه من الوثيقة.
(5) أي ملحق بالرهن في يد من الرهن في يده كالأصل، وهذان عائدان إلى الزيادة المتصلة، وما بعدهما عائد إلى الزيادة المنفصلة، على طريق اللف والنشر المرتب.(5/69)
والولد، والثمرة، والصوف (1) (وكسبه، وأَرش الجناية عليه، ملحق به) أي بالرهن، فيكون رهنًا معه (2) ويباع معه لوفاء الدين إذا بيع (3) (ومؤونته) أي الرهن (على الراهن) (4) لحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» (5) .
__________
(1) أي والولد ملحق بالرهن، وهو مذهب مالك، لأنه يتبع الأصل في الحقوق الثابتة، والثمرة ملحقة بالرهن، والصوف، والشعر، واللبن، وورق الشجر، ونحو ذلك، وهو قول أصحاب الرأي، أي أن النماء يتبع الرهن، لأنه عقد يستتبع النماء، فتعلق به حق الرهن كالأصل، وإن رهن أرضا فنبت فيها شجر لا بفعل آدمي، فهو تبع للأرض، ولا يجوز للمرتهن قطعه، وإن بيعت بيع معها.
(2) أي وكسب الرهن ملحق به وكذا مهر أمة، حيث وجب رهن، وأرش الجناية على الرهن رهن، لأنه بدل جزئه، فكان منه كقيمته لو أتلف، وهذا مذهب الشافعي وغيره، والحاصل أن نماء الرهن وغلاته رهن كالأصل، لأن حكم الرهن يثبت في العين بعقد المال، فيدخل فيه النماء والمنافع، كالملك بالبيع وغيره، وكون الكسب من الرهن من المفردات، وعند الثلاثة لا يدخل، فالله أعلم.
(3) لأن الرهن عقد على العين، فيدخل فيه ما ذكر ونحوه، كالبيع والهبة.
(4) أي ومؤنة الرهن من طعامه، وكسوته، ونحو ذلك على الراهن، حكاه الوزير وغيره إجماعًا.
(5) أي لا يستحق المرتهن الرهن إذا عجز صاحبه عن فكه "له غنمه" أي زيادته "وعليه غرمه" هلاكه ونفقته، والشاهد من الحديث أن مؤنته على الراهن.(5/70)
رواه الشافعي، والدارقطني وقال: إسناده حسن صحيح (1) (و) على الراهن أيضًا (كفنه) ومؤنة تجهيزه بالمعروف، لأَن ذلك تابع لمؤنته (2) (و) عليه أيضًا (أجرة مخزنه) إن كان مخزونًا، وأجرة حفظه (3) (وهو أمانة في يد المرتهن) للخبر السابق (4) ولو قبل عقد الرهن، كبعد الوفاء (5) (إن تلف من غير تعد) (6) .
__________
(1) وقال الحافظ وغيره: رجاله ثقات. ولأن الرهن ملك للراهن، فكان عليه نفقته.
(2) فإن كل من لزمته مؤنة شخص في حياته، لا في مقابلة نفع، كانت مؤنة تجهيزه ودفنه عليه، كسائر العبيد والإماء، والأقارب من الأحرار.
(3) وهذا مذهب الجمهور مالك، والشافعي، وإسحاق وغيرهم، لأنه نوع إنفاق، فكان على الراهن كالطعام، ولأن الرهن ملك الراهن، فكان عليه مسكنه وحافظه، كغير الرهن، وإن أبق فأجرة من يرده عليه، وكذا إن احتيج إلى مداواته، وإن كان الرهن ثمرة فاحتاجت إلى سقي، أو جذاذ ونحوه فعليه، وكذا رعي ماشية ونحوه كعلفها، وكتأبير نخل، وكل زيادة تلزم الراهن إذا امتنع أجبره الحكم.
(4) وهو قوله "وعليه غرمه" ولقوله «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» فحكمه كالوديعة.
(5) أي الرهن أمانة في يد المرتهن، ولو قبل عقد الرهن، بأن دفع له العين ليرهنها بعد فتلفت، كبعد وفاء الدين أو الإبراء منه.
(6) أي من المرتهن كأن يستعمله، أو يفعل ما لا يسوغ له فعله في الشرع، لخروجه بذلك عن الائتمان، فصار كالغاصب.(5/71)
ولا تفريط (منه) أي من المرتهن (1) (فلا شيء عليه) (2) قاله علي رضي الله عنه (3) لأنه أمانة في يده كالوديعة (4) فإن تعدى أو فرط ضمن (5) (ولا يسقط بهلاكه) أي الرهن (شيء من دينه) (6) لأنه كان ثابتًا في ذمة الراهن قبل التلف، ولم يوجد ما يسقطه، فبقي بحاله (7) وكما لو دفع إليه عبدًا ليبيعه ويستوفي حقه من ثمنه فمات (8) .
__________
(1) أي في حفظ الرهن، كأن لا يحرزه في مكان مثله ونحوه.
(2) أي على المرتهن، كسائر الأمانات، وكما لو تلف تحت يد العدل، وهو من مال الراهن.
(3) وقاله الشافعي وغيره، وللخبر المتقدم ونحوه، ولأنه وثيقة بالدين فلا يضمن، كالزيادة على قدر الدين.
(4) أي فلا يضمن، كما لا تضمن الوديعة إذا تلف من غير تعد ولا تفريط.
(5) إجماعًا، حكاه الموفق والوزير وغيرهما، لزوال ائتمانه، فلزمه ضمانه حينئذ، لتعديه أو تفريطه، كالوديعة، والرهن باق بحاله.
(6) أي إن لم يتعد أو يفرط، وهو مذهب الشافعي.
(7) أي الدين، لم يسقط بهلاك الرهن منه شيء، ولا يلزم الراهن أن يرهن مكانه رهنًا آخر، لأنه غير واجب من أصله.
(8) وكحبس عين مؤجرة بعد فسخ على الأجرة، فيتلف العبد، أو العين المؤجرة، فلا يسقط الدين، ولا الأجرة، ولا يضمنان بلا تعد ولا تفريط، والعلة الجامعة أنها عين محبوسة في يده بعقد، على استيفاء حق له عليه.(5/72)
(وإن تلف بعضه) أي الرهن (فباقيه رهن بجميع الدين) لأن الدين كله متعلق بجميع أجزاء الرهن (1) (ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين) لما سبق (2) سواء كان مما تمكن قسمته أولا (3) ويقبل قول المرتهن في التلف (4) وإن ادعاه بحادث ظاهر كلف بينة بالحادث، وقبل قوله في التلف، وعدم التفريط، ونحوه (5) .
__________
(1) أي فإذا تلف البعض، بقي البعض الآخر رهنًا بجميع الدين، بلا نزاع في الجملة، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، ولأن الباقي بعض الجملة، وقد كان الجميع رهنا، فيكون البعض رهنا، لأنه من الجملة، ولو كان الرهن عينين تلفت إحداهما، فالدين متعلق بالأخرى.
(2) أي من أن الدين متعلق بجميع أجزاء الرهن، فيكون محبوسًا بكل الحق، وبكل جزء منه، لا ينفك منه شيء حتى يقضيه جميعه، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه على أن من رهن شيئًا، فأدى بعضه، وأراد إخراج بعض الرهن، أن ذلك ليس له، حتى يوفيه آخر حقه، أو يبريه. وفي الاختيارات: لا ينفك شيء من الرهن حتى يقضي جميع الدين.
(3) أي أو كان الرهن مما لا تمكن قسمته فلا ينفك مع بقاء بعض الدين، وكذا لو قضى أحد الوارثين حصته من دين مورثه، فلا يملك أخذ حصته من الرهن.
(4) بيمينه إن أطلق، أو ذكر سببًا خفيًا كسرقته، وبريء منه، لأنه أمين، وإن لم يحلف قضى عليه بالنكول.
(5) أي وإن ادعى مرتهن تلف الرهن بحادث ظاهر، كنهب، وحريق، كلف بينة تشهد بالحادث الظاهر، لعدم خفائه، ثم بعد إقامته البينة قبل قوله
في التلف بالحادث الظاهر، بدون بينة تشهد بأنه تلف بالحادث الظاهر، وقبل قوله في عدم التفريط ونحوه، كعدم التعدي.(5/73)
(وتجوز الزيادة فيه) أي في الرهن (1) بأن رهنه عبدًا بمائة، ثم رهنه عليها ثوبًا، لأنه زيادة استيثاق (2) (دون) الزيادة في (دينه) (3) فإذا رهنه عبدًا بمائة، لم يصح جعله رهنًا بخمسين مع المائة (4) ولو كان يساوي ذلك، لأن الرهن اشتغل بالمائة الأولى، والمشغول لا يشغل (5) (وإن رهن) واحد (عند اثنين شيئًا) على دين لهما (6) (فوفى أحدهما) انفك في نصيبه (7) .
__________
(1) رهنًا آخر معه، قولاً واحدًا.
(2) أي فجاز كالأول بشرطه.
(3) أي فلا يصح، وهو المشهور في المذهب، وقول أكثر العلماء.
(4) إلا أن يجعل بعقد متجدد، بأن يفسخ المرتهن الرهن، ثم يجددا عقدًا على الدينين بذلك الرهن، وذهب مالك وغيره إلى جواز الزيادة في الدين، وإدخاله في الرهن، وهو رواية عن أحمد، والشافعي، واختاره الشيخ، وقال أبابطين: وعمل الناس عليه، ويحكم به.
(5) أي فالمرهون لا يرهن، فلا يجعل مرهونًا بالدينين معًا.
(6) في عقد واحد، صح الرهن، وصار نصفه رهنًا عند كل واحد منهما بدينه.
(7) أي فمتى وفي الراهن أحد الغريمين، خرجت حصته من الرهن.(5/74)
لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة عقدين (1) فكأنه رهن كل واحد منهما النصف منفردًا (2) ثم إن طلب المقاسمة، أجيب إليها إن كان الرهن مكيلاً أو موزونًا (3) (أو رهناه شيئًا (4) فاستوفى من أحدهما، انفك في نصيبه) (5) لأن الراهن متعدد (6) فلو رهن اثنان عبدًا لهما عند اثنين بألف، فهذه أربعة عقود (7) ويصير كل ربع منه رهنًا بمائتين وخمسين (8) .
__________
(1) أي فإذا وفى أحدهما انفك، فكذا غلق الرهن ونحوه عند شخص آخر.
(2) أي بعقد دون الآخر، فيعطى من رهن عند اثنين بعقد واحد حكمه.
(3) أي وكان الرهن لا تنقصه القسمة، كالمكيل، والموزون، فله ذلك، وإن كان مما تنقصه القسمة فلا يجيبه المرتهن، لما عليه من الضرر، ويكون في يد المرتهن، بعضه رهن، وبعضه وديعة، حتى يوفى حقه.
(4) أي أو رهن اثنان واحدًا شيئًا بما يصح رهنه.
(5) أي الموفي لما عليه.
(6) فتعلق على كل منهما بنصيبه، كتعدد العقد، ولأن الرهن لا يتعلق بملك الغير إلا بإذنه، ولم يوجد.
(7) وذلك كأن يرهن زيد وعمرو عبدًا مثلاً بألف عند بكر وخالد، فيكون زيد قد عقد عقدين، لكونه رهن عند بكر وخالد، وعمرو كذلك، فهذه أربعة عقود واضحة.
(8) فمتى وفى أحدهما، انفك من الرهن بقدر ما هو مناط به.(5/75)
ومتى قضى بعض دينه (1) أو أبرئ منه، وببعضه رهن، أو كفيل، فعما نواه (2) فإن أطلق صرفه إلى أيهما شاء (3) (ومتى حل الدين) لزم الراهن الإيفاء (4) كالدين الذي لا رهن به (5) (و) إن (امتنع من وفائه (6)
__________
(1) وببعضه رهن، أو كفيل، وقع قضاء البعض عما نواه، فلو كان عليه مائتان مثلاً، بإحداهما رهن، أو كفيل، فوفى مائة ونوى التي بها الرهن، أو الكفيل، وقع عنها، وانفك الرهن، أو برئ الكفيل، وإلا فالرهن أو الكفيل بحاله.
(2) أي المبرئ، لأن التعيين في ذلك له، فينصرف إلى ما عينه، وكذا القاضي للدين، قال في الإنصاف: فعما نوياه بلا نزاع، والقول قولهما في النية واللفظ، لأنهما أدرى بما صدر منهما.
(3) أي فإن أطلق القاضي للدين الذي ببعضه رهن أو كفيل، وأطلق المبرئ عن الدين الذي ببعضه رهن أو كفيل، ولم يعينا إحدى المائتين مثلا، بنية، ولا لفظ حال القضاء، أو الإبراء، صرفاه إلى أيهما شاءا، لأنه لهما ذلك في الابتداء فكان لهما بعده.
(4) لأنه دين حال، فلزم إيفاؤه، قولاً واحدًا.
(5) أي أنه يجب إيفاؤه على الفور، إذا حل أجله، فكذا ما به رهن، لأنه هكذا كان العقد بينهما، قال تعالى {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} .
(6) أي فإن امتنع الراهن من وفاء الدين ومطل، فلا يخلو من أحد الأمور الآتية.(5/76)
فإن كان الراهن أذن للمرتهن (1) أو العدل) الذي تحت يده الرهن (في بيعه باعه) (2) لأنه مأذون له فيه، فلا يحتاج لتجديد إذن من الراهن (3) وإن كان البائع العدل، اعتبر إذن المرتهن أيضًا (4) (ووفى الدين) لأنه المقصود بالبيع (5) .
__________
(1) أي في بيع الرهن ولم يرجع عن إذنه، باعه ووفى الدين، لأنه وكيل ربه.
(2) أي أو كان الراهن أذن للعدل الذي تحت يده الرهن في بيع الرهن، باعه ما لم يرجع الراهن عن الإذن في بيعه، ووفى الحق من ثمنه، لأن هذا هو المقصود من الرهن، وقد باعه بإذن صاحبه في قضاء دينه، فصح البيع، كما في غير الرهن، ويجوز للعدل أو المرتهن بيع قيمة الرهن كأصله بالإذن الأول.
(3) أي لأن المرتهن والعدل مأذون لهما في بيع الرهن، فلا يحتاج لتجديد إذن من الراهن أيضًا عند محل الحق، إذ الأصل بقاؤه على الإذن، بل يعتبر عدم الرجوع عن الإذن، فإن عزله صح عزله، وقال أبو حنيفة ومالك: لا ينعزل، لأن وكالته صارت من حقوق الرهن: قال ابن أبي موسى: ويتوجه لنا مثل ذلك. فإن أحمد قد منع الحيلة في غير موضع، وهذا يفتح باب الحيلة للراهن. اهـ. وهذا الذي ذهب إليه مالك وغيره، هو الذي ينبغي المصير إليه، خصوصًا لما كثر الغش والخداع، وانفتح باب الحيل.
(4) لأن الحق له، فلم يجز حتى يأذن في البيع، وإن باع العدل الرهن، ثم ظهر المبيع مستحقًا، رجع المشتري به على الراهن إن أعلمه العدل، لأنه وكيل، وإلا فعلى الوكيل.
(5) أي لأن وفاء الدين هو المقصود ببيع الرهن، إذ هو وثيقة فيه، ليباع عند حلول الدين، إذا امتنع الراهن من الوفاء، وهذا لا نزاع فيه ويحرم مطله، ولا يجوز إجباره على المناجمة.(5/77)
وإن فضل من ثمنه شيء فلمالكه (1) وإن بقي منه شيء فعلى الراهن (2) (وإلا) يأْذن في البيع، ولم يوف (3) (أجبره الحاكم على وفائه (4) أو بيع الرهن) (5) لأن هذا شأْن الحاكم (6) فإن امتنع حبسه، أو عزره حتى يفعل (7) (فإن لم يفعل) أي أصر على الامتناع (8) أو كان غائبًا، أو تغيب (9) .
__________
(1) أي وإن فضل من ثمن الرهن المبيع شيء بعد الدين الذي هو رهن به فلمالك الرهن، لأنه ماله، وإنما البيع لوفاء دينه.
(2) أي وإن بقي من الدين الذي على الراهن شيء فعلى الراهن، يؤديه إلى المرتهن، كسائر الديون المرسلة.
(3) أي وإن لم يأذن الراهن في بيع الرهن، ولم يوف الدين.
(4) أي وفاء الدين الذي به رهن، كما لو لم يكن به رهن، ولأنه قد يكون له غرض في الرهن، والمقصود الوفاء، ومتى وفاه من غير الرهن انفك الرهن.
(5) أي أو أجبر الحاكم الراهن على بيع الرهن، لوفاء الدين من ثمنه.
(6) أي إجبار المدين على وفاء الدين، أو بيع الرهن للوفاء.
(7) أي ما أمر به من وفاء الدين، أو بيع الرهن والوفاء من ثمنه، والقول الثاني: يبيعه الحاكم، ولو لم يحبسه ولم يعزره.
(8) يعني من وفاء الدين، أو بيع الرهن والوفاء.
(9) أي أو كان الراهن غائبًا عن البلد، أو تغيب امتناعًا عن الوفاء أو بيع الرهن للوفاء.(5/78)
(باعه الحاكم ووفى دينه) (1) لأنه حق تعين عليه، فقام الحاكم مقامه فيه (2) وليس للمرتهن بيعه إلا بإذن ربه أو الحاكم (3) .
__________
(1) أي باعه الحاكم أو أمينه على الراهن لتعينه طريقًا لأداء الواجب، وقضى الدين من ثمنه، قال ابن رشد: حق المرتهن في الرهن أن يمسكه حتى يؤدي الراهن ما عليه، فإن لم يأت به عند الأجل، له أن يرفعه إلى السلطان، فيبيع عليه الرهن إن لم يجبه إلى البيع، أو كان غائبًا. ومن الأصحاب من قال: الحاكم مخير، إن شاء أجبره على البيع، وإن شاء باعه عليه، وجزم به الموفق والشارح، وهو مذهب الشافعي.
(2) أي لأن الدين حق تعين أداؤه على الراهن، فقام الحاكم مقامه في أدائه، كالإيفاء من جنس الدين، إذا امتنع المدين، قال الشيخ: ومتى لم يمكن بيع الرهن إلا بخروج المديون من الحبس، أو كان في بيعه وهو في الحبس ضرر عليه، وجب إخراجه، ويضمن عليه أو يمشي معه هو أو وكيله.
(3) لما تقدم، وقال الشيخ – فيما إذا امتنع الراهن من قضاء الدين، وأبى أن يأذن في بيع الرهن، وتعذر إجباره، وتعذر الحاكم – جوز بعض العلماء للمرتهن دفع الرهن إلى ثقة يبيعه، ويحتاط بالإشهاد على ذلك، ويستوفي حقه.(5/79)
فصل (1)
(ويكون) الرهن (عند من اتفقا عليه) (2) فإذا اتفقا أن يكون تحت يد جائز التصرف صح (3) وقام قبضه مقام قبض المرتهن (4) ولا يجوز تحت يد صبي (5) أو عبد بغير إذن سيده (6) أو مكاتب بغير جعل، إلا بإذن سيده (7) .
__________
(1) أي فيمن يكون الرهن عنده.
(2) أي ويكون الرهن عند من اتفق الراهن والمرتهن أن يكون الرهن عنده، لأن الحق لا يعدوهما.
(3) أي قبضه للرهن، وجائز التصرف هو الحر المكلف، مسلمًا كان أو كافرًا عدلاً أو فاسقًا، ذكرًا أو أنثى، لأنه جاز توكيله في غير الرهن، فجاز توكيله فيه، قاله الموفق وغيره، وهو واضح، بخلاف ما توهمه عبارة المقنع وغيره من اعتبار العدالة.
(4) في اللزوم به، في قول أكثر أهل العلم، مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وغيرهم، لأنه قبض في عقد، فجاز فيه التوكيل، كسائر القبوض.
(5) لأنه غير جائز التصرف مطلقًا، ولا تحت يد مجنون، ولا سفيه، فإن فعلا فقبضه وعدمه سواء، لا أثر له.
(6) أي ولا يجوز تحت يد عبد بلا إذن سيده، لأن منافعه لسيده، فلا يجوز تضييعها في الحفظ بغير إذنه، فإن أذن جاز.
(7) لأنه ليس له التبرع بمنافعه، وإذا كان بجعل جاز، لأن له الكسب بغير إذن سيده.(5/80)
وإن شرط جعله بيد اثنين لم ينفرد أحدهما بحفظه (1) وليس للراهن ولا للمرتهن إذا لم يتفقا، ولا للحاكم نقله عن يد العدل إلا أن تتغير حاله (2) وللوكيل رده عليهما (3) لا على أَحدهما (4) .
__________
(1) لأن الراهن والمرتهن لم يتراضيا إلا بحفظهما معا، فلم يجز لأحدهما الانفراد، كالوصيين، ويمكن أن يجعل في مخزن عليه لكل منهما قفل، وإن تغيرت حال أحدهما أقيم مقامه عدل.
(2) أي العدل، بنحو فسق، أو جنون وضعف، لأنها رضيا به في الابتداء، ولا حاجة تدعو إلى ذلك، وحيث لم يملكاه فالحاكم أولى، وإن اتفقا على نقله جاز، لأن الحق لهما لا يعدوهما، وإن حدثت عداوة بينه وبينهما، أو بينه وبين أحدهما، فمن طلب نقله عن يده فله ذلك، ويضعانه في يد من اتفقا عليه، وإن اختلفا وضعه الحاكم عند عدل، لدعاء الحاجة إلى ذلك، وإن اختلفا في تغير حاله، بحث الحاكم عن ذلك، وعمل بما بان له، وكذا لو كان الرهن في يد المرتهن فلم تغير حاله، لم يكن للراهن نقله عن يده، وإلا فله رفعه عن يده إلى الحاكم، ليضعه في يدل عدل، وإن أنكر تغير حاله، بحث الحاكم عنه.
(3) أي وللوكيل الذي جعلا الرهن تحت يده رده عليهما، وعليهما قبوله منه، لأنه أمين، متطوع بالحفظ، فلم يلزمه المقام عليه، فإن امتنعا، أجبرهما الحاكم، ولا يدفعه ولو إلى أمين من غير امتناعهما، فإن فعل ضمن، وكذا الحاكم، وإن امتنعا، ولم يجد حاكمًا، فتركه عند عدل، لم يضمن للعذر.
(4) أي وليس له دفعه إلى أحدهما بغير إذن الآخر، ولو امتنع، لتفويت حقه، فإن فعل ضمن ما فات على الآخر.(5/81)
(وإن أذنا له في البيع) أي بيع الرهن (لم يبع إلا بنقد البلد) لأن الحظ فيه لرواجه (1) فإن تعدد باع بجنس الدين (2) فإن عدم فبما ظنه أصلح (3) فإن تساوت، عينه حاكم (4) وإن عينا نقدًا تعين، ولم تجز مخالفتهما (5) فإن اختلفا لم يقبل قول واحد منهما (6) .
__________
(1) أي نفاقه، وذلك إذا لم يكن فيه إلا نقد واحد، وحكمه في البيع حكم الوكيل في وجوب الاحتياط، والمنع من البيع بدون ثمن المثل، ومن البيع نسأ.
(2) لأنه أقرب إلى وفاء الحق، وظاهره ولو مع عدم التساوي، لكن يجب حمله على التساوي، قال الموفق: إذا تساوت قدم البيع بجنس الدين، على البيع بما يرى فيه الحظ، لأنه يمكن القضاء منه، وهذا الصحيح من المذهب، وعند القاضي: بما يؤدي إليه اجتهاده. وصوبه في الإنصاف، وإن لم تتساو فبالأغلب رواجا بلا نزاع.
(3) أي فإن عدم الذي هو من جنس الدين، باع بما ظنه الأصلح، وفيه الحظ، لأن الغرض تحصيل الحظ، والاحتياط فيما هو متوليه.
(4) أي فإن تساوت النقود عنده في الأصلح، عين له الحاكم ما يبيعه به، لأنه أعرف بالأحظ.
(5) لأنه وكيل، ولم يصح بيعه بغير ما عيناه قولا واحدًا، لأن الحق لهما، وكذا لو أذن الراهن للمرتهن في بيع الرهن، وعين نقدا تعين، ولم يكن له مخالفته، لأنه وكيل.
(6) أي في تعيين النقد، كما لو قال أحدهما: بعه بدراهم. وقال الآخر: بدنانير. لم يقبل قول واحد منهما، لأن لكل واحد منهما فيه حقًا، للراهن ملك الثمن، وللمرتهن حق الوثيقة، واستيفاء حقه.(5/82)
ويرفع الأَمر إلى الحاكم، ويأْمر ببيعه بنقد البلد (1) سواء كان من جنس الحق أو لم يكن، وافق قول أحدهما أولا (2) (وإن) باع بإذنهما و (قبض الثمن فتلف في يده) من غير تفريط (فمن ضمان الراهن) (3) لأن الثمن في يد العدل أمانة، فهو كالوكيل (4) (وإن ادعى) العدل (دفع الثمن إلى المرتهن، فأنكره ولا بينة) للعدل بدفعه للمرتهن (ولم يكن) الدفع (بحضور الراهن، ضمن) العدل (5) لأنه فرط حيث لم يشهد (6) .
__________
(1) هذا المذهب، واختار الموفق وغيره أن يبيعه بما يرى الحظ فيه.
(2) يعني لأن الحظ في ذلك، والقول الثاني إن كان في البلد نقدان فبأغلبهما فإن تساويا باع بجنس الدين، فإن لم يكن فيهما جنس، ولم يبن للعدل الأصلح، عين الحاكم ما يبيعه به، كما لو لم يعينا نقدا، وإن أذنا للعدل في بيعه فباعه، ثم رجع بفسخ عيب، عاد رهنا، بخلاف الإقالة فلا إلا بعقد متجدد.
(3) لأنه ملكه فيفوت عليه، وهذا مذهب الشافعي.
(4) قال الموفق وغيره: لا نعلم فيه خلافًا، وقول من قال: إنه من ضمان المرتهن. غير وجيه، لأن العدل وكيل الراهن في البيع، والثمن ملك للراهن، والعدل أمين له في قبضه، فإذا تلف كان من ضمان موكله، كسائر الأمناء.
(5) ولو صدقه الراهن، بخلاف الأمانة.
(6) فإن أشهد العدل، ولو غاب شهوده أو ماتوا، لم يضمن، إن صدقه راهن على الإشهاد، وإن حضر راهن القضاء، لم يضمن العدل.(5/83)
ولأنه إنما أذن له في قضاء مبرئ ولم يحصل (1) فيرجع المرتهن على راهن، ثم هو على العدل (2) وإن كان القضاء ببينة لم يضمن، لعدم تفريطه (3) سواء كانت البينة قائمة أو معدومة (4) كما لو كان بحضرة الراهن، لأنه لا يعد مفرطًا (5) (كوكيل) في قضاء الدين (6) .
__________
(1) أي القضاء المبريء فضمن، ولا يقبل قوله عليهما في تسليمه الثمن لمرتهن، أما الراهن فلأنه يدعي الدفع إلى غيره، وأما المرتهن فلأنه إنما هو وكيله في الحفظ، لا في دفع الثمن إليه.
(2) أي فيرجع المرتهن – بعد اليمين أنه ما استوفي دينه مثلاً – على الراهن، ثم الراهن يرجع على العدل لتفريطه، وللمرتهن الرجوع على أيهما شاء بعد حلفه، وإن رجع على العدل، لم يرجع العدل على أحد، لإقراره ببراءة ذمة الراهن، ولدعواه ظلم مرتهن له، وأخذ المال منه ثانيًا بغير حق.
(3) حيث أشهد على القضاء.
(4) أي سواء كانت البينة حاضرة أو غائبة، حية أو ميتة، إن صدقه الراهن في ذلك، فإن لم يصدقه فقوله، لأن الأصل عدم ذلك.
(5) أي كما أنه لا يضمن إذا كان القضاء بحضرة الراهن، لأن العدل إذا قضى المرتهن حقه من ثمن الرهن ببينة، أو بحضرة راهن، لا يعد مفرطًا، فلا ضمان عليه لو تلف الثمن.
(6) أي إذا قضاه في غيبة موكله.(5/84)
فحكمه حكم العدل فيما تقدم، لأَنه في معناه (1) (وإن شرط أن لا يبيعه) المرتهن (إذا حل الدين) ففاسد (2) لأنه شرط ينافي مقتضى العقد (3) كشرطه أن لا يستوفي الدين من ثمنه (4) أو لا يباع ما خيف تلفه (5) .
__________
(1) أي معنى العدل، في أنه يرجع صاحب الدين على الموكل، والموكل على الوكيل، إذا لم يكن قضى الدين بحضوره، أو بحضور شهود، لكن لو أعطاه دراهم ولم يخبره أنها وفاء أو هبة، وقال: أعطها زيدًا. ففعل ولم يشهد، ثم بان أنها وفاء فأنكر المعطى، لم يضمن الوكيل، لأن الموكل هو الذي فرط، حيث لم يخبره.
(2) الشروط في الرهن قسمان، صحيح وفاسد، فالصحيح نحو كونه على يدي عدل فأكثر، وأن يبيعه العدل عند الحق، ولا خلاف في ذلك، أو يبيعه المرتهن عند الجمهور، والفاسد قسمان، مالا يقتضيه العقد، أو ينافي مقتضاه، فمالا يقتضيه كالمحرم، والمجهول، والمعدوم، وما لا يقدر على تسليمه ونحوه، ونحو ما ينافي مقتضى العقد، أن يشترط الراهن أن لا يبيع المرتهن أو العدل الرهن عند حلول الحق، ففاسد قولاً واحدًا.
(3) إذ مقتضى العقد أن الراهن إذا لم يوف الدين، بيع الرهن، ووفي الدين من ثمنه.
(4) أي فساد شرط أن لا يبيعه المرتهن إذا حل الدين، كفساد شرط أن لا يستوفي الدين من ثمن الرهن، لمنافاته مقتضى العقد، فإن المقصود مع الوفاء بهذا الشرط مفقود، ووجود الرهن وعدمه سواء.
(5) أي وكشرط الراهن أن لا يباع من الرهن ما خيف تلفه كبطيخ، أو شاة إن خيف تلفها لعدم ما يطعمها به، ونحو ذلك ففاسد، أو شرط أن لا يبيعه
إلا بما يرضيه، وكذا إن شرط الخيار للراهن، أو أن لا يكون العقد لازمًا في حقه، أو شرط توقيت الرهن، أو كونه في يد الراهن، ونحو ذلك مما ينافيه، أو لا يقتضيه، ولا هو من مصلحته، فسد الشرط، لخبر «لا يغلق الرهن» وهو مشروط فيه شرط فاسد، ولم يحكم بفساد الرهن.(5/85)
(أَو) شرط (إن جاءَه بحقه في وقت كذا وإلا فالرهن له) أي للمرتهن بدينه (لم يصح الشرط وحده) (1) لقوله عليه السلام «لا يغلق الرهن» رواه الأَثرم، وفسره الإمام بذلك (2) .
__________
(1) أي كون الرهن للمرتهن في مقابلة دينه، سواء قال: إنه له بالدين. أو مبيع له بالدين الذي له على الراهن، فهو شرط فاسد، قال الموفق وغيره: روي عن ابن عمر، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم.
(2) أي قال الإمام أحمد: لا يدفع رهنا إلى رجل، ويقول: إن جئتك بالدراهم إلي كذا وكذا، وإلا فالرهن لك. وقال ابن المنذر: وهذا معنى قوله «لا يغلق الرهن» عند مالك، والثوري، وأحمد، وفي حديث معاوية: مضى الأجل، فقال الذي ارتهن: منزلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يغلق الرهن» والحديث رواه الدارقطني، والحاكم، وقال الحافظ: رجاله ثقات. وعن أحمد: يصح. وفعله، وقال ابن القيم: لا حجة لهم في الخبر، فإن موجبه أن المرتهن يتملك الرهن بغير إذن مالكه، إذا لم يوفه، فهذا غلق الرهن الذي أبطله النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول، فلم يبطله كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس صحيح، ولا مفسدة ظاهرة، وغايته أنه بيع علق على شرط، وقد تدعو الحاجة إليه، ولا يحرم عليهما ما لم يحرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن هذا خير للراهن والمرتهن من الرفع إلى الحاكم،
وهو مقتضى أصول أحمد، وقال: فإذا اتفقا على أنه له بالدين عند الحلول كان أصلح لهما.(5/86)
ويصح الرهن للخبر (1) (ويقبل قول راهن في قدر الدين) (2) بأن قال المرتهن: هو رهن بأَلف. وقال الراهن: بل بمائة فقط (3) (و) يقبل قوله أيضًا في قدر (الرهن) (4) فإذا قال المرتهن: أَرهنتني هذا العبد والأمة، وقال الراهن: بل العبد وحده. فقوله، لأَنه منكر (5) (و) يقبل قوله أيضًا في (رده) (6) .
__________
(1) أي قوله «لا يغلق الرهن» فسماه رهنًا مع أنه فيه شرطًا فاسدًا، وهذا مذهب الجمهور.
(2) يعني بيمينه، وهذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، يجعلون القول قول الراهن مطلقًا.
(3) وعند مالك وشيخ الإسلام القول قول المرتهن، ما لم يزد عن قيمة الرهن قال ابن القيم: وهو الراجح في الدليل، لأن الله جعل الرهن بدلاً من الكتاب والشهود، فكأنه الناطق بقدر الحق، وإلا فلو كان القول قول الراهن، لم يكن الرهن وثيقه، ولا بدلاً من الكتاب والشاهد، فدلالة الحال تدل على أنه إنما رهنه على قيمته، أو ما يقاربها، وشاهد الحال يكذب الراهن إذا قال: رهنت عنده هذه الدار على درهم ونحوه: فلا يسمع قوله.
(4) أي إذا اختلفا ولا بينة.
(5) أي فقول راهن، لأنه منكر، قال الموفق وغيره: لا نعلم في هذا خلافًا، وإن قال: رهنتك هذا العبد. قال: بل هذه الجارية. خرج العبد من الرهن، وحلف الراهن على أنه ما رهنه الجارية، وخرجت من الرهن أيضًا.
(6) أي يقبل قول راهن في رد الرهن، إذا اختلفا في رده إلى الراهن.(5/87)
بأَن قال المرتهن: رددته إليك. وأنكر الراهن، فقوله، لأَن الأصل معه (1) والمرتهن قبض العين لمنفعته، فلم يقبل قوله في الرد، كالمستأْجر (2) (و) يقبل قوله أيضًا في (كونه عصيرًا لا خمرًا) في عقد شرط فيه (3) بأن قال: بعتك كذا بكذا على أَن ترهنني هذا العصير. وقبل على ذلك، وأقبضه له (4) ثم قال المرتهن: كان خمرًا، فلي فسخ البيع. وقال الراهن: بل كان عصيرًا، فلا فسخ. فقوله، لأَن الأصل السلامة (5) (وإن أقر) الراهن (أنه) أي أن الرهن (ملك غيره) (6) قبل على نفسه، دون المرتهن (7) .
__________
(1) وهو قبض المرتهن للرهن.
(2) وكذا المستعير إذا ادعى أحدهما رد العين المستأجرة، وأما إن اختلف الراهن والمرتهن في تلف العين، فالقول قول المرتهن مع يمينه، لأن يده يد أمانة وتقدم.
(3) أي رهن العصير في الثمن المؤجل.
(4) ثم علمه خمرًا، فاختلفا في الرهن، هل كان قبل قبضه عصيرًا أو خمرًا.
(5) أي من كونه خمرًا، نص عليه أحمد وغيره، ولأنهما اختلفا فيما يفسد العقد، فكان القول قول من ينفيه.
(6) أو أنه كان باعه قبل الرهن، أو وهبه، أو غصبه قبل الرهن، وصدق.
(7) أي قبل إقرار الراهن على نفسه، إذ لا عذر لمن أقر، وكما لو أقر بدين،
ولم يقبل إقراره على المرتهن، لأنه متهم في حقه، وقول الإنسان على غيره غير مقبول.(5/88)
فيلزمه رده للمقر له إذا انفك الرهن (1) (أو) أقر (أنه) أي أن الرهن (جنى قبل) إقرار الراهن (على نفسه) (2) لا على المرتهن إن كذبه، لأنه متهم في حقه (3) وقول الغير على غيره غير مقبول (4) (وحكم بإقراره بعد فكه) أي فك الرهن، بوفاء الدين، أو الإبراء منه (5) (إلا أن يصدقه المرتهن) فيبطل الرهن (6) لوجود المقتضي، السالم عن المعارض، ويسلم للمقر له به (7) .
__________
(1) لزوال المعارض، ويلزمه قيمة المغصوب منه إن طلبها، لأنه حال بينه وبينه برهنه.
(2) ويلزمه أرش الجناية، لأنه حال بين المجني عليه وبين رقبة الجاني، فأشبه ما لو جنى عليه، وإن كان الراهن معسرًا فمتى انفك الرهن كان المجني عليه أحق برقبته، وإن أنكر لم يلتفت إلى قول الراهن.
(3) أي ولا يقبل إقرار الراهن بالجناية على المرتهن، إن كذب المرتهن الراهن، لأن الراهن متهم في حق المرتهن، ليبطل بإقراره حق المرتهن فيه.
(4) فلا يخرج من الرهن، ولا يزول شيء من أحكام الرهن.
(5) فيأخذ مشتر، وموهوب له، ومغصوب منه الرهن إذا انفك، لزوال المعارض، ومجني عليه يأخذ الأرش أو يسلم له الجاني، غير أنه إن أراد المجني عليه، أو المغصوب منه أن يغرماه في الحال فلهما ذلك.
(6) لاعترافه بما يبطله، ويلزم المرتهن اليمين إذا طلب منه، أنه لا يعلم ذلك الذي أقر به الراهن، فإن نكل قضي عليه ببطلان الرهن.
(7) أي بالرهن إن صدقه كما تقدم.(5/89)
فصل (1)
(وللمرتهن أَن يركب) من الرهن (ما يركب (2) و) أن (يحلب ما يحلب، بقدر نفقته) متحريًا للعدل (3) (بلا إذن) راهن (4) لقوله عليه السلام «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا (5) ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا (6)
__________
(1) أي في الانتفاع بالرهن، وما يتعلق بذلك.
(2) كبعير وفرس، بقدر نفقته، قال في المبدع: ما لم يكن الدين قرضًا، نص عليه.
(3) أي في ركوب ما يركب، وحلب ما يحلب، لئلا يحيف على الراهن، ولا يحل له أن ينهك المركوب، والمحلوب، بالركوب والحلب، لأنه إضرار به، وما فضل عن نفقته لربه، وما عدا ذلك يكون رهنا معه، وفي الإقناع: فإن فضل من اللبن شيء، باعه المأذون له، أو الحاكم، وإن فضل من النفقة شيء رجع به على الراهن. وهو معنى ما في الإنصاف وغيره.
(4) أي في الركوب والحلب، ولو كان حاضرا، ولم يمتنع من النفقة عليه، لأنه مأذون فيه شرعًا، وقال مرعي: ويتجه احتمال: ولا يضمن.
(5) أي ظهر الدابة يستحق المرتهن ركوبه، والانتفاع به، إذا كان الحيوان مرهونًا، في مقابلة نفقته.
(6) الدر بفتح فشد، أي لبن الدابة ذات الضرع، يستحق المرتهن شربه، حيث كان الحيوان مرهونًا، في مقابلة نفقته، وهذا خبر بمعنى الأمر، وهذا الانتفاع في مقابلة النفقة، وذلك يختص بالمرتهن.(5/90)
وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه البخاري (1) وتسترضع الأَمة بقدر نفقتها (2) وما عدا ذلك من الرهن لا ينتفع به إلا بإذن مالكه (3) .
__________
(1) أي وعلى الذي يركب الظهر، ويشرب اللبن النفقة، في مقابلة انتفاعه، وما فضل لربه، قال ابن القيم: دل الحديث، وقواعد الشريعة، وأصولها، على أن الحيوان المرهون محترم في نفسه، لحق الله تعالى، وللمالك فيه حق الملك، وللمرتهن حق الوثيقة، فإذا كان بيده، فلم يركبه، ولم يحلبه، ذهب نفعه باطلا، فكان مقتضى العدل، والقياس، ومصلحة الراهن، والمرتهن، والحيوان، أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب، ويعوض عنهما بالنفقة، فإذا استوفى المرتهن منفعته، وعوض عنها نفقة، كان في هذا جمع بين المصلحتين، وبين الحقين.
(2) أي إن كانت ذات لبن، قياسًا على الرهن المحلوب.
(3) أي وما عدا الحيوان المركوب والمحلوب من الرهن، لا ينتفع به إلا بإذن مالكه، فالرهن قسمان، حيوان وغيره، والحيوان نوعان، حيوان مركوب ومحلوب تقدم حكمه، وحيوان غير مركوب، ولا محلوب، كالعبد، والأمة، فالمذهب أنه ليس للمرتهن أن ينفق عليه، ويستخدمه بقدر نفقته، بلا إذن، وإن أذن في الإنفاق، والانتفاع بقدره جاز، لأنه نوع معاوضة، وقال الموفق: إذا انتفع المرتهن بالرهن، باستخدام، أو ركوب، أو لبس، أو استرضاع، أو استغلال، أو سكنى، أو غيره حسب من دينه بقدر ذلك.
والقسم الثاني ما لا يحتاج إلى مؤنة، كالدار، والمتاع ونحوه، قال الموفق وغيره: لا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن، لا نعلم فيه خلافًا، لأن الرهن ملك الراهن، فكذلك نماؤه، وإن أذن له جاز، ولو بغير عوض، لكن
إن جرَّبِهِ منفعة لم يجز، كما تقدم في القرض، ويضمن ما تلف من الانتفاع، أذن الراهن أولا، لأنه مع الإذن عارية، ومع عدمه كالغصب.(5/91)
(وإن أنفق على) الحيوان (الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه) أي إمكان استئذانه (1) (لم يرجع) على الراهن (2) ولو نوى الرجوع، لأنه متبرع (3) أو مفرط، حيث لم يستأْذن المالك، مع قدرته عليه (4) .
__________
(1) لحضوره، وعدم المانع من إذنه.
(2) إذا لم ينو الرجوع، بفضل نفقته، رواية واحدة، لأنه تصدق به، فلم يرجع بعوضه.
(3) أي حكما، وقال ابن القيم: من أدى عن غيره واجبًا عليه رجع عليه، لقوله {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} فليس من جزاء هذا المحسن أن يضيع عليه معروفه، ولقوله «من أسدى إليكم معروفًا فكافؤه» ونص أحمد على أنه إذا افتدى أسيرًا، رجع عليه بما غرمه، قولاً واحدًا، وكتب عمر إلى عامله في سبي العرب، فقال: أيما حر اشتراه التجار، فاردد عليهم رؤوس أموالهم. وجميع الفرق تقول بهذا، وإن تناقضوا ولم يطردوها.
(4) هذا المذهب، وقال الموفق: يخرج على روايتين، بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه، وهذا أقيس في المذهب. وقال شيخ الإسلام: إن قال الراهن: أنا لم آذن لك في النفقة. قال: هي واجبة عليك، وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون، وقال: محض العدل، والقياس، والمصلحة، وموجب الكتاب، ومذهب أهل المدينة، وفقهاء الحديث، وأهل السنة، أن من أدى عن غيره، فإنه يرجع ببدله، قال: والصواب التسوية بين الإذن وعدمه، والمحققون من الأصحاب سووا بينهما، قال تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقال {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ} الآية ولم يشترط إذنًا ولا عقدًا.(5/92)
(وإن تعذر) استئذانه، وأنفق بنية الرجوع (رجع) على الراهن (1) (ولو لم يستأذن الحاكم) لاحتياجه لحراسة حقه (2) (وكذا وديعة) وعارية (ودواب مستأجرة هرب ربها) (3) فله الرجوع إذا أنفق على ذلك بنية الرجوع، عند تعذر إذن مالكها (4) بالأقل مما أنفق، أو نفقة المثل (5) .
__________
(1) لأنه قام عنه بواجب لم يمكنه استئذانه فيه، إما لتواريه عنه، أو غيبته، أو نحو ذلك، قال الوزير: أجمعوا على أنه إذا أنفق المرتهن على الرهن، بإذن الحاكم أو غيره، مع غيبة الراهن، أو امتناعه، كان دينا للمنفق على الراهن. وتقدم قول الشيخ وغيره: أن من أدى عن غيره واجبًا، فإنه يرجع ببدله.
(2) وليس من جزائه أن يضيع عليه معروفه، وتقدم أن المحققين من الأصحاب سووا في ذلك بين الإذن وعدمه، فهنا أولى، فيرجع في هذه الحالة، ولو قدر على استئذان الحاكم، ولم يستأذنه، ولم يشهد أنه ينفق ليرجع على الراهن.
(3) أي حكمها حكم الرهن فيما سبق، لأنها أمانة في يده، فينفق عليها من هي بيده، عند عدم مالكها، أو تعذر استئذانه، لوجوب حفظ النفس.
(4) بنحو غيبة، لأنه قام عنه بواجب هو محتاج إليه لحراسة حقه، فكان كالرهن.
(5) أي بالأقل مما أنفق على تلك، والأقل من نفقة المثل، فلو كان نفقة مثله خمسة، وأنفق أربعة، رجع بالأربعة، لأنها التي أنفقها، وإن كان أنفق خمسة، ونفقة مثله أربعة، رجع بالأربعة أيضًا، لأن ما زاد على نفقة المثل تبرع، وأراد أقل الأمرين، فالواو أولى من "أو".(5/93)
(ولو خرب الرهن) إن كان دارًا (فعمره) المرتهن (بلا إذن) الراهن (رجع بآلته فقط) لأَنها ملكه (1) لا بما يحفظ به مالية الدار، وأُجرة المعمرين (2) لأَن العمارة ليست واجبة على الراهن، فلم يكن لغيره أَن ينوب عنه فيها (3) بخلاف نفقة الحيوان، لحرمته في نفسه (4) وإن جنى الرهن، ووجب مال (5) .
__________
(1) فلا تفوته، ولا تخرج بصنعتها من ماليته.
(2) أي لا يرجع بتلك العمارة التي يحفظ بها مالية الدار، كثمن ماء، ورماد، وطين، وجص، ونورة، ومساح ونحو ذلك مما يتكرر من الآلات، وكإسمنت، لكونه لا يعاد ثانيًا، ولا يرجع بنفقة المعمرين، لكونها نفقة في غير محلها، وهذا من عطف العام على الخاص.
(3) فلا يرجع المرتهن ونحوه إلا بما يفوت به مال الراهن ونحوه، هذا المذهب، وأطلق في النوادر: يرجع. وقال: القاضي: يرجع بجميع ما عمر في الدار، لأنه من مصلحة الرهن. وقال الشيخ تقي الدين – فيمن عمر وقفا بالمعروف ليأخذ عوضه – له أخذه من مغله.
(4) وعدم بقائه بدون النفقة وتقدم.
(5) أي وإن جنى العبد المرهون، على نفس، أو مال، خطأ، أو عمدًا لا قود فيه، ووجب المال، أو فيه قود واختير المال، تعلق برقبة الجاني، وقدم على حق المرتهن، قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه. وهذا ما لم تكن الجناية بإذن سيده أو أمره، مع كون المرهون صبيًا، أو أعجميًا لا يعلم تحريمها، أو يعتقد وجوب طاعة سيده، فإن كان كذلك فالجاني السيد، فيتعلق به أرش الجناية.(5/94)
خير سيده بين فدائه (1) وبيعه، وتسليمه إلى ولي الجناية فيملكه (2) فإن فداه فهو رهن بحاله (3) وإن باعه، أو سلمه في الجناية، بطل الرهن (4) وإن لم يستغرق الأَرش قيمته، بيع منه بقدره، وباقيه رهن (5) وإن جني عليه فالخصم سيده (6) .
__________
(1) أي فإن استغرقه أرش الجناية، خير سيده بين فداء الرهن بالأقل من الأرش ومن قيمة الرهن، لأن الأرش إن كان أقل، فالمجني عليه لا يستحق أكثر منه، وإن كانت القيمة أقل فلا يلزم السيد أكثر منها، لأن ما يدفعه عوض الجاني فلا يلزمه أكثر من قيمته.
(2) أي وخير سيد الجاني بين بيع الرهن في الجناية، وبين تسليم الرهن لولي الجناية، فيملك الرهن ولي الجناية، لاختصاص حق الجناية بالعين، فقدم على المرتهن.
(3) لقيام حق المرتهن ووجود سببه، وإنما قدم حق المجني عليه لقوته، وقد زال.
(4) لاستقرار كونه عوضًا عنها بذلك، فبطل كونه محلا للرهن، كما لو تلف أو بان مستحقًا.
(5) أي وإن لم يستغرق الأرش قيمة العبد مثلاً، بيع من العبد بقدر الأرش، لأن البيع للضرورة، فيتقدر بقدرها، وباقي العبد رهن، لزوال المعارض، فإن تعذر بيع بعضه، بيع كله للضرورة، وكذا إن نقصت قيمته، ويكون باقي ثمنه رهنًا مكانه، وإن فداه مرتهن بإذن راهن غير متبرع رجع، وإلا فلا.
(6) جني بالبناء للمجهول، أي وإن جني على العبد المرهون، جناية توجب قصاصًا أو مالاً، فالخصم، في طلب ما توجبه الجناية سيد العبد المجني عليه، لأنه
المالك له، والأرش الواجب بالجناية ملكه، فإن أخر المطالبة ولو لعذر، فالخصم المرتهن، لأن حقه متعلق بموجبها.(5/95)
فإن أخذ الأَرش كان رهنًا (1) وإن اقتص فعليه قيمة أقل العبدين الجاني والمجني عليه، قيمة تكون رهنًا مكانه (2) .
__________
(1) أي فإن أخذ سيد العبد المجني عليه الأرش، كان رهنا مكان العبد.
(2) أي وإن اقتص السيد من جان عمدا بغير إذن المرتهن، فعليه قيمة أقل العبدين الجاني والمجني عليه، فلو كان الرهن يساوي مائة، والجاني تسعين، أو بالعكس، لم يلزم السيد إلا تسعون، تكون رهنًا مكانه، ولا يحتاج إلى عقد جديد، لأنه في الأولى لم يفوت على المرتهن إلا ذلك القدر، وفي الثانية لم يتعلق حق المرتهن إلا به، وكذا لو عفا السيد على مال، فعليه قيمة أقلهما. وإن كانت الجناية موجبة للمال، فعفا السيد عن المال، صح في حقه، لا في حق المرتهن، فيأخذ الأرش من الجاني فإن فك الرهن بأداء الراهن، أو أبرئ، رد إلى الجاني ما أخذ منه، وإن استوفى دينه من الأرش، رجع به جان على راهن.(5/96)
باب الضمان (1)
مأْخوذ من الضمن فذمة الضامن في ذمة المضمون عنه (2) ومعناه شرعًا: التزام ما وجب على غيره – مع بقائه – وما قد يجب (3)
__________
(1) الضمان جائز بالكتاب والسنة والإجماع في الجملة، قال تعالى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وللترمذي مرفوعًا «الزعيم غارم» أي ضامن، وحكي الإجماع – في الجملة – الموفق وغيره.
(2) يعني فاشتقاقه من الضمن، وهذا قول ابن عقيل، وقال القاضي: مشتق من التضمن، لأن ذمة الضامن تتضمن الحق. وقال الموفق وغيره: مشتق من الضم، يعني اشتقاقًا أكبر، فالضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه، في التزام الحق، فيثبت في ذمتهما جميعًا، وفي التلخيص معناه: تضمين الدين في ذمة الضامن.
(3) أي ومعنى الضمان شرعًا: التزام من يصح تبرعه ما وجب على غيره، كثمن مبيع أو قرض، أو قيمة متلف، مع بقائه على مضمون عنه، فلا يسقط عنه بالضمان، والتزام ما قد يجب على غيره أيضًا، كجعل على عمل، وكضمان نفقة زوجة يومها، أو مستقبلاً، صرح به الموفق وغيره، لأن نفقة اليوم واجبة، والمستقبلة مآلها إلى اللزوم، فيلزم الضامن ما يلزم الزوج، لالتزامه به. قال ابن القيم: يصح ضمان ما لا يجب، كقوله: ما أعطيته فلانا فهو علي؛ عند الأكثرين، كما دل عليه القرآن، قال تعالى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} والمصلحة تقتضي ذلك، بل قد تدعو إليه الحاجة والضرورة. اهـ. لكن لا يصح ضمان مسلم جزية، ولو بعد الحول، لأنها إذا أخذت من الضامن فات الصغار عن المضمون عنه.(5/97)
ويصح بلفظ ضمين، وكفيل (1) وقبيل وحميل، وزعيم (2) وتحملت دينك، أو ضمنته (3) أو هو عندي، ونحو ذلك (4) .
__________
(1) أي ويصح الضمان بلفظ: أنا ضمين وكفيل. فهما صريحان فيه، يقال: ضمن الشيء ضمانا، فهو ضامن، وضمين. كفله، والكفيل هو الضمين، عند أهل اللغة.
(2) أي ويصح الضمان بلفظ: أنا قبيل. وهو الكفيل، والضامن "وحميل" كأمير، أي كفيل "وزعيم" أيضًا كفيل، وقال ابن عباس: «وأنا به زعيم» الزعيم الكفيل. وكذا صبير، وقال الموفق وغيره: هي بمعنى واحد.
(3) أي وكذا يصح الضمان بلفظ: أنا تحملت دينك. أو: أنا ضمنت دينك. أو: ضمنت له.
(4) أي ويصح بلفظ: دينك عندي. أو: علي مالك عنده، وكبعه أو زوجه، وعلى الثمن أو المهر، قال شيخنا: أو: طلبك علي، وجميع ما أدى هذا المعنى، وصارت الصيغة صالحة به، وقال بعض الأصحاب: إن قال: أنا أؤدي ما عليه. أو: أحضر ما عليه. لم يصر ضامنًا، لأنه وعد، وليس بالتزام.
وقال شيخ الإسلام: قياس المذهب: يصح الضمان بكل لفظ فهم منه الضمان عرفًا، مثل قوله: زوجه، وأنا أودي الصداق. أو قوله: بعه وأنا أعطيك الثمن. أو قوله: اتركه ولا تطالبه، وأنا أعطيك ما عليه، ونحو ذلك مما يؤدي هذا المعنى، لأن الشارع لم يحد ذلك بحد، فيرجع إلى العرف، كالحرز والقبض. وكذا قال ابن القيم وغيره. ولو تغيب مضمون عنه قادر، فأمسك الضامن وغرم شيئًا أو أنفقه في الحبس، رجع به على المضمون عنه.(5/98)
وبإشارة مفهومة من أَخرس (1) و (لا يصح) الضمان (إلا من جائز التصرف) (2) لأنه إيجاب مال (3) فلا يصح من صغير، ولا سفيه (4) ويصح من مفلس، لأنه تصرف في ذمته (5) ومن قن، ومكاتب بإذن سيدهما (6) .
__________
(1) أي ويصح الضمان بإشارة مفهومة من أخرس، كسائر تصرفاته، لأنها كاللفظ في الدلالة على المراد، لا بكتابة منفردة عن إشارة، يفهم منها قصد الضمان، ولا بإشارة غير مفهومة. ويصح ضمان مريض بلا نزاع، فإن مات من مرضه المخوف فمن ثلثه كوصية.
(2) أي ممن يصح تصرفه في مال، وهو الحر غير المحجور عليه، رجلا كان أو امرأة.
(3) أي لأن الضمان إيجاب مال بعقد، فلم يصح من غير جائر التصرف، كالبيع والشراء.
(4) قال الموفق وغيره: لا يصح الضمان من مجنون، ولا مبرسم، ولا صبي غير مميز، بغير خلاف، ولا يصح من السفيه المحجور عليه، وهو مذهب الشافعي.
(5) أي ويصح الضمان من مفلس، لأن ضمانه تصرف منه في ذمته، وهو أهل له فاستثنى، لأن الحجر عليه في ماله، لأجل مال الغرماء، لا في ذمته ويتبع بعد فك الحجر عنه، وهذا الصحيح من المذهب.
(6) أي ويصح الضمان أيضًا من قن، ومكاتب بإذن سيدهما، كما لو أذن لهما في التصرف، لأن الحجر عليهما لحقه، فإذا أذن انفك، ولا يصح بدون إذن سيدهما، لأنه تبرع، ولو كان مأذونًا لهما في التجارة، لأن الضمان عقد يتضمن إيجاب مال، فلم يصح بغير إذن السيد.(5/99)
ويؤخذ مما بيد مكاتب (1) وما ضمنه قن من سيده (2) (ولرب الحق مطالبة من شاء منهما) أي من المضمون والضامن (في الحياة والموت) (3) لأن الحق ثابت في ذمتهما، فملك مطالبة من شاء منهما (4) لحديث «الزعيم غارم» رواه أبو داود والترمذي وحسنه (5) .
__________
(1) أي يؤخذ ما ضمنه مكاتب بإذن سيده مما بيد المكاتب، كثمن ما اشتراه ونحوه.
(2) أي ويؤخذ ما ضمنه قن بإذن سيده من سيده، لتعلقه بذمته، كاستدانته وإن أذن له في الضمان ليقضي مما بيده تعلق به، وكذا حر ضمن على أن يؤخذ من مال عينه.
(3) وذلك أن المضمون عنه لا يبرأ بنفس الضمان كما يبرأ بنفس الحوالة قبل القبض، بل يثبت الحق في ذمة الضامن، مع بقائه في ذمة المضمون عنه.
(4) وله مطالبتهما معا في الحياة والموت، ولو كان المضمون عنه مليا باذلاً، هذا المذهب، ومذهب أبي حنيفة، والشافعي.
(5) الزعيم الضمين، وكونه غارمًا أي ملزمًا نفسه ما ضمنه، والغرم أداء شيء يلزمه، فدل على أنه ضامن، وأن من ضمن دينا لزمه أداؤه، فاستدلوا به على جواز مطالبة أيهما شاء، لثبوت الحق في ذمتيهما، قال ابن القيم: وهذا قول الجمهور.
والقول الثاني: أن الضمان استيثاق بمنزلة الرهن، فلا يطالبه إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه، لأن الضامن فرع، ولا يصار إليه إلا عند تعذر الأصل،
كالتراب في الطهارة، وأن الكفالة توثقة وحفظ للحق، فهي جارية مجرى الرهن، لا يستوفى منه إلا عند تعذر الاستيفاء من الراهن، والضامن لم يوضع لتعدد محل الحق، وإنما وضع ليحفظ صاحب الحق حقه من الهلاك، ويرجع إليه عند تعذر الاستيفاء، ولم ينصب الضامن نفسه، لأن يطالبه المضمون له، مع وجود الأصيل ويسرته، والتمكن من مطالبته، والناس يستقبحون هذا، ويعدون فاعله متعديًا، ولا يعذرونه بالمطالبة إلا إذا تعذر عليه مطالبة الأصيل، عذروه بمطالبة الضامن، وهذا أمر مستقر في فطر الناس، ومعاملاتهم، بحيث لو طالب الضامن والمضمون عنه إلى جانبه، والدراهم في كمه، وهو متمكن من مطالبته، لاستقبحوه غاية الاستقباح، وهذا القول في القوة كما ترى.(5/100)
(فإن برئت ذمة المضمون عنه) من الدين المضمون، بإبراء، أو قضاء، أو حوالة ونحوها (1) (برئت ذمة الضامن) لأنه تبع له (2) (لا عكسه) فلا يبرأ المضمون عنه ببراءة الضامن (3) لأَن الأَصل لا يبرأ ببراءة التبع (4) .
__________
(1) كأن زال العقد الذي وجب بتقايل أو غيره.
(2) قال الموفق وغيره: لا نعلم فيه خلافًا، ولأنه وثيقة، فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن، ولو أبرأ شخص غريمه لجهالة سقوطه عن الضامن لم يبرأ صرح به ابن عطوة وغيره، وفي مغني ذوي الأفهام: من فعل له شيء في مقابلة براءة أو إقرار فلم يكن، لم يبطل، ويرجع به، باتفاق الأئمة.
(3) وكذا لو أقر المضمون له ببراءة الضامن، لم يبرأ مضمون عنه.
(4) ولأنه وثيقة انحلت من غير استيفاء الدين منها، فلم تبرأ ذمة الأصل، كالرهن إذا انفسخ من غير استيفاء، وأيهما قضى الحق برئا جميعا من المضمون له، لأنه حق واحد، فإذا استوفي زال تعلقه بهما.(5/101)
وإذا تعدد الضامن، لم يبرأ أحدهم ببراءة الآخر (1) ويبرؤون بإبراء المضمون عنه (2) (ولا يعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه (3) ولا) معرفته للمضمون (له) (4) لأنه لا يعتبر رضاهما، فكذا معرفتهما (5) (بل) يعتبر (رضى الضامن) (6) لأن الضمان تبرع بالتزام الحق، فاعتبر له الرضى، كالتبرع بالأعيان (7) .
__________
(1) لأنهم غير فروع له، فلم يبرؤا ببراءته، وإن ضمن كل واحد منهم جميعه، بريء كل واحد منهم بأداء أحدهم.
(2) لأنهم فروع له، وتقدم أنه لا خلاف فيه، وأنه يصح أن يضمن الحق عن الواحد اثنان فأكثر، سواء ضمن كل واحد جميعه أو جزءًا منه.
(3) بل يصح ولو جهله، كأن يقول: من استدان منك فأنا ضمين، لأنه التزام حق، فلم تشترط معرفة المؤدى عنه.
(4) كقوله: من باع زيدا كذا، أو أقرضه كذا، فأنا ضمين. ولأنه التزام حق، فلم تشترط معرفة المؤدى له.
(5) أي فلا تعتبر، كما أنه لا يعتبر رضى المضمون عنه، ولا المضمون له، لأن أبا قتادة ضمن من غير رضى المضمون له، ولا المضمون عنه، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنها وثيقة لا يعتبر فيها قبض، فصح من غير شرط رضا المضمون له.
وقال الموفق وغيره: لا يعتبر رضى المضمون عنه، لا نعلم فيه خلافًا، لأنه لو قضى الدين عنه بغير إذنه ورضاه صح.
(6) فإن أكره عليه لم يصح.
(7) أي أنه لا يصح إلا برضى الملتزم، كالنذر، فكذا الضمان لا يصح إلا برضى الضامن.(5/102)
(ويصح ضمان المجهول، إذا آل إلى العلم) (1) لقوله تعالى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (2) وهو غير معلوم، لأنه يختلف (3) .
__________
(1) فلا يشترط كون الحق معلومًا، بل يصح ولو مجهولاً، إذا كان مآله، إلى العلم به، كقوله: أنا ضامن لك ما على فلان. أو: ما يقربه لك. ونحوه، أو: أنا ضامن لك ما أعطيت فلانا. أو: ما تقوم به البينة. ونحو ذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك.
(2) ولعموم قوله "الزعيم غارم" ولدعاء الحاجة أو الضرورة إلى ذلك، كما تقدم.
(3) أي ولأن حمل البعير غير معلوم، لأن حمل البعير مختلف باختلافه، فدلت الآية والخبر على جواز ضمان ما آل إلى العلم، ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة، فصح في المجهول كالنذر، ويصح ضمان السوق، وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين، وما يقبضه من غير مضمونة، كما قاله الشيخ وغيره، وقال: يصح ضمان حارس ونحوه، وتجار حرب، بما يذهب من البلد أو البحر، وغايته ضمان مجهول، وما لم يجب، وهو جائز عند أكثر أهل العلم مالك، وأبي حنيفة، وأحمد. اهـ.
ويصح ضمان دين ميت، وإن لم يخلف وفاء، لخبر سلمة أنه صلى الله عليه وسلم أتي برجل ليصلي عليه فقال «هل عليه دين؟» فقالوا: نعم ديناران. فقال «هل ترك لهما وفاء؟» قالوا: لا. فتأخر، فقال أبو قتادة: هما علي. فصلى عليه، ولا تبرأ ذمة الميت قبل قضاء دينه، لخبر، «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» ويصبح ضمان دين مفلس، ونقص صنجة، أو كيل.(5/103)
(و) يصح أيضًا ضمان ما يؤول إلى الوجوب (1) كـ (ـالعواري والمغصوب (2) والمقبوض بسوم) إن ساومه وقطع ثمنه (3) أو ساومه فقط ليريه أهله، إن رضوه وإلا رده (4) وإن أخذه ليريه أهله بلا مساومة، ولا قطع ثمن، فغير مضمون (5) (و) يصح ضمان (عهدة مبيع) (6) .
__________
(1) لما تقدم من الآية والخبر، كضمنت لك ما تداينه به، ونحوه، ويدخل فيه أيضًا ضمان السوق ونحوه مما تقدم. وغيره، وما يأتي.
(2) من الأعيان المضمونة وضمانها في الحقيقة ضمان استنقاذها، وردها أو قيمتها عند تلفها، لأنها مضمونة على من هي في يده، فهي كالحقوق الثابتة في الذمة.
(3) وذلك بأن يساوم إنسانًا على عين، ويقطع ثمنها ثم يأخذها ليريها أهله، فإن رضوها أخذها، وإلا ردها لربها، فإذا قبضها كذلك، ضمن القابض المقبوض على وجه السوم، فصح ضمانها، لكونها مقبوضة على وجه البدل والعوض.
(4) أي أو ساومه بدون قطع ثمن، صح ضمانه كما لو قطع الثمن، بشرط أن يكون البيع من المالك، وإن كان من وكيله لم يجز، لأنه لا يجوز تقليبه على المشتري إلا بحضرة المالك.
(5) أي إذا تلف بغير تفريط، لأنه غير مقبوض على وجه العوض، لعدم السوم، ولا يصح ضمانه، لأنه أمانة، إلا أن يضمن التعدي فيه كما يأتي.
(6) عند جماهير العلماء، لأن الحاجة داعية إلى ذلك «والعهدة» في العرف عبارة عن الدرك، وضمان الثمن، وعند أهل اللغة الصك بالابتياع، وذلك أنه يذكر فيه الثمن، فعبر به عن الثمن الذي يضمنه.(5/104)
بأن يضمن الثمن إذا استحق المبيع، أو رد بعيب (1) أو الأرش إن خرج معيبًا (2) أو يضمن الثمن للبائع قبل تسليمه (3) أو إن ظهر به عيب أو استحق (4) فيصح لدعاء الحاجة إليه (5) وألفاظ ضمان العهدة: ضمنت عهدته (6) أو دركه، ونحوهما (7) .
__________
(1) أي فضمان الثمن عن بائع لمشتر أن يضمن عن البائع الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، إن ظهر المبيع مستحقًا لغير بائع، أو رد المبيع على بائع بعيب أو غيره.
(2) أو بأن يضمن الأرش – على القول به – إن خرج المبيع معيبًا، واختار مشتر إمساكه مع العيب، والرجوع بالأرش.
(3) أي أو أن يضمن عن المشتري الثمن الواجب للبائع قبل تسليمه.
(4) أي أو أن يضمن عن المشتري الثمن إن ظهر به عيب أو استحق للبائع قبل تسليمه، فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثمن، أو جزء منه عن أحد المتبايعين للآخر، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وغيرهم، وفي الإنصاف: بلا نزاع في الجملة.
(5) أي إلى ضمان العهدة، لأنه لو لم يصح لامتنعت المعاملات مع من لم يعرف، وفيه ضرر عظيم، رافع لأصل الحكمة التي شرع البيع من أجلها.
(6) أي عهدة المبيع، وهو عبارة عن ضمان الثمن، أو يقول: ضمنت ثمنه.
(7) مما يدل على المعنى، كأن يقول للمشتري: ضمنت خلاصك منه. أو: متى خرج المبيع مستحقًا، فقد ضمنت لك الثمن. لا خلاصة المبيع، لأنه لو خرج حرًا أو مستحقًا لم يستطع تخليصه، ولا يحل.(5/105)
ويصح أيضًا ضمان ما يجب (1) بأن يضمن ما يلزمه من دين، أو ما يداينه زيد لعمرو ونحوه (2) وللضامن إبطاله قبل وجوبه (3) (لا ضمان الأمانات) كوديعة، ومال شركة (4) وعين مؤجرة، لأنها غير مضمونة على صاحب اليد، فكذا ضامنه (5) (بل) يصح ضمان (التعدي فيها) أي في الأمانات (6) .
__________
(1) وتقدم بعض أمثلته، وهو قول الجمهور، للحاجة إلى ذلك، وكذا يصح ضمان ما لا يجب.
(2) كما يقضي به عليه، أو ما تقوم به البينة، أو ما يقر به لك، وما لا يجب كثمن المبيع في مدة الخيار، والأجرة، والمهر قبل الدخول، لأن هذه الحقوق لازمة، وجواز إسقاطها لا يمنع ضمانها، كضمان المبيع بعد انقضاء الخيار، يجوز أن يسقط برد بعيب أو مقايلة، والفرق بين عبارته وما تقدم أن المتقدم تعريف للضمان، وهنا بيان له.
(3) أي إبطال ضمان ما يجب، قبل وجوبه على المضمون عنه، كقوله: أنا ضامن لك ما تداينه به. لعدم اشتغال ذمته به، بخلاف: أنا ضامن لك ما يخرجه الحساب، أو ما يثبت عليه بالبينة.
(4) ومضاربة، وعين مدفوعة إلى خياط وقصار، أو ثمن بيد وكيل في بيع أو شراء، لأنها غير مضمونة على من هي بيده، فلا يصح ضمانها.
(5) أي لا تكون مضمونة عليه، لأنه فرع، فلم يصح ضمانها، وقيل: ولأن صاحب اليد لا يلزمه إحضارها.
(6) بلا نزاع، قال أحمد: هو ضامن لما دفعه إليه. يعني إذا تعدى أو تلف بفعله.(5/106)
لأنها حينئذ تكون مضمونة على من هي بيده كالمغصوب (1) وإن قضى الضامن الدين بنية الرجوع رجع، وإلا فلا (2) وكذا كفيل (3) وكل مؤد عن غيره دينًا واجبًا (4) غير نحو زكاة (5) .
__________
(1) أي أنه مضمون على من هو بيده، فيصح ضمانه، فكذا تلك، إن تلفت بفعله أو تفريطه لزمه ضمانها، فلزم ضامنها أيضًا، وهذا من ضمان ما لم يجب.
(2) أي إن نوى الضامن الرجوع بما قضاه عن المضمون عن رجع به، سواء أذن المضمون عنه في القضاء، أو لم يأذن، لأنه قضاء مبرئ من دين واجب، فكان من ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه، وإن لم ينو الضامن الرجوع حال القضاء لم يرجع بشيء، لأنه متطوع بذلك، أشبه الصدقة.
(3) أي ومثل الضامن كفيل، إذا قضى ناويا الرجوع رجع، وإلا فلا.
(4) أي ومثل الضامن أيضًا كل مؤد عن غيره دينا واجبا، كمن أنفق على زوجة غيره بنية الرجوع، أو أنفق على معصوم بغيبة من وجبت عليه، أو كان عاجزًا لعذر، فلمن أنفق بنية الرجوع أن يرجع، وإن أنفق على غيره نفقة واجبة ونحو ذلك ينوي التبرع، لم يملك الرجوع بالبدل، وإن لم ينو فله الرجوع إن كان بإذن، اتفاقًا وإن كان بغير إذن ففيه نزاع، أما إن تعذر الإذن، فالمقدم أنه يرجع، كما تقدم في الرهن، وكذا إن كان ضمن بأمره، وهو مذهب مالك، والمشهور عن الشافعي، وتقدم اختيار الشيخ وغيره.
(5) كنذر، وكفارة، وكل ما افتقر إلى نية، فلا رجوع له، ولو نوى الرجوع، لأنه لا يبرأ المدفوع عنه بذلك، لعدم النية منه، وللضامن مطالبة المضمون عنه بتخليصه قبله الأداء، إذا طولب به إن كان ضمن بإذنه، وإن أدى الدين فله المطالبة بما أدى، كما في الإقناع وغيره.(5/107)
فصل في الكفالة (1)
وهي التزام رشيد إحضارَ من عليه حق مالي لربه (2) وتنعقد بما ينعقد به ضمان (3) وإن ضمن معرفته أَخذ به (4) .
__________
(1) الكفالة مصدر "كفل" بمعنى التزم، وهي صحيحة بالكتاب والسنة، وحكي إجماعًا، قال تعالى {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} ولأبي داود في رجل لزم غريما له حتى يقضي، أو يأتي بحميل، فقال صلى الله عليه وسلم: «أنا أحمل» ولأن الحاجة داعية إلى الاستيثاق بضمان المال أو البدن، وضمان المال يمتنع منه كثير من الناس، فلو لم تجز الكفالة بالنفس لأدى إلى الحرج، وعدم المعاملات المحتاج إليها.
(2) أي والكفالة التزام رشيد – برضاه، ولو مفلسا، أو قنا، أو مكاتبا بإذن سيد – إحضار من تعلق به حق مالي من دين، أو عارية ونحوها لرب الحق، لأن العقد في الكفالة واقع على بدن المكفول به، فكان إحضاره هو الملتزم به كالضمان، ولو كان المكفول به صبيا أو مجنونًا وبغير إذن وليهما، لأنه قد التزم إحضارهما مجلس الحكم.
(3) أي من الألفاظ السابقة كلها، نحو: أنا ضمين ببدنه، وزعيم به. بإضافة ذلك لإحضار المكفول، فهي نوع من الضمان، فيؤخذ منه صحتها ممن يصح ضمانه، ولو قال: ضمنت. ونحوه لم يصح، والفرق بين الضمان والكفالة أن الضمان أضيق منها، بدليل أنه لا يبرأ الضامن من الضمان إلا بالأداء أو الإبراء، بخلاف الكفالة فإنها تسقط عنه بموت المكفول عنه، وبتلف العين مثلا.
(4) أي وإن ضمن الرشيد معرفة المستدين، كما لو جاء إنسان ليستدين من إنسان، فقال: أنا أعرفك، فلا أعطيك. فقال: ضمنت لك معرفته. أي
أعرفك من هو، وأين هو، أخذ بإحضاره، فإن غاب المستدين، أو توارى، طولب بحضوره، ولا يكفي أن يذكر اسمه ومكانه، فإن عجز عن إحضاره مع حياته ضمن ما عليه، وقاله الشيخ وغيره، وقال ابن عقيل: جعل أحمد ضمان المعرفة توثقة لمن له المال، فكأنه قال: ضمنت لك حضوره متى أردت، لأنك لا تعرفه، ولا يمكنك إحضار من لا تعرفه، فأحضره لك متى أردت، فصار كقوله: تكفلت ببدنه.(5/108)
(وتصح الكفالة بـ) ـبدن (كل) إنسان عنده (عين مضمونة) (1) كعارية ليردها أو بدلها (2) (و) تصح أيضًا (ببدن من عليه دين) (3) ولو جهله الكفيل (4) لأن كلا منهما حق مالي، فصحت الكفالة به كالضمان (5) .
__________
(1) فأخرج نحو الوديعة، والشركة، والمضاربة، لأنها أمانة، فلا تصح الكفالة بالأمانات، كما تقدم في الضمان، إلا إن كفله بشرط التعدي فيها صحت كالضمان.
(2) أي ليرد نحو العارية والغصب إن كانت باقية، أو بدلها إن لم تكن باقية.
(3) أي وتصح الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور لمجلس الحكم بدين لازم أو يؤول إلى اللزوم، فتصح بصبي ومجنون، لأنه قد يجب إحضارهما مجلس الحكم للشهادة عليهما بالإتلاف، وببدن محبوس، وغائب عند الجمهور، لأن كل وثيقة صحت مع الحضور، صحت مع الغيبة والحبس، وقيل: يؤخذ منه أنها لا تصح كفالة الولد بوالده.
(4) أي ولو جهل المال الكفيل، إذا كان يؤول إلى العلم.
(5) أي لأن كلا من العين والدين حق مالي، فصحت الكفالة به، كما صح الضمان والكفالة بالبدن لا بالدين، والدين يصح ضمانه ولو كان مجهولاً، إذا آل إلى العلم، مع أنه التزام بالمال ابتداء، فالكفالة التي لا تتعلق بالمال ابتداءً أولى.(5/109)
و (لا) تصح ببدن من عليه (حد) لله تعالى كالزنا (1) أو لآدمي كالقذف (2) لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده مرفوعًا «لا كفالة في حد» (3) (ولا) ببدن من عليه (قصاص) (4) لأنه لا يمكن استيفاؤه من غير الجاني (5) .
__________
(1) والسرقة، والشرب، لإقامة الحد، قال الموفق: وهو قول أكثر العلماء، لأنه لا يجوز استيفاؤه من الكفيل، إلا إذا كفل السارق بسبب غرم المسروق فتصح، لأنه حق مالي.
(2) أي ولا تصح الكفالة ببدن من عليه حد لآدمي كالقذف، لأنه لا يجوز استيفاؤه من الكفيل، إذا تعذر عليه إحضار المكفول به، وهو قول الجمهور.
(3) رواه البيهقي بسند ضعيف، وقال: إنه منكر، وعللوا ذلك بأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها على الإسقاط، والدرء بالشبهات، فلا يدخل فيها الاستيثاق.
(4) أي ولا تصح الكفالة ببدن من عليه قصاص، لأنه بمنزلة الحد.
(5) ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل، إذا تعذر عليه إحضار المكفول به، وقال شيخ الإسلام: تصح الكفالة في ذلك. واختاره في الفائق، وهو مذهب مالك، وقال أحمد في موضع: تجوز الكفالة بمن عليه حق أو حد، لأنه حق لآدمي، فصحت الكفالة به، كسائر حقوق الآدميين. وتصح إذا كفل بدنه لأجل مال بالعفو إلى الدية ليدفعها.(5/110)
ولا بزوجة وشاهد (1) ولا بمجهول، أو إلى أجل مجهول (2) وتصح: إذا قدم الحاج فأنا كفيل بزيد شهرًا (3) (ويعتبر رضى الكفيل) لأنه لا يلزمه الحق ابتداءً إلا برضاه (4) (لا) رضى (مكفول به) أَوله، كالضمان (5) .
__________
(1) أي ولا تصح الكفالة بزوجة لزوج في حق الزوجية عليها، ولا تصح بشاهد، لأن الحق عليهما لا يمكن استيفاؤه من الكفيل، وكذا لا تصح لدين كتابة، لأن الحضور لا يلزمه، أذ له تعجيز نفسه، وأما كفالتهما في حق مالي فكغيرهما.
(2) أي ولا تصح الكفالة بشخص مجهول، لأن غير المعلوم في الحال أو المآل، لا يمكن تسليمه، ولا تصح الكفالة إلى أجل مجهول، كإلى مجيء المطر، أو هبوب الرياح، لأنه ليس له وقت يستحق مطالبته فيه بما كفله، فإذا كانت الكفالة مطلقة فهي حالة كالضمان، ويصح: إلى الحصاد والجذاذ. لأنه تبرع من غير عوض، جعل له أجل لا يمنع من حصول المقصود منه، وأولى من السلم إلى الحصاد ونحوه.
(3) لأن ذلك جمع تعليقًا وتوقيتًا، وكلاهما صحيح مع الانفراد، فكذا مع الاجتماع، ويبرأ إن لم يطالبه فيه.
(4) فاشترط رضاه لصحة الكفالة، قولا واحدا.
(5) أي لا يعتبر رضى مكفول له، لأن الكفالة وثيقة لا قبض فيها فصحت من غير رضاه كالشهادة، والتزام حق من غير عوض، ولا يعتبر رضى مكفول به، هذا المذهب، وقالوا: كما لا يعتبر الضمان، والوجه الثاني: يعتبر. لأن مقصود الكفالة إحضاره، فإذا تكفل بغير إذنه لم يلزمه الحضور معه، ولأنه يجعل لنفسه حقًا عليه، وهو الحضور معه من غير رضاه فلم يجز، وأما الضامن فيقضي الحق، ولا يحتاج إلى المضمون عنه، وهذا مذهب الشافعي.(5/111)
(فإن مات) المكفول بريء الكفيل (1) لأن الحضور سقط عنه (2) (أو تلفت العين بفعل الله تعالى) قبل المطالبة، بريء الكفيل (3) لأن تلفها بمنزلة موت المكفول به (4) فإن تلفت بفعل آدمي فعلى المتلف بدلها ولم يبرأ الكفيل (5) (أو سلم) المكفول (نفسه بريء الكفيل) (6) لأن الأصل أداء ما على الكفيل، أشبه ما لو قضى المضمون عنه الدين (7) وكذا يبرأ الكفيل إذا سلم المكفول بمحل العقد، وقد حل الأَجل أو لا (8) .
__________
(1) وسقطت الكفالة، وهذا مذهب الجمهور، سواء توانى في تسليمه حتى مات أو لا، وبراءته مقيدة بما إذا لم يقل: فإن عجزتُ. أو: متى عجزتُ عن إحضاره كان على القيام بما أقر به. ونحوه، وإلا لزمه ما عليه.
(2) يعني بموت مكفول به، كما لو أبريء من الدين، ولأن ما التزمه من أجله سقط عن الأصل، فبرئ الفرع، وقيل: لا يبرأ، فيلزمه الدين. اختاره الشيخ، وهو مذهب مالك.
(3) أي أو تلفت العين المضمونة، التي تكفل ببدن من هي عنده، بفعل الله تعالى، قبل المطالبة، بريء الكفيل، لا بعد طلبه بها، ولا بتلفها بفعل آدمي.
(4) ولا يبرأ كفيل إن مات هو، أو مكفول له، لأنها أحد نوعي الضمان.
(5) وظاهره مطلقا، وقيل: إذا ضاعت بلا تقصير لم يضمن.
(6) أي أو سلم المكفول نفسه لرب الحق، في محل التسليم وأجله، بريء الكفيل، لأنه أتى بما يلزم الكفيل لأجله، وهو إحضار نفسه، فبرئت ذمته.
(7) يعني أنه يبرأ الضامن، فيبرأ الكفيل ببراءة المكفول.
(8) أي أو لم يحل أجل الكفالة بأن كانت مؤجلة إلى رمضان مثلا، فسلمه
في رجب، حيث سلمه بمحل العقد، فإن عين تسليمه في مكان، لزمه تسليمه فيه، وفاء بالشرط.(5/112)
بلا ضرر في قبضه (1) وليس ثم يد حائلة ظالمة (2) وإن تعذر إحضار المكفول مع حياته (3) أو غاب ومضى زمن يمكن إحضاره فيه، ضمن ما عليه (4) إن لم يشترط البراءة منه (5) .
__________
(1) يعني حيث أحضر الكفيل المكفول قبل أجل الكفالة بريء، وإن حصل ضرر لغيبة حجة، أو لم يكن يوم مجلس الحاكم، أو الدين مؤجل لا يمكن اقتضاؤه منه ونحوه، لم يبرأ الكفيل، وإن أحضره بعد حلول الأجل بريء مطلقًا.
(2) أي تمنعه منه بريء، وإلا لم يبرأ، لأنه لا يحصل له غرضه، ومتى طلب الكفيل مكفولاً به لزمه بشرطه، وإن أحضره ولا مانع، وامتنع مكفول له من تسلمه بريء الكفيل، قال الشيخ: وإن كان المكفول في حبس الشرع، فسلمه إليه فيه بريء، ولا يلزمه إحضاره منه إليه عند أحد من الأئمة، ويمكنه الحاكم من الإخراج ليحاكم غريمه ثم يرده.
(3) أي وإن تعذر إحضار المكفول على الكفيل، بأن اختفى، أو امتنع أو غير ذلك، بحيث تعذر إحضاره مع بقاء حياته، ضمن كفيل ما عليه من الدين، أو عوض العين، وكذا إن امتنع الكفيل من إحضاره لزمه ما عليه.
(4) أي أو غاب مكفول غيبة تعلم غير منقطعة، أمهل كفيل بقدر ما يمضي إليه ويحضره، فإن لم يفعل، أو لم يعلم خبره، ضمن ما عليه من الدين مطلقًا، حيًا كان أو ميتًا أو غير ذلك، لعموم "الزعيم غارم" ولا يسقط عن الكفيل المال بإحضار المكفول به بعد الوقت المسمى.
(5) أي إلا إذا شرط البراءة من الدين عند تعذر إحضار المكفول، فإن اشترط، فلا يلزمه ضمان الدين عملاً بشرطه، قال الشيخ وغيره: والسجان
ونحوه – ممن هو وكيل على بدن الغريم – بمنزلة الكفيل للوجه، عليه إحضار الخصم، فإن تعذر إحضاره ضمن ما عليه. وقال: إذا لم يكن الوالد ضامنًا لولده، ولا له عنده مال، لم يجز لمن له على الولد حق أن يطالب والده بما عليه، لكن مهما أمكن الوالد معاونة صاحب الحق على إحضار ولده بالتعريف ونحو ذلك لزمه ذلك.(5/113)
ومن كفله اثنان فسلمه أحدهما لم يبرأْ الآخر (1) وإن سلم نفسه برئا (2) .
__________
(1) أي ومن كفله اثنان معا أو منفردين، فسلمه أحدهما لمكفول له، لم يبرأ الآخر الذي لم يسلم المكفول، لانحلال إحدى الوثيقتين بلا استيفاء، فلا تنحل الأخرى، كما لو أبرأ أحدهما، أو انفك أحد الرهنين بلا قضاء.
(2) أي وإن سلم مكفول نفسه برئ الكفيلان، لأداء الأصيل ما عليهما، وهو إحضار نفسه فبرئا، ومن كفل لاثنين، فأبرأه أحدهما، لم يبرأ من الآخر، لبقاء حقه.(5/114)
باب الحوالة (1)
مشتقة من التحول (2) لأنها تحول الحق من ذمة إلى ذمة أخرى (3) وتنعقد بأحلتك وأتبعتك بدينك على فلان، ونحوه (4) و (لا تصح) الحوالة (إلا على دين مستقر) (5) .
__________
(1) الحوالة: نقل دين من ذمة إلى ذمة أخرى. ثابتة بالسنة والإجماع، فأما السنة فقوله «وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» وفي لفظ «ومن أحيل بحقه على مليء، فليحتل» وحكى الموفق وغيره الإجماع على ثبوتها، وذكر ابن القيم وغيره أنها على وفق القياس، حيث أنها من جنس إيفاء الحق، لا من جنس البيع، قال، وإن كانت بيع دين بدين، فلم ينه الشارع عن ذلك، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه، فإنها اقتضت نقل الدين وتحويله، من ذمة المحيل، إلى ذمة المحال عليه.
(2) أي فالحوالة تحول الحق، من قولك: تحول فلان من داره، وأحال الغريم عنه: زجّاه إلى غريم آخر.
(3) أي تنقل الحق من ذمة المحيل، إلى ذمة المحال عليه، ولا بد فيها من محيل، ومحتال، ومحال عليه.
(4) أي وتصح الحوالة بلفظها، كأحلتك بدينك، أو بمعناها الخاص بها، كأتبعتك بدينك على فلان. ونحو ذلك، كخذ دينك منه، أو اطلبه منه. وغير ذلك مما يدل على المقصود.
(5) أي ولا تصح الحوالة إلا بشروط، قيل: ثلاثة. وقيل: أربعة. وقيل: خمسة "أحدها" أن تكون على دين مستقر في ذمة المحال عليه، كبدل قرض، وثمن مبيع، وتصح ولو على الضامن بما ضمنه ووجب، لا بما يؤول إلى الوجوب قبل وجوبه.(5/115)
إذ مقتضاها إلزام المحال عليه بالدين مطلقًا (1) وما ليس بمستقر عرضة للسقوط (2) فلا تصح على مال كتابة (3) أو سلم (4) أو صداق قبل دخول (5) أو ثمن مدة خيار، ونحوها (6) وإن أحاله على من لا دين عليه فهي وكالة (7) .
__________
(1) أي سواء رضي المحال عليه أو لا، فسخ العقد أو لا.
(2) أي فلا تثبت الحوالة فيما هذا صفته.
(3) أي فلا تصح حوالة سيد على مال الكتابة، لعدم استقراره، فإن له أن يمتنع من أدائه ويعجز نفسه، وتصح على غير مال الكتابة، كبدل قرض، وثمن مبيع، لأنه دين مستقر، وحكمه حكم الأحرار في المداينات.
(4) أي ولا تصح الحوالة على مسلم فيه، لعدم استقراره، ولا على رأس ماله بعد فسخه، لأنه لا يصح تصرف فيه قبل قبضه وتقدم.
(5) أي ولا تصح الحوالة على صداق قبل دخول ونحوه مما يقرر الصداق، لعدم استقراره، وتصح بعد دخول ونحوه.
(6) أي ولا تصح على ثمن، بأن أحال البائع على المشتري في مدة خيار مجلس أو شرط، ونحوها كأن أحال على أجرة قبل استيفاء المنافع، إن كانت على عمل، وقبل فراغ المدة إن كانت الإجارة على مدة، لعدم استقراره، وكذا لو أحال على عين من وديعة، أو مضاربة، أو شركة، لأنه لم يحل على دين، قال الشيخ: وليس للابن أن يحيل على أبيه إلا برضاه.
(7) أي في الاستقراض ممن أحاله عليه، لها أحكام الوكالة، وليست حوالة، لأن الحوالة إنما تكون بدين على دين.(5/116)
والحوالة على ماله في الديوان أو الوقف إذن في الاستيفاء (1) (ولا يعتبر استقرار المحال به) (2) فإن أحال المكاتب سيده (3) أو الزوج زوجته صح (4) لأن له تسليمه، وحوالته تقوم مقام تسليمه (5) (ويشترط) أيضًا للحوالة (اتفاق الدينين) (6) أي تماثلهما (جنسًا) كدنانير بدنانير، أو دراهم بدراهم (7) .
__________
(1) فليست حوالة، بل وكالة كما تقدم، وله اختيار الرجوع ومطالبته، مثاله حوالة ناظر وقف بعض المستحقين، على من عنده شيء من ريع الوقف، كأجرة وخراج، فإنه إذن في الاستيفاء.
(2) من دين ونحوه، لأن نحو الدين له التسليم قبل استقراره، وحوالته به تقوم مقام تسليمه، ولأن الحوالة بجعل قبل عمل بمنزلة وفائه.
(3) صحت الحوالة بمال الكتابة، وبرئت ذمة المكاتب بالحوالة، ويكون ذلك بمنزلة القبض.
(4) أي أو أحال الزوج زوجته بصداقها صح ولو قبل دخول، على مستقر، لأنه لا يشترط استقرار المحال به، ويصح أن يحيل المشتري البائع بالثمن في مدة خيار المجلس والشرط، وكذا حوالة المستأجر بالأجرة على آخر قبل استيفاء المنفعة.
(5) وإن سقط الدين، كالزوجة ينفسخ نكاحها بسبب من جهتها، أو المشتري يفسخ البيع، فإن كان قبل القبض فالمقدم أنها تبطل، لعدم الفائدة في بقائها، ويرجع المحيل بدينه على المحال، وبعد القبض لا تبطل وجها واحدا، ويرجع المحيل على المحتال به.
(6) لأنها تحويل للحق، ونقل له، فينقل على صفته، وهذا "الشرط الثاني".
(7) ونحو ذلك، فلا بد من التماثل في الجنس.(5/117)
فإن أحال من عليه ذهب بفضة أو عكسه لم يصح (1) (ووصفًا) كصحاح بصحاح، أو مضروبة بمثلها (2) فإن اختلفا لم يصح (3) (ووقتًا) أي حلولاً، أو تأْجيلاً أجلاً واحدًا (4) فلو كان أحدهما حالاً، والآخر مؤجلاً (5) أو أحدهما يحل بعد شهر، والآخر بعد شهرين لم تصح (6) (وقدرًا) فلا يصح بخمسة على ستة (7) لأنها إرفاق كالقرض (8) .
__________
(1) للتخالف، كمن أحال من عليه فضة بذهب.
(2) أو مكسرة بمكسرة، فلا بد من تماثلهما وصفا.
(3) أي فإن اختلف تماثل صحاح بصحاح، بأن أحال من عليه صحاح بمكسرة، أو عكسه، أو مضروبة بغير مضروبة، أو مصرية بغيرها، لم يصح ذلك، للتخالف في الوصف.
(4) فيعتبر اتفاق أجل المؤجلين.
(5) لم تصح الحوالة، وإن كانا حالين فشرط المحتال أن يؤخره أو بعضه إلى أجل فسد الشرط.
(6) أي الحوالة، لا اشتراط التماثل في الحلول والتأجيل، كما شرط في المقاصة.
(7) أي ويشترط تماثل الدينين قدرا، فلا تصح الحوالة بخمسة على ستة، أو بخمسة على عشرة ونحو ذلك، للتخالف.
(8) أي لأن الحوالة عقد إرفاق كالقرض.(5/118)
فلو جوزت مع الاختلاف لصار المطلوب منها الفضل، فتخرج عن موضوعها (1) (ولا يؤثر الفاضل) في بطلان الحوالة (2) فلو أَحال بخمسة من عشرة على خمسة (3) أو بخمسة على خمسة من عشرة، صحت لاتفاق ما وقعت فيه الحوالة، والفاضل باق بحاله لربه (4) (وإذا صحت) الحوالة بأن اجتمعت شروطها (5) (نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه (6) وبريء المحيل) بمجرد الحوالة (7) فلا يملك المحتال الرجوع على المحيل بحال (8) .
__________
(1) وهو عقد الإرفاق، إلى التماس الفضل بها، ولا يجوز ذلك، كما لا يجوز في القرض.
(2) سواء كان الفاضل من المال المحال به أو المحال عليه.
(3) صحت الحوالة، لاتفاق ما وقعت فيه، والباقي بحاله لربه.
(4) لموافقة الخمسة للخمسة، ولا يضر كون أحدهما عن قرض مثلا والآخر عن ثمن مبيع ونحوه.
(5) وهي أن تكون على دين مستقر، وأن يتفق الدينان، ويرضى المحيل، ويعلم المال المحال به وعليه، ويكون مما يصح السلم فيه من مثلي وغيره.
(6) أي نقلت الحوالة الحق يعني المال المحال به إلى ذمة المحال عليه، إذ هي شرعا كذلك، لأنها براءة من دين.
(7) أي وبريء المحيل من المال الذي أحال به، بمجرد الحوالة، قال الموفق وغيره: في قول عامة أهل العلم، لأنها مشتقة من تحويل الحق.
(8) لأن الحق انتقل بذلك، فلم يعد الحق إلى المحيل أبدًا، وهذا مذهب الشافعي وغيره.(5/119)
سواء أمكن استيفاء الحق أو تعذر لمطل، أو فلس، أو موت، أو غيرها (1) وإن تراضى المحتال والمحال عليه على خير من الحق، أو دونه في الصفة أو القدر (2) أو تعجيله، أو تأجيله، أو عوضه جاز (3) (ويعتبر) لصحة الحوالة (رضاه) أي رضى المحيل (4) لأن الحق عليه، فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين على المحال عليه (5) ويعتبر أيضًا علم المال (6) .
__________
(1) كأن تعذر استيفاؤه من المحال عليه، لأنها براءة من دين، ليس فيها قبض ممن هي عليه، ولا ممن يدفع عنه، فلم يكن فيها رجوع، كما لو أبرأه من الدين، وأحال علي رجلاً بدين، فمات المحال عليه، فأخبره، فقال: اخترت علينا.
(2) أي وإن اجتمعت الشروط، وصحت الحوالة، فتراضيا بأن يدفع المحال عليه إلى المحال خيرًا من حقه أو رضي المحال بدون حقه في الصفة أو القدر جاز.
(3) أي أو رضي المحال عليه المؤجل بتعجيله، أو من له الحال بانتظاره، أو العوض عنه، جاز ذلك، لأن الحق لهما، ولجوازه في القرض، ففي الحوالة أولى، إلا إن جرى بين العوضين ربا النسيئة، كما لو كان المحال به من الموزونات فعوضه موزونا من غير جنسه، أو مكيلاً من غير جنسه، فيشترط فيه التقابض بمجلس التعويض.
(4) قال الموفق وغيره: بلا خلاف.
(5) فاعتبر رضاه في ذلك، وهذا "الشرط الثالث" من شروط الحوالة.
(6) أي المحال به وعليه للعاقدين، بأن يكون كل من الدينين مما يصح السلم فيه، مثليا كان أو لا، لاعتبار التسليم، والجهالة تمنعه، فاشترط العلم به، وهو "الشرط الرابع" فلا تصح بعوض دين على بعض دين.(5/120)
وأن يكون مما يثبت مثله في الذمة بالإتلاف، من الأثمان، والحبوب ونحوها (1) و (لا) يعتبر (رضى المحال عليه) (2) لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه، وبوكيله (3) وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض، فلزم المحال عليه الدفع إليه (4) (ولا رضى المحتال) إن أحيل (على مليء) (5) ويجبر على إتباعه (6) .
__________
(1) كمعدود، وموزون لا صناعة فيه، غير جوهر ونحوه، لأنه لا يصح السلم فيه، واحترز بما يثبت مثله عن المتقومات، فإنه لا تجوز الإحالة على شيء متقوم.
(2) وهو أحد قولي الشافعي، خلافًا للأكثر، وقال مالك: لا يعتبر، إن لم يكن المحال عدوا له.
(3) أي فلا يعتبر رضى من عليه الحق، كالتوكيل في القبض منه.
(4) كالوكيل، ولم يفتقر إلى رضاه.
(5) غير مماطل، فلا يعتبر رضاه، بل يجب عليه أن يحتال، هذا المذهب، وإن كان قول الجمهور على خلافه، وقالوا: لأن حقه في ذمة المحيل، فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضاه، ولا محيص عن الأخذ بالنص، وقد قال الأئمة: إذا ثبت فهو مذهبنا، ولأن للمحيل أن يوفي الحق الذي عليه بنفسه وبوكيله، وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض، فلزم المحتال القبول، كما لو وكل رجلا في إيفائه.
(6) أي ويجبر المحتال على مليء إن امتنع من قبول الحوالة على إتباع المحال عليه بطلب حقه.(5/121)
لحديث أبي هريرة يرفعه (1) «مطل الغني ظلم (2) وإذا أُتبع أحدكم على مليء فليتبع» متفق عليه (3) وفي لفظ «من أُحيل بحقه على مليء فليحتل» (4) والمليء: القادر بماله، وقوله، وبدنه (5) . فماله: القدرة على الوفاء (6) . وقوله: أن لا يكون مماطلاً (7) .
__________
(1) أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال.
(2) أي تأخيره أداء الدين من وقت إلى آخر، لغير عذر، مع الطلب، والجمهور أنه يوجب الفسق، والمطل التسويف والتأخير، والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه.
(3) أي إذا جعل أحدكم تابعًا للغير بطلب الحق، على "مليء" بالهمز وقيل كغني لفظا ومعنى "فليتبع" بالتخفيف، ولابن ماجه من حديث ابن عمر «وإذا أحلت على مليء فاتبعه» .
(4) أي ليقبل الحوالة، وهذه الرواية مفسرة لما قبلها، والحديث دليل على أن من أحيل بحقه على مليء أن يحتال، وأوجبه أحمد وأهل الظاهر، لظاهر النص، والجمهور على الاستحباب.
(5) قاله الإمام أحمد رحمه الله، وجزم به جمهور الأصحاب، فمتى أحيل على من هذه صفته لزم المحتال والمحال عليه القبول، ولم يعتبر رضاهما.
(6) إذ من لا يقدر على الوفاء لعسرته، أو غيبة ماله ونحو ذلك، لا يسمى مليئًا.
(7) إما بالتسويف أو التأخير ونحو ذلك، إذا المطل في الأصل المد والمدافعة، وأولى منه أن يكون جاحدًا للدين.(5/122)
وبدنه: إمكان حضوره إلى مجلس الحاكم، قاله الزركشي (1) (وإن كان) المحال عليه (مفلسًا (2) ولم يكن) المحتال (رضي) بالحوالة عليه (3) (رجع به) أي بدينه على المحيل (4) لأن الفلس عيب، ولم يرض به، فاستحق الرجوع، كالمبيع المعيب (5) فإن رضي بالحوالة عليه فلا رجوع له (6) إن لم يشترط الملاءة، لتفريطه (7) .
__________
(1) وتبعه أكثر الأصحاب، ومتى لم يكن المحال عليه قادرًا بماله، وقوله، وبدنه، لم يلزم الاحتيال عليه، لما في ذلك من الضرر على المحال، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبولها على المليء، وفهم منه أن من لا يمكن إحضاره مجلس الحكم كالوالد، ومن هو في غير البلد أو من هو ذو سلطان، لا يلزم رب الدين أن يحتال.
(2) غير قادر على الوفاء بماله، أو كان مماطلاً، أو بان ميتا.
(3) أي على المحال عليه، لفلسه، أو موته، أو جحده، أو مطله.
(4) ولا يجبر على إتباعه، لأنه لم يحتل على مليء، ولا يلزمه الاحتيال على غير المليء، لما عليه فيه من الضرر، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبول الحوالة على المليء كما تقدم.
(5) أي أنه يستحق به الرجوع على البائع، وقال الموفق وغيره: إذا لم يرض بالحوالة، وبان المحال عليه معسرًا أو ميتًا، رجع على المحيل بلا خلاف.
(6) سواء ظنه مليئًا أو جهله، لأنه رضي بدون حقه، ومع الرضى يزول شغل الذمة، وعنه: له الرجوع إذا جهل الحال، وهو أولى.
(7) أي في عدم اشترط الملاءة، سواء جهل اليسار، أو ظنه مليئًا فبان مفلسًا،
لم يرجع، على الصحيح من المذهب، وعنه: يرجع إذا بان مفلسا، لأن ظاهر الحال أن الرجل إنما يعامل من كان قادرًا على الوفاء، فإذا كتم ذلك كان غارًا، فيرجع عليه، قال الموفق وغيره: يحتمل أن يرجع، لأن الفلس عيب في الذمة، فأشبه ما لو اشترى شيئًا يظنه سليمًا فبان معيبًا. اهـ. وتقدم أن قول الأئمة الثلاثة اعتبار رضى المحتال مطلقًا، وإن اشترط الملاءة، فبان المحال عليه معسرًا، رجع بلا نزاع، لخبر «المسلمون على شروطهم» .(5/123)
(ومن أُحيل بثمن مبيع) بأَن أَحال المشتري البائع به على من له عليه دين، فبان البيع باطلاً فلا حوالة (1) (أو أحيل به) أي بالثمن (عليه) بأن أحال البائع على المشتري مدينه بالثمن (فبان البيع باطلاً) بأن بان المبيع مستحقًا، أو حرًا، أو خمرًا (فلا حوالة) (2) لظهور أن لا ثمن على المشتري، لبطلان البيع (3) والحوالة فرع على لزوم الثمن (4) ويبقى الحق على ما كان عليه أو لا (5) .
__________
(1) قولا واحدا، لبطلان المبيع، وفي الإنصاف: فلا حوالة بلا نزاع.
(2) قولا واحدا، ولا بد في دعوى الاستحقاق أو الحرية من ثبوت بينة، أو اتفاقهم.
(3) فبطلت الحوالة لذلك.
(4) أي فيبطل لبطلان أصله.
(5) فيرجع مشتر على من كان دينه عليه في المسألة الأولى، وعلى محال عليه في الثانية، لا على بائع، لأن الحوالة لما بطلت وجب الحق على ما كان بإلغاء الحوالة.(5/124)
(وإذا فسخ البيع) بتقايل، أو خيار عيب أو نحوه (1) (لم تبطل) الحوالة (2) لأن عقد البيع لم يرتفع، فلم يسقط الثمن، فلم تبطل الحوالة (3) وللمشتري الرجوع على البائع (4) لأَنه لما رد المعوض استحق الرجوع بالعوض (5) (ولهما أن يحيلا) (6) أي للبائع أَن يحيل المشتري على من أَحاله المشتري عليه في الصورة الأولى (7) وللمشتري أن يحيل المحتال عليه على البائع في الثانية (8) .
__________
(1) كتدليس، وكنكاح فسخ، وإجارة فسخت، أي وجه كان الفسخ.
(2) فيما بعد قبض مال الحوالة قولا واحدا، وقبله هو المذهب، قدمه في المقنع وغيره، لكونه نقله نقلاً صحيحًا، وبريء من الثمن، وبريء المحال عليه من دين المشتري، واختيار القاضي بطلانها قبل القبض بالحوالة به لا عليه، لتعلق الحق بثالث.
(3) لانتفاء المبطل، قَبضَ الحوالة قبل الفسخ أو بعده.
(4) أي بالثمن في حوالته للبائع والحوالة عليه، ويأخذه البائع من المحال عليه.
(5) والرجوع في عينه متعذر، للزوم الحوالة، فوجب في بدله، وإذا لزم البدل وجب على البائع، لأنه هو الذي انتفع بمبدله.
(6) يعني في صورة فسخ البيع.
(7) وهي ما إذا أحال المشتري البائع على من له عليه دين، لثبوت دينه على من أحاله المشتري عليه، أشبه سائر الديون المستقرة.
(8) وهي ما إذا أحال البائع على المشتري بدينه، لثبوته عليه، فإذا أحال رجلاً
على زيد بألفه فأحاله زيد به على عمرو صح، وكذا لو أحال رجل عمرا على زيد بما ثبت له في ذمته، فلا يضر تكرار المحال والمحيل.(5/125)
وإذا اختلفا فقال: أَحلتك. قال: بل وكلتني. أو بالعكس (1) فقول مدعي الوكالة (2) وإن اتفقا على: أَحلتك. أو: أَحلتك بديني. وادعى أحدهما إرادة الوكالة صدق (3) وإن اتفقا على أحلتك بدينك. فقول مدعي الحوالة (4) .
__________
(1) بأن قال: وكلتك. فقال: بل أحلتني.
(2) أي في القبض، لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان، وينكر انتقاله، والأصل معه، وقيل: يقبل قول مدعي الحوالة. صححه في التلخيص، والفائق، وصوبه في الإنصاف، وإن كان لأحدهما بينة حكم بها، لأن اختلافهما في اللفظ، وهو مما يمكن إقامة البينة عليه.
(3) أي وإن اتفق رب الدين والمدين على قول المدين لرب الدين: أحلتك على زيد. أو اتفقا على: أحلتك بديني على زيد. وادعى أحدهما إرادة الوكالة، وادعى الآخر إرادة الحوالة، صدق مدعي إرادة الوكالة بيمينه، لأن الأصل بقاء الدين على كل من المحيل والمحال عليه، لأن مدعي الحوالة يدعي نقله، ومدعي الوكالة ينكره، ولا موضع للبينة هنا، لأن الاختلاف في النية، واللفظ ليس صريحًا في الحوالة.
(4) أي وإن اتفق مدين ورب دين على قول مدين له: أحلتك بدينك. وادعى أحدهما إرادة الحوالة، والآخر إرادة الوكالة، فقول مدعي الحوالة، قال في الإنصاف: لا أعلم فيه خلافًا. لأن الحوالة بدينه لا تحتمل الوكالة، فلا يقبل قول مدعيها.(5/126)
وإذا طالب الدائن المدين، فقال: أَحلت علي فلانًا الغائب. وأَنكر رب المال، قبل قوله مع يمينه، ويعمل بالبينة (1) .
__________
(1) أي إن أقامها من قال: أحلت علي فلانا الغائب. وإن ادعى رجل: أن فلانًا الغائب أحالني عليك. فأنكر المدعى عليه، فالقول قوله، فإن أقام المدعي بينة ثبتت في حقه، وحق الغائب، وإن أحال إنسان على آخر، ولم يعلم حتى قضاه دينه، أو قضى من أحاله عليه، فقد برئت ذمة المدين، لوجوب القضاء بعد الطلب فورًا، ولا يلزمه قبل العلم شيء للأول، وبعد العلم قد برئت ذمته، فيرجع المحال الأول على غريمه، وعليه أو على الثاني إذا كان هو الذي قبضه، ولا رجوع على المحال عليه، لأن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، فلا تبعة عليه فيما لم يعلم، كما قرره الشيخ وغيره.(5/127)
باب الصلح (1)
هو لغة قطع المنازعة (2) وشرعًا: معاقدة يتوصل بها إلى إصلاح بين متخاصمين (3) .
__________
(1) أي وأحكام الجوار، الصلح اسم مصدر: صالحه مصالحة وصلاحا بالكسر، قال الجوهري: يذكر ويؤنث.
(2) وفي القاموس: الصلح بالضم السلم بالفتح والكسر، ويقال: التوفيق.
(3) قطعا للنزاع، فهو من أكبر العقود فائدة، ولذلك حسن فيه الكذب، وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وقال {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} وقال {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرم حلالاً» صححه الترمذي، وأصلح صلى الله عليه وسلم بين بني عمرو بن عوف وغيرهم، وقال عمر: ردوا الخصوم حتى يصطلحوا.
والصلح الجائز هو العادل الذي أمر الله به ورسوله، فيعتمد فيه رضى الله، ورضى الخصمين، ويكون المصلح عالما بالوقائع، عارفا بالواجب، قاصدًا للعدل، ودرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم، والصلح الجائر هو الظلم بعينه.
وكثير من الناس لا يعتمد العدل في الصلح، بل يصلح صلحا ظالما جائرًا، كأن يصلح بين غريمين على دون الطفيف من حق أحدهما، أو يصلح بين القادر الظالم، والضعيف المظلوم، بما يرضي به القادر صاحب الجاه، ويكون له فيه الحظ، ويكون الإغماض والحيف على الضعيف، ولا يمكن المظلوم من أخذ حقه، وهذا ظلم.
والحقوق نوعان، حق لله، وحق للآدمي، فحق الله لا مدخل للصلح فيه، كالحدود، والزكاة، والصلاة، ونحوها، وإنما الصلح بين العبد وربه في إقامتها، لا في إهمالها، وأما حقوق الآدميين فهي التي تقبل الصلح والإسقاط، والمعاوضة عليها على ما يأتي تفصيله.(5/128)
والصلح في الأموال قسمان (1) على إقرار (2) وهو المشار إليه بقوله (إذا أقر له بدين أو عين، فأسقط) عنه من الدين بعضه (3) .
__________
(1) قيده بالأموال لجريان الصلح في خمسة أنواع أجمع العلماء على جوازه فيها، أحدها بين مسلمين وأهل حرب، وتقدم في الجهاد، وبين أهل عدل وبغي، ويأتي في قتال أهل البغي، وبين زوجين خيف الشقاق بينهما، ويأتي في باب عشرة النساء، وبين متخاصمين في غير مال، والخامس ما ذكره، وهو المقصود بالباب، ولا يقع في الغالب إلا عن انحطاط من رتبة إلى ما دونها، على سبيل المداراة لبلوغ بعض الغرض.
(2) أي صلح على إقرار، وهو القسم الأول، وجوازه ظاهر النص، قال ابن القيم: وهو الصحيح، والثاني صلح على إنكار، وقيل: وصلح عن السكوت عنهما.
(3) أي والصلح على إقرار نوعان، نوع يقع على جنس الحق، مثل ما إذا أقر له رشيد بدين معلوم، أو بعين بيده، فأسقط المقر له من الدين عن المقر بعض الدين، كنصفه، أو ثلثه، أو ربعه، ويأخذ المقر له الباقي صح، لما يأتي.(5/129)
(أو وهب) من العين (البعض وترك الباقي) أي لم يبرئ منه ولم يهبه (صح) (1) لأَن الإنسان لا يمنع من إسقاط بعض حقه، كما لا يمنع من استيفائه (2) لأنه صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر ليضعوا عنه (3) ومحل صحة ذلك إن لم يكن بلفظ الصلح (4) فإن وقع بلفظه لم يصح (5) .
__________
(1) أي أو وهب المقر له للمقر من العين المقر بها البعض، وترك الباقي من الدين فلم يبرئ منه، أو من العين فلم يهبه، صح ذلك، إن لم يكن بشرط بلا نزاع.
(2) أي لأن جائز التصرف لا يمنع من إسقاط بعض حقه، بل قال صلى الله عليه وسلم «ضع الشطر» كما لا يمنع من استيفائه بلا نزاع.
(3) كما ثبت من غير وجه، ومر بالذي أصيب في حديقته وهو ملزم، فأشار إلى غرمائه بالنصف، فأخذوه منه، وقال أحمد: إذا كان له عليه دين، وليس عنده وفاء، فوضع عنه بعض حقه وأخذ منه الباقي، كان ذلك جائزًا لهما.
(4) بل كان بلفظ الهبة، أو الإبراء، لأن رب الحق له المطالبة بجميع الحق بعد وقوع ذلك، ولا يلزم الصلح في حقه، هذا المذهب، ويشترط فيما إذا كان بلفظ الهبة – وكان على عين – شروط الهبة، وكون المصالح جائز التصرف، والعلم بالموهوب ونحوه.
(5) لأن الأول إبراء، والثاني هبة، وقال الأكثر: يجوز. فإن قيل: إذا لم يجز بلفظه، خرج عن أن يكون صلحًا؟ قيل: لا يخرج، إذ هو موافق لمعناه، إذ معناه قطع المنازعة، وذلك يحصل بغير لفظ الصلح، فإن أوفاه من جنس حقه فوفاء، أو من غير جنسه فمعاوضة، أو أبرأه من بعضه فإسقاط، أو وهبه له فهبة، فلا يسمى صلحًا، فالخلاف في التسمية، والمعنى متفق، وسماه القاضي صلحا.(5/130)
لأنه صالح عن بعض ماله ببعض، فهو هضم للحق (1) ومحله أيضًا (إن لم يكن شرطاه) (2) بأن يقول: بشرط أن تعطيني كذا. أو: على أن تعطيني أو تعوضني كذا. ويقبل على ذلك، فلا يصح (3) لأنه يفضي إلى المعاوضة (4) فكأنه عاوض عن بعض حقه ببعض (5) .
__________
(1) أي ظلم وغصب للحق، وذلك أن لفظ الصلح يقتضي المعاوضة، لأنه يحتاج إلى حرف يتعدى به.
(2) أي ومحل صحة الإبراء والهبة أيضًا إن لم يكن شرطاه.
(3) أي بأن يقول المقر له: أبرأتك، أو وهبتك بشرط أن تعطيني كذا من الدين، أو تعوضني كذا من العين. ويقبل على ذلك، أو يقول المقر له: أبرأتك أو وهبتك على أن تعطيني كذا منه، أو تعوضني منه، كذا. ونحو ذلك، ومثل أن يقول من له ألف: أبرأتك من خمسمائة. أو: وهبتك، بشرط أن تعطيني، أو على شرط أن تعطيني ما بقي، ويقبل على ذلك فلا يصح، لأنه لا يصح تعليق الإبراء ولا الهبة بشرط.
(4) فإنه إذا قال: صالحني بهبة كذا. أو: على هبة كذا. أو: على نصف هذه العين. ونحو ذلك، فقد أضاف إليه بالمقابلة، وإن أضاف إليه "على" جرى مجرى الشرط، وكلاهما لا يجوز، بدليل ما لو صرح بلفظ الشرط أو بلفظ المعاوضة، وقال بعضهم: إنما يقتضي لفظ الصلح المعاوضة إذا كان ثم عوض، أما مع عدمه فلا، وإنما معنى الصلح الاتفاق والرضى، وقد يحصل من غير عوض.
(5) أي وهذا المعنى ملحوظ في لفظ الصلح، لأنه لا بدله من لفظ يتعدى به، كالباء، وعلى، وهو يقتضي المعاوضة.(5/131)
واسم "يكن" ضمير الشأْن (1) وفي بعض النسخ: إن لم يكن شرطًا. أي بشرط (2) ومحله أيضًا أن لا يمنعه حقه بدونه، وإلا بطل (3) لأنه أكل لمال الغير بالباطل (4) (و) محله أيضًا أن لا يكون (ممن لا يصح تبرعه) (5) كمكاتب، وناظر وقف (6) .
__________
(1) أي في قول الماتن: إن لم يكن شرطاه.
(2) وضمير الشأن فيهما عني به المبرئ أو الموهوب، ومعنى كونه لا يصح بلفظ الصلح، أو بالشرط المذكور أن رب الحق له المطالبة بجميع الحق بعد وقوع ذلك، ولا يصح في حقه.
(3) أي ومحل صحة الإسقاط ونحوه أن لا يمنع من عليه الحق ربه بدون الإسقاط ونحوه، إلا إن أنكر من عليه الحق ولا بينة، فإنه يصح الصلح مما ذكر ونحوه، ومتى اصطلحا ثم بعد ذلك ظهرت بينة، فاختار الشيخ نقض الصلح، لأنه إنما صالح مكرها في الحقيقة، إذ لو علم البينة لم يسمح بشيء من حقه. اهـ. وقيل: يضمن إذا كان الحق بسببه، أما إذا لم يكن بسببه فلا ضمان عليه على كلا القولين.
(4) أي لأن منعه حقه بدون الإسقاط ونحوه أكل لمال الغير بالباطل، كما هو واضح، وأكل مال الغير بالباطل محرم بلا نزاع.
(5) أي ومحل صحة الإبراء والهبة أيضًا ما ذكر من أن لا يكون الصلح بأنواعه ممن لا يصح تبرعه.
(6) وكعبد مأذون له في التجارة، وكوكيل في استيفاء الحقوق، لأنه تبرع، وليس لهم التبرع.(5/132)
وولي صغير ومجنون، لأَنه تبرع، وهؤلاء لا يملكونه (1) إلا إن أنكر من عليه الحق ولا بينة (2) لأَن استيفاء البعض، عند العجز عن استيفاء الكل أَولى من تركه (3) (وإن وضع) رب الدين (بعض) الدين (الحال، وأَجَّل باقيه، صح الإسقاط فقط) (4) لأنه أسقط عن طيب نفسه، ولا مانع من صحته (5) ولم يصح التأجيل، لأَن الحال لا يتأجل (6) .
__________
(1) فلم يصح الصلح بأنواعه.
(2) أي لمدعيه، فيصح الصلح.
(3) وفي المثل: ما لا يدرك كله لا يترك كله، ولو ادعى ولي صغير حقا له، وأقام به شاهدًا، أو ادعي عليه وأقيم شاهد، فللولي المصالحة في الثانية، لأن البينة تمت بالشاهد واليمين، وأما الأولى فإن كان التصرف من الولي، توجهت اليمين إليه، وحلف ولم يصالح، ومن غيره كمورثه توجه اليمين إلى المولى عليه، ويحلف إذا بلغ، ولا يصح الصلح إلا إن خيف الفوات من التأخير، أشار إليه الشيخ، وصرح في حاشية المحرر أنه يصح الصلح من ولي عما ادعي به على موليه من دين أو عين، وبه بينة، فيدفع البعض ويقع الإبراء والهبة في الباقي. وإن لم تكن بينة لم يصح.
(4) أي دون التأجيل، هذا المذهب فيهما.
(5) لأنه ليس في مقابلة تأجيل، كما لو أسقطه كله.
(6) بل له أن يطالبه به، وقال ابن القيم: يصح الإسقاط والتأجيل، وهو الصواب، بناء على تأجيل القرض والعارية، وهو مذهب أهل المدينة، واختاره شيخنا.(5/133)
وكذا لو صالحه عن مائة صحاح بخمسين مكسرة، فهو إبراء من الخمسين، ووعد في الأُخرى (1) ما لم يقع بلفظ الصلح، فلا يصح كما تقدم (2) (وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاً) لم يصح (3) في غير الكتابة (4) لأنه يبذل القدر الذي يحطه، عوضًا عن تعجيل ما في ذمته (5) وبيع الحلول والتأْجيل لا يجوز (6) .
__________
(1) أي فيصح الإبراء في الخمسين، دون جعل الخمسين الأخرى مكسرة، لأنه وعد، فلا يلزم الوفاء به.
(2) أي أن الإبراء أو الهبة ونحو ذلك متى وقع بلفظ الصلح لم يصح، لأن لفظ الصلح يقتضي المعاوضة وتقدم.
(3) هذا مذهب الجمهور.
(4) أي فيصح الصلح إذا عجل المكاتب البعض، وأبرأه السيد من الباقي، جزم به الأصحاب وغيرهم، لأنه ليس بينه وبين سيده ربا.
(5) أشبه ما لو أعطاه عشرة حالة بعشرين مؤجلة.
(6) أي لو باعه عشرة حالة بعشرين، وعنه: يصح أن يصالح عن المؤجل ببعضه حالا. لبراءة الذمة، وهو أحد قولي الشافعي، وقال ابن عباس وغيره: لا بأس به. وقال ابن القيم: وإن صالح ببعضه حالاً مع الإقرار أو الإنكار جاز، وهو قول ابن عباس، وإحدى الروايتين عن أحمد، واختاره شيخنا، فإن هذا عكس الربا، فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين، في مقابلة الأجل، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض، في مقابلة سقوط بعض الأجل، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فانتفع به كل واحد منهما، ولم يكن هنا ربا، لا
حقيقة، ولا لغة، ولا عرفًا، والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: إما أن تربي، وإما أن تقضي. وبين قوله: عجل لي وأهب لك مائة. فأين أحدهما من الآخر، فلا نص في تحريم ذلك، ولا إجماع ولا قياس صحيح.(5/134)
(أو بالعكس) بأن صالح عن الحال ببعضه مؤجلاً، لم يصح إن كان بلفظ الصلح كما تقدم (1) فإن كان بلفظ الإبراء ونحوه، صح الإسقاط دون التأْجيل وتقدم (2) (أَو أَقر له ببيت) ادعاه (فصالحه على سكناه) ولو مدة معينة كسنة (3) (أَو) على أَن (يبني له فوقه غرفة) (4) أَو صالحه على بعضه، لم يصح الصلح (5) .
__________
(1) أي من أن الإبراء أو الهبة لا يصح بلفظ الصلح، لكونه يقتضي المعاوضة.
(2) أي موضحًا، وأن اختيار الشيخ وتلميذه صحتهما، والمذهب أنه لا يصح صلح عن حق غير مثلي – كدية خطأ أو قيمة متلف – بأكثر من حقه من جنسه، وقال الشيخ وغيره: يصح، وهو قياس قول أحمد، ومذهب أبي حنيفة، كعرض وكالمثلي. ويخرج على ذلك تأجيل القيمة، قاله القاضي وغيره.
(3) أي أو أقر مدعى عليه لصاحب بيت به، فصالح صاحب البيت المدعى عليه على سكنى المقر البيت، ولو كانت السكنى مدة معينة، كسنة كذا أو مدة مجهولة كما عاش، لم يصح الصلح، لأنه صالحه عن ملكه على منفعة ملكه.
(4) أي أو صالح صاحب بيت أقر له به المدعى عليه أن يبني له فوقه غرفة، لم يصح الصلح، لأنه صالحه عن ماله على ماله.
(5) أي أو صالحه عن بيت أقر له به على بعضه، لم يصح الصلح.(5/135)
لأنه صالحه عن ملكه على ملكه أو منفعته (1) وإن فعل ذلك كان تبرعًا، متى شاء أخرجه (2) وإن فعله على سبيل المصالحة، معتقدًا وجوبه عليه بالصلح، رجع عليه بأُجرة ما سكن (3) وأَخذ ما كان بيده من الدار، لأنه أخذه بعقد فاسد (4) (أو صالح مكلفًا ليقر له بالعبودية) (5) .
__________
(1) فلم يصح، والقول الثاني يصح، لأن معنى الصلح الاتفاق والرضى، وقد حصل، من غير امتناع من أداء الواجب، وذلك أن المدعي رضي بترك بعض حقه وأخذ البعض، كما لو وهبه نصف داره، أو أبرأه من نصف المائة.
(2) أي وإن أسكنه السنة أو بعضها، أو بنى له فوقه غرفة، أو أعطاه بعض داره، بناء على هذا الصلح لم يصح، وكان ذلك تبرعًا من صاحب البيت للمدعى عليه، متى شاء المقر له أخرجه، لأنه كالعارية.
(3) أي رجع المقر له على المقر بأجرة ما سكن في الدار، وأجرة ما كان في يده من الدار.
(4) وهو مصالحته عن بيت أقر به ببعضه، فلم يلزم، لترتبه على الصلح الفاسد، وإن بنى فوق البيت غرفة أجبر على نقضها، وأداء أجرة السطح مدة بقائه بيده، ولو أخذ آلته، فإن أبى وصالحه عنها رب البيت برضاهما جاز، وإن كانت الآلات من البيت فالغرفة لربه، وعلى الباني أجرتها مبنية، وليس له نقضها إن أبرأه رب البيت من ضمان ما يتلف بها.
(5) أي وإن صالح شخص إنسانًا مكلفًا، مثل أن يدعي على رجل أنه عبده فينكره، فيصالحه على مال ليقر له بالرق.(5/136)
أي بأنه مملوكه، لم يصح (1) (أو) صالح (امرأة لتقر له بالزوجية بعوض لم يصح) الصلح (2) لأن ذلك صلح يحل حرامًا (3) لأن إرقاق النفس، وبذل المرأة نفسها بعوض لا يجوز (4) (وإن بذلاهما) أي دفع المدعى عليه العبودية (5) والمرأة المدعى عليها الزوجية عوضًا (له) أي للمدعي (صلحًا عن دعواه صح) (6) لأنه يجوز أن يعتق عبده، ويفارق امرأته بعوض (7) .
__________
(1) أي بأن المدعى عليه الرق مملوك لذلك المدعي، لم يصح الصلح بلا نزاع.
(2) قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه. وذلك مثل أن ادعى شخص مكلف على امرأة مكلفة بأنها زوجته، فأنكرت، فبذل لها مالا لتقر له بأنها زوجته، لم يصح الصلح ولا الإقرار.
(3) وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم «إلا صلحا أحل حراما» قال ابن القيم: كالصلح الذي يتضمن تحريم بضع حلال، أو إحلال بضع حرام، أو إرقاق حر.
(4) فلم يصح الصلح لإثباته الرق على من ليس برقيق، والزوجية على من لم ينكحها.
(5) أي للمدعي ما لا صلحا عن دعواه، صح الصلح.
(6) أي الصلح، قطعا للخصومة، وذلك ليقرأنها غير زوجته أو ليقر لها بالطلاق، وصححه في تصحيح الفروع، والنظم وغيره، وجزم به في الوجيز وغيره.
(7) أي فالصلح من باب أولى، وليزيل الشر عنه، ويقطع الخصومة،
فإن ثبتت الزوجية بعد ذلك فالنكاح بحاله، ولا يكون الصلح إبانة، صوبه في تصحيح الفروع، وهو ظاهر كلام أكثر الأصحاب، وقوي جدًا وكذا إن بذلته لمبينها ليقر ببينونتها صح.(5/137)
ومن علم بكذب دعواه لم يبح له أَخذ العوض، لأَنه أَكل لمال الغير بالباطل (1) (وإن قال: أَقر لي بديني وأُعطيك منه كذا. ففعل) أي فأَقر بالدين (صح الإقرار) (2) لأنه أقر بحق يحرم عليه إنكاره، و (لا) يصح (الصلح) لأَنه يجب عليه الإقرار بما عليه من الحق، فلم يحل له أَخذ العوض عليه (3) فإن أَخذ شيئًا رده (4) وإن صالحه عن الحق بغير جنسه (5) .
__________
(1) وذلك لأن الإقرار بما وقع منه واجب عليه، فلا يجوز له أن يعتاض عنه.
(2) ولزم المقر ما أقر به، لأنه لا عذر لمن أقر.
(3) لوجوبه عليه قبل الشرط، ولزوم أدائه بغير عوض.
(4) أي فإن أخذ شيئًا على الإقرار بما يجب عليه، وجب عليه رده، لأنه تبين كذبه بإقراره، فأخذه له من أكل أموال الناس بالباطل، ومن أقر لشخص بمال، ولم يكن له قبل الإقرار شيء، لم يصر له عليه شيء بهذا الإقرار، بل الإقرار باطل كذب.
(5) هذا النوع الثاني من نوعي الصلح على إقرار، أن يصالح عن الحق المقر به بغير جنسه، وحاصل ما ذكره ست عشرة صورة، لأن المصالح به أو عنه إما عين، أو دين، أو عرض، أو منفعة، فأربعة في مثلها ست عشرة صورة، وإن نظر إلى كون المصالح به تارة يكون من الجنس، وتارة من غيره، وتارة أكثر من المصالح عليه، وتارة أقل، تعددت الصور.(5/138)
كما لو اعترف له بعين أو دين، فعوضه عنه ما يجوز تعويضه صح (1) فإن كان بنقد عن نقد فصرف (2) وإن كان بعرض فبيع، يعتبر له ما يعتبر فيه (3) ويصح بلفظ صلح (4) وما يؤدي معناه (5) وإن كان بمنفعة كسكنى دار فإجارة (6) وإن صالحت المعترفة بدين أو عين بتزويج نفسها صح (7)
__________
(1) وهو ينقسم ثلاثة أقسام نبه عليها، وما لا يجوز تعويضه نحو الكلب مما لا يصح أن يكون ثمنًا.
(2) أي فإن كان الصلح بنقد عن نقد، مثل أن يقر له بمائة درهم، فيصالحه عنها بعشرة دنانير مثلاً، أو بالعكس، فهذا صرف، يشترط له شروط الصرف، من التقابض في المجلس ونحوه.
(3) أي فإن كان الصلح بعرض عن أثمان كفرس بنقد، أو درهم بثوب، أو عرض بعرض، فهذا بيع، يعتبر له ما يعتبر في البيع، من العلم بالمصالح به، والمصالح عنه، ومن الرضا، ونحو ذلك مما تقدم في البيع.
(4) أي ويصح الصلح عن مقربه على غير جنسه بلفظ الصلح، كسائر المعاوضات بخلاف النوع الأول، والفرق أن المعاوضة عن الشيء ببعضه محظور على ما تقدم لا بغيره.
(5) أي ويصح بما يؤدي معنى الصلح، كلفظ هبة وبيع.
(6) أي وإن كان الصلح عن نقد أو عرض مقر به بمنفعة، كسكنى دار، أو خدمة عبد، أو على أن يعمل له عملاً معلومًا، فإجارة، لها حكم سائر الإجارات من البطلان بتلف الدار، وموت العبد، ونحو ذلك.
(7) أي الصلح والنكاح، ويكون النكاح من الولي بحضرة شاهدي عدل، على ما يأتي.(5/139)
ويكون صداقًا (1) وإن صالح عما في الذمة بشيء في الذمة، لم يجز التفرق قبل القبض (2) لأنه بيع دين بدين (3) وإن صالح عن دين بغير جنسه جاز مطلقًا (4) وبجنسه لا يجوز بأقل أو أكثر على وجه المعاوضة (5) ويصح الصلح عن مجهول تعذر علمه من دين أو عين بمعلوم (6) .
__________
(1) أي ويكون ما أقرت به صداقا لها، لأن عقد التزويج يقتضي عوضا، فإذا جعلت ذلك عوضًا عن الحق الذي عليها صح، وإن كان بالمعترف به عيبًا، فبان ليس بعيب، رجعت بأرشه، وكذا من صالح عن عيب مبيع، ثم بان أنه ليس بعيب، أو زال سريعًا، رجع بما صالح به.
(2) أي وإن صالح عما في الذمة من نحو قرض، وقيمة متلف، بشيء في الذمة، كأن صالحه عن دينار في ذمته بصاع بر أو نحوه في ذمته صح، ولم يجز التفرق قبل القبض قولا واحدا.
(3) أي لأنه يصير بيع دين بدين إذا تفرقا قبل القبض، وقد نهى الشارع عنه.
(4) أي وإن صالح عن دين ونحوه – غير دين سلم – بغير جنسه جاز مطلقًا، أي سواء كان بأقل منه أو أكثر أو مساويه، بشرط القبض، لئلا يصير بيع دين بدين.
(5) أي وإن صالح عن دين بجنسه كعن بر ببر، لا يجوز بأقل، كأن يصالحه عن صاع بر بنصف صاع بر، أو أكثر كأن يصالحه عن صاع بر بصاعي بر، إذا كان ذلك على وجه المعاوضة، لإفضائه إلى ربا الفضل فيهما، فإن لم يكن على وجه المعاوضة، وكان بأقل أو أكثر على وجه الإبراء أو الهبة صح.
(6) أي ويصح الصلح عن مجهول لهما أو للمدين تعذر علمه، سواء كان
من دين، كمعاملة، وحساب مضى عليه زمن طويل، ولا علم لكل منهما بما عليه لصاحبه، أو من عين، كقفيز حنطة وقفيز شعير اختلطا وطحنا، بمال معلوم نقدًا ونسيئة، لقوله لرجلين اختصما في مواريث درست بينهما «استهما وتواخيا الحق، وليحلل أحدكما صحابه» رواه أبو داود وغيره، ولأنه إسقاط حق، فصح في المجهول للحاجة، ولئلا يفضي إلى ضياع المال، أو بقاء شغل الذمة، وفي قصة جابر ما يدل على ذلك، وعلى جواز الصلح بمجهول عن معلوم، لأنه يغتفر في القضاء من المعاوضة ما لا يغتفر ابتداء، والأمر بالتحليل يدل على أنه لا بد منه، وعلى صحته من المعين المعلوم، وهو إجماع، وأن من حلل خصمه من مظلمة لا رجوع له في ذلك.(5/140)
فإن لم يتعذر علمه فكبراءة من مجهول (1) .
__________
(1) أي فيصح على المشهور، قطعا للنزاع، جزم به في التنقيح، وقدمه في الفروع، وصورة البراءة أن يكون له دين على زيد، ولم يعلم قدره فيبرئ زيدا منه، وجزم غير واحد بالمنع، وصورة ما لا يتعذر علمه كتركة باقية صالح الورثة الزوجة عن حصتها منها، وقطع في الإقناع بعدم الصحة والحالة هذه، وهو ظاهر الإنصاف، وروي عن شريح في امرأة صولحت عن ثمنها: هذا هو الريبة، ولأن الصلح إنما جاز مع الجهالة للحاجة إليه لإبراء الذمم، وإزالة الخصام، فمع إمكان العلم لا حاجة إليه.(5/141)
فصل (1)
القسم الثاني صلح على إنكار (2) وقد ذكره بقوله (ومن ادعي عليه بعين أو دين فسكت (3) أو أنكر وهو يجهله) أي يجهل ما ادعي به عليه (4) (ثم صالح) عنه (بمال) حال أو مؤجل (صح) الصلح (5) لعموم قوله عليه السلام «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالاً، أو أحل حرامًا» رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه الحاكم (6) .
__________
(1) أي في بيان القسم الثاني من قسمي الصلح على مال، وما يتعلق به.
(2) وهو صحيح عند جمهور العلماء، أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وغيرهم، على ما يأتي تفصيله.
(3) وهو يجهل المدعى عليه به، ثم يصالحه على مال، فيصح الصلح.
(4) فإن كان يعلمه وإنما ينكر لغرض، وجب عليه تسليم ما صولح به عليه كما يأتي.
(5) في قول أكثر أهل العلم، ولو كان غير معين.
(6) وأخرجه من حديث أنس وعائشة، وأحمد من حديث سليمان بن بلال، وكتب به عمر إلى أبي موسى، فصلح للاحتجاج به، وقال ابن القيم: قول من منع الصلح على الإنكار: إنه يتضمن المعاوضة عما لا تصح المعاوضة عليه، فجوابه أنه افتداء لنفسه من الدعوى واليمين، وتكليف إقامة البينة، وليس هذا مخالفًا لقواعد الشرع، بل حكمة الشرع، وأصوله، وقواعده، ومصالح المكلفين، تقتضي ذلك. اهـ. ولأن المدعي ملجأ إلى التأخير بتأخير حقه فصح له الصلح، حيث أنه يأخذه عوضًا عن حقه الذي يعتقد ثبوته، والمدعى عليه يعتقد أن لا حق عليه، وإنما يدفع ما يدفعه افتداء، كما يأتي، والشرع لا يمنع من ذلك.(5/142)
ومن ادعي عليه بوديعة، أو تفريط فيها (1) أو قراض، فأنكر وصالح على مال، فهو جائز، ذكره في الشرح وغيره (2) (وهو) أي صلح الإنكار (للمدعي بيع) (3) لأنه يعتقده عوضًا عن ماله، فلزمه حكم اعتقاده (4) (يرد معيبه) أي معيب ما أخذه من العوض (5) (ويفسخ الصلح) (6) كما لو اشترى شيئًا فوجده معيبًا (7) (ويؤخذ منه) العوض إن كان شقصًا (بشفعة) ، لأنه بيع (8) .
__________
(1) أي في الوديعة، وكذا مضاربة فأنكر، واصطلحا صح.
(2) أي ومن ادعي عليه بقراض فأنكر ذلك، وصالح عن دعوى المدعي على مال، فالصلح جائز، ذكر معنى ذلك في الشرح الكبير، والمغني وغيرهما.
(3) له أحكام البيع إذا وقع الصلح على مال.
(4) أي ثبوت حقه، فهو كما لو اشتراه المدعي.
(5) أي يرد المدعي معيب ما أخذه من العوض، صلحا عما ادعاه، بعيب يجده في العوض، كما يرد المبيع بذلك.
(6) إن وقع على عينه، وإلا طالب ببدله.
(7) أي يرده بالعيب، ويفسخ البيع، فمثله المصالح به عما ادعاه.
(8) فيعطى أحكام البيع، لكونه أخذ الشقص عوضًا، فكما لو اشتراه.(5/143)
وإن صالحه ببعض عين المدعى به فهو فيه كمنكر (1) (و) الصلح (للآخر) المنكر (إبراء) (2) لأنه دفع المال افتداءً ليمينه، وإزالة للضرر عنه (3) لا عوضًا عن حق يعتقده (4) (فلا رد) لما صالح عنه بعيب يجده فيه (5) (ولا شفعة) فيه لاعتقاده أنه ليس بعوض (6) .
__________
(1) أي وإن صالح المدعي مدعى عليه ببعض العين المدعى بها، كنصف دار بيد آخر، فأنكره، وصالحه على ربعها مثلا، فالمدعي في الصلح المذكور كالمنكر المدعى عليه، فلا يؤخذ منه بشفعة، ولا يستحق لعيب شيئًا، لأنه يعتقد أنه أخذ بعض عين ماله، مسترجعًا له ممن هو عنده.
(2) أي والصلح على إنكار للآخر وهو المدعى عليه إبراء في حقه، لا بيع.
(3) وقطعا للخصومة، وصيانة لنفسه عن التبذل، وحضور مجلس الحاكم، فإن ذوي الأنفس الشريفة يصعب عليهم ذلك، ويرون دفع ضررها عنهم من أعظم المصالح، فصار المدفوع إبراء.
(4) أي حتى يثبت له حكم البيع، بل يعتقد أن لا حق عليه، وإنما دفع الشر عن نفسه بما بذله.
(5) يعني في مصالح عنه، لأنه لم يبذل العوض في مقابلته، وذلك بأن يكون بيد زيد دابة مثلا، فيديعها عمرو، فيصالحه عنها زيد، ثم بعد ما بذله عنها، وجد بها عيبًا، لم يملك زيد ردها إلى عمرو، وإن اختلفا في قدر الصلح، ولا بينة لواحد منهما بطل، وعادا إلى أصل الخصومة.
(6) أي ولا شفعة في مصالح عنه إن كان شقصا من عقار، لاعتقاد أنما دفعه ليس بعوض، لأنه يعتقده على ملكه لم يزل.(5/144)
(وإن كذب أحدهما) في دعواه (1) أو إنكاره، وعلم بكذب نفسه (لم يصح) الصلح (في حقه باطنًا) (2) لأنه عالم بالحق، قادر على إيصاله لمستحقه، غير معتقد أنه محق (3) (ما أخذه حرام) عليه لأنه أكل للمال بالباطل (4) وإن صالح عن المنكر أجنبي بغير إذنه صح (5) .
__________
(1) كمن ادعى شيئًا يعلم أنه ليس له، فالصلح باطل في حقه في الباطن، لأن ما يأخذه أكل للمال بالباطل، لا عوض عن حق.
(2) أي وإن كذب أحدهما في إنكاره المدعى عليه به، وهو يعلم أنه عليه، وعلم بكذب نفسه في إنكاره، لم يصح الصلح في حقه باطنًا، لأنه إذا كان يعلم صدق المدعي وجحده، لينتقص حقه، أو يرضيه عنه بشيء، فهو هضم للحق، وأكل مال بالباطل.
(3) فلا يصح الصلح، لأن شرط صحة صلح الإنكار أن يعتقد المدعي حقيقة ما ادعاه، والمدعى عليه عكسه، وهذا حكم الباطن، وأما الظاهر لنا فهو الصحة، لأنا لا نعلم باطن الحال، إنما نبني الأمر على الظاهر، والظاهر من حال المسلمين الصحة.
(4) أي وما أخذه مدع عالم كذب نفسه مما صولح به، أو مدعى عليه ما انتقصه من الحق بجحده، فهو حرام عليه، لأنه أخذه بشرَّه وظلمه، لا عوضًا عن حق، فيكون حرامًا عليه، داخلاً تحت قوله {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وغيرها، وكمن خوف رجلا بالقتل حتى أخذ ماله، قال أحمد: ولا يشهد له إن علم ظلمه.
(5) أي الصلح، سواء كان المدعى به دينًا أو عينًا، ولو لم يذكر أن المنكر
وكله في الصلح عنه، لفعل علي وأبي قتادة، ولأنه قصد براءته، وقطع الخصومة عنه، أشبه ما لو قضى دينه، وبإذنه بطريق الأولى.(5/145)
ولم يرجع عليه (1) ويصح الصلح عن قصاص (2) وسكنى دار، وعيب بقليل وكثير (3) (ولا يصح) الصلح (بعوض عن حد سرقة وقذف) أو غيرهما (4) لأنه ليس بمال، ولا يؤول إليه (5) .
__________
(1) لأنه أدى عنه ما لا يلزمه أداؤه، فكان متبرعًا، حيث لم يأذن له في الصلح، ولا في الأداء، ويرجع الأجنبي على المنكر بما دفعه من العوض، مع الإذن في الأداء أو الصلح، إن نوى الرجوع.
(2) أي ويصح الصلح عما ليس بمال مع إقرار وإنكار، كعن قصاص بدية، أو أقل منها، أو أكثر، لأن الحسن والحسين وسعيد بن العاص بذلوا للذي وجب له القصاص على هدبة بن خشرم سبع ديات، فأبى أن يقبلها، ولأن المال غير متعين، فلا يقع العوض في مقابلته، قال الشيخ: يصح عن دية الخطأ، وعن قيمة المتلف غير المثلي، بأكثر منها من جنسها.
(3) أي ويصح الصلح عن سكنى دار ونحوها، كأن يبيع زيد على عمرو داره، ويشترط سكناها سنة، فيصالحه عنها، ويصح الصلح عن عيب في المبيع أو عوضه، بقليل أو كثير، من نقد أو عرض، مؤجل أو حال، وفي المجرد: وإن لم يجز بيع ذلك، لأنه لقطع الخصومة.
(4) كزنا، وشرب ليطلقه، ولا يرفعه للسلطان، قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(5) فلم يجز الاعتياض عنه، كسائر ما لا حق له فيه، وإنما شرع الحد في ذلك للزجر.(5/146)
(ولا) عن (حق شفعة) أو خيار، لأنهما لم يشرعا لاستفادة مال (1) وإنما شرع الخيار للنظر في الأَحظ (2) والشفعة لإزالة الضرر بالشركة (3) (ولا) عن (ترك شهادة) بحق أو باطل (4) (وتسقط الشفعة) إذا صالح عنها، لرضاه بتركها، ويرد العوض (5) (و) كذا حكم (الحد) والخيار (6) وإن صالحه على أن يجري على أرضه أو سطحه ماء معلومًا صح (7) .
__________
(1) فلم يصح الصلح عنهما بعوض بلا نزاع.
(2) أي فلم يصح الاعتياض عنه قولاً واحدًا.
(3) فإذا رضي بالعوض، تبينا أن لا ضرر، فلا استحقاق، فيبطل العوض لبطلان معوضه.
(4) أي ولا يصح الصلح عن ترك شهادة علية، بحق آدمي أو بحق لله تعالى، أو صالحه على أن لا يشهد عليه بالزور، أو صالحه ليشهد له بالزور، لم يصح الصلح بلا نزاع، لأنه صلح على حرام أو على تركه ولا يجوز الاعتياض عنه.
(5) أي تسقط في الأصح، لأنه ليس بمال، فهو كحد القذف، ويرد العوض لفساد الصلح.
(6) أي أنهما يسقطان بطلب المصالحة، أما الخيار فحق له، سقط لرضاه بتركه، وأما حد القذف، فعلى القول بأنه حق له يسقط، وعلى أنه حق لله تعالى لا يسقط بصلح الآدمي.
(7) قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه. لكن يشترط معرفة الذي يجري فيه من ملكه موضعًا وعرضا وطولا، إلى المحل، حتى يكون معلومًا، وعلى سطحه، إما بمشاهدة ما يزول عنه ماء المطر، وإما بمعرفة المساحة والموضع الذي يجري منه إلى السطح.(5/147)
لدعاء الحاجة إليه (1) فإن كان بعوض مع بقاء ملكه فإجارة، وإلا فبيع (2) ولا يشترط في الإجارة هنا بيان المدة للحاجة (3) ويجوز شراء ممر في ملكه (4) . وموضع في حائط يجعله بابًا (5) وبقعة يحفرها بئرًا (6) وعلو بيت يبني عليه بنيانًا موصوفًا (7)
__________
(1) فأجيز الصلح بعوض معلوم، لأنه إما بيع، وإما إجارة، وكلاهما جائز.
(2) أي فإن كان الصلح بعوض مع بقاء الملك فإجارة، يشترط فيه ما يشترط في الإجارة، وإن لم يكن مع بقاء الملك فبيع، يشترط فيه ما يشترط في البيع.
(3) أي فيجوز العقد على المنفعة في موضع الحاجة غير مقدر مدة، وقال بعضهم: ليس بإجارة محضة، لعدم تقدير المدة، بل شبيه بالبيع، وقطع الموفق وغيره باشتراط تقدير المدة كسائر الإجارات، ولمستأجر ومستعير الصلح على ساقية محفورة، لا على إجراء ماء مطر على سطح، أو أرض، وقالوا: إن صالحه على سقي أرضه من نهره، أو من عينه مدة معينة لم يصح بعوض، ومال الموفق وغيره إلى جوازه، وصوبه في الإنصاف، وقال: عمل الناس عليه قديمًا وحديثًا.
(4) أي ملك غيره، دارا كان أو غيرها، ويعوض عنه، لأنه منفعة مباحة.
(5) أي ويصح شراء موضع معلوم، من حائط غيره يجعله بابا.
(6) أي ويصح شراء بقعة في أرض يحفرها بئرا، بشرط كون ذلك معلومًا، لأن ذلك نفع مقصود، فجاز بيعه كالدور.
(7) أي معلومًا، قال في الإنصاف: بلا نزاع. أو ليضع عليه خشبا موصوفًا، لأنه ملك للبائع، فجاز بيعه كالأرض.(5/148)
ويصح فعله صلحًا أبدًا (1) أو إجارة مدة معلومة (2) (وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره) الخاص به أو المشترك (3) (أو) حصل غصن شجرته في (قراره) أي قرار غيره الخاص أو المشترك، أي في أرضه، وطالبه بإزالة ذلك (أزاله) وجوبًا (4) إما بقطعه، أو ليه إلى ناحية أخرى (5) (فإن أبى) مالك الغصن إزالته (لواه) مالك الهواء (إن أمكن (6) وإلا) يمكن (فله قطعه) (7) .
__________
(1) أي ويصح فعل ما تقدم صلحا مؤبدًا، وهو في معنى البيع، قال في الإنصاف: وعليه العمل في كل عصر ومصر.
(2) لأن ما جاز بيعه جازت إجارته، ويشترط فيها علم الأجرة، وإذا مضت بقي، وله أجرة المثل، ومتى زال فله إعادته، ويرجع بأجرة مدة زواله، وله الصلح على زواله، أو عدم عوده.
(3) وطالبه صاحبه بإزالته أزاله بلا نزاع، وكذا لو كان على جداره، أزاله إما برده إلى ناحية أخرى، أو قطعه، لأن الهواء ملك لصاحب القرار.
(4) قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(5) سواء أحدث ضررًا أو لا ليخلي ملك الغير الواجب إخلاؤه، ويضمن ما تلف به بعد الطلب بإزالته، لصيرورته متعديًا بإبقائه، وصوبه في تصحيح الفروع.
(6) أي ليه من غير مشقة.
(7) أي وإلا يمكن ليه، ولا إزالته بلا قطع، فله قطعه، ولا شيء عليه، كالصائل إذا لم يندفع إلا بالقتل، سواء أثر ضررًا أو لا.(5/149)
لأنه إخلاء لملكه الواجب إخلاؤه (1) ولا يفتقر إلى حكم حاكم (2) ولا يجبر المالك على الإزالة، لأنه ليس من فعله (3) وإن أتلفه مالك الهواء مع إمكان ليه ضمنه (4) وإن صالحه على بقاء الغصن بعوض لم يجز (5) وإن اتفقا على أن الثمرة بينهما ونحوه صح جائزًا (6) .
__________
(1) أي لأن مالك الهوى الممتد إليه غصن الغير، أخلى بقطعة الغصن ملكه الواجب على صاحب الغصن إخلاؤه، ولأنه لا يلزمه إقرار مال غيره في ملكه بلا رضاه.
(2) أي لا يفتقر ليه إن أمكن أو قطعه إلى حكم حاكم بذلك.
(3) أي الغصن ونحوه، فلم يجبر على إزالته، كما لو لم يكن ملكه. قال الموفق: وإن تلف به شيء لم يضمنه. وصححه في الإنصاف، قال الموفق: ويحتمل أن يجبر على إزالته. وصوبه في تصحيح الفروع. فيضمن ما تلف به، وعلى كلا الوجهين إذا امتنع أزاله صاحب الملك.
(4) لتعديه بإتلافه، مع إمكان إزالته بدونه، من غير مشقة ولا غرامة.
(5) أي وإن صالح رب الأغصان عن بقائها بهواء الغير بعوض، لم يصح الصلح رطبًا كان الغصن أو يابسًا، وقال الموفق وغيره: اللائق بمذهبنا صحة الصلح مطلقًا، واختاره أبو حامد وابن عقيل، وجزم به جماعة، لأن الحاجة داعية إلى ذلك، والجهالة في المصالح عنه لا تمنع الجواز، وفي القطع إتلاف وضرر، والزيادة في الرطب أو النقص في اليابس لا تمنع التسليم، بخلاف العوض.
(6) أي وإن اتفق رب الهواء والأغصان، على أن ثمرة الأغصان، الحاصلة بهواء الجار، لصاحب الهواء، أو أنها بينهما، ونحو ذلك كجزء منها، أو كلها لصاحب الملك، صح صلحا جائزًا، لا لازمًا، فإن امتنع رب الشجرة من دفع ما صالح به من الثمرة، بعد مضي مدة فعلية أجرة المثل، وفي المبهج: ثمرة غصن في هواء طريق عام للمسلمين. وذكر ابن القيم نحوه، وصحة الصلح هنا مع جهالة العوض، على خلاف القياس، ولأنه إبقاء إذن عرفا، في تناول ما سقط منه.(5/150)
وكذا حكم عرق شجرة حصل في أرض غيره (1) (ويجوز في الدرب النافذ فتح الأبواب للاستطراق) (2) لأنه لم يتعين له مالك (3) ولا ضرر فيه على المجتازين (4) و (لا) يجوز (إخراج روشن) على أطراف خشب أو نحوه مدفونة في الحائط (5)
__________
(1) أي كالأغصان، على ما تقدم، سواء أثر في أرض جاره أو لا، فيحكم في قطعه، أو الصلح عنه كالأغصان، فإن اتفقا على أن ما نبت من عروقها لصاحب الأرض، أو جزء معلوم فكالصلح عن الثمرة، يصح جائزًا لا لازمًا.
(2) أي ويجوز في الدرب السالك الماضي، فتح الأبواب للاستطراق منها، كأن كان ظهر دار شخص إلى زقاق نافذ، ففتح في حائطه بابًا إليه.
(3) ولأن الحق فيه لجميع المسلمين، وهو من جملتهم، فجاز ارتفاقه به.
(4) فجاز له فتح باب منه، وإن قيل: فيه إضرار بأهل الدرب – لأنه يجعله نافذًا يستطرق إليه من الشارع – قيل: لا يصير الدرب نافذًا، وإنما تصير داره نافذة، وليس لأحد استطراق داره.
(5) أي ولا يجوز في درب نافذ إخراج "روشن" وعبر بعضهم بجناح، وتسميه العامة "الطرمة" يوضع على أطراف خشب أو أحجار أو غيرها، مدفونة في الحائط، وأطرافها خارجة إلى الطريق، وظاهره: سواء كان يضر بالمارة أو لا، وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: يجوز إذا لم يضر بالمارة.(5/151)
(و) لا إخراج (ساباط) وهو المستوفي للطريق كله على جدارين (1) (و) لا إخراج (دكة) بفتح الدال، وهي الدكان والمصطبة بكسر الميم (2) (و) لا إخراج (ميزاب) ولو لم يضر بالمارة (3) .
__________
(1) أي ولا يجوز إخراج ساباط، وهو السقيفة "المستوفي" أي المستكمل للطريق كله، على جدارين، وعن أحمد جوازه بلا ضرر، اختاره الشيخ، وصاحب الفائق، قال الشيخ: والساباط الذي يضر بالمارة، مثل أن يحتاج الراكب أن يحني رأسه إذا مر هناك، وإن غفل عن نفسه رمى عمامته، أو شج رأسه، ولا يمكن أن يمر هناك جمل عال إلا كسرت رقبته، والجمل المحمل لا يمر هناك، فمثل هذا الساباط، لا يجوز إحداثه على طريق المارة، باتفاق المسلمين، بل يجب على صاحبه إزالته، فإن لم يفعل كان على ولاة الأمور إلزامه بإزالته، حتى يزول الضرر، حتى لو كان الطريق منخفضًا، ثم ارتفع على طول الزمان، وجب إزالته إذا كان الأمر على ما ذكر.
(2) أي ولا يجوز في طريق نافذ إخراج "دكة" وهي بناء يسطح أعلاه للجلوس عليه، وهي الدكان بالضم، والمسطبة – بكسر الميم – يقعد عليها، فلا يجوز إخراجه مطلقًا، أذن الإمام فيه أولا، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا. وقال الوزير: اتفقوا على أن الطريق لا يجوز تضييقها. وقال الشيخ: لا يجوز لأحد أن يخرج شيئًا في طريق المسلمين، من أنواع أجزاء البناء، حتى إنه ينهى عن تجصيص الحائط، إلا أن يدخل رب الحائط به في حده، بقدر غلظ الجص.
(3) أي فيحرم إخراجه ولو بنافذ. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: يجوز إخراجه إلى الطريق الأعظم، لقصة عمر، ولأن الحاجة داعية إليه، والعادة جارية به. وقال الشيخ: إخراج الميازيب إلى الدرب هو السنة، مع انتفاء الضرر، واختاره وقدمه غير واحد، قال في الإنصاف: وعليه العمل في كل عصر ومصر.(5/152)
إلا أن يأذن إمام أو نائبه ولا ضرر (1) لأنه نائب المسلمين، فجرى مجرى إذنهم (2) (ولا يفعل ذلك) أي لا يخرج روشنا، ولا سابطا، ولا دكة، ولا ميزابا (في ملك جار (3) ودرب مشترك) غير نافذ (4) (بلا إذن المستحق) أي الجار أو أهل الدرب (5) .
__________
(1) أي في الروشن، والساباط، والميزاب، عند جماهير العلماء، وأما الدكة فلا، وانتفاء الضرر في الساباط، والجناح، والميزاب، بحيث يمكن عبور محمل ونحوه تحته، وإلا لم يجز وضعه، ولا إذنه فيه، وإن ارتفع الطريق وحصل ضرر، وجبت إزالته كما تقدم، ويمنع في الطريق الغرس، والبناء، والحفر، ومرور أحمال الشوك، ووضع الحطب، والذبح فيها، وطرح القمامة والرماد، وغير ذلك مما فيه ضرر على المارة.
(2) ولأن الإذن من جميعهم غير متصور، فناب منابهم، لكن بشرط انتفاء الضرر، وأما الدكة فلا يجوز أن يأذن فيها، ولو كان الطريق واسعًا لما تقدم، وإذا أقيم ساباط ونحوه على الشارع بإذن الإمام، وأقام بعض الجيران بينة بالضرر أزيل.
(3) لأنه تصرف في ملك الغير، فلم يجز، وكذا لا يجوز إخراج ذلك في هوائه.
(4) واتفق الأئمة على أن الدرب المشترك بين اثنين، ليس لأحدهما التصرف فيه دون شريكه، وفي الإنصاف: بلا نزاع. ولا يفعل ذلك في هوائه.
(5) أي غير النافذ، لأنه لا يجوز التصرف في ملك الغير بغير إذنه، فلم يجز في الدرب بدون إذن، وإن كان ظهر داره في درب غير نافذ، ففتح بابا لغير الاستطراق جاز، وللاستطراق لم يجز إلا بإذن المستحق.(5/153)
لأن المنع لحق المستحق، فإذا رضي بإسقاطه جاز (1) ويجوز نقل باب في درب غير نافذ إلى أوله بلا ضرر (2) لا إلى داخل إن لم يأذن من فوقه (3) ويكون إعارة (4) .
__________
(1) وإن صالح عنه بعوض جاز، لأنه حق لمالكه الخاص، ولأهل الدرب، فجاز أخذ العوض عنه، كسائر الحقوق، لكن بشرط معرفة المقدار في الخروج والعلو، ونحو ذلك.
(2) لأنه إذا نقل بابه إلى ما يلي باب الدرب، فقد ترك بعض حقه، فإن كان هناك ضرر كفتحه مقابل باب غيره، أو عاليًا يصعد إليه بسلم، يشرف منه إلى دار غيره لم يجز.
(3) أي فإن كان بابه في أول الدرب أو وسطه، لم يملك نقله إلى داخل منه، لأنه يقدم بابه إلى موضع لا استطراق له فيه، إن لم يأذن له من فوقه، يعني من هو داخل عنه، فإن أذن جاز بلا خلاف، وإن كان له باب يستطرق منه استطراقًا خاصًا، مثل أبواب السر، التي يخرج منها النساء، أو الرجل المرة بعد المرة، فقال الشيخ وغيره: ينبغي أن لا يجوز له أن يستطرق منها استطراقًا عامًا، لأنه إنما استحق الاستطراق الخاص، فلا يتعداه، ومثله من له باب على عقار له فيه شريك، يستطرق منه بعض الأوقات، ليس له أن يجعل من يستطرق منه أكثر منه استطراقا، وإن كان له داران، لكل منهما باب إلى درب غير نافذ، ورفع الحاجز بين الدارين، ليتمكن من التطرق، فقال الموفق: الأشبه الجواز. وصوبه في الإنصاف.
(4) أي ويكون إعارة لازمة إن أذنوا له، فإذا سده ثم أراد فتحه، لم يملكه إلا بإذن متجدد.(5/154)
وحرم أن يحدث بملكه ما يضر بجاره (1) كحمام، ورحى، وتنور (2) وله منعه، كدق وسقي يتعدى (3) .
__________
(1) لخبر «لا ضرر ولا ضرار» وهو حديث مشهور، وقاعدة من قواعد الدين، يدل على تحريم الضرار، على أي صفة كان، من غير فرق بين الجار وغيره، وفي حق الجار أشد، لعظم حقه، ومبنى المضارة على القصد والإرادة، أو على فعل ضرر عليه، فمتى قصده أو فعله من غير استحقاق فهو مضار، وأما إذا فعل الضرر المستحق، للحاجة إليه والانتفاع به، لا لقصد الإضرار، فليس بمضار، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن للرجل التصرف في ملكه، ما لم يضر بجاره.
(2) لتأذي جاره بدخان الحمام، أو اهتزاز حيطانه برحاه، أو تعدي، دخان تنوره إليه، وكذا حفر كنيف إلى جنب حائط جاره، وحفر بئر ينقطع بها ماء بئره ونحو ذلك مما فيه إضرار بجاره، قال الشيخ: ومن كانت له ساحة يلقي فيها التراب والحيوانات، ويتضرر الجيران بذلك، فإنه يجب على صاحبها أن يدفع ضرر الجيران، إما بعمارتها، وإما بإعطائها لمن يعمرها، أو يمنع أن يلقي فيها ما يضر بالجيران.
(3) أي وله منعه مما ذكر، كماله منعه من دق نحو حدادة، وسقي يتعدى ضرره إلى حائط جاره، وإشعال نار ونحو ذلك، مما يؤذي جاره، بخلاف طبخه وخبزه ونحوه في ملكه على العادة، فلا يمنع من ذلك. وله منع جاره من غرس "الأثل" بجامع الإيذاء، لأن ضرره متحقق، وليس له أن يحدث ما يضر بجاره، وإن كان ما حصل منه الضرر سابقًا على ملك الجار، لم يلزمه إزالته.(5/155)
وحرم أن يتصرف في جدار جار أو مشترك بفتح طاق (1) أو ضرب وتد ونحوه بلا إذنه (2) (وليس له وضع خشبه على حائط جاره) أو حائط مشترك (3) (إلا عند الضرورة) فيجوز (إذا لم يمكنه التسقيف إلا به) ولا ضرر (4) لحديث أبي هريرة يرفعه «لا يمنعن جار جاره أن يضع خشبه على جداره» (5) .
__________
(1) وهو ما عطف من الأبنية، وكالمحراب، والفاغرة، عند العوام، وكذا فتح روزنة بلا إذن مالكه، أو شريكه، لأنه انتفاع بملك غيره، بما له قيمة، كالبناء عليه.
(2) أي وحرم أن يتصرف في جدار جاره، أو في مشترك بينه وبين غيره، بضرب "وتد" وهو ما يغرز في الأرض أو الحائط من خشب وغيره ونحو ذلك، كجعل "رَفًّ" فيه بلا إذن مالكه، أو شريكه، كالبناء عليه، لأنه يضر بحائط غيره. وإن صالحه على ذلك بعوض جاز. وليس له منعه من تعلية داره. ولو أفضى إلى سد الفضاء عنه، قاله الشيخ وغيره. وقال: ليس له منعة خوفًا من نقص أجرة ملكه بلا نزاع. ونظر على قاعدته.
(3) أي إذا أمكنه وضعه على غير جدار جاره، أو الحائط المشترك، فمتى كان مستغنيًا عنه منع منه، إلا بإذن الجار أو الشريك.
(4) أي إلا عند الضرورة عند الأكثر، ونص عليه، فيجوز له وضعه عليه، إذا لم يمكنه التسقيف إلا به، ولا ضرر على المالك في ذلك، فإن تضرر منع بلا نزاع، لخبر «لا ضرر ولا ضرار» وقال الشيخ: الضرار محرم بالكتاب والسنة.
(5) وفي لفظ «أن يغرز خشبه في جداره» وللبيهقي «جذوعه في جداره» أي جدار جاره المالك للجدار، "وخشب" بصيغة الجميع.(5/156)
ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين (1) والله لأَرمين بها بين أكتافكم. متفق عليه (2) (وكذلك) حائط (المسجد (3) وغيره) كحائط نحو يتيم (4) .
__________
(1) أي ثم يقول أبو هريرة – وذلك أيام إمارته على المدينة زمن مروان – مالي أراكم عنها. أي عن وضع الخشب على جدار الجار، معرضين عن العمل بذلك الحكم الشرعي.
(2) أقسم على ذلك مبالغة في الحمل على وضعها، فدل على أنه لا يحل للجار أن يمنع جاره من وضع الخشب في جداره، ويجبره الحاكم إذا امتنع، لأنه حق ثابت لجاره، ما لم يحصل ضرر على الجار، وهو مذهب أحمد، وأهل الحديث وغيرهم، وقال البيهقي: لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن يخصها. وقضى به عمر في زمن وفور الصحابة، ولم يخالفه أحد، ولأنه انتفاع بحائط جاره، على وجه لا يضر به، وقال الشيخ: إذا كان الجدار مختصًا بشخص، لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع بما يحتاج إليه الجار، ولا يضر بصاحب الجدار. واختار الموفق وجمع: وضعها عند الحاجة، وظاهر الحديث عدم اعتبار تضرر الملك، وعلى من يريد الغرز أن يتوقى الضرر مهما أمكن، ويجب عليه إصلاح ما يقع حال الغرز.
(3) أي وكجدار الجار حائط المسجد، ليس له وضع خشبه على حائطه إلا إذا لم يمكن جاره تسقيفه إلا بوضع خشبه عليه، بلا ضرر كالطلق.
(4) أي وغير المسجد كحائط نحو يتيم، كمجنون، أو مكاتب، أو وقف، ونحو ذلك.(5/157)
فيجوز لجاره وضع خشبه عليه، إذا لم يمكن تسقيف إلا به بلا ضرر، لما تقدم (1) (وإذا انهدم جدارهما) المشترك أو سقفهما (2) (أَو خيف ضرره) بسقوطه (3) (فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أُجبر عليه) إن امتنع (4) .
__________
(1) أي من الدليل والتعليل على جوازه بشرطه، وبلا ضرر على الحائط، ولو كان الحائط لصغير ونحوه، وإن أبى أجبره الحاكم، وإن زال بسقوط ونحوه فله إعادته بشرطه، وإن خيف سقوط الحائط بعد وضعه لزم إزالته، وإن صالح عن شيء مما تقدم بعوض معلوم جاز، وأما المنفعة التي لا قيمة لها، كاستناد إلى جداره، أو استظلال به، أو نظر في ضوء سراجه، ونحو ذلك، فقال الشيخ: العين والمنفعة التي لا قيمة لها عادة، لا يصح أن يرد عليها عقد بيع، أو إجارة اتفاقًا.
(2) أي وإذا انهدم جدارهما المشترك بينهما، طلقا كان أو وقفا، وطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه، أو انهدم سقفهما المشترك بينهما، أو بين سفل أحدهما وعلو الآخر، وطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه، أجبر عليه إن امتنع.
(3) أي أو استهدم جدارهما أو سقفهما المشترك، وخيف ضرره بسقوطه، وجب نقضه، وإن أبى أحدهما، أجبره الحاكم، وأيهما هدمه فلا شيء عليه، كما لو انهدم بنفسه.
(4) نص عليه، وجزم به الموفق وغيره، دفعا لضرر الشريك، وقال الشيخ: إذا احتاج الملك المشترك إلى عمارة لا بد منها، فعلى أحد الشريكين أن يعمر مع شريكه إذا طلب ذلك منه، في أصح قولي العلماء.(5/158)
لقوله عليه السلام «لا ضرر ولا ضرار» (1) فإن أَبى أَخذ حاكم من ماله، وأنفق عليه (2) وإن بناه شريك شركة بنية رجوع رجع (3) (وكذا النهر، والدولاب، والقناة) المشتركة إذا احتاجت لعمارة (4) .
__________
(1) وتقدم أنه حديث مشهور، ويشهد له كليات وجزئيات تدل على تحريم الضرار على أي صفة كان، ويتأكد في حق الجار.
(2) أي وإن أبى شريك البناء مع شريكه أخذ حاكم ترافعا إليه من مال الممتنع النقد، وأنفق عليه بقدر حصته، أو باع من عرض الممتنع وأنفق، وإن تعذر اقترض عليه.
(3) أي وإن بنى شريك الجدار المشترك، أو السقف شركة بإذن شريك، أو إذن حاكم، أو بنية رجوع، رجع على شريكه بما أنفق بالمعروف على حصة الشريك، لأنه قام عنه بواجب، وكان الجدار أو السقف بينهما، كما كان قبل، وإن بناه بآلته فهو بينهما، ويملك منعه من الانتفاع به، حتى يؤدي ما يخصه من الغرامة الواقعة، بأجرة المثل، قال ابن منجا: لأنه لو لم يكن كذلك لأدى إلى ضياع حق الشريك. وصوبه في الإنصاف، وإن طلب أحدهما بناء حائط بين ملكيهما، لم يجبر الممتنع، ويبني الطالب في ملكه ما شاء، رواية واحدة، وإن اتفقا على بناء بستان بينهما، فبنى أحدهما، فما تلف من الثمرة بسبب إهمال الآخر ضمنه، قاله الشيخ.
(4) أي وكالجدار المشترك على ما تقدم النهر، والدولاب تديره الدواب، والقناة، وهي أبيار متوالية يجري ماء بعضها إلى بعض، وكذا الناعورة، والبئر المشتركة، إذا احتاجت تلك ونحوها لعمارة أو كري أو تنظيف أو سد شق، أو
إصلاح حائط، أو إصلاح شيء منها، يجبر الممتنع، نص عليه، وحكاه ابن أبي موسى قولاً واحدًا، وفي النفقة ما سبق تفصيله، وإذا كان شيء من ذلك مشتركًا بين جماعة، فأرادوا إصلاح شيء منه، كان بينهم على حسب ملكهم، فإن كان بعضهم أدنى إلى أول الساقية ونحوها من بعض، اشترك الكل حتى يصلوا إلى الأول، ثم لا شيء عليه، وكذا الثاني، والثالث، وهذا مذهب الشافعي وغيره.(5/159)
ولا يمنع شريك من عمارة (1) فإن فعل فالماء على الشركة (2) وإن أعطى قوم قناتهم أو نحوها لمن يعمرها، وله منها جزء معلوم صح (3) ومن له علو، لم يلزمه عمارة سفله إذا انهدم (4) بل يجبر عليه مالكه (5) .
__________
(1) أي ولا يمنع شريك من عمارة نهر ونحوه، قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(2) أي فإن عمر الشريك فالماء بينهم على الشركة كما كان، وله المنع من الانتفاع بالقناة ونحوها، وصوبه في الإنصاف.
(3) أي وإن أعطى قوم قناتهم أو نحوها، كنهرهم، وبئرهم، لمن يعمرها، سواء عجزوا عن عمارتها أو لا، ولمن يعمر من القناة ونحوها جزء معلوم، كنصف أو ثلث أو ربع صح، كغزل لمن ينسجه بسهم منه.
(4) أي السفل، لعدم ملك الأعلى له، لأن الحيطان إنما تبنى لمنع النظر، والوصول إلى الساكن، وهذا يختص به من تحته، دون رب العلو، وإن كان على العلو طبقة ثالثة فصاحب الوسط مع من فوقه كمن تحته معه.
(5) أي يجبر مالك السفل على بنائه، ليتمكن صاحب العلو من الانتفاع به.(5/160)
ويلزم الأعلى سترة تمنع مشارفة الأسفل (1) فإن استويا اشتركا (2) .
__________
(1) أي ويلزم الجار الأعلى جعل سترة تمنع مشارفة الجار الأسفل، لخبر «لا ضرر ولا ضرار» إذ الإشراف على الجار إضرار به، لكشفه جاره، وإطلاعه على حرمه، وأشبه ما لو اطلع عليه من صئر بابه أو خصاصه، ولقوله صلى الله عليه وسلم «لو أن رجلاً اطلع عليك، فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح» وقال ابن ذهلان: سواء كان ذلك بين دور، أو عقارات أو هما، فيلزم الأعلى البناء، وسد الطاقات التي فيها ضرر على الجار، ومتى كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر فليس لصاحب العلو الصعود على وجه يشرف على جاره، إلا أن يبني سترة تستره.
(2) أي فإن استويا في العلو، اشتركا في بناء السترة، وفي الاختيارات: يلزم الأعلى التستر بما يمنع مشارفة الأسفل، وإن استويا، وطلب أحدهما بناء السترة، أجبر الآخر معه، مع الحاجة إلى السترة، كسائر الحقوق، ولأنه لا أولوية لأحدهما على الآخر.(5/161)
باب الحجر (1)
وهو في اللغة التضييق والمنع (2) ومنه سمي الحرام والعقل حجرًا (3) وشرعًا: منع إنسان من تصرفه في ماله (4) وهو ضربان، حجر لحق الغير، كعلى مفلس (5) .
__________
(1) أي هذا باب يذكر فيه أحكام الحجر على الشخص لحق غيره، أو لحق نفسه، ومن لا حجر عليه، وما يتعلق بذلك، والأصل في مشروعيته قوله تعالى {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وقوله {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} وقوله {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية، وحجره عليه الصلاة والسلام على معاذ وغيره.
(2) كما في القاموس وغيره.
(3) أي ومنه سمي الحرام حجرًا، لأنه ممنوع منه، كقوله تعالى {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} أي حراما محرما، ومنه سمي العقل حجرا، كقوله {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} أي عقل، لأنه يمنع صاحبه من تعاطي ما يقبح، وتضر عاقبته.
(4) سواء كان المنع من قبل الشرع، كالصغير، والمجنون، والسفيه، أو الحاكم، كمنعه المشتري من التصرف في ماله حتى يقضي الثمن الحال.
(5) أي والحجر ضربان، أحدهما حجر لحظ غير المحجور عليه، كحجر على مفلس لحق الغرماء، وعلى مريض بما زاد على الثلث، والعبد، والمكاتب، والمشتري بعد طلب الشفيع، والمرتد لحق المسلمين، والراهن، وغير ذلك، والمراد هنا الحجر على المفلس، وهو من عليه دين حال، يعجز عنه ماله الموجود، مدة
الحجر، من التصرف فيه، وما سواه، يذكر في مواضعه، وتقدم أن المفلس من لا مال له، ولا ما يدفع به حاجته من العروض، فهو المعدم، وفي الخبر: قالوا: من لا درهم له ولا دينار. وفي لفظ: ولا متاع.(5/162)
وحجر لحق نفسه، كعلى نحو صغير (1) (ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه لم يطالب به (2) وحرم حبسه) وملازمته (3) لقوله تعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (4) .
__________
(1) أي والضرب الثاني حجر لحظ المحجور نفسه، كحجر على صغير، وسفيه، ومجنون، والحجر عليهم أعم، فلا يصح تصرفهم في أموالهم، ولا ذممهم قبل الإذن، و"نحو" هنا لا مفهوم لها، لأن ذكرها هنا وتركها في الأول يوهم أن الحجر لحظ الغير لا يكون إلا في المفلس، وليس كذلك.
(2) للآية الآتية وغيرها، وفي فضل إنظار المعسر أحاديث كثيرة، منها قوله «من سره أن يظله الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، فلييسر على معسر» وقوله: «من نفس عن غريمه أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة» وفي الحديث القدسي «أنا أحق من ييسر، ادخل الجنة» ولأحمد عن بريدة مرفوعًا «من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة، قبل أن يحل، فإذا حل فأنظره فبكل يوم مثلاه صدقة» ويسن إبراؤه، وهو أفضل من الإنظار، وينبغي أن يعد إبراء المعسر مما فيه السنة أفضل من الفرض، وهو الإنظار.
(3) وحرم الحجر عليه، حيث لم يظهر له مال، وادعى الإعسار وصدق.
(4) أي وإن كان الذي عليه الدين معسرًا، فعلى الغريم تنظرته إلى اليسار والسعة، فدلت الآية على أن المعسر الذي لا يقدر على وفاء شيء من دينه، لا يطالب به، ويجب إنظاره، ويحرم حبسه وملازمته، ولقوله لغرماء الذي كثر دينه «خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك» ولأن الحبس والملازمة إما لإثبات عسرته، أو لقضاء دينه، وعسرته ثبتت، والقضاء عليه متعذر.(5/163)
فإن ادعى العسرة، ودينه عن عوض، كثمن وقرض، أولا (1) وعرف له مال سابق، الغالب بقاؤه (2) أو كان أقر بالملاءة حبس (3) إن لم يقم بينة تخبر باطن حاله (4) .
__________
(1) أي أو لم يكن عن عوض، بل كان عن أرش جناية، وقيمة متلف، ومهر، أو ضمان، أو كفالة، أو عوض خلع، ونحو ذلك.
(2) إما لكون الدين ثبت عن معاوضة، كثمن مبيع وقرض، أو عرف له أصل مال سوى هذا، فالقول قول غريمه مع يمينه، فإذا حلف أنه ذو مال، حبس حتى تشهد بينة بإعساره.
(3) لأن الأصل بقاء المال، ومؤاخذة له بإقراره، والقول أيضًا قول غريمه مع يمينه، فإذا حلف حبس، لأن الحبس وسيلة إلى قضاء دينه، قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين. وقال ابن القيم وغيره: لو ادعى الخصم الفلس، وقال المدعي: معه مال. وسأل تفتيشه، وجب إجابته، واستدل بقول علي للظعينة: لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، وكانت أسرى قريظة يدعون عدم البلوغ، فيكشف عن مآزرهم.
(4) أي إن لم يقم بينة تشهد بإعساره، ويعتبر فيها أن تخبر باطن حاله، لأن الإعسار من الأمور الباطنة التي لا يطلع عليها في الغالب إلا المخالط له، قالوا: ويكفي اثنان، ولا يحلف معها، وإن شهدت بنفاد ماله أو تلفه، حلف معها، ونص أحمد أنه لا يثبت الإعسار إلا بثلاثة، واحتج بحديث قبيصة، قال ابن القيم: إذا كان في باب أخذ الزكاة، وحل المسألة، ففي باب دعوى الإعسار، المسقط لأداء الدين أولى. وقال: من علم له مال متقدم، كمن أصابته فاقة، حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه، فهذا صريح في أنه لا يقبل في بينة الإعسار أقل من ثلاثة رجال، وهو الصواب الذي يتعين القول به، وهو اختيار بعض أصحابنا، وبعض أصحاب الشافعية، قالوا: وليس الإعسار من الأمور الخفية التي تقوى فيها التهمة، فروعي فيها الزيادة في البينة.(5/164)
وتسمع قبل حبس وبعده (1) وإلا حلف وخلي سبيله (2) (ومن له قدرة على وفاء دينه لم يحجر عليه) (3) .
__________
(1) لأن كل بينة جاز سماعها بعد مدة، جاز سماعها في الحال.
(2) أي وإن لم يكن دينه عن عوض كصداق، ولم يعرف له مال سابق أو عرف والغالب ذهابه، أو لم يقر أنه مليء، وادعى الإعسار، حلف ولم يحبس، لأن الأصل عدم المال، قال علي: حبس الرجل بعد معرفة ما عليه من الحق ظلم. وكان إذا جيء بالرجل فقال: ما عندي ما أقضيه. قال: لا أحبسه، وأنا حائل بينك وبينه وقال ابن القيم: هذا الحكم عليه جمهور الأمة فيما إذا كان عليه دين عن غير عوض مالي، كالإتلاف، والضمان، والمهر، ونحوه، فإن القول قوله مع يمينه، ولا يحل حبسه بمجرد قول الغريم أنه مليء، وأنه غيب ماله. قال: والذي يدل عليه الكتاب, والسنة، وقواعد الشرع، أنه لا يحبس في شيء من ذلك إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل، سواء كان دينه عن عوض، أو عن غير عوض، وسواء لزمه باختياره، أو بغير اختياره، فإن الحبس عقوبة، والعقوبة إنما تسوغ بعد تحقق سببها، ولا تسوغ بالشبهة، بل سقوطها بالشبهة أقرب إلى قواعد الشريعة. وقال الشيخ: من عرف بالقدرة فادعى إعسارًا وأمكن عادة قبل.
(3) وتعين دفعه بطلبه، وإن طلب الإمهال بقدر ما يتمكن من الوفاء أمهل، قال الشيخ وغيره: من طولب بأداء حق عليه، فطلب الإمهال، أمهل بقدر ذلك، وذكره في الفروع اتفاقًا، لكن إن خاف غريمه منه احتاط عليه بملازمته، أو بكفيل أو ترسيم عليه.(5/165)
لعدم الحاجة إلى الحجر عليه (1) (وأمر) أي ووجب على الحاكم أمره (بوفائه) بطلب غريمه (2) لحديث «مطل الغني ظلم» (3) ولا يترخص من سافر قبله (4) ولغريم من أراد سفرًا منعه من غير جهاد متعين، حتى يوثق برهن محرز (5) .
__________
(1) وذلك لأن الغرماء يمكنهم المطالبة بحقوقهم في الحال.
(2) إن علم قدرته عليه، أو جهل حاله، لتعينه عليه، إذ فيه فصل القضاء المنتصب له، والوفاء يجب – مع القدرة – على الفور.
(3) أي مطلب الغني القادر على وفاء دينه ظلم، لأنه منع أداء ما استحق عليه أداؤه، وهو حرام مع التمكن، والحديث متفق على صحته، والجمهور أنه يفسق بمطله، وبالطلب يتحقق مطله.
(4) أي ولا يجوز أن يقصر ونحوه من سافر قبل وفاء غريمه، وبعد الطلب، بعد حلول الدين، لأنه سفر معصية، وظاهره: ولو كان قصيرًا. وتقدم جواز القصر له ونحوه في بابه.
(5) أي ولغريم شخص أراد سفرا، كذا أطلقه الأكثر، وقيده الموفق وغيره، بالطويل، قال في الإنصاف: وهو أولى. وظاهره أيضًا: ولو غير مخوف، أو الدين لا يحل قبل مدته، فله منعه من السفر، وكذا له منع ضامنه، من غير جهاد متعين، لتعينه، بخلاف حج، حتى يوثق المدين برهن محرز للدين، قولاً واحدًا، فلو كان برهن غير محرز للدين، فله منع المدين من السفر، حتى يقيم رهنا محرزًا للدين.(5/166)
أو كفيل مليء (1) (فإن أبى) القادر وفاء الدين الحال (حبس بطلب ربه) ذلك (2) .
__________
(1) أي أو حتى يوثق غريمه بكفيل مليء، قولاً واحدًا، فلو كان الضمين غير مليء فله منع المدين من السفر، حتى يقيم ضمينا مليئًا، لأن عليه ضررًا في تأخير حقه عن محله، وقدومه عند المحل غير متيقن ولا ظاهر، فملك منعه، قال الشيخ: إن أراد سفرا وهو عاجز عن وفاء دينه، فلغريمه منعه، حتى يقيم كفيلا ببدنه، لأنه قد يوسر في البلد الذي سافر إليه، فلا يتمكن الغريم من طلبه بإحضاره، وقال فيمن أعسر وأراد الحج مع والده، فمنعه الغرماء، ليقيم ويعمل ليوفيهم: لهم ذلك. ومقامه ليكتسب، ويوفي الغرماء، أولى وأوجب من الحج، ولا يحل لهم أن يطالبوه إذا علموا إعساره، ولا يمنعوه الحج، وإن قالوا: نخاف أن لا يرجع، ونريد كفيلاً ببدنه، توجه مطالبتهم بهذا، فإن حقوقهم باقية، ولكنه عاجز عنها.
(2) أي الحبس، قال الشيخ وغيره: من كان قادرًا على وفاء دينه، وامتنع أجبر على وفائه، بالضرب والحبس، ونص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم. قال: ولا أعلم فيه نزاعًا، وصوبه في الإنصاف، وقال: عليه العمل، ولا تخلص الحقوق في هذه الأزمنة إلا به، وبما هو أشد منه، وظاهر إطلاقهم: ولو كان أجيرًا في مدة الإجارة، أو امرأة مزوجة، لأن ذلك لا يمنع من الحبس. وقال الوزير: الحبس على الديون من الأمور المحدثة، ومضت السنة أنه لا يحبس على الديون، ولكن يتلازم الخصمان، فأما الحبس الذي هو الآن على الدين لا أعرف أنه يجوز عند أحد من المسلمين، وذلك أنه يجمع الكثير بموضع يضيق عنهم، غير متمكنين من الوضوء والصلاة، وربما يحبس أحدهم السنة والسنتين، وربما يتحقق القاضي أن ذلك المحبوس لا جدة له، وأن أصل حبسه على طريق الحيلة، قال: وقد حرصت على فك ذلك ... الخ.(5/167)
لحديث «لي الواجد ظلم (1) يحل عرضه وعقوبته» رواه أحمد، وأبو داود، وغيرهما (2) قال الإمام: قال وكيع: عرضه شكواه، وعقوبته حبسه (3) . فإن أبى عزره مرة بعد أُخرى (4) (فإن أصر) على عدم قضاء الدين (ولم يبع ماله (5)
__________
(1) أي مطل الغني القادر على وفاء دينه ظلم، لمنعه الواجب عليه مع القدرة، ومحرم كما تقدم، فيستحق العقوبة، كما نص عليه الشارع.
(2) كالنسائي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، وعلقه البخاري، وحسنه الحافظ.
(3) شكواه الإخبار بسوء فعله، كأن يقول: مطلني أو أن يقول: يا ظالم، يا مماطل، وعقوبته حبسه، ويرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه، وقدره، إذا لم يتعد حدود الله. قاله الشيخ: وهذا أصل متفق عليه، أن كل من ترك واجبًا، أو فعل محرمًا استحق العقوبة، ووكيع هو ابن الجراح الحافظ، صاحب الجامع وغيره، من كبار التاسعة، مات سنة مائة وسبع وتسعين.
(4) أي حتى يقضيه حقه بلا نزاع. قاله الشيخ، لكن لا يزاد كل يوم على أكثر التعزير إن قيل يتقدر. قال: ولا يجب حبسه بمكان معين، فيجوز حبسه في دار، ولو في دار نفسه، بحيث لا يتمكن من الخروج، ولو كان قادرًا على أداء الدين وامتنع، ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل، والنكاح فله ذلك، إذ التعزير لا يختص بنوع معين، وليس له إخراجه حتى يتبين له أمره، أو يبرأ من غريمه، وفي الفائق: أبى الضرب الأكثرون.
(5) أي ويقضي الدين، بل صبر على الحبس والتعزير.(5/168)
باعه الحاكم وقضاه) (1) لقيامه مقامه (2) ودفعا لضرر رب الدين بالتأخير (3) (ولا يطالب) مدين (بـ) ـدين (مؤجل) لأنه لا يلزمه أداؤه قبل حلوله (4) ولا يحجر عليه من أجله (5) (ومن ماله لا يفي بما عليه) من الدين (حالاً (6)
__________
(1) لما يأتي من أنه صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله، وباعه في دين كان عليه، قال ابن الصلاح: هو حديث ثابت، وإعطاء الغرماء ماله ثابت من فعل عمر، ولم ينقل أنه أنكر ذلك عليه أحد من الصحابة، وقال الشيخ: للحاكم بيع ماله، ويقضي دينه، ولا يلزمه إحضاره، وإذا كان الذي عليه الحق قادرًا على الوفاء، ومطل صاحب الحق، حتى أحوجه على الشكاية، فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل، إذا كان غرمه على الوجه المعتاد، قال: ومن غرم مالا بسبب كذب عليه عند ولي الأمر، فله تضمين الكاذب عليه بما غرمه.
(2) أي لقيام الحاكم مقام الدين الممتنع، قال أحمد: إذا تقاعد بحقوق الناس، يباع عليه ويقضى.
(3) لحديث «لا ضرر ولا ضرار» وظاهره: يجب، وهو مذهب الشافعي وغيره، وقال الشيخ: لا يلزمه أن يبيع عليه، ومذهب أبي حنيفة: يجبره الحاكم على البيع، إذا لم يمكنه الإيفاء بدونه.
(4) فلم تستحق المطالبة به.
(5) أي من أجل كونه لزمه دين من ثمن مبيع أو صداق، أو غيره، ولم يجز منعه من التصرف في ماله بسببه، ولأن الغرماء لا يمكنهم طلب حقوقهم في الحال، فلا حاجة إلى الحجر.
(6) أخرج من يفي ماله بالحال، وتقدم حكمه.(5/169)
وجب) على الحاكم (الحجر عليه بسؤال غرمائه) كلهم (أَو بعضهم) (1) لحديث كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع ماله. رواه الخلال بإسناده (2) (ويستحب إظهاره) أي إظهار حجر المفلس (3) وكذا السفيه، ليعلم الناس بحاله، فلا يعاملوه إلا على بصيرة (4) .
__________
(1) قال في الفروع: والأصح أو بعضهم. واستظهره في تجريد العناية، وصوبه في الإنصاف، وهو مذهب مالك والشافعي.
(2) والدارقطني، والحاكم وصححه، وتقدم قول ابن الصلاح: أنه حديث ثابت، فدل على جواز الحجر على المديون، وأنه يجوز للحاكم بيع ماله لقضاء دينه، وثبت من فعل عمر، ولم ينكر، وقال الوزير: اتفقوا على أن الحجر على المفلس إذا طلب الغرماء ذلك، وأحاطت الديون بماله، مستحق على الحاكم، وله منعه من التصرف، حتى لا يضر بالغرماء، وبيع ماله إذا امتنع المفلس من بيعه، ويقسمه بين غرمائه بالحصص، إلا أبا حنيفة فقال: يحبسه حتى يقضي الدين، ومعاذ هو ابن جبل الأنصاري رضي الله عنه، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيًا، معلمًا، وكان إليه المنتهى في العلم، ومات بالشام في طاعون عمواس.
(3) لتجتنب معاملته، لئلا يستضر الناس بضياع أموالهم، ويشهد عليه، لينتشر ذلك، وربما عزل الحاكم، أو مات، فيثبت الحجر عند الآخر، فلا يحتاج إلى ابتداء حجر ثان.
(4) أي ومثل الحجر على المفلس الحجر على السفيه، يستحب إظهاره، والإشهاد عليه، لئلا يغر الناس.(5/170)
(ولا ينفذ تصرفه) أي المحجور عليه لفلس (في ماله) الموجود، والحادث بإرث أو غيره (بعد الحجر) (1) بغير وصية أو تدبير (2) (ولا إقراره عليه) أي على ماله، لأَنه محجور عليه (3) وأما تصرفه في ماله قبل الحجر عليه فصحيح (4) لأنه رشيد، غير محجور عليه (5) .
__________
(1) هذا أحد الأحكام الأربعة المتعلقة بالحجر على المفلس، وهو تعلق حق الغرماء بماله الموجود قبل الحجر، والحارث بإرث أو غيره، كأرش جناية، ووصية وصدقة، وهبة، ونحو ذلك بعد الحجر، فحكمه كالموجود حال الحجر، لا ينفذ تصرفه فيه تصرفًا مستأنفًا، كبيع وهبة، ووقف، وعتق، وإصداق، ونحوه، لأنه محجور عليه فيه، أشبه الراهن، فلم يصح تصرفه، وهو قول مالك، والشافعي.
(2) لأنه لا تأثير لذلك إلا بعد الموت، وخروجه من الثلث بعد وفاء دينه، و "أو" هنا بمعنى الواو، ويصح أن يتصدق بالشيء اليسير، قال أحمد: وقضاء دينه أوجب. وصوبه في الإنصاف، وقال: يصح بما جرت العادة بمثله، ويتسامح به، بلا خلاف، ومن عليه نفقة واجبة فلا يملك التبرع بما يخل بالنفقة الواجبة وكلام أحمد يدل عليه.
(3) أي ولا يصح إقراره على ماله، لأن حقوق الغرماء متعلقة بأعيان ماله، فلم يقبل الإقرار عليه، ولو بعتق عبده، لأنه لا يصح منه عند الجمهور، فلم يقبل إقراره به، ولأنه محجور عليه بحكم حاكم، فأشبه السفيه، قال الشيخ: ويصح إقراره إن أضافه إلى ما قبل الحجر، يعني وأمكن.
(4) نافذ، من بيع، وهبة، وإقرار، وقضاء بعض الغرماء، وغير ذلك، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا، ولو استغرق جميع ماله.
(5) أي فنفذ تصرفه كغيره، ولأن سبب المنع الحجر، فلا يتقدم سببه.(5/171)
لكن يحرم عليه الإضرار بغريمه (1) (ومن باعه أو أقرضه شيئًا) قبل الحجر، ووجده باقيًا بحاله (2) ولم يأْخذ شيئًا من ثمنه، فهو أحق به (3) لقوله عليه السلام «من أدرك متاعه عند إنسان أَفلس فهو أحق به» متفق عليه، من حديث أبي هريرة (4) .
__________
(1) استدراك من قوله: وأما تصرفه في ماله. يفيد أنه لا يفهم من عموم الصحة عدم الحرمة، بل يكون صحيحًا مع الحرمة، وقال ابن القيم: إذا استغرقت الديون ماله، لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون، سواء حجر عليه الحاكم، أو لم يحجر عليه، هذا مذهب مالك، واختيار شيخنا، وهو الصحيح، وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره، بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده، لأن حق الغرماء قد تعلق بماله، ولهذا يحجر عليه الحاكم، ولولا تعلق حق الغرماء بماله، لم يسع الحاكم الحجر عليه، فصار كالمريض مرض الموت، وفي تمكين هذا المدين من التبرع، إبطال حقوق الغرماء، والشريعة لا تأتي بمثل هذا، فإنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق، بكل طريق، وسد الطريق المفضية إلى إضاعتها. اهـ. ونصره غير واحد من أهل التحقيق، وجزم به ابن رجب وغيره، وعليه: لو رهن بعد أن ضاق ماله لم يصح. وصوبه في الإنصاف.
(2) أي ما باعه أو أقرضه ونحوه لم ينقص ماليته، لذهاب صفة مع بقاء عينها وكذا عين مؤجرة لم يمض من المدة شيء، فهو أحق بذلك، إن شاء الرجوع فيه.
(3) أي ولم يأخذ البائع ونحوه شيئًا من الثمن، ولا أبرأ من بعضه، فهو أحق به، وهذا مذهب الجمهور.
(4) أي من أدرك متاعه بعينه، لم يتغير بصفة، ولا زيادة، ولا نقص،
«عند رجل قد أفلس» أي صار إلى حال لا يملك فيها فلسا «فهو أحق به» من غيره أي من الغرماء، فيأخذه دون الغرماء، ولمسلم في الرجل الذي يعدم «إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه، أنه لصاحبه الذي باعه» ولأحمد عن الحسن عن سمرة مرفوعًا: «من وجد متاعه عند مفلس بعينه فهو أحق به» حسنه الحافظ.(5/172)
وكذا لو أقرضه أو باعه شيئًا (بعده) أي بعد الحجر عليه (رجع فيه) إذا وجده بعينه (1) (إن جهل حجره) لأنه معذور بجهل حاله (2) .
__________
(1) أي عين ما باعه، أو أقرضه ونحوه، كما لو كان قبل الحجر عليه، ولا يكون أسوة الغرماء.
(2) لعموم الخبر، ولا يعد مقصرا بعدم السؤال عنه، لأن الغالب على الناس عدم الحجر، وكمشتري المعيب، ويشترط لرجوع من وجد عين ماله عند مفلس ستة شروط، كون المفلس حيًا إلى أخذها، وهذا مذهب مالك، وقال الشافعي: له الفسخ؛ لما روي «مات أو أفلس» رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم، وحسنه الحافظ، وقال: يجب المصير إليه، وقال ابن عبد البر: يرويه المعتمر، وهو غير معروف بحمل العلم، ثم هو غير معمول به، لجعله المتاع لصاحبه بمجرد موت المشتري، والأمر بخلاف ذلك عند جميع العلماء، ولأبي داود عن أبي هريرة «فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء» وظاهر كلام ابن القيم صلاحه للاحتجاج به، فالله أعلم، والثاني بقاء كل عوضها في ذمته، وكونها كلها في ملكه، سواء رضي بأخذ الباقي بكل الثمن أو قسطه، لفوات شرطه، إلا إذا جمع عددًا كثوبين فأكثر، فيأخذ البائع ونحوه – مع تعذر بعضه – ما بقي، وكون السلعة بحالها، بأن لم توطأ بكر، ولم يجرح قن، ونحو ذلك، وكون السلعة لم يتعلق بها حق، كشفعة، وجناية، ورهن، وكون السلعة لم تزد زيادة متصلة،
وهذا مذهب الجمهور، ولا يفتقر الفسخ إلى حكم حاكم لأنه ثبت بالنص، وقال أحمد: لو حكم حاكم أنه أسوة الغرماء نقض حكمه وأخذه، ولو قال المفلس: إنما لك ثمنه، فأنا أبيعه وأعطيك. فربه أحق به، فإن وجد شيء من ذلك منع الرجوع، لأنه فسخ بسبب حادث، فلم يملك الرجوع، وهو أسوة الغرماء.(5/173)
(وإلا) يجهل الحجر عليه (فلا) رجوع له في عينه، لأنه دخل على بصيرة (1) ويرجع بثمن المبيع، وبدل القرض، إذا انفك حجره (2) (وإن تصرف) المفلس (في ذمته) بشراء، أو ضمان أو نحوهما (3) (أو أقر) المفلس (بدين (4) أو) أقر بـ (ـجناية توجب قودًا، أو مالاً صح) تصرفه في ذمته، وإقراره بذلك، لأنه أهل للتصرف، والحجر متعلق بماله لا بذمته (5) .
__________
(1) أي بخراب ذمة المفلس، أشبه من اشترى معيبا يعلم عيبه.
(2) هذا الحكم الثالث، وهو انقطاع المطالبة عنه، وإنما يرجع من باعه، أو أقرضه ونحوه بثمن المبيع، وبدل القرض، إذا انفك حجره، لأنه هو الذي أتلف ماله، بمعاملته من لا شيء معه.
(3) كقرض أو إجارة، صح تصرفه، ويتبع بما لزمه من ثمن مبيع، أو قرض أو ضمان، ونحو ذلك، بعد فك الحجر عنه.
(4) سواء كان قبل الحجر أو بعده، بأن قال: أخذت منه كذا قبل الحجر، أو بعده، أو أطلق.
(5) وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، لكن ليس للبائع – ولا للمقرض ونحوهما – مطالبته في حال الحجر، لأن حق الغرماء تعلق بعين ماله الموجود حال الحجر، وبما يحدث له من المال، فقدموا على غيرهم ممن لم يتعلق حقه بعين المال، وتقدم قول الشيخ: إن أضافه إلى ما قبل الحجر وأمكن.(5/174)
(ويطالب به) أي بما لزمه من ثمن مبيع ونحوه (1) وما أقر به (بعد فك الحجر عنه) لأنه حق عليه (2) وإنما منعنا تعلقه بماله لحق الغرماء، فإذا استوفي فقد زال العارض (3) (ويبيع الحاكم ماله) أي مال المفلس الذي ليس من جنس الدين (4) بثمن مثله أو أكثر (5) .
__________
(1) كبدل قرض، وضمان، وإجارة.
(2) أي لأن ما لزمه من ثمن مبيع، أو بدل قرض، أو إقرار لشخص، ونحو ذلك حق عليه، كما لو ابتاع، أو اقترض ونحوه، أو أقر لإنسان بمال بعد الحجر عليه.
(3) أي فلمن باعه ونحوه بعد فك الحجر مطالبته بحقوقهم، قولاً واحدًا.
(4) أي الذي عليه، بنقد البلد، أو غالبه رواجًا، أو الأصلح، أو الذي من جنس الدين، على ما تقدم في الرهن، وهذا الحكم الرابع، وأما الذي من جنس الدين فلا حاجة إلى بيعه، وإنما يلزم الحاكم قسمه، وإن كان فيهم من دينه من غير جنس الأثمان، ورضي أن يأخذ عوضه من الأثمان جاز، وإلا اشتري له بحصته من الثمن، كدين سلم.
(5) أي بثمن مثل المبيع المستقر في وقته، وهو ما تنتهي إليه رغبات الراغبين، أو أكثر من ثمن مثله على الفور إن حصل راغبًا، قاله الشيخ وغيره، وقال: لأنه محجور عليه في ماله، فلا يتصرف له فيه إلا بالأحظ ويجب الاستقصاء، وعدم العجلة، حتى يبذل في الجميع قيمته في ذلك الوقت، إلا أن الشيخ يرى اختيار عدم الإجبار على البيع، إذا حصل كساد خارج عن العادة، لجدب ونحوه، ويبدأ بأقله بقاء، وأكثره كلفة، ويترك له ما يحتاجه من مسكن، وخادم لمثله بلا نزاع قاله في الإنصاف، وما يتجر به، كمؤنته أو آلة حرفته وله ولعياله أدنى نفقة مثلهم. وفي رواية: ما يقوم به معاشه. ولعله في حق من لا يمكنه التصرف ببدنه. ومذهب أبي حنيفة: يترك له المسن، ومذهب مالك والشافعي: تباع ويكترى له بدلها، لخبر «خذوا ما وجدتم» .(5/175)
(ويقسم ثمنه) فورًا (بقدر ديون غرمائه) الحالة (1) لأن هذا هو جل المقصود من الحجر عليه (2) وفي تأخيره مطل، وهو ظالم لهم (3) .
__________
(1) لا المؤجلة فلا يشاركون ذوي الديون الحالة و "فورًا"، حال من "قسم" و"بيع" أي من غير تراخ، فأوجبوا الفورية في البيع والقسم. وقول من قال: يقدم العامل في الزرع ونحوه. لا أصل له.
(2) أي لأن بيع المفلس، وقسمه على الغرماء فورًا، هو معظم مقصود الحجر على المفلس.
(3) أي المطل ظلم للغرماء، لأنه صلى الله عليه وسلم لما حجر على معاذ، باع ماله في دينه، وقسم ثمنه بين غرمائه، ولفعل عمر، ولاحتياجه إلى قضاء دينه، فجاز بيع ماله، وقسمه على غرمائه على الفور، وينبغي إحضاره مع غرمائه، ويبدأ بالمجني عليه، ثم بمن له رهن لازم، ثم بمن له عين مال ونحوه، بشرطه. ثم يقسم باقيه بين الغرماء، على قدر ديونهم، لقصة الرجل الذي ابتاع ثمارًا، فكثر دينه، فقال: «تصدقوا عليه» فلم يبلغ وفاء دينه، فقال لغرمائه «خذوا ما وجدتم، فليس لكم إلا ذلك» .(5/176)
(ولا يحل) دين (مؤجل بفلس) مدين (1) لأن الأجل حق للمفلس فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه (2) (ولا) يحل مؤجل أيضًا (بموت) مدين (3) (إن وثق ورثته برهن) يحرز (4) (أو كفيل مليء) بأقل الأمرين من قيمة التركة، أو الدين (5) .
__________
(1) ذكره القاضي رواية واحدة، وظاهره: دين سلم أو غيره.
(2) ولأنه لا يوجب حلول ماله، فلا يوجب حلول ما عليه، وكما لا يحل الدين الذي له بموته، ولا يوقف له مال، ولا يرجع على الغرماء إذا حل، ويبقى في الذمة إلى وقت حلوله، فإن لم يقسم الغرماء حتى حل، شارك الغرماء، كما لو تجدد على المفلس دين بجناية فإن أدرك بعض المال قبل قسمه شاركهم فيه بجميع دينه، وعنه: إذا وثق برهن أو كفيل ملئ. وعنه: يحل. وهو قول مالك، فالله أعلم.
(3) هذا المذهب عند أكثر الأصحاب، وعنه: يحل بالموت وفاقًا، لأنه لا يخلو إما أن يبقى في ذمة الميت، أو الورثة، أو يتعلق بالمال، واختار القاضي أنه لا يحل بشرطه، فيبقى في ذمة الميت، ويتعلق بعين ماله.
(4) أي إن وثق الورثة أو غيرهم رب الدين، برهن يحرز الأقل من الدين أو التركة، يثق به، لوفاء حقه.
(5) أي أو وثق الورثة «بكفيل مليء، بأقل الأمرين» متعلق «بوثق» من قيمة التركة، أو الدين، لأن الورثة قد لا يكونون أملياء، أو لا يرضى بهم الغريم، فيؤدي إلى فوات حقه، ومثله إن لم يكن له ورثة.(5/177)
لأن الأجل حق للميت، فورث عنه، كسائر حقوقه (1) فإن لم يوثقوا حل، لغلبة الضرر (2) (وإن ظهر غريم) للمفلس (بعد القسمة) لماله لم تنقض (3) و (رجع على الغرماء بقسطه) (4) .
__________
(1) وكما لا تحل الحقوق التي له بموته، ولم يجعل الله الموت مبطلاً للحقوق، وإنما هو ميقات للخلافة، وعلامة على الوراثة، وفي الخبر «من ترك حقًا أو مالاً فلورثته» وقال الشيخ في الأجرة المؤجلة: لا تحل بالموت في أصح قولي العلماء، وإن قلنا يحل الدين، لأن حلولها مع تأخير استيفاء المنفعة ظلم له؛ فيبقى الدين في ذمة الميت، كما كان قبل موته، ويتعلق بعد موته بعين ماله، كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس، عند الحجر عليه، وتختص أرباب الديون الحالة بالمال، ولا يرجع رب المؤجل عليهم بعد حلوله، بل على من وثقه.
(2) وكذا إن لم يكن ورثة، لئلا يضيع، ويأخذه ربه كله، إن اتسعت التركة له، أو يحاص به الغرماء، ولا يسقط منه شيء في مقابلة الجل، وكذا حكم من طرأ عليه جنون.
(3) أي وإن ظهر غريم للمفلس حال دينه، ليس مؤجلا، بعد قسم مال المفلس، لم تنقض القسمة، وهذا مذهب الشافعي، وحكي عن مالك، لأنهم لم يأخذوا زائدًا على حقهم، وإنما تبين مزاحمتهم فيما قبضوه من حقهم.
(4) أي بقدر حصته، قال الموفق: أشبه ما لو قسم أرضا، أو ميراثًا بين شركاء، ثم ظهر شريك آخر، أو وارث آخر، وظاهره: ولو كانوا قد تصرفوا فيه.(5/178)
لأنه لو كان حاضرًا شاركهم، فكذا إذا ظهر (1) وإن بقي على المفلس بقية (2) وله صنعة، أُجبر على التكسب لوفائها (3) كوقف، وأُم ولد يستغني عنهما (4) (ولا يفك حجره إلا حاكم) (5) .
__________
(1) يعني بعد القسمة، كغريم الميت، يظهر بعد قسم ماله، فلو كان للمفلس ألف، اقتسمه غريمان نصفين، ثم ظهر ثالث، دينه كدين أحدهما، رجع على كل واحد بثلث ما قبضه.
(2) أي وإن بقي على المفلس – بتشديد اللام – بعد قسم ماله بقية من الدين.
(3) أي البقية، فيما يليق به، وهذا قول عمر بن عبد العزيز، وإسحاق، وغيرهما، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم باع إنسانًا في دينه، أي آجره لذلك، ولأنها عقد معاوضة، فجاز إجباره عليه، وإيجاره لما يملك إجارته، فيجبر عليها لوفاء دينه.
(4) أي كما يجبر على إيجار وقف عليه، وأم ولد يستغني عنهما، للقدرة على الوفاء، وعنه: لا يجبر. وهو قول مالك، والشافعي، وقدمه، وجزم به غير واحد، لقوله تعالى {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وقوله صلى الله عليه وسلم «خذوا ما وجدتهم، فليس لكم إلا ذلك» ولأنه تكسب للمال، فلم يجبر عليه، كما لا يجبر على قبول صدقة، ولا هدية، ولا وصية، ولا قرض، ولا امرأة على التزويج، لأن في ذلك ضررًا بتحمل المنة التي تأباها قلوب ذوي المروءات.
(5) أي ولا يفك حجر المفلس – إن بقي عليه شيء من الدين – إلا حاكم، جزم به وقدمه الأكثر.(5/179)
لأنه ثبت بحكمه، فلا يزول إلا به (1) وإن وفى ما عليه، انفك الحجر بلا حاكم، لزوال موجبه (2) .
__________
(1) أي لأن الحجر عليه ثبت بحكم الحاكم، فلا ينفك إلا به، كالمحجور عليه لسفه بعد رشده، ولأن فراغ ماله يحتاج إلى معرفة وبحث، فوقف ذلك على الحاكم، ولو طلبوا إعادته لما بقي لم يجبهم.
(2) أي الحجر، وموجبه بكسر الجيم، الأثر الذي أوجبه، فالحكم يدور مع علته، وإن ادَّان من فك حجره، وعليه بقية، فحجر عليه، تشارك غرماء الحجر الأول والثاني، في ماله الموجود، لأن حقوق الجميع متعلقة بذمته، وهو قول الجمهور، ومن فلَّس ثم ادَّان لم يحبس، لوضوح أمره.(5/180)
فصل
في المحجور عليه لحظه (1)
(ويحجر على السفيه، والصغير، والمجنون، لحظهم) (2) إذ المصلحة تعود عليهم، بخلاف المفلس (3) والحجر عليهم عام في ذممهم، ومالهم (4) ولا يحتاج لحاكم (5) .
__________
(1) هذا هو الضرب الثاني من ضربي الحجر، وهو حجر المحجور عليه لحظ نفسه، وتقدم أن الأصل فيه قوله تعالى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} وقوله {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية.
(2) أي ويحجر على السفيه إذا ظهر منه التبذير لماله، ذكرا كان أو أنثى، للآية وغيرها، ورد صلى الله عليه وسلم صدقة الذي تصدق بأحد ثوبيه، والبيضة، والمعتق عبدا له عن دبر، لا مال له غيره، وذلك لأن الأموال للانتفاع بها، بلا تبذير، واستفاض النهي عن إضاعة المال، ويحجر على الصغير، وهو من لم يبلغ، والمجنون، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن الأسباب الموجبة للحجر الصغر، والرق، والجنون. وقال ابن رشد: أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الذين لم يبلغوا الحلم، للآية، والجمهور: وعلى الكبار إذا ظهر منهم التبذير. وقال ابن المنذر: أكثر علماء الأمصار يرون الحجر على كل مضيع لماله، صغير كان أو كبيرا.
(3) ونحوه، لأن الحجر عليه لحظ غيره، لا لنفسه.
(4) بخلاف المفلس، ففي ماله دون ذمته، وتقدم.
(5) لأن عجزهم عن التصرف في محل الشهرة.(5/181)
فلا يصح تصرفهم قبل الإذن (1) (ومن أَعطاهم ماله بيعًا أَو قرضًا) أو وديعة ونحوها (2) (رجع بعينه) إن بقي، لأنه ماله (3) (وإن) تلف في أيديهم (4) أو (أتلفوه لم يضمنوا) لأنه سلطهم عليه برضاه (5) علم بالحجر أَولا، لتفريطه (6) (ويلزمهم أَرش الجناية) إن جنوا (7) .
__________
(1) أي فلا يصح تصرف الصبي والسفيه ونحوهما في أموالهم، ولا في ذممهم، قبل الإذن، لأن تصرفهم يفضي إلى ضياع أموالهم، وفيه ضرر عليهم؛ وأما المجنون فلا يصح تصرفه، ولو أذن له، فعبارته بالنسبة إليهما لا إلى الجميع.
(2) كعارية، وإجارة.
(3) وتصرفهم فاسد، فهو باق على ملكه.
(4) أي بنفسه، كموت قن، وحيوان، لم يضمنوا، سواء كان بتعد منهم، أو تفريط، أو لا.
(5) فكان من ضمان مالكه، وليسوا من أهل الحفظ لعارية ونحوها.
(6) أي سواء علم الدافع بحجر المدفوع إليه أو لم يعلم، لأنه إن علم فقد فرط، وإن لم يعلم فهو مفرط أيضًا، إذ الحجر عليهم في مظنة الشهرة، وإن دفع إليهم محجور عليه ماله فمضمون على المدفوع له، وقيل: يضمنون إذا جهل أنه محجور عليهم، وصوبه في الإنصاف، كتصرف العبد بغير إذن سيده، وصوب أن إتلاف السفيه الوديعة ونحوها كإتلاف الرشيد.
(7) أي على نفس، أو طرف، أو جرح، على ما يأتي تفصيله في الجنايات إن شاء الله تعالى.(5/182)
لأنه لا تفريط في المجني عليه (1) والإتلاف يستوي فيه الأهل وغيره (2) (و) يلزمهم أيضًا (ضمان مال من لم يدفعه إليهم) (3) لأنه لا تفريط من المالك (4) والإتلاف يستوي فيه الأهل وغيره (5) (وإن تم لصغير خمس عشرة سنة) حكم ببلوغه (6) لما روى ابن عمر قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، وأَنا ابن أَربع عشرة سنة، فلم يجزني (7) .
__________
(1) فلزمهم الأرش، قال في الإنصاف، بلا نزاع.
(2) ولأنهم لو لم يضمنوا ما جنوا، لعظم الضرر بتعديهم، والدية على العاقلة، مع الصغر والجنون بشرطه.
(3) إذا أتلفوه، أو أتلفوا شيئًا منه، قال ابن القيم: يضمن الصبي، والمجنون، والنائم ما أتلفوه من الأموال، وهذا من الشرائع العامة، التي لا تتم مصالح الأمة إلا بها، فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم، لأتلف بعضهم أموال بعض وادعى الخطأ، وعدم القصد.
(4) لحصوله في أيديهم بغير اختياره، كالغصب، والجناية.
(5) أي الإتلاف لمال الغير يستوي في ضمانه الأهل للحفظ، وغير الأهل، كالصبي، والسفيه، والمجنون.
(6) وزال الحجر عنه، وهذا مذهب مالك، والشافعي.
(7) أي فلم يأذن لي في الخروج للقتال، وفي رواية: ولم يرني بلغت.(5/183)
وعرضت عليه يوم الخندق، وأَنا ابن خمس عشرة سنة، فأَجازني. متفق عليه (1) (أو نبت حول قبله شعر خشن) حكم ببلوغه (2) لأَن سعد بن معاذ لما حكم في بني قريظة بقتلهم، وسبي ذراريهم (3) أمر أن يكشف عن مؤتزرهم (4) فمن أنبت فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت فهو من الذرية (5) وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» متفق عليه (6) .
__________
(1) أي أمضاني للخروج للقتال، ورآني بلغت، فدل على أن بلوغ خمس عشرة سنة من الولادة يكون بلوغًا، وهو قول الجمهور.
(2) وزال الحجر عنه، وهذا مذهب مالك، والشافعي.
(3) أي لما حكم رئيس الأوس رضي الله عنه في بني قريظة، وكانت نزلت على حكمه، فحكم بقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، أي أخذ أولادهم عبيدًا وإماء.
(4) أي أمر أن يرفع ما يواري موضع الإزار، للحاجة إلى الكشف عمن يستحق القتل.
(5) يعني فمن أنبت الشعر الخشن المتجعد في العانة، فهو من المقاتلة يقتل، ومن لم ينبت الشعر في العانة، فهو من الذرية يسترق.
(6) قيل: سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم. والمراد: من فوق سبع سموات وقال عطية القرظي: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت، فخلي سبيلي. صححه الترمذي، فدل الحديثان على أن الإنبات من علامات البلوغ.(5/184)
(أو أنزل) حكم ببلوغه (1) لقوله تعالى {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (2) (أو عقل مجنون، ورشدا) أي من بلغ وعقل (3) (أو رشد سفيه، زال حجرهم) لزوال علته (4) قال تعالى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (5) (بلا قضاء) حاكم (6) لأنه ثبت بغير حكمه، فزال لزوال موجبه، بغير حكمه (7) .
__________
(1) أي أو أنزل المني، يقظة أو مناما، باحتلام، أو جماع، أو غير ذلك، حكم ببلوغه، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل، فينفك عنه الحجر.
(2) والحلم هو أن يرى الطفل في منامه ما ينزل به الماء الدافق، الذي يكون منه الولد، واتفق الفقهاء على أنه بلوغ.
(3) زال حجره بلا خوف.
(4) وهي الجنون، والسفه، ودفعت إليهم أموالهم.
(5) رشدا) عقلا، وصلاحا في الدين، وحفظا للمال، وعلما بما يصلحه فعلق زوال الحجر بالرشد، فمتى كان مصلحا في ماله، بأن لا يكون مبذرا، ويحسن التصرف، زال حجره، عند جمهور العلماء، ولأن الحجر إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله حفظا له، وقد زال.
(6) أي بفك الحجر عنهم، وتدفع إليهم أموالهم لقوله {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} واشتراط الحكم زيادة، تمنع الدفع عند وجود ذلك.
(7) أي الحاكم، وظاهره أن الرشيد إذا سفه، ثم رشد، لا ينفك عنه إلا بحكمه، كما صرحوا به، وقسم الموفق وغيره الحجر إلى ثلاثة أقسام، قسم يزول
بغير حكم حاكم، وهو حجر المجنون، إذا عقل، يزول الحجر عنه، ولا يعتبر فيه حكم حاكم، قال الموفق وغيره: بغير خلاف. وقسم لا يزول إلا بحاكم وهو الحجر على السفيه، وقسم فيه خلاف، وهو الحجر على الصبي، والمذهب أنه إذا بلغ ورشد، انفك عنه الحجر بدون حكم حاكم، وهو مذهب الشافعي، وقال مالك: لا يزول إلا بحاكم. وهو قول بعض أصحاب الشافعي، لأنه موضع اجتهاد ونظر، فإنه يحتاج في معرفة البلوغ، والرشد إلى اجتهاد، فيوقف ذلك على حكم حاكم، كزوال الحجر عن السفيه، وتقدم الأمر بدفع أموالهم إليهم، واشتراط حكم الحاكم زيادة على النص، فالله أعلم.(5/185)
(وتزيد الجارية) على الذكر (في البلوغ بالحيض) (1) لقوله عليه السلام «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» رواه الترمذي وحسنه (2) (وإن حملت) الجارية (حكم ببلوغها) عند الحمل (3) لأنه دليل إنزالها، لأن الله تعالى أجرى العادة بخلق الولد من مائهما (4) .
__________
(1) أي وتزيد الجارية في البلوغ على ما يحصل به بلوغ الذكر بالحيض، فهو علم على البلوغ في حقها، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا. وفي الإنصاف: بلا نزاع.
(2) ووجه الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم علق قبول صلاة الحائض بالخمار، فدل على اعتباره.
(3) منذ حملت، لحصول البلوغ به.
(4) أي ماء الرجل وماء المرأة، قال تعالى {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} ولقوله صلى الله عليه وسلم «فمن أين يكون الشبه؟» وقوله «وإن غلب ماء المرأة، أنث بإذن الله» .(5/186)
فإذا ولدت، حكم ببلوغها من ستة أشهر، لأنه اليقين (1) (ولا ينفك) الحجر عنهم (قبل شروطه) السابقة بحال ولو صار شيخًا (2) (والرشد الصلاح في المال) (3) لقول ابن عباس في قوله تعالى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} أي صلاحًا في أموالهم (4) . فعلى هذا يدفع إليه ماله وإن كان مفسدًا لدينه (5) .
__________
(1) أي أقل مدة الحمل ستة أشهر، إذا كانت توطأ، لأنه اليقين، وإلا فلأكثر مدة الحمل منذ طلقت، ومتى بلغت، ورشدت، دفع إليها مالها، وهو الصحيح من المذهب، وقول أبي حنيفة، والشافعي، وابن المنذر وغيرهم. وقيل: حتى تزوج، أو تعنس، وتبرز للرجال. وصوبه في الإنصاف.
(2) أي ولا ينفك الحجر عن السفيه، والصغير، والمجنون، قبل شروطه السابقة، وهي البلوغ، أو العقل، مع الرشد بحال، ولو صار المحجور عليه شيخًا، لظاهر الآية، وتقدم أن جمهور العلماء يرون الحجر على كل مضيع لماله، صغيرًا كان أو كبيرًا، و "لو" إشارة إلى خلاف أبي حنيفة، من أنه إذا بلغ خمسا وعشرين دفع إليه ماله.
(3) أي لا غير، قال الموفق، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم مالك، وأبو حنيفة، وقال الشافعي: في الدين والمال. قال ابن عقيل: وهو الأليق بمذهبنا، لأن إفساد دينه يمنع الثقة في حفظ ماله.
(4) وقال مجاهد: إذا كان عاقلاً. ولأن من كان مصلحا لماله فقد وجد منه رشد، أشبه العدل.
(5) وهو مذهب الجمهور، واتفقوا على أنه إذا أونس من صاحب المال الرشد دفع إليه ماله.(5/187)
ويؤنس رشده (بأن يتصرف مرارًا فلا يغبن) غبنًا فاحشًا (غالبًا (1) ولا يبذل ماله في حرام) كخمر، وآلات لهو (2) (أو في غير فائدة) كغناء، ونفط (3) لأن من صرف ماله في ذلك عد سفيهًا (4) (ولا يدفع إليه) أي الصغير (حتى يختبر) ليعلم رشده (قبل بلوغه، بما يليق به) (5) .
__________
(1) "يؤنس" بالبناء للمفعول، أي يعلم رشده، بأن يتكرر منه البيع والشراء مرارًا، فلا يغبن غبنًا فاحشًا غالبًا، قيل: كاثنين من عشرة. والمرجع فيه العرف، وقيده بالفاحش، لأن غير الفاحش كل يغبن به.
(2) وقمار، وغناء محرم، ونحو ذلك، فقد يعد الشخص سفيها بصرفه ماله في المباح، ففي الحرام أولى.
(3) أي ولا يبذل ماله في غير فائدة، ولو كان مباحًا، كغناء مباح، "ونفط" بكسر النون أي إحراقه للتفرج.
(4) أي لأن من صرف ماله في محرم من نحو ما تقدم، أو فيما لا فائدة فيه، عد سفيها عرفا مبذرا، وهذا بخلاف صرفه في باب بر، كصدقة، أو مطعم، ومشرب، وملبس لا يليق به، فليس بتبذير، إذ لا إسراف في الخير، قال الشيخ: الإسراف ما صرفه في المحرمات، أو كان صرفه في المباح يضر بعياله، أو كان وحده ولم يثق بإيمانه، أو صرف في مباح قدرا زائدًا على المصلحة، والفرق بين الإسراف والتبذير، أن الإسراف صرف الشيء فيما ينبغي، زائدا على ما ينبغي، والتبذير صرف الشيء فيما لا ينبغي.
(5) أي بما يكون أهلاً أن ينسب إليه، فولد التاجر بأن يتكرر بيعه، فلا يغبن كما تقدم، وولد رئيس وكاتب، باستيفاء على وكيله، وابن المزارع، بما يتعلق بالزراعة، وابن المحترف، بما يتعلق بحرفته، وأنثى بما يفوض إلى ربة البيت، ونحو ذلك.(5/188)
لقوله تعالى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية (1) والاختبار يختص بالمراهق، الذي يعرف المعاملة، والمصلحة (2) (ووليهم) أي ولي السفيه الذي بلغ سفيهًا واستمر (3) والصغير، والمجنون، (حال الحجر الأَب) الرشيد، العدل ولو ظاهرًا (4) .
__________
(1) فظاهرها أن ابتلاءهم قبل البلوغ، لأنه تعالى سماهم يتامى، وإنما يكون ذلك قبل البلوغ، ومد اختبارهم إلى البلوغ بلفظ (حتى) فدل على أنه قبله، ولأن تأخيرهم إلى البلوغ يفضي إلى الحجر على البالغ الرشيد، لكونه ممتدًا حتى يختبر، ويعلم رشده.
(2) أي والاختبار فيما تقدم ونحوه يختص بالمراهق المميز، الذي يعرف البيع، والشراء، ونحوه، والمصلحة، والمفسدة، وإلا أدى إلى ضياع المال، وحصول الضرر، والشارح دفع ما يتبادر من قول الماتن: قبل البلوغ؛ فإنه يقتضي كون الاختبار قبل البلوغ بقليل أو كثير، إذا كان مميزًا، والكثير غير مراد، ولو قال: قبيل. بالتصغير لأشعر بذلك، وبيع الاختبار، وشراؤه، وغيره، صحيح بلا نزاع للأمر به، قال الشيخ: ومن نوزع في رشده، فشهد به عدلان قبل، لأنه قد يعلم بالاستفاضة، ومع عدم البينة، له اليمين على وليه: أنه لا يعلم رشده.
(3) الأب الرشيد، ثم وصيه، ثم الحاكم، بخلاف من رشد ثم عاوده السفه، فلا ينظر في ماله إلا الحاكم كما يأتي.
(4) لأن تفويض الولاية إلى غير من هذه صفته تضييع للمال، ويحتاج إلى ولي، فلا يكون وليًا على غيره "ولو ظاهرًا" فلا يحتاج إلى تعديل حاكم، وقال الموفق: من شرط ثبوت الولاية العدالة بلا خلاف.(5/189)
لكمال شفقته (1) (ثم وصيه) لأَنه نائبه، ولو بجعل وثَمَّ متبرع (2) (ثم الحاكم) لأَن الولاية انقطعت من جهة الأَب فتعينت للحاكم (3) .
__________
(1) يعني فإن الأب له من الشفقة ما ليس لغيره، فيستحق الولاية على الصغير، والمجنون بلا نزاع.
(2) أي ثم ولي السفيه، والصغير والمجنون: وصي الأب، لأنه نائبه، أشبه وكيله في الحياة، ولو كان وصيه بجعل، وثَمَّ متبرع بالنظر له، لكن قال الشيخ وغيره: لا يجوز أن يولى على مال اليتيم إلا من كان قويًا، خبيرًا بما ولي عليه، أمينا عليه، والواجب إذا لم يكن الولي بهذه الصفة أن يستبدل به، ولا يستحق الأجرة المسماة، لكن إذا عمل لليتامى استحق أجرة المثل، كالعمل في سائر العقود الفاسدة، وقال: ولو وصى من فسقه ظاهر إلى عدل، وجب إنفاذه، كحاكم فاسق، حكم بالعدل.
(3) أي ثم بعد الأب ووصيه، فالولاية للحاكم، يقيم أمينا، لأن الولاية انقطعت من جهة الأب، حيث لم يكن موجودا، أو وجد وفقد شيء من الصفات المعتبرة فيه، وكذا وصيه، فتعينت للحاكم إذا كان متصفا بما اتصف به من قبله، لأنه ولي من لا ولي له، وعنه: للجد ولاية: فعليها يقدم على الحاكم بلا نزاع، وقدمه بعضهم على الوصي، وصوبه في الإنصاف، وقيل: لسائر العصبة أيضًا ولاية بشرط العدالة، اختاره الشيخ، فيقدمون على الحاكم، وقال أيضًا: تكون لسائر الأقارب، ومع الاستقامة لا يحتاج إلى الحاكم. إلا إذا امتنع من طاعة الولي وتكون الولاية لغير الأب، والجد، والحاكم على اليتيم وغيره، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومنصوص أحمد في الأم، وأما تخصيص الولاية بالأب والجد فضعيف جدا، ويشترط في الحاكم ما يشترط في الأب، فإن لم يكن كذلك، أو لم يوجد، فأمين يقوم مقام الحاكم. وقال: الحاكم العاجز كالمعدوم. وقال أحمد: حكامنا اليوم لا يجوز أن يقدم إلى أحد منهم، ولا يدفع إليه شيء. فكلامهم محمول على حاكم أهل، قال في الغاية: وهذا ينفعك في كل موضع، فاعتمده.(5/190)
ومن فك عنه الحجر فسفه أُعيد عليه (1) ولا ينظر في ماله إلا الحاكم (2) كمن جن بعد بلوغ ورشد (3) (ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأَحظ) (4) لقوله تعالى {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (5) والسفيه والمجنون في معناه (6) .
__________
(1) أي ومن فك عنه الحجر حيث رشد فسفه – بضم الفاء وكسرها – أي صار سفيها، أعيد عليه الحجر وجوبًا، قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(2) لأنه حدث بعد رشده، فلا مدخل للأب بعد رشده.
(3) أي في أنه لا ينظر في ماله إلا الحاكم.
(4) قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(5) أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بالغبطة، ومفهومه أن ما لا حظ له فيه ليس له التصرف به كالعتق، والهبة، أو التبرعات، والمحاباة، فإن تبرع، أو حابى، أو زاد على النفقة عليه، أو على من تلزمه مؤونته بالمعروف ضمن، كتصرفه في مال غيره، وينفق عليه من ماله بالمعروف بغير إذن حاكم. وله خلط نفقة موليه بماله، إذا كان أرفق له، لقوله {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} ولا يجوز أن يشتري من مالهما شيئًا لنفسه، ولا يبيعهما إلا الأب، لأنه غير متهم عليه، لكمال شفقته وفاقًا.
(6) أي في معنى اليتيم، إذ النص إنما ورد فيه، فألحق به غيره للقياس.(5/191)
(ويتجر) ولي المحجور عليه (له مجانًا) (1) أي إذا اتجر ولي اليتيم في ماله كان الربح كله لليتيم (2) لأنه نماء ماله، فلا يستحقه غيره إلا بعقد، ولا يعقد الولي لنفسه (3) (وله دفع ماله) (4) لمن يتجر فيه (مضاربة بجزءٍ) معلوم (من الربح) للعامل (5) .
__________
(1) استحبابًا، قاله الشيخ وغيره، لقول عمر وغيره: اتجروا بأموال اليتامى، كيلا تأكلها الصدقة. ولأنه أحظ للمولى عليه، وقال الشيخ: لو مات من يتجر لنفسه وليتيمه بماله، وقد اشترى شيئًا ولم يعرف لمن هو، لم يقسم، ولم يوقف الأمر حتى يصطلحا، كما يقوله الشافعي، بل مذهب أحمد أنه يقرع، فمن قرع حلف وأخذ.
(2) قال في الفروع: في الأصح.
(3) أي فلا أجرة له في نظير اتجاره، وكذا إن دفعه إلى ولده أو غيره ممن ترد شهادته له فنماؤه لليتيم، ولا أجرة له، وظاهر إطلاقهم أنه كالأجنبي، ولعله غير مراد، كما يأتي في الوكالة، وإن كان أصلح، وعقد مع حاكم جاز، وفيه وجه: يجوز لولي اليتيم الاتجار عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، واختاره الشيخ وغيره وقواه صاحب الإنصاف وغيره، وعليه: إن دفعه إلى نحو ولده جاز له الأجرة.
(4) أبًا كان، أو وصيا، أو حاكمًا، أو أمين حاكم وفاقًا.
(5) لعل المراد هنا المضاربة، للمتجه الدلالة، ولما تقدم من الأمر بالاتجار به، ولأن ذلك أحظ للمولى عليه، وكما يفعله البالغون في أموالهم.(5/192)
لأن عائشة أَبضعت مال محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، ولأَن الولي نائب عنه فيما فيه مصلحته (1) وله البيع نساء (2) والقرض برهن (3) وإيداعه (4) .
__________
(1) أي ودفع الولي مال اليتيم مضاربة – مع الأمن في المواضع التي يتجر بها، والطرق – فيه مصلحة، لتكون نفقته من فاضل ربحه، لكن بشرط أن لا يدفعه إلا للأمناء، ولا يغرر به، وإلا ضمن، فإن دفعه إلى من ظاهره العدالة ثم خان فلا ضمان، وله دفعه إلى من يتجر به، والربح كله لليتيم.
(2) أي إلى أجل، إذا كان له الحظ في ذلك، فإنه قد يكون أكثر ثمنا، لكن يحتاط على الثمن، بأن يأخذ به رهنا أو كفيلاً موثوقًا.
(3) أي وله القرض برهن إذا كان فيه حظ لليتيم، كأن يكون للصبي مال في بلد، فيريد نقله إلى بلد آخر، فيقرضه من رجل في ذلك البلد، ليقضيه بدله في بلده، يقصد بذلك حفظه من الغرر في نقله، أو يخاف عليه الهلاك من نهب، أو غرق أو غيرهما، أو يكون مما يتلف بتطاول مدته، وأشباه ذلك، لا لمودة، أو مكافأة، والمشهور جواز قرضه لملئ لصلحته بلا رهن، وإن أمكنه فهو أولى، ومتى أمكنه التجارة به، أو شراء عقار له فيه الحظ لم يقرضه، لأن فيه تفويت الحظ على اليتيم، ومتى لم يكن لليتيم حظ في قرض ماله لم يقرضه، لأنه يشبه التبرع، ولا يقترض وصي، ولا حاكم منه شيئًا لنفسه.
(4) أي وللولي إيداع مال اليتيم، ولو مع إمكان قرضه لمصلحة، وقرضه لثقة أولى من ذلك، لأن الوديعة لا تضمن، وإن أودعه مع إمكان قرضه جاز ولا ضمان عليه لأنه ربما رأى الإيداع أولى من القرض، فلا يكون مفرطًا، وللولي رهن مال اليتيم عند ثقة لحاجة، كنفقة أو كسوة، أو إنفاق على عقاره المستهدم،
أو بهائمه، ونحو ذلك، وماله غائب يتوقع وروده، أو ثمرة ينتظرها أو دين مؤجل يحل، أو متاع كاسد يرجو نفاقه، فيجوز له الاقتراض ورهن ماله، وإلا فيبيع من أصول ماله، ويصرفه من نفقته.(5/193)
وشراء العقار، وبناؤُه لمصلحة (1) وشراء الأضحية لموسر (2) وتركه في المكتب بأُجرة (3) ولا يبيع عقاره إلا لضرورة، أو غبطة (4) .
__________
(1) أي وله شراء العقار إذا رأى المصلحة في ذلك، وبناؤه بما جرت عادة أهل بلده به، لأنه في معنى الشراء، وقوله: لمصلحة عائد على صورة البناء وكل ما تقدم.
(2) أي ولولي يتيم شراء الأضحية ليتيم موسر من مال اليتيم، لأنه يوم سرور وفرح، ليحصل بذلك جبر قلبه، وإلحاقًا بمن له أب، كالثياب الحسنة، قال الشيخ: ويستحب إكرام اليتيم، وإدخال السرور عليه، ودفع الإهانة عنه، فجبر قلبه من أعظم مصالحه، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، وعنه: لا يجوز. وهو مذهب الشافعي، وحملها الموفق وغيره على ما إذا كان الطفل لا يعقل التضحية، ولا يفرح بها، ولا ينكسر قلبه بتركها، وعلى كل حال من ضحى عنه، لم يتصدق بشيء منها، بل يوفرها له، لأنه لا يحل له أن يتصدق بشيء من ماله تطوعا، ولو قيل بجواز الصدقة بما جرت به العادة لكان متوجها، كما في الإنصاف وغيره، وللولي شراء لعب غير مصورة لصغيرة من مالها.
(3) أي ولولي اليتيم تركه في المكتب كجعفر موضع تعلم الكتابة، وليتعلم ما ينفعه، بأجرة من ماله، لأنه من مصالحه، وله تعليمه الخط، والرماية، والأدب، وأن يسلمه في صناعة إذا كانت مصلحة، ومداواته لمصلحة، ونحو ذلك.
(4) أي ولا يبيع الولي عقار اليتيم إلا لضرورة، فيجوز بلا نزاع، وذلك
كاحتياجه إلى كسوة، أو نفقة، أو قضاء دين، أو ما لا بد منه، أو يخاف عليه الهلاك بغرق، أو خراب، أو نحوه، ولا يبيعه إلا لغبطة، قال في الإنصاف بلا نزاع. وهي أن يبذل فيه زيادة كثيرة على ثمن مثله، واشترط بعضهم أن يزاد في ثمنه نحو الثلث والصحيح من المذهب جوازه إذا كان لمصلحة، سواء حصل زيادة أو لا، واختاره الموفق والشيخ. وقال ابن القيم: وفي شراء مسجد المدينة من اليتيمين، دليل على جواز بيع عقار اليتيم، وإن لم يكن محتاجًا إلى بيعه للنفقة، إذا كان في البيع مصلحة للمسلمين عامة كبناء مسجد، أو سور ونحوه، ويؤخذ منه بيعه إذا عوض عنه بما هو خير منه. اهـ. ولغير حاجة لا يجوز، وتقدم الأمر بشراء العقار له لمصلحة، فبيعه من غير حاجة تفويت لها.(5/194)
(ويأْكل الولي الفقير من مال موليه) (1) لقوله تعالى {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (2) (الأقل من كفايته أو أجرته) أي أجرة عمله (3) .
__________
(1) أي ويأكل الولي الفقير – غير حاكم وأمينه – من مال موليه، وأما الأب فيأكل، ولو لم يكن فقيرًا بغير خلاف، وإن فرض الحاكم شيئًا للولي، جاز له أخذه مجانًا، ولو مع غناه بغير خلاف.
(2) أي (ومن كان فقيرًا) محتاجًا إلى مال اليتيم – وهو يحفظه ويتعاهده – (فليأكل بالمعروف) وأتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: إني لفقير، وليس لي شيء، ولي يتيم. فقال «كل من مال يتيمك، غير مسرف، ولا مبذر، ولا متأثل» .
(3) على الأصح، وقاله الشيخ وغيره، فلو كانت أجرة مثله عشرة دراهم، وقدر كفايته خمسة عشرة، لم يكن له إلا أجرة المثل، والعكس بالعكس.(5/195)
لأنه يستحق بالعمل والحجة جميعًا (1) فلم يجز أن يأخذ إلا ما وجدا فيه (2) (مجانًا) فلا يلزمه عوضه إذا أيسر (3) لأنه عوض عن عمله، فهو فيه كالأجير، والمضارب (4) (ويقبل قول الولي) بيمينه (5) (والحاكم) بغير يمين (6) (بعد فك الحجر في النفقة) وقدرها (7)
__________
(1) فبالعمل كالزكاة، وبالحاجة لآية (فليأكل) ولخبر "كل" ومن يمنع الفقير عن معاشه بالمعروف، ونص أحمد على أكله منه بالمعروف.
(2) أي العمل والحاجة في الولي، ولو لم يقدره حاكم.
(3) أما الأب فلا يلزمه، رواية واحدة، لأن له أن يأخذ من مال ولده ما شاء، مع الحاجة وعدمها، والفقير غير الأب مجانًا على الأصح، لأن الله أمر بالأكل من غير ذكر عوض، فأشبه سائر ما أمر بأكله.
(4) أي وهما لا يلزمهما عوض ما أخذاه على عملهما، فلم يلزم الولي، ولأنه لو وجب عليه إذا أيسر لكان واجبًا في الذمة قبل اليسار فإن اليسار ليس سببًا للوجوب، والآية والخبر لم يذكر فيهما عوض، ويأكل ناظر وقف بمعروف، قال الشيخ: لا يقدم بمعلومه بلا شرط، إلا أن يأخذ أجرة عمله مع فقره كوصي يتيم، وأما الوكيل في الصدقة فلا يأكل منها شيئًا، لأجل عمله، لأنه منفذ، ليس بعامل، مُنَمٍّ، مثمر.
(5) بلا نزاع، لأنه أمين كالمودع.
(6) لولايته، وعدم التهمة، والأب كالحاكم وأولى، ولأنه ليس لولده عليه مخاصمة.
(7) أي إذا ادعى من زال حجره تعديا في النفقة عليه، أو على ماله، أو تعديا في قدرها، ليرجع على الولي.(5/196)
ما لم يخالف عادة وعرفًا (1) ولو قال: أنفقت عليك منذ سنتين. فقال: من سنة. قدم قول الصبي (2) لأن الأصل موافقته، قاله في المبدع (3) (و) يقبل قول الولي أيضًا في وجود (الضرورة، والغبطة) إذا باع عقاره وادعاهما ثم أنكره (4) (و) يقبل قول الولي أيضًا في (التلف) (5) .
__________
(1) أو يعلم كذب الولي، فلا يقبل قوله، لمخالفته الظاهر، وتعتبر العادة والعرف في مسائل كثيرة، حتى جعلت أصلا، فالعادة محكمة، معمول بها شرعا، لقول ابن مسعود: ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن. رواه أحمد وهي عبارة عما يستقر في النفوس، من الأمور المتكررة، المعقولة عند ذوي الطباع السليمة، والعرف: كل ما عرفته النفوس، مما لا ترده الشريعة، وقيل: ما عرفه العقلاء بأن حسن، وأقرهم الشارع عليه.
(2) أي فقال الصبي ونحوه – بعد فك الحجر عنه – بل من سنة. قدم قول الصبي وكذا لو قال الولي: مات أبوك من سنتين، وقال الصبي: بل من سنة، وأنفقت علي من أوان موته. قدم قول الصبي بيمينه.
(3) وكذا قال القاضي: القول قول الغلام، لأن الأصل حياة والده، واختلافهما في أمر ليس الوصي أمينا فيه، فقدم قول من يوافق قوله الأصل.
(4) أي وادعى الولي الضرورة والغبطة المقتضية لبيع العقار، ثم أنكره الصبي، وعلم منه، أنه لا يعتبر ثبوت ذلك عند الحاكم، لكنه أحوط، دفعا للتهمة.
(5) أي تلف مال المحجور عليه أو بعضه، لأنه أمين، لكن بيمينه، لاحتمال قول الصبي.(5/197)
وعدم التفريط، لأنه أمين، والأصل براءته (1) (و) يقبل قوله أيضًا في (دفع المال) إليه بعد رشده، لأنه أمين (2) وإن كان بجعل لم يقبل قوله في دفع المال، لأنه قبضه لنفعه كالمرتهن (3) ولولي مميز وسيده أن يأذن له في التجارة (4) فينفك عنه الحجر في قدر ما أذن له فيه (5) .
__________
(1) وفي الإنصاف: إن ادعى على الولي تعديا، أو ما يوجب ضمانا، فالقول قوله بلا نزاع.
(2) أشبه المودع، لأنه إنما قبض المال لمصلحة الصبي ونحوه.
(3) أي في دعواه رد الرهن، وكالمستعير، فلم تقبل دعوى الرد، ولم يفرق بعض الأصحاب بين من بجعل أو لا. وذكر الموفق وغيره احتمالا، أن القول قول الصبي، لأن الأصل معه، ولقوله {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} فمن ترك الإشهاد فقد فرط والأول المذهب.
(4) أي ولولي حر مميز، وسيد قن مميز، أن يأذن لموليه وقنه المميز في التجارة، وفاقًا لأبي حنيفة، لقوله {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} ولأنه عاقل محجور عليه، فصح تصرفه بإذن وليه وسيده، كالعبد الكبير، والسفيه، وأما المجنون، والطفل فلا يصح تصرفهما مطلقًا.
(5) كالقن، فإن أذن لهما في التجارة في مائة، مثلا، لم يصح تصرفهما فيما زاد عليها، وكذا في نوع كـ"بر" فلا يتعداه إلى غيره، كوكيل، ووصي في نوع لأن الحجر لم ينفك إلا في قدر ما أذن فيه ولا يؤجر بنفسه، ولا يتوكل لغيره، ويجوز الإذن لسيد العبد بغير خلاف، لأن الحجر عليه لحق السيد، وإن رآه وليه أو سيده يتجر، فلم ينهه، لم يصر مأذونا له، لأنه تصرف يفتقر إلى الإذن، فلم يقم السكوت مقامه، لكن، قال الشيخ: الذي ينبغي أن يقال فيما إذا رأى عبده يبيع، فلم ينهه في جميع المواضع، أنه لا يكون إذنا، ولا يصح التصرف، ولكن يكون تغريرا، فيكون ضامنا، بحيث أنه ليس له أن يطالب المشتري بالضمان، فإن ترك الواجب عندنا كفعل المحرم، كما نقول فيمن قدر على إنجاء إنسان من هلكة، بل الضمان هنا أقوى.(5/198)
(وما استدان العبد لزم سيده) أداؤه (إن أذن له) في استدانته ببيع، أو قرض، لأنه غر الناس بمعاملته (1) (وإلا) يكن استدان بإذن سيده (ف) ـما استدانه (في رقبته) (2) يخير سيده بين بيعه، وفدائه بالأقل من قيمته، أو دينه، ولو أعتقه (3)
__________
(1) فلزمه جميع ما ادان، وكذا ما اقترضه ونحوه بإذن سيده، لأنه متصرف له، والمشترك لا بد من إذن الجميع، وفي الاختيارات: ولا يقبل من السيد دعوى عدم الإذن لعبده، مع علمه بتصرفه، ولو صدقه، فتسليطه عليه عدوان وهذا الصحيح من المذهب. وقال مالك والشافعي: إن كان في يده مال، قضيت ديونهم منه. وقال الموفق: لا فرق بين الدين الذي لزمه في المأذون فيه، أو فيما لم يؤذن له فيه، مثل أن أذن له في البر فاتجر في غيره، فإنه لا ينفك عن التغرير، إذ يظن الناس أنه مأذون له فيه.
(2) لأنه دين لزمه بغير إذن سيده، فتعلق برقبته، كالإتلاف، وعنه: إن علم معامله فلا شيء له، وصوبه الشيخ.
(3) ظاهره أنه مخير فيما ذكره، وهو غير مراد، لأنه إذا أعتقه لا يمكن تسليمه، بل يلزمه الذي عليه قبل العتق، وهو الأقل من قيمته أو الدين، وأما
التخيير بين بيعه وفدائه فحيث لم يعتقه، وإن أعتقه لزمه أن يفديه بأقل الأمرين قيمته، أو الدين، لأنه فوت رقبته على رب الحق بإعتاقه، ولا يلزمه أكثر من قيمته، كما لو لم يعتقه، فلو تعلق برقبته مائة، وقيمته خمسون، لم يلزمه سوى الخمسين.(5/199)
وإن كانت العين باقية ردت لربها (1) (كاستيداعه) أي أخذه وديعة فيتلفها (2) (وأَرش جنايته (3) وقيمة متلفه) فيتعلق ذلك كله برقبته (4) ويخير سيده كما تقدم (5) .
__________
(1) حيث أمكن أخذه لها، لبقاء ملكه عليها، لفساد العقد.
(2) أي فتعلق برقبته، لأنه الذي حال بينه وبين ماله.
(3) أي تعلق برقبته، سواء كان مأذونا له أو لا، رواية واحدة، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي.
(4) أي العبد، سواء كان مأذونا له في التجارة أو لا، إذ الإذن في التجارة لا يتضمن الإذن في الجنايات، والإتلافات، وقال عثمان: دينه على ثلاثة أقسام قسم يتعلق بذمة السيد، وهي الديون التي أذن له فيها، وقسم يتعلق برقبته، وهي ديون غير المأذون له مما ثبت ببينة، أو إقرار السيد، وقسم يتعلق بذمة العبد، وهو ما لم يثبت بغير إقرار العبد فقط.
(5) أي بين بيعه، وفدائه بالأقل من قيمته أو دينه، أو تسليمه إن لم يعتقه، وكذا كل ما تعلق بذمته، فإذا بيع وكان ثمنه أقل مما عليه، فليس لرب الدين ونحوه إلا ذلك، لأن العبد هو الجاني، فلم يجب على غيره شيء، وإن كان ثمنه أكثر، فالفضل للسيد، وإن اختار فداءه، لزمه أقل الأمرين، من قيمته أو أرش جنايته، لأن أرش الجناية إن كان أكثر، فلا يتعلق بغير العبد الجاني، لعدم الجناية من غيره، وإنما تجب قيمته، وإن كان أقل فلم يجب بالجناية إلا هو.(5/200)
ولا يتبرع المأذون له بدراهم، ولا كسوة (1) بل بإهداء مأْكول، وإعارة دابة (2) وعمل دعوة بلا إسراف (3) ولغير المأذون له الصدقة من قوته، بنحو رغيف، إذا لم يضره (4) وللمرأة الصدقة من بيت زوجها بذلك، ما لم تضطرب العادة (5) .
__________
(1) لأن ذاك ليس من التجارة، ولا يحتاج إليها، فأشبه غير المأذون له، ولا يتبرع بنحو كتاب، ولا فرس، وظاهره: ولو قل، ولعله ما لم تجربه عادة.
(2) أي بل يجوز له التبرع بإهداء مأكول بلا إسراف، وإعارة دابة، وثوب ونحوه.
(3) أي ويجوز له التبرع بعمل دعوة بضم الدال، وصدقة بيسير، بلا إسراف في الكل، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة المملوك، وتزوج أبو سعيد مولى لبني أسد، فحضر دعوته ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ابن مسعود، وحذيفة، وأبو ذر، ولأنه مما جرت به عادة التجار فيما بينهم، فيدخل في عموم الإذن.
(4) أي ولغير المأذون له في التجارة، كالقن، الصدقة من قوته بنحو رغيف، كفلس، وبيضة، إذا لم يضره، لأنه مما جرت العادة بالمسامحة فيه.
(5) أي وللمرأة الصدقة من بيت زوجها برغيف ونحوه، لخبر «إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت وله مثله بما كسب، وللخازن مثل ذلك، من غير أن ينقص من أجورهم شيء» ولم يذكر إذنا، وقال لأسماء «ارضخي ما استطعت، ولا توعي، فيوعي الله عليك» وكذا قالت له امرأة: ما يحل لنا من أموالهم؟ قال «الرطب تأكلينه وتهدينه» ولأن العادة السماح بذلك، وطيب النفس به، فجرى مجرى صريح الإذن، ما لم يمنع، أو تضطرب العادة، يعني تختلف، نحو أن يكون بعضا يمنع، وبعضًا لا يمنع، أو يشك في رضاه، فلا يجوز إلا عن طيب نفس منه.(5/201)
أو يكن بخيلاً، أو تشك في رضاه (1) .
__________
(1) أي ولها الصدقة من بيته، ما لم يكن بخيلاً، أو تشك في رضاه، فيحرم الإعطاء من ماله بلا إذنه، لأن الأصل عدم رضاه إذا، كصدقته من مالها، فإن كان في بيت الرجل من يقوم مقام امرأته، كجاريته وأخته وغلامه المتصرف في بيت سيده وطعامه، جاز له الصدقة بنحو رغيف من ماله، ما لم يمنع أو يكن بخيلاً، أو يضطرب عرف، أو يشك في رضاه.(5/202)
باب الوكالة (1)
بفتح الواو وكسرها: التفويض (2) تقول: وكلت أمري إلى الله. أي فوضته إليه (3) واصطلاحًا: استنابة جائز التصرف مثله، فيما تدخله النيابة (4) .
__________
(1) الوكالة جائزة بالكتاب، والسنة، والإجماع، قال تعالى {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} وقال {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} وقال {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ووكل صلى الله عليه وسلم عروة بن الجعد في شراء الشاة، وأبا رافع في تزويج ميمونة، وعمرو بن أمية في تزوج أم حبيبة، وكان يبعث عماله في قبض الزكاة ويأمر بإقامة الحدود، وغير ذلك، وحكى الموفق وغيره إجماع الأمة على جوازها في الجملة، ولدعاء الحاجة إليها، إذ لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه بنفسه.
(2) والفتح أشهر، اسم مصدر بمعنى التوكيل، وهي لغة: التفويض والحفظ.
(3) أي تقول: وكلت أمري، ووكلت الأمر إليه. اكتفيت به، وتطلق ويراد بها الحفظ، ومنه {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي حفيظ.
(4) أي والوكالة اصطلاحًا وشرعا: استنابة جائز التصرف، فيما وكل فيه "مثله" أي جائز التصرف وهو الحر، المكلف، الرشيد، سواء كان الموكل والوكيل ذكرين، أو أنثيين، أو مختلفين «فيما تدخله النيابة» من حقوق الله تعالى، وحقوق الآدميين، على ما يأتي تفصيله، ويستثنى من ذلك من يتصرف بالإذن، كالعبد، والوكيل، والمضارب، والمحجور عليه لسفه، إلا لما لهم فعله، ويمكن أن يكون المراد هنا بجائز التصرف من يصح منه فعل ما وكل فيه، وأركانها: الموكل، والوكيل، والموكل فيه.(5/203)
(تصح) الوكالة (بكل قول يدل على الإذن) (1) كـ "افعل كذا" أو أذنت لك في فعله، ونحوه (2) وتصح مؤقتة، ومعلقة بشرط (3) كوصية وإباحة أكل، وولاية قضاء، وإمارة (4) .
__________
(1) أي إيجاب الوكالة بكل قول يدل على الإذن في التصرف بلا خلاف.
(2) أي تصح بنحو، بع عبدي، أو أعتقه، أو أذنت لك في كذا ونحو ذلك، كأقمتك مقامي، أو فوضت إليك في كذا، أو جعلتك نائبًا عني، لأنه لفظ دال على الأذن فصح، كلفظها الصريح، وفي الفروع: دل كلام القاضي على انعقادها بفعل دال كبيع، وهو ظاهر كلام الشيخ فيمن دفع ثوبه إلى قصار، أو خياط، وهو أظهر، كالقبول وتنعقد بالخط، والكتابة الدالة على الوكالة، إذ هي فعل دال على المعنى.
(3) أي وتصح الوكالة مؤقتة، كأنت وكيلي شهرا؛ ونحوه، قال في الإنصاف بلا نزاع. وتصح معلقة بشرط، كإذا تمت مدة الإجارة في داري فبعها، ونحوه، على الصحيح، وهو مذهب أبي حنيفة.
(4) أي يصح تعليق الوكالة، وتوقيتها، كما يصح تعليق هذه المذكورات وتوقيتها بشرط، كقوله: إذا قدم الحاج فبع هذا. أو: إذا دخل رمضان فافعل كذا. أو إذا طلب أهلي منك شيئًا فادفعه لهم. ونحوه مما يصح معلقا، ومؤقتا بشرط، وعند الشافعي إن تصرف صح لوجود الإذن، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال «أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فابن رواحة» ولأنه لو قال: وكلتك في شراء كذا، في وقت كذا. صح بلا خلاف، وقال ابن القيم رحمه الله: يصح تعليق الوكالة بالشرط، كما يصح تعليق الولاية بالشرط، كما صحت به السنة، بل تعليق الوكالة أولى بالجواز، فإن الولي وكيل وكالة عامة، فإنه إنما يتصرف نيابة عن المولي له فوكالته أعم من وكالة الوكيل في الشيء المعين، فإذا صح تعليقها، فتعليق الوكالة الخاصة أولى بالصحة. قال: وقد شرع الله لعباده التعليق بالشروط، في كل موضع يحتاج إليه العبد، حتى بينه وبين ربه، وتعليق العقود، والفسوخ، والتبرعات والالتزامات، وغيرها، بالشروط، أمر قد تدعو إليه الضرورة، أو الحاجة أو المصلحة فلا يستغني عنه المكلف، وقد علق النبي صلى الله عليه وسلم ولاية الإمارة بالشروط، وهذا تنبيه على تعليق الحكم في كل ولاية، وعلى تعليق الوكالة الخاصة والعامة.(5/204)
(ويصح القبول على الفور والتراخي) (1) بأن يوكله في بيع شيء، فيبيعه بعد سنة (2) أو يبلغه أنه وكله بعد شهر، فيقول: قبلت (3) (بكل قول أو فعل دال عليه) أي على القبول (4) لأن قبول وكلائه عليه السلام كان بفعلهم (5) وكان متراخيًا عن توكيله إياهم، قاله في المبدع (6) .
__________
(1) أي ويصح قبول الوكالة على الفور من غير تراخ، ويصح على التراخي، وهذا مذهب الشافعي وغيره.
(2) أو يأمره بفعل شيء فيفعله بعد مدة طويلة، أو بلغه أن زيدا وكله في بيع شيء، فباعه من غير قبول صح.
(3) أي فيصح القبول.
(4) يعني من الوكيل، قال في الإنصاف: بلا نزاع. ويتخرج انعقادها بالخط، والكتابة الدالة على ذلك، قال ابن نصر الله: ولم يتعرض له الأصحاب، ولعله داخل في قوله: أو فعل. لأن الكتابة فعل دال على المعنى.
(5) كما هو مستفيض من غير وجه، كقبض الزكاة، وإقامة الحدود، وغير ذلك.
(6) وقاله الموفق وغيره، ولأنه إذن في التصرف، والإذن قائم، ما لم يرجع
عنه، أشبه الإباحة، وكذا سائر العقود الجائزة، كالشركة، والمضاربة، والمساقاة، والمزارعة، يصح القبول فيها بالفعل فورا، ومتراخيا.(5/205)
ويعتبر تعيين الوكيل (1) (ومن له التصرف في شيء) لنفسه (فله التوكيل) فيه (والتوكل فيه) (2) . أي جاز أن يستنيب غيره (3) وأن ينوب عن غيره، لانتفاء المفسدة (4) والمراد فيما تدخله النيابة ويأتي (5) ومن لا يصح تصرفه بنفسه فنائبه أولى (6) فلو وكله في بيع ما سيملكه (7) .
__________
(1) كأن يقول: وكلت فلانا في كذا. فلا يصح: وكلت أحد هذين. وكذا من لا يعرفه، أو لم يعرف موكله، للجهالة، لا علمه بالوكالة.
(2) لأن النائب فرع عن المستنيب.
(3) أي من له التصرف في شيء لنفسه، جاز أن يستنيب غيره في ذلك الشيء، وإلا فلا، سوى توكيل أعمى ونحوه في عقد ما يحتاج إلى رؤية، لأن منعه لعجزه عن العلم بالمبيع، لا لمعنى فيه.
(4) أي وجاز لمن له التوكل في شيء أن ينوب عن غيره في ذلك الشيء، لانتفاء المفسدة في تلك النيابة.
(5) أي قريبًا موضحًا، مستثنى منه ما لا تدخله النيابة.
(6) أي من لا يصح تصرفه، فحيث انتفى الأصل انتفى الفرع.
(7) لم يصح التوكيل، لأن الموكل لا يملكه حين التوكيل، وهذا تفريع على قوله: ومن لا يصح تصرفه لنفسه فنائبه أولى، ونقل الصحة فيما سيملكه تبعا لمملوك، كبع هذا وما يحدث منه.(5/206)
أو طلاق من يتزوجها لم يصح (1) ويصح توكيل امرأة في طلاق نفسها وغيرها (2) وأن يتوكل واجد الطول، في قبول نكاح أمة لمن تباح له (3) وغني لفقير في قبول زكاة (4) وفي قبول نكاح أخته ونحوها لأجنبي (5) (ويصح التوكيل في كل حق آدمي من العقود) (6) .
__________
(1) أي التوكيل، وكذا إن قال: إن تزوجت فلانة، فقد وكلتك في طلاقها. بخلاف: إن اشتريت فلانًا فقد وكلتك في عتقه، لصحة تعليق العتق على الملك.
(2) هذا استثناء مما تقدم، فيصح توكيل امرأة في طلاق نفسها، قولا واحدا كما يأتي، ويصح في طلاق غيرها، من ضرة أو غيرها، لأنها لما ملكت طلاق نفسها بجعله إليها، ملكت طلاق غيرها.
(3) أي ويصح أن يتوكل واجد الطول، أو غير خائف العنت، في قبول نكاح أمة لمن تباح له الأمة، من عبد، أو حر عادم الطول، خائف العنت.
(4) أي ويصح أن يتوكل غني لفقير في قبول زكاة، أو كفارة، أو نذر، لأن المنع في هذه لنفسه للتنزيه، لا لمعنى فيه يقتضي منع التوكيل.
(5) أي ويصح التوكيل في قبول نكاح أخته ونحوها – كعمته، وخالته، وحماته – لأجنبي لا تحل له، لكن يشترط لعقد النكاح تسمية الموكل، ولو نوى أنه قبله لموكله، ولم يذكره لم يصح، ولا يصح توكيل العبد، والسفيه في غير مالهما فعله، وتصح وكالة المميز بإذن وليه فيما لا يعتبر له البلوغ.
(6) بالإجماع، لما تقدم من الآيات والأخبار، وما يأتي، سواء كانت متعلقة بالمال، أو ما يجري مجراه، وسواء كان الموكل حاضرًا أو غائبًا.(5/207)
لأنه عليه السلام وكل عروة بن الجعد في الشراء (1) وسائر العقود، كالإجارة، والقرض، والمضاربة، والإبراء، ونحوها، في معناه (2) (والفسوخ) كالخلع، والإقالة، (والعتق، والطلاق) (3) لأنه يجوز التوكيل في الإنشاء، فجاز في الإزالة بطريق الأولى (4) (والرجعة (5)
__________
(1) قال: أعطاني دينارا فقال "اشتر لنا شاة" فاشتريت شاتين بدينار، وبعت إحداهما بدينار، فأتيته بشاة ودينار. الحديث، ووكل في قبول النكاح وغيره، مما ينيف على ثلاثين حديثًا، تدل دلالة واضحة على صحة الوكالة في العقود وغيرها، وهو إجماع.
(2) أي سائر العقود مما ذكر ونحوها، كصلح، وهبة وإقرار، وضمان، وكفالة، وحوالة، وشركة، ووديعة، وجعالة، ومساقاة، وصدقة، ووصية، ونحو ذلك، في معنى التوكيل، لأن الحاجة تدعو إليها، كدعائها إلى التوكيل، فيثبت فيها حكمه، وقال الموفق وغيره: لا نعلم فيه خلافًا، وكذا الكتابة، والتدبير، والإنفاق، والقسمة، والحكومة، والوكالة في الوقف، وحكاه في الإنصاف في الجميع إجماعًا، وقال أبو حنيفة: للخصم أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضرا. والجمهور على خلافه، لإجماع الصحابة، فإن عليا وكل عقيلا عند أبي بكر، وقال: ما قضى له فلي، وما قضي عليه فعلي، ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان، ولدعاء الحاجة إلى ذلك، فقد لا يحسن، أو لا يحب أن يتولاها بنفسه، لأن للخصومة قحما.
(3) أي أنه يصح التوكيل فيها، وهو كذلك بلا خلاف.
(4) ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك، فأشبه البيع.
(5) أي ويصح التوكيل في الرجعة، لأنه يملك بالتوكيل الأقوى، وهو إنشاء النكاح، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فتلافيه بالرجعة أولى، وظاهره أن التوكيل في الرجعة للمرأة صحيح، سواء كان لها في رجعة نفسها أو غيرها.(5/208)
وتملك المباحات من الصيد، والحشيش، ونحوه) كإحياء الموات (1) لأنها تملك مال بسبب لا يتعين عليه، فجاز كالابتياع (2) (لا الظهار) لأنه قول منكر وزور (3) (واللعان والأَيمان) والنذور والقسامة (4) والقسم بين الزوجات (5) والشهادة والرضاع (6) والالتقاط، والاغتنام (7) .
__________
(1) والاحتطاب، واستقاء الماء، فيصح التوكيل في ذلك، بلا خلاف.
(2) وكالاتهاب فيصح التوكيل فيه.
(3) ومحرم، فلا يجوز فعله، ولا الاستنابة فيه، أشبه بقية المعاصي.
(4) وكذا الإيلاء، لأنها تتعلق بعين الحالف والناذر، فأشبهت العبادات البدنية، والحدود، فلا يصح الاستنابة فيها.
(5) أي لا تصح الاستنابة فيه، لأنه يتعلق ببدن الزوج، لأمر يختص به، ولا يوجد في غيره.
(6) أي لا تصح استنابة في الشهادة، بأن يقول: اشهد عني. لتعلقها بعين الشاهد، لأنها خبر عما رآه أو سمعه، ولا يتحقق ذلك في نائبه، فإن فعل كان شاهدا على شهادته، ولا في الرضاع، كأن تقول امرأة لامرأة: أرضعي عني لأنه يختص بالمرضعة، والمرتضع، لأمر يختص بإنبات لحم المرتضع، وانشاز عظمه من لبنها.
(7) أي ولا يصح التوكيل في الالتقاط، فإذا فعل ذلك فالتقط، كان أحق
من الآمر، ولأن المغلب فيه الائتمان، ولا يصح في الاغتنام، لأنه مستحق بالحضور، فلا طلب للغائب به.(5/209)
والغصب، والجناية، فلا تدخلها النيابة (1) (و) تصح الوكالة أيضًا (في كل حق لله تدخله النيابة من العبادات) (2) كتفرقة صدقة، وزكاة، ونذر، وكفارة (3) لأنه عليه السلام كان يبعث عماله لقبض الصدقات، وتفريقها (4) وكذا حج، وعمرة، على ما سبق (5) .
__________
(1) أي ولا يصح التوكيل في الغصب، والجناية، لأن ذلك محرم، وكذلك كل محرم، لأنه لا يحل له فعله بنفسه، فلم تجز النيابة فيه، وقوله «فلا تدخلها النيابة» يعني الظهار، وما عطف عليه، فلا تصح الوكالة فيه، لعدم قبوله النيابة.
(2) يعني المتعلقة بالمال.
(3) قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه. ويجوز للمخرج التوكيل في إخراجها، ودفعها إلى مستحقها، ولا يأخذ لنفسه من الصدقة، ولا لأجل العمل، لأن لفظ الموكل ينصرف إلى دفعه إلى غيره، ويجوز لولده، ووالده، إذا كان من أهل الصدقة، ويجوز أن يقول لغيره: أخرج زكاة مالي من مالك. لأنه اقتراض من مال وكيل، وتوكيل له في إخراجه.
(4) كما هو مستفيض من غير وجه، ومنه ما في الصحيحين: أنه بعث عمر على الصدقة. وقال لمعاذ: «صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم» وكذا خلفاؤه، وولاة المسلمين.
(5) أي في كتاب المناسك، سواء كان نفلاً مطلقًا، أو فرضًا، من نحو معضوب، وتقدم بأدلته.(5/210)
وأما العبادات البدنية المحضة (1) كالصلاة، والصوم، والطهارة، من الحدث، فلا يجوز التوكيل فيها (2) لأنها تتعلق ببدن من هي عليه (3) لكن ركعتا الطواف تتبع الحج (4) (و) تصح في (الحدود في إثباتها، واستيفائها) (5) لقوله عليه السلام «واغد يا أُنيس إلى امرأَة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فاعترفت، فأمر بها فرجمت، متفق عليه (6) .
__________
(1) يعني الخالصة، وهي ما لا تتعلق بالمال.
(2) قولا واحد، وكذا الاعتكاف، وتجديد الوضوء، ونحوه مما يتعلق بالبدن فحسب.
(3) أي فلا يقوم غيره مقامه، ولأن الثواب عليه لأمر يخصه، فلا تدخله النيابة، إلا أن الصيام المنذور يفعل عن الميت، أداء لما وجب عليه، وليس بتوكيل وتصح طهارة الخبث لأنها من التروك، وتجوز الاستنابة في صب الماء، وإيصاله إلى الأعضاء.
(4) وإن كانت الصلاة لا تدخلها النيابة، لكن دخلت تبعا، وهذا استدراك من قوله «وأما العبادات البدنية» الخ فالحقوق ثلاثة أنواع، نوع تصح الوكالة فيه مطلقًا، وهو ما تدخله النيابة من حقوق الله، وحقوق الآدمي، ونوع لا تصح الوكالة فيه مطلقًا، كالصلاة، والظهار، ونوع تصح فيه مع العجز دون القدرة، كحج فرض، وعمرته.
(5) أي وتصح الوكالة في إثبات الحدود، كحد زنا، وسرقة، واستيفائها ممن وجبت عليه، ويقوم الوكيل مقام الموكل، في درئها بالشبهات.
(6) فدل الحديث على صحة التوكيل في إثبات الحدود، واستيفائها، وأمر
النبي صلى الله عليه وسلم برجم ماعز فرجموه، ووكل عثمان عليا في إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة، ولأن الحاجة تدعو إليه، لأن الإمام لا يمكنه تولي ذلك بنفسه، وقال ابن رجب: بناء على أن القاضي ليس بنائب للإمام، بل هو ناظر للمسلمين، لا عن ولاية، ولهذا لا ينعزل بموته، ولا بعزله، فيكون حكمه في ولايته حكم الإمام، ولأنه يضيق عليه تولي جميع الأحكام بنفسه، ويؤدي ذلك إلى تعطيل مصالح الناس العامة، فأشبه من وكل فيما لا تمكن مباشرته عادة لكثرته.(5/211)
ويجوز الاستيفاء في حضرة الموكل، وغيبته (1) (وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه) إذا كان يتولاه مثله، ولم يعجزه (2) لأنه لم يأذن له في التوكيل، ولا تضمنه إذنه، لكونه يتولى مثله (3) .
__________
(1) وهو قول مالك، واستثنى بعضهم القصاص، وحد القذف، لاحتمال أن يعفو الموكل في حال غيبته فيسقط، والأول المذهب، لأن ما جاز استيفاؤه في حضرة الموكل، جاز في غيبته، كالحدود وسائر الحقوق، واحتمال العفو بعيد، ولأن قضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحكمون في البلاد، ويقيمون الحدود التي تدرأ بالشبهات، والأولى الاستيفاء بحضوره فيهما، لاحتمال عفوه.
(2) في قوله «ليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه» أحوال ثلاثة «أحدها» إذا كان يتولاه مثله، ولم يعجزه عمله، فليس له أن يوكل فيما وكل فيه، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي.
(3) فلم يجز له التوكيل، كما لو نهاه، ولأنه استؤمن فيما يمكنه النهوض
فيه، فلا يوليه غيره، كالوديعة، فإن كان لا يتولاه مثله، كالأعمال الدنية في حق أشراف الناس، المترفعين عن فعلها في العادة، أو يعجز عن عمله ككثرته، أو لكونه لا يحسنه، أو غير ذلك، فله التوكيل فيه، وحكي أنه لا نزاع فيه.(5/212)
(إلا أن يجعل إليه) بأَن يأْذن له في التوكيل (1) أو يقول: اصنع ما شئت (2) . ويصح توكيل عبد بإذن سيده (3) (والوكالة عقد جائز) (4) .
__________
(1) أي فيجوز له التوكيل، لأنه عقد أذن فيه، فكان له فعله، كالتصرف المأذون فيه، قال الموفق وغيره: لا نعلم فيه خلافًا، وهذا «الحال الثاني» .
(2) أي أو يقول: وكلتك فاصنع ما شئت أو: تصرف كيف شئت، فله أن يوكل، لأن لفظ: اصنع ما شئت. عام، فيدخل في عمومه التوكيل، «والحال الثالث» أن ينهى الموكل وكيله عن التوكيل، فلا يجوز له التوكيل، بغير خلاف، لأن ما نهاه عنه غير داخل في إذنه، فلم يجز له، كما لو لم يوكله، وكل وكيل جاز له التوكيل، فليس له أن يوكل إلا أمينا، لأنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين، فإن تغير فعليه عزله، فإن لم يعلم بالتغير فلا ضمان عليه، وإن عينه الموكل جاز وإن لم يكن أمينا، لأنه قطع نظره بتعيينه، ولا ينعزل الوكيل الثاني بموته ونحوه، ولا يملك عزله، ولو قال: وكل فلانا عني في بيع كذا، فقال الشيخ: لا يحتاج إلى تبيين أنه وكيله، أو وكيل فلان.
(3) لأن المنع لحق السيد، فجاز بإذنه، ولا يجوز بغير إذنه، لأنه لا يجوز له التصرف بغير إذن سيده، سوى ما يملكه وحده، فيجوز توكيله في الطلاق من غير إذن.
(4) أي من الطرفين، وكذا الشركة، والمضاربة، والمساقاة، والمزارعة، والوديعة، والجعالة، والمسابقة، والعارية، على ما يأتي تفصيله.(5/213)
لأنها من جهة الموكل إذن (1) ومن جهة الوكيل بذل نفع (2) وكلاهما غير لازم (3) فلكل واحد منهما فسخها (4) (وتبطل بفسخ أحدهما، وموته) (5) وجنونه المطبق (6) لأن الوكالة تعتمد الحياة والعقل، فإذا انتفيا انتفت صحتها (7) .
__________
(1) أي في التصرف، فكان لكل واحد منهما إبطاله، كالإذن في أكل طعامه.
(2) أي للموكل، لكل منهما إبطاله.
(3) أي من الطرفين، لا الإذن في الوكالة، ولا بذل النفع بها للموكل.
(4) أي الوكالة أي وقت شاء بلا نزاع، لعدم لزومها، وكذا الشركة، ونحوها مما تقدم.
(5) أي وتبطل الوكالة بفسخ الموكل أو الوكيل لها، وتبطل بموت الموكل أو الوكيل، وبموتهما معا بغير خلاف، إذا علم الحال، ومتى تصرف بعد فسخ الموكل أو موته فهو باطل إذا علم ذلك.
(6) أي وتبطل الوكالة بجنون أحدهما المطبق بفتح الباء، قال في الإنصاف وغيره: بلا خلاف نعلمه إذا علم الحال. لزوال أهلية التصرف، وكذا كل عقد جائز كالشركة، ولا تبطل بالإغماء قولا واحدًا.
(7) أي لانتفاء ما تعتمد عليه، وهو أهلية التصرف، لكن لو وكل ولي اليتيم، وناظر الوقف أو عقدا، أو غيرهما عقدا جائزا، كالمشاركة، والمضاربة، لم تنفسخ بموته، لأنه متصرف على غيره، اقتصر عليه في الإنصاف، وقطع به في الإقناع، وذكره ابن رجب وغيره.(5/214)
وإذا وكل في طلاق الزوجة ثم وطئها (1) أو في عتق العبد ثم كاتبه، أو دبَّره بطلت (2) (و) تبطل أيضًا بـ (عزل الوكيل) (3) ولو قبل علمه، لأنه وقع عقد لا يفتقر إلى رضى صاحبه، فصح بغير علمه، كالطلاق (4) .
__________
(1) بطلت الوكالة، لأنه دليل رجوعه، ورغبته فيها، واختيار إمساكها، لا بقبلتها، على الصحيح من المذهب، كما لا تصح الرجعة بها.
(2) أي الوكالة في العتق، للدلالة على رجوع الموكل فيه بالكتابة أو التدبير، وهذا الصحيح من المذهب.
(3) لأن له عزله أي وقت شاء بلا نزاع، وإن تصرف بعد علمه فتصرفه باطل.
(4) أي فيضمن ما تصرف فيه، وعنه: لا ينعزل قبل علمه. نص عليه، وهو مذهب الشافعي وغيره، واختاره الشيخ، وقال: هو الصواب، لما في ذلك من الضرر، لأنه قد يتصرف تصرفات فتقع باطلة، وربما باع الجارية فيطؤها المشتري، أو الطعام فيأكله، أو غير ذلك، فيتصرف فيه المشتري ويجب ضمانه، فيتضرر المشتري. والوكيل، وعليه: متى تصرف قبل علمه صح تصرفه. وهذا قول أبي حنيفة، حتى أنه لا يعزل نفسه إلا بحضرة الموكل، ولا ينعزل الشريك، والمضارب، حتى يعلم رب المال والشريك، لأنه ذريعة إلى عامة الأضرار، وهو تعطيل المال عن الفوائد والأرباح، حسن في اعتبار المقاصد، وسد الذرائع، قال في الإنصاف: وهو الأليق بالمذهب. وقال الشيخ: لا يضمن مطلقًا. وصوبه في الإنصاف، لأنه لم يفرط، وقال أيضًا: وعلى القول بالعزل قبل العلم، فتصرفاته صحيحة.(5/215)
ولو باع أَو تصرف فادعى أنه عزله قبله لم يقبل إلا ببينة (1) (و) تبطل أيضًا (بحجر السفيه) (2) لزوال أَهلية التصرف (3) لا بالحجر لفلس (4) لأنه لم يخرج عن أهلية التصرف (5) .
__________
(1) أي ولو باع وكيل، أو تصرف، فادعى موكله، أنه عزله قبل البيع أو التصرف، لم يقبل إلا ببينة تشهد بالعزل قبل، لأن الأصل بقاء الوكالة والشركة ونحوهما، وبراءة ذمة الوكيل، والشريك، ونحوه من ضمان ما أذن له فيه، بعد الوقت الذي ادعى الموكل عزل فيه، واختار الشيخ: لا يضمن. وقال: لو باع، أو تصرف، فادعى أنه عزله قبله لم يقبل، فلو أقام به بينة ببلد آخر، وحكم به حاكم، فإن لم ينعزل قبل العلم صح تصرفه، وإلا كان حاكمًا على الغائب، ولو حكم قبل هذا الحكم بالصحة حاكم لا يرى عزله قبل العلم، فإن كان قد بلغه ذلك نفذ، والحكم الناقض له مردود، وإلا وجوده كعدمه، والحاكم الثاني إذا لم يعلم بأن العزل قبل العلم، أو علم ولم يره، أو رآه ولم ير نقض الحكم المتقدم، فحكمه كعدمه، وقبض الثمن من وكيله دليل بقاء وكالته، وأنه قول أكثر العلماء. اهـ. إلا الطلاق فيقبل بلا بينة.
(2) أي وتبطل الوكالة أيضًا بحجر السفيه في تصرف مالي، وكيلا كان أو موكلا، حيث اعتبر رشده.
(3) أي فلا يملكه غيره من جهته كالمجنون، والمراد فيما ينافيه، بخلاف ما لا ينافيه كالطلاق.
(4) أي فالوكالة بحالها في شراء شيء في ذمته، أو في ضمان، أو اقتراض، أو خصومة، أو طلاق، أو خلع، أو قصاص، ونحو ذلك.
(5) يعني بالفلس، فصحت وكالته، لعدم ما ينافيها.(5/216)
لكن إن حجر على الموكل، وكانت في أَعيان ماله بطلت (1) لانقطاع تصرفه فيها (2) (ومن وكل في بيع أو شراء، لم يبع ولم يشتر من نفسه) (3) لأَن العرف في البيع بيع الرجل من غيره، فحملت الوكالة عليه (4) ولأنه تلحقه تهمة (5) .
__________
(1) أي الوكالة فيما حجر عليه فيه من أعيان ماله، كأن يقول لوكيله: بع داري أو غلامي، أو نحوه.
(2) بالحجر عليه فيها، بخلاف ما لو كانت الوكالة في ذمته، كأن يقول: اشتر لي كذا وكذا.
(3) أي من وكل في بيع شيء لم يجز أن يبيعه لنفسه، ومن وكل في شراء شيء لم يجز أن يشتري من نفسه، وهذا مذهب الشافعي، وأصحاب الرأي.
(4) يعني كما لو صرح به، ولأن العرف في الشراء من غيره، فشراؤه من نفسه لموكله خلاف العرف، فكما لو صرح فقال: اشتره من غيرك.
(5) أي في بيعه من نفسه لنفسه، وشرائه من نفسه لنفسه، وعليه الجمهور، وعنه: يجوز إذا زاد على مبلغ ثمنه في النداء، أو وكل من يبيع وكان هو أحد المشترين. وفي الكافي: لأنه امتثل أمره، وحصل غرضه، فصح كما لو باع أجنبيًا، وإنما يصح بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء، ويتولى النداء غيره، لتنتفي التهمة، وذكر في الإنصاف احتمالا: لا يعتبران. لأن دينه، وأمانته تحمله على عمل الحق، وربما زاد خيرًا، ومحل الخلاف ما لم يأذن له، فإن أذن له في الشراء لنفسه جاز، وكذا في شرائه من نفسه، إلا في وجه عند الشافعية، وهو قد وكله في التصرف لنفسه فجاز، ويتولى طرفي العقد في ذلك، كتوكيله في بيعه، وتوكيل آخر في شرائه، ولا يجوز للدلال أن يكون شريكًا فيمن يزيد من
غير علم البائع، لأنه يحب أن لا يزيد أحد عليه، فلا ينصح، وإذا تواطأ جماعة على ذلك استحقوا التعزير، ومنه: أن يمنعوا من المناداة.(5/217)
(و) لا من (ولده) ووالده، وزوجته، ومكاتبه، وسائر من لا تقبل شهادته له (1) لأنه متهم في حقهم، ويميل إلى ترك الاستقصاء عليهم في الثمن، كتهمته في حق نفسه (2) وكذا حاكم، وأمينه (3) وناظر وقف (4) ووصي، ومضارب، وشريك عنان، ووجوه (5) (ولا يبيع) الوكيل (بعرض، ولا نساء، ولا بغير نقد البلد) (6) .
__________
(1) كابن بنته، وأبي أمه، فلا يجوز للوكيل البيع لأحدهم، ولا الشراء منه مع الإطلاق، وعلى القول بالصحة فهنا أولى.
(2) وفي الإنصاف: بناه بعضهم على ما تقدم، وقالوا: بخلاف أخيه وعمه فيصح. وقال في الإنصاف: وحيث حصل تهمة في ذلك لم يصح.
(3) أي وكالوكيل – فيما تقدم من البيع ونحوه لنفسه أو أقاربه – حاكم وأمينه، واستثناه بعضهم، لأن ولايته عامة.
(4) فلا يبيع من مال الوقف، ولا يشتري منه لنفسه، ولا لوالده، وولده، وزوجته، ونحوهم، ولا يؤجر إلا أن يكون الوقف على نفس الناظر، فإجارته لولده صحيحة بلا نزاع، وإن كان على غيره صحت عند بعضهم بأجرة المثل.
(5) وكذا عامل بيت المال ونحوه، لا يبيع ولا يشتري من نفسه، ولا ولده، ونحوه على ما تقدم.
(6) أي ولا يبيع الوكيل «بعرض» كثوب، وفلوس، «ولا نساء» أي بثمن مؤجل، ولا يبيع بغير نقد البلد، فإن فعل لم يصح.(5/218)
لأن عقد الوكالة لم يقتضه (1) فإن كان في البلد نقدان باع بأغلبهما رواجًا (2) فإن تساويا خير (3) (وإن باع بدون ثمن المثل) إن لم يقدر له ثمن (4) (أو) باع بـ (دون ما قدره له) الموكل صح (5) (أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل) وكان لم يقدر له ثمنًا (6) (أو مما قدره صح) الشراء (7) .
__________
(1) وإنما الأصل في البيع تحصيل الثمن، والحلول، وإطلاق النقد ينصرف إلى نقد البلد، فلو باع وأطلق، انصرف إلى الحلول، ونقد البلد، فلم يصح إلا حالا بنقد البلد، وهذا مذهب الشافعي.
(2) وكذا إن كان فيه نقود، باع بالأغلب رواجا.
(3) أي في أن يبيع بأيهما شاء، وقال غير واحد: بالأصلح. لأنه الذي ينصرف إليه الإطلاق، والمراد ما لم يعين الموكل نقدًا، فإن عينه تعين، لأنه إنما يتصرف بإذن الموكل.
(4) صح البيع، وضمن النقص، وهذا مذهب الشافعي وغيره، فيما لا يتغابن الناس بمثله، وأما ما يتغابن الناس بمثله في الغالب، كأن يبيع ما يساوي عشرة بتسعة، فيصح ولا ضمان عليه.
(5) أي البيع، وضمن النقص، ولو كان مما يتغابن به عادة، لأنه ليس له أن يبيع بدون ما قدر له.
(6) صح الشراء، وضمن الزائد عن ثمن المثل، إذا كان مما لا يتغابن به عادة، لأنه يمكن التحرز منه.
(7) أي أو اشترى بأكثر مما قدر له، صح الشراء، وضمن الزائد عن ثمن المثل، ولو كان مما يتغابن به عادة، لأنه غير مأذون فيه.(5/219)
لأَن من صح منه ذلك بثمن مثله صح بغيره (1) (وضمن النقص) في مسألة البيع (2) (و) ضمن (الزيادة) في مسألة الشراء لأَنه مفرط (3) والوصي، وناظر الوقف، كالوكيل في ذلك، ذكره الشيخ تقي الدين (4) .
__________
(1) أي غير ثمن المثل كالمريض.
(2) أي بدون ثمن المثل، مما لا يتغابن بمثله عادة، وأما ما يتغابن بمثله، كالدرهم في العشرة، فمعفو عنه إذا لم يكن الموكل قدر الثمن، وإذا حضر من يزيد على ثمن المثل، وباعه بثمن المثل، صح وضمن الزيادة، لأن عليه طلب الحظ لموكله.
(3) أي بترك الاحتياط، وطلب الحظ، ما لم يكن مما يتغابن بمثله عادة، كدرهم في عشرة، فلا، لعسر التحرز منه، ما لم يقدر له ثمن فيضمن، واختار الشيخ أنه لا يضمن ما لم يفرط، وصوبه في الإنصاف وغيره.
(4) قدس الله روحه، قال: وكذلك الشريك، والوصي، والناظر على الوقف، وبيت المال، ونحو ذلك. وقال: هذا ظاهر فيما إذا فرط، وأما إذا احتاط في البيع والشراء، ثم ظهر غبن، أو عيب لم يقصر فيه، فهذا معذور، يشبه خطأ الإمام أو الحاكم، ويشبه تصرفه قبل علمه بعزله، وأبين من هذا الناظر، والوصي، والإمام، والقاضي، إذا باع، أو أجر، أو زارع، أو ضارب، ثم تبين أنه بدون القيمة بعد الاجتهاد، أو تصرف تصرفا، ثم تبين الخطأ فيه، مثل أن يأمر بعمارة، أو غرس، ونحو ذلك، ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه، وهذا باب واسع، وكذلك المضارب، والشريك، فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية، قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة، أو حصول المفسدة، فلا لوم عليه
فيهما، وتضمين مثل هذا فيه نظر، وهو شبيه بما إذا قتل في دار الحرب من يظنه حربيًا فبان مسلما، فإن جماع هذا أنه مجتهد، مأمور بعمل اجتهد فيه، وكيف يجتمع عليه الأمر والضمان، هذا الضرب هو خطأ في الاعتقاد والقصد، لا في العمل، وأصول المذهب تشهد له بروايتين.(5/220)
وإن قال: بعه بدرهم. فباعه بدينار صح، لأَنه زاده خيرًا (1) (وإن باع) الوكيل (بأَزيد) مما قدره له الموكل صح (2) (أو قال) الموكل: (بع بكذا مؤجلاً، فباع) الوكيل (به حالاً) صح (3) .
__________
(1) ولأن من رضي بدرهم رضي مكانه دينارًا.
(2) أي البيع، كأن وكله في بيع شيء بمقدر فباعه بأكثر منه، سواء كانت الزيادة من جنس الثمن المأمور به أو لا، أو أطلق فباعه بأكثر من ثمن المثل، لأنه باع بالمأذون فيه، وزاد زيادة تنفعه ولا تضره، وأشبه ما لو شراه بدون ثمن المثل أو دون ما قدر له، كما لو قال: اشتر شاة بدينار فاشترى شاتين، لخبر عروة بن الجعد، لا إن قال: بعه بدرهم فباعه بثوب يساوي دينارا، لمخالفته موكله، وأما ما حصل للوكيل فقال الشيخ – فيمن دفع إلى رجل ثوبا يبيعه، فباعه وأخذ الثمن، فوهبه المشتري ثوبًا أو منديلاً – ينبغي أن يكون لصاحب الثوب، ولو نقص المشتري من الثمن درهما، فإن الضمان على الذي باع الثوب، فقد نص أحمد على أن ما حصل للوكيل من زيادة فهي للبائع، وما نقص فهو عليه، ولم يفرق بين أن يكون النقص قبل لزوم العقد أو بعده، وينبغي أن يفصل إذا لم يلزمه.
(3) أي البيع، لأنه زاده خيرًا، حيث باع بثمن حال ما أمر ببيعه مؤجلا.(5/221)
(أو) قال الموكل: (اشتر بكذا حالاً. فاشتري به مؤجلاً (1) ولا ضرر فيهما) أي فيما إذا باع بالمؤجل حالاً، أو اشتري بالحال مؤجلاً (صح) (2) لأنه زاده خيرًا (3) فهو كما لو وكله في بيعه بعشرة، فباعه بأكثر منها (4) (وإلا فلا) أي وإن لم يبع أو يشتر بمثل ما قدره له بلا ضرر، بأن قال: بعه بعشرة مؤجلة. فباعه بتسعة حالة (5) أو: باعه بعشرة حالة؛ وعلى الموكل ضرر، بحفظ الثمن في الحال أو: بعه بعشرة حالة. فباعه بأحد عشر مؤجلة (6) أو قال: اشتره بعشرة حالة. فاشتراه بأحد عشر مؤجلة، أو بعشرة مؤجلة مع ضرر، لم ينفذ تصرفه، لمخالفته موكله (7) .
__________
(1) ومثاله إن قال: اشتره بمائة حالا. فاشتراه بها مؤجلا، صح البيع، لأنه زاده خيرا بتأجيل الثمن، والعادة الزيادة في مقابلة الأجل فيهما.
(2) أي البيع، ومفهومه: إن تضرر لم يصح.
(3) أي ببيع المؤجل حالا، والشراء بالحال مؤجلا، وكان مأذونا فيه عرفا.
(4) لأنه زاده خيرا ينفعه ولا يضره، فكذا بيعه المؤجل حالا، وشراؤه بالحال مؤجلا.
(5) لم يصح، لمخالفته موكله، وحصول ضرره.
(6) لم يصح البيع.
(7) وحصول ضرره فيهما، وقال الموفق: ويحتمل أن ينظر فيه، فإن لم يكن له غرض في النسيئة صح، وإن كان فيها غرض – نحو أن يكون الثمن مما يستضر بحفظه في الحال، أو يخاف عليه من التلف أو المتغلبين، أو يتغير عن حاله
إلى وقت الحلول – فهو كمن لم يؤذن له، لأن حكم الحلول لا يتناول المسكوت عنه إلا إذا علم أنه في المصلحة كالمنطوق، أو أكثر، فيكون الحكم فيه ثابتا بطريق التنبيه أو المماثلة، ومتى كان في المنطوق به غرض مختص به، لم يجز تفويته، ولا ثبوت الحكم في غيره وقال الشارح: الأولى أن ينظر له فيه. ثم ذكر نحوه، وفي الإنصاف: إن حصل ضرر لم يصح. وصوبه، وإن أمره ببيعه في سوق بثمن، فباعه به في آخر صح، إن لم ينهه عنه، ولم يكن له فيه غرض، بلا نزاع.(5/222)
وقدم في الفروع أَن الضرر لا يمنع الصحة (1) وتبعه في المنتهى والتنقيح، في مسألة البيع (2) وهو ظاهر المنتهى أيضًا في مسألة الشراء (3) وقد سبق لك أن بيع الوكيل، بأَنقص مما قدر له، وشراءه بأكثر منه، صحيح ويضمن (4) .
__________
(1) أي مطلقا، وعبارته، وإن أمره بشراء بكذا حالا، أو ببيع بكذا نساء. فخالف في حلول وتأجيل، صح في الأصح.
(2) وعبارة المنتهى وشرحه: وكذا لو قال: بعه بألف نساء. فباعه به حالا صح، ولو مع ضرر يلحق الموكل بحفظ الثمن، لأنه زاده خيرا، ما لم ينهه عن بيعه حالا، فإن نهاه لم يصح.
(3) وعبارته وشرحه: ومن قال لوكيله عن شيء: اشتره بكذا. أي بثمن قدره له حالا، فاشتراه الوكيل أي بالثمن الذي قدره له موكله مؤجلا صح، وقيل: إن لم يتضرر. انتهى، فظاهره ما ذكره الشارح، وفي شرحه له: ولو تضرر، ما لم ينهه، على قياس ما سبق. وفي الإقناع: ولو استضر بقبض الثمن في الحال، ما لم ينهه. أي عن البيع حالا، فإن نهاه لم يصح.
(4) فيقتضي أن البيع والشراء فيما ذكر صحيحان، ويضمن الوكيل النقص في مسألة البيع، والزيادة في مسألة الشراء، فدل كلامه أنه يرى الصحة ولو مع الضرر.(5/223)
فصل (1)
(وإن اشترى) الوكيل (ما يعلم عيبه لزمه) أي لزم الشراء الوكيل (2) فليس له رده، لدخوله على بصيرة (3) (إن لم يرض) به (موكله) (4) فإن رضيه كان له، لنيته بالشراء (5) . وإن اشتراه بعين المال لم يصح (6) (فإن جهل) عيبه (رده) (7)
__________
(1) أي في بيان ما يلزم الموكل والوكيل، من نحو رد مبيع بعيب، وتسليم ثمن، وإشهاد، وما يملك فعله، وغير ذلك.
(2) ولم يلزم الموكل، حيث اشترى له ما لم يأذن فيه، لأن إطلاق البيع يقتضي السلامة من العيوب، ولا نزاع أنه ليس للوكيل شراء معيب.
(3) أي فليس للوكيل رد المبيع المعيب، لدخوله على بصيرة، وتفريطه، وعدم احترازه.
(4) أي ولزم الشراء الوكيل إن لم يرض بالعيب موكله، لأن الحق له.
(5) أي فإن رضي الموكل بعيب المبيع، كان المبيع المعيب له، لأن الوكيل نوى العقد له بالشراء، فلزمه إذا لم يكن الشراء له بعين ماله.
(6) أي وإن اشترى المعيب بعين مال الموكل، لم يصح الشراء، لأنه اشترى له ما لم يأذن له فيه، فخالف مقتضى الوكالة.
(7) أي وإن جهل وكيل عيب ما اشتراه حال عقد صح، وكان كشراء موكل بنفسه، لمشقة التحرز من ذلك، وله رده على بائعه، جزم به في الإقناع، والمنتهى، وصححه في الإنصاف، والمقنع، والمحرر، والعسكري، والحجاوي، وغيرهم.(5/224)
لأنه قائم مقام الموكل (1) وله أيضًا رده، لأنه ملكه (2) فإن حضر قبل رد الوكيل، ورضي بالعيب، لم يكن للوكيل رده، لأن الحق له (3) بخلاف المضارب، لأن له حقًا، فلا يسقط رضى غيره (4) فإن طلب البائع الإمهال حتى يحضر الموكل، بلم يلزم الوكيل ذلك (5) وحقوق العقد – كتسليم الثمن (6)
__________
(1) أي لأن الوكيل قائم مقام الموكل في الرد بالعيب، فله رده، ومثل ذلك خيار غبن أو تدليس.
(2) أي وللموكل أيضًا رد المعيب إن لم يرضه، لأنه ملكه، وحقوق العقد متعلقة به، ولو أسقط الوكيل خياره، وإن أنكر بائع أن الشراء وقع لموكل، حلف ولزم الوكيل، لرضاه بالعيب.
(3) أي فإن حضر الموكل قبل رد الوكيل المبيع المعيب، ورضى الموكل بالعيب، لم يكن للوكيل رده، لأن الحق للموكل وحده، وقد أسقطه.
(4) يعني فله الرد من أجل حصته من الربح، وإن رضي رب المال بالعيب، ولم يرض هو به.
(5) لأنه لا يأمن فوات الرد بهرب البائع، وفوات الثمن بتلفه، وإن أخره بناء على هذا القول فلم يرض به الموكل، فله الرد وإلا سقط، وإن قال البائع: قد رضي موكلك بالعيب، فالقول قول الوكيل بيمينه: أنه لا يعلم ذلك.
(6) أي تتعلق بالموكل، لانتقال الملك من البائع للموكل، وهذا مذهب الشافعي، فيطالب بثمن ما اشتراه وكيله له، وظاهره: مطلقًا. سواء كان الثمن معينا أو في الذمة، وفي المبدع وغيره: أنه يطالب الوكيل إذا كان الثمن في الذمة، وأما إن كان معينا فالمطالب الموكل، وقال الموفق وغيره: أما ثمن ما اشتراه إذا كان في الذمة فإنه يثبت في ذمة الموكل أصلاً، وفي ذمة الوكيل تبعا، كالضامن.(5/225)
وقبض المبيع، والرد بالعيب (1) وضمان الدرك – تتعلق بالموكل (2) . (ووكيل البيع يسلمه) أي يسلم المبيع (3) لأن إطلاق الوكالة في البيع يقتضيه لأنه من تمامه (4) (ولا يقبض) الوكيل في البيع (الثمن) بغير إذن الموكل (5) لأنه قد يوكل في البيع من لا يأمنه على قبض الثمن (6) (بغير قرينة) (7) .
__________
(1) أي يتعلقان بالموكل، كتعلق الثمن، فلو أبرأ الوكيل، لم يبرأ الموكل، كالضامن والمضمون عنه سواء.
(2) جزم به الموفق وغيره. والدرك التبعة. وقال الشيخ – فيمن وكل في بيع، أو شراء، أو استئجار – إن لم يسم موكله في العقد فضامن، وإلا فالروايتان. وظاهر المذهب تضمينه، ومن مملوكه يتصرف له تصرف الوكيل وهو يعلم، ثم فعل شيئا، فقال: ليس وكيلي. لم يقبل إنكاره، حتى لو قدر أنه لم يوكله، فتفريطه وتسليطه عدوان منه، يوجب الضمان.
(3) لمشتريه بلا نزاع.
(4) أي التسليم، ولا يملك الإبراء من الثمن، لأنه ليس من المبيع، ولا من تتمته، وهذا مذهب الشافعي.
(5) قطع به غير واحد، وكذا الوكيل في النكاح، لا يملك قبض المهر فيه، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وهو المفتى به.
(6) فلم يملكه بغير إذن الموكل، وإن تعذر قبض الثمن من المشتري، لم يلزم الوكيل شيء، لأنه ليس بمفرط، كما لو ظهر المبيع مستحقًا، أو معيبًا.
(7) أي تدل على قبض الثمن، أو يأذن الموكل في قبضه.(5/226)
فإن دلت القرينة على قبضه مثل توكيله في بيع شيء في سوق غائبًا عن الموكل (1) أو موضع يضيع الثمن بترك قبض الوكيل له (2) كان إذنًا في قبضه (3) فإن تركه ضمنه، لأنه يعد مفرطًا (4) هذا المذهب عند الشيخين (5) وقدم في التنقيح – وتبعه في المنتهى (6) – لا يقبضه إلا بإذن. فإن تعذر لم يلزم الوكيل شيء، لأنه ليس بمفرط، لكونه لا يملك قبضه (7)
__________
(1) كان ذلك إذنا في قبضه، فإن تركه عُدَّ مفرطا.
(2) أي للثمن، وكذا لو أفضى عدم القبض إلى ربا، كبيع ربوي بآخر ولم يحضر الموكل.
(3) لدلالة القرينة، فكان القبض حينئذ من مقتضى العقد.
(4) لكونه يملك قبضه، قال الموفق وغيره: لأن ظاهر حال الموكل أنه إنما أمره بالبيع لتحصيل ثمنه، فلا يرضى بتضييعه، ولهذا من فعل ذلك يعد مفرطا.
(5) الموفق والمجد، وصوبه في الإنصاف، وعليه الفتوى، وقطع به في الإقناع، وإن لم تدل قرينة على ذلك لم يكن له قبضه.
(6) وقال في الإنصاف: إنه المذهب؛ وقدمه في الفروع، واختاره القاضي وغيره.
(7) والوجه الثالث: يملكه مطلقًا، فإن تركه ضمن، وقال ابن عبدوس: له قبض الثمن إن فقدت قرينة المنع، وحيث جاز القبض لم يسلم المبيع قبل قبض ثمنه، أو حضور الموكل، وإلا ضمن.(5/227)
(ويسلم وكيل الشراء الثمن) (1) لأنه من تتمته وحقوقه، كتسليم المبيع (2) (فلو أَخره) أي أخر تسليم الثمن (بلا عذر وتلف) الثمن (ضمنه) لتعديه بالتأْخير (3) وليس لوكيل في بيع تقليبه على مشتر إلا بحضرته، وإلا ضمن (4) (وإن وكله في بيع فاسد) لم يصح ولم يملكه (5) لأن الله تعالى لم يأذن فيه (6) ولأن الموكل لا يملكه (7) .
__________
(1) أي للبائع بلا نزاع.
(2) أي فحكمه حكم تسليم البائع المبيع، قال الموفق وغيره: والحكم في قبض المبيع كالحكم في قبض الثمن في البيع.
(3) وتفريطه في إمساكه، وإن كان له عذر، مثل أن امتنع بائع من قبضه، أو ذهب لينقده، ونحو ذلك، فلا ضمان عليه، لأنه لم يتعد ولم يفرط، ووكيل في شراء أو قبض مبيع، لا يسلم الثمن حتى يتسلم المبيع.
(4) أي وليس لوكيل في بيع إعطاؤه لمشتر، ليقلبه بما يغيب به عن الوكيل، وإنما يقلبه بحضرة الوكيل، وذلك أن يقول: أريد أن أريه فلانا. فإن غاب به عن الوكيل وتلف، ضمنه الوكيل، لتعديه بدفعه له، وإن حضر الموكل جاز، لدلالة الحال على رضاه به.
(5) أي وإن وكله في بيع فاسد لم يصح، كشرطه على وكيل أن لا يسلم المبيع "ولم يملكه" يعني البيع الفاسد.
(6) أي في البيع الفاسد، وتقدم بيانه بأدلته.
(7) أي فالوكيل أولى أن لا يملكه.(5/228)
(ف) لو (باع) الوكيل إذًًا بيعًا (صحيحًا) لم يصح، لأَنه لم يوكل فيه (1) . (أَو وكله في كل قليل وكثير) لم يصح (2) لأنه يدخل فيه كل شيءٍ من هبة ماله’ وطلاق نسائه وإعتاق رقيقه، فيعظم الغرر والضرر (3) (أو) وكله في (شراء ما شاء (4) أو عينًا بما شاء، ولم يعين) نوعًا وثمنًا (لم يصح) (5) .
__________
(1) أي في البيع الصحيح لأنه إنما أذن له وقت كونه وكله في بيع محرم، فلم يملك الحلال بالإذن في الفاسد، كما لو أذن في شراء خمر وخنزير، لم يملك شراء الخيل والغنم.
(2) ذكره الآزجي اتفاق الأصحاب، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وكذا لو قال: وكلتك في كل شيء. أو في كل تصرف يجوز لي، أو كل مالي لم يصح التصرف فيه.
(3) ولأنه لا يصح التوكيل إلا في تصرف معلوم.
(4) لم يصح، لأنه قد يشتري ما لا يقدر على ثمنه.
(5) حتى يذكر النوع كبر، والثمن كدرهم، وفي الإنصاف: حتى يذكر النوع، وقدر الثمن. ثم قال: وعنه ما يدل على أنه يصح. وهو ظاهر ما اختاره في المغني والشرح. وقال ابن أبي موسى: إذا أطلق وكالته، جاز تصرفه في سائر حقوقه، وقيل: يكفي ذكر النوع فقط. اختاره القاضي، وقطع به ابن عقيل، وإن قدر له أكثر الثمن وأقله صح، لأنه يقل الغرر.(5/229)
لأنه يكثر فيه الغرر (1) وإن وكله في بيع ماله كله، أو ما شاء منه صح (2) قال في المبدع: وظاهر كلامهم – في بع من مالي ما شئت – له بيع ماله كله (3) (والوكيل في الخصومة لا يقبض) (4) لأن الإذن لم يتناوله نطقًا ولا عرفًا (5) لأنه قد يرضى للخصومة من لا يرضاه للقبض (6) .
__________
(1) لكثرة ما يمكن شراؤه. وعنه: ما يدل على أنه يصح، وهو ظاهر ما اختاره في المغني، وقال أحمد – في رجلين قال كل واحد منهما لصاحبه: ما اشتريت من شيء فهو بيني وبينك -: إنه جائز.
(2) لأنه يعرف ماله، فيعرف أقصى ما يبيع، فيقل الغرر، وما جاز التوكيل في جميعه جاز في بعضه، وكذا لو وكله في قبض ديونه، أو الإبراء منها، أو ما شاء منها صح.
(3) أي ظاهر ما ذكره الأصحاب تعريجا، وتكون "من" بيانية لا تبعيضة.
(4) وهذا مذهب الشافعي، ولا يقبل إقراره على الموكل بقبض الحق، ولا غيره وهذا مذهب مالك، والشافعي، لأن الإقرار يقطع الخصومة وينافيها، فلم يملك الوكيل الإقرار فيها، كالإبراء أو المصالحة على الحق بلا خلاف.
(5) لأن معنى الوكالة في الخصومة الوكالة في إثبات الحق، لا في قبضه.
(6) وفي الإنصاف: الذي ينبغي أن يكون وكيلا إن دلت قرينة، كما اختاره الموفق وغيره فيما إذا وكله في بيع شيء: أنه لا يملك قبض ثمنه إلا بقرينة، وفي الفنون: لا يصح ممن علم ظلم موكله في الخصومة. قال في الإنصاف: هذا مما لا شك فيه. وإن ظن ظلمه توجه المنع، وصوبه. وفي قوله {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق، أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره.(5/230)
(والعكس بالعكس) فالوكيل في القبض له الخصومة (1) لأنه لا يتوصل إليه إلا بها (2) فهو إذن فيها عرفًا (3) (و) إن قال الموكل (اقبض حقي من زيد) ملكه من وكيله (4) لأنه قائم مقامه (5) و (لا يقبض من ورثته) لأنه لم يؤمر بذلك، ولا يقتضيه العرف (6) (إلا أن يقول) الموكل للوكيل: اقبض حقي (الذي قبله) أو عليه (7) فله القبض من وارثه، لأن الوكالة اقتضت قبض حقه مطلقًا (8) .
__________
(1) ولا تلزمه، علم رب الحق ببذل الغريم ما عليه، أو جحده، أو مطله، وسواء وكل في قبض دين أو عين، أو في قسم شيء، أو بيعه.
(2) أي بالخصومة، فملكها لتثبيت ما وكل فيه.
(3) لأن القبض لا يتم إلا بها، وكما أنه لو وكل في شراء شيء ملك تسليم ثمنه.
(4) لاقتضاء العرف أن له قبضه من وكيله، وإن كان مقتضى اللفظ قبضه من زيد.
(5) أي لأن وكيله قائم عرفا مقام زيد، فيجرى مجرى تسليمه.
(6) أي لا يقتضي العرف القبض من الورثة، إذا قال: اقبض حقي من زيد. لأن الوارث غير قائم مقام الموروث في ذلك، لأن الحق انتقل إليه، واستحقت المطالبة عليه، لا بطريق النيابة، ولأنه قد يرى بقاء الحق عندهم دونه.
(7) أي الذي من جهة زيد، أو على زيد مثلا.
(8) أي من زيد، ومن وكيله، ومن وارثه، لأنه من حقه، لإتيانه بلفظ يشمل ذلك، بخلاف ما قبله.(5/231)
وإن قال: اقبضه اليوم. لم يملكه غدًا (1) (ولا يضمن وكيل) في (الإيداع إذا) أودع و (لم يشهد) وأَنكر المودع، لعدم الفائدة في الإِشهاد (2) لأَن المودع يقبل قوله في الرد والتلف (3) وأَما الوكيل في قضاء الدين إذا كان بغير حضور الموكل، ولم يشهد ضمن (4) إذا أَنكر رب الدين (5) وتقدم في "الضمان" (6) .
__________
(1) لتقييد الوكالة بزمن معين، لأنه قد يختص غرضه في زمن حاجته إليه دون غيره.
(2) أي على الوديع، ولعل المراد ما لم ينكر الورثة.
(3) أي فلا فائدة للموكل في الاستيثاق عليه، ولا يعد مفرطا، فإن أنكر الوديع دفع الوكيل الوديعة، فقول وكيل بيمينه.
(4) إذا لم يؤذن له في القضاء بغير إشهاد، وإن قضاه بحضرة الموكل لم يضمن، لأن حضوره قرينة رضاه بالدفع بغير بينة، وإن لم يعلم هل هو دين أو وديعة؟ فأنكر المدفوع إليه لم يضمن.
(5) سواء صدقه الموكل في القضاء أو كذبه، لأنه إنما أذن في قضاء مبرئ ولم يوجد.
(6) سبقه قلم، بل تقدم في الكلام على قضاء العدل، في «باب الرهن» في الفصل الذي بعد الباب.(5/232)
فصل (1)
(والوكيل أمين، لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط) (2) لأَنه نائب المالك في اليد والتصرف (3) فالهلاك في يده كالهلاك في يد المالك (4) ولو بجعل (5) فإن فرط أَو تعدى (6) .
__________
(1) أي فيما يلزم الوكيل ضمانه، وما لا يلزمه، وما يقبل قوله فيه، وغير ذلك.
(2) ولا تعد منه في ذلك، سواء كان ثمنا، أو مثمنا، أو غيرهما، قال الشيخ: ولو عزل قبل علمه بالعزل، وقلنا: ينعزل. لعدم تفريطه.
(3) وقائم مقامه في حفظه، والتكسب فيه، وغير ذلك.
(4) وكالمودع، والوصي، وأمين الحاكم، والشريك، والمضارب، والمرتهن ونحوهم، لأنه لو كلف الضمان مع تعذره لامتنع الناس من الدخول في الأمانات مع دعاء الحاجة إليها، وذلك ضرر.
(5) أي ولو كان الوكيل المدعي للتلف ونحوه بجعل، فلا يقال: إنه كالرد؛ وإن وكله في تحصيل أمواله، والتصرف فيها بالعشر، أو وكله مطلقًا على الوجه المعتاد، الذي يقتضي العرف أن له العشر، فله ذلك، فإنه يستحق العشر بشرط لفظي أو عرفي، واستيفاء المال بجزء شائع منه جائز في أظهر قولي العلماء.
(6) أي فإن فرط الوكيل في حفظ ما وكل فيه، أو تعدى عليه، كأن حمَّل الدابة ما لا تطيق، ضمن قولا واحدًا، وكذا سائر الأمناء، وإن أعطى الدلال قماشا يبيعه، فأودعه عند شخص أمين، عادتهم أن يودعوا عنده، فعدم منه شيء،
فلا شيء على الدلال، وإن كان الدلال فرط، فتصرف بما لم يؤذن له فيه، لا لفظا ولا عرفا، ضمن.(5/233)
أو طلب منه المال فامتنع من دفعه لغير عذر ضمن (1) (ويقبل قوله) أي الوكيل (في نفيه) أي نفي التفريط ونحوه (2) (و) في (الهلاك مع يمينه) (3) لأن الأصل براءة ذمته (4) .
__________
(1) أي ما امتنع من دفعه لغير عذر، فإن كان ثم عذر، بأن لم يمكنه الرد حينئذ، لحبس ونحوه، فلا ضمان عليه.
(2) كنفي التعدي، كما لو ادعى الموكل أن الوكيل لبس الثوب، أو حمل على الدابة لنفسه، أو فرط في حفظها.
(3) أي ويقبل قول الوكيل – في دعوى الهلاك لنحو عين مبيع، أو ثمنه – مع يمينه.
(4) فلا يكلف بينة، لأنه مما تتعذر إقامة البينة عليه، ولئلا يمتنع الناس من الدخول في الأمانات مع الحاجة إليها، ويلتحق بالوكيل كل من بيده شيء لغيره، كالأب، والوصي، وأمين الحاكم، والشريك، والمضارب، والمرتهن، والمستأجر والمودع، في أنه يقبل قولهم في التلف ونحوه، وقال الشيخ: والوكيل في الضبط والمعرفة، مثل من وكل رجلا في كتابة ماله وما عليه، كأهل الديوان، فقوله أولى بالقبول من وكيل التصرف، لأنه مؤتمن على نفس الإخبار بما له وما عليه، وهذه مسألة نافعة، ونظيرها إقرار كُتّاب الأمراء، وأهل ديوانهم، بما عليهم من الحقوق بعد موتهم، وإقرار كتّاب السلطان وبيت المال، وسائر أهل الديوان بما على جهاتهم من الحقوق، ومن ناظر الوقف، وعامل الصدقة، بما على الخراج ونحو ذلك، فإن هؤلاء لا يخرجون عن ولاية، أو وكالة.(5/234)
لكن إن ادعى التلف بأَمر ظاهر، كحريق عام (1) ونهب جيش. كلف إقامة البينة عليه (2) ثم يقبل قوله فيه (3) . وإن وكله في شراء شيءٍ، واشتراه، واختلفا في قدر ثمنه، قبل قول الوكيل (4) وإن اختلفا في رد العين، أَو ثمنها إلى الموكل، فقول وكيل متطوع (5) وإن كان بجعل فقول موكل (6) .
__________
(1) كلف إقامة البينة على وجود الحريق، وهذا استدراك من قول الماتن: قبل قوله.
(2) أي على نهب الجيش في تلك الناحية، لأن وجود الأمر الظاهر مما لا يخفى، فلا يتعذر إقامة البينة عليه، جزم به القاضي وغيره، وهو مذهب الشافعي وغيره.
(3) أي في أن العين تلفت بذلك الأمر الظاهر، الذي أقام به بينة، لا على تلفها، لتعذر إقامة البينة عليه، كما لو تلفت بسبب خفي.
(4) لأنه أمين، وأدرى بما عقد عليه.
(5) أي متبرع، مع يمينه، لأن الوكيل المتطوع قبضها لنفع مالكها، فقبل قوله فيه، كالوصي، والمودع المتبرعين، ولأنه لو لم يقبل قولهم لامتنع الناس من قبول هذه الأمانة، فيلحق الناس الضرر، هذا المذهب.
(6) لأن الوكيل قبضها لحظ نفسه، فلم يقبل قوله، كالمستعير، ولأن القول قول المنكر مع يمينه، لخبر «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» وما في معناه، وهذه قاعدة عظيمة، وكلمة جامعة، من جوامع الكلم، والوكيل قد أقر بوصول المال، ثم ادعى وصوله إلى صاحبه، وإذا أنكر الموكل، فالقول قوله بيمينه، لأن الأصل عدم الوصول، حتى تقوم البينة بذلك، وظاهر الخبر أنه لا فرق بين متطوع أو بجعل، قال ابن رجل: لو ادعى الأمين رد الأمانة على من ائتمنه، فالأكثرون على أن قوله مقبول، وقال الأوزاعي: لا يقبل قوله، لأنه مدع. وقال مالك، وأحمد في رواية: إن ثبت قبضه للأمانة ببينة، لم يقبل قوله في الرد بدون البينة، وقال: قد اختلف الفقهاء في هذا الباب على قولين «أحدهما» أن البينة على المدعي أبدا، واليمين على المدعى عليه أبدا، وهو قول أبي حنيفة، ووافقه طائفة من الفقهاء والمحدثين كالبخاري «الثاني» أنه يرجح جانب أقوى المتداعيين، وتجعل اليمين في جانبه، وهذا مذهب مالك، وذكر القاضي أبو يعلى في خلافه أنه مذهب أحمد. قال عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: القول قول المالك، على الراجح عند متأخري الحنابلة، وكذا الوكيل بجعل، والذي نفهم من كلامهم صوابه، ولا نعلم شيئًا يرده من الكتاب والسنة، وذلك أن الدليل دل على أن القول قول المنكر بيمينه، والبنية على المدعي. قال: وهذا قاعدة عظيمة شملت المتطوع وغيره.(5/235)
وإذا قبض الوكيل الثمن حيث جاز (1) فهو أَمانة في يده (2) لا يلزم تسليمه قبل طلبه (3) ولا يضمنه بتأخيره (4) .
__________
(1) وذلك بأن أذن له الموكل، أو دلت قرينة على الإذن.
(2) له حكم الأمانات.
(3) كالوديعة.
(4) لأنه رضي بكونه في يده، فإن أخر رده بعد طلبه مع إمكان الرد، فتلف ضمنه لتعديه بإمساكه بعد الطلب، وتمكنه منه، وإن تلف قبل ذلك من غير تعد، أو استُحِق المبيع، رجع المشتري بالثمن على الموكل، وإن طالب الموكل الوكيل بثمن ما باعه، فقال: لم أقبضه. وأقام المشتري بينة عليه بقبضه، لزم الوكيل، ولا يقبل قوله في رد، ولا تلف، لأنه صار خائنًا بجحده.(5/236)
ويقبل قول الوكيل فيما وكل فيه (1) (ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو) بلا بينة (لم يلزمه) أي عمرًا (دفعه إن صدقه) (2) لجواز أن ينكر زيد الوكالة، فيستحق الرجوع عليه (3) (ولا) يلزمه (اليمين إن كذبه) (4) لأنه لا يقضى عليه بالنكول، فلا فائدة في لزوم تحليفه (5) .
__________
(1) أي ويقبل قول الوكيل – ولو بجعل – فيما وكل فيه، من بيع، وإجارة، وصداق، وغيرها: أنه قبض الثمن من مشتر وتلف بيده، وفي قدره، لكن لا يصدق فيما لا يشتبه من قليل ثمن ادعى أنه باع به، أو كثير أنه اشترى به، وكذا الوكيل في الضبط – وهو كاتب ما له وما عليه، أولى بالقبول من وكيل التصرف كما تقدم، لأنه مؤتمن على نفس الإخبار بما له وما عليه – ويقبل إقراره في ذلك، ولا يقبل إقراره على موكله، قال الوزير: اتفقوا على أن إقرار الوكيل على موكله في غير مجلس الحاكم لا يقبل بحال، وكذا في مجلسه، إلا أبا حنيفة، فيصح عنده في مجلس القاضي، إلا أن يشترط عليه أن لا يقر عليه، واتفقوا على أن إقراره عليه بالحدود والقصاص غير مقبول، في مجلس الحاكم أو غيره.
(2) أي صدق من عليه الحق مدعي الوكالة، لم يلزمه دفع إليه، وهذا مذهب الشافعي وغيره، وكذا لو ادعى أنه وصي أو أنه أحيل عليه.
(3) أي على عمرو، لأن تسليمه لا يبرئه إلا أن تقوم به بينة، فيلزمه التسليم لزوال التبعة.
(4) أي ولا يلزم عمرًا اليمين إن كذب مدعي الوكالة من زيد، في قبض ما قبله من دين أو غيره، بلا نزاع.
(5) أي تحليف عمرو، إذ لا يلزمه الدفع، ولو صدقه إلا ببينة، سواء كان الحق دينا، أو وديعة، أو غيرهما.(5/237)
(فإن دفعه) عمرو (فأنكر زيد الوكالة حلف) (1) لاحتمال صدق الوكيل فيها (2) (وضمنه عمرو) (3) فيرجع عليه زيد، لبقاء حقه في ذمته (4) ويرجع عمرو على الوكيل، مع بقاء ما قبضه (5) أو تعديه (6) لا إن صدقه، وتلف بيده بلا تفريط (7) (وإن كان المدفوع) لمدعي الوكالة بغير بينة (وديعة أَخذها) حيث وجدها (8) .
__________
(1) أي زيد منكر الوكالة، أنه لم يوكله في قبض حقه ونحوه من عمرو، لأن الأصل عدمه.
(2) أي في تلك الوكالة المدعاة على عمرو.
(3) أي وضمن عمرو ذلك الحق لزيد.
(4) أي لعمرو، ولكونه لم يبرأ بتسليمه إلى غير زيد أو وكيله.
(5) صدقه أو لا، فرط أو لم يفرط.
(6) أي ويرجع عمرو على الوكيل ببدل حقه مع تعديه أو تفريطه في التلف، لأنه بمنزلة الغاصب.
(7) أي صدق عمرو مدعي الوكالة، لأنه مقر أنه أمين، حيث صدقه في دعواه الوكالة، ولأنه يدعي أن ما أخذه المالك ظلم، ويقر أنه لم يوجد من صاحبه تعد، فلا يرجع على صاحبه بظلم غيره، وإن كان دفع بغير تصديق رجع مطلقا، سواء كان دينًا أو عينا، بقي أو تلف، بتعد أو غيره، لأنه لم يقر بوكالته، ولم تثبت ببينة، قال الشيخ: ومجرد التسليم ليس تصديقًا.
(8) أي وجد العين ربها، بيد القابض أو غيره، وكذا عارية، ومغصوب، ونحو ذلك.(5/238)
لأنها عين حقه (1) (فإن تلفت ضَمَّن أَيهما شاءَ) (2) لأن الدافع ضمنها بالدفع (3) والقابض قبض ما لا يستحقه (4) فإن ضمَّن الدافع لم يرجع على القابض إن صدقه (5) وإن ضمَّن القابض لم يرجع على الدافع (6) وكدعوى الوكالة دعوى الحوالة، والوصية (7) .
__________
(1) أي عين حق زيد، دفعه عمرو إلى غير مستحقه.
(2) عمرا أو مدعي الوكالة.
(3) أي لأن الدافع للوديعة ونحوه – وهو عمرو – دفعها بغير إذن شرعي.
(4) أي ولأن القابض وهو مدعي الوكالة قبض ما لا يستحقه من وديعة أو غيرها، فتوجه الضمان على كل منهما.
(5) أي لم يرجع الدافع على القابض إن صدقه الدافع، ما لم يتعد، أو يفرط فيها، فيرجع، وكذا من غير تصديق كما تقدم، وذكره الشيخ اتفاقًا.
(6) أي وإن ضمن زيد القابض من عمرو، لم يرجع زيد على عمرو، لاعتراف الوكيل ببراءته، وأن رب الحق ظلمه، فلا يرجع بظلمه على غير من ظلمه، لكن إن كان الوكيل تعدى في الوديعة أو نحوها، أو فرط، استقر الضمان عليه، ولو صدقه الدافع.
(7) فإذا ادعى بكر أن زيدًا أحاله على عمرو أو أوصى له بما عند عمرو، فإن صدقه لم يلزمه الدفع إليه، وإن أنكر لم يستحلف، لكن إذا أنكر رب الحق الحوالة، رجع على غريمه، وهو على القابض مطلقًا صدقه أو لا، تلف في يده أو لا، لأنه قبضه على أنه مضمون عليه.(5/239)
وإن ادعى أنه مات وأنا وارثه. لزمه الدفع إليه مع التصديق (1) واليمين – مع الإنكار – على نفي العلم (2) .
__________
(1) أي تصديقه لمدعي الإرث، قال الموفق: بغير خلاف نعلمه. لأنه مقر له بالحق، وأنه يبرأ بهذا الدفع، فلزمه، كما لو جاء صاحب الحق.
(2) أي ويلزم يمين من عليه الحق مع إنكاره موت رب الحق، أو إنكاره أن المطالب وارثه، وصفتها: أنه لا يعلم صحة ما قال، لأن اليمين هنا على نفي فعل الغير، فكانت على نفي العلم، وإنما لزمته ههنا، لأن من لزمه الدفع مع الإقرار، لزمته اليمين مع الإنكار، كسائر الحقوق المالية، وفي الإنصاف: إن ادعى أنه مات، وأنا وارثه، لزمه الدفع إليه مع التصديق، واليمين مع الإنكار، وهذا بلا نزاع، وسواء كان دينا، أو عينا، أو وديعة، أو غيرها.(5/240)
باب الشركة (1)
بوزن سرقة، ونعمة، وتمرة (2) (وهي) نوعان، شركة أَملاك (3) وهي (اجتماع في استحقاق) (4) كثبوت الملك في عقار (5) أو منفعة لاثنين فأكثر (6) .
__________
(1) الشركة جائزة بالكتاب، والسنة، والإجماع في الجملة، قال تعالى {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} أي الشركاء، وفي الحديث القدسي «يقول الله أنا ثالث الشريكين» رواه أبو داود، وتكره مشاركة من في ماله حرام وحلال، وإن غلب الحرام حرمت، وقال أحمد: بأكل الحلال تطمئن القلوب وتلين.
(2) بفتح وكسر، وبكسر وسكون، وبفتح وسكون.
(3) أي الشركة نوعان «أحدهما» شركة أملاك، ويشتمل على أنواع.
(4) أي وشركة الأملاك اجتماع اثنين فأكثر في استحقاق مالي، بشراء، أو هبة، أو إرث، أو غير ذلك، وكل واحد في نصيب شريكه كالأجنبي، لا يجوز له التصرف إلا بإذنه، فإن تصرف ببيع، أو هبة، أو رهن نفذ في حصته.
(5) كدار بين اثنين فأكثر بإرث ونحوه، وكذا في رقاب، كعبد ورثه اثنان فأكثر.
(6) أي أو كثبوت منفعة دون العين، كما لو وصى لاثنين فأكثر بمنفعة عبد، ونحو ذلك، فإن الموصى لهم شركاء في المنفعة دون الرقبة، أو رقبة دون المنفعة، كعبد أوصى بنفعه لزيد، وورث العبد اثنان فأكثر، وكحق في رقبة، كحد قذف لاثنين بكلمة واحدة، فإنه يحد لهما حدا واحدا.(5/241)
(أَو) شركة عقود (1) وهي اجتماع في (تصرف) من بيع ونحوه (2) (وهي) أَي شركة العقود – وهي المقصودة هنا (3) – (أنواع) خمسة (4) (فـ) أحدها (شركة عنان) (5) سميت بذلك لتساوي الشريكين في المال والتصرف (6) كالفارسين إذا سويا بين فرسيهما، وتساويا في السير (7) .
__________
(1) وهي "النوع الثاني" من نوعي الشركة، ويشتمل على أنواع أيضًا.
(2) كعمل وغيره، مما سيأتي موضحا.
(3) أي بهذا الباب، وأنه إنما عقد لأجلها، لا لشركة الأملاك من عقار ونحوه.
(4) شركة عنان، وشركة مضاربة، وشركة وجوه، وشركة أبدان، وشركة مفاوضة، والصحيح منها الأربعة الأول، وشركة المفاوضة فيها تفصيل أيضًا، ولا تصح الشركة إلا من جائز التصرف في المال، كالبيع، ويشترط العاقدان، كالوكالة.
(5) بكسر العين، وذكر ابن المنذر وغيره أنها جائزة بالإجماع، وإنما اختلف في بعض شروطها.
(6) هذا الأشهر، وقال الفراء؛ من: عنَّ الشيء. إذا عرض، لأن كلا منهما عنِّ له أن يشارك صاحبه. وقيل: من المعاننة وهي المعارضة، فكل واحد من الشريكين معارض لصاحبه بماله وأفعاله.
(7) لأن عنانيها يكونان سواء، فتساوي الشريكين هو علة التسمية.(5/242)
وهي (أن يشترك بدنان) أَي شخصان فأَكثر (1) مسلمين، أَو أَحدهما (2) ولا تكره مشاركة كتابي لا يلي التصرف (3) (بماليهما المعلوم) كل منهما، الحاضرين (4) (ولو) كان مال كل منهما (متفاوتًا) (5) .
__________
(1) جائزا التصرف، وعبارة الإقناع وغيره: أن يشترك اثنان فأكثر. فلذا صرف الشارح العبارة.
(2) يعني مسلمًا، والآخر كافرًا، مجوسيًا كان أو وثنيًا، وتصح شركتهما مع الكراهة.
(3) قال أحمد: يشاركه، لكن لا يخلو الكتابي بالمال، فعلة كراهة ما خلوا به معاملتهم بالربا، وبيع الخمر ونحوه، وهذا منتف فيما حضره المسلم، وما باعوا به من الخمر ونحوه بمال الشركة وقع فاسدًا، وعليهم الضمان، وما باعوه قبل مشاركة المسلم، فثمنه حلال، لاعتقادهم حله، وقد عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يأكل إلا طيبًا، وهذا بخلاف المجوسي، والوثني، ومن في معناه، قال أحمد في المجوسي: ما أحب مخالطته ومعاملته، لأنه يُستحل ما لا يستحل.
(4) أي من المالين الحاضرين، فلا تصح على غائب أو في الذمة، فيعتبر حضور ماليهما لتقرير العمل، لكن إن أحضراه وتفرقا، ووجد منهما ما يدل على الشركة انعقدت، وقال ابن القيم: تجوز المضاربة بالدين، وهو الراجح في الدليل، وليس في الأدلة الشرعية ما يمنع من جوازه، ولا يقتضي تجويزه مخالفة قاعدة من قواعد الشرع، ولا وقوعًا في محظور، ولا غرر، ولا مفسدة، وتجويزه من محاسن الشريعة. اهـ. والشركة كذلك.
(5) صحت إن علم كل منهما قدر ماله، فلا يشترط اتفاق المالين.(5/243)
بأَن لم يتساو المالان قدرًا (1) أو جنسا، أو صفة (2) (ليعملا فيه ببدنيهما) (3) أو يعمل فيه أحدهما، ويكون له من الربح أكثر من ربح ماله (4) فإن كان بدونه لم يصح (5) وبقدره إبضاع (6) وإن اشتركا في مختلط بينهما شائعًا (7) صح إن علما قدر ما لكل منهما (8) .
__________
(1) كما لو كان مع أحدهما مائة، ومع الآخر خمسون.
(2) كما لو كان مع أحدهما دنانير، ومع الآخر دراهم، أو مع أحدهما دراهم ناصرية، ومع الآخر دراهم ظاهرية، وعند التراجع يرجعان بما أخرجاه، وما بقي فربح.
(3) أي ليعملا فيما اشتركا فيه من المال ببدنيهما، وربحه بينهما على ما شرطاه.
(4) وذلك ليكون الجزء الزائد في نظير عمله في مال شريكه.
(5) أي بدون ربح ماله، لم تصح الشركة، لأخذه جزءًا من ربح مال صاحبه بلا عمل منه، لكن التصرف صحيح، لعموم الإذن، وله ربح ماله، ولا أجرة له، لتبرعه بعمله.
(6) أي وبقدر مال العامل إبضاع، لا شركة، والإبضاع أن يعطي من يبيع له بلا جعل، أو يدفع مالا لمن يعمل فيه بلا عوض، ولا يصح.
(7) كمال ورثاه أو اتهباه، ولم يعلما كميته.
(8) أي صح عقد الشركة في المال المختلط بينهما، إن علما قدر ما لكل منهما فيه، من نصف، أو ربع ونحوه، لانتفاء الغرر، وقال الشيخ: الاشتراك في
مجرد الملك، مثل أن يكون بينهما عقار، فيشيعانه بينهما، أو يتعاقدان أن المال الذي لهما، المعروف بهما بينهما يكون نصفين، ونحو ذلك، مع تساوي ملكهما فيه، فجوازه متوجه، لكن: هل يكون بيعا؟ قياس ما ذكروه في الشركة أنه ليس ببيع، كما أن القسمة ليست بيعا.(5/244)
(فينفذ تصرف كل منهما فيهما) أي في المالين (1) (بحكم الملك في نصيبه، و) بحكم (الوكالة في نصيب شريكه) (2) ويغني لفظ الشركة عن إذن صريح في التصرف (3) (ويشترط) لشركة العنان والمضاربة (أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين) (4) لأنهما قيم الأموال، وأَثمان البياعات (5) فلا تصح بعروض (6) .
__________
(1) أي فينفذ تصرف كل من الشريكين في جميع المالين، ببيع، وقبض وغير ذلك مما هو من مصلحة تجارتهما.
(2) لأنه متصرف بجهة الإذن، فهو كالوكالة، وكل من المالين يصير شركة بينهما بمجرد العقد، وتنعقد بما يدل على الرضى.
(3) لدلالته عليه، ولتضمن الشركة للوكالة.
(4) هذا المذهب، ولا خلاف أنه يجوز أن يجعل رأس المال من النقدين المضروبين، إذا كانت غير مغشوشة.
(5) والناس يشتركون بهما، من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمننا، من غير نكير.
(6) قالوا: ولو كان العرض مثليا، كبر وحرير، لأن قيمته ربما زادت
قبل بيعه، فيشاركه الآخر في نماء العين التي هي ملكه، وعنه: تصح. اختاره أبو بكر، وأبو الخطاب وغيرهما، وصوبه في الإنصاف وغيره، وهو قول مالك وغيره، لأن مقصود الشركة تصرفهما في المالين جميعًا، وكون ربح المالين بينهما، وهو حاصل في العروض، كحصوله في الأثمان.
قال الموفق: فيجب أن تصح الشركة والمضاربة بها، كالأثمان، ويرجع كل واحد منهما عند المناضة بقيمة ماله عند العقد، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وهو الصحيح، لأن القاعدة في المعاملات أن لا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله. وقال في القول الأول: لم يذكروا حجة شرعية نعلمها. وذهب الجمهور إلى الصحة في غير النقدين، من كل ما يتملك.(5/245)
ولا فلوس ولا نافقة (1) وتصح بالنقدين (ولو مغشوشين يسيرًا) كحبة فضة في دينار (2) ذكره في المغني والشرح (3) لأَنه لا يمكن التحرز منه (4) .
__________
(1) لأنها عروض، هذا المذهب، وقال الموفق: وفيه وجه آخر: أن الشركة تجوز بها على كل حال، وإن لم تكن نافقة، بناء على جواز الشركة بالعروض.
(2) أي فلا أثر له هنا: ولا في الربا، ولا غيره، إذا كان يسيرا لمصلحة، جزم به في الإقناع وغيره.
(3) وعبارتهما بعد ذكر الوجهين في المغشوش: اللهم إلا أن يكون الغش قليلا جدًا، لمصلحة النقد، كيسير الفضة في الدينار، مثل الحبة ونحوها، فلا اعتبار به، لأنه لا يمكن التحرز منه، ولا يؤثر في الربا، ولا في غيره.
(4) أي من الغش اليسير، فلا يؤثر.(5/246)
فإن كان الغش كثيرًا لم يصح، لعدم انضباطه (1) (و) يشترط أيضًا (أن يشترطا لكل منهما جزءًا من الربح مشاعًا معلومًا) كالثلث، والربع (2) لأَن الربح مستحق لهما بحسب الاشتراط، فلم يكن بد من اشتراطه كالمضاربة (3) فإن قالا: والربح بيننا. فهو بينهما نصفين (4) (فإن لم يذكرا الربح) لم تصح، لأَنه المقصود من الشركة، فلا يجوز الإخلال به (5) .
__________
(1) أي فلا يتأتى رد مثله، لأن قيمتها تزيد وتنقص، فهي كالعروض، قال الموفق: «والوجه الثاني» تصح، بناء على صحة الشركة بالعروض. وقال الشيخ محمد: وأما المغشوش فقد تقدم أن الصحيح جوازه بالعروض، وهي أبلغ من المغشوش، والصحيح جواز ذلك.
(2) لأن شركة العنان أحد أنواع الشركة فاشترط علم نصيب كل واحد منهما من الربح.
(3) أي كما أنه لا بد من اشتراطه في المضاربة، وسواء شرطا لكل واحد منهما على قدر ماله من الربح، أو أقل منه، أو أكثر، لأن الربح مستحق بالعمل، وقد يتفاضلان فيه، لقوة أحدهما، وحذقه، فجاز أن يجعل له حظا من ربح ماله كالمضارب وهذا مذهب أبي حنيفة.
(4) لأن الإضافة إليهما إضافة واحدة من غير ترجيح، فاقتضت التسوية.
(5) وقال الموفق وغيره: إذا لم يذكرا الربح كان بينهما على قدر المالين، واستسلف ابنا عمر من أبي موسى مالا، وربحا فيه، فجعله عمر قراضا، وقال الشيخ: والربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة به، قيل: للمالك؛
وقيل للعامل، وقيل: بينهما على قدر النفعين، بمعرفة أهل الخبرة. قال: وهو أصحها. وحكم به عمر، إلا أن يتجر به على غير وجه العدوان، مثل أن يعتقد أنه مال نفسه، فتبين مال غيره، فهنا يقتسمان الربح بلا ريب.(5/247)
(أَو شرطا لأَحدهما جزءًا مجهولاً) (1) لم تصح، لأَن الجهالة تمنع تسليم الواجب (2) (أَو) شرطا (دراهم معلومة) لم تصح، لاحتمال أَن لا يربحها، أَو لا يربح غيرها (3) (أَو) شرطا (ربح أَحد الثوبين) (4) أو إحدى السفرتين (5) أو ربح تجارة في شهر أو عام بعينه (لم تصح) (6) .
__________
(1) كحصة أو نصيب، أو مثل ما شرط لفلان مع جهله، أو ثلث الربح إلا عشرة دراهم.
(2) ولأن الربح هو المقصود، فلا تصح مع جهله كثمن وأجرة.
(3) أي المشروط له الدراهم المعلومة، فيختص بالربح، وفي الأولى إذا لم يربح يأخذ جزءًا من المال، وقد يربح كثيرًا، فيتضرر من شرطت له.
(4) أي لأحدهما، والثاني للآخر، أو ربح ثوب بعينه لأحدهما، لم تصح. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض، إذا جعل أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة. والشركة في هذا كالمضاربة.
(5) يعني لأحدهما ربحها، وربح الثانية للآخر، ونحو ذلك لم تصح.
(6) أي الشركة، قال الموفق وغيره: فهذه شروط فاسدة، لأنها تفضي إلى جهل حق كل واحد منهما من الربح، أو إلى فواته بالكلية، وفي الإنصاف: لم يصح بلا نزاع في ذلك.(5/248)
لأنه قد يربح في ذلك المعين دون غيره أَو بالعكس (1) فيختص أَحدهما بالربح، وهو مخالف لموضوع الشركة (2) (وكذا مساقاة ومزارعة (3) ومضاربة) فيعتبر فيها تعيين جزء مشاع معلوم للعامل لما تقدم (4) (والوضيعة) أي الخسران (على قدر المال) بالحساب (5) سواء كانت لتلف، أو نقصان في الثمن، أو غير ذلك (6) .
__________
(1) أي وقد يخسر في ذلك المعين لأحدهما ربحه، ويربح في غيره.
(2) مناف لمقصودها، وهو حصول الربح لهما، لا لأحدهما دون الآخر، قال الموفق: ولا نعلم في هذا خلافا.
(3) قياسا على الشركة، فلا يصحان إن شرط العامل جزءًا مجهولاً، أو آصعًا معلومة من جزء مشاع معلوم، أو ثمرة شجرة معينة، أو مجهولة، أو زرع ناحية بعينها، أو نحوه مما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى.
(4) أي من أنه يعتبر للشركة اشتراط ربح مشاع معلوم لكل من الشريكين، فكذا هنا، وهو المقصود بها.
(5) لأنها عبارة عن نقصان رأس المال، وهو مختص بالقدر، فإن كانت الشركة بينهما نصفين، أو أثلاثا، فالخسران بقدر ذلك؛ قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا، سواء كان الربح بينهما كذلك أو لم يكن.
(6) فالخسران على قدر المال في الشركة، وفي الإنصاف: إن تلف أحد المالين فمن ضمانهما، فإن كانا مختلطين فبلا نزاع، وإلا فعلى الصحيح من المذهب. اهـ. وأما في المضاربة فعلى المال خاصة، كما لو تلف الشجر في المساقاة، أو الأرض في المزارعة، لا شيء على العامل، لأنهم إنما يتشاركون في النماء.(5/249)
(ولا يشترط خلط المالين) (1) لأَن القصد الربح، وهو لا يتوقف على الخلط (2) (ولا) يشترط أيضًا (كونهما من جنس واحد) (3) فيجوز إن أخرج أحدهما دنانير والآخر دراهم (4) . فإذا اقتسما رجع كل بمالِهِ، ثم اقتسما الفضل (5) وما يشتريه كل منهما بعد عقد الشركة فهو بينهما (6) وإن تلف أَحد المالين فهو من ضمانهما (7) .
__________
(1) – إذا عيناهما، أو أحضراهما- عند الجمهور، لأنه عقد على التصرف، تلفه من مالهما، وزيادته لهما، ولأن الشركة اقتضت ثبوت الملك لكل واحد منهما.
(2) ولأن مورد العقد العمل، والربح نتيجته، والمال تبع للعمل، فلم يشترط خلطه.
(3) هذا الصحيح من المذهب، وتقدم نحوه.
(4) فهما من جنس الأثمان، فتصح الشركة فيهما كالجنس الواحد.
(5) أي فإذا اقتسم الشريكان بعد فسخ الشركة، رجع كل منهما بمثل ماله الذي جعله في الشركة، ثم اقتسما الفضل، وهو الربح الحاصل بعد رأس مال الشركة.
(6) أي مشترك، حيث لم ينوه لنفسه، لأن العقد وقع على ذلك، ولأنه أمينه ووكيله، وما يشتريه لنفسه فله، والقول قوله في ذلك.
(7) لأن العقد اقتضى أن يكون المالان كالمال الواحد، فكذلك في الضمان، وكنمائه، لصحة القسمة بالكلام، كخرص ثمار، فكذا الشركة، احتج به أحمد، قاله الشيخ وغيره.(5/250)
ولكل منهما أن يبيع ويشتري ويقبض (1) ويطالب بالدين، ويخاصم فيه (2) ويحيل ويحتال، ويرد بالعيب (3) ويفعل كل ما هو من مصلحة تجارتهما (4) لا أن يكاتب رقيقًا، أو يزوجه، أو يعتقه (5) أو يحابي، أو يقترض على الشركة إلا بإذن شريكه (6) .
__________
(1) أي ولكل واحد من الشريكين أن يبيع ويشتري، مساومة، ومرابحة، وتولية، ومواضعة، كيف رأى المصلحة، لأن هذه عادة التجار، وله أن يقبض المبيع والثمن، ويقبَّضهما، لأنه مؤتمن في ذلك، بخلاف الوكيل في قبض الثمن.
(2) لأن من ملك قبض شيء ملك المطالبة والمخاصمة فيه، كالوكيل في قبض الدين.
(3) أي ولكل منهما أن يحيل ويحتال، لأنهما عقد معاوضة، وهو يملكهما، «ويرد بالعيب» للحظ فيما ولي فيه هو أو شريكه شراءه، ولو رضي شريكه بلا نزاع كما لو رضي بإهمال المال بلا عمل، فلشريكه إجباره عليه لأجل الربح، ما لم يفسخ الشركة، وله أن يقر بالعيب بلا نزاع، وبالثمن أو بعضه، وبأجرة المنادي ونحوه، مما هو من توابع التجارة، وفي القواعد: الأكثر أنه يملك الإقالة للمصلحة.
(4) بمطلق الشركة، لأن مبناها على الوكالة والأمانة كما تقدم، وله أن يستأجر ويؤجر، لأن المنافع أجريت مجرى الأعيان، وله المطالبة بالأجر لهما وعليهما، ولكل منهما أن يسافر بالمال مع الأمن، لانصراف الإذن المطلق.
(5) لا على مال ولا غيره، لأن الشركة انعقدت على التجارة، وليست هذه الأشياء تجارة، سيما تزويج العبد، فإنه ضرر محض لا بإذن شريكه.
(6) أي وليس لأحد الشريكين أن يحابي، فيبيع بأنقص من ثمن المثل، أو يشتري بأكثر منه، وليس له أن يقرض، أو يهب، أو يقترض على الشركة، أو
يستدين، أو يضارب، أو يشارك بالمال، أو يخلطه بغيره، أو يأخذ به سفتجة ونحو ذلك، إلا بإذن شريكه في ذلك كله، لأنه ليس من التجارة المأذون فيها، وله أن يبيع نساء، ويودع، ويرهن، لحاجة فيهما، لأنه من عادة التجار. وإن قيل له: اعمل برأيك؛ ورأى مصلحة فيما تقدم، جاز فيما يتعلق بالتجارة، من المشاركة ونحوها، لا العتق والقرض ونحوه.(5/251)
وعلى كل منهما أَن يتولى ما جرت العادة بتوليه من نشر ثوب وطيه (1) وإحرازه (2) وقبض النقد ونحوه (3) فإن استأْجر له فالأُجرة عليه (4) .
__________
(1) أي وعلى كل من الشريكين، أو الشركاء: تولي ما جرت العادة واستمر العرف بتوليه، من نشر نحو ثوب وطيه، وختم كيس.
(2) أي الثوب والكيس وغيره، من مال الشركة فيما يحرز فيه مثله.
(3) أي وقبض النقد من مشتر ونحوه، لاقتضاء عقد الشركة لذلك، وعليه فعل نحو ذلك، مما جرت العادة بتوليه، لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف، وهو يقتضي تولي هذه الأمور ونحوها بنفسه.
(4) أي فإن استأجر لشيء من ذلك، من يفعله عنه، فالأجرة عليه من ماله، لأنه بذلها عوضًا عما يلزمه، وأما ما جرت العادة بأن يستنيب فيه، فله أن يستأجر من مال الشركة لفعله، ولو شريكه، كنقل طعام ونحوه، وكاستئجار غرائر شريكه لنقله فيها، أو داره ليحرز فيها، وليس له فعله ليأخذ أجرته، بلا استئجار صاحبه له، لأنه قد تبرع بما لا يلزمه، فلم يستحق شيئًا، وإن تقاسما الدين في الذمم، فالمذهب: لا يصح. وعنه: يصح. لأن الاختلاف لا يمنع القسمة، كاختلاف الأعيان، اختاره الشيخ، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وغيرهما، وعليه: لا يرجع من توى ماله على من لم يَتْوِ، إذا أبرأ كل واحد صاحبه. وقال الشيخ: يجوز ولو في ذمة واحد، وذكره ابن القيم رواية عن أحمد. وإن أبرأ من الدين لزمه في حقه، دون حق صاحبه بلا نزاع.(5/252)
فصل (1)
النوع (الثاني: المضاربة) (2) من الضرب في الأَرض وهو السفر للتجارة (3) قال الله تعالى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ} (4) وتسمى قراضًا ومعاملة (5) .
__________
(1) أي في أحكام المضاربة، وهي جائزة إجماعًا. وكانت في عصره صلى الله عليه وسلم وأقرها، وروي عن عمر وعثمان، وعلي، وابن مسعود وغيرهم، ولم يعرف لهم مخالف، والحكمة تقتضيها، لأن بالناس حاجة إليها، فإن الدراهم والدنانير، لا تنمى إلا بالتقليب والتجارة، وحكمها كالشركة، فيما للعامل أن يفعله أو لا يفعله، وفيما يلزمه فعله، وفي الشروط، قال ابن القيم: المضارب أمين وأجير ووكيل، وشريك فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرف فيه، وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل، وشريك إذا ظهر فيه الربح.
(2) أي النوع الثاني من أنواع الشركة الخمسة "المضاربة" وهذه تسمية أهل العراق.
(3) لما كان الربح يحصل في الغالب بالسفر للتجارة.
(4) أي يطالبون من رزق الله في المكاسب، والمتاجر، أو المضاربة من الضرب في المال، وهو التصرف، أو من ضرب كل منهما بسهم في الربح.
(5) فأهل الحجاز يسمونها "قراضا" من قرض الشيء، أي قطعه، كأن رب المال اقتطع للعامل قطعة من ماله، وسلمها له، واقتطع له قطعة من ربحها. أو من المقارضة بمعنى الموازنة، وأما المعاملة فمن العمل، وهو الاتجار بالمال لأجل الربح، والعامل مضارب.(5/253)
وهي: دفع مال معلوم (1) (لمتجر) أي لمن يتجر (به ببعض ربحه) أي بجزءٍ معلوم مشاع منه كما تقدم (2) فلو قال: خذ هذا المال مضاربة. ولم يذكر سهم العامل، فالربح كله لرب المال (3) والوضيعة عليه (4) وللعامل أُجرة مثله (5) .
__________
(1) أي والمضاربة شرعا: دفع مال، أي نقد مضروب، على ما تقدم في الشركة، وتنعقد بما يؤدي معنى الدفع، كوديعة وعارية إذا قال ربها لمن هي تحت يده: ضارب بها مضاربة، أو يقول: خذه بضاعة على أن لك نصف الربح مثلا. ففي حديث عائشة أنها أبضعت. "معلوم": قدره معين، فلا تصح بأحد هذين، ولا بصبرة دراهم، إذ لا بد من الرجوع إلى رأس المال عند الفسخ ليعلم الربح.
(2) أي من أنه يشترط فيها تعيين جزء مشاع معلوم للعامل، قال الموفق وغيره: من شرط صحتها تقدير نصيب العامل، لأنه يستحقه بالشرط، فلم يقدر إلا به. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه، أو ما يجمعان عليه، بعد أن يكون ذلك معلومًا، جزءًا من أجزاء، فلو سمى له كل الربح، أو دراهم ولو معلومة، أو جزءًا مجهولاً ونحوه فسدت.
(3) لفساد العقد، وكذا لو قال: ولك جزء من الربح. لجهالة نصيب العامل، وفي الإنصاف: فما يعود بجهالة الربح يفسد العقد بلا نزاع.
(4) أي على رب المال وحده، لأن العامل أمين.
(5) وإن لم يحصل ربح، لأنه عمل بعوض لم يسلم له، وفي الإنصاف: وإن فسد بجهالة الربح وجب المسمى، وذكره الشيخ ظاهر المذهب، وأوجب في الفاسد نصيب المثل، فيجب من الربح جزء جرت العادة في مثله، وإن خسر فلا شيء له، وصوبه في الإنصاف وغيره.(5/254)
وإن شرط جزءًا من الربح لعبد أَحدهما، أَو لعبديهما صح، وكان لسيده (1) . وإن شرطاه للعامل ولأجنبي معًا، ولو ولد أحدهما، أَو امرأَته (2) وشرطا عليه عملاً مع العامل صح (3) وكانا عاملين (4) وإلا لم تصح المضاربة (5) (فإن قال) رب المال للعامل: اتجر به (والربح بيننا. فنصفان) (6) لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة ولا مرجح، فاقتضى التسوية (7) .
__________
(1) أي صح الشرط، وكان الجزء المشروط في الحقيقة لسيد العبد، لأن العبد لا يملك، وماله لسيده، وفي الأولى بينهما أثلاثًا لصاحب العبد الثلثان، وفي الثانية بينهما نصفين، كما لو لم يذكراه.
(2) أو قريبه كأخيه، صغيرا كان أو كبيرًا، والمراد بالأجنبي غير القن.
(3) أي الشرط، وكان كما لو قال: خذه فاتجر به أنت وفلان، وما ربحتما فلكما نصفه.
(4) أي وكان العامل المعقود معه، والأجنبي غير القن، عاملين في الاتجار بالمال، صح الشرط، وإن قال: لك الثلثان، على أن تعطي امرأتك نصفه. صح.
(5) أي وإن لم يشرطا على المشروط له الجزء – غير عبد أحدهما – عملا مع العامل لم تصح المضاربة، لأن شرط جزء لغير عامل شرط فاسد، يعود إلى الربح، ففسد به العقد.
(6) قولا واحد، وصحت المضاربة.
(7) كما لو قال: هذه الدار بيني وبينك، فإنها تكون بينهما نصفين، وإن قال رب المال: اتجر به، وكل ربحه لي. فإبضاع، لا حق للعامل فيه، وإن قال: اتجر به وكله لك. فقرض، لا حق لرب المال في ربحه، وإن قال: مضاربة. لم تصح فيهما، وهذا مذهب الشافعي، لاشتراط ما ينافي مقتضى العقد.(5/255)
(وإن قال) : اتجر به (ولي) ثلاثة أرباعه، أو ثلثه (1) (أو) قال: اتجر به و (لك ثلاثة أرباعه، أو ثلثه. صح) (2) لأَنه متى علم نصيب أحدهما أخذه (والباقي للآخر) (3) لأن الربح مستحق لهما، فإذا قدر نصيب أحدهما منه فالباقي للآخر بمفهوم اللفظ (4) (وإن اختلفا لمن) الجزء (المشروط) له (فـ) ـهو (لعامل) قليلاً كان أو كثيرًا (5) لأَنه يستحقه بالعمل، وهو يقل ويكثر (6) .
__________
(1) صح على الصحيح، اختاره الموفق وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة، ولو لم يذكر نصيب العامل، لأن الربح لا يستحقه غيرهما.
(2) والباقي لرب المال قولاً واحدًا، لأنه يستحق الربح بماله، لكونه نماءه وفرعه، والعامل يأخذ بالشرط، فما شرط له استحقه، وما بقي لرب المال بحكم الأصل، وكذا إن قال: اتجر به ولك الثلث وربع عشر الباقي من الربح. ونحوه صح، لأنه أجزاء معلومة.
(3) فالأولى ما لرب المال مقدر، وللعامل ربع أو ثلثان، والثانية ما للعامل مقدر، وربعه أو ثلثاه لرب المال.
(4) كما علم أن ثلثي الميراث للأب من قوله {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ولو قال: أوصيت بهذه المائة لزيد وعمرو، ونصيب زيد منها ثلاثون. كان الباقي لعمرو.
(5) لأن الشرط يراد لأجله، وهذا مذهب الشافعي.
(6) يعني العمل في المضاربة، فقد يشرط له جزء يسير لسهولة العمل، وقد
يشرط له كثير لصعوبته، وقد يختلف باختلاف العاملين في الحذق وعدمه.(5/256)
وإنما تقدر حصته بالشرط (1) بخلاف رب المال فإنه يستحقه بماله (2) ويحلف مدعيه (3) وإن اختلفا في قدر الجزء بعد الربح فقول مالك بيمينه (4) (وكذا مساقاة، ومزارعة) إذا اختلفا في الجزء المشروط أو قدره، لما تقدم (5) .
__________
(1) أي فكان الشرط له، قل النصيب المشروط له أو كثر، ادعاه رب المال أو العامل.
(2) لا بالشرط، ولهذا لو سكت عن نصيبه، كان له الباقي بعد المشروط لعامل.
(3) أي مدعي كون المشروط للعامل، وهو في هذه المسألة من استحق في الصورتين، فإن ادعى العامل الجزء المشروط أنه شرط له، حلف، أو ادعى رب المال أنه للعامل مثلا إذا كان قليلا، حلف وصار للعامل، فهي للعامل في الحالتين القليلة والكثيرة.
(4) فلو قال: شرطت لي نصف الربح. وقال المالك: بل ثلثه. فالقول قول المالك، لأنه ينكر السدس الزائد واشتراطه له، والقول قول المنكر.
(5) أي وكذا حكم مساقاة، وحكم مزارعة، القول قول المالك بيمينه، إذا اختلف رب المال والعامل، في الجزء المشروط للعامل أو قدره، لما تقدم من أنهما إذا اختلفا في المضاربة لمن الجزء المشروط؟ فهو لعامل، قليلاً كان أو كثيرًا، لأنه يستحقه بالعمل، وهو يقل ويكثر، وإنما تقدر حصته بالشرط، وقاسوهما عليها لأن العامل في كل منها إنما يستحق بالعمل.(5/257)
(ومضاربة) كشركة عنان فيما تقدم (1) وإن فسدت فالربح لرب المال، وللعامل أُجرة مثله (2) وتصح مؤقتة، ومعلقة (3)
__________
(1) أي مما يجوز للعامل أن يفعله من بيع، وشراء وقبض، ومطالبة، وحوالة، ورد بعيب، وغير ذلك، وما لا يجوز له من مكاتبة رقيق، أو تزويجه، أو عتقه، ونحو ذلك، وفيما يلزمه فعله كنشر ثوب، وطيه ونحوه، وفي الشروط صحيحة كانت أو فاسدة، لأن ما جاز في إحداهما جاز في الأخرى، وما امتنع في إحداهما امتنع في الأخرى، قال في الإنصاف: ولا خلاف في أن حكمهما واحد فيما ذكروا.
(2) أي وإن فسدت المضاربة فالربح لرب المال، لأنه نماء ماله، وللعامل أجرة مثله، لأنه إنما يستحق بالشرط، فإذا فسدت فسد، خسر المال أو ربح، لأن عمله إنما كان في مقابلة المسمى، وتصرفه نافذ، للإذن فيه، وهذا مذهب الشافعي وغيره، وتقدم قول الشيخ – في الربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة به -: أن الأصح أن يكون بينهما على قدر النفعين، بمعرفة أهل الخبرة، وبه حكم عمر، إلا أن يتجر على غير وجه العدوان، مثل أن يعتقد أنه مال نفسه، فتبين مال غيره، فهنا يقتسمان الربح بلا ريب.
(3) أي وتصح المضاربة مؤقتة، بأن يقول رب المال: ضاربتك على هذه الدراهم سنة، أو نحو ذلك، لأنه تصرف بتوقت نوع من المتاع، فجاز توقيته بالزمان، وهذا مذهب أبي حنيفة، وتصح معلقة بشرط عند الجمهور، كإذا جاء رأس الشهر فضارب بهذا المال على كذا، أو إذا قبضت مالي من زيد فهو معك مضاربة. ونحو ذلك، لأنه إذن في التصرف، فجاز تعليقه على شرط مستقبل، وإن قال: ضارب بالدين الذي عليك. فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنه لا يجوز أن يجعل الرجل دينا له على رجل مضاربة. وعن أحمد: تصح، نصره ابن القيم في الأعلام.(5/258)
(ولا يضارب) العامل (بمال لآخر، إن أضر الأول، ولم يرض) (1) لأنها تنعقد على الحظ والنماء، فلم يجز له أن يفعل ما يمنعه منه (2) وإن لم يكن فيها ضرر على الأول، أو أذن جاز (3) (فإن فعل) بأن ضارب لآخر، مع ضرر الأول، بغير إذنه (رد حصته) من ربح الثانية (في الشركة) الأولى (4) لأنه استحق ذلك بالمنفعة التي استحقت بالعقد الأول (5) ولا نفقة لعامل إلا بشرط (6) .
__________
(1) وذلك كأن يكون المال الثاني كثيرًا يستوعب زمانه، فيشغله عن التجارة في الأول، أو الأول كثيرًا، ومتى اشتغل عنه بغيره انقطع عن بعض تصرفاته، فيحرم إن لم يأذن.
(2) كما لو أراد التصرف بالغبن، وحكى الموفق وغيره جوازه عن أكثر الفقهاء، فالله أعلم.
(3) قال الموفق: بغير خلاف.
(4) فيدفع لرب المضاربة الثانية نصيبه من الربح، ويؤخذ نصيب العامل، فيضم لربح المضاربة الأولى، ويقتسمه مع ربها على ما اشترطاه.
(5) فكان بينهما، كربح المال الأول، هذا المذهب، وقال الموفق: النظر يقتضي أن لا يستحق رب المضاربة الأولى من ربح الثانية شيئًا، لأنه إنما يستحق بمال أو عمل، وليس له في الثانية مال ولا عمل، وتعدي العامل لا يوجب عوضا، واختاره الشيخ وغيره.
(6) أي ولا نفقة لعامل في مال المضاربة، ولو مع السفر، لأنه دخل على العمل بجزء، فلم يستحق غيره إلا بشرط، قال الشيخ وابن القيم وغيرهما: أو عادة فيعمل بها، فأقاموا العادة مقام الشرط أيضًا، قال في الإنصاف: وهو قوي في النظر، فإن شرطها له وأطلق، فله جميع نفقته، من مأكول، وملبوس، بالمعروف وإن قدرها له فحسن، قطعا للمنازعة، وإن اختلفا، فنفقة مثله عرفا، وإن كان معه مال لنفسه أو غيره، فعلى قدر المالين، إلا أن يكون قد شرط له من ماله، مع علمه بذلك.(5/259)
(ولا يقسم) الربح (مع بقاء العقد) أي المضاربة (إلا باتفاقهما) (1) لأن الحق لا يخرج عنهما (2) والربح وقاية لرأس المال (3) (وإن تلف رأس المال (4) أو) تلف (بعضه) قبل التصرف، انفسخت فيه المضاربة (5) كالتالف قبل القبض (6) .
__________
(1) أي على قسمة الربح، وصرح في الإقناع والمنتهى بالتحريم.
(2) أي المتضاربين، فاعتبر اتفاقهما على القسمة.
(3) أي فلا يجبر ربه على القسمة، لأنه لا يأمن الخسران فيجبره بالربح، ولا يجبر العامل لأنه لا يأمن أن يلزمه ما أخذه، في وقت لا يقدر عليه، وإن اتفقا على قسمه أو قسم بعضه جاز، لأنه ملكهما كالشريكين.
(4) أي قبل التصرف، ثم اشترى سلعة للمضاربة، فهي له وثمنها عليه، إلا أن يجيزه رب المال، وفي الفروع هو كفضولي.
(5) قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه وكان رأس المال الباقي، لأنه مال هلك على جهته، قبل التصرف فيه.
(6) أي أنه تنفسخ فيه المضاربة قولا واحدا.(5/260)
وإن تلف (بعد التصرف) جبر من الربح (1) لأَنه دار في التجارة، وشرع فيما قصد بالعقد، من التصرفات المؤدية إلى الربح (2) (أو خسر) في إحدى سلعتين، أو سفرتين (جبر) ذلك (من الربح) أي وجب جبر الخسران من الربح (3) ولم يستحق العامل شيئًا إلا بعد كمال رأس المال (4) لأنها مضاربة واحدة (5) (قبل قسمته) ناضًا (6) .
__________
(1) أي وإن تلف رأس المال بعد التصرف، أو تلف بعضه بعد التصرف، جبرت الوضيعة من ربح باقيه، قبل قسمته.
(2) أي ولا شيء للعامل إلا بعد كمال رأس المال.
(3) أي ربح باقيه قبل قسمته، وكذا لو تعيبت سلعة، أو نزل السعر ونحو ذلك، فمهما بقي العقد على رأس المال، وجب جبر خسرانه من ربحه، وسواء كان الربح والخسران في مرة أو الربح في مرة، والخسران في أخرى.
(4) قال الموفق وغيره: بلا خلاف. لأن الربح هو الفاضل من رأس المال، وما لم يفضل فليس بربح، وفي الإنصاف: ليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال بلا نزاع، وإن ظهر ربح لم يكن له أخذ شيء منه إلا بإذن رب المال بلا نزاع. اهـ، وذلك لأن الربح وقاية لرأس المال، ورب المال شريكه، فلم يكن له مقاسمة نفسه، ولأن ملكه غير مستقر عليه، فإن أذن جاز، لأن الحق لا يخرج عنهما.
(5) أي فلم يستحق أخذ شيء من الربح حتى يسلم رأس المال إلى ربه.
(6) أي فالوضيعة تجبر من ربح باقيه قبل قسمة المال ناضا أي نقدًا، والنض الإظهار، والدرهم والدينار كالناض فيهما، أو إنما سمي ناضا إذا تحول عينا، بعد أن كان متاعا.(5/261)
(أو تنضيضه) مع محاسبته (1) فإذا احتسبا، وعلما ما لهما، لم يجبر الخسران بعد ذلك مما قبله (2) تنزيلاً للتنضيض مع المحاسبة منزلة المقاسمة (3) وإذا انفسخ العقد والمال عرض أو دين، فطلب رب المال تنضيضه، لزم العامل (4) .
__________
(1) أي أو قبل تصفيته بأن يرد نقدا، مع محاسبته حسابا كالقبض، حتى لو شاء صاحب المال قبضه، وأما قبل ذلك فالوضيعة إذا حصلت تحسب من الربح، ولا يستحق شيئًا قبل كمال رأس المال، قال أحمد: إلا أن يقبض رأس المال صاحبه، ثم يرده إليه، فيقول: اعمل في هذا. فما ربح بعد ذلك لا يجبر منه، وأما ما لا يدفع، فحتى يحتسبا حسابا كالقبض. قيل له: يحتسبان على المتاع؟ قال: لا يحتسبان إلا على الناض، لأن المتاع قد ينحط سعره، وقد يرتفع.
(2) فهذا الحساب الذي هو كالقبض، تكون المضاربة بعده ابتداء مضاربة ثانية، كما لو قبضها منه، ثم ردها إليه.
(3) والمقاسمة لا يجبر الخسران بعدها مما قبلها، والمذهب أنه يملك حصته من الربح بالظهور قبل القسمة، ومقتضاه أنه إذا وجد وجب أن يملكه، وعنه بها وعنه: بالمحاسبة بحكم الشرط، والتنضيض، والفسخ قبل القسمة والقبض. اختاره الشيخ وغيره، ويستقر ملكه بالمقاسمة، وبالمحاسبة التامة.
(4) أي وإذا انفسخ عقد المضاربة والمال عرض، فإن رضي رب المال أن يأخذ بماله عرضا – بأن يقوم عليه، ويدفع حصته – جاز، ما لم يقصد حيلة ليختص بالربح، وإن طلب تنضيضه لزم العامل، فيجبر على بيع العرض، وقبض ثمنه حيث لم يرض المالك، لأن عليه رد المال ناضا كما أخذه، وهو مذهب الشافعي، وصوبه في الإنصاف، وإن كان دينا وجب تقاضيه كله، وكذا لو كان رأس المال
دراهم فصار دنانير أو عكسه، فهو كالعرض، وذكر ابن عقيل أن المضارب لا ينعزل ما دام عرضا، بل يملك التصرف حتى ينض رأس المال، وحتى يعلم رب المال أنه أراد الفسخ كما تقدم، وإن طلب العامل البيع فأبى رب المال، أجبر إن كان فيه ربح، بلا خلاف وإلا فلا.(5/262)
وتبطل بموت أحدهما (1) فإن مات عامل، أو مودع، أو وصي ونحوه (2) وجهل بقاء ما بيدهم، فهو دين في التركة (3) لأن الإخفاء وعدم التعيين كالغصب (4) ويقبل قول العامل فيما يدعيه من هلاك، وخسران (5) .
__________
(1) أي المتضاربين، وبجنونه، وبالحجر عليه للسفه، وبالفسخ من أحدهما، قال أحمد: إذا مات رب المال لم يجز للعامل أن يبيع ويشتري إلا بإذن الورثة. وتقدم أنها عقد جائز.
(2) كوكيل، وأجير، وعامل وقف، وناظره، ونحوه.
(3) لأن الأصل بقاء المال بيد الميت، واختلاطه بجملة التركة، ولا سبيل إلى معرفة عينه، فكان دينا، وصاحبه أسوة الغرماء، وفي الفروع: لو مات وصي، وجهل مال موليه، يتوجه أنه كمال المضاربة والوديعة، قال الشيخ: هو في تركته.
(4) أي فتعلق بذمته، وإذا أراد مالك تقرير وارث، فمضاربة مبتدأة، ولا يبيع عرضا بلا إذن، ووارث المالك كهو، فيتقرر ما لمضارب.
(5) قال الموفق: بغير خلاف. لأنه متصرف في مال غيره بإذنه، على وجه لا يختص بنفعه، كالوكيل، ويقبل قوله فيما يدعى عليه من خيانة أو تفريط بلا خلاف، ويقبل قوله في قدر رأس المال، حكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه، لأنه يدعى عليه قبض شيء وهو ينكره، وفي الإنصاف: إن قال ربحت ألفًا، ثم خسرتها. أو: هلكت. قبل قوله بلا نزاع، وإن قال: غلطت، أو نسيت. لم يقبل، وعنه: يقبل. قال أبو بكر: وعليه العمل. ومحل ذلك كله ما لم تكن لرب المال بينة تشهد بخلاف ذلك، وإن ادعى الهلاك بأمر ظاهر كلف البينة كما تقدم.(5/263)
وما يذكر أَنه اشتراه لنفسه، أو للمضاربة، لأنه أَمين (1) والقول قول رب المال في عدم رده إليه (2) .
__________
(1) ولأن الاختلاف هنا في نية المشتري، وهو أعلم بما نواه، ولا يطلع عليه أحد سواه، فقبل قوله بلا خلاف، ومثله شريك عنان، ووجوه.
(2) بيمينه، لأنه منكر، والعامل قبض المال لنفع له فيه، وتقدم أن الأصل عدم القبض، والعامل يدعيه، والقاعدة مطردة أن «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» لترادف الأخبار بذلك.(5/264)
فصل (1)
(الثالث شركة الوجوه) (2) سميت بذلك لأَنهما يعملان فيها بوجههما أَي جاهما، والجاه والوجه واحد (3) .
وهي: أَن يشتركا على (أَن يشتريا في ذمتيهما) من غير أن يكون لهما مال (بجاههما (4) فما ربحا) هـ (فـ) ـهو (بينهما) على ما شرطاه (5) .
__________
(1) أي في بيان أحكام شركة الوجوه، وهي جائزة، إذ معناها وكالة كل منهما صاحبه في الشراء، والبيع، والكفالة بالثمن، وكل ذلك صحيح، لاشتمالها على مصلحة من غير مفسدة.
(2) أي النوع الثالث من أنواع الشركة الخمسة، شركة الوجوه، يعني الشركة بالوجوه.
(3) يقال: فلان وجيه. أي ذو جاه، والجاه: القدر، والمنزلة.
(4) بثقة التجار بهما، على أن ما اشترياه فهو بينهما نصفين، أو أثلاثا، أو نحو ذلك على ما يتفقان عليه، ويبيعان ذلك.
(5) من تساو وتفاضل، لخبر «المؤمنون على شروطهم» ولأن عقدها مبني على الوكالة، فيتقيد بما أذن فيه.(5/265)
سواء عين أحدهما لصاحبه ما يشتريه، أو جنسه، أو وقته أو لا (1) فلو قال: ما اشتريت من شيء فبيننا. صح (2) (وكل واحد منهما وكيل صاحبه (3) وكفيل عنه بالثمن) (4) لأن مبناها على الوكالة والكفالة (5) (والملك بينهما على ما شرطاه) (6) لقوله عليه السلام «المؤمنون عند شروطهم» (7) .
__________
(1) أي سواء عين أحد الشريكين لصاحبه ما يشتريه، أو عين جنسه، أو قدره أو قيمته، أو لم يعين شيئًا من ذلك، لأن ذلك إنما يعتبر في الوكالة المفردة، لا الداخلة في ضمن الشركة.
(2) أي العقد، قال أحمد – في رجلين اشتركا بغير رؤوس أموالهما، على أن ما يشتريه كل واحد منهما فهو بينهما – فهو جائز، وكانت شركة صحيحة. ولأنهما اشتركا في الإبتياع، وأذن كل واحد منهما للآخر فيه فصح، وكانا يتبايعانه بينهما، كما لو ذكرا شرائط الوكالة، ولا يعتبر ذكر شروط الوكالة، لأنهما دخلا في ضمن الشركة، بدليل المضاربة، وشركة العنان.
(3) أي في شراء نصف المتاع، بنصف الثمن، وكذا بيعه، فيستحق الربح في مقابلة ملكه الحاصل في المبيع.
(4) فيلزمه قضاء نصيبه.
(5) والوكيل يسلم ثمن المبيع ويستلمه، والكفيل يسلم مكفولاً به.
(6) بينهما نصفين، أو أقل أو أكثر، وما يشتريه أحدهما بينهما بالنية، صوبه في تصحيح الفروع. وكذا في شركة العنان.
(7) ثابتون عليها، ولعموم {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وغير ذلك.(5/266)
(والوضيعة على قدر ملكيهما) (1) كشركة العنان، لأَنها في معناها (2) (والربح على ما شرطاه) كالعنان (3) وهما في تصرف كشريكي عنان (4) .
(الرابع شركة الأبدان) (5) وهي (أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما) أي يشتركان في كسبهما من صنائعهما (6) .
__________
(1) أي فيما يشتريانه، فمن له فيه الثلثان فعليه ثلثا الوضيعة، ومن له الثلث فعليه ثلثها، سواء كان الربح بينهما كذلك أو لا، ولأن الوضيعة عبارة عن نقص رأس المال، وهو مختص بملاكه، فيوزع بينهم على قدر الحصص.
(2) في أن الخسران على قدر المال بالحساب، لأن شركة الوجوه في معنى شركة العنان، فأعطيت حكمها، وتقدم أنها على قدر المال بلا خلاف.
(3) أي شركة العنان، من ربع، أو ثلث، أو غيره، لما تقدم من أن أحدهما قد يكون أوثق عند التجار، وأبصر بالتجارة من الآخر، ولأنها منعقدة على عمل وغيره، فكان ربحها على ما شرطاه.
(4) أي وشريكا الوجوه في التصرف – بنحو بيع، وإقرار، وخصومة، وغير ذلك – كشريكي عنان فيما يجب لهما وعليهما، وفيما يجوز، ويمتنع، وشروط، وسائر ما تقدم، وأيهما عزل صاحبه انعزل، لأنه وكيله.
(5) أي شركة بالأبدان فحذفت الباء ثم أضيفت، لأنهم بذلوا أبدانهم في الأعمال، لتحصيل المكاسب، وسميت بذلك لاشتراكهما في عمل أبدانهما، وهي نوعان.
(6) فقد شرك النبي صلى الله عليه وسلم بين عمار، وسعد، وابن مسعود
كما سيأتي، فما تقبلاه في ذممهما من عمل – كحدادة، وقصارة، وخياطة – صح، وكذا لو قال أحدهما: أنا أتقبل، وأنت تعمل، والأجر بيننا. صح.(5/267)
فما رزق الله فهو بينهما (1) (فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله) (2) ويطالبان به (3) لأن شركة الأبدان لا تنعقد إلا على ذلك (4) وتصح مع اختلاف الصنائع، كقصار مع خياط (5) ولكل واحد منهما طلب الأُجرة (6) وللمستأْجر دفعها إلى أحدهما (7) .
__________
(1) أي على ما اتفقا عليه من مساواة أو تفاضل، لأن العمل يستحق به الربح، وقد يتفاضلان في العمل، فجاز تفاضلهما في الربح الحاصل به.
(2) لتضمن الشركة ذلك، أي فما تقبله أحدهما من عمل – يصير في ضمانهما – يلزمهما فعله.
(3) أي ويطالب كل واحد منهما بما تقبل شريكه من أعمال الشركة.
(4) أي ضمان كل واحد منهما عن الآخر ما يلزمه، فإن الشركة الشرعية لا تخرج عن الوكالة والضمان.
(5) أو حداد، أو نجار، فيما يتقبلان في ذممهما من عمل، لأنهم اشتركوا في مكسب مباح فصح، كما لو اتفقت الصنائع، فإنها تصح قولا واحدا.
(6) أي أجرة عمل تقبله هو أو صاحبه.
(7) ويبرأ من الأجرة بالدفع لأحدهما، لأن كل واحد منهما كالوكيل عن الآخر.(5/268)
ومن تلفت بيده بغير تفريط لم يضمن (1) (وتصح) شركة الأبدان (في الاحتشاش، والاحتطاب (2) وسائر المباحات) كالثمار المأْخوذة من الجبال (3) والمعادن (4) والتلصص على دار الحرب (5) لما روى أبو داود بإسناده عن عبد الله (6) قال: اشتركت أنا، وسعد، وعمار، يوم بدر (7) فلم أجئ أنا وعمار بشيء، وجاء سعد بأسيرين (8) .
__________
(1) كالوكيل، وتضيع عليهما، لأن كل واحد منهما وكيل الآخر في المطالبة والقبض، وإن فرط أو تعدى فعليه وحده، لانفراده بما يوجب الضمان.
(2) والاصطياد، والاغتنام، والحمل ونحوه، وهذا النوع الثاني، قال أحمد: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم، وليس لهم مال، مثل الصيادين، والحمالين، والنخالين. واحتج بقصة سعد وصاحبيه.
(3) كالعسل، للخبر، فإنما اغتنامهم من قبيل المباحات.
(4) أي وتصح شركة الأبدان في استخراج المعادن، وهي من المباحات.
(5) كسلب من يقتلانه بدار حرب وغيره.
(6) يعني ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه إذا أطلق اسم عبد الله لم ينصرف إلا عليه.
(7) وكانت في السنة الثانية من الهجرة في رمضان.
(8) ومثل هذا لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أقرهم ونقل أنه قال «من أخذ شيئًا فهو له» فكان ذلك من قبيل المباحات.(5/269)
قال أحمد: أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم (1) (وإن مرض أحدهما فالكسب) الذي عمله أحدهما (بينهما) (2) احتج الإمام بحديث سعد (3) وكذا لو ترك العمل لغير عذر (4) (وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه) (5) .
__________
(1) فدل على جواز شركة الأبدان، ولأن العمل أحد جهتي المضاربة، فصحت الشركة عليه كالمال.
(2) على ما شرطاه، نص عليه، وقد سئل عن الرجلين يشتركان في عمل الأبدان، فيأتي أحدهما بشيء، ولا يأتي الآخر بشيء؟ قال: نعم، هذا بمنزلة حديث سعد.
(3) وعمار وابن مسعود، حيث اشتركوا، فجاء سعد بأسيرين، وأخفق الآخران، وأقرت شركتهم، ولأن العمل مضمون عليهما معًا، وبضمانهما له وجبت الأجرة، فتكون لهما، كما كان الضمان عليهما، ويكون العامل عونًا لصاحبه في حصته، ولا يمنع ذلك استحقاقه.
(4) أي بأن كان حاضرا صحيحًا، فالكسب بينهما على ما شرطاه، وقال الموفق وغيره: ويحتمل أنه إذا ترك العمل لغير عذر، أن لا يشارك صاحبه في أجرة ما عمله دونه، لأنه إنما شاركه ليعملا جميعا، فإذا ترك أحدهما العمل، فما وفى بما شرط على نفسه، فلم يستحق ما جعل له في مقابلته، وإنما احتمل ذلك فيما إذا تركه لعذر، لأنه لا يمكن التحرز منه.
(5) أي وإن طالب المريض الصحيح بأن يقيم مقامه من يعمل معه لزمه ذلك، ويلزم غير العارف منهما بعمل ما تقبله شريكه أن يقيم مقامه في العمل، ليحصل المقصود لكل من الشريكين.(5/270)
لأنهما دخلا على أن يعملا (1) فإذا تعذر عليه العمل بنفسه لزمه أن يقيم مقامه (2) توفية للعقد بما يقتضيه (3) وللآخر الفسخ (4) وإن اشتركا على أن يحملا على دابتيهما والأُجرة بينهما صح (5) وإن أجَّراهما بأعينهما فلكل أجرة دابته (6) ويصح دفع دابة ونحوها لمن يعمل عليها، وما رزقه الله بينهما على ما شرطاه (7) .
__________
(1) أي بأبدانهما في نوعيها، من تقبل عمل بأبدانهما في ذممهما، أو تملك مباح.
(2) من يعمل، لدخولهما في الشركة على ذلك، و"مقامه" بضم الميم، ويجوز الفتح، بخلاف نحو: قام زيد مقام عمرو، فبالفتح لا غير.
(3) من لزوم العمل مع شريكه.
(4) أي فإن امتنع المريض ونحوه من أن يقيم مقامه فللآخر فسخ الشركة، بل له فسخها وإن لم يمتنع، لأنها غير لازمة.
(5) لأنه نوع من الاكتساب، والدابتان آلتان، فأشبها الأداة، وتقبلهما الحمل أثبت الضمان في ذمتيهما.
(6) أي وإن أجرا الدابتين بأعيانهما على حمل شيء، بأجرة معلومة، واشتركا على ذلك، لم تصح الشركة، ولكل واحد منهما أجرة دابته، لأنه لم يجب ضمان الحمل في ذممهما، وإنما استحق المكتري منفعة البهيمة.
(7) أنصافًا، أو أثلاثا أو نحوه، نص عليه، وقال – فيمن دفع فرسه على النصف من الغنيمة – أرجو أن لا يكون به بأس، وقال – فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه، ويكون له ثلث ذلك، أو ربعه – فجائز، وكذا إن دفع
غزلا إلى رجل لينسجه، أو ثوبا إلى خياط ليفصله ويبيعه، ولأن الدابة ونحوها عين تنمي بالعمل عليها، فصح العقد ببعض نمائها، كالدراهم، والدنانير، وكالشجر في المساقاة، والأرض في المزارعة، وإن اشترك ثلاثة، من أحدهم دابة، ومن آخر راوية، ومن آخر العمل، على أن ما رزق الله بينهما صح، وهذا قول الشافعي، وإن جمعا بين شركة العنان، والوجوه، والأبدان صح.
قال الشيخ وغيره: وليس لولي الأمر المنع بمقتضى مذهبه في شركة الأبدان، والوجوه، والمساقاة، والمزارعة، ونحوها مما يسوغ فيه الاجتهاد. قال: وتصح شركة الشهود: واقتصر عليه في الفروع، قال الشيخ: وللشاهد أن يقيم مقامه إن كان الجعل على عمل في الذمة، وإن كان على شهادة بعينه فوجهان، قال: والأصح جوازه، وللحاكم إكراههم، لأن له نظرا في العدالة وغيرها، وقال أيضًا: إن اشتركوا على أن كل ما حصله كل واحد منهم بينهم، بحيث إذا كتب أحدهم، وشهد، شاركه الآخر، وإن لم يعمل، فهي شركة أبدان، تجوز حيث تجوز الوكالة، وشركة الدلالين تصح عند بعضهم. وقال: نص أحمد على جوازها، وذكر الموفق قياس المذهب جوازها، وصوبه في الإنصاف.
قال الشيخ: ووجه صحتها أن بيع الدلال وشراءه، بمنزلة خياطة الخياط، وتجارة التاجر، وسائر الأجراء المشتركين، لكل منهم أن يستنيب، وإن لم يكن للوكيل أن يوكل، ومأخذ من منع أن الدلالة من باب الوكالة، وسائر الصناعات من باب الإجارة وليس الأمر كذلك، ومحل الخلاف في الاشتراك في الدلالة التي فيها عقد، فأما مجرد النداء، والعرض، وإحضار الزبون، فلا خلاف في جوازه، وتسليم الأموال إليهم، مع العلم بالشركة إذن لهم، وإن باع كل واحد ما أخذ، ولم يعط غيره، واشتركا في كسب، جاز في أظهر الوجهين، كالمباح، ولئلا تقع منازعة.(5/271)
(الخامس شركة المفاوضة) (1) وهي (أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة) (2) بيعًا، وشراء، ومضاربة، وتوكيلاً، وابتياعًا في الذمة، ومسافرة بالمال، وارتهانًا، وضمان ما يرى من الأعمال (3) أو يشتركا في كل ما يثبت لهما وعليهما فتصح (4) (والربح على ما شرطاه (5) والوضيعة بقدر المال) لما سبق في العنان (6)
__________
(1) المفاوضة لغة الاشتراك في كل شيء، كالتفاوض، والمساواة، والمجاراة في الأمر.
(2) أي وشركة المفاوضة شرعا قسمان، أحدهما صحيح، وهو نوعان "الأول" تفويض كل من المشتركين، اثنين فأكثر، إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة، وهو الجمع بين عنان، ووجوه، ومضاربة، وأبدان، فتصح، لأن كل واحد منها يصح منفردا، فصح مع غيره، كحالة الإنفراد.
(3) قال في الإنصاف وغيره: فهذه شركة صحيحة، لأنها لا تخرج عن شركة العنان، والوجوه، والأبدان، وجميعها منصوص على صحتها.
(4) لأنها لا تخرج عن أنواع الشركة التي تقدمت، وهذا النوع الثاني.
(5) كما تقدم، وقال الشيخ: وموجب العقد المطلق التساوي في العمل والأجر، وإن عمل واحد أكثر ولم يتبرع، طالبهم إما بما زاد في العمل، وإما بإعطائه زيادة في الأجرة بقدر عمله، وإن اتفقوا على أن يشترطوا له زيادة جاز.
(6) وهو أن الخسران على قدر المال بالحساب، سواء كان التلف أو النقصان في الثمن أو غير ذلك، وأما في المضاربة فعلى المال.(5/273)
(فإن أدخلا فيها كسبًا أو غرامة نادرين) (1) كوجدان لقطة، أو ركاز، أو ميراث، أو أرش جناية (2) (أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه (3) فسدت) لكثرة الغرر فيها (4) ولأنها تضمنت كفالة وغيرها، مما لا يقتضيه العقد (5) .
__________
(1) فسدت، لأنه عقد لم يرد الشرع بمثله، وهذا هو القسم الثاني من قسمي شركة المفاوضة.
(2) أو مهر وطء، أو هبة، أو وصية، أو غير ذلك من الأكساب النادرة.
(3) كضمان عارية، وقيمة متلف، وكتفريط، وتعدد بيع فاسد.
(4) ولأنها شركة معاوضة، وقد يلزم الشريك فيها ما لا يقدر الشريك عليه.
(5) ففسدت، وقيل: شركة المفاوضة أن يقول: أنت شريك لي في كل ما يحصل لي، بأي جهة كانت، من إرث أو غيره، والمنصوص أنه لا يصح، ولكل منهما ربح ماله، وأجرة عمله، وما يستفيده له، ويختص بضمان ما غصبه أو جناه، وضمانه عن الغير.(5/274)
باب المساقاة (1)
من السقي، لأنه أهم أمرها بالحجاز (2) وهي: دفع شجر له ثمر مأْكول – ولو غير مغروس – إلى آخر ليقوم بسقيه وما يحتاج إليه، بجزءٍ معلوم له من ثمرة (3) (تصح) المساقاة (على شجر له ثمر يؤكل) من نخل وغيره (4) .
__________
(1) أي والمزارعة، والأصل في جوازها السنة والإجماع، أما السنة فيأتي أنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر، بشرط ما يخرج منها ثمر أو زرع، ثم عاملهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ولم ينكر، فكان إجماعًا، وقال الشيخ: هما أصل من المؤاجرة، وأقرب إلى العدل والأصول، فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، بخلاف المؤاجرة، فإن صاحب الأرض تسلم له الأجرة، والمستأجر قد يحصل له زرع، وقد لا يحصل، والصحيح جوازها، وسواء كانت الأرض مقطعة أم لا.
(2) أي لأن السقي أهم أمر المساقاة بالحجاز، وحاجة شجرهم إلى السقي أكثر مشقة، لأنهم يسقون من الآبار بالنضح، فسميت بذلك.
(3) أي والمساقاة شرعا: دفع شجر مغروس، معلوم للمالك والعامل – ولو كان الشجر غير مغروس – مع أرض، ليغرسه فيها، ويقوم بسقيه وما يحتاج إليه، حتى يثمر، بجزء مشاع، معلوم لهما، من ثمر ذلك الشجر عينه، أو بجزء من الشجر، أو من الشجر والثمر، كالمزارعة، ويأتي.
(4) أي تصح المساقاة على شجر مغروس، معلوم للمالك والعامل، برؤية
أو صفة، له ثمر يؤكل، من نخل وغيره، كالكرم، والرمان، والجوز، واللوز، والزيتون، وغيرها، لمن يعمل عليه، ويقوم بمصلحته، بجزء مشاع معلوم، من الثمرة.(5/275)
لحديث ابن عمر: عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. متفق عليه (1) وقال أبو جعفر: عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم أهلوهم إلى اليوم (2) .
__________
(1) ولمسلم: دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها، على أن يعملوها من أموالهم، ولهم شطر ثمرها، أي نصفه، ولأحمد: دفع خيبر – أرضها ونخلها – مقاسمة على النصف. فدل على صحة المساقاة. وقال ابن القيم: وفي قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة، من ثمر أو زرع، فإنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر، واستمر على ذلك إلى حين وفاته، ولم ينسخ ألبتة، واستمر عمل الخلفاء الراشدين عليه، وليس من باب المؤاجرة، بل من باب المشاركة، وهو نظير المضاربة سواء.
(2) ذكره في المغني. وأبو جعفر: محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب، ثقة فاضل توفي سنة 115هـ.
وقال قيس بن مسلم عن أبي جعفر: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي، وسعد بن مالك، وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل علي، وآل عمر. وعن طاووس أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، على الثلث، والربع، فهو يعمل به إلى يومك هذا رواه ابن ماجه، وذكر البخاري آثارًا كثيرة عن السلف توجب أنه لم ينقل خلاف في الجواز، وتمسك بذلك الجمهور، وعليه عمل المسلمين في سائر الأمصار، قال الموفق: وهذا عمل به الخلفاء الراشدون مدة خلافتهم، واشتهر ذلك، فلم ينكره منكر، فكان إجماعًا. قال: ولا يجوز التعويل على ما خالف الحديث والإجماع، وكثير من أهل النخيل والشجر يعجزون عن عمارته وسقيه، ولا يمكنهم الاستئجار عليه، وكثير من الناس لا شجر لهم، ويحتاجون إلى الثمر، ففي تجويزها دفع الحاجتين، وتحصيل لمصلحة الفئتين.(5/276)
يعطون الثلث أو الربع (1) . ولا تصح على ما لا ثمر له كالحور (2) أو له ثمر غير مأْكول، كالصنوبر، والقرظ (3) .
__________
(1) أي يعطي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه أهل خيبر الشطر، والثلث، والربع، وهذا أمر صحيح مشهور، قد عمل به صلى الله عليه وسلم، ثم خلفاؤه، ثم أهلوهم، ومثل هذا يستحيل أن يكون منسوخًا، فدل على ما دل الحديث عليه من وجوب بيان الجزء المساقى عليه، من نصف، أو ربع، أو غيرهما من الأجزاء المعلومة، وأنها لا تجوز على مجهول، وأن قوله: وثمر. عام في كل ثمر، ولا تكاد بلد ذات أشجار تخلو من شجر غير النخل، وللدارقطني: بشطر ما يخرج من النخل والشجر، ولأنه يشبه النخل، والحاجة تدعو إلى المساقاة عليه كالنخل، وأكثر لكثرته، فأشبه النخل.
(2) معرب كوز، وكالصفصاف، والسرو، والوَرْد، لأنه ليس منصوصًا عليه، ولا في معنى المنصوص عليه، ولأن المساقاة إنما تكون بجزء من الثمرة، وهو لا ثمر له.
(3) الصنوبر شجر جبلي، ومنه: الأرْزُ، ثمره غير مأكول. و"القرظ" محركة
ورق السلم، أو ثمر السنط، فلا تصح المساقاة عليه، وقال الموفق: ما لا ثمر له، أوله ثمر غير مقصود، فلا تجوز المساقاة عليه، وبه قال مالك والشافعي، ولا نعلم فيه خلافًا، لأنه غير منصوص عليه، ولأنها إنما تجوز بجزء من الثمرة، وهذا لا ثمرة له، إلا أن يكون مما يقصد ورقه أو زهره، كالتوت، والورد، فالقياس يقتضي جواز المساقاة عليه لأنه في معنى الثمر، والمساقاة عليه بجزء منه، وصوبه في الإنصاف، وفي الإقناع، وعلى قياسه شجر له خشب يقصد، كحور، وصفصاف، وأما ما لا ساق له كالقطاني، والمقاثي، فإن قيل: كالشجر، صحت المساقاة عليه، أو كالزرع فمزارعة، صرح به ابن رجب وغيره.(5/277)
(و) تصح المساقاة أيضًا (على) شجر ذي (ثمرة موجودة) لم تكمل، تنمى بالعمل (1) كالمزارعة على زرع ثابت لأنها إذا جازت في المعدوم مع كثرة الغرر ففي الموجود وقلة الغرر أَولى (2) (و) تصح أيضًا (على شجر يغرسه) في أَرض رب الشجر (ويعمل عليه حتى يثمر) (3) .
__________
(1) أي تزيد به الثمرة كالتأبير، والسقي، وإصلاح الثمرة، هذا المذهب، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي.
(2) لأنه صلى الله عليه وسلم نص على المساقاة على الثمرة المعدومة بجزء منها، فالموجودة النامية بالعمل بطريق الأولى، فإن بقي من العمل ما لا تزيد به الثمرة، كالجذاذ ونحوه، فقال الموفق وغيره: لا تصح المساقاة عليه بغير خلاف.
(3) أو ساقاه على ودي النخل أو صغار الشجر، إلى مدة يحمل فيها غالبًا بجزء من الثمرة، قال الموفق: صح، لأنه ليس فيه أكثر من أن عمل العامل يكثر، وذلك لا يمنع الصحة. قال: والحكم فيما إذا ساقاه على شجر يغرسه، كالحكم
فيما إذا ساقاه على صغار الشجر. وقال أحمد فيمن قال لرجل: - اغرس في أرضي هذه شجرا أو نخلا، فما كان من غلة فلك بعملك كذا وكذا سهما، من كذا وكذا – فأجازه.(5/278)
احتج الإمام بحديث خيبر (1) ولأَن العوض والعمل معلومان فصحت، كالمساقاة على شجر مغروس (2) (بجزء من الثمرة) مشاع معلوم، وهو متعلق بقوله: تصح (3) . فلو شرطا في المساقاة الكل لأحدهما (4) أو آصعًا معلومة (5) .
__________
(1) أي في الزرع والنخل كما تقدم.
(2) بالسنة والإجماع، فصح على هذا الحكم، واختاره الشيخ وغيره.
(3) أي المساقاة على شجر له ثمر يؤكل، وما عطف عليه، وهو من شرط صحة المساقاة، فإنه لا بد من تقدير نصيب العامل بجزء معلوم من الثمرة، كالثلث والربع لما تقدم من الأخبار، وسواء قل الجزء أو كثر، ولا شيء للعامل من غير الثمرة، كالجريد والليف، والورق ونحوه.
(4) لم تصح، لاختصاص أحدهما به دون الآخر، والعامة تسميه "النفاه" وكذا لو شرط عليه عملا في غير السنة، أو في غير الشجر الذي ساقاه عليه، لأن موضوع المساقاة: أن يعمل في شجر معين، بجزء مشاع من ثمرته، في ذلك الوقت الذي يستحق عليه فيه العمل.
(5) أو جعل له آصعًا معلومة، كعشرة مثلا لم تصح، لأنه قد لا يخرج إلا ذلك فيختص به العامل، أو جعل له دراهم معينة، لأنه قد لا يخرج من النماء ما يساويها. وقال الشيخ – فيما إن غارسه على أن يكون لرب الأرض دراهم مسماة، إلى حين
إثمار الشجر، فإذا أثمر كانا شريكين في الثمر – لا أعرفها منقولة، فقد يقال: هذا لا يجوز، كما لو اشترط في المزراعة والمساقاة دراهم مقدرة، مع نصيبه من الزرع والثمر، فإن هذا لا يجوز بلا نزاع، كما لو اشترط شيئًا مقدرا، فإنه قد لا يحصل إلا ذلك المشروط، فيبقى الآخر لا شيء له، لكن الأظهر أن هذا ليس بمحرم.(5/279)
أو ثمرة شجرة معينة لم تصح (1) وتصح المناصبة، والمغارسة، وهي دفع أرض وشجر لمن يغرسه كما تقدم (2) بجزء مشاع معلوم من الشجر (3) .
__________
(1) لأنه قد لا يحمل غيرها أو لا تحمل، فيحصل الضرر والغرر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزارعة التي يجعل فيها لرب الأرض مكانا معينا.
(2) أي في قولهما: وتصح أيضًا على شجر يغرسه في أرض رب الشجر، ويعمل عليه حتى يثمر بجزء من الثمرة، ودليله وتعليله، والمناصبة والمغارسة معناهما واحد، فسرهما بقوله: وهي دفع أرض وشجر. أي معلوم بلا غرس، مع أرض، لمن يغرس الشجر فيها، ويعمل عليه حتى يثمر.
(3) نص عليه أحمد، أو من الشجر والثمر. وقال الشيخ: لو دفع أرضه إلى آخر يغرسها، بجزء من الغراس، صح كالمزارعة، واختاره. وقال: ولو كانت مغروسة، فعامله بجزء من غراسها. ولا فرق بين أن يكون الغارس ناظر وقف أو غيره. وعند الموفق وغيره: فساد الاشتراك في الغراس والأرض. وقال الشيخ: قياس المذهب صحته. وصححه المالكيون في الأرض الملك لا الوقف. قال الموفق: وتصح على البعل، كما تصح على السقي، لا نعلم فيه خلافًا عند من يجوز المساقاة.(5/280)
(وهو) أي عقد المساقاة والمغارسة والمزارعة (عقد جائز) من الطرفين (1) قياسًا على المضاربة (2) لأنها عقد على جزءٍ من النماءِ في المال، فلا يفتقر إلى ذكر مدة (3) ولكل منهما فسخها متى شاء (4) (فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة فللعامل الأُجرة) أَي أُجرة مثله (5) لأَنه منعه من إتمام عمله الذي يستحق به العوض (6) .
__________
(1) من جهة المالك والعامل، لقوله «نقركم على ذلك ما شئنا» فلم يقدر مدة.
(2) من حيث أنها عقد جائز، فكذا المساقاة والمغارسة والمزارعة عقد جائز.
(3) يحصل الكمال فيها، وكسائر العقود الجائرة. وإن جعلاها إلى الجذاذ أو الحصاد، أو إلى إدراكها صح، وصوبه في الإنصاف، والجمهور على أنها عقد لازم، دفعا للضرر، واختاره الشيخ وغيره. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الصحيح اللزوم، وهو الذي عليه الفتوى. وقال ابن ذهلان: الذي استقر عندنا لزوم المساقاة. قال الموفق وغيره: فإن قلنا هي عقد لازم، فلا تصح إلا على مدة معلومة، وهذا مذهب الشافعي، ولأنها أشبه بالإجارة، لأنها تقتضي العمل على العين مع بقائها، وعليه: لا تتقدر أكثر المدة، بل يجوز ما يتفقان عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها، وإن طالت، وأما أقل المدة، فتقدر بمدة تكمل فيها الثمرة، ولا يجوز أقل منها، وفي التبصرة: جائزة من جهة العامل، لازمة من جهة المالك، وذكره الشيخ حمد بن معمر عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(4) لأنه شأن العقود الجائزة.
(5) هذا المذهب، صرح به جمهور الأصحاب.
(6) وذلك لأن الربح لا يتولد من المال بنفسه، وإنما يتولد من العمل، ولم
يحصل بعمله ربح، والثمر متولد من عين الشجر، وقد عمل على الشجر عملاً مؤثرًا في الثمرة، فكان لعمله تأثير في حصول الثمر، وظهوره بعد الفسخ، ولولا الفسخ لظهرت الثمرة، فملك نصيبه منها، وقد قطع المالك ذلك بفسخه، فاستحق أجرة مثله. وقال الشيخ: إذا فسدت المساقاة أو المزارعة استحق العامل نصيب المثل، وهو ما جرت العادة في مثله، لا أجرة المثل، وقال: الصحيح من قولي العلماء أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب نصيب المثل، لا أجرة المثل، فيجب من الربح أو النماء، إما مثله وإما نصفه، كما جرت العادة في مثل ذلك، ولا يجب أجرة مقدرة، فإن ذلك قد يستغرق المال وأضعافه، وإنما يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح، والواجب في الصحيح ليس هو أجرة مسماة، بل جزء، مشاع من الربح مسمى، فيجب في الفاسد نظير ذلك.(5/281)
(وإن فسخها هو) أي فسخ العامل المساقاة، قبل ظهور الثمرة (فلا شيء له) لأنه رضي بإسقاط حقه (1) وإن انفسخت بعد ظهور الثمرة، فهي بينهما على ما شرطاه (2) ويلزم العامل تمام العمل كالمضارب (3) .
__________
(1) في أصح الوجهين، كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح، وعامل الجعالة إذا فسخ قبل إتمام عمله.
(2) أي عند العقد، لأنها حدثت على ملكهما.
(3) أي كما يلزم المضارب بيع العروض، إذا فسخت المضاربة بعد ظهور الربح، وقال الشيخ: إذا ترك العامل العمل حتى فسد الثمر، فينبغي أن يجب عليه ضمان نصيب المالك، فينظر كم يجيء لو عمل بطريق الاجتهاد، كما يضمن لو يبس الشجر، وهذا لأن تركه العمل من غير فسخ العقد حرام وغرر، وهو سبب في عدم هذا الثمر، فيكون كما لو تلفت الثمرة تحت اليد العادية. وقال: والأصوب الأقيس بالمذهب أن يضمن بمثل ما ينبت ضمان تغرير. اهـ.
وعلى القول بلزومها: يقوم الوارث مقام الميت منهما؛ فإن أبي وارث أن يأخذ ويعمل لم يجبر، ويستأجر الحاكم من التركة من يعمل، وإن هرب العامل ولم يوجد له ما ينفق عليها، فهو كا لو مات، فإن وجد الحاكم له مالا، أو أمكنه الاقتراض عليه من بيت المال، أو غيره، فعل، فإن تعذر، فلرب المال الفسخ، قال في الإنصاف بلا نزاع، وإن عمل فيها رب المال بإذن حاكم فقال الموفق: رجع، قولاً واحدًا.(5/282)
(ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة من حرث، وسقي (1) وزبار) بكسر الزاي، وهو قطع الأَغصان الرديئة من الكرم (2) (وتلقيح، وتشميس (3) وإصلاح موضعه (4) و) إصلاح (طرق الماء (5) وحصاد ونحوه) (6) .
__________
(1) أي من حرث الأرض تحت الشجر، وسقي الشجر بماء حاصل لا يحتاج إلى حفر بئر، وعليه الاستقاء من بئر أو نحوها، بإدارة الدولاب ونحوه.
(2) وبعض الجيدة بمنجل ونحوه، وقطع ما يحتاج الشجر إلى قطعه كجريد النخل.
(3) أي ويلزم العامل تلقيح النخل، وهو جعل طلع الفحال في طلع النخل، وتشميس الثمر المحتاج للتشميس، وتجفيفه، وتصفية زرع، ونحو ذلك.
(4) أي موضع التشميش، وكذا موضع دياس الزرع.
(5) وإصلاح الحفر التي يجتمع فيها الماء على أصول الشجر.
(6) كجذاذ، جزم به في الوجيز وغيره، ونصره الموفق وغيره.(5/283)
كآلة حرث، وبقره (1) وتفريق زبل (2) وقطع حشيش مضر (3) وشجر يابس (4) وحفظ ثمر على شجر إلى أَن يقسم (5) (وعلى رب المال ما يصلحه) أي ما يحفظ الأَصل (6) (كسد حائط (7) وإجراء الأَنهار) (8) .
__________
(1) أي التي تحرث الأرض.
(2) بكسر فسكون "السَّرقين" وزبل زرعه: سمده. وكذا تفريق بسباخ ونحوه.
(3) بشجر أو زرع، وتنقية من دغل وغيره.
(4) أي وقطع شجر يابس أو شوك: وعليه آلة القطع من فأس، ومنجل، ونحوهما.
(5) أي وعلى العامل حفظ ثمر على شجر، ونقله إلى الجرين، وحفظه فيه، وحفظ زرع ونحوه إلى أن يقسم، لأن هذا كله من العمل، والعامل يلزمه – بإطلاق عقد المساقاة – كل ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها، لأن موضوعها على أن العمل منه، وينبغي العمل بالعرف.
وفي الرعاية: لا يشترط تفصيل ما يلزم العامل من عمله، بل يحمل المطلق في كل مكان على عرفه الغالب.
(6) هذا مذهب الجمهور، وعبر بعضهم أن ما يتكرر كل عام فعلى العامل، وما لا يتكرر فعلى رب المال، وقال الموفق وغيره: هذا صحيح في العمل، واستثنى شراء ما يلقح به، لأنه ليس من العمل.
(7) أي بنائه، أو بناء ما تهدم منه.
(8) الأنهار مجاري الماء، ويقال للنهر الصغير ساقية، فإجراؤها على رب المال.(5/284)
وحفر البئر (1) (والدولاب ونحوه) كآلته التي تديره، ودوابه (2) وشراء ما يلقح به، وتحصيل ماء، وزبل (3) والجذاذ عليهما بقدر حصتيهما (4) إلا أن يشترطه على العامل (5)
__________
(1) أي على رب المال، ليتوفر الماء.
(2) أي وعلى رب المال تحصيل الدولاب، وهو ما تديره الدولاب، وكذا آلاته التي تديره، ونحوه ما في معناه من أي آلة كانت، وعليه أيضًا تحصيل دوابه التي تديره، وقال الموفق وغيره: الأولى أن البقر التي تدير الدولاب على العامل، كبقر الحرث، والعمل بالعادة أولى.
(3) أي وعلى رب المال شراء ما يلقح به من طلع فحال، ويسمى الكثر، وعلى رب المال تحصيل ماء، ولو نفد لزمه الحفر، ولو حصله في بئر أخرى لزم العامل السقي منها، وله تفاوت ما بينهما، وعلى المالك تحصيل زبل وسباخ، قاله الشيخ وغيره، لأنه ليس من العمل، فهو على رب المال.
(4) وعللوه بأنه إنما يكون بعد تكامل الثمرة، وانقضاء المعاملة، وتقدم أن نقل الثمرة إلى الجرين والتشميس، والحفظ ونحوه على العامل، مع أنه بعد الجذاذ فالجذاذ أولى، وكالحصاد.
وقال الموفق: فأما الجذاذ، والحصاد، واللقاط فعلى العامل، نص عليه في الحصاد، وهو مذهب الشافعي، لأنه من العمل، فكان على العامل كالتشميس، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى يهود، على أن يعملوها من أموالهم.
(5) نص عليه، وهو قول بعض الشافعية، ولأنه شرط لا يخل بمصلحة العقد،
ولا مفسدة فيه فصح، وعليه يصح أن يشترط على أحدهما شيئًا مما يلزم الآخر، ويعتبر أن يكون ما يلزم كل واحد منهما من العمل معلومًا، وأن لا يكون على رب المال أكثر العمل، ولا نصفه، لأن العامل إنما يستحق بعمله.(5/285)
والعامل فيها كالمضارب فيما يقبل، ويرد، وغير ذلك (1) .
__________
(1) أي والعامل في المساقاة، وكذا المزارعة كالمضارب، فيما يقبل قوله فيه، وفيما يرد قوله فيه، فيقبل قوله أنه لم يتعد ونحوه، لأن رب المال ائتمنه بدفع ماله إليه، ويقبل قوله في غير ذلك، كمبطل لعقدها، وجزء مشروط، وإن اتهم حلف، صوبه في الإنصاف، فإن خان فمشرف يمنعه، وإن تعذر فعامل مكانه، قولا واحدًا، وإن عجز ضم إليه قوي، أو من يقوم مقامه، قال الشيخ: ويتبع في الكلف السلطانية العرف، ما لم يكن شرط، وما طلب من قرية من كلف سلطانية ونحوها فعلى قدر الأموال، فإن وضع على الزرع فعلى ربه، أو على العقار فعلى ربه، ومطلقا فعادة.(5/286)
فصل (1)
(وتصح المزراعة) لحديث خيبر السابق (2) وهي دفع أرض وحب، لمن يزرعه، ويقوم عليه (3) أَو حب مزروع ينمى بالعمل، لمن يقوم عليه (4) (بجزءٍ) مشاع، (معلوم النسبة) كالثلث أَو الربع ونحوه (5) (مما يخرج من الأَرض (6)
__________
(1) أي في أحكام المزارعة، وهي مشتقة من الزرع، وتسمى مخابرة، ومواكرة، والعامل فيها مزارع، ومخابر، ومواكر، والأصل في جوازها السنة، والإجماع القديم، والحاجة الداعية إلى ذلك، قال الشيخ: المزارعة آصل من الإجارة، لاشتراكهما في المغنم والمغرم؛ وقال ابن القيم: أبعد عن الظلم والغرر من الإجارة، فإن أحدهما غانم ولابد، وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه، وإلا اشتركا في الحرمان.
(2) ولفظه: عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، وعامل به الخلفاء الراشدون من بعده.
(3) بجزء مشاع معلوم من المتحصل.
(4) أي أو دفع حب مزروع – يزيد بالعمل – لمن يقوم عليه، وإن لم يبق من العمل ما لا يزيد به لم تصح، كما تقدم.
(5) كالنصف، أو أقل، أو أكثر، وفي الصحيح: كانوا يزرعونها بالثلث، والربع، والنصف.
(6) يعني من الزرع، وتقدم أنه عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر.(5/287)
لربها) أي لرب الأرض (أو للعامل، والباقي للآخر) (1) أي إن شرط الجزء المسمى لرب الأرض فالباقي للعامل، وإن شرط للعامل فالباقي لرب الأرض، لأنهما يستحقان ذلك (2) فإذا عين نصيب أحدهما منه، لزم أن يكون الباقي للآخر (3) (ولا يشترط) في المزارعة والمغارسة (كون البذر والغراس من رب الأرض) (4) فيجوز أن يخرجه العامل في قول عمر، وابن مسعود، وغيرهما (5) ونص عليه في رواية مهنا (6) .
__________
(1) أي والباقي من المتحصل من الزرع – بعد الجزء المشروط لأحدهما – للآخر منهما.
(2) دون غيرهما، غير أنه لا فرق بين أن يكون رب الأرض واحدًا، أو عددًا، وكذا العامل.
(3) حيث لا مستحق للمتحصل من الخارج من الأرض سواهما.
(4) قال في رواية مهنا – في الرجل يكون له الأرض فيها نخل وشجر، يدفعها إلى قوم يزرعون الأرض، ويقومون على الشجر، على أنه له النصف، ولهم النصف – لا بأس بذلك، قد دفع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على هذا.
(5) كابن عمر، وسعد، وفي الصحيح أن عمر عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا، وظاهر هذا أن ذلك اشتهر فلم ينكر، فكان إجماعًا.
(6) أي من أنه لا بأس به وتقدم.(5/288)
وصححه في المغني، والشرح (1) واختاره أبو محمد الجوزي والشيخ تقي الدين (2) (وعليه عمل الناس) (3) لأن الأصل المعول عليه في المزارعة قصة خيبر، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن البذر على المسلمين (4) وظاهر المذهب اشتراطه (5)
__________
(1) وعبارتهما – بعد ذكر رواية مهنا، وقصة خيبر، وغير ذلك قالا – وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
(2) واختاره المجد، والشارح، وصاحب الفائق، وابن القيم، وغيرهم، وقال: والذين اشترطوا البذر من رب الأرض قاسوها على المضاربة، وهذا القياس – مع أنه مخالف للسنة الصحيحة، وأقوال الصحابة فهو – من أفسد القياس، فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه، ويقتسمان الربح، فهذا نظير الأرض في المزارعة، وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه، بل يذهب، كما يذهب نفع الأرض، فإلحاقه بالنفع الذاهب، أولى من إلحاقه بالأصل الباقي.
(3) قاله صاحب الإنصاف وغيره، وقال: وهو الأقوى دليلاً.
(4) ولو كان شرطا لما أخل بذكره، ولو فعله هو أو أصحابه لنقل، بل على أنهم يعملونها من أموالهم، وعليه فأيهما أخرج البذر جاز، وفعله عمر، وفي لفظ «على أن يعملوها، ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها» .
(5) حكاه الموفق وغيره، وهو مذهب الشافعي، وعللوه بأنه عقد يشترك رب المال والعامل في نمائه فوجب أن يكون رأس المال كله من عند أحدهما كالمضاربة، لكن هذا التعليل يخالف قصة خيبر، وهي الأصل في ذلك وبما إذا اشترك رجلان بماليهما وبَدَنِ أحدهما.(5/289)
نص عليه في رواية الجماعة، واختاره عامة الأَصحاب (1) وقدمه في التنقيح (2) وتبعه المصنف في الإقناع (3) وقطع به في المنتهى (4) وإن شرط رب الأرض أن يأْخذ مثل بذره، ويقتسما الباقي لم يصح (5) وإن كان في الأرض شجر، فزارعه على الأرض، وساقاه على الشجر صح (6) .
__________
(1) وفي الفروع: لا يصح إن كان البذر من العامل أو من غيره والأرض لهما أو منهما.
(2) وعبارته: تجوز المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض إذا كان البذر من رب الأرض.
(3) فقدم أن المزارعة لا تصح إن كان البذر من العامل، أو منهما، أو من أحدهما والأرض لهما، أو الأرض والعمل من الآخر أو البذر من ثالث أو البقر من رابع، لكن قال: وعنه: لا يشترط كون البذر من رب الأرض. واختاره الموفق، والمجد، والشارح، وابن رزين، وأبو محمد الجوزي، والشيخ، وابن القيم، وصاحب الفائق، والحاوي الصغير، وهو الصحيح، وعليه عمل الناس.
(4) فقال: فصل، وشرط علم بذر، وقدره، وكونه من رب الأرض. ولم يعرج على القول الثاني، وهو أسعد بالدليل.
(5) كما لو اشترط لنفسه قفزانا معلومة، لأنه قد لا يخرج من الأرض إلا ذلك، فيختص به المالك، وقال الشيخ: وإذا شرط صاحب البذر أن يأخذ مثل بذره، ويقتسما الباقي جاز كالمضاربة، وكاقتسامهما ما بقي بعد الكلف السلطانية.
(6) نص عليه، وفي الإنصاف: بلا نزاع. اهـ. سواء قل بياض الأرض
أو أكثر، قال أحمد: قد دفع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على هذا، ولأنهما عقدان يجوز إفراد كل واحد منهما، فجاز الجمع بينهما، كالبيع والإجارة.(5/290)
وكذا لو آجره الأرض، وساقاه على شجرها فيصح (1) ما لم يتخذ حيلة على بيع الثمرة قبل بدو صلاحها (2) وتصح مساقاة ومزارعة بلفظهما (3) ولفظ المعاملة، وما في معنى ذلك (4) ولفظ إجارة (5) .
__________
(1) أي الجمع بين إجارة الأرض والمساقاة على الشجرة، كالبيع والإجارة، لأنهما أيضًا عقدان، يجوز إفراد كل واحد منهما، فجاز الجمع بينهما.
(2) أو قبل وجودها، فلم تصح، سواء جمعا بين العقدين، أو عقدا أحدهما بعد الآخر، وفسر الحيلة في الإقناع على بيع الثمر بأن آجره الأرض بأكثر من أجرتها، وساقاه على الشجر بجزء من ألف جزء ونحوه. اهـ. وإن لم يكن بالأرض إلا شجرات يسيرة لم يجز شرط ثمرها لعامل مزراعة، وإن قال: ساقيتك على هذا البستان بالنصف، على أن الآخر بالربع لم تصح، كما لو شرطا لأحدهما دراهم معلومة أو زرع ناحية معينة.
(3) أي لفظ مساقاة، ولفظ مزراعة، لأنه لفظهما الموضوع لهما حقيقة.
(4) أي وتصح مساقاة ومزارعة بلفظ المعاملة، والمفالحة، وما في معنى ذلك الاسم المؤدي للمعنى، كاعمل ببستاني، أو تعهد نخلي، أو اسقه، أو أسلمته إليك لتتعهده بكذا، وفي الخبر: عامل أهل خيبر. لأن القصد المعنى، فإذا دل عليه بأي لفظ كان صح، كما تقدم في البيع وغيره، وكذا صفة القبول بما يدل عليه من قول وفعل.
(5) أي وتصح المساقاة والمزارعة بلفظ إجارة، وهذا المذهب، اختاره
الموافق وغيره، فلو قال: استأجرتك لتعمل لي على هذا الحائط، بنصف ثمرته أو زرعه. صح، ولا يكون ذلك إجارة.(5/291)
لأَنه مؤدًّ للمعنى (1) وتصح إجارة أرض بجزء مشاع مما يخرج منها (2) فإن لم تزرع نظر إلى معدل المغل، فيجب القسط المسمى (3) .
__________
(1) أي لفظ مساقاة للمساقاة، ومزارعة للمزارعة، ومعاملة، وإجارة لهما، وما في معنى ذلك مما يدل على المراد، واختاره الشيخ وغيره.
(2) كآجرتك هذه الأرض بربع ما تزرع فيها من بر ونحوه، وهي إجارة حقيقة، يشترط لها شروط الإجارة، وقال أبو الخطاب وجماعة: هي مزارعة بلفظ الإجارة. قال الشيخ: وتصح إجارة الأرض للزرع ببعض الخارج منها، وهو المذهب، وقول الجمهور.
(3) "معدل المغل" من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي إلى المغل المعدل، أي الموازن لما يخرج منها لو زرعت، والمراد غلتها في العادة، أو ينظر إلى الأرض التي مثلها، بذلك المحل الذي زرعت فيه، من جنس ذلك الطعام، وينظر ما خرج من كل جريب منها من ذلك الطعام، فيجب في الأرض القسط المسمى في العقد، وإن فسدت، وسميت إجارة فأجرة المثل، واختار الشيخ وغيره: قسط المثل.(5/292)
باب الإجارة (1)
مشتقة من الأَجر وهو العوض (2) ومنه سمي الثواب أجرًا (3) وهي عقد على منفعة مباحة معلومة (4) من عين معينة أو موصوفة في الذمة، مدة معلومة (5) .
__________
(1) أي باب بيان أحكام الإجارة، وهي لغة المجازاة، يقال: آجره الله على عمله، إذا جازاه عليه.
(2) قال تعالى {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} وفي النهاية: آجره يؤجره إذا أثابه، وأعطاه الأجر والجزاء، وكذلك أجره يأجره، والأمر فيهما: آجرني وأجرني.
(3) لأنه تعالى يعوض العبد على طاعته، أو صبره عن معصيته، بمحض فضله وإحسانه، وهي جائزة بالكتاب، والسنة، والإجماع، قال تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وفي قصة الهجرة: استأجر رجلا من بني الديل. وغير ذلك، وقال ابن المنذر: اتفق على إجازتها كل من يحفظ قوله من علماء الأمة، والحاجة داعية إليها لأن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان وهي من الرخص المستقر حكمها على وفق القياس على الأصح، وقال الشيخ: ليس شيء من العقود – الثابتة المستقر حكمها – على خلاف القياس، ولا تصح إلا من جائز التصرف.
(4) أي والإجارة «عقد على منفعة» عند الجمهور، وحكي الاتفاق على أن العقد في الإجارة إنما يتعلق بالمنفعة دون الرقبة «مباحة» لا محرمة كزنا وزمر، "معلومة" لا مجهولة، تؤخذ شيئًا فشيئًا، وهي ضربان.
(5) فالضرب الأول أن تكون «من عين معينة» كآجرتك هذا البعير «أو
من عين موصوفة في الذمة، كآجرتك بعيرًا صفته كذا، للحمل أو الركوب، مدة معلومة كيوم أو شهر، أو سنة، بلا خلاف، سوى صورتين إحداهما أن يصالحه على إجراء مائه، وتقدمت في الصلح، والثانية ما فتح عنوة ولم يقسم، فلا تقدر فيهما المدة، لعموم المصلحة» .(5/293)
أو عمل معلوم، بعوض معلوم (1) وتنعقد بلفظ الإجارة والكراء، وما في معناهما (2) وبلفظ بيع إن لم يضف للعين (3) و (تصح) الإجارة (بثلاثة شروط) (4) .
__________
(1) أي أو تكون المنفعة من عمل معلوم، كحمله إلى موضع كذا، وهذا الضرب الثاني وقوله "بعوض معلوم" راجع إلى الضربين، وعلم من ذلك أن المعقود عليه المنفعة لأنها التي تستوفى دون العين.
(2) أي وتنعقد الإجارة بلفظ "الإجارة" كآجرتك داري، واستأجرت، وبلفظ الكراء، كأكريتك واكتريت، لأن هذين اللفظين موضوعان لها، وتنعقد بما في معناهما، كأعطيتك نفع هذه الدار، أو ملكتكه سنة بكذا، لحصول المقصود به.
(3) أي وتصح الإجارة بلفظ بيع، نحو: بعتك نفع داري شهرًا بكذا، لأنها نوع من البيع، إن لم يضف البيع للعين، كبعتك داري شهرًا فلا يصح، جزم به في المنتهى وغيره وأطلقه، وفي الإقناع: أضافه إلى العين أو أطلق، لأنها بيع، فانعقدت بلفظه؛ وقال الشيخ: التحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأي لفظ كان، من الألفاظ التي عرف بها المتعاقدان مقصودهما، وهذا عام في جميع العقود، فإن الشارع لم يحد حدًا لألفاظ العقود، بل ذكرها مطلقة، وكذا قال ابن القيم، وغيرهما.
(4) معرفة المنفعة، والأجرة، والإباحة في العين، وهذا مجمع عليه في الجملة، وتأتي مفصلة.(5/294)
أحدها (معرفة المنفعة) (1) لأنها المعقود عليها، فاشترط العلم بها كالمبيع (2) وتحصل المعرفة إما بالعرف (كسكنى دار) (3) لأنها لا تكرى إلا لذلك (4) فلا يعمل فيها حدادة ولا قصارة (5) ولا يسكنها دابة (6) ولا يجعلها مخزنا لطعام (7) ويدخل ماء بئر تبعا (8) .
__________
(1) فلا تصح الإجارة مع جهالة المنفعة، لما في ذلك من الغرر.
(2) فإن معرفته شرط في صحة البيع، وبيع المجهول لا يصح إجماعا، فكذلك معرفة المنفعة في الإجارة.
(3) يعني شهرًا مثلاً أو سنة، فلم يحتج إلى ذكر صفة سكناها.
(4) أي للسكنى، وهي متعارفة بين الناس، والتفاوت فيها يسير، فلم يحتج إلى ضبطها، وهذا مذهب الشافعي، وأصحاب الرأي، فله السكنى، ووضع متاعه فيها، ويترك فيها من الطعام ما جرت عادة الساكن به.
(5) لأنه ليس العرف، ويضربها، إلا أن يكون قرينة، كما لو استأجرها حداد، أو قصار، والحدادة؛ عمل الحديد؛ والقصارة دق الثياب.
(6) لأنها تفسدها ببولها، وذلك إن لم تكن قرينة، كالدار الواسعة، التي فيها اصطبل معد للدواب، عملا بالعرف، أو اكتراها فلاح له دواب، فتلك قرينة.
(7) لأن الجرذ يخرق حيطانها، ويجلب النمل، والعرف لا يقتضيه، إلا إن استأجرها تاجر له طعام، لأن هذا معلوم بالضرورة أنه يجعله فيها.
(8) قال في المبدع: ويستحق ماء البئر تبعًا للدار في الأصح، ويأتي.(5/295)
وله إسكان ضيف وزائر (1) (و) كـ) (ـخدمة آدمي) (2) فيخدم ما جرت العادة به من ليل أو نهار (3) وإن استأجر حرة أو أمة صرف وجهه عن النظر (4) (و) يصح استئجار آدمي لعمل معلوم (5) .
__________
(1) لأنه ملك السكنى، فله استيفاؤها بنفسه، وبمن يقوم مقامه، وله ما جرت العادة به، إذا لم يكن للدار عرف، واكتراها للسكنى، وإن كان العرف أنه يدخل دوابه، وله عمل يعمله، فله ما كان يعرف ذلك عنه.
(2) أي وتحصل معرفة المنفعة بالعرف، كخدمة آدمي سنة مثلا، قال في الإنصاف: فنصح بلا نزاع. لكن تكون عرفًا على الصحيح، وصوبه، ولأنها معلومة بالعرف، فلم تحتج إلى ضبط كالسكنى، وسواء كان الأجير رجلاً أو امرأة، حرًا أو عبدًا، فيجوز الاستئجار كل شهر مثلاً بشيء معلوم، وهو مذهب الجمهور أبي حنيفة، والشافعي.
(3) يخدم نهارًا من طلوع الشمس إلى غروبها، وليلا ما يكون من أوساط الناس، ومتى كان لهما عرف أغنى عن تعيين النفع وصفته، وينصرف الإطلاق إليه، لتبادره إلى الذهن.
(4) قال أحمد: يجوز أن يستأجر الأجنبي الأمة والحرة للخدمة، لأنها منفعة مباحة، ولكن يصرف المستأجر وجهه عن النظر، ولا يخلو معها في بيت، ولا ينظر إليها متجردة، ولا إلى شعرها، فالمستأجر لهما كالأجنبي.
(5) فالإجارة هنا على ضربين، مدة كشهر وتقدم، أو عمل معلوم، ومتى تقدرت المدة لم يجز تقدير العمل، لأن الجمع بينهما يزيدها غررًا، هذا قول الجمهور، وقيل: يجوز إذا ذكرت المدة للتعجيل.(5/296)
كـ (تعليم علم) (1) وخياطة ثوب أو قصارته (2) أو ليدل على طريق ونحوه (3) لما في البخاري عن عائشة في حديث الهجرة: واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً هو عبد الله بن أرقط، وقيل ابن أُريقط، كان كافرًا من بني الديل (4) هاديا خريتا. والخريت الماهر بالهداية (5) وإما بالوصف، كحمل زبرة حديد، وزنها كذا، إلى موضع معين (6) .
__________
(1) أي من نحو، وصرف، ومعان، وبيان، لا قرآن، وتفسير، وفقه، على المذهب، وعنه: تجوز. وهو مذهب مالك، والشافعي، وغيرهم، إذا شارطه واستأجره إجارة صحيحة، للأحاديث الصحيحة ويأتي.
(2) ونحو ذلك، وقد آجر على نفسه كل دلو بتمرة، وغير ذلك مما يدل على جواز الاستئجار على عمل معلوم.
(3) معلوم لا مجهول، لما في الجهالة من الغرر.
(4) فدل على جواز الاستئجار على ذلك، وجواز استئجار المسلم للكافر هداية الطريق، إذا أمنه، قال ابن بطال وغيره: الفقهاء يجيزون استئجار المشركين عند الضرورة وغيرها، لما في ذلك من الذلة لهم وإنما الممتنع أن يؤجر المسلم نفسه من المشركين لما فيه من الإذلال.
(5) الذي يهتدي لأخرات المفازة وهي طرقها الخفية، ومضائقها، وفي القاموس: كسكيت، الدليل الحاذق.
(6) بلا نزاع، لكن لا بد من ذكر الوزن هنا، والمكان الذي تحمل إليه،
لأن المنفعة إنما تعرف بذلك، وكذا كل محمول، ولو كان المحمول كتابا فوجد الأجير المحمول إليه غائبًا، فله الأجرة لذهابه ورده، لأنه ليس سوى رده إلا تضييعه، وقد علم أنه لا يرضى تضييعه، فتعين رده.(5/297)
وبناء حائط يذكر طوله، وعرضه، وسمكه، وآلته (1) الشرط (الثاني معرفة الأجرة) بما تحصل به معرفة الثمن (2) لحديث أحمد: عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره (3) .
__________
(1) أي وبوصف بناء حائط، يذكر طول الحائط، وهو ارتفاعه، وعلوه ويذكر عرضه، لاختلاف الغرض، فيقول من حجارة، أو آجر، أو لبن، أو بالطين، أو الجص ونحوه، بلا نزاع، فلو بناه ثم سقط، فله الأجرة، لأنه وفى بالعمل، إلا إن كان سقوطه بتفريطه، نحو أن بناه محلولا، فعليه إعادته، وغرم ما تلف به، وإن استأجره لبناء أذرع معلومة، فبنى بعضها، وسقط، فعليه إعادته وتمام الأذرع، ليفي بالمعقود عليه، وإن استأجره لضرب لبن، ذكر عدده، وقالبه، وموضع الضرب، وتصح إجارة أرض معينة لزرع كذا، أو غرس ما شاء كآجرتك لتزرع ما شئت، أو لغرس ويسكت، أو آجره الأرض وأطلق، وهي تصلح للزرع وغيره، قال الشيخ: فتصح الإجارة في جميع هذه الصور، للعلم بالمعقود عليه. وقال: إن أطلق، أو قال: انتفع بها بما شئت. فله زرع، وغرس وبناء.
(2) أي قياسًا عليه، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا. لأنه عوض في عقد معاوضة فوجب أن يكون معلومًا برؤية أو صفة، كالثمن.
(3) ورواه ابن ماجه، ولفظ عبد الرزاق «من استأجر أجيرًا فليسم له أجرته» لئلا يكون مجهولا، ولا يجب عند الجمهور، للعرف، واستحسان
المسلمين، وقال ابن القيم: وإن كانت الأجرة غير معلومة صح، تبعا لمدة الإجارة، فقد صح عن علي أنه آجر نفسه كل دلو بتمرة، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك التمر.(5/298)
فإن آجره الدار بعمارتها (1) أو عوض معلوم، وشرط عليه عمارتها خارجا عن الأجرة لم تصح (2) ولو أجرها بمعين، على أن ينفق المستأجر ما تحتاج إليه، محتسبًا به من الأجرة صح (3) (وتصح) الإجارة (في الأَجير والظئر بطعامهما وكسوتهما) (4) روي عن أبي بكر، وعمر، وأبي موسى في الأجير (5) .
__________
(1) أي التي تحدث، لم تصح للجهالة، وأما عمارة شيء معلوم حال العقد فجائز.
(2) أي الإجارة، لجهالة المشروط، فقد تزيد العمارة، وقد تنقص، وقد يقول المؤجر: أردت عمارة أحسن من هذا.
(3) لأن الإصلاح على المالك، وقد وكله فيه، وإن دفع غلامه إلى نحو خياط ليعلمه بعمل الغلام سنة جاز.
(4) الظئر هي المرضعة، وهذا استثناء من اشتراط معرفة الأجرة، فتصح هنا وإن لم يصف الطعام والكسوة، أو بأجرة معلومة وطعامهما، وكسوتهما.
(5) أي أنهم استأجروا الأجراء بطعامهم وكسوتهم، ولم يظهر له نكير، فكان كالإجماع، وهذا مذهب مالك وغيره، ولابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ قصة موسى، قال «آجر نفسه ثماني سنين أو عشرا، على عفة فرجه، وطعام بطنه» وشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يثبت نسخه، وثبت في الظئر، فغيره بالقياس عليها، ولأنه عوض منفعة، فقام العرف فيه مقام التسمية.(5/299)
وأما الظئر فلقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) ويشترط لصحة العقد العلم بمدة الرضاع (2) ومعرفة الطفل بالمشاهدة، وموضع الرضاع (3) ومعرفة العوض (4) .
__________
(1) أي (وعلى المولود له) وهو الأب (رزقهن) طعامهن (وكسوتهن) لباسهن (بالمعروف) أي على قدر الميسرة، وبما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن، من غير إسراف ولا إقتار، ويأتي قول الشيخ: فدلت الآية على صحتها في الظئر بطعامها وكسوتها، وقياسها الأجير، وهما عند التنازع كزوجة.
(2) لأنه لا يمكن تقديره إلا بها، لأن السقي والعمل فيها يختلف.
(3) أي ويشترط معرفة الطفل بالمشاهدة، لأن الرضاع يختلف باختلاف كبره، وصغره، ونهمته، وقناعته، وصوب في الإنصاف أنه تكفي صفته، ويشترط معرفة موضع الرضاع، هل هو عند المرضعة، أو عند وليه، لأنه يختلف فيشق عليها في بيت المستأجر، ويسهل في بيتها.
(4) أي ويشترط معرفة العوض لما تقدم، جزم بذلك الموفق وغيره، وقال الشيخ: لا يفتقر إلى تقدير عوض، ولا إلى صيغة، بل ما جرت العادة بأنه إجارة فهو إجارة يستحق فيه أجرة المثل، في أظهر قولي العلماء، لعموم ما تقدم من قوله (بالمعروف) وأجمع العلماء على استئجار الظئر للآية، ودعاء الحاجة، وإن أطلق العقد على الرضاع دخلت فيه الحضانة، صوبه في الإنصاف، لأن العرف جار بأن المرضعة تحضن، فحمل الإطلاق عليه.
وقال ابن القيم – في قول من قال: إن الرضاع يتبع الحضانة -: الله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليس كذلك، وأن وضع الطفل في حجرها ليس مقصودًا أصلاً، ولا ورد عليه عقد الإجارة، لا عرفًا، ولا حقيقة، ولا شرعا، ولو أرضعت الطفل وهو في حجر غيرها، أو في مهده لاستحقت الأجرة ويأتي،
وأما الزوجة. فقال القاضي: لا يستأجر زوجته لرضاع، وقال الشيرازي: لأنه استحق نفعها. وعند الشيخ لا أجرة لها مطلقًا.(5/300)
(وإن دخل حماما، أو سفينة) بلا عقد (1) (أو أعطى ثوبه قصارا، أو خياطا) ليعملاه (بلا عقد، صح بأجرة العادة) (2) لأن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول (3) وكذا لو دفع متاعه لمن يبيعه (4) أو استعمل حمالا ونحوه فله أجرة مثله (5) ولو لم يكن له عادة بأخذ الأجرة (6) .
__________
(1) صح بأجرة العادة مطلقًا، لأن شاهد الحال يقتضيه، والشارع أجرى الشرط العرفي كاللفظي.
(2) وكذا حلق رأسه، وتغسيله، وشربه من مائه، أو قهوته، أو نحو ذلك من المباحات، إذا كان معدا نفسه لذلك، على الصحيح من المذهب.
(3) وإن لم يعد نفسه لذلك لم يستحق إلا بشرط، أو عقد، أو تعريض، لأنه لم يوجد عرف يقوم مقام العقد، فهو كما لو عمل بغير إذن مالكه.
(4) يعني وكان منتصبا يبيع للناس بأجرة مثله، فهو كالقصار والخياط، له أجرة العادة نص عليه.
(5) أي أو استعمل إنسان حمالا – ونحوه كدلال – بلا عقد معه، فله أجرة مثله على عمله، سواء وعده، كقوله: اعمله وخذ أجرته. أو عرض له، كقوله: اعلم أنك لا تعمل بلا أجرة. أو لا.
(6) لأنه عمل له بإذنه ما لمثله أجرة، ولم يتبرع، وهذا في المنتصب لذلك، وإلا فلا شيء له إلا بعقد أو شرط، أو تعريض كما تقدم، قال ابن القيم: لو دفع ثوبه إلى من يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة أو عجينه لمن يخبزه، أو لحما لمن يطبخه، أو حبا لمن يطحنه، أو متاعًا لمن يحمله، ونحو ذلك لمن نصب نفسه للأجرة على ذلك، وجب له أجرة مثله، وإن لم يشترط معه ذلك لفظًا، عند جمهور أهل العلم، حتى عند المنكرين لذلك، فإنهم ينكرونه بألسنتهم، ولا يمكنهم العمل إلا به.
وقال: إن قال: إن ركبت هذه الدابة إلى أرض كذا فلك عشرة أو إلى أرض كذا فلك خمسة عشر؛ أو إن خطت هذا القميص اليوم فلك درهم، أو غدا فنصف درهم. أو زرعت أرضي حبا فمائة، أو شعيرا فمائتان. هذا كله جائز صحيح، لا يدل على بطلانه كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس صحيح، ولا نزاع فيه في عصر الصحابة، بل الثابت عنهم جوازه كما ذكره البخاري عن عمر: أنه إذا دفع أرضه إلى من يزرعها، قال: إن جاء عمر بالبذر فله كذا، وإن جاؤوا به فلهم كذا، ولم يخالفه صحابي، ولا محذور فيه، ولا غرر، ولا جهالة، ولا يقع إلا معينا، والخيرة إلى الأجير.(5/301)
الشرط (الثالث الإباحة في) نفع (العين) المقدور عليه المقصود (1) كإجارة دار يجعلها مسجدا (2) وشجر لنشر ثياب، أو قعود بظله (3) .
__________
(1) أي الشرط الثالث لصحة الإجارة "الإباحة" مطلقا "في" نفع "العين" دون الأجزاء "المقدور عليه" لا المعجوز عنه "المقصود" عادة، لأن ما لا يقصد لا يقابل بعوض.
(2) لأنها منفعة مباحة، يمكن استيفاؤها من العين مع بقائها، فجاز استئجار العين لها، كالسكنى، وهذا مذهب مالك، والشافعي.
(3) أي وكإجارة شجر لنشر ثياب عليه، أو قعود بظله، لأنه منفعة مباحة مقصودة، كالحبال والخشب.(5/302)
(فلا تصح) الإجارة (على نفع محرم (1) كالزنا، والزمر، والغناء (2) وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر) (3) لأَن المنفعة المحرمة مطلوب إزالتها، والإجارة تنافيها (4) وسواء شرط ذلك في العقد أو لا، إذا ظن الفعل (5) ولا تصح إجارة طير ليوقظه للصلاة (6) .
__________
(1) لقوله {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ولأن المنفعة المحرمة لا تقابل بعوض في بيع، فكذا في الإجارة.
(2) وكذا النياحة لأنها غير مباحة، فلا يصح الاستئجار عليها، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال إجارة النائحة والمغنية، ولا يصح الاستئجار على كتابة ذلك، وشعر محرم، أو بدعة أو كلام محرم، لأنه انتفاع محرم، والغناء بالمد، ولا يكتب إلا بالألف، وأما الغنى بالمال فمقصور، ويكتب بالياء.
(3) أي ولا تصح الإجارة على جعل داره كنيسة أو بيعة، أو صومعة، أو بيت نار لمتعبد المجوس، أو لبيع الخمر، أو القمار ونحوه، لأن ذلك إعانة على المعصية، وفعل محرم، قال الموفق: فلم تجز الإجارة عليه، كإجارة عبده للفجور.
(4) أي فلم تصح، لكونها من الإعانة على الإثم والعدوان.
(5) لأنه فعل محرم، ولو اكترى ذمي من مسلم دارًا، فأراد بيع الخمر فيها، فلصاحب الدار منعه، وقال الشيخ: نصوص أحمد كثيرة في المنع من إجارة المسلم داره من أهل الذمة، وبعيها لهم، وأكثر الأصحاب على التحريم، ما لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة، فأما إن آجره إياها لأجل بيع الخمر، أو اتخاذها كنيسة أو بيعة، لم يجز قولا واحدا.
(6) ولا لسماع صوته.(5/303)
لأنه غير مقدور عليه (1) ولا شمع وطعام ليتجمل به ويرده (2) ولا ثوب يوضع على نعش ميت (3) ذكره في المغني والشرح (4) ولا نحو تفاحة لشم (5) (وتصح إجارة حائط لوضع أطراف خشبه) المعلوم (عليه) لإباحة ذلك (6) (ولا تؤجر المرأة نفسها) بعد عقد النكاح عليها (بغير إذن زوجها) لتفويت حق الزوج (7) .
__________
(1) لأنه قد يصيح وقد لا يصيح، ومنفعته ليست متقومة، إلا ليؤذن له فتصح، وتصح إجارة طير لصيد، لأنه نفع مباح متقوم.
(2) أي ولا تصح إجارة شمع ونقد ونحو ذلك ليجمل به دكانه، وطعام ونحوه ليتجمل به على مائدته ويرده، لأن منفعة ذلك غير مقصودة، وما لا يقصد لا يقابل بعوض، وبذله فيه سفه.
(3) أي ولا تصح إجارة ثوب ليوضع على نعش ميت، لأن الثوب ليس من المنافع المقصودة.
(4) وعبارته: يشترط أن تكون المنفعة مقصودة، فلا يجوز استئجار شمع ليتجمل به ويرده، ولا طعام ليتجمل به على مائدته ثم يرده، ولا النقود ليجمل بها الدكان، لأنها لم تخلق لذلك، ولا تراد له، فبذل العوض فيه سفه، وأخذه من أكل المال بالباطل، وكذلك استئجار ثوب ليوضع على سرير الميت، لما ذكرنا.
(5) لأنه نفع غير متقوم، فمن غصب تفاحا وشمه ثم رده لم يلزمه أجرة شمه.
(6) ولأن هذه منفعة مقصودة، مقدور على تسليمها واستيفائها، وكذا لو استأجره ليبني عليه بناء معلوما، تستوفي مع بقاء العين.
(7) فلا تصح الإجارة، لاشتغالها عنه بما استؤجرت له.(5/304)
فصل (1)
(ويشترط في العين المؤجرة) خمسة شروط (2) أحدها: (معرفتها برؤية أو صفة) إن انضبطت بالوصف (3) ولهذا قال (في غير الدار ونحوها) مما لا يصح فيه السلم (4) فلو استأجر حماما فلا بد من رؤيته (5) لأن الغرض يختلف بالصغر والكبر (6) ومعرفة مائه (7) ومشاهدة الإيوان (8) ومطرح الرماد (9) .
__________
(1) أي في بيان أحكام العين المؤجرة، وما يتعلق بذلك.
(2) أي على المذهب في العين المعينة.
(3) أي أحد الشروط الخمسة: معرفة العين المؤجرة، برؤية إن كانت لا تنضبط بالصفة، أو معرفتها بصفة إن انضبطت العين المؤجرة بالوصف، لاختلاف الغرض باختلاف العين وصفتها، هذا المشهور، وتفريع الأصحاب عليه، وفيه وجه لا يشترط، وله خيار الرؤية.
(4) كالبساتين، والنخيل، والآراض، فتشترط مشاهدته وتحديده.
(5) ومشاهدة قدره كالبيع.
(6) فاشترطت مشاهدته، لتنتفي الجهالة.
(7) الجاري إليه إن كان، لأن الغرض يختلف به.
(8) بالكسر، وهو الصفة كالأزج، يختلف بالكبر، والصغر، وغير ذلك، فاعتبرت مشاهدته.
(9) وموضع الزبل، وغير ذلك مما تعتبر مشاهدته.(5/305)
ومصرف الماء (1) وكره أحمد كراء الحمام، لأنه يدخله من تنكشف عورته فيه (2) (و) الشرط الثاني (أن يعقد على نفعها) المستوفى (دون أجزائها) لأَن الإجارة هي بيع المنافع، فلا تدخل الأجزاء فيها (3) (فلا تصح إجارة الطعام للأَكل (4) ولا الشمع ليشعله) (5) .
__________
(1) أي ماء الحمام، قال الموفق وغيره: فمتى أخل بهذا أو بعضه لم يصح، للجهالة بما يختلف به الغرض.
(2) قال ابن حامد وغيره: على طريق كراهة التنزيه، وتقدم كراهة بنائه لهذه العلة، أو لما يقصد به من التنعم، فأما العقد فصحيح عند جمهور العلماء، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن كراء الحمام جائز، إذا حدده، وذكر جميع آلته، شهورا مسماة، لأن المكتري إنما يأخذ الأجر عوضًا عن دخول الحمام، والاغتسال بمائه، وأحوال المسلمين محمولة على السلامة، وإن وقع من بعضهم فعل ما لا يجوز لم يحرم الأجر المأخوذ منه.
(3) هذا المذهب، وفرعوا عليه، والذي تدل عليه الأصول: أن الأعيان التي تحدث شيئًا بعد شيء، مع بقاء أصلها، حكمها حكم المنافع، كالثمر، والشجر واللبن في الحيوان.
(4) أو شراب لشرب، أو صابون لغسل ونحوه، لأنه لا ينتفع بها إلا بإتلاف عينها.
(5) لأنه لا ينتفع به إلا بإتلاف عينه، هذا المذهب، وقال الشيخ: ليس هذا بإجارة، ولكنه إذن في الإتلاف، وهو سائغ، كقوله: من ألقى متاعه، قال في الفروع: وهو المختار.(5/306)
ولو أَكرى شمعة ليشعل منها، ويرد بقيتها، وثمن ما ذهب، وأَجر الباقي فهو فاسد (1) (ولا حيوان ليأخذ لبنه) أو صوفه أو شعره، أو وبره (2) (إلا في الظئر) فيجوز وتقدم (3) .
__________
(1) لأنه يشمل بيعا وإجارة، وما وقع عليه البيع مجهول، وإذا جهل المبيع جهل المستأجر، وقال الشيخ: تجوز إجارة الشمع ليشعله، وهو قياس المذهب فيما إذا آجره كل شهر بدرهم. وقال ابن القيم: إن قال: بعتك من هذه الشمعة كل أوقية منها بدرهم. قل المأخوذ منها أو كثر، فهذا جائز، على أحد القولين في مذهب أحمد، واختاره شيخنا، وهو الصواب المقطوع به، وهو مخرج على نص أحمد في جواز إجارة الدار كل شهر بدرهم، وكل دلو بتمرة، ولا محذور في ذلك، ولا يفضي إلى تنازع، بل عمل الناس في أكثر بياعاتهم عليه ولا يضر جهالة كمية المعقود عند البيع، والشريعة لا تحرم مثل هذا، ولا تمنع منه.
(2) لأن مورد عقد الإجارة النفع، والمقصود هنا العين، وهي لا تملك ولا تستحق بإجارة، هذا المذهب، واختار الشيخ جوازه، قام هو به أو ربه، ولو جعل الأجرة نفقته، وهو مذهب مالك، فإن قام عليها المستأجر، وعلفها فكاستئجار الشجر، وإن علفها ربها ويأخذ المشتري لبنًا مقدرًا فبيع محض، وإن كان يأخذ اللبن مطلقًا فبيع أيضًا، وليس بغرر، وقال: إلحاقه بالمنافع أولى، ولأن المستوفى بعقد الإجارة على زرع الأرض هو عين من الأعيان، وهو ما يحدثه من الحب بسقيه وعمله، وكذا مستأجر الشياه للبنها، مقصوده ما يحدثه الله من لبنها، بعلفها، والقيام عليها، فلا فرق بينهما، والآفات، والموانع التي تحدث للزرع أكثر من آفات اللبن، ولأن الأصل في العقود والجواز والصحة. وقال: كظئر، ومثلها نفع بئر، وإن نقص عن العادة كان كتغير العادة في المنفعة، يملك المستأجر الفسخ.
(3) يعني في قوله: وتصح الإجارة في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما
لقوله {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} استثني هناك وهنا، وذكروا الفرق بينها وبين البهائم، أنه يحصل منها عمل، من وضع الثدي في فم المرتضع ونحوه، وصحح غير واحد وقوع العقد على اللبن، للآية واختاره الشيخ، قال ابن القيم: ليس المعقود عليه إلقام الثدي، أو وضعه في الحجر، أو نحو ذلك، بل إنما هو وسيلة إلى المقصود، لا مقصودا، ولا معقودا عليه، بل ولا قيمة له أصلا، والمقصود إنما هو اللبن، وقواه بعشرة وجوه، قال: وقياس الشاة والبقرة والناقة للانتفاع بلبنها على الظئر، أصح، وأقرب إلى العقل، من قياسها على إجارة الخبز للأكل.(5/307)
(ونقع البئر) أي ماؤها المستنقع فيها (وماء الأرض يدخلان تبعا) (1) كحبر ناسخ، وخيوط خياط، وكحل كحال، ومرهم طبيب ونحوه (2) (و) الشرط الثالث (القدرة على التسليم) كالبيع (3) .
__________
(1) لا أصالة، فلو غار الماء لم تنفسخ، وفي الإقناع: يثبت الفسخ لمستأجر الدار إذا غار ماء بئرها، وذكر ابن عقيل أن هواء البئر وعمقها فيه نوع انتفاع بمرور الدلو فيه، قال ابن القيم: قالوا المعقود عليه الإجراء في الأرض، ونحو ذلك مما يتكلفونه، ويخرجون الماء المقصود بالعقود أن يكون معقودا عليه، واختار الشيخ جواز إجارة ماء قناة مدة، وماء فائض بتركه إياه.
(2) أي يدخل نقع البئر، وماء الأرض تبعا، كدخول حبر ناسخ وأقلامه في استئجار على نسخ، وكدخول خيوط خياط في استئجار على خياطة، وكحل كحال في استئجار على كحل، ومرهم طبيب في استئجار لمداواة، ونحوه كصبغ صباغ، وقرظ دباغ، ونحو ذلك، ويجوز عند الجمهور استئجار الكتب للنظر فيها.
(3) لأن الإجارة بيع منافع، أشبهت بيع الأعيان.(5/308)
(فلا تصح إجارة) العبد (الآبق و) الجمل (الشارد) والطير في الهواء (1) ولا المغصوب ممن لا يقدر على أخذه (2) ولا إجارة المشاع مفردًا لغير الشريك (3) ولا يؤجر مسلم لذمي ليخدمه (4) وتصح لغيرها (5) (و) الشرط الرابع (اشتمال العين على المنفعة (6) فلا تصح إجارة بهيمة زمنة للحمل (7) .
__________
(1) والسمك في الماء، ونحو ذلك مما لا يقدر على تسليمه.
(2) أي من الغاصب، لأنه لا يمكنه تسليمه، فلم تصح إجارته كبيعه، قولا واحدا.
(3) لأنه لا يقدر على تسليمه، وعنه: تصح، وهو مذهب الجمهور مالك، والشافعي، وغيرهما، واختاره جمع، منهم أبو الخطاب، وصاحب الفائق، والحافظ ابن عبد الهادي، قال في التنقيح: وهو أظهر، وعليه العمل، وصوبه في الإنصاف.
(4) لأنه عقد يتضمن حبس المسلم عند الكافر، وإذلاله له، واستخدامه أشبه البيع، بل عقد الإجارة للخدمة يتعين فيها حبسه مدة الإجارة واستخدامه.
(5) أي غير الخدمة كإجارة نفسه منه في عمل معين في الذمة، كخياطة ثوب ونحوه، قال الموفق: بغير خلاف، وفي الإنصاف: بلا نزاع. لأن عليا أجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة، ولأنه عقد معاوضة، لا يتضمن إذلاله، ولا استخدامه.
(6) المعقود عليها عند الجمهور.
(7) أو الركوب، قال الشيخ: ولو قال: إنها خشنة المشي أو تتعب راكبها؛ فليس له الفسخ، وإن قالوا: هو عيب. فله الفسخ. اهـ. ولا تصح إجارة أعمى
للحفظ لأنه لا يمكن تسليم المنفعة، ولا تصح إجارة كافر لعمل في الحرم، ولا تصح على تعليم السحر، والفحش، أو تعليم التوراة، والكتب المنسوخة، والعلوم المحرمة، لأن المنع الشرعي كالحسي.(5/309)
ولا أَرض لا تنبت للزرع) (1) لأَن الإجارة عقد على المنفعة، ولا يمكن استيفاء هذه المنفعة من هذه العين (2) (و) الشرط الخامس (أن تكون المنفعة) مملوكة (للمؤجر (3) أو مأذونا له فيها) (4) فلو تصرف فيما لا يملكه بغير إذن مالكه لم يصح كبيعه (5) (وتجوز إجارة العين) المؤجرة بعد قبضها (6) .
__________
(1) كأرض سبخة، لتعذر النفع، قال الشيخ: وإجارة الأرض التي لا منفعة فيها باطلة.
(2) فلم تصح الإجارة، كالعبد الآبق.
(3) إما بملك العين، أو استئجارها.
(4) من مالك أو حاكم يؤجر مال نحو سفيه، أو غائب، أو وقف لا ناظر له، أو من قبل شخص بعين، كناظر خاص، ووكيل في إجارة، لأنها بيع منافع، فاشترط فيها ذلك، كبيوع الأعيان.
(5) ولو أجازه مالكه، وفيه احتمال: يجوز، ويقف على إجازة المالك، بناء على بيع العين بغير إذن مالكها.
(6) نص عليه، وهو مذهب الشافعي، وأصحاب الرأي، والوجه الثاني تجوز قبل القبض، جزم به في الإقناع والمنتهى، لأن قبضها لا ينتقل به الضمان، فلا يقف جواز التصرف عليه، وقال الشيخ: يجوز للمؤجر إجارة العين المؤجرة من غير المستأجر، في مدة الإجارة، ويقوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجرة من المستأجر الأول، وغلط بعض الفقهاء فأفتى في نحو ذلك بفساد الأجرة الثانية، ظنا منه أن هذا كبيع المبيع قبل قبضه، وأنه تصرف فيما لا يملك، وليس كذلك، بل هو تصرف فيما استحقه على المستأجر.(5/310)
إذا آجرها المستأجر (لمن يقوم مقامه) في الانتفاع أو دونه، لأن المنفعة لما كانت مملوكة له، جاز أن يستوفيها بنفسه ونائبه (1) (لا بأكثر منه ضررا) (2) لأنه لا يملك أن يتسوفيه بنفسه، فبنائبه أولى (3) .
__________
(1) وذلك لأن موجب عقد الإجارة ملك المنفعة، والتسلط على استيفائها بنفسه، وبمن يقوم مقامه، وقال الشيخ: يجوز أن يؤجرها لمن يقوم مقامه، بمثل الأجرة وزيادة، وهو ظاهر مذهب أحمد، والشافعي، فإن شرط المؤجر على المستأجر أن لا يستوفي المنفعة إلا بنفسه، أو أن لا يؤجرها إلا لعدل، أو أن لا يؤجرها لزيد، فقياس المذهب أنها شروط صحيحة، لكن لو تعذر على المستأجر الاستيفاء بنفسه لمرض، أو تلف مال، أو إرادة سفر، ونحو ذلك، فينبغي أن يثبت له الفسخ، كما لو تعذر تسليم المنفعة. اهـ. وينبغي أن يقيد فيما إذا آجرها لمؤجرها، ما لم تكن حيلة كعينة، وليس لمستأجر حر أن يؤجره، لأن اليد لا تثبت عليه، وإنما هو يسلم نفسه.
(2) ولا بمن يخالف ضرره ضرره، قال في الإنصاف: بلا نزاع في الجملة فمن اكترى أرضًا لزرع بر، فله زرع شعير، ونحوه مما ضرره ضرر الحنطة، بالاتفاق، ولا يجوز بأكثر منه ضررا كذرة وقطن، ويعم إن أطلق، وتقدم، وإن استكرى دابة فله أن يؤجرها لغيره، ممن يساويه في الطول، والسمن، والرفق في السير، ونحو ذلك.
(3) فليس له إجارة العين المؤجرة لمن يخالف ضرره ضرره، كما أنه لا يملك
أن يفعله بنفسه، فلو استأجر أرضا لغرس أو بناء، لا يؤجرها لغير ما استأجرها له، كما أنه ليس له فعله بنفسه، لاختلاف ضررهما، وإن تقبل أجير عملا في ذمته بأجرة، كخياطة أو غيرها، فلا بأس أن يقبله غيره بأقل منها، ولو لم يعن فيه بشيء.(5/311)
وليس للمستعير أن يؤجر إلا بإذن مالك، والأجرة له (1) (وتصح إجارة الوقف) (2) لأن منافعه مملوكة للموقوف عليه، فجاز له إجارتها كالمستأجر (3) (فإن مات المؤجر فانتقل) الوقف (إلى من بعده لم تنفسخ) (4) لأنه آجر ملكه في زمن ولايته، فلا تبطل بموته، كمالك الطلق (5) .
__________
(1) أي المالك دون المستعير، لانفساخ العارية بورود الإجارة عليها، وإن اضطر قوم إلى السكنى في بيت إنسان لا يجدون سواه، أو النزول في خان مملوك، أو رحى للطحن، أو غير ذلك من المنافع، وجب بذله بأجرة المثل، قال الشيخ: بلا نزاع، واستظهر أنه يجب بذله مجانا.
(2) قولا واحدا في الجملة، ولا يخلو إما أن يكون المؤجر ناظرًا عاما، أو خاصًا، أو مستحقًا للنظر والمنافع، أو المنافع.
(3) أو بطريق الولاية، كالولي يؤجر عقار موليه.
(4) أي الإجارة، لكون الوقف عليه، هذا أحد الوجهين، وقال القاضي: هذا قياس المذهب.
(5) أي كما لا تنفسخ إجارة مؤجر الملك الذي لم يوقف، قال في الإنصاف: هو الأشهر، وعليه العمل، وقدمه في الفروع وغيره.(5/312)
(وللثاني حصته من الأجرة) من حين موت الأول (1) فإن كان قبضها رجع في تركته (2) بحصته. لأنه تبين عدم استحقاقه لها (3) فإن تعذر أخذها فظاهر كلامهم أنها تسقط، قاله في المبدع (4) وإن لم تقبض فمن مستأجر (5) .
__________
(1) أو حين انتقال الاستحقاق، كمن وقف دارا على ابنته ما دامت عزبا، ثم على زيد، فآجرتها مدة وتعجلت الأجرة، ثم تزوجت في أثنائها، فيأخذ زيد ما يقابل استحقاقه.
(2) أي فإن كان المؤجر قبض الأجرة، رجع الثاني المستحق للمنافع في تركة المؤجر الأول بحصته من الاستحقاق.
(3) أي حصة الثاني، فرجع على تركة القابض لها، بما يقابل زمنه، باستحقاقه من الأجرة، لأنه تبين عدم استحقاق الأول لها.
(4) وقال الشيخ: لا يجوز للموقوف عليهم أن يستلفوا الأجرة، لأنهم لم يملكوا المنفعة المستقبلة، ولا الأجرة عليها، فالتسلف لهم قبض مالا يستحقونه، بخلاف المالك، وعلى هذا: فللبطن الثاني أن يطالب بالأجرة المستأجر الذي سلف، لأنه لم يكن له التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظر إن كان هو المسلف، وهذا هو الحق بلا ريب. وقال: إن قبضها المؤجر ففي تركته، فإن لم يكن تركة، فأفتى بعض أصحابنا بأنه إذا كان الموقوف عليه هو الناظر فمات، فللبطن الثاني فسخها، والرجوع بالأجرة على من هو في يده.
(5) أي فإن لم تقبض الأجرة، فالمنتقل إليه الاستحقاق، يأخذ حصته من مستأجر، لعدم براءته منها.(5/313)
وقدم في التنقيح أنها تنفسخ إن كان المؤجر الموقوف عليه بأصل الاستحقاق (1) وكذا حكم مقطع أجر إقطاعه ثم أُقطع لغيره (2) وإن أَجر الناظر العام (3) أو من شرط له، وكان أجنبيًا لم تنفسخ الإجارة بموته ولا بعزله (4) .
__________
(1) وهو من يستحق النظر، لكونه موقوفًا عليه، والمراد فيما بقي من المدة، لأنه آجر ملكه وملك غيره، فصح في ملكه، دون ملك غيره، واختاره ابن عقيل، والشيخ تقي الدين، وقال: هذا أصح الوجهين. وقال ابن رجب: هو المذهب الصحيح، لأن الطبقة الثانية تستحق العين بمنافعها، تلقيا عن الواقف بانقراض الطبقة الأولى. وصوبه في الإنصاف، وقال: هو المذهب.
(2) أي وكحكم موقوف عليه، حكم مقطع أرضا وغيرها، إقطاع نفع أجر إقطاعه مدة، ثم انتقل ما أجره إلى غيره، وجزم به ابن رجب وغيره. وإجارتها جائزة، قال الشيخ: ما علمت أحدًا من علماء الإسلام – الأئمة الأربعة وغيرهم – قال: لا تجوز، حتى حدث في زماننا من قال بعدم الجواز، ولم تزل تؤجر، من زمن الصحابة إلى الآن، وعليه، فحكمه حكم الوقف، إذا انتقل إلى بطن ثان، وأن الصحيح أنها تنفسخ.
(3) وهو الحاكم، أو من جعل له الإمام ذلك، لعدم الناظر الخاص، الذي يعينه الواقف ناظرا، لم تنفسخ الإجارة بموته، ولا بعزله، قولاً واحدًا. قاله الشيخ وغيره، لأنه بطريق الولاية، ومن يلي النظر بعده إنما يملك التصرف فيما لم يتصرف فيه الأول.
(4) أي أو كان الناظر، من شرط له النظر على الوقف، وكان أجنبيًا، وذلك بأن كان الوقف على غيره، لم تنفسخ الإجارة بموته، ولا بعزله، قبل مضي مدتها، قولاً واحدًا، حكاه الموفق، والشيخ، وابن رجب وغيرهم كما تقدم.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: القول بانفساخ الإجارة أو المساقاة، قول ضعيف، رده أهل العلم، بالنص الثابت، من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ساقى أهل خيبر، لم يجدد الخلفاء بعده عقدًا، وقد أمر الله بالوفاء بالعقود، فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فمن ادعى في صورة من العقود أنه لا يجب الوفاء لأجل الموت أو غيره، فعليه الدليل. اهـ. وكذا من شرط له النظر وكان مستحقًا، لا تنفسخ الإجارة بموته، ولا بعزله، على الصحيح. لأنه أجر بطريق الولاية، أشبه الأجنبي.(5/314)
وإن أجر الولي اليتيم أو ماله، أو السيد العبد (1) ثم بلغ الصبي ورشد، أو عتق العبد (2) أو مات الولي أو عزل، لم تنفسخ الإجارة (3) .
__________
(1) أي وإن أجر الولي اليتيم مدة، أو أجر الولي مال اليتيم، كداره أو بهائمه، أو أجر السيد العبد مدة معلومة.
(2) يعني قبل انقضاء مدة الإجارة، لم تنفسخ الإجارة، أما في الولي فلأنها عقد لازم، عقده بحق الولاية، فلم يبطل بالبلوغ، كما لو باع داره أو زَوَّجه. وأما في السيد فلأنها عقد صدر منه على ما يملكه، فلا تنفسخ بزوال ملكه بالعتق أو غيره، كما لو زوج أمته ثم باعها.
(3) لأنه تصرف وهو من أهل التصرف، في محل ولايته، فلم تنفسخ الإجارة بموته أو عزله، كناظر وقف أو حاكم.(5/315)
إلا أن يؤجره مدة يعلم بلوغه، أو عتقه فيها، فتنفسخ من حينهما (1) (وإن أَجر الدار ونحوها) كالأرض (مدة معلومة (2) ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح) (3) ولو ظن عدم العاقد فيها (4) ولا فرق بين الوقف والملك (5) لأَن المعتبر كون المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة منها غالبًا (6) .
__________
(1) أي حين البلوغ أو العتق، لئلا يفضي إلى أن تصح الإجارة على جميع منافعهما طول عمرهما، وإلى أن يتصرف كل منهما في غير زمن ولايته على المأجور، وذلك كما لو أجره سنتين وهو ابن أربع عشرة سنة، أو علق عتقه بعد سنة ثم أجره سنتين، فتنفسخ الإجارة فيهما. قال ابن رجب: ولو أجره مدة ثم أعتقه في أثنائها، لم تنفسخ على المذهب؛ وعند الشيخ تنفسخ إلا أن يستثنيها في العتق.
(2) لأن المدة هي الضابط للمعقود عليه، المعرفة له، فاشترط العلم بها.
(3) قال الموفق وغيره: هذا قول عامة أهل العلم. وفي الإنصاف: بلا نزاع في الجملة، قال تعالى {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ويعتبر أن لا يظن عدم العين المؤجرة في أمد الإجارة، فلإجارة العين صورتان «إحداهما» أن تكون إلى أمد كما مثل، وكإجارة الآدمي للخدمة ونحو ذلك، فإن إجارة العين تكون تارة في الآدمي، وتارة في المنازل، والدواب، ونحوها بالإجماع و"الثانية" أن تكون لعمل معلوم كما يأتي.
(4) أي في مدة الإجارة، قاله صاحب الفروع وغيره.
(5) يعني في طول مدة الإجارة وقصرها، إذا غلب على الظن بقاء العين فيها.
(6) ولأن ما جاز العقد عليه سنة، جاز أكثر، كالمساقاة على شجر يغرسه، ويعمل عليه حتى يثمر، والتقدير بسنة أو ثلاثين، أو نحو ذلك، لا دليل عليه.(5/316)
وليس لوكيل مطلق إجارة مدة طويلة (1) بل العرف كسنتين ونحوهما (2) قاله الشيخ تقي الدين (3) ولا يشترط أن تلي المدة العقد (4) فلو أجره سنة خمس في سنة أَربع صح (5) ولو كانت العين مؤجرة، أو مرهونة حال عقد، إن قدر على تسليمها عند وجوبه (6) .
__________
(1) أي وليس لوكيل مطلق غير مقدر له أمدًا الإجارة مدة طويلة كخمس سنين.
(2) كثلاث سنين، لأنه المتبادر مع الإطلاق.
(3) أي قال: ليس للوكيل أن يطلق في الإجارة مدة طويلة، بل العرف كسنتين ونحوهما. وفي الإنصاف: الصواب الجواز إن رأى المصلحة؛ وتعرف بالقرائن، والذي يظهر أن الشيخ لا يمنع ذلك.
(4) أي عقد الإجارة، سواء كانت العين مشغولة وقت العقد أو لم تكن، وهذا مذهب أبي حنيفة.
(5) لجواز العقد عليها مع غيرها، فجاز العقد عليها مفردة، كالتي تلي العقد.
(6) أو لم تكن مشغولة، لأنه إنما يشترط القدرة على التسليم عند وجوبه، كالسلم، لا تشترط القدرة عليه حال العقد. وذكر في الفروع: أن مراد الأصحاب متفق، وهو أنه يجوز إجارة المؤجر، ويعتبر التسليم وقت وجوبه. وقال الشيخ: يجوز في أحد القولين، وهو المختار.
وقال – فيمن استأجر أرضا من جندي وغرسها قصبا، ثم انتقل الإقطاع عن الجندي – إن الجندي الثاني لا يلزمه حكم الإجارة الأولى، وأنه إن شاء أن يؤجرها لمن له فيها القصب أو لغيره، وإذا كان الشاغل لا يدوم، كالزرع ونحوه، أو كان
الشغل بما يمكن فصله عنه، كبيت فيه متاع، أو مخزن فيه طعام ونحوه، جازت إجارته وجهًا واحدًا، وأما إذا كانت مشغولة بغرس أو بناء، أو أمتعة كثيرة، يتعذر تحويلها، لم تصح لغير صاحب الغرس، أو البناء، أو نحوهما.
قال الشيخ: وإذا ركن المؤجر إلى شخص ليؤجره، لم يجز لغيره الزيادة عليه فكيف إذا كان المستأجر ساكنا في الدار، فإنها لا تجوز الزيادة على ساكن الدار، وإذا وقعت الإجارة صحيحة فهي لازمة من الطرفين، ليس للمؤجر الفسخ لأجل زيادة حصلت باتفاق الأئمة، وما ذكره بعض متأخري الفقهاء – من التفريق بين أن تكون الزيادة بقدر الثلث، فتقبل الزيادة، أو أقل فلا تعتبر – فهو قول مبتدع، لا أصل له عن أحد من الأئمة، لا في الوقف، ولا في غيره. وإذا التزم المستأجر بهذه الزيادة، على الوجه المذكر، لم تلزمه اتفاقًا، كلخوفه من الإخراج اتفاقا، بل له استرجاعها، ولا عبرة بما يحدث في أثناء المدة، من ارتفاع الكراء، أو انخفاضه.(5/317)
(وإن استأجرها) أي العين (لعمل، كدابة لركوب إلى موضع معين (1) أو بقر لحرث) أرض معلومة بالمشاهدة (2) .
__________
(1) أو يحمل عليها شيئًا إليه، وهو صحيح بلا نزاع، ويذكر المركوب، فرسًا أو بعيرًا، أو نحوه بلا نزاع. ويشترط معرفة الراكب، وتوابعه العرفية ويشترط معرفة الموضع، لأن الإجارة عقد معاوضة فوجب أن يكون العوض فيها معلومًا، قطعًا للتنازع، ويلزم الشروع فيه عقب العقد، فلو ترك ما يلزمه بلا عذر، فتلف، فقال الشيخ: يضمن. وله الاستنابة، إلا أن يشترط المباشرة.
(2) أي أو كاستئجار بقر معينة أو موصوفة، لحرث أرض معلومة لهما بالمشاهدة.(5/318)
لاختلافها بالصلابة, والرخاوة (1) (أَو دياس زرع) معين أو موصوف (2) لأنها منفعة مباحة مقصودة (3) (أَو) استأجر (من يدُلُّه على طريق، اشترط معرفة ذلك) العمل (وضبطه بمالا يختلف) (4) لأَن العمل هو المعقود عليه فاشترط فيه العلم كالمبيع (5) .
__________
(1) ولا تنضبط بالصفة، فتحتاج إلى الرؤية، لئلا تكون صلبة تتعب البقر، والحراث، وتكون رخوة يسهل حرثها، أو لإدارة رحى، اشترط علمه بالحجر، إما بالمشاهدة أو الصفة، أو إدارة دولاب ونحوه، فلا بد من مشاهدته، ومشاهدة دلائه، وتقدير ذلك بالزمن، أو ملء نحو حوض، وكذا إن اكتارها للسقي بالغرب.
(2) أو مدة معلومة، لكن يحتاج إلى معرفة الحيوان، لأن الغرض يختلف به في القوة والضعف، وعلى غير مدة يحتاج إلى معرفة جنسه، لأن منه ما روثه نجس.
(3) ويجوز أن يستأجر البقر ونحوها مفردة، ليتولى رب الأرض الحرث بها، وأن يستأجرها مع صاحبها، وبآلتها وبدونها.
(4) لأنه إن لم يكن كذلك كان مجهولاً، فلم تصح. أو استأجره لخياطة، أو قطع سلعة، أو قلع سن، أو ختن أو مداواة، أو نحو ذلك، اشترط معرفة ذلك العمل، وضبطه بما لا يختلف، وتقدير المدة في نحو مداواة، هذا المذهب، وقال غير واحد: لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء، لأن أبا سعيد حين رقى الرجل شارطه على البرء. قال أبو محمد: والصحيح جوازه، لكن يكون جعالة.
(5) أي كما يشترط العلم في المبيع، فلا يصح بدونه.(5/319)
(ولا تصح) الإجارة (على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة) أي مسلما (1) كالحج والأَذان وتعليم القرآن (2) لأَن من شرط هذه الأفعال كونها قربة إلى الله تعالى، فلم يجز أَخذ الأجرة عليها (3) .
__________
(1) أما ما لا يتعدى نفعه فاعله، من العبادات المحضة، كالصيام، وصلاة الإنسان لنفسه، وحجه عن نفسه، وأداء زكاة نفسه، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه بلا خلاف، لأن الأجر عوض للانتفاع، ولم يحصل لغيره ههنا انتفاع، وأما ما يقع تارة قربة، وتارة غير قربة كتعليم الخط، والحساب، والشعر، وشبهه، وبناء المساجد، والقناطر، فيجوز أخذ الأجرة عليه قولاً واحدًا، لأن صاحبه لا يختص أن يكون من أهل القربة، واختلفوا فيما مثل به.
(2) وكذا إقامة، وإمامة، وقضاء، وتعليم فقه، وحديث فلا تصح، هذا مذهب أبي حنيفة، لخبر «اقرؤا القرآن، ولا تأكلوا به» رواه أبو داود. وخبر «اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرًا» .
(3) والاستئجار يخرجها عن ذلك. وعنه: يجوز، وقال: التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين، أو لرجل من عامة الناس في ضيعة، ومن أن يستدين ويتجر، لعله لا يقدر على الوفاء، فيلقى الله بأمانات الناس، التعليم أحب إلي، ويدل على أن منعه منه للكراهة لا التحريم.
وأجازه مالك والشافعي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج رجلا بما معه من القرآن، وقال «أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله» وبه استدل الجمهور، ولخبر الرقية بالفاتحة، وقوله «كلوا واضربوا لي معكم بسهم» ولأنه يجوز أخذ الرزق والجعل عليه، فجاز أخذ الأجر، كبناء المساجد، ولحاجة الاستنابة في الحج، عمن وجب عليه، وعجز عن فعله، وجوزه شيخ الإسلام للحاجة، وقال: من جوزه فلأنه نفع يصل إلى المستأجر، كسائر النفع، وجوز إيقاعها عبادة في هذه الحال، لما فيها مع النفع، واستثنى الأكثر الإمامة.(5/320)
كما لو استأجر قوما يصلون خلفه (1) ويجوز أَخذ رزق على ذلك من بيت المال (2) وجعالة (3) وأَخذ بلا شرط (4)
__________
(1) أي فإنه لا يجوز بالإجماع، فكذا الاستئجار على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، لا يجوز، وتقدم، ولا بأس بأخذ الأجرة على الرقية، نص عليه للخبر، وتقدم أخذ الحاج عن غيره ليحج، لا أن يحج ليأخذ. واختار الموفق والشيخ وغيرهما جواز أخذ الأجرة على تعليم الفقه، والحديث، ونحوهما، وقال: الأخذ في الرقية على عافية المريض، لا على التلاوة. وقال ابن أبي موسى: لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء، وصححه غير واحد لكن يكون جعالة.
(2) أي ويجوز أخذ رزق – على ما يتعدى نفعه، كالحج، والأذان، والإمامة، وتعليم القرآن، والفقه، والحديث، والقضاء والفتيا، ونحو ذلك – من بيت المال، لأنه ليس بعوض، بل القصد به الإعانة على الطاعة، ولا يخرجه ذلك عن كونه قربة، ولا يدخل في الإخلاص، لا على صوم أو صلاة وأداء زكاة ونحوه، ولا أن يصلى عنه نافلة، ولا فريضة في حياته، ولا بعد وفاته، قال الشيخ وغيره: والفقهاء متفقون على الفرق بين الاستئجار على القرب، وبين رزق أهلها، فرزق المقاتلة، والقضاة، والمؤذنين، والأئمة جائز بلا نزاع، وأما الاستئجار فلا يجوز عند أكثرهم.
(3) أي ويجوز أخذ جعالة على ما تقدم، لأنها أوسع من الإجارة، ولهذا جازت مع جهالة العمل والمدة.
(4) أي ويجوز أخذ على ما تقدم بلا شرط، لخبر «ما أتاك من هذا المال، وأنت
غير مشرف، ولا سائل، فخذه، وتموله، فإنه رزق ساقه الله إليك» ولأنه إذا كان بغير شرط كان هبة مجردة فجاز، كما لو لم يعمل شيئًا، وكذا الوقف على من يقوم بهذه المصالح المتعدي نفعها، قال الشيخ: وما يؤخذ من بيت المال فليس عوضا وأجرة، بل رزقا للإعانة على الطاعة، فمن عمل منهم لله أثيب، وما يأخذه رزق للإعانة على الطاعة، وكذلك الموقوف على أعمال البر والموصى به كذلك، والمنذور له ليس كالأجرة.(5/321)
ويكره للحر أكل أجرة على حجامة (1) ويطعمه الرقيق والبهائم (2)
__________
(1) تنزيها له، لدناءة صناعته، وليس عن أحمد نص في تحريم كسبه، ولا استئجاره عليها، وإنما قال: نحن نعطيه، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: يجوز. ويباح للحر، ولأنها منفعة مباحة، لا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة.
وقال الشيخ: اتخاذ الحجامة صناعة يتكسب بها، هو مما نهي عنه عند إمكان الاستغناء عنه، فإنه يفضي إلى كثرة مباشرة النجاسات، والاعتناء بها، لكن إذا عمل ذلك العمل بالعوض استحقه، فلا يجتمع عليه استعماله في مباشرة النجاسة، وحرمانه أجرته، ونهى عن أكله مع الاستغناء عنه، مع أنه ملكه. وإذا كان محتاجًا إلى هذا الكسب، ليس له ما يغنيه عنه، إلا المسألة للناس، فهو خير له من مسألة الناس، كما قال بعض السلف: كسب فيه دناءة خير من مسألة الناس.
(2) لخبر «أطعمه ناضحك ورقيقك» حسنه الترمذي. قال الموفق: يطعمه الرقيق والبهائم، كما جاء في الأخبار الصحيحة. وقال الشيخ: إذا كانت عليه نفقة رقيق، أو بهائم يحتاج إلى نفقتها، أنفق عليها من ذلك، لئلا يفسد ماله، وكذا يكره أكل أجرة على كسح كنيف، لا على إلقاء ميتة وإراقة خمر، لعدم مباشرة النجاسة غالبًا.(5/322)
(و) يجب (على المؤجر كل ما يتمكن به) المستأجر (من النفع (1) كزمام الجمل) وهو الذي يقوده به (2) (ورحله وحزامه) بكسر الحاء المهملة (3) (والشد عليه) أي على الرحل (4) (وشد الأَحمال والمحامل (5) والرفع والحط (6) ولزوم البعير) لينزل المستأجر لصلاة فرض (7) . وقضاء حاجة إنسانٍ، وطهارة (8)
__________
(1) أي ويجب على المؤجر – مع إطلاق عقد الإجارة – كل ما يتمكن به المستأجر من النفع، مما جرت به عادة أو عرف، من آلات وفعل، قال في الإنصاف: بلا نزاع في الجملة.
(2) ليتمكن به من التصرف فيه، والبرة التي في أنف البعير إن جرت العادة بها.
(3) وقتبه وحزامه، ولفرس لجام وسرج. ولحمار وبغل برذعة وإكاف. لأنه العرف فيحمل عليه الإطلاق.
(4) الذي يركب عليه، كالسرج للفرس وتوطئته.
(5) أي وشد الأحمال على الجمل، والمحامل التي يركب فيها.
(6) لمحمول، وقود، وسوق، ونحو ذلك، مما به يتمكن المكتري من الانتفاع، وجرى به العرف، فإن العمل في هذه الأمور ونحوها على العرف والعادة.
(7) لا نافلة لأنها تصح على الراحلة، ولا لأكل وشربٍ، لأنه يمكن فعلهما عليها بلا مشقة.
(8) أي ويلزم المؤجر حبس البعير للمستأجر، لينزل لقضاء حاجة الإنسان، وهي البول والغائط. ويلزمه أيضًا: حبسه لينزل لأجل الطهارة، لأنه لا يمكنه فعله على ظهر الدابة.(5/323)
ويدع البعير واقفًا حتى يقضي ذلك (1) (ومفاتيح الدار) على المؤجر (2) لأن عليه التمكين من الانتفاع، وبه يحصل (3) وهي أمانة في يد المستأجر (4) (و) على المؤجر أيضًا (عمارتها) (5) فلو سقط حائط أو خشبة فعليه إعادته (6) (فأما تفريغ البالوعة، والكنيف) (7) .
__________
(1) أي حاجته، ويتطهر ويصلي الفرض، لأنه لا يمكنه فعله على ظهر الدابة ولا بد له منه، ويلزمه تبريكه لشيخ ضعيف، وامرأة وسمين ونحوهم، ممن يعجز عن الركوب والنزول والبعير واقف، لأنه المعتاد لهم، وهذا إذا كان الكرى على أن يذهب معه المؤجر، أما من أكرى بعيرا ونحوه لإنسان، ليركبه بنفسه، وسلمه إليه لم يلزم سوى ذلك، وفي الإنصاف: الأولى أن يرجع في ذلك إلى العرف والعادة.
(2) أي يلزمه مفاتيح الدار المؤجرة وتسليمها إلى مكنز.
(3) أي وبتسليم مفاتيحها يحصل الانتفاع.
(4) فإن ضاعت أو تلفت بغير تفريط المستأجر، فعلى المؤجر بدلها.
(5) أي الدار المؤجرة، قال الشيخ: وللمستأجر مطالبة المؤجر بالعمارة التي يحتاج المكان الموجور إليها. فإن كان الموجور وقفا فالعمارة واجبة من وجهين: من جهة حق أهل الوقف، ومن جهة حق المستأجر.
(6) وعليه عمل باب، وتطيين ونحوه، مما تدعو الحاجة إليه. وتبليط حمام وإصلاح مجرى ماء ونحوه، لأن بذلك يحصل الانتفاع، وإن لم يفعل فللمستأجر الفسخ. وفي التلخيص: يجبر على الترميم، بإصلاح مكسر، وإقامة مائل؛ واختاره الشيخ، وصوبه في الإنصاف.
(7) البالوعة: بئر تحفر، يجري فيها ماء المطر، والمستحم ونحوه، والكنيف: المرحاض. فيلزم المستأجر تفريغها إذا تسلمها فارغة، قال في الإنصاف: بلا نزاع.(5/324)
وما في الدار من زبل، أو قمامة (1) ومصارف حمام (فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة) من ذلك (2) لأنه حصل بفعله فكان عليه تنظيفه (3) ويصح كراء العقبة، بأن يركب في بعض الطريق، ويمشي في بعض (4) مع العلم به، إما بالفراسخ أو الزمان (5) وإن استأجر اثنان جملا يتعاقبان عليه صح (6) وإن اختلفا في البادئ منهما أقرع بينهما في الأَصح، قاله في المبدع (7) .
__________
(1) أو رماد، أو تراب ونحوه، إن حصل بفعل المستأجر لزمه تنظيفها منه.
(2) أي الذي في البالوعة، والكنيف، والزبل، والقمامة، وما في مصارف الحمام، ونحو ذلك.
(3) وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي. وفي الإنصاف: الأولى أن يرجع في ذلك إلى العرف والعادة. ولعله مراد الأصحاب وغيرهم، وتقدم.
(4) لأنه إذا جاز اكتراؤها في الجميع جاز في البعض، وإطلاقها يقتضي ركوب نصف الطريق، حملا على العرف، ولا خلاف في جواز كراء الإبل وغيرها إلى مكة وغيرها.
(5) كأن يركب فرسخا، ويمشي فرسخا، أو يركب ليلاً ويمشي نهارًا، ويعتبر زمان السير، دون زمان النزول.
(6) ويكون كراؤهما كل الطريق، والاستيفاء بينهما على ما يتفقان عليه، وإن تشاحا قسم بينهما، لكل واحد منهما فراسخ معلومة، أو لأحدهما بالليل، والآخر بالنهار، وإن كان لذلك عرف رجع إليه.
(7) لأنه لا مرجح لأحدهما على الآخر، فتعينت القرعة.(5/325)
فصل (1)
(وهي) أي الإجارة (عقد لازم) من الطرفين (2) لأنها نوع من البيع (3) فليس لأحدهما فسخها لغير عيب أو نحوه (4) .
__________
(1) أي في لزوم عقد الإجارة، وما يوجب الفسخ، ويلزم الأجير، وغير ذلك.
(2) من جهة المؤجر، وجهة المستأجر، فتقتضي تمليك المؤجر الأجرة، والمستأجر المنافع، وهذا مذهب جمهور العلماء، مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وغيرهم.
(3) أي فأعطيت حكمه، وإنما اختصت باسم، كالصرف، والسلم.
(4) أي فليس للمؤجر ولا المستأجر فسخ الإجارة، بعد انقضاء خيار المجلس، أو الشرط، إن كان خيار، على ما تقدم، لغير عيب، لم يكن المستأجر علم به حال عقد، فله الفسخ. قال الموفق وغيره: بغير خلاف. أو نحو عيب، كتدليس، والعيب الذي يفسخ به، ما تنقص به المنفعة، ويظهر به تفاوت الأجرة، هذا فيما إذا كان العقد على عين المعيبة، فإن كانت المؤجرة موصوفة في الذمة، لم ينفسخ العقد، وعلى المؤجر إبدالها. فإن عجز أو امتنع فللمستأجر الفسخ، وظاهره: أن الإجارة الصحيحة، ليس للمؤجر ولا غيره فسخها، لزيادة حصلت، ولو كانت العين وقفا؛ قال الشيخ: باتفاق الأئمة. وتقدم.
وإن تصرف المؤجر في العين المؤجرة، حال كون المستأجر عليها، قبل انقضاء المدة، مثل أن يسكن المالك الدار، أو يؤجرها لغيره لم تنفسخ، وعلى المستأجر جميع الأجرة، وله على المالك أجرة المثل، لما سكن، او تصرف فيه، اختاره الموفق وغيره، وصوبه في الإنصاف.(5/326)
(فإن آجره شيئًا ومنعه) أي منع المؤجر المستأجر الشيء المؤجر (كل المدة أو بعضها) (1) بأن سلمه العين، ثم حوله قبل تقضي المدة (فلا شيء له) من الأجرة (2) لأنه لم يسلم له ما تناوله عقد الإجارة، فلم يستحق شيئًا (3) (وإن بدأ الآخر) أي المستأجر فتحول (قبل انقضائها) أي انقضاء مدة الإجارة (فعليه) جميع الأجرة (4) لأنها عقد لازم، فترتب مقتضاها، وهو ملك المؤجر الأجر والمستأجر المنافع (5) .
__________
(1) فلم يسلم له كل ما تناوله عقد الإجارة أو بعضه.
(2) قبل أن يحوله المؤجر، نص عليه، إلا أن يرد المؤجر العين، قبل انقضاء المدة، فله الأجرة، ويسقط أجر مدة المنع. وإن تصرف أو امتنع من التسليم، حتى انقضت المدة، انفسخت، وجهًا واحدًا.
(3) كما لو استأجره لحمل كتاب إلى بلد، فحمله بعض الطريق، ونحو ذلك. وقاسوا من اكترى دابة فامتنع المكري من تسليمها بعض المدة – أو آجر نفسه للخدمة مدة، وامتنع من إتمامها – على بيع العقار إذا امتنع من تسليمه؛ وقال الموفق وغيره، يحتمل أن له من الأجر بقسطه، وأنه قول أكثر الفقهاء، لأنه استوفى ملك غيره، على وجه المعاوضة، فلزمه عوضه، كالمبيع إذا استوفى بعضه، وهو ظاهر كلام الشيخ.
(4) المسماة، ولا يزول ملكه عن المنافع، بل تذهب على ملكه، وليس للمؤجر التصرف فيها، سواء ترك المستأجر الانتفاع بها أو لا، لأنها صارت مملوكة لغيره.
(5) فلزمت الأجرة كاملة، كما لو اشترى شيئًا وقبضه ثم تركه. قيل لأحمد: رجل اكترى بعيرًا مدة، فلما قدم قال: فاسخني، قال: ليس له ذلك، قد لزمه الكراء فإن فسخ المستأجر، لم يسقط العوض الواجب، للزوم العقد، وإن كانت الإجارة على عمل موصوف بذمة، كخياطة ثوب، أو بناء حائط، أو حمل إلى محل معلوم وهرب الأجير، استؤجر من ماله من يعمله، فإن تعذر، خير مستأجر بين فسخ وصبر إلى قدرة عليه.(5/327)
(وتنفسخ) الإجارة (بتلف العين المؤجرة) كدابة وعبد ماتا (1) لأن المنفعة زالت بالكلية (2) وإن كان التلف بعد مضي مدة لها أجرة انفسخت فيما بقي، ووجب للماضي القسط (3) (و) تنفسخ الإجارة أيضًا (بموت المرتضع) (4) .
__________
(1) فإن كان التلف قبل قبض العين المؤجرة، انفسخت الإجارة بلا خلاف، حكاه الموفق وغيره، لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه. وإن كان التلف بعد القبض. انفسخت أيضًا؛ قال الموفق: في قول عامة الفقهاء.
(2) يعني بتلف المعقود عليه، قبضت أو لم تقبض، لأن قبضها إنما يكون باستيفائها، أو التمكن منه، ولم يحصل ذلك، ولو كان المتلف المستأجر.
(3) لأن المعقود عليه المنافع، وقد تلف بعضها قبل قبضه، فبطل العقد فيما تلف، دون ما قبض. فإن كان أجر المدة متساويا، فعليه بقدر ما مضى، إن كان قد مضى النصف، فالنصف، أو الثلث، فالثلث، كما يقسم الثمن على المبيع المتساوي. وإن كان مختلفا، رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة، ويقسط الأجر المسمى، على حسب قيمة المنفعة؛ وهذا مذهب الشافعي وغيره، إن كان العقد على عينها، وإن لم يكن العقد على عينها، بل استأجره ليحمله إلى موضع معين، ووصف له مركوبا، لزمه إقامة غيرها إذا ماتت.
(4) أو امتناعه من الرضاع منها، ذكره المجد وغيره.(5/328)
لتعذر استيفاء المعقود عليه (1) لأن غيره لا يقوم مقامه، لاختلافهم في الرضاع (2) (و) تنفسخ الإجارة أيضًا بموت (الراكب إن لم يخلف بدلا) أي من يقوم مقامه في استيفاء المنفعة، بأن لم يكن له وارث، أو كان غائبًا (3) كمن يموت بطريق مكة ويترك جمله (4) فظاهر كلام أحمد أنها تنفسخ في الباقي (5) لأنه قد جاء أمر غالب، منع المستأجر منفعة العين أشبه ما لو غصبت، هذا كلامه في المقنع (6) .
__________
(1) يعني بموت الصبي، وهذا مذهب الشافعي، وكذلك امتناعه.
(2) وتقدم اشتراط معرفة المرتضع، ولأنه قد يدر اللبن على واحد دون الآخر. وكذا إن ماتت مرضعة، لفوات المنفعة بهلاك محلها.
(3) لفوات انتفاعه بنفسه ونائبه، وقال أحمد – في رجل اكترى بعيرا، فمات المكتري في بعض الطريق – فإن رجع البعير خاليا، فعليه بقدر ما وجب له، وإن كان عليه ثقله ووطاؤه، فله الكراء إلى الموضع. وظاهره: الحكم بفسخ العقد فيما بقي، واختاره الموفق وغيره.
(4) يعني وليس له عليه شيء يحمله، ولا وارث له حاضر، يقوم مقامه.
(5) يعني من المدة، في ظاهر كلامه المتقدم.
(6) والمغني، ووافقه الشارح، وجزم به جماعة من الأصحاب، وقالا في المغني والشرح: لأن بقاء العقد ضرر في حق المكتري والمكري، لأن المكتري يجب عليه الكراء من غير نفع، والمكري يمتنع عليه التصرف في ماله، مع ظهور امتناع الكراء عليه؛ وشبهاه بما لو اكترى من يقلع له ضرسه، فبرأ أو انقلع قبل قلعه؛ أو اكترى كحالاً ليكحل عينه، فبرأت أو ذهبت.(5/329)
والذي في الإقناع والمنتهى وغيرهما: أنها لا تبطل بموت راكب (1) (و) تنفسخ أيضًا بـ (انقلاع ضرس) اكتري لقلعه (أو برئه) (2) لتعذر استيفاء المعقود عليه (3) فإن لم يبرأ وامتنع المستأجر من قلعه لم يجبر (4) .
__________
(1) قدمه في الفروع، وقال الموفق وغيره: هذا قول مالك والشافعي. لأنه عقد لازم، فلا ينفسخ بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه. وقال الزركشي: هذا المنصوص، وعليه الأصحاب، إلا أبا محمد. اهـ. وسواء كان له من يقوم مقامه في استيفاء المنفعة أو لا، وسواء كان هو المكتري أو غيره، لأن المعقود عليه منفعة الدابة، وذكر الراكب لتتقدر به المنفعة.
وقال ابن منجا: فإن قيل كيف الجمع بين قول المصنف: تنفسخ بموت الراكب وبين قوله بعد: لا تنفسخ بموت المكري ولا المكترى؟ قيل: يجب حمل قوله: لا تنفسخ بموت المكري. على أنه مات وله وارث، وهناك صرح بأنها تنفسخ إذا لم يكن له من يقوم مقامه، وفي الإنصاف: يحتمل أنه قال هذا متابعة للأصحاب، وقال هذا لأجل اختياره.
(2) أي أو ببرئه، اختاره الموفق وغيره، وتنفسخ بذهاب عين أو برئها اكتري كحَّال ليكحلها ونحو ذلك.
(3) أشبه ما لو تعذر بالموت.
(4) ولزمته أجرة المثل، قال المجد: الأجير إذا بذل العمل، ومكن منه، استحق الأجرة في مذهب الشافعي، ومذهبنا على ما ذكر قبل، وذكر عن أبي الطيب نحو ذلك. أما إن شارطه على البرء، فتقدم جوازه، وأنه يكون جعالة، له أحكامها.(5/330)
(ونحوه) أي تنفسخ الإجارة بنحو ذلك، كاستئجار طبيب ليداويه فبرئ (1) و (لا) تنفسخ (بموت المتعاقدين أو أحدهما) مع سلامة المعقود عليه، للزومها (2) و (لا) تنفسخ (بـ) عذر لأَحدهما (3) مثل (ضياع نفقة المستأجر) للحج (4) (ونحوه) كاحتراق متاع من اكترى دكانا لبيعه فيه (5) (وإن اكترى دارًا فانهدمت (6) .
__________
(1) أو مات انفسخت فيما بقي، فإن امتنع المريض مع بقاء المرض، استحق الطبيب الأجر بمضي المدة، فإن شارطه على البراء فهي جعالة على ما تقدم؛ قال في الإنصاف: ولا يستحق شيئًا من الأجرة حتى يوجد البرء.
(2) ولأن المعقود عليه منفعة الدابة دون الراكب، وتقدم قريبًا؛ وهو مذهب مالك والشافعي، وابن المنذر وغيرهم، من أنها لا تبطل مع إمكان استيفاء المنافع وكما لو زوج أمته ثم مات.
(3) وهذا مذهب مالك والشافعي، لأنها عقد لا يجوز فسخه لغير عذر، فلم يجز لعذر في غير المعقود عليه، كالبيع.
(4) فلا يمكنه الحج، لم تنفسخ، لأنه لو جاز فسخه لعذر المكتري، لجاز لعذر المكري، تسوية للمتعاقدين، ودفعا للضرر عن كل واحد منهما.
(5) فلا يمكنه الانتفاع به، فالجمهور أنها لا تنفسخ في حقه كالمكري.
(6) أي وإن اكترى دارا ليسكنها، فانهدمت قبل انقضاء مدة الإجارة، انفسخت فيما بقي من المدة، لتعطل النفع فيه، وإن انهدم البعض، خير مكتر بين فسخ وإمساك، فإن أمسك فبالقسط من الأجرة.(5/331)
أو) اكترى (أَرضا لزرع فانقطع ماؤها أَو غرقت (1) انفسخت الإجارة في الباقي) من المدة (2) لأَن المقصود بالعقد قد فات، أشبه ما لو تلف (3) .
__________
(1) أي انقطع ماؤها مع الحاجة إليه، قبل زرعها، أو بعده، أو غرقت، بأن زاد النهر مثلاً ودام فيها، فامتنع الانتفاع، أو هلك الزرع أو بعضه.
(2) وسقط عن المستأجر قسطه من الأجرة؛ قال الشيخ: وقياس أصول أحمد ونصوصه إذا عطل نفع الأرض بآفة، انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، كاستهدام الدار، ولو يبست الكروم بجراد أو غيره، سقط من الخراج بحسب ما تعطل من النفع. وإذا لم يمكن النفع به، ببيع أو إجارة أو عمارة، أو غير ذلك، لم تجز المطالبة بالخراج.
(3) أي المعقود عليه، وتقدم. وإن بقي نفع غير ما استأجرها له – مثل أن يمكن الانتفاع بعرصة الدار، أو الأرض، لوضع حطب فيها، أو خيمة أو نحو ذلك – انفسخت أيضًا، لأن المنفعة التي وقع العقد عليها تلفت، فانفسخت الإجارة، كما لو أستأجر دابة ليركبها فزمنت، بحيث لا تصلح إلا لنحو تدوير رحىّ. ولو كان النفع الباقي في العين، مما لا يباح استيفاؤه بالعقد، كدابة استأجرها للركوب، فصارت لا تصلح إلا للحمل، انفسخت وجهًا واحدًا.
وفي الفروع: وإن تعذر زرعها لغرقها، فله الخيار، وكذا لقلة ماء، قبل زرعها أو بعده، أو غابت بغرق يعيب به بعض الزرع؛ واختار شيخنا: أو برد، أو فأر، أو عذر. قال: فإن أمضى فله الأرش، كعيب الأعيان؛ وإن فسخ فعليه القسط قبل القبض، ثم أجرة المثل إلى كماله. وقال: وإذا تقايلا الإجارة أو فسخها المستأجر، وكان قد حرثها، فله قيمة حرثه بالمعروف، وليس لأحد أن يقطع غراس المستأجر وزرعه، سواء كانت الإجارة صحيحة أو فاسدة، بل إذا بقي فعليه أجرة المثل.(5/332)
وإن أجره أرضا بلا ماء صح (1) وكذا إن أطلق مع علمه بحالها (2) وإن ظن وجوده بالأمطار، وزيادة الأنهار صح كالعلم (3) وإن غصبت المؤجرة خير المستأجر بين الفسخ، وعليه أجرة ما مضى (4) وبين الإمضاء، ومطالبة الغاصب بأجرة المثل (5) .
__________
(1) لأنه يتمكن من الانتفاع بها، بالنزول فيها، ووضع رحله فيها، وجمع الحطب، وغير ذلك. وله أن يزرعها رجاء الماء، وبعد حصوله، اختار ذلك الموفق وغيره. وإن كان لها ماء دائم، من نحو نهر، أو بئر، صح الاستئجار للغرس والزرع، بلا خلاف.
(2) لأنهما دخلا في العقد على أنها لا ماء لها، فأشبه ما لو شرطاه، لأن العلم بالحال يقوم مقام الاشتراط، كالعلم بالعيب يقوم مقام شرطه؛ وله الانتفاع بها، كالأولى.
(3) لأن حصوله معتاد، والظاهر وجوده بالأمطار، أو زيادة النيل ونحوه. ولا تصح لأرض لا ماء لها، إن ظن إمكان تحصيله، أو لم يعلم أنها لا ماء لها، وكذا الأرض التي يندر مجيء الأمطار إليها، كالتي لا يكفيها إلا المطر الكثير الذي يندر وجوده، أو تشرب من فيض واد مجيئه نادر، أو من زيادة نادرة في نهر، أو عين عالية، لتعذر النفع المعقود عليه ظاهرا؛ وتصح بعد وجوده. وقال الشيخ: ما لم يرو من الأرض فلا أجرة له اتفاقًا.
(4) أي وإن غصبت العين المؤجرة، لمدة معلومة، خير المستأجر بين الفسخ للإجارة، لتعذر تسليم المعقود عليه، وعليه أجرة ما مضى قبل الفسخ، من المسمى، لاستقراره عليه.
(5) أي وخير المستأجر بين إبقاء العقد بلا فسخ، ومطالبة الغاصب بأجرة المثل. ولا ينفسخ العقد بمجرد الغصب، لأن المعقود عليه لم يفت مطلقًا، بل إلى بدل، وهو القيمة، أشبه ما لو تلفت الثمرة المبيعة. وإن كانت على عين معينة لعمل، خير بين فسخ، وصبر إلى أن يقدر عليها، لأن الحق له، فجاز تأخيره. وإن كانت على عين موصوفة في الذمة، لزمه بدلها، وإن تعذر فله الفسخ. وإن ردت العين في أثناء المدة، قبل الفسخ، استوفى ما بقي.(5/333)
ومن استؤجر لعمل شيء فمرض، أقيم مقامه من ماله من يعمله (1) ما لم تشترط مباشرته (2) أو يختلف فيه القصد كالنسخ (3) فيخير المستأجر بين الصبر والفسخ (4) (وإن وجد) المستأجر (العين معيبة (5) أو حدث بها) عنده (عيب) (6) وهو ما يظهر به تفاوت الأجر (7) .
__________
(1) ليخرج من الحق الواجب في ذمته، كالمسلم فيه؛ ولا يلزم المستأجر انظاره، لأن العقد بإطلاقه يقتضي التعجيل.
(2) أي ما لم يشترط المستأجر في العقد على الأجير مباشرة العمل، فإن اشترطها لم يلزمه قبول عمل غيره، لأن الغرض قد لا يحصل به.
(3) لأنه يختلف باختلاف الخطوط، ولا يلزم المستأجر قبول عمل غيره، لأن الغرض لا يحصل به، وكذا تجارة، لاختلافها باختلاف الحذق، أو وقعت الإجارة على عنيه كالأجير الخاص، فلا يلزم المستأجر قبول الاستنابة.
(4) لتعذر وصوله إلى حقه.
(5) بأن كان بها حين العقد، ولم يعلم به، كما لو وجد الدابة جموحًا، أو جار سوء، فله الفسخ، كما لو وجد المبيع معيبًا، وتقدم.
(6) أي أو حدث بمؤجرة عنده عيب، كجنون أجير أو مرضه ونحوه.
(7) بأن تكون الأجرة معه، دونها مع عدمه، كمبيع وجد به عيب ينقص قيمته.(5/334)
(فله الفسخ) إن لم يزل بلا ضرر يلحقه (1) (وعليه أجرة ما مضى) لاستيفائه المنفعة فيه (2) وله الإمضاء مجانا (3) والخيار على التراخي (4) ويجوز بيع العين المؤجرة (5) .
__________
(1) أي فله الفسخ، لأنه عيب في المعقود عليه، ولأن المنافع لا يحصل قبضها إلا شيئًا فشيئًا. فإذا حدث العيب، فقد وجد قبل قبض الباقي من المعقود عليه. فثبت الفسخ فيما بقي، إن لم يزل بلا ضرر يلحق المستأجر، فلو انسدت البالوعة مثلا، وفتحها مؤجر في زمن يسير، لا تتلف فيه منفعة تضر بالمستأجر، فلا خيار له.
(2) قبل الفسخ واستقرارها عليه.
(3) أي بلا أرش للعيب، لأنه رضي به ناقصًا، هذا المذهب. وقيل: يملك الإمساك مع الأرش، وهو قياس المذهب، كالبيع. قال ابن نصر الله: لم نجد بينهما فرقا.
وإن اختلف في الموجود، هل هو عيب، رجع فيه إلى أهل الخبرة، وإن لم يعلم بالعيب، حتى فرغت المدة، لزمته الأجرة كاملة، وصوب في الإنصاف لزوم الأرش. وإن علم، فلا، كمبيع.
(4) ولو مضى فيه بعد العلم، بخلاف المبيع.
(5) سواء باعها للمستأجر أو غيره، وسواء أجرها مدة لا تلي العقد، ثم باعها قبل دخولها، أو باعها في أثناء المدة، لأن الإجارة عقد على المنافع، فلم تمنع الصحة، كبيع الأمة إذا زوجها، والبيع على غير المعقود عليه في الإجارة، والمشتري يملك المبيع، مسلوب المنفعة، إلى حين انقضاء الإجارة، فصح. وكذا الهبة والأجرة للبائع، وهو ظاهر الإنصاف؛ وقيده في الغاية إذا لم يعلم المشتري أنها مؤجرة، فإن علم فلا أجرة له ولا فسخ.(5/335)
ولا تنفسخ الإجارة به (1) وللمشتري الفسخ إن لم يعلم (2) (ولا يضمن أجير خاص) (3) وهو من استؤجر مدة معلومة، يستحق المستأجر نفعه في جميعها (4) سوى فعل الخمس بسننها في أوقاتها، وصلاة جمعة وعيد (5) .
__________
(1) أي ببيع العين المؤجرة، ولو كان البيع لمستأجر، لأنه ملك المنفعة بعقد الإجارة، ثم ملك العين بعقد البيع، وكذا الهبة والوقف، والانتقال بإرث ونحوه، لورود ذلك على ما يملكه المؤجر من العين المسلوبة النفع زمن الإجارة، وقال الشيخ: نقل الملك في العين المؤجرة كالبيع، فلو وهبها أو وقفها، فينبغي أن يكون كالبيع، لا يسقط حق المستأجر.
(2) أي بأن العين المبيعة مؤجرة. وجزم في التنقيح: بأن الأجرة له. وفي الإقناع وغيره: للبائع، وله الإمضاء مجانا. وقال أحمد: هو عيب، أي فله الأرش كالبيع.
(3) لأن عمله غير مضمون عليه، فلا يضمن ما تلف فيه، وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، وظاهر مذهب الشافعي. والأجراء على ضربين: خاص، ومشترك، وبدأ بالخاص.
(4) لا يشاركه فيها أحد، كمن استؤجر لخدمة، أو خياطة، أو رعاية شهرًا أو سنة، فإن لم يستحق نفعه في جميع الزمن، فمشترك. ولو استأجر واحد أو جماعة شخصًا، ليرعى لهم عددًا معلومًا من الماشية شهرًا، أو سنة، فخاص؛ قاله شيخنا وغيره، وإن تقبل ماشية من شاء، فمشترك، كما يأتي.
(5) فإن أزمنة تلك مستثناة شرعًا، فلا تدخل في العقد، لوجوب تقديم حق الله تعالى.(5/336)
وسمي خاصًا لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة، ولا يستنيب (1) (ما جنت يده خطأ) (2) لأنه نائب المالك في صرف منافعه فيما أَمر به، فلم يضمن كالوكيل (3) وإن تعدى أو فرط ضمن (4) (ولا) يضمن أيضًا (حجام، وطبيب، وبيطار) وختان (لم تجن أيديهم (5) إن عرف حذقهم) أي معرفتهم صنعتهم (6) .
__________
(1) أي وسمي الأجير المستحق نفعه في جميع الزمن خاصا، لأجل اختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة، دون سائر الناس، سواء سلم بنفسه للمستأجر أو لا. ولا يستنيب لوقوع العقد على عينه. فلو مرض لم يقم غيره مقامه؛ وليس له أن يعمل لغيره، فإن عمل وأضر بالمستأجر، فله قيمة ما فوته عليه.
(2) كما لو انكسرت منه الجرة التي يستقي بها، أو الآلة التي يحرث بها، أو المكيال الذي يكتال به ونحوه، وهذا مذهب الجمهور.
(3) وكالمضارب إذا لم يتعد، أو يفرط، ويستحق الأجرة بتسليم نفسه، عمل أو لم يعمل.
(4) أي فإن تعمد إتلافًا ضمن، لإتلافه مال غيره على وجه التعدي أو فرط – يعني قصر في الحفظ – ضمن، كسائر الأمناء، ولأنه إذًا كالغاصب.
(5) فيتجاوزوا ما ينبغي أن يقطع.
(6) بأن كانوا يعرفون العلة ودواءها، ولهم معلمون شهدوا لهم بالحذق، وأجازوا لهم المباشرة، فلا يضمنوا إذا فعلوا ما أمروا به، بهذين الشرطين، أن يكونوا ذوي حذق في صنعتهم، وأن لا تجني أيديهم.(5/337)
لأنه فعل فعلا مباحا فلم يضمن سرايته (1) ولا فرق بين خاصهم ومشتركهم (2) فإن لم يكن لهم حذق في الصنعة ضمنوا (3) لأنه لا يحل لهم مباشرة القطع إذًا (4) وكذا لو كان حاذقًا وجنت يده (5) بأن تجاوز بالختان إلى بعض الحشفة (6) أو بآلة كالة (7) .
__________
(1) كقطع الإمام يد السارق، لأنه لا يمكن أن يقال: اقطع قطعا لا يسري. وقيل: إن أذن فيه مكلف أو ولي غيره.
(2) في عدم الضمان، إن عرف حذقهم، ولم تجن أيديهم.
(3) ما حصل من الجناية بسبب العلاج، كالتعدي به.
(4) لأنه إذا قطع مثلا، فقد فعل محرما، فضمن سرايته، لقوله «من تطبب بغير علم فهو ضامن» رواه أبو داود.
(5) أي وكذا لو كان الحجام – والطبيب، والبيطار، والختان، والكحال ونحوه – حاذقًا في صنعته، ولكن جنت يده ضمن.
(6) قال ابن رشد: أجمعوا على أن الطبيب إذا أخطأ لزمته الدية، مثل أن يقطع الحشفة في الختان، وما أشبه ذلك، لأنه في معنى الجاني. وقال ابن أبي موسى: إن ماتت طفلة من الختان، فديتها على عاقلة خاتنها، قضى به عمر. اهـ. وكذا لو قطع في غير محل القطع، أو في وقت لا يصلح القطع فيه ضمن.
وقال ابن القيم: إن أذن له أن يختنه في زمن حر مفرط، أو برد مفرط، أو حال ضعف يخاف عليه منه، فإن كان بالغًا عاقلاً لم يضمنه، لأنه أسقط حقه بالإذن فيه. وإن كان صغيرا ضمنه، لأنه لا يعتبر إذنه شرعا. اهـ. وإن أذن فيه وليه، فالقاعدة تقتضي تضمين المباشر ما لم يعذر.
(7) أي أو قطع بآلة كآلة يكسر ألمها ضمن.(5/338)
أو تجاوز بقطع السلعة موضعها ضمن (1) لأنه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ (2) ، (ولا) يضمن أيضا (راع لم يتعد) (3) لأنه مؤتمن على الحفظ كالمودع (4) فإن تعدى أو فرط ضمن (5) .
__________
(1) قال ابن رشد: لا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن، لأنه متعد. وقال الخطابي: لا أعلم خلافًا في المعالج، إذا تعدى فتلف المريض، كان ضامنا، والمتعاطي علمًا أو عملاً لا يعرفه متعد، فإذا تولد من فعله التلف، ضمن الدية، وسقط عنه القود، لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض، وجناية الطبيب في قول عامة الفقهاء على عاقلته.
(2) فأشبه إتلاف المال، وكذا الحكم في البزَّاغ – وهو البيطار – والقاطع في القصاص، وقاطع يد السارق، وهو مذهب الجمهور، وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا.
(3) أو يفرط بنوم، أو غيبة عنها، ونحوه، بلا خلاف، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن الراعي ما لم يتعد فلا ضمان عليه، وإن اختلفا في التعدي وعدمه، فقول الراعي، وإن اختلفا في كونه متعديًا رجع فيه إلى أهل الخبرة، وإن ادعى موت شاة ونحوها، قبل قوله، ولو لم يأت بجلدها أو شيء منه، ومثله مستأجر الدابة.
(4) لأنه يتعذر عليه إقامة البينة في الغالب، ولأنها عين قبضت بحكم الإجارة أشبهت العين المستأجرة.
(5) قال الموفق وغيره: بلا خلاف. مثل أن ينام عن الماشية، أو يغفل عنها، أو يتركها تتباعد عنه، أو تغيب عن نظره، وحفظه؛ أو يسرف في ضربها، أو يضربها في غير موضع الضرب، أو من غير حاجة إليه، أو يسلك بها موضعا تتعرض
فيه للتلف، وأشباه ذلك، مما يعد تفريطا وتعديا فتتلف به، فيضمن الراعي التالف: وقال في المبدع: بلا خلاف.(5/339)
(ويضمن) الأجير (المشترك) (1) وهو من قدر نفعه بالعمل (2) كخياطة ثوب، وبناء حائط (3) سمي مشتركًا لأنه يتقبل أعمالاً لجماعة في وقت واحد يعمل لهم، فيشتركون في نفعه (4) كالحائك، والقصار، والصباغ، والحمال (5) فكل منهم ضامن (ما تلف بفعله) (6) كتخريق الثوب، وغلطه في تفصيله (7) .
__________
(1) ما جنت يده، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحد قولي الشافعي.
(2) ويتقبل أعمالاً لجماعة في وقت، لا يختص بنفعه واحد، وكون عمله مقدرًا بمدة لا يخرجه عن كونه مشتركا.
(3) وكحمل شيء إلى مكان معين، أو على عمل في مدة لا يستحق نفعه في جميعها.
(4) فتتعلق الإجارة بذمته، ولا يستحق الأجرة إلا بتسليم عمله، لأنه مضمون عليه.
(5) وكالخباز، والطباخ، والملاح، وكالخياط، والكحال ونحوهم.
(6) ولو بخطئه أو غلطه عند الجمهور، وقيل: لا يضمن إذا لم يتعد، وهو تخريج لأبي الخطاب، وقال في الإنصاف: النفس تميل إليه.
(7) أي كتخريق القصار الثوب بدقه، أو مدة أو عصره، أو بسطه، وغلط خياط في تفصيل الثوب، وكإفساد طباخ من طبيخه، وخباز من خبزه، وكإفساد حياك وحمال وجمال وملاح ونحوه، فيضمن ما تلف بفعله.(5/340)
روي عن عمر، وعلي، وشريح والحسن رضي الله عنهم (1) لأن عمله مضمون عليه (2) لكونه لا يستحق العوض إلا بالعمل (3) وأن الثوب لو تلف في حرزه بعد عمله لم يكن له أجرة فيما عمل به (4) بخلاف الخاص (5) والمتولد من المضمون مضمون (6) وسواء عمل في بيته أو بيت المستأجر (7) أو كان المستأجر على المتاع أو لا (8) .
__________
(1) وعبد الله بن عتبة والحكم، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحد قولي الشافعي. وروي أن عليا يضمن الأجراء، ويقول: لا يصلح الناس إلا هذا.
(2) أي فما تولد منه يجب أن يكون مضمونا، كالعدوان بقطع عضو.
(3) يعني فيكون عمله مضمونا عليه.
(4) فكان ذهاب عمله من ضمانه. وعن الشافعي: لا يضمن، ما لم يتعد. وكذا إن كان غير مستطاع، كزلق ونحوه، وقواه في الإنصاف. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: لا يضمن الأجير إلا إن فرط. فالله أعلم.
(5) أي فإنه إذا أمكن المستأجر من استعماله، استحق العوض بمضي المدة وإن لم يعمل، وما عمل فيه من شيء فتلف من حرزه، لم يسقط أجره بتلفه.
(6) فلو دفع إلى خياط ثوبا يساوي عشرة، فخاطه فصار يساوي خمسة عشر، ثم تلف عند الخياط بفعله، ضمن الخمسة عشر.
(7) لأن ضمانه لجنايته، وإن استأجر مشترك خاصًا، فلكل حكم نفسه.
(8) أي أو كان المستأجر حاضرا قائما على المتاع، أو غائبًا، فإن الأجير يضمن إذا تلف المتاع بفعله، وإن تبرع قصار، ونحوه بعمله، لم يضمن جناية يده، لأنه أمين محض.(5/341)
(ولا يضمن) المشترك (ما تلف من حرزه (1) أو بغير فعله) لأن العين في يده أمانة كالمودع (2) (ولا أجرة له) فيما عمل فيه (3) لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر، فلم يستحق عوضه (4) سواء كان في بيت المستأجر أو غيره (5) بناء كان أو غيره (6) وإن حبس الثوب على أجرته فتلف ضمنه (7) لأنه لم يرهنه عنده (8) ولا أذن له في إمساكه (9) . فلزمه الضمان كالغاصب (10) .
__________
(1) بغير تعد منه ولا تفريط، كما لو تلف بأمر غالب.
(2) ومقوبضة بعقد إجارة لم يتلفها بفعله، فلم يضمنها كالمستأجرة، وقبضها بإذن مالكها، لنفع يعود إليهما، فكالمضارب والشريك.
(3) وأفتى إمام هذه الدعوة: بأنه إذا صار الخلل منه، فلا أجرة له. وكالراعي المشترك لا يستحق الأجرة حتى يسلم المواشي.
(4) كراع لماشية لم يسلمها، وكمكيل بيع وتلف قبل قبضه.
(5) أي غير بيت المستأجر، إذ لا يمكن تسلميه إلا بتسليم المعمول، وعنه: له الأجرة في بيت ربه؛ وفي الفنون: مطلقًا. قال في الإنصاف: وهو قوي.
(6) أي سواء كان العمل بناء ونحوه، أو غير بناء، كخياطة ثوب ونحوه وتلف، فلا أجرة له.
(7) حكاه الموفق وغيره قولاً واحدًا، ما لم يظهر فلس مستأجر، فله حبسه على أجرته.
(8) يعني على أجرته، فيكون إذنا في حبسه عليها.
(9) حتى يجوز له حبسه، ولأنه لا يتضرر بدفعه قبل أخذ أجرته.
(10) أي في ضمان ما غصبه، على ما يأتي. ويخير مالك بين تضمينه غير
معمول ولا أجرة أو معموًا وللعامل الأجرة. وذكر ابن القيم: أن للمستأجر حبس العين، حتى تسلم له الأجرة، وعلل ذلك بأن العمل يجرى مجرى الأعيان، ولهذا يقابل بالعوض، فصار كأنه شريك لمالك العين بعمله، فأثر عمله قائم بالعين، فلا يجب عليه تسليمها قبل أن يأخذ عوضه، وعليه: لو تلفت العين فلا ضمان عليه، لكونه مأذونا فيه شرعا.(5/342)
وإن ضرب الدابة بقدر العادة لم يضمن (1) (وتجب الأجرة بالعقد) (2) كثمن، وصداق (3) وتكون حالة (إن لم تؤجل) بأجل معلوم (4) فلا تجب حتى يحل (5) .
__________
(1) لأن له ذلك بما جرت به العادة، وكذا معلمها السير، فإن زاد على العادة ضمن، لأنه غير مأذون فيه نطقا ولا عرفا.
(2) مع الإطلاق، لأنه عوض أطلق ذكره في عقد معاوضة، فيستحق بمطلق العقد، وهذا مذهب الشافعي سواء كانت إجارة عين، أو في الذمة.
(3) أي كما يجب ثمن المبيع بعقد البيع، وكما يجب الصداق بعقد النكاح، فيجوز الوطء إذا كانت الأجرة أمة، ويعتق قن، ويصح تصرف.
(4) وفي الإنصاف: لو أجلت فمات المستأجر، لم تحل الأجرة، لأن حلها مع تأخير استيفاء المنفعة ظلم، قاله الشيخ. وإن أجلت بأجل مجهول لم تصح.
(5) أي الأجل المعلوم، كالثمن والصداق. وقال الشيخ وغيره: إذا مات المستأجر، لم يلزم ورثته تعجيل الأجرة، في أصح قولي العلماء. وهذا على قول من يقول: لا يحل الدين بالموت، ظاهر، وكذا على قول من يقول بحلوله، في أظهر قوليهم، إذ هم يفرقون بين الإجارة وغيرها، كما يفرقون في الأرض المحتكرة إذا بيعت أو ورثت، فإن الحكر يكون على المشتري، والوارث، وليس لأصحاب الحكر أخذ الحكر من البائع، وتركة الميت في أظهر قولي العلماء.(5/343)
(وتستحق) أي يملك الطلب بها (1) (بتسليم العمل الذي في الذمة) (2) ولا يجب تسليمها قبله (3) وإن وجبت بالعقد لأنها عوض، فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض كالصداق (4) وتستقر كاملة باستيفاء المنفعة (5) وبتسليم العين ومضي المدة، مع عدم المانع (6) أو فراغ عمل ما بيد مستأجر، ودفعه إليه (7) .
__________
(1) أيضًا فيجب على المستأجر تسليمها.
(2) عينا كانت أو موصوفة، لجريان تسليمها مجرى تسليم نفعها، وكذلك يملك الطلب بها ببذل العين.
(3) أي ولا يجب تسليم أجرة العمل في الذمة، حتى يتسلمه المستأجر، لأن الأجير إنما يوفى أجره إذا قضى عمله، كما جاءت السنة بذلك.
وفارق الإجارة عن الأعيان، لأن تسليمها أجري مجرى تسليم نفعها، ومتى كانت على عمل في الذمة، لم يحصل تسليم المنفعة، ولا ما يقوم مقامها.
(4) وكالثمن في المبيع، لا يجب تسليمهما إلا بتسليم معوضهما.
(5) أي وتستقر الأجرة كاملة باستيفاء المستأجر المنفعة، لأنه قبض المعقود عليه، فاستقر عليه البدل، كما لو قبض المبيع.
(6) أي وتستقر الأجرة كاملة بتسليم العين المؤجرة، ومضي المدة، حيث سلمت إليه العين، ولا مانع له من الانتفاع، لتلف المعقود عليه تحت يده.
(7) أي وتستقر بفراغ عمل ما استؤجر لعمله، وهو ما بيد مستأجر، ودفعه إليه بعد عمله، وعبارة المنتهى وغيره: وتستقر بعمل ما بيد مستأجر، كطباخ استؤجر لطبخ ببيت مستأجر، فوفى به، لأنه أثم ما عليه، وهو بيد ربه، فاستقرت الأجرة، وتستقر بدفع غير ما بيد مستأجر، كخياط استؤجر ليخيط ثوبا بدكانه، فخاطه وسلمه لربه معمولا، لأنه سلم ما عليه، فاستقرت الأجرة.
قال الشيخ: وإذا عمل الأجير بعض العمل، أعطي من الأجرة بقدر ما عمل، وقال الشيخ أبا بطين: إن ترك لعذر شرعي يستحق، وإلا فلا، وقال حسن بن حسين بن علي ابن الشيخ: الذي يفتى به أنه إن ترك لعذر فله أجرة الماضي، وإن تركه لغير عذر فلا، إلا بعد كمال المدة، وهذا المشهور في المذهب.(5/344)
وإن كانت لعمل فببذل تسليم العين (1) ومضي مدة يمكن الاستيفاء فيها (2) (ومن تسلم عينا بإجارة فاسدة (3) وفرغت المدة (4) لزمه أجرة المثل) لمدة بقائها في يده (5) .
__________
(1) كأن يقول: دابتي في مكان كذا، خذها منه.
(2) أي استيفاء العمل في المدة، كما لو اكترى دابة ليركبها إلى بلد، وسلمها إليه المؤجر، ومضت مدة يمكنه فيها ذهابه إلى ذلك البلد، ورجوعه على العادة، ولم يفعل، لأن المنافع تلفت تحت يده باختياره، فاستقرت الأجرة، وقال أبو حنيفة: لا أجر عليه، قال الموفق: وهو أصح عندي، لأنه عقد على ما في الذمة، فلم يستقر عوضه ببذل التسليم، كالمسلم فيه، ولأنه عقد على منفعة غير مؤقتة بزمن، فلم يستقر عوضها بالبذل.
(3) كأن يستأجر دابة لم يرها ولم توصف له.
(4) أي مدة الإجارة أو بعضها، أو مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها أو لا.
(5) وهذا مذهب الشافعي.(5/345)
سكن أو لم يسكن (1) لأن المنفعة تلفت تحت يده بعوض لم يسلم للمؤجر، فرجع إلى قيمتها (2) .
__________
(1) انتفع المستأجر بالعين المؤجرة، أو لم ينتفع بها، لا فرق.
(2) كما لو استوفاها، واختار الشيخ فيما إذا وضع يده على العين جميع المدة، أن عليه الأجر المسمى، وذكر أنه قياس المذهب، أخذًا له من النكاح، وإن استوفى المنفعة فعليه أجرة المثل عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: أقل الأمرين، من المسمى، أو أجرة المثل، وإن لم يتسلم العين المؤجرة لم يلزمه أجرة، ولو بذل المالك العين، لأن المنافع لم تتلف تحت يده، والعقد الفاسد لا أثر له.(5/346)
باب السبق (1)
وهو بتحريك الباء: العوض الذي يسابق عليه (2) وبسكونها المسابقة (3) .
__________
(1) وهو جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع، قال تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} وقال {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} وسابق سلمة رجلا من الأنصار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام «ألا إن القوة الرمي» وقال «فلا يعجز أحدكم أن يلهو بسهمه» وقال «من علم الرمي ثم تركه فليس منا» وحكى الإجماع على جوازه في الجملة غير واحد من أهل العلم، وقال الشيخ: السباق بالخيل، والرمي بالنبل ونحوه من آلات الحرب، مما أمر الله به ورسوله، لأنه مما يعين على الجهاد في سبيل الله.
وقال: السبق، والصراع، ونحوهما طاعة إذا قصد به نصرة الإسلام، وأخذ السبق عليه أخذ بالحق، ويجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة بلا مضرة، ويكره لعبه بأرجوحة ونحوها، قال في الفروع: وظاهر كلام الشيخ لا يجوز اللعب المعروف بالطاب والنقيلة، وقيل: هي اللعب بالودع، وكل ما أفضى إلى المحرم، إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، لأنه يكون سببًا للشر والفساد.
قال الشيخ: وما ألهى، وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه، كالبيع والتجارة، وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق شرعي فكله حرام.
(2) يعني يجعل رهنا على المسابقة.
(3) وبلوغ الغاية قبل غيره.(5/347)
أي المجاراة بين حيوان وغيره (1) (يصح) أي يجوز السباق (على الأقدام (2) وسائر الحيوانات (3) والسفن (4) والمزاريق) جمع مزراق وهو الرمح القصير (5) وكذا المناجيق (6) ورمي الأحجار بمقاليع ونحو ذلك (7) لأنه عليه السلام سابق عائشة، رواه أحمد وأبو داود (8) .
__________
(1) كسفن، ورماح، ومناجق، وكذا السباق بالسهام، ويقال له المناضلة، ويأتي.
(2) للخبر، وتقدم أنه طاعة إذا قصد به نصرة الإسلام، وأنه يجوز بالعوض، وهو كالاستباق على الخيل، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم، ويدربونها على العدو، لأنه كالآلة في محاربة العدو.
(3) كإبل، وخيل، وبغال، وحمير، وفيلة، وكذا بطيور وغيرها.
(4) أي يجوز السباق على السفن، ويكون طاعة إذا قصد به نصرة الإسلام.
(5) أخف من العنزة، وزرقه به: رماه، فيجوز المسابقة به، وكذا برمح وعنزة.
(6) آلة ترمى بها الحجارة، ويقال لها «مجانيق» و «منجنيقات» فارسية معربة، معناهما ما أجودني.
(7) كرمي أحجار بيد لمعرفة الأشد، ولما في ذلك من التدريب على الحرب، قال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل، وغيرها من الدواب، وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام، واستعمال الأسلحة، لما في ذلك من التدريب على الحرب، ويجوز عند الشيخ بعوض إذا قصد به نصرة الإسلام.
(8) والنسائي، وابن ماجه، ولفظ أبي داود: أنها كانت مع النبي صلى الله
عليه وسلم في سفر، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال «هذه بتلك السبقة» فدل على جواز السبق على الأقدام، ولا خلاف في ذلك.(5/348)
وصارع ركانة فصرعه، رواه أبو داود (1) وسابق سلمة بن الأكوع رجلا من الأنصار، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم (2) (ولا تصح) أي لا تجوز المسابقة (بعوض (3) إلا في إبل، وخيل، وسهام) (4) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» (5) .
__________
(1) أي وصارع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركانة – بن عبد يزيد، بن هشام، بن المطلب، بن عبد مناف، المشهور بالقوة – على شاة، فصرعه، فأخذها، وذلك أنه قال «هل لك أن تصارعني؟» قال «ما تسبقني؟» قال: شاة من غنمي، فصارعه فصرعه، فأخذها، فقال ركانة: هل لك في العود؟، ثم عاد مرارًا فصرعه، فقال: يا محمد ما وضع جنبي أحد إلى الأرض، وما أنت بالذي تصرعني فأسلم، فرد عليه غنمه، رواه البيهقي وغيره، ولفظ أبي داود ما ذكره المصنف، وله طرق فيها مقال، وقال الشيخ: هي أمثل ما روي في مصارعه النبي صلى الله عليه وسلم. فدل على جواز المصارعة بين المسلم والكافر، وبين المسلمين.
(2) وذلك في مسيره إلى المدينة، وكان الأنصاري لا يسبق شدا، فجعل يقول: ألا مسابق؟ قال سلمة: فسبقته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدل على جواز المسابقة، ولا نزاع في ذلك.
(3) أي بمال لمن سبق، سوى ما استثناه، عند جمهور العلماء.
(4) وذكر ابن عبد البر تحريم الرهن في غير الثلاثة إجماعا، ونوقش.
(5) «لا سبق» أي لا جعل للسابق لسبقه «إلا في خف» كناية عن الإبل أي
ذي خف «أو نصل» أي ذي نصل، يعني سهمًا من نشاب ونبل «أو حافر» أي ذي حافر، وهو للخيل، وفسره بعضهم بأنه لا سبق كاملا ونافعا ونحوه، وقالوا أيضًا: الحديث يحتمل أن يراد به أن أحق ما بذل فيه السبق هذه الثلاثة، لكمال نفعها، وعموم مصلحتها، فيدخل فيها كل مغالبة جائزة، ينتفع بها في الدين، لقصة ركانة، وأبي بكر، وقال ابن القيم: الرهان على ما فيه ظهور أعلام الإسلام، وأدلته، وبراهينه، من أحق الحق، وأولى بالجواز من الرهان على النضال، وسباق الخيل والإبل.(5/349)
رواه الخمسة عن أبي هريرة، ولم يذكر ابن ماجه: أو نصل. وإسناده حسن، قاله في المبدع (1) .
__________
(1) وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، والحاكم، وابن القطان، وابن دقيق. والحديث دليل على جواز بذل العوض، وأخذه فيها، لأنها من آلات الحرب، المأمور بتعلمها وإحكامها، وفي بذل الجعل عليها ترغيب في الجهاد، وتحريض عليه، قال الخطابي وغيره: ويدخل في معنى الخيل البغال، والحمير، لأنها كلها ذوات حوافر، وقد يحتاج إلى سرعة سيرها، ونجاتها، لأنها تحمل أثقال العساكر، فتكون معها في المغازي. اهـ. وظاهر المذهب، ومذهب أبي حنيفة وغيره: جواز المراهنة بعوض، في باب العلم، لقيام الدين بالجهاد، والعلم، واختاره الشيخ، واستظهره في الفروع، واستحسنه في الإنصاف.
وقال الشيخ: المغالبة الجائزة تحل بالعوض إذا كانت مما ينتفع به في الدين، كما في مراهنة أبي بكر، قال ابن القيم: والصديق أخذ رهنه بعد تحريم القمار، وقال: الدين قيامه بالحجة والجهاد، فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد، ففي العلم أولى بالجواز، وهذا القول هو الراجح، فإن القصد الأول إقامته بالحجج، والسيف منفذ.(5/350)
(ولا بد) لصحة المسابقة (من تعيين المركوبين) لا الراكبين (1) لأن القصد معرفة سرعة عَدْو الحيوان الذي يسابق عليه (2) (و) لا بد من (اتحادهما) في النوع (3) فلا تصح بين عربي وهجين (4) (و) لا بد في المناضلة من تعيين (الرماة) (5) لأن القصد معرفة حذقهم (6) .
__________
(1) أي لا بد لصحة المسابقة من خمسة شروط، تعيين المركوبين في المسابقة بالرؤية، بلا نزاع، سواء كانا اثنين أو جماعتين، لا الراكبين، لأنهما آلة للمقصود، كالسرج، فلو اشترط أن لا يركب غير هذا الرجل، لم يصح الشرط.
(2) ولا يحصل ذلك إلا بالتعيين بالرؤية، ليظهر عدو المركوب بعينه، لا في الجملة، وكل ما تعين لا يجوز إبداله لعذر وغيره.
(3) لأن التفاوت بين النوعين معلوم بحكم العادة، أشبها الجنسين.
(4) أي فلا تصح المسابقة بين فرس عربي وفرس هجين، وهو ما أبوه عربي فقط، هذا المذهب.
(5) قال في الإنصاف: بلا نزاع. والمناضلة من النضل وهو المباراة في الرمي، ونضله غلبه فيه، والرمي به عمل بالنضل.
(6) أي مهارتهم في الرمي لا رام ما، وأصل السبق في الرمي بالسهم، والسنة شهيرة بذلك، ونكايته في العدو مشهورة, واختلفوا أيما أفضل ركوب الخيل أو رمي بالنشاب؟، وقال ابن القيم: كل واحد منهما يحتاج في كماله إلى الآخر، والرمي أنفع في البعد، وإذا اختلط الفريقان، قامت سيوف الفروسية، والأفضل منهما ما كان أنكى في العدو، وأنفع للجيش، ويختلف باختلاف الجيش، ومقتضى الحال.(5/351)
ولا يحصل إلا بالتعيين بالرؤية (1) ويعتبر فيها أيضًا كون القوسين من نوع واحد (2) فلا تصح بين قوس عربية وفارسية (3) (و) لا بد أيضًا من تحديد (المسافة) (4) بأن يكون لابتداء عدوهما وآخره غاية لا يختلفان فيه (5) ويعتبر في المناضلة تحديد مدى رمي (بقدر معتاد) (6) فلو جعلا مسافة بعيدة، تتعذر الإصابة في مثلها غالبًا – وهو ما زاد على ثلاثمائة ذراع – لم يصح (7) .
__________
(1) أي رؤية الرماة، وكذا بأسمائهم إن كانوا معلومين، لا القوسين، ولا السهام، ولا عينوها لم تتعين، فإن شرط أن لا يرمي بغير هذا القوس، أو بغير هذا السهم، فهو فاسد، لأنه ينافي مقتضى العقد.
(2) لأن التفاوت بينهما معلوم بحكم العادة.
(3) القوس العربية قوس النبل، والقوس الفارسية قوس النشاب، ولا يكره الرمي بها، وما روي في كراهتها فلعله لحمل العجم لها في ذلك العصر، ولعدم معرفة العرب لها، وإن لم يذكروا أنواع القسي في الابتداء لم يصح، كما لا يصح بين قوس يد، وقوس رجل.
(4) ليعلم السابق والمصيب، وهذا الشرط الثالث.
(5) لأن الغرض معرفة الأسبق، ولا يحصل إلا بالتساوي في الغاية، لأن من الحيوان ما يقصر في أول عَدْوه، ويسرع في أثنائه، وبالعكس، فيحتاج إلى غاية تجمع حاليه.
(6) لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد، ويعرف ذلك بالمشاهدة أو بالذراع.
(7) أي عقد السبق، والعلة تعذر الإصابة في ذلك غالبًا، وإذا كانت المسافة
تقرب الإصابة فيها غالبًا صح تعيينها، وإلا فلا يجوز على البعد، وهذا المقدار في الرمي بالقوس، وكان في الجاهلية وصدر الإسلام، وصنفوا في الرمي به المصنفات المشهورة، وسموها بالفروسية.
والفروسية «أربعة» أنواع: ركوب الخيل، والكر والفر بها، «والثاني» الرمي بالقوس، ويذكرون صفته، والرمي به، وغير ذلك، واستعمل الآن آلات للرمي أنكى منه، وأبعد مدى، فيعتبر لها، ما تقرب الإصابة فيه غالبًا، «والثالث» المطاعنة بالرماح، «والرابع» المداورة بالسيوف، ومن استكملها استكمل الفروسية.(5/352)
لأن الغرض يفوت بذلك، ذكره في الشرح وغيره (1) .
__________
(1) وقال عمر: أرسلوا الأغراض، ففيه قصد الإصابة، وقالوا: لا يصح تناضلهما على أن السبق لأبعدهما رميا، واختار الشيخ الصحة، قال في الإنصاف وغيره: وهو المعمول به عند الرماة، في أماكن كثيرة، وقال ابن القيم: ظاهر الحديث يقتضيه، وهو في اقتضائهما معا أظهر من الاقتصار على الإصابة، «والشرط الرابع» كون العوض معلوما مباحا، بلا نزاع، «والخامس» الخروج عن شبه القمار، فأما من غير المتسابقين فبلا نزاع، ومن أحدهما عند الجمهور، وأما منهما فقيل: إلا بمحلل، وأجازه الشيخ وتلميذه وغيرهما من غير محلل.
وقال: عدم المحلل أولى، وأقرب إلى العدل، من كون السبق من أحدهما، وأبلغ في تحصيل مقصود كل منهما، وهو بيان عجز الآخر، وأكل المال بهذا أكل للمال بحق، وأن هذا العمل للمسلمين مأمور به، وليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تحريم كل مخاطرة، وأن الميسر والقمار منه لم يحرم بمجرد المخاطرة، بل لأنه أكل للمال بالباطل، أو للمخاطرة المتضمنة له، فقال في خبر «من أدخل فرسا بين فرسين» : إنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. بل من كلام سعيد بن المسيب، وجوازه بغير محلل هو مقتضى المنقول عن أبي عبيدة بن الجراح، وما علمت في الصحابة من اشترط المحلل، وإنما هو معروف عن سعيد بن المسيب، # وعنه تلقاه الناس، ولهذا قال مالك: لا نأخذ بقول سعيد. وذكر ابن القيم وغيره من الحفاظ: أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقال رجل عند جابر بن زيد: إن أصحاب محمد لا يرون بالدخيل بأسا، فقال: هم كانوا أعف من ذلك، قال ابن القيم: انظر إلى فقه الصحابة وجلالهم، أنهم كانوا أعف من أن يحتاجوا إلى دخيل، ونحن نقول كما قال جابر. وذكر المذاهب، ثم قال: ونتولى علماء المسلمين، ونتخير من أقوالهم ما وافق الكتاب والسنة، ونزنها بهما، وبهذا أوصانا أئمة الإسلام.
وقال في الخبر على تقدير صحته: الذي يدل عليه لفظه أنه إذا استبق اثنان، وجاء ثالث دخل معهما، فإن كان يتحقق من نفسه سبقهما كان قمارا، لأنه دخل على بصيرة أنه يأكل ما لهما، وإن دخل معهما وهو لا يتحقق أن يكون سابقًا، بل يرجو ما يرجوانه، ويخاف ما يخافانه، كان كأحدهما، ولم يكن أكله سبقهما قمارا، وأما اشتراط الدخيل الذي هو شريك في الربح، بريء من الخسران، فكالمحلل في النكاح، والخبر يدل على جواز حل السبّق من كل باذل، وإذا كان منهما لم يختص أحدهما ببذل ماله لمن يغلبه، بل كل منهما باذل مبذول له باختيار فهما سواء في البذل والعمل، ويسعد الله بسبقه من شاء من خلقه. وقال: والعقد المشتمل على الإخراج منهما أحل من العقد الذي انفرد أحدهما فيه بالإخراج.(5/353)
(وهي) أي المسابقة (جعالة (1)
__________
(1) قالوا: لأن الجعل في نظير عمله وسبقه؛ وقال الشيخ: الجعالة تجوز على العمل المباح، لكن المقصود بالجعل هنا أن يظهر أنه الأقوى، والجعالة الغرض بها العمل من العامل، وقال ابن القيم: المسابقة عقد جائز، وهو المشهور عند أصحاب أحمد، ومذهب أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وقال أيضًا: هو عقد مستقل بنفسه، له أحكام يختص بها، ويتميز بها عن الإجارة، والجعالة، والنذور، والعدات، ونحوها، وليس من باب الجعالة، ولا الإجارة، ومن أدخله في أحد البابين تناقض، إلا أن يقصد الباذل تمرين من يسابقه كولده، والمعلم للمتعلم، فهذا هو الجعالة المعروفة، وهو نادر، والغالب فيها مسابقة النظراء بعضهم لبعض. اهـ. وقالوا أيضًا: السابق لا يطعم السبق، وقال الشيخ وابن القيم وغيرهما: يصح شرطه للأستاذ، وشراء قوس، وكرى الحانوت، وإطعام الجماعة، لأنه مما يعين على الرمي.(5/354)
لكل واحد) منهما (فسخها) (1) لأنها عقد على ما لا تتحقق القدرة على تسليمه (2) إلا أن يظهر الفضل لأحدهما، فله الفسخ دون صاحبه (3) (وتصح المناضلة) أي المسابقة بالرمي (4) من النضل وهو السهم التام (5) (على معينين) سواء كانا اثنين أو جماعتين (6) .
__________
(1) ولو بعد الشروع فيها، ما لم يظهر الفضل لأحدهما.
(2) وهو السبْق أو الإصابة، فكان العقد جائزًا لا لازما، قال ابن القيم: على القول أنه جائز فلكل فسخها قبل الشروع اتفاقًا.
(3) يعني المسبوق، لئلا يفوت غرض المسابقة، بفسخ من ظهر له فضل صاحبه، بنحو سبق فرسه في بعض المسافة، أو إصابة بسهامه أكثر، ومذهب أحمد، وأبي حنيفة، والشافعي وغيرهم: أنه يقضى به إذا امتنع المسبوق من بذله.
(4) وهو أجل أبواب الفروسية على الإطلاق وأفضلها، وكان الصحابة والسلف يفعلونه كثيرًا، وفي السنن «إنه من الحق» وتقدم «أن القوة الرمي» وغيره، وقال تعالى {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} وقرئ (ننتضل) .
(5) لأن السهم التام بريشه وقدحه ونصله يسمى نضالاً.
(6) اتفق عدد الجماعتين أو اختلف، وإن عقدوا قبل التعيين على أن ينقسموا بعد العقد جاز، لا بقرعة.(5/355)
لأن القصد معرفة الحذق كما تقدم (1) (يحسنون الرمي) لأن من لا يحسنه وجوده كعدمه (2) ويشترط لها أيضًا تعيين عدد الرمي (3) والإصابة (4) ومعرفة قدر الغرض طوله، وعرضه، وسمكه (5) .
__________
(1) وأنه لا تعرف مهارتهم إلا بالتعيين.
(2) هذا أحد الشروط الأربعة، وهي زيادة على الشروط المتقدمة، فإن كانا اثنين، وعلم أحدهما أن الآخر غالب له ولا بد، أو مغلوب معه ولا بد، فإن كان للمغلوب غرض صحيح كولده جاز، وإن تضمن بذل ما له فيما لا منفعة له فيه، لا دنيا ولا أخرى، فقال ابن القيم: مثل ذلك يمنع منه الشرع والعقل، وإن كانوا حزبين، وفي أحدهما من لا يحسنه، بطل العقد فيه، وأخرج من الحزب الآخر مثله، وإن عقد ليقتسموا بعد جعل لكل حزب رئيس، فيختار كل واحد واحدا حتى يفرغا.
(3) لئلا يؤدي إلى الاختلاف، فقد يريد أحدهما القطع، ويريد الآخر الزيادة، إلا في رمي المبادرة، فقال ابن القيم وغيره: لا يشترط، لأنه إذا قال: أينا بَدَر إلى خمس إصابات فهو السابق. فمتى بدر لها أحدهما تعين سبقه، سواء كان من الرمي أو لا، أما في المفاضلة والمحاطة، فإذا لم يكن معلوما، لم يحصل مقصود العقد، ولم ينقطع التنازع. اهـ. ويشترط معرفة نوع الرمي.
(4) بأن يقول: عشرون والإصابة خمسة، ونحوه، ويشترط استواؤهما في عدده، وعدد الإصابة، وصفتها، وسائر أحوال الرمي.
(5) أي ارتفاعه، وطوله: امتداده، والعرض عكس الطول، فيعتبر ذلك، لأن الإصابة تختلف باختلافه، والغرض ما ينصب في الهدف من خشب أو غيره، سمي غرضًا لأنه يقصد، ويسمى شارة.(5/356)
وارتفاعه من الأرض (1) والسنة أن يكون لهما غرضان (2) إذا بدأ أحدهما بغرض بدأ الآخر بالثاني (3) لفعل الصحابة رضي الله عنهم (4) .
__________
(1) أي ويعتبر أيضًا ارتفاع الغرض من الأرض، وكذا انخفاضه، لاختلاف الإصابة أيضًا بذلك.
(2) جزم به ابن القيم وغيره، قال: ويرميان كلاهما إلى أحدهما، ثم يرميان كلاهما إلى الآخر، فيأخذان السهام، ويرميان الأول، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أراد أحدهما التطويل، والتشاغل عن الرمي بما لا حاجة إليه منع، وطولب بالرمي، ولا يزعج بالاستعجال بالكلية، بحيث يمنع من تحري الإصابة.
(3) تعديلا بينهما، وهكذا حتى يقضيا رميهما، لأنه العرف، وإن رميا سهمين سهمين فحسن، وإن شرطا أن يرمي أحدهما عددا، ثم الآخر مثله جاز، وإن تشاحا في البادئ أقرع.
(4) وروي مرفوعًا «ما بين الغرضين روضة من رياض الجنة» وكان حذيفة، وابن عمر يشتدان بين الغرضين، وإن جعلا غرضا واحدا جاز، لأن المقصود يحصل به، ويكره للأمين، والشهود، وغيرهم ممن حضر مدح أحدهما، أو المصيب، وعيب المخطيء، لما فيه من كسر قلب صاحبه، وفي الفروع: يتوجه في شيخ العلم وغيره مدح المصيب من الطلبة، وعيب غيره كذلك، وفي الإنصاف: إن كان مدحه يفضي إلى تعاظم الممدوح، أو كسر قلب غيره، قوي التحريم، وإن كان فيه تحريض على الاشتغال بالعلم ونحوه، قوي الاستحباب، ويمنع كل منهما من الكلام الذي يغيض صاحبه.(5/357)
باب العارية (1)
بتخفيف الياء وتشديدها (2) من العري وهو التجرد (3) سميت عارية لتجردها عن العوض (4) (وهي إباحة نفع عين) يحل الانتفاع بها (5) .
__________
(1) مشروعة بالكتاب، والسنة، والإجماع، وشدد فيها قوم من السلف، لقوله {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وأنه المتاع في البيت، يتعاطاه الناس بينهم، وقال الشيخ: تجب مع غنى المالك، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، للآية، وقوله «ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها» الحديث وغيره.
(2) وفي القاموس وغيره مشددة، وقد تخفف، والعارة ما تداولوه بينهم، جمعها عواري، مشددة ومخففة، أعاره الشيء واستعار طلبها، واستعار منه طلب إعارته.
(3) والعرية النخلة المعراة.
(4) كما تسمى النخلة الموهوبة عرية، لتعريها عن العوض، وقيل: من التعاور أي التناوب، لجعل مالكها للغير نوبة في الانتفاع بها، وأصلها – والله أعلم – من "عار" إذا ذهب وجاء، وأصلها الواو، وقيل: إنها منسوبة إلى العار، وفيه شيء، لأنه صلى الله عليه وسلم فعلها.
(5) أي تعريفها: إباحة نفع العين، بغير عوض من المستعير أو غيره، والإباحة رفع الحرج عن تناول ما ليس مملوكًا له، بشرط كونها يحل الانتفاع بها، قال ابن رشد: تكون في الدور والأرضين، وجميع ما يعرف بعينه، إذا كانت منفعته مباحة الاستعمال.(5/358)
(تبقى بعد استيفائه) ليردها على مالكها (1) وتنعقد بكل لفظ أو فعل يدل عليها (2) ويشترط أهلية المعير للتبرع شرعا (3) وأهلية المستعير للتبرع له (4) وهي مستحبة (5) .
__________
(1) أي تبقى العين بعد استيفاء النفع الحاصل بها، كالدور، والعبيد، والثياب، والدواب ونحوها، ليردها على صاحبها، لاستعارته صلى الله عليه وسلم الفرس، والأدراع وغيرها، وخرج ما لا ينتفع به إلا مع تلف عينه، كالأطعمة، والأشربة وإن أعطاها بلفظ الإعارة احتمل أن يكون إباحة الانتفاع على وجه الإتلاف، ويجوز استعارة الدراهم والدنانير للوزن، فإن استعارها لينفقها فقرض.
(2) أي وتنعقد الإعارة اتفاقًا بكل لفظ، كأعرتك هذا الشيء، أو أبحتك الانتفاع به، أو أعطنيه أركبه، أو أحمل عليه، فيسلمه إليه ونحوه، وتنعقد بكل فعل يدل على الإعارة، كدفع الدابة لرفيقه عند تعبه، وتغطيته بكسائه لبرد ونحوه، فإذا ركب الدابة أو استبقى الكساء كان قبولا، بخلاف تغطية ضيفه بلحاف، أو إركاب منقطع لله، لأن يد رَبَّهِ عليها.
(3) أي ويشترط لصحة الإعارة: أربعة شروط «أحدها» أهلية المعير للتبرع بالعارية شرعا، لأن الإعارة نوع من التبرع، فلا تصح من صغير، ومجنون، وسفيه، ومفلس، وقن، وولي يتيم من ماله، ولا من مكاتب، وناظر وقف.
(4) أي والشرط الثاني أهلية مستعير للتبرع له بتلك العين المعارة، بأن يصح منه قبولها هبة، لشبه الإباحة بالهبة.
(5) بإجماع المسلمين، حكاه الموفق وغيره، وقال الوزير: اتفقوا على أنها جائزة، وقربة، مندوب إليها وأن للمعير فيها ثوابا، وتقدم قول بوجوبها، فتأكد الاستحباب.(5/359)
لقوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) (وتباح إعارة كل ذي نفع مباح) (2) كالدار، والعبد، والدابة، والثوب، ونحوها (3) (إلا البضع) (4) لأن الوطء لا يجوز إلا في نكاح، أو ملك يمين، وكلاهما منتف (5) (و) إلا (عبدا مسلما لكافر) (6) لأنه لا يجوز له استخدامه (7) .
__________
(1) والعارية داخلة في عموم الآية، وتقدم قوله {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} .
(2) غير محرم، مع بقائه على الدوام، لاستعارة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره، وذكر ابن مسعود وغيره عارية القدر، والميزان، وغير ذلك، ولأن ما جاز للمالك استيفاؤه من المنافع، ملك إباحته، إذا لم يمنع منه مانع، وهذا الشرط الثالث كون نفع العين مباحا.
(3) مما يعرف بعينه كالدلو، والفحل، والمنيحة، والحلي، والكلب للصيد، ونحو ذلك، لا الدار ونحوها لمن يعصي الله فيها.
(4) بضم الباء يعني الفرج، فلا يعار للاستمتاع به، لأنه لا يستباح بالبذل، ولا بالإباحة بالإجماع.
(5) فلا يباحان بالبذل، ولا بالعارية، قال تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ولو أبيحا بالبذل أو العارية لم يحرم الزنا.
(6) فلا تباح إعارته له لخدمته خاصة.
(7) كما تحرم إجارته لها، فإن أعاره أو أجره لعمل في الذمة غير الخدمة صحتا، كما تقدم في الإجارة.(5/360)
(و) إلا (صيدا ونحوه) كمخيط (لمحرم) (1) لقوله تعالى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) (و) إلا (أمة شابة لغير امرأة أو محرم) (3) لأنه لا يؤمن عليها (4) ومحل ذلك إن خشي المحرم، وإلا كره فقط (5) ولا بأس بشوهاء، وكبيرة لا تشتهي (6) .
__________
(1) أي وإلا صيدا فلا تباح إعارته لمحرم، لأن إمساكه محرم عليه، وكذا نحو الصيد مما يحرم استعماله له في الإحرام، كمخيط، وطيب لمحرم، وينبغي أن يقيد بما يلبسه لبس المخيط، وفي الإقناع: إن أعار صيدًا لمحرم، فتلف بيده، ضمنه لله بالجزاء، وللمالك بالقيمة.
(2) وإعارته له من الإثم والعدوان، ولا نبيح له إلا ما أباحه الشرع، ولا تصح إعارة لغناء، أو زمر ونحوه، ولا إناء من أحد النقدين، ولا حلي محرم، وتجب إعارة مصحف لمحتاج لقراءة مع عدم غيره، وخرج ابن عقيل وجوب الإعارة في كتب علم للمحتاج إليها من القضاة، والحكام، وأهل الفتاوى، وينبغي إفادة الطالب بالدلالة على الأشياخ، وتفيهم المشكل.
(3) أي وإلا أمة شابة يعني جميلة ولو كبيرة، فلا تباح إعارتها للخدمة لرجل إن كان يخلو بها، وينظر إليها، إلا لامرأة، أو محرم للمعارة، فيجوز للأمن عليها وقال الشيخ: لا تجوز الخلوة بأمرد، ولا النظر إليه لشهوة.
(4) خصوصًا العزب، وتحرم إعارة أمة وأمرد، وإجارتهما لغير مأمون، لأنه إعانة على الفاحشة.
(5) أي ومحل عدم جواز إعارة الشابة لرجل إن خشي المحرم، فلم يؤمن عليها، وإلا كره فقط إعارة الشابة لرجل، مع أمن الوقوع في المحرم، إن لم يخل بها، ولم ينظر إليها.
(6) أي ولا بأس بإعارة امرأة شوهاء – وهي قبيحة المنظر – للخدمة لرجل، ولا بأس بإعارة امرأة كبيرة لا تشتهى، لأنه مأمون عليها.(5/361)
ولا بإعارتها لامرأة أو ذي محرم (1) لأنه مأمون عليها (2) وللمعير الرجوع متى شاء (3) ما لم يأذن في شغله بشيء يستضر المستعير برجوعه فيه (4) كسفينة لحمل متاعه فليس له الرجوع ما دامت في لجة البحر (5) وإن أعاره حائطًا ليضع عليه أطراف خشبه، لم يرجع ما دام عليه (6) (ولا أجرة لمن أعار حائطًا) ثم رجع (حتى يسقط) (7) .
__________
(1) أي من الأمة المعارة للخدمة.
(2) أي عندهما، فجازت إعارتها لهما، وتقدم.
(3) مطلقة كانت العارية أو مؤقتة، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، لأن المنافع المستقبلة لم تحصل في يد المستعير، فلم يملكها بالإعارة، كما لو لم تحصل العين الموهوبة في يده، أو لأن المنافع إنما تستوفى شيئًا فشيئًا، فكل ما استوفى شيئًا فقد قبضه، والذي لم يستوفه لم يقبضه، فجاز الرجوع فيه كالهبة قبل القبض.
(4) أي في الشيء المشغول، فلم يجز له الرجوع، لما فيه من الإضرار بالمستعير "وشغْل" بفتح الشين وسكون الغين، مصدر: شغل يشغل، وفيهما أربع لغات.
(5) حتى ترسي، لما فيه من الضرر، فإذا رست جاز الرجوع، لانتفاء الضرر، وله الرجوع قبل دخولها البحر، لعدم الضرر، وإن أعاره أرضا للدفن، لم يرجع حتى يبلى الميت، ويصير رميما، وله الرجوع قبل الدفن.
(6) لما في ذلك من الضرر بهدم البناء، وله الرجوع قبل الوضع وبعده، ما لم يبن عليه، لانتفاء الضرر، إلا أن تكون العارية لازمة الابتداء.
(7) ولا أجرة للمعير أيضًا في سفينة في لجة البحر، ولا في أرض أعارها لدفن، حتى ترسي السفينة ويبلى الميت.(5/362)
لأن بقاءه بحكم العارية، فوجب كونه بلا أجرة (1) بخلاف من أعار أرضا لزرع ثم رجع (2) فيبقى الزرع بأجرة المثل لحصاده، جمعا بين الحقين (3) (ولا يرد) الخشب (إن سقط) الحائط لهدم أو غيره (4) لأن الإذن تناول الأول فلا يتعداه لغيره (5) (إلا بإذنه) أي إذن صاحب الحائط (6) .
__________
(1) ولأنه لا يملك الرجوع في عين المنفعة المذكورة، لإضراره بالمستعير إذًا فلا يملك بدلها، كالعين الموهوبة.
(2) أي في الإعارة للأرض قبل كمال الزرع، قاله بعض الأصحاب.
(3) أي فيبقى الزرع في الأرض المعارة بأجرة المثل، من حين الرجوع عن الإعارة، إلى حصاد الزرع، لأن الأصل جواز الرجوع، وإنما منع القلع لما فيه من الضرر، ففي دفع الأجر جمع بين الحقين، وعليه فيخرج في سائر المسائل مثل هذا، وفيه وجه: لا يجب الأجر في شيء من المواضع، وجزم الموفق وغيره أنه إن أعاره أرضًا للزرع لم يرجع إلى الحصاد، إلا أن يكون مما يحصد قصيلا، فيحصده لعدم الضرر، واختار المجد وغيره أنه لا أجرة له، وصححه الناظم، وجزم به في الوجيز.
(4) كأن أزاله المستعير باختياره، أو زال الخشب والحائط بحاله.
(5) أي غير المأذون في وضعه وقد زال، ولزوال الضرر الذي لأجله كان امتنع الرجوع.
(6) لوضع الخشب على حائطه ثانيا، واستظهر ابن نصر الله أنه إنما يحتاج إلى إذن جديد إذا كان المعير قد طالب بإزالته، وإلا فالأصل بقاء الإباحة.(5/363)
أو عند الضرورة إلى وضعه إذا لم يتضرر الحائط، كما تقدم في الصلح (1) (وتضمن العارية) المقبوضة إذا تلفت في غير ما استعيرت له (2) لقوله عليه السلام «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (3) رواه الخمسة، وصححه الحاكم (4) .
__________
(1) أي أو عند الضرورة إلى وضعه، بأن لا يمكن التسقيف إلا به، إذا لم يتضرر الحائط بوضع الخشب عليه، للخبر، كما تقدم في الصلح مفصلا، قال الموفق وغيره: وإن أعار الأرض للغراس والبناء، وشرط عليه القلع في وقت، أو عند رجوعه ثم رجع، لزمه القلع، لقوله «المسلمون على شروطهم» ولا يلزمه تسوية الأرض إلا بشرط، وإن لم يشرطه لم يلزمه، إلا أن يضمن له المعير النقص، فإن قلع فعليه تسوية الأرض، وإن أبى القلع فللمعير أخذه بقيمته، فإن أبى بيعا لهما، فإن أبياه ترك، وللمعير التصرف في أرضه على وجه لا يضر بالشجر، وللمستعير الدخول للسقي، والإصلاح، وأخذ الثمر، وذكر أنه مثل الزرع في الأجرة، وتقدم.
(2) سواء تعدى المستعير فيها أو لم يتعد، نص عليه، وهو مذهب الشافعي، وذلك مثل ما إذا ماتت الدابة، أو انكسرت، أو احترق الثوب، أو سرق المتاع، ونحو ذلك، لا فيما استعيرت له، فلا يضمن انسحاق الثوب بلبسه، ولا سمن الدابة باستعمالها بمعروف، وحكى الحافظ عن الجمهور ضمانها إذا تلفت في يد المستعير، إلا فيما إذا كان على الوجه المأذون فيه.
(3) فدل على وجوب رد ما قبضه المرء وهو ملك لغيره، ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه، أو من يقوم مقامه، وهو يعم العارية.
(4) ولأبي داود وغيره من حديث صفوان «بل عارية مضمونة» .(5/364)
وروي عن ابن عباس وأبي هريرة (1)
__________
(1) أن العارية مضمونة، ولأنه أخذ ملك غيره لنفع نفسه، منفردًا بنفعه، من غير استحقاق، ولا إذن في الإتلاف، فكان مضمونا، كالمغصوب، والمأخوذ على وجه السوم، وعنه: لا تضمن. وحكاه الشيخ وغيره إذا لم يجر منه تعد، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وطوائف من السلف، وقالوا: هي أمانة، لا تضمن إلا بالتعدي فيها، لخبر صفوان، وقوله صلى الله عليه وسلم «بل مؤداة» بدل «مضمونة» رواه أبو داود، وغيره، واختاره ابن القيم، وغيره، لأوجه ذكرها في قوله: «مضمونة» .
«أحدها» هذه الرواية، فإنه أراد بقوله «مضمونة» يعني بالرد، و «الثاني» أنه لم يسأل عن تلفها، وإنما سأله: هل تأخذها مني أخذ غصب، أو أخذ رد؟ فقال «بل عارية مضمونة» أي أؤديها إليك، وأردها لك، و «الثالث» أنه جعل الضمان صفة لها نفسها، ولو كان ضمان تلف لكان الضمان لتلفها، فلما وقع الضمان على ذاتها، دل على أنه ضمان أداء، ولو كان ضمان تلف لكان لما ضاع بعضها لم يعرض عليه أن يضمنها ولقال هذا حقك. كما لو كان الذاهب بعينه موجودًا، فإنه لا يعرض عليه رده.
وللترمذي وحسنه من حديث أبي أمامة «العارية» مؤداة والمؤداة هي التي تجب تأديتها مع بقاء عينها، فدل على أنها لا تضمن إلا بالتعدي، ولأنه قبضها بإذن مالكها فكانت أمانة كالوديعة، ويشهد له الرواية الثانية، وهي قوله «مؤداة» بدل: «مضمونة» قال: والقول بعدم الضمان قوي متجه، وإن كنا لا نقبل قوله في دعواه التلف، لأنه ليس بأمين، لكنه إذا صدقه المالك في التلف، بأمر لا ينسب فيه إلى تفريط، فعدم التضمين قوي، وأفتى عبد الله بن الشيخ محمد أنها لا تضمن إلا بالتفريط فيها، واختار الشيخ أنها تضمن بالتضمين فيها، فقال: هي مضمونة بشرط ضمانها، وهو رواية عن أحمد.(5/365)
لكن المستعير من المستأجر (1) أو لكتب علم ونحوها موقوفة، لا ضمان عليه إن لم يفرط (2) وحيث ضمنها المستعير فـ (بقيمتها يوم تلفت) إن لم تكن مثلية (3) وإلا فبمثلها، كما تضمن في الإتلاف (4) (ولو شرط نفي ضمانها) لم يسقط (5) لأَن كل عقد اقتضى الضمان لم يغيره الشرط (6) وعكسه نحو وديعة لا تصير مضمونة بالشرط (7) .
__________
(1) لا ضمان عليه إن لم يفرط، وهذا أحد الأربعة المستثنى عدم ضمانهم.
(2) أي ولكن أيضًا المستعير لكتب علم موقوفة ونحوها، كأدراع موقوفة على الغزاة فتلفت، لا ضمان على مستعيرها، إن لم يتعد أو يفرط، ويضمن ما تلف منها بتعديه أو تفريطه.
(3) لأن يوم التلف يتحقق فيه فوات العارية، فوجب اعتبار الضمان به، إن كانت متقومة، ولم تكن مثلية.
(4) أي وإن كانت مثلية، كصنجة من نحاس لا صناعة بها، استعارها ليزن بها فتلفت، فعليه مثل وزنها من نوعها، كما تضمن في الإتلاف بمثلها، لأنه أقرب من القيمة.
(5) أي الضمان، وهذا مذهب الشافعي.
(6) وعنه: يسقط إن شرط نفيه، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، واختاره الشيخ، وابن القيم، وغيرهما، لخبر «المسلمون على شروطهم» فدل على نفي الضمان بشرطه.
(7) أي وعكس وجوب ضمان العارية – ولو شرط نفيه – كل ما كان أمانة نحو وديعة، ورهن وشركة، ومضاربة لا تصير مضمونة، بشرط الضمان، لأن مقتضى العقد كونه أمانة، فإذا شرط ضمانه فقد التزم ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه، فلم يلزمه، وأشار أحمد إلى الفرق بينهما، بأن العارية أخذتها اليد، والوديعة دفعت إليك.(5/366)
وإن تلفت هي أو أجزاؤها (1) في انتفاع بمعروف لم تضمن (2) لأن الإذن في الاستعمال تضمن الإذن في الإتلاف (3) وما أذن في إتلافه غير مضمون (4) (وعليه) أي وعلى المستعير (مؤونة ردها) أي رد العارية (5) لما تقدم من حديث «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (6) .
__________
(1) أي التي لا تذهب بالاستعمال.
(2) أي العارية ولا أجزاؤها، حيث كان الانتفاع بمعروف، وهو ما جرت به العادة، كخمل المنشفة، والقطيفة، وكثوب بلي باللبس.
(3) أي الحاصل بالاستعمال، وكذا بمرور الزمان.
(4) كما لا تضمن المنافع، وإن حمل في الثوب ترابا فتلف به ضمنه، لتعديه به، وإن جرح ظهر الدابة بالحمل ضمن، ويقبل قوله بيمينه أنه لم يتعد الاستعمال بالمعروف.
(5) قولا واحدا، إلى الموضع الذي أخذها منه، إن لم يتفقا على ردها إلى غيره ويبرأ بردها إلى من جرت عادته به على يده، كسائس، وزوجة متصرفة في ماله، وخازن، ووكيل عام في قبض حقوقه.
(6) فدل عمومه على لزوم مؤونة الرد، وكذا قوله «أد الأمانة إلى من ائتمنك» وقال تعالى {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} .(5/367)
وإذا كانت واجبة الرد وجب أن تكون مؤنة الرد على من وجب عليه الرد (1) (لا المؤجرة) فلا يجب على المستأجر مؤونة ردها، لأنه لا يلزمه الرد (2) بل يرفع يده إذا انقضت المدة (3) ومؤونة الدابة المؤجرة، والمعارة على المالك (4) وللمستعير استيفاء المنفعة بنفسه (5) وبوكيله لأنه نائبه (6) (ولا يعيرها) ولا يؤجرها (7) .
__________
(1) لأنه من لازمه، وكمغصوب.
(2) وإذا لم يلزمه الرد فمؤنته من باب الأولى.
(3) ويتسلمها مالكها.
(4) وصرح به ابن المنجا في شرح الهداية، وفي الاختيارات عن قديم خط الشيخ أن قياس المذهب فيما يظهر له أنها تجب على المستعير، لأنهم قد قالوا: إنه يجب عليه مؤونة ردها، وضمانها إذا تلفت، وهذا دليل على أنه يجب عليه ردها إلى صاحبها، كما أخذها منه، سوى نقص المنافع المأذون له فيها، ثم إنه خطر له أنها تخرج على الأوجه في نفقة الجارية الموصى بنفقتها فقط، «أحدها» تجب على المالك، ونَظَّره «وثانيها» على مالك النفع «وثالثها» في كسبها، وقال الحلواني: إنها على المستعير. فالله أعلم.
(5) بلا خلاف، لأنه ملك التصرف بإذن المالك، أشبه المستأجر.
(6) أي وللمستعير استيفاء المنفعة بوكيله، لأنه نائب عنه في الاستيفاء، ويده كيده، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، وأجمعوا على أن للمستعير استعمال المعار فيما أذن له فيه.
(7) أي العين المعارة، لأنه لم يملك المنافع، فلم يكن له أن يملكها إلا بإذن، أما إيجارها فقال الموفق وغيره: بلا خلاف. وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه لا
يجوز للمستعير أن يؤجر ما استعاره. اهـ. وليس له أن يرهن ما استعاره إلا بإذن مالكه، وله ذلك بإذنه، بشروط تقدمت في الرهن، وأجمعوا على أن المستعير لا يملك العين، وأما إعارتها فهذا الصحيح من المذهب، وعليه الأكثر، وصوبه في تصحيح الفروع.(5/368)
لأنها إباحة المنفعة، فلم يجز أن يبيحها غيره، كإباحة الطعام (1) (فإن) أعارها و (تلفت عند الثاني، استقرت عليه قيمتها) إن كانت متقومة (2) سواء كان عالما بالحال أو لا (3) لأن التلف حصل في يده (4) (و) استقرت (على معيرها أجرتها) للمعير الأول (5) .
__________
(1) لأن من أبيح له ليس له أن يبيحه لغيره، وعنه: له أن يعيرها. وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد الوجهين للشافعي، وقال مالك: إذا لم يعمل بها إلا الذي كان يعمل فلا ضمان، وقطع في القواعد بجواز إعارة العين المعارة المؤقتة، إذا قيل بلزومها، وملك المنفعة بها.
(2) أو مثلها إن كانت مثلية.
(3) أي سواء علم المستعير الثاني أن للعين مالكا لم يأذن في إعارتها، أو لم يعلم ذلك.
(4) فعليه قيمتها أو مثلها، لدخوله على ضمانها، إن علم الحال بأنها ليست ملكا للمعير، ولا مأذونا له فهو غاصب، وإن لم يعلم الحال فلأنه قبضها على أنها عارية، والعارية مضمونة.
(5) لأنه غر الثاني بدفعها له، على أن يستوفي منافعها بغير عوض، فاستقر عليه ضمان المنفعة، دون الثاني.(5/369)
إن لم يكن المستعير الثاني عالما بالحال (1) وإلا استقرت عليه أيضًا (2) (و) للمالك أن (يضمن أيهما شاء) (3) من المعير، لأنه سلط على إتلاف ماله (4) أو المستعير، لأن التلف حصل تحت يده (5) (وإن أركب) دابته (منقطعًا) طلبا (للثواب لم يضمن) (6) لأن يد ربها لم تزل عليها (7) كرديفه ووكيله (8) .
__________
(1) وهو أن للعين مالكا لم يأذن في إعارتها، كما تقدم، فوجبت الأجرة على الغار بدفعها، بدون إعلام بالحال.
(2) أي وإلا استقرت أجرة العين المعارة على المستعير الثاني أيضًا، مع قيمة العين، لعلمه بأن العين لم تكن ملكا لمعيره، مثال ذلك: لو أعار زيد دابة لعمرو، فأعارها بكرا، فتلفت عنده، ضمنها مطلقا، وأجرتها إن كان عالما بالحال، وإلا كانت الأجرة على عمرو.
(3) أي أي الشخصين شاء، المستعير أو الآخذ منه.
(4) أي فله تضمنيه، كما لو سلط على مال غيره دابة فأكلته.
(5) فلزمه ضمانها، وإن ضمن الأول رجع على الثاني، وإن ضمن الثاني لم يرجع على الأول، ومن استعار شيئًا فظهر مستحقا فلمالكه أجر مثله، لأنه لم يأذن في استعماله، يطالب به من شاء منهما، أما الدافع فلتعديه بالدفع، وأما القابض فلقبضه مال غيره بغير إذنه.
(6) أي المنقطع تلف الدابة تحته، لأن المالك هو الطالب لركوبه تقربًا إلى الله، ولأنها غير مقبوضة.
(7) وراكبها لم ينفرد بحفظها.
(8) أي كما لا يضمن رديف ربها، بأن أركب إنسانا خلفه، فتلفت الدابة
تحتهما، لأنها بيد مالكها، وكما لا يضمن وكيل رب الدابة إذا تلفت في يده، لأنه ليس بمستعير، وكرائض الدابة إذا تلفت تحته، لأنه أمين، وكموصى له بنفع حيوان تلف في يده، ولو قال آخذ الدابة: لا أركب إلا بأجرة، وقال الدافع: لا آخذ أجرة، ولا عقد بينهما، فعارية.(5/370)
ولو سلم شريك لشريكه الدابة، فتلفت بلا تفريط ولا تعد لم يضمن (1) إن لم يأذن له في الاستعمال (2) فإن أذن له فيه فكعارية (3) وإن كان بإجارة فإجارة (4) فلو سلمها إليه ليعلفها، ويقوم بمصالحها لم يضمن (5) (وإذا قال) المالك (آجرتك) و (قال) من هي بيده (بل أعرتني (6) أو بالعكس) بأن قال: أعرتك. قال: بل آجرتني (7) .
__________
(1) قاله الشيخ وغيره، وصوبه في الإنصاف، لأنه أمين.
(2) وإنما سلمها له ليحفظها بلا استعمال.
(3) لها أحكام العارية، على ما تقدم، وإن استعملها بلا إذن فغصب.
(4) أي وإن سلم شريك لشريكه دابة بإجارة، فهو إجارة، له أحكام الإجارة.
(5) لأنها حينئذ أمانة في يده، أو سلمها لشريكه، ليكون استعماله لها في نظير إنفاقه عليها، أو تناوبه معه لم يضمن، ويجب رد عارية بطلب مالك، وبانقضاء الغرض منها، وبانتهاء التوقيت، وبموت معير أو مستعير، فإن أخر الرد فعليه أجرة المثل، لعدم الإذن فيه.
(6) أي وإن دفع إليه دابة ونحوها، ثم اختلف المالك والقابض، فقال المالك آجرتك هذه الدابة. فقال القابض: بل أعرتنيها.
(7) أي بأن قال المالك للقابض: أعرتك هذه الدابة ونحوها. قال القابض: بل أجرتنيها.(5/371)
فقول المالك في الثانية (1) وترد إليه في الأول إن اختلفا (عقب العقد) أي قبل مضي مدة لها أجرة (قبل قول مدعي الإعارة) مع يمينه (2) لأن الأصل عدم عقد الإجارة (3) وحينئذ ترد العين إلى مالكها إن كانت باقية (4) (و) إن كان الاختلاف (بعد مضي مدة) لها أجرة فالقول (قول المالك) مع يمينه (5) لأن الأصل في مال الغير الضمان (6) ويرجع المالك حينئذ (بأجرة المثل) لما مضى من المدة (7) .
__________
(1) أي فيقبل قول المالك للقابض أعرتك بيمينه، قولا واحدا، لأن الأصل عدم عقد الإجارة.
(2) أي أنه لم يستأجرها، قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(3) وبراءة الذمة منها.
(4) وكان لا مستحق لها غيره، وإن كانت العين تالفة سقطت مطالبته.
(5) فيما مضى من المدة، وحكي عن مالك، وجزم به الموفق وغيره، وقال: لأنهما اختلفا في كيفية انتقال المنافع إلى ملك الراكب، فكان القول قول المالك، كما لو اختلفا في عين، فقال المالك: بعتكها. وقال الآخر: وهبتنيها، ولأن المنافع تجرى مجرى الأعيان في الملك، والعقد عليها، ولو اختلفا في الأعيان، كان القول قول المالك، فكذا هنا.
(6) فكان القول قول المالك، حيث لا بينة، والمراد فيما مضى من المدة، دون ما بقي، فلا يقبل قول المالك فيه، لأن الأصل عدم العقد.
(7) هذا الصحيح من المذهب، واختاره الموفق وغيره، لأنهما لو اتفقا على وجوبه، واختلفا في قدره، وجب أجر المثل، فمع الاختلاف في أصله أولى،
وقيل الأقل من المسمى أو أجرة المثل، وكذا لو ادعى بعد زرع الأرض أنها عارية، وقال رب الأرض: بل إجارة، فالقول قول المالك، ذكره الشيخ وغيره.(5/372)
لأن الإجارة لم تثبت (1) (وإن قال) الذي في يده العين (أعرتني، أو قال: أجرتني (2) قال) المالك (بل غصبتني) فقول مالك (3) كما لو اختلفا في ردها (4) (أو قال) المالك (أَعرتك) و (قال) من هي بيده (بل آجرتني (5) والبهيمة تالفة) فقول مالك (6) .
__________
(1) أي بمجرد دعوى المالك بلا بينة، وإنما يستحق بدل المنفعة، وهو أجرة المثل.
(2) المراد: وقد مضى بعد العقد مدة لها أجرة.
(3) أي بيمينه أنه ما أجر، ولا أعار، قال في الإنصاف: بلا نزاع. لأن الأصل عدم الإجارة والعارية.
(4) يعني أن القول في الرد قول المالك، فكذا هنا، لخبر «البينة على المدعين واليمين على من أنكر» ونحوه، والاختلاف هنا في وجوب الأجرة، فلذلك قيل: إن القول قول القابض. لأن الأصل براءة ذمته، ولكن رجح أكثر الأصحاب أن القول قول المالك، لكونه ينكر انتقال المنافع في العين إلى القابض، والقابض يدعيه، والقول قول المنكر، لأن الأصل عدم الانتقال، فيحلف مع عدم البينة، ويستحق الأجرة، وإن لم يكن مضى مدة لها أجرة فلا معنى للاختلاف، ويأخذ المالك دابته بلا نزاع.
(5) وكذا لو قال المالك: آجرتك، وقال من هي بيده: بل أعرتني.
(6) قال في الإنصاف: بلا نزاع، فإن كان الأجر بقدر قيمتها أو أقل، فالقول قول المالك بغير يمين، قاله الموفق وغيره، وإن كان ما يدعيه المالك أكثر، بأن تكون قيمة الدابة أكثر من أجرها، فادعى المالك أنها عارية، أو كان أكثر فادعى أنه آجرها، فالقول قوله في الصورتين مع يمينه، وهذا مذهب الشافعي وغيره.(5/373)
لأنها اختلفا في صفة القبض والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان، للأثر (1) ويقبل قول الغارم في القيمة (2) (أو اختلفا في رد، فقول المالك) (3) لأن المستعير قبض العين لحظ نفسه، فلم يقبل قوله في الرد (4) وإن قال: أودعتني. فقال: غصبتني (5) أو قال: أودعتك. قال: بل أعرتني (6) صدق المالك بيمينه (7) . وعليه الأجرة بالانتفاع (8) .
__________
(1) وهو قول صلى الله عليه وسلم «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» .
(2) لخبر «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم» .
(3) للقاعدة العظيمة المتقدمة، وهي أن كل من أقر بوصول مال إليه، أو ثبت ببينة، ثم ادعى وصوله إلى صاحبه، لم يقبل إلا ببينة.
(4) إلا ببينة، ومفهومه: أنه لو قبضها لا لحظ نفسه، قبل قوله في الرد، وتقدم أنه لا فرق بين متطوع أو بجعل، وأن هذا القول هو الصحيح، الذي لم يدل على خلافه كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، بل دل على أن القول قول المنكر بيمينه.
(5) صدق المالك بيمينه، لأن الأصل عدم الإيداع، وحكمها حكم الغصب.
(6) أو قال: أعرتك. قال: بل أودعتني.
(7) لما تقدم إن لم يكن بينة.
(8) أي وعلى قابض العين الأجرة بالانتفاع بالمقبوض، ويرد العين إن كانت باقية، وإلا فقيمتها إن كانت متقومة، أو مثلية فمثلها.(5/374)
باب الغصب (1)
مصدر: غصب يغصب. بكسر الصاد (2) (وهو) لغة أخذ الشيء ظلما (3) واصطلاحًا (الاستيلاء) عرفًا (4) (على حق غيره) مالاً كان أو اختصاصًا (5) .
__________
(1) أي باب ذكر أحكام الغصب، وجناية البهائم، وما في معنى ذلك من الاتلافات.
(2) غصبا، من باب: ضرب يضرب ضربا، ويقال: اغتصبه يغتصبه اغتصابًا، والشيء مغصوب وغصب.
(3) كاغتصبه، «وفلانا على الشيء» قهره، وتقول: غصبه منه، وغصبه أو قهره عليه.
(4) فما عد في العرف استيلاء مع تمام الحد فهو غصب، ويختلف باختلاف المستولى عليه، ولا يصير غصبًا بغير الاستيلاء، ولا يشترط الفعل، فلو ركب دابة واقفة لإنسان، وليس هو عندها، صار غاصبها بمجرد ذلك، والأولى – كما قدر الشيخ وغيره – استثناء الحربي، لأنه يدخل في حده استيلاء المسلمين على أموال أهل الحرب، وليس بظلم، واستيلاء أهل الحرب على المسلمين، وليس من الغصب المذكور حكمه بالإجماع، إذ لا خلاف أنه لا يضمن بالإتلاف ولا بالتلف، وإنما الخلاف في وجوب رد عينه إذا قدرنا على أخذه، وفي «تجريد العناية» هو استيلاء غير حربي على حق غيره، قهرا بغير حق.
(5) ككلب صيد، ونحو خمرة ذمي مستورة، لا خمرة خلال.(5/375)
(قهرا بغير حق) (1) فخرج بقيد القهر المسروق، والمنتهب، والمختلس (2) و «بغير حق» استيلاء الولي على مال الصغير ونحوه (3) والحاكم على مال المفلس (4) وهو محرم (5) لقوله تعالى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (6) .
__________
(1) قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن الغصب أخذ بعدوان قهرا. اهـ. ومنه المأخوذ مكسا ونحوه.
(2) أي فخرج بقيد القهر عن حكم الغصب "المسروق" وهو ما يختفي سارقه في أول أمره وآخره، و «المنتهب» وهو ما يجاهر منتهبه أول أمره وآخره «والمختلس» وهو ما يختفي مختلسه أول أمره دون آخره، فهذه ليست غصبا، لعدم القهر فيها.
(3) أي وخرج – بقوله «بغير حق» عن حكم الغصب – استيلاء الولي على مال موليه الصغير، ونحو الصغير البالغ غير رشيد، أو مجنونا.
(4) فليس استيلاؤه على ماله غصبا، لكونه بحق، وكذا الشفعة.
(5) بالاتفاق. وقال الموفق: أجمع المسلمون على تحريمه في الجملة وإنما اختلفوا في فروع منه.
(6) والغصب من أكلها بالباطل. ولقول صلى الله عليه وسلم «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» وروي «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» .
وقال الشيخ: للمظلوم الدعاء على ظالمه، بقدر ما يوجبه ألم ظلمه، لا على من شتمه، ولو كذب عليه لم يفتر عليه، بل يدعو عليه نظيره، وقال أحمد: الدعاء عليه قصاص، ومن دعا على من ظلمه فما صبر.(5/376)
(من عقار) بفتح العين الضيعة، والنخل، والأرض، قاله أبو السعادات (1) . (ومنقول) من أثاث وحيوان (2) ولو أم ولد (3) لكن لا تثبت اليد على بضع (4) فيصح تزويجها (5) ولا يضمن نفعه (6) .
__________
(1) والجوهري وغيرهما، وذكر أن الضيعة العقار. وقال الأزهري: هي عند الحاضرة النخل والكرم، والأرض. وقال أبو السعادات: ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه، كالصنعة، والتجارة، والزراعة، وغير ذلك. وقال الجوهري: العرب لا تعرف الضيعة إلا الحرفة والصناعة. اهـ. فيضمن العقار بالغصب؛ قال في الإنصاف: ولم يذكر أكثرهم فيه خلافًا. لخبر «من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، طوقه من سبع أرضين» وغيره.
(2) وشجر، وزرع، ونحوهما، والأثاث متاع البيت، أو المال أجمع. وتقدم قوله «وأموالكم عليكم حرام» فدل النص والإجماع على تحريمه، ويضمن إذا تلف.
(3) أي ولو كان الاستيلاء على أم ولد، وهذا مذهب الشافعي، وصاحبي أبي حنيفة، لأنها تجرى مجرى المال، بدليل أنها تضمن بالقيمة، في الإتلاف، لكونها مملوكة، كالقن، بخلاف الحرة. ويضمن القن، ذكرا كان أو أنثى، كسائر المال.
(4) تقدم أنه بضم الباء، وجمعه أبضاع، يطلق على الفرج، والجماع، والتزويج، والبضاع: الجماع، وزنا ومعنى.
(5) ولو كانت بيد الغاصب، لأنه لا تثبت يده على بضعها، بخلاف بيعها، فلا يصح إلا على غاصبها، أو قادر على أخذها منه.
(6) أي نفع البضع، وهو المهر، فلو حبسها عن النكاح حتى فات بالكبر، لم يضمن المهر بالتفويت، لأن النفع إنما يضمن بالتفويت إذا كان مما تصح المعاوضة عليه بالإجارة، والبضع ليس كذلك، وكذا المدبرة والمكاتبة.(5/377)
ولو دخل دارا قهرًا، وأخرج ربها فغاصب (1) وإن أخرجه قهرا ولم يدخل (2) أو دخل مع حضور ربها وقوته فلا (3) وإن دخل قهرا ولم يخرجه، فقد غصب ما استولى عليه (4) وإن لم يرد الغصب فلا (5) وإن دخلها قهرا في غيبة ربها فغاصب (6) ولو كان فيها قماشه، ذكره في المبدع (7) (وإن غصب كلبا يقتنى) ككلب صيد وماشية وزرع (8) .
__________
(1) يترتب عليه أحكام الغصب؛ قال الموفق: أشبه ما لو أخذ الدابة والمتاع.
(2) فليس بغاصب، لأنه غير مستول عليها.
(3) أي فليس بغاصب؛ قال الموفق: لا يحصل الغصب من غير استيلاء. فلو دخل أرض إنسان، أو داره، لم يضمنها بدخوله، سواء دخلها بإذنه، أو غير إذنه؛ وسواء كان صاحبها فيها، أو لم يكن، لأنه إنما يضمن بالغصب ما يضمن بالعارية.
(4) لأنه لا يشترط لتحقق الغصب نقل العين، بل يكفي، مجرد الاستيلاء.
(5) أي فليس بغاصب، فلا يضمن ما تلف فيها.
(6) لاستيلائه عليها.
(7) وعليه جمهور الأصحاب، وغيرهم؛ قال الموفق وغيره: وما تلف بفعله، أو بسبب فعله، كهدم حيطانها، وتغريقها، أو كشط ترابها، وإلقاء الحجارة فيها، أو نقص يحصل بغراسه، أو بنائه، فيضمنه بغير خلاف بين العلماء، لأن هذا إتلاف، والعقار يضمن بالإتلاف من غير خلاف.
(8) لاستثناء الشارع له، بقوله «إلا كلب صيد أو ماشية أو حرث» ويأتي.(5/378)
(أو) غصب (خمر ذمي) مستورة (ردهما) (1) لأن الكلب يجوز الانتفاع به واقتناؤه (2) وخمر الذمي يقر على شربها، وهي مال عنده (3) (ولا) يلزم أن (يرد جلد ميتة) غصب (4) ولو بعد الدبغ، لأنه لا يطهر بدبغ (5) وقال الحارثي؛ يرده حيث قلنا: يباح الانتفاع به في اليابسات (6) .
__________
(1) أي الكلب، والخمرة وكذا خمر خلاَّل، لأنها غير ممنوع من إمساكها وكذا لو غصب دهنا متنجسا رده، لأنه يجوز الاستصباح به في غير مسجد، على ما تقدم، أو تخلل خمر خلاَّل في يد غاصب لزمه رده، لأنه صار خلا على حكم ملكه، وإن لم يكن الكلب يقتنى، ولم تكن خمرة الذمي مستورة، لم يلزمه الرد، للنهي عن اقتناء الكلب، وزوال عصمة خمرة الذمي، متى ظهرت، وحل إراقتها.
(2) يعني الذي يقتنى، فلزم رده على مالكه، أشبه المال. وإن حبسه مدة لم يلزمه أجرة، جزم به الموفق وغيره.
(3) فلزم ردها ما زالت مستوردة، وإن غصب من مسلم خمرا، حرم ردها، ووجبت إراقتها، لأن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أيتام ورثوا خمرا «فأمره بإراقتها» .
(4) هذا المذهب عند أكثر الأصحاب، لأنه لا يحل بيعه عندهم.
(5) وتقدم أنه يطهر بالدبغ، للنصوص المتواترة بطهارته بالدبغ.
(6) أشبه الخمر المتخللة، وقال الموفق وغيره: يحتمل أن يجب رده، إذا قلنا: يباح الانتفاع به في اليابسات، لأنه نجس يباح الانتفاع به، أشبه الكلب المقتنى، وكذلك قبل الدباغ؛ قال: وإن دبغه، وقلنا بطهارته يلزم رده، كالخمر إذا تخللت. اهـ. والسنة طافحة بذلك؛ واختاره الشيخ وغيره، وتقدم، فيجب رده ويجوز بيعه.(5/379)
قال في تصحيح الفروع: وهو الصواب (1) (وإتلاف الثلاثة) أي الكلب والخمر المحرمة، وجلد الميتة (هدر) (2) سواء كان المتلف مسلمًا أو ذميًا (3) لأنه ليس لها عوض شرعي (4) لأنه لا يجوز بيعها (5) .
__________
(1) ولفظه: والصواب أنا إذا قلنا: يجوز الانتفاع به في اليابسات، يجب رده؛ وقطع به ابن رجب وغيره؛ قال شيخنا: وعلى ما تقدم من القول الصحيح، أنه يطهر، فيرد بكل حال.
(2) أي مهدرة، باطلة، لا تضمن بالإتلاف.
(3) وسواء كانت لمسلم أو ذمي، لأنه لا يثبت لها أحكام الغصب.
(4) يثبت به الضمان، وغير متقومة.
(5) لخبر «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة والخنزير والأصنام» وما حرم بيعه لا لحرمته، لم تجب قيمته، فأما الكلب، ففيه خلاف، مبني على جواز بيعه. وأما الخمرة المحترمة، يعني خمرة الذمي المستورة، فنص عليه أحمد، والشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: تضمن. لأن عقد الذمة قد عصمها، لما روي عن عمر أنه قال: ولوهم بيعها، وخذوا منهم عشر ثمنها، وتقدم الحديث الصحيح في تحريمها.
وما لم يكن مضمونا في حق المسلم، لا يكون مضمونا في حق الذمي، لأن التحريم ثبت في حقهما، فمتى ظهرت حلت إراقتها، وخبر عمر إنما يثبت لهم أنهم إذا تبايعوها، وتقابضوها، حكمنا لهم بالملك، ولم ننقضه، وأما جلد الميتة، فتقدم القول بطهارته بالدبغ، فتثبت له أحكام الغصب، وقبل الدبغ لا يجب ضمانه عند الأكثر، كالميتة.(5/380)
(وإن استولى على حر) كبير أو صغير (لم يضمنه) (1) لأنه ليس بمال (2) (وإن استعمله كرها) فعليه أجرته (3) لأنه استوفى منافعه، وهي متقومة (4) (أو حبسه) مدة لمثلها أجرة (فعليه أجرته) (5) لأنه فوت منفعته، وهي مال يجوز أخذ العوض عنها (6) وإن منعه العمل من غير غصب، أو حبس لم يضمن منافعه (7) .
__________
(1) بأن حبسه مثلا، ولم يمنعه الطعام والشراب، فمات عنده بنحو مرض، لا بنحو صاعقة أو نار.
(2) والغصب لا يثبت فيما ليس بمال، ويضمن ثياب صغير وحليه، جزم به في الإقناع والمنتهى. وإن بعده عن بيت أهله مثلا، لزمه رده، ومؤونته، وعليه ضمانه، إذا تلف بنحو صاعقة أو نار، على ما يأتي في الديات إن شاء الله تعالى.
(3) أي وإن استعمل الحر كرها في خدمة أو خياطة أو غيرهما، فعليه أجرته قولا واحدًا.
(4) أي فيلزمه ضمانها بالغصب، كمنافع العبد.
(5) أي مدة حبسه، وهذا الصحيح من المذهب، وصححه في التصحيح وغيره، وجزم به غير واحد، وصوبه في تصحيح الفروع.
(6) كمنافع العبد، ولا يضمن ثيابه، لأنها لم تثبت عليها اليد، وكما لا يضمن نفسه.
(7) قال الموفق: وجها واحدا؛ لأنه لو فعل ذلك بالعبد لم يضمن منافعه، فالحر أولى. وفي الفروع: يتوجه "بلى" فيهما؛ وصوبه في الإنصاف، فالله أعلم.(5/381)
(ويلزم) غاصبا (رد المغصوب) إن كان باقيا، وقدر على رده (1) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يأخذ أحدكم متاع أخيه، لا لاعبا ولا جادا (2) ومن أخذ عصا أخيه فليردها» رواه أبو داود (3) . وإن زاد لزمه رده (بزيادته) (4) متصلة كانت أو منفصلة (5) .
__________
(1) قال الموفق وغيره: أجمع العلماء على وجوب رد المغصوب إذا كان بحاله، لم يتغير، ولم يشتغل بغيره، وقال الوزير: اتفقوا على أنه يجب على الغاصب للمغصوب رد العين، إن كانت عينه، ولم يخف من ردها إتلاف نفس، وأن العروض والحيوان، وكل ما كان غير مكيل، ولا موزون يضمن، إذا غصب، وتلف بقيمته، والمكيل والموزون بمثله إذا وجد مثله.
(2) فنهى أن يأخذ متاع أخيه المسلم، منفعة كان أو سلعة، مما يتمتع به من الحوائج، لا لاعبا، أي لا في حال اللعب، فلا يجوز له على جهة المزح والهزل، ولا في حال الجد. وفي النهاية: أن يأخذه ولا يريد سرقته، ولكن يريد إدخال الهم والغيظ عليه، فهو لاعب في السرقة، جاد في الأذية.
(3) ولمسلم «ومن أخذ عصا أخيه فليردها إليه» وليس خاصا بالعصا، بل المراد منه كل شيء، حتى العصا. ولأبي داود «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ولأنه أزال يد المالك عن ملكه، بغير حق، فلزمته إعادتها، وفي الخبر «من وجد عين ماله فهو أحق به، ويتبع البائع من باعه، وأخذ منه الثمن» .
(4) قولا واحدًا، سواء كانت الزيادة بيد الغاصب أو غيره.
(5) أي سواء كانت الزيادة متصلة كالسمن، وتعلم صنعه، أو منفصلة، كالولد، من بهيمة، وكالكسب.(5/382)
لأنها من نماء المغصوب، وهو لمالكه، فلزمه رده كالأصل (1) (وإن غرم) على رد المغصوب (أضعافه) (2) لكونه بنى عليه أو بعد ونحوه (3) (وإن بنى في الأرض) المغصوبة (4) (أو غرس لزمه القلع) إذا طالبه المالك بذلك (5) .
__________
(1) قال ابن رشد: لا خلاف أعلمه، أن الغاصب يرده، كالولد مع الأم المغصوبة؛ قال: والقياس، أن تجرى المنافع، والأعيان المتولدة مجرى واحدًا.
(2) وهذا مذهب الجمهور، مالك والشافعي، وغيرهما، لأنه هو المتعدي، فلم ينظر إلى مصلحته، فكان أولى بالغرامة، وإن قال: دعه مكانه وأعطني أجرة رده، أو طلب حمله إلى مكان آخر، لم يلزمه. وإن قال: دعه لم يملك الغاصب رده.
(3) أي لكونه بنى على المغصوب، كحجر أو خشبة، قيمتها درهم مثلا، وبنى عليها، واحتاج في إخراجها وردها إلى خمسة دراهم، أو لكونه بعد المغصوب، بأن حمل إلى بلد بعيدة، بحيث تكون أجرته، أضعاف قيمته، ونحو ذلك، كحيوان انفلت بمكان يعسر مسكه فيه، ويحتاج إلى أجرة أضعاف قيمته، فتلزم الغاصب لتعديه، وكان ضرر ذلك عليه، وإن انكسر الحجر، أو تلفت الخشبة وجبت القيمة.
(4) أي بلا إذن رب الأرض، ألزم بقلع بنائه، إذا طالبه رب الأرض بذلك، عند جماهير العلماء، وروي من حديث عائشة «من بنى في رباع قوم بإذنهم، فله القيمة، ومن بنى بغير إذنهم، فله النقض» . وإن اتفقا على عدم النقض، جاز، وإن كانت الآلة من الأرض، فليس للغاصب النقض.
(5) قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا، وقال ابن رشد: أجمع العلماء على أن من اغترس نخلاً أو ثمرًا، وبالجملة نباتا في غير أرضه أنه يؤمر بالقلع. والمشهور عن أحمد: للمالك قلعه مجانا، وعليه الأصحاب. وعنه: لا يقلع، بل يملكه بالقيمة.(5/383)
لقوله صلى الله عليه وسلم «ليس لعرق ظالم حق» (1) (و) لزمه (أرش نقصها) أي نقص الأرض (2) (وتسويتها) لأنه ضرر حصل بفعله (3) (والأجرة) أي أجرة مثلها إلى وقت التسليم (4) وإن بذل ربها قيمة الغراس والبناء ليملكه لم يلزم الغاصب قبوله (5) وله قلعهما (6) .
__________
(1) رواه الترمذي وغيره وحسنه. ولأبي داود وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم قضى للرجل بأرضه، وقضى للآخر أن ينزع نخله؛ قال: فلقد رأيتها يضرب في أصولها بالفؤوس وأنها لنخل عم؛ يعني طوالاً. و"عرق" بالتنوين، و «ظالم» نعت، أي ليس لذي عرق ظالم حق، ولأنه شغل ملك غيره بملكه، الذي لا حرمة له في نفسه بغير إذنه، فلزمه تفريغه.
(2) لحصوله بتعديه، والمراد: إن نقصت بذلك. وكذا كل عين مغصوبة، على الغاصب ضمان نقصها، إذا كان نقصا مستقرًا، وهو مذهب الشافعي، لجنايته عليها، بما نقص قيمتها، فلزمه أرش النقص، ولو كان نقصها بترك زرعها ذلك العام، كأراضي البصرة كما لو نقصت بغيره.
(3) أي ولزمه تسوية الأرض، إن كان كشطه، ورده على ما كان عليه، إن طالبه المالك، لأن كشط الأرض ضرر، حصل بفعل الغاصب، فلزمه إزالة ضرره.
(4) لتلف منافعها تحت يده العادية، وكذا لو لم ينتفع بها، لزمته أجرتها.
(5) لأنه عين مال الغاصب، أشبه ما لو وضع فيها أثاثًا أو نحوه؛ وإن وهبه لمالكها لم يجبر على قبوله؛ وإن اتفقا على التعويض جاز، وكيف ما اتفقا.
(6) لأنهما ملكه، ما لم تكن الآلات والغرس من الأرض المغصوبة ومنعه فلا، لأن الجميع ملك المغصوب منه، فلم يملك غيره التصرف فيه بغير إذن.(5/384)
وإن زرعها وردها بعد أخذ الزرع فهو للغاصب (1) وعليه أجرتها (2) وإن كان الزرع قائما فيها (3) خير ربها بين تركه إلى الحصاد بأجرة مثله (4) وبين أخذه بنفقته (5) وهي مثل بذره وعوض لواحقه (6) .
__________
(1) قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا، لأنه نماء ماله.
(2) أي أجرة مثلها إلى وقت التسليم، لأنه استوفى نفعها، فوجب عليه عوضه وعليه ضمان النقص، ولو لم يزرعها، كما تقدم. وليس لرب الأرض تملك الزرع بعد حصاده، لانفصاله عن ملكه.
(3) أي في الأرض، لم يحصد، والمراد: أنه استرجعها من الغاصب، وقدر على أخذها منه. ومتى أدركها ربها والزرع قائم، فليس له إجبار الغاصب على قلعه، لما رواه الترمذي وغيره وصححه، أنه صلى الله عليه وسلم قال «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته» ولأنه أمكن رد المغصوب إلى مالكه، من غير إتلاف مال الغاصب، على قرب من الزمن، فلم يجز إتلافه، وفارق الشجر، لطول مدته. وحديث «ليس لعرق ظالم حق» محمول عليه، وهذا الحديث في الزرع، فحصل الجمع بين الخبرين.
(4) فيأخذ من الغاصب أجرة الأرض، وأرش نقصها، لأنه شغلها بماله.
(5) أي وبين أخذ المالك الزرع، بنفقته، يدفعها إلى الغاصب، ويكون له الزرع، كما يستحق الشفيع أخذ شجر المشتري بقيمته.
(6) من حرث، وسقي ونحوهما، لقوله «وله نفقته» فيرد على الغاصب ما أنفق من البذر، ومؤنة الزرع في الحرث والسقي وغيره، لمدلول الخبر؛ وعند الجمهور: الزرع لمالك الأرض؛ واختاره الشيخ، وعليه النفقة، ومتى اختار أخذ
الزرع، فلا أجرة للأرض، ورطبة، ونعناع، وبقول، ونحوها، مما يجز مرة بعد أخرى، أو يتكرر حمله كقثاء، وباذنجان، كزرع فيما تقدم.
وقال الشيخ: فيمن زرع بلا إذن شريكه – والعادة بأن من زرع فيها له نصيب معلوم، ولربها نصيب -: قسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك. قال: ولو طلب أحدهما من الآخر أن يزرع معه، أو يهايئه فيها فأبى، فللأول الزرع في قدر حقه بلا أجرة كدار بينهما، فيها بيتان، سكن أحدهما عند امتناعه مما يلزمه، وصوبه في الإنصاف، وأنه لا يسع الناس غيره.(5/385)
(ولو غصب جارحا أو عبدًا أو فرسا (1) فحصل بذلك) الجارح أو العبد أو الفرس (صيد (2) فلمالكه) أي مالك الجارح ونحوه (3) لأنه حصل بسببه ملكه فكان له (4) وكذا لو غصب شبكة، أو شركا، أو فخا، وصاد به (5) .
__________
(1) أو قوسًا، أو سهمًا، ونحو ذلك. ...
(2) أو غنم على الفرس ونحوه، أو حصل بقوس، أو سهم، ونحو ذلك، صيد أو غيره.
(3) أي فالصيد كله لمالك الجارح، ونحو الجارح: العبد، والفرس، كل ما حصل بهما، من الصيد ونحوه للمالك، هذا المذهب عند الأكثر.
(4) أي لمالك الجارح، والعبد والفرس، ونحوها. وقال الشيخ: المتوجه فيما إذا غصب شيئًا كفرس، وكسب به مالاً كالصيد، أن يجعل المكسوب بين الغاصب، ومالك الدابة، على قدر نفعهما، بأن تقوم منفعة الراكب، ومنفعة الفرس، ثم يقسم الصيد بينهما.
(5) يعني: فما حصل لمالك الشبكة، أو الشرك أو الفخ ونحوه، لأنه حصل بسبب ملكه، هذا المذهب. ووجه الشارح وغيره: للغاصب. لأن الصيد على
الفرس، أو بالقوس ونحوهما، حصل بفعله، وهذه آلات، قال شيخنا: وهو أولى، وعليه الأجرة، وقواه الحارثي، وتقدم اختيار الشيخ، فالله أعلم.(5/386)
ولا أجرة لذلك (1) وكذا لو كسب العبد (2) بخلاف ما لو غصب منجلا (3) وقطع به شجرا أو حشيشًا، فهو للغاصب (4) لأنه آلة، فهو كالحبل يربط به (5) (وإن ضرب المصوغ) المغصوب (6) .
__________
(1) أي لرب الجارح، والفرس، والشبكة، ونحوها، لأن منافع المغصوب في هذه المدة، عادت إلى المالك، فلم يستحق عوضها على غيره. وإن قيل: للغاصب؛ فعليه الأجرة كما تقدم.
(2) أي المغصوب، فكالجارح، والفرس، كسبه لمالكه وفي الإنصاف: سائر أكسابه للسيد بلا نزاع. اهـ. ولا أجرة له على الغاصب، في مدة كسبه. وقال الشيخ: أما إذا كسب العبد، فالواجب أن يعطى المالك أكثر الأمرين، من كسبه أو قيمة نفعه.
(3) وهو ما يحصد به من حديد، ويقال له «المحش» معروف، يقطع به الحشيش وغيره؛ أو غصب فأسًا ونحوها.
(4) أي ما قطعه من الشجر، والحشيش، والزرع، وغيره، بذلك المنجل، أو الفأس، لحصول الفعل منه.
(5) أي لأن المنجل، المغصوب ونحوه، آلة، فهو كالحبل المغصوب، يربط به الغاصب ما يجمعه، من حطب ونحوه، وكما لو غصب سيفًا، فقاتل به وغنم، فما حصل بذلك فللغاصب.
(6) دراهم، أو ضرب فضة دراهم، أو حديدًا مسامير، أو إبرًا، أو سيوفًا، ونحو ذلك، رده وأرش نقصه إن نقص، ولا شيء له عن زيادته إن زاد، هذا المذهب.(5/387)
(ونسج الغزل (1) وقصر الثوب أو صبغه (2) ونجر الخشبة) بابا (ونحوه (3) أوصار الحب زرعا (4) و) صارت (البيضة فرخا (5) و) صار (النوى غرسا (6) رده وأرش نقصه) إن نقص (7) (ولا شيء للغاصب) نظير عمله، ولو زاد به المغصوب، لأنه تبرع في ملك غيره (8) .
__________
(1) أي أو نسج الغاصب أو أجيره، الغزل المغصوب، حتى صار يسمى ثوبا، فزاد أو نقص، رده بزيادته، أو مع أرش نقصه إن نقص.
(2) أو طحن حبا، أو ضرب ترابا لبنا، ونحو ذلك، رده ونقصه، ولا شيء له.
(3) كرفوف، أو غصب شاة فذبحها وشواها، رد ذلك، وأرش نقصه، ولا شيء له في نظير عمله، لتعديه. ولا يأكل من الشاة ولا غيرها إلا بإذن مالكها ويأتي في السرقة إن شاء الله تعالى.
(4) أي أو صار الحب المغصوب زرعا، في أرض المالك أو غيره.
(5) أي أو صارت البيضة المغصوبة فرخا، بجعلها تحت نحو دجاجة أو بمعالجة.
(6) أو صارت الأغصان المغصوبة شجرا بغرسه لذلك، في أرضه أو أرض غيره.
(7) أي رد المغصوب لمالكه، لأنه عين ماله، ورد أرش نقصه إن نقص؛ قال الموفق وغيره: هذا ظاهر المذهب، وقول الشافعي.
(8) أي بغير إذنه، فكان لاغيًا. وعنه: يكون شريكا بالزيادة، اختاره الشيخ وغيره. وقال الناظم: ورجحه الأكثر لأنها حصلت بمنافعه، والمنافع أجريت مجرى الأعيان.(5/388)
وللمالك إجباره على إعادة ما أمكن رده إلى الحالة الأولى (1) كحلي ودراهم، ونحوهما (2) (ويلزمه) أي الغاصب (ضمان نقصه) أي المغصوب (3) ولو بنبات لحية أَمرد فيغرم ما نقص من قيمته (4) وإن جنى عليه ضمنه بأكثر الأَمرين، ما نقص من قيمته، وأرش الجناية (5) .
__________
(1) لأن عمل الغاصب في المغصوب محرم، فملك المالك إزالته مع الإمكان، وظاهره: وإن لم يكن فيه غرض صحيح. ومقتضى ما تقدم: أنه لا يجبر إلا إذا كان فيه غرض صحيح، جزم به الحارثي.
(2) من أواني حديد ونحوه، كساكين، ونعال، ونحو ذلك مما تمكن إعادته إلى حالته الأولى، وما لا تمكن إعادته – كالأبواب، والفخار، والآجر، والشاة إذا ذبحها وشواها، والحب إذا طحنه – فليس للغاصب إفساده، ولا للمالك إجباره عليه.
(3) أي بعد غصبه، وقبل رده، فيقوم صحيحا وناقصًا، ويغرم الغاصب ما بينهما.
(4) لأنه نقص في القيمة بتغير صفته، أشبه النقص بتغير باقي الصفات، ولو غصب قنا فعمي عنده، أو خرس ونحوه، قوم صحيحًا، ثم أعمى، أو أخرس، وأخذ من الغاصب ما بين القيمتين.
(5) أي وإن جنى على الرقيق المغصوب ضمن الجاني الغاصب الذاهب بالجناية بأكثر الأمرين، ما نقص من قيمة العبد المغصوب بالجناية، أو أرش الجناية، وعنه: بما نقص؛ واختاره الموفق والشيخ وغيرهما.(5/389)
لأن سبب كل واحد منهما قد وجد، فوجب أن يضمنه بأكثرهما (1) (وإن خصى الرقيق رده مع قيمته) (2) لأن الخصيتين يجب فيهما كمال القيمة، كما يجب فيهما كمال الدية من الحر (3) وكذا لو قطع منه ما فيه دية، كيديه، أو ذكره، أو أنفه (4) (وما نقص بسعر لم يضمن) (5) .
__________
(1) ودخل فيه الآخر، وكذا إن كان عبدا قيمته عنده ألفان، ثم قطع يده، فصار يساوي ألفا وخمسمائة، كان عليه مع رده ألف، وإن كان الجاني غير الغاصب، فضمنه المالك، رجع على الجاني بأرش الجناية فقط، وما زاد استقر على الغاصب.
(2) أي وإن خصى الرقيق المغصوب غاصبه أو غيره، رده مع قيمته كلها، وهذا مذهب مالك، والشافعي، ولو زادت قيمته بالخصاء.
(3) أي لأن الخصيتين من الرقيق يجب فيهما كمال القيمة منه، كما يجب فيهما كمال الدية من الحر، وهو مما لا نزاع فيه، ولو زادت قيمته بالخصاء فالحكم كذلك.
(4) وغير ذلك مما فيه دية كاملة من حر، يجب فيه كمال دية العبد المغصوب فيرده لمالكه مع قيمته، ولا يملكه الجاني، لأن المتلف البعض، والمضمون هو المفوت، فلا يزول الملك عن غيره بضمانه، وإن كان المغصوب دابة ضمن ما نقص من قيمتها، كسائر الأعيان.
(5) هذا المذهب، ومذهب جمهور العلماء، حكاه الموفق وغيره، كثوب غصبه وهو يساوي مائة، ولم يرده حتى نقص سعره، فصار يساوي ثمانين مثلا، فلا يلزمه برده شيء، وعنه: يضمن. اختاره الشيخ وغيره.(5/390)
لأنه رد العين بحالها، لم ينقض منها عين ولا صفة، فلم يلزمه شيء (1) (ولا) يضمن نقصا حصل (بمرض) (2) إذا (عاد) إلى حاله (ببرئه) من المرض (3) لزوال موجب الضمان (4) وكذا لو انقلع سنة ثم عاد (5) فإن رد المغصوب معيبا (6) وزال عيبه في يد مالكه، وكان أخذ الأرش، لم يلزمه رده (7) .
__________
(1) ولا حق للمالك في القيمة مع بقاء العين، وإنما حقه فيها وهي باقية كما كانت، والفائت إنما هو رغبات الناس، ولا تقابل بشيء، قال الحارثي: ما لم يتصل التلف بالزيادة، فإن اتصل بأن غصب ما قيمته مائة، فارتفع السعر إلى مائتين، وتلفت العين، ضمن المائتين وجها واحدا.
(2) أي مرض المغصوب عند الغاصب، أو ابيضت عين المغصوب عنده، أو نسي صنعة، ونحو ذلك.
(3) أي إذا عاد نقص القيمة ببرئه من المرض، أو زال بياض عينه، أو تعلم الصنعة، ونحو ذلك، فيرده ولا شيء عليه، وعنه: يضمن. نص عليه، وقواه الحارثي وغيره.
(4) وهو نقص القيمة، وكذا لو حملت فنقصت، ثم وضعت بيد غاصب فزال نقصها، لم يضمن شيئًا.
(5) أي لم يلزمه شيء، لزوال نقص القيمة بعود السن عند الغاصب.
(6) أي فإن رد الغاصب المغصوب معيبا بمرض، أو انقلاع ضرس ونحوه.
(7) أي لم يلزم المالك رد الأرش المأخوذ من الغاصب.(5/391)
لأنه استقر ضمانه برد المغصوب (1) وإن لم يأخذه لم يسقط ضمانه لذلك (2) (وإن عاد) النقص (بتعليم صنعة) (3) كما لو غصب عبدا سمينا قيمته مائة، فهزل فصار يساوي تسعين (4) وتعلم صنعة، فزادت قيمته بها عشرة (ضمن النقص) (5) لأن الزيادة الثانية غير الأولى (6) (وإن تعلم) صنعة زادت بها قيمته عند الغاصب (أو سمن) عنده (فزادت قيمته (7)
__________
(1) أي ناقصا عن حال الغصب، نقصا أثر في قيمته حال الرد، جزم به الموفق وغيره.
(2) أي وإن لم يأخذ المالك الأرش من الغاصب، ثم زال العيب في يد المالك، لم يسقط الأرش، لاستقراره بالرد، بخلاف ما لو برئ قبل رده، وقال الحارثي: ما يذكر من الاستقرار غير مسلم، والصواب الوجوب بقدر النقص الحادث في المدة، ويجب رد ما زاد إن كان.
(3) أي وإن عاد النقص الحاصل في الرقيق المغصوب بزيادة حاصلة من غير جنس الذاهب.
(4) بسبب حصول الهزال عند الغاصب.
(5) أي وتعلم العبد المغصوب صنعة، أو زالت عجمته، أو تعلم علما ونحو ذلك، فزادت قيمته بذلك عشرة، ضمن الغاصب النقص الحاصل بالهزال.
(6) أي لأن الزيادة الثانية بتعلم الصنعة ونحوها في الصورة الثانية، غير النقص الحاصل بالهزال في الصورة الأولى، فلزم ضمانه، لأنه لم يعد ما ذهب.
(7) أو كبر فزادت قيمته عند الغاصب ونحو ذلك.(5/392)
ثم نسي) الصنعة (أو هزل فنقصت) قيمته (ضمن الزيادة) (1) لأنها زيادة في نفس المغصوب، فلزم الغاصب ضمانها (2) كما لو طالبه بردها فلم يفعل (3) و (كما لو عادت من غير جنس الأول) (4) بأن غصب عبدا فسمن، فصار يساوي مائة (5) ثم هزل فصار يساوي تسعين (6) فتعلم صنعة فصار يساوي مائة، ضمن نقص الهزال (7) .
__________
(1) أي تعلم الصنعة، أو السمن.
(2) كما لو كانت موجودة حال الغصب، فقد أجروا الزيادة الحادثة في يد الغاصب مجرى الزيادة الموجودة حال الغصب، لأنها زيادة في العين المملوكة للمغصوب منه، فتكون مملوكة له، لأنها تابعة للعين.
(3) أي كما لو طالبه برد العين حال تلك الزيادة، فلم يفعل الغاصب، ومذهب مالك، وأبي حنيفة أنه إن طالبه بردها زائدة فلم يفعل ضمن، وأما إن غصب العين سمينة أو ذات صناعة، فهزلت أو نسيت فنقصت قيمتها فعليه ضمان نقصها، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا. لأنها نقصت عن حال غصبها نقصا أثر في قيمتها، فوجب ضمانها كما لو ذهب بعض أعضائها.
(4) أي وكما لو عادت الزيادة في المغصوب من غير جنس النقص الأول الحاصل فيه، وهو يلزمه ضمانه، لأنه لم يعد ما ذهب.
(5) أي حال سمنه بيد الغاصب.
(6) وهو بيد الغاصب، وكذا لو مرض ونحوه.
(7) أو تعلم صنعة ثم نسيها فنقصت قيمته، ثم سمن فزادت، ضمن نقص الصنعة.(5/393)
لأن الزيادة الثانية غير الأولى (1) (و) إن كانت الزيادة الثانية (من جنسها) أي من جنس الزيادة الأولى (2) كما لو نسي صنعة ثم تعلمها (3) ولو صنعة بدل صنعة (لا يضمن) (4) لأن ما ذهب عاد، فهو كما لو مرض ثم برئ منه (5) (إلا أكثرهما) يعني إذا نسي صنعة وتعلم أخرى، وكانت الأولى أكثر (6)
__________
(1) فلم يسقط ضمانها، وحكي قولا واحدًا، وإن سمن فبلغ مائة، ثم تعلم صنعة فبلغ مائتين، ثم هزل ونسي ضمن المائتين، وإن غصبه مفرطا في السمن، ثم هزل فزادت قيمته، أو لم تنقص ولم تزد رده، ولا شيء عليه، لأن الشرع إنما أوجب في مثل هذا ما نقص من قيمته، ولم تنقص قيمته، فلم يجب عليه شيء غير رده.
(2) يعني الحادثة في يد الغاصب، وكذا عود ما نقص بعد الغصب.
(3) أو هزل ثم سمن، أو أبق ثم عاد، ونحو ذلك.
(4) أي ذلك النقص الحاصل بالنسيان، وكذا الهزال ونحوه قبل الرد، وعادت قيمته كما كان، لأن العلم الثاني ونحوه هو الأول. ولو كان تعلم صنعة كنساجة، بدل صنعة نسيت كخياطة، لأن الصنائع كلها جنس من أجناس الزيادة في الرقيق، أو تعلم علما آخر ونحو ذلك لا يضمن، وهذا مذهب الشافعي.
(5) أي لأن ما ذهب بنسيان الصنعة عاد بتعلمها، فهو كما لو مرض فنقصت قيمته، ثم برئ فعادت قيمته، لا يضمن لزوال الموجب للضمان في يده، واختاره الموفق وغيره.
(6) كأن غصب عبدا نساجا يساوي مائة، فنسيها وصار يساوي ثمانين، فتعلم الخياطة فصار يساوي تسعين.(5/394)
ضمن الفضل بينهما، لفواته وعدم عوده (1) وإن جنى المغصوب فعلى غاصبه أَرش جنايته (2) .
__________
(1) وهو العشرة في المثال، الحاصلة في زيادة العين المملوكة للمغصوب منه.
(2) أي وإن جنى المغصوب على مالكه أو غيره، في نفس أو مال، فعلى غاصبه أرش جنايته، الأقل من أرش جنايته أو قيمته، لتعلق ذلك برقبة المغصوب، فهي نقص فيه، فضمنه كسائر نقصه، وجنايته على غاصبه هدر، قال في الإنصاف: بلا نزاع. وكذا ما أتلفه القن المغصوب من مال سيده أو أجنبي.(5/395)
فصل (1)
(وإن خلط) المغصوب بما يتميز، كحنطة بشعير، وتمر بزبيب، لزم الغاصب تخليصه، ورده، وأجرة ذلك عليه (2) و (بما لا يتميز كزيت أو حنطة بمثلهما) لزمه مثله (3) لأنه مثلي، فيجب مثل مكيله (4) .
__________
(1) أي في حكم ما إذا خلط المغصوب، أو صبغه، أو أطعمه لمالكه، وفي حكمه إذا تلف، وغير ذلك.
(2) أي وإن خلط الغاصب أو غيره المغصوب بما يمكن تمييز بعضه من بعض، كحنطة بشعير، أو سمسم، أو صغار الحب بكباره، وكتمر بزبيب، أو زبيب أحمر بأسود، ونحو ذلك، لزم الغاصب تخليص بعضه من بعض، إن أمكن، ورده إلى مالكه قولا واحدًا، وكذا إن أمكن تمييز بعضه، وجب تمييز ما أمكن منه، ورده، وأجرة المميز على الغاصب، لأنه بسبب تعديه.
(3) أي وإن خلط غاصب أو غيره مغصوبا بما لا يتميز بعضه من بعض، كزيت بزيت، أو حنطة بحنطة مثلها، لزمه مثل المغصوب كيلا أو وزنا من المختلط، لأنه قدر على رد بعض ماله إليه، مع رد المثل في الباقي، فلم ينقل إلى بدله في الجميع، كمن غصب صاعا فتلف بعضه، هذا المذهب، ورجحه الشارح، وفيه وجه: مثله من حيث شاء، واختاره القاضي، وكذا لو خلط نقدا بمثله، وذكر ابن رجب: المنصوص أنه اشتراك فيما إذا خلط زيته بزيت غيره وصوبه الحارثي، واختاره القاضي وغيره.
(4) لا قيمته، لاعتبار المثلي في كل ما يثبت في الذمة.(5/396)
وبدونه أو خير منه (1) أو بغير جنسه كزيت بشيرج (2) فهما شريكان بقدر ملكيهما (3) فيباع ويعطى كل واحد قدر حصته (4)
__________
(1) أي وإن خلط المغصوب بدونه من جنسه، أو خلطه بخير منه من جنسه، فهما شريكان بقدر ملكيهما.
(2) أي وإن خلط المغصوب بغير جنسه مما له قيمة، وكان الخلط على وجه لا يتميز، كزيت خلطه بشيرج، ودقيق حنطة بدقيق شعير ونحوه.
(3) كاختلاطهما من غير غصب، نص عليه.
(4) وقال الشيخ – فيمن اشتبه ملك بعضهم ببعض – إن عرف قدر المال تحقيقًا قسم الموجود عليهم، وإن لم يعرف إلا عدده قسم على قدر العدد، لأن المالين إذا اختلطا قسما بينهم، وإن كان كل منهم يأخذ عين ما كان للآخر، لأن الاختلاط جعلهم شركاء، قال: فسواء اختلط غنم أحدهما بالآخر عمدا أو خطأ، يقسم المالان على العدد، إذا لم يعرف الرجحان، وإن عرف وجهل قدره أثبت منه القدر المتيقن، وأسقط الزائد المشكوك فيه، لأن الأصل عدمه.
قال: وقدر المتلف إذا لم يمكن تحديده عمل فيه بالاجتهاد، كما يفعل في قيمته بالاجتهاد، إذ التقويم والخرص واحد، فإن الخرص الاجتهاد في معرفة مقدار الشيء، وتقويمه بالاجتهاد في معرفة مقدار ثمنه، بل قد يكون الخرص أسهل، وكلاهما: يجوز مع الحاجة. اهـ.
ولو اختلط درهم لإنسان بدرهمين لآخر من غير غصب، فتلف، فقيل: ما بقي بينهما، وفي تصحيح الفروع؛ ويحتمل القرعة، وأنه أولى، لتحقق الدرهم لواحد منهما، وقد اشتبه، فإخراجه بالقرعة كنظائره.(5/397)
وإن نقص المغصوب عن قيمته منفردا ضمنه الغاصب (1) (أو صبغ) الغاصب (الثوب (2) أو لتَّ سويقا) مغصوبا (بدهن) من زيت أو نحوه (3) (أو عكسه) بأن غصب دهنا ولت به سويقا (4) (ولم تنقص القيمة) أي قيمة المغصوب (5) (ولم تزد، فهما شريكان بقدر ماليهما فيه) (6) لأن اجتماع الملكين يقتضي الاشتراك (7) فيباع ويوزع الثمن على القيمتين (8) (وإن نقصت القيمة) في المغصوب (ضمنها) الغاصب لتعديه (9) .
__________
(1) لأنه حصل بفعله، وحرم تصرفه في قدر ماله في المختلط، وإن خلطه بما لا قيمة له – كزيت بماء – فإن أمكن تخليصه خلصه ورده ونقصه، وإن أفسده فعليه مثله.
(2) ونحوه، وكان الصبغ من مال الغاصب، فهما شريكان بقدر ماليهما فيه.
(3) من سائر الأدهان من مال الغاصب.
(4) فهما شريكان بقدر ماليهما فيه.
(5) بتعديه بصبغ الثوب المغصوب، أو لتَّ السويق المغصوب، لا بتغير السعر.
(6) وذلك مثل أن كانت قيمة كل واحد منهما خمسة، فصارت قيمتهم بعد الصبغ عشرة.
(7) ولأن الصبغ والزيت عين مال، له قيمة، فاقتضى الاشتراك.
(8) قيمة الثوب وقيمة الصبغ، أو قيمة السويق وقيمة الزيت، ونحو ذلك، وإن تراضيا بتركه لهما جاز.
(9) وكما لو أتلفه أو بعضه، فلو كان قيمة المصبوغ خمسة فلمالكه، ولا شيء للغاصب، وإن كانت قيمته سبعة فللغاصب سبعاه، والعكس بالعكس، وإن نقصت القيمة لتغير السعر فلا ضمان على الغاصب، وكان نقص كل واحد منهما عن صاحبه.(5/398)
(وإن زادت قيمة أحدهما فلصاحبه) أي لصاحب الملك الذي زادت قيمته، لأنها تبع للأصل (1) (ولا يجبر من أبي قلع الصبغ) إذا طلبه صاحبه (2) وإن وهب الصبغ لصاحب الثوب لزمه قبوله (3) (ولو قُلع غرس المشتري أَو بناؤه لاستحقاق الأرض) أي لخروج الأرض مستحقة للغير (4) .
__________
(1) فإن كان ذلك لزيادة الثياب في السوق، كانت الزيادة لصاحب الثوب، وإن كان لزيادة الصبغ فلصاحبه، كأن كانت قيمة الثوب عشرة، والصبغ خمسة، وصار مغصوبًا يساوي عشرين، بسبب غلاء الثوب أو الصبغ، فالزيادة للذي غلا سعره، من الثوب أو الصبغ، وإن كانت لزيادتهما معا فبينهما، وإن زاد أحدهما ثمانية، والآخر اثنين، فبينهما كذلك، لا إن زاد بالعمل.
(2) فلو أراد صاحب الصبغ قلعه، أو أراد ذلك صاحب الثوب لم يجبر الآخر عليه، لأن فيه إتلافًا لملكه، وقال أبو حنيفة: لأن فيه إضرارًا بالثوب المغصوب، فلم يمكن منه، كقطع خرقة منه، وإن أراد المالك بيع الثوب، فله ذلك، وله تملكه بقيمته.
(3) أي قبول صبغ الثوب المصبوغ، وكذا تزويق الدار ونحوها، ونسج غزل، وعمل حديد أواني، ونحو ذلك، لأنه صار من صفات العين، فهو كزيادة الصفة في المسلم فيه.
(4) أي لغير البائع، سواء كان البائع عالما بالحال أو جاهلا، والأرض طلقا أو وقفا، فله ذلك، من غير ضمان نقصه، لأنه وضعه في ملكه بغير إذنه، وفي
الإنصاف: بلا نزاع على القول بجواز القلع، ونقل الحارثي عن الإمام أحمد: لا قلع بل يأخذه بقيمته، وقدمه ابن رجب في غرس المشتري من الغاصب، ونصره وصححه، وذكر أنه لا يثبت عن أحمد سواه.(5/399)
(رجع) الغارس أو الباني إذا لم يعلم بالحال (على بائعها) له (بالغرامة) (1) لأنه غره، وأوهمه أنها ملكه ببيعها له (2) . (وإن أطعمه) الغاصب (لعالم بغصبه، فالضمان عليه) (3) لأنه أتلف مال الغير بغير إذنه من غير تغرير (4) وللمالك تضمين الغاصب، لأنه حال بينه وبين ماله (5) .
__________
(1) من ثمن أقبضه، وأجرة غارس، وبان، وثمن مؤن مستهلكة، وأرش نقص بقلع، ونحو ذلك، وأجرة دار، وغير ذلك مما غرمه، وفي الإنصاف: بلا نزاع على القول بجواز القلع.
(2) وكان سببا في غرسها، وبنائها، والانتفاع بها، فرجع عليه بما غرمه، لا بما أنفق على العبد، والحيوان، ونحو ذلك.
وقال الشيخ: لو اشترى مغصوبًا من غاضبه، ولا يعلم به، رجع بنفقته وعمله على بائع غار له.
(3) أي وإن أطعم الغاصب الطعام المغصوب لعالم بغصبه، فالضمان على الآكل، قولاً واحدًا، وفي الإنصاف: بلا نزاع.
(4) أي على الآكل، وكذا أكله بلا إذنه.
(5) وله تضمين الآكل، لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه، وقبضه من يد ضامنه بغير إذن مالكه.(5/400)
وقرار الضمان على الآكل (1) (وعكسه بعكسه) فإن أطعمه لغير عالم فقرار الضمان على الغاصب، لأنه غر الآكل (2) (وإن أطعمه) الغاصب (لمالكه (3) .
__________
(1) وذلك أن المالك إن ضمَّن الغاصب رجع الغاصب على الآكل، وإن ضمَّن المالك الآكل لم يرجع الآكل على أحد.
(2) على الصحيح من المذهب، والمذهب: ولو لم يقل الغاصب: كله، فإنه طعامي. لأن الظاهر أن الإنسان إنما يتصرف فيما يملكه، وقد أكله على أنه لا يضمنه، فاستقر الضمان على الغاصب لتغريره، ولم يحرم على الآكل، لأنه لم يعلم بغصبه.
(3) لم يبرأ الغاصب، لأنه لم يعده إلى تصرفه التام، وسلطانه المطلق، إذ لا يتمكن من بيعه، ولا هبته، ولا إطعامه غيره، قال ابن القيم: ومن الحيل الباطلة إذا غصبه طعاما، ثم أراد أن يبرأ منه، ولا يعلمه به، فليدعه إلى داره، ثم يقدم له ذلك الطعام، فإذا أكله برئ الغاصب، وهذه الحيلة باطلة، فإنه لم يملكه إياه، ولا مكنه من التصرف فيه، فلم يكن بذلك رادًا لعين ماله إليه. اهـ. ونص أحمد – في رجل له عند رجل تبعة، فأوصلها إليه على أنها هبة أو هدية، ولم يعلم – كيف هذا؟، يعني أنه لا يبرأ، وفي القواعد: لا يبرأ، نص عليه، معللاً بأنه يحتمل منته وربما كافأه على ذلك.
وقال ابن القيم: لو أهداه إليه فقبله، وتصرف فيه، وهو لا يعلم أنه ماله، فإن خاف من إعلامه به ضررًا يلحقه منه، برئ بذلك، وإن لم يخف ضررًا، وإنما أراد المنة عليه، ونحو ذلك لم يبرأ، ولا سيما إذا كافأه على الهدية فقبل، فهذا لا يبرأ قطعا. اهـ. وإن أخذه المالك بقرض، أو شراء، أو هبة، أو هدية، أو صدقة، أو إباحة، ولم يعلم لم يبرأ، جزم به في الإقناع وغيره، وقال المجد: وإن باعه منه برئ قولاً واحدًا، لأن قبض المبيع مضمون على المشتري.(5/401)
أو رهنه) لمالكه (أو أودعه) لمالكه (أو آجره إياه لم يبرأ) الغاصب (1) (إلا أن يعلم) المالك أنه ملكه، فيبرأ الغاصب، لأنه حينئذ يملك التصرف فيه على حسب اختياره (2) وكذا لو استأجره الغاصب على قصارته، أو خياطته (3) (ويبرأ) الغاصب (بإعارته) المغصوب لمالكه من ضمان عينه، علم أنه ملكه أو لم يعلم (4) لأنه دخل على أنه مضمون عليه (5) والأيدي المترتبة على يد الغاصب كلها أيدي ضمان (6) .
__________
(1) لأنه لم يعد إلى سلطانه، إنما قبضه على أنه أمانة، ولأنه لو أباحه أكله فأكله لم يبرأ، قال الموفق وغيره: فههنا أولى.
(2) من أخذ وبيع وغير ذلك.
(3) أي ومثل إطعامه لو استأجر الغاصب المالك على قصارة المغصوب أو خياطته لم يبرأ إلا أن يعلم أنه ملكه، فيبرأ الغاصب، لتمكن المالك من التصرف فيه بما أراد.
(4) أي أن المغصوب المعار ملكه، ولا يبرأ من عهدة منافعه مع جهل المالك أنها ملكه، فيجب عليه قيمة المنافع التي تلفت تحت يده، وإن كان المالك استوفاها، لا عينه، فلو غصب عبدا ثم استعاره منه مالكه جاهلاً ثم تلف، فلا طلب له على غاصب، لاستقرار ضمانه عليه، وله مطالبته بقيمة منافعه.
(5) أي المغصوب المعار، وإن جهل غصبه، لضمان العارية، على ما يأتي، ولو وجب على الغاصب ضمان قيمتها لرجع به على المستعير، فلا فائدة في تضمينه شيئًا يرجع به على من ضمنه له.
(6) وهي عشر، يد المشتري ومن في معناه، ويد المستأجر، ويد القابض
تملكا بلا عوض كالمتهب، ويد القابض لمصلحة الدافع كوكيل، ويد المستعير، ويد الغاصب، ويد المتصرف في المال كمضارب، ويد المتزوج للمغصوبة، ويد القابض تعويضًا بغير بيع، والعاشرة يد المتلف للمغصوب نيابة عن الغاصب كذابح حيوان.(5/402)
فإن علم الثاني، فقرار الضمان عليه (1) وإلا فعلى الأول (2) إلا ما دخل الثاني على أنه مضمون عليه (3) فيستقر عليه ضمانه (4) (وما تلف) أو أتلف من مغصوب (5) (أو تغيب) ولم يمكن رده كعبد أبق، وفرس شرد (من مغصوب مثلي) وهو كل مكيل أو موزون (6) .
__________
(1) لتعديه على ما يعلمه ملك غيره بغير إذن مالكه.
(2) أي وإن لم يعلم الغاصب الثاني، فقرار الضمان على الغاصب الأول.
(3) كالعارية.
(4) وإن جهل غصبه كما تقدم، فيرجع مشتر جهل الحال – من غاصب ضمنه مالك قيمة العين والمنفعة – بقيمة المنفعة، ويرجع مستأجر بقيمة العين، ويستردان ما دفعاه من الثمن والأجرة، أو يرجع مستعير – ضمنه مالك – بقيمة المنفعة إذا كان جاهلا، وإن كان المنتقل إليه في تلك الصور هو المالك، فلا شيء له، لما يستقر عليه لو كان أجنبيًا، ويرجع متملك بلا عوض وأمين، جهلا بما غرماه لمالك من قيمة عين ومنفعة.
(5) أي وما تلف من مغصوب كحيوان مات، أو متاع احترق، أو أتلف من مغصوب، سواء أتلفه الغاصب أو غيره، بأن قتل الحيوان المغصوب، أو أحرق المتاع المغصوب ونحو ذلك.
(6) أي كل مكيل من حب، وثمر، ومائع وغيرهما، أو موزون من حديد، ونحاس، ورصاص، وذهب، وفضة، وحرير، وكتان، وقطن، ونحوها.(5/403)
لا صناعة فيه مباحة، يصح السلم فيه (1) (غرم مثله إذا) (2) لأنه لما تعذر رد العين لزمه رد ما يقوم مقامها، والمثل أقرب إليه من القيمة (3) وينبغي أن يستثنى منه الماء في المفازة، فإنه يضمن بقيمته في مكانه، ذكره في المبدع (4) .
__________
(1) أي لا صناعة في مكيل نحو هريسة، ولا صناعة في موزون، نحو حلي، وأسطال ونحوها، مباحة تلك الصناعة فإنه يضمن بقيمته، لأن الصناعة تؤثر فيه، والقيمة فيه أخص، وأخرجت المباحة حلي رجال، وأواني ذهب أو فضة، فإنها تضمن بوزنها، لتحريم صناعتها، وكونه «يصح السلم فيه» أخرج نحو جوهر، ولؤلؤ، ففيه قيمته.
(2) أي حيث أمكن رد مثله، وكان حين التلف باقيا على حاله حين الغصب، قال تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقال {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، وقال أحمد: ما كان من الدراهم والدنانير، أو ما يكال، أو ما يوزن، فعليه مثله، وقال ابن عبد البر: كل مطعوم من مأكول، ومشروب فمجمع على أنه يجب على مستهلكه مثل قيمته، وقال الشيخ وغيره: يضمن المغصوب بمثله، مكيلا أو موزونا أو غيرهما، حيث أمكن، وإلا فالقيمة.
(3) لمماثلته له من طريق الصورة، والمشاهدة، والمعنى، بخلاف القيمة فإنها تماثل من طريق الظن، والاجتهاد، وسواء تماثلت أجزاء المثلي أو تفاوتت كالأثمان وفي رطب صار تمرا وسمسم صار شيرجا، يخير مالكه، فيضمنه أي المثلين أحب، فإن كان مصوغا أو تبرًا تخالف قيمته وزنه، فقال الشيخ وغيره: يقوم بغير جنسه.
(4) لتفاوت الأحوال، وتعتبر القيمة يوم أتلفه بالمفازة، ويؤيده قولهم: ييمم رب ماء مات لعطش رفيقه، ويغرم قيمته مكانه لورثته.(5/404)
(وإلا) يمكن رد مثل المثلي لإعوازه (فقيمته يوم تعذر) (1) لأنه وقت استحقاق الطلب بالمثل، فاعتبرت القيمة إذا (2) (ويضمن غير المثلي) – إذا تلف أو أتلف – (بقيمته يوم تلفه) (3) في بلده، من نقده أو غالبه (4) لقوله عليه السلام «من أعتق شركا له في عبد قوم عليه» (5) .
__________
(1) لعدم، أو بعد، أو غلاء، وظاهره: ولو كان يوم تعذر المثل قبل الغصب، بأن لا يكون للمغصوب مثل موجود يوم غصبه.
(2) أي يوم إعوازه، لأن القيمة وجبت في الذمة حين انقطاع المثل، فاعتبرت القيمة حينئذ، كتلف المتقوم، وقال الشيخ: إذا تغير السعر، وفقد المثل، فينتقل إلى القيمة وقت الغصب، وهو أرجح الأقوال.
(3) لا يوم غصبه، ولا يوم المحاكمة، ولا أكثر القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف، وهذا إذا كان الاختلاف لتغير الأسعار، أما إذا كان لمعنى في العين، من سمن، وتعلم صنعة، فقيمتها أكثر ما كانت، ذكره الموفق وغيره.
(4) أي بلد غصبه، من نقد بلد الغصب، لأنه موضع الضمان، ومقتضى التعدي، فإن تعدد نقد بلد الغصب فمن غالبه رواجا على ما تقدم.
(5) وتمامه «قيمة عدل» والحديث متفق عليه، فأمر بالتقويم في حصة الشريك لأنها متلفة بالعتق، ولم يأمره بالمثل، وعنه: يضمنه بالمثل. اختاره الشيخ واحتج بقوله {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} ولرده صلى الله عليه وسلم القصعة، بدل القصعة المكسورة وقوله «إناء بإناء» وما في معناه من الدلالة على أن من استهلك على غيره شيئًا كان مضمونًا بمثله، إلا عند عدم المثل.
وقال الشيخ رحمه الله: يضمن المغصوب بمثله، مكيلا كان أو موزونًا أو غيرهما حيث أمكن، وإلا فالقيمة، وهو المذهب عند ابن أبي موسى، وطائفة من العلماء، واختار اعتبار المثل بكل ما يثبت في الذمة، والتشابه في غير المكيل والموزون ممكن، فلا مانع منه، وكذا ما انقسم بالأجزاء بين الشريكين، من غير تقويم مضاف إلى هذا النوع، لوجود التماثل، وانتفاء التخالف، وفي الثوب، والعصا، والقصعة ونحوها، يضمنه بالمثل، مراعيا للقيمة، وهو المذهب عند الحارثي وغيره.
وقال: لو شق ثوب شخص خير مالكه بين تضمين الشاق نقصه، وبين شق ثوبه. وقال ابن القيم: إذا أتلف نقدا، أو حبوبًا أمكن ضمانها بالمثل، وإن كان ثيابًا، أو آنية، أو حيوانا فمثله. وقد يتعذر فالقيمة.(5/405)
ولو أخذ حوائج من بقال ونحوه في أيام (1) ثم حاسبه، فإنه يعطيه بسعر يوم أخذه (2) وإن تلف بعض المغصوب، فنقصت قيمة باقيه (3) كزوجي خفٍّ تلف أحدهما (4) .
__________
(1) أي ولو أخذ شخص حوائج متقومة – كفواكه، وبقول، ونحوها – من بقال ونحوه – كجزار، وزيات – في أيام، ولم يقطع سعرها، أو أخذ شيئًا معلومًا بكيل أو وزن، ولم يقطع سعره.
(2) أي ثم حاسبه على ما أخذ بعد ذلك، فإنه يعطيه قيمته بسعر يوم أخذه، لأنه ثبتت قيمته في ذمته يوم أخذه، لتراضيهما على ذلك، ولم يجب عليه المثل في المثلي، ومقتضاه صحة البيع بثمن المثل، واختاره الشيخ؛ إقامة للعرف مقام النطق.
(3) أي باقي المغصوب، لأجل تلف البعض عند الغاصب.
(4) وكمصراعي باب تلف أحدهما، وكل شيئين ينقصهما التفريق.(5/406)
رد الباقي، وقيمة التالف، وأرش نقصه (1) (وإن تخمر عصير) مغصوب (فـ) على الغاصب (المثل) (2) لأن ماليته زالت تحت يده، كما لو أتلفه (3) (فإن انقلب خلا دفعه) لمالكه، لأنه عين ملكه (4) (و) دفع (معه نقص قيمته) حين كان (عصيرا) إن نقص (5) لأنه نقص حصل تحت يده (6) ويسترجع الغاصب ما أداه بدلاً عنه (7) .
__________
(1) فإذا كانت قيمتها ستة دراهم، فصارت قيمة الباقي بعد التلف درهمين، رده وأربعة دراهم، لأن نقص الباقي حصل بجنايته، فلزمه ضمانه، بخلاف نقص السعر، فإنه لم يذهب من المغصوب عين ولا معنى، وهنا فوت معنى، وهو إمكان الانتفاع، الموجب لنقص قيمته.
(2) هذا الصحيح من المذهب، واختاره الموفق وغيره، وصوبه في تصحيح الفروع.
(3) فوجب فيه المثل، وانقلابه خمرا كتلف عينه، يوجب ضمانه، وهو مثلي.
(4) أي فإن انقلب عصير تخمر خلا بيد غاصب، دفعه لمالكه، لأنه عين ملكه، فوجب رده إليه.
(5) أي بتخلله، أو نقص بسبب غليانه، وما بقي بحاله.
(6) كتلف جزء منه، وكما لو نقص بلا تخمر، بأن صار ابتداء خلا، وكغصب شاة فتهرم.
(7) أي ويسترجع الغاصب – إذا رد الخل، وأرش نقص العصير – ما أداه بدلا عن العصير، وهو المثل الذي دفعه لمالكه للحيلولة، كما لو أدى قيمة الآبق، ثم قدر عليه ورده لربه.(5/407)
وإذا كان المغصوب مما جرت العادة بإجارته (1) لزم الغاصب أجرة مثله مدة بقائه بيده (2) استوفى المنافع أو تركها تذهب (3) .
__________
(1) كرقيق، ودواب، وسفن، وعقار.
(2) فتضمن منافعه بالفوات والتفويت، وإن كان العبد ذا صنائع، لزمه أجرة أعلاها، وكذا المقبوض بعقد فاسد، بخلاف عقود الأمانات، كالوكالة، والوديعة، والتبرعات، كالهبة، وما لا تصح إجارته، مما لا منافع له.
(3) لأن المنفعة مال متقوم، فوجب ضمانه كالعين، والانتفاع بالمغصوب لا يجوز إجماعًا، وإن تلف المغصوب فعليه أجرته إلى وقت تلفه.(5/408)
فصل (1)
(وتصرفات الغاصب الحكمية) أي التي لها حكم، من صحة وفساد، كالحج، والطهارة، ونحوهما (2) والبيع، والإجارة، والنكاح، ونحوها (باطلة) (3) لعدم إذن المالك (4) .
__________
(1) أي في حكم تصرفات الغاصب وغيره، والإتلافات، وضمانها، وما يتعلق بذلك.
(2) أي من سائر العبادات التي تتعلق بالمغصوب، كحج بمغصوب، وزكاة منه، وطهارة به، وصلاة فيه، باطلة، وتقدم أنه يجزئه مع الكراهة، وقواه الحارثي، وصوبه في الإنصاف، وتحرم التصرفات غير الحكمية، كإتلاف، واستعمال، كأكل، ولبس، ونحوهما، وأما عبادة لا تحتاج إليه كالصوم، والذكر، والاعتقاد، فلا مدخل لها فيه.
(3) لخبر «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» وعن أحمد: تصرفات الغاصب صحيحة، وسواء في ذلك العبادات، والعقود، وذكر أبو الخطاب وغيره أنه ينبغي أن يتقيد في العقود بما لم يبطله المالك، فأما ما اختار المالك إبطاله، وأخذ المعقود عليه، فلا نعلم فيه خلافا، وأما ما لم يدركه المالك، فوجه التصحيح فيه: أن الغاصب تطول مدته، وتكثر تصرفاته في المغصوب، ففي القضاء ببطلانها ضرر كثير، وربما عاد الضرر على المالك، فإن الحكم بصحتها يقتضي كون الربح للمالك، والعوض بنمائه، وزيادته له، والحكم ببطلانها يمنع ذلك.
(4) أي فحكمه حكم تصرف الفضولي، وتقدم.(5/409)
وإن اتجر في المغصوب، فالربح لمالكه (1) (والقول في قيمة التالف) قول الغاصب، لأنه غارم (2) (أو قدره) أي قدر المغصوب (3) (أو صفته) بأن قال: غصبتني عبدا كاتبا. وقال الغاصب: لم يكن كاتبا. فـ (قوله) أي قول الغاصب، كما تقدم (4) (و) القول (في رده أو تعيبه) (5) بأن قال الغاصب: كانت فيه إصبع زائدة، أو نحوها (6) .
__________
(1) ونصوص أحمد متفقة عليه، وهو موافق للقول الثاني، وبناه ابن عقيل والموفق على صحة تصرف الغاصب، وتوقفه على الإجازة، وفي التلخيص أنها لا تتوقف عليها، لأن ضرر الغصب يطول بطول الزمان، فيشق اعتباره، وقال الشيخ: ربح المغصوب بمنزلة المضارب، كما فعل عمر رضي الله عنه.
(2) ولا خلاف في ذلك، وكذا إن اختلفا في زيادة قيمته، هل زادت قبل تلفه أو بعده.
(3) بأن قال المالك: عشرة. وقال الغاصب: بل تسعة. فقوله بيمينه، حيث لا بينة للمالك.
(4) أي لأنه غارم، ولأنه منكر، والأصل براءته من الزائد، وقال في الإنصاف إن اختلفا في قيمة المغصوب، أو قدره، أو صناعة فيه، فقول الغاصب، لا أعلم فيه خلافًا، وذلك بيمينه، حيث لا بينة، وإن كان لأحدهما بينة عمل بها.
(5) أي والقول إذا اختلفا في رد المغصوب إلى مالكه، أو اختلفا في تعيبه بعد تلفه.
(6) كأن قال: كان أعمى، أو أعور، أو أعرج، أو به سلعة، أو يبول في فراشه، ونحو ذلك.(5/410)
وأنكره مالكه، فـ (قول ربه) (1) لأن الأصل عدم الرد والعيب (2) وإن شهدت البينة أن المغصوب كان معيبا (3) وقال الغاصب: كان معيبًا وقت غصبه. وقال المالك: تعيب عندك. قدم قول الغاصب، لأنه غارم (4) (وإن جهل) الغاصب (ربه) أي رب المغصوب، سلمه إلى الحاكم (5) فبرئ من عهدته (6) ويلزمه تسلمه (7) .
__________
(1) أي بيمينه على نفي ذلك، جزم به الموفق وغيره، وفي الإنصاف: بلا نزاع.
(2) أي لأن الأصل عدم رد المغصوب على مالكه، وبقاؤه في يد الغاصب، وعدم العيب في المغصوب، وبقاؤه سليما، فقبل قول المالك.
(3) يعني عند الغاصب، أو اتفقا على أنه كان معيبا.
(4) والقول قول الغارم بيمينه مع عدم البنية كما تقدم، ولأن الظاهر أن صفة العبد لم تتغير، والأصل براءة الذمة.
(5) إذا كان أهلاً، وقال الشيخ: إن كان عدلا أو له نائب كذلك، وإلا سلمه لرجل عالم معروف موثوق به، وأعلمه بالحال، ليصرفه في مصارفه، وللعالم أن يصرفه إليه إن كان ممن يجوز الصرف إليه، وله هو أن يصرف من نفسه لنفسه إن كان بهذه الصفة، وهو عالم بالأحكام الشرعية.
(6) أي الغصوب، والرهون، ونحوها، قال في الإنصاف: بلا نزاع؛ دنيا وأخرى، لأن قبض الحاكم لها قائم مقام قبض أربابها لها، لقيامه مقامهم.
(7) أي ويلزم القاضي تسلم المغصوب من الغاصب إذا دفعه إليه، كالضوال وغيرها، وقال الشيخ: من كانت عنده غصوب، وودائع وغيرها، لا يعرف أربابها، صرفت في المصالح. وقاله العلماء.(5/411)
أو (تصدق به عنه (1) مضمونا) أي بنية ضمانه إن جاء ربه (2) فإذا تصدق به كان ثوابه لربه، وسقط عنه إثم الغصب (3) وكذا حكم رهن، ووديعة، ونحوهما إذا جهل ربها (4) وليس لمن هي عنده أخذ شيء منها، ولو كان فقيرًا (5) .
__________
(1) أي أو تصدق الغاصب بالمغصوب عن رب المغصوب، ولا يحتاج إلى إذن حاكم، وقال أحمد: على فقراء مكان الغصب إن عرفه، لأنه أقرب على وصول المال إليه إن كان موجودًا أو إلى ورثته، ويراعى الفقراء، لأنها صدقة، ولا يحابي صديقا ونحوه.
(2) لأن الصدقة بها عنهم بدون ضمان إضاعة لها لا إلى بدل، وهو غير جائز.
(3) لأنه معذور بعجزه عن الرد، لجهله بالمالك.
(4) أي الرهون، والودائع ونحوهما من سائر الأمانات، والأموال المحرمة، كالسرقة، والنهب، إذا جهل أربابها دفعها للحاكم، أو تصدق بها عن ربها بشرط ضمانها له، لأن في الصدقة بها عنه جمعا بين مصلحة القابض بتبرئة ذمته، ومصلحة المالك بتحصيل الثواب له.
(5) أي من أهل الصدقة نص عليه، وأفتى الشيخ بجوازه للغاصب إذا تاب، وقال أيضًا: لو تصدق بها جاز، وله الأكل منها ولو كان غاصبًا، إذا تاب وكان فقيرًا، ولو رد ما غصبه على الورثة برئ من إثمه، لا من إثم الغصب. وقال: من ندم ورد المغصوب بعد موت المغصوب منه، كان للمغصوب منه مطالبته في الآخرة لتفويت الانتفاع به في حياته، كما لو مات الغاصب فرد وارثه، ولو حبس المغصوب وقت حاجة مالكه إليه مدة شبابه، ثم رده في مشيبه، فتفويت تلك المنفعة ظلم، يفتقر إلى جزاء.(5/412)
(ومن أتلف) لغيره مالا (محترما) بغير إذن ضمنه (1) لأنه فوته عليه (2) (أو فتح قفصا) عن طائر فصار ضمن (3) (أو) فتح (بابا) فضاع ما كان مغلقًا عليه بسببه (4) (أو حل وكاء) زق مائع، أو جامد فأذابته الشمس (5) .
__________
(1) قال الموفق وغيره: لا نعلم فيه خلافا. وسواء في ذلك العمد والسهو، والتكليف وعدمه، واحترز بالمال عن نحو الكلب والسرجين في قول، ويستثنى من ذلك إتلاف حربي مال مسلم، وعادل مال باغ، وعكسهما، فلا يضمنه المتلف ولو أتلف لغيره وثيقة بمال لا يثبت ذلك المال إلا بها لزمه، صوبه في الإنصاف، وقال الشيخ: لو غرم بسبب كذبه عليه عند ولي الأمر، رجع على الكاذب؛ قال في الإنصاف: وهو صحيح، وكذا لو غرمه شيئًا لقاضٍ ظلما، وله نظائر.
(2) أي فوجب عليه ضمانه، كما لو غصبه فتلف عنده، وإن أذن رب المال في إتلافه فلا ضمان.
(3) أي أو فتح قفصا عن طائر مملوك محترم، فذهب الطائر، أو دخل عليه حيوان فقتله، ضمن الفاتح، لذهاب الطير على مالكه بسبب فتحه القفص، وهذا مذهب مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن أهاجه.
(4) أي أو فتح بابا مغلقًا على حيوان أو متاع أو غيره، فضاع ما كان مغلقًا عليه، بسبب فتحه الباب، ضمنه الفاعل، لتسببه في الضياع.
(5) أي أو حل "وكاء" بكسر الواو، وهو الحبل الذي يربط به نحو القربة، "وزق" بكسر الزاي أي ظرف مائع، فاندفق، ضمن بلا نزاع، أو حل وكاء زق جامد فأذابته الشمس فاندفق ضمنه.(5/413)
أو ألقته ريح فاندفق ضمنه (1) (أو) حل (رباطا) عن فرس (2) (أو) حل (قيدا) عن مقيد (فذهب ما فيه (3) أو أتلف) ما فيه (شيئا ونحوه) أي نحو ما ذكر (ضمنه) لأنه تلف بسبب فعله (4) (وإن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان) (5) .
__________
(1) أي أو ألقت الزق بعد حله ريح أو زلزلة فاندفق، ضمنه المتعدي، لأنه تلف بسبب فعله، ولو ضرب إنسان يد آخر، وفيها دينار فضاع ضمنه، لتسببه بالإضاعة.
(2) فذهب الفرس ضمنه، لأنه ذهب بسبب فعله، وكذا لو حل سفينة مربوطة فتلفت، أو سلسلة فهد، ونحو ذلك فذهب ضمنه.
(3) كعبد أو أسير، أو دفع لأحدهما مبردا فبرد القيد فذهب ما فيه ضمنه، صوبه في الإنصاف، لتسببه في الضياع.
(4) أي أو أتلف الطائر أو الفرس ونحوه شيئًا، كأن كسر إناء، أو قتل إنسانًا، أو أتلف مالا، أو أتلفت الدابة التي حلها زرعا أو غيره، أو انحدرت السفينة التي حلها فأتلفت شيئًا ضمنه، لحصول التلف بسبب فعله، كما لو قطع علاقة قنديل فسقط فانكسر.
(5) ضمن، لتعديه بالربط في الطريق الضيق، وكذا لو وقفها في طريق ضيق، رواية واحدة، وعنه: ولو كان واسعا. قال ابن رجب وغيره: هذا المنصوص عن أحمد، وهو مذهب الشافعي؛ وفي الإقناع والمنتهى: ولو كان الطريق واسعا، سواء كانت يد صاحبها عليها أو لا، لما رواه الدارقطني وغيره: «من وقف دابة في سبيل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فوطئت بيد أو رجل
فهو ضامن» ولأن انتفاعه بالطريق مشروط بالسلامة، ومن ضرر الدابة الجناية بفمها ورجلها، وأجازه بعضهم مع السعة، وعدم الإضرار.(5/414)
أو أتلف شيئًا (ضمنه) لتعديه بالربط (1) ومثله لو ترك في الطريق طينا (2) أو خشبة، أو حجرا، أو كيس دراهم (3) أو أسند خشبة إلى حائط (4) (كـ) ما يضمن مقتني (الكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه (5) أو عقره خارج منزله) لأنه متعد باقتنائه (6) .
__________
(1) أي أو أتلف المربوط شيئًا، ضمن من ربط أو أوقف، ما جنى المربوط بيد أو رجل أو فم.
(2) أي ومثل ما لو ربط دابة بطريق، لو ترك في الطريق طينا، أو قشر بطيخ، أو رش طينا لا لتسكين الغبار على المعتاد، فزلق به إنسان، ضمنه لتعديه بترك الطين ونحوه في الطريق.
(3) أي أو ترك في الطريق خشبة أو حجرا، لا في نحو مطر ليمر الناس فبلا خلاف، أو ترك فيه كيس دراهم، فعثر به إنسان ضمن.
(4) أي أو أسند إنسان خشبة إلى حائط – ولو كان مائلا إلى السقوط – فعثر بالخشبة إنسان، أو تلف بشيء من المذكور دابة أو غيرها، ضمن التارك لذلك ما تلف به، لحصول التلف بتعديه بذلك.
(5) لأنه تسبب إلى إتلافه، باقتناء الكلب الذي من عادته العقر.
(6) أي باقتناء العقور، فلزمه الضمان، وإن كان موثقا لم يضمن ما عقره، كما لو كان عنده من غير اقتناء ولا اختيار.(5/415)
فإن دخل منزلة بغير إذنه لم يضمنه، لأنه متعد بالدخول (1) وإن أتلف العقور شيئًا بغير العقر (2) – كما لو ولغ أو بال في إناء إنسان – فلا ضمان (3) لأن هذا لا يختص بالعقور (4) وحكم أسد، ونمر، وذئب، وهر تأكل الطيور، وتقلب القدور في العادة حكم كلب عقور (5) وله قتل هر بأكل لحم ونحوه، والفواسق (6) وإن حفر في فنائه بئرا لنفسه، ضمن ما تلف بها (7) .
__________
(1) أي بغير إذن، فقد تسبب إلى إتلاف نفسه، وكذا لو نبهه صاحب المنزل لم يضمنه.
(2) أو خرق الثوب ونحو ذلك.
(3) أي على مقتني الكلب العقور.
(4) يعني الولوغ والبول ونحوه، فلم يلحق بحكم العقر.
(5) في ضمان ما أتلف، لأنه متعد باقتنائه، وما لم يكن له عادة بذلك فلا ضمان ككلب صيد ليس بعقور، ولا فرق في ذلك بين الإتلاف في ليل أو نهار.
(6) دفعا لأذاه، وقيل: حين أكله اللحم؛ ونحوه كخبز إلحاقًا له بالصائل، وفي الترغيب: إن لم يندفع إلا به. وقال الشيخ: القط إذا صال على ماله، فله دفعه عن ذلك ولو بالقتل، والنمل يدفع ضرره بغير التحريق. اهـ. وله قتل الفواسق. وعبارة الفروع: كالفواسق. وقد ورد الأمر بقتلهن في الحل والحرم، لما فيهن من الإضرار والإفساد.
(7) أي وإن حفر شخص في فناء جداره – وهو ما كان خارج داره، قريبا
منها – بئرا لنفسه يختص بها، ضمن ما تلف بالبئر، وكذا البناء في فنائه، لأنه تلف حصل بسبب تعديه.
وقال الشيخ: لا يجوز لوكيل بيت المال ولا غيره بيع شيء من طريق المسلمين النافذ، وليس لحاكم أن يحكم بصحته. وقال: من لم يسد بئره سدا يمنع من الضرر، ضمن ما تلف بها.(5/416)
وإن حفرها لنفع المسلمين بلا ضرر في سابلة، لم يضمن ما تلف بها، لأنه محسن (1) وإن مال حائطه، ولم يهدمه حتى أتلف شيئًا لم يضمنه (2) لأن الميل حادث، والسقوط بغير فعله (3) .
__________
(1) أي وإن حفر بئرا لنفع المسلمين، أو بنى وقفا على مسجد، أو خانا ونحوه، بلا ضرر في سابلة واسعة، لم يضمن ما تلف بها، لأنه محسن، ذكره الشيخ وغيره، وإن حفر بئرا ونحوه في طريق ضيق ضمن، سواء فعله لمصلحة عامة أو لا، بإذن الإمام أو لا، لأنه ليس له أن يأذن فيه، وقوله «والبئر جبار» أن يحفر شخص في ملك نفسه، فيتردى فيها إنسان، فإنه هدر، وكذا قوله «والمعدن جبار» وذلك أن يستأجر من يستخرجها، فإذا انهارت عليهم فدماؤهم هدر، لأنهم أعانوا على أنفسهم، فزال العتب عمن استأجرهم.
(2) أي وإن مال حائطه بعد أن بناه مستقيمًا، إلى غير ملكه، علم به أو لا، ولم يهدمه حتى أتلف شيئًا، لم يضمنه، ولو أمكنه نقضه، وطولب به، لعدم تعديه بذلك، هذا المذهب، وذكره الموفق وغيره الظاهر عن الشافعي، وقول أصحاب الرأي.
(3) فلا ضمان عليه، وكما لو كان من غير ميلان، وعنه: إن طولب بنقضه، وأشهد عليه فلم يفعل ضمن، واختاره جماعة من الأصحاب، وهو مذهب مالك، واستحسنه أبو حنيفة، ولكن قال: القياس أنه لا يضمن، لأنه بناه في ملكه، ولم يسقط بفعله، فأشبه ما لو لم يطالب بنقضه، فالله أعلم. وإن سقط بلا ميلان فلا ضمان بلا خلاف، وإن بناه مائلاً ضمن بلا خلاف.(5/417)
(وما أتلفت البهيمة من الزرع) والشجر وغيرهما (1) (ليلا ضمنه صاحبها (2) وعكسه النهار) (3) . لما روى مالك، عن الزهري عن حزام بن سعد (4) أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم، فأفسدت (5) .
__________
(1) كثوب خرقته، قدمه في الفروع، وجزم به في الإقناع والمنتهى، واختاره الشيخ، واقتصر الموفق وغيره على الزرع والشجر.
(2) وهذا مذهب مالك والشافعي، وذكر الطحاوي أنه لا ضمان إذا أرسلها مع حافظ وإلا ضمن، وقيده في الإقناع والمنتهى بأن فرط، وذكر في الإنصاف أنه الصحيح من المذهب، وصحح أنه لا يضمن إذا لم يفرط، ومستعير، ومستأجر، ومستودع، ومرتهن، وأجير لحفظها، ونحوهم كصاحبها.
(3) أي فلا يضمن ما أفسدت نهارا، لأن التفريط من جهة رب الحرث والشجر، بتركه الحفظ في عادته، ولو جرت عادة بعض النواحي بربطها نهارًا، وبإرسالها ليلاً، فالحكم كذلك، لأن هذا نادر، فلا يعتبر به في التخصيص.
(4) ورواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وغيرهم من طريق حزام بن سعد بن محيصة الأنصاري، قال ابن عبد البر: وإن كان مرسلاً، فهو مشهور، وحدث به الأئمة الثقات، وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول.
(5) فكلموا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثله قوله (إذ نفشت فيه غنم القوم) .(5/418)
فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار (1) وما أَفسدت بالليل فهو مضمون عليهم (2) (إلا أن ترسل) نهارا (بقرب ما تتلفه عادة) فيضمن مرسلها لتفريطه (3) .
__________
(1) وفي رواية على «أن حفظ الحوائط» وهي البساتين «بالنهار على أهلها» فلا يضمن مالك البهيمة ما جنت بهيمته بالنهار، ما لم يرسلها بقرب ما تتلفه عادة «وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها» .
(2) لتفريطهم بإرسالها، كما لو أرسلوها قرب الزرع، قاله الشيخ وغيره وما أفسدته نهارا فقال: إذا كانت ترعى في المراعي المعتادة، فانفلتت نهارا من غير تفريط من صاحبها، حتى دخلت اصطبلاً، فأفسدته، أو أفسدت زرعا، لم يكن على صاحبها ضمان، عند أكثر العلماء كمالك، والشافعي، وأحمد، لقصة سليمان بن داود والنفش، ولحديث ناقة البراء، وأما إن كان صاحبها اعتدى، وأرسلها في زرع قوم أو بقربه، أو أدخلها إلى اصطبل الحمار بغير إذن صاحبه فأتلفت، فهنا يضمن لعدوانه. اهـ.
وقال البغوي: ذهب أهل العلم إلى أن ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها، وما أفسدته بالليل ضمنه مالكها، لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار، وأصحاب المواشي بالليل. فمن خالف هذه العادة كان خارجًا عن العرف، هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها، فإن كان معها فعليه ضمان ما أفسدته، وهذا مذهب مالك والشافعي.
(3) قاله جماعة من الأصحاب، وجزم به المجد وغيره، وصوبه في الإنصاف وتقدم أنه يضمن لعدوانه، ومن ادعى أن بهائم فلان رعت زرعه ليلا، وليس هناك غيرها، ووجد أثرها به، قضي له بضمانه، نص عليه، وجعله الشيخ من القيافة في الأموال، وجعلها معتبرة كالقيافة في الأنساب: ويضمن عندهم بالقيمة.
وقال الشيخ: صح بنص القرآن الثناء على سليمان بتفهيم الضمان بالمثل، فإن النفش رعي الغنم ليلاً، وكان ببستان عنب، فحكم داود بقيمة المتلف، فاعتبر الغنم فوجدها بقدر القيمة، فدفعها إلى أصحاب الحرث، وقضى سليمان بالضمان على أصحاب الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل، بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان، ولم يضيع عليهم مغله من حين الإتلاف إلى حين العود، بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك، ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان، فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نماء حرثهم، واعتبر الضمانين فوجدهما سواء، وهذا هو العلم الذي خصه الله به، وأثنى عليه بإدراكه.
قال ابن القيم: وصح بالنصوص والقياس أن الصحيح وجوب الضمان بالمثل فصح أنه هو الصواب والحق، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، ووجه للشافعية والمالكية.(5/419)
وإذا طرد دابة من زرعه لم يضمن (1) إلا أن يدخلها مزرعة غيره (2) فإذا اتصلت المزارع، صبر ليرجع على ربها (3) ولو قدر أن يخرجها، وله منصرف غير المزارع، فتركها فهدر (4) .
__________
(1) أي ما أفسدته من مزرعة غيره.
(2) فيضمن ما أفسدت منها لتسببه، وظاهره: ولو مزرعة ربها.
(3) أي بقيمة ما تأكله، حيث لا يمكنه منعها إلا بتسليطها على مال غيره.
(4) أي فتركها تأكل من مزرعته ليرجع على ربها، فما أكلته هدر، لا رجوع لربه به، لتقصيره بعدم صرفها، وتفريطه بتركها تأكل، مع إمكان دفعها بلا ضرر على أحد، وهو كحطب على دابة خرق ثوب بصير عاقل يجد منحرفًا.(5/420)
(وإن كانت) البهيمة (بيد راكب، أو قائد، أو سائق، ضمن جنايتها بمقدمها) كيدها وفمها (1) (لا) ما جنت (بمؤخرها) كرجلها (2) لما روى أبو سعيد مرفوعا «الرجل جبار» (3) وفي رواية أبي هريرة «رجل العجماء جبار» (4) ولو كان السبب من غيرهم – كنخس وتنفير – ضمن فاعله (5) فلو ركبها اثنان، فالضمان على المتصرف منهما (6) .
__________
(1) قال الشيخ: لأنه تفريط، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، سواء كان مالكًا للدابة أو مستأجرًا أو مستعيرًا ونحو ذلك، إذا كان قادرًا على التصرف فيها، لخبر النعمان، ولأن فعلها منسوب إلى من هي معه، ولمفهوم الخبر الآتي.
(2) أي كجناية برجلها، فلا يضمن جنايتها إذا نفحت برجلها، ويضمن ما وطئت بها كيدها، لإمكانه أن يجنبها وطء ما لا يريد، لتصرفه فيها.
(3) أي هدر، لا ضمان فيما جنت به، لعدم إمكانه حفظ رجلها عن الجناية.
(4) ولفظ أبي داود «الرجل جبار» وفيهما مقال، والذي في الصحيح «العجماء جبار» بشرط أن لا يكون بسبب من مالكها وغيره، كأن يجذبها باللجام زيادة على العادة، أو يضرب وجهها، فيضمن ما نفحت برجلها، لأنه السبب في جنايتها.
(5) لوجود السبب منه دون راكب وسائق وقائد.
(6) لقدرته على كفها، وإن اشترك الراكبان في تدبيرها، أو لم يكن معها إلا سائق وقائد، اشتركا في الضمان، وإن انفرد راكب على أول قطار، ضمن جناية الجميع.(5/421)
(وباقي جنايتها هدر) إذا لم يكن يد أحد عليها (1) لقوله عليه السلام «العجماء جبار» أيه هدر (2) لا الضارية، والجوارح وشبهها (3) (كقتل الصائل عليه) من آدمي أو غيره (4) إن لم يندفع إلا بالقتل (5) فإذا قتله لم يضمنه (6) .
__________
(1) وسوى ما استثني، فلو انفلتت الدابة ممن هي في يده وأفسدت فلا ضمان.
(2) قال أهل اللغة: الجبار الهدر والباطل. قال الشيخ: كل بهيمة عجماء – كالبقر والغنم، وغيرها – فجنايتها غير مضمونة إذا فعلت بنفسها، ولم تكن عقورا، ولا فرط صاحبها في حفظها في الليل، أو في أسواق المسلمين ومجامعهم. اهـ. وكذا قال غير واحد، وأنه إنما يكون جبارًا إذا كانت منفلتة، ذاهبة على وجهها، ليس لها قائد ولا سائق.
(3) فيلزم مالكها وغيره ضمان ما أتلفت، وفي الفصول: من أطلق كلبا عقورا، أو دابة رفوسا أو عضوضا، على الناس، وخلاه في طريقهم، ومصاطبهم، ورحابهم، فأتلف مالا أو نفسا، ضمن لتفريطه، وكذا إن كان له طائر جارح، كالصقر والبازي، فأفسد طيور الناس وحيواناتهم. وقال الشيخ فيمن أمر رجلا بإمساك الضارية – وهي المعروفة بـ"الصول" – فجنت عليه، يضمنه إن لم يعلمه بها، ويضمن جناية ولد الدابة إن فرط، نحو أن يعرفه شموسا.
(4) دفعا عن نفسه، وكذا عن غيره هدر، أفتى به ابن عقيل وغيره.
(5) يعني الصائل من آدمي أو غيره، فإن كان الصائل بهيمة فلم يمكنه دفعها إلا بالقتل، فقال الموفق وغيره: يجوز له قتلها إجماعًا، وكذا الآدمي الصائل عليه، صغيرًا كان أو كبيرًا.
(6) آدميا كان أو غيره.(5/422)
لأنه قتله بدفع جائز، لما فيه من صيانة النفس (1) (و) كـ (كسر مزمار) أو غيره من آلة اللهو (2) (وصليب، وآنية ذهب وفضة (3) .
__________
(1) فلم يجب ضمانه، فإن كانت البهيمة لغيره لم يضمنها عند الجمهور، وهو مذهب مالك والشافعي، قال الموفق: لم يقصد إتلافه فلم يضمنه، كالآدمي المكلف، ولأنه قتله لدفع شره فأشبه الصيد، وذلك أنه إذا قتله لدفع شره كان الصائل هو القاتل نفسه، ولو حالت بهيمة بينه وبين ماله، قتلها ولا ضمان عليه، وصوبه في الإنصاف، ومن طلب منه الفجور، فقال الشيخ: عليه أن يدفع الصائل عليه، فإن لم يندفع إلا بالقتل كان له ذلك باتفاق الفقهاء، فإن ادعى القاتل أنه صال عليه، وأنكر أولياء المقتول، فإن كان المقتول معروفًا بالبر، وقتله في محل لا ريبة فيه، لم يقبل قول القائل، وإن كان معروفًا بالفجور، والقاتل معروفًا بالبر، فالقول قول القاتل مع يمينه، لا سيما إذا كان معروفًا بالتعرض له قبل ذلك.
ومن رأى رجلاً يفجر بأهله، جاز له قتلهما فيما بينه وبين الله، سواء كان الفاجر محصنًا أو غير محصن، معروفًا بذلك أم لا، كما دل عليه كلام الأصحاب وفتاوى الصحابة، وليس هذا من باب دفع الصائل، كما ظنه بعضهم، بل هو من عقوبة المعتدين المؤذين، وأما إذا دخل الرجل، ولم يفعل بعد فاحشة، ولكن دخل لأجل ذلك، فهذا فيه نزاع، والأحوط لهذا أن يتوب من القتل في هذه الصورة.
(2) كالطنبور، والعود، والطبل، والدف بصنوج، والنرد، والشطرنح ونحوها، لأنه لا يحل بيعها، فلم يضمنها كالميتة، لقوله عليه الصلاة والسلام «بعثت بمحق القينات والمعازف» وغير ذلك.
(3) أي وككسر صليب، وهو ما تجعله النصارى على صورة المسيح عليه السلام، لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام» وككسر آنية ذهب وفضة، للنهي عن اتخاذها فلا تضمن، أما إذا أتلفه فيضمنه بوزنه بلا صناعة، قال الحارثي: لا خلاف فيه.(5/423)
وآنية خمر غير محترمة) (1) لما روى أحمد عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ مدية، ثم خرج إلى أسواق المدينة، وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام، فشققت بحضرته، وأمر أصحابه بذلك (2) ولا يضمن كتابا فيه أحاديث رديئة (3) ولا حليا محرما على الرجال إذا لم يصلح للنساء (4) .
__________
(1) أي وككسر آنية خمر، ولو قدر على إراقتها بدونه، إذا كانت غير محترمة، كخمرة الخلال، وخمرة الذمي المستترة فلا تهدر.
(2) أي وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بإهراق الخمر، وكسر الدنان، وللترمذي وغيره في خمرة أيتام أبي طلحة قال «أهرق الخمر، واكسر الدنان» فدلت هذه الأحاديث وغيرها على جواز إهراقها، وشق زقاقها، وإن كان مالكها غير مكلف.
(3) تفرد بها وضاع أو كذاب، وكبدع وأكاذيب وسخائف لأهل الخلاعة والبطالة، أو كتب كفر، لعدم احترامها.
(4) أي لباسه وهو ما حرم على الرجل إذا كسر، ولم يصلح للنساء، ولم تستعمله، وكما لو أتلف كتب سحر، أو صورًا أو حرق مخزن خمر ونحوه، لأمره صلى الله عليه وسلم بتحريق مسجد الضرار.(5/424)
باب الشفعة (1)
بإسكان الفاء (2) من الشفع وهو الزوج (3) لأن الشفيع بالشفعة يضم المبيع إلى ملكه الذي كان منفردًا (4) .
__________
(1) أي باب ذكر أحكام الشفعة، وهي ثابتة بالسنة والإجماع – شرعها تعالى سدًا لذريعة المفسدة المتعلقة بالشركة، قال ابن القيم: ومن محاسن الشريعة وعدلها، وقيامها بمصالح العباد، إتيانها بالشفعة، فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين مهما أمكن، ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب، رفع هذا الضرر بالقسمة تارة، وبالشفعة تارة، فإذا أراد بيع نصيبه، وأخذ عوضه، كان شريكه أحق به من الأجنبي، ويزول عنه ضرر الشركة، ولا يتضرر البائع، لأنه يصل إلى حقه من الثمن، وكانت من أعظم العدل، وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر، ومصالح العباد.
ومن هنا يعلم أن التحيل لإسقاطها مناقض لهذا المعنى الذي قصده الشارع، ومضاد له، وكانت معروفة عند العرب في الجاهلية، كان الرجل إذا أراد بيع منزل أو حائط، أتاه الجار والشريك والصاحب يشفع إليه فيما باعه، فيشفعه ويجعله أولى رجل به، فسميت الشفعة وسمي طالبها شافعا.
(2) لا غير، وضم الشين، اسم مصدر.
(3) خلاف الفرد، فالشفع خلاف الوتر.
(4) فصار شفعا، أو من الشفاعة أي الزيادة، لأن المبيع يزيد ملك الشفيع، أو لأن الرجل كان إذا أراد بيع داره أتاه جاره وشريكه – كما ذكر ابن القيم – يشفع إليه فيما باع، فشفعه وجعله أولى به، وقيل غير ذلك.(5/425)
(وهي استحقاق) الشريك (انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي) (1) كالبيع (2) والصلح والهبة بمعناه (3) فيأخذ الشفيع نصيب البائع (بثمنه الذي استقر عليه العقد) (4) .
__________
(1) أي والشفعة شرعا: استحقاق الشريك في ملك الرقبة انتزاع حصة شريكه، إذا انتقلت إلى غيره، من يد من انتقلت إليه بعوض مالي، وحكى ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك فيما بيع من أرض، أو دار، أو حائط ونحوه لم يقسم، واشترط بعض الأصحاب لثبوتها خمسة شروط، أن يكون بعوض مالي، وأن يكون للشفيع ملك سابق، وأن يكون مشاعًا، ومما تمكن قسمته، وأن يأخذه جميعه، وأن يطالب بها على الفور، قال الشيخ: ولا شفعة في بيع الخيار ما لم ينقض، قال القاضي: لأن أخذ الشفيع بالشفعة، يسقط حق البائع من الخيار، فلم يجز له المطالبة بالشفعة.
(2) فإن الشفعة إنما تثبت فيما كان بعقد البيع بالإجماع، لقوله «لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن باع ولم يستأذنه فهو أحق به» ولما روي «هو أحق به بالثمن» وغير ذلك؛ قال الموفق: ما كان عوضه المال، كالبيع، ففيه الشفعة بغير خلاف.
(3) أي والصلح عن إقرار بمال أو جناية توجبه، والهبة بعوض معلوم، بمعنى البيع، لأنها بيع في الحقيقة، يثبت فيها أحكام البيع، وهذا مذهب مالك، والشافعي وأصحاب الرأي.
(4) في الباطن، قال الشيخ: يجب على المشتري أن يسلم الشقص المشفوع بالثمن الذي تراضيا عليه في الباطن، إذا طالبه الشريك، وإذا حابا البائع المشتري بالثمن، محاباة خارجة عن العادة، يتوجه أن يكون للشفيع أن لا يأخذه إلا بالقيمة. وفي الإقناع وغيره: لو تعذر الثمن بتلف أو موت، دفع الشفيع إلى المشتري قيمة الشقص.(5/426)
لما روى أحمد والبخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم (1) فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة (2) (فإن انتقل) نصيب الشريك (بغير عوض) كالإرث (3) والهبة بغير ثواب، والوصية (4) (أو كان عوضه) غير مالي بأن جعل (صداقا أو خلعًا (5) أو صلحًا عن دم عمد فلا شفعة) (6) .
__________
(1) أي من الدور، والعقار، والبساتين، وهذا مجمع عليه إذا كان مما يقسم.
(2) أي فإذا حصلت قسمة الحدود في المبيع، واتضحت بالقسمة مواضعها، وصرفت الطرق – بضم الصاد وتشديد الراء – أي بينت مصارفها، فلا شفعة، أي بعد القسمة، لأن الأرض بعد القسمة صارت غير مشاعة؛ والحديث متفق على صحته. ولأبي داود من حديث أبي هريرة «إذا قسمت الدار وحدت، فلا شفعة فيها» .
(3) فلا شفعة فيه بلا نزاع.
(4) أي فلا شفعة، وكذا الصدقة، وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة وأصحاب الرأي؛ قال الموفق: لأنه انتقل بغير عوض، فأشبه الميراث، ولأن محل الوفاق هو البيع، والخبر ورد فيه، وليس غيره في معناه، ولأن غرض الواهب والموصي، نفع المتهب والموصى له، ولا يحصل مع انتقاله عنه.
(5) أي بأن جعل الشريك الشقص المبيع صداقا، أو جعله خلعا فلا شفعة، أو جعل عوض طلاق أو عتق ونحو ذلك.
(6) قاله الموفق وغيره، وهو ظاهر كلام الخرقي، وقول أصحاب الرأي، واختاره ابن المنذر.(5/427)
لأنه مملوك بغير مال أشبه الإرث (1) ولأن الخبر ورد في البيع، وهذه ليست في معناه (2) (ويحرم التحيل لإسقاطها) (3) .
__________
(1) ويمتنع أخذه بالقيمة، إذ ليس له عوض يمكن الأخذ به، وظاهره: ولو قصد التحيل على عدم الأخذ بالشفعة.
(2) أي البيع، لإمكان أخذ العوض به دونها، وقال ابن حامد وغيره: تجب فيه الشفعة؛ وهو قول مالك والشافعي، لأنه عقار مملوك بعقد معاوضة، أشبه البيع، والصحيح من المذهب الأول، وقاس بعضهم عليه ما أخذ أجرة أو ثمنًا في سلم أو عوضا في كتابة، ورده الحارثي، وصحح جريان الشفعة قولاً واحدًا، وصوبه في تصحيح الفروع.
(3) أي الشفعة، واتفق السلف على أن الحيل بدعة محضة، لا يجوز تقليد من يفتي بها، ويجب نقض حكمه؛ ومن احتال على تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه، وتعطيل ما شرعه، كان ساعيا في دين الله بالفساد. ولأن الشفعة وضعت لدفع الضرر؛ فلو سقطت بالتحيل للحق الضرر، وذلك كأن يقفه المشتري، أو يهبه حيلة، فلا تسقط عند أحد من الأئمة الأربعة. ولا غيرهم، ويغلط من يحكم به ممن ينتحل مذهب أحمد.
قال الشيخ: ولو أظهر صورة أن البيع باطل لأجل تخلف شرطه، بأن ادعى عدم الرؤية المعتبرة، ورد المبيع، ثم وقفه على المشتري حيلة فكله باطل، وحق الشفيع ثابت.
وقال ابن القيم: من له معرفة بالآثار، وأصول الفقه، ومسائله، ثم أنصف، لم يشك أن تقرير الإجماع من الصحابة، على تحريم الحيل وإبطالها، ومنافاتها للدين، أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك، مما يدعى فيه إجماعهم، بل أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها والمنع منها، ومضى على أثرهم أئمة الحديث والسنة.(5/428)
قال الإمام: لا يجوز شيء من الحيل في إبطالها، ولا إبطال حق مسلم (1) واستدل الأصحاب بما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» (2) .
__________
(1) قاله في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد سأله عن الحيلة في إبطال الشفعة. وقال ابن عمر – في هذه الحيل وأشباهها – من يخدع الله يخدعه، والحيلة خديعة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تحل الخديعة لمسلم» والله تعالى ذم المخادعين، والمتحيل مخادع.
(2) ومن حيلهم: نصبهم الشباك ونحوه يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وقعت فيه، ويقولون: ما اصطدنا يوم السبت. فمسخهم الله قردة وخنازير وقال {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ليتعظوا بذلك، فيجتنبوا مثل فعلهم. وقال صلى الله عليه وسلم «لعن الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم الشحوم، جملوها ثم باعوها، فأكلوا ثمنها» . والحيلة لإسقاط الشفعة: أن يظهر المتعاقدان في البيع شيئًا لا يؤخذ بالشفعة معه، ويتواطآن في الباطن على خلافه.
ومن صور ذلك ما ذكره الموفق، وابن القيم وغيرهما: أن يتفقا على مقدار الثمن، ثم عند العقد يصبره صبرة غير موزونه، فلا يعرف الشفيع ما يدفع، فله أن يستحلف المشتري، فإن نكل قضي عليه، فإن حلف أخذه بقيمته. ومنها أن يهب الشقص للمشتري، ثم يهبه ما يرضيه، فله الأخذ بقيمة الموهوب. ومنها أن يشتريه بألف دينار، ثم يصارفه عن كل دينار بدرهمين، وهذه لا تسقطها. ومنها أن يشتري بائع الشقص منه عبدًا قيمته مائة درهم، بألف في ذمته، ثم يبيعه الشقص بالألف، فله أخذه بقيمة العبد. ومنها أن يشتريه بألف، وهو يساوي مائة ثم يبريه من تسعمائة، أو يشتري جزءًا منه بالثمن كله، ثم يهب له بقيته، فيأخذ الشفيع الشقص بالثمن، أو يظهران أن الثمن مائة، والمدفوع عشرون، قال الشيخ: وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال على إسقاط الشفعة فهو باطل، ولا تغير حقائق العقود بتغير العبارة.(5/429)
(وتثبت) الشفعة (لشريك في أرض تجب قسمتها) (1) فلا شفعة في منقول، كسيف ونحوه (2) لأنه لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص (3) ولا فيما لا تجب قسمته، كحمام، ودور صغيرة ونحوها (4) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا شفعة في فناء، ولا طريق، ولا منقبة» رواه أبو عبيدة في الغريب (5) .
__________
(1) أي قسمة إجبار، قال الشيخ وغيره: باتفاق الأئمة، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «الشفعة فيما لم يقسم» .
(2) كجوهر، وحيوان، وسفينة، وزرع، وثمرة، لأنه لا يبقى على الدوام، ولا يدوم ضرره، وهذا مذهب الجمهور.
(3) يعني في قوله «إذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق» وقوله «قضى بالشفعة في كل شرك في أرض، أو ربع» وهو المنزل "أو حائط" وغير ذلك.
(4) كبئر، وطرق ضيقة لا تقبل القسمة.
(5) ورواه الخطابي في رؤوس المسائل.(5/430)
والمنقبة: طريق ضيق بين دارين، لا يمكن أن يسلكه أحد (1) (ويتبعها) أي الأرض (الغراس والبناء) (2) فتثبت الشفعة فيهما تبعا للأرض إذا بيعا معها (3) لا إن بيعا مفردين (4) (لا الثمرة والزرع) إذا بيعا مع الأرض، فلا يؤخذان بالشفعة (5) .
__________
(1) ولو أمكن قسمة الإجبار ونحوه وجبت الشفعة بلا نزاع، وقال الشيخ وغيره: الصواب، ثبوت الشفعة، ولو لم تمكن القسمة، لعموم الأخبار، وهو مذهب أبي حنيفة، واختيار أبي شريح وابن عقيل وغيرهما. ولأن الشفعة تثبت لإزالة ضرر المشاركة، والضرر. في هذا النوع أكثر، لأنه يتأبد ضرره. والله أعلم.
(2) إذ هي الأصل التي تبقى على الدوام، ويدوم ضرر الشركة فيها.
(3) قال الموفق وغيره: بغير خلاف في المذهب، ولا نعرف فيه بين من أثبت الشفعة خلافا، وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم، وقضاؤه بالشفعة في كل شرك لم يقسم، ربعة أو حائط، وهذا يدخل فيه البناء، والأشجار.
(4) أي الغراس والبناء، فلو باع المساقي نصيبه من الشجر، لغير صاحب الأرض لم تثبت لصاحب الأرض شفعة. قال أبو الخطاب وغيره: وعنه: تجب فيهما؛ وهو قول مالك، للعموم؛ واختاره الشيخ وغيره.
وظاهر كلام أهل اللغة أو صريحه: أن الغراس والبناء من العقار. ونص الأصمعي: العقار المنزل، والأرض والضياع. وعن الزجاج: كل ما له أصل. والنخل خاصة، يقال له عقار. وقال ابن مالك، المال الثابت كالأرض والشجر.
(5) أي مع الأرض، وهذا قول الشافعي.(5/431)
لأن ذلك لا يدخل في البيع، فلا يدخل في الشفعة، كقماش الدار (1) (فلا شفعة لجار) (2) لحديث جابر السابق (3) .
__________
(1) وقال أبو حنيفة ومالك: يؤخذ بالشفعة مع أصوله، وهو وجه للأصحاب لأنه متصل بما فيه الشفعة، فثبتت فيه الشفعة تبعًا، كالبناء والغراس.
(2) أما إن كان كل واحد من الشركاء، متميز ملكه وحقوق الملك، فلا شفعة إجماعًا.
(3) وهو قول صلى الله عليه وسلم «فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة» ومفهومه: أنه إذا وقعت الحدود، ولم تصرف الطرق، تثبت الشفعة؛ قال ابن القيم: وهو أصح الأقوال في شفعة الجوار؛ ومذهب أهل البصرة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، واختيار الشيخ وغيره. وللترمذي وصححه «جار الدار أحق بالدار» ولأبي داود «أحق بدار الجار أو الأرض» وللخمسة من حديث جابر، وحسنه الترمذي «الجار أحق بشفعة جاره، ينتظره بها وإن كان غائبًا، إذا كان طريقهما واحدًا» فمفهوم حديثه المتقدم، هو منطوق هذا الحديث، فأحدهما يصدق الآخر، ويوافقه.
قال الشيخ: تثبت شفعة الجوار، مع الشركة، في حق من حقوق الملك، من طريق وماء ونحو ذلك، نص عليه أحمد؛ واختاره ابن عقيل، وأبو محمد وغيرهم؛ وقال الحارثي: هذا الذي يتعين المصير إليه، وفيه جمع بين الأحاديث وذلك أن الجوار لا يكون مقتضيا للشفعة، إلا مع اتحاد الطريق ونحوه، لأن شرعية الشفعة لدفع الضرر، والضرر إنما يحصل في الأغلب مع المخالطة في الشيء المملوك، أو في طريقه ونحوه.
وقال ابن القيم: هذا القول الوسط بين الأدلة، الذي لا يحتمل سواه؛ فإذا كانا شريكين في طريق، أو ماء، ونحو ذلك، ثبتت الشفعة، ولو كان محدودًا، وعليه العمل.(5/432)
(وهي) أي الشفعة (على الفور وقت علمه (1) فإن لم يطلبها إذًا بلا عذر بطلت) (2) لقوله صلى الله عليه وسلم «الشفعة لمن واثبها» (3) وفي رواية «الشفعة كحل العقال» رواه ابن ماجه (4) فإن لم يعلم بالبيع فهو على شفعته ولو مضى سنون (5) .
__________
(1) بأن يشهد بالطلب بها، حين يعلم، إن لم يكن عذر، قال أحمد؛ الشفعة بالمواثبة ساعة يعلم.
(2) لفقد الشرط وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.
(3) أي بادرها، قال الموفق: رواه الفقهاء في كتبهم؛ ورده الحارثي، بأنه لا يعرف في كتب الحديث، ورواه عبد الرازق عن شريح.
(4) عن ابن عمر وسنده ضعيف، وقال بعضهم: واهٍ، ورواه ابن حزم، وزاد: فإن قيدها مكانه ثبت حقه، وإلا فاللوم عليه. وفي لفظ «الشفعة كنشط العقال، إن قيدت ثبتت، وإن تركت فاللوم على من تركها» ولأنها لدفع الضرر عن المال، فكانت على الفور، ولأنه إذا كان وجه شرعيتها لدفع الضرر ناسبت الفورية، ولأن التراخي يضر المشتري، لكونه لا يستقر في ملكه المبيع، ويمنعه من التصرف.
(5) وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا كان الشفيع غائبًا فله إذا قدم المطالبة بالشفعة، ولو تناول المبيع جماعة، لقوله «ينتظره بها وإن كان غائبا» ولعموم «الشفعة فيما لم يقسم» وغيره من الأحاديث، ولأنها حق مالي وجد سببه بالنسبة إلى الغائب، فتعينت له كالإرث، ولأنه شريك، لم يعلم بالبيع، فثبتت له الشفعة عندها، كالحاضر إذا كتم عنه البيع، وكذا الصغير إذا كبر، فللطبراني عن جابر مرفوعًا «الصبي على شفعته حتى يدرك، فإذا أدرك فإن شاء أخذ وإن شاء ترك» .
قال الموفق وغيره: يلزم وليه الأخذ بالشفعة إذا كان للصبي حظ في الأخذ بها
لأن عليه الاحتياط له، وإذا أخذ بها، ثبت الملك للصبي، ولم يملك نقضه بعد البلوغ، وهذا قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وإن تركها الولي، وللصبي فيها حظ، فله الأخذ بها إذا كبر، وإن تركها لعدم الحظ سقطت، اختاره الشيخ، وعليه الأكثر.(5/433)
وكذا لو أخر لعذر (1) بأن علم ليلا فأخره إلى الصباح (2) أو لحاجة أكل أو شرب (3) أو طهارة، أو إغلاق باب (4) أو خروج من حمام (5) أو ليأتي بالصلاة وسننها (6) .
__________
(1) أي فهو على شفعته، إذ هو مبادر لها حكما.
(2) أي بأن علم الشفيع بالبيع ليلا، فأخر الطلب بالشفعة إلى الصباح، مع غيبة مشتر عنه.
(3) أي أو أخر الطلب بها، لحاجة أكل أو شرب، حتى يأكل أو يشرب، وهذا مع غيبة مشتر.
(4) أي أو أخر الطالب لطهارة من حدث مع غيبة مشتر، أو قضاء حاجة، من بول أو غائط، أو أخر لإغلاق باب مفتوح، مع غيبة مشتر.
(5) إذا علم وهو داخل الحمام، أو أخر ليلتمس ما سقط منه، ونحو ذلك، والمشتري غائب.
(6) أو ليشهدها في جماعة يخاف فوتها ونحوه بطلبها، فأخر الطلب مع غيبة مشتر، فهو على شفعته في جميع هذه الصور ونحوها، لأن العادة تقديم هذه الحوائج ونحوها على غيرها، فلا يكون الاشتغال بها رضى بترك الشفعة، وإذا فرغ من حوائجه مضى على حسب عادته إلى المشتري، ليطالبه بالشفعة، فإن كان المشتري حاضرًا عنده في هذه الأحوال، سقطت شفعته بتأخيره، لأنه مع حضوره يمكنه مطالبته، من غير اشتغال عن أشغاله، إلا الصلاة، وليس عليه تخفيفها.(5/434)
وإن علم وهو غائب أشهد على الطلب بها إن قدر (1) (وإن قال) الشفيع (للمشتري بعني) ما اشتريت (2) (أو صالحني) سقطت لفوات الفور (3) (أو كذب العدل) المخبر له بالبيع سقطت، لتراخيه عن الأخذ بلا عذر (4) فإن كذب فاسقا لم تسقط، لأنه لم يعلم الحال على وجهه (5) (أو طلب) الشفيع (أخذ البعض) أي بعض الحصة المبيعة (سقطت) شفعته (6) .
__________
(1) وتثبت شفعته، لأن إشهاده بها دليل رغبته، وأنه لا مانع له منه إلا قيام العذر، ومثل الغائب مريض ومحبوس، ومن لا يجد من يشهده ونحوه، فإن لم يشهد سقطت.
(2) بطلت شفعته، هذا المذهب، لأنه يدل على رضاه بشرائه، وتركه الشفعة، وكذا إذا قال: أكرني. أو قال: أجرني.
(3) ولأنه رضي بتركها وطلب عوضها، ولأن ترك المطالبة بها كاف في سقوطها، فمع طلب عوضها أولى؛ والمراد إذا قاله قبل أن يشفع، فأما لو شفع على الفور، ثم قال: صالحني، ونحوه، لم تسقط.
(4) هذا المذهب، ومذهب الشافعي، وقول الأكثر، لأن الخبر لا تعتبر فيه الشهادة، فقبل من العدل كالرواية، والفتيا، وسائر الأخبار الدينية؛ والمرأة في ذلك كالرجل.
(5) ولأنه خبر لا يقبل في الشرع، أشبه قول الطفل والمجنون، وإن أخبره مخبر فصدقه، ولم يطالب بالشفعة – سواء كان المخبر ممن يقبل خبره أو لا – بطلت شفعته، لأن العلم قد يحصل بخبر من لا يقبل خبره، لقرائن دالة على صدقه.
(6) هذا الصحيح من المذهب، وقول محمد بن الحسن، وبعض أصحاب الشافعي.(5/435)
لأن فيه إضرارًا بالمشتري بتبعيض الصفقة عليه (1) والضرر لا يزال بمثله (2) ولا تسقط الشفعة إن عمل الشفيع دلالاً بينهما (3) أو توكل لأحدهما (4) أو أسقطها قبل البيع (5) .
__________
(1) أي بأخذ بعض المبيع، مع أن الشفعة دفع لضرر الشركة، فإذا أخذ البعض، لم يندفع الضرر.
(2) أي بالضرر، ولأن طلب بعضها ليس بطلب جميعها، وما لا يتبعض لا يثبت حتى يثبت السبب في جميعه، وحق الأخذ إذا سقط بالترك في البعض سقط في الكل، كعفوه عن بعض قود يستحقه.
(3) أي بين البائع والمشتري وهو السفير، فإذا بيع الشقص وتم العقد شفع، لأنه يصدق عليه أنه واثبها.
(4) أي البائع والمشتري، ويشفع إذا تم العقد، لم تسقط شفعته قولاً واحدًا، وكذا لو ضمن للبائع ثمنه، لأن ذلك سبب لثبوت الشفعة، فلا تسقط به إذا بادرها من حين تمام العقد، ولأن المسقط لها الرضى بتركها بعد وجوبها.
(5) لم تسقط، هذا المذهب، ومذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة وغيرهم، لأنه إسقاط حق قبل وجوبه فلم يصح، وعن أحمد: ما يدل على أن الشفعة تسقط بذلك، فإن قيل له: ما معنى قوله «فليعرضها عليه» وقوله «لا يحل له إلا أن يعرضها عليه» وأنه يحرم عليه البيع قبل أن يعرض عليه؟ فقال: ما هو ببعيد من أن يكون على ذلك، وأن لا تكون له شفعة، وهو قول طائفة من أهل الحديث، وقال ابن المنذر: محال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم «وإن شاء ترك» فلا يكون لتركه معنى، ولأن مفهوم قوله «فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به» أنه إذا باعه بإذنه فلا حق له.
وقال ابن القيم: إسقاط الشفعة قبل البيع إسقاط لحق كان موطن الثبوت رضى صاحبها بإسقاطها، وأن لا يكون البيع سببًا لأخذه بها، فالحق له، وقد أسقطه، وقد دل النص على سقوطها. وقال أيضًا: وإن أذن في البيع، وقال: لا غرض لي فيه. لم يكن له الطلب بعد البيع، وهذا مقتضى حكم الشرع، ولا معارض له بوجه، وهو الصواب المقطوع به، وفي حاشية المقنع: وهو الحق الذي لا ريب فيه. فالله أعلم.(5/436)
(والشفعة لـ) شريكين (اثنين بقدر حقيهما) (1) لأنها حق يستفاد بسبب الملك، فكانت على قدر الأملاك (2) فدار بين ثلاثة، نصف، وثلث، وسدس، فباع رب الثلث، فالمسألة من ستة، والثلث يقسم على أربعة، لصاحب النصف ثلاثة، ولصاحب السدس واحد (3) (فإن عفا أحدهما) أي أحد الشفيعين (أخذ الآخر الكل أو ترك) الكل (4) .
__________
(1) يقسم بينهما على قدر ملكيهما، وإن كانوا أكثر قسم بينهم على قدر أملاكهم قال الحارثي: المذهب عند الأصحاب جميعا تفاوت الشفعة بتفاوت الحصص، وهو مذهب مالك وأحد قولي الشافعي.
(2) فيما منه المبيع كالغلة.
(3) وإن باع رب النصف، فالمسألة من ثلاثة، لصاحب الثلث سهمان، ولصاحب السدس سهم، وإن باع رب السدس، فالمسألة من خمسة، لصحاب النصف ثلاثة، ولصاحب الثلث سهمان.
(4) حكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ قوله، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي.(5/437)
لأن في أخذ البعض إضرارًا بالمشتري (1) ولو وهبها لشريكه أو غيره لم يصح (2) وإن كان أحدهما غائبًا، فليس للحاضر أن يأخذ إلا الكل أو يترك (3) فإن أخذ الكل ثم حضر الغائب قاسمه (4) (وإن اشترى اثنان حق واحد) فللشفيع أخذ حق أحدهما (5) لأن العقد مع اثنين بمنزلة عقدين (6) (أو عكسه) بأن اشترى واحد حق اثنين صفقة (7) .
__________
(1) يعني بتبعيض الصفقة عليه، ولا يزال الضرر بالضرر.
(2) أي الهبة، وسقطت الشفعة، لأن ذلك دليل إعراضه عنها.
(3) أي كل المبيع، دفعا لتبعيض الصفقة على المشتري، فإن امتنع حتى يحضر صاحبه بطل حقه، أو قال: آخذ قدر حقي بطل حقه.
(4) إن شاء أو عفا، فبقي الشقص للأول، وإن تقاسما، ثم حضر ثالث قاسمهما إن أحب، وبطلت القسمة الأولى، وإن عفا بقي للأولين، وإن كان مشتري الشقص شريكا، أخذ بحصته، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، فإن عفا ليلزم به غيره، لم يلزمه أخذ جميعه، ولم يصح الإسقاط، لاستقرار ملكه على قدر حقه.
(5) وهذا مذهب الجمهور: مالك والشافعي، وأبي حنيفة في إحدى الروايتين، وكذا لو اشترى ثلاثة حق واحد، دفعة واحدة، فللشريك أن يأخذ حق أحدهم.
(6) وكذا العقد مع ثلاثة فأكثر لأن كل عقد منها منفرد، وله أن يأخذ نصيبهم، وإن باع اثنان من اثنين، فهي أربعة عقود، للشفيع الأخذ بالكل، وبما شاء.
(7) أو اشترى شقصين من دارين، صفقة واحدة.(5/438)
فللشفيع أخذ أحدهما (1) لأن تعدد البائع كتعدد المشتري (2) (أو اشترى واحد شقصين) بكسر الشين أي حصتين (من أرضين صفقة واحدة (3) فللشفيع أخذ أحدهما) (4) لأن الضرر قد يلحقه بأرض دون أرض (5) (وإن باع شقصا وسيفا) في عقد واحد (6) فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن (7) .
__________
(1) وله تركهما، وإن كان الشريك في أحدهما غير الشريك في الآخر، فلهما أن يأخذا ويقسما الثمن، على قدر القيمتين. وإن أخذ أحدهما، دون الآخر جاز، ويأخذ شقص الذي في شركته بحصته من الثمن.
(2) أي وتعدد البائع في بيع سهم واحد، كتعدد المشتري في شراء سهم واحد لا فرق، لأن للشفيع أخذ نصيب أحدهما، وهذا أحد الوجهين في مذهب الشافعي، لأن عقد الاثنين مع واحد عقدان، وكذا لو اشترى الواحد لنفسه ولغيره بوكالة أو ولاية، فللشفيع أخذ أحدهما، وإن شاء أخذهما.
(3) والشريك واحد، وكذا لو اشترى سهاما من حصص.
(4) أي أحد الشقصين أو أحد السهام، لأن كلا من السهمين أو السهام مستحق بسبب غير الآخر، فجرى مجرى الشريكين أو الشركاء.
(5) والحكم هنا منوط بالمظنة، ولأنه لو جرى مجرى الشقص الواحد، لوجب إذا كانا شريكين فترك أحدهما شفعته أن يكون للآخر أخذ الكل، والأمر بخلافه.
(6) أو شقصا وثوبا، أو شقصا وفرسا، أو شقصا وخاتما، ونحو ذلك، في عقد واحد، بثمن واحد.
(7) دون ما معه من سيف أو غيره. لأن ذلك لا شفعة فيه، ولا هو تابع لما فيه الشفعة. فيقسم الثمن على قدر قيمتهم. فما يخص الشقص يأخذ به الشفيع.
قال ابن القيم: والذي يرجع به عند الاستحقاق، هو الذي يدفعه الشفيع، عند الأخذ، هذا العدل الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله، ولو اشترى بائع الشقص عبدا، قيمته مائة بألف، ثم يبيعه بالألف، فلا تبطل الشفعة، ويأخذ الشفيع بالثمن الذي يرجع به المشتري على البائع إذا استحق المبيع، وهو قيمة العبد.(5/439)
لأنه تجب فيه الشفعة إذا بيع منفردًا، فكذا إذا بيع مع غيره (1) (أو تلف بعض المبيع، فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن) (2) لأنه تعذر أخذ الكل، فجاز له أخذ الباقي (3) كما لو أتلفه آدمي (4) فلو اشترى داراً بألف تساوي ألفين، فباع بابها (5) أو هدمها فبقيت بألف، أخذها الشفيع بخمسمائة (6) .
__________
(1) والعقد في ذلك بمثابة عقدين، لتعدد المبيع، ولأن في الأخذ بالكل، إضرارًا بالمشتري، فلربما كان غرضه في إبقاء السيف ونحوه له.
(2) ظاهره: سواء تلف بعض المبيع بفعل الله تعالى، أو بفعل آدمي، وسواء تلف باختيار المشتري، كنقضه البناء، أو بغير اختياره، مثل أن انهدم، وهذا المذهب، عند الموفق وغيره، ومذهب الشافعي، وإن نقصت القيمة مع بقاء صورة المبيع، فليس للشفيع إلا أن يأخذه بجميع الثمن، أو يترك.
(3) أي بحصته من الثمن، وكما لو كان معه سيف ونحوه.
(4) فإنه يأخذه بحصته من الثمن، قولا واحدًا، لرجوع بدله إلى المشتري.
(5) أي بألف، فبقيت الدار بألف، أخذها الشفيع بخمسمائة.
(6) بالقيمة من الثمن، والمراد بقوله: اشترى دارا. أي شقصا من دار، من إطلاق الكل على البعض، ويتصور أن تكون الشفعة في دار كاملة، بأن تكون دور جماعة مشتركة، فيبيع أحدهم حصته من الجميع مشاعا، ويقاسم بالمهاياة، فيحصل للمشتري دار كاملة، ونحو ذلك.(5/440)
(ولا شفعة بشركة وقف) (1) لأنه لا يؤخذ بالشفعة فلا تجب به (2) ولأن مستحقه غير تام الملك (3) (ولا) شفعة أيضًا بـ (غير ملك) للرقبة (سابق) (4) بأن كان شريكا في المنفعة، كالموصى له بها (5) أو ملك الشريكان دارا صفقة واحدة (6) فلا شفعة لأحدهما على الآخر، لعدم الضرر (7) .
__________
(1) فلو كانت أرض بين اثنين بعضها وقف، وبعضها طلق، فلا شفعة لصاحب الوقف على صاحب الطلق، وسواء كان الشريك في الوقف، فخرب وأبيع، أو ملكه طلق.
(2) أي الشفعة، كالمجاور، ومالا ينقسم، والموقوف عليه غير مالك.
(3) هذا إن قيل: هو مملوك، لأن ملكه لا يبيح إباحة التصرف في الرقبة، فلا يملك به ملكا تامًا، فيقال: إنما لم يستحق بالشفعة، لأن الأخذ بها بيع، وهو مما لا يجوز بيعه.
(4) للبيع، قولا واحدًا، لأن الشفعة إنما تثبت للشريك، لدفع الضرر عنه، وإذا لم يكن له ملك مشترك، فلا ضرر عليه، فلا تثبت له الشفعة.
(5) أي بالمنفعة في نحو دار، فباع الورثة، فلا شفعة للموصى له بالمنفعة، لأنها لا تؤخذ بالشفعة، فلا تجب بها كالوقف.
(6) لم يسبق ملك أحدهما على الآخر.
(7) لاستوائهما في المبيع في زمن واحد، فلا مزية لأحدهما على الآخر، وإن ادعى كل منهما السبق فتحالفا، أو تعارضت بينتاهما، فلا شفعة لأحدهما على الآخر.(5/441)
(ولا) شفعة (لكافر على مسلم) (1) لأن الإسلام يعلو ولا يعلى (2) .
__________
(1) هذا المذهب، لما روى الدارقطني في "كتاب العلل" عن أنس مرفوعًا «لا شفعة لنصراني» قال ابن القيم: احتج به بعض الأصحاب، وهو من كلام بعض التابعين.
(2) وهو معنى يختص العقار، فأشبه الاستعلاء في البنيان، وأكثر الفقهاء يثبتونها للعموم، فيجعلونها من حقوق الأملاك، لا من حقوق الملاك، وخبر أنس يخص عمومها، وليس الكافر في معنى المسلم، وقال الموفق وغيره: إنما ثبتت الشفعة للمسلم دفعا للضرر عن ملكه، وقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري، ولا يلزم من تقديم دفع ضرر المسلم على المسلم تقديم ضرر الذمي، فإن حق المسلم أرجح ورعايته أولى، وتثبت للمسلم على الذمي للعموم. بل هو أولى، وتثبت للذمي على الذمي، لتساويهما في الدين، ولا خلاف في ذلك.(5/442)
فصل (1)
(وإن تصرف مشتريه) أي مشتري شقص ثبتت فيه الشفعة (بوقفه (2) أو هبته، أو رهنه) أو صدقة به (3) (لا بوصية سقطت الشفعة) (4) لما فيه من الإضرار بالموقوف عليه، والموهوب له ونحوه (5) لأنه ملكه بغير عوض (6) .
__________
(1) أي في حكم تصرف المشتري في المبيع، ونمائه، وثمنه، وعهدته، وغير ذلك.
(2) قبل طلب الشفيع، سقطت شفعته، نص عليه، واختاره الشيخ وغيره.
(3) أي أو تصرف مشتري الشقص قبل طلب الشفيع بهبته سقطت، وظاهره: ولو لم تقبض، وكانت بغير عوض، أو تصرف مشتريه برهنه سقطت، وهو أحد الوجهين، والصدقة به كالوقف، وفي الإقناع: وإن تصرف المشتري في المبيع قبل الطلب بوقف على معين أو لا، أو هبة، أو صدقة سقطت الشفعة، لا برهنه وإجارته.
(4) وكذا بما لا تجب به شفعة ابتداء، كجعله مهرا، أو عوضا في خلع، أو صلحا عن دم عمد، كما تقدم.
(5) كالمتصدق عليه.
(6) ويزول عنه ملكه بغير عوض، والثمن إنما يأخذه المشتري، والضرر لا يزال بالضرر.(5/443)
ولا تسقط الشفعة بمجرد الوصية به، قبل قبول الموصى له، بعد موت الموصي، لعدم لزوم الوصية (1) (و) إن تصرف المشتري فيه (ببيع (2) فله) أي للشفيع (أخذه بأحد البيعين) (3) لأن سبب الشفعة الشراء، وقد وجد في كل منهما (4) .
__________
(1) وتبطل بأخذ الشفيع، ويستقر الأخذ له، لسبق حقه على حق الموصى له، ويدفع الثمن إلى الورثة، وإن كان الموصى له قبل أخذ الشفيع، أو طلبه سقطت، لأن في الشفعة إضرارًا بالموصى له، لزوال ملكه عنه بغير عوض، ومذهب مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي ثبوت الشفعة فيما تقدم، لأن حق الشفيع أسبق، وجنبته أقوى، فلم يملك المشتري تصرفًا يبطل حقه، والمفتى به إذا كان الوقف صحيحا سقطت الشفعة، كما نص عليه أحمد، واختاره الشيخ، وأنها لا تسقط فيما سواه.
وقال ابن القيم: من الحيل المحرمة أن يحتال على الشفعة، فيهب الشقص للمشتري، ثم يهبه المشتري ما يرضيه، وهذا لا يسقط الشفعة، بل هذا بيع وإن تلفظ بالهبة، وما ذكره في رهن الشقص أحد الوجهين، والوجه الثاني: لا تسقط الشفعة به. وهو المذهب وينفسخ الرهن بأخذ الشفيع.
(2) يعني قبل طلب الشفيع، أو قبل علمه، لأنه ملكه.
(3) أي فللشفيع الخيار، إن شاء فسخ البيع الثاني، وأخذه بالبيع الأول بثمنه، لأن الشفعة وجبت له قبل تصرف المشتري، وإن شاء أمضى تصرفه، وأخذ بالشفعة من المشتري الثاني.
(4) أي وجد السبب في الشراء الأول، وفي الشراء الثاني، فله الأخذ بأحدهما.(5/444)
ولأنه شفيع في العقدين (1) فإن أخذ بالأول رجع الثاني على بائعه بما دفع له، لأن العوض لم يسلم له (2) وإن أجره فللشفيع أخذه، وتفسخ به الإجارة (3) هذا كله إن كان التصرف قبل الطلب (4) لأنه ملك المشتري (5) وثبوت حق التملك للشفيع لا يمنع من تصرفه (6) وأما تصرفه بعد الطلب فباطل (7) لأنه ملك الشفيع إذًا (8) .
__________
(1) أي فاستويا في جواز أخذه بأيهما شاء.
(2) أي لم يسلم الشقص للمشتري الثاني، وإن تبايع ذلك ثلاثة، فله أن يأخذ بالبيع الأول، وينفسخ العقدان الآخران، وله أن يأخذ بالثاني، وينفسخ الثالث وحده، وله أن يأخذ بالثالث، ولا ينفسخ شيء من العقود.
(3) أي بالأخذ بالشفعة، واستظهر ابن رجب: الخيار للشفيع بين فسخ الإجارة وتركها. وذكره ظاهر كلام القاضي.
(4) أي كل ما تقدم من: حكم تصرف المشتري في الشقص المبيع بوقف، أو هبة، أو بيع، ونحو ذلك، إن كان قبل الطلب بالشفعة.
(5) أي لأن الشقص المبيع ملك المشتري، فصح تصرفه، وصح قبضه له، ولم يبق إلا أن الشفيع ملك أن يتملكه عليه.
(6) كما لو كان أحد العوضين في المبيع معينا، لم يمنع التصرف في الآخر، والموهوب له يجوز له التصرف في الهبة، وإن كان الواهب ممن له الرجوع فيه.
(7) مطلقًا، جزم به في الفروع وغيره، ويحرم عليه تصرفه بعده.
(8) لانتقاله إليه بالطلب، في الأصح أو الحجر عليه لحق الشفيع على مقابله، لا بنهيه عن التصرف بدون طلب، وتسقط لتراخيه، واقتصر عليه ابن رجب.(5/445)
(وللمشتري الغلة) الحاصلة قبل الأخذ (1) (و) له أيضًا (النماء المنفصل) (2) لأنه من ملكه، والخراج بالضمان (3) (و) له أيضًا (الزرع والثمرة الظاهرة) أي المؤبرة (4) لأنه ملكه، ويبقى إلى الحصاد والجذاذ، لأن ضرره لا يبقى (5) ولا أجرة عليه (6) وعلم منه أن النماء المتصل، كالشجر إذا كبر (7) .
__________
(1) أي بالشفعة كأجرة وثمرة، وليس للشفيع مطالبته بردها.
(2) كولد الدابة الحاصل قبل الأخذ بالشفعة.
(3) أي لأن الغلة الحاصلة قبل الأخذ، والنماء المنفصل قبله ملك للمشتري، وفي الحديث «الخراج بالضمان» أي مستحق به.
(4) وعبر بعضهم بثمر ظهر، أو طلع أبر ونحوه، فالزرع والثمر، والطلع المؤبر ونحوه للمشتري، دون الشفيع، ولو كان الطلع موجودًا حال الشراء غير مؤبر، ثم أبر عند المشتري، فهو له أيضًا.
(5) فجاز إبقاؤه، ولأن أخذه بمنزلة بيع ثان.
(6) أي ولا أجرة للشفيع على المشتري مدة بقائه في أرضه أو على شجره إلى أوان أخذه، ويأخذ الأرض والنخل بحصتهما من الثمن، لفوات بعض ما شمله العقد.
وقيل: تجب في الزرع الأجرة من حين أخذه الشفيع، واستظهره ابن رجب، وصوبه في الإنصاف.
(7) فإنه يأخذه الشفيع بزيادته.(5/446)
والطالع إذا لم يؤبر، يتبع في الأخذ بالشفعة، كالرد بالعيب (1) (فإن بنى) المشتري (أَو غرس) في حال يعذر فيه الشريك بالتأخير (2) بأن قاسم المشتري وكيل الشفيع (3) أو رفع الأمر للحاكم فقاسمه (4) أو قاسم الشفيع لإظهاره زيادة في الثمن ونحوه (5) ثم غرس أو بنى (6) (فللشفيع تملكه بقيمته) دفعا للضرر (7) فتقوم الأرض مغروسة أو مبنية، ثم تقوم خالية منهما (8) .
__________
(1) أي كما يتبع النماء المتصل في الرد بالعيب، والخيار، والإقالة، فيأخذ الشفيع الشقص بنمائه المتصل، لتبعيته له وعدم تميزه.
(2) أي عن الأخذ بالشفعة، لغيبة أو صغر أو غير ذلك، ولم تسقط شفعته لما أظهره المشتري.
(3) يعني في غيبة الشفيع.
(4) أي قاسم المشتري لغيبة الشفيع أو صغره، ثم قدم الغائب، وبلغ الصغير، لم تسقط الشفعة، لأن ترك الشفيع الطلب بها ليس لإعراضه عنها.
(5) كإظهاره أن الشقص موقوف عليه، أو موهوب له، أو أن الشراء لغيره، فترك الشفعة لذلك.
(6) أي فيما ظهر له في القسمة.
(7) أي فللشفيع تملك الغراس والبناء إذا علم الحال بقيمته حين تقويمه، لا بما أنفق المشتري، دفعا للضرر اللاحق بالقلع ونحوه، وهذا مذهب مالك والشافعي.
(8) أي من الغراس والبناء.(5/447)
فما بينهما فهو قيمة الغراس والبناء (1) (و) للشفيع (قلعة ويغرم نقصه) أي ما نقص من قيمته بالقلع، لزوال الضرر به (2) فإن أبى فلا شفعة (3) (ولربه) أي رب الغراس والبناء (أخذه) ولو اختار الشفيع تملكه بقيمته (4) (بلا ضرر) يلحق الأرض بأخذه (5) وكذا مع ضرر، كما في المنتهى وغيره (6) .
__________
(1) لأن ذلك هو الذي زاد بالغراس، أو البناء، فيملك الشفيع الغراس أو البناء بما بين القيمتين إن أحب ذلك، وإن حفر بئرا أخذها وله أجرة مثلها.
(2) أي بالقلع، فتقوم الأرض مغروسة أو مبنية وخالية منهما، فما نقص من القيمة به ضمنه. وكذا إن غرس المشتري أو بنى مع الشفيع أو وكيله في المشاع ثم أخذه الشفيع، وليس للشفيع إجبار المشتري على القلع.
(3) أي فإن أبى الشفيع عن دفع غرامة ما نقص بالقلع فلا شفعة له، لأنه مضار، قال الموفق وغيره: وإن لم يختر المشتري القلع فللشفيع الخيار بين ترك الشفعة، وبين دفع قيمة الغراس والبناء، فيملكه مع الأرض، وبين قلع الغراس والبناء ويضمن له ما نقص بالقلع، وهو قول مالك، والشافعي وغيرهما.
(4) لأنه ملك المشتري، ولا يضمن ما نقص بقلع غراسه أو بنائه، لانتفاء عدوانه، وليس عليه تسوية الحفر، وهو مذهب الشافعي.
(5) أي أخذ الغراس أو البناء.
(6) كالإقناع، وعبارتهما، ولو مع ضرر. أي يلحق الأرض، لأنه تخليص عين ماله مما كان حين الوضع في ملكه.(5/448)
لأنه ملكه، والضرر لا يزال بالضرر (1) (وإن مات الشفيع قبل الطلب بطلت) الشفعة (2) لأنه نوع خيار للتمليك، أشبه خيار القبول (3) (و) إن مات (بعده) أي بعد الطلب ثبتت (لوارثه) (4) لأن الحق قد تقرر بالطلب (5) ولذلك لا تسقط بتأخير الأخذ بعده (6) (ويأخذ) الشفيع الشقص (بكل الثمن) الذي استقر عليه العقد (7) .
__________
(1) أي لأن الغراس والبناء ملك المشتري، فله قلعه، والضرر الحاصل على الشفيع بقلعه، لا يزال بالضرر الحاصل على المشتري بتملك غرسه وبنائه بغير اختياره.
(2) أي وإن مات الشفيع قبل الطلب بالشفعة مع القدرة، أو الإشهاد مع العذر بطلت الشفعة، وهذا مذهب أصحاب الرأي، واختاره الموفق وغيره.
(3) فإنه لو مات من يريد القبول بعد إيجاب صاحبه، لم يقم وارثه مقامه في القبول، ولأنا لا نعلم بقاءه على الشفعة، وقال أحمد: الموت يبطل الشفعة.
(4) قولا واحدًا، وتكون لورثته كلهم، على قدر إرثهم، وليس لهم إلا أخذ الكل أو تركه، وإن ترك بعضهم توفر للباقين.
(5) أي بطلب مورثهم لها قبل موته.
(6) أي بعد الطلب بالشفعة كما سيأتي.
(7) أي ويأخذ الشفيع الشقص المشفوع بلا حكم حاكم، بكل الثمن الذي استقر عليه العقد وقت لزومه، قدرًا، وجنسا، وصفة.(5/449)
لحديث جابر: «فهو أحق به بالثمن» ، رواه أبو إسحاق الجوزجاني في المترجم (1) (فإن عجز عن) الثمن أو (بعضه سقطت شفعته) (2) لأن في أخذه بدون دفع كل الثمن إضرارا بالمشتري (3) والضرر لا يزال بالضرر (4) وإن أحضر رهنا أو كفيلا لم يلزم المشتري قبوله (5) وكذا لا يلزمه قبول عوض عن الثمن (6) .
__________
(1) قال ابن القيم: إن الشفيع يأخذ بالثمن الذي يرجع به المشتري على البائع إذا استحق المبيع. ولأن الشفيع إنما يستحق الشقص بالبيع، فكان مستحقًا له بالعوض الثابت به، لا بالقيمة، فيدفع مثل مثلي، وقيمة متقوم، وأبو إسحاق الجوزجاني، هو: إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي نسبته إلى جوزجان من كوربلخ بخراسان، مات بدمشق سنة 229هـ؛ والمترجم من مصنفاته فيه علوم غزيرة وفوائد كثيرة.
(2) أي وإن عجز شفيع عن ثمن الشقص المشفوع بعد الإنظار كما يأتي، أو عن بعض ثمنه، سقطت شفعته بلا حكم حاكم، لتعذر وصول المشتري إلى الثمن.
(3) والشفعة شرعت لدفع الضرر، فلا تثبت معه.
(4) أي ضرر الشفيع لا يزال بالضرر الحاصل على المشتري، بتسليمه الشقص بدون كل الثمن أو بعضه.
(5) لأن عليه ضررًا في تأخير الثمن، فلم يلزم المشتري ذلك، كما لو أراد تأخير ثمن حال.
(6) لأنها معاوضة، فلم يجبر عليها، والأخذ بالشفعة نوع بيع، إلا أنه
لا خيار فيه، ويعتبر العلم بالشقص، وبالثمن، وله المطالبة بها مع الجهالة، ثم يتعرف مقدار الثمن والمبيع.(5/450)
وللمشتري حبسه على ثمنه، قاله في الترغيب وغيره (1) لأن الشفعة قهر، والبيع عن رضا (2) ويمهل إن تعذر في الحال ثلاثة أيام (3) (و) الثمن (المؤجل يأخذ) الشفيع (الملي به) (4) لأن الشفيع يستحق الأخذ بقدر الثمن (5) وصفته، والتأجيل من صفته (6) (وضده) أي ضد المليء وهو المعسر (7) يأخذه إذا كان الثمن مؤجلا (بكفيل مليء) دفعا للضرر (8) .
__________
(1) وكذا قال الموفق وغيره، ولا يلزم المشتري تسليم الشقص للشفيع حتى يسلمه الثمن.
(2) ففرق بينه وبين البيع لقوته، وأما التسليم بالشفعة فمثل التسليم بالبيع.
(3) بلياليها، وعنه: بحسب رأي الحاكم، وهو مذهب مالك، وصوبه في الإنصاف، وقبل المطالبة بالثمن لا تسقط ولو أكثر من ثلاث.
(4) وهو مذهب مالك، ورواية عن الشافعي.
(5) فهو تابع للمشتري فيه، وفي الحلول زيادة على التأجيل، فلم يلزم الشفيع، كزيادة القدر.
(6) فلا يلزمه إلا ما لزم المشتري صفة، كقدر وجنس.
(7) أي المفتقر الذي لا يقدر على الأداء.
(8) أي ضرر المشتري، وإنما اعتبرت الملاءة في الشفيع أو في الضامن، لحفظ حق المشتري.(5/451)
وإن لم يعلم الشفيع حتى حل فهو كالحال (1) (ويقبل في الخلف) في قدر الثمن (مع عدم البينة) لواحد منهما (قول المشتري) مع يمينه (2) لأنه العاقد، فهو أعلم بالثمن (3) والشفيع ليس بغارم، لأنه لا شيء عليه، وإنما يريد تملك الشقص بثمنه (4) بخلاف الغاصب، ونحوه (5) (فإن قال) المشتري (اشتريته بألف. أخذ الشفيع به) أي بالألف (ولو أثبت البائع) أن البيع بـ (أكثر) من الألف، مؤاخذة للمشتري بإقراره (6) .
__________
(1) أي فهو كالثمن الحال ابتداء.
(2) ويصدق أيضًا في جهل بقدر الثمن، ولا تسقط إن فعله تحيلاً.
(3) ولأن الشقص ملكه، فلا ينزع عنه بالدعوى بغير بينة، وهو مذهب الشافعي.
(4) فلا يقبل قوله بدون بينة.
(5) أي كالمتلف والمعتق لأنه غارم، ومنكر للزيادة، فقبل قوله، وإن كان للشفيع بينة حكم له بها، أو كان للمشتري بينة حكم له بها واستغني عن يمينه، ويثبت ذلك بشاهد ويمين، وشهادة رجل وامرأتين، وإن أقام كل منهما بينة قدمت بينة الشافع، لأنها بمنزلة بينة الخارج، وهذا مذهب أبي حنيفة، قال الموفق: ويحتمل أن يقرع بينهما، ولا تقبل شهادة البائع لواحد منهما.
(6) فلم يستحق أكثر منه، ولأن دعوى المشتري تتضمن دعوى كذب البينة، وأن البائع ظلمه فيما زاد على الألف، فلا يحكم له به، وإنما حكم به للبائع لأنه لا يكذبها.(5/452)
فإن قال: غلطت، أو كذبت، أو نسيت. لم يقبل (1) لأنه رجوع عن إقراره (2) ومن ادعى على إنسان شفعة في شقص، فقال: ليس لك ملك في شركتي. فعلى الشفيع إقامة البنية بالشركة (3) ولا يكفي مجرد وضع اليد (4) (وإن أقر البائع بالبيع) في الشقص المشفوع (وأنكر المشتري) شراءه (وجبت) الشفعة (5) لأن البائع أقر بحقين، حق للشفيع، وحق للمشتري، فإذا سقط حق المشتري بإنكاره، ثبت حق الآخر (6) .
__________
(1) هذا المذهب عند الأكثر، ومشى عليه في الإقناع، والمنتهى.
(2) بحق لآدمي، فلم يقبل، كما لو أقر له بدين، قال الموفق: والوجه الثاني يقبل. قال القاضي: هو قياس المذهب، كما لو أخبر في المرابحة، بل هنا أولى، لأنه قد قامت البينة بكذبه، وحكم الحاكم بخلاف قوله، فقبل رجوعه عن الكذب، فإن لم تكن للبائع بينة فتحالفا، فللشفيع أخذه بما حلف عليه البائع، وإن عاد فصدق البائع، وقال: كنت غالطًا. فكما لو قامت به بينة.
(3) وهو قول أبي حنيفة، والشافعي.
(4) كما لو ادعى ولد أمة في يده، فإذا لم يثبت الملك الذي يستحق به الشفعة لم تثبت الشفعة.
(5) لثبوت موجبها، وهذا مذهب أبي حنيفة.
(6) وهو الشفيع، كما لو أقر بدار لرجلين فأنكر أحدهما، ولأنه أقر للشفيع أنه مستحق لأخذ هذه الدار، والشفيع يدعي ذلك، فوجب قبوله، كما لو أقر أنها ملكه.(5/453)
فيقبض الشفيع من البائع، ويسلم إليه الثمن (1) ويكون درك الشفيع على البائع (2) وليس له ولا للشفيع محاكمة المشتري (3) . (وعهدة الشفيع على المشتري (4) وعهدة المشتري على البائع) (5) في غير الصورة الأخيرة (6) فإذا ظهر الشقص مستحقا أو معيبا، رجع الشفيع على المشتري بالثمن (7) أو بأرش العيب (8) ثم يرجع المشتري على البائع (9) .
__________
(1) لاعترافه بالبيع، وذلك إن لم يكن البائع مقرا بقبضه من المشتري؛ وإلا بقي في ذمة الشفيع إلى أن يدعيه المشتري، لأنه لا مستحق له غيره.
(2) لأن القبض منه، ولم يثبت الشراء في حق المشتري.
(3) يعني لإثبات البيع في حقه، لعدم الحاجة إليه، ولوصول كل منهما إلى مقصوده بدون المحاكمة.
(4) لأن الشفيع ملك الشقص من جهة المشتري، والعهدة في الأصل على من انتقل عنه بالثمن أو الأرش عند استحقاق الشقص أو عيبه.
(5) لأن المشتري ملك الشقص من جهة البائع، وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن قبضه من البائع فعهدته عليه وإن قبضه من المشتري فعهدته عليه.
(6) وهي ما إذا أقر البائع وحده بالبيع، وأنكر المشتري الشراء، وأخذ الشفيع الشقص من البائع، فالعهدة عليه كما تقدم.
(7) كما لو أخذه منه ببيع، فإن حكمه حكم المشتري.
(8) يعني إذا ظهر الشقص معيبا، واختار الشفيع الإمساك مع الأرش إن قيل به، ورجع بأرش العيب على المشتري.
(9) بالثمن إن بان مستحقا أو مبيعًا، أو بالأرش إن بان معيبًا، واختار
الإمساك مع الأرش، سواء قبض الشقص من المشتري أو من البائع، وإن لم يأخذ الشفيع أرشه من المشتري فلا شيء للمشتري على البائع.(5/454)
فإن أبى المشتري قبض المبيع أجبره الحاكم (1) ولا شفعة في بيع خيار قبل انقضائه (2) ولا في أرض السواد، ومصر، والشام (3) لأن عمر وقفها (4) إلا أن يحكم ببيعها حاكم (5) أو يفعله الإمام أو نائبه، لأنه مختلف فيه (6) وحكم الحاكم ينفذ فيه (7) .
__________
(1) أي فإن أبى المشتري قبض المبيع من البائع ليسلمه للشفيع خوف العهدة، أجبره الحاكم، لوجوب القبض عليه ليسلمه للشفيع، لأنه يشتريه منه، فلا يأخذه من غيره، واختار الموفق أن يأخذه الشفيع من يد البائع، وقال أبو الخطاب: هو قياس المذهب، ومذهب أبي حنيفة. وقال الحارثي: هو الأصح. لأن العقد يلزم في بيع العقار قبل قبضه، ويدخل المبيع في ملك المشتري وضمانه، ويجوز له التصرف فيه بنفس العقد، فكان كما لو قبضه.
(2) قاله الشيخ وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة، قال القاضي وغيره: لأن أخذ الشفيع بالشفعة لا يسقط حق البائع من الخيار، ويلزم المشتري بالعقد بغير رضاه فلم يجز له المطالبة بالشفعة.
(3) وغيرهما مما لم يقسم بين الغانمين، وقال الحارثي: يخرج على القول بجواز الشراء ثبوت الشفعة، لأنها فرع عنه.
(4) أي على المسلمين، فلا يجوز بيعها، والشفعة إنما تكون في البيع.
(5) أي فتثبت الشفعة فيما حكم ببيعها حاكم، من أوقاف عمر وغيرها، لأنه مختلف فيه.
(6) أي بيع أرض السواد ونحوها، فإذا حكم به حاكم، أو فعله الإمام أو نائبه ارتفع الخلاف.
(7) أي فيما اختلف فيه، وكذا كل حكم مختلف فيه من العقود، والفسوخ إن لم يخالف النص.(5/455)
باب الوديعة (1)
من ودع الشيء: إذا تركه، لأنها متروكة عند المودع (2) والإيداع توكيل في الحفظ تبرعا (3) والاستيداع توكل فيه كذلك (4) ويعتبر لها ما يعتبر في وكالة (5) ويستحب قبولها لمن علم أنه ثقة، قادر على حفظها (6) .
__________
(1) أي باب ذكر أحكام الوديعة، وما يلزم المودع، وأجمعوا في كل عصر على جوازها، للأمر بأدائها في الكتاب والسنة.
(2) وودعه كوضعه، وودّعه بمعنى وقيل: الوديعة من الدعة؛ فكأنها عند المودع غير مبتذلة للانتفاع، وهي شرعًا: اسم للمال المودع لمن يحفظه بلا عوض.
(3) أي الإيداع: توكيل رب المال جائز التصرف في الحفظ لماله، تبرعا من الحافظ.
(4) أي والاستيداع: توكل جائز التصرف في حفظ مال غيره كذلك، أي تبرعا منه، بغير تصرف فيه.
(5) من البلوغ، والعقل، والرشد، لأنها وكالة في الحفظ، وأركانها: المودع، والوديعة، ويكفي القبض قبولا لها كالوكالة.
(6) فهي من القرب المندوب إليها باتفاق أهل العلم، وفي حفظها ثواب جزيل، وفي الحديث «والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه» ولحاجة الناس إلى ذلك.(5/456)
ويكره لغيره (1) إلا برضى ربها (2) و (إذا تلفت) الوديعة (من بين ماله، ولم يتعد، ولم يفرط لم يضمن) (3) لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أُودع وديعة فلا ضمان عليه» رواه ابن ماجه (4) .
__________
(1) أي ويكره قبول الوديعة لغير الثقة، القادر على حفظها، قال شيخنا: وإن علم من نفسه ترك الواجب، فحرام عليه قبولها.
(2) أي بعد إعلامه بحاله إن كان لا يعلمها، لئلا يغره، والوديعة عقد جائز من الطرفين، فإن أذن المالك في التصرف ففعل، صارت عارية مضمونة، متى أراد المودع أخذ وديعته لزم المستودع ردها، وإن أراد المستودع ردها على صاحبها لزمه قبوله، وتنفسخ بموت، وعزل مع علمه كوكالة، فإن عزله ربها ولم يعلم لم ينعزل، لعدم الفائدة إذ المال بيده أمانة لا يتصرف فيه، وإن عزل المودع نفسه انعزل، وصارت في يده حكمها حكم الثوب الذي أطارته الريح إلى داره، يجب عليه رده إلى ربه، وإن تلف قبل التمكن فهدر.
(3) حكى الوزير وغيره اتفاقهم على أن الوديعة أمانة محضة، غير مضمونة، إلا بالتعدي، وأنه إذا أودعه على شرط الضمان لا يضمن بالشرط، وحكي إجماعًا، وما روي عن الحسن، حمل على ضمان التفريط.
(4) وسنده ضعيف، ورواه الدارقطني بلفظ «لا ضمان على مؤتمن» وفيه ضعف أيضًا، ورواه بلفظ «ليس على المستودع غير المغل ضمان» والمغل الخائن، ولأن الله تعالى سماها أمانة، والضمان ينافي الأمانة، ولأن المستودع يحفظها لمالكها، فلو ضمنت لامتنع الناس من الدخول فيها، وذلك مضر، لمسيس الحاجة إليها، إلا أن يتعدى في حفظها فيضمنها، لأنه متلف لمال غيره، أو يفرط بترك ما وجب عليه من حفظها.(5/457)
وسواء ذهب معها شيء من ماله أو لا (1) (ويلزمه) أي المودع (حفظها في حرز مثلها) عرفا (2) كما يحفظ ماله (3) لأنه تعالى أمر بأدائها، ولا يمكن ذلك إلا بالحفظ (4) قال في الرعاية: من استودع شيئا حفظه في حرز مثله عاجلا مع القدرة وإلا ضمن (5) . (فإن عينه) أي الحرز (صاحبها فأحرزها بدونه ضمن) (6) سواء ردها إليه أو لا، لمخالفته له في حفظ ماله (7) .
__________
(1) أي لم يضمن ما لم يتعد أو يفرط، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وروي عن أبي بكر، وعلي، وابن مسعود، وغيرهم، وما روي عن عمر من تضمينه أنسا، فمحمول على تفريط منه.
(2) أي ويلزم المودع حفظ الوديعة بنفسه، أو وكيله، أو زوجته، أو عبده، في حرز مثلها عرفا، كحرز سرقة على ما يأتي.
(3) أي كما يحفظ المودع ماله بنفسه، أو من يحفظ ماله عادة.
(4) قال تعالى {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ولا يمكن أداؤها إلا بالحفظ، كما أمر به تعالى، ولأن المقصود من الإيداع الحفظ، والاستيداع التزام ذلك، فإذا لم يحفظها لم يفعل ما التزمه، وضمن.
(5) أي وإن لم يحفظه في حرز مثله مع عدم التعيين ضمن، لتعديه أو تفريطه.
(6) أي بدون المعين رتبة في الحفظ، فضاعت ضمن.
(7) أي سواء ردها إلى الحرز المعين وتلفت فيه، أو لم يردها، لمخالفته لصاحب المال، في حفظ ماله من غير فائدة، لتعديه بوضعها في الدون.(5/458)
(و) إن أحرزها (بمثله أو أحرز) منه (فلا) ضمان عليه (1) لأن تقييده بهذا الحرز يقتضي ما هو مثله، فما فوقه من باب أولى (2) (وإن قطع العلف عن الدابة) المودعة (بغير قول صاحبها ضمن) (3) لأن العلف من كمال الحفظ، بل هو الحفظ بعينه (4) لأن العرف يقتضي علفها وسقيها، فكأنه مأمور به عرفا (5) وإن نهاه المالك عن علفها وسقيها لم يضمن (6) .
__________
(1) أي وإن أحرزها بحرز مثل الذي عينه صاحبها في الحفظ، ولم يخش عليها، لم يضمن بلا خلاف، أو بحرز أحرز منه وتلفت، فلا ضمان عليه، ولو أخرجها لغير حاجة.
(2) وظاهره: ولو نهاه عن حفظها بمثله، وإن نهاه عن إخراجها من مكان عينه لحفظها، فأخرجها لغشيان شيء الغالب منه الهلاك لم يضمن، وإن تركها فتلفت ضمن لتفريطه، كما لو أخرجها لغير خوف فتلفت.
(3) إن ماتت جوعا، وكذا إن لم يسقها حتى ماتت عطشا.
(4) إذ الحيوان لا يبقى عادة بدون العلف ولا السقي، فيلزمانه.
(5) وإن أمره بذلك لزمه، وإن لم يفعل حتى ماتت ضمن لتفريطه في حفظها، وتعديه بترك ما أمر، واختار جمع أنه إن أنفق بلا إذن ربها مع العجز رجع ولو لم يستأذن الحاكم، كما تقدم في الرهن، وصوبه في الإنصاف، ويلزمه الإنفاق أو يدفعها إلى الحاكم ليستدين على صاحبها ما يحتاج، أو يبيعها عليه إن كان غائبًا، فإن تركها المودع، ولم يفعل ضمن، وهذا مذهب مالك، والشافعي.
(6) أي إن ماتت جوعا أو عطشا.(5/459)
لإذنه في إتلافها، أشبه ما لو أمره بقتلها (1) لكن يأثم بترك علفها إذًا، لحرمة الحيوان (2) (وإن عين جيبه) بأن قال: احفظها في جيبك. (فتركها في كمه أو يده ضمن) (3) لأن الجيب أحرز (4) وربما نسي فسقط ما في كمه أو يده (5) (وعكسه بعكسه) (6) فإذا قال: اتركها في كمك أو يدك. فتركها في جيبه لم يضمن لأنه أحرز (7) وإن قال: اتركها في يدك. فتركها في كمه، أو بالعكس (8) .
__________
(1) أي فقتلها، لم يضمن بلا خلاف.
(2) أي في نفسها، فإنه يجب إحياؤها لحق الله تعالى، سواء نهاه مالكها عن علفها وسقيها أو لا.
(3) إن ضاعت، لتفريطه.
(4) أي من اليد والكم، و"جيب القميص" طوقه، والمجيب المجوف.
(5) بخلاف ما في جيبه، فلزمه الضمان لتفريطه.
(6) أي عكس الجيب إن عين الكم أو اليد، بعكسه في عدم الضمان.
(7) وإن أطلق ولم يعين، فتركها في جيبه وتلفت، فقال المجد: لم يضمن إن كان مزرورًا، أو ضيق الفم، وإن كان واسعًا غير مزرور ضمن.
(8) بأن قال: اتركها في كمك. فتركها في يده، لمخالفته، لأن اليد تارة تكون أحرز من الكم، والكم تارة أحرز من اليد، اليد يسقط منها الشيء بالنسيان، والكم يتطرق إليه البسط، بخلاف اليد، فكل منهما أدنى من الآخر حفظًا من وجه.(5/460)
أو قال: اتركها في بيتك. فشدها في ثيابه وأخرجها ضمن (1) لأن البيت أحرز (2) (وإن دفعها إلى من يحفظ ماله) عادة كزوجته وعبده (3) (أو) ردها لمن يحفظ (مال ربها لم يضمن) (4) لجريان العادة به (5) ويصدق في دعوى التلف والرد كالمودع (6) (وعكسه الأجنبي والحاكم) بلا عذر (7) .
__________
(1) أي وأخرج ثيابه من بيته ضمن.
(2) وكذا لو جاءه بها في السوق، وأمره بحفظها في بيته، فتركها عنده إلى مضيه إلى منزله، أو فوق ما يمكنه الذهاب بها، فتلفت قبل أن يمضي بها إلى بيته، ضمن لتفريطه.
(3) وخازنه وخادمه، لم يضمن المستودع إن تلفت، لأنه قد وجب عليه حفظها، فله توليه بنفسه، ومن يقوم مقامه، قال في الإنصاف: إن كان ممن يحفظ ماله فلا إشكال في إدخاله، وإلا فلا في الجميع، حتى الزوجة، والعبد، والخادم، فلا حاجة إلى الإلحاق. اهـ. وإن حفظها مع ماله، فسرقت دون ماله، ضمن في أحد قولي العلماء، فإن عمر ضمن أنسا وديعة ادعى أنها ذهبت دون ماله، وأما إن ادعى أنها ذهبت مع ماله، ثم ظهر أن ماله لم يذهب، بل باعه أو نحوه، فهنا، أوكد أن يضمن.
(4) أو إلى وكيله في قبضها، أو قبض حقوقه.
(5) أشبه ما لو سلم الماشية إلى الراعي.
(6) أي ويصدق من دفعها المودع إليه من زوجة وعبد، أو من يحفظ مال ربها، في دعوى التلف والرد، كما يصدق المودع، لقيامهم مقامه في الحفظ.
(7) كمن حضره الموت، أو أراد السفر، وليس أحفظ لها.(5/461)
فيضمن المودع بدفعها إليهما (1) لأنه ليس له أن يودع من غير عذر (2) (ولا يطالبان) أي الحاكم والأجنبي بالوديعة إذا تلفت عندهما بلا تفريط (إن جهلا) (3) جزم به في الوجيز (4) لأن المودع ضمن بنفس الدفع والإعراض عن الحفظ فلا يجب على الثاني ضمان، لأن دفعا واحدا لا يوجب ضمانين (5) وقال القاضي: له ذلك؛ فللمالك مطالبة من شاء منهما (6) ويستقر الضمان على الثاني إن علم، وإلا فعلى الأول، وجزم بمعناه في المنتهى (7) .
__________
(1) بغير خلاف في المذهب، إلا أن يدفعها إلى من جرت عادته بحفظ ماله.
(2) وقد خالف المودع، كما لو نهاه عن إيداعها، فإنه أمره بحفظها بنفسه، فلم يرض لها غيره.
(3) أي بأنها وديعة، وقد غرهما.
(4) وغير واحد من الأصحاب أنه إن لم يعلم فللمالك تضمين الأول، وليس للأول الرجوع على الثاني، لأنه دخل معه في العقد على أنه أمين، وإن أحب المالك تضمين الثاني فليس له تضمنيه، واختاره القاضي في المجرد، وابن عقيل، والشيخ تقي الدين، وهو مذهب أبي حنيفة.
(5) وليس للمالك تضمينهما معا.
(6) اختاره في موضع، والموفق، والشارح، وقال: هو أقرب إلى الصواب وهو المذهب، وعليه العمل، لأنه قبض مال غيره على وجه لم يكن له قبضه، ولم يأذن له مالكه، فيضمن، كالقابض من الغاصب.
(7) وعبارته: ولمالك مطالبة الأجنبي، أيضًا، وعليه القرار إن علم – يعني الحال – لتعديه، فإن لم يعلم فعلى وديع أول، لأنه غره.(5/462)
(وإن حدث خوف أو) حدث للمودع (سفر ردها على ربها) أو وكيله فيها (1) لأن في ذلك تخليصا له من دركها (2) فإن دفعها للحاكم إذًا ضمن، لأنه لا ولاية له على الحاضر (3) (فإن غاب) ربها (حملها) المودع (معه) في السفر (4) سواء كان لضرورة أو لا (5) (إن كان أحرز) ولم ينهه عنه (6) لأن القصد الحفظ، وهو موجود هنا (7) وله ما أنفق بنية الرجوع قاله القاضي (8) .
__________
(1) أي في قبض مثلها، وفي الإقناع: وله حملها معه في سفره، إن كان أحفظ لها ولم ينهه، وقال المنقح: إنه المذهب. وفي المنتهى: يضمن، لمخاطرته، وتفويت إمكان استرجاعها. وصوبه في الإنصاف.
(2) وإيصالاً للحق إلى مستحقه.
(3) وعليه مؤنة الرد لتعديه.
(4) بشرط الآتي، وعبارة المقنع، والإقناع، والمنتهى وغيرها: إن لم يجد مالكها أو من يحفظ ماله عادة أو وكيله حملها المودع معه على كلا القولين.
(5) سواء كان سفره لضرورة أو لم يكن لها.
(6) أي إذا كان السفر بها أحرز لها، لأنه نقلها إلى موضع مأمون فلم يضمنها، كما لو نقلها في البلد، وفي المبهج: لا يسافر بها إلا إذا كان الغالب السلامة. اهـ. وما لم ينهه ربها عن السفر بها، لأنه موضع حاجة، فإن تلفت إذًا لم يضمنها.
(7) أي لأن القصد من الإيداع حفظ الوديعة، وهو موجود هنا، يعني حالة السفر، حيث كان أحرز للوديعة.
(8) وفي الفروع: يتوجه كنظائره، وإن لم ينو الرجوع لم يرجع.(5/463)
(وإلا) يكن السفر أحفظ لها (1) أو كان نهى عنه (2) دفعها إلى الحاكم (3) لأن في السفر بها غررًا لأنه عرضة للنهب وغيره (4) والحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته (5) فإن أودعها مع قدرتها على الحاكم ضمنها، لأنه لا ولاية له (6) فإن تعذر حاكم أهل (أودعها ثقة) (7) لفعله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يهاجر أودع الودائع التي كانت عنده لأُم أيمن رضي الله عنها (8) .
__________
(1) لم يسافر بها ولو استويا.
(2) أي عن السفر بها لم يسافر بها، ويضمن إن فعل إلا لعذر، كجلاء أهل البلد، أو هجوم عدو، أو حرق أو غرق، فلا ضمان عليه إن سافر بها وتلفت، لأنه موضع حاجة، ويجب الضمان بالترك، وصححه في الإنصاف، لتركه الأصلح.
(3) يعني إن قدر عليه.
(4) من الأسباب الموجبة لخروجها عن يده.
(5) ويلزمه قبولها، صوبه في الإنصاف، إلا أن تكون في يد ثقة قادر، فيضعف اللزوم.
(6) وظاهره: وإن كان من دفعها إليه ثقة. وقال الموفق وغيره: يجوز. وفي الفائق: لو خاف عليها أودعها حاكما أو أمينا، قال في الإنصاف: والصواب هنا أن يراعى الأصلح في دفعها إلى الحاكم أو الثقة، فإن استوى الأمران فالحاكم.
(7) كمودع حضره الموت، لأن السفر والموت سببان لخروج الوديعة عن يده.
(8) وأمر عليًّا أن يردها على أهلها.(5/464)
ولأنه موضع حاجة (1) وكذا حكم من حضره الموت (2) (ومن) تعدى في الوديعة (3) بان (أُودع دابة فركبها لغير نفعها) أي علفها وسقيها (4) (أو) أُودع (ثوبا فلبسه) لغير خوف من عث أو نحوه (5) (أو) أُودع (دراهم فأَخرجها من محرز) ها (ثم ردها) إلى حرزها (6) (أو رفع الختم) عن كيسها (7) أو كانت مشدودة فأَزال الشد ضمن (8) .
__________
(1) فجاز إيداعها الحاكم أو الثقة، أو دفنها إن لم يضرها الدفن، وأعلم بها ثقة يسكن تلك الدار، فيكون كإيداعه.
(2) أي وعنده وديعة، حكم من أراد سفرا، في دفعها إلى حاكم أو ثقة.
(3) بانتفاعه بها، أو إخراجها لا لإصلاحها، ضمنها لعدوانه.
(4) فتلفت بذلك ضمنها، وله الاستعانة بالأجانب في سقيها وعلفها ونحو ذلك.
(5) كافتراش فرش لا لخوف من "عث" بضم العين المهملة جمع عثة، سوسة تلحس الصوف، ويضمن نقصها بها إن لم ينشرها، لتفريطه.
(6) فتلفت ضمنها لعدوانه بتصرفه فيها بغير إذن صاحبها، فبطل استئمانه، سواء أخرجها لينفقها أو لينظر إليها، أو ليخون فيها.
(7) ضمن وإن خرق الكيس فوق الشد فعليه ضمان ما خرق خاصة، لأنه ما هتك الحرز.
(8) وكذا لو كانت مصرورة في خرقة ففتح الصرة، أو كانت مقفولة فأزال القفل، ونحو ذلك ضمن.(5/465)
أخرج منها شيئًا أو لا، لهتك الحرز (1) (أو خلطها بغير متميز) (2) كدراهم بدراهم (3) وزيت بزيت في ماله أو غيره (4) (فضاع الكل ضمن) الوديعة لتعديه (5) وإن ضاع البعض ولم يدر أيهما ضاع ضمن أيضًا (6) وإن خلطها بمتميز، كدراهم بدنانير لم يضمن (7) وإن أخذ درهما من غير محرزه (8) ثم رده فضاع الكل ضمنه وحده (9) .
__________
(1) بفعل تعدى فيه، وكذا لو جحدها ثم أقر بها، لأنه خرج عن الاستئمان، فلزمه الضمان.
(2) أي أو خلط الوديعة بغير متميز عنها ضمنها، قال في التلخيص: رواية واحدة، وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي، لأنه صيرها في حكم التالف.
(3) ودنانير بدنانير ونحو ذلك، في ماله أو مال غيره.
(4) سواء كان بنظيره أو أجود منه أو أدنى.
(5) بهتك الحرز، وخلطه الوديعة بما لا تتميز منه.
(6) لأن الأصل عدم براءته، وكذا لو لم يدر أيهما ضاع، نقله البغوي وغيره.
(7) لإمكان التمييز، فلا يعجز بذلك عن ردها، أو بغير متميز، لكن بغير تفريط منه لم يضمن.
(8) أي من وديعة غير مختومة ولا مشدودة، ولا مصرورة، ونحو ذلك، وكذا إذا أذن له المالك في أخذ درهم منها.
(9) لأن الضمان تعلق بالأخذ، فلم يضمن غير ما أخذ.(5/466)
وإن رد بدله غير متميز ضمن الجميع (1) ومن أَودعه صبي وديعة لم يبرأ إلا بردها لوليه (2) ومن دفع لصبي ونحوه وديعة لم يضمنها مطلقا (3) ولعبد ضمنها بإتلافها في رقبته (4) .
__________
(1) لخلطه الوديعة بما لا تتميز منه، وإن كانت مختومة، أو مشدودة أو مصرورة ضمن الجميع أيضًا، لهتكه الحرز بغير إذن ربه، وعن أحمد: يضمنه وحده. قال الحارثي: هذا المذهب، وحكي عن أحمد – في تضمين الجميع – هو قول سوء. ومال إليه الموفق، وجزم به القاضي، وهو ظاهر الخرقي.
(2) في ماله، كدينه الذي له عليه، ويضمنها إن تلفت، ما لم يكن مأذونا له، أو يخف هلاكها معه إن تركها.
(3) فرط أو لم يفرط، لتفريط مالكها بدفعها إلى صبي ونحوه كمجنون وسفيه، هذا المذهب، وظاهر مذهب أبي حنيفة، وقال القاضي: يضمن. وهو ظاهر مذهب الشافعي، واختاره الموفق وغيره، وقال في الإنصاف: هو المذهب على ما اصطلحناه. لأن ما ضمنه بإتلافه قبل الإيداع ضمنه بإتلافه بعده كالبالغ.
(4) أي وإن دفع وديعة لعبد مكلف ضمن الوديعة بإتلافها في رقبته، لأن إتلافه من جنايته، وكذا إن تعدى أو فرط، وهو مقتضى تعليلهم، وإذا مات إنسان، وثبت أن عنده وديعة، ولم توجد بعينها، فهي دين عليه، تغرمها الورثة من تركته، كبقية الديون.(5/467)
فصل (1)
(ويقبل قول المودع في ردها إلى ربها) (2) أو من يحفظ ماله (3) (أو غيره بإذنه) (4) بأن قال: دفعتها لفلان بإذنك. فأنكر مالكها الإذن أو الدفع، قبل قول المودع (5) كما لو ادعى ردها على مالكها (6) .
__________
(1) أي في حكم قول المودع في رد الوديعة إلى ربها أو غيره، أو تلفها وغير ذلك.
(2) لأنه أمين، لا منفعة له في قبضها، فقبل قوله مع يمينه، وهو مذهب الشافعي، وأصحاب الرأي، ومالك إن كان دفعها إليه بغير بينة، وإلا لم يقبل إلا ببينة.
(3) عادة كعبده، أو زوجته، أو خازنه، أو وكيله، لأن أيديهم كيده، لا إلى ورثة وحاكم.
(4) أي ويقبل قول المودع في رد الوديعة إلى غير مالكها في الإذن أن المالك أذن له في دفعها إلى إنسان عينه.
(5) مع يمينه، هذا المنصوص، والصحيح من المذهب.
(6) كما تقدم، فيقبل لمن أذن له المالك، وقيل: لا يقبل. قال الحارثي، وهو قوي، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، قال المجد: ووافقوا إن أقر بإذنه، وقبل ذلك، كوكالة بقضاء دين.(5/468)
(و) يقبل قوله أيضًا في (تلفها (1) وعدم التفريط) بيمينه لأنه أمين (2) لكن إن ادعى التلف بظاهر، كلف به بينة، ثم قبل قوله في التلف (3) وإن أخر ردها بعد طلبها بلا عذر ضمن (4) .
__________
(1) بيمينه، لأنه أمين، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه أن المستودع إذا أحرز الوديعة، ثم ذكر أنها ضاعت، قبل قوله بيمينه، وقال الوزير: اتفقوا على أن القول قول المودع في التلف والرد على الإطلاق مع يمينه.
(2) أي ويقبل قول المودع أيضًا في عدم التفريط، وكذا الخيانة بيمينه، لأنه أمين، لأن الله تعالى سماها أمانة فقال {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ولأن الأصل براءته، قال ابن القيم: إذا لم يكذبه شاهد الحال، وهكذا سائر من قلنا يقبل قوله، فإن الأصل قبول قول الأمناء إلا حيث يكذبهم الظاهر.
(3) أي وإن ادعى التلف للوديعة بسبب ظاهر كحريق، ونهب جيش ونحوه، كلف به بينة تشهد بوجود السبب، لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه، وتكفي الاستفاضة ثم قبل قوله في التلف بيمينه، لأنه أمين، والأصل براءته، وقال ابن القيم: المودع، والمستأجر، إذا ادعيا الهلاك في الحريق، أو تحت الهدم، أو في نهب العيارين ونحوهم، لم يقبل إلا إذا تحقق وجود هذه الأسباب.
(4) أي ما تلف، لأنه فعل محرما بإمساكه ملك غيره بلا إذنه، أشبه الغاصب، وقال الوزير: اتفقوا على أنه متى طلبها صاحبها، وجب على المودع أن لا يمنعها مع الإمكان، وإن لم يفعل فهو ضامن. اهـ. فإن طلبها في وقت لا يمكن دفعها إليه لبعدها أو لمخافة في طريقها، أو للعجز عن حملها، أو غير ذلك، لم يكن متعديا بترك تسليمها، ولم يضمنها لعدم عدوانه.(5/469)
ويمهل لأكل، ونوم، وهضم طعام بقدره (1) وإن أمره بالدفع إلى وكيله، فتمكن وأبى ضمن (2) ولو لم يطلبها وكيله (3) (فإن قال: لم تودعني. ثم ثبتت) الوديعة (ببينة أو إقرار، ثم ادعى ردًا أو تلفًا، سابقين لجحوده لم يقبلا (4) .
__________
(1) وكطهارة وصلاة، فلا يضمنها إن تلفت زمن عذره، لعدم عدوانه، ويجوز التأخير عادة، بشرط سلامة العاقبة.
(2) أي فتمكن المودع من دفع الوديعة إلى وكيل مالكها، وأبى دفعها له، ضمن لعدوانه.
(3) لأنه أمسك مال غيره بغير إذنه، وليس على مودع مؤنة رد، وتثبت وديعة بإقرار وديع، أو ببينة، أو بإقرار ورثته بعده، ويعمل بخط مورثه على كيس ونحوه: هذا وديعة. أو لفلان، وإن ادعى اثنان وديعة، فأقر الوديع بها لأحدهما فهي له.
وقال الشيخ: لو قال مودع: أودعنيها الميت. وقال: هي لفلان. وقال ورثته: بل هي له، وليست لفلان، ولم تقم بينة أنها كانت للميت، ولا على الإيداع، فالقول قول المودع مع يمينه، لأنه قد ثبت له اليد، وقال: من استأمنه أمير على ماله، فخشي من حاشيته إن منعهم من عادتهم المتقدمة، لزمه فعل ما يمكنه، وهو أصلح للأمير من تولية غيره، فيرتع معهم، لا سيما إذا كان للآخذ شبهة.
(4) أي الرد أو التلف، لأنه صار ضامنا بجحوده، معترفا على نفسه بالكذب المنافي للأمانة، قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا طالبه فقال: ما أودعتني. ثم بعد ذلك ادعى أنها ضاعت، أنه ضامن، لأنه خرج من حد الأمانة بذلك.(5/470)
ولو ببينة) لأنه مكذب للبينة (1) وإن شهدت بأَحدهما، ولم تعين وقتا لم تسمع (2) (بل) يقبل قوله بيمينه في الرد والتلف (فيـ) ـما إذا أجاب بـ (ـقوله: ما لك عندي شيء ونحوه) (3) كما لو أجاب بقوله: لا حق لك قبلي. أو: لا تستحق علي شيئًا (4) . (أو) ادعى الرد أو التلف (بعده) أي بعد جحوده (بها) أي بالبينة (5) لأن قوله لا ينافي ما شهدت به البنية، ولا يكذبها (6) .
__________
(1) يعني بجحوده، حيث قال: لم تودعني. وقال الموفق: ويحتمل أن تقبل، وقال الحارثي: هو الحق. لأنه لو أقر بها سقط عنه الضمان.
(2) أي وإن شهدت البينة بالرد أو التلف، بعد جحود الإيداع، ولم تعين البينة الرد أو التلف، قبل الجحود أو بعده، واحتمل الأمرين، لم تسمع البينة، لأن وجوب الضمان متحقق، فلا ينتفي بأمر متردد فيه.
(3) ثم ثبتت ببينة أو إقرار، لأن دعواه الرد أو التلف، لا ينافي جوابه في قوله: مالك عندي شيء لجواز أن يكون أودعه، ثم تلفت بغير تفريط، أو ردها فلا يكون له عنده شيء، وحكى الوزير الاتفاق على أنه إذا قال: ما يستحق عندي شيئًا. ثم قال: ضاعت. كان القول قوله.
(4) يعني ثم ثبتت ببينة أو إقرار، ثم ادعى الرد أو التلف بعد، قبل قوله بيمينه.
(5) يعني فيقبل قوله بالبينة إذا شهدت له بالرد أو بالتلف.
(6) أي لأن قوله: لم تودعني. لا ينافي ما شهدت به البينة من الرد أو التلف، ولا يكذبها، فقبلت، فإن من تلفت الوديعة من حرزه بغير تفريطه، لا شيء لمالكها عنده، ولا يستحق عليه شيئًا.(5/471)
(وإن) مات المودع و (ادعى وارثه الرد منه) أي من وارث المودع لربها (1) (أو من مورثه) وهو المودع (لم يقبل إلا ببينة) (2) لأن صاحبها لم يأتمنه عليها، بخلاف المودع (3) (وإن طلب أحد المودعين نصيبه (4) من مكيل أو موزون ينقسم) بلا ضرر (أخذه) أي أَخذ نصيبه (5) فيسلم إليه، لأن قسمته ممكنة بغير ضرر ولا غبن (6) .
__________
(1) لم يقبل إلا ببينة.
(2) أو من أطارت الريح إلى داره ثوبا، ونحو ذلك، وإن تلفت عند الوارث قبل إمكان ردها، لم يضمنها.
(3) يعني فإنه ائتمنه عليها، فقبل قوله بغير بينة.
(4) وذلك إما لغيبة شريكه، أو مع حضوره وامتناعه من أخذ نصيبه، ومن الإذن لشريكه في أخذ نصيبه.
(5) من الوديعة، بشرط أن لا ينقص بتفرقته.
(6) أي فيسلم إلى الطالب نصيبه وجوبا، لأنه حق مشترك، وقسمته ممكنة فيه؛ بتمييز نصيب أحد الشريكين من نصيب الآخر، بغير ضرر على أحدهما ولا غبن، أشبه ما لو كان متميزًا.
وقال القاضي: لا يجوز ذلك إلا بإذن الحاكم، لاحتياجه إلى قسمته، ويفتقر إلى حكم أو اتفاق، وليس ذلك إلى المودع، وهو مقتضى كلامهم في القسمة، وعلم مما تقدم أن ذلك لا يجوز في غير المثلي إلا بإذن شريك أو حاكم، لأن قسمته لا يؤمن فيها الحيف.(5/472)
(وللمستودع، والمضارب، والمرتهن، والمستأجر) إذا غصبت العين منهم (مطالبة غاصب العين) (1) لأنهم مأمورون بحفظها (2) وذلك منه (3) وإن صادره سلطان (4) أو أخذها منه قهرا لم يضمن، قاله أبو الخطاب (5) .
__________
(1) وكذا مستعير، ومجاعل على عملها.
(2) يعني الوديعة، ومال المضاربة، والرهن، والعين المستأجرة، ونحو ذلك.
(3) أي والمطالبة من حفظها المأمور به، وفي الفروع يلزمه. وذكر عن الشيخ: لا يلزمه مع حضور رب المال.
(4) أي طالبه بالوديعة لم يضمن، وفي فتاوى ابن الزاغوني: من صادره سلطان، ونادى بتهديد من له عنده وديعة، ولم يحملها إن لم يعينه، أو عينه وهدده، ولم ينله بعذاب أثم وضمن، وإلا فلا. اهـ. لكن لو استحلفه السلطان، ولم يحلف حتى أخذها منه ضمن، فإن حلف وتأول لم يأثم، وإن لم يتأول أثم ولزمته كفارة، وإن أكره على الحلف بالطلاق فكما لو أكره على إيقاعه.
(5) محفوظ بن أحمد الكلوذاني، لأن الإكراه عذر يبيح له دفعها، وقال الموفق وغيره: لا ضمان على المودع، سواء أخذت من يده قهرا أو أكره على تسليمها فسلمها بنفسه، لأن الإكراه عذر، يبيح له دفعها، فلم يضمنها، كما لو أخذت من يده قهرًا.(5/473)
باب إحياء الموات (1)
بفتح الميم والواو (2) (وهي) مشتقة من الموت، وهو عدم الحياة (3) واصطلاحا (الأرض المنفكة عن الاختصاصات (4) وملك معصوم) (5) بخلاف الطرق والأفنية (6) ومسيل المياه، والمحتطبات ونحوها (7) .
__________
(1) الأصل فيه السنة والإجماع في الجملة.
(2) قال في القاموس: كسحاب، مالا روح فيه، وأرض لا مالك لها.
(3) وفي المغني: هو الأرض الخراب الدارسة. وقال الأزهري: هو الأرض التي ليس لها مالك، ولا بها ماء، ولا عمارة، ولا ينتفع بها. اهـ. شبهت العمارة بالحياة، وتعطيلها بالموت، لعدم الانتفاع بالأرض الميتة بزرع أو غيره، وإحياؤها عمارتها.
(4) كالطرق، والأفنية، ومسايل المياه، ونحو ذلك.
(5) أي والمنكفة من ملك معصوم، مسلم أو كافر، بشراء أو عطية، أو غيرهما.
(6) وهي ما اتسع أمامه، وكذا مجتمع ناديه.
(7) كمدفن موتاه، ومطرح ترابه، وحريم البئر والعين، وكالبقاع المرصدة لصلاة العيدين والجنائز، فكل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه، قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه.(5/474)
وما جرى عليه ملك معصوم بشراءٍ أو عطية أو غيرهما فلا يملك شيء من ذلك بالإحياء (1) (فمن أحياها) أي الأرض الموات (ملكها) (2) لحديث جابر يرفعه «من أحيا أرضا ميتة فهي له» رواه أحمد، والترمذي وصححه (3) وعن عائشة مثله، رواه مالك، وأبو داود (4) وقال ابن عبد البر: هو مسند صحيح، متلقى بالقبول، عند فقهاء المدينة وغيرهم (5) .
__________
(1) قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع، أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه، ولأحمد وغيره عن عروة: أن رجلين اختصما في أرض غرس أحدهما فيها، وهي للآخر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها، وأمر صاحب النخل يخرج نخله، وقال «ليس لعرق ظالم حق» .
(2) بإجماع العلماء القائلين بملك الأرض الموات بالإحياء، وحكى الوزير الاتفاق على جواز إحياء الأرض الميتة العادية.
(3) ولهما عن سعيد بن زيد مرفوعا نحوه، ولأبي داود عن عروة: الأرض لله والعباد عباد الله، ومن أحيا مواتا فهو أحق بها، جاءنا بهذا عنه صلى الله عليه وسلم الذين جاءوا بالصلوات عنه صلى الله عليه وسلم.
(4) والبخاري وغيرهم ولفظه «من عمر أرضًا ليست لأحد، فهو أحق بها» .
(5) وله شواهد، وعامة فقهاء الأمصار على أن الموات يملك بالإحياء، وإن اختلفوا في شروطه.(5/475)
(من مسلم وكافر) ذمي، مكلف وغيره (1) لعموم ما تقدم (2) لكن على الذمي خراج ما أحيا من موات عنوة (3) (بإذن الإمام) في الإحياء (وعدمه) لعموم الحديث (4) ولأنها عين مباحة، فلا يفتقر ملكها إلى إذن (5) (في دار الإسلام وغيرها) (6) فجميع البلاد سواء في ذلك (7) (والعنوة) كأرض الشام، ومصر والعراق (كغيرها) مما أسلم أهله عليه (8) .
__________
(1) أي غير مكلف، نص عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، بخلاف أهل الحرب، فلا يملكون بالإحياء في دار الإسلام، على الصحيح من المذهب.
(2) أي من قوله «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» وغيره، ولأنه من أهل دار الإسلام، فملك بالإحياء كالشراء، وكتملكه مباحاتها من حشيش وغيره.
(3) لأن الأرض للمسلمين، فلا تقر في يد غيرهم بدون الخراج، كغير الموات، وغير العنوة، كأرض الصلح، وما أسلم أهله عليه، فالذمي فيه كالمسلم.
(4) وهو قوله «من أحيا أرضا ميتة فهي له» ونحوه، وخبر «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به» وهو مذهب الجمهور.
(5) كأخذ المباح، وهو مبني على أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال.
(6) كدار الحرب، وهي على أصل الإباحة.
(7) لعموم الأخبار، وكالحشيش، والحطب.
(8) كالمدينة، يملك بالإحياء، ولا خراج عليه، إلا أن يكون المحيي ذميًا، كغير الموات.(5/476)
أو صولحوا عليه (1) إلا ما أحياه مسلم من أرض كفار صولحوا على أنها لهم ولنا الخراج (2) (ويملك بالإحياء ما قرب من عامر (3) إن لم يتعلق بمصلحته) (4) لعموم ما تقدم (5) وانتفاء المانع (6) فإن تعلق بمصالحه كمقبرة (7) وملقى كناسة ونحوهما لم يملك (8) .
__________
(1) أي أن الأرض للمسلمين، كأرض خيبر، فيملك بالإحياء كغيره.
(2) لأنهم صولحوا في بلادهم، فلا يجوز التعرض لشيء منها، لأن الموات تابع للبلد.
(3) كالبعيد عنه بشرطه الآتي، قال أحمد – في جبانة بين قريتين -: من أحياها فهي له، ويرجع في القرب إلى العرف، ولا يتقدر بحد، فيفضي إلى أن من أحيا أرضا في موات، حرم إحياء شيء من ذلك الموات على غيره، ما لم يخرج عن الحد، فعند الجمهور أن الأرض التي لا يعلم تقدم ملك أحد عليها، فيحييها شخص بالسقي، أو الزرع، أو الغرس، أو البناء، فتصير بذلك ملكه، سواء كانت فيما قرب من العمران أو بعد، أذن له الإمام أو لم يأذن، حكاه الحافظ وغيره.
(4) فكل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصلحته، قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه.
(5) أي من قوله صلى الله عليه وسلم «من أحيا أرضا ميتة فهي له» ونحوه، ولإقطاعه صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث العقيق، وهو من عمارة المدينة.
(6) وهو التعلق بمصالح العامر، فجاز إحياؤه كالبعيد.
(7) وهي مدفن الموتى، أو المرصدة لدفن الموتى، ولو قبل الدفن.
(8) كملقى ترابه وآلاته، لا يجوز إحياؤه، قال الموفق: بغير خلاف في
المذهب، وكذلك ما تعلق بمصالح القرية، كفنائها، ومرعى ماشيتها، ومحتطبها، وطرقها، ومسيل مائها، لا يملك بالإحياء، لا نعلم فيه أيضًا خلافًا بين أهل العلم وكذلك حريم البئر، والنهر، والعين، وكل مملوك، لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه.(5/477)
وكذا موات الحرم وعرفات، لا يملك بالإحياء (1) وإذا وقع في الطريق وقت الإحياء نزاع، فلها سبعة أذرع (2) ولا تغير بعد وضعها (3) ولا يملك معدن ظاهر (4) كملح، وكحل، وجص بإحياء (5) وليس للإمام إقطاعه (6) .
__________
(1) لما فيه من التضييق في أداء المناسك، واختصاصه بمحل: الناس فيه سواء. وهذا مذهب الجمهور، وقيل: يملك بالإحياء ما لا يحتاج إليه الحاج ألبته إن وجد.
(2) لخبر أبي هريرة «إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع» رواه الجماعة إلا النسائي، قال شيخنا: ويسوغ بالمعاوضة، كسعة المسجد وغيره، مما يحتاج إليه البلد حاجة ضرورية، لقصة زيادة المسجد الحرام.
(3) يعني ولو زادت على سبعة أذرع، لأنها للمسلمين، فلا يختص أحد منهم بشيء منها.
(4) وهي التي يوصل إلى ما فيها من غير مؤنة، ينتابها الناس، وينتفعون بها.
(5) وككبريت، وقار، وموميا، وبرام، وياقوت، وأشباه ذلك، إذا كان ظاهرًا في الأرض قبل الإحياء، لما روى أبو داود وغيره: أن أبيض بن حمال استقطعه الملح الذي بمأرب، فلما ولى قيل: يا رسول الله إنما أقطعته الماء العد فرجعه منه، ولأنه يتعلق به مصالح المسلمين العامة فلم يجز إحياؤه.
(6) كمشارع الماء، وطرقات المسلمين، قال ابن عقيل: هذا من مواد الله الكريم، وفيض وجوده، الذي لا غناء عنه، ولو ملكه أحد بالاحتجار ملك منعه،
فضاق على الناس، فإن أخذ العوض عنه أغلاه، فخرج عن الوضع الذي وضعه الله به، من تعميم ذوي الحوائج من غير كلفة، قال الموفق: وهذا مذهب الشافعي، ولا أعلم فيه مخالفًا.
فأما المعادن الباطنة – وهي التي لا يوصل إليها إلا بالعمل والمؤونة، كمعادن الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، والبلور، والفيروزج – فإذا كانت ظاهرة لم تملك بالإحياء، وإن لم تكن ظاهرة فحفرها إنسان، وأظهرها لم تملك بذلك، في ظاهر المذهب، وظاهر مذهب الشافعي، ويحتمل أن يملكها بذلك، وهو قول للشافعي، لأنه موات لا ينتفع به إلا بالعمل والمؤونة، فملك بالإحياء كالأرض.
قال أصحابنا: وليس للإمام إقطاعها، لأنها لا تملك بالإحياء والصحيح جواز ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية، رواه أبو داود، ومن أحيا أرضا، فملكها بذلك، فظهر فيها معدن، ملكه، ظاهرا كان أو باطنا، إذا كان من المعادن الجامدة، وأما الجارية كالقار، والنفط، والماء فروايتان، أظهرهما: لا يملكها. لقوله صلى الله عليه وسلم «الناس شركاء في ثلاث، في الماء، والكلأ، والنار» لكن صاحب الأرض أحق به، وإن كان بقرب الساحل موضع إذا حصل فيه الماء صار ملحا ملكا بالإحياء لأنه لا يضيق على المسلمين، فلم يمنع منه، كبقية الموات، وللإمام إقطاعه.(5/478)
وما نضب عنه الماء من الجزائر لم يحي بالبناء (1) لأنه يردُّ الماء إلى الجانب الآخر، فيضر بأهله (2) .
__________
(1) وكذا الأنهار إذا غار عنها الماء.
(2) قال أحمد: إذا نضب الماء من جزيرة إلى فناء رجل، لم يبن فيها، لأن فيه ضررًا، وهو أن الماء يرجع أي يرجع إلى ذلك المكان، فإذا وجده مبنيا رجع إلى الجانب الآخر فأضر بأهله.(5/479)
وينتفع به بنحو زرع (1) (ومن أحاط مواتا) (2) بأن أدار حوله حائطا منيعا بما جرت العادة به، فقد أحياه (3) سواء أرادها للبناء أو غيره (4) لقوله عليه السلام «من أحاط حائطا على أرض فهي له» رواه أحمد وأبو داود عن جابر (5) .
__________
(1) يعني إذا لم يكن مملوكا فله إحياؤه كموات، والانتفاع به بنحو زرع، مع عدم الضرر، وإن غلب الماء على ملك إنسان، ثم نضب عنه، فله أخذه، ولا يزول ملكه بغلبة الماء عليه.
(2) وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم كما تقدم.
(3) أي عادة أهل البلد البناء به من لبن، أو آجر، أو حجر، أو قصب، أو خشب ونحوه.
(4) كما لو أرادها لزرع، أو حظيرة لغنم، أو خشب أو غيرهما، هذا المذهب.
(5) وصححه ابن الجارود، ولهما عن سمرة مرفوعا مثله، فدل على أن التحويط على الأرض مما يستحق به ملكها، والمقدار المعتبر ما يسمى حائطا في اللغة، وعن أحمد: إحياء الأرض ما عُدَّ إحياء عرفا، لقوله «من أحيا أرضا ميتة فهي له» . واختاره الموفق، وابن عقيل، وغيرهما، لأن الشرع ورد بتعليق الملك عليه، ولم يبينه، فوجب الرجوع إلى ما كان إحياء في العرف، واختاره شيخنا.
قال الموفق: فإن الأرض تحيا دارا للسكنى، وحظيرة، ومزرعة، فإحياء كل واحدة من ذلك بما تتهيأ به للانتفاع الذي أريدت له.(5/480)
(أو حفر بئرا فوصل إلى الماء) فقد أحياه (1) (أو أجراه) أي الماء (إليه) أي إلى الموات (من عين ونحوها (2) أو حبسه) أي الماء (عنه) أي عن الموات إذا كان لا يزرع معه (ليزرع فقد أحياه) (3) لأن نفع الأرض بذلك أكثر من الحائط (4) ولا إحياء بحرث وزرع (5) .
__________
(1) وإن حفرها لارتفاقه، كعادة من انتجع أرضا، فهو أحق ما أقام، وإن رجل فسابلة، فإن عاد فهو أحق بها من غيره، ويختص بها، اختاره أبو الخطاب وغيره.
وإن حفر البئر فلم يصل إلى الماء، فهو كالمتحجر، الشارع في الإحياء.
(2) كنهر وبئر فقد أحياه، لأن نفع الأرض بالماء أكثر من الحائط.
(3) ولا يعتبر أن يزرعها ويسقيها.
(4) فحصل الإحياء به، لأن بذلك يمكن الانتفاع بها فيما أرادها له، من غير حاجة إلى تكرار ذلك في كل عام.
(5) فقط، لأن ذلك مما يتكرر كلما أراد الانتفاع بها، فلم يعتبر في الإحياء، كسقيها، وكالسكنى في البيوت، ولا يحصل الإحياء بذلك، إذا فعله بمجرده، ووجه الموفق وغيره أن حرثها وسقيها إحياء لها، ولا سيما إذا كان مما يعده الناس إحياء، وجرى به العرف، وتهيأت به للانتفاع.
وقال شيخنا: من عمد إلى أرض لا تصلح له، فأصلحها، وقطع شجرها، وجمع إليها السيل، فهو إحياء، فالإحياء كالحرز، يرجع فيه إلى العرف. اهـ. ونص غير واحد في أرض كثيرة الأحجار، أن إحياءها بقلع أحجارها، وتنقيتها، وتهيئتها للزرع، وبغرسها، لأنه يراد للبقاء.(5/481)
(ويملك) المحيي (حريم البئر العاديَّة) بتشديد الياء أي القديمة (1) منسوبة إلى عاد، ولم يرد عادا بعينها (2) (خمسين ذراعا من كل جانب) (3) إذا كانت انطمت، وذهب ماؤها، فجدد حفرها وعمارتها، أو انقطع ماؤها فاستخرجه (4) (وحريم البدَّية) المحدثة (5) (نصفها) خمسة وعشرون ذراعًا (6) .
__________
(1) وهي التي انطمت، وذهب ماؤها، فجدد حفرها وعمارتها، أو انقطع ماؤها فاستخرجه كما يأتي، والحريم هو ما يمنع منه المحيي والمحتفر، لإضراره، سمي بذلك لأنه يحرم منع صاحبه منه، ويحرم على غيره التصرف فيه.
(2) وهي الأمة المشهورة التي كان منزلها الأحقاف، لكن لما كانت عاد في الزمن الأول، وكانت لها آثار في الأرض، نسب إليها كل قديم، وقال الشيخ: هي التي أعيدت.
(3) بذراع اليد، لأنه المتبادر عند الإطلاق، فكل من سبق إلى بئر عادية كان أحق بها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به» .
(4) ملكها بذلك، وملك حريمها إذا كانت في موات.
(5) التي لم يسبق لها عمارة، نصف العادية إذا كانت في موات، وحفرها للتمليك لأجل البئر، أو سقي الماشية.
(6) نص عليه، واختاره أكثر الأصحاب، وجعل للعادية أكثر لغزارة الماء في الغالب.(5/482)
لما روى أبو عبيد في الأموال عن سعيد بن المسيب قال: السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعا، والبدي خمسة وعشرون ذراعا (1) وروى الخلال والدارقطني نحوه مرفوعا (2) وحريم شجرة قدر مد أغصانها (3) .
__________
(1) سعيد بن المسيب، أحد العلماء، والفقهاء السبعة، قال فيه ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه، مات سنة التسعين، وقد ناهز الثمانين، وله نحوه عن يحيى بن سعيد الأنصاري.
(2) فروى الخلال، والدارقطني وغيرهما مرفوعا «حريم البئر البدي، خمس وعشرون ذراعًا، وحريم البئر العادي خمسون ذراعًا» وقال القاضي وغيره: ليس هذا على طريق التحديد، بل حريمها في الحقيقة ما يحتاج إليه في ترقية مائها منها ولأبي عبيد عن ابن المسيب، «وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها» وإن كانت البئر التي لها ماء ينتفع به الناس، فليس لأحد احتكاره كالمعادن الظاهرة.
وإن حفر بئرًا ليرتفق هو بمائها كحفر السفارة في بعض المنازل، كالأعراب ينتجعون، فيحفرون لشربهم وشرب دوابهم، لم يملكوها، وهم أحق بمائها ما أقاموا وعليهم بذل الفاضل لشاربه، وبعد رحيلهم تكون سابلة للمسلمين، فإن عادوا إليها كانوا أحق بها. وللدارقطني من حديث أبي هريرة نحو خبر ابن المسيب، وفيه «والعين السائحة ثلاثمائة ذارع، وعين الزرع ستمائة ذراع» وعليه الأكثر، وقيل: قدر الحاجة، ولو ألف ذراع، اختاره القاضي، والموفق وغيرهما، وحريم النهر قدر ما يلقى منه كسحه، وحريم الأرض قدر ما تحتاج إليه وقت عملها، وإلقاء كسحها، وكذا المسيل حريمه ما يحتاج إليه كسحه ونحوه.
(3) وحريم نخلة مد جريدها، لما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد: اختصم
إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حريم نخلة فأمر بجريدة من جرائدها فذرعت، فكانت سبعة أذرع، أو خمسة أذرع، فقضى بذلك، وهذا كله في الأرض المباحة، وليس لغيره التصرف فيه وأما الأرض المملوكة. فلا حريم فيها، بل كل يتصرف في ملكه ما شاء.(5/483)
وحريم دار من موات حولها، مطرح تراب، وكناسة، وثلج، وماء ميزاب (1) ولا حريم لدار محفوفة بملك (2) ويتصرف كل منهم بحسب العادة (3) ومن تحجر مواتًا بأن أدار حوله أحجارًا ونحوها (4) لم يملكه وهو أحق به (5) ووارثه من بعده (6) .
__________
(1) وممر إلى بابها، ونحو ذلك مما يرتفق به ساكنها، فيحرم على غيره التصرف فيه.
(2) يعني للغير من كل جانب، لأن الحريم من المرافق، ولا يرتفق بملك غيره، لأن مالكه أحق به.
(3) أي ويتصرف كل واحد من أرباب الأملاك المتلاصقة في ملكه، وينتفع به بحسب العادة الجارية، فإن تعدى العادة منع من التعدي، عملاً بالعادة.
(4) كتراب، وشوك، وجدار صغير لا يمنع ما وراءه، أو خندق حول الأرض.
(5) أي لم يملكه بذلك لأن المالك إنما يكون بالإحياء، والمتحجر أحق به من غيره، لقوله «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به» رواه أبو داود، وفي رواية «ما لم يسبق إليه مسلم فهو له» .
(6) أي يكون وارث المتحجر أحق بذلك من غيره، لقوله «من ترك حقا أو مالا فهو لورثته» ، ولأنه حق للموروث، فقام وارثه مقامه فيه، كسائر
حقوقه، وكذا من ينقله المتحجر إليه، أحق به ممن سواه، لأنه أقامه مقامه فيه، وكذا من نزل عن أرض خراجية أو وظيفة لأهل، فالمنزول له أحق بها من غيره، والنازل كالمتحجر، وقال الشيخ: لا يتعين المنزول له عن الوظيفة، ويولي من له الولاية من يستحقها شرعًا. وأما الأرض الخراجية فقال ابن القيم: من كانت بيده فهو أحق بها بالخراج كالمستأجر، وورثته من بعده.(5/484)
وليس له بيعه (1) (وللإمام إقطاع موات لمن يحييه) (2) لأنه عليه السلام أقطع بلال بن الحارث العقيق (3) (ولا يملكه) بالإقطاع، بل هو أحق من غيره (4) .
__________
(1) أي المتحجر أو وارثه، لأنه لم يملكه، وشرط المبيع أن يكون مملوكًا، وله النزول عنه بعوض، وقيل: له بيعه، لأنه أحق به، وإن لم يتم إحياؤه. وإن طالت المدة عرفا – وقيل: نحو ثلاث سنين – قيل له: إما أن تحييه أو تتركه إن حصل متشوف للإحياء.
(2) ويكون أحق به من غيره، وحكمه حكم المتحجر الشارع في الإحياء كما تقدم، وإقطاع الإمام تسويغه من مال الله شيئا لمن يراه أهلا لذلك، وأكثر ما يستعمل في الأرض والمعادن، وقد قسم الأصحاب الإقطاع إلى ثلاثة أقسام، إقطاع تمليك، وإقطاع استغلال، وإقطاع إرفاق، وإقطاع التمليك إلى موات، وعامر، ومعادن، والاستغلال إلى عشر وخراج، وبدأ بإقطاع الموات لمن يحييه.
(3) ويأتي لفظه. وأقطع وائل بن حجر أرضا بحضرموت، صححه الترمذي، وأقطع عمر وعثمان وجمع من الصحابة، وهو مذهب جمهور العلماء، حتى قال مالك: يثبت الملك بنفس الإقطاع.
(4) وهذا مذهب الشافعي وغيره، لما روى أبو عبيد وغيره أن النبي صلى الله
عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق؛ وأن عمر قال لبلال: لم يقطعك لتحجبه عن الناس، إنما أقطعك لتعمر، فخذ منها ما قدرت على عمارته، ورد الباقي. ورد أيضًا قطيعة أبي بكر لعيينة بن حصن، وجاء غير ذلك مما يدل على أن المقطع أحق من غيره، وأولى بإحيائه، ولكن لا يملكه بالإقطاع، فإنه لو ملكه ما جاز استرجاعه، وإنما حكمه حكم المتحجر، الشارع في الإحياء، ولا ينبغي للإمام أن يقطع إلا ما قدر المقطع على إحيائه، فإن أقطع أحدًا أكثر منه، ثم تبين عجزه استرجعه، كما فعل عمر.(5/485)
فإذا أحياه ملكه (1) وللإمام أيضًا إقطاع غير موات، تمليكًا وانتفاعًا للمصلحة (2) .
__________
(1) أي فإن أحياه المقطع بما يعد إحياء كما تقدم، ملك ما أقطع بالإحياء، لا بالإقطاع فقط عند الجمهور، والمعدن بإظهاره، لا الظاهر، والجاري، فمشترك لمن يحييه، وإقطاع استغلال، وهو إقطاع منفعة الأرض لمن شاء، يستغلها أو يؤجرها.
(2) أي التي يجوز الإقطاع لأجلها، ابتداءً ودوامًا، كما في الإقناع، وأنه لو كان ابتداؤه لمصلحة، ثم في أثناء الحال فقدت، فللإمام استرجاع الإقطاع، لأن الحكم يدور مع علته، وهذا ظاهر في إقطاع الانتفاع، أما إقطاع التمليك فغير ظاهر، لأنه يملكه بالإحياء.
وفي رواية حنبل: للإمام أن يعطي من بيت المال، ويقف على بعض المسلمين، وما في معنى ذلك، وأفتى بذلك ابن عقيل وغيره، وحكم بها عز الدين بن جماعة في الديار المصرية، ونفذ حكمه المالكي، والحنفي، والحنبلي، والمرداوي، وأشار الحارثي إلى اشتراط كون المقطع من أهل المصالح العامة، كالقضاة، والعلماء، والفقراء، والجند، والعمال، ونحوهم.(5/486)
(و) له (إقطاع الجلوس) للبيع والشراء (في الطرق الواسعة) (1) ورحبة مسجد غير محوطة (2) (ما لم يضر بالناس) لأنه ليس للإمام أن يأذن فيما لا مصلحة فيه، فضلا عما فيه مضرة (3) (ويكون) المقطع (أحق بجلوسها) (4) ولا يزول حقه بنقل متاعه منها (5) لأنه قد استحق بإقطاع الإمام (6) وله التظليل على نفسه بما ليس ببناء بلا ضرر (7) ويسمى هذا: إقطاع إرفاق (8) (ومن غير إقطاع) للطرق الواسعة (9) .
__________
(1) لمحتاج إلى الجلوس فيها، فللإمام أن يقطعه إقطاع منفعة.
(2) لأن المحوطة لا يجوز فيها البيع ونحوه، بل هي من المسجد، والرحبة بالفتح وتسكينها، وجمعها رحب ورحاب، وهي ساحته.
(3) فيحرم عليه أن يأذن فيما فيه مضرة على الناس.
(4) من غيره ما لم تزل رغبته، فإذا زالت فهو كغيره.
(5) بل هو أحق بها من غيره، سواء ترك قماشه فيها أو لا.
(6) فلم يزل حقه بنقل متاعه، ما لم يعد الإمام في إقطاعه، لأن له الاجتهاد في قطعه، كما أن له الاجتهاد في ابتدائه.
(7) من بارية وكساء، لدعاء الحاجة إليه، وليس له أن يبني دكة ولا غيرها في الطريق ولو واسعا، ولا في رحبة المسجد، لما فيه من التضييق.
(8) وإقطاع منفعة لا تمليك، و"ارتفق بالشيء" انتفع به.
(9) أي ولمن سبق بالجلوس من غير إقطاع للطرق الواسعة الحق بالجلوس، ما بقي قماشة فيها.(5/487)
والرحبة غير المحوطة الحق (لمن سبق بالجلوس، ما بقي قماشه فيها (1) وإن طال) جزم به في الوجيز (2) لأنه سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فلم يمنع (3) فإذا نقل متاعه كان لغيره الجلوس (4) وفي المنتهى وغيره: (5) فإن أطاله أزيل، لأنه يصير كالمالك (6) (وإن سبق اثنان) فأكثر إليها (7) وضاقت (اقترعا) (8) .
__________
(1) ويكون أحق بها، للخبر الآتي، واتفاق علماء الأمصار في سائر الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير نكير، وذلك ما لم يضيق، أو يضر بالمارة أو بجاره، وله الجلوس، ولو ليلا، وكذا لو أجلس غلامه أو أجنبيا ليحفظ له المكان حتى يعود، و"القماش" بضم القاف المتاع، وما على وجه الأرض من فتات الأشياء.
(2) لعموم الخبر.
(3) لقوله صلى الله عليه وسلم «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» ولحديث الزبير «فيحتطب فيضعه في السوق» ولأنه ارتفاق بمباح بلا إضرار، فلم يمنع منه كالاجتياز.
(4) في مكانه، ولو لم يأت الليل، ولا يحتاج فيه إلى إذن الإمام، بخلاف المقطع، لأن استحقاقه بإقطاع الإمام، فلا يزول حقه بنقل متاعه، وهذا استحقاقه بسبقه ومقامه فيها، فإذا انتقل عنها زال استحقاقه.
(5) كالإقناع وشرحهما، وقدمه الشارح وغيره.
(6) ولفظ الشرحين: كالتملك، ويختص بنفع يساويه فيه غيره، وإن قام وترك متاعه لم يكن لغيره إزالته.
(7) إي إلى الطريق الواسع، وكذا الشارع، أو إلى رحبة المسجد غير المحوطة.
(8) أي وضاقت الطريق أو الرحبة ونحوها اقترعا، وكذا إن كانوا أكثر، وضاق المكان عن انتفاعهم جميعهم، أقرع بينهم.(5/488)
لأنها استويا في السبق، والقرعة مميزة (1) ومن سبق إلى مباح من صيد، أو حطب، أو معدن ونحوه (2) فهو أحق به (3) وإن سبق إليه اثنان قسم بينهما (4) (ولمن في أعلى الماء المباح) كماء مطر (5) (السقي وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه (6) ثم يرسله إلى من يليه) (7) فيفعل كذلك، وهلم جرا (8) فإن لم يفضل عن الأول أو من بعده شيء فلا شيء للآخر (9) .
__________
(1) تميز وتخرج سبقه شرعًا، كما تميز وتخرج سبقه قدرًا.
(2) كثمر مباح، ومنبوذ رغبة عنه، ونثار في عرس، وما يتركه حصاد من زرع، ولقاط من ثمر، ونحو ذلك.
(3) فيملكه بأخذه، مسلما كان أو ذميا، والملك فيه مقصور على القدر المأخوذ.
(4) بالسوية، لاستوائهما في السبب، وكذا لو أخذه عدد دفعة واحدة، قسم بينهم بالسوية.
(5) والنهر الصغير غير المملوك، وازدحم فيه وتشاحوا.
(6) والكعب هو العظم الناتيء في أسفل الساق من جانب القدم، ولكل قدم كعبان.
(7) أي إلى من يلي الساقي أولا، ثم الذي يلي الأعلى.
(8) أي فيفعل الذي يلي الأعلى كما يفعل الأعلى، يسقي ويحبس إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه، وهلم جرا، هكذا الأعلى فالأعلى، إلى انتهاء الأراضي.
(9) إذ ليس له إلا ما فضل، كالعصبة مع أصحاب الفروض في الميراث،
وإن كان بعض أرضه مستفلا، وبعضها مستعليا، سقي كل واحدة على حدتها ثم أرسله، وإن استوى اثنان في القرب اقتسما إن أمكن، وإلا أقرع بينهما للتقدم.(5/489)
لقوله عليه السلام «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجدر» متفق عليه (1) وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: نظرنا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم «ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجدر» فكان ذلك إلى الكعبين (2) فإن كان الماء مملوكا، قسم بين الملاك بقدر النفقة والعمل (3)
__________
(1) وكان الزبير رضي الله عنه تخاصم مع رجل من الأنصار في شراج الحرة التي يسقون بها النخل إذا سالت من ماء المطر، وكان يمر بأرض الزبير، فيحبسه لإكمال سقي أرضه، وطلب الأنصاري تعجيل إرساله، فقال «اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك» فغضب الأنصاري فقال «اسق يا زبير، ثم احبس الماء» أي على أرضك «حتى يصل» أي الماء «إلى الجدر» أي جدران الشربات التي في أصول النخل، والمعنى حتى يبلغ تمام الشرب.
(2) وذلك لما علم السلف أن الجدر يختلف بالطول والقصر، قاسوا ما وقعت فيه القصة، فوجدوه يبلغ الكعبين، فجعلوا ذلك معيارًا لاستحقاق الأول فالأول. ولأبي داود وغيره من حديث عمرو بن شعيب أنه صلى الله عليه وسلم «قضى في سيل مهزور» واد بالمدينة مشهور «أن يمسك الأعلى حتى يبلغ السيل الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل» وغيره مما يدل على أن الأعلى تستحق أرضه الشرب، ويمسك إلى الكعبين، ثم يرسله إلى من يليه، وقال الموفق وغيره: لا نعلم فيه خلافًا.
(3) لأنه إنما ملك بالعمارة، والعمارة بالنفقة، فإن لم يكفهم وتراضوا على قسمته بمهاياة أو غيرها جاز، وإن تشاحوا قسمه الحاكم بينهم على قدر أملاكهم، لأن كل واحد منهم يملك من النهر بقدر ذلك.(5/490)
وتصرف كل واحد في حصته بما شاء (1) (وللإمام دون غيره حمى مرعى) أي أن يمنع الناس من مرعى (2) (لدواب المسلمين) التي يقوم بحفظها (3) كخيل الجهاد والصدقة (4) (ما لم يضرهم) بالتضييق عليهم (5) لما روى عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم «حمى النقيع لخيل المسلمين» رواه أبو عبيد (6) .
__________
(1) لانفراده بملكه، فله أن يسقي به ما شاء من الأرض، سواء كان لها رسم شرب من هذا الماء أو لا، وله أن يعطيه من يسقي به، وله عمل رحى عليه ونحوه.
(2) أي أن يحمي أرضا مواتا، يمنع الناس رعي حشيشها ليختص بها، وكان بعض العرب يفعله في الجاهلية، وليس لغير الإمام، أن يفعل ذلك، لقيام الإمام مقام المسلمين فيما هو من مصالحهم دون غيره.
(3) وماشية الضعيف من الناس.
(4) ونعم الجزية، وضوال الناس.
(5) قال الموفق: وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي في صحيح قوليه، وقال الوزير: اتفقوا على أنه يجوز للإمام أن يحمي الحشيش في أرض الموات لإبل الصدقة، وخيل المجاهدين، ونعم الجزية، والضوال، إذا احتاج إليها، ورأى فيها المصلحة. اهـ. وإن ضيق على المسلمين حرم، لعدم المصلحة فيه.
(6) صوابه «ابن عمر» والنقيع بالنون، رواه أحمد وغيره، وقال البخاري وغيره: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأصل النقيع كل موضع يستنقع فيه الماء، وهذا النقيع على عشرين فرسخا من المدينة، قدره ميل في ثمانية أميال، وعمر رضي الله عنه حمى الشرف والربذة لنعم الصدقة، وقال لمولاه: اضمم جناحك على المسلمين، واتق دعوة المظلوم، وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياك ونعم ابن عوف، وابن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وقال: لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شيئا، قال مالك: بلغني أنه يحمل على أربعين ألفا في سبيل الله، وروي أن عثمان حمى واشتهر فلم ينكر، فكان كالإجماع.(5/491)
وما حماه النبي صلى الله عليه وسلم ليس لأحد نقضه (1) وما حماه غيره من الأئمة يجوز نقضه (2) ولا يجوز لأحد أن يأخذ من أرباب الدواب عوضًا عن مرعى موات أو حمى (3) لأنه عليه السلام «شرك الناس فيه» (4) ومن جلس في نحو جامع لفتوى أو إقراء فهو أحق بمكانه ما دام فيه (5) .
__________
(1) لا مع بقاء الحاجة، ولا مع عدمها، ولا إحياؤه، فإن أحياه لم يملكه.
(2) لأن حمى الأئمة اجتهاد في حماه في تلك المدة دون غيرها، ولا يجوز لهم أن يحموا لأنفسهم شيئا، لقوله عليه الصلاة والسلام «لا حمى إلا لله ورسوله» وقال الوزير: اتفقوا على أن الأرض إذا كانت أرض صلح، أو ما للمسلمين فيه منفعة، فإنه لا يجوز للمسلم أن ينفرد بها.
(3) ولا ضمان على من أخذ منه شيئًا، وعند بعضهم يعزر.
(4) فقال عليه الصلاة والسلام «الناس شركاء في ثلاث، في الماء، والنار، والكلأ» رواه أحمد وغيره، وفيه أحاديث أخر تدل بمجموعها على عدم اختصاص أحد من الناس به، وإذا كان الحمى لكافة الناس تساووا فيه جميعهم.
(5) لا يجوز لأحد إقامته منه.(5/492)
أو غاب لعذر وعاد قريبًا (1) ومن سبق إلى رباط (2) أو نزل فقيه بمدرسة (3) أو صوفي بخانقاه، لم يبطل حقه بخروجه منه لحاجة (4) .
__________
(1) فهو أحق بمكانه، وتقدم في الجمعة أن من سبق إلى مكان فهو أحق به، سواء كان مسجدا أو غيره، في جمعة أو غيرها، لصلاة أو غيرها من الطاعات، وأنه يحرم تأخيره، وإقامته منه والقعود فيه.
(2) لم يبطل حقه بخروجه، وليس المراد به رباط الجهاد، لأنه الفعل، وهذا المقام يسمى رباطا، لأنه مكانه، فالرباط هنا المكان، وهو المدرسة ونحوها.
(3) للتدريس، لم يبطل حقه بخروجه، وإن بعدت حاجته.
(4) ولو بعد ولم يعد قريبا، بأن بعدت حاجته. و"خانقاه" اسم للموضع الذي تكون فيه الصوفية.(5/493)
باب الجعالة (1)
بتثليث الجيم، قاله ابن مالك (2) قال ابن فارس: الجعل، والجعالة، والجعيلة، ما يعطاه الإنسان على أمر يفعله (3) (وهي) اصطلاحًا (أن يجعل) جائز التصرف (شيئًا) متمولاً (معلومًا (4) لمن يعمل له عملاً معلومًا) كرد عبد من محل كذا (5) .
__________
(1) أي: باب بيان أحكام الجعالة، وما تفارق به الإجارة وغيرها.
(2) وصاحب القاموس وغيرهما، وككتاب، وقفل، وسفينة، مشتقة من الجعل بمعنى التسمية، أو من الجعل بمعنى الإيجاب.
(3) وجعل له كذا على كذا. شارطه به عليه.
(4) كأجرة بالرؤية، أو الوصف، لا من مال حربي، فيصح مجهولا، كثلث مال فلان الحربي، لمن يدل على قلعة ونحوها، ولو جعل عوضًا مجهولاً، كقوله: إن رددت عبدي فلك ثوبه أو سلبه، أو محرما كخمر، أو غير مقدور عليه كثلث الآبق، استحق في ذلك أجرة المثل.
(5) ولا فرق بين أن يجعله لمعين، كأن يقول: إن رددت عبدي فلك كذا. فلا يستحقه سواه، أو غير معين، كأن يقول: من رد عبدي فله كذا. فيستحقه من رده، وقال الوزير: اتفقوا على أن راد الآبق يستحق الجعل برده إذا شرط، وقال أبو حنيفة، وأحمد: وإن لم يشترط. وقال مالك: إن كان معروفًا به.(5/494)
أو بناء حائط كذا (1) (أو) عملا (مجهولا (2) مدة معلومة) كشهر كذا (3) (أو) مدة (مجهولة) (4) فلا يشترط العلم بالعمل ولا المدة (5) ويجوز الجمع بينهما هنا (6) بخلاف الإجارة (7) ولا تعيين العامل للحاجة (8) ويقوم العمل مقام القبول (9) .
__________
(1) أي أو أن يجعل شيئًا معلومًا لمن يعمل له عملا معلومًا، كبناء حائط بالتنوين، صفته وقدره كذا.
(2) أي أو أن يجعل شيئا معلوما لمن يعمل له عملا مجهولاً، كخياطة ثوب لم يصفها، أو رد لقطة لم يعين موضعها.
(3) فتصح الجعالة مع جهالة العمل.
(4) كمن حرس زرعي فله كل يوم كذا، وكمن رد لقطتي أو بنى لي هذا الحائط، أو إذا أقرضني زيد بجاهه ألفا، أو أذن بهذا المسجد شهرا، فله كذا.
(5) كما مثل، بل العلم بالجعل في غير مال حربي.
(6) أي بين تقدير المدة، والعمل، لجوازها مع جهالة المدة والعمل للحاجة، كأن يقول: من خاط هذا الثوب في يوم فله كذا، فإن أتى به فيه استحق الجعل، ولم يلزمه شيء آخر، وإن لم يف به فيها فلا شيء له.
(7) فإن الجعالة تخالفها في أِشياء، منها هذه المسألة، ومنها أن العامل لم يلتزم العمل، وأن العقد قد يقع لا مع معين، كـ"ـمن فعل كذا فله كذا".
(8) والتزامه العمل. فيصح العقد في الجعالة أن يقول: من فعل كذا فله كذا. للحاجة إلى ذلك.
(9) أي ويقوم العمل بعد القول في الجعالة إذا قال: من فعل كذا فله كذا. مقام القبول لها.(5/495)
لأنه يدل عليه كالوكالة (1) ودليلها قوله تعالى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} (2) وحديث اللديغ (3) والعمل الذي يؤخذ الجعل عليه (كرد عبد ولقطة) (4) فإن كانت في يده فجعل له مالكها جعلا ليردها لم يبح له أخذه (5) (و) كـ (ـخياطة، وبناء حائط) وسائر ما يستأجر عليه من الأعمال (6) .
__________
(1) أي يدل على القبول في الجعالة، كما يدل العمل في الوكالة على قبول الوكالة.
(2) أي ولمن دل على سارق صواع الملك، حمل بعير، وهذا جعل، فدلت الآية على جواز الجعالة.
(3) أي ودليل جواز الجعالة حديث اللديغ، وهو في الصحيحين وغيرهما، من حديث أبي سعيد، أنهم نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه، فأتوهم وقالوا: هل عند أحد منكم من شيء؟ قال بعضهم: إني والله لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من غنم، فانطلق ينفث عليه، ويقرأ {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فكأنما نشط من عقال، فأوفوهم جعلهم، وقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال «أصبتم اقتسموا واجعلوا لي معكم سهما» .
(4) ودلالة على مسروق، ونحو ذلك للآية وغيرها.
(5) لحصولها في يده وعمله من دون عقد، وعليه حفظ مال أخيه من دون جعل.
(6) أي استحق الجعل كسائر الديون على المجاعل.(5/496)
(فمن فعله بعد علمه بقوله) أي بقول صاحب العمل: من فعل كذا فله كذا (استحقه) لأن العقد استقر بتمام العمل (1) (والجماعة) إذا عملوه (يقتسمونه) بالسوية (2) لأنهم اشتركوا في العمل الذي يستحق به العوض، فاشتركوا فيه (3) (و) إن بلغه الجعل (في أثنائه) أي أثناء العمل (يأخذ قسط تمامه) (4) لأن ما فعله قبل بلوغ الخبر غير مأذون له فيه، فلم يستحق به عوضا (5) وإن لم يبلغه إلا بعد العمل لم يستحق شيئًا لذلك (6) (و) الجعالة عقد جائز (7) .
__________
(1) فاستحق ما جعل له، كالربح في المضاربة.
(2) أي والجماعة إذا فعلت المجاعل عليه يقتسمون الجعل بينهم بالسوية، إذا شرعوا في العمل بعد القول، ما لم يكن الجعل لمعين. فله وحده.
(3) أي في العوض، بخلاف ما لو قال: من دخل هذا النقب فله دينار. فدخل جماعة استحق كل واحد منهم دينارا.
(4) أي قسط تمام العمل الذي سمي الجعل لمن عمله، إن أتمه بنية الجعل، لا ما عمله قبل بلوغ الجعل.
(5) لأنه بذل منافعه متبرعا بها.
(6) العمل، وفي المنتهى وشرحه: وحرم عليه أخذه إلا إن تبرع له به ربه بعد إعلامه بالحال.
(7) من الطرفين، قال الشارح: لا نعلم فيه خلافًا.(5/497)
(لكل) منهما (فسخها) كالمضاربة (1) (فـ) ـمتى كان الفسخ (من العامل) قبل تمام العمل فإنه (لا يستحق شيئًا) (2) لأنه أسقط حق نفسه، حيث لم يأت بما شرط عليه (3) (و) إن كان الفسخ (من الجاعل بعد الشروع) في العمل فـ (ـللعامل أُجرة) مثل (عمله) (4) لأنه عمله بعوض لم يسلم له (5) وقبل الشروع في العمل لا شيء للعامل (6) وإن زاد أو نقص قبل الشروع في الجعل جاز (7) لأنها عقد جائز (8) (ومع الاختلاف في أصله) أي أصل الجعل (9) .
__________
(1) أي لكل من الجاعل والمجعول له المعين فسخها متى شاء، كالمضاربة وغيرها من العقود الجائزة.
(2) لما عمله.
(3) كعامل المساقاة.
(4) عوضا لما عمل قبل الفسخ.
(5) فكان له أجرة عمله.
(6) لأنه عمل غير مأذون فيه، فلم يستحق به شيئًا.
(7) وعمل بالزيادة أو النقص.
(8) فجاز فيه الزيادة والنقص كالمضاربة.
(9) بأن أنكر التسمية أحدهما، فالقول قول من ينفيه، صرح به في الإقناع، والمنتهى، وغيرهما.(5/498)
(أو قدره يقبل قول الجاعل) لأنه منكر (1) والأصل براءة ذمته (2) (ومن رد لقطة أو ضالة (3) أو عمل لغيره عملا بغير جعل) ولا إذن (لم يستحق عوضا) لأنه بذل منفعة من غير عوض، فلم يستحقه (4) ولئلا يلزم الإنسان ما لم يلتزمه (5) (إلا) في تخليص متاع غيره من هلكة (6) فله أجرة المثل ترغيبًا (7) .
__________
(1) أي ومع الاختلاف في قدر الجعل يقبل قول الجاعل، لأنه منكر لما يدعيه العامل زيادة عما يعترف به.
(2) أي والأصل براءة ذمة المجاعل من الزيادة التي يدعيها العامل، وكذا لو اختلفا في عين المجاعل عليه.
(3) بغير جعل لم يستحق عوضا، قال الموفق: لا نعلم في هذا خلافا.
(4) إلا أنه يستثنى من ذلك المعد نفسه للعمل، كالملاح، والحمال، والدلال، ونحوهم إذا عمل بإذن، فله أجرة المثل، لدلالة العرف على ذلك، ومن لم يعد لم يستحق عوضا، ولو أذن له إلا بشرط.
(5) ولم تطب نفسه به، ولم يلزمه به الشرع.
(6) كإخراجه من البحر، أو الحرق، أو وجده في مهلكة يذهب بتركه.
(7) وإن لم يأذن له ربه، لأنه يخشى هلاكه وتلفه على مالكه، وكذا لو انكسرت السفينة، فخلص قوم الأموال من البحر، فتجب لهم الأجرة على الملاك، لأن فيه حثًّا وترغيبًا في إنقاذ الأموال من الهلكة، وقال الشيخ: من استنفذ مال غيره من المهلكة ورده، استحق أجرة المثل، ولو بغير شرط في أصح القولين، وهو منصوص أحمد وغيره. وقال ابن القيم – فيمن عمل في مال غيره عملا بغير إذنه،
ليتوصل بذلك العمل إلى حقه، أو فعله حفظًا لمال المالك، وإحرازًا له من الضياع-: فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله، وقد نص عليه أحمد في عدة مواضع.(5/499)
وإلا (دينارا، أو اثني عشر درهما عن رد الآبق) من المصر أو خارجه (1) روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود (2) لقول ابن أبي مليكة، وعمرو بن دينار: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في رد الآبق إذا جاء به من خارج الحرم دينارًا (3) . (ويرجع) راد الآبق (بنفقته أيضًا) (4) لأنه مأْذون في الإنفاق شرعًا لحرمة النفس (5) .
__________
(1) ومقتضاه أنه يستحق ما ذكر وإن لم يبذل صاحبه إلا دونه، قدمه الحارثي، وفي المبدع والإقناع: لاستقراره عليه كاملا بوجود سببه، والوجه الثاني: لا يستحق إلا ما بذل له. قدمه في الفروع والمنتهى.
(2) وقال أحمد: لا أدري، قد تكلم الناس فيه.
(3) وهذا مرسل، وجزم بعض أهل العلم بهذا التقدير من الشارع، لمجيئه مرفوعًا وموقوفًا، وسواء رده من داخل المصر أو خارجه، قربت المسافة أو بعدت.
(4) من سيده، وكذا ما أنفق على دابة يجوز التقاطها في قوت وعلف، ولو لم يستأذن المالك مع القدرة عليه.
(5) وحثًّا على صون ذلك على ربه، قال ابن القيم: ومتى كان العمل في مال الغير إنقاذًا له من التلف كان جائزًا، كذبح الحيوان المأكول إذا اخيف موته، ولا يضمن ما نقص بذبحه، ولهذا جاز ضم اللقطة، ورد الآبق، وحفظ الضالة، حتى أنه يحسب ما ينفقه على الضالة، والآبق، واللقطة، وينزل إنفاقه عليها منزلة إنفاقه لحاجة نفسه، لما كان حفظا لمال أخيه، وإحسانا إليه، فلو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع، وأن إحسانه يذهب باطلا في حكم الشرع، لما أقدم على ذلك، ولضاعت مصالح الناس، ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضا، وتعطلت حقوق كثيرة، وفسدت أموال عظيمة، ومعلوم أن الشريعة تأبى ذلك.(5/500)
ومحله إن لم ينو التبرع (1) ولو هرب منه في الطريق (2) وإن مات السيد رجع في تركته (3) وعلم منه جواز أخذ الآبق لمن وجده (4) وهو أمانة بيده (5) ومن ادعاه فصدقه العبد أخذه (6) فإن لم يجد سيده دفعه إلى الإمام أو نائبه، ليحفظه لصاحبه (7) .
__________
(1) فلا نفقة له إن نواه، وكذا لو نوى بالعمل التبرع، ولا أجرة له.
(2) فإنه يستحق الرجوع بالنفقة بنية الرجوع، لا في الجعل قبل تسليمه، لأنه لم يتم العمل.
(3) أي رجع في تركة السيد بما أنفق عليه إذا كان نوى الرجوع.
(4) ولأنه لا يؤمن لحاقه بدار الحرب وارتداده، واشتغاله بالفساد.
(5) إن تلف بغير تفريط فلا ضمان عليه، لأنه محسن بأخذه.
(6) بشرط أن يكون العبد مكلفا، لأنه إذا استحق أخذه بوصفه إياه، فبتصديقه على أنه مالكه أولى، هذا إن لم يكن له بينة، فإن أقام بينة أنه له دفعه إليه.
(7) قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا. إلى أن يجده فيدفعه إليه ببينة أو تصديق العبد المكلف.(5/501)
وله بيعه لمصلحة (1) ولا يملكه ملتقطه بالتعريف، كضوال الإبل (2) وإن باعه ففاسد (3) .
__________
(1) ويحفظ ثمنه لربه لانتصابه لذلك، وإن اعترف أنه أعتقه قبل البيع، قبل قوله، وبطل البيع.
(2) لأن العبد يتحفظ بنفسه، وإنما جاز التقاطه لما تقدم.
(3) أي وإن باعه ملتقطه – ولو بعد تعريفه – لغير مصلحة، فبيعه فاسد في قول أكثر أهل العلم، لأنه تصرف فضولي، وتقدم.(5/502)
باب اللقطة (1)
بضم اللام وفتح القاف (2) ويقال: لقاطة، بضم اللام، ولقطة، بفتح اللام والقاف (3) (وهي مال أو مختص ضل عن ربه) (4) قال بعضهم: وهي مختصة بغير الحيوان ويسمى ضالة (5) (و) يعتبر فيما يجب تعريفه أن (تتبعه همة أوساط الناس) بأن يهتموا في طلبه (6) (فأما الرغيف والسوط) وهو الذي يضرب به، وفي شرح المهذب: هو فوق القضيب، ودون العصا (7) .
__________
(1) أي باب بيان أحكام الملتقط.
(2) قال الخلوتي وغيره: هو الأفصح.
(3) ما التقط، وحكاه في القاموس وغيره.
(4) أي واللقطة اسم لما يلتقط من مال كنقد، ومتاع، وكخمرة خلال، وجلد ميتة، ونحوهما، ضل عن ربه.
(5) قال الموفق: الضالة اسم للحيوان خاصة، دون سائر اللقطة؛ وقال ابن رشد: اللقطة بالجملة كل مال لمسلم معرض للضياع، كان ذلك في عامر الأرض أو غامرها، والجماد والحيوان في ذلك سواء، إلا الإبل باتفاق، وقسموها ثلاثة أقسام.
(6) ويأتي بيانه، وعبر بأوساط الناس لأن أشرافهم لا يهتمون بالشيء الكبير وأسقاطهم قد تتبع هممهم الرذل الذي لا يوبه له.
(7) شرح المهذب للإمام النووي المشهور، انتهى فيه إلى باب الربا، وكمله السبكي، في نحو ثلاثة عشر مجلدا.(5/503)
(ونحوهما) كشسع النعل (1) (فيملك) بالالتقاط (بلا تعريف) ويباح الانتفاع به (2) لما روى جابر قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا، والسوط، والحبل، يلتقطه الرجل ينتفع به، رواه أبو داود (3) وكذا التمرة والخرقة (4) وما لا خطر له (5) ولا يلزمه دفع بدله (6) (وما امتنع من سبع صغير) كذئب (7) .
__________
(1) السير الذي يدخل بين الإصبعين.
(2) في الحال، قال الموفق: لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في إباحة اليسير، والانتفاع به.
(3) ومر صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق فقال «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» متفق عليه، وقال سويد بن غفلة، التقطت سوطا، فقيل لي: ألقه. فأبيت، وأتيت أبي بن كعب فذكرت ذلك له، فقال: أصبت. فدل الحديثان ونحوهما والأثر، على جواز الانتفاع بما يوجد في الطرقات ونحوها من المحقرات، ولأنه لم تجر عادة المسلمين بالتعريف بمثل ذلك.
(4) يعني القطعة من الثوب، وما قيمته كقيمة ذلك.
(5) أي لا قيمة له تتبعه الهمة، أشبه المنبوذ، رغبة عنه.
(6) يعني إن وجد ربه، لأنه صلى الله عليه وسلم رخص فيه، ولم يذكر فيه ضمانًا، وظاهره أنه إن بقي بعينه لزمه رده لربه، كما في الإقناع، وكذا لو لقي كَنَّاس ومن في معناه قطعا صغارا متفرقة من فضة ملكها، ولا يلزمه دفع بدلها.
(7) وثعلب، وابن آوى، وولد الأسد، وهذا شروع في القسم الثاني، وهو الضوال.(5/504)
ويرد الماء (1) (كثور وجمل ونحوهما) كالبغال، والحمير (2) والظباء، والطيور، والفهود (3) ويقال لها الضوال، والهوامي، والهوامل (4) (حرم أَخذه) (5) .
__________
(1) أي ويقدر يرد الماء، لقوله صلى الله عليه وسلم «ترد الماء، وتأكل الشجر» .
(2) أما الإبل، والخيل، والبغال، والبقر، فلكبر جثتها، وقال ابن رشد: أما الإبل فاتفقوا على أنها لا تلتقط، وأما البقر فعند الشافعي كالإبل، ولخبر جرير أنه طردها، وكذا الخيل والبغال، وأما الحمير، فقال الموفق: جعلها أصحابنا من هذا القسم الذي لا يجوز التقاطه، لكبر أجسامها، كالخيل والبغال، والأولى إلحاقها بالشاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الإبل، والحمر مساوية للشاة في علتها، فإنها لا تمتنع من الذئب، وتفارق الإبل في علتها، لكونها لا صبر لها على الماء، وإلحاق الشيء بما ساواه في علة الحكم، وفارقه في الصورة، أولى من إلحاقه بما قاربه في الصورة، وفارقه في الحكم. اهـ.
(3) أي وإما لسرعة عدوها كالظباء، أو لطيرانها كالطيور أو أنيابها كالفهود لامتناعها بسرعة عدوها، وطيرانها، وأنيابها، إذا كانت الفهود معلمة، أو قابلة للتعليم، وإلا فليست مالا، قال الشيخ: ولا يلتقط الطير والظباء ونحوها إذا أمكن صاحبها إدراكها.
(4) الضوال جمع ضال، وهي اسم للحيوان خاصة الضال عن ربه، وفي الحديث «اللهم رب الضالة رد على ضالتي» والهوامي: الماشية بلا راع، جمع هامية، وكذا الهوامل.
(5) أي حرم أخذ ما ذكر من ضوال الحيوان في الجملة.(5/505)
لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ضالة الإبل «مالك ولها؟ (1) معها سقاؤها، وحذاؤها (2) ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها» متفق عليه (3) وقال عمر: من أَخذ الضالة فهو ضال، أي مخطئ (4) فإن أَخذها ضمنها (5) .
__________
(1) استفهام إنكار، وسئل أيضًا صلى الله عليه وسلم عن هوامي الإبل فقال «ضالة المسلم حرق النار» .
(2) سقاؤها جوفها، وحذاؤها خفها، يريد صلى الله عليه وسلم شدة صبرها عن الماء، لكثرة ما توعي في بطونها منه، وقوتها على وروده.
(3) فحكم صلى الله عليه وسلم بأنها لا تلتقط، بل تترك ترد المياه، وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها، واتفق على ذلك أهل العلم في الجملة.
(4) ولأحمد وغيره مرفوعا «لا يؤوي الضالة إلا ضال» .
(5) إن تلفت أو نقصت، كغاصب إن لم يكتمها، فإن كتمها حتى تلفت، ضمنها بقيمتها مرتين، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الضالة المكتومة «غرامتها ومثلها معها» قال أبو بكر في التنبيه: وهذا حكم رسول صلى الله عليه وسلم، فلا يرد، ونص عليه أحمد وغيره. وفي الإنصاف: وهو المذهب. وإذا خيف على الضالة في أرض مسبعة أو قريب من دار حرب، أو بموضع يستحل أهله أموال المسلمين، أو في برية لا ماء فيها ولا مرعى، فاختار الموفق وغيره جواز أخذها ولا ضمان على آخذها لأنه إنقاذ من الهلاك وتقدم، وفي الإنصاف: لو قيل بوجوب أخذها والحالة هذه لكان له وجه، ويجوز التقاط صيود متوحشة، لو تركت رجعت إلى الصحراء، بشرط عجز ربها عنها، ويجوز التقاط قن صغير، ولا يملك، لأنه محكوم بحريته، ويزول ضمان المحرم التقاطه بدفعه إلى إمام أو نائبه.(5/506)
وكذا نحو حجر طاحون، وخشب كبير (1) (وله التقاط غير ذلك) أي غير ما تقدم من الضوال ونحوها (2) (من حيوان) كغنم، وفصلان (3) وعجاجيل، وأفلاء (4) (وغيره) كأثمان، ومتاع (5) (إن أمن نفسه على ذلك) (6) وقوي على تعريفها (7) لحديث زيد بن خالد الجهني قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أي وكإبل ونحوها مما يحرم أخذه، نحو حجر طاحون كبير، وقدور ضخمة، وخشب كبيرة، ونحو ذلك مما يتحفظ بنفسه، ولا يكاد يضيع عن صاحبه، ولا يبرح عن مكانه، بل هو أولى أن يحرم أخذه من الضوال.
(2) كحجر طاحون، وهو القسم الثالث.
(3) جمع فصيل، وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه، إذا كان صغيرا لا يمتنع من الذئب ونحوه، فحكمه حكم الشاة بتنبيه النص ودلالته.
(4) العجاجيل جمع عجل، وهو ولد البقرة حين يوضع، و"أفلاء": بالمد جمع فلو بوزن سحر، وجرو، وعدو، وسمو، وفي القاموس: هو ولد الفرس، وولد الحمار، ومن نحو دجاج وأوز.
(5) الأثمان الذهب والفضة، والمتاع نحو خشب صغار، وقطع حديد، ونحاس ورصاص، وغرائر نحو حب، وكتب، وما جرى مجرى ذلك، وكمريض من كبار إبل، سواء وجد ذلك بمصر أو بمهلكة لم ينبذه ربه رغبة عنه.
(6) فله التقاطها، ولا يضمن إن تلفت بلا تفريط، ولو طرأ قصد الخيانة.
(7) بنفسه أو نائبه، فله التقاطها.(5/507)
عن لقطة الذهب والورق، فقال «اعرف وكاءها، وعفاصها (1) ثم عرفها سنة (2) فإن لم تعرف فاستنفقها (3) . ولتكن وديعة عندك (4) فإن جاء طالبها يوما من الدهر فادفعها إليه» (5) وسأله عن الشاة (6) .
__________
(1) وكاء بكسر الواو ممدود، ما يربط به الوعاء الذي تكون فيه النفقة، والعفاص – بكسر العين – الوعاء الذي تكون فيه النفقة، جلدا كان أو غيره، من "العفص" وهو الثني، لأن الوعاء يثنى على ما فيه، وفي رواية «اعرف خرقتها» .
(2) أي اذكرها للناس في مظان اجتماعهم، من الأسواق، وأبواب المساجد، والمجامع، والمحافل، سنة في قول عامة أهل العلم، ولا يجب التعريف بعد السنة، وما ورد في البخاري من الزيادة على الحول فقال ابن الجوزي وغيره: خطأ من بعض الرواة. فدل الحديث على وجوب التعرف بها وتعريفها.
(3) ففي رواية «إن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإلا فشأنك بها» فدل على جواز التقاط ذلك، وقيس عليه ما تقدم ونحوه، فيملكها بعد ذلك، وحكي إجماعًا وقال ابن رشد: اتفق فقهاء الأمصار على أنه له أن يتصرف فيها.
(4) أي يجب عليك حفظها، فهي أمانة عندك.
(5) وفي رواية «فإن جاء صاحبها فأعطها إياه» يعني إذا وصفها بالصفات التي اعتبرها الشارع، واتفقوا على أنها لا تدفع إليه إذا لم يعرف العفاص ولا الوكاء، وأنه إن غلط لم تدفع إليه، ويجب الرد بالوصف عند الجمهور، فإن الشارع أقامه مقام البينة.
(6) أي ضالة الشاة، وفي لفظ قال «فضالة الغنم» والضالة تقال على الحيوان وما ليس بحيوان يقال له: لقطة.(5/508)
فقال «خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» (1) متفق عليه مختصرًا (2) والأفضل تركها (3) روي عن ابن عباس، وابن عمر (4) .
__________
(1) جنس من السباع، معروف بأكل الشاة ونحوها، والحديث دليل على جواز أخذها، كأنه قال: هي ضعيفة لعدم الاستقلال، معرضة للهلاك، مترددة بين أن تأخذها أنت، أو أخوك، أو يأكلها الذئب، بل حثه على أخذها، لأنه إذا علم أنها إن لم تؤخذ بقيت للذئب، كان أدعى له إلى أخذها.
قال ابن القيم: فيه جواز التقاط الغنم، وأن الشاة: إذا لم يأت صاحبها فهي ملك الملتقط فيخير بين أكلها في الحال وعليه قيمتها، وبين بيعها وحفظ ثمنها، وبين تركها والإنفاق عليها من ماله، وأجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط له أخذها، وإلا بدلها عند الجمهور، وقال ابن المنذر: تملك بالتعريف كالأثمان إجماعًا.
(2) أي لم يسقه بتمامه، وإنما ساق منه المقصود.
(3) أي ترك التقاط ما يجوز التقاطه، اختاره الموفق وغيره.
(4) قال الموفق: ولا يعلم لهما مخالف في الصحابة، ولأنه تعريض لنفسه لأكل الحرام، وتضييع للواجب من تعريفها، وأداء الأمانة فيها، فكان تركه أولى وأسلم، وقال أبو حنيفة والشافعي: الأفضل الالتقاط، لأنه من الواجب على المسلم أن يحفظ مال أخيه المسلم، وقال مالك: إن كان شيئًا له بال يأخذه أحب إلي ويعرفه، لأن فيه حفظ مال المسلم عليه، فكان أولى من تضييعه، وتخليصه من الغرق، وعن الشافعي قول أنه يجب، لقوله {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فإذا كان وليه وجب عليه حفظ ماله، فالله أعلم.(5/509)
(وإلا) يأمن نفسه عليها (فهو كغاصب) (1) فليس له أخذها، لما فيه من تضييع مال غيره (2) ويضمنها إن تلفت، فرط أو لم يفرط، ولا يملكها وإن عرفها (3) ومن أخذها ثم ردها إلى موضعها (4) أو فرط فيها ضمنها (5) ويخير في الشاة ونحوها (6) بين ذبحها وعليه القيمة (7) أو بيعها ويحفظ ثمنها (8) .
__________
(1) لأخذه مال غيره على وجه لا يجوز له أخذه.
(2) فهو كإتلافه، وكما لو نوى تملكها في الحال أو كتمانها.
(3) حيث أنه لم يأمن نفسه عليها ولو عرفها، لأن السبب المحرم لا يفيد الملك كالسرقة.
(4) ضمنها لأنها أمانة حصلت في يده، فلزمه حفظها كسائر الأمانات، وتركها تضييع لها.
(5) كسائر الأمانات، إلا أن يكون ردها بإذن الإمام أو نائبه.
(6) هذا شروع في بعض أحكام القسم الثالث، وهو ثلاثة أضرب «أحدها» الحيوان المأكول فيخير في الشاة ونحوها كفصلان وعاجيل وأفلاء، ودجاج ونحو ذلك بين ثلاثة أمور، ويلزمه فعل الأصلح.
(7) أي ذبح الشاة ونحوها، وعليه قيمتها في الحال، قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها، له أكلها للخبر، ويحفظ صفتها، فمتى جاء ربها فوصفها غرم له قيمتها.
(8) ولو بلا إذن الإمام، لأنه إذا جاز أكلها بلا إذنه فبيعها أولى، وفي الاختيارات: لو باع الملتقط اللقطة بعد الحول فالأشبه أن ربها يملك انتزاعها من المشتري.(5/510)
أو ينفق عليها من ماله بنية الرجوع (1) وما يخشى فساده له بيعه وحفظه ثمنه (2) أو أكله بقيمته (3) أو تجفيف ما يمكن تجفيفه (4) (ويعرف الجميع) وجوبا (5) لحديث زيد السابق (6) نهارا بالنداء (في مجامع الناس) (7) كالأسواق وأبواب المساجد في أوقات الصلوات (8) لأن المقصود إشاعة ذكرها، وإظهارها ليظهر عليها صاحبها (9) .
__________
(1) أي أو حفظها وينفق عليها من ماله – ليحفظها لمالكها – بنية الرجوع، فلو تركها بلا إنفاق وتلفت ضمنها.
(2) أي وما يخشى فساده بإبقائه كخضروات وفواكه، ونحوها فللملتقط بيعه بلا حكم حاكم، وحفظ ثمنه لصاحبه.
(3) أي وله أكله بقيمته، كالشاة، ولحفظ ماليته لصاحبه.
(4) كعنب، وغرامة التجفيف منه، ويفعل ما يرى الأحظ فيه، وإن تركه حتى تلف ضمنه.
(5) فورا لأنه مقتضى الأمر، سواء كان الملتقط حيوانا، أو أثمانا، أو متاعا، وسواء التقطه تملكا، أو حفظا لربه.
(6) وهو قوله «ثم عرفها سنة» وقال الشيخ وغيره: تعرف سنة قريبا من المكان الذي وجدها فيه.
(7) أي يذكرها للناس نهارا أول كل يوم، لأنه هو مجتمع الناس، وملتقاهم.
(8) أدبار الصلوات، فيتحرى مجامع الناس.
(9) فيصلها وتدفع إليه.(5/511)
(غير المساجد) فلا تعرف فيها (1) (حولا) كاملا روي عن عمر، وعلي، وابن عباس (2) عقب الالتقاط، لأن صاحبها يطلبها إذًا (3) كل يوم أسبوعا ثم عرفا (4) وأجرة المنادي على الملتقط (5) (ويملكه بعده) أي بعد التعريف (حكما) أي من غير اختيار كالميراث (6) .
__________
(1) لأن المساجد لم تبن لذلك، وعمر رضي الله عنه أمر واجد اللقطة بتعريفها على باب المسجد، وذكر القسطلاني: لعله إذا وقع التعريف برفع الصوت، لخبر: من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك. أما لو سأل الجماعة في المسجد بدون ذلك فلا تحريم، ولا كراهة، فالله أعلم.
(2) رضي الله عنهم، وللخبر وهو مذهب مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وإن أخره حولا أو بعضه بغير عذر أثم ولم يملكها به.
(3) عقب ضياعها، فيجب تخصيص التعريف باليوم الذي وجدها فيه والأسبوع.
(4) ويكون التعريف فورًا أسبوعًا، لأن الطلب فيه أكثر، ثم بعد الأسبوع عادة الناس في ذلك، وقيل: ثم كل أسبوع مرة، ثم كل شهر مرة، يقول المنادي: من ضاع منه شيء أو نفقة ونحو ذلك؛ واتفقوا على أنه لا يصفها، لأنه لا يؤمن أن يدعيها بعض من سمع صفاتها، فتضيع على مالكها، فيضمنها الملتقط.
(5) لأنه سبب في العمل، والتعريف واجب على الملتقط، فأجرته عليه، وقال الوزير: الجمهور على أن ملتقط اللقطة متطوع بحفظها، فلا يرجع بشيء من ذلك على صاحب اللقطة.
(6) فلا يقف على اختياره، لما تقدم من قوله «فاستنفقها» وفي لفظ «فهي
كسبيل مالك» وفي لفظ «ثم كلها» وفي لفظ «فانتفع بها» وفي لفظ «فشأنك بها» وفي حديث أبي بن كعب «فاستمتع بها» ولأن الالتقاط والتعريف سبب للملك، فإذا تما وجب الملك بثبوته حكما، كالإحياء والاصطياد، إلا أنه ملك مراعى، يزول بمجيء صاحبها.(5/512)
غنيا كان أو فقيرًا (1) لعموم ما سبق (2) ، ولا يملكها بدون تعريف (3) (لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها) (4)
__________
(1) مسلما أو كافرًا، عدلا أو فاسقًا، يأمن على نفسه، ويضم إلى الكافر والفاسق أمين في تعريفها وحفظها، قال الوزير: اتفق فقهاء الأمصار أنه إذا انقضت مدة التعريف كان له أن يأكلها إن كان فقيرًا، ويتصدق بها إن كان غنيا، والجمهور: له أكلها.
(2) أي من قوله صلى الله عليه وسلم «فاستنفقها» وقوله «هي لك» وغير ذلك مما تقدم، وقال بعض الأصحاب: ولو كانت لقطة الحرم، فتملك بالتعريف كلقطة الحل، لعموم الأحاديث، وكحرم المدينة وعن أحمد: لا تملك، وتترك بمكانها. اختاره الشيخ وغيره، وقال: لا تملك بحال، للنهي عنها ويجب تعريفها أبدًا، وهو ظاهر الخبر في النهي عنها، وأما لقطة الحاج فأجمعوا على أنه لا يجوز التقاطها، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك.
(3) بل ويحرم عليه التقاطها، ولو لم يجب التعريف لما جاز الالتقاط، لأن بقاءها في يد الملتقط من غير وصولها إلى صاحبها هو وهلاكها سواء، وإمساكها بدونه تضييع لها عن صاحبها، وقال الموفق: إذا التقطها عازما على تملكها بغير تعريف فقد فعل محرما، ولا يحل له أخذها بهذه النية، فإن أخذها لزمه ضمانها، ولا يملكها وإن عرفها، لأنه أخذ مال غيره على وجه ليس له أخذه فكغاصب.
(4) لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك، والأمر يقتضي الوجوب.(5/513)
أي حتى يعرف وعاءها، ووكاءها وقدرها، وجنسها وصفتها (1) ويستحب ذلك عند وجدانها (2) والإشهاد عليها (3) (فمتى جاء طالبها فوصفها لزم دفعها إليه) بلا بينة ولا يمين (4) وإن لم يغلب على ظنه صدقه (5) لحديث زيد وفيه «فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها، وعددها، ووكاءها، فأعطها إياه (6)
__________
(1) أي لا يجوز له التصرف فيها بعد تعريفها حولا حتى يعرف «وعاءها» وهو ظرفها الذي هي فيه، كيسا كان أو خرقة مشدودة أو قدرا، أو زقا، أو لفافة على نحو ثوب، و «وكاءها» الذي تشد به، و «جنسها، وصفتها» التي تتميز به، ونوعها، ولونها، للخبر.
(2) لأن فيه تحصيلا للعلم بذلك.
(3) لقوله صلى الله عليه وسلم «من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل» رواه أبو داود، لا على صفتها لاحتمال شيوعه، وفي الشرح: يستحب كتب صفتها، ليكون أثبت لها، مخافة نسيانها.
(4) أي فمتى جاء طالبها فوصفها بالصفات السابقة لزم دفعها إليه إن كانت عنده أو بدلها، للخبر، ولو بلا بينة، لأنه يتعذر إقامة البينة عليها غالبًا.
(5) لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك، ولقيام صفتها مقام البينة واليمين، وعدم اعتبار الشارع ظن صدقه وعدمه، بل ربما يكون وصفه لها أظهر وأصدق من البينة واليمين، ويدفع معها نماؤها المتصل والمنفصل في حول التعريف، وبعده المنفصل لواجدها.
(6) فجعل وصفها قائما مقام البينة، واتفق الأئمة الأربعة على أنها لا تدفع إليه إذا لم يعرف العفاص ولا الوكاء، وأنه إن غلط لم تدفع إليه، ولأنها أمانة في يده، فلم يجز دفعها إلى من لم يثبت أنه صاحبها، وإن وصفها اثنان معًا، أو وصفها الثاني قبل دفعها للأول، أو أقاما بينتين أقرع بينهما، فمن قرع حلف وأخذها، وبعد دفعها لا شيء للثاني.(5/514)
وإلا فهي لك" رواه مسلم (1) ويضمن تلفها ونقصها بعد الحول مطلقًا (2) لا قبله إن لم يفرط (3) (والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما) لقيامه مقامهما (4) ويلزمه أخذها منهما (5) فإن تركها في يدهما فتلفت ضمنها (6) فإن لم تعرف فهي لهما (7) .
__________
(1) فيملكها بعد الحول والتعريف سنة، لهذا الخبر وغيره، فإن اللام تنادي بالملك لها حكما، كما تقدم.
(2) فرط أو لم يفرط، لدخولها في ملكه، بمثلها إن كانت مثلية، أو قيمتها يوم ملكها الملتقط، وقال الشيخ: تضمن بالمثل كبدل القرض؛ وإذا قلنا بالقيمة فالقيمة يوم ملكها الملتقط، قطع به ابن أبي موسى وغيره.
(3) ولا يضمنها قبل مضي الحول إن لم يفرط، لأنها في يده أمانة، وحكاه ابن رشد وغيره اتفاقًا، وعند الجمهور: وإن لم يشهد. وإن فرط ضمن، قال الموفق: لا أعلم فيه خلافا.
(4) في التعريف وقد ثبت حق التملك لهما فيها لعموم الأخبار، ولأنها نوع تكسب.
(5) والتحفظ بها كمالهما، لأنهما ليسا بأهل للحفظ والأمانة.
(6) لأنه المضيع لها، لأنه يلزمه حفظ ما يتعلق به حق موليه.
(7) ملكا مراعى، كما تقدم في حق الكبير للعموم، وإن تلفت بيد أحدهم بغير تفريط من أحد منهم فلا ضمان، لأنها كالأمانة.(5/515)
وإن وجدها عبد عدل فلسيده أخذها منه (1) وتركها معه ليعرفها (2) فإن لم يأمن سيده عليها سترها عنه وسلمها للحاكم (3) ثم يدفعها إلى سيده بشرط الضمان (4) والمكاتب كالحر (5) ومن بعضه حر فهي بينه وبين سيده (6) (ومن ترك حيوانا) لا عبدًا أو متاعًا (بفلاة لانقطاعه (7) أو عجز ربه عنه ملكه آخذه) (8) .
__________
(1) ليعرفها، وإن عرفها وأدى الأمانة فيها فتلفت في الحول الأول بغير تفريط فلا ضمان.
(2) أي ولسيد العبد ترك اللقطة مع العبد ليعرفها إن كان عدلا، ويكون السيد مستعينًا به في حفظها كسائر ماله، وإن كان غير أمين وتركها معه فتلفت ضمنها لتفريطه.
(3) أي ستر العبد اللقطة عن سيده، لأنه ثم وسيلة لحفظها، وسلمها للحاكم ليعرفها.
(4) لأنها من كسب العبد، ولو أعتقه بعد التقاطه كان له انتزاعها من سيده، لأنها من كسبه، ومثله أم ولد، ومدبر، ومعلق عتقه بصفة، إلا إن تلفت من أم الولد بتفريطها فداها بالأقل، كسائر إتلافاتها.
(5) أي والمكاتب في الالتقاط، كالحر، لأنه يملك اكتسابه.
(6) على قدر ما فيه من الحرية والرق، كسائر اكتسابه.
(7) بعجزه عن مشي، أو ترك بمهلكة، ملكه آخذه.
(8) أي عجز ربه عن نحو علفه ملكه آخذه، لخبر «من وجد دابة قد عجز
أهلها عنها فسيبوها فأخذها فهي له» رواه أبو داود، ولأنها تركت رغبة عنها، أشبهت سائر ما ترك رغبة عنه.(5/516)
بخلاف عبد ومتاع (1) وكذا ما يلقى في البحر خوفًا من غرق فيملكه آخذه (2) وإن انكسرت سفينة فاستخرجه قوم فهو لربه وعليه أجرة المثل (3) (ومن أخذ نعله ونحوه) من متاعه (4) (ووجد موضعه غيره فلقطة) (5) ويأخذ حقه منه بعد تعريفه (6) وإذا وجد عنبرة على الساحل فهي له (7) .
__________
(1) أي فلا يملك بذلك اقتصارا على النص، ولأن العبد يمكنه في العادة التخلص إلى الأماكن التي يعيش فيها، والمتاع لا حرمة له في نفسه، ولا يخشى عليه التلف كما يخشى على الحيوان.
(2) لإلقاء صاحبه له اختيارا، فيما يتلف بتركه، أشبه ما لو ألقاه رغبة عنه.
(3) وتقدم في الباب الذي قبله.
(4) كثياب في حمام.
(5) لا يملكه بذلك، لأن سارق الثياب ونحوها، لم يجر بينه وبين مالكها معاوضة، تقتضي زوال ملكه عنها.
(6) أي ويأخذ رب النعل ونحوها حقه، مما ترك له بعد تعريفه، ويتصدق بالباقي، وقال الموفق: هذا أقرب إلى الرفق بالناس.
(7) لأن الظاهر أن البحر قذفها فهي مباحة، ومن سبق إلى مباح فهو له، وإن لم تكن على الساحل فلقطة.(5/517)
باب اللقيط (1)
بمعنى ملقوط (2) (وهو) اصطلاحا: (طفل (3) لا يعرف نسبه ولا رقه (4) نبذ) أي طرح في شارع أو غيره (5) (أو ضل (6) وأخذه فرض كفاية) (7) لقوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (8) .
__________
(1) أي باب ذكر أحكام اللقيط ووجوب أخذه، ومن يقر في يده.
(2) فعيل بمعنى مفعول، كقتيل وجريح، وهو طفل منبوذ.
(3) وهو ممن لم يميز من ذكر وأنثى، وصبي وغلام، ويافع ويتيم: من لم يبلغ، فالطفل إلى تمييزه، وعند أكثر الأصحاب إلى البلوغ، وقال ابن رشد: هو الصبي الصغير غير البالغ، وإن كان مميزًا ففيه في مذهب الشافعي تردد.
(4) أي لا يعرف ممن هو، ولا لمن هو.
(5) كمسجد.
(6) أي ضل الطريق فيما بين ولادته إلى سن التمييز، أو إلى البلوغ عند الأكثر.
(7) إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، فلو تركه جماعة أثموا مع إمكان أخذه.
(8) فعموم الآية يدل على وجوب التقاطه، ولأن فيه إحياء نفسه، فكان واجبا كإطعامه إذا اضطر، وإنجائه من الغرق؛ وروى سعيد عن أبي جميلة أنه وجد لقيطًا، فجاء به إلى عمر، فقال: هو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته.(5/518)
ويسن الإشهاد عليه (1) (وهو حر) في جميع الأحكام (2) لأن الحرية هي الأصل، والرق عارض (3) (وما وجد معه) من فراش تحته (4) أو ثياب فوقه (5) أو مال في جيبه (6) (أو تحته ظاهرًا (7) أو مدفونًا طريا (8) أو متصلاً به كحيوان وغيره) مشدودا بثيابه (9) .
__________
(1) كاللقطة، ودفعا لنفسه، لئلا تراوده باسترقاقه، والإشهاد على ما معه إن كان معه شيء.
(2) أي واللقيط حر، قال الموفق: في قول عامة أهل العلم؛ وقال ابن المنذر: أجمع عليه عوام أهل العلم في جميع الأحكام، حتى في قود وقذف على الصحيح من المذهب، وقال الوزير: اتفقوا أنه حر وأن ولاءه لجميع المسلمين.
(3) أي لأن الحرية في بني آدم الأصل، لأن الله خلق آدم وذريته أحرارًا، والرق عارض، فإذا لم يعلم فالأصل عدمه.
(4) كوطاء ووسادة وسرير.
(5) أو غطاء عليه، أو حلي، ونحو ذلك.
(6) أو مجعولا معه كالسرير.
(7) أي أو تحت اللقيط أو تحت فراشه أو وسادته، ظاهرا غير مدفون.
(8) أي أو وجد المال مدفونًا تحته، تجدد حفره طريا، لأنه إذا كان طريا، فالأقرب أن واضع اللقيط حفره وإلا فلا.
(9) أو سريره، وكذا ما بيده من عنان دابة، أو مربوط عليها، أو مربوطة به، لأن يده عليه.(5/519)
(أو) مطروحًا (قريبا منه فـ) ـهو (له) عملاً بالظاهر (1) ولأن له يدا صحيحة كالبالغ (2) (وينفق عليه منه) ملتقطه بالمعروف، لولايته عليه (وإلا) يكن معه شيء (فمن بيت المال) (3) لقول عمر رضي الله عنه: اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته (4) . وفي لفظ: وعلينا رضاعه (5) . ولا يجب على الملتقط (6) .
__________
(1) فما كان متصلا به أو متعلقًا به منفعته، فهو تحت يده، ويثبت بذلك ملكه عملا بالظاهر.
(2) أي لأنه كالمكلف ويمتنع التقاطه بدون التقاط المال الموجود، لما فيه من الحيلولة، بين المال ومالكه.
(3) وهذا مذهب الجمهور، قال الوزير: اتفقوا على أنه إن وجد معه مال أنفق عليه منه، فإن لم يوجد معه نفقة أنفق عليه من بيت المال.
(4) «ولاؤه» أي ولايته «وعلينا نفقته» ، يعني من بيت مال المسلمين، وفي رواية: من بيت المال.
(5) يعني في بيت المال؛ والخبر رواه سعيد بن منصور عن سنين أبي جميلة، وكان أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد عام الفتح.
(6) أي ولا يجب على الملتقط نفقته، ولا رضاعه، قال الموفق: في قول عامة أهل العلم، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه، على أن نفقة اللقيط غير واجبة على الملتقط، كوجوب نفقة الولد، لأن الالتقاط تخليص له من الهلاك، وتبرع بحفظه فلا يوجبها.(5/520)
فإن تعذر الإنفاق من بيت المال (1) فعلى من علم حاله من المسلمين (2) فإن تركوه أثموا (3) (وهو مسلم) إذا وجد في دار الإسلام (4) وإن كان فيها أهل ذمة، تغليبا للإسلام والدار (5) وإن وجد في بلد كفار لا مسلم فيه فكافر تبعًا للدار (6) .
__________
(1) ككون البلد ليس له بيت مال، أو به ولا مال به ونحوه، وتعذر اقتراض حاكم على بيت المال.
(2) لقوله {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ولما في ترك الإنفاق عليه من هلاكه.
(3) أي فإن تركه المسلمون مع العلم به أثموا، لأن النفقة عليه فرض كفاية، والنفقة عليه وجبت للمواساة، كقرى الضيف، وإذا أنفق الملتقط أو غيره عليه نفقة المثل، بنية الرجوع إذا أيسر، بأمر الحاكم، لزمه، وبدون إذن من بيت المال.
(4) محكوم بإسلامه وحريته، لخبر «كل مولود يولد على الفطرة» الحديث وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا وجد لقيط في دار الإسلام فهو مسلم، إلا أبا حنيفة، قال: إن وجد في كنيسة أو بيعة، أو قرية من قرى أهل الذمة فهو ذمي. واتفقوا على أنه يحكم بإسلام الصغير بإسلام أبيه، وأنه يحكم بإسلام أمه كأبيه.
(5) أي حيث كانت دار إسلام، فيحكم بإسلامه إذا كان فيها مسلم أو مسلمة يمكن كونه منه.
(6) أو فيه مسلم، كتاجر فكافر رقيق، لأن الدار لهم، وإن كثر المسلمون بدار حرب، فلقيطها مسلم، تغليبًا للإسلام. وإن كان في بلد إسلام، كل أهله أهل ذمة فكافر، لأنه لا مسلم فيها.(5/521)
(وحضانته لواجده الأمين) (1) لأن عمر أقر اللقيط في يد أبي جميلة حين قال له عريفه: إنه رجل صالحه (2) (وينفق عليه) مما وجد معه (3) من نقد أو غيره (4) (بغير إذن حاكم) لأنه وليه (5) فإن كان فاسقًا أو رقيقًا أو كافرًا واللقيط مسلم (6) أو بدويًّا ينتقل في المواضع (7) أو وجده في الحضر فأراد نقله إلى البادية لم يقر بيده (8) .
__________
(1) أي أولى الناس بحضانته وحفظ ماله، واجده، لأنه وليه «الأمين» أي العدل ولو ظاهرا الحر المكلف الرشيد، وقال ابن رشد: هو كل حر عدل رشيد.
(2) وقال: لك ولاؤه؛ أي ولايته، ولسبقه إليه، فكان أولى به.
(3) لأنه وليه، وما وجد معه ملك له، فينفق عليه.
(4) فيبيع نحو دابة وينفق عليه من ثمنها.
(5) ويكون إنفاقه عليه بالمعروف، والمستحب بإذنه إن وجد، لأنه أبعد من التهمة، وخروج من الخلاف، وحفظ لماله من أن يرجع عليه.
(6) لم يقر بيده، لانتفاء ولاية الفاسق ظاهر الفسق، وأهلية حضانة الرقيق على الأحرار بدون إذن سيده، ولأنه لا ولاية لكافر على مسلم ولا يؤمن فتنته في الدين، ولا يقر بيد صبي، ولا مجنون ولا سفيه، وإن أذن السيد فنائب عن رقيقه.
(7) لم يقر بيده، لأنه إتعاب للطفل بتنقله، فيؤخذ منه ويدفع إلى من في قرية، لأنه أرفه له وأخف عليه.
(8) لأن مقامه في الحضر أصلح له في دينه ودنياه، وأرفه له وأرجى لكشف نسبه وظهور أهله.(5/522)
(وميراثه وديته) كدية حر (لبيت المال) (1) إن لم يخلف وارثًا (2) كغير اللقيط، ولا ولاء عليه (3) لحديث «إنما الولاء لمن أعتق» (4) (ووليه في) القتل (العمد) العدوان (الإمام (5) يخير بين القصاص والدية) لبيت المال (6) لأنه ولي من لا ولي له (7) وإن قطع طرفه عمدا انتظر بلوغه ورشده (8) .
__________
(1) قال الموفق: وهو قول مالك، والشافعي وأكثر أهل العلم، ولا يرثه الملتقط، وقول عمر: ولك ولاؤه. أي ولايته، وأما ميراث الولاء فلمن أعتق، وديته كسائر ماله، كما أن مال الحر الذي لا وارث له لبيت المال.
(2) أي بفرض أو تعصيب، وإن كان له زوجة فلها الربع.
(3) فاللقيط إذا لم يخلف وارثًا كالحر، ماله لبيت مال المسلمين، فإنهم خولوه كل مال لا مالك له.
(4) ولأنه لم يثبت عليه رق، ولا ولاء على آبائه، فلم يثبت عليه، كالمعروف نسبه، والأصل الحرية، كما تقدم.
(5) لأن المسلمين يرثونه والإمام ينوب عنهم.
(6) ومعنى التخيير هنا: تفويض النظر إليه في أصلح الأمرين، بل يتعين عليه فعل الأصلح، ولا يجوز له العدول عنه، فليس التخيير هنا حقيقة، وعلى هذا يقاس ما ذكره الفقهاء من قولهم: يخير الإمام في كذا، ويخير الولي والوصي في كذا، فليكن منك على بال.
(7) كما في الحديث «السلطان ولي من لا ولي له» .
(8) وحبس الجاني إلى أوان البلوغ والرشد، لئلا يهرب.(5/523)
ليقتص أو يعفو (1) وإن ادعى إنسان أنه مملوكه (2) ولم يكن بيده، لم يقبل إلا ببينة تشهد أن أمته ولدته في ملكه ونحوه (3) (وإن أقر رجل (4) أو امرأة) ولو (ذات زوج مسلم (5) .
__________
(1) لأنه المستحق للاستيفاء، وهو حال صغره لا يصلح للاستيفاء، فانتظرت أهليته، إلا أن يكون فقيرا فيجب على الإمام العفو على مال ينفق عليه.
(2) وهو في يده، صدق بيمينه لدلالة اليد على الملك، هذا إن كان اللقيط طفلاً أو مجنونًا، وإن ادعى على بالغ فأنكر خلي سبيله.
(3) لأن الغالب أنها لا تلد في ملكه إلا ملكه، أو تشهد بينة أن اللقيط بيده، وحلف أنه ملكه، أو تشهد أنه ملكه أو جار في ملكه، أو أنه عبده أو رقيقه، ونحو ذلك، وإن ادعاه الملتقط، لم يقبل إلا ببينة.
(4) يمكن كون اللقيط منه أنه ولده لحقه؛ قال الموفق: بغير خلاف بين أهل العلم.
(5) أي أو أقرت امرأة ذات نسب معروف، أنه ولدها – ولو كانت ذات زوج، لأنها تأتي به من زوج. ومن وطء شبهة – لحقها، هذا المذهب، ويلحقها دون زوجها، وعنه: لا يثبت بدعوتها، لإفضائه إلى إلحاق النسب بزوجها، وفيه ضرر عليه، وعنه: إن كان لها نسب معروف فلا تصدق، لما فيه من تعييرهم بولادتها.
قال الموفق: ويحتمل أن لا يثبت النسب بدعوتها بحال، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن النسب لا يثبت بدعوة المرأة، لأنها يمكنها إقامة البينة على الولادة، فلا يقبل قولها بمجرده.(5/524)
أو كافر أنه ولده لحق به) (1) لأن الإقرار به محض مصلحة للطفل لاتصال نسبه (2) ولا مضرة على غيره فيه (3) وشرطه أن ينفرد بدعوته (4) وأن يمكن كونه منه (5) حرا كان أو عبدًا (6) وإذا ادعته المرأة لم يلحق بزوجها، كعكسه (7) (ولو بعد موت اللقيط) فيلحقه (8) وإن لم يكن له توأم او ولد احتياطا للنسب (9) .
__________
(1) في النسب لا في الدين، ولا حق له في حضانته، ولا يسلم إليه، لأنه لا ولاية للكافر على المسلم، ولأنه محكوم بإسلامه، فلا يقبل قول الذمي في كفره، وإن أقام بينة أنه ولد على فراشه، وقياس المذهب لا يلحقه في الدين، إلا أن تشهد البينة أنه ولد كافرين حيين.
(2) ولوجوب نفقته ولأنه استلحاق لمجهول النسب، ادعاه من يمكن أنه منه.
(3) ولا دافع عنه، ولا ظاهر يرده فوجب اللحاق.
(4) فلو ادعاه اثنان فأكثر، قدم من له بينة، فإن تساووا فيها أو عدمت، عرض على القافة، فإن ألحقته بواحد أو اثنين لحق، ويأتي.
(5) أي وأن يمكن كون اللقيط من المقر.
(6) رجلا كان المقر أو امرأة، ولو كانت أمة، حيًّا كان اللقيط أو ميتًا.
(7) أي لم يلحق بزوجها، ما ادعته أنه ولد على فراشه، ما لم يصدقها، كما لا يلحق بزوجة المقر بدون تصديقها، لأن إقرار أحدهما لا يسري على الآخر بدون بينة.
(8) أي يلحق المقر به من رجل فيرثه أو امرأة على المذهب أو الكافر في نسبه.
(9) أي وإن لم يكن للمقر توأم، أو لم يكن له ولد احتياطًا لنسب المقر به.(5/525)
(ولا يتبع) اللقيط (الكافر) المدعي أنه ولده (في دينه (1) إلا) أن يقيم (بينة تشهد أنه ولد على فراشه) (2) لأن اللقيط محكوم بإسلامه بظاهر الدار، فلا يقبل قول الكافر في كفره بغير بينة (3) وكذا لا يتبع رقيقا في رقه (4) (وإن اعترف) اللقيط (بالرق مع سبق مناف) للرق من بيع ونحوه (5) أو عدم سبقه لم يقبل (6) لأنه يبطل حق الله تعالى من الحرية المحكوم بها (7) سواء أَقر ابتداء لإنسان (8) أو جوابا لدعوى عليه (9)
__________
(1) فلا يتأثر بدعوى الكافر، ولما فيه من الإضرار باللقيط.
(2) فيلحقه في دينه، لثبوت أنه ولد ذميين، استمر أبواه على الحياة والكفر إلى بلوغه عاقلا، وكما لو لم يكن لقيطا ما داما حيين كافرين.
(3) تشهد بأنه ولد على فراشه، وإلا فيتبعه نسبا لا دينا، إن لم تكن له بينة.
(4) لأنه خلاف الأصل، وإضرار بالطفل، إلا ببينة تشهد أنه ولد على فراشه.
(5) كتزويج، أو إصداق، ونحوه.
(6) أي أو اعترف بالرق مع عدم سبق مناف للرق، ولو صدقه المقر له لم يقبل إقراره.
(7) لما يترتب عليها من وظائف شرعية، وعبادات لا توجد مع الرق.
(8) بأن قال: إنه ملك زيد. لم يقبل.
(9) بأن ادعى عليه زيد بالرق، فقال: نعم هو رقيق له؛ لم يقبل إقراره، وكما لو أقر قبل ذلك بالحرية، لأن الطفل المنبوذ لا يعرف رق نفسه، ولا حريتها، ولم يتجدد له حال يعرف به رق نفسه، وإن قامت به بينة قبلت وحكم بها.(5/526)
(أو قال) اللقيط بعد بلوغه: (إنه كافر، لم يقبل منه) (1) لأنه محكوم بإسلامه (2) ويستتاب فإن تاب وإلا قتل (3) (وإن ادعاه جماعة قدم ذو البينة) (4) مسلما أو كافرًا، حرًا أو عبدًا (5) لأنها تظهر الحق وتبينه (6) (وإلا) يكن لهم بينة (7) أو تعارضت عرض معهم على القافة (8) (فمن ألحقته القافة به) لحقه (9) .
__________
(1) وإن كان قد نطق بالإسلام، أو مسلما حكما.
(2) بأن كان وجد في دار إسلام، فيه مسلم يمكن كونه منه، لأن دليل الإسلام وجد عريا عن المعارض، وثبت حكمه، فلم يجز إزالة حكمه بقوله، وحكمه حكم المرشد.
(3) كما لو بلغ سنا يصح إسلامه فيه، ونطق بالإسلام، وهو يعقله، ثم قال: إنه كافر؛ فإن تاب وإلا قتل لأن إسلامه متيقن.
(4) أي وإن ادعى اللقيط اثنان فأكثر سمعت دعواهم، وإذا كان لأحدهم بينة، قدم ذو البينة منهم.
(5) لا فرق، لأن العرب وغيرهم في أحكام الله ولحوق النسب سواء.
(6) أي سميت البينة بينة، لأنها تظهر الحق بعد خفائه وتوضحه، وقال ابن القيم: وإذا وصفه أحدهما بعلامة خفية بجسده، حكم له به عند الجمهور.
(7) عرض على القافة فمن ألحقته به لحقه.
(8) أي: أو إن يكن مع كل واحد منهم بينة وتساووا فيها، والطفل بأيديهم، أو ليس بيد واحد منهم عرض على القافة.
(9) لما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة مسرورًا،
فقال «ألم تري أن مجززا نظر إلى أقدام زيد وأسامة، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» ولحديث الملاعنة.(5/527)
لقضاء عمر به بحضرة الصحابة رضي الله عنهم (1) وإن ألحقته باثنين فأكثر لحق بهم (2) وإن ألحقته بكافر أو أمة لم يحكم بكفره ولا رقه (3) ولا يلحق بأكثر من أم (4) والقافة: قوم يعرفون الأنساب بالشبه، ولا يختص ذلك بقبيلة معينة (5) ويكفي واحد (6) .
__________
(1) ولم ينكر، فكان إجماعًا، بل هي دليل من أدلة ثبوت النسب، ومن العجب إنكار لحوق النسب بالقافة التي اعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بها الصحابة من بعده. وحكم بها عمر الخليفة الراشد، وأقره الصحابة.
(2) لما رواه سعيد عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال: القائف قد اشتركا فيه جميعًا، فجعله بينهما، وله عن علي نحوه، وقال أحمد: إذا ألحقته بهما ورثاه، يعني إرث أب واحد، ويرث كل منهما إرث ولد، فإن لم يخلفا غيره، ورث جميع مالهما.
(3) ويلحق به نسبا، ولا يلزم من لحقوق النسب لحوق الدين والرق.
(4) لأنه محال، فلا يجوز الحكم به، بخلاف الرجلين، فإنه يمكن كونه منهما، لإمكان اجتماع نطفتي الرجلين في رحم امرأة.
(5) فلا يختص ببني مدلج، بل من عرف منه المعرفة بذلك، وتكررت منه الإصابة، فهو قائف، ويذكر أن إياس بن معاوية وشريحًا، قائفان.
(6) لأنه من باب الخبر، ولخبر مجزز المدلجي، فإنه واحد، ونص أحمد: أنه يكتفى بالطبيب والبيطار الواحد، إذا لم يوجد سواه، والقائف مثله بل أولى، لأنهما أكثر وجودا منه.(5/528)
وشرطه أن يكون ذكرا عدلا (1) مجربًا في الإصابة (2) ويكفي مجرد خبره (3) وكذا إن وطيء اثنان امرأة بشبهة في طهر واحد (4) وأتت بولد يمكن أن يكون منهما (5) .
__________
(1) لأنه كحاكم، فاعتبرت فيه الذكورة، والعدالة.
(2) لأنه أمر علمي، فلا بد من العلم بعلمه له، وطريقه التجربة فيه، ويكفي أن يكون مشهورا بالإصابة وصحة المعرفة.
(3) قال ابن القيم – في الإخبار بالنسب والقافة – المخبر من حيث هو منتصب للناس انتصابًا عامًا، يستند إلى قوله إلى أمر يختص به دونهم، من الأدلة والعلامات، جرى مجرى الحاكم، فقوله حكم لا رواية، وذكر أن الشاهد مخبر، وأن المخبر شاهد، وأن الشرع لم يفرق بين ذلك أصلا.
(4) أو وطئت امرأة رجل أو أم ولده، أو وطئا جارية مشتركة بينهما.
(5) أري القافة، سواء ادعياه، أو جحداه؛ أو أحدهما.(5/529)
كتاب الوقف (1)
يقال: وقف الشيء، وحبسه، وأحبسه، وسبله. بمعنى واحد (2) وأوقفه لغة شاذة (3) وهو مما اختص به المسلمون (4)
__________
(1) الأصل في مشروعية الوقف السنة، والإجماع في الجملة، ففي الصحيحين أن عمر قال: يا رسول الله إني أصبت ما لا بخيبر، لم أصب قط مالا أنفس عندي منه، فما تأمرني فيه؟ قال «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث» فتصدق بها عمر في الفقراء، وذي القربى، والرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا، غير متمول فيه، ولمسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له» وفي البخاري. باب وقف الدواب، والكراع، والعروض، والصامت، وذكر قصة عمر.
وقال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف، ولا نزاع في وقف الأرض، وقال القرطبي: لا خلاف بين الأئمة في تحبيس القناطر والمساجد، واختلفوا في غير ذلك.
(2) وجمع الوقف «وقوف» وتسمية الوقف وقفا بمعنى أنه وقف على تلك الجهة، لا ينتفع به في غيرها.
(3) وقال الحارثي: لغة بني تميم.
(4) قال الشافعي: لم يحبس أهل الجاهلية، وإنما حبس أهل الإسلام، والقول بصحة الوقف، قول أكثر أهل العلم من السلف.(5/530)
ومن القرب المندوب إليها (1) (وهو تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة) (2) على بر أو قربة (3) والمراد بالأصل: ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه (4) وشرطه أن يكون الواقف جائز التصرف (5) (ويصح) الوقف (بالقول (6) وبالفعل الدال عليه) عرفا (7) (كمن جعل أرضه مسجدا، وأذن للناس في الصلاة فيه) (8)
__________
(1) لما تقدم من الأخبار، ولقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} هذا إذا كان على وجه القربة.
(2) أي، والوقف شرعا: تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به، وتسبيل منفعته من غلة، وثمرة، وغيرها.
(3) أي: على جهة بر، أو معروف، أو قربة، كأقاربه، وكالمساجد، ولعل مراده في الثواب.
(4) بقاء متصلا، كالعقار، والحيوان، والسلاح، والأثاث، وأشباه ذلك.
(5) وهو الحر البالغ الرشيد، لا نحو مكاتب وسفيه.
(6) الدال على الوقف، وقال الشيخ: إذا قال واحد أو جماعة: جعلنا هذا المكان مسجدًا، أو وقفا. صار مسجدًا ووقفًا بذلك.
(7) أي ويصح الوقف بالفعل الدال على الوقف عرفًا كالقول، لاشتراكهما في الدلالة على الوقف.
(8) إذنا عاما ولو بفتح الأبواب وهو على هيئة المسجد، وكتابة لوح بالإذن، أو الوقف، أو أدخل بيته في المسجد وأذن فيه، لأن العرف جار بذلك، فدل على الوقف.(5/531)
أو أذن فيه وأقام (1) (أو) جعل أرضه (مقبرة وأذن) للناس (في الدفن فيها) (2) أو سقاية وشرعها لهم (3) لأن العرف جار بذلك (4) وفيه دلالة على الوقف (5) (وصريحه) أي صريح القول (6) (وقفت، وحبست، وسبلت) (7) فمتى أتى بصيغة منها صار وقفا، من غير انضمام أمر زائد (8) (وكنايته: تصدقت، وحرمت، وأبدت) (9) .
__________
(1) أي فما بناه على هيئة المسجد صار موقوفا بالفعل الدال عليه عرفا، قال الشيخ: ولو نوى خلافه.
(2) إذنا عاما صح الوقف، وليس له الرجوع، كما أن من قدم لضيفه طعاما كان إذنا في أكله.
(3) أي فتح بابها إلى الطريق ونحوه، وكذا موضع التطهير، وقضاء الحاجة.
(4) فجاز الوقف، كالمعاطاة في البيع والهبة ونحوهما، لدلالة الحال.
(5) فجاز أن يثبت به كالقول، وكذا لو ملأ خابية ماء على الطريق أو في مسجد ونحوه، لدلالة الحال على تسبيله.
(6) بالوقف: الألفاظ التي متى أتى بواحدة منها صار وقفا، من غير انضمام أمر زائد إليها.
(7) فهذه الألفاظ صريحة لعدم احتمال غيره، بعرف الاستعمال المنضم إليه عرف الشرع.
(8) من نية، أو قرينة، أو فعل.
(9) لعدم خلوص كل لفظ منها عن الاشتراك، والتأبيد يستعمل في كل ما يراد تأبيده من وقف وغيره.(5/532)
لأنه لم يثبت لها فيه عرف لغوي ولا شرعي (1) (فتشترط النية مع الكناية (2) أو اقتران) الكناية بـ (ـأحد الألفاظ الخمسة) الباقية من الصريح والكناية (3) كتصدقت بكذا صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، أو محرمة، أو مؤبدة (4) لأن اللفظ يترجح بذلك لإرادة الوقف (5) (أو) اقترانها بـ (ـحكم الوقف) (6) كقوله: تصدقت بكذا صدقة لا تباع ولا تورث (7) .
__________
(1) فلا يصح بها مجردة عما يصرفها إليه، فإن الصدقة تستعمل في الزكاة وغيرها، والتحريم يصدق في الظهار وغيره.
(2) فمتى أتى بإحدى الكنايات، واعترف بما نواه، لزم في الحكم لظهوره، وإن قال: ما أردت الوقف. فالقول قوله.
(3) فتخصها بالوقف.
(4) أي كأن يقول: تصدقت بكذا صدقة موقوفة، أو تصدقت بكذا صدقة محبسة، أو صدقة مسبلة، أو صدقة مؤبدة، أو صدقة محرمة، أو هذه العين محرمة موقوفة، أو محرمة محبسة، أو محرمة مسبلة، أو محرمة مؤبدة.
(5) أي لأن لفظ الكناية يترجح بأحد الألفاظ الخمسة الباقية لإرادة الوقف بها.
(6) أي أو اقتران الكناية بحكم الوقف، بأن يصف الكناية بصفات الوقف.
(7) أو تصدقت بأرضي على فلان، أو على الفقراء، أو الغزاة، لأن ذلك كله لا يستعمل في غير الوقف، فانتفت الشركة، وقال الشيخ: من قال: قريتي التي بالثغر لموالي الذين به ولأولادهم. صح وقفا، وهو رواية عن أحمد، وإذا
قال كل منهم: جعلت ملكي للمسجد، أو في المسجد. ونحو ذلك، صار بذلك وقفا للمسجد، فيؤخذ منه أن الوقف يحصل بكل ما أدى معناه، وإن لم يكن من الألفاظ السابقة، وتقدم في البيع وغيره أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، فكل ما عده الناس وقفا انعقد به، وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال، انعقد عند كل قوم بما يفهمونه من الصيغ والأفعال.(5/533)
(ويشترط فيه) أربعة شروط (1) الأول: (المنفعة) أي أن تكون العين ينتفع بها (دائما من معين) (2) فلا يصح وقف شيء في الذمة كعبد ودار، ولو وصفه كالهبة (3) (ينتفع به مع بقاء عينه (4) ، كعقار، وحيوان) ونحوهما، من أثاث، وسلاح (5) .
__________
(1) يعني لصحة الوقف، وفي الإقناع وغيره «خمسة» والخامس أن يكون من جائز التصرف، وتقدم.
(2) من جهة أو شخص.
(3) لأنه نقل ملك على وجه الصدقة، فلا يصح في غير معين كالهبة، وفي المحرر: ولا يصح وقف المجهول، قال الشيخ: المجهول نوعان «مبهم» وهذا قريب، «ومعين» مثله أن يقف دارا لم يرها، فمنع هذا بعيد، وكذلك هبته.
(4) لأنه يراد للدوام، ليكون صدقة جارية، وقال الشيخ: أقرب الحدود في الموقوف أنه كل عين تجوز عاريتها.
(5) كبساط ليفرش بالمسجد، وسيف، وحلي على لبس وعارية لمن يحل له، فأما العقار فلفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الحيوان فلحديث أبي هريرة: «من احتبس فرسا في سبيل الله» وخبر فرس عمر، وخبر أم معقل: أن زوجها جعل ناضحه في سبيل الله؛ وأما الأثاث فلقوله صلى الله عليه وسلم «أما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» .(5/534)
ولا يصح وقف المنفعة كخدمة عبد موصى له بها (1) ولا عين لا يصح بيعها كحر وأم ولد (2) ولا ما لا ينتفع به مع بقائه كطعام لأكل (3) ويصح وقف المصحف (4) والماء والمشاع (5) .
__________
(1) ومنفعة أم ولده في حياته، ومنفعة العين المستأجرة، واختار الشيخ صحته، وقال: لو وقف منفعة يملكها كالعبد الموصى بخدمته، أو منفعة أم ولده في حياته، أو منفعة العين المستأجرة، فإنه لا فرق بين وقف هذا ووقف البناء والغراس، ولا فرق بين وقف ثوب على الفقراء يلبسونه، أو فرس يركبونه، أو ريحان يشمه أهل المسجد، وطيب الكعبة: حكمه حكم كسوتها، فعلم أن التطيب منفعة مقصودة، لكن قد يطول بقاء مدة التطيب وقد يقصر، ولا أثر لذلك.
(2) ومرهون، وكلب، وسباع لا تصلح للصيد، وجوارح طير لا تصلح له، لأنه لا يصح بيعها.
(3) ومشموم لا ينتفع به مع بقاء عينه، وقال الوزير: اتفقوا على أن كل ما لا يمكن الانتفاع به إلا بإتلافه كالذهب، والفضة، والمأكول لا يصح وقفه. اهـ. بخلاف ند، وصندل، وقطع كافور، فيصح وقفه لشم مريض وغيره، وتقدم قول الشيخ: إنه لا أثر لطول المدة.
(4) وإن لم يصح بيعه، وتقدم ما فيه من الخلاف.
(5) أي ويصح وقف الماء، نص عليه أحمد وغيره، لخبر بئر رومة، ويصح وقف المشاع، قال الوزير: اتفقوا على أن وقف المشاع جائز، وفي خبر عمر: أنه أصاب مئة سهم من خيبر، فأذن له صلى الله عليه وسلم في وقفها، ولأنه عقد يجوز
على بعض الجملة مفرزًا، فجاء مشاعا، كالبيع، وذلك بحيث يكون مشهورًا متميزًا، يؤمن أن يلتبس بغيره، وإلا فلا بد من التحديد اتفاقًا.(5/535)
(و) الشرط الثاني: (أن يكون على بر) (1) إذا كان على جهة عامة (2) لأن المقصود منه التقرب إلى الله تعالى (3) وإذا لم يكن على بر لم يحصل المقصود (4) (كالمساجد، والقناطر (5) والمساكين) والسقايات (6) وكتب العلم (والأقارب من مسلم وذمي) (7) لأن القريب الذمي موضع القربة، بدليل جواز الصدقة عليه (8)
__________
(1) أو معروف، سواء كان الواقف مسلما أو ذميًا.
(2) كما مثل به الماتن والشارح، وغيرهما.
(3) ولأن الوقف قربة وصدقة، فلا بد من وجودها فيما لأجله الوقف، واستظهر في شرح المنتهى أنه وقف يترتب عليه الثواب، فإن الإنسان قد يقف على غيره توددا، وعلى ولده خشية بيعه بعد موته وإتلاف ثمنه، أو خشية أن يحجر عليه ويباع في دينه، ورياء ونحوه، وهو لازم لا ثواب فيه، لأنه لم يبتغ فيه وجه الله.
(4) الذي من أجله حصل الثواب.
(5) وكالغزاة، والعلماء، والحج، والغزو، وإصلاح الطرق، والمدارس.
(6) وهي في الأصل: الموضع الذي يتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها، وتطلق على ما بني لقضاء الحاجة.
(7) كما قال تعالى بعد أن ذكر الصدقات {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} وقال {لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} .
(8) وإذا جازت الصدقة عليه جاز الوقف عليه كالمسلمين.(5/536)
ووقفت صفية رضي الله عنها على أخ لها يهودي (1) فيصح الوقف على كافر معين (2) (غير حربي) ومرتد لانتفاء الدوام، لأنهما مقتولان عن قرب (3) (و) غير (كنيسة) وبيعة (4) وبيت نار، وصومعة (5) فلا يصح الوقف عليها، لأنها بنيت للكفر (6) والمسلم والذمي في ذلك سواء (7) .
__________
(1) رواه البيهقي وغيره.
(2) ولو كان الذمي الموقوف عليه أجنبيًا من الواقف، ويستمر له إن أسلم.
(3) ولأن أموالهم مباحة في الأصل، تجوز إزالتها، فما يتجدد لهم أولى، والوقف يجب أن يكون لازما، لأنه تحبيس الأصل.
(4) الكنيسة: متعبد اليهود والنصارى، والبيعة بكسر الباء: متعبد النصارى أيضًا، فلا يصح الوقف عليهما.
(5) بيت النار: متعبد المجوس، والصوامع: متعبد الرهبان.
(6) فلا يصح الإعانة على إظهار الكفر، ولا يصح على مصالحها كقناديلها وفرشها، بخلاف الوقف على ذمي معين، لأنه لا يتعين كون الوقف عليه لأجل دينه.
(7) قال أحمد – في نصارى وقفوا على البيعة ضياعا كثيرة وماتوا، ولههم أبناء نصارى، فأسلموا والضياع بيد النصارى – فلهم أخذها، وللمسلمين عونهم حتى يستخرجوها من أيديهم، قال الموفق: ولا نعلم فيه مخالفًا. لأن ما لا يصح من المسلم الوقف عليه، لا يصح من الذمي كالوقف على غير معين.(5/537)
(و) غير (نسخ التوراة والإنجيل (1) وكتب زندقة) وبدع مضلة (2) فلا يصح الوقف على ذلك، لأنه إعانة على معصية (3) وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر شيئًا استكتبه من التوراة، وقال «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ (4) ألم آت بها بيضاء نقية؟ (5) ولو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي» (6) ولا يصح أيضًا على قطاع الطريق (7) .
__________
(1) أو شيء منها، لكونها منسوخة مبدلة، فلا يصح الوقف عليها، ولا يصح على مباح، كتعليم شعر مباح، ولا على مكروه أو محرم، كتعليم منطق، لانتفاء القربة.
(2) ككتب الدرزية، والباطنية، والقدرية، والخوارج.
(3) لما اشتملت عليه كتب الزندقة والبدع المضلة من الكفريات الشنيعة، والبدع الفضيعة.
(4) استفهام إنكار.
(5) يعني شريعته صلى الله عليه وسلم كاملة، فتغنيك عما جاء به موسى من التوراة.
(6) لأنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة، وعيسى عليه السلام إذا نزل إنما يحكم بشرع محمد صلى الله عليه وسلم.
(7) ولا الفسقة ولا الأغنياء، ويصح على الصوفية بشرطه، فمن كان منهم جماعا للمال، ولم يتخلق بالأخلاق المحمودة ولا يتأدب بالآداب الشرعية، وغلبت عليه الآداب الوضعية أو فاسقًا، فقال الشيخ وغيره: لا يستحق شيئًا.(5/538)
أو المغاني (1) أو فقراء أهل الذمة (2) أو التنوير على قبر، أو تبخيره (3) أو على من يقيم عنده، أو يخدمه (4) ولا وقف ستور لغير الكعبة (5) (وكذا الوصية) فلا تصح على من لا يصح الوقف عليه (6) (و) كذا (الوقف على نفسه) (7) قال الإمام: لا أعرف الوقف إلا ما أخرجه لله تعالى، أو في سبيله (8) .
__________
(1) فإنه لا يجوز أخذ الأجرة على الغناء والدف، فعدم جواز الوقف أولى.
(2) ولا على صنف منهم.
(3) للعنه صلى الله عليه وسلم «زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» .
(4) أو على بناء عليه، لكونه وسيلة إلى الشرك، بل العكوف عنده شرك.
(5) لأنه بدعة، وكيف يجعل بيت المخلوق كبيت الخالق، وقد قال صلى الله عليه وسلم «لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفًا إلا سويته» فمن يصحح الوقف على البناء عليه، أو من يقيم عنده أو يخدمه، أو على وضع الستور عليه الذي هو أصل شرك العالم؟!.
وأما الكعبة المشرفة فأجمعوا على جواز وضع الستور عليها، وصحة الوقف على ذلك.
(6) ويأتي موضحا في بابه إن شاء الله تعالى.
(7) أي فلا يصح.
(8) أي سبيل الله، كما قال عمر: في سبيل الله، وابن السبيل ... الخ.(5/539)
فإن وقفه عليه حتى يموت فلا أعرفه (1) لأن الوقف إما تمليك للرقبة أو المنفعة (2) ولا يجوز له أن يملك نفسه من نفسه (3) ويصرف في الحال لمن بعده (4) كمنقطع الابتداء (5) فإن وقف على غيره واستثنى كل الغلة أو بعضها (6) .
__________
(1) وعنه: ما سمعت بهذا، ولا أعرف الوقف إلا ما أخرجه لله.
(2) أي وجهه أن الوقف تمليك إما للرقبة أو المنفعة، وكلاهما لا يصح هنا.
(3) كبيعه من ماله لنفسه.
(4) وذلك في نحو ما إذا قال: على نفسي، ثم من بعدي على أولادي. لأن وجود من لا يصح الوقف عليه كعدمه.
(5) يكون على من بعده كموقوف جعل على من لا يجوز عليه، ثم على من يجوز عليه، فإن لم يذكر غير نفسه فملكه بحاله ويورث عنه، وعنه: يصح على نفسه واختاره جماعة، منهم شيخ الإسلام، وصححه ابن عقيل، وأبو المعالي وغيرهما، وصوبه في الإنصاف، وقال: العمل عليه في زمننا، وقبله من أزمنة متطاولة، وفيه مصلحة عظيمة، وترغيب في فعل الخير، وهو من محاسن المذهب.
(6) له يعني الواقف مدة حياته، أو مدة معينة صح الوقف، وقال ابن القيم: جائز بالسنة الصحيحة، والقياس الصحيح، وهو مذهب فقهاء الحديث، قال: والمانعون قالوا: يمنع كون الإنسان معطيا من نفسه لنفسه، فلا يصح وقفه على نفسه.
والمجيزون يقولون: أخرج الوقف لله، وجعل نفسه أحق المستحقين للمنفعة مدة حياته، يؤيده أنه لو وقف على جهة عامة جاز أن يكون كواحد منهم، كما وقف عثمان بئر رومة، وجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين، وكما يصلي في المسجد الذي وقف، وينتفع بالمقابر، ونحو ذلك.(5/540)
أو الأكل منه مدة حياته (1) أو مدة معلومة صح الوقف والشرط (2) لشرط عمر رضي الله عنه أكل الوالي منها، وكان هو الوالي عليها (3) وفعله جماعة من الصحابة (4) والشرط الثالث، أشار إليه بقوله: (ويشترط في غير) الوقف على (المسجد ونحوه) كالرباط والقنطرة (5) (أن يكون على معين يملك) ملكا ثابتا (6) لأن الوقف تمليك، فلا يصح على مجهول (7) .
__________
(1) أو الانتفاع لنفسه، أو لأهله.
(2) أو اشترط أن يطعم صديقه منه مدة حياته، أو مدة معينة، صح الوقف والشرط.
(3) ولفظه: لا جناح على من وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقا، غير متمول منه. وكان الوقف في يديه إلى أن مات، ثم ابنته حفصة، ثم ابنه عبد الله، رضي الله عنهم.
(4) وقال ابن القيم: هو اتفاق من الصحابة، فإن عمر رضي الله عنه كان يلي صدقته، وكذا الخلفاء وغيرهم، وهو قول الجمهور، ولأنه لو وقف وقفا عاما – كالمساجد، والقناطر، والمقابر – كان له الانتفاع به بلا نزاع، فكذا هاهنا.
(5) مما هو وقف على المسلمين، إلا أنه عُيَّنَ في نفع خاص لهم، والرباط حصن يرابط فيه الجيش، أو واحد الرباطات المبنية، الموقوفة للفقراء، والقنطرة هي الجسر، وهو أزج يبنى – بالآجر، أو الحجارة أو الأسمنت وغيرها – على الماء، يعبر عليه.
(6) من جهة كمسجد كذا، أو شخص كزيد.
(7) ويقتضي الدوام، ومن ملكه غير ثابت تجوز إزالته.(5/541)
كرجل ومسجد (1) ولا على أحد هذين (2) ولا على عبد ومكاتب (3) و (لا) على (ملك) (4) وجني وميت (5) (وحيوان، وحمل (6) وقبر) أصالة (7) .
__________
(1) لصدقه على كل رجل، وكل مسجد، فلا يصح.
(2) أي ولا يصح على مبهم، كعلى أحد هذين الرجلين، أو المسجدين ونحوهما، وقال الشيخ: هو شبيه بالوصية له، وفي الوصية للمبهم روايتان، مثل أن يوصي لأحد هذين، أو لجاره محمد وله جاران بهذا الاسم، ووقفه على المبهم مفرع على هبته وبيعه، وليس عن أحمد في هذا منع.
(3) ومدبر، وأم ولد، لأن الوقف تمليك، فلا يصح على من لا يملك، ولا على من لا يستقر ملكه.
(4) بفتح اللام، ولو عين، فقال: على جبرائيل أو ميكائيل.
(5) كأن يقول: داري التي يسكنها فلان؛ إذا مات وقف عليه. لم يصح.
(6) أصالة، وهو أن يقول: وقفت على ما في بطن هذه المرأة. واختار الشيخ صحته أصالة، وهو قول ابن عقيل وغيره.
(7) كعلى قبر فلان مخصوصًا به، فلا يصح الوقف على قبر، ولا على خدمته، لا أصالة ولا تبعا، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور، واتخاذ المساجد والسرج عليها، فكيف بالوقف على العكوف عندها، والتبرك بها، بل ودعاء المقبورين، والالتجاء إليهم، فالوقف على ذلك إعانة على الشرك بالله.
وقال ابن القيم: الوقف على المشاهد باطل، وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة، وطاعة لله ورسوله، فلا يصح
على مشهد، ولا قبر يسرج عليه، ويعظم، وينذر له، ويحج إليه ويعبد من دون الله، ويتخذ وثنًا من دون الله، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة المسلمين ومن اتبع سبيلهم.(5/542)
ولا على من سيولد (1) ويصح على ولده، ومن يولد له، ويدخل الحمل والمعدوم تبعا (2) الشرط الرابع: أن يقف ناجزا (3) فلا يصح مؤقتا (4) ولا معلقا إلا بموت (5) .
__________
(1) أي له، أو من سيولد لفلان، فلا يصح أصالة.
(2) ويستحقه حمل موجود عند تأبير النخل، أو بدو صلاح الثمر، من حين موت أبيه ولو لم ينفصل، كما في الاختيارات وغيرها، وأما من قدم إلى موقوف عليه فقال الشيخ وغيره: يستحق بحصته من مغله، ومن جعله كالولد فقد أخطأ، وقال ابن عبد القوي: يستحق بقدر عمله في السنة من ريع الوقف في السنة، لئلا يفضي إلى أن يحضر الإنسان شهرا فيأخذ جميع الوقف، ويحضر غيره باقي السنة بعد ظهور الثمرة فلا يستحق شيئًا، وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها.
(3) أي غير مؤقت، ولا معلق، ولا مشروط فيه خيار ونحوه.
(4) كهو وقف على كذا سنة ثم يرجع لي؛ أو شرط تحويله كعلى جهة كذا، ولي أن أحوله عنها؛ أو عن الوقفية بأن أرجع فيها متى شئت، بطل.
(5) أي ولا يصح الوقف معلقا، كإن شفى الله مريضي فهذا وقف؛ أو: إن قدم زيد. ونحو ذلك، قال الشارح: لا نعلم في هذا خلافًا. أو: على أن يولد لي ولد. لم يصح، إلا بالموت فيصح تعليقه به، ولأبي داود: أوصى عمر: إن حدث به حدث أن ثمغا صدقة، واشتهر ولم ينكر فكان إجماعًا، ويكون وقفا من حينه، وكسبه ونحوه للواقف وورثته إلى الموت، ويكون من ثلث المال، لأنه في حكم الوصية.(5/543)
وإذا شرط أن يبيعه متى شاء (1) أو يهبه أو يرجع فيه، بطل الوقف والشرط قاله في الشرح (2) (لا قبوله) أي قبول الوقف، فلا يشترط، ولو كان على معين (3) (ولا إخراجه عن يده) (4) لأنه إزالة ملك يمنع البيع، فلم يعتبر فيه ذلك كالعتق (5) وإن وقف على عبده ثم المساكين صرف في الحال لهم (6) .
__________
(1) بطل الوقف، لمنافاته مقتضى الوقف.
(2) وأنه لا يعلم خلافًا في بطلان الشرط، وذكر الفرق بين تعليقه بالموت أو على شرط في الحياة، وأنه لا يصح التسوية بينهما، قال: وإن شرط الخيار في الوقف فسد، نص عليه، وبه قال الشافعي، لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، كما لو شرط متى شاء يبيعه.
(3) قال الشيخ: الذي عليه محققوا الفقهاء في مسألة الوقف على المعين، إذا لم يقبل أورد، أن ذلك ليس كالوقف المنقطع الابتداء، بل الوقف هنا صحيح قولا واحدا، ثم إن قبل الموقوف عليه وإلا انتقل إلى من بعده، كما لو مات، أو تعذر استحقاقه، لفوات فيه إذ الطبقة الثانية تتلقى من الوقف، لا من الموقوف عليه.
(4) أي ولا يشترط إخراجه عن يده، لخبر عمر، فإن وقفه كان بيده إلى أن مات.
(5) أي ولأن الوقف أيضًا تبرع يمنع البيع والهبة، فلزم بمجرد اللفظ، وزال ملكه عنه، فعلم من ذلك أن إخراجه عن يده ليس شرطا لصحته بطريق الأولى، وأما المساجد، والقناطر، والآبار ونحوها فتكفي التخلية بين الناس وبينها بلا خلاف.
(6) لما تقدم من أن وجود من لا يصح الوقف عليه كعدمه، وإن لم يذكر له مآلا لم يصح، وكذا إن جعل له مآلا لا يصح الوقف عليه.(5/544)
وإن وقف على جهة تنقطع كأولاده، ولم يذكر مآلا (1) أو قال: هذا وقف ولم يعين جهة صح (2) وصرف بعد أولاده لورثة الواقف نسبًا (3) على قدر إرثهم وقفا عليهم (4) لأن الوقف مصرفه البر (5) وأقاربه أولى الناس ببره (6) .
__________
(1) بأن لم يقل: ثم هو على كذا من بعدهم. صح، لأنه معلوم المصرف، وهذا مذهب مالك، وأحد قولي الشافعي.
(2) أو قال: صدقة موقوفة؛ ولم يذكر سبيله صح، لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فوجب أن يصح كالأضحية.
(3) فيما إذا قال: وقف على أولادي. ولم يذكر مآلا، وكذا إن وقف ولم يعين، فإن عين بأن قال: على ولدي. لم يدخل ولد زيد تبعا إذا مات أبوه، بل يكون لورثة الواقف وقفا.
(4) غنيهم وفقيرهم، لاستوائهم في القرابة، لأن الملك زال عنه بالوقف، فلا يعود ملكا لهم.
(5) أي لأن القصد به الثواب الجاري على الدوام.
(6) لقوله عليه الصلاة والسلام «صدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة» وقوله «إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» ولأنهم أولى الناس بصدقات النوافل والمفروضات، فكذا صدقته المنقولة، وذكروا ضابط الأول في الوقف المنقطع، إما على جميع الورثة، وإما على العصبة، وإما على المصالح، وإما على الفقراء والمساكين، وذكر ابن أبي موسى أنه إذا رجع
إلى جميع الورثة، يكون ملكًا بينهم على فرائض الله، بخلاف رجوعه إلى العصبة، قال الشيخ: وهذا أصح، وأشبه بكلام أحمد.
وقال: إذا وقف على الفقراء فأقارب الواقف أحق من الفقراء الأجانب، مع التساوي في الحاجة، وإذا قدر وجود فقير مضطر، كان دفع ضرورته واجبًا، وإذا لم تندفع إلا بتنقيص كفاية الواقف، من غير ضرورة تحصل لهم، تعين ذلك.(5/545)
فإن لم يكونوا فعلى المساكين (1) .
__________
(1) أي فإن لم يكن للواقف أقارب صرف على الفقراء والمساكين وقفا عليهم.(5/546)
فصل (1)
(ويجب العمل بشرط الواقف) (2) لأن عمر رضي الله عنه وقف وقفا وشرط فيه شروطا (3) ولو لم يجب إتباع شرطه لم يكن في اشتراطه فائدة (4) .
__________
(1) أي فيما يشترطه واقف في وقفه من جمع، أو تقديم، أو ترتيب، أو ضده، أو اعتبار وصف أو عدمه، ونظر، وغير ذلك.
(2) كقوله: شرطت لزيد كذا، ولعمرو كذا. قال الشيخ: إذا كان مستحبًا خاصة لزم الوفاء به، وهو ظاهر المذهب.
(3) فقال: في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف. وأوصى بها إلى حفصة، ثم إلى الأكابر من آل عمر، وغير ذلك مما جاء في وقفه المشهور رضي الله عنه. وابن الزبير جعل للمردودة من بناته أن تسكن.
(4) ولأنه متلقى من جهته، فاتبع شرطه، ما لم يخالف كتابا، ولا سنة بلا خلاف. قالوا: ونصه كنص الشارع. وقال الشيخ: يعني في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل، مع أن التحقيق أن لفظ الواقف، والموصي، والناذر، والحالف، وكل عاقد، يحمل على عادته في خطابه، ولغته التي يتكلم بها، وافق لغة العرب أو لغة الشارع أو لا، والعادة المستمرة، والعرف المستقر في الوقف، يدل على شرط الواقف، أكثر مما يدل لفظ الاستفاضة.
وقال ابن القيم: إن أحسن الظن بقائل هذا القول حمل كلامه على أنها كنصوص الشارع في الدلالة، وتخصيص عامها بخاصها، وحمل مطلقها على مقيدها، واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها، وأما وجوب الاتباع، وتأثيم من أخل بشيء منها، فلا يظن ذلك بمن له نسبة ما إلى العلم، وإذا كان حكم الحاكم ليس كنص الشارع، بل يرد ما خالف حكم الله ورسوله، فنص الواقف أولى. وقال: قولهم: شروط الواقف كنصوص الشارع. نبرأ إلى الله من هذا القول، ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبدا.
قال شيخ الإسلام: وأما أن نجعل نصوص الواقف، أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها، فهذا كفر باتفاق المسلمين. قال: وقد اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى قسمين صحيح وفاسد.(5/547)
(في جمع) بأن يقف على أولاده، وأولاد أولاده (1) ونسله وعقبه (2) (وتقديم) (3) بأن يقف على أولاده مثلاً يقدم الأفقه، أو الأدين، أو المريض ونحوه (4) (وضد ذلك) (5) فضد الجمع الإفراد، بأن يقف على ولده زيد، ثم أولاده (6) .
__________
(1) لأن العطف يقتضي التشريك بين أولاده وأولادهم.
(2) فإن إطلاق التشريك يقتضي التسوية بينهم.
(3) وهو البداءة ببعض أهل الوقف دون بعض.
(4) كالأصلح، أو الفقير، فيرجع إلى ذلك.
(5) أي وضد الجمع والتقديم.
(6) فينفرد زيد بالاستحقاق دون أولاده.(5/548)
وضد التقديم التأخير، بأن يقف على ولد فلان بعد بني فلان (1) (واعتبار وصف، وعدمه) (2) بأن يقول: على أولاده الفقهاء (3) . فيختص بهم (4) أو يطلق فيعمهم وغيرهم (5) (والترتيب) بأن يقول: على أولادي. ثم أولادهم، ثم أولاد أولادهم (6) .
__________
(1) هذا مثال للترتيب، وأما مثال التأخير فهو أن يقول: هذا وقف على أولادي، يعطى منهم أولا ما سوى فلان كذا، ثم ما فضل لفلان، أو على زيد وعمرو، ويؤخر زيد، أو على طائفة ويؤخر غير القارئ، أو يؤخر بطيء الفهم، ضد التقديم، وهو أن يقول: على أولادي، يقدم منهم القارئ ونحوه، فالفرق بين التأخير والترتيب أن حق المؤخر باق، بمعنى أن له ما فضل عن المقدم، فإن لم يفضل له شيء سقط، وأما الترتيب فلا شيء للثاني مع وجود الأول، وإن حصل فضل.
(2) فيصير الاستحقاق أو الحرمان مرتبا على ذلك الوصف، أو لا يعتبر وصفا فيعم.
(3) أو الصلحاء، أو الفقراء، أو المردودة من بناته، أو حرمان من فسق أو استغنى ونحوه.
(4) أي بالمتصفين بتلك الصفة، أو يحرم من فسق ونحوه.
(5) أي أو يطلق الوقف على أولاده، فيعم الفقهاء وغيرهم من أولاده.
(6) فيصير الاستحقاق مرتبًا بطنًا بعد بطن، وليس للبطن الثاني فيه حق ما بقي من البطن الأول مستحق، قال شيخ الإسلام: وإنما يغلط من يغلط في مثل هذه المسألة حيث يظن أن الطبقة الثانية تتلقى من التي قبلها، فإن لم تستحق الأولى شيئًا لم تستحق الثانية، ثم يظنون أن الولد إذا مات قبل الاستحقاق لم يستحق ابنه، وليس كذلك، بل هم يتلقونه من الواقف، حتى لو كانت الطبقة الأولى محجوبة بمانع من الموانع.(5/549)
(ونظر) بأن يقول: الناظر فلان، فإن مات ففلان (1) لأن عمر رضي الله عنه جعل وقفه إلى حفصة، تليه ما عاشت ثم يليه ذو الرأي من أهلها (2) (وغير ذلك) كشرط أن لا يؤجر، أو قدر مدة الإجارة (3) أو أن لا ينزل فيه فاسق أو شرير (4) أو متجوه ونحوه (5) وإن نزل مستحق تنزيلاً شرعيًا لم يجز صرفه بلا موجب شرعي (6) .
__________
(1) فيجب العمل بشرطه في نحو ذلك، لأن مصرف الوقف يجب العمل فيه بشرط الواقف، فكذلك النظر، وكذا إن شرط النظر لنفسه، أو للموقوف عليه، أو لغيرهما إما بالتعيين كفلان، أو بالوصف كالأرشد، أو الأعلم، أو الأكبر صح، فمن وجد فيه الشرط ثبت له النظر، ويشترط في الناظر: الإسلام، والتكليف والكفاية في التصرف، والخبرة، والقدرة عليه.
(2) رواه الإمام أحمد، وتلقاه أهل العلم بالقبول، وجعلوه أصلاً، وقال ابن عمر: صار أول وقف في الإسلام (*) .
(3) ما لم يخالف نصًّا.
(4) وقال الشيخ: الجهات الدينية مثل الخوانك والمدارس ونحوها، لا يجوز أن ينزل فيها فاسق، سواء كان فسقه بظلمه الخلق، وتعديه عليهم بقوله أو فعله، أو كان فسقه بتعديه حدود الله، يعني ولو لم يشترطه الواقف.
(5) أي متخذ جاه، أو متعالٍ على غيره، ونحوه كمبتدع.
(6) قاله الشيخ تقي الدين. وقال: وعليه أن لا يؤجر حتى يغلب على ظنه # أنه ليس هناك من يزيد، وعليه أن يشهر المكان عند أهل الرغبات فإن حابى به بعض أصدقائه كان ضامنا.
ـــــــــــــــ
(*) «تنبيه» سقط هنا ورقة كاملة من الأصل فكتبنا عوضها على طريقة المؤلف.(5/550)
(فإن أطلق) في الموقوف عليه (ولم يشترط) وصفا (استوى الغني والذكر وضدهما) أي الفقير والأنثى (1) لعدم ما يقتضي التخصيص (2) (والنظر) (3) فيما إذا لم يشترط النظر لأحد، أو شرط لإنسان ومات فالنظر (للموقوف عليه) المعين (4) لأنه ملكه وغلته له، فإن كان واحدًا، استقل به مطلقًا (5) وإن كانوا جماعة، فهو بينهم على قدر حصصهم (6) وإن كان صغيرًا أو نحوه (7) .
__________
(1) أي فإن أطلق في الموقوف عليه، فلم يعين شخصًا، ولم يشترط وصفًا له، شمل الذكر والأنثى، والغني والفقير على السواء.
(2) أي من شرط أو وصف أو غير ذلك.
(3) أي إن أطلق ولم يوجد ما يقتضي النظر.
(4) بأن كان آدميا كزيد، عدلاً كان أو فاسقًا، لأنه ينظر لنفسه، قدمه في المغني والشرح، وقيل: يضم إلى الفاسق أمين. قال الحارثي: أما العدالة فلا تشترط ولكن يضم إلى الفاسق عدل، لما فيه من حفظ الوقف.
ووظيفة الناظر: حفظ الوقف وعمارته، وتحصيل ريعه، وصرفه في جهاته، وغير ذلك، وهل يملك الواقف عزله إذا لم يشترطه؟ اختلف في ذلك.
(5) أي بملك غلته والنظر عليه.
(6) قاله الموفق وغيره. كأولاده أو أولاد زيد.
(7) بأن كان سفيها أو مجنونًا.(5/551)
قام وليه مقامه فيه (1) وإن كان الوقف على مسجد أو من لا يمكن حصرهم كالمساكين فللحاكم (2) وله أن يستنيب فيه (3) (وإن وقف على ولده) أو أولاده (أو ولد غيره ثم على المساكين فهو لولده) الموجود حين الوقف (الذكور والإناث) والخناثى، لأن اللفظ يشملهم (4) (بالسوية) لأنه شرك بينهم (5) وإطلاقها يقتضي التسوية، كما لو أقر لهم بشيء (6)
__________
(1) بما يحتاجه من حفظ، وعمارة وتحصيل ريع ... الخ.
(2) أي وإن كان الموقوف عليه غير آدمي، أو لا يمكن حصرهم فالنظر للحاكم، لأنه ليس له مالك معين.
(3) أي وللحاكم أن يولي عليه الأصلح، قال الشيخ: ولا يجوز أن يولي فاسقًا في جهة دينية كمدرسة وغيرها مطلقا، لأنه يجب الإنكار عليه وعقوبته.
(4) ففي المصباح: "الوَلَد" بفتحتين كل ما ولده شيء، ويطلق على الذكر والأنثى والمثنى والمجموع، فعل بمعنى مفعول، وهو مذكر وجمعه أولاد. اهـ. ويأتي بيانهم واستحقاقهم (*) .
(5) قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا أوصى لولد فلان، كان للذكور والإناث من ولده، وكان بينهم بالسوية.
(6) أي فإنه يكون المقر به بين المقر لهم بالسوية، وكولد الأم في الميراث؛ واختار الموفق وغيره: للذكر مثل حظ الأنثيين، كالميراث، وإن فضل بعضهم لمقصود شرعي، جاز، وإلا كره.
ــــــــــــــــ
(*) هذا آخر ما كتبنا.(5/552)
ولا يدخل فيهم الولد المنفي باللعان، لأنه لا يسمى ولده (1) (ثم) بعد أولاده لـ (ـولد بنيه) وإن سفلوا، لأنه ولده (2) ويستحقونه مرتبًا (3) وجدوا حين الوقف أو لا (4) .
__________
(1) فلا يجوز أن ينسب إليه، ولا يرثه، فلا يدخل في أولاده في الوقف من باب أولى، ولا فرق بين صفة الولد والأولاد، في استقلال الموجود منهم بالوقف واحدا كان أو اثنين، أو أكثر، لأن علم الواقف بوجود ما دون الجمع، دليل إرادته من الصيغة.
(2) لأن كل موضع ذكر الله فيه الولد، دخل فيه ولد البنين، فالمطلق من كلام الآدمي إذا خلا عن قرينة، يحمل على كلام الله، ويفسر بما يفسر به، فولد ابنه ولد له، لقوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فدخل فيه ولد البنين وإن سفلوا، ولقوله {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} وقوله صلى الله عليه وسلم «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا» والقبائل كلها تنسب إلى جدودها.
(3) أي ويستحق أولاد البنين الوقف مرتبا، بعد آبائهم، كقوله: بطنًا بعد بطن، أو الأقرب فالأقرب، قال الشيخ وإذا زرع البطن الأول من أهل الوقف، في الأرض الموقوفة، ثم مات، وانتقل إلى البطن الثاني كان مبقّى إلى أوان جداده بأجرة.
وقال: تجعل مزارعة بين الزارع، ورب الأرض، لنموه من أرض أحدهما، وبذر الآخر وإن غرسه البطن الأول من مال الوقف، ولم يدرك إلا بعد انتقاله إلى البطن الثاني، فهو لهم، وليس لورثة الأول فيه شيء.
(4) وإن سفلوا، ويستحق ولد الولد، وإن لم يستحق أبوه شيئًا. قال الشيخ ومن ظن أن الوقف كالإرث، فإن لم يكن والده أخذ شيئًا، لم يأخذ هو، فلم يقله أحد من الأئمة، ولم يدر ما يقول، ولهذا لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى، أو بعضها، لم تحرم الثانية، مع وجود الشروط فيهم إجماعًا، ولا فرق.(5/553)
(دون) ولد (بناته) (1) فلا يدخل ولد البنات في الوقف على الأولاد (2) إلا بنص أو قرينة (3) لعدم دخولهم في قوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ} (4) (كما لو قال: على ولد ولده، وذريته لصلبه) (5) أو عقبه أو نسله، فيدخل ولد البنين، وجدوا حالة الوقف أو لا (6) .
__________
(1) وأولاد بنات بنيه وبنات بني بنيه.
(2) لأنهم من رجل آخر، فينسبون إلى آبائهم.
(3) كقوله: وقفت على ولدي، وأولادهم، على أن لولد الإناث سهما، ولولد الذكور سهمين، ونحوه. أو من مات عن ولد، فنصيبه لولده، أو على أولادي فلان وفلان وفلانة، ثم أولادهم، ونحو ذلك، كما لو وقف على أولاده، وفيهم بنات. وقال: من مات عن ولد فنصيبه لولده، قال الشارح: ودخول ولد البنات هو الأصح، والأقوى دليلاً.
(4) {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} من بنيه وبناته، وبني بنيه وبناتهم وإن سفلوا، فكذا الوقف.
(5) أي يدخل ولد البنين، دون ولد البنات في الوقف على الأولاد، كما لو قال: على ولده لصلبه، وذريته لصلبه، أو من ينتسب إليه. بلا خلاف، حكاه الحارثي.
(6) فيستحق ولد الولد، وإن لم يستحق أبوه شيئًا، كما تقدم.(5/554)
دون ولد البنات إلا بنص أو قرينة (1) والعطف بثم للترتيب (2)
__________
(1) كمن مات عن ولد، فنصيبه لولده. ونحوه، وتقدم. وقال الشارح: وممن قال: لا يدخل ولد البنات – في الوقف الذي على أولاده، وأولاد أولاده – مالك ومحمد بن الحسن. وكذلك إذا قال: على ذريته ونسله. وروي عن أحمد أنهم يدخلون في الوصية، وذهب إليه بعض أصحابنا، وهذا مثله. وقال أبو بكر وابن حامد: يدخل فيه ولد البنات، وهو مذهب الشافعي وأبي يوسف، لأن البنات أولاده، فأولادهن أولاد أولاده حقيقة.
فيجب أن يدخلوا في اللفظ المتناول لهم، بدليل قوله {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله {وَعِيسَى} وهو ولد بنته، فجعله من ذريته، ولذلك ذكر الله قصة عيسى وإبراهيم وموسى، ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} الآية، وعيسى معهم، ودخل أبناء البنات في الحلائل، وقال صلى الله عليه وسلم «إن ابني هذا سيد» ثم قال: والقول بأنهم يدخلون، أصح وأقوى دليلاً، وقدمه في المحرر، واختاره أبو الخطاب، وأفتى به حمد بن عبد العزيز، وقال إنه الراجح في الدليل، من الكتاب والسنة، وأن قول المتأخرين: لا يدخلون في الذرية مخالف للدليل، وهذا قول شيخ الإسلام، وقدماء الأصحاب، وهو الذي يفتي به شيخنا، عبد الرحمن ابن حسن.
(2) كما هو معروف، وصفات ترتيب الاستحقاق ثلاث: ترتيب جملة، كون البطن الأول ينفرد بالوقف عمن دونه، ما دام منهم واحد، ثم البطن الثاني، وهكذا. وترتيب أفراد، كون الشخص من أهل الوقف، لا يشاركه ولده، ولا يتناول من الوقف شيئًا، ما دام أبوه حيا، فإذا مات انتقل ما بيده إلى ولده، والثالث استحقاق جميع الموجودين من البطون، من غير توقف على شيء، بل هم على حد سواء، فيشارك الولد والده، وكذا ولد الولد.(5/555)
فلا يستحق البطن الثاني شيئًا حتى ينقرض الأول (1) إلا أن يقول: من مات عن ولد فنصيبه لولده (2) والعطف بالواو للتشريك (3) (ولو قال: على بنيه، أو: بني فلان. اختص بذكورهم) (4) .
__________
(1) وذلك فيما إذا وقف على ولده أو ولد غيره، أو ذريته أو نسله، كقوله: وقفت على أولادي، بطنا بعد بطن. وقال الشيخ: الأظهر فيمن وقف على ولديه، بطنا بعد بطن، ثم على أولادهما وأولاد أولادهما، وعقبهما بعدهما، بطنا بعد بطن، أنه ينتقل نصيب كل إلى ولده، وإن لم ينقرض جميع البطن الأول، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد.
(2) استحق كل ولد بعد أبيه نصيبه، لأنه صريح في ترتيب الأفراد، ويدخل فيه أولاد بناته، كما تقدم. قال الشيخ: وقول الواقف: من مات عن ولد فنصيبه لولده، يشمل الأصلي لا العائد، والمذهب: يشمل الأصلي والعائد؛ قال الشيخ: أحد الوجهين في المذهب؛ وإذا مات شخص من مستحقي الوقف، وجهل شرط الواقف، صرف إلى جميع المستحقين بالسوية.
(3) قال في الاختيارات: "الواو" كما لا تقتضي الترتيب، فلا تنفيه، فهي ساكتة عنه، نفيا وإثباتا، ولكن تدل على التشريك، وهو الجمع المطلق، فإن كان في الوقف ما يدل على الترتيب، مثل أن رتب أو لا عمل به، ولم يكن ذلك منافيا لمقتضى الواو، لأنها لمطلق الجمع، فيشتركون فيه بلا تفضيل، ولأنه دل على الترتيب بلا قرينة.
(4) دون الأناثي والخناثى، قال الموفق: عند الجمهور. وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي.(5/556)
لأن لفظ البنين وضع لذلك حقيقة (1) قال تعالى {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} (2) (إلا أن يكونوا قبيلة) كبني هاشم، وتميم، وقضاعة (3) (فيدخل فيه النساء) (4) لأن اسم القبيلة يشمل ذكرها وأُنثاها (5) (دون أولادهن من غيرهم) (6) لأنهم لا ينتسبون إلى القبيلة الموقوف عليها (7) .
__________
(1) قالوا: فاختص الوقف بهم، وتقدم رجحان دخولهم، وإن وقف على بناته دخل فيهن البنات، دون غيرهن، لا الخنثى المشكل، قال الشارح: لا نعلم في ذلك خلافًا.
(2) وقال {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} وقال {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وتقدم أن عيسى من ذرية آدم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن «إن ابني هذا سيد» الحديث.
(3) إلا أن يكون من وقف عليهم – من بنيه أو بني فلان – قبيلة كما مثل.
(4) أي يدخل النساء في الوقف، مع الذكور والخناثى، لقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} .
(5) وإنما دخلوا في الاسم إذا صاروا قبيلة، لأن الاسم نقل فيهم عن الحقيقة إلى العرف، ولهذا تقول المرأة – إذا انتسبت – أنا من بني فلان. وقلن:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمدًا من جار
(6) أي غير قبيلة بني فلان الموقوف عليهم، فلا يدخلون في الوقت.
(7) وإنما ينسبون لآبائهم، ويدخل أولادهن منهم، لوجود الانتساب حقيقة وتقدم القول بدخولهم بدليله ولا يدخل مواليهم لأنهم ليسوا منهم.(5/557)
(والقرابة) إذا وقف على قرابته أو قرابة زيد (وأهل بيته، وقومه) . ونسباؤه (1) (يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه و) أولاد (جده و) أولاد (جد أبيه) فقط (2) لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى (3) ولم يعط قرابة أمه وهم بنو زهرة شيئًا (4) ويستوي فيه الذكر والأنثى، والكبير والصغير، والقريب والبعيد، والغني والفقير لشمول اللفظ لهم (5) ولا يدخل فيهم من يخالف دينه (6) .
__________
(1) وآله وعترته، وهم عشيرته الأدنون، وأهل البيت عند العرب، كما قال ثعلب، آباء الرجال وآباؤهم كالأجداد، والأعمام وأولادهم، وقوم الرجل قبيلته، وهم نسباؤه، ويقال: هم بمثابة أهل بيته.
(2) هذا المذهب، اختاره الموفق وغيره.
(3) فلم يعط منه من هو أبعد، كبني عبد شمس، وبني نوفل.
(4) وعنه: يعطى كل من يعرف بقرابته، وهو مذهب الشافعي، ووقف أبي طلحة مشهور، دخل فيه حسان، وأبي، وبين أبي وأبي طلحة ستة أجداد، ولما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قال «يا بني كعب بن لؤي، يا بني مرة ... » الخ، فجميع من ناداهم يطلق عليهم لفظ الأقربين، ولأنهم قرابة، فيتناولهم الاسم، ويدخلون في عمومه، ويقويه أيضًا إذا كان عرف أهل البلد.
(5) وعموم القرابة، ولا يفضل أعلى، ولا فقيرا، ولا ذكرا على من سواه.
(6) أي الواقف، فإن كان الواقف مسلمًا، لم يدخل في قرابته كافرهم، وإن كان كافرا، لم يدخل المسلم في قرابته إلا بقرينة.(5/558)
وإن وقف على ذوي رحمه (1) شمل كل قرابة له من جهة الآباء، والأمهات، والأولاد (2) لأن الرحم يشملهم (3) والموالي يتناول المولى من فوق وأسفل (4) (وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث (5) أو) تقتضي (حرمانهن عمل بها) أي بالقرينة (6) لأن دلالتها كدلالة اللفظ (7) .
__________
(1) كأن يقول: وقف على رحمي أو أرحامي.
(2) أما جهة الآباء، فكالآباء، والأعمام وبنيهم، وكالعمات، وبنات العم، وأما الأمهات، فكأمه وأبيها وأخواله وخالاته، وأما الأولاد فكابنه وبنته وأولادهم.
(3) ولو جاوزوا أربعة آباء، فيصرف إلى كل من يرث بفرض أو تعصيب أو برحم.
(4) أي وإذا وقف على الموالي، وله موال من فوق أعتقوه، وموال من أسفل أعتقهم، تناول اللفظ المولى من فوق، والمولى من أسفل، واستووا في الاستحقاق إن لم يفضل بعضهم على بعض، وإن لم يكن له إلا أحدهما أخذه، ومتى عدم مواليه فلعصبتهم، وإن لم يكن له موال فلموالي عصبته.
(5) كمن مات عن ولد، فنصيبه لولده، أو على أولادي فلان وفلان، ثم على أولادهم، أو على أولاده وفيهم بنات. وقال: من مات عن ولد فنصيبه لولده.
(6) كقوله: أولادي لصلبي أو من ينتسب إلي.
(7) أي لأن دلالة القرينة، كدلالة اللفظ، كما لو قال: وقف على بناتي وأولادهن. أو قال: على أبنائي وأبنائهم دون البنات.(5/559)
(وإذا وقف على جماعة يمكن حصرهم) (1) كأولاده، أو أولاد زيد وليسوا قبيلة (2) (وجب تعميمهم والتساوي) بينهم (3) لأن اللفظ يقتضي ذلك، وقد أمكن الوفاء به، فوجب العمل بمقتضاه (4) فإن كان الوقف في ابتدائه على من يمكن استيعابه (5) فصار ممن لا يمكن استيعابه كوقف علي رضي الله عنه (6) وجب تعميم من أمكن منهم، والتسوية بينهم (7) (وإلا) يمكن حصرهم واستيعابهم، كبني هاشم وتميم (8) .
__________
(1) واستيعابهم بالوقف.
(2) أو مواليه، أو موالي غيره.
(3) أي وجب تعميمهم بالوقف، والتساوي بينهم فيه، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم.
(4) كما لو أقر لهم بشيء، يوضحه قوله تعالى {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ} أي من اثنين {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} .
(5) كرجل وقف على ولده، وولد ولده، ونسله.
(6) أي فصاروا قبيلة كثيرة، تخرج عن الحصر، لا يمكن استيعابهم، بالوقف كوقف علي رضي الله عنه على ولده ونسله، صاروا قبيلة كثيرة لا يمكن استيعابهم.
(7) لأن التعميم والتسوية واجبان في الجميع، فإذا تعذرا في بعض، وجبا فيما لم يتعذرا فيه، كواجب عجز عن بعضه.
(8) والقبيلة الكبيرة، والمساكين، وأهل إقليم أو مدينة.(5/560)
لم يجب تعميمهم لأنه غير ممكن (1) و (جاز التفضيل) لبعضهم على بعض (2) لأنه إذا جاز حرمانه جاز تفضيل غيره عليه (3) (والاقتصار على أحدهم) (4) لأن مقصود الواقف بر ذلك الجنس (5) وذلك يحصل بالدفع إلى واحد منهم (6) وإن وقف مدرسة أو رباطا ونحوهما على طائفة (7) اختصت بهم (8)
__________
(1) لتعذره بكثرة أهله، وحكاه الموفق إجماعًا.
(2) ويراعى الأحق به.
(3) وأولى من الحرمان، قال تعالى {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
(4) ويحتمل أن لا يجزئه أقل من ثلاثة، وهو مذهب الشافعي.
(5) من القبيلة، أو أهل المدينة.
(6) وإن كان على الفقراء أو المساكين، أو على أي صنف من أصناف أهل الزكاة، لم يدفع إليه أكثر مما يدفع منها، وما يأخذه الفقهاء منه، كرزق من بيت المال، قال الشيخ: ما أخذ من بيت المال فليس عوضا وأجرة، بل رزق للإعانة على الطاعة، وكذلك المال الوقف على أعمال البر، والموصى به والمنذور له، ليس كالأجرة والجعل.
(7) كأهل بلد، أو أهل مذهب، أو قبيلة.
(8) أي اختصت المدرسة أو الرباط أو نحوهما، كالخانات بأهل البلد، أو أهل المذهب أو القبيلة. وإن وقف على العلماء فهم حملة الشرع أهل التفسير والحديث والفقه، أو على المتفقهة فهم طلبة الفقه، أو أهل الحديث، فهم من اشتغل بالحديث.(5/561)
وإن عين إماما ونحوه تعين (1) والوصية في ذلك كالوقف (2) .
__________
(1) كأن يشترط أن لا يؤم في مسجد وقفه إلا فلان، أو الأهل من أولاده، وكذا شرط الخطابة ونحو ذلك، وكذا لو عين الإمامة بمذهب، ما لم يكن في شيء من أحكام الصلاة، مخالفًا لصريح السنة. وقال الشيخ: يجب أن يولى في الوظائف وإمامة المساجد الأحق شرعا، وأن يعمل ما قدر عليه من عمل الواجب، وليس للناس أن يولوا عليهم الفاسق، وإن نفذ حكمه، وصحت الصلاة خلفه. واتفق الأئمة على كراهة الصلاة خلفه، واختلفوا في صحتها، ولم يتنازعوا في أنه لا ينبغي توليته، ومن لم يقم بوظيفته فلمن له الولاية أن يولي من يقوم بها، إلى أن يتوب الأول، ويلتزم بالواجب، والنيابة في مثل هذه الأعمال المشروطة جائزة، ولو عينه الواقف، إذا كان مثل مستنيبه.
قال: ومن وقف على مدرس وفقهاء، فللناظر، ثم الحاكم تقدير أعطيتهم، ولو زاد النماء فهو لهم، ولو عطل وقف مسجد سنة تقسط الأجرة المستقبلة عليها، وعلى السنة الأخرى، لأنه خير من التعطيل، ولا ينقص الإمام بسبب تعطيل الزرع بعض العام، والأرزاق التي يقدرها الواقفون ثم يتغير النقد، يعطى المستحق من نقد البلد ما قيمته قيمة المشروط، وله أن يفرض له على عمله بما يستحقه مثله. وقال: ممن أكل المال بالباطل، قوم لهم رواتب أضعاف حاجاتهم، وقوم لهم جهات معلومها كثير، يأخذونه ويستنيبون بيسير.
(2) فيما ذكر، لأن مبناها على لفظ الموصي، أشبهت الوقف. وفي الإنصاف هي أعم من الوقف.(5/562)
فصل (1)
(والوقف عقد لازم) بمجرد القول (2) وإن لم يحكم به حاكم كالعتق (3) لقوله عليه السلام «لا يباع أصلها، ولا يوهب ولا يورث» (4) قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم (5) . فـ (ـلا يجوز فسخه) بإقالة ولا غيرها (6) لأنه مؤبد (7)
__________
(1) أي في لزوم الوقف، وبيعه لمصلحة، أو إبداله وصرف فاضله، وغير ذلك.
(2) أو ما يدل عليه، لأنه تبرع يمنع البيع والهبة.
(3) أي أنه يثبت من غير حكم حاكم، ونص أحمد وغيره على أنه يصح من غير أن يتصل به حكم حاكم، أو يخرج مخرج الوصايا.
(4) وتقدم قوله «حبس أصلها» وورد غيره مما يدل على لزوم عقد الوقف، وعدم نقضه.
(5) من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لا نعلم بين المتقدمين منهم في ذلك اختلافًا.
(6) من واقف أو غيره.
(7) فلم يجز فسخه، وذكر الحميدي أوقافا للصحابة كانت باقية إلى عصره، واستمر عمل المسلمين على ذلك في سائر الأقطار.(5/563)
(ولا يباع) ولا يناقل به (1) (إلا أن تتعطل منافعه) بالكلية (2) كدار انهدمت (3) أو أرض خربت، وعادت مواتا، ولم تمكن عمارتها (4) فيباع، لما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد – لما بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب – أن انقل المسجد الذي بالتمارين (5) .
__________
(1) فيحرم بيعه ولا يصح، ولا يبدل بغيره، وإن باعه فقال الشيخ: لو وقف على أولاده، ثم باعه وهم يعلمون أنه قد وقفه، فهل سكوتهم تغرير؟ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم في السلعة المبيعة «لا يحل لمن يعلم ذلك إلا أن يبينه» يقتضي وجوب الضمان، وتحريم السكوت، فيكون قد فعل فعلاً محرمًا، تلف به مال معصوم، فهذا قوي جدًا.
قال: ولو كان مات معسرًا أو هو معسر في حياته، فهل يؤخذ من ريع الوقف؟ هذا بعيد، لكن باعتبار هذا الدين على الواقف بسبب تغريره بالوقف، فكان الواقف هو الآكل ريع وقفه، وقد يتوجه ذلك إذا كان الواقف قد احتال، بأن وقف ثم باع، فإن قصد الحيلة إذا كان متقدمًا على الوقف، لم يكن الوقف لازمًا في المحتال عليه، الذي هو أكل مال المشتري المظلوم.
(2) قال أحمد: يجوز بيعه، وصرف ثمنه في مثله، وفي المسجد إذا كان لا يرجى عوده كذلك، واتفقوا على أنه إذا خرب لم يعد إلى ملك الواقف.
(3) ولم تكن عمارتها في ريع الوقف.
(4) وعود نفعها، وذلك بحيث لا يكون في الوقف ما يعمرها.
(5) يعني بالكوفة.(5/564)
واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل (1) . وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه، فكان كالإجماع (2) ولو شرط الواقف أن لا يباع إذا ففاسد (3) (ويصرف ثمنه في مثله) (4) لأنه أقرب إلى غرض الواقف (5)
__________
(1) فلا يجترئ أحد على النقب على بيت المال.
(2) وقال الموفق: فكان إجماعًا، ولأن فيه استبقاء للوقف بمعناه، عند تعذر إبقائه بصورته، فوجب ذلك، واختاره الشيخ وغيره، وقال ابن عقيل: إذا لم يمكن تأييده على وجه تخصيصه، استبقينا الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى، وإيصال الإبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا على العين تضييع للغرض. وقال الشيخ: يجوز بيع الوقف أو المناقلة به لنقص أو رحجان مغله، واختار هو وتلميذه جواز المناقلة به للمصلحة بشرط أن يكون صادرًا لمن له الولاية على الوقف، من جهة الواقف، أو من جهة الحاكم.
(3) أي لو شرط أن لا يباع في الحال التي جاز أن يباع فيها فشرطه فاسد، لحديث «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله» وتقدم، ومثله شرط عدم إيجاره فوق مدة بعينها. بل إذا دعت الضرورة إيجاره زيادة عليها كخرابه مثلا، ولم يوجد ما يعمر به، ولا من يستأجره إلا بزيادة عليها، إذ هي أولى من بيعه، وأفتى به المرداوي، ونقل عن الشيخ أنه أفتى به، وعن المؤلف أنه حكم به.
(4) إن أمكن، للنهي عن إضاعة المال، وفي إبقائه إذًا إضاعة له، فوجب الحفظ بالبيع.
(5) لأن في إقامة البدل مقامه تأبيدًا له، ولأن المقصود انتفاع الموقوف عليه بالثمرة لا بعين الأصل.(5/565)
فإن تعذر مثله ففي بعض مثله (1) ويصير وقفًا بمجرد الشراء (2) وكذا فرس حبيس لا يصلح لغزو (3) (ولو أنه) أي الوقف (مسجد) ولم ينتفع به في موضعه (4) فيباع إذا خربت محلته (5) (وآلته) أي ويجوز بيع بعض آلته، وصرفها في عمارته (6) (وما فضل عن حاجته) من حصره، وزيته، ونفقته ونحوها (7) .
__________
(1) يصرف في جهته، لامتناع تغيير المصرف مع إمكان مراعاته، وإن تعطلت صرف في جهة مثلها، تحصيلاً لغرض الواقف حسب الإمكان.
(2) كبدل أضحية، ورهن، لأنه كالوكيل في الشراء، والاحتياط وقفه، لئلا ينقضه بعد ذلك من لا يرى وقفه.
(3) يباع ويصرف في ثمن أخرى، وإن لم يكف أعين به في شراء حبيس يكون بعض الثمن، لأن المقصود استيفاء المنفعة.
(4) ولو بضيقه على أهله، أو خراب محلته.
(5) ويصح بيع بعضه لإصلاح ما بقي، إن اتحد الواقف والجهة إن كان عينين أو عينا، ولم تنقص القيمة، وإلا بيع الكل، وأفتى بعض الأصحاب بجواز عمارة الوقف من آخر على جهته، وعليه العمل، والوقف على قوم بعينهم أحق بجواز نقله إلى مدينتهم من المسجد.
(6) إن احتاج إلى ذلك، لأنه إذا جاز بيع الجميع عند الحاجة إلى بيعه، فبيع بعضه مع بقاء البعض أولى، ويجوز اختصار آنية إلى أصغر منها.
(7) أو فضل من خشبه، أو شيء من نقضه.(5/566)
(جاز صرفه إلى مسجد آخر) (1) لأنه انتفاع به في جنس ما وقف له (2) (والصدقة به على فقراء المسلمين) (3) لأن شيبة بن عثمان الحبي (4) كان يتصدق بخلقان الكعبة (5) وروى الخلال بإسناده أن عائشة أمرته بذلك (6) ولأنه مال الله تعالى، لم يبق له مصرف فصرف إلى المساكين (7) .
__________
(1) محتاج إليه، ونص أحمد: يعان به في مسجد آخر. وهو أولى من بيعه، وإن بيع فثمنه.
(2) ولامتناع تغيير المصرف، مع إمكان مراعاته.
(3) أي وجاز الصدقة به على فقراء المسلمين، لأنه في معنى المنقطع، وقال الشيخ: يجوز صرف الفاضل في مثله، وفي سائر المصالح، وفي بناء مساكن لمستحق ريعه، القائم بمصلحته.
(4) أي ابن أبي طلحة العبدري المكي، من مسلمة الفتح، وله صحبة وأحاديث مات سنة 59هـ. والحجبي نسبة إلى حجابة بيت الله الحرام.
(5) بضم الخاء، جمع خلق بفتحتين، أي ما بلي من ثيابها.
(6) ولفظه: عن علقمة عن أمه، أن شيبة بن عثمان الحجبي جاء إلى عائشة رضي الله عنها فقال: يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تكثر عليها، فننزعها فنحفر لها آبارًا، فندفنها فيها حتى لا تلبسها الحائض والجنب؛ قالت عائشة: بئسما صنعت ولم تصب. إن ثياب الكعبة إذا نزعت لم يضرها من لبسها من حائض أو جنب، ولكن لو بعتها وجعلت ثمنها في سبيل الله والمساكين، قال: فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن، فتباع، فيضع ثمنها حيث أمرته عائشة، قال الموفق: وهذه قضية مثلها ينتشر، ولم تنكر، فتكون إجماعًا.
(7) كالوقف المنقطع، قال الحارثي: وإنما لم يرصد لما فيه من التعطل،
فيخالف المقصود، ولو توقعت الحاجة في زمن آخر، ولا ريع يسد مسدها، لم يصرف في غيرها، لأن الأصل الصرف في الجهة المعينة، وإنما سومح بغيرها حيث لا حاجة، حذرا من التعطل.(5/567)
وفضل موقوف على معين (1) استحقاقه مقدر، يتعين إرصاده (2) ونص فيمن وقف على قنطرة فانحرف الماء: يرصد لعله يرجع (3) وإن وقف على ثغر فاختل صرف في ثغر مثله (4) وعلى قياسه مسجد، ورباط، ونحوهما (5) .
__________
(1) كأن يقول: هذا وقف على زيد، يعطى منه كل سنة مائة.
(2) كما لو قال الواقف: يعطى من أجرة هذه الدار كل شهر عشرة دراهم؛ وأجرة الدار أكثر من ذلك، قال في الإنصاف: وهو واضح. وقطع به في المنتهى، وقال الشيخ: إن علم أن ريعه يفضل دائمًا وجب صرفه، لأن بقاءه فساد له، وإعطاؤه فوق ما قدر له الواقف جائز، قال: ولا يجوز لغير الناظر صرف الفاضل.
(3) أي الماء إلى القنطرة، فيحتاجون، فيصرف عليها ما وقف عليها، وقال بعضهم: يصرف إلى أخرى، كما تقدم نحوه.
(4) أي مثل الثغر الذي اختل أي وهن وفسد، أخذًا من بيع الوقف إذا خرب، لأن المقصود الصرف إلى المرابط، فوجب الصرف إلى ثغر آخر.
(5) كسقاية إذا تعذر الصرف فيها، صرف في مثلها، تحصيلاً لغرض الواقف قاله في التنقيح، وصرح به الحارثي، وقال: الشرط قد يخالف للحاجة، كالوقف على المتفقهة على مذهب معين، فإن الصرف يتعين عند عدم المتفقهة على ذلك المذهب إلى المتفقهة على مذهب آخر.(5/568)
ولا يجوز غرس شجرة، ولا حفر بئر بالمسجد (1) وإذا غرس الناظر أو بنى في الوقف من مال الوقف (2) أو من ماله ونواه للوقف فللوقف (3) قال في الفروع: ويتوجه في غرس أجنبي أنه للوقف بنيته (4) .
__________
(1) ولو للمصلحة العامة، لأن البقعة مسحقة للصلاة، فتعطيلها عدوان، وإن فعل قلعت الشجرة، وطمَّت البئر، ما لم يكن في حفرها مصلحة، ولم يحصل به ضيق.
(2) فللوقف، نواه أو لا.
(3) وإن غرس من ماله ولم ينوه للوقف فله غير محترم، وفي الفروع: يتوجه إن أشهد، وإلا فللوقف.
(4) أي غرس غير الناظر والواقف، ونواه للوقف فللوقف، وإلا فله - إن أشهد - غير محترم.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
آخر المجلد الخامس من حاشية الروض المربع ويليه المجلد السادس
وأوله «باب الهبات والعطية»(5/569)
بسم الله الرحمن الرحيم
باب الهبة والعطية (1)
الهبة من هبوب الريح، أي مروره (2) يقال: وهبت له شيئًا وهبا. بإِسكان الهاء وفتحها، وهبة (3) والإِتهاب قبول الهبة (4) والاستيهاب سؤال الهبة (5) «والعطية» هنا الهبة في مرض الموت (6) (وهي التبرع) من جائز التصرف (7) .
__________
(1) أي باب بيان أحكام الهبة، والعطية، وتصرفات المريض، وغير ذلك.
(2) أي أصل الهبة من هبوب الريح، مصدر مشتق من الهبوب، وهو المرور.
(3) أي إعطاء المال بلا عوض، وهو واهب ووهاب ووهوب ووهابة، والاسم الموهوب، والموهبة من وهب.
(4) وتواهبوا وهب بعضهم لبعض.
(5) أن يهبها له، وأوهب الشيء له. أعده له.
(6) أي والعطية في هذا الباب المراد بها الهبة في مرض الموت، لا مطلق العطية.
(7) وهو الحر، المكلف، الرشيد، قال ابن رشد: أما الواهب فإنهم اتفقوا على أنه تجوز هبته إذا كان مالكا للموهوب، صحيح الملك، وذلك إذا كان في حال الصحة، وحال إطلاق اليد.(6/3)
(بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره) مفعول تمليك (1) بما يعد هبة عرفا (2) فخرج بـ «التبرع» عقود المعاوضات كالبيع والإِجارة (3) وبـ «التميك» الإِباحة كالعارية (4) وبـ «المال» نحو الكلب (5) وبـ «المعلوم» : المجهول (6) وبـ «الموجود» : المعدوم (7) .
__________
(1) وكذا العطية، تمليك في الحياة بغير عوض.
(2) من لفظ هبة، وتمليك. ونحوهما من كل قول وفعل دل عليها، كإرسال هدية، ودفع دراهم لفقير ونحوه.
(3) فلا يدخل في مسمى الهبة ولا العطية.
(4) أي وخرج بالتمليك الإباحة للعين كإعارتها، فلا تعطى أحكام الهبة، وفي الاختيارات: وللمبيح أن يرجع فيما قال قبل التملك، وهذا نوع من الهبة يتأخر القبول فيه عن الإيجاب كثيرا، وليس بإباحة.
(5) وجلد الميتة المدبوغ، والنجاسة المباحة الانتفاع، وجوزه الموفق وغيره، قال أحمد: هذا خلاف الثمن، هذا عوض من شيء، فأما الثمن فلا، ولأنه تبرع أشبه الوصية.
(6) كعبد في ذمته، سوى ما تعذر علمه فيجوز للحاجة، كأن اختلط مال اثنين على وجه لا يتميز، فوهب أحدهما الآخر ماله.
(7) أي وخرج بـ «الموجود» و «المقدور على تسليمه» المعدوم والمعجوز عن تسليمه.(6/4)
فلا تصح الهبة فيها (1) وبـ «الحياة» الوصية (2) (وإن شرط) العاقد (فيها عوضا معلوما فـ) ـهي (بيع) لأَنه تمليك بعوض معلوم (3) ويثبت الخيار والشفعة (4) فإِن كان العوض مجهولا لم تصح (5) وحكمها كالبيع الفاسد، فيردها بزيادتها مطلقا (6) وإن تلفت رد قيمتها (7) والهبة المطلقة لا تقتضى عوضا (8) سواء كانت لمثله، أَو دونه، أَو أَعلى منه (9) .
__________
(1) أي فيما تقدم، كما تحمل به أمته ونحوه.
(2) أي وخرج بالتبرع في الحياة الوصية، وغير الواجب في الحياة، كنفقة الزوجة والقريب، لوجوبها في الحياة.
(3) بلفظ الهبة، فيعتبر لها أحكام البيع، نص عليه أحمد وغيره.
(4) أي يثبت فيها خيار مجلس ونحوه، وتثبت فيها الشفعة إن كان الموهوب شقصا مشفوعا، وكالرد بالعيب، واللزوم قبل التقابض، وضمان الدرك، وغير ذلك.
(5) أي الهبة، لأنه عوض مجهول في معاوضة.
(6) أي متصلة أو منفصلة، لأنها ملك للواهب.
(7) أي وإن تلفت ضمنها الموهب له إن قبضها بمثلها إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت متقومة.
(8) أي والهبة التي لم يشترط لها عوض لا تقتضى عوضا، ولو دلت قرينة على عوض، كقضاء حاجة، وشفاعة ونحو ذلك.
(9) لأنها عطية على وجه التبرع، ولمثله أو دونه هو قول الأكثر، وأعلى منه أحد القولين، ومذهب أبي حنيفة، وقول عمر: من وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته، خالفه ابنه، وابن عباس، فإن عوضه كانت هبة مبتدأة، لا عوضا، أيهما أصاب عيبا لم يكن له الرد.(6/5)
وإن اختلفا في شرط عوض فقول منكر بيمينه (1) (ولا يصح) أن يهب (مجهولا) كالحمل في البطن، واللبن في الضرع (2) (إلا ما تعذر علمه) كما لو اختلط مال اثنين على وجه لا يتميز، فوهب أَحدهما لرفيقه نصيبه منه، فيصح للحاجة كالصلح (3) ولا يصح أَيضا هبة ما لا يقدر على تسليمه كالآبق والشارد (4) (وتنعقد) الهبة (بالإِيجاب والقبول) (5) .
__________
(1) لأن الأصل عدمه، وبرئت ذمته.
(2) للجهالة، ولتعذر التسليم، وفي الاختيارات: تصح هبة المعدوم كالثمر واللبن بالسنة، واشتراط القدرة على التسليم هنا فيه نظر، بخلاف البيع، وتصح هبة المجهول، كقوله: ما أخذت من مالي فهو لك. أو: من وجد من مالي شيئا فهو له. وفي جميع هذه الصور يحصل الملك بالقبض ونحوه، وقال الشيخ: ويظهر لي صحة هبة الصوف على الظهر قولا واحدا، وقاسه أبو الخطاب على البيع.
(3) أي كما يصح الصلح عنه للحاجة، فيصح هبة المشاع، والتصدق به، وهو مذهب مالك والشافعي.
(4) وطير في هواء، وسمك في ماء، ومرهون، لأن ذلك لا يتأهل للقبض ونظره الشيخ.
(5) أي تصح وتملك، فيصح تصرفه قبل قبض، وإذا وهب الأب لولده الصغير لم يحتج إلى قبول، قال في الإنصاف على الصحيح من المذهب.(6/6)
بأن يقول: وهبتك؛ أَو: أَهديتك؛ أَو: أَعطيتك (1) . فيقول: قبلت؛ أَو: رضيت؛ ونحوه (2) (و) بـ (المعاطاة الدالة عليها) أي على الهبة (3) لأَنه - عليه السلام - كان يهدىي ويهدى إليه (4) ويعطى ويعطي (5) ويفرق الصدقات (6) ويأْمر سعاته بأَخذها، وتفريقها (7) وكان أَصحابه يفعلون ذلك (8) . ولم ينقل عنهم إيجاب ولا قبول (9) .
__________
(1) أو: ملكتك. أو: هذا لك؛ ونحوه من الألفاظ الدالة على هذا المعنى.
(2) بأي لفظ دل على القبول، وأما القبض فمعتبر للزومها كما يأتي.
(3) أي وتصح الهبة وتملك بمعاطاة بفعل يقترن بما يدل على الهبة، وإن لم يحصل إيجاب ولا قبول، فتجهيز ابنته أو أخته ونحوهما بجهاز إلى بيت زوجها تمليك لها، لوجود المعاطاة الفعل.
(4) وثبت أنه يقبل الهدية، ويثيب عليها.
(5) كما هو مستفيض عنه صلى الله عليه وسلم، وقال الشيخ: من العدل الواجب من له يد أو نعمة أن يجزيه بها.
(6) بنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم.
(7) يعنى الصدقات، سواء كانت من بادية أو حاضرة.
(8) أي يهدون ويهدى إليهم، ويعطون ويعطون، ويفرقون الصدقات، وتبعث الخلفاء السعاة لقبض الصدقات، ويأمرونهم بأخذها وتفريقها، كما هو مشهور عنهم - رضي الله عنهم -.
(9) ولا أمر به، ولا تعليمه لأحد.(6/7)
ولو كان شرطا لنقل عنهم نقلا متواترا أَو مشهورا (1) (وتلزم بالقبض (2) بإِذن واهب) (3) لما روى مالك عن عائشة أَن أَبا بكر نحلها جذاذ عشرين وسفا من ماله بالعالية (4) .
__________
(1) فكان ترك ذلك دالاًّ على تملك الهبة بدون إيجاب وقبول، وكان ابن عمر على بعير لعمر، فقال صلى الله عليه وسلم لعمر «بعنيه» فقال: هو لك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم «هو لك يا عبد الله، فاصنع به ما شئت» ولم ينقل قبول منه صلى الله عليه وسلم ولا من ابن عمر، ولأن دلالة الرضى بنقل الملك تقوم مقام الإيجاب والقبول.
وقال الموفق: لا خلاف بين العلماء في أن تقديم الطعام بين الضيفان، والإذن في أكله، أن ذلك لا يحتاج إلى إيجاب ولا قبول. وقال ابن عقيل: إنما يشترط الإيجاب مع الإطلاق وعدم العرف القائم من المعطي والمعطى، لأنه إذا لم يكن عرف يدل على الرضى فلا بد من قول دال عليه، أما مع قرائن الأحوال والدلالة فلا وجه لتوقفه على اللفظ.
(2) عند جمهور العلماء، قال الوزير: اتفقوا على أنها تصح بالإيجاب والقبول والقبض، وتلزم به عند أبي حنيفة، والشافع، وأحمد، وعند مالك: لا تفتقر صحتها ولزومها إلى القبض، ولكنه شرط في نفوذها وتمامها، لا في صحتها ولزومها.
(3) فلا تصح بدونه، لأنه قبض غير مستحق عليه، فلم يصح إلا بإذنه كأصل العقد، ولا يتوقف الإذن على اللفظ، بل المناولة والتخلية، وله الرجوع فيها وفي الإذن قبل القبض مع الكراهة.
(4) موضع معروف بأعالي المدينة.(6/8)
فلما مرض قال: يا بنية كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا، ولو كنت حزتيه أَو قبضتيه كان لك (1) فإنما هو اليوم مال وارث (2) فاقتسموه على كتاب الله تعالى (3) . وروى ابن عيينة عن عمر نحوه (4) ولم يعرف لهما في الصحابة مخالف (5) (إلا ما كان في يد متهب) وديعة، أَو غصبًا، أَو نحوهما (6) لأَن قبضه مستدام، فأَغنى عن الاِبتداء (7) .
__________
(1) فدل على أنها تلزم بالقبض.
(2) أخواك وأختاك، حيث لم تقبضه قبل مرضه.
(3) فيما أخبر به في كتابه من قسمة المواريث.
(4) أي روى ابن عيينه، عن الزهرى، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القاريِِّّ نحو أثر أبي بكر، ولفظه: أن عمر قال: ما بال قوم ينحلون أولادهم فإذا مات أحدهم قال: مالي وفي يدى، فإذا مات هو قال: كنت نحلت ولدى لا نحلة، إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد، فإن مات ورثه.
(5) حكاه الموفق وغيره، وقال المروزى: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلى على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة، كما لو مات الواهب، وهو قول أكثر أهل العلم.
(6) كعارية وشركة، فيلزم عقد الهبة فيه بمجرد عقد، ولا يحتاج إلى مدة يتأتى قبضه فيها، ولا إلى إذن واهب في القبض.
(7) كما لو باعه سلعة بيده، وإذا تفاسخا عقد الهبة صح، ولا يفتقر إلى قبض الموهوب، وتكون العين أمانة في يد المتهب.(6/9)
(ووارث الواهب) إذا مات قبل القبض (يقوم مقامه) في الإِذن والرجوع (1) لأَنه عقد يؤول إلى اللزوم، فلم ينفسخ بالموت، كالبيع في مدة الخيار (2) وتبطل بموت المتهب (3) ويقبل ويقبض للصغير ونحوه وليه (4) وما اتهبه عبد غير مكاتب وقبله فهو لسيده (5) ويصح قبوله بلا إِذن سيده (6) .
__________
(1) أي في إذن في القبض، وفي الرجوع في الهبة.
(2) يقوم الوارث فيه مقام مورثه، بخلاف نحو الوكالة.
(3) أي وتبطل الهبة بموت المتهب بعد العقد وقبل القبض، فلو أنفذها واهب مع رسوله ثم مات موهوب له قبل وصوله بطلت، لقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة «إنى قد أهديت إلى النجاشى حلة، وأواقي مسك، ولا أراه إلا قد مات، ولا أرى هديتى إلى مردودة، فإن ردت فهو لك» بخلاف ما لو كانت الهبة مع رسول موهوب له، لأن قبضه كقبضه، وإن مات الواهب أو المتهب قبل القبول أو ما يقوم مقامه، بطل العقد.
(4) أي ويقبل ويقبض للصغير، ونحوه - كمجنون وسفيه وهب لهم شيء - وليه، وهو أب، أو وصيه، أو الحاكم، أو أمينه، لأنه قبول، للمحجور فيه حظ، فكان إلى الولي كالبيع، قال الوزير: اتفقوا على أنه يقبض للطفل أبوه ووليه. اهـ. وإن وهب الولي لموليه وكَّل من يقبل له الهبة منه إن كان غير الأب، وصحح الموفق أن الأب وغيره في هذا سواء لانتفاء التهمة.
(5) لأنه مال لسيده، وماله مال لسيده.
(6) لأنه تحصيل للمال، لسيده، فلم يعتبر إذنه فيه، كالالتقاط ولاصطياد ونحوه.(6/10)
(ومن أَبرأَ غريمه من دينه) ولو قبل وجوبه (1) (بلفظ الإِحلال، أَو الصدقة، أَو الهبة ونحوها) كالإسقاط، أَو الترك أَو التمليك، أَو العفو (2) (برئت ذمته (3) ولو) رده و (لم يقبل) (4) لأَنه إسقاط حق، فلم يفتقر إلى القبول كالعتق (5) ولو كان المبرأ منه مجهولا (6) .
__________
(1) أيى قبل حلول الدين، كما عبر به بعضهم، لأن تأجيله لا يمنع ثبوته في الذمة، وفي بعض النسخ: قبل استقراره، كثمن المبيع في مدة الخيار، والأجرة قبل مضي المدة؛ وفي الإنصاف: ولا يصح الإبراء من الدين قبل وجوبه، ذكره الأصحاب، وكذا لو اعتقد عدمه، اعتبارا بما في نفس الأمر، وقال بعضهم: لا إن علقه بموته، وقال ابن القيم: إن كان له عليه دين فقال: إن مت قبلي فأنت في حل، وإن مت قبلك فأنت في حل، صح وبريء في الصورتين، ولا يدفعه نص، ولا قياس، ولا قول صاحب، والصواب صحة الإبراء في الموضعين.
(2) أو غير ذلك من الصيغ الدالة على إبراء غريمه مما في ذمته، ولو قال: أعطيتكه. ونحوه.
(3) بإبراء رب الحق له بأي لفظ دل عليه منجزا، ولفظ الهبة، والصدقة، والعطية، ونحو ذلك ينصرف إلى معنى الإبراء، لأنه عين موجودة يتناولها اللفظ.
(4) أي ولو رد المدين الإبراء، ولو لم يقبله صح الإبراء.
(5) وكإسقاط القصاص والشفعة، ولأنه لو ارتد بالرد للزم وجوب الاستيفاء، أو إبقاء الحق، وهو ممتنع.
(6) قدره وصفته، قال الموفق: إذا لم يكن لهما سبيل إلى معرفته، لخبر «اقتسما وتوخيا، ثم استهما، ثم تحالا» ولأنه إسقاط، فصح في المجهول كالطلاق ولأن الحاجة داعية إلى تبرئة الذمة، ولا سبيل إلى العلم بما فيها، ولو لم تصح لكان سدا لباب عفو الإنسان عن أخيه وتبرئة ذمته.(6/11)
لكن لو جهله ربه، وكتمه المدين خوفا من أَنه لو علم لم يبرئه لم تصح البراءَة (1) ولو أَبرأَ أَحد غريمه (2) أَو من أَحد دينيه لم تصح، لإِبهام المحل (3) (وتجوز هبة كل عين تباع) (4) وهبة جزء مشاع منها إذا كان معلوما (5) (و) هبة (كلب يقتنى) (6) .
__________
(1) لأن فيه تغريرًا لمبرئ، وقد أمكن التحرز منه، لأنه هضم للحق، وكالمكره لأنه غير متمكن من المطالبة والخصومة فيه.
(2) لم يصح الإبراء مع إبهام المحل.
(3) الوارد عليه الإبراء كرهبت أحد هذين العبدين.
(4) لأنها تمليك في الحياة، فصحت فيما صح فيه البيع، وما لا يصح بيعه لا تصح هبته كأم الولد.
(5) جائز، وهو مذهب مالك، والشافعي، وسواء في ذلك ما أمكن قسمته أو لم يمكن، لقوله لوفد هوزان «ما كان لي ولبني عبد المطلب فلكم» وغير ذلك، وقال أحمد: إذا كان سهم من كذا، جاز.
(6) أي وتجوز هبة كلب يقتنى، لأنه تبرع، جزم به الموفق وغيره.(6/12)
ونجاسة يباح نفعها كالوصية (1) ولا تصح معلقة، ولا مؤقتة (2) إلا نحو: جعلتها لك عمرك؛ أَو: حياتك (3) ؛ أَو: عمري؛ أَو: ما بقيت؛ فتصح (4) وتكون لموهوب له، ولورثته بعده (5) .
__________
(1) أي وتجوز هبة نجاسة يباح نفعها، كدهن متنجس للاستصباح به، لأن نقل اليد في هذه الأعيان ونحوها جائز، كما يجوز في الوصية.
(2) أي ولا تصح الهبة معلقة على شرط مستقبل، كإذا جاء رأس الشهر فقد وهبتك كذا؛ غير الموت، وتكون وصية ولا تصح الهبة مؤقتة، كوهبتك هذا سنة أو شهرا؛ لأنها تمليك عين، فلا توقت كالبيع، ورجح ابن القيم تعليق الهبة والإبراء على شرط، واحتج له.
(3) أي إلا توقيت العمري والرقبى فيصحان، وهما نوعان من أنواع الهبة، كقوله: جعلت لك هذه الدار عمرك؛ أو: أعمرتك هذه الدار؛ أو: أرقبتك هذه الجارية؛ أو: جعلتها لك حياتك؛ فتصح.
(4) أي أو: جعلتها لك عمري؛ أو: جعلتها لك ما بقيت؛ أو: ما عشت؛ ونحو ذلك فتصح.
(5) كتصريحه بأن يقول: هي لك ولعقبك من بعدك، فإن لم يكن له ورثة فلبيت المال، لقول جابر: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمري لمن وهبت له. متفق عليه، ولمسلم «من أعمر عمرى فهي للذى أعمرها حيا وميتا» وقال «لا ترقبوا ولا تعمروا، فمن أرقب شيئا أو أعمره فهو لورثته» وغير ذلك مما يدل على ملك المعمر والمرقب، قال الشيخ: تصح العمري، وتكون للمعمر ولورثته إلا أن يشترط المعمر عودها إليه، فيصح الشرط، وهو رواية عن أحمد، وقول طائفة من العلماء.(6/13)
وإن قال: سكناه لك عمرك (1) أَو غلبته؛ أَو: خدمته لك (2) ، أَو: منحتكه؛ فعارية (3) لأَنها هبة المنافع (4) ومن باع أَو وهب فاسدا (5) ثم تصرف في العين بعقد صحيح (6) صح الثاني، لأَنه تصرف في ملكه (7) .
__________
(1) أو: خدمة هذا العبد لك عمرك؛ لم يصح.
(2) أي أو قال: غلة هذا البستان لك، أو: خدمة هذا العبد لك؛ لم يصح الإعمار.
(3) أي أو قال: منحتك غلة هذا البستان؛ أو: خدمة هذا العبد؛ فعارية، له الرجوع فيها متى شاء، في حياته وبعد موته.
(4) وهبة المنافع إنما تستوفي شيئا فشيئا بمضي الزمان، فلا تلزم إلا في قدر ما قبضه منه، قال الموفق: وهو قول أكثر أهل العلم.
(5) أي باع بيعا فاسدا.
(6) مع علمه بفساد العقد الأول.
(7) عالما بأنه ملكه، وإن اعتقد صحة العقد الأول فوجهان، «أحدهما» يصح، لأنه تصرف صادف ملكه، وتم بشروطه فصح، كما لو علم فساد الأول.(6/14)
فصل (1)
(يجب التعديل في عطيته أَولاده بقدر إرثهم) (2) للذكر مثل حظ الأُنثيين (3) اقتداء بقسمة الله تعالى (4) وقياسا لحال الحياة على حال الموت (5) .
__________
(1) أي في بيان أحكام العطية، ووجوب تعديل الوالد بين أولاده فيها، وقيل: وورثته، قال الحارثي: هي تمليك عين مالية موجودة، مقدور على تسليمها، معلومة، أو مجهولة تعذر علمها، في الحياة بلا عوض، فهي مصدر، وليس عند أهل اللغة كذلك، بل نفس الشيء المعطى، والجمع عطايا، وأما المصدر فالإعطاء، والاسم العطا، وأكثر ما يراد بها هنا الهبة في مرض الموت.
(2) أي يجب على واهب ذكر أو أنثى التعديل في عطيته أولاده ذكرًا وأنثى بقدر إرثهم، لا نفقة فتجب الكفاية دون التعديل، لأنها لدفع الحاجة، وقال أحمد: لا ينبغيى أن يفضل أحدا من أولاده، لا في طعام ولا غيره. وقال إبراهيم: كانوا يستحبون التسوية بينهم حتى في القبل.
(3) قال ابن القيم: عطية الأولاد المشروع أن يكون على قدر ميراثهم، لأن الله منع مما يؤدي إلى القطيعة، والتسوية بين الذكر والأنثى مخالفة لما وضعه الشرع من التفضيل، فيفضي ذلك إلى العداوة، ولأن الشرع أعلم بمصالحنا.
(4) في ميراث الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، وأولى ما اقتدي به قسمة الله تعالى.
(5) لأن العطية في الحياة إحدى حالتي العطية، فيجعل للذكر منها مثل حظ الأنثيين كالميراث.(6/15)
قال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى (1) . وسائر الأَقارب في ذلك كالأَولاد (2) (فإن فضل بعضهم) بأَن أَعطاه فوق إِرثه، أَو خصه (3) (سوَّى) وجوبا (4) (برجوع) حيث أَمكن (5) (أَو زيادة) لمفضول ليساوي الفاضل (6) .
__________
(1) وقال الموفق: وهذا خبر عن جميعهم، ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية بينهم، وكراهية التفضيل، قال الشيخ: ويتوجه في ولد البنين التسوية كآبائهم.
(2) قاله أبو الخطاب وغيره، وقال الموفق وغيره: ليس عليه التسوية بين سائر أقاربه، ولا إعطاؤهم على قدر ميراثهم، لأنها عطية لغير الأولاد في صحته، فلم تجب عليه التسوية كما لو كانوا غير وارثين، ولأن الأصل إباحة الإنسان التصرف في ماله كيف شاء، ولا يصح قياسهم على الأولاد، ولم يأمر بشيرا بإعطاء الزوجة. قال الحارثي: وجوب التعديل مختص بالأولاد، وهو المذهب، وعليه المتقدمون. وقال الشيخ: لا تجب التسوية بين سائر الأقارب الذين لا يرثون، ولا بين أولاده أهل الذمة، لأنهم غير وارثين.
(3) بلا إذن الباقين، أثم إذا لم يختص بمعنى يبيح التفضيل.
(4) ولو في مرض الموت، تداركا للواجب، وقال الشيخ: ينبغي أن يكون على الفور.
(5) أي الرجوع فيما فضل به بعضهم أو خصه.
(6) كما لو أعطى أحد ابنيه عشرة، والآخر خمسة، زاده خمسة ليتساويا في الهبة.(6/16)
أَو إعطاء ليستووا (1) لقوله - عليه السلام - «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم» متفق عليه مختصرًا (2) .
__________
(1) أي أو إعطاء المفضول ولو في مرض الموت، ليستووا بمن فضل أو خص كما لو زوج أحد ابنيه في صحته وأدى عنه الصداق، ثم مرض الأب فإنه يعطي ابنه الآخر كما أعطى الأول، ليحصل التعديل بينهما، ولا يحسبه من الثلث، لأنه تدارك للواجب، أشبه قضاء الدين.
(2) من حديث النعمان بن بشير أن أباه أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حديث جابر عند مسلم: أن امرأة بشير قالت: انحل ابنى غلاما، وأشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بشير: إنى نحلت ابني هذا غلاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكل ولدك نحلته مثل هذا» ؟ فقال: لا؛ قال «فارجعه» ولمسلم «اردده» وفي رواية «أفعلت هذا بولدك كلهم» قال: لا، قال «فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم» ولأحمد وغيره: فرجع أبي في تلك العطية. وله ألفاظ كثيرة، فدل على وجوب العدل بين الأولاد في العطية، وهو قول جمهور العلماء، وقال ابن القيم - بعد أن ساق ألفاظ الحديث ـ: وكل هذه ألفاظ صحيحة صريحة في التحريم والبطلان من عشرة أوجه، تؤخذ من الحديث.
قال الشيخ: والحديث والآثار تدل على وجوب التعديل بينهم في غير التمليك، وهو في ماله ومنفعته التي ملكهم، والذي أباحهم، كالمسكن، والطعام، قال: ثم هنا نوعان، نوع يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض، ونحو ذلك، فتعديله فيه أن يعطي كل واحد ما يحتاج إليه، ولا فرق بين محتاج قليل أو كثير، ونوع تشترك حاجتهم إليه من عطية، أو نفقة، أو تزويج، فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه، وينشأ من بينهما نوع ثالث، وهو أن ينفرد أحدهما بحاجة غير معتادة مثل أن يقضي عن أحدهما ما وجب عليه من أرش جناية، أو يعطي عنه المهر، أو يعطيه نفقة الزوجية، ونحو ذلك، ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر، وتجهيز البنات بالنحل أشبه، والأشبه في هذا أن يكون بالمعروف، فلو كان أحدهما محتاجا دون الآخر أنفق عليه قدر كفايته، وأما الزيادة فمن
النحل.
قال الموفق وغيره: وإن أعطاه لمعنى فيه، من حاجة أو زمانة، أو عمى أو كثرة عائلة، أو لاشتغاله بالعلم، ونحوه كصلاحه، أو منع بعض ولده لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يعصى الله بما يأخذه ونحوه جاز التخصيص، والتفضيل، وبدون معنى، تجب التسوية برجوع أو زيادة.(6/17)
وتحرم الشهادة على التخصيص، أَو التفضيل، تحملا وأَداءً إن علم (1) .
وكذا كل عقد فاسد عنده، مختلف فيه (2) (فإن مات) الواهب (قبله) أي قبل الرجوع (3) أَو الزيادة (ثبتت) للمعطى (4) فليس لبقية الورثة الرجوع (5) .
__________
(1) أي الشاهد به، لقوله صلى الله عليه وسلم لبشير «لا تشهدني على جور» ولمسلم «إنى لا أشهد إلا على حق» .
(2) كنكاح بلا ولي، وبيع غير مرئي ولا موصوف، ونحوه إن لم يحكم به من يراه، حرم على الحنبلي أن يشهد به.
(3) أي في الهبة، ثبت ذلك للموهوب له ولزم.
(4) أي أو مات الواهب قبل الزيادة للتسوية ثبتت الهبة للمعطى.
(5) قال الموفق: هو قول أكثر أهل العلم، وفي رواية: إن لباقي الورثة أن يرتجعوا ما وهبه. اختاره طائفة من أهل العلم، وقال أحمد: ذهب عروة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم يرد في حياة الرجل وبعد موته، لقوله «لا تشهدني على جور» والجور لا يحل للفاعل فعله، ولا للمعطى تناوله، فيجب رده، ولأن أبا بكر وعمر أمرا قيس بن سعد برد قسمة أبيه حين ولد له ولد ولم يعلم به، ولا أعطاه شيئا، وكان ذلك بعد موت سعد، ولا ريب أن هذا القول أحوط، وأقرب إلى ظواهر الأدلة، وقال الشيخ: لو مات الوالد قبل التسوية، فللباقين الرجوع، وهو رواية عن أحمد، واختيار ابن بطة، وأبي حفص، وأما المفضل فينبغي له الرد قولا واحدا بعد الموت.(6/18)
إلا أَن يكون بمرض الموت فيقف على إجازة الباقين (1) .
(ولا يجوز لواهب أَن يرجع في هبته اللازمة) (2) لحديث ابن عباس مرفوعا: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» متفق عليه (3) (إلا الأَب) فله الرجوع، قصد التسوية أَولا (4) .
__________
(1) أي إلا أن يكون الواهب وهب بمرض الموت فحكمها كالوصية، لا تصح فيقف على إجازة الباقين من الورثة، فإن أجازوا صح، وإلا فلا.
(2) يعنى المقبوضة، سواء عوض عنها أولا، لأن الهبة المطلقة لا تقتضي ثوابا، قال الحافظ وغيره: القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض مذهب جمهور العلماء، إلا هبة الوالد لولده.
(3) وفي لفظ «ثم يرجع في قيئه» وهذا من أبلغ الزجر، وللبخارى «ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه» وللخمسة «لا يحل للرجل أن يعطي العطية، فيرجع فيها» فدل على تحريم الرجوع في الهبة، وهو مذهب الجمهور، إلا ما استثناه الشارع.
(4) يعني إلا الأب الأقرب، سواء قصد التسوية أولا للعموم، دون الجد ودون الأم على المشهور في المذهب، قال أحمد: هي عندي ليست كالأب، لأن للأب أن يأخذ من مال ولده، والأم لا تأخذ، ولأن للأب الولاية دونها، وقال الموفق: يحتمل أن لها الرجوع، وهو ظاهر كلام الخرقي، ومذهب الشافعي، لأنها داخلة في قوله «إلا الوالد فيما يعطى ولده» وفي قوله «سووا بين أولادكم» ولأنه طريق إلى التسوية، وربما لا يكون لها طريق غيره، ولأنها ساوت الأب في تحريم تفضيل بعض ولدها، فينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع فيما فضلته به، تخليصا لها من الإثم، وإزالة التفضيل المحرم كالأب؛ قال: وهذا الصحيح إن شاء الله.(6/19)
مسلما كان أو كافرا (1) لقوله - عليه السلام - «لا يحل للرجل أَن يعطي العطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده» (2) رواه الخمسة، وصححه الترمذي من حديث عمر، وابن عباس (3) ولا يمنع الرجوع نقص العين (4) أَو تلف بعضها (5) أَو زيادة منفصلة (6) .
__________
(1) أي الأب، فلو وهب الكافر لولده ثم أسلم فله، وقال الشيخ: ليس له الرجوع إن كان وهبه في حال الكفر فأسلم الولد، وصوبه في الإنصاف.
(2) وفيه «ومثل الرجل يعطى العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب، أكل حتى إذا شبع قاء، ثم رجع في قيئه» .
(3) وصححه ابن حبان، والحاكم وغيرهم، فدل على تحريم الرجوع إلا الأب، وتقدم قول الحافظ وغيره: إنه قول الجمهور.
(4) يعنى الموهوبة بيد ولد، سواء نقصت قيمتها أو ذاتها.
(5) أي ولا يمنع الرجوع تلف بعض العين، فيرجع في الباقي منها، ولا ضمان على الولد فيما تلف منها.
(6) كولد البهيمة، وثمر الشجرة، وكسب العبد، قال الموفق: بغير خلاف نعلمه، لأن الرجوع في الأصل دون النماء، والزيادة المنفصلة للولد، إلا ولد الأمة لتحريم التفريق.(6/20)
ويمنعه زيادة متصلة (1) وبيعه، وهبته، ورهنه، ما لم
ينفك (2) .
(وله) أي لأَب حرٍّ (3) (أَن يأْخذ ويتملك من مال ولده (4) ما لا يضره ولا يحتاجه) (5) .
__________
(1) كسمن، وحمل، وتعلم صنعة، لأن الزيادة للموهوب له نماء ملكه، وإذا امتنع فيها امتنع في الأصل.
(2) أي ويمنع الرجوع بيع الولد الموهوب، وهبته اللازمة، ووقفه، ونحوه مما ينقل الملك، ورهنه اللازم، ما لم ينفك الرهن بوفاء أو غيره، فيشترط لجواز رجوع الأب وصحته: أربعة شروط «أحدها» أن يكون ما وهبه عينا باقية في ملك الولد، وأن تكون باقية في تصرفه، وأن لا تزيد عند الولد زيادة متصلة، وأن لا يكون الأب قد أسقط حقه من الرجوع، وكذا لو أفلس وحجر عليه فلا رجوع، قال الحارثي: هو الصواب بلا خلاف. وصرح به الموفق.
وقال الشيخ: وللأب الرجوع فيما وهبه لولده، ما لم يتعلق به حق أو رغبة، فلا يرجع بقدر الدين، وقدر الرغبة، ويرجع فيما زاد. اهـ. وإلا من وهبت زوجها بمسألته، ثم ضرها بطلاق أو غيره، لأنها لا تهبه إلا مخافة غضبه أو إضرار بأن يتزوج عليها.
(3) أي أب فقط، لا جد وأم كما صرحوا به «حر» لأن الرقيق مال لسيده «مسلم» كما ذكره بعضهم، واشترط الشيخ لجواز التمليك أن لا يكون الأب كافرا والابن مسلما، ولا سيما إذا كان كافرا ثم أسلم، قال في الإنصاف: وهذا عين الصواب: وقال الشيخ: الأشبه أنه ليس للأب المسلم أن يأخذ من مال ولده الكافر شيئا، نص عليه مع اختلاف الدين.
(4) ما شاء، بعلمه وبغير علمه.
(5) لخبر «لا ضرر ولا ضرار» ، ولأن حاجة الإنسان مقدمة على دينه، فأبوه أولى.(6/21)
لحديث عائشة مرفوعًا: «إِن أَطيب ما أَكلتم من كسبكم، وإِن أَولادكم من كسبكم» رواه سعيد، والترمذي وحسنه (1) وسواء كان الوالد محتاجا أَولا (2) وسواء كان الولد كبيرا أَو صغيرا، ذكرا أَو أُنثى (3) وليس له أَن يتملك ما يضر بالولد (4) أَو تعلقت به حاجته (5) ولا ما يعطيه ولدا آخر (6) ولا في مرض موت أَحدهما المخوف (7) (فإن تصرف) والده (في ماله) قبل تملكه وقبضه (8) .
__________
(1) وهو عند الخمسة وغيرهم، وفي لفظ: «ولد الرجل من أطيب كسبه، فكلوا من أموالهم هنيئا» رواه أحمد، ولابن ماجه من حديث جابر «أنت ومالك لأبيك» وله شواهد بمجموعها تدل على أن للوالد الأخذ، والتملك، والأكل من مال ولده ما لم يضره، ولا يحتاجه.
(2) لعموم الأخبار.
(3) برضاه أولا، فقوله: «أنت ومالك لأبيك» يقتضي إباحة نفسه، كإباحة ماله، وأنه يجب على الولد خدمة أبيه، ويقويه جواز منعه من الجهاد، والسفر، ونحو ذلك فيما يفوت انتفاعه به، لكن هذا يشترك فيه الأبوان.
(4) فإن ضره كآلة حرفة أو رأس مال يتجر به أو سريته لم يتملكه.
(5) كأن تعلق به نحو حق رهن أو فلس.
(6) لأنه ممنوع من تخصيص بعض ولجده بالعطية من مال نفسه، فلأن يمنع من تخصيصه بما أخذ من مال ولجده الآخر أولي.
(7) سواء كان الأب أو الولد، لأنه بالمرض قد انعقد السبب القاطع للتملك.
(8) لم يصح تصرفه، وإن كان الابن صغيرا.(6/22)
(ولو فيما وهبه له) أي لولده وأَقبضه إياه (1) (ببيع) أَو هبة (أَو عتق (2) أَو إبراء) غريم ولده من دينه، لم يصح تصرفه (3) لأَن ملك الولد على مال نفسه تام، فيصح تصرفه فيه (4) ولو كان للغير أَو مشتركا لم يجز (5) (أَو أَراد أَخذه) أي أَراد الوالد أَخذ ما وهبه لولده (قبل رجوعه) في هبته بالقول، كرجعت فيها (6) ؛ (أَو) أَراد أَخذ مال ولده قبل (تملكه بقول أَو نية، وقبض معتبر لم يصح) تصرفه، لأَنه لا يملكه إلا بالقبض، مع القول، أَو النية، فلا ينفذ تصرفه فيه، قبل ذلك.
__________
(1) أي فحكمه حكم ماله، لا يصح تصرفه فيه قبل تملكه وقبضه.
(2) أو غيره مما ينقل الملك، لم يصح تصرفه قبل تملكه وقبضه، قال أحمد: لا يجوز بيع الأب لعبد ابنه ما لم يقبضه. انتهي. وإنما يملك انتزاعها منه كالعين التي وهبها له.
(3) ولا من إبراء نفسه من دين لولده عليه، ولا يملك قبض الدين من غريم ولده، ولا من نفسه، لأن الولد لم يملكه قبل قبضه.
(4) ولا يصح تصرف أبيه قبل القبض، لأنه تصرف غير شرعى.
(5) أي ولو كان لأبيه أو غيره، أو مشتركا بينه وبين أبيه أو غيره، لم يجز التصرف.
(6) لم يصح التصرف، لأن الرجوع لا يحصل بالقبض مع النية، بخلاف التملك، وإنما يحصل بالقول.(6/23)
(بل بعده) أي بعد القبض المعتبر، مع القول أَو النية (1) لصيرورته ملكا له بذلك (2) وإِن وطئَ جارية ابنه فأَحبلها، صارت أُم ولد له (3) وولده حرّ (4) ولا حد، ولا مهر عليه (5) إن لم يكن الابن وطئها (6) .
__________
(1) لأن القبض أعم من أن يكون للتملك أو غيره، فاعتبر القول أو النية ليتعين وجه القبض، وفي الفروع: ويتوجه: أو قرينة.
(2) أي بالقبض مع قول أو نية أو قرينة، فتحصل أن للأب الأخذ من مال ولده «بستة شروط» أن يكون فاضلا عن حاجة الولد، وأن لا يعطيه لولد آخر، وأن لا يكون في مرض موت أحدهما، وأن لا يكون الأب كافرا والابن مسلما، وأن يكون عينا موجودة، فلا يتملك دين ابنه، «والسادس» أن يكون تملكه بقبض مع قول أو نية.
(3) أي وإن وطئ جارية ابنه قبل تملكها فأحبلها صارت أم ولد للأب، لأن إحبالها يوجب نقل الملك إليه.
(4) أي وولد الأب من جارية ولده حر، لأنه من وطء انتفي فيه الحد للشبهة، ولا يلزمه قيمة، لدخولها في ملكه بالإحبال.
(5) لأن الوطء سبب نقل الملك فيها، وإيجاب القيمة للولد، والوطء الموجب للقيمة كالإتلاف، فلا يجتمع معه المهر، ولا حد عليه، لشبهة الملك، وعليه قيمتها، لإتلافها عليه، لكن ليس له طلبها.
(6) أي وهذا الحكم المذكور إن لم يكن الابن وطئها، لأنها بوطئه تكون كحلائل الأبناء، فإن كان وطئها لم تصر أم ولد للأب، ويعزر، ولو لم يستولدها الابن، وحرمت عليهما.(6/24)
(وليس للولد مطالبة أَبيه بدين ونحوه) كقيمة متلف (1) وأَرش جناية (2) لما روى الخلال أَن رجلا جاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأَبيه يقتضيه دينا عليه، فقال «أَنت ومالك لأَبيك» (3) (إلا بنفقته الواجبة عليه (4) فإن له مطالبته بها، وحبسه عليها) لضرورة حفظ النفس (5) وله الطلب بعين مال بيد أَبيه (6)
فإن مات الابن فليس لورثته مطالبة الأَب بدين ونحوه، كمورثهم (7) .
__________
(1) كثوب ونحوه حرقه لولده.
(2) على ولده، كقلع سنه، وقطع طرفه، ولا بأجرة ما انتفع به من ماله، ولا أن يحيل عليه بدينه، ولا غير ذلك، من سائر الحقوق.
(3) وتقدم قوله «أنت ومالك لأبيك» من غير وجه وغيره، مما يدل على أنه ليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه، وعند الثلاثة له ذلك، لأنه دين ثابت، والأخبار خاصة لعموم المطالبة.
(4) أي إلا بنفقة الولد الواجبة له على أبيه لفقر الولد، وعجزه عن التكسب.
(5) فسوغت له المطالبة بها، ولقوله صلى الله عليه وسلم لهند «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
(6) أي وللود الطلب بعين مال بيد أبيه، ولورثة الولد أيضا الطلب بعين المال الذي بيد أبي مورثهم، ويجري الربا بين الوالد وولده، لتمام ملك الولد على ماله.
(7) أي كما أنه ليس لمورثهم مطالبة أبيه بدين ونحوه كما تقدم.(6/25)
وإن مات الأَب رجع الابن بدينه في تركته (1) و «الصدقة» وهي ما قصد به ثواب الآخرة (2) .
و «الهدية» وهي ما قصد به إكراما وتوددا ونحوه (3) «نوعان من الهبة» حكمهما حكمها فيما تقدم (4) .
__________
(1) كثمن مبيع، وأجرة، ونحوهما، وإن وجد عين ماله الذي أقرضه أو باعه لأبيه بعد موته، فله أخذه إن لم يكن انتقد ثمنه من أبيه، ولا يسقط دينه الذي عليه بموته، فيؤخذ من تركته، وتسقط جنايته على ولده بموت الأب ودين الضمان إذا ضمن غريم ولده.
(2) وورد في فضلها آيات، وأحاديث كثيرة، قال تعالى (إن تبدوا الصدقات
فنعما هي) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم «والصدقة تطفئ الخطيئة» وغير ذلك.
(3) وإن لم يقصد بإعطائه شيئا من ذلك فهبة وعطية ونحلة، والهدية تذهب الحقد، وتجلب المحبة، لخبر «تهادوا تحابوا» و «تهادوا، فإن الهدايا تذهب وحر الصدور» ولا ترد وإن قلت، خصوصا الطيب، للخبر، وتسن الإثابة عليها.
ويجوز ردها لأمور، نحو أن يريد أخذها بعقد معاوضة، أو لا يقنع بالثواب المعتاد، أو تكون بعد السؤال، واستشراف النفس، أو لقطع المنة، ويجب الرد كهدية صيد صِيْد لمحرم.
(4) أي من أحكام الهبة في الجملة، والعطية تشمل الكل، وكذا النحلة، ومعانيها كلها متقاربة، وقال الشيخ: الصدقة والهدية متغايران، وإن دخلا في مسمى الهبة والعطية، فإنه صلى الله عليه وسلم يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، ومن أعطى شيئا يريد به التقرب إلى الله لمحتاج فصدقة، وإلى الشخص والمحبة له فهدية،
وإلا فهبة وعطية، ونحلة، والكل مندوب إليه إذا قصد به وجه الله، لا مباهاة، ورياء، وسمعة.
وقال: فإعطاء المال ليمدح ويثنى عليه مذموم، وإعطاؤه لكف الظلم والشر عنه، ولئلا ينسب إلى البخل مشروع، بل محمود مع النية الصالحة، ويجوز للمهدي: أن يبذل في التوصل إلى حقه الذي لا يتوصل إلى أخذه ودفع الظلم عنه إلا به، وهو المنقول عن السلف والأئمة، وفيه حديث مرفوع. وقال: الصدقة أفضل من الهبة، إلا لقريب يصل بها رحمه، أو أخ له في الله، فقد تكون أفضل من الصدقة.(6/26)
ووعاء هدية كهي مع عرف (1) .
__________
(1) أي ووعاء هدية كهدية، فلا ترد مع عرف، كقوصرة التمر ونحوها فإن لم يكن عرف ردت.(6/27)
فصل في تصرفات المريض
بعطية أَو نحوها (1) (من مرضه غير مخوف (2) كوجع ضرس وعين (3) وصداع) أي وجع رأْس (يسير (4) فتصرفه لازم، كـ) تصرف (الصحيح (5) ولو) صار مخوفا و (مات منه) اعتبارا بحال العطية (6) .
__________
(1) أي في بيان حكم تصرفات المريض، ومحاباته بعطية ونحوها، كإبراء من دين، أو صدقة، وما يتعلق بذلك، ولا ريب أن الصدقة في الصحة أفضل، وأعظم أجرا، قال تعالى {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل، أي الصدقة أفضل، قال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا. وقد كان لفلان» يعني الوارث وقال: «درهم يتصدق به في حياته، خير من مائة درهم عند موته» .
(2) أي لا يخاف منه الموت في العادة.
(3) كرمد، فتصرفه لازم، كالصحيح.
(4) وكجرب، وحمى يسيرة ساعة أو نحوها، وكالإسهال اليسير، من غير دم يمكنه منعه، وإرساله.
(5) تصح عطيته من جميع ماله، لكون ما ذكر ونحوه لا يخاف منه الموت
في العادة.
(6) أي لكون صدورها في حال لا يخاف منه الموت.(6/28)
لأَنه إذ ذاك في حكم الصحيح (1) (وإن كان) المرض الذي اتصل به الموت (مخوفا (2) كبرسام) وهو بخار يرتقي إلى الرأْس، ويؤثر في الدماغ، فيختل عقل صاحبه (3) (وذات الجنب) قروح بباطن الجنب (4) (ووجع قلب) ورئة لا تسكن حركتها (5) (ودوام قيام) وهو المبطون الذي أَصابه الإسهال، ولا يمكنه إِمساكه (6) (و) دوام (رعاف) (7) .
__________
(1) أي فصار حكم تصرفه حكم تصرف الصحيح، تصح عطيته من جميع ماله. وقال الموفق: تبرعات الصحيح من جميع ماله، لا نعلم فيه خلافا.
(2) فمن ثلث ماله، عند جمهور العلماء.
(3) وقال عياض: ورم في الدماغ، يتغير منه عقل الإنسان ويهذي. ويقال: ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع. ويقال: التهاب في الحجاب الذي بين الكبد والقلب.
(4) ويقال: التهاب غلاف الرئة، فيحدث منه سعال وحمى، ونخس في الجنب، يزداد عند التنفس.
(5) فلا يندمل جرحها، فتصرفه من ثلث ماله.
(6) ولو ساعة، لأن من لحقه ذلك أسرع في هلاكه، وكذا إسهال معه دم، وإن كان الإسهال يجري تارة وينقطع أخرى، فإن كان يوما أو يومين فليس بمخوف، لأن ذلك قد يكون من فضالة الطعام، إلا أن يكون معه زحير أو تقطيع، كأن يخرج متقطعا، فإنه يكون مخوفا.
(7) أي امتداد خروج الدم من الأنف.(6/29)
لأَنه يصفي الدم، فتذهب القوة (1) (وأَول فالج) وهو داء معروف، يرخي بعض البدن (2) .
(وآخر سل) بكسر السين (3) (والحمى المطبقة (4) و)
حمى (الربع (5) وما قال طبيبان -مسلمان عدلان- إنه مخوف) (6) .
__________
(1) فهو من الأمراض المخوفة.
(2) فيبطل إحساسه وحركته، لا نصباب خلط بلغمي، تنسد منه مسالك الروح.
(3) داء يحدث في الرئة. وفي القاموس قرحة تحدث في الرئة، إما تعقب ذات الرئة، أو ذات الجنب أو زكام ونوازل، أو سعال طويل، وتلزمها حمى هادية.
(4) الحمى داء معروف، ترتفع فيه درجة حرارة الجسم، والمطبقة: الدائمة ليلا ونهارًا لا تنفك عنه.
(5) أي التي تأتيه كل رابع يوم، تأخذ يوما، وتذهب يومين، وتعود في الرابع، واشترط بعضهم أن يكون صاحب فراش، وكذا الهرم، قال الموفق: والقولنج، وهو أن ينعقد الطعام في بعض الأعضاء، ولا ينزل عنه، فهذه مخوفة، وإن لم يكن معها حمى، وهي مع الحمى أشد خوفا، وإن ثار الدم واجتمع في عضو كان مخوفا، لأنه من الحرارة المفرطة وإن هاجت به الصفراء فهي مخوفة، لأنها تورث يبوسة، وكذا البلغم إذا هاج، لأنه من شدة البرودة، وقد تغلب على الحرارة الغريزية فتطفئها، وجريح جرحا موهيا، مع ثبات عقله.
(6) فمخوف، لأنهم أهل الخبرة بذلك؛ قال الموفق: وقياس قول الخرقي، أنه يقبل قول واحد عدل، إذا لم يقدر على طبيبين، فإن عمر قبل واحدًا، لما سقاه اللبن، فخرج من جرحه، قال: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم، فاتفق الصحابة على قبول عهده، وكذلك أبو بكر حين اشتد مرضه، وفي الاختيارات: ليس معنى المرض المخوف، الذي يغلب على القلب الموت منه، أو يتساوى في الظن جانب البقاء والموت، لأن أصحابنا جعلوا ضرب المخاض من الأمراض المخوفة، وليس الهلاك فيه غالبا، ولا مساويا للسلامة، وإنما الغرض أن يكون سببا صالحًا للموت، فيضاف إليه، ويجوز حدوثه عنده، وأقرب ما يقال: ما يكثر حصول الموت منه.(6/30)
فعطاياه كوصية (1) لقوله - عليه السلام - «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أَموالكم، زيادة لكم في أعمالكم» رواه ابن ماجه (2) (ومن وقع الطاعون ببلده) (3) أَو كان بين الصفين، عند التحام حرب (4) .
__________
(1) تنفذ في الثلث فما دونه لأجنبي، وتقف على الإجازة فيما زاد عليه، ولوارث بشيء.
(2) ورواه البزار والدارقطني، وسكت عليه الحافظ في التلخيص، فدل الحديث وما في معناه، على الإذن بالتصرف في ثلث المال عند الوفاة، وهو مذهب جمهور العلماء. ولمسلم: أن رجلا أعتق في مرضه ستة أعبد، لم يكن له مال غيرهم، فأقرع صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق اثنين، واسترق أربعة؛ وإذا لم ينفذ العتق فيما زاد على الثلث فغيره أولي، ولأن هذه الحال وما في معناها، الظاهر منها الموت، فكانت عطيته فيها في حق ورثته، لا يتجاوز الثلث كالوصية.
(3) الطاعون وباء معروف أعاذنا الله منه، وقال النووي: هو بثر وورم مؤلم جدًا، يخرج معه لهب ويسود ما حوله ويخضر، ويحمر حمرة بنفسجية، ويحصل معه خفقان القلب، ويقال: غدة كغدة البعير، تخرج في المراق والآباط، وقال ابن الأثير: هو المرض العام، والوباء الذي يفسد له الهواء، فتفسد له الأمزجة والأبدان.
(4) واختلطت الطائفتان للقتال، لوجود خوف التلف.(6/31)
وكل من الطائفتين مكافئة للأُخرى (1) أَو كان من المقهورة (2) أَو كان في لجة البحر عند هيجانه (3) أَو قدم أَو حبس لقتل (4) (ومن أَخذها الطلق) حتى تنجو (5) (لا يلزم تبرعه لوارث بشيء (6) ولا بما فوق الثلث) ولو لأَجنبى (7) (إِلا بإِجازة الورثة لها إِِن مات منه) (8) .
__________
(1) لا من القاهرة فمن جميع ماله، لعدم توقع التلف قريبا.
(2) فكمرض مخوف، لأن توقع التلف إذا كتوقع المريض أو أكثر، وسواء تبين دين الطائفتين أولا.
(3) أي ثورانه، بهبوب الريح العاصف، فكمرض مخوف، لقوله تعالى (وظنوا أنهم أحيط بهم) .
(4) أي أو قدم ليقتل قصاصا أو غيره، لظهور التلف، أو حبس للقتل، أو أسر عند من عادته القتل، فكمرض مخوف، لأنه يترقب القتل.
(5) أي من نفاسها مع ألم ولو بسقط تام الخلقة، فكمرض مخوف، للخوف الشديد. وإن خرج الولد والمشيمة وحصل ورم، أو ضربان شديد، أو رأت دما كثيرا، لأنها لم تنج.
(6) إلا بإجازة الورثة لها إن مات منه، والتبرع إزالة ملك فيما ليس بواجب بغير عوض، كالعتق، والمحاباة والهبة المقبوضة، والصدقة، والوقف، والإبراء من الدين، والعفو عن الجناية الموجبة للمال، والكتابة، ونحو ذلك.
(7) وهذا مذهب جمهور العلماء أبي حنيفة ومالك، وأحد قولي الشافعي، حكاه الوزير وغيره.
(8) أي إلا بإجازة الورثة بما تبرع به لوارث، وبما فوق الثلث لأجنبى حال المرض المخوف ونحوه إن مات منه، وإن لم يجيزوه بطل فيما زاد على الثلث، وما لوارث.(6/32)
كوصية لما تقدم (1) لأَن توقع التلف من أُولئك كتوقع المريض (2) (وإِن عوفي) من ذلك (فكصحيح) في نفوذ عطاياه كلها، لعدم المانع (3) (ومن امتد مرضه بجذام (4) أَو سل) في ابتدائه (5) (أَو فالج) في انتهائه (ولم يقطعه بفراش (6) .
__________
(1) من الخبر وغيره، وحكم العطايا في مرض الموت حكم الوصية في خمسة أشياء، أحدها: أنه يقف نفوذها على خروجها من الثلث، أو إجازة الورثة، وأنها لا تصح للوارث إلا بإجازة الورثة، وإن فضيلتها ناقصة عن فضيلة الصدقة في الصحة، لخبر «أن تصدق وأنت صحيح شحيح» إلخ، وأن العطايا تتزاحم في الثلث إذا وقعت دفعة واحدة كالوصايا فيه، وأن خروجها من الثلث يعتبر حال الموت لا قبله.
(2) أي لأن توقع التلف ممن وقع الطاعون ببلده، وما بعده كتوقع المريض التلف قريبا.
(3) أي وإن عوفي مما ذكر من المرض وما يتوقع منه التلف، فحكمه حكم صحيح، في نفوذ عطاياه كلها من جميع ماله، عند جمهور العلماء.
(4) في القاموس: علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيئاتها، وربما انتهى إلى تآكل الأعضاء وسقوطها عن تقرح.
(5) ولم يكن صاحب فراش.
(6) أي لم يلزمه الفراش، فيقال: هو صاحب فراش، بجذام، أو أول سل، أو انتهاء فالج.(6/33)
فـ) ـعطاياه (من كل ماله) (1) لأَنه لا يخاف تعجيل الموت منه كالهرم (2) (والعكس) بأَن لزم الفراش (بالعكس) (3) فعطاياه كوصية (4) لأَنه مريض، صاحب فراش، يخشى منه التلف (5) (ويعتبر الثلث عند موته) (6) لأَنه وقت لزوم الوصايا (7) واستحقاقها، وثبوت ولاية قبولها وردها (8) .
__________
(1) كعطايا الصحيح.
(2) لا يخاف تعجيل الموت منه، ما لم يكن صاحب فراش فكمخوف، قال القاضي: إذا كان يذهب ويجيء، فعطاياه من جميع المال، هذا تحقيق المذهب. اهـ. ومتى كان صاحب فراش فكمريض مرضا مخوفا.
(3) حكمه كمريض مرضا مخوفا.
(4) لا تنفذ إلا من ثلث ماله، ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة هذا مذهب الجمهور، مالك وأبي حنيفة وغيرهم.
(5) وما خشي منه التلف لا تنفذ عطاياه.
(6) أي ويعتبر ثلث مال المعطي في المرض عند موته، سواء كان التبرع عطية أو محاباة، أو وقفا، أو عتقا، أو نحو ذلك، لا قبله ولا بعده، فلو أعتق مريض عبدا لا يملك غيره، ثم ملك ما يخرج العتيق من ثلثه، تبينا عتقه كله، لخروجه من ثلثه عند موته، وإن لزمه دين يستغرقه لم يعتق منه شيء، لأن العتق في المرض كالوصية، والدين مقدم عليها، وحكم هبته كعتقه.
(7) أي لأن الموت وقت لزوم الوصايا، كما سيأتي.
(8) يعني الوصايا، والعطية معتبرة بالوصية.(6/34)
فإن ضاق ثلثه عن العطية والوصية قدمت العطية، لأَنها لازمة (1) ونماء العطية من القبول إلى الموت تبع لها (2) ومعاوضة المريض بثمن المثل من رأْس المال (3) والمحاباة كعطية (4) .
__________
(1) قال الموفق: وهو قول جمهور العلماء، لأنها لازمة في حق المريض، فقدمت على الوصية، كعطية الصحة.
(2) أي العطية: فلو أعتق في مرضه عبدًا، أو وهبه لإنسان، ثم كسب في حياة سيده شيئا، ثم مات سيده، فخرج من الثلث، كان كسبه له إن كان معتقا، وللموهوب إن كان موهوبا، وإن خرج بعضه، فلهما من كسبه بقدر ذلك.
(3) أي: ومعاوضة المريض مرضا مخوفا ونحوه بثمن المثل، بيعا أو إجارة ونحوهما، ولو مع وارث، فمن رأس المال، لأنه لا تبرع فيها، ولا تهمة، وكذا ما يتغابن بمثله، من رأس المال، لوقوع التعارف به.
(4) أي حكمهما حكمها فيما تقدم، فلو حأبي بأكثر من ثلث ماله، بطلت فيما زاد، أو حأبي وارثه بطلت تصرفاته في قدر المحاباة معه، إن لم تجز الورثة، وصحت فيما لا محاباة فيه، وفي الاختيارات يملك الورثة أن يحجروا على المريض إذا اتهموه بأنه تبرع بما زاد على الثلث، مثل أن يتصدق ويهب ويحابي، ولا يحسب ذلك، أو يخافون أن يعطي بعض المال لإنسان تمتنع عطيته، ونحو ذلك، وكذا لو كان المال بيد وكيل، أو شريك، أو مضارب، وأرادوا الاحتياط على ما بيده، بأن يجعلوا معه يدا أخرى لهم، فالأظهر أنهم يملكون ذلك، وهكذا يقال في كل عين تعلق بها حق الغير.
وقال الشيخ: نكاح المريض في مرض الموت صحيح، وترث المرأة في قول جمهور العلماء، من الصحابة والتابعين، ولا تستحق إلا مهر المثل، لا الزيادة عليه بالاتفاق. وقال ابن رشد: إن دلت الدلائل على أنه قصد بالنكاح خيرا لا يمنع النكاح، وإن دلت على أنه قصد الإضرار بورثته منع، كما في أشياء من الصنائع.(6/35)
(و) تفارق العطية الوصية في أَربعة أَشياء (1) أَحدها أَنه (يسوى بين المتقدم والمتأَخر في الوصية) (2) لأَنها تبرع بعد الموت، يوجد دفعة واحدة (3) (ويبدأ بالأَول فالأَول في العطية) لوقوعها لازمة (4) (و) الثاني أَنه (لا يملك الرجوع فيها) أي في العطية بعد قبضها (5) لأَنها تقع لازمة في حق المعطي وتنتقل على المعطى في الحياة ولو كثرت (6) وإنما منع من التبرع بالزائد على الثلث لحق الورثة (7) .
__________
(1) أي تفارق العطية في مرض الموت الوصية، في أربعة أشياء، وما سوى الأربعة، فالعطية كالوصية في سائر أحكامها، كما تقدم.
(2) وإن أوصي بوصايا في وقت، ثم أوصي في وقت آخر، عمل بوصيته المتأخرة.
(3) ولذلك استوى فيها المتقدم والمتأخر، و «دَفْعَة» بفتح الدال المرة، وبالضم: اسم لما يدفع مرة.
(4) أي في حق المعطي، فلو كانت خارجة من الثلث لزمت في حق الورثة، فلو شاركتها الثانية لمنع ذلك لزومها في حق المعطي، لأنه يملك الرجوع في بعضها بعطية أخرى، بخلاف الوصايا، فإنه غير لازمه في حقه، وإنما تلزم بالموت في حال واحدة.
(5) بخلاف الوصية، قولا واحدا.
(6) فلم يملك الرجوع فيها إذا اتصل بها القبول، والقبض كالهبة.
(7) لا لحق المعطي، فلم يملك إجازتها ولا ردها.(6/36)
بخلاف الوصية فإنه يملك الرجوع فيها (1) (و) الثالث أن العطية (يعتبر القبول لها عند وجودها) لأنها تمليك في الحال (2) بخلاف الوصية، فإنها تمليك بعد الموت، فاعتبر عند وجوده (3) (و) الرابع أَن العطية (يثبت الملك) فيها (إذًا) أي عند قبولها كالهبة (4) لكن يكون مراعى (5) لأَنا لا نعلم هل هو مرض الموت أَولا (6) ولا نعلم هل يستفيد مالاً أَو يتلف شيء من ماله (7) فتوقفنا لنعلم عاقبه أَمره (8)
__________
(1) لأن التبرع بها مشروط بالموت، ففيما قبل الموت لم يوجد التبرع، فهي كالهبة قبل القبول.
(2) ويفتقر إلى شروط الهبة المذكورة.
(3) فلا حكم لقبولها ولا ردها إلا بعده.
(4) لأنها إن كانت هبة فمقتضاها تمليك الموهوب في الحال كعطية الصحة.
(5) أي مراقبا إلى ماذا يصير الحال.
(6) لأنه إن كان مرض الموت فمن ثلثه، ولوارث لا شيء له، وإن لم يكن مرض الموت فمن جميع ماله.
(7) وعطيته في مرضه، فيختلف الحال بذلك.
(8) لنعمل بها، فلا بد من إيقاف التبرعات على وجه يتمكن الوارث من ردها بعد الموت إذا شاء.(6/37)
فإذا خرجت من الثلث تبينا أَن الملك كان ثابتا من حينه (1) وإلا فبقدره (2) (والوصية بخلاف ذلك) فلا تملك قبل الموت (3) لأَنها تمليك بعده فلا تتقدمه (4) وإِذا ملك المريض من يعتق عليه بهبة أَو وصية (5) أَو أَقرأَنه أَعتق ابن عمه في صحته (6) عتقا من رأْس المال (7) وورثا، لأَنه حر حين موت مورثه، لا مانع به (8) .
__________
(1) لأن المانع من ثبوته كونه زائدًا على الثلث، وقد تبين خلافه، فلو أعتق رقيقا في مرضه فكسب، ثم مات سيده فخرج من الثلث، كان كسبه له.
(2) أي وإن لم يخرج الموهوب من الثلث، بل خرج بعض الرقيق مثلا، تبينا أنه خرج بقدره من كسبه.
(3) أي والوصية بخلاف العطية، من أنه يثبت الملك فيها عند قبولها، فإن الوصية، لا تملك قبل الموت.
(4) أي لأن الوصية تمليك بعد الموت، فلا تتقدم الموت فتملك قبله كالعطية، بل بعده.
(5) وهم كل ذي رحم محرم منه كأبيه.
(6) أي أو أقر المريض في مرضه المخوف، أنه كان أعتق ابن عمه في صحته.
(7) لأنه لا تبرع فيه، إذ التبرع بالمال إنما هو بالعطية أو الإتلاف، أو التسبب إليه، وهذا ليس بواحد منها، والعتق ليس من فعله، ولا يتوقف على اختياره، فهو كالحقوق التي تلزم بالشرع، فيكون من رأس المال.
(8) أي من الإرث، بل هو كغيره من الأحرار.(6/38)
ولا يكون عتقهم وصية (1) ولو دَبَّر ابن عمه، عتق ولم يرث (2) وإن قال: أَنت حرّ آخر حياتي. عتق وورث (3) .
__________
(1) وإلا لاعتبر من الثلث، فلو اشترى من يعتق عليه ويرث منه، كأبيه ونحوه، عتق من الثلث، وورث. أو أعتق ابن عمه في مرضه، عتق من الثلث وورث، وإن لم يخرج من الثلث، عتق منه بقدره.
(2) لأن شرط الإرث الحرية، ولم تسبق الموت، فلم يكن أهلا للإرث حينئذ.
(3) أي وإن قال مريض لابن عمه ونحوه: أنت حر آخر حياتي؛ ثم مات المريض، عتق ابن عمه ونحوه، لوجود شرط عتقه وورث، لسبق الحرية الإرث وليست عتقه وصية تتوقف على إجازة الورثة، لأنه حال العتق غير وارث، وإنما يكون وارثا بعد نفوذه.(6/39)
كتاب الوصايا (1)
جمع وصية (2) مأْخوذة من وصيت الشيءَ: إذا وصلته (3) . فالموصى وصل ما كان له في حياته بما بعد موته (4) واصطلاحا: الأمر بالتصرف بعد الموت (5) أَو التبرع بالمال بعده (6) .
__________
(1) هي الأمر بالتصرف بعد الموت، يقال: وصى توصية، وأوصى إيصاء والاسم الوصية، والوصاية بفتح الواو وكسرها.
(2) أي الوصايا جمع وصية، كالعطايا جمع عطية، والقضايا جمع قضية.
(3) والشيء بالشيء اتصل.
(4) من تبرع، وتوكيل على نحو صغير، وقضاء دين وغيره، والوصية لغة الأمر، قال تعالى (ووصي بها إبراهيم بنيه) وقال (ذلكم وصاكم به) وقول الخطيب: أوصيكم بتقوى الله.
(5) كأن يوصي إلى إنسان بتزويج بناته، أو غسله أو الصلاة عليه، أو تفرقة ثلثه، أو غير ذلك.
(6) أي أو الوصية: التبرع بالمال بعد الموت، بخلاف الهبة، وقال ابن رشد: الوصية بالجملة هي هبة الرجل ماله لشخص آخر، أو لأشخاص بعد موته، أو عتق غلامه، سواء صرح بلفظ الوصية أو لم يصرح به، وهذا العقد عند أهل العلم من العقود الجائزة. اهـ.
والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى (كتب عليكم إذ حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية) .
وقال صلى الله عليه وسلم «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به، يبيت
ليلتين إلا ووصيته مكتوبة» وإذن الشارع بالتصرف عند الموت بثلث المال، من الألطاف الإلهية، والتكثير من الأعمال الصالحة. وفي الخبر: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم، عند وفاتكم، زيادة في حسناتكم» وأجمعوا على جوازها.(6/40)
وتصح الوصية من البالغ الرشيد (1) ومن الصبي العاقل (2) والسفيه بالمال (3) ومن الأَخرس بإِشارة مفهومة (4) وإِن وجدت وصية إنسان بخطه الثابت ببينة أَو إِقرار ورثته صحت (5) ويستحب أَن يكتب وصيته، ويشهد عليها (6) .
__________
(1) سواء كان عدلا أو فاسقا، رجلا أو امرأة، مسلما أو كافرا، ما لم يغرغر، وصوب في الفروع: ما دام عقله ثابتا، ومتى بلغت الروح الحلقوم لم تصح وصيته، ولا غيرها من تصرفاته، باتفاق الفقهاء.
(2) أي للوصية، لأنها تصرف تمحض نفعا له، فصح كالصلاة، ولا تصح ممن له دون سبع، ومجنون، ومبرسم، ونحوهم، عند جماهير العلماء، وأجازها عمر لشخص له عشر سنين، ولم ينكر.
(3) لأنها تمحضت نفعا له من غير ضرر، فصحت منه كعباداته.
(4) لأن تعبيره إنما يحصل بذلك عرفا، فهي كاللفظ من قادر عليه، لا ممن لا تفهم إشارته، ولا ممن اعتقل لسانه بإشارة ولو فهمت، إذا لم يكن مأيوسا من نطقه، كقادر على الكلام.
(5) وعمل بها؛ اختاره الشيخ وغيره، لقوله «إلا ووصيته مكتوبة» ولأنه صلى الله عليه وسلم وخلفاءه يكتبون إلى الأقطار وإلى عمالهم، ولأنها تنبئ عن المقصود كاللفظ.
(6) أي ويستحب للإنسان أن يكتب وصيته لخبر «إلا ووصيته مكتوبة عنده»
ويستحب أن يشهد عليها قطعا للنزاع، ولأنه أحوط وأحفظ، ويعمل بها، ما لم يعلم رجوعه عنها، وإن تطاولت مدته، وفي بعض وصايا السلف: وإن حدث به حادث الموت.
وقال أنس: كانوا يكتبون في صدرو وصاياهم (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا ما أوصي به فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأوصي من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله، إن كانوا مؤمنين ... الخ، وفي وصية أبي الدرداء نحوه.(6/41)
و (يسن لمن ترك خيرًا، وهو المال الكثير) عرفا (1) (أَن يوصي بالخمس) (2) .
__________
(1) فلا يتقدر بشيء، لأنه لا نص في تقديره، ورجح الموفق: أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لم تستحب الوصية، لقوله «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» . وقال الشعبي: ما من مال أعظم أجرًا من مال يتركه الرجل لولده، يغنيهم به عن الناس. وليست الوصية واجبة عند جمهور العلماء، لأن أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص.
وقال على لرجل: إنما تركت شيئًا يسيرًا، فدعه لورثتك. وإنما تجب على من عليه دين، أو عنده وديعة، أو عليه واجب، يوصي بالخروج منه، ومحله إذا كان عاجزًا عن تنجيزه، ولم يعلم بذلك غيره، ممن يثبت الحق بشهادته. ولا يندب أن يكتب الأشياء المحقرة، ولا ما جرت العادة بالخروج منه، والوفاء به عن قرب.
(2) أي: يستحب له أن يوصي، لما تقدم. والأفضل بالخمس، فعن العلاء بن زياد، أنه سأل العلماء، فتتابعوا على الخمس. وقال الشعبي: الخمس أحب إليهم من الثلث.(6/42)
روي عن أَبي بكر وعلي (1) وهو ظاهر قول السلف (2) قال أَبو بكر: رضيت بما رضى الله به لنفسه، يعنى في قوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ} (3) . (ولا تجوز) الوصية (بأَكثر من الثلث لأجنبى) (4) لمن له وارث (5) .
__________
(1) فعن علي: لأن أوصي بالخمس، أحب إلى من أن أوصي بالربع. وقال الموفق: هو الأفضل للغنى.
(2) وعلماء البصرة قاله الموفق.
(3) فأوصي - رضي الله عنه - هو وعلى بالخمس.
(4) والمراد غير وارث، والأولى أن لا يستوعب الثلث، لقوله «والثلث كثير» مع إخباره بكثرة ماله، وقلة عياله. وقال بعض السلف: لم يكن منا من يبلغ في وصيته الثلث، حتى ينقص منه شيئًا، للخبر. والأفضل أن يجعل وصيته لأقاربه الذين لا يرثون، إذا كانوا فقراء، في قول جمهور العلماء.
وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء فيما علمت، إذا كانوا ذوى حاجة، لأن الله كتب الوصية للوالدين والأقربين، فخرج منه الوارثون، بقوله صلى الله عليه وسلم «لا وصية لوارث» وبقي سائر الأقارب على الوصية لهم، وأقله الاستحباب وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} ولأن الصدقة عليهم في الحياة أفضل، فكذلك بعد الموت. فإن أوصي لغيرهم وتركهم صحت، في قول أكثر أهل العلم، وإن لم يكن له قريب فقير، فلمسكين وعالم وديَّنٍ، ونحوهم.
(5) لتعلق حق الورثة بما زاد على الثلث، سواء كان الإرث بفرض، أو تعصيب.(6/43)
(ولا لوارث بشيء (1) إِلا بإِجازة الورثة لهما بعد الموت) (2) لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد (3) حين قال: أوصي بمالي كله؟ قال: «لا» قال: بالشطر؟ قال «لا» (4) قال: بالثلث؟ قال «الثلث والثلث كثير» متفق عليه (5) .
__________
(1) نص عليه، وهو مذهب جمهور العلماء، سواء وجدت في صحة الموصي أو مرضه. وتحرم المضارة في الوصية، لقوله {غَيْرَ مُضَارٍّ} وفي الحديث «إن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضره الموت، فيضار في الوصية، فتجب له النار» وقال ابن عباس: الإضرار في الوصية من الكبائر.
(2) وكذا قبله في مرض الموت، وقال الشيخ: لا تصح لوارث بغير رضى الورثة، ويدخل وارثه في الوصية العامة. اهـ. وإن لم يجز الورثة لأجنبي بأكثر من الثلث بطل، قال الموفق: في قول أكثر العلماء. وقال ابن المنذر وابن عبد البر: في الوصية للوارث: تبطل بإجماع أهل العلم.
(3) يعنى ابن أبي وقاص - رضي الله عنه -.
(4) وذلك أنه قال: يا رسول الله، أما ذو مال، ولا يرثنى إلا ابنة لي واحدة، قاله في حجة الوداع، ثم ولد له بعد ذلك، قيل أكثر من عشرة، ومن البنات اثنتا عشرة، والشطر النصف.
(5) وصفه بالكثرة بالنسبة إلى ما دونه، وأن الأولى الاقتصار على ما دونه، كما قال ابن عباس: وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع في الوصية. وتقدم أن الأفضل الخمس، ويجوز بالثلث، لهذا الخبر، ولخبر الذي أعتق ستة أعبد عند موته، فأعتق صلى الله عليه وسلم اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولا شديدًا؛ فدل الحديثان أنه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث، لمن له وارث، وهو قول: جمهور العلماء. وحكاه بعضهم إجماعا.(6/44)
وقوله - عليه السلام -: «لا وصية لوارث» رواه أَحمد وأَبو داود، والترمذي وحسنه (1) . وإن وصي لكل وارث بمعين بقدر إِرثه جاز (2) لأَن حق الوارث في القدر لا في العين (3) والوصية بالثلث فما دون لأَجنبي تلزم بلا إجازة (4) .
__________
(1) وله شواهد، قال الحافظ: ولا يخلو, إسناد كل منها من مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا.
وقال الشيخ: اتفقت الأمة عليه؛ وذكر الشافعي أنه متواتر، فقال: وجدنا أهل الفتيا، ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي، من قريش وغيرهم، لا يختلفون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: «لا وصية لوارث» ويأثرونه عمن لقوه من أهل العلم.
قال الحافظ: في هذا إجماع العلماء على مقتضاه. وأخرج البخاري عن ابن عباس موقوفا نحوه.
وقال الشيخ: ولما كان ما ذكره تعالى من تحريم تعدي الحدود، عقب ذكر الفرائض المحدودة، دل على أنه لا يجوز أن يزاد أحد من أهل الفرائض على ما قدر له، ودل على أنه لا تجوز الوصية لهم، وكان هذا ناسخا لما أمر به أولا، من الوصية للوالدين والأقربين.
(2) كرجل خلف ابنا وبنتا، وعبدا قيمته مائة، وأمة قيمتها خمسون، فوصي للابن بالعبد، وللبنت بالأمة صحت.
(3) كما لو عاوض بعض ورثته أو غيره، فإنه يصح بثمن المثل، سواء كان في الصحة أو المرض.
(4) لخبر ستة الأعبد، حيث أعتق اثنين، وأرق أربعة، ولإجازته لسعد بالثلث وقال الوزير: أجمعوا على أنه إنما يسحب للموصي أن يوصي بدون الثلث، مع إجازتهم له، أي الثلث، عملا بإطلاق النصوص. وقال أيضا: أجمعوا على أن
الوصية بالثلث لغير وارث جائزة، وأنها لا تفتقر إلى إجازة الورثة، وعلى أن ما زاد على الثلث إذا أوصي به من ترك ابنين أو عصبة، أنه لا ينفذ إلا الثلث، وأن الباقي موقوف على إجازة الورثة، فإن أجازوه نفذ، وإن أبطلوه لم ينفذ، واتفقوا على أن لا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك الورثة.(6/45)
وإِذا أَجاز الورثة ما زاد على الثلث (1) أَو لوارثٍ (فـ) ـأِنها (تصح تنفيذا) (2) لأَنها إِمضاء لقول المورث (3) بلفظ: أَجزت، أَو أَمضيت، أَو أَنفذت (4) . ولا تعتبر لها أَحكام الهبة (5) .
__________
(1) فإنها تصح هذه الوصية المنهي عنها تنفيذًا.
(2) قال الموفق: في قول الجمهور من أهل العلم، وقال بعض الأصحاب باطلة، إلا أن يعطوه عطية مبتدأة، وظاهر مذهب أحمد والشافعي: أن الوصية صحيحة في نفسها، لأنه تصرف صدر من أهله في محله فصح، والخبر قد روى فيه:
«إلا أن يجيز الورثة» وحسنه الحافظ، فيكفي: أجزت، ونحوه، وإلا كانت هبة مبتدأة.
(3) وتنفيذ لما وصي به.
(4) أي بلفظ: أجزت ما زاد على الثلث، أو ما للوارث، أو أمضيته، أو أنفذته. ونحو ذلك، كرضيت بما فعله؛ فإذا قال ذلك لزمت الوصية، لأن الحق لهم، فلزم بإجازتهم، كما يبطل بردهم، بالإجماع.
(5) أي: ولا يعتبر للإجازة بما زاد على الثلث، أو ما لوارث أحكام الهبة ابتداء من وارث، فلا تفتقر إلى شروط الهبة، مما تتوقف عليه صحتها، ولا تثبت أحكامها فيما وقعت فيه الإجازة، فلا يرجع أب وارث من موص أجاز وصيته لابنه، ولا يحنث بها من حلف لا يهب، وتلزم بغير قبول وقبض، لأنها تنفيذ لا تبرع بالمال.(6/46)
(وتكره وصية فقير) عرفا (1) (وارثه محتاج) (2) لأَنه عدل من أَقاربه المحاويج إلى الأَجانب (3) (وتجوز) الوصية (بالكل لمن لا وارث له) (4) روي عن ابن مسعود (5) لأَن المنع فيما زاد على الثلث لحق الورثة فإذا عدموا زال المانع (6) .
__________
(1) وهو ما يتعارف بين الناس أنه فقير، فلا يتقدر بشيء.
(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة، يتكففون الناس» وتقدم أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لم تستحب الوصية.
(3) وتقدم: أن إعطاء القريب المحتاج أفضل من إعطاء الأجانب؛ فتركه لهم كعطيتهم إياه، فيكون أفضل من الوصية به لغيرهم، ويختلف باختلاف حال الورثة، وكثرتهم وقلتهم، وغناهم وفقرهم.
(4) لقوله «إنك أن تذر ورثتك أغنياء» الحديث، وهنا لا وارث له يتعلق حقه بماله.
(5) قال الموفق: ثبت عن ابن مسعود، وبه قال عبيدة السلماني، ومسروق، وإسحاق، وأهل العراق.
(6) ولأنه لم يتعلق به حق وارث، ولا غريم، أشبه الصحة، وقال ابن القيم: الصحيح أن له ذلك، لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث، إذا كان له ورثة، فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله. اهـ. فلو وصى أحد الزوجين للآخر بكل ما له، فله كله، إرثا ووصية، إذا لم يكن وارث غيره. ولو رد أحدهما بطلت في قدر فرضه من ثلثيه، لأنهما لا يرد عليهما، والاعتبار بكون من وصى له وارثا - أولا - عند الموت.(6/47)
(وإِن لم يف الثلث بالوصايا) (1) أَو لم تجز الورثة (فالنقص) على الجميع (بالقسط) (2) فيتحاصون، ولا فرق بين متقدمها ومتأَخرها (3) والعتق وغيره (4) لأَنهم تساووا في الأصل، وتفاوتوا في المقدار، فوجبت المحاصة، كمسائل العول (5) (وإِن أَوصي لوارث، فصار عند الموت غير وارث) كأَخ حجب بابن تجدد (صحت) الوصية (6) .
__________
(1) تحاصوا في الثلث، فيدخل النقص على الجميع كل بقسطه.
(2) أي أو لم تجز الورثة ما زاد على الثلث، أو لوارث، فالنقص على الجميع في الوصية، ولو كان وصية بعضهم عتقا، أو عطية معلقة بالموت، بالقسط كمسائل العول.
(3) لأنها تبرع بعد الموت، فوجد دفعة واحدة.
(4) أي سواء في ذلك، لا يقدم العتق على غيره. قال الوزير: إذا وهب ثم وهب، أو أعتق ثم أعتق في مرضه، وعجز الثلث، فقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد - في إحدى روايتيه: يتحاصان.
(5) أي إذا زادت الفروض عن المال فلو وصي لواحد بثلث ماله، ولآخر بمائة، ولثالث بعبد قيمته خمسون، وبثلاثين لفداء أسير، ولعمارة مسجد بعشرين، وكان ثلث ماله مائة، وبلغ مجموع الوصايا ثلاثمائة، نسبت منها الثلث فهو ثلثها، فيعطى كل واحد ثلث وصيته.
(6) وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي، وغيرهم. لأنه عند الموت ليس بوارث، أو أوصي لثلاثة إخوة متفرقين، ولم يولد له، لم تصح لغير الأخ من الأب أو ولد له بنت، صحت لغير الأخ من الأبوين.(6/48)
اعتبارا بحال الموت (1) لأَنه الحال الذي يحصل به الانتقال إلى الوارث والموصي له (2) (والعكس بالعكس) فمن أَوصي لأَخيه مع وجود ابنه، فمات ابنه، بطلت الوصية إِن لم نجز باقي الورثة (3) (ويعتبر) لملك الموصي له المعين، الموصي به (القبول) بالقول (4) أَو ما قام مقامه كالهبة (5) (بعد الموت) لأَنه وقت ثبوت حقه (6) وهو على التراخي، فيصح (وإِن طال) الزمن بين القبول والموت (7)
__________
(1) أي فالاعتبار بكون من وصي له وارثا أو لا عند الموت، قال الموفق: لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن اعتبار الوصية بالموت.
(2) فاعتبرت الوصية به، فلو وصي لأجنبية، وأوصت له، ثم تزوجها، لم تجز وصيتها، وإن أوصي أحدهما للآخر، ثم طلقها جازت، لأنه صار غير وارث.
(3) لأن أخاه حال موته صار وارثا، فلم تصح الوصية، والعطية ملحقة بالوصية في ذلك.
(4) بعد الموت، كقبلت، سواء كان واحدا كزيد، أو جمعا محصورا، كأولاد عمرو، لأنه تمليك مال فاعتبر قبوله بالقول، كالهبة.
(5) أي ويحصل القبول بما قام مقام القول، من الأخذ، والفعل الدال على الرضا، كالهبة، والبيع ونحوهما.
(6) فاشترط لثبوت الملك، قال الموفق: في قول جمهور الفقهاء، لأنها تمليك مال من هو لمن أهل الملك، متعين، فاعتبر قبوله.
(7) أي: والقبول باللفظ، أو ما قام مقامه، على الفور والتراخي، قولاً واحدًا، فيصح. وإن طال الزمن بين قبول الموصي له وموت الموصي.(6/49)
و (لا) يصح القبول (قبله) أي قبل الموت، لأنه لم يثبت له حق (1) وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء (2) أَو من لا يمكن حصرهم كبني تميم (3) أَو مصلحة مسجد ونحوه (4) أَو حج، لم تفتقر إلى قبول، ولزمت بمجرد الموت (5) (ويثبت الملك به) أي بالقبول (عقب الموت) (6) قدمه في الرعاية (7) والصحيح أَن الملك حين القبول كسائر العقود (8) .
__________
(1) ولا يعتبر الرد قبل الموت، لأنه أيضا لم يثبت له حق، بل بعده تبطل بلا خلاف، لأنه أسقط حقه في حال يملك قبوله، وكذا إن لم يرد، ولم يقبل، حكم عليه بالرد، وبطل حقه من الوصية، وترجع للورثة، كأن الوصية لم تكن، وإن عين بالرد واحدا، لم يكن له ذلك، وكان لجميعهم، بخلاف ما لو قبل، فله أن يخص من شاء.
(2) وكالمساكين، والعلماء، والغزاة، لم تفتقر إلى قبول.
(3) وبني هاشم ونحوهم، ممن لا يمكن حصرهم، لم تفتقر إلى قبول.
(4) أي أو كانت الوصية لغير معين، كمسجد، وقنطرة، ورباط، وثغر، لم يشترط القبول، وهذا مذهب مالك، والشافعي.
(5) لأن اعتبار القبول منهم متعذر، فسقط اعتباره، كالوقف عليهم.
(6) ذكره أبو الخطاب وجهًا، وهو ظاهر مذهب الشافعي.
(7) وعبارة المقنع: ولا يثبت الملك للموصي له إلا بالقبول بعد الموت.
(8) وكذا عبارة المنتهى وغيره قال الموفق: في الصحيح من المذهب، وهو قول مالك وأهل العراق، وروي عن الشافعي.(6/50)
لأن القبول سبب، والحكم لا يتقدم سببه (1) فما حدث قبل القبول، من نماء منفصل، فهو للورثة (2) والمتصل يتبعها (3) (ومن قبلها) أي الوصية (ثم ردها) (4) ولو قبل القبض (لم يصح الرد) (5) لأَن ملكه قد استقر عليها بالقبول (6) إلا أَن يرضى الورثة بذلك (7) فتكون هبة منه لهم، تعتبر شروطها (8) .
__________
(1) أي: لأن القبول سبب الملك، والحكم على الملك لا يتقدم سببه وهو القبول، فثبت الملك من حينه، ولأنه تملك عين لمعين، يفتقر إلى القبول، فلم يسبق الملك القبول، كسائر العقود.
(2) أي ورثة الموصي، ككسب، وثمرة وولد، لملكهم العين حينئذ.
(3) أي يتبع العين الموصي بها، كسمن، وتعلم صنعة، كسائر العقود والفسوخ.
(4) بعد القبض، لم يصح الرد قولاً واحدا.
(5) ولو في مكيل وموزون، والوجه الثاني يصح الرد؛ قدمه في المغني، لأنه لا يستقر ملكهم عليه قبل قبضه، ولأنهم لما ملكوا الرد من غير قبول، ملكوا الرد من غير قبض، وغير المكيل والموزون لا يصح الرد، لأن ملكهم قد استقر عليه، فهو كالمقبوض.
(6) فحصل الملك به ولو من غير قبض، فلم يملك رده كسائر أملاكه، ومشى عليه في الإقناع، والمنتهي، وغيرهما.
(7) أي برد الموصي له الوصية.
(8) من اعتبار إيجاب وقبول، ولزوم بالقبض، وغير ذلك مما تقدم.(6/51)
(ويجوز الرجوع في الوصية) (1) لقول عمر: يغير الرجل ما شاءَ في وصيته (2) فإذا قال: رجعت في وصيتى؛ أَو أَبطلتها، ونحوه بطلت (3) وكذا إن وجد منه ما يدل على الرجوع (4) (وإن قال) الموصي: (إن قدم زيد فله ما وصيت به لعمرو فقدم) زيد (في حياته) أي حياة الموصي (فله) أي فالوصية لزيد (5) لرجوعه عن الأَول، وصرفه إلى الثاني، معلقا بشرط وقد وجد (6) .
__________
(1) باتفاق أهل العلم، فيما وصي به، وفي بعضه، إلا العتق والأكثر على جواز الرجوع فيه، حكاه الموفق وغيره.
(2) وهو قول عطاء، وجابر، ومالك، والشافعي، وغيرهم، ولأنها عطية تنجز بالموت، فجاز له الرجوع عنها قبل تنجيزها.
(3) كرددتها، أو غيرتها، أو فسختها، لأنه صريح في الجوع, وإن قال في الموصي به: هو لورثتى أو في ميراثي؛ فرجوع، أو: ما وصيت به لفلان فلفلان؛ قال الموفق: لا نعلم فيه مخالفا، لأنه صرح بالجوع عن الأول.
(4) كالبيع، أو العرض على البيع، أو الهبة، أو الرهن، وكذا لو غزل القطن ونحوه، أو أحبل الجارية، لا إن آجرها، أو زرعها، أو خلطه بما يتميز منه، ونحو ذلك.
(5) إن قبلها، عاد زيد إلى الغيبة أو لم يعد، لوجود الشرط.
(6) أي الشرط فاستحقه قال في الإنصاف بلا نزع.(6/52)
(و) إِن قدم زيد (بعدها) أي بعد حياة الموصي فالوصية (لعمرو) (1) لأَنه لما مات قبل قدومه استقرت له (2) لعدم الشرط في زيد (3) لأَن قدومه إنما كان بعد ملك الأَول، وانقطاع حق الموصي منه (4) (ويخرج) وصى فوارث فحاكم (الواجب كله من دين وحج (5) وغيره) كزكاة، ونذر، وكفارة (من كل ماله بعد موته، وإِن لم يوص به) (6) لقوله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أَو دين) (7) .
__________
(1) دون زيد، لانقطاع حقه من الوصية بموت الموصي قبل قدومه، وانتقالها لعمرو.
(2) أي لعمرو، لثبوته له بالموت والقبول.
(3) وهو قدومه في حياة الموصي. وإن قال: ثلثي لزيد، وإن رد الوصية فلعمرو، فردها زيد فلعمرو.
(4) ولم يؤثر وجود الشرط بعد ذلك، كمن علق طلاقا أو عتقا بشرط، فلم يوجد إلا بعد موته.
(5) من كل ماله بعد موته، والمراد بحج متوفرة شروطه، كأمن طريق ونحوه، كما تقدم.
(6) سواء كان لله أو لآدمي، لأن حق الورثة بعد أداء الدين بلا نزاع.
(7) فالإرث مؤخر عنهما إجماعا. والحكمة في تقديم ذكر الوصية: أنها لما أشبهت الميراث في كونها بلا عوض، فكان في إخراجها مشقة على الوارث، فقدمت حثا على إخراجها، وجيء بكلمة «أو» التي للتسوية، فيستويان في الاهتمام وإن كان مقدما عليها.(6/53)
ولقول علي: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية رواه الترمذي (1) (فإن قال: أَدوا الواجب من ثلثى (2) بدئ به) أي بالوجب (3) (فإن بقي منه) أي من اللث (شيء، أَخذه صاحب التبرع) (4) لتعيين الموصي (5) .
__________
(1) ورواه أحمد وغيره، دل على تقديم الدين على الوصية، وفي الصحيح «اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» فإن وصي معه بتبرع، اعتبر الثلث من الباقي بعد أداء الواجب.
(2) أي فإن قال من عليه واجب: أدوا الواجب من ثلثي. أخرج من الثلث، وكأنه قصد إرفاق ورثته لذلك، وإن وصي بتبرع وقال: أدوا الواجب من ثلث مالي.
(3) من ثلث المال، وإن قرن به التبرع مثل أن يقول: حجوا عني، وأدوا ديني، وتصدقوا عني، فصحح الموفق وغيره: أن الواجب من رأس المال.
(4) لأن الدين تجب البداءة به قبل الميراث والتبرع، فإذا عينه في الثلث وجبت البداءة به، وما فضل للتبرع.
(5) فأخرج له ما بقي، عملا بوصيته.(6/54)
(وإِلا) يفضل شيء (1) (سقط) التبرع، لأَنه لم يوص له بشيء (2) إلا أَن يجيز الورثة (3) فيعطى ما أَوصي له به (4) وإِن بقي من الواجب شيء (5) تمم من رأْس المال (6) .
__________
(1) أي من الثلث لصاحب التبرع، بعد إخراج الواجب منه.
(2) حيث لم يبق له بعد الواجب شيء.
(3) أي إلا أن يجيز الورثة التبرع الموصي به.
(4) كما تقدم من إجازة الورثة فيما زاد على الثلث، أو لوارث.
(5) لم يف به ثلث المال الموصي به.
(6) كما لو لم يوص به، والواجب لا يتقيد بالثلث.(6/55)
باب الموصي له (1)
(تصح) الوصية (لمن يصح تملكه) من مسلم وكافر (2) لقوله تعالى {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} (3) قال محمد ابن الحنفية (4) : هو وصية المسلم لليهودي والنصراني (5) .
__________
(1) وهو الثالث من أركان الوصية، وتقدم اثنان، موص، وصيغة، والرابع موصي به.
(2) معين، مرتد، أو حربي، أو بدار حرب، كالهبة، وهذا مذهب مالك وأكثر أصحاب الشافعي، فعمر كسا أخًا له حلة وهو بمكة مشرك، وأسماء وصلت أمها وهي راغبة عن الإسلام، وصفية أم المؤمنين أوصت بثلثها لأخ لها يهودي، رواه البيهقي وغيره، وقوله: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ) حجة فيمن لم يقاتل، وأما المقاتل فإنما نهي عن توليه، لا عن بره، والوصية له، وصحح الحارثي أنه إذا لم يتصف بالقتال أو المظاهرة وإلا فلا.
(3) فدلت بعمومها على جواز بره.
(4) نسبة إلى أمه، لأنها من بنى حنيفة، وإلا فهو محمد بن على بن أبي طالب رضى الله عنهما.
(5) يعنى المعين، لما تقدم، وإلا فلا تصح للكافر غير المعين، كاليهود، والنصارى، والمجوس، أو فقرائهم، كالوقف عليهم، ولا لمعين بمصحف، ولا بعبد مسلم، ولا بسلاح.(6/56)
وتصح لمكاتبه ومدبره، وأُم ولده (1) (ولعبده بمشاع كثلثه) (2) لأَنها وصية تضمنت العتق بثلث ماله (3) (ويعتق منه بقدره) أي بقدر الثلث (4) فإن كان ثلثه مائة، وقيمة العبد مائة فأَقل، عتق كله (5) لأَنه يملك من كل جزء من المال ثلثه مشاعًا، ومن جملته نفسه فيملك ثلثها، فيعتق ويسري إِلي بقيته (ويأْخذ الفاضل) من الثلث، لأَنه صار حرا (6) وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث (7) .
__________
(1) أي وتصح الوصية لمكاتب الموصي، لأنه معه كالأجنبي في المعاملات، وكذا الوصية، وتصح لمدبره، فيقدم عتقه على وصيته له، وتصح لأم ولده، لوجود الحرية عند الموت، فتقبل التمليك.
(2) أي وتصح الوصية لعبده إذا قبلها أو أمته بمشاع - كثلث ماله، أو ربعه - يتناول العبد نفسه، وتصح بنفس العبد ورقبته إن قبل، ويعتق كله إن خرج من ثلثه.
(3) أي ثلث مال الموصي، فصحت إذا قبل العبد.
(4) أو الربع من الجزء المشاع، لتعذر ملكه لنفسه.
(5) وإن وصي له بجزء منه، وخرج من الثلث، عتق ما وصي له به من نفسه.
(6) فملك الوصية، فيصير كأنه قال الموصي: اعتقوا عبدي من ثلثي، وأعطوه ما فضل منه.
(7) إن لم تجز الورثة، والحاصل أنه إن كانت الوصية وفق قيمته عتق، أو أزيد فالزيادة له، أو أنقص فيعتق بقدره منه.(6/57)
(و) إِن أَوصي (بمائة أَو بمعين) كدار وثوب (1) (لا تصح) هذه الوصية (له) أي لعبده (2) لأَنه يصير ملكا للورثة، فما وصى له به فهو لهم (3) فكأَنه وصى لورثته بما يرثونه، فلا فائدة فيه (4) ولا تصح لعبد غيره (5) (وتصح) الوصية (بحمل) تحقق وجوده قبلها (6) لجريانها مجرى الإِرث (7) .
__________
(1) ونحو ذلك مما لا تتناول نفسه منه شيئا.
(2) لأنه لا يدخل منه شيء فيما وصي له به، فلا يعتق منه شيء.
(3) فتغلو الوصية.
(4) وفارق ما إذا وصي له بمشاع كما تقدم، وإن وصي لعبد وارثه فكالوصية لوارثه، تقف على إجازة الورثة.
(5) وكذا في المنتهى تبعا للتنقيح، وفي المقنع: تصح لعبد غيره. وذكره في المغني قولا واحدا، قال في الإنصاف: هذا المذهب، وعليه الأصحاب، ولم يذكر الحارثي والشارح فيه خلافا، فتصح له مطلقا، وهو مذهب مالك، والشافعي، سواء قلنا: يملك؛ أولا. صرح به ابن الزاغونى، وهو من كسب العبد، وتحصيل مال بغير عوض، فلا يفتقر لإذن السيد كالهبة.
(6) أي وتصح الوصية بحمل هذه الأمة، أو هذه الدابة، إذا تحقق وجود الحمل قبل الوصية، إذا كان معينا، وأما إذا لم يعين فإنها تصح بالمعدوم والمجهول، كبما يحمل حيوانه أو شجرته لأن لفظة: «بما يحمل» ممكنها الحال والاستقبال.
(7) من حيث كونها انتقال المال، من الإنسان بعد موته إلى الموصي له، كانتقاله إلى وارثه، وكون هذا يورث فيوصي به.(6/58)
(و) تصح أَيضا (لحمل تحقق وجوده قبلها) أي قبل الوصية (1) بأَن تضعه لأَقل من ستة أَشهر من الوصية (2) إن كانت فراشا (3) أَو لأَقل من أَربع سنين إِن لم تكن كذلك (4) .
__________
(1) قال الموفق وغيره: لا نعلم فيه خلافا.
(2) أي يعلم وجوده حين الوصية بوضعه حيا لأقل من ستة أشهر من الوصية لجريان الوصية مجرى الميراث.
(3) أي بأن يكون لها زوج أو سيد يطؤها، أو بائنا لأنا نعلم وجوده حين الوصية.
(4) أي لم تكن فراشا، بحيث أن لا يكون لها زوج ولا سيد يطؤها، وتكون قد وطئت بشبهة، واعتبار الأربع من حين الوصية، وقال الشيخ: تصح للحمل، وقياس المنصوص في الطلاق أنها إذا وضعته لستة أشهر استحق، إن كانت ذات زوج أو سيد يطؤها، ولأربع سنين إن اعتزلها، وهو الصواب. اهـ.
وإذا ورث الحمل فالوصية له أولي، وإن انفصل ميتا بطلت، سواء كان لعارض أو لا، وإن وضعته حيا صحت، ولا بد من قبول الوصية للحمل، يقبل عنه وليه بعد موت الموصي، ولو ولدت توأمين في وقتين، أولهما لأقل من ستة أشهر، والثاني لأكثر، استحقا جميعا، لاستحالته لأقل من ستة أشهر، وهما في الحمل واحد.
وإن وصي لحمل فلانة من زيد؛ اعتبر ثبوت النسب من زيد، وإن كان الحمل ذكرًا وأنثى، فلهما الوصية، سواء، ما لم يفضل الموصي بينهما، وما تقدم في المدة مخصوص بالآدميات، وغيرها تختلف مدة الحمل فيه، فيرجع في ذلك لأهل الخبرة.(6/59)
ولا تصح: لمن تحمل به هذه المرأَة (1) (وإِذا أَوصى من لا حج عليه أَن يحج عنه بأَلف صرف من ثلثه مؤنة حجة بعد أَخرى حتى ينفذ) الأَلف (2) راكبا أَو راجلا (3) لأَنه وصى بها في جهة قربة، فوجب صرفها فيها (4) فلو لم يكف الأَلف (5) أَو البقية حج به من حيث يبلغ (6) وإِن قال: حجة بأَلف؛ دفع لمن يحج به واحدة (7) عملا بالوصية حيث خرج من الثلث وإِلا فبقدره (8) .
__________
(1) لأنه وصية لمعدوم، وهي تمليك، فلم تصح، وكذا لمجهول، كأن يوصي بثلثه لأحد هذين الرجلين ونحوهما، بخلاف الموصي به.
(2) يدفع الوصي لكل واحد قدر ما يحج به من النفقة.
(3) أي راكبا كان الحاج عن الموصي أو راجلا، ما لم يشترط الموصي.
(4) ولا يجوز أن يدفع لواحد أكثر من نفقة المثل، لأنه أطلق التصرف في المعاوضة، فاقتضى ذلك عوض المثل.
(5) أي للحج، حج به من حيث يبلغ.
(6) أي أو صرف منه في حجة بعد أخرى، وبقي بقية، ولم تكف البقية للحج، حج بالباقي من حيث يبلغ، لأن الموصي قد عين صرف ذلك في الحج، فصرف فيه بقدر الإمكان.
(7) صرح به الموفق وغيره، وإن قال: حجوا عني بألف. ولم يقل: واحدة لم يحج عنه إلا واحدة وما فضل للورثة، صرح به في الإقناع وغيره.
(8) أي وإلا فبقدر الثلث.(6/60)
وما فضل منها فهو لمن يحج، لأَنه قصد إِرفاقه (1) (ولا تصح) الوصية (لملك) وجني (وبهيمة وميت) كالهبة لهم (2) لعدم صحة تمليكهم (3) .
__________
(1) فكأنه صرح فقال: حجوا عني حجة واحدة بألف، وما فضل منها فهو لمن يحج، وإن عينه صرف إليه، وإلا فللموصي صرفه لمن شاء، لأنه فوض إليه الاجتهاد، إلا أنه لا يصرفها إلى وارث إلا بإذن الورثة، وفي الاختيارات: ومن أوصي بإخراج حجة، فولاية الدفع والتعين للوصي الخاص إجماعا، وإنما للولي العام الاعتراض عليه، لعدم أهليته أو فعله محرما. اهـ.
ولا يصح حج وصي بإخراجها، لأنه منفذ، ولا وارث، لأن ظاهر كلام الموصي جعله لغيره، وإن عين الموصي أن يحج عنه الوارث بالنفقة جاز، وإن عينه فأبي الحج بطلت في حقه، ويحج عنه بأقل ما يمكن من نفقة ونحوها، والبقية للورثة، وقال الشيخ: لو وصي أن يحج عنه زيد تطوعا بألف، فيتوجه أنه إذا أبي المعين الحج حج عنه غيره، ولو وصي أن يصلي عنه بدراهم، لم تنفذ وصيته، وتصرف الدراهم في الصدقة، ويخص أهل الصلاة.
(2) «ملك» بفتح اللام أحد الملائكة، و «الجني» واحد الجن، فلا تصح لهما لأنهما لا يملكان، ولا تصح لبهيمة إن قصد تمليكها، لأنه مستحيل، وتصح لنحو فرس حبيس، لأنه جهة قربة، ما لم يرد تمليكها وينفق الموصي به للفرس الحبيس، لأنه مصلحته، وإن مات رد الموصي به له، والميت لا يملك، فلا تصح له، كالهبة لهم، وتقدم أنها لا تصح لهم.
(3) وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ومالك، إلا في الميت إن علم فقال: لورثته. وقال الموفق وغيره: لا تصح له، لو لم يعلم بحاله، فلا تصح إذا علم كالبهيمة، ولأنه عقد يفتقر إلى القبول فلم يصح كالهبة.(6/61)
(فإن وصى لحي وميت يعلم موته فالكل للحي) (1) لأَنه لما أَوصي بذلك مع علمه بموته فكأنه قصد الوصية للحى وحده (2) (وإن جهل) موته (فـ) ـللحي (النصف) من الموصي به، لأَنه أَضاف الوصية إِليهما، ولا قرينة تدل على عدم إِرادة الآخر (3) ولا تصح الوصية لكنيسة وبيت نار (4) .
__________
(1) قاله أبو الخطاب، وقال الشارح: إذا وصي بثلثه أو بمائة لحى وميت، فللحي نصف الوصية، سواء علم موته أو لم يعلم، وهو قول أبي حنيفة وغيره، وذكره في الإنصاف المذهب، ووجهه أنه جعل الوصية لاثنين، فلم يستحق أحدهما جميعها، وإن وصي لاثنين حيين، فمات أحدهما، فللآخر نصف الوصية، قال الشارح، وصاحب الفروع؛ لا نعلم في هذا خلافا، ومثله لو بطلت الوصية في حق أحدهما لرده لها، أو لخروجه عن أن يكون من أهلها، وإن قال: هو بينهما. فله النصف قولا واحدا.
(2) هذا التوجيه وجه في المذهب، وفي الإقناع، والمنتهي، وغيرهما: للحى النصف، ولو لم يقل: بينهما. لأنه أضاف الوصية إليهما، فإذا لم يكن أحدهما محلا للتمليك بطل في نصيبه، دون نصيب الحى، لعدم المعارض.
(3) قولا واحدا، وكما لو كانت لحيين فمات أحدهما، وإن مات الموصي له بالمنفعة فلورثته ما كان له، حكاه ابن المنذر إجماعًا.
(4) أي ولا تصح الوصية لكنيسة، معبد النصارى، ولا لبيت نار، وهو معبد المجوس، ولا لبيعة، ولا صومعة، ولا دير، ولا أي مكان من أماكن الكفر، ولا لحصرها، وقناديلها، وخدمها، ولو من ذمي، وهذا مذهب جمهور العلماء.(6/62)
أو عمارتهما (1) ولا لكتب التوراة والإِنجيل ونحوهما (2) (وإِن أَوصى بماله لا بنيه وأَجنبي فردا) وصيته (فله التسع) (3) لأَنه بالرد رجعت الوصية إلى الثلث، والموصى له ابنان والأَجنبى، فله ثلث الثلث وهو تسع (4) .
__________
(1) ولا لشيء من الإنفاق عليها، لأنه معصية، فلم تصح الوصية به، كعبده أو أمته للفجور، أو بشراء خمر، وخنزير يتصدق به على أهل الذمة، مسلما كان الموصي أو كافرًا، لأنه لا يجوز في الحياة، فلا يجوز في الممات، قال الشيخ: لو حبس الذمى من مال نفسه شيئا على معابدهم، لم يجز للمسلمين الحكم بصحته، لأنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله، ومما أنزل الله أن لا يعاونوا على شيء من الكفر، والفسوق، والعصيان، فكيف يعانون بالحبس على المواضع التي يكفر فيها.
(2) كالزبور، والصحف، لأنها كتب منسوخة، والاشتغال بها غير جائز، لما فيها من التغيير، والتبديل، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأي مع عمر شيئا مكتوبا من التوراة، واختار الشيخ اشتراط القرب في الوصية.
(3) وإن وصي لوارث وأجنبى فرد الورثة، فللأجنبى السدس.
(4) وإن كان له ثلاثة أولاد، فأوصي لواحد بمثل نصيب أحدهم، فقال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد: له الربع. وإن وصي لوارث وأجنبي بثلثي ماله، فرد الورثة النصف، وهو ما جاوز الثلث، فالثلث بينهما، ولو ردوا نصيب وارث فقط، فالثلث للأجنبى، وأن أجازوا وصية الوارث كلها، وردوا نصف وصية الأجنبى، أو عكسوا، فعلى ما قالوا، ولا يملكون تنقيص الأجنبى عن نصف وصيته.(6/63)
وإن وصى لزيد، والفقراء، والمساكين بثلثه، فلزيد التسع (1) ولا يدفع له شيء بالفقر، لأَن العطف يقتضي المغايرة (2) ولو أوصي بثلثه للمساكين، وله أقارب محاويج، غير وارثين، لم يوص لهم، فهم أَحق به (3) .
__________
(1) والتسعان للفقراء، والمساكين، إذ الوصية لثلاث جهات، فوجبت التسوية بينهما، كما لو وصي لثلاثة أنفس.
(2) لأن الظاهر بين المعطوف والمعطوف عليه المغايرة، ولأن تجويز ذلك يفضى إلى تجويز دفع نصيب المساكين كله إليه، ولفظه يقتضي خلاف ذلك، وكذا لو وصي لزيد وجيرانه.
(3) لأن الوصية لهم أفضل، لقوله «للأقربين» ولقوله صلى الله عليه وسلم «اجعلها في القربى» وغير ذلك، وكالصدقة عليهم، بنص القرآن، والسنة أيضا.(6/64)
باب الموصى به (1)
(تصح بما يعجر عن تسليمه (2) كآبق، وطير في هواء) (3) وحمل في بطن، ولبن في ضرع (4) لأَنها تصح بالمعدوم، فهذا أولى (5) (و) تصح (بالمعدوم (6) كـ) ـوصية (بما يحمل حيوانه) وأَمته (7) .
__________
(1) من مال ومنفعة، وهو المكمل لأركان الوصية الأربعة، ويعتبر إمكانه واختصاصه، فلا تصح بمدبر، ولا بمال الغير.
(2) قولا واحدا، لأنها أجريت مجرى الميراث، وما يعجز عن تسليمه يورث،
فيوصي به.
(3) وكشارد، وللوصي السعي في تحصيله.
(4) وسمك في بحر، وقال الحارثي: اللبن في الضرع يمكن تسليمه بالحلب لكنه من نوع المجهول، أو المعدوم.
(5) وإن قدر عليه أخذه إن خرج من الثلث.
(6) لأنه يجوز ملكه بالسلم، والمضاربة، والمساقاة، فجاز ملكه بالوصية.
(7) أي كوصيته بما يحمل به حيوانه أبدا، أو مدة معينة، أو بما تحمل به أمته أبدا، أو مدة معينة، وقال الشيخ: الذي يظهر لي أنه لا تصح الوصية بالحمل، نظرا إلى علة التفريق، إذ ليس التفريق مختصا بالبيع، بل هو عام في كل تفريق إلا العتق، وافتداء الأسير.(6/65)
(وشجرته، أَبدا، أَو مدة معينة) كسنة (1) ولا يلزم الوارث السقي، لأَنه لم يضمن تسليمها، بخلاف بائع (2) (فإِن) حصل شيء، فهو للموصي له بمقتضى الوصية (3) وإِن (لم يحصل منه شيء بطلت الوصية) (4) لأَنها لم تصادف محلا (5) (وتصح بـ) ـما فيه نفع مباح من (كلب صيد ونحوه) كحرث، وماشية (6) (وبزيت متنجس) لغير مسجد (7) (و) للموصي (له ثلثهما) أي ثلث الكلب، والزيت المتنجس (ولو كثر المال، إن لم تجز الورثة) (8) .
__________
(1) أو سنتين، وأما: بحملها. فيشترط وجوده عند الوصية كما تقدم، والفرق أن هذا تعليق فيصح.
(2) وكوصيته بمائة درهم لا يملكها، وليس من قبيل الوصية بمال غيره، لأنه لم يضفها إلى ملك غيره.
(3) أي فإن حصل شيء مما وصي به من المعدوم فلموصي له بمقتضى الوصية إلا حمل الأمة إذا قيل بصحتها، فيعطى مالك الأمة قيمته، لحرمة التفريق.
(4) قولا واحدا.
(5) كما لو أوصي بثلثه ولم يخلف شيئا، أو لم تحمل الأمة حتى صارت حرة.
(6) وجرو يربى لما يباح اقتناؤه له، لأن فيه نفعا مباحا، وتقر اليد عليه.
(7) لأن فيه نفعا مباحا، وهو الاستصباح به، ولا تصح به لمسجد، لأنه لا يجوز الا ستصباح به فيه، لنجاسته.
(8) ولو وصي بكلابه لزيد، وبثلث ماله لعمرو، فلعمرو الثلث، ولزيد ثلث الكلاب، قولا واحدا، إن لم تجز الورثة.(6/66)
لأَن موضوع الوصية على سلامة ثلثي التركة للورثة، وليس من التركة شيء من جنس الموصي به وإِن (1) وصى بكلب، ولم يكن له كلب، لم تصح الوصية (2) (وتصح بمجهول كعبد، وشاة) (3) لأَنها إذا صحت بالمعدوم فالمجهول أَولي (4) (ويعطى) الموصى له (ما يقع عليه الاسم) لأَنه اليقين كالإقرار (5) فإِن اختلف الاسم بالحقيقة والعرف (6) قدم (العرفي) في اختيار الموفق (7) .
__________
(1) ولو وصي بثلث ماله، ولم يوص بالكلاب، دفع له ثلث المال، ولم تحسب الكلاب، لأنها ليست بمال.
(2) ولا تصح الوصية بما لا يباح اتخاذه من الكلاب كالعقور، وما لا يصلح للصيد والزرع، ولا بالخنزير، ولا بشيء من السباع التي لا تصلح للصيد، ولا بخمر، وميتة، ونحوها.
(3) وثوب غير معين، قولا واحدا.
(4) ولأن الموصي له شبيه بالوارث، من جهة انتقال شيء من التركة إليه مجانا، والجهالة لا تمنع الإِرث، فلا تمنع الوصية.
(5) ولأنه مقتضى اللفظ.
(6) ومثاله الشاة في الحقيقة، اسم للذكر والأنثى من الضأن والمعز، لقوله «في أربعين شاة شاة» وفي العرف للأنثى الكبيرة من الضأن، والبعير والثور في الحقيقة، للذكر والأنثى، وفي العرف للذكر، الكبير من الإبل والبقر.
(7) وغيره، وقال الشارح: لأن الظاهر أن المتكلم إنما يتكلم بعرفه، ولا يريد إلا ما يفهمه أهل بلده.(6/67)
وجزم به في الوجيز: والتبصرة (1) لأَنه المتبادر إِلي الفهم (2) وقال الأَصحاب: تغلب الحقيقة، لأَنها الأَصل (3) (وإِذا أَوصي بثلثه) أَو نحوه (4) (فاستحدث مالا (5) ولو دية) بأَن قتل عمدا أَو خطأً وأُخذت ديته (6) (دخل) ذلك (في الوصية) (7) لأَنها تجب للميت بدل نفسه، ونفسه له، فكذا بدلها، ويقضى منها دينه، ومؤنة تجهيزه (8) .
__________
(1) والإقناع وغيرها كالأيمان.
(2) ولأن الظاهر إرادته، ولأنه لو خوطب قوم بشيء لهم فيه عرف، وحملوه على عرفهم، لم يعدوا مخالفين.
(3) وصححه المنقح، وهو قول القاضي، وأبي الخطاب، وابن عقيل، وغيرهم، وجزم به في المنتهي، لأنها الأصل، ولهذا يحمل عليها كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4) كربع ماله، أو خمسه، أو سدسه، أو جزء منه.
(5) بعد وصيته، ولو بنصب أحبولة قبل موته فيقع فيها صيد بعد موته، دخل تحت ثلثه في الوصية، لحدوثها على ملك الميت.
(6) قال أحمد: قضى النبي صلى الله عليه وسلم أن الدية ميراث.
(7) أي ما استحدث من المال ولو دية، لأن الدية ميراث، تحدث على ملك الميت.
(8) وتحسب على الورثة من ثلثيه إن وصي بمعين.(6/68)
(ومن أُوصي له بمعين، فتلف) قبل موت الموصي، أَو بعده قبل القبول (بطلت) الوصية (1) لزوال حق الموصي له (2) (وإن تلف المال غيره) أي غر المعين الموصي به (فهو للموصي له) لأَن حقوق الورثة لم تتعلق به، لتعيينه للموصي له (3) (إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة) (4) وإِلا فبقدر الثلث (5) والاِعتبار في قيمة الوصية - ليعرف خروجها من الثلث وعدمه - بحالة الموت (6) .
__________
(1) قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا وصي له بشيء، فهلك الشيء، أن لا شيء له في سائر مال الميت.
(2) وذلك لأن الموصي له إنما يستحق بالوصية لا غير، وقد تعلقت بعين، فإذا ذهبت ذهب حقه. كما لو تلف في يده، ولو وصي أن يعطى زيد مائة من أحد كيسين، فلم يوجد فيهما شيء، استحق مائة، اعتبارًا للمقصود، وهو أصل الوصية.
(3) ولذلد يملك أخذه، بغير رضاهم، فكان حقه فيه، دون سائر المال وحقوقهم في سائر المال دونه، وأيهما تلف حقه لم يشارك الآخر في حقه.
(4) عند الموت، وكان غيره عينا حاضرة، يتمكن وارث من قبضها.
(5) أي وإن لم يخرج من الثلث لم يملك الموصي له إلا بقدر الثلث، إلا بإجازة الورثة.
(6) فإن كان الموصي به وقت موت موص ثلث التركة، أو دونه، أخذه موصي له كله، ولو زادت قيمته بعد ذلك، حتى عادل المال كله، أو أكثر منه، أو هلك المال كله سواه.(6/69)
لأَنها حالة لزوم الوصية (1) وإِن كان ما عدا المعين دينا أَو غائبا (2) أَخذ الموصي له ثلث الموصي به (3) وكل ما اقتضى من الدين (4) أَو حضر من الغائب شيء ملك من الموصي به قدر ثلثه، حتى يملكه كله (5) .
__________
(1) فتعتبر قيمة المال فيها، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا.
(2) أي وإن كان ما عدا الموصي به المعين دينا بذمة موسر أو معسر، أو مالا غائبا عن البلد.
(3) يسلم إليه وجوبا، لاستقرار حقه فيه، وليس له أخذ المعين قبل قدوم الغائب، وقبض الدين، لأنه ربما تلف، فلا تنفذ الوصية في المعين كله، ويأخذ الموصي له من المعين ثلثه.
(4) شيء، ملك الموصي له قدر ثلثه، لأنه موصي له به.
(5) أي ثلث المال، الحاضر منه والغائب، بمقتضى الوصية، إن حصل من الدين أو الغائب، وإنما منع قبل ذلك لحق الورثة وقد زال، قال الشيخ: لو أوصي بوقف ثلثه، فأخر الوقف حتى نما، فنماؤه يصرف مصرف نماء الوقف، ولو وصي أن يشتري مكان معين، ويوقف على جهة بر، فلم يبع ذلك المكان، اشتري مكان آخر، ووقف على الجهة التي وصي بها الموصي.(6/70)
باب الوصية بالأنصباء والأجزاء (1)
الأَنصباء جمع نصيب (2) والأَجزاء جمع جزء (3) (إِذا أَوصى بمثل نصيب وارث معين (4) فله مثل نصيبه مضموما إلى المسأَلة) (5) فتصحح مسألة الورثة، وتزيد عليها مثل نصيب ذلك المعين، فهو الوصية (6) .
__________
(1) عبر في المحرر: بـ «ـباب حساب الوصايا» وفي الفروع بـ «ـباب عمل الوصايا» والغرض منه العلم بنسبة ما يحصل لكل واحد من الموصي لهم إلى أنصباء الورثة، إذا كانت الوصية منسوبة إلى جملة التركة، أو إلى نصيب أحد الورثة.
(2) وهو الحظ، كالأصدقاء جمع صديق.
(3) وهو البعض، ومسائل هذا الباب ثلاثة أقسام، قسم في الوصية بالأنصباء، وقسم في الوصية بالأجزاء، وقسم في الجمع بينهما.
(4) بالتسمية، كقوله: ابني فلان؛ أو الإشارة كبنته هذه؛ أو يذكر نسبته منه، كابن من بني؛ أو بنت من بناتي؛ ونحوه.
(5) أي فللموصي له مثل نصيب ذلك الوارث، مضموما إلى مسألة الورثة، قال الموفق وغيره: هذا قول الجمهور. لأنه جعل وارثه أصلا وقاعدة، حمل عليه نصيب الموصي له، وجعله مثلا له.
(6) ومزادًا عليها، وإن وصي بمثل نصيب من لا يرث لمانع أو حجب، فلا شيء لموصي له، لأنه لا نصيب له، فمثله لا شيء له.(6/71)
وكذا لو أَسقط لفظ: «مثل» (1) (فإذا أَوصي بمثل نصيب ابنه) أَو بنصيبه (وله ابنان فله) أي للموصي له (الثلث) (2) لأَن ذلك، مثل ما يحصل لابنه (3) (وإِن كانوا ثلاثة، فـ) ـللموصي (له الربع) لما سبق (4) (وإن كان معهم بنت فله التسعان) (5) لأَن المسأَلة من سبعة، لكل ابن سهمان، وللأنثى سهم، ويزاد عليها مثل نصيب ابن، فتصير تسعة، فالاثنان منها تسعان (6) (وإِن وصى له بمثل نصيب أَحد ورثته، ولم يبن) ذلك الوارث (7) (كان له مثل ما لأَقَلِّهم نصيبا) (8) .
__________
(1) كما لو وصي بنصيب ابنه، ولم يقل «مثل» صحت أيضا، وله مثل نصيبه، لأنه أمكن تقدير حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه.
(2) لأن مسألتهما من اثنين، ويزاد عليها مثل نصيب أحدهما وهو الثلث.
(3) وهو سهم من اثنين، ضم إليهما مثله.
(4) أي من أن للموصي له مثل نصيب الوارث المعين، مضموما إلى المسألة.
(5) مضمومة إلى مسألتهم سبعة، لكل واحد منهم سبعان.
(6) مزادة على السبعة، عند الجمهور.
(7) فإن كانوا يتساوون في الميراث، فله مثل نصيب أحدهم مزادا على الفريضة ويجعل كواحد منهم زاد فيهم، وإن كانوا يتفاضلون.
(8) مضموما إلى مسألتهم، لأنه جعله كواحد منهم.(6/72)
لأَنه اليقين، وما زاد مشكوك فيه (1) (فمع ابن وبنت) له (ربع) مثل نصيب البنت (2) (ومع زوجة وابن) له (تسع) مثل نصيب الزوجة (3) وإن وصى بضعف نصيب ابنه، فله مثلاه (4) وبضعفيه، فله ثلاثة أَمثاله، وبثلاثة أَضعافه؛ فله أَربعة أَمثاله، وهكذا (5) .
__________
(1) فلا يثبت مع الشك، وهذا قول الجمهور، أبي حنيفة، والشافعي، وغيرهم.
(2) مضموما إلى مسألتهم من ثلاثة، ومزاد عليها الموصي به.
(3) مضموما إلى مسألتهما من ثمانية، للزوجة الثمن، والباقي للابن، سبعة، ومزاد عليها نصيب الموصي به تسع، ولو أوصي بمثل نصيب وارث لو كان، فله مثل ماله، لو كانت الوصية وهو موجود.
(4) أي للموصي له مثلا نصيب الابن، قال تعالى: {إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} وأضعف عمر الزكاة على بنى تغلب، فكان يأخذ من المائتين عشرة، قال الأزهري: الضعف المثل فما فوقه.
(5) أي كما زاد ضعفا فزد مثلا، لأن التضعيف ضم الشيء إلى مثله مرة بعد أخرى، قال أبو عبيدة: ضعف الشيء هو ومثله، وضعفاه هو ومثلاه، وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله، واختار الموفق أنه إذا أوصي بضعف نصيب ابنه، أو ضعفيه، فله مثله مرتين، وإن أوصي بثلاثة أضعافه، فله ثلاثة أمثاله، وهو قول أبي عبيد، لقوله {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} أي تحمل في كل عام مرتين، وقوله {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} أي مرتين، بلا خلاف عند المفسرين، وقول أبي عبيدة خالفه غيره، وأقوال المفسرين أولى من قوله، فالله أعلم.(6/73)
(و) إِن أَوصي (بسهم من ماله فله سدس) (1) بمنزلة سدس مفروض (2) وهو قول علي، وابن مسعود (3) لأَن السهم في كلام العرب السدس، قاله إياس بن معاوية (4) وروى ابن مسعود أَن رجلا أَوصي لآخر بسهم من المال، فأَعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السدس (5) (و) إِن أَوصي (بشيء، أو جزء، أَو حظ) أَو نصيب، أَو قسط (6) .
__________
(1) قدمه الموفق وغيره.
(2) إن لم تكمل فروض المسألة، أو كانوا عصبة، ويعال إن كملت الفروض، وإن عالت أعيل معها.
(3) قال الموفق وغيره: ولا مخالف لهما في الصحابة.
(4) حكاه عنه الموفق وغيره، فتنصرف الوصية إليه، كما لو لفظ به.
(5) والخبر من رواية محمد العزرمي، تكلم فيه أهل العلم، وتقدم أنه قول ابن مسعود راويه، ولا مخالف له، ولأن السدس أقل سهم مفروض يرثه ذو قرابة، فتنصرف الوصية إليه، وقال الموفق: الذي يقتضيه القياس - فيما إذا وصي بسهم من ماله - أنه إن صح السهم في لسان العرب السدس، أو صح الحديث المذكور، فهو كما لوصى له بسدس من ماله، وإلا فهو كما لو وصي له بجزء من ماله، على ما اختاره الشافعي وغيره، أن الورثة يعطونه ما شاؤا، والأولى أنه إن ثبت أن السهم في كلام العرب السدس، فالحكم كما لو وصي له به، وإلا أعطي مثل سهم أقل الورثة، وهو إحدى الروايات عن أحمد.
(6) أو قال: أعطوا فلانا من مالي، أو ارزقوه.(6/74)
(أَعطاه الوارث ما شاءَ) مما يتمول (1) لأَنه لا حد له في اللغة (2) ولا في الشرع، فكان على إطلاقه (3) .
__________
(1) لأن القصد بالوصية بره، وإنما وكل قدر الموصي به وتعيينه إلى الورثة، وما لا يتمول لا يحصل به المقصود.
(2) أي الشيء، وما عطف عليه.
(3) أي: ولا حد له في الشرع يرجع فيه إليه، فكان على إطلاقه، والثالث: الجمع بين الوصية بالأجزاء والأنصباء، كما لو خلف ابنين، ووصي لزيد بثلث ماله، ولعمرو بمثل نصيب أحد ابنيه، فلكل منهما الثلث مع الإجازة، والسدس مع الرد.(6/75)
باب الموصي إليه (1)
لا بأْس بالدخول في الوصية لمن قوي عليه، ووثق من نفسه (2) لفعل الصحابة - رضي الله عنهم - (3) (تصح وصية المسلم إلى كل مسلم (4) مكلف، عدل، رشيد (5) .
__________
(1) وهو المأمور بالتصرف بعد الموت في المال وغيره، مما للموصي التصرف فيه حال الحياة، وتدخله النيابة لملكه، وولايته الشرعية.
(2) وعبارة الإقناع وغيره: الدخول فيها قربة مندوبة، وقيدوه بالقوة على القيام بها، والوثوق من نفسه، وإلا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم» .
(3) فقد أوصي إلى الزبير طائفة من الصحابة، وأوصي أبو عبيدة إلى عمر وعمر إلى حفصة، ثم الأكابر من ولده، وغيرهم مما هو مشهور، ويدخل تحت عموم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وهو معونة للمسلم؛ وقال الموفق وغيره: قياس المذهب أن ترك الدخول فيها أولي. لما فيه من الخطر، وخصوصا في هذه الأزمنة، لكن قال الحارثي: الوصية إما واجبة أو مستحبة، وأولوية ترك الدخول يؤدي إلى تعطيلها، فالدخول قد يتعين فيما هو معرض للضياع، ولما فيه من درء المفسدة وجلب المصلحة.
(4) فلا تصح إلى كافر، قال الوزير: اتفقوا على أن الوصية إلى عدل جائزة، وأن الوصية إلى الكافر لا تصح.
(5) أجماعا، فلا تصح إلى طفل ولا مجنون، ولا أبله إجماعا، لأنهم
لا يتأهلون إلى تصرف أو ولاية، ولا إلى سفيه، لأنه لا يصح توكيله، ولا تصح إلى مميز، لأنه لا يصح تصرفه إلا بإذن، وهو مولي عليه، فلم يكن من أهل الولاية قال الموفق: وهو الصحيح، ومذهب الشافعي، وتصح إلى صبيى إذا بلغ، كغائب إذا حضر، وكإن مات زيد فعمرو، لقوله صلى الله عليه وسلم «أميركم زيد، فإن قتل فجعفر» .(6/76)
ولو) امرأَة (1) أو مستورا (2) أَو عاجزا ويضم إليه أَمين (3) أَو (عبدا) لأَنه تصح استنابته في الحياة (4) فصح أَن يوصي إليه كالحر (5) (ويقبل) عبد غير الموصي (بإذن سيده) لأَن منافعه مستحقة له، فلا يفوتها عليه بغير إِذنه (6) .
__________
(1) قال الموفق: في قول أكثر أهل العلم، لأن عمر أوصي إلى حفصة، ولأنها من أهل الشهادة، أشبهت الرجل، وتصح إلى أم ولده، لأنها تكون حرة عند نفوذ الوصية.
(2) أي ولو كان الموصي إليه مستورا، يعنى ظاهر العدالة.
(3) أي ولو كان عاجزا، لأنه أهل للائتمان، ويضم إليه قوى أمين معاون ولا تزال يده عن المال ولا نظره.
(4) وأهل للرعاية على المال، وقال - عليه السلام - «والعبد راع على مال سيده، وهو مسئول عنه» والرعاية، ولاية.
(5) وسواء كان عبد نفسه أو عبد غيره، وهو مذهب مالك.
(6) فلا بد من إذنه فيها، ولأن ما وصي إليه فيه منفعة لا يستقل بها، وتعتبر الصفات المذكورة، الإسلام، والتكليف، والعدالة، والرشد حين موت موص ووصية، لأنها شروط للعقد، فاعتبرت حال وجوده، ولأن التصرف بعد الموت فاعتبر وجودها عنده.(6/77)
(وإِذا أَوصى إلى زيد و) أَوصى (بعده إِلى عمرو، ولم يعزل زيدا اشتركا) (1) كما لو أَوصي إِليهما معا (2) (ولا ينفرد أَحدهما بتصرف لم يجعله موص له) (3) لأَنه لم يرض بنظره وحده كالوكيلين (4) وإِن غاب أَحدهما أَو مات أَقام الحاكم مقامه أَمينا (5) وإِن جعل لأَحدهما أَو لكل منهما أَن ينفرد بالتصرف صح (6) .
__________
(1) لأن اللفظ لا يدل على العزل مطابقة، ولا تضمنا، والجمع ممكن.
(2) أي في حالة واحدة، فليس لأحدهما التصرف دون الآخر، ولأنه لم يوجد رجوع عن الوصية لواحد منهما فاستويا فيها، إلا أن يخرج زيدا فتبطل وصيته للرجوع عنها.
(3) أي ولا ينفرد أحد الوصيين بتصرف عن الآخر لم يجعله موص له وحده، قال الموفق: بلا خلاف. وإن قال: أوصيت إليكما في كذا. فليس لأحدهما الانفراد بالتصرف، وهو مذهب مالك والشافعي.
(4) وانفراد أحدهما عن الآخر بتصرف يخالف ذلك.
(5) ليتصرف مع الآخر، ولئلا ينفرد الآخر بالتصرف، لأن الموصي لم يرض بنظر هذا الباقي وحده، فوجب ضم غيره إليه، وإن ماتا أو غابا، أو تغير حاله أو حالهما، بسفه أو جنون ونحوه، أقام الحاكم أمينا لئلا تعطل الحال.
(6) بلا خلاف، عملا بالوصية.(6/78)
ويصح قبول الموصي إليه الوصية في حياة الموصي، وبعد موته (1) وله عزل نفسه متى شاءَ (2) وليس للموصي إِليه أَن يوصي إِلا أَن يجعل إليه (3) (ولا تصح وصية إِلا في تصرف معلوم) (4) ليعلم الوصي ما أُوصي إليه به ليحفظه ويتصرف فيه (5) (يملكه الموصي (6) .
__________
(1) لأنه إذن في التصرف، فصح قبوله بعد العقد. ويصح إلى ما بعد الموت، لأنه نوع وصية، فصح قبولها بعد الموت، ولو تصرف موصي إليه قبل القبول، فاستظهر ابن رجب قيامه مقام القبول.
(2) مع القدرة والعجز، في حياة الموصي، وبعد موته، في حضوره وغيبته، لأنه متصرف بالإذن، كالوكيل. وعنه: له عزل نفسه إن وجد حاكما، وإلا فلا، قطع به الحارثي وغيره، لأن العزل إذًا تضييع للأمانة، وإبطال لحق المسلم، وكذا إن تعذر تنفيذ الحاكم للموصي به لعدم، أو غلب على الظن أن الحاكم يسند إلى من ليس بأهل، أو أن الحاكم ظالم، ونحو ذلك، وللموصي عزله متى شاء كالموكل، قولا واحدا.
(3) بأن يأذن له في الإيصاء لمن شاء، نحو: أذنت لك أن توصي إلى من شئت أو من أوصيت إليه فقد أوصيت إليه، أو هو وصي، صح، قال الموفق: وبه قال أكثر أهل العلم، لأنه مأذون له، فجاز أن يأذن لغيره، وإن وصي إليه وأطلق، فليس له ذلك، لأنه قصر توليته، فلم يكن له التفويض، كالوكيل، وتقدم أن له أن يوكل فيما لا يباشره مثله، أو يعجز عنه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة.
(4) فلا تصح في تصرف مجهول وفاقا.
(5) بمقتضى الوصية كالوكالة.
(6) أي يملك الموصي فعله وفاقا.(6/79)
كقضاء دينه (1) وتفرقه ثلثه (2) والنظر لصغاره) (3) لأَن الوصي يتصرف بالإِذن، فلم يجز إلا فيما يملكه الموصي كالوكالة (4) (ولا تصح) الوصية (بما لا يملكه الموصي (5) كوصية المرأَة بالنظر في حق أَولادها الأَصاغر (6) ونحو ذلك) كوصية الرجل بالنظر على بالغ رشيد (7) فلا تصح، لعدم ولاية الموصي حال الحياة (8) .
__________
(1) أي كوصية مدين، في قضاء دينه، واقتضائه، ورد الودائع، واستردادها ورد غصب وعارية، ونحو ذلك، لأنه يملك ذلك، فملكه وصيه.
(2) أي: وكالوصية في تفرقة ثلث الموصي، وعبارة المقنع، والإقناع، والمنتهى وغيرها: تفرقة وصيته، وهي أعم.
(3) والمجانين، ومن لم يؤنس رشده، بحفظ أمولهم، والتصرف لهم فيها بما لهم الحظ فيه، والنفقة عليهم، وتزويج مولياته، ونحو ذلك.
(4) باتفاق الأئمة، لأن الموصي أصيل، والوصي فرعه، ولا يملك الفرع ما لا يملكه الأصل.
(5) كالتوكيل اتفاقا.
(6) لأنها لا تلي النكاح بحال، ولا تلي مال غيرها كالعبد، ولأنه لا ولاية لغير الأب، فلا تصح وصيتها في حقهم.
(7) من أولاده، ولا على غيرهم من الإخوة، والأعمام، وسائر من عدا الأولاد.
(8) فلا يكون ذلك لوصيه بعد الممات، قال الشارح: لا نعلم فيه خلافا.(6/80)
(ومن وصي) إليه (في شيء (1) لم يصر وصيا في غيره) (2) لأَنه استفاد التصرف بالإذن، فكان مقصورا على ما أُذن فيه كالوكيل (3) ومن أُوصي بقضاء دين معين فأبي الورثة (4) أَو جحدوا، أَو تعذر إِثباته، قضاه باطنا بغير علمهم (5) .
__________
(1) كقضاء ديونه فحسب، أو تفرقة وصيته.
(2) كالنظر في حق أولاده الأصاغر، ونحو ذلك مما لم يجعل إليه.
(3) أي كما أن الوكيل مقصور على ما أذن له فيه، وهذا مذهب الشافعي، فإن وصي إليه في تركته، وأن يقوم مقامه، فهو وصي في جميع أموره، وإن جعل لكل واحدة من تلك الخصال وصيا جاز.
(4) أي أبوا إخراج ثلث ما بأيديهم، أو أبوا قضاء الدين.
(5) أي أو جحدوا ما بأيديهم، أو جحدوا الدين، وتعذر إثبات الدين، قضى الوصي الدين باطنا، من غير علم الورثة إن أمن التبعة، لأنه تمكن من إنفاذ ما وصي إليه بفعله، فوجب عليه، كما لو لم يجحده الورثة، ولأنه لا حق لهم إلا بعد وفاء الدين، وعلى الوصي تقديم الواجب على المتبرع به، فلو وصي بتبرعات لمعين أو غير معين، فمنع الورثة بعض التركة، أو جحدوا الدين: أفتى الشيخ بأن الوصي يخرج الدين مما قدر عليه، مقدما على الوصية.
ومن ادعى على ميت دينا، وهو ممن يعامل الناس، نظر الوصي إلى ما يدل على صدقه، ودفع إليه، وإلا فتحريم الإعطاء حتى يثبت عند القاضى خلاف السنة والإجماع، وكذلك ينبغى أن يكون حكم ناظر الوقف، ووالي بيت المال، وكل وال على حق غيره، إذا تبين له صدق الطالب، دفع إليه، وذلك واجب عليه إن أمن التبعة، وإن خاف التبعة فلا. ولو وصي بإعطاء مدع بيمينه دينا نفذه الوصي من رأس المال، لا من الثلث، ولو قال: يدفع هذا إلى يتامى فلان؛ فإقرار بقرينة، وإلا وصية.(6/81)
وكذا إِن أُوصي إليه بتفريق ثلثه وأَبوا (1) أَو جحدوا أَخرجه مما في يده باطنا (2) وتصح وصية كافر إلى مسلم (3) إن لم تكن تركته نحو خمر (4) وإِلى عدل في دينه (5) (وإِن ظهر على الميت دين يستغرق تركته بعد تفرقة الوصي) الثلث الموصي إليه بتفرقته (لم يضمن) الوصي لرب الدين شيئا (6) لأَنه معذور بعدم علمه بالدين (7) .
__________
(1) أي أبوا إنفاذ ما وصي إليه بفعله.
(2) أي أو جحدوا ما في أيديهم، أخرج ثلث المال مما في يده باطنا، لأن حق الموصي لهم بالثلث مثلا متعلق بأجزاء التركة، وحق الورثة مؤخر عن الدين، وعن الوصية، ويبرأ مدين باطنا بقضاء دين يعلمه على الميت.
(3) لأن المسلم مقبول الشهادة عليه وعلى غيره.
(4) كخنزير، لعدم جواز تولي المسلم نحو ذلك، فلا يمكنه النظر فيها.
(5) وهو قول أصحاب الرأي، لأنه يلي بالنسب، فيلي بالوصية، وإن لم يكن عدلا في دينه لم تصح، لأن عدم العدالة في المسلم تمنع صحة الوصية إليه، فالكافر أولي.
(6) مما صرفه في الوصية.
(7) وفي الرعاية: يرجع به لوفاء الدين.(6/82)
وكذا إِن جهل موصي له فتصدق به هو أَو حاكم ثم علم (1) (وإِن قال ضع ثلثي حيث شئت) أَو أَعطه لمن شئت، أَو تصدق به على من شئت (2) (لم يحل) للوصي أَخذه (له) (3) لأَنه تمليك ملكه بلا إِذن، فلا يكون قابلاً له كالوكيل (4) (ولا) دفعه (لولده) ولا سائر ورثته (5) .
__________
(1) وإن أمكن الرجوع على آخذ، فعل ووفي الدين، كما قاله ابن نصر الله، وغيره.
(2) أو نحو ذلك من الألفاظ، وإن قال: اصنع في مالي ما شئت، أو هو بحكمك، افعل فيه ما شئت، ونحو ذلك من ألفاظ الإباحة لا الأمر، فقال الشيخ: له أن يخرج ثلثه، وله أن لا يخرجه، فلا يكون الإخراج واجبا ولا حراما بل موقوفا على اختيار الوصي.
(3) وهذا مذهب مالك والشافعي.
(4) وقال بعضهم: يعمل بالقرينة. وقال الشيخ: يجوز صرف الوصية فيما هو أصلح من الجهة التي عينها الموصي، فإذا لم يعين، فأولي. وقال الموفق: قال أصحاب الرأي: له أخذه لنفسه وولده؛ ويحتمل أن يجوز ذلك عندنا، لأن لفظ الموصي يتناوله، ويحتمل أن ينظر إلى قرائن الأحوال، فإن دلت على أنه أراد أخذه منه، مثل أن يكون من جملة المستحقين الذين يصرف إليهم ذلك أو عادته الأخذ من مثله، فله الأخذ منه.
(5) أي ولا يجوز له دفع ثلث الموصي لولد الموصي غليه، ولا سائر ورثته نص عليه.(6/83)
لأَنه متهم في حقهم، أَغنياء كانوا أَو فقراءَ (1) وإِن دعت الحاجة إلى بيع بعض العقار لقضاء دين (2) أو حاجة صغار (3) وفي بيع بعضه ضرر (4) فله البيع على الصغار والكبار إِن امتنعوا أَو غابوا (5) (ومن مات بمكان لا حاكم به ولا وصي (6) جاز لبعض من حضره من المسلمين تولي تركته (7) .
__________
(1) هذا المذهب عند بعض الأصحاب، وقال الحارثى: المذهب جواز الدفع إلى الولد والوالد ونحوهم؛ واختاره المجد وغيره، لأنه مأمور بالتفريق، وقد فرق فيمن يستحق، والتهمة لا أثر لها، فإن عبارته تستعمل في الرضا بصرف الوصي إلى من يختاره كيف كان، لا إلى ورثة الموصي، لأن الوصي نائب الميت، فلم يكن له الدفع إلى من لا يدفع المستنيب إليه.
(2) عن الميت، مستغرقا ماله، غير العقار، واحتاج إلى تتمته من العقار.
(3) أي أودعت الحاجة لبيع بعض العقار، لحاجة صغار من ورثته، فيما لا بد لهم منه.
(4) لنقص قيمته بالتشقيص على الصغار.
(5) لأن الوصي قائم مقام الأب، وللأب بيع الكل، فالوصي كذلك، والحكم لا يتقيد بالعقار، بل فيما عداه إلا الفروج، واختار الموفق وغيره - وصححه الشارح ـ: أنه لا يجوز البيع على الكبار، وهو مذهب الشافعي، لأنه لا يجب على الإنسان بيع ملكه، ليزداد ثمن ملك غيره، كما لو كان شريكهم غير وارث.
(6) أي ومن مات بمكان برية أو غيرها لا حاكم بها حضر موته، ولا وصي له، بأن لم يوص إلى أحد، أو لم يقبل الموصي إليه.
(7) ولا تترك ضياعا، وحفظها من فروض الكفايات، وهذا مذهب الشافعي ومالك، إلا أنه استثنى أن يكون لذلك أهلا.(6/84)
وعمل الأَصلح حينئذ فيها من بيع وغيره) (1) لأَنه موضع ضرورة (2) ويكفنه منها (3) فإن لم تكن فمن عنده ويرجع عليها (4) أَو على من تلزمه نفقته إِن نواه، لدعاء الحاجة لذلك (5) .
__________
(1) أي من بيع ما يجزئ بيعه، مما يسرع إليه الفساد، وغير البيع كحفظها، وحملها للورثة.
(2) أي لحفظ مال المسلم عليه، إذ في تركه إتلاف له، وأما الجواري فقال أحمد وغيره: الأولى أن يتولي بيعهن حاكم، احتياطا لإباحة الفروج.
(3) أي ويكفنه المسلم الذي حضره، ويجهزه من تركته إن كانت، وأمكن تجهيزه منها.
(4) أي على تركته حيث كانت إن نوى الرجوع.
(5) أي أو يرجع بتجهيزه على من تلزمه نفقته إن نوى الرجوع سواء استأذن حاكما أو لا، أشهد على نية الرجوع أولا، ولأنه لو لم يرجع إذًا لامتنع الناس من فعله، مع دعاء الحاجة إلى تجهيزه، ولو قال: على من يلزمه كفنه. إذ الزوج عندهم تلزمه نفقة زوجته، ولا يلزمه كفنها، فلا يرجع عليه، بل على أبيها ونحوه.(6/85)
كتاب الفرائض (1)
جمع فريضة (2) بمعنى مفروضة أي مقدرة (3) فهي: نصيب مقدر شرعا لمستحقه (4) .
وقد حث صلى الله عليه وسلم على تعلمه وتعليمه (5) فقال «تعلموا الفرائض، وعلموه الناس (6) .
__________
(1) أي هذا كتاب يذكر فيه أحكام الفرائض، والأصل فيه الكتاب، والسنة، والإجماع.
(2) ويجمع على فرائض، والفرض يقال لمعان، منها الحز، والقطع، والتوقيت.
(3) والهاء فيها للنقل من المصدر إلى الاسم، ومنه {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} .
(4) أي فالفريضة شرعا: نصيب مقدر شرعا، لمستحق ذلك النصيب. وأركانها وارث، ومورث، وحق موروث، وشروطها: تحقق موت المورث، وتحقق حياة الوارث، والعلم بمقتضى التوارث.
(5) في أحاديث كثيرة، وتعلمه فرض كفاية، وقد أفرد بالتصانيف.
(6) فإنها نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول علم ينتزع من أمتي» رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة، وفيه ضعف، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال «العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فضل، آية محكمة، وسنة قائمة، وفريضة عادلة» وورد في الحث عليه أحاديث كثيرة.(6/86)
فإِنى امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في الفريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما» (1) رواه أحمد، والترمذي، والحاكم، ولفظه له (2) (وهي) أي الفرائض (العلم بقسمة المواريث) (3) جمع ميراث، وهو المال المخلف عن ميت (4) ويقال له أَيضا: التراث (5) ويسمى العارف بهذا العلم فارضا، وفرِّيضا، وفرضيا، وفرائضيا (6) .
__________
(1) ووقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فهو من علامات نبوته، وفيه الحث على الاعتناء بها، ومعرفتها.
(2) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وعن عمر: تعلموا الفرائض، فإنها من دينكم. وقال عبد الله: من تعلم القرآن فليتعلم الفرائض، وقوله «فإنها نصف العلم» لأن للإنسان حالتين، حياة وموتا، وفي الفرائض معظم الأحكام المتعلقة بالموت، أو لأنها يبتلي بها الناس كلهم، أو لأن الملك نوعان، اختياري وهو ما يملك رده كالشراء ونحوه، وقهري وهو ما لا يملك رده وهو الإرث.
(3) أي فقه المواريث، ومعرفة الحساب الوصل إلى قسمتها بين مستحقيها، وموضوعه التركات.
(4) والميراث مصدر: ورث الشيء وراثة، وميراثا وإرثا، والإرث هو المال المخلف عن ميت، وشرعا بمعنى التركة.
(5) وأصل التاء فيه واو، والإرث لغة البقاء، وانتقال الشيء من قوم إلى آخرين، ويطلق بمعنى الميراث.
(6) فرضيا بفتح الراء وسكونها، ويقال له أيضا: فرَّاضا، وهو العالم بعلم الفرائض.(6/87)
وقد منعه بعضهم، ورده غيره (1) (أَسباب الإِرث) وهو انتقال مال الميت إلى حى بعده، ثلاثة (2) :
أَحدها: (رحم) أي قرابة، قربت أَو بعدت (3) قال تعالى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (4) .
(و) الثاني (نكاح) وهو عقد الزوجية الصحيح (5) قال تعالى (ولكم نصف ما ترك أَزواجكم) الآية (6)
__________
(1) أي تسمية الفرضي «فرائضيا» منعه بعض أهل العلم، ورده غيره، فأجاز تسميته فرائضيا، ويبدأ من تركة الميت بمؤنة تجهيزه، ثم تقضى ديونه، ثم تنفذ وصاياه من ثلثه، ثم يقسم ما بقي على الورثة.
(2) فقط، فلا يرث ولا يورث بغيرها، كالموالاة، والمعاقدة، والمحالفة، وإسلامه على يديه، والتقاطه، ونحو ذلك، لحديث «إنما الولاء لمن أعتق» واختار الشيخ أنه يورث بها عند عدم الرحم، والنكاح، والولاء، والأسباب جمع سبب، وهو لغة: ما يتوصل به إلى غيره، واصطلاحا: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته.
(3) وتشمل أصولا، وفروعا، وحواشي، فالأصول الأبوة والجدودة، وإن علوا، والفروع الأولاد، وأولاد البنين وإن نزلوا، والحواشى الإخوة، وبنوهم وإن نزلوا، والعمومة، وإن علوا، وبنوهم وإن نزلوا.
(4) فدلت على التوارث بالقرابة، مع ما يأتي من الآيات، والأحاديث، والإجماع.
(5) ولو لم يحصل وطء ولا خلوة، ويتوارث به الزوجان من الجانبين، وفي عدة الطلاق الرجعي إجماعا، ولا ميراث بالنكاح الفاسد، لأن وجوده كعدمه.
(6) وتمامها {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فدلت على التوارث بالنكاح.(6/88)
(و) (الثالث (ولاء) عتق (1) لحديث: «الولاء لحمة كلحمة النسب» رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه (2) . والمجمع على توريثهم من الذكور عشرة (3) الابن، وابنه وإِن نزل (4) والأَب، وأَبوه وإِن علا (5) والأَخ مطلقًا (6) .
__________
(1) وهو عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق، فيرث بها المعتق، هو عصبته المتعصبون بأنفسهم، لا بغيرهم، ولا مع غيرهم، دون العتيق، وكما يثبت الولاء على الرقيق يثبت على فرعه بشرطين: أن لا يكون أحد أبويه حر الأصل، وأن لا يمسه رق لأحد.
(2) شبه الولاء بالنسب، والنسب يورث به، فكذا الولاء إجماعا، وفي الصحيحين «إنما الولاء لمن أعتق» وموانع الإرث الرق، والقتل، واختلاف الدين.
(3) بالاختصار، وهم خمسة عشر بالبسط.
(4) بدرجة، أو درجات، بمحض الذكور، لقوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ} وابن الابن ابن، لقوله تعالى {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} .
(5) بمحض الذكور، كأبي أب وأبيه، لقوله تعالى {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} والجد أب بالنص، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه السدس.
(6) لأبوين، أو أب، أو أم، لقوله {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} وقوله {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} والإخوة لأبوين بنو الأعيان، لأنهم من عين واحدة، ولأب بنو العلات، والعلة الضرة، ولأم بنو الأخياف أي الأخلاط لأنهم ليسوا من رجل واحد.(6/89)
وابن الأَخ لا من الأُم (1) والعم لغير أُم، وابنه (2) والزوج، وذو الولاء (3) ومن الإناث سبع (4) البنت، وبنت الابن وإِن نزل (5) والأُم، والجدة (6) .
__________
(1) أي وابن الأخ لأبوين أو لأب، لا ابن الأخ من الأم فهو من ذوي الأرحام.
(2) أي والعم لأبوين أو لأب، وابن العم لأبوين أو لأب، وإن نزل بمحض الذكور، لقوله صلى الله عليه وسلم «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» .
(3) أي الزوج، لقوله تعالى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} وذو الولاء، وهو صاحب العتق، وعصبته المتعصبون بأنفسهم، فهؤلاء العشرة المجمع على إرثهم الابن، وابنه وإن نزل، والأب، والجد له وإن علا، والأخ مطلقا، وابن الأخ لأبوين أو لأب، وإن نزلوا، والعم لأبوين، أو لأب، وابناهما، والزوج، والمعتق.
وهم بالبسط خمسة عشر: الابن، وابنه وإن نزل، والأب، والجد له وإن علا، بمحض الذكور، والأخ الشقيق، والأخ لأب، والأخ لأم، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب، وإن نزلا، والعم الشقيق، والعم لأب وإن عليا، وابن العم الشقيق، وابن العم لأب وإن نزلا، والزوج، والمعتق.
(4) أي ومن النساء المجمع على توريثهن سبع بالاختصار، وعشر بالبسط.
(5) أي أبوها بمحض الذكور، لقوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم) وحديث ابن مسعود في بنت وبنت ابن وأخت.
(6) فالأم، لقوله تعالى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} والجدة من قبل الأم أو من قبل الأب للخبر الآتى.(6/90)
والأُخت، والزوجة، والمعتقة (1) (والورثة) ثلاثة (2) (ذو فرض، وعصبة و) ذو (رحم) ويأْتي بيانهم (3) وإِذا اجتمع جميع الذكور، ورث منهم ثلاثة (4) الابن، والأَب، والزوج (5) ؛ وجميع النساء، ورث منهن خمس، البنت، وبنت الابن، والأُم، والزوجة، والشقيقة (6) .
__________
(1) فالأخت شقيقة كانت، أو لأب، أو لأم، لآيتي الكلالة، والزوجة لقوله (ولهن الربع مما تركتم) والمعتقة، ومعتقها وإن علت لما تقدم، ولما يأتي، فكنَّ سبعا، البنت، وبنت الابن، والأم، والجدة والأخت، والزوجة، والمعتقة.
وهن عشر بالبسط، البنت، وبنت الابن وإن نزل أبوها، والأم، والجدة من قبل الأم، والجدة من قبل الأب، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والأخت لأم، والزوجة، والمعتقة، و «الزوجة» بالتاء - في الفرائض - للتمييز، وإن كان الأشهر الأفصح حذفها.
(2) أي ثلاثة أصناف، لكل صنف منهم كلام يخصه.
(3) ذو فرض أي نصيب مقدر شرعا، لا يزيد إلا بالرد، ولا ينقص إلا بالعول، وعصبة يرثون بلا تقدير، وذو رحم يرثون عند عدم العصبات، وأصحاب الفروض غير الزوجين، ويأتي بيانهم مفصلات، إن شاء الله تعالى.
(4) لا يسقطون بحال، لأنهم يمتون إلى الميت بأنفسهم، من غير واسطة.
(5) ومسألتهم من اثني عشر، للأب السدس اثنان، وللزوج الربع ثلاثة، والباقي سبعة للابن.
(6) ومسألتهن من أربعة وعشرين، للبنت النصف اثنا عشر، وبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وللأم السدس، وللزوجة الثمن ثلاثة، وللشقيقة الباقي واحد.(6/91)
وممكن الجمع من الصنفين (1) ورث الأَبوان، والولدان، وأَحد الزوجين (2) (فذو الفروض عشرة (3) الزوجان، والأَبوان (4) والجد، والجدة (5) والبنات) الواحدة فأَكثر (6) (وبنات الابن) كذلك (7) (والأَخوات من كل جهة) كذلك (8) (والإخوة من الأُم) كذلك، ذكورا كانوا أَو إِناثا (9) (فللزوج النصف) مع عدم الولد وولد الابن (10) .
__________
(1) وهو خمسة وعشرون شخصا، ولا يجتمع أكثر من ثلاثة وعشرين.
(2) فمع الزوج مسألتهم من اثنى عشر، للزوج الربع، وللأب السدس، وللأم السدس، يبقي خمسة للولدين، ورءوسهم ثلاثة، مضروبة في اثنى عشر، تبلغ ستة وثلاثين وتصح منها، ومع الزوجة من أربعة وعشرين، للأبوين الثلث، وللزوجة الثمن، يبقي للولدين ثلاثة عشر، ورءوسهم ثلاثة، مضروبة في أربعة وعشرين، تبلغ اثنين وسبعين وتصح منها.
(3) من الذكور والإناث، والمراد من له نصيب مقدر، ولو في بعض الصور.
(4) مجتمعين، أو متفرقين.
(5) الجد يعني لأب، والجدة لأم أو لأب.
(6) يفرض للواحدجة النصف، ولاثنتين فأكثر الثلثان بشرطه الآتي.
(7) أي الواحدة فأكثر.
(8) أي والأخوات الشقائق أو لأب، الواحدة فأكثر.
(9) يعنى الأخوة لأم، ولا يرثون إلا بالفرض لا غير.
(10) إجماعا.(6/92)
(ومع وجود ولد) وارث (1) (أَو ولد ابن) وارث (وإِن نزل) ذكرا كان أَو أُنثى، واحدا أَو متعددا (الربع) (2) لقوله تعالى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ (3) فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ} (4) (وللزوجة فأَكثر نصف حاليه فيهما) (5) فلها الربع مع عدم الفرع الوراث (6) وثمن معه (7) لقوله تعالى {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ (8)
__________
(1) ومن قام به مانع قتل، أو رق، أو اختلاف دين، فوجوده كعدمه.
(2) إجماعا، سواء كان الولد منه أو من غيره.
(3) أي إن متن عن غير ولد، ذكرا كان أو أنثى، واحدا أو متعددا، فللزوج النصف {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وفي حديث زيد: قضى له بالنصف.
(4) {مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وحكم أولاد البنين حكم أولاد الصلب بلا نزاع.
(5) أي نصف حالته مع عدم الفرع الوارث، ونصف حالته مع وجود الفرع الوارث.
(6) وهو أولاد الميت، أو أولاد بنيه إجماعا.
(7) أي ولها الثمن مع وجود أولاد الميت، أو أولا بنيه إجماعا.
(8) سواء كن واحدة، أو اثنتين، أو ثلاثا، أو أربعا، بشرط عدم الفرع الوارث {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} .(6/93)
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ} (1) (ولكل من الأَب والجد السدس بالفرض (2) مع ذكور الولد أَو ولد الابن) أي مع ذكر فأكثر من ولد الصلب، أَو ذكر فأَكثر من ولد الابن (3) لقوله تعالى} وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (4) (يرثان بالتعصيب مع عدم الولد) الذكر والأُنثى (5) .
(و) عدم (ولد الابن) كذلك (6) لقوله تعالى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (7) فأَضاف الميراث إليهما، ثم جعل للأم الثلث، فكان الباقي للأَب (8) .
__________
(1) {مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وولد البنت لا يحجب ولو ورثناه.
(2) إجماعا، يرثه الأب من ولده، وجد مثله من ولد ابنه وإن سفل، مع عدم الأب.
(3) وإن نزل، بلا نزاع، لكل منهما السدس، والباقي للولد الذكر، واحدا فأكثر.
(4) أي ولكل واحد من الأبوين السدس، والجد تناوله النص، لدخول ولد الابن في الأولاد، فهو كالأب عند فقده.
(5) واحدا أو متعددًا.
(6) أي الذكر والأنثى، فياخذ المال كله، أو ما أبقت الفروض إجماعًا.
(7) فرضا، والباقي للأب تعصيبا والجد في ذلك مثل الأب مع عدمه.
(8) تعصيبًا، أو الجد.(6/94)
(و) يرثان (بالفرض والتعصيب مع إِناثهما) أي إناث الأولاد، أو أَولاد الابن، واحدة كن أَو أَكثر (1) فمن مات عن أَب وبنت أَو جد (2) فللبنت النصف، وللأَب أَو الجد السدس فرضا لما سبق (3) والباقي تعصيبا (4) لحديث «أَلحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» (5) .
__________
(1) ولا يرث، بفرض وتعصيب معا بسبب واحد إلا الأب والجد.
(2) وبنت، أو جمع من البنات، أو بنات الابن وإن نزل.
(3) من قوله تعالى {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} والجد مثل الأب في ذلك.
(4) أي والباقي بعد نصيب البنت، وسدس الأب وهو ثلث، للأب أو الجد تعصيبًا بلا نزاع.
(5) أي: ألحقوا الأنصباء المنصوص عليها في الكتاب والسنة، فما بقي بعد إعطاء ذوى الفروض فروضهم إن بقي، فلأولى رجل ذكر، أي فلأقرب رجل من الميت «ذكر» تأكيد، والخبر متفق عليه من حديث ابن عباس، والأب أولى ذكر بعد الابن وابنه، ولا نزاع في ذلك.(6/95)
فصل (1)
(والجد لأَب وإِن علا) بمحض الذكور (2) (مع ولد أَبوين أَو) ولد (أَب) ذكرا أَو أنثى، واحدا أَو متعددا (كأَخ منهم) في مقاسمتهم المال، أَو ما أَبقت الفروض (3) لأَنهم تساووا في الإدلاء بالأب، فتساووا في الميراث (4) وهذا قول زيد بن ثابت، ومن وافقه (5) .
__________
(1) أي في أحكام ميراث الجد مع الإخوة أو الأخوات لأبوين أو لأب.
(2) فأخرج المدلي بأم، والجد لأب لا يحجبه غير الأب إجماعا، ومع الإخوة فيه خلاف.
(3) ما لم يكن الثلث أحظ له من المقاسمة، فيأخذه، والباقي للإخوة، ومع ذي الفرض بعده ثلث الباقي، أو سدس الكل.
(4) فإن الجد والأخ يدليان بالأب، ومثله زيد بنهر انفرق منه جدولان.
(5) من الصحابة، كعلي، وابن مسعود، وهو قول مالك، والشافعي، وصاحبى أبي حنيفة، ولم يرد في توريثهم معه نص من كتاب، أو سنة، بل باجتهاد بعض الصحابة. وذهب الصديق إلى أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات، من جميع الجهات، وهو قول ابن عباسن وابن الزبير، وروي عن عثمان، وعائشة وأبي بن كعب، وجابر، وعبادة، وغيرهم، وهو قول أبي حنيفة وغيره،
ورواية عن أحمد، اختارها الشيخ، وابن القيم، واستظهرها في الفروع،
واختاره بعض الشافعية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقال ابنه عبد الله: هو المفتى به عندنا؛ قال شيخنا: وهو الصواب.
ورجح بأمور «أحدها» العمومات، ولم يسم الله الجد بغير اسم الأبوة «والثاني» محض القياس، قال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أبا الأب أبا! «والثالث» أن هذا التوريث وكيفياته لو كان من الله لم يهمله النبي صلى الله عليه وسلم، بل وضحه «والرابع» أن الذين ورثوا الإخوة معه اختلفوا في كيفية ذلك، ولم يجزموا، بل معهم شك ومقرون أنه محض رأي، لا حجة فيه، ولا قياس.
ولا ريب أن من ورث الجد وأسقطهم هو أسعد الناس بالنص، والإجماع، والقياس، وعدم التناقض بل فاز بدلالة الكتاب، والسنة، والقياس، ولم يختلف على الصدِّيق أحد في زمانه، وهو المفتى به، ورجحه الموفق وغيره وقال: لا تفريع على هذا لوضوحه.(6/96)
فجد وأُخت، له سهمان، ولها سهم (1) جد وأَخ، لكل سهم (2) جد وأُختان، له سهمان، ولكن منهن سهم (3) جد وثلاث أَخوات، له سهمان، ولكل منهن سهم (4) جد وأَخ وأَخت، للجد سهمان، وللأَخ سهمان، وللأخت سهم (5) .
__________
(1) أصلها من ثلاثة عدد رءوسهم.
(2) أصلها من اثنين.
(3) أصلها من أربعة.
(4) أصلها من خمسة، عدد رءوسهم.
(5) أصلها أيضا من خمسة، وهذه الصور الخمس الأحظ له المقاسمة.(6/97)
وفي جد وجدة وأَخ، للجدة السدس، والباقي للجد والأَخ مقاسمة (1) والأَخ لأُم فأَكثر ساقط بالجد كما يأْتى (2) (فإِن نقصته) أي الجد (المقاسمة عن ثلث المال) إِذا لم يكن معهم صاحب فرض (أُعطيه) أي أُعطي ثلث المال (3) كجد وأَخوين وأُخت فأَكثر (4) له الثلث، والباقي لهم، للذكر مثل حظ الأُنثيين (5) وتستوي له المقاسمة والثلث (6) في جد وأَخوين (7) وجد وأَربع أَخوات (8) وجد وأَخ وأُختين (9) (ومع ذي فرض) كبنت، أَو بنت ابن، أَو زوج (10) .
__________
(1) مسألتهم من ستة، للجدة سهم، يبقي خمسة على أربعة رءوس، تضرب خمسة في سته، منها تصح.
(2) وكذا بنو الإخوة مطلقا إجماعا.
(3) وإلى هذا ذهب زيد بن ثابت والأكثر، ومتى زاد الإخوة عن اثنين أو من يعد لُهم من الإناث، فلاحظ له في المقاسمة.
(4) كجد وثلاثة إخوة، وهلم جرا بلا حصر.
(5) لقوله تعالى {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} .
(6) في ثلاث صور لا غير.
(7) مسألتهم من ثلاثة، عدد رءوسهم.
(8) مسألتهم من ستة، له سهمان، ولكل واحدة منهن سهم.
(9) أصلها من ستة، له سهمان، وللأخ سهمان، ولك واحدة سهم.
(10) ممن يستحق النصف.(6/98)
أَو زوجة، أَو أُم، أَو جدة (1) يعطى الجد (بعده) أي بعد ذي الفرض واحدا كان أَو أَكثر (الأَحظ من المقاسمة) كزوجة وجد وأُخت، من أَربعة، للجد سهمان، وللزوجة سهم، وللأُخت سهم (2) (أَو ثلث ما بقي) كأُم وجد وخمسة إِخوة، من ثمانية عشر، للأُم ثلاثة أَسهم، وللجد ثلث الباقي خمسة، ولكل أَخ سهمان (3) (أَو سدس الكل) كبنت، وأُم، وجد، وثلاثة
إِخوة (4) .
__________
(1) ممن يستحق الربع، أو الثلث، أو السدس، وله مع ذي فرض سبع حالات، أن تكون المقاسمة أحظ له من ثلث الباقي وسدس المال، كجدة وجد وأخ أو ثلث الباقي أحظ له من المقاسمة ومن سدس المال، كأم وجد وثلاثة إخوة، أو سدس المال أحظ له من المقاسمة وثلث الباقي، كزوج وجدة وجد وأخوين، أو تستوى له المقاسمة وثلث الباقي، ويكونان أحظ له من السدس، كأم وجد وأخوين، أو تستوي له المقاسمة وسدس المال، ويكونان أحظ له من ثلث الباقي، كزوج وأم وجد وأخ، أو يستوي له ثلث الباقي وسدس المال، ويكونان أحظ له من المقاسمة، كزوج وجد وثلاثة إخوة، والسابعة أن تستوي له ثلاثة الأمور كزوج وجد وأخوين وفي كلها الإخوة لغير أم.
(2) وتسمى هذه مربعة الجماعة، وكجدة وجد وشقيق، أصلها من ستة، للجدة السدس، يبقي خمسة، للجد والشقيق، تضرب اثنين في ستة، منها تصح.
(3) وأصل ثمانية عشر مختص بالجد والإخوة، وكذا أصل ستة وثلاثين.
(4) أصلها من ستة، للبنت النصف، وللأم السدس، وللجد السدس، وللإخوة سدس، وتصح من ثمانية عشر.(6/99)
(فإن لم يبق) بعد ذوي الفروض (سوى السدس) كبنت، وبنت ابن، وأُم، وجد، وإخوة (أَعطيه) أي أُعطي الجد السدس الباقي (وسقط الإخوة) مطلقا (1) لاستغراق الفروض التركة (2) (إلا) الأُخت (في الأكدرية) (3) وهي زوج، وأُم، وأُخت، وجد (4) للزوج النصف، وللأُم الثلث، يفضل سدس يأْخذه الجد، ويفرض للأُخت النصف، فتعول لتسعة، ثم يرجع الجد والأُخت للمقاسمة، وسهامهما أَربعة، على ثلاثة عدد رءوسهما، فتصح من سبعة وعشرين، للزوج تسعة، وللأُم ستة، وللجد ثمانية، وللأُخت أَربعة (5) سميت الأَكدرية لتكديرها لأُصول زيد في الجد والإِخوة (6) .
__________
(1) ذكورا كانوا أو إناثا، من أبوين أو أب.
(2) والجد لا ينقص عن سدس المال ولو اسما بالعول، لأنه لا ينقص عن ذلك مع الولد الذي هو أقوى، فمع غيره أولي.
(3) فلا تسقط وإن استغرقت الفروض، هذا مذهب زيد، ومذهب أبي بكر وتابعيه تسقط الأخت.
(4) سواء كانت شقيقة أو لأب، هؤلاء أركانها.
(5) وإن لم يكن في المسألة زوج فللأم ثلث المال، وما بقي فبين جد وأخت على ثلاثة، وتصح من تسعة، وتسمى الخرْقي، لكثرة أقوال الصحابة فيها.
(6) حيث أعالها، وفرض للأخت مع الجد، وجمع سهامه وسهامها فقسمها بينهما، ولا نظير لذلك، أو لكثرة أقوال الصحابة فيها، وتكدرها، أو لغير ذلك.(6/100)
(ولا يعول) في مسائل الجد غيرها (1) (ولا يفرض لأُخت معه) أي مع الجد ابتداء (إِلا بها) أي بالأَكدرية (2) وأَما مسائل المعادة فيفرض فيها للشقيقة بعد أَخذ نصيبه (3) (وولد الأَب) ذكرا كان أو أُنثى، واحدا أَو أَكثر (إذا انفردوا) عن ولد الأَبوين (معه) أي مع الجد (كولد الأَبوين) فيما سبق (4) (فإن اجتمعوا) أي اجتمع الأَشقاء وولد الأَب (5) عادّ ولد الأَبوين الجد بولد الأَب (6) (فـ) ـإِذا (قاسموه أَخذ عصبة ولد الأَبوين ما بيد ولد الأَب) (7) .
__________
(1) أي غير مسألة الأكدرية.
(2) وبذلك كدرت أصول زيد، واحترز بالفرض لها ابتداء عن الفرض للأخت في مسائل المعادة، فإنما يفرض لها فيها بعد مقاسمة الجد كما وضحه.
(3) أي أخذ الجد نصيبه، وليس بمبتدأ.
(4) من أنهم يقاسمون الجد المال، لاستواء درجتهم بالنسبة إلى أبي الميت.
(5) مع الجد، ومعهم صاحب فرض أولا، على ما تقدم.
(6) أي زاحموه بهم، وحسبوهم عليه إن احتاجوا لذلك، ومعادتهم مبنية على أصلين، أن يكون الأشقاء أقل من مثلي الجد، وأن يجعل معهم من أولاد الأب ما يكمل مثلي الجد فأقل.
(7) أي وبعد عدهم أولاد الأب على الجد، ومقاسمتهم الجد، وأخذ الجد نصيبه، يرجع ولد الأبوين على ولد الأب، كما لو لم يكن معهم جد، ويأخذ ولد الأبوين ما سمى لولد الأب، لأنه على حكم لا يرث معه شيئا، كما لو انفردوا عن الجد.(6/101)
كجد وأَخ شقيق وأَخ لأَب، فللجد سهم، والباقي للشقيق (1) لأَنه أَقوى تعصبيا، الأَخ للأَب (2) (و) تأْخذ (أُنثاهم) إِذا كانت واحدة (تمام فرضها) وهو النصف (وما بقي لولد الأَب) (3) فجد وشقيقة وأَخ لأَب، تصح من عشرة، للجد أَربعة، وللشقيقة خمسة، وللأَخ للأَب ما بقي وهو سهم (4) فإِن كانت الشقيقات ثنتين فأَكثر، لم يتصور أَن يبقي لولد الأَب شيء (5) .
__________
(1) سهم له أصيلا، والسهم الذي حصل لأخيه، وكذلك جد وأختان شقيقتان، وأخ لأب، يأخذ الجد ثلثا، ثم الأختان الثلثين، ويسقط الأخ، كما لو لم يكن جد، واستغرقت الفروض التركة.
(2) ومن قوي حجب الآخر، وأخذ ميراثه، قال الجعيري:
فبالجهة التقديم، ثم بقربه ... وبعدهما التقديم بالقوة جعلا
(3) أي تأخذ تمام النصف، كما لو لم يوجد جد، وما فضل عن الأحظ للجد، وعن النصف الذي فرض لها، فلولد الأب، واحدا كان، أو أكثر، ذكرا كان أو أنثى، ولا يتفق في مسألة فيها فرض غير السدس، لأنه لا فرض في مسائل المعادة إلا السدس، أو الربع، أو النصف.
(4) وتسمى «عشرية زيد» وإن كان معهم أخ لأب يبقي لهما سدس، وتصح من ثمانية عشر، وإن كان معهم أم فمن ثمانية عشر، للأم ثلاثة، وللجد ثلث الباقي، وللأخت تسعة ويبقي لهما سهم، وتصح من أربعة وخمسين، وتسمى مختصرة زيد، وإن كان معهم أخ آخر فمن تسعين، وتسمى تسعينية زيد.
(5) فجد وشقيقتان وأخت لأب، للجد سهمان، وللشقيقتين سهمان، ويستردان سهم الأخت لأب، ولم تكمل لهما الثلثان. وشقيقتان وأخ لأب وجد، له ثلث، ولهما ثلث، ويستردان ثلث الأخ لأب، ولا يتصور أن يبقي لولد الأب شيء.(6/102)
فصل في أحوال الأم (1)
(وللأُم السدس مع ولد أَو ولد ابن) ذكرا أَو أُنثى، واحدا أَو متعددا (2) لقوله تعالى {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (3) (أَو اثنين) فأَكثر (من إِخوة أَو أَخوات) أَو منهما (4) لمفهوم قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (5) .
__________
(1) لها أربعة أحوال: ثلاثة يختلف ميراثها بسبب اختلافها، والرابع يظهر تأثيره في عصبتها.
(2) وهذا بإجماع أهل العلم.
(3) فدلت الآية على أن للأم السدس مع وجود الولد، وولد الابن يصدق عليه: ولد.
(4) عند جمهور العلماء.
(5) هذا منطوق لا مفهوم، قال الزمخشري: لفظ الإخوة هنا يتناول الأخوين، لأن المقصود الجمعية المطلقة. وقال ابن عباس لعثمان: ليس الأخوان إخوة، في لسان قومك، فلم تحجب بهما الأم؟ فقال: لا أستطيع أن أرد شيئا كان قبلي، ومضى في البلدان، وتوارث الناس به، وهذا من عثمان يدل على اجتماع الناس قبل مخالفة ابن عباس، وحجبها بالاثنين أولي، لأن فرضهما الثلث كالجماعة، فهم سواء، قال ابن القيم: وهذا هو القياس الصحيح، والميزان الموافق لدلالة القرآن، وفهم أكابر الصحابة.(6/103)
(و) لها (الثلث مع عدمهم) أي عدم الولد، وولد الابن (1) والعدد من الإِخوة والأَخوات (2) لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (3) (و) ثلث الباقي، وهو في الحقيقة إِما (السدس مع زوج وأَبوين) فتصح من ستة (4) (و) إِما (الربع مع زوجة وأَبوين (5) وللأَب مثلا هما) أي مثلا النصيبين في المسأَلتين (6) ويسميان بالغراوين (7) والعمريتين، قضى فيهما عمر بذلك (8) .
__________
(1) بلا خلاف بين أهل العلم.
(2) قال الموفق: استحقاقها الثلث مع عدم الولد، وولد الابن، والاثنين من الإِخوة والأَخوات من أي الجهات كانوا، فلا نعلم في ذلك خلافا بين أهل العلم.
(3) فدلت الآية الكريمة على أن للأم الثلث مع عدم الولد، وكذا ولد الابن.
(4) للزوج النصف ثلاثة، وللأم ثلث الباقي تأدبا مع القرآن، وإلا فهو في الحقيقة سدس.
(5) وتصح من أربعة للزوجة الربع، وللأم ثلث الباقي تأدبا مع القرآن، وقال ابن عباس: لها ثلث: وقال الموفق: انعقد إجماع الصحابة على مخالفته.
(6) في مسألة الزوج سهمان من ستة، وفي مسألة الزوجة سهمان من أربعة.
(7) لشهرتهما.
(8) فسميتا بذلك، قال الشيخ: وقوله أصوب، لأن الله إنما أعطى الأم الثلث إذا ورثه أبواه، والباقي بعد فرض الزوجين هو ميراث بين الأبوين، يقتسمانه كما اقتسما الأصل، وكما لو كان على الميت دين أو وصية، فإنهما يقتسمان ما بقي أثلاث.(6/104)
وتبعه عثمان، وزيد بن ثابت، وابن مسعود - رضي الله عنهم - (1) وولد الزنا، والمنفي بلعان: عصبته -بعد ذكور ولده- عصبة أُمه في إِرث فقط (2) .
__________
(1) ووافقهم على ذلك الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء، لأن الفريضة إذا جمعت أبوين وذا فرض، كان للأم ثلث الباقي، كما لو كان معهم بنت.
(2) فلا يعقل عصبة أمه عنه، ولا يثبت لهم عليه ولاية التزويج، ولا ولاية المال ونحوه، وهو قول أكثر أهل العلم، هذا إذا لم يكن له ابن، ولا ابن ابن وإن نزل، لقوله «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» واختار أبو بكر عبد العزيز أن عصبته نفس أمه، فإن لم تكن، فعصبته عصبتها، وهو الرواية الثانية عن أحمد، وقول ابن مسعود، لما روى عمرو بن شعيب مرفوعا «جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه، ولورثتها من بعدها» .
ولأبي داود من حديث واثله «المرأة تحوز ثلاثة مواريث، عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» وله من طريق عبيد بن عمير «قضى به لأمه» وهي بمنزلة أبيه وأمه، ولأنها قامت مقامه في انتسابه إليها، ولأنهم أدلوا بها، فلا يرثون معها، وذكر أنه اختيار الشيخ، وتلميذه، والجمهور على التسوية بين ولد الزنا وولد الملاعنة في الحكم.(6/105)
فصل في ميراث الجدة (1)
(ترث أُم الأُم، وأُم الأَب، وأُم أبي الأَب) (2) فقط (ـ وإِن علون أُمومة - السدس) (3) لما روى سعيد في سننه عن ابن عيينة، عن منصور، عن إِبراهيم النخعى (4) : أَن النبي صلى الله عليه وسلم ورث ثلاث جدات، ثنتين من قبل الأَب، وواحدة من قبل الأُم (5) .
__________
(1) قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للجدة السدس إذا لم تكن هناك أم للميت، وعن بريدة مرفوعا «للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم» رواه أبو داود وأجمعوا أنها تحجبها من جميع الجهات.
(2) أي دون أم أبي أم، لأنها من ذوي الأرحام، وكذا كل جدة تدلي بغير وارث إجماعا، ولا خلاف بين أهل العلم في توريث أم الأم، وأم الأب، وورث ابن عباس وغيره الجدات وإن كثرن، إذا كن في درجة واحدة، إلا من أدلت بأب غير وارث كأم أبي الأم، وقال ابن سراقة، وبهذا قال عامة الصحابة إلا شاذا.
(3) بينهن، ولا يزيد ميراثهن على السدس ولو كثرن إجماعا، واختار شيخ الإسلام: وأبوه. قال: ولا يرث غير ثلاث جدات، أم الأم، وأم الأب، وأم أبي الأب، وإن علون أمومة وأبوة، إلا المدلية بغير وارث كأم أبي الأم.
(4) تابعي مشهور، تقدم ذكره رحمه الله.
(5) وقال: كانوا يورثون ثلاث جدات. فدل على التحديد بثلاث، وأنه لا يرث أكثر منهن، وأن المدلية بأب بين أمين غير وارثة.(6/106)
وأخرجه أبو عبيد، والدارقطني (1) (فإن) انفردت واحدة منهن أَخذته (2) وإِن اجتمع اثنتان أَو ثلاث و (تحاذين) أي تساوين في القرب (3) أَو البعد من الميت (4) (فـ) ـا لسدس (بينهن) (5) لعدم المرجح لإِحداهن عن الأُخرى (6) (ومن قربت) من الجدات (فـ) ـا لسدس (لها وحدها) مطلقا (7) وتسقط البعدى من كل جهة بالقربى (8) .
__________
(1) وروي عن علي، وزيد، وابن مسعود، وهو مذهب الجمهور.
(2) بلا نزاع، إذا لم يكن دونها أم.
(3) أي تساوين في درجة القرب من الميت، كأم أم أم، وأم أم أب، وأم أبي أب، فالسدس بينهن.
(4) أي أو تحاذين في درجة البعد من الميت، وللميت في الدرجة الأولى جدتان، وفي الدرجة الثانية أربع، وفي الثالثة ثمان، وهلم جرا، وكلما علون درجة تضاعف عددهن، ولا ترث منهن من أدلت بغير وارث.
(5) أي بين الجدات المتساويات في الدرجة، بأن لا تكون واحدة أعلى من الأخرى، ولا أنزل منها، قال الموفق: إجماعا.
(6) لخبر: «قضى للجدتين في الميراث بالسدس» وقيس الأكثر منهما عليهما، ولأنهن ذوات عدد، فاستوى كثيرهن وواحدتهن كالزوجات.
(7) سواء كانت من جهة الأم أو من جهة الأب، لأنهن أمهات، يرثن ميراثا واحدا من جهة واحدة، فإذا اجتمعن فالميراث لأقربهن، كالآباء، والأبناء، والإخوة، وكل قبيل إذا اجتمعوا فالميراث للأقرب.
(8) سواء كانت القربى من جهة الأم، والبعدى من جهة الأب، أو بالعكس.(6/107)
(وترث أُم الأَب و) أُم (الجد معهما) أي مع الأَب والجد (1) (كـ) ـما يرثان (مع العم) (2) روي عن عمر، وابن مسعود، وأبي موسى، وعمران بن حصين، وأبي الطفيل - رضي الله عنهم - (3) (وترث الجدة) المدلية (بقرابتين) مع الجدة ذات القرابة الواحدة (ثلثي السدس) وللأُخرى ثلثه (4) (فلو تزوج بنت خالته فأَتت بولد فجدته أُم أُم أُم ولدهما، وأُم أُم أَبيه (5) وإِن تزوج بنت عمته) فأَتت بولد (فجدته أُم أُم أُم، وأُم أبي أَبيه) فترث بالقرابتين (6) ولا يمكن أَن ترث جدة بجهة مع ذات ثلاث (7) .
__________
(1) لما روى الترمذي وغيره عن ابن مسعود: أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم السدس أم أب مع ابنها، وابنها حي. وقاله ابن سيرين.
(2) أي كما أن أم ألأب، وأم الجد ترثان مع العم، ولا خلاف في ذلك، لأنها لم تدلي به.
(3) أي أنهم ورثوها مع ابنها، وهو قول ابن المنذر وغيره، وجزم به في الإقناع، والمنتهي، وعنه: لا ترث، وهو قول مالك، والشافعي، وغيرهما.
(4) لأن المدلية بقرابتين ترث بكل واحدة منهما منفردة، فوجب أن ترث بكل واحدة منهما، كابن العم إذا كان أخا لأم، أو زوجا.
(5) فترث بالقرابتين ثلثي السدس، وترث أم أبي أبيه ثلث السدس.
(6) ثلثى السدس، وترث أم أم أبيه ثلث السدس.
(7) وذلك أن يتزوج زيد بنت خالته، فتلد له عمرا فيتزوج بنت بنت خالة أمه فتلد خالدًا، فجدة زيد لأمه، جدة لخالد من ثلاث جهات، وارثة بهن.(6/108)
فصل
في ميراث البنات، وبنات الابن، والأخوات (1)
(والنصف فرض بنت) إذا كانت (وحدها) (2) بأَن انفردت عمن يساويها ويعصبها (3) لقوله تعالى (وإِن كانت واحدة فلها النصف) (4) (ثم هو) أي النصف (لبنت ابن وحدها) (5) إِذا لم يكن ولد صلب، وانفردت عمن يساويها ويعصبها (6) (ثم) عند عدمهما (7) .
__________
(1) لأبوين، أو أب، أو أم.
(2) قال الموفق: لا خلاف في ذلك بين علماء المسلمين.
(3) وهو أخوها، أو يشاركها، وهي أختها.
(4) يعنى مما ترك الميت، ولا نزاع في ذلك، بشرط عدم المعصب والمشارك.
(5) إجماعا، وإن نزل بمحض الذكور، كبنت ابن ابن، وبنت ابن ابن ابن، لأن ولد الابن كولد الصلب، الذكر كالذكر، والأنثى كالأنثى بلا نزاع.
(6) أي إذا لم يكن هناك ولد صلب للميت، وانفردت عمن يساويها ويعصبها وهو أخوها، أو ابن عمها، وعن مشارك وهو أختها، أو بنت عمها التي في درجتها.
(7) أي ثم عند عدم الولد وولد الابن وإن نزل، ذكرا كان أو أنثى.(6/109)
(لأُخت لأَبوين) عند انفرادها عمن يساويها أو يعصبها، أَو يحجبها (1) (أَو) أُخت (لأَب وحدها) عند عمد الشقيقة وانفرادها (2) (والثلثان لثنتين من الجميع) أي من البنات، أَو بنات الابن (3) أَو الشقيقات، أَو الأَخوات لأَب (فأَكثر) (4) لقوله تعالى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (5)
__________
(1) أي والنصف لأخت لأبوين إجماعا، عند انفرادها عمن يساويها وهو أختها، أو يعصبها وهو أخوها، أو يحجبها وهو الفرع الوارث، أو الأصل من الذكور الوارث، لقوله (وله أخت فلها نصف ما ترك) .
(2) أي والنصف لأخت لأب إجماعا، عند عدم الشقيقة، وانفرادها عمن يساويها أو يعصبها أو يحجبها، للآية، وهي في ولد الأبوين أو الأب بالإجماع، إذا انفردن، ولم يعصبن.
(3) فأكثر، فالبنات يأخذن الثلثين إجماعا، مع عدم المعصب، وأن يكن اثنتين فأكثر، وبنات الابن يأخذنه إجماعا، مع عدم الفرع الوارث، الذي هو أعلى منهن، وعدم المعصب، وأن يكون اثنتين فأكثر.
(4) أي: والثلثان لاثنتين من الشقيقات فأكثر، مع عدم الفرع الوارث، والأصل من الذكور الوارث، وعدم المعصب، والثلثان لاثنتين من الأخوات لأب فأكثر، مع عدم الفرع الوارث، والأصل من الذكور الوارث، وعدم المعصب، وعدم الأشقاء والشقائق بلا خلاف.
(5) أي (فإن كن) يعني المتروكات من الأولاد (نساء) و (فوق) صلة أي: كن نساء يعني (اثنتين) فصاعدا (فلهن ثلثا ما ترك) واستفيد أيضا كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في ألآية الثانية (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) وأجمع أهل العلم أن فرض البنتين الثلثان.(6/110)
وأَعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنتي سعد الثلثين (1) وقال تعالى في الأُختين {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (2) (إِذا لم يعصبن بذكر) بإِزائهن (3) أَو أَنزل من بنات الابن عند احتياجهن إِليه كما يأْتي (4) فإِن عصبن بذكر فالمال أَو ما أَبقت الفروض بينهم، للذكر مثل حظ الأُنثيين (5) .
__________
(1) رواه أبو داود، والترمذي وصححه، وذلك أنها جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هاتان ابنتا سعد، قتل أبوهما يوم أحد، وابن عمهما أخذ مالهما، فنزلت آية المواريث، فدعاه فقال «أعط ابنتى سعد الثلثين» وهذا تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم للآية، وبيان لمعناها، فدلت الآية على فرض ما زاد على البنتين، ودلت السنة على فرض البنتين، وبنات الابن بمنزلة البنات عند عدمهن، في إرثهن وحجبهن، بإجماع أهل العلم.
(2) {فَإِنْ كَانَتَا} أي الأختان لأبوين أو لأب {اثْنَتَيْنِ} فأكثر {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} إن لم يكن له ولد بالنص، ووالد بالنص عند التأمل، لأنه لو كان معها أب لم ترث شيئا بالإجماع.
(3) أي بإزاء البنات وهو أخوهن، وبنات الابن وهو أخوهن، أو ابن عمهن الذي بمنزلتهن، وكذا الأخوات إذا لم يعصبن مع بقية الشروط.
(4) أو إذا لم يعصبن يذكر أنزل من بنات الابن عند احتياجهن إليه، كما يأتي تفصيله، لأنه إذا عصب من في درجته، فمن هي أعلى منه عند احتياجها إليه أولى.
(5) بالإجماع لقوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}
لأن الذكر أحوج إلى المال من الأنثى، لأن الرجال قوامون على النساء، والذكر أنفع للميت في حياته من الأنثى، فكان أحق بالتفضيل، سوى ولد الأم، لأنه لا يرث إلا بالرحم المجردة، أو لأن الذكر مكلف أن ينفق على نفسه، وعلى زوجته، فهو محتاج للتكسب، وتحمل المشاق، فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى.
فللبنين والبنات المال، للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذا أبناء البنين وبنات البنين وإن نزلوا، ومع الأبوين وإن عليا أو أحد الزوجين ما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين مما ترك الميت، وكذا الإخوة والأخوات لأبوين أو لأب بشرطه، بإجماع المسلمين.(6/111)
(والسدس لبنت ابن فأكثر) وإن نزل أَبوها، تكملة الثلثين (مع بنت) واحدة (1) لقضاء ابن مسعود، وقوله: إِنه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها. رواه البخاري (2) (ولأُخت فأَكثر لأَب مع أُخت) واحدة (لأَبوين) السدس تكملة الثلثين (3) كبنت الابن مع بنت الصلب (4) .
__________
(1) ومع عدم المعصب، وعدم الفرع الوارث الذي أعلى منها سوى صاحبة النصف، فإنها لا ترث السدس إلا معها، وهذا بالإجماع.
(2) قضى صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلين، ولأنه قد اجتمع من بناته أكثر من واحدة، فكان لهن الثلثان، لقوله {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} واختصت بنت الصلب بالنصف لأنها أقرب، فبقي للبقية تمام الثلثين.
(3) مع عدم معصب إجماعا.
(4) فالأخوات من الأب مع الأخوات لأبوين كبنات الابن مع البنات سواء ففي شقيقة وأخت لأب فأكثر، للشقيقة النصف، وللتى للأب فأكثر السدس تكملة الثلثين، كبنت الابن مع البنت.(6/112)
(مع عدم معصب فيهما) أي في مسألتي بنت الابن مع بنت الصلب (1) والأُخت لأَب مع الشقيقة (2) فإِن كان مع إِحداهما معصب اقتسما الباقي، للذكر مثل حظ الأنثيين (3) (فإِن استكمل الثلثين بنات) بأَن كن ثنتين فأَكثر، سقط بنات الابن إِن لم يعصبن (4) (أَو) استكمل الثلثين (هما) أي بنت وبنت ابن (سقط من دونهن) كبنات ابن ابن (5) (إِن لم يعصبهن ذكر بإِزائهن) أي بدرجتهن (أَو أَنزل منهن) من بنى الابن (6) .
__________
(1) وهو أخوها، أو ابن عمها الذي في درجتها، وعدم الفرع الوارث كما تقدم.
(2) ومع عدم معصب وهو أخوها، وعدم الفرع الوارث، والأصل من الذكور الوارث.
(3) لقوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} ، وقوله {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} ، وهذا قول جمهور العلماء.
(4) بذكر، وهو أخوهن، أو ابن عمهن، أو أنزل منهن عند احتياجهن إليه، وهو القريب المبارك، فلولاه لسقطن، والمشؤم الذي لولاه لورثن.
(5) أو استكمل الثلثين بنت ابن، وبنات ابن ابن، وهكذا.
(6) فإن عصبهن من بإزائهن، كأخيهن أو ابن عمهن، أو أنزل منهن، كابن أخيهن، أو ابن ابن عمهن، أو ابن ابن ابن عمهن، عند احتياجهن إليه، عصبهن ولم يسقطن، وكان الباقي بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذا كل بنت ابن نازلة مع من يستغرق الثلثين ممن هو أعلى منها، في قول عامة العلماء.(6/113)
ولا يعصب ذات فرض أَعلي منه (1) ولا من هي أَنزل منه (2) (وكذا الأخوات من الأَب) يسقطن (مع الأَخوات لأَبوين) اثنتين فأَكثر (3) (إِن لم يعصبهن أَخوهن) المساوى لهن (4) وابن الأَخ لا يعصب أُخته، ولا من فوقه (5) (والأُخت فأَكثر) شقيقة كانت أَو لأَب، واحدة أَو أَكثر (ترث بالتعصيب ما فضل عن فرض البنت) (6) أَو بنت الابن (فأَزيد) أي فأَكثر (7) .
__________
(1) إذا كان لها شيء في الثلثين أو السدس، لأن فيه إضرارا بذات الفرض، بل له ما فضل.
(2) أي ولا يعصب من هي أنزل منه، بل يحجبها، لئلا تشاركه، والأبعد لا يشارك الأقرب.
(3) لاستكمال الشقيقتين فأكثر الثلثين، لأن الله إنما فرض للأخوات الثلثين، فإذا أخذه ولد الأبوين، لم يبق مما فرضه الله للأخوات شيء يسحقه ولد الأب.
(4) وهو الأخ المبارك، فيكون الباقي بعد الثلثين لهم، لقوله تعالى {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} .
(5) أما أخته فمن ذوى الأرحام، وإذا لم يعصب من في درجته فمن أعلى منه أولي، وليس كابن الابن، لأن ابن الابن وإن نزل ابن، وابن الأخ ليس بأخ.
(6) فأكثر، يرثن ما فضل إجماعا.
(7) يرثن ما فضل عن ذوي الفروض، قال الموفق: هذا قول عامة أهل العلم.(6/114)
فالأَخوات مع البنات أَو بنات الابن عصبات (1) . ففي بنت، وأُخت شقيقة، وأَخ لأَب، للبنت النصف، وللشقيقة الباقي، ويسقط الأَخ لأَب، بالشقيقة، لكونها صارت عصبة مع البنت (2) (وللذكر) الواحد (أَو الأُنثى) الواحدة أَو الخنثى (من ولد الأُم السدس (3) ولاثنين) منهم ذكرين، أَو أُنثيين، أَو خنثيين، أَو مختلفين (4) (فأَزيد الثلث بينهم بالسوية) لا يفضل ذكرهم على أُنثاهم (5) لقوله تعالى (وإِن كان رجل يورث كلالة أَو امرأَة، وله أَخ أَو أُخت، فلكل واحد منهما السدس (6) .
__________
(1) كالإخوة، لخبر ابن مسعود السابق، وفيه: وللأخت ما بقي. وقال ابن القيم: مراث الأخوات مع البنات، وأنهن عصبة، دل عليه القرآن، كما أوجبته السنة الصحيحة، وقضى به الصحابة - رضي الله عنهم -.
(2) وولد الأبوين أقوى من ولد الأب، ففي بنت، وأخ شقيق، وأخ لأب للبنت النصف، وللأخ الشقيق الباقي، ويسقط الأخ لأب.
(3) قال الموفق: استحقاق الواحد من ولد الأم السدس لا خلاف فيه، ذكرا كان أو أنثى.
(4) أي ذكر وأنثى، أو ذكر وخنثى، أو أنثى وخنثى.
(5) بلا خلاف بين أهل العلم.
(6) أي الأخ من الأم، أو الأخت من الأم، بشرط انفراده، وعدم الفرع الوارث، وعدم الأصل من الذكور الوارث.(6/115)
فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) (1) أَجمع العلماء على أَن المراد هنا ولد الأُم (2) .
__________
(1) ذكرهم وأنثاهم فيه سواء، بإجماع أهل العلم، وقرأ ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص: وله أخ أو أخت من أم. وذكرهم تعالى من غير تفضيل، فاقتضى التسوية بينهم، ولأن فرضهم الثلث كالجماعة، فهم سواء.
قال ابن القيم: وهو القياس الصحيح، والميزان الموافق لدلالة القرآن، وفهم أكابر الصحابة.
(2) حكاه الموفق وغيره.(6/116)
فصل في الحجب (1)
وهو لغة: المنع (2) واصطلاحا: منع من قام به سبب الإِرث من الإِرث بالكلية (3) أَو من أَوفر حظيه (4) ويسمى الأَول حجب حرمان، وهو المراد هنا؛ (يسقط الأَجداد بالأَب) (5) لإِدلائهم به (6) .
__________
(1) الحجب من أعظم أبواب الفرائض، وأهمها، حتى قال بعضهم: حرام على من لم يعرف الحجب أن يفتى في الفرائض.
(2) مأخوذ من الحجاب، ومنه الحاجب، لأنه يمنع من أراد الدخول، وحاجب العين، لأنه يمنع ما ينحدر إليها.
(3) وتارة يكون بالوصف، كالرق والكفر، فيمكن دخوله على جميع الورثة، وتارة يكون بالشخص، فلا يدخل على خمسة، الزوجين، والأبوين والولد.
(4) ويسمى حجب النقصان، ويدخل على كل الورثة، كالأم عن الثلث إلى السدس بالولد، والأب عن المال إلى السدس بالابن، والزوجين على ما تقدم، والبنت عن النصف إلى المقاسمة بالابن، والابن عن الاستقلال إلى المشاركة، بمن في درجته من الأولاد، ونحو ذلك.
(5) إجماعا، حكاه ابن المنذر وغيره. لأن من أدلي بواسطة حجبته تلك الواسطة إلا ولد الأم، وأم الأب، وأم الجد.
(6) أي كما يسقط الجد بالأب، لإدلاء الأبعد بالأقرب، فيسقط أبو أبي أب بأبي أب.(6/117)
(و) يسقط (الأبعد) من الأَجداد (بالأَقرب) كذلك (1) (و) تسقط (الجدات) من قبل الأُم والأَب (بالأُم) لأَن الجدات يرثن بالولادة، والأُم أَولاهن، لمباشرتها الولادة (2) (و) يسقط (ولد الابن بالابن) (3) ولو لم يدل به لقربه (4) (و) يسقط (ولد الأَبوين) ذكرا كان أَو أُنثى (بابن وابن ابن) وإِن نزل (وأَب) حكاه ابن المنذر إِجماعا (5) (و) يسقط (ولد الأَب بهم) أي بالابن، وابنه وإِن نزل، والأَب (وبالأَخ لأَبوين) (6) .
__________
(1) بلا نزاع بين أهل العلم.
(2) إجماعًا؛ لأنهن أمهات، فيسقطن بالأم، كما يسقط الأجداد بالأب.
(3) أي ويسقط ولد الابن ذكرا كان أو أنثى بالابن، لقربه، وهكذا كل ولد ابن ابن نازل، بابن ابن أعلى منه بلا نزاع.
(4) لأنه لو أدلي به كان أباه، وإن كان عمه فهو أقرب منه، فسقط به، لقوله «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» .
(5) وحكاه الشيخ وغيره، لأن الله تعالى جعل إرثهم في الكلالة، وهي اسم لمن عدم الوالد والولد، وكذا يسقط الجد الإخوة لأبوين، أو لأب، وهو رواية عن أحمد، اختارها بعض أصحابه، وهو مذهب الصديق وغيره، وتقدم.
(6) لقوته بزيادة القرب، ولحديث على مرفوعا «إن أعيان بنى الأم يتوارثون دون بنى العلات، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه» رواه الترمذي.(6/118)
وبالأُخت لأَبوين إذا صارت عصبة مع البنت، أَو بنت الابن (1) (و) يسقط (ولد الأُم بالولد) ذكرا كان أو أُنثى (وبولد الابن) كذلك (وبالأب وأَبيه) وإِن علا (2) (ويسقط به) أي بأَب الأَب وإِن علا (كل ابن أَخ (3) و) كل (عم) وابنه لقربه (4) ومن لا يرث - لرق أَو قتل (5) أَو اختلاف دين - لا يحجب حرمانا ولا نقصانا (6) .
__________
(1) لأنها تصير بمنزلة الأخ الشقيق.
(2) قال الموفق وغيره: أجمع على هذا أهل العلم، والأصل فيه قوله {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} والمراد الإخوة للأم بالإجماع، والكلالة من ليس له ولد ولا والد، وتقدم.
(3) لأبوين أو لأب بلا نزاع، لأنه أقرب وإن علا.
(4) أي ويسقط بأب الأب وإن علا كل عم لأبوين أو لأب، وكل ابن عم لأبوين أو لأب وإن نزل، لقرب أبي الأب إلى الميت.
(5) لا يحجب حرمانا ولا نقصانا، والرق عجز حكمي، سببه الكفر، فلا يرث الرقيق، ولا يورث، ولا يحجب، والقتل المراد به ما أوجب قصاصا، أو دية، أو كفارة، ومالا فلا.
(6) بل وجوده كعدمه، لما في الصحيحين «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر» وعدم إرث الكافر المسلم بالإجماع، وعكسه عند الجمهور.(6/119)
باب العصبات (1)
من العصب وهو الشد (2) سموا بذلك لشد بعضهم أزر بعض (3) (وهم كل من لو انفرد لأَخذ المال بجهة واحدة) (4) كالأَب والابن، والعم، ونحوهم (5) واحترز بقوله: بجهة واحدة عن ذي الفرض (6) فإِنه إِذا انفرد يأْخذه بالفرض والرد، فقد أَخذه بجهتين (7) .
__________
(1) جمع عصبة، وهو جمع عاصب.
(2) ومنه عصابة الرأس، لأنه يعصب بها، أي يشد، والعصب لأنه يشد الأعضاء، والعصبة لغة، بنو الرجل، وقرابته لأبيه.
(3) ولأنهم عصبوا به، أي أحاطوا به، وقيل: لتقوي بعضهم ببعض.
(4) من غير تقدير، لقوله تعالى {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} والجهات عندنا - ست، بنوة، ثم أبوة، ثم جدودة وأخوة، ثم بنو إخوة، ثم عمومة، ثم ولاء.
(5) ويأتي تفصيله؛ ومن حكمة الشارع أن جعل الميراث لقرابة الأب، وقدمهم على أقارب الأم، جعل العصبة القائمين بنصرته، وموالاته، والذب عنه، وحمل العقل عنه.
(6) خاصة، ذكرا كان أو أنثى.
(7) كالأم والأخت.(6/120)
(ومع ذي فرض يأْخذ ما بقي) بعد ذوي الفروض (1) ويسقط إِذا استغرقت الفروض التركة (2) فالعصبة من يرث بلا تقدير (3) ويقدم أَقرب العصبة (4) .
(فأَقربهم ابن، فابنه وإِن نزل) (5) لأَنه جزء الميت (6) (ثم الأَب) لأَن سائر العصبات يدلون به (7) (ثم الجد) أَبوه (وإِن علا) (8) لأَنه أَب، وله إِيلاد (9) .
__________
(1) لخبر «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» .
(2) لمفهوم هذا الخبر، ولا نزاع في ذلك.
(3) لأنه إذا لم يكن معه ذو فرض أخذ المال كله، والعصبة ثلاثة أقسام، عصبة بالنفس، وعصبة بالغير، وعصبة مع الغير، ومتى أطلق العاصب فالمراد العاصب بنفسه.
(4) إجماعا، لقوله «فلأولى رجل ذكر» أي أقرب رجل، ولأن الأقرب أشد وأقوى من الأبعد، فهو أولى منه بالميراث، وهم كل ذكر من الأقارب، ليس بينه وبين الميت أنثى.
(5) لأن الله تعالى قال {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ} والعرب تبدأ بالأهم فالأهم.
(6) وجزء الشيء أقرب إليه من أصله، وثمر فؤاده كما في الحديث، فلا يرث أب ولا جد مع فرع ذكر وارث بالعصوبة، بل بالسدس فرضا.
(7) ولأنه الطرف الثاني للميت، والنفقة عليه، فقدم على غيره.
(8) بمحض الذكور، فهو أولى من الإخوة في الجملة.
(9) ويأخذ السدس مع الابن، وإذا بقي السدس فقط أخذه وسقطت الإخوة على القول بإرثهم معه، وإذا بقي دون السدس، أو لم يبق شيء، أعيل له بالسدس.(6/121)
(مع عدم أَخ لأَبوين أَو لأَب) (1) فإن اجتمع معهم فعلي ما تقدم (2) (ثم هما) أي ثقم الأَخ لأَبوين، ثم لأَب (3) (ثم بنوهما) أي ثم بنو الأَخ الشقيق، ثم بنو الأَخ لأَب وإِن نزلوا (أَبدا (4) ثم عم لأَبوين، ثم عم لأَب (5) ثم بنوهما كذلك) (6) فيقدم بنو العم الشقيق، ثم بنو العم لأَب (7) (ثم أَعمام أَبيه لأَبوين ثم) أَعمام أَبيه (لأَب (8) ثم بنوهم كذلك) يقدم ابن العم الشقيق على ابن العم لأَب (9) (ثم أَعمام جده، ثم بنوهم كذلك) (10) .
__________
(1) على القول بإرثهم معه، وتقدم موضحا.
(2) أي من حكم الجد والإخوة مجتمعين مفصلا.
(3) لتساويهما في قرابة الأب، وترجح الشقيق بقرابة الأم.
(4) بمحض الذكور، لأن الإخوة وأبناءهم من ولد الأب، ويسقط البعيد منهم بالقريب، ومع الاستواء في الدرجة يقدم ابن الأخ لأبوين على ابن الأخ لأب.
(5) وهم بنو الجد، يقدم العم الشقيق لقوته، ثم العم لأب.
(6) أي ثم بنو العم الشقيق، ثم بنو العم لأب، لأنهم من ولد الجد الأدنى، فولوا أولاد الأب في القرب.
(7) لقوة ابن العم الشقيق، قدم على ابن العم لأب، ولا نزاع في ذلك.
(8) يقدم من لأبوين على من لأب.
(9) لقوة ابن العم الشقيق.
(10) وإن نزلوا.(6/122)
ثم أَعمام أبي جده، ثم بنوهم كذلك، وهكذا (1) (لا يرث بنو أَب أَعلي) وإِن قربوا (مع بنى أَب أَقرب وإِن نزلوا) (2) لحديث ابن عباس يرفعه «أَلحقوا الفرائض بأَهلها (3) فما بقي فلأولى رجل ذكر» متفق عليه (4) و «أَولى» هنا بمعنى أَقرب لا بمعنى أَحق، لما يلزم عليه من الإبهام والجهالة (5) (فأًَخ لأَب) وابنه وإِن نزل (أولى من عم) ولو شقيقا (و) من (ابنه (6) و) أَخ لأَب أولى من (ابن أَخ لأَبوين) لأَنه أَقرب منه (7)
__________
(1) أبدا، قال الموفق وغيره: هذا كله مجمع عليه.
(2) أي وإن نزلت درجتهم، فأولى ولد كل أب أقربهم إليه، وإن استووا فأولاهم من لأبوين وتقدم قول الجعبري:
(3) أي ألحقوا الأنصباء المنصوص عليها في الكتاب والسنة بأهلها المستحقين لها بالنص.
(4) وفي لفظ «ما أبقت الفروض» أي فضل عن إعطاء ذوي الفروض المقدرة فهو لأقرب رجل من الميت «ذكر» تأكيد أنه ليس المراد بالرجل البالغ، بل الذكر وإن كان صغيرا.
(5) إذا لا يدرى من هو الأحق، والأقرب مقدم على الأبعد بلا نزاع.
(6) لأنه أقرب منه، فلو خلف ابن ابن ابن أخ شقيق أو لأب، وعم، كان المال لابن ابن ابن الأخ.
(7) فلو خلف أخا لأب، وابن أخ شقيق، فالمال للأخ لأب.(6/123)
(وهو) أي ابن أَخ لأَبوين (أَو ابن أَخ لأَب، أولى من ابن ابن أَخ لأَبوين) لقربه (1) (ومع الاِستواء) في الدرجة كأَخوين وعمين (يقدم من لأَبوين) على من لأَب، لقوة القرابة (2) (فإِن عدم عصبة النسب (3) ورث المعتق) ولو أُنثى (4) لقوله - عليه السلام - «الولاء لمن أَعتق» متفق عليه (5) (ثم عصبته) الأَقرب فالأَقرب كنسب (6) .
__________
(1) من الميت، فلو خلف ابن أخ لأب، وابن ابن أخ شقيق، كان المال لابن الأخ لأب.
(2) فلو خلف أخا شقيقا، وأخا لأب، كان المال للأخ الشقيق، ولو خلف عما لأبوين، وعما لأب، كان المال للعم لأبوين، وهكذا يقدم بالقرب، ومع الاستواء بالقوة.
(3) وهم الابن، وابنه، والأب، وأبوه، والأخ وابنه إلا من الأم، والعم، وابنه.
(4) فالمعتقة عصبة لعتيقها، ولمن انتمى إليه بنسب أو ولاء، كالرجل.
(5) فولاء العتاقة عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق، فإنه صلى الله عليه وسلم أثبت الولاء للمعتق، ومقتضاه نفيه عمن سواه.
(6) لقوله صلى الله عليه وسلم «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث» بل إنما يورث به، صححه الترمذي، وقال الشيخ: معناه صحيح، أي يجرى الولاء مجرى النسب في الميراث، كما تخالط اللحمة سدى الثوب، حتى يصير كالشيء الواحد، وهو قول الجمهور.(6/124)
ثم مولي المعتق (1) ثم عصبته كذلك (2) ثم الرد، ثم ذوو الأَرحام (3) .
__________
(1) أي مولي المولي، لأنه ولي نعمتهم، وبسببه عتقوا، ولأن الفرع يتبع أصله.
(2) أي ثم عصبة مولي المعتق، ثم مولي مولي مولي المعتق، ثم عصبته.
(3) أي ثم إن عدم العصبة رد الباقي بعد ذوي الفروض عليهم، ثم إن عدم ذو فرض يرد عليه، فالمال لذوي الأرحام، ويأتي إن شاء الله تعالى.(6/125)
فصل (1)
(يرث الابن) مع البنت مثليها (2) (و) يرث (ابنه) أي: ابن الابن مع بنت الابن مثليها (3) لقوله تعالى (يوصيكم الله في أَولادكم، للذكر مثل حظ الأُنثيين) (4) (و) يرث (الأَخ لأَبوين) مع أُخت لأَبوين مثليها (5) (و) يرث الأَخ (لأَب مع أُخته مثليها) (6) لقوله تعالى {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} (7) .
__________
(1) أي في بيان أحكام العصبة بالغير، وسقوط العصبة إذا استغرقت الفروض حتى في الحماريه.
(2) فالابن فأكثر يعصب البنت فأكثر، للذكر مثل حظ الأنثيين بالإجماع.
(3) سواء كانت أخته، أو بنت عمه إجماعا.
(4) وهذا حكم العصبات من البنين، وبنى البنين، إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم أعطى الذكر مثل حظ الأنثيين، بلا نزاع بين المسلمين.
(5) فالأخ لأبوين فأكثر يعصب أخته فأكثر لأبوين، للذكر مثل حظ الأنثيين بالإجماع.
(6) إجماعا، فالبنات مع البنين، والأخوات مع الإخوة، عصبة بالغير.
(7) هذا حكم العصبة من الإخوة لأبوين أو لأب، إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم أعطى الذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا لا نزاع فيه، والآية الأولى تناولت الأولاد، وأولاد البنين، وهذه تناولت ولد الأبوين، وولد الأب، وإنما اشتركوا لأن الرجال والنساء كلهم وارث، فلو فرض للنساء أفضى إلى تفضيلهن، أو مساواتهن بالذكور، وكانت المقاسمة أولى وأعدل.(6/126)
(وكل عصبة غيرهم) أي غر هؤلاء الأَربعة، كابن الأَخ، والعم، وابن لعم، وابن المعتق، وأَخيه (لا ترث أُخته معه شيئًا) (1) لأَنها من ذوى الأَرحام، والعصبة مقدم عليهم (2) (وابنا عم أَحدهما أَح لأُم) للميتة (3) (أَو زوج) لها (له فرضه) أَولا (والباقي) بعد فرضه (لهما) تعصيبًا (4) فلو ماتت امرأَة عن بنت، وزوج هو ابن عم، فتركتها بينهما بالسوية (5) وإِن تركت معه بنتين، فالمال بينهم أَثلاثا (6) .
__________
(1) بل ينفردون بالميراث دون أخواتهم، لأنهن لسن بذوات فرض، ولا يرثن منفردات، فلم يرثن مع إخوانهن بلا خلاف.
(2) أي لأن أخوات هؤلاء من ذوي الأرحام، والعصبة تقدم على ذي الرحم، والولاء إنما يرث به العصبة بالنفس.
(3) للأخ لأم السدس فرضا، والباقي بينهما تعصيبا.
(4) أي وابنا عم أحدهما زوج، له فرضه، والباقي بعد فرضه لهما تعصيبا.
(5) قال ابن القيم: هذا قول الجمهور، وهو الصواب، لكونهما في بنوة العم سواء، وأما الأخوة للأم فمستقلة. اهـ. وأصلها من اثنين، للبنت النصف، وللزوج الباقي فرضا وتعصيبا.
(6) وأصلها من ثلاثة، للبنتين الثلثان، وللزوج الباقي فرضا وتعصيبا.(6/127)
(ويبدأُ بـ) ـذوى (الفروض) فيعطون فروضهم (1) (وما بقي للعصبة) (2) لحديث «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل عصبة» (3) (ويسقطون) أي العصبة إِذا استغرقت الفروض التركة، لما سبق (4) حتى الإِخوة الأَشقاء (في الحمارية) (5) وهي زوج، وأُم، وإِخوة لأُم، وإِخوة أَشقاء (6) للزوج النصف، وللأُم السدس، وللإِخوة من الأُم الثلث (7) وتسقط الأِشقاء، لاستغراق الفروض التركة (8) .
__________
(1) التي قدرت لهم شرعا كما تقدم.
(2) لقوله تعالى (وورثه أبواه فلأمه الثلث) فأعطى الأم الثلث، والباقي للأب تعصيبا.
(3) صوابه «ذكر» كما تقدم.
(4) أي من قوله صلى الله عليه وسلم «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» وغير ذلك.
(5) أي وتسقط العصبة إذا استكملت الفروض التركة، حتى الإخوة الأشقاء في المسألة الموسومة بالحمارية، وبالمشركة، وفي الاختيارات: إذا استكملت الفروض المال سقطت العصبة، ولو في الحمارية.
(6) لا لأب، وسواء كان الأشقاء ذكرا فأكثر، أو ذكورا وإناثا.
(7) وأصلها من ستة، واستغرقت الفروض التركة.
(8) لقوله (فهم شركاء في الثلث) فدل القرآن على اختصاص ولد الأم بالثلث، وإذا شرك غيرهم معهم لم يأخذوا الثلث، ولقوله صلى الله عليه وسلم «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر» ولم يبق للأشقاء بعد الفروض شيء.(6/128)
روى عن علي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وأبي موسى - رضي الله عنهم - (1) وقضى به عمر أَولا (2) ثم وقعت ثانيا فأَسقط ولد الأَبوين، فقال بعضهم: يا أَمير المؤمنين هب أَن أَبانا كان حمارا أَليست أُمنا واحدة؟ فشرك بينهم (3) ولذلك سميت بالحمارية (4) .
__________
(1) وإحدى الروايتين عن زيد، وهو المذهب، ومذهب أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، ومقتضى النص والقياس.
(2) أي قضى بالثلث للإخوة للأم فقط، وأنه لا شيء للإخوة الأشقاء، لاستغراق الفروض المسألة.
(3) استحسانا منه - رضي الله عنه -، من أن الأب إن لم يزدهم قربا لم يزدهم بعدا، قال ابن القيم وغيره: وقوله: هب أن أبانا كان حمارا. قول باطل، وتقدير وجوده كعدمه باطل، فإن الموجود لا يكون كالمعدوم، فتوريثهم خروج عن القياس، كما هو خروج عن النص.
(4) من أجل قوله: هب أن أبانا كان حمارا. وسميت بالمشركة لقول بعض أهل العلم بتشريك الأشقاء فيها، وتسمى بالحجرية، واليمية، وغير ذلك.(6/129)
باب أصول المسائل (1)
والعول والرد (2) أَصل المسأَلة: مخرج فرضها أَو فروضها (3) (والفروض ستة (4) نصف، وربع، وثمن، وثلثان، وثلث، وسدس) (5) هذه الفروض القرآنية (6) .
__________
(1) يقال: أصل كل شيء ما يستند وجود ذلك الشيء إليه.
(2) العول مصدر: عال الشيء؛ إذا زاد أو غلب، والفريضة عالت في الحساب زادت وارتفعت، فالعول زيادة في السهام، نقص في الأنصباء، لازدحام الفرائض، بحيث لا يتسع لها المال، قال الموفق وغيره: هو قول عامة الصحابة إلا ابن عباس، ولا نعلم خلافا بين فقهاء العصر في القول به.
وقال ابن القيم: أخذ به الصحابة قياسا على المفلس إذا ضاق ماله، لحديث «خذوا ما وجدتم» وهذا محض العدل، والرد نقص في السهام زيادة في أنصباء الورثة، ضد العول.
(3) وهو أقل عدد تخرج منه بلا كسر.
(4) أي الفروض المنصوص عليها في القرآن ستة.
(5) ويقال: النصف، ونصفه، ونصف نصفه، والثلثان ونصفهما، ونصف نصفهما، أو النصف والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما.
(6) منها {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} ، {فَلَكُمُ الرُّبُعُ} ، {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ} {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} ، {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ، {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} .(6/130)
وثلث الباقي ثبت بالاجتهاد (1) (والأُصول سبعة) (2) أَربعة لا عول فيها (3) وثلاثة قد تعول (4) (فنصفان) من اثنين كزوج وأُخت شقيقة أَو لأَب (5) ويسميان باليتيمتين (6) (أَو نصف وما بقي) كزوج وعم (من اثنين) مخرج النصف (7) (وثلثان) وما بقي من ثلاثة، مخرج الثلثين، كبنتين وعم (8)
__________
(1) في العمريتين، وهي: زوج أو زوجة وأبوان، للأم ثلث الباقي.
(2) نظرا إلى ما هو الراجح من أن ثمانية عشر وستة وثلاثين، تصحيح لا تأصيل، وتنقسم هذه، السبعة إلى قسمين، عائل وغير عائل.
(3) وهي ما كان فيها فرض واحد، أو فرضان من نوع واحد، وهي أصل اثنين، وثلاثة، وأربعة، وثمانية.
(4) إذا زادت فروضها، وهي التي يجتمع فيها فرضان من نوعين في الجملة، لأنك إذا جمعت أجزاءها المفردة غير المكررة، إذا هي تعدل أو تزيد، وهي أصل ستة، واثنى عشر، وأربعة وعشرين.
(5) من اثنين، مخرج النصف، للزوج النصف واحد، وللشقيقة أو لأب النصف واحد.
(6) واليتم الانفراد، وليس مسألة يورث فيها المال، كله بفرضين متساويين سواهما.
(7) والنصف، لتساويهما، أو بنت أو بنت ابن، أو أخت شقيقة أو لأب، مع عم من اثنين، للبنت النصف فرضا، وكذا بنت الابن أو الأخت، والباقي للعم تعصيبا.
(8) للبنتين الثلثان، وللعم الباقي.(6/131)
(أَو ثلث وما بقي) كأُم وأَب، من ثلاثة مخرج الثلث (1) (أَو هما) أي الثلثان والثلث، كأُختين لأُم، وأُختين لغيرها (من ثلاثة) (2) لتساوى مخرج الفرضين، فيكتفي بأَحدهما (3) (وربع) وما بقي كزوج وابن، من أَربعة مخرج الربع (4) (أَو ثمن وما بقي) كزوجة وابن، من ثمانية مخرج الثمن (5) (أَو) ربع (مع النصف) كزوج وبنت (من أَربعة) لدخول مخرج النصف في مخرج الربع (6) (و) ثمن مع نصف، كزوجة وبنت وعم (من ثمانية) لدخول مخرج النصف في الثمن (7) (فهذه أَربعة) أُصول (لا تعول) (8) .
__________
(1) للأم الثلث واحد، وللأب الباقي.
(2) للأختين الشقيقتين أو لأب الثلثان، والثلث للأختين لأم، تضرب رءوسهما في ثلاثة، وتصح من ستة.
(3) أي فرض الثلثين أو فرض الثلث، وهو من ثلاثة لتماثلهما.
(4) للزوج الربع واحد، والباقي للابن.
(5) للزوجة الثمن واحد، والباقي للابن.
(6) للبنت النصف اثنان، وللزوج الربع واحد، والباقي لأولى رجل ذكر.
(7) للبنت النصف، وللزوجة الثمن، والباقي ثلاثة للعم تعصيبا.
(8) بل إنما تكون ناقصة إن كان فيها عاصب أو عادلة، وهي التي استوى مالها وفروضها.(6/132)
لأَن العول ازدحام الفروض (1) ولا يتصور وجوده في واحد من هذه الأَربعة (2) (والنصف مع الثلثين) كزوج وأُختين لغير أُم، من ستة (3) لتباين المخرجين وتعول لسبعة (4) (أَو) النصف مع (الثلث) كزوج وأُم وعم، من ستة، لتباين المخرجين (5) (أَو) النصف مع (السدس) كبنت وأُم وعم، من ستة (6) لدخول مخرج النصف في السدس (7) (أَو هو) أي السدس (وما بقي) كأُم وابن (من ستة) مخرج السدس (8) (وتعول) الستة (إِلي عشرة شفعا ووترا) (9) .
__________
(1) أي تضايقها، بحيث لا يتسع لها المال.
(2) بل أصل أربعة وثمانية، لا يكون إلا ناقصا، وأصل اثنين وثلاثة، تارة يكون ناقصا، وتارة يكون عادلا.
(3) للزوج النصف ثلاثة، وللأختين لأبوين أو لأب الثلثان أربعة.
(4) وفيها أربع مسائل، نصف وثلثان، كما مثل، نصفان وسدس، ثلثان وثلث وسدس، نصف وثلث وسدسان.
(5) فمخرج النصف من اثنين، والثلثين أو الثلث من ثلاثة، فتضرب أحدهما في الآخر يبلغ ستة.
(6) للبنت النصف، وللأم السدس، والباقي للعم.
(7) فاكتفي بمخرج السدس.
(8) للأم السدس، والباقي للابن.
(9) فشفعا كزوج وأخت لأبوين وأختين لأم. ووترا كزوج وأخت لأبوين وأخت لأم.(6/133)
فتعول إِلي سبعة كزوج وأُخت لغير أُم وجدة (1) وإِلى ثمانية، كزوج وأُم وأُخت لغيرها (2) وإِلى تسعة كزوج، وأُختين لأَم، وأُختين لغيرها (3) وإِلى عشرة كزوج، وأُم، وأَخوين لأُم، وأُختين لغيرها (4) وتسمى ذات الفروخ لكثرة عولها (5) (والربع مع الثلثين) كزوج وبنتين وعم، من اثني عشر، لتباين المخرجين (6) (أَو) الربع مع (الثلث) كزوجة وأُم وعم، من اثني عشر كذلك (7) .
__________
(1) للزوج النصف ثلاثة، وللأخت لأبوين أو لأب النصف ثلاثة، وللجدة السدس واحد.
(2) أي لغير أم، لها النصف ثلاثة وللزوج النصف ثلاثة، وللأم الثلث اثنان فهذه نصفان وثلث، وفيها أيضا نصفان وسدسان، وثلثان ونصف وسدس.
(3) أي لغير أم، لهما الثلثان أربعة، وللزوج النصف ثلاثة، وللأختين لأم الثلث اثنان، فهذه ثلثان ونصف وثلث، وفيها ثلثان ونصف وسدسان، نصفان وثلث وسدس، نصفان وثلاثة أسداس.
(4) أي لغير أم، فلهما الثلثان أربعة، وللزوج النصف ثلاثة، وللأخوين لأم الثلث اثنان، وللأم السدس واحد، وفيها مسألة ثانية نصفان وثلث وسدسان.
(5) وذات أم الفروخ: بأن يكون مع المذكورين أم، وكلاهما بالخاء المعجمة.
(6) فتضرب ثلاثة في أربعة، للبنتين الثلثان ثمانية، وللزوج الربع ثلاثة، والباقي للعم.
(7) للزوجة الربع ثلاثة، وللأم الثلث أربعة، والباقي للعم.(6/134)
(أَو) الربع مع (السدس) كزوج وأُم وابن (من اثني عشر) للتوافق (1) (وتعول) الاثنا عشر (إِلي سبعة عشر وترا) (2) فتعول لثلاثة عشر، كزوج وبنتين وأُم (3) ولخمسة عشر، كزوج وبنتين وأَبوين (4) وإِلي سبعة عشر، كثلاث زوجات، وجدتين وأَربع أَخوات لأُم، وثمان أَخوات لأَبوين (5) وتسمى أُم الأَرامل وأُم الفروج (6) (والثمن مع السدس) كزوجة وأُم وابن، من أَربعة وعشرين، لتوافق المخرجين (7) .
__________
(1) بين المخرجين بالنصف، فإذا ضربت نصف أحدهما في الآخر حصل اثنا عشر، فللزوج الربع ثلاثة، وللأم السدس اثنان، والباقي للابن.
(2) لا شفعا، وهو أربعة عشر أو ستة عشر.
(3) للبنتين الثلثان ثمانية، وللزوج الربع ثلاثة، وللأم السدس اثنان، فهذه ثلثان وربع وسدس، وفيها نصف وثلث وربع، نصف وسدسان وربع.
(4) للزوج الربع ثلاثة، وللبنتين الثلثان ثمانية، وللأبوين السدسان أربعة، وفيها ثلثان وثلث وربع، نصف وثلث وسدس وربع، نصف وثلاثة أسداس وربع.
(5) للزوجات الربع ثلاثة، وللجدتين السدس، وللأخوات لأم الثلث، وللأخوات لغيرها الثلثان، لكل واحدة من الوارثات واحد، وفيها أيضا نصف وثلث وسدسان وربع.
(6) بالجيم لأنوثية الجميع، وتسمى الدينارية، لأن لكل واحدة دينارا.
(7) فتضرب نصف أحدهما في الآخر، للزوجة الثمن، وللأم السدس، والباقي للابن.(6/135)
(أَو) الثمن مع (ثلثين) كزوجة، وبنتين، وأَخ شقيق (من أَربعة وعشرين) للتباين (1) (وتعول) مرة واحدة (إِلى سبعة وعشرين) (2) ولذلك تسمى البخيلة (3) كزوجة وأبوين وابنتين (4) وتسمى المنبرية (5) (وإِن بقي بعد الفروض شيء ولا عصبة) معهم (6) (رد) الفاضل (على كل) ذي (فرض بقدره) أي بقدر فرضه (7) .
__________
(1) فتضرب الثلاثة في الثمانية، للبنتين الثلثان ستة عشر، وللزوجة الثمن ثلاثة، والباقي للأخ.
(2) وأصلها وأصل اثنى عشر لا يكون عادلاً، بل إما ناقص أو عائل.
(3) لقلة عولها، لأنها لم تعل إلا مرة واحدة.
(4) لهما الثلثان ستة عشر، وللأبوين السدسان ثمانية، وللزوجة الثمن ثلاثة.
(5) لأن عليا قال: الحمد لله الذي حكم بالحق قطعا، ويجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرجعى؛ فسئل، فقال: صار ثمنها تسعا، ومضى في الخطبة.
(6) تأخذ الفاضل بعد الفروض.
(7) وهو قول عمر، وعلي، وابن مسعود، وغيرهم، ومذهب أبي حنيفة، وعليه الفتوى عند الشافعية إن لم ينتظم بيت المال، وقال ابن سراقة: عليه العمل في الأمصار.(6/136)
لقوله تعالى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (1) (غير الزوجين) فلا يرد عليهما (2) لأَنهما ليسا من ذوي القرابة (3) فإِن كان من يرد عليه واحدًا، أَخذ الكل فرضا وردا (4) وإِن كانوا جماعة من جنس، كبنات أَو جدات، فبالسوية (5) وإِن اختلف جنسهم (6) فخذ عدد سهامهم من أَصل ستة (7) واجعل عدد السهام المأْخوذة أَصل مسأَلتهم (8) .
__________
(1) وهذه الآية عامة، فإن أهل الفروض من رحمه، فهم أولى من بيت المال، ولقوله صلى الله عليه وسلم «من ترك مالا فلوارثه» متفق عليه، وهو عام في جميع المال، ولخبر «تحوز المرأة ثلاثة مواريث» وتقدم.
(2) قال الموفق وغيره: باتفاق من أهل العلم.
(3) فلا يعطون حكمهم.
(4) إذ تقدير الفروض لمكان المزاحمة ولا مزاحم، وذلك كأم أو بنت، لها النصف فرضا، والباقي ردا.
(5) لاستوائهم، فيقتسمونه كسائر العصبات.
(6) أي منزلتهم من الميت، كبنت وبنت ابن وأم، أو جدة، وليس فيهم أحد الزوجين.
(7) لأن الفروض كلها توجد في الستة، إلا الربع والثمن، وهما للزوجين، ولا يرد عليهما.
(8) كما صارت السهام في المسألة العائلة هي المسألة التي يضرب فيها جزء السهم، وأصول مسائل الرد التي ليس فيها أحد الزوجين أربعة، اثنان، وثلاثة، وأربعة، وخمسة.(6/137)
فجدة وأَخ لأم، من اثنين (1) وأُم وأَخ لأُم، من ثلاثة (2) وأُم وبنت، من أَربعة (3) وأُم وابنتان، من خمسة (4) وإِن كان معهم زوج أَو زوجة قسم الباقي بعد فرضه على مسأَلة الرد (5) فإِن انقسم كزوجة وأُم وأَخوين لأُم (6) وإِلا ضربت مسأَلة الرد في مسأَلة الزوجية (7) .
__________
(1) مأخوذة من أصل ستة، لأن لكل واحد منهما السدس، فيقسم المال بينهما نصفين فرضا وردا.
(2) للأم الثلث اثنان، ولولدها السدس، فيقسم المال بينهما أثلاثا.
(3) للأم السدس، وللبنت النصف ثلاثة، فيقسم المال بينهما أرباعا.
(4) للأم السدس، وللبنتين الثلثان أربعة، فالمال بينهما على خمسة، وإن انكسر على فريق منهم ضربته في عدد سهامهم، لأنه أصل مسألتهم، ولا تزيد مسائل الرد عليها، لأنها لو زادت سدسا آخر لم يكن رد.
(5) فيبدأ بإعطاء أحد الزوجين فرضه، والباقي لمن يرد عليه.
(6) لم تحتج لضرب، وصحتا من مخرج فرض الزوجية، فإن للزوجة الربع، والباقي بين الأم وولديها أثلاثا.
(7) ثم من له شيء من مسألة الزوجية أخذه مضروبا في مسألة الرد، ومن له شيء من مسألة الرد أخذه مضروبا في الفاضل عن مسألة الزوجية، ومخرج فرض الزوجية واحدا من اثنين، أو أربعة أو ثمانية.(6/138)
كزوج وجدة وأَخ لأُم، أَصل مسأَلة الزوج من اثنين، له واحد، يبقي واحد، على مسألة الرد اثنين، لا ينقسم، فتضرب اثنين في اثنين فتصح من أَربعة، للزوج سهمان، وللجدة سهم، وللأَخ سهم (1) .
__________
(1) وإن كان مكان الزوج زوجة، فمسألة الزوجية من أربعة، ومسألة الرد من اثنين، تضربها في أربعة، للزوجة الربع اثنان، وللجدة ثلاثة، وللأخ لأم ثلاثة، وإن كان مع الزوجة بنت وبنت ابن، فمسألة الزوجية من ثمانية، يبقي سبعة، تباين مسألة الرد، وهي أربعة، يكن الحاصل اثنين وثلاثين.(6/139)
باب التصحيح والمناسخات وقسمة التركات (1)
التصحيح: تحصيل أَقل عدد ينقسم على الورثة بلا كسر (2) (إِذا انكسر سهم فريق) أي صنف من الورثة (عليهم (3) ضربت عددهم إِن باين سهامهم) (4) كثلاث أَخوات لغير أُم وعم، لهن سهمان على ثلاثة، لا تنقسم وتباين (5) فتضرب عددهم في أَصل المسأَلة ثلاثة، فتصح من تسعة، لكل أُخت سهمان، وللعم ثلاثة (6) .
__________
(1) أي بيان العمل في ذلك.
(2) ويتوقف على أمرين: معرفة أصل المسألة، ومعرفة جزء إلسهم. والانكسار إما أن يكون على فريق واحد، أو اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة، ولا يتجاوزها في الفرائض.
(3) سواء اشتركوا في فرض، أو فيما أبقت الفروض، ولم ينقسم قسمة صحيحة.
(4) وهو جزء السهم في أصلها أو عولها إن عالت، فما بلغ صحت منه المسألة.
(5) أي الثلاثة تابين الاثنين، ولا تنقسم عليها بلا كسر، ولا تماثل، ولا توافق، ولا تناسب.
(6) وكزوج وخمسة أعمام، لهم واحد يباين الخمسة فاضربها في اثنين، تصح من عشرة، ومن له شيء منها، أخذه مضروبا فيما ضربته في المسألة.(6/140)
(أَو) تضرب (وفقه) أي وفق عددهم (إِن وافقه) أي عدد سهامهم (بجزء كثلث ونحوه) كربع ونصف وثمن (1) (في أَصل المسأَلة (2) وعولها إِن عالت، فما بلغ صحت منه) المسأَلة (3) كزوج وست أَخوات لغير أُم، أَصل المسأَلة من ستة، وعالت لسبعة، وسهام الأَخوات منها أَربعة، توافق عددهن بالنصف، فتضرب وفق عددهن وهو ثلاثة في سبعة، تصح من أَحد وعشرين، للزوج تسعة، ولكل أُخت سهمان (4) . (ويصير للواحد) من الفريق المنكسر عليه (ما كان لجماعته) عند التباين كالمثال الأَول (5) .
__________
(1) أو عشر، أو ثلث ثمن، ويعتبر الأدق، محافظة على الاختصار.
(2) فما بلغ صحت منه، كزوجة وستة أعمام، للزوجة واحد، ولهم ثلاثة، توافقهم بالثلث، فاضرب اثنين في أربعة، وتصح من ثمانية.
(3) ومن له شيء من أصل المسألة يأخذه مضروبا في وفق ما ضربته في المسألة، وهو الذي يسمى جزء السهم.
(4) فتقول: للزوج ثلاثة، في جزء السهم ثلاثة بتسعة، وللأخوات أربعة في ثلاثة باثني عشر.
(5) وهو: ثلاث أخوات لغير أم وعم، لكل أخت سهمان وهو نصيبهن من أصلها.(6/141)
(أَو) يصير لواحدهم (وفقه) أي وفق ما كان لجماعته عند التوافق كالمثال الثاني (1) .
وإِن كان الانكسار على فريقين فأَكثر نظرت بين كل فريق وسهامه (2) وتثبت المباين، ووفق الموافق (3) ثم تنظر بين المثبتات بالنسب الأَربع (4) وتحصل أَقل عدد ينقسم عليها (5) فما كان يسمى جزءَ السهم تضربه في المسأَلة بعولها إِن عالت فما بلغ فمنه تصح (6) كجدتين وثلاثة إِخوة لأُم وستة أَعمام، أَصلها ستة، وجزء سهمها ستة (7) .
__________
(1) وهو: زوج وست أخوات لغير أم، لكل أخت سهمان، وهو وفق نصيبهن من أصلها.
(2) فإما أن تباينه سهامه، أو توافقه، ولا يتأتى على أكثر من أربع فرق.
(3) سواء كان من في المسألة فريقان، أو ثلاثة، أو أربعة.
(4) المباينة، والموافقة، والمماثلة، والمداخلة، والمباينة أن لا يتفقا بجزء من الأجزاء، والموافقة: أن يتفق الفريقان بجزء من الأجزاء، ولا يصدق عليها حد المداخلة، وهي أن يقسم الأكبر على الأصغر، أو يفني الأصغر الأكبر، والمماثلة: أن يستوي عدد رءوس الفريقين فأكثر، كاثنين واثنين.
(5) فتكتفي بأحد المتماثلين، وبالأكبر من المتداخلين، وتضرب وفق أحد المتوافقين في ألآخر. وتثبت جميع المباين فهو جزء السهم.
(6) ومن له شيء منها أخذه مضروبا فيما ضربته فيها.
(7) فبين الجدتين والإخوة وسهامهم تباين، وبين الأعمام وسهامهم توافق
وبين الإخوة والأعمام تماثل، فاضرب اثنين في ثلاثة بستة، وهو جزء السهم، ومثال المداخلة: أخوان لأم، وثمانية إخوة لأب، ومثال الموافقة: أربع زوجات، وأخت شقيقة، واثنا عشر أخت لأب، وعشرة أعمام.(6/142)
وتصح من ستة وثلاثين، لكل جدة ثلاثة ولكل أَخ أربعة، ولكل عم ثلاثة (1) .
__________
(1) فإذا أردت قسمة المصحح، فاضرب حصة كل فريق من أصل المسألة في جزء السهم، واقسم الحاصل على ذلك الفريق، فللجدتين واحد في ستة بستة، وللإخوة اثنان في ستة باثني عشر، وللأعمام ثلاثة في ستة بثمانية عشر.(6/143)
فصل (1)
والمناسخات: جمع مناسخة، من النسخ، بمعنى الإِبطال (2) أَو الإِزالة، أَو التغير، أَو النقل (3) وفي الإِصطلاح: موت ثان فأَكثر من ورثة الأَول، قبل قسم تركته (4) (إِذا مات شخص ولم تقسم تركته حتى مات بعض ورثته (5) فإِن ورثوه) أي ورثه ورثة الثاني (كالأَول) أي كما يرثون الأَول (6) (كإِخوة) أِشقاءَ أَو لأَب، ذكور، أَو ذكور وإِناث، ماتوا واحدا بعد واحد، حتى بقي ثلاثة مثلا (7) .
__________
(1) أي في بيان العمل في المناسخات.
(2) وفي القاموس: نسخه أزاله، وغيره، وأبطله.
(3) الإزالة كقولهم: نسخت الشمس الظل. أي أزالته، والتغيير: كقولهم: نسخت الريح الديار. أي غيرتها، والنقل كقولهم: نسخت الكتاب. أي نقلت ما فيه.
(4) سميت بذلك لزوال حكم الأول ورفعه، وفي القاموس: والمناسخة في الميراث موت ورثة بعد ورثة، وأصل المال قائم له يقسم، وشرعا: رفع حكم شرعي بإثبات آخر.
(5) فله ثلاث حالات، إما أن يرثوه كالأول، أو ورثة كل ميت لا يرثون غيره، أو يختلف إرثهم منهما.
(6) مثل أن يكونوا عصبة لهما.
(7) أو بنين وبنات، ماتوا واحدا بعد واحد، وبقي منهم ابن وبنت مثلا.(6/144)
(فاقسمها) أي التركة (على من بقي) من الورثة ولا تلتفت للأَول (1) (وإِن كان ورثة كل ميت لا يرثون غيره، كإِخوة لهم بنون (2) فصحح) المسأَلة (الأولى (3) واقسم سهم كل ميت على مسأَلته) وهي عدد بنيه (وصحح المنكسر كما سبق) (4) كما لو مات إِنسان عن ثلاثة بنين، ثم مات الأَول عن ابنين، ثم الثاني عن ثلاثة، ثم الثالث عن أَربعة (5) فالمسأَلة الأُولى من ثلاثة، ومسأَلة الثاني من اثنين، وسهمه يباينهما، ومسأَلة الثالث من ثلاثة، وسهمه يباينها، ومسأَلة الرابع من أَربعة، وسهمه يباينها (6) .
__________
(1) لأنه لا فائدة في النظر في مسألة الأول، ولا تحتاج لعمل، ويسمى الاختصار قبل العمل.
(2) أي كإخوة مات أبوهم عنهم، ثم ماتوا وخلف كل منهم بنيه.
(3) واعرف ما بيد كل وارث، واجعل لكل ميت مسألة.
(4) أي صحح مسألة الإخوة، واقسم سهم كل ميت من الإخوة على مسألته، وهي عدد بنيه، وصحح المنكسر، كما سبق في تصحيح المسائل، فتنظر بين المسائل بالنسب الأربع المتقدمة، فما تحصل فهو كجزء السهم، يضرب في الأولى، فما بلغ فمنه تصح المسائل، فكل سهام ميت تضرب فيما هو كجزء السهم، فما تحصل فهو لورثته.
(5) فكل واحد لا يرث منه أخواه شيئا.
(6) لأنه ليس لكل واحد من الأولى إلا سهم، والسهم الواحد لا يتجزأ.(6/145)
والاثنان داخلة في الأَربعة، وهي تباين الثلاثة، فتضربها فيها، فتبلغ اثنى عشر، تضربها في ثلاثة، تبلغ ستة وثلاثين، ومنها تصح (1) للأَول اثنا عشر لا بنيه، وللثانى اثنا عشر لبنيه الثلاثة، وللثالث اثنا عشر لبنية الأَربعة (2) (وإِن لم يرثوا الثاني كالأَول) بأَن اختلف ميراثهم منهما (3) (صححت) المسأَلة (الأولى) للميت الأَول (4) وعرفت سهام الثاني منها (5) وعملت مسأَلة الثاني (6) (وقسمت أَسهم الثاني) من الأَول (على) مسأَلة (ورثته (7) فإِن انقسمت صحت من أَصلها) (8) .
__________
(1) تضرب لكل واحد واحدا في اثنى عشر.
(2) لكل واحد من ابنى الأول ستة، ومن بنى الثاني أربعة، ومن بنى الثالث ثلاثة، لأن كل صنف منهم يختص بتركة مورثه.
(3) أي الميت الأول والثاني، وكذا الثالث والرابع.
(4) كأنه لم يمت أحد من ورثته، وعرفت ما بيد كل وارث.
(5) سواء ورثوه بفرض أو تعصيب.
(6) وقسمتها على ورثته، وصححتها.
(7) أي وقسمت أسهم الميت الثاني من الأول على مسألة الثاني، فإنها إما أن تنقسم، وإما أن توافق، وإما أن تباين.
(8) أي فإن انقسمت سهام الثاني على مسألته، صحت من أصلها، وهو العدد الذي صحت منه الأولى.(6/146)
كرجل خلف زوجة وبنتا وأَخا، ثم ماتت البنت عن زوج وبنت وعم، فالمسأَلة الأُولى من ثمانية، وسهام البنت منها أَربعة، ومسأَلتها أَيضًا من أَربعة، فصحتا من الثمانية، لزوجة أَبيها سهم، ولزوجها سهم، ولبنتها سهمان، ولعمها أَربعة، ثلاثة من أَخيه، وسهم منها (1) (وإِن لم تنقسم) سهام الثاني على مسألته (2) (ضربت كل الثانية) إِن باينتها سهام الثاني (3) (أَو) ضربت (وفقها للسهام) إِن وفقتها (في الأولى) (4) فما بلغ فهو الجامعة (5) (ومن له شيء منها) أي من الأولى (فاضربه فيما ضربته فيها) وهو الثانية عند التباين، أَو وفقها عند التوافق (6) (ومن له من الثانية شيء فاضربه فيما تركه الميت) الثاني أي في عدد سهامه من الأولى عند المباينة (أَو وفقه) عند الموافقة (7) .
__________
(1) ومن ذلك أم وعم، وخلف ابنته وعصبة، فالأولى من ثلاثة، والثانية من اثنين، فصحتا من ثلاثة.
(2) فانظر بينها وبين سهامه، فلا يخلو إما أن توافقها، أو تباينها.
(3) في المسألة الأولى، فما حصل فهو الجامعة للمسألتين.
(4) جميعها، لتخرج بلا كسر.
(5) للمسألتين، ومنه تصح.
(6) أي بين سهام الثاني ومسألته، لأنه جزء سهمها.
(7) أي بين سهامه ومسألته، لأن ورثته إنما يرثون سهامه من الأولى.(6/147)
ومن يرث منهما يجمع ما له منهما، فما اجتمع (فهو له) (1) مثال الموافقة: أَن تكون الزوجة أُما للبنت الميتة في المثال السابق (2) فتصير مسأَلتها من اثنى عشر، توافق سهامها الأَربعة من الأولى بالربع، فتضرب ربعها ثلاثة في الأولى وهي ثمانية، تكن أَربعة وعشرين (3) للزوجة من الأولى سهم، في ثلاثة وفق الثانية بثلاثة، ومن الثانية سهمان، في واحد وفق سهام البنت باثنين، فيجتمع لها خمسة، وللأَخ من الأولى ثلاثة، في ثلاثة وفق الثانية بتسعة، ومن الثانية واحد في واحد بواحد، فله عشرة، ولزوج الثانية ثلاثة، ولبنتها ستة (4) ومثال المباينة أَن تموت البنت في المثال المذكور عن زوج وبنتين وأُم (5) .
__________
(1) هذا طريق العمل بما لكل واحد من المسألتين.
(2) فتقول: ماتت البنت عن زوج، وأم، وبنت، وعم.
(3) ومنها تصح، ومن له شيء من الأولى أخذه مضروبا في وفق الثانية، وهو ثلاثة، ومن له شيء من الثانية أخذه مضروب في وفق سهام مورثه، وهو واحد.
(4) ومجموع السهام أربعة وعشرون، وينبغى أن تمتحن العمل بجمع السهام فإن ساوت الجامعة صح العمل، وإلا فأعده.
(5) وأصلها من اثنى عشر، للزوج الربع ثلاثة، وللبنتين الثلثان ثمانية، وللأم السدس اثنان.(6/148)
فإِن مسأَلتها تعول لثلاثة عشر، تباين سهامها الأَربعة، فتضربها في الأُولى، تكن مائة وأَربعة (1) للزوجة من الأولى سهم في الثانية بثلاثة عشر، ولها من الثانية سهمان، مضروبان في سهامها من الأولى أَربعة، بثمانية، يجتمع لها أَحد وعشرون، وللأَخ من الأولى ثلاثة في الثانية، بتسعة وثلاثين، ولا شيءَ له من الثانية (2) وللزوج من الثانية ثلاثة في أَربعة باثني عشر، ولبنتيها من الثانية ثمانية في أَربعة، باثنين وثلاثين (3) (وتعمل في) الميت (الثالث فأَكثر عملك في) الميت (الثاني مع الأَول) (4) فتصحح الجامعة للأُوليين (5) وتعرف سهام الثالث منها، وتقسمها على مسألته (6) .
__________
(1) وهي الجامعة، ومن له شيء من الأولى أخذه مضروبا في كامل الثانية، ومن له شيء من الثانية أخذه مضروبا في سهام مورثه.
(2) لاستغراق الفروض التركة.
(3) والاختبار بجمع السهام كما تقدم، وإن مات شخص عن أبوين وابنتين، ولم تقسم التركة حتى ماتت إحدى البنتين، سئل عن الميت الأول، فإن كان رجلا فالأب جد وارث في الثانية، وإن كان امرأة فمن ذوي الأرحام، والأوليان تصحان من أربعة وخمسين، والأخريان من اثني عشر.
(4) في حالاته الثلاث.
(5) وكل جامعة بالنسبة إلى ما بعدها تسمى الأولى، وما بعدها يقال لها الثانية.
(6) ولا يخلو إما أن تنقسم، وإما أن توافق، وإما أن تباين كما مر.(6/149)
فإن انقسمت لم تحتج لضرب، وتقسم كما سبق (1) فإِن لم تنقسم فاضرب الثالثة أَو وفقها في الجامعة (2) ثم من له شيءٌ من الجامعة الأولى أَخذه مضروبا في مسأَلة الثالث أَو وفقها، ومن له شيء من الثالثة أَخذه مضروبا في سهامه أَو وفقها (3) وهكذا إِن مات رابع فأَكثر (4) .
__________
(1) في المثال الذي صحت الثانية فيه مما صحت منه الأولى.
(2) أي فإن لم تنقسم سهام المسألة الثالثة، بل باينتها، ضربتها، أو وفقها -إن وافقت بجزء كنصف ونحوه- في الجامعة، وما بلغت فهو الجامعة الثانية، ومنه تصح.
(3) إن وافقت فهو له.
(4) تعمل عملك في الثالث مع الثاني، مثاله شخص مات عن زوجة، وأم، وثلاث أخوات متفرقات، من اثني عشر، وتعول إلى خمسة عشر، ماتت الأخت من الأبوين عن زوجها، وأمها، وأختها لأبيها، وأختها لأمها، من ستة، وتعول إلى ثمانية. وسهامها من الأولى ستة، تضرب أربعة في خمسة عشر، ثم ماتت الأم وخلفت زوجا، وأختا، وبنتا، مسألتها من أربعة، ولها من الجامعة أحد عشر، تضرب أربعة في الجامعة وهي ستون، وهكذا نصنع في الميت الرابع، والخامس وهلم جرا.(6/150)
فصل في قسمة التركات (1)
والقسمة: معرفة نصيب الواحد من المقسوم (2) (إِذا أَمكن نسبة سهم كل وارث من المسأَلة بجزء) كنصف وعشر (3) (فله) أي فلذلك الوارث من التركة (كنسبته) (4) فلو ماتت امرأَة عن تسعين دينارًا، وخلفت زوجا، وأَبوين، وابنتين، فالمسأَلة من خمسة عشر (5) للزوج منها ثلاثة، وهي خمس المسأَلة، فله خمس التركة ثمانية عشر دينارا، ولكل واحد من الأَبوين اثنان، وهما ثلثا خمس المسأَلة، فيكون لكل واحد منهما ثلثا خمس التركة، اثنا عشر دينارًا، وكل من البنتين أَربعة.
__________
(1) وهو ثمرة علم الفرائض، ويبنى على الأعداد الأربعة المتناسبة، التي نسبة أولها إلى ثانيها، كنسبة ثالثها إلى رابعها، كالاثنين والأربعة، وهو أصل في استخراج المجهولات.
(2) أو معرفة عدد ما في المقسوم من أمثال المقسوم عليه.
(3) وكانت التركة معلومة، وصححت المسألة على ما تقدم.
(4) أي نسبة سهمه إلى المسألة، وهذا أحد طرق استخراج المجهول.
(5) أصلها من اثنى عشر، للبنتين الثلثان ثمانية، وللزوج الربع ثلاثة، وللأبوين السدسان أربعة، فعالت إلى خمسة عشر.(6/151)
وهي خمس المسأَلة، وثلث خمسها، فلها كذلك من التركة أَربعة وعشرون دينارا (1) وإِن ضربت سهام كل وارث في التركة، وقسمت الحاصل على المسألة، خرج نصيبه من التركة (2) وإِن قسمت عليَّ القراريط، فهي في عرف أَهل مصر والشام أَربعة وعشرون قيراطا، فاجعل عددها كتركة معلومة، واقسم كما مر (3) .
__________
(1) فصار مجموعها تسعين دينارا، وهذه أحسن الطرق، حيث سهلت.
(2) مثاله أن تضرب ما للأب وهو اثنان من خمسة عشر في مجموع التركة، وهو تسعون، يكون مائة وثمانين، تقسمها على السهام الخمسة عشر، فله نصف ما يحصل لكل سهم من أسهمه فيكون له اثنا عشر، ثم تعمل للأم كذلك، ثم أسهم الزوج ثلاثة، تضربها كذلك، وتقسمها على السهام المذكورة، فيكون لكل سهم من أسهمه اثنا عشر، فله نصف مجموعها ثمانية عشر، ثم ما للبنتين كذلك، وقس على ذلك.
وإن شئت قسمت المسألة على التركة فما خرج قسمت عليه نصيب كل وارث، بعد بسطه من جنس الخارج، فما خرج فهو نصيبه، وإن كان بين المسألة والتركة موافقة، فاقسم وفق التركة على وفق المسألة.
(3) وأي عدد أردت قيراطه، فاقسمه على أربعة وعشرين، فالخارج قيراطه، وإن بقي ما لا يبلغ قيراطا، فانسبه إلى سهم القيراط، وأعطه منه.(6/152)
باب ذوى الأرحام (1)
وهم: كل قريب ليس بذى فرض ولا عصبة (2) و (يرثون بالتنزيل) أي بتنزيلهم منزلة من أَدلوا به من الورثة (3) (الذكر والأُنثى) منهم (سواء) (4) لأَنهم يرثون بالرحم المجردة، فاستوى ذكرهم وأُنثاهم، كولد الأُم (5) .
__________
(1) وكيفية توريثهم، والأرحام جمع رحم، وهو القرابة، أي ذو نسب.
(2) فمتى لم يوجد وارث صاحب فرض، أو لم يوجد معصب، ورث أولو الأرحام، عند أكثر أهل العلم، منهم عمر، وعلي، ومعاذ، وغيرهم، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد، والأصح عند الشافعية إن لم ينتظم بيت المال، لعموم قوله تعالى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وقوله صلى الله عليه وسلم «الخال وارث من لا وارث له» .
قال ابن القيم: جاء من وجوه مختلفة، وليس في أحاديث الأصول ما يعارضها وجمهور العلماء يورثونه، وهو قول أكثر الصحابة، وأسعد الناس بهذه الأحاديث من ذهب إليها. اهـ. وقوله «هل له من نسب أو رحم؟» وغير ذلك، كالجد لأم، ينتسب بالولادة، ولأن لهم سببين، إسلاما ورحما، وبيت المال له سبب واحد، وهو الإسلام.
(3) بدرجة أو درجات، حتى يصل إلى من يرث، فيأخذ ميراثه.
(4) ولو كان أبوهما واحدا وأمهما واحدة.
(5) أي كما يرث ولد الأم ذكرهم وأنثاهم سواء، فهم معتبرون بهم.(6/153)
(فولد البنات، وولد بنات البنين (1) وولد الأَخوات) مطلقا، (كأُمهاتهن (2) وبنات الإِخوة) مطلقا، كآبائهن (3) (و) بنات (الأَعمام لأَبوين، أَو لأَب) كآبائهن (4) (وبنات بنيهم) أي بني الإِخوة، أَو بنى الأَعمام، كآبائهن (5) (وولد الإِخوة لأُم كآبائهم (6) والأَخوال، والخالات، وأَبو الأُم كالأُم (7) والعمات، والعم لأُم كأَب (8) .
__________
(1) أي فولد البنات وإن نزل كالبنات، وولد بنات الابن كبنات الابن، وهؤلاء أحد أصناف ذوى الأرحام الأحد عشر.
(2) سواء كن لأبوين، أو لأب، أو لأم كل منهم ينزل منزلة من أدلي به.
(3) أي وبنات الإخوة لأبوين، أو لأب، أو لأم بمنزلة آبائهن.
(4) أي بمنزلة الأعمام.
(5) فبنت ابن الأخ بمنزلة ابن الأخ، وبنت ابن العم بمنزلة ابن العم.
(6) سواء كانوا ذكورا أو إناثا.
(7) الأخوال والخالات، إخوة الأم وأخواتها، سواء كانوا أشقاء، أو لأب، أو لأم، بمنزلة الأم، لأنها أقوى جهاتها، وخالات أبيه، وأخواله مطلقا، بمنزلة أم الأب، وأخوال أمه، وخالاتها مطلقا، بمنزلة أم الأم، وأخوال وخالات جده وإن علا، من قبل الأب أو الأم بمنزلة أم الجد، وأبو الأم، وأبوه، وجده، وإن علا بمنزلة الأم.
(8) أي والعمات مطلقا، والعم لأم كالأب، لأنه أقوى جهاتها، وقول عمر وغيره، ولا مخالف له.(6/154)
وكل جدة أَدلت بأَب بين أُمين، هي إِحداهما، كأُم أبي أُم (1) أَو بأَب أَعلي من الجد، كأُم أبي الجد (2) وأَبو أُم أَب، وأَبو أُم أُم، وأَخواهما، وأختاهما بمنزلتهم (3) فيجعل حق كل وارث) بفرض أَو تعصيب (لمن أَدلي به) من ذوي الأرحام، ولو بعد (4) فإِن كان واحدا أَخذ المال كله (5) وإِن كانوا جماعة، قسم المال بين من يدلون به (6) فما حصل لكل وارث، فهو لمن يدلي به (7) .
__________
(1) بمنزلة الأم.
(2) بمنزلة الجد.
(3) أي بمنزلة من أدلوا به.
(4) فينزل درجة درجة، حتى يصل إلى من يمتُّ به، فيأخذ ميراثه، لما روى عن علي، وعبد الله بن مسعود، أنهما نزلا بنت البنت منزلة البنت، وبنت الأخ منزلة الأخ، وبنت الأخت منزلة الأخت، والعمة بمنزلة الأب، والخالة بمنزلة الأم، وعن الزهرى مرفوعا «العمة بمنزلة الأب، إذا لم يكن بينهما أب، والخالة بمنزلة الأم إذا لم يكن بينهما أم» رواه أحمد.
(5) لأنه ينزل منزلة من أدلي به، فإما أن يدلي بعصبة، فيأخذه تعصيبا، أو بذى فرض، فيأخذه فرضا وردا.
(6) كأنهم أحياء، من ذوي الفروض، أو العصبات.
(7) من ذوى الأرحام لأنهم وراثه.(6/155)
وإِن بقي من سهام المسأَلة شيء رد عليهم، على قدر سهامهم (1) (فإِن أدلى جماعة بوارث) بفرض أَو تعصيب) واستوت منزلتهم منه بلا سبق، كأَولاده (2) فنصيبه لهم) كإِرثهم منه، لكن الذكر كالأُنثى (3) (فابن وبنت لأُخت، مع بنت لأُخت أُخرى (4) لهذه) المنفردة (حق) أي إِرث (أُمها (5) وللأُوليين حق أُمهما) سوية بينهما (6) (وإِن اختلفت منازلهم منه (7) جعلتهم معه) أي مع من أَدلوا به (كميت اقتسموا إِرثه) على حسب منازلهم منه (8) .
__________
(1) إن كان من يدلون به صاحب فرض، كبنت بنت، وبنت بنت ابن، ومسألتهم من أربعة بالرد، وإن كان معهم بنت أخ فالباقي لها، وتصح من ستة.
(2) وكإخوته المتفرقين، الذي لا واسطة بينه وبينهم.
(3) بلا تفضيل، ولو خالا وخالة، لأنهم يرثون بالرحم المجردة، فاستوى ذكرهم وأنثاهم، كولد الأم.
(4) مسألتهم من أربعة.
(5) واحد، لإدلائها بأمها، فتأخذ نصيبها.
(6) تضرب اثنين في أربعة بثمانية، للمنفردة اثنان، ولابن البنت ثلاثة، ولأخته ثلاثة.
(7) أي من المدلي به.
(8) لتظهر جهة اختلاف منازلهم، وقسمت نصيبه بينهم على ذلك.(6/156)
(فإن خلف ثلاث خالات متفرقات) أي واحدة شقيقة، وواحدة لأَب، وواحدة لأُم (1) (وثلاث عمات متفرقات) كذلك (2) (فالثلث) الذي كان للأُم (للخالات اخماسا) لأَنهن يرثن الأُم كذلك (3) (والثلثان) اللذان كانا للأَب (للعمات أَخماسا) لأَنهن يرثن الأَب كذلك (4) (وتصح من خمسة عشر) (5) للاجتزاء بإِحدى الخمستين، لتماثلهما، وضربها في أَصل المسأَلة ثلاثة (6) للخالات من ذلك خمسة، للشقيقة ثلاثة، وللتي لأَب سهم، وللتي لأُم سهم (7) وللعمات عشرة، للتى من قبل الأَبوين ستة، وللتى من قبل الأَب سهمان، وللتى من قبل الأُم
سهمان (8) .
__________
(1) وكلهن يدلين بالأم.
(2) أي واحدة شقيقة، وواحدة لأب، وواحدة لأم، وكلهن يدلين بالأب، والمسألة من ثلاثة.
(3) لو ماتت عنهن، ولها سهم، يقسم على خمسة، مباين لها.
(4) لو مات عنهن، وله سهمان، يقسم على خمسة، مباين لها.
(5) بضرب خمسة في ثلاثة.
(6) ومنها تصح.
(7) يأخذنه فرضا وردا.
(8) يأخذنه فرضا وردا، ولو كان مع الخالات خال من أم، ومع العمات
عم من أم، فالثلث بين الخال والخالات على ستة، والثلثان بين العم والعمات على ستة، وتصح من ثمانية عشر.(6/157)
(وفي ثلاثة أَخوال متفرقين) أي أَحدهم شقيق الأُم، والآخر لأَبيها، والآخر لأُمها (1) (لذي الأُم السدس) كما يرثه من أُخته لو ماتت (والباقي لذي الأَبوين) وحده، لأَنه يسقط اللأَخ لأَب (فإِن كان معهم) أي مع الأَخوال (أَبو أُم أٍسقطهم) لأَن الأَب يسقط الإِخوة (وفي ثلاث بنات عمومة متفرقة) أي بنت عم لأَبوين، وبنت عم الأُب، وبنت عم لأُم (المال للتى للأَبوين) لقيامهن مقام آبائهن (2) فبنت العم لأَبوين بمنزلة أَبيها (3) (وإِن أَدلي جماعة بجماعة (4) قسمت المال بين المدلي بهم) كأَنهم أَحياء (5) .
__________
(1) فمسألتهم من ستة أصل السدس.
(2) فلو خلف ثلاثة أعمام متفرقين، لكان جميع الميراث للعم من الأبوين، لسقوط العم من الأب به، مع كونه من العصبات، فالعم لأم مع كونه من ذوي الأرحام أولى بالسقوط.
(3) فاستحقت المال، حيث أدلت بوارث للمال كله.
(4) أي وإن أدلي جماعة من ذوي الأرحام، بجماعة من ذوي الفروض أو العصبة.
(5) وقسمت المال بينهم.(6/158)
(فما صار لكل واحد) من المدلي بهم (أَخذه المدلي به) من ذوي الأَرحام، لأَنه وارثه (1) (وإِن سقط بعضهم ببعض عملت به) (2) فعمة وبنت أَخ، المال للعمة، لأَنها تدلي بالأَب، وبنت الأَخ تدلي بالأَخ (3) ويسقط بعيد من وارث بأَقرب منه (4)
إِلا إِن اختلفت الجهات، فينزل بعيد، حتى يلحق بوارث، سقط به أَقرب أَو لا (5) (والجهات) التي يرث بها ذوو الأَرحام
ثلاثة (6) .
__________
(1) كثلاث بنات أخت لأبوين، وثلاث بنات أخت لأب، وثلاث بنات أخت لأم، وثلاث بنات عم لأبوين، أو لأب، ومسألتهم من ستة، لبنات الأخت لأبوين، النصف، ولبنات الأخت لأب السدس، ولبنات الأخت لأم السدس، ولبنات العم الباقي سدس، وتصح من ثمانية عشر.
(2) وأسقطت المحجوب.
(3) وهو محجوب بالأب.
(4) كبنت بنت، وبنت بنت بنت، المال للأولي، وكخالة وأم أبي أم، المال للخالة، لأنها تلقي الأم بأول درجة، بخلاف أم أبيها، هذا إذا كانوا من جهة واحدة.
(5) كبنت بنت بنت، وبنت أخ لأم، الكل للأولى، لأن جهتها تسقط الأخ للأم، وبنت بنت بنت، وبنت بنت بنت بنت، وبنت أخ لأب، المال بين الأولى والثالثة.
(6) فيرث أسبقهم إلى الوارث، اختاره الموفق وغيره، قال الشارح: وهو أولى.(6/159)
(أبوة) ويدخل فيها فروع الأَب، من الأَجداد، والجدات السواقط (1) وبنات الإِخوة، وأَولاد الأَخوات (2) وبنات الأَعمام والعمات (3) وعمات الأَب والجد (4) (وأُمومة) ويدخل فيها فروع الأُم، من الأَخوال، والخالات (5) وأَعمام الأُم، وأعمام أَبيها وأُمها (6) وعمات الأُم، وعمات أَبيها، وجدها، وأُمها (7) وأَخوال الأُم، وخالاتها (8) (وُبنوة) ويدخل فيها أَولاد البنات، وأَولاد بنات الابن (9) .
__________
(1) الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب، كأبي أم الأب من الأجداد، وكأم أبي أم الأب من الجدات.
(2) مطلقا، سواء كانوا لأبوين، أو لأب، أو لأم.
(3) وإن علا.
(4) مطلقا.
(5) لأبوين، أو لأب، أو لأم.
(6) مطلقا.
(7) مطلقا.
(8) وأخوال أبيها وأمها، وخالات أبيها وأمها.
(9) وإن نزلوا، ووجه الانحصار أن الواسطة -بين الإنسان وسائر أقاربه- أبوه، وأمه، وولده، لأن طرفه الأعلى الأبوان، لأنه نشأ منهما، وطرفه الأسفل ولده، لأنه مبدؤه، ومنه نشأ، فكل قريب إنما يدلي بواحد من هؤلاء، فتسقط بنت بنت أخ ببنت عمة.(6/160)
ومن أَدلي بقرابتين ورث بهما (1) ولزوج أَو زوجة مع ذي رحم فرضه كاملا، بلا حجب، ولا عول (2) والباقي لذي الرحم (3) ولا يعول هنا إِلا أَصل ستة إلى سبعة، كخالة، وبنتي أُختين، لأَبوين، وبنتى أُختين لأُم (4) للخالة سهم، ولبنتي الأُختين لأَبوين أَربعة، ولبنتي الأُختين لأُم سهمان (5) .
__________
(1) فتجعل ذا القرابتين كشخصين، لأنه شخص له قرابتان، لا حجب بهما، فورث بهما، كزوج هو ابن عم، فابن بنت بنت، هو ابن ابن بنت أخرى، مع بنت بنت بنت أخرى: لها الثلث، وله الثلثان.
(2) فلا يحجب الزوج من النصف إلى الربع، ولا الزوجة من الربع إلى الثمن، بأحد من ذوى الأرحام، ولا يعال، بلا خلاف بين المورثين لذوي الأرحام، لأن فرض الزوجين بالنص، وإرث ذوي الأرحام غير منصوص عليه، فلا يعارضه، ولذلك لا يرث ذو الرحم مع ذي فرض، وإنما ورث مع أحد الزوجين لأنه لا يرد عليه.
(3) يقسم بينهم، كما لو انفردوا عن أحد الزوجين، فزوج، وبنت بنت، وبنت أخت لأبوين، للزوج النصف، والباقي بينهما نصفين.
(4) أصلها من ستة، وتعول إلى سبعة، ولا يعول في ذوي الأرحام سواها.
(5) ومجموع ذلك سبعة، وكأبي أم، وبنت أخ لأم، وثلاث بنات ثلاث أخوات متفرقات، أو من يقوم مقامهن ممن يأخذ المال بالفرض.(6/161)
باب ميراث الحمل (1)
بفتح الحاء (2) والمراد: ما في بطن الآدمية (3) يقال: امرأَة حامل، وحاملة؛ إِذا كانت حبلي (4) (و) ميراث (الخنثى) المشكل) الذي لم تتضح ذكورته ولا أُنوثته (5) (من خلف ورثة فيهم حمل) يرثه (6) (فطلبوا القسمة (7) .
__________
(1) يرث الحمل بلا نزاع في الجملة، لكن هل يثبت له الملك بمجرد موت مورثه؟ كما جزم به في الإقناع، وقال ابن رجب: هو الذي يقتضيه نص أحمد في الإنفاق على أمه من نصيبه، وصرح به ابن عقيل وغيره. أولا يثبت، إلا بوضعه حيا؟.
(2) ما يحمل في البطن من الولد، وحمل الشجر ثمره بالفتح والكسر.
(3) أي والمراد بالحمل هنا ما في بطن الآدمية، لبيان أحكامه.
(4) وفي القاموس: وحملت المرأة تحمل، علقت، ولا يقال: حملت به. أو قليل، وإذا حملت شيئا على ظهرها فهي حاملة لا غير.
(5) مأخوذ من قولهم: خنث الطعام إذا اشتبه فلم يخلص طعمه، ولا يكون الخنثى أبًا، ولا أمًا، ولا جدًا، ولا جدة، ولا زوجا، ولا زوجة، ويأتي بيانه.
(6) ورضوا بوقف الأمر إلى وضعه فهو أولي، خروجا من الخلاف، ولتكون القسمة مرة واحدة.
(7) أي إن أبوا ذلك، وطلبوا كلهم أو بعضهم القسمة، لم يجبروا على الصبر، ولم يعطوا كل المال بلا نزاع.(6/162)
وقف للحمل) إِن اختلف إِرثه بالذكورة والأُنوثة (الأُكثر من إِرث ذكرين أَو أُنثيين) (1) لأَن وضعهما كثير معتاد (2) وما زاد عليهما نادر، فلم يوقف له شيء (3) ففي زوجة حامل وابن، للزوجة الثمن، وللابن ثلث الباقي، ويوقف للحمل إِرث ذكرين، لأَنه أَكثر (4) وتصح من أَربعة وعشرين (5) وفي زوجة حامل وأَبوين، يوقف للحمل نصيب أُنثيين لأَنه أَكثر (6) ويدفع للزوجة الثمن عائلا لسبعة وعشرين، وللأَب السدس كذلك، وللأُم السدس كذلك (7) .
__________
(1) أي وقف إرث ذكرين، إن كان ميراثهما أكثر من إرث الأنثيين، أو وقف إرث أنثيين إن كان أكثر.
(2) فلم يجز قسم نصيبها كالواحد.
(3) كالخامس، والسادس، لأنه غير معتاد، وإلا فروى الماوردى أن امرأة من اليمن ولدت سبعة ذكورا وعاشوا، وقال الموفق - عن ضرير في دمشق - إن امرأته ولدت سبعة ذكورا وإناثا، وإن امرأة كانت تلد كل بطن ثلاثة، وقال غير الشافعي: هذا نادر، لا يعول عليه.
(4) أي من نصيب أنثيين، ومتى زادت الفروض على ثلث المال فميراث الإناث أكثر.
(5) للزوجة الثمن ثلاثة، وللابن سبعة، ويوقف للحمل أربعة عشر، فإذا ولد أخذ حقه من الموقوف، وما بقي لمستحقه.
(6) أي من نصيب ذكرين.
(7) أي عائلا لسبعة وعشرين، وإن استوت كأبوين وحمل، استوى ميراث الذكرين والأنثيين.(6/163)
(فإذا ولد أَخذ حقه) من الموقوف (1) (وما بقي فهو لمستحقه) (2) وإِن أَعوز شيء، بأَن وقفنا ميراث ذكرين، فولدت ثلاثة، رجع على من هو بيده (3) (ومن لا يحجبه) الحمل (يأْخذ إِرثه) كاملا (كالجدة) (4) فإِن فرضها السدس مع الولد وعدمه (5) (ومن ينقصه) الحمل (شيئا) يعطى (اليقين) (6) كالزوجة والأُم، فيعطيان الثمن والسدس، ويوقف الباقي (7) (ومن سقط به) أي بالحمل (لم يعط شيئا) للشك في إِرثه (8) .
__________
(1) لأنه ميراثه، والمراد وليه.
(2) أي وما بقي من الموقوف، زائدا عن ميراث الحمل، فهو لمستحقه.
(3) أي رجع الثالث بنصيبه على من هو بيده من الورثة.
(4) وكزوج أو زوجة مع أم حامل.
(5) وكذا الزوج أو الزوجة.
(6) فيعطى من يحجبه الحمل حجب نقصان أقل ميراثه.
(7) أو زوجة وابن وحمل، فتعطى الزوجة الثمن، وللابن سبعة من أربعة وعشرين.
(8) ممن يسقط بولد الأبوين، كعصبة أو أحد من ولد الأب، كرجل مات عن زوجة حامل منه، وعن إخوة وأخوات، وربما لا يرث الحمل إلا إذا كان أنثى، كزوج وأخت لأبوين وامرأة أب حامل، وربما لا يرث إلا إذا كان ذكرا، كبنت، وعم، وامرأة أخ لغير أم حامل.(6/164)
(ويرث) المولود (ويورث إِن استهل صارخا) (1) لحديث أبي هريرة مرفوعا «إذا استهل المولود صارخا ورث» رواه أَحمد، وأَبو داود (2) (أو عطس، أَو بكى، أَو رضع (3) أَو تنفس وطال زمن التنفس (4) أَو وجد) منه (دليل) على (حياته) (5) كحركة طويلة (6) أَو سعال (7) .
__________
(1) أي ويثبت للمولود الإرث، ويورث عنه ما ملكه بإرث أو وصية بشرطين أن يعلم أنه كان موجودا حال موت مورثه، وأن تضعه حيا، وتعلم حياته إذا استهل صارخا، أي رفع صوته بالبكاء، وصاح شديدا.
(2) وللترمذى وابن ماجه عن جابر نحوه، قال في القاموس: استهل الصبي رفع صوته بالبكاء كأهل، وكذا كل متكلم رفع صوته أو خفض. اهـ. فـ «ـصارخا» حال مؤكدة، فدل الحديث على أنه لا يرث الحمل إلا إذا ولد حيا، ولا يرث ميتا بالاتفاق.
(3) فالعطاس والبكاء استهلال، قيل لأحمد: ما الاستهلال؟ قال: إذا صاح أو عطس، أو بكى، فكل صوت يوجد منه، تعلم به حياته، فهو استهلال، وقال: إذا علمت حياته بصوت، أو حركة، أو رضاع، أو غيره ورث، وثبت له أحكام الحياة، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة.
(4) مما يعلم منه حياته.
(5) ثبت له حكم الحى كالمستهل.
(6) يعلم منها حياته.
(7) وهو حركة تدفع بها الطبيعة أذى عن الرئة.(6/165)
لأَن هذه الأَشياءَ تدل على الحياة المستقرة (1) (غير حركة) قصيرة (2) (واختلاج) لعدم دلالتهما على الحياة المستقرة (3) .
(وإِن ظهر بعضه فاستهل) أي صوت (ثم مات وخرج لم يرث) ولم يورث (4) كما لو لم يستهل (5) (وإِن جهل المستهل من التوأمين) إِذا استهل أَحدهما دون الآخر، ثم مات المستهل وجهل (6) وكانا ذكرا وأُنثى (7) (واختلف إِرثهما) بالذكورة والأُنوثة (8) (يعين بقرعة) (9) .
__________
(1) فيثبت له بها حكم الحي كالمستهل.
(2) فلا تدل على الحياة المستقرة، كحركة المذبوح، فإن الحيوانات تتحرك بعد الذبح حركة شديدة، وهي في حكم الميت.
(3) فإن اللحم يختلج إذا خرج من مكان ضيق فتضامت أجزاؤه، ثم خرج إلى مكان فسيح، فإنه يتحرك وإن لم تكن فيه حياة، وكذا تنفس يسير لا يدل على حياة مستقرة، ولو علمت الحياة إذًا، لأنه لا يعلم استقرارها.
(4) وهذا مذهب الشافعي، لأنه لم يخرج جميعه، فتثبت له أحكام الدنيا، وهو حي.
(5) أي كما لو خرج ميتا، فلا يرث، ولا يورث.
(6) أي عينه.
(7) لا ذكرين فقط، ولا أنثيين فقط، لأنه لا فرق بينهما.
(8) بأن كانا من غير ولد أم.
(9) أي يعين المستهل منهما بقرعة، فمن خرج سهمه فهو المستهل.(6/166)
كما لو طلق إِحدى نسائه ولم تعلم عينها (1) وإِن لم يختلف ميراثهما، كولد الأُم (2) أَخرج السدس لورثة الجنين بغير قرعة، لعدم الحاجة إِليها (3) ولو مات كافرًا بدارنا عن حمل منه لم يرثه، لحكمنا بإِسلامه قبل وضعه (4) ويرث صغير حكم بإِسلامه بموت أَحد أَبويه منه (5) (والخنثى) من له شكل ذكر رجل وفرج امرأَة، أَو ثقب في مكان الفرج، يخرج منه البول (6) ويعتبر أَمره ببوله من أَحد الفرجين (7) .
__________
(1) وكذا النسوة إذا أراد السفر بإحداهن، أو البداءة بالقسم لها، وغير ذلك مما جاء الشرع بالقرعة فيه.
(2) لأن له السدس، ذكرا كان أو أنثى.
(3) أي القرعة، لاستوائهما في الإرث.
(4) لأنه لا يتحقق إرثه إلا بعد وضعه حيا، ولا يثبت له الملك حتى ينفصل حيا، وقيل: يرثه؛ قال في الفروع: وهو أظهر؛ وصوبه في الإنصاف، وبهذا يعلم الفرق بين الحمل والصغير إذا مات أحد أبويه، وحكمنا بإسلامه بذلك فيرثه، لسبق الإرث المنع المترتب على اختلاف الدين.
(5) أي من الذي حكم بإسلامه بموته، لأن المنع من الإرث المترتب على اختلاف الدين، مسبوق بحصول الإرث، مع الحكم بالإسلام عقب الموت.
(6) أولا آلة له.
(7) قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الخنثى يورث من حيث يبول إن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ورثه من حيث يبول.(6/167)
فإِن بال منهما فبسبقه (1) فإِن خرج منهما معا، اعتبر أَكثرهما (2) فإِن استويا فهو (المشكل) (3) فإِن رجى كشفه لصغر، أُعطي ومن معه اليقين (4) ووقف الباقي (5) لتظهر ذكوريته، بنبات لحيته (6) أَو إِمناء من ذكره (7) أَو تظهر أُنوثيته بحيض (8) أَو تفلك ثدى (9) أَو إِمناء من فرج (10) .
__________
(1) فإن سبق بوله من ذكره فذكر، أو من فرجه فأنثى، لما روى أنه من أول ما يبول منه، قال الموفق: وهو قول الجمهور.
(2) لأنها مزية لإحدى العلامتين، فيعتبر بهما كالسبق، وإنما اعتبر بالبول، لأنه أعم العلامات.
(3) أي فإن استويا في قدر ما يخرج من كل منهما من البول فهو المشكل، من أشكل الأمر: التبس، لعدم تمييزه بشيء مما تقدم.
(4) أي من التركة، وهو ما يرثه على كل تقدير، ومن سقط به لم يعط شيئا.
(5) حتى يبلغ الخنثى، ويتضح أمره، وهذا فيما إذا طلب الورثة نصيبهم، أو طلب وليه نصيبه.
(6) فذكر.
(7) زاد الموفق: وكونه مني رجل، أي فهو ذكر، عملاً بالعلامة.
(8) وحمل، فهو امرأة، عملا بالعلامة.
(9) أي استدارته، أو سقوطه.
(10) فامرأة، عملا بالعلامة، وليس بمشكل فيهما، إنما هو في الأولى رجل فيه خلقة زائدة، وفي الثانية امرأة فيها خلقة زائدة، وحكمه في إرث وغيره حكم من ظهرت علامته فيه، من رجل أو امرأة.(6/168)
فإِن مات، أَو بلغ بلا أَمارة (1) (يرث نصف ميراث ذكر) إن ورث بكونه ذكرا فقط (2) كولد أَخ، أَو عم خنثى (3) (ونصف ميراث أُنثى) إن ورث بكونه أُنثى فقط (4) كولد أَب خنثى، مع زوج، وأُخت لأَبوين (5) وإِن ورث بهما متفاضلا أُعطى نصف ميراثهما (6) فتعمل مسأَلة الذكورية، ثم مسأَلة الأُنوثية (7) وتنظر بينهما بالنسب الأَربع (8) وتحصل أَقل عدد ينقسم على كل منهما، وتضربه في اثنين، عدد حالي الخنثى (9)
__________
(1) تظهر بها ذكوريته أو أنوثيته.
(2) ولا يرث نصف ميراث أنثى إن ورث بكونه ذكرا فقط.
(3) فله نصف ميراث ذكر فقط، لأنه لو كان ذكرا أخذ نصفه، فيكون له نصف النصف، وتصح من أربعة للخنثى واحد، وللذكر ثلاثة.
(4) ولا يرث نصف ميراث ذكر.
(5) إذ لو كان أنثى لأخذ السدس، وتصح من ثمانية وعشرين، للخنثى سهمان، ولكل من الزوج والأخت ثلاثة عشر، لأن مسألة الذكورية من اثنين، والأنوثية من سبعة، فاضرب إحدهما في الأخرى، ثم اضرب الأربعة عشر في اثنين، عدد الحالين، وإن ورث بهما متساويا فله السدس بكل حال، أو معتق فعصبة مطلقا.
(6) أي نصف ميراثه لو كان ذكرًا، ونصف ميراثه لو كان أنثى.
(7) ويسمى هذا مذهب المنزلين، وهو اختيار الأصحاب.
(8) وهي إما أن تباين، أو توافق، أو تماثل، أو تناسب، كما تقدم.
(9) فما بلغ فمنه تصح.(6/169)
ثم من له شيء من إِحدى المسألتين، فاضربه في الأُخرى، أو وفقها (1) فابن وولد خنثى، مسأَلة الذكورية من اثنين، والأُنوثية من ثلاثة، وهما متباينان، فإِذا ضربت إِحداهما في الأُخرى كان الحاصل ستة، فاضربها في اثنين (2) تصح من اثنى عشر، للذكر سبعة، وللخنثى خمسة (3) وإِن صالح الخنثى من معه على ما وقف له صح إِن صح تبرعه (4) .
__________
(1) أي اضربه في الأخرى إن تباينتا، أو اضربه في وفقها إن توافقتا.
(2) عدد حال الذكورة، وحال الأنوثة.
(3) وإن شئت بعد تصحيحها قلت: للخنثى بتقدير ذكوريته ستة، وله بتقدير أنوثيته أربعة، مجموع ذلك عشرة، نصفها خمسة، وللواضح بقدير الذكورية ستة، وله بتقدير الأنوثية ثمانية، مجموع ذلك أربعة عشر، تعطيه نصفها سبعة.
(4) بأن بلغ رشيدا، لأنه إذًا جائز التصرف، وكخنثى مشكل في الحكم من لا ذكر له ولا فرج، ولا فيه علامة ذكر ولا أنثى، وذكر الموفق وغيره أنه قد وجد من ليس في قبله مخرج، لا ذكر ولا فرج، بل لحمة كالربوة، يرشح منها البول، ومن ليس له إلا مخرج واحد يبول ويتغوط منه، ومن ليس له مخرج أصلا، وإنما يتقيأ ما يأكله أو يشربه.(6/170)
باب ميراث المفقود (1)
وهو من انقطع خبره، فلم تعلم له حياة ولا موت (2) (من خفي خبره بأَسر (3) أَو سفر غالبه السلامة (4) كتجارة) وسياحة (5) (انتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد) (6) لأَن الغالب أَنه لا يعيش أَكثر من هذا (7) .
__________
(1) أي بيان ميراثه من مورثه، وبيان ميراثهم منه، والمفقود من: فقدت الشيء، أفقده فقدا وفقدانا؛ والفقد أن تطلب الشيء فلا تجده.
(2) لانقطاع خبره، وهو نوعان: إما بسفر ونحوه غالبه السلامة، أو الهلاك.
(3) لأن الأسير معلوم من حاله أنه غير متمكن من المجيء إلى أهله، فغالبه السلامة.
(4) أي بقاء حياته.
(5) لأن التاجر قد يشتغل بتجارته عن العود إلى أهله، والسائح قد يختار المقام ببعض البلاد النائية عن بلده، والذي يغلب في هذا - ونحوه كطلب العلم - السلامة.
(6) هذا المذهب، وصححه في المذهب وغيره.
(7) وعنه: ينتظر به حتى يتيقن موته، أو تمضى عليه مدة لا يعيش في مثلها، وذلك مردود إلى اجتهاد الحاكم، وهو قو الشافعي، والمشهور عن مالك، وأبي حنيفة، لأن الأصل حياته، واتفقوا على أنه لا يقسم ماله حتى تمضى مدة لا يعيش في مثلها.(6/171)
وإِن فقد ابن تسعين اجتهد الحاكم (1) (وإِن كان غالبه الهلاك (2) كمن غرق في مركب، فسلم قوم دون قوم (3) أو فقد من بين أَهله (4) أَو في مفازة مهلكة) (5) كدرب الحجاز (6) (انتظر به تمام أَربع سنين منذ تلف) (7) أي فقد، لأَنها مدة يتكرر فيها تردد المسافرين والتجار (8) فانقطاع خبره عن أَهله يغلب على الظن هلاكه (9) .
__________
(1) أي في تقدير مدة انتظاره.
(2) أي والنوع الثاني إن كان من خفي خبره مما غالبه الهلاك.
(3) ولم يعلم له خبر.
(4) كمن يخرج إلى الصلاة فلا يعود، أو يخرج إلى حاجة قريبة فلا يعود.
(5) بفتح الميم واللام، أو ضم الميم وكسر اللام، وهي أرض يكثر فيها الهلاك وقالوا: مفازة. تفاؤلا بالسلامة، وأعم وأحسن منه أنها سميت بالمفازة، لأنه لا شيء أهم عند سالكها من الفوز منها، وإن كان جزءا مما تقدم.
(6) أو كالذي فقد بين الصفين حال الحرب، ونحو ذلك مما غالب حاله الهلاك.
(7) هذه الكلمة سبق قلم، إذ لو علم تلفه لم ينتظر به، وعباراتهم بـ «ـفقد» كما صرفه الشارح.
(8) فانتظر به كمال أربع سنين.
(9) أي فانقطاع خبره عن أهله تلك المدة، على هذا الوجه، يغلب على الظن هلاكه فيها.(6/172)
إذ لو كان حيًّا لم ينقطع خبره إلى هذه الغاية (1) (ثم يقسم ماله فيهما) أي في مسألتي غلبة السلامة بعد التسعين (2) وغلبة الهلاك بعد الأَربع سنين (3) فإِن رجع بعد قسم ماله أَخذ ما وجد (4) ورجع على من أَتلف شيئا به (5) (فإِن مات مورثه في مدة التربص) السابقة (6) (أَخذ كل وارث إِذًا) أي حين الموت (اليقين) (7) وهو ما لا يمكن أَن ينقص عنه مع حياة المفقود أَو موته (8) .
__________
(1) أي أربع السنين، مع غلبة هلاكه فيها، ولاتفاق الصحابة على اعتداد امرأته بعد تربص هذه المدة، وحلها للأزواج بعد ذلك.
(2) على ورثته إن لم يعلم خبره.
(3) وتعتد امرأته عدة الوفاة، وتحل للأزواج، لاتفاق الصحابة على ذلك، كما يأتي في العدد إن شاء الله تعالى، ويزكى ماله لما مضى قبل قسمه، ولا يرثه إلا الأحياء من ورثته وقت قسم ماله.
(4) أي من ماله بعينه، لتبين عدم انتقال ملكه عنه.
(5) أي بما تلف، إن كان مثليا فبمثله، وإلا فقيمته، لتعذر رده بعينه، قال الشيخ: وإن حصل لأسير من وقف شيء تسلمه وحفظه وكيله -ومن ينتقل إليه الوقف بعده- جميعا، أو الحاكم إن عدم الوكيل.
(6) وهي المدة التي تقدم أنه ينتظر به فيها، قبل الحكم بوفاته.
(7) أي أخذ كل وارث غير المفقود من التركة حين الموت نصيبه اليقين.
(8) من حين موت مورثه، إلى انتهاء مدة انتظاره.(6/173)
(ووقف ما بقي) حتى يتبين أَمر المفقود (1) فاعمل مسأَلة حياته، ومسأَلة موته (2) وحصِّل أَقل عدد ينقسم على كل منهما (3) فيأْخذ وارث منهما -لا ساقط في إِحداهما- اليقين (4) (فإِن قدم) المفقود (أَخذ نصيبه) الذي وقف له (5) (وإِن لم يأْت) أي ولم تعلم حياته حين موت مورثه (6) (فحكمه) أي حكم ما وقف له (حكم ماله) الذي لم يخلفه مورثه (7) .
__________
(1) أي وقف نصيب المفقود، وهو ما بقي من التركة، بعد أخذ كل وارث نصيبه، وانتظر به حتى يتبين أمر المفقود، أو تمضى مدة الانتظار، لأنه مال لا يعلم الآن مستحقه، أشبه الذي ينقص نصيبه بالحمل.
(2) أي ثم مسألة موته، ثم اضرب إحداهما أو وفقها في الأخرى، واجتز بإحداهما إن تماثلتا، وبأكثرهما إن تناسبتا.
(3) أي المسألتين، وفائدته تحصيل أقل عدد ينقسم على المسألتين، ليعلم اليقين.
(4) وهو أقل النصبين، لأن ما زاد عليه مشكوك في استحقاقه له، فلو مات أبو المفقود، وخلف ابنه المفقود، وزوجة، وأما، وأَخًا؛ فمسألة حياته من أربعة وعشرين، ومسألة موته من اثنى عشر، ولا شيء للأخ من مسألة الحياة.
(5) لأنه المستحق له، وهو سبعة عشر من المسألة، ورد الفضل إلى أهله إن كان.
(6) بقدومه أو غيره، ولم يعلم موته حينذاك.
(7) صححه في الإنصاف وغيره، وقطع به في المنتهي وغيره، لأنه محكوم بحياته.(6/174)
فيقضى منه دينه (1) وينفق على زوجته منه مدة تربصه (2) لأَنه لا يحكم بموته إلا عند انقضاء زمن انتظاره (3) (ولباقي الورثة أَن يصطلحوا على ما زاد عن حق المفقود (4) فيقتسمونه) على حسب ما يتفقون عليه، لأَنه لا يخرج عنهم (5) .
__________
(1) في مدة تربصه.
(2) أي في الحالتين.
(3) وعنه: يرد إلى ورثة الميت الذي مات في مدة التربص؛ قطع به في المغني، والإقناع، وغيرهما، لأنه لا يورث مع الشك، كالجنين.
(4) رجحه الموفق وغيره، لأن الزائد عن نصيبه مشكوك في مستحقه، فجاز الصلح عليه.
(5) كأخ مفقود في الأكدرية، فمسألة الحياة والموت من أربعة وخمسين، للزوج ثمانية عشر، وللأم تسعة، وللجد تسعة من مسألة الحياة، وللأخت منها ثلاثة، وللمفقود ستة، يبقي تسعة، فلهم الصلح عليها، وعلى كل الموقوف، إن حجب أحدا ولم يرث، أو كان أخا لأب، عصب أخته مع زوج وأخت لأبوين، وإن بان ميتا، ولم يتحقق أنه قبل موت مورثه، فالموقوف لورثة الميت الأول، للشك في حياة المفقود، حين موت مورثه، فلا يرث منه، واتفقوا على أنه لا يرث المفقود إلا الأحياء من ورثته.(6/175)
باب ميراث الغرقي (1)
جمع غريق (2) وكذا من خفي موتهم، فلم يعلم السابق منهم (3) (إِذا مات متوارثان -كأَخوين لأَب- بهدم، أَو غرق (4) أَو غربة، أَو نار) معا (5) فلا توارث بينهما (6) (و) إِن (جهل السابق بالموت) (7) .
__________
(1) أي: باب بيان ميراث الغرقي، ومن عمى موتهم.
(2) مثل: قتيل وقتلي؛ ويقال: أغرقته وغرقته، وغرق الشيء في الماء غرقا، فهو غرق. من باب تعب.
(3) أولا، واختلف إرثهما في السابق منهما.
(4) أي ماتا بهدم معا، بأن انهدم عليهم بيت مثلا ونحوه، أو ماتا في الماء معا بغرق، يقال: غرق - بكسر الراء - غرقا، وذكر الخليل عن العرب أن الغرق الراسب في الماء، والغريق الميت فيه، وعليه فقولهم: لإنقاذ غريق. إن أريد: إخراجه من الماء. فظاهر، وإن أريد: سلامته. فمحال.
(5) أي في زمن واحد، ونحو ذلك، كأن وقع بهم طاعون، وأشكل أمرهم وكالقتلي في معركة القتال، والأسرى، ومن في غربة.
(6) إجماعا، لأن شرط الإرث حياة الوارث، بعد موت المورث، ولم يوجد وإن علم ولو بلحظة، ورث المتأخر إجماعا.
(7) فلم يعلم هل سبق أحدهما الآخر أولا، ولم يختلفوا فيه.(6/176)
أو علم ثم نسى (ولم يختلفوا فيه) بأَن لم يدع ورثة كلٍّ سبق موت الآخر (1) (ورث كل واحد) من الغرقي ونحوهم (2) .
(من الآخر من تلاد ماله) أي من قديمه، وهو بكسر التاء (3) (دون ما ورثه منه) أي من الآخر (4) (دفعا للدور) (5) هذا قول عمر وعلي رضى الله عنهما (6) .
__________
(1) أو علم موت أحدهما أولاً، وجهلوا عينه، ولم يدع ورثة كل منهما سبق موت الآخر، وإن ادعاه فيأتي.
(2) كالهدمى، والقتلي في معركة، والأسرى، ومن في غربة، ونحوهم ممن عمى موته.
(3) والتالد، والتليد، والتلاد: كل مال قديم، والمراد: قديم ماله، الذي مات وهو يملكه.
(4) الذي مات معه.
(5) وهو عدم الاستقرار، يقال: دار حول البيت، يدور، دورانا، من غير
استقرار.
(6) قال الشعبي: وقع الطاعون بالشام، فجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم فكتب عمر - رضي الله عنه -: أن ورثوا بعضهم من بعض، واحتج الأصحاب بما روى إياس بن معاوية أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن قوم وقع عليهم بيت؛ فقال «يرث بعضهم بعضا» لكن قال الموفق: إنما هو عن إياس نفسه، وحكاه أحمد.
وعنه: لا إرث بينهم، ولم يورثهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وروى عن ابن عباس، وزيد، والحسن، وغيرهم، وروى سعيد وغيره أن قتلي اليمامة
وقتلي صفين، والحرة، لم يورث بعضهم من بعض، ورثوا عصبتهم الأحياء، وأن أم كلثوم بنت على توفيت وابنها زيد، ولم يرد أيهما الأول، فلم ترثه، ولم يرثها، وهو قول عمر بن عبد العزيز، والأوزاعى، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأصحابه.
وقال الشيخ: لو مات متوارثان، وجهل أولهما موتا، لم يرث بعضهم من بعض وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي.(6/177)
فيقدر أَحدهما مات أَولاً (1) ويورث الآخر منه (2) ثم يقسم ما ورثه على الأَحياء من ورثته (3) ثم يصنع بالثاني كذلك (4) ففي أَخوين، أَحدهما مولي زيد، والآخر مولى عمرو، ماتا، وجهل الحال (5) يصير مال كل واحد لمولى الآخر (6) .
__________
(1) ضرورة، فإن شرط الإرث موت المورث.
(2) أي من مال من قدر أنه مات أولا.
(3) أي ثم يقسم جميع ماله الأصلي، وما ورثه، على الأحياء من ورثته.
(4) أي يقدر مات أولا، ويورث الآخر منه، ثم يقسم ماله الأصلي، وما ورثه، على الأحياء من ورثته.
(5) أو علم ثم نسى، أو علم وجهل عينه، ولم يدع ورثة واحد سبق موت الآخر، لأنه يفرض مولى زيد ابتداء، فيرثه، أخوه، ثم يكون لمولاه، ثم يعكس، وإن كان لهما أخت، جعل لها الثلث من مال كل واحد منهما.
(6) ومن لم يورث أحدهما من صاحبه، جعل ميراث كل واحد لصاحبه، وللأخت النصف، وهو قول الجمهور.(6/178)
وإِن ادعى كل من الورثة سبق موت الآخر، ولا بينة (1) تحالفا، ولم يتوارثا (2) .
__________
(1) أي وإن ادعى كل من ورثة نحو الغرقي والهدامى سبق موت صاحبه، ولا بينة بالدعوى، أو تعارضتا.
(2) أي حلف كل منهما على ما أنكره من دعوى صاحبه، ولم يتوارثا، لعدم وجود شرطه، وهو تحقق حياة الوارث، بعد موت المورث، كما إذا ماتت امرأة وابنها، فقال زوجها: ماتت فورثناها، ثم مات ابنى فورثته. وقال أخوها: بل مات ابنها فورثته، ثم ماتت فورثناها. حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه، وكان ميراث الابن لأبيه، وميراث المرأة لأخيها وزوجها. .(6/179)
باب ميراث أهل الملل (1)
جمع «ملة» بكسر الميم (2) وهي الدين، والشريعة (3) . من موانع الإِرث اختلاف الدين (4) فـ (ـلا يرث المسلم الكافر (5) إِلا بالولاء) (6) لحديث جابر: أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يرث المسلم النصرانى، إِلا أَن يكون عبده أَو أَمته» رواه الدارقطنى (7) .
__________
(1) أي بيان إِرث أهل الملل، اليهود، والنصارى، والمجوس، وغيرهم، وحكم ميراث المسلم معهم.
(2) لا غير.
(3) قال تعالى (إن الدين عند الله الإسلام) وقال (ثم أوحينا إليك أن ابتع ملة إبراهيم حنيفا) .
(4) أي من موانع الإرث الثلاثة اختلاف الدين، على ما يأتي تفصيله، والثاني الرق، والثالث القتل، ولا نزاع في المنع بهما.
(5) عند جمهور العلماء، وقال الموفق: عند عامة الفقهاء، وعليه العمل.
(6) أي فيرث المسلم الكافر بالولاء، روى عن على وغيره، وهو رواية عن أحمد.
(7) ونحوه رواه عبد الرزاق عنه موقوفا، وهو المحفوظـ، وقال ابن المنذر: ذهب الجمهور إلى الأخذ بما دل عليه حديث أسامة المتفق عليه، ولأنه لا ولاية بين المسلم والكافر.(6/180)
وإِلا إِذا أَسلم كافر قبل قسم ميراث مورثه المسلم فيرث (1) (ولا) يرث (الكافر المسلم (2) إلا بالولاء) (3) لقوله - عليه السلام -: «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر» متفق عليه (4) وخص بالولاء، فيرث به، لأَنه شعبة من الرق (5)
__________
(1) لما رواه أبو داود وغيره عن ابن عباس مرفوعا «كل قسم قُسم في الجاهلية، فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام، فإنه على قسم الإسلام» ولقوله «من أسلم على شيء فهو له» رواه سعيد، وقضى به عمر، وعثمان، واشتهر فلم ينكر، فكان إجماعا.
(2) باتفاق المسلمين.
(3) وهو رواية عن أحمد، وعنه: لا يرثه. وقال الموفق: جمهور العلماء على أنه لا يرثه مع اختلاف دينهما، للخبر الآتى، ولأنه ميراث، فيمنعه اختلاف الدين، كميراث النسب، ولأن اختلاف الدين مانع من الميراث، فمنع الميراث بالولاء، ولأن الميراث بالنسب أقوي، فإذا منع الأقوى فالأضعف أولي، قال: وهذا أصح في الأثر والنظر.
(4) من حديث أسامة، ورواه الخمسة وغيرهم، وفي رواية، قال: يا رسول الله أتنزل غدا في دارك بمكة؟، قال «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟! وكان عقيل ورث أبا طالب، هو وطالب، ولم يرث جعفر، ولا على شيئا، لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين، ولغيرهما من الأحاديث، وقال الشيخ: إذا كان الميت مسلما وهم كفار، لم يرثوا باتفاق المسلمين، وكذا لو كانوا كفارا وهؤلاء مسلمون، وكذا لو كان عبدا وهم أحرار، أو كان حرا وهم عبيد.
(5) أما ثبوت الولاء، مع اختلاف الدين فلا نزاع فيه، وكونه شعبة من الرق يروى عن علي، ولكن اختلاف الدين مانع مع النسب، فبالولاء أولى، ولو كان الأقرب من العصبة مخالفا لدين الميت، والأبعد على دينه، ورث دون الأقرب.(6/181)
(و) اختلاف الدارين ليس بمانع (1) فـ (ـيتوارث الحربى، والذمى، والمستأْمن) إِذا اتحدت أَديانهم، لعموم النصوص (2) (وأَهل الذمة يرث بعضهم بعضا مع اتفاق أَديانهم، لا مع اختلافها (3) وهم ملل شتى) (4) لقوله - عليه السلام - «لا يتوارث أَهل ملتين شتى» (5) (والمرتد لا يرث أَحدًا) من المسلمين، ولا من الكفار (6) لأَنه لا يقر على ما هو عليه، فلم يثبت له حكم دين من الأَديان (7) .
__________
(1) لأنهم من أهل ملة واحدة.
(2) القاضية بتوريثهم، ولم يرد بتخصيصهم نص ولا إجماع، ولمفهوم الحديث الآتى وغيره.
(3) قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا. ولا فرق في ذلك بين أهل الذمة، وغيرهم من الكفار، للخبر المتقدم وغيره.
(4) لا يتوارثون مع اختلافها، لقول علي: الكفر ملل شتى، قال الموفق: لا نعلم له مخالفا في الصحابة، فكان إجماعا.
(5) أي متفرقين في أديانهم، فدل على أنه لا توارث بين أهل ملتين مختلفتين، بالكفر، أو بالإسلام والكفر، وهو مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما، ولفظه ظاهر في عدم التوارث بين أهل ملل الكفر، ولأن كل فريقين منهم لا موالاة بينهم، ولا اتفاق في دين، فلم يرث بعضهم بعضا، كالمسلمين والكفار.
(6) إلا أن يسلم قبل قسم الميراث.
(7) قال الموفق: لا نعلم خلافا بين أهل العلم أن المرتد لا يرث أحدًا،
وهو قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، لقوله «لا يرث الكافر المسلم» ولا المسلم الكافر» .(6/182)
(وإِن مات) المرتد (على ردته، فماله فيءٌ) (1) لأَنه لا يقر على ما هو عليه، فهو مباين لدين أَقاربه (2) (ويرث المجوسى بقرابتين) غير محجوبتين (3) في قول عمر، وعلي، وغيرهما (4) .
__________
(1) في بيت مال المسلمين، وهو قول مالك، والشافعي.
(2) وعنه: لأنه لورثته من المسلمين، وهو قول أبي بكر، وعلي، وابن مسعود والأوزاعى، وغيرهم، وأهل العراق، قال زيد: بعثنى أبو بكر عند رجوعه إلى أهل الردة أن أقسم ما لهم بين ورثتهم المسلمين. وقال الشيخ: المرتد إن قتل في ردته، أو مات عليها، فماله لوارثه المسلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو المعروف عن الصحابة، ولأن ردته كمرض موته.
وقال ابن القيم: أما على القول الراجح: أنه لورثته من المسلمين، فلا تتم الحيلة بالردة، وهذا القول هو الصواب، فإن ارتداده أعظم من مرض الموت المخوف، وهو في هذه الحال قد تعلق حق الورثة بماله، فليس له أن يسقط هذا التعلق بتبرع، فهكذا المرتد بردته تعلق حق الورثة بماله، إذ صار مستحقا للقتل.
وقال الشيخ رحمه الله: الزنديق منافق، يرث ويورث، لأنه - عليه السلام - لم يأخذ من تركه منافق شيئا، ولا جعله فيئا، فعلم أن التوارث مداره على النظرة الظاهرة، واسم الإسلام يجرى عليه في الظاهر إجماعا.
(3) وكذا كل من يرى حل نكاح ذوات المحارم بجميع قراباته إن أمكن.
(4) كابن مسعود، وابن عباس، وزيد، في الصحيح عنه، وهو قول
أبي حنيفة وغيره، وأحد قولي الشافعي، ولأنهما قرابتان، ترث بكل واحدة منهما منفردة فترث بهما مجتمعتين، كزوج هو ابن عم.(6/183)
(إِن أَسلموا (1) أَو تحاكموا إِلينا قبل إِسلامهم) (2) فلو خلف أُمه وهي أُخته (3) بأَن وطىءَ أبوه ابنته، فولدت هذا الميت، ورثت الثلث بكونها أُما، والنصف بكونها أُختا (4) (وكذا حكم المسلم يطأَ ذات رحم محرم منه بشبهة) نكاح (5) أَو وتسرٍّ، ويثبت النسب (6) (ولا إِرث بنكاح ذات رحم محرم) (7) .
__________
(1) أي كان حكمهم كآحاد المسلمين.
(2) لقوله «وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) .
(3) أي من أبيه.
(4) وإن كان معها أخت أخرى لم ترث الأخت التي هي أم إلا السدس، لأنها انحجبت بنفسها وبالأخرى.
(5) يثبت به النسب، ويرث بجميع قراباته.
(6) أي لو اشترى ذات محرمه وهو لا يعرفها، فوطئها فأتت بولد، ثبت النسب، وورث بجميع قراباته، والمسائل التي يجتمع فيها قرابتان ويصح الإرث بهما ست: عم هو أخ من أم، وبنت هي أخت، أو بنت ابن، وأم هي أخت لأب وأم أم هي أخت لأب، وأم أب هي أخت لأم.
(7) للزوج أو الزوجة، لبطلانه، مجوسا كانوا أو غيرهم ممن جرى مجراهم، إذا أسلموا، أو تحاكموا إلينا، قال الموفق: لا نعلم خلافا في أنهم لا يرثون بنكاح ذوات المحارم.(6/184)
كأُمه، وبنته، وبنت أَخيه (1) (ولا) إِرث (بعقد) نكاح (لا يقر عليه لو أَسلم) (2) كمطلقته ثلاثا (3) وأُم زوجته، وأُخته من الرضاع (4) .
__________
(1) فلا ترث واحدة منهن بالزوجية، لأنهم لا يقرون عليه ولو اعتقدوه، وأما بالقرابة فيرث كل منهما صاحبه.
(2) أي للزوج أو الزوجة، لأن ما لا يقرون عليه بعد إسلامهم لا يتوارثون به، والمجوس وغيرهم في هذا سواء.
(3) أي كمطلقة الكافر ثلاثا، ونكاحها قبل أن تنكح زوجا غيره، ثم أسلما، لم يقرا عليه، وإن مات أحدهما لم يرثه الآخر، وإن مات أحدهما قبل إسلامهما لم يتوارثا.
(4) لا إرث بنكاحها، ولا يقرون عليه.(6/185)
باب ميراث المطلقة (1)
رجعيا، أَو بائنا، يتهم فيه بقصد الحرمان (2) (من أَبان زوجته في صحته) لم يتوارثا (3) (أَو) أَبانها في (مرضه غير المخوف ومات به) لم يتوارثا، لعدم التهمة حال الطلاق (4) (أَو) أَبانها في مرضه (المخوف، ولم يمت به، لم يتوارثا) (5) لانقطاع النكاح، وعدم التهمة (6) (بل) يتوارثان (في طلاق رجعي لم تنقض عدته) (7) .
__________
(1) أي بيان من يرث من المطلقات، ومن لا يرث.
(2) أي حكم المطلقة طلاقا رجعيا، وهو ما دون الثلاث، ولم تخرج من العدة، أو طلقها بائنا يتهم في طلاقه بقصد حرمانها من الميراث، على ما يأتي تفصيله.
(3) لزوال الزوجية التي هي سبب الميراث، قال الموفق: إذا طلق امرأته في صحته، طلاقا بائنا، أو رجعيا فبانت بانقضاء عدتها، لم يتوارثا إجماعا.
(4) ولأن حكم الطلاق فيه حكم الطلاق في الصحة، فلم يتوارثا.
(5) قال الموفق: في قول الجمهور، كالمطلقة في الصحة.
(6) لأنه لا فرار منه، ولأن حكمه حكم الصحة، في العطايا وغيرها، فكذا الطلاق.
(7) ومات أحدهما فيه.(6/186)
سواء كان في المرض، أَو في الصحة (1) لأَن الرجعية زوجة (2) (وإِن أَبانها في مرض موته المخوف (3) متهما بقصد حرمانها) (4) بأَن أَبانها ابتداء (5) أَو سأَلته أَقل من ثلاثة فطلقها ثلاثا (6) (أَو علق إِبانتها في صحته على مرضه (7) .
__________
(1) قال الموفق: بغير خلاف نعلمه، وقال: روي عن أبي بكر، وعمر، وعلى غيرهم، وحكاه غير واحد إجماعا.
(2) يلحقها طلاقه، وظهاره، وإيلاؤه، ويملك إمساكها بالرجعة بغير رضاها.
(3) فلها معه حالتان: إما أن يكون متهما بقصد حِرْمانها الميراث، أولا.
(4) لم يرثها وترثه، وجزم ابن القيم وغيره: أن السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، ورثوا المطلقة، المبتوتة في مرض الموت، حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث، بلا تردد، وإن لم يقصد الحرمان، لأن الطلاق ذريعة. قال: وأما إذا لم يتهم، ففيه خلاف معروف، مأخذه أن المرض أوجب تعلق حقها بماله، فلا يمكن من قطعه، أو سدا للذريعة بالكلية.
(5) أي بلا سؤالها، ورثته ما لم تتزوج أو ترتد، لقرينة التهمة.
(6) ورثته، كطلاق المريض، وهذا ما لم تكن سألته الطلاق على عوض، لأنها سألته الإبانة، فأجابها إليها، ومفهومه أنها لو سألته الطلاق، فطلقها ثلاثا لم ترث، وإن أقر في مرضه أنه طلقها ثلاثا في صحته لم يقبل، وصار حكمه حكم طلاقه في مرضه.
(7) ورثته، أو علقه على فعل لا بد لها منه، كالصلاة المكتوبة، والأكل ونحوه ورثته، لأنه فر من ميراثها.(6/187)
أَو) علق إبانتها (على فعل له) كدخول الدار (1) (ففعله في مرضه) المخوف (2) (ونحوه) كما لو وطيء عاقل حماته بمرض موته المخوف (3) (لم يرثها) إن ماتت، لقطعه نكاحها (4) (وترثه) هي (في العدة وبعدها) (5) لقضاء عثمان - رضي الله عنه - (6) (ما لم تتزوج (7) .
__________
(1) أي بأن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق.
(2) ورثته، وكذا إن علقه على ترك فعله له فتركه، بأن قال: إن لم أدخل الدار فأنت طالق ثلاثا. فمات قبل فعله، لأنه أوقع الطلاق بها في المرض.
(3) ولو لم يمت به الزوج من مرضه ذلك وكذا لو وطئ ابنتها بمرض موته المخوف.
(4) بوطئه أمها أو بنتها.
(5) ترثه في العدة عند الجمهور كما يأتي، وبعدها في المشهور عن أحمد، وقول مالك وغيره، لما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أباه طلق أمه وهو مريض، فمات، فورثته بعد انقضاء العدة، ولأن سبب توريثها فراره من ميراثها، وهو لا يزول بانقضاء العدة.
(6) فإنه ورَّث تماضر، من عبد الرحمن بن عوف، وكان طلقها في مرضه، واشتهر فلم ينكر، وقال له عمر: إن مت لأورثنها منك. فقال: قد علمت، وهو قول جمهور أئمة الإسلام، وقال ابن القيم: ورث عثمان المبتوتة في مرض الموت، ووافقه الصحابة، معاوضة له بنقيض قصده.
(7) فيسقط ميراثها عند أكثر أهل العلم، لأنها وارثة من زوج، فلا ترث آخر، كسائر الزوجات، ولأن التوريث في حكم النكاح، فلا يجوز اجتماعه مع نكاح آخر.(6/188)
أَو ترتد) فيسقط ميراثها، ولو أَسلمت بعد (1) لأَنها فعلت باختيارها ما ينافي نكاح الأَول (2) ويثبت الإِرث له دونها إِن فعلت في مرض موتها المخوف ما يفسخ نكاحها (3) ما دامت في العدة (4) إن اتهمت بقصد حرمانه (5) .
__________
(1) لأن مجرد ارتدادها يسقط إِرثها، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وإن ارتد أحد الزوجين، ثم عاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، ورثه الآخر، لأن النكاح باق، وإن انقضت قبل رجوعه، انفسخ النكاح، ولم يرث أحدهما الآخر.
(2) وإن لم يمت المطلق من مرضه المخوف، بل لسع ونحوه، ورثته ما لم تتزوج أو ترتد، ولو أبانها قبل الدخول ورثته، معاقبة له بنقيض قصده، ولا عدة عليها.
(3) كإرضاعها ضرتها الصغيرة، أو زوجها الصغير في الحولين، أو ارتدادها في مرض موتها المخوف، ونحو ذلك.
(4) تبع التنقيح والمنتهي، وجزم في الإقناع بثبوته، ولو بعد العدة، كما لو كان هو المطلق، وجزم به في الفروع وكذا أطلق الموفق في المقنع، وتبعه الشارح، وعلله بأنها أحد الزوجين، فر من ميراث الآخر، فأشبهت الرجل.
(5) كالزوج، وأما لو دبَّ زوجها الصغير، أو ضرتها الصغيرة، فارتضعت منها وهي نائمة، لم تتهم بقصد حرمانه، وسقط ميراثه منها، كما لو ماتت قبله، وإن طلق بقصد حرمان إرثه أربعا كن له، وانقضت عدتهن منه، وتزوج أربعا سواهن ثم مات، ورث منه الثمان، ما لم تتزوج المطلقات، أو يرتددن، جزم به في الإقناع، واختار الموفق: ترثه المنكوحات خاصة، وقال الشيخ: لو تزوج في مرض موته مضارة، لتنقيص إرث غيرها، وأقرت به ورثته، لأن له أن يوصي بالثلث.(6/189)
باب الإقرار بمشارك في الميراث (1)
(إِذا أَقر كل الورثة) المكلفين (2) (ولو أَنه) أي الوارث المقر (واحد) منفرد بالإِرث (3) (بوارث للميت) من ابن ونحوه (4) (وصدق) المقر به (5) (أَو كان) المقر به (صغيرًا أَو مجنونا (6) والمقر به مجهول النسب (7) .
__________
(1) أي بيان الإقرار بوارث وشروطه، وطريق العمل فيما إذا أقر بعض الورثة دون بعض.
(2) لأن إقرار غير المكلف لا يعول عليه.
(3) تعصيبا، أو فرضا وردا، كالبنت، ولو مع عدم أهلية الشهادة كالفاسق.
(4) سواء كان مشاركا له، كابن للميت يقر بابن آخر، أو مسقط له، كأخ للميت يقر بابن للميت، ولو من أمته، ففي الصحيحين أن سعد بن أبي وقاص قال للنبى صلى الله عليه وسلم: أمرني أخى: أن انظر ابن أمة زمعة فاقبضه، فإنه ابنى. وقال ابن زمعة: أخي، وابن أمة أبي، ولد على فراشه، فقال «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» .
(5) إن كان مكلفا ثبت نسبه، وإلا لم يعتبر تصديقه.
(6) ولو لم يصدقه.
(7) لأن معروف النسب لا يصح أن يقطع نسبه الثابت من غيره.(6/190)
ثبت نسبه) بشرط أَن يمكن كون المقر به من الميت (1) وأَن لا ينازع المقر في نسب المقر به (2) (و) ثبت (إِرثه) حيث لا مانع (3) لأَن الوارث يقوم مقام الميت، في بيناته، ودعاويه، وغيرها (4) فكذلك في النسب (5) ويعتبر إِقرار زوج، ومولي إِن ورثا (6) (وإِن أَقر) به بعض الورثة، ولم يثبت نسبه (7) .
__________
(1) بحيث يحتمل أن يولد لمثله، فلو أقر بمن عمره اثنتا عشرة سنة، أنه ابن من عمره عشرون سنة فباطل، لعدم الإمكان.
(2) فإن نوزع فيه، فليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر.
(3) من نحو رق، أو قتل، فيثبت نسبه، ولا يرث، للمانع الذي قام به.
(4) كالديون التي له وعليه، والأيمان التي له وعليه.
(5) أي إذا كان يقوم مقام الميت في تلك الأحوال، قام مقامه في النسب، وهو قول الشافعي وغيره، وإن فقد شيء من تلك الشروط الأربعة - وهي: إقرار الجميع، وتصديق المقر به إن كان مكلفا، وإمكان كونه من الميت، وعدم المنازع - لم يثبت نسبه.
(6) أي ويعتبر لثبوت نسب المقر به إقرار الزوج، والمولي المعتق، إذ كانا في الورثة، لشمول اسم الورثة لكل منهما، وإن أقر أحدهما الذي لا وارث معه بابن للآخر من غيره، فصدقه الإمام أو نائبه، ثبت نسبه، وإلا فلا.
(7) قال الموفق: بالإجماع، لأن النسب لا يتبعض، فلا يمكن إثباته في حق المقر دون المنكر، ولا إثباته في حقهما.(6/191)
بشهادة عدلين منهم، أَو من غيرهم (1) ثبت نسبه من مقر فقط (2) وأَخذ الفاضل بيده (3) أَو ما في يده إِن أَسقطه (4) فلو أَقر (أَحد ابنيه بأَخ مثله) أي مثل المقر (فله) أي للمقر به (ثلث ما بيده) أي يد المقر (5) لأَن إِقراره تضمن أَنه لا يستحق أَكثر من ثلث التركة، وفي يده نصفها، فيكون السدس الزائد للمقر به (6) (وإِن أَقر بأُخت فلها خمسه) أي خمس ما بيده (7) لأَنه لا يدعي أَكثر من خمسي المال، وذلك أَربعة أَخماس النصف الذي بيده، يبقي خمسه، فيدفعه لها (8) .
__________
(1) أنه ولد على فراشه، أو أنه أخوه ونحوه، أو أن الميت أقر به، فيثبت النسب، ويشاركهم في الإرث.
(2) أي دون الميت وبقية الورثة، لأنه إقرار على نفسه خاصة، فلزمه كسائر الحقوق.
(3) على مقتضى إقراره إن فضل، لأنه مقر بأن ذلك له.
(4) لإقراره أنه له، فلزمه دفعه إليه.
(5) فيلزمه دفعه إليه.
(6) وهو مذهب مالك وغيره، وتصح من ستة، للمنكر ثلاثة، وللمقر اثنان، وواحد للمقر به.
(7) لإقراره أنه لها.
(8) وتصح من عشرة، للمنكر خمسة، وللمقر أربعة، وللأخت المقر بها واحد، وإن لم يكن في يد المقر شيء فلا شيء للمقر به.(6/192)
وإِن أَقر ابن ابن بابن، دفع له كل ما بيده، لأَنه يحجبه (1) وطريق العمل: أَن تضرب مسأَلة الإِقرار أَو وفقها، في مسأَلة الإِنكار (2) وتدفع لمقر سهمه من مسأَلة الإِقرار، في مسأَلة الإِنكار أَو وفقها، ولمنكر سهمه من مسأَلة الإِنكار، في مسأَلة الإِقرار أَو وفقها (3) ولمقر به ما فضل (4) .
__________
(1) أي وإن أقر ابن ابن للميت بابن للميت، فللمقر به كل ما في يد المقر، لأنه يحجبه عن الإرث بإقراره به، وإن أقر أخوان أحدهما من أب، وآخر من أم، بأخ لهما من أبوين، ثبت نسبه، وأخذ ما بيد ذي الأب، لحجبه به، بخلاف الأخ لأم.
(2) إن تباينتا، أو توافقتا وتراعى الموافقة، فتضرب إحداهما في الأخرى، إن كان بينهما موافقة، وتكتفي بإحداهما إن تماثلتا، وبأكبرهما إن تداخلتا.
(3) وتجمع ما حصل للمقر والمنكر من الجامعة.
(4) من الجامعة، فلو أقر أحد ابنين بأخوين، فصدقه أخوه في أحدهما ثبت نسبه، فصاروا ثلاثة، فتضرب مسألة الإقرار في الإنكار، تكن اثني عشر، للمنكر سهم من الإنكار، في الإقرار أربعة، وللمقر سهم من الإقرار، في الإنكار ثلاثة وللمتفق عليه إن صدقه المقر مثل سهمه، وإن أنكره فمثل سهم المنكر، وللمختلف فيه ما فضل، وهما سهمان حال التصديق، وسهم حال الإنكار.(6/193)
باب
ميراث القاتل والمبعض والولاء (1)
بفتح الواو والمد (2) أي ولاء العتاقة (3) (من انفرد بقتل مورثه (4) أَو شارك فيه، مباشرة (5) أَو سببًا) كحفر بئر تعديا (6)
__________
(1) أي: باب بيان ميراث القاتل، في الحال التي يرث فيها، دون الحال التي لا يرث فيها، وبيان ميراث المعتق بعضه، دون القن، وبيان الميراث بالولاء.
(2) فالولي بالقصر الدنو.
(3) لا المحبة، والولاء لغة: الملك؛ وشرعا: ثبوت حكم شرعي بعتق أو تعاطي سببه.
(4) بلا حق لم يرثه، وتقدم أنه من موانع الإرث لما يأتي، وعمر أعطى دية ابن قتادة المذحجي لأخيه، دون أبيه، وكان حذفه بسيف فقتله، واشتهر فلم ينكر، فكان إجماعا، وحكاه الموفق إجماع أهل العلم، إلا ما حكي عن ابن المسيب، وابن جبير.
(5) أي أو شارك في قتل مورثه مباشرة، لم يرثه، لأن شريك القاتل قاتل، بدليل أنه يقتل به لو أوجب القصاص، ويلزمه من الضمان بحسبه.
(6) أي أو يكون قتله الحر المشارك فيه سببا، كحفر بئر تعديا، بكونه في موضع لا يحل حفرها فيه، فيموت بها مورثه.(6/194)
أَو نصب سكين (بلا حق، لم يرثه (1) إِن لزمه) أي القاتل (قود، أو دية، أَو كفارة) على ما يأْتي في الجنايات (2) لحديث عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس للقاتل شيء» رواه مالك في موطئه، وأَحمد (3) (والمكلف وغيره) أي غير المكلف، كالصغير، والمجنون، في هذا (سواء) لعموم ما سبق (4) .
__________
(1) أي أو يكون سببا، كنصب سكين أو حجر بلا حق، فيموت به مورثه لم يرثه، وكذا لو كان برش ماء، أو إخراج نحو جناح بطريق، ونحو ذلك.
(2) أي إن لزم القاتل قود، بأن يكون القتل عمدا، أو لزمه دية، كقتل الوالد ولده ولو عمدا، فإنه تلزمه الدية فقط، أو كفارة، بأن يكون القتل خطأ، فلا يلزمه إلا كفارة، على ما يأتي في الجنايات موضحا إن شاء الله تعالى.
(3) وابن ماجه، وغيرهم، ولأبي داود، والنسائى، عن عمرو بن شعيب مرفوعا «لا يرث القاتل شيئا» ولأحمد من حديث ابن عباس: من قتل قتيلا فإنه لا يرثه، وإن لم يكن له وارث غيره، وإن كان والده أو ولده، فليس لقاتل ميراث ولها شواهد بمجموعها يحتج بها، وقضى به عمر كما تقدم، وعلي، وشريح، وغيرهم من قضاة المسلمين، وهو مذهب جمهور العلماء.
وقال الشيخ: الآمر بقتل مورثه لا يرثه، ولو انتفي عنه الضمان، وقال ابن القيم: قتلا مضمونا بقصاص، أو دية، أو كفارة، أو قتلا مطلقا، سواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث، أو لم يقصده، فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع اتفاقا، لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل، فسد الشارع الذريعة بالمنع.
(4) من الأحاديث والآثار والإعتبار.(6/195)
(وإِن قتل بحق قودا، أو حدا (1) أَو كفرا) أي غير ردة (2) (أَو ببغي) أي قطع طريق (3) لئلا يتكرر مع ما يأْتى (4) (أَو) بـ (ـصيالة، أَو حرابة (5) أَو شهادة وارثه) بما يوجب القتل (6) (أَو قتل العادل الباغي، وعكسه) كقتل الباغي العادل (ورثه) (7) لأَنه فعل مأْذون فيه، فلم يمنع الميراث (8) (ولا يرث الرقيق) (9)
__________
(1) كقصاص، وترك زكاة، أو زنا، ونحو ذلك ورثه، لأن حرمانه يمنع استيفاء الحقوق المشروعة، وإقامة الحدود الواجبة، وهو لا يفضى إلى إيجاد قتل محرم.
(2) نحو أن يقتل المسلم عتيقه الكافر، وهذه الصورة ليست في الإقناع، ولا في المنتهي، ولا الشرح.
(3) ويأتي قتل القاطع إذا قتل فيرثه، لأنه قتله بحق، إن لم يندفع إلا بالقتل، أو حرابة، بأن يقتل مورثه الحربى.
(4) أي من قوله: أو قتل العادل الباغي، وعكسه.
(5) صيالة دفعا عن نفسه، كالصائل عليه.
(6) بحق، أو تزكية الشاهد عليه بحق، أو حكم بقتله.
(7) نص عليه أحمد، وجزم به في الإقناع وغيره.
(8) كما لو أطعمه وسقاه باختياره، فأفضى إلى تلفه، واختار الموفق وغيره: لو أدب ولده ونحوه، ولم يسرف، فمات ورثه.
(9) قال الموفق: لا أعلم فيه خلافا، إلا ما روي عن ابن مسعود، لأن فيه نقصا، منع كونه موروثا، فمنع كونه وارثا، كالمرتد.(6/196)
ولو مدبرا، أَو مكاتبا، أَو أُم ولد (1) لأَنه لو ورث لكان لسيده، وهو أَجنبي (2) (ولا يورث) لأَنه لا مال له (3) (ويرث من بعضه حر، ويورث (4) ويحجب، بقدر ما فيه من الحرية) (5) لقول علي، وابن مسعود (6) .
__________
(1) لأنه رقيق، والنبي صلى الله عليه وسلم باع مدبرا، ولأنه لو مات وسيده حي فهو قن، وأم الولد مملوكة، يجوز لسيدها وطؤها بحكم الملك، وإجارتها، وأما المكاتب فإن لم يملك قدر ما عليه فهو عبد، لا يرث، ولا يورث، وإن ملك قدر ما يؤدي، فروايتان، إحداهما أنه عبد ما بقي عليه درهم، للأخبار، واختاره الموفق وغيره، وروي عن عمر وغيره، وعنه: إذا ملك ما يؤدي، يرث ويورث، لخبر «إذا كان عنده ما يؤدي، فلتحتجب عنه» فالله أعلم.
(2) أي من مورث رقيقه، فلم يرث الرقيق لأجل ذلك.
(3) فيورث عنه لقوله صلى الله عليه وسلم «من باع عبدا له مال، فماله لبائعه، إلا أن يشترطه المبتاع» ولأنه لا يملك، ومن قال: يملك بالتمليك؛ فملكه غير مستقر، يزول إلى سيده، بزوال ملكه عن رقبته، للخبر، ولأن السيد أحق بمنافعه، وأكسابه في حياته، فكذلك بعد مماته، وأما الأسير الذي عند الكفار، فيرث إذا علمت حياته، عند عامة الفقهاء.
(4) أي ويرث من بعضه حر بقدر ما فيه من الحرية، ويورث بقدر ما فيه من الحرية.
(5) أي ويحجب من بعضه حر بقدر ما فيه من الحرية.
(6) وعثمان التيمي، وابن المبارك، وغيرهم، لما روى أحمد وغيره عن ابن عباس مرفوعا «يرث المكاتب ويورث، على قدر ما عتق منه» حسنه الترمذي، ولأنه يجب أن يثبت لكل بعض حكمه، كما لو كان الآخر مثله.(6/197)
وكسبه، وإِرثه بحريته لورثته (1) فابن نصفه حر، وأُم وعم حران، للابن نصف ماله لو كان حرا، وهو ربع وسدس (2) وللأُم ربع، والباقي للعم (3) (ومن أَعتق عبدا) أَو أَمة، أَو أَعتق بعضه فسرى إِلي الباقي (4) أَو عتق عليه برحم، أَو كتابة، أَو إِيلاد (5) .
__________
(1) كما إذا كان نصفه حرا، وهاياه مالك نصفه، بأخذ نصف كسبه، فنصف كسبه له، يختص به ورثته، وكذا إرثه، وما قاسم سيده في حياته، يختص به ورثته.
(2) بنصفه الحر، ولو كان الابن كامل الحرية، كان للأم السدس، وله الباقي، وهو نصف وثلث.
(3) للأم ربع، لأن الابن الحر يحجبها عن سدس فبنصفه الحر يحجبها عن نصف سدس، يبقي لها سدس، ونصف سدس، وذلك ربع، والباقي - وهو ثلث - لعم تعصيبا، فتجعل مسألة حرية، ومسألة رق، فمسألة الحرية من ستة، ومسألة الرق من ثلاثة، فتضرب الستة في حالتي الحرية والرق، فللابن خمسة لو كان حرا، وللأم ثلاثة فيهما، والباقي للعم.
(4) على ما يأتي بيانه، فله عليه الولاء، قال الموفق: أجمع أهل العلم على أن من أعتق عبدا، أو عتق عليه، ولم يعتقه سائبة، ولا من زكاته، أو نذره، أو كفارته، أن له عليه الولاء للخبر.
(5) أي أو عتق عليه بسبب ما عليهما من رحم، كما لو ملك أباه، أو ولده، أو أخاه ونحوه، أو عتق عليه بكتابة، بأن كاتبه على مال فأداه، ولو إلى الورثة وعتق، ولأحمد وغيره مرفوعا «المكاتب يورث بقدر ما عتق منه» حسنه الترمذي أو عتق عليه بإيلاد، كأن أتت أمته منه بولد، ثم مات أبو الولد، فله عليه الولاء، ولو أعتق حربى حربيا، فله عليه الولاء عند جمهور العلماء.(6/198)
أَو أعتقه في زكاة، أَو كفارة (فله عليه الولاء) (1) لقوله - عليه السلام - «الولاء لمن أَعتق» متفق عليه (2) وله أَيضا الولاء على أَولاده، وأَولادهم وإِن سفلوا، من زوجة عتيقة، أَو سرية (3) .
__________
(1) أي أو أعتقه في زكاة أو عن كفارة، أو نذر، فله عليه الولاء، جزم به في الإقناع وغيره، لأنه معتق عن نفسه، فكان الولاء له، وعن أحمد في الذي يعتق في الزكاة: ولاؤه للذى جرى عتقه على يديه، وقال أبو عبيد: ولاؤه لصاحب الصدقة، قال الموفق: وهو قول الجمهور، في العتق في النذر والكفارة.
وعن أحمد في الذي يعتق من زكاته: إن ورث منه شيئا جعله في مثله، وعلله الموفق بأنه معتق من غير ماله، فلم يكن له الولاء. وكثير من أهل العلم أنه لا يعتق من الزكاة، وهو رواية عن أحمد، وقول الشافعي، وتقدم.
(2) فدل على أن الولاء للمعتق، ومقتضاه نفيه عمن سواه؛ وللترمذى وصححه «الولاء لحمة كلحمة النسب» أي يجر الولاء مجرى النسب لا يتأتى انتقاله «لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث» بل إنما يورث به، وفي الصحيحين: نهي عن بيع الولاء وهبته؛ وهذا مذهب جماهير العلماء.
(3) أي ومن أعتق عبدا، أو عتق عليه، فله أيضا الولاء على أولاد العتيق، وأولادهم وإن سفلوا، من زوجة معتقة. للعتيق أو غيره، لا حرة الأصل، وعلى أولاده من سرية العتيق، وتقدم قول الموفق: أجمعوا على أن من أعتق عبدا، أو عتق عليه، أن له عليه الولاء.(6/199)
وعلي من له أَو لهم ولاؤه (1) لأَنه ولي نعمتهم، وبسببه عتقوا (2) ولأَن الفرع يتبع أَصله (3) ويرث ذو الولاء مولاه (4) (وإِن اختلف دينهما) لما تقدم (5) فيرث المعتق عتيقه عند عدم عصبة النسب (6) ثم عصبته بعده، الأَقرب فالأَقرب على ما سبق (7) .
__________
(1) أي وله أيضا: الولاء على من للعتيق ولاؤه، كعتقائه «أولهم» أي لأولاد العتيق وإن سفلوا ولاؤه، كمعتقيه، ومعتقي أولاده وأولادهم، ومعتقهم أبدا ما تناسلوا.
(2) أي بسبب معتق العتيق، ومن له أولهم ولاؤه.
(3) فأشبه ما لو باشر عتقهم، ولا فرق بين كون ذلك في دار الإسلام أو الحرب، لتشبيه الشارع الولاء بالنسب، ولو اختلف دينهما في قول جمهور العلماء.
(4) أي ويرث ذو الولاء بالولاء مولاه بشرطه، ما لم تستغرق فروضهم المال، لخبر «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» .
(5) وتقدم بأدلته وتعالىله.
(6) وعند عدم ذوى فروض تستغرق فروضهم المال لخبر «ألحقوا الفرائض بأهلها» الحديث، ومتى وجدوا فلا شيء للمولي بلا خلاف اتفاقا.
(7) أي ثم يرث عصبة المعتق بعده بالولاء، الأقرب فالأقرب من المعتق لما سبق، ولما روى أحمد في امرأة أعتقت عبدا، ثم توفيت، وتركت ابنا لها وأخا، ثم توفي مولاها، فقال صلى الله عليه وسلم: «ميراثه لابن المرأة» .(6/200)
(ولا يرث النساء بالولاء إِلا من أَعتقن) أي باشرن عتقه (1) أَو عتق عليهن بنحو كتابه (2) (أَو أَعتقه من أَعتقن) أي عتيق عتيقهن، وأَولادهم (3) لحديث عمرو بن شعيب عن أَبيه عن جده مرفوعا «ميراث الولاء للكُبْر من الذكور» (4) ولا يرث النساء من الولاء إِلا ولاء من أَعتقن؛ والكُبْر - بضم الكاف وسكون الموحدة - أَقرب عصبة السيد إليه يوم موت عتيقه (5) والولاء لا يباع، ولا يوهب، ولا يوقف، ولا يوصي به، ولا يورث (6)
__________
(1) وتوريثها من معتقها لا خلاف فيه بين العلماء.
(2) كرحم أو تدبير، وغير ذلك مما تقدم، وكذا مكاتب مكاتبهن بلا خلاف، لخبر «إنما الولاء لمن أعتق» وتقدم أن المرأة تحوز ثلاثة مواريث، منها أنها ترث عتيقها، ولأنها منعمة بالإعتاق كالرجل.
(3) أي أولاد عتيقهن، وأولاد عتيق عتيقهن، ومن جروا ولاءه.
(4) وهو قول أكثر أهل العلم، وذكره أحمد وغيره عن جماعة من الصحابة.
(5) ولإجماع الصحابة ومن بعدهم عليه. وابنة حمزة ورثت بولاء نفسها، ولأنه لحمة كلحمة النسب، والمولي كالنسيب من الأخ والعم، فولده من العتيق بمنزلة ولد أخيه وعمه، ولا يرث منهم إلا الذكور خاصة، ولا يرث بالولاء ذو فرض إلا أب وجد، يرثان السدس مع الابن أو ابنه.
(6) لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وهبته، فلا ينتقل كالقرابة، بل هو معنى يورث به، عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين.(6/201)
فلو مات السيد عن ابنين، ثم مات أَحدهما عن ابن، ثم مات عتيقه، فإِرثه لابن سيده وحده (1) ولو مات ابنا السيد، وخلف أَحدهما ابنا، والآخر تسعة، ثم مات العتيق، فإِرثه على عددهم كالنسب (2) ولو اشترى أخ وأُخته أَباهما، فعتق عليهما ثم ملك قنا فأَعتقه، ثم مات الأَب، ثم العتيق، ورثه الابن بالنسب، دون أُخته بالولاء (3) وتسمى مسأَلة القضاة (4) يروى عن ملك أَنه قال: سأَلت سبعين قاضيا من قضاة العراق عنها، فأَخطؤا فيها (5) .
__________
(1) لأنه أقرب عصبة إليه، وهو معنى قوله «الولاء للكبر» .
(2) فيكون لكل واحد عشر التركة، للأخبار والآثار، وهو قول أكثر العلماء، ولأنهم إنما يرثون العتيق بولاء معتقه، لا نفس الولاء.
(3) لأنه ابن المعتق أو أخوه، فورثه بالنسب.
(4) لكثرة من أخطأ منهم فيها.
(5) ذكره في الإنصاف، ولو مات الابن ثم مات العتيق، ورثت منه بقدر عتقها من الأب، والباقي بينها وبين معتق أمها إن كانت عتيقة.(6/202)
كتاب العتق (1)
وهو لغة: الخلوص (2) وشرعا: تحرير الرقبة (3) وتخليصها من الرق (4) (وهو من أَفضل القرب) (5) لأَن الله تعالى جعله كفارة للقتل (6) .
__________
(1) أي بيان فضله وأحكامه، وتعليقه، وكتابة الرقيق، وأحكام أمهات الأولاد، وما يتعلق بذلك، لما ذكر إرث المبعض، والإرث بالولاء، ناسب أن يعقبه العتق.
(2) ومنه عتاق الخيل، وعتقا الطير، أي خالصها، وسمي البيت الحرام: العتيق، لخلوصه من أيدي الجبابرة.
(3) أي من الرق، وخصت الرقبة مع وقوعه على جميع البدن، لأن ملك السيد له، كالغل في رقبته، المانع له من التصرف، فإذا عتق فكأن رقبته أطلقت من ذلك.
(4) عطف تفسير، وتحرر الرقيق: خلص من الرق. وعتق العبد، وأعتقته فهو عتيق ومعتق، وأجمعوا على أنه يصح عتق المالك التام الملك، الصحيح الرشيد، الغني غير العديم.
(5) بالكتاب والسنة، والإجماع، كقوله تعالى {فَكُّ رَقَبَةٍ} وقوله صلى الله عليه وسلم «من أعتق رقبة مؤمنة أعتقه الله من النار» وحكى الوزير وغيره: الاتفاق على أن العتق من القرب، المندوب إليها.
(6) قال تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} جعله تعالى كفارة
لقتل الخطأ، لعظم الأجر في تحريرها، وقوله {فَكُّ رَقَبَةٍ} أي إعتاقها، وإطلاقها فداء له من النار.(6/203)
والوطء في نهار رمضان (1) والأَيمان (2) وجعله النبي صلى الله عليه وسلم فكاكًا لمعتقه من النار (3) وأَفضل الرقاب أَنفسها عند أَهلها (4) وذكر، وتعدد أَفضل (5) .
__________
(1) بالنسة الصحيحة، وكفارة للظهار، قال فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا.
(2) أي وكفارة للأيمان، قال تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إلى قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} .
(3) فقال «من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار» وفي لفظ «بكل إرب منها إربا منه من النار» ولما فيها من تخليص الآدمي المعصوم، من ضرر الرق، وملك نفسه ومنافعه، وتكميل أحكامه، وتمكينه من التصرف في نفسه، ومنافعه، على حسب اختياره.
(4) أي أعظمها وأعزها في نفوس أهلها، لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الرقاب أفضل؟ قال: «أنفسها عند أهلها، وأغلاها ثمنا» وللبخاري «أعلاها» ونص عليه أحمد، نقله الجماعة، وعتق مثل ذلك ما يقع غالبا إلا خالصا. وقيل: ولو كافرة، وأنه يثاب على عتقه، وفي الفنون: لا يختلف الناس فيه. واحتج به، وبرق الذرية، على أن الرق ليس بعقوبة، بل محنة وبلوى، وقيل: لا أجر له إلا أن انتهى أمره إلى الإسلام.
(5) أي وأفضل الرقاب ذكر، لخبر «من أعتق رجلا مسلما كان فكاكه من النار، وامرأتين كانتا فكاكه من النار» ولو كان المعتق أنثى؛ وهما سواء في الفكاك من النار، إذا كانا مؤمنين لخبر «من أعتق رقبة مؤمنة» وتعدد في العتق أفضل من عتق واحد، ولو من إناث، والمراد - والله أعلم - أنه لو كان مع شخص ألف درهم أراد أن يشترى به رقابا يعتقها، فوجد رقبة نفيسة، ورقبتين مفضولتين، فالثنتان أفضل، أما من أراد أن يعتق رقبة واحدة، فالأكثر قيمة، كما تقدم، وربما يختلف بإختلاف الأشخاص، فلو كان شخص، بمحل عظيم من العلم والعمل، وانتفاع المسلمين به، فعتقه أفضل من عتق جماعة ليس فيهم هذه الصفات، فيكون الضابط: اعتبار الأكثر نفعا.(6/204)
(ويستحب عتق من له كسب) لانتفاعه به (1) (وعكسه بعكسه) فيكره عتق من لا كسب له (2) .
وكذا من يخاف منه زنا أَو فساد (3) وإِن علم ذلك منه أَو ظن حرم (4) وصريحه نحو: أَنت حر أَو محرر أَو عتيق أَو معتق (5) أَو حررتك أَو أَعتقتك (6) .
__________
(1) أي بملك كسبه بالعتق، ومن له دين يمنعه من الفساد.
(2) لسقوط نفقته بإعتاقه، فيصير كلا على الناس، ويحتاج إلى المسألة.
(3) كقطع طريق، وسرقة، لأنه عون على الفساد، أو يخاف لحوقه بدار الحرب، أو ردته عن الإسلام.
(4) أي وإن علم من الرقيق ما ذكر، أو ظن وقوعه، حرم عتقه، لأن الوسيلة إلى الحرام حرام، وإن أعتقه مع علمه بذلك، أو ظنه صح، ونفذ، لصدوره في محله.
(5) فيصح العتق ممن تصح وصيته، بالقول والملك، لا بنية مجردة، وصريح القول: لفظ الحرية، ولفظ العتق، نحو: أنت حر؟ أو أنت محرر. فيعتق ولو لم ينوه، ما لم ينو بالحرية عفته، وكرم خلقه، ونحوه.
(6) فهذه الألفاظ تلزم السيد بإجماع العلماء، ومتى أعتق عبده، وهو
صحيح جائز التصرف، عتق بلا نزاع، وكذا: أنت حر في هذا الزمان، أو في هذا المكان، أو في هذه البلدة؛ عتق مطلقا، ولو قال: أعتقتك هازلاً؛ عتق، ولو تجرد عن النية، لا من نائم ونحوه، ولا بأمر، أو مضارع، أو اسم فاعل. واتفقوا على أن من أعتق ما في بطن أمته، فهو حر دون الأم.(6/205)
وكنايته، نحو: خليتك، والحق بأَهلك (1) ولا سبيل أَو لا سلطان لي عليك (2) وأَنت لله أو مولأي (3) وملكتك نفسك (4) ومن أَعتق جزءًا من رقيقه سرى إلى باقيه (5) .
__________
(1) أي وكناية العتق التي يقع بها مع نية أو قرينة كسؤال عتق، نحو: خليتك وأطلقتك، واذهب حيث شئت، وحبلك على غاربك.
(2) أي ولا سبيل لي عليك، أو لا سلطان لي عليك، أو لا ملك لي عليك، أو لا رق لي عليك، أو لا خدمة لي عليك.
(3) أي وكنايته كقوله: أنت لله، أو وهبتك لله، أو رفعت يدي عنك إلى الله، أو أنت لمولاي، أو أنت سائبة
(4) فيقع بهذه الكنايات مع النية عند الجمهور. والجمهور: أن الأبناء تابعون في العتق والعبودية للأم، حكاه ابن رشد وغيره.
(5) أي ومن أعتق جزءا من رقيقه معينا أو مشاعا، غير سن وشعر ونحوه، سرى العتق إلى باقيه، فعتق كله، لما روي «من أعتق جزءا من مملوك فهو حر من ماله» قال ابن رشد: هذا متقق عليه. وفي موضع: جمهور علماء الحجاز والعراق، مالك، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وابن أبي ليلى، ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف، يقولون: يعتق عليه كله؛ لما ثبتت به السنة في إعتاق نصيب الغير على الغير، لحرمة العتق، فأحرى أن يجب ذلك عليه في ملكه.(6/206)
ومن أَعتق نصيبه من مشترك، سرى إِلي الباقي (1) إِن كان موسرا، مضمونًا بقيمته (2) ومن ملك ذا رحم محرم (3) عتق عليه بالملك (4) .
__________
(1) أي ومن أعتق نصيبه من عبد مشترك، بينه وبين غيره، سرى العتق إلى الباقي.
(2) أي إن كان المعتق موسرا، بقيمة باقيه يوم عتقه، مضمونا عليه بقيمته، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، لما في الصحيحين «من أعتق شركا له في عبد، وكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة عدل، فأعطي شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد» واختاره الشيخ: يعتق بدفعها، وأنه إن أعتق الشريك قبل الدفع صح عتقه، «وإلا فقد عتق عليه ما عتق» أي: وإن كان معسرا، فقد عتق عليه ما عتق واختار الشيخ وغيره: يستسعى في باقيه، للخبر.
وإذا أعتق عبيده في مرضه، ولا مال له غيرهم، ولم يجز الورثة جميع العتق، عتق الثلث بالقرعة، لحديث عمران، في الأعبد الستة، فإن المريض قصد تكميل الحرية في الجميع، ولكن منع لحق الورثة، فكان تكميلا في البعض موافقا لقصد المعتق، وقصد الشارع، والقياس، وأصول الشريعة، وكذا إذا أعتق عبدا من عبيده أقرع بينهم.
(3) وهو الذي لو قدر أحدهما ذكرا والآخر أنثى، حرم نكاحه عليه للنسب، بخلاف ولد عمه، وخاله، ولو كان أخاه من الرضاع، فإنه لا يعتق عليه، ولو كان ذا الرحم مخالفا له في الدين.
(4) لما رواه الخمسة مرفوعا «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» حسنه الترمذي؛ وقال: العمل عليه عند أهل العلم. وقال ابن رشد: جمهور العلماء على أنه يعتق عليه بالقرابة إلا داود. وإن ملك بغير الميراث سهما ممن يعتق عليه، وهو موسر بقيمة باقيه، عتق عليه كله، ويقوم عليه كاملا لا عتق فيه، اختاره الشيخ، وإن كان معسرا فلا. وإن ملك جزءا منه بالميراث، لم يعتق عليه إلا ما ملك، ولو كان موسرا، وأما المحارم من غير ذوي الأرحام، فقال الموفق: لا خلاف أنهم لا يعتقون.(6/207)
ويصح معلقا بشرط فيعتق إِذا وجد (1) (ويصح تعليق العتق بموت وهو التدبير) (2) سمي بذلك لأَن الموت دبر الحياة (3)
__________
(1) أي الشرط، كقدوم زيد، ورأس الحول، ونحوه، ولا يملك إبطاله، وعلى مال معلوم إذا أداه عتق. أو أن تخدم ولدي حتى يستغني، فاستغنى عن رضاع. أو أن تخدم زيدًا مدة حياتك عتق، ولخبر «المؤمنون على شروطهم» ولقصة سفينة: اشترطت عليه أم سلمة أن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عاش، ولأن منافعه لسيده، فإذا أعتقه واستثنى منافعه، فقد أخرج الرقبة، وبقيت المنفعة. وإذا أعتقه وله مال، فماله لسيده عند الجمهور.
(2) أجمع العلماء على صحته في الجملة، وإنما يعتق إذا خرج من الثلث، قال الموفق: في قول أكثر أهل العلم لما في الصحيحين أن رجلا أعتق مملوكا له عن دبر، فاحتاج، فباعه صلى الله عليه وسلم ودفع ثمنه إليه.
(3) ويقال: دابر يدابر إذا مات. وقال ابن عقيل: مشتق من إدباره من الدنيا، ويعتبر كونه ممن تصح وصيته. وصريحه، لفظ «عتق، وحرية» معلق بموته، ولفظ «تدبير» قال ابن رشد: أجمع المسلمون على جواز التدبير، وهو أن يقول السيد لعبده: أنت حر عن دبر مني؛ أو يطلق فيقول: أنت مدبر. وهذا عندهم، وهو لفظ التدبير باتفاق.
واتفقوا على أن الذي يقبل هذا العقد، هو كل عبد صحيح العبودية، ليس
يعتق على سيده، سواء ملكه كله أو بعضه، وأن من شروط المدبر، أن يكون مالكا تام الملك، غير محجور عليه، سواء كان صحيحا أو مريضا، وأن من شرطه أن لا يكون أحاط الدين بماله، لأنهم اتفقوا على أن الدين يبطل التدبير.(6/208)
ولا يبطل بإِبطال ولا رجوع (1) ويصح وقف المدبر (2) وهبته، وبيعه، ورهنه (3) وإِن مات السيد قبل بيعه عتق إِن خرج من ثلثه (4) وإِلا فبقدره (5) .
__________
(1) أي ولا يطل التدبير بإبطال، كقوله: إن دخلت الدار فأنت حر. ولا يبطل برجوع، لأنه تعليق للعتق بالموت، فلا يملك إبطاله، وينجز عتقه بالموت.
(2) ويبطل به التدبير.
(3) قال الجوزجانى: صحت أحاديث بيع المدبر باستقامة الطرق، ولأنه عتق بصفة، ويثبت بقول المعتق، فلم يمنع البيع، والوقف والهبة، ونحوهما كالبيع، وإن مات السيد وهو رهن عتق إن خرج من ثلث المال، وأخذ من تركته قيمته رهنا مكانه، وإن كان حالا وفي دينه، وإن عاد المدبر بعد بيعه، أو هبته ونحوه، عاد إليه التدبر.
(4) أي إن خرج المدبر من ثلث مال المدبَِر، عند جمهور أهل العلم، أو أجاز الورثة.
(5) أي وإلا عتق من المدبر بقدر الثلث، وهو قول جمهور العلماء.
وقالوا: ولد المدبرة الذي تلده بعد تدبير سيدها، من نكاح أو زنا، بمنزلتها، يعتق بعتقها، ويرق برقها، وأجمعوا على أنه إذا أعتقها سيدها في حياته، أنهم يعتقون بعتقها.(6/209)
باب الكتابة (1)
(وهي) مشتقة من الكتب وهو الجمع، لأَنها تجمع نجوما (2) وشرعا: (بيع) سيد (عبده نفسه (3) بمال) معلوم، يصح السلم فيه (4) (مؤجل في ذمته) بأَجلين فأَكثر (5) .
__________
(1) اسم مصدر، بمعنى المكاتبة، وهي: إعتاق السيد عبده على مال في ذمته، يؤدى في نجوم، والأصل فيها الكتاب، والسنة، والإجماع.
(2) ومنه سمي الخراز كاتبا، أو لأن السيد يكتب بينه وبين عبده كتابا بما اتفقا عليه.
(3) أي بيع سيد عبده، ذكرا كان أو أنثى، نفس الرقيق، أو بيعه بعضه، كنصفه وسدسه.
(4) فلا يصح بمال محرم، نحو خمر، وخنزير، أو آنية ذهب وفضة، ولا بمجهول، ولا بما لا يصح السلم فيه، كجوهر ونحوه، ولا بما لا يوجد عند محله، وتصح بمنفعة مفردة أو معها مال.
(5) فلا تصح بحال، قال الموفق: روي عن جماعة من الصحابة، ولم ينقل عنهم عقدها حالة، ولعجزه عن أدئها في الحال، ولا بمعين، بل بأجلين فأكثر معلومة في الذمة، يسعى فيه العبد، ويؤديه، لها وقع في القدرة على الكسب عرفا وعادة، لا بواحد ولو طال، لأن الأجلين فأكثر مشتقة من الكتب، وهو الضم، وما بيد المكاتب حال الكتابة لسيده، إلا أن يشترطه، وقيل: إنها متعارفة قبل الإسلام، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم.(6/210)
(وتسن) الكتابة (مع أَمانة العبد وكسبه) (1) لقوله تعالى (فكاتبوهم إِن علمتم فيهم خيرا) (2) (وتكره) الكتابة (مع عدمه) أي عدم الكسب (3) لئلا يصير كلاًّ على الناس (4) ولا يصح عتق وكتابة إِلا من جائز التصرف (5) وتنعقد بكاتبتك على كذا؛ مع قبول العبد (6) .
__________
(1) قال الوزير: اتفقوا على أن كتابة العبد، الذي له كسب، مستحبة، مندوب إليها، وقد بلغ بها أحمد في رواية عنه إلى وجوبها، إذا دعا العبد سيده إليها، على قدر قيمته أو أكثر.
(2) قال أحمد: «الخير» صدق وإصلاح، ووفاء بمال الكتابة. وقال ابن رشد: لا خلاف فيما أعلم بينهم، أن من شرط المكاتب، أن يكون قويا على السعي، لقوله (إن علمتم فيهم خيرا) قيل: الاكتساب والأمانة، وقيل: الصلاح والدين قال الموفق: ولا تجب في ظاهر المذهب، في قول عامة أهل العلم.
(3) وهو ظاهر كلام أحمد، ومذهب الشافعي، وكرهها ابن عمر وغيره.
(4) ويحتاج إلى السؤال؛ وعن أحمد لا تكره؛ وهو قول الشافعي وغيره، وقال الموفق: ينبغي أن ينظر في المكاتب، فإن كان ممن يتضرر بالكتابة ويضيع، لعجزه عن الإنفاق على نفسه، ولا يجد من ينفق عليه، كرهت كتابته، وإلا لم تكره، لحصول النفع بالحرية، من غير ضرر.
(5) لأنها عقد معاوضة، كالبيع، فلا تصح من سفيه، ومحجور عليه لفلس ونحوه. وإن كاتب المميز رقيقه بإذن وليه صحت، ولا تصح أن يكاتب مجنونا، أو طفلا غير مميز.
(6) أي وتصح الكتابة بقول السيد لرقيقه: كاتبتك على كذا؛ مع قبول الرقيق لها، لأنه لفظها الموضوع لها، ولا تصح بغير القول.(6/211)
وإِن لم يقل: فإِذا أَديت فأَنت حر (1) ومتى أدى ما عليه، أَو أَبرأَه منه سيده عتق (2) ويملك كسبه ونفعه (3) وكل تصرف يصلح ماله كبيع وإِجارة (4) (ويجوز بيع المكاتب) (5) لقصة بريرة (6) .
__________
(1) لأن الحرية، توجب عقد الكتابة، فتثبت عند تمامه، ولأنها عقد، وضعت للعتق، فلم تحتج إلى لفظ العتق.
(2) أي: ومتى أدى. المكاتب ما عليه من الكتابة، أو أبرأه سيده منه، عتق إجماعا، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه إذا قال: كاتبتك على ألف درهم ونحوها فإنه متى أداها عتق، ولم يفتقر إلى أن يقول: إذا أديت إلى فأنت حر؛ وينوي العتق، لأن اسم الكتابة لفظ شرعى، فهو يتضمن جميع أحكامه.
(3) والشراء والبيع، والإجارة، والاستئجار، والسفر، وأخذ الصدقة والإنفاق على نفسه وولده.
(4) أي ويملك كل تصرف يصلح ماله، كبيع وشراء، قال الموفق: بإجماع أهل العلم، لأن عقد الكتابة لتحصيل العتق، ولا يحصل إلا بأداء عوضه، ولا يمكنه إلا بالاكتساب، والبيع والشراء من أقوى جهات الاكتساب، وليس له أن يتزوج، ولا يتسرى، ولا يقرض، ولا يحأبي، ونحو ذلك، إلا بإذن سيده، ولا يملك السيد شيئا من كسبه.
(5) هذا المذهب، واختاره ابن المنذر وغيره.
(6) وكانت قالت لعائشة: كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينينى. وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم «اشتريها» قال ابن المنذر: بيعت بريرة بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مكاتبة، لم ينكر ذلك، ففيه أبين البيان أن بيعه جائز، ولا أعلم خبرا يعارضه.(6/212)
ولأَنه قن ما بقي عليه درهم (1) (ومشتريه يقوم مقام مكاتبه) بكسر التاء (2) (فإِن أَدى) المكاتب (له) أي للمشترى ما بقي من مال الكتابة (عتق (3) وولاؤه له) أي للمشترى (4) (وإِن عجز) المكاتب عن أَداء جميع مال الكتابة (5) أَو بعضه لمن كاتبه أَو اشتراه (عاد قنا) (6) فإِذا حل نجم ولم يؤده المكاتب فلسيده الفسخ (7) .
__________
(1) مملوك لسيده، لم يتحتم عتقه، فجاز بيعه، كالمعلق عتقه بصفة.
(2) يؤدي إليه المكاتب ما بقي من كتابته، ولا تنفسخ كتابته بالبيع، ولا يجوز إبطالها؛ قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا. ولأنها عقد لازم، فلا يبطل بالبيع، ويبقي على كتابته عند المشتري، وعلى نجومه كما كان عند البائع، مبقي على ما بقي من كتابته.
(3) باتفاق أهل العلم، لأن حق المكاتب فيه، انتقل إلى المشتري، فصار هو المعتق.
(4) لعتقه في ملكه، لقوله صلى الله عليه وسلم «إنما الولاء لمن أعتق» ولحديث بريرة، حيث اشترتها عائشة، وهي مكاتبة، وأعتقتها، وصار ولاؤها لها.
(5) لمن كاتبه، عاد قنا، لعجزه عن الأداء لمكاتبه أو مشتريه.
(6) أي أو عجز عن أداء بعض الكتابة لمن كاتبه، أو اشتراه، عاد قنا، لقوله صلى الله عليه وسلم «هو عبد ما بقي عليه درهم» وحكمه مع مشتريه كحكمه مع بائعه.
(7) عند جمهور العلماء، قال ابن رشد: إذا عجز عن البعض وقد أدى البعض، فقال الجمهور: هو عبد ما بقي عليه من كتابته شيء، وأنه يرق إذا عجز عن البعض، واتفقوا أنه إنما يرق إذا عجز، إما عن البعض، وإما عن الكل.(6/213)
كما لو أَعسر المشترى ببعض الثمن (1) ويلزم إِنظاره ثلاثا، لنحو بيع عرض (2) ويجب على السيد أَن يؤدى إِلي من وفي كتابته ربعها (3) لما روى أَبو بكر بإسناده، عن على عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قال «ربع الكتابة» (4) وروي موقوفًا على علي (5) .
__________
(1) كان له الفسخ بلا حكم حاكم، لما فيه من الضرر. وإن اختار السيد الصبر فليس للعبد الفسخ، لأنها عقد لازم.
(2) ولمال غائب، دون مسافة قصر، يرجو قدومه، ولدَيْنٍ حالٍّ على مليء، أو مودع قصدا، أمهل بقدر ما يأتي به، إذا طلب الإمهال، لحظ المكاتب والرفق به، مع عدم الإضرار على السيد؛ والتقدير بثلاث هو قول بعض الفقهاء، والأولى أنه بحسب الإمكان، دون مماطلة، أو تضرر سيد.
(3) إن شاء وضعه عنه، وإن شاء قبضه منه، ثم دفعه إليه، وهذا مذهب الشافعي.
(4) وظاهر الأمر الوجوب.
(5) رضي الله عنه، قال: ضعوا عنه ربع مال الكتابة. ولأنه مال يجب إيتاؤه بالشرع، فكان مقدرا. وقال ابن عباس: ضعوا عنهم من مكاتبتهم شيئا، وهو قول الشافعي وابن المنذر، وعند مالك مستحب، قال الموفق وغيره: وحكمة الإيتاء: الرفق بالمكاتب، وإعانته، وذلك لا يحصل باليسير، الذي هو أقل ما يقع عليه الاسم، فلم يجز أن يكون هو الواجب.(6/214)
باب أحكام أمهات الأولاد (1)
أَصل أُم: أُمهة (2) ولذلك جمعت عليَّ أُمهات باعتبار الأَصل (3) (إِذا أَولد حر أَمته) ولو مدبرة، أَو مكاتبة (4) (أَو) أَولد (أَمة له ولغيره) (5) ولو كان له جزء يسير منها (6) .
__________
(1) الأحكام: جمع حكم. وهو في اللغة: القضاء، والحكمة. واصطلاحا: خطاب الله المفيد فائدة: شرعية. وأحكامهن: جواز الانتفاع بهن، وتزويجهن، وتحريم بيعهن، ونحوه.
(2) والهاء زائدة عند الجمهور.
(3) فإن الجمع يرد الشيء إلى أصله. ويقال: أمات. باعتبار اللفظ، وقيل: الأمهات للناس، والأمات للبهائم. وأم الولد هي التي ولدت من سيدها في ملكه. ولا خلاف في إباحة التسرى، ووطء الإماء، لقوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ومارية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، التي قال فيها «أعتقها ولدها» وكان لعمر وغيره أمهات أولاد. ويشترط لها شرطان، أن تحمل به في ملكه، وأن تضع ما يتبين فيه خلق الإنسان.
(4) صارت أم ولد له، تعتق بموته، من رأس ماله.
(5) أي أو إذا أولد أمة له بعضها، ولغيره بعضها.
(6) أي ولو كان من أولدها له جزء يسير منها، ولو مكاتبا، لصحة ملكه، إلا أنه لا يثبت لها أحكام أم الولد حتى يعتق.(6/215)
(أَو أَمة) لـ (ـولده) كلها أَو بعضها (1) ولم يكن الابن وطئها (2) قد (خلق ولده حرا) بأَن حملت به في ملكه (3) (حيا ولد أَو ميتا (4) قد تبين فيه خلق الإنسان) (5) ولو خفيا (6) (لا) بإِلقاء (مضغة، أَو جسم لا تخطيط (7) .
__________
(1) أي أو إذا أولد أمة لولده كل الأمة، أو بعضها، صارت أم ولد له؛ وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحد قولي الشافعي، لأنها حملت منه بحر، لأجل شبهة الملك.
(2) فإن كان الابن وطئها، لم تصر أم ولد للأب، لأنها تحرم عليه أبدا، بوطء ابنه لها، فلا يملكها، ولا تعتق بموته، ويعتق ولدها على أخيه، ونسبه لاحق بالأب، لشبهة الملك.
(3) هذا أحد الشرطين، سواء كان بوطء مباح، أو محرم، كالوطء في الحيض، والنفاس، والإحرام، والظهار، قال ابن رشد: اتفقوا على أنها تكون أم ولد، إذا ملكها قبل حملها منه.
(4) قال عمر: إذا ولدت الأمة من سيدها فقد عتقت، وإن كان سقطا. وعن ابن عمر: أعتقها ولدها، وإن كان سقطا.
(5) هذا الشرط الثاني. قال أحمد، فيمن أسقطت، إذا تبين فيه يد أو رجل، أو خلقة فقد عتقت؛ وهو قول الشافعي. وقال الموفق: لا أعلم فيه خلافا بين من قال بثبوت حكم الاستيلاد.
(6) بأن شهد ثقات من النساء بأن في هذا الجسم صورة خفية، تعلقت بها الأحكام، لاطلاعهن على صورة خفيت على غيرهن.
(7) فلا تثبت به أحكام الولادة، لأنه ليس بولد، وعتقها مشروط بصيرورتها أم ولد.(6/216)
صارت أُم ولد له، تعتق بموته، من كل ماله) (1) ولو لم يملك غيرها (2) لحديث ابن عباس يرفعه «من وطئَ أَمته فولدت، فهي معتقة عن دبر منه» رواه أَحمد وابن ماجه (3) .
وإِن أَصابها في ملك غيره بنكاح أَو شبهة، ثم ملكها حاملا، عتق الحمل، ولم تصر أُم ولد (4) ومن ملك أَمة حاملا فوطئها، حرم عليه بيع الولد ويعتقه (5) .
__________
(1) أي صارت أمة السيد أم ولد له، تعتق بموته، من كل ماله، مسلمة كانت أو كافرة، عفيفة أو فاجرة، وكذا السيد.
(2) فتعتق من رأس المال، بلا خلاف بين من رأي عتقهن، سواء ولدت في الصحة أو المرض، وما في يدها من شيء فلورثة سيدها، لأنها أمة، وكسبها لسيدها، فإذا مات انتقل إلى ورثته.
(3) وفي لفظ «أيما امرأة ولدت من سيدها، فهي معتقة عن دبر منه» أو قال «من بعده» وللدارقطني ذكرت أم إبراهيم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال «أعتقها ولدها» وهو قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومذهب جماهير العلماء.
(4) وهو مذهب مالك، والشافعي، وجزم به الموفق وغيره، وقال: إنما ثبت الإجماع في حق من حملت منه في ملكة، وما عداه ليس في معناه، وليس فيه نص، ولا إجماع، فوجب أن لا يثبت هذا الحكم، وقال ابن رشد: القياس أن تكون أم ولد في جميع الأحوال، إذ ليس من مكارم الأخلاق أن يبيع أم ولده، وهو مذهب مالك، فالله أعلم. وأما كون الولد عتق، فلأنه ولده.
(5) أي ومن ملك أمة حاملا، فوطئها قبل وضعها، حرم عليه بيع الولد،
لأن الماء يزيد في الولد، ولا يلحق به، لما رواه أبو داود وغيره «لا توطأ حامل حتى تضع» وله أيضا أنه صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مجح على باب فسطاط، فقال «لعله يريد أن يلم بها» ؟ قالوا: نعم. قال «لقد هممت أن ألعنه لعنا، يدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له، كيف يستخدمه وهو لا يحل له» .
وعنه: يعتق. وقال الشيخ: ويحكم بإسلامه، وأنه يسري، كالعتق، أي لو كانت كافرة.(6/217)
(وأَحكام أُم الولد) كـ (أَحكام الأَمة) القن (1) (من وطءٍ وخدمة، وإجارة (2) ونحوه) كإِعارة، وإِيداع (3) لأَنها مملوكة له ما دام حيا (4) (لا في نقل الملك في رقبتها (5) ولا بما يراد له) أي لنقل الملك (6) .
__________
(1) غير المستولدة، لأنها لم تزل مملوكة ينتفع بها.
(2) وملك لكسبها، وتزويج، وعتق، وتكليفها، وحد عورتها، وسائر أمورها.
(3) ونحو ذلك، قال الموفق: هذا قول أكثر أهل العلم. وقال ابن رشد: اتفقوا على أنها في شهادتها، وحدودها، وديتها وأرش جراحها، كالأمة.
(4) أشبهت القن، ولما روي «يستمتع بها ما بدا له، فإذا مات فهي حرة» ولمفهوم «هي معتقة عن دبر منه» فكانت كالأمة في حياته، سوى ما استثني.
(5) فلست كالأمة في ذلك، فلا يصح، ولا يصح تدبيرها، إذ الاستيلاد أقوى منه.
(6) كالهبة، وما عطف عليه، لأنه في معنى البيع.(6/218)
فالأَول (كوقف، وبيع) (1) وهبة، وجعلها صداقا، ونحوه (2) (و) الثاني: كـ (رهن) (3) وكذا (نحوها) أي نحو المذكورات، كالوصية بها (4) لحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أَنه نهي عن بيع أُمهات الأولاد» (5) وقال «لا يبعن، ولا يوهبن، ولا يورثن (6) يستمتع منها السيد ما دام حيا (7)
__________
(1) فلا يصح، لأنها استحقت أن تعتق بموته، وبيعها يمنع ذلك، قال الوزير: اتفقوا على أنها لا تباع أمهات الأولاد. وقال ابن رشد: الثابت عن عمر أنه قضى بأنها لا تباع، وأنها حرة من رأس مال سيدها إذا مات، وروي مثله عن عثمان، وهو قول أكثر التابعين، وجمهور فقهاء الأمصار، وحكى ابن عبد البر - وأبو حامد الإسفرائيني، وأبو الوليد الباجي، وابن بطال، والبغوي، وغيرهم - الإجماع على أنه لا يجوز.
(2) كعوض خلع، لأنه في معنى البيع.
(3) ونحوه مما يراد للبيع، لأن القصد من الرهن البيع في الدين، ولا سبيل إليه إلا بذلك.
(4) فلا تصح، لأنه تعتق بموته.
(5) وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم في أم ابنه إبراهيم «أعتقها ولدها» .
(6) لأنهن يعتقن بموته، وبيعهن يمنع ذلك، وتقدم أنه قول الجمهور، وذكره الموفق إجماع الصحابة، وأبو عبيدة: رأي علي في الجماعة.
(7) كأمته القن، في سائر أمورها.(6/219)
فإذا مات فهي حرة» رواه الدارقطني (1) وتصح كتابتها (2) فإِن أَدت في حياته عتقت (3) وما بقي بيدها لها (4) وإِن مات وعليها شيء عتقت (5) وما بيدها للورثة (6) ويتبعها ولدها من غير سيدها بعد إِيلادها، فيعتق بموت سيدها (7) .
__________
(1) ورواه مالك، والدارقطنى أيضا، من طريق آخر عن ابن عمر، عن عمر موقوفا، وقال المجد وغيره: هو أصح، وتقدم أنه قول عامة الفقهاء.
(2) يعني أم الولد، لأن الكتابة تراد للعتق، فكل من الاستيلاد والكتابة سبب له، فلا يتنافيان.
(3) بالأداء، أو أبرأها عتقت بلا نزاع.
(4) كما لو لم تكن مستولدة، وإن ماتت قبل سيدها، صار إرثها له، لا لولدها، ولا لزوجها، لأنها رقيقة.
(5) لأنها أم ولده، كما لو لم تكن كوتبت، وسقط ما بقي عليها من كتابتها، لفوات محل الكتابة بالعتق.
(6) أي وما بيد المكاتبة -التي عتقت بالاستيلاد- لورثة السيد، ولو مات قبل عجزها عن أداء الكتابة، لأنها عتقت بغير أداء، كما لو أعتق مكاتبه، فإن ما بيده لسيده.
(7) ويجوز فيه من التصرفات ما يجوز فيها، ويمتنع فيه ما يمتنع فيها، وذكره أحمد قول عمر وابن عباس. وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافا بين القائلين بحكم الإستيلاد، وأما قبله فلا يتبعها.(6/220)
وإِذا جنت فديت بالأَقل من قيمتها يوم الفداء (1) أَو أَرش الجناية (2) وإِن قتلت سيدها عمدا أَو خطأً عتقت (3) وللورثة القصاص في العمد، أَو الدية (4) فيلزمها الأَقل منها (5) أَو من قيمتها كالخطأ (6) ِ.
__________
(1) وهو مذهب الشافعي، لأنها مملوكة له يملك كسبها، وليس له تسليمها، فعليه أن يفديها بأقل الأمرين من قيمتها، لأنها أم ولده، وينبغي أن يجب قيمتها معيبة بعيب الاستيلاد، كالمرض وغيره من العيوب، وتعتبر القيمة يوم الفداء لا قبله.
(2) أي أو أن يفديها بأرش الجناية ولا يسلمها، ولا يبيعها، لما تقدم؛ ولا تلزم زيادة على قيمتها، لأنه لم يمنع من تسليمها، وإنما الشرع منع ذلك، لكونها لم تبق محلا للبيع، ولا لنقل الملك فيها، وسواء كانت الجناية منها، على بدن، أو مال، أو بإتلاف، أو إفساد نكاح برضاع.
(3) لأن المقتضى لعتقها، زوال ملك سيدها عنها، وقد زال.
(4) أي ولورثة سيدها القصاص، مع فقد ولدها من سيدها الوارث له، لقوله {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وكما لو لم تكن أم ولده، وإن عفوا على مال، أو كان القتل شبه عمد، أو خطأ، فلهم الدية.
(5) أي من الدية إن عفوا في قتل العمد، أو كان شبه عمد، أو خطأ اعتبارا بوقت الجناية.
(6) أي أو يلزمها الأقل من قيمتها إن عفوا كما لو كان القتل خطأ، أو شبه عمد، فإنه يلزمها الأقل من ديته أو قيمتها، لأنها جناية من أم ولد، فلم يجب بها أكثر منهما، اعتبارًا بحال الجناية.(6/221)
وإِن أَسلمت أُم ولد كافر، منع من غشيانها (1) وحيل بينه وبينها حتى يسلم (2) وأُجبر على نفقتها إِن عدم كسبها (3) .
__________
(1) والتلذذ بها، كيلا يفعل ذلك وهو مشرك، والملك مبقي على ما كان عليه.
(2) ويمنع من الخلوة بها، لئلا يفضي إلى الوطء المحرم، لقوله {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} ما لم يسلم.
(3) لأنها مملوكة، واختار الموفق وغيره: أن نفقتها عليه، وكسبها له، يصنع به ما شاء وعليه نفقتها على التمام، سواء كان لها كسب أو لم يكن، وصوبه في الإنصاف.(6/222)
كتاب النكاح (1)
هو لغة الوطء (2) والجمع بين الشيئين (3) وقد يطلق على العقد (4) فإِذا قالوا: نكح فلانة، أَو بنت فلان. أرادوا تزوجها، وعقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأَته. لم يريدوا إِلا المجامعة (5) .
__________
(1) الأصل في مشروعيته الكتاب، والسنة، والإجماع، وذكر غير واحد من العلماء أنهم اتفقوا على أنه من العقود الشرعية، المسنونة بأصل الشرع، قال تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقال صلى الله عليه وسلم «تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم» وغير ذلك.
(2) أي المباح، قاله الأزهري، وقيل للتزويج نكاح لأنه سبب الوطء. وقال الجوهرى: النكاح الوطء، وقد يكون العقد، ونكحت هي، أي تزوجت.
(3) يقال للأشجار إذا اجتمعت: تناكحت. والضم، أي انضم بعضها إلى بعضن والتداخل.
(4) أي في اللغة، وقال الزجاج: النكاح في كلام العرب بمعنى الوطء والعقد جميعا.
(5) لقرينة ذكر امرأته أو زوجته، قاله أبو علي الفارسي، قال: فرقت العرب فرقا لطيفا، يعرف به موضع العقد من الوطء، فإذا قالوا ... إلخ.(6/223)
وشرعا: عقد يعتبر فيه لفظ «إِنكاح» أَو «تزويج» في الجملة (1) والمعقود عليه منفعة الاستمتاع (2) . (وهو سنة) لذي شهوة لا يخاف زنا، من رجل، وامرأَة (3) لقوله - عليه السلام - «يا معشر الشباب (4) .
__________
(1) يشير إلى أنه في الشرع، حقيقة في العقد، تجوز به في الوطء، والكتاب، والسنة، ولسان أهل العرف، والأصح عند المحققين أنه لفظ مشترك، يعم العقد والوطء جميعا، ليس أحدهما أخص به من الآخر، فهو من الألفاظ المتواطئة، إلا قوله {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فخاض بالوطء.
وقال الشيخ: النكاح في الإثبات حقيقة في العقد والوطء، والنهي لكل منهما. وقال القاضي: الأشبه بأصلنا أنه حقيقة في العقد والوطء جميعا. وقوله: في الجملة. احتراز من قول السيد لأمته: أعتقتك، وجعلت عتقك صداقك. فليس فيه لفظ إنكاح، ولا تزويج.
(2) أي الذي يرد عليه عقد النكاح منفعة الاستمتاع، كالإجارة، لا ملكها، أو الحل، لا ملك المنفعة، وقيل: المعقود عليه الازدواج، كالمشاركة، ومال إليه الشيخ.
(3) وهو قول أصحاب الرأي، وظاهر أقوال الصحابة، وحكاه الوزير اتفاقا، وأن المستحب له أن يتزوج إجماعا، وهل يجب في حقه؟ قال أبو بكر وأبو حفص: يجب، أخذا بالوجوب في الجملة، ولم يفرقا، واختار الباقون الاستحباب.
(4) «المعشر» الجماعة، و «الشباب» الفتاء، جمع شاب، كالشبان وأصله الحركة والنشاط، والشباب أيضًا الحداثة، واسم لمن بلغ، حتى يبلغ الثلاثين، ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثم هو شيخ، خاطب الشباب لأنهم أغلب شهوة.(6/224)
من استطاع منكم الباءة فليتزوج (1) فإِنه أَغض للبصر (2) وأًحصن للفرج (3) ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإِنه له وجاء» (4) رواه الجماعة (5) .
__________
(1) «الباءة» بالمد، وفيها لغة بالقصر، وبلا هاءٍ مع المد، ولغة بهاء عوض الهمزة، وأصلها لغة من البات وهي المنزل، لأن من تزوج امرأة بوأها منزلا، والمراد بها هنا الجماع، فالتقدير من استطاع منكم الجماع، وقيل: مؤن النكاح. والقائل بالأول رده إلى معنى الثاني، إذ التقدير عنده: من استطاع منكم الجماع، لقدرته على مؤن النكاح. اختاره الشيخ، وفي رواية «من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج» وللنسائي «من كان ذا طول فلينكح» وهو أمر ندب، عند جمهور الفقهاء.
(2) أي أشد غضا للبصر، وأدفع غضا لعين المتزوج عن الأجنبية.
(3) أي أشد إحصانا له، وحفظا ومنعا من الوقوع في الفاحشة.
(4) أي ومن لم يستطع الباءة، لعجزه عن مؤونة النكاح، فعليه بالصوم، ليدفع شهوته، ويقطع شرفيته، كما يقطعه الوجاء، قال الشيخ: استطاعة النكاح هي القدرة على المؤونة، ليست القدرة على الوطء، فإن الحديث إنما هو خطاب للقادر على فعل الوطء، ولهذا أمر من لم يستطيع الباءة بالصوم، وسماه «وجاء» بالكسر والمد، رضُّ عروق الخصيتين، شبيها بالخصاء، لأنه بتقليل الطعام والشراب، يحصل للنفس انكسار عن الشهوة، كالموجوء، ولسر جعله الله في الصوم.
(5) البخاري، ومسلم وأحمد، وأبو داود، والنسائى، والترمذي، وابن ماجه، ولأن الإعراض عن الأهل والأولاد، ليس مما يحبه الله ورسوله، ولا هو دين الأنبياء، قال تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} وقال صلى الله عليه وسلم: «وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» وأمر به في غير ما حديث.(6/225)
ويباح لمن لا شهوة له، كالعنين (1) والكبير (2) . (وفعله مع الشهوة أَفضل من نوافل العبادة) (3) لاشتماله على مصالح كثيرة، كتحصين فرجه، وفرج زوجته (4) والقيام بها (5) وتحصيل النسل (6) وتكثير الأُمة (7) .
__________
(1) الذي لا يأتي النساء، أولا يريدهن.
(2) الذي ذهبت شهوته، فلا إرب له فيهن، وذلك لأن العلة التي لها يجب النكاح أو يستحب مفقودة فيه، ولأن المقصود من النكاح الولد، وهو فيمن لا شهوة له غير موجود، فلا ينصرف إليه الخطاب به، إلا أنه يكون مباحا في حقه.
(3) لأمر الله به ورسوله، ولفعله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ورده على عثمان التبتل، وقول أحمد: ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير التزويج، فقد دعاك إلى غير الإسلام.
(4) عن الزنا، وهو أكبر المصالح.
(5) وحفظها، كما يقال: أبوها، أو زوجها، أو القبر.
(6) روي عن نبي من الأنبياء أنه قال: أرأيت لو ترك الناس كلهم التزويج، من يقوم بالجهاد، وينفي العدو، أو يقوم بفرائض الله وحدوده؟.
(7) إشارة لقوله صلى الله عليه وسلم «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» .(6/226)
وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم (1) وغير ذلك (2) ومن لا شهوة له، نوافل العبادة أَفضل له (3) (ويجب) النكاح (على من يخاف زنا بتركه) (4) ولو ظنا، من رجل وامرأَة (5) .
__________
(1) الأمم يوم القيامة، بكثرة أمته على سائر أمم الأنبياء، وقال ابن عباس لرجل: تزوج، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء.
(2) أي من المصالح الراجح أحدها على نفل العبادة، كتحصين الدين، وإحرازه فمجموعها أولي.
(3) لعدم تحصيل مصالح النكاح، ولمنع زوجته من التحصين بغيره، وإضراره بها، بحبسها على نفسه، ولتعريض نفسه لواجبات وحقوق، ولعله لا يقوم بها، وشغله عن العلم والعبادة، بما لا فائدة له فيه، والأخبار تحمل على من له شهوة، لما فيها من القرائن الدالة عليها.
(4) قال الموفق وغيره: في قول عامة الفقهاء، وقال الوزير: اتفقوا على أن من تاقت نفسه إليه، وخاف العنت، فإنه يتأكد في حقه، ويكون له أفضل من الحج التطوع، والصلاة والصوم التطوع، وزاد أحمد، فبلغ به إلى الوجوب مع الشرطين، وهما أن تتوق نفسه، ويخاف العنت، رواية واحدة. اهـ. وعبارة المقنع: من يخاف مواقعة المحظور. فشمل الاستمناء باليد.
وقال الشيخ: يجب على من خاف على نفسه العنت، في قول عامة الفقهاء إذا قدر على مهر حرة، ويجزئ التسري حيث وجب أو استحب، لقوله {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقال: إذا خشيه جاز تزوج الأمة، مع أن تركه أفضل، وصوب جوازه في تصحيح الفروع.
(5) أي ولو كان خوف مواقعة المحظور ظنا.(6/227)
لأَنه طريق إِعفاف نفسه (1) وصونها عن الحرام (2) ولا فرق بين القادر على الإِنفاق والعاجز عنه (3) ولا يكتفي بمرة، بل يكون في مجموع العمر (4) ويحرم بدار حرب (5) إِلا لضرورة، فيباح لغير أَسير (6) .
__________
(1) ولا طريق له إلا النكاح، فوجب عليه، وذلك خوفا بتأخيره من الوقوع في الحرام، بخلاف الحج.
(2) قال الشيخ: وإن احتاج الإنسان إلى النكاح، وخاف العنت بتركه، قدمه على الحج الواجب.
(3) قيل: إذا قدر على المهر. وقال الشيخ: ظاهر كلام أحمد والأكثرين عدم اعتبار الطول، لأن الله وعد عليه الغنى بقوله (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح وما عنده شيء، ويمسي وما عنده شيء، وزوج رجلا لم يقدر على خاتم من حديد.
(4) لتندفع خشية الوقوع في المحظور، ولا يكتفي بالعقد، بل الواجب العقد والاستمتاع في الجملة، لأنه موضوع النكاح، ولا تندفع خشية المحظور إلا به، ومن أمره به والداه لزمه، لوجوب برهما، وقال الشيخ: ليس لهما إلزامه بنكاح من لا يريد.
(5) أي ويحرم على مسلم - دخل دار حرب بأمان كتاجر - أن يتزوج بها، ولو بمسلمة، ولا يتسرى، ولا يطأ زوجته، بخلاف من كان بجيش المسلمين، فله ذلك.
(6) أي يباح مع الضرورة، ويعزل وجوبا إن حرم نكاحه، وإلا استحب، ويصح مع الحرمة، أما الأسير فلا يباح له مطلقا، لأنه منع من وطء امرأته إذا
أسرت معه، مع صحة نكاحها، قيل: لئلا يستعبد الولد، وعليه فله نكاح آيسة، وصغيرة، وعلل بأنه لا يؤمن أن يطأ زوجته غيره منهم، فعليه: لا ينكح حتى الصغيرة، والآيسة، وهو مقتضى كلام الموفق وغيره.(6/228)
(ويسن نكاح واحدة) (1) لأَن الزيادة عليها تعريض للمحرم (2) قال تعالى {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (3) (دينة) (4) لحديث أبي هريرة مرفوعا: «تنكح المرأَة لأَربع (5) .
__________
(1) إن حصل بها الإعفاف، للآية، ويستحب الزيادة إن لم تعفه، صوبه في تصحيح الفروع، إن كان قادرا على كلفة ذلك، مع توقان النفس إليه، ولم يترتب عليه مفسدة أعظم من فعله، وإلا فلا.
(2) أي لأن الزيادة على الواحدة، تعريض للمحرم بالميل لإحداهما.
(3) أي ولن تقدروا أن تسووا {بَيْنَ النِّسَاءِ} في الحب، وميل القلب، بل في جميع الوجوه، وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة، والشهوة، والجماع، وغير ذلك {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} على العدل، وقال تعالي {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم «من كان له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل» رواه الخمسة.
(4) أي ذات دين، من بيت معروف بالدين، والعفاف.
(5) أي يرغب في نكاح المرأة، ويدعو إليه منها، لأجل أربع خصال، في غالب العادة.(6/229)
لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها (1) فاظفر بذات الدين تربت يداك» متفق عليه (2) (أَجنبية) لأَن ولدها يكون
أَنجب (3) .
__________
(1) الحسب في الأصل الشرف بالآباء والأقارب، وقيل: هنا الفعل الجميل للرجل وآبائه، ويقال: الكرم والتقوى، فالحسيبة هي النسيبة، طيبة الأصل، ليكون ولدها نجيبا، فإنه ربما أشبه أهلها، ونزع إليهم، وكان يقال: إذا أردت أن تزوج امرأة فانظر إلى أبيها، وأخيها؛ وقيل: لا بنت زنا، ولقيطة، أو من لا يعرف أبوها، والجمال في الذات، والصفات؛ ولا يسأل عن دينها حتى يحمد له جمالها.
وللنسائى وغيره «خير النساء التي تسره إن نظر، وتطيعه إن أمر، ولا تخالفه في نفسها وماله بما يكره» وللبزار «المرأة لعبة زوجها، فإن استطاع أحدكم أن يحسن لعبته فليفعل» فيتخير الجميلة، أغض لبصره، وأمكن لنفسه، وأكمل لمودته، وروى: خير فائدة الرجل بعد إسلامه امرأة جميلة. ولو قيل للشحم: أين تذهب؟ لقال: أقوم الأعوج.
والدين هو غاية البغية، وورد النهي عن نكاح المرأة لغير دينها، وقال «لا تنكحوا النساء لحسنهن، فلعله يرديهن، ولا لمالهن، فلعله يطغيهن، وانكحوهن للدين» فيكون الدين مطمح نظره.
(2) «تربت يداك» كلمة جارية على ألسنة العرب، على صورة الدعاء، كأنه قال: تلصق بالتراب، ولا يريدون بها الدعاء على المخاطب، بل إيقاظا له لذلك المذكور، ليعتنى به، أي ففز بنكاح ذات الدين، «تربت يداك» حثا له، وتحريضا على الجد والتشمير في طلب المأمور به، ففيه مراعاة الكفاءة، وأن الدين أولى ما اعتبر فيها.
(3) ذا فطنة وحذق، ولهذا يقال: أغربوا لا تضووا، وقيل: الغراب أنجب وبنات العم أصبر.(6/230)
ولأَنه لا يأْمن الطلاق، فيفضي مع القرابة إِلي قطيعة الرحم (1) (بكر) (2) لقوله - عليه السلام - لجابر: «فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟» متفق عليه (3) .
(ولود) أي من نساء يعرفن بكثرة الأَولاد (4) لحديث أَنس يرفعه «تزوجوا الودود الولود، فإِني مكاثر بكم الأُمم يوم القيامة» رواه سعيد (5) .
__________
(1) المأمور بصلتها.
(2) وهي التي لم توطأ.
(3) أي فهلا تزوجت بكرا، وكان قال له «تزوجت بكرا أم ثيبا؟» قال: تزوجت ثيبا، قال «فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟» زاد البخاري «وتضاحكها وتضاحكك؟» ولأبي عبيد «تداعبها وتداعبك» تعليل لتزويج البكر، لما فيه من الألفة التامة، فإن الثيب قد تكون متعلقة القلب بالزوج الأول، فلم تكن محبتها كاملة، بخلاف البكر.
وعن عطاء مرفوعا «عليكم بالأبكار، فإنهن أعذب أفواها، وأنقي أرحاما، وأرضى باليسير» وقال عثمان لابن مسعود: ألا نزوجك بكرا، لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد؟ وذلك أنه ينعش البدن، إلا أن تكون مصلحته في نكاح الثيب، كما وقع لجابر - رضي الله عنه -.
(4) إذ الغالب سراية طباع الأقارب بعضهن إلى بعض.
(5) ورواه النسائى وغيره، وفي غير ما حديث مكاثرته الأمم بأمته، صلوات الله وسلامه عليه، ولأحمد «انكحوا أمهات الأولاد، فإني مباه بكم يوم القيامة» وقيد
بهاتين الصفتين، لأن الولود إذا لم تكن ودودًا، لم يرغب الزوج فيها، والودود
إذا لم تكن ولودا لم يحصل المطلوب، وهو تكثير الأمة، والمكاثرة المفاخرة، ففيه جوازها في الدار الآخرة، ووجه ذلك أن أمته أكثر، فثوابه أكثر، لأن له مثل أجر من تبعه.
وفي هذه الأحاديث وما في معناها: مشروعية النكاح، والترغيب فيه وفي المرأة الصالحة، وقال «حبب إلى من دنياكم النساء والطيب» وقال «الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة» وللحاكم «من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه» .(6/231)
(بلا أُم) لأَنها ربما أَفسدتها عليه (1) ويسن أَن يتخير الجميلة (2) لأَنه أَغض لبصره (3) (و) يباح (له) أي لمن أَراد خطبة امرأَة (4) .
__________
(1) كما هو الغالب، وربما أصلحتها.
(2) لما تقدم من الأخبار، ولأنها لعبته، وفي الخبر «إنما النساء لعب، فإذا اتخذ أحدكم لعبة فليستحسنها.
(3) وأسكن لنفسه، وأكمل لمودته، ولذلك شرع النظر قبل النكاح، ويختار ذات العقل، ويجتنب الحمقاء، لأن النكاح يراد للعشرة، ولا تصلح العشرة مع الحمقاء، ولا يطيب العيش معها، وربما تعدى حمقها إلى ولدها، وقد قيل: اجتنبوا الحمقاء، فإن ولدها ضياع، وصحبتها بلاء، وأصلحهن الجلب، التي لم يعرف أحدا، والأصلح منعها الاجتماع بالنساء، فإنهن يفسدنها عليه، والأولى أن لا يسكن بها عند أهلها.
(4) نظر ما يظهر غالبا، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن من أراد تزوج امرأة، فله أن ينظر منها إلى ما ليس بعورة، وقيل: يسن. وصوبه في الإنصاف، وظاهر الحديث استحبابه، «وخطبة» بكسر الخاء.(6/232)
وغلب على ظنه إِجابته (1) (نظر ما يظهر غالبا) (2) كوجه، ورقبة (3) ويد، وقدم (4) لقوله - عليه السلام -: «إذا خطب أَحدكم امرأَة فقدر أَن يرى منها بعض ما يدعوه إِلى نكاحها فليفعل» رواه أحمد، وأَبو داود (5) (مرارا) أي يكرر النظر (6) .
__________
(1) وإلا لم يجز، كمن ينظر إلى امرأة جليلة يخطبها، مع علمه أنه، لا يجاب إلى ذلك.
(2) قال الموفق: لا نعلم خلافا بين أهل العلم في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها، للخبر.
(3) أي فله النظر إلى وجه بلا خلاف، وهو مجمع محاسن المرأة، وموضع النظر، ورقبة، ورأس، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره.
(4) أي وله نظر إلى يد، وهو مذهب مالك وغيره، وقدم، وساق، للإذن في النظر، وقال جمع: إلى جميع البدن سوى السوأتين.
(5) فدل على الإذن في النظر إلى جميع ما يظهر غالبا، لإذنه في النظر إليها من غير علمها، وفي السنن «انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» وروى سعيد، أن عمر خطب ابنة علي، فذكر منها صغرا، فقال: أرسل بها إليك تنظر إليها، فكشف عن ساقها، فقالت: أرسل: لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينك. وقال أحمد: لا بأس أن ينظر إليها عند الخطبة حاسرة.
(6) لأنه صلى الله عليه وسلم صعد النظر وصوبه، ويتأمل المحاسن، لأن المقصود إنما يحصل بذلك.(6/233)
(بلا خلوة) (1) إِن أَمن ثوران الشهوة (2) ولا يحتاج إِلي إِذنها (3) ويباح نظر ذلك، ورأْس، وساق، من أَمة (4) وذات محرم (5) .
__________
(1) لنهيه صلى الله عليه وسلم أن يخلو الرجل بالمرأة، خشية الوقوع في المحرم.
(2) وهو التلذذ بالنظر إليها، ولا لريبة.
(3) لمطلق الأمر، وفي حديث جابر: فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها بعض ما دعاني إلى نكاحها. فإن لم يتيسر له النظر بعث امرأة ثقة تتأملها، ثم تصفها له، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث أم سليم تنظر امرأة، رواه أحمد.
ولا يجوز أن تنعتها لغير خاطب، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تنعت المرأة المرأة لزوجها، حتى كأنه ينظر إليها، سدا للذريعة، وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه، وميله إليها بحضور صورتها في نفسه، وعلى من استشير في خاطب ومخطوبة أن يذكر ما فيه من مساو وغيرها، ولا يكون غيبة.
(4) مستامة، كما لو أراد خطبتها، بل المستامة أولي، لأنها تراد للاستمتاع وغيره، وحسنها يزيد في ثمنها، ولا يجوز النظر إليها بشهوة، وكذا غير المستامة، وفي الواضحة: ما رأيت بالمدينة أمة تخرج وإن كانت رائعة، إلا وهي مكشوفة الرأس في ظفائرها، أو في شعر محمم، لا تلقي على رأسها جلبابا، لتعرف الأمة من الحرة، إلا أن ذلك لا ينبغي اليوم، لعموم الفساد في أكثر الناس، فلو خرجت جارية رائعة مكشوفة الرأس في الأسواق والأزقة، لوجب على ولي الأمر أن يمنع ذلك.
(5) وهي من تحرم عليه بنسب، أو رضاع، أو سبب مباح، فيباح له النظر إلى
ما يظهر غالبا، لقوله {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إلى آخر الآية، قال الباجي: لا خلاف في النظر على الوجه المباح إلى ذوات المحارم كأمه، وأخته، وابنته، كما أنه لا خلاف في منعه على وجه الإلتذاذ والاستمتاع، وقال ابن عبد البر: وأما النظر لشهوة فحرام تأملها من فوق ثيابها بالشهوة، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة. اهـ.
وأما غير المحرم فيحرم النظر إلى الأجنبية قصدا، بل لا يجوزه من عرف أصول الشرع ومقاصده، إلا من يجرئ الفساق على مقاصدهم، فيجب حسم المادة، وسد الذريعة، ولو زعم الناظر أنه لا ينظر لشهوة، لا سيما في هذه الأزمنة، فإن الفاسق ينظر على ما يشتهي، ويزعم أنه ينظر بلا شهوة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن نظر الفجأة قال «اصرف بصرك» وقال «فإنما لك الأولى، وليست لك الثانية» .(6/234)
ولعبد نظر ذلك من مولاته (1) ولشاهد، ومعامل، نظر وجه مشهود عليها، ومن تعامله (2) .
__________
(1) أي ويباح لعبد - لا مبعض ومشترك - نظر ذلك المذكور في الحرة من مولاته، وهي من ملكته كاملا، لقوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} ولمشقة تحرزها منه، وكذا المشترك بين نساء، بخلاف من ملكه، أبوها، أو ولدها، أو زوجها، فيحرم نظره إليها، وأمة مشتركة بين رجال، ليس لأحد منهم النظر إلى عورتها، ويباح لغير أولى الإرْبَةِ كعنين، وكبير، وصبي لا شهوة له.
وينظر من لا تشتهي، كعجوز، وبرزة، وقبيحة، ونحوهن، لقوله {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} وذكر الشيخ أنه يجوز النظر من الأمة
-ومن لا تشتهي- ما يظهر غالبا.
(2) لتكون الشهادة واقعة على عينها، قال أحمد: لا يشهد على امرأة إلا أن
يكون قد عرفها بعينها، وكذا من معاملة في نحو بيع، أو إجارة، فله النظر إلى وجهها، ليعرفها بعينها، فيرجع عليها بالدرك، وكرهه أحمد في حق الشابة، دون العجوز، ولعله من يخاف الفتنة، أو يستغني عن المعاملة، فأما مع الحاجة، وعدم الشهوة، فلا بأس.(6/235)
وكفيها لحاجة (1) ولطبيب ونحوه (2) نظر ولمس ما دعت إِليه حاجة (3) ولامرأَة نظر من امرأَة (4) ورجل إِلى ما عدا ما بين سرة وركبة (5) .
__________
(1) أي ولمعامل نظر إلى كفيها لحاجة، وقال أحمد: إن كانت عجوزا رجوت، وإن كانت شابة تشتهي أكره ذلك.
(2) كمن يلي خدمة مريض، أو مريضة، في وضوء، واستنجاء، وغيرهما، وكتخليصها من غرق، أو حرق، ونحوهما، أو حلق عانة من لا يحسن حلق عانته.
(3) دفعا للحاجة، وليستر ما عداه، لكشفه صلى الله عليه وسلم عن مؤتزر بني قريظة، وعثمان كشف عن سارق، ولم ينبت، فلم يقطعه.
(4) إلى ما عدا ما بين السرة والركبة، وظاهره: ولو كافرة. لأن الكافرات يدخلن على أمهات المؤمنين من غير حجاب.
(5) أي ولها نظر إلى رجل إلى ما عدا ما بين سرة وركبة، وكذا رجل إلى رجل، لقوله صلى الله عليه وسلم «اعتدي في بيت ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك» وكان يستر عائشة وهي تنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، ولمفهوم «احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك» .
وعبارته تقتضي دخول الأمرد، لكن إن كان جميلا، يخاف الفتنة بالنظر إليه لم يجز، لإجلاس النبي صلى الله عليه وسلم الغلام الذي كان مع وفد عبد القيس وراء ظهره، ويحرم تكرار النظر إليه، ومن كرر وقال: لا أنظر لشهوة. فقد كذب، قاله الشيخ وغيره.
وقال ابن القطان المالكي: أجمعوا على أنه يحرم النظر إلى غير الملتحي، لقصد التلذذ بالنظر إليه، وإمتاع حاسة البصر بمحاسنه، وأجمعوا على جواز النظر إليه بغير قصد اللذة، والناظر مع ذلك آمن من الفتنة.
وقال النووى: نص الشافعي، وحذاق أصحابه على حرمة النظر إلى الغلام الحسن، ولو بغبر شهوة، وإن أمن من الفتنة، وربما كان المنع فيه أحرى من المرأة ويحرم النظر ممن ذكر بشهوة إجماعا، ومن استحله كفر إجماعا، قاله الشيخ، ونصه أيضًا: مع خوفها. وذكر أنه قول جمهور العلماء في النظر إلى الأمرد وغيره، وغض البصر، وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة، والتفكر في صنع الله، منع منه، سدا لذريعة الإرادة، والشهوة المفضية إلى المحظور. ويدخل في ذلك نظر المرأة إلى الرجل، قال النووى: بلا خلاف.
قال الشيخ: ومن نظر إلى الخيل، والبهائم، والأشجار، على وجه استحسان الدنيا، والرياسة، والمال، فهو مذموم، لقوله {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} الآية. وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط، كالنظر إلى الأزهار، فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق. اهـ. وصوت الأجنبية ليس بعورة، ويحرم التلذذ بسماعه.(6/236)
.......................................................(6/237)
ويحرم خلوة ذكر غير محرم بامرأَة (1) (ويحرم التصريح بخطبة المعتدة) (2) .
__________
(1) بشهوة أو دونها، لخبر «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم» فتحرم الخلوة بالأجنبية، ولو في إقراء القرآن، سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة، وغلبات الطباع، وكذا رجل مع عدد من نساء، أو عدد من رجال بامرأة واحدة، قال ابن القيم: ويحرم خلوة النساء بالخصي، والمجبوب، لإمكان الإستمتاع من القبلة والاعتناق، والخصي يقرع قرع الفحل، والمجبوب يساحق.
وفي الاخييارات: تحرم الخلوة بغير محرم، ولو بحيوان يشتهي المرأة أو تشتهيه كالقرد، وتحرم الخلوة بأمرد، ومضاجعته، كالمرأة الأجنبية، ولو لمصلحة التعليم والتأديب، ومقر موليه عند من يعاشره لذلك ملعون ديوث، ومن عرف بمحبتهم، أو معاشرة بينهم، منع من تعليمهم.
وقال ابن الجوزي: الأمرد أشد فتنة من العذراء.
وقال ابن عقيل: ينفق على الرجال والنساء، فهو شبكة الشيطان في حق النوعين، ويحرم تزين امرأة لمحرم غير زوج وسيد، ويفرق بين الإخوة بعد العشر في المضاجع، للخبر، ورد أحمد مصافحة النساء حتى لمحرم غير أب، وسئل: يقبل ذوات المحارم منه؟ قال: إذا قدم من سفر، ولم يخف على نفسه، لكن لا يفعله على الفم أبدا.
ولكل من الزوجين نظر جميع بدن الآخر، ولمسه بلا كراهة، حتى الفرج، وكره النظر إليه حال الطمث، وتقبيله بعد الجماع لا قبله، وحكم السيد كالزوج، إلا إذا زوجها، فلا يباح له النظر إلى ما دون السرة والركبة، للخبر، وأما استمتاعه بها فلا خلاف في تحريمه، إذ لا تباح امرأة لرجلين.
(2) التصريح ضد التعريض، يقال: صرح به في نفسه تصريحا. أي أظهره،
وعبر بالمعتدة، ولم يقل: المطلقة. لأن العدة تلزم من غير طلاق، كالمزني بها، والموطوءة بشبهة.(6/238)
كقوله: أُريد أَن أَتزوجك (1) . لمفهوم قوله تعالى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (2) وسواء كانت المعتدة (من وفاة (3) والمبانة) حال الحياة (4) (دون التعريض) فيباح لما تقدم (5) .
__________
(1) أو: زوجينى نفسك، أو: فإذا انقضت عدتك تزوجتك. ونحو ذلك، مما لا يحتمل غير النكاح.
(2) قال ابن عباس: يقول: إنى أريد التزويج؛ فدلت الآية على تحريم التصريح، لأنه لا يحتمل غير النكاح، فلا يؤمن أن يحملها الحرص عليه على الإخبار بانقضاء عدتها قبل انقضائها، والتعريض بخلافه.
(3) قال ابن القيم: حرم خطبة المعتدة صريحا، حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس في المرأة، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة، والكذب في انقضاء عدتها.
(4) بطلاق ثلاث، أو فسخ، لتحريمها على زوجها، كالفسخ برضاع، أو لعان، ونحوه مما لا تحل بعده لزوجها، فيحرم التصريح لها بالخطبة إجماعا.
(5) من الآية، ولأنه صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة، وهي متأيمة من أبي سلمة، فقال «لقد علمت أنى رسول الله، وخيرته من خلقه، وموضعى من قومي» فكانت تلك خطبة، وقال لفاطمة بنت قيس لما طلقت ثلاثا «إذا حللت فآذنيني» .(6/239)
ويحرم التعريض كالتصريخ لرجعية (1) (ويباحان لمن أَبانها بدون الثلاث) (2) لأَنه يباح له نكاحها في عدتها (كرجعيته) فإِن له رجعتها في عدتها (3) (ويحرمان) أي التصريح، والتعريض (منها على غير زوجها) (4) فيحرم على الرجعية أَن تجيب من خطبها في عدتها، تصريحا، أَو تعريضا (5) وأَما البائن فيباح لها إذا خطبت في عدتها التعريض، دون التصريح (6) .
__________
(1) لأنها في حكم الزوجات، سوى المزني بها، والموطوءة بشبهة، فإنه كالأجنبي.
(2) أي يباح التصريح، والتعريض، للتى أبانها بدون الثلاث طلقات.
(3) قال الشيخ: يباح التصريح والتعريض من صاحب العدة فيها، إن كان ممن يحل له التزويج بها في العدة، كالمختلعة، فإن كان ممن لا يخل له إلا بعد انقضاء العدة، كالمزنى بها، والموطوءة بشبهة، فينبغي أن يكون كالأجنبي، والمعتدة باستبراء، كأم الولد، أو من مات سيدها، أو أعتقها، فينبغي أن تكون في حق الأجنبي كالمتوفي عنها زوجها، والمطلقة ثلاثًا، والمنفسخ نكاحها برضاع أو لعان، فيجوز التعريض، دون التصريح.
(4) فهي في الجواب كالخاطب، فيما يحل ويحرم.
(5) لأن الخطبة للعقد، فلا يختلفان في حله وحرمته.
(6) لغير من تحل له إذًا، لمفهوم الآية والأخبار، ولأنه إذا ساغ لها الخطاب ساغ لها الجواب.(6/240)
(والتعريض: إِنى في مثلك لراغب (1) . وتجيبه) إِذا كانت بائنا: (ما يرغب عنك. ونحوهما) (2) كقوله: لا تفوتيني بنفسك (3) .
وقولها: إن قضي شيء كان (4) . (فإن أَجاب ولي مجبرة) (5)
-ولو تعريضا- لمسلم (6) (أَو أَجابت غير المجبرة لمسلم (7) .
__________
(1) وإذا انقضت عدتك فأعلمينى. لقوله «فآذنيني» .
(2) أي نحو قوله: إنى في مثلك لراغب. وقولها: ما يرغب عنك.
(3) وما أحوجنى إلى مثلك. ونحو ذلك، مما يدل على رغبته فيها.
(4) وإن يكن من عند الله يمضه، قال الشيخ: والتعريض أنواع، تارة بذكر صفات نفسه، مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة، وتارة بذكره لها صفات نفسها، وتارة يذكر لها طلبا لا بعينه، كقوله: رب راغب فيك، وطالب لك، وتارة يذكر أنه طالب للنكاح، ولا يعينها، وتارة يطلب منها ما يحتمل النكاح وغيره، كقوله: إن قضي شيء كان. ويسوغ لها الجواب بنحو ذلك.
(5) وهو الأب أو وصيه في النكاح، إن كانت حرة بكرا، حرم على غيره خطبتها، وكذا سيد بكر أو ثيب، لكن إن كرهت من أجابه وليها، أو عينت غيره، سقط حكم إجابة وليها، لتقديم اختيارها عليه.
(6) لا لكافر، لمفهوم قوله «على خطبة أخيه» فالنهي خاص بالمسلم، وصرح الزركشي أن خطبة الكافر على الكافر لا تكره.
(7) كحرة ثيب، لها تسع سنين فأكثر، لأن التعويل -في رد وإجابة-
عليها، فهي أحق بنفسها، وخطب النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة من نفسها، وأما ولي المجبرة فالتعويل عليه.(6/241)
حرم على غيره خطبتها) بلا إِذنه (1) لحديث أبي هريرة مرفوعا «لا يخطب الرجل على خطبة أَخيه، حتى ينكح، أَو يترك» رواه البخاري والنسائى (2) (وإِن رد) الخاطب الأَول (3) (أَو أَذن) أَو ترك (4) أَو استأْذن الثاني الأَول فسكت (5) .
__________
(1) أي الخاطب، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، إلا أن قوما حملوا النهي على الكراهة، والأول أولي.
(2) ولمسلم «لا يحل للمؤمن أن يخطب على خطبة أخيه، حتى يذر» ولهما من حديث ابن عمر «لا يخطب أحدكم على خطبه أخيه» وللبخارى «لا يخطب الرجل على خطبة الرجل، حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له» فدلت هذه الأحاديث وما في معناها، على تحريم خطبة المسلم على خطبة أخيه، ولما فيه من الإفساد على الخاطب الأول، وإيقاع العداوة بين الناس، وإن فعله وعقد مع علمه، صح مع التحريم، لأنه لم يقارن العقد، فلم يؤثر فيه.
(3) جاز، لما روته فاطمة بنت قيس، أنها ذكرت أن معاوية وأبا جهم خطباها، فقال «انكحي أسامة» ولو كان الرد بعد الإجابة، لأن الإعراض عن الأول ليس من قبله، أو لم يركن إليه، لأنه بمعنى عدم الإجابة.
(4) أي أو أذن الأول للثانى في الخطبة جاز، أو ترك الأول الخطبة، جاز للثانى أن يخطب، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «حتى ينكح أو يترك» وفي لفظ «أو يأذن» .
(5) أي عن الثاني، جاز أن يخطب، لأنه في معنى الترك، وقال الشيخ: ومن خطب تعريضا، في العدة أو بعدها، فلا ينهي غيره عن الخطبة.(6/242)
(أَو جهلت الحال) بأَن لم يعلم الثاني إِجابة الأَول (جاز) للثاني أَن يخطب (1) .
(ويسن العقد يوم الجمعة، مساء) (2) لأَن فيه ساعة الإِجابة (3) ويسن بالمسجد، ذكره ابن القيم (4) ويسن أَن يخطب قبله (بخطبة ابن مسعود) (5) .
__________
(1) لأنه معذور بالجهل، ويكره رد بلا غرض صحيح بعد إجابة، فالحاصل ثلاثة أقسام، أن تجيبه، أو تأذن لوليها في إجابته، فتحرم الخطبة بلا خلاف، أو لا تجيبه، فتجوز خطبتها، أو يوجد منها ما يدل على الرضى، تعريضا لا تصريحا، فحكمه حكم ما لو أجيب صريحا، اختاره غير واحد، وإن أجاب الولي، ثم زالت ولايته، فقال الشيخ: يسقط حق الخاطب، وكذا لو كانت الإجابة من المرأة ثم جنت، وكذا لو طالت المدة.
وقال: لو خطبت المرأة أو وليها الرجل ابتداء فأجابها، فينبغى أن لا يحل لرجل آخر خطبتها، إلا أنه أضعف من أن يكون هو الخاطب، ونظير الأولي: أن تخطبه امرأة أو وليها، بعد أن خطب هو امرأة، فإن هذا إيذاء للمخطوب في الموضعين، كما أن ذلك إيذاء للخاطب، وهذا بمنزلة البيع على بيع أخيه، قبل انعقاد العقد، وهذا كله ينبغي أن يكون حراما.
(2) لأن الجمعة يوم شريف، وكونه مساء أقرب إلى مقصوده، ولو قال: يستحب لكان أولي، لأن جماعة من السلف استحبوا ذلك.
(3) على القول الراجح، فيكون أقرب لإجابة الدعاء بائتدام الحال، وروي أنه أعظم للبركة.
(4) رحمه الله، وهو إمام ثقة، لا يذكر ما يسن إلا بأصل شرعي للسنية..
(5) يخطبها العاقد، أو غيره من الحاضرين، واستحبها، جمهور أهل العلم
وكان أحمد إذا حضر عقد نكاح، ولم يخطب فيه بها قام وتركهم، وليست واجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم «زوجتكها بما معك من القرآن» ولأنه عقد معاوضة، فلم تجب فيه كالبيع.(6/243)
وهي «إِن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه (1) ونعوذ بالله من شرور أَنفسنا، وسيئات أَعمالنا (2) من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له (3) وأِشهد أن لا إِله إِلا الله، وأَشهد أَن محمدا عبده ورسوله» (4) .
__________
(1) أي نستعينه في حمده وغيره، ونستغفره من تقصيرنا في عبادته وطاعته، ونتوب إليه مما اجترحنا، وأول الحديث قال: علمنا التشهد في الحاجة. فهو عام في كل حاجة، ومنها النكاح، وزاد ابن كثير في الإرشاد: في النكاح وغيره، وقال أبو إسحاق: تقال في خطبة النكاح وغيره، في كل حاجة، ولحديث «كل أمر ذى بال، لا يبدأ فيه بالحمد لله؛ فهو أقطع» .
(2) أي ونعوذ بالله من ظهور شرور أخلاقنا الردية، وأحوال أهوائنا الدنية، ونستغفره من سيئات أعمالنا.
(3) أي من يوفقه الله فلا مضل له، من شيطان، ونفس، وغيرهما، ومن يضلل فلا هادي له، لا من ولي-، ولا نبي، ولا غيرهما، بل الهداية بيده سبحانه، وكذا الإضلال، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.
(4) أي أجزم وأقطع بذلك، رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، ويقرأ ثلاث الآيات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى قوله {رَقِيبًا} و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} إلى قوله {عَظِيمًا} وعدها ابن كثير في نفس الحديث، ويجزئ أن يحمد الله، ويتشهد، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.(6/244)
ويسن أَن يقال لمتزوج: (1) بارك الله لكما وعليكما (2) وجمع بينكما في خير وعافية (3) فإِذا زفت إِليه قال: (4) «اللهم إِنى أَسأَلك خيرها، وخير ما جبلتها عليه (5) وأَعوذ بك من شرها، وشر ما جبلتها عليه» (6) .
__________
(1) بعد العقد هذا الدعاء.
(2) بلفظ التثنية، وجاء الدعاء بلفظ الإفراد.
(3) رواه الخمسة إلى النسائي، وصححه الترمذي، من حديث أبي هريرة ولفظه: إذا رفأ إنسانا قال «بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير» ولمسلم من حديث جابر «بارك الله لك» زاد الدارمي «وبارك عليك» وللطبراني «على الخير، والبركة، والألفة والسعة، والرزق، بارك الله لكم» وكان دعاؤهم: بالرفاء والبنين، فسن لهم صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء، طلبا للموافقة بينه وبين أهله، وحسن العشرة بينهما، وكره موافقة أهل الجاهلية، من التفاؤل بالرفاء والبنين.
(4) أي ويسن أن يقول الزوج إذا زفت إليه المرأة.
(5) من الأخلاق.
(6) رواه أبو داود، والنسائى، وغيرهما، ولأحمد «إذا دخلت على أهلك فصل ركعتين، ثم خذ برأس أهلك، ثم قل: اللهم بارك لي في أهلي، وبارك لأهلي في، وارزقنى منهم» ولا بأس بالصدقة عند العقد.(6/245)
فصل (1)
(وأَركانه) أي أَركان النكاح ثلاثة (2) أَحدها: (الزوجان، الخاليان من الموانع) كالمعتدة (3) (و) الثاني: (الإيجاب) وهو اللفظ الصادر من الولي (4) أَو من يقوم مقامه (5) (و) الثالث: (القبول) وهو اللفظ الصادر من الزوج (6) أَو من يقوم مقامه (7) (ولا يصح) النكاح (ممن يحسن) اللغة (العربية (8) .
__________
(1) أي في ذكر أركان النكاح، وتقدم أن ركن الشيء جانبه الأقوى، وجزء ماهيته، والماهية لا توجد ولا تتم بدون أجزائها، فكذا النكاح، لا يتم بدون أركانه.
(2) أي فلا يصح العقد بدونها.
(3) وغيرهما مما يأتي في باب المحرمات في النكاح، وعدَّ الأكثر ركنين فقط، ولم يعرجوا على هذا، كما في المغنى، والمقنع، والمنتهي، وغيرها، لوضوحه.
(4) بأن يقول للزوج: زوجتك فلانة أو أنكحتكها على مهر كذا وكذا.
(5) كوكيله.
(6) بأن يقول: قبلت هذا التزويج. أو: هذا النكاح. ونحوه.
(7) كوكيله، بأن يقول: قبلت هذا النكاح لفلان.
(8) أي لا ينعقد النكاح، ولا يصح الإيجاب ممن يحسن اللغة العربية عند بعض الأصحاب.(6/246)
بغير لفظ: زوجت أَو أَنكحت) (1) لأَنهما اللفظان اللذان ورد بهما القرآن (2) ولأَمته: أَعتقتك وجعلت عتقك صداقك (3) . ونحوه لقصة صفية (4) (و) لا يصح قبول إلا بلفظ (قبلت هذا النكاح، أو تزوجتها (5) .
__________
(1) فلا ينعقد بغير هذين اللفظين، وهو مذهب الشافعي، واختار الموفق، والشارح، والشيخ، وجمع من العلماء: انعقاده بغير العربية لمن يحسنها، وجزم به في التبصرة.
(2) أي في قوله تعالى {زَوَّجْنَاكَهَا} و {لا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} وقال الشيخ: الذي عليه أكثر أهل العلم أن النكاح ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج. وقال ابن القيم: أصح قولي العلماء أن النكاح ينعقد بكل لفظ يدل عليه، لا يختص بلفظ الإنكاح، والتزويج، وهذا مذهب جمهور العلماء، كأبي حنيفة، ومالك، وأحد القولين في مذهب أحمد، بل نصوصه لا تدل إلى على هذا الوجه. قال الشيخ: ولم ينقل عن أحمد أنه خصه بلفظ إنكاح، أو تزويج، وإنما قاله ابن حامد، وتبعه القاضي، ومن بعده، بسبب انتشار كتبه، وكثرة أصحابه.
(3) أي ويصح إيجاب السيد لأمته، أو من يملك بعضها، إذا أذنت له، ومعتق البقية، أن يقول: أعتقتك، وجعلت عتقك صداقك، ويصح جعل شيء آخر مع عتقها صداقا لها، كدراهم ونحوها، نص عليه الشيخ وغيره.
(4) أي أو أن يقول نحو: أعتقتك، وجعلته صداقك. مما يؤدى معناه، لقصة صفية بنت حيى، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أعتقها، وجعل عتقها صداقها.
(5) أو رضيت هذا النكاح.(6/247)
أو تزوجت، أَو قبلت) أَو رضيت (1) ويصح النكاح من هازل وتلجئة (2) (ومن جهلهما) أي عجز عن الإيجاب والقبول بالعربية (لم يلزمه تعلمهما (3) .
__________
(1) لأن ذلك صريح في الجواب، فصح النكاح به، وذكر الموفق وغيره أنه ينعقد بلفظ النكاح، والتزويج، والجواب عنهما إجماعا، وحكاه الوزير اتفاقًا مع شروطه، على اختلاف منهم فيها، وإن قال الخاطب للولي: أزوجت؟ فقال: نعم. وقال الخاطب للمتزوج: أقبلت؟ فقال: نعم. انعقد النكاح، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، ويصح بلفظ: زوجت بضم الزأي وفتح التاء، وإذا لم يقدر أن يقول إلا قبلت تجويزها؛ صح، وإن قيل لولي: زوجت فلانا فلانة؟ فقال: نعم، ولمتزوج: أقبلت؟ فقال: نعم. صح.
وقال الشيخ: ينعقد بما عده الناس نكاحا، بأي لغة، ولفظ، وفعل، فالأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع، وتارة باللغة، وتارة بالعرف، وكذا العقود، ولم يخص بلفظ إنكاح، أو تزويج، ومذهب أبي حنيفة، وأبي عبيد، والثورى، وغيرهم، انعقاده بلفظ الهبة، والصدقة، والبيع، والتمليك.
(2) ولو لم يقصد إنكاحا حقيقة، لحديث «ثلاث هزلهن جد، وجدهن جد، الطلاق، والنكاح، والرجعة» رواه الترمذي، وعن الحسن مرفوعا «من نكح لاعبًا جاز» وقال عمر «أربع جائزات إذا تكلم بهن، الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذر» وقال علي: لا لعب فيهن. والهزل أن يريد بالشيء غير ما وضع له، بغير مناسبة بينهما، كأن يقول: زوجتك ابنتى. ولم يرد إنكاحها حقيقة، والتلجئة كأن يزوجه ابنته ونحوها خوفا من أن يتزوجها من يكرهه، فيصح النكاح في حق الرجل.
(3) بالعربية، لأنه عقد معاوضة، كالبيع، بخلاف تكبير الصلاة،
ولأن النكاح غير واجب بأصل الشرع، فلم يجب تعلم أركانه بالعربية، وإن أحسن أحدهما العربية أتى بها، والآخر بلغته، وترجم بينهما ثقة، إن لم يحسن أحدهما لسان الآخر، ولا بد من معرفة الشاهدين لفظ العاقدين.(6/248)
وكفاه معناهما الخاص بكل لسان) (1) لأَن المقصود هنا المعنى، دون اللفظ (2) لأَنه غير متعبد بتلاوته (3) وينعقد من أَخرس بكتابة وإِشارة مفهومة (4) (فإِن تقدم القبول) على الإيجاب (لم يصح) (5) لأَن القبول إنما يكون للإيجاب، فمتى وجد قبله لم يكن قبولا (6) .
__________
(1) أي لغته، لأن ذلك في لغته نظير الإنكاح والتزويج.
(2) فعلم منه أنه لا يصح بلفظ لا يؤدي معني النكاح، والتزويج الخاص.
(3) أي الإيجاب، والقبول، بلفظ الإنكاح، والتزويج.
(4) أي ويصح إيجاب من أخرس، وقبول بكتابة، نص عليه، كبيعه، وطلاقه؛ وإشارة مفهومة، يفهمها العاقد معه، والشهود، ولا يصح من قادر على النطق بإشارة، ولا كتابة، ولا من أخرس لا تفهم إشارته.
(5) النكاح، إن لم يعد القبول، كقوله: تزوجت ابنتك. فيقول الولي: زوجتكها. أو: زوجنى ابنتك. فيقول الولي: زوجتكها.
(6) لعدم معناه، كما لو تقدم بلفظ الاستفهام، وعنه: يصح. قال الشافعي، ومالك، وأبو حنيفة: يصح فيهما جميعا، لأنه قد وجد الإيجاب والقبول فهو كما لو تقدم الإيجاب، ويحتمل أن يصح إذا تقدم بلفظ الطلب، لقوله:
«زوجنيها» فقال صلى الله عليه وسلم «زوجتكها بما معك من القرآن» رواه البخاري.(6/249)